دروس للشيخ محمد المنجد

محمد صالح المنجد

صلاح الدين وتجديد الجهاد

صلاح الدين وتجديد الجهاد صلاح الدين الأيوبي أحد مجددي الإسلام في الجهاد، نذر عمره في خدمته، وقد فتح الله له في جهاده مع النصارى ومع المارقين ممن كانوا يحسبون على الإسلام فتحاً عظيماً. وهذه المادة تبين قصة هذا القائد منذ ولادته إلى وفاته؛ لتبرز صوراً من حبه للجهاد وزهده وفطنته، وحرصه على تحرير البلاد الإسلامية. تتخلل هذه المحاضرة قصص لها فوائد، وعظات وعبر نحتاج إلى النظر فيها والتأمل والتفكر.

مراحل الجهاد والتجديد

مراحل الجهاد والتجديد الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين. أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إمام المتقين وسيد المجاهدين، صلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، فكانت سيرته صلى الله عليه وسلم بحقٍ نموذجاً فريداً لم يمر بالبشرية مثله أبداً ولن يمر، كان قدوة بعبادته وتقواه وخشيته وتعليمه وجهاده صلى الله عليه وسلم، وتجرد عليه الصلاة والسلام في دعوته للناس، فكان مستضعفاً في مكة، وجعل يدعو الناس إلى الإسلام حتى أذن الله له بالهجرة إلى المدينة بعد مرحلة استضعاف طويلة -مكث ثلاث عشرة سنة مستضعفاً- بـ مكة لا يستطيع الجهاد، حتى هاجر إلى المدينة، وأسس ذلك المجتمع المسلم، فأذن الله سبحانه وتعالى بالجهاد {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39] فصار رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسل السرايا، ويجهز البعوث، ويقود الجيوش حتى آخر لحظة من حياته. مات صلى الله عليه وسلم جاهداً مجاهداً، وسار من بعده خلفاؤه على هذا النهج في حرب المرتدين، وفي حروب فارس والروم، حتى أذن الله بأن تضعف هذه الأمة مرة أخرى، وأن ترجع ضعيفة بعد قوتها الأولى، ولكن الله رحيم بعباده، فلما جاءت جيوش الصليبيين إلى بلاد الشام كانت أكبر نكسة أصيب بها المسلمون، وأعظم الخطوب خطراً منذ حرب المرتدين. ثم بعد ذلك جاءت نكسة التتر بعد موجة الصليبيين، ثم بعد ذلك جاء الكفار في العصر الحديث بغزوهم العسكري والفكري، والله سبحانه وتعالى لا يترك هذه الأمة بلا رحمة، بل إنه أذن عز وجل بأن يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها، ولذلك كان التجديد وأحاديث المجددين من البشائر التي ينبغي على المسلم أن يتمعنها ويتأملها؛ لأنها تبعث في النفس الأمل في أوساط الضعف والهزيمة مثل الأوساط التي يعيشها المسلمون في هذه الأيام، ولكن هذه الأمة كالغيث لا يدرى خيرٌ أوله أم آخره (الخير فيَّ وفي أمتي إلى يوم القيامة). فبعث الله المجددين في كل فرع من فروع الدين، فكان منهم من جدد في جميع الفروع كـ عمر بن عبد العزيز رحمه الله، وكان منهم من جدد في جوانب الفقه أو التفسير أو الحديث، وكان منهم من جدد في جوانب الجهاد، ولذلك تمر بعض القرون بالأمة الإسلامية ولا يمكن أن يكون المجدد فيها واحداً، بل قد يكون مجموعة من الناس يجدد في وقت واحد؛ هذا يجدد من جهة، وهذا من أخرى، وهذا من ثالثة، حتى يقوم عماد الإسلام مرة أخرى. كان الوقت الذي غزا فيه النصارى بلاد المسلمين وقتاً عصيباً جداً؛ فإنهم -عليهم لعائن الله- قام فيهم بطرس الناسك يحرضهم على غزو بلاد المسلمين، ويقول: إن أرض المسلمين تنبع لبناً وعسلاً، وأعلن بما يسمى بـ (الحرب المقدسة) حتى اجتمع من جيوش الكفرة من النصارى خلق عظيم غزوا سواحل بلاد الشام، فاحتلوا كثيراً منها، وأمعنوا في المسلمين قتلاً، وفي بلادهم وممتلكاتهم نهباً وسلباً، وقام المسلمون من كل مكان من بلاد الشام يذهبون إلى إخوانهم يستنصرونهم فلا معين ولا ناصر، وكان يشكو مصر في ذلك الوقت الدولة الفاطمية الباطنية الرافضية الكافرة -التي لما قام ملوكها قاموا بقتل علماء السنة في مصر، وجعلوا المساجد والأئمة والخطباء والقضاة منهم من أتباع المذهب الفاطمي، ينتسبون إلى فاطمة وفاطمة منهم بريئة رضي الله عنها. وكان هؤلاء من خياناتهم: أنهم كانوا يتعاونون مع النصارى، وهكذا الباطنيون في كل عصر ومصر يكيدون لـ أهل السنة، ويتعاونون حتى مع الشيطان الرجيم في سبيل القضاء على ملة الإسلام، وما كانوا يقلون خطراً أبداً عن النصارى، بل إن شرهم مستطير، وبلاءهم عظيم، وقد قيَّض الله سبحانه وتعالى لأمة الإسلام في هذه الفترة ثلاثة من ملوك المسلمين العظام تتابعوا واحداً بعد واحد: محمود بن زنكي (نور الدين الشهيد) وصلاح الدين الأيوبي رحمهم الله تعالى، وهو الذي سنتحدث عن سيرته في هذه الليلة وعن تجديده في جانب الجهاد، وسنركز على جانب الجهاد أكثر شيء. صلاح الدين رحمه الله بشر يصيب ويخطئ، وقد تكون له زلات، ولكن لا شك كما قال شيخنا عبد العزيز حفظه الله، وقد سألته عن هذا الرجل، وعما قيل فيه سلباً وإيجاباً، قال: لا شك أنه من مجددي الإسلام في الجهاد، وقال: وجهوده في القضاء على الباطنيين والنصارى عظيمة جداً لم يقم بها أحدٌ مثله، في القضاء على هاتين الطائفتين في وقت واحد.

مولد صلاح الدين ونشأته

مولد صلاح الدين ونشأته ولد صلاح الدين رحمه الله تعالى في قلعة تكريت عام [532هـ] واسمه: يوسف بن أيوب بن شاذي وهو كردي لا عربي، ولقبه: صلاح الدين. انتقلت أسرته إلى الموصل، ثم رافق والده الذي عُيِّن حاكماً على بعلبك؛ ودرس صلاح الدين رحمه الله فيها أنواعاً من العلوم، وتعلم الصيد والفروسية، ثم لحق بعمه أسد الدين ابن شيركوه في حلب، وأبدى صلاح الدين في دمشق مهارة وقدرة كبيرة، ثم رجع إلى حلب واهتم به نور الدين لملامح الفطنة التي رآها عليه، ثم إن عمه أسد الدين شيركوه قد اصطحبه معه إلى مصر بأوامر من نور الدين رحمه الله، وكان نور الدين يسعى إلى تحقيق الوحدة الإسلامية بين الشام ومصر لجعل الصليبيين بين شقي الرحا، وكان من أهداف نور الدين رحمه الله أن يوحد بلاد المسلمين لحرب النصارى وهو يعلم علماً تاماً أنه لا يمكن أن يحارب المسلمون النصارى وهم متفرقون. وفي هذا درس عظيم لكل من يرى أن نبدأ بالأعداء الخارجيين قبل الأعداء الداخليين.

صلاح الدين في مصر

صلاح الدين في مصر أراد نور الدين رحمه الله إسقاط الخلافة الباطنية، كما زعموا أنها خلافة، وعينوا لها خلفاء باطنيين في مصر، فأراد نور الدين ضمها إلى نفوذ أهل السنة والجماعة مرة أخرى، واستغل نور الدين خلافاً حصل بين وزيرين من الدولة الفاطمية، فأرسل أسد الدين مع ابن أخيه صلاح الدين في جيش إلى مصر، ثم عاد إليها مرة أخرى في عام (562هـ) ومعه ولد أخيه صلاح الدين أيضاً، وحصلت معركة مهمة بين شاور الخائن والصليبيين من جهة، وشاور من الباطنيين في مصر الذي استنجد بالصليبيين، حيث حدثت معركة بينه وبين الصليبيين من جهة، ومع جيش أهل السنة بقيادة أسد الدين شيركوه وصلاح الدين من جهة أخرى، وانتهت المعركة بانتصار أهل السنة بقيادة أسد الدين شيركوه، وخرج أسد الدين من مصر ليعود إليها ويصبح وزيراً للخليفة الفاطمي الذي لم يبق له تقريباً إلا مجرد اسم، وقتل الخائن شاور عام (564هـ)، وشاء الله أن يموت أسد الدين شيركوه في عام (564هـ) ليتولى بعده صلاح الدين الوزارة، وظن الخليفة الفاطمي أن صغر سن صلاح الدين كم كان عمره ذلك الوقت؟ تولى عام (564هـ) وكان عمره في ذلك الوقت [32] سنة، ولكن صلاح الدين خيب ظن ذلك الخليفة الفاطمي الباطني، وقام بإصلاحات كثيرة جداً، منها: إلغاء ضرائب الفاطميين، وبذل الأموال للناس في أوقات الشدة حتى أحبوه، وصدَّ غارات شنها الصليبيون على دمياط عام (555هـ] وأسس المدارس، وحصن المدن والموانئ والثغور المصرية، وبنى قلعة المقطم المشهورة، واكتشف خيانة من الفاطميين فتخلص منها، وبدأ بمشروع مهم جداً وهو عزل قضاة مصر الباطنيين الفاطميين وتولية قضاة بدلاً منهم من أهل السنة والجماعة، وألغى (حي على خير العمل) من الأذان التي اخترعها أولئك الباطنيون في مصر ومسجد الأزهر الذي بناه الباطنيون الكفرة الذي يعتقد كثير من المسلمين أن جوهر الصقلي بطل إسلامي، مع أنه زنديق ملحد من هؤلاء الباطنيين، ولكن الله رد كيدهم في نحورهم، فكان ذلك المسجد منارة لـ أهل السنة في مصر كما طهره صلاح الدين رحمه الله تعالى. وتمكن صلاح الدين رحمه الله بحنكته وحماسه وإخلاصه من إلغاء الخلافة الباطنية الفاطمية في مصر في أول جمعة من محرم عام (567هـ) وصار الخطباء في يوم الجمعة يدعون للخليفة العباسي على المنابر، وتوفي آخر خليفة باطني في (العاشر من محرم) من هذه السنة دون أن يعلم بأن دولته قد سقطت؛ لأن صلاح الدين أخفى ذلك عنه، ثم قام الباطنيون بتدبير عدة محاولات لاغتيال هذا القائد المسلم صلاح الدين رحمه الله بعد هذه الإصلاحات العديدة، منها: مؤامرة عمارة اليمني وعبد الصمد الكاتب وداعي الدعاة في عام (569هـ)، واتصلوا بالإسماعيليين لاغتيال صلاح الدين؛ وكان الإسماعيليون مسرورين بتدبير محاولة الاغتيال، فاتصلوا بهم من مصر واتصلوا بالصليبيين لغزو مصر، وإشعال الفتنة من الداخل، وكان حول صلاح الدين أناس مخلصون يقظون، فكان أحد رجال صلاح الدين داخلاً في بطن هذه المؤامرة ليستكشف أحوالها، فأحبطت قبل أن تنفذ، وصلب زعماءهم، وعرف الصليبيون اكتشاف المؤامرة فرجعوا مدحورين، وجرت معارك في البر والبحر بين صلاح الدين وملك صقلية في أواخر عام (569هـ) انتهت بانتصار صلاح الدين.

صلاح الدين بعد نور الدين محمود

صلاح الدين بعد نور الدين محمود وفي عام (568هـ) وافت المنية نور الدين محمود رحمه الله وتولى ولده بعد ذلك، وقام الطامعون يريدون الاستيلاء على دولة نور الدين محمود الذي كان في بلاد الشام في حلب وفي دمشق، فتمهدت الأمور لـ صلاح الدين لدخول دمشق وضمها إلى مصر ليكمل خطته؛ وهي بلاد الشام، ومحاصرة الصليبيين، وأراد بعض طلاب الدنيا ممن كانوا مع نور الدين الاستعانة بالإسماعيليين في محاولة أخرى لاغتيال صلاح الدين رحمه الله، وأوشكت المؤامرة على النجاح لولا أن الله قدر انكشافها، ففشلت بعد أن جرح صلاح الدين في تلك المؤامرة. استطاع صلاح الدين أن يوحد بلاد الشام تحت قيادته، وكان مع ذلك لا يخوض معارك مع بعض الطامعين في الإمارة من المسلمين لاستبقاء الدم الإسلامي -يبقى دم المسلم لحرب النصارى- وحاول الإسماعيليون مرة أخرى قتل صلاح الدين عام (570 - 571هـ) بالاندساس في جيشه حتى وصلوا إلى خيمته، حتى أن أحد هؤلاء الباطنيين وصل إلى خيمة صلاح الدين وفي يده سكينٌ مشفرة، ولكن الله قيض من الحراس من قتله، وأُحبطت اغتيال صلاح الدين وهو يحاصر قلعة أعزاز بـ حلب؛ وهذا دليل على أن الباطنيين المنافقين الذين يزعمون الإسلام، خطرٌ على المسلمين في كل زمان ومكان، ويجب كشفهم والقضاء عليهم، وما ضُرب الإسلام منذ خلافة عثمان بن عفان رحمه الله حتى هذه الأيام بمثل ما ضرب من الباطنيين ابتداءً بـ عبد الله بن سبأ وانتهاءً بهم الآن، وهم يدبرون المؤامرات تلو المؤامرات للقضاء على أهل السنة. قام صلاح الدين رحمه الله بتأديبهم، وكان من طرق صلاح الدين في مواجهة بعض الأمراء من المسلمين الطامعين في السلطة أن يقول: من جاءني راضياً سلمت له بلاده على أن يكون من جنودي في جهاد الصليبيين، فكان من الواضح أن الرجل لا يريد الدنيا، ولا يريد الملك لنفسه، وإنما يريد أن يوحد المسلمين لحرب النصارى. ومع الأسف! فإن بعض الطامعين في الدنيا من المسلمين قاموا بعقد المعاهدات مع النصارى، وبعضهم دفع عشرة آلاف دينار سنوياً للنصارى وسلمهم بعض ثغور المسلمين، وأطلق بعض أسرى النصارى مقابل الاستعانة بالنصارى في حرب صلاح الدين، وهكذا يفعل حب الدنيا الأفاعيل، وعندما لا يكون الولاء والبراء الصحيح متمكناً من قلب المسلم، فإنه يفقد توازنه، فمثل هؤلاء الناس لم يكن الولاء والبراء متحققاً في نفوسهم، فصاروا يوالون الكفار ويعادون المسلمين، والولاء والبراء من أساسيات العقيدة، لا يمكن لمسلم أن يجاهد دون أن يتمكن الولاء والبراء من قلبه، ولا يمكن أن يحقق الإيمان بدون أن يتمكن الولاء والبراء من قلبه. مكث صلاح الدين الأيوبي تسع سنوات من عام (570 - 579هـ) من أجل توحيد بلاد المسلمين، حتى ضم مصر والشام وإقليم الجزيرة وأخضع الموصل ليصبح أقوى ملوك الشرق قاطبة.

جهود صلاح الدين في تجديد الجهاد

جهود صلاح الدين في تجديد الجهاد وأما تجديد صلاح الدين في الجهاد فلم يكن رجلاً يخلط خلط عشواء، وإنما كان رحمه الله يعلم عظم المهمة التي انتدب نفسه لأجلها، ويعلم بأن هؤلاء النصارى ليسوا من السهولة أبداً، ولذلك أنت عندما تدقق في إصلاحات صلاح الدين في الجهاد، تعلم علم اليقين أن الرجل كان يعد العدة المكافئة للكفرة، وكان يطبق قول الله: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60]. ولذلك فإنك لتستغرب أشد الاستغراب من تلك العقلية الفذة التي هيأها الله سبحانه وتعالى لترتيب صفوف المسلمين، وتطمئن اطمئناناً فعلياً إلى عناية الله عز وجل بهذه الأمة، وأنت تتأمل وتتمعن في تخطيط صلاح الدين لإعداد الأمة للجهاد، لم يكن الرجل يعد نفسه وأهل بيته فقط ولا المدن التي كانت حوله فقط، كان يعد الأمة الإسلامية قاطبة لحرب الصليبيين. وابتدأت المسألة من جوانب الاقتصاد، وإعداد السلاح، والجند والجيوش، والدواوين، والأسلحة، والمؤن، والذخائر، والعتاد، والخطط الحربية، وسنأتي على كل شيء بلمحات تبين عظم تلك العقلية التي قيضها الله سبحانه وتعالى.

صلاح الدين وإقطاع الأراضي الزراعية لخدمة الجهاد

صلاح الدين وإقطاع الأراضي الزراعية لخدمة الجهاد جعل صلاح الدين رحمه الله الإقطاعات الزراعية لخدمة الجهاد، وكان يقطع الأراضي الزراعية والقرى للقادة الحربيين، على عادة نور الدين رحمه الله سابقاً، ولكن مع تطويرات إضافية، وكان يأخذ الإقطاع من كل أمير يهمل في واجباته، وكان صلاح الدين يعطي مثلاً: أرضاً زراعية لهذا القائد العسكري ممن معه فيستفيد منها، لا يتملكها هو ولا يورثها لأولاده، يستفيد منها ومن محاصيلها وخيراتها بشروط مقابل الخدمات الحربية. فمثلاً: لا بد لهذا الأمير الذي أقطعه صلاح الدين هذه الأراضي أن يقدم العساكر في وقت الحرب، وأن ينفق على عساكره، وأن يعدها، وأن يلحق بالسلطان على رأس فرقته الحربية إذا طلب منه ذلك، وأن يرسل العتاد والسلاح والجند، وكذلك على هذا الأمير الذي أقطع هذا الإقطاع أن يراقب تحركات الأعداء، ويقر الأمن الداخلي في الإقطاع الذي أقطعه إياه، وكان لدى صلاح الدين رحمه الله ديوان جيش منظم لضبط الإقطاعات فيه أسماء الجند، ومراتبهم، ورواتبهم، ويصدر هذا الديوان إحصائيات دورية فيها أعداد الجند وقدراتهم، وكان هذا الديوان يصرف على العمائر والتحصينات وبناء الأسوار والقلاع، وكان فيه مسئولون يحاسبون أمراء الإقطاعات على تقصيراتهم، ويرفعون بشأنهم إلى صلاح الدين رحمه الله.

صلاح الدين وتطوير السلاح والعتاد

صلاح الدين وتطوير السلاح والعتاد وأما بالنسبة لجانب الأسلحة والمؤن والعتاد، فإنه كان رحمه الله يحرص على إعداد ما يكافئ المهمة، وقد اهتم بقضية السلاح اهتماماً كبيراً حتى طلب من أحد رجاله أن يؤلف له كتاباً حول الموضوع يشمل أنواع السلاح، وطرق صناعتها، وكذا استخدم الأسلحة التي تناسب الغرض المنشود من الأثقال والأحمال من العدد الواقية، والدروع السابغة، والنصال، والخوذ، والنقود، والمنجنيقات العادية والتركية والإفرنجية، وكان لدى صلاح الدين خبراء بالمنجنيقات، وطور المسلمون سلاحاً مهماً جداً من خلال الحروب الصليبية بفضل الله، ثم بدعم صلاح الدين وهو سلاح النفط؛ وسلاح النفط جمع صلاح الدين من أجله النفاطين والزراقين؛ النفاطين: خبراء في هذا النفط، وطوروا سلاحاً وهو خليط من خلطة من الزيوت، والنورة المطفأة وغير المطفأة، والنفط، والصمغ، والكبريت، والخل، وشحوم الحيوانات، ونخالة الحنطة، وهي تخضع لعمليات شبه كيميائية، لها طرق حتى تصبح هذه الخلطة مثل الألغام المتفجرة تقريباً، وكانت هذه الخلطة ترمى من المنجنيقات بواسطة النشاب وعلى ظهور الخيل، وتوضع في قشر البيض بعد إخراج ما في البيضة، فتوضع الخلطة داخل هذه البيضة ويغلق عليها وترمى من أقواس مخصوصة، كما طوروا أنواعاً من سلاح النفط يسير على الماء دون أن ينطفئ ليصطدم بمراكب العدو، ويحرقها ويغرقها في البحر أشبه بالألغام المائية الموجودة الآن. وساعد الخليفة العباسي الذي أسدى له صلاح الدين خدمات جليلة بإرسال حمولات من النفط ومعهم جماعة من النفاطين وجماعة من الزراقين -خبراء الرمي- النفاطين: خبراء النفط التركيبة، والزراقين: خبراء الرمي، فكان عندهم هذه الزراقات أنابيب خاصة لرمي هذه المواد الملتهبة. وكان من الأسلحة التي استخدمها صلاح الدين أيضاً: المثلثات والمسدسات؛ والمثلثات: عبارة عن حديدة لها شوكتان تغرس في الأرض وشوكة على ظاهر الأرض، والمسدسات: ثلاث شوكات في الأرض وثلاثة على سطح الأرض، حتى إذا داستها خيول الأعداء نفرت وأوذيت إيذاءً شديداً، وطاحت في الأرض وطرحت من عليها، وكانت ترمى في الطرق التي من المتوقع أن يسلكها الأعداء. وطور المسلمون كذلك سلاح الدبابات؛ والدبابة كانت عبارة عن بناء من الخشب تصميم معين، يغلف بقطع من القماش والستائر المبلولة بالخل، والخشب المضادة للنيران، وكانت تسير على عجلات خشبية، وكان يستتر في داخلها الجند، أو تملأ بالمواد الملتهبة لتدفع دفعاً إلى الأسوار لتدمرها، وكانت تحمي من بداخلها. وكذلك تستخدم هذه الستائر التي صنعها المسلمون لحماية الأبراج والدبابات والسفن والمنجنيقات، هذا بخلاف السيوف والرماح والتروس والدروع والجنديات التي كان يسير بها مجموعة من الجنود تقيهم ما أمامهم، وكان لدى جنود صلاح الدين مطارق خاصة لتهشيم خوذ الأعداء وضربهم على رءوسهم.

مهارة صلاح الدين في تنظيم الجيش واستحداث أساليب جديدة في الحرب

مهارة صلاح الدين في تنظيم الجيش واستحداث أساليب جديدة في الحرب وأما بالنسبة لتنظيم الجيش، فقد كانت مهمة صلاح الدين كبيرة جداً، وبشكل خاص في تنظيم الجيش، فكان لديه أنواع من الجند: منهم: العسكر السلطاني المتفرغون تماماً للجهاد؛ الذين يستخدمهم في الإغارة وصنع الكمائن دائماً. وكان لديه أيضاً نوع آخر وهم: جند الأمراء الذين يستدعون وقت الحرب فقط ويستريحون بعدها ويذهبون إلى أهاليهم وقت الشتاء، وكان لديه أيضاً صنف ثالث: وهم المتطوعة، والقوات المساعدة من العلماء والصلحاء والقضاة والمتحمسين من المسلمين الذين يهبون كلما استدعاهم صلاح الدين. وكان لديه من أبناء القبائل من يدله على الدروب والمسالك، وكان يدعم جنده بالعناصر الجيدة التي كان ينتخبها من الأقطار الإسلامية المختلفة ويعمد إلى أمراء الإقطاعات أن ينتخبوا له مجموعة كلما أراد أن يدعم جيشه لمعركة مهمة. وهؤلاء المتطوعة من بين هذه الأصناف هم أشد الناس بلاءً وأحسنهم قتالاً؛ لأنهم لا يأخذون مرتبات، وليست لهم أموال تدفع للجهاد -ليس لهم رواتب- ولذلك كان منهم: العلماء، والقضاة، وكان لوجودهم أثر كبير في تحميس المسلمين؛ بل إنهم شاركوا في اختراع وسائل جديدة، وابتكار طرق مثلما حدث في معركة حطين عندما أثار بعض المتطوعة وقاموا بإشعال النار في مناطق فيها حشائش كثيرة يابسة استغلوا اتجاه الريح التي كانت تسير باتجاه الصليبيين حتى يجتمع عليهم حر هذه الأعشاب المحترقة مع دخانها مع انقضاض المسلمين عليهم. وعمد صلاح الدين رحمه الله تعالى إلى تجميع أساليب القتال، فكان عنده نظام تعبئة، ونظام اصطفاف، وتنظيم للجيش في داخل الخيام عندما يخيمون، حتى إذا صاح قام أهل الميمنة إلى أماكنهم، وأهل الميسرة إلى أماكنهم، دون أي لخبطة. وكان لديه حركات استكشاف، وقوات استطلاع، وعلامات بينه وبين الجنود يعرفون بها وقت الانقضاض وبدء الهجوم، وكان لديه قضاء داخل الجيش لفصل الخصومات عند حدوثها بين بعض المسلمين. وكان لديه مجلس مشورة خاص وعام يرأسه هو، وكان يفتتحه هو ويأخذ بآراء جنوده، وأحياناً يفضل آراء المستشارين على رأيه الخاص، مع أنه كان يرى أحياناً أن رأيه أصوب تأليفاً لقلوبهم، وتطبيقاً لقوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38] ومن افتتاحياته في مجلس الشورى في شعبان عام (585هـ) في حصار عكا قوله: اعلموا أن هذا عدو الله وعدونا؛ أجلب بخيله ورجله، وأناخ بكلكله كله، وقد برز بالكفر كله إلى الإسلام كله، وجمع حشده، وحشد جمعه، واستنفذ وسعه، وإن لم يعالج الآن فريقه المضل؛ عظم داؤه، وتعذر غداً لقاؤه. وكان لديه جواسيس كما فعل في كشف خبر ملك الألمان الذي اخترق معسكره بعض جنود صلاح الدين. وكان رحمه الله يستخدم الحمام الهادي في نقل الرسائل كما حصل في حرب عكا. وكان يستخدم الحرب الخاطفة، والكر والفر، ويرسل المسلمين لحصد غلات الصليبيين؛ الصليبيين كان لديهم مزارع، فكان صلاح الدين يرسل جنوداً لحصد غلات الصليبيين والإتيان بها إلى المسلمين. ويستخدم أساليب التمويه والخداع؛ فيظهر أنه خارجٌ من جهة ويأتي من جهة أخرى. وكانت لديه غارات، وتخريب لممتلكات، وكمائن، وشن حرب عصابات كما هجم جماعة من المسلمين أثناء حصار عكا عام (585هـ) سوق الخمارات، وسبوا عدداً من النساء الفواجر. وكان بعض المسلمين يتسللون إلى معسكرات الصليبيين لخطف الجنود. وكان من سياساته أنه يتفق مع المستأمنين من القادمين من النصارى يطلبون الأمان من صلاح الدين، يقول لهم: في طريقكم أغيروا على سبل النصارى وسلبها بيني وبينكم، فإذا جاءوا بالسلب أعطاهم كلهم، وكان هذا سبب في إسلام شطر منهم. وكان رحمه الله يعرف كيف يستدرج العدو إلى المكان المناسب، وكيف يوفر المواد اللازمة لجنوده كالماء والعشب للدواب، ويراعي درجة حرارة الشمس واتجاه أشعة الشمس، كما حصل في معركة حطين. وكان يتبع طريقة النوبات في حصار حصون الأعداء، ويهتم بتحصين المناطق، وتسوير المدن التي يخشى عليها من الصليبيين، وتجديد آلات الدفاع، ويهتم بحفر الخنادق، وبناء الأبراج، وعمل الجسور. وأنشأ دوراً خاصة لصناعة الأسطول الإسلامي في مصر بعد أن أحرقه الكفار، وكان يجلب أخشاب الصنوبر والأرز من لبنان والحديد من جبالها من قرب بيروت، وحصل من إيطاليا عبر اتفاقية عقدها مع الإيطاليين على معاهدات تجارية استطاع أن يأتي من خلالها بأخشاب ومواد يحتاجها لبناء الأسطول الإسلامي، وكان لديه ثمانين سفينة في الأسطول؛ خمسين سفينة لحماية سواحل مصر، وثلاثين سفينة لحرب الصليبيين في بلاد الشام وحماية الحجاج الذين يأتون عن طريق البحر، ويهتم بتقوية أجهزة الدفاع والحراسة الساحلية في سواحل مصر والشام، وجعل في دمياط سلسلة لإعاقة دخول العدو في حالة الطوارئ. وكان يهتم بوضع الخطط لإدخال المؤن إلى الموانئ والأماكن المحاصرة؛ فمن ذلك: الحصار المفاجئ واستخدام القوة لفتح ثغرة في صفوف العدو مثلما حدث في حصار عكا، أو يدخل المؤن قبل ذلك إلى الأماكن المتوقع حصارها، أو كان يستخدم مهاجمة العدو وإشغاله في طرف حتى يتمكن فريق آخر من إدخال المؤن من الطرف الآخر. وكان يشن هجوماً برياً لكي يشغل الأعداء عن أسطول المسلمين القادم من مصر بالمؤن والذخائر. وأعد صلاح الدين في بيروت سفينة كبيرة محملة بالمؤن (400) غرارة من القمح والجبن والميرة والبصل والغنم والنفط، واستخدم المسلمون وسيلة عظيمة لإدخال المؤن إلى ميناء عكا المحاصر، وكانت هذه الخطة: أن المسلمين على ظاهر هذه السفينة المحملة بالمؤن قاموا بما يلي: علقوا الصلبان في صدورهم، ولبسوا ملابس الفرنج وتزيوا بزيهم، بل إنهم وضعوا الخنازير فوق السفينة بشكل ظاهر، ودخلوا بهذه السفينة وسط سفن النصارى التي تحاصر عكا، وصاروا يقتربون من مدينة عكا ويعتذرون للنصارى بأن الريح تدفعهم بهذا الاتجاه، والنصارى يظنونهم منهم، حتى دخلت هذه السفينة إلى عكا، ففرج الله بها عن المسلمين تفريجاً كبيراً. وكان صلاح الدين رحمه الله يهتم باستثارة الناس للجهاد؛ فكان يرسل الرسل والكتب إلى الخليفة العباسي ويطلعه على سير الفتوحات كما حدث في معركة حطين، وأرسل رسالة إلى البلاد التي لم تكن خاضعة للخلافة العباسية يستنجد بهم، كالتركمان في الشرق، ودولة الموحدين في الغرب، كما استعان بخطباء المساجد بالدعاء لجيشه بالنصر، وحث الناس على الجهاد. وكان حريصاً على شن المعارك يوم الجمعة في التوقيت التي تقام صلاة الجمعة؛ تبركاً بدعوة الخطباء على المنابر. وكان يستعين بالقضاة والفقهاء لتأليب الناس على الجهاد، وفي ساحات المعارك، وفي المدن التي كان يفتحها. وكان يسير بين صفوف الجيش بنفسه يحثهم على الجهاد، وينادي: يا للإسلام، كما حدث في حصار عكا، وكان من ضمن فقرات الرسالة التي أرسلها إلى ملك المغرب المسلم من الموحدين يقول له: لا ترضى أن يعين الكفر الكفر، ولا يعين الإسلام الإسلام. يقول له: هؤلاء الكفار يعينون بعضهم، أنت لا ترضى بذلك، ألا ترضى أن يعين المسلمون المسلمين؟!! هذه نبذة عن التجهيزات التي قام بها صلاح الدين لمحاربة النصارى، ومنها نعلم أن صلاح الدين رحمه الله ما قام على الحماس الفارغ أبداً، ولا دخل في المعارك دون أن يعد العدة، ولا ألقى بأبناء المسلمين غنيمة سهلة للكفار أبداً، رجل يعرف حجم المهمة، بل إنه لم يبدأ بحرب النصارى حرباً جدية إلا بعد أن وحد بلاد المسلمين؛ وصلاح الدين يعلم تماماً أنه بدون توحيد المسلمين لا يتمكن من حرب النصارى، بل إنه تعلَّم درساً من معركة هزم فيها أمام النصارى قبل أن يستكمل توحيد بلاد المسلمين، تعلم من ذلك أنه لا بد من استكمال عملية التوحيد؛ وهذا درس عظيم ينبغي أن يهتم به المسلمون في هذا الزمان، وبالذات طائفة الشباب المتحمسين الذين يظنون أن المهم هو إلقاء النفس إلى العدو فقط، وأن الله ينصر المسلمين بأي شيء، ولا يتمعنون في قول الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60] ليعلم أولئك المتحمسون أن النصر لا يأتي بهذه السهولة، وأن أخذ العدة العسكرية والمعنوية بعد تهيئة الناس عموماً للجهاد، تريد أن تجاهد بنفر من المتحمسين للجهاد الذين تتوق أنفسهم للجنة، وهناك أعداد كبيرة جداً من المسلمين ركنوا إلى الدنيا ولم يعبأ الناس للجهاد، كيف ستقوم بهذه المهمة؟! ولذلك فإننا مع تحرقنا للجهاد في سبيل الله، وتشوقنا لجنة عرضها السماوات والأرض إن شاء الله، وتوطيننا العزم لهذا اليوم الموعود، فإننا أبداً لا يمكن أن ننساق وراء الحماس الفارغ دون إعداد العدة وتجهيز الأمة، ولا بد من التربية الواعية، ولا بد من قيام المصلحين، والعلماء، والدعاة، والخطباء، والمدرسين كلٌ في مكانه، وكلٌ في ثغرته، بشحذ همم الأمة وإعدادها للجهاد، وليس فقط الإعداد الحماسي بالخطب والكتب والتآليف والكلمات الرنانة، بل بإعداد العدة العسكرية حقيقة لأجل الوصول إلى هذا الهدف، وليس المهم أن يحدث طفرة في مكان واحد من الأمكنة فقط! كلا. وإنني أقول بهذه المناسبة أيها الإخوة: إن الله عز وجل إذا علم من المسلمين صدقاً وإخلاصاً، فإنه يوفقهم وينصرهم. وكم كانت رءوس المسلمين مطأطئةً فما رفعت إلا بعد الجهاد الأفغاني، الجهاد هو الذي يحيي في الأمة الروح ويبعثها بعثاً جديداً، الجهاد هو الذي يوقظ الطاقات

مواقف من جهاد صلاح الدين (قصة أرناط)

مواقف من جهاد صلاح الدين (قصة أرناط) وإنه من المناسب هنا أن نستعرض بعض المواقف التي حصلت لـ صلاح الدين، وإلا فإن سياق جهاد أهل الردة الصليبيين أمرٌ متعسر الآن في هذه العجالة. ولا يمكننا أن نسير على مخططه، وغزواته كلها وجهاده، والأماكن التي بدأ منها، والحصون التي اقتحمها، والمدن التي استولى عليها، والمعارك التي انتصر فيها والتي حصل فيها شيء من الهزيمة للمسلمين؛ هذا أمر يصعب. ولكن نتأمل في قصة أرناط أحد ملوك النصارى، هذا الرجل صليبي حاقد، ولص، ولا يوجد بين ملوك النصارى من هو أشد منه نقضاً للعهود والمواثيق، هذا الرجل أسر في زمن نور الدين محمود وبيع في حلب، وذهب مرةً أخرى إلى النصارى ليكون قائداً من قوادهم، وهذا الرجل النصراني أرناط حدث أن جيشاً لـ صلاح الدين هزم قبل الرملة من قبل أرناط بعد أن حرر نفسه من المسلمين وذهب، وحصل أن هذا الرجل تزوج من ملكة للنصارى على حصن يسمى الكرك في الطريق بين مصر والشام، وصار يضيء منه على حجاج المسلمين لدرجة أن القاضي الفاضل أفتى في تلك الأيام أن الحج ليس بواجب على أهل تلك البقعة الذين لا يمرون إلا من هذا الطريق لعدم أمنهم، ووصفه بعض علماء المسلمين بأنه أغدر الفرنجة وأخبثهم وأنقضهم للمواثيق وأنكثهم وأحنثهم، وانتهك عام (577هـ) هدنة معقودة بين المسلمين والصليبيين، وجمع جيشه وسار إلى تيماء، ثم حدثته نفسه بالمسير إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ليستولي عليها، ويضرب المسلمين في أعز ما يملكون، وأقدس المناطق التي يكنون لها في أنفسهم قدراً عظيماً. ولكن أمير دمشق من قبل صلاح الدين الأيوبي أغار على حصن الكرك وكبَّد النصارى خسائر كبيرة، مما اضطر أرناط العدول عن خطته والعودة وعدم غزو المدينة. وفي عام (578هـ) شرع أرناط في بناء سفن نقلها مفككة على ظهور الجمال إلى ساحل البحر الأحمر، وركبها وشحنها بالمزاد، ولم يكن للصليبيين وجود في البحر الأحمر قبل هذا، وباغت المسلمين في ديارهم على حين غفلة؛ فقتل، ونهب، وسلب، وأسر، ثم توجه إلى أرض الحجاز وسار باتجاه المدينة المنورة مرة أخرى حتى وصل إلى رابغ، حتى لم يكن بينه وبين المدينة إلا مسيرة ليلة واحدة، فعند ذلك أمر صلاح الدين أميره على مصر وواليه عليها الملك العادل إلى إعداد أسطول قوي في البحر الأحمر وتجهيزه بقيادة الأمير حسام الدين لؤلؤ من المسلمين الذي تتبع الصليبيين في البحر الأحمر، وضرب أول الميناء أيلة التي احتلوها، ثم جعل يتتبع سفن الصليبيين واحدة واحدة حتى بلغ رابغ، وقد قتل معظمهم وأغرق سفنهم، وكان موسم الحج قريباً، فأرسل حسام الدين لؤلؤ القائد المسلم أسيرين من الصليبيين إلى منى حتى نحرهما هناك في يوم العاشر من ذي الحجة كما تنحر البدن؛ وهذا انتقاماً لإرهاب الكفرة، وأما الباقي فطيف بهم باستعراض في شوارع القاهرة والإسكندرية، وأمر صلاح الدين بقتلهم في مصر أمام الناس حتى لا تسول لأحد نفسه بغزو الحجاز مرة أخرى. واستطاع أرناط من الهرب والعودة إلى حصن الكرك، وبعد عدة هجمات على حصنه هادن صلاح الدين، إلا أنه عاد مرة أخرى، وغدر، وخان، ونقض العهد، وهجم على قافلة من المسلمين؛ فغدر بهم، وأخذ أموالهم، وقتل من قتل، وأسر من أسر، فذكَّره بعض المسلمين بالمعاهدة التي بينه وبين صلاح الدين، فقال أرناط الصليبي الحاقد: (قولوا لمحمدكم يخلصكم) فأرسل إليه صلاح الدين يذكره بما حصل فلم يتذكر. هذا الرجل كان لـ صلاح الدين موقف تَظهر فيه عزة الإسلام، وهكذا ينبغي أن تكون مواقف المسلمين أمام الكفرة؛ مواقف عزة لا مواقف ذله، هذا الموقف كان بعد معركة حطين مباشرة. أما معركة حطين وهي لا بد من الإشارة إليها في هذا المقام؛ لأنها من أشهر الحوادث إن لم تكن أشهرها هي وفتح بيت المقدس: استطاع صلاح الدين بحنكته ودهائه استغلال فرصة خلاف بين الصليبيين ليميل مع جانب ضد الآخر، وأمر أهل حلب بعقد معاهدة مع البيزنطيين، فضمن عدم وصول إنجازات منهم للنصارى، ثم جمع قواته من مصر ودمشق وحلب والجزيرة والموصل وسار إلى قرب بحيرة طبرية، وعسكر على سفح جبل طبرية المشرف على سهل حطين، وكان صلاح الدين قبل ذلك قد عمل تعبئة ليتأكد أن المسلمين سيقدمون إليه إذا استنفرهم، واجتمع الصليبيون في تلك الموقعة وكانوا قد هزموا في صفورية، واستطاع صلاح الدين رحمه الله تعالى أن يستدرجهم إلى المكان الذي يريده في سهل جبل طبرية الغربي، وكان جملة من معه اثنا عشر ألفاً غير المتطوعين مع صلاح الدين، وجمع الصليبيون جنودهم فكانت قريبة من خمسين ألفاً، والتقى صلاح الدين رحمه الله ومن معه من المسلمين في صباح يوم الجمعة (24/ ربيع الآخر/ 583هـ) وابتدأ القتال، وفصل بين الجيشين الليل، ثم عادوا في النهار للاشتباك مرة أخرى وصلاح الدين يطوقهم شيئاً فشيئاً ويطوف بين الصفوف يحرضهم على الجهاد، واستمات المسلمون في القتال وأدركوا أن من ورائهم نهر الأردن، ومن أمامهم الروم، وأنه لا ينجيهم إلا الله تعالى، واشتدت المعركة، ونحن لا نسرد هنا تفاصيلها، ولكن حصلت فيها كثير من البطولات، واستخدم صلاح الدين ومن معه من المسلمين الأسلحة وبالذات أسلحة النفط، حتى منح الله المسلمين أكتاف المشركين فقتل منهم في تلك المعركة ثلاثون ألفاً، وأسر كثير منهم، وكان من ضمن القتلى والأسرى أعظم ملوك النصارى وحكامهم وأمرائهم في تلك الديار، وكان يوماً ميموناً مباركاً، ولما انتهت الوقعة أمر صلاح الدين رحمه الله المسلمين بضرب المخيم العظيم؛ وجعل فيه سريره، وعن يمينه أسرة مثلها، وأوتي بملوك النصارى في قيودهم يتهادون بذلة مطأطئي الرءوس، وكان من بين المأسورين أرناط -الذي تقدمت قصته- فقد ساقه الله إلى صلاح الدين في هذه المعركة، وصلاح الدين رحمه الله كان يبتهل إلى الله طيلة القتال، حتى إنه لما قرب النصر للمسلمين قام المسلمون وندبوا ليقولون: هزمناهم، قال: اصبروا حتى تسقط تلك الخيمة لم نهزمهم بعد، وكانت خيمة ملك النصارى لازالت باقية، فلما سقطت خيمة ملك النصارى سجد صلاح الدين رحمه الله شكراً لله تعالى وبكى من الفرح. وكان من ملوك النصارى الذين مثلوا أمام صلاح الدين الملك جايك وأرناط وهنكري بن الهنكري وابن صاحب طبرية وجرار مقدم الداويه، وغيرهم من أكابر الصليبيين، فأجلس صلاح الدين ملوك النصارى بجانبه، وبدأ بالملك جايك فأعطاه إناءً مملوءاً بالماء البارد ليشرب، فهذا الرجل لما انتهى من الشرب أعطى أرناط ليشرب، فغضب صلاح الدين، وقال: لم أقل لك أن تسقيه؛ لأنه لا يشرب عندي! إنما ناولتك ولم آذن لك أن تسقيه! هذا لا عهد له عندي!! ثم إن السلطان صلاح الدين تحول إلى خيمة داخل الخيمة واستدعى أرناط، فلما أوقِفَ بين يديه قام إليه بالسيف، ودعاه للإسلام فامتنع، ثم قال له: أنت الذي غدرت وخنت وفعلت وفعلت، فكان يقول: هذه عادة الملوك، ثم قال له صلاح الدين رحمه الله القولة الذهبية المشهورة: نعم أنا أنيب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنت قلت للمسلمين: هاتوا محمداً يخلصكم، أنا أنوب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم فأخلص المسلمين من شرك، ثم ضربه بسيفه على عاتقه وتتابع من حضر من المسلمين على أرناط، فقتل هذا الطاغية ذليلاً بين المسلمين، وكانت تلك فرحة عظيمة للمسلمين.

دخول صلاح الدين بيت المقدس

دخول صلاح الدين بيت المقدس كانت معركة حطين تمهيداً لدخول صلاح الدين رحمه الله إلى بيت المقدس، لأن هذه الهزيمة المنكرة مهدت الطريق، ولكن صلاح الدين بحنكته لم يدخل بيت المقدس مباشرة، إنما ذهب لإكمال فتح البلدان الساحلية حتى يمنع أي قادم عبر البحر لتعزيز الصليبيين من النصارى، ويقطع الطريق حتى تحاصر بيت المقدس تماماً، ثم اتجه بعد ذلك إلى بيت المقدس وقد اجتمع في بيت المقدس من النصارى خلق عظيم من الذين هربوا من معركة حطين ومن غيرها؛ وفيهم النساء والأطفال والجنود والأسلحة واستغل النصارى الفرصة، فعززوا الأسوار والحمايات، وحاصرها صلاح الدين رحمه الله حصاراً عظيماً حتى خرب السور وهمَّ الجنود المسلمون بالدخول، فخرج قائد النصارى يلتمس الصلح من صلاح الدين؛ وصلاح الدين، يقول: لا أصالحكم حتى أفعل بكم مثلما فعلتم بالمسلمين عندما دخلتموها، حتى أن ملك النصارى جاء إلى صلاح الدين مرةً أخرى ليقول له: أيها السلطان! اعلم أننا في هذه المدينة خلق كثير؛ وهم يكرهون الموت ويرغبون في الحياة، فإذا رأينا أنه لا بد منه؛ فوالله لنقتلن أبناءنا ونساءنا ولنحرقن أموالنا وأمتعتنا ولا نترككم تغنمون منها شيئاً، ولنخرب الصخرة والمسجد الأقصى، ثم نقتل من عندنا من أسارى المسلمين في مدينة القدس، فاستشار صلاح الدين أصحابه، فأشاروا عليه بالصلح الذي يكون من نتيجته تسليم المدينة، وأن تكون شروط الصلح هي نفسها شروط فتح المدن عنوةً؛ لأن صلاح الدين كان قد أقسم أن يفتح هذه المدينة عنوةً، وعند ذلك صالحهم صلاح الدين مقابل فداء يدفعونه، فجعل على الرجل عشرة دنانير يستوي فيها الغني والفقير، وعلى المرأة خمسة دنانير، وقيل: إنه جعل للطفل ديناراً واحداً، وأخليت المدينة لـ صلاح الدين رحمه الله تعالى فدخلها، وخرج النصارى بالفدية منها وسلموها لـ صلاح الدين رحمه الله.

أول خطبة جمعة في بيت المقدس

أول خطبة جمعة في بيت المقدس ولما كان يوم الجمعة التالية لجمعة الفتح؛ لأنه دخلها يوم جمعة، لكنهم صلوا ظهراً ولم يتمكنوا من صلاة الجمعة، حضر المسلمون الحرم الشريف فغص بالزحام، وتسامع الناس من سائر الأطراف بفتح بيت المقدس، وتوافدوا من كل صقع وفج ليحظوا بمشاهدة هذا الفتح العظيم، فاجتمع من أهل الإسلام عدد لا يقع لهم إحصاء، وامتلأت ساحات المسجد بالخلائق، واستعبرت العيون من شدة الفرح، وخشعت الأصوات، ووجلت القلوب، وأخذ الناس من ذلك الموقف أُهبته، وعرض أناس يخطبوا والسلطان ساكت لم يعين خطيباً، حتى إذا حان وقت الخطبة قدم محيي الدين بن زكي الدين القاضي، فقام فخطب على المنبر في هذا الحشد العظيم خطبة بديعة جداً، استهلها بقوله تعالى: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:45] ثم تلا الآيات التي في بدايتها الحمد {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:2 - 4]. {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام:1] {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} [الإسراء:111]. {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [الكهف:1] {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [فاطر:1]. الحمد لله معز الإسلام بنصره، ومذل الشرك بقهره، ومصرف الأمور بأمره، ومديم النعم بشكره، ومستدرج الكافرين بمكره، الذي قدَّر الأيام دولاً بعدله، وجعل العاقبة للمتقين بفضله، وأفاض على عباده من ظله، وأظهر دينه على الدين كله، أحمده على إظفاره وإظهاره، وإعزازه لأوليائه، ونصره لأنصاره، وتطهيره بيت المقدس من أدناس الشرك وأوباره، لم يكن له كفواً أحد، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله دافع الشرك وداحض الإثم، الذي أسري به ليلاً من المسجد الحرام إلى هذا المسجد الأقصى، وعرج به إلى السماوات العلا إلى سدرة المنتهى، صلى الله عليه وعلى خليفته أبي بكر إلى آخره. ثم قال: أيها الناس! أبشروا برضوان الله الذي هو الغاية القصوى، والدرجة العليا؛ لما يسره الله على أيديكم من استرداد هذه الضالة من الأمة الضالة، وردها إلى مقرها من الإسلام بعد ابتذالها في أيدي المشركين قريباً من مائة عام، وتطهير هذا البيت الذي أذن الله فيه أن يرفع اسمه إلى أن قال: وهو أولى القبلتين وثالث الحرمين، ولا تشد الرحال بعد المسجدين إلا إليه، ولا تعقد الخناصر بعد الموت إلا عليه، ولولا أنكم ممن اختاركم الله من عباده واصطفاهم من سكان بلاده لما خصكم بهذه الفضيلة التي لا يجاريكم فيها مجارٍ، فجزاكم الله عن محمدٍ نبيه أفضل الجزاء، وشكر لكم ما بذلتموه من مهجكم في مقارعة الأعداء، وتقبل منا ومنكم ما تقربتم به إليه من إهراق الدماء، وأثابكم الجنة فهي دار السعداء. ثم قال لهم: فاقدروا رحمكم الله هذه النعمة حق قدرها، وقوموا لله بواجب شكرها. ثم قال: أليس هو البيت الذي ذكره الله في كتابه ونص عليه في خطابه {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء:1]؟! أليس هو البيت الذي عظمته الملوك وأثنت عليه الرسل، وتليت فيه الكتب الأربعة من إلهكم عز وجل؟! أليس هو البيت الذي أمسك الله فيه الشمس على يوشع قبل أن تهرب ليفتح عليه؟!! أليس هو البيت الذي أمر الله موسى أن يأمر قومه باستنقاذه فلم يجبه منهم إلا رجلان ورفض الباقون؟! فاحمدوا الله الذي أمضى عزائمكم لما نكلت عنه بنو إسرائيل، وفضلكم على العالمين. إلى آخر الخطاب المشهور، الذي أمرهم فيه وحرضهم على حفظ النعمة ومواصلة الجهاد، وكانت خطبة عظيمة بكى الناس فيها في ذلك المكان، وضج المسجد على كبره بالبكاء، وشكر الناس الله عز وجل على هذا الفتح العظيم، وأرسل صلاح الدين الرسل والكتب والبشائر إلى أنحاء العالم الإسلامي، وصدر كتابه إلى الخليفة العباسي بقوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} [النور:55].

صلاح الدين وجهوده في إصلاحات بيت المقدس

صلاح الدين وجهوده في إصلاحات بيت المقدس عمد صلاح الدين رحمه الله إلى بيت المقدس فعمل فيه إصلاحات كثيرة، فمثلاً: كان النصارى قد أدخلوا بعض المسجد الأقصى في أبنيتهم، وبنوا على وجه المحراب داراً، وجعلوا المحراب مخزناً، واتخذوه مستراحاً، كما بنوا على الصحن كنيسة، وستروها بالأبنية، وملئوها بالصور، ونصبوا عليها مذبحاً، وعملوا مكاناً للرهبان، وأقاموا على رأس قبة الصخرة صليباً كبيراً، ولما دخل صلاح الدين أزال كل ما عمل الصليبيون في هذا المكان من الأمور المستحدثة، وكسرت الصلبان، وحولت الكنائس إلى مساجد، وجعل بيوت عظماء النصارى استراحات ومضافات لفقراء المسلمين، ولما تسلق بعض المسلمين إلى أعلى القبة واقتلعوا الصليب الذي سقط متكسراً، صاح الناس كلهم المسلمون والمشركون النصارى؛ فأما المسلمون فصاحوا فرحاً، وأما النصارى فصاحوا توجعاً وتألماً، ثم بدأ بعمارة المسجد الأقصى وتحسينه وتوسيعه، وخص المحراب باهتمام زائد عكس ما فعل به أولئك النصارى، وأتى بمنبر كان نور الدين محمود صنعه في حلب له كان يتمنى أن يخطب عليه في بيت المقدس أتى به صلاح الدين وجعله في بيت المقدس ليخطب عليه، وكذلك حصَّن هذه المدينة مرة أخرى حتى لا تعود إلى الكفرة ولم تعد إليهم إلا بعد أن دخلتها هذه الشرذمة من اليهود.

روعة أخلاق القائد صلاح الدين

روعة أخلاق القائد صلاح الدين لا بد أن نقول أيها الإخوة: إن صلاح الدين رحمه الله كان يتمتع بأخلاقيات عالية جداً، فكم عفا عن أناس! وكم أعطى! وكم ترك أناساً يخرجون ولم ينتقم منهم كما فعلوا هم بالمسلمين من قبل! حتى أن بعض المستشرقين اضطروا إلى الاعتراف بمنة صلاح الدين في الكتب التي ألفت حديثاً، والمقارنة بين معاملة صلاح الدين ومعاملة غيره. ومن القصص المشهورة التي تروى عن صلاح الدين في رحمته: أن بعض المسلمين لما دخلوا خيام العدو ليسرقوا رجالاً بعضهم سرق طفلاً رضيعاً له ثلاثة أشهر وأتوا به إلى خيمة السلطان، ثم ذهبوا به وباعوه، ولما فقدته أمه وهي في معسكر النصارى باتت مستغيثة بالويل والثبور طيلة تلك الليلة حتى وصل خبرها إلى ملوك النصارى؛ فأشفقوا عليها، وقالوا: اذهبي إلى صلاح الدين إنه رحيم القلب، قد أذنا لكِ بالخروج فاطلبيه منه فإنه يرده عليك، كيف عرفوا إلا من خلال معايشتهم لهذا القائد المظفر رحمه الله تعالى! وفعلاً فهذا ما حصل؛ ذهبت المرأة إلى صلاح الدين وأتى بترجمان يترجم بينها وبينه، فلما عرف وبكت أمامه بكاءً شديداً، وعرف قصتها رق لها ودمعت عينه، وأمر بإحضار الرضيع فوجدوه قد بيع، فاشتراه صلاح الدين من ماله ودفعه إليها، فبكت بكاءً وضمته إلى صدرها والناس ينظرون ويبكون، ثم حملت على فرس وألحقت بعسكرها هي وطفلها.

آخر محاولات النصارى لغزو بلاد الإسلام

آخر محاولات النصارى لغزو بلاد الإسلام وحصل بعد ذلك أن صلاح الدين أكمل الفتوحات، ولكن جاءت حملة صليبية ثالثة عظيمة جداً؛ أعظم من الجنود والجيش الذي أتى به النصارى من قبل، وكان عليها ملوك فرنسا وبريطانيا وألمانيا وغيرها، والبابا في ذلك الوقت عمد إلى حيلة ووسيلة خبيثة لتحريض النصارى برسمين: الأولى: رسمة تبين قبر المسيح الذي يزعمونه في كنيسة القيامة في بيت المقدس، صور القبر وصور عليه فرساً عليه فارس مسلم راكب وقد وطئ قبر المسيح، والفرس يبول فوق القبر؛ ومن ثم طيف بها على بلدان النصارى. ثانياً: رسمت رسمة أخرى يصور فيها عيسى عليه السلام- كذبوا طبعاً- وجعلوه مع صورة أعرابي يضربه، وقد جرحه أو قتله، ومبين في هذه الصورة أن الأعرابي هو محمد صلى الله عليه وسلم. فطيف بهذه الصور وبغيرها من الدعايات حتى استجمعت جيوش عظيمة للكفار، كان تعداد الجيش الألماني فقط ثلاثمائة ألف، ولكن الله عز وجل بمنه وفضله جعل شرهم مقتصراً فقط في عكا، ولم يأخذوا عكا من المسلمين إلا بجهد جهيد، وهزموا بعد ذلك هزائم متوالية انتهت بعقد صلح الرملة الذي كان قبل وفاة صلاح الدين بوقتٍ قليل، ولم يأخذوا من بلاد المسلمين إلا هذه المنطقة ومناطق أخرى صغيرة جداً، حتى جاء بعد ذلك الملك الظاهر رحمه الله فأخرجهم من آخر معاقلهم من عكا وطهرت بلاد المسلمين من النصارى بالكلية.

اهتمام صلاح الدين بالجهاد والعلماء والجيش

اهتمام صلاح الدين بالجهاد والعلماء والجيش كان صلاح الدين رحمه الله رجلاً مغرماً بالجهاد، ومتوقداً حماساً للجهاد في سبيل الله، كان إذا أراد أحد أعوانه أن يتقرب إليه يتكلم إليه في أمور الجهاد، ومحاسن الجهاد، وفضائل الجهاد، وأمر صلاح الدين الكتاب والعلماء بتأليف كتب عن الجهاد، وفضائل الجهاد، كما ألف له العماد الأصفهاني والقاضي الفاضل وبهاء الدين بن شداد، ومن تعلقه أنه قال للقاضي ابن شداد وهو يسير معه في إحدى الغزوات: متى يسَّر الله فتح بقية الساحل قسمت البلاد وأوصيت، وودعت وركبت هذا البحر إلى جزائرهم، أتبعهم فيها حتى لا أبقي على وجه الأرض من يكفر بالله أو أموت. بهذه النية الصالحة تم لهذا الرجل استرداد بلاد المسلمين. وهذا الرجل كان يشارك في الجهاد بنفسه، لم يكن يجلس في غرفة القيادة مغلقاً عليه الباب ويوجه. قال الذهبي رحمه الله تعالى: لعله وجبت له الجنة في رباطه في هذين العامين؛ لأنه حصل له مرض، صار فيه دمامل في جسده يتدمل إذا جلس على الفرس، ومع ذلك جلس عليه وتحمل يصابر الألم طيلة ليلتين، وكان يقول: إذا ركبت الفرس زال عني ألم الدمامل. وكان رحمه الله تعالى أيضاً يجدد سنة النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد، وكان يحمس حتى الصبيان المسلمين على الجهاد. وهناك قصة لطيفة ذكرت: عندما طال القتال جداً بين النصارى والمسلمين في بعض المواقع، سئموا القتال، فقال بعضهم لبعض: إلى كم يتقاتل الكبار وليس للصغار حظ، نريد أن يتصارع الصبيان؛ صبيٌ منا وصبيٌ منكم، يقول النصارى للمسلمين، فأخرج صبيان من المسلمين إلى صبيين من الإفرنج، واشتد الحرب بين الصبيان فوثب أحد الصبيين المسلمين إلى أحد الصبيين الكافرين فاختطفه وضرب به الأرض وقبضه أسيراً، واشتد به ليأخذه حتى سار وراءه أحد الفرنجة، وقال: هو أسيرك هو أسيرك، أريد أن أشتريه منك، فباعه منه بدينارين. ومن الأشياء أيضاً: أن صلاح الدين رحمه الله قرب منه العلماء، كان جيش صلاح الدين ليس محاربين فقط، كان فيهم علماء، ولذلك استدعى العلماء؛ والعلماء أيضاً تحمسوا للحاق بركب صلاح الدين، وكان يسمع منهم الحديث والأسانيد والأحكام، وهيأ الله له بطانةً صالحة من هؤلاء العلماء، وكان منهم الشيخ علي بن إبراهيم بن نجا الأنصاري الحنبلي، وكان منهم الحافظ القاسم بن علي بن حسن بن عساكر، ومن العلماء المجاهدين الفقيه عيسى الهتاري، أسر، فافتداه صلاح الدين بستين ألف دينار من النصارى لتعلم عظم مكانة العلماء عند صلاح الدين، ومنهم الشيخ أبو عمر المقدسي لا يترك معه معركة إلا حضرها، والشيخ عبد الله المنيني الملقب بـ أسد الشام؛ وكان أماراً بالمعروف لا يهاب الملوك، ومن العلماء المشهورين جداً الذين كانوا مع صلاح الدين: الحافظ عبد الغني المقدسي، والعالم المجتهد الرباني ابن قدامة المقدسي صاحب كتاب المغني المشهور، لأن آل قدامة كانوا يقاتلون مع صلاح الدين، وكان يقرب هؤلاء الفضلاء ويغدق عليهم ويعطيهم.

حاجة القائد إلى أمة تقف بجانبه

حاجة القائد إلى أمة تقف بجانبه نقف هنا -أيها الإخوة- عند مسألة مهمة جداً وهي درس في غاية الأهمية، يظن بعض الناس أن وضع المسلمين الآن لا يحله إلا ظهور قائد رباني، وبعض المساكين يرون أن نجلس وننتظر ظهور قائد رباني يرفع الراية ليسير المسلمون وراءه؛ هذه السطحية الموجودة عند بعض الناس الذين يظنون أن مشكلة المسلمين هي وجود قائد، ويقولون: إذا ظهر القائد انتهى كل شيء، هؤلاء المساكين الذين يعيشون على هذا الوهم لم يقرءوا التاريخ، هل يوجد من القادة عظيمٌ بعد نبينا صلى الله عليه وسلم وإبراهيم الخليل؟! هل يوجد قائد مثل موسى عليه السلام الي قاد بني إسرائيل على أساس أنهم أسلموا معه إلى بيت المقدس، وطلب منهم اقتحامها، ماذا قالوا؟ {يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا} [المائدة:24] فعاقبهم الله عز وجل وضرب عليهم التيه أربعين سنة، وحرموا من دخول بيت المقدس، كان معهم قائد عظيم جداً؟ نعم. لكن هل انتصروا؟ لا، وبذلك تبين لك يا أخي المسلم، وأقولها كلمةً أرجو أن تجد صداها في النفوس: قائد بدون جيش تربى على الإسلام لا يستطيع أن يفعل شيئاً، ولذلك إذا تمعنا في سيرة صلاح الدين سنجد أن أفراد الجيش يختلفون عنا، ولذلك حصلت هذه الانتصارات، كان لأفراد جيش صلاح الدين دور كبير في هذا الجهاد، المسألة ليست صلاح الدين فقط، الذين يظنون أن المسألة صلاح الدين فقط مخطئون، صلاح الدين بمفرده لا يمكن أن يفعل كل هذه الأشياء، كانت الاجتماعات تعقد بين الجيش لتذاكر فرائض الجهاد، ويقوم بينهم العلماء والقضاة يذكرونهم، وحصل مرة أن اجتمعوا عند الصخرة وتحالفوا على الموت، وكانوا يتسابقون على معسكر صلاح الدين بمجرد علمهم بعزمه على الجهاد، وكان لهذه آثار على عامة المسلمين، فيتوافدون على أرض الجهاد وخصوصاً المتطوعة، كما حدث عندما عزم صلاح الدين على كبس خيام الصليبيين في معركة مرج العين عام (575هـ) كان الأفراد يقومون بمهام جميلة في غاية الأهمية. ذات مرة بنى النصارى في حصار عكا ثلاثة أبراج عظيمة جداً يقذفون منها عكا فلحق بالمسلمين خسائر شديدة جداً، فندب صلاح الدين الناس إلى إتلاف هذه الأبراج، فما استطاعوا، حاول كثيراً منهم، حتى جاء شابٌ من أهل دمشق؛ وكان ذكياً يجيد صناعة (الأخلاط الملتهبة والمشتعلة) فعمل خلطة وركزها وركبها ثلاث خلطات، وقذف بها الأبراج واحداً واحداً، فكلما أتت على برجٍ أحرقته ومات من في هذا البرج من جند الصليبيين، واستراح المسلمون جداً بعد إحراق هذه الأبراج الثلاثة، فأراد صلاح الدين أن يكافئ هذا الشاب، فعرض عليه الأموال النفيسة؛ لأنه قدم هذه الخدمة الجميلة، فقال الشاب: أنا فعلت هذا لله تعالى، ورفض أن يأخذ ولو درهماً واحداً، فلما كان مع صلاح الدين مثل هؤلاء الأذكياء انتصر المسلمون؛ هذا من الأسباب. وكذلك إليكم هذه الحادثة: كان للسلطان مملوك اسمه/ سراسمكر كان شجاعاً قتل من أعداء الله خلقاً كثيراً، وفتك فيهم، فأخذوا في قلوبهم من نكايته فيهم، فمكروا به، وتجمعوا له، وكمنوا له، وخرج إليه بعضهم وتراءوا لهذا المسلم الشجاع، فحمل عليهم حتى صار بينهم فوثبوا عليه من سائر الجوانب من الكمين فأمسكوه، هذا يدل على شجاعة الناس الذين كانوا مع صلاح الدين، ولكن الله عز وجل بلطفه يدافع عن الذين آمنوا، فأخذ أحد النصارى بشعر هذا الرجل المسلم ورفع الآخر السيف ليضرب رقبة المسلم؛ لأن حامل السيف بينه وبين المسلم ثأر؛ لأن المسلم قتل قريباً من أقرباء هذا النصراني، فشاء الله أن تقع ضربة السيف على يد الماسك بشعر المسلم، فقطعت يد النصراني وقام المسلم فهرب، وهم يشتدون وراءه ولم يلحقوه حتى دخل بين المسلمين {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً} [الأحزاب:25].

زهد صلاح الدين حتى وفاته

زهد صلاح الدين حتى وفاته كان صلاح الدين رحمه الله زاهداً، مات ولا يوجد في خزانته أربعون درهماً، شيء يسير جداً، كان يصرف الأموال للجهاد في سبيل الله، وكان يربي أتباعه على هذه القضية، وكان أي إنسان فيهم يجد عنده ميلاً إلى الدنيا كما حدث عندما رجع إلى دمشق بعد غزوة حصن كوكب عام (594هـ) وجد وكيل الخزانة في دمشق قد بنى له داراً ضخماً بقلعة دمشق، فغضب عليه وعزله، وقال: إنا لم نخلق للمقام بـ دمشق ولا لغيرها من البلاد، وإنما خلقنا لعبادة الله عز وجل والجهاد في سبيله. ومرض صلاح الدين رحمه الله تعالى سنة (589هـ) وحصل بعد ذلك أن اشتد به المرض ليلة الأربعاء (27/ صفر) واستدعى أبا جعفر ليبيت عنده يقرأ القرآن ويلقنه الشهادة إذا نزل به الموت، فذكر هذا الإمام: أنه كان يقرأ عند صلاح الدين وهو في غمرات الموت {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الحشر:22] فقال صلاح الدين: وهو كذلك صحيح، فلما أذن الصبح جاء القاضي الفاضل ودخل عليه وهو في آخر رمق، فلما قرأ القارئ: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} [التوبة:129] تبسم وتهلل وجهه وأسلم روحه إلى ربه سبحانه، ومات رحمه الله وله من العمر (57 سنة) واستمر أولاده من بعده مجاهدين. هذه باختصار -أيها الأخوة- نبذة عن حياة هذا الرجل العظيم، وعن تجديده في ميدان الجهاد. وهذه الأمة لن تعدم -إن شاء الله- أفراداً أناساً مخلصين يحيون فيها الجهاد في سبيل الله.

أمور تشترط لتحقيق النصر

أمور تشترط لتحقيق النصر أيها الأخوة! إن توحيد الأمة، وإعداد العدة، والتربية على الإسلام؛ ثلاثة أمور لا يمكن أن ينتصر المسلمون إلا بها، صلاح الدين عندما تحققت عنده انتصر. أولاً: تربية الناس على الإسلام. ثانياً: توحيد الأمة، فلا يمكن أن يقاتل المسلمون وهم متفرقون، ومن أين يأتي النصر؟ ثالثاً: إعداد العدة، فإذا تحصلت هذه الشروط انتصر المسلمون بإذن الله {وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد:35]. وحتى يحين ذلك اليوم؛ الذي نسأل الله سبحانه وتعالى أن يبلغناه مجاهدين في سبيله، فإننا ندعو أنفسنا جميعاً لإعداد العدة، فالنصارى احتلوا بيت المقدس (92) سنة واليهود احتلوا بيت المقدس (42) سنة فإذاً كان من يحتل بيت المقدس جلسوا فيه ضعف الزمن الذي جلسه اليهود الآن، ولكن الله هيأ لهم من يخرجهم بعد (92) سنة من الاحتلال، ولعل الله يجمع اليهود الآن في هذا المكان من كل حدبٍ وصوب من أقطار الأرض حتى تكون نهايتهم واحدة بإذنه سبحانه وتعالى، مهما طال ليل الظالمين، فإن الفجر سيبزغ إن شاء الله، وهاأنتم ترون طلائع الجهاد في أرض الأفغان وفي أرض فلسطين بوادر وبذر طيبة، تمهيداً لذلك اليوم الذي يأذن الله فيه بعلو الإسلام، ولا بد أن يأتي؛ لأن عندنا من نصوص القرآن والسنة ما يجزم أن الله سيدخل هذا الدين كل بيت على سطح الأرض بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام وذلاً يذل الله به الكفر وأهله. المهم: ألا ننام نحن ولا نقعد، بل نواصل العمل في تعليم أنفسنا، والدعوة إلى الله، وتربية الناس، وشحذ هممهم، وتذكيرهم الجهاد (من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات ميتة جاهلية) لذلك لا بد أن تكون النية في الغزو -متى ما جاء وقته- حاضرةً عندنا جاهزةً لدينا، حتى إذا حانت اللحظات خرجت تلك النفوس إلى ربها سبحانه وتعالى تسعى سعياً حثيثاً. والمسلمون يحتاجون اليوم إلى إعداد كبير وتربية عميقة، ولن يقوم بها إلا أنتم أيها المخلصون من المسلمين. والمسلمون اليوم يعانون من أوضاع غريبة شاذة لم تمر بهم من قبل، فهم في ميدان يحتاجون فيه إلى دعم الجهاد، وفي ميدان يحتاجون فيه إلى إزالة جهل، ومحاربة شرك، وقمع بدعة، وفي ميدان يحتاجون إلى توطين أنفسهم، وفي ميدان يحتاجون إلى نشر الدعوة في أوساط الكفار، وفي ميدان يحتاجون إلى تربية؛ والتربية مهمة جداً لا بد أن تكون في جميع الميادين، وكلكم على ثغرة من ثغور الإسلام، فالله الله أن يؤتى الإسلام من قبلك، وأنت مسئول في بيتك، ووظيفتك، ومسجدك، وشارعك، وأنت مسئولٌ عن المسلمين في أرجاء الأرض المضطهدين في دعمهم بالنفقات المادية، وعلى الأقل بالدعاء لهم أن ينصرهم الله نصراً مؤزراً. علينا أن نقرأ التاريخ -أيها الإخوة- لنعلم فعلاً أن الله لا يخلي بين هذه الأمة وبين الشيطان، وأن الله تعالى ناصر دينه ولا بد، ولو حصل الإيمان لجاء النصر بإذنه عز وجل {وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد:35]. وصلى الله على نبينا محمد. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الموقف الرهيب في اليوم العصيب

الموقف الرهيب في اليوم العصيب يوم القيامة آت لا محالة، وهوله عظيم وحره شديد، والناس فيه على أحوال مختلفة ومواقف متباينة كما كانوا في الدنيا، وفي هذه المحاضرة وصف لذلك اليوم، وتذكير بأحوال الناس فيه، فهي موعظة عظيمة وعبرة بالغة.

شدة هول يوم القيامة

شدة هول يوم القيامة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن المؤمن يخاف يوماً عبوساً قمطريراً، يخاف يوماً طويلاً كان شره مستطيراً، وقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى عن ذلك اليوم في كتابه بتفصيلات كثيرة حتى كأن الإنسان ينظر إلى الآخرة رأي العين، ومن سره أن ينظر إلى القيامة رأي العين فليقرأ تلكم السور في جزء عم: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير:1] و {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق:1] ذكرنا الله بذلك اليوم؛ لنستعد له بالعدة اللازمة، ونحسب للأمر حسابه، وكثيرٌ من الناس عن هذا اليوم غافلون. عباد الله: إن الله سبحانه وتعالى إذا قبض خلقه بنفخة الصور، ومات الناس أجمعون، وصعق من في السماوات ومن في الأرض، يمكث الناس بين النفختين أربعون، ثم ينزل الله من السماء ماءً، فينبتون كما ينبت البقل، وليس شيء من الإنسان لا يبلى إلا عظماً واحداً، وهو عجب الذنب، ومنه يركب الخلق يوم القيامة كما في الحديث المتفق عليه، وعجب الذنب مثل حبة الخردل وتكون آخر العمود الفقري، فتلك النقطة يركب منها الخلق يوم القيامة. يرسل الله سبحانه وتعالى سحابةً سوداء من قبل المغرب مثل الترس، فلا تزال ترتفع في السماء وتنتشر حتى تملأ السماء، ثم ينادي منادٍ: أيها الناس {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل:1] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فوالذي نفسي بيده إن الرجلين ينشران الثوب، فلا يطويانه، وإن الرجل ليمجر حوضه فلا يسقي منه شيئاً، والرجل يحلب ناقته فلا يشربه أبداً) رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. فهي تذهلهم إذاً، حتى إن الرجل يرفع لقمته إلى فيه لا يطعمها، من هول المفاجأة التي تكون، ثم يموت الناس، ويبعثون بعد ذلك. والمطلع قال النبي صلى الله عليه وسلم في شأنه: (لا تمنوا الموت، فإن هول المطلع شديد) وسنتحدث إن شاء الله في هذه الخطبة عن موضوع الحشر، نذكر به أنفسنا، ويتعلم من جهل، ويتذكر من غفل، ولعله يكون بعد ذلك التوبة والعودة.

الحشر وأنواعه

الحشر وأنواعه الحشر: جمع الناس يوم القيامة، والمحشر: المجمع الذي يحشر إليه الناس. والحشر أربعة: حشران في الدنيا، وحشران في الآخرة، فاللذان في الدنيا أحدهما المذكور في سورة الحشر في قوله: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} [الحشر:2] والثاني: الحشر المذكور في أشراط الساعة فيما رواه مسلم رحمه الله تعالى: (إن الساعة لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات) والحشر الثالث: حشر الأموات من قبورهم بعد البعث إلى الموقف قال تعالى: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً} [الكهف:47] والحشر الرابع: حشر أهل الموقف إلى الجنة، أو إلى النار. أما الحشر الذي يكون في آخر الدنيا قبل قيام الساعة، فإن الناس يطردون إلى المحشر وهو بأرض الشام بنارٍ يخرجها الله سبحانه وتعالى من نحو حضرموت من عدن أبين كما جاء في الحديث الصحيح، ثم تنتشر في الأرض، فتحشر الناس إلى مكان الحشر وهو الشام، يحشرون بطرائق، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يحشر الناس على ثلاث طرائق: راغبين وراهبين، واثنان على بعير، وثلاثة على بعير، وأربعة على بعير، وعشرة على بعير، وتحشر بقيتهم النار، تقيل معهم حيث قالوا، وتبيت معهم حيث باتوا، وتصبح معهم حيث أصبحوا، وتمسي معهم حيث أمسوا) يحشرون إلى بيت المقدس في أرض الشام كما جاء ذلك في الحديث الصحيح: (فتخرج نار من نحو حضرموت تحشر الناس، قلنا: يا رسول الله! فما تأمرنا؟ قال: عليكم بـ الشام) وقوله في الحديث: (راغبين راهبين) أي: ينطلقون هرباً من الفتن إلى أرض الشام في آخر الدنيا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم من يبقى في مكانه، ثم بعد ذلك إذا جاءت الفتن والبلايا والزلازل العظام، وكثرت الصواعق، فعند ذلك يذهبون على الإبل والدواب اثنان على بعير وثلاثة وأربعة يعتقبون، يركب بعضهم ويمشي الآخر، ويبقى أناسٌ لا يلقون ظهراً كما شرح ابن مسعود فيما صح عنه: أن الله يرسل آفةً، فيفنى الظهر، فتقل الدواب جداً حتى يمشون مشياً، والنار تحيط بهم، ومن تخلف أكلته، حتى يحشرون إلى الشام التي سيكون فيها الموت لجميع أهل الأرض قبل أن يبعثوا مرة أخرى. فهذا الحشر يكون في آخر الدنيا قبل قيام الساعة مباشرةً، بنارٍ تخرج وتحيط بالناس فتحشرهم جميعاً إلى بيت المقدس في الشام، وبعد ذلك نفخة الصعق التي يموت فيها الناس أجمعون، ثم يبعثون مرةً أخرى فينشرون كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سألته ميمونة بنت سعد: (يا نبي الله! أفتنا في بيت المقدس، قال: أرض المحشر والمنشر) حديث صحيح. المنشر: بعث الناس من الموت إلى الحياة مرة أخرى، والمحشر جمعهم في ذلك المكان، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكم تحشرون رجالاً وركباناً، وتجرون على وجوهكم هاهنا، وأومأ بيده إلى الشام). أما أرض المحشر التي يحشرون إليها بعد قيامهم من القبور، فقد وصفها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله في الحديث الصحيح: (يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي ليس فيها معلم لأحد) عفراء: ليست نقية البياض، وإنما بياض يضرب إلى حمرة. كقرصة النقي أي: كقرص الخبز النقي الخالي من الغش والنخالة. ليس فيها معلم لأحد: لا علامة من سكنى، أو بناء، أو أثر، أو جبل، أو صخرة بارزة، وإنما هي مستوية لا ترى فيها عوجاً، ولا أمتاً، لا يستطيعون الاختباء خلف أي شيء في تلك الأرض: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ} [إبراهيم:48] فالله سبحانه وتعالى؛ يبدل معالم الأرض، ويغير صفاتها فتكون مستوية: {لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً} [طه:107] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (تمد الأرض مد الأديم لعظمة الله عز وجل، فلا يكون لرجلٍ من بني آدم منها إلا موضع قدميه) قال البوصيري: إسناده صحيح. والنبي صلى الله عليه وسلم أول من تنشق عنه الأرض، يخرج من قبره، ثم يخرج الناس على إثره بعد ذلك، قال عليه الصلاة والسلام: (أنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي) يعني: على أثري، يحشر الناس بعد قيامه صلى الله عليه وسلم، يحشرون وراءه، ويحشر المؤمنون، قال الله عز وجل: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً} [مريم:85] ومعنى وفداً: كوفد الملوك الذين يقدمونع على الملوك لإكرامهم، الوافد من يأتي إلى الملك في أمر له شأن ينتظر الكرامة والنعمة والضيافة: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً} [مريم:85]. ويحشر بعض الصالحين من بطون الطير والسباع، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما مرَّ على حمزة بعد وقعة أحد، وقد جدع، أي: قطع أنفه، ومثل به: قطعت بعض أعضائه، فقال صلى الله عليه وسلم: (لولا أن تجد صفية في نفسها، لتركته حتى تأكله العافية -وهي السباع والطير التي تقع على الجيف- حتى يحشره الله من بطون الطير والسباع، ثم كفنه في نمرة صلى الله عليه وسلم) وفي هذا دليلٌ على أن الله تعالى يحشر المحترقين والذين تحولوا إلى رماد، والذين أكلتهم الحيتان والسمك في قاع البحر، والذين أكلتهم الطيور والسباع وتخطفتهم، فالله تعالى يحشرهم جميعاً، ولما أوصى بعضهم أولاده بأن يحرقوه، ويذروا رماده في البحر في يوم عاصف، قال الله تعالى: قم، فقام بين يديه، وقد جمعه الله.

صفة الناس في المحشر

صفة الناس في المحشر يحشر الناس أجمعون يوم القيامة، قال صلى الله عليه وسلم: (تحشرون حفاةً عراةً غرلاً، قالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله! الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟!! -عفة عائشة المفقودة في كثير من بنات جنسها في هذا الزمان، حياء عائشة المفقود في كثير من بنات هذا الزمان- فقال: الأمر أشد من أن يهمهم ذلك) حفاةً: لا شيء في أقدامهم من خفٍ، أو نعل. عراةً: متجردين من الثياب. غرلاً: غير مختونين، والأغرل من بقيت غرلته وهي القلفة (الجلدة) التي تقطع في الختان، يحشرون كما خلقوا، لا شيء معهم، لا يفقد منهم شيء، حتى الغرلة تكون معهم، يحشرون حفاةً عراةً مشاةً كما جاء في حديث آخر، قالت عائشة: الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟!! فأخبرها النبي صلى الله عليه وسلم أنهم مشغولون، ليس لديهم أي اهتمام لهذا النظر، وفي رواية: (يا رسول الله! واسوءتاه! ينظر بعضنا إلى بعض؟!! فقال: وشغل الناس، قلت: ما شغلهم؟ قال: نشر الصحائف فيها مثاقيل الذر ومثاقيل الخردل) كل الأعمال الصغيرة والكبيرة، قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح غير محمد بن موسى وهو ثقة. والمتكبرون يحشرون كأمثال الذر في صور الرجال كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يغشاهم الذل من كل مكان) كما تكبروا في الدنيا يجعلهم الله على صور الرجال، لكن المقاس والحجم حجم النمل والذر، يطؤهم الناس بأقدامهم، ويحشر الكفار {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:124 - 126] يحشرون عمياً، وقال الله في آية أخرى: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:34] عن أنس أن رجلاً قال: (يا نبي الله! كيف يحشر الكافر على وجهه؟ -الوجه يكون بمثابة القدمين فيمشي على وجهه، وجهه إلى الأسفل ورجلاه إلى الأعلى- قال صلى الله عليه وسلم: أليس الذي أمشاه على الرجلين في الدنيا قادراً على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة؟) قال قتادة: [بلى وعزة ربنا] والكافر الذي لم يسجد لله في الدنيا يعاقب بأن يسحب على وجهه في القيامة إظهاراً لهوانه، فويل لتارك الصلاة الذي لا يركعها، الذي لا يسجد لله رب العالمين، حيث يحشر على وجهه، ويمشي على وجهه، ويعفر بالتراب ويلاقي ما يلاقي، يحشرون يوم القيامة عمياً وبكماً وصماً. والشياطين تحشر: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً} [مريم:68] جاثون على الركب، وقال الله في شأن الكفرة والفسقة والفجرة: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات:22 - 23] ومعنى أزواجهم: أشباههم ونظراؤهم، ومن هو على شاكلتهم، فيحشر اليهود معاً، والنصارى معاً، ومن أحب اليهود والنصارى حشر معهم، ويحشر الزناة مع الزناة، والمرتشون مع المرتشين، والمرابون مع المرابين: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات:22] كل طائفة على حدة يحشرون معاً، ومن أحب قوماً حشر معهم، فمن أحب مغنياً كافراً، أو ممثلةً فاسقةً فاجرةً، كل أولئك يحشرون سوياً {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات:22] المقتدون بهم في أفعالهم، القرناء يحشرون معاً، وما يقع على هذا يقع على الآخر، ويناله نصيبه منه، ولا يبقى شيءٌ إلا ويحشر حتى الوحوش، قال الله تعالى: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} [التكوير:5] أي: جمعت، وقال الله: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام:38] فيحشر كل شيء حتى الذباب كما قال ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه. قال عليه الصلاة والسلام: (يحشر الخلائق كلهم يوم القيامة، والبهائم والدواب والطير وكل شيء، فيبلغ من عدل الله أن يأخذ للجماء من القرناء) التي لها قرون ونطحت أخرى ليس لها قرون، يقتص الله للمنطوحة من الناطحة وهذا من كمال عدل الله، ثم يقول لهذه الدواب والطيور والوحوش: كوني تراباً، فذلك حين يقول الكافر: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً} [النبأ:40] ثم يبقى الذين قد كلفوا ليكون الحساب عليهم، يكون الحساب في ذلك الموقف العظيم، وأما حشر التجار، فقد جاء فيه حديثٌ خاصٌ عن البراء بن عازب، قال: (أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البقيع، فقال: يا معشر التجار! حتى إذا اشرأبوا -ورفعوا رءوسهم- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن التجار يحشرون يوم القيامة فجاراً إلا من اتقى وبر وصدق) إلا من اتقى في بيعه وشرائه، ولم يبع المحرمات، ولم يبع بطريقة محرمة، ولا غشَّ في تجارته، وبرَّ في يمينه، لأنهم كثيراً ما يحلفون على الكذب وهم يعلمون، وصدق. تاجر: تاء التقوى، والألف أمانة، والجيم جرأة يحتاج إليها التجار، والراء رحمة، لكنهم في كثير من الأحيان بعيدون عن ذلك إلا من رحم الله، وفي هذا الحديث دليلٌ واضحٌ على حشر التجار الفجار، فإن الكثير يستغلون بجشعهم حال الناس، وكثيرٌ منهم يحتكر، وهم من أكبر أسباب رفع الأسعار في البلاد، ولذلك يحشرون فجاراً إلا من رحم الله، فإنهم يكرمون مع الآمنين المؤمنين.

أحوال الناس في يوم المحشر

أحوال الناس في يوم المحشر .

الجمع إلى المحشر

الجمع إلى المحشر أما أحوال الناس في يوم المحشر، فإنهم يخرجون من القبور في أول ذلك اليوم كما قال الله تعالى: {وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ} [الانفطار:4] قلبت فأخرج ما فيها، وقال الله: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} [يس:51] أي: يسرعون، وقال الله: {كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} [المعارج:43] يعني: كأنه وضع لهم شيء أو علامة يسرعون إليها: {يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ} [القمر:7] {مُهْطِعِينَ} [القمر:8] مهطعين أي: مسرعين، في ذل، رءوسهم مرفوعة لا تنظر يميناً ولا شمالاً: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء} [إبراهيم:43] لا تعقل من الخوف: {ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} [ق:42] اليوم الذي يخرج فيه الناس من قبورهم {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} [القارعة:4] في الكثرة والانتشار والضعف والتخبط، وموجان بعضهم في بعض، والذلة والاضطراب والتطاير كتطاير الفراش إلى النار، قال الإشبيلي رحمه الله: فتفكر في بهتك وحيرتك وانكسارك، وذُلِّك، وافتقارك وقلتك يوم لا تجد إلا عملك وسعيك الذي سعيت. يخرجون من القبور يتبعون الداعي، والداعي: ملكٌ موكلٌ من الله: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً} [طه:108] ملك يدعوهم إلى الحضور للحساب، يسمعون صوته، فيتبعونه {لا عِوَجَ لَهُ} [طه:108] أي: لا يحيدون عنه، ولا يميلون لا يميناً، ولا شمالاً {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ} [طه:108] أي: خفضت وسكنت وسكتت هيبةً لله تعالى، وإجلالاً وخوفاً {فَلا تَسْمَعُ} [طه:108] أي: في ذلك اليوم صوتاً عالياً، بل لا تسمع إلا همساً أي: صوتاً خفياً، أو صوت الأقدام إلى المحشر، كل هذا كائن، وكل دنيانا ذاهبة، ونحن سنصير إلى ذلك اليوم. قال الإشبيلي رحمه الله: وتخيل قيام الناس وثورانهم من قبورهم دفعةً واحدةً، وانبعاثهم مرةٍ واحدةٍ، وأنت بينهم وفي جملتهم منكسفاً وجهك، متغيراً لونك، متعثرة قدمك، قد ملئ قلبك فزعاً، وقصم ظهرك ذلك المستمع، وأنت حيران عطشان سكران: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2] شاخص البصر نحو النداء، مستمعاً لذلك الدعاء، ولو وجدت مطاراً لطرت، ومفراً لفررت. وهكذا يحشرون إلى ربهم، ويقومون من القبور عراةً، وأول من يكسى يوم القيامة إبراهيم الخليل عليه السلام. ويتم الوقوف في ذلك الموقف، وفي أرض المحشر ليس للإنسان إلا موطئ قدميه فقط {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] ليس أحدٌ جالساً، ولا مضجعاً، كل الناس واقفون في ذلك اليوم، كم طوله؟ خمسون ألف سنة، كما قال الله: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ * تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ * فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً * إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً * يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ} [المعارج:1 - 9] فالسماوات تطوى، وتذوب بعد ذلك ذوباناً تقطر منه، وتتغير ألوانها إلى الحمرة والزرقة والصفرة {وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} [الرحمن:37] متغيرة الألوان، وتذوب وتقطر، وتكون السماء كالمهل {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} [الأنبياء:104] خمسون ألف سنة كما دل على ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم في عذاب مانع الزكاة، الذي يمنع زكاة الإبل، تعضه وتطؤه إبله، وغنمه وبقره تنطحه، وتعود كلما انتهت في دورات متوالية، وكذلك الذي يمنع زكاة المال والذهب والفضة، فتصفح صفائح من نار، يطوقه ثعبان أقرع عظيم شديد السم، له قرنان، يلدغه في شفتي شدقيه، يقول: أنا كنزك: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4] ثم يرى بعد ذلك سبيله إما إلى الجنة، وإما إلى النار.

شدة الحر في يوم المحشر

شدة الحر في يوم المحشر قال الإشبيلي رحمه الله: ثم تفكر في ذلك الازدحام والانغمام، والاتساق والالتصاق، واجتماع الإنس والجن، وما يجمع من سائر أصناف الحيوان، وانضغاطهم، وتدافعهم، واختلاطهم، لا فرار ولا انتصار، ولا ملاذ ولا هروب، وقربت الشمس، وكانت قدر ميلٍ، وزيد في حرها، وضوعف في وهجها، ولا ظل إلا ظل العرش، وقد انضاف على حر الشمس حر الأنفاس لتزاحم الناس، واحتراق القلوب بما غشيها من الكروب، واشتد الفرق، وعظم القلق، وسال من الأجسام، وانبعث من كل موضع من الجسد، وكان الناس في العرق على قدر أعمالهم، فليتفكر الإنسان إذا سال عرقه، وجرى من قرنه إلى قدمه بحسب عمله، واعلم رحمك الله أنه لو سال عرقك في الدنيا طول عمرك في طاعة ربك، ورضا سيدك على ألا تعرق في ذلك اليوم، لكان ذلك يسيراً، وهذا العرق قد جاءت فيه أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال عليه الصلاة والسلام: (((يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)) [المطففين:6] قال: يقوم أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه) العرق ذو الرائحة الكريهة الذي يحدث نتيجة الحر ودنو الشمس وتزاحم الناس وانضمام بعضهم إلى بعض، ينزل من هذا الإنسان، وتشربه الأرض حتى يغوص فيها سبعين ذراعاً، قال عليه الصلاة والسلام: (يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعاً) وهذا عمق العرق تحت؛ أما فوق، فقال عليه الصلاة والسلام: (ويلجمهم حتى يبلغ آذانهم) وهذا في حق الكفرة الفجرة، وقال صلى الله عليه وسلم مبيناً ما يحدث: (حتى إن السفن لو أجريت فيه لجرت) قال الهيثمي: إسناده جيد، وقال عليه الصلاة والسلام: (إن الكافر ليحاسب يوم القيامة حتى يلجمه العرق، حتى إنه يقول: أرحني ولو إلى النار) وكذلك قال ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، قال: [إن الرجل ليفيض عرقاً حتى تسيخ في الأرض قامته، ثم يرتفع حتى يبلغ أنفه، وما مسه الحساب، قالوا: ممَ ذاك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: مما يرى الناس مما سيلقونه] قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. وهكذا تدنو الشمس من العباد، ثم إن جهنم يؤتى بها أيضاً، ليزداد الحر حراً، يؤتى بجهنم يوم القيامة لها سبعون ألف زمام مع كل زمامٍ سبعون ألف ملك يجرونها، أربعة آلاف وتسعمائة مليون ملك يجرون جهنم، ويزداد الحر حراً، ولا ينجو إلا من عصم الله، فهل أعددنا لذلك اليوم من عدة؟ وهل تبنا وقمنا بما يلزم من التوبة؟ وهل تركنا المعاصي وعدنا إلى الله رجاء النجاة في ذلك اليوم؟ اللهم اجعلنا في يوم الفزع من الآمنين، واغفر لنا أجمعين، وأظللنا في ظل عرشك يا كريم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

نزول الله لفصل القضاء

نزول الله لفصل القضاء الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، هو الحي لا يموت، والإنس والجن يموتون، سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء، ويحكم ما يشاء، لا إله إلا هو الحي القيوم، هو ديان يوم الدين سبحانه وتعالى، وأشهد أن محمداً رسول الله المبعوث رحمةً للعالمين، السراج المنير، والبشير النذير صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. عباد الله: ومن أكثر الأمور فزعاً في ذلك اليوم عندما يجيء الرب نفسه سبحانه وتعالى {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} [البقرة:210] فيأتي الله لفصل القضاء بين الأولين والآخرين {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [الفجر:22] فتأتي الملائكة صفوفاً مع الرب عز وجل، يأتي لفصل القضاء بين الخلق بعد أن توسل النبي صلى الله عليه وسلم وشفع، لأن الناس قيام في الحر، وهم في كرب شديد يفزعون إلى الأنبياء واحداً إثر واحد، والأنبياء لا يقولون إلا: اللهم سلم سلم، ويردونها حتى تنتهي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيشفع ويسجد، ثم يقبل منه، ثم يأتي الله لفصل القضاء بين العباد. صحح ابن حجر عن ابن عباس أنه قال: إذا كان يوم القيامة، مدت الأرض مد الأديم، وجمع الخلائق في صعيد واحد جنهم وإنسهم، فإذا كان كذلك قبضت هذه السماء -أي: كشفت- عن أهلها، فينثر على وجه الأرض من فيها من الملائكة، فلأهل السماء وحدهم أكثر من جميع أهل الأرض جنهم وإنسهم بالضعف، فإذا مروا على وجه الأرض فزع إليهم أهل الأرض، وقالوا: أفيكم ربنا؟ فيفزعون من قولهم، ويقولون: سبحان ربنا!! ليس هو فينا، وهو آتٍ ثم يقاض أهل السماء الثانية، فلأهل السماء الثانية وحدهم أكثر من أهل السماء الدنيا -من الملائكة- ومن جميع أهل الأرض بالضعف، فإذا نثروا على وجه الأرض، فزع إليهم أهل الأرض، وقالوا: أفيكم ربنا؟ فيفزعون من قولهم ويقولون: سبحان ربنا!! ليس فينا، وهو آتٍ، ثم يقاض أهل السماوات كلها، فينثرون على وجه الأرض، فيفزع إليهم أهل الأرض فيقولون مثل ذلك، ويجيبونهم بمثل ذلك، ثم يقاض أهل السماء السابعة، فلأهل السماء السابعة أكثر من أهل السماوات الست ومن جميع أهل الأرض بالضعف، فيجيء الله فيهم، والأمم جثى صفوفاً، فينادى: سيعلمون اليوم من أصحاب الكرم، ليقم الحمادون على كل حال -أصحاب الحمد لله على كل حال- فيسرحون إلى الجنة، ثم ينادى ثانية: سيعلمون اليوم من أصحاب الكرم، ليقم الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع -أصحاب قيام الليل- فيقومون، فيسرحون إلى الجنة، ثم ينادى الثالثة: ليقم الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، فيقومون، فيسرحون إلى الجنة، فإذا أخذ من هؤلاء الثلاثة، خرج عنقٌ من النار، فأشرف على الخلائق، له عينان تبصران، ولسان فصيح، فيقول: إني وكلت بثلاثة: إني وكلت بكل جبار عنيد -الطغاة البغاة الذين كانوا يعذبون الناس في الدنيا ويتكبرون ويتجبرون على الخلق- إني وكلت بكل جبار عنيد، فيلقطون من الصفوف لقط الطير حب السمسم، فيحبس بهم في جهنم، ثم يخرج ثانية، فيقول: إني وكلت بمن آذى الله ورسوله، فيلقطهم من الصفوف لقط الطير حب السمسم، فيحبس بهم في جهنم، ثم يخرج ثالثة، فيقول: إني وكلت بأصحاب التصاوير -الذين يعملون التماثيل والصور ذوات الأرواح- إني وكلت بأصحاب التصاوير، فيلقطهم من الصفوف لقط الطير حب السمسم، فيحبس بهم في جهنم، فإذا أخذ من هؤلاء الثلاثة، نشرت الصحف، ووضعت الموازين، ودعي الخلائق للحساب.

المؤمنون في يوم القيامة

المؤمنون في يوم القيامة عباد الله: في ذلك اليوم العظيم؛ في خمسين ألف سنة ما حال المؤمنين؟ قال الله سبحانه وتعالى: {وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} [النمل:89] وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (يوم القيامة على المؤمنين كقدر ما بين الظهر والعصر) على المؤمنين فقط، والإيمان ليس بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل، ليست القضية بالأماني: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} [النساء:123] سلعة الله غالية حفت بالمكاره، فالمؤمنون يكون ذلك اليوم عليهم مثل ما بين الظهر والعصر، مثل وقت وجبة الغداء ينتظرون الكرامة من الله في ظل العرش؛ لا يصيبهم لهب الشمس، ولهم طعام وشراب، بين النبي صلى الله عليه وسلم أن طعامهم الثور والحوت، ثورٌ يرعى في أطراف الجنة ينحر لهم، ويأكلون ذلك النون وهو الحوت في ذلك الموقف يأكلون الحوت، ويوزع عليهم زيادة كبد الحوت فقط، وزيادة الكبد ألذ شيء في الكبد، يأكل منها سبعون ألفاً، هذه الضيافة في ذلك اليوم كما ثبت في الحديث الصحيح، والشراب من حوض النبي صلى الله عليه وسلم الذي يصب فيه نهر الكوثر، ميزاب من الجنة يصب في الحوض، وهو نهر الكوثر، لا ظمأ، ولا جوع، ولا حر، والوقت ما بين الظهر إلى العصر، وبقية الناس يا ويلهم! وحديث وفد بني المنتفق حديثٌ مشهورٌ رواه عددٌ من الأئمة في كتبهم، وقال بعضهم إن في سنده ضعفاً، ولكن قواه بعض أهل العلم كـ ابن القيم رحمه الله، وقال الهيثمي عن أحد أسانيده: إن رجالها ثقاة، وإسناده متصل، قام النبي عليه الصلاة والسلام خطيباً، فقال: (أيها الناس! ألا قد خبأت لكم صوتي منذ أربعة أيام ألا لتسمعوا اليوم، ألا أني مسئولٌ هل بلغت! ألا اسمعوا تعيشوا، ألا اجلسوا) فجلس الناس، وقام هذا الوافد مع صاحبه، وحدثهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (ثم تبعث الصائحة، فلعمر إلهك ما تدع على ظهرها شيئاً إلا مات، والملائكة الذين مع ربك) حتى هم يموتون، ثم يبعثهم الله (فأرسل ربك السماء تهضب من عند العرش) تهطل منياً كمني الرجال، فتنبت الأجساد من الأرض (فلعمر إلهك ما تدع على ظهرها من مصرع قتيلٍ، ولا مدفن ميتٍ إلا شقت القبر حتى تخلفه من عند رأسه، فيستوي جالساً) لأن الله سبحانه وتعالى وصف الحشر كالماء الذي ينزل فتحيا به الأرض مع أنها كانت ميتة {كَذَلِكَ النُّشُورُ} [فاطر:9] كما قال الله، فيقول ربك: متى عهدك يا بن آدم؟ يقول: أمس اليوم {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} [الأحقاف:35] لعده بالحياة يحسبه حديثاً بأهله، فقلت: يا رسول الله! فكيف يجمعنا بعد أن تمزقنا الرياح والبلى والسباع؟ فمثل له الأرض الميتة إذا نزل عليها المطر، ثم قال: فتخرجون من قبوركم فتنظرون إليه وينظر إليكم، ثم بعد ذلك قال صلى الله عليه وسلم لما سئل ماذا يفعل بنا ربنا إذا لقيناه؟ قال: (تعرضون عليه باديةً له صفحاتكم لا يخفى عليه منكم خافية، فيأخذ ربك عز وجل بيده غرفة من ماء، فينضح بها قبلكم، فلعمر إلهك ما يخطأ وجه أحد منكم منها قطرة، فأما المسلم، فتدع وجهه مثل الريطة البيضاء، وأما الكافر، فتنضحه، أو قال: بمثل الحمم الأسو) هكذا يكونون في سواد زرقة وسواد، هذا شيء مما يكون يوم الحشر، وهو شيء آتٍ آتٍ لا محالة، وكل ما حولنا من المتع والملذات سيفنى، ولا يبقى إلا العمل الصالح، فالعمل العمل، والبدار البدار. اللهم تب علينا وارزقنا توبةً نصوحاً، اللهم أحسن عملنا، اللهم اجعل وفاتنا على طاعتك، اللهم اجعل وفاتنا على طاعتك، فإن العبد يحشر على ما مات عليه، اللهم اجعلنا يوم الفزع من الآمنين، واغفر لنا ذنوبنا أجمعين، وأظللنا في ظل عرشك يا كريم، اللهم اجعل حسابنا يسيراً، اللهم اجعل حسابنا يسيراً، اللهم اجعل حسابنا يسيراً يا رب العالمين.

مفسدات القلوب

مفسدات القلوب إن القلب هو ملك سائر الأعضاء والجوارح، ولما كان القلب بهذه المنزلة، كان لابد من إصلاحه والابتعاد عما يفسده، وفي هذا الدرس يذكر الشيخ بعضاً من مفسدات القلوب.

الحث على إصلاح القلب والابتعاد عن مفسداته

الحث على إصلاح القلب والابتعاد عن مفسداته الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين، الحمد لله الذي جمعنا وإياكم في هذا المكان، والحمد لله الذي هيأ لنا هذا اللقاء، ونسأله سبحانه وتعالى أن يجعله مجلساً من مجالس الذكر الذي تحفه ملائكته، ونسأله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من الذين تنزل عليهم الرحمة والسكينة وتتغشاهم. أيها الإخوة: نحمد الله على ما من به من نزول هذه الأمطار ونقول: مطرنا بفضل الله ورحمته، اللهم صيباً نافعاً، اللهم صيباً نافعاً، اللهم صيباً نافعاً، ونتفاءل بنزول هذا المطر، نتفاءل بنزول رحمة الله سبحانه وتعالى على المؤمنين، ونزول نصره عليهم، ونزول عذابه على الكفرة المشركين، وعلى اليهود والمنافقين وأعداء الدين، وربما سأل بعض الإخوان فقال: لماذا لا نجمع الآن؟ فأقول: الجمع في المطر لكي لا يشق على الناس الإتيان إلى المسجد لصلاة العشاء، وما دمنا نحن الآن في المسجد أصلاً فلعل هذه المشقة لا تكون موجودة بالنسبة للأعم والأغلب والحكم للأعم الأغلب، والله تعالى أعلم بالصواب. وقد تكلمنا أيها الإخوة في المرة الماضية عن موضوع إصلاح القلوب، وذكرنا فيه نقطتين أساسيتين، أو ثلاثاً، ولعل من المناسب أن نسمي الموضوع الماضي بعنوان: (المسلم بين الزهد والورع). وأن يكون عنوان هذا الدرس في هذه الليلة، (مفسدات القلوب)، لأننا سنتكلم عن مفسدات القلوب، ولا شك أن الموضوع الماضي وهذا الموضع يدخلان في الإطار العام لموضوع إصلاح القلوب. أيها الإخوة: إن هذا القلب هو الملك على سائر الأعضاء، وهو الذي عناه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله) ولما كان القلب هو الملك والجوارح هي الجنود المؤتمرة بأمره، ولما كان هو المسئول عن الرعية، وهو الراعي والجوارح هي رعيته، لما علم عدو الله إبليس بذلك أجلب على هذا القلب بالوساوس والشهوات، وصار يحاول إفساد قلوب بني آدم بشتى الوسائل التي يستطيعها، وما ذلك إلا أنه قد أخذ على نفسه العهد بأن يفسد من ذرية آدم من يستطيع، والله استثنى خلقاً من خلقه، فقال: "إلا عبادي" هؤلاء العباد ليس لك عليهم سلطان، عباد الله المتقون، وأما الناس الغافلون وأصحاب الشهوات والشبهات، فإن لكل منهم نصيباً من الشيطان، بحسب الضلال الذي أضله به، ولا يمكن أن ينجو الإنسان يوم القيامة إلا إذا جاء بقلب سليم من الشهوات والشبهات، كما قال الله عز وجل: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89].

أنواع القلوب

أنواع القلوب كما أن إضلال الشيطان لقلوب العباد على أنواع ومراتب، فإن القلوب أنواع كذلك، بحسب أصحابها، فمن القلوب: القلب الأول: قلب أسود مرباد كالكوز مجخٍ، قلب أغلف وذلك هو قلب الكافر، لا يدخل إليه النور ولا ينتفع بشيء. القلب الثاني: قلب منكوس فيه مرض، وهو قلب المنافق. القلب الثالث: وقلب فيه من النور الإيماني الرحماني ومن شهوات الشيطان والشبهات خلط، فيمده ميزابان، ميزاب النور الإيماني، وميزاب الشهوات والشبهات الشيطانية، فهو لما غلب عليه منهما، فإن كان الأغلب عليه نور الرحمن؛ فإنه ينجو، وإن كان الأغلب عليه مداد الشيطان؛ فإنه يهلك. القلب الرابع: قلب المخبتين، الذين تخبت قلوبهم لذكر الله وتلين جلودهم لربهم سبحانه وتعالى، وهذا قلب المؤمن الخالص. وقلوبنا -أيها الإخوة- نحن الضعفاء قلوب فيها الخلط والأمور المختلفة، فيها ما يرضي الله وما لا يرضيه ولذلك فإن المسلم مطالب بتنقية قلبه، وهناك أشياء تُصلح القلب ذكرنا بعضها، ولا يتسع المجال لذكر أمرٍ آخر من الأمور التي تصلح القلب، كالاستطراد في ذكر الله مثلاً، فإنه مما يصلح القلب، والعبادات على تنوعها تُصلح القلب، وهكذا من أنواع الخوف والرجاء والمحبة، والمحاسبة، والمراقبة والطمأنينة، والحياء والمراتب الأخرى التي هي أخلاق القلوب وسنذكر في هذا الليلة بعضاً من المفسدات؛ لأن اجتناب المفسدات من أعظم وسائل إصلاح القلوب، فإن المسألة جلب مصالح ودرء مفاسد.

مفسدات القلوب

مفسدات القلوب من مفسدات القلب -أيها الإخوة- خمسة مفسدات مرتبطة ببعضها البعض، وهي كثرة الخلطة، والتمني، والتعلق بغير الله، والشبع، وكثرة النوم، وسنضيف إليها موضوع الذنوب، والخواطر السيئة، وحب الرئاسة والرياء، إذا أسعفنا الوقت.

كثرة الاختلاط بالناس

كثرة الاختلاط بالناس أيها الإخوة! إن كثرة الاختلاط بالناس اختلاطاً شديداً بحيث لا يبقى للإنسان وقت يتفرغ فيه لنفسه ولا يتفطن فيه لعيوبه، ولا يصلح فيه قلبه، كثرة الخلطة مسألة سيئة، يتسبب عن كثرة الخلطة، وإمتلاء القلب من دخان أنفاس بني آدم، حتى يسود ويسبب تشتت القلب، وتفرقه ويسبب الهم والغم، وإضاعة المصالح والاشتغال بقرناء السوء، وينقسم الفكر عند كثرة الاختلاط بالناس، الاختلاط غير الشرعي، يقسم الفكر في أودية مطالب هؤلاء المخالطين، يتقسم الفكر في أودية مطالبهم وإراداتهم فماذا سيبقى في القلب لله والدار الآخرة؟! وكم جلبت خلطة الناس من نقمة ودفعت من نعمة، وأنزلت من محنة، وعطلت من منحة، وأحلت من رزية، وأوقعت في بلية؟ وهل آفة الناس إلا الناس؟ وهل كان أضر على أبي طالب من قرناء السوء؟ فلم يزالوا به حتى حالوا بينه وبين كلمة توجب له سعادة الأبد، وهي كلمة التوحيد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على رأسه يقول: يا عم قل كلمة، كلمة حق أشفع لك بها عند الله، قل: لا إله إلا الله، وأبو جهل وغيره من عتاة قريش على رأسه من الجانب الآخر يقولون: تموت على غير ملة عبد المطلب، وهو يقول: إني لأعلم أن دين محمد من خير أديان البرية دينا لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحاً بذاك مبينا فـ أبو طالب يعلم بأن دين محمد صلى الله عليه وسلم خير أديان البرية ديناً، لكن يمنعه عن قول لا إله إلا الله، الملامة أو حذار مسبة، أن يلومه قومه، أو يسبوه بعد موته، ويقولون: مات على غير ملة آبائه وأجداده، فهذه الخلطة الشنيعة سببت هذا الوبال الذي حل بـ أبي طالب، ألم يقل الله عن أناس من أهل النار يعتذرون فيقولون: {رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا} [الأنعام:128] فيقال لهم: {النَّارُ مَثْوَاكُمْ} [الأنعام:128] وهؤلاء الذين اتخذوا من دون الله أوثاناً مودة بينهم في الحياة الدنيا، كما قال الله عز وجل: {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [العنكبوت:25]. اجتماع الناس في مودة على شيء لا يرضي الله، سيكفر بعضهم ببعض يوم القيامة على هذا الاجتماع الذي اجتمعوا عليه، وكثير من الناس الآن يلتقون على مودة، لكن أي مودة؟ {مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [العنكبوت:25] اتخذوا من دون الله أوثاناً مودة بينهم في الحياة الدنيا، التقوا مودة، لكنها مودة شركية كفرية، مودة معاصٍ، وأهواء وشهوات، هذه الذي اجتمعوا عليها ففي يوم القيامة سيكفر بعضهم ببعض، ويلعن بعضهم بعضاً، فهذه الخلطة المحرمة، وهذه الخلطة بقرناء السوء هي التي ستردي صاحبها في نار جهنم، فيكفر بعضهم ببعض، ويلعن بعضهم بعضاً، ومأواهم النار وما لهم من ناصرين. فإن قال قائل هل الخلطة أصلاً محرمة؟ وهل الإنسان مطالب أن يعيش وحدانياً ليس له صاحب ولا صديق؟ فنقول: أبداً ليس الأمر كذلك، فإن الإنسان خلق اجتماعياً بطبعه: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً} [النحل:72] لتسكنوا إليها، وجعل الناس ذوي أشكال أو أرواح فيها تجاذب وفيها تنافر والناس يميل بعضهم إلى بعض، ويرتاح بعضهم إلى بعض، أقسام وجماعات وشيع، لكن لا بد أن نقول: إن الخلطة منها ما هو شرعي، مثل ما خاطب الله المؤمنين فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا} [النساء:136] والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (عليكم بالجماعة، فإن يد الله مع الجماعة) معناه: أن المسلم مطالب أن يكون في جماعة، إذا لم يكن في جماعة يشذ ومن شذ، شذ في النار. وإذا لم يكن في جماعة فإن الذئب يأكل من الغنم القاصية؛ لأن الجماعة هي التي تقويه وتشد أزره وتغذي وريد إيمانه، وهي التي تشجعه، فيتقوى بعضهم ببعض، وتنعقد أواصر الأخوة في الله، إذاً: الجماعة الصالحة مطلوب من المسلم أن يختلط بها، ومطلوب من المسلم أن ينضوي تحت لوائها، ومطلوب من المسلم أن يكون فرداً من أفرادها، المجموعة الصالحة والرفقة الطيبة، لا بد من الاختلاط بها، فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه أو تجد منه ريحاً طيبة، فلا يمكن للإنسان أن يقول: إننا من أجل إصلاح القلوب ينبغي أن نعيش منفردين ولا نخالط الناس، لكن أين الخطأ وأين الخطر؟ A الخطر في مخالطة أهل السوء، والاجتماع بقرناء السوء، وهذه الوحشة التي تحصل من امتلاء القلب من دخان أنفاس بني آدم، الذين دائماً يسيرون على الخطأ ولا يتوبون إلى الله ولا يرجعون، هؤلاء أنفاسهم دخان ينعقد في القلب، فيعلون القلب من هذا النتن، ومن هذا الران، مالا يعلمه إلا الله. فإن قال قائل: أعطنا ضابطاً يضبط لنا الأمور في الاختلاط الجيد والاختلاط الرديء فنقول: إذا خالطت الناس في الخير، كالجمعة والجماعات، والأعياد والحج، وتعلم العلم والجهاد في سبيل الله والنصيحة، فهذا اختلاط محمود بل هو مطلوب شرعاً، وينبغي عليك أن تفعل ذلك، وأن تعتزلهم في الشر وفضول المباحات، فإذا رأيتهم على لهو ولعب ومعاصٍ وفسوق، فلا يجوز لك أن تختلط بهم. وإن قال قائل: إن الأوضاع اليوم لا تيسر لنا اجتماعاً دائماً على الخير، فإنني موظف في شركة، وطالب في مدرسة، وعضو في جامعة، وهذه الشركة، أو المدرسة، أو الجامعة، لا بد أن أذهب إليها، بحكم الدراسة والدوام، ولا بد أن أختلط بالطلبة والموظفين والناس الذين في ذلك المحل، وإنني تاجر وأختلط بالزبائن، فكيف أفعل؟ هل أترك هذه الأماكن لأن فيها سوءاً؟ فإن الأسواق فيها سوء، وكثير من المدارس قد يكون فيها سوء، والشركات فيها سوء، فهل أترك الخلطة في عملي في المستشفى أو الدائرة أو الشركة، وما إلى ذلك من أنوع أماكن التجمعات التي يتجمع فيها الناس لكي يعيشوا في وظائف، أو يعيشوا من الوظائف هذه في هذه التجمعات، هل أترك ذلك؟ فنقول: إن الاختلاط هنا أمر صار شبه مفروض عليك، ولا تستطيع أن تترك الاختلاط بهؤلاء الناس، في الشركة أو المستشفى، أو المدرسة، أو الجامعة أو السوق، فإذا دعتك الحاجة إلى خلطتهم، ولم يمكنك اعتزالهم وهم يفعلون أموراً من الشر؛ لأنك لن تعدم أحداً يدخن أو يغتاب أو يلعب الألعاب المحرمة، أو يأتي بمنكرات في المجلس الذي أنت فيه سواء في الشركة، أو الجامعة أو السوق أو المستشفى، أو المكان الذي أنت موجود فيه، ولا يمكن أن نقول للناس: عطلوا المستشفيات؛ لأن فيها اختلاطاً، وغادروا الشركات؛ لأن فيها مدراء سوء، واتركوا الجامعات؛ لأن فيها شللاً منحرفة، بل نحن مطالبون بالإصلاح ومطالبون بأن يكون لنا دور عملي نغير به الواقع، فيكون واقعاً يرضي الله عز وجل، فأنت طبيب في المستشفى، فلا بد أن تغير الواقع وتسعى في تغييره ليكون مرضياً لله، فتقاوم الاختلاط والسفور والخلوة المحرمة، وأنت طالب في المدرسة ينبغي أن تدافع المنكرات وتغير الواقع، وتقاوم قرناء السوء، وتقاوم الصورة المحرمة، والفلم المحرم الذي قد يجلب، والألعاب المحرمة، والنكت والطرائف المحرمة، وأنت في السوق ينبغي أن تقاوم البيوع المحرمة والتعامل الحرام مع الزبائن، والتحدث مع النساء مع تكسرهن في الكلام، ودعوتهن بالشهوات والمظاهر التي تجلب الشقاء للنفس، إذاً: نحن مهمتنا المدافعة وتغيير المنكر إلى ما يرضي الله عز وجل. فإذا دعتنا الظروف لأن نكون مختلطين في هذا الواقع فماذا نفعل؟ لأن الواقع هذا قد يفسد القلب أو يقسيه، إنهم أناس لا يتورعون عن فعل الشر، وفي نفس الوقت لا يمكن أن نتركهم، ولا بد أن نختلط بهم في حكم عملنا، وهذا مجال كسب ووظيفة، ولا بد أن نكون فيه فما هو الحل؟ فإذا دعت الحاجة إلى خلطتهم وهم على أمور من المنكرات والشر، ولا يمكنك اعتزالهم أبداً -لأنه قد يمكن اعتزالهم في الشر- وإذا جاء وقت المباحات أو الخير اختلطت بهم، لكن إذا لم يمكن، فالحذر الحذر أن توافقهم على منكرهم وشرورهم، وأن تصبر على أذاهم، لأنك ستدعو وتواجه بأنواع من الأذى؛ لأنه لا يمكن للإنسان أن يدعو إلى الله ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر دون أن يلقى أذى، فإذا لم يجد الأذى معناه أن في سيره خطأ، إما أنه يداهن أو شيء من هذا القبيل، وإذا لم يجد في إنكاره أذى أبداً، فمعنى أن في إنكاره خطأ، طبعاً لا يشترط أن يكون الأذى كل مرة، فقد يجد قلباً متفتحاً وأذناً سامعة، وإنساناً مستجيباً ويثني عليه، فلا يشترط أن يجد الأذى كل مرة، ولكن في أحوال كثيرة، أو في بعض الأحيان، لا بد أن يجد شيئاً من الأذى، فالحذر أن توافقهم، واصبر على أذاهم. وإذا دعتك الحاجة إلى خلطتهم في فضول المباحات، في أشياء من المباحات، فاجتهد أن تقلب ذلك المجلس طاعة لله، وأن تشجع نفسك على هذا الأمر وأن لا تستجيب للشيطان إذا قال لك هذا رياء، وأنت تريد أن تقلب المجلس إلى مجلس ذكر وأن تفتح مواضيع إسلامية، أنت مراءٍ، أنت تريد أن تبرز بينهم، على أنك أنت الشيخ وأنت الواعظ المذكر، وهذا رياء فلا تستجب للشيطان، وادع وذكّر: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55] واستعن بالله عليهم، وأخلص في عملك، فإن أعجزتك المقادير فلم تستطع أن تغير أو أن تقلب المجلس إلى مجلس ذكر، فماذا تفعل؟ قال: ابن القيم رحمه الله فيمن هذا شأنه: "فليسل قلبه من بينهم، سل الشعرة من العجين وليكن فيهم حاضراً غائباً، قريباً بعيداً، نائماً يقظاً، ينظر إليهم ولا يبصرهم، ويسمع كلامهم ولا يعيه؛ لأنه قد أخذ قلبه من بينهم ورقى به إلى الملأ الأعلى، وما أصعب هذا، وما أشقه على النفوس، وإنه ليسير على من يسره الله تعالى عليه". أحياناً يضطر الإنسان أن يجلس في مجلس أو في مكا

التمني

التمني ثانيا: التمني، فإنه من مفسدات القلب، وهو بحر لا ساحل له، يركبه مفاليس العالم، والمُنَى رأس أموال المفاليس، والمفلس هو الذي ليس عنده أعمال صالحة، أو ليس عنده عطاء لهذا الدين، ماذا يفعل لكي ينجو من لوم النفس إذا لامته، أو ينجو من تأنيب الضمير إذا أنبه؟ يعلق النفس بالأماني، ويقول: سيغفر الله لي، أليس الله بغفور رحيم! فلا تزال أمواج الأماني الكاذبة تتلاعب براكب بحر التمني، وكل حسب حاجته، فمنهم من يعتمد على رحمة الله ويعصي ويحلم بالأماني، ويحلم بجنة عرضها السماوات والأرض، ولكن لا يفكر في أنها أعدت للمتقين، هؤلاء المتكلون على رحمة الله، مما ضيعهم مسألة مهمة جداً ما هي؟ إذا تأملت حالهم وجدتهم ينظرون في حقهم على الله، ولا ينظرون في حق الله عليهم، هذه عبارة مهمة جداً، ذكرها علماؤنا، "ينظرون في حقهم على الله، ولا ينظرون في حق الله عليهم"، هؤلاء أصحاب الأماني، ما هي مشكلتهم ومصيبتهم؟ إنهم ينظرون في حقهم على الله، فيقولون: لا بد أن الله يغفر لنا، فنحن موحدون، ونحن مسلمون، قلنا: لا إله إلا الله، أليس من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة؟ أليس؟ أليس؟ أكيد أن الله سيغفر لنا، فينظرون في حقهم على الله، والآن كل تفكيرهم وجل همهم ماذا سيفعل الله لهم من أنواع النعيم المقيم وجنات النعيم، ولكنهم لا يفكرون في حق الله عليهم، لو فكروا في حق الله عليهم وأنهم ينبغي أن يعبدوه وأن يصلحوا شأنهم معه؛ لعرفوا تقصيرهم، ولعرفوا أنهم مهما قدموا من الصالحات فلا يزالون مقصرين، إلا إذا تداركهم الله برحمته، و (لن يدخل أحد الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله، قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته). فإذاً: هذا التمني من الدواهي التي تصيب القلب فتهلكه؛ لأن الإنسان لا يزال في أحلام وتخيلات، في أنواع الجزاء الذي سيأخذه يوم القيامة، وهو قد نأى بنفسه عن التفكير في حق الله عليه. ومن الناس من يجعل تمنياته في القدرة والسلطان، فيحلم وينظر إلى المستقبل أو ينظر إلى نفسه، يتمنى أن يكون أميراً أو كبيراً أو وزيراً أو رئيساً أو زعيماً، أو مديراً أو نائب مدير، أو نائب المدير العام ونحو ذلك من الأشياء. ومنهم من أمانيه في الضرب في الأرض والتطواف في البلدان، في السياحات، ورؤية البلدان والمناظر الخلاّبة إلخ. وهذا أمانيه محصورة بهذا الجانب، ومنهم أناس من أمنياتهم أو أمانيهم في الأموال والأثمان، تاجر وربح وكسب، وتضاعف رأس ماله ولا خسارة تذكر وهكذا وتوسعت الشركات، وفتحت الفروع، وعملت الأعمال، وهكذا فهو محصور في عملية الأثمان والأموال والتجارات وكل متمن بحسبه. ومشكلة التمني أنه يصور الأمر لهذا المتمني أنه قد فاز بمطلوبه؛ لأنه عندما يفكر أنه قد وصل وأنه حصل على هذه الأشياء، وهذا مجرد تفكير وخيالات يرتاح فيها مؤقتاً، ويلتذ لذة وهمية، لأنه لم يحصل له شيء من هذا، وإنما هي أمنيات، فبينما هو على هذه الحال إذا استيقظ فوجد الحصير في يده، ليس عنده إلا الحصير. فلابد أن نقف وقفة بسيطة، نقول: هل خطأ أن الإنسان يتمنى مالاً، أو غنىً أو جاهاً، هل هذا خطأ في الشرع، نقول: لا. لكن الخطأ ورد في حديث مهم جداً، ذكره عليه الصلاة والسلام: ذكر أربعة من الرجال وذكر أحوالهم، فكان مما قاله في أحد الأحاديث: (ورجل يقول: لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان) إنسان غني يعمل صالحات، وينفق أموالاً وزكوات وصدقات وكفالة أيتام ويبني المساجد ويعمل الملاجئ والأوقاف وآخر يقول: لو أن لي مال فلان لعملت بعمله، وكلمة لو أن لي مال فلان، تعتبر تمنياً وهذا هو التمني المحمود؛ لأنه يتمنى لو أن له مال فلان لعمل فيه بعمل فلان، أي لتصدق وزكى وأنفق وبنى المساجد وكفل الأيتام، وتصدق على الفقراء، وأخرج المجاهدين وعمل أوقافاً إلى آخره، وطبع الكتب، ودعم الدعوة الإسلامية والحركة الإسلامية، وعمل مراكز ربما في الخارج، وأنفق على دعاة، وجعل رواتب للدعاة لكي يتفرغوا للدعوة، وفكر في أشياء، هذا الإنسان يؤجر على أمنيته، يؤجر على نيته الطيبة، ولو ما عنده مال، يقول عليه الصلاة والسلام: (فهما في الأجر سواء). وآخر عنده مال عمل فيه بمعصية الله، سافر السفريات المحرمة، وأنفق الأموال على أهل الفواحش، وأرباب الفسق وقرناء السوء، وظلم في هذه المال، وقطع رحماً، ومنع زكاةً ولم يكن من المصلين، ولم يحض على طعام المسكين، ونهر السائل، وقهر اليتيم الخ. هذا إنسان آثم ولا شك، وشخص آخر يقول: لو أن لي مال فلان، لعملت بعمله، لو أن لي مال فلان، لركبت السيارات، ولبست الساعة الذهب الفلانية، وسافرت إلى المحلات الفلانية، وعملت الفواحش، وعملت الموبقات، ووضعت في البنك الربوي الفلاني وجاءتني الفوائد الفلانية، إذاً: هذا الإنسان ليس له مال، لكن مجرد الأمنية هذه يأثم عليها، فيقول: عليه الصلاة والسلام: (فهما في الوزر سواء) مع أنه ليس له مال، ولكن تصور حتى تعلم أن القلب يعبد الله أو يعصي الله، يؤجر على ما في القلب ويأثم على ما في القلب، وهذا الإثم من إنسان مريد عاقد النية، لو كان له مال فلان لعمل فيه وهذا غير الخواطر، لأنه قد يقول قائل: إن الإنسان لا يأثم على الخواطر، نقول: نعم. لا يأثم على الخواطر السيئة إذا طردها، جاءت ومرت، لكن هذا عازم، لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان، معناها أن هذا الإنسان مصمم على المعصية وعاقد العزم عليها، وقلبه متجه إليها بكليته غير الشخص الذي يعي قول الله: {إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201] فلا تتناقض في النصوص الشرعية. هل يمكن أن تحجب التمني عن إنسان تقول له أنت يا فلان لا تتمنّ أبداً ولا تتخيل أي شيء؟ لا يمكن؛ لأن التمني شيء من ضروريات التفكير والعقل، ولا بد منه، وكل شخص يتمنى شيئاً ما. فإذاً: ذكرنا تمنيات أهل الفسق والفجور، فما هي تمنيات أهل الصلاح؟ ذكرنا بعض التمنيات التي تصرف الإنسان عن الله في الأثمان والنسوان والسلطان الخ. فما هي تمنيات أصحاب الهمة العالية؟ مثلاً: رجل يتمنى أن يحفظ صحيح البخاري، أو يحفظ القرآن قبل ذلك، ويتمنى أن يكون قد قرأ كتاب فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ويتمنى أنه قد درس عند الشيخ الفلاني، أو يتمنى أنه كان في روابي أرض الجهاد فيجاهد في سبيل الله، يتمنى الخير ويقول: لو أن لي مالاً لعملت به بعمل فلان من الأتقياء، يتقي فيه ربه، ويخرج حقه، ويصل رحمه. هذا التمني هو الذي ينبغي أن يكون في نفس المؤمن، يتمنى أن يقاتل أعداء الله، يتمنى أن يرفع لواء للجهاد فيكون من أوائل الخارجين في سبيل الله، هذه الأمنيات ينبغي أن تكون موجودة في القلب وهي ليست مهلكة، ولا آثمة، وإنما هي أماني المؤمن، ولكل إنسان أمانيه، فما هي أمنيتك أيها المسلم؟ إن العصاة يتمنون أن يعصوا الله بأموالهم وصاحب الدنيا يتمنى سيارة فارهة، وبيتاً من عدة أدوار، وسلطان، وأهل الآخرة أمنياتهم تختلف عن أهل الفسق تمام الاختلاف.

التعلق بغير الله

التعلق بغير الله ومن الأمور التي هي من مفسدات القلب كذلك: التعلق بغير الله عز وجل. أيها الإخوة: التعلق بغير الله له عدة نواحٍ والكلام فيه من عدة فروع، فمن التعلق بغير الله: التعلق بالدنيا، وقد مثله حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أجود تمثيل في قوله عليه الصلاة والسلام: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميلة، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش) هذا الرجل المتعلق بغير الله، فمن الناس من يتعلق بالأموال، فيعمل لها كل همه، فيخرج من الصباح ويسعى ويعمل ويكدح إلى الليل، وربما سهر إلى الساعة الثالثة في الفجر، كما قال بعضهم: امرأة تشتكي زوجها قالت: يخرج الصباح فلا يرجع إلا الساعة الثالثة في الليل، مضيع لزوجته ولأولاده ولبيته ويقول لها: هذه حياتي تريدين العيش أهلاً وسهلاً، لا تريدين هذا الباب مع السلامة. فهذا الشخص عبد الدينار والدرهم، وجعل همه للدرهم والدينار، إن رضي فللمال، وإن غضب فللمال وإن سخط فللمال، وإن أعطى فللمال، وإن منع فلأجل المال، وهكذا، فجعل هذا الدرهم والدينار هو معبوده من دون الله، وهو إلهه الذي يسعى في مرضاته، والكلام في هذا الموضوع كثير، وسبق أن طرحناه عدة مرات في مجالات أوسع من هذا، ولكن هنا فقط إشارة، وهناك أناس يتعلقون مثلاً بمدير أو رئيس مثلاً، فيجعل هذه الرئيس إلهاً يعبد من دون الله، فيطيعه في معصية الله، ويجعل همه في إرضائه، ويتجنب إسخاطه بكل وسيلة ولو أسخط ربه، ويجعل هذا الرئيس إلهاً يعبد، ويكون هو عنده بمثابة الخادم العبد الذليل الذي يفعل له كل شيء، من أجل أن يرضيه، ولا يفكر في إرضاء ربه سبحانه وتعالى، تعس عبد هذا الرئيس. ومن الناس من قد يتعلق أو يجعل همه إرضاء زوجته، تعس عبد الزوجة، فلو أمرته بمعصية الله أطاع، وجرته إلى مكان معصية ذهب، وهكذا من الأشياء التي قد يقع فيها بسبب إسلامه القيادة لامرأة فاسقة عاصية. ومن التعلق بغير الله: العشق، وهذا أمر خطير جداً، قد وقع فيه كثير من الناس في القديم والحديث، وقالوا فيه الأقاويل والأشعار حتى أوضحت لنا مكنونات أولئك الناس، فإذا أردت أن تعرف عذاب العاشق في الدنيا، فإنه إنسان فانٍ في محبة معشوقة، ومع ذلك ربما يقرب منه ويبعد عنه ذاك المعشوق ولا يفي له، ويهجره ويصل عدوه، فمعشوقه قليل الوفاء كثير الجفاء، كثير الشركاء سريع التغير، عظيم الخيانة، لا يدوم له معه وصل، فكيف إذا هجره ونأى عنه بالكلية، فإنه يكون عند ذلك جاءه العذاب الأليم، والسم الناقع، الذي يجعل حياته جحيماً لا تطاق، فالمشكلة تبدأ بالتعلق، أو بالإعجاب، قد يعجب بشخص من الأشخاص، ثم يتزايد هذا الإعجاب فيقوى، حتى يصبح تعلقاً بحيث إنه لا بد له من أن يلقاه في كل وقت، وفي كل حين، وأن يجلس إليه، وينظر إليه، ويسمع كلامه، ثم تتطور الأمور حتى تصبح عشقاً، فيصبح متيماً بهذا الشخص، همه إرضاء هذه الشخص قد غلبت محبته لهذا الشخص محبته لله عز وجل، فلذلك يعبده من دون الله ويستولي على قلبه، ويتمكن منه، فصار العاشق عابداً للمعشوق، يسعى في مرضاته ويؤثره على حب الله، بل يقدم رضاه على رضا الله، وحبه على حب الله، ويتقرب إليه ما لا يتقرب إلى الله، وينفق في مرضاة هذا المعشوق ما لا ينفق في مرضاة الله، ويتجنب في سخط هذا المعشوق ما لا يتجنبه من سخط الله، فعند ذلك يكون عبداً له بالكلية، ويكون مشركاً مع الله سبحانه وتعالى. وتأمل كيف قاد العشق امرأة العزيز إلى أن وقعت في المهاوي وعمدت إلى الفاحشة، وركبت رأسها، وغلقت الأبواب، ودعت يوسف وخانت زوجها، وأودى الأمر إلى أن يتكلم فيها نساء المدينة، ومع ذلك هي مصرة على غوايتها، وتقول: {وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلِيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ} [يوسف:32]. فإذاً: أودى العشق بهذه المرأة في مهاوٍ، والشرك قرين للعشق، والتوحيد يبعد عن العشق تماماً، ولذلك كافأ الله يوسف بتوحيده لربه فأبعده عن الهلاك والرذيلة، وجعل تلك المرأة بشركها ملومة مذمومة يتكلم الناس عنها، حتى اعترفت بذنبها في النهاية، وبرأت يوسف عليه السلام. وتكلمنا في محاضرة سابقة عن موضوع العشق لكنه -أيها الإخوة- ولم يجر عادة الكلام فيه، من شاء فليرجع إليه، لكن ينصح في هذا الموضوع بقراءة ما كتبه العلامة ابن القيم رحمه الله في كتاب الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، وكتاب إغاثه اللهفان من مصائد الشيطان، تكلم عنه في موضع من المجلس الأول وفي المجلد الثاني ربما كان الكلام أكثر في أواخره تقريباً، فموضوع العشق هو نتيجة ضعف الإيمان، والقلوب التي لا يكون فيها إيمان مستقر، فإنه يتطرق إليها العشق، وأنتم أيها الإخوة: لو تأملتم في أكثر كلمات الأغاني لوجدتم أنها تدور على معاني العشق، وكلها صدرت من أشخاص قد جربوا العشق أو عشقوا سواء كان الملحن أو المؤلف أو المغني أو السامع، فإن غالب الكلام إذا تأملت فيه وتبصرت فعلاً بنور الإيمان في كلام هؤلاء المغنين، لوجدته وصفاً لأحوال العشق، وأنه قد عبر أمامه وأن قلبه قد أنشد إليه، وأنه أحسن ما في الدنيا، وأنه إذا أعطاه كلمة واحدة من الثناء، فإن له بالدنيا وما له بالدنيا وما فيها، ولذلك تقرأ حتى في بعض أشعارهم: (لو كانت ليلى في جهة المشرق، وأنا أصلي للغرب؛ لتيممت نحوها في صلاتي، ولو أنه بين الحطيم وزمزم) والكلام كله يدور على معاني العشق، وهذه الأغاني قد دمرت القلوب تدميراً، ولعله يتاح لي الفرصة للكلام على مساوئ الأغاني وترسيخ العشق في قلوب الناس السامعين، لأن بعض الناس يقول: لماذا أنتم تعقدون الأمور جداً، والأغاني ماذا فيها؟! موسيقى وكلمات، لكن صدق -بالله العظيم- أن هذه الكلمات والألحان تجر إلى الشرك بالله عز وجل، وتزين العشق للسامعين وللناس، ومن نتائج سماع الأغاني المتكررة، أن يبدأ هؤلاء السامعون للأغاني في عشق النساء والمردان وعشق الصور الجميلة -طبعاً الأشخاص- المحرمة، وينبني عليها فساد عظيم في الدنيا وفي الآخرة، وينبني عليها ثوران الشهوات وينبني عليها تخريب العلاقة برب العالمين، وينبني عليها فساد العبادات، يقول: إياك نعبد وإياك نستعين، الفاتحة، وقلبه متعلق بامرأة أو شخص وهكذا المسألة تسير في هذه الناحية فيجعل جل همه في إرضاء هذا المعشوق وفي طاعته، وباختصار في عبادته من دون الله. وينبغي أيها الإخوة: أن نعلم أن العشق قد يرتبط بالمحبة، لأن العشق هو عبارة عن محبة، زادت جداً جداً حتى وصلت إلى مرحلة أنه صار متيماً بهذا الأمر، وبلغ فيه النهاية القصوى، وتخلل قلبه محبة هذا المتعلق به، فينبغي أن نعلم بأن المحبة، نوعان: النوع الأول: محبة نافعة. النوع الثاني: محبة محرمة. فالمحبة النافعة ثلاثة أنواع: النوع الأول: محبة الله وهي الأساس. النوع الثاني: المحبة في الله، فنحن نحب الأنبياء لأي شيء؟ لصورهم وأشكالهم!! لأن الله أرسلهم، لأننا نحب الله، وهؤلاء جاءوا رسلاً من الله، فنحن نحبهم لأنهم جاءوا من محبوبنا الأعظم من الله سبحانه وتعالى الذي نحبه أكثر من كل شيء، أو هكذا ينبغي أن يكون الأمر. ثانياً: المحبة في الله. النوع الثالث: محبة ما يعين على طاعة الله. والمحبة السيئة ثلاثة أنواع: النوع الأول: محبة مع الله، هذا شرك: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة:165] وهذا يقع فيه العاشقون، يقعون في هذا النوع من الشرك وهو المحبة مع الله، فهذا من أحسن أحوال بعضهم، وإلا فإن بعضهم نسي الله عز وجل تماماً، وصار كل همه في محبة المعشوق محبة مع الله. النوع الثاني: محبة ما يبغضه الله، وهي مذمومة أيضاً. النوع الثالث: محبة ما يقطع عن الله، إذا كان محبتك لشيء تقطعك عن الله، فمحبتك لهذا الشيء حرام، إذا كان التلفزيون يقطعك عن الله، فمحبتك له حرام، إذا كانت الألعاب -أي لعبة لو كانت مباحة- فلو قال قائل: المحبة مع الله شرك عرفناه، محبة ما يبغضه الله عرفناها، ولو كانت أفلاماً محرمة، أو أغاني إلى آخره عرفنا أنها محرمة وأن محبتها محرمة وأن الله عز وجل يبغضها وأن محبة ما يبغضه الله حرام، لكن ما معنى محبة ما يقطع عن الله؟ يعني: أن هناك أشياء مباحة أصلاً لا يبغضها الله، لكن إذا كانت محبتك لها تقطعك عن الله، فينبغي أن تبغضها، ولا تحب الأشياء التي تقطعك عن الله ولو كانت مباحة مادامت تقطعك عن الله مثلاً: إنسان محبته لزوجته تمنعه من الخروج إلى صلاة الفجر، ما حكم محبة الزوجة؟ مباح، بل شيء طيب، بل لا يمكن أن تستقيم الأسرة إلا إذا أحب الرجل زوجته والعكس، لكن لو أن هذه المحبة صارت إلى درجة أن الرجل من تعلقه بزوجته صار لا يمكن أن يفارقها، لإجابة نداء المؤذن في صلاة الفجر، فماذا يكون الحكم؟ هنا صار الأمر محرماً، لأن هذه المحبة في هذا الأمر قد قطعته عما يحبه الله، فصار تعطيلاً عن العبادة ومنعاً من أدائها، وصار أمراً لا يجوز، وقد أجاب ابن القيم رحمه الله في موضوع العشق في إغاثة اللهفان عن مسألة قال: ما حكم عشق الرجل لزوجته؟ فقال: إنه جائز إلا إذا كان يشغل عن عبادة الله. لا يمانع أن الإنسان يحب زوجته جداً، بشرط ألا يقع في الشرك لكن إذا وصل الأمر إلى أنها توقعه في معصية وتصرفه عن طاعة، فعند ذلك يصبح أمراً محرماً. ومحبة الصور المحرمة وعشقها من موجبات الشرك، وكلما كان العبد أقرب إلى الشرك، كان عشقه للصور أوقع وأكثر في نفسه.

كثرة الطعام

كثرة الطعام ومن مفسدات القلب أيها الإخوة: كثرة الطعام، وكثرة الطعام على نوعين: شيء من المحرمات، أو من المباحات، فإذا كان محرماً كالميتة، والدم والخنزير والخمر والشيء المغصوب والمسروق فإن أكله حرام، ولا يجوز فهو يفسد القلب بالتأكيد. وكل جسم نبت من سحت فالنار أولى به، وإذا كان يأكل من الربا ويتغذى على الربا، فهل سيكون قلبه يقظاً؟ بالتأكيد لا. الشيء الثاني: أطعمة مباحة، لكن الإنسان أسرف وجاوز الحد في المباح، والمباحات لها حدود فإذا جاوزت الحد في المباح تقع في المحذور، فالإسراف في الحلال في هذه المطعومات يؤدي إلى الشبع المفرط، والشبع المفرط يشغل عن الطاعة، وذلك لأنه يسبب بطنة، ومحالة إزالتها أو الوقاية من أمراضها، فيكون شيئاً مذموماً، ثم إن الشبع التام يقوي الشهوة، ويوسع مجاري الشيطان ومن أكل كثيراً شرب كثيراً فنام كثيراً فخسر كثيراً، ولا يمكن أن نقارن بين التوسع في الحلال وبين الأكل الحرام، لكن أيهما أعظم؟ الأصل أن الأكل من الحرام أعظم، والتوسع في المباح يصير مذموماً إذا شغل عن عبادة الله عز وجل، ودعوني أقول لكم فائدة ذكرتها الآن: جاءني سؤال في ذات مرة، قال: رجل يأكل ثم يذهب ويستفرغ، ثم يعود يأكل ثم يذهب ويستفرغ، لماذا؟ قال: لأن هذا الإنسان يحب الطعام جداً، ولا يمكن أنه لا يأكل، أو يتلذذ بالطعام، ولكنه في نفس الوقت لا يريد زيادة وزنه فكيف يجمع بين الأمرين؟ فصار هذا المسكين يأكل ويتلذذ بالطعام، ثم يذهب إلى دورة المياه ويتقيأ ويتقيأ، ثم يعود مرة أخرى، فسألت الشيخ عبد العزيز حفظه الله عن هذا الموضوع قال: لا أدري ما هذا؟ عبث وأقل أحواله الكراهية الشديدة، لأنه إنسان متلف للمال على غير شيء، يأكل ويذهب ويستفرغ، فصارت المسألة كأنها حياة البهائم.

كثرة النوم

كثرة النوم والمسالة الخامسة من مفسدات القلب كثرة النوم، فإن كثرة النوم، تميت القلب، وتثقل البدن، ومضيعة للأوقات، وسبب في الغفلة والكسل، وهناك نوم نافع، كالقيلولة وأول الليل وسدسه الأخير، ونوم وسط النهار أنفع من طرفيه، أي: قبل الظهر أو بعد الظهر أنفع من طرفيه، وكلما قرب النوم من طرفي النهار زاد ضرره وقل نفعه، إلا المحتاج، فلو نمت مثلاً في أول النهار وقت تنزل البركات (بورك لأمتي في بكورها) ونوم بعد الفجر عند السلف مذموم؛ لأن هذا وقت تقسم فيه الأرزاق، وتحل فيه البركة، وتتنزل فيه ملائكة الرحمن، فيكون من حرمان الخير النوم فيه إلا المحتاج، وكذلك النوم بين المغرب والعشاء، وهذا أسوء الأشياء ولذلك نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم نهياً صريحاً، نهى عن النوم قبل العشاء، ولا ينام الإنسان قبل العشاء، النوم بعد المغرب منهي عنه، وهذا أسوء أنواع النوم، والنوم بعد العصر أيضاً فيه نوع من الضرب، ولكن إلا للمحتاج، لأن طبيعة العمل تحيج الإنسان لهذا، ولقد صار الناس نتيجة الورديات والأعمال وتطلب الإنتاج الكبير يشتغل في المصنع أربعاً وعشرين ساعة، حتى يكون إنتاجه أكثر فلما جعلنا همنا للدنيا، صار الناس حياتهم في جحيم، فيقول لك: أنا ليلي نهار، ونهاري ليل، منقلب وأريد أن أبدل وأسير على غير هذا إلا أن المجتمع صار هكذا، كل الأشياء مبنية على الدنيا.

الذنوب والمعاصي

الذنوب والمعاصي ومن الأشياء التي تفسد القلب: الذنوب، ومن الأدلة على ذلك ما قاله ذلك الرجل الصالح: رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذل إدمانها وترك الذنوب حياة القلوب وخير لنفسك عصيانها وكما جعلت حياة البدن بالطعام والشراب، فحياة القلب بدوام ذكر الله والإنابة إليه، وترك الذنوب، وإذا زادت الذنوب علا الران على القلب، حتى يتغلف ولذلك قال بعض السلف: اطلب قلبك في ثلاثة مواطن: الموطن الأول: عند سماع القرآن. الموطن الثاني: في مجال الذكر. الموطن الثالث: في أوقات الخلوة. فإن لم تجده في هذه المواطن، فاسأل الله أن يمن عليك بقلب فإنه لا قلب لك.

الخواطر السيئة والاسترسال فيها

الخواطر السيئة والاسترسال فيها ومن الأمور التي تفسد القلب أيضاً: الخواطر السيئة والاسترسال فيها، وقد ذكرنا قبل قليل أن مجرد مرور الخاطر لا يمكن للإنسان أن يدفعه بل لابد أن يخطر ببالك شيء، لكن الخطر عندما تسترسل في الخواطر السيئة وتتمادى فيها، فإن مبدأ كل عمل خواطر وأفكار، الخاطرة تصبح فكرة، والفكرة تصبح تصوراً، والتصورات تدعو للإرادة، والإرادة تقتضي وقوع الفعل، وإذا وقع الفعل بكثرة وتكرر وصار عادة، فأنى لهم بعد ذلك أن يغيروا. فإذاً: متى تصلح أعمالك؟ إذا صلحت خواطرك التي تخطر في قلبك ونفسك، وصارت خواطر طيبة، وإذا صارت الخواطر السيئة دائماً تخطر ببال الإنسان كالفواحش والحرام، والكسب المحرم، ويخطر بباله الظلم وأنه يريد أن يبطش. إذا كثرت الخواطر السيئة والإنسان لم يدافعها ولا استعاذ بالله منها، واسترسل فيها وتمادى، تتحول إلى ملكات في النفس راسخة، ثم تضغط على الجوارح حتى تصبح فعلاً، فيفعل ما خطر بباله من المحرمات، والإنسان لا يمكنه منع نفسه من الخواطر، إلا أن قوة الإيمان تعين على دفع الخواطر الرذيلة. انظر إلى حال الصحابة، يعني: أحياناً تأتي لأحدهم الخواطر في ذات الله سبحانه وتعالى، (قالوا: يا رسول الله! إن أحدنا ليجد في نفسه ما أن يحترق حتى يصير حمماً، أحب إليه من أن يتكلم به) تأتينا أحياناً خواطر في ذات الله، لو أني ترديت من جبل أو احترقت حتى صرت فحماً ولا أن أتكلم به، فقال عليه الصلاة والسلام: (الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة ذاك صريح الإيمان) يعني: إذا أنت توصلت إلى التحرج من هذه الخواطر لدرجة أنك تتردى من جبل، وتهلك وتحترق ولا تتكلم بها معناه أنك إنسان عندك إيمان قوي، ولذلك خنس الشيطان في نفسك ولم يقدر عليك إلا بهذه الخواطر تكرهها وتدافعها ما استطعت، والله سبحانه وتعالى خلق النفس شبيهة الرحى، ما هو الرحى؟ آلة الطحن، ولا تسكن، خلق النفس شبيهة بالرحى لا تسكن، هذا تمثيل جيد، ذكره ابن القيم رحمه الله وهذه الرحى التي لا تسكن لا بد لها من حب تطحنه، فإذا طحنت حباً خرج دقيقاً جديداً، كان الحب قمحاً فخرج طحيناً جيداً، وإذا كان تراباً وحصىً ماذا يخرج الطحن؟ وإذا كان في الطاحون شيء من القمح، ثم جاء إنسان بسطل من التبن وفتح الطاحون ووضعه فيه، فماذا سيحدث؟ يختلط الطيب والرديء، فانظر في نفسك ما هي الأفكار التي تدور فيها؟ فإذا كان ما يدور في نفسك قمحاً جيداً ستكون النتيجة عملاً جيداً، ودقيقاً نافعاً. وإذا كانت الخواطر التي تدور في نفسك خواطر سوء معناها أن النتيجة التي ستخرج بعد الطحن ستكون أعمالاً سيئة، وإذا كان مخلوط بينهما، يخرج لك مثل الدقيق المخلوط بالتبن والعلف وهذا حال النفس وما يأتي فيها من الخواطر الطيبة والرديئة.

حب الرئاسة

حب الرئاسة بقي لنا أيها الإخوة من الكلام في هذا لموضوع نقطتان: الأولى: تتعلق بحب الرئاسة، والثانية: تتعلق بالرياء، ثم الإجابة عن بعض الأسئلة. أما بالنسبة لحب الرئاسة فإن حب الرئاسة شهوة خفية في النفس، وطمع يسعى إليه كل من في قلبه شيء من محبة هذه الأمور، فإن أكثر الناس يحب أن يكون ظاهراً ومعظماً، رئيساً مطاعاً وإليه الأمر في الأمور، وأن يؤخذ برأيه ومشورته، ونحو ذلك. ونظراً لأن حب الرئاسة أو لأن الرئاسة إذا حصلت، يقع كثير من الناس بسببها في الظلم وفساد النية؛ لأن أصحاب المراكز دائماً الأنظار والأضواء مسلطة عليهم، جاء فلان وحضر فلان، فيقع في نفس الشخص شيء من كثرة ذكره بين الناس، وأنه شخص مهم، وبالتالي يقع فساد في قلبه من جراء هذا الأمر خصوصاً إذا بدأ الناس يتزلفون إليه، وقد يصرفون إليه شيئاً من الأشياء التي لا تجوز إلا لله، من أجل أن يحصلوا على مكاسب من ورائه فيتخذونه سلماً ويصرفون إليه أشياء من هذه الأمور التي فيها معاني العبودية، نظراً لذلك كانت الرئاسة مسألة خطيرة، وكان للسلف مواقف منها، وكان صلى الله عليه وسلم إذا جاءه واحد يطلب إمارة لم يعطه، قال: (إنّا لا نولي هذا الأمر أحداً سأله) جاء واحد يسأل الإمارة فقال: (يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة، فإنك إن سألتها -أي أعطيت لك- أوكلت إليها، وإن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها) لو أعطيتها من غير مسألة وقيل لك: تولَّ قلت: لا أريد، ثم ألزموك بها، فسيعينونك رغماً عنهم؛ لأنهم هم الذين ورطوك في الأمر وأنت كاره له، فلا بد أن يعينوك، وإلا فلا تقبل بهذه، ولأن الرئاسة أو الإمارة فيها إفساد للقلب، ابتعد عنها كثير من السلف، وكانوا يتعوذون بالله منها كما يتعوذون من الشيطان، وهذا الذي يفسر لنا عزوف بعض السلف عن القضاء، يخشى من المنصب، ويخشى أن يظلم الناس بسببه، وكان ربما ضرب بعضهم وسجن ليتولى القضاء ويرفض ذلك. فإن قال قائل، لكن الناس لا بد لهم من رؤساء، ولا بد لهم من قواد، فكيف نفعل؟ فنقول: في الوضع الإسلامي والجو الإسلامي، عندنا نماذج ما حدث في عهد أبي بكر وعمر، وقول أبي بكر لما بويع، طلب من الناس إذا وجدوه على خير أن يعينوه وإذا وجدوه على باطل أن ينقدوه ويصوبوه، وكان عمر دقيقاً في محاسبة الولاة، وكان يعزل ويولي على أشياء بالدقة والإتقان، ويجعل العيون على الولاة، وكانت تأتي إليه أخبارهم بالدقة دائماً وهذا في عهد السلف ولا بد أن نفهم هذه القضية، في عهد السلف كان الأكفاء وأهل العلم كثر، إذا تدافعوا القضاء سيتولى واحد من أهل العلم، لأن أهل العلم كثر، وكذلك إذا ولي فلان ولايات، هناك من الأكفاء وأهل الطاعة والإيمان والقدرة كثر، إنه مجتمع إسلامي ناضج وفيه خبرات متفتحة، فلما تدافعوا كان تدافعهم من أجل أنه وجد أكفاء يديرون الأمور، فلو دفع عن نفسه؛ لا يحصل بسبب ذلك ضرر على المجتمع، لكن نحن الآن في وضعنا ماذا نفعل، تعالوا ننظر في حال يوسف عليه السلام {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55] لماذا طلب يوسف المنصب؟ وكيف يطلب يوسف المنصب؟ ونحن نتكلم الآن عن حب الرئاسة، نقول: إن يوسف كان يعلم، ورحم الله امرءاً عرف قدر نفسه، أنه كان لديه خبرة وقدرة على إدارة أمور التخزين، والصرف للناس بشيء من القدرة التي أعطاه الله إياها، ولم يكن يوجد في البلاد مثله ولا قريباً منه، فلأجل صالح الناس العام طلب أن يتولى ذلك المنصب، ولذلك نقول: إذا قل الأكفاء، فلا بد أن يولى الأكفاء وإذا ولي الأكفاء، فلا بد أن يربوا لأنه لو لم يتول هذا المنصب، لجاء آخر فأفسد فيه، لكن لو وجد من يتولى المنصب مثله في الكفاءة، أو قريباً منه، فالأسلم للقلب في هذه الحالة أن يبتعد عن المنصب، فلو كان يشغل المنصب عندنا فاسق وإنسان متمسك بالدين، وعنده خبرة: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص:26] أمانة وقوة وخبرة، فمن الذين يتولى؟ هل يقول الرجل الصالح: لا. هذا خطر على قلبي لا. إذا كان هذا المنصب ليس فيه من المنكرات والآثام والمفاسد أكثر من مصلحة وجودك فيه، فإنه يتعين عليك إنقاذاً لمصالح الأمة -التي تستطيع أن تحققها من هذا المنصب- أن تتولى هذا المنصب، ولو كانت المفاسد التي فيه أكبر من المصالح بحيث ربما تفسد أنت في المنصب، بحجة مصلحة المسلمين فلا يجوز لك أن تتولى، وإذا وجد مثلك في الكفاءة لنفس المنصب، فإن الأسلم للقلب أن تبتعد، لكن إذا لم يوجد غيرك، ومثلك في الكفاءة أو كانت المصالح أكثر من المفاسد، فإن توليك له مصلحة شرعية، وينبغي أن تحرص عليها، لا لأجل المنصب والشهرة، وأن يكون لك مكانة بين الناس، ولكن لأجل حماية مصالح المسلمين. ونرجو بهذا التوضيح الأخير، أن تكون المسألة الآن قد صارت واضحة.

الرياء

الرياء ومن المفسدات التي سنذكرها في هذه الليلة أخيراً: الرياء. والرياء هو عمل الشيء لكي يراك الناس والرياء: هو أن ترائي بعملك، (من راءى، راءى الله به) من فعل ليراه الناس، راءى الله به (ومن سمَّع سمَّع الله به) من فعل وأخبر الناس أني عملت وعملت، هذا اسمه تسميع، وهذا الفرق بين الرياء والتسميع، الرياء أن تعمل ليراك الناس، والتسميع أن تخبر الناس بما فعلت، ليسمعوا بك وبفعلك: (ومن سمع سمع الله به). وإذا فضح الله إنساناً يوم القيامة، فالويل له مما قدمت يداه، فالرياء مفسد للعمل، وإذا كان العمل متصلاً ومبنياً أوله على آخره، وإن طرأ عليه الرياء ولم يدافعه فإن العمل يفسد ولا بد من إعادته كالصلاة المفروضة، وأما لو كان العمل منفصلاً وراءى في جزء منه أو في شيء منه، كمن تصدق بمائة ريال، وراءى فيها ثم تصدق بمائة أخرى ولم يرائِ فيها فليتصدق، فالتي تصدق ولم يراءِ فيها فهي مقبولة، والتي راءى فيها فهي مردودة، إلا أن يتوب إلى الله من هذا الرياء، فإنها تقبل إن شاء الله. والرياء محرم، وليس فقط محبطاً للعمل، وإنما يترتب عليه إثم، لو أن قائلاً قال لك: الرياء فقط يبطل العمل، نقول: لا. إنه يبطل العمل وتأثم أيضاً زيادة على بطلان العمل، تأثم لو أنت تصدقت رياء أمام الناس وأخرجت مائة ريال وجعلت تفرك بها وترفع وتخفض، هذا ليس فقط يحبط عمل المائة أنه ليس لك أجر عليها، ولكن أيضاً تأثم بفعل ذلك والدليل أن أول من تسعر بهم النار يوم القيامة، ثلاثة: (متصدق وقارئ ومجاهد) وكما ورد في الاختلاف بحسب اختلاف الروايات، أول من تسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة: (أولئك خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة، يا أبا هريرة). فالرياء لا شك أنه من مفسدات القلوب وهو شرك، والله لا يغفر أن يشرك به، ولا بد من توبة مخصوصة له، فبقية الذنوب لو عمل الإنسان حسنات فإنها تمحو بها السيئات، لكن الشرك لا يغفره الله إلا بتوبة، فلا بد أن تتوب له، ولأجل كثرة أنواع الشرك، وصعوبة متابعة الإنسان لكل شرك بتوبة، علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاء، فقال: (اللهم أني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً أعلمه وأستغفرك لما لا أعلمه). لأنك قد تكون وقعت في الشرك، فتقول بذمتك، وهذا شرك، وهذا أبسط الأشياء، فقولك: (بذمتك صار كذا)، فإذاً ينبغي الحذر من الشرك بجميع أنواعه وقد رجح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48] أنه داخل في الشرك الأكبر والأصغر. وما هو الحل والعلاج من الرياء؟ علاجات الرياء أشياء كثيرة جداً: منها: محاولة إخفاء العمل على الدوام، وألا يجر ذلك إلى التقاعس، وهناك أشياء لا تخفى كصلاة الجمعة والجماعة، أن تأتي بقناع إلى المسجد، فهذا لا بد من الظهور فيه، لكن الصدقة قد تخفيها إلا إذا ترتبت مصلحة كبرى من إظهارها، مثل ما فعل الرجل، (وجعل الرجل يأتي بصرة حتى كادت كفه تعجز عنها، ثم تتابع الناس فكان قدوة للآخرين) هذا فيه مصلحة شرعية. وإلا الأصل إخفاء الصدقات، وهكذا الحرص على إخفاء العمل وبالذات الأشياء التي ليس من السنة إظهارها، كقيام الليل، ثم إن الإنسان إذا أدى العمل فيراقب نفسه قبل أدائه، لأنه سيعمله لله، لأن العبد لا تزول قدمه يوم القيامة حتى يسأل عما عمل في حياته، لِمَ عملته وكيف عملته، أهو موافق للسنة؟ أهو لله أو لغير الله؟ {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر:92 - 93] {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف:6]. كذلك احتقار العمل فهناك شيء مهم جداً وهو أن الإنسان مهما عمل من الصالحات فعليه أن يحتقر العمل، ويقول بينه وبين نفسه أن ما عمله حقير وأنه لا شيء بالنسبة لما هو مطلوب منه، ولو صلى كذا وكذا ركعة، وأنفق كذا وكذا من المبالغ الطائلة فإنه لا شيء بالنسبة لحق الله عليه، ينبغي أن يشعر أنه ما عمل شيئاً وأنه لعله ينجو: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60] يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة: الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف ألا يقبل منه، يخاف ألا يقبل منه، يرجو الله أن يقبل، ويخشى من ألا يقبل منه فهو معلق بين الخوف والرجاء. ومن العلاجات: أن يكون اهتمامه بتصحيح العمل أهم من العمل نفسه، الآن مثلاً: أنت تصلي وتحرص على إتمام الصلاة، وأن تجعل ظهرك ليس للأعلى ولا للأسفل وأنه مستوٍ، وأنك تحرص على ضم اليدين عند السجود، وأن تستقبل به القبلة عند السجود وإذا رفعت، فلا هي مضمومة ولا هي مفرقة بين بين، وأنها مبسوطة وأنها حيال المنكبين، أو الأذنين، أو أنها على صدرك، أو بين الثديين كما قال أهل العلم، وأنك تشير بالأصبع وأنت تحرص على تصحيح صورة العمل، هذا ممتاز ومهم جداً، لكن ما هو الأهم منه؟ إنه تصحيح العمل نفسه، أي أن يكون العمل لله، أهم من تصحيح صورة العمل، وكلا الصورتين مهمة، الأولى: تتعلق بالإخلاص، والثانية: تتعلق بمتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم. والأمر الآخر: محاسبة النفس، هل راءيت فتتوب إلى الله، وما فعلته لله، هل قمت به لأجل الله أو لأجل فلان؟ مددت يدي لله، أو لأجل فلان؟ إن ترك المحاسبة والاسترسال وتسهيل الأمور وتمشيتها يؤدي إلى الهلاك، قال الله عز وجل: {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ} [الأحزاب:8]. فإذا سئل الصادقون فما بالك بغيرهم، يسأل الصادقون عن صدقهم، فما بالك بغيرهم، فما بالك بالكاذبين، والتأمل في حال السلف من العلاجات، كيف كانوا يخفون أعمالهم، كيف كانوا يحتقرون أعمالهم، قال: محمد بن واسع -انظر هؤلاء سلف وكبار، وجهابذة، وعباد وصلحاء- يقول محمد بن واسع: "لو كان للذنوب ريح ما قدر أحد أن يجلس إلي من أهل الأرض". وقال أيوب السختياني: "إذا ذكر الصالحون، كنت عنهم بمعزل" أنا لا أعد نفسي من هذه الزمرة، هم أعلى وأنا أدنى من ذلك، وكان عمر يقول: [اللهم اغفر لي ظلمي وكفري، فقالوا: يا أمير المؤمنين! هذا ظلم، فما بال الكفر، قال: قال الله عز وجل: ((إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)) [إبراهيم:34]] كفر النعمة، إن أسهل شيء يقع فيه الناس كفر النعمة وقال يونس بن عبيد: "إني لأجد مائة خصلة من خصال الخير ما أعلم أن في نفسي منها واحدة". وكذلك فإن محاسبة النفس بأن ينظر العبد في حق الله عليه أولاً، ثم ينظر هل قام به كما ينبغي، ينظر في حق الله، ماذا يجب عليه لله ثانياً وهذا يؤدي إلى ترك الإعجاب بالعمل، لأن من الأشياء السيئة أن يعجب الإنسان بعمله، ويشعر أنه عبد الله كما ينبغي فيقول: اليوم أنا عبادتي كاملة، والعجب بالعمل مصيبة، لذلك يقال في الآثار: لو أن عبداً عبد الله كذا وكذا سنة، ثم شعر بأنه احتقر عمله، فلحظة الاحتقار قد تكون أعلى وأكمل من كذا وكذا سنة عبادة، لأن العبادة قد تشعر الإنسان بالعجب، وإذا شعر بأنها قليل، وأنه لم يعمل شيئاً بالنسبة لحق الله، ولا بد من المزيد، يجتهد في العمل، وذكر الإمام أحمد عن بعض أهل العلم أن رجلاً قال لأحد أهل العلم: إني لأقوم في صلاتي فأبكي حتى يكاد البقل ينبت من دموعي، فقال: "إنك إن تضحك وأنت تعترف لله بخطيئتك، خير لك من أن تبكي وأنت تدل بعملك". وهذه قصة لطيفة وجميلة نختم بها كلامنا، ذكرها ابن القيم رحمه الله في إغاثة اللهفان يقول: عن جعفر بن زيد قال: خرجنا في غزاة إلى كابول، -تصور، المسلمون وصلوا إلى كابول منذ قديم الزمان- خرجنا في غزاة إلى كابول وفي الجيش صلة بن أشيم وكان أحد الصالحين، فنزل الناس عند العتمة، فصلوا، ثم اضطجع هو فقلت: لأرمقن عمله فأنظر ماذا يصنع هذه الليلة، فالتمس غفلة الناس - الناس ناموا وغفلوا- حتى إذا قلت هدأت العيون وثب، فدخل غيضة - مكان ملتف بالأشجار وخفي- قريباً منا ودخلت على إثره، فتوضأ ثم قام يصلي وجاء أسد - من أسود الغابة الموجودة- وجاء أسد حتى دنا منه، فصعدت في شجرة -المراقب خاف- قال جعفر بن زيد: فتراه التفت أو عده جرواً فلما سجد قلت: الآن يفترسه، فجلس من السجود ثم سلم، ثم قال: أيها السبع! اطلب الرزق من مكان آخر، فولى وإن له لزئير، تصدع الجبال منه، قال: فما زال ذلك يصلي حتى كان عند الصبح جلس - لما صار قريباً من الصبح - فحمد الله بمحامد ثم قال: اللهم إني أسألك أن تجيرني من النار، فمثلي لا يجترئ أن يسألك الجنة -طبعاً هذا تواضع من العبد، وذلة بين يدي الله، لكن هذا لا يعني أن الإنسان لا يسأل الله عز وجل الجنة بل الرسول صلى الله عليه وسلم علمنا أن نسأل الله الفردوس الأعلى، لكن في بعض الأحيان، قد يكون العبد فيه تواضع وذلة بين يدي الله لدرجة أنه يقول: مثل هذا الكلام تعبيراً عن تواضعه- قال: ثم رجع وأصبح كأنه بات على الحشايا، وأصبحت وبي من الفزع شيء الله به عالم. فكانوا هكذا يخفون أعمالهم، هكذا يعبدون الله، وهكذا يحتقرون الأعمال، ولأجل ذلك نصرهم الله سبحانه وتعالى وأيدهم، وجعلهم فاتحين، وقدوة للأمم والعالم.

الأسئلة

الأسئلة

حكم التعلق بالزوجة

حكم التعلق بالزوجة Q ما رأيك بالذي يتعلق بزوجته ولا يستطيع أن يصبر عنها دقيقة وربما سهر معها حتى ضاعت صلاة الفجر؟ A طبعاً هذا من التعلق المذموم الذي ذكرناه لأنه قد أدى إلى ضياع فريضة.

ظاهرة الاختلاط

ظاهرة الاختلاط Q ما رأيك فيمن قال في موضوع: أن صلة الرحم أن يجتمع العائلة بالنساء والرجال ولو اختلطوا أجلس معهم من باب صلة الرحم أحسن من ألا أجتمع معهم، فأكون قاطعاً؟ A هذه حيلة شيطانية، وإلا فإن الإنسان يمكن أن يصل الرحم لكن دون أن يقع في المحرمات، ولا يحتاج إلى الجلوس مع النساء فبإمكانه أن يتصل بالهاتف، أو يرسل رسالة، أو يبلغ سلامه، أو يهدي هدية مالية أو عينية، أو شيئاً من هذا القبيل، فإذاً هناك وسائل أخرى للصلة.

حكم إعطاء مال الصدقة لغير ما تصدق له

حكم إعطاء مال الصدقة لغير ما تصدق له Q لدي مبلغ من المال لأسرة فقيرة سافرت وقد وجدت عائلة أخرى فقيرة، فهل أعطي المبلغ للعائلة الفقيرة الثانية أم أدخر المبلغ إلى حين ترجع الأسرة الفقيرة الأولى؟ A ادخر المبلغ حتى ترجع الأسرة الأولى لأن الذي أعطوك نيتهم لهذه العائلة.

الصلاة خلف الصف

الصلاة خلف الصف Q أصلي خلف صف قد اكتمل أو أسحب؟ A تنظر حتى يأتي أناس آخرون، ولا تسحب أحداً أو تبحث عن مكان في الصف.

حكم مس المتوضئ ذكره

حكم مس المتوضئ ذكره Q ما حكم وضوء من مس ذكره؟ A من مس ذكره من غير شهوة الصحيح أن وضوءه لا ينتقض، لأن هذا هو الجمع الصحيح بين حديث أبي هريرة وبين حديث علي بن طلق (إنما هو بضعة منك) وحديث: (من مس ذكره فليتوضأ) قال شيخ الإسلام: هذا يدل على أنه يجمع بينهما أن من مس ذكره بشهوة ينتقض لحديث (من مس ذكره فليتوضأ)، ومن مس ذكره لغير شهوة مثل أن يلبس أحياناً الملابس بسرعة فيمس ذكره بيده بدون شهوة وقصد، فعند ذلك لا ينتقض وضوءه إعمالاً لحديث علي بن طلق: (إنما هو بضعة منك).

عظم الرجاء في الله

عظم الرجاء في الله Q أحس أن الله أحياناً راض عني إذا قمت بأعمال صالحة؟ A إحساس لا بأس به، لكن لا تجزم لنفسك، وإنما كن على خوف: ((قلوبهم وجلة)). نسأل الله سبحانه وتعالى أن يقينا وإياكم شر أنفسنا، وأن يجعلنا وإياكم من أهل طاعته وذكره وصلى الله على نبينا محمد.

التوسم والفراسة

التوسم والفراسة الفراسة هي الاستدلال بالأمور الظاهرة على الأمور الباطنة، وهي علامة للمؤمن، ولها قسمان، وفي هذا الدرس ترى الكثير من القضاة والعلماء الذين كانت لهم فراسة صادقة، منهم: أبو بكر الصديق عمر بن الخطاب الشافعي القاضي إياس وهناك علاقة بين الفراسة وبين تفسير الرؤى، كما أن لها علاقة بالقيافة. والعلماء والقضاة وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توصلوا في كثير من القضايا إلى الحق بالقرائن الظاهرة، وهناك أمثلة كثيرة في هذا.

الفراسة معناها وأقسامها

الفراسة معناها وأقسامها الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فحديثنا في هذه الليلة -أيها الإخوة- عن موضوعٍ فيه شيءٌ من العجب والغرابة ولكنه سمةٌ من سمات المؤمنين، وصفةٌ من صفاتهم ذكرها الله سبحانه وتعالى في كتابه واصفاً بها المؤمنين فقال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر:75]. والتوسم والفراسة من صفات المؤمن، فأما الفراسة: فإنها النظر والتثبت والتأمل في الشيء والبصر به، يقال: تفرست فيه الخير، أي: تعرفته بالظن الصائب، وتفرس في الشيء: أي: توسمه، فالفراسةُ -أيها الإخوة- ناشئة عن جودة القريحة وحدَّة النظر وصفاء الفكر، والفراسة: هي الظن الصائب الناشئ عن تثبيت النظر في الظاهر لإدراك الباطن، والفراسةُ: هي الاستدلال بالأمور الظاهرة على الأمور الخفية، وهي أيضاً ما يقع في القلب بغير نظرٍ وحجة، وقد قسمها ابن الأثير رحمه الله إلى قسمين: الأول: ما دل ظاهر هذا الحديث عليه: (اتقوا فراسة المؤمن) وفي إسناده ضعف ولكن معناه صحيح، إن للمؤمن فراسة، وهو ما يوقعه الله تعالى في قلوب أوليائه فيعلمون أحوال بعض الناس بنوعٍ من الكرامات وإصابة الظن والحدس. الثاني: نوعٌ يتعلم بالدلائل والتجارب والخلق والأخلاق فتعرف به أحوال الناس، وفراسة المؤمن معتبرةٌ شرعاً في الجملة لقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر:75]. الفراسة: نظر القلب بنورٍ يقع فيه، ويتفرس يعني: يتثبت وينظر، وفي قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر:75] فيه أن التوسم وهو تفعل من الوسم وهي العلامة التي يستدل بها على مطلوبٍ غيرها، كما قال الشاعر يمدح النبي صلى الله عليه وسلم: إني توسمت فيك الخير نافلةً والله يعلم أني صادق البصرِ الفراسة التي هي الاستدلال بالخلق على الخلق، لقد جاءنا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قوله: [أحسن الناس فراسةً ثلاثة: العزيز حين قال لامرأته: أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا، وابنة شعيبٍ حين قالت في موسى: يا أبتي! استأجره، وأبو بكر الصديق حين ولى عمر] وهذا يحتاج إلى إثبات نسبته إلى هذا الصحابي الجليل فإن مسألة فراسة عزيز مصر في يوسف صحيحة من جهة أنه لم يكن معه علامةٌ ظاهرة، وأما بنت شعيب والراجح أنها بنت رجل صالح ليس بنبي الله شعيب، وإنما هو رجلٌ صالح غير نبي الله شعيب؛ لأن موسى لم يكن معاصراً لشعيب، هذه المرأة كان معها علامة بينة، فأما القوة فعلامتها سقي موسى لغنمها وسط هؤلاء الرعاة، وأما الأمانة فبقوله لها: وكان يوماً رياحاً: امشي خلفي لئلا تصفك الريح بضم ثوبك إليك وأنا لا أنظرُ في أدبار النساء. فلما رأى الريح تكشف ثوبها وهي ماشية أمامه لتدله على بيت أبيها قال: امشي خلفي وانعتي لي الطريق، أما أبو بكر رضي الله عنه، فقد عرف ولاية عمر بالتجربة في الأعمال والمواظبة على الصحبة وطولها.

أصحاب الفراسة من السلف

أصحاب الفراسة من السلف

فراسة أبي بكر الصديق

فراسة أبي بكر الصديق وقد كان سلفنا رحمهم الله فيهم من هذه الخصلة شيءٌ كثير، فمن فراسة الصديق حديث عائشة رضي الله عنها قالت: [نحلني أبو بكر رضي الله عنه الجذاذ عشرين وسقاً من ماله بـ العالية] له نخل شجر منحها جذاذ عشرين وسقاً، الجذاذ: الحصاد أو القطف الذي يحصل للثمر، ولم تقبضه عائشة وحضرت أبا بكر المنية وهبها إذا خرج الثمر يعطيها جذاذ عشرين وسقاً، فلما حضرته المنية حمد الله تعالى وأثنى عليه، ثم قال: [با بنية! إن أحب الناس إلي غنىً أنتِ وأعزهم عليّ فقراً أنتِ وإني كنتُ نحلتك جذاذاً عشرين وسقاً من مالي بـ العالية -منطقة معروفة في المدينة وفيها نخلٌ جيد- وإنك لم تكوني قبضتيه ولا حوزتيه -ومتى تلزم الهبة؟ بالقبض: بما أنها ما قبضته فلا زال في ملك أبيها، وإنما هو مال الورثة- إذا مت الآن لن يكون من نصيبك ما قبضته بعد، فسيكون من مال الورثة، وإنما هما أخواك وأختاكِ؛ -الورثة- قالت: فقلت: فإنما هي أم عبد الله -تعني: أسماء؛ يعني: أخواي عرفتهما، وأختاي مالي إلا أخت واحدة أسماء فمن الأخت الأخرى؟ - قال: إنه ألقي في نفسي أن في بطن بنت خارجة جاريةً] وبنت خارجة: هي زوجة أبي بكر الصديق، وهكذا حصل وصار لـ عائشة أختٌ أخرى وورثت معها.

عمر صاحب فراسة

عمر صاحب فراسة أما عمر رضي الله تعالى عنه: فإنه رجلٌ أجرى الله الحق على لسانه وقلبه، وهو رجل ملهم محدث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (في أمتي ناسٌ محدثون، منهم عمر) محدث ينطق بالحق، وما يظنه عمر يكون حقاً في الغالب وصحيحاً، هذه فراسة إيمانية يلقيها الله في قلب من يشاء من عباده، ودخل عليه قومٌ من مذحج فيهم الأشتر فصعّد عمر فيه النظر وصوبه، وقال: أيهم هذا؟ قالوا: مالك بن الحارث، قال: ماله قاتله الله؟ إني لأرى للمسلمين منه يوماً عصيبة، وبعد عمر حصل من الأشتر فتنة عظيمة على المسلمين فعلاً، عرف عمر ذلك من وجه الأشتر. ودخل المدينة وفدٌ من اليمن وكان عمر مع الصحابة في المسجد، فأشاروا إلى رجلٍ من الوفد، وقالوا لـ عمر: هل تعرف هذا؟ قال: لعله سواد بن قارب، فكان كذلك، يسمع به ولم يره، لكن لما رأى وجهه بالفراسة عرف أن هذا هو فعلاً فكان كذلك. وكان عمر رضي الله عنه يطوف في البيت، فسمع امرأةً تنشد في الطواف قائلة: فمنهن من تُسقى بعذبٍ مبردٍ نقاخٍ فتلكم عند ذلك قرت ومنهن من تسقى بأخضرَ آجن أجاجٍ ولولا خشية الله رنت من النساء من تشرب عذباً زلالاً، ومن النساء من تشرب أخضر أجاجاً معفناً، ريحه سيئة، فتفرس عمر رضي الله عنه ما تشكوه، ما هو مدلول كلامها؟ فبعث إلى زوجها فاستنكهه -أي: شم رائحة فيه- فإذا هو أبخر الفم، وبخر الفم مرض: عبارة عن رائحة في الفم كريهة مستمرة تكون في أفواه بعض الناس، لا يكاد يوجد لها علاج؛ لأنها شيء ذاتي جعلها العلماء من العيوب في الرجل التي تبيح للمرأة طلب الطلاق إذا لم تتحملها، كما يباح للمرأة مثلاً طلب الطلاق إذا كان الرجل عقيماً لا ينجب، هناك عيوب يجوز للمرأة بها طلب الطلاق، هذه جاءت تشكو إلى عمر، وتقول: فمنهن من تسقى بعذبٍ مبردٍ نقاخ فتلكم عند ذلك قرت ومنهنّ من تسقى بأخضر آجنٍ أجاجٍ ولولا خشية الله رنت فلما أتى به عمر واستنكهه عرف القضية أنه أبخر الفم، فأعطاه خمسمائة درهم وجارية على أن يطلقها ففعل.

فراسة عثمان بن عفان

فراسة عثمان بن عفان وأما عثمان رضي الله عنه، فله من ذلك أيضاً نصيبٌ جيد، فإنه حصل أن رجلاً مر بالسوق فنظر إلى امرأةٍ لا تحل له، فلما دخل على عثمان نظر إليه عثمان رضي الله عنه، قال: [يدخل رجل علينا، وفي عينه أثر الزنا -وزنا العينين النظر- فقال له الرجل: أوحيٌ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا. ولكن برهانٌ وفراسة] ومثل هذا كثيرٌ عن علي رضي الله عنه.

القاضي إياس ممن اشتهروا بالفراسة

القاضي إياس ممن اشتهروا بالفراسة وممن اشتهر بالفراسة في التاريخ الإسلامي إياس القاضي رحمه الله، إياس القاضي لما تولى القضاء في البصرة فرح به العلماء، حتى قال أيوب: لقد رموها بحجرها. أصابوا الرجل المناسب في المكان المناسب، رموها بحجرها وجاء الحسن وابن سيرين فسلمَّا عليه فبكى إياس وذكر الحديث: (القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وواحد في الجنة) فقال الحسن: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} [الأنبياء:78] إلى قوله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} [الأنبياء:79] ثم جلس للناس في المسجد واجتمع عليه الناس للخصومات، فما قام حتى فصل سبعين قضيةً حتى كان يشبه بـ شريح القاضي، وكان إذا أشكل عليه شيءٌ بعث إلى محمد بن سيرين فسأله عنه. هذا إياس القاضي رحمه الله له قصص عجيبة في الفراسة ذكرها العلماء رحمهم الله تعالى، ومن هذه القصص التي ذكروها أن إياساً القاضي جاءه رجلٌ استودع أمانةً من مالٍ عند آخر ثم رجع فطلبه فجحده، فأتى صاحب الحق إياساً فأخبره فقال له إياس: انصرف واكتم أمرك ولا تعلمه أنك أتيتني ثم عد إليّ بعد يومين، فدعا إياس المودع المؤتمن الذي جحد، فقال: قد حضر مالٌ كثيرٌ وأريدُ أن أسلمه إليك أفحصينٌ منزلك؟ قال: نعم. قال: فأعد له موضعاً وحمالين، وعاد الرجل إلى إياس، فقال: انطلق إلى صاحبك فاطلب المال، فإن أعطاك فذاك، وإن جحدك فقل له: إني سأخبر القاضي. فأتى الرجل صاحبه، فقال: مالي وإلا أتيتُ القاضي وشكوت إليه وأخبرته بأمري فدفع إليه ماله؛ لأنه الآن لا يريد أن تتشوه سمعته عند القاضي، والقاضي وعده أن يضع عنده مالاً كثيراً وأن يجعله مقرباً منه، فدفع إليه ماله، فرجع الرجل إلى إياس فقال: أعطاني المال، وجاء الرجل الموعود إلى إياس في الموعد فزجره وانتهره وقال: لا تقربني يا خائن. وتقدم إلى إياس بن معاوية أربع نسوة فقال إياس: أما إحداهنّ فحامل، والثانية مرضع، والثالثة ثيب، والأخيرة بكرٌ. فنظروا فوجدوا الأمر كما قال: قالوا: كيف عرفت؟ قال: أما الحامل فكانت تكلمني وثوبها مرفوعٌ عن بطنها فعرفتُ أنها حامل، وأما المرضع فكانت تضرب ثديها، فعرفتُ أنها مرضع، وأما الثيب فكانت تكلمني وعينها في عيني، فعرفتُ أنها ثيب، وأما البكرُ فكانت تكلمني وعينها في الأرض فعرفتُ أنها بكرٌ. وكذلك من القصص التي حدثت له: أن شخصاً تحاكم إليه هو ورجلٌ آخر يدعي مالاً قد جحده الآخر، فقال إياس للمودع: أين أودعته؟ قال: عند شجرة في بستان -سلمته المال عند شجرة في بستان- فقال: انطلق إليها فقف عندها لعلك تتذكر، وفي رواية: هل تستطيع أن تذهب إليها فتأتي بورقٍ منها؟ قال: نعم. قال: فانطلقَ وجلسَ الآخر الجاحد عند إياس، فجعل إياس يحكم بين الناس ويلاحظه ثم استدعاه فجأةً وقال له: أوصل صاحبك بعد إلى المكان؟ فقال: لا بعد أصلحك الله، فقال: قم -يا عدو الله- فأدِّ إليه حقه، وإلا جعلتك نكالاً، فقام فدفع إليه وديعته. وتحاكم إليه اثنان في جاريةٍ فادعى المشتري أنها ضعيفة العقل، فقال لها إياس: أي رجليك أطول؟ فقالت: هذه، فقال لها: أتذكرين ليلة ما ولدتِ؟ قالت: نعم. فقال للبائع: ردها ردها وكذلك قال الثوري عن الأعمش: دعوني إلى إياس فإذا رجلٌ كلما فرغ من حديثٍ أخذ في آخر، وكان ذلك من حاله رحمه الله تعالى.

الشافعي وفراسته

الشافعي وفراسته وأما الشافعي رحمه الله فكان صاحب فراسةٍ أيضاً: ودخل اليمن خصيصاً لطلب كتب الفراسة وشرائها، وحصل له موقفٌ قال: مررتُ في طريق بفناء دار رجلٍ أزرق العينين، ناتئ الجبهة، سناط، فقلت: هل من منزل أبيت عندك؟ قال: نعم. قال الشافعي: وهذا النعتُ أخبث ما يكون في الفراسة، تفرست في أن هذا الرجل لئيم، لكنه رضي أن يؤويني فأنزلني وأكرمني، فقلت: أغسل كتب الفراسة إذا رأيت هذا -الآن أصبحت كتب الفراسة فاشلة- فلما أصبحتُ انتهت الضيافة قلت له: إذا قدمت مكة فاسأل عن الشافعي؟ -يعني: من باب المكافأة بالمثل إذا جئت إلى مكة اسأل عن الشافعي حتى إذا جاء يرد له كرم الضيافة- فقال: أمولىً لأبيكَ كنتُ -أنا عبد عند أبيك؟ - قلت: لا. قال: أين ما تكلفتُ لك البارحة؟ فوزنتُ له ما تكلف، وقلتُ: بقي شيءٌ آخر؟ قال: كراء الدار، ضيقتَ على نفسي قال الشافعي: فوزنتُ له، فقال: امضِ أخزاك الله فما رأيت شراً منك، هذا كلام صاحب البيت. ومما يذكره العلماء في الفراسة أهمية فراسة العالم مع طلابه، كما ذكر الماوردي رحمه الله في كتاب أدب الدنيا والدين قال: وحكي أن تلميذاً سأل عالماً عن بعض العلوم فلم يفده، فقيل له: لِمَ منعته؟ فقال: لكل تربةٍ غرس، ولكل بناءٍ أس، وقال بعض البلغاء: لكل ثوبٍ لابس، ولكل علمٍ قابس. وينبغي أن يكون للعالم فراسةٌ يتوسم بها المتعلم ليعرف مبلغ طاقته، حتى يعرف كم يعطيه من العلم وقدر استحقاقه ليعطيه ما يتحمله بذكائه أو يضعف عنه ببلادته، فإنه أروح للعالم وأنجح للمتعلم. وقد روي إن لله عباداً يعرفون الناس بالتوسم، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [إذا أنا لم أعلم ما لم أرَ، فلا علمتُ ما رأيت].

مسألة الحكم بالقرائن

مسألة الحكم بالقرائن أما مسألة القضاء بالفراسة هل يجوز أن يقضي القاضي بفراسة؟ إن فقهاء المذاهب بالجملة لا يرون الحكم بالفراسة، فإن مدارك الأحكام معلومةٌ شرعاً مدركةٌ قطعاً، وليست الفراسة منها؛ لأنها حكم بالظن والحزر والتخمين، وهي تخطئ وتصيب. هناك مسألةً مهمة نبه عليها ابن القيم رحمه الله في كتابه الطرق الحكمية وفي كلام نفيس ذكر مسألة الحكم بالقرائن، وما يظهر وما يلوح وما يفهمه القاضي وما يستشفه من الأمر، قال: أما بعد: وسئلت عن الحاكم أو الوالي يحكم بالفراسة والقرائن التي يظهر له فيها الحق، والاستدلال بالأمارات ولا يقف مجرد ظواهر البينات والإقرار حتى إنه ربما يتهدد أحد الخصمين، وربما سأله عن أشياء تدله على صورة الحال، فهذه مسألة كبيرة عظيمة النفع إلخ. ثم قال: وإذا تأملت الشرع وجدته يعول على ذلك -أي على القرائن والحكم بها- ومن هذا مستند ذلك قوله تعالى: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف:26 - 27]. ونقل عن ابن عقيل رحمه الله قوله في مسألة اعتماد القرائن قال: وفي العطار والدباغ إذا اختصما في الجلد أنه لمن؟ للدباغ، العطار ما دخله في الجلد، والنجار والخياط إذا تنازعا في المنشار، للنجار، والطباخ والخباز إذا تنازعا في القدر، للطباخ ونحو ذلك، فهل ذلك إلا الاعتماد على الأمارات، وكذلك الحكم بالقافة، القافة: الذين يعرفون الأثر وإذا رأوا أثر شخص على الأرض يعرفون من أي قبيلة، كم عمره، ذكر أو أنثى، وإذا كانت أنثى حاملاً أو ليست بحامل، وربما يعلم من أثر المرأة الحامل في أي شهرٍ هي. هذه فراسة يرزقها الله من يشاء من الناس، فمن بني مدلج أناس مشهورون بالقيافة كما أن في بني مرة الآن أناس مشهورون بالفراسة، أو بالقيافة، فالقيافة نوع من الفراسة، وكذلك يمكن أيضاً من رؤية الأرجل أن يعرف هذا ولد فلان أو لا.

القيافة يؤخذ بها في معرفة الأنساب

القيافة يؤخذ بها في معرفة الأنساب وقد حدثت قصةٌ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهي قصة مجزز المدلجي رضي الله تعالى عنه، فإنه دخل على النبي عليه الصلاة والسلام وأسامة بن زيد وأبوه زيد بن حارثة نائمين عند النبي عليه الصلاة والسلام قد تغطيا، وأقدام أسامة ظاهرة من تحت الغطاء وأقدام أبيه زيد ظاهرة، كان أسامة بن زيد أسود كالفحم، وكان زيد بن حارثة أبيض كالقطن، فطعن المنافقون في نسب أسامة بن زيد، يعلمون أن النبي عليه الصلاة والسلام يحب أسامة بن زيد وأباه وأن كلاً منهما حب النبي عليه الصلاة والسلام، فمن باب إيذاء النبي عليه الصلاة والسلام كانوا يطعنون في نسب أسامة من أبيه زيد، فدخل مجزز على النبي عليه الصلاة والسلام وأسامة وأبوه نائمين، فنظر إلى الأقدام من غير ما أحد يسأله ولا يستشيره ولا يطلب شهادته، فنظر فقط للأقدام فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض، لا يعرف الآن من النائم ولا من الأشخاص والألوان مختلفة، قال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض، فسر النبي صلى الله عليه وسلم جداً؛ لأن الشهادة جاءت من شخص غير متواطئ ولا مستشار، شهد من نفسه فكانت شهادته كاتمةً ومخرسةً لألسن المنافقين. وكذلك وحشي قاتل حمزة لما أسلم وجاءه رجلان واحد منهم معتجر بعمامته متلثم، ولما رآه وحشي سأله الشخص تعرفني؟ فقال: لا. إلا أن تكون أنت ابن فلانة فقد حملتُكَ وأنتَ رضيع -كم القصة؟ يمكن فيها أربعين سنة- فعرفه، ومع أنه ما رآه إلا وهو رضيع من قبل، وهذه فراسةٌ عظيمة، قيافة عظيمة، فإذاً: للفراسة أشياء يستدل بها كالخلق في التقسيمات في الوجه والأعضاء واللون والهيئة يستدل بها على أمور: على نسب شخص، وهذه مسألة لها دخل في قضية القضاء إذا ادعى عدة آباء ولداً، كل واحد يقول: هذا ولدي، وليس هناك بينة فيعمل بكلام القافة، فيؤتى بالقائف الخبير الذي جرب من قبل، يجرب يقال له: هذا ولد لم نعرف من أبوه، يقول: ولد فلان ويكون كلامه صحيحاً والثاني والثالث، نختبر القائف فإذا عرفنا خبرته وصدقه فهنا يأخذ كلامه في مثل هذه الحالة، عندما لا يدرى أن هذا ولد من، فيختصم عليه مجموعة أو اثنان أو أكثر فإنه يعمل بقوله.

يؤخذ بالقرائن في أحكام الحوادث الكلية

يؤخذ بالقرائن في أحكام الحوادث الكلية وكذلك يؤخذ بالقرائن في فقه أحكام الحوادث الكلية وفقه نفس الواقع وأحوال الناس ويميز بها بين الصادق والكاذب، والمحق والمبطل، وهذا من عدل هذه الشريعة ومجيئها بما يسعد الخلائق وأنه لا عدل فوق عدلها. وكذلك فإن النبي سليمان عليه السلام قد استدل بالمحق من المبطل لما جاءت المرأتان كل واحدة تدعي الولد، فحكم به داود عليه السلام للكبرى، فلقيهما سليمان عندما خرجتا من عنده فسألهما عن القضية فأخبرتاه أنهما اختصمتا في الولد، أختان كل واحد معها ولدها، فخرجت إلى البرية، فجاء الذئب فعدا ببنت إحداهما فأخذه، فاختصمتا في الولد، كل واحدة تقول: هذا ولدي، جاءتا إلى داود فحكم به للكبرى؛ لأن الولد كان مع الكبرى، فلما خرجتا من عنده سألهما سليمان، ثم قال سليمان: ائتوني بالسكين أشقه بينكما، نصف لها ونصف لك، فقالت الصغرى: هو ولدها يرحمك الله، فقضى به للصغرى، وعرف أن الرحمة ما جاءت إلا من الأم الحقيقية، فأي شيء أحسن من اعتبار هذه القرينة الظاهرة؟! فاستدل برحمة الصغرى ورضا الكبرى على ذلك وأن الصغرى رفضت ذبح صغيرها بسبب ما قام بقلبها من الرحمة والشفقة التي وضعها الله في قلب الأم، وقويت هذه القرينة عنده حتى قدمها على إقرارها، وحكم به لها مع قولها هو ابنها.

يؤخذ بالقرائن في مسألة إقرار المريض بمرض الموت

يؤخذ بالقرائن في مسألة إقرار المريض بمرض الموت وكذلك يعمل بالقرائن في مسألة إقرار المريض بمرض الموت بمالٍ لوارثه، فإذا قال شخص وهو على مرض الموت: أنا أخذت من ولدي هذا فلان مائة ألف لانعقاد سبب التهمة، واعتماداً على قرينة الحال في قصده تخصيصهم، وكذلك في الشهادة التي ذكرها الله في كتابه: {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ} [يوسف:25] الآيات. فقال: فتوصل بقد القميص إلى معرفة الصادق منهما من الكاذب. وكذلك فإن القرينة الظاهرة التي جعلت الصحابة يحكمون بوجوب الحد برائحة الخمر من في الرجل أو قيئه خمراً، يعد اعتماداً على القرينة الظاهرة، ولم يزل الأئمة والخلفاء يحكمون بالقطع إذا وجد المال المسروق مع المتهم، وهذه القرينة أقوى من البينة والإقرار. قال في الأمارات والعلامات: وكذلك إذا رأينا رجلاً مكشوف الرأس وليس ذلك عادته -عادته يلبس عمامة- وآخر هارباً أمامه بيده عمامة وعلى رأسه عمامة، حكمنا بالعمامة للمكشوف، حكمنا له بالعمامة التي بيد الهارب قطعاً ولا نحكم بها لصاحب اليد ولا نقول: وجدت بيده فهي له، من القرينة القوية التي قامت.

النبي صلى الله عليه وسلم يحكم بالقرينة

النبي صلى الله عليه وسلم يحكم بالقرينة ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الزبير أن يقرر عم حيي بن أخطب بالعذاب على إخراج المال الذي غيبه وادعى نفاده فقال له: العهد قريب والمال أكبر من ذلك، فهاتان قرينتان في غاية القوة، كثرة المال وقصر المدة، والقصة بأكملها رواها ابن عمر رضي الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل أهل خيبر، حتى ألجأهم إلى قصرهم والحصن فغلب على الزرع والأرض والنخل فاستولى عليها بالقوة، فصالحوه على أن يجلوا من حصونهم ولهم ما حملت ركابهم ولرسول الله صلى الله عليه وسلم الصخراء والبيضاء -الذهب والفضة- واشترط عليهم النبي عليه الصلاة والسلام ألا يكتموا ولا يغيبوا شيئاً فإن فعلوا فلا ذمة لهم ولا عهد ولا أمان، يقتلوا إذا كانوا كاذبين وغشوا. فغيبوا اليهود، أخفوا مسكناً فيه مالٌ وحليٌ لـ حيي بن أخطب، كان قد احتمله معه إلى خيبر، حين أجليت النظير. لجأ حيي بن أخطب من نظير إلى خيبر، ومعه هذا المال والذهب، فلما أجلي يهود خيبر أخفوا هذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعم حيي بن أخطب -وكان حيي قد قتل-: ما فعل مسك حيي الذي جاء به من النظير؟ قال: أذهبته النفقات والحروب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (العهد قريب والمال أكثر) ما مضى مدة طويلة على المال العهد قريب والمال كثير، لا يمكن أن يكون قد ذهب بالنفقات فدفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الزبير، سلم اليهودي إلى الزبير فمسه بعذاب، لما قامت القرينة قال له: اضربه ليعترف، وكان قبل ذلك دخل خربةً فقال -هذا العم لما ضرب- قال: رأيت حيي ابن أخي يطوف في خربةٍ هاهنا، فذهبوا فوجدوا المسك في الخربة، فقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ابني أبي الحقيق بالنكث الذي نكثوا. ففي هذه السنة الصحيحة الاعتماد على شواهد الحال والأمارات الظاهرة، وعقوبة أهل التهم، وجواز الصلح على الشرط وانتقاض العهد الذي خالفوا وإخزاء الله لأعدائه بأيديهم وسعيهم، فهو سبحانه قادرٌ على أن يطلع رسوله على الكنز بالوحي، لكن جعلها تمضي لكي يعرف القضاة من بعد النبي عليه الصلاة والسلام مسألة الأخذ بالقرائن. وكذلك قال: ومن ذلك أن ابني عفراء لما تداعيا قتل أبي جهل: كل واحد يقول: أنا قتلته، فقال صلى الله عليه وسلم: (هل مسحتما سيفيكما؟ قالا: لا. قال: فأرياني سيفيكما، فلما نظر فيهما قال لأحدهما: هذا قتله، وقضى له بسلبه) فمن خلال السيوف عرف -بالقرائن- من هو الذي قتله فعلاً، وقضى له بسلبه، وهذا من أحسن الأحكام وأحقها بالاتباع فالدم في النصل شاهدٌ عجيب. وقد روى ابن ماجة وغيره عن جابر بن عبد الله قال: (أردت السفر إلى خيبر فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له: إني أريد الخروج إلى خيبر، قال: إذا أتيت وكيلي فخذ منه خمسة عشر وسقاً) الآن جابر كان عليه ديون ويريد النبي عليه الصلاة والسلام أن يعطيه خمسة عشر وسقاً من تمر خيبر، من قبل وكيل النبي عليه الصلاة والسلام، كيف يعرف الوكيل أن جابراً فعلاً عنده وكالة بأن يأخذ خمسة عشر وسقاً؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ جابر (فإذا طلب منكَ آيةً فضع يدك على ترقوته) قال: وكيلي إذا طلب منك دليلاً فضع يدك على ترقوته، كان يوجد اتفاق سابق بين النبي عليه الصلاة والسلام ووكيله قبل أن يذهب على هذه العلامة وهي: إذا جاءك شخص يدعي شيئاً مني ووضع يده على ترقوتك اعرف أنه محق. فهذا اعتمادٌ في الدفع إلى الطالب على مجرد العلامة، وإقامة لها مقام الشاهد، فالشارع لم يلغِ القرائن والأمارات ودلائل الأحوال. قال ابن القيم: ولم يزل حذاق الحكام والولاة يستخرجون الحقوق بالفراسة والأمارات، فإذا ظهرت لهم لم يقدموا عليها شهادةً تخالفها، وكذلك فإن الأمارات والفراسة ربما تدفعهم إلى الارتياب في حال المدعي، فيسألونه عن تفاصيل زائدة، وعن صحة ما يقول: وأين كان ونظر الحال، ونحو ذلك من الأشياء والأوصاف التي تقود في النهاية إلى معرفة الحقيقة.

القاضي إياس والقضاء بالقرائن والشواهد

القاضي إياس والقضاء بالقرائن والشواهد ومما حدث في التاريخ أيضاً من قصص إياس رحمه الله في هذا الجانب، مسألة العمل بالقرائن، قال: أودع رجلٌ بعض شهوده كيساً مختوماً وذكر أن فيه ألف دينار -وضع كيساً فيه ألف دينار عند شخص بحضور شهود- فلما طالت غيبة الرجل المودع ماذا فعل المودع عنده؟ فتق الكيس من أسفله، وأخذ الدنانير وجعل مكانها دراهم -الدنانير ذهب والدراهم فضة قيمتها أقل- وأعاد الخياطة كما كانت، وجاء صاحبها بعد سنوات فطلب وديعته، فدفع إليه الكيس بختمه لم يتغير مختوم من فوق ما تغير الختم ولا انكسر فلما فتحه وشاهد الحالة رجع إليه قال: إني أودعتك دنانير والذي دفعتَ إلي دراهم، فقال: هو كيسك بخاتمك، فاستعدى عليه القاضي فأمر بإحضار المودع، فلما صار بين يديه قال له القاضي: منذُ كم أودعك هذا الكيس؟ -انظر الآن فراسة وحنكة القاضي، قضاة المسلمين كانوا على درجة عالية من الذكاء والخبرة والفراسة والعمل والأمارات والنباهة، ما كانوا مغفلين ولا نائمين ولا جهلة، هذه مسألة دماء وأموال: ما يحكم فيها إلا صاحب خبرة وعلم، القاضي هذا كان إمام البلد له وزنه- قال: منذُ خمس عشرة سنة، فأخذ القاضي تلك الدراهم وقرأ سكتها، مسكوكة في عام كم؟ فإذا فيها ما قد ضرب من سنتين أو ثلاث، فأمره بدفع الدنانير إليه وأسقطه ونادى عليه، أي: شهر فيه وسفهه وعاقبه وحكم عليه بأن يرد الدنانير.

الشيخ صالح بن عثمان وشدة فراسته

الشيخ صالح بن عثمان وشدة فراسته ومن هذا القبيل ما حدث في زماننا هذا الشيخ صالح بن عثمان القاضي، قاضي عنيزة، شيخ الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله، كان قاضياً يقضي في الطريق ويقضي عند بيته ويقبل به الناس، وكان صاحب حلم وورع وتقوى ودقة وخبرة وفراسة، وقد جاءه مرةً رجل يعرفه أنه من أهل الصلاح يعمل جزاراً، وآخر بدوي -شخص آخر بدوي- يقول المدعي هذا: جاءني هذا البدوي وباع علي غنمه، فأعطيته الدراهم حول المغرب، ثم جاءني ثاني يوم في النهار يقول: أعطني ثمن الغنم، فقلت: أعطيتك إياها بالأمس، فقال: ما أعطيتني شيئاً، فذهب إلى الشيخ، وكان القاضي يحمس قهوته. -ماء يفور على النار ويغليه لأجل القهوة- فقال: يا أيها البدوي! في جيبك دراهم، قال: نعم. قال: أعطني إياها، فسكب الشيخ القاضي الماء في الإناء ثم طرح الدراهم التي مع البدوي في الإناء فطفا الدهن على سطحها، فقال: يا كذاب! هذه دراهم جزار، إذاً: هو أعطاك ثمنها، فالشاهد الآن أن هذه القرائن التي يعرف بها أهل الفراسة من القضاة وأهل العلم والخبرة يعرفون بها الأحوال فيضعون الحق في نصابه.

القاضي أبو حازم وتأخير الحكم بسبب قرينة

القاضي أبو حازم وتأخير الحكم بسبب قرينة وكذلك يقول مكرم بن أحمد: كنتُ في مجلس القاضي أبي حازم -وأبو حازم كان قاضياً مشهوراً- فتقدم رجلٌ شيخٌ ومعه غلامٌ حدث -جاء شخص كبير في السن ومعه غلام صغير، معه شاب حدث- فادعى الشيخ على الغلام هذا ألف دينار ديناً، قال: هذا استلف مني ألف دينار، فقال القاضي للشاب الحدث: ما تقول؟ قال: نعم. فعلاً أخذت منه ألف دينار، فقال القاضي للشيخ: ماذا تريد؟ قال: أريد أن تحبسه حتى يعيد إلي المال، فتفرس أبو حازم فيهما ساعة، نظر في هذا وفي هذا، ثم قال: اجلس حتى أنظر في أمركما في مجلسٍ آخر. فيقول مكرم: قلت للقاضي: لم أخرت حبسه؟ قال: ويحك، إني أعرف في أكثر الأحوال في وجود الخصوم وجه المحق من المبطل، حتى صارت لي بذلك دراية، وقد وقع إليّ أنا الآن مرتاب، بسبب سماحة هذا بالإقرار، يعني: هذا الحدث بسرعة يقر بالألف! ولعله ينكشف لي من أمرهما ما أكون معه على بصيرة، أما رأيت قلة تقصيهما في الناكرة وقلة اختلافهما وسكون طباعهما مع عظم المال -مع أن المال كثير ما جادل ولا ناقش ولا أحد دافع التهمة- وما جرت عادة الأحداث بفرق التورع -هؤلاء الصغار لا يعترف بسهولة! هذا مسألة فيها شيء- وما جرت عادة الأحداث بفرق التورع حتى يقر مثل هذا طوعاً عجلاً منشرح الصدر يقر على المال، قال: فنحن كذلك نتحدث إذ أتى الآذن يستأذن على القاضي لبعض التجار، فأذن له، فلما دخل التاجر قال: أصلح الله القاضي إني بليتُ بولدٍ حدث يتلف مالي، ويظفر به في القيان عند فلان -في الأغاني واللهو- فإذا منعته -إذا لم أعطه نقوداً يلعب بها ويلهو بها، ويسافر بها أو يشتري سيارات يفحط بها- فإذا منعته احتال بحيلٍ تضطرني إلى التزام الغرم عنه، وقد نصب اليوم صاحب القيان يطالب بألف دينارٍ حالاً وبلغني أنه تقدم إلى القاضي يقر له فيحبسه، فما هي الخطة الآن؟ A يقول هذا الرجل: الآن الولد متفق مع صاحب الملاهي بأن يذهب عند القاضي والولد يعترف أن لصاحب الملاهي ألف دينار، فماذا يفعل القاضي؟ يحبس الولد، ثم إذا انحبس الولد قامت أمه نكدت عيشتي حتى أقضي الدين عن الولد وأدفع الألف دينار إلى المعترَف له، ويتقاسمانه بعد ذلك. فلما سمعتُ بذلك بادرت إلى القاضي فتبسم القاضي وقال: كيف رأيته؟ فقلت: هذا من فضل الله على القاضي، فقال: علي بالغلام والشيخ، فأرهب الشيخ ووعظ الغلام فأقرا، فأخذ الرجل ابنه وانصرف، فالمسألة مسألة دراسة عند القاضي؛ ولذلك يعرف بها المحق من المبطل. وكذلك قال: وقع من الفراسة أن ابن عمر رضي الله عنه لما ودع الحسين قال: [أستودعك الله من قتيل] ومعه كتب أهل العراق فكانت فراسة ابن عمر أصدق من كتبهم، وفعلاً قتل الحسين، ومن ذلك أيضاً أن عثمان بن عفان رضي الله عنه لما تفرس أنه مقتول ولا بد، أمسك عن القتال وعن الدفاع عن نفسه لئلا يجري بين المسلمين قتال وآخر الأمر يقتل هو. هذه طائفة من الأخبار التي ذكرها ابن القيم رحمه الله في الطرق الحكمية في هذا الموضوع.

القضاة كانوا أصحاب فراسة

القضاة كانوا أصحاب فراسة قد سبق الكلام على مسألة الفراسة وأن فراسة المؤمن من علاماته، وأن الله تعالى ذكر ذلك في قوله عز وجل: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر:75] وأنها إلهامٌ يقذفه الله تعالى في قلوب من يشاء من عباده المؤمنين، وكذلك فقد اتصف بهذه الصفة عددٌ من أولياء الله عز وجل، وعلى رأسهم كبار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك كان القضاة المسلمون قد اتسموا بهذه الميزة وهذه الصفة، وكذلك فقد حفل التاريخ الإسلامي بأحوالٍ متعددة من القضاة الذين كانوا ينظرون بنور الإيمان والفراسة، ويعلمون المحق من المبطل. وقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله عز وجل نماذج من فراسة العلماء والقضاة ممن كانوا من قبلنا، ومن هؤلاء إياس رحمه الله تعالى وكان من كبار القضاة، وتقدم الكلام عن فراسة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وكذلك فراسة كعب بن سور رضي الله تعالى عنه، فإنه قد حدث في عهده من القصص التي تبين أن هذه الصفة من صفات المؤمنين. وقد ساق رحمه الله تعالى في كتابه: الطرق الحكمية نماذج لما كان عليه أهل العلم في هذه المسألة، وتكملةً لما سبق الكلام عنه في هذا أنه قد ادعى عند إياس رحمه الله رجلان في قطيفتين إحداهما حمراء والأخرى خضراء، فقال أحدهما: دخلت الحوض لأغتسل ووضعت قطيفتي ثم جاء هذا فوضع قطيفته تحت قطيفتي ثم دخل فاغتسل فخرج قبلي وأخذ قطيفتي فمضى بها، ثم خرجت فتبعته، فزعم أنها قطيفته، فقال: ألك بينة؟ قال: لا. قال: ائتوني بمشطٍ فأوتي بمشطٍ فسرح رأس هذا ورأس هذا، فخرج من رأس أحدهما صوفٌ أحمر، ومن رأس الآخر صوفٌ أخضر، فقضى بالحمراء للذي خرج من رأسه الصوف الأحمر وبالخضراء للذي خرج من رأسه الصوف الأخضر. وكذلك فإن مما حدث أيضاً، مما ينسب إليه رحمه الله تعالى أنه كان مرةً ينظر فجاء رجل فجلس على دكانٍ مرتفع للمربد، فجعل يترصد الطريق فبينما هو كذلك إذ نزل فاستقبل رجلاً فنظر في وجهه -أي: هذا الجالس على الدكة والمكان المرتفع- نظر فاستقبل رجلاً فنظر في وجهه ثم رجع إلى موضعه، فقال إياس: قولوا في هذا الرجل، قالوا: ما نقول؟ قال: رجل طالب حاجة وهو معلم صبيان قد أبق له غلامٌ -أي: عبدٌ- أعور فقام إليه بعضنا فسأله عن حاجته، فقال: هو غلامٌ لي آبق، قالوا: ما صفته؟ قال: كذا وكذا وإحدى عينيه ذاهبة، قلنا: وما صنعتك؟ قال: أعلم الصبيان، فقلنا لـ إياس: كيف علمت ذلك؟ قال: رأيته جاء فجعل يطلب موضعاً يجلس فيه، فنظر إلى أرفع شيءٍ يقدر عليه فجلس عليه، فنظرت في قدره فإذا ليس قدره قدر الملوك، فنظرتُ فيمن اعتاد في جلوسه جلوس الملوك، فلم أجد إلا المعلمين، فعلمتُ أنه معلم صبيان، فقلنا: كيف علمت أنه أبق له غلام؟ قال: إني رأيته يترصد الطريق ينظر في وجوه الناس، قلنا: كيف علمتَ أنه أعور؟ قال: بينما هو كذلك إذ نزل فاستقبل رجلاً قد ذهبت إحدى عينيه، فعلمت أنه اشتبه عليه بغلامه.

فراسة كعب بن سور

فراسة كعب بن سور وهكذا حصل أيضاً من كعب بن سور رضي الله تعالى عنه: جاءت امرأةٌ عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه فشكرت عنده زوجها، وقالت: هو من خير أهل الدنيا، يقوم الليل حتى الصباح، ويصوم النهار حتى يمسي، ثم أدركها الحياء فلم تستطع أن تكمل، فقال: جزاك الله خيراً فقد أحسنت الثناء، فلما ولت قال كعب: يا أمير المؤمنين! لقد أبلغت في الشكوى إليك، فقال: وما اشتكت؟ قال: زوجها، إن هذا الكلام هو شكوى لزوجها؛ إنها أثنت عليه أثنت عليه ثم سكتت، فقال: هذه شكوى، قال: عليّ بهما، فقال لـ كعب بن سور: اقضِ بينهما، قال: أقضي وأنت شاهد؟ قال: إنك قد فطنت إلى ما لم أفطن له، قال: إن الله تعالى يقول: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3] صم ثلاثة أيام وأفطر عندها يومك، وقم ثلاث ليالٍ وبت عندها ليلة، فقال عمر: [هذا أعجب إلي من الأول فبعثه قاضياً لأهل البصرة فكان يقع له في الحكومة من الفراسة أمورٌ عجيبة] أي: الحكم بين الناس يقع له في أمورٍ عجيبة، فهذا الرجل فهم من شكوى ثناء المرأة على زوجها ثم سكوتها أنها تشتكي زوجها وكذلك لما جيء به فصار على هذه الصفة من العبادة، وهو لا يعطي زوجته حقها لانشغاله بالعبادة استنبط من قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3] أنه إذا أراد أن يقوم الليالي فإنه يأتي زوجته ليلة، وإذا أراد أن يصوم الأيام فإنه يفطر يوماً من كل أربعة، من أجل حق زوجته.

من أنواع الفراسة

من أنواع الفراسة قال شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله: ومن أنواع الفراسة ما أرشدت إليه السنة النبوية من التخلص من المكروه بأمرٍ سهلٍ جداً، من تعريض بقولٍ أو فعلٍ، فمن ذلك ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قال رجلٌ: يا رسول الله! إن لي جاراً يؤذيني، قال: انطلق فأخرج متاعك إلى الطريق فانطلق فأخرج متاعه؛ -أخرج الأثاث إلى الشارع- فاجتمع الناس إليه، فقالوا: ما شأنك؟ قال: إن لي جاراً يؤذيني -فما تحملت فأخرجت الأثاث إلى الخارج- فجعلوا يقولون: اللهم العنه اللهم أخرجه -الناس صارت تسب الجار المؤذي- فبلغه ذلك -أي: الجار المؤذي- فأتاه فقال: ارجع إلى منزلك فوالله لا أؤذيك أبداً) والقصة أيضاً رواها أبو داود وصححها الألباني. فهذه وأمثالها هي الحيل التي أباحتها الشريعة وهي تحيل الإنسان في فعلٍ مباحٍ على تخلصه من ظلم غيره وإيذائه، لا الاحتيال على إسقاط فرائض الله واستباحة محارمه، وفي المسند والسنن عن عائشة رضي الله عنها قالت: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أحدث في صلاته فلينصرف -يعني: إذا أحدث في الصلاة يقطع الصلاة ويمشي، لا يحتاج إلى سلام؛ لأنه قطعت للحدث- فإن كان في صلاة جماعة، فليأخذ بأنفه ولينصرف). وإذا كان في وسط الجماعة فإن إحراجاً عليه بين الناس أن يمشي فليأخذ بأنفه كأنه أصابه رعاف، فالناس يقولون: خرج لأجل الرعاف، وفي الحقيقة أنه خرج لأجل الحدث، فقال: هذه دلت عليه السنة لتخليص الإنسان من الحرج دون كذب، فإنه لا يقول: إن بي رعافاً ويأخذ بأنفه وينصرف، وحتى الذي يعرف هذا الحديث من الناس، إذا رأى رجلاً آخذاً بأنفه لا يدري هل أصابه رعاف أم أنه خرج منه حدثٌ أو ريح، قال: وفي السنة كثيرٌ من ذكر المعاريض التي لا تبطل حقاً ولا تحق باطلاً، فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم للذي سأله بقوله: ممن أنتم؟ وهو في الغزو ولا يريد أن يخبره من أي مكان كان هذا من أسرار العسكرية للمسلمين، قال: (نحن من ماء) وفعلاً إن الإنسان خلق من ماء مهين، والله عز وجل خلق كل شيءٍ: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيّ} [الأنبياء:30]. وكذلك لما سئل أبو بكر الصديق عن النبي عليه الصلاة والسلام: (قيل له: من هذا بين يديك؟ قال: هادٍ يدلني على الطريق) ما يريد أن يخبر أن هذا النبي عليه الصلاة والسلام، خطأ وهو هارب عليه السلام من مكة وكيف لو أصاب الخبر، فقال: هذا هادٍ يدلني على الطريق، وفعلاً النبي عليه الصلاة والسلام هادٍ يدل على طريق الإسلام والحق. وعبد الرحمن بن أبي ليلى -الفقيه- وقد أقيم على دكانه بعد صلاة الجمعة على مكان مرتفع، فقام على الدكان وقال: إن الأمير أمرني أن ألعن علي بن أبي طالب، فالعنوه لعنه الله. هذا عبد الرحمن بن أبي ليلى قد أتي به مكرهاً من قبل واحد ممن كان يكره علي بن أبي طالب، وقيل له: نريدك أن تصعد أمام الناس وتلعن علي بن أبي طالب، فقام على المكان المرتفع، فقال: إن الأمير أمرني أن ألعن علي بن أبي طالب فالعنوه لعنه الله، قصده في (العنوه) على من؟ على الأمير ومن ذلك تعريض الحجاج بن علاط بل تصريحه لامرأته بهزيمة الصحابة وقتلهم، حتى أخذ ماله منها وكانت على الشرك وهو على الإسلام. ومن الفراسة الصادقة؛ فراسة خزيمة بن ثابت حين قدم وشهد على عقد التباين، بين الأعراب ورسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن حاضراً، تصديقاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنها هذا يدخل في سرعة الأمر. فراسة حذيفة بن اليمان وقد بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم عيناً إلى المشركين، فجلس بينهم، تسلل وجلس بينهم في معركة الخندق، فقال أبو سفيان وكان رئيس المشركين فجأة لينظر كلٌ منكم جليسه، قال: أخشى أن يكون محمداً قد أرسل إلينا عيناً، تجسسوا علينا كل واحد ينظر من بجانبه يتفقده؛ فـ حذيفة بادر قبل أن يسأله جاره المشرك، وهو مندس بين المشركين، فقال لجليسة: من أنت؟ قال: فلان بن فلان، فاطمأن ذلك الشخص ولم يسأله. وكذلك من هذا الباب فراسة المغيرة بن شعبة وقد استعمله عمر على البحرين فكرهه أهلها فعزله عمر عنهم، فخافوا أن يرده عليهم، فقال دهقانهم: إن فعلتم ما آمركم به لم يرده علينا، قالوا: مرنا بأمرك؟ قال: تجمعون مائة ألف درهم حتى أذهب بها إلى عمر، وأقول: إن المغيرة اختان هذا ودفعه إليه -نتهم المغيرة عند عمر، نقول: إنه اختلس هذا المبلغ ووضعه عندي، هذا الدهقان الكافر وقومه يخشون أن يرجع عليهم المغيرة أميراً فيقولون: نذهب ونتهمه عند عمر، فجمعوا المال للدهقان، فأتى الدهقان إلى عمر فقال: يا أمير المؤمنين! إن المغيرة اختان هذا فدفعه إلي! اختلسه ووضعه عندي أمانة، فدعا عمر المغيرة فقال: هذا يقول إنك اختلست ألفاً ووضعتها عنده، قال: كذب أصلحك الله، إنما كانت مائتي ألف، فقال عمر للمغيرة: ما حملك على ذلك؟ قال: العيال والحاجة، فقال عمر للدهقان: ما تقول؟ -يعني: هذا المدعي أيضاً صار مختلساً مائة- فقال: لا والله لأصدقنكم، والله ما دفع إليّ قليلاً ولا كثيراً ولكن كرهناه وخشينا أن ترده علينا، فقال عمر للمغيرة: ما حملك على هذا؟ -يعني: على هذه الكذبة- قال: إن الخبيث كذب علي فأردت أن أخزيه.

فراسة عبد الملك بن مروان

فراسة عبد الملك بن مروان قال ابن القيم رحمه الله: ومن أحسن الفراسة فراسة عبد الملك بن مروان لما بعث الشعبي إلى ملك الروم فحسد المسلمين عليه -ملك الروم لما رأى نجابة الشعبي وذكاءه وفطنته وعلمه حسد المسلمين عليه- وأراد أن يدبر له مكيدة لعله يُقتل أو يحبس فبعث معه ورقةً لطيفة إلى عبد الملك رسالة فلما قرأها -أي: عبد الملك الخليفة- قال للشعبي: أتدري ما فيها؟ قال: في نص الرسالة: عجبٌ كيف مَلَّكَتِ العرب غير هذا؟ -يقول له ما ذكره في الرسالة: عجيب أمر العرب! كيف يملكون غير هذا الشعبي - يقول عبد الملك بن مروان: أفتدري ما أراد؟ قال: لا. قال: حسدني عليك فأراد أن أقتلك، قال الشعبي: لو رآك -يا أمير المؤمنين- ما استكبرني، فبلغ ذلك ملك الروم فقال: والله ما أخطأ ما كان في نفسه.

فراسة المنصور

فراسة المنصور ومن دقيق الفطنة ودقيق الفراسة أن المنصور جاءه رجل فأخبره أنه خرج في تجارةٍ فكسب مالاً فدفعه إلى امرأته ثم طلبه منها، فذكرت أنه سرق من البيت، ولم يرَ نقباً ولا أمارة -الجدران سليمة وما عليها أثر اقتحام للبيت أو سرقة- فقال المنصور: منذُ كم تزوجتها؟ قال: منذُ سنة، قال: بكراً أو ثيباً؟ قال: ثيباً، يعني: كانت عند زوج من قبل، فوقع في نفسه احتمال أن تكون متعلقة برجل من قبل، قال: فلها ولدٌ من غيرك؟ قال: لا. فدعا المنصور بقارورة طيبٍ كان يتخذُ له، حاد الرائحة غريب النوع لا يوجد له أي مثيل، فدفعها إليه، وقال له: تطيب من هذا الطيب فإنه يذهب غمك، فلما خرج الرجل من عنده قال المنصور لأربعة من ثقاته: ليقعد على كل باب من أبواب المدينة واحدٌ منكم، فمن شم منكم رائحة هذا الطيب من أحدٍ فليأت به، وخرج الرجل بالطيب فدفعه إلى امرأته فلما شمته بعثت به إلى رجلٍ كانت تحبه، وقد كان للذي دفعت إليه المال، سرقت من زوجها وأعطت الرجل، والآن أعطته الطيب، فتطيب منه ذلك الرجل ومر مجتازاً ببعض أبواب المدينة فشم الموكل بالباب رائحته عليه، فأتى به إلى المنصور، فسأله من أين لك هذا الطيب؟ فلجلج في كلامه، فدفعه إلى والي الشرطة، وقال: إن أحضر لك كذا وكذا من المال فخلِّ عنه، وإلا فاضربه ألف سوط، فما جرد للضرب حتى أحضر المال على هيئته، فدعا المنصور صاحب المال، فقال: الآن المال سوف يرد إلى صاحبه، لكن بقيت لدينا مشكلة ما هي؟ تعلق المرأة بذلك الرجل، فيريد أن يحل المشكلة أيضاً فقال المنصور للرجل: أرأيت إن رددت عليك المال تحكمني في امرأتك -تقضي لي الحكم فيها- قال: نعم. قال: هذا مالك وقد طلقت المرأة منك؛ لأجل أن أتاحت المجال للآخر بالحلال أن يعود إليها، والرجل صاحب المال راضٍ بهذا.

سرعة البديهة جزء من الفراسة

سرعة البديهة جزء من الفراسة ومما يدخل في الفراسة سرعة البديهة، وهي جزء من أجزاء الفراسة أو نوعٌ منها، فمن ذلك أن شريكاً -وهو قاضٍ عالم فاضل دخل على المهدي، فقال للخادم -الآن المهدي خليفة أمامه واحد من عظماء المسلمين وعلمائهم الكبار- قال: هاتِ عوداً للقاضي يعني: البخور، فجاء الخادم بعودٍ يضرب به -الخادم غبي أتى بعود مما يعزف به، فوضعه في حجر شريك - فصارت الآن الورطة الكبيرة للمهدي الخليفة، أن هذا العالم الجليل يأتي للعود ويضع في حجره، فقال شريك: ما هذا؟ فبادر المهدي وحضرته البديهة فقال: هذا عودٌ أخذه صاحب العسس البارحة -الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر من العسس- صادره بالأمس، فأحببت أن يكون كسره على يديك فدعا له وكسره. وكذلك: كان للمعتضد رحمه الله عجائب في هذا، منها: أنه قام ليلةً فإذا غلامٌ قد وثب على ظهر غلام، فاندس بين الغلمان فلم يعرفه، فجعل يضع يده على فؤاد كل واحد، واحداً بعد واحد فيجده ساكناً حتى وضع يده على فؤاد ذلك الغلام فإذا به يخفق خفقاً شديداً فركضه برجله واستقره فأقر فقتله، يعني: على فعل الفاحشة. وكذلك: رفع إليه أن صياداً ألقى شبكته في دجلة فوقع فيها جراب فيه كفٌ مخضوبةٌ بحناء، كف مقطوعة، وأحضر بين يديه، فهاله ذلك، وأمر الصياد أن يعاود طرح الشبكة هناك، ففعل فأخرج جراباً آخر فيه رجلٌ -كف ورجل- فاغتم المعتضد وقال: معي في البلد من يفعل هذا ولا أعرفه؟!! ثم أحضر ثقةً له وأعطاه الجراب وقال: طف به على كل من يعمل الجرب بـ بغداد فإن عرفه أحدٌ منهم فاسأله عمن باعه منهم، فإذا دلك عليه فاسأل المشتري عن ذلك، وانقل عن خبره فغاب الرجل ثلاثة أيام، ثم عاد فقال: ما زلت أسأل عن خبره حتى انتهى إلى فلان الهاشمي اشتراهما مع عشرة جوارب وشكا البائع شره وفساده، ومن جملة ما قال: إنه كان يعشق فلانة المغنية وأنه غيبها، فلا يعرف لها خبر وادعى أنها هربت والجيران يقولون: إنه قتلها، فبعث المعتضد من ذهب إلى منزل الهاشمي وأحضره وأحضر اليد والرجل وأراه إياهما، فلما رآهما انتقع لونه وأيقن بالهلاك واعترف. ثم بعد ذلك أنفذ فيه الحكم.

الفراسة في تحسين اللفظ

الفراسة في تحسين اللفظ وكذلك قال: من محاسن الفراسة في تحسين اللفظ بابٌ عظيم له شواهد كثيرةٌ في السنة، وهو من خاصية العقل والفطنة، فقد روينا عن عمر رضي الله عنه أنه خرج يعس المدينة بالليل فرأى ناراً موقدةً في خباء فوقف وقال: يا أهل الضوء -يريد أن يناديهم وهم في الخيمة وقد أوقدوا ناراً- وكره أن يقول: يا أهل النار؛ لكي لا يسميهم بأهل النار؛ مع أنهم أوقدوا ناراً، ولكن لكي لا يسميهم بأهل النار لأنه اسمٌ قبيح، فقال: يا أهل الضوء. وكذلك سئل العباس أنت أكبرُ أم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: هو أكبر مني وأنا ولدت قبله. وكذلك فإن الله سبحانه وتعالى قال للمؤمنين: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ} [الإسراء:53] فينتقي الإنسان الكلمة الطيبة ولا يقول الكلمة الخبيثة حفاظاً على مشاعر أخيه المسلم.

أحمد بن طولون وفراسته الحادة

أحمد بن طولون وفراسته الحادة ومن عجيب الفراسة ما ذكر عن أحمد بن طولون، أنه رأى مرةً يوماً حمالاً يحمل صناً وهو يضطرب تحته، فقال: لو كان هذا الاضطراب من ثقل محمول لغاصت عنق الحمَّال، وأنا أرى عنقه بارزةً وما أرى هذا الأمر إلا من خوف -واحد حمال يحمل قفة ويضطرب وعنقه ليست بداخلةٍ من الثقل- فأمر بحط الصن فإذا فيه جاريةٌ قد قتلت وقطعت، فقال: اصدقني عن حالها؟ قال: أربعة نفرٍ في الدار الفلانية أعطوني هذه الدنانير وأمروني بحمل هذه المقتولة فضربه وقتل الأربعة. وكان يتنكر ويطوف بالبلد يسمع قراءة الأئمة، فدعا ثقته وقال: خذ هذه الدنانير وأعطها إمام مسجد كذا، فإنه فقيرٌ مشغول القلب، ففعل هذا الرجل وجلس مع الإمام هذا وباسطه فوجد زوجته قد ضربها الطلق وليس معه ما يحتاج إليه من المال، فقال: فالآن تنبه وعرف أنها فطنة الخليفة، ولكن كيف اكتشف أنه محتاج؟ قال: عرفت شغل قلبه في كثرة غلطه في القراءة -قال: صليت وراءه فإذا به يخطئ كثيراً في القراءة فعلمت أن قلبه مشغول، ولذلك صار يغلط في القراءة كثيراً- فلعل شغله فقرٌ فدفع إليه المال.

تحذير القضاة من الاستعجال في تنفيذ الأحكام

تحذير القضاة من الاستعجال في تنفيذ الأحكام وكذلك مما ذكر رحمه الله تعالى قال: ومن قضايا علي رضي الله عنه أنه أتي برجلٍ وجد في خربةٍ بيده سكينةٌ ملطخة بدم، وبين يديه قتيل يتشحط في دمه، فسأله فقال: أنا قتلته، قال: اذهبوا به فاقتلوه؟ فلما ذهب به أقبل رجلٌ مسرعاً، فقال: يا قوم! لا تعجلوا ردوه إلى علي فردوه، فقال: يا أمير المؤمنين! ما هذا صاحبه أنا قتلته، فقال علي للأول: ما حملك على أنك قلت أنتَ قاتله ولم تقتله؟ قال: يا أمير المؤمنين! وما أستطيع أن أصنع وقد وقف العسس على الرجل يتشحط في دمه، وأنا واقفٌ وفي يدي سكين، وفيها أثر الدم، وقد أخذت في خربة فخفتُ ألا يقبل مني فاعترفت بما لم أصنع، واحتسبت نفسي عند الله، قال علي: بئس ما صنعت فكيف كان حديثك، كيف أدى بك الحال إلى هذا الموضع؟ قال: لأنني رجلٌ قصاب -جزار- خرجت إلى حانوتيٍ في الغلس فذبحت بقرةً وسلختها فبينما أنا أسلخها والسكين في يدي، أخذني البول فأتيت خربة كانت بقربي فدخلتها فقضيت حاجتي وعدت أريد حانوتي فإذا أنا بهذا المقتول يتشحط في دمه فراعني أمره فوقفت أنظر إليه والسكين في يدي فلم أشعر إلا بأصحابك قد وقفوا علي وأخذوني فقال الناس: هذا قتل هذا، فأيقنت أنك لا تترك قولهم لقولي فاعترفت بما لم أجنه، فقال علي للمقر الثاني: فأنت كيف كانت قصتك؟ قال: أغواني إبليس فقتلت الرجل طمعاً في ماله، ثم سمعت حس العسس فخرجت من الخربة، واستقبلت هذا القصاب على الحال التي وصفها، فاستترت منه ببعض الخربة، حتى أتى العسس فأخذوه وأتوك به، فلما أمرت بقتله علمت أني سأبوء بدمه أيضاً، فاعترفت بالحق. فإذاً: هذا قتل شخصاً ثم انتهز فرصة خلو الجزار من الدكان فوضعه في دكان الجزار، فلما جاء الجزار بيده سكينه المعتادة وإذ بالناس قد جاءوا إلى هذا المكان وقبضوا عليه. وكذلك قال رحمه الله تعالى: وعن علقمة بن وائل عن أبيه أن امرأة وقع عليها رجلٌ في سواد الصبح وهي تعمد إلى المسجد بمكروهٍ على نفسها، فاستغاثت برجلٍ مر عليها وفر صاحبه -الفاعل فر وهذا المستغاث به صار هو في المشهد- فمر أناس فاستغاثت بهم، فأدركوا الرجل الذي استغاثت به فأخذوه وسبقهم الآخر وهرب، فجاءوا بهذا المستغاث به يقودونه فقال: أنا الذي أغثتك وقد ذهب الآخر، فقالت: كذب هو الذي وقع علي، فقالوا: انطلقوا به فارجموه، فقال رجل: لا ترجموه وارجموني؛ جاء الفاعل واعترف فأنا الذي فعلت هذا الفعل. ولذلك فإن القاضي عليه ألا يستعجل فإنه ربما ظهر الحق بعد مدة وأن يتأمل في الموضوع، فإنه ربما يظهر بالتأمل حالٌ جديدة، أو يظهر فيها حق ولو استعجل لأزهقت روح بريئة. وكذلك من هذا القبيل بينما علي رضي الله عنه جالس في مجلسه إذ سمع ضجةً فقال: ما هذا؟ فقالوا: رجلٌ سرق ومعه من يشهد عليه، فأمر بإحضاره فدخلوا، فشهد شاهدان عليه أنه سرق درعاً فجعل الرجل يبكي ويناشد علياً أن يتثبت في أمره، فخرج علي إلى مستمع الناس بالسوق فدعا بالشاهدين، فناشدهما الله وخوفهما فأقاما على شهادتهما، فلما رآهما لا يرجعان، فدعا بالسكين وقال: ليمسك أحدكم يده ويقطع الآخر -أنتما شاهدان عليه بالسرقة، والآن وجب تنفيذ الحد أحدكم يمسك يده والآخر يقطع- فتقدما ليقطعاه فهاج الناس واختلط بعضهم ببعض، وقام علي عن الموضع فأرسل الشاهدان يد الرجل وهربا، فقال علي: من يدلني على الشاهدين الكاذبين؟ فلم يقف لهما على خبر فخلى سبيل الرجل وهذا من أحسن الفراسة، فإنه ولىّ الشاهدين ما توليّا وأمرهما أن يقطعا بأيديهما يد من اتهماه بألسنتهما. ومن هاهنا قال العلماء: إنه يبدأ الشهود بالرجم، إذا شهدوا بالزنا وأما إذا اعترف الرجل الزاني فالذي يبدأ بالرجم القاضي الذي اعترف عنده، احتياطاً بالشريعة وبأرواح العباد، وكذلك قال: وحكم الفراسة على ذلك من الكتاب والسنة وعمل سلف الأمة، قال الله تعالى: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} [البقرة:273]. وأن الأخذ بالسيماء والعلامة معتمد شرعاً، قال: حتى إذا رأينا ميتاً في دار الإسلام وعليه زنار -وهذا لباس أهل الذمة من النصارى- وهو غير مختون ماذا نحكم؟ أنه نصراني، لا يدفن في مقابر المسلمين، ويقدم ذلك على حكم الدار في قول أكثر العلماء، بأن النصارى: كثيرٌ منهم لا يختتنون، وقال الله تعالى: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} [يوسف:18]. قال عبد المنعم بن الفرس: روي أن إخوة يوسف لما أتوا بقميص يوسف إلى أبيهم يعقوب تأمله فلم يرَ فيه خرقاً ولا أثر نابٍ من النياب المزعوم فاستدل بذلك على كذبهم، وقال لهم: متى كان الذئب حليماً يأكل يوسف ولا يخرق قميصه؟! فلما أرادوا أن يجعلوا الدم علامة صدقهم، قرن الله تعالى بهذه العلامة علامة تعارضها وهي سلامة القميص من التمزيق، إذ لا يمكن افتراس الذئب ليوسف وهو لابس القميص، ويسلم القميص ويجمعوا على أن يعقوب استدل على كذبهم بصحة القميص، فيعقوب جزم: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً} [يوسف:18] عرف ذلك من العلامات. قال: ومن الحكم بالعلامات أيضاً: ما جاء في قوله تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف:26 - 28]. فهذه أمارات قد حكم بها وعرف بها البريء من الظالم، وكانت دليلاً على براءة يوسف عليه السلام، والذي تكلم على الراجح هو رجلٌ كبير ذو لحية كما جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه، أما كونه صغيراً قد تكلم في المهد فلم يثبت هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما الذي شهد شاهدٌ من أهلها رجلٌ كبيرٌ ذو لحية كان عنده عقلٌ وتمييزٌ وفراسة، فأمره بأن يعمل بهذه العلامة، وألهمه الله ذلك ليقوله فيبرئ يوسف عليه السلام.

العلاقة بين القيافة والفراسة

العلاقة بين القيافة والفراسة وكذلك فإن هناك علاقة بين القيافة والفراسة. والقيافة: هي العلامات التي يعرف بها القائف نسب الشخص من أبيه عندما يتفرس في خلقتهما، ولما لاعن النبي صلى الله عليه وسلم بين عويمر العجلاني وامرأته -وكانت حاملاً- قال عليه الصلاة والسلام: (إن جاءت به أحمر قصيراً كأنه وحرةٌ فلا أراها إلا قد صدقت وكذب عليها -لما رماها بالزنى- وإن جاءت به أسود أعين ذا أليتين فلا أراه إلا قد صدق) فجاءت به على المكروه من ذلك، يعني: أنها قد فعلت الفاحشة وأن زوجها صادقٌ فيما رماها به من الزنى. وجاء في الروايات في البخاري كان ذلك الرجل مصفراً قليل اللحم سبط الشعر، وكان الذي ادعى عليه أنه وجده عند أهله، خدلج الساقين آدم كثير اللحم جعداً قططاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم بين) فجاءت شبيهاً بالرجل الذي ذكر زوجها أنه وجده عندها، جاءت على النحو المكروه. والوحرة: دويبةٌ حمراء تلصق بالأرض، والأعين: واسع العينين، والآدم شديد الأدمة وهي: سمرةٌ بحمرة، والخدلج: كثير لحم الساقين، والقطط: شديد جعودة الشعر، فهذا يعمل به ولما جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تسأل أو تجد المرأة ما يجد الرجل -يعني: من إنزال- والغسل عليها فقال عليه السلام: (تربت يداك ومن أين يكون الشبه؟) يعني: إن مني المرأة ومني الرجل يحدث شبهاً في الولد في الأبوين، فيأتي في الخلقة والأعضاء والمحاسن ما يدل على الأنساب، ويعرف من الشكل أن هذا -مثلاً- ولدي يشبهني فهو مني، هذا من القرائن ومن العلامات. وقد جاء في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: (دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يومٍ مسروراً فقال: يا عائشة! ألم تري أن مجززاً المدلجي دخل علي فرأى أسامة وزيد وعليهما قطيفة قد غطيا رءوسهما وبدت أقدامها فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض) وسبق الكلام على أن بعض المنافقين طعنوا في نسب أسامة من أبيه زيد؛ لأن أسامة كان أسود وزيد كان أبيض، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يحبهما جداً، فَطُعِنَ في نسب هذا من هذا، فجاء هذا الرجل شاهداً من تلقاء نفسه، وكان خبيراً بالقيافة، فعندما نظر إلى الأرجل الخارجة من تحت الغطاء قال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض. وكذلك فإن في هذا الذي حصل دليلاً على وجود الفراسة لدى بعض الناس يعرفون بها هذا ابن هذا أو لا، ولذلك يكون هناك طريقة لإثبات النسب عند ادعاء الابن لأكثر من شخص، إذا اختلفوا وليس هناك بينة.

العلاقة بين الفراسة وتأويل الرؤى

العلاقة بين الفراسة وتأويل الرؤى وما العلاقة بين الفراسة وتأويل الرؤى؟ هناك علاقة كبيرة بين هذا وذاك، فإن كثيراً ممن يؤول الرؤى تأويلاً صحيحاً لديه نوعٌ من الفراسة، يعرف بها تأويل الرؤى وتفسير المنامات، وقد اتسعت تقيداته وتشعبت تخصيصاته وتنوعت تعريفاته، ولا يمكن الاعتماد على أقوال الناس إلا ما ورد في القرآن العظيم والكتاب والسنة، وأما جعل ضوابط فإنه لا يمكن في تفسير المنامات والأحلام؛ لأنه يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، ومنا من يلقى في قلب مفسر للرؤيا عندما تقص عليه بإلهام يلهمه الله عز وجل فيتكلم بذلك، فلا يجوز الكلام فيما لا يعرفه الإنسان في تأويل الكلام وعده العلماء من الفتيا بغير علم.

أسباب في تحصيل الفراسة

أسباب في تحصيل الفراسة وأخيراً: في هذا الموضوع نأتي إلى أسباب تحصيل الفراسة، فلو قال القائل: هل هناك أسباب لتحصيل الفراسة؟ A إن من شروط ذلك: الاستقامة وغض النظر عن المحارم، فإن المرء إذا أطلق نظره تنفس الصعداء في مراءاة قلبه فطمست نورها: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40]. وقال بعض السلف: من غض بصره عن المحارم، وكف نفسه عن الشهوات، وعمر باطنه بالمراقبة، وتعود أكل الحلال لم تخطئ فراسته. فإذاًَ: إذا أراد الإنسان أن يكون له فراسة، ونظر صائب في الأمور، ويكتشف المحق من المبطل ويعثر على الحق، ويتبين إذا اختلطت الأشياء وتشابهت، فإن عليه أن يقوم بهذه الأشياء وهي: غض البصر عن المحرمات، وكف النفس عن الشهوات، وتعود أكل الحلال، وأن يكون مراقباً لله عز وجل، فكلما زادت تقوى المؤمن ألهمه الله تعالى التبصر بالأمور وسرعة الفهم، فكانت فراسته أثبت ممن كان أقل تقوى منه، وهذه الفراسة في غض البصر لها علاقة مباشرة بها؛ لأنه يورث نور القلب، وقال عز وجل في قوم لوط: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر:72]، فهذا تعلق بالصور المحرمة، وسكر القلب بل جنونه، فلا يمكن أن يكون معه فراسة كما قيل: سكران سكر هوىً وسكر مدامة فمتى إفاقة من به سكرانِ وقيل: قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم العشق أعظم مما بالمجانين أي: العشق أعظم من الجنون: العشق لا يستفيق الدهر صاحبه وإنما يصرع المجنون في الحين وكان شهاب بن شجاع الكرماني لا تخطئ له فراسة، وكان يقول: من عمر ظاهره باتباع السنة، وباطنه بدوام المراقبة؛ وكف نفسه عن الشهوات، وأكل الحلال لم تخطئ له فراسة. من غض بصره عن الحرام فأطلق الله تعالى له نور البصيرة وفتح عليه باب العلم والمعرفة فيظهر عليه من الفراسة ما الله به عليم. هذه بعض ما يورث الفراسة وهذا موضوع جدير بالاهتمام وله علاقة مباشرة في الإيمان وهو مذكورٌ في القرآن في قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر:75] ويلزم أن يكون من صفات كل من يحكمون بين العباد، نسأل الله عز وجل أن ينور قلوبنا بالإيمان. هذا وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

رسالة منهج دراسة الأسماء والصفات

رسالة منهج دراسة الأسماء والصفات أهل السنة والجماعة هم كاسمهم أهل لسنة النبي صلى الله عليه وسلم ولجماعة المسلمين المؤمنين المستسلمين لأوامر الله ونواهيه في كل شيء، فالحلال ما أحله الله والحرام ما حرمه، والأسماء والصفات ما أثبتها لنفسه أو أثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم؛ وقد جاءت هذه الرسالة لبيان منهج السلف الصالح في فهم آيات الأسماء والصفات.

الأسس التي يرتكز عليها مذهب السلف في الصفات

الأسس التي يرتكز عليها مذهب السلف في الصفات الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: في هذه الليلة نستعرض وإياكم رسالة علمية في أحد موضوعات العقيدة، وهو توحيد الأسماء والصفات، وهذه الرسالة هي رسالة العلامة الشيخ الإمام/ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى، بعنوان: منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات. وهذه الرسالة تثبت سلفية الشيخ رحمه الله تعالى في عقيدته، وسنعرض لشيء من ترجمته بعد عرض الرسالة بمشيئة الله تعالى، وكانت هذه الرسالة محاضرة قد ألقاها الشيخ رحمه الله في الجامعة الإسلامية في: (الثالث عشر من رمضان، سنة ألف وثلاثمائة واثنين وثمانين للهجرة) ومعلوم ما يشيع عند كثير من الناس المنتسبين إلى العلم في العالم الإسلامي من منهج المتكلمين في الأسماء والصفات، وإنكارهم لكثير من الصفات، وتأويلهم وتحريفهم بالأحرى لنصوص الصفات، ولا شك أن المجتمعات العلمية يكون فيها من هذا كثير، ويصل طلبة العلم إلى كتب ليست على طريقة السلف في الأسماء والصفات، فبين الشيخ رحمه الله تعالى بعض القواعد الأساسية في هذا الموضوع، ونبه في بداية رسالته إلى أمر مهم ألا وهو: أن كثرة الخوض والتعمق في البحث في آيات الصفات وكثرة الأسئلة في الموضوع من البدع التي يكرهها السلف. وأن مباحث آيات الصفات التي دل عليها القرآن الكريم، ترتكز على ثلاث أسس مهمة. الأساس الأول: تنزيه الله عز وجل أن تشبه أي صفة من صفاته صفة من صفات المخلوقين، فلا يشبه سبحانه وتعالى أحداً من المخلوقين، ولا تشبه صفاته سبحانه وتعالى أي صفة من صفات المخلوقين كما دل عليه قوله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] وقوله سبحانه وتعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:4]، إذاً أولاً: عدم المشابهة، بين الله وخلقه. الأساس الثاني: الإيمان بما وصف الله به نفسه؛ لأنه لا يصف الله عز وجل أعلم منه سبحانه وتعالى، لا يوجد أحد أعلم بالله من الله {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة:140] وكذلك الإيمان بما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم الذي قال الله فيه، {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4]. فإذاً القاعدة الثانية: يجب الإيمان بما وصف الله به نفسه، وما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، فمن أخل بأحد هذين الأصلين وقع في ضلال، وتجرأ على الله عز وجل، ونفى صفات أثبتها الله لنفسه سبحانه وتعالى، والله يثبت ما يشاء لنفسه عز وجل من صفات الكمال والجلال، فكيف يليق بجاهل مسكين أن يتقدم بين يدي رب السماوات والأرض، ويقول: هذا الذي وصفت به نفسك لا يليق بك! وهذا الذي وصفت به نفسك يلزم منه النقص! وأنا أريد أن أؤوله وأن ألغيه وأن آتي ببدله من تلقاء نفسي، من غير دليل {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور:16]. ومن آمن بصفات الله سبحانه وتعالى، فإنه لا بد أن يعتقد أن الله منزه عن مشابهة المخلوقين، فيكون سالماً من التشبيه، وسالماً من النفي والجحد، فهو يثبت الصفة، ويؤمن بأنها لا تشبه أي صفة من صفات المخاليق، هذا هو مضمون قوله سبحانه وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11]. فنفى المشابهة: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] هذا الركن الأول {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] أثبت لنفسه السمع والبصر، فمن جاء وقال: إن المخاليق المخلوقة والحوادث هذه المحدثة لها سمع وبصر، فكيف نثبت لله السمع والبصر فإنه تشبيه؟ فنقول: كيف يكون تشبيهاً وقد قال هو لما أثبتها لنفسه قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] فالله عز وجل له صفات لائقة بكماله وجلاله، والمخلوقات لهم صفات مناسبة لأحوالهم، وصفات رب السموات سبحانه وتعالى أكمل وأعلى من أن تشبه صفات المخلوقين، فمن نفى عن الله وصفاً أثبته لنفسه فقد جعل نفسه أعلم بالله من الله، ولا يقول هذا إلا مجنون ضال ملحد لا عقل له، وقد قال الله تعالى في المشركين {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:97 - 98] ومن يسوي رب العالمين بغيره، فهو مجنون!

ما أحدثه المتكلمون في الأسماء والصفات

ما أحدثه المتكلمون في الأسماء والصفات وقد جاء المتكلمون في بعض العصور الإسلامية واستخرجوا من كلام اليونان القواعد الفلسفية والكلامية، ثم حاكموا نصوص الصفات إليها، فنفوا ما نفوا وأثبتوا ما أثبتوا بزعمهم أنهم يثبتون ما يوافق مقتضى العقل، وينفون ما يقتضي العقل نفيه، فحكموا عقولهم في النصوص، وقدموا عقولهم على الكتاب والسنة، وقدموا منطق اليونان على القرآن، ولا يمكن أن يكون هناك أية مناسبة بين صفة الخالق وصفة المخلوق، فلله تعالى الصفات اللائقة بذاته، وللمخلوق الصفات اللائقة به. وهؤلاء المتكلمون لأنهم لا يعتمدون على الكتاب والسنة، فقد اضطربوا، وكل من لا يعتمد على الكتاب والسنة يضطرب، وهذه قاعدة: فتجد أن بعض هؤلاء المتكلمين قد أثبتوا سبع صفات، وبعضهم أثبت ثلاث عشرة، وبعضهم أثبتوا واحداً وعشرين صفة، وهكذا اضطربوا في عدد الصفات التي تليق بالله من وجهة نظرهم، كل واحد على حسب عقله، يقول: هذه تليق بالله أثبتوها، وهذه لا تليق لا تثبتوها، وأهل السنة يثبتون كل ما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات، فهؤلاء بعض المتكلمين المشهور من مذهبهم الذي أثبته الأشعري أولاً: السبعة المشهورة: له الحياة والكلام والبصر سمع إرادة وعلم واقتدر جمعوها في هذه البيت وقالوا: إننا نعترف بسبع صفات لله فقط، ما هي؟ قالوا: صفة القدرة، وصفة الإرادة، وصفة العلم، وصفة الحياة، وصفة السمع، وصفة البصر، وصفة الكلام. مثلاً: أثبت أنه يُحب ويغضب ويرضى ويرحم إلى آخره، قالوا: لا نثبتها، وصفات الذات، أن له اليد والوجه والقدم والأصابع سبحانه وتعالى إلى آخره، قالوا: لا نثبتها. والمعتزلة أيضاً أصحاب علم الكلام قد عطلوا أسماء الله سبحانه وتعالى ونفوا الصفات، قالوا: سميع بلا سمع، بصير بلا بصر، قادر بذاته، سميع بذاته، عليم بذاته، حي بذاته، لأنهم لا يريدون الإثبات لا حياة ولا سمع ولا بصر ولا علم ولا قدرة، وهؤلاء في النفي غلو أكثر من الأشاعرة بطبيعة الحال، وهذا مذهب يعرف كل عاقل بصير بالكتاب والسنة أنه مذهب باطل.

إثبات صحة مذهب السلف فيما ذهبوا إليه

إثبات صحة مذهب السلف فيما ذهبوا إليه الشنقيطي رحمه الله في رسالته يريد أن يناقش هؤلاء، ويثبت لهم أن ما أثبتوه هو من باب الذي نفوه، وأن يلزمهم بنفي الجميع أو إثبات الجميع، وأن يقول لهم: إن المحذور الذي تفرون منه في الأشياء التي تنفون عن الله موجود، إذا أرادنا نطبق كلامكم في الأشياء التي أثبتموها.

مذهب السلف في الصفات الذاتية

مذهب السلف في الصفات الذاتية فالآن يقول لهم: مثلاً: الإرادة، أنتم تثبتون لله يا أيها الأشاعرة، يا أيها المتكلمون؟ يقولون: نعم نثبتها لله، حسناً أليس المخلوق له إرادة؟ فيقولون: نعم، فنقول: إذاً هذا تشبيه، لماذا ما تأولون الإرادة وتنفون الإرادة أيضاً، ولا معنى أنكم تنفون الوجه لله مثلاً، وتقولون: بأن الوجه من صفات المخلوقين، وإذا أثبتنا الوجه عملنا مشابهة، فننفي الوجه، فنقول: وأيضاً الإرادة، إذا أثبتموها عملتم مشابهة، لأن المخلوق له إرادة، فانفوا الإرادة إذاً؟! لكنه مشى رحمه الله في رسالته على تقسيم المتكلمين، وفندها واحداً واحداً، فقال: في صفات المعاني التي أقروا بها، نقول لهم: وصفوا الله بالقدرة، وأثبتوا له القدرة، والله عز وجل يقول: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:20] والله قد وصف المخلوقين بالقدرة، مثل قوله سبحانه وتعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة:34] فأثبت لهم القدرة، وآيات أخرى أيضاً، نقول لهذا الرجل المنحرف: هأنت تثبت القدرة للخالق، وتثبت القدرة للمخلوقين، هذا تشبيه فماذا سيقول؟ سيقول: لا، للخالق قدرة تخصه وتليق به، وللمخلوق قدرة تناسبه! فنقول: قلها في اليد والأصابع والقدم والمحبة والبغض والكره، وفي سائر الصفات، فلماذا فقط أثبت هذه السبع، قال: ووصف الله نفسه بالسمع والبصر في غير آية من كتابه، فقال: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج:75] {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] ووصف بعض المخلوقات بأن لها سمعاً وبصراً! مثال: {إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [الإنسان:2] من هو؟ الإنسان، فهل إذا أثبتنا السمع والبصر لله، وأثبتنا السمع والبصر للمخلوق حدثت مشابهة، فهل ننفي السمع والبصر عن الله إطلاقاً؟ فنحن لا نشك أن الذي في القرآن حق، فلله جل وعلا سمع وبصر حقيقيان، يليقان بجلاله وعظمته، كما أن للمخلوق سمعاً وبصراً حقيقيين، يناسبان حاله من ضعف وفقر وفناء وعجزٍ، وبين سمع وبصر الخالق وسمع وبصر المخلوق من المخالفة مثل ما بين ذات الخالق وذات المخلوق. وصف الله نفسه بالحياة، فقال: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] {هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [غافر:65] {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان:58] ووصف بعض المخاليق بالحياة فقال عز وجل: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} [الأنعام:95] {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء:30] {وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً} [مريم:15] فهل ترى يا عبد الله أن الله لما وصف نفسه بالحياة، قال: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] وصف بعض المخاليق أنها لها حياة، فهل إثبات هذا وهذا يستلزم تشبيه؟ لا، فلله سبحانه وتعالى حياة تليق بجلاله وعظمته، حياة دائمة حقيقية سبحانه، والمخلوق له حياة لها بداية ولها نهاية، يفنى ويعجز، ويفتقر إلى الله سبحانه. ووصف سبحانه وتعالى نفسه بالإرادة، فقال: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج:16] {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] ووصف بعض المخلوقين بالإرادة، قال تعالى: {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ} [الأنفال:71] {فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا} [القصص:19]، {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ} [التوبة:32] {إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً} [الأحزاب:13] {تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [النساء:94] إذاً أثبت للمخاليق إرادة، وأثبت لنفسه إرادة، ولا يستلزم من إثبات هذا وهذا التشبيه، فكلٌ له إرادة تناسب حاله، والفرق بين إرادة الخالق وإرادة المخلوق كالفرق بين ذات الخالق وذات المخلوق. لقد وصف سبحانه وتعالى نفسه بالعلم، فقال عز وجل: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحجرات:16]، {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء:166] ووصف بعض المخلوقين بالعلم فقال: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً} [الروم:7] فإذاً عندهم علم، وقال: {إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} [الحجر:53] {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} [يوسف:68] في سورة يوسف، وهو يعقوب عليه السلام. فعلم الله سبحانه وتعالى كامل، عليم بالماضي والحاضر والمستقبل وكل شيء ما كان لو كان كيف سيكون، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، والمخلوق علمه ضعيف، لا يعلم من الماضي إلا قليل، والحاضر قليل، المستقبل لا يعلم عنه شيئاً إطلاقاً، والله قد أحاط بكل شيء علماً، فالله له صفة العلم، والمخلوق له صفة العلم مع التفاوت بينهما. ووصف نفسه سبحانه وتعالى بصفة الكلام، فقال عز وجل: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء:164] {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6] ووصف بعض المخلوقين بأنهم يتكلمون، مثل: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ} [آل عمران:46] وكذلك: {فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف:54]. فإذاً المخاليق أيضاً يتكلمون، فلا شك أن لله تعالى كلاماً حقيقياً لائقاً بجلاله وكماله، كما أن للمخلوقين كلاماً يناسب حالهم وفناءهم وعجزهم وضعفهم، والمخلوق كلامه لا يأتي إلا بعد المران، وكلامه يعتريه النقص، وبعض الناس لا يخرج بعض الحروف، وصوته ضعيف، والله سبحانه تعالى ينادي يوم القيامة، يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب، فشتان بين صفة الكلام لله وصفة الكلام للمخلوقين، ولا يستلزم إثبات الكلام لله أي تشابه، والفرق بين كلام الخالق والمخلوق كالفرق بين ذات الخالق وذات المخلوق. الأشاعرة مشهور عندهم إثبات هذه الصفات التي أثبتوها ويسمونها صفات المعاني، وخرجنا بأن إثبات هذه الصفات لا يستلزم أي مشابهة.

مذهب السلف في اسم (القديم)

مذهب السلف في اسم (القديم) نأتي إلى صفات أخرى قد أثبتها بعضهم، فبعض المتكلمين أثبتوا لله صفة القدم والبقاء، وصفة القدم ليس عليها دليل، وإنما الصفة التي ثبتت لله صفة الأولية {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ} [الحديد:3] ونرد على المتكلمين الذين وصفوا الله بالقدم بغض النظر عن قضية ثبوت هذه الصفة، نقول: أنتم وصفتم الخالق بالقدم، طيب الله وصف المخاليق بالقدم: {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس:39] وأيضاً {أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ} [الشعراء:76] فهل يلزم عندكم أيها المتكلمون أن قدم الخالق مثل قدم المخلوقين؟ أما نحن فلا نثبت كلمة القدم، ولا نقول: إن من أسمائه القديم لأنها لم تثبت، نقول: هو الأول، فعندنا ما يغني، لكن من باب المحاجة نقول لهم هذا، والله سبحانه وتعالى له صفة البقاء، ونثبت هذه الصفة، لأن الله أثبتها لنفسه: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:27]. هل وصف الله المخاليق بالبقاء؟ A نعم والدليل: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} [الصافات:77] فهل يستلزم إثبات البقاء لله، وإثبات بقاء المخلوقين مشابهة؟ كلا، فالبقاء لله يناسبه سبحانه وتعالى، والبقاء للمخلوق يناسب المخلوق الذي يفنى، وبقاء المخلوق محدود، ولكنه سبحانه وتعالى أبقى ذرية نوح وتناسلوا إلى أن يأذن الله بفناء البشرية، فالله سبحانه وتعالى له صفة الأولية والآخرية التي نص عليهما في كتابه في قوله: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِر} [الحديد:3]، {أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ * ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ} [المرسلات:16 - 17] هذا بالنسبة لصفات المخلوقين، فإذاً الأولية والآخرية جاءت للخالق وجاءت للمخلوقين بدون لزوم أي تشابه، هذا شيء غير السبعة مما نناقشهم فيه.

مذهب السلف في صفات الأفعال

مذهب السلف في صفات الأفعال ووصف الله سبحانه وتعالى نفسه بأنه واحد، فقال: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [البقرة:163] ووصف بعض المخلوقين بذلك، فمن هذا قوله سبحانه وتعالى: {يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ} [الرعد:4] وصف نفسه بالغنى، فقال: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [الحديد:24] ووصف بعض المخاليق بالغنى، فقال: {وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ} [النساء:6]. فإذاً هل إثبات صفة الغنى لله وإثبات صفة الغنى للمخلوق تعني تشبيهاً؟ A لا، وهكذا فلا داعي أن تنفى صفات الرب سبحانه وتعالى بعلة التشبيه بصفات المخلوقين. وقد وصف سبحانه وتعالى نفسه بصفات الأفعال، ووصف بعض المخاليق بهذه الصفة، جاءت للخالق في نص وجاءت للمخلوق في نص آخر. من صفات الأفعال، مثلاً الرزق، الله سبحانه وتعالى قال: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ} [الذاريات:58] وسمى نفسه الرزاق، وصفة الرزق بها يرزق سبحانه وتعالى: {وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [المؤمنون:72] ووصف بعض المخلوقين بصفة الرزق، أي أن المخلوق يرزق، الدليل على أن المخلوق يرزق: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} [النساء:8] وقال تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا} [النساء:5] وقال الله عز وجل: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} [البقرة:233]. فهذا الله يرزق، والمخلوق يرزق، لكن شتان بين رزق الله عز وجل ورزق المخلوق، فرزق المخلوق ناقص ورزق المخلوق لا يكون إلا إذا كان عنده، ثم يفنى، ثم لا يستطيع أن يعطي، ولا يرزق إلا بمشيئة الله سبحانه وتعالى إلى آخره. ولا يقدر المخلوق أن يرزق إلا شيئاً محدوداً، لا يستطيع أن يعطي كل الناس، الله يرزق الحيتان في البحر، ويرزق الدود، ويرزق الجراد، ويرزق كل أحد سبحانه وتعالى. من صفات الفعل أيضاً: العمل: عمل يعمل عملاً، فالله عز وجل يعمل، وقال سبحانه: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} [يس:71] ووصف بعض المخاليق بأنهم يعملون، كما قال عز وجل: {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور:16] هذا عمل وهذا عمل وإثباتهما لا يستلزم أي تشبيه إطلاقاً. والتعليم وصف الله نفسه بأنه يعلم، وأخبر أنه يعلم، وأخبر أن بعض المخاليق تعلم، فقال سبحانه وتعالى: {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} [الرحمن:2] {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن:4] {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} [العلق:4] {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء:113] ووصف بعض المخاليق بأنهم يعملون فقال سبحانه: {أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} [الكهف:66] {َ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} [المائدة:4] {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ} [الجمعة:2] فهذا التعليم من الله، وهذا التعليم من المخلوق، وما استلزم أي تشبيه إطلاقاً، كل كما يليق به. ووصف سبحانه وتعالى نفسه بأنه ينبئ، ووصف المخلوق بأنه ينبئ، وجمع بينهما في آية واحدة: {فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [التحريم:3] فهو ينبئ سبحانه، وأخبر أن نبيه قد نبأ بعض أزواجه. ووصف نفسه سبحانه وتعالى بصفة الفعل الإيتاء، قال عز وجل: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:269] وقال سبحانه: {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود:3] ووصف بعض المخاليق بأنهم يؤتون، فقال عز وجل: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} [الكهف:96] لكن هذا يقول: أعطوني، أنا أريد المخلوق يعطي الشيء، قال سبحانه وتعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً} [النساء:20] {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء:4]. فكل هذا الكلام يدل على أن الصفات التي وردت لله، لو كان هناك مثلها عند المخلوقين فلا يستلزم إثباتها أي تشبيه، كل بما يليق به.

مذهب السلف في الصفات الجامعة

مذهب السلف في الصفات الجامعة ووصف الله سبحانه وتعالى نفسه بالعلو والكبر، والعظم فقال سبحانه: {وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255] هذه في الصفات التي يسمونها الصفات الجامعة، الآن خرجنا من صفات الأفعال إلى الصفات الجامعة، كالعلو والعظم والكبر والملك والجبروت والعزة والقوة، هذه اسمها الصفات الجامعات، حتى هذه الصفات على تقسيمهم إذا نظرنا فيها، سنجد أن الله أثبتها لنفسه، وأثبت بعضها لبعض المخلوقين، فوصف الله سبحانه وتعالى، بأنه علي وأنه عظيم وقال: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255] وقال عن نفسه: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً} [النساء:34] فوصف نفسه بالعلو والكبر سبحانه وتعالى وأنه {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [الرعد:9] ووصف بعض الخلق بالعلو وبالعظيم فقال: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} [مريم:57] {إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً} [الإسراء:40] {فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء:63] وقال عن بلقيس: {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل:23] ووصف بعض المخلوقات أنها كبيرة فقال: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء:63]. فهذه الصفات الجامعة، كالعلو والكبر والعظم نثبتها لله كما أثبتها الله لنفسه، ونثبتها للمخاليق إذا ثبتت لهم، ولا يستلزم ذلك أي تشبيه. ووصف الله نفسه بالملك، فقال: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ} [الجمعة:1] {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:55] ووصف بعض المخلوقين بالملك فقال في القرآن: {طَالُوتَ مَلِكاً} [البقرة:247] {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ} [يوسف:43] {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} [الكهف:79]. فلله سبحانه وتعالى ملك حقيقي يليق بجلاله وكماله، وللمخاليق ملك يناسب حالهم وفناءهم وعجزهم وافتقارهم، ملك الله سبحانه وتعالى نافذ، ملك الله سبحانه وتعالى عام، ملك الله سبحانه وتعالى لا يزول ولا يحول، ملك الله سبحانه وتعالى يتصرف فيه كيف يشاء، ملك المخلوق محدود، ومعرض للاغتصاب، ومعرض للزوال، ويزول، وملكه قد لا يتصرف فيه، ممكن أنت تملك شيئاً، لكنك لا تستطيع أن تتصرف فيه، لأن هناك غاصباً، أو لأن القاضي وضع عليه حجراً، لأن لأن من الأسباب التي قد تعيقك عن التصرف في ملكك، ولكن الله يتصرف في ملكه كيف يشاء. فلا يمنع أن يثبت لله الملك، وأن يثبت للمخلوق الملك، كل بما يليق به. ووصف الله سبحانه وتعالى بأنه جبار متكبر فقال: {الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} [الحشر:23] ووصف بعض المخاليق بأنهم جبارون متكبرون: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر:35] {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء:130] {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر:60] وهكذا. ووصف الله سبحانه وتعالى نفسه بالعزة فقال: {أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة:209] {رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ} [ص:9] ووصف بعض المخلوقين بالعزة فقال: {قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ} [يوسف:51] وكذلك {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8] مجموعة كلها، هذه العزة لله وعزة الرسول وعزة المؤمنين، وهذه عزة الله غير عزة الرسول وعزة المؤمنين. ووصف الله سبحانه وتعالى نفسه بالقوة فقال: {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:57 - 58]، {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:74] ووصف بعض المخاليق بأن لها قوة فقال: {الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص:26] {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} [هود:52] {ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً} [الروم:54]. إذاً: نلاحظ الآن أنه مهما قسم المتكلمون الصفات، فإن هناك صفات لله في هذه البنود التي قسموها ثابتة لله وثابتة للمخاليق، وهذا من بليغ تقسيمه رحمه الله ورده عليهم. وكذلك الرأفة والحلم والرحمة تثبت لله: {إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [النحل:7] {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]. ووصف الله نفسه سبحانه وتعالى بالمغفرة: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:173] ووصف أيضاً بعض المخاليق بأنهم يغفرون: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ} [البقرة:263] {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} [الجاثية:14].

مذهب السلف في صفة الاستواء

مذهب السلف في صفة الاستواء لو جئنا الآن إلى مسألة الاستواء، فقلنا: إن الله سبحانه وتعالى قد أثبت الاستواء لنفسه، فقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] وأثبت الاستواء للمخلوقين فقال: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} [الزخرف:13] {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} [هود:44] فهل إثبات هذه وهذا يستلزم تشبيهاً؟ لا، فلماذا يا أيها الأشاعرة تفرون من إثبات الاستواء، وتجعلون في كتبكم وتفاسيركم استوى أي: استولى، وترفضون إثبات الاستواء لله لماذا؟ فسروا لنا لماذا وهذه كلها أمثلة تدل على أنه يمكن الإثبات بغير تشبيه بوضوح جداً. فتجرأ هؤلاء ممن يدعون الإسلام واتباع الحق والدليل على نفي الاستواء عن الله سبحانه وتعالى بأدلة منطقية، وكلام فلسفي في الاستواء فماذا يقولون؟ يقولون: لو كان مستوياً على العرش لكان مشابهاً للخلق، وبما أنه غير مشابه للخلق إذاً هو غير مستو على العرش. وهذا كلام فلسفي من علم الكلام من اليونان لا من القرآن، إذا أثبتنا أنه مستو على العرش، يعني جعلناه مشابهاً للخلق، وبما أنه غير مشابه للخلق إذاً هو غير مستوٍ على العرش، مقدمات ونتائج. الله سبحانه وتعالى ذكر استواءه على العرش صفة من صفاته في سبع آيات في آيات من القرآن الكريم: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} [الأعراف:54] {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} [يونس:3] {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} [الرعد:2] {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} [الفرقان:59] {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} [السجدة:4] {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} [الحديد:4] كل هذه الآيات تثبت استواءه ثم تأتون أنتم وتقولون: إنه لم يستو وأننا لا نثبت له صفة الاستواء، وإنه لا بد أن ننفيها! ثم نؤولها ونأتي ببديل عنها، فدخلوا في فتنة التأويل، قالوا: إذا أثبتنا الاستواء شبهناه بخلقه، ما هو الحل؟ قالوا: ننفي الاستواء، وماذا تفعلون بدلاً منه؟ قالوا: نؤول الاستواء، ننفي حقيقته نقول: الحقيقة غير مرادة وإلا شبهناه، إذاً فما هو المخرج، قالوا: نؤوله. هنا وقف الشيخ رحمه الله في رسالته وقفة مع التأويل واضعاً استمدادها من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وابن القيم، فإنه قد تأثر بهما على ما سنورد في ترجمته إن شاء الله.

معاني التأويل

معاني التأويل التأويل يطلق على ثلاثة معان: المعنى الأول: ما تؤول إليه حقيقة الأمر في ثاني الحال، أي الحال الآتية والحالة القادمة، قال الله سبحانه وتعالى: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59] {وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} [يونس:39] {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ} [الأعراف:53] ما معنى {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} [الأعراف:53]؟ A ما تؤول إليه حقيقة الأمر، ما تصير إليه حقيقة الأمر، وما سيكون في المستقبل: {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} [الأعراف:53] أي: في المستقبل، عندما يأتي تأويله ويحصل، الآن، فإذاً: التأويل يأتي بمعنى ما تؤول إليه حقيقة الأمر مستقبلاً أو في ثاني الحال. المعنى الثاني: التأويل بمعنى التفسير، كما يقول ابن جرير رحمه الله: والقول في تأويل قوله تعالى كذا، يعني في تفسير قوله تعالى كذا، ويذكر التفسير. المعنى الثالث: التأويل عند الأصوليين هو صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه لدليل، وهنا يدخل هؤلاء المناقشون، يقولون: اللفظ ظاهر اللفظ استوى، فنحن نصرفه عن ظاهره، لماذا؟ يقولون: عندنا دليل، هكذا يقولون، الآن سيدخلون من هذا الباب، فنقول: لا تحتجوا بنصوص التأويل التي فيها النوع الأول والثاني، أنتم لا علاقة لكم بهذا الموضوع. وحتى لا يلتبس علينا معنى التأويل نقول: إن التأويل يكون بمعنى بما يؤول إليه الحال، مثل تأويل الرؤيا، عندما تحققت وصارت ودخل يعقوب وأم يوسف وإخوانه عليه، وتحققت الرؤيا، آلت إلى أن صارت حقيقة في الواقع، وأما من قبل كانت رؤيا، فتأولت وحصلت في الواقع على ما رآها، بحسب ما رآها، فلا علاقة لكم بهذا، ولا علاقة لكم بقضية التأويل بمعنى التفسير، أنتم ستدخلون من باب صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه، وأنتم تقولون إن عندكم قرينة، لأنه لا يجوز صرف اللفظ عن ظاهره، وإلا صار أي واحد يلعب بالقرآن، أي واحد يأتي بأي شيء من القرآن، ويقول: هذا المراد به كذا، الصوم: حفظ أسرار الشيخ، الحج: الذهاب إلى الشيخ، الصلاة كذا، ذكر أسماء علي وحسن وحسين وفاطمة، فهم سيدخلون من هذا الباب.

وجوه صرف اللفظ عن ظاهره

وجوه صرف اللفظ عن ظاهره التأويل الذي هو صرف اللفظ عن ظاهره لدليل هنا لا بد أن يوضح هذا النوع، صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه، له عند علماء الأصول -والشنقيطي من كبار علماء الأصول- له عندهم ثلاث حالات: الأولى: أن يصرف عن ظاهره المتبادر منه لدليل صحيح من الكتاب أو السنة، وهذا التأويل عند الأصوليين صحيح سائغ لا نزاع فيه، ضربوا له مثلاً في كتب الأصول بحديث: (الجار أحق بسقبه) فقالوا: ظاهر هذا الحديث ثبوت الشفعة للجار، أي أنت لو عندك أرض وجارك عنده أرض، إذا أراد الجار أن يبيع أرضه فأنت أولى بها من غيرك، هذا ظاهره، لكن لما نظر العلماء في النصوص الأخرى التي جمعوها في موضوع الشفعة، وجدوا نصاً يقول ما يلي: (فإذا ضربت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة) ما معنى صرّفت الطرق؟ أي ضربت الحدود، وقيل: هذه حدود أرض فلان، وهذه حدود أرض فلان، فعند ذلك لا يوجد حق الشفعة، كل واحد يبيع كما يريد. قالوا: أيضاً تكون الشفعة في الشراكة المشاعة، أنت وشخص عندكم أرض بدون تقسيم، كلاكما يملك الأرض، بنسبة مشاعة من الأرض، ما يجوز واحد يبيع نصيبه أو نسبته فيها بدون أن يعرضها على شريكه. إذاً لما قالوا: (الجار أحق بسقبه) ظاهرها أنه حتى لو كانت أرض محددة، قالوا: هذا ليس ظاهره مراداً، لماذا صرفتموها عن الجار عموماً إلى الشريك فقط، لماذا صرفتموها من الجار إلى الشريك في الشراكة المشاعة أو الشريك المخالط؟ قالوا: لقرينة، والدليل صحيح وهو: (فإذا ضربت الحدود، وصرفت الطرق فلا شفعة) هذا واضح، صرف الدليل عن ظاهره لقرينة صحيحه، وهذا يسمى تأويلاً صحيحاً أو تأويلاً قريباً، أو تأويلاً ساغئاً دلَّ عليه النص. النوع الثاني: صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه لشيء يعتقده المجتهد دليلاً وليس دليلاً في نفس الأمر: فهذا يسمى تأويلاً فاسداً، أو يسمى تأويلاً بعيداً، ضربوا له مثالاً بكلام بعض الأحناف، أو مذهب أبي حنيفة رحمه الله، لما جاء إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل) الآن أبو حنيفة يرى أن نكاح المرأة لا يشترط أن يكون فيه ولي، وممكن أن تنكح من غير ولي، فلما قيل الحديث: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل). قال: المقصود بالمرأة هنا المكاتبة فقط، الأمة عند سيدها ما تنكح إلا بإذن سيدها، وهو وليها، أما النساء الأحرار، والعاديات ممكن بغير إذن وليها، إذاً ما في دليل صحيح، بل النص: (أيما امرأة) يفيد العموم أي: كبيرة، صغيرة، حرة، أمة (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل). فإذاً هذا الذي ذهب إليه رحمه الله ليس تأويلاً صحيحاً، والقرينة غير صحيحة، وليس هناك دليل في نفس الأمر، هذا يسمى تأويلاً بعيداً فاسداً، وهو صرف للفظ عن ظاهره المتبادر منه بغير قرينة صحيحة ولا دليل جازم يجب الرجوع إليه. النوع الثالث: صرف اللفظ عن ظاهره بدون أي دليل، أي حتى ولو قرينة ضعيفة، صرف اللفظ عن ظاهره مطلقاً هكذا على الهوى والتشهي، وعلى الرأي بدون أي قرينة لا ضعيفة ولا قوية، وهذا يسمى عند العلماء لعباً، لأنه تلاعب بالكتاب والسنة، كما قال غلاة الروافض {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67]، قالوا: البقرة عائشة، وما هي القرينة التي أوجبت صرف اللفظ عن ظاهره والظاهر أنه بقرة تمشي على أربعة، بقرة الحيوان البهيمة المعروفة، بأي حق صرفتم البقرة إلى عائشة؟ لا يوجد إطلاقاً أي قرينة. وكما قال الصوفية في قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67]، قالوا: البقرة هي النفس، تذبح نفسك بسكين الطاعة، إذاً {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة:68] قالوا: لا شاب ولا شايب، كهل في الوسط، {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} [البقرة:69] قالوا: صفار الوجه في الطاعة بالصوم {تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} [البقرة:69] فهذا كلام فارغ، وهذا في الحقيقة يسمى تلاعباً لا قرينة له إلا الهوى الذي يعمي ويصم. فالقاعدة إذاً مهمة جداً لأنها تنسف ما يقررونه، لا يجوز صرف اللفظ عن ظاهره إلا لقرينة، جاءوا إلى الاستواء قالوا: نصرفه عن ظاهره، ما هي القرينة؟ قالوا: لأن الاستواء يلزم منه المشابهة، ولماذا لا تقولون هذا في الإرادة؟ ولماذا لا تقولونه في العلم؟ ولماذا لا تقولونه في سائر الصفات التي ناقشنا فيها قبل قليل؟ لماذا لا تعاملون الاستواء كما عاملتم بقية الصفات؟ ما هو الفرق؟ لا فرق في الحقيقة.

نصيحة مشفق لكل مؤول

نصيحة مشفق لكل مؤول قال رحمه الله: (فاسمعوا أيها الإخوان! نصيحة مشفق) هذه الآن النصيحة تبين السبب الذي من أجله ما قبلوا الإقرار بالصفة، لماذا لم يقبلوا الإقرار بالصفة؟ قال: "فاسمعوا أيها الإخوان نصيحة مشفق، واعلموا أن كل هذا الشر إنما جاء من مسألة وهي: نجس القلب، وتلطخه وتدنسه بأقذار التشبيه، فإذا سمع ذو القلب المتنجس بأقذار التشبيه صفة من صفات الكمال التي أثنى الله بها على نفسه، كنزوله إلى السماء الدنيا بثلث الليل الآخر، وكاستوائه على عرشه، وكمجيئه يوم القيامة، وغير ذلك من صفات الجلال والكمال، أول ما يخطر في ذهن المسكين أن هذه الصفة تشبه صفة الخلق". فإذاً هذه مسألة مهمة، وهذا تحليل نفسي لنفسية الأشعري، والمؤولين في الصفات والمحرفين لها. لماذا يلجئون إلى التأويل الذي هو التحريف حقيقة؟ ومن أي شيء ينطلقون؟ مبعثهم الإحساس بالتشبيه، لأنهم اعتقدوا أن هذه الصفة إذا أثبتوها شبهوا الخالق بالمخلوق، قالوا: إذاً هنا لا بد من مهرب ولا بد أن نفر، فلذلك لا يوجد معطل محرف إلا قد كان قبل ذلك مشبهاً؛ لأنه لما اعتقد التشبيه فر منه إلى التعطيل والتحريف، هذه مسألة مهمة جداً، فيدعي أن إثبات الصفة يؤدي إلى التشبيه بصفات المخلوقين، فيكون أولاً: مشبهاً، وثانياً: معطلاً. ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز في حقه تأخير البيان عن وقت الحاجة، هل ممكن يكون هذا اللفظ غير مراد ولا يخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه غير مراد؟ لا يمكن إطلاقاً، هل يمكن أن يكون ظاهر الآيات كفر؟ هم يقولون هكذا، ظاهر بعض آيات الصفات كفر، فنقول: الله أرحم بعباده من أن ينزل عليهم شيئاً ظاهره الكفر، وهل الله يعجز أن يبين العبارة؟ لو كان الله يريد (استولى) لبينها، أي الله عاجز أن يغير، لا تكون الآية {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] وتكون الآية: الرحمن على العرش استولى، ألله عاجز عن هذا؟! كيف نقول: إن هذا أفصح كلام وأبين كلام وأبلغه، ثم نقول: الظاهر غير مراد، بل الظاهر كفر! هم يقولون: اعتقاد الظاهر كفر، إذا اعتقدت أنه استوى تكفر! لماذا؟ لأنهم انطلقوا من التشبيه.

خلاصة ما سبق

خلاصة ما سبق ولذلك قال رحمه الله: " فالحاصل أنه يجب على المسلم أن يعتقد إذا سمع وصفاً اتصف به خالق السموات والأرض في نفسه التعظيم لله، قال فليملأ صدره من التعظيم، ويجزم بأن ذلك الوصف بالغ من غايات الكمال والجلال والشرف والعلو ما يقطع جميع علائق أوهام المشابهة ". وهذه مسألة مفيدة في علاج الوساوس، الآن نحن السلفيين عندما نثبت الأصبع والقدم والرجل واليد والكف، كما أثبت لله عز وجل، ممكن الشيطان يقول: يشبه لك في عقلك شكلاً معيناً وتشبيهاً معيناً، ونحو ذلك، فكيف تقاوم هذه الوسوسة الشيطانية؟ بأن يمتلئ قلبك بالتعظيم عند إمرار الصفة في ذهنك، وخطورها في بالك، يمتلئ قلبك بتعظيم الرب، فإذا امتلأ قلبك بتعظيم الرب، فكل آيات الصفات التي تمر على نفسك ما يمكن أن تسبب بلبلة إطلاقاً عندك؛ لأن تعظيمك للرب سيقطع كل علاقة بين هذه الصفات وبين التشبه بالمخلوق، فلو خطر ببال أحد مثلاً تصور شكل كذا وشكل كذا، وهو في صفات الله، فإذا استحضر عظمة الرب، ماذا يحدث لهذه الأشكال الذي يجري بها الشيطان في النفس؟ كلها تنمسح، وتضمحل، هذا التوحيد أثبت وعظم، فيكون القلب منزهاً معظماً له جل وعلا غير متنجسٍ بأقذار التشبيه، معتقداً بقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11].

قاعدتان ذهبيتان في الأسماء والصفات

قاعدتان ذهبيتان في الأسماء والصفات وفي هذا المقام يتزود الطالب بقاعدتين ذهبيتين مهمتين، ذكرهما شيخ الإسلام رحمه الله في العقيدة الحموية، ونقلها الشنقيطي رحمه الله: أولاً: القول في الصفات كالقول في الذات، ثانياً: القول في الصفات كالقول في البعض الآخر. هاتان قاعدتان خصم بهما شيخ الإسلام كل أشعري، وضاقت مذاهبهم، وأعيتهم الحيل، وتأزموا نفسياً من وراء كتاب الحموية؛ لأنه قعد قاعدتين لا مهرب منهما، قال: القول في الصفات كالقول في الذات. إذا قلت لي يا أيها الأشعري: ذات الله لا تشبه ذوات المخلوقين، أقول لك: ويده لا تشبه يد المخلوقين، وأصبعه لا يشبه أصابع المخلوقين. والقول في الصفات كالقول في البعض الآخر، هذه القاعدة الثانية مهمة: إذا كنت أيها الأشعري تثبت السمع والبصر، أثبت اليد والرجل، فما الفرق؟ القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر، انتهت المسألة، هاتان قاعدتان مهمتان جداً وإليهما أشار رحمه الله، ناقلاً من كلام شيخ الإسلام ومتأثراً به؛ لأن الشنقيطي رحمه الله قد كان في مبدأ أمره ليس على عقيدة السلف في الأسماء والصفات، عندما كان في شنقيط وكان يطلب العلم هناك، ولكن عندما جاء إلى الجزيرة، والتقى بعلماء الجزيرة، وأهدى له الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وأوصى بذلك بعض العلماء في المدينة أن يتابعوا الشيخ الشنقيطي في هذه المسألة، حصل للرجل القناعة التامة بمذهب السلف، وألفه بعد غاية بلوغه في العلم حتى لا يقال: مسكين ضحكوا عليه، ألفه بعد غاية جهده العلمي، ألف مثل هذه الرسالة. وليس ظاهر الصفات التشبيه حتى تحتاج إلى تأويل، قال: " اعلموا أن المقرر في الأصول: أن الكلام إذا دل على معنى لا يحتمل غيره، فهو المسمى نصاً، كقوله تعالى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة:196]. فإذا كان يحتمل معنيين أو أكثر فلا يخلو من حالتين: إما أن يكون أحد الاحتمالين أظهر أو لا يكون ". فإذاً عندنا نص لا يحتمل إلا معنى واحد فقط، وعندنا نص يحتمل احتمالين ثم قد يكون أحد الاحتمالين، أقوى وقد لا يكون أحد الاحتمالين أقوى، فإذا كان الاحتمال يتساوى، فهذا الذي يسميه العلماء المجمل، وضرب مثلاً قال: "لو قلت عدا اللصوص على عين زيد -أي اعتدى اللصوص على عين زيد- فاحتمال أن تكون عينه الباصرة عوروها، أو عينه الجارية غوروها، أو عين ذهبه وفضته سرقوها". فإذاً كلمة عين في اللغة تحتمل: الحاسة هذه، وممكن تحتمل حرف العين من حروف الأبجدية، ممكن تحتمل الجاسوس، ممكن تحتمل عين الماء، ممكن تحتمل الذهب والفضة، فإذا كيف نفهم ما هو المقصود إذا صار هناك اشتراك في اللفظ؟ بالسياق والقرينة التي تدل عليه، فإذا قلت مثلاً: رأيت رأس الجبل، ورأس المال، يتبين بالإضافة كلمة رأس بحسب ما تضاف إليه ويكون لها معنى، رأس المال، رأس الجبل، رأس الإنسان. إذا قلت: رأيت أسداً يكون الظاهر أنه حيوان مفترس، وإذا قلت رأيت أسداً يقاتل على حصان، واضح هنا أن الأسد المقصود به الرجل الشجاع مثلاً، فإذا قال مثلاً: اعتدى اللصوص على عين زيد فعوروها، نفهم العين الجارحة، وإذا قلت اعتدى اللصوص على عين زيد فغوروها، فإذاً هي العين الجارية، وإذا قلت اعتدى اللصوص على عين زيد فسرقوها؟ الذهب والفضة. فالاختلاف في الصفات يعود إلى الاختلاف فيما أضيفت إليه هذه الصفات، كما قلنا في كلمة رأس، إذا أضيف الرأس إلى الجبل، أو إلى المال، أو إلى الإنسان، صارت أشياء مختلفة، فليس لأن فيها كلمة رأس تكون كلها واحدة متشابه، ولا نقول بهذا، وعندما نقول يد الله ويد زيد، ويد الباب، ما يستلزم التشابه، والمعنى يظهر من إضافة كل شيء إليه، فيد الله غير يد الإنسان، ورأس الجبل غير رأس الإنسان، ولله المثل الأعلى، لكن أنت ترى الاختلاف في المخلوق، إذا قلت رأس المال ورأس الجبل ورأس الإنسان، هذه مخلوقات، وكلمة رأس مختلفة في كل واحد منهما بحسب ما أضيف إليه. وكذلك يفهم بالبديهة ويفهم بالطبيعة أننا عندما نضيف صفة لله سبحانه وتعالى، نقول: يد الله، وجه الله، قدم الله، أن هذا لا يلزم التشبيه إطلاقاً، وإذا قلنا استوى الله واستوى المخلوق، لا يستلزم تشبيه الاستواء بالاستواء إطلاقاً وهكذا. ويؤمن المسلم بصفة الله سبحانه وتعالى، وهو يعتقد أن الله منزه عن مشابهة جميع المخاليق والحوادث المحدثة، ونعتقد أن ما قاله هؤلاء المحرفون باطل، وأن المقدمات الكلامية الفلسفية التي اعتمدوا عليها باطلة، وأنهم لما قالوا: إن الله لا يشابه المخاليق هذه مقدمة، وإثبات استواء الله يؤدي إلى التشبيه، فالنتيجة هي أن الاستواء باطل لا ينسب لله، فهذه المقدمة باطلة، وهذا الربط بين (لو واللام) في قولهم: لو أثبتنا لصار تشبيهاً، هذا الربط كاذب، فالله مستو على عرشه من غير مشابهة للمخاليق والحوادث، وكذلك سائر صفاته سبحانه وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] تنزيه {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] إثبات.

قاعدة تقود إلى صحة الإيمان بالأسماء والصفات

قاعدة تقود إلى صحة الإيمان بالأسماء والصفات ثم مسألة مهمة جداً تساعد في توحيد الأسماء والصفات والإيمان به إيماناً صحيحاً أشار إليها الشيخ الشنقيطي رحمه الله قال: (قطع الطمع عن إدراك حقيقة الكيفية لابد منه) ويلزم أن تقطع تماماً الأمل أن تدرك كيفيته إطلاقاً، إذا اعتقدت هذا فستسلم من كل شبهة، قال الله عز وجل: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [طه:110] فعبارة: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [طه:110] يعني: لا يمكن إدراك كيفية صفاته سبحانه وتعالى، ولا يمكن تخيل ذلك، ولا يمكن للعقل البشري أن يحيط به، ولا للعلم البشري أن يحيط به سبحانه وتعالى. والمسألة ليست مجرد عرض عملي كما قد يحس البعض بالجمود، وإنما هو عرض وعظي أيضاً، وعرض إيماني، قال: " لو متم يا إخواني وأنتم على هذا المعتقد " تنزيه الله عن مشابهة المخاليق، إثبات الصفات له، قطع الطمع عن إدراك الكيفية، وإثبات الصفات ونفي التشبيه. قال: " لو متم يا إخواني وأنتم على هذا المعتقد؛ أترون الله يوم القيامة يقول: لم نزهتموني عن مشابهة الخلق؟ ويلومكم على ذلك؟ "هل يلومكم إذا أثبتم الاستواء؟ هل سيقول لكم لماذا لم تأولوا الاستواء؟ " كلا والله، لا يلومكم على ذلك " هل يلومكم ويقول: لم أثبتم لي ما أثبته لنفسي، وأثبته لي رسولي؟! لا ولله لا يلومكم على ذلك، ولا تكون عاقبته سيئة إطلاقاً. وفي الختام: فإنه ذكر رحمه الله تعالى بأن هؤلاء الذين نفوا صفات الله كالاستواء والنزول والمجيء أولاً: اعتقدوا التشبيه، وقالوا: ما قلته في كتابك لا يليق بك، وجاء ربك قالوا: هذه الآية ما تليق بك، ظاهرها لا يليق: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] لا يليق بك، سبحان الله! فاعتقدوا التشبيه، ثم بعد ذلك تهجموا على نصوص الوحي، قالوا: لا بد أن نعمل فيها شيئاً، ولا يمكن أن نسكت، فاضطروا بسببها إلى نفي صفات فراراً من المشابهة، فحملوا نصوص القرآن على معانٍ غير لائقة بالله، ثم نفوها من أصلها، ثم فسروا الصفة بصفة أخرى من تلقاء أنفسهم من غير دليل، فقالوا: استوى يعني: استولى. ولو سرنا معهم وقلنا لهم: استوى بمعنى استولى، ولكن المخاليق تستولي، فلماذا لا تظهر هنا قضية التشبيه ونقول: استيلاء كالاستيلاء، ونحتاج أن نغير الاستيلاء ونأتي بمعنى آخر، أنتم قلتم: لا نقول استوى، لأن الإنسان يستوي، وإذا قلنا الاستواء معناه أننا شبهنا الله بالخلق، ما هو الحل؟ قالوا الحل نقول: استولى، نقول: المخلوق يستولي؟ فإذاً: لماذا لا يكون استيلاء باستيلاء، ففررتم من أي شيء إلى أي شيء، ماذا فعلنا؟ حرفنا الآية بدون فائدة. فهذا ما أورده رحمه الله في هذه الرسالة العظمية النافعة في تقرير توحيد الأسماء والصفات، والرد على من حرف الصفات.

الزواج بلا منكرات

الزواج بلا منكرات لقد حث الإسلام الشباب على تحصين أنفسهم بالزواج، وبين المصالح من هذا الارتباط للفرد والمجتمع، ولأن عقد الزواج يعتبر عقداً مقدساً فقد جعلت له الشريعة شروطاً عظيمة كرضا الزوجين واشتراط الولي في النكاح، ولقد ركز الشيخ -حفظه الله- في هذا الدرس على ذكر بعض الأحكام المتعلقة بالنكاح، وحذر من المفاسد المتعلقة بالزفاف ووليمة العرس، وذلك ليرشد الناس إلى الزواج الإسلامي السعيد الخالي من المنكرات.

أهمية الزواج في الإسلام

أهمية الزواج في الإسلام إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فالحمد لله الذي جعل لنا من أنفسنا أزواجاً لنسكن إليها، وجعل بيننا مودة ورحمة {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34]، وهذا النكاح الذي شرعه الله تعالى للمسلمين يطلق على أمرين: على عقد النكاح وعلى الوطء، فإذا قالوا: نكح فلان فلانة أو بنت فلان أرادوا عقد التزويج، وإذا قالوا: نكح امرأته أو زوجته لم يريدوا إلا الجماع، وهذا التعاقد المقدس الشرعي بين الرجل والمرأة ضرورة فطرية دال على أن الخلقة سوية، قال الله عز وجل: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:21]، وقال سبحانه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف:189].

الترغيب والحث على الزواج

الترغيب والحث على الزواج فالحمد لله على هذه النعمة وهذا الدين الذي يوافق الفطرة، حيث أمر به سبحانه وتعالى الرجال والنساء، وأمر به الأولياء، فقال عز وجل: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور:32]. تأمل يا عبد الله! كيف جاء لفت النظر في هذه الآية إلى الصالحين، وأن قضية الفقر ليست مشكلة كبيرة، وإنما الصلاح هو القضية الأعظم قال تعالى: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور:32] أما قضية المال فإنها تأتي بإذن الله قال تعالى: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور:32] فإن يكن فقيراً، أو عليه دين، أو ليس ذا عمل ولا وظيفة؛ يرزقه الله سبحانه وتعالى. وقد أمر به النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (ومن كان ذا طول فلينكح، ومن لم يجد فعليه بالصوم فإن الصوم له وجاء) وقد أمر الله تعالى بالاستعفاف عند عدم القدرة، والاستعفاف يكون بغض البصر وعدم الاختلاط بما حرم الله، وعدم ملابسة المعاصي ولا غشيان الأماكن التي تثور الشهوات بسبب غشيانها، فلا مناظر ولا أماكن؛ لأن هذه هي قاعدة الاستعفاف قال تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفْ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً} [النور:33] أي: يتركون الحرام ويبتعدون عنه، ويتعففون حتى يأتي الفَرَج من الله عز وجل. وقال سعيد بن جبير: قال لي ابن عباس رضي الله عنهما: [هل تزوجت؟ قلت: لا، قال: تزوج فإن خير هذه الأمة أكثرهم نساء] وهذا النكاح هو شرع مؤكد من سنن المرسلين قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً} [الرعد:38] وقال عليه الصلاة والسلام: (إني أتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني)؛ ولذلك قال العلماء: إن التزوج مع الشهوة أفضل من نوافل العبادة لما يترتب عليه من المصالح الكثيرة والآثار الحميدة؛ بل إنه يكون واجباً في بعض الأحيان، وخصوصاً في هذا الزمان، فإذا خاف على نفسه الحرام أو وقع فيه، أو أوشك أن يقع فيه، وكان في العنت وجب عليه الزواج وجوباً يأثم بتركه.

مصالح الزواج على الفرد والمجتمع

مصالح الزواج على الفرد والمجتمع إن الزواج ليس وسيلة لحفظ النوع الإنساني فحسب، بل هو وسيلة للاطمئنان النفسي والهدوء القلبي والسكون الوجداني، إنه سكن للنفس ومتاع لها، وطمأنينة للقلب وإحصان للجوارح، ونعمة وراحة، وسنة وستر وصيانة، وهو سبب لحصول الذرية التي تنفع الإنسان في الحياة وبعد الممات، وهو عقد لازم، وميثاق غليظ، وواجب اجتماعي، وسبيل مودة ورحمة بين الرجال والنساء؛ يزول به سبب من أعظم أسباب اضطراب النفس البشرية التي لا ترتاح إلا بزواله، فيكون هذا الزواج راحة للنفس وطمأنينة، فالمرأة سكن للرجل وكرامة ونعمة تجلب إليه بصلاحها الأنس والسرور، والغبطة والحبور، وتقاسمه الغموم والهموم، ويكون بوجودها بمثابة السيد المخدوم والملك المحشوم، فمسكين رجل بلا امرأة، ومسكينة امرأة بلا رجل. ولو لم يكن في النكاح إلا سرور النبي صلى الله عليه وسلم يوم يباهي كل نبي بأمته، ولو لم يكن منه إلا هذا التكاثر الذي يترتب عليه سرور محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة بهذه الأمة لكان ذلك كافياً في الرغبة فيه، ولو لم يكن منه إلا ألاَّ ينقطع عمل الإنسان بعد موته بهذا الولد الصالح الذي يدعو له بعد وفاته لكان سبباً في الرغبة فيه، ولو لم يكن فيه إلا أن يخرج من صلبه من يشهد لله بالوحدانية، ولمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة لكان ذلك كافياً، ولو لم يكن فيه إلا غض بصره وإحصان فرجه عن التفاته إلى ما حرم الله، ولو لم يكن فيه إلا تحصين امرأة يعفها الله به ويثيبه على قضاء وطره ووطرها لكان ذلك كافياً، ولو لم يكن فيه إلا احتساب الأجر في النفقة على المرأة في كسوتها ومسكنها؛ ورفع اللقمة إلى فيها لكان ذلك كافياً، ولو لم يكن فيه إلا إغاظة أعداء الإسلام لتكثير أبناء الإسلام لكان ذلك كافياً، ولو لم يكن فيه إلا إعفاف النفس عن الحرام وقطع السبيل على من يروج الحرام لكان ذلك كافياً، فكيف لو اجتمعت هذه الأسباب في رجل صالح؟!

شروط النكاح

شروط النكاح يا عباد الله! نظراً لأن هذا العقد مقدس جعلت له الشريعة شروطاً عظيمة منها:

الرضا بين الزوجين

الرضا بين الزوجين فلا يصح إجبار الرجل على نكاح من لا يريد، كما لا يجوز إجبار المرأة على نكاح من لا تريد؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن) فجعل الرضا في ذلك شرطاً، وإذا امتنعت عن الزواج، فلا يجوز لوليها أن يجبرها على أحد لا تريده كما جاءت بذلك السنة، وأرادت المرأة الأولى أن تبين لمن بعدها أنه لا يجوز للأب إجبار زوج ابنته على من لا تريد، ولا للولي أن يجبر موليته على من لا تريد، فإذا خطبها شخصان، وقالت: أريد هذا ولا أريد الآخر، فيزوجها أبوها بمن تريد إلا إذا لم يكن لها كفؤاً، فعند ذلك يمتنع الولي ولا إثم عليه في منعها لأنها لم تعرف مصلحة نفسها في هذه الحالة، فإذا كان الولي عاضلاً يمنع الكفء المتقدم، فإن القاضي يزيحه عن موقع الولاية، وينصب الولي الذي بعده لكي يوافق على زواجها بمن لا ضير عليها من الزواج به.

وجود الولي في النكاح

وجود الولي في النكاح فالولي مهم لابد منه، ولا نكاح إلا بولي، فلا تزوج المرأة نفسها، ومن زوجت نفسها فنكاحها باطل، وإن ورد ذلك في بعض المذاهب فإن السنة تقضي على كل شيء، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل، وهذه الأدلة قاضية وملزمة، والنص متبوع ونحن تابعون، ولا رأي لأحدٍ مع نص رسول الله صلى الله عليه وسلم.

مسائل متفرقة في النكاح

مسائل متفرقة في النكاح عباد الله: إن هذا الاستخلاف في الأرض الذي يقتضي كثرة تناسل الجنس الإنساني، وحصول المقصود يتحقق بالزواج، والزواج المبكر أفضل وأكمل من تأخيره، ولو لأجل اكتمال الاستعدادات امتثالاً لقوله تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:3] ولقوله تعالى: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور:32] ولقوله صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج).

التوكيل الشرعي في النكاح

التوكيل الشرعي في النكاح وبعض الناس يقولون: نريد الزواج من فتاة في بلد الغربة، ولكن الولي غير حاضر، فنقول: المسألة سهلة؛ يرسل الولي توكيلاً شرعياً من بلده إلى شخص في ذلك البلد، ويقوم مقامه في تزويج البنت، فيذهب هذا الموكل إلى القاضي، ويقوم مقام الولي، ولا حاجة إلى نكاح سر مخترم ليس فيه شروط شرعية متحققة، فلا بد -إذاً- من اكتمال الشروط الشرعية يا عباد الله.

حرمة إجبار البنت على الزواج

حرمة إجبار البنت على الزواج بعض الناس يريد إجبار ابنته على الزواج بصاحب مال حتى يغنم من ورائه، وكذلك بعضهم يضيع ابنته، فلا يبحث لها عن الكفء؛ حتى إنه ربما يريد التخلص منها بأي طريقة، ولقد عرض رجل ابنته على شخص غير كفء، فقال: خذها بخمسة آلاف بالتقسيط! فهل رأيتم -يا عباد الله- مثل تضييع هذا الرجل؟! ويضيع ابنته مع غير الكفء ويريد الخلاص منها؛ لأنه طلق زوجته وعنده بنات منها، ويريد أن يتخلص منهن بأي طريقة، فيوافق على كل أحد مضيعاً لبناته اللاتي جعله الله مؤتمناً عليهن، ولقد خان الأمانة وضيع المسئولية، والله سائله عما استرعاه أحفظ أم ضيع؟

هروب البنات مع العشاق

هروب البنات مع العشاق وكذلك هؤلاء البنات اللاتي يهربن مع العشاق -بزعمهن- ويردن الحرام أو الزواج بمن تريد بأي طريقة ولو لم يوافق الولي، وتشاهد المسلسلات وما أدراك ما هي المسلسلات؟! جهاز الحرام المنتشر الذي يشجع البنات على مثل هذه الحركات السيئة، فيشجعها على أن تهرب مع عشيقها ومحبوبها الذي لم يرض به الأب، وذلك حرام ولا يجوز.

الحيل غير الشرعية في النكاح

الحيل غير الشرعية في النكاح وبعضهم يأتي بحيل لإجبار طرف من الأطراف على إيقاع النكاح، فيقع الفأس في الرأس، وكل ذلك مما ينكشف يوم القيامة ويكون وبالاً على صاحبه، ويعقد لكل صاحب غدرٍ لواء يوم القيامة عند استه يفضحه الله به بين الأولين والآخرين.

أهمية البحث عن أصحاب الدين من الرجال والنساء

أهمية البحث عن أصحاب الدِّين من الرجال والنساء عباد الله: لما كانت الشريعة تريد إقامة البيوت على أساس الدين رغبت الشاب في البحث عن ذات الدين، وكذلك الولي أن يبحث عن الصالحين فجاءت بالطرفين من هنا ومن هناك، فمن هنا: {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ} [النور:32] أي: أنكحوا الصالحين، ومن هناك: (فاظفر بذات الدين تربت يداك)، وإذا قال إنسان: فكيف أعرفها والمصائب نسمعها تترى وتتابع في هذا الزمان من بنت من عائلة نعرفها بأنها محافظة، ثم نفاجأ بالقصص العجيبة عنها؟! فنقول: إن ذلك من سوء الاستقصاء ولا شك، فهلاَّ اكتمل بحثك -يا عبد الله- ويا أيها الشاب! وهلا استقصيت في السؤال لكي تعرف عن حالها؟ وهناك سبل مشروعة من استخدام محارمك من النساء للبحث عن حال هذه الفتاة، أليست في مدرسة يوجد فيها من يعرف حالها؟ أو في حي يوجد فيه جيران يعرفون حالها؟ أو أقارب يعرفون حالها؟ وكذلك إذا أردنا أن نبحث عن الرجل الصالح التمسناه في المسجد، هل هو يواظب على الصلاة فيه أم لا؟ فكذلك المرأة الطيبة تغشى الأماكن الطيبة، وقد صار -ولله الحمد- من مدارس تحفيظ القرآن وغيرها من الأماكن الطيبة ما هو مظان وجود الفتيات الطيبات؛ ولذلك فإن الاستقصاء والبحث والسؤال أمر في غاية الأهمية، والتماس مثل هذه الفتاة في مظان الصالحات أمر في غاية الأهمية، ولما كانت المرأة عاجزة أو ضعيفة، وقليلة الحيلة في السؤال والاستقصاء عن الرجل لم يجعل الشارع الأمر إليها، وإنما جعله إلى ولي رجل، ولما كانت الفتاة المتقدم إليها عاجزة أو قليلة الحيلة في الاستقصاء عن حال هذا الرجل، فلا تستطيع أن تذهب إلى مكان عمله ولا إلى حيه، ولا أن تسأل معارفه؛ جعل الشارع الأمر بيد ولي رجل مؤتمن يقوم عليها، فيسأل لها عن المتقدم إليها ويعرف حاله، وهذه أمانة عظيمة من لم يقم بها فقد خان، والخيانة إثمها كبير وذنبها شديد عظيم، فليتق الله تعالى من استؤمن، وليتق الله من سئل، ومن أشار على أخيه المسلم أو على أخته المسلمة بأمر يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه، فويل للذين يكتمون العيوب التي تمنع من النكاح، وويل للذين يكتمون حال الأزواج أو حال الشباب أو الفتيات عند السؤال، وهم يعلمون أن هذا الأمر مهم بيانه، وأن هذه الأمانة التي إذا ضيعت حصل خلل كبير في الزواج، وكان الإنسان الخائن سبباً في عقد نكاح لا يرضى أحد الطرفين به لو كان يعلم الحقيقة، ومن غش المسلمين فليس منهم كما قال صلى الله عليه وسلم: (من غشنا فليس منا).

الصداق والمغالاة في المهور

الصداق والمغالاة في المهور عباد الله: إن الصداق حق للمرأة؛ لأنه مقابل ما استحل من فرجها كما بين النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أصدق النبي صلى الله عليه وسلم امرأة من نسائه، ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من ثنتي عشرة أوقية) رواه الخمسة وصححه الترمذي. ولما اشتط الناس في أمر الصداق، وبالغوا في المغالاة فيه؛ جعلوا بأيديهم عواقب الهلكة التي أحاطت بشبابهم وبناتهم يخربون البيوت بأيديهم، بل يمنعون قيامها بأيديهم بما جعلوا من المغالاة في الصداق والحفلات وغيرها من المتطلبات، والتي ليس عليها في هذه التكاليف العظيمة دليل ولا أثارة من علم، وجعلوا المطالب الشكلية هي الأساس الذي يدور عليه إمضاء الزواج من عدمه، مع أن شريعة الإسلام تريد إمضاءه أولاً، وهذه الأمور الشكلية تيسر على الإنسان المسلم، فكيف -يا عباد الله- تجعل هذه الأمور الشكلية مانعاً من تحقيق المقصود الأصلي؟ نسأل الله سبحانه وتعالى أن يقينا شر أنفسنا، وأن يلهمنا رشدنا، وأن يتوب علينا، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

حرمة زواج المتعة

حرمة زواج المتعة الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، خلق فسوى وقدر فهدى، وأشهد أن محمداً رسول الهدى، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى. عباد الله! إن الأصل في النكاح البقاء والدوام والاستمرار؛ لأنه إقامة أسرة وبيت، ومن هنا كان زواج المتعة حراماً في الإسلام؛ لأنه زواج مؤقت محدد بوقت معين يعلن فيه العقد، ويتفق عليه الطرفان، ويكون معلوماً لكل منهما، فإذا انتهى الأجل انتهى النكاح -بزعمهم- فهذا استئجار على الزنى وليس من شرع الله في شيء، وزواج المتعة يكون على أربع وعشرين ساعة أو على ثلاثة أيام أو على أسبوع أو على شهر، فهذا استئجار على الزنى ومهر بغي لا يفعله إلا الديوثين؛ فأهل البدع الذين لا عقل ولا دين، ولا غيرة لهم يفعلونه، وأهل السنة يقومون بما جاءت به السنة.

حكم من تزوج وهو مبيت لنية الطلاق

حكم من تزوج وهو مبيت لنية الطلاق وبعض الناس يسأل عن الزواج الذي يكون في نية صاحبه أن يطلق بعد مدة، ولكنه لا يجعل ذلك في العقد ولا هو مشروط بين الطرفين، فهذا الزواج إن تكاملت شروطه الشرعية من رضا الطرفين والولي والإيجاب والقبول، وانتفاء الموانع من المحرمية والنسب والرضاع ونحو ذلك، فإذا انتفت الموانع فإن العقد صحيح في الأصل لتكامل شروطه وعدم النص المانع له؛ ولأن نيته قد تتغير فيتعلق بزوجته أو يكسبه الله منها أولاداً فتبقى عنده، ولكن بعض أهل العلم كرهه لأجل ما فيه من النية المبيتة التي لو علم بها الطرف الآخر ربما لم يوافق عليها. ولكن ينبغي أن يعلم الفرق بين هذا النكاح وبين نكاح المتعة الذي يكون الطرفان على علم بالمدة المحددة التي إذا انقضت انتهى العقد بينهما، وأما الذي أشير إليه قبل قليل من نية عند الزوج أو عند المتقدم كالمسافر للخارج ونحوه؛ فإنها ليست معلنة بين الطرفين، ولا متفق عليها، ولا ينتهي النكاح إذا انتهت المدة التي في ذهنه بل هو مستمر.

حكم الزواج المشروط بنفقة المرأة على نفسها

حكم الزواج المشروط بنفقة المرأة على نفسها وكذلك فإن بعض الناس يكثر الكلام عن النكاح الذي يقول فيه الرجل للمرأة: أتزوجكِ، ولكن لا تشترطي علي مبيتاً ولا تطالبيني بنفقة متى ما جئتك، وعليك أن تنفقي على البيت، فإذا رضيت بذلك المرأة -وهي صاحبة القرار في الطرف الآخر- واكتملت الشروط الشرعية للعقد فإن هذا صحيح، كما أفتى بذلك شيخنا الشيخ: عبد العزيز بن باز رحمة الله عليه وأسكنه فسيح جناته. أيها الإخوة! فإذا ما طالبت المرأة بحقها في النفقة بعد الزواج، وقالت: أطالب بحقي في النفقة، قيل له: إما أن تنفق وإما أن تطلق، وأما ما دامت راضية ساكتة، وتنفق هي ولا تطالبه بمبيت؛ فإن الزواج على ما هو عليه، وهو على صحته باق، ولكن ينبغي أن يعلم أهل الحكمة أن مثل هذا الزواج غير مرشح للنجاح؛ لأنه كالشيء الذي لا يريد فيه صاحبه استقراراً، وربما وافقت عليه المرأة تحت الحاجة، فقالت: أنا برجل يأتيني في الأسبوع مرةً خيرٌ من أن أبقى بقية الدهر عانسة، فهذا في الغالب ليس مرشحاً للاستمرار، ولكن لابد أن نعلم الحكم الشرعي فيه، ثم بعد ذلك هل يقدم عليه الشخص أم لا؟ إن ذلك راجع إليه، وإلى ما يرى فيه المصلحة.

مفاسد وليمة العرس والزفاف في العصر الحاضر

مفاسد وليمة العرس والزفاف في العصر الحاضر عباد الله: إن وليمة العرس سنة، ولكن الناس اشتطوا فيها حتى صارت حملاً ثقيلاً ينوء به الزوج وبتكاليفه، وربما يبقى سنوات وهو يسدد تكاليف الزواج ولما خالف الناس هذه الشريعة التي جاءت بالتيسير صارت أمورهم معسرة وشديدة، ثم لم يرضوا بذلك حتى ملئوا الوليمة والزفاف بالمنكرات مثل: اختلاط النساء بالرجال، والغناء المحرم وآلات الموسيقى، والفرق الغنائية التي تستأجر بكذا وكذا، ويدخل الزوج وبعض أقاربه في كثير من الأحيان على النساء، وتعمل الكاميرات وآلات التصوير عملها لأولئك المصورين والمصورات، وتصوير ذوات الأرواح ملعون من فعله كما جاء ذلك في الحديث، وابتدعوا بدعاً كثيرة فقالوا: نعرض فلماً وثائقياً للزوج من صغره وللزوجة كذلك، وفيها عرض لوقت الخطوبة وإتيانه إليها، والحديث الذي دار بينهما، ويراه الحاضرون أو الحاضرات، فتباً لهذه الأفكار الوخيمة والابتكارات السيئة، وتنطلق الأبخرة والدخان والألوان الحمراء والخضراء وغيرها مركزة على هذه البنت عند دخولها، والكاميرات تعمل عملها، وقد أخبر العارفون بأن هذه الأنوار، وهذه الأبخرة وربما رافق ذلك موسيقى صاخبة بأن ذلك كله من فعل أهل الديسكو وأهل الانحراف وأهل الفسق، ومعلوم أن التشبه بالفسقة حرام، فكيف إذا كان الفعل في ذاته محرماً! فكيف إذا كانت تهدر في ذلك الأموال، ويقع الإسراف الذي لايرضاه الله ولا رسوله! عباد الله: نمص وتزيين بالحرام من كوافيرات كافرات أو فاسقات، وذلك شعار يستعمل في الزفاف وحفلاته، ووضعاً للشعر فوق الرأس كأسنمة البخت المائلة، وهذا صنف من أهل النار حدثنا عنه محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وصل ووشم ونمص وتفلج إلى آخر ذلك من الأفعال التي لعنها النبي صلى الله عليه وسلم ولعن من فعلها، وتختم بالذهب للرجال، ووضع لآنية الذهب والفضة وأطباقهما في الحفلات، وأطباق الكرستوفل وغيرها من الفضة، والتي من أكل أو شرب بها فكأنما يجرجر في بطنه نار جهنم، ورفع لصوت النساء بالغناء، وهن نساء كبيرات في السن بالغات، يصل الصوت عبر هذه المكبرات إلى الرجال في الصالة، أليس في ذلك فتنة؟ هل هذا هو الدف الذي أباحه الشارع؟ كلا والله بل أباح الشارع الدف واستثناه من سائر المعازف، ولم يبح الآلات الموسيقية الكبرى، ولا أصوات النساء الكبيرات اللاتي يصل صوتهن إلى الرجال عبر المكبرات، فهذا كله لم يبح في الشرع؛ ولذلك كان فاعله آثماً، فلا تبدءوا أيامكم الأولى في هذا العقد المقدس -يا معشر الشباب- بمعصية الله، فإنه -والله- لا خير في زواج يبدأ بمعصية الله، ويدوم على معصية الله. اللهم ارزقنا العفة والعفاف، اللهم ارزقنا الأمن والإيمان، اللهم ارزقنا الطهر والنظافة واليقين يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك الأمن يوم الوعيد، وأن تجعلنا من الركع السجود، اللهم أخرجنا من الظلمات إلى النور، واغفر لنا يا عزيز يا غفور! وآمنا في الأوطان والدور، وأرشد الأئمة وولاة الأمور إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

مسائل فقهية يكثر السؤال عنها

مسائل فقهية يكثر السؤال عنها التفقه في الدين من أجلِّ العبادات وأعظمها، فبه يتعلم الإنسان أحكام الشرع الحكيم، وبه يعرف الحلال والحرام، وبه يهتدي إلى الحق من غيره. والناس يسألون الفقهاء دائماً عن أحكام دينهم، ويلحظ الفقيه تكرر أسئلة من ألسنة الكثير، فرأى الشيخ أن يضمن هذه الخطبة بعض الأسئلة المتكررة.

منزلة الفقه في الدين

منزلة الفقه في الدين إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن التفقه في دين الله تعالى من أجلِّ العبادات: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) وفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد. إن منزلة الفقه في الدين -يا عباد الله- من المنازل العظيمة! كيف نعبد ربنا إلا بالفقه، كيف تصح عباداتنا إلا بالفقه، كيف نعرف الحلال والحرام إلا بالفقه، الفقه أساس ديننا، الفهم عن الله ورسوله، فهم الشريعة، فهم الأحكام، وهذا ولا شك، معرفته فرض عين على كل مسلم في كل مسألة احتاج إليها أن يعرف فقهها وحكمها. وأما التفقه في الدين على وجه العموم، فإنه فرض كفاية، فلا بد أن يكون في المسلمين من يُفقّههم، ويفتيهم، ويعلمهم، ويبين لهم أحكام الله عز وجل، فإن لم يكن ذلك فيهم، أو لم يوجد فيهم من يكفي أثموا جميعاً، ومن هنا تنبع الحاجة إلى معرفة أحكام الدين والتفقه فيها، وكثير من الناس تعرض لهم أحوال ومسائل، لا يجدون فيها حكماً شرعياً في أذهانهم، لا يعرفون الحكم فضلاً عن دليله، فضلاً عن القائل به من السلف والعلماء، فضلاً عن فتوى لمفتٍ ممن يعاصرونه ولو بغير دليل، لا يعرفون ذلك إلا من رحم الله تعالى.

قضايا فقهية يكثر السؤال عنها

قضايا فقهية يكثر السؤال عنها وقد رأيت في هذه الخطبة -أيها الإخوة- أن أذكر لكم مجتمعاً من الأحكام الفقهية في الأبواب المختلفة، من الأشياء التي يكثر سؤال الناس عنها، وقد وجدت بالتجربة أن أكثر ما يسأل عنه الناس: اليمين، والطلاق، والمنامات، وأمور أخرى نأتي عليها في بعض من الترتيب الذي ذكره الفقهاء رحمهم الله تعالى من مسائل واقعية، فرأيت أنه يكثر السؤال عنها، فلعلَّ في بيانها نفعاً إن شاء الله تعالى، وستجدون ذلك في التطبيقات العملية، فيما يواجه الشخص في حياته.

أحكام الآنية وإزالة النجاسات

أحكام الآنية وإزالة النجاسات ففي أبواب الآنية: لا يجوز استعمال إلا الطاهر من الآنية، وآنية الكفار إذا لم يوجد غيرها تغسل ثم تستخدم، وأما المطلي بالذهب أو الفضة من الآنية وهي كثيرة جداً في الأسواق من الصحون والملاعق وغيرها، مما يؤكل به أو يقدم الطعام به، فإن استخدامه حرام لا يجوز، ومن أكل أو شرب في آنية الذهب والفضة فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم. وأما إزالة النجاسات: فهي أمر واجب إذا علم نجاسة في ثوبه أو بدنه، وجب عليه المبادرة إلى إزالتها حتى لا يتضرر ببقائها وحتى لا ينساها.

مس المصحف وسنن الفطرة

مس المصحف وسنن الفطرة وأما مس المصحف: فقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله عن الأئمة الأربعة اشتراط الطهارة عندهم لمس المصحف، وقال بعض أهل العلم بأن الأدلة في ذلك لم تثبت، بما يؤكد اشتراط الطهارة لها، فالأحوط للمسلم ألا يمس المصحف إلا على طهارة، بخلاف كتب التفاسير أو الكتب التي يوجد فيها آيات مخلوطة بغيرها من الكلام، فإنه لا بأس بمسها على غير طهارة، ولو للحائض والجنب. وكذلك فإن من سنن الفطرة: قص الأظافر، وإزالة شعر العانة، وشعر الإبط بأي مزيل كان، والسنة والأفضل إزالة شعر الإبط بنتفه إذا قوي على ذلك، وإزالة شعر العانة بالحلق والاستحداد، وهو الأفضل والأكثر أجراً، ولا يجوز إبقاء هذه الثلاثة: الشعر والأظافر، أكثر من أربعين يوماً، فمن فعل ذلك فهو آثم، ولو كان ظفر الخنصر الذي يحتفظ به عدد من الناس، سواءً كان للمرأة أو الرجل، فإن إبقاءه لا يجوز، وقص ما طال عن الشفة العليا من الشارب واجب، لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: (من لم يأخذ من شاربه فليس منا) رواه أحمد وهو حديث صحيح، وتخفيفه سنة أيضاً، وليس من السنة في شيء إطالته وتعريضه وتكثيفه، ومن ظن أن ذلك رجولة، فهو لا يفهم سنة النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان أكمل الرجال رجولة.

خروج الريح والتسمية في الوضوء

خروج الريح والتسمية في الوضوء وأما خروج الريح: فإنه لا يلزم منه استنجاء كما يعتقد ذلك كثير من العامة، وإنما هو الوضوء فقط. ويكثر السؤال عن التسمية عند الوضوء: وقد ذكر بعض أهل العلم وعدد من المحدثين، أن أحاديث التسمية ترتقي إلى درجة الحسن أو الصحيح، ولذلك لا ينبغي تركها فأما إذا كان في مكان قضاء الحاجة سمى اللهُ في نفسه، وتوضأ، وإن نسي التسمية عند أول الوضوء وتذكرها أثناءه سمى الله تعالى في أثناء الوضوء، وإذا نسيها فلم يتذكرها إلا بعد الوضوء سقطت التسمية عنه.

النوم من نواقض الوضوء

النوم من نواقض الوضوء وأما في مسألة النوم: فإنه ناقض للوضوء إذا استغرق الإنسان فيه؛ سواء كان جالساً في خطبة الجمعة، أو في غيرها، أو كان مستلقياً، فإنه إذا استغرق في النوم، وغاب عما حوله، انتقض وضوءه على الراجح من أقوال أهل العلم، لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (العين وكاء السه، فإذا نامت العين استطلق الوكاء) فشبه فتحة الدبر التي يخرج منها الريح بالقربة التي فيها غطاء أو فيها خيط يغلق أعلاها، فإذا نامت العين استطلق الوكاء وانحل الخيط، وأصبح ما في الجوف قابلاً للخروج، كما أن الماء يصبح قابلاً للخروج إذا انفك خيط قربة الجلد.

المسح على الجوربين

المسح على الجوربين ويكثر السؤال في المسح على الخفين والجوربين عن نوع الجورب: والراجح: أن كل جورب يصح أن يسمى جورباً ويطلق عليه اسم الجورب يصح المسح عليه، يوماً وليلة للمقيم وثلاثة أيام بلياليهن للمسافر، يبتدئ المسح من أول وضوء بعد الحدث، إذا غسل رجليه ولبس الجوربين، ثم أحدث، ثم توضأ للصلاة، بدأت مدة المسح من حين وضوئه ذلك، هذا ولا ينتقض الوضوء بخلع الجوربين على الراجح من أقوال أهل العلم، كما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله وأخبر بأنه لا يعرف في الشريعة أن من نواقض الوضوء خلع الخفين والجوربين، لكن إذا انتهت المدة، لم يعد يجوز له المسح عليهما إلا بعد طهارة كاملة فيها غسل الرجلين.

المسح على الجبائر

المسح على الجبائر ويكثر السؤال في مسألة الجبائر التي توضع على الكسور وغيرها، هل يشترط فيها الطهارة؟ ف A لا يشترط الطهارة عند وضع الجبيرة، لكن على الإنسان أن ينتبه بأن لا تجاوز الجبيرة حدود الحاجة اللازمة لاستمساكها؛ لأن بعض الأطباء أو الممرضين الذين يضعونها ربما يجاوزون حدود الحاجة في الأعضاء التي يجب غسلها في الوضوء، فينتج عن ذلك تقصير في الطهارة، فيغسل من الأطراف من أعضاء الوضوء ما ظهر، ويمسح على الجبيرة في الباقي.

مس الذكر هل ينقض الوضوء؟

مس الذكر هل ينقض الوضوء؟ وأما مس الذكر: فإن الراجح من أقوال أهل العلم فيه: أنه إذا كان بشهوة نقض الوضوء، وإذا لم يكن بشهوة لم ينقض الوضوء، كما إذا حدث عند لبس ملابسك مثلاً، وذلك جمعاً بين الحديثين الصحيحين، الواردين عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا: (إنما هو بضعة منك)، وحديث: (من مس ذكره فليتوضأ) كما رجح ذلك شيخ الإسلام رحمه الله.

مس المرأة هل ينقض الوضوء؟

مس المرأة هل ينقض الوضوء؟ وأما مس المرأة: ففيه خلاف كبير، فقال بعضهم: إذا مسها بشهوة انتقض، وقال بعضهم: لا ينتقض وضوؤه ولا طهارته إلا إذا خرج منه شيء كمذي أو مني فعند ذلك ينتقض وضوؤه، وهو الراجح إن شاء الله تعالى.

حكم التداوي بالحرام

حكم التداوي بالحرام وأما التداوي بالمحرم: فإنه لا يجوز سواء كان دماً أو نجاسة ونحو ذلك من الأشياء التي ربما يستخدمها بعض الناس في التداوي، وإذا كان الشراب الذي فيه نسبة من الكحول لو شرب بمجموعه مع الكحول، لو شربت منه كمية كبيرة أسكر، فإنه لا يجوز استخدامه، ولم يجعل الله شفاء هذه الأمة فيما حرم عليها. ولا يجوز أخذ المقابل على الدم، بالنسبة للذين يتبرعون بالدماء في المستشفيات؛ لأن (النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الدم) رواه البخاري. وتشجيع الناس على التبرع طيب، وربما جاز الدفع؛ دفع الثمن للدم ولم يجز أخذ المقابل عليه، وإنما يجوز دفع ثمنه للضرورة، ولا يجوز أخذ الثمن؛ لأن الشارع نهى عن ثمن الدم، ويجوز نقل الدم للضرورة بمثابة أكل الميتة للمضطر، هذا بخلاف التداوي، أحكام المضطر في نقل الدم تختلف عن أحكام التداوي، فمهما قال لك بعض الأطباء الشعبيين أو المشعوذين في فوائد دم الضب مثلاً أو غيره فاعلم بأنه هراء، وكذلك لا يجوز التداوي بالنجاسات. وكذلك لا يجوز تعليق التمائم والحروز وغيرها مما فيه طلاسم، أو كلمات غير مفهومة، أو شركية، أو استغاثة بغير الله، أو أرقام ونحو ذلك كفعل المشعوذين، ولا يتداوى به من سحر ولا من عين ولا من غيرها.

كيفية الغسل

كيفية الغسل وأما كيفية الغسل: فإنه يغسل عورته أولاً، ثم يغسل يديه بشيء من الأشنان أو الصابون مما علق بهما، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم ينهل الماء على شقه الأيمن، ثم الأيسر، ثم على رأسه، وإذا أخر غسل رجليه إلى آخر الغسل فلا بأس بذلك، والغسل واجب إذا أولج الرجل في امرأته سواء أنزل أم لم ينزل.

من أحكام الحيض والنفاس

من أحكام الحيض والنفاس ويكثر السؤال عن المسائل المتعلقة بالحيض من قبل النساء أو من أزواجهن: واعلموا رحمكم الله أن في هذا قواعد بسيطة إذا حفظت فإنها تغني عن كثير من السؤالات، وتزيل كثيراً من الحيرة والاضطراب، فالحيض: أيُّ دم أو صفرة أو كدرة جاء في وقت الحيض فهو حيض، من أي لون كان، أو أي كمية كانت، إذا جاءت في وقت العادة فهي عادة، وإذا جاء دم في غير وقت العادة نظرنا في صفاته، فإن كان مماثلاً للعادة، في اللون والرائحة والأوجاع المصاحبة في البطن والظهر ونحو ذلك حكمنا بأنها عادة، تقدمت أو تأخرت، وإلا فليست بعادة، وكذلك فإن العادة معرضة للتقديم والتأخير، والاتصال والانقطاع، والزيادة والنقصان، ولكن لا تزيد العادة عن خمسة عشر يوماً، فإذا زادت عن خمسة عشر يوماً، اغتسلت وصلت واعتبرت الباقي استحاضة وقضت من الصلوات ما بعد العادة الأصلية، فلو كانت عادتها سبعة أيام، فطال بها الدم في أحد الشهور حتى بلغ ستة عشر يوماً وهي ممسكة عن الصلاة في الخمسة عشر بناء على القاعدة، فإنها تغتسل وتعتبرها استحاضة، وتقضي من الصلوات ما بعد العادة الأصلية وهي السبع من الأيام، وهي معذورة في تركها. أما النفاس فالراجح أن أقصى مدة له أربعون يوماً، فإن زاد عن ذلك فهو استحاضة، وكل كدرة أو صفرة أو دم من أي لون في الأربعين فهو نفاس، وإذا انقطع الدم قبل الأربعين ونظفت المرأة طهرت واغتسلت لزوجها وللصلاة.

رؤية النجاسة في الثوب

رؤية النجاسة في الثوب وأما من رأى في ثوبه نجاسة لا يدري متى حدثت، فإن صلاته فيما مضت صحيحة، وعليه المبادرة إلى غسل النجاسة، وأما إن كان الموجود في الثوب أثر جنابة، فإنه يغتسل ويعيد الصلوات من آخر نومة نامها.

صلاة المفترض خلف المتنفل والمسافر بالمقيم

صلاة المفترض خلف المتنفل والمسافر بالمقيم ويكثر Q عن ائتمام المفترض بالمتنفل، والمسافر بالمقيم، وصاحب صلاة العصر بالظهر، واختلاف النيات بين الإمام والمأموم؟ فاعلموا رحمكم الله، أنَّ ائتمام الجميع بالجميع جائز إن شاء الله، فلو اقتدى مفترض بمتنفل، أو متنفل بمفترض، أو مقيم بمسافر، أو مسافر بمقيم، أو اقتدى من يصلي الظهر بمن يصلي العصر، صح ذلك سواء اختلف عدد الركعات أم لا، ولكن المسافر إذا اقتدى بالمقيم وجب عليه الإتمام، لحديث ابن عباس: (مضت السنة أن يتم المسافر خلف المقيم) والمقيم إذا اقتدى بالمسافر أتم الصلاة ولا بد، لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أتموا صلاتكم فإنَّا قوم سَفْر) ومن كان يريد صلاة المغرب، فصلى خلف من يصلي العشاء، جلس في الثالثة وانتظره على الأفضل إلى أن يسلم فيسلم معه، وأما إذا كان يريد أن يصلي رباعية وراء من يصلي ثلاثية مثلاً فإنه يتم بعد سلام الإمام ولا إشكال في ذلك. ويجوز إذا دخل شخص المسجد فوجد إنساناً يصلي أن يلتحق به، كائنة ما كانت صلاة ذلك الشخص، ويجهر له بالصلاة والتكبيرات بحسب الوقت ليأتم به.

سجود السهو

سجود السهو وأما سجود السهو: فإن كان للزيادة في الصلاة، سجد بعد السلام سجدتين، ثم سلم مرة أخرى، وفي جميع الحالات الأخرى في النقص أو الشك، فإن الراجح أن سجدته تكون قبل السلام للسهو.

قضاء النوافل وسجود التلاوة

قضاء النوافل وسجود التلاوة وقضاء النوافل والسنن الرواتب مشروع، وقد قضى النبي صلى الله عليه وسلم سنة الظهر بعد العصر، وقضاء الوتر مشروع، فإذا قضاه في النهار زاد ركعة، فشفع الذي كان سيصليه في الليل. وسجود التلاوة مستحب، واشترط له كثير من الفقهاء شروط الصلاة؛ من الطهارة، واستقبال القبلة، وغير ذلك، يكبر إذا كان في الصلاة للسجود ويكبر للرفع لعموم الحديث: (كان يكبر عند كل خفض ورفع) وفي خارج الصلاة، يكبر لسجود التلاوة، ويقول الذكر المشروع فيها ومنه التسبيح المعتاد.

مسافة القصر

مسافة القصر وأما السفر، فيكثر سؤال الناس عن مسافته: ذهب بعض أهل العلم كـ شيخ الإسلام رحمه الله: إلى أنه لا حد للسفر، فإن كان عرف الناس في البلد أن ذهابهم منه إلى البلد الآخر سفر، فهو سفر، وذهب عدد كبير من أهل العلم إلى أن مسافة السفر تحدد بمسيرة اليوم والليلة على الإبل التي تحمل صاحبها وعليها متاعه، ومن هنا قدروها بثمانين كيلو متراً. والجمع في السنة يكون إذا جدَّ بالمسافر السير، فإذا جلس في المكان، أو نزل به، فإنه يقصر من غير جمع كما يفعل الحاج في منى. والجمع في السفر، وفي المطر، سنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو للمريض كذلك قياساً على السفر بجامع المشقة.

تأخير الأموات في المستشفيات

تأخير الأموات في المستشفيات عباد الله: مما يكثر السؤال عنه: قضايا تأخير الأموات في ثلاجات المستشفيات: فاعلموا أن الإسراع بتجهيز الميت لا شك أنه من دين الله، وأن تأخير الأموات في ثلاجات المستشفيات من المنكرات، وإكرام الميت التعجيل به كما قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى، بناء على الأحاديث التي حثت على الإسراع بالجنازة، ويستلزم من ذلك سرعة تجهيزها، من غسل، وتكفين، وتقديم للصلاة، ودفن، فهي إما خير تعجلونها إليه، وإما شر تضعونه عن أعناقكم. والإعلام بموت الميت لا حرج فيه، إلا إذا كان على طريقة أهل الجاهلية، الذين كانوا يصيحون في الأسواق وما يفعل في بعض البلدان من الطواف بسيارة لها مكبر يعلنونه في الشوارع، ونعي الجرائد فيه كثير من المنكرات. والإسراع بقضاء الدين يخفف كثيراً عن الميت، والاجتماع للعزاء، ووضع الطعام في العزاء للمعزين بدعة قبيحة ومنكرة؛ لأن الصحابي أخبر بأنهم كانوا يرون الاجتماع إلى أهل الميت وعمل الطعام من النياحة، فلمن يكون الطعام؟ لأهل الميت وضيوفهم الذين قدموا عليهم من بعيد ونزلوا في بيتهم مثلاً. أما المعزون من البلد، فإنهم لا حق لهم في الأكل من الطعام الذي يقدم في العزاء، مهما تواتر الناس وتتابعوا على ذلك، وهذه من البدع القبيحة المنكرة الشائعة، يجعلون العزاء مأكلاً وشرباً، وليس هذا بوقته، ويحملون أهل الميت من التكاليف ما الله به عليم.

ما تجب فيه الزكاة وقضاء رمضان

ما تجب فيه الزكاة وقضاء رمضان عباد الله: كل ما استعمل واتخذ للاقتناء فليس فيه زكاة سوى الذهب والفضة على الراجح. والرواتب لا يزكى إلا ما توفر منها وحال عليها سنة، والأسهم إذا كانت متخذة للبيع والشراء ففي قيمتها وأرباحها الزكاة، وإذا اتخذها ليقتات من أربحاها ويستفيد من الأرباح لا ليتاجر بها فالزكاة في الأرباح إذا حال عليها الحول. وكذلك فإن بعض الناس يحابون بدفع زكاتهم إلى الأقارب، لا تدفع الزكاة لكل قريب أنت مكلف بالإنفاق عليه، كأصولك وفروعك، وكذلك الزوجة، ولا تدفع إلى قريب فقير له غيره يغنيه، فإن كان هناك من ينفق عليه بما يحتاج لم يجز لك أنت أن تعطيه من زكاتك. وتستحب المبادرة إلى قضاء رمضان، وعدم تأخيره إبراءً للذمة.

حكم الصلاة في الطائرة والإحرام فيها

حكم الصلاة في الطائرة والإحرام فيها وأما الصلاة في الطائرة، والصيام فيها والإحرام، فمما ينبغي معرفة حكمه: فتجوز الصلاة في الطائرة، على أي اتجاه كانت مادام لا وقت له للصلاة إلا فيها، كالأسفار الطويلة، إذا لم يكن مستطيعاً لاستقبال القبلة، وإذا لم يكن مستطيعاً للقيام صلى جالساً فيها. وأما الصيام: فلا يفطر إذا أراد أن يتم صومه، إلا عند اختفاء قرص الشمس بالنسبة إليه في الطائرة. والإحرام فيها إذا مر بمحاذاة الميقات من الجو، ويجوز أن يحرم قبل ذلك بقليل كخمس دقائق، احتياطاً لسرعة الطائرة.

مجاوزة الميقات بدون إحرام

مجاوزة الميقات بدون إحرام ويكثر Q عمن كانت له عمرة وعمل في جدة مثلاً، فماذا يفعل؟ فلا بد ولا بد من الإحرام من الميقات، ومن جاوزه بغير إحرام فعليه العودة إليه للإحرام منه، ولزم عليه في هذه الحالة دم، وإن أحرم من جدة وهو مريد للعمرة وهو من الآفاقيين، من أهل البلدان الذين يمرون على المواقيت، فهو مسيء تلزمه التوبة والدم لترك الواجب، فليفعل العمرة قبل أن يذهب إلى العمل إن استطاع، وأما إن كان لا يدري هل يتمكن من العمرة أم لا، ذهب لشغل وقال في نفسه: إن وجدت فرصة اعتمرت وإلا رجعت، فلا حرج عليه أن يحرم من المكان الذي عزم منه على العمرة.

من أحكام العقيقة

من أحكام العقيقة وأما العقيقة: فإنها سنة وفيها تأكيد شديد، وتجوز في أي يوم من الأيام، خصوصاً الذين يريدون فعلها في عطلة نهاية الأسبوع؛ لأجل اجتماع الناس وأقربائهم وظروفهم، والسنة أن يذبح في اليوم السابع، فإن لم يتمكن ففي الرابع عشر، فإن لم يتمكن ففي الحادي والعشرين، لحديث حسن رواه البيهقي في ذلك، وبعد الحادي والعشرين قال بعضهم في مضاعفة السبعة، وقال بعضهم تستوي في أي يوم كان، وكلما كانت أقرب كانت أفضل، وشروطها شروط الأضحية، ولا ينسى نصيب الفقراء منها.

استئذان الوالدين للجهاد

استئذان الوالدين للجهاد وأما استئذان الوالدين للجهاد: فإن كان جهاداً مستحباً أو فرض كفاية وجب استئذان الأبوين؛ لأن استئذانهما فرض عين وطاعتهما فرض عين، وإن كان الجهاد فرض عين، كأن حضر المعركة، أو داهم العدو البلد خرج بغير إذن أبويه.

من أحكام البيوع

من أحكام البيوع ولا يجوز في البيع أن يبيع محرماً وهذا كثير في الدكاكين، ولا أن يبيع شيئاً على من يستخدمه في معصية، واعلموا أن الأشياء المبيعة ثلاثة: منه ماهو مستخدم في المعصية فقط، ومنه ما هو مستخدم في الطاعة، ومنه ما يستخدم في الحلال والحرام كالسكين، فإذا عرف أنه سيستخدمه في الحرام، أو غلب ذلك على ظنه لم يجز له أن يبيعه. وأما الذين يكتبون في الدكاكين: البضاعة التي تباع لا ترد ولا تستبدل، فهذا إذا خرج من المجلس ولم يكن فيها شيء يبيح الرد كالعيب، أما إذا كان في مجلس العقد، جاز له أن يرد رغماً عن البائع، وإذا ظهر فيها عيب جاز له أن يردها رغماً عن البائع، ولو كتب في الدكان، أو على الفاتورة ما كتب. وكذلك فإن بيع التقسيط جائز على الراجح من أقوال أهل العلم إذا كان يملك السلعة، وكان الثمن معلوماً، جاز له أن بيع تلك السلعة بالتقسيط، أما الذي يفعل اليوم عن طريق شركات التقسيط، فهو رباً وحرام، يقولون له: انتق السلعة وهات الفاتورة، يسددونها عنه ثم يقولون: سدد بزيادة إلى أجل بالتقسيط، فهذا رباً وحرام، ولا شك في ذلك، لكن إذا ملكوا السلعة وحازوها إليهم، ولم يكن هناك إلزام مسبق، جاز لهم أن يبيعوها عليه بالتقسيط، وإن تأخر عن السداد في الموعد لم يكن لهم إلا الثمن الذي اتفقوا عليه. والبيع على الشرط جائز إذا كان صحيحاً، فإن كان الشرط فاسداً لم يجز البيع، كأن يقول له: أبيعك بشرط ألا تبيع لغيرك؛ فهذا شرط فاسد. وكذلك فإنه لا يجوز البيع قبل القبض للحديث الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم) وقال: (لا تبع ما ليس عندك). وأما الربا فأشكاله كثيرة، ومن أشهرها القرض الربوي، وهم يتحايلون بتسجيل المبلغ في الكمبيالة أقل مما استلم، ليرد ما في الكمبيالة من الرقم، ولا شك أن هذا حرام واضح أشد الوضوح، وهم يغرون الناس بأشياء، يقولون: لا يلزم كفيل، ويقولون: إذا مت نسامحك، الله أكبر! ما أحسن أخلاقهم، إذا مت نسامحك ترغيباً له في الاقتراض، ويجعلون شروطاً للراتب حتى يتمكنوا من أخذ الربا الذي اشترطوه وكتبوه ضمن المبلغ.

من أحكام الرهن والوكالة

من أحكام الرهن والوكالة وأما بيع البيوت المرهونة: لا يجوز أن يباع البيت المرهون إلا بإذن الطرفين. وفي باب الوكالة، يسأل بعض الناس: إذا وكلنا في شراء شيء، فهل يجوز لنا أن نأخذ ربحاً؟ فنقول: نعم، إذا كان صاحب الشأن يعلم، أما إذا كان لا يعلم فلا يجوز لكم أن تأخذوا ربحاً إلا إذا كنتم أنتم البائعين، فإذا قلت له: أنا أبيعك، جاز أن تأخذ الربح ولو لم تخبره بكم رأس المال عليك؟ أما إذا كنت مجرد وكيل وقال لك: من فضلك اشتر لي كذا من السوق، فيجب أن تخبره بثمنه، ولا يجوز أن تأخذ شيئاً زيادة إلا بإذنه، ومن قال لغيره: بعه بمائة وما زاد فهو لك، فهذا بيع جائز وصحيح.

ما يحدثه الإنسان في ملكه

ما يحدثه الإنسان في ملكه ولا يجوز للإنسان أن يحدث في ملكه ما يضر الآخرين، فلو أحدث في بيته طاقات ونوافذ تضر بالجيران، أو عمل مقهىً أو تنوراً يؤذي جيرانه، ألزم بإزالته، وبتغطية النوافذ شرعاً، أو عمل ورشة تقلق راحة الجيران ألزم بإزالة ذلك. ولا يجوز أن يحدث في ملكه ما يضايق الطريق، كأن يبني ويترك الأسمنت والحديد يضيق الشارع، فهذا حرام يأثم به طيلة وضعه في الطريق مضيقاً له، أو أن يجعل لنفسه موقفاً لسيارته، يأخذ من حد الطريق العام الذي هو للمسلمين، فإنه يأثم ويلزم بإزالة ذلك الموقف، وقال شيخ الإسلام رحمه الله: لا يجوز لأحد أن يخرج شيئاً في طريق المسلمين من أجزاء البناء، أو يعتدي على الشارع العام، أو على الرصيف، كل ذلك حرام، وكذلك فإن بعض الناس يضعون من الأشياء المؤذية: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} [الأحزاب:58]. وإذا كان المال من شخص، والعمل من شخص، كانت شركة مضاربة وفي أحكام الشركات إذا اتفق على النسبة، فهي صحيحة شرعاً، لكن إذا خسرت الشركة يخسر صاحب المال ماله ويخسر صاحب الجهد جهده، ولا يجوز تحميل خسارة مالية للمضارب إذا كان أميناً لم يتعدَ ما اتفق عليه من العمل، وأخذ المال. واشتراط ضمان رأس المال حرام لا يجوز، فإذا قال له: هات من عندك رأس مال، أتاجر به أضمنه لك، أعطيك من الأرباح نسبة كذا، وإذا خسرت فإنك لا تخسر؛ بهذا الشرط حرام لا يجوز، أما أن يدخل معه على الشركة الجائزة شرعاً وإلا فلا يدخل.

من أحكام الإجارة

من أحكام الإجارة وبالنسبة للإجارة، فلا بد أن تكون الأجرة معلومة في عقد الإجارة الشفوي أو الكتابي. وجهالة الأجرة حرام، إلا إذا كانت الأجرة شائعة في البلد، فلا حرج في عدم ذكرها. ولا يجوز تأجير المحلات والدور على من يستعملها في معصية الله تعالى، وعقود الموظفين في الشركات والمصالح الحكومية هي عقد إجارة، يجب على الموظف الوفاء بالعمل، ويجب على صاحب العمل الوفاء بالأجرة.

حكم النوم في العمل والانصراف قبل الوقت

حكم النوم في العمل والانصراف قبل الوقت ويكثر السؤال من الناس عن حكم النوم في العمل، خصوصاً الذين يعملون في النوبات الليلية وغيرها، أو تقسيم الموظفين الذين يداومون في تلك النوبة فيبقى بعضهم وينصرف آخرون أو ينامون؟ ويكثر Q عن حكم الانصراف من العمل قبل الوقت إذا أدى المهمة في ذلك اليوم؟ ف A كل ذلك بحسب الاتفاق والعقد، فإذا شرطوا عليه أن يبقى مستيقظاً في العمل من السابعة إلى الثانية ظهراً لم يجز له الانصراف إلا بإذن، ولا النوم، ولا تقسيم العمل على الموظفين الموجودين مهما كان قليلاً، وأما إن قالوا له في العقد: إن تنجز عملك اليومي وتنصرف، فإن ذلك لا بأس به فله أن ينصرف.

حكم المسابقات

حكم المسابقات وأما المسابقات: فإنها لا تجوز عند جمهور أهل العلم على عوض، إلا فيما يُعين على الجهاد ونشر الدين، كالسباق على الإبل والخيل والسهام وما يقوم مقامها كسائر الأسلحة المستخدمة في التصويب، لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر) وألحق شيخ الإسلام رحمه الله المسابقات في حفظ القرآن والسنة والدين؛ لأنها تشترك مع الجهاد في نشر الدين، ومنه تعلم أن كثيراً من المسابقات القائمة اليوم بجوائز الاشتراك فيها للجائزة حرام. والمسابقات ثلاث: مسابقة محرمة في أصلها، ومسابقة جائزة بعوض كالسبق على الخيل وفي الرمي، ومسابقة جائزة بغير عوض كالسباق على الأقدام وغير ذلك من أنواع الألعاب المباحة. والرهان حرام إلا إذا كان فيه انتصار للدين وإظهار الإسلام وهيمنته، كما راهن أبو بكر الكفار على غلبة الروم للفرس بحسب ما ورد في الآية، وأما الرهانات الأخرى الموجودة والمنتشرة كثيراً بين الناس فهي حرام ولا تجوز. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا إنه سميع مجيب قريب. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

شهر المحرم وصيام عاشوراء

شهر المحرم وصيام عاشوراء أشهد أن لا إله إلا هو ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً رسول الله المبعوث رحمة للعالمين، والصلاة والسلام عليه وعلى آله وصحبه وذريته الطيبين الطاهرين وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. عباد الله: قد بقي لنا في الموضوع بقية، في أحكام تتعلق بالمعاملات، لعلنا نأتي عليها في خطبة قادمة إن شاء الله، وقد سبق أن ابتدأنا سلسلة في أحكام الغناء، لعلنا نكمل شيئاً من ذلك في الخطبة القادمة بمشيئة الله، وأتحدث إليكم بسرعة، عن مسألة عاشوراء، وقد دخلنا في شهر محرم نسأل الله أن يجعله عاماً مباركاً، وعام نصر للإسلام والمسلمين. وهذا شهر محرم الحرام، من اقترف فيه سيئة فإن الإثم يضاعف عليه؛ لأنه من الأشهر الحرم التي قال الله فيها: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة:36]. ويندب الإكثار من الصيام في شهر محرم على وجه العموم. وفيه يوم عاشوراء الذي كان صيامه مفروضاً على المسلمين، ولما فرض صيام رمضان نسخ عاشوراء وصار صومه مستحباً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن كان أمرهم بصيامه: (إن عاشوراء يوم من أيام الله، فمن شاء صامه ومن شاء تركه) وقال صلى الله عليه وسلم: (إن هذا يوم كان يصومه أهل الجاهلية، فمن أحب أن يصومه فليصمه، ومن أحب أن يتركه فليتركه). وأما في أجره: فقال عليه الصلاة والسلام: (صوم عاشوراء يكفر سنة ماضية) رواه مسلم رحمه الله تعالى، وفي رواية () إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله) رواه الترمذي وهو حديث صحيح. فهنيئاً لمن صامه؛ لأنه يكفر له ذنوب سنة كاملة قد مضت، فما أكثر الذنوب! وما أعظم من سامح وغفر، والله سبحانه وتعالى شرع لنا هذه المواسم للمغفرة والتوبة. وعاشوراء: هو يوم العاشر من محرم، وهذا اليوم يوم نجى الله فيه موسى ومن معه، انتزع النبي صلى الله عليه وسلم فضيلته من اليهود، لما أخبروه عن سبب صيامهم له، ونحن أحق بموسى منهم. وفي صيامه موافقة لسنة الأنبياء، وانتزاع للفضيلة من أهل الكتاب، والتأكيد على ذلك، وتكون مخالفتهم بأن نصوم يوماً قبله أو يوماً بعده، بالإضافة لما فيه من الأجر العظيم، واعلموا رحمكم الله تعالى أن تاسوعاء هو الأفضل أن يصام مع عاشوراء، فمن فعل ذلك فقد أتى بسنَّة عظيمة من السنن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم همَّ بذلك وأخبر عن عزمه عليه. وكذلك فإن صيام هذا اليوم، ذكر فيه بعض أهل العلم أن له مراتب ثلاث: أن يصام عاشوراء فقط، وهذا جائز وتكون المخالفة في هذه الحالة مستحبة لا واجبة. وأن يصام يوم قبله وهو الأفضل، أو يوماً بعده فهي المرتبة الثانية. وأن يصام يوماً قبله ويوماً بعده، ولم يصح بذلك حديث، ولكن لأجل الاستكثار من العمل الصالح، وعموم مشروعية الصيام في محرم، يكون أفضل من هذه الجهة. وأما بالنسبة لهذه السنة، وفي كل سنة يتكرر الكلام، إذا علمت -يا عبد الله- بدخول الشهر فصم على حسب علمك، فإن علمت أن ذي الحجة كانت تسعاً وعشرين وأن محرماً دخل في اليوم الفلاني فصم بناءً على ذلك، وإذا لم يصل إليك علم، فإنك تعمل بناءً على إكمال ذي الحجة ثلاثين؛ وتصوم عاشوراء من محرم بناءً على ذلك، ولا يجب تحري دخول محرم؛ لأنَّه لا تتعلق به عبادة واجبة، بل يجب تحري دخول رمضان، وشهر شوال، ويجب تحري دخول ذي الحجة، لكن لا يجب تحري دخول محرم؛ لأنه لا تتعلق به عبادة واجبة، فإن وصلنا خبر صمنا بناءً على ذلك، وإلا فنكمل ذو الحجة ثلاثين، وبناءً على ذلك لو أكملنا ذو الحجة ثلاثين فيكون الإثنين والثلاثاء من الأسبوع القادم هو تاسوعاء وعاشوراء، ومن صام الإثنين والثلاثاء فإنه أصاب عاشوراء قطعاً؛ لأنه إما أن يكون الإثنين أو الثلاثاء، فمن صام الإثنين والثلاثاء فإنه يكون قد أصاب عاشوراء إن شاء الله تعالى، وهذا ما أخبرنا به سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل باز عن هذه السنة في صبيحة هذا اليوم، وقد سألته عنه فقال: الأفضل أن يصوموا الإثنين والثلاثاء ما لم يأتِ خبر عن دخول الشهر. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يتقبل من الجميع، وأن ينعم علينا أجمعين بالتوبة النصوح، والمغفرة من سائر الذنوب، وتكفير الخطايا. اللهم إنا نسألك الأمن في البلاد، والنجاة يوم المعاد، والنفع للعباد يا رب العالمين. اللهم آمنا في الأوطان والدور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور، واغفر لنا ذنوبنا يا عزيز يا غفور! سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

القارئ الصغير

القارئ الصغير كان عمرو بن سلمة فتى صغيراً؛ لكنه كان قوي الحفظ سريعه، فكان يتلقى الركبان ويحفظ منهم ما أنزل من القرآن. وحينما أسلم قومه وأمرهم صلى الله عليه وسلم أن يؤمهم أقرؤهم، لم يجدوا من هو أقرأ من عمرو، فأمهم ولم يكن له إلا ثوب ممزق تبدو منه سوءته، فمرت امرأة من الحي وقالت: غطوا عنا است إمامكم، فاشتروا له قميصاً فكان فرحه به عظيماً، وفي هذه القصة فوائد وأحكام كثيرة. يمكنك أن تعرفها من اطلاعك على هذه المادة.

روايات حديث عمرو بن سلمة في إمامته صبيا

روايات حديث عمرو بن سلمة في إمامته صبياً

رواية البخاري لحديث عمرو بن سلمة

رواية البخاري لحديث عمرو بن سلمة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. وبعد: فمعنا حديث الصحابي الصغير عمرو بن سلمة رضي الله تعالى عنه، يقول راوياً قصته التي أخرجها الإمام البخاري رحمه الله والنسائي وأبو داود والإمام أحمد يقول: (كنا بماءٍ ممر الناس، وكان يمر بنا الركبان، فنسألهم: ما للناس؟ ما للناس؟ ما لهذا الرجل؟ فيقولون: يزعم أن الله أرسله وأوحى إليه، أو أوحى الله إليه بكذا، فكنت أحفظ ذلك الكلام، وكأنما يُقر في صدري، وكانت العرب تلوم بإسلامهم الفتح، فيقولون: اتركوه وقومه فإنه إن ظهر عليهم فهو نبيٌ صادق، فلما كانت وقعة أهل الفتح بادر كل قومٍ بإسلامهم، وبادر أبي قومي بإسلامهم، فلما قدم قال: جئتكم والله من عند النبي صلى الله عليه وسلم حقاً، فقال: صلوا صلاة كذا في حين كذا، وصلوا صلاة كذا في حين كذا، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم وليؤمكم أكثركم قرآناً، فنظروا فلم يكن أحدٌ أكثر قرآناً مني لما كنت أتلقى من الركبان، فقدموني بين أيديهم وأنا ابن ست أو سبع سنين، وكانت علي بردة كنت إذا سجدت تقلصت عني، فقالت امرأة من الحي: ألا تغطوا عنا است قارئكم؟! فقطعوا لي قميصاً، فما فرحت بشيء فرحي بذلك القميص).

رواية النسائي لحديث عمرو بن سلمة

رواية النسائي لحديث عمرو بن سلمة فأما رواية النسائي رحمه الله: فعن عمرو بن سلمة قال: (لما رجع قومي من عند النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: إنه قال: ليؤمكم أكثركم قراءة للقرآن، قال: فدعوني فعلموني الركوع والسجود، فكنت أصلي بهم وكانت عليّ بردة مفتوقة فكانوا يقولون لأبي: ألا تغطي عنا است ابنك) وفي رواية له أيضاً قال: (كان يمر علينا الركبان فنتعلم منهم القرآن، فأتى أبي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ليؤمكم أكثركم قرآناً، فجاء أبي فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ليؤمكم أكثركم قرآناً، فنظروا فكنت أكثرهم قرآناً، فكنت أؤمهم وأنا ابن ثمان سنين).

رواية الإمام أحمد لحديث عمرو بن سلمة

رواية الإمام أحمد لحديث عمرو بن سلمة وأما رواية الإمام أحمد رحمه الله فإنه رواها عن عمرو بن سلمة قال: (كنا على حاضرٍ -وهم القوم الذين ينزلون بمكان لا يرحلون عنه- فكان الركبان يمرون بنا راجعين من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي أن الذين يذهبون إلى المدينة ويرجعون طريقهم على هؤلاء- فأدنو منهم فأسمع حتى حفظت قرآناً، وكان الناس ينتظرون بإسلامهم فتح مكة، فلما فتحت جعل الرجل يأتيه فيقول: يا رسول الله أنا وافد بني فلان وجئتك بإسلامهم، فانطلق أبي بإسلام قومه فرجع إليهم فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قدموا أكثركم قرآنا، فنظروا وإنا لعلى حواءٍ عظيم، فما وجدوا فيهم أحداً أكثر قرآناً مني، فقدموني وأنا غلامٌ فصليت بهم وعليّ بردة، وكنت إذا ركعت أو سجدت قلصت فتبدو عورتي، فلما صلينا تقول عجوزٌ لنا دهرية: غطوا عنا است قارئكم، قال: فقطعوا لي قميصاً فذكر أنه فرح به فرحاً شديداً). وأما رواية أبي داود رحمه الله فإنه رواها عن عمرو بن سلمة قال: (كنا بحاضرٍ يمر بنا الناس إذا أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا إذا رجعوا مروا بنا، فأخبرونا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كذا وكذا، وكنت غلاماً حافظاً، فحفظت من ذلك قرآناً كثيراً، فانطلق أبي وافداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفرٍ من قومه فعلمهم -أي النبي عليه الصلاة والسلام- الصلاة فقال: يؤمكم أقرؤكم، وكنت أقرؤهم لما كنت أحفظ، فقدموني، فكنت أؤمهم وعلي بردة لي صغيرة صفراء، فكنت إذا سجدت تكشفت عني، فقالت امرأة من الناس: واروا عنا عورة قارئكم، فاشتروا لي قميصاً عمانياً، فما فرحت بشيء بعد الإسلام فرحي به، فكنت أؤمهم وأنا ابن سبع سنين أو ثمان سنين). وفي رواية أخرى لـ أبي داود عن عمرو بن سلمة: (إنهم وفدوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلما أرادوا أن ينصرفوا قالوا: يا رسول الله! من يؤمنا؟ قال: أكثركم جمعاً للقرآن أو أخذاً للقرآن، فلم يكن أحدٌ من القوم جمع ما جمعته، قال: فقدموني وأنا غلام وعلي شملة لي، فما شهدت مجمعاً من جرمٍ -يعني قومه بني جرم- إلا كنت إمامهم، وكنت أصلي على جنائزهم إلى يومي هذا).

ترجمة عمرو بن سلمة وذكر ضوابط في معرفة الصحابي

ترجمة عمرو بن سلمة وذكر ضوابط في معرفة الصحابي هذا الحديث الذي يرويه عمرو بن سلمة رضي الله تعالى عنه وهو رجلٌ مختلفٌ في صحبته، أبوه صحابي لأنه وفد على النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يُوجد في الرواية أنه وفد مع أبيه، وقد قيل: إنه وفد على النبي صلى الله عليه وسلم وقيل: إنه لم يفد عليه، ولذلك لم يكن في عداد الصحابة.

تعريف الصحابي

تعريف الصحابي والصحابي هو من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على ذلك. لماذا قلنا: من لقي ولم نقل: من رأى؟ لأنه قد يكون ضريراً، لو قلنا: من رأى النبي صلى الله عليه وسلم فمعنى ذلك أننا أخرجنا ابن أم مكتوم وأخرجنا فلاناً وفلاناً من الصحابة الذين لم يكونوا من المبصرين، فقال العلماء: من لقي النبي صلى الله عليه وسلم، واللقيا هي: هو أن يجتمع مع النبي في مكانٍ واحد ولو لم يتحدث معه، ولو لم يسمع منه شيئاً، فمجرد التقائه بالنبي عليه الصلاة والسلام يصير من الصحابة الذين لهم الميزات العظيمة رضي الله عنهم ورضوا عنه ومن أهل الجنة، والقدح فيهم قدح في نقلة الوحي، ولا يسأل عن أحدهم في الحديث هل هو ثقة أو غير ثقة لأنهم عدول كلهم، وهم قومٌ اختارهم الله؛ كل واحدٍ لقي النبي صلى الله عليه وسلم فهو صحابي، وهذا يشمل من لقيه في الأرض أو لقيه في السماء. ولذلك فإن بعض الأنبياء صحابة لقوه مؤمنين به، لكن عندما نقول في التعريف: من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على ذلك، فإن عيسى عليه السلام بناءً على ذلك ينطبق عليه تعريف الصحابي، لأنه لقي النبي عليه الصلاة والسلام مؤمناً به وسيموت على هذا، لأن عيسى لم يمت بعد عليه السلام، عمره فوق ألفي سنة، وسيكون عمره فوق ألفين سنة إذا نزل ومات عليه السلام. ولا يهم أين لقيه، في طريق الهجرة، في مكة في المدينة في الأرض، في السماء. واللقاء يمكن أن يكون بنظرة أو اجتماع في مكانٍ واحد سواء كلمه أو لم يكلمه. ومؤمناً به: حتى نخرج الكافر الذي لقيه ولم يؤمن به ومات كافراً، مثل أبي لهب وأبي جهل وغيرهم ممن لقوا النبي عليه الصلاة والسلام، ولكنهم ليسوا بمؤمنين به، فلذلك ليسوا من الصحابة؛ لأن الصحابي من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناٌ به ومات على ذلك. فخرج من هذا كل المرتدين الذين ماتوا مرتدين ممن لقي النبي عليه الصلاة والسلام كـ مسيلمة، فقد لقي النبي صلى الله عليه وسلم وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه مات على الردة، وعدد من العرب ماتوا على الردة. فالصحابي من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على ذلك ولو تخللته ردةٌ على الأصح؛ فلو أنه ارتد ثم رجع فإنه يعتبر صحابياً؛ لأن العبرة بالخاتمة، والتوبة تجب ما قبلها، فتمحى فترة الردة بالتوبة، فيتصل الإسلام الأول بالإسلام الثاني، فكأن الردة لم تكن، ومات على ذلك. وهناك أناس حصل بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم مراسلات، وآمنوا به وماتوا على ذلك، لكن ليسوا صحابة كـ النجاشي؛ لأنه لم يلتق معه، حصل بينه وبينه مراسلات، لكن ما لقيه. ثم إن العلماء بحثوا مسألة: هل إذا لقيه يشترط أن يكون في سنٍ معينة؛ لو أن النبي عليه الصلاة والسلام رأى شخصاً والشخص هذا كان عمره سنة، من الذي لقي الآخر؟ النبي صلى الله عليه وسلم لقي الصبي أو حنكه أو دعا له ونحو ذلك. وكذلك الجن، فإن تعريف الصحابة لا يختص بالإنس، فمن الجن صحابة التقوا بالنبي عليه الصلاة والسلام وعلمهم القرآن، قرأ عليهم سورة الرحمن وانطلق مع وفدهم واجتمع بهم، وأرى الصحابة آثار نيرانهم، وأعطاهم كل عظمٍ ذُكر اسم الله عليه عند ذبحه، فكل عظم ذبيحة ذُكر اسم الله عليها عند ذبحها ينقلب في أيديهم لحماً أوفر ما يكون، طعاماً للمسلمين منهم، وكل روث علف لدوابهم، ولذلك نهينا أن نستجمر بالروث والعظم، لأن العظم زاد إخواننا من الجن، ينقلب لحماً في أيديهم، والروث علف لدوابهم لأن الجن لهم دواب، وعلف دوابهم الروث، فلا نستجمر لا بعظم ولا بروث. ثم ً بحثوا أيضاً مسألة الملائكة الذين لقوا النبي عليه الصلاة والسلام، ولا شك أن الملائكة ستموت عندما ينفخ في الصور، كل من في السماوات ومن في الأرض حتى جبرائيل وميكائيل وحتى إسرافيل الذي ينفخ في الصور يموت. ثم بحثوا أيضاً مسألة من وصل إلى المدينة وقد مات عليه الصلاة والسلام ورآه بعد ما مات قبل أن يُدفن هل يكون صحابياً أو لا، وينبغي معرفة هل حصل أصلاً هذا أو لا، لأن إثباته قد يكون من الصعوبة بمكان، فالمهم أن هناك حالات متفق عليها أنهم من الصحابة، وحالات مختلف فيها هل هم من الصحابة أم لا، وحالات قطعاً ليسوا من الصحابة، وهناك أناس وفدوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام فكان قد مات قبلها بليالٍ كالشاعر أبي ذؤيب الهذلي، والصنابحي وغيرهم ممن جاءوا بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام بقليل جداً. وبعضهم أكبر من الصحابة في العمر، عمرو بن ميمون الأودي عمره مثل عمر ناس من كبار الصحابة، لكن ما كتب له أن يلقى النبي عليه الصلاة والسلام، وصل إلى المدينة بعدما مات النبي عليه الصلاة والسلام. عدة الصحابة مائة وأربعة وعشرون ألفاً، والذين حجوا معه في حجة الوداع عددهم قريب من هذا العدد، حج معه كل المسلمين القادرين على الحج، مائة وأربعة وعشرون ألفاً رأوه في عرفة ونظروا إليه، ومؤكد أن هذا العدد الذي نقله العادون في الحج في عرفة اجتمع معه صلى الله عليه وسلم. أما المنافقون فليسوا من الصحابة طبعاً إذا ماتوا على النفاق كـ عبد الله بن أبي بن سلول وغيره من المنافقين، والحمد لله لا يوجد في نقلة الأحاديث منافق، ما أذن الله لمنافق أن يروي حديثاً، ولذلك كل رواة الحديث عدول من الصحابة، لا يوجد حديث رواه منافق، ما مكنهم الله من رواية الأحاديث، وأصلاً هم لا يقصدون نشر العلم بأي طريقة، بل يريدون الطعن في نبوة النبي صلى الله عليه وسلم.

شرح حديث عمرو بن سلمة في إمامته صبيا

شرح حديث عمرو بن سلمة في إمامته صبياً وعمرو بن سلمة رضي الله عنه ليس له في صحيح البخاري إلا هذا الحديث، وله ذكر في حديث مالك بن الحويرث في صفة الصلاة، يقول: كنا بممر الناس، كل واحد يرجع من المدينة يمر علينا، وكنا نسمع أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج فنقول: ما للناس؟ ما للناس؟ ما لهذا الرجل؟ وهكذا كثير من العرب كانوا في موقف المتفرج يقولون: ننتظر ماذا تسفر عنه المواجهة بين هذا الرجل وبين قومه قريش، إن انتصرت قريش ارتحنا، وان انتصر هو تبعناه، كانت العرب تمشي على قاعدة المشي مع الغالب، ولذلك كانت المعارك التي بين النبي عليه الصلاة والسلام وقريش معارك حاسمة، يتوقف عليها المستقبل للإسلام؛ مثل معركة بدر وفتح مكة فهي معارك حاسمة جداً، يتوقف عليها مستقبل الدين، ليست مثل المعارك الآن، الآن مهما هزم المسلمون فالإسلام باق منتشر، ولا يمكن اقتلاعه من الأرض، أما في أول الإسلام فالإسلام محصور في المدينة، وفي بعض القبائل وفي مكة وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم يوم بدر: (اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض) إذا قضي عليها في بدر فلن تقوم للإسلام قائمة، ولذلك الصحابة الذين شهدوا بدراً أجرهم أعظم ممن يشهد المعارك الأخرى، لأن هذا داخل في معركة ينبني عليها مستقبل الإسلام في الأرض، ولما انتصروا في المعارك ونصرهم الله كان هذا النصر سبباً في انتشار الدين. ومن حساسية هذه القضية وخطورتها يقول عمرو بن سلمة رحمه الله ورضي عنه: إن كثيراً من العرب كانوا يتلومون أي: ينتظرون ويؤخرون البت في الأمر حتى يروا ما ستسفر عنه المواجهة، ومن الذي سيحسم الموقف، ولمن سيستقر الأمر، ثم بعد ذلك يحددون موقفهم. فلذلك كانوا يقولون: ما للناس؟ ما للناس؟ ما لهذا الرجل أوحي إليه كذا؟ فيأتي العائدون من المدينة بقرآن، وكل مسافر يرجع وقد سمع شيئاً ويقول: إن محمداً يزعم أن الله أرسله أوحي إليه الله إليه بكذا. من الذي كان يهوى الجلوس إلى هؤلاء المسافرين ويجلس معهم ويسمع كلامهم؟ إنه عمرو بن سلمة، وكان غلاماً حافظاً رزقه الله ذاكرةً قوية، يقول: فحفظت من ذلك قرآناً كثيراً، فكأنما يقر -أي: هذا القرآن- فكأنما يقر في صدري- يجمع وفي رواية: يغري -أي: يلصق بالغراء، كأنك لصقت شيئاً بالغراء فليس بقابل للإزالة- وكانت العرب تلوم بإسلامهم الفتح، أي يؤخرون. وهذا يدل على مسألة مهمة، وهي أن على الدعاة وأهل الإسلام أن يقدروا أن هناك أناساً موقفهم متوقف على من سينتصر، هناك كثيرٌ من المتفرجين في الأرض إسلامه يتوقف على من الذي سينتصر، فالضعفاء والمتشككون في الدعوة والمنتفعون وأهل الدنيا يقولون: ننتظر من الذي سيفوز، من الذي سينتصر. وهذا موقف يتكرر كثيراً، وهو أن بعض الناس يتربصون لمن سيكون الانتصار، إن كان للإسلاميين كانوا معهم، وإن كان مع العلمانيين المنافقين كانوا معهم، وهكذا هم مع الغالب. قال: فيقولون: اتركوه وقومه فإنه إن ظهر عليهم فهو نبيٌ صادق، فلما كانت وقعة أهل الفتح -أي حين فتحت مكة وحسم الأمر للنبي عليه الصلاة والسلام- بدأت أفواج العرب تأتي، كل المتفرجين مالوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام وحسموا موقفهم معه، لأن قريشاً هي القيادة في العرب، فما دامت القيادة قد سقطت وآل الأمر للنبي عليه الصلاة والسلام وصار هو القيادة للعرب، جاء كل العرب يبايعونه، ولذلك قال تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} [الحديد:10]. وقد كان صلح الحديبية بالذات نقطة تحول، ولذلك سمي فتحاً مبيناً. قال: وبدر أبي قومي بإسلامهم؛ وكان من هؤلاء المتفرجين بنو جرم -قوم عمرو بن سلمة - وكان أبو عمرو بن سلمة من زعمائهم، فانتقى بعض الأشخاص من بني جرم، وذهب بهم إلى المدينة، يبايعون الرسول صلى الله عليه وسلم ويعلنون الدخول في الدين، ولقيهم النبي صلى الله عليه وسلم وسمع منهم وعلمهم الصلاة وسمع منهم ما سمع، وكان من ضمن المعلومات التي نقلها أبو عمرو بن سلمة قوله صلى الله عليه وسلم: (وليؤمكم أكثركم قرآنا) لأنهم قالوا: يا رسول الله من يؤمنا؟ عرفنا الصلاة فمن الإمام؟ قال: (أكثركم جمعاً للقرآن). قال: فنظروا إلى حوائنا -مكان النازلين يسمى حواء- من أحفظ واحد، فإذا به عمرو بن سلمة فكانت المفاجأة أن هذا الغلام الذي لم يكن يُعمل له حساب وفقه الله أنه كان يحفظ من المسافرين، ويسمع من المسافرين وعنده ذاكرة قوية، واتضح أنه هو أبرز واحد في حفظ القرآن، فكان هو المستحق لأن يكون إماماً، ولذلك قدم في الصلاة، فالأحداث تبرز الأشخاص. لم يكن في الحسبان أن عمرو بن سلمة يؤم قومه، لكن جاء حديث: (ليؤمكم أكثركم جمعاً للقرآن) وعُمل مسح للقوم، فإذا بالفائز والمتقدم والمتصدر عمرو بن سلمة، لكن القوم كان فيهم فقر، ما كان على الغلام إلا شملة مشقوقة -إزار مشقوق قصير- وكان النساء يصلون خلف الرجال، وكذلك ربما يرونهم من الخيام ومن النُزل التي ينزلون فيها، فكان إذا سجد انكشفت عورته، فقالت امرأة: ألا تغطون عنا است قارئكم، وفي رواية: واروا عنا عورة قارئكم، بما أن هذا هو الإمام وهو القارئ فغطوا عورته. ربما لم يكن عندهم علم بأن كشف العورة يبطل الصلاة، أو أن هذا الغلام ما كان له شيءٌ يستره، أو ما كانوا يأبهون كثيراً بتغطية عورات الغلمان، لكن لما اقترحت العجوز تغطية عورة الغلام، اشتروا له ثوباً وفي رواية: قميصاً عمانياً، وعمان تابعة لمنطقة البحرين التي سبق ذكرها. وقد ورد في الحج من عمان حديثٌ لا بأس به: (أن الحج من عمان يعدل حجتين) أي أن أجره مضاعف، وعمان هي المنطقة المعروفة، وهذا من فضائل عمان نسأل الله أن يشيع السنة فيه. فيقول: اشتروا لي قميصاً عمانياً، ويبدو أن هذه المنطقة كانت تصنع فيها القُمص؛ والقميص يشبه الثوب الذي نلبسه الآن، كان يطلق عليه في الماضي قميص، قال: فما شهدت مجمعاً من جرمٍ إلا كنت إمامهم فاستمر عمرو بن سلمة يصلي بقومه ما شاء الله من الفرائض والنوافل والجنائز.

فوائد من حديث عمرو بن سلمة

فوائد من حديث عمرو بن سلمة

حكم إمامة المميز

حكم إمامة المميز وهذا الحديث حجة لمن ذهب إلى أن إمامة الصبي المميز صحيحة، فهذا دليل على ذلك، فابن سبع سنين مميز، وقد كان عمره سبع سنين أو ثمان سنين، والتمييز أيضاً فيه تفاوت بين الغلمان، والنباهة تختلف لكن الحد المتوسط سبع سنين، ولذلك قال العلماء بصحة صلاة ابن سبع سنين إماماً وأذان ابن سبع سنين، فإذا أذن ابن سبع سنين صح أذانه، وإذا صلى ابن سبع سنين إماماً صحت إمامته أيضاً. وهذه مسألة إمامة المميز بمن هو أكبر منه من البالغين مسألة خلافية مشهورة، ولكن الدليل مع من قال بصحتها، وبعضهم حاول أن يطعن في المسألة قال: لعل النبي عليه الصلاة والسلام ما اطلع ولعل ولعل، ولكن الوحي ينزل، ولو كانت الإمامة باطلة لكان أوحي إلى النبي عليه الصلاة والسلام بتغيير ذلك وأرسل إليهم يغير ذلك. وجابر استدل بجواز العزل لكونهم فعلوه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقال: [كنا نعزل والقرآن ينزل] ولا يقال: ما كان عليه الصلاة والسلام يدري، أو لعله ما اطلع، الصحابي يقول: [كنا نعزل والقرآن ينزل] أي: أن الصحابي يفهم أن نزول القرآن والعزل موجود دون إنكار من الوحي عليهم حجة، ولذلك فإن الذي يحتج بهذا أيضاً يحتج بهذا، فالطريق واحد.

الإمامة للأقرأ وتكريم حامل القرآن

الإمامة للأقرأ وتكريم حامل القرآن وكذلك من الفوائد: أنه يؤم القوم أحفظهم للقرآن، فلو قيل: من الذي يؤم؟ هل هو الأعلم؟ هل هو الأجود؟ هل هو الأحفظ؟ ف A أن قراءة الشخص إذا كانت صحيحة، وهو أحفظ الناس للقرآن فهو أولى بالإمامة، كما دل عليه هذا الحديث، لأنه قال: (أكثركم أخذاً للقرآن) (أكثركم جمعاً للقرآن) (أكثركم قرآناً) ما معنى أكثركم جمعاً؟ أي: أكثركم حفظاً، فأولى الناس بالإمامة أحفظهم للقرآن ولو كان صغيراً، وأبوه قد يكون أعلم منه، فقد ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وصار صحابياً وتلقى العلم من النبي عليه الصلاة والسلام لكن من الذي تقدم للصلاة؟ ولده الأصغر الأقل علماً الذي لم يكن صحابياً على قول، والسبب أنه أحفظ للقرآن؛ فالأحفظ هو الذي يتقدم، إذا كانت قراءته صحيحة. وهذا يدلنا على تكريم الإسلام لحامل القرآن، ومكانة حامل القرآن في الإسلام، أنه يؤم من هو أكبر منه سناً، وأقدم منه إسلاماً، لأنه أحفظ. وقد ورد في تكريم جامع القرآن وحافظ القرآن مناسبات كثيرة في السنة، فتعالوا نذكر بعضها: منها تكريم حامل القرآن بالإمامة في الدنيا، أما بالنسبة لتكريم حامل القرآن في الآخرة فإنه يقال له: (اقرأ وارق ورتل، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها). ثانياً: لما كثُر القتلى في أحد، وجعلوا القبر الواحد لأكثر من شخص؛ لأن القوم بهم جراحات، ويشق عليهم أن يحفروا لكل قتيل قبراً، والقتلى سبعون، ولذلك قال: (قدموا أكثرهم قرآناً) أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم عند الدفن بتقديم أكثرهم قرآناً، فإذا مات جماعة في قتال أو في معركة أو في زلزال، ودفنوا جماعياً قدم الأحفظ. ثالثاً: التقديم في الدنيا بالنكاح، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل: (زوجتكها بما معك من القرآن) سأله: ماذا تحفظ؟ قال: سورة كذا وسورة كذا -ذكر سوراً- فجعل مهرها أن يعلمها ما يحفظ، فكان حفظه شفيعاً له في زواجه، فقيل: ما عنده خاتم حديد، زوجه قرآنه الذي يحفظه. رابعاً: لما قدم والي مكة على عمر رضي الله عنه قال عمر: من استخلفت؟ قال: ابن أبزى مولى لنا، قال: استخلفت مولى؟!! هؤلاء أشراف قريش استخلفت عليهم مولى؟ فذكر له أنه آخذ لكتاب الله فقال عمر: [إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين] فلذلك من أخذ الكتاب أكرم حتى من جهة الإمارة. قال في الحديث: (فلما صلينا تقول عجوزٌ لنا دهرية: غطوا عنا است قارئكم، فقطعوا لي قميصاً) فذكر أنه فرح به فرحاً شديداً، فهو ما زال في سن الطفولة، والصغير يفرح بالثوب الجديد، فالفرحة الطبيعية بالثوب الجديد كانت عليه رضي الله تعالى عنه، وهذا يعني أن الصغار يكرمون، بالذات إذا صار أحدهم حافظاً للقرآن، يُكرم بشيء يتجمل به أمام الناس، مادام هو إمام الناس، لأن الإمام يُنظر إليه ويتقدم بين يدي الناس، فلذلك أُكرم بهذا القميص. وفي بعض البلدان حافظ القرآن عندهم له مكانة خاصة مثل الهند أو باكستان؛ فالذي يحفظ القرآن عندهم يعطونه لقب قارئ، وربما يُكتب ذلك في الاسم فلان بن فلان القارئ أو القاري أو قارئ، ويُكتب في الوثائق الرسمية وفي جواز سفره ويُبجل بين الناس، أي تكون له مكانة خاصة عندهم حتى لو كان عاملاً يجمع القمامة، وبعض الأعاجم أشد احتراماً لحامل القرآن من العرب، ويعرفون قيمة الحافظ أكثر من كثيرٍ من العرب. فينبغي إجلال حامل القرآن لأجل القرآن، واحترامه لأجل القرآن، وعدم إيذائه لأجل القرآن الذي يحمله.

إمامة الصبي المميز للبالغين في الفريضة واقتداء المفترض بالمتنفل

إمامة الصبي المميز للبالغين في الفريضة واقتداء المفترض بالمتنفل وكذلك في هذا الحديث أن هذا الإمام صلى بهم، والظاهر أنه صلى الفرائض، وليس النوافل كما قال بعضهم، لأن بعضهم قال: يؤم الصبي في النوافل فقط، والصحيح أنه يؤم في الفرائض وفي النوافل. والشافعي رحمه الله قال: يؤم الصبي غير المحتلم إذا عقل الصلاة إلا في الجمعة، وأجاز إمامة الصبي الحسن وإسحاق بن راهوية، وبعض العلماء ذهبوا إلى تضعيف أمر عمرو بن سلمة ولم يحتجوا بذلك، ولكن مادام الحديث قد ثبت، فينبغي المصير إليه. ولكن يمكن أن يؤخذ من الحديث شيء، وهو جواز اقتداء المفترض بالمتنفل كما قال بعض العلماء؛ لأن صلاة الصبي نافلة، وهؤلاء يصلون وراءه فرضاً، إذا كان الفرض لا يُسمى فرضاً إلا في حق البالغ فقط، وأن هذا الصغير صلاته صلاة نفل على من يقول بذلك، فيستدل به على جواز اقتداء المفترض بالمتنفل، ذكر هذا صاحب عون المعبود شرح سنن أبي داود.

تلقي العلم وتفعيل الطاقات

تلقي العلم وتفعيل الطاقات وفي هذا الحديث كذلك أهمية تلقي العلم، وأن الإنسان لا يحتقر المعلومات التي تأتيه من مسافرين؛ فربما يكون فيها خير عظيم، كما كان من شأن هذا الصبي الغلام رضي الله عنه ورحمه، فإنه بسبب قعوده إلى المسافرين في الطريق جمع هذا القرآن. وكذلك في هذا الحديث أن بعض الطاقات والمواهب في القبيلة أو في المجتمع أو في البلد أو في المدرسة لا تبرز إلا بأحداث؛ فلقد كان هذا الغلام مغموراً، فهو حافظ لكن أحداً لم ينتبه إلى أنه حافظ، يسمع من ناس مسافرين ويحفظ، ما انتبهوا لمكانته، متى انكشفت مكانته؟ لما ذهب أبوه للقاء النبي عليه الصلاة والسلام، وعلمه ألا يؤم إلا الأقرأ الأحفظ، فمسحوا الناس في القبيلة، فوجدوا أن هذا هو الأحفظ فقدموه. وقد يُوجد هناك طاقات مختفية، أو طاقات غير ظاهرة في المجتمع، فينبغي استكشافها لأن لها شأناً، أصحاب الطاقات هؤلاء من الصغر يظهرون، وأهمية اكتشافها تكمن في أن الطاقات ينبغي أن تأخذ حظها من العناية والرعاية منذ البداية، حتى تكبر ويكون لها شأن في المستقبل، والحمد لله أن هذا الدين فيه من المناسبات التي تُظهر الطاقات، مثل قضية حفظ القرآن والإمامة، ولذلك تجد الآن بسبب الحديث عدداً من الأطفال أو من الصغار يبرزون في المجتمع. فصار -بحمد الله- هناك مجالٌ لظهور الطاقات التي تحفظ وتفهم بحيث تتلقف وتُشمل بالرعاية التي تهيئ خروج هذه الطاقة، وهذه الشخصية في المستقبل لتكون شخصية كبيرة، والغربيون انتبهوا حديثاً لقضية استكشاف الطاقات وجعلوا للمتفوقين والنوابغ فصولاً خاصة ومناهج خاصة. أما في الإسلام فإن طبيعة الدين وطبيعة أحكامه تبرز الطاقات، وتبرز المتفوقين، مثل مسألة إمامة الأحفظ؛ فإمامة الأحفظ من وسائل اكتشاف الطاقات والشخصيات الماهرة من الصغر، وجعله الإسلام في موقع تسلط عليه الأضواء، فهو إمام للناس أي: ينتبهون إليه، والذي يتمعن لمسألة مثل هذه المسائل فعلاً يكتشف جوانب عَظَمَة في هذا الدين لم يكن قد انتبه إليها من قبل.

اقتراح من عجوز وحكم عورة الصبيان

اقتراح من عجوز وحكم عورة الصبيان كذلك في الحديث أن الاقتراح الوجيه جداً قد يأتي من امرأة عجوز، فالتي قالت: غطوا عنا است قارئكم إنما هي امرأة دهرية عجوز. وفيه قبح ظهور العورة، والاست معروف، وهو فتحة الدبر، فقبح ظهور العورة أمر شائع ومنتشر، ولذلك إذا كان الصبي مميزاً وجب ستر عورته، أما ابن سنتين فلا حكم لعورته، بمعنى لا يجب ستر عورة طفل عمره سنة، فلو رأى عورته أحد فلا إثم عليه، ولا ينطبق عليها حكم وجوب التغطية، ولمسها لا ينقض الوضوء، أما المميز فيجب أن تستر عورته، على الأقل ستر السوءتين لا بد من ذلك.

التكامل في أداء المهام والحرص على مشافهة العلماء

التكامل في أداء المهام والحرص على مشافهة العلماء كذلك في هذا الحديث: أنه قد يكون الشخص مناسباً لأن يقوم بالمهمة، لكن تحتاج المهمة إلى تكميل، فهذا حافظ لكن يحتاج إلى معرفة كيفية الصلاة، فكمل حتى يقوم بالمهمة قال: فدعوني وعلموني الركوع والسجود، فقد كان عنده مقدرة، لكن تحتاج إلى تكميل، فحفظ القرآن موجود، بقي تكميل المسألة بتعليمه صفة الصلاة وكيفية الركوع والسجود. وكذلك في الحديث الحرص على التلقي من الأفواه، فهذا الغلام كان يسمع فقط، ولم يكن له كتاب، كان يسمع من المسافرين ومن المارين يتلقفه ويقر في صدره.

غالبية الناس تتبع الأقوياء

غالبية الناس تتبع الأقوياء وكذلك في هذا الحديث قضية حسم المواقف؛ لأن هناك متفرجين ينتظرون الحسم، وأن أجر الاتباع للذين يحسمون الأمور؛ لأن كل الذين ينتظرون سيتبعونهم إذا انتصروا. ولذلك فإننا نمر بمواقف كثيرة تحدث فيها صراعات بين أهل الخير وأهل الشر، ويكون هناك طائفة من المتفرجين ليسوا من أهل الخير ولا في معسكر أهل الخير، وليسوا من أهل الشر الخلص ولا مع أهل الشر، تحدث المعركة وتحدث المجابهة، ثم بعد ذلك يحسمون مواقفهم حسب النتيجة، ويتابعون المنتصر حتى ولو في مناظرة. هبها مناظرة بين عالم من علماء المسلمين وراهب من رهبان النصارى كافر، هناك طائفة من المتفرجين ينتظرون هذه المناظرة عن أي شيء ستسفر، حتى يتابعوا المنتصر، وهنا تبرز أهمية من يمثل الإسلام في المعارك، هناك الآن معارك وجبهات كثيرة في النقاشات، وحوارات ومناظرات، وتحدث أحياناً مؤتمرات أو لقاءات وتنشر، وقد تبث على الهواء مباشرة، من الذي يمثل الإسلام فيها؟ وهذه مسألة مهمة جداً، لأن هناك متفرجين ينتظرون من الذي سينتصر في هذا النقاش وفي هذه المناظرة. ولذلك ينبغي ألا يدخل فيها إلا المتمكنون من أهل العلم والدين، لأنهم يمثلون الإسلام، وبناءً على النتيجة سيحسم كثيرٌ من الناس مواقفهم من المتفرجين والمتشككين والمترددين، وهذه مسألة من أخطر المسائل في عصرنا هذا الذي نعيش فيه. أخذنا هذه الفائدة من قوله رضي الله عنه: كان العرب يتلومون، أي ينتظرون حسم المواقف، كثير من الناس يطلق عليه إمعة، يرون من المنتصر، وقد يكون بعضهم ذكياً لكن ما عنده علم يصل به إلى النتيجة، فهناك كثير من الأذكياء ينتظرون أشياء تُحسم ليتبعوا. هذا ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من الذين ينصر بهم دينه، ويعلي بهم كلمته، إنه سميع مجيب.

الأسئلة

الأسئلة

الزوجة المعلقة وكيف تتصرف

الزوجة المعلقة وكيف تتصرف Q إذا ترك الزوج زوجته معلقة مدةً طويلة ولم يتقدم لإرجاعها وكانت ترغب في العودة ولم يعدها أو يطلقها، فماذا تفعل؟ A تتقدم إلى القاضي عند ذلك ليحسم أمرها، فيأتي بالزوج يقول: تعال هنا، يقول الله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:226 - 227] فيقال له: يا أيها الذي امتنع عن زوجته وعلقها، تجاوزت الأربعة الأشهر التي حددها الله، إما أن تعيدها وتعطيها حقوقها كزوجة عندك، وإما أن تطلقها، ثم إذا رفض أن يعيدها زوجة لها حقوقها الكاملة، أجبره القاضي على الطلاق، فإذا طلقها بدأت العدة على قول جمهور أهل العلم.

خطورة القنوات الفضائية على النشء

خطورة القنوات الفضائية على النشء Q لو نبهتم على خطورة تلقي القنوات الفضائية على الأطفال وعلى النشء؟ A لا شك أن أعداء الإسلام قد اكتشفوا أهمية ذلك قبلنا بكثير، وسبقوا في هذا المجال، وبالتالي نحن صرنا مستهلكين، نستهلك زبالاتهم التي يذيعونها علينا، فهم يخططون ويمكرون ويدبرون، وينتجون بهذه المؤامرات وهذا التدبير كل الأشياء المملوءة بالسموم والمملوءة بالترهات وسفاسف الأمور، والأشياء المنافية للأخلاق والآداب والمنافية للعقائد، وفيها تلميع شخصيات الكفار وإبراز معبودات الكفار وشعارات الكفار، والأشياء المنافية للأخلاق، كالاختلاط بين الجنسين، والرقص والملابس القصيرة، والحب والغرام، والمشاهد التي بين الذكران والإناث ونحو ذلك، وأطفالنا يرون ويتأثرون ويتلقون، ويتشبعون بهذه الأشياء من حيث لا ينتبه الأب، تظن الأم أنها إذا فتحت الشاشة للولد ارتاحت في البيت، وفعلاً تجد الولد يسكت، لكن ما درت أنها الآن تعطيه سماً، صحيح أنه سكت وما سبب لها إزعاجاً في البيت، لكنها تساهم في تدمير عقيدته وأخلاقه.

حكم تنظيف المرأة لأخيها الصغير

حكم تنظيف المرأة لأخيها الصغير Q ما حكم قيام الأخت بتنظيف أخيها الصغير؟ A إذا كان ابن السنتين فأقل فلا بأس بذلك أن تنظفه لأنه -كما قلنا- لا حكم لعورته.

مشروعية قضاء صلاة الليل

مشروعية قضاء صلاة الليل Q هل يشرع لمن نام عن صلاة التهجد في النصف الثاني من الليل أن يصلي في صبيحة اليوم التالي؟ A نعم، يكمل صلاته في النهار شفعاً.

حكم الصلاة بدون إقامة

حكم الصلاة بدون إقامة Q هل تصح الصلاة مع عدم الإقامة؟ A تصح الصلاة مع عدم الإقامة، ولكن السنة أن يُقيم.

تغيير مكان صلاة النافلة

تغيير مكان صلاة النافلة Q لماذا يصلي الرجل في مكان آخر السنة الراتبة؟ A ورد عن معاوية رضي الله عنه في سنة الجمعة أن يتقدم بعد الصلاة عن مكان الفريضة ويصلي، وأيضاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن وصل صلاة بصلاة حتى يتكلم أو يقوم حتى لا يكون هناك اتصال بالفريضة، فليس من السنة أن يقوم الإنسان بعد الفريضة ويصلي مباشرة، بل يفصل بين الفريضة والسنة بكلام، أي: التسبيحات والتهليلات وتكبيرات الأذكار التي بعد الصلاة، فمن الأخطاء -ونجد هذا من كثيرٍ من الأعاجم- أن بعضهم يقوم بعد السلام مباشرة ويأتي بالسنة، وهذا مخالف للسنة، ينبغي أن يأتي بأذكار الصلاة، ثم بعد ذلك يأتي بالسنة، ويفصل بين السنة والفريضة حتى لا يكون ذلك ذريعة بالزيادة على الفريضة أو أن يدخل فيها ما ليس منها.

حال حديث: (لو خشع قلب هذا)

حال حديث: (لو خشع قلب هذا) Q حديث: (لو خشع قلب هذا لسكنت جوارحه)؟ A لم يثبت هذا الحديث لكن معناه صحيح.

حكم بيع ماء زمزم

حكم بيع ماء زمزم Q ما حكم بيع ماء زمزم؟ A جائز، لأنه شيء مباح، وبيع المباحات مباح.

المستثنون من الصعقة

المستثنون من الصعقة Q قوله تعالى: {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر:68] ما المقصود بقوله: إلا من شاء الله؟ A قال بعض العلماء: مثل الحور العين، فإنهن يستثنين من الصعقة.

حكم تشبيك الأصابع في المسجد

حكم تشبيك الأصابع في المسجد Q ما حكم تشبيك الأصابع في المسجد؟ A أما بالنسبة للتشبيك عند الإتيان إلى المسجد فقد ورد النهي عنه، فلا يشبك الإنسان أصابعه وهو آتٍ إلى المسجد، وكذلك إذا كان ينتظر الصلاة لأنه في صلاة، أما بعد الصلاة إذا شبك بين أصابعه فلا بأس، لم يرد النهي عن هذا في هذه الحالة، واستعمله صلى الله عليه وسلم في المسجد، وقام مرةً بعدما صلى بهيئة الغضبان لما سلم من ركعتين وشبك بين أصابعه ووضع ذقنه على يده كالغضبان، وكذلك قال أيضاً في تمثيل المؤمن: (المؤمن للمؤمن كالبنان أو كالبنيان وشبك بين أصابعه).

كتاب عن نوافل الصلوات

كتاب عن نوافل الصلوات Q هل هناك كتاب يجمع الصلوات النافلة؟ A نعم، هناك بعض الكتب التي بينت ذكر صلوات النافلة وصفاتها مثل كتاب: محمد عمر بازبول في صلاة النافلة، فهو كتاب لطيف يحتوي على صلوات النافلة وعلى شرح لها.

دفع الزكاة إلى من يؤدي بها فريضة الحج

دفع الزكاة إلى من يؤدي بها فريضة الحج Q هل يجوز دفع زكاة المال إلى مسلم ليحج حج الفريضة؟ A الصحيح أنه يجوز ذلك، للحديث الذي صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الحج والعمرة لمن سبيل الله) فهذا فيه نص على إدخال ذلك في سبيل الله في آية الزكاة.

من صلى مع إمامين هل يكتب له قيام ليلة

من صلى مع إمامين هل يكتب له قيام ليلة Q من صلى صلاة القيام أول الليل مع إمام، ثم صلى آخر الليل مع إمام آخر، هل ينطبق عليه حديث: (حتى ينصرف)؟ A نعم له أجر، لكن هل الأجر الوارد في الحديث ينطبق عليه؟ الله أعلم، إنما هو مأجور على ذلك.

حكم التشكيك في تلبس الجن بالإنس

حكم التشكيك في تلبس الجن بالإنس Q ما حكم من شكك في تلبس الجن بالإنسان؟ A مخالف للنصوص الشرعية: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة:275] فالله أثبت المس وأثبت أن الإنس يتخبطون نتيجة المس، فكما يتخبط الممسوس فكذلك حال آكل الربا إذا قام من قبره يوم القيامة: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ} [البقرة:275] أي: من قبورهم {إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة:275] فكما يترنح الممسوس يميناً وشمالاً ويسقط ويرغي ويزبد فهكذا يكون حال الذي يأكل الربا.

لقاء الرسول بالجن

لقاء الرسول بالجن Q ذكرت أن الرسول صلى الله عليه وسلم التقى بمعشر الجن هل يمكن أن تعيد هذه الرواية؟ A وردت عدة روايات في هذا، فقال صلى الله عليه وسلم: (أتاني وفد جن نصيبين فقرأت عليهم القرآن) وكذلك جاءه وافدهم وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم واجتمع معهم وأرى الصحابي بعد ذلك -وهو ابن مسعود رضي الله عنه- آثار نيرانهم، وكذلك فإنه عليه الصلاة والسلام لما قرأ سورة الرحمن على الصحابة أخبرهم أنه قد قرأها على الجن فكانوا أحسن مردوداً منهم، كان كلما مر بقوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:13] قال مؤمنو الجن: ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب، فلك الحمد، وإنهم سألوني الزاد فأعطيتهم؛ أعطاهم كل عظمٍ ذُكر اسم الله عليه ينقلب في أيديهم لحماً، والروث علفاًَ لدوابهم.

معنى البوائق

معنى البوائق Q ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (والله لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه)؟ A البوائق هي: الإيذاءات والمكر والتدبير للشر، لأن بعض الجيران يدبرون الشر لجيرانهم، ينام الجار وهو غير آمن، ولا يدري ماذا سيفعل به جاره هذه الليلة، وأي مؤامرة يحيكها له في الليل ليفاجئه بها في اليوم الثاني، وهذا موجود.

مصيبة كوسوفا

مصيبة كوسوفا إن سنة الله تعالى جارية في الصراع بين الحق والباطل، ففي كل أرض وبلاد من بلاد المسلمين صراع ومواجهة، وهذا دليل على الحقد الدفين في قلوب الأعداء من اليهود والنصارى للمسلمين؛ لهذا لا بد من البراءة الكاملة من المشركين وعدم موالاتهم أو انتظار نصرتهم، ومن تلك البلاد المكلومة أرض كوسوفا، فقد تحدث عنها الشيخ، فذكر مشاهد مما يجري هناك من تقتيل وتشريد وتنكيل، ثم ذكر بعض القصائد التي تصف أحوال المسلمين في تلك البلاد، ثم تكلم عن واجب المسلمين تجاه إخوانهم، وما يجب عليهم من التألم لجراحاتهم، والدعاء لهم، وقبل ذلك كله الرجوع إلى الله تعالى

عداوة اليهود والنصارى للمسلمين

عداوة اليهود والنصارى للمسلمين الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. عباد الله: المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً، ويألم المؤمن لأهل الإيمان كما يألم الرأس لما في الجسد، ويسمع المؤمنون في هذه الأيام ما أصاب إخوانهم المسلمين في الأرض، فيتألم كل صاحب دين، ويكون في قلبه من الحزن على إخوانه المسلمين الذين وقع لهم ما يندى له الجبين من المصائب العظيمة التي تقض المضاجع، والتي يرتاع لها فؤاد المسلم مما أصاب إخوانه. وفي هذه والأحداث الذي يجريها الله سبحانه وتعالى بقدره وقفات فوائد {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً} [الأحزاب:38]. ومن ذلك أيها الإخوة: أولاً: أن نعلم حجم العداوة التي انطوت عليها قلوب الكفرة للمسلمين، التي ذكرها الله لنا في كتابه بقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً} [النساء:101] وقال عز وجل: {لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران:118]. يحذر تبارك وتعالى عباده المؤمنين من اتخاذ المنافقين بطانةً، وذكر أنهم لا يألون المؤمنين خبالاً، أي: يسعون في مخالفتهم وما يضرهم بكل ممكن، وبما يستطيعون من المكر والخديعة، ويودون ما يعنت المؤمنين ويحرجهم ويشق عليهم، ثم قال عزَّ وجلَّ: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران:118] أي: قد لاح على وجوههم وفلتات ألسنتهم من العداوة، مع ما هم مشتملين عليه في صدورهم من البغضاء للإسلام وأهله، ما لا يخفى مثله على لبيبٍ، ولهذا قال تعالى: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران:118] وقال تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89] فهذا ما في قلوبهم على الإسلام وأهله، ولو كان بينهم اختلافات فإنهم يجتمعون على حربنا.

البراءة من المشركين

البراءة من المشركين عباد الله: إن من الأمور التي تجعل الإنسان حائراً هذا الكيد العظيم الذي اجتمع به الكفار على المسلمين، ولذلك فإنَّ الله حذرنا تحذيرات كثيرة من هؤلاء، وقسمهم فرقاً، وإذا نظرت إلى تقسيمات القرآن تجد انطباقها انطباقاً عجيباً في هذا الزمان، فإن الله عزَّ وجلَّ قد ذكر أن من الكفار من أخرجونا من ديارنا، ومنهم من ظاهروا على إخراجنا، ونهانا عن برهم والإحسان إليهم، فقال الله عز وجل: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة:8 - 9] فقارن أخي المسلم بين هذا التقسيم المذكور في الآية، وبين ما يحدث الآن على أرض الواقع: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ} [الممتحنة:9] قال ابن كثير رحمه الله: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم ولم يظاهروا، أي: يعاونوا على إخراجكم، ولا ينهاكم عن الإحسان إلى الكفرة الذين لا يقاتلونكم في الدين كالنساء والضعفة، وقوله تعالى: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ} [الممتحنة:9] أي: إنما ينهاكم عن مولاة هؤلاء الذين ناصبوكم وأخرجوكم وعاونوا على إخراجكم.

وقفات مع كوسوفا وما يجري فيها

وقفات مع كوسوفا وما يجري فيها أيها الإخوة: إن من الكفار اليوم من قاتلونا في الدين لأننا مسلمون، وأخرجونا من ديارنا، والإخراج من الديار ليس أمراً سهلاً يا عبد الله، أن يسلب بيتك، وأن تخرج منه، وأن تكون هائماً في الأرض ليس لك مأوى، ولا بيت ترجع إليه تصبح شريداً طريداً في الأرض ليست القضية سهلةً على الإطلاق، ولذلك ذكر الله في كتابه كيف أن الكفار يخرجوننا من ديارنا، وطائفة أخرى يظاهرون على إخراجنا، أي: يعاونون على ذلك بتسريعها والتخطيط لها، والإعانة عليها بشتى صور الإعانة، ولا يهولنك التمثيليات وانظر إلى النتائج. إذا أردت أن تكون فطناً فانظر إلى النتائج ما هي؟ الإخراج من الديار، والمظاهرة على ذلك في السر والعلن، وقد يقع بين الكفار خلافات وقد يصطدمون، ولكن إذا نظرت إلى النتائج على المسلمين تجد أن المسلمين هم الطرف الخاسر الذي يخسر باستمرار، قال تعالى: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ} [الممتحنة:9]. إن المسلمين في كوسوفا يخرجون من ديارهم ويُظاهرُ على إخراجهم، مليونان من البشر سيصبحون بلا مأوى، سيوزعون على البلدان، سيحصرون في شريط ضيق ليس لهم ديار، أُخرجوا من ديارهم، وظاهر الكفار الكفارَ على إخراجهم، فما هو موقف المسلم؟ لا شك أنها العداوة للكفار أبداً؛ لأنهم أخرجوا إخواننا من ديارهم، وظاهروا على إخراجهم، لقد كان الإخراج من الديار دافعاً للقتال عند المسلمين الذين كانوا عند نبي لهم من بني إسرائيل، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا} [البقرة:246] فكان ذلك سبباً للجهاد في سبيل الله.

الجهاد هو الحل لمآسي المسلمين

الجهاد هو الحل لمآسي المسلمين أيها الإخوة لا شك أن مثل هذه المآسي لا تُحَلُّ إلا بالجهاد في سبيل الله، ولذلك قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً} [النساء:75] فهم يبحثون عن ولي ونصيرٍ يعينهم ويساعدهم، وهذا تحريض من الله تعالى للمؤمنين على الجهاد في سبيله، وعلى السعي في إنقاذ المستضعفين بـ مكة من الرجال والنساء والصبيان المتبرمين من المقام بها، ولذلك قال الله عز وجل: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} [النساء:75] إنهم يبحثون عن نصيرٍ ومعين. إن الجهاد في سبيل الله إذا قدرت عليه الأمة وجب عليها؛ لأن في ذلك إعانةً للمظلوم ونصراً للمسلم، وهذا واجب ولا شك، وفيه أيضاً: استنقاذ معابد الله في الأرض، والبيوت التي يذكر فيها، كما قال عزَّ وجلَّ: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج:39 - 40] ليس لهم ذنبٌ، لس لهم صفةٌ، ليس هناك سببٌ في إخراجهم من ديارهم إلا أنهم مسلمون يقولون: ربنا الله. ويقول الله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} [الحج:40] لولا دفع الكفار بجهاد المسلمين لهم، قال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40] فمن الذي ينتصر إذاً؟ إنهم الذين ينصرون الله، وليس هم الذين يرفعون راية قومية، ولا عصبية جاهلية، ولا الذين يقولون: إن الحرب ليست حرباً دينية، إنما هي حرب وطنية قومية. فهؤلاء لا ينصرهم الله عزَّ وجلَّ؛ لأنه قال: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40] أي: يعلي كلمته، ويرفع لواء لا إله إلى الله، لا لواء العنصرية والقومية. وما هي صفات هؤلاء الذين يُنصرون؟ قال الله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:41] وإلى أن يأتي الجيل الذي هذه صفته، فلا يزال أهل الإسلام في هزيمة، وفي مصيبة تلو مصيبة، ونكبة على إثر نكبة، حتى يأتي الجيل الذي ينصر الله سبحانه وتعالى. ولا تظن -يا عبد الله- أن المستضعفين من المسلمين ذهبوا هباءً منثوراً، فإن الله عز وجل يثيب الصابرين منهم والمحتسبين الذين أخرجوا من أجله، قال عزَّ وجلَّ: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} [آل عمران:195] فالله عزَّ وجلَّ لا يضيع عنده الأجر، ولعل ما أصاب إخواننا في كوسوفا كفارة لهم وشهادة، وابتلاء يزيد في حسناتهم ويرفع درجاتهم عند الله، والله لا يخلف الميعاد.

اعتداء الصرب الحاقدين على المسلمين

اعتداء الصرب الحاقدين على المسلمين أيها المسلمون لقد صار من المصائب على المسلمين في تلك الديار أمرٌ عظيم، ألم يأتكم نبأ ما حصل في عيد الأضحى لإخواننا في تلك الديار؟ لقد قام الصرب بالإحاطة بأئمة المساجد والمصليات في صلاة العيد، وقاموا أولاً بقتل أئمة صلاة العيد أمام المسلمين وأقربائهم، ثم ألحقوا ذويهم بهم، ثم ألحقوا جموع المصلين، حتى بلغ عدد القتلى في يوم العيد من المصلين. ليس من أهل البيوت بل من المصلين فقط عشرة آلاف في أنحاء الإقليم!! ضحوا بهم في يوم الأضحى، وأعدموهم بالسلاح الأبيض بطريقة وحشية وبحقدٍ دفين وحصدوهم بالرصاص، وفي جامع واحد قتلوا ألفاً وثمانمائة مصلٍ؛ لأنهم يقولون لا إله إلا الله، لم يعملوا شيئاً إلا لأجل لا إله إلا الله، فعليها يعادوننا ومن أجلها يقتلوننا، وقد جمعوا الرجال فحصدوهم، وأخذوهم، وفرقوا النساء والأطفال عنهم، وهكذا فعلوا كما هو المعهود عنهم في أمور الاغتصاب والفضائع والشنائع!!

قصائد تتحدث عن مآسي المسلمين

قصائد تتحدث عن مآسي المسلمين ماذا يقول البؤبؤ المفقوء بالأزميل؟ والثدي حين تنوشه السكين؟ والطفل مرفوعاً على رأس الحراب؟! شيء عجاب!! ماذا دهى الإفرنج عباد الصليب نهضوا يميطون اللثام عن القلوب سوداء كالقطران كالسرطان كالتلمود كالسم الرعيب نهضوا من الأوران والدانوب ومن الشمال إلى الجنوب يستأسدون على بني الإسلام مسلوبي النيوب. قنبلة تفجر ملجأ الأيتام وعاصفة من النار الحقوده تأكل الشجر العفيف ودمٌ هناك على الرصيف. تلك الطوابير التي خرجت من البيت المهدم أين تمضي؟ فأمامها أز الرصاص وخلفها أز الرصاص والطفلة تصرخ أين دميتها بل كيف تخرجها من الأنقاض أمي مالذي فعل الجناة؟ والأم ذاهلة فماذا تستطيع بأن تقول يا أنت يا زمن المغول عندما تترك أجساد النساء في عرى البؤس وفي حزن الشقاء عندما يمتص عربيد دماء الأبرياء والأيامى والثكالى هائمات في العراء أي خيرٍ أيها العالم يبقى عندما ينقل شعبٌ من بلاءٍ لبلاء عندما يرسل مأفونٌ جنوداً في الظلام ويباح الوطن المصفود قهراً لِلئام عندما ينبعث الأحياء من بين الركام عندما تمسي الصبايا كالسبايا في الخيام أي خيرٍ أيها العالم يبقى؟ ولماذا الصمت في وقت الكلام؟ عندما يهدم محرابٌ وسور عندما تنبش أمواتٌ وتجتاح القبور ويلف الصمت دنيانا فلا يصحو شعور أي خيرٍ أيها العالم يبقى عندما تخلو من الإنسان أو يغفو الضمير? أيها الإخوة إنما حصل ويحصل من هؤلاء الصرب النصارى، ومن مالأهم وعاونهم. إنه أمرٌ عجيب.

قصيدة تحكي اغتيال أسرة مسلمة

قصيدة تحكي اغتيال أسرة مسلمة ومن أسرةٍ لم السبات جفونها بعيد شتاتٍ في الميادين مقحم وقد غاب عنهم والدٌ لم تزل له هنالك في الميدان جولات ملحم وأقبل صربيٌ لئيم كأنه تدفق أرجاس ووحلٍ ومأثم ومن حوله لو كنت تشهد عصبةٌ تجمع من باغ طغى ومزلم كأنك لو أبصرت هون غرورهم ترى قزماً في ثوب أيَهَم أجسم ففزع من في البيت من هول حقده وهبوا وقد أفضى الجبان إليهم ترى طفلة لم تبلغ السبع روعت تمر بعينيها تدور عليهم عليها رداء أحمر لم يزل له بقايا حديثٍ للطفولة منعم ومن خلفها أمٌ حنت لتضمها وشيخٌ تشكى يا لضعفي ومهرمي وطفل رضيع كاد يزحف نحوهم ويصرخ يا دنيا اشهدي وتكلمي ولما رأت ذات الردا رجاءها وأشواقها لم توقظ الخير فيهم تراجعت الآمال وارتد خطوها تشبث بالأم الحنون وتحتمي فصوبت الدنيا الرصاص إليهم تدفق في رأسٍ وصدرٍ ومعصم وأبلى النظام العالمي بخنجرٍ ليطعن في ظهرٍ وجيدٍ وأعظم يدور عدو الله بالنار بينهم ليفرغ من حقدٍ شديد عليهم تساقطت الأم الحنون وأفلتت يداها وأهوت في بحارٍ من الدم وطفلتها أهوت تصب دماءها عليها وطفلٌ قد تناثر فيهم وشيخ تهاوى يا لأشلاء أمة تهاوت به يا للحطام المكوم!! ومجد تهاوى بين أطلاله ترى بقية تاريخٍ ودمعة يُتَّم أيها البوسنا لستم يتماً إنما نحن جميعاً يتم لقد نصر الصرب بنو دينٍ لهم ولكم إخوانُ عن نصرٍ عموا فاطلبوا العون من الله الذي إن طلبتم عونه لن تعدموا واجعلوا دربكم درب فدا بجهادٍ واصنعوه أنتم أي عهدٍ لهم مؤتمن عوهد الذئب فأين الغنم ألم يقل الله تعالى: {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلّاً وَلا ذِمَّةً} [التوبة:10]؟ ليس لهم عهدٌ ولا ميثاق، ينقصون وينقضون، هذه هي الحال أيها الإخوة. لقد نصر الصرب بنو دينٍ لهم، وللمسلمين إخوان عن نصرهم قد عموا.

حال الأمة اليوم

حال الأمة اليوم لقد شغلنا بالمعاصي والتراهات، لقد حصل ما حصل من الآثام التي جعلت المسلمين في ضعفٍ شديد لا يقوون على نصرة إخوانهم، هل هذا حال يرضي الله أيها المسلمون؟ نحن نعلم ضعفنا، ونعلم حالنا، ونعلم أنه ليس لنا قوة، لكن لماذا ليس لنا قوة؟ لابتعادنا عن دين الله، ولتفشي المعاصي بيننا على أي سيءٍ ننام؟ وعلى أي شيءٍ نصحو؟ ننام ونصحو على المعاصي، والفسق، والفجور، وعلى الصور، والمسلسلات، وعلى الأغاني، والمعاكسات، وعلى تبذير الأموال والسياحة في بلاد الكفار ومن أجل أي شيءٍ نعيش؟ نعيش للهو والترفيه، للطعام والشراب ماهذا الحال؟ ألا من عودة إلى الله توقظ في هذه الأمة الحمية لنصرة إخوانهم؟! أيها الإخوة والله لن يتغير حالنا إلا إذا رجعنا إلى كتاب ربنا، وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم. اللهم ردنا إلى الحق رداً جميلاً، اللهم ردنا إلى الحق رداً جميلاً، اللهم ردنا إلى الحق رداً جميلاً، اللهم إنا نسألك أن تحيينا على الإسلام، وتميتنا على الإيمان، اللهم اجعلنا بكتابك مستمسكين، وبسنة نبيك عاملين، واجعلنا ممن نصرت بهم الدين يا رب العالمين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

فقد الهوية الإسلامية

فقد الهوية الإسلامية الحمد لله الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له، لم يتخذ صاحبةً ولا ولداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا أشرك به أحداً، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين نصروا دينه، ورفعوا كلمة الله، وجاهدوا في سبيل الله، اللهم ارض عنهم يا أرحم الراحمين، وارض عمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. عباد الله: لا يرجى من الكفار نصرٌ للمسلمين، فلماذا ينصرونهم؟ لا يرجى منهم نصرٌ والله، ومهما كان من الأسباب فإنما هي تمثيليات أو خلافات بين الكفار، أما أن يقصد الكفار نصر المسلمين، فذلك في عالم الأحلام، وحتى في عالم الأحلام قد لا يقع، فإنه لا ينصر المسلم إلا أهل الإسلام، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في سنته. عباد الله: إن من المصائب العظيمة فقد الهوية الإسلامية والانتماء لهذا الدين، وهذا شيءٌ قد حصل عند كثير من الشعوب التي كانت ترزح تحت الشيوعية وغيرها، فقد فقدت هويتها الإسلامية، ولم يعرف الكثير من أبنائها حقيقة الانتماء إلى هذا الدين، فهم يرجون النصر من شرقٍ ومن غرب، ولعله لأجل أنهم لا حيلة لهم، وبعضهم ينتظر من الشرق والغرب لأنه لم يجد يداً تمتد إليه من المسلمين، ولكن القضية الأساسية الخطيرة فقد الهوية الإسلامية، عندما لا يشعر المسلم بالانتماء إلى الإسلام الذي يوجب عليه ألا يوالي الكفار، وأن يتميز عن الكفر، وأن يرفع راية الإسلام واضحةً، فإنه إن لم ترفع راية إسلامية واضحة ضاعت المبادئ، وذلك من الأخطاء التي يقع فيها بعض أهل كوسوفا، لقد ضاع المسلمون فيها بين منافقٍ عظيم، وبين بعض الذين لم يرفعوا لواء الإسلام، وإنما رفعوا في قتالهم لواء العنصرية القومية، وقالوا: إن الحرب ليست دينية، فضاعت الأمور. كيف سينصرهم الله في هذا الحال؟ إنها مصيبة عظيمة أن تفقد القضية الراية الحقيقية الصحيحة، إنها أكبر مصيبة ابتلي بها أهل ذلك الإقليم، وانتظار النصر من الكفار أمرٌ غير ممكن، قال الله عزَّ وجلَّ: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} [النساء:139] فليس عند الكفار عزةٌ للمسلم، وإن تظاهروا بنصرتهم فإما أنه خداع وتمويه، وإما أنه لمآرب أخرى عند الكفار، ليس من بينها أبداً نصرة للمسلمين، فقد يكون لخلافات بينهم أو أطماع، أو إرادة تسلط بعضهم على بعض، لكن لا يمكن أن يكون منها نصرة الإسلام وأهله مطلقاً، ونحن نعلم ذلك من الكتاب والسنة. إذاً فلا حل للمضطهدين إلا بجهادٍ خالص وراية واضحة: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء:84] فهكذا يكف بأس الكفار {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً} [النساء:84].

الواجب علينا تجاه إخواننا المسلمين في البلاد المجروحة

الواجب علينا تجاه إخواننا المسلمين في البلاد المجروحة أيها الإخوة إن هذه الأمة تعيش في سباتٍ وغفلة، والذي يكون في غيبوبة قد لا يستيقظ إلا بالصدمات، فُيعمل له صدمات كهربائية وغيرها عله أن يستيقظ، وهكذا هذه الأمة لا تستيقظ إلا بالصدمات وهي تعيش في غيبوبة، فإذا استيقظت بالصدمات قامت العزة فيها وفي أبنائها، فلعل المسلمين يعودون إلى دينهم فتعود إليهم عزتهم فينصرون إخوانهم، ويأتي الوقت الذي لا يجرؤ فيه أحد على أن يؤذي مسلمة؛ لأنه يعرف ماذا سيحصل له لو آذاها.

التألم لجراحات المسلمين

التألم لجراحات المسلمين أيها المسلمون فماذا يجب علينا إذاً؟ أولاً: أن نتألم لأهل الإسلام، فإن الألم دليلٌ على حياة القلب وعلى الرابطة الإسلامية في قلوبنا لأجل إخواننا، قال عليه الصلاة والسلام: (إن المؤمن من أهل الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، يألم المؤمن من أهل الإيمان كما يألم الجسد لما في الرأس) رواه الإمام أحمد وهو حديث صحيح. إن المسملين جسدٌ واحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى، أما أن نغيب عن الواقع وننغمس في اللذات ولا نشعر بالألم فإنها مصيبة عظيمة. في كل يوم صليب الكفر يدهمنا ويبتني في زوايا بيتنا صنما ولا ترى فتية للموت طامحة ولا ترى عمراً غضبان مقتحما لا أمتي أمة في العصر شاهدةٌ ولا لها حكمة إن عدت الحكما لا أمتي أمةٌ يزهو الزمان بها ولم تعد تصنع الفرسان والقلما ركنت إلى دعةٍ فانسل مخلبها وانهد كاهلها واستؤكلت لقما هذا هو حالنا، فينبغي أن نتألم، وينبغي أن نشعر بما يشعر به إخواننا. آهٍ أخي من البشناق يا خجلي طوى الزمان رشيداً ثم معتصما طوى الزمان أخا دينٍ ومرحمةٍ ومن يزمجر إن عرضٌ له ثلما طوى الزمان الذي إن تنتهك رحمٌ للمسلمين يمت من غمه ألما يهجر لذيذ الكرى يهجر رفاهته ويصبح الموت أشهاها له حلما وعرِّيت خيلنا وارتاح فارسها يعاقر العهر والتبذير والنعما هذا هو الذي لا نريده إطلاقاً؛ أن نكون ممن في الكرى سادرون، وبالنعم يستلذون، وإخوانهم يتألمون ويتكدرون ويشكون. أيها المسلمون لابد أن نتألم، لابد أن توقظ المصائب فينا نخوة أهل الإسلام، لابد أن نستيقظ من السبات، حتى نعود، ولو أن يسمع بعضنا الأخبار، فلابد أن يكون له في ذلك تأثير. عذري إليكم وما الأعذار نافعة وبعضها ربما يحتاج تعذيراً أني ضعيف جريح النفس مضطهدٌ أني مضيت أجوب الأرض مقهوراً أقعي على شاشة التلفاز كامرأةٍ أراقب الهول تقريراً فتقريراً أمي وأختي وأبنائي وقد شبعوا ذعراً وذبحاً وتدميراً وتهجيراً وقد أشيح بوجهي تارةً غضباً ويلتوي الحزن في عيني تعبيراً والصرب ماضون لا سيف فيردعهم لقد تكسرت الأسياف تكسيراً ويشمخ الغرب مزهواً بخسته وقد تعرى قبيح الوجه مخموراً يظل يبعث كالوغد الشقي بكم ميت الضمير عديم الحس مغروراً يشاهد المحن السوداء ممتعظاً جهراً وسراً قرير النفس مسروراً

العودة إلى الله جل وعلا والدعاء

العودة إلى الله جل وعلا والدعاء العودة إلى الدين، ثم مساعدة إخواننا المسلمين بما نستطيع من أنواع المساعدة كالصدقات وغيرها. ثم الدعاء، فندعو الله عزَّ وجلَّ أن يرفع الكروب وأن يعيد العزة لهذه الأمة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل بالمسلمين بلية عظيمة، أو خطبٌ جسيم أو مصيبة كبيرة، قنت قنوت النازلة، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقنت في الركعة الأخيرة من الصلوات بعدما يقول سمع الله لمن حمده، فيدعو للمؤمنين ويلعن الكفار) وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: [كان القنوت في المغرب وفي الفجر] وجاء في حادثة أخرى أنها في الصلوات الخمس عموماً، وأن أكثر ما يكون في المغرب والفجر، وكان رسول صلى الله عليه وسلم حين يرفع رأسه ويقول: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، يدعو لرجالٍ فيسميهم بأسمائهم فيقول: (اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف) وكان أهل المشرق يومئذٍ من مضر مخالفين له. وعن أنس رضي الله عنه قال: (قنت النبي صلى الله عليه وسلم شهراً يدعو على رعلٍ وذكوان) روى هذه الأحاديث الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه. فعندنا قنوت النوازل إذا استجدت مصيبة عظيمة، وإلا فالمصائب كثيرة متوالية مستمرة، فيقنت للمسلمين ويدعو لهم مدةً من الزمن، ثم يترك القنوت بعد ذلك، فإذا استجدت مصيبة أخرى دعا هذه هي السنة في قنوت النوازل. اللهم إنا نسألك أن تنجي المستضعفين من المؤمنين، اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين، اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين، اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين، اللهم إنهم جياع فأطعمهم، عراة فاكسهم، اللهم إنهم طريدون فآوهم، اللهم إنهم حفاة فاحملهم، اللهم إنهم مظلومون فانصرهم، اللهم إنهم مقهورون فأعزهم، إنك أنت العزيز الحكيم. اللهم إنك أنت الجبار ملك السموات والأرض، أنت على كل شيءٍ قدير، أنزل بالصرب والنصارى واليهود بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً اللهم فرِّق شملهم، وشتِّت جمعهم، واجعل بأسهم بينهم، واجعل دائرة السوء عليهم، وأنزل عليهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين. اللهم تضرعنا إليك، واستغثنا بك، ورجوناك ودعوناك، اللهم لا تخيب رجاءنا، وانصر في هذا الموقف إخواننا، ورد في هذا المقام كيد أعدائنا. اللهم رد المسلمين إلى الإسلام رداً جميلاً، واجمع كلمتهم على التقوى والتوحيد، اللهم ألف بين قلوبهم، واهدهم سبل السلام، وأخرجهم من الظلمات إلى النور، اللهم أيقظ في نفوس المسلمين الحمية لقتال اليهود والنصارى، واجعل في قلوبهم الحمية لإخراج أولئك مما أخرجونا يا رب العالمين. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

حاجتنا إلى الإخلاص لله

حاجتنا إلى الإخلاص لله الإخلاص هو الركن الثاني من أركان قبول العمل عند الله، وقد استطاع الشيخ أن يعطي هذا الموضوع ما يستحقه، فتكلم كثيراً عن فوائد الإخلاص، وعرَّج بعد ذلك على طرق تحصيل الإخلاص، ثم ركز على قوادح الإخلاص وعلاجها وأثرها في العمل. وفي الأخير بيَّن المجالات التي يدخلها الإخلاص وكشف حقيقة غير المخلصين.

أهمية الإخلاص في العمل

أهمية الإخلاص في العمل الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: أيها الإخوة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: سنتكلم إن شاء الله عن موضوع يهمنا جميعاً، وهو أمر عظيم نحتاج إليه، لأنه يحدد علاقتنا بالله عز وجل، ويميز أعمالنا، وهو طريق الخلاص، إنه الإخلاص. حاجتنا إلى الإخلاص لله عز وجل حاجةٌ مهمة جداً تدخل في أمور حياتنا كلها، والله سبحانه وتعالى خلقنا لعبادته وأمرنا بالإخلاص في هذه العبادة فقال عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5] وقال: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:3] واستثنى الله طائفةً من البشر كلهم الهالكون الخاسرون {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ} [النساء:146] فهؤلاء الذين أخلصوا دينهم لله هم السعداء حقاً، الذين ينالون من ربهم الجزاء الأوفى والنعيم المقيم في جنات النعيم. وأثنى الله على المؤمنين لما كانوا يقومون بسائر أعمال القرب والطاعات، ومنها إطعامهم للمحتاجين {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً} [الإنسان:8 - 9] لا نريد أي نوع من أنواع الأجر الدنيوي، كل ما نقوم به لوجه الله عز وجل: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} [الليل:19] من هو هذا الشخص؟ من هو؟ ما هي صفته؟ قال تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل:17 - 21]. ولذلك فإن الله تعالى لا يقبل عملاً من العبد إلا إذا كان خالصاً لوجهه، يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصاً وابتغي به وجهه سبحانه وتعالى). رواه الترمذي وحسنه وابن حبان في صحيحه عن الوليد بن أبي الوليد أبي عثمان المدني: أن عقبة بن مسلم حدثه: أن شُفَيّاً الأصبحي حدثه: أنه دخل المدينة فإذا هو برجلٍ قد اجتمع عليه الناس، فقال: من هذا؟ قالوا: أبو هريرة، قال: فدنوت منه حتى قعدت بين يديه وهو يحدث الناس فلما سكت وخلا قلت له: أسألك بحقي، لما حدثتني حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعقلته وعلمته، فقال أبو هريرة: أفعل، لأحدثنك حديثاً حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عقلته وعلمته، ثم نشغ أبو هريرة نشغةً فمكثنا قليلاً ثم أفاق -أخذته السكينة- فكاد يغشى عليه شفقةً وأسفاً وخوفاً من الله عز وجل، فشهق هذه الشهقة، ثم أفاق من هول الحديث الذي سيتكلم به، فقال: لأحدثنك حديثا ًحدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وهو في هذا البيت، ما معنا أحدٌ غيري وغيره، ثم نشغ نشغةً أخرى ثم أفاق ومسح عن وجهه، فقال: أفعل، لأحدثنك حديثاً حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وهو في هذا البيت ما معنا أحدٌ غيري وغيره، ثم نشغ أبو هريرة نشغةً شديدة ثم مال خاراً على وجهه فأسندته طويلاً، ثم أفاق، ما هو الحديث الذي لأجله حدث لـ أبي هريرة كل هذا الشأن؟ قال: حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ليقضي بينهم، وكل أمةٍ جاثية، على ركبهم من هول ذلك اليوم، فأول من يدعى به رجلٌ جمع القرآن، ورجلٌ قتل في سبيل الله، ورجلٌ كثير المال!! فيقول الله عز وجل للقارئ: ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟ فقال: بلى يا رب! قال: فما عملت فيما علمته، قال: كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار، فيقول الله عز وجل له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول الله تبارك وتعالى: بل أردت أن يقال فلان قارئ ماهر بالقراءة -مقرئ جيد- وقد قيل ذلك. ويؤتى بصاحب المال فيقول الله عز وجل: ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد؟ قال: بلى يا رب! قال: فماذا عملت فيما آتيتك؟ قال: كنت أصل الرحم وأتصدق، فيقول الله له: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، ويقول الله تبارك وتعالى: بل أردت أن يقال: فلانٌ جواد كريم وقد قيل ذلك، وأخذت أجرك في الدنيا من كلام الناس. ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله، فيقول الله له: في ماذا قتلت؟ فيقول: أي ربي، أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت، فيقول الله له: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، ويقول الله: بل أردت أن يقال: فلانٌ جريء شجاع فقد قيل ذلك، ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبته فقال: يا أبا هريرة! أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة) هؤلاء المرائين هم أول حطب جهنم. قال الوليد أبو عثمان المدني وأخبرني عقبة أن شفياً هو الذي دخل على معاوية فأخبره بهذا الحديث، فقال أبو عثمان: وحدثني العلاء بن أبي حكيم أنه كان سيافاً لـ معاوية فدخل عليه رجلٌ فأخبره بهذا الحديث عن أبي هريرة فقال معاوية رضي الله عنه: [قد فُعل بهؤلاء هذا فكيف بمن بقي من الناس] ثم بكى معاوية بكاءً شديداً حتى ظننا أنه هالك، وقلنا قد جاءنا هذا الرجل بِشر، ثم أفاق معاوية ومسح عن وجهه فقال: صدق الله ورسوله {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16] هذه عاقبة الذي لا يراعي الإخلاص لله في عمله وهذه عاقبة فاقد الإخلاص يوم القيامة.

تعريف الإخلاص

تعريف الإخلاص والإخلاص في اللغة: يقال عن الشيء خالص إذا صفي من الشوائب التي يمكن أن تشوبه، سمي: خالصاً كما قال الله عز وجل ممتناً على عباده باللبن الذي يخرج {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصاً سَائِغاً لِلشَّارِبِينَ} [النحل:66] فهذا اللبن صافي غير مختلط بشيء من الدم والفرث، فيخرج هذا اللبن الصافي بقدرة الله عز وجل فسماه الله ووصفه بأنه خالص. والإخلاص تعددت فيه أقوال أهل العلم في تعريفه الشرعي. فمنهم من قال: إفراد الله بالقصد في الطاعة. ومنهم من قال: تصفية الفعل عن ملاحظة المخلوقين، وإعجاب الفاعل بنفسه. ومنهم من قال: استواء أعمال العبد في الظاهر والباطن. ومنهم من قال: الصدق في الإخلاص أن يكون باطنه أعمر من ظاهره. ومنهم من قال: ألا تطلب على عملك شاهداً غير الله. وقال الفضيل رحمه الله: [ترك العمل من أجل الناس رياء، والعمل من أجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيك الله منهما] أن يعافيك الله من الرياء الذي بسببه الناس تترك العمل، والشرك الذي تعمل من أجل الناس، وباختصار فإن تصفية العمل من كل شائبة تشوبه هو الإخلاص لله عز وجل.

اهتمام الأئمة بالكلام عن الإخلاص

اهتمام الأئمة بالكلام عن الإخلاص الإخلاص موضوعٌ عظيم جرت مراعاته عند أئمتنا في كلامهم وتآليفهم، فكان بعضهم يصدر بها خطبه، وكان بعضهم وكثير منهم يصدر مصنفاته بهذا الموضوع: الإخلاص لله. فيقول: باب الإخلاص وتصحيح النية، وعد أهل العلم حديث: (إنما الأعمال بالنيات) ربع العلم، وبعضهم عده ثلث العلم، وبعضهم عده نصف العلم، قال ابن مهدي رحمه الله: لو صنفت كتاباً، لبدأت في كل أول باب منه بحديث: (إنما الأعمال بالنيات) وقال: من أراد أن يصنف كتاباً فليبدأ بهذا الحديث وقد استجاب لوصيته الإمام البخاري رحمه الله تعالى فبدأ مصنفه الجليل، وأعظم كتابٍ بعد القرآن صحيح البخاري بحديث إنما الأعمال بالنيات. وكذلك بدأ به الحافظ عبد الغني المقدسي كتابه عمدة الأحكام، والنووي رحمه الله كتابه المجموع، وابتدأ به السيوطي رحمه الله جميعه، وشرح الحديث جماعة من أهل العلم في مصنفاتٍ خاصة، وتمنى ابن أبي جمرة رحمه الله أن يتخصص بعض العلماء في النيات فقط؛ لتعليمها للناس؛ لأن أكثر المشاكل التي تحدث عند الناس هي في قضية النيات.

فوائد الإخلاص

فوائد الإخلاص وهذا الإخلاص له فوائد عظيمة جداً:

الأجر أكثر من العمل

الأجر أكثر من العمل من فوائده: أن المخلص ينال من الأجر بإخلاصه أكثر من عمله، بل ربما ينال أجراً ولا يعمل عملاً؛ فقد ورد عن أنس رضي الله عنه قال: رجعنا من غزوة تبوك مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إن أقواماً خلفنا بـ المدينة ما سلكنا شعباً ولا وادياً إلا وهم معنا حبسهم العذر) أناس جلسوا في المدينة وما خرجوا في الجهاد، لكنهم مع الجيش في أجرهم والفوز الذي أعده الله، فقد كانوا يريدون الخروج في الجهاد لكن حبسهم العذر، فلم يستطيعوا الخروج، هؤلاء: {إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة:92] ليس عنده ما يشتري به الدابة والسلاح، ولا يستطيع الخروج فيبكي؛ لأنه يريد الجهاد ولا يستطيع، فهو متأثر لأنه قد منع من حاجته وإرادته للجهاد بأعذارٍ شرعية لم يستطع من أجلها الخروج في سبيل الله (لقد تركتم بـ المدينة أقواماً ما سرتم مسيراً، ولا أنفقتم من نفقة، ولا قطعتم من وادي إلا وهم معكم قالوا: يا رسول الله! وكيف يكونون معنا وهم بـ المدينة؟ قال: حبسهم العذر -ما استطاعوا الخروج- وإلا فهم يريدون الخروج، علم الله من صدق نياتهم ما أعطاهم به الأجر وهم قاعدون في بيوتهم). يا راحلين إلى البيت العتيق لقد سرتم جسوماً وسرنا نحن أرواحا إنا أقمنا على عذرٍ وعن قدرٍ ومن أقام على عذرٍ فقد راحا بعض الناس في أقطار الأرض يودون الذهاب إلى الحج والعمرة لكن لا يستطيع، ليس عنده نفقة أو لم تتيسر له الإجراءات اللازمة للحج ولكنه يريد الحج، والله يعلم من نفس هذا الرجل أنه يريد الحج أو يريد العمرة فيكتب له أجر الحاج والمعتمر وهو قاعد في بيته، بسبب إخلاصه. (من سأل الله الشهادة بصدقٍ، بلغه الله منازل الشهداء ولو مات على فراشه) ولذلك قال صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن ثابت رضي الله عنه لما تجهز للغزو معه عليه الصلاة والسلام فمات قبل أن يخرج (إن الله تعالى قد أوقع أجره على قدر نيته). مثالٌ آخر: عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أتى فراشه وهو ينوي أن يقوم يصلي من الليل فغلبته عينه حتى أصبح، كتب له ما نوى، وكان نومه صدقةً عليه من ربه) وأحدهم أراد أن يقوم الليل بصدق واستعد، لكن غلبته عينه، فأكمل النوم إلى الفجر، فلم يقم برغم نيته الصادقة، فله أجر قيام الليل والنوم صدقة من ربه عليه، حديث صحيح. ولذلك -أيها الإخوة- تصحيح النية ومراعاتها مسألة مهمة جداً، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إنما الدنيا لأربعة نفر: عبدٌ رزقه الله مالاً وعلماً فهو يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقاً، فهذا بأفضل المنازل، وعبدٌ رزقه الله علماً ولم يرزقه مالاً فهو صادق النية يقول: لو أن لي مالاً؛ لعملت بعمل فلان) لو كان عندي مال لتصدقت، وأخرجت زكاته، ووصلت رحمي من هذا المال، وأنفقت على أقربائي، وعملت أشياء من أعمال البر والخير، وكفلت أيتاماً، وعلمت للمسلمين أموراً ينتفعون بها، تصدقت بها في سبيل الله، وطبعت كتباً، وأوقفت مصاحف للمساجد، وعملت وعملت فهو يتمنى أنه لو كان له ذلك المال لعمل به في هذا، فإذا صدق الله في نيته تلك، فإن الله يعطيه على قدر نيته، فيقول عليه الصلاة والسلام: (فأجرهما سواء) أجر الذي عنده وأنفق، وأجر الذي ليس عنده ونوى لو كان عنده لأنفق مثل صاحبه أجرهما سواء. وفي نفس الوقت (عبدٌ رزقه الله مالاً ولم يرزقه علماً، يخبط في ماله بغير علم، ولا يتقي فيه ربه، ولا يصل فيه رحمه ولا يعلم لله فيه حقاً فهذا بأخبث المنازل، ورجل قال: لو أن عندي مالاً مثل فلان لعملت بعمل فلان) لو كان عندي مال كنت سافرت إلى الخارج وفسقت وفعلت الفواحش، واستأجرت فرق الغناء والطرب، وعملت وليمة فيها من المعاصي والفسق مثلما عمل فلان، ويرى خاتماً ذهب في يد رجل فيقول: لو كان عندي مال لاشتريت مثله، هذا الرجل الذي يتمنى بقلبه هذا الأمنيات لو أن الله أعطاه مالاً فهو شريك ذلك الرجل في الوزر قال: (فهما في الوزر سواء) مع أنه ما عمل لكن نيته هذه نية عازمة، فلو أن الله أعطاه مالاً لعمل فيه من المعاصي مثلما عمل ذلك الفاجر.

احتساب الأجر عند الله عز وجل

احتساب الأجر عند الله عز وجل ومن ثمرات الإخلاص أيضاً: ما جاء في هذا الحديث العظيم عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: (كان ابن عمٍ لي ما أعلم من الناس من أهل المدينة ممن يصلي إلى القبلة أبعد بيتاً من المسجد منه، فكان يحضر الصلوات كلها مع النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له: لو اشتريت حماراً تركبه من الرمضاء -يعني: من شدة الحر- يحميك أو يقيك من هوام الأرض - الحشرات والدواب المؤذية- قال: والله ما أحب أن بيتي يلصق بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم -ما أحب أن بيتي ملاصقاً للمسجد- فما سمعت كلمةً أكره إلي منها -تعجب- أي أن أبي يقول: كرهت كلامه كيف أنه لا يريد أن يكون بيته ملاصقاً للمسجد، ولو كان بيته ملاصقاً للمسجد لكره هذا الأمر، قال: فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن ذلك، فقال: يا نبي الله! لكي ما يكتب أثري ورجوعي إلى أهلي وإقبالي إليه) أي: أنا لا أريد أن أصير بجانب المسجد لكي إذا أتيت من بعيد يكتب لي الأجر الممشى من البيت إلى المسجد ومن المسجد إلى البيت، لأن الإنسان في قدومه لصلاة الجماعة لا يكتب أجره فقط من البيت إلى المسجد وإنما أيضاً من المسجد إلى البيت، فالرجل يقول: أنا لا أود ولا أتمنى أن يكون بيتي ملاصقاً للمسجد؛ لأني أريد أن آتي هكذا دائماً لكي يكتب لي الأجر جيئة وذهاباً، فقال صلى الله عليه وسلم: (أنطاك الله ذلك كله) أنطاك الله بلغة أهل اليمن يعني: أعطاك الله وفي رواية: (لك ما نويت) أو قال: (لك أجر ما نويت) وفي مسلم: (لك ما احتسبت).

الإخلاص سبب الانتصار

الإخلاص سبب الانتصار ومن المزايا التي تحصل للمجتمع الذي فيه هؤلاء المخلصون ما يلي: عن مصعب بن سعد عن أبيه رضي الله عنه: أنه ظن أن له فضلاً على من دونه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها) بدعوتهم، وصلاتهم، وإخلاصهم؛ هذه الأمة فيها أقوياء وفيها ضعفاء، فيها أغنياء وفيها فقراء، والله عز وجل ينصر الأمة بالضعفاء فيها، بصلاتهم، ودعائهم، وصدقهم، وإخلاصهم، لأنه في العادة أن الضعيف عنده من الإخلاص ما ليس عند القوي؛ فإنه لا يملك كثيراً من الأسباب التي تدفع إلى عدم الإخلاص، ولذلك لا تحتقر ضعيفاً أبداً إذا كان تقياً، فإنه قد يكون سبب نصرة الأمة به.

الإخلاص يقلب العادات إلى عبادات

الإخلاص يقلب العادات إلى عبادات الإخلاص يقلب العادات إلى عبادات؛ فربما يكون هنا عملٌ صورته واحدة ولكن أجر العاملين به يختلف، فمثلاً الزواج، الذي يتزوج للاستمتاع بالمباح مكانته عند الله غير الذي يتزوج ليعف نفسه، وهناك من ينوي بالزواج إضافةً إلى ذلك إعفاف زوجته، وهناك من ينوي إضافةً إلى ذلك ابتغاء الولد الذي يكثر به هذه الأمة، وهناك من ينوي بالإضافة إلى ذلك الإنفاق على زوجته وأولاده، وهذا الإنفاق في سبيل الله، وهؤلاء أجرهم ليس سواء، فهذا تزوج، وهذا تزوج، وهذا تزوج، وكلهم فعلوا نفس الشيء والزواج صورته واحدة ولكن سبب تفاوت الأجر هي النية النابعة من الإخلاص. كذلك من الناس من يغتسل تنظفاً وإزالةً للأقذار والأوساخ، ومنهم من يغتسل تبرداً بسبب الحر، ومن الناس من يغتسل مداواة؛ فقد يكون به حمى شديدة، ولكن من الناس من يغتسل للجمعة، فالذي يغتسل للجمعة له أجرٌ أكبر؛ لأنه نوى بغسله الجمعة أو إتيان المسجد وهو نظيف لكي لا يؤذي المسلمين، أو غسل الجنابة ونحو ذلك، فمادام أنه نوى قربة وطاعة بهذا الغسل فتحولت عادته إلى عبادة يؤجر عليها. وبعض الناس يظن أن النية في الفعل فقط، يعني: يتزوج ويغتسل، لكن النية لها أثر كبير في الترك كما أن لها أثر في الفعل فمن الناس من يترك الطعام حميةً حتى لا يصيبه مرض، ومن الناس من يترك الطعام تداوياً حتى يشفى من مرض واقع فيه، ومن الناس من يترك الطعام بخلاً حتى على نفسه، ومن الناس من يترك الطعام لعدم ميله إليه وعدم تعلقه به، فهو لا يشتهيه، ومن الناس من يترك الطعام صياماً لرب العالمين، فهذا أكثر أجراً، فإذاً يحصل هنا الأجر على الترك كما يحصل الأجر على الفعل، بسبب بالنية. ولما ينعدم الإخلاص وينقص، فإن صاحبه ينتكس انتكاسات كبيرة جداً، فقد يأتي أناس يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاء يجعلها الله هباءً منثوراً، ذلك بأنهم كانوا إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها، وهؤلاء عديمي الإخلاص.

كيفية تحصيل الإخلاص

كيفية تحصيل الإخلاص إذا خف الإخلاص يسير الإنسان إلى عكس مقصوده، سير المقيد المقعد، أو أنه يسير سير صاحب الدابة الجموح الممتنعة على صاحبها، كلما مشت إلى قدام خطوة رجعت إلى الخلف عشر خطوات، وهذا لا يحدث إلا لمن يفتقد الإخلاص، أو ينقص إخلاصه، ولذلك الإخلاص تحصيله صعب وليس سهلاً. يقول سفيان رحمه الله: [ما عالجت شيئاً أشد علي من نيتي، لأنها تنقلب علي كلما آتي لأثبتها تنقلب فأنا أعالج وأجاهد وأجتهد في تثبيت النية] لأن قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن، إن شاء أقامه وإن شاء أزاغه سبحانه وتعالى قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال:24] فلا يمكنه من التوبة والإخلاص، فيحول بين المرء وقلبه، ولذلك مجاهدة النفس على الإخلاص وتوجيه النية لله رب العالمين هي أصعب شيء. قال يوسف بن أسباط رحمه الله: [تخليص النية من فسادها أشد على العاملين من طول الاجتهاد] لو قام أحدهم الليل ساعات طويلة قد يصبر، لكن تثبيت النية بحيث إن العمل لا يكون فيه شيء للدنيا ولا للناس هذا أصعب من العمل نفسه. وقال يوسف بن الحسين: [أعز شيء في الدنيا الإخلاص، وكم أجتهد في إسقاط الرياء من قلبي، فكأنه يمكث على لونٍ آخر] أحاول أن أسد هذا الباب فينفتح باب آخر، أحاول أن أثبت من هنا؛ فأوتى من هناك وهكذا، لأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، ولكن لا يعني هذا أن ذلك مستحيل وأنه لا يمكن أن نخلص وأنه مهما اجتهدنا لا نصل لمرتبة المخلصين، كلا. إن سألت كيف أكتسب الإخلاص؟ لو قلت لي الإخلاص صعب، فعرفنا منزلة الإخلاص في الدين، وعرفنا خطورة الموضوع، وعرفنا فوائد الإخلاص، وعرفنا مضار فقدان الإخلاص، فكيف نكتسب الإخلاص؟ يقول ابن القيم رحمه الله: "لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح والثناء والطمع فيما عند الناس إلا كما يجتمع الماء والنار، والضب والحوت، فإذا حدثتك نفسك بطلب الإخلاص فأقبل على الطمع أولاً فاذبحه بسكين اليأس، وأقبل على المدح والثناء فازهد فيهما زهد عشاق الدنيا في الآخرة، فإذا استقام لك ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح سهل عليك الإخلاص، وسهولة ذلك بأن تعلم أن مدح أحدٍ أو ذمه لا يضر". لو قيل: كيف تريد مني أن أقطع الطمع بثناء الناس ولا أكترث بذم الناس؟ أعطني العلاج المفتاح لهذه المسألة، كيف تريد مني ألا أكترث سواءً ذموني أو مدحوني؟ نقول لك: انظر في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم لما جاءه أعرابي فقال: إن مدحي زينٌ وإن ذمي شينٌ، أي: أنا إذا مدحت واحد زان من مدحي وارتفع، وإذا ذممت شخصاً فقد شان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ذاك الله عز وجل) ذاك الله عز وجل الذي إذا مدح أناساً ارتفعوا، وإذا ذم أناساً هبطوا، ولست أنت. فإذا عرفت أيها المسلم: بأن الناس لو مدحوك ما رفعوك، ولو ذموك ما خفضوك؛ فلا تكترث عند ذلك لمدحهم ولا ذمهم، وتعلم بأن المهم هو مدح الله وليس مدح المخلوقين، وبأن الذم المذموم هو ذم الله لا ذم المخلوقين.

قوادح الإخلاص وعلاجها

قوادح الإخلاص وعلاجها يمكن تحصيل الإخلاص بمعالجة قوادح الإخلاص، أي شيء يقدح في الإخلاص نعمل على إبعاده، فمثلاً لو أن شخصاً عمل عملاً فالأشياء التي تقدح في هذا العمل وتنافي الإخلاص هي حب الثناء من الناس والرياء والغرور الذي يقدح في عمل الواحد وهو يصلي في بيته ولا يراه أحد من الناس وهو: العجب بالنفس.

علاج العجب بالنفس

علاج العجب بالنفس (إعجاب المرء بنفسه) فيرى أنه قد أدى عبادات، وأنه قد وصل إلى مراتب بينه وبين نفسه، ولكي تعالج هذا الإعجاب الذي يقدح في عملك عليك بالأمور الآتية: أولاً: أن تعلم أن الله عز وجل حقه أكبر مما عملت، يمكن لو وزنت أعمالك كلها يوم القيامة ما ساوت نعمة البصر مثلاً، عند ذلك تعلم أن عملك لا شيء فكيف بالنعم الأخرى؟ كيف بنعمة الهداية! كيف بنعمة الإيمان! وتعلم أيضاً أن الذي وفقك لهذا العمل هو الله عز وجل، إذاً: فلماذا تعجب به، وهو ما جاء من عندك، والله الذي وفقك له. وكذلك من الأمور التي تعالج العجب بالعمل: أن تشعر إذا عملت عملاً بشدة الحياء من الله عز وجل قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60] أي: إنك إذا تصدقت بصدقة أو عملت عملاً طيباً، فليكن إحساسك بالحياء من الله عز وجل، لأنك تقدم شيئاً وتخشى ألا يقبل، وحق الله أعظم من هذا، ولذلك الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف ألا يقبل منه، فهذا الذي يعمل هذه الأعمال ثم يخاف ألا تقبل منه، هو الذي نجا من الإعجاب بنفسه. وكذلك أن تعلم -كما ذكرنا قبل قليل- أن عملك منة من الله وليست من نفسك، وفضلٌ من الله وليست فضلاً من عندك، وتوفيق من الله وليس توفيقاً من عندك قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30] فالخير عند العبد من الله: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النور:21] ولذلك كان كلام أهل الجنة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43] لاحظ {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43] {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً} [الإسراء:74] فالله عز وجل يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: لولا أن ثبتناك يا محمد لقد كدت تركن إلى الكفار شيئاً قليلاً، فمن الذي ثبتك؟ {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:7]. إذاً: إذا أقبل الواحد على الطاعات وأحس بحلاوتها، فالذي أوجد في نفسه هذا الدافع هو الله، والذي حبب إليه الإيمان وزينه في قلبه هو الله. وكذلك من الأشياء التي تقضي على الإعجاب بالعمل: أن تعلم أن كل عمل مهما عظم؛ فإن للشيطان فيه نصيباً ولو قل، وقال صلى الله عليه وسلم عن الرجل الذي يلتفت فجأة في الصلاة ثم يرجع: (هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد) هذا اختلاس النظر فكيف باختلاس القلب! فإذا عرفت أن كل عمل عملته قد يكون للشيطان فيه نصيبا، ً تعلم أن عملك معيب، ولذلك لا يمكن أن تعجب بعملٍ معيب وناقص.

علاج طلب العوض من المخلوقين

علاج طلب العوض من المخلوقين ومن القوادح في الإخلاص التي ينبغي أن تعالج الأول: أن يطلب العبد بعمله العوض من المخلوقين كيف ما كان هذا العوض، وهذا العوض قد يكون أشياء كثيرة، منها: التزين في قلوب الخلق؛ حتى يكون له عند الناس شأن ووزن. الثاني: طلب مدحهم؛ فيعمل العمل لأجل أن يمدحه الناس. الثالث: النجاة من ذمهم؛ فبعض الناس يعملون أعمالاً لا لله، في القتال مقدام حتى لا يقال عنه: جبان، يحسن الصلاة حتى لا يقال عنه: فلان يسرع في صلاته مثلاً، فينجو من ذم الناس. رابعاً: طلب تعظيمهم؛ أن يعظموه. خامساً: طلب أموالهم، مثلاً واحد يخلص في العمل، ويتظاهر بالأمانة؛ لكي يحصل على وظيفة؛ وبعض الناس يظهر بمظاهر التقى والصلاح؛ لكي يستأمنه رب العمل فيوظفه عنده، ويقول رب العمل في نفسه: فلان هذا تقي وورع، فلان هذا مناسب أن أضعه في هذه الوظيفة، فيضعه في هذه الوظيفة، وقد يعمل العمل أيضاً بدافع طلب خدمتهم ومحبتهم، يعني: لكي يخدمه الناس، وكذلك بطلب قضاء حوائجه: كتزويجه منهم من بنتهم، فيخلص في العمل والعبادة الظاهرة حتى يقولوا: فلان ذو دين فنزوجه، ولذلك وصلنا أن بعضهم إذا تقدم لأناس فيزورهم كثيراً، فإذا سمع الأذان قام من عندهم للصلاة، وهو أصلاً إنسان غير حريص على الصلاة، فخدعهم من أجل أن يزوجوه. فإذاً: يعرض للإنسان شوائب تقدح في إخلاصه، من التماس الأشياء من الناس على عمله الصالح، فكل شيء يراد به غير الله قادح ينبغي التخلص منه. ولكي يقضي العبد على طلب هذه الأشياء من المخلوقين؛ انظر إلى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (يقول الله عز وجل إذا جزى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاء) وقال: (إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم القيامة ليوم لا ريب فيه، نادى منادٍ: من كان أشرك في عمله لله أحداً؛ فليطلب ثوابه من عنده؛ فإن الله أغنى الأغنياء عن الشرك، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك) وقال: (من عمل عملاً أشرك فيه أحداً غيري؛ تركته وشركه) ولذلك إذا تأمل العبد أنه يوم القيامة سيقال له: اذهب إلى الناس الذين رآءيت من أجلهم اطلب منهم ثواب العمل، وأنهم لن يعطوه شيئاً، فماذا سيكون موقفه؟

علاج الرياء

علاج الرياء وكذلك فإن من أقدح القوادح في الإخلاص الرياء؛ والرياء مراتب ودرجات: (ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ الشرك الخفي) وفي رواية: (يا أيها الناس إياكم وشرك السرائر قالوا: وما شرك السرائر يا رسول الله؟ قال: يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته جاهداً لما يرى من نظر الرجل) وفي رواية: (لما يرى من نظر الناس إليه فذلك شرك السرائر) تحسن صلاتك لأن الناس ينظرون إليك، لو ما نظر إليك أحد ولا كان بجانبك أحد ما طولتها هذا التطويل ولا حسنتها هذا التحسين، وهذا هو الرياء، يرائي الناس بطلب رؤيتهم ليمدحوه. وفي علاج الرياء هناك علاج علمي وعلاج عملي، من العلاج العلمي: أن تعلم ما هو عذاب المرائين يوم القيامة، يقول عليه الصلاة والسلام: (من قام مقام رياءٍ وسمعة) وفي رواية: (من سمع الناس بعمله راءى الله به يوم القيامة وسمع) وفي رواية: (سمع الله به مسامع خلقه وصغره وحقره يوم القيامة) وفي رواية: (إلا سمع الله به على رءوس الخلائق يوم القيامة) يعني: فضحه على رءوس الأولين من آدم إلى آخر واحد وهو الراعي من مزينة الذي يحشر آخر واحد من الناس فيموت عند الصعق، لأنه قام مقام الرياء والسمعة. علامات الرياء كثيرة ومنها، لو قال واحد: أعطني حدوداً أعرف بها هل أنا مرائي أم لا، فنقول: النشاط في الملأ مع الكسل في الخلاء، ومحبة الحمد على جميع أمورك؛ إذا كنت تنشط في الملأ وتكسل في الخلاء، وتحب أن تحمد على أفعالك فأنت على خطر من أن تكون مرائياً، ولذلك من علاجات الرياء العملية، مثلاً إذا شككت أن إطالتك في سجودك في المسجد لأجل الناس اذهب إلى بيتك وصلي صلاةً أطول منها، وإذا شككت أن النفقة التي أخرجتها من أجل الناس في المسجد، فاذهب سراً وأنفق نفقةً أكبر منها، وقال بعضهم: إذا كان المرء يحدث في المجلس؛ فأعجبه حديثه فليسكت، وإذا كان ساكتاً فأعجبه سكوته فليتكلم، فبعض الناس يعجبون بحديثهم، وبعضهم يعجبون بسكوتهم، فيرى أن يعطي انطباعاً للناس عنه بأنه متزن، وقور، هادئ وغير ثرثار ونحو ذلك، فإذا كان المرء يحدث في المجلس، فأعجبه الحديث فليسكت؛ وإذا كان ساكتاً فأعجبه السكوت فليحدث. ومن الأمور كذلك التي نكتسب بها الإخلاص: الدعاء، لذلك الرسول صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ بالله من أمور: (اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً أعلمه، وأستغفرك لما لا أعلمه) وقد كان وعمر رضي الله عنه كان يسأل الله ألا يجعل لأحدٍ من الخلق في عمله حظاً ولا نصيباً، وأن يجعله لوجهه خالصاً، فالدعاء مهم في هذه المسألة. ولمرافقة أهل الإخلاص أثر، فأنت تكتسب الإخلاص إذا احتككت وعاشرت ورافقت أهل الإخلاص، وهذه نقطة مهمة جداً لأنك تتعلم منهم، الآن لما رأى الرجل الإمام البخاري رحمه الله، قال: رأيت أبا عبد الله في المسجد والناس حوله، فأخذ الرجل شيئاً من لحيته فرمى به في الأرض -يعني: قذر رمى به في المسجد- قال: فرأيت أبا عبد الله نظر بطرفه إليها، فلما انتهى المجلس وانصرف الناس، نظر يميناً وشمالاً، فلما لم ير أحداً أخذها فدسها في جيبه وخرج من المسجد، فلما خرج رأيته يتلفت يميناً وشمالاً، فلما علم أنه لا يراه أحد من الناس أخرجها وألقاها. هذا الراوي الذي روى القصة هو الذي شاهد البخاري رحمه الله والبخاري لا يعلم، وانظروا أن الله يقيض لأهل الإخلاص من ينشر سيرتهم مع أنهم لم يقصدوا نشرها، كيف وصلنا الخبر والبخاري رحمه الله لا يريد أن يراه أحد، لكن سخر الله له رجل من الناس رأى فعله فرواها ونقلت وكتبت واقتدى بها الناس، فمعاشرة أهل الإخلاص في غاية الأهمية في اكتساب الإخلاص، فإنك ترى من إخلاصهم ما يربيك بالقدوة.

تأثير قوادح الإخلاص في العمل

تأثير قوادح الإخلاص في العمل قوادح الإخلاص تؤثر في العمل تأثيراً سيئاً فمنها مثلاً:

حبوط العمل بالكلية

حبوط العمل بالكلية كأن يقوم الإنسان للصلاة من أجل الناس لا لله، هؤلاء الذين قال الله فيهم: {الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون:6 - 7] هؤلاء المنافقين عليهم حابط بالكلية. وأحياناً يكون العمل لله ولكن يدخل معه في بدايته الرغبة فيما عند الناس أيضاً، فيصير لله والناس من البداية فهذا أيضاً حابط، ومن دخل في صلاةٍ هذه نيته أنها للناس فإنها فاسدة يجب إعادتها: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه أحداً غيري تركته وشركه) هذا الدليل على أنه إذا رافقت نية لله نية أخرى للناس من البداية حبط العمل. وأحياناً يطرأ الرياء على العمل أثناء العمل، هو يبدأ لله لكن يطرأ عليه طارئ، هذا إذا جاهد العبد نفسه فعمله صحيح، وإذا غلب الرياء إلى آخر الصلاة ففي صحتها شك ونظر.

حكم إرادة الدنيا مع العمل لله

حكم إرادة الدنيا مع العمل لله ومنها أن بعض الناس يعملون لله ولكن يريدون أشياء دنيوية مع هذا العمل: كرجلٍ خرج للحج والتجارة، فحجه ليس بحابط قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:198] لكن أجر الذي خرج للحج والتجارة ليس مثل أجر الذي خرج للحج فقط، ولذلك ورد في الحديث الصحيح أن السرية إذا خرجت للجهاد فغنموا أنهم تعجلوا ثلثي أجرهم وبقي لهم ثلث الأجر فقط، ولكن إذا ما غنموا شيئاً كان لهم الأجر كله، ولو أنهم خرجوا في سرية فلم يصابوا، كان أجرهم غير الذين خرجوا فأصيبوا، وهذا معنى قول الصحابي: [منا من مات ولم يأخذ من الدنيا شيئاً] مثل مصعب بن عمير ما أخذ شيئاً وكل عمله كان جهادياً وانتهى بالموت شهيداً في سبيل الله، ومنهم من أينعت له ثمرته فهو يهدبها، ومنهم من أخره الله عز وجل ورأى الفتوح وأخذ من الغنائم وليس في ذلك شيء، ومن هذا الباب ما يأخذه مدرس الدين أو إمام المسجد على عمله، إذا لم يكن يعيش إلا به، فهذا يجوز له أن يأخذه، لكن لا شك أنه إذا احتسب التعليم والأذان أو الإمامة دون أجرٍ فهو أفضل، مثل المجندين الذين لهم رواتب من بيت مال المسلمين، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: هؤلاء يجاهدون في سبيل الله ولهم رواتب، رواتبهم لا تحبط جهادهم وأعمالهم؛ لأنهم أخذوها ليستعينوا بها على المعيشة، لكن لو كان عنده مصدر كسب آخر، فالأحسن له أن يتصدق بها، والضابط قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل الذي يتعلم العلم- الذي هو يعمل به لله يعني: علم الشريعة- يبتغي به الدنيا يكبه الله في النار) أقول: فرق بين الذي يدرس الشريعة ويأخذ مكافئة الطالب، وبين الذي يأخذ مكافئة الطالب ليدرس، وفرق بين الذي يدرس الدين في المدارس ليأخذ الراتب، وبين الذي يأخذ الراتب ليدرس الدين في المدارس، وفرق بين الذي يحج عن واحد ويأخذ المال، وبين من يأخذ المال ليحج فإن قلت لي: لم تصل الفكرة بعد فأقول: الذي يحج ليأخذ، قصده المال، والوسيلة الحج، فهذا مذموم تماماً؛ لأنه جعل الحج وسيلة للتكسب، مثلما يعمل كثير من الناس اليوم، فهذا يحج ليأخذ فجعل الأخذ هو الهدف، والحج هو الوسيلة للتكسب مثل أي مهنة، يحج عن العالم ويأخذ فلوس. كذلك الذي يدرس الشريعة ليأخذ مكافئة الطالب، الهدف هو المكافئة، والوسيلة هي دراسة الشريعة، وليس لديه كلية ثانية تقبله فقال: آخذ من ورائهم المكافئة، لكن فرق بين هؤلاء وبين من يأخذ المال ليتقوى به على الطاعة ويعيش ليتمكن من أداء العمل. افرض أن إمام مسجد ليس له دخل إلا راتب الإمام، هذا الرجل إذا لم يأخذ الراتب فإنه سيشحذ من الناس فيهين نفسه، فيأخذ الراتب من بيت مال المسلمين لكي يساعده على أداء الإمامة، فتكون الإمامة هي الهدف والراتب هو وسيلة. الذي يدرس الدين في المدارس إذا كان قصده الراتب، ولو ما أعطوه الراتب ما درس شيئاً، ولو خفضوا الراتب خفض التدريس ولو نزلوا الرواتب لم يهتم بالتحضير، فيتأثر الإخلاص ويصير هدفه الراتب، والوظيفة هي وسيلة تدريس الدين للطلاب، كونه يعلمهم أحكام الصلاة والطهارة والزكاة والتوحيد والشرك، وهذا مذموم متوعد يوم القيامة. وفرق بين من يحج ليأخذ وبين من يأخذ ليحج، والناجي هو الذي يأخذ ليحج؛ لأنه لا يستطيع أن يشتري تذكرة الطائرة حتى يحج بها مثلاً عن فلان، كيف يشتري تذكرة طائرة؟ كيف يتنقل بين المشاعر بسيارات الأجرة؟ كيف يشتري لوازمه من الطعام والماء واللازم له في عرفة ومزدلفة ومنى؟ فإذاً أخذ المال صار وسيلة والحج هو الغاية، غايته أن يحج حتى يبرئ ذمة ذلك الشخص الذي لم يحج مثلاً. ولذلك يقول الإمام أحمد رحمه الله: [التاجر- يعني في الحج مثلاً أو الجهاد والمستأجر والمكاري- الذي يؤجر الدابة- أجرهم على قدر ما يخلص من نيتهم في غزواتهم] فإذا هو خرج قال: ما دام أني خارج للجهاد فلأتكسب، مثلاً أبيع أشياء على الجيش، أبيع طعام على الجيش مثلاً، أو ما دام أني ذاهب للحج فسوف أبيع لي شيئاً، هذا أجره على قدر نيته؛ لأن بعض الناس يفوتون بعض الأشياء في الحج من أجل التجارة يقول: أنا ذاهب الحج، فقد يفوت بعض الأحيان واجبات ويفوت سنناً ويفوت أشياء كثيرة من أجل الكسب والتجارة في الحج، فهذا أجره على قدر نيته ولا يكون مثل من جاهد بنفسه وماله لا يخلط به غيره. وأحياناً يكون العمل خالصاً لله إلى النهاية ويطلع عليه بعض الناس فيمدحون صاحبه، مثلاً دخل رجل فجأة فرآك تصلي في الليل، أو استيقظ أحدٌ من أهلك فرآك تصلي، العمل في هذه الحالة صحيح، وكون الله عز وجل قدر أن يطلع على عملك بعض الناس دون قصدٍ منك ودون أن تختار مكان يسهل اطلاع الناس عليك فلا عليك حرج، بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سأل عن الرجل يعمل العمل لله من الخير يحمده الناس عليه فقال: (تلك عاجل بشرى المؤمن) رواه مسلم، فما قال الرسول صلى الله عليه وسلم رياء ولا حبط العمل؛ لأن الرجل ما قصد أن يطلع الناس على عبادته. فإذاً من عمل لله خالصاً هذا أعلى المراتب، ومن عمل لا يريد إلا الدنيا فعمله حابط، ومن قصد الدنيا مع قصد الله فعمله أيضاً حابط، ولكن إذا طرأ عليه الرياء فجاهده فالحمد لله، فإن استمر معه نقص من أجره بقدر هذا الشيء الطارئ. وإن قصد وجه الله والدنيا، يحبط العمل إلا إذا كان مثل ما ذكرنا في الحج فإنه لا بأس به؛ لأنه قصد وجه الله والله أباح له التجارة، وينقص من أجره بقدر اهتمامه بالتجارة.

حكم العمل لله دون إرادة ثواب الآخرة

حكم العمل لله دون إرادة ثواب الآخرة وبعض الناس يعمل العمل لله؛ يصلي لله، يزكي لله، يحج لله، لكن لا يريد العمل الثواب في الآخرة، لو سألته لماذا تصلي؟ قال: يا أخي! لأني أريد أن أحفظ نفسي؛ لأني أريد أن الله يحفظني ويحفظ أولادي، ويحفظ أموالي، فأنا أصلي لهذا السبب، أنا أصلي لله لا أصلي لقبر ولا لميت ولا لأي شيء، أصلي لله، لكن أنا قصدي من الصلاة أن الله يحفظني ويحفظ أولادي، فهذا الرجل ليس له أجرٌ في الآخرة، عمله صحيح ولا يحتاج أن يعيد الصلاة، لكن ليس له أجر في الآخرة ويعطى أجره في الدنيا؛ لأنه ما صلى ابتغاء الدار الآخرة أو الجنة والثواب الأخروي، صلى لأجل حفظ نفسه وأولاده، وكثير من الناس يفعلون هذا.

مجالات الإخلاص

مجالات الإخلاص الإخلاص له عدة مجالات، الإخلاص مثلاً الإخلاص في العبادة، الإخلاص في الجهاد، الإخلاص في طلب العلم، الإخلاص في الدعوة إلى الله، الإخلاص في التربية.

الإخلاص في العبادات

الإخلاص في العبادات فمن الإخلاص في العبادات مثلاً والأعمال الصالحة: ما وقع لأصحاب الغار الذين انطبقت عليهم الصخرة وقالوا لبعضهم: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم ليفرج عنكم، فالذي انتظر أبواه حتى استيقظا وهو قائمٌ على رأسيهما، وأولاده يصيحون من الجوع، حتى استيقظا في الصباح وأعطاهما اللبن وشربا قال: اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه. والذي قعد للزنا بين يدي المرأة المحتاجة إليه، فلما ذكرته بالله؛ انصرف عنها وأعطاها المال، ولم يعمل بها شيئاً قال: اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه. والذي حفظ للأجير ماله ونماه له أضعافاً مضاعفة، فلما جاءه الأجير؛ أعطاه إياه كله دون أن يأخذ منه شيئاً قال: اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه. فانفرجت الصخرة بسبب أنهم سألوا الله بأخلص الأعمال التي عملوها، فانظر فائدة الإخلاص، هذه أعمال عظيمة ظهر فيها الإخلاص؛ لذلك كانت مكتوبة عند الله ثقيلة جداً ونفعتهم، ولقد حدث أني سألت بعض أهل العلم فقلت له: لو أن الواحد وقع في ورطة فقال: اللهم إني عملت يوم كذا وكذا -بينه وبين الله- عملاً أرجو به وجهك أخلصت فيه لك؛ ففرج عني بذلك العمل الذي عملته لك هذه الكربة، هل ينقص من أجر ذلك العمل؟ فأجاب الشيخ: لا يظهر هذا، وسياق الحديث في مساق المدح له، ولو كان هناك شيء من هذا؛ لورد على الأقل، ولذلك لا بأس بسؤال الله بصالح العمل الذي عملته وانتهيت ليس أن تعمل العلم الصالح من أجل شيء دنيوي، لا، شيء عملته وانتهيت، أخلصت فيه لله وحصلت لك مشكلة بعد ذلك، فسألت الله بذلك العمل أن يفرج عنك المشكلة لا بأس.

الإخلاص في طلب العلم

الإخلاص في طلب العلم بعض طلبة العلم لا يخلصون لله في طلب العلم، يقول عليه الصلاة والسلام في شأنهم: (من تعلم العلم -في رواية: من طلب العلم، وفي رواية: من ابتغى العلم- ليباهي به العلماء -وفي رواية: ليجاري به العلماء- أو يماري به السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس إليه -وفي رواية: أو تقبل أفئدة الناس إليه- فإلى النار -وفي رواية: أدخله الله جهنم) حديث صحيح. وقال عليه الصلاة والسلام: (لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء، أو تماروا به السفهاء، ولا لتجترئوا به المجالس، فمن فعل ذلك فالنار النار) حديث صحيح. وقال عليه الصلاة والسلام: (من تعلم علماً يبتغى به وجه الله -علوم الشريعة- لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً -يعني: متاع الدنيا- لم يجد عرف الجنة يوم القيامة -يعني: ريح الجنة لا يجدها-) فإلى الذين يدرسون في الكليات الشرعية من أجل الشهادة والوظيفة والراتب لا ليعلموا الناس هذا تحذير عظيم. وإلى الذين يتعلموا العلم؛ ليظهروا أمام الناس بأنهم حفاظ، ويلفتوا الأنظار بجودة حفظهم وحسن سردهم وأنهم لا يتوقفون هذا تحذيرٌ شديد. وإلى الذين يتعلمون العلم لإفحام الناس في المجالس فقط، وإسكات الخصوم فالويل لهم. إلى الذي يأتي حلق العلم ليقال عنه نشيط فالويل له. وإلى الذين يماشون العلماء ويدعون أهل العلم والفضل ليقال: فلان جاء في بيته العالم الفلاني فالويل له، أو يقعد مع عالم ساعة ثم يدور المجالس ويقول: قال شيخنا قال شيخنا، وما جلس معه إلا ساعة فالويل لهم. ولو جلسنا نستعرض قوادح الإخلاص في طلب العلم لوجدناها كثيرة، وهي كذلك في الدعوة إلى الله، فالإخلاص مهم جداً؛ فإن الله يفتح به القلوب ولو كان الداعية مبتدئ في الدعوة، ويهدي الله على يدي الداعية أناس ولو كان أسلوبه بدائياً جداً في الدعوة بسبب إخلاصه. نجد أحياناً خطيباً مصقعاً وداعية لا يتوقف في الكلام وأسلوبه ممتاز، لكن لا أحد يهتدي على يديه، كلامه لا يؤثر في الناس، ونجد إنساناً أسلوبه ركيكاً ربما يكون أعجمياً، وإنسان مبتدئ في الدعوة وإنسان ليس عنده خبرة ولا تجربة، لكن لإخلاصه ترى الناس يهتدون على يديه؛ فالإخلاص يفعل الأفاعيل، الإخلاص يثبت العلم في ذهنك ويجعل الله البركة في هذا العلم، ويتناقله الناس، لماذا الآن نجد بعض المصنفات عاشت وبقيت وقيض الله لها من يحييها وطبعت وصارت منتشرة جداً بين الناس، ومصنفات لو طبعوها مليون طبعة تجد أن الناس ما أقبلوا عليها، ولو أخذوها بلا مال لكن لا يقبلون عليها، فيقبل الناس على صحيح البخاري، وفتح الباري، كتب السنن التي ألفها علماء الحديث، وتفسير ابن كثير فهناك شيء يتعلق بإخلاص المؤلف -نحن نحسبهم هكذا والله حسيبهم- فقيض الله لكتبهم هذا الانتشار الذائع وإقبال الناس على هذه الكتب بالذات حتى بقيت مراجع يرجع إليها الناس، كذلك فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، والمغني، كتب تجدها مراجع مع أنه قد يكون هناك مصنفات أطول منها وأكبر منها، فالله عز وجل قيض لها أناساً نشروها لإخلاص الذين كتبوها، وقد يكون مؤلفاً صغيراً ينفع الله به، وكلام كثير لا يسمن ولا يغني من جوع. والداعية عندما يمرض بالرياء فإنه يحطم نفسه وغيره، بل يعيق عجلة الدعوة من التقدم إلى الإمام بخطواتٍ أوسع، بل قد يتضرر الدعاة من حوله بمرضه، ويتعثرون حتى يتخلص هو من مرض الرياء بالتوبة، أو يتخلصون هم منه بالابتعاد أو الإبعاد.

الإخلاص في الجهاد

الإخلاص في الجهاد وبالنسبة للجهاد في سيبل الله مر معنا الحديث، كم واحد ذهب إلى الجهاد ليقال عنه: فلان مجاهد، وكم واحد ذهب إلى الجهاد ورجع وهو يقول: فعلت ثم انتقلت، وتجده في المجالس والولائم يطرح تجاربه الشخصية ويقول: عملت وفعلت، بل إنه قد يكتب في الجرائد ويقول: وعملت وفعلت، لكن أين الإخلاص؟ أصلاً كلام بعض الناس يخبرك أنه ليس عندهم إخلاص، ولو كان عندهم إخلاص ما قالوا هكذا، ولتحدثوا عن أعمال الآخرين وما تحدثوا عن أنفسهم: (رب قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته) كما قال عليه الصلاة والسلام.

الإخلاص في التربية

الإخلاص في التربية هناك مفاهيم خاطئة طبعاً في التربية سواء في تربية الإنسان لنفسه، أو لأولاده، أو لزوجته، فبعض الناس يصلح الله أولادهم بإخلاصهم، وبعض الناس لا يصلح الله أولادهم ابتلاءً، وبعض الناس لا يصلح الله أولادهم بسبب عدم إخلاصهم، والإخلاص في التربية هو الذي يجعلك تكتشف مواهب الأشخاص وتعاملهم بحكمة، وتعرف اعوجاجهم ولو كان مختبئاً في داخلة نفوسهم، ويكتب الله شفاء أمراضهم النفسية والقلبية على يديك، بالإخلاص في التربية وعدم الالتفاف فقط إلى الوجهاء وإنما نتذكر قصة {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} [عبس:1 - 2] ولا نفرق بين صغيرٍ ولا كبير، ولا قريب ولا بعيد، والإخلاص يؤدي إلى انتقاء الأتقى للأعمال والمناصب، ويكون انتقاؤك صحيحاً في محله. وكذلك الإخلاص يجعلك تصل إلى حقيقة المسائل وتصل إلى الحق فيها، وقد يكون فلان أعلم من فلان، لكن هذا الأقل علماً يصيب الحق في مسألة وذلك الرجل لا يصيب، قد يحفظ واحد عشرة أقوال، وواحد يحفظ قولين، أو قول واحد ويكون هو الحق، وذلك الذي يحفظ عشرة أقوال لا يصيب الحق، يعمل بواحد بعيد عن الحق، والسبب الإخلاص. وكذلك فإن الناس يتأثرون من المخلص، فيخرج كلامه من قلبه ليستقر في قلوب الناس، ويجعل الله لعاداته أجراً وتصبح عبادات؛ كأكله وشربه ولبسه ونومه ونكاحه ونحوها، ويلقي الله في قلوب العباد محبة المخلص؛ لأن الله يكتب له القبول.

مفاهيم خاطئة عن الإخلاص

مفاهيم خاطئة عن الإخلاص هناك مفاهيم خاطئة يظنها بعض الناس من الإخلاص وليست من الإخلاص.

الإخلاص هو التخلص من جميع الإرادات

الإخلاص هو التخلص من جميع الإرادات يظن بعض الناس أن الإخلاص هو أن تتخلص من جميع إراداتك، فأي هدف لك تتخلص منه وأي إرادة لك دنيوية تتخلص منها، ويكون فقط قصدك أن تفنى في مراد الله كما يقول الصوفية: مرتبة الفناء، وهؤلاء الناس مساكين؛ لأنهم يكلفون أنفسهم شططاً، ويصادمون الفطرة، ينادون للتجرد عن الميول والنزعات الفطرية، يقول: يجب ألا يكون عندك هم في النكاح ولا غرض في الوظيفة، ولا تجارة، ولا شيء أبداً من الدنيا وإلا فأنت مشرك، لو صرت نجاراً للعمل أنت مشرك؛ لو رحت تزوجت لقضاء شهوتك أنت مشرك، لو أنك عملت لترتقي في الوظيفة فأنت مشرك، هذه الدعوة من دعاوى الصوفية الضلال، والله خلق البشر لهم إرادات ولهم عزائم، لكن من أراد بعمله وجه ولو كان عمل دنيوي فإن الله يثيبه عليه، وقضية أن نتخلص من جميع الإرادات والهمم لا يمكن أبداً، هذه الفطرة التي فطر الله الناس عليها: (حبب إليَّ من دنياكم الطيب والنساء) سبحان الله العظيم.

طلب الثواب الأخروي مناف للإخلاص

طلب الثواب الأخروي منافٍ للإخلاص وكذلك بعضهم يظن أن طلب الثواب الأخروي منافي للإخلاص، فيقول لك: لا تسأل الله الجنة، لا تعمل للجنة، اعمل لله، لا تعمل خوفاً من النار، لا تترك المعاصي خوفاً من النار، وإنما فقط لله، فهم يقولون لو تركت العمل خوفاً من النار وتركت الزنا خوفاً من النار، ولو صليت للجنة فأنت مشرك، ويقولون أشعاراً في هذا ومقولات منها: (ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك) وهذا الشيء عبادة العامة وأن عبادة الخاصة هي لله دون جنة، هذا الكلام أيضاً ضلال، فالله عز وجل قال عن الجنة: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26] {وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء:57] وحتى على غنائم القتال قال: {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الصف:13] وهذه طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم، كان يعمل لله ويسأل الله الجنة ويستعيذ به من النار.

الإخلاص هو ترك الأعمال الظاهرة أمام الناس

الإخلاص هو ترك الأعمال الظاهرة أمام الناس طيب بعض الناس يؤدي بهم طلب الإخلاص لأشياء، منها: أنه يغيب عن كل الأعمال العلنية فلا يصلي في المسجد؛ يقول: رياء، الأفضل أ، أصلي في البيت حيث لا يراني أحد، سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن رجل لا يشهد الجمعة ولا الجماعة، وإذا خرج من بيته يخرج متقنعاً خوفاً من الرياء؟ فأجاب: أن هذا غلو في الدين. فهذا الإخلاص أدى به إلى ترك الفرائض. وبعض الناس يترك الأذان، وقد يكون خطيباً يترك الخطبة، وقد يكون يعلم في المساجد ويعظ يترك التعليم والوعظ، ويترك عيادة المريض لأنه سيذهب ويرى الناس موجودين يقول: جاء لعيادة المريض هذا يريد أن يظهر نفسه، وهكذا يتركون أعمالاً من الدين، ويترك الحج والجهاد لأنه يقول: هذا رياء أن أظهر أمام الناس، وهذا ضلال، لأن هناك أعمال تخفى وهناك أعمال لا يمكن إخفاؤها، فالأعمال التي لا يمكن إخفاؤها تتوكل على الله وتخلص فيها وتعملها، فنصلي في المساجد وليقولوا عنا مرائين، وليقولوا عنا ما سيقولوا.

ترك أهل الخير بسبب الإخلاص

ترك أهل الخير بسبب الإخلاص وكذلك بعض الناس يترك أهل الخير ويقول: أنا إذا صرت معهم أجامل وأسمع الحديث ويرق قلبي، وإذا خلوت بنفسي في بيتي قسا قلبي وما تشجعت للخير مثلما أتشجع معهم، معناها أنا منافق، أنا أمامهم أتشجع ومن ورائهم أتثبط، إذاً لا بد أن أتركهم وإلا انقدح في إخلاصي وصار رياء. الصحابي حنظلة بن عامر لما قال: نافق حنظلة، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لو تكونون على الحال التي أنتم عليها عندي -يعني: في بيوتكم تكونوا مثلما كنتم عندي- لصافحتكم الملائكة) فمن الطبيعي أن الإنسان يكون بين الناس مع الصالحين يتشجع للخير ويجلس. كذلك بعض الناس يخافون من الرياء بشكل كبير جداً، بحيث إنهم يقعون في الرياء، وبعض الناس يعتقد أن تحسين الثياب والنعال ينافي الإخلاص، وبعض الناس يقول: ما يجوز أن أكتم ذنوبي عن إخواني لا بد أخبرهم بكل ما أفعل، حتى تكون واضحة عندهم، فيخبرهم بما ستر الله عليه، وهذا أيضاً غلط والله عز وجل ما أوجب على المسلم أن يفضح نفسه. كذلك لو أراد أحدهم أن يعمل عمل خير أمام الناس، فنيته لله لكن ليقتدي به الناس، مثل أن يأتي بصدقة عظيمة كي يتتابع الناس بصدقاتهم، فهذا لا يتنافى مع الرياء.

كشف حقيقة غير المخلصين

كشف حقيقة غير المخلصين وأخيراً: -أيها الإخوة- فلا بد من محاولة كشف غير المخلصين وتعريتهم، حتى تستبين حقيقتهم للناس، قال عثمان رضي الله عنه: [ما أسر أحدٌ سريرةً إلا أظهرها الله عز وجل على صفحات وجهه وفلتات لسانه] وقال ابن عقيل رحمه الله: [من أراد التكشف عن رجل خطب منه]، يعني: جاءك أحدهم يخطب ابنتك وأنت لا تعلمه قال: [فإنه لا يزال يذكر المذاهب -يعني الهدامة الباطلة- ويعرض بها ويذكر الأفعال الرزية في الشرع التي يميل إليها الطبع وينظر هشاشته إليها وتعبسه عن ذكرها وما شاكل ذلك، فإنه لا يزال البحث بصاحبه حتى يوقفه على المطلوب بما يظهر من الدلائل، فأين رائحة الإيمان منك وأنت لا يتغير وجهك فضلاً عن أن تتكلم؟] هذه من الطرق التي يكتشف بها هل الرجل هذا صالح أم لا، وهل هو مخلص أم لا. وأخيراً نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من المخلصين، وأن يختم لنا بخاتمة السعادة أجمعين. وصلى الله على نبينا محمد.

آيات يخطئ فهمها الكثيرون

آيات يخطئ فهمها الكثيرون إن القرآن العظيم هو مصدر الهداية والنور، يهدي الله به من شاء من عباده، وقد أمرنا الله بتدبره والتأمل في آياته، ويسر لنا الادكار به حيث جعله سهلاً ميسراً تفهمه العقول ويلامس شغاف القلوب، ولكن التدبر والتأمل للقرآن ومعرفة أحكامه وحكمه لا بد لها من ضوابط من الشريعة، وفي هذا الدرس يتطرق الشيخ لبعض الآيات التي يخطئ فهمها الكثير من الناس.

أهمية تدبر القرآن

أهمية تدبر القرآن الحمد لله الذي جمعنا وإياكم في هذا المجتمع الذي نسأل الله أن يكون من مجتمعات الخير ومغفرة الذنوب، وأن يتجاوز الله عنا وعنكم التقصير والغفلة، وأن يجعلنا من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات. هذا الموضوع الذي سنتحدث عنه الليلة إن شاء الله تعالى، موضوع حساسٌ وخطيرٌ في نفس الوقت، لأنه يتعلق -أيها الإخوة- بأغلى شيء عند الإنسان المسلم، أغلى ما يملكه الإنسان المسلم في هذه الحياة، وأعز شيء عنده، بل هو دليله ونوره الذي لا يستطيع السير بدونه، ألا وهو القرآن. وسيكون محور الكلام في هذا الموضوع الذي سنتحدث عنه متعلق بهذا القرآن العظيم الذي هو مصدر الهداية وإشعاع النور الذي يهدي الله تعالى به من شاء من عباده. أيها الإخوة: إن الله عز وجل أمر بتدبر القرآن، فقال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [محمد:24] دعوة للتدبر، أفلا يتدبرون القرآن أم أن القلوب مقفلة؟! {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] فالناس قلوبهم غفلت عن ذكر الله وعن القرآن، وصار عليها أقفال غليظة من الغفلة والإعراض، فهي لا تنفتح مطلقاً لهذا النور الرباني، والذكر العظيم الذي أنزله الله تعالى، والله عز وجل من رحمته بالمسلمين أنه يسر هذا الذكر للادكار لمن يريد أن يدكر ويتذكر، فقال الله عز وجل: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:40] أي: هل من مدكر يريد أن يتذكر؟ أيها الإخوة: إن القرآن ليس صعباً بحيث لا تفهمه العقول ولا تدركه النفوس، كلا. إنه سهلٌ ميسرٌ لمن أراد الله تعالى به الخير، ولذلك كثيرٌ من الناس يفتحون القرآن يريدون أن يفهموا ماذا يحوي، ولكن بسبب الغفلة والجهل المسيطر على أفئدتهم وعقولهم، فإنهم لا يلبثون أن يقفلوا هذا الكتاب، لأنهم لا يعون ما يقرءون، أما من وفقه الله تعالى وقذف في قلبه النور والهداية -نسأل الله أن نكون منهم- فإنهم لا يجدون المشقة، ولا يجدون المستحيل والمعوقات وهم يقرءون كتاب الله لكي يتذكروا ما فيه ويفقهوا معناه. أيها الإخوة: إن التدبر والتأمل في القرآن وإرادة معرفة المعاني وما اشتمل عليه من الفوائد والحكم والأحكام مسألة لابد لها من ضوابط من الشريعة الإسلامية، وإلا فإن الإنسان المسلم ينحرف بدونها. ولذلك كان من أسباب ضلال أهل الكتاب ممن كانوا قبلنا أنهم آمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض، والله عز وجل عنفهم على هذا وأنبهم تأنيباً شديداً فقال: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة:85] وقال الله عز وجل أيضاً: {كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ * الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} [الحجر:90 - 91] مفرقة، فآمنوا ببعضه وكفروا بالبعض الآخر، جعلوه عضين، مقسماً ومجزأ إلى أجزاء، فما وافق هواهم آمنوا به واتبعوه، وما كان مصادماً لأهوائهم وشهواتهم أعرضوا عنه وأغفلوه، وقد كان السلف رحمهم الله تعالى يأخذون هذا القرآن بقوة، ويعرفون معناه، ويطلبون المعنى الذي أراده الله عز وجل، يريدون أن يعرفوا المعنى حتى لا يصبحوا كمن كان قبلهم من أهل الكتاب. وكذلك كان السلف رحمهم الله في غاية الدقة، والحرص، وفي غاية التحرج وهم يفسرون هذه الآيات، والعلماء الواحد منهم يعلم أنه لو قال برأيه في القرآن فأصاب فقد أخطأ، فكان أحدهم عندما يفسر القرآن يعلم تماماً أنه إذا خاض في آية ليس عنده علم بها أنه سيأثم حتى وإن كان ما قاله صواباً، ولذلك قال ابن كثير رحمه الله معلقاً: أي أخطأ؛ لأنه قد تكلف ما لا علم له به، وسلك غير ما أمر به، فلو أنه أصاب المعنى في نفس الأمر، لكنه قد أخطأ، لأنه لم يأت الأمر من بابه. ليس عنده العدة التي يفسر بها حتى وإن كان كلامه صحيحاً، فهو آثم؛ لأن القرآن لا يصح لأحدٍ أن يخوض في تفسيره وتبيان المراد منه بغير علم وبغير أدلة. ولذلك كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول: [أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم؟!]. وكان ابن أبي مليكة -من كبار علماء السلف - يقول: سئل ابن عباس عن آية لو سئل عنها بعضكم لقال فيها -لو أحد سئل فيها الآن لأفتى وقال فيها- فأبى أن يقول فيها. أبى ابن عباس، وابن عباس هو الحبر البحر، إمام أهل السنة في التفسير قاطبةً، الذي شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك، ودعا الله عز وجل أن يعلمه التأويل، فعلمه الله عز وجل أشياء كثيرة، فلما جاء عند آية لم يعرف معناها، رفض أن يتكلم فيها!

العلوم التي يحتاجها المفسر

العلوم التي يحتاجها المفسر وكذلك- أيها الإخوة- لو أردنا أن نسرد شيئاً من أطراف العلم، أو شيئاً من أنواع العلم التي يحتاج إليها المفسر، لوجدنا علماءنا قد نقلوا أشياء كثيرة، فمنها ما نقله الذهبي المتأخر رحمه الله تعالى المتأخر في كتابه التفسير والمفسرون، قال: العلوم التي يحتاج إليها المفسر كثيرة منها: علم اللغة، وعلم النحو، وعلم الصرف، وعلم الاشتقاق، وعلم البلاغة بأنواعه الثلاثة: البيان والبديع والمعاني، وعلم القراءات، وعلم العقيدة، وعلم أصول الفقه، وعلم أسباب النزول، وعلم القصص والتاريخ، وعلم الناسخ والمنسوخ، وعلم الأحاديث المبينة لمجمل القرآن ومبهمه. فإذاً المفسر شأنه عظيم، ليس أي واحد يشتغل بالتفسير، نحن المسلمين ماذا نفعل الآن؟ نحن نقرأ هذا القرآن مفسراً بأقوال علماء السلف، هذا القرآن أنزل نعم، ومن هذا القرآن ما يفهمه العامة كقوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] هل هناك أحد لا يفهمها؟ لا. {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ماذا تعني لكن {اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص:2] قد نحتاج في فهم كلمة (الصمد) إلى الرجوع لأقوال المفسرين والعلماء: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] ما المقصود بالفلق؟ {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} [الفلق:3] ما هو (الغاسق إذا وقب)؟ هذه الآيات التي يرددها كثير من المسلمين في صلواتهم بدون معرفة لمعناها، كم شخص الآن من الذين يقرءون هذه الآية: {غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} [الفلق:3] يعرف ما معناها؟ قلة. أيها الإخوة: لا بد من الرجوع إلى أقوال العلماء في التفسير، وإلا لضللنا ضلالاً بعيداً بدون أقوال علماء التفسير، ولا يمكن أن نتقدم خطوة إلى الأمام في فهم القرآن. أيها الإخوة: هناك علماء عندهم العدة فهم يفسرون، وهناك أناسٌ من طلبة العلم ومن عامة الناس الذين أراد الله تعالى بهم الخير يقرءون القرآن وتفسيره على ضوء أقوال علماء المسلمين المتخصصين في هذا المجال. إذاً: لا بد أن يفتح المسلم قلبه لهذا القرآن، وأن يعي معناه، وأن يتعلم تفسيره حتى يستطيع أن يسير على نور من ربه. أيها الإخوة: لابد أن يدخل المسلم منا عالم القرآن الكريم بدون مقررات سابقة، وبدون مؤثرات سابقة، وبدون فلسفات وثقافات سابقة، لا بد أن يدخل المسلم ساحة القرآن الكريم وصدره خالٍ من أي شيء سابق؛ حتى يشكل القرآن خلفية هذا المسلم ويكون له فكره، ويكون القرآن هو الذي ينشئ معرفة المسلم، وثقافته وقيمه وموازينه ومعاييره، وإلا فإن الأمور ستضطرب. ومن الأمثلة على هذا: هؤلاء الناس الذين ضلوا من قبلنا ودخلوا عالم القرآن وعندهم قواعد فلسفية من علم الكلام والمنطق وما شابه ذلك، فنزلوا آيات الله على أشياء لم يردها الله عز وجل، وضلوا ضلالاً بعيداً.

أسباب الضلال في فهم القرآن

أسباب الضلال في فهم القرآن إذا أردنا أن نستعرض معكم جزءاً من أسباب الضلال في فهم القرآن، فإنها- أيها الإخوة- ترجع إلى عوامل كثيرة منها:

الزيغ في العقيدة

الزيغ في العقيدة الزيغ في العقيدة، فالإنسان إذا كانت عقيدته منحرفة ودخل في فهم القرآن، فإنه لا بد أن يضل في القرآن، ولذلك تجد طوائف كثيرة ممن انتسبوا إلى الإسلام عندما دخلوا في القرآن وعندهم قواعد سابقة من الضلال في العقيدة، انحرفوا انحرافاً كبيراً، ولا أدل على ذلك من استدلال كافة الفرق المنحرفة لصحة مذاهبهم بالقرآن، حتى ولو كانت استدلالات مضحكة، هؤلاء المعتزلة يستدلون على صحة مذهبهم بأن إبراهيم قال: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [مريم:48] قالوا: بما أن إبراهيم اعتزل إذاً الاعتزال هو الصحيح، ومذهب المعتزلة هو الحق، وهؤلاء الرافضة وغيرهم من الفرق المنحرفة عندما دخلوا في القرآن بقواعدهم الفاسدة، أفرزوا إفرازات غريبة عن المنهج الإسلامي.

اتباع الهوى

اتباع الهوى وإذا أردت سبباً آخر من أسباب الضلال في فهم القرآن، فإنه: اتباع الهوى: اتباع الهوى بكافة فروعه وأنواعه، فمن الناس من يكون اتباعهم للهوى في فهمهم للقرآن ناتجاً عن التهجم على كتاب الله والجرأة عليه بغير علم، كل واحد يظن نفسه أنه سيفتي ويفهم القرآن على كيفه، ويقول: أنا أفهم، وأنا مجتهد، وهكذا يدخل ويفسر يميناً ويساراً، وتجد التخبط الشديد في هذا الجانب، وأمثلة كثيرة في هذا المجال لعل الوقت يتسع لذكر بعضها، ومنهم من يحمله الهوى على محاولة تبرير أخطائه هو لتشهد الآيات عليها، يعني: هو إنسان مخطئ ومذنب ومقصر، فيأتي إلى القرآن يبحث عن آيات يحملها على محمل لكي تبرئه وتظهره أمام الناس بأنه إنسان مستقيم وغير مخطئ، ولا مقصر- كما سيمر معنا أمثلة من هذا.

أخذ بعض القرآن وترك بعضه

أخذ بعض القرآن وترك بعضه كذلك- أيها الإخوة- من أسباب الضلال في فهم القرآن: أخذ بعضه وترك بعضه، وكما ذكرنا قبل قليل أن أحدهم يأخذ آية ويترك آيات. وإذا ما جمعنا النصوص من مذهب أهل السنة والجماعة عن طريقتهم في فهم القرآن والسنة تجد العالم النحرير عندما يطرق موضوعاً لا يأتي له بآية واحدة إلا إذا لم يكن يوجد غيرها في هذا الباب، أو حديث واحد، ولكنه يجمع كل الآيات والأحاديث في هذا الباب، لأن الآية ربما تتكلم عن جانب من الجوانب، ولا تتكلم عن جانب آخر، أو آية تتكلم مثلاً عن فترة معينة نزلت، ثم نسخت بآية أخرى، فيكون الاستدلال بالآية الأولى المنسوخة فيه ضلال، لأن هذا الرجل لم يجمع الآيات في الباب الواحد، فيكون فعله مثل الذي يأخذ قول الله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون:4] ويسكت عن الباقي ويفعل كما فعل أبو نواس عندما قال: ما قال ربك ويلٌ للألى سكروا وإنما قال ويلٌ للمصلينَ ما قال الله ويلٌ للذين يسكرون، وإنما قال: ويل للمصلين، يعني: نحن لا نصلي ونسكر!! فإذاً- أيها الإخوة- أخذ بعض الكتاب وترك بعضه من أسباب الانحراف والزيغ الذي وقع فيه كثير من الطوائف السابقة واللاحقة.

الهزيمة النفسية أمام الغرب الكافر

الهزيمة النفسية أمام الغرب الكافر كذلك: الهزيمة النفسية أمام الغرب، من العوامل التي تحمل بعض المسلمين على الدخول والخوض في القرآن ونفسيتهم متصفة بالهزيمة أمام الكفار، أمام الغربيين وغيرهم، فيأخذ يستنتج من القرآن كل شيء، يريد أن يثبت للناس أن القرآن فيه كل شيء، وأنه سبق الأمم في العلوم، وأن فيه جميع أنواع العلوم إلخ، كما فعل طنطاوي جوهري وغيره من الذين انحرفوا في هذا المجال. فهذا أيضاً من أسباب الضلال في فهم القرآن، والشاطبي رحمه الله بين في كتابه الموافقات قواعد عظيمة للاستنباط والفهم واستخراج الأحكام وكذلك في كتاب الاعتصام أيضاً، وينبغي لمن أراد التوسع في هذا المجال أن يرجع إلى هذه الكتب.

أمثلة على الفهم الخاطئ المؤدي إلى العمل الخاطئ

أمثلة على الفهم الخاطئ المؤدي إلى العمل الخاطئ واعلموا -أيها الإخوة- أن عدم الفهم الصحيح يؤثر على التطبيق تأثيراً مباشراً، إذ أن الخطأ في الفهم يقود إلى الخطأ في التطبيق. لماذا نحن الآن نركز على مسألة كيف يفهم القرآن فهماً صحيحاً؟ ونحن الآن لم نتوسع فيها وما ذكرنا جوانبها المتشعبة، بل ذكرنا لمحة بسيطة، لكن ما هي أهمية الموضوع؟ الذي لا يفهم القرآن فهماً صحيحاً لا يطبق تطبيقاً صحيحاً، وينعكس فهمه الخاطئ إلى فهمه العملي انعكاساً مباشراً، فتنتج هذه الانحرافات والخرافات في الفهم والتصور والعمل والتطبيق.

قوله تعالى: (عليكم أنفسكم)

قوله تعالى: (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) فإذا أردنا مثالاً فلنأخذ بعض الأمثلة على آيات يخطئ في فهمها الكثير من الناس، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [المائدة:105] ماذا يفهم الآن كثيرٌ من المسلمين من هذه الآية؟ إن هذه الآية أيها الإخوة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105] صارت معتمداً للكسالى والقاعدين والمقصرين في باب الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، اعتبرها هؤلاء الناس عذراً لهم في القعود عن القيام بواجب التبليغ والدعوة إلى الله، وقال كل إنسان منهم: عليك نفسك، لأن الله قال: عليكم أنفسكم، عليك نفسك لا يضرك من ضل إذا اهتديت، ما دام أنك تطبق الشرع ما عليك من الناس، هكذا يفهم من هذه الآية. فعند هؤلاء المنحرفين هذه الآية تجيز لكل مسلم في مفهومهم أن يلتزم بالطاعة هو، وأن يبتعد عن المحرمات هو، وأنه إذا فعل هذا، فقد أدى الواجب الذي عليه، وأن الله لا يريد منه أكثر من هذا، وأنه ليس عليه أن يدعو الآخرين، ولا أن يدلهم ويهديهم هداية الإرشاد والدلالة، وأن كون المجتمع فاسداً والناس منحرفين لا يضر، لأن الله يقول: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105] هكذا يفهمون. أما إذا جئت معي إلى المفهوم الصحيح الذي ذكره علماؤنا في تفسير هذه الآية، فإنك ستجد الأمر مختلفاً تماماً، وستجد عندما ترى الصورة الصحيحة يتبين لك مدى الانحراف الحاصل في فهم هذه الآية عند كثير من المسلمين، يقول ابن كثير رحمه الله تعالى: وليس في الآية مستدل على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وفي تفسير ابن كثير -مثلاً- نجد قولين أساسيين في تفسير هذه الآية: فمن العلماء من يقول أن هذه الآية خاصة بظرف معين، أي كما قال بعض علماء السلف: إذا أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر، ولم يستجب لك، ولم تطع، فعند ذلك لا يضرك من ضل إذا اهتديت. إذا أنت قمت بالواجب، وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر، وما سمع لك الناس، وما استجابوا لك، فعند ذلك لا يضرك من ضل إذا اهتديت، وكذلك يقول سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى: " إذا أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر، فلا يضرك من ضل إذا اهتديت". إذاً: هذه الآية خاصة بظرف معين وهو إذا كان الناس لا يستجيبون، وصار الوقت وقت فتنة، ويدخل في هذا الأوقات والظروف التي لا يستطيع الإنسان فيها أن يصدع بالحق ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فيقتصر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في القلب في بعض الأحيان عندما تشتد الظروف على المسلمين في بعض الأوقات والأحوال، عند ذلك لا يضرك من ضل إذا اهتديت، إذا فسد الناس وفسد المجتمع، وصار الوضع أن يخرج الإنسان إلى الجبال -كما سيحدث في آخر الزمان- فتكون أحسن أحوال المسلم أن يأخذ قطيعاً من الغنم ويخرج خارج هذا المجتمع، لأنه لم يعد يجد على الخير أعواناً، ولا يمكن أن يبقى، لأنه سينحل ويفسد لو بقي في المجتمع، هذا حال آخر الزمان، وقد يحدث جزءٌ من هذه الحال في بعض الأوقات والأحيان، ولكنها تتغير، لأن الله عز وجل يغير الظروف، ويداول الأيام بين الناس، ولله الأمر من قبل ومن بعد، فيكون المسلمون في حالة ضعف يعقبها حالة قوة، ثم حالة ضعف، ثم حالة قوة، وأحياناً يكونون في مكان قوة، وفي مكان ضعف في نفس الوقت: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140]. المعنى الثاني وهو فقه مهم، يقول الله عز وجل: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105] هل تتصور -يا أخي المسلم- أن تهتدي ويصير اسمك مهتدياً إذا اهتديت وأنت لا تأمر بالمعروف، ولا تنهى عن المنكر، ولا تدعو إلى الله، هل يكون اسمك مهتدياً؟ لا طبعاً. إذا كنت صالحاً في نفسك فقد حققت جزءاً من الهداية، لكنك لم تحقق الهداية كلها، لأنك لا يمكن أن تصير مهتدٍياً تماماً إلا إذا قمت بهذا الواجب العظيم، فعند ذلك نستطيع أن نفهم: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105] إذا اهتديتم: سرتم على الهداية بجميع فروعها، ومنها: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، عند ذلك لا يضرك من ضل إذا اهتديت، وما عليك إلا نفسك، أنت لا تحاسب إلا عن نفسك: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38]. الأمر الثالث: أنه يجب أن نجمع كل الآيات والأحاديث في هذا الباب قبل أن نستنبط عدم وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا جمعت الآيات الأخرى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:110] وإذا اطلعت على هذا الحديث الصحيح عن قيس بن أبي حازم، قال: (قام أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)) [المائدة:105] وإنكم تضعونها في غير موضعها، وإني سمعت رسول الله يقول: إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه، أوشك أن يعمهم الله بالعقاب). أيها الإخوة: إن أخذ الموضوع من جميع جوانبه، والاستشهاد بالآيات والأحاديث بعمومها هو الذي ينجي الإنسان من هذه المآزق التي يقع فيها، ولابد أن نقوم بالواجب كاملاً: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [المائدة:105] ثم إن هذه الآية لسان حالها يقول لكل مسلم: عليك نفسك أصلحها وأبعدها عن المعاصي، حسناً كيف نبعد النفس عن المعاصي ونحن نترك الناس في الفساد يرتعون ويمرحون كما شاءوا، يعني: هل يمكن أن تصلح نفسك وأهلك الذين أنت مكلفٌ بإصلاحهم والمجتمع من حولك فاسد؟ لا يمكن. إذاً إصلاحك لنفسك ولأهلك يستلزم أن تصلح المجتمع، وتسعى في إصلاح المجتمع؛ لأنك لا يمكن أن تصلح نفسك في بيئة فاسدة، هل أنت تعيش لوحدك في قمة جبل ليس عندك أحد حتى تصلح نفسك بدون مؤثرات خارجية؟ لا يمكن. فإصلاحك لنفسك أيضاً: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [المائدة:105] يتطلب ويتضمن أن تسعى في إصلاح البيئة التي من حولك. فهذه الآية -أيها الإخوة- تأمرنا بالعمل في المجال الخاص وهو الإقبال على النفس، وتربية النفس وإصلاحها؛ لتستقيم على طاعة الله، وتبتعد عن معصية الله، وكذلك تأمرنا بأن نعمل في مجال العامة، وهو الإقبال على الآخرين ووعظهم ونصحهم وتذكيرهم بأمر الله عز وجل، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر.

قوله تعالى: (فاتقوا الله ما استطعتم)

قوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) تعال معي إلى آية أخرى، وانظر كيف يكون سوء الفهم، وعدم الفهم الصحيح للآية قائداً ودليلاً إلى سوء التطبيق -والعياذ بالله- يقول الله عز وجل: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [التغابن:16]. ماذا يفهم الآن كثير من المسلمين من هذه الآية؟ إنهم يفهمون أن التقصير في بعض الواجبات وارتكاب بعض المحظورات، والترخص في بعض الأحكام، نأخذ من الرخص مما هب ودب، والتفلت من بعض التكاليف، هذا ليس فيه شيء، لأن الله قال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] يعني: إذا استطعت على بعض الأشياء، لا بأس أن تأخذها، وإذا لم تناسب الظروف ولم تساعد الأحوال، لا بأس أن تترك بعض الواجبات، وتتفلت من بعض الأحكام، وإذا وقعت في بعض المنكرات، فلا بأس أيضاً وهكذا، ويبرر هؤلاء الناس حالهم بهذه الآية، فيقولون: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]. كثير من الناس تناقشه في الواقع الفاسد، يقول: يا أخي! {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] وهذه استطاعتي. إذاً: عندما تأتي لتفهم هذه الآية: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] إنها تعني -يا أخي المسلم- كما يقول ابن كثير رحمه الله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] يعني: بحسب وسعكم وطاقتكم. انظر! الفرق في الفهم عندما تفهم: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] وعندما تفهم اتق الله ما استطعت، يعني ما استطعت إلى ذلك سبيلاً اتق الله، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم) على قدر الاستطاعة، ما استطعت إلى تنفيذ هذا الأمر سبيلاً، طبق والتزم ما استطعت، وليس معنى ما استطعت هنا أي: كم في المائة تطبق لا بأس، لا. ما استطعت، يعني: على قدر كل استطاعتك، كل قدراتك، تتقي الله عز وجل، لا تفرط ولا بشيء من استطاعتك في طاعة الله مطلقاً. وإذا تذكرنا الآية الأخرى وهي قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] كيف يتقي الإنسان حق التقوى إلا إذا اتقى الله بقدر استطاعته وقدر جهده؟! كل ما عندك من جهد، وكل ما عندك من إمكانيات واستطاعات اتق الله عز وجل، فهذا يحمينا من الانحراف الذي يقع فيه كثير من المسلمين في فهمهم القاصر لهذه الآية مما يترتب عليه تفاوتهم في الالتزام بالإسلام؛ لأن كل واحد يقول: هذه استطاعتي، الثاني يقول: لا. أنا أقدر، وكلهم يستطيعون، لكن كل واحد يأخذ على حسب هواه. فيتفاوت التزامهم بالإسلام نتيجةً لفهمهم الخاطئ لهذه الآية وغيرها، فيقدم كل منهم صورة مختلفة عن الإسلام، ويتحول الإسلام عملياً إلى إسلامات، لأن كل واحد يعمل على قدر فهمه، يعني: على حسب الظروف، ويتحول الإسلام في واقعه العملي إلى صورة مشوهة جداً، كل واحد يفعل على مزاجه، ويطبق على مزاجه، ويقول في النهاية: هذه استطاعتي، ثم يزعمون أنهم على الحق، وأن القرآن يشهد لفعلهم. كذلك -أيها الإخوة- ليس الشخص هو الذي يحدد مقدار استطاعته، وإنما الشرع هو الذي يحدد لك مقدار استطاعتك، فإذا فرض الله عليك الصلاة، معناها أنك تستطيع أن تصلي في الظروف العادية غير الحالات الطارئة، وإذا فرض الله عليك الزكاة وأنت عندك مال، يعني: باستطاعتك أنك تزكي مادام عندك مال، وهكذا. فالشرع هو الذي يحدد الاستطاعات العامة، ولكن في نفس الوقت هناك أناس معذورون لأعذار قاهرة، هؤلاء أعذارهم بينها الشرع الحنيف، ولم يترك شيئاً إلا وبينه. وكذلك نفس الموضوع هذا عندما تكلم الكثير من الناس عن واقع المنكرات التي يعيشونها ويحيون فيها، يقولون لك: يا أخي! {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] تقول: يا أخي! هذا العمل وهذه الوظيفة لا تجوز، هذا الراتب الذي تأخذه من هذه الوظيفة حرام؛ لأن عملك هذا فيه منكر، أنت تعمل في منكر، يقول: يا أخي! أين أحصل على غيره؟ {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]. فتجده يحتج بهذه الآية على تقصيره وإهماله وتفريطه في حق الله عز وجل. وعندما تأتي معي إلى سبب نزول هذه الآية ينجلي عنك الإشكال والغموض واللبس تماماً، فقد روى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: (لما نزلت على رسول الله ((لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ)) [البقرة:284] إلى آخر الآية، اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتوا رسول الله، ثم بركوا على الركب، فقالوا: أي رسول الله! كلفنا من الأعمال ما نطيق -الصلاة والصيام والزكاة والصدقة، ما عندنا في ذلك إشكال- وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها -يعني: ((وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ)) [البقرة:284] سواءً أسررته، أو أعلنته يحاسبكم به الله- فقالوا: يا رسول الله! أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها -في نوع من الجرأة كان في كلامهم رضي الله عنهم- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين -اليهود والنصارى- سمعنا وعصينا؟! بل قولوا سمعنا وأطعنا) ما دام أن الله أنزل عليكم هكذا، قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير، واسألوا الله المغفرة على هذا التقصير الذي يحصل منكم، {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285] ثم انظر إلى العبارة التي ستأتي الآن، وقد عبر عنها الراوي بعبارة دقيقة وجميلة جداً، يقول: (فلما اقترأها القوم وذلت بها ألسنتهم، أنزل الله في إثرها: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ} [البقرة:285] وأنزل الله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286]) نزل التخفيف، كان من أول: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة:284] سواءً أظهرت النية السيئة، أم لم تظهرها، ما دام أنها جاءت في نفسك، سيحاسبك الله عز وجل عليها، ويسجل عليك سيئات، فلما اقترأها القوم وذلت بها ألسنتهم، استسلموا لأمر الله، قالوا: ما دام أنها نزلت من عند الله، سمعنا وأطعنا. انظروا -أيها الإخوة- كيف إن الله عز وجل يكافئ المطيع على طاعته، فلما أطاع الصحابة الله عز وجل، نزل التخفيف، فقال في الآية: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286] قال الله: نعم. لا يؤاخذهم إن نسوا، أو أخطئوا: {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة:286] قال: نعم. {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة:286] قال: نعم {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة:286] قال: نعم. فنزلت الرخصة، ونزل التخفيف على أمة محمد صلى الله عليه وسلم بسبب طاعتهم لله عز وجل. وهذا -أيها الإخوة- من فضل الصحابة، وهذا التصرف كان سبباً في نزول التخفيف، وصارت الآن القضية لو جاء في نفسك خاطر سوء، لكنك لم تنفذه فلا تعاقب عليه بعد التخفيف بل: (من هم بسيئة، فلم يعملها، كتبها الله له حسنة). انظر! التخفيف، كانت القضية من أول: لو جاء في نفسك خاطر سوء، تأثم ولو لم تفعله، وصارت المسألة بعد ذلك -في التخفيف- لما اقترأها الصحابة وذلت بها ألسنتهم إذا همت نفسك بالسيئة وهممت بها ولم تعملها يكافئك الله عز وجل بالحسنات، لأنك ابتعدت وتركت المنكر والسيئة لأجل الله عز وجل، وهذا من فضل الله على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون.

قوله تعالى: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة)

قوله تعالى: (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) كذلك عندما تأتي معي إلى آية أخرى، يقول الله عز وجل: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195] يؤخذ هذا الشطر من الآية اليوم عند المسلمين {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195] فإذا رأوا مجاهداً في سبيل الله يخوض غمار الحروب، قالوا: ألقى بنفسه في التهلكة، مجاهد يذهب في سبيل الله ويشق صفوف العدو، يقولون: ألقى بنفسه إلى التهلكة، وهكذا في الدخول في غمار الأجواء التي ترضي الله عز وجل، ويكون فيها خطر على النفس، يقولون: ألقى بنفسه إلى التهلكة، ولم يعرفوا كيف نزلت هذه الآية، ومعرفة سبب النزول يقود إلى أخذ الفكرة الصحيحة المطلوبة من هذه الآية. هذه الآية -أيها الإخوة- نزلت كما روى الترمذي رحمه الله بإسناد صحيح يقول الراوي: (كنا في حرب مع الروم فأخرجوا إلينا صفاً عظيماً من الروم، فخرج إليهم من المسلمين مثلهم، أو أكثر، وعلى أهل مصر عقبة بن نافع، وعلى الجماعة فضالة بن عبيد، فحمل رجل من المسلمين -شخص واحد فقط- على صف الروم حتى دخل فيهم، فصاح الناس: سبحان الله! يلقي بيديه إلى التهلكة، فقام أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه، فقال: يا أيها الناس! إنكم تأولون هذه التأويل، وإنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار لما أعز الله الإسلام وكثر ناصروه، فقال بعضنا لبعض سراً دون رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله قد أعز الإسلام وكثر ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها) الصحابة قالوا في فترة من الفترات بعد فتح مكة، أو بعد ما انتشر الإسلام، قال هؤلاء الصحابة في أنفسهم: الآن الحمد لله انتشر الإسلام، وكثر المناصرون للإسلام، وأموالنا نحن في غمار الجهاد والتضحيات السابقة تلفت، وصار الواحد منا ليس عنده ما ينفق على نفسه، ليس عنده أموال ولا زرع، وما عنده بيوت، فالآن الحمد لله الدنيا صارت بخير وانتشر الإسلام، صار في مركز قوة، فنلتفت نحن إلى أموالنا فنصلحها، وهذا الكلام سر فيما بينهم، وهذه خاطرة يعني: قد تكون طبيعية في هذا الجو، أناس تعبوا وجاهدوا وقاتلوا وضحوا سنوات طويلة جداً حتى انتشر الإسلام، فجاء في أنفسهم هذا الخاطر، لو الآن أقمنا والتفتنا إلى أحوالنا، فأصلحناها. فهنا -أيها الإخوة- ينزل الله هذه الآية العظيمة لكي يربي المسلمين على مبادئ كبيرة جداً، فيقول الله تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195] فيقول الصحابي رضي الله عنه: (وكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها، وتركنا الغزو، فما زال أبو أيوب شاخصاً في سيبل الله حتى دفن في أرض الروم). أيها الإخوة: انظروا كيف إن المسلمين يستدلون بها على أي شيء، وهي نزلت في أية مناسبة؟ فرق كبير جداً، فالآية لا تتخيل، ولا تتصور إلا بعد أن تعرف سبب النزول فإذا عرفت سبب النزول، فهمت أن الله يريد أن يربي المسلمين على الاستمرارية في التضحية، لا تقول: أنا جاهدت ودعوت عشر سنوات، عشرين سنة، دعني الآن أشتغل في التجارة، وأتفرغ لنفسي وأحوالي المعيشية، والحمد لله الآن الدعاة كثروا، بعض الناس عندهم هذا المفهوم، يقول: الحمد الله الآن الدعاة كثروا، والإسلام بخير، والصحوة الإسلامية منتشرة، وأنا لي الآن فترة طويلة أدعو وأضحي، فدعني الآن ألتفت إلى تجارتي ومعيشتي أنشغل بها فيما بقي من عمري، وأصلح أحوالي وأحوال أسرتي. هذه الحالة منافية للحالة التي ينبغي أن يكون عليها الإنسان المسلم. فالإنسان المسلم -أيها الإخوة- داعية ومجاهد على طول الخط، وفي طول الطريق يبقى مضحياً في سبيل الله، ويبقى عطاؤه وإنفاقه مستمراً في سبيل الله لا يتركه لحظة واحدة، ومتى ما ترك ذلك فقد هلك وانتهى؛ لأن الشخص الذي ينتقل من أجواء الدعوة والتضحية والبذل والعطاء إلى جو الأموال والمتاع الدنيوي، يقضى عليه تماماً، وينسى حتى الأشياء الأساسية، النفس تغفل، إذا انشغلت بالدنيا انتهت. فلذلك الله يأمر المسلمين بالاستمرارية في العطاء، صحيح أن الإسلام انتشر، لكن ما زال هناك أناس لم يصل إليهم الإسلام، ما زال هناك جهاد في سبيل الله، ما زال هناك مجالات للإنفاق، لا تقل أنا أشتغل بنفسي، وأترك الإسلام ينتشر لوحده، أو الأجيال الجديدة التي ظهرت الآن هي التي تتحمل، فأنا أقدم استقالتي، وأترك هذا العمل الإسلامي، كلا. إن هذه القضية خطيرة جداً تعود بالوبال على من يفكر فيها لحظة واحدة وينقلها إلى مجال التطبيق، فهؤلاء الذين يبررون قعودهم عن أداء الواجب، ويرون الرخص في عدم الجهر بالحق والصدع بالأمر وتبليغ الدعوة، أحياناً تطلب الدعوة تبليغ الحق يكون فيه أذى عن النفس، ويكون فيه شدة ومشقة، فيأتي الشيطان يقول للإنسان: يا أخي! لا تلق بنفسك إلى التهلكة، لماذا تذهب تصدع بالحق وتجر الأذى على نفسك، وتفعل وتفعل؟ لا، الآن الحمد الله الناس بخير والصحوة الإسلامية منتشرة، أنت الآن لا تصدع، فيبرر لهؤلاء الكسالى المتقاعسين القعود عن التضحية والعمل من أجل الإسلام. والآية -أيها الإخوة- ترد على هذه المزاعم: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195]. فأنفق يا أخي! أنفق مالك في سبيل الله، أنفق وقتك في سبيل الله، أنفق جهدك في سبيل الله، اجعل تخطيطك ومخططاتك أيضاً فيها حظ كبير للدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وطلب العلم، وتربية النفس وتربية الناس ونشر الخير بين المسلمين بدلاً من أن تجعل كل مخططاتك وتخطيطك كلها دنيوية بحتة، ماذا أفعل غدا؟ وكيف أقيم مشروعاً؟ وكيف أكسب؟ وكيف أزيد دخلي؟ وهكذا؛ لأن من صدق الالتزام بالإسلام أن يكون شغلك الشاغل وتخطيطك للمستقبل فيه تفكير لأمور الإسلام والمسلمين، لكن أكثر المسلمين اليوم تجد تفكيراتهم المستقبلية كلها دنيوية لا يفكر بأحوال المسلمين ماذا ستكون، ماذا يمكن أن نقدم في المستقبل، كيف أطور نفسي، ما هي الأساليب الجديدة في الدعوة إلى الله، كيف أدخل في آفاق جديدة ومجالات لم أتطرق إليها من ذي قبل، كيف أصعد من همتي ونشاطي في الدعوة إلى الله. إذاً: لا بد أن تكون حتى أفكارنا ومشاعرنا، وآلامنا وآمالنا كلها من أجل الإسلام ومصلحة المسلمين، فلابد أن ننفق حتى الأفكار والمشاعر، وحتى الآمال والتطلعات والتخطيطات، وحتى الأموال والجهد والوقت، لا بد أن ينفق هذا كله في سبيل الله. ويقول ابن كثير رحمه الله في هذه الآية بعدما فسر الآية ونقل أقوال السلف: ومضمون الآية الأمر بالإنفاق في سبيل الله في سائر أوجه القربات وأوجه الطاعات، وخاصةً صرف الأموال في قتال الأعداء، وبذلها فيما يقوي المسلمين على عدوهم، ويقول: والإخبار- يعني: هذه الآية تتضمن أيضاً- أن ترك ذلك هلاكٌ ودمارٌ إن لزمه واعتاده. فنسأل الله أن يجعلنا من الذين ينفقون أوقاتهم وأعمارهم وأموالهم في سبيل الله عز وجل.

قوله تعالى: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة)

قوله تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) فإذا أتيت معي إلى آية أخرى، وهي قول الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل:125]. هذه الآية -أيها الإخوة- يحارب بها بعض المسلمين، أو المتمسلمين كثيراً من الدعاة إلى الله عز وجل، وينتقدونهم ويرفضونهم ويخطئونهم لنصحهم الناس ودعوتهم الناس إلى الخير، ويأخذون عليهم جهرهم بالحق، لماذا؟ لأنهم يخالفون -بزعمهم- هذه الآية، فتجد أحدهم يأتي إليك ويقول: يا أخي! لماذا تنكر على الناس المنكرات؟ ولماذا تكلم الناس عن هذه المعاصي؟ ولماذا تصدع بالحق؟ ولماذا تجهر به؟ أما قال الله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125]؟ فالناس عندهم الحكمة والموعظة الحسنة أن تسكت عن تبيين الحق، وعندهم الحكمة والموعظة الحسنة أن الإنسان إذا جلس في مجلس يعصى الله فيه يسكت ولا يتكلم ولا كلمة؛ لأنه يقول: هذه حكمة، الآن عندما أسكت حكمة؛ لأني لو تكلمت كرهوني وانتقدوني وعابوني، فإذاً أسكت، فيعتبر هذه حكمة. والناس الآخرون لو تكلم، قالوا: أين الحكمة في الدعوة؟ فيثبطونه ويقعدون به عن المضي في صراط الله المستقيم، فما كانت هذه أبداً في شرع الله عز وجل، ما كان حضور المنكرات والانفعال فيها ومشاركة الناس فيها أبداً من باب الحكمة والدعوة بالموعظة الحسنة مطلقاً، والله عز وجل يأبى هذا ولا يرضاه، وشريعة الله لا تقر هذا بأي حال من الأحوال. وما كانت -أيها الإخوة- الحكمة والموعظة الحسنة عند السلف في يوم من الأيام أن يرضى الإنسان المسلم الدنية في دينه، ويرضى مواقف الذل في حياته، ويشارك أعداء الإسلام، ويتنازل عن تشريعات كثيرة، وأحكام كثيرة من أحكام الدين باسم المرونة، أو التطور وما شابه ذلك، فالآن الناس يفسرون ويقولون: كن مرناً، الحكمة والموعظة الحسنة أن تكون مرناً، ليس هناك داع أن تنكر وتلتزم بكل هذه الأشياء، فيجعلون التفلت من الالتزامات الإسلامية، والسكوت عن الحق والمداهنة هو الحكمة والموعظة الحسنة. وعندما ترجع إلى التفسير تجد أن القضية مختلفة تماماً، فيقول ابن كثير رحمه الله ناقلاً عن ابن جرير: الحكمة هي ما أنزله الله على رسوله من الكتاب والسنة. هذه هي الحكمة {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} [البقرة:269]. وهذا طبعاً لا يعني أنك عندما تعرض الكتاب والسنة على الناس أن تترك الأشياء المساعدة لك في الدعوة إلى الله، كالقول المناسب في الوقت المناسب بالقدر المناسب والأسلوب المناسب، فإن هذا من تكملة الحكمة ومن تفريعاتها ومن مستلزماتها ومتضمناتها، والحكمة أساساً هي: الكتاب والسنة، لكن هذا يتضمن دعوة الناس إلى الكتاب والسنة، فلابد أن تنتقي القول المناسب وتنتقي الوقت المناسب، وتنتقي الأسلوب المناسب بالقدر المناسب والتدرج المناسب، وهذا لا ينافي الشريعة مطلقاً، بل إن هذا أمر مطلوب، وتدعو إليه الشريعة، وأحوال الرسل والأنبياء. والموعظة الحسنة- كما يقول ابن جرير رحمه الله- أي: ما فيه من الزواجر والوقائع بالناس ذكرهم بها ليحذروا من بأس الله. يعني: بالموعظة الحسنة ادعهم بما يرقق قلوبهم من ذكر النار وعقاب الله عز وجل والعذاب، ومصائر الأمم الغابرة التي أهلكها الله تعالى، رقق قلوبهم حتى بآيات الجنة وآيات الثواب، وآيات الرحمة والمغفرة، استخدم هذه الأشياء التي ترقق القلوب، المهم أن ترقق القلوب، هذا هو استخدام الموعظة الحسنة. فانظر -رحمك الله- إلى فهم الناس للآية والفهم الإسلامي الصحيح، تجد الفرق شاسعاً نتيجة التصور الخاطئ، لم يكلفوا أنفسهم بفتح كتاب واحد من كتب التفسير المعتمدة، وإنما أطلقوا العنان لأهوائهم في حمل هذه الآيات على المحامل المختلفة التي ليس من شأنها إلا تثبيط المسلمين وتبرير الأخطاء.

قوله تعالى: (فقولا له قولا لينا)

قوله تعالى: (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً) أيضاً إذا جئت إلى قول الله عز وجل: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً} [طه:44] يقول الله لموسى وهارون عندما أرسلهما إلى فرعون: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44] الآن ماذا يحصل نتيجة الفهم الخاطئ لهذه الآية؟ الذي يحصل -أيها الإخوة- أن الناس صاروا يخلطون بين مضمون الإسلام وبين الأسلوب، أو المنهج الذي تعرض به حقائق الإسلام، ما معنى: {قَوْلاً لَيِّناً} [طه:44]؟ أي: يكون أسلوب الإنسان في الخطاب ليناً، درجة الخطاب، مستوى الخطاب، القالب الذي تقدم به الحقائق وليست الحقائق نفسها، فالقالب الذي يقدم به الحقائق والصورة التي تعرض بها الحقائق، والإطار -اختيار الألفاظ والمفردات والتراكيب والعبارات- هذا لين، هذا مأمور فيه باللين واختيار الألفاظ والتراكيب والعبارات والجمل التي تدل على الموضوع، هذا الذي فيه لين، أما أن نقول: إن الحقائق نفسها هي التي نلين فيها فهذا من الضلال، والعياذ بالله! فالآن الناس ينقلون هذا المفهوم: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً} [طه:44] ينقلونه من الأسلوب إلى المضمون، المفروض أن يكون الأسلوب ليناً، وليس المضمون يعني: أنت الآن إذا عرضت حقيقة من حقائق الإسلام، حكم معين بأسلوب ما، فقال الشخص الآخر: لا. أنا أرفض هذا الحكم، هل تقول: حسناً يا أخي ليس هناك مانع، الزنا ليس حرام، حسناً ليس هو حراماً، بعض الناس سبحان الله! كما يقول صاحب الظلال رحمة الله تعالى عليه، يعني: يعرضون أحكام الإسلام على الناس كأنهم يربتون على أكتافهم ويتدسسون إليهم بالإسلام تدسساً. يعني: كأن الواحد منهم خجلان من الأحكام التي يقولها للناس، ولذلك هو يعرض شيئاً، ويترك شيئاً، ويعلن شيئاً، ويخفي أشياء، وهكذا يتدسس تدسس كأن أحكام الإسلام عار وخزي وخجل. فهذا -أيها الإخوة- من الضلال، فمن أكبر الانحرافات في الدعوة إلى الله أن نخلط بين الرقة في الأسلوب واللين في الحقائق والمضامين، فإن هذه الأمور إذا اختلطت صار المنكر معروفاً، والمعروف منكراً، وصارت أحكام الإسلام كلها مرنة من هذه المرونة الشيطانية التي كلها تنازل عن حقائق الإسلام، وتغيير وقلب للأمور وتسميتها بغير مسمياتها كلها انطلاقاً من هذه الأفهام الخاطئة لمثل قول الله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125] أو {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً} [طه:44].

قوله تعالى: (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء)

قوله تعالى: (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) كذلك -يا أخي- إذا جئت إلى قول الله عز وجل: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:56] ماذا تجد في الواقع؟ تجد أن الناس غالباً يحتجون بهذه الآية في احتجاجات خاطئة، مثلاً: عندما يرون داعياً إلى الله عز وجل يدعو الناس، ويتعب ويبذل الجهد، يأتي شخص من هؤلاء المخذلين والمثبطين فيقول: يا أخي! لماذا تتعب نفسك؟ لماذا تدعو؟ ولماذا تنصح؟ يا أخي! {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] اترك الناس، تريد أن تهديهم بالقوة؟! أعرض عن هذا واشتغل بأي شغل آخر وهكذا. من واقع ماذا؟ يقول: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] وهو يخلط تماماً وليس عنده أصلاً أي فكرة في التفريق بين هداية الدلالة والإرشاد وهداية التوفيق، وهذا الجهل أصلاً في الفرق بين أنواع الهداية، وهو الذي يعرض الناس للوقوع في هذه المزالق، والإنكار على الصالحين بمثل هذه الآيات، يقول: لماذا تتعب نفسك وليس هناك فائدة؟ بل إنه أحياناً تجد أن العاصي الذي تدعوه وصاحب المنكر إذا جئت تذكره وتنصحه، يقول لك: تريد أن تهديني بالقوة؟! {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] سبحان الله! يأتي بهذه الآية ويضعها ستاراً ويدافع بها عن نفسه يقول: تريد أن تهديني بالقوة؟! {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56]. يا أخي! الهداية بيد الله، وتقول لهذا الرجل من الناس الذين طبع الله على قلوبهم فأصمهم وأعمى أبصارهم: انظر في سبب النزول دائماً، فإنها من الأمور المهمة جداً، كيف نزلت هذه الآية؟ وفيمن نزلت؟ وما مناسبة النزول؟ روى الإمام مسلم في صحيحه عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: (لما حضرت أبا طالب الوفاة -عم الرسول صلى الله عليه وسلم- جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبو جهل، وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عمِ! قل لا إله إلا الله كلمةً أشهد لك بها عند الله، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب! أترغب عن ملة عبد المطلب، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعيد له تلك المقالة حتى قال أبو طالب -آخر كلامه-: هو على ملة عبد المطلب) اختار الكفر-والعياذ بالله- لأن الناس هؤلاء يضغطون على رأسه. لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحاً بذاك مبيناً فهو خشي الملامة والمسبة، وخشي أن يعيره الناس، يقولون: ترك دين آبائه وأجداده، وأبى أن يقول لا إله إلا الله، ومات، فماذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم؟ قال: (أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك، فأنزل الله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:113] وأنزل الله في أبي طالب -هذه تكملة الرواية-: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56]) أنزلها الله في أبي طالب فقال للرسول صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] هل هذه الآية نزلت قبل أن يبذل الرسول جهداً في دعوة أبي طالب؟ هل نزلت هذه الآية بعد أن قطع الرسول مرحلة في دعوة أبي طالب؟ متى نزلت الآية؟ نزلت بعد أن استفرغ الرسول صلى الله عليه وسلم جهده كله في دعوة أبي طالب بالليل والنهار، سراً وعلانيةً، بل حتى على فراش الموت، نزلت هذه الآية بعدما شعر الرسول صلى الله عليه وسلم بنوع من الحزن والندم لمصير هذا الرجل، قال الله عز وجل له: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] بعدما استفرغ الرسول صلى الله عليه وسلم وسعه وطاقته في دعوة أبي طالب نزلت هذه الآية، فانظر كيف يستخدمها الآن هؤلاء المغفلون المغرضون في حجب النور عن الناس، وتثبيط الدعاة إلى الله.

من نتائج الفهم الخاطئ للقرآن

من نتائج الفهم الخاطئ للقرآن

أخذ تصورات خاطئة عن أقوام من البشر

أخذ تصورات خاطئة عن أقوام من البشر كذلك -أيها الإخوة- عدم فهم بعض الآيات فهماً صحيحاً يؤدي إلى أخذ تصورات خاطئة عن أقوامٍ من البشر، مثال: يقول الله عز وجل: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة:82] كثيرٌ من المسلمين الآن يقولون: الآية هذه تقول أن النصارى يحبوننا لأن الله قال: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} [المائدة:82]. وهذه الآية -للأسف- يستخدمها المبشرون استخداماً رهيباً في الكلام مع المسلمين لإزالة الحواجز التي ترسخت بفعل العقيدة الإسلامية الصحيحة، يأتي بعض المبشرين الآن ويقولون للمسلمين وهم يخاطبونهم: نحن وإياكم شيء واحد، نحن نحبكم ونودكم، وما نقول هذا الكلام من عندنا، لا. إن قرآنكم يقول هذا، لأن الله يقول: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} [المائدة:82] فإذاً نحن وإياكم أصحاب، ونحن وإياكم شيء واحد، ونحن بيننا علاقات وجسور قوية ومتينة من المحبة والمودة- يضحكون على المسلمين- وكذلك بعض المسلمين يلين للنصارى كثيراً ويشاركهم في معتقداتهم، ولا ينكر عليهم، بل لا يكلف نفسه حتى بالنصح لهم، لماذا؟ لأنه رأى الآية: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} [المائدة:82]. فأين منشأ الخطأ؟ الخطأ أن هذا الرجل الذي فهم هذا الفهم لم يتأمل قول الله كاملاً، وإذا كنت تريد معرفة الرد، فانظر إلى تكملة الآيات التي بعدها: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} [المائدة:82] من أين أتت هذه المودة؟ {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة:82]. فإذاً أول شيء أنتج هذه المودة عدم الاستكبار، وهو الاستكبار الذي يمنع قبول الحق. ثانياً: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ} [المائدة:83] رسولنا صلى الله عليه وسلم: {تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} [المائدة:83] هل النصارى الآن يفعلون هذا: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} [المائدة:83]؟ ليس هذا فقط، ليس فقط لا يستكبرون، وإذا سمعوا ما أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم ترى أعينهم تفيض من الدمع، لا، وإنما أيضاً: {يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة:83] يعني: دخلوا في الإسلام: {وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ} [المائدة:84] هذه تكملة الآيات: {فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ} [المائدة:85]. إذاً- أيها الإخوة- هذا الصنف من الناس هم أقرب مودة للذين آمنوا، يعني: الآيات هي التي تحكي هذا: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة:82]. إذاً هو صنف معين من النصارى عرفوا الحق وآمنوا به، ليس عندهم استكبار، هؤلاء أقرب الناس، وسيدخلون بعد ذلك في الإسلام، هؤلاء هم أقرب مودة للذين آمنوا، وإلا فإن واقع النصارى اليوم والواقع السابق أيضاً الواقع الأسود والحملات الصليبية التي خاضت فيها خيول النصارى في دماء المسلمين إلى ركبها في فلسطين وغيرها عندما دخلوها وقتلوا المسلمين، وما حدث في الأندلس المفقود عندما دخله الأسبان النصارى، وما يحدث اليوم من النصارى ضد المسلمين في أنحاء العالم، إنه أمر يهز الإنسان المسلم هزاً. وأفيدك -يا أخي- بأن هؤلاء لا يزالون في عداوة شديدة للإسلام والمسلمين، وأن حالهم أبداً لا يقارن ولا يقارب شيئاً مطلقاً من الأحوال التي ذكرها الله عن صفات هؤلاء النصارى. إذاً لا بد أن يعرف المسلم عدوه، وألا يخلط الأمور، وألا يلبس عليه وألا يفهم خطأً.

يوقع في حبائل أهل الهوى

يوقع في حبائل أهل الهوى كذلك أيها الإخوة: عدم الفهم الصحيح للقرآن يوقع المسلم في حبائل أهل السوء، ويجعله يقع أيضاً في الحرام وتتلبس عليه الأمور.

قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا)

قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا) مثلاً: يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130] كثيرٌ من الناس اليوم يقولون: الله نهى عن أكل الربا أضعافاً مضاعفةً كأن يؤخذ (50%) أو (100%) أو (300%) هذا هو المحرم، أما إذا أخذنا شيئاً بسيطاً، كأن يؤخذ (5%) أو (7%) أو (3. 5%) فهذا ليس فيه شيء؛ لأنه الله يقول: {لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130] يعني: الأضعاف المضاعفة هذه هي التي منهي عنها، لكن هذه النسب البسيطة ليس فيها شيء ولا تدخل في الآية، من أين أتي هؤلاء في سوء النتيجة التي وصلوا إليها؟ أولاً: لم يعرفوا هذه الآية نزلت في أي شيء، هذه الآية نزلت -أيها الإخوة- تنكر واقعاً ربوياً قد تعارف عليه العرب في الجاهلية، العرب في الجاهلية كان الواحد منهم إذا استلف من الآخر نقوداً ثم جاء موعد السداد ولم يؤد الذي عليه مع النسبة الربوية مثلاً، يقول له الشخص الآخر صاحب المال: أؤجلك سنة وأضاعف عليك النسبة، وتأتي السنة التي بعدها ولم يستطع الأداء، يقول له: أؤجلك سنة أخرى وأضاعف عليك النسبة، فهذه الآية في بيان فساد هذا الواقع: {لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130] كلما عجز عن التسديد، أعطى له زيادة في المدة مع مضاعفة الربا، لكن الله يقول في آية محكمة أخرى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا} [البقرة: 278] ثم يقول مهدداً: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279]. فإذاً - أيها الإخوة - الاحتجاج بهذه الآية ونسيان الآيات الأخرى، وعدم معرفة هذه الآية نزلت في تبيان أي واقع من الأمور يسبب الانحراف عن منهج الله والوقوع في المحرمات.

الشعور بتناقض القرآن

الشعور بتناقض القرآن كذلك يؤدي عدم فهم بعض الآيات إلى الشعور بأن القرآن فيه تناقض، مثال: روى البخاري عن سعيد بن جبير، قال: جاء رجل إلى ابن عباس، فقال: إني أجد في القرآن أشياء تختلف عليَّ، قال: وما هو؟ -كان يجد أشياء متناقضة- قال: وما هو؟ قال: قال الله: {فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:101] وقال: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الطور:25] يعني: الله سبحانه وتعالى ذكر في آية حالة من الحالات لا يتساءلون، وفي حالة أخرى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الطور:25] فهذا فيه تناقض، فكيف؟ فقال ابن عباس ورضي الله عنه وأرضاه: [فلا أنساب بينهم في النفخة الأولى -ينفخ في الصور، فيصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، فلا أنساب بينهم عند ذلك ولا يتساءلون- ثم في النفخة الثانية: أقبل بعضهم على بعض يتساءلون]. فإذاً هذه آية وردت في حال وهذه في حال آخر، إلى آخر المناقشة، وهي مناقشة جيدة ينبغي الرجوع إليها لمعرفة كيف يكون أحياناً عدم فهم الآيات مشعر لبعض المسلمين بالتناقض في القرآن مع أنه ليس هناك تناقض، وإنما التناقض في فهم هذا الشخص.

اعتقاد مخالفة القرآن للوقائع

اعتقاد مخالفة القرآن للوقائع أحياناً يؤدي عدم فهم القرآن إلى الاعتقاد بأن القرآن مخالف للحقائق التاريخية، يعني مثلاً: يأتي واحد ويستعرض قول الله في سورة مريم: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} [مريم:28] هذا الكلام يوجهه إلى من؟ إلى مريم، ومريم بعد هارون الذي كان مع موسى بمئات السنين، وربما بآلاف السنين، فكيف يقول قومها: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ} [مريم:28] وهارون الذي كان مع موسى بينه وبين مريم آلاف السنين؟ كيف صارت أخته! هذا الإشكال أورده نصارى نجران لما أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم لهم المغيرة بن شعبة، فلما قدم عليهم، قالوا له: إنكم تقرءون: {يَا أُخْتَ هَارُونَ} [مريم:28] وموسى قبل عيسى بكذا وكذا، فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سألته، فقال: (ألا أخبرتهم أنهم كانوا يتسمون بالأنبياء والصالحين قبلهم) يعني: الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: هارون هذا غير هارون أخي موسى، حيث كان بنو إسرائيل يسمون بأسماء الأنبياء والصالحين، مثلنا نحن الآن نسمي إبراهيم على اسم النبي إبراهيم، نسمي صالحاً على اسم النبي صالح وهكذا، فبنو إسرائيل هكذا أيضاً، فقال هذا هارون الذي أخته مريم ليس هو هارون أخا موسى، هذا هو الرد ببساطة. وقال بعض المفسرين: {يَا أُخْتَ هَارُونَ} [مريم:28] يعني: أخته في الدين، حتى لو كان هارون ذاك أخا موسى. وقال بعضهم: حتى لو كان هارون ذاك، فإنها تحمل على: {يَا أُخْتَ هَارُونَ} [مريم:28] يعني: أخته في الشبه في العبادة، الآن بعض العامة يقولون: هذه السيارة أخت السيارة هذه، ماذا يقصد؟ هل يعني أختها بالنسب؟ لا، ولكن بالشبه، يقولون: هذه أختها بالضبط، يعني: {يَا أُخْتَ هَارُونَ} [مريم:28] يا شبيهته بالعبادة، ولكن القول الأول الذي فسره صلى الله عليه وسلم هو الأولى، ولو كانت باقي الأقوال تصح في المعنى، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم فسرها تفسيراً واضحاً جلياً.

فقدان المعايير الصحيحة للحكم على الناس

فقدان المعايير الصحيحة للحكم على الناس كذلك -أيها الإخوة- الفهم الخاطئ لآيات القرآن يؤدي إلى فقدان المعايير الصحيحة للحكم على الناس، وقد يوضع أناس في غير منازلهم التي هم عليها حقيقة، مثال: يقول الله عز وجل: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] ويقول الله عز وجل: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] الآن الناس يستشهدون بها على أن هؤلاء العلماء الكفار الذين في الغرب عندهم خشية لله، لأن الله مدحهم وقال: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]. هؤلاء علماء الفلك وعلماء الطب، وعلماء الأرصاد وعلماء وعلماء إلى إلخ، وبعضهم يضل ضلالاً أكثر ويفهم الآية بالعكس، يقول: الله يخاف من العلماء، يعني: العلماء عندهم سلطان وعلم، فلذلك الله يخشى منهم، وهي الآية: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ} [فاطر:28] لفظ الجلالة مفعول به {مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] والعلماء هم الفاعل، فالفاعل الذي يخشى هو العلماء، وهو فاعل مؤخر، ولفظ الجلالة مفعول به مقدم، يعني: إنما يخشى العلماءُ اللهَ، فهذا الأصل. وهذه جاءت في القرآن لمعانٍ بلاغية كبيرة. من هم العلماء الذين يخشون الله؟ علماء الشريعة وليسوا علماء الفلك والطب وعلماء العلم الدنيوي، علماء الشريعة هم الذين يخشون الله، وإلا فهناك علماء كبار في الذرة والفلك ما نفعهم علمهم، وإنما قادهم إلى تشغيل مخترعاتهم فيما يدمر البشرية، وما يعود على الناس بالوبال وبسائر الأمور الشريرة. فإذاً يجب أن نفهم: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] حتى إن بعض السلف قال: العالم هو كل من خشي الله، كل من خشي الله فهو عالم، يعني: عالم عنده علمٌ بالخشية، نفس الشيء: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]. ومن الناس الآن من أخذ شهادة -مثلاً- في حقل الهندسة، أو الطب، أو الفلك وترى مكتوباً على الشهادة: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] وشهادات التقدير الدراسية التي تمنح في التفوق في الرياضيات والإنجليزي وكذا مكتوب عليها: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]. فهل المقصود في الآية هذا؟ لا طبعاً، لما ترجع إلى تفسير السلف إلى هذه الآيات، تجد {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] فمن هم الذين يعلمون؟ صفتهم في نفس الآية {سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9] هؤلاء الذين يعلمون؛ لأن الله قال: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9] هؤلاء الصنف: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] فهم الذين يعلمون. أيها الإخوة: لو لم يفهم هذا فإننا سوف نفسر القرآن ونضع هؤلاء الناس الذين عندهم علم الدنيا في المنازل العالية، ونفسر الآيات بناءً على هذا، وهذا من القضايا الخطيرة.

اتهام الأنبياء بما لا يتصوره مسلم

اتهام الأنبياء بما لا يتصوره مسلم كذلك قد يؤدي أحياناً عدم الفهم لآيات القرآن الكريم إلى اتهام الأنبياء بأشياء لا يمكن أن يتصورها مسلم صحيح العقيدة، يخشى الله ويعظم قدر الأنبياء. فمثلاً: قصة إبراهيم: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنْ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ} [الأنعام:75 - 78]. فالآن بعض المسلمين يفهمون أن إبراهيم مر في حياته في فترة تردد وحيرة وضياع، وما كان يعرف أين الله، ولذلك مرة يقول على الكوكب هو الله، ومرة يقول على الشمس الله، وتخبط حتى اهتدى في الأخير إلى التوحيد. والله عز وجل يقول: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً} [آل عمران: 67] ما كان ولا في يوم من الأيام: {وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً} [آل عمران:67] طول عمر إبراهيم كان حنيفاً مسلماً، ولا يمكن أن يكون يهودياً أو نصرانياً أو رجلاً لا يعرف الله، ولا يعرف أين ربه. فإذاً كيف نفهم هذه الآيات؟ لما نرجع إلى التفسير، نجد أن علماءنا قالوا: إبراهيم عليه السلام كان يناقش قومه ويجادلهم، فلو قال لهم: هذا الكوكب ليس هو الله من أول مرة، ما استطاع أن يفحمهم؛ لأن آل إبراهيم كانوا يعبدون الأصنام، وكذلك كانوا يعبدون النجوم والكواكب والشمس والقمر، فإبراهيم أراد أن يفحمهم بأسلوب عجيب يجب أن يتعلم منه كل داعية، حيث كان مع قومه في مناسبة، فخرج كوكب، قال: هذا ربي، ليس اعتقاداً من إبراهيم، إنما تنزلاً معهم في المجادلة والنقاش، وهذا أسلوب معروف في النقاش، وهذا مثلما نقول نحن الآن على فرض أنه كذا، فكذا وكذا وكذا، وإن كان هذا الفرض خاطئ ولا يمكن أن يحصل. فهذه كانت طريقة إبراهيم، قال: هذا ربي، فلما غاب -وهو يعرف إبراهيم أن الكوكب سيغيب- قال: لا أحب الآفلين، يعني: لا يمكن أني أحب إله يغيب، والقمر نفس الشيء، والشمس وهي الأكبر، قال: هذه أكبر، الآن هذه ربي، فلما غابت، قال: {يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام:78] هذه أسلوب في العرض، يتنزل معهم في النقاش حتى يوصلهم إلى: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً} [الأنعام:79]. وأيضاً يونس عليه السلام نبي كريم من أنبياء الله، وقد جاء في آية: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87] كيف يفهم الآن الناس: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء:87]؟ هم يفهمون أن يونس ذهب مغاضباً، وفكر أن الله لا يقدر أن يأتي به، فكان جزاؤه أن التقمه الحوت، فجلس ينادي في الظلمات، فهم يفسرون قوله تعالى: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء:87] أنه فكر أننا لن نقدر على الإتيان به. وفعلاً -أيها الإخوة- هذه من الأمثلة على أنه لا بد من الرجوع إلى كتب التفسير ومعرفة أقوال العلماء، ترجع إلى كتب التفسير فتجد أن (نقدر) هنا ليس من القدرة وهي الاستطاعة، بل الفعل: نقدر ماضيه: قدَر وليس قدِر، قدِر يعني: استطاع، وإنما قدَر يعني: ضيق، ولذلك يقول الله في القرآن: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق:7] الذي ضيقنا عليه في الرزق ينفق على حسب استطاعته وما عنده، وكذلك: {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ} [الفجر:16] فقوله تعالى: {فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ} [الفجر:16] أي: ضيقه. فماذا يكون معنى الآية؟ معنى الآية أن يونس ذا النون لما صار في بطن الحوت- ابتلاء من الله ليعظم الدرجات له في الجنة، ظن يعني: أيقن، فهي قد تأتي بمعنى أيقن، وقد تأتي بمعنى شك، وهي هنا بمعنى: أيقن، وهذا مثل قوله تعالى: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:20] يعني: متأكد أني ملاقٍ حسابيه: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء:87] يعني: أيقن أننا لن نضيق عليه في بطن الحوت، وأننا سننجيه ولن نضيق عليه ولن ننساه، وسنجيب دعاه، فلذلك نادى، وإلا لو أنه ظن أنه ليس هناك أمل، لماذا قال: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87]؟ لم يكن هناك فائدة من الدعاء، ولكن لأن هذا النبي الكريم يعلم بأن الله لن يقدِر عليه، لن يضيق عليه في بطن الحوت، فلذلك نادى في الظلمات: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87].

إخضاع الآيات القرآنية لمخترعات الكفار

إخضاع الآيات القرآنية لمخترعات الكفار إذاً: أيها الإخوة! المنعطفات والمزالق كثيرة في قضية فهم الآيات، ومن هذه المزالق والمنعطفات قضية الفتنة التي حصلت بهذا العلم التجريبي عند الكفار، مما جعل بعض المسلمين يتهافتون تهافتاً على إخضاع الآيات والأحاديث لنظريات الكفار، فنتجت عن هذه أشياء عجيبة جداً مذهلة، هذا مصطفى محمود يقول: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} [نوح:14] هذا يؤيد نظرية دارون، في أن الإنسان أصله خلية، وبعد ذلك صار برمائيات وزواحف وثدييات، وبعد ذلك صار قرداً، وبعد ذلك صار إنساناً، لأن الله يقول: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} [نوح:14] يعني: كان في طور من أطواره خلية، ثم صار برمائياً، وطور صار فيه زواحف، وطور صار فيه ثديات، هذا فهمه، وله كتاب خطير جداً القرآن محاولة لفهم عصري كله من هذه الخرافات والشعوذات، هكذا فهم خلقناكم أطوار، مع أن المفهوم الصحيح لخلقناكم أطواراً نطفة، علقة، مضغة، عظاماً، فكسونا العظام لحماً، هذه الأطوار، وهذه خطورة عدم الاعتماد على أقوال المفسرين من السلف، حيث أدى إلى هذه النتيجة الوخيمة. وأحدهم قال: أما تدري أن المكيف موجود في القرآن؟ كيف يكون المكيف موجوداً في القرآن؟! قال: أليس الله يقول: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13] يعني: من الداخل رحمة وبرودة، ومن خارج عذاب وحر، يعني: هذا المكيف موجود في القرآن، هذا يوم القيامة يضرب بين الكفار والمؤمنين بسور له باب داخله فيه الرحمة: الجنة ومما يلي المؤمنين، ومن قبله العذاب مما يلي الكفار، هذا السور الذي يضرب بينهم، فهذا الأخ يقول: ورد المكيف في القرآن. وأحدهم يقول: الطائرات موجودة في القرآن؟ كيف؟ قال: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق:4] الطائرات النفاثات في القرآن. وأحدهم يقول: الذرة هذه مكتشفة: {مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [الزلزلة:8]. أيها الإخوة: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور:35] أحد المؤلفين له كتاب فيه، قال: هذه تدل على أشعة الليزر، وظل يقول: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ} [النور:35] وأن أشعة الليزر تتولد من مصباح في زجاجة، وتوضع في فهو مثل الكوة، وتخرج أشعة لا هي شرقية، ولا هي غربية، ويؤلف تأليفاً كله من هذا الباب العجيب. ولذلك أختم كلامي بقول الشنقيطي رحمه الله -وهو مهم جداً في هذا الموضوع- في أضواء البيان: واعلم وفقني الله وإياك أن التلاعب بكتاب الله جل وعلا وتفسيره بغير معناه لمحاولة توفيقه مع آراء الكفرة والإفرنج -مثلما فعل هذا في نظرية دارون وغيرها- ليس فيه شيء ألبتة من مصلحة الدنيا والآخرة، وإنما هو فساد الدارين، ونحن إذ نمنع من التلاعب بكتاب الله وتفسيره بغير معناه نحض المسلمين على بذل الوسع في تعلم ما ينفعهم من هذه العلوم الدنيوية مع تمسكهم بدينهم كما قال الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60]. وهذا كلام نفيس جداً، يقول: نحن لا نخضع الآيات، لكننا نقول للمسلمين ادرسوا وتعلموا هذه العلوم حتى تنصروا بها الدين. فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من القارئين لكتاب الله، اللهم اجعلنا ممن يقرءون كتابك فيحلون حلاله ويحرمون حرامه ويؤمنون بمتشابهه، واجعلنا ممن يقيم حدوده وحروفه، ولا تجعلنا ممن يقيم حروفه ويضيع حدوده، واجعله شفيعاً لنا يوم القيامة، واجعله حجةً لنا لا حجةً علينا بحولك وقوتك يا رب العالمين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد. سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

كلمات الأغاني في ميزان الشريعة

كلمات الأغاني في ميزان الشريعة إن الإباحية اليوم والانحلال قد طغتا على معظم الأمة؛ ومن أهم أسباب ذلك الأغاني والمجون والتغزل بالنساء من قبل الفنانين والفنانات، فقد عثر على كلمات فيها كفر وردة عن الدين، وشرك بالله وعبادة لغيره سبحانه، ولهذا أتى الشيخ بأمثلة ونماذج تبين ذلك الكفر البواح والارتداد عن الدِّين.

حكم الغناء والمعازف في الشريعة الإسلامية

حكم الغناء والمعازف في الشريعة الإسلامية إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. إخواني: لقد عرفنا في بعض الخطب الماضية حكم الغناء في الإسلام، وأنه حرام حرام، وذكرنا الأدلة على ذلك من الكتاب والسنة في تسميته سبحانه وتعالى للغناء بلهو الحديث الذي أقسم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه الغناء، وأن الله لما قال: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} [الإسراء:64] أن المفسرين قد ذكروا في صوت الشيطان أن منه الغناء. وكذلك سماه الله: (سموداً) فقال: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} [النجم:59 - 61]. فهو: الغناء بلغة حمير، من أهل اليمن، وهو الصوت الأحمق الفاجر الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه، وكذلك هو الصوت الملعون، صوت المزمار الذي ذكره عليه الصلاة والسلام في الحديث الآخر. وكذلك فإن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قد تأففوا منه، ولما مر ابن عمر بقومٍ يغنون وهم في حجٍ قال: [لا سمع الله لكم] وسد الصحابي أذنه لما مر بزمارة راعٍ احتياطاً منه رضي الله عنه، وأخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك. وكذلك أخبر عليه الصلاة والسلام: (أن هذه الأمة ستستحل الحر والحرير والخمر والمعازف) وهو حديث صحيح بلا ريب. واستحلال الحر يعني: الزنا، وكذلك الخمر والمعازف معروفة؛ ما هي إلا أدوات الموسيقى المنتشرة التي تكون في كل مكان تقريباً. عباد الله: لقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن قوماً من أمته سيبيتون على لهوٍ ولعب ومعازف، وأن الله تعالى سيخسف بهم ويسقط عليهم جبلاً يكونون تحته، ويمسخ منهم قردةً وخنازير؛ وكل هذا الوعيد يدل على تحريم ذلك. كذلك نهى صلى الله عليه وسلم عن الكوبة -وهي: الطبل- ونهى عن كسب الزمارة، وذكرنا كذلك كلام الأئمة الأربعة وغيرهم من أهل العلم في تحريم الغناء، وأنه يشتد إذا كان بصوت امرأة، ويشتد إذا رافقه معازف وصوت الموسيقى، وأن حضوره حرام، والاستئجار للمغني والمغنية حرام إلى آخر الكلام الذي مضى ذكره عن أهل العلم رحمهم الله تعالى في ذلك. ووعدنا بالكلام عن كلمات الأغاني في ميزان الشريعة. أيها الإخوة: لقد كنت أظن بُرهة من الزمن أن كلمات الأغاني فيها خطورة كبيرة، وفيها مخالفات شرعية كثيرة، ولكن لما طلبنا من بعض الإخوان أن يأتوننا بما يعرفون من كلمات الأغاني التي سمعوها فيما مضى من دهرهم وعمرهم.

خطر كلمات الأغاني

خطر كلمات الأغاني وبعد المراجعات (المقرفة) لبعض دواوين المغنين، واستبياناً قمنا به مع بعض الشباب التائهين؛ تبين أن الأمر أخطر بكثيرٍ مما نتصور، والتصور السابق شيء وما يطلع عليه الإنسان في البحث شيء آخر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس الخبر كالمعاينة) فإنك قد تسمع عن شيء لكن إذا رأيته بنفسك اختلفت النظرة عندك. لقد وجدت في كلمات الأغاني -بعد الفحص والمراجعة وما جلبه هؤلاء الإخوان- درجات الكفر بجميع أنواعه، والشرك الأكبر والأصغر والخفي، وأنواع المعاصي من الكبائر والصغائر، والمحادة لله، وأريد أن أعرض لكم بعضاً مما اطلعت عليه ليكون في ذلك عبرة، ولنعلم -جميعاً- بأن قضية الأغاني ليست قضية طرب فقط -مع أن الطرب بها محرم- ولكنها قضية خطيرة، ومدخلٌ من مداخل إبليس لإدخال الشرك والكفر والانحلال إلى أوساط المسلمين. إن المسألة أخطر مما نتصور يا عباد الله! إن هذه الكلمات التي ترددها الأجيال؛ يرددها الصغار والكبار بهذه الأشرطة المنتشرة التي هي بالملايين بين الناس ذكوراً وإناثاً تخرب في النفوس تخريباً لا يعلم مداه إلا الله. وإني أستسمحكم وأستعذركم في ذكر بعض هذه الكلمات على منبر خطبة الجمعة؛ لأن المسألة فيها أشياء عجيبة من الكفر والانحلال.

أمثلة على الأغاني الإباحية

أمثلة على الأغاني الإباحية لعلك تتصور نفسك وأنت تستمع لبعض هذه المقاطع أحياناً أنك في جو الأغنية، ولكن انقل لنفسك -أيها المسلم- وخصوصاً يا من تستمع إلى الأغاني إلى جو الكتاب والسنة، لتقارن بين هذا وبين ما هو موجود في كلام الرب والرسول صلى الله عليه وسلم.

مغنون لا يعرفون سبب وجودهم في الدنيا

مغنون لا يعرفون سبب وجودهم في الدنيا عباد الله: لقد وجدنا أن في كلمات الأغاني -التي يغنيها المشاهير من المغنين والمغنيات- كفراً صراحاً وردةً معلنة عن دين الله تعالى. كان مما غنوه قصيدة الشاعر النصراني: جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت كيف أبصرت طريقي لست أدري ولماذا لست أدري لست أدري لقد غنوا الأغنيات ذات الأشعار التي تبين أنهم لا يعرفون سبب وجودهم في هذه الدنيا، ولا يعرفون أبعد هذا الموت بعثٌ أو نشور، أو أنه يكون هناك الإهمال والترك، وتكون هذه النهاية بكلماتها الفصحى وغير الفصحى، عبروا عنها في أغنياتهم، والله يقول: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115] {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163]. لقد وجدنا في كلمات الأغاني أن هؤلاء القوم يكتبون الكلمات ويغنونها ويلحنونها، فالشاعر كاتب الكلمات، والملحن لها، والمغني ثلاثة في النار، وهم شركاء في الإثم؛ لأنهم يقدمون هذا السم ويعرضونه. * تقول قائلتهم أم كلثوم التي طرب بها الملايين، وأعجبوا بها، واستمعوا الساعات الطوال: لبست ثوب العيش ولم أُستشر. * ويقول الآخر التافه الهالك: لو كنت أعلم خاتمتي ما كنت بدأت. هل أنتم تحيون وتموتون كما تريدون؟ وتأتون إلى الدنيا متى ما أردتم وعندما تشاءون؟ وتفعلون ما تشتهون؟ أم الله هو الذي يأتي بكم؟ وهو الذي يحييكم ثم يميتكم ثم إليه ترجعون؟!! {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [القصص:68] وهؤلاء يقولون: لبسنا ثوب العيش ولم نستشر. ومن الذي سيستشيركم؟ وهل لكم رأيٌ؟ ومن أنتم حتى يكون لكم رأي؟

عبادة المحبوب

عبادة المحبوب ثم وجدنا في كلمات الأغاني -أيها الإخوة- الصراحة في عبادة المحبوب، وأنه لأجله يعيش في هذه الدنيا، ويصرح بأنه مخلوق في الدنيا من أجله، وأنه يعيش من أجله، ويقول: * عشت لكي وعلشانك، والله يقول: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]. تقول: * أنا جئت إلى الدنيا من أجلك ومن أجل حبك، هكذا جاءت إلى الدنيا ولأجل هذا خلقت! ويصرح بعضهم بصرف أنوع من العبادة إلى المحبوب أو المحبوبة: وهو التوبة. فيقول قائلهم: أتوب إلى ربي وإني بمرةٍ يسامحني ربي إليكِ أتوب ورأيت أنكِ كنت لي ذنباً سألت الله ألا يغفره فغفرتِهِ هذا الذي يقولونه من صرف التوبة إلى غير الله تعالى، فهو يعبد المحبوبة ولأجلها يعيش، وهذا غرضه من الدنيا، ولها يتوب وإليها، ولا يسأل ألا تغفر فتغفر، أو أن تغفر فلا تغفر، والله هو الذي يغفر: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:135] فإليه يتاب سبحانه، قال الله: {وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [الرعد:30] وتقديم حرف الجر هنا: (إليه) يفيد الحصر، أي: إليه التوبة لا إلى غيره: {وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [الرعد:30] حصر التوبة فيه سبحانه وإليه عزوجل ومنه المغفرة لا من غيره. وهم يستخدمون ألفاظ التوحيد والدين في العلاقة بالمحبوب والمحبوبة وهكذا يعبرون. ومنهم من شيعه الملايين من المسلمين مشوا في جنازته. ويعبرون: أحب حبيبي، وأعشق حبيبي، وأعبد حبيبي. وتقول القائلة: وحبك عليَّ أكبر فريضة؛ أكبر فريضة هي الحب! ويقول القائل: الله أمر لعيونك أسهر، الله أمر. {قُل إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:28]. إذاً! يعبرون بأن الله أمر بالحب الحرام للمحبوبة، وأمر بأن يسهر من أجل عيونها، وذلك تكذيب ومنافاة ومضادة صريحة لما أمر الله تعالى به: {قُل إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:28].

في الغناء: العشق والمحبة عبادة

في الغناء: العشق والمحبة عبادة ويقول الآخر: أريد ودك جمراً ولا أطيق رماده قلت المحبة عندي لو تعلمين عباده الحب في الشرع فرضٌ على الجميع ارتياده يقول: لابد لكل أحدٍ أن يحب، ومحبتها هذه عنده عبادة، فيتقربون إلى الله بالكبائر والمعاصي. ويقول الآخر في أغنيته: أنا عبدكِ أنا عبدكِ! ومنزلة العبودية أرفع المقامات وأعلاها، ولأجل ذلك سمى الله محمداً صلى الله عليه وسلم في القرآن عبداً في أربعة مواضع لم يسمه ولم يطلق عليه ولم يصفه إلا بهذه الصفة؛ صفة العبودية؛ لأن العبودية هي كمال المحبة مع كمال الخوف والخضوع والذل لله رب العالمين، فيجتمع فيها محبةٌ وخوف ورجاء، وكمال الخضوع والذل، وهذه هي العبودية، ثم يقول قائلهم: حبك عبادة، وحبكِ عبادة، وأنا عبدكِ أو أنا عبدكَ، ونحو ذلك من الألفاظ. والله قد سمى المخلصين من خلقه عباداً له، وشرفهم بإضافتهم إليه: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} [الفرقان:63]. فالعبودية منزلة عظيمة، لكن في أي شيء جعلها هؤلاء!

في الغناء: الاعتداء على الأنبياء

في الغناء: الاعتداء على الأنبياء لقد اعتدوا على ذات الله وشرعه، وعلى كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، واعتدوا على أنبياء الله. فهذا أحدهم يقول في صبره على فراق المحبوب، أو المحبوبة: صبرت مثل صبر أيوب. والآخر يقول: أيوب ما صبر صبري. والنبي الكريم أيوب هو الذي مسه الضر فنادى الله تعالى، فقال الله عز وجل عنه: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ} [الأنبياء:83 - 84] قال العلماء: أخفى ولم يظهر الطلب وأظهر النداء، فقال: أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، فكشف الله تعالى ما به من ضر، ابتلاه سنوات طويلة، فصبر ذلك النبي الكريم على بلواه، وشكا أمره إلى الله، فاستجاب له مولاه، وكشف عنه الكرب الذي أصابه وحلَّ به، وهذا يقول: أيوب ما صبر صبري! اعتداءٌ فاحش على رسل الله تعالى وعلى أنبيائه.

في الغناء: اعتداء على الله ورسوله

في الغناء: اعتداء على الله ورسوله بل قد حصل الاعتداء على كتاب الله؛ فلحنوا آيات من القرآن، منها سورة {إِذَا زُلْزِلَتْ} [الزلزلة:1] وعبثوا فيها ولعبوا، حتى قصار السور حصل فيها تلحين والغناء لها نصاً أو مقاطع، وبعضكم يعلم ذلك، فما بقيت حرمة للدين إلا واعتدى عليها هؤلاء المغنون. وبعض الأغاني الشعبية فيها سب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وفيها وصف لله تعالى -تعالى الله عن أقوالهم- بأوصاف شنيعة، وأنه سبحانه يشاركهم الغناء والطرب، وأنه يعمل معهم ذلك -تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً- فماذا بقي أيها الإخوة؟!

في الغناء: سب للقدر

في الغناء: سب للقدر أما عقيدة القضاء والقدر ولوم الرب، فيقول بعضهم: ليه القسوة ليه؟ ليه الظلم ليه؟ ليه يا رب ليه؟ فهذا فريد الأطرش يتهم الله صراحة بالظلم والقسوة، والله يقول: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49] {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء:23] لا نقول لله: ليه، ولا لماذا: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء:23]. أليس هذا كفراً أيها الإخوة؟! أليست هذه الأغنية قد استمع لها الملايين في ما مضى، ولا زالت تسجل وتسمع فيما بقي من التراث السابق بين الحين والحين وهكذا يفعلون، وهو الآن تحت الأرض، الله أعلم ماذا يفعل به؟ ذهب القوم وماتوا، وبقيت أغنياتهم حسرة عليهم، بها يعذبون، وعليها يؤاخذون ويحاسبون، والله أعلم كيف سيكون مصيرهم يوم الدين، {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89].

في الغناء: الاستعداد لدخول النار

في الغناء: الاستعداد لدخول النار ثم إن منهم من يصرح بأنه مستعد للذهاب إلى جهنم مع محبوبته: يا تعيش وياي في الجنة يا اعيش وياك في النار بطلت أصوم وأصلي بدي أعبد سماكِ لجهنم ماني رايح إلا أنا ويّاك يصرحون بأنهم يختارون بين الجنة والنار: يا تختار الجنة يا تختار النار علشانك أنتِ انكوي بالنار وألقح جثتي وأدخل جهنم وانشوي واصرخ واقول يا لهوتي هذا نص كلام غنائهم وما يقولونه، فيتمنى أحدهم أن يذهب مع المحبوب ولو إلى النار. وماذا يوجد في جهنم؟ {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [البقرة:24] {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ} [المدثر:27 - 29]. تشوى جلودهم في النار: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق:30] {تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ} [الهمزة:7]. تكشف القلوب من حرها، وتصطلي القلوب ناراً لشدة عذابها: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} [الفرقان:12]. لهم نصيب من العذاب {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا} [الحج:22] {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا} [المائدة:37] {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [فاطر:36] {إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} [غافر:71 - 72] {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا} [الأحزاب:66] {فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ} [التوبة:35] {وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُم} [محمد:15] {يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ} [الكهف:29] {قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} [الحج:19 - 21] {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56] {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون:104] {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} [القمر:48]. هذا الذي أردته واخترته مع محبوبتك، ولو إلى جهنم!: {ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} [القمر:48].

في الغناء: استحلال للمحرمات

في الغناء: استحلال للمحرمات ويصرح قائلهم بأنه قبَّلها في الصباح، فقالت: تفطر يا هذا والناس صيام، قلت لها: أنتِ الهلال، والصوم بعد الهلال حرام فهي الهلال عنده، وأفطر في يوم الصوم؛ لأنه يرى بأنها هي هلاله، وأن الصوم بعد رؤية الهلال حرام. ويصرحون بأنه إذا لم تحل له محبوبته على دين محمد أخذها على دين المسيح بن مريم؛ وهل كان دين المسيح عيسى بن مريم يحل الزنا؟!! ويقول قائلهم: صوتك ذكرياتي وعزي وصلاتي. ويقول قائلهم: فكانت حلالاً لي ولو كنتَ أو كنتِ محرمي. لو كانت من المحارم لاستحلها وهي عزته وصلاته، وهي هلاله، وهي التي يفطر عليها. هكذا صارت المحبوبة. يا جماعة! هذه الأشعار التي تقال وتغنى هي السم الناقع، والبلاء القاطع لهذه الأعناق يوم الدين. فيا قوم إنما فتنتم بهذا الغناء، وبهؤلاء المغنين.

الغناء وسوء الخاتمة

الغناء وسوء الخاتمة ويصرح بعضهم بأنه سيطري ذكرها في سكرات الموت، ويقول: قلت أهواكِ وأفضل هواكِ، أو أهواك بين سكرات الموت بطريكي إذاً: سيطري ذكرها في سكرات الموت. وأنا أقول: إن هذا كلامٌ صحيح، فالذي يفتن بالشيء ويغرم به ويحبه إلى النهاية ويفتن به يذكره عند سكرات الموت. ولذلك أخبر العلماء من قصص الواقع: أن بعض المرابين ممن فُتن بالربا وعمل به، كان يقول عند موته: عشرة بأحد عشر، عشرة بأحد عشر. وأن بعض التجار الذين ألهتهم تجارتهم عن الصلاة وذكر الله كان يقول عند موته: هذه سلعة رخيصة، هذا مشتراها رخيص، هذه بكذا وكذا. وأن بعض من فتن بالنساء كان يقول عند موته: رب قائلة يوماً وقد تعبت أين الطريق إلى حمام منجابِ فهو قد عشق جاريةًَ أتت إلى الحمام العمومي ولا زالت في مخيلته حتى مات كمداً وعشقاً، وهو لا يزال يلهج بذكر محبوبته. وبعض الذين ماتوا في حوادث السيارات كانوا في الرمق الأخير يرددون مقاطع من الأغاني، أشلاؤهم قد اختلطت بحديد السيارات ملقون في الطرقات بعد الحوادث، يتلفظون ببعض المقاطع من الأغاني. وهكذا كل من شغف بذكر شيءٍ ذكره في أحلك اللحظات؛ وأحلك اللحظات في حياة المرء هي سكرات الموت: (لا إله إلا الله إن للموت لسكرات، اللهم هون علينا سكرات الموت) فهو عندما يقول ذلك فهو كلامٌ صحيح يقر به أن يطري ذكراها في سكرات الموت، وكيف تكون نهايته؟! وكيف يقابل ربه؟!

الغناء والشهادة

الغناء والشهادة لقد ميعت المعاني الفاضلة في الشريعة، والرتب العالية: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ} [النساء:69 - 70] هذه هي المراتب العالية، ومنها: مرتبة الشهادة، والشهداء أحياءٌ عند ربهم، أرواحهم في حواصل طيرٍ خضر تسرح في أنهار الجنة، يعجب ربك إليهم ويضحك، ومن ضحك الله إليه فلا حساب عليه. الشهيد هو الذي يقتل بين الصفين مقبلاً غير مدبر في سبيل الله تعالى، هذا هو الشهيد. ثم يقول عبد الحليم شبانة: يا ولدي قد مات شهيداً من مات فداءً للمحبوب هكذا جعلوا الشهادة؛ المقام العظيم عند الله، من مات فداءً للمحبوب، ومن المحبوب؟ هل هو رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! لا. لا يقصدون ذلك، لأنه استهل تلك القصيدة بذكر أوصاف المحبوبة التي شعرها كذا وكذا، وعيناها كذا وكذا، ثم ينادي بالشهادة لأجل المحبوبة.

الغناء وتغيير الأسماء

الغناء وتغيير الأسماء هذا عبد الحليم شبانة الذي غير اسمه، وملعون من انتسب إلى غير أبيه أو قومه، وهذه من المنكرات العظيمة في الأوساط الفنية العفنة، فتجد تغيير الأسماء بالأسماء الفنية ليشتهروا بها، وينادوا بها، ويكتب عنهم بها، إلا واحداً سمعت عنه فوجدت أن تغييره لاسمه كان في محله، اسمه: محمد، وهو من المغنين الذين فتن بهم الجيل الحاضر الجديد من النساء والرجال، فغير اسمه إلى (عاصي) لأنه معجب بملحن اسمه: (عاصي) فهذا وجدت أن تغييره لاسمه كان في محله. "ورب رميةٍ من غير رامٍ" هو قصد إعجاباً، فجاءت مطابقة للواقع ولما يقوم به ويعمل. والحمد لله الذي أرانا ذلك وجعلها آية، فمحمد لا يليق بالغناء أما عاصي، فهو الاسم الدال على ذلك المسمى الذي يعصي الله تعالى. نسأل الله عزوجل أن يتوب على من يسمع الغناء، وأن ينقذ هذه الأمة من هذه الفتنة العظيمة، والبلوى التي طار شررها، نسأل الله السلامة والعافية، وأن يطهر بيوتنا من المنكرات. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفره إنه هو الغفور الرحيم.

الغناء والاعتداء على العقيدة والتوحيد

الغناء والاعتداء على العقيدة والتوحيد الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين. وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له رب الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأزواجه وذريته الطيبين الطاهرين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، صلى الله عليه صلاةً دائمةً بما علَّمنا وأدّبنا ودلّنا على الخير. عباد الله: هل أنتم تشكون في تحريم الغناء، وأن ما يقال في هذه الأغاني هو عين الردة عن الدين أحياناً، وعين الفسق والفجور أحياناً، وعين نشر الرذيلة بين المسلمين، والدعوة إلى الانحلال والفسق والفجور؟

الغناء وادعاء علم الغيب

الغناء وادعاء علم الغيب ثم إننا لم ننتهِ بعدُ من ذكر بعض ما وصلنا مما يقال في الأغاني من الأمور المتعلقة بالعقيدة؛ لأننا لم نذكر شيئاً بعد عن الأمور المتعلقة بالانحلال والفسق. جلست والخوف بعينيها تتأمل فنجاني المقلوب قالت يا ولدي لا تحزن فالحب عليك هو المكتوب اشتمل هذان البيتان على جلوس هذا الفاجر مع امرأة تدعي علم الغيب، فهي كاهنة وعرافة ومشعوذة، وعلى طريقة الذين يدَّعون علم الغيب في شعوذتهم وهي قراءة الفنجان المقلوب بعد قلبه. واشتمل على الكذب على الله تعالى في أنه كتب الحب على هذا الرجل. أولاً: ادعاء علم الغيب كفرٌ: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل:65] {لا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً} [الجن:26]. وقراءة الفنجان وقراءة الكف، وضرب الودع، والتخطيط في الرمل، قراءة الكرة الكريستال، وغير ذلك من الوسائل القديمة والحديثة شرك وحرام. وادعاء علم الغيب كفر بالله، واعتداءٌ على خصوصية من خصوصياته سبحانه وهي علم الغيب الذي لا يطلع عليه أحداً إلا من شاء سبحانه من وحي إلى رسول بأمور مستقبلة ينبئ بها قومه ليحذروا ونحو ذلك من الأمور.

الاستعانة والحلف بغير الله

الاستعانة والحلف بغير الله ثم إنك تجد أيضاً في أغانيهم: مدد يا نبي يا نبي مدد والاستعانة بغير الله، ونداء الأموات، والطلب من الأموات، والحلف بغير الله، والحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم، وحياة الغالي عندك، وحياة عينيك، أو وحياة عينك؛ والقسم بغير الله عز وجل: أحلف والحب يمين، كما يقول قائلهم، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك). بل إن في بعض مقاطع الأغاني حلف بالأضرحة والمشاهد والقبور: مقدرش على كده ومقام السيده والواو: واو القسم، والقسم بمقام السيدة.

الغناء وسب الدهر

الغناء وسب الدهر إن سب الدهر في الأغاني شائع ومنتشر، شتم الساعة، والزمان، والشهر، والعمر، والدهر؛ كل ذلك وارد ومنتشر. كتاب حزين كله مآسي جابنا في زمان غدار قاسي والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر) هو مقلب الأيام والليالي سبحانه وتعالى، وإذا سب أحد الدهر فقد سب شيئاً ليس بأهلٍ للسب ولا ذنب له؛ لأن الدهر هو ظرفٌ لوقوع الحوادث، فلا ذنب له ولا عمل فيها، ولكن الله هو الذي يشاء، ويفعل ما يشاء، ويقدر ما يشاء، ويجري الحوادث في الزمان بمشيئته سبحانه، فمن سب الدهر فقد رجع سبه على الله، وهم يقولون: زمان غدار وقاسي.

الغناء والاعتداء على اللوح المحفوظ

الغناء والاعتداء على اللوح المحفوظ ثم يعتدون على ما هو مكتوب في اللوح المحفوظ: الفرح سطر غلط مكتوب لما الزمان كان يوم ناسي هذا السطر الذي كتبه الله في اللوح المحفوظ كان غلط، افهم يا مسلم يا عبد الله! كيف يتسللون إلى بيتك وإلى عقول نسائك وأولادك، وبه تلهج الملايين؟! ثم إن هناك فناً يمكن أن نسميه فن التفاهة؛ تصاغ به الأشعار وعليه كلمات سخيفة جداً جداً جداً، لكن يترنم بها ملايين المسلمين، وتنتشر أسطواناتها بالملايين. أما ذلك الشعر الرائع الفخم الجزيل، الموزون على قوافي أشعار العرب، المحكم في نظمه وبيانه، وجميل ترتيبه وجمال كلماته، المشتمل على المعاني العظيمة: السحْ ادَّحْ امبوا إلى آخره، هذا هو الكلام العظيم المشتمل على المعاني الرائعة التي يتغنى به الملايين! وأغاني عدوية التي تسمى بالأغاني الشعبية قد انتشرت بالملايين، يلهجون بها بدلاً من أن يقول الواحد: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله (من قال: لا إله إلا الله غرست له شجرة في الجنة) (غراس الجنة: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله) لكنهم يقولون هذا الكلام، ويلهجون به.

أقسام كلمات الأغاني

أقسام كلمات الأغاني أيها الأخ المسلم! لو قسمنا كلمات الأغاني لوجدناها ثلاثة أقسام: القسم الأول: ما هو منافٍ للدين والعقيدة والردة عن الدين وهو كفر بالله تعالى. وقد غنت أم كلثوم قصائد في الشعر الإلهي: القلب يعشق كل جميل. وهذا اسمه عند الصوفية المنحرفين (العشق الإلهي) فتجد في القصيدة بعض الإشارات إلى قضية العشق الإلهي عند هؤلاء الصوفية المنحرفين، وتجد الردة الكفر والشرك الأكبر والشرك الأصغر، وتجد جميع الألفاظ الإسلامية، والمعاني الجليلة في الدين، وإدخالها في الأغاني والحب والغرام. القسم الثاني: قسم الانحلال: وهي الأغاني التي فيها وصف الحبيب والمحبوبة، انحلال. وهذا شيء لا يمكن أن نأتي بأمثلته في خطبة الجمعة، لكن هذا هو أكثر ما يعرف في الأغاني هو أغاني الانحلال والفسق والفجور، والدعوة إلى الفاحشة، والدعوة إلى الموعد والابتسامة واللقاء والحب والغرام، والدعوة إلى الفجور والمعصية؛ هذا هو أكثر ما هو موجود في الأغاني مرافقاً للفيديو (كليب) الذي ذبح به بعض الشباب ذبحاً من الوريد إلى الوريد، لكن ما ذبحوه ذبحاً تسيل به الدماء؛ وإنما ذبحوه ذبحاً تسيل به الفضيلة والدين من النفوس، وتخرج وتزهق أرواحهم بما يعرض في تلك الأغاني. القسم الثالث من الأغاني: أغاني التفاهة. ثم يوجد أغاني دينية وموشحات أندلسية بعضها فيه الشرك، كما يوجد في بعض المناسبات الدينية؛ كالموالد والرجبية وغيرها. وبعضه لا يوجد فيه شيء من هذا، بل قد يكون الشعر الأصلي جميل المعنى، جليل المحتوى، لكن ما حكم تلحين لفظ الجلالة وتغنى على الموسيقى؟

الغناء وتلحين لفظ الجلالة

الغناء وتلحين لفظ الجلالة وكثير من الأغاني ممتلئة بألفاظ الجلالة الملحنة التي تؤدى من امرأة أو رجل فاجر على أنغام الموسيقى. ماذا يسمى هذا أيها الإخوة؟ حتى لو كانت المعاني جميلة وجليلة فقد استخدموها في الموسيقى من غناء امرأة أو رجل فاجر! إذاً يتبين بالجملة أن قضية الغناء هذه دخل بها إبليس عن طريق أبالسة الإنس وشياطينهم: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} [الأنعام:112]. يلحنون بها لأجيال المسلمين ليشتغلوا به عن ذكر الله وتعمر به المجالس، وتلهج به ألسن أولادكم وبناتكم ذكراناً وإناثاً في بيوتكم والسيارات والأشرطة في كل مكان: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ} [الصافات:106]. فماذا نقول بعد هذا؟ هل من توبة؟ هل من أوبة؟ هل من ورجعة؟ هل من تركٍ لهذه المحرمات؟ اعتدوا على أعز شيء عندك، اعتدوا على الله تعالى ورسله اعتدوا على اللوح المحفوظ اعتدوا على قضائه وقدره شتموا الدين والرب، ما أبقوا عزيزاً في الدين ولا غالٍ إلا أوسخوه ووسخوه بهذه الكلمات، ولطخوه لكي يحولوا بين الناس وبين دين رب العالمين. فأين المنتبهون؟!! وأين الواعون لهذه الأخطار؟!! المسألة جد خطيرة يا عباد الله! نسأل الله تعالى السلامة والعافية.

شرح منظومة ابن فرح اللامية

شرح منظومة ابن فرح اللامية نَظَمَ ابن فرح المصطلحات الحديثية في قصيدة ظاهرها الغزل، فجاءت طرفة من الطرف، فكثرت عناية العلماء بشرحها والتعريف بمصطلحات أهل الأثر في ثناياها، فمنهم ابن جماعة والسفاريني وغيرهما. وفي هذا الدرس خلاصة لشرح السفاريني لها مع ترجمة له وللناظم.

منظومة ابن فرح وموضوعها

منظومة ابن فرح وموضوعها الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فلا تستعجلوا وتفكروا وتدبروا في هذه القصيدة: غرامي صحيح والرجا فيك معضل وحزني ودمعي مرسل ومسلسل وصبري عنكم يشهد العقل أنه ضعيف ومتروك وذلي أجمل ولا حسنٌ إلا سماع حديثكم مشافهة يملى علي فأنقل وأمري موقوف عليك وليس لي على أحدٍ إلا عليك المعول ولو كان مرفوعاً إليك لكنت لي على رغم عذالي ترق وتعدل وعذل عذولي منكر لا أسيغه وزور وتدليس يرد ويهمل أقضي زماني فيك متصل الأسى ومنقطعاً عما به أتوصل وها أنا في أكفان هجرك مدرجٌ تكلفني ما لا أطيق فأحمل وأجريت دمعي فوق خدي مدبجاً وما هي إلا مهجتي تتحلل فمتفقٌ جسمي وسهدي وعبرتي ومفترقٌ صبري وقلبي المبلبل ومؤتلف وجدي وشجوي ولوعتي ومختلف حظي وما منك آمل خذ الوجد عني مسنداً ومعنعناً فغيري بموضوع الهوى يتحلل وذي نبذٌ من مبهم الحب فاعتبر وغامضه إن رمت شرحاً أطول عزيز بكم صبٌ ذليل لعزكم ومشهور أوصاف المحب التذلل غريب يقاسي البعد عنك وما له وحقك عن دار القلى متحول فرفقاً بمقطوع الوسائل ما له إليك سبيل لا ولا عنك معدل فلا زلت في عزٍ منيعٍ ورفعة ولا زلت تعلو بالتجني فأنزل أوري بسعدى والرباب وزينب وأنت الذي تُعنى وأنت المؤمل فخذ أولاً من آخر ثم أولاً من النصف منه فهو فيه مكمل أبر إذا أقسمت أني بحبه أهيم وقلبي بالصبابة مشعل

موضوع المنظومة

موضوع المنظومة ما هو موضوع هذه القصيدة؟ أنوع الحديث في مصطلح الحديث، لعل الناظم لما رأى إقبال الناس على الهوى والمحبة، قال: لا طريق لتعريفهم بالمصطلح إلا بأن نسلك هذا السبيل، فنظم الناظم رحمه الله هذه القصيدة في هيئة الغزل، لكنها في الحقيقة تحتوي على أقسام الحديث وأنواعه في علم مصطلح الحديث. وهذه القصيدة للعلامة ابن فرح الأشبيلي رحمه الله تعالى، شرحها العلامة محمد السفاريني الحنبلي في كتابه: الملح الغرامية بشرح منظومة ابن فرح اللامية، وسنترك ترجمة الناظم والشارح إلى النهاية إن شاء الله، ونشرع في الكلام على هذه القصيدة وما تحويه من أنواع مصطلح الحديث. وهي تصلح لمن يريد أن يدرس مصطلح الحديث في البداية كما تصلح البيقونية وغيرها، وقد شابه الناظمَ الشارحُ في أول شرحه، فقال: الحمد لله الذي رفع ذكر أهل المحبة وفضل، وأجرى دمعهم مدبجاً على وجنة خد المعلل، وأوقفهم على الحسن فكلهم في قيد الغرام مسلسل لا مرسل، وذللهم للجمال وإن كانوا من أعز العالم وأبسل، وأعضلهم عن مشافهة من علقوا به فليست دفاترهم تملى على غيره أو تنقل، سبحانه وتعالى من إله وفق من أحبه لصحيح القصد وخوّل، وفرق شمل من مقته وضعف قلبه وزلزل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له -فهو القديم- شهادةً تقطع عنا علائق الشرك وبها إلى خالص التوحيد نتوصل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي ما ترك منكراً إلا بتكه بسيفه العدل وأبطل، نبي ألف الله به بين قلوب كانت قبله مختلفة لا توجل. إلى آخر المقدمة؛ ذكر فيها فضل علم الحديث، وأن هذه القصيدة قد احتوت أقسام المصطلح ضمنها فيه على سبيل التورية فزادت بذلك ملاحتها، وظهرت فصاحتها، ثم إنه ذكر عزمه على شرح هذه المنظومة.

تعريف الصحيح والمعضل والمرسل والمسلسل

تعريف الصحيح والمعضل والمرسل والمسلسل نريد أن نكتشف ماذا يوجد في كل بيت منها من أنواع الحديث، يقول في مطلعها: غرامي صحيح والرجا فيك معضل وحزني ودمعي مرسل ومسلسل كم نوعاً من أنواع الحديث اشتمل عليها هذا البيت؟ في هذا البيت ذكر أربعة أقسام من الحديث: الأول: الحديث الصحيح: وهو الحديث الذي يتصل سنده بنقل العدل التام الضبط عن مثله إلى منتهاه من غير شذوذ ولا علة قادحة. وقد قال الحافظ العراقي في ألفيته: فالأول المتصل الإسناد بنقل عدل ضابط الفؤاد عن مثله من غير ما شذوذ أو علة قادحة فتوذي ومعروف تعريف الحديث الصحيح: نقل العدل الضابط عن مثله إلى منتهاه من غير شذوذ ولا علة. وعندما نقول: الحديث الذي يتصل سنده بنقل العدل الضابط عن مثله إلى منتهاه، يخرج الحديث المرسل والمعضل والمنقطع. وعندما نقول: نقل العدل. يخرج: من كان غير معروف العدالة. وعندما نقول: الضابط. يخرج: ما كان من الرواة مغفلاً كثير الخطأ وإن كان معروفاً بالصدق والعدالة؛ لأن الضبط يتنافى مع الغفلة. ويخرج كذلك الشاذ والمعلل؛ لأننا قلنا في آخر العبارة: من غير شذوذ ولا علة. والصحيح نوعان: صحيح لذاته، وصحيح لغيره. صحيح لذاته تقدم تعريفه، والصحيح لغيره: ما تكثر طرقه مما دون الصحيح لذاته فيرتقي من مرتبة الحسن إلى مرتبة الصحة، ولكن يقال: صحيح لغيره؛ لأنه صار مع غيره صحيحاً، ولو انفرد وحده ما سمي صحيحاً.

حكم الحديث المعضل والمرسل

حكم الحديث المعضل والمرسل الثاني: الحديث المعضل: وهو الذي سقط منه اثنان فصاعداً على التوالي، كأن يقول مالك رحمه الله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكم بين مالك والرسول صلى الله عليه وسلم؟ أقل ما يكون راويان اثنان، فإذا قال مالك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا حديث معضل. الثالث: الحديث المرسل. أن يقول التابعي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا قال التابعي ذلك سواء كان كبيراً أو صغيراً فإنه حديث مرسل؛ والحديث المرسل ليس من أقسام الحديث الصحيح. فإذا قال قائل: إذا علمنا من حال التابعي أنه لا يرسل إلا عن ثقة؟ فجمهور العلماء من المحدثين على التوقف لبقاء الاحتمال؛ لأنه قد يكون ليس بثقة عند غيره، لكن المراسيل إذا تعددت طرقها ومخارجها وكانت صحيحة فإن بعضها يقوى ببعض، فإذا وجد مرسل عن مجاهد ومرسل عن عكرمة وهي مراسيل صحيحة من جهة السند، والمخارج مختلفة فيمكن أن يتقوى هذا بهذا، ويصبح الحديث صحيحاً أو حسناً. الرابع: الحديث المسلسل. ما يكون فيه شيء واحد يشترك فيه الرواة، وقد يكون التسلسل بالأولية، كأن يقول: حدثني فلان وهو أول حديث سمعته منه عن شيخه فلان وهو أول حديث سمعه منه، عن شيخه فلان وهو أول حديث سمعه منه، وهكذا. وقد يكون التسلسل بالمصافحة، كأن يقول: حدثني فلان وكفي بين كفيه، عن فلان وكفه بين كفيه، عن فلان وكفه بين كفيه، وهكذا. وقد يكون التسلسل بالمحمدين، كأن يقول: حدثني شيخي محمد بن فلان، عن شيخه محمد بن فلان، عن محمد بن فلان، وهكذا. ولكن قلما تسلم المسلسلات من الضعف كما قال أهل العلم.

تعريف الضعيف والمتروك

تعريف الضعيف والمتروك وصبري عنكم يشهد العقل أنه ضعيف ومتروك وذلي أجمل وكم نوعاً من الأنواع اشتمل عليه هذا البيت؟ الضعيف والمتروك والشواهد. أما الحديث الضعيف فإنه أنواع كثيرة، وهو ما لم يبلغ رتبة الحسن، والحديث الضعيف لا يعمل به إلا بشروط عند بعض العلماء: الشرط الأول: إذا لم يشتد ضعفه. الشرط الثاني: إذا دخل تحت أصل معروف معمولٍ به في الشريعة. الشرط الثالث: إذا كان في فضائل الأعمال. وذهب بعض أهل العلم إلى عدم العمل بالحديث الضعيف إطلاقاً، وقال: في الصحيح ما يغني عن الضعيف. ولكن هناك مسألة مهمة جداً في الحديث الضعيف، وهي أنه مفيد في حالات، فإذا كثر طرقه يصير حديثاً حسناً لغيره، لكن هذا يشترط فيه ألا يكون الضعف بسبب فسق الراوي؛ فإذا كان السبب في الضعف فسق الراوي، فإن ذلك لا يرتقي، وإذا كان الضعف في حفظ الراوي وليس في عدالة الراوي، فيمكن بمجيئه من وجهٍ آخر أن يتقوى ويصير حسناً. وهناك فرق بين الحديث الضعيف والمضعف أشار إليه بعضهم، فقال: الضعيف هو المتفق على ضعفه عند العلماء. والمضعف هو الذي ضعفه بعضهم ولم يضعفه آخرون. أما الحديث المتروك فهو ما انفرد به راوٍ مجمعٌ على ضعفه، وهنا قد يقال: أليس المتروك من أقسام الضعيف؟ A نعم. وذكره هنا من باب ذكر الخاص بعد العام. أما الشاهد: فهو أن يأتي حديث بمعنى حديث آخر دون لفظه، لكن يشهد له من جهة المعنى الذي ذكر فيه ويقويه. والشواهد قد تكون في الأحاديث الضعيفة وقد تكون أيضاً في الأحاديث الصحيحة، فمثلاً: الشافعي رحمه الله روى عن مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الشهر تسع وعشرون فلا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين). زعم بعضهم أن الشافعي تفرد به عن مالك، لكن الحديث هذا لو بحثنا عن معناه في أحاديث أخرى لوجدنا له شواهد: منها: حديث البخاري من رواية محمد بن زياد عن أبي هريرة بلفظ: (فإن غمي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين) فهذا معناه مشابه للأول فيكون شاهداً له، فإذا جاء حديث بمعنى حديث آخر فإنه يكون شاهداً له.

تعريف الحديث الحسن وذكر كيفيات السماع

تعريف الحديث الحسن وذكر كيفيات السماع ولا حسنٌ إلا سماع حديثكم مشافهةً يملى عليَّ فأنقل فما هي المصطلحات الحديثية في هذا البيت؟ الحسن والمشافهة والسماع والإملاء. الحديث الحسن: هو ما رواه الثقة الضابط لكن ليس تام الضبط؛ لأنه لو كان تام الضبط لصار الحديث صحيحاً، فما رواه ثقة ضابط ليس بتام الضبط متصلاً إلى منتهاه فهو حديث حسن. والحديث الحسن قد يكون حسناً لذاته، وقد يكون حسناً لغيره؛ وهو الذي لا يخلو رجال إسناده من مستور، لكنه ليس مغفلاً كثير الخطأ فيما يرويه، ولا هو متهماً بالكذب، فإذا جاء من وجه آخر تقوى به وصار حسناً لغيره. فالحسن لغيره هو حديث ضعيف جاء مع حديث ضعيف آخر تقوى به، فصار حديثاً حسناً لغيره، فهو أصلاً ضعيف قد ارتقى.

كيفيات السماع

كيفيات السماع أما مسألة السماع التي أشار إليها الناظم رحمه الله، فإن سماع التلميذ من الشيخ على مراتب: فأعلاها سمعت وحدثني، ثم أخبرني وقرأت عليه؛ لأن السماع من الشيخ أعلى من القراءة على الشيخ، ثم قُرئ عليه وأنا أسمع، ثم أنبأني، ثم ناولني، ثم شافهني بالإجازة، ثم كتب إليَّ، ثم عن فلان أو أن فلاناً ونحو ذلك. والحديث: ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم قولاً بأن يتلفظ به كقوله: (إنما الأعمال بالنيات) وفعلاً كلبسه المغفر والدرع وحفر الخندق، وتقريراً كصلاة خبيب عندما أراد المشركون قتله، فأقر النبي صلى الله عليه وسلم خبيباً على ذلك. وإذا قال الراوي: كنا نفعل كذا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، أو قلنا كذا بحضرته صلى الله عليه وسلم فأقرهم؛ فهذا أيضاً يكون من الحديث لكن بالتقرير، أو كان صفةً كأوصافه صلى الله عليه وسلم كنقل الراوي: أنه كان أكحل العينين، أزج الحاجبين، أبيض مشرباً بحمرة، وما شابه ذلك. وأما المشافهة: فهي تكون بالإجازة، فإن الشيخ يشافه الطالب بإجازته في رواية مروياته وأحاديثه. وأما الإملاء: فهو أن يملي الشيخ ويكتب التلميذ؛ سواء كان الشيخ يملي من حفظه، أو من أصله؛ وأصله هو كتاب الشيخ الذي عنده، وقد صحح البخاري رحمه الله في بداية طلبه وهو تلميذ لأحد شيوخه وكان يُقرأ عليه قراءة من حفظه، فتعجب الشيخ وتوقف، ثم دخل بيته واستخرج أصله فنظر فيه فإذا هو كما يقول أبو عبد الله فأذعنوا له. والإملاء أرفع من قراءة التلميذ، إذا كان الشيخ يملي من كلامه والتلميذ يكتب فهذا أعلى من كون التلميذ يقرأ من محفوظات الشيخ، أو من كتاب الشيخ والشيخ يسمع؛ لأن الشيخ يقرأ والتلميذ يسمع ويكتب فهذه أعلى ما يكون من الضبط والتحرز.

تعريف الموقوف

تعريف الموقوف وأمري موقوف عليك وليس لي على أحدٍ إلا عليك المعول س: ماذا ذكر في هذا البيت من أنواع المصطلح؟ ج: الموقوف: وهو ما قاله الصحابي أو فعله؛ سواء كان متصل السند إليه أم لا، أما إذا كان من كلام التابعي فلا يُسمى موقوفاً، لكن بعض العلماء يقول: موقوف على فلان وهو التابعي، موقوف على الحسن البصري، موقوف على مالك بن دينار، وبعض الفقهاء الخراسانيين يسمون الموقوف بالأثر. إذاً. الموقوف: هو ما أضيف إلى الصحابي من قول الصحابي أو من فعل الصحابي، سواء كان متصل السند، أو غير متصل السند.

تعريف المرفوع

تعريف المرفوع ولو كان مرفوعاً إليك لكنت لي على رغم عذالي ترق وتعدل س: ماذا ذكر هنا؟ ج: المرفوع، وهو ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول، أو فعل، أو تقرير، أو صفة؛ سواء كان هذا المضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم صحابياً أو غيره، وسواء كان هذا الإسناد متصلاً أم لا. فإذا قيل: حديث مرفوع، لا يلزم أن يكون حديثاً متصلاً، قد يكون منقطعاً ولكنه مرفوع، فالمرفوع هو ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم صحيحاً أو غير صحيح، متصلاً أو غير متصل.

تعريف الحديث المنكر وذكر مراتب التدليس

تعريف الحديث المنكر وذكر مراتب التدليس وعذل عذولي منكرٌ لا أسيغه وزور وتدليس يُرد ويُهمل س: ماذا ذكر في هذا البيت؟ ج: ذكر خمسة أقسام وهي: المنكر، التدليس، مهمل، المردود، الزور؛ وهو الكذب. فالمنكر: ما فحش غلط راويه. وقيل: ما انفرد به من لم يبلغ في الثقة والإتقان ما يُحتمل تفرده، فالمنكر: ما تفرد به غير الثقة. لو عندنا واحد ليس بثقة تفرد بحديث، لم يأتِ به غيره، فإننا نسمي هذا الحديث حديثاً منكراً، فمن فحش غلطه، أو كثرت غفلته، أو ظهر فسقه فحديثه منكر كما قال ابن حجر رحمه الله. أما إذا تفرد الثقة بحديث فيقبل إلا إن خالف الثقات فيرد، والحديث الذي خالف فيه الثقة من هو أوثق منه يُسمى شاذاً، فالتحقيق والتدقيق أن الشاذ غير المنكر: فالمنكر: ما تفرد به غير الثقة. الشاذ: ما خالف فيه الثقة من هو أوثق منه.

ذكر مراتب التدليس

ذكر مراتب التدليس المدلس: وأشار إليه بقوله: تدليس، والحديث المدلس سُمي بذلك لكون الراوي لم يسم من حدثه، فأوهم أنه سمع ممن لم يحدثه به؛ وهو أنواع: فلو أن الراوي وصف شيخه بصفة، أو سماه باسم لا يُعرف به هذا الشيخ، فهذا تدليس الشيوخ، لماذا يفعل بعض الرواة هذا؟ لماذا يسمون شيوخهم بأسماء غير معروفة وغير مشهورة؟ إما لقصد سيئ من المباهاة، وإيهام تكثير الشيوخ، فمرة يقول: أبو عبد الله المصري، ومرة يقول: محمد كذا، وهو نفسه شخص واحد، أو أن الشيخ صغير السن وهذا الراوي يأنف أن يحدث عن شيخ صغير السن، أو من هو في مثل سنه، أو من هو أصغر منه، فيأتي باسم غير مشهور أو غير معروف لهذا الشخص. أو أن الشيخ ضعيف فهذا لو ذكره باسمه، مثلاً: لو قال: حدثنا عطية العوفي، لقالوا: قف، هذا حديثك ضعيف، عطية ضعيف، لكن يسميه باسم آخر: أبو فلان كذا، فيتوهم السامع أن هذا شخص آخر ولا يخطر بباله أن هذا هو الضعيف، فقد يسميه باسم غير اسمه، أو يكنيه بغير كنيته، أو ينسبه إلى غير نسبته، أو إلى غير قبيلته، أو يذكر له صفة غير صفته، ونحو ذلك تعمية وتدليساً. وهناك تدليس الإسناد، وهو أن يروي بعض الرواة عمن لقيه وسمع منه حديثاً ليس من مسموعاته منه، فهو قد سمع منه أحاديث معينة، لكنه يروي لنا عن الشيخ هذا حديثاً لم يسمعه منه، فالناظر في السند أول ما يتوهم يقول: نعم فلان سمع من فلان، وهذا من شيوخه فإذن هذا سمعه منه، مع أنه في الحقيقة قد سمع منه أحاديث ولقيه، لكن هذا الحديث بالذات ما سمعه منه، إنما سمعه بواسطة عنه فيحذف الواسطة ويقول: عن فلان، موهماً أنه سمع منه، والتدليس لا يجوز. فيحرم عليه أن يسمع من ضعيفٍ عن الشيخ فلان فيحذف الضعيف ويقول: عن الشيخ فلان؛ وهذا لا شك أنه تدليس شنيع جداً، ولذلك قال شعبة: لأن أزني أحب إليَّ من أن أدلس؛ لأنه يوعر الطريق على العلماء لاكتشافه، ولأنه يوهم أن الحديث سنده صحيح وليس كذلك، ويُروج لهذا الحديث ويأخذ به من يأخذ منخدعاً ونحو ذلك، فالتدليس أخو الكذب. وتدليس التسوية -وهو شر أنواع التدليس على الإطلاق-: أن يروي حديثاً عن شيخه الثقة، وهذا الشيخ الثقة يرويه عن ضعيف عن شيخ آخر ثقة فيأتي المدلس فيسقط الضعيف بين الثقتين ويقول: حدثني فلان -الذي هو الثقة- عن فلان الثقة الآخر وبينهما ضعيف أسقطه هذا المدلس؛ فيصبح السند أمام الناظر سنداً جيداً ليس فيه بأس، فإذا كان هذان الثقتان قد تلاقيا فكيف تكتشفه؟ يقول: حدثني فلان وهو ثقة عن فلان ثقة وبينهما راوٍ ضعيف أسقطه هذا المدلس؛ وهذا الثقة قد سمع من الثقة الآخر وعاصره، فمن ذا الذي يكتشفه؟ فلذلك عدوا هذا شر أنواع التدليس لصعوبة اكتشافه، لكن هيأ الله للأمة من يكتشف هذا وغيره، ويكون الإسناد مستوياً في هذه الحالة أمامك، كلهم ثقات قد لقي بعضهم بعضاً وسمع بعضهم من بعض، والتدليس مذموم ومردود وهو أخو الكذب، لكن قد حفظوا لنا أمثلة عن ناس لم يدلسوا إلا عن ثقات، يُسقط راوياً ثم يكتشف العلماء أن هذا كلما أسقط راوياًَ فإن المسقط ثقة، ولا يكاد يعرف بهذا إلا سفيان بن عيينة رحمه الله، فإنه لا يدلس إلا عن ثقة، ولذلك فإن تدليسه محمول.

الفرق بين التدليس والإرسال الخفي

الفرق بين التدليس والإرسال الخفي فإن قال قائل: ما هو الفرق بين التدليس والإرسال الخفي؟ لأن هذه النقطة تُشكل وفهمها قد يصعب، ولكن أبان ذلك الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى وغيره. فالمرسل الخفي أن يروي شخصٌ عن معاصرٍ لم يلقه، شخص عاصر الراوي وجد في عصره لكن ما لقيه. فالتدليس يختص بمن روى عمن عُرف لقاؤه إياه، فإذا عاصره ولكن لم يلقه فيسمى مرسلاً خفياً. وتضمن البيت كذلك الحديث المردود، والمردود كثير: الضعيف، والمرسل، والموقوف، والمنكر، والمعضل، والمعلق؛ كلها أحاديث عند قضية الأخذ والرد تكون مردودة، فإنها ترد ولا تقبل ولا يُعمل بها. أما قوله: المهمل. فهذا من صفات الراوي، كأن يكون راوٍ يروي عن اثنين متفقين اسماً، لكن اختص بأحدهما دون الآخر، الراوي هذا اختص بالسماع من هذا الشيخ المعين الذي اسمه مشابه لشيخ آخر سمع منه الراوي لكن هو مختص بأحدهما، فهذا الذي اختص به المشهور، والآخر يقال عنه: مهمل. أما قوله: الزور: وهو الحديث المكذوب الموضوع وسيأتي.

تعريف الاتصال والانقطاع

تعريف الاتصال والانقطاع أقضي زمان فيك متصل الأسى ومنقطعاً عما به أتوصل س: فماذا تضمن هذا من أنواع الحديث؟ ج: تضمن المتصل، والمنقطع. فأما الحديث المتصل فهو الذي اتصل إسناده فكان كل واحد من رواته سمع ممن فوقه، فإذا كان متصل السند إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيسمى مرفوعاً متصلاً، وإذا اتصل إسناده إلى الصحابي فيسمى موقوفاً متصلاً، وإذا اتصل إسناده إلى التابعي فيسمى مقطوعاً متصلاً. والمنقطع غير المقطوع. أما المنقطع: فهو ما سقط من رواته غير الصحابي؛ لأنه لو سقط الصحابي لكان مرسلاً كما قلنا، أو سقط اثنان غير متواليين؛ لأنه لو كان الاثنان متواليين فيسمى معضلاً.

أقسام تحمل الحديث وتعريف الإدراج

أقسام تحمل الحديث وتعريف الإدراج وها أنا في أكفان هجرك مدرجٌ تكلفني ما لا أطيق فأحمل س: ماذا ذكر في هذا البيت؟ ج: المدرج، ومسألة في المصطلح، وهي التحمل. أما بالنسبة للمدرج: فهو ما أدرج من كلام الرواة في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، كأن يذكر الصحابي كلاماً أثناء الحديث أو بعد الحديث مباشرة، فيتوهم السامع أنه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، بينما هو تعليق صحابي على الحديث. وقد يكون الإدراج مدحاً لصاحب الفعل، قد يكون تفسيراً كما جاء في حديث البخاري: (وكان يتحنث في غار حراء الليالي ذوت العدد -وهو التعبد-) فكان الإدراج في شرح لفظة، فيتوهم من لا علم عنده أن الكل من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، والواقع خلاف ذلك. فكيف يعرف الإدراج؟ مثل حديث: (تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل) فهذه الجملة الأخيرة: (فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل) هي من كلام أبي هريرة رضي الله عنه. كيف يُعرف أن هذا إدراج؟ أولاً: أن يرويه راوٍ آخر عن الصحابي دون إدراج. ثانياً: أن ينص على أنه من كلامه. ثالثاً: أن ينص بعض الأئمة المطلعين على أنه إدراج. رابعاً: استحالة أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم هذه العبارة، كما لو قال الزهري مثلاً: وفي أيامنا كذا، أو يذكر في عهد خليفة، تعليقاً على الحديث، ويُعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يقول ذلك، وقد يكون الإدراج في أول الحديث، وقد يكون في وسط الحديث، وقد يكون في آخر الحديث وهو الأكثر. وهذا مدرج في المتن، وهناك مدرج في السند أيضاً، كأن يكون هناك شخص سمع الحديث من طريقين فيذكر أحد الطريقين فقط ويذكر المتن بجميعه على هذا السند المعين تاركاً السند الآخر، فإذا كان عند راوٍ متنان مختلفان بإسنادين مختلفين فرواهما مقتصراً على أحد الإسنادين كان هذا نوعاً من الإدراج في السند. مثلاً في أثناء السند يعرض له عارض فيقول كلاماً، فيرويه الراوي من ضمن السند، وكان بعض المحدثين يحدث فقال: حدثنا فلان عن فلان كذا فدخل واحد من طلابه من العُبّاد يلوح على وجهه نور العبادة، والطلاب يكتبون عن فلان عن فلان عن فلان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل هذا الطالب فنظر إليه الشيخ فقال: من صلى بالليل حسن وجهه بالنهار، فكتبوا ذلك، وبعض الكتبة قد يكون فيهم غفلة ولا ينتبهون، ولا ينظرون للشيخ عندما يتكلم، فعدم النظر إلى الشيخ وعدم الانتباه قد يؤدي إلى عملية الإدراج.

التحمل والأداء وشروطهما

التحمل والأداء وشروطهما أما النوع الثاني الذي ذكره المصنف رحمه الله في البيت فهو التحمل؛ تحمل العلم أو تحمل الحديث، وفيه فروع: فمثلاً: قد يسمع الصحابي حديثاً من النبي صلى الله عليه وسلم وهو لم يسلم بعد، ثم يُسلم فينقل إلينا ما سمعه حال كفره بعد إسلامه، فهل نقبله من هذا الصحابي أو نقول: أنت سمعته في حال كفرك ولا نقبله؟ الصحيح أننا نقبله؛ لأنه قد أسلم ونقل الحديث إلينا وهو صحابي، فكيف نرد كلامه وهو لا يكذب؟ فلو تحمل الحديث كافر ثم أسلم وحدثنا به في حال إسلامه قُبل، لأن الإسلام شرط للأداء لا للتحمل؟ التحمل هو سماع الكلام، والأداء أن يبلغنا الكلام، فالإسلام شرط للأداء لا للتحمل. من فروع المسألة كذلك: لو تحمل الحديث صبيٌ ثم أداه بعد البلوغ قُبل على الأصح، وقد قبلت أحاديث جماعة من صغار الصحابة رضي الله عنهم تحملوا الحديث في صغرهم كـ السبطين وعبد الله بن الزبير والنعمان بن بشير وعبد الله بن عباس وغيرهم، ولم يزل أهل الحديث يحضرون الصبيان في المجالس ثم يحدثون بما سمعوا به بعد البلوغ. فإذا قال قائل: هي يصح سماع الصبي؟ فالحق أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص، وليس هناك سن معين لأن الأفهام تختلف، والنبوغ للصبيان يختلف، فإذا كان أهلاً وحدث قبل منه.

أقسام التحمل

أقسام التحمل والتحمل أقسام من حيث الصيغ: الصيغة الأولى: السماع من لفظ الشيخ. الصيغة الثانية: من كتابه. الصيغة الثالثة: من حفظه. الصيغة الرابعة: قراءة التلميذ على الشيخ. الصيغة الخامسة: قراءة رفيقه على الشيخ وهو حاضر يسمع. الصيغة السادسة: الإجازة بأنواعها مثل: أجزتك برواية أحاديثي. الصيغة السابعة: المناولة: أن يعطي الشيخ التلميذَ شيئاً من مروياته أو من مؤلفاته، لكن لا يجيزه في روايته عنه، بل يناوله إياه مناولة. الصيغة الثامنة: الوصية بالكتابة للقارئ. الصيغة التاسعة: الوجادة. يقول: وجدت بخط الشيخ فإذا كان ثقة خبيراً بخط الشيخ يقبل منه.

تعريف المدبج وذكر رواية الأقران والأكابر عن الأصاغر

تعريف المدبج وذكر رواية الأقران والأكابر عن الأصاغر وأجريت دمعي فوق خدي مدبجاً وما هي إلا مهجتي تتحلل ما هو نوع الحديث المتعلق هنا بالمصطلح؟ المدبج: هو أن يروي قرينان كل واحد منهما عن الآخر، قرينان أي: اثنان في السن مشتركان في الطبقة، يطلبان العلم معاً، وكل واحد منهما يروي عن الآخر، هذا يسمى مدبجاً، لكن رواية الأقران أعم؛ لأن رواية الأقران أن يروي واحد عن قرينه لكن القرين لا يروي عن القرين الآخر، أي: من جهة واحدة هذه رواية الأقران. فرواية الأعمش عن التيمي والتيمي عن الأعمش مدبج، وقد يجتمع جماعة من الأقران في سلسلة كما روى أحمد عن أبي خيثمة زهير بن حرب عن ابن معين عن علي المديني عن عبد الله بن معاذ قال: (كان نساء النبي صلى الله عليه وسلم يأخذن من شعورهن حتى يكون كالوفرة) أي: الشعر المجتمع على الرأس وما جاوز شحمة الأذن هو الجمة ثم اللمة. فهذا الحديث رواه لنا هؤلاء الخمسة وكلهم أقران. أحمد بن حنبل عن أبي خيثمة بن حرب عن ابن معين عن علي بن المديني عن عبد الله بن معاذ. ومن المستظرفات في هذا الباب: أن محمد بن سيرين روى عن أخيه يحيى بن سيرين عن أخيه أنس بن سيرين، ثلاثة إخوة يروون عن بعض، فقد وقع في هذا السند ثلاثة من التابعين كلهم إخوة. أما رواية الأكابر عن الأصاغر فهي أن يروي الشيخ عن تلميذه حديثاً ليس عند الشيخ؛ وهذا يحدث كثيراً عندما يكون التلميذ جوالاً في الآفاق، يجمع الأحاديث ثم يأتي إلى الشيخ ويسمع من الشيخ، ثم يقول للشيخ حديثاً ليس عند الشيخ، الشيخ يحدث عن التلميذ بعض الأحاديث.

المتفق والمفترق

المتفق والمفترق فمتفقٌ جفني وسهدي وعبرتي ومفترقٌ صبري وقلبي المبلبل س: ماذا ذكر في هذا البيت؟ ج: هذا نوع من المصطلح يسمى بالمتفق والمفترق، ألف فيه الخطيب البغدادي مصنفاً. ما المقصود بالمتفق والمفترق؟ المقصود بالمتفق والمفترق: ما اتفق لفظه وخطه وافترقت أشخاصه، نفس الحروف، نفس الكلمات لكن الأشخاص مختلفون؛ وهذا أقسام وأنواع، والمتفق والمفترق مبحث متعلق بالرواة، أن تتفق أسماؤهم وأسماء آبائهم، وعندنا مجموعة من الرواة أسماؤهم واحدة وأسماء آبائهم واحدة، كـ الخليل بن أحمد؛ فهناك ستة أشخاص مشهورين بالرواية في الأحاديث، منهم: الخليل بن أحمد الفراهيدي الأزدي البصري النحوي صاحب العروض المشهور، ومنهم: الخليل بن أحمد المزني، ومنهم: الخليل بن أحمد السجزي، ومنهم: الخليل بن أحمد المهلبي، فأنت ترى أن أسماء هؤلاء الرواة وأسماء آبائهم متفقة، مفترقون بالأشخاص. وقد تتفق أسماؤهم وأسماء آبائهم وأجدادهم؛ وهذا طبعاً أقل مثل: أحمد بن جعفر بن حمدان هناك أحمد بن جعفر بن حمدان البغدادي وأحمد بن جعفر بن حمدان البصري. قد يتفقان في الكنية والنسبة معاً، مثل: عبد الملك بن حبيب، وموسى بن سهل بن عبد الحميد اتفقوا في الكنية فكل منهما كنيته أبو عمران، واتفقا أيضاً بالنسبة فكلاهما بصري، فإذا قلت: أبو عمران البصري فيحتمل أنه عبد الملك بن حبيب التابعي المشهور، ويحتمل أنه موسى بن سهل بن عبد الحميد، فهنا لا بد من النظر لتعيين من هو منهما في السند، وقد يتفق الاسم واسم الأب والنسبة، وقد يحدث أن تتفق الكنى وأسماء الآباء كأبي بكر بن عياش، فأبو بكر بن عياش اثنان: أبو بكر بن عياش بن سالم الأسدي الكوفي وأبو بكر بن عياش الحمصي، وهكذا من أنواع الاتفاقات، لكنهم أشخاص متفترقة.

المؤتلف والمختلف

المؤتلف والمختلف ومؤتلف وجدي وشجوي ولوعتي ومختلف حظي وما منك آمل س: ماذا ذكر هنا؟ ج: المؤتلف والمختلف نوع من أنواع الحديث، مثل: أن تتفق الأسماء خطاً وتختلف نطقاً. قد يكون المرجع في الاختلاف النقط مثل: الباء والنون، وقد يكون الشكل مثل: الضم والكسر والفتح، فمثلاً: قد يوجد -وخصوصاً قبل النقط- تشابه كبير، فمثلاً: سلاَّم وسلام، حزام وحرام، العنسي والعبسي، عثّام وغنّام؛ فهذه كلها في أبواب المؤتلف والمختلف، فهي من جهة الخط واحدة، خصوصاً قبل وضع النقط، ولكنها مختلفة من ناحية النطق.

تعريف المسند والمعنعن والموضوع

تعريف المسند والمعنعن والموضوع خذ الوجد عني مسنداً ومعنعناً فغيري بموضوع الهوى يتحلل س: ماذا ذكر هنا؟ ج: ذكر المسند، والمعنعن، والموضوع. فالمسند: هو الحديث المرفوع الذي رفعه الصحابي بسند ظاهره الاتصال، فالمرسل لا يمكن أن يكون مسنداً، والموقوف لا يمكن أن يكون مسنداً، ولا المعضل ولا المعلق. فالمسند مرفوع الصحابي بسند ظاهره الاتصال، وقد يكون في الباطن غير متصل، فإذا قيل مثلاً: ألف فلان المسند، فاعلم أن الأحاديث الموجودة فيه من هذا الباب، ويشمل ذلك ما فيه علة خفية أو انقطاع غير ظاهر وما في سنده رجل ضعيف. أما المعنعن: فهو ما رواه الراوي بالعنعنة كأن قال: عن فلان، و (أنّ) كـ (عن) في الحكم. وإذا كان الراوي مدلساً فهل تُقبل عنعنته؟ كلا. ثم النوع الثالث: وهو الموضوع: فهو الحديث المكذوب المختلق على الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد مر بلفظ الزور، ولا يجوز ذكره إلا على سبيل التحذير منه.

علامات الوضع في الحديث

علامات الوضع في الحديث ويُعرف الوضع بأشياء كثيرة ذكرها ابن القيم رحمه الله وغيره من أهل العلم: منها: ركاكة اللفظ. ومنها: ذكر الأجور العظيمة المستغربة. ومنها: ما يعترف به واضعه. وقال سفيان رحمه الله: ما ستر الله أحداً بكذبٍ في الحديث. وقال عبد الرحمن بن مهدي: لو أن رجلاً هم أن يكذب في الحديث لأسقطه الله. وقال عبد الله بن المبارك: لو هم رجل في السحر -أي: قبيل الفجر- أن يكذب في الحديث لأصبح والناس يقولون: فلان كذاب. وقيل له: هذه الأحاديث الموضوعة ماذا نفعل بالأحاديث الموضوعة؟ قال: تعيش لها الجهابذة: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]. وبما أن السنة شرح للقرآن فحفظ القرآن يقتضي حفظ السنة، ولذلك هيأ الله من أفذاذ الأمة من قام بالواجب، نقح وصحح وبين وكشف الكذب وهكذا. قال ابن الجوزي رحمه الله: كل حديث ناقض الأصول، وخالف المنقول، وباين المعقول؛ فهو مردود. وكانوا يقولون: لكلام النبوة نور يدركه كل إمامٍ محدث.

أصناف الوضاعين

أصناف الوضاعين ثم إن الواضعين أصناف: فمنهم الزنادقة الذين وضعوا الأحاديث لإضلال الناس كما روى بعضهم: (إن الله لما أراد أن يخلق نفسه أجرى الخيل فعرقت فخلق نفسه) فهذا الوضاع زنديق يريد بهذا الحديث الذي اختلقه العيب والذم لذات الله عز وجل، فضرب عنقه محمد بن سليمان بن علي وبيان بن سمعان الآخر قتله خالد القسري. وجاء عن حماد بن زيد أنه قال: وضعت الزنادقة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة عشر ألف حديثٍ، ومنهم من وضعه انتصاراً لمذهبه كـ الرافضة وغيرهم، ومنهم من وضعه إرضاء للأمراء كما فعل غياث بن إبراهيم روى للمهدي حديث: (لا سبق إلا في نصل، أو خفٍ، أو حافر). هذا الحديث، ثم زاد فيه: (أو جناح) لما رأى المهدي يحب اللعب بالحمام دخل عليه وأعطاه الحديث وقال له: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا سبْق إلا في نصل -التي هي السهام- أو خفٍ -وهو سباق الجمال- أو حافر -الخيل) وهذه التي يجوز فيها المسابقات وبالجوائز، ولما كان المهدي يلعب بالحمام ويحب اللعب بالحمام قال: (أو جناح) حتى يبيح له المسابقة في الحمام.

ذكر معنى الإبهام في الحديث وبيان معنى الاعتبار

ذكر معنى الإبهام في الحديث وبيان معنى الاعتبار وذي نبذٌ من مبهم الحب فاعتبر وغامضه إن رمت شرحاً أطول س: ماذا ذكر في هذا؟ ج: ذكر المبهم، والغامض، والاعتبار. والمبهم هو الراوي الذي لا يسمى كقول الراوي: أخبرني رجل، حدثني شيخ، حدثني فلان، دون أن يذكر اسمه؛ فهذا لا يُقبل حتى يُسمى لأن من شروط القبول العدالة، وإذا لم نعرف من هو الشخص، فكيف نعرف هل هو عدل أم لا؟ ولو أبهمه بلفظ التعديل: كأن قال: أخبرني الثقة لم يُقبل، لأنه قد يكون ثقة عنده ليس بثقة عند غيره، إلا إذا عرفنا أنه لا يقول أخبرني الثقة إلا وهو يريد به شخصاً معيناً، مثلاً: الشافعي لا يقول: أخبرني الثقة إلا إذا كان الثقة هذا هو أحمد، ويعرف هذا بالتجربة وبالخبرة وبكلام الأئمة فإذا نصوا على ذلك كانت هذه حالة خاصة. وكذلك لو أبهم الصحابي في أي سند؛ مثلاً التابعي الثقة قال: حدثني رجل من الصحابة، فلا يضُر ولا يهُم؛ لأن الصحابة كلهم عدول. أما الاعتبار فهو أن يُنظر هل الراوي تُوبع على روايته أم لا فإذا روى حماد بن سلمة -مثلاً- حديثاً لم يتابع عليه عن أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة فنظرنا هل رواه ثقة آخر عن أيوب عن ابن سيرين غير حماد بن سلمة، فهذه العملية (عملية النظر هل روى عن شيخ الراوي راوٍ آخر) هي عملية الاعتبار، ثم إذا لم نجد ننتقل للشيخ الذي بعده، هل وجد أحد روى الحديث عن ابن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا لم نجد عن ابن سيرين ننظر هل هناك أحد آخر روى الحديث عن أبي هريرة غير هؤلاء، فهذه عملية الاعتبار. أما الغامض: فهو الألفاظ المشكلة التي يخفى معناها فتحتاج إلى شرح لبيان الغريب والمشكل، ومن أحسن ما صُنف في هذا الباب كتاب: النهاية لـ ابن الأثير رحمه الله.

تعريف العزيز والمشهور

تعريف العزيز والمشهور عزيز بكم صبٌ ذليل لعزكم ومشهور أوصاف المحب التذلل س: ماذا انطوى عليه هذا البيت؟ ج: العزيز، المشهور. أما بالنسبة للعزيز: فهو ألا يرويه أقل من اثنين عن اثنين عن اثنين إلى منتهاه، وسمي عزيزاً إما لأنه عز برواية هذا وهذا فقوي، أو لأنه نادر أن يكون بهذه الطريقة أي: لا يرويه أقل من اثنين عن اثنين إلى منتهاه، في كل طبقة من طبقات السند يوجد اثنان فأكثر. أما المشهور: فهو ما رواه أكثر من اثنين، وسمي بذلك لوضوحه. وبعضهم يقول: إنه المستفيض من فاض الماء، وسمي بذلك لانتشاره. وبعضهم يقول: إن المشهور ما زادت رواته عن ثلاثة. ولا يشترط في الحديث الصحيح أن يكون مشهوراً ولا عزيزاً، فقد يكون الحديث الصحيح غريباً فرداً، خلافاً لمن يشترط أن يكون في كل طبقة من طبقات السند اثنان فأكثر، فتسقط أحاديث كثيرة جداً، ونحن عندنا حديث: (إنما الأعمال بالنيات). رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم صحابي واحد فقط وهو عمر بن الخطاب، ما عرفنا الحديث إلا من طريق عمر، ورواه عن عمر بن الخطاب تابعي واحد فقط؛ وهو علقمة بن وقاص الليثي، وما رواه عن علقمة إلا واحد وهو محمد بن إبراهيم التيمي. ولم يروه عن محمد بن إبراهيم التيمي إلا يحيى بن سعيد الأنصاري، ومن يحيى بن سعيد الأنصاري انتشر الحديث، حتى إنه يقال: إنه سمعه منه مائتي شخص، لكن الحديث بصحابيه ومن بعده ومن بعده ومن بعده واحد واحد واحد واحد في طبقات السند، ومع ذلك فالحديث صحيح، فالحديث الغريب إذا كان رواته ثقات صحيح مقبول.

تعريف الغريب

تعريف الغريب غريب يقاسي البعد عنكم وما له وحقك عن دار القلى متحول وذكر في هذا البيت الغريب، وهو ما انفرد بروايته شخص واحد في أي موضع وقع التفرد به من السند، فهذا هو الغريب. السفاريني رحمه الله قال: إن المتحول هنا يمكن أن يقصد بها التحويل الذي في السند، التي تكتب أحياناً (ح) أي: تحويلة، وتعني: انتقال الراوي من سند إلى سند آخر، يلتقي بعد ذلك مع هذا السند وقد لا يلتقي ويكون الإسنادان منفصلين. يقول: إنني لم أر فيمن شرح من قبل القصيدة ذكر هذا، لكن يُحتمل أنه أراد الإشارة إلى التحويل الذي في السند.

تعريف المقطوع

تعريف المقطوع فرفقاً بمقطوع الوسائل ما له إليك سبيل لا ولا عنك معدل س: ماذا أورد هنا؟ ج: المقطوع، وهو ما أضيف إلى التابعي من قول أو فعل، وجمعه مقاطيع، ما ينتهي إلى التابعي وحتى من دونه من أتباع التابعين يسمى مقطوعاً؛ وهذا غير المنقطع بطبيعة الحال.

العالي والنازل من الأسانيد

العالي والنازل من الأسانيد فلا زلت في عزٍ منيعٍ ورفعة ولا زلت تعلو بالتجني فأنزل س: ماذا ذكر هنا؟ ج: العالي والنازل من فنون المصطلح، والسند العالي لا شك أنه نعمة إذا كان صحيحاً، والسند العالي ما قلت فيه الوسائط، وإذا كان بين صاحب الكتاب والنبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة كان ذلك أشرف من أن يكون بينهما أربعة، وأشرف من أن يكون خمسة وهكذا، وكلما قلّ الرجال في السند تقل مئونة البحث فيه وفي ضعفه، واحتمالات الخطأ فيه، فهذا العالي والنازل. فالإسناد العالي يعتبر محموداً إذا كان نظيفاً من المجروحين، وقد أحسن ابن ناصر الدين الدمشقي رحمه الله لما قال: إذا أحببت تخريج العوالي على الراوين حقق ما أقول نزول عن ثقاتهم علوٌ علوٌ من ضعافهم نزول فإذا ذهبت تروي الإسناد العالي عن طريق ضعفاء ففي الحقيقة أنت ما علوت، وإنما نزلت. والمقصود بالعلو: العلو إلى النبي صلى الله عليه وسلم في السند؛ فالراوي مثلاً يذهب إلى شيخ شيخه ويسمع منه لكي يعلو إسناده، وقد يكون العلو إلى إمام مشهور، أو إلى كتاب من الكتب الستة، ولا شك أن أفضلها في العلو العلو للنبي صلى الله عليه وسلم.

المقصود بقصيدة ابن فرح

المقصود بقصيدة ابن فرح أوري بسعدى والرباب وزينب وأنت الذي تُعنى وأنت المؤمل يقول الناظم: إنني استخدمت التورية وأتيت بأبيات ظاهرها الغزل، أو ذكر الحب ونحو ذلك، وما يُذكر في أشعار الغزل من سعدى والرباب وزينب وليلى ولبنى وعزة وبثينة ونحو ذلك، ولكنني أقصد شيئاً آخر، قال: فخذ أولاً من آخر ثم أولاً من النصف منه فهو فيه مكمل هذا لغز حله في البيت الذي بعده: أبرُّ إذا أقسمت أني بحبه أهيمُ وقلبي بالصبابة مشعل فما هو حل اللغز؟ فهو يلغز إلى كلمة واحدة؛ والكلمة هذه علم على شخص. لأنه في البيت الأخير قال: أبر إذا أقسمت أني بحبه أهيم وقلبي بالصبابة مشعل وكان قد قال قبلها: فخذ أولاً من آخر أي: خذ أول كلمة من آخر بيت، وما هي أول كلمة من آخر بيت: (أبر) ثم أولاً من النصف التي هي كلمة (أهيم). منه فهو فيه مكمل فهذه الكلمة هي (إبراهيم). وبهذا نكون قد انتهينا من المرور على منظومة ابن فرح الإشبيلي بشرح العلامة السفاريني رحمه الله تعالى.

ترجمة ابن فرح ناظم القصيدة والسفاريني شارحها:

ترجمة ابن فرح ناظم القصيدة والسفاريني شارحها: أما بالنسبة لناظم هذه القصيدة فهو شهاب الدين أبو العباس أحمد بن فرح بن أحمد بن محمد بن فرح اللخمي الإشبيلي الحافظ المحدث الفقيه الشافعي المولود سنة 624هـ بـ أشبيلية وهو نزيل دمشق، وقد أسره الفرنج سنة (646هـ) ثم نجاه الله تعالى وحج، وسمع بـ مصر من شيخ الشيوخ عبد العزيز الأنصاري وابن عبد السلام وطبقتهما ثم استوطن في دمشق، وسمع من ابن عبد الدائم والكرماني وخلق سواهم، وسمع منه قصيدة (غرامي صحيح) -وهي التي ذكرنها- الدمياطي واليونيني والبرزالي، وهو من كبار الحفاظ، وكان له حلقة في جامع دمشق، وعرضت عليه مشيخة دار الحديث النورية، فامتنع ولعل ذلك تواضع منه رحمه الله تعالى، وله هذه المنظومة وشرح الأربعين النووية ومختصر خلافيات البيهقي، لأن البيهقي جمع المسائل الخلافية بين الحنفية والشافعية فاختصر الكتاب ابن فرح الأشبيلي رحمه الله، وعاش خمساً وسبعين سنة وتوفي في منزله بتربة أم الصالح مبطوناً؛ أي: بداء البطن، سنة (699هـ)، وهي سنة قازان التي أخذ فيها التتار بلاد الشام، ومات في هذه السنة خلق كثير من أهل العلم رحمه الله وشيعه جمٌ غفير. نظم هذه القصيدة، وشرحها بعض أهل العلم منهم: الإمام عز الدين محمد بن أحمد بن جماعة وسماه: زوال الترح بشرح منظومة ابن فرح، وكذلك شرحها يحيى بن عبد الرحمن القرافي، وأول الشرح: الحمد لله الذي قبل بصحيح النية إلى آخره، وشرحها العلامة السفاريني رحمه الله، فمن هو هذا العلامة؟ وأين عاش؟ وفي أي زمن؟ لأن له مؤلفات مشهورة وموجودة. &

ترجمة السفاريني ونبذة عن حياته

ترجمة السفاريني ونبذة عن حياته أما بالنسبة لهذا العلامة فإنه سمي بـ السفاريني نسبة إلى سفارين وهي من أعمال بلدة نابلس في فلسطين فك الله أسرها من أيدي اليهود، فبلدة السفاريني قريبة من نابلس التي بأيدي اليهود اليوم، وكان الوقت الذي عاش فيه السفاريني رحمه الله في القرن الثاني عشر، فهو من العلماء المتأخرين نسبياً في بلاد الشام من عام (1114هـ) إلى عام (1188هـ) وكان العثمانيون يحكمون في تلك الفترة بلاد الشام، ولكن كانت فترة ضعف في الخلافة العثمانية، فقد تآلبت عليها دول أوروبا، وانتزعت منها كثيراً من ممتلكاتها والبلدان التي كانت تحت حكمها، واشتغل كثيرٌ من سلاطينها في أواخر عمرها باللهو والعبث، حتى حكّم بعضهم شريعة غير شريعة الله، واستورد القوانين وأخذ بها دون القوانين الإسلامية. فالمهم أنه صار الوضع في آخر الدولة العثمانية حال استبداد وفوضى، وخرج عليها كثير من الولاة، وتكونت دويلات مستبدة وضعيفة، وعم السلب والنهب وفقد الأمن. يقول العلامة محمد كرد علي مؤرخ الشام متحدثاً عن حالة الشام في القرن الثاني عشر: وسكان هذا القُطر -أي: بلاد الشام - كسائر الأقطار العثمانية لا عمل لهم إلا إرضاء شهوات حكامهم، فلم يحدث شيء مما يقال له الإصلاح؛ لأن أحداً لم يأخذ بأسبابه ولا توسل بطرقه، فصار التخلف والاستبداد وإرهاق الرعية بالضرائب والإتاوات، وعم الفقر والبؤس. ولما عمت الإتاوات والضرائب والفقر والبؤس كان من دور الشيخ السفاريني مقاومة ذلك، فكان محارباً للظلم والطغيان، ومما يذكر من شجاعته أنه قال لأمير نابلس لما تولى بعد أبيه الأمير، وجاء أهل العلم لتهنئته وطلبوا منه إلغاء الضرائب الزائدة عن الزكاة الشرعية؛ لأن المزارعين لا يشبعون من غلة أراضيهم لكثرة الضرائب، فقال الأمير: لا أغير شيئاً مما كان عليه والدي المرحوم، فقال له الشيخ السفاريني: وما أدراك أنه مرحوم؟ أزل الضرائب والناس يدعون لك، فاستجاب له وأزال كثيراً من الضرائب، وأخذوا منه كتابة لإزالة الضرائب، ودعوا له بالتوفيق. أما بالنسبة للحالة الدينية في ذلك الوقت فإن الجمود والانحطاط أثر بلا شك في الحالة العلمية فمثلاً: انتشار التصوف وظهور البدع والخرافات كان واضحاً في ذلك العصر، حتى قال الكاتب الأمريكي لوثرب استيوارت في كتابه: حاضر العالم الإسلامي، فيقول عن هذه الفترة: وأما الدين فقد غشيته غاشية سوداء، فألبست الوحدانية التي علمها صاحب الرسالة للناس -وهو النبي صلى الله عليه وسلم- سجفاً من الخرافات وقشور الصوفية، وخلت المساجد من أرباب الصلوات، وكثر عدد الأدعياء الجهلاء، وطوائف الفقراء والمساكين يخرجون من مكان إلى مكان يحملون في أعناقهم التمائم والتعاويذ والسبحات، ويوهمون الناس بالباطل والشبهات، ويرغبونهم بالحج إلى قبور الأولياء، ويزينون للناس التماس الشفاعة من دفناء القبور وغابت عن الناس فضائل القرآن إلى آخر كلامه. السفاريني رحمه الله في كتابه غذاء الألباب نقل صوراً مخزية عن الحال التي كانت في عصره، وكذلك ابن مفلح من أهل زمانهم أيضاً قال: فما بالك بعصرنا هذا الذي نحن فيه -وكان طبعاً في المائة الثانية عشرة من الهجرة- وقد انطمست معالم الدين وطفئت إلا من بقايا حفظت الدين، فصارت السنة بدعة والبدعة شرعة، والعبادة عادة والعادة عبادة، فعالمهم عاكف على شهواته، وحاكمهم متمادٍ في غفلاته، وغنيهم لا رأفة عنده ولا رحمة بالمساكين، وفقيرهم متكبر وغنيهم متجبر. ثم حكى عن الصوفية الذين في عصره فقال: فلو رأيت جموع صوفية زماننا وقد أوقدوا النيران وأحضروا آلات المعازف كالدفوف المجلجلة والطبول والنايات والشبابات -وهي جمع شبَّابة وهو نوع من المزامير- وقاموا على أقدامهم يرقصون ويتمايلون لقضيت بأنهم فرقة من بقية أصحاب السامري، وهم على عبادة عجلهم يعكفون، أو حضرت مجمعاً وقد حضره العلماء بعمائمهم الكبار، والفراء المثمنة، والهيئات المستحسنة، ينشدون الأشعار المهيجة في وصف الخدود والنهود والقدود، وقد أرخى القوم رءوسهم ونكسوها، واستمعوا للنغمة واستأنسوها، لقلت وهم لذلك مطرقون: مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ، فإنا لله وإنا إليه راجعون. في خضم هذا الفساد الاعتقادي والابتعاد عن الكتاب والسنة، نشأ وحمل لواء الإصلاح أئمة في ذلك الوقت، منهم الشيخ محمد السفاريني رحمه الله في بلاد الشام، ولا شك أن تآليف الشيخ في العقيدة تدل على أنه كان سلفياً في الجملة، كما في كتابه: لوائح الأنوار السنية ولواقح الأفكار السنية في شرح قصيدة أبي داود الحائية، وكذلك كتابه: لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية لشرح الدرة المضية في عقيدة الفرقة المرضية. وكذلك كتابه: البحور الزاخرة في علوم الآخرة، فإنه يظهر منها في الجملة أن الرجل كان سلفي المعتقد، والعصر الذي وجد فيه كان عصر جمود وعدم ابتكار، وحتى لو كان هناك مؤلفات فكثير منها حواشٍ على مؤلفات قديمة، أو اختصارات، أو جمع، أما من جهة التأليف المبتكر الذي يدل على اجتهاد أو قوة علم وعمق فنادراً ما كنت تجده في مؤلفات ذلك الوقت، لكن كما قلنا وجد أئمة كبار مثل الشيخ محمد حياة السندي رحمه الله، ومن محدثي ذلك الزمان، وكان من شيوخ السفاريني رحمه الله. وقال السفاريني في كتابه: شرح ثلاثيات مسند أحمد، فيقول عن الحالة العلمية في عصره: لم يبق من آثار ذهاب البيان إلا حكايات تتزين بها الطروس ككان وكان، والعلم قد أفلت شموسه، وتقوضت محافله ودروسه، وربعه المأهول أمسى خالياً، وواديه المأنوس أضحى موحشاً داوياً، وغصنه الرطيب غدا ذاوياً، وبرده القشيب صار بالياً، فالعالم الآن قلت مضاربه، وضاقت مطالبه، وسدت مذاهبه، فليس له في هذا الزمان إلا التجاء إلى عالم السر والإعلان، هذا بالنسبة للحالة التي كان موجوداً فيها السفاريني رحمه الله تعالى. أما اسمه: فهو محمد بن أحمد بن سالم بن سليمان السفاريني أبو العون شمس الدين، ونسبته إلى سفارين، قال مرتضى الزبيدي: وهي كجبارين أي: في النطق، قرية من قرى نابلس؛ ونابلس بضم الباء والميم كما قلنا وكما ضبطها السمعاني في كتابه: الأنساب، وهي البلدة المعروفة في جنوب شرق طولكرم بـ فلسطين على مسافة عشرين كيلو متر، وينسب إليها العالم محمد السفاريني رحمه الله. مولده كما قلنا: سنة (1114هـ)، وأسرته قيل: إنها كانت من الحجاز حيث نزح بعض أفرادها وسكنوا طولكرم ويافا، ومنهم الشيخ سعيد بن أسعد السفاريني كان إماماً في المذهب الحنبلي. وللشيخ محمد الذي نحن بصدده ابنان من أبنائه يوسف ومصطفى، ومن أحفاده عبد الرحمن بن يوسف وعبد القادر بن مصطفى، وكانا من أهل العلم. وأما بالنسبة لسيرته رحمه الله: فإنه كان عالماً جليلاً جميلاً صاحب سمت ووقار ومهابة واعتبار، جمع بين الإمامة والفقه، والديانة والصيانة، والصدق وحُسن السمت والخلق، والتعبد وطول الصمت عما لا يعنيه، وكان محمود السيرة نافذ الكلمة رفيع المنزلة سخي النفس، كريماً بما يملك مهاباً معظماً، وكان كثير العبادة ملازماً على قيام الليل يحث الناس عليه، وكانت مجالسه لا تخلو من فائدة، ويشغل جميع أوقاته بالإفادة والاستفادة، يطرح المسائل على الطلاب والأقران، ويدير بينهم المحاورة، وكان صادعاً بالحق لا يبالي فيه جميع أعيان البلد، وكان أمراؤها يهابونه، كان آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، ناصراً للسنة، قامعاً للبدعة، خيراً جواداً. ومع حرصه على الكتب العلمية وجمعه كثيراً منها كان يقول من تواضعه: أنا فقير للكتب العلمية، وكل ما يدخل في يده من الدنيا ينفقه، وعاش مدة عمره في بلده عزيزاً موقراً محتشماً، كانت وفاته رحمه الله سنة (1188هـ)، قال الجبرتي في تاريخه؛ وتاريخ الجبرتي من التواريخ المهمة في العصور المتأخرة، وهذا التاريخ مهم وجيد، ومن نوادر الذين أرخوا تاريخاً فيه نزاهة وعدل في الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله الجبرتي رحمه الله، قال الجبرتي عن الشيخ السفاريني: لا يزال يملي ويفيد ويجيز من سنة (1148هـ) إلى أن توفي يوم الاثنين الثامن من شوال من هذه السنة بـ نابلس وجهز وصلي عليه بالجامع الكبير، ودفن بالمقبرة الزراكينية وكثر الأسف عليه. ولا شك أن هذا الرجل ما دام بلغ هذا المبلغ من العلم فلا بد أن يكون في أول أمره حريصاً عليه من السن المبكرة، فهو قد قال: وقد منّ الله علي بقراءة القرآن سنة (1131هـ) فانتهى منه حفظاً واشتغل بالعلم، ورحل إلى دمشق في سنة (1133هـ) ومكث خمس سنين يأخذ عن علمائها، ورزقه الله قوة حفظ وملكة في الاستيعاب، ولذلك فقد استوعب علوماً كثيرة وأخذ عن مشايخ كبار وعلماء وأجازه غير واحد، فلما صار عمره تسع عشرة سنة كان قد فقه وأتقن مسائل المذهب يذاكر بها شيوخه، حتى قال عن شيخه عبد القادر التغلبي: ذاكرته في عدة مباحث من شرحه على الدليل؛ وهو دليل الطال

التفريح بذكر التسبيح

التفريح بذكر التسبيح التسبيح له فضل عظيم وأجر كبير، ويدلك على ذلك أن الله أمرنا به في الصلاة وفي غيرها، بل ورتب عليه أجراً كثيراً، وقد ذكر الشيخ المواطن التي يجب ويستحب فيها التسبيح، كما تحدث عن التسبيح الجماعي وذكر بدعيته مستدلاً على ذلك.

مقدمة عن التسبيح

مقدمة عن التسبيح الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد: فحديثنا في هذه الليلة -أيها الإخوة- بعنوان: التفريح بذكر التسبيح. التسبيح عبادةٌ عظيمة لله سبحانه وتعالى، نسبح الله تعالى بكرةً وأصيلاً، نسبح الله في الصباح والمساء، نسبح الله في الصلوات؛ في ركوعنا وسجودنا، نسبح الله في افتتاحنا لصلواتنا. هذه العبادة ما معناها؟ ما هي المواضع التي يذكر فيها التسبيح؟ وما فضل التسبيح؟ إلى أمورٍ أخرى نتعرف عليها بمشيئة الله تعالى في مرورنا على هذه العبادة العظيمة من الأذكار التي يذكر بها المسلم ربه.

معاني التسبيح

معاني التسبيح أما معناه أيها الإخوة! فإن التسبيح: هو التنزيه فإذا سبحت الله أي: نزهته عن جميع النقائص والعيوب تسبح الله سبحانه وتعالى، أي: أن تبرئ ربك من كل عيب، وأن تشهد له بالكمال، وإذا حمدته فأنت تثني عليه، فيكتمل التسبيح بالتحميد، تمجيد الله عز وجل، لأنك تثبت له الكمال من جهة، وتنفي عنه النقص من جهةٍ أخرى، ولذلك كان من أعظم الأذكار: سبحان الله وبحمده: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم:17]. وقد يكون التسبيح بمعنى الصلاة كما أنه قد جاء في صلاة السبحة (سبحة الضحى) وهي: النافلة تسمى بالتسبيح، لأنها تشتمل على التسبيح، وكذلك فإن هذا التسبيح هو من رءوس الأذكار، فإن ذكر الله تعالى منه ما يكون تسبيحاً، ومنه ما يكون تهليلاً، ومنه ما يكون تحميداً منه ما يكون تكبيراً، وكل هذا من أنواع الثناء على الله عز وجل، والتسبيح تبريكٌ وتقديسٌ وتطهيرٌ، والتسبيح من حكمته استحضار العبد عظمة الخالق، ليمتلئ قلبه هيبةً فيخشع له سبحانه وتعالى، هذا التسبيح مطلوبٌ عقله بالقلب والتفكر فيه، وأننا إذا قلنا سبحان الله، فإن هذه ليست كلمة تقال باللسان دون أن نعرف معناها، بل نستحضر المعنى إذا عرفناها، إن التسبيح عبادةٌ لو كانت على طهارة فهي طيبة، ويجوز أن تكون على غير طهارةٍ قائماً وقاعداً ومضطجعاً: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران:191]. التسبيح داخل في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه) وسواء كان تسبيحاً أو غيره، ويندب للمسلم أن يسبح الله سبحانه وتعالى بصوتٍ خافت على وجه العموم: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} [الإسراء:110] {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ} [الأعراف:205]. وأما دبر الصلوات فقد ذهب عددٌ من أهل العلم إلى مشروعية الجهر به؛ لأن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قد أخبر أن الجهر بالذكر عقب المكتوبة كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا التسبيح إذا عقله الإنسان، فإنه يعقل أموراً كثيرةً منها:

بعض المخلوقات التي تسبح الله

بعض المخلوقات التي تسبح الله أن يعرف أنه ليس مختصاً بهذا الذكر، فإن هناك مخلوقات تسبح الله سبحانه وتعالى، ألم يأتك خبر تسبيح الملائكة، لقد روى الإمام مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه: عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (أخبرني رجلٌ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار؛ بينما هم جلوس ليلةً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رمي بنجمٍ فاستنار، -أضاء النجم في السماء لما رمي به- فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماذا كنتم تقولون في الجاهلية إذا رمي بمثل هذا؟ قالوا: كنا نقول: ولد الليلة رجلٌ عظيم، ومات رجلٌ عظيم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإنها لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته، ولكن ربنا تبارك وتعالى اسمه إذا قضى أمراً سبح حملة العرش، ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم، حتى يبلغ التسبيح أهل هذه السماء الدنيا، ثم قال الذين يلون حملة العرش لحملة العرش: ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم ماذا قال، قال: فيستخبر بعض أهل السماوات بعضاً حتى يبلغ الخبر هذه السماء الدنيا) كلما أمر سبحانه بأمرٍ سبحت الملائكة على طبقاتها؛ حملة العرش ويليهم أهل السماوات السبع، حتى ينتهي التسبيح إلى الملائكة الذين في السماء الدنيا، إن السماوات ممتلئة بالملائكة ليس فيها موضع شبرٍ أو أربع أصابع إلا وفيه ملكٌ قائم راكعٌ أو ساجد (أطت السماء وحق لها أن تئط) لقد اهتزت واضطربت بعبادة الملائكة فيها، فهؤلاء الملائكة يسبحون الله سبحانه وتعالى. - وكذلك الجبال والطير تسبح، وقد أخبر الله سبحانه وتعالى بقوله عز وجل: {وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور:41] {وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44] فهي تسبح الله عز وجل وقال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء:44] كل شيءٍ حتى الجمادات تسبح بحمد الله تعالى، وهذه الجبال لما كان داود عليه السلام يقرأ في الزبور ما تملك الجبال إلا أن تسبح معه من جمال صوته عليه السلام، ولذلك قال المفسرون في قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} [سبأ:10] قال مجاهد: [سبحي معه]. ومن الجمادات التي سبحت: الطعام بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم؛ كما جاء في الحديث الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (كنا نعد الأيادي بركة وأنتم تعدونها تخوفيا، كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فقل الماء فقال: اطلبوا فضلة من ماء، فجاءوا بإناءٍ فيه ماءٌ قليلٌ فأدخل يده في الإناء، ثم قال: حيّ على الطهور المبارك، والبركة من الله) فلذلك لا يجوز أن يقال: بارك لنا يا فلان، أو تباركت علينا يا فلان، مصدر البركة من الله وليست من المخلوق، والله يبارك من خلقه ما يشاء، فجعل النبي مباركاً، وجعل ماء زمزم مباركاً، ويجعل البركة فيما يشاء سبحانه وتعالى. وقال ابن مسعود: (فلقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل بين يدي النبي صلى الله عليه وسل) فالصحابة كان يسمعون بآذانهم تسبيح الطعام وهو يؤكل بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم. وأكرم وأعظم تسبيح هو تسبيح أهل الجنة. أهل الجنة يسبحون الله عز وجل، وتسبيحهم لله سبحانه وتعالى ليس بتعبٍ ولا بنصب؛ لأنهم يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس كما قال عليه الصلاة والسلام: ((إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون، ولا يتفلون ولا يبولون، ولا يتغوطون ولا يمتخطون، قالوا: فما بال الطعام؟ أين يذهب إذا أكله أهل الجنة؟ قال: جشاءٌ ورشحٌ كرشح المسك) فضلات الطعام من أجسادهم تترشح، ولكن رشحٌ ليس كعرقنا برائحة كريهة، إنما هو رشحٌ كرشح المسك، فيضمر بطن أحدهم، فيعود ويأكل، ويرشح كرشح المسك، ويضمر بطنه ويأكل، وهكذا في أكلٍ مستمر ولذةٍ مستمرة. قال عليه الصلاة والسلام في الحديث: (يلهمون التسبيح والتحميد كما تلهمون النفس) رواه مسلم، هل نتعب إذا تنفسنا نحن، إننا نتنفس بطريقةٍ آلية بدون كلفةٍ أو مشقة وهكذا يلهم أهل الجنة التسبيح، يسبحون باستمرار ولا يتعبهم ذلك التسبيح.

فضل التسبيح وأجره ومنزلته

فضل التسبيح وأجره ومنزلته التسبيح -أيها الإخوة- منزلته عظيمة وأجره جزيل وفضله كبير. وقد جاء عن أبي مالكٍ الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (التسبيح والتكبير يملأ السماوات والأرض) وقال: (الحمد لله تملأ الميزان) وكذلك قال (إن التسبيح والتكبير يملأ السماوات والأرض) روى ذلك النسائي رحمه الله تعالى عن النبي صلى الله عليه وسلم. وهو صدقةٌ من الصدقات كما قال عليه الصلاة والسلام: (يصبح على كل سلامى في كل يوم صدقة) كل عظم أو كل مفصل من المفاصل عليه صدقة، لشكر نعمة المفاصل، كيف نتحرك وكيف نقرب وكيف ننبسط إلا بهذه المفاصل، في الإنسان ثلاثمائة وستون، كل واحد عليه شكر نعمة، كل سلامى من أحدكم في كل يومٍ صدقة، فمن أين تأتي بثلاثمائة وستين صدقة؟ قال: (فله بكل صلاةٍ صدقة، وصيامٍ صدقة، وحجٍ صدقة، وتسبيحٍ صدقة) الحديث رواه أبو داود وهو حديثٌ صحيح. وقد أخبرنا صلى الله عليه وسلم عن أجر التسبيح فقال الحديث الذي رواه أحمد رحمه الله، قال: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي عبد الله مولى جهينة قال: سمعتُ مصعب بن سعد يحدث عن سعد، وهؤلاء كلهم ثقات، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أيعجز أحدكم أن يكسب في اليوم ألف حسنة؟! قالوا: ومن يطيق ذلك؟ قال: يسبح مائة تسبيحه فيكتب له ألف حسنةٍ وتمحى عنه ألف سيئةٍ). إذاً مائة تسبيحه في اليوم، مائة تسبيحة يومياً يسردها كلها في نفس الوقت أو يجزئها على أوقات أو غير ذلك، وهي سهلة، قد تحتاج منك عشر دقائق أو ربع ساعة، دقائق قليلة تكسب فيها ألف حسنة، وليس فقط هذا، وإنما تمحى عنك ألف سيئةً أيضاً، والله ذو الفضل العظيم.

تسبيح النبي صلى الله عليه وسلم

تسبيح النبي صلى الله عليه وسلم لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يسبح الله في صلاته، وإذا أردنا أن نعرف عدد المرات التي كان النبي عليه الصلاة والسلام يسبح فيها في ركوعه وسجوده فإن أقرب حديثٍ ينبئنا عن ذلك حديث سعيد بن جبير: قال: (سمعت أنس بن مالك يقول: ما صليتٌ وراء أحدٍ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أشبه صلاةً برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى -يعني: عمر بن عبد العزيز - قال: فحزرنا في ركوعه عشر تسبيحات، وفي سجوده عشر تسبيحات) رواه النسائي رحمه الله فيه. هذا الحديث هو الحديث الذي فيه ذكر عدد التسبيحات النبوية في الركوع والسجود، كان عليه الصلاة والسلام -نحن نعلم أن الواحدة واجبة والثلاث أفضل- يسبح عشر تسبيحات في الركوع وعشر تسبيحات في السجود. وكان عليه الصلاة والسلام يسبح في صلاته إذا قرأ القرآن وخصوصاً في قيام الليل كما جاء في حديث حذيفة رضي الله عنه الذي رواه مسلم في صحيحه قال: (صليتٌ مع النبي عليه الصلاة والسلام ذات ليلة فافتتح البقرة، فقلتُ: يركع عند المائة، ثم مضى، فقلت: يصلي بها في ركعة فمضى، فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مترسلاً فإذا مر بآية فيها تسبيحٌ سبح، وإذا مر بسؤالٍ سأل، وإذا مر بتعوذٍ تعوذ، ثم ركع فجعل يقول: سبحان ربي العظيم، فكان ركوعه نحواً من قيامه، ثم قال: سمع الله لمن حمده، ثم قام طويلاً قريباً مما ركع، ثم سجد فقال: سبحان ربي الأعلى فكان سجوده قريباً من قيامه) وهكذا كان عليه الصلاة والسلام طويل التسبيح في صلاته، وفي ركوعه وسجوده، وفي قيامه إذا قرأ في صلاة الليل ومر بآيةٍ فيها تسبيحٌ سبح الله عز وجل، توقف عن القراءة وصار يسبح الله سبحانه وتعالى.

مواطن يستحب فيها التسبيح

مواطن يستحب فيها التسبيح

التسبيح في الصلاة المفروضة وبعدها

التسبيح في الصلاة المفروضة وبعدها لقد جاءت -أيها الإخوة- السنة بأن التسبيح في افتتاح الصلاة وأثناء القراءة في قيام الليل، وفي الركوع والسجود، وإذا انتهى من الصلاة فإنه يسبح الله ثلاثاً وثلاثين كما جاء ذلك في حديثٍ صحيح، يقول عليه الصلاة والسلام ((من سبح الله في دبر كل صلاةٍ ثلاثاً وثلاثين، وحمد الله ثلاثاً وثلاثين، وكبر الله ثلاثاً وثلاثين، فتلك تسعة وتسعون، وقال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على شيءٍ قدير؛ غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر). فإذاً في أول الصلاة: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك، وبعد نهاية الصلاة أول ذكر من الأذكار: سبحان الله، يبدأ به، ثلاثاً وثلاثين.

التسبيح في الصباح والمساء

التسبيح في الصباح والمساء لقد جاءت السنة أيضاً بتسبيح الله سبحانه وتعالى في الصباح والمساء كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (من قال حين يصبح وحين يمسي: سبحان الله وبحمده مائة مرة لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به، إلا أحدٌ قال مثلما قال أو زاد عليه) رواه مسلمٌ رحمه الله تعالى. وكذلك فإن التسبيح في الصباح والمساء مما ورد في القرآن: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى} [طه:130] وكما مر معنا يطلق التسبيح على الصلاة.

التسبيح في السفر

التسبيح في السفر لقد ورد في السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه كانوا إذا نزلوا في السفر -في منخفضٍ من الأرض- سبحوا الله تعالى: (كنا إذا صعدنا كبرنا، وإذا نزلنا سبحنا) وقد أشار ابن القيم رحمه الله وغيره إلى مناسبة هذا التسبيح، وهو أن الإنسان إذا نزل في منخفض فإنه يتذكر أن ينزه الله تعالى عن السفول وعن المواطن المنخفضة، وعن كل نقصٍ وعيبٍ، ويقدس ربه بهذا التسبيح، فإذا نزل قال: سبحان الله، وإذا ارتفع تذكر عظمة ربه وارتفاعه سبحانه وتعالى فكبرَ، يكبر الله ويذكر الكبير المتعال. وكذلك التسبيح يكون أيضاً في الركوع والسجود واجباً كما تقدم، وأن التسبيح في الركوع بقوله: سبحان ربي العظيم، وفي السجود: سبحان ربي الأعلى مناسبٌ لحال المصلي، فإن المصلي عندما يكون في أنزل مكان وأخفض مكان ويضع جبهته على الأرض ويقول: سبحان ربي الأعلى، فيتذكر علو ربه، وهو في أخفض مكان، كما أنه يسبحه عندما ينزل في الأماكن المنخفضة في الأسفار، وهذا ليس خاصاً بالأرض فحتى لو كان في الجو ونزل أو نزلت الطائرة فإنه يسبح الله سبحانه وتعالى.

تنبيه الإمام في الصلاة بالتسبيح

تنبيه الإمام في الصلاة بالتسبيح سبحان الذي لا ينسى، لقد كان التسبيح منبهاً للإمام من قبل المأمومين، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نابه شيءٌ في صلاته فليقل: سبحان الله). (وجعل التصفيق للنساء والتسبيح للرجال) فإذا أخطأ الإمام وأراد المأموم أن ينبهه، فإنه يقول له: سبحان الله، فهذا الإنسان ينسى والله تعالى لا ينسى، فسبحان من لا ينسى، ولذلك يذكر المأموم الإمام التسبيح، إذا أخطأ أو سهى في صلاته، كما أن المصلي يمكن أن يسبح لأي شيءٍ ينوبه في الصلاة، فلو أن إنساناً طرق الباب، أو أوشك شخصٌ على الوقوع في المهلكة، أو أوشك الولد أن يقترب من الكهرباء، وأراد المصلي أن ينبه زوجته أو أحداً في البيت، فإنه لا بأس عليه أن يرفع صوته بالتسبيح ما دام أنه قد نابه شيءٌ في الصلاة، فليسبح. (من نابه شيءٌ في صلاته فليقل: سبحان الله فإنه لا يسمعه أحدٌ يقول: سبحان الله إلا التفت) حديثٌ صحيحٌ رواه البخاري رحمه الله تعالى. وكذلك جاء عن علي رضي الله عنه: (كان لي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعةً آتيه فيها، فإذا أتيته استأذنته؛ إن وجدته يصلي فسبح دخلت، وإن وجدته فارغاً أذن لي). إن التسبيح أيها الأخوة! يكون في عبادات أخرى مثل: ما يكون في صلاة الكسوف والخسوف، فإنه قد جاء في السنة أن التسبيح عند الكسوف والخسوف عبادة، كما روى عبد الرحمن بن سمرة رضي الله تعالى عنه حيث قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وقد كسفت الشمس وهو قائمٌ في الصلاة رافعٌ يديه، فجعل يسبح ويهلل ويكبر، ويحمد ويدعو حتى حسر عنها) وهذا الحديث قد رواه مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه.

التسبيح في صلاة العيدين

التسبيح في صلاة العيدين والتسبيح يكون مشروعاً في تكبيرات صلاة العيدين، فإن الثناء على الله بعد كل تكبيرة من تكبيرات صلاة العيدين سنة، فيسبح ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ويحمد الله تعالى ويهلله عز وجل، فيقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، والذي ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه، مما كان يقول بين تكبيرات العيد، أن يحمد الله ويثني عليه، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم.

التسبيح عند التعجب

التسبيح عند التعجب التسبيح يستعمل عند التعجب، إذا قال لك إنسان شيئاً عجيباً أو استغربت من فعلٍ أو قولٍ فإنه يشرع لك التسبيح، هذا من المواطن التي يسبح فيها الإنسان، وقد جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي أبا هريرة وأبو هريرة جنب، فانسل أبو هريرة وذهب خفية فاغتسل فتفقده النبي عليه الصلاة والسلام وسأل عنه قال: أين كنتَ يا أبا هريرة؟ قال: يا رسول الله! لقيتني وأنا جنب، فكرهت أن أجالسك حتى أغتسل، فقال: سبحان الله! إن المؤمن لا ينجس) فقد تعجب عليه الصلاة والسلام مما قاله أبو هريرة إذ كان أبو هريرة يظن أن الجنب لا يجالس ولا يصافح، فقال ((سبحان الله! إن المؤمن لا ينجس) وكذلك جاء في صحيح مسلم، عن أنسٍ رضي الله عنه أن أخت الربيع أم حارثة جرحت إنساناً فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (القصاص القصاص فقالت أم الربيع: يا رسول الله! أتقتص من فلانه؟ والله لا يقتص منها! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: القصاص كتاب الله، سبحان الله يا أم الربيع! وإن هناك من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره، كما حصل أن عم أنس بن مالك، أنس بن النضر لما جيء بخبر القصاص قال: والله لا تكسر ثنية الربيع وأبر الله قسمه وتسامحا) وكانوا من قبل مصرين على القصاص، ومصرين على كسر سن هذه الفاعلة، وهذه الفاعلة كان لها منزلة عظيمة، لكنها اعتدت وأخطأت، ولما حكم النبي عليه الصلاة والسلام بالقصاص، وأصروا عليه وجاء أنس بن النضر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: والله لا تكسر ثنية الربيع، هذه المرأة الصالحة لا تكسر ثنيتها حلف فأبر الله قسمه، فجاءوا وتنازلوا ولم تكسر ثنيتها. إن التسبيح عند الرعد قد ورد فيه حديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كنّا مع عمر رضي الله عنه في سفر، فأصابنا رعدٌ وبرد فقال لنا كعب رضي الله عنه: من قال حين يسمع الرعد: سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ثلاث مرات، عوفي من ذلك الرعد، قال: فقلنا فعوفينا) أخرجه الطبراني وحسنه ابن حجر رحمه الله كما نقل ابن علان في الفتوحات الربانية.

التسبيح للحائض والجنب

التسبيح للحائض والجنب إن هذا التسبيح يكون للإنسان في كل أحيانه، ولذلك فهو إنقاذ للحائض ومجالٌ لها للأجر وذكر الله تعالى، فحيث أنها لا تقرأ القرآن ولا تمسك القرآن، وعند بعض العلماء لا تقرأ القرآن لكنها لا تنسى التسبيح، ولذلك لما ذكر الترمذي رحمه الله تعالى المسألة في سننه ساق الحديث وفي إسناده ضعف، قال ((لا تقرأ الجنب ولا الحائض) وهو قول أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين ومن بعدهم، مثل: سفيان الثوري وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق قالوا: لا تقرأ الحائض ولا الجنب من القرآن شيئاً إلا طرف الآية والحرف ونحو ذلك، ورخصوا للجنب والحائض في التسبيح والتهليل. فحتى لو قلنا على قول هؤلاء العلماء أنها لا تقرأ القرآن، فلا يعني هذا أن تنقطع عن ذكر الله، ولذلك يكون التسبيح مجالاً للعبادة، فتهلل وتسبح وتذكر الله عز وجل، واختار عددٌ من أهل العلم أن الحائض يمكن أن تقرأ القرآن لكن بدون أن تمس المصحف، وتقرأ القرآن إما عن ظهر قلب، أو أنها تمسك المصحف بخرقةٍ أو بشيءٍ أو تقلب الورقة بالقلم ونحو ذلك.

التسبيح فيه قوة للبدن ووقاية من المجاعة

التسبيح فيه قوة للبدن ووقاية من المجاعة التسبيح فيه قوة للبدن والدليل على أن التسبيح يقوي البدن ما جاء في الحديث الصحيح عن عبيدة السلماني عن علي رضي الله عنه قال: شكت إليّ فاطمة مجل يديها من الطحين -لقد أصاب يدي فاطمة خشونة نتيجة الخبز فشكت لزوجها علي رضي الله عنه- فقال لها علي مقترحاً: لو أتيت أباك فسألته خادماً، فذهبت تسأل أباها خادماً يكفيها مؤنة العمل، فقال ((ألا أدلكما على ما هو خيرٌ لكما من الخادم؟ إذا أخذتما مضجعكما تقولان ثلاثاً وثلاثين، وثلاثاً وثلاثين وأربعاً وثلاثين، من تحميدٍ وتسبيحٍ وتكبير). فإذا سبحان الله ثلاثاً وثلاثين والحمد لله ثلاثاً وثلاثين، والله أكبر أربعاً وثلاثين، هذه الأذكار بدل الخادم، إذاً تعطي قوة للبدن، وتعوض عن الخادم، وأشار إلى هذا المعنى ابن القيم رحمه الله وعده من الأذكار التي تقوي البدن، وقد جاء في الحديث أيضاً، أن التسبيح يقيت الناس، عندما لا يكون هناك طعام ولا شراب، وهذا ليس في الآخرة بل في الدنيا، يأتي على الناس وقت لا يجدون فيه طعاماً ويعيشون مدة طويلة بدون طعام فما يقيتهم وما يقويهم وما يبقيهم على قيد الحياة، قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الدجال المشهور: (وإنه قبل خروج الدجال ثلاث سنوات شدادٍ يصيب الناس فيها جوعٌ شديد، يأمر الله السماء في السنة الأولى أن تحبس ثلث مطرها، ويأمر الأرض فتحبس ثلث نباتها، ثم يأمر السماء في الثانية فتحبس ثلثي مطرها، ويأمر الأرض فتحبس ثلثي نباتها، ثم يأمر الله السماء في السنة الثالثة فتحبس مطرها كله، فلا تقطر قطرة، ويأمر الأرض فتحبس نباتها كله فلا تنبت خضرا، فلا تبقى ذات ظلف -الدواب- إلا هلكت، إلا ما شاء الله، قيل: فما يعيش الناس في ذلك الزمان؟ قال: التهليل والتكبير والتسبيحُ والتحميدُ ويجري ذلك عليهم مُجرى الطعام). إذاً يقوم هذا بالنسبة لهم مقام الطعام، ويكفيهم عن الطعام! هذا التسبيح لعظمة أجره وفائدته في الدنيا وفي الآخرة.

ابن مسعود وإنكاره للتسبيح الجماعي

ابن مسعود وإنكاره للتسبيح الجماعي ولنعلم أخيراً -أيها الإخوة- أن هذه العبادة قد ابتدع بعض الناس فيها بدعاً كثيرة، في طريقة التسبيح، وأدخلوه في أشياء، فبعضهم يسبح في الأذان، وأيضاً في اتباع الجنازة بعضهم يسبح مشيعاً الجنازة، ولا شك أن هذا كله من البدع المنكرات. وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يكرهون رفع الصوت عند الجنائز. ومن البدع أيضاً: التسبيح الجماعي كما يفعل في بعض البلدان، يبدأ الإمام فيسبح الناس كلهم بصوتٍ واحد ثلاثاً وثلاثين بعد الصلاة وهكذا.

أصحاب حلق الذكر وكيفية تسبيحهم

أصحاب حلق الذكر وكيفية تسبيحهم وقد جاء عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حديثٌ عظيمٌ في هذا الشأن، رواه الدارمي رحمه الله بإسنادٍ صحيح، قال عمرو بن يحيى سمعتُ أبي يحدث عن أبيه قال: كنا نجلس على باب عبد الله بن مسعود قبل صلاة الغداة، فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد -يستفيدون من العالم وهو خارج من باب بيته إلى المسجد- فجاءنا أبو موسى الأشعري على باب بيت عبد الله بن مسعود، فقال: أخرجَ إليكم أبو عبد الرحمن بعدُ؟ قُلنا: لا. فجلس معنا، حتى خرجَ فلما خرجَ قمنا إليه جميعاً، فقال له أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن! إني رأيت في المسجد آنفاً أمراً نكرته، ولم أرَ والحمد لله إلا خيراً، قال: فما هو؟ قال: إن عشتَ فستراه، لقد رأيتُ في المسجدِ قوماً حلقاً جلوساً ينتظرون الصلاة في كل حلقةٍ رجلٌ وفي أيديهم حصى، فيقول: كبروا مائة، فيكبرون مائة، فيقول: هللوا مائة، فيهللون مائة، ويقول: سبحوا مائة، فيسبحون مائة!! -إذاً هذا العمل كان عن أمر رجلٍ بمجموعات معهم حصى قال عبد الله بن مسعود لـ أبي موسى الأشعري: فماذا قلتَ لهم؟ قال: ما قلتُ لهم شيئاً انتظاراً لرأيك وأمرك، قال: أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم وضمنت لهم ألا يضيع من حسناتهم؟ وغضب عبد الله بن مسعود؛ لأن أبا موسى لم ينكر المنكر الواضح والبدع الواضحة، ثم مضى ومضينا معه، حتى أتى حلقةً من تلك الحلق، فوقف عليهم، فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن! حصى نعدُ بها التكبير والتهليل والتسبيح، قال: فعدوا سيئاتكم فأنا ضامنٌ ألا يضيع من حسناتكم شيء، ويحكم يا أمة محمد ما أسرع هلكتكم! هؤلاء صحابة نبيكم صلى الله عليه وسلم متوافرون وهذه ثيابه لم تبل وآنيته لم تكسر -ما أسرع ما وقعتم في البدع! الآن الصحابة ما زالوا موجودين والنبي صلى الله عليه وسلم آنيته موجودة، وثيابه موجودة، ومات قريباً، وبسرعة وقعتم في البدع- والذي نفسي بيده؛ إما إنكم لعلى ملةٍ هي أهدى من ملة محمد، أو مفتتحوا باب ضلالة قالوا: والله -يا أبا عبد الرحمن - ما أردنا إلا الخير -هذه العملية فيها تحميس وفيها ضبط للعدد، هذه العملية يتشجعون فيها على الذكر، ولا أحد يقوم بسرعة بعد الصلاة بل الجميع يأتي بالأذكار وما أردنا إلا الخير- قال: وكم من مريدٍ للخير لم يصبه!

وكم من مريد للخير لم يصبه

وكم من مريد للخير لم يصبه وهذه عبارة عظيمة جداً أهل البدع لا أحد منهم يقول: أنا أريد شراً، لا أصحاب المسابح الألفية ولا أصحاب الصلوات النارية، ولا أصحاب الأذكار الصمدية، ولا أصحاب اللطيفية، يا لطيف أربعة آلاف وأربعمائة وأربعين مرة! ولا أصحاب البدع المختلفة من الموالد وغيرها. ولا يقول: أريد بدعة، كلهم يقول: نريد الخير، نريد إحياء القلوب، نريد الذكر والحسنات، نريد الأجر، نريد التحميس، نريد الضبط وهكذا، فقال ابن مسعود: وكم من مريدٍ للخير لم يصبه! أي: فكونكم تريدون الخير، لا يبرر العمل -إذا كان العمل خطأ فالمائة الحسنة لا تبرره، يبقى العمل خطأ ولو كانت النية حسنة. ليت أصحاب البدع من الصوفية وغيرهم يفقهون هذه الكلمة، النية الحسنة لا تبرر البدعة، تبقى البدعة بدعة، والخطأ خطأ ولو كانت نية حسنة، ولو كان يقصد الخير، ولو قال لك: اجتمعنا في المولد في اثني عشر ربيع الأول لنتذكر سنة محمد صلى الله عليه وسلم وسيرته، ولو كنتم تريدون الخير، ولو كنتم تقصدون إحياء السيرة وتذكرها، يبقى الاحتفال بالمناسبة بدعة، والاجتماع عليها بدعة، ويبقى إظهار الاحتفال والفرح بها عيدٌ مبتدع مخالف، وكم من مريدٍ للخير لم يصبه. كنتُ أناقش شخصاً قبل أيام في مسألة الاحتفال بيوم المولد، فقال: نحن نجتمع في يوم المولد ونعمل أشياء، وفينا أحد المشايخ يرى الرسول صلى الله عليه وسلم كل ليلة في المنام، ويأخذ منه تعليمات. وهذه كارثة أيها الإخوة، يرى الرسول كل ليلة! هل الرؤية باليد، أم بالريموت كنترول؟ واحد إذا ضغط على زر يأخذ قليلاً من النوم ثم يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ يا ليت رؤيا النبي عليه الصلاة والسلام بالمنام كانت مسألة باليد، إذاً لكان الواحد ضغط الزر ونام، أو يقول أذكاراً معينة وينام ويأتيه الرسول في المنام، هذا يقول: شيخنا يرى الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ليلة، قلت له: في كل ليلة؟! قال: لا يمر أسبوع إلا ويراه، ثم قال: يتلقى منه تعليمات، وهذه طبعاً كارثة كبيرة جداً جداً، أي: يتلقى منه تعليمات، يعني ممكن أن يقول: الكتاب والسنة الآن على جنب، وفتح باب جديد، لأن هناك تعليمات إضافية، يأتيه في المنام ويقول له تعليمات، وافعل وقل لأتباعك، وقل لأصحابك أن يفعلوا كذا كذا. وهذا هو الخطر العظيم وهذا هو الشر الداهم والمستطير أن يقال: جاءنا في المنام، لو جاءه أحد فقد جاءه إبليس قطعاً.

المبتدعة لا يجاوز القرآن تراقيهم

المبتدعة لا يجاوز القرآن تراقيهم وقال ابن مسعود لأصحاب حلق الذكر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا: (إن قوماً يفقهون القرآن لا يجاوز تراقيهم) لا أجر ولا ثواب ولا انتفاع، لا يجاوز الحناجر والتراقي، وايمُ الله ما أدري لعل أكثرهم منكم، هذه فراسة ابن مسعود رضي الله عنه فراسة عجيبة! يقول ابن مسعود: أظن القوم هؤلاء الذين أخبرني النبي عليه الصلاة والسلام عنهم، أنهم يقرءون القرآن ولا ينتفعون به، ولا يثابون ولا يأخذون منه شيئاً، مثل السهم إذا اخترق الغزال ونفذ من الطرف الآخر من سرعته وقوته، فإن السهم يخرج نظيفاً لم يعلق به من لحم وعصب الغزال شيء إطلاقاً، كما يخرج السهم من الرمية من قوس الصائد، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، وايم الله ما أدري لعل أكثرهم منكم. يقول: لعل أكثر هؤلاء منكم أنتم يا أيها الذين تذكرون بهذه الطريقة المبتدعة، ثم تولى عنهم رضي الله عنه، فقال عمرو بن أبي سلمة: رأينا عامة أولئك يطاعنون يوم النهروان مع الخوارج، فعلاً حصل، وهؤلاء كانوا في عماد جيوش الخوارج الذين قاتلوا علياً والصحابة والصالحين من المسلمين في معركة النهروان، وكان معهم ذو الثدية وهو رجلٌ أسود، مقطوع اليد، في عضده مثل حلمة ثدي المرأة، علامة على أن هؤلاء هم جيش الخوارج، ولذلك علي بن أبي طالب طلبَ أن يلتمسوه في القتلى، حتى يطمئن أنه ما قاتل مسلمين وأراق دماء مسلمين، فبحثوا فما وجدوه قال: ما كذبت ولا كذبت، لا يمكن إلا أن يكون هذا موجوداً، فبحثوا وبحثوا ووجدوه تحت الجثث مقتفياً مقتولاً، وجدوه وآيته في عضده مثل حلمة ثدي المرأة وحولها شعيرة. رجل أسود، النبي صلى الله عليه وسلم أخبر علياً رضي الله عنه أنه سيقاتل قوماً هذه آيتهم، ذو الثدية وفعلاً قد كانوا هؤلاء. إذاً أيها الإخوة: هذا التسبيح عبادة عظيمة قد يجعلها بعض الناس على هيئةٍ بدعية، لا يرضاها الله ولا رسوله، ولا شرعها الله ولا رسوله.

التسبيح باليد اليمنى

التسبيح باليد اليمنى ويكون التسبيح باليد، والأفضل باليمنى كما بين الصحابي كان يعقد التسبيح بيمينه، فالنبي صلى الله عليه وسلم كما روى عمرو بن العاص: (كان يعقد التسبيح بيمينه) رواه أبو داود والترمذي وهذا الحديث يبين أن السنة أن الإنسان إذا أراد أن يعد التسبيح أن يجعل عقدة من طرف الأصبع الأنملة مع راحة اليد، هذه عقده، وهذه عقدة ثانية، وهذا طرف الإصبع مع راحة اليد، فيعقد التسبيح بيمينه ويعد ثلاثة وثلاثين وهكذا إذا أراد أن يضبط العدد، وهذا ليس فقط لضبط العدد، بل له فوائد أخرى، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أنهن مسئولاتٌ مستنطقات، أطراف الأصابع الأنامل، قال (واعقدن بالأنامل فإنهن مسئولات مستنطقات) فيوم القيامة تشهد لك هذه الأنامل بأنك ذكرت الله فيها، هذه طائفة من هذه العبادة العظيمة وهي التسبيح. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من المسبحين ومن المستغفرين ومن التائبين، وصلى الله على نبيه الأمين.

الأسئلة

الأسئلة

التسبيح بالسر

التسبيح بالسر Q هل التسبيح بالسر مشروع؟ أو لابد من تحريك الشفتين على الأقل؟ A نعم. لا يعتبر تسبيحاً حتى تذكره، ولا يكون ذكراً حتى تتلفظ به، ولكن لا يعني أن تجهر به وتصيح، لكن لابد أن يجري نفس يتحرك اللسان والشفتان حتى يكون ذكراً تؤجر عليه، أما التأمل القلبي أو إمرار الشيء في الذهن، فلا يعتبر ذكراً إلا إن كان ذكراً بالقلب.

تفريق صيام الكفارة

تفريق صيام الكفارة Q هل يجوز تفريق صيام كفارة اليمين؟ A نعم. الجمهور على أنه يجوز تفريقه، وذهب ابن مسعود رضي الله عنه إلى التتابع فيها، وقرأ القراءة المفسرة صيام ثلاثة أيام متتابعات، ولكن لو فرقها ليس عليه بأس إن شاء الله، وإذا صامها متوالية فهو أحوط.

مسألة في الإحرام

مسألة في الإحرام Q نقل عملي من الظهران منذ ثلاث سنوات، وما زال منزلي في جدة قائماً أعود إليه في الإجازة، فمن أين يكون إحرامي؟ A إذاً ما دام لك منزل هناك في ذلك المكان فأنت مخير، أن تحرم من هنا أو تحرم من منزلك هناك، أن تحرم من ميقات أهل الشرقية هنا، أو أن تحرم من منزلك في جدة.

صلاة التسابيح ومشروعيتها

صلاة التسابيح ومشروعيتها Q ما مشروعية صلاة التسابيح؟ A هذه الصلاة قد اختلف فيها أهل العلم اختلافاً كثيراً، فقال بعضهم بمشروعيتها وذهب إلى تحسينه كالحافظ ابن حجر رحمه الله، وذهب إلى أنها ليست بثابتة عدد من العلماء كشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، فعلى حسب ما يترجح لطالب العلم يعمل، والذي ليس عنده قدرة على بحث المسألة والخروج بنتيجة، فإنه يقلد أهل العلم، فإذا سأل العالم قال له: ليست بمشروعة، فلا يجوز.

مسألة تقطيع أذكار الصباح والمساء

مسألة تقطيع أذكار الصباح والمساء Q أذكار الصباح والمساء هل يجوز تقطيعها؛ مثلاً يقرأ دعاءً ثم يشغله شاغل ثم يرجع ويكمل؟ A نعم. هي مجموعة أذكار وأدعية لو قرأ بعضها ثم انشغل بشيء، ثم أكمل بعد ذلك فلا حرج في هذا.

حكم جوائز السحب في المبيعات

حكم جوائز السحب في المبيعات Q ما حكم الجوائز من السيارات وغيرها التي توضع في بعض محلات التسويق لمن يشتري، توزع كوبونات للمشتري ثم يضعها في الصندوق ويجرى عليها السحب بالحظ؟ A إذاً أنت تدفع مالاً، وتأخذ كوبوناً وقسيمةً، ويجرى عليها سحب على أمل أن تخرج لك جائزة، وهذه صورة مقامرة وميسر لا يجوز الدخول فيها؛ لأنك إنما نلت هذا أو هذه القسيمة بالمال الذي دفعته، ثم قد تغنم وقد لا تغنم شيئاً.

حكم شراء المواد الغذائية وداخل بعضها نقود

حكم شراء المواد الغذائية وداخل بعضها نقود Q إذا اشتريت بعض المواد الغذائية تجد بداخلها نقوداً تصل إلى الخمسمائة ريال أحياناً؟ A هذه أيضاً لا تجوز، يجعل لك في علبة حليب خمس عشرة ريالاً، وفي علبة لا شيء، وفي أخرى خمسمائة، إذاً هذه المجازفة والمغامرة وهذا المجهول الموجود في العلبة يجعل هذا البيع ليس بجائز، لكن لو قالوا لك: العلبة هذه بخمسين فيها ثلاث ريال، أي علبة تشتريها فيها ثلاثة ريال، إذاً فالحقيقة سعر العلبة كذا، انتهت المسألة إذاً لا جهالة في العملية، لكن نقول لك: هذه العلبة يمكن فيها عشرة أو خمسة أو ريال أو لا شيء، وأنت تشتري، قد يخرج وقد لا يخرج، ثم إن هناك سلعاً متشابهة ويشترون هذه بالذات على أن يخرج فيها خمسمائة، هو أصلاً الدعاية والإعلان قائم في الغالب على التزوير، والغش والخداع، والتلبيس والضحك على عقول الناس والسذج والبسطاء، أكثر الناس يقفون هكذا في السحب من هؤلاء.

الدم العلامة البينة للدورة الشهرية

الدم العلامة البينة للدورة الشهرية Q الزوجة تأتيها علامات الدورة الشهرية ولا يأتي الدم، ولها خمسة أيام تأتي العلامات ولا تحدث دورها في الدم؟ الجوب: ما دامت ما رأت الدم، فهي تصوم، الدم هو البينة والعلامة القاطعة، وكذلك الكدرة والصفرة إذا جاءت في وقت العادة فهي عادة.

صلاة الضحى

صلاة الضحى Q هل الركعتان اللتان تصليا بعد شروق الشمس في المسجد ورد فيهما حديث؟ وهل تصلى في التاسعة صباحاً؟ A نعم. منهم من يقول: هذه صلاة الإشراق، ومنهم من يقول: هذه صلاة الضحى، ولعلها صلاة الضحى، إن شاء الله أن هاتين الركعتين صلاة الضحى، يمكن أن تصلى في أي وقت من بعد ارتفاع الشمس إلى قبيل الظهر.

حكم حمل الطفل في الصلاة وعليه نجاسة

حكم حمل الطفل في الصلاة وعليه نجاسة Q ما حكم صلاة العبد إذا كان يحمل ابنه الصغير وفيه نجاسةٌ بالبول، ولكن مع الحاجز من الحفاظات؟ A لا بأس بذلك، ما دام أن النجاسة لا تصل إلى المصلي ليس فيها رطوبةٌ تتسرب إلى المصلي، وهو يصلي فلا حرج في حمله الطفل.

حكم صيام كبير السن الذي لا يميز

حكم صيام كبير السن الذي لا يميز Q والدي ووالدتي لا يصومان لكبر سنهما ولا يقدران على تمييز الأوقات؟ A إذا كبر الشخص وأصابه الخرف، وصار لا يدري بالأوقات، ولا يميز الأشخاص، فقد سقط عنه التكليف فلا صلاة عليه ولا صيام، ولا يأمر بهما حيث أنه غير مكلف. أما إذا كان هذا الكبير يعقل وإذا قيل له أن يصوم يفهم معنى الصيام، ولا زال يعرف معنى الصيام والصلاة، فإنه يأمر بهما، وإذا قلنا إنه غير مكلف وأصابه الخرف وفقد التمييز؛ فإنه لا صيام عليه ولا قضاء ولا كفارة ولا على أوليائه شيء ولا عليه شيء؛ لأنه ليس بمكلف مثل: الصبي الصغير.

ابتلاع اللعاب لا يفطر

ابتلاع اللعاب لا يفطر Q ابتلاع اللعاب الذي في الفم؟ A هذا لا يضر الصيام.

مسألة في الزكاة

مسألة في الزكاة Q هل أخرج الزكاة على أرباح الشركة المساهمة التي أخذت منها نصيبي من الإرث؟ A أسهم الشركات الذي يتعامل بها هو أحد شخصين؛ إما أنه يريد باتخاذها وشرائها أن يتكسب من أرباحها ويبقيها عنده أصل، ويأخذ الأرباح ويعيش من الأرباح ويكسب من الأرباح. الثاني: أن يقصد بشرائها المتاجرة فيها، فيشتري الأسهم ليبيعها، فالأول لا زكاة عليه إلا في المال الذي يأخذه من الأرباح إذا حال عليه الحول؛ لأنه ما اتخذ الأسهم عروض تجارة يبيع فيها ويشتري، وإنما أرادها لأجل الأرباح، فالأرباح إذا أخذها فإن الزكاة فيها. وأما إذا كان قد اتخذ أسهم الشركات يبيع فيها ويشتري ويتاجر في الأسهم، فالزكاة عليها وعلى أرباحها، فإذا حال الحول على الأسهم المعدة للبيع والشراء ففيها زكاة في قيمتها الحالية، وإذا خرجت الأرباح ففيها الزكاة وحولها حول الأصل، ولا ينتظر بالأرباح حول مستقل، وإنما حولها حول أصل.

الوتر يشفع بركعة عند قيام الليل

الوتر يشفع بركعة عند قيام الليل Q إذا أراد رجل أن يقوم آخر الليل فهل يصلي مع الإمام ويوتر ويكمل الركعة؟ أم لا يصلي؟ A له خياران، إما أنه يكمل الوتر مع الإمام ويشفعه بركعة، ثم يقوم ويصلي في الليل ما يريد ويوتر، وإما أن يصلي في الليل مثنى مثنى ولا يعيد الوتر ويكتفي بوتره الأول مع الإمام.

حكم قراءة سورة بعد الفاتحة في السنن الرواتب

حكم قراءة سورة بعد الفاتحة في السنن الرواتب Q هل يجب أن يقرأ شيء من القرآن بعد الفاتحة في سنن الرواتب؟ A لا يجب ولا في الفرائض، لكن السنة أن يقرأ.

وقت فطر المسافر بالطائرة

وقت فطر المسافر بالطائرة Q إذا كان الرجل الصائم يريد أن يسافر بالطائرة إلى مكان ليس فيه مسلمون، وأقلع بالطائرة من مدينته عند قرب الغروب، هل يعتبر كصيام أهل البلد الذين يذهب إليهم؟ A الصائم إذا أراد أن يصوم في السفر، وإذا أراد أن يحسب له اليوم كاملاً، فإنه لا يفطر إلا إذا غربت الشمس في المكان الذي هو فيه، فإن كان في الجو لا يفطر إلا إذا غربت الشمس والطائرة في الجو، وعندما يكون في الجو فهو ينتظر الغروب لا في الأرض ولا في البلد الذي سيصل إليه، ولا في البلد الذي أقلع منه، وإنما هو في الجو بحسب غروب الشمس وهو في الجو، إذا اختفت وهو في الجو أفطر ويعتبر يوماً كاملاً، وإذا أراد أن يفطر فعذره معه، وهو مسافر.

الاستلاف من أجل الزواج بالثانية

الاستلاف من أجل الزواج بالثانية Q هل من الحكمة الاستلاف للزواج من زوجةٍ ثانية؟ A حسب الحاجة، إذا احتاج الشخص إلى أن يتزوج زوجةً ثانية، فلا حرج عليه أن يستلف سواءً الزوجة الأولى أو الزوجة الثانية، لكن بعضهم يستلف من الزوجة الأولى لكي يتزوج عليها زوجة ثانية، فهذه قلة ذوق.

حكم تخصيص وقت لقراءة القرآن خلال الدوام في الشركات

حكم تخصيص وقت لقراءة القرآن خلال الدوام في الشركات Q هل يجوز تخصيص وقت في نهار رمضان خلال العمل في الشركات لقراءة القرآن؟ A إذا كان هناك عمل فلا يجوز الانشغال بأي شيءٍ آخر من الفرائض، مادام أنه كان يتعارض مع العمل، فلا يجوز أن يترك العمل ويقرأ القرآن ولا يصلي والسنن وغير ذلك، وأما إذا كان لا يوجد عمل فإنه لا بأس أن يقرأ القرآن وأن يصلي النوافل، وهناك أذكار لا تتعارض مع العمل، إذا كان يكتب -مثلاً- ويستغفر الله ويسبح فلا يتعارض مع العمل.

حكم حبوب منع الدورة

حكم حبوب منع الدورة Q هل يجوز للمرأة أن تتناول حبوب منع الدورة؟ A الأفضل ألا تتناولها؛ لأن تناولها يوقع كثيراً في مشكلات تتعلق باضطرابها، وبالتالي اضطراب الصلاة والصيام.

حكم حلق الرأس بدون حج أو عمرة

حكم حلق الرأس بدون حج أو عمرة Q هل يجوز حلق الرأس كاملاً بدون الحج والعمرة؟ A إذا كان لغرضٍ صحيح طبي كعلاج أو حجامة فلا مانع، وإلا غير الحج والعمرة مكروه؛ لأن الخوارج كان من سيماهم التحليق.

المسافر يتم الصلاة إذا وصل إلى مدينة

المسافر يتم الصلاة إذا وصل إلى مدينة Q مسافر صلى المغرب ولم يجمع معها العشاء ودخل وقت العشاء ولم يصل إلى مدينته، ووصل متأخراً فصلى العشاء قصراً؟ A إذا وصل إلى بلده فلا يجوز أن يصلي العشاء قصراً لأنه صار في البلد، ويجب عليه أن يتم الصلاة.

الذكر في سجود السهو

الذكر في سجود السهو Q ما المشروع في سجود السهو؟ A نفس أذكار السجود الذي في الصلاة العادية.

المأموم لا يقف عن يسار الإمام

المأموم لا يقف عن يسار الإمام Q هل يجوز للمأموم أن يقف عن يسار الإمام؟ A يقف عن يمينه، وإذا وقف عن يساره فعلى الإمام أن يأخذ بيده فيديره إلى الجهة اليمنى.

أعمال القلوب في أوقات الشدة

أعمال القلوب في أوقات الشدة الدنيا جُبلت على الأكدار والمصائب والشدائد، وعندما تمر بالأمة أوقات شدة؛ فلابد لها من أمور تقوم بها حتى تزال عنها هذه الشدة أو الأزمة، وللقلوب أهمية عظيمة عند الشدائد، فمن أهم أعمال القلوب التي يحتاج إليها الإنسان في وقت الشدة: الإنابة إلى الله وصدق الرجوع إليه، وكذلك الخوف من الله وحده، والتوكل عليه والتضرع إليه، وفي ذلك فوائد عظيمة أهمها الطمأنينة.

القلب في أوقات المحن والشدائد

القلب في أوقات المحن والشدائد الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي المتقين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أيها الأخوة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: فلما كان لابد للمسلم أن يجتمع بإخوانه ليذكر الله وإياهم؛ خصوصاً في أوقات الشدة التي يحتاج فيها الناس كثيراً للتبصرة والتذكرة؛ التبصير بما يجب عليهم أن يعملوه، والتذكير بما ينبغي عليهم أن يتذكروه. إن تصرفاتنا وحركاتنا وسكناتنا ينبغي أن تكون لله رب العالمين؛ إن تحركات المسلم ليست تحركاتٍ طائشة، وإن تصرفات المسلم ليست تصرفاتٍ هوجاء؛ لأنها يجب أن تكون منضبطةً بنور هذه الشريعة، وينبغي أن يكون نور الوحيين هو الذي يعمل عمله وفعله في قلوب الناس في أوقات الشدائد، وإذا كان للجوارح أعمالٌ كالصلاة والحج والجهاد، فإن للقلوب أعمالاً أعظم من ذلك بكثير؛ لأن عمل القلب ينبني عليه صلاح عمل الجوارح أو فسادها. ولذلك فينبغي للمسلم أن يهتم بقلبه جداً في أوقات المحن -ونحن نمرُ ولا شك بمحنة- وإن الحوادث من حولنا تُوجب علينا أن نكون أكثر بصيرةً من ذي قبل، وينبغي أن تكون قلوب المسلمين حية؛ لأن القلب الميت لا خير في صاحبه. أيها الأخوة: إن الله سبحانه وتعالى نزّل هذا الكتاب ليحيي به القلوب كما تحيا الأرض بماء المطر، وإنه عز وجل أنزله غيثاً وهدىً وشفاءً ورحمةً للمؤمنين، وقد قال الله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:23] ولذلك فإن الخراب إذا حصل والفِرار إذا نزل، يكون مرْجع ذلك كله إلى هذه القلوب إذا كانت خاوية، فما هي الأعمال التي ينبغي أن يعملها القلب في أوقات الشدة؟ وماذا ينبغي أن تكون حالنا عندما يبتلينا الله عز وجل بمحنة؟ يقول الله عز وجل: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:35] فينظر كيف تعملون! وهذه التحركات والتصرفات محسوبةٌ علينا، وسنبعث ونرجع جميعاً إلى الله عز وجل: {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزمر:7]. ما مدة لبثنا في هذه الدنيا؛ وما طول مقامنا فيها؟ لا شيء بالنسبة لما سيأتي بعد الموت من الحياة الدائمة الخالدة المستقرة في الدار الآخرة، ولذلك لابد أن نُري الله من أنفسنا خيراً، ولابد أن نأخذ للأمر أهبته، وللميدان عدته حتى تتحد هذه القلوب في مواجهة الشر والكفر، وليكون المسلمون يداً واحدة أمام عدوهم.

وجوب الإنابة إلى الله وقت الشدة

وجوب الإنابة إلى الله وقت الشدة أيها الأخوة: إن القلوب في أوقات الشدة هي التي تعمل، ومن أعمال القلوب المهمة إذا حصلت الشدائد: الإنابة إلى الله عز وجل كما قال تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزمر:54]. ولما مدح الله تعالى داود قال: {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ} [ص:24] وقوله تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق:31 - 33]. فإذا أنابت القلوب إلى الله في وقت الشدة حصل الخير وثبت الناس، الإنابة إلى الله هي الرجوع إليه والأوبة، والتوبة إليه سبحانه وتعالى. قال تعالى: {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ} [غافر:13] ولذلك فإن مما يمتد من أثر الإنابة التذكر؛ والتذكر عملٌ آخر من أعمال القلب، كما قال عز وجل: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [البقرة:269] {وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [الحاقة:48] {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37]. فمن كان له قلب يتذكر، ومن ليس له قلب لا يتذكر، ولذلك فإن القلوب على ثلاثة أنواع: القلب الأول: ميت لا خير فيه، ولا يُرجى منه شيءٌ أبداً. القلب الثاني: حيٌ لكنه لم يستمع للآيات، إما لأنها لم تصل إليه، وإما لأنه انشغل عنها. القلب الثالث: حيٌ مستعدٌ تليت عليه الآيات فأصغى بسمعه، وأحضر قلبه فهو شاهد القلب ملقٍ للسمع، فهذا هو الذي ينتفع، فصاحب القلب الأول مثله كمثل الأعمى لا يرى شيئاً. صاحب القلب الثاني بمنزلة البصير الطامح ببصره إلى غير الجهة التي تنفعه. وصاحب القلب الثالث هو البصير المحدق إلى جهة المنظور، فهو يرى وينتفع.

النصوص الشرعية وربطها بالواقع

النصوص الشرعية وربطها بالواقع لابد من الربط بين الآيات وبين الواقع، إذا كُنا نريد أن نكون أولي قلوب فعلاً ونتذكر، فينبغي أن نربط بين الآيات وبين الواقع، لأن هذه الآيات -أيها الإخوة- نزلت لعلاج الواقع، فهي تتلكم عن الواقع؛ لأن الله يعلم ماذا سيحدث في هذا الزمن، والله نزل القرآن لكي يستفيد منه المسلمون في كل زمن، ولذلك ينبغي أن تكون نقطة الانطلاق من هذا القرآن، إن الذين لا يرجعون إلى القرآن في النظر إلى الأحوال الموجودة الآن يخيبون كثيراً، لا تسدد لهم رمية، ولا يكون لهم رأيٌ مصيب أبداً. ولذلك فإن قراءة القرآن وتطبيقه على الواقع هو أن ننظر: ما المقصود من الآية بهذا الواقع؟ كيف نربط القرآن بالواقع؟ كيف نقرأ ونفكر في الواقع؟ ونحن نقرأ نتدبر ونربط بالواقع ونقول: نعم. هذا ما أخبرنا به ربنا، ونقول في آيةٍ أخرى: نعم. هذا ما حذرنا منه الله عز وجل، ونقول عند آية ثالثة: نعم. هذه سنة الله في الكون تعمل لحظةً بلحظة، وساعةً بساعة، ويوماً بيوم، ونقول في آيةٍ رابعة: نعم. هذه شروط النصر، لو تكاملت لتحقق النصر، ونقول في آيةٍ خامسة: نعم. هذا هو الجزاء الذي وعد الله به الفسقة المجرمين وهكذا، هذا جزاء ما توعدهم به ربنا يحصل الآن في الواقع، نعم. هذا الظلم بعينه، نعم. هذه عاقبة الظالم: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً} [آل عمران:178]. ونحن يمكن أن نعرف النتائج من القرآن سلفاً، صحيح أننا قد لا نعلمها بالتفصيل؛ لأن علم الغيب بالتفصيل مما اختص به رب العالمين، لكن الله أخبرنا عن أشياء، وقال: إذا حصل كذا، فسيحدث كذا. ولذلك عندما ننظر في الواقع سنرى الآيات تتطبق فعلاً وتتحقق، فإذا كنا نعلم أن الله سبحانه وتعالى لابد أن يجعل لكل ظالمٍ نهاية، فإذا حدث ظلمٌ في الأرض فنحن نعلم حقيقةً ماذا ستكون النتيجة. وإذا أخبر الله بسقوط مجتمعاتٍ بأكملها إذا فشت فيها أدواءٌ معينة، فإننا سنعلم أن هذه المجتمعات ستسقط ولا شك، نعلم هذا سلفاً. ما من قريةٍ فشى فيها الربا والزنا إلا استحقت عذاب الله، نعلم أنه لابد أن يقع. فإذاً يمكن للآيات أن تنبئنا بما سيحدث، وإذا أخبر الله بأن من يعتصم به ينجو، ومن يعتصم بغيره يهلك، فإننا سنعلم النتيجة سلفاً من خلال هذه الآيات. وليس كل الناس ينظرون إلى الواقع من خلال القرآن، وإنما ينظرون بعينٍ مجردة عن أثر القرآن، فلذلك تخيب الأشياء وتصبح مجرد احتمالات بشرية، ولكن المؤمن لا يخيب نظره، ولذلك كان من أعمال القلب الاعتصام بالله سبحانه وتعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج:78]. والاعتصام به عز وجل: أي: التمسك بدينه، والتمسك بعهده وكتابه وحبله سبحانه وتعالى، وهذا القرآن حبلُ الله، طرفه الأول عند الله، وطرفه الثاني بأيدينا، فإذا تمسكنا به لن نضل أبداً، والاعتصام بكتاب بالله وعهد الله يعصم الإنسان من الضلالة ويُوجب له الهداية، ويُكسبه القوة، ويبعد عنه الهزيمة. ولذلك كان لابد أن ندور مع القرآن حيثما دار، لابد أن نتمسك في وقت الشدة -أيها الأخوة- بهذا النور ولا نحيد عنه، وإن تصرفات العامة في الأزمات غير منضبطة بالقرآن في كثيرٍ من الأحيان، لكن يمكن أن تجد من بين الناس رجلاً حضرت لديه أنوار هذا التنزيل، فصار يتصرف من خلالها، فهو لا يخطو خطوة ولا يتقدم ولا يتأخر إلا على نورٍ من ربه. ولذلك فإن الناس في مواقفهم وآرائهم قد يخيبون كثيراً، إلا الذين اعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله، فإنك تجد آراءهم سديدة، ومواقفهم لا تتغير مع الزمن، وتجد الموقف في أول الحدث هو الموقف عند نهاية الحدث لم يتغير؛ لأنه كان منطلقاً من الكتاب والسنة، ليس منطلقاً من الآراء ولا من كلام البشر، ولا من الحسابات الدنيوية.

الخوف من الله عمل قلبي له فوائد

الخوف من الله عمل قلبي له فوائد ثم إن من أعمال القلب الخوف من الله لا من غيره، وإذا نزلت الشدائد وادلهمت الخطوب، فإن كثيراً من الناس يخافون، قد يخافون من قعقعة السلاح، وقد يخافون من خطرٍ وشيكٍ يوشك أن يُحدق بهم، وقد يخافون من عدوٍ أو مرضٍ أو سيلٍ ونحو ذلك من أنواع المصائب الحادثة. ولكن القلوب تختلف، فمن الناس مَنْ قلوبهم موصولةٌ بالله، فإذا نزلت المصيبة وجاءت الأحداث لا تتزلزل كياناتهم، ولم تضطرب مواقفهم وتتزعزع، ولا يجرون في جميع الاتجاهات لا يدرون إلى أين يذهبون! ولا ترى الواحد منهم إذا نزل الخوف يفر فراراً لا يلوي على شيء، حتى إذا ابتعد بمسافةٍ طويلة توقف وقال: إلى أين أذهب الآن، وماذا أفعل؟! خطوات غير محسوبة، لأن الخوف كان مهيمناً على قلبه فنتج هذا الاضطراب، ولكن المسلم الذي يُسلم أمره لله ويعلم قول الله عز وجل: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175] الذي يخشى الله فقط ولا يخشى أحداً إلا الله، فإن الله يثبته؛ لأن الشرور -أيها الأخوة- لا تنتهي، قد يحصل بك شر وتعتصم بأحد البشر فينقذك، لكن غداً يحصل لك شرٌ آخر فلا ينجيك أحد.

خوفك من الله يجعلك تفر إليه

خوفك من الله يجعلك تفر إليه لن تجد من يقف بجانبك طيلة حدوث الأحداث المتكررة إلا الله عز وجل، إذا خفت منه وهربت إليه سبحانه وتعالى فإن الله يكون معك في جميع الأحداث، ولذلك فإن الله يداول الأيام بين الناس، والذي يحسم مادة الخوف ويقضي على الخوف والذعر هو التسليم لله، فإن من سلم لله واستسلم له وعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له، لم يبقَ لخوف المخلوقين في قلبه موضعٌ أبداً. فإن النفس التي يخاف عليها قد سلمها إلى وليها وبارئها وخالقها سبحانه وتعالى، وعلم أنه لا يصيبها إلا ما قدر الله لها، وأن ما كتب لها لابد أن يصيبها، وأن ما لم يكتب فلا يمكن أن يصيبها، هذا الذي يحسم مادة الخوف نهائياً وهذا هو الذي يجعل الإنسان مطمئناً.

من نتائج الخوف من الله الطمأنينة

من نتائج الخوف من الله الطمأنينة مشكلتنا -أيها الأخوة- أننا نُذعر ونخاف وننسى بسرعة، تصرفاتنا غير موزونة وغير مضبوطةٍ بموازين الشريعة، ولذلك فإذا كان الخوف من الله لا من غيره؛ فإن الطمأنينة تنزل تلقائياً في القلب والطمأنينة عملٌ آخر من أعمال القلوب: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] ذكر الله هو القرآن. والذي يُعرض عن القرآن يتزلزل قلبه، ويضطرب عيشه: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي} كلامي، القرآن: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا} [طه:124 - 126] هذه التي من المفروض أن تتذكرها لتنجو وتثبت، وتكون لك حياةٌ سعيدة، وعيشة رغيدة، {وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه:127]. وكان من دعاء بعض السلف: اللهم هب لي نفساً مطمئنةً إليك، وإذا طال الخوف على الإنسان واشتد به وأراد الله أن يريحه ويحمل عنه، أنزل عليه السكينة فاستراح قلبه إلى الرجاء واطمئن به، وسكن لهيب خوفه. ولذلك كان للعلماء المذكرين بالله أدوارٌ مهمة في تثبيت الناس، فلما كان ابن القيم رحمه الله يتكلم عن نفسه وعن صحبه عندما تنزل بهم الخطوب، وكان لهم أعداء كُثر بسبب تمسكهم بالسنة، فإنهم عند تزلزل الأمور كانوا يذهبون إلى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فيجلسون إليه، يقول: فما هو إلا أن نسمع كلامه حتى ترتاح القلوب وتهدأ النفوس وتطمئن، والطمأنينة بذكر الله وبمجالسة أولياء الله من الأسباب التي تُحدث الثبات في القلب. ومن أنواع الطمأنينة: الطمأنينة إلى حكم الله وما يقع من المصائب والأحداث، وإذا علمت أن ما شاء الله كان وأن ما لم يشأ لم يكن، فلا معنى للجزع والقلق، فإن الشيء المحذور إذا قُدِّر فلا سبيل إلى صرفه. لقد هرب أناسٌ كثيرون خوفاً من هذه المنطقة، فلما ركبوا الطريق ساروا في سياراتهم وحصل على بعضهم من الحوادث ما قضى به نحبه، وقد كان خائفاً من شيء، فإذا منيته تكون في أمرٍ آخر، وإذا بالشيء الذي هرب منه قد ساقه إلى أمرٍ آخر كان فيه هلاكه وحتفه: ما قد قضى يا نفس فاصطبري له ولكِ الأمان من الذي لم يقدرِ وتحققي أن المقدر كائنٌ يجري عليك حذرتِ أم لم تحذري

الخوف من الله سبب لعدم الأمن من مكر الله

الخوف من الله سبب لعدم الأمن من مكر الله والخوف من الله عز وجل يستوجب أمراً آخر من مهمات القلوب، وهو عدم الأمن من مكر الله عز وجل، لذلك يقول الله سبحانه وتعالى: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [النحل:45 - 47]. هذه الآيات عين الواقع بالضبط، هؤلاء الذين مكروا السيئات فعملوها، ودعوا الناس إليها، وحرضوهم عليها، وشجعوهم على فعلها، هؤلاء الذين يمكرون بالناس في دعائهم إياهم للمعاصي، هؤلاء: أأمنوا أن يخسف الله بهم الأرض؟ {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} [النحل:45 - 46]. وتقلبهم هو تنقلهم في الأسفار وغيرها، وتغيرهم في أحوالهم، ولذلك قال الله في آيةٍ أخرى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:97 - 99]. فإذاً الناس عندما يؤخذون بالعذاب على أنواع: فمنهم من يأخذه الله وهو مطمئن نائم, ومنهم من يأخذه الله وهو يلعب ويلهو، أو مشغول بالدنيا، فيأتيه العذاب فجأة، ومنهم من يأخذه الله وهو يخاف من وقوع العذاب عليه. ولذلك إذا أخذ الله غيرنا بعذابٍ وهم نائمون مطمئنون، فنحن الآن في مرحلة نخشى أن يأخذنا الله بعذابٍ ونحن على تخوف. لابد -أيها الأخوة- أن نفقه الآيات، ولذلك سنعيد قراءتها: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ} [النحل:45] أي: لا يتوقعون، لم يدر في بالهم أن الله سيفعل بهم ما فعل، أو يأخذهم في تقلبهم وهم في أسفارهم وذهابهم ومجيئهم، أخذهم الله فأصيبوا فما هم بمعجزين، يصل إليهم الأثر وهم في أقصى الدنيا. ولذلك لما أنزل الله بعاد عذاباً كان منهم قومٌ مسافرون إلى مكان بعيد عن مكان الحدث، فذهب إليهم العذاب فأخذهم في سفرهم! الحالة الثالثة: أو يأخذهم على تخوف، أي: هم يترقبون أن يحدث شيء، فيأخذهم الله في حال الخشية وفي حال الخوف: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} [النحل:47] وهم خائفون وجلون مضطربون يخشون حدوث شيء، فيأخذهم الله عز وجل، أو يأخذهم على تخوف فإن ربكم لرءوفٌ رحيم. كيف يكون رءوفاً رحيماً؟ إذا لم يعاجلهم بالعقوبة عز وجل، قد يأخذهم مباشرة، وقد يأخذهم بعد إمهال، وقد يأخذهم على تخوف ويكون من أشد أنواع الأخذ، لأنه قد اجتمع عليهم الخوف والعذاب، ولذلك لابد من العودة إلى الله، فنحن الآن في مرحلة مصيرية وفي لحظات عصيبة. وبعض الناس الذين ناموا انتبهوا لحظات، ثم ناموا ورجعوا للغفلة، فعليهم أن ينتبهوا، أفأمنوا أن يأخذهم الله على تخوف، فإن ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليمٌ شديد؛ إذا جاءت غاشية من عذاب الله، فإنها لا تبقي ولا تذر. وتأمل قوله سبحانه وتعالى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ} [الأعراف:97] والنوم يأتي من الطمأنينة، أناس مطمئنون لا يحسبون في حسابهم أي شيء، فينام الإنسان فيأتيه العذاب وهو نائم، كما فعل الله بأقوامٍ كُثر، أتاهم العذاب وهم نائمون. {أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأعراف:98] وإنما يلعب الناس إذا توفر لهم الرزق، وتوفر لهم رغد المعيشة، وكان عندهم سعة، فإنهم لا يحتاجون لطلب الرزق، فلذلك يلهون ويلعبون، وينشغلون بكل الملهيات، ولو كانوا في ضنك لذهبوا يطلبون الرزق، ولكن أمنوا مكر الله واغتروا بالنعمة ولم يشكروها، فيلعبوا في سائر الأوقات بالمعاصي وبالمنكرات، فيأتيهم العذاب ضحى وهم يلعبون؛ فيكون مفاجئاً لهم، وهذا دليل أمنهم من مكر الله، ولو كانوا يخشون الله ما ناموا ولعبوا، ولصلوا وقاموا وعبدوا الله، وفعلوا كما كان يفعل رسول صلى الله عليه وسلم. فلم يكن نومه عليه الصلاة والسلام غفلة، وإنما كان عبادة، ولذلك فإنه لابد للعباد أن يفيئوا إلى الله في وقت الشدة، وأن يتوكلوا على الله.

التوكل على الله

التوكل على الله من أهم أعمال القلوب: التوكل على الله. {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:23] {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3] {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ} [آل عمران:173 - 174] هذا كان عاقبة الذين يتوكلون على الله، كفاهم الله الشر والعذاب وكفاهم بأس عدوهم غانمين سالمين، وأرجعهم يعبدون الله ويتبعون رضوانه.

رسول الله وتوكله على الله

رسول الله وتوكله على الله كان صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه وذكره لربه: (اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت) وكان يفوض أمره إلى ربه حتى عند النوم يقول: (أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، رغبةً ورهبةً إليك) واعتماده على الله سبحانه وتعالى. والتوكل يمكن أن نعرفه بأن نقول: هو تفويض الأمر إلى الله، والتعلق بالله في كل حال، وقطع علائق القلب عن غير الله، كل علاقة بغير الله نقطعها، والاعتماد على الله في حصول المطلوب وزوال المكروب مع الأخذ بالأسباب، هذا تعريف التوكل.

موسى ينصح قومه بالتوكل على الله

موسى ينصح قومه بالتوكل على الله موسى عليه السلام لما أرسله الله لبني إسرائيل وكانوا في اضطهاد وظلم قال: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} [يونس:87] اجعلوها عامرة بذكر الله؛ لأن هذا الذي ينجي في الأخطار، وهذا الذي يصبر الناس، فماذا قال موسى لقومه؟ وقال موسى لقومه لمن آمن به: {يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ * فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} [يونس:84 - 85] ولذلك لابد أن يواطئ اللسان القلب؛ فالقلب متوكل واللسان يقول: توكلنا على الله، واللسان يقول: {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الممتحنة:4]. {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64] أي: يكفيك ويكفي المؤمنين الذين اتبعوك، فهو حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين، ولذلك -أيها الأخوة- ثبت من خلال الأحداث بالدليل القاطع أن جمع الأموال وتخزين الأطعمة لا يفيد شيئاً أبداً إذا نزل عذاب الله، فالأموال تذهب كلها، والعدو يستولي عليك وعلى طعامك.

تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة

تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة ما الذي ندخره للحظات الشدة؟! التوكل على الله وعبادته، من سره أن يكون الله معه في وقت الشدة، فليكن مع الله في وقت الرخاء، ونحن يمكن أن نجني ثمرات ما زرعناه في الماضي من وقت الرخاء عندما نكون الآن في وقت الشدة، فإذا لم نكن قد زرعنا شيئاً فلنستغل الفرصة الآن، فيمكن أن نعبد الله، وأن نتجه إلى المساجد، وأن نصلي ونحن مطمئنون، وأن نتصدق ونخرج من أموالنا، إن أناساً حرموا من الصدقات، قد يريد الصدقة لكن لا مجال أن يتصدق، واليوم صاروا يُتَصدَّق عليهم، ناس كانوا يقولون: هل رأيتم الفقر، فإنا هذا دفناه؟ ناس قالوها في السنوات الماضية والآن صاروا يقبلون ما يُعطى لأولادهم من الثياب المستخدمة، واحد كان عنده خمسين مليون ديناراً، لكنه يقتسم الآن هو وخادمه رغيفاً من الخبز. والله الذي لا إله إلا هو -أيها الأخوة- إذا لم تهزنا الأحداث وتجعلنا نفيء إلى الله عز وجل، فإن الله إذا أخذنا فإنه سيأخذنا أخذ عزيزٍ مقتدر، ولذلك فالحق نفسك أيها المسلم. أكثر من العبادات الصدقات توكل على الله اجمع قلبك على الله! لا تشتت نفسك بالتوكل على غير الله، فإن من توكل على غير الله ذل. والعوام كثيرٌ منهم هوام، لا يعتقدون بالعقيدة الصحيحة في التوكل، ولذلك تجدهم مساكين في ألفاظهم ومعتقداتهم، نسوا قضية التوكل على الله، الناس الآن يتعلقون بأي قشة ونسوا التوكل على الله عز وجل. {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134] {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} [التكوير:26] وإلى أين تهربون؟!! {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} [الطور:7 - 8]. أين ثمود؟ أين فرعون ذو الأوتاد؛ الذين طغوا في البلاد؛ فأكثروا فيها الفساد؟ هل كان هناك أشد من فرعون ومن معه من جنده؟! أو أشد من ثمود الذين قطعوا الصخر، وعملوا هذه البيوت التي بقيت إلى الآن:: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الصافات:137 - 138]. إذاً مسألة التجميع والاستكثار من الدنيا لا تنفع أبداً وقت الأزمة، وما ينفع إلا بالإيمان بالله، فإن كان عندك رصيد من الإيمان نفعك وقت الشدة، وإلا فيمكن أن تصيبك سكتة أو أي شيء من الأمور المفزعة والمضطربة، أو صدمة نفسية وعصبية، لكن المسلم المعتصم بالله، لو أصابته شدة ينقذه الله. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال تعالى: {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} [الأعراف:165]. لكن الله عز وجل يمهل فيظن الناس أنه ما أخذ ولن يؤخذ مع أن العذاب قريب: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف:24 - 25].

الولاء والبراء

الولاء والبراء أيها الأخوة: من أعمال القلب: تجديد الولاء والبراء الحق، الولاء لله والبراء من أعداء الله: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ} [المائدة:55] من هم أولياؤنا؟ من هم أحبابنا؟ من هم المقربون إلينا؟ إنهم أولياء الله، إنهم المسلمون المطيعون لله في كل مكان، هؤلاء هم أولياؤنا. من هم أعداؤنا؟ هم أعداء الله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ} [النساء:45] كل عدوٍ لله فهو عدونا، وكل عابدٍ لله فهو صديقنا وأخونا وحبيبنا ومقربٌ إلينا، فلابد أن نتولى الله ورسوله والذين آمنوا، ولابد أن نتبرأ من كل كفرٍ وكافر، وكل شركٍ ومشرك، وكل بدعةٍ ومبتدع، ولابد أن نتبرأ من كل معصيةٍ وفسقٍ وظلمٍ، ونجدد الولاء لله، وهذه قضية قلبية، فمحل الولاء والبراء في القلب. الولاء المقتضي للمحبة: يكون بواسطة القلب، والبراء المقتضي للبغض والعداوة يكون في القلب، ثم تكون أعمال الجوارح بناءً على أعمال القلوب. فإذاً عندما تضيع الولاءات وتختلط لابد من هزيمة قريبةٍ أو بعيدة، وعندما يتحقق الولاء لله سبحانه وتعالى، فإن الله ناصرٌ أولياءه ولا شك: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر:51] {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة:21].

البصيرة

البصيرة ومن أعمال القلب أيضاً البصيرة، والبصيرة هي النظر في الواقع من خلال النور الذي يقذفه الله سبحانه وتعالى في قلوب من يشاء من عباده، فإذا قذف الله نوره في قلب عبدٍ مؤمن، فإنه يرى ما أخبرت به الرسل كأنه رأي عين: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف:108] فلا أدعو على جهل ولا غفلة، بل أدعو إلى الله على بصيرة، ولا أدعو من منطلقات غيري ومبادئ غيري، بل أدعو إلى الله على بصيرة من ربي: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46]. البصيرة بالضبط هي معرفة الحق، تمر بالمسلمين مسائل كثيرة -خصوصاً في أوقات الشدة والمحنة- لا يدرون أين الحق فيها، يضطربون من قائلٍ يقول: هذا هو الحق، ومن قائلٍ يقول: هذا العالِم هو الذي معه الحق، وآخر يقول: هذه الفتوى هي الفتوى الصحيحة، وثالث يقول: الرأي هذا هو الرأي الصواب. يضطرب الناس ويموجون ويختلطون، لكن أين الحق؟ من الذي يدلك على الحق؟ البصيرة.

من أين تأتي البصيرة؟

من أين تأتي البصيرة؟ أيها الأخوة: البصيرة التي تأتي بالتفقه بالدين، والتي تأتي بعبادة الله، البصيرة التي تأتي بالإقبال على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، الذي يقوم بهذه الأعمال يقذف الله في قلبه نوراً يعرف به الحق من الباطل. ولذلك عندما تختلط عليك الأمور فراجع قلبك؛ لأن معناه أن البصيرة فيها خلل. إذا غبشت عندك الصورة في محنة فلم تدر أين الحق، وتقول: أرى أناساً يقولون كذا، وأناساً يقولون كذا، وأسمع من هذا، ومن مصدرٍ آخر أين الحق؟ ما هو الحق؟ ما هو الصواب؟ إذا اختلفت الأمور فراجع قلبك. ولذلك كان شيخ الإسلام رحمه الله يقول: يا معلم إبراهيم علمني، ويا مفهم سليمان فهمني، يلجأ إلى الله بالدعاء، حتى يكشف له الحق: (اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراطٍ مستقيم).

فائدة البصيرة

فائدة البصيرة إذا كان عندك بصيرة، فإن أي حدث يحدث سيكون عندك فيه وضوح رؤية، حتى في الأحكام الشرعية والفتاوى الفقهية، إذا ما تبينت لك المسألة فالجأ إلى الله وقل: يا معلم إبراهيم! علمني، ويا مفهم سليمان! فهمني، وقبل ذلك قل هذا الدعاء الذي كان صلى الله عليه وسلم يقوم الليل ويدعو به: (اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك) لماذا نحن نتخبط ونلجأ إلى هذا وهذا، وننسى شيئاً مهماً جداً وهو اللجوء إلى الله؟ ولذلك أيها الأخوة! البصيرة تقتضي كما ذكرنا عبادة، وتقتضي تفقهاً في الدين، ولذلك أنا أنصح كل أخٍ اختلط عليه حكم مسألة من المسائل وأقول له: ابحث فيها بنفسك، افترض أنك تريد معرفة حكم شرعي، في مسألة فقهية، فارجع إلى كتب العلم، انظر ماذا قال أهل العلم في هذه المسألة، وما هي الأدلة، أليس عيباً أن كثيراً من الشباب يضطربون في مسائل فقهية من الواقع الحادث ويقولون: لا ندري هل هذا الحق أو هذا، هذه الفتوى صح أم خطأ، وبين أيديهم كتب ومراجع يستطيعون الرجوع إليها وبحث المسائل فيها؟! لكن نحن تعودنا على الكسل نقول: نريد كل شيء يأتي إلينا جاهزاً، نحن ما عندنا استعداد للبحث، ووالله لو قرأنا وتفقهنا لعرفنا، فيمكن ذلك بقراءة وتفقه، وبمناقشة أهل العلم، ودعاء لله وإخلاص له وتضرع، بهذه كلها نصل إلى الحق.

الاعتبار بالواقع

الاعتبار بالواقع ومن أعمال القلوب: الاعتبار، الاعتبار: أخذ العبرة من الواقع: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْأِنْسَانُ كَفُوراً * أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً * أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً} [الإسراء:67 - 69]. الآن -أيها الأخوة- إذا حدثت شدة، أو أزمة، المفروض أن نعتبر ومعنى نعتبر أي: أن تحملنا مصيبة غيرنا -مثلاً- على سلوك السبيل السوي، أو تحملنا المصيبة التي وقعت بنا نحن على تعديل مسلكنا ومنهجنا. يا أخي! أنت تعيش في بلد فحصلت عليك مصيبة، ما هو المفروض عليك؟ عليك أن تعتبر فتتوب إلى الله، وتغير طريقتك، وكذلك جيرانك: واحد نزلت به مصيبة، ماذا ينبغي عليه؟ أن يعتبر فيما نزل به، يتعظ بما نزل به، ويأوي إلى الله، يرجع يتوب ينيب، وماذا ينبغي على جيرانه من حوله؟ ينبغي عليهم أن يعتبروا بمصابه هو، فيقولون: نخشى أن يصيبنا ما أصابهم، فيتوبوا إلى الله هم أيضاً.

الله جل وعلا يأمرنا بالاعتبار من واقعنا

الله جل وعلا يأمرنا بالاعتبار من واقعنا وهذه الآيات مهمة بالنسبة للذين لا يعتبرون: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:67] لا أحد أبداً تدعونه إلا الله عز وجل، {ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْأِنْسَانُ كَفُوراً} [الإسراء67]. انظر الآن إلى المناقشة: أنت يا أيها الذي نجوت الآن من البحر!! يا أيها الناجون الذين أشركوا وأعرضوا بعد نجاتهم -بدلاً من أن يقابلوا نعمة النجاة بشكرٍ لها؛ من الإقبال على الله وترك المعاصي أعرضوا- أنتم أيها المعرضون بعد النجاة: {أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ} [الإسراء:68] هل إذا رجعت إلى البر لا يستطيع الله عز وجل أن يخسف بك البر؟! ويزلزل بك الأرض؟ بل يستطيع سبحانه وتعالى، فهو على كل شيء قدير: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام65] {أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ} [الإسراء:68] أنتم الذين نجوتم وأشركتم، بعد أن خرجتم إلى اليابسة، وقلتم الآن وصلنا إلى بر الأمان، أتضمن ألا يخسف بك جانب البر: {أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً} [الإسراء68] مطر فيه حجارة: {ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً} [الإسراء68]. سبحان الله العظيم! ربنا عندما يناقش هؤلاء الناس فإن المناقشة في الصميم، لكن المشكلة عدم وجود الذي يعتبر ويفهم؟ {أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى} [الإسراء:69] أي: هل لن تركب البحر أبداً؟ ألن تعرض لك حاجة وتركب البحر مرة ثانية؟! ممكن: {أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ} [الإسراء:69] إي والله قد يرجعك مرة ثانية في البحر، لكن هذه المرة يرسل عليك قاصفاً من الريح، فيهدم صواري السفن، ويغرق المراكب {ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً} [الاسراء:69] أي: لا تجدوا أحداً يأخذ بثأركم. ولذلك هناك أناس اعتبروا من هذه المواقف، وإليكم مثالاً على ذلك:

عكرمة بن أبي جهل واعتباره عند ركوب البحر

عكرمة بن أبي جهل واعتباره عند ركوب البحر عكرمة بن أبي جهل صحابيٌ جليل كان كافراً وعدواً لله، ومن صناديد قريش الصادين عن دين الله، ابن عدو الله، لكن أراد الله به خيراً. كيف؟ لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة هرب عكرمة فاراً من رسول الله صلى الله عليه وسلم فركب في البحر ليدخل الحبشة، فجاءتهم ريحٌ عاصف هو ومن معه في البحر، فقال القوم بعضهم لبعض: إنه لا يغني عنكم إلا أن تدعوا الله وحده -انظر سبحان الله! هؤلاء مشركون- هؤلاء المشركون يقول بعضهم لبعض: إنه لن يغني عنكم شيئاً إلا أن تدعوا الله وحده، مثل ما قال الله في القرآن بالضبط. فقال عكرمة في نفسه لما سمع هذا الكلام: [والله لئن كان لا ينفع في البحر غيره فإنه لا ينفع في البر غيره] فالآن حصل الاتعاظ، ونحن عندنا أناس نائمون، يغطون في نومٍ عميق، تأتي لهم بالآيات فلا فائدة، عكرمة بن أبي جهل كم مرة سمع القرآن، وكم مرة سمع الرسول صلى الله عليه وسلم، وكم مرة رأى المسلمين، وكم مرة؟ لكن كان غافلاً نائماً كافراً. هذه المرة شاء الله أن يهديه، هذه المرة استخدم عقله وفكر، نحن نريد من الناس الآن أن يستخدموا عقولهم فيفكروا، الأحداث هذه لابد أن تهز الناس وتوقظهم من غفلتهم، قال عكرمة: [والله لئن كان لا ينفع في البحر غيره فإنه لا ينفع في البر غيره، اللهم لك علي عهدٌ لئن أخرجتني منه سالماً، لأذهبن فلأضعن يدي في يديه -صلى الله عليه وسلم- فلأجدنه رءوفاً رحيماً]. فخرجوا من البحر سالمين، وهنا مرحلة أخرى؛ هل تُرى سيرجع إلى الكفر أم أنه سيواصل على الهداية؟ هذه التي حصلت له الآن، فخرجوا من البحر فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم وحسن إسلامه رضي الله عنه. الاعتبار: لا بد من التفاعل مع الأحداث، لابد أن تكون لنا مواقف قلبية مما يدور على ضوء الكتاب والسنة، ولذلك أيها الأخوة! عندما نتأمل في بعض الأقوال التي وردت، مما حصل من مقابلات كثيرة في الجرائد والمجلات والإذاعات وغيرها مع إخواننا المسلمين الذين هربوا من الكويت، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يردهم، فنجد في بعض التعليقات أن أناساً عندهم جمل وكلمات تدل على أنهم اتعظوا من الواقع. امرأةٌ تقول -باللهجة العامية- تقول: (الله ما سوى فينا إلا شوي) أي: على الأقل نجونا وإلا كان من الممكن أن يخسف بنا خسفاً فيفنينا عن بكرة أبينا، ما قتل منا إلا قلة بالنسبة للناجين. فعندما ينظر الإنسان إلى ذنوبه الكثيرة والمتراكمة وينوب المجتمع كله، ثم أن الله سبحانه وتعالى يذكر بشيء، فهناك ما هو أصعب منه وأغلظ وأشد بكثير، فلا بد أن يعتبر.

اليقظة من لوازم الاعتبار

اليقظة من لوازم الاعتبار والقلب من أعماله اليقظة: قلب المسلم لابد أن يكون متيقظاً، لا سهو ولا غفلة، فإذا سها وغفل ذكر الله قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201] انظروا إلى هذه الآيات: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْك وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [يونس:22 - 23]. هذه هي المشكلة الآن عندنا، مشكلة الناس الذين نجوا ومع ذلك فهم مصرون على الباطل، مصرون على المعاصي، مصرون على الفواحش، مصرون على الخمور، مصرون على الربا، مصرون على ترك الصلوات، أي: المشكلة أن الناس لا يتعظون من أول ضربة، وهذه شبه قاعدة، أن الناس ما يتعظون من أول ضربة، بل لا بد أن تأتي أولى وثانية وثالثة ورابعة، ومع كل ضربة يستيقظ أناس، ومع كل محنة يستيقظ أناس، ومع كل شدة يستيقظ آخرون وهكذا لا تستيقظ الشعوب من أول محنة. ولذلك تجد الناس يدخلون في المحنة وتقع عليهم شدة ومع ذلك يخرجون كأن شيئاً لم يقع، فما زالوا منغمسين في المعاصي والأوحال، نقلوا فسادهم من مكان إلى آخر. لكن لا يخلو الأمر من أناس اتعظوا، ثم بعد ذلك تأتي محنةٌ أخرى وثالثة ورابعة حتى يستيقظ الناس، والله عز وجل جرت سنته هكذا: {فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [يونس:23]. هذه قصة سمعتها عن امرأةٍ بواسطة، تقول: هي امرأة من بلدٍ أصابها الله بالدمار والحروب، ولم تزل الحروب فيها قائمة -في لبنان - تقول بصراحة: نحن كنا نخرج ونغني ونرقص، فإذا جاءت غارة جوية وقصفتنا -مثلاً- دخلنا في الملجأ تحت الأرض، فإذا انتهى القصف والغارة طلعنا وكملنا الأغنية والرقصة. إيه والله هذا شيء مدهش! نرقص ونغني! وبعد أن تنتهي الغارة نطلع نكمل الرقص والأغنية! معناها: يوجد أناس مهما أصابهم لن يتعظوا. يا أخي! واحد قلبه ميت، ماذا ترجو من ورائه، نريد أن نذكر أنفسنا ونذكر غيرنا لعل الله عز وجل أن يهدي أُناساً؛ لأنه لن يخلو الناس من منتصحين وأناسٍ يقبلون الكلام: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55] فلنقم بواجب التذكير، ثم من اهتدى فلنفسه ومن أساء فعليها.

التضرع إلى الله واللجوء إليه

التضرع إلى الله واللجوء إليه ومن أعمال القلب أيضاً: التضرع إلى الله سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} [الأنعام:42]. الله عز وجل رحيم، كان من الممكن أن يقبضهم ويموتوا على الكفر ويدخلوا جهنم، لكن الله عز وجل يمس المدن والقرى والبلدان بعذاب؛ لعل بعض هؤلاء الناس يهتدون من خلال العذاب والمحنة؛ فتصلح أحوالهم فإذا جاءهم الموت كانوا على هداية. وهذه من رحمة الله كيف يكون العذاب من رحمة الله؟ كيف تكون المحنة من رحمة الله؟ هكذا تكون ناس في غفلة، فيسلط الله عليهم عذاباً من السماء أو من الأرض بواسطة بشر أو بغير واسطة البشر، فإذا سلط الله عليهم رجع أناس، فيهتدون ويموتون على الهداية، وكان من الممكن أن يموتوا على الغواية بدون العذاب، فكان العذاب بالنسبة لهم رحمة، وعلى الأقل يُكَفِّر سيئاتهم بالمصائب الحالة بهم. فإذاً هذه الشدائد والمحن رحمة من الله، كم اهتدى بها أناس، وكم كفر الله بها سيئات أناس، وكم زاد الله بها أناساً -قلوبهم ميتة- زادهم إثماً على إثمهم؛ ليكون عذابهم في جهنم أشد وأبقى. وانظر تجد ظالماً ومنتفشاً وطاغية: {أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً} [آل عمران:178] واحد يا أخي يقول: هؤلاء أقوياء؛ هذا قوي؛ هذا جبار، وهؤلاء عندهم أسلحة: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً} [آل عمران:178]. قل لي الآن بعد خمسمائة سنة، الأحداث التي نعيشها نحن الآن، فيها ظالم ومظلوم وفيها كفار ومسلمون، هذه الأحداث بعد خمسمائة سنة ماذا ستكون؟ هذه الأشياء التي أرعبتنا وخوفتنا، والتي طغت على حياتنا، وعكرت أمزجتنا، وأقلقتنا وأقضت مضاجعنا، بعد سنين طويلة، بعد خمسمائة سنة مثلاً ماذا تكون هذه الأحداث؟ يمكن أن تكون سطرين في كتاب تاريخ، إي والله، ويقال عنها: وفي سنة 1411هـ كانت وقعة كذا وكذا حصل فيها كذا وكذا. ولكن كل شيء مكتوب، صحف الأعمال مكتوبة عند الله، الظالم والمظلوم القاهر والمقهور الجبار الباطش، والمسكين الضعيف المسلم الذي اهتدى والمسلم الذي ظل على فسقه هذا الذي كفر بنعمة الله، والذي زادته المصيبة إيماناً، والذي زادته المصيبة نفاقاً وكفراً، كله مكتوب عند الله عز وجل: {فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} [طه:52]. {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:42 - 45]. A=6000851> قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ * قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} [الأنعام:63 - 65]. A=6002748> وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون:76]. A=6003523> وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى} [السجدة:21]-في الدنيا- {دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ} [السجدة:21].

حوادث من التاريخ

حوادث من التاريخ أريد -أيها الأخوة- في خاتمة هذا الحديث أو في الربُع الأخير منه أن أستعرض معكم بعض الأحداث التي مرت بالأمة الإسلامية، ونرى فيها ماذا حدث في واقع المسلمين، وهل كانت هناك أحداث ضخام! وما مدى ضخامتها! وكيف تصرف المسلمون تجاهها! لأنني على يقين تام بأن دراسة التاريخ الإسلامي مسألة في غاية الأهمية بالنسبة لنا نحن الآن؛ لأننا نعيش في هذا القرن الخامس عشر الهجري، لأن كثيراً من الأحداث تتشابه، نعم. قد لا تتشابه بالأرقام والمواقع وأسماء الناس، لكن تتشابه في الظروف والأحوال والمواقف التي عبر بها الناس تجاه الفتنة والمحنة وهكذا لنَصل من خلال هذه الأحداث إلى عبرة ونعرف من خلالها: أولاً: نحن الآن نعيش في أحداث ضخمة لا شك، هل مرت بالمسلمين أحداث ضخمة؛ وربما تكون أضخم مما تمر بنا الآن؟ ثانياً: ما هو موقف المسلمين تجاه هذه الاحداث؟

التتار واكتساحهم لبلاد المسلمين

التتار واكتساحهم لبلاد المسلمين ويمكن أن نعلم من الأحداث ما هي الأخطاء التي وقع فيها المسلمون، والتي يجب علينا أن نتجنبها الآن! عندما نقول: نتضرع إلى الله، كيف كانت إذا نزلت المصيبة بالمسلمين، وماذا كانوا يعملون؟ في فترة من تاريخ المسلمين، تقريباً من سنة 616 هـ إلى سنة 665هـ وما بعدها بقليل، هذه الفترة من التاريخ الإسلامي حفلت بأحداث رهيبة وعاصفة، كان فيها ثلاث أحداث مهمة: اكتساح التتار لبلاد المسلمين في الجهة الشرقية والوسطى، واكتساح النصارى لـ مصر، وشمال بلاد الشام، وفلسطين، وحدوث النار العظيمة التي خرجت بجانب المدينة المنورة، هذه حدثت في وقتٍ واحد، أي: في فترة متقاربة جداً، وكان الوضع الإسلامي في ذلك الوقت في محنة عصيبة جداً من عدوان خارجي، ومن مصائب داخلية، ومن أنواع الغلاء والتفرق والتمزق والطوفانات التي حصلت، والخراب الذي وقع في بلدان المسلمين، فكانت فترة عصيبة جداً، نحن نريد أن نلقي الضوء على هذه الفترة من خلال ما سنقرؤه من بعض أحداث التاريخ التي حدثت في تلك الآونة. قال ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية: ثم دخلت سنة: (616هـ) وفيها عبرت التتار نهر جيحون بصحبة ملكهم جنكيز خان من بلادهم -أنا أختصر الكلام اختصاراً- فقصد التتار بخارى، وبها عشرون ألف مقاتل، فحاصرها جنكيز خان ثلاثة أيام، فطلب منها أهله الأمان فأمنهم، ودخلها فأحسن السيرة فيهم مكراً وخديعة، وامتنعت عليه القلعة فحاصرها واستعمل أهل البلد في دفن خندقها، وكان التتار يأتون بالمنابر والربعات فيطرحونها في الخندق، ففتحوها قسراً في عشرة أيام، فقتل من كان بها ثم عاد إلى البلد، فأخذ أموال تجارها، وأحلها لجنده، فقتلوا من أهلها خلقاً لا يعلمهم إلا الله عز وجل، وأسروا الذرية والنساء وفعلوا معهن الفواحش بحضرة أهلهن، فمن الناس من قاتل دون حريمه حتى قتل، ومنهم من أسر فعذب بأنواع العذاب، وكثر البكاء والضجيج في البلد من النساء والأطفال والرجال، ثم ألقت التتار النار في دور بخارى ومدارسها ومساجدها فاحترقت، حتى صارت بلاقع خاوية على عروشها، ثم كروا راجعين عنها قاصدين سمرقند، ثم من الجهة الشرقية دخل الفرنج فاحتلوا مدينة دمياط وغدروا بأهلها وقتلوا رجالها وسبوا نساءها، فضج الناس وابتهلوا إلى الله. في فلسطين في المسجد الأقصى حصل اكتساحٌ أيضاً، خاف الناس من الفرنج أن يهجموا عليهم ليلاً أو نهاراً، وتركوا أموالهم وأثاثهم، وتمزقوا في البلاد كل ممزق؛ حتى قيل أنه يبيع القنطار الزيت بعشرة دراهم، والرطل النحاس بنصف درهم. سبحان الله! التاريخ أيها الأخوة فعلاً يتشابه، الآن مرت في الأحداث أن رجلاً باع سيارته من هؤلاء الهاربين من جحيم العذاب والظلم بدنانير زهيدة، وبيع الرطل من النحاس بنصف درهم- وضج الناس وابتهلوا إلى الله في المسجد الأقصى. ثم دخلت سنة (617هـ) وفي هذه السنة عم البلاء وعظم العزاء بـ جنكيز خان، ووصل إلى بلاد العراق وما حولها حتى انتهى إلى إربل وأعمالها، فملكوها في سنةٍ واحدة، وقتلوا في هذه السنة من طوائف المسلمين ما لا يحد ولا يوصف، وبالجملة فلم يدخلوا بلداً إلا قتلوا جميع من فيه من المقاتلة والرجال، وكثيراً من النساء والأطفال، وأتلفوا ما فيه بالنهب إن احتاجوا إليه، وبالحريق إن لم يحتاجوا إليه، حتى أنهم كانوا يجمعون الحرير الكثير الذي يعجزون عن حمله فيطلقون فيه النار وهم ينظرون إليه، ويخربون المنازل، وما عجزوا عن تخريبه يحرقوه، وأكثر ما يحرقون المساجد والجوامع، وكانوا يأخذون الأسارى من المسلمين، فيقاتلون بهم، ويحاصرون بهم، وإن لم ينصاعوا في القتال، إذا المسلم ما دل على الطريق قتلوه، وذكر ابن الأثير رحمه الله عن هذه الحادثة فقال: فلو قال قائلٌ إن العالم منذُ خلق الله آدم وإلى الآن لم يبتلوا بمثلها لكان صادقاً. فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا يدانيها، ومن أعظم ما يذكرون من الحوادث ما فعل بختنصر ببني إسرائيل من القتل والتخريب في بيت المقدس، لكن هذا كان في مكان معين، أما التتار فقد اجتاحوا أماكن عديدة، في سنة واحدة ملكوا من الأملاك ما لم يملك أحد مثلهم في نفس المدة مطلقاً. وتأمل كيف يسلط الكفار على المسلمين، بنو إسرائيل كانوا مسلمين أهل كتاب مع موسى، فلما ابتعدوا عن الدين وانحرفوا سلط الله عليهم الكفار، بختنصر كافر فقتلهم وشردهم، والمسلمين الآن في هذا القرن الذي نتكلم عنه الآن كانوا مسلمين، لكن انحرفوا وفشت فيهم من أنواع المنكرات والفواحش أشياء كثيرة -وهذه موجودة في الكتب- فسلط الله عليهم التتار مع أن التتار كفار، لكن الله عز وجل إذا ابتعد عنه من يعرفه سلط عليه من لا يعرفه. قال ابن الأثير: ولعل الخلائق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم وتفنى الدنيا إلا يأجوج ومأجوج. وهؤلاء لم يبكوا على أحد، بل قتلوا الرجال والنساء والأطفال، وشقوا بطون الحوامل، وقتلوا الأجنة، فإنا لله وإنا إليه راجعون! ولا حول ولا قوة بالله العلي العظيم لهذه الحادثة التي استطار شررها، وعم ضررها، وسارت في البلاد كالسحاب إذا استدبرته الريح! فإن قوماً خرجوا من أطراف الصين -هؤلاء التتار- فقصدوا بلاد تركستان، ثم ما وراء بلاد النهر مثل: سمرقند وبخارى، فيملكونها ويفعلون بأهلها ما نذكره ثم تعبر طائفةٌٍ منهم -ليس كلهم- إلى خراسان فيفرغون منها ملكاً وتخريباً وقتلاً ونهباً، ثم يجاوزونها إلى الري وهمذان وبلاد الجبل وما فيها من حد العراق، ثم يقصدون بلاد أذربيجان، ويخربونها ويقتلون أكثر أهلها ولم ينجُ منهم إلا الشريد النادر -هذا كله في أقل من سنة- ثم قصدوا قزوين فنهبوها وقتلوا من أهلها نحو أربعين ألفاً. ثم ذهبوا إلى موقان فقاتلهم الكرج في عشرة آلاف فلم يقفوا بين أيديهم طرفة عين، فانهزم الكرج، وتالله لا أشك أن من يجئ بعدنا -هذا ابن الأثير - إذا بَعُد العهد ويرى هذه الحادثة مسطورة ينكرها ويستبعدها، وتترسوا بالأسارى من المسلمين في بلد جاءوا وعلى المسلمين امرأة فيقول ابن الأثير بين قوسين (ولن يفلح قومٌ ولوا أمرهم امرأة) حديث صحيح، ففتحوا البلد بعد أيام وقتلوا أهله، ثم أنهم كانوا يقتلون في المسلمين لدرجة أن أحدهم يدخل إلى دربٍ من البلد وبه مائة رجل من المسلمين فلا يستطيع واحدٌ منهم أن يتقدم إليه، وما زال يقتلهم واحداً بعد واحد حتى قتل الجميع، ولم يرفع منهم أحد يده إليه، ونهب ذلك الدرب وحده، ودخلت امرأةٌ منهم في زي رجلٍ متنكرة، فقتلت كل من في ذلك البيت وحدها، ثم استشعر أسيرٌ معها أنها امرأة فقتلها. ثم ذهبوا إلى أذربيجان ففتحوا أردبيل ثم تبريز فقتلوا من أهلها خلقاً كثيراً وحرقوها، وكانوا يفجرون بالنساء ثم يقتلونهنّ ويشقون بطونهنّ عن الأجنة، ثم فتحوا بلداناً كثيرة يقتلون ويسبون ويأسرون، ويجعلون الأسرى تروساً يتقون بهم الرمي، ثم يرجعون إلى ملكهم جنكيز خان. وكذلك فإن هؤلاء قد تكامل شرهم حتى وصلوا إلى بغداد في سنة (665هـ) وفي بغداد لعب ابن العلقمي الخائن ونصير الدين الطوسي الدور الخياني في الاستيلاء على بغداد، ودخل التتار بغداد وقتلوا جميع من قدروا عليه، هذا بعد أن قتل خليفة المسلمين، فقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والكهول والشبان، ودخل كثيرٌ من الناس في الآبار وأماكن الحشوش والوسخ وكمنوا أياماً لا يظهرون، وكان الجماعة من الناس يجتمعون إلى الخانات ويغلقون عليهم الأبواب، فيفتحها التتار إما بالكسر أو بالنار، ثم يدخلون عليهم فيهربون إلى أعالي الأمكنة فيقتلونهم بالأسطحة حتى تجرى الميازيب من الدماء في الأزقة، فإنا لله وإنا إليه راجعون! وعادت بغداد بعد ما كانت آنس المدن كلها كأنها خراب، ليس فيها إلا القليل من الناس، وهم في خوفٍ وجوع، وقد اختلف الناس في كمية من قتل بـ بغداد من المسلمين في هذه الوقعة، فقيل: ثمانمائة ألف، وقيل: ألف ألف وثمانمائة ألف أي: مليون وثمانمائة ألف شخص، وقيل: بلغت القتلى ألفي ألف، أي: مليونين، فإنا لله وإنا إليه راجعون! وأعمل السيف في أهل بغداد أربعين يوماً، وكان الرجل يُستدعى من دار الخلافة من بني العباس الخلفاء فيخرج بأولاده ونسائه فيذهب به إلى المقبرة فيذبح كما تذبح الشاة، ويأسرون من يختارون من بناته وجواريه، ولما انقضت الأربعون يوماً بقيت بغداد خاوية على عروشها والقتلى في الطرقات كأنها التلول، وقد سقط عليهم المطر فتغيرت صورهم وأنتنت من جيفهم البلد، وتغير الهواء فحصل بسبب ذلك الوباء الشديد، حتى تعدى وسرى في الهواء إلى بلاد الشام، فمات خلقٌ كثير في بلاد الشام من تغير الجو وفساد الريح، واجتمع على الناس الغلاء والوباء والفناء والطعن والطاعون. ولما نودي بـ بغداد الأمان وأنهى جيش التتار مهمته خرج من تحت الأرض من كان بالمطامير كأنهم الموتى إذا نبشوا، وقد أنكر بعضهم بعضاً، فلا يعرف الوالد ولده، ولا الأخ أخاه، وأخذ الوباء الشديد فتفانوا وتلاحقوا بمن سبقهم من القتلى واجتمعوا تحت الثرى بأمر الذي يعلم السر وأخفى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْ

الغلاء وهلاك الناس من شدة الجوع

الغلاء وهلاك الناس من شدة الجوع أما من جهة ما حصل في بعض بلاد المسلمين من الغلاء فإليكم نموذجاً في ما حصل في عام (643هـ) فإنه قد حصلت فتنةٌ ونزل كربٌ في دمشق فعدمت الأموال، وغلت الأسعار؛ حتى بلغ ثمن الغرارة ألف وستمائة، وقنطار الدقيق تسعمائة، والخبز كل أوقيتين إلا ربع بدرهم، ورطل اللحم بسبعة، وبيعت الأملاك بالدقيق -أي: البيوت بيعت بالأكل- وأكلت القطط والكلاب والميتات والجيفات، وتماوت الناس في الطرقات، وعجزوا عن التغسيل والتكفين والإقبار، فكانوا يلقون موتاهم في الآبار حتى أنتنت المدينة وضجر الناس، فإنا لله وإنا إليه راجعون! قال ابن السبط وهو أحد المؤرخين: ومع هذا كانت الخمور دائرة، والفسق ظاهراً، والمكوس -أي: الضرائب- بحالها، وغلت الأسعار في هذه السنة جداً، وهلك الصعاليك -أي: الفقراء- في الطرقات، وكانوا يسألون لقمة ثم صاروا يسألون لبابه، ثم تنازلوا إلى فلس يشترون به نخالة يبلونها ويأكلونها مثل الدجاج. وذكر ابن حجر رحمه الله في حوادث سنة (777) للهجرة قال: وقع في الشام غلاءٌ عظيم، واستمرت الشدة حتى أكلوا الميتات، ووقع أيضاً في حلب حتى بيع المكوك بثلاثمائة إلى أن بلغ الألف؛ حتى أكلوا الميتة والقطط والكلاب، وباع كثيرٌ من المقلين أولادهم، وافتقر خلقٌ كثير، ويقال إن بعضهم أكل بعضاً حتى أكل بعضهم ولده. ثم عقب بعد ذلك الوباء، ففني خلقٌ كثير حتى كان يدفن العشرة والعشرون في قبر بغير غسلٍ ولا صلاةٍ ويقال: إن ذلك دام في بلاد الشام ثلاث سنين.

خروج النار من جانب المدينة المنورة

خروج النار من جانب المدينة المنورة أما ما حصل بجانب المدينة المنورة من خروج النار فإليكم تفاصيل ذلك في عام (654هـ) وقد أرخ أبو شامة رحمه الله لهذه الحادثة تأريخاً جيداً، فكان مما قاله: حدث في هذه السنة تصديقٌ لما في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى تخرج نارٌ من أرض الحجاز تضيء لها أعناق الإبل بـ بصرة). فأخبرني من أثق به ممن شاهدها أنه بلغه أنه كُتب بتيماء على ضوء النار وهي في المدينة الكتب، قال: وكنا في بيوتنا تلك الليالي كأن في دار كل واحدٍ منا سراج، ولما كانت ليلة الأربعاء ثالث جماد الآخرة في سنة (654هـ) ظهر ب المدينة دويٌ عظيم، ثم زلزلةٌ عظيمة رجفت منها الأرض والحيطان، والسقوف والأخشاب والأبواب ساعةً بعد ساعة إلى يوم الجمعة الخامس من الشهر المذكور، ثم ظهرت نارٌ عظيمة في الحرة قريبٌ من قريظة، نُبصرها من دورنا من داخل المدينة كأنها عندنا، وهي نارٌ عظيمة أكثر من ثلاث منارات، وقد سالت أوديةٌ بالنار إلى وادي شظى مسيل الماء، والله لقد طلعنا جماعة نُبصرها فإذا الجبال تسير نيراناً، وقد سدت الحرة طريق الحاج العراقي -الحجاج الذين يأتون من جهة العراق ما لهم طريق إلى المدينة - ورجعت تسيل في الشرق كأنها أنموذجٌ عما أخبر الله تعالى في كتابه: {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ * كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ} [المرسلات:32 - 33]. وقد أكلت الأرض، وقال: كُتِبَ هذا الكتاب يوم الخامس من رجب سنة (654) والنار في زيادة ما تغيرت، ثم قال: وأما النار فهي جبال نيران حمرٍ، والأم الكبيرة التي سالت النيران منها من عند قريظة، وقد زادت وما عاد الناس يدرون أي شيءٍ يتم بعد ذلك، والله يجعل العاقبة إلى خير، فلا أقدر على وصف النار -هذا واحد يكتب رسالة من المدينة يوجهها لـ دمشق يصف فيها ما يرون أمامهم- قال: ولما ظهرت هذه النار وقع في شرقي المدينة نارٌ عظيمة انفجرت من الأرض وسال منها وادٍ من نار حتى حاذى جبل أحد، ثم وقفت إلى الساعة ولا ندري ماذا نفعل؟ ووقت ما ظهرت دخل أهل المدينة إلى المسجد النبوي مستغفرينَ تائبين إلى ربهم تعالى وهذا دلائل القيامة. ثم قال أيضاً: والله لقد زلزلت مرةً ونحن حول حجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم اضطرب لها المنبر إلى أن أوجسنا منه، وسمعنا صوتاً للحديد الذي فيه، واضطربت قناديل الحرم الشريف، وتمت الزلزلة إلى يوم الجمعة ضحى، ولها دويٌ مثل دوي الرعد القاصف، ثم طلع يوم الجمعة في طريق الحرة، وما أبانت لنا إلا ليلة السبت، وأشفقنا منها وخفنا خوفاً عظيماً، يقول: وقمت إلى الأمير فكلمته، وقلتُ له: قد أحاط بنا العذاب ارجع إلى الله تعالى، فأعتق كل مماليكه، ورد على جماعةٍ أموالهم، ثم هبطنا فهبط معنا، وبتنا ليلة السبت والناس جميعهم والنساء وأولادهم ما بقي أحد لا في النخيل ولا في المدينة إلا في المسجد النبوي، ثم سالت منها نهرٌ من نار -من هذه النار- إلى أن قطعت الوادي؛ والله يا أخي! إن عيشتنا اليوم مكدرة والمدينة قد تاب جميع أهلها، ولا بقي يُسمع فيها ربابٌ ولا دفٌ ولا شُرب -انتهت الآلات الموسيقية، لا يوجد موسيقى في البلد مطلقاً ولا شرب خمور- وتمت النار تسيل إلى أن سدت بعض طرق الحجاج، وخفنا أن يجيئنا -النار هذه- فاجتمع الناس ودخلوا المسجد وتابوا يوم وليلة الجمعة. وأما هذه النار فإن لها حجارة، ولها دوي لا يدعنا ننام ولا نأكل ولا نشرب، ولا أقدر أن أصف لك عظمها ولا ما فيها من الأهوال، وأبصرها أهل ينبع، وقد حضر قاضٍ منهم، وفي نفس اللحظات انعكس على بغداد الأمر فأصاب بغداد غرقٌ عظيم حتى طفح الماء من أعلى أسوار بغداد وغرق كثيرٌ من أهلها، ودخل الماء دار الخلافة وسط البلد وانهدمت دار الوزير. وفي المدينة ضج الناس إلى الله عز وجل، وانتبهوا من مراقدهم، وأخلصوا لله، وأيقنوا بالهلاك والعذاب، وبات الناس تلك الليلة بين مصلٍّ وتالٍ للقرآن، وراكعٍ وساجد وداعٍ إلى الله عز وجل، ومتنصلٍ من ذنوبه، ومستغفرٍ وتائب، ولزمت النار مكانها حتى حدث أن رأى الناس في البصرة أعناق الإبل في ضوء هذه النار. أيها الإخوة: هذه بعض الأحداث التي حدثت في بلاد المسلمين في هذه الحقبة من الزمن، في أحداث جسيمة جداً، نحن الآن نقول: لا ندري ماذا ينتظرنا، نسأل الله حسن العاقبة، نحنُ يجب أن نرجع إلى الله، يجب أن نتوب إلى الله، يجب أن ننخلع من الذنوب، يجب أن نتضرع إلى ربنا، لا ندري ماذا ينتظرنا أيها الأخوة، لا ندري هل نجتمع أو لا نجتمع؟ هل نتمكن من الصلاة في المساجد أو لا؟ فاغتنموا الفرصة. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يدفع عنا البلاء كله، والوباء والمحن والفتن، وأن يُسلم بلادنا وبلاد المسلمين، ونحن نرجو الأمن من الله؛ لأننا بالأمن يمكن أن نعبد الله وندعو إلى الله؛ كما أن جميع المسلمين ينبغي أن يهبوا ويعملوا للإسلام في المحنة هذه، ينبغي أن يضاعف الجهد للعمل للإسلام، لأنك لا تدري هل تستطيع أن تدعو في المستقبل أم لا! هل تستطيع أن تتعلم أو لا! الآن ينبغي أن تضاعف طلب العلم والدعوة إلى الله. نسأل الله أن يقينا وإياكم هذه الفتن، ونسأله سبحانه وتعالى أن يجعل عاقبتنا وعاقبتكم إلى خير، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم.

الحق أحق أن يتبع

الحق أحق أن يتبع إن من حكمة الله سبحانه وتعالى أن جعل الصراع قائماً بين الحق والباطل إلى قيام الساعة، وجعل للباطل مؤيدين، وعن الحق مخذلين من ضعفاء نفوس وغير ذلك، فتجد كثيراً من الناس يسمع الحق ثم يرده لأسباب نفسية أو دنيوية أو غير ذلك من الأسباب.

أسباب رفض الحق

أسباب رفض الحق إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد: فيطيب للجنة العامة للنشاط بكلية إعداد المعلمين، ومركز العلوم والرياضيات أن يتقدم بجزيل الشكر لفضيلة الشيخ: محمد بن صالح المنجد، ونثني -أيضاً- بالشكر لإخواننا الحضور، فجزاهم الله خيراً، ونعتذر أيضاً لظروف طارئة عن تغير عنوان المحاضرة من: عناية الإسلام بالمشاعر، إلى عنوان: الحق أحق أن يتبع، نسأل الله عز وجل أن ينفعنا بهذه المحاضرة، ونسأله جل وعلا أن يرزق محاضرنا حسن الأداء، وأن يرزقنا حسن الإصغاء، ولا أطيل عليكم بهذه المقدمة، فأترككم مع المحاضر، والله يحفظكم ويرعاكم. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا هو رب الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الداعي إلى سبيله القويم. أيها الإخوة: أحييكم في هذه الليلة، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل مجلسنا هذا مجلساً خيّراً، وأن يجعل ما يقال فيه من مرضاته عز وجل، والموضوع الذي سوف نتحدث عنه إن شاء الله في هذا الليلة، بعنوان: الحق أحق أن يتبع. وهذا الموضوع متشعب وله أطراف كثيرة، فمنها مثلاً: ما هو الحق؟ ما هي علاماته؟ لماذا يمتنع الناس عن قبوله وهو حق؟ لماذا لا يعترفون به أحياناً؟ والله عز وجل أخبرنا أنه خلق السموات والأرض بالحق، وأنه أنزل القرآن بالحق: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} [الإسراء:105]. وسوف نركز في كلامنا هذا إن شاء الله بالدرجة الأساسية على موضوع الأسباب المانعة من قبول الحق، وندخل في الموضوع مباشرة فنقول:

تقليد القدماء الآباء والأجداد

تقليد القدماء الآباء والأجداد إن من الأسباب التي تحمل الشخص أحياناً على رفض الحق تقليد القدماء من الآباء والأجداد، فيقول الله سبحانه وتعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23] هذا التصميم على تقليد الأسلاف، تقليد القدماء، تقليد الآباء، قال: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [الزخرف:24] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} [البقرة:170]. إذاً بعض الناس لا يُقدّرون، ولا يميزون، ولا يمحصون، فمجرد أن الآباء فعلوا هذا فهم يفعلون مثلهم، وقد يكون الآباء فطرتهم منتكسة، أو على ضلالة، أو قد يكونوا مشركين، أو لم يستخدموا عقولهم في الوصول إلى الحق، أو لم يتفكروا، لكن الأمور عند هؤلاء غير مهمة، المهم هو اتباع الآباء. وعدم الاهتمام بصفات المتبوع من البلايا التي ابتلي بها الكثيرون في هذه الأيام، المهم هو الشخص، وليس المهم صفات الشخص، هذه من الآفات العظيمة. وقد رد قوم إبراهيم على نبيهم لما جادلهم وناقشهم: لماذا تعبدون غير الله؟ لماذا تعبدون ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنكم شيئاً؟ كان جوابهم: {وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء:74] هذا هو الدليل، هذا هو المستند والمتكأ الذي يتكئون عليه، وقالوا: وجدنا آباءنا لها عابدين، فمجرد أنهم وجدوا الآباء يعبدون، فقد اعتبروه مستنداً في قضية رفض ما أتى به إبراهيم، والإصرار على ما هم عليه من الباطل. وقد يرفض بعضهم الحق لأنه لم يسمع به في الأولين، ولأنه قد فوجئ به الآن، فهو جديد عليه: {مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} [القصص:36] ومن هذا القبيل ما يفعله اليوم بعض كبار السن، إذا رأوا رجلاً حديث السن يعمل أمراً من الأمور، فإنهم يقولون له: أنت أتيت بدين جديد، ونحن قد عشنا سنوات طويلة ورأينا آباءنا وأجدادنا فما كانوا يعملون هذا العمل: {وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} [القصص:36] وعليه فأنت مخطئ، وأنت وأنت وهكذا يسفهون رأيه، وقد يكون هو عين الصواب، وهو الواضح بالأدلة، ولكن: {وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} [القصص:36].

الغلو في الرجال

الغلو في الرجال من أسباب رفض الحق: الغلو في الرجال، وعدم إنزالهم المنزلة التي أنزلهم الله إياها، أو رفعهم فوق المنزلة التي أنزلهم الله إياها. والغلو في الرجال من الأمور المنتشرة كثيراً في هذا العصر حتى بين المستقيمين، وبين كثير من الدعاة إلى الله، وطالب الحق لا يهوله اسم معظم كائناً من كان، وليس لهول الرجل يتبع، لا. وهنا قاعدة ذهبية ذكرها علي بن أبي طالب رضي الله عنه: [إن الحق لا يعرف بالرجال، ولكن الرجال هم الذين يعرفون بالحق]، فالحق هو الذي يبين ويقوم، وليس الرجال هم الذين يقومون الحق، فإن الحق موجود، ولكن الحق دليل على صحة الرجال أو خطئهم، فهو المعيار والميزان الذي توزن به الأمور. وقد يزداد الأمر سوءاً حتى يصل إلى درجة ما أخبر به الرسول صلى الله وعليه وسلم كما في الصحيحين عن حذيفة مرفوعاً: (حتى يقال للرجل: ما أجلده! ما أظرفه! ما أعقله! وما في قلبه حبة خردل من إيمان) يصل الأمر بالغلو إلى درجة أن يقال عن الرجل ما ذكر وليس في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، فانظر إلى الموازين عندما تتهدم كيف يقول الناس عن الرجال؟ وهذا المدح الذي يقوله الكثيرون إنما هو من الغلو، ولذلك نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن مدح الرجل في وجهه حتى لايغتر، ومع ذلك فإن ديدن الكثيرين هو إطلاق ألقاب المدح جزافاً على شخصيات ليس في قلبها من الإيمان حبة خردل. والتعظيم حتى لو كان للصالحين -وتعظيم الصالحين من الآفات الكبيرة- واكتشاف الأمر أصعب؛ لأن عندهم أشياء قد يخدع بها الكثيرون، صلاة، وعبادة، وزهد، وتقوى ظاهرة. فهذا الأمر يصل إلى التعظيم وادعاء العصمة لهم، ورفعهم فوق مستوى البشرية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31]. ولذلك يصل الأمر ببعض الغلاة من أصحاب الطرق أنه يسجد لشيخه، وربما يحلق رأسه للشيخ تقرباً له وتعظيماً، الحجاج يحلقون رءوسهم تعظيماً لله، ويزيلون هذا الشعر بالموسى تعظيماً لله، وهؤلاء يعظمون مشايخ الطرق بأن يحلقوا رءوسهم من أجلهم، وتقول لبعضهم: إن الحديث الذي تقوله ضعيف. يقول: لقد رواه الشيخ. تقول له: إن هذا الرأي الذي تقول به مخالف للدليل. يقول: إن الشيخ قد قال به. فهذا التعظيم الموجود للشخصيات سبب كبير من أسباب الانحراف، وقد خط لنا السلف رحمهم الله في هذا الأمر منهجاً، فـ ابن عباس رضي الله عنه لما سئل عن مسألة، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: له إن أبا بكر يقول كذا، وعمر يقول كذا، قال: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله، وتقولون: قال أبو بكر وعمر. وكثير من المعظَّمين اليوم والمتبعين، كثير منهم بل كلهم لا يمكن أن يقارنوا بـ أبي بكر وعمر، ومع ذلك يحتج بأقوالهم على الدليل، وتقدم أقوالهم على الحق من القرآن والسنة، لا أقصد تقديم فهم فلان على فهم فلان للدليل، فهذه قضية تتعلق بالفقه، لكن أن رجلاً ليس مستنداً في كلامه إلى أي دليل، يقدم رأيه على الدليل الصحيح الصريح، فضلال عظيم أن يصل الأمر إلى هذا المستوى. سئل الإمام أحمد مرة -وهذا مثال لا أعنيه لذاته ولما يتضمنه، وإنما أعنيه لما فيه من الدرس العام الذي يؤخذ منه- سئل الإمام أحمد عن كتابة الرأي، قال: لا أراه. لم ير ذلك، فقيل له: إن ابن المبارك، قد كتبه، فقال: الإمام أحمد: ابن المبارك لم ينزل من السماء. وابن المبارك هو من هو في جلالة قدره، وعلو كعبه في العلم، والزهد والعبادة والتقوى لله عز وجل، ومع ذلك يقول الإمام أحمد: ابن المبارك لم ينزل من السماء، وقال المروزي للإمام أحمد رحمه الله: ما تقول في النكاح؟ فقال: سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له المروزي: فقد قال إبراهيم كذا، قال: فصاح بي، وقال: جئتنا ببنيات الطريق، أي: تريد أن تهلكنا؟ ولذلك لما استقر عند السلف هذا الأمر ما هالهم عظمة فلان، وعبادة فلان، وزهد فلان، وورع فلان، إذا كان الذي أتى به فلان هذا مخالفاً للحق، فزهده، وورعه، وتقواه لنفسه، ونحن عندما نتبع، إنما نتبع بالدليل وبالبينة، ولذلك قيل للإمام أحمد: إن سرياً السقطي قال: لما خلق الله تعالى الحروف، وقفت الألف وسجدت الباء، فقال: نفروا الناس عنه، ولم يهمه سري السقطي من هو، ولا ما هي العبادة والزهد والورع، وما هو مقيم عليه، فله شأنه الخاص به، ولنا علمه الذي يقول به، نزنه بالحق: نفروا الناس عنه، لأنه قال كلاماً بغير دليل، فالكلام الذي قاله الإمام أحمد صحيح، وهذا هراء. وليس لأي واحد أن يقول: نفروا الناس عن فلان، فلا بد أن يأتي بالبينة والدليل لماذا ننفر الناس عن فلان؛ أما نفروا الناس عن فلان لهوى، أو لخلاف شخصي، أو لأطماع معينة، فهذه قضية خطيرة، فلا إفراط ولا تفريط، ولا مجاوزة للحد من أحد الجانبين، والحق دائماً وسط بين طرفين، وطريق بين باطلين في كثير من الأمور. وقد وقر في نفوس كثير من الناس تعظيم أقوام، فإذا نقل عنهم شيء فسمعه الجاهل بالشرع قبله؛ لتعظيم القائل في نفسه، يقول أحد أهل العلم: اسمع مني بلا محابة، ولا تحتجن علي بأسماء الرجال، فتقول: قال فلان وقال فلان، فإن من احتج بالرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم أقوى حجة، على أن لأفعال أولئك وجوهاً نحملها عليها بحسن الظن، أي: لا يعني أن نكره المخطئين على جلالة قدرهم أو ننبذهم، ونشتمهم ونسبهم لأنهم قالوا خلاف الحق، بل نلتمس لهم أعذاراً ونحسن الظن، نقول: لعل الشيخ فلان، أو الإمام الفلاني لم يطلع على الدليل، أو على وجه تضعيف الحديث، أو لعله توهم بالاستدلال أمراً معيناً ليس كذلك، وهذه أشياء بينها أهل العلم، لا كل جاهل يقول: والله لعل الإمام أحمد ما عرف الدليل، لعل أبا حنيفة ما فهم، فهذا الكلام يتبين بمناقشة أهل العلم لبعضهم، والله أخذ عليهم العهد: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187]. المشكلة في عهد العلماء السالفين من الأمة في اتباع وتعظيم أناس من المذاهب الضالة، سواء كانوا جهمية أو معتزلة، أو مرجئة، أو طرقية صوفية من أصحاب الوحدة أو الحلول والاتحاد -وحدة الوجود واتحاد الخالق والمخلوق- كانت المشكلة عندهم في زعماء الضلال، والآن تغيرت كثير من الأسماء، وصارت المشكلة في شخصيات نشأت في هذا العصر، وأصبحت أصناماً تعبد وتقدس من دون الله، فالفكرة نفسها موجودة في السابق، لكن تغيرت الشخصيات، ونشأت بعض المذاهب الهدامة وبرزت إلى الوجود، وعلى السطح، وشهودت في الساحة، وأصبح لها دعاة وأناس يتبنونها وينشرونها، ويسهرون ليلاً ونهاراً لإذكاء نار فتنتها، فيجب على أهل الوعي من المسلمين الوقوف أمام هؤلاء، والبيان للناس: ما هو الميزان وكيف نقوم الأشخاص؟ ومن المؤسف أن تجد أقواماً يسخرون من جمود قوم نوح، وهم عاكفون على أقوال كبرائهم، وفتاوى عظمائهم، لا يرون جواز الخروج عنها، يقول: أخرج عن رأي فلان من أنا ومن فلان؟ فلان له كذا وكذا من المآثر، أنا لا أفهم أكثر منه، ولو أتيته بالدليل وبكلام أهل العلم الآخرين، فلا يمكن يغير، ومن البلاء أن يؤتي الله الإنسان سمعاً وبصراً وفؤاداً، ثم يفكر بعقل غيره، ولا يبصر إلا ما رآه غيره، ولا يسمع إلا ما قاله غيره، ولا يؤمن إلا بما تكلم به غيره. إذاً فما فائدة السمع والبصر والفؤاد؟

الاقتداء بالعالم الفاسق أو العابد الجاهل

الاقتداء بالعالم الفاسق أو العابد الجاهل من الأشياء التي تصد عن الحق، الاقتداء بالعالم الفاسق أو العابد الجاهل، إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:34] فمنهم إذاً عالم فاسق فاجر، أو عابد جاهل، يتبعهم بعض أفراد الأمة فيضلون، ويهدم الدين بزلة العالم التي يتابع عليها.

العرف والعادة

العرف والعادة ومن الأمور التي تصد عن الحق وتمنع الأخذ به: الإلف والعادة التي نشأ عليها الشخص وتربى؛ إذ كيف يغير الإنسان رأيه وقد سار عليه فترة طويلة؟ كيف يغير قناعته وقد تكونت لديه عبر سنوات مديده؟ كيف يخالف الشيء الذي تعود عليه، وألفه، وأحبه، واستمرأه؟ فالمخالفة صعبة؛ لأن فيها تغيير المألوف، والنفس تحب الشيء المألوف الذي اعتادته، فهذه نقطة يعاني منها أهل الحق، وكذلك أهل الباطل في المجتمعات، أهل الباطل يريدون تغيير، عادات الناس الطيبة، وقيمهم الحميدة التي يقرها الشرع، فهم يريدون الثورة على الواقع، نسأل الله أن يفشل مخططاتهم. أما أهل الحق فإنهم يعانون من هذا النقطة، إذا كان الذي عليه الناس، وتمتمسكوا به وألفوه مخالفاً للحق، لكن شتان بين معاناة هؤلاء ومعاناة أولئك. بعض الناس تناقشه في أمر من الأمور فيصر على ما هو عليه، تبين له بالأدلة فيصر على ما هو عليه؛ لأنه قد ألف هذا الشيء، وأحياناً يكون هذا الشيء مخالفاً للعقل السليم، ومع أن هذا الرجل يحمل شهادات عليا، ولكنه غير مستعد لأن يخالف، بل إنه يبحث عن وسائل في الإقناع والرد واهية جداً. أذكر أن واحداً من هؤلاء كان يتكلم عن طرق الذكر الجماعي البدعية، فكان يقول: يا أخي! ما أعظم هذه الرياضة الروحية العظيمة الله أكبر سبحان الله الله حي، تطلع وتنزل، يقول: بدلاً من أن تلعب كرة، وتضيع وقتك في اللعب، فهذا شيء يقوي البدن، والعضلات، والأعصاب، وفيه ذكر انظر إلى عظمة الدين: وتكرار ذا النصح منا لهم لنعذر فيهم إلى ربنا فلما استهانوا بتنبيهنا رجعنا إلى الله في أمرنا فعشنا على سنة المصطفى وماتوا على تن تنا تن تنا قاله ابن القيم رحمه الله في معرض الرد على أولئك المبتدعة في أذكارهم وطرقهم.

الكبر

الكبر أحياناً يرفض الحق للكبر، قال تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف:146] ولذلك مهما ناقشته، وجادلته بالتي هي أحسن، وبالأدلة فلا يمكن أن يقتنع. وبعض الناس تستغرب منه لكبره، والكبر آفة عظيمة، ولذلك فصاحبه محروم من دخول الجنة، لما يورثه الكبر في نفسه من الابتعاد عن الحق الذي يدخل صاحبه الجنة. وقد حفل التاريخ بأمثلة ممن أوقعهم الكبر في مهاوي، مع أن الواحد أحياناً يستغرب كيف وقع هؤلاء، أنت -مثلاً- إذا تأملت الآن مؤلف كتاب: الصراع بين الإسلام والوثنية، تجد فيه من نصرة العقيدة الصحيحة، والرد على المبتدعة أشياء مذهلة، وقد تجد فيه وجوهاً للرد مثل كلامه في آية: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ} [النساء:64] التي استدل بها أصحاب المبتدعة على إتيان الرسول صلى الله وعليه وسلم في قبره بعد موته، وطلب الاستغفار، تجد وجوهاً في الرد ممتازة ومحكمة ربما لا تجدها لمن هو أكبر منه وأعلى باعاً، فقد ألهمه الله إياها فكتبها دفاعاً عن أمة الدعوة. والبروق النجدية في اكتساح ظلمات الدجوية، وغيرها من الكتب الجيدة، فتستغرب فعلاً كيف انحرف هذا الرجل حتى صار ملحد ثم ألف: محاكمة الكون لله، والرجل انحرف تماماً عن الحق، ونزل من مرتبة العلم القوي الصحيح إلى الإلحاد، ليس صاحب بدعة فنقول: بدعته انحرفت به، ولا هو صاحب شبهة، فنقول شبهته انحرفت به، فالحق واضح عنده، وهو يدافع عنه، ويفري فرياً، لكن في النهاية، انحرف، فلا ندري ما هو السبب. كل الأمور متوفرة لديه، والبراهين والأدلة واضحة، وطريقة الرجل مستقيمة، وعقيدته صحيحة، ومنهجه طيب، ولكن: الكبر الذي في نفسه. ولو أن ما عندي من العلم والفضل يوزع في الآفاق لأغنى عن الرسل رجل وصلت به المسألة إلى هذه الدرجة، قال: لو أن ما عندي من العلم والفضل يوزع على الناس لما كان هناك داعٍ لإرسال الرسل، ويقول: وحق لي أن أتكبر لما عندي من الإمكانيات، والطاقات، ولذلك سقط سقوطاً مريعاً، وقد قيض الله من يرد عليه، مثل الشيخ عبد الله بن يايس رحمه الله في الرد القويم، والشيخ ابن سعدي، ومحمد بن عبد الرزاق حمزة، والشيخ صالح السويح، وغيرهم من أهل العلم، الذين بينوا عوار الرجل، وكشفوا أباطيله، لكن تأمل وخذ درساً في عدم الاغترار، وفي أن الكبر يحطم صاحبه تحطيماًَ شاملاً، ونسأل الله الثبات، فالواحد يجد نفسه صاحب عقيدة سيلمة، وصاحب سنة، ويتبع الدليل، وفجأة يقع بسبب الكبر.

العصبية والخوف على الجاه

العصبية والخوف على الجاه أحياناً يرفض الحق للعصبية، والعصبية توضحها الرواية الآتية عن المسور بن مخرمة وهو ابن أخت أبي جهل، أنه قال لـ أبي جهل: يا خال! هل كنتم تتهمون محمداً بالكذب قبل أن يقول ما قاله؟ فقال: يابن أختي! والله لقد كان محمد صلى الله عليه وسلم فينا وهو شاب يدعى الأمين، فما جربنا عليه كذباً قط، قال: يا خال! فما لكم لا تتبعونه؟ قال: يابن أختي: تنازعنا نحن وبنو هاشم الشرف، فأطعموا وأطعمنا، وسقوا وسقينا، وأجاروا وأجرنا، حتى إذا تجاثينا على الركب، وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي، فمتى ندرك هذه؟ فكان سبباً في ردهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم. وهناك أسباب أخرى منها: الخوف على الجاه، وخشية الملأ على نفوذهم، وتقليص امتيازاتهم، فهذا من الأسباب، وهذا الحديث ثبت مثله عن المغيرة بن شعبة.

الانتساب إلى أحد غير الله ورسوله

الانتساب إلى أحد غير الله ورسوله من الأشياء التي تصد عن الحق: الانتساب إلى أحد غير الله ورسوله، قال ابن القيم رحمه الله: وأهل هذه الغربة هم أهل الله حقاً، فإنهم لم يأووا إلى غير الله، ولم ينتسبوا إلى غير رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يدعوا إلى غير ما جاء به، ومن صفات هؤلاء الغرباء، ترك الانتساب إلى أحد غير الله ورسوله، لا شيخ ولا طريقة، ولا مذهب ولا طائفة، بل هؤلاء الغرباء منتسبون إلى الله بالعبودية وحده، وإلى رسوله بالاتباع لما جاء به وحده، وأكثر الناس لائم لهم. وصدق فأنت لو قلت للناس: أنا لا أنتسب إلى أحد غير الله ورسوله، وأنا أسير على طريقة السلف، وأنا من أهل السنة والجماعة أعتقد اعتقادهم وأسير على طريقهم في جميع الأبواب، في العقيدة، والسلوك، والأخلاق، والسنة، ووجه الاستدلال، أنا على أبواب أهل السنة والجماعة، وهذه طريقتي، فلا أنتسب إلى أحد، فكل المنتسبين سيلومونك أنت مع أنهم متفرقون في انساباتهم، ولكنهم جميعاً يعتبرونك عدواً لدوداً لهم. ثم لو أن إنساناً سأل وقال: ما علاقة هذه المسألة بالصد عن الحق؟ كيف يعني أن الانتساب إلى أحد غير الله ورسوله، يصد عن الحق؟ فأقول لك: يا أخي! القضية واضحة، فإن من انتسب إلى طائفة من الطوائف، أو حزب من الأحزاب، أو جماعة من الجماعات، فإنه يوالي لها ويعادي عليها، ويحيطها بهالة من التقديس تمنعه من تقبل الحق لو كان مخالفاً لما عليه هذه الطائفة، بل إنه يدافع عنها بالحق وبالباطل، لأن قلبه قد أشرب من حبها، ولذلك هو غير مستعد أن تنتقد طائفته، وهذا يؤدي إلى العصبية وإلى تفرق المسلمين. ولو أن المسلمين كلهم مشوا على طريقة أهل السنة والجماعة -على طريقة السلف - وعلى طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم، والأشياء التي فيها الاختلافات الواردة فيعذر بعضهم بعضاً فيها، أما الأشياء التي في الأصول والتي لا يمكن الاختلاف عليها، فأمرها محسوم، لتجمعوا واجتمعوا كلهم، ولا نعني بهذا الكلام: نسف مسألة التعاون على البر والتقوى، ونسف قضية التعاون على الدعوة إلى الله، ونسف قضية روح الجماعية في الدين، فهذه موجودة، ولا بد من وجودها وإيجادها، ولكن التفرقات والتعصبات للانتسابات هي التي تهلك.

حصر الحق على طائفة معينة

حصر الحق على طائفة معينة ومن الأسباب التي تصد عن الحق كذلك -أيها الأخوة- حصر الحق في طائفة معينة، يعتقد أنما هي عليه حق، وما عليه غيرها فهو باطل، هذا نتيجة الشيء لما ذكر قبل قليل، وتدعي كل فرقة أنها هي الناجية، وأنها هي الطائفة المنصورة، وأنها الطائفة الصحيحة وعلى المنهج الصحيح، وما سواها باطل. سواها قد يكون من المسلمين، وقد يكون منهجهم صحيحاً، وهذه الادعاءات كثير منها كاذب: وكل يدعي وصلاً بليلى وليلى لا تقر لهم بذاك ومن الأشياء الطريفة أن إحدى فرق القاديانية سموا أنفسهم أهل السنة والجماعة، وهذه المسألة قديمة، أعني ادعاء الحق لطائفة واعتبار الآخرين على باطل، مسلمين، يهود، نصارى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} [البقرة:113] {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111]. أحياناً الذي يرفض الحق يقول: لو كان هذا حقاً لكنت أنا أولى به من غيري، ولو أنه حق لكانت طائفتي أولى به من غيرها، ومادامت ليست عليه، فليس هو الحق قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف:11] أي: لو أن هذا الذي تدعونا إليه خيراً ما سبقتونا إليه، وقالوا: {لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31] أي: لو كان هذا القرآن صحيحاً، لنزل على واحد يستحق، وهو فلان الفلاني. وهذا المنطق مشهور ومنتشر ومتشعب في نفوس الكثيرين، فمتعصبة المذاهب يقولون: لو كان حقاً لقال به إمامي، وأنتم تعرفون طائفة من أقوال المتعصبين، ومتعصبة بعض الطوائف يقولون: لو كان حقاً لرآه قائدي أو قدوتي، ومادام أنه ما رآه فليس هو الحق، {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} [الأحقاف:11].

الحسد

الحسد من أسباب رفض الحق الحسد، يرى أنك على حق فيحسدك، ولا يعمل بما أنت عليه. والحسد قضية قديمة، قال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [البقرة:109]. فاليهود والنصارى يريدون صدنا عما نحن عليه من الحق، وهم يعلمون أنه حق؛ حسداً من عند أنفسهم، وهناك حادثة رواها ابن إسحاق مع ما فيها من جهالة عين أحد الرواة، لكنها تصور واقعاً ولا تترتب عليها أحكام، فنحن نسوقها للفائدة، قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال: حدثت عن صفية بنت حيي بن أخطب -وهي المرأة اليهودية التي أسلمت، وتزوجها الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي أمنا، لأنها أسلمت وصارت أم المؤمنين، والإسلام يجب ما قبله، ولا اعتبار لأي انتسابات أخرى، ونحبها، ونوقرها، توقير آل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم، لأنها من أزواج الرسول صلى الله عليه وسلم- صفية بنت حيي تقول: كنت أحب ولد أبي إليه، وإلى عمي أبي ياسر، لم ألقهما قط مع ولد لهما إلا أخذاني دونه. قالت: فلما قدم النبي صلى الله عليه الصلاة والسلام المدينة ونزل قباء في بني عمرو بن عوف، غدا عليه أبي حيي بن أخطب وعمي أبو ياسر بن أخطب مغلسين، حتى يعلما علم هذا الرجل، فلم يرجعا حتى كان غروب الشمس، قالت: فأتيا كالِّين، كسلانين ساقطين، يمشيان الهوينا، قالت: فهششت إليهما كما كنت أصنع، فوالله ما التفت إلي واحد منهما قالت: وسمعت عمي أبا ياسر وهو يقول لأبي حيي بن أخطب: أهو هو؟ يقصد الرسول الله صلى الله عليه وسلم. يقول: أهو هو أي: الذي نعلمه في التوراة، مكتوب أنه سوف يرسل. قال: أهو هو؟ قال: نعم والله! قال: أتعرفه وتثبته؟ قال: نعم. قال: فما في نفسك منه؟ قال: عداوته والله ما بقيت. انظر الآن هو يعترف تماماً أن هذا هو الرسول صلى الله عليه وسلم الذي صفته مكتوبة في التوراة، أهو هو؟ قال: نعم. لكن النتيجة: عدواته والله ما بقيت. كانوا يريدون ويتوقعون أن يظهر النبي منهم، فإذا هو من أناس آخرين، فحسداً بعض الناس يرفض الحق؛ لأنه أتى من فلان الفلاني الذي بينه وبينه عداوة شخصية، فهم لا يقبلون منه ما يقول حتى لو كان حقاً، ولو قال به آخر لقبلوا. وفلان هذا بيننا وبينه مشاكل، واختلافات شخصية وصراعات، فلا نقبل ما يقول، وهذه بلية كبيرة، معناها أن القضية ليست اتباع الحق، فقد صارت القضية اتباع من يقول بالقول، لو قال به فلان الذي نرتاح له، ونحبه أخذنا بكلامه، لو قال به فلان الذي نخالفه ونكرهه فلن نأخذه. يا أخي! الرسول صلى الله عليه وسلم قبل الحق من الشيطان، لما جاء منه، والدليل على ذلك الحديث الذي في الصحيحين عن أبي هريرة، في الشيطان الذي كان يأتي بصورة آدمي ويسرق من الحب، وأبو هريرة حارس، فأمسكه أبو هريرة في اليوم الأول والثاني وهو يعتذر إليه فيطلقه، وفي الثالث قبض عليه وهدده بأن يذهب به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فعلمه آية الكرسي، ثم في الرواية يقول: فقلت: يا رسول الله! زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها، فخليت سبيله، قال: ما هي؟ قال: قال لي: إذا أويت إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) وقال لي: لا يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك الشيطان حتى تصبح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما إنه قد صدقك وهو كذوب، أتعلم من تخاطب يا أبا هريرة منذ ثلاث ليال؟ قلت: لا، قال: ذاك شيطان) فهل قال الرسول صلى الله عليه وسلم: آية الكرسي لا تنفع قبل النوم لأن الشيطان هو الذي قالها؟ وهو كذوب فأقره عليه السلام مع أنه أتى من الشيطان. والآن أشياء كثيرة من الحق تأتي من أناس ليسوا بشياطين، ولكنها ترفض لعداوة شخصية، واختلافات مذهبية، واختلاف في الرأي، أو يرفض الكلام لأنه أتى من فلان.

اعتناق الرافضين للحق أفكارا ضده

اعتناق الرافضين للحق أفكاراً ضده ومن أسباب رفض الحق: اعتناق الرافضين له أفكاراً ضد الحق، مثل الأفكار الإلحادية العقلانية، الوجودية العلمانية، اعتناق هذه الأفكار بطبيعة الحال يصد عن الحق، والمعتنقين لهذه الأفكار يرفضون الحق. في جاهلية الأمس كان الولاء للآباء والأجداد، وفي جاهلية اليوم صار الولاء لأصحاب المذاهب الفكرية الملاحدة، والشخصيات المسلطة عليها الأضواء ذات الأفكار المنحرفة. وعامة مثقفي المسلمين ممن درسوا في بلاد الكفار، تبنوا أفكاراً ضد الحق، فرجعوا إلى بلادهم سماً زعافاً يحاربون الله ورسوله، ففي بعض المواقف تستغرب كيف يقفها هؤلاء الناس وكيف يعارضون الحق بجلاء ووضوح، وأذكر مثالاً: استغلت مناسبة من المناسبات في موعظة للنساء من وراء حجاب، وقبل الوليمة أو المناسبة حصلت الموعظة، وبعد الطعام قمت لأغسل يدي، فأخبرني واحد من الجالسين قال: لما قمت قال واحد من الحاضرين لشخص من الأشخاص: الحق، فإن الشيخ يكلم النساء عن الحجاب، قال لي: فقام ذلك الشخص مفزوعاً يجري وراءك، فلما رآك في المغاسل تغسل ارتاح ورجع إلى مكانه، ولكن المحذور قد وقع، فقد حصلت الموعظة، وما أخبر إلا بعد حصوله، فانظروا كيف قام الرجل يركض لئلا تسمع زوجته عن الحجاب، ويجري فزعاً قبل أ، أتكلم عن الحجاب، حتى لا تسمع المرأة الكلام في الحجاب! انظر إلى العداء التي تولده تلك الأفكار المغروسة في كثير من هؤلاء المثقفين.

اعتقاد حيلولة الحق بينه وبين جاهه وعزه

اعتقاد حيلولة الحق بينه وبين جاهه وعزه ومن الأشياء التي تصد عن الحق: أن يعتقد الشخص أن الحق يحول بينه وبين جاهه وعزه، فيرفض الحق لأجل هذا، ومثاله: فقدان المنصب، أو فقدان الرآسة، كما وقع في حديث البخاري في كتاب بدأ الوحي، في حديث طويل نقتطف منه هذا المقطع حيث وصل خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هرقل، وتباحث مع صاحب له يوازيه في العلم، حتى تأكد أن هذا هو الرسول صلى الله عليه وسلم، فحاول إقناع قومه، فالمسألة أثرت في نفسه: فأذن هرقل لعظماء الروم في دسكرة له في حمص، ثم أمر بأبوابها فأغلقت، ثم اطلع فقال: يا معشر الروم! هل لكم في الفلاح والرشد، وأن يثبت ملككم، فتبايعوا هذا النبي؟ فحاصوا حيصة حمر الوحش لشدة نفرتهم إلى الأبواب، فوجدوها قد غلقت، فلما رأى هرقل نفرتهم، وأيس من الإيمان -سواء إيمانه هو أو إيمانهم هم- قال: ردوهم إليَّ. لأنه الآن يحاول فيهم، ولكن لما رأى أنهم قد نفروا وأنهم سينقلبون عليه الآن، وينتهي الملك ببساطة، وقد يقتلونه قال: ردوهم علي، وقال لهم الأسلوب الخبيث: إني قلت مقالتي آنفاً أختبر بها شدتكم على دينكم، فقد رأيت! فسجدوا له ورضوا عنه، وكان ذلك آخر شأن هرقل، والحديث في البخاري. فانظر إلى هذا الرجل كيف اقتنع بالحق، فحاول أن يقنع به الناس، فلما انقلبوا عليه خشي على ملكه، فقال: أنما كنت أريد أن أختبر شدتكم، وقد رأيت ما يسرني. من الأمثلة كذلك في فقد الملك حين يحدث فيسبب لصاحبه الذي فقده عداوة للحق ما بقي من حياته: في صحيح مسلم، في حديث عبد الله بن أبي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما جاء يدعوه: لا تغبروا علينا، ثم قال: إن كان ما تقول حقاً فلا تؤذنا في مجالسنا، وارجع إلى رحلك، فمن جاءك فاقصص عليه، ثم قال عليه السلام لـ سعد بن عبادة: أي سعد! ألا تسمع إلى ما قال أبو حباب -يريد عبد الله بن أبي - قال: كذا وكذا، قال: اعف عنه يا رسول الله! واصفح، فو الله لقد أعطاك الله الذي أعطاك، ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة، أي: المدينة أن يتوجوه فيعصبوه بالعصابة، ويجعلوه ملكاً عليهم، فلما رد الله ذلك بالحق الذي أعطاك هو، شرق بذلك -غص- فذلك فعل ما رأيت، فعفا عنه النبي صلى الله عليه وسلم. وما حمل عبد الله بن أبي على كل المواقف التي تعرفونها من الدعوة إلا أنه كان سيصبح ملكاً، فجاء الرسول صلى الله عليه وسلم فانتزع منه ذلك، فانقلب رأساً للنفاق. وكذلك بعض الناس يرفضون الحق لأنه يجردهم من مزايا مادية، أو من أموال لهم، مثلاً: بعض التجار أموالهم أموال ربا، فيرفض الحق في هذه المسألة؛ لأنه يرى بأن أمواله ستذهب، وأن كثيراً من امتيازاته المادية ستذهب؛ لأنها حرام، فلذلك يرفض الحق. بعض الناس يقبلون الحق إذا كان في مصلحتهم، وإذا كان في غير مصلحتهم لا يقبلونه، مثل المنافقين: {وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} [النور:49] وإذا ما كان لهم الحق رفضوا.

الجهل بالحق

الجهل بالحق من أسباب رفض الحق الجهل به، ومن جهل شيئاً عاداه، وعادى أهله، والناس أعداء ما جهلوا، وهذا -أيها الأخوة- يبين مسئولية الدعاة إلى الله في التبيين للناس، إذا كان جهل الناس بالحق سبباً لعداء الحق؛ فعلينا نحن الدعاة إلى الله مسئولية التبيين، حتى إذا عرف الناس الحق لم يعادوه، أو على الأقل يزول السبب الذي يجلب العداوة. كثير من الناس كانوا يجهلون الاستقامة والتدين والأشياء، وينكرون على أولادهم في بيوتهم، فلما تبين لهم الحق، تبينت لهم الحياة الإسلامية الصحيحة، توقفت العداوة، بل أصبحوا يقولون لأبنائهم: والله يا ولدي أني أستحي منك الآن، لأني عاديتك في البداية، وأنا الآن أتعلم منك، لأنه الآن عرف الصحيح.

غربة الحق

غربة الحق قد يرد الحق لكونه غريباً: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} [هود:116] بعض الناس تناقشه في مسألة، فيقول: كلام غريب أسمعه لأول مرة، وليس بصحيح أن تجعله خطأ لذلك.

أن الحق ثقيل ومخالف لهوى النفس

أن الحق ثقيل ومخالف لهوى النفس من أسباب رفض الحق، أن الحق ثقيل، وله تبعات، ويخالف هوى النفس، والنفس تحب الدعة والكسل والراحة، والتخفف من التكاليف، ولذلك بعض الناس لا يستقيمون، ويمكن أن يستقيم فترة، ثم ينتكس، والسبب أن نفسه لا تتحمل هذه التبعات، فهو يريد اللهو واللعب، وعندما يحس بوطأة التكاليف، يقول: اعذروني! أنا لا أستطيع أن أواصل في الطريق. لماذا؟ لا أتحمل ولا أسمع كذا، ولا أرى كذا، وفوق هذا تريد أن أفعل كذا، وأقوم بالواجبات، فيرفض، ولكن الذي يلوح له فجر الأجر يهون عليه ثقل التكاليف.

سوء التربية التي يتلقاها الفرد

سوء التربية التي يتلقاها الفرد ومن الأسباب كذلك: نوع التربية التي يتلقاها الإنسان، فلو رباه أبوه على أن كل ما يسمعه من الأب فهو الحق وغيره باطل مهما كان قائله، فإنك سترى الولد يقول: والله هذا الكلام ليس بصحيح، لأنه يقول: أبي قال غيره، فالأب قدى ربى ولده أن الذي يخرج من فم الأب هو الحق وغيره باطل. لو تربى الولد في المدرسة على أن كل ما يقوله المدرس هو الصواب وما سواه خطأ، فإنه ينشأ على هذا ويتعصب له، ولو تربى إنسان في وسط حتى لو كان ظاهره إسلامياً، ونشأ على أن كل ما هو في هذا الوسط صحيح، وكل ما يقوله أفراد الوسط صحيح، وما سواه باطل، غرس ذلك في نفسه. فإذاً التربية هي التي تربي الشخص على اتباع الأشخاص أو على اتباع الحق، وهي التي تحدد النهاية كيف تكون، وتحدد مواقف الشخص هذا من الحق إذا عرض عليه.

تحكيم العواطف

تحكيم العواطف من الأشياء التي تصد: أن بعض الناس يحكمون عواطفهم ولا عقولهم، وأقصد بعقولهم المبنية على موازين الشرع، بعض الناس يفكرون بالعاطفة، قد يرى رجلاً يبكي وتدمع عيناه، وهو يعرض عليه، ويقول له: يا أخي! صدقني! أقسم بالله إنه كذا، فيتأثر عاطفياً، وبعض الناس يبكون عن جهل، وبعضهم يدعو إلى باطل وإلى بدعة ويبكي، وبعض الناس يبكون بدموع التماسيح ويتظاهرون أمام العالم أن ما يدعونهم إليه حق، ويتأثرون تأثراً نفاقياً، حتى يتأثر الناس بهم فيتبعونهم، والذي يحكم العواطف ولا يحكم ميزان الشرع سينتهي بانتهاء التأثر. وقد يقال: هذا فلان ابتلي في الله وعذب في ذات الله، فكلامه إذاًَ صحيح، لأنه رجل ابتلي في الله، نقول: ومن قال: إن الابتلاء في الله والتعذيب في ذات الله هو مؤهل لأن يكون صاحبه هو صاحب الحق، فيمكن أن يعذب شخص في ذات الله ثم تخرج منه أخطاء، فمثل هذه الأشياء العاطفية التي تحمل بعض الناس على الاقتناع، هي في الحقيقة ليست على أساس صحيح. وبعض الناس متردد في قول الحق، فقد كان يقول بشيء ثم تبين له أنه خطأ وأنه خلاف الحق، وكان قد علَّم الناس هذا الشيء ودعاهم إليه في شتى المجالس وقال به؛ والتراجع صعب جداً؛ لأن الناس سيقولون: إنه جاهل وسطحي، تظل عشرين سنة تعلمنا ذلك ثم تتراجع، أو إذا عرفوا أنه الحق، أو أنك طول الوقت ساكت اعتبروه من الذين يكتمون البينات، فيجد الشخص نفسه في ضائقة، يقول: الناس يقولون عني كذا، إذاً لا أتراجع، ولا أبين لهم حتى لا أفتضح بينهم، وهذه المسألة موجودة في كثير من طلبة العلم الذين ينقلون الأحكام، فتجد خطباء وأئمة مساجد يعلمون الطلاب أشياء خاطئة، فإذا تبين له الخطأ يقول: ماذا يقول عني الطلاب والمصلون والمستمعون إذا تراجعت؟ يقولون: أنا كنت جاهلاً طول الوقت الذي ذهب، فيصده ذلك عن تبيين الحق للناس.

التأثر بكلام المغرضين

التأثر بكلام المغرضين من أسباب الانحراف عن الحق وأهله: التأثر بكلام المغرضين الذين يكرهون أهل الحق، فيشوهون صورتهم وسمعتهم وطريقتهم، فالشخص الذي يسمعهم يتأثر بهم ويصدقهم، ويرفض كلام أهل الحق للتأثيرات التي حصلت عليه، قد يكون معذوراً في أشياء، لكن عليه أن يتبين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ} [الحجرات:6] إن فرعون الذي كان على الباطل كان يفتري ويشوه سمعة موسى وهارون: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ} [يونس:78] أي: أنت تريد الملك، لذلك أنت الآن تعرض عنا وتسفه آراءنا، وتدعونا إلى هذه الدعوة لتكون لكم الكبرياء في الأرض، وكذلك كان يقول لقومه عن موسى: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26] وحملات التشويه تؤثر على كثير من الناس، وأما الملأ فمنهم من يقول: {أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} [الأعراف:127] أي: لا تتركهم.

وضع اعتبارات وموازين باطلة يقيم بها الحق

وضع اعتبارات وموازين باطلة يقيم بها الحق من الأشياء التي تصد عن الحق: أن الواحد يضع اعتبارات غير صحيحة يقيم بها الحق، فتجد اعتبارات وموازين غير صحيحة، مثلاً: أن يعتقد أن الحق هو الذي يكون مع الأكثرية، ويحتج بذلك، والله يقول: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116] ويقول سبحانه وتعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103] ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم واصفاً أهل الحق: (أناس صالحون قليل في أناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم) وحكى الله عن داود عليه السلام {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص:24]. أو مثلاً يجعل الميزان هو القوة والضعف، فإذا رأى أهل الحق ضعفاء قال: لو كان لديهم الحق لانتصروا ظاهرياً، ولكانت لهم الغلبة والاستعلاء، ومادام أنهم ضعفاء فهم ليسوا على الحق، وهذا منطق قديم، قال به أقوام الأنبياء لأنبيائهم: {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} [الشعراء:111] {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} [هود:27] عندما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان، في الحديث المشهور، قال له: وسألتك أيتبعه أشراف الناس أم ضعفاؤهم؟ فذكرت أن ضعفائهم اتبعوه وهم أتباع الرسل. فإذاً ليست القضية أن القوة مع أهل الحق دائماً، أو أن أنصار الحق ضعفاء: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ * وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [الأنعام:53] أو مثلاً: تجعل الثروة دليلاً على الحق، فالذي معه الأشياء المادية هو صاحب الحق {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [سبأ:34 - 35]. يقول الله راداً عليهم: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} [سبأ:37] {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى} [القصص:76] لكنه بغى فأهلكه الله وقد كان عنده مفاتيح الخزائن. وأحياناً تجد الواحد لا يبين الحق؛ لأن الذي قال الباطل بينه وبينه صداقة، فعلاقته به تجعله لا يبين وقد كان الصحابة يبينون ذلك، فمن ذلك حديث أبي موسى رضي الله عنه، أنه سئل عن ابنة وبنت ابن وأخت في الميراث، فقال: [للبنت النصف، وللأخت النصف وائت ابن مسعود فسيتابعني] فسئل ابن مسعود وأخبر بقول أبي موسى فقال: [لقد ضللت إذاًَ وما أنا من المهتدين، لأقضين فيها بما قضى فيها النبي صلى الله عليه وسلم، للبنت النصف، ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين وما بقي للأخت] فأخبر أبو موسى بقول ابن مسعود فقال: [لا تسألوني مادام هذا الحبر فيكم]، ما قال ابن مسعود: أبو موسى صحابي، وأخ لي، وصديق فلا أبين خطأه أمام الناس، وذاك يقول: وائت ابن مسعود فسوف يتابعني، يعني: صار فيها دافع آخر اذهبوا إلى ابن مسعود فسيتابعني، قال ابن مسعود: [لقد ضللت إذاً وما أنت من المهتدين] أي: كيف أقول خلاف الحق في المسألة؟

الظروف الاجتماعية

الظروف الاجتماعية أحياناً قد يكون هناك ظرف اجتماعي يضغط على الإنسان فلا يعترف بالحق، مثلاً المرأة عندما قذف هلال بن أمية امرأته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (البينة أو حد في ظهرك)، فأقسم هلال أنه برئ وأن الله سوف ينزل براءته، وأنزل الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور:6] ونزلت آية اللعان، فانصرف النبي صلى الله وعليه وسلم، فأرسل إليها، فجاء هلال فشهد والنبي صلى الله عليه وسلم، يقول: (إن الله يعلم أن أحدكما لكاذب، فهل منكما تائب) ثم قامت فشهدت، فلما كانت عند الخامسة، وقفوها وقالوا: إنها موجبة، قال ابن عباس: فتلكأت ونكصت هذه المرأة، حتى ظننا أنها ترجع وتعترف، ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم، فمضت وأكملت الخامسة، بسبب الضغط وخوف الفضيحة. والذي حمل أبا طالب على رفض الحق هو ضغط المجتمع: لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحاً بذاك مبينا ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية دينا فهو يخشى أن يقال: مات على غير دين آبائه. وختاماً أيها الإخوة أقول: يجب علينا أن نتجرد، فنضع الحق فوق كل اعتبار، ويجب علينا أن ننقاد لله إذا كنا نريد وجهه، ولا نحاول أن نلف وندور أو نقوم بمناورات في سبيل رفض الحق كما يقع لكثير من الناس، حيث تجده يأتي بأعذار وعجيبة جداً تدل على القصة التي ذكرناها عن مؤلف كتاب: الصراع بين الإسلام والوثنية. في أحد المجالس كنا نتكلم عن الإسلام، وأحد من العامة يقول: أنا غير مستعد أن أمضي قدماً في أشياء أخرى، أنا لا أتعمق في الدين، يكفيني الأركان الخمسة، فقلت: يا أخي! الدين ليس بالأركان الخمسة فقط، قال: بل الأركان كافية جداً، قلت: ما رأيك أن تسكن في بيت فيه خمسة أعمدة فقط، لا جدران فيه ولا شبابيك، ولا غرف؟ قال: لن أسكن فيه. قلت: الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (بني الإسلام على خمس) فهذه الخمس عندك ولكن أين باقي البناء؛ أين الجهاد في سبيل الله والأمر المعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله، وطلب العلم، بر الوالدين؟ أو قال نفس الشخص: التعمق في الدين غير جيد، وانظر هذا مؤلف: الصراع بين الإسلام والوثنية، تعمق في الدين ثم ارتد، فقلت له: هذا الشيخ ابن باز لم يرتد!! وهو متعمق في الدين. قصة أخيرة أختم بها الكلام: رجل تارك للصلاة، قلت له: اتق الله حرام عليك، كيف تترك الصلاة وهي الركن العظيم في الإسلام؟ هذا خروج عن الملة، وزوجتك حرام أن تجلس معك، قال: والله أنا أريد أرجع إلى الصلاة، ولكن الشيطان فقلت له: لماذا لا تصلي من غدٍ، وكيف تركت الصلاة وأنت تعلم هذه الأحكام؟ قال: يا أخي! أنا لا أصلي الظهر والعصر، فكيف أصلي المغرب والعشاء والفجر؟ قلت له: ولماذا لا تصلي الظهر والعصر؟ قال: لأنني في العمل، فلا أقدر أن أصلي الظهر والعصر، ولذلك تريدني أضحك على ربي وعلى نفسي، أصلي المغرب والعشاء والفجر. قلت: ولماذا لا تصلي الظهر والعصر في العمل؟ قال: لأن الحمامات فرنجية، وأنا ما أضمن أن تكون عليها نجاسة. فانظر إلى هذه الأعذار الواهية، فالناس عندهم قضية التفلت بأي عذر، المهم ألا يتبع الحق، وبعض الناس لا يتبعون لكنهم ألطف من غيرهم بقليل يقول: والله أنا مقصر، وأنا عارف أنه خطأ، نسأل الله أن يعيننا، وجزاك الله خيراً أن نصحتنا، وانتهى كلامه هذا أحسن من ناحية الاعتراف. فعلى العموم، نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا من هذه الكلمات البسيطة، وأرجو من الله سبحانه وتعالى أن يهدينا وإياكم الحق. اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على الحق، اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

آداب الوليمة

آداب الوليمة تحدث الشيخ في هذا الدرس عن تعريف الوليمة وأنواع الدعوات من وليمة عرس وعقيقة مولود إلى آخر تلك الأنواع. وبين حكم إجابة الدعوة إلى الوليمة أو إلى غيرها، سواء كانت الدعوة من امرأة أو رجل، وذكر الحالات التي يسقط فيها حكم الوجوب عن المدعو, وختم الدرس ببعض أخبار الطفيليين.

تعريف الوليمة

تعريف الوليمة الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: سنتحدث -أيها الإخوة- في هذه الليلة في سلسلة الآداب الشرعية عن آداب الوليمة. ومعنى الوليمة في اللغة هو مشتقٌ من الجمع والضم، فيقولون: الولم: هو الجمع والضم، ويقال: أولم الرجل إذا اجتمع عقله وخلقه، وسمي القيد في الرجل ولماً لأنه يجمع الرجلين، واشتهر إطلاق الوليمة على الطعام الذي يُصنع للعرس لأن فيه اجتماع الزوجين، وكذلك فإن فيه اجتماع الناس للطعام، فالوليمة طعام العُرس، وقيل: هي كل طعام، والجمع ولائم. ولكن اشتهر إطلاقها واختصاصها بطعام العرس، وكذلك قالوا: إن الوليمة تقع على كل دعوة تتخذ لسرورٍ حادث من نكاح أو ختان أو غيره، لكن الأشهر استعمالها عند الإطلاق في النكاح، وتقيد في غيره، فإذا قيل وليمة يُفهم أنها وليمة النكاح، هذا إذا أطلقوا، إذا أردنا غيرها نقول: وليمة الختان، وليمة السفر، وليمة النقيع ونحو ذلك من الأسماء، والدعوة أعم من الوليمة، فالدعوة ما دعوت إليه من طعامٍ وشراب.

أنواع الولائم

أنواع الولائم فالدعوة أعم من الوليمة والوليمة أخص منها، والولائم أنواع، ذكرها الناظم في قوله: أسامي الطعام اثنان من بعد عشرةٍ سأسردها مقرونة ببيانِ وليمة عرسٍ ثم خرس ولادة عقيقة مولودٍ وكيرة بان وضيمة ذي موتٍ نقيعة قادمٍ عذيرٌ أو اعذارٌ ليوم ختانِ ومأدبة الخلان لا سببٌ لها حذاقة يوم الختم للقرآنِ وعاشرها في النظم تحفة زائرٍ قرى الضيف مع نزلٍ له بأمانِ وسنأتي على شرحها بسرعة، ثم نتوسع في مسألة وليمة الزواج أو النكاح، وبعض التفاصيل المتعلقة بها.

الوليمة والخرس والعقيقة

الوليمة والخرس والعقيقة أما بالنسبة لوليمة النكاح فهي ما يُصنع من الطعام بسبب النكاح، أما وليمة الخُرس فهو الطعام الذي يُصنع لسلامة المرأة من الطلق في النفاس، وكذلك فإن هناك العقيقة وهو الطعام الذي يُصنع بسبب ولادة المولود، وقيل: إن العقيقة أصلها من الشعر الذي يكون على رأس الصبي حين يولد، وسميت بذلك لأنه يحلق عنه في يوم سابعه، وهو اليوم التي تذبح فيه العقيقة، وقال بعض أهل العلم: إن العق هو القطع، والعقيقة هي الذبح نفسه، وهي اسمٌ للشاة المذبوحة عن المولود يوم السابع من ولادته. وقد اختلف أهل العلم فيها بين الوجوب والاستحباب، وجمهورهم على الاستحباب، ومن أدلة أهل الوجوب: (كل غلامٍ رهينة بعقيقته) أي: مرتهنٌ بها، والسُنة شاتانِ عن الغلام الذكر وشاة عن الأنثى، ويجوز أن يذبح شاة عن الذكر لما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه عق عن الحسن والحسين شاةً شاةً، والمسألة فيها تفاصيل أخرى.

الوكيرة والوضيمة والنقيعة

الوكيرة والوضيمة والنقيعة وبالنسبة لوليمة الوكيرة: هي ما ذبح لإحداث بناء السكن، مأخوذٌ من الوكر، وهو المأوى والمسكن، فيُصنع بسبب البيت الجديد وليمة يدعى إليها الناس. وأما الوضيمة: فهي ما يصنع من الطعام -بسبب المصيبة- لأهل الميت، وهي سنة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اصنعوا لآل جعفر طعاماً، فقد جاءهم ما يشغلهم). أما إذا كان اجتماع على طعام يصنعه أهل الميت، فهو من النياحة المحرمة، وقد جاء النص بذلك عن الصحابي جرير بن عبد الله رضي الله عنه: [كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعهم الطعام بعد دفنه من النياحة]. أما ما يفعله أهل البيت من صنع طعام، وجمع الناس عليه أول يوم وثاني يوم وثالث يوم فهو من النياحة، وهو حرام، ولا يجوز الأكل منه مطلقاً. فإذا صنعوا طعاماً لأنه أتاهم ما يشغلهم، أو صنعوا للضيوف الذين جاءوا من بعيد، فناموا عندهم وأكلوا معهم، فهذا لا بأس به، أما أن يصنعوا طعاماً يدعى إليه الناس والجيران والمعزون، فهذا من البدع المحدثة وهو حرام. أما بالنسبة لوليمة النقيعة فهي الدعوة التي تُصنع بسبب قدوم المسافر سالماً من سفره، مأخوذة من النقع وهو الغبار، قال الله تعالى: {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً} [العاديات:4]. ويصنعها المسافر أو يصنعها أهله، وقيل: تُصنع للمسافر فرحاً بسلامة وصوله، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة نحر جزوراً أو بقرة، فهذا الحديث الذي رواه البخاري رحمه الله يدل على مشروعية عمل الطعام بعد القدوم سالماً من سفره.

العذيرة والمأدبة

العذيرة والمأدبة وأما بالنسبة للعذيرة فهي الوليمة التي تُصنع بسبب الختان، وتُسمى أيضاً الإعذار، والإعذار هو الختان، وهو الطعام الذي يُطعم بمناسبة الختان، وقد جاء عن بعض السلف فعل هذه الوليمة، وهل هي للذكر فقط أم تشمل الأنثى؟ للعلماء أقوالٌ في المسألة، ومما قاله ابن الحاج المالكي رحمه الله في كتابه المدخل: إن السنة في الختان للذكور إظهاره، وفي ختان النساء إخفاؤه فإذا كان ذكراً خُتن، فإنه يُصنع له هذه الوليمة إذا جرت العادة بذلك، فلا بأس في فعلها، وقد جاء فعلها عن بعض السلف رحمهم الله تعالى. فإذا صار ختانه وحلق شعره في اليوم السابع فالعقيقة تغني عن هذا. وأما وليمة المأدبة فهي الضيافة التي تعمل بدون سببٍ معين، فإذا أراد أحد الناس أن يجمعهم على طعام من أجل أن يكسب أجراً في إطعام الناس، فدعاهم للطعام، كالأصدقاء والأحباب والإخوان والأقارب والجيران. أراد أن يصنع المعروف من باب أن إطعام الطعام وإفشاء السلام من أسباب دخول الجنة، وليس لوليمته سبب معين، فلا بأس بذلك. وقد جاء في الحديث أن ملائكة جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم فقالوا: (إن لصاحبكم هذا مثلاً، مثله كمثل رجلٍ بنى داراً، وجعل فيها مأدبة، وبعث داعياً، فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة، فالدار الجنة، والداعي محمد، فمن أطاع محمداً فقد أطاع الله، ومن عصى محمداً فقد عصى الله، ومحمدٌ صلى الله عليه وسلم فرّق بين الناس) صار الناس فريقين: مؤمنون وكفار، وهذه المأدبة التي تصنع بلا سبب، إذا كانت عامة فتسمى الجَفَلَى (بالألف المقصورة)، بأن قال: يا أيها الناس هلموا، وليأت من يريد من الناس، فهذه دعوة عامة يجوز لكل واحد أن يأتيها، أو فعلها في مكان عام على الشارع مثلاً أو في أرضٍ مفتوحة، ودعا إليها من شاء من الناس أن يأتيها، فتسمى جَفَلَى، يجوز لكل واحد أن يأتيها. وإذا كانت خاصة فتسمى النَقَرى، فهي خاصة بمن يدعى إليها، فإذاً لا يجوز لغيرهم أن يأتي، وإطعام الأصحاب على أية حال من القُرب، ودعوة الإخوان أيضاً من الطاعات.

الحذاقة والقرى

الحذاقة والقرى أما الوليمة التي يسمونها الحذاقة فهي الإطعام عند ختم الصبي للقرآن إذا حفظه، فإن حفظ ولد الرجل القرآن وصنع والده وليمة للناس فرحاً بمناسبة ختم ولده للقرآن، وربما صنعت أيضاً إذا نبتت أسنان الصغير ونحو ذلك، وهي مأخوذة من قولهم: (حَذِقَ الصبيُّ يَحْذَقُ حِذْقاً، إذا مهر في الشيء) ويقال لليوم الذي يختم فيه الصبي القرآن: يوم حذاقة، ويقال: فلانٌ حاذقٌ في صنعته، وجاء عن بعضهم أنهم كانوا يصنعون هذا لغلمانهم. ويروى عن الحسن أنه قال: "كانوا إذا حذق الغلام قبل اليوم نحروا جزوراً واتخذوا طعاماً" ويُروى كذلك عن حميد أنه قال: "كانوا يستحبون إذا جمع الصبي القرآن أن يذبح الرجل الشاة ويدعو أصحابه". فهذه الشاة على أية حال هي شكر على نعمة حفظ الولد للقرآن، فإذا ذبح شاة على أية نعمة فلا بأس بذلك، لكن عندما تكون القضية واردة في السنة كالأضحية والعقيقة فإنها تتأكد، لأن لها مستنداً من فعل النبي صلى الله عليه وسلم أو من قوله، فهي لا شك أقوى وأقوى. أما أشياء جرت من عادات الناس، قد لا تكون واردة في السنة فهي بمنزلة أدنى، وإن كانت من عادات الناس ولم يقصدوا بها السنة، ولم يقصدوا بها التعبد فلا بأس بذلك، وذبح الشاة لأجل النعمة يدل عليه مجموع أحاديث وردت في الشريعة، فنعمة القدوم من السفر ذبحت فيها شاة، ونعمة المولود ذبحت فيها شاة، ونعمة الزواج ذبحت فيها شاة: (أولم ولو بشاة) إذاً ذبح شاة أو ذبيحة أو عمل طعام لمناسبة سارة أو لنعمة أنعم الله بها على الشخص لا بأس به ولا حرج فيه شرعاً، لكن فرق أن يعتقد الإنسان أنه سنة، فهذا لا بد له من دليل، أو أنه لم يعتقد أنه سنة، وإنما هو سنة على وجه العموم فإن في الشريعة ما يدل على ذبح شيء أو دعوة الناس إلى طعام بمناسبة حدوث شيءٍ سار. مثل لو أن إنساناً ترقى في وظيفته، أو تبوأ وظيفة ونحو ذلك أو تخرج من الجامعة، فعمل طعاماً فلا بأس بذلك، ليس بدعة ولا حراماً ولا مكروهاً ما لم يتضمن منكراً أو محظوراً من المحظورات الشرعية، وأيضاً وليمة القرى وهي الطعام الذي يصنع للضيف، وإكرام الضيف لا شك أنه قد ورد في السنة، ولعلنا نأتي إن شاء الله في هذه السلسلة على آداب الضيافة.

الفرع والعتيرة

الفرع والعتيرة وكذلك فإن من أنواع الولائم التي ذكرت وليمة الفرع، والفرع هو أول نتاج الناقة، كان أهل الجاهلية يذبحونه لطواغيتهم، فأبطله الإسلام بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا فرع). وأما العتيرة: فهي الشاة التي كانوا يذبحونها في رجب، وتسمى الرجبية، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا عتيرة) وهنا اختلف العلماء هل قوله صلى الله عليه وسلم: (لا عتيرة) إبطال لذبيحة رجب بالكلية، أو لا عتيرة بمفهوم أهل الجاهلية، كأن يكون هناك اعتقادٌ معين عند الجاهليين، كما أنهم كانوا يذبحون لأصنامهم في رجب مثلاً ويسمونها عتيرة، فتكون مشروعة إذا كانت لله؟ قال بعض العلماء: يشرع ذبح شاة في رجب لله عز وجل، وأجابوا عن حديث: (لا عتيرة) أن المقصود ذبحها بمفهوم أهل الجاهلية، أو كما كان أهل الجاهلية يذبحون.

حكم إجابة الدعوة

حكم إجابة الدعوة أما بالنسبة لإجابة الدعوة فقد ورد في الولائم والدعوات أحاديث، فمن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (حق المسلم على المسلم خمس (وفي رواية ست) -وذكر منها- وإذا دعاك فأجبه) وقوله صلى الله عليه وسلم: (فكوا العاني، وأجيبوا الداعي، وعودوا المريض). وبالنسبة للدعوة العامة أيضاً ورد في صحيح مسلم: (إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب، فإن شاء طعم وإن شاء ترك) كأن يكون صائماً أو كأن يعاف الطعام أو يكون مريضاً ونحو ذلك، وقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا دعي أحدكم فليجب، فإن كان صائماً فليصلِّ وإن مفطراً فليطعم) رواه مسلم رحمه الله في صحيحه، وقال عليه الصلاة والسلام: (ائتوا الدعوة إذا دعيتم) رواه مسلم. أما بالنسبة للوليمة فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا دُعي أحدكم إلى الوليمة فليأتها) وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا دعا أحدكم أخاه فليجب عُرساً كان أو نحوه) وقال صلى الله عليه وسلم: (شر الطعام طعام الوليمة، يمنعها من يأتيها، ويدعى إليها من يأباها -الفقراء الذين يريدون الطعام يمنعون والأغنياء الذين لا يريدون الطعام يدعون- ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله). وقال: (بئس الطعام طعام الوليمة؛ يدعى إليها الأغنياء، ويترك المساكين) وجاء ذلك من كلام أبي هريرة رضي الله عنه، وكان ابن عمر يأتي الدعوة في العرس وغير العرس وهو صائم، وهو الذي روى حديث: (أجيبوا هذه الدعوة إذا دعيتم لها) رواه البخاري رحمه الله. فيتضح لنا من هذه الأحاديث أن إجابة الدعوة أقل ما يُقال فيها أنها سنة مشروعة أياً كانت الدعوة، ما دامت من مسلم وليس فيها منكرات، ويتأكد إجابة وليمة العرس تأكيداً خاصاً، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في آخر الحديث: (ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله) فيتأكد ذلك، لأن عدم إجابة وليمة العرس معصية لله ورسوله. وكذلك أمره عليه الصلاة والسلام في البخاري: (إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليأتها) وهو أمرٌ بالحضور، ولا شك أن الوليمة هنا وليمة العرس. وقال جمهور العلماء: إن إجابة وليمة العرس فرض عين لمن دعي إليها وهي واجبة، وقال بعض العلماء: فرض كفاية، لكن قول الجمهور أرجح، ويسند قولهم حديث: (ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله) بأن الأصل إجابة الدعوة إلى وليمة العرس.

حكم إجابة الدعوة في غير وليمة العرس

حكم إجابة الدعوة في غير وليمة العرس وأما غير وليمة العرس من الدعوات فما حكم إجابتها؟ قال النووي رحمه الله: فيها وجهان: أحدهما: أنها كوليمة العرس. والثاني: أن الإجابة إليها ندبٌ وإن كانت في العرس واجبة. ونقل القاضي عياض رحمه الله اتفاق العلماء على وجوب الإجابة لوليمة العرس، قال: واختلفوا فيما سواها. وقال مالك والجمهور: لا تجب الإجابة إليها، وأهل الظاهر قالوا: تجب الإجابة لكل دعوة، إذاً عندنا شيء واضح وجوب إجابة دعوة وليمة العرس، ومسألة الدعوات الأخرى فيها خلاف، والأحوط أن الإنسان يجيب إذا لم يكن عنده عمل مصلحته أعلى، وكان من هديه عليه الصلاة والسلام عموماً إجابة الدعوة، وكأن يأتي إلى وليمة العرس خصوصاً. روى البخاري رحمه الله تعالى عن أنس بن مالك: (أن خياطاً دعا النبي صلى الله عليه وسلم لطعام صنعه، قال: فذهبت مع النبي صلى الله عليه وسلم فقرب خبز شعيرٍ ومرقاً فيه دباء وقديد، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتتبع الدباء من حوالي القصعة، فلم أزل أحب الدباء بعد يومئذٍ). وكلمة المرق مما أجاب به الذين قالوا: لماذا لم يأكل مما يليه؟ لأن الدباء كان في المرق فهو يتتبع، وكذلك أخرج البخاري رحمه الله عن أبي مسعود الأنصاري قال: كان رجل من الأنصار يقال له: أبو شعيب، وكان له غلامٌ لحام، فقال: اصنع لي طعاماً أدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم خامس خمسة -اعمل حسابك على خمسة أشخاص- فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم خامس خمسة فتبعهم رجل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للداعي لما وصلوا: (إنك دعوتنا خامس خمسة، وهذا رجلٌ قد تبعنا، فإن شئت أذنت، وإن شئت تركته، قال: بل أذنت له). من فوائد هذا الحديث الذي ذكره ابن حجر رحمه الله: من صنع طعاماً لغيره فهو بالخيار بين أن يرسله إليه أو يدعوه إلى منزله، إذا صنعت طعاماً لغيرك سواء دعوته إليك أو أنك أوصلته إلى منزله، فكلاهما يصبح من الإكرام. ثانياً: من دعا أحداً استحب أن يدعو معه من يرى من أخصائه وأهل مجالسته، إذا دعوت رجلاً وكان له أصدقاء يجلس معهم باستمرار، فالأفضل أن تدعوهم معه حتى لا تفصل بينه وبينهم، وهو يريد الجلوس معهم. وكذلك: إجابة الإمام والكبير دعوة من دونهم وأكل طعامهم، هذا النبي عليه الصلاة والسلام أجاب خياطاً، وذهب إليه، وقد جاء عند الحاكم بإسنادٍ صحيح حديث في هذا المعنى، وفيه أيضاً ذكرٌ لأدب من آداب الطعام الذي مر معنا سابقاً، وهو قول أنس رضي الله عنه: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يردف خلفه) بل أربع خصال تدل على التواضع، حديث أنس: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يردف خلفه، ويضع طعامه على الأرض، ويجيب دعوة المملوك، ويركب الحمار) صححه الألباني. قوله: (ويضع طعامه على الأرض) فيه دليل على وضع الطعام على الأرض، وإن كان يجوز الأكل على المائدة والخوان كما تقدم، والشاهد من الحديث هذا قوله: (ويجيب دعوة المملوك) أن النبي عليه الصلاة والسلام يجيب دعوة الناس ولو كانوا مغمورين أو كانوا ضعفاء، أو كانوا لا يشار إليهم بالبنان وليسوا ذوي شرف ومكانة بين الناس، وكان يجيب إلى الطعام القليل: (لو دعيت إلى كراع لأجبت) يجيب إلى الطعام ولو كان قليلاً، ولا يستحقره أو يحتقر الداعي، لأن هذا جهده، فيجيبه إليه. ومن فوائد حديث الأنصاري الذي دعا النبي صلى الله عليه وسلم خامس خمسة أن من قصد التطفل أي: المجيء إلى الوليمة من غير دعوة لم يمنع ابتداءً، لا يقال له: لا تأت، يقال: ممكن تأتي لكن لا تدخل إلا بإذن، لأن الرجل يتبع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرده، لاحتمال أن تطيب نفس صاحب الدعوة بالإذن له، ولعله يأتي بعض الأحكام المتعلقة بالتطفل في النهاية إذا صار هناك متسع من الوقت إن شاء الله.

حكم إجابة دعوة المرأة

حكم إجابة دعوة المرأة والمرأة تشترك في وليمة العرس، وينبغي أن تفهم هنا حديث البخاري عن سهل قال: (لما عرس أبو أسيد الساعدي دعا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فما صنع لهم طعاماً ولا قربه إليهم إلا امرأته أم أسيد، بلت تمراتٍ في تورٍ من حجارة من الليل، فلما فرغ النبي من الطعام أماتته له، فسقته تتحفه بذلك) وفي رواية لمسلم: (تخصه بذلك) وينبغي أن يفهم هذا الحديث فهماً صحيحاً. النووي رحمه الله قال: إن هذا الحديث كان قبل الحجاب، لأن المرأة أجنبية عنهم، وكانت تقدم لهم الطعام، وقال بعضهم: محمولٌ على أنها مستورة ستراً تاماً، وليس هناك فتنة بطبيعة الحال، فمحل ذلك أمن الفتنة ومراعاة الستر، ولذلك الأحوط أن المرأة لا تخرج على الرجال مطلقاً، خصوصاً إذا ترجح كلام من قال: إن ذلك كان قبل فرض الحجاب. وأما ما ورد من دعوة المرأة للرجل للوليمة، فقد أخرج البخاري رحمه الله تعالى عن أنس بن مالك قال: أبصر النبي صلى الله عليه وسلم نساءً وصبياناً مقبلين من عرسٍ، فقام ممتناً فقال: (اللهم أنتم من أحب الناس إلي) قال القسطلاني في شرح الحديث: فلو دعت امرأةٌ امرأةً أو رجلاً لوليمة وجب أو استحب للرجل الإجابة لا مع خلوةٍ محرمة، فلا يجيبها إلى طعامٍ مطلقاً -أي: في حالة وجود الخلوة- أما إذا بعثت إليه بطعام أو لم يكن هناك خلوة ولا فتنة، فلا بأس بذلك. فالمرأة لها أن تدعو المرأة لوليمة الطعام، فما حكم إجابة المرأة المدعوة للوليمة هل هي واجبة أم لا؟ A تستأذن زوجها فإن أذن لها زوجها فإنها تذهب، بل يتعين عليها الذهاب، وإن لم يأذن فإنه لا يجوز لها الذهاب، أما دعوة المرأة رجلاً للوليمة فلا بأس بها إذا لم تكن فتنة، أي: مثلاً امرأة عندها بنت وزوجت البنت، وأبوها ميت، فصارت هي التي تدعو الناس، وهي امرأة كبيرة في السن وليس هناك فتنة، فوجهت الدعوة للرجال، فيحضرون ويطعمون وينصرفون. ومليكة جدة أنس -وهي امرأة كبير في السن- دعت النبي صلى الله عليه وسلم لطعامٍ صنعته، فأتى فأكل ولم يكن هناك خلوة ولا فتنة، أما في الأحوال التي يكون فيها فسادٌ وفتن فلا تدعو امرأةٌ رجلاً أبداً، ولذلك فرق العلماء بين المرأة الكبيرة العجوز وبين المرأة الشابة، وبين المرأة الصالحة والمرأة السوء، ولا يمكن بأي حال أن تجعل الشريعة ستاراً لأعمال الفحش.

شروط وجوب تلبية الدعوة للولائم

شروط وجوب تلبية الدعوة للولائم نعود فنقول: إن وليمة العرس يتأكد إجابتها، والراجح الوجوب في ذلك، والأحوط أن يجيب الإنسان الدعوات الأخرى إذا لم يكن ثم مانعٌ شرعي أو مصلحة أعظم تفوت. لكن ما هي شروط وجوب تلبية الدعوة؟ ذكر العلماء شروطاً لوجوب تلبية الدعوة، والأصل أنه يجب عليك أن تلبي، ولكن متى لا يجب عليك؟ ما هي الأشياء التي لو حصلت لا يجب عليك أن تلبي، بل ربما لا يجوز لك أن تلبي الدعوة؟

ألا يخص الأغنياء

ألا يخص الأغنياء قالوا: أولاً: ألا يخص الأغنياء، بل يعم الداعي بدعوته جميع عشيرته أو جيرانه، أو أهل حرفته أغنياءهم وفقراءهم، فإن وقع التخصيص فلا تجب الدعوة لقوله صلى الله عليه وسلم: (شر الطعام طعام الوليمة يُدعى إليها الأغنياء ويترك الفقراء) رواه مسلم، وفي رواية: (يمنعها من يأتيها ويدعي إليها من يأباها) ويخرج من هذا التخصيص ما لو دعا جميع عشيرته أو أقربائه أو أهل حرفته، فكانوا كلهم أغنياء. فهنا يجب على المدعو الإتيان؛ لأنه ما خصص الأغنياء هنا، بل دعا جيرانه، فاتضح أنهم كلهم أغنياء، فهنا تجب الإجابة، لكن لو وجه الدعوة فقط للأغنياء وانتقاهم، واستثنى الفقراء من أقربائه ومن عشيرته وجيرانه، فهنا قالوا: إذا خصت الدعوة بالأغنياء لا تجب الإجابة.

أن يكون المدعو مقصودا بنفسه

أن يكون المدعو مقصوداً بنفسه ثانياً: أن يخص بالدعوة بنفسه أو يبعث شخصاً، هنا تجب الإجابة، إذا قال لك بنفسه: تعال، أسألك الحضور، أحب أن تحضر، فهنا يجب الحضور، أو أرسل إليك رسولاً منه ببطاقة دعوة لوليمة الزفاف، مرسولاً منه، فعند ذلك يجب الحضور، أما لو فتح باب الدار وقال: ليدخل من شاء، أو أرسل شخصاً فقال له: ادعُ من شئت، فلا يُوجب هذا على الشخص المدعو أن يجيب، لأن الداعي لم يعينه بنفسه، أو بعينه، أو يرسل له مرسولاً هو بالذات حتى يأتي، وإنما قال للرسول: ادعُ من شئت، أو قال لشخص: أنت ادعُ من جهتك، والآخر: أنت ادعُ من جهتك، فهنا لا يجب على المدعو الإتيان، أي: لو لم يجئ لا يكون آثماً ولا عاصياً. لكن لو وجهت الدعوة لشخصٍ بعينه، أو أرسل رسولاً له بعينه، أن يأتي أو بطاقة بالبريد أو بأي طريقة ولم يكن عند الآخر عذرٌ، فإنه يجب عليه الإجابة. أما لو قال: يا أيها الناس تعالوا، أو فتح الباب، فلا يجب على كل مار أمام الباب أن يدخل، والسبب واضح، لأنه إذا دعا شخصاً بعينه والشخص لم يجئ، أدى ذلك إلى وقوع الوحشة والنفرة، لكن لو قال: من شاء أيها الناس أن يأتي بدون أن يُعين شخصاً أو أشخاصاً بأعيانهم، فعند ذلك لو لم يجيئوا فلن تحدث هذه النفرة والوحشة. وكذلك لو تعنى فأرسل رسولاً أو سائقه أو خادمه إلى شخصٍ بعينه، فلا شك أنه يجد في نفسه عليه، ويكون في خاطره شيءٌ عليه، ولذلك فإن الدعوة للمعين تجب الإجابة فيها ولغير المعين لا تجب الإجابة فيها. وكذلك إذا كانت صيغة الدعوة ليس فيها إلزامٌ بالحضور، كأن قال: إن شئت فاحضر، لم يلزمه ذلك، بل قال الشافعي: إن قال له: (إن شئت فاحضر) فلا أحب أن يجيب، كأنه يقول: لست بعازمٍ عليك ولا بملح، ولست بمشترطٍ حضورك، إذا صار من عندك الدافع أن تأتي فافعل، أما أنا فليس عندي دافع، إن شئت أن تحضر فاحضر، فلا يجب الحضور إذا كان القائل يقصد معناها.

ألا تكون دعوته لخوف منه أو طمع فيه

ألا تكون دعوته لخوف منه أو طمع فيه وكذلك من شروط الحضور ألا يكون إحضاره لخوفٍ منه، فلو خاف من شخص كمن يخشى أنه لو لم يدع رئيسه في العمل لأضر به، فدعا رئيسه في العمل لا محبة فيه ولا رغبة في إتيانه، وإنما خشية من أنه إذا لم يدعه فربما يضر به، أو ظالم من الظلمة، يخشى إذا لم يدعه أنه يظلمه، فهنا لا يجب على هذا المدعو أن يأتي، لأنه إنما دعي اتقاء شره، أو خشية ظلمه، فعند ذلك لا يجب عليه الإتيان. أو إن دعا شخصاً طمعاً في جاهه، أو ليعينه على الباطل، أو ليتزلف إليه وينافق، فعند ذلك لا يتوجب عليه الحضور، ولذلك يجب على الإنسان إذا دعا أن يقصد بالدعوة السنة وإعلان النكاح وإطعام الطعام؛ يقصد مقاصد صالحة، ولا يقصد التزلف إلى فلان، والمنافقة مع فلان، ونحو ذلك من المقاصد الدنيوية، ويقصد بالدعوة تقريب ما بينه وبين إخوانه، والتحبب والتودد إلى إخوانه ونحو ذلك.

ألا يكون في المجلس من يتأذى به أو منه

ألا يكون في المجلس من يتأذى به أو منه وكذلك مما لا يوجب الحضور أن يكون في المجلس من يتأذى به أو منه، كما إذا دُعي إلى المجلس فسقة، أو أناس عندهم مجون وفحش، أتيت إلى المجلس ووجدت فيه ناساً يقولون كلاماً بذيئاً أو طرائف وأضحوكات، لا يليق بك أن تجلس معهم، أنت صاحب دين وملتزم بالدين، ثم يدعوك مع هؤلاء السفلة عند ذلك لا يجب عليك الحضور، ولو لم تحضر لم تأثم، ولو رجعت فما عليك شيء، فمن دعا معه أراذل أو دعا معه فسقه ومجرمين معروفين بأكل الربا والسحت والسلب، فعند ذلك جلوسك معهم مضرة بك، وفيه إيذاءٌ لك، فلا يليق بك أن تجلس في هذا المجلس، فلا يجب عليك الحضور. والعلماء في الماضي كانوا يضربون أمثلة ببعض الصوفية الذين همهم أن يأكلوا الطعام، ويقولون للناس: ادعونا لتحصل لكم البركة ونحو ذلك، ويتلبسون بلباس أهل الطاعة، وربما قال: قرأت القرآن لميتك وهو قد قرأ (قل هو الله أحد) ثلاث مرات، يقصدون بذلك التزلف والمنافقة.

ألا يكون في الوليمة منكر

ألا يكون في الوليمة منكر وكذلك من شروط إجابة الدعوة ألا يكون هناك منكر في الدعوة، فلو كان هناك منكر فلا يجب الحضور، بل لا يجوز، كما إذا كان هناك مائدة يُدار عليها الخمر، لقوله صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعدن على مائدة يدار عليها الخمر) رواه الترمذي وحسنه. والمنكرات كثيرة في الولائم؛ مثل الملاهي المحرمة -المعازف- كالطبل والعود والطنبور والربابة والمزمار وغير ذلك من آلات المعازف، ومن الآلات الحديثة الأورج والبيانو وغيرها، فوجودها يسقط الوجوب، فمادام في الوليمة منكر سقط الوجوب، ما عاد للمجلس حرمة ولا وجوب لإجابة الدعوة، كذلك لو وضع في المجلس سجاجيد من الحرير، ومعروف أن افتراش الحرير لا يجوز، والجلوس عليه لا يجوز، أو فيه أشياء مأخوذة من مساجد أو مدارس لا يجوز له أخذها، أو أن يكون هناك مغنٍ أو مطرب أو مغنية أو مطربة، أو أن يكون هناك مطعوم محرم، أو مشروب محرم كالخمر كما تقدم، أو صور ذوات الأرواح على الجدران والسقوف والثياب، كما يفعل ذلك كثيرٌ من اللاهين العابثين. وهذه الأشياء المنقوشة والمصورة والمطبوعة والمنحوتة، إذا كانت من ذوات الأرواح، فهي تسقط وجوب إجابة الدعوة، والنبي عليه الصلاة والسلام لم يدخل البيت لما رأى في الستر صورة من صور ذوات الأرواح، كذلك ستر الجدران واستعمال الحرير، فقد ورد أن صحابياً لم يدخل البيت وقد ستروا جداره بديباجٍ أخضر، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله في الحديث الصحيح: (إن الله لم يأمرنا أن نكسو الحجارة واللبن) وقال ابن عباس: لا تستر الجدران بالثياب، فبعضهم اعتبر أن ستر الجدران وتغطيتها بالقماش ونحوه مما يسقط الوجوب. أما لو كان هناك أشياء جائزة كصور لغير ذوات الأرواح، من الأشجار مثلاً ونحوها، فإن ذلك لا يسقط الوجوب، أو لُعب البنات إن كانت في البيت فإنها لا تسقط الوجوب، لأن اتخاذ لُعب البنات من الصُوف أو العِهْن جائز، وقالوا: إذا كانت صور ذوات الأرواح على الفراش الذي يوطأ ويهان ويداس عليه فإنه يجوز، وقال بعض أهل العلم: لا يجوز حتى يقطع ويُغير. وكذلك لو كان هناك مثلاً في الوليمة ملاعق من ذهب أو فضة، أو آنية ذهب أو فضة عموماً، فإن ذلك من أسباب إسقاط الوجوب، وكذلك لو كان المجلس فيه كذب وفحش مما هو منكر، وعلى رأس ذلك الاستهزاء بالدين، فيجب الخروج حينئذ، ولا يجوز الحضور.

عدم تكرار الوليمة في أيام متتابعة

عدم تكرار الوليمة في أيام متتابعة وكذلك من الأشياء التي لا تجعله واجباً الدعوة في اليوم الثاني والثالث، دعاهم في اليوم الأول فالإتيان واجب، أما الدعوة في اليوم الثاني فمكرمة، والثالث اختلفوا فيه، فقال بعضهم: إنه فخر فلا يجوز، وقال بعضهم: إنه جائز، والصحيح الجواز، وحديث: (الوليمة في اليوم الأول حق، وفي الثاني معروف، وفي الثالث رياء وسمعة) ليس له إسناد صحيح متصل. وقد يُحتاج إليه فقد يدعو في اليوم الأول قسماً من الناس وفي الثاني قسماً آخر، وفي الثالث قسماً ثالثاً، لأن الناس كُثُر والمكان ضيق، قد يدعو في اليوم الأول مثلاً أقاربه، والثاني أصدقاءه، والثالث عامة الناس، إذاً قضية الدعوة أكثر من ثلاثة أيام قد وردت أيضاً، وليس بها بأس إذا لم يكن قصده المفاخرة والمراءاة، فإذا دعاك أول يوم، ثم دعاك ثاني يوم فالدعوة الواجبة في اليوم الأول، والثانية لا تكون واجبة.

أن يكون الداعي مسلما

أن يكون الداعي مسلماً وكذلك أن يكون الداعي مسلماً، فلو دعاك كافر فلا تجب الإجابة، وإذا كان الكافر ممن يحارب الدين فلا تجوز إجابته أصلاً، أو كان مبتدعاً فلا تجوز إجابته، وخصوصاً إذا كان صاحب بدعة كفرية، وكذلك من الشروط التي ذكروها في وجوب الإجابة أن يكون مال الداعي حلالاً، فلو كان ماله من الحرام كرجل يعمل في بنك الربا، أو يأخذ الرشاوى ونحو ذلك فإنه لا يجاب لطعامه. ومن ذلك دعوة أمراء الجور والظلم وقضاة الرشوة، فهؤلاء لا تجب إجابة دعوتهم، بل إذا كان كل مكسبهم من الحرام لا يجوز الأكل من طعامهم أصلاً.

ألا يكون هناك عذر تسقط معه صلاة الجماعة

ألا يكون هناك عذر تسقط معه صلاة الجماعة وكذلك يجب الإجابة ما لم يكن هناك عذرٌ شخصي، ما هي ضوابط الأعذار؟ قد اختلفوا فيها، لكن ذكر بعضهم ضابطاً، قالوا: يُعذر في عدم إجابة الوليمة بكل عذرٍ تسقط معه صلاة الجماعة. مثلاً المرض على سبيل المثال، يخشى أن يذهب ماله، أو يتلف من شدة الحر والبرد، والمطر الذي يبل الثوب، أو الاشتغال بتجهيز ميت، أو إطفاء حريق، أو رد جملٍ شارد، أو كان ممن يجب عليه السعي إلى الجمعة، فيسعى إليها، أي: قد يكون هناك دعوة لكن للنساء، وهذا الشخص يجب عليه أن يأتي الجمعة فلا يجيب الوليمة، حتى ولو كان من المحارم مثلاً. وكذلك إذا كان هناك زحامٌ شديدٌ بحيث لا يستطيع الوصول، أو كان شبعان متخماً، وكذلك مما يسقط الوجوب أن يكون عليه حق متعين كأداء شهادة، أو صلاة جنازة، والعبد لا يجب عليه الحضور إلا بإذن سيده، فإذا لم يأذن السيد لم يجز له أن يأتي، وإذا كان الداعي من الذين يطلبون المباهاة والفخر، فإنه أيضاً لا يجاب، ولو كان الداعي سفيهاً، ولم يأذن له وليه بالتصرف، فكذلك لا يجاب. وقال بعضهم: إن القاضي لا يجب عليه الإجابة، لأن الشبهة موجودة في دعوته.

ألا تسبقها دعوة أخرى

ألا تسبقها دعوة أخرى وكذلك من الأسباب والأعذار التي تُسقط الإجابة ألا تكون مسبوقاً بدعوة أخرى قبلها، فإذا كُنت مسبوقاً بدعوة أخرى قبلها بأن دعاك شخص قبل ذلك، فإنك تجيب الأول، إذا دعا اثنان فصاعداً أجاب الأسبق، وإذا دعوه معاً كأن جاءت البطاقتان إلى بيتك في وقتٍ واحد في اليوم نفسه، فتجيب الأقرب رحماً أو الأقرب داراً لحق الجوار مثلاً. القاعدة إذاً أنك تجيب الأسبق، وقال بعض أهل العلم: إذا دعاه اثنان كل واحدٍ منهما إلى وليمة نفسه، فإن أمكن الجمع بينهما بأن تكون إحداهما عند طلوع الشمس والأخرى بعد ذلك مثلاً أجابهما، وإن لم يمكن الجمع بينهما بأن كانت في وقتٍ واحد أجاب السابق منهما، فإن استويا بالسبق أجاب أقربهما رحماً، فإن استويا في الرحم أجاب أقربهما داراً، والآن مثلاً لو دُعي الإنسان إلى ثلاث أو أربع ولائم لا يمكن أن يجيب، قد يستطيع إجابة وليمتين لكن لا يستطيع إجابة ثلاث: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286].

من مسقطات الوجوب قبول عذرك من الداعي

من مسقطات الوجوب قبول عذرك من الداعي كذلك مما يسقط الوجوب أن يعتذر المدعو ويقبل الداعي العذر، فإن اعتذر له فرضي عن تخلفه، فإنه لا يجب عليه أن يأتي، ولذلك لو كان عند الإنسان مصلحة أو كان عنده شيء أهم، أو أحس بشيء من الكسل والخمول والفتور، أو أراد أن ينام فاتصل بمن دعاه فاعتذر إليه، أو أرسل من يعتذر عليه، فإن وجده قد قبل ورضي رد رسوله إليه رضا الداعي عن عدم الحضور، وبذلك ينتهي الحرج عنه. وكذلك المرأة الأجنبية إذا دعت لا تجب الإجابة، وإذا كانت هناك خلوة أو فتنة فإنه لا يجوز، وليس مما يُسقط الوجوب أن يكون بين الداعي والمدعو عداوة شخصية. وكذلك لا تسقط الإجابة بالصوم، فلو كان صائماً يجيب ويدعو لهم، ولا يشترط أن يُفطر، وإذا أفطر فصام يوماً مكانه إذا كان صوم نفل، فهذا قد جمع بين أمرين حسنين، فله ما فيهما من الأجر والثواب. وعلى الإنسان بعد الطعام أن يخرج من بيت الداعي ولا يمكث فيه حتى لا يثقل على صاحب البيت، كما قال الله: {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} [الأحزاب:53] قال ابن كثير رحمه الله: فإذا فرغتم من الذي دعيتم إليه فخففوا عن أهل المنزل وانتشروا في الأرض.

حكم الإتيان إلى وليمة لم يدع إليها

حكم الإتيان إلى وليمة لم يدع إليها أما إذا أتى الإنسان إلى وليمة لم يدع إليها، فالذي يظهر أن هذا الأمر محرمٌ والله أعلم، من دخل بغير إذن وأكل بغير إذن، فهو كالسارق، ولذلك يحذر العلماء من التطفل والتطفيل، والتطفيل قيل: إنه مأخوذٌ من الطفل، وهو إقبال الليل على النهار بظلمته لأن الطفيلي يدخل على القوم بغير استئذان ولا يدرون من دعاه، وقيل: إنه منسوبٌ إلى طفيل رجل من بني غطفان، كان يأتي الولائم من غير أن يدعى إليها. وكان هذا الأمر مذموماً حتى في الجاهلية، وإذا أراد الإنسان أن يأتي إلى وليمة ويدعو غيره، فإنه يستأذن من صاحب الدعوة، يقول: معي فلان يأتي؟ فإن قال: نعم فيأتي به معه، أو يأتي به، فإن أراد الدخول قال: معي فلان، هل يدخل معنا؟ فإن رضي من غير إحراج فإنه يدخل ويطعم معهم، وقد ذكرنا بعض الأحاديث فيما مضى مما يتعلق بهذا الأمر. ولكن الإنسان يحذر أن يأتي إلى وليمة لم يُدع إليها وأن يكون متطفلاً، وإذا كان لرجلٍ صديق قد تأكدت حرمته به، وثبتت مخالطته له فقد رُخص في إتيان طعامه من غير أن يدعوه إليه، إذا علم أنه يؤثر ذلك، ويشتهيه ولا يكرهه، بل يرغب فيه، قال ذلك الخطيب البغدادي رحمه الله. إذا كنت تعلم أنه يُسر لو أتيته ولو بغير دعوة، وأن عدم دعوته ليست إلا نسياناً، أو أنه قال: فلان ما يحتاج دعوة لأنه صاحب محل، فهنا يجوز لك أن تأتي من غير دعوة، فهو قد اعتبرك من أصحاب البيت، فيجوز لك أن تأتي بغير دعوة. وأما التلميح بالإتيان عند الحاجة فلا بأس به إن شاء الله، كأن يكون بالشخص جوع فيلمح لرجلٍ أن يدعوه فلا بأس بذلك.

حكم التعريض بالحاجة إلى طعام من غير سؤال

حكم التعريض بالحاجة إلى طعام من غير سؤال وقد جاء ذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأنه رضي الله عنه كان يسأل بعض الصحابة عن مسائل أحياناً لا لأجل العلم، ولكن لأجل أن يكفوه الجوع، قال أبو هريرة: (كنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم لشبع بطني، حين لا آكل الخمير ولا ألبس الحرير، ولا يخدمني فلان ولا فلانة، وألصق بطني بالحصى، وأستقرئ الرجل الآية وهي معي كي ينقلب بي فيطعمني) وقال: (إن كنت لأسأل الرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الآية لأنا أعلم بها منه، لا أسأله إلا ليطعمني شيئاً) لأنه كان يخر من الجوع مغشياً عليه حتى يظن الناس أن به جنوناً - صرعاً- فيجثم الواحد على صدره يقرأ عليه، يريد إخراج الجن وهو ليس به صرع، ما به إلا الجوع رضي الله عنه. ولذلك حفظ هذه الآلاف من الأحاديث، قال: (فكنت إذا سألت جعفر بن أبي طالب لا يجيبني حتى يذهب بي إلى منزله، فيقول لامرأته: يا أسماء أطعميه، وإذا أطعمني أجابني، وكان جعفر يحب المساكين ويجلس إليهم ويحدثهم ويحدثونه) ولذلك كان يسمى بـ أبي المساكين رضي الله عنه. فالتعريض في مثل هذه الحالة لا بأس به إن شاء الله، لأن ذلك مما يُحتاج إليه عند الحاجة إليه، أما أن يأتي الإنسان بغير دعوة ولا حاجة؛ ويفرض نفسه، فهذا هو المكروه.

من أخبار الطفيليين

من أخبار الطفيليين وقد جاءت الأخبار عن الطفيليين أنهم كانوا يحتالون للدخول. جاء طفيلي إلى عرسٍ فمُنع من الدخول، وكان يعرف أن أخاً للعروس غائباً، فذهب فأخذ ورقة وطواها وختمها وليس في بطنها شيء، وجعل العنوان من الأخ إلى العروس، وجاء فقال: معي كتابٌ من أخ العروس إليها، فأذن له فدخل ودفع إليهم الكتاب، فقالوا: ما رأينا مثل هذا العنوان ليس عليه اسم أحد، فقال: وأعجب من هذا أنه ليس في بطنه حرفٌ واحد، لأنه كان مستعجلاً؛ فضحكوا منه، وعرفوا أنه قد احتال ليدخل. وقيل لـ نوح الطفيلي: كيف تصنع إذا لم يتركوك تدخل إلى عرس؟ قال: أنوح على الباب فيتطيرون مني فيدعونني، وكان بعضهم إذا أراد أن يدخل ذهب إلى باب النساء، فإذا أراد أن يدخل نادوه، وقالوا: من هنا من هنا، فقال: أنا أعتبرها دعوة، وليست سرقة. وأيضاً من الأشياء الظريفة التي ذكرها الخطيب البغدادي رحمه الله في كتاب التطفيل قال: عن نصر بن علي أبي عمرو الجهضمي قال: كان لي جار طفيلي، وكان من أحسن الناس منظراً، وأعذبهم منطقاً، وأطيبهم رائحةً، وأجملهم لباساً، فكان من شأنه أني إذا دُعيت إلى مدعاةٍ تبعني، فيكرمه الناس من أجلي، ويظنون أنه صاحبٌ لي، ينتظرني إذا خرجت لدعوة مشى ورائي، والناس يسمحون له بالدخول بناءً على أنه صاحبٌ لي، فاتفق يوماً أن جعفر بن القاسم الهاشمي أمير البصرة أراد أن يختن بعض أولاده، فقلت في نفسي: كأني برسول الأمير قد جاء، وكأني بهذا الرجل قد تبعني، والله لئن تبعني لأفضحنه، فأنا على ذلك إذ جاء رسوله يدعوني، فما زدت أن لبست ثيابي وخرجت، وإذا أنا بالطفيلي واقفٌ على باب داره قد سبقني بالتأهب، فتقدمت وتبعني، فلما دخلنا دار الأمير جلسنا ساعة، ودُعي بالطعام وحضرت الموائد، وكان كل جماعة على مائدة لكثرة الناس، فقُدمت إلى مائدة والطفيلي معي، فلما مد يده وشرع لتناول الطعام قلت: حدثنا رستم بن زياد عن أبان بن طارق عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من دخل دار قومٍ بغير إذنهم فأكل طعامهم دخل سارقاً وخرج مغيراً) فلما سمع ذلك قال: أنفت لك والله أبا عمرو من هذا الكلام؛ ألا تستحي أن تتكلم بهذا الكلام على مائدة سيد من أطعم الطعام، وتبخل بطعام غيرك على من سواك. ثم لا تستحيي أن تحدث عن رستم بن زياد وهو ضعيف عن أبان بن طارق وهو متروك الحديث تحكم برفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون على خلافه؛ لأن حكم السارق القطع وحكم المغير أن يعزر على ما يراه الإمام، وأين أنت من حديثٍ حدثنا أبو عاصم النبيل عن ابن دريد عن أبي الزبير عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الثمانية) وهو إسنادٌ صحيحٌ ومتنٌ صحيح. قال نصر بن علي: فأفحمني فلم يحضرني له جواب، فلما خرجنا من الموضع للانصراف فارقني من جانب الطريق إلى الجانب الآخر بعد أن كان يمشي ورائي، وسمعته يقول: ومن ظن ممن يلاقي الحروب بألا يصاب فقد ظن عجزا وبهذا نكون قد انتهينا من الكلام عن أحكام الوليمة، وما يتيسر من الأحكام والآداب المتعلقة بالوليمة، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد.

صاحب القبر المنفرد

صاحب القبر المنفرد إن لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلتهم العظيمة في الأمة الإسلامية، فهم صحابة رسول الله، وحملة الوحي ونقلة الشريعة، ونحن في هذه المادة نعيش مع ثلة منهم في إحدى مواقفهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهي قصة البئر في حديث أبي موسى الأشعري، وقد ذيلها الشيخ بذكر بعض المسائل المستفادة من الحديث.

وقفات مع حديث البئر

وقفات مع حديث البئر الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول لله. أيها الإخوة! السلام عليكم ورحمة الله. وبعد: ففي هذه الليلة نعيش لحظات طيبة إن شاء الله مع ثلة هم أعظم الناس في هذه الأمة، قصة من قصص الصحابة مع نبيهم صلى الله عليه وسلم.

نص الحديث وروايته

نص الحديث وروايته يرويها لنا أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: (أنه توضأ في بيته، ثم خرج، فقلت: لألزمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأكونن معه يومي هذا، قال: فجاء المسجد، فسأل عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: خرج ووجهه هنا، فخرجت على إثره أسأل عنه حتى دخل بئر أريس، فجلست عند الباب وبابها من جريد، حتى قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجته وتوضأ، فقمت إليه، فإذا هو جالس على بئر أريس، وتوسط قفها، وكشف عن ساقيه ودلاهما في البئر، فسلمت عليه ثم انصرفت، فجلست عند الباب، فقلت: لأكونن بواب رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم، فجاء أبو بكر فدفع الباب، فقلت: من هذا؟ فقال: أبو بكر، فقلت: على رسلك، ثم ذهبت فقلت: يا رسول الله! هذا أبو بكر يستأذن، فقال: ائذن له وبشره بالجنة، فأقبلت حتى قلت لـ أبي بكر: ادخل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبشرك بالجنة، فدخل أبو بكر فجلس عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم معه في القف ودلى رجليه في البئر كما صنع النبي صلى الله عليه وسلم وكشف عن ساقيه، ثم رجعت فجلست وقد تركت أخي يتوضأ ويلحقني، فقلت: إن يرد الله بفلان خيراً -يريد أخاه- يأت به، فإذا إنسان يحرك الباب، فقلت: من هذا؟ فقال: عمر بن الخطاب، فقلت: على رسلك، ثم جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسلمت عليه فقلت: هذا عمر بن الخطاب يستأذن، فقال: ائذن له وبشره بالجنة، فجئت، فقلت: ادخل، وبشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، فدخل فجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في القف عن يساره ودلى رجليه في البئر. ثم رجعت فجلست، فقلت: إن يرد الله بفلان خيراً يأت به -يعني: أخاه- فجاء إنسان يحرك الباب، فقلت: من هذا فقال: عثمان بن عفان، فقلت: على رسلك، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه، فجئته، فقلت له: ادخل، يبشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة على بلوى تصيبك، فدخل، فوجد القف قد ملئ فجلس وجاهه من الشق الآخر). قال شريك بن عبد الله: قال سعيد بن المسيب؛ راوي الحديث عن أبي موسى: [فأولتها قبورهم] رواه البخاري. وفي رواية له أيضاً عن أبي موسى قال: (كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في حائط من حيطان المدينة فجاء رجل فاستفتح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: افتح له وبشره بالجنة، ففتحت له، فإذا أبو بكر، فبشرته بما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فحمد الله، ثم جاء رجل فاستفتح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: افتح له وبشره بالجنة، ففتحت له، فإذا هو عمر، فأخبرته بما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فحمد الله، ثم استفتح رجل، فقال لي: افتح له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه، فإذا عثمان، فأخبرته بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمد الله، ثم قال: الله المستعان!) رواه البخاري أيضاً. وفي رواية له أيضاً عن أبي موسى: (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل حائطاً وأمرني بحفظ باب الحائط، فجاء رجل يستأذن -وذكر القصة إلى أن بشر عمر - ثم جاء آخر يستأذن، فسكت هنيهة أي: النبي صلى الله عليه وسلم -هذه المرة سكت هنيهة لما جاء عثمان - ثم قال: ائذن له وبشره بالجنة على بلوى ستصيبه) وفي رواية: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قاعداً في مكان فيه ماء قد كشف عن ركبتيه أو ركبته، فلما دخل عثمان غطاهما). هذه الروايات كلها قد رواها الإمام البخاري رحمه الله تعالى. وقد روى هذا الحديث الإمام مسلم عن أبي موسى قال: (خرجت أريد رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدته قد سلك في الأموال فتبعته، فوجدته قد دخل مالاً- أي: بستاناً- فجلس في القف وكشف عن ساقيه ودلاهما في البئر) الحديث، وفي رواية لـ مسلم أيضاً قال ابن المسيب: [فتأولت ذلك قبورهم اجتمعت هاهنا وانفرد عثمان]. وقد روى الحديث أيضاً الإمام أحمد رحمه الله عن أبي موسى الأشعري، قال: (كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في حائط، فجاء رجل فسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اذهب فائذن له وبشره بالجنة، فذهبت، فإذا هو أبو بكر رضي الله عنه، فقلت: ادخل وأبشر بالجنة، فما زال يحمد الله حتى جلس، ثم جاء آخر فسلم، فقال: ائذن له وبشره بالجنة، فانطلقت، فإذا هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقلت: ادخل وأبشر بالجنة، فما زال يحمد الله عز وجل حتى جلس، ثم جاء آخر فسلم، فقال: اذهب فائذن له وبشره بالجنة على بلوى شديدة، قال: فانطلقت فإذا هو عثمان، فقلت: ادخل وأبشر بالجنة على بلوى شديدة، قال: فجعل يقول: اللهم صبراً حتى جلس).

شرح ألفاظ حديث البئر ومعانيها

شرح ألفاظ حديث البئر ومعانيها قوله في الحديث: (إنه- أي: أبو موسى الأشعري رضي الله عنه- توضأ في بيته ثم خرج) يتوضأ الإنسان في بيته، ثم يخرج، فلعله يصادف وقت صلاة، ولعله يذهب إلى مجلس علم، فوضوؤه قبل خروجه من بيته خير، وقد نوى عند خروجه من البيت أن يلزم النبي صلى الله عليه وسلم، فسأل عنه، فقالوا: خرج ووجهه هاهنا، يعني: توجه إلى هذه الجهة، وقوله في الرواية: (حتى دخل بئر أريس) هذا بستان معروف بـ المدينة بالقرب من قباء، وفي بئر أريس في هذا البستان سقط خاتم النبي صلى الله عليه وسلم من إصبع عثمان؛ لأن خاتم النبي صلى الله عليه وسلم كان عند الخلفاء، فلما صار الخاتم إلى عثمان ذهب عثمان إلى هذا البئر مرة فوقع منه الخاتم في البئر، ثم لم يعثر عليه. قوله في الحديث: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء إلى البئر توسط قفها، القف: هو المكان المرتفع الذي يجعل حول البئر، وفي رواية مسلم: (بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حائط من حوائط المدينة، وهو متكئ ينكت بعود معه بين الطين والماء) فجلس على هذا القف ومعه عود ينكت به بين الطين والماء، قال أبو موسى الأشعري: (لأكونن بواباً للنبي صلى الله عليه وسلم) وجاء في رواية:) (ولم يأمرني) وجاء في رواية: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بحفظ باب الحائط) وفي رواية قال: (يا أبا موسى أملك عليَّ الباب) فكيف نجمع بين هذه الروايات؟ رواية يقول فيها: (لأكونن بواباً للنبي صلى الله عليه وسلم ولم يأمرني) وفي رواية أنه عليه الصلاة والسلام قال له: (يا أبا موسى! أملك عليَّ الباب فلا يدخلن عليَّ أحد) كيف نجمع بين هذه الروايات؟ أنه لما جاء بنية أن يحرس النبي صلى الله عليه وسلم من دون أمر -تطوع من عنده- فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم أمره بالشيء الذي قد جاء من أجله، هو جاء ليحرس من دون أمر، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم أمره، فصادف الأمر النبوي رغبة مسبقة عند أبي موسى الأشعري. هل يعارض هذا حديث أنس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن له بواب)؟ A لا يعارض؛ لأن عدم البواب هو الأصل وهذا شيء طارئ، لما مر النبي بقبر ووجد عنده امرأة تبكي، فقال: (اتقي الله واصبري، فقالت: إليك عني، فإنك لم تصب بمصيبتي، فتركها عليه الصلاة والسلام ومشى، فقيل لها: إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذها مثل الموت- يعني: من الرعب، كيف ردت عليه، وهي لم تنتبه أنه النبي صلى الله عليه وسلم- فجاءت إلى بابه فلم تجد عنده بوابين- وهذا موضع الشاهد- فاعتذرت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنما الصبر عند الصدمة الأولى) حديث صحيح. فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن عنده بوابون، وفي هذا الحديث أنه أمر أبا موسى أن يكون بواباً على هذا البستان في هذه المرة، وقد أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون بواباً قدر ما يقضي حاجته ويتوضأ، حتى لا يدخل عليه أحد وهو يقضي حاجته، ثم إنه استمر أبو موسى في الحراسة من تلقاء نفسه، فجاء أبو بكر فدفع الباب، ولا نتصور أنه دفع الباب من غير استئذان، لأن الروايات تفسر بعضها بعضاً، فقد جاء في رواية أخرى قوله: (فجاء رجل يستأذن) وفي رواية: (فجاء رجل فحرك الباب يستأذن) فالنبي صلى الله عليه وسلم أذن له وبشره بالجنة. لما رأى ذلك أبو موسى، ثم في عمر رأى ذلك أيضاً، كان أبو موسى الأشعري قد ترك أخاً له يتوضأ ليلحق به، ترك في بيته أخاً له يتوضأ ويلحق به، وقد كان ل أبي موسى أخوان: أبو رهم، وأبو بردة، وأشهرهم أبو بردة واسمه عامر، قال: فإذا إنسان يحرك الباب وهذا هو الاستئذان، والله سبحانه وتعالى قد قال: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور:27] فجاء رجل واستفتح؛ فإذاً حركه مستأذناً لا دافعاً له ليدخل بغير إذن، فإن الصديق والفاروق لا يمكن أن يفعلا ذلك. ثم جاء عثمان، فقلت: على رسلك، وذهب يستأذن له، فالنبي صلى الله عليه وسلم سكت هنيهة، يعني: قليلاً، ثم بشره بالجنة على بلوى تصيبه، فقال عثمان: الله المستعان! وقال أيضاً: اللهم صبراً. وهذه البلوى التي أخبر بها صلى الله عليه وسلم هي ما أصاب عثمان في آخر خلافته من الشهادة يوم الدار، وثوران المنافقين عليه، وقد جاء عن ابن عمر في حديث صحيح رواه الإمام أحمد وقال ابن حجر: إسناده صحيح: (ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنة، فمر رجل فقال عليه الصلاة والسلام: يقتل فيها هذا يومئذٍ ظلماً) النبي صلى الله عليه وسلم يتحدث عن فتنة، ومر رجل، فأشار عليه الصلاة والسلام على الرجل المار، وقال: (يقتل فيها- في تلك الفتنة- هذا- الشخص المار- يومئذٍ ظلماً، قال ابن عمر: فنظرت فإذا هو عثمان). وهذه الفتنة المشهورة التي ألبها وأوقد نارها عبد الله بن سبأ اليهودي، الذي تنقل في البلدان يؤلب الناس على عثمان ويحرك الطغام، ويحرك الدهماء والسفهاء، ويحرك المنافقين على عثمان رضي الله عنه، ويقول: حرق المصاحف وأبقى مصحفه، ووظف أقاربه واستعملهم، وفعل وفعل، فاجتمع خلق من هؤلاء المنافقين وساروا إلى المدينة وتسلحوا واقتحموا المدينة وعاثوا فيها فساداً وتسوروا دار عثمان يريدون اقتحامه، وكان الصحابة قد حرسوا دار عثمان، ولكن عثمان رضي الله عنه أصدر الأمر للصحابة بأن لا يحرسوه، ولا يقاتلوا دونه وينصرفوا. أراد عثمان رضي الله عنه أن يفتدي بدمه، حتى لا يحصل قتال بين الصحابة وبين هؤلاء الثوار، فلما أمرهم وهو الخليفة، وكان لزاماً عليهم أن يطيعوه، اقتحم داره هؤلاء، وكان عثمان رضي الله عنه قد نشر مصحفه يقرأ، فضربوه بالسيف فوقع على يد امرأته نائلة فقطع أصابعها، ثم ضربوه بالسيف وهو يقرأ القرآن. ضحوا بأشمط عنوان السجود به يقطع الليل تسبيحاً وقرآنا فقتل عثمان رضي الله عنه مظلوماً وذهب شهيداً إلى ربه، ولو قال قائل: لماذا لم يتنازل عثمان عن الخلافة ما دام أنهم يريدون خلعه؟ فالجواب: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد أوصى عثمان بوصية وهي: (إن الله مقمصك قميصاً، فإن أرداك المنافقون على خلعه فلا تخلعه) هذه وصية نبوية لـ عثمان رضي الله عنه قبل أن يموت، فـ عثمان رضي الله عنه كان يتصرف ويتحرك بناءً على أمر النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تخلعه) وهكذا حدث وصارت البلوى الشديدة التي أصابت عثمان رضي الله عنه. قال سعيد بن المسيب راوي الحديث: [فأولتها قبورهم] هذا يدل على أن التأويل يقع في اليقظة أيضاً، وهو الذي يسمى الفراسة، الفراسة: التأويل الذي في اليقظة، ما هو قصد سعيد بن المسيب رضي الله عنه؟ الآن النبي صلى الله عليه وسلم جلس على دكة البئر على القف، وجلس عمر وأبو بكر عن جانبيه وعثمان رضي الله عنه جلس على الجهة الأخرى؛ لأن المكان قد امتلأ. سعيد بن المسيب قال: [أولتها قبورهم، أولت جلوسهم في الحديث هذا، مآلهم في القبور الذي صاروا عليه بعد ذلك، فإن القبور الثلاثة للنبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه متجاورة، أما قبر عثمان، فهو بـ البقيع منفصل، والقبور الثلاثة في حجرة عائشة. ] إذاً: كان جلوسهم على حافة البئر متجاورين وعثمان في الطرف الآخر، قال: فأولتها قبورهم أي: اجتمعوا في الدفن وانفرد عثمان في البقيع، وفي رواية سعيد: [فأولت ذلك انتباه قبره من قبورهم] وفي رواية: [اجتمعت هاهنا وانفرد عثمان]. وقد جاء خبر رواه أبو نعيم عن عائشة في صفة قبور الثلاثة أن أبا بكر عن يمينه وعمر عن يساره، لو كان هذا ثبت كان فيه تمام التشبيه، قبورهم متجاورة، قبر أبي بكر عن اليمين، وقبر عمر عن الشمال، ولكن هذا ليس بثابت، والسند ضعيف، وقد عارضه ما هو أصح منه وهو ما أخرجه أبو داود من طريق القاسم بن محمد، قال: قلت لـ عائشة: يا أماه! اكشفي لي عن قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، فكشفت لي الحديث، وفيه: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني قبره، فإذا أبو بكر رأسه بين كتفيه، وعمر رأسه عند رجلي النبي صلى الله عليه وسلم.

ما يستفاد من حديث البئر

ما يستفاد من حديث البئر

شدة حياء عثمان رضي الله عنه

شدة حياء عثمان رضي الله عنه وفي هذا الحديث قوله: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قاعداً في مكان فيه ماء قد كشف عن ركبته، فلما دخل عثمان غطّاها) وورد حديث آخر مشابه عن عائشة رضي الله عنها: (كان رسول الله مضطجعاً في بيته كاشفاً عن فخذيه، أو ساقيه، فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على تلك الحال، وفي الحديث: ثم دخل عثمان، قالت: ثم دخل عثمان فاستويت وغطيت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا استحيي من رجل تستحيي منه الملائكة) وفي رواية لـ مسلم: (إن عثمان رجل حيي، وإني خشيت إن أذنت له على تلك الحالة لا يبلغ إلي في حاجته) يعني: يأتي إلي فيراني على هذه الحال فيستحي وينصرف، ولذلك غطيت حتى لا يستحي عثمان وينصرف بدون أن يبلغني حاجته، أي: حتى يتكلم عثمان ويأخذ راحته في الكلام والحديث، ويفضي إلي بما يريد. وهاتان قصتان، لأن مخرج الحديثين مختلف كما قال الحافظ ابن حجر رحمه الله، فلا مانع أن يتفق للنبي صلى الله عليه وسلم في واقعتين أن يدخل عليه عثمان وقد كشف عن ساقيه فيغطيهما، في هذه الحالة وفي هذه الحالة.

إمساك العصا والاعتماد عليها عند الكلام

إمساك العصا والاعتماد عليها عند الكلام وقوله في الحديث: (إنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في يده عود يضرب به بين الماء والطين) كان معه عود يضرب به بين الماء والطين فجاء رجل يستفتح، قال ابن بطال رحمه الله: من عادة العرب إمساك العصا والاعتماد عليها عند الكلام وغيره، وقد عاب ذلك عليهم بعض من يتعصب للعجم، وفي استعمال النبي صلى الله عليه وسلم لها الحجة البالغة، إذاً لو أن إنساناً متحدثاً أو خطيباً أمسك عصا بيده واتكأ عليها أو ضرب بها، فإنه لا حرج عليه مطلقاً في ذلك، ولا يقال: هذا من العبث، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد فعله، فلا يعد هذا من العبث المذموم، إنما ذلك يقع من العاقل عند التفكر في الشيء، ثم إن هذا استعمال لا يضر، بخلاف من يتفكر وفي يده سكين مثلاً فيستعملها في خشبة غيره. وفرق بين من يأخذ عصا أو يعتمد على عصا أو يطرق بها، وبين من يكون بيده سكين فيفكر وهو يخرب في خشبة غيره، فهذا من العبث المذموم.

بيان فضل هؤلاء الصحابة

بيان فضل هؤلاء الصحابة وكذلك فإن في هذا الحديث فضيلة لهؤلاء الثلاثة، وأنهم من أهل الجنة، وكذلك فضيلة لـ أبي موسى رضي الله عنه لأنه حرس النبي صلى الله عليه وسلم. وفي الحديث أيضاً: جواز الثناء على الإنسان في وجهه إذا أمنت عليه فتنة الإعجاب، لأنك لو أثنيت على رجل في وجهه، وكان لا يؤمن عليه يصيبه العجب، فإذا أصابه العجب هلك واغتر وترك العلم، ورأى نفسه شيئاً عظيماً، الأصل المدح في الوجه منهي عنه، فإذا أمنت الفتنة على الشخص، فإنه لا بأس أن يمدح خصوصاً إذا كان هناك مصلحة، كأن يكون مدحه مدعاة لاقتداء الآخرين به.

معجزة النبي صلى الله عليه وسلم بإخباره عن الفتنة

معجزة النبي صلى الله عليه وسلم بإخباره عن الفتنة وكذلك في هذا الحديث معجزة ظاهرة للنبي صلى الله عليه وسلم، وهي إخباره عن الغيب قبل وقوعه في البلوى التي أصابت عثمان، وهذه هي التي رأيناها وحصلت في الواقع أمامنا وأمام الناس وهي البلوى، رأوا فعلاً البلوى الشديدة التي أصابت عثمان رضي الله عنه، وأيضاً من جهة أن الثلاثة الآخرين يستمرون على الهدى إلى الموت، لا ينحرف منهم أحد ولا يزيغ، وقد استمر الثلاثة على الهدى إلى أن ماتوا رضي الله عنهم.

ما يقال عند المصيبة

ما يقال عند المصيبة وفي الحديث أن الإنسان إذا أخبر عن مواجهة شيء شديد يقول: الله المستعان، وهي كلمة تقال عندما يخبر الإنسان أنه يواجه أمراً شديداً، فيقول: الله المستعان، أي: الله الذي أستعين به وأطلب منه العون على مواجهة ما سيصيبني. وكذلك من الفوائد في هذا الحديث: حياء عثمان رضي الله عنه، فإنه كان من حيائه شدة لا يكشف عورته حتى عند الاغتسال، وكان يغتسل وعليه إزاره رضي الله عنه، ولا يكاد يرى شيء من جلده رضي الله عنه من شدة حيائه. والحياء خير كله، وهو الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم عن عالم الغيب أن الملائكة تستحي منه.

البشارة بالخير

البشارة بالخير ثم في هذا الحديث: بشارة الشخص بالخبر السار، فإذا حصل لإنسان خبر سار، فمن السنة أن تبشره بذلك، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأمر أبا موسى أن يبشر هؤلاء الثلاثة. وفي هذا الحديث أيضاً: محبة الإنسان الخير لأخيه، فإن أبا موسى لما رأى التبشير بالجنة، ماذا تمنى في الحال واللحظة؟ تمنى أن أخاه يأتي الآن ليبشر مع هؤلاء،، ولذلك فإن المسلم يحب لأخيه الشقيق أو لأخيه من أبويه أو من أحدهما الخير، ولا يعلم أحد أعظم منة على أخيه من موسى على هارون، فإنه لا زال يدعو ربه، ويقول: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً * وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً} [طه:29 - 34] واستجاب الله دعاء موسى: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي} [طه:29] وهذا من إرادة الخير للأخ، وموسى دعا ربه حتى أعطي ما سأل وصار هارون نبياً معه، فلا يعلم أحد أعظم منة من موسى على هارون من شقيق على شقيقه؛ لأن بعض الناس الآن ربما يكون بينه وبين أخيه حقد وحسد وبغضاء، وعداوة وتنافس، ومشاجرات ومخاصمات، وكثير الإخوان اليوم تقطعت بهم الأحوال، وتقطعت بهم العلاقات وعاب بعضهم على بعض مع أنهم أشقاء من رحم واحد، وأعرف حالة من هذه الحالات، مجموعة إخوان فرق بينهم الحال، تنافسوا فيه وتخاصموا عليه في مؤسسة مالية، فصار يلعن بعضهم بعضاً ويسب بعضهم بعضاً، ويداعي بعضهم في المحاكم وعند القضاة، وسيرتهم تلوكها ألسنة الناس، وكل واحد يدعو على الآخر بالفقر وبالشلل وبالمرض وباللعن، وواحد ذهب في رمضان هذا إلى مكة عمرة ليدعو على أخيه عند باب الكعبة، ورجع وقال: ودعوت عليه عند باب الكعبة، يذهب مشواراً إلى مكة في رمضان لعبادة جليلة وهي العمرة التي تعدل حجة ليدعو عند باب الكعبة على أخيه وشقيقه من أبيه وأمه، وما سبب ذلك إلا الأموال التي فرقت بينهم، وهذا أبو موسى الأشعري يحترق من الداخل ويغلي، ويقول: وقد تركت أخي يتوضأ ويلحقني، وقلت: إن يرد الله بفلان خيراً يأت به، ويريده أن يأتي، ويتمنى أن يأتي ليدرك أخاه بشارة يسعد بها يوم الدين. لكن هؤلاء يتقاطعون يتدابرون، ويتهاجرون ويتحاسدون ويتباغضون، مع أنهم إخوة وأشقاء، فنسأل الله العافية، والله يا إخوان إن هذه من كبار المصائب، أن يتفكك البيت الواحد ويتشقق ويصبح أهله وأعضاؤه وأفراده أعداءً.

حماية أهل العلم والفضل

حماية أهل العلم والفضل وفي هذا الحديث كذلك: حماية أهل العلم والفضل، وحراستهم والمحافظة عليهم، ولذلك فإن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه تقرب إلى الله، خرج من بيته ناوياً لعبادة يتقرب بها إلى الله وهي أن يلزم النبي صلى الله عليه وسلم ويكون معه ويحرسه ويخدمه، وهذا من فضله رضي الله عنه، وأبو موسى الأشعري صاحب الصوت الحسن بالقرآن. وكذلك في هذا الحديث: كيف كان أبو بكر وعمر مع النبي صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد الموت، كانوا قرناء، يقول الصحابي: كثيراً ما أسمع: جاء أبو بكر وعمر، ذهب أبو بكر وعمر مع النبي صلى الله عليه وسلم، جاء رسول الله وأبو بكر وعمر، ذهب رسول الله وأبو بكر وعمر، الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر يذهبون، أخرجهم الجوع معاً، وكانوا في المعارك معاً، أبو بكر وعمر والنبي صلى الله عليه وسلم الذين أخرجهم الجوع دفنوا معاً متجاورين، قبورهم متجاورة، وكلهم أعمارهم ثلاثة وستون سنة، النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة وستين سنة، وأبو بكر الصديق ثلاثة وستين سنة، وعمر ثلاثة وستين سنة، وقبورهم متجاورة، وهما وزيراه في حياته، وجاوراه بعد مماته، وأفضل الناس بعده، ورفقاؤه في الجنة، فهؤلاء الأفاضل رضي الله عنهم. وكذلك في هذا الحديث البلوى التي أصابت عثمان رضي الله عنه فرفع الله بها منزلته، فإن عثمان ولي من أولياء الله، فكانت البلوى هذه رفعاً لدرجاته، وكانت شهادة له عند ربه، وهكذا بقي على العهد الذي عهد به إليه صلى الله عليه وسلم وهذه البلوى التي تصيبه، وكانت تلك الشهادة التي ختم له بها رضي الله عنه وأرضاه. وفي هذا الحديث حمد الله على النعمة، فإنه في الحديث لما بُشِّر أبو بكر الصديق وعمر حمد الله حتى جلس، يحمد الله ليس مرة، بل كرر الحمد حتى جلس بجانب النبي صلى الله عليه وسلم.

اجتماع الأخيار

اجتماع الأخيار وفيه اجتماع الأخيار معاً، وأن الله إذا بعث نبياً جعل له بطانة خير تأمره بالخير وتعينه على الخير، وهؤلاء بطانة النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر وعثمان الذين لعنهم أهل البدع وسبوهم، ولا زالوا يقولون: تبت يدا أبي بكر وتب، تبت يدا عمر وتب، تبت يدا عثمان وتب، سبعين آية يسبون فيها سبعين من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، ويقولون بعد الصلاة ذكر خاص: دعاء لعن صنمي قريش، يقصدون أبا بكر وعمر، ففي هذا الحديث تذكير لنا بفضل هؤلاء ونجاسة الذين يسبونهم، وبغضنا وكراهيتنا لمن يسب الشيخين وعثمان رضي الله عن الجميع.

فراسة سعيد بن المسيب

فراسة سعيد بن المسيب وفي الحديث أيضاً: فراسة سعيد بن المسيب الذي ربط بين الحديث وبين القبور، وهذا ربما لا يخطر ببال أي شخص، لكن الذي رزقه الله بصيرة يربط بين الأحاديث وبين الواقع، فانظر كيف ربط سعيد بن المسيب بين الحديث وبين الواقع، خطر بباله الحديث وأول هذه القصة بالقبور الموجودة، الحديث هذا يدل على أن السلف يستحضرون الأحاديث، وعندما يتفكرون في الواقع تقفز إلى أذهانهم الأحاديث الموجودة في أذهانهم، الحديث من الأحاديث، والدليل من الأدلة، والنص من النصوص المحفوظة، فيربط بين الواقع والحديث، وهذا الربط بين الواقع والحديث لا يؤتاه إلا من أعطاه الله بصيرة. هذا سعيد بن المسيب ربط بين الواقع والحديث ربطاً واضحاً، ولذلك ابن حجر رحمه الله ذكر فراسته وتأويله للواقع في اليقظة. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجمعنا بهم في جنات النعيم، وأن يرزقنا شفاعة النبي الأمين محمد عليه الصلاة والسلام، والله تعالى أعلم.

الأسئلة

الأسئلة

معنى قوله تعالى: (ويمنعون الماعون)

معنى قوله تعالى: (وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ) Q نريد شرحاً لآخر سورة الماعون؟ A { وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون:7] الماعون هو القِدْر والفأس ونحو ذلك من الآلات التي تستخدم في البيت أو في الطبخ، أو كسر الحطب ونحو ذلك، فذم الله تعالى المرائين الذين يمنعون الماعون، فلا يعيرونه لمن يحتاجونه من جيرانهم ونحوهم من المسلمين، فهم من الأنانية والبخل والشح لا يعيرون أغراضهم للآخرين. نعم. إن الإنسان لا يلزم أن يعير أغراضه لمن يعلم أنه لا يعتني بها، أي: قد يكسرها ويحطمها ويعبث بها، لكن إذا كان يعلم أن جاره أمين، أو أن أخاه المسلم أمين، ويحتاج إلى هذا الشيء، فإنه يعيره إياه، لأن الله توعد الذين لا يعيرون المحتاج: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون:7] إذاً إذا علمت أنه صاحب أمانة وعناية، فلا تمنعه ما يريد استعارته.

حكم التخلف عن العمل بحجة العبادة

حكم التخلف عن العمل بحجة العبادة Q أحد الإخوة في العمل يبقى في المصلى يقرأ القرآن بعد الصلاة خارج المكتب، ويقول: لا يوجد لدي عمل أقوم به، ولا يستطيع قراءة القرآن لما يحدث من إزعاج من الزملاء؟ A إذا كان عمله يتطلب أن يوجد في مكان العمل وفي المكتب، فلا يجوز له أن يخرج خارجه، وإذا كان لا يتطلب ذلك يجوز له أن يقعد في هذا المكان، ولا يبرر قيامه بالعبادة تغيبه عن العمل، فيجب عليه أن يكون حاضراً موجوداً في مكان العمل، فإذا لم يوجد عمل استأذن أن يكون في هذا المكان حتى إذا جاء عمل نادوه وطلبوه، ليعرفوا مكانه.

حكم السهر المفضي إلى التخلف عن الفرائض

حكم السهر المفضي إلى التخلف عن الفرائض Q هناك أناس يسهرون بالليل فيما لا ينفع، وإذا أتى وقت السحر ناموا نومة عميقة يتخلفون عن الفجر والظهر والعصر، ويستيقظون قبل الإفطار، فما حكم صيامهم؟ A هؤلاء على خطر عظيم، هؤلاء يُخشى على دينهم، ولذلك الذي يتعمد النوم عن الصلاة قد جاء فيه حديث البرزخ بأنه يشدخ رأسه بحجارة متوالية متتابعة، يشدخ رأسه ثم يعود كما كان ثم يشدخ وهكذا، هذا عذابه من يوم يموت إلى أن يبعث الله من في القبور، إذا أردت أن تعرف ما هو عذابهم هذا عذابهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر بالضبط: (وينام عن الصلاة المكتوبة) فالذي يفعل هذا في رمضان أو في غير رمضان ينام عن الصلاة المكتوبة فهذا عذابه في القبر.

العقيقة عن الولد

العقيقة عن الولد Q لي ولد عمره سنتان لم أعق عنه، هل يجوز أن أخرج مالاً؟ A اذبح عقيقته الآن متى ما تيسر عندك المال اذبح عقيقته فلا بأس ولو تأخرت، اذبح العقيقة وتؤجر على ذلك.

ترديد الأذان

ترديد الأذان Q هل يشترط ترديد الأذان في نفس المسجد؟ A لا. لو كنت خارج المسجد ردد، ولو سمعته من مسجد آخر ردد، ولو سمعته من أكثر من مسجد ردد مع هذا ومع هذا الذي تستطيعه ردد معه.

سماع الأذان من الإذاعة

سماع الأذان من الإذاعة Q سماع الأذان من الإذاعة؟ A إن كان الأذان مسجلاً تسجيلاً فلا تردد، أما إذا كان يؤذن حياً (يؤذن حاضراً) فردد معه، أما شخص في المسجل سمعته سلَّم أو عطس وحمد الله لا يلزم الجواب، لكن لو سمعته حاضراً عطس وسلم ترد.

حكم جماع الصائم في غير رمضان

حكم جماع الصائم في غير رمضان Q شخص صام صيام فرض مثل صيام نذر وفي نهار الصوم جامع امرأته؟ A عليه التوبة إلى الله وقضاء هذا اليوم، لأن صيام الواجب لا يجوز إذا شرع فيه أن ينقضه، إذا شرع في صيام الواجب وجب عليه أن يتمه ولا يجوز له أن يفطر فيه إلا لعذر.

حكم مخالفة النذر

حكم مخالفة النذر Q نذرت الاعتكاف في مسجد هل يجوز أن أعتكف في ما سواه؟ A إذا كان أفضل منه يجوز مثل لو اعتكفت في المسجد الحرام مثلاً.

تناول الأملاح في الدواء في رمضان

تناول الأملاح في الدواء في رمضان Q زميلي يرقد في المستشفى بسبب ألم في رجله، وقد قرر الأطباء أن يذوّب له الدواء في محلول ملح الطعام ويحقن له في الوريد، فهل هذا بفطر؟ A إذا كان هذا يقوم مقام الغذاء، فإن هذا يعتبر مفطراً وبالتالي فإنه يستعمل العلاج ويقضي، فكلمة أملاح مجملة وهي من مغذيات الجسم، والجسم يتغذى على الأملاح.

المقصود بالشجرة الملعونة في القرآن

المقصود بالشجرة الملعونة في القرآن Q ما المقصود بالشجرة الملعونة في القرآن؟ A المقصود بها شجرة الزقوم؛ لأن الكفار كذبوا بها، قالوا: شجرة في النار، كيف يكون هذا والنار تحرق الشجر؟ {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَاناً كَبِيراً} [الإسراء:60] هذه الشجرة هي التي ذكرها الله تعالى في سورة الدخان في قوله تعال: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} [الدخان:43 - 46].

جواز الاعتكاف من المغرب إلى الفجر

جواز الاعتكاف من المغرب إلى الفجر Q هل يجوز أن أعتكف كل ليلة من المغرب إلى الفجر؟ A نعم.

حكم الأكل في المسجد

حكم الأكل في المسجد Q هل يجوز أن نأكل شيئاً في المسجد؟ A نعم. بدون أن يقذره ويتلف فيه فرشاً مثلاً.

حكم قص المرأة لشعرها

حكم قص المرأة لشعرها Q ما حكم قص المرأة لشعرها بحجة أنه يصعب تسريحه في حال طوله؟ A إذا قصته على نحو لا يشابه الكافرات ولا يشابه الرجال، كأن تقصه قصة قصيرة جداً مشابهة للرجال، أما على نحو لا يشابه الكافرات ولا يشابه الرجال فيجوز ذلك.

جواز تسديد مبلغ الذبيحة لمن كان عليه دم لمؤسسة تقوم بذلك

جواز تسديد مبلغ الذبيحة لمن كان عليه دم لمؤسسة تقوم بذلك Q هل يجوز تسديد مبلغ الذبيحة لمؤسسة نيابة على من كان عليه دم؟ A نعم. إذا كانوا ثقات يقومون بالمطلوب فلا بأس بتوكيلهم.

التوفيق بين قوله تعالى: (عبس وتولى) وقوله: (وإنك لعلى خلق عظيم)

التوفيق بين قوله تعالى: (عَبَسَ وَتَوَلَّى) وقوله: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) Q كيف نوفق بين قوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى} [عبس:1] وبين قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]؟ A لا يمنع أن يكون على خلق عظيم وإن أخطأ مرة، فمثلاً واحد طيلة عمره على خلق عظيم وأخطأ مرة ولم يكن خطأ بدون مبرر، بل إنه عبس لما كان منشغلاً في دعوة صناديد قريش وكان يرجو إسلامهم، وابن أم مكتوم، يقول: علمني مما عملك الله، وهو منشغل بالكفار فعبس، وكان ابن أم مكتوم أعمى لم يره فهل يقال: إن هذا الخلق العظيم يذهب لأجل مرة واحدة كان لها ظروفها؟ لا يمكن فإنه على خلق عظيم، ولا تنتفي هذه بمرة حصلت لظروفها، والله عز وجل قد غفر له ذنبه ما تقدم وما تأخر.

حكم أخذ الوكيل الفائض من الزكاة

حكم أخذ الوكيل الفائض من الزكاة Q كلفني أحد الإخوان بتوزيع زكاة على أشخاص معينين بأنصبه محدودة، وبعد التوزيع عليهم بقي مبلغ هل يجوز لي أن آخذه لدين علي؟ A لا. أنت وكيل، ولا يجوز أن تأخذ لنفسك، وإذا أردت أن تأخذ فلا بد من استئذان الشخص.

حكم قصر الصلاة وجمعها بعد الجمعة

حكم قصر الصلاة وجمعها بعد الجمعة Q عند عودتنا من مكة بعد صلاة الجمعة أدينا صلاة العصر قصراً بعد أداء صلاة الجمعة، ولكن بدون نية الجمع. A صليت العصر في وقت الجمعة، ماذا تسميه؟ أعد صلاة العصر أحوط لك لأن جمهور العلماء يقولون: لا يجوز جمع العصر إلى الجمعة، لأن الجمع ورد بين الظهر والعصر، والجمعة ليست ظهراً لا من جهة الوقت؛ لأن وقت الجمعة من الصباح إلى العصر فهي أطول الصلوات وقتاً، من وقت صلاة العيد من ارتفاع الشمس يبدأ صلاة الجمعة إلى العصر. ثانياً: الظهر سرية والجمعة جهرية. ثالثاً: الجمعة ركعتان والظهر أربع. رابعاً: الجمعة لها خطبة والظهر ليس له خطبة، والخلاصة أن الجمهور قال: إن العصر لا تجمع إلى الجمعة، فالأحوط لك أن تعيدها. وقال الشافعية بجمعهما، ونظراً للاختلاف بين الظهر والجمعة فلا تجمع العصر إليها.

إضافة الحادث إلى أقرب أوقاته

إضافة الحادث إلى أقرب أوقاته Q رجل كان في سفر، فمر على قريب له في أحد البلدان في الطريق ووصل إليه فجراً، ثم صلى الفجر ونام حتى أذان العصر، ثم قام فصلى الظهر والعصر جمعاً وقصراً، ثم لبث حتى أفطر وصلى المغرب جماعة في المسجد، ثم صلى العشاء والتراويح، ثم نام قبل الفجر، ثم قام، وقبل أن يصلي الفجر وجد على ثيابه آثار منيٍ ولا يدري متى حصل ذلك؟ A القاعدة الأصولية تقول: الأصل إضافة الحادث إلى أقرب أوقاته، بناء عليه يغتسل إذا لم يعرف متى حصل هذا، لأن الجنابة لم يعرف متى حصلت، والأصل إضافة الحادث إلى أقرب أوقاته، وبناء عليه يغتسل ويعيد الصلوات من آخر نومة نامها.

عورة الرجل

عورة الرجل Q ما هي عورة الرجل؟ A عورة الرجل ما بين السرة والركبة كما جاء في الحديث في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (عورة الرجل ما بين السرة والركبة) فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم كاشفاً عن ركبته أو كاشفاً عن ساقه، فاستحيا من عثمان فلا إشكال في ذلك، كشف عن ساقيه ودلاهما في البئر والساقان ليستا من العورة، والركبة ليست من العورة.

حكم الزكاة في البضاعة الجديدة

حكم الزكاة في البضاعة الجديدة Q قمت بشراء بضاعة جديدة هذه الأيام وأريد إخراج الزكاة، وسؤالي: هل تدخل قيمة البضاعة الجديدة في حساب الزكاة؟ A البضاعة المتولدة من المال، والمال المتولد من البضاعة هذه دورات، ولذلك فإن الحول واحد، إذا حال الحول أعرف ماذا عندك من البضاعة، وماذا عندك من السيولة وزك على الجميع.

حكم الحدث في الطواف

حكم الحدث في الطواف Q إذا أحدث الشخص بعد أن أتم خمسة أشواط من الطواف، فهل يتوضأ ويبني على ما سبق أم يستأنف؟ A يستأنف فيعيد الطواف من أوله كمن أحدث في الصلاة في الركعة الثالثة يتوضأ ويعيد الصلاة من أولها.

وقوف الإمام بين الآيات

وقوف الإمام بين الآيات Q ألاحظ وقوفك أحياناً في قراءة الفاتحة بين الآيات؟ A لا علاقة له بسنة ولا بشيء مشروع في هذا، هذه قضية نفس، فأحياناً يحصل كتم للنفس أو استدعاء للنفس، فيكون هذا التوقف، وإلا فإنه ليس هناك وقوف غير معتاد بين آيات الفاتحة، فإن السنة أن الإنسان يقف على رءوس الآيات وإن تعلقت بالمعنى بما بعدها؛ كما روت أم المؤمنين ووصفت قراءته صلى الله عليه وسلم بأنه كان يقطع قراءته آية آية.

استعينوا بالصبر والصلاة

استعينوا بالصبر والصلاة إن الأمة الإسلامية اليوم تمر بأسوأ مراحلها، فقد أصبح الدين غريباً، وحملته مشردين بين مطاردٍ ومسجون ومضطهد، وليس لهم كلمة مسموعة إلا فيما ندر، وقد أحاط به الأعداء من كل جهة وجانب، وبكل طريقة ووسيلة، فالواجب على المسلم أن ينظر ويدقق النظر ويطيل التأمل في طبيعة الزمن، ودراسة ملامحه، وأخذ العبرة والعظة من مواقفه وأحداثه.

مرحلة الاستضعاف دروس وعبر

مرحلة الاستضعاف دروس وعبر الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد البشير النذير، الذي أرسله الله رحمة للعالمين، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وتركنا على البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك. أيها الإخوة: درسنا هو غربة الإسلام الثانية وشدني إلى هذا الموضوع هو ما نعيشه في مراحلة الاستضعاف، التي نرى فيها الدين قد أصبح غريباً بين كثيرٍ من الناس في العالم، وحملته بين مطارد ومضطهد في كثير من أنحاء العالم، ولكن الله سيتم هذا النور، وسيعلي هذه الكلمة -ولابد- كما وعد عز وجل. ونحن نريد أن نلقي الضوء على مزيد من ملامح هذه المرحلة مرحلة الاستضعاف، الوقت الذي لا يكون فيه لحملة الإسلام كلمة مسموعة إلا فيما ندر، وفي الوقت الذي يحيط فيه أعداء الإسلام ويتربصون بالمسلمين من كل جهة، لابد على المسلم في هذه المرحلة أن يعرف واجبه، وأن ينظر ويتبصر في طبيعة هذا الزمن وهذا الوقت الذي يعيش فيه، لذلك كان عنوان هذا الدرس (استعينوا بالصبر والصلاة). إنه توجيه مناسب جداً للمسلمين الذين يعيشون في هذا الوقت، إنها أوامر إلهية تناسب طبيعة الحال تماماً، وهي ما نحتاجه فعلاً في هذا الزمن، (استعينوا بالصبر والصلاة) {اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا} [الأعراف:128]، وقصة هذه الكلمة (استعينوا بالله واصبروا) عظيمة، عندما أرسل موسى لبني إسرائيل، نظر الله إلى بلاد مصر في ذلك الزمان، فإذا بها تحت هيمنة فرعون الطاغية، والله سبحانه وتعالى يعلم أن فرعون سيأتي قبل أن يخلق السماوات والأرض. وبعث الله موسى لإنقاذ هؤلاء المستضعفين من بني إسرائيل، لكي يُعدوا لخلافة الطغاة المتجبرين المتكبرين، وأرسل إليهم موسى عليه السلام، فصدع بالحق، وبيّن الرسالة، ودعا فرعون وقومه إلى الله عز وجل، وجمع بني إسرائيل، وحاول بكل ما أوتي من قوة أن يقودهم وأن يربيهم، وأن يعدهم لوقت النزال الذي تكون فيه المعركة قد قامت بين فرعون وجنده، وموسى ومن معه من المؤمنين. قال الله عز وجل: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [الأعراف:127] سبحان الله! قوم فرعون الملأ الطغاة، يقولون لفرعون: أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض، وهل كان موسى مفسداً في الأرض؟ وهل كان قومه المستضعفون يستطيعون أن يفسدوا في الأرض؟ ولكن هذه طبيعة الملأ، وبطانة السوء، وحاشية الفساد، نفخوا في فرعونهم، فقالوا له ليستفزوه ويستحثوه ويوغروا صدره على موسى: {أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [الأعراف:127] قيل: إن فرعون كان يعبد آلهة، ذكر بعض المفسرين كما في تفسير ابن كثير، أنه كان يضع عقداً في عنقه يعبده، وقال بعضهم: إنه كلما رأى بقرة جميلة حسنة دعاهم إلى عبادتها. ولهذا السبب صنع بعد ذلك السامري العجل؛ ليلهي به بني إسرائيل عن التوحيد ويشغلهم بعبادته عن الله. وعلى أية حال: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [الأعراف:127] وفي قراءة: {وَيَذَرَكَ وَإلِهَتَكَ} [الأعراف:127] أي: عبادتك؛ لأنه كان يأمرهم بعبادته، فماذا كان رد فرعون؟ قال: {سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف:127] هذا التأكيد الثاني؛ لأنه كان قد شرع فعلاً في استحياء نساء بني إسرائيل وقتل أولادهم، ولكنه الآن يشدد ويؤكد على المسألة أنه سيفعل ذلك أيضاً مرة أخرى، وهذا هو التأكيد الثاني كما قال ابن كثير رحمه الله، {سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف:127]. وفي خضم هذه المحنة، وفي أتون هذه الأزمة والشدة التي يواجهها بنو إسرائيل قال موسى لقومه! كيف تكون المواجهة؟ أناس عزل ضعفاء ليس عندهم شيء، وفرعون عنده كل القوة والسيطرة والهيمنة والبطش والإرهاب قال فرعون: {سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} [الأعراف:127]، فماذا سيفعل العزل؟ ماذا سيفعل هؤلاء المساكين؟ وموسى المؤيد بالوحي من الله يملك الجواب، قال تعالى: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128]. لا أظن أن الواقع الذي نعيشه يحتاج للتعبير بأكثر من هذه الكلمات مما نحتاج إليه لمواجهة الواقع الجديد: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128]. أيها الإخوة: إننا لو فكرنا انطلاقاً من الموازين الأرضية والمقاييس الدنيوية، لا يمكن أن نأمل بنصرٍ للمسلمين، ولكن عندما نفكر انطلاقاً من السنن الربانية والموازين الشرعية؛ فإنه لابد أن نثق بأن الله سينصر الدين مهما كان أبناؤه ضعفاء قال الله: {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128]. أيها الإخوة: إن موسى وبني إسرائيل كانوا لا يملكون سلاحاً مماثلاً لسلاح فرعون أبداً، ولا جنداً يماثلون جند فرعون مطلقاً، ولما تحقق الأمر واستعانوا بالله وصبروا، وجعلوا بيوتهم قبلة، وصاروا يعبدون الله، كافأهم الله عز وجل بأن أغرق فرعون ومن معه، ونصر موسى ومن معه عليهم، بأن ابتلع البحرُ فرعونَ ومن معه. وإنا لو صدقنا الله، وعبدناه، واستعنا به، وتوكلنا عليه، فلابد أن يرسل الله من نقمته وعذابه على الكفار ما يهلكهم ويشرد بهم، ويجعلهم عبرة للأمم القادمة. فماذا قال بنو إسرائيل لموسى: {قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} [الأعراف:129] قالوا: نحن نتعرض للأذى قبل أن تأتينا يا موسى ومن بعد أن جئتنا، لم يتغير شيء، قال موسى يصبرهم: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:129]. وكأن موسى يقول لبني إسرائيل: لو جاءكم يوم انتصرتم فيه وملكتم الأرض، فلابد أن تفوا بما عاهدتم الله عليه؛ لأن الله إذا استخلفكم فإنه سينظر كيف تعملون. أناس في مرحلة الاستضعاف يقول لهم نبيهم: إذا انتصرتم وملكتم البلاد والعباد لابد أن تكونوا صادقين مع الله في تصرفاتكم؛ لأنكم ستكونون في حالة امتحان وابتلاء لكن من نوع آخر امتحان وابتلاء بالسراء بعد أن كنتم ممتحنين ومبتلين بالضراء. أيها الإخوة! إننا لابد أن نترسم في هذه المرحلة عدة ملامح مرحلة الاستضعاف التي عاشها بنو إسرائيل مع موسى، وعاشها الضعفاء من قوم نوح مع نبيهم، والمسلمون من قوم شعيب مع نبيهم، ومن سائر الأنبياء الذين كان وراءهم مؤمنون اتبعوهم عاشوا مع أنبيائهم فترات استضعاف، وعاش المسلمون مع الرسول صلى الله عليه وسلم فترة استضعاف ثلاثة عشر عاماً، ولكن الله نصرهم، وأذن لهم بالغلبة على عدوهم. فما هي ملامح هذه المرحلة؟ وما الذي نحتاج إليه؟ وما الذي يجب أن نفعله؟ وما هو واجبنا تجاه الأزمة الحاضرة؟

طبيعة الدين الذي نحمله

طبيعة الدِّين الذي نحمله أيها الإخوة: لابد أن نعلم أولاً أن المطلوب منّا هو التغيير، والهدف هو التغيير، ولنعلم أن طبيعة الدين الذي نحمله طبيعة تغييرية تغير الواقع الجاهلي لكي يكون إسلامياً، والإسلام يرفض أي تسلط وأي استعباد للبشر، وأي حكم بخلاف حكم الشريعة، ويرفض الإسلام أي منكر يكون كبيراً أو صغيراً، ويربي الإسلام أتباعه على الصمود أمام الجاهلية وتغييرها لكي يكون الواقع إسلامياً. إن الجاهليات المعاصرة قد بنت أنظمة وشيدت أبنية، قالوا عنها: حضارية، وقالوا ما شاءوا أن يقولوا، لكنها في الحقيقة مصادمة لدين الله، ومصادمة حتى لفطرة البشر، ورسالتنا نحن رسالة تغييريه، ليست رسالة ترقيعية، أو تغييراً جزئياً، أو إزالة بعض المنكرات، وإنما طبيعة الرسالة التي يجب أن نحملها طبيعة تغييريه، لابد أن تُقتلع الجاهلية من جذورها وأن يحل محلها نظام إسلامي كامل. لا يمكن أن يرضى المسلم بأنصاف الحلول، أو بتطبيق جزئي للإسلام، ولا يمكن أن يُضحك على المسلم ببعض التغييرات الجزئية الهامشية الجانبية، وتترك الأمور الأساسية بدون تغيير كما يوافق الشرع. أيها الإخوة: إن هذه المهمة التغييرية تنبؤنا بأننا لا يمكن أن نسكت لقاء بعض المكاسب التي نحققها في الواقع، وإنما لابد أن نطالب بالمزيد، ونستمر في العمل حتى يحدث التغيير الشامل؛ لأننا في الحقيقة أصحاب دين ومنهج، ولسنا أصحاب مكاسب دنيوية ولا أطماع شخصية. ولذلك فإن المسلمين الصادقين لا يمكن أن يسكتوا ببعض المناصب مثلاً أو ببعض الوجاهات، وهذه نقطة لا يفهمها ولا يعيها كثير من الذين يعملون للإسلام من خلال بعض البرامج التي يظنون أنهم يستغلون الديمقراطية من أجلها، بل الحقيقة أنهم يسكتون ويرضون بأمور جزئية، يظنون أنها مكاسب كبيرة جداً، والحقيقة أن المسلم لا يمكن أن يهدأ إلا بعد أن يرى الواقع أمامه مستقيماً تماماً على شرع الله. ونحن نعلم -مع يقيننا بهذه القضية- أن التغيير لا يمكن أن يتم بين يوم وليلة، وأن المسألة لا يمكن أن تحدث بانقلاب مفاجئ يتغير الواقع فيه تماماً من الصفر إلى المائة، ولم يحدث هذا في تاريخ دعوات الأنبياء. إننا نعلم أن المسألة لابد أن يحدث فيها تدرج، ودعوة مستقيمة جادة؛ لكي تجتمع الجماهير في النهاية على الإسلام، نحن نعلم أن المهمة صعبة، وأن التغيير قد يكون بطيئاً جداً، لكن هناك فرق بين أن يكون التغيير الشامل هو هدفك الأكبر، أو أن يكون تحصيل بعض المكاسب الجزئية هو هدفك الأكبر. لابد أن يستقر في ذهن ووعي كل مسلم، أن الإسلام دين تغيير، والله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وأن التغيير يبدأ من الفرد وينتشر في المجتمع، وهناك تغيير أفراد وهناك تغيير المجتمع، كما أن هناك انحرافاً لدى الأفراد، فهناك انحراف لدى المجتمع، وانحراف المجتمع مكون -ولاشك- من انحراف الأفراد، مما أدى إلى انحراف النظم، فصارت الأنظمة الجاهلية مستقرة في بلدان المسلمين. أيها الإخوة: إن التغيير هو (تغيير أفراد زائد تغيير المجتمع) ولابد أن يكون للإسلام قاعدة جماهيرية ذات نفوذ عام، وعند ذلك يمكن أن يحصل التغيير المنشود، وأما من جعل مصلحته الشخصية فوق مصلحة الإسلام، وقبل مصلحة الدين، فلا يمكن أن يصل، ولا يمكن أن يغير. فإذا جعلنا الإسلام ومصلحة الإسلام هي المقدمة على مصالحنا الشخصية، وجعلنا الإسلام هو شغلنا الشاغل، وهمنا الذي يؤرقنا ليلاً ونهاراً، فإننا يمكن أن نعمل وننتج، وأما إذا جعلنا الإسلام شيئاً جانبياً، ومصلحة الإسلام قضية هامشية، وقدمنا لقمة العيش وأكل الخبز -كما يقولون- على مصلحة الإسلام، فلا يمكن أن نغير، وعند ذلك فإن الله سيأتي بقوم {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54].

الصدع بالحق وإعلان المبادئ

الصدع بالحق وإعلان المبادئ أيها الإخوة: إن من الملامح الأخرى المعاصرة لما نشاهده اليوم ولما نعيشه، أننا الآن في مرحلة صدع بالحق، ومرحلة إعلان مبادئ، ومرحلة توضيح الأفكار الإسلامية، ومرحلة عرض التصورات الشرعية، وهذا العرض لابد أن يكون بأنواع البيان باللسان والقلم، وبجميع الوسائل، لابد أن توضح تصورات الإسلام. نحن الآن في معركة أفكار، وفي صراع تصورات مع الجاهلية، صحيح أننا لا نقوى على المواجهة بالسلاح في هذه المرحلة، ورحم الله امرءاً عرف قدر نفسه، ورحم الله مجتمع الدعاة إذا عرفوا طبيعة المرحلة. فنحن الآن نقارع الجاهلية، ونقارع مفكريهم، وأساطين الكفر ومتكلميهم، ونقارع كل من لديه شبهات ومبادئ جاهلية، نقارعه باللسان وبالقلم، نحن الآن نعيش في صراع فكري، يجب أن نرد على الشبهات، ويجب أن نواجه، وأن ندحض الأفكار الأخرى، ونعلن الحق، ونصدع بالدين، ونبين تصوراتنا للناس، ينبغي إعلان هذا الإسلام، وتوضيح جميع جوانب الإسلام للناس، ولابد أن يكون الإسلام منهج حياة واضح للناس. لا يكفي أن نقول للناس: إن الدين هو شعائر تعبدية في المساجد، وهو أذكار تتلى في الصباح والمساء، وبر الوالدين وصلة الرحم، لابد أن نوضح طبيعة هذا الدين، وجميع جزئيات هذا الدين، نحن أمناء على الشريعة، لابد أن نبلغها للناس نبلغها كما أنزلها الله عز وجل، لا نبلغ أجزاء وقطع، نحن نبلغ الدين كاملاً، ولابد أن نشتغل بتبليغ الدين بقوة. إن أعداء الله يطرحون أفكارهم ليلاً ونهاراً في جميع الوسائل، ولا تخرج مطبوعة ولا فيلم، ولا وسيلة من الوسائل الإعلامية، إلا ويطرح أعداء الله فيها أفكارهم وشبهاتهم، فماذا فعلنا نحن من أجل مواجهة هذه الأمور، ولا يجب أن نقف في موقف المدافع، بل يجب أن نغزوا بالأفكار الإسلامية عقول العالمين، ينبغي أن نغزوا بتصورات الشريعة الإسلامية أفئدة العالمين، هذا دين عالمي دين ليس لقطرٍ ولا لبلد، هذا دين عالمي أرسل الله نبيه للعالمين بشيراً ونذيراً لكل الأرض. ولذلك لو وجدت إنساناً من أي بلد فأنت مكلف أن تبلغه هذا الدين بالطريقة المناسبة، وبالأولوية الشرعية الصحيحة. إن هذا الدين دين لكل أهل الأرض، ليس ديناً إقليمياً، ولا يحده وطن ولا بلد معين، دين عالمين ينبغي أن ينشر لجميع أهل الأرض. أيها الإخوة: من هذا المنطلق نقول: إننا كمستضعفين الآن لا نستطيع إعلان الجهاد على أهل الأرض؛ لأننا لا نملك مقومات المواجهة العسكرية مع الكفار، لكننا نملك إسلاماً بمبادئ وتصورات يجب أن نبلغها للناس، انظر لإبراهيم عليه السلام كان مستضعفاً في قومه لم يكن عنده جيش ولا سلاح لكنه برز على قومه وناقشهم وأفحمهم وأسكتهم، قال تعالى: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ} [الأنعام:80] نظر إلى الشمس والكواكب والقمر، وجلس يقول: هذا ربي، من باب التنزل مع الخصم في النقاش، أي: كأنه يقول: نفترض أن هذا هو الرب: {فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} [الأنعام:76] {قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} [الأنعام:77] {فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ} [الأنعام:78 - 79]. يعلم التوحيد أصلاً، ولكنه في نقاش معهم، ومع أبيه {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} [مريم:43 - 45] نقاش مع أبيه ومع المجتمع ومع الملك، يقول للملك: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة:258] {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} [الأنعام:83]. إبراهيم ظهر عليهم بالحجة والبيان، وهذا ما ينبغي أن تفعلوه الآن أنتم يا أبناء الإسلام، فإن الإسلام الآن يتعرض لهجمات فكرية شرسة، يتعرض لسهام توجه إليه، عليكم أن تكسروا هذه السهام وتردوها، وتغزوا بأفكاركم الإسلامية أفئدة العالمين. أيها الإخوة: يجب أن نقتدي بقوة وجرأة ووضوح فكرة إبراهيم في عرض الحق. ويجب أن يكون عندنا هذه المقدرة لنبين، ولابد أن تكون بجميع الوسائل. ينبغي أن تكون الدعوة الإسلامية في العالم بوسائل تكافئ الوسائل التي يستعملها أعداء الدين في الهجوم على الإسلام، وبعض الناس لو قلت له: ما هي الوسائل لديك لتبليغ الدعوة؟ ربما لا يزيد عن: الخطب والمواعظ فقط، لكن أعداء الإسلام عندما وجهوا سهامهم لأفئدة المسلمين وعقولهم، لم يوجهوها بالخطب والمواعظ فقط بل إذاعاتهم تبث مواعظ وخطب تبشيرية، وعندهم قساوسة يخطبون بالمسلمين، وينادون بالأب والابن وروح القدس، ولم يقتصر عملهم على هذا فقط، بل استخدموا جميع القنوات والوسائل، وأنواع المطبوعات، والوسائل المرئية، والمسموعة، والمقروءة، يستخدمون جميع أنواع البث، فنحن أبناء الإسلام ينبغي علينا أن نكافئ هذه الوسائل بوسائل أخرى، وقد يقول البعض: إننا لا نملك مثل إمكاناتهم، وهذا صحيح إننا لا نملك أقماراً صناعية، ولا نملك وسائل بث مباشر؛ لكن هل استخدمنا جميع الوسائل المتاحة؟ أيها الإخوة: إن وسائل الدعوة تحتاج إلى تطوير لمكافئة ومواجهة هذه الحملة الشرسة، فهل ابتكرنا واستخرجنا جميع ما في جعبتنا من الوسائل التي نكافئهم بها؟ {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] لكن ليس عندنا إلا الخطب والمواعظ! نعم إن الدعوة الآن تعيش نوعاً من الانتعاش في الوسائل الإعلامية التي ابتكرها بعض الدعاة إلى الله، مثل فعل الكتيب الإسلامي والشريط الإسلامي، وهي وسائل مهمة من الوسائل الإعلامية للدعوة، تنقل بها الأفكار والتصورات، وتوضح بها المواقف، ويرد فيه على أعداء الله وسيلة يتربى عليها أبناء المسلمين، وتكشف فيها المؤامرات على الإسلام؛ لكن المسألة لازالت تحتاج إلى تطوير في هذه الوسيلة وفي غيرها من الوسائل تحتاج لتطوير في الطباعة والنشر والتوزيع، والوصول إلى المنافذ كلها، ويحمل ذلك أبناء الإسلام، لا يجوز لنا أن نعيش بوسائل بدائية في حمل الأفكار الإسلامية، لابد من دراسة وتخطيط، وإعداد للوسائل الفعالة، وإذا نظرت إلى المشاريع التجارية لا بد لها من دراسة لجدواها الاقتصادية، وخطط لكل شيء، من تكلفة المشروع، والعمالة، والمواد المستهلكة، والآلات، والأشياء المجلوبة من الخارج، والضرائب عليها، أليست الدعوة أولى بهذه الدراسات وهذا التخطيط من المشاريع التجارية؟ أيها الإخوة: حقاً إننا لازلنا نعيش في مرحلة بدائية، والواجب علينا أن نرتقي بهذه الدعوة مراحل إلى الأعلى وإلى الأمام، ينبغي أن تستغل جميع الإمكانات المتاحة في نشر الدعوة. أيها الإخوة: إن إعلام الكفرة منظم ومدروس، ومؤتمرات المبشرين على درجة متناهية من الدقة، فماذا فعلنا نحن أبناء الإسلام من أجل ذلك؟ مرة من المرات جلب لي أحد الإخوان ملف مؤتمر تبشيري عُقِدَ في أمريكا من أجل دراسة أوضاع المبشرين في العالم، والبقع التي يراد غزوها، وماذا حصل حتى الآن؟ مناقشة ومراجعة لما حصل، وتقويم للوضع، وإعدادٌ للمستقبل، ويأتون بالأرقام الدقيقة، وأماكن تجمع المسلمين، وأعداد المسلمين في كل ولاية، وما هي نوعياتهم وأجناسهم؟ وما هي لغاتهم وأعمالهم؟ هل هم طلبة، أم فنيون وعمال، أم مهندسون وأطباء؟ ونحو ذلك إحصائيات دقيقة من أجل وضع الشرائح التي سيوجهون إليها سهامهم. ويقول لك: دراسة حالة واقعية، قام المبشر فلان الفلاني بعرض النصرانية على الطالب فلان الفلاني، من بلد كذا من بلدان العالم الإسلامي، يدرس الهندسة الفضائية أو هندسة الطيران، وأعطاه نشرة كذا وكذا في النصرانية، وفتح معه موضوع كذا وكذا، وأعطاه في الأسبوع الأول كذا، والأسبوع الثاني والثالث والرابع كذا، وانتهت المسألة بفشل المبشر، والشاب المسلم بقي على إسلامه ما هي أسباب فشل المبشر؟ أولاً ثانياً ثالثاً رابعاً، دراسة دقيقة لأسباب الفشل، يدرسون حالات واقعية من النجاح والفشل، ويجربون مراراً وتكراراً، بوسائل لا نقول: إنها وسائل معقدة جداً وتكنولوجية ولا يمكن أن نستوردها ونأخذ بها! لا، إنما هي أشياء فيها أنواع من التنظيم الدقيق والترتيب المدروس. ينبغي علينا أبناء الإسلام ألا تكون تصرفاتنا عشوائية، وجهودنا مبعثرة، لابد أن يكون عندنا ارتقاء وتطوير في الأساليب؛ من أجل إنجاح هذه الدعوة. إنما حصل من نشر الكتاب والكتيب، والشريط والمجلة، والنشرة نجاح طيب، لكنه لا يكفي، فالإسلام دين عظيم يحتاج لوسائل أعظم من هذه.

معركتنا مع العلمانية

معركتنا مع العلمانية ملمح آخر من الملامح التي نعيشها في هذه الفترة معركتنا مع العلمانية. العلمانية: هي مذهب فكري إلحادي يرمي إلى نزع الدين من حياة المسلمين، وعزل الدين عن حياة المسلمين، وجعل الدين في جهة وحياة المسلمين في جهة أخرى، إنهم يريدون منا باختصار أن نقول: ما شأن الدين في الاقتصاد، وفي الأمور الاجتماعية، وفي الأمور السياسية، وفي العادات والتقاليد إلخ. يريدون أن يقدموا لنا الإسلام في قالب معين، أن الدين في المسجد، وأنه مقصور على شعائر معينة، وقد تكون المسألة في عقد النكاح والطلاق ونحو ذلك، يقدمون لنا الدين في قوالب معينة، يريدون حصر الدين في زوايا، ونشر الإلحاد والتمرد على شريعة الله في بقية الأنحاء والأجزاء من جسد الأمة الإسلامية وواقعها، فنحن الآن معركتنا الأساسية مع هؤلاء، ورحم الله مسلماً عرف عدوه، ومعرفة العدو جزء مهم من القضية، ومعرفة مخططات هؤلاء الناس شيء آخر مهم جداً. أقول لكم قصة الرجل الذي ذهب إلى جامعة من الجامعات في إحدى بلدان العالم الإسلامي، فوجد فيها تيارات علمانية، وغزو فكري مركز وموجود ومسيطر، قد عشعش في هذا المكان، ثم العجب أنه يرجع من هناك ليقول: إنهم أشخاص سوء، إنهم يدخنون! فلا يصلح أن نكون بالسطحية التي لا نرى فيها منكراً أعظم من التدخين. لابد أن نضع نصب أعيننا، أن أعظم المنكرات هو تنحية الشريعة عن التطبيق في الواقع، من الألف إلى الياء. والمهمة الواجبة على المسلم هي معرفة أفعالهم في الماضي والحاضر، ومعرفة خططهم المستقبلية وشخصياتهم حتى الأسماء، وقنواتهم التي يصبون فيها سمومهم والوعي بكتاباتهم، والزوايا التي يسطرون فيها أفكارهم، لابد أن نقرأ قراءة نقدية بخلفية شرعية، فنعرف أن هذا خطأ ومخالف للإسلام، على ضوء الخلفية الشرعية التي يجب أن تكون موجودة لدى الفرد المسلم، وإلا فإننا سنكون سذج، إما أن ننقد شيئاً لا يستاهل النقد، أو أن نغفل عن أشياء مهمة جداً في الصميم يُطعن فيها الإسلام، لا يمكن أن نترك المجتمع نهباً للعلمانيين، ويجب أن يبرز من شباب الإسلام قدوات وقادة في المجتمع، ليقطعوا الطريق على قيادات العلمانيين، فإن الجماهير لابد لها من شخصيات تعجب بها، ولابد لها من قادة ميدانيين في المجتمع. فإذا تخاذل شباب الإسلام عن البروز بتميزهم العقدي والمظهري والعبادي والأخلاقي، إذا تخلف شباب الإسلام عن الظهور في المجتمع كقدوات مؤثرة، وكقادة لجماهير الأمة، فإن أهل العلمنة هم الذين سيتبوءون الأمكنة ويقودون الناس، كما فعلوا في الماضي. فنقول: لابد أن تنهضوا أنتم يا شباب الإسلام! ويا كهول الإسلام! ويا صغار المسلمين! كل بحسب قدرته وطاقته أن يبرز في المجتمع المدرس في مدرسته، والمدير في دائرته، والمهندس في إدارته، والشيخ والعالم والواعظ والخطيب، لابد أن يبرز كل واحد بما عنده من الدين. أنت إذا برزت اجتمع حولك الناس، وأخذوا ما لديك بأسلوبك الحسن، ولكن إذا تقوقعت أتحت المجال لأهل السوء أن يبرزوا، وكلما خفت صوت إسلامي، ارتفع صوت النفاق، وكلما توارى قلم إسلامي عن التسطير، حل محله قلم نفاق يكتب ليسمم أفكار وعقول أفراد الأمة، وهذا شيء معروف بالتجربة والواقع، فأين ألسنتكم وأقلامكم؟ وأين مجهوداتكم في نصرة شريعة الله؟ يجب علينا أن نحاصر العلمانيين، وأنا أقول: إن العلمانيين هم المنافقون؛ لأنهم أناس يظهرون الدين ومصلحة الإسلام، ويخفون الحرب الشعواء على الإسلام وأهله، ولذلك تراهم يستشهدون بأشياء شرعية، ونصوص شرعية في كتاباتهم. ومنهم من يقول: نحن نحترم جداً ابن جرير الطبري، سبحان الله! أنت العلماني الخبيث! ما لك وابن جرير الطبري؟ وما صلتك بـ ابن جرير الطبري؟ وماذا تعرف عن ابن جرير الطبري؟ وما مدى اقتناعك وإيمانك بآراء وكلام وعلم ابن جرير الطبري؟ الآن جئت لتجتزئ من تفسيره شيئاً معيناً تعلق عليه تعليقاً يروق لمزاجك الفاسد، ويكتبون باسم الضرورة والمصلحة الشرعية، ويكتبون باسم مرونة الشريعة وتطوير الفقه، ويستخدمون كلام الأئمة، ويقولون: الإمام مالك يقول: "من شيوخي من أستسقي بهم الغمام ولا آخذ منه"، ويريدون بهذا الحق باطل، أي: أن الدعاة والمشايخ والعلماء للبركة، وليس للأخذ عنهم. إنهم بهذا القول يريدون أن يقولوا للناس: هؤلاء الدعاة والمشايخ للبركة، لكن لا تأخذ عنهم شيئاً، لأن الذي يؤخذ من عندنا نحن العصريين، والواعين، والمتقدمين، والمتحضرين والمتفتحين، أما هؤلاء فهم رجعيون ومنغلقون. فهم يتكلمون بأشياء من الإسلام، فهل وعينا تماماً الأبعاد التي تنطوي عليها كلماتهم؟ وماذا يريدون؟ وكيف الرد عليهم؟ لا يجوز أن نجعلهم يسرقون أضواء الإسلام أبداً ويتلبسون بها، ولا يمكن أن يفعلوا ذلك، فمشاعل نور الإسلام بأيدينا نحن دعاة وأبناء الإسلام وليست بأيديهم هم، إنما يأخذوها ليطفئوها، ويضللوا بها الناس. وهؤلاء أعداء الدين يصطنعون أبطالاً ليلتف حولهم الناس، وقد يقولون كلاماً جريئاً ليعجب بهم الناس، ويفتعلون انتصارات وهمية، مثل ما فُعِلَ لـ أتاتورك لكي يظهر ويبرز، وكان الجيش التركي في هزائم متوالية وأمام جيش اليونان تراجع بعملية مدروسة وانسحاب تكتيكي للجيش اليوناني أمام الجيش التركي بقيادة أتاتورك؛ ليظهر أتاتورك بطلاً شجاعاً أنقذ الأمة من الكارثة، فرفع على أعناق الناس، ولكنه رفعٌ ليضربهم ويضرب دينهم وإسلامهم، فمنع الأذان باللغة العربية، ومنع حجاب المرأة وطمس هوية المسلم. ولكن الله عز وجل أهلكه، وكشف باطله، وظهر في تركيا اليوم من العناصر الإسلامية وأهل الدين من يبرهن على أن الدين لا يمكن كبته ولا إطفاء نوره. يقول لي أحد الإخوان: ذهبت إلى هناك، فمشيت في إحدى البلدان، فقيل لي: لا تصدق دعك من العاصمة والمدن الكبيرة، لكن ادخل في الداخل حجاب كامل، قرية عددها ثلاثون ألف نسمة لا تكاد ترى فيها امرأة سافرة. ورئيس بلدية مسلم، أول ما وصل إلى ذلك المنصب أصدر قراراً بإغلاق ملاهي الدعارة في البلد، فقامت إحدى الداعرات وتكلمت في عرضه بأنه رجعي ومتخلف، ويريدنا العودة إلى الماضي والعصر الحجري! فقال لها بأسلوب جريء وقوي: أنا على استعداد لفتح هذه الملاهي، إذا كنت أنتِ أول داعرة تكونين رأس مال المحل، فأخزاها الله وسكتت. أيها الإخوة: هذا الدين دين عظيم، ونحن حتى الآن لا ندرك عظمة هذا الدين، هذا الدين لا يمكن أن يطفئ نوره مهما فعلوا، يضرب الإسلام في مكان، وتمر عليه عشرات السنين وإذا به يظهر مرة أخرى، يقتل علماؤه، ويشرد دعاته ويسجنون ويضطهدون، وإذا بأجيالٍ جديدة لم يحسب لها أعداء الإسلام حساباً تهب مرة أخرى، لتعلن أن الإسلام موجود، وأن الهوية الإسلامية موجودة.

الإعداد للمعركة بين الإسلام والكفر

الإعداد للمعركة بين الإسلام والكفر مسألة أخرى من المسائل التي تجب علينا في هذا الواقع مسألة الإعداد للمعركة التي تكون بين الإسلام والكفر، قال الله عز وجل: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال:60]. (وَأَعِدُّوا): فعل أمر، والأمر يقتضي الوجوب. (مَا اسْتَطَعْتُمْ): ما نكرة، والنكرة في سياق الأمر تفيد العموم، أعدوا عموم أنواع القوة، {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال:60] من ضمن القوة رباط الخيل، كل شيء تستطيعونه. {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60] من الكفار. {وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال:60] من المنافقين ومن غير المنافقين، أناس ليس عندك فكرة أنهم من أعداء الله، فإذا رأوا قوة الإسلام هابوه، وأنت لا تعلم عنهم، لكنهم خافوا لما رأوا قوة الإسلام وأهله. وإن هذه الآية تأمر بالإعداد قبل أن تأمر بالجهاد، هناك آيات أمرت بالإعداد وآيات أمرت بالجهاد، قال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة:123]، وقال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ} [التوبة:29]. وآيات أمرت بالإعداد قبل الجهاد ومنها هذه الآية، وأي عاقل يعرف أن الإعداد قبل الجهاد، والآن أكثر بلدان المسلمين لابد أن تكون في مرحلة الإعداد؛ لأنها لا تملك مقومات إعلان الجهاد، وبعض الناس الذين لا يحسبون حسابات الأمور جيداً، لا يتصورون ولا يعرفون ولا يدركون ما هي مستلزمات المعركة، وهؤلاء يمكن أن يجروا بكل سهولة إلى معركة جانبية تستهلك فيها الطاقات والقوة الإسلامية القليلة، ويحصد فيها المسلمون وتنتهي القضية. هؤلاء المساكين الذين ما فقهوا الواقع، ولا فقهوا شريعة الله أولاً، ولا فقهوا أن مرحلة الإعداد قبل مرحلة الجهاد. أيها الإخوة: لابد أن نفرق بين مرحلة الإعداد ومرحلة الجهاد. فهذا صلاح الدين سلك طريق النصر بشكل صحيح، أعدّ الأمة للمواجهة شحذ عزائمهم، وعظهم وذكّرهم بخطبائه وعلمائه وفقهائه إعداد متكامل إعداد العدة والسلاح، ونقل الأسلحة والعتاد من مكان إلى مكان، وحشد الأشياء، وكان إعداده للجهاد يسير جنباً إلى جنب مع إصلاحاته الداخلية، فكان يحارب العقائد الفاسدة، فمن الذي قمع الباطنية؟ صلاح الدين. من الذي أنهى دولة الفاطميين في مصر؟ صلاح الدين. من الذي حارب فرق الحشاشين؟ صلاح الدين. ولقد حاولوا اغتياله لأنه كان يصلح من الداخل، ويعد الأمة للمواجهة في الخارج، حتى الضرائب المضروبة ظلماً أصلحها، وأصلح أفكار الأمة، وشجع العلماء، وأشاع العدل؛ فانقادت له الأمة وكانت الانتصارات العظيمة. صلاح الدين لم يجاهد من أول ما ظهر، ومن قبل صلاح الدين إعداد العدة في عهد نور الدين، فلما صلحت الأمة جاهد في سبيل الله. أيها الإخوة: إن هذه الأمة في كثيرٍ من شعوبها تعيش حياة الدعة والترف، وتعيش حياة الذل والهزيمة. إن كثيراً من الجماهير تريد أكل الخبز، وأكثر ما يفكر أحدهم به هو تأمين مستقبله ووظيفته، وأكل طعامه وشراء بيت وسيارة، ووفرةٍ مالية للمستقبل، واستثمارات وهكذا. هؤلاء الذين ينغمسون اليوم في حياة الترف والدعة، لابد أن تأتي عليهم أحداث وتهزهم لتوقظهم، ولعل فيما جرى من الأحداث رحمة بالأمة من جهة إيقاظ هؤلاء النائمين، وتنبيه هؤلاء الغافلين. إن الإسلام الآن مضطهد آلاف المسلمين يقتلون، بعضهم يقتلون بأيدي بعض! نعم، لكن عندما تحصل هذه النكبات لابد أن تستيقظ الأمة، وعندما يشعر الناس بالخوف يستيقظوا، وعندما يعيش الناس تحت الضغوط تصقل شخصيات كثير منهم؛ ولذلك إذا حدثت حروب ونكبات بالمسلمين، من آثارها الإيجابية: أن تهون الأرواح لتقدم إذا وجهت بشكل صحيح في سبيل الله، وعندما يقتل أناس كثيرون في مجتمع فيه ترف ودعة وانحطاط وبرود، جهودهم للإسلام في ثلاجة، والدعوة في إجازة، عندما تحدث هذه المصائب في مكان سيشعرون أن أرواحهم يمكن أن تبذل بسهولة الآن، فلماذا لا يبذلوها في سبيل الله؟ فإذا توجهوا هذه الوجهة دب تيار الجهاد في الأمة؛ ولذلك فإن أعداء الإسلام يريدون شراً، ولكن لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً. متى تحمست الأمة للجهاد وصحا المسلمون؟ لما تكاملت الحملات الصليبية، هذا معه مليون مقاتل، وهذا ريتشارد، وهذا ملك الألمان، وهذا وهذا، وذبح المسلمون في القدس، وخاضت خيول الصليبيين في دماء المسلمين إلى الركب عندها استيقظت الأمة، وانتفضت وقامت. ولذلك فهذه المصائب المتوالية لها فوائد كبيرة وعظيمة عندما تحدى العلمانيون بشيء من الأمور مشاعر المسلمين، استيقظ كثير من الهائمين والغافلين وتوجهوا، وتنور الناس، واستعدوا حتى ندم هؤلاء على فعلتهم، وقالوا: ياليتنا ما فعلناها وأخرناها، لقد كان توقيتنا سيئاً جداً لماذا؟ لأن ردة الفعل كانت أقوى من المتخيل والمتصور، ولأنه تحرك للإسلام أقوام، وهتف له وخطب له كثيرون، وصارت المسألة في المطالبة بتغيير المنكرات كثيرة وكبيرة، فانتعش الإسلام. ولذلك فإن الناس الذين ألفوا حياة الترف والدعة، لابد لهم من هزات توقظهم، فإذا شبعت نفوسهم بطلب الموت لإعلاء كلمة الله، قاموا يجاهدون في سبيل الله، ويقدمون أعناقهم لأجل الدين، ويقتلون أفواجاً أفواجاً، ليعز هذا الدين وترتفع رايته.

المحافظة على العلم الشرعي

المحافظة على العلم الشرعي من واجبنا في هذه المرحلة أن نتعلم العلم الشرعي، فالعلم شرط من شروط الإسلام، قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19] فكان العلم بلا إله إلا الله المطلب الأصلي للدخول في الدين، والاستقامة على الشريعة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من يرد الله به خيراً يفقه في الدين) وكثير من الناس الذين يطالبون بالجهاد قبل العلم أناس مخطئون، فلابد من الإعداد بخطوط متوازية إعداد للجهاد، ومن الإعداد للجهاد التعلم، وتعلم أحكام الجهاد، شروط الحرب والمحاربين، وأحكام الأسرى، والجزية، والمغانم، والعهود والمواثيق، وما افتتح عنوة، والاستعانة بالكفار، ومتى يكون الجهاد فرض عين، ومتى يكون فرض كفاية؟ إلى آخر المسائل الكثيرة جداً الموجودة في باب الجهاد، وأحكامه، فلابد أن تتعلم هذا، ولا يشترط أن يكون كل جندي في الجيش الإسلامي فقيهاً بكل الجزئيات، لكن لا يجوز أن يكون جموع الجيش وعمومه جهلة بأحكام الجهاد. والعلم الشرعي ضوابط تضبط تصرفات المسلم وسلوكياته، وكلما فكر في شيء يحاول أن يفعله ينظر هل هو في الكتاب والسنة؟ هل هو مخالف للكتاب والسنة أم ماذا؟ وفي الحقيقة فإن هذا العلم يجنبنا مهاوٍ وقع فيها كثير من المتحمسين، ودخلوا في مغامرات ومهاترات قتل فيها عدد من الأبرياء من المسلمين ممن لا ذنب لهم، أحياناً بحجة أنهم يبعثون على نياتهم، وأحياناً أنهم من جنود فرعون وهامان وقارون، فهم مرتدون عن الإسلام. إن هؤلاء الذين يفعلون هذه الأفعال من هذه المغامرات والمهاترات والانجراف في مهاو استعراض القوة، في وقت ليس من المناسب استعراض القوة فيه أبداً، والدخول في مواجهات وتفجيرات للموقف، لا يمكن أن يتحملها موقف المسلمين أصلاً، هؤلاء الناس لم يفطنوا دين الله، وكثير من هؤلاء يقودهم الجهل والتعصب الأعمى، ورفض سماع الحق. أيها الإخوة: للعلم الشرعي ضوابط وقواعد مستندة للأدلة الشرعية من نصوص الكتاب والسنة، مشروحة بكلام العلماء، فكم أخذنا من العلم الشرعي، وكم قرأنا منه، وكم تفقهنا فيه؟ يجب ألا تضيع الأصول الفكرية للمنهج الإسلامي المستمد من الكتاب والسنة في وقت الأزمة، ففي أوقات الأزمات يتصرف الناس بعفوية، وغالبهم يسيرون بلا دليل وبلا بصيرة، إلا الذي عنده علم بالكتاب، قال تعالى: {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ} [النمل:40]، وقال تعالى: {قَال الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص:79] {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ} [القصص:80] ويقول: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} [سبأ:6]، ويقول: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49] فهذا القرآن العظيم آياته محفوظة في صدور الذين أوتوا العلم.

تحديد الهدف

تحديد الهدف أيها الإخوة: لابد أن نحدد الهدف الذي نسعى إليه، ما هو هدفنا؟ حتى لو قلنا: الجهاد الجهاد ما هو هدفنا في الجهاد؟ قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39] هذا هو الهدف الحقيقي، يقول الله: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً} [التوبة:111]، ويقول الله جل في علاه: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} [التوبة:52] الموت في سبيل الله أو إعلاء كلمة الله والظهور على الكفار. ليس هدف المسلم طرد غازٍ ولا مستعمر، وإنما المسألة نشر الدين وقتال كل من يقف في وجه الدين. أيها الإخوة: إن المتأمل لسيرة صلاح الدين يجد أنه لم يكن همه تطهير بقعة معينة، بل صلاح الدين يقول لمستشاره وصديقه القاضي الفاضل في أواخر عمره، يقول: حتى إذا يسر الله فتح بقية الساحل قسمت البلاد، وأوصيت وودعت، وركبت وراء هذا البحر إلى جزائرهم -إلى الأماكن التي أتى منها النصارى من أوروبا - أتبعهم فيها حتى لا أبقي على وجه الأرض من يكفر بالله أو أموت. إذاً: الهمة والهدف ليس مكاناً محدداً ولا بقعة معينة، والمسألة هي القتال لنشر الدين في الأرض كلها، وإعداد الأمة قبل ذلك، والمسلمون ليسوا مرتزقة، يأخذون أعطيات لقتالٍ لهدفٍ دنيوي معين، فالمسلمون نيتهم في الجهاد إعلاء كلمة الله، ولا شيء آخر أبداً؛ لأن (أول من تُسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة منهم: رجل قتل في المعركة، يؤتى به يوم القيامة، فيقول الله له: فيم قتلت؟ فيقول: في سبيلك، قاتلت وقتلت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت ليقال: فلان جريء وقد قيل، اسحبوه إلى النار، فيسحب إلى النار) هذا الذي قاتل بخلاف الذي تولى وتقاعس أصلاً.

تصحيح النية والتوكل على الله

تصحيح النية والتوكل على الله أيها الإخوة: إن تصحيح النية ووضوح الهدف لابد منه، وكذلك فإننا لابد أن نعتقد أن النصر من عند الله، قال سبحانه: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران:160] من ينصركم من بعده؟ لا الشرق ولا الغرب ينصرونكم إن توليتم عن منهج الله {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:10] {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران:126] لا يمكن أن يأتي النصر من عند غير الله، فإذا نصرتم الله نصركم الله. أيها الإخوة: لابد من التوكل على الله، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3]، ويقول: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64]، ويقول: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:23] قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله في كتاب فتح المجيد مبيناً أنواع التوكل المحرمة، وذكر منها: التوكل في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله، كالتوكل على الأموات أو الطواغيت في جلب النفع أو النصر أو الحفظ أو الرزق، فقال: هذا شرك أكبر. ثانياً: التوكل على الأسباب الظاهرة: كمن يتوكل على أمير أو سلطان في دينا أو في شيء أقدره الله عليه؛ من مال أو دفع أذى ونحو ذلك، فهذا شرك أصغر، فإذا اعتمدت على الطواغيت في الحفظ أو النصر فهو شرك أكبر، وإذا اعتمدت على شخص يملك الشيء، واعتمدت على أسبابه هو فهذا شرك أصغر، فإن اعتقدت أنه هو الذي ينصر من دون الله، ويرزق من دون الله، صرت مشركاً شركاً أكبر.

العمل على وحدة المسلمين

العمل على وحدة المسلمين هذا ملمح آخر من الملامح والأهداف التي نسعى إليها، ويجب أن نسعى إليها، وهو وحدة المسلمين، فلا يمكن أن ينتصر المسلمون وهم فرق وأحزاب، قال الله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103]، وقال: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46]. يروى أن رجلاً أوصى أولاده مودعاً الدنيا، أخذ حزمة من العصي، ثم أمرهم أن يكسروها وهي مجتمعة فلم تتكسر واستعصت، ثم فرقها عليهم، فكسروها آحاداً بكل سهولة، فقال لهم مودعاً وموصياً: كونوا جميعاً يا بني إذا اعترى خطب ولا تتفرقوا آحاداً تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسراً وإذا افترقن تكسرت آحادا من السهولة أن تؤكل الأمة عندما تكون شيعاً وأحزاباً، فيضرب بعضها ببعض، ولكن لا يمكن أن تصبح الأمة لقمة سائغة إذا اتحدت في جسد إسلامي واحد إن السبيل الأول لوحدة المسلمين هو التزام المنهج الصحيح منهج أهل السنة والجماعة. والثاني: نبذ التحزب والتعصب، الضيق الذي يفرق المسلمين، فلابد من سلامة المنهج ووحدة القيادة، فإذا سلم المنهج، وتوحدت القيادة؛ انتصرت الأمة، قال الله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف:4].

اليقظة والانتباه لما يدبره أعداء الدين

اليقظة والانتباه لما يدبره أعداء الدين أيها الإخوة: لابد أن نكون في هذه المرحلة في غاية اليقظة والانتباه لما يدبره أعداء الدين، ولأي معركة جانبية نجر إليها ولسنا على مستوى المواجهة الآن، ولأي شيء يريدون إشغال المسلمين به عن القضايا الأساسية، والكليات الشرعية التي يجب أن يسعى إلى تطبيقها، وإلى تمرير الأشياء المخالفة للشريعة بلباس شرعي، وإلى كل من يحاول أن يتسلل إلى الجسد الإسلامي ليبذر فيه بذور الفرقة، ومن يحاول أن يفصم عرى الأخوة الإسلامية، والتسلل بيوتنا وأهلينا وأولادنا، ولعدم الوقوع في أي شيء محرم. ولقد كان الجيش الإسلامي في الماضي في عهد السلف، إذا استعصى عليهم فتح أتى بهم الخليفة، فسألهم: أولاً: ما هي السنن التي تركتموها؟ ثانياً: ما هي المعاصي التي وقع الجند فيها؟ لأن هذه الأشياء هي التي تسبب الهزيمة، ولابد أن نتحلى بأكبر قدر من ضبط النفس، وهذا مصطلح صحيح يستعمله بعض الساسة، لكننا نستعمله لنبين حقيقة إسلامية مهمة، فالمسلمون لا يجوز لهم أن يُستجروا إلى ما يخططه لهم أعداء الإسلام، من أمور جانبية تستهلك قواهم، وتستنفذ طاقاتهم، وتضعفهم أبداً. المسلم يضبط نفسه، وكلما أراد أعداء الإسلام أن يستفزوا المسلمين -وأقولها لكم وبكل ثقة وتأكد سيحاولون استفزاز المسلمين- يجب على المسلم أن يضبط نفسه عن أي تهور أو تصرف مستعجل يوافق خطة أعداء الإسلام، فالرسول صلى الله عليه وسلم في مكة تعرض لاستفزازات كثيرة جداً، آذوه وسبوه وشتموه، ألقوا سلا البعير على ظهره، عذبوا أصحابه أمامه وقُتل بعضهم وهو يسمع أخبارهم، قتلوا في مكة يشاهد الصحابة يعذبون ويقتلون وهو يضبط نفسه ويضبط من معه، حتى تحين اللحظة المناسبة، لم يُستجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى معركة وهو في مبدأ أمره ولا زالت الخلية طرية، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يصلي عند الكعبة ويطوف بها، وحولها ثلاثمائة وستون صنماً، مع أنه من أقوى الأمة نفساً على الشرك، وأكره العباد للشرك، يصلي عند الكعبة ويطوف بها وحولها ثلاثمائة وستون صنماً، هو يصلي لله لا للأصنام، ويطوف لله لا بالأصنام، وضبط نفسه ولم يفعل شيئاً يجر الأذى عليه وعلى المسلمين باستئصال شأفتهم وحصدهم أبداً، فضبط نفسه وأصحابه عليه الصلاة والسلام، فلم يخرجوا على الكفار بالسلاح في مكة مطلقاً، ولم يستعملوا السلاح في مرحلة الاستضعاف أبداً، ولو قال قائل: من العسير جداً على نفسي أن أبقى بارداً حيال كل المنكرات الموجودة أمامي؟ أقول لك: نعم، ينبغي أن يثور دمك، وأن تغلي غلياناً من المنكرات التي تشاهدها أمامك، لكن ماذا تفعل؟ ستأتي منكرات كما ورد في بعض الآثار: تأتيكم منكرات لا تستطيع التغيير ماذا تفعل؟ هل ترمي بنفسك وبحفنة ممن معك لتهلك، لا يمكن وليست مصلحة شرعية، سترى منكرات كثيرة لا تستطيع تغييرها، وترى في الواقع بملء عينيك أموراً لا يرضاها الله ورسوله، ولكن اضبط نفسك، أنكر بحيث لا يترتب على الإنكار منكرٌ أعظم. وأقول وأعيد وأكرر في أكثر من مناسبة: الآن المعركة بالكلام مع أعداء الإسلام، والجهر والصدع بالحق والجرأة فيه مطلوبة، الآن الشغل باللسان والقلم الآن الدعوة بالتبيين والتوضيح، هذا هو الأوان الآن، أما التغيير بالقوة في مكان وزمان لا يستطيع المسلمون في ذلك فهو تهور وعدم حكمة، لا يصلح أبداً أن يقع ذلك من المسلمين. وبالنتيجة فإن الناس الذين يرون المنكرات تستشري أمامهم، سيكونون أحد قسمين، والثالث الوسط بينهما، فقسم متهور قد يفعل من التصرفات ما لا يحمد عقباه، وقد سبق أن شرحت ذلك في محاضرة (فقه المحنة) وقسم ثان سيصاب بالإحباط واليأس ويقعد في بيته، ويقول: لا أمل للإسلام ولا يمكن أن تقوم للدعوة قائمة، فالناس سيكونون إما يائس أو متهور، إلا من فتح الله عليه -وأنتم منهم إن شاء الله- بعلم وبصيرة من الكتاب والسنة، وفهم للواقع وفقه فيه، واسترشادٍ بكلام أهل العلم بالشريعة وبالواقع، لا يكفي العلم بالشريعة فقط ولا العلم بالواقع فقط، واسترشاد واستشارة واستبيان وطلب البيان من أهل العلم بالشرع والواقع، وعند ذلك ستكونون إن شاء الله مقدمة الطلائع الإسلامية التي تقيم للإسلام عزه وعماده بإذن الله. وإن قال قائل: قد أجد رجلاً يقبل امرأة في السوق ما زلت لم تشف غليلي بالكلام، وتقول: اضبط نفسك! أقول: أنكر وتكلم ولكن بلسانك، أما أن تبطش بيدك لا يمكنك أن تفعل ذلك الآن، وقد تجد رجلاً يحتضن امرأة على الحشائش في قارعة الطريق، ماذا تفعل؟ تقول: عجزت وبكيت وهربت، أو تقول: تهورت فرجمتهما بالحجارة، لكن أنكر وتكلم واصدع بالإنكار باللسان، وبين وعزر لكن بأي شيء؟ بما جاء في الشريعة من أنواع التعزيرات باللسان، قل: يا فاجر! يا فاجرة! يا سافل! يا سافلة! تفعل هذا عليك غضب الله تزجر لكن باللسان، أما أن تستخدم اليد، فإنه لابد من الضوابط الشرعية وإلا ستضيع أموراً كثيرة.

الصبر على الابتلاء

الصبر على الابتلاء ختاماً: لابد أيها الإخوة من الاستعداد لمواجهة الابتلاء، وهذا ملمح مهم من الملامح التي لا بد أن نبينها، والله يبتلي عباده، والله يبتلي بالسراء ويبتلي بالضراء، يبتلي بالضراء في أشياء كثيرة، قال تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً} [آل عمران:186]، ويقول: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ} [البقرة:155]. فالابتلاء سنة الله في عباده المؤمنين، ولابد من الابتلاء للتمحيص، ليمحص الله عز وجل عباده، يبلوهم بالشر وبالخير يبلوهم بالضراء والسراء، لا يمكن أن يعيش العبد بغير ابتلاء أبداً. ونقول: بالسراء وبالضراء، حتى أن بعض الناس عندما يقولون: نحن ما ابتلينا بالضراء، هل يعني أنه ليس فينا خير؟ نقول: لا، هناك من أبناء الصحابة والتابعين لم يبتلوا بالضراء، فلعلهم عاشوا في عصور زاهية، عصور عز للإسلام، لكنهم ابتلوا بالسراء، ثم إن الإنسان لا يعدم أن يبتلى بشيء من الأشياء بفقد ولد أو والد، أو عزيز، أو مال ونحو ذلك، فلابد أن يحصل له ابتلاء من الابتلاءات. وقد يدفع الله عن الناس الابتلاء بأذكار الصباح والمساء: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق) (باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم) (اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي، واحفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي، وأعوذ بعظمتك أن اغتال من تحتي) قال وكيع: أي: الخسف. إذاً: أدعية قد يقي الله بها عباده شرور كثيرة، وآفات عظيمة، واظبوا عليها. أيها الإخوة: لو وقع الابتلاء فماذا يكون الموقف؟ هذا موضوع طويل كنت أتمنى أن تتاح الفرصة لكي أتكلم عنه بشكل مستقل، ولكن لحاجة في نفسي كنت أقول: إنه يدرج في الموضوع إدراجاً، وإن كنت أرى أنه لابد أن يفرد بشيء، أو تحت عنوان، مثل: (التصرف الصحيح عند الابتلاء) ولعله يحصل، لكنني أقول مجملاً ومختصراً: لابد أن نصبر، ولابد من التربية قبل الابتلاء، ولابد من الصبر معه، ولابد من الإخلاص بعده، فلا نحدث الناس على سبيل التفاخر بالأشياء التي حصلت لنا، وأوذينا وحصل لنا، لا. فإذا نزل الابتلاء لابد أن تكون هناك تربية قوية، وإلا لا يمكن أن يصبر الإنسان. ثانياً: لابد من الصبر وعدم الجزع والفزع، فإن بعض الناس إذا ابتلوا فقدوا صوابهم، وطارت عقولهم، وقالوا: من أين أوتينا؟! لابد من الرضا بقضاء الله عز وجل، لو وقع عليك شيء هذا قضاء الله وقدره، وأنت تقدم للإسلام تحتسب هذا عند الله، ولا مانع أن تدفعه ما أمكنك، ولا نقول للمسلم: إذا وقع عليك ابتلاء استسلم تماماً، حاول أن تدفعه عن نفسك بما تستطيع، ولا تخبر به رياء، ولا تشتكي إلى الخلق. في أحد المجالس كنا عند الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله، فجاء رجل من بلد من البلدان الإسلامية، قال: يا شيخ! أنا محتاج إلى مساعدة، قال الشيخ: هات أناساً يزكوك، قال: ليس عندي، أنا طلبت العلم، وأنا دخلت السجن وعذبوني، قال له الشيخ: أنت طالب العلم، إذاً أنت تعلم من بديهيات الأشياء أن الشخص لابد له من أناسٍ يزكوه، قال: يا شيخ! أنا عذبت، قال له الشيخ: لقد ابتلي من هو أفضل منك بأكثر من هذا فصبر. إذاً اسكت من الشكوى إلى الخلق، إذا أوذيت فاحمد لله، فتؤجر إذا أصلحت النية، ونقول: (لا تمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاثبتوا) والإنسان لا يقول: أين الابتلاء؟ أنا مستعد لمجابهته أنا إيماني قوي وحديد ونار، لا، أنا حديد ونار على من يعتدى لكن تعال أنت الآن واعمل بهذه القاعدة الإسلامية: (لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية، وإذا لقيتموهم فاثبتوا). فهذه وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لنا، الصبر على الابتلاء، وعدم إيذاء المسلمين، وعدم التسبب في أي شيء يؤذي المسلمين. ألم تر قول الراهب للغلام: فإن ابتليت فلا تدل علي، لأن الإنسان قد يبتلى ويحصل له أي شيء، لكن لا يتسبب في أذى لأي شخص آخر من المسلمين، ويقي بنفسه إخوانه. أقول: إن الأمر لعله يكون شيئاً مما كان مع موسى وفرعون، وأختم لكم بهذه الآيات: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص:4 - 6] كانوا يخشون أن يظهر غلام من بني إسرائيل يكون على يديه تقويض عرش مملكة فرعون، ولكن إذا قضى الله أمراً فلابد أن يكون. أيها الإخوة: هذا استضعاف بني إسرائيل، وهذا التمكين حصل لهم بعده، والدعوات من بعدهم، فما يدرينا أن الله سبحانه وتعالى يبتلينا الآن، ويتسلط علينا الأعداء من كل جانب، لكن تكون النتيجة في النهاية نصراً للإسلام والمسلمين، وما ذلك على الله بعزيز، والله لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، فلا تستبعد يا عبد الله نصراً قريباً للإسلام، ولكن علينا العمل، والمتابعة، وبذل الجهد، والإخلاص، والتربية، والتعلم، والإعداد للجهاد، إن هذه المسئوليات علينا لابد أن نقوم بها لله عز وجل. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، والحمد لله أولاً وآخرا.

الأسئلة

الأسئلة .

حكم الاستهزاء بالدين

حكم الاستهزاء بالدين Q في بعض الرسوم الكاريكاتيرية استهزاء واضح بالمتمسكين بالدين، فما هو الرد؟ A هناك أشياء مهمة، هذه الصور كثير منها استهزاء بعباد الله المسلمين، لكن في نفس الوقت يجب أن توضع الأمور في مقياسها الصحيح، فلا نحمل الأشياء أكثر مما تتحمل؛ لأن بعض المتحمسين عندما يمتلئ صدره بالعداوة -ولابد أن يمتلئ الصدر بالعداوة- قد يتصور في كل شيء هجوماً على الإسلام والمسلمين، وهو ليس كذلك، فقد يكون الأمر منكراً صغيراً، وقد يكون شيئاً طبيعياً، لكنه يتخيل ويحمّل الأشياء مالا تتحمل، لذلك عندما ننكر لابد أن ننكر الشيء الواضح الجلي الذي ليس به خفاء، والأشياء المظنونة نحذر منها ولا نكون مغفلين.

الصبر على الابتلاء

الصبر على الابتلاء Q أرجو أن توصي الإخوة الكويتيين بالصبر؟ A نعم ولا شك وغير الكويتيين من المسلمين أجمعين، أي مسلم لحق به أذى واضطهاد فلابد أن يصبر، فإن الله سيجعل له فرجاً ومخرجا، قال تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} [الشرح:5] والله عز وجل من سنته في الكون أن يعقب الشدة فرج، ويأتي فرج ربك من حيث لا يحتسب الناس، ونقول: إن الله سبحانه وتعالى ينصر المظلوم على الظالم، والمظلوم إذا دعا الله فإن الله لا يرد دعوته، ويقول: (لأنصرنك ولو بعد حين).

حكم عروض الأزياء

حكم عروض الأزياء Q ما حكم عروض الأزياء التي تقدم والسهرات التي تؤدي إلى إفساد العديد من الشباب؟ A لقد نبهنا في بعض المناسبات على أن هذه الحملات على أهل الإسلام لإدخال الشهوات قد استعرت الآن أكثر من أي وقت مضى، والآن سيكون هناك عشرات ومئات وألوف العروض التي تقدم عن الفواحش، وإظهار العورات؛ لإفساد شباب الأمة وإفساد الأمة عموماً، ولذلك سيجد بعض الناس أنفسهم مضطرين في النهاية -العقلاء بالطبع- إلى إخراج الوسائل التي تعرض الإفساد من بيوتهم. كان أول يقول: أنا أتحكم وأتحكم، لكن في النهاية صارت المسألة عندك في الصباح وفي الليل وفي الظهر، وكان من قبل أشياء وتقطع منها بعض المقاطع، لكن الآن تعددت القبلات والاحتضانات وصارت الآن مسائل أخرى، ولذلك فإن هؤلاء العقلاء -ونرجو الله أن يجعلنا جميعاً من العقلاء الذين يتبصرون بالدين- سيجدون أنه لابد من حسم الشر وبتره من أساسه.

كتب عن الجهاد

كتب عن الجهاد Q تكلمت عن الجهاد فارجو ذكر بعض الكتب التي تفيدنا في ذلك؟ A هناك كتاب عنوانه: أهمية الجهاد في نشر الدعوة إلى الله ونشر الدعوة الإسلامية، للشيخ علي بن نفيع العلياني، وهو كتاب جيد وقيم وأنصح به، وهو لا يغطي كل الموضوع، فموضوع الجهاد طويل جداً، لكنه شيء من الأشياء المهمة في هذا الأمر.

الغزو الفكري عبر أفلام الكرتون

الغزو الفكري عبر أفلام الكرتون Q بعض أفلام الكرتون فيها خبث كبير؟ A نعم، تصوروا قريباً كنت في نقاش مع أحد الأخوان، الخبر كالتالي: فتى وفتاة يتناقشان، وتأتي له بهدية -هذا كله في فلم كرتون- تأتي له بهدية إلى البيت على أنه مريض، ثم يستقبلها، ويقول لها: تفضلي واصعدي معي إلى الغرفة، وتصعد معه إلى الغرفة ومعه قطة، وتكون غرفته مبعثرة، فتعرض عليه أن ترتبها له، ثم يتحاوران ويتناقشان إلى آخره، ثم يأتي مشهد فيه عرض لبنتين من أصدقاء الفتى والفتاة، تقول إحداهما للأخرى: فلانة ذهبت إلى بيت فلان، فتقول الأخرى: نعم، فترد عليها وتقول: لكن صعدت إلى غرفته، فتقول الأخرى: لا يمكن ذلك، ولكنهما يشاهدانهما من بعيد في الغرفة مع بعض، فتقول إحداهما للأخرى: إن فلانة لا يمكن أن تدخل غرفة فتى لوحدها وليس معها أحد، ثم تقول الأخرى ضاحكة: لا لا إن معها أحد إنه القط الصغير. عندهم الآن تدريب -لأن هذا تدريب عملي لأولادنا الصغار- أن يتدربوا على العلاقة مع البنات والأولاد، ولا يمكن عرضها لأناس كبار، وإن كان عرضت وانتهت، ولكن بالنسبة للصغار فهو شيء طبيعي، وممكن يحصل النقاش، ويمكن أن يستضيفها في غرفته، وتدخل معه لوحدها وأن القط يزيل الخلوة سبحان الله العظيم! هذا حكم جديد ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين ولا الآخرين، الآن فقط سمعنا أن القط يزيل الخلوة. أنتم قد تدهشون ربما إذا علمتم أن العلماء يقولون في المسائل المتعلقة بالخلوة، قالوا: ولا يجوز لامرأة أن تخلو بحيوان أو بهيمة فيها ميل إلى النساء أو في النساء ميل إليها كالقرد، سداً للذريعة، إذا حصل الفساد والشر، فما بالك الآن.

معنى قوله تعالى: (وأنتم أذلة)

معنى قوله تعالى: (وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) Q قال تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران:123] كيف الصحابة أذلة؟ A نقول: الذل هنا ليس ذل الدين، وليس ذل النفس، وإنما هو أقلة في العدد والعتاد، أي: الذل الدنيوي، وليس الذل الشرعي أو النفسي.

وصية للنساء بالصبر

وصية للنساء بالصبر Q بم تنصحون النساء عند الابتلاء؟ A الابتلاء لابد منه، والمرأة حارسة للقلعة، وقد يبتلى زوجها فينبغي أن تكون هي كذلك مستعدة لجميع الأشياء، والصبر إذا كان عندها قليلاً، فلابد أن تكون مستعدة، وتتربى وتوطن نفسها على ما سيأتي.

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر Q أنت لا ننكر باليد، فماذا تقول في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده)؟ A ماذا تقول في الكلمة التي بعدها: (فإن لم يستطع فبلسانه) فإن لم يستطع لا يعني أنه لا يستطيع هو، وإنما تدخل عدم الاستطاعة أيضاً إذا كان سيؤدي إلى منكرٍ أكبر منه، فليست القضية خوف وجبن، لا، وإنما لا يستطيع لأنه يعلم ما يترتب على هذه الأشياء من منكرات، وبالمناسبة أقول أيضاً: هذا لا يعني إذا رأيت منكراً في بيتك لا تغيره باليد، أنا أتكلم عن المنكرات العامة، المنكرات التي يترتب على إنكارها باليد مفسدة أعظم، أما إذا رأيت المنكر في البيت وتستطيع أن تغيره باليد فغيره، كل منكر تستطيع أن تغيره باليد ولا يترتب عليه مفسدة، فغيره باليد.

كيفية تطوير وسائل الدعوة

كيفية تطوير وسائل الدعوة Q كيف نطور وسائل الدعوة؟ A في بعض المقالات في مجلة البيان -على ما أذكر- هناك ذكر لقضية تطوير وسائل الدعوة، فيمكن للأخ أن يرجع إليها، وإن كان لا يحضرني الآن ذكر الأعداد التي فيها هذا الأمر. نسأل الله أن يوفقنا وإياكم لكل خير، وأن يحسن خاتمتنا أجمعين، وصلى الله على نبينا محمد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

لا ترتدوا على أدباركم

لا ترتدوا على أدباركم الانحراف عن صراط الله المستقيم وجد في عهد أنبياء الله ورسله كما وجد في عصرنا هذا مع الفارق الكبير في صورته وعدد المنحرفين، وقد وجدت كثير من الأسباب المؤدية لهذا الانحراف؛ سواء كانت من الشخص نفسه، أو من فساد بداية الاستقامة، أو من الجو المحيط بهذا الشخص. وقد نبه الشيخ في بداية كلامه على أمر مهم وهو: أن النكوص لا يعني الانحراف عن الصراط فقط؛ بل هو أيضاً الانزواء على النفس وحيازة الخير لها وحسدها.

الردة التي حدثت في عهد النبوة

الردة التي حدثت في عهد النبوة الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى قد أنزل علينا كتابه، وأرسل إلينا رسوله؛ ليعلم عز وجل من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، ومن يثبت على منهج الله ممن ينكص ويرتد عن هذا المنهج وعن هذا الطريق: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة:143] فهو إذاً ابتلاء وامتحان للعباد. وهؤلاء الذين ارتدوا على أدبارهم قال الله سبحانه وتعالى في شأنهم: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ} [محمد:25]، وعن حبوط عملهم يقول عز وجل: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:217]، وقال سبحانه: {وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [المائدة:21]. والردة عن الدين أخطر موضوع يمكن أن يواجه الإنسان؛ لأنه ليس هناك شر أعظم من الردة عن الدين، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (من بدل دينه فاقتلوه). هل حدثت أحداث من الردة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ A نعم، إن البشر الذين كانوا على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم هم من جنس البشر، بينهم الصالح والطالح، والطيب والخبيث، ولذلك كان منهم من آمن، ومنهم من كفر، ومنهم من ارتد بعد إسلامه، ولأن عصر الرسول صلى الله عليه وسلم كان أبرك العصور التي مرت على البشرية، فإن الذين ارتدوا في ذلك العصر كانوا قلة جداً بالنسبة لمن أتى بعده.

الردة بسبب الإسراء

الردة بسبب الإسراء ومن الأحداث المشهورة في الردة: ما رواه الحاكم والبيهقي وهو حديث صحيح: (لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى أصبح يتحدث الناس بذلك، فارتد أناس ممن كانوا آمنوا به وصدَّقوه -لماذا ارتدوا؟ لأن عقولهم الضعيفة لم تتحمل هذا الخبر العجيب: كيف يذهب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس ويرجع في ليلة واحدة؟ مستحيل! - وسعوا بذلك إلى أبي بكر رضي الله عنه، فقالوا: هل لك إلى صاحبك يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس، قال: أو قال ذلك؟ قالوا: نعم. قال: لئن كان قال ذلك لقد صدق. قالوا: أو تصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح؟ قال: نعم، إني لأصدقه في ما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة -أي: أصدق أنه يأتيه الخبر من السماء في لحظات فكيف لا أصدقه أنه ذهب إلى البيت المقدس ورجع في ليلة؟! - فلذلك سمي أبو بكر الصديق)، والحديث في السلسلة الصحيحة برقم (1).

ردة النصراني الذي كان كاتبا للوحي

ردة النصراني الذي كان كاتباً للوحي ومن الأحداث النادرة لمن ارتد في الزمن الأول، هذه الرواية التي جمعتها من ألفاظ الشيخين: عن أنس قال: (كان رجل نصراني من بني النجار، فأسلم وقرأ البقرة وآل عمران، وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم، فعاد نصرانياً، فانطلق هارباً حتى لحق بأهل الكتاب، فكان يقول: لا يدري محمد إلا ما كتبته له -هذا الذي يقوله محمد أنا كتبته له أصلاً- فرفعوه وعظموه، قالوا: هذا كان يكتب لمحمد، فأعجبوا به، فما لبث أن قصم الله عنقه فأماته، فحفروا له فواروه، فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها، فقالوا: هذا فعل محمد وأصحابه، نبشوا عن صاحبنا فألقوه، فحفروا في الأرض ما استطاعوا، فواروه فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها، فعلموا أنه ليس من الناس فتركوه منبوذاً) رواه البخاري ومسلم. هذا من دفاع الله عز وجل عن رسوله صلى الله عليه وسلم، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ما عهد أن أناساً يدفنون فيلقون خارج الأرض إلا أناس اعتدوا على حق الرسول صلى الله عليه وسلم، فعند ذلك يعاقبهم الله عقاباً شديداً. وألف شيخ الإسلام في ذلك كتاباً مهماً جداً، جمع فأوعى، وهو كتاب: الصارم المسلول على شاتم الرسول، وقال فيه: بل إنا كنا -ينقل عن بعض الغزاة المسلمين سواء في الشرق أو في الغرب في بلاد الأندلس - يقول: كنا إذا حاصرنا الحصون فاستعصت علينا حتى نكاد نيئس، فإذا وقع القوم في سب رسول الله صلى الله عليه وسلم استبشرنا خيراً، فما يلبث الله أن يفتح؛ لأن الله يدافع عن رسوله صلى الله عليه وسلم دفاعاً لا يدافعه أحد.

ردة عبيد الله بن جحش

ردة عبيد الله بن جحش من القصص أيضاً التي نقلت: قصة ردة عبيد الله بن جحش زوج رملة بنت أبي سفيان، يقول الذهبي رحمه الله في السير: ومن محاسن النجاشي أن أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان بن حرب الأموية أم المؤمنين أسلمت مع زوجها عبيد الله بن جحش الأسدي قديماً، فهاجر بها زوجها إلى أرض الحبشة، فولدت له حبيبة ربيبة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إنه أدركه الشقاء، فأعجبه دين النصرانية فتنصر، فلم ينشب أن مات بـ الحبشة، فلما فرغت من العدة بعث الرسول صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي، فخطبها، فزوجه إياها، ودفع المهر نيابة عن الرسول صلى الله عليه وسلم. يقول ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية: "أما تنصر عبيد الله بن جحش فقد تقدم بيانه؛ وذلك على أثر ما هاجر مع المسلمين إلى أرض الحبشة، فزين له دين النصارى، فصار إليه حتى مات عليه لعنه الله، وكان يعير المسلمين، فيقول لهم: أبصرنا وصأصأتم. فإذاً: حدثت وقائع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ارتداد أناس، ولكنها نادرة جداً؛ وذلك لطبيعة التربية النبوية التي لم يرفضها إلا من كان قد طبع الله على قلبه، والله عز وجل بين لنا في القرآن أمثلة عامة: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ} [الأعراف:175 - 176]؛ ولذلك الردة لا تضر في الإسلام، يعني: لا تضر إلا صاحبها، يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة:54] {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] ليست هناك مشكلة للإسلام، لا ينقص في الدين شيء لو ارتد الناس، الدين باقٍ والله يحفظه، لكن المشكلة مشكلة المرتد نفسه.

مدخل إلى النكوص على العقبين للمستقيمين

مدخل إلى النكوص على العقبين للمستقيمين هذا كان المدخل إلى الموضوع، والموضوع الذي سنتحدث عنه ليس هو موضوع الردة، بل الضعف الذي يصيب المسلم، ويمكن أن نقسمه إلى ثلاثة أقسام:

أقسام الفتور الذي يصيب الإنسان

أقسام الفتور الذي يصيب الإنسان القسم الأول: منه ما يكون ضعفاً شديداً جداً يخرجه عن ملة الإسلام فيصبح مرتداً؛ وهو أسوء الأنواع. القسم الثاني: يخرج المسلم من دائرة الاستقامة -يكون مستقيماً ملتزماً بشرع الله- إلى دائرة الفسق، فيصبح فاسقاً فاجراً، لكن لا يزال في دائرة الإسلام. القسم الثالث: نوع أخف من النوعين السابقين بكثير وهو: الفتور الذي يصيب المسلم. وهذا الفتور إن كان المسلم في حالة فتوره لا يرتكب المعاصي، أي: هذا الفتور لا يؤدي به إلى ترك الواجبات وفعل المعاصي فإنه لا يزال بخير؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى). أي: إذا صار الفتور إلى درجة يلتقي بالمحرمات أو يترك الواجبات فهو على خطر، لكن لو فتر بشيء بسيط -لأن الإيمان يزيد وينقص- ونقص إيمانه قليلاً لكن لا يزال في دائرة الإسلام والإيمان والتقوى، ولم ينزل إلى دائرة الفسق، فهذا فتور مقبول؛ لأن الإنسان إيمانه يزيد وينقص، ولا يتوقع أننا كلنا نبقى في حالة إيمانية واحدة؛ لأننا ونحن في مجلس الذكر نختلف عندما نخرج -مثلاً- نشتري الأشياء من السوق، أنت فكر في نفسك، عندما تخرج مثلاً من هنا أو من أي مكان فيه حلقة ذكر ثم تدخل السوق تشتري أشياء والمناظر أمامك، هل تكون في نفس الحالة الإيمانية؟ لا.

النكوص الحاصل بين صفوف الملتزمين

النكوص الحاصل بين صفوف الملتزمين سوف نتكلم في هذا الدرس عن موضوع النكوص الذي ينزل الإنسان من دائرة التقوى إلى دائرة الفسق، والانحراف الذي يجعله يرتكب بعض المحرمات أو يترك بعض الواجبات. الآن الذي يدقق في الواقع يرى أن هناك بعض الأشخاص قد هداهم الله سبحانه وتعالى في فترة من الفترات وزمن من الأزمان، وبعد فترة من الزمن تغيرت أحوالهم، شخص كان مستقيماً ملتزماً بشرع الله، ثم تفاجئ بعد فترة من الزمن وقد تغير شكله، وترك المظهر الإسلامي، ووقع في بعض المحرمات، وهو تارك الآن لبعض الطاعات، تغيرت أحواله هذه الحالة موجودة، لكن هل أصبحت ظاهرة؟ هل هي منتشرة جداً بحيث أنك ترى يومياً أشخاصاً كثيرين جداً ينتقلون من معسكر الهداية إلى معسكر الفسق؟ نسأل الله ألا تكون الأحوال بهذه الصورة. وهناك أشياء تطمئن، وهي: أن الذين استقاموا على الدين أكثر من الذين نكصوا عنه، والذين دخلوا فيه أكثر من الذين خرجوا عنه، وهذه والحمد لله نعمة، وأنت ترى الآن أن الذين يدخلون في الدين أكثر من الذين يخرجون منه، وأن الذين يدخلون ويسلكون سبيل الاستقامة والالتزام أكثر من الذين ينحرفون، ولكن هذه المشكلة موجودة وهي من مشاكل الصحوة الإسلامية في هذا العصر. وبالطبع فإن هذه الحالة -حالة النكوص والانتكاس- ناتجة عن اتساع رقعة الصحوة الإسلامية، وهذا الاتساع هو الذي يقلل التركيز ويجعل مجالات هذه الصحوة تتعدد والجهود تتوزع في تلك المجالات، فلا بد أن يخف الاهتمام تبعاً لذلك على الداخلين في طريق الاستقامة، وطاقات الدعاة مهما كانت محدودة، فمع ازدياد القادمين إلى طريق الاستقامة لا تعود طاقات الدعاة تستوعب هذا الكم الكبير الذي يتجه إلى الدين، ومن هنا فلا بد أن نتوقع حصول حالات الردة أو الضعف الذي يوصل الإنسان إلى الانحراف، ونتوقع أيضاً اتجاهات غير مرضية في المنهج العلمي أو منهج التحرك في هذا الدين؛ نتيجة عدم وجود التوجيه الكافي. ولا بد أن نذكر قبل عرض الموضوع أننا سنتكلم عن أسبابه، ومع بعض الأسباب سنذكر العلاج، وهناك علاجات منفصلة سنذكرها في النهاية، وسنمر كذلك بحالة هذا المنتكس نفسياً: كيف يشعر؟ ما هي الأشياء التي تغيرت فيه؟ كيف بدأ يتغير؟ وإلى أين ينتهي حاله؟ وكيف يعود إذا كتب الله له أن يعود؟

كيف تحدث الانتكاسة الخفية؟

كيف تحدث الانتكاسة الخفية؟ بعض الناس عندما يتكلمون عن ظاهرة التساقط فإنهم يتكلمون من منظار أو من زاوية التساقط الحزبي، ونحن أيها الإخوة سوف نركز في كلامنا في قضية التساقط والنكوص عن الانحراف عن الجادة الصحيحة التي توقع الإنسان في الفسق أو الفجور أو ترك الواجبات، هذا هو التعريف الذي سنتخذه في أثناء كلامنا ونسير عليه. إذاً المقصود من الانتكاس هو: الخروج عن طريق الهداية الربانية وهذه هي الخسارة الحقيقية، بعض الناس يظن أنه إذا تركه شخص كان يسير معه فذهب إلى غيره -مثلاً- أن هذه خسارة، والحقيقة -أيها الإخوة- أنها ليست كذلك، الخسارة أن يكون إنساناً ملتزماً بشرع الله، مستقيماً على طريق الله، ثم ينتكس ويترك الاستقامة، هذه هي الخسارة. ويجب أن نعلم أن النكوص الذي نتحدث عنه هو عن شخص كان مستقيماً في أموره ثم انحرف، وليس لشخصٍ كان أصلاً غير مستقيم في بعض الجوانب ثم انحرف في كل الجوانب، كشخص كان لا يحافظ على صلاة الفجر ويشاهد الأفلام المحرمة، ثم أطلق لحيته مثلاً والتزم ببعض الأشياء، ثم انتكس بالكلية، ليس هذا هو الشخص الذي نتحدث عنه، وهذا الرجل لا يسمى ناكصاً؛ لأنه كان أصلاً منتكساً من قبل، وهو الآن اتسعت رقعة انتكاسته، هذا الذي حدث. ومن الملاحظ أن كثيراً من الناكصين لم يلجوا حياض التربية الإسلامية، ولم ينهلوا منها، فأنى لهم الثبات؟! وقد يوجد في الوسط الإسلامي رجل فيه انحراف لكن لا يتبين أمره من البداية، ومع مرور الزمن وتوالي الأحداث تنكشف الأمور، وهذا مثال من السيرة النبوية: روى الإمام مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر ففتح الله علينا، فلم نغنم ذهباً ولا ورقاً، غنمنا المتاع والطعام والثياب والغنائم ما حكمها؟ تجمع كلها، ولا يأخذ أحد منها شيئاً، ثم توزع بالطريقة الشرعية في توزيع الغنائم- ثم انطلقنا إلى الوادي ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد له وهبه له رجل من جذام يدعى رفاعة بن زيد من بني الضبيب، فلما نزلنا إلى الوادي قام عبد رسول الله صلى الله عليه وسلم يحل رحله، فرمي بسهمٍ، فكان فيه حتفه، فقلنا: هنيئاً له الشهادة يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلا والذي نفس محمد بيده! إن الشملة لتلتهب عليه ناراً، أخذها من الغنائم يوم خيبر لم تصبها المقاسم فهي تلتهب عليه ناراً، قال: ففزع الناس -أي: فزعوا- فجاء رجل بشراك أو بشراكين، فقال: يا رسول الله، أصبت يوم خيبر، فقال رسول صلى الله عليه وسلم: شراك من نار أو شراكان من نار). إذاً: قد يوجد في الوسط المسلم رجل فيه انحراف لكنه في الظاهر ملتزم مستقيم، لكنه يتبين مع الزمن ولو مات؛ فالله أعلم بنيته.

من أسباب النكوص

من أسباب النكوص قد يتصور البعض أن موضوع النكوص هو فقط الردة عن الإسلام، أو ترك الواجبات، مثل: ترك الصلاة في المسجد، أو الوقوع في الزنا، أو الفواحش، تصوروا مثلاً هذا هو النكوص، ولكن بعض الناكصين قد يستمرون على التزامهم بمظهرهم الإسلامي، ويؤدون الشعائر، ولا يقترفون الفواحش، ولكنهم يتركون واجباً مهماً من الواجبات مثل الدعوة إلى الله.

ترك التواصي بالحق والصبر

ترك التواصي بالحق والصبر قد تجد من هو حاله حال نفسه فقط، لا ينفع المسلمين ولا يدعو إلى الله، ولا يؤثر في غيره، مع أن الدعوة إلى الله عز وجل واجبة، فلا يمكن أن نسمي هذا الشخص مستقيماً بمعنى الكلمة، وهناك حالات كثيرة لهذا النوع في المجتمع، أناس كثيرون ظاهرهم الطيبة والاستقامة، من المسجد إلى البيت، ولا يرتكب المنكرات أو الفواحش، ويعتبر نفسه أنه بخير، وأنه قد وصل إلى الدرجات العلى، لكنه في الحقيقة تارك لواجبات كثيرة، مثل: واجب الدعوة إلى الله، فلا نعتبر هذا الشخص مستقيماً بمعنى الكلمة؛ بل إنه مقصر، وقد ترك واجب التواصي بالحق والصبر إذا أعرض ورفض الأخوة في الله، فكيف يتواصى معه بالحق والصبر وهو الواجب الشرعي المذكور في القرآن؟!

التعلق بشخص ما من الناس

التعلق بشخص ما من الناس وإذا جلسنا ندقق في أسباب النكوص والانتكاس في هذا القسم الذي نتحدث عنه فسنجدها كثيرة جداً، فبعضهم يدخل طريق الاستقامة من باب الارتياح العاطفي، والتعلق بالشخص الداعية الذي دعاه إلى الله، ويتقبل الأحكام الشرعية ويطبقها؛ لأنها خرجت من فلان الفلاني الذي يرتاح لشخصه لا لأنها أحكام الله التي قضى بها، إنه يطبق هذه الأحكام ويلتزم بها؛ لأنه يحب الشخص الذي دعاه إلى تطبيق هذه الأحكام، لا لأنه يحب الله الذي فرض هذه الأحكام، فيصبح هذا الداعية وسيطاً بينه وبين الله، فإذا ابتعد هذا الداعية أو سافر مثلاً أو حدث بينهما إشكال أو خلاف انقلب على عقبيه؛ لأن الذي كان يربطه بطريق الاستقامة قد ذهب، وهذا يؤكد -أيها الإخوة- التربية على الصلة بالله لا بالأشخاص، والارتباط بالله لا بالعواطف، قد يكون للمرأة أو للرجل من يسانده في الاستقامة من أهله داخل البيت أو خارجه، واحد يؤازره ويشد عضده، فلسببٍ من الأسباب يتخلى هذا المساند عن مساندته؛ إما لسفر، أو لابتعاد، أو لتغير قناعاته، فيحدث التزلزل والانتكاس! مرة أخرى: تعلق القلب ليس بالله، وطلب العون ليس من الله، هذا عنده مثل هذه النوعية من الأشخاص، وهذا ركن واهن لا بد أن يغير إلى ركن شديد، (يرحم الله لوطاً لقد كان يأوي إلى ركن شديد)، ولذلك نعى الله في القرآن على الذين يرتبطون بشخصية في التزامهم واستقامتهم ولا يرتبطون بالله، حتى لو كانت هذه الشخصية هي شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم، الذين يلتزمون فقط لأن الرسول صلى الله عليه وسلم موجود بين أظهرهم هم أناس ما فقهوا حقيقة الاستقامة: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران:144] هذه حقيقة مهمة ينبه عليها القرآن: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران:144] سوف يموت كما مات أي رسول، أو يقتل كما قتل أي رسول {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144]. سبحان الله العظيم! كأن هذه الآية نزلت في المرتدين بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولذلك لما قرأها الصحابة كأنهم لأول مرة يقرءوها، ولما قام عمر يتكلم، ويقول: [إن محمداً ذهب إلى ربه كما ذهب عيسى، وليوشكن أن يرجع فيقطع رقاب أناس من المنافقين. قال أبو بكر: اقعد يا عمر! فلم يقعد، فقام أبو بكر يتكلم فتحول الناس إليه، فتلا عليهم هذه الآية: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران:144]] {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30]. إذاً: الدعوة إلى الله والاستقامة على منهج الله ليست مرتبطة بأشخاص، إذا زال هؤلاء الأشخاص زالت الاستقامة، وإذا ابتعدوا ابتعد الإنسان عن الاستقامة! كلا. وكثير من الناس اليوم ارتباطهم بالدين هو عبارة عن ارتباط بأشخاص لو زال هؤلاء الأشخاص لزال الارتباط بالدين، ولا حول ولا قوة إلا بالله! وقد يستغرب البعض وجود الارتياح العاطفي الشخصي بين فاسق وداع إلى الله يدعوه، ولكن الحقيقة -أيها الإخوة- أن هذا الأمر طبيعي في وسط الجاهلية التي أفرغت قلوب الناس من محبة الله وذكره، فيمكن أن تجد كل عاطفة سلبية مكانها في تلك القلوب الخاوية، وتنشأ العلاقات ويحصل التأثر ليس لله وإنما لأجل الشخص الناصح، فيلتزم لوجه الناصح لا لوجه الله.

الالتزام والمصلحة

الالتزام والمصلحة أن يكون تدين بعض الناس ليس لله، فمثلاً: دخل طالب نشاطاً إسلامياً في مدرسة، واستقام في الظاهر، حتى يحصل على درجات من مدرس الدين أو غيره، هذا التدين ليس لله، فلذلك لو تخرج هذا الطالب من المدرسة فلا يتوقع له أن يستمر على عهده، ولو جاءت العطلة لربما تغير، ولو تغير مدرسه لربما تغير؛ لأن الشخص الذي كان ينتفع بتدينه من جراء التدين ذهب. أو رجل توظف -مثلاً- في دائرة أو مؤسسة مديرها رجل مستقيم على شرع الله، فهو يستقيم في الظاهر لتتحسن معاملة المدير له، أو يعطيه مزيداً من المزايا لمصلحته الشخصية، وهذا ملاحظ، لو جاء مدير مستقيم في أي مكان تجد بعض الناس يتغيرون تلقائياً وبسرعة عجيب! كيف تغيروا؟ هل الإيمان دخل قلوبهم؟ وبسرعة انقلبت شخصياتهم؟ سبحان الله! إذاً: المسألة فيها سر، وشيء وراءها، وهذه القضية -المصلحة- صار التدين الآن لها. بعض الدارسين في كليات العلوم الشرعية قد يلتزم ظاهرياً؛ لأنه يدرس الشريعة، كيف لا يطلق اللحية؟! وكيف لا يظهر الناس بمظهر المستقيم وهو يدرس الشريعة؟ وقد يصبح في المستقبل قاضياً، أو مدرساً للمواد الدينية. إذاً: طبيعة الدراسة تفرض عليه أن يتدين، فهو يتدين لا لله لكن لأن مجال الدراسة يفرض عليه هذا؛ لأنه يصبح في مكان قد يكون مظهره مخالف لما هو مفترض أن يكون عليه، فيفرض عليه الواقع أن يستقيم في الظاهر وهو في الحقيقة غير ذلك.

الالتزام وحب التغيير

الالتزام وحب التغيير بعض الناس قد يتدينون ويستقيمون من باب تغيير الجو لا حباً لله، ولكن سئم من حياته التي يعيش فيها فنظر فرأى أعداداً من المستقيمين كثر، فدفعه حب الاستطلاع أن يعرف كيف يعيش هؤلاء الناس؟ هل هؤلاء الناس سعداء أم غير سعداء؟ دعني أنظر كيف يعيشون؟ كيف يكون نمط حياتهم؟ فلأعمل مثلهم، وألتقي بهم، وأسير معهم من باب التغيير. وقد يحس البعض في البداية بأن حياة الاستقامة والالتزام حياة جميلة؛ لأنها جديدة عليهم، وقد يحس الواحد في أول أمره بفيض من المشاعر يغمره، مثل: مشاعر الأخوة في الله، أو المشاعر التي تنتج عن عمرة، أو حجَّ في البداية يكون له طعم خاص، وبعض جلسات العلم في بداية أمرها يكون لها طعم خاص، وبعض المناسبات الإسلامية مثل الرحلات وغيرها تحتوي على أمور لم يكن يألفها من قبل، ولم تقع عينه عليها، فتلعب عوامل الإثارة دوراً مهماً في انجذاب هذا الشخص في البداية وتحمسه، ولكن بعد ذلك يدب التعب والملل، وتذهب تلك الإثارة؛ لأن الشيء الذي كان جديداً عليه قد أصبح معتاداً، وحب الاستطلاع الذي دفعه في البداية لأن يفعل ما فعل قد أصبح الآن زائلاً؛ لأنه -الآن- قد عرف كيف يعيشون فهو يخرج كما دخل، تأثرات في البداية ثم تنتهي، وهذا من فساد الابتداء. وبعضهم يدخل في طريق الاستقامة على أن هذه تجربة جديدة فليجرب التدين، ويكون في نهاية أمره يعود منحرفاً كما كان، ومن الناس من يكون فساد ابتدائه بأن يقبل منه في بداية أمره بقاؤه على نوع معين من المنكرات، أو يقبل منه أن يلتزم بجوانب من الدين في المظهر مثلاً ولكن لا بأس أن يفعل بعض المنكرات الأخرى، فهذا لا يلبث أن يستمر طويلاً؛ بل سرعان ما ينتكس ويسقط.

الاحتفاظ بشيء من شوائب الجاهلية

الاحتفاظ بشيء من شوائب الجاهلية ومن الأسباب كذلك: عدم التخلص من شوائب الجاهلية وآثارها عند الاستقامة؛ فقد يكون للشخص المستقيم الذي يتظاهر الآن بالاستقامة علاقات ما زالت مع بعض أهل الشهوات لم يتب منها ولم يقطعها، وربما خفف منها في البداية أو توقف عنها، لكنه لا يزال يحن ويعاوده الشوق إلى ممارسة تلك العلاقات مرة بعد مرة حتى يسقط فعلاً، فهو عند دخوله في طريق الاستقامة لم يكره الشر، ولم يسخط على الإثم، ولم يخلع على عتبة الإسلام جميع ملابس الجاهلية؛ فتعاوده تلك العلاقات بمبادرةٍ منه، أو بمبادرة من صاحب العلاقة الآخر الآثم، يتصل به ويزين له الشر ويدعوه مرة أخرى، وهنا قد لا يصمد وينتكس ويسقط في هاوية الفاحشة. والحديث الصحيح الوارد في قصة الصحابي الذي كان بعد إسلامه يهرب المسلمين من مكة إلى المدينة، يذهب إلى مكة ويدخل خفية ويحمل بعض الضعفاء المسلمين الذين لا يستطيعون الهجرة بمفردهم، هذا الرجل كان على علاقة بامرأة في الجاهلية قبل أن يسلم، ولما دخل مكة سراً ليحمل بعض المسلمين ويهاجر بهم إذا بالمرأة التي كانت على علاقة معه تراه، فلما رأته هشت له وبشت، ودعته إلى ما كان منهما من الوصال المحرم في الماضي، ولكن هذا الصحابي الذي عصم الله قلبه بالإيمان لم يستجب لدعوة تلك المرأة، بل رفض العرض، فهددته أن تصرخ بكفار قريش ليأتوا به فيأخذوه، وقد يقتلوه فرفض، فصرخت تنفيذاً للتهديد الذي هددته به، فاجتمع كفار قريش فهرب ذلك المسلم فدخل مغارة، فدخلوا يبحثون عنه، يقول: فأعمى الله أبصارهم فلم يروني؛ جزاء الاستقامة، ثم خرجوا فخرج هو وعاد إلى المدينة {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا} [الزمر:61] {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38]. فقد تعاود الشخص المستقيم أشياء من الماضي لا بد أن يقف لها بالمرصاد؛ وإلا فإن السقوط سيكون عاقبة طبيعية لاستجابته للمحرمات. ويدخل في ذلك عدم قطع الصلة بالرفقة من أصحاب السوء القدامى، فهو لا يزال يجلس مع هؤلاء ومع هؤلاء، لا يزال يجالس أصحاب السوء الذين كان على علاقة بهم، ولا يزال يجالس -أيضاً- أصحاب الاستقامة الذين تعرف عليهم الآن، فهو كالشاة العائرة بين الغنمين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، فلا يلبث أن يغلب جانب الشر في نفسه، ولا يجتمع في قلب عبد محبة الله ومحبة الشيطان، وكما يقول ابن القيم رحمه الله: حب الكتاب وحب ألحان الغناء في قلب عبد ليس يجتمعان كيف يجلس مع هؤلاء فيسمع آيات التنزيل، ويسمع أحكام الله وأوامره، ويسمع الرقائق والمواعظ، ثم يجلس مع أولئك الناس الآخرين فيسمع الغناء والموسيقى والطرب ويلعب الورق كيف يجتمعان؟ فلا بد أن يكون عاقبة هذا السقوط عاجلاً أم آجلاً. ولذلك كان لا بد من هجر أهل السوء بالكلية عند الدخول في طريق الاستقامة، ومن شواهدنا على هذا: حديث قاتل المائة نفس الذي ورد في الصحيح، هذا الرجل الذي قتل مائة نفس عندما ذهب إلى عالم فسأله: هل لي من توبة؟ قال: نعم، وما الذي يحول بينك وبين التوبة؟ ماذا قال له العالم؟ اذهب إلى القرية الفلانية فإن فيها أناس صالحون يعبدون الله فاعبد الله معهم، قال له: لا تبقى هنا؛ لأن الناس الذين يشجعونك على الشر يوجدون هنا؛ ولذلك فإن بعض العلماء قد عدوا من شروط التوبة: مفارقة مكان المنكر. وهذه الأمور -أيها الإخوة- التي سردناها آنفاً تؤكد أهمية التربية وتهذيب النفس وتخليصها من كل شوائب الجاهلية، وأهمية التربية الإسلامية المركزة لا التربية القطيعية. وستبقى المعضلة عند المخلصين: الموازنة بين التربية الإسلامية المركزة وبين استقبال الجموع الوافدة بسلبياتها وإيجابياتها إلى الأوساط الإسلامية واستيعابها وفتح الباب أمامها على مصراعيه.

الانشغال عن الوعظ بما يقسي القلب

الانشغال عن الوعظ بما يقسي القلب ومن الأسباب التي تؤدي إلى السقوط: أن يكون الإنسان في بداية الالتزام في حالة ندم شديد على ما فعل في الماضي، فيبدأ الضمير يؤنبه، ويبدأ الرجل يحس بالحاجة إلى المواعظ والرقائق، فهو لا يزال يسمع المواعظ والرقائق الواحدة تلو الأخرى ويستشعر خشية الله في البداية، وبعد فترة من الزمن تبرد الأمور، وينشغل بأشياء أخرى عن الرقائق والمواعظ، وينسى خشية الله. دائماً في بداية دخول الناس في بداية التوبة تكون توبة حارة، ويكون الإقبال شديداً، وتكون العبادة عظيمة، وبعد فترة من الزمن تبرد هذه الأشياء، ويخف تأثر الإنسان بالمواعظ، وقد لا يسمع موعظة مطلقاً، ويقول: دع المواعظ لغيري ممن دخلوا في الطريق الآن، أنا أمري أعظم من سماع المواعظ؛ فيترك سماع المواعظ وينشغل بغيرها، فيضعف واعظ الله في قلبه. والرسول صلى الله عليه وسلم كان من منهجه أن يحافظ على المواعظ على أصحابه حتى لو تقدم بهم العمر في طريق الاستقامة، ولذلك يقول الصحابي: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون) بعد كم سنة وعظهم؟ لا يزال يعظهم، مضت عليهم سنوات في طريق الإسلام، لكن موعظة مهمة، وترقيق القلب مهم حتى في آخر لحظات الحياة؛ ولذلك -أيها الإخوة- لا بد أن نركز على قضية الوعظ الرقائق، وعلى قراءة كتب الرقائق والمواعظ، ولا بد أن يركز الدعاة إلى الله بين الناس على الوعظ، وبين أنفسهم كذلك على وعظ أنفسهم بأنفسهم، لا بد أن يتعظوا. وورد في صحيح البخاري في قصة الخضر: (أن موسى عليه السلام قام خطيباً في بني إسرائيل، فوعظ الناس وذكرهم، فسالت الدموع، ووجلت القلوب فولى) فاختصر الموعظة، وعظ الناس بشيء مناسب، ولما تأثروا مشى حتى لا يترك المجال لفتح مواضيع أخرى تذهب أثر الموعظة. فعلينا التركيز على قضية الوعظ والرقائق، وعدم إهمالها أو تركها لمن نعتقد أنهم دوننا في المستوى الإيماني.

الالتزام والدافع الشخصي

الالتزام والدافع الشخصي كذلك فإن التزام بعض الناس بالإسلام التزاماً غير مؤسس على تقوى من الله ورضوان، سرعان ما يزول، أو يكون بتأثير طاعة من الطاعات أو حدث من الأحداث، فهناك أناس يتغير واقعهم بعد الحج مثلاً، أو بعد العمرة في رمضان، يبكي في الحرم ويدعو، وفي الحج يشعر بتغيرات إيمانية كبيرة في نفسه، فيعود متغيراً، أو مثلاً بعد حادث سيارة، أو مرض خبيث نجا منه فيتغير الشخص، فهو تغير بعد طاعة واحدة أو بعد حادث من الأحداث، لم يستغل التأثر الحادث بعد هذا الحدث وبعد هذه العبادة في تنمية الإيمان في نفسه، وإنما جاءت هذه الدفعة من الإيمان فلا زالت تنقص شيئاً فشيئاً مع مرور الزمن وهو لا يستغل هذا الإيمان الحاصل في نفسه الذي جاء بعد حادث السيارة أو بعد الحج والعمرة، فضعف وضعف وضعف حتى سقط. إذاً: لا بد من استغلال الفرص والاندفاع والتأثر في لحظات التأثر الأولى؛ لتغذية وتنمية الإيمان في النفس، والمبادرة بالاستمرار لعمل الطاعات والخيرات، ولزوم الرفقة الصالحة حتى يقوى الإيمان، ويصبح على أساسات، لا يصبح مجرد حماسة حدثت بعد حادث ثم انطفأت. إن انتكاس بعض الناس راجع إلى أن التزامهم بأحكام الدين كان بطريقة فردية، لم تُحط بسياجٍ من الإخوة الإسلامية، وما دامت الشاة بعيدة عن القطيع فإن تسلط ذئاب الشبهات والشهوات عليها يجعلها فريسة سهلة. إن الحياة الفردية الباردة على شفا جرفٍ هار من الحياة الإسلامية الجماعية التي يغذي بعضها بعضاً، ويدفع بعضها بعضاً، ويحمس بعضها بعضاً، ويستفيد بعضها من بعض، ويكمل بعضها بعضاً. فاعتقاد الناس أنه يكفيهم الالتزام أو الاستقامة بعيداً عن إخوانهم الآخرين المسلمين اعتقاد خاطئ، وإذا بقي وحيداً فلا بد أن يكون السقوط حليفه يوماً من الأيام ما لم تدركه رحمة الله عز وجل.

الابتعاد عن الجو الإيماني

الابتعاد عن الجو الإيماني وكذلك من الأمور المسببة للنكوص على الأعقاب: أن يبتعد المسلم عن الوسط الطيب، وأحياناً يكون هذا الابتعاد لسوء معاملة قد لقيها من البعض، وقد يكون لسفر مثلاً في إجازة من الإجازات أو غيرها، فيذهب هذا الشخص إلى مكان لا يوجد فيه أصدقاء طيبين، ولا أناس مستقيمين، فيبقى في ذلك المكان وحيداً فريسة للذئاب البشرية التي تريد أن تجتاله عن طريق الله، فلا يلبث أن يرجع -إن رجع- بعد ذلك إلى موطنه الأول متغيراً منتكساً، وتقع هذه الحالة كثيراً بين الناس الذين يسافرون إلى الخارج لقضاء العطلة، قد يزور أقرباءً له فسقة ويعيش شهوراً في جوٍ من التفسخ والتحلل والاختلاط الذي يؤثر على إيمانه، فيجعل الرجل يترك الطاعات، والمرأة تترك الحجاب وغيره، ويعود هذا إلى مكانه منتكساً بعد أن كان مستقيماً. وأحياناً يكون انتقاله من منطقة سكنية إلى منطقة أخرى لا يلقى فيها مستقيمين كما كان حاله في سكنه الأول، يكون سبباً مباشراً من الأسباب التي تجعله ينحرف عن الطريق المستقيم.

الإعجاب بالنفس

الإعجاب بالنفس الإعجاب بالنفس من الآفات الداخلية العظيمة التي تسبب السقوط، فقد يدفع الإعجاب بالنفس الإنسان أن يشابه الصوفية في معتقدهم الباطل، الصوفية يقولون: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] حيث يزعمون أن اليقين مرحلة إذا وصلها الإنسان فإنه لا يحتاج إلى العبادة، والذي نعلمه من تفاسير أهل السنة والجماعة: أن اليقين هو الموت اعبد ربك عبادة متصلة تامة حتى يأتيك الموت وأنت على عبادة الله، فبعض الناس يقولون من منطلق الإعجاب بأنفسهم: إنني قد نلت قسطاً وافراً كبيراً من التربية، وقد وصلت إلى مرحلة اليقين في الطريق فلا حاجة لي إلى المزيد، وسوف أتفرغ لمهامٍ جليلة لا يقدر عليها البسطاء، فينحجب عن التربية وأجوائها فيقع في الهلاك؛ بسبب إعجابه بنفسه، واغتراره بقدراته، فلا يلبث أن يسقط.

العجب والكبر سبب مباشر للسقوط

العجب والكبر سبب مباشر للسقوط ومن الأسباب كذلك: الكبرياء والتعالي على خلق الله، وبالذات على إخوانه المستقيمين، ومما اشتهر في كتب التاريخ حادثة ارتداد جبلة بن الأيهم، وإن كانت قد وردت من طريق الواقدي وغيره، فهذه القصة التي ملخصها: أن جبلة كان نصرانياً من ملوك غسان، فأسلم وجاء يطوف بالكعبة فوطئه رجل على إزاره؛ فصفعه جبلة صفعةً هشمت عينه، فرفع الأمر إلى عمر، فقال: لا بد من القود، فلما رأى الرجل أنه سيقاد منه، وهو ملك من أجل رجل من مزينة ضعيف، فلما عرف أنه سيطبق عليه الحكم هرب في الليل وولى ورجع إلى النصارى، فعاش في أكنافهم حتى مات. وهذه القصة لها روايات مختلفة. والمقصود: أن الكبرياء والتعالي من أعظم الأسباب، وهذا الكبر والغرور يؤدي بالإنسان إلى السقوط في مهاوي لا يعلمها إلا الله، ولعل من أشهر الأمثلة على ذلك: أن عالماً من العلماء ألف كتباً في العقيدة السلفية ندر أن يؤلف مثلها، ومن أعظم كتب هذا الرجل كتاب: الصراع بين الإسلام والوثنية، الذي رد فيه على أناس كثيرين من أهل الضلال، وتجد فيه من قوة الحجة والجودة في الرد ما لا تجده في مكان آخر. على سبيل المثال: احتجاج البعض بآية: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} [النساء:64] الذي احتج بها بعض المبتدعة على إتيان قبر الرسول صلى الله عليه وسلم وهو ميت وطلب الاستغفار منه وما يتبع ذلك من الانحرافات استدلوا بهذه الآية، تجد هذا الرجل قد رد في كتابه رداً عظيماً مفحماً على أولئك. وكذلك له عدة مؤلفات في نصرة دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وهذا الرجل بعد فترة من الزمن أصبح ملحداً من الملاحدة، وذهب إلى بلاد الكفار وعاش عندهم، وهو قريب العهد جداً بتاريخنا، كان بداية انحرافه ظهرت في كتاب له يسمى: هذه هي الأغلال، هذا الرجل درس في الهند ورحل إلى مصر، وكان رفيق رحلته في إحدى الرحلات الشيخ عبد الله بن يابس رحمه الله، هذا الرجل كان يعيش في القصيم، ويسمى عبد الله بن علي القصيمي، وقصته معروفة مشهورة، وكان أبوه مصرياً من جيش محمد علي، وأمه من البلاد التي عاش فيها من القصيم، ثم إن الرجل ترعرع ونشأ وطلب العلم ونبغ فيه، فألف هذه المؤلفات العظيمة حقيقةً مثل كتاب: الصراع بين الإسلام والوثنية، ولكن الرجل كان عنده من الكبر في نفسه شيئاً كبيراً جداً لدرجة أنه يقول: ولو أن ما عندي من العلم والفضل يوزع في الآفاق لأغنى عن الرسل يقول: لو أن ما عندي من العلم والفضل يوزع على الناس كلهم في الآفاق لأغنى عن إرسال الرسل. ويقول في مواضع: أنا عندي من الطاقات والإمكانيات والنبوغ والذكاء ما يبرر لي تكبري واستعلائي، بدأ ينحرف وألف كتاب: هذه هي الأغلال، ورد عليه مجموعة من خيرة العلماء، منهم الشيخ محمد بن عبد الرزاق حمزة، والشيخ صالح السويع في كتاب: بيان الهدى من الضلال في الرد على صاحب الأغلال، والشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله، وكان أجود من رد عليه الشيخ عبد الله بن يابس رحمه الله رفيقه في رحلته، وهو يعترف بهذا، يقول: ولم يرد علي أحد مثل عبد الله بن يابس. هذا الرجل تطورت به الأمور أكثر فأكثر حتى ألحد وألف كتباً، منها: " العالم ليس عقلاً "، " هل لهذا العالم من ضمير "، " الكون يحاكم الله " وكتب أخرى فيها الكفر والزندقة والإلحاد الواضح، وذهب إلى بلاد الكفار؛ لأنه لا يمكن أن يعيش بين المسلمين. ما هو سبب ردة هذا الشخص؟ قضية الكبر والعجب، هذا الكبر الذي وقر في نفسه، مع أنه لا ينقصه العلم، لكن هذا الذي حدث. وبعض الناس الآن من صغار طويلبة العلم تجد أنهم يطلقون عبارات عجيبة في أثناء كلامهم، قد يكتب كلاماً بسيطاً، ثم يقول: فاظفر بهذا التحقيق، أو هذا عزيز نفيس قلما تجده، وهذه الجمل قد تعاب على بعض كبار العلماء، فكيف ببعض الصغار الذين ما تمكنوا بعد وكيف يطيروا ولما يريشوا؟! ما نبت لهم ريش على أجنحتهم حتى يطيروا في سماء العلم، فهذه العبارات التي تنبئ عن العجب والغرور، وهي تعبير عن العجب في النفس وهو سبب مباشر للسقوط.

الأمراض القلبية

الأمراض القلبية كذلك إحساس المرء أنه كامل، وأنه ليس بحاجة إلى غيره، ولا يحتاج إلى توجيه، ولا يقبل النصيحة من أحد، هذه النفسية لا تلبث أن تؤدي إلى سقوط صاحبها. ومن الأمراض القلبية: الحسد، وتكرر صورة قابيل وهابيل، عدم الصبر على تفوق الآخرين في شتى المجالات، ويأكل الغيظ كبد الحاسد فلا يستطيع الاستمرار في الوسط الذي هو فيه؛ فيخرج من الوسط الإسلامي، ويخرج إلى أناس من البلهاء يعيش بينهم ليرى نفسه أنه المتميز فيهم، يعني: يرى من حوله طاقات مشتعلة لا يستطيع أن يجاريها ولا يستطيع أن يتفوق عليها وهو حاسد؛ فيترك هذا الوسط ويذهب إلى وسط آخر فيه ضعفاء أو بلهاء يعيش بينهم حتى يشعر بمجد العظمة. هذه من الطباع السيئة التي تبقى في النفس بعد دخول هذا الشخص في عداد المستقيمين. ومنها -أيضاً-: اللؤم والحقد وعدم التسامح من الأخطاء، هذه الخصال إذا بقيت في نفس صاحبها بغير تهذيب فإنها ستتفاعل وتظهر على السطح مكونة مشاكل عظيمة بعد مدة قصيرة، وتبدو المواقف التي تنم عن سوء النية وخبث الطوية، فلا يلبث أن يحدث بعدها الانقلاب ويرتد على عقبيه.

التوسع في الرخص والمباحات

التوسع في الرخص والمباحات ومن الأسباب كذلك: التساهل واتباع الرخص واحتقار الصغائر، وهذه المسألة خطيرة تتسع وتمتد، فمرة يسبل إزاره ويقول: هناك من كره الإسبال ولم يحرمه، ومرة يأخذ من لحيته ويقول: هناك من أجاز ذلك، ومرة يسمع إلى الموسيقى والغناء ويقول: هناك من كرهها ولم يحرمها أو أجاز الموسيقى الهادئة وحرم الموسيقى الغربية الصاخبة، ويتساهل بعضهم في الجلوس مع النساء الأجنبيات والاختلاط، وهذا التساهل واحتقار الذنب يؤدي تدريجياً إلى تراكم الذنوب والانتقال من الذنب الصغير إلى الذنب الأكبر منه حتى يحدث الانتكاس والعياذ بالله! ويدخل في ذلك مخالطة العامة بغير تحفظ، والأقرباء غير المستقيمين والاستئناس إليهم، والرضا بالمنكر الذي هم عليه وعدم إنكاره، ومجاراتهم في الحديث، وربما استهزءوا بالدين وهو جالس فلا يلبث أن تضعف عظمة الله في نفسه حتى تتلاشى فيسقط! وكذلك مدخل شيطاني يدخل منه أحياناً على الشخص من باب الدعوة: فيقوم الرجل يزعم أنه يريد أن يدعو امرأة أجنبية مباشرة فيكلمها وتكلمه، أو امرأة تريد أن تدعو رجلاً أجنبياً فاسقاً مباشرةً فتكلمه -بزعمها- تريد أن تدعوه إلى الله ماذا نتوقع أن يحدث بعد ذلك إلا العلاقات المحرمة التي تنتهي إلى نهاية سيئة.

الاغترار بالمناصب البراقة

الاغترار بالمناصب البراقة ومن الأمور كذلك: قضية المناصب والوجاهات وما تسببه من الوقوع في كثير من المحرمات؛ فإن بعض الناس الذين يرتقون في السلم الوظيفي وتتحسن أحوالهم من هذه الجهة يأخذهم الكبر والعجب والغرور، ويبدأ يجتمع مع من هو أكبر منه؛ يكون مشرفاً فيجتمع مع المدير، ويكون مديراً فيجتمع مع المدراء، ويكون مديراً عاماً فيجتمع مع أعضاء مجلس الشركة، وقد يكون هؤلاء من الفسقة الفجرة الذين يكون اجتماعهم في معصية الله، فيتأثر بهم، ويجذبه بريق المنصب إلى طاعتهم، ويخاف على منصبه أنه إذا خالفهم في شهواتهم وأهوائهم أن يفقده، وقد يحضر وقت صلاة الجماعة وهو في الاجتماع فيأتيه الشيطان، ويقول: كيف تغادر المكان الآن إلى صلاة الجماعة؟ ماذا سيقولون عنك؟ قد يتهمونك ويلفقون ضدك ما يفقدك هذا المنصب، ويدفع الكثير ممن يختلطون بمثل هذه الطبقة من الناس الثمن من دينه. وقد يجلس في مكان يعرض فيه فيلم علمي -مثلاً- تصحبه الموسيقى، فيأتيه الشيطان، ويقول: كيف تخرج من هذه القاعة؟ وماذا يقول الناس عنك؟ وقد يحدث أن بعض الطلاب في موضع الدراسة قد يضعف واقعه الدراسي، وقد يحصل نتائج سيئة وهو مستقيم، فيبدأ يضع سبب الانتكاس الدراسي على التدين، والدعوة إلى الله، والمستقيمين، وأنهم السبب في نكسته الدراسية، ويقول: إن هؤلاء أشغلوني، وإن الدعوة إلى الله قد أشغلتني، وطلب العلم أشغلني؛ فوصلت إلى هذه الحالة الدراسية السيئة، فما هو الحل حتى يحسن وضعه الدراسي؟ إنه لا بد أن يتخفف من هذه المهام، ولا بد أن يخرج من هذه الأوساط حتى يصبح حراً طليقاً يدرس كما يشاء حتى يتفوق. ومن المعلوم أن مثل هؤلاء الناس إنما أوتوا بسبب عدم ترتيبهم وتنظيمهم لوقتهم، وعدم استغلال الأوقات في الأشياء النافعة التي يريدون عملها، فعندها يُحمِّل الدين والاستقامة والدعوة إلى الله وطلب العلم والناس المستقيمين السبب في انتكاسته الدراسية، فيترك كل هؤلاء وينحدر بعد ذلك في طريق الغواية.

الانشغال بالمال والتجارة عن الدين

الانشغال بالمال والتجارة عن الدين ومن الأسباب التي تسبب السقوط: المال والتجارة، كثير ممن اشتغلوا بالتجارة في بداية أمرهم كان مجالهم ضيقاً نسبياً، فتوسعت أعمالهم، وفتح الله عليهم، وهم يستزيدون من هذه الأموال، ويحرصون على الدخول في مجالات تجارية أخرى حتى يمتلأ وقتهم كله بهذه الأشغال وهذه الأموال، وينشغلون عن أنفسهم وأهليهم أن يقوها ناراً وقودها الناس والحجارة، ويزعمون أنهم سينفقون من هذه الأموال والأرباح على المسلمين، وأنهم سيدعمون القضايا الإسلامية، ولكن هذه الدعاوى لا تلبث أن تكشف عما في قلب صاحبها من الخبايا السيئة، ويتضح أن المسألة جشع في طمع، وأن القضية حب للدنيا هؤلاء الذين قال الله فيهم: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} [التوبة:75] {فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} فتح عليهم ورزقهم {بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ} [التوبة:76 - 77]. أيها الإخوة: أنتم ترون في الواقع كثيرين من أولئك الذين جذبهم بريق المال وطمع التجارة عن تعلم العلم الشرعي وأداء الوظائف الدينية والدعوة إلى الله عز وجل، والمال فتنة {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:28] ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (وما قل وكفى خير مما كثر وألهى).

الخوف من الفتن والابتلاءات

الخوف من الفتن والابتلاءات ومن الأسباب كذلك: الخوف من الابتلاء والمحنة قبل وقوعها أو عند وقوعها، فالأول جبان رعديد الذي يخاف من الفتنة قبل وقوعها، والثاني مسكين، والمسألة تدل على خشية الناس أكثر من الله، ويخاف قطع الرزق، أو يخاف من الاضطهاد، ولكن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا إذا قيل لهم: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173] أما كثيرون من الذين يزعمون الاستقامة اليوم فإنهم مع كلام المرجفين والمخوفين الذين يثيرون هذا الكلام وتلك الأخبار المكذوبة أو الصحيحة في الأوساط حتى يرعبون أولئك الذين يريدون أن يستقيموا، فيتصور الإنسان أن الاستقامة تؤدي به إلى الهلاك؛ فيترك الاستقامة لأنه يخشى الناس أكثر مما يخشى الله.

ضغط الأهل والأقارب

ضغط الأهل والأقارب ومن الأسباب التي تؤدي إلى السقوط والانتكاس: ضغط الأهل والأقارب، فبعض الأهل والأقارب من الفسقة الفجرة يهاجمون وينتقدون، وقد يصل الأمر إلى الضرب والمحاربة والمقاطعة، وإن المقاطعة تؤثر تأثيراً شديداً خصوصاً في قطاع النساء، فإن الرجل إذا قوطع قد يذهب إلى أصحابه ويخرج من بيته، ولكن المرأة المسكينة ماذا تفعل إذا قاطعها أهلها وبقيت وحيدة؟ فالضغط النفسي الذي يسبب الطوق الذي فرضه أولئك من الحصار عليها إذا ما اعتصمت بالله ولم تصبر، فإنها قد تعود وتسقط نتيجة لهذا الظرف النفسي الشديد الذي تواجهه. والحبس وقطع المصروف، والحرمان من العطية والهبات، أو الطرد من البيت، هذه أمور يفعلها بعض أولي القرابة اضطهاداً للمستقيمين من أبنائهم في البيوت، وسلمان الفارسي رضي الله عنه قد حصل له شيء من هذا، فإنه عندما أراد أن يبحث عن الحق وعلم أبوه أن الابن سيذهب ويخرج ليبحث عن الحق قيده في البيت، وكبله بالسلاسل حتى لا يخرج، ولكن الله أنجاه، فاستطاع الهرب حتى وصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عنده في قصة طويلة صحيحة، رواها الإمام أحمد وغيره. وقد تصل الدناءة ببعض الأقارب أن يضعوا المغريات والفتن أمام المستقيمين من أبنائهم وبناتهم، فيجلبون الأفلام السيئة إلى غرف المستقيمين من العائلة، ويضعون الصور والمجلات الخليعة داخل غرفهم. ويصل الأمر كذلك ببعض الفجرة أن يحرم ابنته من الحجاب، وبعض الأمهات كذلك تحرم ابنتها من الخروج بالحجاب، وقد تسحب الحجاب، وقد تخفيه، وقد تستهزئ بالبنت وهي تسير في الشارع أمام الناس بحجابها. وبلغ الأمر ببعض النساء أنها كانت لا تخرج ابنتها من البيت إلا وهي كاشفة عن وجهها وشعرها عنوة وبالقوة، فتضطر أن تخرج من باب البيت كاشفة، حتى إذا خرجت من البيت بالكلية أو من العمارة أرخت على وجهها الحجاب مرة أخرى، ولكن الدناءة تصل بتلك الأم أن تجلس على الشرفة لترى كيف تخرج البنت إلى الشارع: هل هي قد تحجبت بعد أن كشفت عن الحجاب أم لا؟ فإذا كانت قد تحجبت فإن الويل والثبور وعظائم الأمور بالانتظار بالمرصاد عند عودة البنت إلى البيت. وقد يصل الاضطهاد بهؤلاء إلى حالة أن يخجل الأب أو الأم أو الأقارب المستقيمين والمستقيمات أمام الجيران والجارات، وأمام أصدقاء العائلة، ويقولون على مرأى ومسمع: انظروا إلى ابني، والأم تقول: انظروا إلى ابنتي فعلت كذا وكذا، إنها متشددة إنها تتحجب رغماً عني، والأب يسخر من لحية ولده ومن ثوبه أمام الآخرين في المجالس. وقد يكرهون الولد أو البنت على السفر معهم في الإجازة حتى يعرضوه لأجواء المحنة والفتنة، وقد يصل بهم الأمر إلى منعه من زيارة إخوانه في الله، أو منعه من حضور حلقات العلم حتى ينقطع عن وسط التأثير والهداية! وقد يحاكم الوالد ولده أمام الأقارب في المجلس، ويتهمه بالجنون والوسوسة، ويقول له: إن عاقبة التدين إلى الجنون، ويقص القصص الخيالية أمام الناس في المجلس يقول: انظر إلى فلان إمام المسجد الفلاني، كان حافظاً للقرآن، عالماً، انحرف وصار يستعمل المخدرات وترك الصلاة. وعلى فرض أن بعض هذه القصص صحيحة وهي نادرة جداً والحمد لله؛ لأن الذين جاهدوا في سبيل الله لا بد أن يهديهم الله السبيل، فيشعرونه بأن التدين وسوسة، وأن عاقبته إلى الخسارة، وأنه سيجن بعد فترة، وأنه سيصيبه الوسوسة، وهكذا ويقولون له: انظر إلى فلان التزم بالإسلام فحصل له كذا وكذا من الجنون، وفلانة التزمت بالحجاب وكذا وامتنعت عن الغناء وسماع المنكرات فحصل لها كذا وكذا من الخبط والانفصام الشخصي والمرض النفسي والعصبي، وكانت نهاية فلان في مستشفى الأمراض العصبية، كن وسطاً مثل أبيك. وقد يصل الأمر بالاضطهاد إلى الضرب والشتم، وأب كان يتفل ويبصق على ولده وهو خارج من الدار وهو عائد إليها، وربما كنا نظن أن قضية التعذيب والتنكيل مثل الصحابة خاصة بالصحابة أو شيء، قد لا يتصور البعض، حتى سمعنا أن بعض الآباء وبعض الأهالي قد يحمي حديدة ويضرب بها على جسد ابنته مثلاً أو ابنه حتى يرغمه على ترك الاستقامة، وذكرنا كذلك أمثلة بعض الأباء قد يغلق الباب حتى لا يخرج الولد لصلاة الفجر، يغلق الباب بالمفتاح ويأخذ المفتاح معه، وبعضهم قد يضع مزيل الشعر على لحية ولده وهو نائم عداءً لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم! الشاهد -أيها الإخوة-: أن هذه الضغوط شديدة، إذا ما يكن هناك صبر وإحساس بقول الله عز وجل: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:2 - 3] {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا} [البقرة:214]. إذاً: احتساب الأجر في هذه الأشياء مهم، وكثير من الذين صبروا نجوا والحمد لله؛ لأن الذين من حولهم يئسوا لما رأوا الثبات واستسلموا للواقع، بل إنهم بعد فترة هم الذين يتأثرون بهؤلاء المستقيمين، ويتندمون على تلك الاضطهادات والإيذاء التي أوقعوها بهم. ومن أشكال الضغط -كذلك-: الرجل يهدد زوجته بالطلاق إذا هي تحجبت، أو تكون المرأة بعد الخطبة غير متحجبة، ثم يهديها الله عز وجل للحجاب، فتتحجب ولما يدخل بها زوجها بعد، فعندما يعلم الزوج الفاسق أن المرأة تحجبت يقول: إما أن تتركي الحجاب أو أفسخ الخطوبة! فهناك إذاً ضغوط كثيرة تمارس. وهذه قد تؤدي في أحيان كثيرة إلى السقوط وإلى ترك الاستقامة وترك التدين نتيجة هذا الإيذاء النفسي والجسدي: وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند والزوجة قد تكون فتنة لزوجها، فقد تشغله عن طاعة الله وذكر الله والعمل لدين الله، وتشغله بشراء الحاجات والاستغراق في لذات الدنيا، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (تعس عبد الزوجة، تعس عبد الدينار وعبد الدرهم) وبعض الأولاد يكونون نكبة على آبائهم وأمهاتهم ويشغلونهم عن طاعة الله. هذه طائفة من الأسباب التي تؤدي إلى الانحراف والانتكاس والسقوط، وهي تقريباً أسباب داخلية للنفس، وكذلك استجابات داخلية لأشياء خارجية تقع، وهناك أسباب أخرى مع طريقة العلاج، ووصف الحالة النفسية التي يعيش بها المنتكس أو الساقط؟ وكيف يكون وضعه؟ وكيف يمكن أن يعود؟ هذا ما سنحاول أن نجيب عنه في الدرس القادم إن شاء الله في الجزء الثاني من هذه المحاضرة، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يثبتنا وإياكم. اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك. اللهم إنا نعوذ بك من الزيغ والزلل والفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم واجعل باطننا صالحاً، وأصلح ظواهرنا، اللهم طهر قلوبنا من النفاق، وأعمالنا من الرياء، وألسنتنا من الكذب، وأصلحنا ظاهراً وباطناً، واجعلنا من المستقيمين على شرعك. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

طالب العلم والرحلة

طالب العلم والرحلة عرض الشيخ في هذا الدرس قصصاً لأئمة تحملوا المشاق واللأواء في سبيل الله من أجل طلب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وجمع سنته. ثم ذكر آداباً لطالب العلم، وما يجب عليه أن يتحلى به. ثم تحدث عن بعض معوقات طلب العلم، وما الواجب على طالب العلم لكي يرتقي بعلمه إلى الدرجة التي بها يحفظ السنة.

رحلة موسى عليه السلام في طلب العلم

رحلة موسى عليه السلام في طلب العلم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: أيها الإخوة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ففي هذه السلسلة التي كنا قد ابتدأنا فيها عن طالب العلم والتي تضمنت: طالب العلم والمنهج، وطالب العلم والحفظ، وطالب العلم والقراءة، نتكلم أيضاً في هذه الليلة إن شاء الله عن طالب العلم والرحلة. ولا شك أن الرحلة في طلب العلم من الأمور العظيمة التي هي من أسباب تحصيل العلم، وهذه الرحلة حكمها يختلف بحسب حال الشخص والعلم الذي يريد أن يتعلمه، فإن كان علم فرضٍ لا يمكن تحصيله إلا بالرحلة، وجب عليه أن يرحل ويأثم لو لم يرحل، والله سبحانه وتعالى يقول: ((فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ)) [التوبة:122]. فطلب العلم فريضة على كل مسلم، وقد أوجب الله الخروج لتحصيل العلم الواجب تحصيله، وقد تكون الرحلة مستحبة إذا كانت للزيادة من علمٍ ليس بفرض تحصيله، وقد تكون مكروهةً إذا كان يمكن أن يكون في بلده يحصل العلم فإذا رحل تألم أهله -مثلاً- وأولاده للفراق، وقد تكون الرحلة محرمة إذا كان فيها تضييعٌ للأولاد والأهل مع عدم وجود ما يوجب عليه الذهاب أو إذا قصد بالرحلة حب الظهور والشهرة، وأن يقال عنه: رحل للقاء فلان أو فلان، ويعدد المشايخ والبلدان ونحو ذلك. والرحلة في طلب العلم -أيها الإخوة- قديمة؛ فإننا نذكر من الأمثلة التي وردت في القرآن والسنة رحلة موسى صلى الله عليه وسلم في طلب العلم على يد الخضر عليهما السلام، كما روى خبر ذلك الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه في كتاب العلم، باب ما ذكر في ذهاب موسى في البحر إلى الخضر عليهما السلام، وقوله تعالى: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} [الكهف:66]. وهذا الحديث العظيم الذي ساقه البخاري رحمه الله والذي يفسر فيه النبي صلى الله عليه وسلم قصة موسى مع الخضر كما جاء في القرآن، وفي هذه القصة يقول صلى الله عليه وسلم: (بينما موسى في ملأ من بني إسرائيل إذ جاءه رجل فقال: هل تعلم أحداً أعلم منك؟ قال موسى: لا، فأوحى الله إلى موسى: بلى عبدنا الخضر) يعني عبدنا الخضر أعلم، فسأل موسى السبيل إليه، فجعل الله له الحوت آية، وقيل له: إذا فقدت الحوت فارجع فإنك ستلقاه، وكان يتبع أثر الحوت في البحر، فقال موسى لفتاه: ((قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً)) [الكهف:64] فقص الأثر إلى مكان فقد الحوت فوجد الخضر، ثم كان من شأنهما الذي قص الله عز وجل في كتابه. وذهب موسى لملاقاة الخضر، وطلب من الله أن ييسر له الرحلة لطلب العلم، ولذلك قال في الحديث: (فسأل موسى السبيل إليه) وأراد من الله أن يبين له الطريق لملاقاة هذا العالم وهو الخضر. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في هذا الباب الذي عقده البخاري: هذا الباب معقود للترغيب في احتمال المشقة في طلب العلم؛ لأن ما يغتبط به تحتمل المشقة فيه. فالعلم شيءٌ عظيم، ولا شك أن هذا العلم العظيم الجميل الجليل تهون المشاق في سبيل تحصيله. وكذلك في هذا الحديث من الفوائد: ركوب البحر في طلب العلم، بل في طلب الاستكثار من العلم، ومشروعية حمل الزاد في السفر -لأنه أخذ معه الحوت- ولزوم التواضع في كل حال، وخضوع الكبير لمن يتعلم منه، ولهذا حرص موسى على الالتقاء بالخضر عليه السلام، مع أن موسى أفضل من الخضر ولا شك، وموسى من أولي العزم ولا شك، ورغم ذلك لم يمنعه فضله وارتفاع رتبته على الخضر أن يسافر إليه لطلب العلم، ويتحمل المشاق لطلب علم عند الخضر ليس عند موسى، ولا شك أن هذا من تواضعه صلى الله عليه وسلم. وكذلك فإن الله سبحانه وتعالى أخبرنا عن صفيه وكليمه الذي كتب له التوراة بيده أنه رحل إلى رجلٍ عالمٍ يتعلم منه، ويزداد علماً منه، {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً} [الكهف:60] كل ذلك حرصاً منه على لقاء هذا العالم، وعلى التعلم منه؛ فلما لقي موسى الخضر سلك معه مسلك المتعلم مع معلمه، وقال له بكل أدب: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} [الكهف:66]، أولاً: بدأه بالسلام، ثم بعد ذلك بالاستئذان على متابعته، وأنه لا يتبعه إلا بإذنه، وقال: {عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} [الكهف:66] وقال: أنا جئت لأتعلم ولم آت لأناقش وأجادل، وأظهر ما عندي، ولا جئت أمتحنك وإنما جئت أستزيد علماً، وكفى بهذا فضلاً وشرفاً للعلم، فهذا نبي الله سافر ورحل لتحصيل ثلاث مسائل من رجلٍ عالم، لما سمع أن هناك من هو أعلم منه ما هدأ له بال حتى ذهب، ولم يقر له قرار حتى سافر لمتابعة التعليم. وهذا في حال الأنبياء رضوان الله تعالى عليهم. أما من بعدهم فالصحابة قد ضربوا المثل أيضاً في طلب العلم؛ امتثالاً لأمره تعالى لما قال: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التوبة:122]. ولذلك جاء أنه كان ينطلق من كل حيٍ من العرب عصابة -يعني: مجموعة- فيأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسألونه ويتفقهون في أمر دينهم ويقولون: ماذا تأمرنا أن نفعل؟ وماذا تأمرنا في عشائرنا؟ ويبعثهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى قومهم ليقوموا فيهم بأمر الله سبحانه وتعالى.

قصص واقعية لأئمة رحلوا في طلب العلم

قصص واقعية لأئمة رحلوا في طلب العلم كان كثيرٌ من الصحابة يرحل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم الإمام العظيم أبو ذرٍ الغفاري رضي الله تعالى عنه، الذي جاء في قصة إسلامه كما في صحيح البخاري لما سمع بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأخيه أنيس: اركب إلى هذا الوادي -اذهب إلى مكة - فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه يأتيه الخبر من السماء، فاسمع من قوله ثم ائتني، فانطلق أنيس حتى قدم مكة وسمع من قول النبي صلى الله عليه وسلم ثم رجع إلى أبي ذر، فقال: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وسمعته يقول كلاماً ما هو بالشعر، فقال أبو ذر: ما شفيتني فيما أردت. فتزود أبو ذرٍ -رضي الله عنه- وحمل شنة له فيها ماء -قربة- حتى قدم مكة والتمس النبي صلى الله عليه وسلم حتى وقع عليه وعثر عليه وأسلم على يديه وتحمل في سبيل ذلك أذى أهل مكة حتى إنهم ما تركوا حجرة ولا مدرة ولا عظماً إلا ضربوه به، لما علموا أنه جاء يسأل عن النبي صلى الله عليه وسلم، حتى قال: خررت مغشياً عليَّ فارتفعت حين ارتفعت كأني نصبٌ أحمر يعني: من كثرة الدماء التي سالت عليه وبعد ذلك لزم النبي صلى الله عليه وسلم وهاجر معه. وكان الصحابة يرحلون في طلب العلم، فهذا عمر هو وجاره كانا يتناوبان في طلب العلم، يجلس هذا في المزرعة يوماً، وينزل الآخر يوماً ليتعلم، فيجمعان بين مصلحة طلب العلم، وبين القيام على الأموال واستصلاح الأرض والزراعة. وكذلك فإنه قد جاء في مناقب أهل اليمن في الصحيح عن عمران بن حصين قال: (دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وعقلت ناقتي بالباب فتاهت، فأتاه ناس من بني تميم فقال: اقبلوا البشرى يا بني تميم، قالوا: بشرتنا فأعطنا مرتين) ظنوا المسألة فيها عطايا مادية، قالوا: ما دامت بشرى فتوجد عطايا مادية، فتغير وجهه صلى الله عليه وسلم: (ثم دخل عليه ناسٌ من أهل اليمن، فقال: اقبلوا البشرى يا أهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميم، قالوا: قبلنا يا رسول الله، قالوا: جئناك من اليمن -يرحلون- لنتفقه في الدين ونسألك عن أول هذا الأمر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كان الله ولم يك شيءٌ قبله، وكان عرشه على الماء، ثم خلق السماوات والأرض، وكتب في الذكر كل شيء). فهذه رحلة أهل اليمن في طلب العلم، ومنهم أبو موسى الأشعري رضي الله عنه، وله فضلٌ عظيم، وهذا دليلٌ على الرحلة في طلب العلم. وكذلك فإن هناك أمراً من الأمور العظيمة التي فاتتنا مع الأسف في هذا الزمان وكانت من أكبر أسباب الرحلة في طلب العلم وهي جمع الحديث. ولا شك -أيها الإخوة- أن من أكبر الأسباب الدافعة لعلماء السلف للرحلة في طلب العلم هي جمع الحديث، فإن القرآن مجموعٌ معلوم، ولا حاجة إلى الرحلة لجمعه؛ لأنه مجموع، أما الحديث فإنه كان قد تفرق في البلدان بتفرق الصحابة، والصحابة علموا من بعدهم، وتفرق الحديث في البلدان فلما أراد العلماء جمع الحديث وكتابة الحديث رحلوا في طلب الأحاديث وجمعها، بل كانوا يرحلون في طلب الحديث لأجل علو السند، فإذا سمعه من رجل قال: من حدثك به؟ قال: فلان بـ الكوفة، فيسافر إلى فلان بـ الكوفة لكي يسمعه من الشيخ الأصلي لكي يكون سنده أعلى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الشيء الذي نتحسر عليه في هذه الأيام؛ لأن جمع الحديث قد انتهى، ولذلك الرحلة في جمع الحديث انتهت بجمع الأحاديث وكتابة الأحاديث وتدوين الأحاديث، ونقول في أنفسنا: يا ليتنا كنا معهم فنفوز فوزاً عظيماً.

رحلة جابر بن عبد الله إلى عبد الله بن أنيس

رحلة جابر بن عبد الله إلى عبد الله بن أنيس وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم على رأس الراحلين في سماع الأحاديث، فإن جابر بن عبد الله رحل شهراً إلى عبد الله بن أنيس في حديثٍ واحد، كما أخرج البخاري رحمه الله في الباب المفرد في باب المعانقة، من طريق عبد الله بن محمد بن عقيل أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: (بلغني عن رجلٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حديثاً سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاشتريت بعيراً -من أجل الرحلة اشترى بعيراً- ثم شددت رحلي فسرت إليه شهراً حتى قدمت الشام فإذا عبد الله بن أنيس، فقلت للبواب: قل له: جابر على الباب، فقال: ابن عبد الله؟ قلت: نعم. فخرج عبد الله بن أنيس فاعتنقني. فقلت: حديث بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فخشيت أن أموت أو تموت قبل أن أسمعه، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يحشر الله الناس يوم القيامة عراة أي: يعني غير مختتنين- بهماً، قلنا: ما بهماً؟ قال: ليس معهم شيء. فيناديهم بصوت يسمعه من بَعُدَ كما يسمعه من قَرُبَ: أنا الملك، أنا الديان، لا ينبغي لأحدٍ من أهل الجنة يدخل الجنة وأحد من أهل النار يطلبه بمظلمة، ولا ينبغي لأحد من أهل النار يدخل النار وأحد من أهل الجنة يطلبه بمظلمة) لا بد من تصفية الحسابات الحديث. وهذا دليل على أن الصحابة رضوان الله عليهم رغم أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم وسمعوا الأحاديث لكنهم يطلبون المزيد والسماع المباشر، وهذا الحديث الذي يرحل من أجله كان السابقون يقدرون له قيمته، ففي الصحيحين من حديث الشعبي، عن أبي بردة، عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: عبد مملوك أدى حق الله وحق مواليه، ورجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي، ورجل كانت له أمة فأدبها فأحسن تأديبها ثم أعتقها فتزوجها)، ثم قال الشعبي: خذها بغيرما شيء -خذ هذا الحديث مجاناً- فقد كان الرجل يرحل في مثلها إلى المدينة، أي: يذهب من الكوفة إلى المدينة من أجل حديثٍ واحد.

رحلة بعض التابعين في طلب العلم

رحلة بعض التابعين في طلب العلم كذلك فإن التابعين قد ساروا على نهج الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، فهذا التابعي الجليل أبو العالية قال: [كنا نسمع الرواية عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بـ البصرة فما نرضى حتى نركب إلى المدينة فنسمعها من أفواههم]. وكذلك قال الإمام مالك رحمه الله عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب: [كنت أرحل الأيام والليالي في طلب الحديث الواحد]. وعن الشعبي رحمه الله أنه خرج من الكوفة إلى مكة في ثلاثة أحاديث ذكرت له، فقال: "لعلي ألقى رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم". وكان الشعبي رحمه الله من كبار الحفاظ، وكان يقول: "ما كتبت سوداء في بيضاء إلى يومي -لا يحتاج إلى كتابة لأن العلم كله محفوظ في الذهن- ولا حدثني رجل بحديث قط إلا حفظته، ولا أحببت أن يعيده علي، ولقد نسيت من العلم ما لو حفظه أحد لكان به عالماً. قيل للشعبي: من أين لك هذا العلم كله؟ قال: بنفي الاعتماد، والسير في البلاد، وصبر كصبر الجماد، وفي رواية: كصبر الحمار- لأنه معروف بصبره على الذل وقلة التفقد، أي: أنه لو ما تفقده أحد فهو يصبر، وبكور كبكور الغراب. كانت العرب تقول: تعجبنا من أربعة أشياء: من الغراب والخنزير والكلب والسنور، فأما الغراب فسرعة بكوره وسرعة إيابه قبل الليل. وكذلك قال أبو قلابة الجرمي رحمه الله: أقمت في المدينة ثلاثة أيام ما لي بها حاجة إلا قدوم رجل بلغني عنه الحديث، فبلغني أنه يقدم فأقمت حتى قدم فحدثني به. وكان مكحول رحمه الله عبداً لـ سعيد بن العاص، فوهبه لامرأة من هذيل بـ مصر، فأنعم الله عليه بـ مصر وأعتق، قال عن نفسه: فلم أدع بها علماً إلا حويته فيما أراه -في ظنه- ثم أتيت العراق فلم أدع بها علماً إلا حويته عليه فيما أراه، ثم أتيت المدينة فكذلك، ثم أتيت الشام فغربلتها، كل ذلك أسأل عن النقل.

رحلة ابن فروخ إلى الأعمش

رحلة ابن فروخ إلى الأعمش وكان الإمام عبد الله بن فروخ رحمه الله يرحل ويسافر، قال: لما أتيت الكوفة وأكثر أملي السماع من الأعمش، فسألت عنه -سأل عن الأعمش - فقيل لي: غضب على أصحاب الحديث فحلف ألا يسمعهم مدة. هذا جاء إلى الشيخ، والشيخ يبدو أن بعض الطلبة قد ضايقوه، فـ الأعمش حلف ألا يسمعهم مدة، مثلاً قال: والله لا أحدثكم شهراً عقوبة لهم حتى يتأدبوا، هذا الطالب جاء إلى البلد فوجد الشيخ فحلف ألا يحدث. قال: فكنت أختلف إلى باب داره لعلي أصل إليه فلم أقدر على ذلك -ما استطعت- فجلست يوماً على بابه وأنا متفكر في غربتي وما حرمته من السماع، إذ فتحت جارية بابه يوماً وخرجت منه، فقالت لي: ما بالك على بابنا؟ فقلت: أنا رجل غريب، وأعلمتها بخبري. قالت: وأين بلدكم؟ قلت: أفريقيا. فانشرحت إلي وقالت: تعرف القيروان؟ قلت: أنا من أهلها. قالت: تعرف دار ابن فروخ؟ قلت: أنا هو. فتأملتني ثم قالت: عبد الله؟ قلت: نعم. وإذا هي جارية كانت لنا بعناها صغيرة، فسارعت إلى الأعمش وقالت: إن مولاي الذي كنت أخبرك بخبره في الباب، فأمرها بإدخاله، فدخلت وأسكنني بيتاً قبالة بيته، فسمعت منه وحدثني وقد حرم سائر الناس إلى أن قضيت أربي منه.

رحلة الإمام أحمد في الطلب

رحلة الإمام أحمد في الطلب وهذا الإمام أحمد رحمه الله تعالى طلب الحديث وهو ابن ستة عشر سنة، وخرج إلى الكوفة في أول سفرة، وخرج إلى البصرة، وخرج إلى سفيان بن عيينة بـ مكة -وهي أول سنة حج فيها- وخرج إلى عبد الرزاق بـ صنعاء اليمن، ورافق يحيى بن معين في هذه السفرة. قال أحمد رحمه الله: رحلت في طلب العلم والسنة إلى الثغور، والشامات، والسواحل، والمغرب، والجزائر، ومكة، والمدينة، والحجاز، واليمن، والعراقين جميعاً، وفارس، وخراسان، والجبال والأطراف، ثم عدت إلى بغداد، وخرجت إلى الكوفة فكنت في بيت تحت رأسي لبنة -وسادة- فحممت فرجعت إلى أمي رحمها الله ولم أكن استأذنتها، ولو كان عندي تسعون درهماً كنت رحلت إلى جرير بن عبد الحميد إلى الري، وخرج بعض أصحابنا ولم يمكنني الخروج لأنه لم يكن عندي شيء. وقال ابن الجوزي رحمه الله: طاف الإمام أحمد بن حنبل الدنيا مرتين حتى جمع المسند. وكان من تلامذته إسحاق بن منصور الكوسج، وكان فقيهاً عالماً، جمع مسائل عن الإمام أحمد ثم بلغه أن الإمام أحمد رجع عن تلك المسائل التي كتبها عنه، فجمع إسحاق بن منصور المسائل في جراب وحملها على ظهره وخرج راجلاً إلى بغداد وهي على ظهره، وعرض خطوط أحمد عليه في كل مسألة -استفتاه فيها، قال: هذه كتبتها عنك رجعت عنها؟ هذه رجعت عنها؟ هذه رجعت عنها؟ - فأقر له بها وأعجب أحمد بذلك. فهذا رحل في التأكد هل العالم رجع عن مسألة أم لم يرجع.

رحلة بقي بن مخلد إلى الإمام أحمد

رحلة بقي بن مخلد إلى الإمام أحمد كذلك فإن من أئمة الدنيا وطلاب العلم الكبار والعلماء الأفذاذ بقي بن مخلد رحمه الله، وهذا من علماء الأندلس، وهذا الرجل رحل من الأندلس إلى بغداد لملاقاة الإمام أحمد رحمه الله، وحصلت له قصة عجيبة مع الإمام أحمد، قال فيما يروى عنه: لما قربت من بغداد اتصلني خبر المحنة التي دارت على أحمد بن حنبل. والمحنة التي جرت على الإمام أحمد معروفة، وكان مما حصل على الإمام أحمد السجن والضرب، والإقامة الجبرية، ومنع من التحديث والتدريس بقي بن مخلد رحل من الأندلس وجاء إلى بغداد لملاقاة أحمد بن حنبل فوجده مفروضاً عليه الإقامة الجبرية والمنع من التدريس ولا يستطيع أحد أن يقترب من بيت الإمام أحمد، فماذا فعل؟ قال: فاغتممت بذلك غماً شديداً، فلم أعرج على شيء بعد إنزال متاعي في بيت اكتريته -في بعض الفنادق- أن أتيت الجامع الكبير -نزل العفش في الفندق وأتى إلى الجامع الكبير- وأنا أريد أن أجلس إلى الحلق وأسمع ما يتذاكرونه، فدفعت إلى حلقة نبيلة، فإذا برجل يكشف عن الرجال فيضعف ويقوي -فلان ثقة، فلان ضعيف وهكذا- فقلت لمن كان بقربي: من هذا؟ قالوا: هذا يحيى بن معين، فرأيت فرجة قد انفرجت قربه -قرب الشيخ- فقمت إليه، فقلت له: يا أبا زكريا رحمك الله رجل غريب، نائي الدار، أردت السؤال فلا تستخفني. فقال لي: قل. فسألته عن بعض ما لقيته من أهل الحديث فبعضاً زكى وبعضاً جرح، فسألته في آخر السؤال عن هشام بن عمار؟ فقال: صاحب صلاة دمشقي ثقة وفوق الثقة إلخ، فصاح أهل الحلقة: يكفيك رحمك الله، غيرك له سؤال، فقلت وأنا واقف على قدمي: أكشفك عن رجل واحد -أريد أن أسألك عن رجل: أحمد بن حنبل؟ فنظر إلي يحيى بن معين كالمتعجب، وقال لي: ومثلنا نحن يكشف عن أحمد بن حنبل؟ إن ذاك إمام المسلمين وخيرهم وفاضلهم. ثم خرجت أستدل على منزل أحمد بن حنبل فدللت عليه، فقرعت بابه، فخرج إلي ففتح الباب، فنظر إلى رجل لم يعرفه -ما عرفني- فقلت: يا أبا عبد الله! رجل غريب الدار، هذا أول دخولي هذا البلد، وأنا طالب حديث ومقيد سنة، ولم تكن رحلتي إلا إليك، فقال لي: ادخل الاسطوان -أي: الممر إلى داخل الدار- ولا تقع عليك عين -غيره تحت- فقال لي: وأين موضعك؟ قلت: المغرب الأقصى. فقال لي: أفريقيا؟ فقلت: أبعد من ذلك، أجوز من بلدي البحر إلى أفريقيا، الأندلس. فقال لي: إن موضعك لبعيد، وما كان شيء أحب إلي من أن أحسن عون مثلك على مطلبه، غير أني في حيني هذا ممتحن بما لعله قد بلغك، فقلت له: قد بلغني، وأنا قريب من بلدك مقبل نحوك -وصلني الخبر بمنعك من التدريس وأنا داخل على البلد- فقلت له: يا أبا عبد الله! هذا أول دخولي، وأنا مجهول العين عندكم -أنا غير معروف في البلد- فإن أذنت لي أن آتي في كل يوم في زي السؤال -ألبس ملابس الشحاذين- وآتي إلى بيتك فأقول عند باب الدار ما يقولونه -أي: أقول عند باب البيت ما يقوله الشحاذون- فتخرج إلى هذا الموضع، فلو لم تحدثني في كل يوم إلا بحديث واحد لكان فيه الكفاية. فقال لي: نعم. على شرط ألا تظهر في الحلق ولا عند أصحاب الحديث، فقلت: لك شرطك -حتى لا يعرف، ويبقى هذا غريب مجهول- فكنت آخذ عوداً بيدي -مثل الشحاذ- وألف رأسي بخرقة، وأجعل ورقي ودواتي في كمي -التي يكتب بها في كمه- ثم آتي في بابه أصيح: الأجر رحمكم الله. فيخرج إلي ويغلق باب الدار ويحدثني بالحديثين والثلاثة والأكثر وهكذا حتى اجتمع لي نحواً من ثلاثمائة حديث، فالتزمت ذلك حتى مات الممتحن له - الخليفة الذي امتحن أحمد مات- وولي بعده من كان على مذهب السنة، فظهر أحمد بن حنبل وسما ذكره إلى آخر القصة. قال فيها: فكنت إذا حضرت حلقته فسح لي وأدناني، ويقول لأصحاب الحديث: هذا يقع عليه اسم طالب العلم. أحمد يقول للناس بعدما رجع إلى التدريس وانفك من المحنة: هذا فعلاً يسمى طالب علم، هذا الذي ركب البحر من الأندلس إلى أفريقيا وجاء إلى بغداد، هذا الذي رضي أن يلبس ملابس الشحاذين حتى يتعلم كل يوم حديثاً أو حديثين، هذا يصلح أن يقع عليه اسم طالب علم، فالآن اسم طالب العلم صار اسماً ممتهناً للكل، يقولون: فلان طالب علم، وما فعل شيئاً مما فعله بقي. قال: ثم يقص عليهم قصتي معه، كان يناولني الحديث مناولة ويقرأه عليه وأقرأه عليه، فاعتللت علة -يقول: مرضت مرضة- ففقدني من مجلسه فسأل عني فعلم بمرضي، فقام مباشرة عائداً إليَّ -هذا كان قد استأجر غرفة في الفندق- قال بقي وهو مريض في الفندق: فسمعت الفندق قد ارتج بأهله وأنا أسمعه، يقول: هو ذاك أبصروه، هذا إمام المسلمين. الإمام أحمد رفع الله ذكره، كان إذا دخل حارة أو مكاناً أو فندقاً قام الناس وقالوا: جاء أحمد، جاء أحمد، كان بقي مريضاً في الفندق، فلما دخل أحمد ضج أهل الفندق، فبدر إلي صاحب الفندق مسرعاً، فقال لي: يا أبا عبد الرحمن! هذا أبو عبد الله أحمد بن حنبل إمام المسلمين مقبلاً إليك عائداً لك، فدخل فجلس عند رأسي وقد احتشى البيت من أصحابه فلم يسعهم؛ حتى صارت فرقة منهم في الدار وقوفاً وأقلامهم بأيديهم، فما زادني على هذه الكلمات، فقال لي: يا أبا عبد الرحمن! أبشر بثواب الله، أيام الصحة لا سقم فيها، وأيام السقم لا صحة فيها، أعادك الله إلى العافية. ثم خرج عني فأتاني أهل الفندق يلطفون بي ويخدمونني ديانة وحسبة فأحدهم يأتي بالفراش، وآخر باللحاف وبأطايب من الأغذية، وكانوا في تمريضي أكثر من تمريض أهلي لو كنت بين أظهرهم لماذا؟ لعيادة الرجل الصالح لي أحمد بن حنبل. وبقي بن مخلد قد رحل إلى مصر والشام والحجاز وبغداد رحلتين: امتدت الرحلة الأولى أربعة عشر عاماً، والثانية عشرين عاماً؛ ولذلك كتب مجلدات.

رحلة الإمام أبي حاتم الرازي

رحلة الإمام أبي حاتم الرازي وهذا الإمام أبو حاتم الرازي لما ذكر رحلته في طلب العلم، قال: سمعت أبي يقول: أول ما خرجت في طلب الحديث أقمت سبع سنين، أحصيت ما مشيت على قدمي زيادة على ألف فرسخ. الفرسخ أكثر من خمسة كيلو مترات! أي: أن هذا مشى على قدميه أكثر من خمسة آلاف كيلو متر، والمشي على الأقدام غير الرواحل. يقول: كنت أسير من الكوفة إلى بغداد ما لا أحصي كم من مرة، ومن مكة إلى المدينة مرات كثيرة، وخرجت من البحر في المغرب الأقصى إلى مصر ماشياً، ومن مصر إلى الرملة ماشياً، ومن الرملة إلى بيت المقدس، ومن الرملة إلى عسقلان، ومن الرملة إلى طبرية، ومن طبرية إلى دمشق، ومن دمشق إلى حمص، ومن حمص إلى أنطاكية، ومن أنطاكية إلى طرسوس، ومن طرسوس إلى حمص، وكان بقي علي شيء من حديث أبي اليمان فسمعته، ثم خرجت من حمص إلى بيسان، ومن بيسان إلى الرقة، ومن الرقة ركبت الفرات إلى بغداد، وخرجت قبل خروجي إلى الشام من واسط إلى النيل، ومن النيل إلى الكوفة كل ذلك ماشياً، هذا في سفري الأول وأنا ابن عشرين سنة أجول سبع سنين هذا من رحلته رحمه الله تعالى! كذلك فإن ابن مندة رحمه الله أراد أن يخرج إلى الرحلة، فخرج وكتب شيئاًَ كثيراً جداً، وكانت رحلته خمسة وأربعين سنة، رحمه الله تعالى!

علماء تعرضوا في رحلتهم للأذى

علماء تعرضوا في رحلتهم للأذى

ابن السمعاني وأسره في رحلته

ابن السمعاني وأسره في رحلته خرج ابن السمعاني من مرو ودخل بغداد سنة أربعمائة وواحد وستين، وناظر الفقهاء، ثم خرج منها إلى الحجاز على غير الطريق المعتاد -وهذه القصة تبين أن بعض العلماء عندما كانوا يرحلون في طلب العلم يصابون بمصائب وتحصل لهم حوادث ومع ذلك يتحملون- فهذا يقول: خرجت على غير الطريق المعتاد فأسرني عرب البادية، وكانوا يأخذونني مع جمالهم إلى الرعي، ولم أقل لهم: إني أعرف شيئاً من العلم، فاتفق أن رئيسهم أراد أن يتزوج، فقال: نخرج إلى بعض البلدان نبحث عن فقيه ليعقد لنا، فقال أحد الأسرى: هذا الرجل الذي يخرج مع جمالكم إلى الصحراء فقيه خراسان، فاستدعوني وسألوني عن أشياء فأجبتهم وكلمتهم بالعربية فخجلوا واعتذروا، فعقدت لهم العقد ففرحوا، وسألوني أن أقبل منهم شيئاً فامتنعت، وسألتهم فحملوني إلى مكة في وسط السنة، فبقيت فيها مجاوراً لـ مكة؛ ولقي الحافظ الزنجاني رحمهما الله.

خيثمة بن سليمان وأسر الروم له

خيثمة بن سليمان وأسر الروم له كذلك الحافظ محدث الشام خيثمة بن سليمان القرشي هذا أيضاً ركب البحر وقصد جَبَله، فلقيه المركب فقاتلوه، ثم تسلموا المركب من الإمام فأخذوني ثم ضربوني -كان بعض العلماء يقعون في أيدي الروم، بعضهم يقع في أيدي قطاع الطرق وهم في الرحلة، يتعرضون للإهانات- قال: وكتبوا أسماءنا، فقالوا: ما اسمك؟ قلت: خيثمة. فقال: اكتب حمار بن حمار -إهانة- ولما ضربت سكرت -أي: أصابني الغشي من شدة ألم الضرب- ونمت فرأيت كأني أنظر إلى الجنة -أي: في المنام- وعلى بابها جماعة من الحور العين، فقالت إحداهما: يا شقي! إيش فاتك؟ -إيش اختصار أي شيء- قالت أخرى: إيش فاته؟ قالت: لو قتل كان في الجنة مع الحور العين. فقالت لها: لئن يرزقه الله الشهادة في عز من الإسلام وذل من الشرك خير له. ثم انتبهت، قال: ورأيت كأن من يقول لي: اقرأ سورة براءة، فقرأت إلى قوله تعالى: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة:2] قال: فعددت من ليلة الرؤيا أربعة أشهر ففك الله أسري.

مكابدة الأئمة لأمراض في رحلاتهم

مكابدة الأئمة لأمراض في رحلاتهم رحل الحافظ الرواسي حتى سقطت أصابعه من شدة البرد؛ لأنهم كانوا إذا مروا من بلدان باردة لا يكون عندهم شيء للتدفئة، فإن الأعضاء تتساقط من شدة البرودة، فبعض العلماء رحلوا حتى سقطت أعضاؤهم من شدة البرد، وكانوا يرحلون ويقابلون المشايخ حتى إن بعضهم لقي ثلاثة آلاف وستمائة شيخ! وكان بعضهم إذا أراد قصد شيخ عجل إليه، فربما سافر ودخل البلد فوجد الشيخ قد مات، قال بعضهم: إنه سافر إلى نيسابور إلى بيت أحمد بن خلف فكان قد مات لتوه، قال لما سمع خبر موته: فكادت مرارتي تنشق!

أبو الوقت الهروي يرحل مشيا هو ووالده

أبو الوقت الهروي يرحل مشياً هو ووالده كذلك فإن الحافظ أبا الوقت عبد الأول السجزي الهروي رحمه الله تعالى كان من مشاهير الذين طوفوا البلدان، قال أحد تلاميذه: لما رحلت إلى شيخنا ومسند العصر أبي الوقت قدر الله لي الوصول إليه في آخر بلاد كرمان فسلمت عليه، وقبلته، وجلست بين يديه، فقال لي: ما أقدمك هذه البلاد؟ قلت: كان قصدي إليك، ومعولي بعد الله عليك، وقد كتبت ما وقع علي من حديثك بقلمي، وسعيت إليك بقدمي. فقال: وفقك الله وإيانا لمرضاته، وجعل سعينا له وقصدنا إليه، لو كنت عرفتني حق معرفتي لما سلمت علي -هذا من تواضعه- يقول: لو عرفتني على الحقيقة ما سافرت إلي ولا جلست بين يدي، ثم بكى بكاءً طويلاً وأبكى من حضره، ثم قال: اللهم استرنا بسترك الجميل، ثم قال: يا ولدي! تعلم أني رحلت أيضاً لسماع الصحيح ماشياً مع والدي من هراة إلى بوشنج ولي من العمر دون عشر سنين. هذا أبوه علمه الرحلة في طلب الحديث، أخذه وعمره عشر سنين، قال: فكان والدي يضع على يدي حجرين -يقول: وأنا عمري عشر سنين كان والدي يعطيني حجرين أحملهما في السفر- أمشي وهو يتأملني، فإذا رآني قد عييت أمرني أن ألقي أحد الحجرين فألقيه فيخف عني فأمشي، إلى أن يتبين له تعبي، فيقول: هل عييت؟ فأخاف وأقول: لا. فيقول: لم تقصر في المشي؟ فأسرع ساعة ثم أعجز، فيأخذ الحجر الآخر فيلقيه فأمشي حتى أعطب، فحينئذ يأخذني ويحملني، وكنا نلتقي جماعة الفلاحين، فيقولون: يا شيخ عيسى! ادفع إلينا هذا الطفل نركبه وإياك إلى بوشنج. فيقول والدي: معاذ الله أن نركب في طلب أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بل نمشي. وهكذا كانوا من الصغر يتعلمون على الرحلة في طلب الحديث، فلا غرابة إذاً إذا كبروا أن يفعلوا ذلك.

رحلة السمعاني

رحلة السمعاني وكذلك فإن من الذين طوفوا البلدان أبو سعد السمعاني رحمه الله تعالى، نهض برحلات قاربت عشرين سنة، الرحلة الأولى: كان مدتها عشر سنوات، كانت من خراسان شرقاً إلى الشام غرباً، ومن العراق شمالاً إلى الحجاز جنوباً. وكذلك فإنه لما أراد أن يخرج لم يرض أهله حتى يخرج مع عمه مرافقة، خرج مع عمه وجلس في البلد يطلب العلم، يريد من عمه أن يطفش ويفارق حتى يكمل هو الرحلة، واختبأ في البلد من هنا إلى هنا ولكن عمه بقي ينتظره، ثم إن الابن قد جاء له بالسفر فسافر ومات في سفره عمه والوصي عليه، وأكمل الرحلة رحمه الله تعالى. ورحلته الثانية: كان مدتها ست سنوات، زار فيها مدن خراسان، ورحلته الثالثة أربع سنوات زار فيها بلاد ما وراء النهر، وزار مدناً كثيرةً جداً فدخلها وكتب عن العلماء فيها! وكان بعض المحدثين ربما بال الدم في طلب الحديث، من شدة الحر والمشي في الهواجر.

الرامهرمزي يصف حال الأئمة في رحلتهم للطلب

الرامهرمزي يصف حال الأئمة في رحلتهم للطلب هذه طائفة من سير المحدثين الذين رحلوا في طلب الحديث، وقلنا أيها الإخوة في أول الأمر إن الدافع والداعي للرحلة في طلب الحديث كان موجوداً في البداية بخلاف ما هو عليه الآن، لكن لقيا العلماء وطلب العلم لا زال الدافع إليه موجوداً في عصرنا ولا شك، أما هؤلاء المحدثين فلا بد من ذكرهم والتعويل على سيرهم لأن لهم حق علينا، لا يوجد حديث في الكتب إلا وهم الذين نقلوه، وهم الذين رووه؛ ولذلك كان لا بد من ذكر حالهم. وقد قال الحافظ الرامهرموزي في شأن أهل الحديث: يرحلون من بلاد إلى بلاد خائضين في العلم كل واد، شعث الرءوس، خلقان الثياب، خمص البطون، ذبل الشفاة، شحب الألوان، نحل الأبدان، قد جعلوا لهم هماً واحداً، ورضوا بالعلم دليلاً ورائداً، لا يقطعهم عنه جوع ولا ظمأ، ولا يملهم منه صيف ولا شتاء، مائزين الأثر صحيحه من سقيمه، وقويه من ضعيفه بألباب حازمة، وآراء ثاقبة، وقلوب للحق واعية، فلو رأيتهم في ليلهم وقد انتصبوا النسخ ما سمعوا -في الصباح يسمعون وفي الليل ينسخون- وتصحيح ما جمعوا، هاجرين الفرش الوطي، والمضجع الشهي، غشيهم النعاس فأنامهم، وتساقطت من أكفهم أقلامهم فانتبهوا مذعورين، قد أوجع الكد أصلابهم، وتيه السهر ألبابهم، فتمطوا ليريحوا الأبدان، وتحولوا عن مرقدهم ليفقدوا النوم من مكان إلى مكان، ودلكوا بأيديهم عيونهم ثم عادوا إلى الكتابة حرصاً عليها وميلاً إليها، لعلمهم أنهم حراس الإسلام وخزان الملك العلام، فلما قضوا من بعض ما راموا أوطارهم انصرفوا قاصدين ديارهم، فلزموا المساجد، وعمروا المشاهد، لابسين ثوب الخضوع، مسالمين ومسلمين. فنلاحظ من حال هؤلاء أنهم بالرغم من عدم وجود طائرة ولا قطارات ولا سيارات، ما في من وسائل المواصلات الحديثة هذه، لكنهم ساروا مشياً وركوباً وعلى الرواحل الأسفار الشاسعة والسنوات الطويلة، هجروا الأهل والأولاد والبلدان لأجل حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وكان بعضهم يخرج من بلده فلا يرجع إلا وقد كبر ولده وشب، ولقوا مصاعب وربما وقع بعضهم في الأسر كما ذكرنا، وكانت الرحلات تأخذ من عمرهم السنين الطوال، هذا يدل على علو همتهم وصبرهم وتحملهم رضي الله تعالى عنهم.

وصف الرامهرمزي حال الأئمة في رحلتهم للطلب

وصف الرامهرمزي حال الأئمة في رحلتهم للطلب هذه طائفة من سير المحدثين الذين رحلوا في طلب الحديث، وقلنا أيها الإخوة في أول الأمر: إن الدافع والداعي للرحلة في طلب الحديث كان موجوداً في البداية بخلاف ما هو عليه الآن، لكن لقيا العلماء وطلب العلم لا زال الدافع إليه موجوداً في عصرنا ولا شك، أما هؤلاء المحدثين فلا بد من ذكرهم والتعويل على سيرهم لأن لهم حق علينا، لا يوجد حديث في الكتب إلا وهم الذين نقلوه، وهم الذين رووه؛ ولذلك كان لا بد من ذكر حالهم. وقد قال الحافظ الرامهرمزي في شأن أهل الحديث: يرحلون من بلادٍ إلى بلاد خائضين في العلم كل واد، شعث الرءوس، خلقان الثياب، خمص البطون، ذبل الشفاة، شحب الألوان، نحل الأبدان، قد جعلوا لهم هماً واحداً، ورضوا بالعلم دليلاً ورائداً، لا يقطعهم عنه جوع ولا ظمأ، ولا يملهم منه صيف ولا شتاء، مائزين الأثر صحيحه من سقيمه، وقويه من ضعيفه، بألباب حازمة، وآراء ثاقبة، وقلوب للحق واعية، فلو رأيتهم في ليلهم وقد انتصبوا النسخ ما سمعوا -في الصباح يسمعون وفي الليل ينسخون- وتصحيح ما جمعوا، هاجرين الفرش الوطي، والمضجع الشهي، غشيهم النعاس فأنامهم، وتساقطت من أكفهم أقلامهم فانتبهوا مذعورين، قد أوجع الكد أصلابهم، وتيه السهر ألبابهم، فتمطوا ليريحوا الأبدان، وتحولوا عن مرقدهم ليفقدوا النوم من مكان إلى مكان، ودلكوا بأيديهم عيونهم ثم عادوا إلى الكتابة حرصاً عليها وميلاً إليها، لعلمهم أنهم حراس الإسلام، وخزان الملك العلام، فلما قضوا من بعض ما راموا أوطارهم انصرفوا قاصدين ديارهم، فلزموا المساجد، وعمروا المشاهد، لابسين ثوب الخضوع، مسالمين ومسلمين. فنلاحظ من حال هؤلاء أنهم بالرغم من عدم وجود طائرة ولا قطارات ولا سيارات، لكنهم ساروا مشياً وركوباً وعلى الرواحل الأسفار الشاسعة، والسنوات الطويلة، هجروا الأهل والأولاد والبلدان لأجل حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وكان بعضهم يخرج من بلده فلا يرجع إلا وقد كبر ولده وشب، ولاقوا مصاعب وربما وقع بعضهم في الأسر كما ذكرنا، وكانت الرحلات تأخذ من عمرهم السنين الطوال، هذا يدل على علو همتهم وصبرهم وتحملهم رضي الله تعالى عنهم.

فوائد الرحلة في طلب العلم

فوائد الرحلة في طلب العلم إذا أتينا للكلام عن فوائد الرحلة في طلب العلم فإن الرحلة في طلب العلم فيها فوائد كثيرة، فإن الإنسان إذا رحل لطلب العلم فإنه يلاقي أهل العلم وعندهم معارف مختلفة فيأخذ عنهم من معارفهم، ويتحلى من فضائلهم وأخلاقهم؛ لأن العلم يتعلم بأمور، منها: الملاقاة، والمحاكاة والتلقين المباشر، فإذا لقي الشيوخ وجلس إليهم فاحتك بهم يصل إليه من خيرهم ويرسخ في نفسه مما ينطبع فيها من أخلاقهم وشمائلهم؛ فيكون هذا الرسوخ قوياً. وكذلك فإن العلماء قد رحلوا وقرءوا واستفادوا، فالإنسان إذا لقيهم وجلس إليهم يأخذ عنهم فوائد ربما لا يحصلها في الكتب سنين طويلة، أي: ربما تأخذ فائدة عن عالم لو جلست تبحث الكتب سنين ربما لا تجدها، لكن هو قد سبقك إليها وقرأ الكتب قبلك وحازها، فهو يعطيك نتائج سنوات طويلة من البحث، ويهبك بالمجان فوائد وفرائد قد لا تقع عليها في الكتب إذا قرأت، فلذلك فيها اختصار للأوقات، وفيها الحصول على كنوز وفرائد. وكذلك فإن عندهم ضوابط وتحذيرات وفوائد علمية تجل عن الحصر، ولا شك أن العلم الذي يؤخذ بصعوبة لا يفلت بسهولة، وهذا مجرب، فالإنسان إذا سافر ورحل وصرف المال ليلقى شيخاً يسمع منه ويأخذ منه فائدة يصعب أن تنسى هذه الفائدة، لكن الشيء الذي يؤخذ في البيت وتحت المكيفات بدون تعب من الصحف قد ينسى بسرعة؛ لأنه لم يتعب في تحصيله، فالمعلومات التي يتعب الإنسان في تحصيلها لا تنسى بسهولة، وهذه فائدة مهمة من فوائد الرحلة في طلب العلم.

آداب الرحلة في طلب العلم وموانعه

آداب الرحلة في طلب العلم وموانعه نتكلم الآن عن بعض الآداب المهمة في طلب العلم:

الإخلاص لله تعالى

الإخلاص لله تعالى فمنها: الإخلاص لله سبحانه وتعالى، هذا رأس الأمر؛ لأن بعض الناس يقولون: ذهبنا للقاء فلان دخلنا البلد الفلاني جلسنا مع الشيخ الفلاني والشيخ الفلاني، وبعضهم يتباهى بهذا ويتفاخر ويرائي، وربما لا يكون عنده شيء، ربما لم يقل للشيخ: إلا كيف حالك فقط، وهو يرجع ويقول: دخلت البلدة الفلانية ولقيت الشيخ الفلاني، وزرت كذا بلد، ولا شك أن هذا ينافي الإخلاص (ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة) فالذي يخرج ابتغاء مرضاة الله فالله عز وجل يعطيه من الأجر العظيم، وتكون رحلته هذه سبب لدخوله الجنة.

من آداب الرحلة: استئذان الأبوين في السفر

من آداب الرحلة: استئذان الأبوين في السفر ومن آداب الرحلة في طلب العلم: استئذان الأبوين في السفر لطلب العلم، فأما إن كان العلم الذي يريد طلبه مفروضاً فإنه لا يتوقف طلبه على الإذن، لكن إن كان ليس بفرض فيجب استئذان الوالدين شرعاً، ولا يجوز له السفر إلا باستئذانهما، حتى إن بعض العلماء لما أصيب بالعمى قال: ربما كان هذا العمى بسبب دموع أمي التي ذرفتها بكاءً على فراقي لما رحلت فعوقبت بها، فإذاً لا بد من الاستئذان إذا كان لا يمكن تحصيل العلم الواجب إلا بالسفر، أما إذا كان عنده في بلده من يعلمه العلم الواجب فلا يجوز له أن يسافر إلا بإذن أبويه. وعن أحمد بن أصرم المزني قال: سمعت رجلاً يسأل الإمام أحمد: طلب العلم أحب إليك أو أرجع إلى أمي؟ وكان السائل غريباً في بلده، فقال: إذا كان العلم فيما لا بد منه أن تطلبه فلا بأس أن تذهب ولو لم توافق أمك. قال الخطيب البغدادي رحمه الله في كتابه الجامع: إذا منع الطالب أبواه عن تعلم العلم المفترض فيجب عليه مداراتهما والرفق بهما حتى تطيب له أنفسهما ويسهل من أمره ما يشق عليهم، ثم ذكر باباً بعنوان "ذكر شيء من وجوب طاعة الوالدين وبرهما وترك الرحلة مع كراهتهما ذلك وسخطهما"، وكان بعضهم يقيم عند أمه حتى إذا ماتت ذهب فرحل في طلب العلم. كذلك من الأشياء التي قد تمنع الإنسان عن الرحلة ويكون جلوسه شرعياً بسببها: الزوجة والأولاد، عن حميد بن الأسود قال: قال لي سفيان: تجيء حتى نخرج إلى يونس بن يزيد الأيلي. قال: قلت: أنت فارغ وأنا علي عيال. أي: أنت لست متزوجاً ولا عندك عيال، وأنا متزوج وعندي عيال لو سافرت وتركتهم ضاعوا، فلا بد من المقام عندهم؛ فليس بعيب إذاً أن يجلس إذا لم يكن هناك من يقوم بأمر أهله في حال غيابه. قد يمنع طالب العلم من الرحلة: المال؛ لأن الرحلة تحتاج إلى مصاريف تحتاج إلى تذاكر سفر ركوب تحتاج إلى نفقة طريق تحتاج إلى أجرة فندق تحتاج إلى قيمة كتب وأشياء، فلا بد من مادة، وقد لا يجد الطالب مادة للسفر فيكون هذا أحياناً من أسباب امتناعه، والحيلولة بينه وبين الطلب أو السفر. عن صالح بن أحمد بن حنبل قال: قال لي أبي: لو كان عندي خمسون درهماً كنت خرجت إلى الري إلى جرير بن عبد الحميد، فخرج بعض أصحابنا ولم يمكنني الخروج؛ لأنه لم يكن عندي شيء. أما إذا أراد أن يخرج للسفر فإنه يستخير الله عز وجل، ويخرج يوم الخميس، ويستحب التبكير كما هي السنة، وأذكار السفر والدعاء في السفر، ويودع الإخوان والمعارف، عن ابن عباس قال: [من السنة إذا أراد الرجل السفر أن يأتي إخوانه فيسلم عليهم، وإذا جاء من سفر يأتيه إخوانه فيسلمون عليه].

من آداب الرحلة: التماس الرفيق قبل الطريق

من آداب الرحلة: التماس الرفيق قبل الطريق كذلك من آداب السفر في طلب العلم: التماس الرفيق قبل الطريق يلتمس أهل التقى ويحرص عليهم، عن مبارك بن سعيد قال: أردت سفراً فقال لي الأعمش: سل ربك أن يرزقك أصحاباً صالحين؛ فإن مجاهداً حدثني قال: خرجت من واسط فسألت ربي أن يرزقني أصحاباً ولم أشترط في دعائي، فاستويت أنا وهم في السفينة، فإذا هم أصحاب طنابير. أي: معازف. والتماس الرفيق في الرحلة مهم جداً؛ لأنه يعين ويساعد، وقد خرج موسى ومعه فتاه يوشع، وقال بعض السلف: "التمسوا الرفيق قبل الطريق" وقيل: "ابتغ الرفيق قبل الطريق فإن عرض لك أمر نصرك، وإن احتجت إليه رفدك" -أي: أعانك- وينبغي للطالب أن يتخير لمرافقته من يشاكله ويوافقه على غرضه ومطلبه، لا يذهب شخص إلى الشرق والآخر إلى الغرب، أو رجل عنده غرض غير الغرض الذي خرج له هذا، لأنهما سيختلفان ويختصمان ويؤدي ذلك إلى الافتراق. ومراعاة الرفيق مهمة، عن الأصمعي قال: الصاحب والرفيق رقعة في قميص الرجل، فلينظر بمن يرقعه. وإذا خرج مع رفيقه أو رفقائه فإن عليه أن يحسن المعاشرة، ويكون جميل الموافقة في المرافقة في سفر الطلب، فقد ورد في الأثر: (خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه). وقال مجاهد: [صحبت ابن عمر وأنا أريد أن أخدمه فكان هو الذي يخدمني]. وعن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه قال: للسفر مروءة وللحضر مروءة: فأما مروءة السفر فبذل الزاد، وقلة الخلاف على أصحابك، وكثرة المزاح في غير سخط الله؛ لأن السفر فيه مشاق. وعن صدقة بن محمد أنه قال: "يقال: إنما سمي السفر سفراً؛ لأنه يسفر عن أخلاق الرجال". وقال عمر بن مناذر: كنت أمشي مع الخليل بن أحمد فانقطع شسعي فخلع نعليه، فقلت: ما تصنع؟ قال: أواسيك في الحفاء. ما دام أنه انقطع نعليك وأنا عندي نعلين أخلعهما وأمشي معك حافٍ، أواسيك في الحفاء.

من آداب الرحلة: اغتنام الفرصة في السماع من المشايخ

من آداب الرحلة: اغتنام الفرصة في السماع من المشايخ ينبغي للطالب إذا نزل بالبلد الذي رحل إليه أن يقدم لقاء من به من المشايخ، ويتعجل السماع خوف اعتراض الحوادث، وقد يمرض هو، قد يمرض الشيخ أو يموت وقد يزول الأمن؛ فلا بد من انتهاز الفرصة، والفرصة كما قيل: سريعة الفوت، بطيئة العودة". تفوت بسرعة ولا تعود إلا ببطء. ولا بد من استغلال الغربة في البلد إذا نزل بها، وليعلم أن شهوة السماع لا تنتهي، والعلم كالبحر، فينبغي أن يستغل الفرصة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (منهومان لا يشبعان: طالب علم وطالب مال). ومن العلماء الذين كان يضرب بهم المثل في انتهاز الفرصة في السفر في طلب العلم الحافظ أبو طاهر السِلَفِي رحمه الله تعالى، هذا الرجل رجل عجيب! مصنفاته عجيبة ورحلاته عجيبة! بل إن الله سبحانه وتعالى أمد له في العمر فحدث أجيال وأخذ عنه العلم أجيال. قال عبد القادر الرهاوي: بلغني أنه في مدة مقامه بـ الإسكندرية - أبو طاهر السِلَفِي - ما خرج إلى بستان ولا فرجة غير مرة واحدة، بل كان عامة دهره ملازماً مدرسته، وما كنا ندخل عليه إلا نراه مطالعاً في شيء، وكان مغرماً بجمع الكتب، وما حصل له من المال يخرجه في ثمن الكتب، وكان عنده خزائن كتب فعفنت وتلصقت لنداوة البلد؛ فكانوا يخلصونها بالفأس من كثرة الكتب! وهذا يقول: لي ستون سنة ما رأيت منارة الإسكندرية -وكانت من عجائب الدنيا السبع- إلا من هذه الطاقة، أي: طاقة حجرته في المدرسة، فكان لا يذهب يتفرج على المناظر والآثار وإنما نزل في البلد وجلس يلازم في الطلب والتعلم، ولم ير منارة الإسكندرية إلا من النافذة. وينبغي عليه أن يدون الفوائد، ويكتب الشوارد، فإن بعض الأشياء التي يقولها الشيخ لا توجد بسهولة في الكتب ولذلك ينبغي أن تكتب، فإذا كان الشيخ يشرح متناً يكتب على حاشية المتن في كتاب يصطحبه، أو كانت فوائد متناثرة يكتبها في دفتر الفوائد، وكان بعض العلماء يصنفون في فوائد رحلاتهم كما صنف صديق حسن خان رحمه الله رحلة الصديق إلى البيت العتيق، وصنف الشنقيطي رحمه الله كتاباً في رحلته إلى مكة وما جمع فيها من فوائد، وهذه الدفاتر -دفاتر الفوائد- لا شك أنها تكون مرجعاً للشخص ذات قيمة لا توصف. فإذا بلغ الطالب الغرض وحاز في الرحلة ما قصد له وحقق الهدف، فينبغي أن يرجع إلى وطنه ويعجل الرجوع، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (السفر قطعة من العذاب يمنع أحدكم طعامه وشرابه ونومه، فإذا قضى أحدكم نهمته من وجهه فليعجل إلى أهله) لأن الأهل أيضاً لهم حق، ولا يجوز للإنسان أن يترك زوجته أكثر من أربعة أشهر بحال كما ذكر بعض أهل العلم، وبعضهم قال: ستة أشهر وهذا يختلف باختلاف الأحوال، وبعض الزوجات في بعض البلدان لا تستطيع أن تجلس لوحدها ولو أسبوعاً؛ ولذلك يجب أن يكون الإنسان حكيماً.

الرحلة في طلب العلم في عصرنا الحاضر

الرحلة في طلب العلم في عصرنا الحاضر ننتقل الآن إلى الرحلة في طلب العلم في عصرنا وملاحظات على هذا الأمر، وهذا أمر مهم بل ربما يكون من الأشياء الحساسة في واقعنا نحن الآن. قلنا سابقاً: إن جمع الحديث قد انقطع، وإن أهم سبب من أسباب السفر هو جمع الحديث وقد انتهى، لكن لا زال هناك في عصرنا فوائد في السفر لطلب العلم كما قال شيخنا عبد العزيز بن عبد الله بن باز نفع الله به، قال: إن السفر مطلوب، وما زالت فوائده قائمة في لقي علماء أهل السنة الذين صاروا قليلين في البلدان في هذا الزمان. وقال: لقد صار في الأسفار خطورة؛ لذلك ينبغي عليه إذا أراد أن يسافر أن لا يقع في أشياء تمنعه من مراده. وكذلك فإن فيها ملاقاة الإخوان وطلبة العلم والمباحثة والمناظرة، فصحيح أن جمع الحديث قد انقطع لكن لا زالت الرحلة فيها فوائد قلة العلماء في هذا الزمن جعلت -أيضاً- الرحلات في طلب العلم جدواها أقل مع الأسف، وهذا أمر محزن.

بعض معوقات الرحلة في هذا الزمن

بعض معوقات الرحلة في هذا الزمن من الأمور والعوائق الموجودة في هذا الزمان عدم التفرغ للرحلة، كان أحدهم ربما يتاجر سنة يكسب قوت سنة تالية فيذهب طيلة السنة التالية مسافراً، تنتهي الأموال فيرجع ينزل السوق يبيع ويشتري ويتكسب قوت سنة ويسافر وهكذا، لكن الآن هل يستطيع أحد أن يفعل هذا بسهولة؟ A لا. هناك عوائق كثيرة تحول دونك ودون الكسب، لم تعد التجارة سهلة كالسابق، وكذا الأوضاع لم تعد كما كانت مثل الأيام الماضية، كذلك الآن أنت موظف مثلاً لو جئت تأخذ إجازة كم يعطوك إجازة لتسافر مثلاً؟ تستطيع تسافر ستة أشهر أو سنة أو سنين كما فعل العلماء القدامى؟ هذا صعب جداً، كذلك لو كنت طالباً في مدرسة أو جامعة تستطيع أن تترك المدرسة وتمشي أو تترك الجامعة وتمشي؟ وهذا يفوت عليك أشياء وربما حرمت من الدراسة وفصلت من الجامعة ونحو ذلك. بالإضافة إلى ذلك: الثغرات الموجودة الآن كثيرة، والمجتمع يحتاج إلى طاقات كثيرة في الدعوة إلى الله وتعليم الناس، وإنكار المنكر، والتربية، وبر الوالدين، وصلة الرحم، الآن أصبحت العوائل من ضيق الأمور المادية يحتاج البيت أن يكون فيه أكثر من واحد يعمل، في كثير من البلدان يعمل الزوج وتعمل الزوجة، وربما يعمل الزوج دواماً إضافياً، ولابد أن يكون في البيت أحياناً أكثر من رجلين حتى يستطاع الوفاء بحاجات أهل البيت. ثم إن الأمور قد تشعبت في هذا الزمان، حتى الحاجات المآكل والمشارب والملابس والبيوت، مطالب الحياة الدنيا الآن في هذا الزمان تعقدت وزادت وتشابكت الأمور وليست كما كانت في الماضي في سهولة عيشهم وفي يسر أمورهم، كانت الأمور ميسرة كثيراً، حتى الآن السفر هل هو مثلما كان؟ كان سابقاً يركب ويمشي ولا يوقفه أحد على هذه الراحلة أو مشياً اللهم إلا قاطع طريق، أما الآن فيحتاج إلى تأشيرات وجواز سفر، ويحتاج إلى تصديق وأختام وأشياء، وفي الحدود وفي المطارات، فإذاً تعقيد الأمور في هذا الزمان لا شك أنه من العوائق في قضية الرحلة في طلب العلم، وهذا أمر ينبغي أن يحسب له حسابه. صحيح أنه عندما نسمع سيرة العلماء والسلف الماضين نتحمس، ونقول: نريد أن نفعل مثلهم، لكن ينبغي أن يكون عندنا حكمة وتعقل في وزن الأمور. لذلك نقول الآن مراعاة للظروف الموجودة أولاً: يا أخي المسلم، ينبغي عليك أن تحصل العلم الذي في بلدك أولاً هذا شيء مهم جداً وقد يكفيك عناءً كثيراً، قال الخطيب البغدادي رحمه الله في كتابه الجامع: المقصود في الرحلة في الحديث أمران: أحدهما: تحصيل علوم الإسناد وقدم السماع، والثاني: لقاء الحفاظ والمذاكرة لهم والاستفادة منهم، فإذا كان الأمران موجودين في بلد الطالب ومعدومين في غيره فلا فائدة في الرحلة. وقال بعض أهل العلم: ينبغي للرجل أن يقتصر على علم بلده وعلم عالمه، فلقد رأيتني أقتصر على علم سعيد بن عبد العزيز فما أفتقر معه إلى أحد. فالأصل إذاً للطالب أن يأخذ العلم عن أهل بلده فلا يذهب إلى البعيد وعنده قريب؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما. وكذلك أهل العلم -حتى المعاصرين مثل الشيخ الشنقيطي والشيخ سعد بن حمد بن عتيق رحمهما الله وغيرهم من أهل العلم- متى رحلوا؟ بعد أن أنهوا طلب العلم، حصلوا العلم عن العلماء الذين في بلدانهم. الرحلة إذاً ليست مطلوبة لذاتها وليست لشهوة؛ فإن السفر قطعة من عذاب، وليس من مصلحة أن يترك أسرته وأولاده ويمشي إلا لشيء أعظم.

الاقتصار في الطلب على المشهورين من العلماء

الاقتصار في الطلب على المشهورين من العلماء أريد أن أنبه إلى قضية مهمة تعرض لبعض الشباب أو الذين يريدون طلب العلم ألا وهي: أن بعضهم يريد الطلب على المشهورين من العلماء، يقول: أريد أن أسافر إلى البلد الفلاني أو إلى الإقليم الفلاني وآخذ على العالم الفلاني، وقد يكون عنده في بلده من طلبة العلم من يسد حاجته، لكن يريد طلباً ربما يكون مقصده حسناً في الذهاب إلى الأعلم وهذا شيء طيب جيد ولا إشكال فيه، لكن أحياناً يكون العالم المشهور ما عنده حلق علم للمبتدئين وإنما حلق العلم التي عنده للمتوسطين أو المتقدمين، وكثير من حلق علم العلماء المشهورين لا تصلح للشباب المبتدئين في الطلب؛ فلذلك لا يركب رأسه ويقول: أريد أن أذهب إلى الشيخ الفلاني وأستأجر هناك وأجلس وأتغرب وأترك البلد، ثم يذهب ويجلس ولا يفهم، ويريد أن يصعد السلم بالمقلوب وهذا خطأ؛ ولذلك إذا استطاع أن يجد في بلده من طلبة العلم من يكون عنده دروساً للمبتدئين يلزم هذه الدروس؛ لأن هذا هو الوضع الطبيعي في التسلسل في التعلم، ويترقى ويتدرج ويحصل ويحصل حتى إذا تمكن وقوي عوده ذهب للقاء الكبار وطاف وسافر ورحل وهكذا. ولا يستبعد أن يستفيد المبتدئ أبداً من طالب علم أكثر مما يستفيد من عالم من جهة السهولة؛ على أن بعض طلبة العلم ربما يشرحون شرحاً يجمعون فيه من الأقوال والترجيحات والأشياء ما لا يفعله بعض العلماء في تشعبهم، ولذلك إذا وجدت حلق علم وجلسات ذكر للمبتدئين في طلب العلم في بلدهم فهي البداية الطبيعية.

التدرج في الطلب

التدرج في الطلب كذلك فإن بعض العلماء كان لهم حلق علم للمبتدئين، مثل العلامة الشيخ/ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله، والشيخ/ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله، كان له حلق للمبتدئين والمتوسطين والمتقدمين، وكان لو أتى شخص من المبتدئين وجلس عند المتقدمين طرده. ولذلك فإنه لا بد من التدرج، ثم لا بد من تحقيق فكرة مهمة خصوصاً أنها جربت فنفعت وهي: قضية استدعاء العلماء وطلبة العلم الكبار إلى البلد واستضافتهم، لا بد أن يسعى الشباب في هذا ويحمسوا الجهات التي تستطيع أن تستدعي أهل العلم وتطلبهم فيقيم -مثلاً- في البلد شهراً أو شهرين أو ثلاثة أو الصيف أو غيره مثلاً، فيكون مجيئه للبلد مسهلاً على الطلاب الطلب؛ لأنه قد أتى إليهم ووفد عليهم، فمن العيب أن يترك وقد جاء إليهم وذهبوا إلى غيره بغير سبب وجيه. وقد يكون أحياناً إتيان العالم إلى بلد للتدريس أسهل من ذهاب الطلاب إلى بلده؛ ولذلك فإن السعي لاستجلاب العلماء واستضافتهم لإعطاء دورات لا شك أن هذا من الأفكار المهمة التي ينبغي تنفيذها لحل هذه المشكلة وهي الصعوبة في الرحلة الآن وضيق النطاق. وكذلك فإن في بعض البلدان قد عملوا مدارس خيرية علمية، فيؤتى بشيخ يعلم الفرائض، وشيخ يعلم اللغة العربية، قد يكون أستاذاً في النحو، قد لا يكون شيخاً مشهوراً، وآخر يدرس -مثلاً- الأحاديث بالتدريج: الأربعين النووية، فإذا أخذ شهادة فيها انتقل مثلاً إلى عمدة الأحكام، ثم ينتقل إلى بلوغ المرام وهكذا، وكذلك في التجويد يأخذ دورة مبتدئة ثم متوسطة ثم متقدمة، ولا بأس أن تدفع الأجور لتفريغ بعضهم أو لبعض طلبة العلم أو أهل العلم لكي يدرسوا في هذه المدارس، وفكرة المدارس الخيرية من أنجح الأفكار، وقد آتت ثماراً عظيمة.

السفر لطلب العلم في جامعة شرعية

السفر لطلب العلم في جامعة شرعية كذلك من الأمور المهمة -أيضاً-: السفر للدراسة في الجامعات الشرعية، يتساءل بعض الشباب: هل الذهاب للدراسة في جامعة شرعية هو من الرحلة في طلب العلم؟ A لا شك في ذلك، أن السفر للدراسة في جامعة شرعية هو من الرحلة في طلب العلم، لكننا ننبه على أشياء: أولاً: ينبغي على الإنسان أن يراعي أهله، فلا يذهب بدون رعايتهم، أو موافقة الأبوين. ثانياً: إذا كان على ثغرة لا يسدها إلا هو فلا يذهب ليستزيد وعنده ثغرة لابد من سدها. ثالثاً: هناك أشياء مهمة في بناء النفس ينبغي أن تحصل هناك قضايا تتعلق بالإخلاص والتربية على الأدب، فقبل أن يذهب لابد أن يكون عنده قواعد، هذا مهم؛ لأنه قد يذهب وينحرف في القصد، أو يذهب ويموت، وأقصد بيموت، أي: يبرد وتفتر همته. رابعاً: لا بد من الاستشارة استشارة من حوله، لأن هذه القضية تختلف باختلاف أحوال الشباب والناس، واختلاف الواقع الذي حوله، ولذلك ينبغي أن يستشير أقرب الناس إليه وأعرفهم بواقعه من الذين عندهم علم وتقى، وعندهم عقل راجح، يقول: وضع أهلي كذا، ووضعي في الدراسة كذا، ووضعنا الاجتماعي كذا، ووضعنا المادي كذا، وأنا عملي كذا، وما أقوم به من المعروف كذا، هل يناسب أن أسافر الآن لأدرس في جامعة أم أبقى في البلد؟ فالاستشارة من الأمور المهمة جداً في هذا المجال. كذلك فإن بعض الشباب الذين يذهبون للدراسة في بعض الجامعات الشرعية يكون قصده في البداية طلب العلم، فإذا ذهب إلى تلك الجامعة وسجل فيها وبدأ يدرس المقررات والكتب والمناهج ويمتحن فيها تنقلب النية عنده من طلب علم إلى طلب شهادة، وينسى الحماس الذي خرج به من بلده، وينسى النية التي عقد عليها العزم من بلده، وتصبح القضية الآن اجتياز امتحانات، وكثير من هؤلاء الشباب بالتجربة التي رأيناها تبرد هممهم، ويصبحون أصحاب أغراض دنيوية من شهادة ونحوها، ويأتون إلى الفصول الدراسية وليس عندهم وعي ولا قلب للسماع، ولا مناقشة، ولا اقتناع، وكذلك فإنهم يسعون إلى إسقاط المباحث والمقررات، فيقولون: يا أستاذ خفف علينا، احذف لنا هذا الفصل، احذف لنا هذا واحذف لنا هذا، ويتملقون للمحاضرين والأساتذة، وقد ينجحون عند بعضهم فيسقطون عنهم فصولاً، وهذا يضرهم ولكنهم يفرحون بذلك، وفي النتيجة النهائية فإنهم لا يحققون الهدف من ذهابهم للرحلة لطلب العلم. وبعضهم قد يكمل الدراسة فيحصل على الشهادة العالية والعالمية والماجستير والدكتوراه، وبعد ذلك ينتهي طلبه، وبعدها يتعين مدرساً وينتهي طلبه، ولا يواصل البحث، فنقول: أنت رحلت من أجل الهدف فأين تحقيقه واستمراره؟

السفر إلى بلاد الكفار لطلب العلم

السفر إلى بلاد الكفار لطلب العلم كذلك فإن من المصائب العظيمة في هذا الجانب: ابتعاث الناس للدراسة في الخارج في بلاد الكفار، ويقولون: هذا طلب علم، ورحلة في طلب العلم، وما هو إلا طلب الفسق والفجور وانحلال الدين والأخلاق، والسقوط في براثن أهل الكفر، والعودة بعقول ممسوخة، وقلوب خاوية، فيرجعون شخصيات أخرى، وهذا ليس بطلب علم أبداً، ولذلك فإن من الأمور المضحكة جداً أن يقال: فلان أخذ العلم الشرعي من جامعة أو شهادته من جامعة السوربون أو من جامعة أوكسفورد، بعيد وبعضهم يقول: هناك عند المستشرقين أبحاث وأشياء، فيرجع بشبهات وأخطاء، وكثير منهم الآن ابتليت بهم الجامعات في بلاد العالم الإسلامي، بل يرجعون للتدريس في الشريعة بعقول مملوءة شبهات في التاريخ الإسلامي ومطاعن في السنة النبوية، بسبب دراستهم على أيدي الكفرة والمستشرقين، يقولون: ذهبنا لطلب العلم، طلب العلم في بلاد الكفار!! وكلامنا كله في طلب العلم الشرعي، أما الذهاب لطلب الأشياء الأخرى فإنه لا يجوز، والأصل عدم جواز الذهاب إلى بلاد الكفار إلا بشروط: أولاً: أن يكون العلم مما يحتاج إليه المسلمون ولا يوجد في بلاد المسلمين. ثانياً: أن يكون عنده علم يدفع به الشبهات، وعقل يدفع به الشهوات، من أجل أن يجوز له السفر. ثالثاً: لا بد أن يراعي الإنسان الغربة، فبعض الشباب قد لا يتحمل الغربة، وربما ينشغل بأهله وأولاده، كان في البلد عنده أهل زوجته، يضع أهله وأولاده عندهم ويذهب هو يحضر حلقة أو يدرس أو يقرأ فعندما يذهب إلى بلد يتغرب ويقول: لأطلب العلم، ليس هناك أهلها ولا أقرباؤها ولا جيران تعرفهم مثل السابق، ولذلك ينشغل بهم، لأنهم يشغلون رأسه لا بد نذهب ولا بد نخرج ولا بد نفعل، كل شيء هو لا بد أن يفعله، بخلاف ما لو كان في بلده كان ربما ساعده من أقربائه وأقربائها في أمور كثيرة، لذلك لا بد من دراسة الأمور بشكل جدي. وعلى أية حال أعود وأقول: أيها الإخوة إن بعض الناس يندفعون بحماس في قضية السفر لطلب العلم دون تقديرٍ للثغرة التي يتركها، أو الجو الذي سيذهب إليه، وقد يترك مسئوليات شرعية، وفروض كفاية هو قائم بها، لا يجوز له تركها، وليس هناك من يسدها وراءه، وإنما يتركها ويذهب، ولذلك نعود ونقول: لا بد من استشارة أهل الخبرة وأولي الألباب، والناس الذين يحبون العلم، لا نقول: استشر أناساً يكرهون العلم، لا ينصحوك والله! وإنما استشر أناساً يحبون العلم الشرعي العلم الشرعي هو منهجهم. كذلك أحياناً قد يكون الطالب في بلد يُستغرب أن يترك البلد، قد يكون في بلد فيه جامعات شرعية علماء ومشايخ في كل الفروع والفنون: في العقيدة والفقه والحديث والأصول والفرائض واللغة، فهذا يرحل لأي شيء؟ نعم قد يوجد بعض طلبة العلم المتقدمين جداً، ربما يوجد شيخ في شنقيط لم يلقه بعد، فهو يريد أن يسافر إليه ربما يجد عنده شيئاً، لكن بعد أن حصَّل العلم القريب.

السفر القصير في طلب العلم

السفر القصير في طلب العلم هناك فكرة تطرح في هذا، وهي قضية السفر القصير، الأسفار القصيرة، صحيح ربما لا تخدمنا الظروف في قضية الأسفار الطويلة بالسنين والشهور، لكن يمكن أن الشخص يسافر لمدة أسبوع مثلاً وهذا متيسر، ولذلك فإن عندي رأياً أقوله مع شيء من النظر والتأمل إن شاء الله: أقول: طالب العلم إذا كان في بلده يدرس وهو جاد يقرأ ويطالع ويستمع لشروح المشايخ من الأشرطة، ويحضر الدروس الموجودة مثلاً في بلده، يدون المشكلات التي اعترضته في طلب العلم، ويدون الإشكالات التي واجهته، ويدون ما استغلق عليه مما لم يستطع حله في بلده، أو الاتصال مثلاً هاتفياً لإزالته، يكتب هذه الأشياء وهذه الأسئلة والإشكالات، ثم يسافر مثلاً أسبوعاً بعد أن يرتب أمره ويتصل مثلاً بمشايخ، مثلاً: افترض أنه هنا في المنطقة الشرقية فهو يتصل مثلاً ببعض أهل العلم في الرياض، يقول: أستأذنك يا شيخ أن أزورك، حدد لي وقتاً مثلاً ولو ربع ساعة، أو نصف ساعة، أو عشر دقائق، فيسأله عن مشكلةٍ الشيخ متخصص فيها فيزيلها له، فيكون حصّل ما يريده، ويتصل بشيخ آخر فيقول: أتأذن لي يا شيخ أن أقرأ عليك مثلاً فصلاً في الكتاب الفلاني، أو باباً في الكتاب الفلاني، ينهيه في ثلاثة أيام أو في أسبوع، وفي سفرة أخرى ينهي فصلاً آخر، وفي سفرة ثالثة ينهي فصلاً آخر، وهكذا قد ينهي أشياء. وهذه الطريقة أقول: إنها إن شاء الله طريقة جيدة، وتناسب الواقع الموجود والتعقيدات الموجودة عندنا، وهذه الأسفار القصيرة هي من طلب العلم، وإن شاء الله يسهل الله لك بها طريقاً إلى الجنة، وتشعر بلذة فيها، وهذا يمكن أن تستثمر فيه أوقاتاً، ويحصل الإنسان فيه أجراً كثيراً وعلماً، خذ دفترك معك وقيد المسائل التي اعترضتك واذهب واجلس إليهم واسألهم، لأن الإنسان في بلده قد يكون له ارتباطات وأعمال وأهل وأولاد ووظيفة، والسفر الطويل ليس بمتيسر له، فأقول: هذه الأسفار القصيرة جيدة للغاية ونافعة إن شاء الله لمن جربها. وبعض الشباب نجدهم الآن والحمد لله يسافر إلى الرياض أو إلى القصيم ويرجع في نفس اليوم لمشكلة عرضت له، يرجع لسؤال في مسألة واحدة، فيجد الجواب ويرجع، وهذا جيد للغاية بل إنه من سنن السلف بل هو مشي على منوالهم. هذا ما تيسر جمعه وذكره في هذا الموضوع، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم الإخلاص والاستقامة والسير على نهج السلف رحمهم الله تعالى.

الأسئلة

الأسئلة كذلك من الأمور المهمة -أيضاً-: السفر للدراسة في الجامعات الشرعية، يتساءل بعض الشباب: هل الذهاب للدراسة في جامعة شرعية هو من الرحلة في طلب العلم؟ A لا شك في ذلك، أن السفر للدراسة في جامعة شرعية هو من الرحلة في طلب العلم، لكننا ننبه على أشياء: أولاً: ينبغي على الإنسان أن يراعي أهله، فلا يذهب بدون رعايتهم، أو موافقة الأبوين. ثانياً: إذا كان على ثغرة لا يسدها إلا هو فلا يذهب ليستزيد وعنده ثغرة لابد من سدها. ثالثاً: هناك أشياء مهمة في بناء النفس ينبغي أن تحصل هناك قضايا تتعلق بالإخلاص والتربية على الأدب، فقبل أن يذهب لابد أن يكون عنده قواعد، هذا مهم؛ لأنه قد يذهب وينحرف في القصد، أو يذهب ويموت، وأقصد بيموت، أي: يبرد وتفتر همته. رابعاً: لا بد من الاستشارة استشارة من حوله، لأن هذه القضية تختلف باختلاف أحوال الشباب والناس، واختلاف الواقع الذي حوله، ولذلك ينبغي أن يستشير أقرب الناس إليه وأعرفهم بواقعه من الذين عندهم علم وتقى، وعندهم عقل راجح، يقول: وضع أهلي كذا، ووضعي في الدراسة كذا، ووضعنا الاجتماعي كذا، ووضعنا المادي كذا، وأنا عملي كذا، وما أقوم به من المعروف كذا، هل يناسب أن أسافر الآن لأدرس في جامعة أم أبقى في البلد؟ فالاستشارة من الأمور المهمة جداً في هذا المجال. كذلك فإن بعض الشباب الذين يذهبون للدراسة في بعض الجامعات الشرعية يكون قصده في البداية طلب العلم، فإذا ذهب إلى تلك الجامعة وسجل فيها وبدأ يدرس المقررات والكتب والمناهج ويمتحن فيها تنقلب النية عنده من طلب علم إلى طلب شهادة، وينسى الحماس الذي خرج به من بلده، وينسى النية التي عقد عليها العزم من بلده، وتصبح القضية الآن اجتياز امتحانات، وكثير من هؤلاء الشباب بالتجربة التي رأيناها تبرد هممهم، ويصبحون أصحاب أغراض دنيوية من شهادة ونحوها، ويأتون إلى الفصول الدراسية وليس عندهم وعي ولا قلب للسماع، ولا مناقشة، ولا اقتناع، وكذلك فإنهم يسعون إلى إسقاط المباحث والمقررات، فيقولون: يا أستاذ خفف علينا، احذف لنا هذا الفصل، احذف لنا هذا واحذف لنا هذا، ويتملقون للمحاضرين والأساتذة، وقد ينجحون عند بعضهم فيسقطون عنهم فصولاً، وهذا يضرهم ولكنهم يفرحون بذلك، وفي النتيجة النهائية فإنهم لا يحققون الهدف من ذهابهم للرحلة لطلب العلم. وبعضهم قد يكمل الدراسة فيحصل على الشهادة العالية والعالمية والماجستير والدكتوراه، وبعد ذلك ينتهي طلبه، وبعدها يتعين مدرساً وينتهي طلبه، ولا يواصل البحث، فنقول: أنت رحلت من أجل الهدف فأين تحقيقه واستمراره؟

كيفية تحصيل العلم الشرعي

كيفية تحصيل العلم الشرعي Q هل تعتقد أن قراءة كتب الفقه والحديث وحضور المجالس والدروس الفقهية لبعض المشايخ يكفي في تحصيل العلم؟ A هذا جزء من تحصيل العلم، لكن أيها الإخوة: القراءة الجادة والاهتمام الشخصي هذا هو الذي عليه المعول أكثر، وما يشكل عليك قيد واسأل، مع الطلب في الحلق، ولا بد من القراءة والمراجعة، بل العلماء قالوا في الرحلة في طلب العلم: إذا رجع إلى بلده جمع محفوظاته ومكتوباته وراجعها، لأن بعض الناس قد يرحلون يجمعون فوائد لكن يجعلونها في دفاتر على الرفوف، لا يراجعونها بين فترة وأخرى، فلذلك تُنسى، فما فائدة الرحلة إذا لم يكن هناك مراجعة بعد الرحلة لما حصله في الرحلة؟ والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم تسليماً كثيراً.

طالب العلم والحفظ

طالب العلم والحفظ وضح الشيخ في هذه المادة أهمية الحفظ في طلب العلم، وماهيته وميزاته، وأنه نعمة من الله قد تكون فطرة وقد تكتسب، ثم تطرق الشيخ إلى الأمور المساعدة على الحفظ واستفاض فيها مبيناً أهمية التكرار وإخلاص النية، والعمل بالمحفوظ، والمذاكرة مع الأصحاب، والتعليم، والمداومة على الحفظ والصلاح وفعل الخيرات وترك المحرمات، والتقلل من الدنيا، والحجامة، والأدعية والأذكار ورفع الصوت بالقراءة والتمهل بها إلى غير ذلك من الأمور المساعدة على الحفظ. ثم بين وظائف طالب العلم، وما هي الأوقات والأماكن المناسبة للحفظ، مذيلاً إياها بذكر جملة من الأبحاث المتعلقة بالذاكرة، وما هي الأوليات في الحفظ، ثم ختمها بجملة من أخبار الحفاظ.

الحفظ نعمة وعبادة

الحفظ نعمة وعبادة الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأصلي وأسلم على عبده ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه والتابعين. الحمد لله الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، والحمد لله الذي هدانا لهذا الدين، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، والحمد لله الذي جعل كتابه محفوظاً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]. فحفظ الله كتابه بأمور كثيرة: منها صدور أهل العلم: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49]. وحفظه بحفظ شرحه وبيانه في سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم لما ألهم أوائل هذه الأمة حفظ أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي تبين كلام الله. وقد أنزل الله هذا الكتاب على أمة أمية، وهم العرب الذين ما كانوا يعرفون القراءة والكتابة إلا في النادر، وكانت معيشتهم في جو من الصفاء، جعلت قرائحهم متقدة، وأذهانهم صافية، ولذلك كان الحفظ عليهم سهلاً، حتى إنهم كانوا يسمعون الخطبة والقصيدة الطويلة فيحفظون ذلك، وما روي أنهم استعادوا الخطيب والشاعر شيئاً من كلامهما. فصفاء أذهانهم وصِحّت أجسادهم، ونقاوة البيئة وقلة الكتابة فيهم كانت من العوامل التي ساعدت على شدة الحفظ، فأنزل الله الكتاب على تلك الأمة الأمية التي لا تكتب ولا تحسب، وهدى الله من العرب حملة كتابه ووراث نبيه، الذين تلقوا عن النبي الكريم العلم فحفظوه، ثم أدوا ذلك كله إلينا بأمانة، فرضي الله تعالى عنهم وعمن نقل عنهم، ورضي الله عن الحفاظ الذين دونوا أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام حتى وصلت إلينا كاملة متقنة. والحفظ من النِعم التي أنعم الله بها على الإنسان، ولو لم يكن الإنسان يحفظ لكان في حياته همٌ وصعوبة بالغة، ولكن الله أنعم علينا بهذه الذاكرة التي نحفظ بها. إن موقع الحفظ في الدين موقع عظيم، ويكفي شرفاً الحافظ لكتاب الله أن الله جعله من أسباب حفظ كتابه، وأن الحافظ من أهل العلم، وينبغي أن يضيف إلى علمه بحفظ الكتاب علماً بفقه الكتاب. وقد كان حفظ الكتاب وحفظ الحديث من العبادات العظيمة، والنبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه رجل يُريد الزواج ولم يكن يملك ولا خاتماً من حديد، لم يأمره عليه الصلاة والسلام بالاستدانة، وإنما قال له ميسراً: (ماذا معك من القرآن؟) لما طالب بالمهر وليس عند الرجل شيء، قال له عليه الصلاة والسلام في نهاية الأمر: (ماذا معك من القرآن؟ قال: معي سورة كذا وسورة كذا وسورة كذا، -عدها- قال: أتقرأهن عن ظهر قلب؟ -هذا الحفظ- قال: نعم، قال: اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن) فكان حفظه سبباً في تيسير زواجه. والكلام في فوائد الحفظ كثير، ولكن قلنا: إن الحافظ له أجر عظيم، ويكفي في ميزاته أن جسد الحافظ لا تمسه النار يوم القيامة، فإن القرآن إذا جُمع في إهاب -وهو جلد الحافظ، نفس الحافظ التي بين جنبيه- لا تمسه النار، طالما كان قائماً بأمر الله.

ماهية الحفظ وميزاته

ماهية الحفظ وميزاته وحفظ بعض كتاب الله أيضاً له ميزات، فنحن نعلم حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عُصم من فتنة الدجال)، وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يحفظون هذا الكتاب، كما كان الله عز وجل قد يسر لنبيه حفظه: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة:17 - 18]. وكان جبريل يراجع حفظ النبي عليه الصلاة والسلام كل سنة مرة، وفي السنة التي تُوفي فيها صلى الله عليه وسلم راجع معه الحفظ مرتين. وأما سنة النبي عليه الصلاة والسلام، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد ندب لحفظها، ومن أمثلة ذلك ما أخرجه الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه في كتاب العلم: باب تحريض النبي صلى الله عليه وسلم وفد عبد القيس على أن يحفظوا الإيمان والعلم ويخبروا من وراءهم. ولذلك جاء في الحديث أنه علمهم شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وأن يُعطوا من المغنم الخُمس، ونهاهم عن أربع: عن الحنتم، والدباء، والنقير، والمزفت، وهي بعض الأواني التي إذا وضع فيها الشراب صار مسكراً، وربما قال: الموقير، وقال -وهذا هو الشاهد-: (احفظوهن وأخبروا بهن من وراءكم). أما الحفظ فقد سأل مهنا رحمه الله أحمد: ما الحفظ؟ قال: الإتقان هو الحفظ، وقال عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله: الحفظ الإتقان. وسنبين إن شاء الله في هذا الدرس أموراً تتعلق بالحفظ نظراً لأهميته في طلب العلم، وطالب علم بغير حفظ لا يساوي شيئاً، ولعلنا نتكلم بإذن الله عن أهمية الحفظ بالنسبة للكتابة، وكذلك بعض الطرق والوسائل في الحفظ، والأمور المعينة على الحفظ، وأوقات الحفظ، وأماكن الحفظ، وذكر بعض سير الحفاظ فيما يتعلق بالحفظ، ونورد بعض الفوائد من النظريات الحديثة المتعلقة بالحفظ والذاكرة والنسيان.

أهمية الحفظ في طلب العلم

أهمية الحفظ في طلب العلم ينبغي لطالب العلم أن يكون جُل همته مصروفاً إلى الحفظ والإعادة، فلو صح صرف الزمان إلى ذلك كان الأولى، أهم شيء لطالب العلم أن يحفظ، غير أن البدن مطية، وإجهاد السير مظنة الانقطاع، وكان الخليل بن أحمد رحمه الله يقول مبيناً أهمية الحفظ لطالب العلم: الاحتفاظ بما في صدرك أولى من حفظ ما في كتابك، واجعل كتابك رأس مالك، وما في صدرك للنفقة. وقال عبد الرزاق رحمه الله: كل علم لا يدخل مع صاحبه الحمام فلا تعده علماً. لأن الصفحات والكتب التي فيها ذكر الله لا يُمكن أن تدخل الحمام، لكن الحفظ الذي يكون في صدر الحافظ يذهب معه في كل مكان. وقال هبة الله البغدادي: علمي معي أينما همت يتبعني بطني وعاء له لا بطن صندوق إن كنت في البيت كان العلم فيه معي أو كنت في السوق كان العلم في السوق وقال عبيد الله الصيرفي: ليس بعلم ما حوى القمطر ما العلم إلا ما حواه الصدر وقال ابن شديد الأزدي: أأشهد بالجهل في مجلس وعلمي في البيت مستودع إذا لم تكن حافظاً واعياً فجمعك للكتب لا ينفع فبعض الناس يكثرون من شراء الكتب، وترى كثيراً من الشباب إذا صارت الفرصة في معارض الكتاب اشتروا الكتب، وهذا أمر مهم لا يمكن التزهيد فيه؛ أن يحوي المراجع عنده، ويشتري من الأمهات والكتب المهمة والرسائل النافعة ما يعينه على الطلب والبحث، ولكن الأهم من هذا كله هو الحفظ. وبعض الأغبياء يهونون من أمر الحفظ، فإذا رأوا شخصاً حفظ صحيح البخاري مثلاً، قالوا: وماذا استفادت الأمة لما زادت نسخه من صحيح البخاري؟ فهؤلاء ما علموا أهمية الحفظ ولا علموا فائدته. الحفظ: هو الذي يجعل العلم في صدرك فتستفيد منه، فإذا احتجت إليه كان معك؛ في تعليم، وفي دعوة، وفي نصيحة وفي فتوى، حتى في تحضير الدروس، وعدد من العلماء الكبار لا يحضرون الدروس؛ لأن العلم في صدورهم محفوظ، ومن العلماء المعاصرين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله، لم يكن يحضر دروسه مطلقاً؛ لأن العلم في صدره مستودع، ومتى احتاجه وجده، فلو كان في سفر ليس معه مكتبته ولا مراجع فعنده العلم في صدره.

الأمور المساعدة على الحفظ

الأمور المساعدة على الحفظ والحفظ كما لا يخفى أمر صعب، قال ابن الجوزي رحمه الله: ما رأيت أصعب على النفس من الحفظ للعلم والتكرار له، خصوصاً تكرار ما ليس في تكراره وحفظه حظ مثل مسائل الفقه، بخلاف الشعر والسجع فإن له لذة في إعادته وإن كان صعباً؛ لأن النفس تلتذ به مرة ومرتين، فإذا زاد التكرار صعُب عليها، ولكن دون صعوبة الفقه وغيره من المستحسنات عند الطبع، فترى النفس تخلد إلى الحديث والشعر والتصانيف والنسخ؛ لأنه يمر بها كل لحظة ما لم تره فيكون هناك تجديد، فهو في المعنى كالماء الجاري لأنه جزء بعد جزء، لكن الحفظ ما هو إلا إعادة لشيء موجود قد لا يشعر الشخص وهو يعيده بشيء جديد. وهذا من أسباب الملل، وهذا مما يبين صعوبة الحفظ، ولكن الحفظ لا يأتي إلا بالمران، ومجاهدة النفس، قال الزهري رحمه الله: إن الرجل ليطلب وقلبه شعب من الشعاب -يطلب العلم وقلبه شعب صغير- ثم لا يلبث أن يصير وادياً لا يوضع فيه شيء إلا التهمه. أول الحفظ شديد يشق على الإنسان، فإذا اعتاده سهل عليه، وكان العلماء يقولون: كل وعاء أفرغت فيه شيئاً فإنه يضيق، إلا القلب فإنه كلما أُفرغ فيه اتسع. وقال بعض أهل العلم: كان الحفظ يثقل عليّ حين ابتدأت، ثم عودته نفسي إلى أن حفظت قصيدة رؤبة: وقاتم الأعماق خاوي المخترقن قال: حفظتها في ليلة. وهي قريب من مائتي بيت، وكانت هذه انطلاقة.

تكرار المحفوظ

تكرار المحفوظ ومن أعظم الأمور التي تُساعد على الحفظ، بل هو السبب الحقيقي في الحفظ، بل لا يُوجد سبب يفوقه أصلاً -التكرار، مهما حاولت أن تأتي بوسيلة أو سبيل للحفظ لا يمكن أن تأتي بأعظم ولا أحسن ولا أفضل، ولا أشد أثراً ولا أعظم مردوداً من التكرار، فالتكرار هو الحفظ، وهو الوسيلة الحقيقية للحفظ. وتكرار المحفوظ وإعادته على النفس يحصل به الإتقان، وهكذا كان العلماء يقرءون المرات الكثيرة، يعيدون مراراً وتكراراً حتى يحفظوا، قال بعضهم: سمعت صائحاً يصيح: والأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة، والأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة، ساعة طويلة، فكنت أطلب الصوت إلى أن رأيت ابن زهير وهو يدرس مع نفسه من حفظه حديث الأعمش. وعن معاذ بن معاذ قال: كنا بباب ابن عون، فخرج علينا شعبة وعقد عقداً بيديه جميعاً، فكلمه بعضنا، فقال: لا تكلمني فإني قد حفظت عن ابن عون عشرة أحاديث أخاف أن أنساها، فهو لازال يعيد ويكرر حتى يحفظ. وكان أبو إسحاق الشيرازي يعيد الدرس مائة مرة، إذا أراد أن يحفظ درساً أعاده مائة مرة. وكان الكيا من فقهاء الشافعية يعيده سبعين مرة. وكان الحسن بن أبي بكر النيسابوري يقول: لا يحصل الحفظ لي حتى يُعاد خمسين مرة. لابد من الإعادة، لا تفكر -يا طالب العلم- بأن تأتي بوسيلة أخرى غير التكرار والإعادة مهما اجتهدت وصعدت ونزلت، وبحثت ونقبت، لا يمكن أن تأتي بوسيلة للحفظ غير الإعادة والتكرار، قد تختلف وسائل الإعادة والتكرار، لكن يبقى الأصل هو الإعادة والتكرار، ولما سُئل البخاري رحمه الله تعالى عن سبب حفظه، قال كلاماً معناه: لم أجد أنفع من مداومة النظر، الإعادة ومداومة النظر هما سبيل الحفظ. وحُكي أن فقيهاً أعاد الدرس في بيته مرات كثيرة، فقالت له عجوز في بيته: قد والله حفظته أنا، فقال: أعيديه، فأعادته، فلما كان بعد أيام، قال: يا عجوز! أعيدي ذلك الدرس، فقالت: ما أحفظه، قال: أنا أكرر الحفظ لئلا يصيبني ما أصابك. فلابد من تكرير الكلام مراراً وتكراراً، هذا هو سبب الحفظ. وكلما كان التكرار أكثر ثبتت قاعدة الحفظ، فلا يحتاج إلى أوقات أخرى لاسترجاعه عند النسيان، التأسيس البطيء الذي يكون فيه التكرار الكثير قاعدة للحفظ. ثم لابد من المراجعة المستمرة بين الحين والحين، لأنهم قالوا: إن القلوب تربٌ والعلم غرسها، والمذاكرة ماؤها، فإذا انقطع عن التُرب ماؤها جف غرسها، فلابد من الإعادة والمراجعة. ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تعاهدوا القرآن فإنه أشد تفصياً من صدور الرجال -أشد هرباً من صدور الرجال- من النعم من عقلها) أي: الإبل التي تحاول دائماً التفلت. ولذلك تعاهدوا القرآن: أي كرر وراجع، ثم كرر وراجع، ثم كرر وراجع، دائماً، هذا هو الحفظ. وكان بعضهم لا يخرج كل غداة حتى ينظر في كتبه، ويتعاهد المحفوظ دائماً، ومراجعة الحفظ السابق أولى من حفظ شيء جديد، لأن المحافظة على رأس المال أولى من جمع الأرباح. وقال الخليل بن أحمد: تعاهد ما في صدرك أولى بك من أن تحفظ ما في كتبك، ولذلك بعض العلماء كان لهم أوقات مراجعة؛ لا يخرج لأحد، ولا يسمح لأحد أن يأتي إليه، ولا يُعطي موعداً أبداً في وقت المراجعة؛ من السابقين واللاحقين، ومن المعاصرين على سبيل المثال الشيخ علي الزامل النحوي اللغوي، العلامة في القصيم، له بعد الفجر وقت يومي يراجع فيه حفظه من القرآن، وهو ضرير ومعه رجل ضرير آخر يراجع معه، ولا يمكن أن يقبل موعداً أو درساً في هذا الوقت؛ لأنه وقت مراجعة.

مذاكرة المحفوظات مع الإخوان

مذاكرة المحفوظات مع الإخوان ومن الأمور المهمة في الحفظ: مذاكرة المحفوظات مع الإخوان، والمذاكرة مع الأصحاب، قيل إن ابن عباس كان يقول: يا سعيد! اخرج بنا إلى النخل، ويقول: يا سعيد! حدث، فأقول: حدث وأنت شاهد، قال: إن أخطأت فتحت عليك. قال إبراهيم رحمه الله: إنه ليطول عليّ الليل حتى ألقى أصحابي فأذاكرهم، يشتاق إلى أصحابه لكي يتذاكر معهم العلم، يقرأ عليهم ويقرءون عليه، ويسرد عليهم ويسردون عليه. وكانوا أيضاً في هذه التسميعات وهذا السرد المزدوج كان ينبه بعضهم بعضاً على أشياء، ويمتحن بعضهم بعضاً في أشياء، قال أبو بكر بن أبي داود لـ أبي عليّ النيسابوري الحافظ: يا أبا علي! إبراهيم عن إبراهيم عن إبراهيم من هم؟ وهذا سند فيه ثلاثة أو أربعة أسماؤهم متشابهة، من هم؟ فقال: إبراهيم بن طهمان عن إبراهيم بن عامر البجلي عن إبراهيم النخعي، فقال: أحسنت. وينبغي للعاقل أن يكون جُلّ زمانه للإعادة، خصوصاً الصبي والشاب، فإنه يستقر المحفوظ عنده استقراراً لا يزول، وكان من فعل بعض السلف في إعادة العلم ما يلي، وعلى رأسهم الزهري رحمه الله: روي عن الزهري أنه كان يرجع إلى منزله وقد سمع حديثاً كثيراً، فيعيده على جارية له من أوله إلى آخره كما سمعه، ويقول لها: إنما أردت أن أحفظه. وكان غيره يعيد الحديث على الصبيان، يجلسهم في الطريق ويسرد عليهم حفظه، لأجل الاسترجاع، إذا لم يلق أصحابه ليحفظ معهم فإنه يسرد على النساء والصغار.

العمل بالمحفوظ

العمل بالمحفوظ ومما يعين على الحفظ: العمل بما تحفظ، وهذا من أهم الأمور، وهو ثمرة العلم، ولذلك فإن الله عز وجل نبهنا على العمل مراراً في القرآن الكريم، وأخبر أن العاملين هم الناجون الفائزون يوم الدين، وأن الإثم في ترك العمل بالعلم، وقد تواترت على ذلك الآيات والأحاديث والشواهد الكثيرة في أهمية العمل بالعلم، وألف العلماء وصنفوا في اقتضاء العلم العمل. ولاشك أن العمل بالعلم يزيد الحفظ (استعمال الآثار وتوظيف السنن) الإمام أحمد رحمه الله ما كان يضع حديثاً في مسنده إلا ويعمل به، حتى إنه احتجم وأعطى الحجام ديناراً، لأجل فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وكان إسماعيل بن إبراهيم بن مُجمع بن جارية يقول: كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به، فإذا عملت بالعلم كان ذلك سبباً عظيماً للحفظ.

تعليم العلم

تعليم العلم ومن أسباب الحفظ: تعليم العلم للناس، ونشره بينهم، وقد قدمنا قبل قليل قصة ابن شهاب الزهري رحمه الله أنه كان يسمع العلم من عروة وغيره، فيأتي إلى جارية له وهي نائمة فيُوقظها، فيقول: اسمعي، حدثني فلان كذا وفلان كذا، فتقول: مالي ولهذا الحديث؟ فيقول: قد علمت أنك لا تنتفعين به، ولكن سمعته الآن فأردت أن أستذكره. وكان يجمع الأعاريب فيحدثهم، يريد أن يحفظ. الداعية إلى الله إذا حفظ العلم فإنه يؤديه إلى الناس، وتعليم الناس زكاة العلم، تبليغه إلى الناس، وكلما بلغته كلما رسخ في ذهنك؛ لأن التبليغ نوع من التكرار والإعادة، ولذلك فإن العلماء الذين يفتون الآن، يحفظون أدلة الفتاوى، ففتواهم من أسباب حفظهم للأدلة، رغم تقدم أسنانهم لكنهم كثيراً ما سردوه على مسامع الناس، لقد ألقوه إليهم وسئلوا فأجابوا، فمن كثرة الإلقاء والإجابة عن الأسئلة رسخ العلم في الأذهان.

المداومة على الحفظ ولو على القليل

المداومة على الحفظ ولو على القليل ومن القواعد المهمة في الحفظ: المداومة ولو على القليل، ولعل من الحكمة في نزول القرآن منجماً ومفرقاً، ولم ينزل جملة واحدة أنه أَثبتُ في الحفظ، فحفظ النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله عز وجل: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} [الفرقان:32] وكانت طريقة الصحابة رضي الله عنهم أخذ عشر آيات يحفظونها ويفقهونها ويعملون بها، ثم يأخذون العشر التي تليها وهكذا، وتعلم ابن عمر سورة البقرة في ثمان سنين وقيل غير لك. قال حماد بن أبي سليمان لتلميذ له: تعلم كل يوم ثلاث مسائل ولا تزد عليها. وكان أحمد بن الفرات لا يترك كل يوم إذ أصبح أن يحفظ شيئاً وإن قلّ. فإذاً: لابد من المداومة على الحفظ؛ لأن بعض الناس قد يحفظ أياماً ويترك أسابيع لا يحفظ فيها، وهذه الذاكرة كلما استمر المران كلما ازدادت قابليتها للحفظ أكثر، وإذا تركتها انكمشت، ولذلك فإن المداومة مهمة، والمداومة المداومة على الأعمال الصالحة أصل من أصول الشريعة، كما جاء في حديثه صلى الله عليه وسلم: (أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل). وإذا كان ما جمعته من العلم قليلاً، وكان حفظك له ثابتاً كثرت المنفعة به ولو كان قليلاً، ولو قرأت أشياء كثيرة جداً، أنهيت كتباً، لكن ما قرأت غير محفوظ لديك قلّت المنفعة، مهما كانت قراءتك واسعة، إذا كانت هذه القراءة غير محفوظة قلّت المنفعة، ولو كان الشيء الذي اطلعت عليه قليلاً، لكنه محفوظ متقن، فإن المنفعة كبيرة.

إخلاص النية

إخلاص النية ولاشك أن من أكبر الأسباب المعينة على الحفظ وينبغي البدء به، ولكن حتى لا نكون في شيء من التكرار الذي يقلل أهمية هذا الأمر أحياناً فنقوله الآن: وهو النية في الحفظ، ما هي النية؟ هل هي للمباهاة؟ هل هي لمناقشة العلماء وإظهار العلم، أو لمماراة السفهاء؟ أو لتصرف وجوه الناس إليك؟ إن كانت هذه هي النية فالنار النار، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، وكلما كان الإنسان أخلص لله كان حفظه أفضل وأشد بركة، قال ابن عباس: [إنما يحفظ الرجل على قدر نيته].

الصلاح وترك المحرمات

الصلاح وترك المحرمات ومن الأمور المهمة في الحفظ: الصلاح وترك المحرمات، سأل رجل مالك بن أنس رحمه الله: يا أبا عبد الله! هل يصلح لهذا الحفظ شيء؟ قال: إن كان يصلح له شيء فترك المعاصي، وهذا معنى الأبيات التي تنسب إلى الشافعي رحمه الله: شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي وقال اعلم بأن العلم فضل وفضل الله لا يؤتاه عاصي ولهذين البيتين ألفاظ كثيرة، فالمعاصي كما ذكر ابن القيم رحمه الله تُذهب العلم وتُنسي المحفوظات؛ لأن المعصية لها شُؤم، وشُؤم المعصية ينعكس على العلم المحفوظ، وعدد من الناس حفظوا كتاب الله ثم نسوه، من أسباب نسيانهم لآيات كثيرة من كتاب الله المعصية، فلما طال عليهم الأمد قست قلوبهم، ولما قست القلوب ذهبت الأشياء المحفوظة، وضيع اليهود والنصارى كتاب الله بالمعاصي، وقد وكل حفظه إليهم: {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ} [المائدة:44] فضاع، وكان من عقاب الله لهم: ضياع هذه الكتب منهم بسبب معاصيهم، وقد ذكر الله هذا في كتابه. ولذلك كلما كان الطالب أتقى لله كان حفظه أحسن، وقد يوجد نماذج من العصاة يحفظون، ولكن حفظهم لا بركة فيه، وقد يكون حفظهم من باب الاستدراج لهم، ولا تجد فيه نفعاً، لكن أهل التقى حفظهم نافع ومبارك.

فعل الطاعات

فعل الطاعات ومن أسباب الحفظ: الطاعات؛ صلاة الليل وقراءة القرآن من أسباب الحفظ، حتى قال بعض العلماء: ليس شيء أزيد للحفظ من قراءة القرآن نظراً، وقد جاء في الحديث الحسن: (من سره أن يحب الله ورسوله فليقرأ في المصحف) فالقراءة في المصحف نظراً وغيباً وتدبراً من الأشياء المعينة على الحفظ. ولاحظ أن الحافظ لكتاب الله يسهل عليه حفظ ما بعده، حفظ القرآن يُسهِّل ويُذلِّل الصعوبات في الحفظ، لأن الإنسان إذا جمع القرآن وتذلل لسانه بهذه الآيات، والله ييسر هذا الأمر: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17] فإن حفظ ما بعد القرآن يسهل بسبب حفظ القرآن.

التقلل من الدنيا

التقلل من الدنيا ومن أسباب الحفظ: التقلل من الدنيا، وأنتم تذكرون أن أبا هريرة رضي الله عنه كان متقللاً من الدنيا، وكان ذلك من أهم أسباب حفظه، حتى عدها ابن حجر رحمه الله فائدة في حديث أبي هريرة، قال: وفيه أن التقلل من الدنيا أمكنُ للحفظ. فإذاً: ترك المعاصي وفعل الطاعات من أسباب الحفظ، وفعل المعاصي من أسباب نسيان العلم، قال عبد الله: إني لأحسب الرجل ينسى العلم بالخطيئة يعملها. وقيل لـ سفيان بن عيينة: بم وجدت الحفظ؟ قال: بترك المعاصي.

الحجامة

الحجامة ومن أسباب الحفظ التي وردت في الأحاديث: الحجامة، كما جاء في الحديث الحسن عند ابن ماجة والحاكم وابن السني وأبي نعيم مرفوعاً من حديث ابن عمر: (الحجامة على الريق أمثل، وفيها شفاء وبركة، وتزيد في الحفظ وفي العقل). والحجامة مؤكد عليها في الشريعة، حتى قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ما مررت على ملأ من الملائكة في المعراج إلا وأمروني أن أوصي أمتي بالحجامة) فالحجامة من الأشياء التي تزيد الحفظ، نعم هي ليست كل شيء، فبعض الناس يفكر أنه لو احتجم اليوم غداً يحفظ صحيح البخاري، هذا لا أساس له، لكن قال عليه الصلاة والسلام: (وتزيد في الحفظ) قال: (فاحتجموا على بركة الله يوم الخميس، واجتنبوا الحجامة يوم الجمعة ويوم السبت ويوم الأحد، واحتجموا يوم الاثنين والثلاثاء، فإنه اليوم الذي عوفي فيه أيوب من البلاء، واجتنبوا الحجامة يوم الأربعاء، فإنه اليوم الذي ابتلي فيه أيوب الحديث) هذا الحديث حسنه الألباني ورواه ابن ماجة وغيره كما تقدم.

الأدعية والأذكار

الأدعية والأذكار ومن أسباب الحفظ العظيمة: الأدعية والأذكار، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ماء زمزم لما شرب له) وقد شرب عدد من العلماء ماء زمزم وهم يدعون الله أن يُعطيهم حافظة قوية، وشرب ابن حجر ماء زمزم وسأل الله أن يُبلغه مرتبة الذهبي في الحفظ، فالدعاء وشرب ماء زمزم من أسباب الحفظ. ولاشك أن من أسباب الحفظ العظيمة: ذِكر الله عز وجل، قال الله: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف:24] ذكر الله مما يزيل النسيان، ويُقرب الأشياء في الذهن، وذكر الله من أدوية النسيان، سواء كان النسيان نسيان الذهن والذاكرة، أو كان نسيان غفلة، فإن ذكر الله علاجه.

رفع الصوت بالقراءة

رفع الصوت بالقراءة ومن الأمور المعينة على الحفظ: الجهر ورفع الصوت بالقراءة فيما يراد حفظه؛ لأن الجهر بالقراءة يجعل حاسة السمع مشتركة في الحفظ مع حاسة البصر، وإن كان الرجل أعمى فإن حفظه يكون شديداً؛ لأجل أن منفذ السمع إلى القلب أقوى وأشد من منفذ البصر، ولذلك قلنا: العرب كانوا يحفظون الخطبة الطويلة والأبيات الكثيرة من أول مرة، ما كانوا يقرءون ولا يكتبون. وهكذا تلقَّى معظم الصحابة الأحاديث، تلقوها وحفظوها بالسماع، فالسماع مهم جداً، قال الزبير بن بكار: دخل علي أبي وأنا أروي في دفتر ولا أجهر -أروي فيما بيني وبين نفسي- فقال: إنما لك من روايتك هذه ما أدى بصرك إلى قلبك. فإذا أردت الرواية فانظر إليها واجهر بها، فإنه يكون لك ما أدى بصرك إلى قلبك وما أدى سمعك إلى قلبك. وهم يقولون الآن: إنه كلما اشتركت حواس أكثر في الحفظ كان الحفظ أكثر، وهذه مسألة يختلف فيها الناس؛ بعض الناس لا يحفظ إلا إذا رفع صوته، وبعض الناس يكون عنده الحفظ أحسن إذا كان يقرأ بصمت وينظر، فينطبع في ذهنه، حتى إن بعض الحُفاظ كان يضع يده على صفحة إذا أراد أن يحفظ الصفحة التي تليها، حتى لا تختلط عليه السطور. وينبغي للدارس أن يرفع صوته في درسه حتى يُسمع نفسه، فإن ما سمعته الأذن يرسخ في القلب، ولهذا كان الإنسان أوعى لما يسمعه، وعن أبي حامد أنه كان يقول لأصحابه: إذا درستم فارفعوا أصواتكم فإنه أثبت للحفظ وأذهب للنوم، وكان يقول: القراءة الخفية للفهم -القراءة الخفية إذا أردت أن تتدبر وتفكر وتنظر- والرفيعة -التي فيها رفع صوت- للحفظ. يقول: القراءة الخفية للفهم، والرفيعة للحفظ.

التمهل في القراءة

التمهل في القراءة وكذلك من أسباب الحفظ: التمهل في القراءة، وكان بعضهم يقرأ الكتاب ثم يذاكر به حرفاً حرفاً كأن قارئاً يقرأه عليه فيفسره له. أي: قراءة مبينة، مفسرة، مترسلة، بطيئة، حتى يكون أرسخ علماً، وبعض الناس يحفظ إذا سرد أكثر.

حسن الاستماع لما يراد حفظه

حسن الاستماع لما يراد حفظه وكذلك مما يعين على الحفظ: حُسن الاستماع لما يراد حفظه، عن سفيان قال: كان يُقال: أول العلم: الصمت -أول شيء أن يأتي الطالب ويجلس في الحلقة فلا يتكلم ولا كلمة، المبتدئ يجلس عند الشيخ لا يتكلم ولا كلمة، فقط يسمع، لا يسأل ولا يقاطع ولا شيء، يسمع فقط- والثاني: الاستماع له وحفظه، والثالث: العمل به، والرابع: نشره وتعليمه. ونُقل عنه أنه قال: تعلموا هذا العلم، فإذا علمتموه فاحفظوه، فإذا حفظتموه فاعملوا به، فإذا عملتم به فانشروه بين الناس، وقال هذا الناظم: يا طالباً للعلم كي تحضى به ديناً ودنياً حظوة تعليه اسمعه ثم احفظه ثم اعمل به لله ثم انشره في أهليه

عدم إرهاق النفس وإملالها وحملها على ما لا تطيق

عدم إرهاق النفس وإملالها وحملها على ما لا تطيق وينبغي لمن يريد الحفظ: ألا يرهق نفسه ويملها، فإذا تعب من الحفظ أخذ قسطاً من الراحة، وكيف كانت راحة العلماء؟ يجعلون أوقات التعب من الإعادة والتكرار، وللنسخ ونقل الأشياء، وكانوا يجعلونها كذلك في قراءة الأشياء التي فيها نوع من الترويح؛ كالأشعار والأمثال، والقصص والطرائف وغير ذلك. وينبغي أن نعلم أن الناس في الحفظ طاقات متفاوتة؛ فمنهم من يحفظ عشر ورقات في ساعة، ومنهم من لا يحفظ نصف صفحة في أيام، فإذا أراد الذي مقدار حفظه نصف صفحة أن يحفظ عشر ورقات تشبهاً بغيره؛ لحقه الملل، وأدركه الضجر، ونسي ما حفظ، فليستقر كل امرئ على مقدار ما يستوعبه، وعليه أن يشفق على نفسه من أن يحملها فوق ما تطيق، لكن كيف يعرف الإنسان طاقته؟ A بالتجربة. ولا ينبغي للعاقل أن يزج نفسه فيما يستفرغ جهوده، فيتعلم في يوم ضعف ما يتحمل، فهذا وإن تهيأ له أنه حفظها هذه المرة، وأنه ضبطها في هذا اليوم، فإنه في الغد سيثقل عليه جداً إعادة ما مضى وحفظ شيء جديد، وهذا كمن يحمل حملاً ثقيلاً يرهق نفسه في أول يوم، فيحدث ضررٌ، نعم هو حمله، لكن حصل ضرر في جسده، في الغد لا يستطيع أن يحمل شيئاً. وينبغي أن يجعل الحافظ لنفسه مقدراً كلما بلغه وقف عليه لا يزيد؛ لأجل المراجعة، ويستريح ثم يواصل الحفظ، ولا يأخذ الطالب نفسه بما لا يُطيق، بل يقتصر على اليسير الذي يضبطه ويحكم حفظه ويتقنه، قال سفيان: كنت آتي الأعمش ومنصور، فأسمع أربعة أحاديث وخمسة ثم انصرف كراهة أن تكثر وتتفلت. وعن شعبة قال: كنت آتي قتادة فأسأله عن حديثين، فيحدثني ثم يقول: أزيدك؟ فأقول: لا. حتى أحفظهما وأتقنهما. وقال بعضهم: من طلب العلم جملة فاته جملة. وقال بعضهم: إنما كنا نطلب حديثاً أو حديثين. وعن الزهري قال: إن هذا العلم -هذه تجارب حفاظ- إن أخذته بالمكابرة عسُر عليك، ولكن خذه مع الأيام والليالي أخذاً رفيقاً تظفر به.

التدرج والاقتصاد

التدرج والاقتصاد فمن الأمور المهمة في الحفظ: التدرج والاقتصاد وتقليل المحفوظ مع المداومة على الحفظ فهذا أصل عظيم، ولا تشرع في شيء جديد حتى تحكم ما قبله، ومن لم يجد نشاطاً في الحفظ بعد مدة من الحفظ فليتركه، فإن مكابرة النفس لا تصلح. وقال ابن الجوزي: اعلم أن المتعلم يفتقر إلى دوام الدراسة، ومن الغلط الانهماك في الإعادة ليلاً ونهاراً فإنه لا يلبث صاحب هذه الحال إلا أياماً ثم يفتر ويمرض، فمن الغلط تحميل القلب حفظ كثير أو الحفظ من فنون شتى، فإن القلب جارحة من الجوارح، فمن الناس من يحمل مائة رطل، ومنهم من يعجز عن حمل عشرين رطلاً، فكذلك هذه القلوب أوعية بعضها يستوعب كثيراً وبعضها يستوعب قليلاً، فليأخذ الإنسان على قدر قوته، فإنه إذا استنفذ القوة في وقت ضاعت منه أوقات، والصواب أن يأخذ قدر ما يُطيق ويعيده في وقتين من النهار والليل. مثلاً: قال: أنا أستطيع أن أحفظ خمس آيات، يقول: أحفظ خمس آيات، نقول: أعدها مرتين بالليل ثم أعدها في النهار. فكم ممن ترك الاستذكار بعد الحفظ فأضاع زمناً طويلاً في استرجاع محفوظه، أي: أنه ينبغي على الإنسان أن يراجع باستمرار؛ لأنه إذا راجع وحفظ بتأني سهل عليه الاسترجاع، وإذا حفظه دُفعة واحدة الآن صعب عليه أن يسترجعه فيما بعد. وكذلك ذكرنا أنه لابد من ترفيه النفس مع الإعادة يوماً في الأسبوع، يجعل يوماً في الأسبوع للمراجعة ليثبت المحفوظ، وتأخذ النفس قوة كالبنيان يترك أياماً حتى يستقر ثم يبنى عليه، لا يبنى مرة واحدة وإلا فإنه ينهار.

الاهتمام بالغذاء المناسب

الاهتمام بالغذاء المناسب وكذلك مما يعين على الحفظ: الاهتمام بالغذاء المناسب، فإن التخمة من الأسباب المانعة من الحفظ، ولذلك كانوا يقللون الطعام؛ لأن كثرة الطعام تتخم النفس وتجعل القلب مشغولاً ومثقلاً، فلا تتمكن النفس من الحفظ، وكانوا يعتنون بأنواع الطعام، وليس فقط بكميته، ومن الأشياء المجربة التي ذكروها مما يزيد الحفظ: شُرب العسل وتناول الزبيب، والرمان الحلو، والحبة السوداء، واللبان على الريق، ليس اللبان الذي تستخدمونه الآن، الذي يعملون منه بالونات للأطفال، وإنما هو نوع من اللبان كانوا يمضغونه على الريق. وكانوا يجتنبون الأشياء الحامضة، حتى كان الزهري رحمه الله يجتنب التفاح الحامض، وهذا مجرب؛ الحوامض مما يقلل الحفظ، وكان العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله كما حكى عنه بعض أولاده، قال: كان أبي يزجرنا زجراً شديداً إذا رأى مع أحدنا لبناً حامضاً. وهذه الأشياء نسبتها في الحفظ قليلة، فالزبيب لا يجعل غير الحافظ حافظاً أو اللبان، وإنما هي أشياء معينة ومساعدة، ونحن نذكر العوامل وإن كانت نسبتها في الحفظ كثيرة أو قليلة من باب جمعها وذكرها. وكذلك إصلاح المزاج من الأصول العظيمة في الحفظ، ولاشك أن بعض الأطعمة تؤثر في الأمزجة فتسبب تعكيراً، وتسبب أشياء في المعدة، وشيئاً من الغثيان، والغثيان يضاد الحفظ.

السعي للتذكر

السعي للتذكر وكذلك من الأمور المهمة: السعي للتذكر، بعض الناس إذا سئل عن شيء وهو لا يتذكره يمضي، لكن ينبغي عليه لكي يمرن ذاكرته أن يتوقف يتذكر، ويعتصر ذهنه وذاكرته حتى يتذكر؛ لكي يدرب الذهن والذاكرة على استرجاع المعلومات، أما كلما نسي شيئاً للوهلة الأولى تركه ومضى فإنه يتعود على النسيان السريع، أما إذا كان يعود نفسه كلما نسي شيئاً أن يحاول جاهداً أن يتذكره فإنه يكون أحسن وأنفع في استرجاع المعلومات.

وظائف طالب العلم

وظائف طالب العلم ومما يُضعف الذاكرة: كثرة الكتابة والاعتماد على الأشياء المكتوبة. أما بالنسبة لوظائف طالب العلم فهي كثيرة، يحتاج أن يحفظ وأن يقرأ وأن ينسخ، وربما احتاج أن يُلقي ويُدرس، فعليه أن يُوزع هذه الأشياء على وقتها، قال ابن الجوزي رحمه الله: ولما كانت القوة تُكلفه فهي تحتاج إلى تجديد، وكان النسخ والمطالعة والتصنيف لابد منه مع أن المهم الحفظ، وجب تقسيم الزمان على الأمرين، فيكون الحفظ في طرفي النهار وطرفي الليل، ويوزع الباقي بين عمل النسخ والمطالعة وراحة البدن وأخذهِ لحظِّه، ولا ينبغي أن يقع الغبن بين الشركاء، فإنه متى أخذ أحدهم فوق حقه أثر الغبن وبان أثره، وإن النفس لتحدب إلى النسخ والمطالعة والتصنيف عن الإعادة والتكرار؛ لأن ذلك أشهى وأخف عليها، ومع العدل والإنصاف يتأتى كل مراد. فإذاً: حسن توزيع الوظائف -يا طالب العلم! - على الوقت من الأمور المهمة.

أوقات الحفظ

أوقات الحفظ فإذا قلت: ما هي الأوقات المناسبة للحفظ؟ إن العمر مراحل: الطفولة والصبا وسن الشباب، ثم الكهولة والشيخوخة والهرم، فلاشك أن أحسن الأوقات للحفظ هو الصبا والطفولة والفترة المبكرة من العمر، فللحفظ أوقات من العمر أفضلها الصبا، وما يقاربه من أوقات الزمان، وقديماً قالوا: حفظ الغلام الصغير كالنقش في الحجر، وحفظ الرجل الكبير كالكتابة على الماء. وقال علقمة: ما حفظت وأنا شاب كأني أنظر إليه في قرطاس أو ورقة. وعن الحسن قال: [قدموا إلينا أحداثكم فإنهم أفرغ قلوباً وأحفظ لما سمعوا، فمن أراد الله أن يتمه له أتمه]. وعن معمر قال: جالست قتادة وأنا ابن أربع عشرة سنة فما سمعت منه شيئاً وأنا في ذلك السن إلا وكأنه مكتوب في صدري. لقد أكملنا سن الطفولة، والعلماء كانوا يحفظون القرآن وهم أبناء ثمان سنين وتسع وعشر، فهل فاتنا القطار أم لا؟ A لا. لم يفت القطار، مهما بلغ الإنسان من التقدم في السن فإنه يستطيع أن يحفظ، وليس هناك سن لا يستطيع أن يحفظ فيها شيئاً مادام العقل باقياً، فمادام العقل باقياً فالحفظ ممكن، لكن كلما كان في الصغر كان أسهل. ولو فاتك أنت وقت الحفظ الجيد، ينبغي ألا يفوتك: أولاً: أن تحفظ فيما بقي من عمرك، وثانياً: أن تتدارك هذا مع ولدك الصغير، فلو فاتتنا أشياء نتيجة لعدم التربية الجيدة في الماضي، فإننا نستدرك هذا مع أولادنا الآن، فنجعلهم يحفظون ونساعدهم على الحفظ، ونجعل لهم الجوائز التشجيعية حتى لا يندموا إذا كبروا، ويكون لك من الأجر نصيب عظيم. وأما بالنسبة للوقت المناسب للحفظ في اليوم، من ذلك: قالوا من أفضلها: أفضلها أوقات الأسحار وأنصاف النهار، والغدوات خير من العشيات، وأوقات الجوع خير من أوقات الشبع، وقال بعضهم ينصح ولده بالحفظ في الليل: أحب لك النظر في الليل، فإن القلب بالنهار طائر وبالليل ساكن. وقال أبو بكر الخطيب البغدادي رحمه الله: المطالعة في الليل لخلو القلب، فإن خلوه يسرع إليه الحفظ. وعن عبد الرزاق قال: كان سفيان الثوري عندنا ليلة، قال: وسمعته قرأ القرآن من الليل وهو نائم، ثم قام يصلي فقضى حزبي من الصلاة، ثم قعد فجعل يقول: الأعمش والأعمش والأعمش، ومنصور ومنصور ومنصور، ومغيرة ومغيرة ومغيرة، فقلت: يا أبا عبد الله! ما هذا؟ قال: هذا حزبي من الصلاة، وهذا جزئي من الحديث. وقال الشافعي: الظلمة أجلى للقلب. أي يستطيع الإنسان أن يحفظ في هدوء الليل أكثر. وقال أحمد بن الفرات: لم نزل نسمع شيوخنا يذكرون أشياء في الحفظ، فأجمعوا أنه ليس شيء أبلغ فيه إلا كثرة النظر، وحفظ الليل غالب على حفظ النهار. وقال إسماعيل بن أبي أويس: إذا هممت أن تحفظ شيئاً فنم وقم عند السحر -أي: قبيل الفجر- فأسرج سراجك -والآن اضغط الزر- وانظر فيه -في هذا الكتاب- فإنك لا تنساه بعد إن شاء الله. أي إن حفظ الأسحار قبيل الفجر من أحسن أنواع الحفظ، فإذا نام مبكراً فإنه يستيقظ نشيطاً ويكون ذهنه صافياً؛ لأنه ليس قبل اليقظة شيء إلا الراحة، ولا يكون مشغولاً بأشياء كثيرة، وسمع أشياء كثيرة، بل قام من النوم وذهنه صافٍ قبيل الفجر وقد نام مبكراً، فهذا يكون من أصفى الأوقات للحفظ على الإطلاق. وقال ابن جماعة الكناني رحمه الله: الخامس في آداب المتعلم في نفسه: أن يقسم أوقات ليله ونهاره، ويغتنم ما بقي من عمره، وأجود الأوقات للحفظ الأسحار، وللبحث الأبكار -جمع بكرة: وهي أول النهار- وللمطالعة والمذاكرة الليل، وللكتابة وسط النهار. وقالوا في أجود أوقات الحفظ: الأسحار، وبعده وقت انتصاف النهار، وبعده الغدوات دون العشيات، وحفظ الليل أسرع من حفظ النهار. وقيل لبعضهم: بم أدركت العلم؟ قال: بالمصباح والجلوس إلى الصباح. وقال آخر: بالسفر والسهر، والبكور في السحر. والسحر: آخر الليل، وانتصاف النهار: عند الظهيرة، والغدوات: أول النهار.

أماكن الحفظ

أماكن الحفظ أما بالنسبة لأماكن الحفظ، فقد قالوا: إنها في الغُرف العالية أحسن من السُفل؛ لأن المكان العالي يكون في الغالب خالياً، لا زوجة ولا أولاد ولا ضوضاء، ولا دخول ولا خروج، وكل موضع بعيد عما يُلهي فإنه يجعل القلب خالياً لأجل الحفظ، وليس بالمحمود أن يتحفظ الرجل بحضرة النبات والخضرة، ولا على شطوط الأنهار، ولا على قوارع الطريق، لكثرة الشواغل والصوارف والأشياء المارة والعابرة، فالعجب من بعض الطلاب الذين يذاكرون في الحدائق العامة أيام الامتحانات. وقالوا: لا يحمد الحفظ بحضرة خضرة ولا على شاطئ نهر؛ لأن ذلك يُلهي، والأماكن العالية للحفظ خيرٌ من السوافل، والخلوة أصلٌ، وجمع الهم أصل الأصول، لذا ينبغي تفريغ الذهن من الشواغل.

أبحاث متعلقة بالذاكرة

أبحاث متعلقة بالذاكرة ونذكر هنا بعض الأشياء من الأبحاث الحديثة المتعلقة بالذاكرة، وهي أشياء يسيرة جداً لأن الجري وراء هذه متعب، وبعض الأبحاث الطبية والنفسية فيها فوائد، ولكن (اسأل مجرباً ولا تسأل طبيباً)، فهؤلاء العلماء المجربون قد تكلموا. من الأشياء الموجودة عند المعاصرين ويستفاد منها: 1/ قالوا: الذاكرة في الإنسان مثل العضلة في الجسم، كلما زدت في تمرينها واعتنيت بها كبرت وتوسعت، وإذا أهملتها تضاءلت وضعفت. 2/ وقالوا: إذا استمر أي شخص في الحفظ والمراجعة بقيت ذاكرته قوية ونشيطة، مادام عقله سليماً فاعلاً قادراً على التركيز وإن جاوز الخمسين، أي: يستطيع أن يحفظ وإن جاوز الخمسين مادام مواظباً على المراجعة والحفظ ومادام عقله موجوداً. 3/ وقالوا: إن الذاكرة عند الكثيرين غير مستغلة، وبإمكان الذاكرة أن تتسع لأعداد خيالية من الجزئيات والمعلومات. وقالوا: ليست كثرة المعلومات هي التي تشوش الذاكرة، وإنما الطريقة الخاطئة في إدخال المعلومات واستخراجها، وضعف القُدرة على التركيز والتفكير. 4/ وقالوا: إن التكرير كان ولا يزال هو الوسيلة التقليدية للحفظ، ولكن التكرار له قواعد ينبغي الالتزام بها. من هذه الأشياء، وقد مرت معنا، لكن هم يقولون إنها من تجاربهم واكتشافاتهم: قام أحد العلماء الألمان بتجربة جمع فيها مجموعة وأعطاهم نصاً معيناً في يوم واحد، قال: احفظوه اليوم، فاحتاجوا إلى تكراره ثمان وستين مرة حتى حفظوه، ثم طلب منهم حفظ نص آخر مثل ذلك في الطول والصعوبة على فترة ثلاثة أيام، فاحتاجوا لتكراره أربع وثلاثين مرة فقط، أي: النصف. فإذا كان عندك شيء تريد أن تحفظه، فكررته مثلاً خمسين مرة إلى أن تحفظه اليوم، ولم تفعل شيئاً في الأيام القادمة، هذا أسرع للنسيان وأصعب للحفظ أيضاً من أن تقرأه في كل يوم عشر مرات لمدة خمسة أيام، أي: نفس عدد مرات التكرار لو جعلتها موزعة على الأيام فهو أحسن في الحفظ وأثبت من أن تجعلها في يوم واحد، ثم لا تفعل شيئاً في الأيام التي بعدها. 5/ وقالوا: العقل كالجسم يتعب عند الاستهلاك الشديد، ويحتاج إلى فترة راحة، ومن النادر أن تتعدى فترة التركيز عند أي شخص ساعة أو ساعة ونصف، وبعد ذلك يتوتر الجهاز العصبي، ويبدأ الذهن في رفض المعلومات التي تصل إليه، فلابد أن يتخلل وقت الحفظ فترات قصيرة من الراحة والاسترخاء، وهم يقولون: الموسيقى، ونحن نقول: تجديد الوضوء، ودخول الخلاء، وشرب شيء من المباحات لا بأس. 6/ وقالوا: كلما ازداد الاهتمام بالموضوع، وأحس الشخص بأهميته كان حفظه أسرع وأشد، وكلما كان كارهاً مرغماً كان الذهن أسرع في الشرود، ويكون الحفظ أصعب، ولذلك الطلاب الذين يذاكرون لأجل النجاح ويحفظون، الحفظ عندهم صعب، أما طالب العلم الذي همه العلم؛ يحيا لأجل هذا العلم، لطاعة الله، ليعبد الله على بصيرة، ويعلم قدر جلالة الكتاب العزيز، فإن انصرافه لهذا أشد وأفضل وأعلى وأحسن من انصراف صاحب الدنيا إلى كتبه ودراسته الدنيوية بلا شك؛ لأن صاحب العلم يشعر أن العلم الذي عنده أهم بكثير وأجل، ولذلك العلماء حفظوا أشياء لا يستطيع الآن الكيميائي ولا الفيزيائي أن يحفظ مثلهم. 7/ وقالوا كذلك: إذا تخيلت صوراً لما تحفظ يكون حفظك أثبت، وهم يضربون أمثلة، ونحن يمكن أن نقول مثلاً: إذا أراد إنسان أن يحفظ آيات فيها بناء الكعبة، فلو أنه وضع في ذهنه صورتها مثلاً والطائفين حولها، أو البناء كيف يبنى وهو يقرأ ليحفظ، ربما يكون أثبت له، وكذلك لو قرأ نصوصاً في الجهاد فكان يستحضر في ذهنه صوراً للجهاد والجياد والسيوف والطِعَان، فربما تكون أيضاً الصورة مرتبطة بالمقروء، ولذلك من أصعب الأشياء حفظ الأرقام المجردة، لكن لو قلت: خمس صلوات وكذا فربطت الأشياء بالأشياء صار أسهل. 8/ ولذلك عندهم من القواعد في الحفظ: الترتيب والتصنيف، فلو أخذنا مثلاً عشرين أداة من الأدوات وجعلناها مبعثرة، فإذا أردت أن تحفظها جميعاً يكون أصعب من أن لو صنفتها فوضعت مثلاً أدوات الطبخ جانباً، وقلت: هذه في خانة، وأدوات الكتابة جانباً، وقلت: هذه في خانة، وما يتعلق باللباس في جانب، وقلت: هذه في خانة، وحفظت كل خانة لوحدها، هذا يكون أحسن. فإذاً: تصنيف الأشياء وترتيبها يُعين على الحفظ. وكذلك من الأشياء التي تُستفاد في قضية الترتيب: الترتيب في حفظ القرآن، لو أراد إنسان أن يحفظ سورة البقرة مثلاً، من الأشياء المعينة على الحفظ أن يعرف مواضيع السورة، وأن يعرف ترتيب المواضيع في السورة، فمثلاً: بدأ بذكر المؤمنين، ثم المنافقين، ثم اليهود، ثم خلق آدم، ثم بناء الكعبة، وهكذا، فحفظ ترتيب المواضيع من الأمور المهمة، ولذلك يوجد تفاسير تعتني بذكر مواضيع السورة قبل البداية في تفسير السورة، فمثلاً من كتب علوم القرآن في هذا كتاب البقاعي رحمه الله، وكذلك كتاب الفيروزآبادي بصائر ذوي التمييز، فهذان كتابان فيهما ذكر مواضيع كل سورة. وكذلك من الكتب الحديثة التي تعتني بهذا كتاب الأستاذ سيد قطب رحمه الله يبين في مقدمة كل سورة ماذا تتناول السورة من المواضيع. وينبغي أن ننتبه إلى أن النظريات الحديثة تُزهد في الحفظ، وتُركز على الفهم، وتقول: المهم الفهم، وربما يُزهدون في الحفظ، فلا تستمع لهم؛ لأننا نعرف أن الأمر مكون من حفظ وفهم، وهذه طريقة علمائنا رحمهم الله تعالى، فإذا قالوا لك: لا داعي لإشغال الصغار والأولاد بحفظ هذه المقطوعات الطويلة، وهذا مُضر تربوياً، فاعلم أنهم هم المأفونة عقولهم، الذين عاقبة أمرهم إلى الزوال وشأنهم في سِفال، وهذه أفكار ضلال، ولكن هذه الطريقة التي سلكها العلماء وجربوها صاروا بها علماء. ولذلك دعك من هذه النظريات الحديثة التي تقول: إن حشو أذهان الأطفال بالمعلومات مُضر، والمهم أن الولد يفهم. لا. كانوا يحفظونهم المتون ولو فهم الصغير بعد ذلك يستعين بحفظه.

أولويات الحفظ

أولويات الحفظ ثم نأتي إلى نقطة مهمة، وهي قضية الأولويات في الحفظ، فينبغي للطالب أن يبدأ بحفظ كتاب الله عز وجل؛ لأنه أجل العلوم وأولاها بالسبق والتقديم، وهذه طريقة الصحابة ومن بعدهم، كانوا يحفظون الكتاب العزيز. عن الوليد بن مسلم قال: كنا إذا جالسنا الأوزاعي، فرأى فينا حدثاً، قال: يا غلام! قرأت القرآن؟ فإن قال: نعم، قال: اقرأ {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء:11]، وإن قال: لا. قال: اذهب تعلم القرآن قبل أن تطلب العلم. وكان يحيى بن يمان إذا جاءه غلام استقرأه رأس سبعين من الأعراف، ورأس سبعين من يوسف، وأول الحديد، فإن قرأها حفظاً حدثه، وإلا لم يحدثه. وقال أهل العلم: وإن أقواماً يصرفون الزمان إلى حفظ ما غيره أولى منه، وإن كان كل العلوم حسناً، ولكن الأولى تقديم الأهم والأفضل، وأفضل ما تُشوغل به حفظ القرآن الكريم: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282]. فإذا رزقه الله تعالى حفظ كتابه فليحذر أن يشتغل عنه بالحديث أو غيره من العلوم اشتغالاً يؤدي إلى نسيانه، ثم الذي يتبع القرآن من العلوم أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه، فيجب على الناس طلبها، إذ كانت أس الشريعة وقاعدتها، قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]. وكذلك ينبغي انتقاء الأشياء، فإذا أراد أن يحفظ من السنة ينتقي الأحاديث الصحاح الجياد، وأحاديث الأحكام -مثلاً- من الأحاديث الصحاح الجياد، قال أبو حاتم الرازي: سمعت أبي يقول: اكتب أحسن ما تسمع، واحفظ أحسن ما تكتب، وذاكر بأحسن ما تحفظ. ويبتدئ بسماع الأمهات من كتب أهل الأثر والأصول الجامعة، قال أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله: عجبت لمن ترك الأصول وطلب الفصول. وبعض الطلاب الآن يريد أن يدخل في التفاصيل فقبل أن يحفظ قصيدة رجزية في مصطلح الحديث، يبدأ بحفظ تقريب التهذيب وأسماء الرجال ومراتبهم، وهذا خلل ولا شك. إن أصح كتب الحديث الصحيحان، وبعدهما سنن أبي داود وسنن النسائي، وكذلك سنن الترمذي وغيرهم من أهل العلم رحمهم الله. وينبغي على طالب العلم أن يحفظ من موقوفات الصحابة وأقوالهم؛ لأنها في لزوم العمل بها وتقديمها على القياس ملحقة بالسنن، والموقوفات على التابعين، فيعلم أقوال أهل العلم ولا يشذ عنهم، ويحفظ من أقوال المفسرين ما يلزم في معرفة معاني الآيات، ويحفظ من مغازي وسير النبي عليه الصلاة والسلام في السيرة، ويحفظ كذلك بعد ذلك أشياء ومنها الشعر والحكم والأمثال. هذه طريقة العلماء، لكن نحن الآن إذا قلنا أن الغالب عدم التفرغ، فماذا يفعل الإنسان؟ لو قلنا له: اذهب واحفظ القرآن ثم تعال، ما تسمع منا ولا مسألة فقهية حتى تحفظ القرآن!! الآن هذا لا يُناسب، فينبغي على الطالب في هذا الزمان أن يُقدم كتاب الله في الحفظ، ويحفظ أحاديث، ويحفظ فتاوى العلماء؛ لكي ينقلها إلى الناس ويستفيد منها هو. فنقول: صحيح أن هذه الزمان تضاءلت فيه الهمم، وقلّت الأوقات، وكثرت الشواغل والصوارف، وصحيح أن برنامجاً مثل هذا البرنامج الذي يذكره بعض العلماء في حفظ الأشياء لا يكون متيسراً، لكن نحن نُسدد ونقارب، ولا نقول للشخص: هذه هي الصورة المثالية ولابد أن تفعلها، ونحن نعلم أنه لا يستطيع أن يفعل، وأنه يحتاج لحفظ القرآن ربما خمس عشرة سنة، لا نعلمه مسألة فقهية واحدة في خلال هذه السنوات، هذا غير صحيح.

من أخبار الحفاظ

من أخبار الحفاظ ونأتي في ختام المطاف إلى ذكر شيء من أخبار الحفاظ الذين أنعم الله بهم على هذه الأمة، وثقوا -أيها الإخوة- أننا نشعر بالعز والفخار من معرفة سيرهم، وأننا نقارع بهم الأمم، لا توجد أمة عندها حفاظ مثل الأمة الإسلامية مطلقاً، لا الإنجليز ولا الألمان، ولا الأمريكان ولا البيزنطيون، ولا الروم ولا الفرس، لا يوجد ناس عندهم حفاظ مثل الأمة الإسلامية أبداً، هذا شيء يشهد به القاصي والداني، والقريب والبعيد، ويشهد به التاريخ. ولذلك عندما تسمع الآن أخبار هؤلاء هات مثلهم من الغربيين، إذا صار عندهم هذا فهو ندرة، خزنوا كل شيء في الكمبيوترات وصارت عقولهم خاوية، وإذا توقف الكمبيوتر لا يستفاد لا منه ولا من جهازه، ولذلك نقول: صحيح أننا نستفيد من وسائل حفظ المعلومات، لكن إلغاء الحفظ شيء مضر جداً، ومن أسوأ الأشياء إلغاء الحفظ بالزعم أن هناك طرق تخزين حديثة، وماذا ينفعك الكمبيوتر وأنت بين الصفا والمروة تريد أن تستذكر شيئاً من الأذكار والأدعية، أو إذا قام الإمام إلى الركعة الخامسة، وتريد أن تستذكر الحكم فيها، أين جهازك في الصلاة؟! فإذاً: نرجع ونقول: أولاً وأخيراً الحفظ الحفظ.

أبو هريرة رضي الله عنه

أبو هريرة رضي الله عنه وأما الحفاظ فإن على رأسهم بعد الأنبياء الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، وعلى رأس الصحابة في الحفظ أبو هريرة رضي الله عنه، روى البخاري رحمه الله تعالى عن أبي هريرة، قال: [إن الناس يقولون: أكثر أبو هريرة، ولولا آيتان في كتاب الله ما حدثت حديثاً، ثم يتلو: ((إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى)) [البقرة:159] إلى قوله: ((الرَّحِيمُ)) [البقرة:160]، إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم -المزارع- وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشبع بطنه، ويحضر مالا يحضرون، ويحفظ مالا يحفظون]. هذا هو التفرغ وجمع العقل والهم، والهم: هو الحفظ، وقال أبو هريرة: (إنكم تقولون إن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: ما بال المهاجرين والأنصار لا يحدثونا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل حديث أبي هريرة؟ وإن إخوتي من المهاجرين كان يشغلهم صفق بالأسواق، وكنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملئ بطني -لا آخذ إلا ما يكفيني من الطعام- فأشهد إذا غابوا، وأحفظ إذا نسوا، وكان يشغل إخوتي من الأنصار عمل أموالهم، وكنت امرءاً مسكيناًَ من مساكين الصفة، أعي حين ينسون، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث يحدثه: إنه لم يبسط أحدٌ ثوبه حتى أقضي مقالتي هذه ثم يجمع إليه ثوبه إلا وعى ما أقول، فبسطت نمرة عليّ حتى قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته جمعتها إلى صدري، فما نسيت بعد مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك من شيء). هذا أبو هريرة رضي الله عنه، ومع ذلك ما حدث بكل ما حفظ، وهو أكثر الصحابة رواية على الإطلاق، فإنه الذي قال: [حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين، فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم] ولعل من ذلك حديث: (إن من أشراط الساعة إمارة الصبيان). ولذلك كان أبو هريرة يقول: [اللهم إني أعوذ بك من رأس الستين وإمارة الصبيان] ولذلك لما تولى الصبي في عام ستين للهجرة من الأمويين، الله عز وجل قبض أبا هريرة قبلها بسنة، فمات سنة تسع وخمسين للهجرة على قول.

الإمام البخاري رحمه الله

الإمام البخاري رحمه الله ومن الحفاظ الأجلاء وأعظم الحفاظ على الإطلاق، ومن أعظم من أنجبتهم هذه الأمة في الحفظ على الإطلاق الإمام البخاري رحمه الله تعالى بلا منازع، وهو مفخرة في جبين هذه الأمة، وغرة ودرة رحمه الله تعالى. كان أبو عبد الله البخاري يختلف معنا -هذا كلام حاشد بن إسماعيل - إلى مشايخ البصرة وهو غلام، فلا يكتب -يأتي للحلقة ولا يكتب شيئاً- حتى أتى على ذلك أيام، فكنا نقول له: إنك تختلف معنا ولا تكتب، فما تصنع؟ فقال لنا يوماً بعد ستة عشر يوماً مضت: إنكما قد أكثرتما علي وألححتما، فاعرضا عليّ ما كتبتما، فأخرجنا إليه ما كان عندنا، فزاد على خمسة عشر ألف حديث، فقرأها كلها عن ظهر قلب، حتى جعلنا نحكم كتبنا على حفظه -نصحح دفاترنا على حفظ البخاري - خمسة وأربعون يوماً جلس مع الشيخ، هم يكتبون وهو لا يكتب، إلى أن قالوا له: أنت تلهو وتلعب، فلتكتب مثلنا وإلا فارحل!! قال: اسمعوا فسرد علينا خمسة عشر ألف حديث من حفظه، فصرنا نصحح كراريسنا على حفظه، ثم قال: أترون أني أختلف هدراً وأضيع أيامي؟! فعرفنا أنه لا يتقدمه أحد. وقدم البخاري إلى بغداد، فسمع به أصحاب الحديث، فاجتمعوا وعمدوا إلى مائة حديث فقلبوا متونها وأسانيدها، ركبوا متن هذا على سند هذا، وعملوا لخبطة، ودفعوا إلى كل إنسان منهم عشرة أحاديث، وكانوا عشرة أشخاص، فصار المجموع مائة حديث، ثم جلس البخاري رحمه الله في المجلس وقد جاء الناس وأهل العلم وجلسوا، يأتي واحد يقول: يا أبا عبد الله! إني سائلك عن أحاديث، قال: سل، ويعطيه الأولَ المغلوطَ، يقول البخاري: لا أعرفه، الثاني، يقول البخاري: لا أعرفه، الثالث، العاشر، يقول البخاري: لا أعرفه، يأتي الثاني يقول: سائلك عن أحاديث، فيذكر الأول والثاني فيعرض العشرة التي عنده، والبخاري يقول: كذلك هذا، يقول: لا أعرفه، والثالث والرابع والخامس والعاشر، عرضوا عليه مائة حديث مغلوطة، كل ذلك يقول: لا أعرفه. أما أهل الغفلة؛ الناس الذين لا يعلمون من هو البخاري، كانوا يقولون: هذه سمعةٌ، جلسنا فما رأينا منه شيئاً، كله: لا أعرفه لا أعرفه، وأما أهل العلم بـ البخاري، قالوا: ما سكت إلا لشيء!! فلما انتهوا، قال: انتهيتم؟ قالوا: نعم، قال: أما أنت فقد قلت: كذا وكذا، والصحيح كذا وكذا، وقلت: كذا وكذا، والصحيح كذا وكذا، فصحح له أحاديثه العشرة كلها، ثم استلم الثاني وصحح له أحاديثه العشرة كلها، إلى أن أكمل مائة حديث. قال ابن حجر رحمه الله في كلامه: ليس العجب أن يحفظ البخاري الصحيح، ولكن العجب أن يحفظ البخاري الخطأ، أي: يقول: أنت قلت: كذا، والصحيح كذا، وهو الآن قاله لأول مرة! وحِفْظُ أشياء مغلوطة ليس كحفظ الصحيح الذي سمعه مراراً وتكراراً! فسبحان الذي أعطاه هذه الموهبة!! قال البخاري: تذكرت أصحاب أنس، فحضرني في ساعة ثلاثمائة. حضره هذا العدد فقط وهو يتذكر: من هم تلاميذ أنس؟ ثلاثمائة واحد في الذاكرة. قال أبو الأزهر: كان بـ سمرقند أربعمائة ممن يطلبون الحديث، فاجتمعوا سبعة أيام، وأحبوا مغالطة محمد بن إسماعيل البخاري، فأدخلوا إسناد الشام في إسناد العراق، وإسناد اليمن في إسناد الحرمين، فما تعلقوا منه بسقطةٍ لا في إسناد ولا في متن. وقال محمد بن خميرويه: سمعت محمد بن إسماعيل يقول: أحفظ مائة ألف حديث صحيح، وأحفظ مائتي ألف حديث غير صحيح، أي: لكي ينبه الأمة على الأحاديث الصحيحة، ويفلي الأحاديث الصحيحة من الأحاديث الضعيفة والموضوعة. فالرقم هذا قد يبدو للبعض مبالغاً فيه، لكن قال الذهبي رحمه الله: ما على وجه الأرض من أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام قرابة عشرة آلاف حديث صحيح، فإن قال البخاري: أحفظ مائة ألف حديث صحيح، فإنه يقصد الطرق والشواهد والمتابعات والمقاطيع، وغير ذلك، الطرق بأنواعها وأصنافها.

أحمد بن حنبل رحمه الله

أحمد بن حنبل رحمه الله أما أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، قال أبو زرعة: كان أحمد بن حنبل يحفظ ألف ألف حديث، فقيل له: وما يدريك؟ قال: ذاكرته وأخذت عليه الأبواب. وقال عبد الله بن أحمد قال لي أبي: خذ أي كتاب شئت من كتب وكيع من المصنف، فإن شئت تسألني عن الكلام حتى أخبرك الإسناد، وإن شئت الإسناد حتى أخبرك عن الكلام.

إسحاق بن راهويه رحمه الله

إسحاق بن راهويه رحمه الله وكذلك فإن من العظماء في الحفظ إسحاق بن راهويه رحمه الله تعالى، قال ابن هشرم: كان إسحاق بن راهويه يملي علي سبعين ألف حديث حفظاً. وقال أبو إسحاق بن إبراهيم الحنظلي: أعرف مكان مائة ألف حديث كأني انظر إليها، وأحفظ منها سبعين ألف حديث من ظهر قلب صحيحة، وأحفظ أربعة آلاف حديث مزورة، فقيل: ما معنى المزورة تحفظها؟ قال: إذا مر بي منها حديث في الأحاديث الصحيحة، فليته منها فلياً.

بكر بن محمد الحنفي رحمه الله

بكر بن محمد الحنفي رحمه الله وكان بكر بن محمد الحنفي إذا طلب منه المتفقه الدرس ألقى عليه من أي موضع شاء من غير مطالعة كتاب، يسرد له من هنا ومن هنا من أي مكان في الكتاب، وسئل عن مسألة، فقال: هذه المسألة أعدتها في برج من حصن بخارى أربعمائة مرة.

سليمان بن داود الطيالسي رحمه الله

سليمان بن داود الطيالسي رحمه الله وسليمان بن داود الطيالسي كان من كبار الحفاظ، قال عمر بن شبة: كتبوا عن أبي داود أربعين ألف حديث وليس معه كتاب.

سفيان الثوري رحمه الله

سفيان الثوري رحمه الله وسفيان الثوري رحمه الله قبل ذلك من أشد الناس حافظة، قال: ما استودعت أذني شيئاً قط إلا حفظته، حتى أمر بكذا، فأسد أذني مخافة أن أحفظها، وفي رواية: أمر بالحائك يغني فأسد أذني. لأنها لو دخلت لما خرجت.

الشعبي رحمه الله

الشعبي رحمه الله والشعبي كذلك رحمه الله تعالى، قال ابن شبرمة: سمعت الشعبي يقول: ما كتبت سوداء في بيضاء إلى يومي هذا، وما حدثني رجل بحديث قط إلا حفظته، ولا أحببت أن يعيده عليّ، ولقد نسيت من العلم ما لو حفظه أحد لكان به عالماً. أي: رغم هذا الحفظ الأشياء المنسية لو أن أحداً آخر حفظها لأصبح عالماً. وعن الشعبي قال: لا أروي شيئاً أقل من الشعر -أقل محفوظاتي شعر- ولو شئت لأنشدتكم شهراً لا أعيد. هذا أقل المحفوظات، لو جلس يسرده شهراً فإنه يأخذ وقتاً كثيراً بدون أي بيت معاد.

عبد الله بن أبي داود السجستاني رحمه الله

عبد الله بن أبي داود السجستاني رحمه الله وأما عبد الله بن أبي داود السجستاني، عبد الله بن سليمان بن الأشعث بن أبي داود رحمه الله تعالى، قال إبراهيم بن شاذان: خرج أبو بكر بن أبي داود إلى سجستان -هذا الولد- فاجتمع إليه أصحاب الحديث، وسألو أن يحدثهم فأبى، وقال: ليس معي كتاب، فقالوا له: ابن أبي داود وكتاب؟!! قال: فأثاروني فأمليت عليهم ثلاثين ألف حديث من حفظي، فلما قدمت بغداد، قال البغداديون: مضى فلعب بالناس -نتحقق- فكتبوا كل ما قيل، وجاءوا بها إلى بغداد، وعرضت على الحفاظ، فخطئوني في ستة أحاديث، منها ثلاثة حدثت بها كما حُدثت -أي: حفظتها أصلاً خطأ- وثلاثة أحاديث أخطأت فيها. من كم؟ من ثلاثين ألف حديث، هذا الابن فما بالك بـ أبي داود رحمه الله؟!

أبو زرعة رحمه الله

أبو زرعة رحمه الله وأما أبو زرعة الرازي، قال أبو زرعة: في بيتي ما كتبته منذ خمسين سنة ولم أطالعه منذ كتبته، وإني أعلم في أي كتاب هو، وفي أي ورقة هو، وفي أي صفحة، وفي أي سطر هو، وما سمعت أذني شيئاً من العلم إلا وعاه قلبي، فإني كنت أمشي في سوق بغداد فأسمع من عزف المغنيات، فأضع إصبعي في أذني مخافة أن يعيه قلبي. وسُئل أبو زرعة الرازي عن رجل حلف بالطلاق أن أبا زرعة الرازي يحفظ مائتي ألف حديث، هل حنث؟ فقال: لا. وقال أبو زرعة الرازي: أحفظ مائتي ألف حديث كما يحفظ الإنسان (قل هو الله أحد) وفي المذاكرة ثلاثمائة ألف حديث.

أبو عبد الله الختلي رحمه الله

أبو عبد الله الختلي رحمه الله وأبو عبد الله الختلي دخل وليس معه شيء من كتبه، فحدث شهوراً إلى أن لحقته كتبه، أي: جاء إلى بلد مسافراً ولم تصل كتبه بعد، الكتب في الشحن، فحدث، قال: حدثت بخمسين ألف حديث من حفظي، إلى أن لحقتني كتبي.

الحافظ الدارقطني رحمه الله

الحافظ الدارقطني رحمه الله وأما الحافظ الدارقطني رحمه الله، فإنه من صغره كان مشهوراً بالحفظ، حضر في حداثة سنه مجلس إسماعيل الصفار، فجعل ينسخ جزءاً معه وإسماعيل يُملي، الدارقطني يكتب وهو صغير، فقال له أحد الحاضرين: لا يصح سماعك وأنت تنسخ، إذا أرادت أن تكون صحيح السماع، فلابد أن تسمع وتتفرغ للسماع، ولا يصلح أن تنشغل بالكتابة، فقال الدارقطني: فهمي للإملاء غير فهمك، ثم قال: أتحفظ كم أملى الشيخ من حديث إلى الآن؟ فقال: لا، فقال: أملى ثمانية عشر حديثاً فعد، قال: فعددت الأحاديث فكانت كما قال، قال: الحديث الأول عن فلان عن فلان ومتنه كذا، والحديث الثاني عن فلان عن فلان ومتنه كذا، فلم يزل يذكر أسانيد الأحاديث ومتونها على ترتيبها في الإملاء، حتى أتى على آخرها فتعجب الناس منه. أي: وهو يكتب عن الشيخ يحفظ! والآن كثير من الناس يكتبون، لكن إما كتابة أو حفظاً، لا يستطيع أن يجمع بين الأمرين.

الجعابي رحمه الله

الجعابي رحمه الله والجعابي رحمه الله دخل الرقة وكان له قنطاران من الكتب، فأنفذ غلامه ليأتي بالكتب فضاعت، فرجع الغلام مغموماً، قال: ضاعت الكتب، فقال: يا بني! لا تغتم، فإن فيها مائتي ألف حديث لا يُشكل عليّ منها حديث، لا إسناداً ولا متناً. فسواء ضاعت الكتب أو ما ضاعت. هذا حال طائفة من جهابذة هذه الأمة وحفاظها، فأين لهؤلاء الكفرة والذين يدعون الحضارة والعلم مثل هؤلاء؟! وختاماً نسأل الله سبحانه وتعالى أن يلهمنا رشدنا.

التنافر والتجاذب في العلاقات الشخصية

التنافر والتجاذب في العلاقات الشخصية إن من يشاهد في هذه الأيام أوساط المسلمين ومجتمعاتهم- يجد حالة المسلمين وعلاقاتهم بين إفراط وتفريط، إما تنافر وتقاطع على أهواء ومصالح دنيوية، أو تجاذب وتوارد على شهوات شيطانية، أو مصالح دنيوية، وقد ذكر الشيخ حفظه لله أسباب التنافر وكيفية علاجه، وأنواع التجاذب والتحاب وكيفية التعامل معه، ثم أتبع ذلك بأسئلة ختامية في الموضوع نفسه.

أسباب التنافر في العلاقات الشخصية

أسباب التنافر في العلاقات الشخصية الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أيها الإخوة! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أولاً: أعتذر إليكم عن شيءٍ أرجو أنه لا ذنب لي فيه، ولعل لبساً حصل في كيفية الإتيان إلى هذا المكان، فاضطررت أن آتي إليه وأنا لا أعلم مكانه، وهذه المحاضرة كما ترونها أظن الوقت ليس بمتسع لأن نأتي عليها، ولكنني سأتكلم معكم عن موضوعٍ أرجو أن يكون فيه خيرٌ لي ولكم وفائدة إن شاء الله. وهذا الموضوع أيها الإخوة! يدور حول فقرة من الفقرات التي تضمنها وتناولها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، في دلائل الإيمان، وهذه الفقرة هي قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله) وهذه القضية أيها الإخوة! تتكون من شقين أريد أن أتناولهما بالكلام معكم في هذه الليلة. الشق الأول: التنافر الذي يحدث بين النفوس عندما تتقابل في وسطٍ واحد. الشق الثاني: التجاذب الذي يحدث بين بعض النفوس عندما تتقارب في الوسط الواحد. من أكثر المشاكل التي تواجه فريضة الأخوة في الله في واقعنا، ما يحدث بين بعض الشباب من التنافر أو التجاذب، ولكلٍ منهم إيجابيات وسلبيات، التنافر طبعاً لا خير فيه، ولكن التجاذب هو الذي أقصد بكلامي أن فيه إيجابيات وفيه سلبيات، ونظراً لكثرة المشاكل الحادثة في هذا الموضوع، نريد أن نسلط عليه الضوء.

ضعف الإيمان

ضعف الإيمان أما التنافر أيها الإخوة: فإنه يكون بأسباب، منها: ضعف الإيمان، ولذلك تجد أنه لو التقى أخوان شابان مثلاً، اثنان أو اثنتان في وسطٍ واحد فحدث بينهما تنافر، فإن هذا التنافر وهذا الكره الذي يقوم في نفس كل واحدٍ منهما، أو نفس واحدٍ منهما له أسباب، فأنت عندما تنفتح على مجموعة من الناس، تدخل مثلاً مركزاً من المراكز الصيفية، أو مدرسةً من المدارس، أو مجتمعاً من المجتمعات، فإنك تحس بالقرب من أناس، وبالابتعاد من أناس آخرين، بعض الناس لأدنى سبب من أسباب الابتعاد فإنه يهجر أخاه، ولا يبالي بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لمسلمٍ أن يهجر أخاه فوق ثلاث) فهناك الآن من الناس من يحسب على قائمة المتمسكين بهذا الدين، قد هجر أخاً له أو صاحباً ليس في ذات الله، وإنما لهوىً يحدث في نفسه. فمثلاً: يحدث بينهما اختلاف في وجهة نظر حول قضية من القضايا مثل: كيف نطبق أمراً من الأمور، أو كيف نسلك سبيلاً لحل مشكلةٍ ما، فيكون هذا الخلاف في الرأي مفسداً للود، مفرقاً لهذا الإخاء الذي من المفترض أن يكون في النفوس، مع أن السبب تافه في بعض الأحيان، لكنه يولد مفسدة عظيمة من الفرقة والاختلاف. أحياناً -كما قلت- يكون السبب ضعف الإيمان في نفس أحدهما أو كلاهما، الأرواح جنود مجندة، وأهل الإيمان يلتقون وينجذبُ بعضهم إلى بعض، ولو لم يعرف بعضهم بعضاً، أليس يحدث هذا أيها الإخوة؟! أحياناً في موسم الحج مثلاً، تلتقي بأخٍ لك من الباكستان أو من الهند أو من إندونيسيا، أو من ليبيا أو من أوروبا، فيحدث أثناء الكلام انجذابٌ فيما بينك وبينه، بسبب الأخوة الإيمانية الحاصلة. فإذا ضعف الإيمان عند أحدهما فإنه لن ينجذب إلى الآخر الذي قوي إيمانه في بعض الأحيان، وأحياناً قد يحبه من باب أنه يستفيد منه، أو يقتدي به، أو أنه يجده ضالاً ومنقذاً له من حمأة المجتمع السيئ الذي يعيش فيه، ومن لاحظ أن بينه وبين أخيه نوعاً من التنافر، فعليه أن يبحث على السبب ما هو؟ قد يكون الضعف في الإيمان هو الذي أدى إلى هذا التنافر بينهما، لو قوي الإيمان لارتفع هو وأخوه فوق مستوى الخلافات في الآراء، وفوق مستوى النزغات التي ينزغها الشيطان، لذلك الله عز وجل يقول: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ} [الإسراء:53]. من الأسباب مثلاً: سوء الظن، فترى الواحد من هذين الأخوين عندما يرى تصرفاً من أخيه يقول: هذا ما عنى بالتصرف إلا ليضرني، هذا ما تقدم عليّ بالكلام في المجلس إلا لكي يعزلني على جنب، ويستلم هو صدارة المجلس، ويكون هو المتحدث الرسمي باسم الدين مثلاً في ذلك المجلس، ويقول: أخذ علي الوقت كله، ولم يترك لي فرصة للكلام؛ يريد أن يجعلني إنساناً لا قيمة له بين هؤلاء الجالسين، وقد يكون الشخص الأول قصده غير ذلك. رأى نفسه منطلقاً في الكلام، ورأى الحاضرين تأثروا بكلامه، فجلس يتحدث ويتكلم ولم يخطر بباله لحظة واحدة، أنه يقصد بإطالة الكلام أن يجعل ذلك الشخص معزولاً منبوذاً عن هذا المجلس، فيأتي الشيطان فيسول لهذا الشخص، ما قصد بهذه الحركة إلا كذا، وهذا كثير. مثلاً: يحدث تصرف من التصرفات؛ كلمة يقولها واحد لآخر، فيسمعها الشخص المقصود الذي يسيء الظن، فيفسرها كل التفسيرات السيئة إلا التفسير الحسن الذي قد يكون هو القريب من الواقع فعلاً، ولذلك نبه الله عز وجل المؤمنين إلى هذه المسألة في سورة الحجرات، فقال الله: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12]. لأن هناك ظناً شرعياً مثل: غلبة الظن الذي تبنى عليه كثيرٌ من الأحكام الشرعية، مثل أن الإنسان عندما يرجح في الصلاة أن التي صلاها أربعاً وليست ثلاثاً، فإنه لا يأتي بركعةٍ زائدة، وإنما يعتمد على ما غلب على ظنه من رجحان أن تكون التي أتى بها هي الركعة الرابعة فلا يزيد، وهذا ليس موضوعنا، موضوعنا عن ظنٍ سيئ يقوم في بعض النفوس كتفسيراتٌ سيئة لبعض الكلمات والتصرفات، تسبب التنافر والابتعاد.

النظرة الطبقية والمادية

النظرة الطبقية والمادية أحياناً: يكون سبب التنافر غير شرعي أيضاً، مثل أن يقول: إن فلاناً منظره ليس جميلاً، أو أن هندامه ليس أنيقاً، أو أن مركبه ليس وثيراً، وهكذا، فيحدث نوع من التباعد، وخصوصاً عندما يكون الإنسان من طبقة اجتماعية معينة فيها غنى أو ثراء، فتراه يحس أن الذين دونه في الطبقة الاجتماعية، ودونه في الغنى والثراء بعيدون عنه، وأن هؤلاء تحته بمنازل، كيف يمكن أن تحدث الأخوة في الله بين الذي ينظر هذه النظرة المادية؟ ولذلك ترى بعض الناس يتقاربون ممن هم في طبقتهم الاجتماعية، أو مثلهم في الغنى والثراء تقارباً زائفاً قد يبدو في الظاهر أنهم إخوة في الله وليسوا كذلك. فهذا أيضاً من الأشياء التي يجب أن تعالج في النفس، ومجتمع الرسول صلى الله عليه وسلم من عظمته أنك تجد فيه أثرى الناس وأفقر الناس يجتمعون مع بعضهم البعض، يقاتلون صفاً واحداً، ويحضرون مجالس العلم المختلفة، لا يأنف عبد الرحمن بن عوف أن يجلس بجانب بلال وهكذا. لكن في مجتمعاتنا قد يحدث هذا، وقد يرى بعض المتفوقين دراسياً أنهم أرقى عقولاً أو أذهاناً أو قوةً في التفكير من أناسٍ آخرين من البسطاء المتخلفين في الدراسة، فيجد في نفسه أن يمشي مع هذا الشخص!! لابد أن يمشي مع أشخاص متفوقين دراسياً، ولذلك يبتعد عن الضعفاء، والرسول صلى الله عليه وسلم بين كما ورد في صحيح البخاري: (ابغوني الضعفاء؛ إنما تنصرون وترزقون بضعفائكم). أحياناً: في بعض الأنشطة الإسلامية بعض الشباب يحتقر ناساً من البسطاء الموجودين في هذا النشاط، وقد يكون هؤلاء البسطاء هم من الأسباب الكبيرة في توفيق الله لهذا النشاط الإسلامي، لأن الله مع الضعيف، لماذا يستجاب دعاء المظلوم؟ لماذا يستجاب دعاء المسافر؟ لماذا يستجاب دعاء المريض؟ لأن الذي يجمعهم هو الضعف الذي يحصل لهم بسبب وجودهم في هذه الحالات التي سببت ضعفهم، المسافر بسبب غربة ومشاق السفر يصبح ضعيفاً فيه ذلة، المريض أيضاً فقد صحته، وهو يرى الأصحاء ففيه نوع من الذلة والمسكنة، المظلوم مقهورٌ مغلوب وفيه نوعٌ من الذلة والمسكنة، ولذلك يستجاب لهم، كما بين ابن القيم رحمه الله في تحليلٍ رائع في مدارج السالكين لهذه النقطة. فإذاً تنافر بعض الشباب عن البعض بسبب تفوقهم في بعض النقاط المادية، سبب ليس بشرعي للتنافر، ولا للإعراض ولا للهجران، ويجب أن تتلمس هذه الأسباب في النفوس، وكل واحد منا مسئولٌ عن النزعات التي تقوم بنفسه.

حب الترؤس على الآخرين

حب الترؤس على الآخرين أحياناً: يكون سبب التنافر حب الرئاسة، وهذا سببٌ دقيق وهي الشهوة الخفية التي جاء التعبير في بعض الآثار، حب الرئاسة هذا يريد وأن تكون له القيادة والريادة، وأنه يجمع في يده زمام أكبر عدد ممكن من المسئوليات، وقد يكون صاحب شخصية قوية. والشخصيات القوية في الغالب تنزع هذا المنزع، وعندما يجتمع مجموعة من الناس في وسط، فإن من الأمر أنه لا يخلو أن يوجد أكثر من واحد صاحب شخصية قوية، وأكثر من واحد يريد أن تكون له القيادة ويريد أن يستلم الريادة، ويريد أن يكون هو الذي يوجه ويسير دفة الأمور. والعادة أن هذه الشخصيات لا تتنازل بسهولة عن آرائها، ولا ترضى بسهولة أن تطبق فكرة شخص آخر، وعندما يجتمع اثنان على الأقل من هذه النوعية، كلٌ منهما يريد أن تكون له الكلمة، يحدث بينهما تنافر وابتعاد، ويرى كلٌ منهما أنه أهلٌ لأن يكون في هذا المكان. ولذلك ترى حالة هذا الوسط المصغر الذي نتكلم عنه والذي وضعنا الآن شريحته تحت المجهر، إما أن يكون الصراع قائماً محتدماً لفترةٍ طويلة من الوقت حتى يهدي الله أحدهما أو كلاهما، أو أنك تجد واحداً استطاع أن يسيطر على الموقف ويقهر الآخر، فيضطر الآخر إلى الخروج من الساحة، أو أن يقبع ساكتاً طيلة الوقت، ويكون ما بينهما من الضغينة والبغضاء شيء كثير جداً.

الحظوظ والأشياء النفسية

الحظوظ والأشياء النفسية هذه طائفة من الأسباب التي تولد التنافر، أحياناً يكون هناك سبب نفسي، تجد تفسير هذا السبب في بعض العبارات التي يطلقها البعض، فتجد واحداً يقول: أنا يا أخي ما ارتاح لفلان ولا لطريقته، ما ارتاح لكلامه، ما ارتاح لإلقائه، أنا عندما يتكلم أريد أن أسد أذني، عندما يأتي للمجلس أود أن أفارقه بأقصى سرعة، لا أريد أن أقع له على أثر، ولا أرى له منظر، ولا أسمع له خبر وهكذا يجب ألا تقف المسألة عند هذا الحد، بعض الناس أحياناً يقولون: ما دام وصلنا إلى هذا الشكوى لله، إذاً اجتنب هذا الشخص، ويذهب كلٌ منكما في طريقٍ وسبيلٍ آخر، لكن المشكلة لم تحل! ولذلك ينبغي أن يدقق وتحلل هذه المواقف وأن ينظر ما هو السبب وراء هذه القطيعة وهذا التنافر، فهل هو مواقف؟ أحياناً يكون السبب موقفاً من المواقف ترتب عليه كره وبغضاء شديدة جداً، أحياناً يكون الموقف فعلاً خطأ، ولكن ينبني على هذا الخطأ خطأ أكبر منه وهو الكره الذي يحصل في نفس هذا المخطئ عليه. أسألكم سؤالاً: أليس قد حدث لكل واحدٍ منا مثلاً في حياته الدراسية، أنه في حصةٍ من الحصص مثلاً قد يختار المدرس مجموعة أو واحداً واحداً من الطلاب لكي يقول رأيه في مسألة؟ يطرح الموضوع ويقول: تكلم يا فلان، كل الطلاب يرفعون أيديهم، وهو ينتقي، تكلم يا فلان، تكلم يا فلان، تكلم يا فلان، أليس قد حدث مرةً من المرات أو أكثر من مرة، أنك عندما تكون لست الشخص الذي يختارك المدرس للكلام في ذلك الموقف، أن تحس أن هذا المدرس يقصد ذلك، وأنه لا يريدك أن تتكلم عمداً وإلا لانتقاك؟ ويكون في نفسك شيءٌ من البغضاء لهذا المدرس، لماذا سمح لفلان وفلان بالكلام ولم يسمح لي المجال للكلام؟ أليس قد حدث هذا؟! قد يكون المدرس بهواه وميوله الذاتية أو الشخصية قد انتقى الناس الذين يميل إليهم ليفسح لهم المجال للكلام، وقد يقول إنسان: معذور جداً، لأن الوقت المقرر لمناقشة هذا الموضوع في الحصة حقيقةً وواقعاً وعقلاً لا يكفي ولا يستوعب كل طلاب الفصل، ولذلك فهو انتقى انتقاءً عشوائياً مثلاً. وليس هناك سبب معين لأن يحرم طالباً من الكلام، ولكن الطالب قد لا يكون عنده فقهٌ في المسألة فيتصور أنه مقصود، فيعادي هذا المدرس ويكرهه، ويكون هذا الموقف الواحد سبباً في أن تتراكم الكراهية في نفس هذا الطالب، وأن يفسر كل التصرفات التي تحدث بعد ذلك من هذا المدرس على أنه مقصود فيها. هذه صورة ولكن ما يحدث في واقع الأخوة في الله! كثيرٌ جداً في هذا الجانب. ولذلك نحن ندعو دائماً ونقول لك: يا أيها الشاب! إذا أحسست ببعض المواقف مما أذكره لك الآن، فلا تتردد لحظةً واحدة في إجراء عملية مهمة جداً وهي المصارحة، كثير من النفسيات في كثيرٍ من الأحيان تفضل تخزين المواقف في الداخل، ولا تصارح البتة ولا يأتي ويصارح ويقول: يا أخي لقد حدث منك تصرف في وقت كذا وكذا، وأنا أقول لك: الصراحة أنني فهمت منه كذا وكذا، قد يكون هذا من الشيطان، وقد يكون فعلاً أنت قصدته فأنا أريد أن توضح لي الأمر، وأن تبين، كثيرٌ من الناس لا يوجد عندهم هذا الأسلوب وهذا المنهج. وبسبب فقدان منهج المصارحة؛ فإنك تجد النقاط السوداء تتراكم في النفس حتى تكون بركاناً ينفجر يوماً من الأيام، وعندما نستعرض واقع بعض الصحابة نجد أن الأمر بينهم فيه مصارحة ومعاتبة، فتجد الواحد منهم لو حدث بينه وبين أخيه شيء جاء يعاتبه عما حصل، والآخر يعتذر إليه في كثيرٍ من الأحيان، نحن نفتقد إلى المعاتبة والاعتذار، قد تحدث معاتبة ومصارحة في بعض الأحيان، وقد تجد خطأً آخر وهو عدم الاعتذار وعدم التبرير الواضح، وإذا لم يكن هناك تبرير واضح، فمن أين تأتي الراحة؟! ولذا أوصيكم أن إذا وجد أحدكم شيئاً في نفسه على أخيه في موقف من المواقف، كلمةٍ من الكلمات، حدثٍ من الأحداث، أن يبادر ولا يسكت ولا يؤجل، لأن الأثر يبقى في النفس والموضوع يبرد، وإذا برد الموضوع لن يتجرأ ولن يكون هناك حماس في فتحه مرةً أخرى، ولكن النقطة السوداء بقيت في النفس، فالبدار البدار إلى المصارحة وإلى فتح النفس وتقول له معاتباً: أنا أعتب عليك يا أخي في هذا التصرف، وأنا لك أذن صاغية لأن أسمع عذرك. بعض الناس قد يخجل -أقول: يخجل ولا أقول يستحي- من المصارحة، وخصوصاً عندما يكون الشخص الذي يظن أنه أخطأ عليه أكبر منه سناً، ويبدأ الكره ينبض في قلبه، ولا يستطيع أن يكلمه ونجد أمثلة كثيرة جداً لهذه النقطة بين بعض الآباء وبعض الأولاد. كثيرٌ من الأولاد: عندما يجتمع مع أقرانه يبثُ إليه أشجاناً كبيرة وعظيمة، ويفتح له صدره على مكنونات سوداء تجاه أبيه، لماذا لا يصارح الولد أباه؟ يجد أنه لا يمكن أن يفاتح أباه، قد تكون شخصية الأب غير متفهمة، ولكننا في كثيرٍ من الأحيان نفتقد إلى الجراءة، ولو أننا فعلنا المصارحة أو المعاتبة مرةً واحدة؛ لانكسر ذلك الجدار من الخجل أو من الهيبة، نقول: اكسر الحاجز أفضل من أن تتراكم الكراهية في قلبك.

علاج قضية التنافر في العلاقات الشخصية

علاج قضية التنافر في العلاقات الشخصية ما هو موقفنا نحن من حالات التنافر؟ نحن قد نرى في الواقع، في الأوساط التي نعيش فيها، في المدارس، وفي الجامعات، وفي البيوت، وفي الديوانيات والمجالس قد نرى حالات تنافر، وفي وسط أقربائنا قد نرى حالات من التنافر، ما هو موقفنا من هذه الحالات؟

التوفيق والإصلاح بين الاثنين

التوفيق والإصلاح بين الاثنين من الإنجازات العظيمة -أيها الإخوة، وأقولها وأنا واثقٌ من هذه الكلمة- أن تؤلف أو توفق وتقرب بين اثنين متنافرين، لأن المسألة صعبة جداً، والله عز وجل قال لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} [الأنفال:63]. ولذلك المرتزقة الذين يقاتلون في كثيرٍ من الأصقاع ضد الإسلام أو في الصراعات التي تدور في العالم ليسوا بمؤتلفين، ربما لو أنه قُتل صاحبه في جانبه لا يتأسف عليه، لأن المهم أن يستلم الراتب في النهاية أو يستلم هذا الارتزاق الذي يزعمه، ولكن الأخوة في الله، والمجتمع المسلم، ليس فيه شيء من هذا. أولاً: نجد في الإسلام أشياء تساعد على التقريب بين المتنافرين، مثلاً: وضح رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أنه ليس من الإثم أن تكذب للإصلاح بين المتخاصمين، فمثلاً: لو جاءك واحد وقال لك: يا أخي أنا هذا فلان أكرهه كرهاً شديداً، لماذا؟ قال: بلغني أنه قال في المجلس الفلاني عني: كذا وكذا. بلغني أنه قال عني في المجلس الفلاني نقداً أو عيباً استهزاء وسخرية، يمكنك في هذه الحالة شرعاً، أن تقول له: وأنت كنت حضرت في المجلس؟ لا يا أخي ليس بصحيح، أنا كنت موجوداً في المجلس فلان صحيح تكلم بكلام لكن ما هو مثل الذي تقوله أبداً، يعني: كلام فيه شيء من النقد، لكنه شيء بسيط ما يذكر، هذا الذي أخبرك نمام، يريد الإفساد بينك وبين فلان، لا، أنا كنت موجوداً، وفي هذه الحالة ينبغي أن ننتبه لأمور: الأمر الأول: أن يكون الإنسان حكيماً عندما يكذب للإصلاح بين المتخاصمين، لأن بعض الناس مثلاً يُعاب في مجلس ويأتيه خمسة أشخاص يقولون له: فلان قال: إنك بخيل مثلاً، وأن القرش لا يخرج من جيبك بسهولة وأنك إنسان إلخ. ليس من الحكمة هنا أن تقول: لا يا أخي أبداً ما ذكر كلمة بخيل مطلق، بالعكس قال: إنك كريم، الآن هذه الكذبة ليس فيها حكمة؛ لأن أربعة أو خمسة أشخاص يقولون ويؤكدون للشخص أن فلاناً قال عنه بخيل، وبعد ذلك أنت تقول له العكس تماماً برواية من طريقٍ واحد!! هذا ليس فيه حكمة أبداً، ولذلك نجد أن بعض المصلحين، أو الذين يحاولون الإصلاح، يزيدون الأمر تعقيداً، أو على الأقل أنهم يستثنون أنفسهم من الإصلاح، كيف؟ عندما تقول له: فلان ما قال عنك بخيل أبداً، ماذا سيقول في نفسه؟ يقول: إيه أنا أعرف شغلي مع فلان، لأنه يعرف أنك أنت الآن تريد الإصلاح، فإذاً لابد من الحكمة في الإصلاح بين المتنافرين، ولابد من الحكمة حتى في الكذب في الإصلاح، وليست كل كذبة صحيحة ودقيقة أو هي تكون بلسماً على الجرح، وإنما قد تزيد الجرح إيغاراً أو تعميقاً. بعض الناس المصلحين بين المتخاصمين يزيد الطين بلةً أيضاً، بأشياء أخرى من الكلام، كلام سيء قيل عنه في مجلس، فقد يأتي واحد مصلح يريد الإصلاح لكن ليست عنده حكمه، فيقول: يفسر ويبرر بأسوأ وأسوأ يقول: أنا ما قصدت ربما قصدت كذا، وهذا القصد الثاني أطم وأعظم من القصد الأول، فأيضاً العلاج هذا غير نافع. بعض الناس قد يلجئون إلى أساليب معينة خصوصاً في أوساط الطلاب، مثلاً: رتبا هذه الغرفة، وهذا إشراك الطرفين في أمرٍ واحد، ليس دائماً تهيئة للأجواء الطيبة، بل قد يكون الكره الذي بينهما شديداً؛ لدرجة لو أنك جمعتهما في مناسبةٍ واحدة لازداد الخطب وعظم، وكل واحدٍ منهما يكظم غيظاً وهو ساكت، ولكنه يغلي من الداخل، لأنه بقرب فلان، ولكنني أذكر لكم مثالاً واقعياً في طريقة حصلت لإصلاحٍ بين متنافرين كان لها أثر واقعي فعلاً: حصل بين زيدٍ وعمرٍ من الناس خصام وكره وبغض، فقال: المدرس لكلا الطالبين: ليأخذ كلٌ منكما سيارة الآخر، وفعلاً استجابا للطلب؛ لأنه من شخص أعلى منهما في المنزلة، فأخذ كل منهما سيارة صاحبه، هذا العلاج وهذه الوسيلة ليس فيها جمع للنقيضين في مكانٍ واحد، وطلب من كلٍ منهما أن يعمل نفس العمل، كلا، وإنما هو أن يشتركا في شيء، ولكن كل منهما بعيد عن الآخر. أيها الإخوة! نحن نحتاج في علاج القضايا الشائكة إلى خبرة بالنفوس، وهذه الخبرة لا تأتي إلا بالممارسة والاحتكاك بالواقع، والمسألة تحتاج إلى قليلٍ من التركيز، وقليل من الانتباه -لا أقصد قليل، ربما أكون مخطئاً في التعبير- بل تحتاج إلى انتباه وإلى تركيز للاستفادة مما يدور، فالناس أصناف، وأنواع، بعضهم ينظر إلى الواقع، فيستشف منه أشياء ويربط ويحلل، وبعض الناس لا يهمه ماذا يدور في الواقع أبداً، يرى الناس يتخاصمون، ويفترقون ويجتمعون، ويتصالحون ويتنازعون، وهو بعيد عن النظر في المشكلات ومعرفة الأشياء التي أدت إلى التقارب والتنافر وهكذا.

الموعظة والنصيحة للمتخاصمين

الموعظة والنصيحة للمتخاصمين من الطرق: الموعظة: عندما تعظ كل واحد من هذين المتخاصمين، بالأحاديث التي فيها ذم الهجران والقطيعة، وأنها من أسباب الفشل في المجتمع المسلم: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46] حديث عائشة في صحيح البخاري، حديث قيم جداً لما صار بينها وبين ابن الزبير خصام. ما هي الصلة بين عائشة وبين عبد الله بن الزبير؟ هي خالته أخت أمه، ومن هي أمه؟ أسماء. هذا الحديث الذي رواه الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه في كتاب الأدب، أن عبد الله بن الزبير انتقد على عائشة خالته تصرفاً تصرفته ببيعٍ أو شراء، فاتهمها بأنها لا تحسن التصرف، فلما سمعت بذلك نذرت ألا تكلم عبد الله بن الزبير أبداً طيلة حياتها، الصحابة بشر ويقع في نفوسهم مثل ما يقع في أنفس الناس، قد يخطئون فينتقدون، والمنتقد أيضاً يحدث في نفسه تفاعل مع الموقف فيتخذ موقفاً آخر، ولكن نحن سنعلم من ثنايا القصة، ما هو الفرق بيننا وبين الصحابة، فبقيت عائشة لا تكلم عبد الله بن الزبير مدة، وطال الأمر وشق على عبد الله بن الزبير. فتوسط إلى اثنين من القرابة، أن يدخلا على خالته، فجاءا إلى عائشة وعبد الله مختبئ خلفهما، فاستأذن بصوتيهما فقط، فلما عرفتهما عائشة قالت: ادخلا، قالا: كلنا؟ قالت: كلكم، فلما دخلا عليها جعلا يعظانها ويذكرانها بأنه لا يحل لمسلمٍ أن يهجر أخاه فوق ثلاث، وجعل عبد الله بن الزبير يقبلها ويبكي ويناشدها أن تكلمه، وكان موقفاً مؤثراً جداً اجتمعت فيه الموعظة، مع التناصح، مع التواصل، فكلمته عائشة وأعتقت في نذرها ذلك، كفارة النذر وكانت كلما تذكرت نذرها ذلك؛ تبكي حتى تبل دموعها خمارها، فالصحابة رضوان الله عليهم يرجعون إلى الحق، ويفيئون بسرعة، ويتأثرون من تذكر الذنب، أو تذكر المشهد، أو تذكر الخطأ، وكانت عائشة تبكي كلما ذكرت نذرها ذلك حتى تبل دموعها خمارها، لكن من منا اليوم لو حصل بينه وبين أخيه قطيعة وتصالح معه، كلما تذكر لحظات أيام الفرقة والهجران بكى -مثلاً- حتى تبتل لحيته أو ثوبه أو تسيل دموعه على خديه؟! فإذاً لابد من الموعظة، التواصي بالحق والصبر لجميع الأطراف، ولابد أن يأتي كلٌ منهما إلى الآخر، لأن المشكلة أحياناً في من يأتي إلى الآخر، ومن يبدأ، ومن الذي يكون من جهته التواصل، هذه المواقف الآن بين كل اثنين بينهما تخاصم، المشكلة من الذي يأتي أولاً ويطلب المفاهمة أو المصالحة، لأن كل واحدٍ منهما يقول له الشيطان: إذا ذهبت معناها أنك أنت الأضعف، معناها: أنك أنت ضعيف الشخصية، معناها: أنك أذللت نفسك لفلان، طبعاً ليس الواصل بالمكافئ لكن الذي يصل من قطعه، ليس مثل الشخص الذي يكافئ الوصل بوصلٍ مثله، ليس الواصل بالمكافئ. أكتفي بهذا القدر من أسباب التنافر، وعلاج قضية التنافر التي تحدث أحياناً في أفراد المجتمع الواحد.

التجاذب في العلاقات الشخصية وأنواعه

التجاذب في العلاقات الشخصية وأنواعه أنتقل إلى مسألةٍ أخرى وهي مسألة التجاذب:

علاقة الأخوة في الله

علاقة الأخوة في الله التجاذب والالتقاء ظاهرةٌ أخرى، توجد بين أفراد الوسط الواحد، ولكي نختصر الكلام أقول: إنه في بعض الأحيان تكون قضية التجاذب أخطر في نتائجها من قضية التنافر، قد يستغرب البعض هذا الكلام، ولكن دعونا نستعرض معكم ونحلل ما هي أنواع التجاذب التي تحصل بين الأفراد في المجتمع الواحد. أحياناً يكون هذا التجاذب، أو هذه العلاقة علاقة التقاء، علاقة أخوة في الله، مبنية على الإيمان الصادق، وهذا هو المطلوب والهدف، وهو الذي ينبغي أن تقطع كل العلاقات إلا هذه العلاقة.

علاقة المصلحة المادية

علاقة المصلحة المادية ثانياً: علاقة بين اثنين مثلاً أو أكثر تجمعهما مصلحةٌ مادية، واحد يحب الثاني لأجل أن الآخر غني أو عنده مال، أو عنده سيارة وهذا ما عنده سيارة، وأنه سينفعه بسيارته، أو أن زيداً يحب عمراً؛ لأن عمراً متفوق دراسياً، وزيد الآن في الثانوية العامة، وهو يحتاج لمن يشرح له، ولذلك فهو يتقرب من عمرو، ويقيم معه العلاقات ويتردد إليه، لكي يستفيد من شرحه مثلاً، هذا كل ما بينهما فقط، أو مثلاً أبو عمرو لديه منصب في شركة أو مؤسسة أو دائرة حكومية، وزيد يريد الوظيفة وستخرج بعد قليل، فزيد يتقرب إلى عمرو لكي يتوسط عند أبيه ليوظفه في تلك الشركة أو الدائرة أو المؤسسة، فهذه العلاقة علاقة منفعة مادية، وبعض الناس يسمون أنفسهم في بعض الشركات، مسئول العلاقات العامة. مسئول العلاقات العامة وظيفته في الغالب كل شيء إلا الأخوة في الله، انفعني وأنفعك، أقيم علاقات مع هذا الطبيب (إذا مرضت عالجنا) أقيم علاقات مع هذا المدير لكي ينجز لي المعاملة، أقيم علاقات مع هذا التاجر لكي يذهب إلى الدكان يعمل لي خصم وهكذا، مبنى العلاقة كلها علاقة مادية.

علاقة المشابهة في الطباع

علاقة المشابهة في الطباع النوع الثالث: علاقة ارتياح تقتضيه المشابهة في الطباع، فتجد مثلاً اثنين من الناس بينهم علاقة حميمة، يسيران مع بعضهما البعض، ويخرجان مع بعضهما البعض، ويدخلان مع بعضهما البعض، ويتكلمان مع بعضهما البعض وهكذا. السبب: ارتياح شخصي لأن فلاناً يرتاح له. أعطيكم مثالاً: واحد يسألني هل هذه أخوة في الله أو لا؟ يقول: أنا أشعر بارتياح كثير لفلان لماذا؟ قال: يا أخي عندي أشياء عجيبة، أولاً اسمه مثل اسمي، وسيارة أبيه مثل سيارة أبي، ونفس المستوى الدراسي ونفس الفصل، ونفس المعدل الدراسي، وأتصور أن عنده أخ صغير اسمه محمد، وأنا عندي أخ صغير اسمه محمد، وبيته من الخارج يشبه بيتنا من الخارج، وشكله يشبه شكلي، والأكل الذي يحبه نفس الأكل الذي أنا أرغب فيه، ودائماً نتفق في الأشياء!!! هذه المشابهة أحياناً تسبب علاقة؛ فتجد أن هؤلاء الاثنين مع بعض دائماً في رواح ومجيء وجلوس وكلام، وذلك لمجرد هذا التشابه الظاهر لا لأن هناك أخوة إيمانية، ولا لأن هناك إيمان يربط كل واحد منهما بالآخر، وإنما هي مسألة مشابهة في الشكل العام، أو في مجموعة من الأشياء العامة في حياة كل منهما.

علاقة المعصية

علاقة المعصية النوع الرابع: علاقة معصية، والعياذ بالله تجمعهم المعصية، فيشاهدان المحرمات مع بعضهما البعض، وينظران إليها ويستمتعان بها، ويأتيانها، تجمعهما الأشياء المحرمة مثل ما يجمع واحد مع آخر السفر إلى الخارج، لقضاء الوقت في الأمور المحرمة وعصيان الله ومبارزته ومحادته بأنواع الكبائر، وقد يكون الأمر بينهما أدهى وأخطر من ذلك إلى درجة أن يقع كلٌ منهما في الفاحشة بالأخ، هذا النوع من أسوأ أنواع العلاقات طبعاً. لأنه علاقة تزيين المعصية، كل واحد منهما يزين المعصية للآخر ويتعاونان عليها، والله تعالى يقول: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] والناس من هذا النوع كثيرون جداً الآن في المجتمع، والروابط التي تربط كل منهما بالآخر هي المعاصي، عندما تبحث لماذا فلان يتقرب من فلان، ولماذا بينهما علاقة؟ تجد في النهاية مثلاً أن هذا يأتيه بالخمر وهذا يأتيه بالنساء، وهذا يأتيه بالمجلات الفاجرة، وهذا يأتيه بالأفلام السيئة، هذا موجود!!

علاقة العشق والتعلق

علاقة العشق والتعلق وهناك علاقة خامسة: وهي علاقة قد تكون في خطورتها أخطر من النوع الذي ذكرناها الآن قبل قليل: وهي علاقة العشق والتعلق لدرجة أنه يحبه مع الله لا يحبه في الله، لدرجةٍ تصل إلى صرف أنواع من العبادة لهذا الشخص، وهذه مشكلةٌ تنشأ بسبب دوافع كثيرة، تكون بدايتها بسيطة، ولكنها تنمو وتنمو وتعظم وتكبر حتى تصبح العلاقة بين هذين الاثنين؛ بحيث أن كلاً منهما لا يستطيع أن يغيب الآخر عن ناظريه أبداً، فلابد أن ينظر إليه دائماً، وأن يتصل به باستمرار، وقد يكلمه الساعات الطويلة هاتفياً يومياً، والأدهى من ذلك أنه يفكر فيه في صلاته، وعندما يقول: إياك نعبد وإياك نستعين، ليس فكره مع الله ولكن مع ذلك الشخص!! وكأنه الهواء الذي يستنشقه، وأنه لو غاب عنه لحظةً واحدة يتألم جداً للفراق حتى يعود إليه، وهذا النوع من التعلق الشديد له درجات، قد تكون في بعضها غلو، وفي نهايتها شركٌ أكبر! وبعض الناس يستبعد هذين ويقول: كيف يحدث؟ ولكنه يحدث، وهنا نعود إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يحب المرء -لاحظوا أيها الإخوة الرسول صلى الله عليه وسلم كلامه وحيٌ، إن هو إلا وحيٌ يوحى، يوحى إليه صلى الله عليه وسلم، لم يقل: (وأن يحب المرء في الله) معنى العبارة صحيح، لكن لأن الله عز وجل الحكيم الخبير العليم يعلم بأنه تنشأ بين العباد علاقات ليست شرعية، وأن هذه العلاقات قد تكون قوية جداً، وأن الشيطان يلبس على بعض الناس؛ أن علاقتك يا فلان مع فلان أخوة في الله، ولكن الحقيقة ليست كذلك، وقد يزين لهم الشيطان القيام بشيءٍ من الطاعات مع بعضهما البعض، ولكن المسألة ما زالت في حقيقتها نوعٌ من العشق المذموم شرعاً، فمثلاً لكي يخرجان من دائرة الانتقاد أو نوع من وخز الضمير، فترى الواحد يقترح على الآخر: ما رأيك أن نقرأ الكتاب، نستمع شريطاً، نحفظ قرآناً، نقوم الليل سوياً، فيفعلان هذا فترةً من الوقت، أو بعضاً من الأحيان، ولكن ما زالت العلاقة في حقيقتها ليست أخوة في الله، وإنما يحاول كلٌ منهما أن يخدع نفسه وأن يظهر أمام نفسه وأمام الآخرين، أنها أخوة في الله، ولكن الحقيقة ليست كذلك، بل ربما لو جلسا يقرآن كتاباً لذهب فكر كل واحدٍ منهما في الآخر، ولم يفقه شيئاً مما يقرأ وهكذا. فإذاً ما الذي يجرد لنا هذه الصور على حقيقتها ويظهرها واضحة وجلية، تحت مجهر الكشف عن الحقيقة؟ إنه هذه الفقرة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، قوله عليه الصلاة والسلام: (وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله) لاحظ الاستثناء القوي المسبوق بالنفي، وهذا أقوى أساليب الحصر في اللغة، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، نفي ثم استثناء، أقوى أساليب الحصر في اللغة، لماذا؟ لأن القضية موجودة بين العباد فعلاً، علاقات محبة بين العباد لكن ليست لله، كثيرة ومتنامية ومتشعبة، وكثيراً ما تكون مدمرة على بعض الأطراف، وكثيراً ما تفشل مجموعة أو تجمع إسلامي بأكمله، لأنها مرضٌ معدٍ في كثير من الأحيان، تحتاج إلى وقفات صارمة من جميع الأطراف، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في كتابه العظيم: الجواب الكافي وهذا الكتاب هو عبارة عن جواب على سؤال، كما يتبين لمن يقرأ المقدمة، لكن نحن أحياناً قد نقرأ فلا نستجمع الصورة الكلية للكتاب الذي نقرؤه إذا كان وحدة واحدة، الآن كتاب: الجواب الكافي وحدة متكاملة، لكن عندما لا يجتمع عند الإنسان يكون أشياء متناثرة، يتكلم أولاً: عن الدعاء، اللجوء إلى الله، أضرار الذنوب، قوم لوط، يتكلم عن بعض الناس الذين أهلكوا، ثم تكلم في النهاية عن قصص من العشق. ولكن عندما تتأمل في منهج ابن القيم رحمه الله في الكتاب، فهو في الحقيقة عظيم لعلاج مشكلة العشق والتعلق، والسؤال الذي ورد إليه يدل عليه، وهو أن مصيبةً وقعت في إنسانٍ كادت أن توبقه وتهلك دنياه، تفسد عليه دنياه وآخرته، هذا آخر قسم تكلمنا فيه وذكرناه في أنواع العلاقات، هذه هي المشكلة التي سأل عنها ذلك الشخص ابن القيم رحمه الله فأجاب عليه بهذا الجواب، وهنا نلاحظ منهج العلماء -أيها الإخوة- في علاج المشاكل، ليس الكلام على نقطة معينة، وإنما الكلام عن نقطة تجمع الأشياء فأنت ترى أنه أولاً يقول له: إلجأ إلى الله، يبين الدعاء وأوقات الإجابة وما هي الأدعية المأثورة، ما هو الاسم الأعظم الذي إذا سُئل به أعطى، وإذا دُعي به أجاب!! وهكذا تتوالى، ثم يتكلم له عن أضرار الذنوب والفواحش، وأن عملك هذا عندما ترى مضاره، فإنك إذا كنتَ عاقلاً ينبغي أن تبتعد عنه، ذكر أشياء عجيبة في مظاهر الذنوب في كتاب: الجواب الكافي، وأتبعه بذكر قصة قوم لوط وماذا فعل الله بهم، لأن المسألة قد تؤدي إلى شيءٍ من هذا، وابن القيم رحمه الله، ليس إنساناً سطحياً في علاج القضايا، ولكنه رجل عميق وقد نقرأ ولا نفهم عمق الكلام تماماً، ولكن عندما يقرأ الإنسان عدة مرات يلوح له المنهج وترابط الكلام الذي ذكره، والقصص الواقعية ما قال فقط: الأدلة من القرآن والسنة، لا، وإنما نجد في كتاب الجواب الكافي قصصاً واقعية، قصة حمَّام منجاب، وقصة فلان، وقصة الذين ختم لهم بخاتمة سيئة مثلاً، وأن بعضهم كان متعلقاً بالمال، وبعضهم كان متعلقاً بامرأة، وبعضهم كان متعلقاً بشخص، وبعضهم كان متعلقاً بسلطان، وهكذا من الأشياء، فهو منهج ممتاز جداً، ليس فقط أن نستفيد منه في علاج مشكلة التعلق والعشق فقط، وإنما أيضاً في وضوح المنهج في علاج بقية المشاكل. وذكر أنواعاً من العلاجات، وكان يذكر بقوة، ويطرح أُطروحات قوية في علاج هذه المشكلة، وكان يقول: فإذا كان الأمر كذلك فلا بد أن يبتعد أحدهما عن الآخر حتى يضطر أن يسافر إلى بلدٍ آخر بحيث لا يرى صاحبه ولا يقع له على خبر، ولا حسٍ ولا أثر، فإنه يفعل ذلك، ابتغاء السلامة في الدين. تُحس أن العلماء المخلصين أصحاب الوعي بالواقع، طرحهم في علاج المشاكل طرح قوي، طرح جذري وطرح متكامل، بخلاف كثير من الحلول القاصرة التي نراها تُطرح لعلاج مشاكل قد تكون أصعب، الآن المشاكل أصعب مما كانت موجودةً من قبل. فإذاً نحتاج -أيها الإخوة- لمزيد من الوعي والاطلاع، ولمزيدٍ من الإخلاص قبل كل شيء، حتى نصفي مشاكلنا كلها، وحتى نصل إلى مجتمع إسلامي نظيف خالٍ من الشوائب، وإلا فكيف ينصر الله قوماً قد تناوشتهم سهام الشياطين من كل جانب، وقد اعتورت فيهم أنواع الفواحش والمنكرات من كل جانب، كيف ينصرهم الله؟! وأنت قد رأيت من قول الله عز وجل: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا} [الروم:41]. كوارث الطائرات، والسفن، الكوارث الجوية، والبيئية، والتلوث، وفساد البحر، وأنواع من الحيوانات قد تنقرض وتزول، وأماكن خضراء قد تتحول إلى جرداء، وأماكن قد تغطى بالثلوج فتصبح الحياة فيها صعبة، وأمراض جديدة تنشأ في المجتمع لم تكن موجودة من قبل؛ من هذه الطواعين الموجودة الآن، التي لم يتوصل العلم بعد إلى حلٍ لها ولا إلى علاج، ولكن قد يروج اليهود أنهم قد اكتشفوا علاجاً وليس بعلاج، وأنواع القنابل والأسلحة الفتاكة التي تدمر الأرض والإنسان والحيوان، بل إنها تفسد الجو وتصبح المنطقة موبوءة، وانفجارات في أنابيب الغاز، وأشياء من الكوارث تحدث في جميع أنحاء العالم، وتصادم القطارات، والكوارث الجوية بين الطائرات، وغرق السفن، وفساد الثمار، ونوع من التفاح هذا فيه أشياء اكتشف أنها تؤدي إلى مرض السرطان وهكذا. الآن كوارث في هذا القرن لم تكن موجودة بهذه الكثرة، لو راجعنا تاريخ البشرية لا توجد كوارث وفيضانات تبتلع آلاف البشر، وهزات أرضية، وخسفٌ وبراكين وأشياء عجيبة تحدث في العالم الآن، لو استعرضت التاريخ العالمي في هذه السنوات الأخيرة، تجده مملوءاً بالكوارث، لا تمضي نشرة أخبار إلا وفيها كارثة قد وقعت في صقع من الأرض، ما هو هذا الشيء؟ هو إما قوله عز وجل: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا} [الروم:41] انظر العموم الذي يسببه الفساد، نتيجة الابتعاد عن شرع الله: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم:41] ببعدهم عن شريعة الله، وعن الدين، وببعدهم عن منهج الله عز وجل: {بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا} [الروم:41] ليذوقوا وبال أمرهم، حتى يعلموا عاقبة الانحراف عن الشريعة، وحتى يعلموا ما هي أهمية تطبيق منهج الله في الأرض. أيها الإخوة! لو أن منهج الله مطبق في الأرض الآن لما وجدتم هذه الكوارث وهذه المصائب، ولذلك عندما ينزل المسيح بن مريم، ويقوم معه الخليفة الصالح في الأرض، ويطبقان منهج الله، لن يكون هناك كوارث، حتى إن الولد يدخل يده في الحية فلا تضره، ويصبح الذئب في الغنم كأنه كلبها الحارس، ويستظل الناس بقحف الرمانة، فمن أين أتت البركة؟ كيف كانت الثمار فاسدة، وفجأة صارت الثمار مبروكة حتى إن الناس يستظلون بقحف الرمانة؟! إنه تطبيق منهج الله في الأرض!! نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم ممن يحلُ حلاله، ويحرم حرامه، ويؤمن بكتابه، ويطبق شرع الله في نفسه، ويحكم قانون الله في الأرض، ونسأله عز وجل أن يصلح نياتنا وذرياتنا، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وصلى الله على نبينا محمد.

الأسئلة

الأسئلة

دور الذنوب في عملية التنافر والتجاذب

دور الذنوب في عملية التنافر والتجاذب Q ما دور الذنوب في عملية التنافر والتجاذب؟ A لقد أخبرنا صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح: (أنه ما تحاب اثنان في الله، فيفرق بينهما إلا بذنبٍ يحدثه أحدهما) فلا شك أن الذنوب لها أثر في قطع العلاقات والأواصر بين الأخوة. ولذلك تجد المذنب بطبيعته مكروهاً منبوذاً مقبوحاً محقوراً ممن حوله، هذا إذا لم يتب إلى الله، لكن إذا تاب إلى الله ولو كانت ذنوبه كثيرة أو متكررة، فإن علاقته بإخوانه تبقى غضة طيبة، وهو يحتاجهم لتقوية نفسه؛ لكي يتغلب على المعاصي من الشيطان والنفس الأمارة بالسوء، وليس معنى هذا -كما يفهم البعض- أن الإنسان إذا كان مصرّاً على ذنب معين، أنه ينبغي أن يقطع علاقته بالناس الطيبين؛ لأنه لا يستاهل أن يكون في هذا الوسط النظيف أو أنه سيكون سبب الفشل والخيبة أو أنه منافق لأنهم ينظرون إليه بأنه شخص مستقيم وهو في الحقيقة في الباطن بخلاف ذلك. فهذه من مداخل الشيطان؛ الشيطان يفرح جداً إذا ابتعد الأخ عن إخوانه، وهذا عرس من أعراس الشيطان؛ مثل فرحة العرس أن ينفرد بأخٍ عن إخوة في الله يبتعد عنهم، والشيطان دائماً عندما يأتي أو كثيراً ما يأتي من باب الطاعة، فيقول لهذا الشخص: أنت إنسان مذنب مصر على المعصية، وهؤلاء أناس طيبون كيف تسمح لنفسك القذرة أن تبقى بينهم وأن تعكر صفوة إيمانهم وطاعتهم، ولابد أن تخرج من هذا الوسط. الشيطان الآن جاء من باب الطاعة، يقول له: أنت يجب أن تخرج من بين إخوانك ديانةً، أي: الإسلام يقتضي أن تخرج من بين إخوانك، فإذاً الشيطان يأتي من باب الطاعات أحياناً، ولكن هذه أشياء شيطانية مغلفة بقالب من الطاعة وليست بطاعة أبداً، إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية. ولكن لو أن واحداً وجد في نفسه وحشة من إخوانه، وأن هناك هوة فيما بينهم وبينه، فإن الأمر لا يعدو غالباً أن يكون بسبب ذنب يحدثه هو، ولذلك يجد نفرة من الواقع العام، لكن هذا لا يعني أن يخرج عنه، هو ما زال محتاجاً إليهم لكي ينقذوه من براثن الشيطان والمعصية.

ضوابط هجر أصحاب المعاصي

ضوابط هجر أصحاب المعاصي Q ما هي ضوابط الهجر لأصحاب المعاصي؟ A من أحسن من تكلم على هذه المسألة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى كما وردت أقواله في: مجموع الفتاوى، وذكر الخلاصة، وأذكر لكم خلاصةً مهمة ذكرها رحمه الله، قال: إن العاصي أو الفاسق أو الفاجر، يُهجر أي: يقاطع لا يُكلم ولا يُسلم عليه، ولا يعاد ولا يشيع ولا يُزار، ولا يؤاكل ولا يُشارب ولا يُناكح؛ إذا كان الهجر مفيداً له، وإذا كان الهجرُ نافعاً ودافعاً له لكي يقلع عن المعصية أو البدعة التي هو واقعٌ فيها. أما إذا كان الهجرُ ضاراً له، ودافعاً له على الاستمرار في المعاصي والفواحش، وأنه لن يزيده هذا الهجر إلا بعداً عن الطيبين وعن الخير والخيرين، فإن الهجر في هذه الحالة لا يجوز. وهذا لعمر الله من الفقه الدقيق الذي متع به شيخ الإسلام رحمه الله! فقد متعه الله عز وجل بفقهٍ دقيق، لا يأخذ الأحكام هكذا، وإنما ينظر فيها وفي عللها، وينظر في المصالح والمفاسد، ويقارن ويرجح رحمه الله، ولذلك كانت القراءة لشيخ الإسلام ابن تيمية، من أنفع الأشياء التي تبني في نفس المسلم قواعد مستقرة ثابتة يستطيع من خلالها أن يتعامل مع الواقع من غير تذبذب ولا اضطراب ولا نتائج سلبية، قراءة لكلام شيخ الإسلام رحمه الله، خصوصاً عندما يتكلم في جوانب التعامل مع الواقع مثل: موقفه من التتار، وما حدث مع الناس الذين ناقشهم في العقيدة، وموقفه من أصحاب السلطان وغيرهم فيها فقه نابع من الواقع، ومن الفقه بالقرآن والسنة ومن التجربة الواعية.

علاقة المصلحة المادية لا تعارض علاقة الأخوة في الله

علاقة المصلحة المادية لا تعارض علاقة الأخوة في الله Q بعد استماعي للمحاضرة أصبحت أشك في محبتي لجميع أصدقائي فما هو الحل؟ A لقد ذكرني هذا الأخ جزاه الله خيراً بتنبيهٍ كنتُ سأورده في ثنايا الكلام وهو: أن الإنسان عندما يسمع الكلام، عندما نقول: وبعض الناس يحب شخصاً لأنه ينفعه في الدراسة، وبعضهم يحب شخصاً لأن أباه قد يتوسط له في شيء من الأشياء الدنيوية، وبعض الناس فهو عندما يفكر في الأمر يجد أنه لا يخلو من أحد هذه الأشياء، فيظن الآن أنه لا تنطبق عليه أحاديث الإيمان، وأنه يحب الناس في غير الله، ولكن المقصود أيها الإخوة! أن الشيء المذموم هو أن تكون علاقاتنا فقط علاقات مصلحة، ليس لها علاقة بالإيمان، ولا بالتآخي في الله، ولا بالتواصي على الحق والصبر، ولا بطلب العلم، ولا بالدعوة إلى الله، ولا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا بإصلاح عيوب بعضنا البعض، والتناصح، فإذا كانت هذه كلها غير موجودة وإنما كل ما هو موجود في علاقاتنا هو علاقات مادية مع هؤلاء الناس فهذا هو المذموم. أما كون الإنسان ينتفع من أخيه المسلم بأشياء في الدنيا، فليس بمذموم! لك صاحب في الله، أنت متآخٍ معه في الله، أنتَ معه في مجالس علم وفي حِلَق ذِكر، أنت معه في تعاون على الدعوة إلى الله، ليس عندك سيارة هو يُوصلك بسيارته إلى المدرسة أو الجامعة أو العمل، هل هذا شيء مذموم؟!! أبداً المفروض أن المسلم يُعين أخاه المسلم: (وأحب الناس إلى الله أنفعهم) (أعظم الأعمال عند الله سرور تدخله على قلب مسلم، أو تقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعاً) وبعض الصحابة كان يلجأ إلى بعض الصحابة الآخرين لكي يطرد عنه جوعاً. فإذاً ليست هذه الأشياء التي تظهر للحاجة ينتفع بها المسلم من أخيه المسلم، ليست مذمومة، لكن المذموم أن تكون كل العلاقة مادية، والله أنا أعرفه عندما أحتاج إليه، وأنا أتجاهله تماماً وأتنكر له عندما لا أحتاج إليه مادياً، هذا المذموم، وهذه موجودة الآن في كثيرٍ من الناس، إذا فزع إلى واحد من الناس المعروفين يتودد له ويعزمه، وتستغرب كيف نشأت العلاقة المفاجئة، ما هي سبب العزائم المتوالية والهدايا والأُعطيات والكلام الطيب؟ تجد أنه يحتاج إلى واسطة في أمرٍ من الأمور، وهذا هو الشخص المناسب، فإذا نفعت الواسطة وأخذ ما يريد من حظوظ الدنيا، رماه وراء ظهره، وأعرض عنه، لا عزائم ولا ولائم ولا كلام طيب، ولا مودة ولا علاقة ولا شيء. إذاً لماذا أقام معه العلاقة؟ ولماذا افترق عنه؟ لحاجة دنيوية، وهكذا، بعض الشباب مثلاً قد يتودد إلى طالب ذكي مجتهد في الامتحانات، وأيام قرب الامتحانات فحسن علاقاته معه وزيارات وهدايا وكلام طيب، لماذا نشأت العلاقة فجأةً؟ حصل التقارب؟ من أجل الامتحانات، فإذا نجح في الامتحانات وانتهت العمليات وسافر كل واحد منهما إلى مكانه ونسيه، ونسي معروفه، ونسي كل خيرٍ عمله له، إذاً هذه العلاقة الفاسدة المذمومة التي نتكلم عنها، وأعيد وأكرر وأقول: وليس المقصود أن الإخوان في الله ينفع بعضهم بعضاً، أو ينتفع بعضاً من بعض، وهذا قد حصل من الصحابة.

لا إنكار ولا هجر في مسائل الاجتهاد

لا إنكار ولا هجر في مسائل الاجتهاد Q هناك ظاهرة انتشرت في الشباب الملتزم وهي: كثرة الاختلاف في أمور بسيطة ينتج عنها الهجر بينهم، مثل عدم السلام عليه والطاعة إلخ، فهل هو من الشيطان؟ A نعم غالباً ما يكون من الشيطان، مثلاً مسألة فقهية: النزول في الصلاة، أنزل على الركبتين أو على اليدين، أضع يدي بعد الرفع من الركوع على صدري أم أسبلهما ولا أضعهما على صدري، حديث التسليم في الواحدة صحيح وإلا ضعيف. بعض الناس ما هو موقفه من هذه المسائل؟ يتناقشون، ويتبادلون الأدلة ووجهات النظر ويقلبونها، وهذا شيء طيب جداً وهذا أمر مطلوب، أعطيك قناعتي وتعطيني قناعتك، أناقشك في نقاط الضعف في رأيك، وتناقشني نقاط الضعف في رأيي، هذا شيء طيب جداً، هذا يزيد العلم ويوسع المدارك العلمية في أذهان الأشخاص المتناقشين، وهذه اسمها مباحثة علمية، وكانت المناظرات بين علمائنا معروفة وقديمة، ولكن المهم ماذا يحدث بعد المناقشة؟! إن كان الذي سيحدث هو تفرق واختلاف ومقاطعة ومعاداة ومباغضة يقول: هذا مخالف للسنة في الصلاة، هذه السنة وهذا يخالف، إذاً اخرج، ابتعد عني، أنا لا أكلمك، أنت مبتدع أنتَ أنتَ، والمسألة اجتهادية، وأنتم تعلمون القاعدة التي ذكرها علماؤنا ومنهم ابن القيم رحمه الله في: إعلام الموقعين، الخلاف المقبول: هو ما يكون في مسائل الاجتهاد. القاعدة: لا إنكار في مسائل الاجتهاد، ما هو مباحثة ومناقشة!! لا إنكار يعني: إنكار يفضي إلى استخدام القوة والعنف والشدة والتقاطع والتباغض، لا إنكار في مسائل الاجتهاد، أي: التي فيها مجال للخلاف داخل الدين، ليس الاختلاف فيها، ليست القضية أن هذه بدعة، والأخرى سنة، أو هذا حلال وهذا حرام، أو بشيء واضح من العقيدة الصحيحة، وشيء من العقيدة الباطلة، هذا الأمر لا يصح أن نقبل فيه الخلاف. المسائل التي وضح فيها الحق ولا يتسع لها الخلاف في شريعتنا، لا يمكن أن يقبل فيها خلاف، لو جاءنا أحد الناس وقال: يا أخي الربا فيه خلاف، فيه وجه، أن البنك يأخذها ويشغلها ويمكن أن هذا ليس رباً، يمكن أنها أرباح، هذا كلام فارغ، هناك عقد متفق عليه، نسبة محددة ثابتة حتى لو تاجر فيها البنك في عشرين ومائة صفقة، هذه المسألة واضحة لا تقبل الخلاف، لا يمكن أقول: أنا وفلان سنجتمع معاً على قضية الربا، الربا هذه مسألة ثانوية، أو مثلاً نكاح المتعة ممكن مع أنه قد وضح له الحق وعرف الحق الطرف الآخر، وأصر على باطله، لا يمكن أقبله وأجتمع أنا وإياه في صفٍ واحد! أو واحد عنده عقيدة زائغة يقول مثلاً: يجوز البداء على الله، أي: الله عز وجل يبدو له أمر، ويغير رأيه، استغفر الله العظيم يا أخي! هكذا بعض الضلال وبعض الطوائف من الباطنية وغيرهم، يعتقدون هذه العقيدة في الله، لا يمكن أن أجتمع في صف واحد أنا وشخص يؤمن بمثل هذه العقيدة في ربي الذي أعبده، ولكن لو أن هناك علماء ثقاة لهم أدلتهم، قالوا: هذا الشيء مباح، وعلماء ثقاة لهم أدلتهم قالوا: هذا الشيء محرم، مسألة فيها مجال الاختلاف، أنا ما أنكر عليه، لكن أتباحث معه وأتناصح وهكذا. فإذاً: لا نحول الأشياء التي اختلف فيها العلماء الثقات، ولكلٍ من الطرفين أدلة صحيحة، لا نحولها إلى معارك تشغلنا عن أشياء، وبنفس الوقت لا نميع القضايا العامة والخطوط العريضة في الشريعة والعقيدة، ونقول: لا يهم! هذه ممكن الاختلاف فيها، ولا داعي إلى الاشتغال الآن في قضايا الخلاف في الأسماء والصفات، وهذه أشياء تشغل المسلمين عن الماسونية والشيوعية. صحيح نحن لا نصرف وقتنا كله لهذه القضايا، وهناك من الأشياء والأفكار العلمانية، ما ينبغي أن نشتغل به أولاً: قبل مواجهة أناس يقولون ببدع قد تكون قديمة موجودة. والمسلم يصرف جهده في المواجهة والمحاربة وتكريس الجهود، ويظهرها أو يقدمها للمشكلة الكبرى، وللعدو الأكبر هذا صحيح، لكن هذا لا يعني أننا نميع بقية القضايا وننشغل عنها، أو نقول: هذه أشياء تافهة، نعطي كلاً بحسب وزنه.

نصيحة لحديث عهد بالالتزام يرتكب المعاصي

نصيحة لحديث عهد بالالتزام يرتكب المعاصي Q ينتابني أحياناً أنني لست بكفءٍ من أجل أن أستمر في طريق الالتزام لكثرة المعاصي التي أرتكبها، وأنني حديث عهد بالالتزام، بماذا تنصحني؟ A إذا كنت حديث العهد في الالتزام، فطبيعي أن تحدث منك معاصٍ وذنوب، ولكن ثق إن شاء الله، أنك إذا سرت إلى الله بثبات وعزيمة مستعيناً بإخوانك في الله، مستنيراً بالعلم الشرعي الذي تقبل عليه، وتعتصم بالله: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران:101] ووفق إلى أرشد أمر، فثق بأن المعاصي ستقل وتقل حتى ربما تصبح فقط لمم: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} [النجم:32]. وأنت تتوب، ومستمر على التوبة إلى الله، كلما أحدثت معصية تحدث وراءها توبة صحيحة، ولا تخطط لعمل المعصية بعد التوبة، تقول: أنا الآن سوف أتوب وغداً سوف أعمل معصية، فأنت تنوي عمل المعصية قبل أن تتوب! هذه مشكلة: {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ} [يوسف:9].

حب العلماء أعظم أنواع الحب في الله

حب العلماء أعظم أنواع الحب في الله Q لو أحببت عالماً لعلمه هل يكون هذا حباً لله؟ A إذا كان هذا العالم من علماء الشريعة فهذا من أعظم أنواع الحب لله، وبعض الناس مع الأسف، نحن عندما تكلمنا عن العلاقات، لو قلت له: تحب هذا الشخص -مثلاً- زميلك الذي معك في المدرسة أكثر وإلا الشيخ فلان الفلاني الذي هو من ثقات علماء المسلمين؟ لا يجد في قلبه بحب لهذا الشيخ والعالم الفاضل مثل ما يحب لصديقه قليل العلم، لأن المسألة عنده ليست موزعة، مسألة الحب ليست قضية تتكافأ مع من هو أقرب إلى الله، ومن هو أفضل، وإنما مع من هو أميل لنفسه، ومن هو أقرب لطبيعته، ومن هو الذي يرتاح لأسلوبه وشكله، وظرافته ونكته وطرائفه، وجمال أسلوبه وهكذا، فالمسألة ينبغي أن تكون خارجة عن الهوى، لأن هذه قضية عقيدة، وقضية دين، الحب في الله من أوثق عرى الإيمان. أظن أنني أكتفي بهذه الأسئلة حتى لا نطيل، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا وإياكم، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، والذين يذكرون ربهم إذا نسوا، ويعانوا إذا ذكروا، وأصلي وأسلم على محمدٍ صلى الله عليه وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

اتقوا الله في أهليكم

اتقوا الله في أهليكم إن الله سبحانه وتعالى قد استرعى كل إنسان رعية، سواءً كانت شعوباً أو أمماً أو زوجة وأولاداً، وكل إنسان مسئول عن رعيته أمام الله سبحانه وتعالى، وإن مسئولية الأولاد والزوجة مسئولية عظيمة عند الله، وبحفظها تكون الوقاية من النار، والفوز بالجنة ورضوان الله سبحانه وتعالى.

شرح قوله تعالى: (قوا أنفسكم وأهليكم نارا)

شرح قوله تعالى: (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً) الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]. هذه الآية -أيها الإخوة- تستنهض همم المسلمين، وتذكرهم بمسئوليتهم أمام الله نحو الأهل، نحو الزوجات والأزواج والأولاد، والآباء والأمهات والأقارب. ونحن -أيها الإخوة- إذ نتكلم عن هذا الموضوع في هذا الوقت ندرك أننا نعيش واقعاً مراً بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، وذلك من كثرة المحرمات التي تفشت في مجتمعاتنا، ومن كثرة الانغماس في أوحال المعاصي والابتعاد عن شرع الله عز وجل، وتأملوا هذه الآية العظيمة: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ} [التحريم:6] لأن البداية تكون من النفس دائماً، ولا يمكن أن يصلح حال الآخرين إلا إذا صلح حال المصلح، فإذا كان المصلح في نفسه سيئاً، فأنى يكون الإصلاح؟! وكيف يحدث التأثر؟! {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6] هذه نوع من النار، وقودها ليس حطباً ولا بنزيناً أو مادة مشتعلة، وإنما وقودها الناس والحجارة، الناس هم الوقود، وهم الذين تسعر بهم جهنم، هم مادة الاحتراق، قال أهل العلم: أدبوهم علموهم مروهم بالذكر أوصوهم بتقوى الله مروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر، ولا تدعوهم هملاً فتأكلهم النار يوم القيامة مروهم بطاعة الله، وانهوهم عن معصية الله، وساعدوهم على المعروف، وإذا رأيت لله معصية -أي: يعصى الله في هذا الوسط، في البيت وفي الأهل- فإنك تقدعهم عنها، أي: تكفهم وتمنعهم، وقال الضحاك ومقاتل: حق على المسلم أن يعلم أهله من قرابته وإمائه وعبيده ما فرض الله عليهم وما نهاهم عنه. ويدخل في هذا أمر الصبيان بالصلاة. فتكون وقاية النفس عن النار بترك المعاصي وفعل الطاعات، ووقاية الأهل بحملهم على ذلك بالنصح والتأديب، علموا أنفسكم الخير، وعلموا أهليكم الخير وأدبوهم.

مسئولية الآباء والأزواج

مسئولية الآباء والأزواج واستُدل بهذه الآية على أنه يجب على الرجل أن يتعلم ما يجب من الفرائض وأن يعلمها لهؤلاء، وإن من المعذبين يوم القيامة من جهل أهله -من كان أهله يعيشون في جهل- وهذه الكلمة تشمل الأولاد والزوجة، وتشمل العبيد والإماء أيضاً: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه:132]. فأول واجبات الرجل المسلم أن يحول بيته إلى بيت مسلم، وأن يوجه أهله إلى أداء الفريضة التي توصلهم بالله، وما أروع الحياة في ضلال بيت أهله كلهم يتجهون إلى الله! إن تبعة المؤمن في نفسه وأهله تبعة ثقيلة رهيبة، فالنار هناك، وهو متعرض لها هو وأهله، وعليه أن يحول دون نفسه وأهله ودون النار، هذه النار التي تنتظر هناك. إن المؤمن مكلف بهداية أهله -هداية الدلالة والإرشاد- وإصلاح بيته، كما هو مكلف هداية نفسه وإصلاح قلبه. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه وهذا الحديث يبين لنا مسئولية المسلم، المسئولية العامة التي لا تستثني أحداً: (كلكم راع وكلكم مسئول، فالإمام راع وهو مسئول، والرجل راع في أهله وهو مسئول، والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسئولة، والعبد راع على مال سيده وهو مسئول، ألا فكلكم راع وكلكم مسئول) هذا لفظ البخاري. {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132]. وكان عمر رضي الله عنه له ساعة من الليل يصلي فيها، وكان إذا استيقظ أقام -أيقظ- أهله، فقام وقال: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه:132]. وليست هذه المسألة سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقط، بل إنها طريقة الأنبياء من قبل: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً} [مريم:54 - 55] فهذا إسماعيل يأمر أهله بالصلاة والزكاة.

اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بتعليم النساء والحث عليه

اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بتعليم النساء والحث عليه ولذلك الواجب على الإنسان تجاه أهله من زوجة وأولاد وإخوة وآباء وأمهات واجب ثقيل جداً، وبالذات النساء اللاتي أوصى بهن الله خيراً، ووصى بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك تجد أهل العلم في مصنفاتهم قد اهتموا بإبراز هذا الأمر، واهتموا بإبراز اهتمام الإسلام بأمر المرأة في وقايتها من النار، قال البخاري رحمه الله: باب هل يجعل للنساء يوم على حدة؟ أي: في التعليم والتذكير والوعظ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: قالت النساء للنبي صلى الله عليه وسلم: (غلبنا عليك الرجال، فاجعل لنا يوماً من نفسك، فوعدهن يوماً لقيهن فيه، فوعظهن وأمرهن). قال ابن حجر: ووقع في رواية سهل عن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه، بنحو هذه القصة فقال فيها: (موعدكن بيت فلانة، فأتاهن فحدثهن). إذاً خصص لهن موعداً زمانياً ومكانياً، وفي شرح حديث موعظة رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء يوم العيد، ذكر ابن حجر رحمه الله تعالى في فوائد الحديث: استحباب وعظ النساء وتعليمهن أحكام الإسلام، وتذكيرهن بما يجب عليهن، ويستحب حثهن على الصدقة، وتخصيصهن بذلك في مجلس منفرد، ومحل ذلك كله إذا أمنت الفتنة والمفسدة. وتعليم الزوجة والبنت هو من جعل وقاية بينهن وبين النار، بل إن الجهل الذي يلحق الزوجة والبنت والأخت بسبب تقصير الرجل قد يصل إلى الرجل في قبره، فعدم القيام والإهمال في شئون النساء من قبل الرجل قد يصل عذابه إلى الرجل في قبره، عن عبد الله أن حفصة بكت على عمر، لما طعن عمر، فقال: (مهلاً يا بنية! ألم تعلمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه). وللعلماء رحمهم الله مذاهب شتى في هذا الحديث، ومن أقواها أنه يعذب في قبره إذا أهمل تعليمهم أن النياحة حرام، وإذا كان يعلم أن عادتهن النياحة، وأنهن من المتوقع أن ينحن عليه إذا مات، فأهمل أمر تعليمهن حكم النياحة وأنها حرام، ولم ينههن قبل موته، وهو يتوقع أن يحدث ذلك، فإنه يعذب في قبره بما نيح عليه، لأنه أهمل في هذا الأمر، وهذا حمل جيد لهذا الحديث، وجمع بينه وبين قول الله عز وجل: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]. فإذاً الاهتمام بشأن الأهل في التعليم، وعقد جلسات الوعظ والتذكير، وتمكين المرأة أياً كان مستواها من تعلم الأحكام الشرعية التي تحتاج إليها، وتوفير الإجابات على أسئلتها الفقهية أمر مهم، الإتيان بالإجابات على تساؤلات أهلك، والفتاوى للوقائع التي تحدث لهن في أمور الصلاة والطهارة والحيض والنفاس، فهناك أمور كثيرة تحتاج إليها المرأة، فمن وقايتهن من النار أن تبذل لهن الوسيلة في التعليم. قال البخاري رحمه الله تعالى: باب تعليم الرجل أمته وأهله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لهم أجران -فذكر منهم- ورجل كانت عنده أمة فأدبها فأحسن تأديبها، وعلمها فأحسن تعليمها، ثم أعتقها، فتزوجها فله أجران) قال ابن حجر رحمه الله: مطابقة الحديث للترجمة في الأمة بالنص، وفي الأهل بالقياس. وهذا الحديث يحث على تعليم الأمة، والأمة هي الرقيقة، فإذا كان أمر بتعليم الأمة، أليس من باب أولى أن يؤمر بتعليم الحرة؟! ولذلك يقول: إذ الاعتناء بالأهل الحرائر في تعليم فرائض الله وسنن رسله آكد من الاعتناء بالإماء.

اعتناء النبي صلى الله عليه وسلم بتعليم أهله

اعتناء النبي صلى الله عليه وسلم بتعليم أهله ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم كان يفتح لـ عائشة باب النقاش والسؤال، ويوفر لها الإجابة على تساؤلاتها، خذ مثلاً هذا الحديث الذي رواه البخاري رحمه الله في صحيحه، عن ابن أبي مليكة: (أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كانت لا تسمع شيئاً لا تعرفه إلا راجعت فيه -أي شيء لا تفهمه تراجع فيه وتسأل حتى تعرفه- وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال مرة من المرات: من نوقش الحساب عذب، قالت عائشة: فقلت: أوليس يقول الله: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} [الانشقاق:8]؟ قال: إنما ذلك العرض، ولكن من نوقش الحساب هلك). فمن الناس من يحاسبون حساباً يسيراً، فلا يناقشون ويدقق معهم، أما الذين يناقشون ويدقق معهم فهم معذبون، لكن الذي لا يعذب هو الذي يحاسب بسرعة ويمشي إلى الجنة، فلا تعارض إذاً. الشاهد: أن عائشة سألت عن شيء لم تفهمه، ولو لم تجد إيجابية من الرسول صلى الله عليه وسلم هل كانت ستسأل؟ لو لم تكن عائشة تجد انفتاحاً من الرسول صلى الله عليه وسلم عليه وسلم واهتماماً بأسئلتها وتوفيراً للإجابة هل كانت ستسأل كلما جهلت أمراً، وتتشجع على السؤال؟ ومن آكد الأشياء التي يؤمر بها الأهل الصلاة، فلا يجوز أن يقول الرجل: زوجتي منهكة متعبة دعها تنام، يراها نائمة فيقول لنفسه: دعها نائمة ولا أوقظها للصلاة حتى ترتاح. والمسئولية عن الأهل تدخل فيها المرأة أيضاً، فالمرأة داخلة في الحديث: (والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها). فلا يجوز أن تقول المرأة: زوجي جاء من الدوام متعباً، فلن أوقظه، فليسترح حتى لو أدى ذلك إلى ضياع وقت الصلاة. وهذا خطير، بل إن راحة زوجك أن توقظيه للصلاة، وراحة زوجتك أن توقظها للصلاة، وليس أن تبقى ويبقى نائمة أو نائم، وتقول: دعها تستريح، أو تقول هي: دعه يستريح. كلا.

متابعة الزوجة وتفقدها

متابعة الزوجة وتفقدها حث الزوجة على قضاء ما فاتها من الصيام، وهذا كثير. حثها على إخراج زكاة حليها ومالها، والنساء قد يكون في بعضهن غفلة عن أمور الزكاة، وأمرهن بالصدقة على الفقراء والمحتاجين كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء: (يا معشر النساء! تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار) كل ذلك داخل في المسئولية، مساعدتها على الحج والعمرة، خصوصاً الحج والعمرة الواجبة، بعض الرجال لا يهتمون بتوفير المحرم لنسائهم في البيوت من زوجة أو أخت أو بنت، وتجلس السنوات الطوال بدون حج الفريضة، لأنه ليس معها محرم، وهو يستطيع أن يكون محرماً لها، أو أن يرسل معها محرماً، لكن يقصر في ذلك.

متابعة الزوجة في أحكام الطهارة والصلاة والمحارم

متابعة الزوجة في أحكام الطهارة والصلاة والمحارم {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6] ومنها مسئولية تعليمها أحكام الطهارة والصلاة، كم يسر الإنسان -أيها الإخوة- عندما يسمع برجال يأتون إلى أهل العلم، ويقول أحدهم: زوجتي حصل لها في أمر الطهارة نزل عليها دم في الوقت الفلاني تقطع الدم معها في الوقت الفلاني فهو لا يستحي من هذا، أما المرأة تستحي، فهو يأتي ويقول ويسأل: ماذا تفعل هذه المرأة؟ عندها مشكلة في العادة كذا وكذا، ماذا تفعل؟ إذاً الرجل مهتم بأمر الزوجة، فهو يطبق قول الله عز وجل: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6]. إذاً هو فعلاً يوقن بالمسئولية وهو يحس بها، ولذلك يسأل عن الأحكام لزوجته، وهو يسأل هل هذا محرم للمرأة أم لا؟ وهو يسأل هل خال الزوج وعمه محرم للزوجة أم لا؟ فهو يسأل ويتأكد من أجل ألا تقع في أمر محرم، ويسأل عن حكم الرضاع بينها وبين رجل آخر، حتى لا تقع في أمر محرم. فيجب على الرجال أن يهتموا بأمر نسائهم. تعليمها المحافظة على وقتها، سواءً كانت زوجة أو أم أو أخت أو بنت أو خالة أو عمة، أياً ما كانت، تعليمها المحافظة على وقتها، عدم إضاعة وقتها بالأشياء التافهة، بعض النساء قد تضيع وقتها بالمكالمات الهاتفية الطويلة بدون فائدة تذكر، فإذاً هو يرشدها، ويعلمها، ويراقبها، ويلاحظها، ويقيها النار، ويعلمها أدب الرد على الهاتف، وكيفية محادثة الرجال الأجانب، ما هو الأدب في ذلك؟ وما هي المحاذير؟ وما هي الأشياء التي يجب عليها أن تنتبه إليها؟ وينتبه للمنكرات التي تحدث أثناء تسوقها، وما هو من الممكن أن يحدث لها من الحرام عندما تنزل إلى السوق، وكيف يجنبها هذا الحرام؟ فهو مسئول عن ذلك.

متابعة الزوجة في الخروج إلى الأسواق

متابعة الزوجة في الخروج إلى الأسواق {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:6] مخالطة أهل المنكرات وأماكن المنكر، في الأسواق عند الخياطين وفي أماكن النزهة في الحدائق والخلوات، يجب عليه أن ينتبه لزوجته، وبعض الناس عندهم دياثة عجيبة، وتبلد في الإحساس، فإنه أبداً لا يلتفت إلى زوجته في هذه القضايا، ويدع ابنته تذهب كيفما شاءت، لا رقيب ولا حسيب، تذهب مع من تشاء، وتمضي الوقت مع من تشاء، يذهب بها إلى الحديقة والمنتزه، ويفلت لها الزمام تلعب كما تشاء، وهو مسئول عنها، ومثل الإثم الذي اكتسبته يكن على ظهره؛ لأنه كان باستطاعته أن يمنع ذلك ولم يتحرك. والرسول صلى الله عليه وسلم كان يغضب لله عز وجل، وكان يغار أن تنتهك أدنى حرمة من حرمات الله، روى البخاري رحمه الله عن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها رجل -وفي رواية مسلم: فاشتد ذلك عليه، تقول عائشة: ورأيت الغضب في وجهه، وفي رواية أبي داود: فشق ذلك عليه، وتغير وجهه، وعوداً إلى سياق البخاري - فكأنه تغير وجهه -كأنه كره ذلك- فقال: يا عائشة! من هذا؟ فقالت: إنه أخي -أي: أخوها من الرضاعة- فقال: انظرن من إخوانكن -تحققن وابحثن في الأمر- فإنما الرضاعة من المجاعة) أي: انظري يا عائشة! وابحثي ودققي، هل وقعت الرضاعة في وقت التأثير، أم أنها وقعت خارج ذلك الوقت فلا تؤثر، ولا تنتشر الحرمة بسببها؟ مراقبة المرأة عند خروجها، وكيفية حجابها مسئولية الرجل، هل هو سابغ؟ هل هو ساتر؟ هل هو سميك؟ هل هو خال من الطيب؟ هل هو لا يشابه لباس الرجال ولا لباس الكافرات؟ هل هو فضفاض غير ضيق؟ هذه مسئولية يجب على الرجل أن يراقب زوجته وابنته كيف تخرج.

متابعة الزوجة في الأعراس والأخلاق والصديقات

متابعة الزوجة في الأعراس والأخلاق والصديقات يا أيها المسلمون: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:6] والمسألة ليست سهلة، والإفراط فيها في هذا الزمن غريب عجيب كثير حاصل شائع ومتفش. المكياج والزينة ذهاب المرأة إلى الأعراس والولائم إلى أين تذهب؟ ما هو الوضع هناك يا ترى؟ هل الوضع في ذلك العرس والوليمة مرض لله؟ هل تسمح لها بالخروج أم لا؟ يحب عليك أن تتحقق. يا جماعة: لماذا نفلت نساءنا؟ لماذا نفلت لهن الزمام يعبثن؟ والمرأة خلقت من ضلع أعوج، هناك من النساء من استقامت على شرع الله، تعرف بنفسها الحرام من الحلال، وتجنب نفسها الحرام ربما أكثر من بعض الرجال، ولكن هناك كثير من النساء في الجانب المقابل، لم يحصل عندهن ذلك النوع من التقوى، فمسئولية الرجل أن يحمي ذمته وألا يخفرها، فيراقب لسان الزوجة أو البنت في الغيبة والنميمة، وفي الغيرة والحسد، وفي الأشياء التي تبدر من المرأة، يهيئ لها الجو لتعاشر الصالحات، ويمنع غير الصالحات من دخول بيته، وبعض الناس يوصلون نساءهم إلى أماكن لا يدرون ما هي، ويرمي زوجته هكذا من السيارة أو يجعلها تذهب مع السائق دون أدنى استفسار إلى أين ستذهب؟ أليس هذا أمراً شنيعاً يودي إلى منكرات ومصائب عظيمة في المجتمع؟ ينبغي أن تراقبها فيمن تكشف عليهم من المحارم والناس، هل هو محرم لها تكشف عليه أم لا؟ من هذا الشخص الذي تصافحه أو يريد أن يصافحها؟ قضية الجليسات قضية مهمة جداً، وكثير من المشاكل التي دخلت في كثير من البيوت بسبب جليسات السوء، هل تتصور أن امرأة تأتي وتطلب من زوجها أن يأتيها من الخلف في المكان المحرم؟ لماذا؟ لأنها سمعت امرأة في مجلس تنصحها بهذا الأمر. انظروا -أيها الإخوة- من تخالط نساؤكم، من هن الجليسات للنساء؟

متابعة الزوجة في الخروج للعمل

متابعة الزوجة في الخروج للعمل خروج المرأة خارج البيت كثيراً ما يؤدي إلى الفساد، وعمل المرأة من أبواب الشر العظيمة التي لو لم تجعل إلا في نطاق الضروريات، وفي نطاق النساء التقيات لحصل فساد عظيم، وبين يوم وآخر نسمع عن قصص مأساوية في البيوت بسبب خروج المرأة للعمل ونحوه، ذهبت إلى العمل وتوظفت في شركة، ثم تعرفت على رجل عن طريق العمل، سافر الزوج فكانت النتيجة أن تستقبل ذلك الرجل الأجنبي في بيتها أثناء غياب زوجها، من أين بدأت العلاقة؟ من العمل. خروج المرأة للعمل أمر خطير جداً، ينبغي أن يضبط وأن يراعى، ومكائد تحاك حول الدين وحول المرأة المسلمة من أعداء الله من العلمانيين ونحوهم، الذين يريدون أن يخرجوا المرأة وأن يهدموا آخر معقل من معاقل المجتمع الإسلامي.

تربية الأولاد والاهتمام بهم

تربية الأولاد والاهتمام بهم ينبغي للأب أن يكون له إشراف على أولاده، فالأولاد داخلون في الأهل دخولاً أولياً، بل إن بعض العلماء يرى أنهم داخلون في النفس، فقالوا: {قُوا أَنْفُسَكُمْ} [التحريم:6] يدخل فيها الأولاد، لأن الولد خرج من صلبك أنت، فيرى بعض العلماء أنهم داخلون في قول الله عز وجل: {قُوا أَنْفُسَكُمْ} [التحريم:6]. ينبغي للأب أن يصون ولده عن نار الآخرة كما يصونه عن نار الدنيا، لو قلت للأب: ولدك تضعه في نار الدنيا، يصيح ويقول: لا، كيف هذا؟! هل أنا مجنون؟! لكن قد لا يصونه عن نار الآخرة. ينبغي تربية الطفل المسلم تربية إسلامية جيدة، فيعلم فروض الأعيان، وبعض فروض الكفاية التي يمكن أن يحتاج إليها، وتنمي المشاعر الإسلامية فيه، وتغرس الأماكن الطيبة: المسجد الخطبة العمرة، القصص الإسلامية، يعلم سير الأنبياء، الصحابة السلف، فيراقبه في صلاته، ويراقب ماذا يقرأ أطفالنا، بماذا يلعب أطفالنا، وماذا يشاهد أطفالنا، تربيتهم على التوحيد وعدم البداية من الشرك وتعليق التمائم في رقاب الأولاد، فينشأ الولد على الشرك منذ نعومة أظفاره.

الأولاد ومنكرات البيوت

الأولاد ومنكرات البيوت أيها الإخوة: إن أولادنا وأطفالنا يُجرم في حقهم في هذا العصر إجرام عظيم، ويشاهد الطفل من المنكرات في البيت ما الله به عليم، وتنغرس في نفسه في كل يوم، ويشرب قلبه كل يوم من حب المنكرات والمعاصي أشياء كثيرة بسبب ما يشاهد في البيت. أستاذ في مرة من المرات يتكلم مع طالب في أول مرحلة من مراحل الدراسة الابتدائية، فيقول الطالب: أنا أبي يشرب الخمر في البيت، لكن إذا جاءه أصحابه ليشربوا الخمر يخرجنا من الغرفة. يقول المدرس: لعله عصير أو ماء، فقال الطالب: لا. أنا أعرفه، إنه خمر. هذا الولد الصغير عمره ست سنوات يقول هذا، ذلك المجرم يظن أنه لما أخرج الولد من الغرفة أن الولد لا يدري ماذا يحدث، والولد يعلم كل شيء، أليس كذلك؟ هذه الحوادث الواقعية هي التي تنبئنا. أيها الإخوة: عندما يقول ولد صغير: إن أبي يفعل مع الخادمة مثلما تفعل أمي مع السائق، ماذا نرجو من وراء هذا الغرس الذي يغرس في بيوتنا؟ وأي حياة وشقاء ونكد يتوقع أن يكون عليه أولئك الأطفال، وهم يشاهدون هذه المنكرات في البيوت؟ مع الأسف كثير من الأشياء التي يسمعها أطفالنا تصادم الدين والعقيدة، وتغرس فيهم الكفر والشرك، حتى إنك تجد في بعض أفلام الكرتون تغرس في نفس الطفل حب السحر والسحرة والساحرة، وأنه شخص طيب، ويساعد الطيبين، وهو ضد الأشرار، والسحر كفر كما قال صلى الله عليه وسلم. مرة من المرات كنت أقلب إبرة المذياع، فاستقرت على قصة للأطفال تقولها مذيعة من المذيعات، ماذا يكون في بالكم وماذا يخطر في بالكم أن تكون القصة؟! وهذا شيء سمعته بنفسي: النملة مجتهدة تجمع الطعام وتدخره في جحرها، والصرصور كسلان لا يجمع الطعام ويبعثره ولا يحتاط لأمره، فجاء فصل الشتاء، والنملة في خير، فخرج الصرصور جائعاً، فطرق باب جارته النملة -حتى الآن كلام شبه مقبول- وقال: أقرضيني حبوباً وأردها لك في السنة القادمة، هنا قالت المذيعة: مع الفائدة طبعاً، تقول المذيعة: الصرصور يقترض من النملة ويردها في السنة القادمة مع الفائدة. ماذا ينغرس في نفس الطفل وهو صغير يسمع هذا البرنامج؟ نحن نفاجئ بانحرافات الأولاد، ثم نقول: عجيب ماذا فعلنا؟! من أين الخطر؟! ومن أين منشأ المشكلة؟ منشأ المشكلة هو ما يسمعه هؤلاء الأطفال وما يشاهدونه، الصرصور يقترض من النملة بالربا -بالفوائد- لأن القصة لا تصلح أن تقال إلا بهذه الطريقة: {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة:30]. ونحن عندما نقول: استوصوا بأطفالكم خيراً، فإننا لا نعني أن المسألة تكون فقط معلومات تصب على ذهن الطفل ودماغه دون ترو ودون إعطائه الحق في اللعب، أو اللهو المباح البريء، بل من حق الأطفال على الأباء أن يوفروا لهم الألعاب المفيدة، وأنواع اللهو البريء، هل تتصورون أن أباً من الأباء لا يشتري لأطفاله أي نوع من أنواع الحلوى أو البسكويت؟! وهذا لأن الأب لا يحب الحلوى شخصياً، فلذلك هو لا يشتري لأطفاله أي نوع من أنواع الحلوى، ويبخل عليهم بذلك، ويقول: هذه أشياء تافهة غير ضرورية، ولا يحضر لهم ألعاباً عند العيد؛ لأنها ليست مفيدة بزعمه، ويرفض أن يعطي الأم مالاً لتشتري لهم به، فتضطر المسكينة أن تشتري بمالها الخاص، أو أن تقترض من أهلها لتشتري لأولادها ألعاباً، أو تأخذ وتدخر من الضيافة التي تأخذها من الناس أثناء زيارتها لهم، فتدخر حلوى لأولادها لأن الرجل لا يأتي بالحلوى للأولاد: (وإن لأهلك عليك حقاً). أيها الإخوة: لقد تكلمنا في درس منفصل كامل عن تربية الطفل المسلم، لكن نقول باختصار: إن عدم الاهتمام بالطفل في مقتبل أمره وعمره، يؤدي إلى انحرافه في المستقبل غالباً، فلو ترك الولد دون تدخل سلبي من الأب أو الأم فإنه سينحرف في الغالب، لأن المجتمع فيه قذارات، المدرسة فيها قذارات، الشارع فيه قذارات، الجيران عندهم قذارات، أقران السوء عندهم قذارات، إذا ما انحرف الولد بهذا السبيل سينحرف بالسبيل الآخر. هذا إذا ترك لوحده هكذا دون أن يعمل الأب والأم له شيئاً، فكيف إذا كان بعض الآباء هو المفسد. وهذه أشياء واقعية سمعتها بنفسي، رجلٌ يجلب الأفلام الداعرة الخليعة إلى بيته، ويجبر أولاده الصغار أن يقعدوا منذ نعومة أظفارهم ليشاهدوا هذه الأفلام، بنت عمرها سنتين ونصف تفتحت عيناها على هذه الأفلام، وهو يجبرها ويأتي بها ويقعدها أمام الفيديو لتشاهد الأفلام، وتقول: إذا ذهب أبي إلى الخارج، وأخذنا في الصيف أو في العطلة، فإنه يدخل المرقص في بلاد الكفار، ونحن قد كبرنا فيسلمنا إلى الشباب الكفرة الذين يرقصون ليراقصونا، ويفعلون بنا ما يشاءون. نماذج كثيرة عجيبة غريبة لا تمت إلى دين، ولا إلى خلق، ولا إلى عفة، ولا إلا صيانة، ولا إلى ستر بأي نوع من أنواع العلاقة، موجودة في مجتمعاتنا ليست في مجتمعات الأمريكان والإنجليز والكفرة، موجودون بيننا هنا، هكذا يربون أطفالهم، ثم نقول: لماذا تتفشى الفواحش في المجتمع؟ لماذا المنكرات كثيرة؟ لماذا الزنا كثير؟ لماذا الفاحشة؟

لوط واهتمامه بأهله

لوط واهتمامه بأهله لوط عليه السلام لما كان في مجتمع قذر رفض أهل ذلك المجتمع الابتعاد عن الفاحشة، فماذا كان لوط عليه السلام يقول؟ كان يقول: {رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ} [الشعراء:169] لوط عليه السلام يشعر بوطأة الجاهلية وثقلها عليه وعلى أفراد أسرته، هؤلاء الذين يفعلون الفاحشة لا يريدون أن يتوبوا، فيقول لوط عليه السلام وقد شعر بذلك الثقل الذي تضغط به تلك الجاهلية الشريرة في عصره على أعصابه وعلى أهل بيته، وهو يجأر إلى الله وينادي ربه ويقول: {رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ} [الشعراء:169]. فقد كان حريصاً على أهل بيته من الفاحشة، والآن ينبغي لكل عاقل مسلم أن يقول: {رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ} [الشعراء:169] لأن الفواحش موجودة في المجتمع مثل قوم لوط أو أكثر: {فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ} [الشعراء:170] وهذه عاقبة الصدق والإخلاص والتوبة والدعوة إلى الله وتغيير المنكر: {إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ} [الشعراء:171] كانت مجرمة تنقل أخبار أضياف لوط إلى قومه لكي يأتوا ويطالبوه بالضيوف ليفعلوا بهم الفاحشة.

حال الأولاد إذا لم يربوا

حال الأولاد إذا لم يربوا وعندما يكبر هذا الولد ويترعرع مع تأثيرات المجتمع الفاسدة المنحلة وعدم التربية تخرج منهم أمثال العبارة التي سأقولها لكم في هذه القصة المدهشة، التي تنطوي على هذه العبارة المدهشة، التي تحتاج إلى تفكير طويل حتى تعلم كيف انبعثت! الأب والأم والولد أمام الشاشة، خرجت الممثلة بصورتها الفاتنة الجميلة، وهم ينظرون، والولد يحملق في الشاشة ويبحلق، وعندما ظهرت صورة تلك المرأة في غياب عقله-الآن هو غائب في المنظر- انطلقت منه الكلمات وهو ينظر في وجه المرأة الفاتنة، فيقول: كم تعب ربنا حتى خلقك؟! انظر إلى هذا الحالم والغائص في المسلسل، فهو يفكر الآن في المسلسل وفي المرأة وينظر إليها، وقد يكون نسي أن أباه وأمه بجانبه، سبحان الله! هذه العبارة الواحد يقف أمامها حائراً، الولد في مرحلة المراهقة، ويتساءل: كم تعب الله إلى أن خلق هذه المرأة! وهذه ما قالها شخص شيوعي ملحد، بل قالها واحد من أبناء المسلمين الذين يعيشون هنا. عقيدة غير موجودة، وأخلاق غير موجودة، عفة لا توجد، احترام الله عز وجل أمر معدوم، تعالى الله عن هذا الكلام علواً كبيراً، اليهود لعنوا لأنهم قالوا: إن الله خلق العالم في ستة أيام ثم استراح يوم السبت، انظر اليهود يقولون: الله خلق الدنيا كلها السماوات والأرض في سنة أيام ثم استراح يوم السبت، وهذا الآن يقول: كم تعب؟ أليست مقالته أسوأ من مقالة اليهود الذين لعنوا؟! ويواجه بعض الأباء في بيوتهم في هذه المجتمعات تطورات عجيبة من قبل الأبناء طبعاً؛ لأن التربية إذا أهملت من البداية، وخرج الولد وعايش رفقاء السوء في المدرسة كيف تصلحه وقد كبر وتكونت شخصيته؟ فهو يتمرد الآن، ويفوت قطار الإصلاح في كثير من الأحيان. رجل يشتكي، ويقول للشيخ ابن باز: عندي أولاد لا يصلون أبداً، نصحتهم وكلمتهم ووعظتهم وشتمتهم ولا فائدة، ماذا أفعل؟ كثير الآن من الآباء يقولون ويشتكون مثل هذه الشكوى. فيقول الشيخ حفظه الله: انصحهم، فإذا بلغوا عشراً يضربهم إلى البلوغ، أما عند البلوغ فلا ينفع الضرب بعده، فالضرب عند البلوغ لا يورث إلا أحقاداً، وربما رد الولد بالصاع صاعين على أبيه، وكم تسمع من أولاد يقول أحدهم -بحنق وغلظة عبارات على أبيه- كنت أريد أن آخذ الكرسي وأضربه، أو آخذ العقال وأضربه، وأعلمه ألا يمد يده عليّ، إذا بلغوا ولم يستقم أمرهم فيبلغ بهم من يقيم عليهم حد الردة -القتل- إذا لم يصلوا، وإن لم يستطع يخرجهم من بيته. وهذا الكلام يستثنى منه إذا كان إخراجهم من البيت يؤدي إلى مشاكل أكبر، وإلى وقوعهم وأن تسوء أحوالهم أكثر وأكثر، فعند ذلك لا يكون من الحكمة إخراجهم من البيت، لكن إذا كان إخراجهم من البيت سيدفعهم ويضطرهم إلى الرجوع إلى البيت وهم يصلون، لأنهم لا يجدون مأوى ولا مصروف، فيجب على الأب أن يطردهم من البيت، وألا يؤوي في بيته أناساً لا يصلون. فإذا استنفذ الجهد والطاقة والوسع، ونصح وتكلم وليس هناك فائدة، وكان إخراجهم أقل ضرراً من بقائهم، وكان إخراجهم لا تترتب عليه مفسدة أكبر من بقائهم، فإنه يجب أن يخرجهم من البيت، ولو كانوا أولاده من صلبه.

البقاء مع الأهل وعدم الانقطاع عنهم

البقاء مع الأهل وعدم الانقطاع عنهم البقاء مع الأهل وعدم الانقطاع عنهم: يجب أن يكون الرجل المربي الناصح قريباً من أهل بيته، بعض الناس يسافرون سفريات طويلة جداً، وهذه السفريات الطويلة جداً تؤدي إلى مشاكل كثيرة في البيوت، فتسمع أخباراً عجيبة. فهذه لما سافر زوجها جاءها فلان وفلان، مشاكل متشعبة وشائكة، ولو كان الضرر أقل من هذا، فإنك تجد أن بعض الناس الذين يسافرون في تجارة أو حتى في طلب علم أو دعوة إلى الله، لو كان سفرهم يؤدي إلى تضييع أهلهم فحرام عليهم أن يسافروا، بعض النساء قد يكون فيها خير، لكن زوجها يهجرها أسبوعاً أو أسبوعين وشهراً أو شهرين وثلاثة وأربعة أشهر وهو مسافر مبتعد عنها، تقول: لا أجد ماء أشربه، فضلاً عن الأغراض الأخرى، كيف تشتري الأغراض؟ مرض الولد الصغير من يذهب به إلى المستشفى؟ تضطر إلى الذهاب به أحياناً بسيارة الأجرة، هل هذا واقع صحيح؟ وهل سفر هذا الرجل يبرر مثل هذه الأشياء؟ أم أنه إنسان ظالم لنفسه وأهله عليه من الله ما يستحق لأجل التضييع والتفريط؟ الرسول صلى الله عليه وسلم يوصي ويقول -انظروا أيها الإخوة الشريعة فيها حكم: (السفر قطعة من العذاب، يمنع أحدكم نومه وطعامه وشرابه، فإذا قضى أحدكم نهمته من سفره فليعجل الرجوع إلى أهله) لأن إطالة الابتعاد عن الأهل مضرة، فعليه أن يعجل بالرجوع إلى أهله، ولا يطيل عليهم الغياب، وأقل ما فيها يصحبهم معه إن كان ولابد، أما أن يهجرهم ويسافر عنهم شهوراً فهذا من الجرائم، وكثير من الساقطات المنحرفات في المجتمع، سبب انحرافها أن زوجها غائب عنها لا يأتيها. واحدة تقول: إن زوجي لا يأتيني من خمس سنوات، وأخرى تقول: أنا معه الآن منذ أكثر من عشر سنين، لكن لا يعاشرني معاشرة الزوجة، فهو يأتي يدخل البيت ويأكل وينام ويمشي. فهذا سبب من الأسباب التي يتولد عنها انحراف الزوجة، وقد يبتعد أحياناً عن أهله بسبب زوجة أخرى، وهو شيء طيب وحلال، لكن إذا لم يحسن هذا المتزوج توزيع وقته والعدل كما أمر الله تقع المصائب، بل قد يميل إلى زوجته الثانية فيترك زوجته الأولى بالكلية، ويترك أولادها، لا يأتيهم ولا يسأل عنهم، ولا يزورهم، ولا يعطيهم الحنان ولا العطف، وقد يكون ولا حتى المصروف. ونسمع قصصاً عجيبة، هذا رجل تزوج بأخرى، فصار يسب بناته من الزوجة الأولى ويشتمهن، ويتهمهن بالفاحشة، ويضرب زوجته الأولى في الشارع أمام الناس، وتضطر الأم المسكينة بالتالي أن تعمل، وأن تصرف على الأولاد في البيت، وربما يكون هؤلاء كلهم من البنات، وحالة الجميع سيئة، والسبب أنه لم يفكر أصلاً في قول الله: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6].

عاقبة إهمال تربية الزوجة والأولاد

عاقبة إهمال تربية الزوجة والأولاد عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى سائل كل راع عما استرعاه أحفظ ذلك أم ضيعه؟ حتى يسأل الرجل عن أهل بيته) ففي يوم القيامة تصل قضية المساءلة والحساب أن يسأل عن أهل بيته: أحفظتهم أم ضيعتهم؟ وهذا التضييع الذي تنتج عنه كثير من الفتن، وعلى رأسها الخيانات الزوجية، من ماذا؟ من تضييع الأهل تنتج الخيانات الزوجية المتبادلة من الطرفين. جار عنده مفتاح بيت جاره، فإذا ذهب الجار إلى العمل فتح الباب ودخل وعاشر زوجة ذلك الرجل، وتختلط الأنساب ولا تدري هذا ولد من. ويحدث من وراء ذلك من المصائب والنكبات وخراب البيوت أشياء نسمع عنها صباحاً ومساء، ناهيك عن الفواحش التي تحدث في البيوت من الآباء أو الأبناء مع الخادمات مثلاً، ومشاكل البنات والزوجات مع السائقين والخدم، ما هو أثر ذلك في البيت؟ وما هي عقوبة الله المنتظرة لهؤلاء الناس؟ بل إن تضييع الأهل، وعدم التربية والملاحظة، ينتج عنه نكبات أكثر من ذلك، ونسمع كثيراً عن جرائم اعتداء الأولاد الكبار في البيوت على أخواتهم، وتقع المشكلة وبعد ذلك يقولون: البنت لم تعد بكراً. وهل تعلمون أن من وقع على محرم من محارمه فإنه يقتل حداً في دين الله حتى ولو لم يكن قد تزوج؟! فإن هذه جريمة عظيمة، وقصص تشيب لها الرءوس، وتذوب لها القلوب إن كان في تلك القلوب إيمان وإسلام. أخ يرش على أخته مادة مخدرة ثم يأتيها. أب متزوج من أكثر من زوجة، وهناك أخ يأتي أخته من زوجة أبيه، وأخوه الأصغر يأتي ويهدده، ويقول: سلم لي أختك. وهناك حاجات وأشياء ما كان الواحد يتصور أنه في يوم من الأيام يحدث ذلك، إلا بعد أن تسمعها فتفاجئك الحقائق والحوادث بأشياء، أقسم بالله العظيم إنه يتبين للإنسان حلم الله بأن العقوبة والعذاب لم ينزل منذ زمن بعيد. وبعض الأحيان يصل بعض الأهل والقرابة إلى درجة من السوء لا يصح اعتبارهم بأي حال من الأحوال من الأهل، بل يجب منابذتهم ومعاداتهم وطردهم والتبرؤ منهم، قال تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود:45 - 46]، ليس من أهلك الذين وعدتك بإنجائهم، فأولئك المؤمنون من أهلك، لكن هذا الولد الكافر ليس من أهلك، وليس من الناجين. هذا موقف التبرؤ قد يضطر لاتخاذه أحياناً بعض الناس، لما تسمع قصة مثلاً، أن الرجل الشائب الضعيف المسكين يقول: بنتي تخرج إلى الشارع وتركب مع أي سيارة وتأتي وتذهب، والبنت الأخرى نفس الشيء، وعندما وعظتهم وكلمتهم وكلمت أمهم في البيت، قالوا جميعاً بلسان واحد: هذه طريقة عيشتنا، إذا لم يعجبك فاخرج من البيت، ماذا يفعل؟ هناك حالات كثيرة في المجتمع من هذه الأنواع من المصائب. وفي بعض الأحيان يكون من مصلحة هذا الشخص، ومصلحة أولئك المجرمين أن تبلغ بهم الجهات الرسمية، كهيئة الأمر بالمعروف أو مكافحة المخدرات مثلاً، لعلهم أن يفعلوا معهم شيئاً، فالمسألة خرجت عن طور التحكم، وصارت الآن خارج الموضوع، وهناك كثير من الناس الذين فقدوا السيطرة والتحكم على بيوتهم وعلى بناتهم وأولادهم.

فضل الدعاء

فضل الدعاء وبهذا يتبين لنا -أيها الإخوة- عظمة الدعاء الذي علمنا إياه عليه الصلاة والسلام، دعاء نردده صباحاً ومساء: (اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي -انظر العفو والعافية في ديني ودنياي- وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي الحديث) يدعو به صلى الله عليه وسلم عليه وسلم صباحاً ومساءً، لعل هذا الدعاء إذا خرج من قلب حي متصل بالله عز وجل، أن يُحفظ الأهل والبنات والأولاد بسبب دعاء أبيهم الصالح أو أخيهم الصالح. حتى في السفر ماذا كان صلى الله عليه وسلم يقول؟ (اللهم هون علينا سفرنا هذا واطو عنا بعده، اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل) كأن الواحد يقول: اللهم اخلفني في أهلي بخير، إني استودعتك أهلي فاحفظهم، والله إذا استودع شيئاً حفظه كما قال عليه الصلاة والسلام: (اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنظر، وسوء المنقلب في المال والأهل). ولذلك الإسلام ينمي في المسلم الغيرة والدفاع عن أهله وعرضه، ويعتبر الإسلام أن من قتل دون أهله فهو شهيد: (من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شيهد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد) حديث صحيح. وينبغي كذلك ألا يكون الأهل حائلاً بين الإنسان وبين طاعة الله، وألا يشغلوه عن طاعة ربه: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن:14] ما هي حجة المنافقين لما تخلفوا عن الجهاد؟ {شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا} [الفتح:11] هناك أناس عندهم إفراط، وأناس عندهم تفريط، ويحتاج الأمر في كثير من الأحيان إلى وقفات صارمة، أحياناً الزوجة يكون زوجها لا يصلي، فهي تنصحه وتقيم عليه الحجة وتذكره بالله فلا يصلي. ماذا تفعل؟ لا يجوز لها أن تبقى معه لحظة واحدة أبداً، لأنه مرتد عن الدين، لا يجوز أن يعاشرها، ولذلك عليها أن تفارقه، فهذا رجل من أهل السوء، من أسوأ من خلق الله، مرتد عن الدين، ويهاجم الدين ويهزأ بالدين لا يصلي ولا يفعل أي فرض من الفرائض، تقول له زوجته: اتق الله، صلِّ، رفض، قالت له: أفارقك ولا أقعد معك لحظة واحدة، فقال لها المجرم: وقعي إقراراً بأنك لا علاقة لك بالأولاد وأنك قد تخليت عنهم، وليس لك شأن بهم، وقعت الورقة وقالت: خذ. ولما رأى إصرارها ورأى موقفها انقلب وصار يصلي: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} [الطلاق:2] وحتى لو لم يكن لديها مكان تخرج إليه، بل لم تستطع أن تخرج إلى مكان آخر، فإن الحكم الشرعي أن تتحجب منه، ولا تمكنه من نفسها أبداًً، وتعيش في نفس البيت مكرهة، لكن هو أجنبي عنها، لا تخالطه ولا تعاشره ولا تمكنه من نفسها، ولو ضربها وأكرهها فإن الإثم عليه هو.

علاج مثل هذه الكوارث ودور الدعاة

علاج مثل هذه الكوارث ودور الدعاة وأخيراً أيها الإخوة! ما هو العلاج لهذه الكوارث؟ هناك أملٌ في الله كبير، في الصحوة الإسلامية المباركة التي بدأت تعيشها مجتمعات المسلمين، الأمل في الدين، الأمل في المتدينين، الأمل في المتمسكين بالدين الآن، هم الذين عليهم المعتمد بعد الله في إنقاذ المجتمع من الشرور. ما هو موقف أولئك المستقيمين على شرع الله؟ كيف ينبغي أن يكون دورهم في علاج ومواجهة مثل هذه المواقف؟ ينبغي أن نتغلغل في أسباب الداء، لماذا لا ينتشر الإصلاح في المجتمع بقوة؟ هناك من أولئك جيل الصحوة أناس عرفوا الله والطريق، وأناس عرفوا الله وأخطئوا الطريق، فتجد من هؤلاء من يحدث عنده تفريط فيتقوقع على نفسه وعلى بعض إخوانه الطيبين، وينزوي عن المجتمع، ويقول: مالي وللناس، مالي وللبيت، مالي ولأهلي، وقد يصيبه الاشمئزاز من بعض ما يفعلونه، فيتركهم ويبتعد عنهم، ويقول: أنا الآن علي بنفسي ولا شغل لي بالآخرين، لو كانوا إخواني أو أخواتي أو أمي وأبي ليس لي علاقة، ويقول: أنا الآن فقط أربي نفسي. فهذا تفريط وإهمال، لماذا تتخلى عن المسئولية؟ هل أنت تدخل في قول الله عز وجل: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6] أم لا تدخل؟ إذاً لماذا تتخلى الآن عن المسئولية؟ ولماذا تنطوي وتنعزل وتتقوقع على نفسك؟ وفي الجانب الآخر يوجد نوع من الإفراط في الأمر، وأخذ المسألة بالعنف، بعض الناس يريدون أن يصلحوا البيوت والمنكرات والانحرافات بالعنف والشدة المنافية للحكمة التي أمر الله بها، فتأتي النتائج غالباً عكسية، ويتضاعف الكره للدين وللمتدينين. ولذلك أيها الإخوة: يجب أن يكون دور أولئك المستقيمين على شرع الله، الملتزمين بدين الله في بيوتهم دوراً إيجابياً، ويجب على أولئك الناس الذين هم أفراد من جيل الصحوة أن يستشعروا المسئولية التي أناطها الله بهم، والتي شرفهم الله بالقيام بها، ينبغي على كل واحد من هؤلاء أن يبني شخصية قوية داخل بيته، قوية للإسلام واعية، تقوم بواجب الدعوة إلى الله والتوجيه، وتواجه الانحرافات بالحكمة، وبإقامة البرهان والدليل، وباللجوء إلى القوة في الوقت المناسب، وفي الإنكار بدرجات الإنكار حسب المصلحة الشرعية. على أولئك أن يبدءوا بنشر الوعي الإسلامي في البيت بنشر الكتاب الإسلامي، ونشر الشريط الإسلامي، وفتح القنوات أمام أهل البيت حتى يذهبوا إلى المحاضرات والدروس، وأن يأتوا لهم بالمجلات الطيبة، والكتب الإسلامية الطيبة، يجب على كل واحد من أولئك الشباب وغيرهم من الكبار ممن هداهم الله عز وجل أن يكون لهم دور إيجابي في بيوتهم، يؤثرون على آبائهم وأمهاتهم، وإخوانهم وأخواتهم، وأن يربطوا إخوانهم -مثلاً- بأصدقاء طيبين، وأن يبعثوهم إلى الأماكن الطيبة، لتبدأ تلك البذور في التفتح، وتختفي الانحرافات التي وجدت في بيئات الشر والفساد. ويجب على الشاب ألا يحتقر نفسه، وكثيرٌ منهم ولله الحمد بدأ لهم ثقل واضح في المجتمع، وبدأ لهم وزن في الأوساط الاجتماعية، فكثير من أولئك المستقيمين قد تزوج وأنجب، أو هو يعمل في وظيفة محترمة، وربما صار ينفق جزئياً أو كلياً على أسرته، وتغيرت النظرة إلى كثيرين من أولئك، ولم يعودوا ينتقدون ويعاب عليهم مثلما كانت النظرة الأولى. فعلى أولئك أن يقدروا أن وزنهم في المجتمع قد تغير، وأن نظرة المجتمع إليهم قد تغيرت، وأن الكثيرين من الغرقى بدءوا يمدون أيديهم طلباً ليد العون، ويطلبون منهم المساعدة، وقد لا يطلبونها منهم تصريحاً، ولكن يتمنون في قرارات أنفسهم أن يأتي من أولئك المتدينين المستقيمين من ينتشلهم من تلك الأوحال، ويعلمهم ويوجههم ويرشدهم. على أولئك من أفراد جيل الصحوة الإسلامية المباركة -إن صحت هذه التسمية- أو قل المستقيمين الذين هداهم الله، أن يبعدوا أهلهم عن مصادر الشر من الأسواق ونحوها، والأجهزة المفسدة المرئية أو المسموعة أو المقروءة، وعن جيران السوء وأقرباء السوء وأصدقاء السوء، وأن يحبوا الخير لأهليهم ولإخوانهم، وألا يقول واحد منهم: الحمد لله أنا على خير، وليذهب أخي في ستين جهنم، انظر ماذا قال العبد الصالح موسى عليه السلام: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه:29 - 32]. إنه يحب الخير لأخيه، ويطلب إشراكه معه، فما كان أنانياً، وما قال: أنا أتفرد بالأمر، وإنما قال: يا رب! فدعا الله أن أشركه في أمري، كي يصبح معيناً لي على طاعة الله. أنت إذا دعوت إخوانك وأخواتك في البيت، والتزم منهم بدين الله أفراد، فإنك تكون منهم جبهة داخلية في البيت، ويصبح الرأي العام أو أغلبه معك، وتستطيع من خلاله تكوين الرأي العام في البيت، فتغير المنكرات ولو بالقوة المستندة إلى الحكمة أحياناً. وهناك كثير من البيوت لما التزم فيها الأولاد، وأخرجوا أجهزة الفساد، لم يجرؤ الأب والأم على إعادتها مرة أخرى، ورضخوا وتحسنت أحوالهم، وكم من أب اهتدى على يد ولده، وكم من أم التزمت على يد ابنتها. ويجب أن يكون لك -أيها الأخ المسلم- موقف من الخلافات العائلية، وهذا جزء من مسئوليتك، فإنه في كثير من الأحيان قد تؤدي الخلافات إلى طلاق مثلاً، أو إلى انفصال، أو إلى هجر الزوجة لزوجها أو العكس، فعليك أن تقوم بدور في تقريب وجهات النظر، وإزالة الشقاق والخلاف، وأن يحل بمجهودك -بعد فضل الله- وئام وحب بين الأطراف المتنازعة، كثير من أولئك يقفون مواقف سلبية وهم يشاهدون الخلافات العائلية الموجودة، لا يحاولون أن يحركوا ساكناً، ولا أن يتوسطوا لإنهاء الخلافات، على أولئك الإخوة أن ينتبهوا لدورهم، وأن يقوموا بالإصلاح: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} [هود:88] {فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء:35] نتيجة ماذا؟ السعي في الإصلاح. وأختم هذا الدرس بكلمات لصاحب الظلال يرحمه الله: إن الإسلام دين أسرة، ومن ثم يقرر تبعة المؤمن في أسرته، وواجبه في بيته، والبيت المسلم هو نواة الجماعة المسلمة، وهو الخلية التي يتألف منها، ومن الخلايا الأخرى ذلك الجسم الحي: المجتمع الإسلامي. إن البيت الواحد قلعة من قلاع هذه العقيدة، ولا بد أن تكون القلعة متماسكة من داخلها، حصينة في ذاتها، كل فرد فيها يقف على ثغرة لا ينفذ إليها، وإلا تكن كذلك سهل اقتحام المعسكر من داخل قلاعه، فلا يصعب على طارق ولا يستعصي على مهاجم، وواجب المؤمن أن يتجه بالدعوة أول ما يتجه إلى بيته وأهله. واجبه أن يؤمن هذه القلعة من داخلها، واجبه أن يسد الثغرات فيها قبل أن يذهب عنها بدعوته بعيداً، ولابد من الأم المسلمة، فالأب المسلم وحده لا يكفي لتأمين القلعة، لابد من أب وأم ليقوما كذلك على الأبناء والبنات، فعبث أن يحاول الرجل أن ينشئ المجتمع الإسلامي بمجموعة من الرجال، لابد من النساء في هذا المجتمع، فهن الحارسات على النشء، وهو بذور المستقبل وثماره، ومن ثم كان القرآن يتنزل للرجال والنساء، وكان ينظم البيوت ويقيمها على المنهج الإسلامي، وكان يحمل المؤمنين تبعة أهليهم، كما يحملهم تبعة أنفسهم قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:6]. هذا أمر ينبغي أن يدركه الدعاة إلى الإسلام، وأن يدركوه جيداً. إن أول الجهد ينبغي أن يوجه إلى البيت إلى الزوجة إلى الأم، ثم إلى الأولاد وإلى الأهل عامة، ويجب الاهتمام البالغ بتكوين المسلمة لتنشئ البيت المسلم، وينبغي لمن يريد بناء بيت مسلم أن يبحث له أولاً عن الزوجة المسلمة، وإلا فسيتأخر طويلاً بناء الجماعة الإسلامية، وسيظل البنيان متخاذلاً كثير الثغرات، وفي الجماعات المسلمة الأولى كان الأمر أيسر مما هو عليه في أيامنا هذه، كان قد أنشئ مجتمع مسلم في المدينة يهيمن عليه الإسلام، يهيمن عليه بتصوره النظيف للحياة البشرية، وكان المرجع فيه من النساء والرجال جميعاً إلى الله ورسوله، وإلى حكم الله ورسوله. ولكن نحن الآن في موقف متغير، نحن نعيش في جاهلية، جاهلية مجتمع، جاهلية تشريع، وجاهلية أخلاق، وجاهلية تقاليد، وجاهلية نظم وجاهلية آداب، وجاهلية ثقافة كذلك، والمرأة تتعامل مع هذا المجتمع الجاهلي، وتشعر بثقل وطأته الساحقة حين تهم أن تلبي دعوة الإسلام، سواءً اهتدت إليه بنفسها، أو هداها إليه رجلها زوجها أو أخوها أو أبوها، ولذلك فإنها ستجد كثيراً ممن يعاديها. فلابد من إنشاء البيت المسلم، وإنشاء القلعة المسلمة، ويتعين على الآباء المؤمنين الذين يريدون البعث الإسلامي أن يعلموا أن الخلايا الحية لهذا البعث وديعة في أيديهم، وأن عليهم أن يتوجهوا إليهن وإليهم بالدعوة والتربية والإعداد قبل أي أحد آخر، وأن يستجيبوا لله وهو يدعوهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الأسير الذي أسلم

الأسير الذي أسلم قصة إسلام ثمامة بن أثال تبدو للقارئ لأول وهلة قصة عادية، إلا أنها تحمل في ثناياها ما لم يكن يتصوره المرء، ولا يدركه إلا من أطال التأمل فيها وقرأ ما بين السطور: لماذا ربط في المسجد؟ ما ظنه برسول الله؟ لم منَّ عليه رسول الله؟ أحداث ومواقف تستحق التأمل والتمحيص. كل ذلك يدركه من رزقه الله نوراً يكشف به عن مشخصات الأمور وأحداث الوقائع.

أحداث القصة

أحداث القصة الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، على آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فالقصة التي سنتحدث عنها في هذه الليلة -إن شاء الله- من قصص أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في عهده عليه الصلاة والسلام، وهي قصة رجل من زعماء المشركين هداه الله تعالى في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام، روى قصته الإمام البخاري ومسلم وأحمد في مسنده. يقول أبو هريرة رضي الله عنه: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلاً قِبَل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما عندك يا ثمامة؟ فقال: عندي خير يا محمد، إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت. فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان بعد الغد، فقال: ما عندك يا ثمامة؟ قال: ما قلت لك؛ إن تنعم تنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان من الغد، فقال: ما عندك يا ثمامة؟ فقال: عندي ما قلت لك؛ إن تنعم تنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فتركه رسول الله حتى كان من الغد فأعاد السؤال وأعاد الجواب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أطلقوا ثمامة. فانطلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، يا محمد! والله ما كان على الأرض وجه أبغض إليَّ من وَجهِك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إليَّ، والله ما كان من دين أبغض إليَّ من دينك، فقد أصبح دينك أحب الدين كله إليَّ، والله ما كان من بلدٍ أبغض إليَّ من بلدك، فقد أصبح بلدك أحب البلاد كلها إلي، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة؛ فماذا ترى؟ فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة قال له قائل: أصبوت؟ -في رواية البخاري ومسلم - فقال: لا، ولكن أسلمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. هذه هي قصة ثمامة بن أثال الحنفي سيد أهل اليمامة رضي الله تعالى عنه.

هدي النبي صلى الله عليه وسلم في قتال الكفار

هدي النبي صلى الله عليه وسلم في قتال الكفار لقد بعث النبي عليه الصلاة والسلام -كعادة المسلمين دائماً في جهاد واستعداد- معارك أو سرايا أو جولات استطلاعية تقوم بها خيل المسلمين حول المدينة، لإرهاب أعداء الله: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60] وكذلك تغير على المشركين، وتحبط كل محاولة لغزو المدينة، وكان للنبي صلى الله عليه وسلم ضربات وقائية، وكان هناك مفاجأة للعدو ومباغتة. فجهاد النبي عليه الصلاة والسلام إذا استطلعناه في عدد من الفنون والمجالات العسكرية، فأما أن تكون حرب مواجهة مع الكفار، مثل: معركة بدر، ومعركة أحد، ومعركة حنين ونحو ذلك، وإما أن تكون غارات مفاجئة على مواقع العدو الذين يستعدون لغزو المدينة فتحبط محاولاتهم واستعدادهم في مهدها، كما حصل في غزوة بني المصطلق، فقد أغار عليهم وأخذهم على حين غرة، وكان قد وصلت إليه أخبار بأنهم يستعدون لقتاله. أو تكون سرايا استطلاعية، كما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم عدداً من السرايا لاستطلاع الأخبار، ليأتونه بالأخبار، كما بعث عشرة من رجاله عيناً في معركة ماء الرجيع. وإما أن يكون خروجهم لتنفيذ مهمة معينة كاغتيال كافر، كما حصل في اغتيال سلام بن أبي الحقيق اليهودي، ومقتل كعب بن الأشرف. وقد تكون المهمات الحربية لتحطيم بعض أوثان الجاهلية، كما أرسل خالد بن الوليد وغيره من الصحابة لتحطيم وتحريق أوثان كان أهل الجاهلية يعبدونها.

كيفية التعامل مع المشركين

كيفية التعامل مع المشركين وقد تكون الغارات التي يرسلها صلى الله عليه وسلم للاستيلاء على قوافل المشركين في حرب اقتصادية، ونهب أموال الكفار التي أباحها الله؛ لأنهم من المحاربين وأموال المحاربين حلال، فإن الكفار عند المسلمين على ثلاثة أنواع: كافر مسالم، وكافر محارب، وكافر ذمي يعيش في بلاد المسلمين تحت حماية المسلمين ويدفع الجزية، والمعاهد مثله، فبينه وبين المسلمين عهد، أو دخل رجل كسفير للكفار يبلغ رسالة، فهذا يعطى أماناً حتى يبلغ الرسالة ويخرج، فمواقف المسلمين من الكفار بحسب أحوال الكفار أنفسهم. فهؤلاء الكفار المحاربون أموالهم حلال للمسلمين، فلو نهب المسلمون في فلسطين -مثلاً- أموالاً لليهود فهي حلال لهم؛ لأن هؤلاء اليهود محاربون، وكذلك لو نهب المسلمون في كشمير -مثلاً- أموال الهندوس الذين يحاربونهم، وقطعوا القوافل، ونهبوا البضائع، أو نهبوا أموال الجيش الذي يقاتلهم فهي حلال للمسلمين، لكن نهب أموال الكافر المسالم الذي لا يحارب المسلمين، أو الكافر المعاهد لا يجوز، والمعاهد هو الذي أعطاه المسلمون -وليس الكفار ولا المجرمون ولا المنافقون ولا الطواغيت- بل الذي أعطاه المسلمون العهد والأمان فماله محترم، أي له حرمته، ولا يجوز أن ينهب. وهناك بعض المسلمين الذي يعيشون في بلاد الكفار أو في بلاد الغرب يسرقون أموالاً من شركات اتصالات، وشركات نقل عام بحجة أنهم كفار، وهذا جهل؛ لأن المسلم الذي دخل بلادهم بعهد فلا يجوز له أن ينهب الأموال العامة عندهم، ولا يستطيع أن يثبت أن أصحاب شركة الهاتف هذه، أو أصحاب شركة النقل هذه يحاربون الإسلام، فإن المحارب للإسلام هو الذي رفع السلاح على المسلمين وأعان على حربهم، فقد يتساهل بعض المسلمين بالأخذ من أموال الكفار بحجة أنهم حربيون مع أن المسألة ليست كذلك. فينبغي أن يُنّزل كل شيء في موضعه، وألاَّ ندخل في ظلم، فهناك أناس حربيون لا شك فيهم كاليهود في فلسطين فهم حربيون (100%) ومحتلون، وغاصبون، وقاهرون، وباغون، ومحاربون، ومقاتلون، وكل ما يمكن أن يقال عن الكافر المحارب فهو فيهم، فهؤلاء كل أموالهم حلال للمسلمين. وقد يكون بعض الكفار أموالهم حلال، لكن جنس الطائفة أو الديانة التي هو منها أموالهم محترمة، فليس كل نصراني محارب ولا كل يهودي محارب، وكلٌّ بحسب حاله، وفقه هذه المسألة مما يعين في قضية الموقف من أموالهم؛ لأن بعض المسلمين عن جهل وعن هوى يسلبون أموال الكفار بدون حجة شرعية، وهذا حرام لا يجوز.

أسر ثمامة والحكمة من ربطه في المسجد

أسر ثمامة والحكمة من ربطه في المسجد أغارت خيل النبي عليه الصلاة والسلام قِبل نجد، وكانت ديار كفر لم يستول عليها المسلمون بعد، ولم تطبق فيها الشريعة، أغاروا عليها وأسروا رجلاً مهماً وهو ثمامة سيد أهل اليمامة، واليمامة: منطقة معروفة في نجد. فأتي به إلى النبي عليه الصلاة والسلام لقد كان المسلمون يُرهبون الكفار، وكان الكفار في قلق وانزعاج دائم، لأن المسلمين في غارات وحراسات مستمرة، لا يشعر الكفار بالأمان، وهذا من دوافع دخول كثير منهم في الدين؛ حتى يأمنوا على أنفسهم، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، فإن قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم). لقد أسرت خيل المسلمين ذلك الرجل المهم عند الكفار، وهو سيدهم، فكانت تلك ضربة معنوية قاصمة لأولئك الكفرة لأن سيدهم قد أخذ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد ملئ حكمة وبعد نظر؛ ولذلك أمر بأن يربط ثمامة لكن ليس في خيمة، ولا في بيت مغلق، أو في سجن، وإنما وضع في المسجد، وربط إلى سارية من سواري المسجد. إن ربط ثمامة إلى سارية من سواري المسجد معناه أنه يرى يومياً ما هي حياة المسلمين في المسجد، كيف يأتون إلى الصلاة مبكرين، وكيف يصلون ويدعون، ويذكرون الله، يُرفع الأذان فيطرق مسامع ثمامة خمس مرات في اليوم، ويسمع قراءة النبي عليه الصلاة والسلام، وسماع قراءة النبي عليه الصلاة والسلام وحدها غاية في التأثير، فهذا جبير بن مطعم يقول عندما سمع قراءة النبي عليه الصلاة والسلام: ما سمعت قط صوتاً أحسن منه، عندما سمع قراءته بالتين والزيتون، وكذلك سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ} [الطور:35 - 36] الآيات قال: فكاد قلبي أن يطير. فسماع قراءة النبي عليه الصلاة والسلام وحدها مؤثرة. ثم إن المسجد مكان للصلح، كما في قصة كعب بن مالك وابن أبي حدرد لما توسط النبي صلى الله عليه وسلم بينهما، فوضع صاحب الحق شيئاً من حقه، وأمر الآخر أن يبادر بالسداد، ومكان للتزويج وعقد النكاح، والتوفيق بين المسلمين، ومكان استضافة الغرباء، وإكرام من لا بيت له كأهل الصفة، ومكان لجمع التبرعات والصدقات، وذلك عندما جاء قوم مجتابي النمار إلى المسجد، فأمر النبي عليه الصلاة والسلام المسلمين بالصدقة، وكان مكاناً لإرسال الجيوش والبعوث، ومكاناً تجلب إليه الغنائم وتقسم على حسب شرع الله، ومكاناً تجمع فيه زكاة الفطر وتقسم على الفقراء، ويؤتى فيه بخراج البحرين ويوضع في المسجد، ومكاناً للفتاوى والأسئلة والإجابات، وحلق الذكر ودروس العلم، والخطب النبوية المؤثرة، وهو المكان الذي يجتمع فيه المسلمون في المدينة إلى النبي عليه الصلاة والسلام ليوقروه، ويعظِّموه، ويطيعوه صلى الله عليه وسلم، وهو المكان الذي يأتي الناس ليصلوا فيه النوافل والتراويح جماعة أحياناً. وهذه المشاهد الموجودة في المسجد كفيلة بالتأثير في النفوس، ولذلك أمر النبي عليه الصلاة والسلام من حكمته بربط ثمامة في المسجد، وليس في أي مكان آخر، وحول موضوع دخول الكافر إلى المسجد سنتحدث في آخر الدرس إن شاء الله.

ظن ثمامة برسول الله صلى الله عليه وسلم

ظن ثمامة برسول الله صلى الله عليه وسلم جاء النبي عليه الصلاة والسلام إلى ثمامة وقال: ماذا عندك؟ أي: ما الذي استقر في ظنك أن أفعله بك؟ ما تظن يا ثمامة أنني فاعل بك؟ فأجاب بأنه يظن بالنبي عليه الصلاة والسلام ظن خير، وأنه ليس ممن يظلم، وأن ظنه به أن يعفو ويحسن إليه، وأنه إن قتله فإنما يقتل ذا دم، أي: صاحب دم، لدمه موقع يشتفي قاتله بقتله، كأنه يقول: إذا قتلتني تقتل شيئاً كبيراً يحق لك انتقاماً، وتقتل رئيساً وعظيماً من العظماء. وفي رواية: ذا ذم. ومعناها: ذا ذمة، لكن لم يكن لهذا الرجل ذمة، ولذلك استبعدها بعض العلماء، وقد حاول النووي أن يوجه هذه الرواية ليكون معنى ذا ذمة: ذا حرمة في قومه، وليس أن ثمامة صاحب عقد ذمة، أو أن المسلمين قد أعطوه عهداً. قال: وإن تنعم تنعم على شاكر، أي: يشكر لك منتك وفضلك عليه، وفي اليوم الثاني والثالث عرض عليه ما عرض عليه من قبل، وسئل عما سئل عنه من قبل، والنبي صلى الله عليه وسلم لما رأى موقف ثمامة كما هو أمر بإطلاقه، قال بعض العلماء: إن ثمامة قد وافق في هذه المخاطبة قول عيسى عليه السلام: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118].

إطلاقه رضي الله عنه وإسلامه

إطلاقه رضي الله عنه وإسلامه قال: أطلقوا ثمامة، قال: قد عفوت عنك يا ثمامة وأعتقتك. وهذا في رواية ابن إسحاق، وجاء فيها: أن المسلمين قد جمعوا له من طعام ولبن، فقدموه إليه فلم يصب من ذلك إلا قليلاً. ولما أُطلق الرجل لم يرجع إلى قومه؛ لأن ما شاهده من المشاهد كفيل بأن يجعل الهداية تدخل إلى قلبه، فذهب واغتسل وأسلم ونطق بالشهادتين، ثم بشره النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة ومحو ذنوبه وتبعاته السابقة، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عما أحس به من محبة النبي صلى الله عليه وسلم، ومحبة دينه، ومحبة بلده، فانقلب البغض إلى حب وانقلبت الكراهية إلى محبة، واتضح من خلال التأثير كيف تنقلب مشاعر المدعو عكس ما كانت عليه. لو وُجد المدعو في بيئة سليمة، وتعرض لمؤثرات صحيحة، ووُجد في جو طيب فإنه يتأثر، وهكذا حصل لـ ثمامة، حينما ربط في هذا المكان فتأثر وانقلبت مشاعره، فإنه كان يكره النبي عليه الصلاة والسلام، ويكره دينه، ويكره بلده، فصار أحب الوجوه إليه وجهه عليه الصلاة والسلام، وأحب البلاد بلده، وأحب الدين إليه دينه، زد على ذلك أن المنَّة التي مَنَّ بها عليه الصلاة والسلام على هذا الرجل قد أثَّرت فيه، منَّةٌ شكرها هذا الرجل، وكان شكره الإسلام، فقد أسلم وتابع النبي عليه الصلاة والسلام. لقد كان مفهوم المسلمين في السابق للإسلام أمراً عجيباً، حتى مع أنهم حديثو عهد به، فإن هذا الرجل كان سيد قومه، وهو مشرك كافر، أخذ ووضع في المسجد، وفي هذه الأيام الثلاثة رأى المجتمع الإسلامي من الداخل، وقد كان هناك إشاعات كثيرة عن النبي عليه الصلاة والسلام وعن المسلمين، يطلقها اليهود والمنافقون ومشركو قريش وغيرهم، ولكن الآن رأى ثمامة بأم عينيه المجتمع الإسلامي من الداخل، ورأى النبي عليه الصلاة والسلام بنفسه وشخصه، لقد زالت كل الهالات الإعلامية السيئة التي نسجها الكفار حول المسلمين، وحول الدعوة، وحول النبي عليه الصلاة والسلام، لقد رأى ثمامة الصورة الحقيقية من الداخل. ثم صادف ذلك الإنعام من النبي عليه الصلاة والسلام بأن مَنَّ عليه وأطلقه دون قيد ولا شرط، ولا فدية ولا مقابل، إنه كرم نبوي، حيث قال: أطلقوا ثمامة، فهذه الأشياء مجتمعة أثرت في الرجل؛ فقلبت مشاعره، والذي نريد أن نقوله: إن الدخول في الدين ليس فقط كلمة تنطق، بل هو تغيير جذري في المشاعر، لا يؤمن حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ولا يؤمن حتى يحب المرء لا يحبه إلا لله، ولا يؤمن حتى يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار. إذاً عملية الدخول في الإسلام والهداية تُحدِث تحولات في المشاعر، فليست القضية قضية نطق بالكلام أو عبارات، وليست شعائر تؤدى بالجسد، وإنما تغيير داخلي -أيها الإخوة- في القلب، وفي الأحاسيس، وفي المشاعر؛ فينقلب الكره حباً، والبغضاء وداً، وهكذا حصل لـ ثمامة رضي الله عنه. هل انتهت القضية على هذا؟ هل هذا هو الذي ولدّه الإيمان فقط؟ لا. فالرجل عندما أسلم كان يريد أن يؤدي عمرة، وما حكم العمرة التي كان يريد أن يؤديها؟ عليه أن يستمر في عمل الخير، فإن العمرة عمل خير، والمشركون كانوا يعتمرون ويحجون لكن على مذهبهم الباطل وعلى عقيدتهم الباطلة، فيطوفون حول أصنام الكعبة، وقريش كانت تذهب إلى مزدلفة ولا تتجاوزها؛ لأنهم يقولون: نحن من الحمس، أي: أهل الحرم فلا نتعدى الحرم مثل بقية الناس إلى عرفات، وكان بعضهم يطوف بالبيت عرياناً، فالحج والعمرة كان على مذهبهم الفاسد. فهذا الرجل أسلم وكان يريد أن يؤدي عمرة، فقال: يا رسول الله! إن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة، فماذا ترى؟ تصور أن زعيماً من زعماء الكفار يسلم ثم يأتي مباشرة ليستفتي! وليس من السهل على زعيم قبيلة أو عشيرة، أو سيد مطاع في قومه أن يأتي ليسأل ويستفتي، لكن كان دخول الصحابة في الدين انقلاباً شاملاً في النفس، يقلب كيان الرجل، فلما سأل النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يعتمر. إذاً إذا كان الكافر يريد أن يعمل عمل خير قبل الإسلام وأسلم؛ فإنه يستمر في عمل الخير الذي كان يريد أن يعمله.

الإسلام يغير ثمامة تغييرا كاملا

الإسلام يغير ثمامة تغييراً كاملاً لم تنته المسألة عند هذا، ونحن نريد أن نفحص عن عملية التغيير التي حدثت لهذا الرجل؛ لأن هذه عملية فيها عبرة؛ بها نكتشف الفرق بين إسلام العامة وكيف كان يسلم الصحابة، كان الواحد منهم إذا أسلم على عهد النبي عليه الصلاة كان إسلامه يعني أشياءً كثيرة يعني انقلاباً كاملاً وتحولاً جذرياً. الرجل ذهب إلى مكة لأداء العمرة، حتى إذا كان ببطن مكة لبى، فقيل: إنه أول من دخل مكة بالتلبية، وقيل: إن قريشاً قالوا: أجترأت علينا؟ وأخذوه يريدون قتله، فقال قائل منهم: دعوه فإنكم تحتاجون إلى الطعام من اليمامة، واليمامة منطقة كانت تمون مكة بالقمح (الحنطة) فتركوه. كما كانوا يريدون قتل أبي ذر الغفاري رضي الله عنه فقام العباس يدافع عنه ويقول: إن معبر قوافلكم على طريق قوم الرجل، وإن قتلتموه سيمنعون قوافلكم وينهبونها، فتحت ضغط العامل الاقتصادي يتراجع القوم عما كانوا يريدون، وإلى الآن والعامل الاقتصادي عامل له ضغط وتأثير. لكنهم ما تركوه من جهة الاستهزاء، بل قالوا له: أصبوت؟ والصابئ هو الذي غير دينه، فأي شخص يغير دينه عن دين قومه تسميه العرب: الصابئ. ولا حظوا كيف ينشئ الإسلام عزة في نفس المسلم إذا كان إسلامه صحيحاً! فلم يسكت لهم على هذه الكلمة وهم جماعة وهو واحد، بل قال: لا. ولكن أسلمت مع محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولم يكتفِ بالرد عليهم فقط، بل دفعته العزة إلى أن يهدد بالتهديد التالي؛ يقول: ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها النبي صلى الله عليه وسلم. واليمامة منطقة زراعية كانت تصدر الحنطة إلى مكة، والآن فهم ثمامة بإسلامه أن الدين يتطلب منه أن يتخذ مواقف من الكفرة، مواقف فيها مفاصلة، وفيها إرغام لأعداء الله، ومقاطعة اقتصادية. إنها كلمة خطيرة! ولكنه قالها، فلم يكن إسلامه إسلاماً بارداً، ولا إسلاماً من يحبون الأعداء، ويتآلفون مع الأعداء، ويتأقلمون معهم، ويعيشون معهم في سلام وأمان لا. بل كانت مواقف مواجهة؛ لأن طبيعة الدين طبيعة تغييرية، والإسلام يريد أن ينقض الكفر والجاهلية، ولا يمكن أن يتعايش مع الكفر، والذي يريد أن يحدث تعايشاً بين الإسلام والكفر مجنون، لأن طبيعة الدين تقتضي نسف الجاهلية، وتحطيم الأوثان، وإزالة المعبودات من دون الله، ونشر الإسلام: {حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39] هذه هي طبيعة الدين، والآن يراد أن يكون الدين رقيقاً، دين سلام وعاطفة، ومحبة للجميع، ودائماً يقولون: الإسلام دين مسالم كيف هذا؟ هل هناك جهاد في الدين أم أنكم قد ألغيتم الجهاد؟ ويقولون: الإسلام ليس فيه إرهاب كيف ذلك؟ وفيه إرهاب لأعداء الله، والله يقول: {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60] فإذا كنا لا نريد إرهاب أعداء الله، فمعناها أن الدين رخو، وناقص، وقد عطلنا هذه الشعيرة. إذاً فالذي يقول: هذا دين سلمي، ولا يوجد فيه قتال ولا اعتداء على أحد فمعنى ذلك إلغاء الجهاد، وهذا ما يقصدونه إذا فسروا الجهاد على أنه اعتداء، فنعم فيه اعتداء، لكنه اعتداء بالحق، وهناك اعتداء بالباطل، كأن تذهب إلى كافر مسالم أو لا يحارب الدين، ولا يقف في طريق نشر الدين وتقتله وتستولي على ماله؛ فهذا خطأ، أما إذا وقفوا في طريق الدين ونشره فيقاتلون. ماذا فعل الصحابة في الفتوحات؟ لقد عرضوا الإسلام على رستم، وعرضوا الإسلام على رسل قيصر وعلى قادة الفرس والروم، أي إذا دخلتم في الإسلام انتهت العداوة والبغضاء بيننا، على أن تخلّوا بيننا وبين شعوبكم ندعوهم إلى الإسلام ولا نقاتلكم، أما إذا منعتمونا فسنقاتلكم ونرهبكم ونعتدي عليكم.

الرجوع إلى الدين قبل المواجهة ودعوى التقريب بين الأديان

الرجوع إلى الدين قبل المواجهة ودعوى التقريب بين الأديان إن الدين يتعرض في هذا الزمان للتشويه، وإلى حذف أشياء من الدين، وهم يريدون إلغاء أي شيء يتعلق بقضية إرهاب الكفار وجهاد أعداء الله ونحو ذلك، فالذي يقول: إن الإسلام ليس فيه أي مواجهات، ولا اعتداء، ولا قتال، ولا استيلاء على أموال الآخرين مخطئ في قوله، وكيف ليس فيه استيلاء؟ وهذه الغنائم أليست استيلاء على أموال الكفرة المحاربين؟ إذاً الإسلام فيه استيلاء على أموال الآخرين لكن بالحق، والله عز وجل يقول: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً} [الأنفال:69] ولذلك قال العلماء: أحل الحلال أموال المحاربين وهي الغنائم، لكن لا يمكن أن تكون الأمة في وضع صعب وهزيمة، والمرتدون فيها كثرة مسيطرون، والمنافقون فيها كذلك، ثم تحارب وتغنم! الأمة لا تستطيع أن تحارب وتجاهد وتغنم إلا إذا قامت على قدميها، وإذا صار الدين فيها محكماً، ورجع الناس فيها إلى الله، وصارت الجبهة الداخلية فيها متماسكة، وتمسَّك المسلمون بالدين، فعند ذلك يمكن الجهاد والغنائم، أما في هذا الوضع، فإن الأمة تحتاج إلى دعوة وإصلاح قبل أن تجاهد، فلا يمكن أن تجاهد وهي بعيدة عن الدين، فإن أكثر المسلمين شاردون عن الدين، ومنغمسون في المعاصي، وفي الفجور، وفي الفسق هذا لا يصلي، وهذا يستهزئ بالإسلام، وهذا لا يعرف السنة، وهذا يعترف ببعض السنة، وهذا أهل بيته في غاية التبرج والفسق والفجور، وهذا بيته مليء بالمنكرات كيف ستجاهد الأمة وهذا وضعها وحالها؟! إذاً فالأمة تحتاج إلى إصلاح وإلى دعوة قبل أن تقوم للجهاد في سبيل الله، وقبل أن تفكر في الغنائم فكِّرْ في الدعوة أولاً، وفي إصلاح المسلمين، حتى يكونوا متهيئين بعد ذلك للجهاد والغنيمة، ومع أننا غير قادرين على القيام بهذا الأمر فإننا لا ننكره، بل إن الجهاد موجود في الدين، لكن نحن غير قادرين عليه. لقد أحل الله غنائم الكفار، لكن نحن غير قادرين عليها، لأن وضعنا لا يسمح بالجهاد وأخذ أموال الكفار، ولكن لا ننفيه ونقول: ليس في الإسلام جهاد ولا غنائم، ولا أخذ أسرى الكفار؛ قتلاً أو مناً أو مبادلةً أو فداءً لا، هذا موجود في الإسلام، وبعض المنهزمين منا يقولون: الإسلام دين السلام، أما الجهاد فكان في الماضي وقد انتهى، أما الآن فلابد من التعايش السلمي، والتقريب بين المسلمين وبين اليهود والنصارى، وعقد لقاءات لهذا الأمر كيف التقريب؟ هذا نصراني يقول: الله ثالث ثلاثة، وأنا مسلم أقول: الله واحد لا شريك له كيف يحدث التقريب؟! ومن سيقترب من الآخر؟ ثم السؤال الآخر: كيف سيكون التقريب؟ معني ذلك أنك تسحب الطرفين إلى الوسط، أليس هذا هو التقريب؟ يهودي مسلم، أو نصراني مسلم! كيف يمكن أن يحدث؟ معنى ذلك أننا نتنازل وهم يتنازلون، وهم على كل حال كفار تنازلوا أم لم يتنازلوا فهم لا يختلفون، وسينتقلون من كفر إلى كفر أدنى منه قليلاً أو مثله، ونحن سوف نقترب إليهم، ومعنى ذلك أننا سنداهن في دين الله، والله يقول: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم:9] قالوا: يا محمد نعبد إلهك سنة، وتعبد إلهنا سنة ففكرة التقريب قديمة، فنزل قوله تعالى نسفاً لفكرة التقريب: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:1 - 6] لا يوجد تقريب، هما دينان مستقلان منفصلان لا يمكن التقارب بينهما، إذا كان يريد أن يقترب مني فأهلاً وسهلاً، لكن أن أقترب منه فهذا كفر لا أرضى به. إن فكرة الحوار بين الأديان، وفكرة التعايش بين الأديان، وزمالة الأديان، وأن نجتمع في شيء اسمه: الملة الإبراهيمية، هذا من مخترعات اليهود، قالوا: هذه الملل السماوية تلتقي في إبراهيم، فإن اليهود والنصارى والمسلمين كلهم يرجعون إلى إبراهيم، فقالوا: ننشئ شيئاً اسمه: الملة الإبراهيمية، فنحن أصلنا يرجع إلى إبراهيم، ولا أحد يخطئ أحداً، ولا أحد يعتدي على أحد، ولا أحد يكفر أحداً، ولا أحد يضلل أحداً، ولا أحد يقول إن الطائفة هذه في النار ولا شيء، ونعيش في سلام وسبات ونبات، ونخلف بنين وبنات إن هذا يعني الرضا بالكفر، وإقراره، والتعايش والتأقلم معه، ولذلك فهم يسعون بكل طريق إلى هذه الدعوة، وهم يعرفون أنهم إذا تنازلوا عن شيء من الدين فلا يهمهم ذلك، فالنصراني لو قال: أنا لا أقول إن الله هو المسيح، أنا أقول فقط: إن المسيح هو ابن الله، ونقول: إن المسيح ثالث ثلاثة، وأنتم -أيها المسلمون- أيضاً تنازلوا قليلاً، فلا تكفرونا، نحن فقط نطلب منكم ألا تكفرونا، لا تقولوا: إن اليهود والنصارى كفار فنحن إذا قبلنا بهذا كفرنا؛ لأن الله قال: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73] وأنت إذا قلت: نحن لا نكفر النصارى، فمعناه أننا خالفنا القرآن صراحة وكذبناه، نقول: إن الله كفرهم لكن نحن لا نريد أن نكفرهم! ولذلك كان من نواقض الإسلام: من لم يكفر الكفار، أو صحح مذهبهم، أو رضي بهم، أو قال: إنهم يدخلون الجنة وليسوا في النار، فقد كفر. فلو جاء مسلم وقال: إن النصارى الذين يقولون: إن الله ثالث ثلاثة، ليسوا بكفار، وليسوا من أهل النار فإنه كافر، مكذب مناقض لما أنزله الله، ومصادم لما حكم به الله، ولم يرض يرضى بما حكم به الله. فاليهود والنصارى يريدون منا في هذه الأيام تنازلاً مهماً جداً، وهو: ألا نكفرهم فقط، نقول: كلنا مؤمنون، وكلنا أهل ديانات سماوية، وكلنا أحباب، ودربنا واحد، لكن أنت تعبد الله بالطريقة الإسلامية، وذاك يعبد الله بالطريقة النصرانية، وكلها طرق ورسائل وأديان سماوية فالذي يقول هذا كافر، وهو تمييع للدين وتمييع للتوحيد. أمر آخر: إننا إن لم نكفرهم فقد رضينا بقولهم: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ، وأن الله لما خلق الخلق تعب فاستراح يوم السبت، كما يقول اليهود في سبهم لربهم عز وجل. فإذاً لا يمكن التقريب بين المسلمين وغير المسلمين، وهذه فكرة يهودية، وهذا مذهب خبيث باطل، وزمالة الأديان -أيضاً- فكرة كفرية لا يجوز إقرارها أبداً، وإذا كان المقصود بالحوار هو التقارب فهي مصيبة، وأما إذا كان الحوار لإقناعهم بالحق ودعوتهم إلى الله فنعم {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت:46] فنعرف من خلال قصة ثمامة رضي الله عنه أن الإسلام ينشئ في نفس المسلم تلقائياً مناقضة الشرك ومحاربته، وتحدي المشركين، وهذا ثمامة لم يرضَ عندما قالوا له: أصبوت؟ قال: لا والله، ولكن أسلمت مع محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم تحداهم بالخطر الاقتصادي، ولا تأتيهم حبة حنطة بدون موافقة النبي عليه الصلاة والسلام، فهكذا كان المسلم يُسلِم ويفهم كل هذه الأشياء، واليوم بعض المسلمين يعيشون في الإسلام سنوات طويلة ولا يفهم عشر ما فهمه ثمامة، فإنه أسلم واتخذ كل هذه المواقف مباشرة، فهم ما يقتضيه الدين، فهم معنى لا إله إلا الله وما تقتضيه هذه الشهادة، واليوم كثير من المسلمين لا يفهمون في سنوات طويلة بعض ما فهمه ثمامة، ويرفضون أن يتخذوا مواقف شبيهة بما اتخذه ثمامة رضي الله عنه.

من فوائد الحديث

من فوائد الحديث والحديث فيه من الفوائد: المنُّ على الأسير الكافر، وأثر المنّة على الكفار في تحبيب الدين إليهم، وكذلك الاغتسال عند الإسلام، وجمهور العلماء على أن الاغتسال مستحب وليس بواجب، لكن الكافر إذا أراد أن يسلم وقال لك: كيف أسلم؟ تقول: انطق الشهادتين واغتسل؛ لأنه إذا كان بالغاً لا يخلو أن يكون على جنابة، ومادام أنه قد دخل في الإسلام أي أنه سيصلي، وعليه جنابات من قبل، فعليه أن يزيلها بالاغتسال، فإذا كان لأجل الدخول في الدين فالغسل مستحب وإذا كان من أجل الطهارة ورفع الجنابة فلابد أن يغتسل وأن يصلي. كذلك في هذا الحديث: أن الكافر إذا أراد عمل خير ثم أسلم؛ فإنه يشرع له أن يستمر في عمل الخير هذا، فلنفترض أن كافراً أراد أن يُنشئ ملجأ للأيتام، وضع الأساسات واشترى الأرض ثم أسلم وقال: ماذا أعمل في المشروع؟ نقول: أكمل، أسلمت على ما أسلفت من خير. وفي الحديث: ملاطفة الذي يرجى إسلامه من الأسرى إذا كان في ذلك مصلحة للإسلام، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يمر عليه كل يوم ويسأله عن ظنه، ويهتم به، ولا سيما الرجل الذي إذا أسلم تبعه قوم، فإن المعظمين عند الناس إذا أسلموا يكون لإسلامهم أثر على بقية الذين يتبعونهم. وفي الحديث: بعث السرايا إلى بلاد الكفار، وأسر من وجد من الكفار خصوصاً الناس المؤثرين. وفي الحديث: أن لإمام المسلمين الخيار في قتل الأسير، أو المن عليه، أو المبادلة به، أو أخذ الفدية، وقد حدث في بعض المعارك السابقة بين المسلمين والنصارى، فاتفق المسلمون مع النصارى على مبادلة الأسرى، ونصب جسر على النهر، وكانت الطريقة أن ينطلق الأسير الكافر من أول الجسر والأسير المسلم من الطرف الآخر، ويمشي كل واحد إلى معسكر فريقه، ثم ينطلق الأسير الثاني مع الأسير الثاني، وهكذا تتم المبادلة بهذه الطريقة، وفي آخر المبادلة انتهى أسرى المسلمين، وبقي أسرى كفار عند المسلمين، فأطلقهم الخليفة منّةً وإظهاراً لعفو المسلمين وسمو المسلمين وعلوهم، فإن المنة متى تكون مؤثرة إذا كانت من طرف قوي، أما إذا كانت مِنَّة من طرف ضعيف هزيل فلا تعتبر منّة، وإنما تعتبر إلجاء، وتفسر على أنها هزيمة وإرغام، أي: أنهم أطلقوهم مرغمين وخائفين إذا لم يطلقوهم من الانتقام، أما إذا صارت المنّة من طرف قوي ومن موقع قوة، فهذه يكون لها أثر، ولذلك إطلاق ثمامة كان مؤثراً، ليس لأن المسلمين يخافون من قومه، فهم قد وصلوا إلى قومه وأسروا رئيسهم، فهم قادرون على أن يدخلوا ديارهم ويقتحموها ويصلوا إليهم، لكن هنا تم العفو من موقع القوة، ولذلك أثر. كذلك في هذا الحديث: جواز ربط الكافر في المسجد، وهذه هي مسألة: ما حكم دخول الكافر إلى المسجد؟ والذي يتبين لنا من خلال الأدلة الشرعية التي وردت في الموضوع أن دخول الكافر إلى المسجد إذا كان فيه مصلحة فلا بأس به، كما حدث في قصة ثمامة، أو من بلغ بعض الرسائل من بعض المشركين إلى النبي صلى الله عليه وسلم ودخل وسلمها إياه. وبناءً عليه لو قيل: هل يجوز أن يبني المسجد كفرة؟ نقول: الأولى أن يبنيه المسلمون لأن الكفار غير مؤتمنين، لكن لو كانوا مؤتمنين فبنوه جاز بناؤهم إذا لم نجد من المسلمين من يبينه. ولو قال قائل: عندنا شخص كافر في الشركة، يحب أن يرى المسلمين في المسجد، ويحب أن يرى الصلاة، فهل يجوز أن نأتي به إلى المسجد ونجعله في الخلف ينظر إلى صلاتنا، ويتأمل أحوالنا في المسجد؟ نقول: نعم. إذا كان لا ينجس المسجد، ولا يرفع الصوت ولا يحدث، ولا يأتي بالكاميرات ليصور، ولم يأتِ بالشورت، كما يقع في بعض الأماكن، فإذا جاء بدون محاذير شرعية وجلس في الخلف، ونظر إلى صلاة المسلمين فلا حرج في ذلك، لعل الله أن يهديه ولعله أن يتأثر. وتجد بعض المستعجلين من المصلين ربما يدخل ويراه فيشتمه ويطرده إلى الخارج ويقول: ومن الذي أدخلك؟ وأنت نجس والمسجد لا يدخله نجس؟ ويطرده من المسجد، فينبغي للمسلم أن يكون حكيماً، ونجاسة الكفار نجاسة معنوية، وليس معنى ذلك أنك إذا لمست الكافر صارت يدك نجسة، ويجب عليك أن تغسلها، وإنما المشركون نجس نجاسة الشرك، ونجاسة الكفر، ونجاسة المعتقدات التي يدينون بها، أما جسده وعرقه وجلده فهو طاهر وليس بنجس، إلا إذا دهن نفسه بالنجاسة ولوث نفسه بالنجاسة من بول وغائط فهذه مسألة أخرى. إذاً: يجوز أن ندخل كافراً إلى المسجد إذا كان لا يؤذي فيه، لكي يرى صلاتنا، ويرى ديننا، ويسمع كلامنا، فإن النبي عليه الصلاة والسلام ربط ثمامة في المسجد. أما أن يدخل للتصوير، ولفحص النقوشات، والفن الإسلامي، والكلام الفارغ الذي نهى عنه النبي عليه الصلاة والسلام، فقد نهى عن تزويق المساجد وتزيينها؛ فهذه مسألة أخرى تختلف عما نحن بصدده. أما بالنسبة لآداب المسجد فهي كثيرة، منها: تقديم الرجل اليمنى عند الدخول، كما جاء معلقاً في البخاري عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، ويقول: (أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم، اللهم صل على محمد، اللهم افتح لي أبواب رحمتك) وكذلك إذا خرج يقول عند خروجه: اللهم إني أسألك من فضلك. وكذلك لا يقذر أحد المسجد بنعليه خصوصاً إذا كان فيه سجاد، فلذلك يجعلهما في مكان لا يؤذي بهما أحداً، أما إذا كان المسجد -مثلاً- مفروشاً بالرمل أو بالحصى -كما كان ذلك في عهده صلى الله عليه وسلم- فإنه إذا دخل بنعليه يجعلهما بين رجليه، لا يجعلهما على يمينه حتى لا يؤذي من عن يمينه، ولا يجعلهما عن يساره حتى لا يؤذي من عن يساره، ولا يجعلهما خلفه حتى لا يؤذي من وراءه، إنما يجعلهما بين قدميه، وإذا كانت المساجد مفروشة كما هو الآن فتجعل النعال خارج المسجد. كذلك فإن المسجد ينبغي أن يصان عن كل وسخ، وقذر، وقذاة، ومخاط، وبصاق، وتقليم أظفار، ونتف شعر أو إزالته، وقد كانت أرض المسجد حصباء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فكان البصاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها، وقد غضب النبي عليه الصلاة والسلام وتغيظ لما رأى نخامة في قبلة المسجد، فحكها بالزعفران صلى الله عليه وسلم. وينبغي صيانة المساجد عن الصغار الذي لا يميزون، وليس في وجودهم مصلحة ولا فائدة، وكذلك المجانين كما نص على ذلك العلماء قالوا: ويسن أن تصان المساجد عن صغير ومجنون، والمقصود بالصغير: المؤذي أو الذي يصيح ويزعق، والذي ليس في دخوله فائدة، وأما الصبي المميز فإنه يدخل المسجد ولا بأس بذلك. كذلك لو كان طفلاً صغيراً بيد أمه لكنه لا ينجس المسجد، يقول أحد الأئمة: الصبيان في رمضان اتخذوا مساجدنا مراحيض، تأتي به أمه من غير لباس، ومن غير حفاظات، فيبول على فرش المسجد، وكل يوم نبحث عن أماكن البول ونغسلها، ثم إن السجاد ملتصق بالأرض، ولو كان حصى أو تراباً لصببنا عليه الماء وذهبت النجاسة في باطن الأرض، فبعض النساء والرجال يأتون بالصبيان إلى المسجد، فيأكلون ويشربون على سجاده، ومعلوم أن إتلاف السجاد حرام، فإنها من وقف المسجد، ومن ممتلكات المسجد، فيأكلون عليه ويصبون عليه الأشربة والأطعمة، ويبولون عليه، وهذا منكر واضح. كذلك فإن المساجد لم تبن للدنيا، فيمنع فيها البيع والشراء، ومن فعل فيقال له: لا أربح الله تجارتك، وكذلك يمنع فيها التكسب بالصنعة كالخياطة وغيرها، ولا يجوز أن يقعد فيها الصنّاع، مثلاً: الذي يصلح الأحذية وكذلك الذي يرقع الثياب أو يخيطها. كذلك فإن المساجد لا تتخذ مكاناً للإعلان عن المفقودات، وإذا قال أحد فيها: من وجد لي كذا وكذا، فيقال له: لا ردها الله عليك. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

مسابقة في آية المحرمات

مسابقة في آية المحرمات المحرمات من النساء على قسمين: القسم الأول: محرمات بالنسب، وهن سبع: الأمهات، الأخوات، البنات، الخالات، العمات، بنات الأخ، بنات الأخت. والقسم الثاني: محرمات بالسبب وهن على قسمين: القسم الأول بالرضاع، وهن: الأمهات بسبب الرضاعة، الأخوات من الرضاعة. القسم الثاني بالمصاهرة: وتشمل: أم الزوجة، وبنت الزوجة إذا دخل بأمها، وزوجة الابن وزوجة الأب، ويحرم الجمع بين الأختين، وبين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها. هذا ما تحدث عنه الشيخ تفصيلاً، ثم جرت مناقشة بين الشيخ وطلابه حول الموضوع.

المحرمات من النساء

المحرمات من النساء الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصبحه أجمعين، الحمد لله الذي أنزل علينا الكتاب، وأرسل إلينا الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم، فعلَّمنا وأحسن تعليمنا، وفقَّهنا في أمور ديننا، وهو القائل صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين). إن الفقه في الدين -أيها الإخوة- من الأمور العظمية، ومعرفة الأحكام الشرعية من الواجبات الكبيرة، والناس يحتاجون إلى معرفة الأحكام في كثير من الأمور، وخصوصاً الأمور المتكررة، التي تكون الحاجة إليها قائمة باستمرار. وحديثنا في هذه الليلة ودرسنا عن موضوع علمي فقهي شرعي، وهو موضوع له لذة، وفيه إعمال للعقل والفكر، موضوع نحتاج إليه جميعاً؛ لأننا نعايشه، ونتعرض لكثير من المواقف التي توجب علينا معرفة الأحكام المتعلقة بهذا الموضوع، لو سأل سائل فقال: هل يجوز لي أن أدخل على زوجة عمي أو زوجة خالي؟ أو: هل يجوز لي أن أرى خالة زوجتي أو عمة زوجتي؟ وتسأل امرأة فتقول: هل يجوز لي أن أرى عم زوجي، أو خال زوجي -مثلاً- وأكشف عليه؟ فإن كثيراً من الناس يتحيرون ويضطربون، ولا يدرون ما هي الأحكام الشرعية المتعلقة بهذا الموضوع، ألا وهو موضوع المحرمات أيها الإخوة، ونحن بصدد معرفة معنى آية عظيمة من كتاب الله سبحانه وتعالى. وسنناقش وإياكم معنى هذه الآية، وما اشتملت عليه من الأحكام، ثم يكون هناك أسئلة موجَّهة إليكم، متعلقة بما ذكرناه من الأحكام، وبعض هذه الأسئلة تحتاج إلى تفكير؛ إذ أنها ليست أسئلةً مباشِرة، ولكن سيتبين من خلال النقاش كثيرٌ من الأحكام التي ربما كان بعض الإخوة عنها في بُعد، وعدم اطلاع وتبصر. وسيكون في نهاية الحديث عن هذه الآية والأسئلة إجابات عن أسئلتكم التي طرحت في المحاضرة السابقة؛ إذ إنني أحتفظ بجميع الأسئلة الواردة إليَّ في جميع المحاضرات التي سبق أن حصلت، وأستفيد من هذه الأسئلة، وبعض هذه الأسئلة ربما يكون داخلاً في بعض المحاضرات، بل ربما يكون هو عنواناً لبعض المحاضرات، وإذا كان هناك وقت لنجيب على أسئلة أخرى ترد في هذه المحاضرة، فسنفعل ذلك إن شاء الله. قال الله عز وجل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} النساء:23].

أنواع المحرمات من النساء

أنواع المحرمات من النساء هذه الآية فيها إشارة إلى نوعين من المحرمات: - محرمات إلى الأبد. - ومحرمات إلى أمد. تحريم مؤبد، وتحريم مؤقت. وهذه الآية فيها إشارة إلى: - محرمات بالنسب. - ومحرمات بالسبب. المحرمات بالنسب: مثل الأمهات، والأخوات. والمحرمات بسبب: - إما أن يكون السبب رضاعاً. - أو مصاهرة. فالرضاع مثل: الأخت من الرضاع، والمصاهرة مثل: أم الزوجة مثلاً. وفي هذه الآية -أيضاً- بيان ما هو تحريم عين: كالأم، والأخت، وتحريم جمع: كالجمع بين الأختين. ولذلك هذه الآية تضمنت فقهاً عظيماً، وربما يقرؤها الواحد منا في ختمه للقرآن، ولا يُلِمُّ بِمَعانيها، ونحن نتعرض يومياً إلى مواقف من الأقارب، ولا يعلم كثير من الناس ما هو الموقف حيال هؤلاء الناس الذين بينك وبينهم صِلات نسبية أو سببية. فلعلك -أيها الأخ المسلم- ستستفيد فائدة كبيرة -إن شاء الله- من وراء معرفة هذا الموضوع. قال الله سبحانه وتعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء:23] وهذه الآية تتضمن سبعة أنواع من المحارم بالنسب، وسبعة بالسبب، سواءً أكان السبب رضاعاً أو مصاهرةً.

المحرمات بالنسب

المحرمات بالنسب فأما المحرمات السبع بالنسب -والنسب: هو الرحم- فهن سبعٌ محرمات إلى الأبد، لا يجوز لك أن تتزوج بهن في يوم من الأيام. وأُولَى هؤلاء هُنَّ: الأمهات: قال الله عز وجل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء:23]. والأمُّ: هي كل أنثى لها عليك ولادة، من جهة الأمِّ أو من جهة الأبِ، كل من انتَسَبْتَ إليها بولادة فهي أمٌّ. - فأمُّك التي ولدتك هي أمٌّ -ولا شك- وإن عَلَت. - فأمُّ أمِّك داخلة في التحريم، وهي الجدة. - وأمُّ أبيك داخلة -أيضاً- في التحريم. - وأمُّ أمِّ الأمِّ، أمُّ الجدة، داخلة في التحريم أمُّ أمِّك، وأمُّ أمِّ أمِّك. - وأمُّ أمِّ أبيك. - وجدتا أبيك، أمُّ أمِّه، وأمُّ أبيه. - وجدات جداتك. - وجدات أجدادك وإن علون وارثات أو غير وارثات، كلهن أمهات محرمات؛ لعموم قوله تعالى: {حرمت عليكم أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء:23] فأبهموا ما أبهم القرآن، فلم يحدد القرآن أي طبقة من الأمهات، وإنما قال: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء:23]. فإذاً: أمُّك محرمة عليك، وأمُّ أمِّك محرمة، وأمُّ أبيك محرمة، وأمُّ أمِّ أمِّك محرمة، وأمُّ أمِّ أبيك محرمة، وهكذا يتفرعن علواً، كلهن أمهات محرمات. ثانياً: البنات: والبنت: اسم لكل أنثى، لك عليها ولادة، أي: انتَسَبَتْ إليك بولادة، سواءً أكانت بنتك المباشرة من صلبك، أو من جهة ابنك، أو من جهة بنتك. فعلى ذلك: - بنت الابن محرمة - وبنت البنت -الحفيدة- محرمة. - وبنت بنت ابنك محرمة. - وبنت بنت بنتك محرمة. وإن نزلن، كلهن بنات محرمات. فحفيدتك، وحفيدة حفيدتك، وحفيدة حفيدة حفيدتك -لو أدركتها- فهي محرمة عليك؛ لعموم قوله تعالى: {وَبَنَاتُكُمْ} [النساء:23]. ثالثاً: الأخوات:- والأخت: هي كل أنثى جاورتك أو شاركتك في أصلَيك، وما هما أصلاك؟ الأب والأم، أو في أحدهما. فتشمل: - أختك الشقيقة؛ والأخت الشقيقة جاورتك في الأصلَين؛ لأنها أختك من أبيك وأمك. - وأختك من أبيك محرمة. - وأختك من أمك محرمة كذلك. ولا تفريع هنا. فإذاً: الأخت الشقيقة، وأختك من الأم، وأختك من الأب هؤلاء كلهن أخوات محرمات. رابعاً: العمات:- والعمة: أخت أبيك من الجهات الثلاث، سواءً أكانت: - أخت أبيك الشقيقة. - أو أخت أبيك من أبيه. - أو أخت أبيك من أمه. هؤلاء كلهن عمات محرمات. - وكذلك أخت الجد مُحَرمة؛ لأنها عمة، ولكنها عمة كبيرة، فعمة جدك مثل عمتك، وعمة أبيك مثل عمتك، كلهن مُحَرمات وسواء كان الجد قريباً أو بعيداً؛ فلا يفرق في الحكم أبداً. - وكذلك عمة الأم محرمة عليك. وهي أخت جدك لأمك، أي: أخت أبي أمك، فأخت أبي أمك هي عمتك لأمك، فهي داخلة في العمات الْمُحَرمات؛ لعموم قوله تعالى: {وَعَمَّاتُكُمْ} [النساء:23]. خامساً: الخالات:- والخالات: هن أخوات أمك من الجهات الثلاث، سواءً أكانت: - أختها الشقيقة، فهي خالة. - وأختها لأبيها خالة. - وأختها لأمها خالة. - وكذلك أخت جدتك تعتبر خالة تكشف عليها، وإن علت الجدات، فكل أخت لجدتك -لجدتك من جهة أمك- فهي خالة محرمة، فكما أن كل جدة أم محرمة، فكذلك كل أخت لجدة هي خالة محرمة. - وكذلك خالة الأب محرمة، ومَن هي خالة أبيك؟ هي أخت أم أبيك، أي: أخت جدتك لأبيك، هذه خالة محرمة. سادساً: بنات الأخ:- وبنت الأخ: هي اسم لكل أنثى لأخيك عليها ولادة مباشرة، أو من جهة أمها، أو من جهة أبيها، فمثلاً: - بنت أخيك الشقيق محرمة. - وبنت أخيك من الأب محرمة. - وبنت أخيك من الأم محرمة. وإن نزلن، فمثلاً: - بنت ابن أخيك أخوك عنده ولد، والولد هذا عنده بنت فهي محرمة عليك. - وبنت بنت أخيك محرمة عليك كذلك. وإن نزلن؛ لعموم قوله تعالى: {وَبَنَاتُ الْأَخِ} [النساء:23]. سابعاً وأخيراً من أنواع المحرمات بالنسب تحريماً مؤبداً: بنات الأخت:- وبنت الأخت: هي كل امرأة انتَسَبَت إلى أختك بولادة، فكل امرأة انتسب إلى أختك بولادة فهي بنت أخت محرمة. - فبنت أختك الشقيقة محرمة. - وبنت أختك من أبيك محرمة. - وبنت أختك من أمك محرمة. - وبنت بنتِ أختك محرمة. - وبنت ابنِ أختك محرمة. وإن نزلن كلهن محرمات؛ لعموم قوله تعالى: {وَبَنَاتُ الْأُخْتِ} [النساء:23].

المحرمات بسبب الرضاع

المحرمات بسبب الرضاع ثم قال الله سبحانه وتعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء:23]. انتقل الآن من التحريم بالنسب إلى التحريم بالسبب، والسبب هو الرضاع {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء:23]. فالمرأة التي أرضعتك هي أم لك، مثل أمك من جهة النسب، فالتي أرضعتك تكشف عليها مثل أمك. وهل لها حكم بر الأم؟ الأم من الرضاع هل تُبَرُّ في الأحكام مثل الأم من النسب؟ A لا، ليست مثلها في البر، فالأم التي أرضعت ليست مثل الأم التي حملت وولدت ورعت، فلا شك أن هذه الأم التي ولدت منزلتها أعلى بكثير من الأم التي أرضعت فقط. - وكذلك أم أمِّك التي أرضعتك أرضعتك امرأة ولها أم، فأمها هذه محرمة عليك، وإن علون. القسم الذي يليه المذكور في الآية: الأخوات من الرضاعة: وأختك من الرضاعة هي التي أرضَعَتْها أمُّك. وكذلك: التي رَضَعْتَ أنت من أمها. إذاً: الأخت من الرضاعة تشمل: - المرأة التي أرضَعَتْها أمُّك. - والمرأة التي أرضَعَتْك أمُّها. - وكذلك بنات زوج المرضعة. فلو أنك رضَعْتَ من امرأة، والمرأة هذه دَرَّ لبنُها بسبب الزوج، وهذا علاقتك به أنه يعتبر أبوك من الرضاعة، لأنه صاحب اللبن، الذي در اللبن بسببه، وهذا الرجل الذي هو أبوك من الرضاعة متزوج من زوجة أخرى غير التي أرضعتك، وعنده منها بنت، فهذه البنت أختك من الرضاعة. - وكذلك لو اشتركت أنت وأنثى بالرضاع من امرأة خارجية؛ فلا شك أنها تكون أختاً لك من الرضاع، فلو أرضعتك امرأة، وأرضعت أنثى أخرى من العمارة التي تسكنون فيها، فإن هذه البنت التي رضعت أنت وإياها من هذه الجارة أختك من الرضاع، وهذه المرأة التي أرضَعَتْ لا هي أمك ولا هي أمها، لكن ما دام أنك اشتركتَ أنتَ وهذه الفتاة بالرضاع من امرأة أيَّاً كانت، أمها أو أمك، أو جارة من الجيران، فإنك تكون بذلك أخاً لها من الرضاع. - وهنا مسألة: متى يكون الشخص له أب من الرضاعة، وليس له أم من الرضاعة؟! إذا كان رجل له زوجتان، رضعتَ من إحداهما رضعتَين -مثلاً- ومن الأخرى ثلاث رضعات، فصار المجموع خمس رضعات من لبن رجل واحد، من لبنٍ دَرَّ بسبب رجل واحد، فماذا يكون لك هذا الرجل؟ أبوك من الرضاع، وإحدى زوجتيه ماذا تكون لك؟ لا شيء، والزوجة الأخرى لا شيء، فهل تكشف على زوجتيه؟ لا؛ لأنها ليست أماً بالرضاع، لأن الرضاع لا بد أن يكون خمس رضعات فأكثر في خلال السنتين الأوْلَيَين؛ فإذا كان الرضاع خمس رضعات فأكثر في خلال السنتين الأوْلَيَين؛ صار رضاعاً له أحكامه. إذاً: في هذه الحالة يكون لك أب من الرضاع، ولا يكون لك أم من الرضاع. نأتي إلى تكملة لموضوع الرضاع لم ينص عليها في الآية؛ لكن نُصَّ عليها في الحديث، وهي قوله صلى الله عليه وسلم: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب). فإذا أرضعتك امرأة فإنها تصبح أمك من الرضاع. - وأمها جدتك بالرضاع. - وأختها خالتك بالرضاع. - وبناتها أخواتك بالرضاع. - وبنات ابنها بنات أخيك من الرضاع. - وبنات بنتها بنات أختك من الرضاع. كلهن محرمات عليك، (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب). ولذلك المرضعة تُنَزَّل منزلة الأم، وكل امرأة حَرُمت من النسب حَرُم مثلها من الرضاع؛ كالعمة، والخالة، والبنت، وبنت الأخ، وبنت الأخت، وهكذا، (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب). وزوج المرضعة صاحب اللبن، يكون أبوك من الرضاع. - وأخوه عمك من الرضاع. - وأخته عمتك من الرضاع. - وأبوه جدك من الرضاع. - وأبو الأب أبو جدك من الرضاع، وهكذا وإن علوا. - وأمُّ صاحب اللبن جدتك بالرضاع. - وأمُّ أمِّه كذلك وإن علون. - وأولاد صاحب اللبن، ولو من امرأة أخرى غير التي أرضعتك إخوانك من الرضاع. - وبنات صاحب اللبن ولو من امرأة أخرى غير التي أرضعك، أخواتك بالرضاع. - وإذا كان لصاحب اللبن ابن، وهذا الابن له بنت، فإنها تكون بنت أخيك من الرضاع. - فإذاً: أولاد صاحب اللبن ولو من امرأة أخرى: إخوة وأخوات من الرضاعة، وأولادهم -أبناء وبنات- يكونون لك أبناء وبنات أخ وأخت من الرضاع.

المحرمات بسبب المصاهرة

المحرمات بسبب المصاهرة ثم ننتقل إلى صنف آخر مذكور في الآية، وهو سبب آخر غير الرضاع يسبب التحريم، ألا وهو: المصاهرة:- والمصاهرة: أن تتزوج امرأة من عائلة -مثلاً- فتنشأ علاقة المصاهرة، فتكون أم الزوجة محرمة عليك، بأي شيء؟ بالمصاهرة، قال الله سبحانه وتعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء:23]. - فمن تزوج امرأة حَرُم عليه كل أمٍّ لها، من النسب أو من الرضاعة، قريبة أو بعيدة، بمجرد العقد على الراجح، فلو أنك عقَدْت على امرأة، فإن أمها محرمة عليك ولو لم تدخل عليها، بمجرد أن عقدت على امرأة حَرُمَت عليك أمُّها. - ولو طلقت هذه الزوجة، فإن أمها تبقى محرمة عليك. - وإذا كانت زوجتك لها أم أرضعتها، فإنها تحرم عليك {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء:23]. - وجدة زوجتك تحرم عليك، ولك أن تكشف عليها. ثم قال الله سبحانه وتعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء:23]. إذا تزوجتَ امرأة ودخلت بها، وعندها بنات من رجل سابق، فإنهن يحرمن عليك، وهؤلاء البنات يسمَّين بالربائب؛ فالربيبة هذه تحرم عليك إذا دخلتَ بأمها. فكل بنت لزوجتك من نسب أو رضاع، قريبة أو بعيدة، وارثة أو غير وارثة، إذا دخلتَ بأمها حَرُمت عليك، سواءً كانت في حجرك أو لم تكن في حجرك. - وهنا Q تزوجتَ امرأة وعندها بنت أرضَعَتْها، فهل تحرم عليك؟ نعم، تحرم عليك. - سؤال آخر: تزوجتَ امرأة وعندها بنت؛ لكن ليست مقيمة عندك في حجرك تربيها، ما زالت موجودة في بيت آخر، فهل تَحْرم عليك إذا دخلت بأمها؟ نعم. وماذا تقولون في قول الله سبحانه وتعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء:23] ما هو مفهوم هذه الآية؟ مفهوم الآية: أنها إذا لم تكن في حجرك فلا تحرم عليك، لكن هل هذا المفهوم يُعْمَل به؟ لا يعمل به؛ لأن هذا القيد {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء:23] خرج مخرج الغالب، ولم يخرج مخرج الشرط، فإن الغالب إذا تزوجت امرأة وعندها بنات، أنك ستضم بناتها معك، فيَكُنَّ في حجرك، فإذًا: هذا خرج مخرج الغالب، وليس شرطاً، ولذلك لا يعمل بمفهومها؛ ولأن ما خرج مخرج الغالب لا يصح التمسك بمفهومه كما يقول الأصوليون، هذه قاعدة أصولية: ما خرج مخرج الغالب لا يصح التمسك بمفهومه، وهذه الآية قد خرجت مخرج الغالب: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء:23]. فالخلاصة: سواء أكانت بنت زوجتك في حجرك، أو لم تكن في حجرك؛ فهي محرمة عليك إذا دخلت بأمها. ثم قال الله سبحانه وتعالى: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء:23]. والحليلة هي الزوجة. - فزوجات الأبناء محرمات على الأب، زوجة ابنك محرمة عليك. - وكذلك زوجة حفيدك محرمة، وإن نزلنَ. وقوله: {الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء:23] أخرج الولد المُتَبَنَّى على عادة الجاهلية، وقيده بالولد بالصلب. إلى الآن ذكرنا ثلاثة أنواع من بالمصاهرة في الآية: - أم الزوجة. - وبنت الزوجة إذا دخلت بالزوجة. - وزوجة الابن. بقيت واحدة من المحرمات بالصهر لم تذكر في الآية وهي: زوجة الأب وقد ذكرت في الآية التي قبلها. ولذلك ما بعد هذه الآية: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:24] أي: كل امرأة محصنة عفيفة، لا يجوز لك أن تكشف عليها، إلا إذا تزوجتها بعقد صحيح. فزوجة الأب من المحرمات. - وزوجة الجد إذا كان عند جدك زوجتان، واحدة منهن جدتك، والثانية زوجة أخرى، فهل هي محرمة عليك؟ نعم، فزوجة جدك محرمة عليك أيضاً. والدليل على تحريم زوجة الأب قوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:22] فزوجات الآباء محرمات على الأبناء؛ تكرمة للآباء، وإعظاماً للآباء، واحتراماً للآباء، أن يطأها ابنه من بعده، ولذلك الرسول عليه الصلاة والسلام لما وصله خبر أن رجلاً قد نكح امرأة أبيه، أرسل رجلاً من صحابته ليقيم عليه الحد، وهو القتل، فمن تزوج بزوجة أبيه وهو عالم، فإنه يُقْتَل. ولا بأس أن نعيد الأربعة الأصناف المحرمة بالمصاهرة: - أم الزوجة. - وبنت الزوجة من غيرك إذا دخلت بالزوجة. - وزوجة الابن. - وزوجة الأب. هؤلاء كلهن محرمات بالمصاهرة.

تحريم الجمع

تحريم الجمع قال الله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء:23]: فنكون هنا قد دخلنا في القسم الثاني من أقسام التحريم؛ وهو تحريم الجمع فإن هناك تحريم عين: أخت، أو أم بعينها، وهناك تحريم جمع، فهي ليست محرمة بعينها، لكن لما جُمِعَت صارت محرمة. قال تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء:23]. - فتحرم عليك إلى أمد مؤقت أخت زوجتك. - وهل تحرم عليك أخت زوجتك من الرضاع، أم يجوز أن تجمع بين زوجتك وأختها من الرضاع؟ تحرم ولا يجوز أن تجمع بين زوجتك وأختها، لا من الرضاع ولا من النسب. - وقد أضيف إلى هذا الحكم في الآية حكم ورد في الحديث الصحيح، وهو تحريم الجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها. فلا يجوز الجمع بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها. - كذلك الجمع بين المرأة وعمة أبيها حرام، وإن علون - وكذلك الجمع بين المرأة وخالة أمها حرام، وإن علون، وهكذا فإذا طلق المرأة وانتهت العدة، أو ماتت الزوجة مثلاً، فهل يجوز له أن يتزوج بأختها من الرضاع؟ أو من النسب؟ أو بخالتها؟ أو بعمتها؟ نعم يجوز له ذلك. - وهل يجوز لرجل طلق امرأته، فلما طلقها ودخلت في العدة، أراد أن يعقد على أختها، فهل يجوز ذلك أم لا يجوز؟ لا يجوز ذلك؛ لأنه قد يراجعها، فكيف يراجعها في العدة ويعقد على أختها؟ فلا يجوز أن يعقد على أختها إلا بعد انتهاء العدة؛ كما أنه لا يجوز للرجل أن يعقد على خامسة وقد طلق الرابعة، والرابعة لا تزال في العدة. وقد اختلف بعض أهل العلم في مسألة الطلاق إذا كان بائناً: هل يجوز أن يتزوج أم لا بد أن تنتهي عدة الطلاق البائن؟ والأحوط أن ينتظر حتى تنتهي عدة الطلاق البائن. فلذلك لا يجوز أن يتزوج أخت زوجته المعتدة من الطلاق، فإذا كانت الزوجة تعتد من طلاق؛ فلا يعقد على أختها، ولا على عمتها، ولا خالتها. لو قال شخص: هل هناك قاعدة تبين لنا من هن النساء اللاتي يحرم عليك أن تجمع بينهن؟ عرفنا أنه لا يجوز أن تجمع بين المرأة وأختها، والمرأة وعمتها، والمرأة وخالتها؛ فهل يجوز -مثلاً- أن تجمع بين بنتَي عمّ؟ نعم. يجوز أن تجمع بين بنتَي عمّ إذا لم تكونا أختين. فلو كان عندك عمَّان، كل واحد له بنت، فإنه يجوز لك أن تتزوج الاثنتين، وتجمع بينهما، وهناك قاعدة لطيفة ذكرها بعض أهل العلم، وهي: يجوز الجمع بين امرأتين، لو كانت إحداهما ذكراً لجاز له أن يتزوج بالأخرى يجوز الجمع بين أي امرأتين لو تصورنا إحداهما ذكراً لجاز له أن يتزوج بالأخرى. فبنتا العم لو كانت إحداهما ذكراً، لجاز له أن يتزوج بالأخرى، وكذلك بنتا الخال. - وما حكم الجمع يبن المرأة وبنت أخيها؟ لا يجوز؛ لأنه لو كانت واحدة منهما رجلاً لما جاز له أن يتزوج ببنت أخته، أو ببنت أخيه، ولذلك فإنه لا يجوز الجمع يبن المرأة وابنة أخيها، أو ابنة أختها. المرأة زوجتك ستصير عمتها، لكن هي ليست عمة زوجتك، زوجتك ستصبح عمتها، أو تصبح خالتها. ولعلنا قد انتهينا من بيان المذكورات في هذه الآية، وهي قول الله سبحانه وتعالى في محكم تنزيله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} [النساء:23]. وبذلك تبين لكم -أيها الإخوة- مَن هُم المحارم.

أسئلة ومناقشات حول الموضوع

أسئلة ومناقشات حول الموضوع سنعرف الآن مدى الاستيعاب الذي حصل من خلال هذا الدرس.

الرضاعة وما يتعلق بها

الرضاعة وما يتعلق بها Q أمك أرضعت امرأة فهل تحرم عليك أمها؟ ولماذا؟ A لا تحرم. لماذا؟ لأنك لم ترضع من أمها هي، وما العلاقة بينك وبين أم هذه البنت؟ لا شيء، أنت لك علاقة بالبنت التي رضعت من أمك، وهي أختك من الرضاعة، لكن أمها ليس لك بها علاقة، فأم أختك بالرضاع ليست محرمة عليك. السؤال الثاني: أرضَعَتْ أمُّك ذكراً، فهل تَحرُم عليك أمه أم لا؟ الجواب: لا تحرم لماذا؟ لأنه ليس لك علاقة بأمه، هو أخوك من الرضاع؛ لأنه رضع من أمك، لكن أمه ما لك علاقة بها. السؤال الثالث: أرضَعَتْ زوجتُك ولداً، فهل تحرم عليك أخته الشقيقة أم لا؟ الجواب: لا تحرم، لماذا؟ لأنه ليس لك بها علاقة. السؤال الرابع: أرضعَتْك امرأةٌ فهل تحرم على أبيك؟ الجواب: لا تحرم لماذا؟ لأنه ليس لها علاقة بأبيك، لها علاقة بك أنت، هي أمك من الرضاعة، لكن ليس لها علاقة بأبيك، وهل يكشف أبوك على أمك من الرضاع؟ لا يجوز له ذلك. السؤال الخامس: أرضعتك امرأة فهل تحرم بنتُها على أبيك؟ الجواب: لا تحرم لماذا؟ لأنه إذا كانت المرضعة لا تحرم على أبيك، فمن باب أولى بنت المرضعة لا تحرم على أبيك. السؤال السادس: أرضعتك امرأة فهل تحرم على أخيك؟ الجواب: لا تحرم لماذا؟ لأنها أرضعتك أنت، ولم ترضع أخاك، ولذلك فليس لها علاقة بأخيك، فأخوك لا يكشف عليها، أما أنت فتكشف عليها، لأنها أمك من الرضاع. السؤال السابع: أم زوجتك بالرضاع، هل تحرم عليك؟ الجواب: نعم، تحرم عليك.

الربيبة وغيرها من المحارم

الربيبة وغيرها من المحارم السؤال الذي يليه: هل يجوز لك الزواج بابنة زوجة ابنك من غيره؟ ولدك تزوج بامرأة وعندها بنت من غيره، فهي ربيبة ولدك، فهل يجوز أن تتزوج ربيبة ولدك أم لا؟ A نعم، يجوز ذلك، لأنها ليس لها علاقة بك، وهل يجوز لولدك أن يتزوجها؟ لا؛ لأنها ربيبته. نعيد المسألة: ربيبة الولد حرام عليه، لكنها ليست حراماً على أبيه. ولذلك سنجعل هذا السؤال منفصلاً، حتى يتبين أكثر: هل يجوز لك الزواج من ربيبة أبيك؟ أبوك تزوج امرأة، وعندها بنت من غيره، فهل يجوز لك أن تتزوج من ربيبة أبيك أم لا؟ الجواب: يجوز لماذا؟ لأنها ليس لها علاقة بك، لكنها حرام على أبيك؛ لأنها ربيبتة، وليست حراماً عليك أنت. السؤال الذي يليه: هل يجوز لك أن تتزوج من أم زوجة أبيك؟ أبوك تزوج زوجة، والزوجة هذه لها أم، فهل يجوز لك أن تتزوج بأم زوجة أبيك؟ ولنحلل المسألة: أم زوجة أبيك حرام على أبيك، فهل هي حرام عليك أم لا؟ لا يجوز لك أن تتزوج بأم زوجة أبيك لماذا؟ لأنها تحرم عليك كما تحرم على أبيك هذه قاعدة لم يذكرها أهل العلم في كتبهم! الجواب: نعم، يجوز ذلك؛ لأنها حرام على أبيك، وليست حراماً عليك لكن من الذي يفعل ذلك؟ من الذي سيتزوج بأم زوجة أبيه؟ أقول: لو أن أباك تزوج واحدة عمرها -مثلاً- ثلاثون سنة، وأمها عمرها خمسون سنة، فهل ستتزوج بأم زوجة أبيك؟ من ناحية الجواز يجوز؛ لكن من ناحية أنه يحصل أو لا، هذا راجع إليك. السؤال الذي يليه: هل يجوز لك التزوج من أم زوجة ابنك؟ ابنك متزوج وعنده حماة، فهل يجوز لك أن تتزوج من حماة ولدك؟ الجواب: نعم. يجوز لك أن تتزوج من أم زوجة ابنك. هذه معقولة، ومن ناحية الواقع ممكنة. وهنا سيأتي السؤال الذي يوضح ما سبق: لو تزوج رجل امرأة، فهل يجوز أن يتزوج ابنه بنتها؛ فيكون الأب أخذ الأم، والابن أخذ البنت؟ الجواب: نعم يجوز ذلك لماذا؟ لأنها ربيبة أبيه، ولذلك لا تحرم عليه، فسواء الابن تزوج امرأة وأبوه تزوج بنتها، أو الأب تزوجها وابنه تزوج بنتها، كل ذلك جائز. السؤال الذي يليه: زوجة ولدك بالرضاع، هل تحرم عليك أم لا؟ عندك ولد رضع من لبنك، وليس ولدك من صلبك، لكنه رضع من لبن أنت السبب فيه، وهذا الولد تزوج ثم مات أو طلق، أو تزوجها ثم أرادت أن تكشف عليك، فهل تسمح لها أن تدخل عليك أم لا تسمح لها أن تدخل عليك؟ الجواب: يجوز أن تكشف عليك؛ لأنها محرمة عليك و (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ} [النساء:23]. سؤال آخر: رجل متزوج اثنتين، إحداهما أرضعتك، والأخرى مات عنها مات وترك اثنتين، واحدة أرضعتك والثانية لم ترضعك، فهل يجوز لك أن تتزوج بالتي لم ترضعك أم لا؟ أي: هل يجوز لك أن تتزوج بزوجة أبيك من الرضاعة؟ الجواب: لا يجوز أن تتزوج زوجة أبيك من الرضاعة. لأنها حرام عليك؛ فيجوز أن تكشف عليها؛ لأن زوجة أبيك من الرضاعة مثل زوجة أبيك من النسب. السؤال الذي يليه: عمة الزوجة مَحْرَمٌ لك أم لا؟ وهل تكشف عليها؟ الجواب: لا يجوز ذلك، وكذلك خالة زوجتك لا يجوز أن تكشف عليها، وزوجتك لا يجوز أن تكشف على خالك، ولا يجوز أن تكشف على عمك. وهذا من المصائب التي وقعت في هذا الزمان؛ أن الزوج صار يترك زوجته تكشف على عمه، وعلى خاله، مع أنه ليس بينها وبينه علاقة نسب ولا سبب من رضاع أو مصاهرة ولا شيء، فهو أجنبي عنها، لو مات الزوج يجوز لعمه أن يتزوج الزوجة، ومع الأسف صار الرجل يكشف على عمة زوجته وخالة زوجته، ويقول: هذه مثل عمتي! ليست مثل عمتك، ويقول: خالة زوجتي مثل خالتي! هذا غلط، ليست مثل خالتك، وكذلك زوجتك لا تكشف على عمك ولا على خالك، ولا يقوم مقام خالها، ولا مقام عمها، وإن دجل الدجالون، وكذب الكاذبون والمفترون فإنها محرمة. سؤال آخر: عقدتَ على امرأة ولم تدخل بها، وهذه المرأة لها بنت، ورغبت في البنت، فطلَّقتَ الأم من أجل أن تتزوج البنت، فهل يجوز لك ذلك أو لا يجوز؟ تزوجت امرأة، ولها بنت من رجل آخر، فلما علمت بالبنت ودينها وجمالها وصغر سنها بالنسبة لأمها، قلتَ: ليس لي حاجة بأمها، أريد البنت، وأنا الآن ما دخلت بالأم، فأطلق الأم هذه، وأتزوج بنتها فهل يجوز ذلك أم لا يجوز؟ الجواب: لو أنه عقد على امرأة لها بنت، ثم قيل له: يا فلان، ماذا تريد بهذه؟ عندها بنت دَيِّنَة وجميلة، وأصغر من أمها بطبيعة الحال، فطلِّق هذه الأم وتزوج البنت، فيجوز له ذك، لكن إذا رضيت أمها! هنا سؤال ستكون جائزته كتاباً بعنوان العقيدة في الله لـ عمر الأشقر. و Q متى يقول الشخص: أختي من النسب تزوجت أخي من النسب؟ وليس من الرضاع. أو متى يقول الشخص: أخي تزوج أختي؟ الجواب: إذا كان عندك أخت من أم وأخ من أب، فهذا يأخذ هذه الجواب صحيحٌ ولذلك يأخذ الكتاب جائزة. فإذا كان عندك أخ من أب وأخت من أم، الأخ من الأب أخوك من النسب، والأخت التي من الأم أخت من النسب أيضاً؛ لكن هل بينهما علاقة؟ أخوك من أبيك هل له علاقة بأختك من أمك، نسب أو رضاع أو مصاهرة؟ لا يوجد في الأحوال العادية، بدون أن نفترض دخول أي شيء آخر من رضاع أو مصاهرة، أو غير ذلك، ففي هذه الحالة تقول: أخي -أي: من أبي- تزوج أختي -أي: من أمي- ويجوز ذلك. سؤال آخر: ما هي الحالة التي يكون فيها الشخص خالاً وعماً في نفس الوقت؟ الجواب: نفس الحالة السابقة التي قبل قليل، إذا حصلت هذه الحالة، فعند ذلك يكون الشخص خالاً وعماً في نفس الوقت، إذا تزوج أخوه من أبيه أخته من أمه، فأنجبا ولداً، ولنفترض أن رجلاً اسمه: محمد، وله أخ من أمه اسمه: عبد الله، وله أخت من أبيه اسمها: فاطمة، فتزوج عبد الله فاطمة، فأنجبا ولداً، ولنقل اسمه: سعيد؛ فإن محمداً سيكون خالاً وعماً لسعيد في نفس الوقت. لماذا يكون خالاً؟ لأنه أخو أمه. ولماذا يكون عماً؟ لأنه أخو أبيه. فيكون خالاً وعماً في نفس الوقت. أظن أننا بهذا نكون قد أتينا على مُعظم الأحكام المتعلقة بالمحارم، ونرجو أن تكون الفائدة قد حصلت في هذا الدرس من هذا الموضوع والحمد لله رب العالمين.

الأسئلة

الأسئلة

المربي لابد أن يكون عفيفا

المربي لابد أن يكون عفيفاً Q هل من الضروري أن يكون المربي متزوجاً؟ A لا يُشترط ذلك، ولكن لا شك أن الزواج من أسباب العفة، فإذا كان الرجل لا يَشعر بالعفة إلا بالزواج، فلا بد أن يتزوج، إذ كيف يشتغل بالتربية وهو واقع في المعاصي، ولا نقول: إنه لا يمكن، بل يمكن أن يشتغل بالتربية وعنده معاصٍ، لكن حتى يكون كاملاً في تربيته، ينبغي أن يكون عفيفاً.

الفرق بين القدوة والرياء

الفرق بين القدوة والرياء Q كيف نفرق بين القدوة والرياء؟ بمعنى: إنسان قام يعمل عملاً من الأعمال الصالحة ليُقتدَى به، فكيف نفرق بينه وبين أن يكون الشخص مرائياً؟ A يكون ذلك بالنية، فإذا نوى الشخص بعمله أن يهتدي الآخرون ويقلدونه فيه، فإنه يكون قدوة، وأما إذا قام رياءً، ليس من أجل أن ينشط الآخرون ويعملوا بعمله، فإنه يكون مرائياً، ولذلك النية هي التي تفصل بينهما.

نصيحة لأصحاب القنوات الفضائية

نصيحة لأصحاب القنوات الفضائية Q هناك مخططات لإفساد وسلب الهوية الإسلامية من نفوس الشباب، خصوصاً في هذه المنطقة عن طريق القنوات الخليعة التي بدأت تصل تباعاً، فما هي النصيحة في هذا؟ A أقول: أيها الإخوة: هناك حملات صليبية جديدة؛ ولكنها من نوع مختلف عن الحملات الصليبية القديمة، وهذه الحملات الصليبية -الأمريكية والإنجليزية والفرنسية- في طريقها في الوصول في أول السنة القادمة، في مطلع يناير القادم، لتبث إلينا السموم بأنواعها، سواءً أكان ذلك هدماً في العقيدة، أو دعوة إلى التبشير، أو إدخال التشويش على عقيدة المسلمين، أو تخريب الأخلاق بالمناظر الخليعة، أو الدعوة إلى الأشياء الهدامة. لقد حدثني أحد الإخوة قائلاً: في أحد البرامج في قناة الـ ( CNN)، مقابلات -وبعض الذين يقابلون يهود مشهورون- يقول: وكانت المقابلة مع رجل وزوجته، والرجل هذا لا يُشبع زوجته جنسياً، فيقول: ما هو الحل الذي أنت تعمله الآن؟ قال: أنا آتي برجل آخر لزوجتي، وأتركه معها في الفراش لكي يقوم بإشباعها، قال: وأنت؟ قال: أنا أصورهم بالفيديو وأنبسط! وكأنه هو الذي يعمل! وهذا البرنامج يُعرض على الهواء مباشرة، ثم تأتي المكالمات من أنحاء العالم ليقول فلان: أنا أؤيد، ويقول فلان: وأنا أيضاً أريد واحداً لزوجتي، وذاك يقول: وأنا مستعد أن أقوم بدور كذا وكذا. فانظروا -أيها الإخوة- إلى أي درجة وصلت حياة هؤلاء البهائم، ثم هذا يكون على مرأى ومسمعٍ مِن أبناء وبنات المسلمين، هذه دعوة واضحة وصريحة للانحلال، هذا مثال واحد مما وصل إلى علمنا، والله أعلم بالأمثلة الكثيرة الموجودة في مثل هذه الأشياء، ناهيك عما في دعاياتهم من الإباحية، وعما يعملونه من الترويج لأماكن الفسق والدعارة الموجودة في العالم، ولو جلست تتذكَّر وتذكِّر ما هي المحرمات والمنكرات الموجودة في هذا البث المباشر، لطال بك الكلام. ولذلك فإنني أهيب بكل عاقل ألَّا يترك هذا الجهاز في بيته أبداً، وألَّا يفتحه لأقربائه؛ لأنك يا أخي مسئول عنهم أمام الله سبحانه وتعالى، وإذا كنا من زمان كان الواحد يقول: ممكن أن نراقب، ونعمل عليه مراقبة، إذا كان فيه فقرات جيدة، وإذا كان كذا لكن الآن لا يمكن ولا تستطيع أن تعمل هذه المراقبة، وأنت تضحك على نفسك فعلاً، وما سيأتي فهو أعظم، وهذا الخطر قد نُبِّه عليه، ونَبَّه عليه أهل العلم والفضل، ولكن أين الاستجابة؟ سواءً من جهة إزالة هذه الأشياء من البيوت، أو من جهة تحذير الناس عنها، وهذا أمر خطير جداً، وهذه مسئولية في رقابنا جمعياً، كل واحد في رقبته مسئولية التبليغ، هذا غزو من نوع جديد، غزو من نوع لا يمكن التحكم فيه، وكيف يتحكم فيه؟! وكثير من المخلصين يقولون: لا حول ولا وقوة إلا بالله! وفقط، وبعض الناس قد يزين لهم الشيطان ويقول: تَفَرَّج عليها من باب نصح الناس، تَفَرَّج على البرامج حتى تنصح الناس، وهذا الشاب قد يكون ملتزماً بالإسلام، وقد يكون داعية، وإذا به يتأثر بهذه البرامج، وهذه المناظر، فلا حول ولا وقوة إلا بالله! هذه مسألة -أيها الإخوة- علاجها التوعية، ومع الأسف الأمة الإسلامية الآن ما عندها قناة تبث منها، ما هناك قناة إسلامية في العالم تبث برامج تلفزيونية كاملة على مدار الساعة -مثلاً- وتغطي أهل الكرة الأرضية ببرامج إسلامية، حتى الآن ما وجد، وأهل الكفر ملة ملة، ودولة دولة ينشرون باطلهم وإلحادهم، والمسلمون يغطون في نوم عميق، ما فكروا حتى في إيجاد قناة تبث هذه التعاليم الإسلامية إلى أهل الأرض، ما وُجد -للأسف- حتى الآن، هذه الكثرة الكاثرة من أبناء الأمة الإسلامية لم يستطيعوا إلى الآن ولو إقامة قناة واحدة تبث إلى العالم شرح الإسلام، وأحكام الإسلام، ومحاسن دين الإسلام، والدعوة إلى الإسلام أبداً، وإنما يعمله أعداء الإسلام في المقابلات، وأنواع البرامج حرام. وليت المسلمين يقومون بشيء من الجهد الواجب عليهم في نشر الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، في طريق خالٍ من المنكرات والشبهات.

الميزان في الزواج هو الالتزام بالإسلام

الميزان في الزواج هو الالتزام بالإسلام Q يوجد عندنا بعض الإخوان الملتزمون في منهج الزواج، وإذا أراد الشخص أن يتزوج يسألونه عن منهجه: هل هو طالب علم، هل هو من أهل الخروج، هل من أهل الجهاد، هل هو من كذا، فما تعليقكم؟ A يقول عليه الصلاة والسلام: (إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه). فمسألة الاستفسار هي من أجل معرفة دين الرجل وخلقه، وهذا هو الذي يجب أن يؤكَّد عليه، أما تفريق الناس شيعاً وأحزاباً، فليس من ملة الإسلام، وكون الرجل مجتهداً باجتهاد معين أمر صحيحٌ وسائغٌ. مثلاً: واحد يركز على التربية، وواحد يركز على الجهاد، وواحد يركز على الدعوة في أقطار الأرض بشكل صحيح موافق للسنة، مع الأخذ -بعين الاعتبار- بالأشياء الأخرى؛ لأنه كيف يكون داعية وهو جاهل؟! كيف يكون مجاهداً وهو جاهل؟! فإذا كان آخذاً بالأشياء الأخرى؛ فإنه في هذه الحالة على خير وعلى صواب. قد يكون رجلاً مهتماً بمسائل تتعلق باقتصاد المسلمين، يقدم فيها دراسات وأبحاثاً، ويكوِّن هو ومن معه بعض المنشآت أو الشركات البعيدة عن الحرام، لكي يستثمر الناس فيها أموالهم، فهو على خير وعلى دين. فإذاً: هذا الرجل إذا كان ذا خلق واستقامة، يُزَوَّج مهما كان نشاطه، فإذا كان النشاط مشروعاً، ويركز عليه؛ لأن له إبداعاً فيه، وعنده استقامة في دينه، وليس عنده بدع، ولا منكرات، ولا صاحب أهواء، وخلقه سوي، فإنه يزوَّج.

قتال اليهود بقيادة عيسى أو المهدي

قتال اليهود بقيادة عيسى أو المهدي Q هل نحن المسلمين سوف نقاتل اليهود بقيادة عيسى ابن مريم أو المهدي، أو أنه سيكون هناك قائد مسلم؟ A ليس هناك في الأحاديث -بحسب ما أعلم- ما يشترط أن يكون كل قتال لليهود بقيادة المهدي أو عيسى، بل ربما يكون هناك قتال لليهود بغير قيادة المهدي أو عيسى، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل ذلك قريباً.

غربة الإسلام

غربة الإسلام Q أنا سأضرب لك مثلاً بما يحصل الآن في هذه الأيام: مجموعة من الناس أرادوا أن يبيعوا بيتاً، وهذا البيت وقف، وهؤلاء الناس يساومون على هذا البيت، ولا يوجد في هذا البلد من يحكمهم من المسلمين صار هذا الآن مثل اللغز، يقول: مجموعة من الناس أرادوا أن يبيعوا بيتاً، وهذا البيت وقف لله تعالى، ليس لأحد حق التصرف فيه، وهؤلاء يساومون عليه أعداء الله، ولا يوجد في هذا البيت من يحكمهم بشريعة الله. A هذا -أيها الإخوة- أوان غربة الإسلام، ولكن الله سبحانه وتعالى رحيم بعباده، ولا يمكن أن يتركنا هملاً، ولا أن يتركنا بغير نصر، ونحن نتخذ أسباب النصر، الله عز وجل يقول: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة:21] {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69]. والله سبحانه وتعالى يقول: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} [الحج:15]. فلا يجوز لمسلم أن يجزم بأن الله لن ينصر المسلمين، مهما عملوا، ويقول هذا النصر في الآخرة فقط، وإنما كتب على المسلمين الذل والخزي في الدنيا والابتلاءات الدائمة، لا لقد حكمنا معظم أقطار المعمورة المشهورة قرابة ألف سنة، والآن عندما تغلب إخوان القردة والخنازير من اليهود والنصارى وغيرهم على الأرض في هذا الزمان، نسينا الحقبة الماضية! كم حكم المسلمون الأقطار المشهورة في الأرض؟! كم حكم المسلمون العالم المعمور الحي الحيوي؟! الأجزاء الحيوية من العالم التي حكمها المسلمون كانت هي مقر الحضارات، والنبوغ العلمي، والتقدم، والسعادة التي حصلت بتطبيق الشريعة كم حكم المسلمون العالم سابقاً؟! كثيراً جداً، مئات السنوات متى سقطت الخلافة؟ سقطت قريباً ولم تسقط منذ زمن بعيد، الخلافة العثمانية التي كان جيوشها على أبواب فينيا، وقريباً من روما وغيرها، ما سقطت منذ فترة بعيدة جداً، وإنما سقطت منذ فترة قريبة. فإذاً: لقد كان أجدادنا يحكمون العالم، فمن أجل مائة أو مائتين سنة من الوقت يُسْقَط في أيدينا! وننسى تاريخنا! وننسى أننا كنا أمة تهيمن على سائر الأمم وتُخشى ويُحسب لها حسابُها! فكر في تاريخ الدول المعاصرة من الدول الكافرة التي قامت كيف قامت؟! ومتى قامت؟! وكم حكمت؟! قام البرتغاليون في البرتغال، وحكموا استعمروا، أين هم الآن؟! دولة شبه متخلفة في أشياء كثيرة، أسبانيا كانت تحكم كثيراً، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] هذا قدر الله، يرفع ناساً ويخفض ناساً {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29]. فإذاً: لا يمكن أن تستمر الهيمنة لأمة معينة {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] هذه سنة الله في خلقه، وسنة الله في عباده. ولا شك أنه سيكون هناك ظهور للإسلام، كما بشرت بذلك النصوص، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل فرج المسلمين قريباً.

تربية الآخرين وإهمال النفس

تربية الآخرين وإهمال النفس Q إنني أحس بنفسي أنها كالشمعة تحرق نفسها، وتنير لغيرها، فأقوم بالدعوة إلى الله؛ ولكن أهمل تربية نفسي، فماذا أفعل؟ A لقد أخبر صلى الله عليه وسلم عن رجل هذا حاله، فقال الناس: مثل الذي يعلم الناس وينسى نفسه، كالشمعة، تحرق نفسها وتضيء للآخرين. فإذاً: ينبغي على الداعية إلى الله سبحانه وتعالى أن يهتم بنفسه، ولا يجعل كل الوقت للآخرين، (إن لنفسك عليك حقاً) فمن أين تدعو؟! تدعو لأي شيء وأنت لا تتعلم المنهج؟! وتربي الناس على أي شيء وأنت ليس عندك علم؟! وكيف تكون مؤثراً وقلبك خاوٍِ من أنواع الإيمانيات الناتجة عن العبادات؛ لأنه ليس عندك وقت تعبد الله فيه؟! كيف؟! (إن لنفسك عليك حقاً) في تربيتها، ودعوة نفسك إلى الالتزام بالأحكام الشرعية، والقيام بالعبادات، والتعلم، حتى تستطيع أن تمارس الأدوار الأخرى. فلا بد أن يكون هناك توزان؛ لأن بعض الناس يقول: أنا أعتزل الناس عشرين سنة أقرأ وأقرأ وأعبد الله حتى أتقوى ثم أخرج إلى الناس، نقول: ما عندك وقت، ربما تموت قبل هذا. فلا بد أن يكون عندك نصيب دائم من طلب العلم، ومن الدعوة إلى الله، ومن القيام بالعبادات، ومن تربية الآخرين، عمليات مزدوجة، وعمليات آنيَّة مع بعض، تقوم في وقت واحد، فيمكن أن الإنسان قد يهتم ببعض الجوانب أحياناً في وقت معين، مثلاً يذهب إلى مكة في العشر الأواخر، يقوم بالعمرة ويعتكف، فهو الآن بعيد عن الناس من أجل الاعتكاف، هذا أمر طَيِّبٌ! ليس فيه إشكال، ما اعتكف الدهر، ولا اعتكف سنين وترك الأمة، وترك المجتمع في المستنقع، وإنما هو يعطي نفسه ويكوِّن لها محطات يتزود بها من الوقود الإيماني والعلمي، ويمكن أن يتفرغ -أحياناً- لطلب العلم، مثلاً في إجازة من الإجازات، يأخذ له أسبوعاً -مثلاً- يرحل إلى أحد العلماء، ويجلس عنده، ولكنه لم ينسَ المجتمع، ولم ينسَ أهله ولا أقرباءه ولا جيرانه ولا جماعة مسجده، وأهل حيه، ولا طلابه، ولا قرناءه وزملاءه في الوظيفة والدراسة، بل إنه على اتصال، وإذا انقطع أياماً من أجل اعتكاف أو رحلة لعالِم، فهو لا زال يزاول عمله بعدها مباشرة، وهو في يومه يعبد الله، ويقرأ، ويدعو، ويربي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قدوتنا؛ فقد كان قائداً للدولة، وزوجاً، وكان أباً حنوناً، تذرف عينه من الدمع على ولده إبراهيم لما مات، وكان معلماً، يشاهد رجلاً يقول في الصلاة: ما شأنكم تنظرون إليَّ؟ ما لكم تنظرون إلي؟ فيعلمه، فيكون أحسن معلم، لم يُرَ مثل تعليمه قط، وقائداً عسكرياً يخوض غمار الحروب، ورجلاً محنكاً سياسياً في صلح الحديبية وفي غيرها، وفي كتابته للأقوام الأخرى ولكسرى ولهرقل، يكتب إليهم الرسائل يدعوهم إلى الله، ويخطِّط للدعوة، ويرسل ناساً إلى الحبشة، ويرسل ناساًَ من الذين أسلموا في مكة إلى قبائلهم، يعيدهم إلى قبائلهم صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك يلاطف الصغير، ويقول: (يا أبا عمير! ما فعل النُّغَيْر) ويرحم الكبير، ولما جاء أبو قحافة وقد علاه الشيب، أراد عليه الصلاة والسلام أن يوقره، وأمرهم بتغيير شيبه، حتى يكون على وضع أحسن وأمثل، وكان قدوة عليه الصلاة والسلام، وكان إماماً في المسجد، ويخطب الجمعة بالناس. إذاً: المسلم يقتفي أثر نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وأغلب الانحرافات عند الشباب تنشأ من نزعات مثل هذا، يقول: أنا أريد أطلب العلم، وما لي علاقة بالناس، أو أنا داعية، نذرت نفسي للدعوة، ما عندي وقت أعبد الله، ولا نوافل، أنا أقوم بأشياء، ومن هنا تنشأ الانحرافات من هذه النزاعات. يقول: لا شك أن الدعاة والعلماء هم قادة هذه الأمة، وعليهم مسئولية عظيمة، ولا شك أن ما أصاب هذه الأمة حالياً بسبب بعدها عن الله سبحانه وتعالى، وانعدام التربية بين أفرادها، وفي هذه الأيام تحدُث أمورٌ عظيمة، تُذْهِب عِزَّ هذه الأمة، فلا بد من تبيين هذا للناس واستغلال الفرص، ولا شك في ذلك، وكل واحد منا عليه واجب في هذا الأمر.

التحزب الدعوي وحكمه

التحزب الدعوي وحكمه يقول: ما رأيك في قضية التحزب الدعوي؛ لأنها قد أصبحت تشكل مشكلة في أوساط الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى؟ A نعم -أيها الإخوة- هذا حق وصدق، وظاهرة -مع الأسف- موجودة، ومن أسباب تخلف المسلمين: تفرقهم شيعاً وأحزاباً حتى في مجال الدعوة إلى الله، ولو أنهم تخصصوا في تخصصات، وكل مجموعة منهم تعمل دون أن تصادم الأخرى؛ لأن في ميدان الدعوة إلى الله مُتَّسَعاً للجميع، مهما رَمَيْتَ دعاةً في الساحة؛ فالساحة تستوعب، مهما ألقيت جماعات للدعوة إلى الله عز وجل في الساحة؛ فالساحة تستوعب، لكن مع ذلك يحصل -مع الأسف- أن يتصادم بعض هؤلاء مع بعضهم، فماذا نفعل؟ أولاً: لا بد من تنظيم الأعمال، لا بأس أن تتخصص مجموعة من الناس للأيتام، وبعض الناس لنشر العلم، وبعض الناس للدعوة في القرى والهِجَر، وبعض الناس في التركيز على القطاعات النسائية، وبعض الناس للدعوة في أوساط المتعلمين، والمثقفين، والعسكريين، والموظفين، وغيرهم، وبعض الناس يتفرغون للتأليف والنشر. فإذاً: مجالات العمل الإسلامي كثيرة جداً جداً، ومتسعة، فبدلاً من التصادم لابد من التنسيق، وإذا رأيت غيرك في مجال يعمل فلا بأس، وأنا لو رأيتُ داعية يدعو إلى الله، يدعو شخصاً، وهو على منهج صحيح، وهذا هو المهم: (أن يكون على منهج صحيح) وأنت أتيت لتدعو، فعليك أن تدعو غيره، هناك في الساحة من غيره من الأشخاص الكثر الذين يحتاجون إلى هداية، يحتاجون إلى أن يدخلوا في عالم الالتزام بالإسلام، فلماذا تتقاتلون على رجل واحد، وفي المجتمع كثير من الرجال الذين يحتاجون إلى دعوة إلى الله سبحانه وتعالى؟! وهذا هو الذي يثير العجب بالمرء المسلم، وهو يتفرج على مثل هذه الظواهر. ولذلك فينبغي -أيها الإخوة- أن يكون هناك حكمة ووعي، وإذا كان أعداء الإسلام قد اتحدوا على حرب الإسلام، فما أولى بأمة الإسلام، وأهل الإسلام، ودعاة الإسلام أن يتحدوا لمواجهة هذه الهجمة التي تشتد يوماً بعد يوم؟! وسبحان الله! لا يشتد الشر إلا ويزيد الخير، فإنه لم يكن هناك بث مباشر في الستينات مثلاً، لكن لما صار الآن هناك بث مباشر؛ أصبح عدد الواعين وعدد المستقيمين والملتزمين يزداد، وتزداد طرق الدعوة إلى الله، وتُنْشَر الأشرطة والكتب، وتنشر المحاضرات القيمة النافعة، وتصل إلى أناس ما كانت تصل إليهم بنفس السهولة والسرعة من قبل، وهذا يؤكد وجود الخير في الأمة، وأنهم مهما طغى أعداء الإسلام وحاولوا، فإن الخير مزروع في هذه الأمة، لا يمكن استئصاله، وجذوره ضاربة لا يمكن إزالتها.

طلب دعاء

طلب دعاء Q يقول: لا أسألك سؤالاً؛ لكن أطلب منك ومن الحاضرين أن تدعوا لي دعوة أن يرزقني الله طفلاً ينير حياتي الزوجية؟ A نسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى أن يرزق أخانا طفلاً، وأن يجعله ولداً صالحاً، تقر به عينه. آمين.

الفتور في العبادة وعلاجه

الفتور في العبادة وعلاجه Q إنني أحب كل ما يقربني إلى الله من عبادات وقراءة القرآن وأداء الصدقة والزكاة والصوم وغير ذلك؛ لكن أتكاسل عن صلاة الفجر أحياناً، والقرآن أهجره طويلاً، كل ذلك يحدُث وقلبي يؤنبني ويتقطع حسرات، وتسمَعُني إذا تُلِيَت بعضُ الآيات أُخْرِجُ زفرات من أعماق قلبي، قليل الحفظ سريع النسيان، فأرشدني وأنقذني بحل سريع A معرفة المرض -أيها الإخوة- نصف العلاج، وكثير من قساة القلوب لا يعرفون أنهم قساة القلوب ولا يسلِّمون ولا يقولون: نحن نحتاج إلى تربية إيمانية، ونحتاج إلى اهتمام بالعبادات، وإنما يظنون أنهم في حالة صحية جيدة، ولذلك فهم لا يتورعون عن أكل الحرام، أو الوقوع في الشبهات، أو النظر إلى امرأة أجنبية، ونحو ذلك. فنقول: إن الله سبحانه وتعالى قد فتح مسألة التربية الإيمانية متركبة من عدة أشياء: أولاً: هناك تنوع في العبادات، هناك صلوات، هناك صيام، هناك صدقة، هناك حج وعمرة، واعتكاف، هناك سجدة الشكر، وغيرها، وحتى الصلوات متنوعة هناك سنن رواتب، وهناك قيام الليل، وهناك صلاة التوبة، وهناك صلاة الضحى. فإذاً: العبادة نفسها متنوعة، فنوِّع في العبادات حتى لا تمل نفسك من عبادة معينة. ثانياً: حذارِ مِن تحوُّل العبادات إلى عادات بعض الشباب لا يعرفون معنى التشهد بالتحيات، تجده يقرأ: (التحيات لله) في الصلاة ولا يعرف معناها من كثرة ما يرددها، تحولت التحيات إلى عادة، ولم تعد عبادة لها معنى يسْتَشْعر، تأمل عندما تقول: (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين)، يقول عليه الصلاة والسلام في الذي يقولها: (أصاب كل عبد صالح بين السماء والأرض) تصور لو أنك كلما تقول التحيات في ذهنك أنت مستحضِر في قلبك، أنك إذا قلت: (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين) أنك تصيب بدعوتك هذه كل عبد صالح بين السماء والأرض، من الملائكة وغيرهم، كل عبد صالح بين السماء والأرض تصيبه دعوتك. فإذاً: لا بد من تنويع العبادات، ولا بد من الإخلاص في العبادات، ولا بد من تحاشي تحوُّل العبادات إلى عادات، حتى تشعر بلذةٍ وطعمٍ لهذه العبادة، ثم ينبغي مع ذلك أن تداوم على العبادة، كما أخبر عليه الصلاة والسلام: (خير الأعمال أدْوَمُها وإن قل) (أحب الأعمال إلى الله أدْوَمُها وإن قل) فعليك بالقليل الدائم أفضل من الكثير المفاجئ المنقطع، الذي تصعد به فجأة، ثم تهوي وتتركه نهائياً بعد حين. نحن لا نود أن نستمر أكثر من هذا؛ حيث أن الوقت قد تأخر. فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يفقهنا وإياكم في دينه، وأن يرزقنا وإياكم اتباع سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

ضيوف الصديق

ضيوف الصديق أيها الإخوة: الحديث اليوم عن قصة حصلت للصديق رضي الله عنه تبين كرامته وفضله وعلو منزلته، ألا وهي قصة بركة الطعام، ولقد ذيل الشيخ القصة بالشرح، وتوَّجها بذكر الدروس المستفادة من هذه الحادثة.

حادثة بركة طعام الصديق رضي الله عنه

حادثة بركة طعام الصديق رضي الله عنه الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد. الحديث الذي سيكون مدار النقاش في هذه الليلة يتعلق بقصص الصحابة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهي: قصة حصلت للصديق رضي الله تعالى عنه، كرامة من كرامات الصديق، وآية من الآيات الدالة على فضل الصديق وعلو منزلته عند الله سبحانه وتعالى، هذه القصة رواها الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه عن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما أن أصحاب الصفة كانوا أناساً فقراء، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال مرة: (من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس أو سادس أو كما قال). وأن أبا بكر جاء بثلاثة: (وانطلق النبي صلى الله عليه وسلم بعشرة وأبو بكر بثلاثة، قال: فهو أنا وأبي وأمي، ولا أدري هل قال: امرأتي وخادمي بين بيتنا وبين بيت أبي بكر، وأن أبا بكر تعشى عند النبي صلى الله عليه وسلم، ثم لبث حتى صلى العشاء، ثم رجع فلبث حتى تعشى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء بعدما مضى من الليل ما شاء الله، فقالت له امرأته: ما حبسك عن أضيافك؟ قال: أوعشيتهم؟ قالت: أبوا حتى تجيء، قد عرضوا عليهم فغلبوهم، قال فذهبت -يقول عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق - فذهبت فاختبأت، فقال: يا غنثر! فجدَّع وسب وقال: كلوا. وقال: لا أطعمه أبدا). قال: (وايم الله ما كنا نأخذ من اللقمة إلا ربا من أسفلها أكثر منها، حتى شبعوا وصارت أكثر مما كانت قبل، فنظر أبو بكر فإذا به كما هو أو أكثر، فقال لامرأته: يا أخت بني فراس! قالت: لا وقرت عيني لهي الآن أكثر مما قبل بثلاث مرات، فأكل منها أبو بكر، وقال: إنما كان الشيطان -أي: يمينه الذي حلف- ثم أكل منها لقمة، ثم حملها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأصبحت عنده، وكان بيننا وبين قوم عهد، فمضى الأجل ففرقناها لاثني عشر رجلاً، مع كل رجل منهم أناس الله أعلم كم مع كل رجل، غير أنه بعث معهم، قال: فأكلوا منها أجمعون) أو كما قال. هذا الحديث وإن كان قد يبدو في بعض ألفاظه شيء من الصعوبة، لكنه حديث- كما تقدم- يدل على الآيات التي كانت تحدث على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهي الأمور الخارقة للعادات، كانت تعد بركة، فشِبع الخلق الكثير بالطعام القليل وهذه آية من الآيات، وقد حدث ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم مراراً، ولكن هذه القصة حدثت للصديق رضي الله عنه وهي كرامة من كراماته.

معالجة النبي صلى الله عليه وسلم لقضايا المجتمع المدني

معالجة النبي صلى الله عليه وسلم لقضايا المجتمع المدني يقول عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق: إن أصحاب الصفة كانوا أناساً فقراء، وقلنا: الصفة مكان في مؤخرة المسجد النبوي، عكس القبلة من جهة الحجرات أو القبر، هذا المكان هو مكان الصفة. الذي كان يأوي إليه الغرباء الذين لا أهل لهم ولا مأوى، وكانوا فقراء يكثرون ويقلون بحسب من يتزوج منهم أو يسافر أو يموت أو يقدم ونحو ذلك. والنبي عليه الصلاة والسلام لمواجهة الوضع الذي فيه أهل الصفة وهم أناس فقراء لا أهل ولا مال لهم، لحل هذه المشكلة ولمواجهة هذا الوضع كان يقول للصحابة: كل واحد يأخذ واحداً منهم، بحسب قدرته وطعامه:) من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث) وهكذا. والنبي عليه الصلاة والسلام قد قال: (طعام الاثنين يكفي الثلاثة) وفي رواية: (طعام الاثنين يكفي الأربعة) لكن كيف يفهم هذا الحديث؟ أي: الطعام الذي يشبع اثنين يسكت جوع ثلاثة، والطعام الذي يشبع اثنين يسكت جوع أربعة، والطعام الذي يشبع أربعة يسكت جوع ثمانية، وهكذا، فيقول: (من كان عنده طعام أربعة، فليذهب بخامس وبسادس) أو كما قال، يزيد واحداً؛ لأن زيادة واحد لا تضر، تنفع الواحد ولا تضر الأربعة، زيادة الخامس تنفع الخامس، ولا تضر الأربعة، ولا يضيق عليهم. إذاً: من كان عنده طعام اثنين يأخذ ثالثاً، ومن كان عنده طعام أربعة يأخذ خامساً، لا يضيق عليه، وأيضاً يحصل المقصود، قال: (وإن أبا بكر جاء بثلاثة - الصديق رضي الله عنه جاء بثلاثة أشخاص- وانطلق النبي صلى الله عليه وسلم بعشرة)، لماذا قال عن الصديق أنه جاء والنبي صلى الله عليه وسلم انطلق؟ لأن المجيء من بُعد، والانطلاق من قُرب، فالنبي صلى الله عليه وسلم بيته ملاصق للمسجد، بل إن النبي عليه الصلاة والسلام كان خروجه من بيته دخولاً في المسجد، لم يكن هناك بابان، وإنما هو باب واحد، إذا خرج من بيته صار في المسجد تلقائياً. لذلك عبر بلفظ المجيء عن الصديق لبعد منزله عن المسجد، وعن النبي صلى الله عليه وسلم بالانطلاق لقربه منه، وأبو بكر أخذ ثلاثة إلى منزله، وأراد أن يؤثر بطعامه وأن يأكل هؤلاء أضياف النبي صلى الله عليه وسلم. يقول عبد الرحمن بن أبي بكر: فهو أنا وأبي وأمي، ولا أدري هل قال امرأتي وخادمي، طبعاً القائل هو الراوي عن عبد الرحمن، كأنه شك، قال: هل يوجد أيضاً في أفراد الأسرة غير أنا وأبي وأمي، هل يوجد أيضاً امرأتي وخادمي؟ وهو قال أيضاً: إن الخادم كان مشتركاً. نرجع إلى نص القصة، يقول رضي الله تعالى عنه: وخادمي ولا أدري هل قال امرأتي -أي أنه شك هل قال المرأة أم لا- وخادمي من بيتنا وبين بيت أبي بكر، فالخادم هذه خادم مشترك، يقول عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق: الخادم بين بيتي وبين بيت أبي، تخدم هنا وتخدم هناك. وأم عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق هي: أم رومان مشهورة بكنيتها، واسمها زينب رضي الله تعالى عنها، كان زوجها الأول الحارث بن سخبرة الأزدي، فلما قدم مكة مات، وخلف منها الطفيل، فتزوجها أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، فولدت له عبد الرحمن وعائشة. إذاً: عبد الرحمن وعائشة شقيقان من أبي بكر وأم رومان زوجته، أم رومان أسلمت قديماً وهاجرت ومعها عائشة، لكن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه تأخر إسلامه وهجرته إلى هدنة الحديبية، فجاء المدينة في سنة سبع للهجرة أو أول سنة ثمان للهجرة، وامرأته أميمة بنت عدي السهمية وهي والدة أكبر أولاده محمد، فإذاً: حفيد الصديق اسمه محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، كنية محمد هذا أبو عتيق. فالآن يقول: أنا وأبي وأمي، وشك الراوي عن عبد الرحمن هل قال وامرأتي، التي هي أميمة، لا يدري هل قال أميمة معهم أم لا، والخادم مشترك. قال: وإن أبا بكر تعشى عند النبي صلى الله عليه وسلم، ثم لبث حتى صلى العشاء ثم رجع، فالترتيب أن أبا بكر الصديق لما جاء بالثلاثة إلى منزله، لبث إلى وقت صلاة العشاء، فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وتعشى عنده، ولكن هذا مخالف لحديث الباب الذي فيه، وإن أبا بكر تعشى عند النبي صلى الله عليه وسلم ثم رجع، أي: إلى منزله. فالذي حصل أن أبا بكر رضي الله عنه تأخر عند النبي صلى الله عليه وسلم بمقدار ما تعشى معه وصلى العشاء، ولم يرجع إلى منزله إلا بعدما مضى من الليل قطعة، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب أن يؤخر صلاة العشاء. ثم أنه لما جاء معه بهؤلاء الضيوف، قال لـ عبد الرحمن -ولده- دونك أضيافك، فتضيف رهطاً، استضافهم، وقال لولده عبد الرحمن: دونك أضيافك فإني منطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فافرغ من قراهم -أي: من إطعامهم- قبل أن أجيء.

فضل أبي بكر الصديق

فضل أبي بكر الصديق فخلاصة الكلام وجمع الروايات: أن أبا بكر الصديق جاء بهؤلاء الضيوف وسلمهم لولده عبد الرحمن، وقال: أطعمهم ريثما أذهب للنبي صلى الله عليه وسلم، وإذا رجعت يكون الضيوف قد أكلوا وطعموا وانتهوا، فذهب أبو بكر الصديق للنبي عليه الصلاة والسلام، فلما رجع اكتشف أن الضيوف لم يأكلوا شيئاً، وقالت له امرأته: ما حبسك عن أضيافك؟ لماذا تأخرت عن الضيوف؟ قال أبو بكر: أوماعشيتهم؟ قالت: إن الضيوف هؤلاء عرضنا عليهم العشاء، فأبوا، قالوا: لا نأكل حتى يأتي صاحب البيت -وهو أبو بكر الصديق - فتناقشنا معهم وحاولنا إقناعهم، فغلبونا وامتنعوا عن الطعام. وهذا هو السبب وراء تأخير عشاء الضيوف، فنحن عرضنا عليهم، لكن الرفض حصل منهم، وهم الذين امتنعوا، وفي رواية: (أن عبد الرحمن أتاهم بالطعام، فقال: اطعموا. قالوا: أين رب منزلنا؟ قال: اطعموا، قالوا: ما نحن بآكلين حتى يجيء، قال: اقبلوا عنا قراكم، فإنه إن جاء ولم تطعموا لنلقين منه شراً) يقول عبد الرحمن: لأجلنا اطعموا، لأنه لو جاء وأنتم لم تتعشوا سيقع فينا. لكنهم لم يأكلوا، وأصروا على انتظار صاحب البيت، ولعلهم رأوا أن هذا من باب العرفان للصديق ألا يأكلوا قبله، وهو أفضل منهم فانتظروه مع جوعهم، وهذا يسجل لهم أنهم لم يأكلوا الطعام قبل أن يأتي صاحب البيت وهو الصديق، فماذا فعل عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق؟ قال: فذهبت فاختبأت، لأنه يعرف ماذا سيفعل أبوه لو جاء والضيوف لم يتعشوا بعد، فذهب فاختبأ، فلما جاء الصديق وقالت زوجته: ما أخرك؟ وقال: ما عشيتيهم؟ قالت: هم الذين رفضوا، فاستلم رأس ولده يريد أن يجره إليه، فقال: يا غنثر! أقسمت عليك إن كنت تسمع صوتي لما جئته، حلف عليه، إن كنت تسمع صوتي أن تأتي فوراً، قال: فخرجت، فقلت: والله مالي ذنب، هؤلاء أضيافك فسلهم، لا تضع اللوم علي، قالوا: صدقك قد أتانا، جاءنا بالطعام. أما قوله: جدَّع وسب، فهذا حصل من الصديق في لحظة غضب، والمقصود أنه نزل على ولده باللوم العنيف والتوبيخ والتقريع، أي: قرعه ووبخه وعنفه، لماذا لم يطعم الضيوف إلى الآن؟ ولما قدم الطعام، قال الصديق: كلوا، ولعل ما حصل منه في العتب عليهم؛ لأنهم تحكموا على صاحب المنزل بالحضور معهم، ولم يكتفوا بإذن ولده، مع أن إذن الولد كافٍ، وجاء بالطعام إلى الضيوف، ولكن من الغضب، قال: لا أطعمه أبداً، وفي رواية مسلم: (والله لا أطعمه أبداً) فهذا حلف، وفي رواية: (أنَّ أبا بكر الصديق قال لهم: فما منعكم؟ قالوا: مكانك، قال: والله لا أطعمه أبداً). ثم قال: (لم أر في الشر كالليلة، ويلكم ما أنتم، لم تقبلوا عنا قراكم، هات طعامك، فوضعه، فقال: بسم الله، الأول من الشيطان، فأكل وأكلوا) وقال بعض الشراح: إن هذا الخطاب ليس للضيوف وإنما لأهله، أن هذا الكلام وجه لأهله. أما قوله: وايم الله أو ويم الله، فهو قسم، أصله: ايمن بالنون، لكثرة الاستعمال خففت ووصلت وايم الله، وقد يقال: مو الله، أم الله، ونحو ذلك من الاختصارات لهذه الكلمة. المهم أن الصديق لما قدم الطعام لاحظ -بعدما حلف ألا يأكل وأكل؛ لأنه عرف أن هذا الحلف كان نزغة شيطان- لاحظ شيئاً عجيباً مدهشاً! وهو أنها لا ترفع لقمة، إلا ويبرز تحتها ما هو أكثر منها، أي: أن الذي يبرز ويخرج أكثر من الذي أخذ، فنظر أبو بكر، فإذا شيء أو أكثر، أن جفنة الطعام إما أنها مثلما كانت بعدما أكل الجميع أو أكثر، فقال متعجباً: يا أخت بني فراس! وهذا الخطاب لامرأته أم رومان. وقال بعضهم: أن هذه المرأة أم رومان رضي الله عنها من بني فراس، ولعلها كانت نسبت إليهم من باب الانتساب إلى القبيلة، كما تقول العرب تنسب إلى قبيلة على أنه أخوهم، أو يقال: يا أخت القوم المنتسبين إلى بني فراس! على أية حال فهو نسبها إلى قوم لها علاقة بهم، يا أخت بني فراس! أي: ما هذا؟! قالت: لا وقرت عيني، طبعاً قرة العين هو ما يحبه الإنسان ويسر به، والقرار هو: السكون، لأن العين إذا سكنت؛ تعبير عن راحة الإنسان وهدوء باله، وأنه لا يتطلع إلى أشياء أخرى؛ لأنه وجد ما يريده. وكما يقول بعضهم: أقر الله عينك بهذا الولد، أي: أفرحك به ونحو ذلك، وضده: أسخن الله عينه، أي: الدعاء عليه بالحزن، لأن دمعة الحزن ساخنة، ودمعة السرور باردة، هكذا قالوا. فتقول: لهي أكثر مما قبل، أكثر مما وضعناها، فأكل منها أبو بكر، وقال: إنما كان الشيطان، أي: يمينه، أي: إنما كان الذي حملني على اليمين هو الشيطان؛ لأنه قال في البداية من الغضب، قال: والله لا أطعمه كلوا، وحلف ألا يطعمه، ثم رجع إلى نفسه، قال: هذه الحلف من الشيطان، وأكل وكفر عن يمينه.

العدول عن اليمين والتكفير

العدول عن اليمين والتكفير وفعل الصديق رضي الله عنه مقتضى حديث (من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها، فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه). إذا حلف على شيء، ثم رأى أن الخير مخالفة اليمين، فرجع إلى الخير وأكل، لماذا حرم الطعام على نفسه؟ ليس لشيء من الطاعة، إذاً يخالف يمنيه ويأكل. وخصوصاً أنه قد رأى الطعام فيه بركة، ما ترفع لقمة إلا ويخرج من أسفلها عوضاً عنها أو أكثر. إذاً: الأكل من الطعام المبارك طيب، ولذلك رجع الصديق إلى البر وأكل لما رأى البركة ظاهرة رضي الله عنه، لتحصل له البركة بالأكل من ذلك، وليعود السرور إلى الجميع، ولينفك الشيطان مدحوراً، فحنث في يمينه رضي الله تعالى عنه. أما بالنسبة للتكفير، فإن التكفير في مثل هذه الحالة واجب، لكن كونه ما نقل، لا يعني أنه ما حصل، لكن لو فرضنا أنه ما حصل، فلابد أن نحمل اليمين على حمل معين كأن يقول: حلف مدة معينة ألا يأكل منها مثلاً، أو لا يأكل مع الضيوف ثم أكل بعدهم مثلاً ونحو ذلك، وفي الحالة العادية لو أن واحداً حلف مثل هذا الحلف ألا يأكل من الطعام، ثم أكل، فإنه تلزمه كفارة اليمين. الآن هذه الجفنة التي فيها الطعام المبارك، ماذا فعل الصديق بها بعد أن طعم أهله وطعم الضيوف؟ حملها وذهب بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأصبحت عنده على حالها. فقال: ففرقناها اثني عشر رجلاً مع كل رجل منهم أناس، كل واحد من الاثني عشر معه جماعة، فأكلوا منها أجمعون، أي: بعدما ذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فرقت الجفنة على اثني عشر رجلاً مع كل رجل مجموعة، والواحد من الاثني عشر هذا مثل العريف أو النقيب يأخذ نصيب جماعته، فكل واحد من الاثني عشر أخذ نصيب جماعة معه أكلوا كلهم وشبعوا منها. فمعنى ذلك أن هذا الجيش أكل من تلك الجفنة التي أرسلها أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وبذلك يكون وقع تمام البركة وحصل من التداول إلى قريب الظهر، يأكل قوم ثم يقومون، ويجيء قوم فيتعاقبون كما جاء في رواية: (حتى إن رجلاً قال: هل كانت تمد بطعام؟ -هل جاء أناس يزيدون عليها- فقال الذي حضر: أما من الأرض فلا، إلا أن تكون كانت تمد من السماء).

ما يستفاد من حادثة بركة طعام الصديق

ما يستفاد من حادثة بركة طعام الصديق هذا الحديث فيه من الفوائد:

جواز التجاء الفقراء إلى المسجد

جواز التجاء الفقراء إلى المسجد التجاء الفقراء إلى المسجد عند الحاجة إلى المواساة، وجواز أن يعيش الفقير في المسجد إذا لم يكن له مأوى، بشرط عدم أخذ مكان الصلاة، وعدم التشويش على المصلين، وكذلك في هذه القصة نموذج من نماذج المواساة في المجتمع المدني، كيف كان الفقراء يوزعون على الناس.

تصرف المرأة بإذن زوجها

تصرف المرأة بإذن زوجها وفي هذه القصة تصرف المرأة فيما تقدم للضيف بالإذن العام من الرجل ولا يلزم الإذن الخاص، أي: لو أن واحداً قال: يا امرأة! يا زوجتي! يا فلانة! يا أم فلان! أي ضيف يأتي تطعميه فهذا إذن عام، أي ضيف يأتي لا تحتاج أن تستأذن منه وترسل له من يستأذنه، أو تتصل عليه يوجد ضيف نطعمه أو لا نطعمه، فالطعام هو ملك لصاحب البيت لا يحل إلا بإذنه، لكن المرأة إذا كان عندها إذن عام فيجوز لها أن تتصرف بناءً على الإذن العام. وهو مثل الخروج من البيت، إذا قال: متى ما أردتِ الخروج فاخرجي، أنا أثق فيكِ وفي حجابكِ، وأنت زوجتي اخرجي، فلا يحتاج أن تستأذن كلما أرادت الخروج، لكن إذا كان لم يسمح إلا بإذن خاص، فلا يجوز أن تخرج إلا بإذن خاص من هذا الرجل، وقد يكون الإذن عاماً وخاصاً، مثل أن يقول: هؤلاء الجيران وقتما تريدين الخروج إليهم أخرجي، وغير هذا تستأذني، فيكون هذا عاماً في هؤلاء الجيران، متى ما أرادت تخرج، ولابد أن تستأذن في الخروج إلى غير هؤلاء. وكذلك في هذا الحديث جواز تقريع وتعنيف الولد إذا كان على سبيل التمرين على أعمال الخير وتعاطي ذلك، وعدم تأخير الخير والقيام بالحق ونحو ذلك، مع أن عبد الرحمن رضي الله عنه لم يظهر منه تقصير، لكن كمبدأ تقريع الولد إذا قصر لا بأس به، لئلا يتعود التقصير، أو أنه يستمرئ التقصير.

العدول عن اليمين والتكفير

العدول عن اليمين والتكفير وفي هذا الحديث أن الإنسان إذا حلف على يمين فرأى أن الحنث فيها وكسر اليمين أفضل وأقرب إلى الله، فإنه يكسر يمينه ويخالفه.

إثبات كرامات الأولياء

إثبات كرامات الأولياء وكذلك في هذا الحديث إثبات لكرامات الأولياء، وهذه كانت كرامة لـ أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه.

العمل بغلبة الظن

العمل بغلبة الظن وكذلك فإن في هذا الحديث: العمل بغلبة الظن، فإن الصديق لما جاء غلب على ظنه أن ولده فرط في حق الضيوف، وبناء على ذلك تكلم عليه ووبخه، بناء على ما غلب على ظنه من أنه قصر مع الضيوف، ويمكن أن يقال أيضاً: إن على الإنسان ألا يستعجل في لوم ولده؛ لأن الولد قد يكون لم يقصر، ولذلك يحتمل من صاحب الفضل العظيم الخطأ مالا يحتمل من أي شخص آخر، وهذا معروف. والنبي عليه الصلاة والسلام في قصة حاطب رضي الله عنه، سامح حاطباً لأنه كان بدرياً، ربما لو كان غيره لقتله؛ لأنه تجسس على المسلمين، فكذلك صاحب الفضل وصاحب العلم وصاحب الخير لو أخطأ مرة، تغمر في بحر فضائله، لكن لو لم يكن له فضائل وأخطأ، ربما يلام ويؤاخذ مع أن نفس الخطأ يصدر من شخص آخر ولا يؤاخذ، وقد يقول بعض الناس: هذا ليس بعدل، نقول: لا، هذا عدل، لماذا؟ لأن الصحيح أن تأخذ كل الصورة، يعني: الآن عندك موظف أو خادم وأنت سيده أو مديره، يتقن عمله جداً، وفي مرة من المرات -مثلاً- أخطأ في عملية مالية تسببت في خسارة ألف ريال بسببه هو؛ قصر ولم يتأكد من توقيع أو من شيء فضيع ألف ريال على المؤسسة أو الشركة، وشخص آخر مقصر ومهمل جاء مرة وقصر وضيع ألف ريال، لا يقال: إن العدل معاملتهما بنفس المعاملة، لا. إذا كان صاحب المؤسسة، أو سيد هذا الخادم، أو مدير هذا الموظف قد تجاوز عن الأول، وقال: أنا سامحتك، وآخذ الثاني وخصمها عليه لا يعتبر ظالماً ولا جائراً؛ لأن المعاملة المتماثلة مع المخطئين لابد أن تكون أوضاع المخطئين وأحوالهم متساوية، أما إذا كان هذا الإنسان نشيطاً وجيداً وأخطأ يمكن أن يسامح، ونفس الخطأ يرتكبه آخر لا يسامح. إذاًَ: لابد من النظر في حال الشخص ككل، وتاريخ وماضي الشخص قبل الحكم عليه ومآخذته. وكذلك في هذا الحديث أن الصديق رضي الله عنه رجع عما أخطأ فيه من الحلف، وهذه منقبة له في الرجوع عن الخطأ.

إعانة الابن لأبيه

إعانة الابن لأبيه وكذلك يؤخذ من هذا الحديث أيضاً أن الولد يجب أن يكون عوناً لأبيه على الطاعات وأعمال البر، والقيام بحق الضيوف ونحو ذلك.

تكافل المسلمين

تكافل المسلمين وكذلك في هذا الحديث: التكافل بين المسلمين، وأن يكون بطريقة لا تزعج الشخص، وأيضاً تنفع المحتاج.

تلافي فورة الغضب بالاختباء

تلافي فورة الغضب بالاختباء وكذلك في الحديث أن الإنسان يختبئ لتلافي فورة الغضب، وإذا برد الغضب يخرج، لأن ظهور الشخص في فورة الغضب أمام الغاضب ربما أن يقع فيه أشياء لا تحمد عقباها، وأما إذا اختبأ، فإن فورة الغضب تهدأ ولا يقال إن الولد جبان فلابد أن يأتي ويثبت أمام الأب إن كان رجلاً، يظهر أمام الأب في فورة غضبه، لا، لأن الإنسان في حال الانفعال والغضب الشديد ربما يفعل أشياء لا تحمد عقباها، ولذلك فالاختباء من الغاضب في فورة غضبه وتلافي مواجهته فيه حكمة.

رجوع الإنسان إلى نفسه واكتشافه الخطأ

رجوع الإنسان إلى نفسه واكتشافه الخطأ كذلك في الحديث: رجوع الإنسان إلى نفسه واكتشاف أن هذا من الشيطان أم لا، وأبو بكر الصديق لم يأنف أن يقول: إن هذا أوقعني فيه الشيطان، وأن الشيطان استدرجني في هذه، وأنني تابعت الشيطان في هذه، قال: إنما كان الشيطان، وأقر واعترف أنها من الشيطان.

مدد الله لأوليائه

مدد الله لأوليائه وكذلك في هذا الحديث: أن الله سبحانه وتعالى يجعل لأوليائه المدد من الأجر، فهذا أبو بكر الصديق كسب أجر من أتى بهم، ثم الذين جاءوا بعد ذلك وأكلوا، فالأجر والخير يتوالى على الصديق رضي الله تعالى عنه؛ لعلو منزلته عند الله تعالى.

أهمية إكرام الضيف

أهمية إكرام الضيف وفي الحديث أيضا: إكرام الضيوف وأهمية إكرام الضيوف، وأن الإنسان لا يؤخر العشاء، ومن إكرام الضيوف: عدم تأخير الطعام عليهم، وبعض الناس قد لا يحسب جيداً فيؤخر الطعام عن الضيوف، فيأتيه الضيف بعد الظهر يأتي له بالطعام على أذان العصر. فلذلك كان من إكرام الضيف: تعجيل الطعام، والدليل على ذلك أن الله قال عن إبراهيم: {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات:26] أي: الضيوف جاءوا، وهو بحركة خفية انصرف إلى أهله بخفية، حتى لا يقال تعال، وإلى أين تذهب، وحلفنا عليك لا تأتي بشيء، فراغ إلى أهله، ما قال ثم جاء، قال: فجاء، أي: أن عنده تدابير جاهزة للإطعام والطبخ والإنضاج، فجاء بعجل سمين، فقربه إليهم، إذاً من إكرام الضيف تعجيل الطعام وعدم تأخيره. هذا بعض ما ورد في هذه القصة من فوائد، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرضى عن الصديق، وأن يعلي درجته وأن يجزيه الجزاء الأوفى.

الأسئلة

الأسئلة

حكم أخذ العمولة دون علم صاحب الشركة

حكم أخذ العمولة دون علم صاحب الشركة Q بالنسبة للمناقصات التي ترسو على شركة لتنفيذها، تقوم هذه الشركة بتقسيمها إلى عدة أجزاء، ثم تعطيها مؤسسات بالباطن ومن الباطن، ويقوم مهندس الشركة بهذا العمل دون علم صاحب الشركة وأحياناً بعلمه، ويأخذ خمسة في المائة عمولة؟ A الموظف في الشركة مادام أنه يأخذ أجرة من الشركة، فلا يجوز له أن يأخذ من الناس أشياء، وأخذه من الناس هذه الأشياء مع وجود راتب له في عمله؛ لأن هذا عمله يقوم به ويأخذ مقابله راتبه المعلوم، فكونه يأخذ من الناس أشياء فهذا لا يحل له، خصوصاً وهو يقول في السؤال هنا: وأن بعض هذه الأشياء تتم بعدم علم صاحب الشركة، فالآن هذا موكل على المال، يأتي ويعطي لأناس ثم يأخذ منهم أموالاً دون علم صاحب العمل وصاحب الحلال والمال، فلاشك أن هذا اعتداء على صاحب الحق. أما لو قال: أنا أريد أن أعطي هذه المؤسسات العقود الفلانية والفلانية والفلانية فاجعل لي نصيباً، واجعل لي نسبة، واجعل لي أجراً زائداً وإضافياً جزاء قيامي بهذا، فوافق صاحب العمل، لأن كل الأرباح حق لصاحب العمل، فإذا قال الموظف هذا لصاحب العمل: هذه الأشياء أوزعها على الناس وعلى شركات في الباطن، فاجعل لي نصيباً من الأرباح، اجعل لي مبلغاً معيناً أو نسبة من الأرباح، فوافق صاحب المال، فيأخذه وإلا فلا.

حكم لبس الخواتم للرجال

حكم لبس الخواتم للرجال Q ما حكم لبس الخواتم للرجال؟ A بالنسبة للخواتم للرجال، فإن الذي جاء في السنة هو لبس خواتم الفضة، وجاء النهي عن لبس خاتم الحديد في حديث قد جاء كلام في صحته، ولكن الاقتصار على خاتم الفضة هو الذي ينبغي لأنه هو الذي ورد في السنة.

(معنى كلمة: (غنثر

(معنى كلمة: (غنثر Q ما معنى كلمة (غنثر)؟ A يا غنثر! كلمة تقال عند التوبيخ أو التعنيف أو التقريع.

حكم أخذ ما بين الحاجبين من الشعر

حكم أخذ ما بين الحاجبين من الشعر Q ما حكم أخذ ما بين الحاجبين من الشعر؟ A نتف ما بين الحاجبين للمرأة، قال بعض العلماء: أنه لا بأس به، وقال بعضهم: هذا تبع شعر الوجه لا ينتف، فلو لم تأخذ منه أحسن، وإن أخذت، فهناك من العلماء من يقول بجواز الأخذ.

النيابة في إخراج الزكاة

النيابة في إخراج الزكاة Q هل يجوز أن أخرج عن أهلي في مصر زكاة الفطر نيابة عني والعكس؟ A نعم، يجوز ذلك.

بم يدعى الناس في الآخرة؟

بم يدعى الناس في الآخرة؟ Q ما الحكمة أن الناس في الدنيا يدعون لآبائهم، وفي الآخرة يدعون لأمهاتهم؟ A ما هو الدليل على أنهم في الآخرة يدعون لأمهاتهم؟ أين الدليل الصحيح على هذا؟ هذا اشتهر بين الناس، لكن حتى في الآخرة بل من الموت، عندما يعرجون به إلى السماء ويستفتحون له، فيقول أهل السماء: من؟ فيقول: فلان بن فلان بأحب أسمائه التي كان ينادى بها في الدنيا، فالنسبة إلى الأب في الدنيا وفي الآخرة، ومن قال: إنه ينسب لأمه في الآخرة فعليه بالدليل، والنسبة الشرعية للأب، قال الله تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب:5] النسبة للأب: (من انتسب إلى غير أبيه، فعليه لعنة الله) كما لعن النبي صلى الله عليه وسلم من انتسب إلى غير أبيه، من الذي ينسب إلى أمه؟ ولد الزنا هو الذي ينسب إلى أمه، لكن الابن الشرعي ينسب لأبيه.

استجابة دعاء الطفل

استجابة دعاء الطفل Q هل دعاء الطفل مستجاب؟ A نعم، دعاء الطفل المدرك المميز يستجاب، ولِمَ لا؟! وقد تقع أحياناً من الخوارق التي يجريها الله عز وجل، مثل الطفل الذي كان يرضع من ثدي أمه، فمر رجل ذو شارة حسنة على فرس، عليه هيئة حسنة ووجيه، فقالت الأم: اللهم اجعل ابني مثل هذا، فترك الطفل ثديها، فأقبل عليه وقال: اللهم لا تجعلني مثله، لأنه كان جباراً من الجبابرة. وبينما امرأة كانت ترضع رضيعاً لها، إذ رأت جارية تجر وتسحب، ويقال: سرقتي زنيتي، فقالت: اللهم لا تجعل ابني مثله، فترك الثدي، فقال: اللهم اجعلني مثلها، أي: في أجر المظلوم؛ لأنها مظلومة افتروا عليها وما زنت ولا سرقت، وتمنى أجر ما لهذه المظلومة. والغلام في قصة أصحاب الأخدود إن لم يكن بالغاً، فإنه قال: اللهم اكفنيهم بما شئت، واستجاب الله دعاء الغلام، وانقلب بهم الجبل، وانقلب بهم القارب، فاستجاب الله دعاءه، وقال: اللهم إن كنت تعلم أن أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس، فرماها فقتلها.

حكم صلاة الجماعة للمتزوج في أول أيام زواجه

حكم صلاة الجماعة للمتزوج في أول أيام زواجه Q هل صحيح أن المرأة البكر على زوجها أن يمكث معها أسبوعاً لا يخرج لصلاة الجماعة في المسجد، والمرأة الثيب أن يجلس معها ثلاثة أيام؟ A هذا من الافتراءات العامة على الشريعة، ولا يوجد مثل هذا أبداً، لو تزوج الليلة هذه فصلاة الفجر غداً في الجماعة واجبة عليه، ولا يجوز له أن يترك حق الله لأجل المرأة. فالرجل إذا تزوج امرأة بكراً وعنده زوجات، فإنه يمكث عندها سبعاً ثم يقسم، وإذا كان عنده زوجات وتزوج ثيباً، يمكث عندها ثلاثة أيام ثم يقسم بين نسائه، فلعل هذا اشتبه عليه الأمر، وإلا فليس من الصحيح مطلقاً أن يترك صلاة الجماعة ولا يجوز له أن يترك فرضاً واحداً.

استحقاق الزكاة

استحقاق الزكاة Q شخص يستلم ثلاثة آلاف، وعليه قسط سيارة وإيجار منزل، ولا يصف له بعد هذا إلا ما يقارب ألف ريال؟ A إذا كان ما يصف له يكفيه، فلا يستحق الزكاة، أما إذا كان لا يكفيه فيستحق الزكاة.

إعطاء الزكاة للأقارب

إعطاء الزكاة للأقارب Q هل يجوز أن أعطي كل زكاة الأموال إلى أختي دائماً؟ A إذا كانت فقيرة، فلا يجوز أن يحابى الأقرباء بالزكاة، وتجد بعض الناس يحابون أقرباءهم بالزكاة، يعني: يكون وضع القريب هذا وسطاً، وعنده ما يكفيه، وعنده سكن ولبس وأكل، وليس عليه ديون مطالب بها، فيقول: أعطيه زكاتي، لماذا؟ يقول: حالته ميسورة، إذاً: أنت باعترافك تقول: أنها ميسورة، فكيف يستحق الزكاة؟ وإذا قال: حالته ضعيفة، نقول: صف لي حالته الضعيفة هذه؟ عنده سكن؟ نعم، عنده طعام ولباس وحاجته؟ وعنده الأشياء الضرورية في البيت كالمكيف والثلاجة في البلاد الحارة؟ نعم، نعم، نعم، إذاً بأي حق يأخذ؟ فلا يجوز أن يحابى بالزكاة قريب، وتعطى للفقير الحقيقي، وإذا كان القريب فقيراً؛ يكون فيها أجران.

من رأى هلال رمضان وحده

من رأى هلال رمضان وحده Q من رأى هلال رمضان وحده، هل يجب عليه الصيام؟ A نعم، قال تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185].

نذر الطاعة

نذر الطاعة Q نذرت أن أقوم الليل؟ A هذا من نذر الطاعة، فيجب عليه أن يفي به، فإن عجز عنه قضاه، وإن لم يقض فعليه كفارة يمين. هذا والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

طالب العلم والمنهج

طالب العلم والمنهج العلم الشرعي يدل على الله سبحانه وتعالى، ويقود إلى معرفته وخشيته والعلم بشريعته، ولأجل هذا كان الحث على طلب العلم، وفي هذا الدرس بيان للقواعد التي تيسر لطالب العلم الطلب، وتهديه إلى الطريقة الصحيحة والمنهج السوي.

فضل العلم وأهله

فضل العلم وأهله إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فأحمد الله الذي لا إله إلا هو، أحمد الله الذي برأ الخليقة، وأشهد أهل العلم على خير حقيقة، فقال سبحانه وتعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} [آل عمران:18]. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد سيد الأنبياء والمرسلين القائل: (من يرد الله به خيراً يفقه في الدين) صلوات الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، هو صاحب السنة الذي قال: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً؛ سهل الله له به طريقاً إلى الجنة). وبعد: أيها الإخوة! فإن أشرف ما صرفت فيه الأوقات طلب العلم، ذلك أن العلم الشرعي يدل على الله سبحانه وتعالى، ويقود إلى معرفته وخشيته، والعلم بشريعته، ولأجل ذلك كان أفضل الناس بعد الأنبياء هم العلماء، وهم ورثة الأنبياء، والعلم مراتب، وطلاب العلم لهم من هذا الشرف نصيب ولا شك، ولأجل هذا فإن الحث على طلب العلم أمر مهم، وهذا العلم بحر غزير، ومن أجل ذلك كان لابد من معرفة القواعد التي تيسر لطالب العلم الطلب، وتهديه إلى الطريقة الصحيحة والمنهج السوي، إذا إن الكثيرين يتحمسون لطلب العلم، ولكنهم قد لا يعرفون المنهج الصحيح في طلبه. وقد سبق أن تكلمنا في محاضرة بعنوان: (كيف نتحمس لطلب العلم؟) عن مسألة الدوافع والحماس والحوافز، ووعدنا بأن نتكلم في محاضرة أخرى عن المنهجية في طلب العلم، وهاهي ذي هذه المحاضرة بعنوان: (طالب العلم والمنهج) أسأل الله تعالى أن يهدينا سواء السبيل، وأن يجعلنا وإياكم على السنة هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين. ليس كل مريد للحق يصيبه، فكم من أناس أرادوا الحق فلم يصيبوه، والكلام في مسألة المنهجية لا تصلح لمثلي؛ لأن الذي يريد أن يتكلم في المنهج لابد أن يكون من أهل العلم الراسخين فيه، ولكني استعنت بالله سبحانه وتعالى، ولجأت إلى كتب أهل العلم لأنقل منها كثيراً من القواعد التي تحدد المنهج في الطلب، فرجعت في هذه المحاضرة إلى كلام العلماء المتقدمين، مثل كلام الإمام أحمد رحمه الله وابن رجب والذهبي وابن مفلح وابن القيم وابن الجوزي وغيرهم من أصحاب الكتب المصنفة في هذا الموضوع، مثل الخطيب البغدادي رحمه الله. ولجأت إلى بعض أهل العلم الموجودين الآن كالشيخ عبد العزيز بن باز وغيره من العلماء وطلاب العلم الكبار؛ لأجل استخراج الضوابط والقواعد في هذا المنهج، فما أصبت فمن الله، وما أخطأت فمن نفسي والشيطان، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من أهل العروة الوثقى المتمسكين بالسنة والحريصين على طلب العلم: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8].

ضوابط ومعالم في طلب العلم

ضوابط ومعالم في طلب العلم أما المنهج في طلب العلم فإن له شُعب كثيرة، وقواعد متعددة، فمن هذه الأمور:

معرفة المنهج الذي ينبغي طلبه

معرفة المنهج الذي ينبغي طلبه أولاً: معرفة ما هو العلم الذي ينبغي طلبه؟ قال ابن رجب رحمه الله في تعريف العلم الذي يطلب، في شرح حديث: (إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) قال: فالذي يتعين على المسلم الاعتناء به والاهتمام أن يبحث عما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم يجتهد في فهم ذلك، والوقوف على معانيه، ثم يشتغل بالتصديق لذلك؛ إن كان من الأمور العلمية -لأن كثيراً من الأحاديث تضمنت أموراً علمية اعتقادية، وليست أعمال جوارح- وإن كان من الأمور العملية بذل وسعه في الاجتهاد في فعل ما يستطيع من الأوامر، واجتناب ما يُنهى عنه، وتكون همته مصروفة بالكلية إلى ذلك. ثم قال رحمه الله تعالى: أما فقهاء أهل الحديث العاملون به، فإن معظم همهم البحث عن معاني كتاب الله عز وجل، وما يفسره من السنة الصحيحة، وكلام الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وعن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعرفة صحيحها وسقيمها، ثم التفقه فيها، وتفهمها، والوقوف على معانيها، ثم معرفة كلام الصحابة والتابعين لهم بإحسان في أنواع العلوم من التفسير والحديث، ومسائل الحلال والحرام، وأصول السنة والزهد والرقائق وغير ذلك. وهذا هو طريق الإمام أحمد ومن وافقه من علماء الحديث الربانيين، وفي معرفة هذا شُغل شاغل عن التشاغل بما أُحدث من الرأي مما لا ينتفع به: العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس خُلف فيه ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين قول فقيه كلا ولا جحد الصفات ونفيها حذراً من التأويل والتشبيه واعلموا -رحمكم الله- أن من العلم ما يكون من صلب العلم، ومنه ما يكون من ملح العلم وأطرافه، ومنه ما ليس بعلم أصلاً، فالذي شرحناه قبل قليل هو من كلام ابن رجب رحمه الله هو طلب العلم، وأما ملح العلم فسيأتي أشياء منه، ولكن في العموم ليس هو من الأشياء الأساسية، وإنما أطراف وفوائد ونكت، فهذا يكون في الدرجة الثانية، ومنه ما ليس بعلم أصلاً، كالسعي لمعرفة أحكام العبادات التي لم يخبر الشرع عن الحكمة فيها، مثل أن يقول الإنسان: أريد أن أبحث لماذا عدد ركعات صلاة الظهر أربع ركعات؟! وعدد ركعات صلاة المغرب ثلاث ركعات؟! وعدد ركعات صلاة الفجر ركعتين؟! ما هي الحكمة؟! أو لماذا اختص الصيام بالنهار دون الليل؟! لماذا اختص الحج بالرمي والوقوف بـ عرفة ومزدلفة؟! وقد يزعم بعض الناس حكماً لا تكون من مقاصد الشارع أصلاً. قال الشاطبي رحمه الله مضيفاً -أيضاً- في هذا التقسيم في الأشياء التي ليست من العلم، أو أن الإنشغال ببعض الملح يصيرها أشياء غير نافعة، فتفوت على الإنسان خيراً كثيراً، وأشياء من الأساسيات، فمما ضربه رحمه الله تعالى من الأمثلة جمع طرق للحديث التي لا داعي لها. فحديث متواتر يأتي فيجمع طرقه لأي شيء وقد بين العلماء أنه متواتر وذكروا طرقه، كما قال حمزة الكناني: خرَّجتُ حديثاً واحداً عن النبي صلى الله عليه وسلم من نحو مائتي طريق، فداخلني في ذلك الفرح، فنمت فرأيت في النوم يحيى بن معين، فسألته عن هذا؟ ففكر ساعة ثم أجابني، وقال: أظن أنه يدخل تحت قول الله تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر:1]. نحن لا نعتمد على الرؤى في العلم فهي ليست علماً، ولا يجوز الحكم على الأشياء من خلال الرؤى والمنامات، لكن الرؤى إذا وافقت الكتاب والسنة فيستأنس بها، فمن الأشياء التي ليست بعلم أصلاً، ما يراه الإنسان في الرؤى والمنامات، ولذلك الصوفية من ضلالهم أنهم يعتمدون على الرؤى والمنامات في إثبات العلم، يقولون: هذا علم أصيل، رأيت في المنام حدثني قلبي عن ربي، وهكذا.

من التكلف الخوض في مسائل لا ينبني عليها عمل

من التكلف الخوض في مسائل لا ينبني عليها عمل ومن المنهج في طلب العلم، أن كل مسألة لا ينبني عليها عمل، فالخوض فيها من التكلف الذي نهينا عنه، فالعلم منه ما هو ضروري، ومنه ما هو حاجي، ومنه ما هو تحسيني، ومنه ما ليس بعلم أصلاً كما ذكرنا. ولذلك لما سألوا: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} [البقرة:189] ما هو سؤالهم؟ قالوا: لماذا يكون الهلال في أول الشهر خيطاً رفيعاً، ثم يمتلأ فيصير بدراً في منتصف الشهر، ثم يعود إلى حالته الأولى؟ فصرفهم الله عز وجل عن هذا الشيء الذي لا ينبني عليه عمل إلى الشيء الذي ينبني عليه عمل، فقال لهم: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة:189] فأعرض عما لا يفيد عملاً للمكلف إلى شيء يفيد عملاً، فقال: {هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة:189]. ولما سأل أعرابي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: متى الساعة؟ هذا لا يفيد، والله عز وجل اختص بمعرفته، فبماذا أجاب عليه الصلاة والسلام؟ (ما أعددت لها؟). ولما جاء صبيغ بن عسل يشوش ويسأل في مجالس العامة: ما هي المرسلات؟ ما هي السابحات؟ فأمسك به عمر فضربه حتى أدماه، ثم نفاه حتى تاب. فكل مسألة لا ينبني عليها عمل ولا عقيدة، فتركها واجب: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) مثل الاشتغال بمعرفة الحروف المقطعة، ولذلك قال الشاطبي رحمه الله: كل علم لا يفيد عملاً -سواء كان عمل قلب أو عمل جوارح- فليس في الشرع ما يدل على استحسانه.

ترك الغرائب والشواذ

ترك الغرائب والشواذ ومن القواعد في المنهج أيضاً، ترك الغرائب والشواذ، قال الأكرم: سأل رجل أبا عبد الله -الإمام أحمد - عن حديث؟ فقال أبو عبد الله: الله المستعان! تركوا العلم وأقبلوا على الغرائب، ما أقل الفقه فيهم! وقال الحسن بن محمد: سمعت أحمد بن حنبل سُئل عن أحاديث غرائب؟ فقال: شيء غريب! أي شيء يرجى به؟! يطلب الرجل ما يزيد في أمر دينه، وقال: شر الحديث الغرائب التي لا يُعمل بها ولا يُعتمد عليها. وقال النخعي: "كانوا يكرهون غريب الحديث". وقال علي بن الحسين: "العلم ما تواطأت عليه الألسن". ما اشتهر بين العلماء، هذا هو العلم، أما أن تأتي بالغرائب والشواذ؛ فهذا خطأ في منهج طلب العلم. ولذلك فإن بعض الشباب إذا أقبلوا على القراءة أحياناً، فقرءوا -مثلاً- في كتاب صحيح الجامع، يجعلون قراءتهم فيه، ويقولون: نطلب العلم، فقد يمر بحديث منسوخ، أو حديث في متنه نظر، أو حديث خالف قواعد وأصول أخرى، فيعتمدونه، ولذلك يحصل عندهم من الأخطاء شيء كثير، ثم يجادلون به أهل العلم، فيضيعون الأوقات من أعمارهم وأعمار غيرهم.

حقيقة طالب العلم

حقيقة طالب العلم قبل أن نكمل مسألة الضوابط ومعالم المنهج، لابد أن نعرج على مسألة؛ لأن سياق الحديث قد يتغير عند بحث هذه المسألة، وهذه القضية هي: عندما نقول: طالب العلم والمنهج، فمن هو طالب العلم الذي نقصده؟ وهل كل الناس يصلحون أن يكونوا طلبة علم؟ والحال التي نعيش فيها نحن اليوم، وتركيبة المجتمع، وهذه الوظائف الموجودة وغير ذلك، هل هي تمكن الناس فعلاً أن يكونوا طلبة علم؟

هل كل الناس يصلحون لطلب العلم

هل كل الناس يصلحون لطلب العلم أيها الإخوة! إن الناظر في الواقع لابد أن يعرف ويخرج بنتيجة واضحة وهي: أن الناس جلهم لا يمكن أن يكونوا طلبة علم. فهناك اختلافات في السنة والوظيفة والدراسة منهم من يدرس الطب والهندسة، ومنهم من يدرس الشريعة، وحتى في الذكاء والفطنة والرغبة والميول يتفاوتون، وفي التفرغ منهم من يكون عزباً دوامه قصير، أو جدوله قليل، ومنهم من يكون صاحب أسرة وأولاد وعمله طويل، وقد يعمل عملاً إضافياً، وقد يعمل بالليل والنهار، وهذه القيود من التفرغ والتخصص والميول والتفاوت في القدرات العقلية، لابد أن تلجئنا إلى شيء مهم جداً لابد أن نعترف به عند الخوض في هذه القضية، من الناس من هو عامل، ومنهم من هو مهندس، ومنهم من يشتغل بالدعوة إلى الله، ومنهم من هو منشغل بأمر نفسه. وحتى البلاد تختلف، فمن البلاد من يكون فيها علماء، ومن البلاد ما لا يكون فيها علماء، ومن البلاد من فيها عالم في فن واحد، ومنها ما فيها عالم في عدة فنون، ومن البلاد ما يكون فيها جامعات شرعية إسلامية، ومن البلدان والقرى ما لا يكون فيها جامعات شرعية، ومن البلاد ما يكون فيها دروس في المساجد، ومن البلاد ما ليس فيها دروس في المساجد. ولذلك لابد أن نقرر -وهذا الكلام مهم جداً- أن هناك فرقاً عظيماً بين المتفرغ لطلب العلم وغير المتفرغ، المتفرغ لطلب العلم الذي دراسته شرعية، وعنده أهلية واستعدادات، وبين الإنسان المنشغل الذي يدرس قضية أخرى، قد يدرس في الهندسة أو الطب، أو يدرس في علوم خارجة عن الشريعة متنوعة، لاشك أن هذا الرجل المنشغل بأشياء أخرى يصعب عليه أن يكون طالب علم. نحن لا ننفي ولا نقول: لا يمكن للطبيب وللمهندس أن يكون طالب علم! لا، وهذا خطأ، والذين يقولون: أي طبيب أو مهندس يدخل في نقاشات علمية هذا متطفل، هؤلاء أناس مخطئون عندهم غلو في القضية. نعم. إن غالب المهندسين والأطباء ليسوا طلبة علم، ولا يصلحون أن يكونوا طلبة علم بوضعهم الحالي، فطلب العلم يحتاج إلى جهد كبير، ووقت عظيم، ولا يمكن لإنسان يداوم من الساعة السابعة صباحاً إلى الرابعة عصراً أن ينجح في طلب العلم، ويكون طالب علم قوي، إلا ندرة من الناس عندهم استعدادات غير طبيعية، وهؤلاء الأشخاص ليسوا موضع البحث الآن. لكن الذي نريد أن نقوله: إن الذي يظن أن هؤلاء العمال والأطباء والمهندسين يمكن أن يكونوا طلبة علم جيدين إنسان مخطئ، ومتفائل تفاؤلاً خاطئاً، والذي يظن أن الأطباء والمهندسين لا يمكن أن يخرج منهم طلبة علم جيدين، فهو مخطئ أيضاً لأن الناس طاقات. ثم يجب أن نقرر أن الاتجاه ليكون الإٍنسان عالماً، هذا يكون لندرة من الناس الذين يكونون علماء من الذي تتوفر عنده الهمة والداعي والحافز والحفظ والتقوى والفطنة والذكاء وسعة البال، لكي يحفظ ويُقبل ويُفكر ويستنبط ويرجح، وفي النهاية الذي يستطيع أن يصل إلى هذه المرتبة؟ هم قلة من الناس، لكن هذا لا يمنع من المحاولة لمن وجد في نفسه الأهلية للطلب الجيد.

حاجة المسلمين إلى تخصصات كثيرة

حاجة المسلمين إلى تخصصات كثيرة لابد أن نقول: إننا لا نريد من جميع المسلمين أن يكونوا طلبة علم أقوياء أو يكونوا علماء، لأننا نحتاج إلى أطباء ومهندسين وعمال وصناع، ونحتاج إلى خبراء في الجهاد والسلاح، فالمسلمون يحتاجون إلى تخصصات كثيرة، فليس المقصود الآن هو دفع المسلمين كلهم لأن يكونوا طلبة علم أو علماء. وإنما لابد أن نركز على قضية، وهي: أن فئات المسلمين مهما اختلفت، وأفراد المسلمين مهما اختلفوا، فلابد أن يكون عندهم حد أدنى، ولابد أن يعرفوا أشياء أساسية عن الإسلام، هذا دينهم الذي يدينون الله به، وهذه عباداتهم التي يعبدون الله بها، فلابد أن يكون عندهم علم عن الأساسيات. وهذا الكلام مهم لبعض الناس الذين يشتتون أنفسهم في التخصصات الشرعية وغير الشرعية، فلا يحسنون في هذا ولا في هذا، لأن التخصص غير الشرعي يحتاج إلى متابعة، وتنمية مهارات، واطلاع، ويحتاج إلى معرفة ما جد فيه من قراءة الدوريات والأبحاث الجديدة، مثل أدوية جديدة، وطرق جديدة في الصناعة، فهل يستطيع أن يجمع بين هذه الأشياء وما استجد فيها، وبين العلوم الشرعية التي هي بحر زخار؟ لاشك أنه لا يستطيع أن يفعل ذلك إلا ندرة من الناس، وهذه قضية واقعية، وهذا الواقع يفرض نفسه، ويجب ألا يغيب عن بالنا.

التفريق بين المتخصص وغير المتخصص في طلب العلم

التفريق بين المتخصص وغير المتخصص في طلب العلم هناك نقطة أخرى ألا وهي: التفريق بين المتخصص وغير المتخصص، هناك أناس اتجهوا للعلم منذ نعومة أظفارهم، ودرسوا في المعاهد العلمية ثم الكليات الشرعية مثلاً، هؤلاء أناس أهليتهم لطلب العلم وتمكنهم أكثر من أناس درسوا في الثانويات العلمية تخصص علمي، ودخلوا جامعة علمية في علمٍ من العلوم الدنيوية، هؤلاء لاشك أنهم سيكونون أقل استطاعة وأقل قدرة على أن يكونوا طلبة علم أقوياء، ليس في ذلك شك ولا جدال وهذه قضية مفروغ منها، لكن لا يمنع ذلك أن يجتهد الجميع في تحصيل ما يمكنهم من العلم. إنما الفرق الذي سيظهر في الجدول في المنهج الذي سيسلكه المتفرغ وغير المتفرغ، المتخصص في التخصصات الشرعية الحريص، وبين غير المتخصص الذي لا يمكنه، الفرق سيكون في الاتجاه في درجة الطلب والآلات المستخدمة، وهنا سيكون هناك فرق كبير في هذا. ولذلك نضيف أيضاً فنقول: أن طلب العلم ليس حكراً على أصحاب التخصصات الشرعية، فليس طلب العلم حكراً على أصحاب كليات الشريعة أو أصول الدين ونحو ذلك، وإنما هو مفتوح لكل من كان عنده أهلية طلب العلم بطريقه الصحيح ومنهجه السوي. ونريد من وراء هذا الكلام أن نصل إلى أن العلم الشرعي ليس فوضى يتطفل عليه من شاء، فيأتي فلكي ويدخل في العلم الشرعي، ويرجح بين أقوال المفسرين، وهذا ما وجدناه عند كثيرٍ ممن اشتغلوا بقضية الإعجاز العلمي اشتغالاً فارغاً منحرفاً، وهم ما عندهم علم بلغة العرب، ولا بأساليب العرب، ولا بقواعد التفسير، ولا بكلام العلماء، ثم يدخلون في الآيات ويقولون: الراجح فيها كذا، هذا كشف العلم عنه الآن، فيا ويلهم! مما يريدون أن يوقعوا فيه الأمة، ويقعوا هم على رءوسهم. فمجال العلم الشرعي مجال ضخم عميق، هذا دين من عند رب العالمين، لا هو فيزياء ولا كيمياء ولا طب ولا تجارب بشرية، هذا دين، والذي يريد أن يدخل في هذا الدين لابد أن يكون أهلاً للدخول. ولذلك فإن العلم الشرعي ليس فوضى يدخل فيه كل من هب ودب، ويرجح بين الأقوال كل من هب ودب، ويستنبط من النصوص كل من هب ودب، هذه قضية ينبغي أن يؤكد عليها وأن تعرف، ورحم الله امرأً عرف قدر نفسه.

طلب العلم مع العمل في مهنة

طلب العلم مع العمل في مهنة وطلب العلم لا يمنع أن يكون الإنسان عنده مهنة، فقد وجدنا من العلماء من كان بزازاً يبيع أقمشة، أو بائع خضار وبقول، أو يصلح الساعات، مادام وجد الاستعداد والأهلية والمنهج الصحيح، لا يمنع أن يكون بائع خضار ويطلب العلم. والذي لا يستطيع أن يكون طالب علم تجيد طبيعة عمله أو منطقته، أو قدراته وحفظه وفهمه، فهذا الإنسان نقول له: لا يمكن أن تترك الدين وتترك الطلب، لكن طلباً يناسب حالك، فمثلاً: يحضر المحاضرات العامة الإسلامية، والدروس التي تناسب مستواه إن وجدت، يقرأ في كتب الثقافة الإسلامية العامة، ويسأل أهل العلم ويحاول معرفة الدليل لكي يعبد الله على بصيرة، ويقلد العالم إذا كان عامياً، مذهب العالم مذهب مفتيه، ثم إن هذا الشخص لن يشتغل بعلوم الآلة لن يدرس المصطلح، ولا أصول الفقه، ولا اللغة، ولا قواعد التفسير، ولا علم البيان والبديع والبلاغة دراسة قوية، هذا غير المتخصص الذي لا يكون طالب علم على المنهج، هذا الشخص له وضع خاص ينبغي أن يعرف شأنه وحاله. فهذا -مثلاً- إذا أراد أن يدرس الفقه لا مانع أن يدرس الفقه، ويقرأ في الفقه، لكن كيف يفعل؟ إنه مثلاً يتعلم العبادات؛ لأنه يحتاج إليها، لكنه لا يقرأ في أبواب القضاء والبينات، ومسائل الطلاق الفرعية، والمسائل والقواعد الفقهية، والدعاوى والإقرار والشهادة، هذه أبواب ليست له، هذه الأبواب لطلبة العلم المتخصصين والعلماء. ولذلك فإن كثيراً من الذين لا يدركون حالهم ويعرفون قدرهم، يريدون ركوب السلم بالمقلوب، أو يريدون تحصيل الأشياء الكبيرة، وليس عندهم قدرة، فيتردون على رءوسهم، هذا الشخص يعرف أشياء عن العبادات من أجل أن يعبد الله، يعرف أشياء عن فقه الصلاة والزكاة والصيام والحج، لا مانع أن يتعلم من النحو شيئاً يقوم به لسانه، يدفع الجهل عن نفسه، يتعلم من دين الله ما يستطيع، لكن هذا الشخص لا يخطط له أن ينقل العلم إلى غيره، بمعنى أن يصبح معلم علم شرعي، يمكن أن ينقل فتوى لآخر، يقول: أنا سألت فلاناً من المشايخ، وقال لي كذا، وأنا أنقل الفتوى إليك. لكن يتبوأ حلقة علمية يوماً من الأيام في مسجد من المساجد فهذا لا يُتوقع له ذلك، وكما قلنا: هذا لا يشتغل بعلم الآلة بالمصطلح والأصول والنحو ونحو ذلك. وكما قلنا: نحن لا نطالب الجميع بأن يكونوا طلبة علم حقيقيين؛ لأن الأمة تحتاج إلى طاقات أخرى كثيرة، وطلب العلم الحقيقي لا يحصل إلا للشخص المتفرغ المجد، لا يحصل للذين يعطون للعلم فضول الأوقات، ليس الأطباء والمهندسون والموظفون في مجملهم يمكن أن يسلكوا طريق العلم القوي، ونحن لا نريد أن نخدع هؤلاء، ونقول لهم: بإمكانكم أن تكونوا علماء ابدءوا، لا فهذا من عدم النصيحة. وإنما نقول له: يا أخي! هذا وضعك وظرفك، وهذه طاقاتك وقدراتك، ينبغي أن تسلك سبيلاً للتعرف فيه على دين الله، وتعرف أكبر ما يمكنك أن تعرفه، تعرف الأشياء التي لابد أن تعرفها من أحكام الصلاة والطهارة والزكاة والصيام والحج إذا أردت أن تحج، والنكاح إذا أردت أن تنكح، والبيع إذا أردت أن تبيع. والناس في نقص من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى الآن تتناقص البركة في كل شيء، ويتناقص الحفظ، ويتناقص العمق في الفهم، وتتناقص أشياء كثيرة: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) الآن الذين يريدون أن يكونوا علماء أقوياء هم قلة وندرة من البشر. وهذا العلم يقبض، ولابد أن نسعى في نشره وتحصيله، ونحن نعرف حقيقة أنفسنا وقدراتنا الذاتية، نحن نبين لهذا غير المتفرغ، نقول: أنت على خير إن شاء الله، وتمسك بالدين وربي نفسك عليه وأهلك وأولادك، وادعُ إلى الله على بصيرة، واطلب من العلم ما تستطيع طلبه، واسأل أهل العلم، وقلد العالم واستفته، واسمع الأشرطة، واقرأ بعض الكتب المبسطة، ولا بأس أن تقرأ بعض المتون البسيطة، لكن لا نكلفك بحفظ المتون، اقرأ متوناً بسيطة مع شروحاتها مثلاً، واقرأ بعض كتب التفسير، هذا شيء مطلوب منك، وبعض شروحات العقيدة المبسطة، وبعض كتب الحديث، واطلع على رياض الصالحين مثلاً، واقرأ في كتب الفتاوى للعلماء، وافهم فتاوى العلماء، وخذ رسائل وأبحاث صغيرة في مسائل متفرقة، في صفة الصلاة وكيفية الأضحية، أو بحثاً في صلاة الاستخارة وخذ حاشية لـ كتاب التوحيد مبسطة، مثل حاشية الشيخ ابن القاسم مثلاً، اقرأ في الكتب المبسطة لا مانع، والأشياء التي تشكل عليك اسأل عنها. والشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله، لما رأى تدني مستوى العلم عند الناس؛ لجأ إلى تبسيط كثير من العلوم، ووضع كتباً جيدة تصلح أن يقرأها العامة. ونقول لهذا الشخص الطبيب أو المهندس غير المتفرغ لطلب العلم: اقرأ أبحاثاً في العقيدة، مثلاً سلسلة الشيخ عمر الأشقر، بعضها يصلح لأن يقرأ فيها، وخذ أشياء تتعلق بفقه الدعوة، ولابد أن تقرأ في السيرة والأخلاق لكي تتكامل الشخصية، وإذا وجدت دروساً احرص على حضورها، لكن لو كان هناك درس في أصول الفقه لا يصلح أن تحضره، إذا لم يكن عندك استعداد أو أهلية، يحضر درس في التفسير أو في السيرة أو في الفقه يحتاج إليه، نعم. ونقول له: أنت إذا درست الفقه مثلاً، لا تحتاج أن تواصل بعد العبادات في المعاملات، وتذهب في الجنايات والشهادات، وأحكام العتق والمدبر ونحو ذلك من الأمور، التي لا تحتاج إليها أصلاً. غير المتفرغ -كما قلنا- لن يتخصص في علوم الآلة في المصطلح والنحو والأصول وقواعد التفسير، لكن يحتاج أن يعرف اصطلاحات العلماء، ما هو الواجب والمكروه والمباح والمستحب والمحرم؟ ولا يشترط له أن يسير في الفقه على ترتيب منهجي يلتزم به بالضرورة، ولكن إذا احتاج أن ينكح سأل وقرأ في أحكام النكاح، وإذا احتاج أن يبيع سأل وقرأ في أحكام البيوع وهكذا، ينتهز الإجازات ويأخذ حضه من العزلة، توفر له الوقت يعكف على سماع أو قراءة؛ لأنه ليس طالب علم متفرغ، لابد أن نقدر المسألة حق قدرها. موظف عنده ثمان ساعات عمل، وعمله لا علاقة له بالأمور الشرعية، كله لغة إنجليزية، أو أشياء تقنية، وتكنولوجيات، وأدوية، وغالب وجوده يمكن أن يكون مع أناس غير مسلمين، وتخصصه غير شرعي لا يمت للشريعة بصلة، وهو كذلك يقضي أنفس أوقات اليوم من الساعة السابعة صباحاً حتى الرابعة عصراً في هذا العمل في أعمال كهربائية، وأعمال هندسية، وأعمال طبية، وعقله وجسده يستنفذ في هذه الأشياء، والعلم ضخم يحتاج إلى تفرغ يحتاج إلى طاقات رهيبة ولذلك يصعب ولا يمكن. وليس من الواقع أن نقول: نريد منك أن تكون طالب علم قوي، لكن الذي يريد أن يعد نفسه من البداية لأن يكون طالب علم في المستقبل، هب أنه تعذر عليك أن تكون طالب علم قوي، لكن تريد ذلك من ولدك، إذاً لابد من قواعد المنهج في طلب العلم أن تحسن البداية، وحسن البداية يقود إلى حسن النهاية.

القواعد المنهجية في طلب العلم

القواعد المنهجية في طلب العلم والبداية في منهج طلب العلم، قال الإمام أحمد رحمه الله: والذي يجب على الإنسان من تعليم القرآن والعلم ما لابد له منه في صلاته وإقامة عينه، وأقل ما يجب على الرجل المسلم من تعلم القرآن فاتحة الكتاب، وحفظ القرآن مستحب، وضبط جميع القرآن واجب على الكفاية؛ لأن الأمة لابد أن يوجد فيها أناس يُعلِّمون الأجيال القرآن قراءة صحيحة. فإذاً لو كان عندك ولد صغير ترجو أن يكون له شأن في المستقبل، فلابد أن تشرع في تحفيظه القرآن، قال الميموني: سألت أبا عبد الله: أيهما أحب إليك أبدأ ابني بالقرآن أو بالحديث؟ قال: لا، بالقرآن، قلت: أعلمه كله؟ قال: إلا أن يعسر فتعلمه منه -نعم تعلم القرآن كله لولدك، لكن إذا عسر على الولد علمه منه، ابدأ بالأجزاء الصغيرة واليسيرة- ثم قال لي: إذا قرأ أولاًً تعود القراءة ثم لزمها، واستمرت معه قراءة القرآن فلا تغيب عنه، وطالب العلم أول ما يشتغل لاشك بحفظ كتاب الله، والذي يبدأ غير هذه البداية؛ فإنه منكوس. أما ما ورد عن ابن المبارك رحمه الله، أنه قال: إن العلم يقدم على نفل القرآن. فمقصوده أن العلم الذي يتعين على صاحبه أن يعمله، يقدم على حفظ أجزاء من القرآن، فلو أن واحداً ليس بحافظ للقرآن، لكنه لا يعرف ما هي واجبات الصلاة، ولا أركان الصلاة، وجاءنا قال: أنا حفظت مثلاً جزء عم، هل أشرع في جزء تبارك أو أدرس أحكام الصلاة؟ نقول: ادرس أحكام الصلاة هذا علم يتعين عليك معرفته، يقدم على نفل القرآن، لكن إذا جئت من الأصل ومن الصغر فعليك البدء بحفظ القرآن، وهذا هو فعل العلماء، ما تقرأ في سيرة عالم من المشاهير إلا تجد في ترجمته: قرأ القرآن، وحفظه وهو ابن ثمان سنين أو عشر سنين أو اثنتي عشر سنة، قرأه على فلان، بدأ بما يشبه المدرسة، حلقة شيخ وأول شيء يحفظه القرآن، ويقرئه القرآن قراءة سليمة. هناك فرق بين القراءة السليمة وبين الحفظ، هو يحفظ لكن مع الحفظ الإنسان لا يستطيع أن يحفظ القرآن كله بسرعة، فهو يحفظ ويقرأ قراءة سليمة، فلابد أن طالب العلم أو الولد في صغره يدرس في القرآن أمرين مهمين جداً: أولاً: يبدأ بحفظ القرآن. ثانياً: يقرأ القرآن قراءة سليمة، كلمات مضبوطة ضبطاً صحيحاً، لابد من هذين الأمرين: الشروع في حفظ القرآن، وقراءة القرآن كله على شيخ قراءة سليمة. وأما الذين يكسرون ويخبطون في القرآن، وينطقون بالآيات على غير ما أنزلها الله سبحانه وتعالى، فلاشك أن هؤلاء جهلوا جهلاً عظيماً، ثم يريدون بعد ذلك أن ينتقلوا بعد ذلك إلى التصحيح والتضعيف في الأحاديث هذا هراء. أما بالنسبة لغير المتفرغ في هذه المسألة، فإن الأمر كما نقلنا عن الإمام أحمد رحمه الله عندما سئل هل طلب العلم فريضة؟ قال: نعم، لأمر دينك وما تحتاج إليه من أن ينبغي أن تعلمه، وقال: يجب عليه أن يطلب من العلم ما يقوم به دينه، ولا يفرط في ذلك، وقال: الفرض الذي يجب عليه في نفسه لابد له من طلبه، قلت: مثل أي شيء؟ قال: الذي لا يسعه جهله، صلاته وصيامه ونحو ذلك. وقال في طلب العلم الواجب: ما يقيم به دينه من الصلاة والزكاة وذكر شرائع الإسلام، فقال: ينبغي أن يتعلم ذلك.

تعلم القرآن وحفظه أولا

تعلم القرآن وحفظه أولاً قال الإمام أحمد رحمه الله: والذي يجب على الإنسان من تعليم القرآن والعلم ما لابد له منه في صلاته وإقامة عينه، وأقل ما يجب على الرجل المسلم من تعلم القرآن فاتحة الكتاب، وحفظ القرآن مستحب، وضبط جميع القرآن واجب على الكفاية؛ لأن الأمة لابد أن يوجد فيها أناس يُعلِّمون الأجيال القرآن تعليماً صحيحاً. إذاً: لو كان عندك ولد صغير ترجو أن يكون له شأن في المستقبل، فلابد أن تشرع في تحفيظه القرآن، قال الميموني: سألت أبا عبد الله: أيهما أحب إليك: أبدأ ابني بالقرآن أو بالحديث؟ قال: لا، بالقرآن، قلت: أعلمه كله؟ قال: نعم. إلا أن يعسر فتعلمه منه. ثم قال لي: إذا قرأ أولاًً تعود القراءة ثم لزمها، واستمرت معه قراءة القرآن فلا تغيب عنه. وطالب العلم أول ما يشتغل -لاشك- بحفظ كتاب الله، والذي يبدأ غير هذه البداية؛ فإنه منكوس. أما ما ورد عن ابن المبارك رحمه الله، أنه قال: إن العلم يقدم على نفل القرآن. فمقصوده: أن العلم الذي يتعين على صاحبه أن يعمله، يقدم على حفظ أجزاء من القرآن، فلو أن إنساناً غير حافظ للقرآن، لكنه لا يعرف ما هي واجبات الصلاة، ولا أركان الصلاة، وجاءنا قال: أنا حفظت -مثلاً- جزء عم، هل أشرع في جزء تبارك أو أدرس أحكام الصلاة؟ نقول: ادرس أحكام الصلاة هذا علم يتعين عليك معرفته، يقدم على نفل القرآن، لكن إذا جئت من الأصل ومن الصغر فعليك البدء بحفظ القرآن، وهذا هو فعل العلماء، لا تقرأ في سيرة عالم من المشاهير إلا وتجد في ترجمته: قرأ القرآن وحفظه وهو ابن ثمان سنين أو عشر سنين أو اثنتي عشر سنة، قرأه على فلان هناك فرق بين القراءة السليمة وبين الحفظ يحفظ لكنه مع الحفظ لا يستطيع أن يحفظ القرآن كله بسرعة، فهو يحفظ ويقرأ قراءة سليمة، فلابد أن طالب العلم أو الولد في صغره يدرس في القرآن أمرين مهمين جداً: أولاً: يبدأ بحفظ القرآن. ثانياً: يقرأ القرآن قراءة سليمة، وينطق الكلمات والحروف منطقاً صحيحاً. وأما الذين يُكسِّرون ويخبطون في القرآن، وينطقون الآيات على غير ما أنزلها الله سبحانه وتعالى، فلاشك أن هؤلاء جهلوا جهلاً عظيماً، ثم يريدون بعد ذلك أن ينتقلوا بعد ذلك إلى التصحيح والتضعيف في الأحاديث، وهذا هراء. أما بالنسبة لغير المتفرغ في هذه المسألة، فإن الأمر -كما نقلنا- عن الإمام أحمد رحمه الله عندما سئل: هل طلب العلم فريضة؟ قال: نعم، لأمر دينك وما تحتاج إليه مما ينبغي أن تعلمه. وقال: يجب عليه أن يطلب من العلم ما يقوم به دينه، ولا يفرط في ذلك. وقال: الفرض الذي يجب عليه في نفسه لابد له من طلبه، قلت: مثل أي شيء؟ قال: الذي لا يسعه جهله، صلاته وصيامه ونحو ذلك. وقال في طلب العلم الواجب: ما يقيم به دينه من الصلاة والزكاة وذكر شرائع الإسلام، فقال: ينبغي أن يتعلم ذلك.

التزام الآداب في حلقة العلم

التزام الآداب في حلقة العلم أما بالنسبة لطالب العلم، فإن من قواعد المنهج التي يسير عليها طالب العلم ما ذكره الخطيب البغدادي رحمه الله في كتاب الفقيه والمتفقه -كتاب عظيم- قال: باب في ترتيب أحوال المبتدئ بالتفقه، وذكر آداباً وأشياء، منها ما قد يكون أدباً لكن يدخل في المنهج، عن الأصمعي قال: سمعت أبا عمرو بن العلاء يقول: أول العلم: الصمت. والثاني: حسن السؤال. والثالث: حسن الاستماع. والرابع: حسن الحفظ. والخامس: نشره عند أهله. وقال الأصمعي: قال الخليل: حين أردت النحو أتيت الحلقة -حلقة العلم- فجلست سنة لا أتكلم، إنما أسمع، فلما كانت السنة الثانية نظرت، فلما كانت السنة الثالثة تدبرت، فلما كانت السنة الرابعة سألت وتكلمت. هذه المنهجية المفقودة عند كثير من الشباب اليوم.

التدرج في طلب العلم

التدرج في طلب العلم ثم قال الخطيب رحمه الله: ويلازم حضور المجلس، واستماع الدرس، وإذا مضى له برهة في الحضور وأنس بما سمع، سأل الفقيه أن يملي عليه من أول الكتاب شيئاً، ويكتبُ ما يملي، ثم يعتزل وينظر فيه -يذهب إلى زاوية المسجد إلى البيت ينظر فيما كتب- فإذا فهمه انصرف وطالعه وكرر مطالعته حتى يعلق يذهبه، فإذا حضر المجلس؛ سأل الفقيه أن يستمع منه -يقول: سمع لي- ويذكر له من حفظه، ثم يسأل الفقيه إملاء ما بعده -يقول: هات شيئاً جديداً أنا أحسنت وأتقنت الأول، هات دفعة جديدة- ويصنع فيه كصنيعه فيما تقدم. قال: ولا ينبغي أن يستفهم من الفقيه -أي: الشيخ العالم- حكم الفصل الذي يذكره له قبل أن يتم الفقيه ذكره، فربما وقع له النسيان عند انتهاء الكلام، قال الله تعالى: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} [طه:114] انتظر يا محمد! صلى الله عليه وسلم، إذا تكلم جبريل انصت يا محمد! صلى الله عليه وسلم حتى ينتهي جبريل مما عنده، فإن انتهى كلام الفقيه، ولم يبن له الحكم، سأله عنه حينئذٍ، (فإنما شفاء العي السؤال) ويستعرض جميعه كلما مضت له مدة -أي: المراجعة- ولا يغفل ذلك، فقد كان بعض العلماء إذا علم إنساناً مسألة من العلم سأله عنها بعد مدة، فإن وجده قد حفظها علم أنه محب للعلم، فأقبل عليه وزاده، وإن لم يره حفظها، وقال المتعلم: كنت قد حفظتها ونسيتها، أو قال: كتبتها فأضعتها إذا كان هذا الذي وجه به أعرض عنه ولم يعلمه قال: أنت لم تضبط الأولى فكيف تضبط الثانية، اذهب واضبط الأولى أولاً. والسبب في التدرج وأهمية التدرج أن هذا العلم صعب، وهذا الدين متين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن هذا الدين متين، فأوغلوا فيه برفق) فلابد في المنهجية في طلب العلم من التدرج، أما أن يهجم الإنسان على العلم هجوماً، يريد أخذه بجميع أطرافه فلا يمكن، وسيسقط ويفشل، والدليل: (إن هذا الدين متين، فأوغلوا فيه برفق). ولذلك فإن من القواعد: الأخذ قليلاً قليلاً، وهذه وصية من عالم لمتفقه، قال له: تعلم كل يوم ثلاث مسائل، ولا تزد عليها شيئاً حتى يتفق لك شيء من العلم، فتعلم. هذا الرجل تعلم على هذه الطريقة ثلاثة مسائل في اليوم، ولزم الحلقة حتى فقه، فكان الناس يشيرون إليه بالأصابع. وينبغي للمتفقه أن يتثبت في الأخذ ولا يكثر، بل يأخذ قليلاً قليلاً، حسب ما يحتمل حفظه، والناس يختلفون في الحفظ والاستيعاب يأخذ قليلاً قليلاً، فإن الله تعالى قال: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} [الفرقان:32]. إذاً لابد من التدرج، والأخذ قليلاً قليلاً. والذين يتركون التدرج في طلب العلم هناك أسباب من أجلها يتركون التدرج، فمن ذلك: 1 - محبة الاشتهار والأخذ هذا أخذ كثير هذا يجلس في ثلاث حلق، ويدرس عند أربعة مشايخ وهكذا. 2 - الاشتغال بطلب العلم عند الكبر، مثلاً: رجل يطلب العلم وعمره متقدم، فتقول له: تعال نعلمك بدائيات العلم، ونبدأ معك من البداية بالعلم الشرعي، تراه يأنف ويقول: أنا أجلس مع الصغار والأطفال، تريد أن تعلمني مثلما يتعلم الأطفال! لا. أعطني من الذي فوق، لماذا تبدأ من الأسفل؟ فهذا يستنكف، فهذا من أسباب ترك التدرج، أنه لا يبدأ بالاهتمام بالعلم الشرعي إلا في سنٍ متأخرة. 3 - الطوارق المزعجة، والهموم المشغلة، وتقسم الأفكار، فهذا مستعجل يريد أن ينتهي من الكتاب، يقول: خلص هذا الكتاب يا شيخ! نحن الآن لنا سنوات في هذا الكتاب، وأنت لم تنتقل من الأبواب الأولى فهذه آفات الاستعجال تمنع التدرج في طلب العلم.

مراعاة الأولويات في طلب العلم

مراعاة الأولويات في طلب العلم وكذلك من أسس منهج طلب العلم: مراعاة الأولويات، قال ابن الجوزي رحمه الله: على طالب العلم أن ينظر فيما يحفظ من العلم، فإن العمر عزيز، والعلم غزير، وإن أقواماً يصرفون الزمان إلى حفظ ما غيره أولى منه، وإن كان كل العلوم حسناً، ولكن الأولى تقديم الأهم والأفضل، وأفضل ما تُشوغل به حفظ القرآن، ثم الفقه، وما بعد هذا بمنزلة تابع. وقال عن الأولويات أمام قصر العمر وكثرة العلم: فيبتدأ بالقرآن وحفظه، وينظر في تفسيره نظراً متوسطاً -لاحظ ما يقول: أريد أن أجمع تفسير الآيات من ابن كثير والبغوي والقرطبي وزاد المسير وتفسير المحيط وكتاب الشوكاني فتح القدير وأضواء البيان، لا إنما يبدأ الإنسان عندما يبدأ في التفسير بتفسير مبسط، يأخذ على سبيل المثال تفسير السعدي، وينهي تفسيراً متوسطاً كـ تفسير ابن كثير. قال: "لا يخفى عليه بذلك منه شيء". يعرف معاني كلام الله، يأتي على القرآن في تفسيرٍ متوسط لا يجمع الأقوال، فليست الآن قضية جمع أقوال، واشتغال بدقائق الأشياء التي في الآية، خذ لك تفسيراً متوسطاً على قراءة تضبطها، وأشياء من النحو وكتب السنة، ابتداءً بأصول الحديث، من حيث النقل كالصحاح والمسانيد والسنن، ومن حيث علم الحديث بعد ذلك هذا، كمعرفة الضعفاء، والأسماء، فلينظر في أصول ذلك، وقد رتب العلماء من ذلك ما يستغني به الطالب عن التعب، ولينظر في التواريخ ليعرف ما لا يستغني عنه، كنسب الرسول صلى الله عليه وسلم وأقاربه وزوجاته وما جرى له، ويأخذ فكرة عن السيرة، ثم يقبل على الفقه، فينظر في المذاهب والخلاف، وليكن اعتماده على مسائل الخلاف، فلينظر في المسألة وما تحتوي عليه، فيطلبه من مضانه، كتفسير آية وحديث ومعنى كلمة، ويتشاغل بأصول الفقه والفرائض، هذا المنهج في الجملة، لكن الأولويات في التفصيل تختلف وقال رحمه الله: ورأينا في هذا الزمان من اشتغل بالحديث جمعاً وتصحيحاً وغريباً وطرقاً، ولكنه مقصر في حفظ القرآن الكريم، وهذه الآفة انتشرت بين كثير ممن يريدون طلب العلم في هذا الزمان، فتراهم يتجهون على الحديث مباشرة، هات المصطلح تقريب التهذيب رجال الإسناد ابحث في تاريخ الوفيات، من تلاميذه ومن شيوخه؟! إذاً متصل، صحح وضعف وحقق ونشر كتباً، وهذا من أكبر الأخطاء، ولو سألته عن جزء عم، لا يجيده؛ لأن السبب هو إهمال حفظ كتاب الله. قال أبو زرعة: كتب إلي أبو ثور، فقال: فإن هذا الحديث قد رواه ثمانية وتسعون رجلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، والذي صح منه طرق يسيرة، فالتشاغل بغير ما صح يمنع التشاغل بما هو أهم، ولو اتسع العمر كان استيفاء كل الطرق في كل الأحاديث غاية الجودة، لكن العمر قصير.

تلقي العلم عن المشايخ

تلقي العلم عن المشايخ ومن الأشياء المهمة في المنهج: أن يُتلقى العلم عن شيخ ما أمكن ذلك ولابد؛ لأن هذه هي طريقة سلف الأمة وعلمائها، والشيخ الذي تتلقى عنه العلم لابد أن يكون قد تلقاه عن علماء، لهم سند موصول، ويكون حسن العقيدة، يعمل بما يعلم، ويتأسى بالسنة، هذا من ناحية منهج الشيخ. وأما الاعتماد على الكتب، والذي يظن أنه سيكون طالب علم نجيب من الكتب، فهو مخطئ، صحيح أنه قد يحصل على علم، لكن لا يكون طالب علم بالمعنى الحقيقي على الكتب، وهذه قضية اضطرارية، ربما وجد في بلد لا يوجد فيها علماء ولا مشايخ، ماذا يفعل؟ هل يقول: مادام لا يوجد علماء لا أطلب علم؟ لا، اقرأ في الكتب الميسرة، أنت في أمريكا اتصل على عالم، قل له: يا شيخ! أنا أعيش في جزيرة كلها كفرة، ماذا أفعل في طلب العلم؟ وماذا تنصحني أن اقرأ؟ يعطيك بعض الكتب اقرأ فيها، يشكل عليك شيء تتصل وتسأل، هذا المتيسر بالنسبة لك، أما من يظن أنه سيكون طالب علم حقيقي بناءً على الكتب، فهذا بالتأكيد مخطئ، وهذا شيء قد بينه أهل العلم، فقال قائلهم: يظن الغمر أن الكتب تهدي أخا فهمٍ لإدراك العلوم وما يدري الجهول بأن فيها غوامض حيَّرت عقل الفهيم إذا رمت العلوم بغير شيخ ضللت عن الصراط المستقيم وتلتبس العلوم عليك حتى تصير أضل من تُومَ الحكيم والعلماء كانوا يوصون بالأخذ عن أهل السنة، وترك أهل الرفض وأهل الاعتزال، وأهل الكلام والمتفلسفين، أو أخذ العلم عن الصحف، خذ العلم عن عالم تلقاه عن مشايخ ثني الركب تأدب بالأدب، لكن كما قلنا ونعيد: هذا الآن مع فشو الجهل في العالم الإسلامي فضلاً عن غيره، قد لا يتيسر وجود علماء، قد نسافر نعم، لكن كثيراً من الشباب لا يستطيعون السفر بسبب ارتباطهم بدراسة أو بوظيفة، إذاً: يستغل الإجازات قد يأتي العالم إلى المنطقة فيلقي دروساً، قد يكون هناك طالب علم، الأمثل فالأمثل، طويلب علم، أقران تدرس معهم وتقرأ قراءة جماعية، أما أن تعتزل وتغلق على نفسك لوحدك، فهذا يؤدي إلى أخطار في الفهم. أيها الإخوة! نحن نعيش في حالة فوضى في كل شيء، فمن ضمن التأخر والتقهقر الذي ابتلينا به: التقهقر والتأخر في العلم، منذ زمن كانت البلد مثلاً فيها حلق علم، هذه حلق للمبتدئين، وهذه حلق للمتوسطين، وهذه حلق للمتقدمين، وهذا الشيخ متخصص في المبتدئين يعلمهم الأشياء البدائية، ينتقلون إلى شيخ آخر -مثلاً- إذا صاروا في مرحلة التوسط، ثم إلى شيخ آخر في المرحلة المتقدمة، أو نفس الشيخ والعالم يكون عنده حلقة للمبتدئين، وحلقة للمتوسطين، وحلقة للمتقدمين، كان هناك تكامل في البلد نفسها، الآن على أحسن الأحوال قد يوجد في بعض البلدان أو الأماكن والمدن حلق منتشرة كثيرة، لكن ليس هناك حلق متخصصة تخرج مبتدئين إلى حلقة بعدها للمتوسطين إلى حلقة بعدها للمتقدمين مع الأسف! فلابد أن يسعى إلى إيجاد هذا، وهذا من مسئوليات أهل الاختصاص من القائمين على أمور الدعوة والعلم، والجهات المسئولة عن نشر العلم، لابد أن توجد حلق للمبتدئين، وحلق للمتوسطين، وحلق للمتقدمين. أما أن الشباب يظهرون هكذا، يأخذون قائمة حلقة المشايخ، أين نذهب اليوم؟ شرح صحيح البخاري، أين نذهب اليوم؟ تفسير. أين نذهب اليوم؟ نحو فرائض! من أولها هكذا يشتغلون، وهذا يدمر عليهم أشياء كثيرة، الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله كان له حلق للمبتدئين والمتقدمين، كان إذا رأى طالباً جاء من حلقة المبتدئين وحضر في موعد حلقة المتقدمين، فأول ما يراه يطرده، لأن وجوده هنا يضره، وذلك: أولاً: أنه لا يستطيع أن يفهم. ثانياً: قد يتباهى، ويقول: أنا حضرت مع المستوى الممتاز، وهذا يضر إخلاصه وقلبه، فلذلك يجب القضاء على الفوضويات وترتيب الدروس بناءً على المستويات، لابد أن تكون هناك منهجية في الطلب، وإحياء سنة المتقدمين.

تحذيرات منهجية عند الأخذ عن المشايخ

تحذيرات منهجية عند الأخذ عن المشايخ وبالنسبة للأخذ عن المشايخ، هناك أشياء منهجية في الأخذ عن المشايخ والتحذيرات، فمن تلك التحذيرات: أن بعض المبتدئين يريد من الشيخ أن يذكر له كل شيء من زبد وفروع ودقائق المسألة الواحدة، أول ما يقرأ يقول: أعطني كل شيء، جميع أوجه الخلاف، هات لي كل النكت والفوائد التي فيها، فهو يريد أن يكون مبتدئاً ومنتهياً في الوقت نفسه، وهذا مستحيل ومحال، وقد يطلب من الشيخ تدريس كتاب معين ليس في مستواه، يأتي مجموعة إلى الشيخ يقولون: يا شيخ! درسنا كتاباً، إما التدمرية في العقيدة، وهو ما درس الواسطية ولا الحموية، فكيف يدرس التدمرية. فبعض الناس يريدون أن يُسيروا المشايخ ويفرضوا شيئاً معيناً، ولذلك على الشيخ ألا يرضخ لهم، وأن يمتحنهم ويسألهم ويعرف مستواهم، ثم يقرر عليهم كتاباً مناسباً لهم، ولا يسير على هوى الطلاب، وإذا جاء في الفقه للمبتدئين يدرسهم مذهب واحد مع دليله، يمكن أن يذكر قول آخر إذا كان هناك قولان قويان -مثلاً- لا يستطيع الترجيح بينهما، أما أن يعطي الطلاب على هواهم، يقولون: هات لنا الأقوال، فيعطيهم الأقوال، فهذا ليس بصحيح. ومن الموضات المنتشرة الآن، وهذا قد يكون مدرك في أماكن غير أماكن في أماكن فيها كليات شرعية، وفي أماكن ليس فيها كليات شرعية، بعض الناس لا يحسوا بها لكنها موجودة، من الموضات الآن البحث عن الغرائب، ويقولون: العالم النحرير هو الذي يأتينا بشيء جديد. ولذلك بعض الشيوخ أو بعض المدرسين الدكاترة في الكليات الشرعية، يضطرون للبحث عن الغرائب حتى يجاروا هذا التوجه، وهذا خطأ، ويقولون: نحن لا نريد أن نسقط من أعين الطلاب، ولا يتركونا الطلاب، ويقول: أنا أعرف يقيناً أنهم لا يفهمون ما أقول لهم. وبعض الطلاب يجد غرائب فيذكرها لزملائه، ويذهب يجادل بها الشيوخ، هذا الأشياء الغريبة ديدن عند بعض الناس، لذته وأمنيته أن يعثر على شيء غريب، ثم يأتي ينشره بين أقرانه، يقول: قرأت كذا، وسمعت كذا، أو أنه يجادل به العلماء، ونحن نذكر تحذيره عليه الصلاة والسلام الذي حذَّر فيه من الذي يتعلم العلم ليجاري به العلماء، أو يماري به السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس إليه، هذا يكبه الله على وجه في النار. وكذلك من التنبيهات: أن بعضهم قد ينصرف عن الشيخ لبطأه وتركيزه، ويقول: ذهبنا إلى المنطقة الفلانية جلسنا عند الشيخ. يا أخي! الشيخ بطيء، فتركنا الشيخ، نأخذ أشرطة الشيخ ونسمعها كلها في ليالٍ وننهي المنهج، لابد من ثني الركب عند المشايخ، ولزوم حلق العلماء؛ لأن فيها أدب ومعرفة، وكما قلنا سابقاً: كان هناك آلاف يجلسون عند الإمام أحمد، قليل منهم يتعلمون العلم، والبقية يتعلمون الأدب، الجلسة مع الشيخ وفي حلقة العالم فيها تعليم أدب، ومع الأسف! نحن نعاني من ندرة العلماء، في منطقة ما فيها عالم واحد مع الأسف، ومع ذلك نحن نستعين بالله، والأمثل فالأمثل، وما لا يدرك كله لا يترك جله.

طالب العلم وتتبع المشاهير من المشايخ فقط

طالب العلم وتتبع المشاهير من المشايخ فقط ومن الأخطاء أيضاً في قضية المنهج في الدراسة عن المشايخ: تتبع المشاهير من المشايخ والانصراف إليهم للأخذ عنهم، مع وجود بعض المغمورين الذين قد يكونون أنفع وأسهل وأقرب وأقل زحاماً وأكثر فائدة، ولكن يترك هذا؛ لأنه مغمور مع أنه يفي بالغرض، يعلمك هذا المتن من الفرائض، هذا فلان يكفي له، لا، لابد أن أذهب إلى هذا الشيخ المشهور. أنت قد تترك المغمور وهو أسهل وأقرب، وقد يكون أكثر فائدة لك لأنه أفرغ، تستطيع أن تأخذ راحتك معه في النقاش، وتذهب إلى حلقة فلان فقط لأجل أن يقال: أنا من تلاميذ فلان، أنا درست على فلان، ولذلك تجد هؤلاء أصحاب الهوى لا يتركون فرصة صغيرة بمناسبة أو بغير مناسبة، بل يقحمون القضية إقحاماً في أي نقاش من النقاشات، يصل إلى فرصة يقول: حدثني شيخي فلان، قال شيخي فلان، درست عند شيخي فلان، مع أن ما فيها مناسبة، ولا فيها ارتباط في النقاش والحديث، لكن يقحمها إقحاماًَ، ليقول: جلست عند فلان، وبعض هؤلاء أصحاب هوى والعياذ بالله، يجلسون عند الشيخ أسبوعاً أو عشرة أيام، ثم يرحلون في الأمصار، ويقول: درست عند الشيخ فلان وفلان وفلان، وهو جلس عند هذا أسبوعاً، وهذا في الصيف جلس عنده عشرة أيام، وهذا أخذ عنه سطرين أو صفحة في كتاب، وقال: شيوخي، إليك مسرد شيوخي مرتبة على الأحرف الهجائية.

منهج دراسة الفنون المختلفة لطالب العلم

منهج دراسة الفنون المختلفة لطالب العلم وإذا جئنا إلى قضية دراسة الفنون المختلفة لطالب العلم، فقد ذكروا أن المغاربة لهم منهج، فإنهم ينهون العلوم فناً فناً، أول شيء يحفظ القرآن، وإذا انتهى منه حفظ كذا، ثم ينتقل وهكذا، ثم المتون المختلفة، فينهي متن في اللغة، ثم متن في الأصول، ومتن في المصطلح، ومتن في الفرائض، وهذه المتون يعتنون بها ويحفظونها حفظاً شديداً، ومن أشهرهم الشناقطة، وهذه طريقة أهل المغرب، يقولون: نُنهي الفنون فناً فناً، ويقولون: الذي يجمع بين علمين كالتوأم، يريد أن يخرجا معاً ولا يمكن، لابد أن يخرج أحدهما قبل الآخر، وربما لا يزيدون على بيت واحد في اليوم، هذه طريقتهم، ولو زاد ربما ضربه المعلم. أما المشارقة فإنهم يجمعون بين أكثر من علم في الوقت نفسه، مثلما حدّثوا عن النووي أنه كان يقرأ تسعة علوم في وقت واحد، أو اثنا عشر درساً في اليوم، في التفسير، والمصطلح، والأصول، والحديث، واللغة، والفرائض أنواع مختلفة من العلوم، فيكون الدرس الواحد فيه عدة علوم، هذه الطريقة قد تكون أشمل، لكن الطريقة الأولى أثبت على المدى البعيد. وعموماً فإن المسألة تختلف باختلاف الهمم والطاقات والمواهب والأحوال والبلدان وطريقة الشيخ، فإن بعض النفوس تمل، لا يمكن أن تقول: اجلس سنتين إلى أن تنهي مثلاً متن في اللغة، أو متن في الأصول، أنا أجلس سنتين في الأصول، دائماً أصول يصاب بالملل، فالطريقة تعتمد على الأحوال، وتختلف باختلاف الأحوال، الناس فيهم الملول وفيهم الصبور، وهذا بالنسبة لقضية تنوع الفنون في الطلب في وقت واحد، ولكن هناك أولويات.

الاعتناء بعلوم الآلة

الاعتناء بعلوم الآلة ومن الأمور المهمة في الأولويات: الاعتناء بعلوم الآلة، وهي العلوم التي يتوصل بها إلى فهم الشريعة، وسائل وأدوات ليست غاية في نفسها، لكنها وسيلة لفهم القرآن والسنة، مثل: اللغة العربية، ومصطلح الحديث، وأصول الفقه، وقواعد التفسير، وعلوم البلاغة والمعاني والبيان، هذه علوم الآلة. وعلوم الآلة لها مختصرات ومتون جمعها العلماء، فمثلاً: لو أخذت في اللغة العربية، ستجد مثلاً ملحة الإعراب، أو الآجرومية هذه من أشهر الأشياء التي يبدأ بها في اللغة. وإذا جئت إلى الحديث ستجد مثلاً نخبة الفكر أو البيقونية، لو جئت إلى الأصول ستجد مثلاً متن الورقات وهناك بعض الكتب جمعت هذه المتون، وطبع بعضها حديثاً، وقد جمع السيوطي رحمه الله متوناً كثيرة في كتاب النُقاية، وشرحه في كتاب الوقاية لقراء النُقاية، لكن هذا مطبوع على هامش كتاب مفتاح العلوم للسكاكي، والعقيدة فيها أيضاً أشياء في البداية. في بعض البلدان مثل اليمن متونهم في الآلة تختلف عن الجزيرة والمغرب، فإذا أخذت حلقة من حلق العلم الموجودة عند العلماء في هذه الجزيرة مثلاً، لوجدت أنهم يهتمون في البداية بمختصر آداب المشي إلى الصلاة في الفقه، والأربعين النووية في الحديث، والأصول الثلاثة في العقيدة، ثم كتاب التوحيد، وأيضاً في الفقه يبدءون بـ عمدة الفقه لـ ابن قدامة، وفي أحاديث الأحكام يبدءون بـ عمدة الأحكام لـ عبد الغني المقدسي، وفي الفرائض يبدءون بـ الرحبية، وفي اللغة العربية يبدءون بـ الآجرومية وهكذا، فهذا ملخص جدول لحلقة من حلق طلاب العلم المتخصصين في العلم في الجزيرة. وإذا أتقن طالب العلم في البداية هذه الأشياء الأصول الثلاثة، والأربعين النووية حفظاً وشرحاً، وكتاب التوحيد، وعمدة الأحكام في أحاديث الأحكام، وعمدة الفقه في الفقه، والآجرومية في اللغة، والرحبية، والورقات في أصول الفقه، فهذا قد أسس نفسه واستعد للانطلاقة الكبرى، هذا فعلاً طالب علم في بداية طريقه التي يشقها بثبات، ويسير فيها بقوة.

الأخذ من كل علم بنصيب

الأخذ من كل علم بنصيب ومن الأشياء المهمة أيضاً في المنهج: الأخذ من كل علم بنصيب دون نسيان العلوم الأخرى، كما تقول الحكمة: خذ من كل شيءٍ شيئاً، وخذ كل شيء عن شيء، ومعناها: حاول أن تأخذ معلومات في كل فن من الفنون، ثم الفن الذي تجد فيه رغبة وانشراح صدر، وهواية وقدرة. خذ من كل شيء شيئاً: أساسيات كل علم وفن، أي: إذا وجدت نفسك فيه متمكناً، أو عندك فيه رغبة، ومن شيء كل شيء ثم تخصص، وهذه من أعظم القواعد في المنهج، تأخذ أساسيات كل فن، ثم الفن الذي تجد نفسك فيه قادراً تبحر فيه. بعض الناس يتخصصون في فن وينسون كل شيء، مثلاً: الآن بعض الناس يقول لك: والله أنا لا أفهم إلا في هذا الشيء، لا تسألني عن شيء آخر، وهذا موجود، وبعضهم إذا تعلم شيئاً وتخصص في العلوم الدنيوية ينسى الأشياء الأولى، لا يفهم الآن إلا في الشيء الذي تخصص فيه، وهذا خطأ، ولم تكن هذه طريقة علمائنا أنهم يتخصصون في شيء معين، أو ليس عنده فيه أساسيات في غيره، أو أنه يتخصص في شيء وينسى الأساسيات، هذه من القضايا التي طرأت الآن على طريقة التعليم، وهذه طريقة خاطئة موجودة الآن حتى في التخصصات الدنيوية، فلو أن شخصاً متبحراً في جزئية معينة، ولا يفهم أي شيء من الأشياء الأخرى أبداً، يكون أضل من بعيره فيها. وقال ابن الجوزي معبراً عن حال هؤلاء الأشخاص الذين يتخصصون في فروعٍ معينة، وينسون الأشياء ولا يأخذون بالبدائيات والأساسيات في العلوم الأخرى، قال: ولقد أدركنا في زماننا من قرأ من اللغة أحمالاً -اللغة العربية ما شاء الله- فحضر بعض المتفقهة -حضر عنده طالب علم صغير- فسأله عن الحديث المعروف (لو طعنت في فخذها أجزأك) فقال اللغوي: هذا محمول على المبالغة، فقال له الصبي: أليس هذا في ذكاة غير المقدور عليه؟ ففكر الشيخ ساعة، ثم قال: صدقت. أي: لو تردت شاة في بئر وما ماتت، وأنت لا تستطيع أن تذبحها فماذا تفعل؟ (لو طعنت في فخذها أجزأك) الآن نحن لا نبحث المسألة الفقهية والحكم والأشياء الراجحة الآن، لكن نتكلم عن القصة: (لو طعنت في فخذها أجزأك) أي: في تذكية الشيء الذي لا يُقدر على تذكيته، ذكاة غير المقدور عليه، لا يمكن أن تمسكه لتذبحه، شرد منك، فأنت تصيبه وترميه، (لو طعنت في فخذها أجزأك). فعلم الصبي ما لم يعلمه الشيخ، فالشيخ لا يفهم إلا في اللغة. وأدركنا من قرأ الحديث ستين سنة -تخصص فقط في الحديث- فدخل عليه رجل فسأله عن مسألة في الصلاة؟ فلم يدرِ ما يقول، وأدركنا من برع في علم التفسير، فقال له رجل يوماً: إني أدركت ركعة من صلاة الجمعة فأضفت إليها أخرى فماذا تقول؟ فسبه ولامه على تخلفه ولم يدر ما الجواب. وأدركنا من برع في علوم القراءات، فكان إذا سئل عن مسألة يقول: عليك بفلان، اسأل الشيخ فلان قالوا: هذه كلها محن قبيحة، فلما رأيت في الصبا -يقول ابن الجوزي - أن كل من برع من أولئك في فن ما استقصاه، وإنما عوقته فضوله -أي: إذا برع رجل في فن، ذهب يأخذ الفضول والأطراف ويترك الأشياء الأخرى، أي: انشغل عن المهم وما بلغ الغاية- رأيت أن آخذ المهم من كل علم هو المهم. هذه عبارة جامعة. فإن من أقبح الأشياء أن يطلب المحدث علو الإسناد، وحسن التصانيف، فيقرأ المصنفات الكبار، ويطلب الأسانيد العوالي، ويكتب فيذهب العُمر ويرجع كما كان ليس عنده إلا أجزاء مصححة لا يعلم ما فيها، وقد سهر وتعب. وإذا سألته عن علمه؟ قال متندراً بحال هؤلاء: علمي يا خليلي في سفط في كراريس جياد أحكمت وبخط أي خط أي خط وإذا سألته عن مشكلٍ حك لحييه جميعاً وامتخط

عدم الجمع بين كتابين في فن واحد في وقت واحد

عدم الجمع بين كتابين في فن واحد في وقت واحد ومن الإرشادات أيضاً لطالب العلم في قضية الفنون، ألا يجمع بين كتابين في فن واحد في وقت واحد، مثلاً: لو أنك تدرس الفقه لا تدرس منار السبيل وزاد المستقنع في نفس الوقت مثلاً، لأنه يسبب التداخل في المعلومات، وصعوبة الحفظ، وصعوبة العزو في المستقبل. وقد حدثني بعض طلاب العلم الكبار الذين تناقشت معهم في قضايا هذا البحث، قال: أنا الآن جاء عليّ فترة كنت أحفظ البيقونية ونظم النخبة -نظم نخبة الفكر للصنعاني - والألفية -هذه كلها موضوعة في المصطلح- في وقت واحد، يقول: وأنا الآن إذا جاءتني مسألة في المصطلح، وأريد أن آتي بالشاهد، لا أدري أذهب إلى هذا أو إلى هذا، ثم إني إذا أتيت بشيء قد أحتار في أي مكان هذا؟ أهو في هذه المنظومة، أو في هذه أو في هذه. فإذاً: ينبغي ألاّ يقرأ أكثر من كتاب في فن واحد وفي وقت واحد.

عدم التحضير من عدة كتب لكتاب واحد يدرسه

عدم التحضير من عدة كتب لكتاب واحد يدرسه وكذلك من الإرشادات على الطالب إذا بدأ يدرس كتاباً ألا يحضر من عدة كتب، المبتدئ إذا أراد أن يدرس كتاباً في فن، لا يحضر من عدة كتب، حتى لا يُضيع نفسه، بل يحفظ المتن، وشرح الشيخ الذي يدرس عليه المتن إن كان الشيخ متقناً، وإذا ما وجدت شيخاً متقناً، تأخذ شرحاً للمختصر تضبط المتن والشرح، وتحصل على خير عظيم، وإذا أشكل عليك إشكال؛ فارجع إلى المطولات لتجد الأشياء المشكلة فقط، ولا يكون ديدناً لك. وعدم التوسع في البداية يساعد على ضبط المعلومات، وكثيراً من الطلاب إذا جاءوا يحضرون موضوعاً حضره من عدة كتب، فيحدث له تشتت. والضياع والتشتت في أنواع العلوم مما يحذر منه أيضاً، قال أبو حيان النحوي المشهور: أما صاحب تناتيف، وينظر في علوم كثيرة، فهذا لا يمكن أن يبلغ الإمامة في شيء منها، وقد قال العقلاء: ازدحام العلوم مضلة للفهوم. ولذلك تجد من بلغ الإمامة من المتقدمين في علمٍ من العلوم لا يكاد ينسب إلى غيره، فيقال: فلان النحوي، عنده أساسيات في غيره، لكن برع في هذا، فلان المحدث، فلان الفقيه، لو تسأل مثلاً: في أي شيء برع ابن قدامة؟ مثلاً: في الفقه، وغيره برع في الحديث وهكذا. فبعض الذين يريدون أن يهجموا على الفنون دفعة واحدة وهو لا يتقن أساسيات كل فن، وإنما يهجم عليها دفعة واحدة ويقول: أحضر التفسير من خمسة مراجع، وأحضر الفقه من سبعة مراجع، هذا إنسان مسكين؛ لأن الأمور ستضطرب عنده، وتختلط عليه. وإرشاد آخر أيضاً: يستحسن أن يكون هناك مرجع معين في الموضوع المعين عندك محتفظ به دائماً تعلق عليه وتزيد عليه، فمثلاً: لو قلت في الفقه: أختار منار السبيل وشرحه على عالم، وإذا ما وجدت مثلاً فهناك أشرطة للعلماء في شرحه، مثل الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله له شرح في منار السبيل وخذ مثلاً: زاد المستقنع، مع شرحه الشيخ ابن عثيمين، وغيره له شروحات كثيرة ولكن من باب التمثيل، فتأخذ كتاباً معيناً، وتأخذ عليه شرحاً، وفي المستقبل إذا حصلت إضافات، فإنك تضيفها على نفس الكتاب، تأخذ كتاباً معيناً في اللغة تكون الإضافات على هذه النسخة التي عندك، ولا تبعها بمئات الألوف، فتكون هذه عندك مرجعاً، مثلاً: كل مسألة في البيوع تفتح الكتاب تجد المتن والشرح وشرح الشيخ، وأشياء أنت قيدتها على مر الزمن.

الجمع بين الأشياء الأساسية

الجمع بين الأشياء الأساسية قضية أخرى في المنهج: لابد من الجمع بين الأشياء الأساسية، سُئل الإمام أحمد -رحمه الله- عن رجل حفظ القرآن وهو يكتب الحديث، يختلف إلى مسجد يقرأ ويقرئ، عنده شُغل في حلقة حديث يكتب الحديث، وعنده شُغل آخر في مسجد يقرأ القرآن ويقرئ الطلاب، إذا ذهب إلى المسجد ليقرأ ويقرئ؛ فاته الحديث، فإذا طلب الحديث؛ فاته المسجد والإقراء، فماذا تأمره؟ قال: بذا وبذا، فأعدت عليه السؤال مراراً، كل ذلك يجيبني جواباً واحداً: بذا وبذا، فلابد من الجمع بين الأشياء الأساسية.

إعادة العلم وحفظه

إعادة العلم وحفظه وكذلك من الأمور المهمة: إعادة العلم وحفظه، وهذا على حسب طاقات الأشخاص، ولا ينهمك الإنسان انهماكاً شديداً، لكن لابد أن يعيد ويحفظ، فمن الناس من يحمل رطلاً، ومنهم من يحمل مائة، ومنهم من يحمل عشرين، وكذلك القلوب، منهم من هو مستعد أن يحفظ صفحة بسرعة، ومنهم من يحفظ سطرين، ومنهم من يحفظ سطر، ومنهم من يحتاج إلى ثلاثة أيام ليحفظ سطراً وهكذا. هذا نصف الموضوع، ولا نستطيع الزيادة لأن الوقت قد ضاق، ولابد لنا من درس آخر لإكمال هذا، فلعله يكون هناك درس آخر إن شاء الله بعنوان: (المنهجية في طلب العلم) نكمل فيها الكلام عن قضية المنهج في طلب العلم. ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم الإخلاص والاستقامة والسداد في القول والعمل، وصلى الله على نبينا محمد.

أثر الأخلاق في نجاح الداعية

أثر الأخلاق في نجاح الداعية جاءت هذه المادة موضحة لجملة من الأخلاق التي يجب أن يكون الداعية على علم وإحاطة بها: الصبر الصدق الرحمة والشفقة التواضع الحلم اللين والرفق الكرم التعفف والزهد العفو عند المقدرة تقدير الآخرين واحترامهم الستر العطف. وقبل هذا بيِّن الشيخ ارتباط الدعوة بالأخلاق سواء كانت الدعوة خيرة أو شريرة، ثم أتبعها بذكر ثلاثة أخلاق مهمة يحتاج إليها الداعية: العلم قبل الدعوة، والرفق معها، والصبر بعدها.

ارتباط الدعوة بالأخلاق

ارتباط الدعوة بالأخلاق الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجه واستن بسنته إلى يوم الدين، هو الذي دعا إلى الله سبحانه وتعالى على هدىً وصراط مستقيم، وهو الذي قال الله له: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108] وهو الذي أمره ربه فقال له: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] وهو الذي بلغ رسالة ربه بأمانة وإخلاص، ولم يخش إلا الله سبحانه وتعالى. أيها الإخوة: إن وظيفة الدعوة إلى الله عز وجل من أشرف الوظائف وأعلاها، وقد تكلمنا سابقاً في عِظَمِ هذه المسئولية، وأننا سنسأل عنها يوم القيامة، سنسأل عن تبليغ هذا الدين، إذا كان الإسلام شرفاً للمسلم فإن هذا الشرف سيسأل عنه: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ} [الزخرف:44]. ونشهد اليوم من بعض مظاهر الفتور شيئاً من التكاسل في الدعوة إلى الله تعالى، هذا لا يصح أن يكون بحال، فكيف يقعد المسلم الذي يعلم أنه على الحق، وأنه يدين بدين الحق عن الدعوة إلى الله عز وجل؟! وكيف يترك أقرباءه وجيرانه وأصدقاءه وأهل حيه، بل وأهل بلده دون دعوة؟ بل كيف يترك الكفار الذين يستطيع الوصول إليهم، وهم منتشرون بين المسلمين بغير دعوة إلى الله عز وجل؟ حقاً إن بعض الأشياء التي تؤجج في النفس الدعوة إلى الله قد خبا نورها في نفوس الكثيرين، ولذلك نرى اليوم في ضمن ما نرى من علامات عدم الجدية في أخذ هذا الدين، والبرود الذي اعترى كثيراً من الدعاة إلى الله عز وجل: التكاسل عن الدعوة. وكذلك في بعض أوساط طلبة العلم الذين لا يبلغون ما تعلموا، مع أن الله سبحانه وتعالى قد أخذ العهد على التبيين: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران:187] كيف يتكاسل المسلم عن تبليغ الدعوة والنبي عليه الصلاة والسلام قال آمراً: (بلغوا عني ولو آية)؟ ولعل هذا الفتور الذي نعيشه له أسبابٌ، منها: الانشغال بالحياة الدنيا وزينتها، وهو الذي ألهى كثيراً من الشباب الذين عملوا في الوظائف والتجارة وغيرها عن الدعوة إلى الله عز وجل وقد كان بعضهم يوماً من الدهر شعلة نشاط يتحرك بحرقة من أجل تبليغ هذا الدين، لا يقر له قرار، ولا يهدأ له بال إلا بالاتصال بالناس ودعوتهم إلى الله عز وجل، فينبغي أن تتحرر نفوسنا من الكسل، وأن نخرج من هذه القوقعة التي حشرنا أنفسنا فيها، وأن نقوم بالدعوة إلى الله وتبليغ هذا الدين، فهذا واجب، ونأثم لو تخلفنا عن القيام به. وهذه الدعوة وظيفة الأنبياء، وهي شرفٌ ولا شك، وينبغي إعداد العدة لها، والعمل من أجل إنجاحها. والدعوة لها أساليب ووسائل ومنهج، فهي مهمة كبيرة، ونحن -أيها الإخوة! - في عصر الإقناع وتسويق الفكرة، وتسويق الفكرة أعظم من تسويق السلعة حتى عند أعداء الله، الذين يبذلون كل ما يستطيعون من أجل تسويق الأفكار، وأنت ترى جهودهم في نشر الدين النصراني أو الأفكار المنحرفة، سواء ما تقوم به الكنيسة بجميع فروعها، أو الأحزاب الضالة التي تقوم بالتخطيط والعمل الدءوب من أجل نشر تلك الأفكار والعقائد المنحرفة. وهم أسخياء كرماء، يبذلون ويضحون، ويسافرون عن أوطانهم ويتغربون من أجل نشر عقيدتهم الضالة، ويزخرفون القول، ويعلِّبون الأفكار بهذه الإطارات وهذه الزخارف التي تنطلي على كثيرٍ من ضعفاء العقيدة والعلم، ولذلك تنتشر أفكارهم بين الناس، ولا شك أن المسلم الذي رزقه الله سبحانه وتعالى فهماً في دينه، وحباً لعقيدته، سيسارع بلا شك إلى نشر هذا الدين بالدعوة إلى الله عز وجل. ولا شك -أيها الإخوة! - أن من أهم عوامل نجاح الدعية إلى الله سبحانه: الخلق الحسن، والله سبحانه قد خص آياتٍ في كتابه بحمل أخلاق عظيمة، ذكرها سبحانه في محكم تنزيله لتدل على عظمة الخُلُق. نحن نتكلم الآن في هذه الليلة عن الدعوة وعن الأخلاق، الارتباط بين الدعوة والأخلاق، كيف تنجح الدعوة بالأخلاق، ونحن نعرف أن بعض المنحرفين نشروا انحرافاتهم -كما قلنا- بحسن الخلق، لأن حسن الخلق شيءٌ يمكن أن يكون عليه حتى الكافر، ولا يمكن أن ينفك الدين عن الخلق، بل إن الخلق من صميم الدين، والله عز وجل قال في محكم تنزيله في بعض الآيات: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان:18 - 19] وقال الله تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً} [الإسراء:29] وقال: {وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً} [الإسراء:37] وقال الله: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [الفرقان:63] وقال عز وجل: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134] وقال: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إلا مَنْ ظُلِم} [النساء:148] وأمر بقوله: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:22] إلى غير ذلك من الآيات التي ذكر فيها الخلق الحسن، بل ذكرت مفردات هذا الخلق في عدد من آيات الكتاب العزيز.

أخلاق مهمة يحتاج إليها الداعية

أخلاق مهمة يحتاج إليها الداعية ولا شك أن الداعية إلى الله يحتاج إلى كم من الأخلاق في سبيل إنجاح مهمته، فإنه يحتاج إلى الحلم والرفق، واللين والصبر، والرحمة والعفو، والتواضع والإيثار، والشجاعة والأمانة، والحياء والتفاؤل، والكرم والزهد، والقصد والاعتدال وغير ذلك، ولن نستطيع أن نلم بهذه الأشياء وبأكثر منها في هذا المقام، فنأخذ بعض الأخلاق التي تعين الداعية على النجاح في دعوته. ولنعلم بادئ ذي بدء -أيها الأخوة! - أن من أهم الأشياء في الدعوة أمورٌ ثلاثة: العلم قبلها. والرفق معها. والصبر بعدها. (العلم والرفق والصبر) هذه من أهم المهمات في عالم الدعوة إلى الله، صاحب الأخلاق الحسنة قدوة بذاته، أخلاقه تدعو الناس إلى الانجذاب نحوه، إن سَمته ليجذب من حوله فيأتون إليه، وهناك تكون الفرصة للتأثير أكثر مما لو ذهب إليهم، مع أنه ينبغي أن يأتيهم، فهذا الخلق هو الذي يجذب الناس كما تجذب الأزهار النحلة، وإذا أتي الداعية فإن المهمة تسهل عليه، تأمل في قصة يوسف عليه السلام: {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:36] فإذاً اُشتهر وعُلم عندهما أن يوسف عليه السلام من المحسنين، فكيف حصل هذا التصور والانطباع عندهما بأن يوسف من المحسنين؟ يوسف عليه السلام دخل السجن متهماً بجناية شنيعة، ومن شأن البريء الذي سُجن متهماً بجناية شنيعة أن يتحطم نفسياً، لكن هذا النبي الكريم لا يمكن أن يحدث له ذلك، فإنه عبد الله تعالى في السجن وظهرت عليه سيما الصالحين، وذلك نتيجة عبادته ولا شك. دخل وعليه سيما الصالحين، وهو يعبد ربه في السجن، ولذلك قالا له: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:36] أي: إن حالتك التي رأيناها تدل على أنك من أهل الإحسان، هذا ظنهما به. ويدل على ذلك أيضاً: أن أحد الرجلين الذي خرج من السجن ورجع بعد ذلك يستفتي يوسف، قال له: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ} [يوسف:46] فإنه وصف يوسف بالصدِّيق، فلما انجذب المدعو إلى الداعية من غير أن يقول له الداعية تعال، ولكن انجذب إليه نتيجة حسن الخلق، ونتيجة التعامل الحسن، نتيجة سيما الصلاح، ونتيجة العبادة، انتهز الفرصة ليذكرهما بالتوحيد أولاً، وأن الحكم لله، وأن الشرك حرام، قبل أن يجيب مطلبهما، ويبين في كلامه أن الظلم الحادث مرده إلى الشرك بالله، لا يصلح للداعية أن يتكلم عن جزئية والأصل منخرمٌ مهدوم، لكنه مع ذلك طمأنهما بأن العلاج موجود عنده: {قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا} [يوسف:37] إنه إشاعة الثقة في نفس المدعو. ثم انتقل انتقالاً لطيفاً، الله سبحانه وتعالى أعطاه على ما قال بعض أهل التفسير العلم بما سيأكلان: {لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا} [يوسف:37] هذه معجزة أعطاها الله عز وجل ليوسف: {ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي} [يوسف:37] انتقل انتقالاً لطيفاً ليعلمهم التوحيد: {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [يوسف:37] إلى آخر الآيات.

من أخلاق الداعية

من أخلاق الداعية ولنعرج الآن على ذكر بعض الأخلاق التي يحتاج إليها الداعية إلى الله سبحانه وتعالى، فمن الأخلاق العظيمة التي يحتاج إليها الداعية:

الصبر

الصبر (الصبر): هو الخلق الذي يحتاجه الداعية حتى تنفتح له مغاليق القلوب؛ الصبر على التبليغ، والصبر على الجدال الذي سيواجهه، والرفض والعناد، الصبر على الأذى الذي قد يلحق به. النبي صلى الله عليه وسلم صبر على الخنق، خنقوه بثوب، وصبر على إلقاء سلى الجزور فوق ظهره وهو ساجدٌ عند الكعبة، وعلى وضع الشوك في طريقه، وضرب قدميه بالحجر، وعلى الاتهامات الباطلة التي اتهموه بها، وقالوا عنه: ساحر، وكاهن، وشاعر، ومجنون، وبه جِنَّة -مسه الجن- قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، ضربه قومه فأدموه، وهو يمسح الدم عن وجهه، ويقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون). قال بعض الشراح: إنه يعني نفسه صلى الله عليه وسلم، هو الذي ضربه قومه فأدموه. فإذاً الداعية لا ينجح إلا بالصبر، إنه سيواجه جحوداً وإعراضاً؛ هذا لا يفتح له الباب، وهذا لا يجيب بالهاتف، وهذا يغير الموضوع إذا أراد أن يعظه، وهذا يتهرب، والمدعو شخصٌ غير ملتزمٍ بالدين في الغالب، فلذلك هو يكذب ويخلف المواعيد، والداعية ينتظر حتى يضجر ولم يأت صاحبه بعد، ويعاود المجيء بدون فائدة، وقد يجد ألفاظاً غير مقبولة. الداعية سيواجه من المدعو بطئاً في الاستجابة، وجدلاً عظيماً، والله يقول: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً} [المزمل:10]. ولا شك أن التحلي بالصبر في هذه المواقف من أعظم الأشياء التي تسبب النجاح للداعية، أما الذي يجرب الدعوة فيكلم شخصاً فمن أول ما يجابهه بكلمة أذى يترك، هذا لا يكون له النجاح، النجاح لا يكون إلا بعد المواظبة، والمصابرة على هذه النفوس الملتوية.

الصدق

الصدق ومن الأخلاق العظيمة التي تكون سبباً مباشراً في نجاح الداعية إلى الله عز وجل: (الصدق). قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119] {رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً} [الإسراء:80]. فالداعية الصادق مع الله، الصادق مع الناس، الذي عهد عنه صدق الحديث، يرى أثر صدقه في وجهه، والنبي صلى الله عليه وسلم لما كان بعض الناس يسمع كلامه وهو يدعوهم وهم لم يروه قبل ذلك، وإنما أتوا مكة فرأوه لأول مرة، كانوا يشهدون أن وجهه ليس بوجه كذاب، ذلك لظهور أثر الصدق على وجهه صلى الله عليه وسلم وفي كلامه، فكلام الإنسان الصادق يؤثر أثراً بالغاً، ولذلك فلا بد من الحذر الشديد من الوقوع في الكذب، فإن الكذب من الأشياء التي تفقد المدعو الثقة في الداعية. وكذلك: الحذر من استخدام التورية، فإن الداعية قد يفهم التورية، أما المدعو فلا يفهمها إلا على أنها كذب، ولو أن الداعية كذب مرة واحدة فقط مع أحد المدعوين فسيكون ذلك سبباً كافياً في انفضاض هذا المدعو عنه، أذكر قصة عبَّر فيها أحد هؤلاء المدعوين عن ألمه مما حصل من شخصٍ تأثر به والتزم بسببه، فصار يتصل به من وقتٍ لآخر، فاتصل به ذات يوم بالهاتف، فكانت زوجته التي ردت، فقال: فلانٌ موجود؟ فقالت: من يريده؟ قال: قولي له فلان، فقالت: لحظة، ونسيت أن تضغط على الزر الذي يغلق الصوت، ونادت زوجها تقول: فلان يريدك، فقال لها: قولي له: نائم، فارتجت الدنيا في وجه هذا الشخص. عندما يضع الإنسان ثقته في داعية ثم يفاجأ بتصرف من مثل هذه التصرفات فلا شك من اهتزاز كل القيم التي تلقاها منه، ليس فقط موضوع الصدق، بل كل المفهومات والتصورات التي أخذها عنه سوف تهتز في نظره، وإذا لم يكن لهذا المدعو عصمة ورحمة من الله فقد ينتكس. ولذلك نحن عندما نتكلم الآن عن بعض الأخطاء من قبل بعض الدعاة فإننا نقول للمدعوين أيضاً: إن أخطاء الدعاة إلى الله عز وجل معكم ليست عذراً لكم مطلقاً في ترك اتباع الحق، إذا أخطأ داعية عليك، أو جهل أو أساء خلقه معك، فإنك لست معذوراً أبداً في تركك للحق واتباعك للطريق السوي، ولذلك فإن بعض الحوادث التي تحصل عن ترك بعض الأشخاص للالتزام بالدين نتيجة تصرف خاطئ من داعية، تنبئ أول ما تنبئ عن انحراف في عقلية المدعو؛ لأنه يربط الدين بالشخص، فإذا استقام له الشخص استقام هو على الدين، وإذا رأى شيئاً من التغير أو سوءاً في المعاملة؛ ترك الالتزام بالدين، هذه قلة عقل!! هذا إنسان ضعيف الشخصية، ضحل التفكير، لا يفرق بين الأشخاص وبين المنهج، لو كان إنساناً عاقلاً لقال: لي صوابه وأترك خطأه، آخذ مما قاله لي بشكل صحيح وأترك ما أخطأ فيه، لكن كثيراً من الناس لا يعملون بذلك، فيقول بعضهم: أنا ما علي من عقيدة فلان، وصلاة فلان هذه له، أنا علي من تعامله (الدين المعاملة). ولذلك من اضطراب الموازين عندهم: أنهم يعطون الأولوية ليس لعقيدة الشخص ولا لدينه، وإنما يعطون الأولوية لأخلاقه وتعامله، فإذا صارت أخلاق فلان من الناس عندهم عالية، وتعامله رفيعاً أحبوه، وأقبلوا عليه، ولو كان فاجراً فاسقاً كافراً مشركاً، لأن التعامل عندهم هو أهم شيء، يقولون: ما لنا ولصلاته! ما لنا ولدينه! ما لنا ولعبادته! ما لنا ولعلمه! هذه له، نحن لنا تعامله وأخلاقه، هذه التي نحن نستفيد منها. فالناس مع الأسف -أيها الإخوة! - وهذه نقطة في غاية الأهمية- الناس لا يهتمون بأخذ العلم والدين والأحكام الشرعية، مثلما يهتمون بقضية التعامل والأخلاق، ولذلك يحبون بعض الكفار أكثر من بعض المسلمين، يقولون: هذا الكافر رأينا منه صدق الوعد والحديث، والكرم، لا يؤذينا، ولا يأكل حقنا، ويعطينا الراتب كاملاً، والمستحقات المالية، فهذا أحب إلينا من المسلم الذي يغلظ علينا بالقول، وربما ظلمنا، ويخلف المواعيد معنا. لو كانت المقارنة فقط في الأخلاق، فقالوا: خلق هذا أحسن من خلق هذا لكان فيه شيء من الصواب، لكنهم يقولون: فلان أحسن من فلان، مع أن هذا مشرك وهذا مسلم، هذا كافر وهذا موحد، لكن عندهم أن التعامل هو الأساس وهو كل شيء. فلا بد من تصحيح هذا المفهوم الخطير والخاطئ والآثم، الموجود في النفوس، ولا يحملنك -يا أخي! - غلظة داعية، أو شدته في القول، أو سوء أسلوبه أن ترفض الحق الذي يقدمه لك؛ لأننا نهتم بالمضمون أكثر من الأسلوب، هذا ما ينبغي أن نكون عليه نحن، أن نهتم بالمضمون أكثر من الأسلوب، وإلا فلنتبع دين النصارى لأن بعض المبشرين كرماء، يعطون الدواء مجاناً، ورعاية الحامل مجاناً، والتطبيب مجاناً، والغذاء المتكامل مجاناً، والإسعافات الأولية مجاناً، ويبنون لنا مساكن مجاناً في بعض البلدان، إذا كانت المسألة مسألة تعامل فلنتبع إذاً الضال والمشرك والمنحرف لأن تعامله راقٍ، وأخلاقه حسنة، وهذا الكلام قلَّ من يفهمه في هذا الزمان بسبب أن الناس يهتمون بالشكليات أكثر من المضمون. ونحن لا نسقط الشكليات من الاعتبار، ولا نقول إن التعامل والأخلاق ليست مهمة، بل إن كل الموضوع الذي نطرحه في هذه الليلة هو تأكيد على قضية الأخلاق وأهميتها في نجاح الداعية، لكن الكلام الآن موجه إلى المدعو، فنقول له: لو أن فلاناً أخطأ معك في الأسلوب أو التعامل فلا يدفعك ذلك إلى كرهه وبغضه، وإلقاء كل ما يقول لك من العلم خلف ظهرك لأنه أساء إليك بكلمة، أو أخلف معك موعداً، أو ظلمك في حقٍ لم يعطه لك، بل لا بد أن نتحمل الأذية في سبيل أن نأخذ العلم والدين. وقلَّ من نجد من الناس الكمَّل، فالكمَّل قليلون جداً، لا بد لكل شخص أن تجد عليه مآخذ، فإذا كنا سنترك ما عند فلان من الخير، وما عند فلان من العلم، وما عند فلان من النصيحة من أجل شيءٍ من الغلظة، أو شيءٍ من الجفاء، أو شيءٍ من الشدة في الأسلوب، فإننا في هذه الحالة سنخسر كثيراً جداً. ونقول أيها الإخوة: إن صدق الداعية مع الله قبل أن يكون مع المدعو من أهم عوامل النجاح، لا يكفي أن تكون صادقاً في حديثك معه، وأن تكون منضبطاً في المواعيد، وإذا وعدته بشيء لم تخلف وعدك، وأديت ما وعدته به إليه، نقول: إن هذا ليس بكافٍ، فإن الصدق مع الله هو الأساس؛ لأن بعض التصنعات لا تنطلي على بعض الناس، فيرضون الشخص وإن كان في الظاهر ذا تعاملٍ مستقيم، بسبب أن النفس لا ترتاح وتثق بمن علاقته بالله مهزوزة.

الرحمة والشفقة

الرحمة والشفقة وننتقل إلى الخلق الثالث من الأخلاق المهمة جداً في الدعوة إلى الله عز وجل: وهو خلق (الرحمة والشفقة) قال الله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] فانظروا رحمكم الله إلى هذا الخلق، خلق الرحمة في نبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} [التوبة:128] كم مرة صعد إلى ربه؟ ينزل ويصعد إلى الله، من أجل أن يطلب التخفيف عن الأمة في عدد الصلوات، حتى صارت خمساً بدلاً من خمسين. أقرأه جبريل القرآن بحرف، فاستزاده عليه الصلاة والسلام إلى أن صارت سبعة أحرف، من أجل ألا تشق القراءة على الأمة. وكم مرة يدعو الله عز وجل لأمته، وقد اختبأ دعوة لأجل أمته إلى يوم القيامة، عندما يكون الناس بأشد الحاجة، حاجتهم ماسة، يتمنون أن ينفكوا من أرض المحشر، يتمنون أن ينفكوا من هذا الموقف العصيب ولو إلى النار، فتدركهم شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم التي يأذن له بها ربه فيبدأ الحساب. هذا النبي الكريم، كل شيءٍ يشق علينا فهو شاقٌ عليه، ولذلك جاءت شريعته بالرحمة والتخفيف في عدد من الأشياء؛ التيمم، الذي لم يكن معروفاً في الأمم السابقة، وهو موجودٌ في شرعنا؛ أدركتنا رحمة الله في تقسيم الغنائم فصارت حلالاً لنا: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً} [الأنفال:69] وكانت محرمة على من قبلنا، تنزل نار من السماء لتأكلها؛ والمسح على الخفين؛ أي مكان أدركتك الصلاة فيه فصل: (جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) وهذا من خصائص هذه الأمة إلى آخر الرخص التي جاءت في هذه الشريعة. الرحمة من أخلاق الداعية المهمة، كانت مع كل نبي؛ لأن كل نبي كان داعية في قومه، كان الأنبياء يقول الواحد منهم لقومه: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأحقاف:21] يخاف عليهم العذاب العظيم، وخوفه عليهم نتيجة رحمته بهم، نتيجة الرحمة الموجودة في نفس النبي، والشفقة الموجودة في نفس الرسول، هي التي تجعله يخشى على قومه عذاب يومٍ عظيم فينطلق في دعوته، ولو ضربوه ولو أدموه لكنه مستمرٌ في الدعوة، إنها الرحمة التي كانت في قلب النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو قومه إلى الله لما طردوه، آذوه فلم يستفق إلا وهو في قرن الثعالب: (انطلقت مهموماً على وجهي) النبي عليه الصلاة والسلام ما كان يدري أين يتوجه، انطلق مهموماً على وجهه من شدة ما لقي من الأذى، لم يستفق ويرجع إلى نفسه، ولم يعرف أين هو إلا وقد صار في قرن الثعالب، وهو موضع بعيد، وأرسل الله إليه ملك الجبال يأتمر بأمره صلى الله عليه وسلم ماذا يريد، لو أراد أن يطبق على أهل مكة الجبلين لأطبقهما وارتاح النبي عليه الصلاة والسلام من هذه العصبة الكافرة الفاجرة المعاندة التي تعذبه وتسومه وأصحابه أشد العذاب، لكن هل كان النبي عليه الصلاة والسلام يريد أن يرتاح فقط؟ لا. كان يريد الخير لهؤلاء المشركين والرحمة: (إني لأرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله) كان يمكن أن يكتفي بمن معه من هؤلاء القلة المؤمنة الذين استجابوا ويأمر ملك الجبال بإطباق الجبلين على أهل مكة، لكن رحمته بقومه أبت ذلك، وشفقته عليهم رفضت هذا العرض الذي عرضه عليه ملك الجبال، إن الرحمة في قلب الداعية تدفعه للحرص على المدعو ألا يبقى ضالاً، أو يموت على الفجور أو المعصية، أو يترك على بدعة، أو يهلك على الكفر: {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} [مريم:44 - 45] شفقة من الداعية إبراهيم على أبيه المدعو. الداعية يحب للآخرين ما يحب لنفسه، فهو إذا كان على هدى، وإذا كان على عبادة فهو يريد من المجتمع ومن الناس الآخرين أن يكونوا على هذه العبادة، بل وعلى أحسن منها، فالرحمة تهون على الداعي ما يصيبه من أذى الناس. أيضاً: فإنه إذا أصيب بالأذى ربما يترك الدعوة، لكن هو الراحم بالعباد وبالخلق الذين يدعوهم إلى الله، يتحمل أذاهم ولسان حاله يقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون. وكذلك الرحمة في قلب الداعية تمنعه من احتقار العصاة، فيبادلونه الاحتقار، أو يرفضون كلامه، فهو يكلمهم بلسان الرحيم بهم المشفق عليهم، وهذا من أسباب الاستجابة.

التواضع

التواضع وكذلك فإن من الأخلاق العظيمة التي يحتاج إليها الداعية: (التواضع) فهو من أسباب النجاح في الدعوة، التواضع لله أولاً قبل أن يكون للخلق، التواضع لله سبحانه وتعالى والذل له عز وجل، إنه معنىً رفيع من معاني العبودية، والنبي صلى الله عليه وسلم إمام المتواضعين، حج على رحل رثٍ وعليه قطيفة لا تساوي أربعة دراهم، وكان يقول في حجته: (اللهم اجعله حجاً لا رياء فيه ولا سمعة) وكان أصحابه لا يقومون له لما يعلمون من كراهيته لذلك، وقال صلى الله عليه وسلم: (لو أهدي إلي كراعٌ لقبلت، ولو دعيت عليه لأجبت) هذا العظم الذي ليس عليه إلا قليلٌ من اللحم يجيب الدعوة إليه، وكان عليه الصلاة والسلام يخيط ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه، وكان يمر بالصبيان فيسلم عليهم، ويأكل بأصابعه: (آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد). وكان يبدأ بالسلام، ويعود المريض، وكانت الأمة تأخذ به صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيثما شاءت، وهكذا كان أصحابه الدعاة إلى الله عز وجل، قال عروة: [رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه على عاتقه قربة ماء]، وولي أبو هريرة إمارة فكان يحمل حزمة من الحطب على ظهره ويقول [طرقوا للأمير] ومر الحسن على صبيانٍ معهم كسر خبزٍ فاستضافوه فنزل فأكل معهم، ثم حملهم إلى منزله فأطعمهم وكساهم، وقال: " اليد لهم " يعني: هم أصحاب الفضل، هم بدءوا، إنهم لا يجدون شيئاً غير ما أطعموني ونحن نجد أكثر منه، وقال رجاء بن حيوة: قيمة ثياب ابن عبد العزيز رضي الله عنه وهو يخطب على المنبر باثني عشر درهماً، فالتواضع الذي يلمسه المدعو من الداعية يُكسبه حباً له، وقبولاً لكلامه. وهذا التواضع ضروري لأن من طبيعة الناس أنهم لا يقبلون قول من يستطيل عليهم، ويحتقرهم، ويستصغرهم، ويتكبر عليهم، ولو كان ما يقوله حقاً وصدقاً، فهم يغلقون قلوبهم دون كلامه ووعظه وإرشاده. ومن طبائع الناس أنهم لا يحبون من يكثر الحديث عن نفسه، والثناء عليها، ويكثر من قولة (أنا)، فعلى الداعية أن يحذر من هذا أشد الحذر. وكذلك فإن من طبع الناس النفور من كل من يتقعر في كلامه، ويتفاصح، ويتكلف، ويتنطع، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (هلك المتنطعون) وقال: (إن الله يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه كما تخلل البقرة) كيف أن البقرة تخرج لسانها، وتلويه وتخفيه، وتظهره وتعيده وتبديه، هكذا يفعل بعض الناس. مما يكون عيباً كبيراً أن يوجد هذا عند داعية، ويكون سداً منيعاً يحول دون تأثر المدعوين به: (إن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلساً يوم القيامة الثرثارون، المتشدقون، المتفيهقون) الفكرة سهلة العرض مقبولة في عقول المدعوين، وكثيرٌ من الناس يكون عندهم بلاغة وأسلوب، لكن لا يتأثر بهم القوم، وبعض الناس ضعفاء ويتكلمون باللهجة العامية مع الأشخاص، يستجيب لهم الناس بسرعة، هذا يتكلف وهذا لا يتكلف، وليست المسألة دعوة للعامية وإلى ترك الفصحى، لا. القضية: ترك التكلف والاصطناع، وأن يكون الداعية متواضعاً حتى في أسلوبه الذي يدعو به. لماذا يكون بعض الدعاة من حملة الشهادات العليا خطباء مفوهون ولكن الناس من حولهم منفضون، وآخرون ليس عندهم شهادات، ولا عندهم تلك الفصاحة التي عند أولئك، وهم مع ذلك مقبولون محبوبون بين الناس، المسألة مسألة تواضع.

الحلم

الحلم ومن الأخلاق المهمة أيضاً التي يحتاج إليها الداعية: (الحلم): قال الله تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34] هذه طريقة علمنا الله إياها للتخلص من العداوات، أي واحد بينك وبينه عداوة وجفاء، افعل معه ما قال الله تزل منك العداوة: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت:34] أي: قابل إساءته بالإحسان، إذا ترك السلام فسلِّم عليه، ضيَّق عليك في المجلس وسِّع له إذا جاء، منعك حقك أعطه حقه، أغلظ لك في الكلام ألن له الكلام، سبَّك أثن عليه. {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت:34] ادفع السيئة بالحسنة، فإذا فعلت ذلك صار هذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليٌ حميم أي: أخلص الناس لك، وأقرب الناس إليك، يحبك أكثر من الآخرين. وليٌ حميم: يناصرك ويعضدك، ويقوم معك في الشدائد، ولي: صار ولياً لك، حميم: قرابة شديدة بينك وبينه. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأسر بحلمه القلوب، ويرغم أنوف أناسٍ تعمدوا الإغلاظ له حتى يصيروا طوع أمره ينزلون عند دعوته، وقد حفلت السيرة النبوية بأمثلة كثيرة، فمن ذلك ما جاء عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: (كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم وعليه بردٌ نجرانيٌ غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجذبه بردائه جذبة شديدة حتى نظرت صفحة عاتق النبي صلى الله عليه وسلم قد أثرت به حاشية الرداء من شدة جذبته، ثم قال: يا محمد! مر لي من مال الله الذي عندك -لا يوجد: يا رسول الله! أو يا نبي الله! هكذا يا محمد! فقط- فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك ثم أمر له بعطاء) أعطاه الضحك وأعطاه المال، وأظهر له رضاه عنه بضحكه، وأنه ما أخذ في نفسه ولا وجد في نفسه عليه، حتى العبوس مع أنه أقل ما يفعله بعضنا في هذه الحالة، بل إنه على العكس من ذلك ابتسم له، بل ضحك في وجهه، ثم أمر له بعطاء صلى الله عليه وسلم. وكذلك جاءه زيد بن سعنة -وكان يهودياً- جاء إليه صلى الله عليه وسلم يطلبه ديناً له عليه فأخذ بمجامع قميصه، يهودي جاء إلى مجلس النبي عليه الصلاة والسلام فأخذ بمجامع قميصه وردائه وجذبه، وأغلظ له القول ونظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم بوجه غليظ، وقال: يا محمد! ألا تقضيني حقي، إنكم يا بني عبد المطلب! قومٌ مطلٌ وشدد له في القول، فنظر إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعيناه تدوران في رأسه كالفلك المستدير، عمر يرى هذا المنظر، قال: يا عدو الله! أتقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما أسمع، وتفعل ما أرى، فوالذي بعثه بالحق لولا ما أحاذر لومه لضربت بسيفي رأسك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى عمر في سكون وتؤدة وتبسم، ثم قال: (أنا وهو يا عمر! كنا أحوج إلى غير هذا منك: أن تأمرني بحسن الأداء، وتأمره بحسن التقاضي، اذهب به يا عمر! فاقضه حقه وزده عشرين صاعاً من تمرٍ) فكان هذا الموقف سبباً في إسلام هذا الرجل. ساق ابن حجر رحمه الله القصة في الإصابة وقال عن الإسناد: رجال موثقون، والوليد قد صرح بالتحديث، وقال الهيثمي: رواه الطبراني ورجاله ثقات. النبي صلى الله عليه وسلم كان من علاماته أنه لا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً، والداعية معرض للأذى من المدعو لا شك في ذلك، فإذا كان حليماً فبادل المدعو بغلظته حلماً عليه، كان ذلك سبباً في أسر قلب المدعو ودخول الدعوة، وإيتاء الدعوة ثمارها مع هذا الرجل. خرج زين العابدين بن علي بن الحسين رضي الله عنهم إلى المسجد، فسبه رجلٌ في الطريق، فقصده غلمان زين العابدين ليضربوه ويؤدبوه فنهاهم، وقال لهم: كفوا أيديكم عنه، ثم التفت إلى ذلك الرجل، وقال: يا هذا! أنا أكثر مما تقول، وما لا تعرفه عني أكثر مما عرفته، فإن كان لك حاجة في ذكره -يعني ذكر معايبي- ذكرته لك، فخجل الرجل واستحيا، فخلع زين العابدين قميصه له، وأمر له بألف درهم، فانصرف الرجل وهو يقول: أشهد أن هذا ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

اللين والرفق

اللين والرفق ومما يتبع هذا الخلق خلقٌ آخر وهو: (اللين والرفق): قال الله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] فاللين في التعليم مُجْدٍ جداً، وفي الإنكار مفيدٌ للغاية، ويؤتي ثماره وأُكله، وهكذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع الأعرابي الذي بال في المسجد، فإنه كان معه في غاية اللين والرفق، وهكذا فعل مع الصحابي الآخر الذي تكلم في الصلاة وشمَّت العاطس. فاللين والرفق من خلقه عليه الصلاة والسلام، وهو من الأخلاق العالية التي تُنجح الداعية في مسعاه، وهذا مثال في الدعوة: مر رجلٌ على صلة بن أشيم وقد أسبل إزاره، فَهَمَّ أصحاب صلة أن يأخذوه بشدة، فقال: دعوني أنا أكفيكم، فقال صلة بن أشيم للرجل: يا بن أخي! إن لي إليك حاجة! قال: وما حاجتك يا عمي؟ قال: أحب أن ترفع من إزارك، فقال: نعم وكرامة، فرفع إزاره، فقال صلة لأصحابه: لو قرعتموه لقال: لا ولا كرامة ولشتمكم. فالنفوس مجبولة على محبة من يرفق بها ويحسن إليها. ومن العلماء المعاصرين الذين اشتهروا باللين والرفق وحسن الخلق علامة القصيم الشيخ عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي رحمه الله تعالى وجعل الجنة مأواه ومثواه، ونفعنا بعلومه، هذا الرجل كان من خلقه شيء عجيب، يعرفه من عاصره وعايشه، وكان من رفقه أنه يتحاشى وضع العاصي في الموقف المحرج. كان له شخص بينه وبينه معرفة، وهذا الإنسان كان مدخناً، لكنه لا يدخن بحضرة الشيخ، بل إنه يتحاشى جداً أن يطلع الشيخ منه على مثل هذا الأمر، وكان هناك طريقٌ ضيق -سكة ضيقة- دخل الشيخ مرة فيها يمر عابراً، وهذا الآخر قد أتى من الناحية الأخرى، وكلٌ منهما لا يدري أن الآخر قد سلك في هذه السكة الضيقة التي لا مجال فيها للف ولا الدوران، وكان هذا الرجل يدخن والدخان في يده، ويقترب كل واحدٍ منهما من الآخر حتى ما صار بينهما إلا متر، ففوجئ الرجل بالشيخ، وفوجئ الشيخ بالرجل والدخان في فيه، يقول: إنني ألقيت السلام وأغلقت فمي والدخان يخرج من أنفي، وأنا في غاية الدهشة والاضطراب من الشيخ، فماذا فعل؟ يقول: ما نظر إلي أبداً، رد السلام ومشى ولا كأنه يعرفني، وبعد ذلك تكلم الشيخ في مناسبة أخرى. الداعية لا يترك المنكر لكن إذا استطاع أن يوصل النصيحة إلى المدعو بدون إحراجه فهذا أمرٌ مطلوب، واشتكي إلى الشيخ عن رجلٍ يتعدى على النساء في الليل ويقول بعض الألفاظ المشينة، وهو لا يظهر في الصلاة إلا قليلاً، فلقيه الشيخ مرة في الطريق، فقال له الشيخ: العزومة إما عندي أو عندك، إما آتيك أو تأتيني، فقال الآخر: عندي، فقال الشيخ: نحتكم أو يكون بيننا الحكم أن الأقرب بيته هو الذي تكون فيه الدعوة، فحسبوها فوجدوا بيت الشيخ أقرب، فجاءه فأكرمه الشيخ في منزله وألان له الكلام، وأحسن ضيافته، ثم قال له: أنت يا فلان! من عائلة كبيرة ومحترمة ومعروفة، ولكن شاعت عنك إشاعات، وأرجو أنها ليست بصحيحة، وصار من أمرك أنك لو لم تفعل خطأ وحصل شيء في البلد، قالوا: فلان هو الذي فعله، ولو أنك ما فعلته اتهمك الناس على سمعتك، فقام الرجل واعتذر، وقال: ما تركت المسجد بعدها، وتركت الخروج بالليل. وصار يتحاشا ويستحي ويحذر أن يبلغ الشيخ عنه أي خبرٍ سيء. ونصح مرة تاركاً لصلاة الفجر في الجماعة على انفراد فما تركها بعد ذلك، وكان من حسن خلقه، ومن حسن تعليمه، أنه سمع مرة صاحب حمار يجر عربة، رجل عنده عربه يجرها حمار، فوقف الحمار في الطريق واستعصى على صاحبه، والحمار حمار، ورفض أن يواصل الطريق، وصاحبه يضربه وينهره بدون فائدة، ثم صرخ الرجل، قال: ألا يوجد واحد من أولاد الحرام يمشي لي هذا الحمار، وكان الشيخ ماراً فسمعه يقول هذه الكلمة (ألا يوجد واحد من أولاد الحرام يمشي لي هذا الحمار) فقال الشيخ: بل في من أولاد الحلال من يمشيه إن شاء الله، ثم قبض الشيخ بيده على ركبة الحمار وجذبه إلى الأمام فمشى الحمار، فاندهش الرجل، وقال: سبحان الله يا شيخ! حتى الحمير يستجيبون لك. وبعض هؤلاء المشايخ -الحقيقة- والقضاة الذين مروا في هذه الجزيرة لم يكتب تاريخهم، وليس لهم مصنفات ولا أشرطة ولا محاضرات، وكانوا على خلقٍ عظيمٍ وعلمٍ وافر، لكن ما سارت بأخبارهم الركبان، إنما الذي يجلس مع بعض كبار السن، وبعض تلاميذ العلماء يسمع عجباً من أخبار ينقل مثلها في الكتب عن أخلاق السلف. على أية حال: فإن الرفق بالناس وحسن الخلق دائماً يكون من مفاتيح القلوب المستغلقة، يقول الأستاذ سيد رحمه الله: عندما نلمس الجانب الطيب لنفوس الناس نجد أن هناك خيراً كثيراً قد لا تراه العيون أول وهلة -يتكلم عن بعض من خبره في الدعوة- شيء من العطف على أخطائهم وحماقاتهم، شيءٌ من الود الحقيقي لهم، شيءٌ من العناية باهتماماتهم وهمومهم ثم ينكشف لك النبع الخيِّر في نفوسهم، حين يمنحونك حبهم ومودتهم وثقتهم، في مقابل القليل الذي أعطيتهم إياه من نفسك، متى أعطيتهم إياه في صدقٍ وصفاء وإخلاصٍ، هذه الثمرة الحلوة إنما تتكشف لمن يستطيع أن يشعر الناس بالأمن من جانبه، بالثقة من مودته، بالعطف الحقيقي على آلامهم وعلى أخطائهم وحماقتهم، وشيءٌ من سعة الصدر في أول الأمر كفيلٌ بتحقيق ذلك أكثر مما يتوقع الكثيرون. وصحيح أن اللين والرفق مهم؛ لكن هذا لا يعني أنك تتنازل عن أشياء من الدين، وتسكت إذا انتهكت حرمات الله، ولا تنبس ببنت شفةٍ إذا استهزئ بشيء من دين الله، كلا. وبعض الناس يحتجون باللين على طول الخط بقصة موسى مع فرعون، وهم يأخذون جزءاً من القصة ويتركون أشياء، أليس في قوله تعالى: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:43 - 44] دليل على اللين والرفق في الدعوة؟ بلى فيها. لكن هل كان موسى على طول الخط ليناً ورفيقاً مع فرعون؟ لا. كان معه ليناً في البداية؛ لأنه يُبدأ في اللين لا بالعنف، لماذا العنف ويمكن البداية باللين؟ فإذاً اللين والرفق في البداية، إذا حصل أن الشخص تمادى وصار يقع في دين الله، ويستهزئ بشرع الله، وينتهك حرمات الله، فهل يبقى الإنسان رفيقاً وليناً على طول الخط؟ لا. ولذلك يؤخذ الموقف الآخر من الآيات الأخرى، قال الله عز وجل: {فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى * قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} [طه:60 - 61] فالشدة في الموعظة مهمة أيضاً، ليست قضية الرفق واللين فقط، لما قال فرعون: {إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراً} [الإسراء:101]، قال موسى: {وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً} [الإسراء:102]. وصحيح أن اللين والرفق هو الذي يُبدأ به، وهو الغالب، وإذا ما اضطررنا لغيره لا نستخدم إلا هو، لكن في بعض الحالات لا بد من الشدة فيها على من يستحق الشدة، النبي عليه الصلاة والسلام قال لقريش في بعض المواقف: (جئتكم بالذبح)، ولما قال فرعون لموسى: {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ * وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الشعراء:18 - 19] قال موسى: {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء:20] قبل أن يهديني الله: {فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ * وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائيلَ} [الشعراء:21 - 22] أهذه نعمة تمن بها علي؟ أطعمت واحداً من بني إسرائيل فقط وجعلته عندك وآويته، ثم ذبحت رجال قومه، وسبيت نساء قومه، أهذه نعمة؟ {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائيلَ} [الشعراء:22] {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ * وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} [غافر:26 - 27] على أية حال: فإن اللين والرفق مهم يبدأ به ولا يعدل عنه إلا للحاجة.

الكرم

الكرم ومن الأخلاق التي تكون سبباً في نجاح الداعية إلى الله عز وجل، ومن عوامل نجاحه: (الكرم) أن تعطي، أن تهب، أن تهدي، تغدق على المدعو، تضيفه، تكرمه، تعينه، تبذل له، فإن الكرم من مفاتيح القلوب المستغلقة. جاء في صحيح مسلم عن أنس: (أنه صلى الله عليه وسلم جاءه رجل فأعطاه غنماً بين جبلين، فرجع إلى قومه فقال: أسلموا فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفقر) وروى مسلم رحمه الله في صحيحه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا غزوة الفتح ثم خرج صلى الله عليه وسلم بمن معه من المسلمين، فاقتتلوا بـ حنين فنصر الله دينه والمسلمين، وأعطى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ صفوان بن أمية وحده مائة من الغنم، ثم مائة، ثم مائة -ثلاثمائة- قال صفوان: والله لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إلي، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي) كان يعطي مائة من الإبل، وكم تساوي مائة من الإبل؟! وكان يقول عليه الصلاة والسلام: (يا سعد! إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه خشية أن يكبه الله في النار) يعطيهم ليتألف قلوبهم حتى لا يدخلوا النار، يعطيهم ويستنقذهم بكرمه صلى الله عليه وسلم، ويترك أصحابه فقراء محتاجين من أجل هؤلاء الناس ألا يكبهم الله في النار: (إني لأعطي الرجل والذي أدع أحب إلي من الذي أعطيه، ولكن أعطي أقواماً أرى في قلوبهم من الجزع والهلع، وأكل أقواماً إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير). والهدية أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أنها من أسباب المحبة، فما أحسن أن يفتتح الداعية علاقته بمدعوٍ بهديةٍ يتألف بها قلبه، ويتحبب بها إليه. إذا أردت قضاء الحاج من أحدٍ قدم لنجواك ما أحببت من سبب إن الهدايا لها حظٌ إذا وردت أحظى من الإذن عن الوالد الحدب ولكن ليس معنى هذا أن يسرف الداعية، فبعض الدعاة يقول: نريد أن نكرم مدعواً، فيسرف في الطعام، وربما رُمي الطعام، أو هؤلاء الذين يأخذون بعض المدعوين إلى مطاعم الخمس نجوم، وأماكن اختلاط، هذا ليس كرماً، بل هذه معصية. فنقول: لا يمكن أن تأخذه إلى أماكن فسق وتقول: أنا أكرمه، الإكرام حسب الشريعة، الإكرام بموافقة الشرع، لو تغدق عليه المئات والألوف تكون محسناً، ولكن أن تجلبه إلى مكان المعصية، أو أنك تسرف، فإن الله لا يرضى ذلك ولا يحب المسرفين.

التعفف والزهد

التعفف والزهد وفي مقابل الكرم يجب على الداعية أن يكون على خلقٍ عظيمٍ جداً ومؤثر للغاية، وهو خلق (التعفف والزهد) التعفف والتجرد عن المطامع، وهذا الكلام مهمٌ بالنسبة للدعاة الذين يقولون: إننا نريد أن ندعو علية القوم والأغنياء والوجهاء، يقولون: هؤلاء لو استقام الواحد منهم فإنه ينفع المسلمين نفعاً كبيراً. نقول: إن الذي يحتك بهذه الطبقة من الناس -التجار والوجهاء- ويريد أن يدعوهم عليه أن يهتم بهذا الخلق غاية الاهتمام، وهو خلق التعفف والزهد، لأن من توجه إليه الدعوة إذا رأى أن الداعية ينافسه فيما آتاه الله؛ فإنه سيشك في إخلاصه، فلا بد أن يوضح الداعية أنه ليس طالب جاه ولا منصب، ولا رائد ثروة ولا مال. قيل لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: يقال إنك تريد الملك؟ يقال: إنك بسيرتك وأعمالك هذه تريد أن تصل في النهاية إلى الإمساك بزمام الأمور، تريد الملك؟ فقال في دهشة وقوة: أنا أريد الملك؟!! والله إن ملك التتر لا يساوي عندي درهماً. ومن المواقف التي حفظها التاريخ الحديث، موقف الشيخ سعيد الحلبي وهو من الأساتذة المربين في القرن الماضي، كان يلقي درساً في جامع من جوامع دمشق، فجاء إبراهيم باشا وكان من الظلمة، وكان حاكم سورية في وقته، وكان معروفاً بالقسوة والعنف، فدخل المسجد ووقف عند الباب، وكان الشيخ يشكو ألماً في رجله وكان ماداً رجله إلى الأمام؛ لأنه كان مستنداً إلى جدار المحراب فدخل إبراهيم باشا ومعه العسكر والشرطة، فانتظر أن يقبض الشيخ رجله احتراماً للوالي ولكن الشيخ لم يفعل، فخاف أصحابه عليه من السيف، وقبضوا ثيابهم لكيلا يصيبها دمه، وبقي إبراهيم باشا واقفاً والشيخ لم يغير من جلسته، ثم رجع وأرسل بعد ذلك صرة فيها دنانير ذهبية مع أحد الخدم، وقال له: تقدم إلى سيدنا الشيخ سعيد الحلبي، وقل له: هذه هدية من إبراهيم باشا، فلما جاء الخادم إلى الشيخ وأعطاه الصرة، قال له الشيخ كلمة بليغة: قل لسيدك: إن الذي يمد رجله لا يمد يده. وذهب أحد العلماء الصالحين ليشتري حاجة من دكان، فلما جاء إلى الدكان وسام السلعة، لم يكن البائع يعرفه، فقام أحد الموجودين بتعريف الشيخ وقال: هذا فلان العالم العامل، فعندما سمع العالم بذلك ولَّى هارباً فناداه البائع إلى أين يا سيدي؟ فقال: أريد يا أخي أن أشتري بمالي لا بديني. ولما ذهب بعض الدعاة إلى بعض القرى للدعوة، لقوا إعراضاً وامتهاناً من بعض أهل القرية، لماذا؟ لأنهم ظنوهم مثل بعض الشحاذين، الذين كانوا يأتون للوعظ ثم يسألون الناس بعد الموعظة، وهذا منكر لو حصل في أي مسجد، ومن فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله منع هؤلاء الذين يعظون للتسول. فأقول: إن الناس إذا لمسوا أن الداعية عنده أي مطمع دنيوي؛ أو رغبة مادية بما في أيدهم، فإنه يسقط من أعينهم تلقائياً -مباشرة- بل إن عمرو بن عبيد المعتزلي المبتدع بلغ من قلب أبي جعفر المنصور مبلغاً، ونال إعجابه بهذا المسلك وهو التعفف عما في أيدي السلاطين، حتى قال المنصور لبعض من عنده: كلكم يمشي الرويد كلكم طالب صيد غير عمرو بن عبيد فعلى الداعية إلى الله أن ينتبه من استخدام أغراض الآخرين، أو طلب الأشياء منهم، أو أن يمد يده فيطلب منهم أمراً من الأمور، وقد لا يكون الطلب حراماً، لكن من جهة الداعية لا يصلح أن يطلب من المدعو في موقف الدعوة، رأى داعية صاحبه ذاهباً، فقال: إلى أين؟ قال: إلى فلان -أحد المتفوقين دراسياً- منها دعوة ومنها يشرح لي. وقفة: لا مانع أن يكون دخول الداعية على مدعو عبر شرح درسٍ له، ويظهر له أنه يحتاج إلى شرحه، لكن المانع إذا أحس المدعو أن الداعي يريد أن يستغله ويستفيد منه لأمرٍ شخصي، فهل يا ترى تؤثر فيه الدعوة وكلمات الداعية؟! ولذلك على الداعية أن يكون منتبهاً جداً إلى هذه القضية، وألا يطلب من المدعو شيئاً إلا نادراً، أو لمصلحة واضحة، ففكِّر إذاً قبل أن تطلب منه حاجة، أو تأخذ منه سيارة ونحو ذلك، فكر بأثر ذلك عليه، وأجِّلْ هذا فإنه سيأتيك بما معه لو أن الله قذف في قلبه نور الإيمان، الشاهد: التعفف عما في أيدي المدعوين ولو كان مغرياً، فإن الدنيا مغريات.

العفو عند المقدرة

العفو عند المقدرة ومن الأخلاق المهمة: (العفو عند المقدرة) فإن الداعية قد يؤذى ويستطيع أن ينتقم ويرد، لكن إذا عفا عند المقدرة، كان عفوه بالغ الأثر في نفس من يدعوه، فيستجيب له، أو ربما لا تحصل استجابة فورية في كثير من الأحيان، لكن يكون ذلك الموقف نقطة إيجابية في قلب المدعو تدخر للمستقبل، فنقطة معها منه أو من غيره، وهكذا حتى يصبح قلب المدعو أبيض مستنيراً بنور الإسلام. ماذا حصل لـ خبيب بن عدي رضي الله عنه لما أخذ أسيراً؟ قالت بنت الحارث وكانت مشركة في مكة سجن في بيتها، سجنوه ليقتلوه، وضعوه في بيتها في مكان يشبه أن يكون حصيناً لسجْنه، فحين سجنوه استعار من بنت الحارث موسى لكي يستحد بها، فقد كان حريصاً على تطبيق السنة وهو في الأسر، فأعارته، قالت بنت الحارث: فأخذ ابنٌ لي وأنا غافلة حتى أتاه -ولد صغير حبى ومشى حتى أتى خبيباً، دخل على غفلة مني- فالتفت فوجدته قد أجلسه على فخذه والموس في يده، قالت: ففزعت فزعة عرفها خبيب في وجهي، فقال: تخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذلك، ثم قالت -مع أنه محكوم عليه بالإعدام، وهذه فرصة لينتقم- والله ما رأيت أسيراً قط خيراً من خبيب، والله لقد وجدته يوماً يأكل من قطف عنبٍ في يده وإنه لموثوق في الحديد وما بـ مكة ثمر. ليس في مكة عنب وفي يده قطفٌ من عنب يأكل منه، وهذه من باب كرامات الأولياء.

تقدير الآخرين واحترامهم

تقدير الآخرين واحترامهم ومن الأمور المهمة أيضاً في أخلاق الداعية: (تقدير الآخرين واحترامهم) وخصوصاً كبار السن، وهذا له أثرٌ كبيرٌ على استجابتهم، النبي عليه الصلاة والسلام لما أُسر ثمامة وربط في المسجد كان يمر عليه كل يوم ويسأله سؤالاً واحداً فقط، مع إكرام الأسير بطبيعة الحال، وقد أطلقوا ثمامة في اليوم الثالث، فلما أطلق ذهب إلى مكان فتوضأ، ورجع وأعلن إسلامه، ليقول للنبي عليه الصلاة والسلام: ما كان وجهٌ أبغض إلي من وجهك فأصبح أحب الوجوه إلي، ما كان بلدٌ أبغض إلي من بلدك حتى أصبح أحب البلاد إلي، ما كان دينٌ أبغض إلي من دينك فأصبح دينك أحب الدين إلي. وكان عليه الصلاة والسلام يكرم أسياد القوم ويجلسهم عن يمينه، ويقول: (أنزلوا الناس منازلهم)، وعند موته أوصى عليه الصلاة والسلام بوصايا مهمة منها: (أجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزه) وعلى ذلك سار أصحابه من تقدير واحترام الآخرين. لما جاء عدي بن حاتم إلى عمر وجعل عمر يدعوهم رجلاً رجلاً، يسميهم: يا فلان بن فلان، يا فلان بن فلان، وفود تأتي عمر وعمر يدعوهم واحداً واحداً، قال عدي: [أما تعرفني يا أمير المؤمنين؟ -لأن عدياً كان سيداً في قومه- قال عمر رضي الله عنه: بلى. أسلمت إذ كفروا، وأقبلت إذ أدبروا، ووفيت إذ غدروا، وعرفت إذ أنكروا، فقال: عديٌ، فلا أبالي إذاً] يعني إذا كنت تعرف قدري فلا أبالي أنك لم تدعني باسمي ولم تخصني.

الستر

الستر ومن الأخلاق المهمة: (الستر) فإن الداعية يطَّلع على معاصٍ من المدعو، فينبغي عليه ألا يشهر به، وإنما يكون بحلمه وعلمه ستيراً يستر عليه ما رآه من السوء ولا يشهر به، وهذا الستر يكون من الأمور التي تجذب المدعو، فعندما يرى أن الداعية يستر عليه ولا يشهر به، عند ذلك يستجيب، ويكون له بالغ الأثر. وقد وردت قصة عن يزيد بن الأصم، قال: كان رجلاً من أهل الشام ذا بأس، وكان يفد إلى عمر بن الخطاب، ففقده عمر، فقال: [ما فعل فلان؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين! يتابع في هذا الشراب- وقع المسكين في بلية شرب الخمر- قال: فدعا عمر كاتبه، وقال: اكتب: من عمر بن الخطاب إلى فلان بن فلان: سلامٌ عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [غافر:3] ثم قال لأصحابه: ادعوا لأخيكم أن يقبل بقلبه، وأن يتوب الله عليه، فلما بلغ الرجل كتاب عمر جعل يقرأه ويردده، ويقول: غافر الذنب، وقابل التوب، شديد العقاب، قد حذرني عقوبته -يعني: حذرني الله عقوبته- ووعدني أن يغفر لي] رواه ابن أبي حاتم بإسنادٍ فيه مقبول، ورواه أبو معين من حديث جعفر بن برقان وزاد: [فلم يزل يرددها الرجل على نفسه ثم بكى، ثم نزع فأحسن النزع فلما بلغ عمر خبره، قال: هكذا فاصنعوا، إذا رأيتم أخاكم زل زلة فسددوه ووثقوه، وادعوا الله له أن يتوب عليه، ولا تكونوا أعواناً للشيطان عليه].

العطف

العطف وأخيراً وليس هذا آخراً: ولا يذكر في الأخلاق، لكن نختم الكلام بخلق: (العطف) الذي هو تابعٌ للرحمة، فمما ينبغي أن يكون الداعية عليه في مواقف من المدعو، تفهُّم مشكلاته، ومواساته، إظهار العطف والحنان، والمدعو لا يخلو من مصيبة، أو شيء من همٍ، أو حزنٍ، أو مرضٍ، أو موتِ قريبٍ، أو دينٍ، أو رسوب في دراسة، أو طرد من وظيفة، في هذه الحالة يكون العطف والشفقة من الأشياء التي تفتح طريقاً واسعاً إلى قلب المدعو، والأذكياء من الدعاة ينتهزون هذه الفرص، ويأتون بالعطف والحنان اللازم. ولكن هذا العطف -أيها الإخوة! - ليس من هذه العواطف الهوجاء الشخصية، التي يربط بها بعض الدعاة المخطئون في أساليبهم بعض المدعوين، يربطه بشخصيته ويجعل العلاقة علاقة عاطفية، ليس فيها كلام الله ورسوله، ولا موعظة، ولا تذكير بآخرة، وإنما قضايا من أنواع العلاقات التي هي من جنس التعلق المذموم. فنقول: هذه علاقة مدمرة لا تهدي الشخص، وإنما قد تنقله من معصية إلى شيء أخطر من المعصية، وقد يقلد الداعية في بعض الأشياء لا من باب القناعة الشرعية، لكن من باب هذا التعلق الذي جعله هذا الداعية بشكلٍ خاطئ في قلب هذا المدعو، ولذلك فاحذروا -يا أيها الدعاة! - من أن تربطوا المدعوين بكم بروابط عاطفية خاطئة، وإنما يكون لديكم من العطف والحنان، ما تبدونه للمريض والمحزون، والمهموم والمغموم، والمصاب بالمصيبة، تكون العلاقة مبنية على الشريعة، لا على الأهواء الشخصية. وفقني الله وإياكم للدعوة إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة، ونسأله سبحانه وتعالى أن يجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، وأن يغفر لنا ذنوبنا أجمعين، وصلى الله على نبينا محمد.

الأسئلة

الأسئلة

أولويات الدعوة في أوساط المبتدعة

أولويات الدعوة في أوساط المبتدعة Q كيف أتعامل مع من يكون في وسط يعج بالمنكرات والبدع، من بدع الصوفية والسحرة والكهان وتصديقهم وغير ذلك؟ A الداعية الذي في مثل هذه الأوساط لا بد أن يركز على التوحيد أولاً، ولأن المدعوين يختلفون، فقد يكون المدعو عقيدته سليمة لكن عنده فجور، قد يكون من أهل الزنا، قد يكون من أهل الفواحش؛ من أهل الخمور، من أهل الربا، قد يكون كذاباً، فالإنسان يشتغل معه بتقوية إيمانه وربطه بالله تعالى، ويتكلم عن الكبائر، لكن إذا كان هذا الوسط مليئاً بالسحر والكهانة والشعوذة، والصوفيات الشركية، فإنه لا بد أن يركز ولا يتكلم الآن عن قضية الكبائر، وإنما يبدأ بالكلام عن التوحيد، وتقرير التوحيد والتوسع فيه، وربما لو كان مع غيره لاختصر وجاء بأمور أخرى تتعلق بالكبائر أو المعاصي.

ليس على الداعية إلا التبليغ

ليس على الداعية إلا التبليغ Q وقفت عند إشارة مرور ووجدت شخصاً بسيارته ومعه زملاء رافعاً صوت المسجل وموجودٌ فيه شريط غناء، فأشرت إليه وطلبت منه إنزال الزجاج الذي بيني وبينه فلم ينزله، فرميت عليه شريطاً لأحد الدعاة، وقال لي: ما هذا، قلت: اسمعه، وقال: لماذا؟ قلت: اسمعه، قال لي: لماذا؟ قلت: لوجه الله، فرماه في الشارع وذهب جهدي، ما هو خطئي؟ A لا يلزم أن يكون عندك خطأ، إنما لم يكتب الله له أن يستفيد من هذا، فأنت فعلت ما عليك وأنكرت وأعطيته البديل، ثم هو لم يستجب، كثير من الناس يخطئون، يظنون أن الأجر لا يحصل للداعية إلا إذا استجاب المدعو، وهذا خطأ، الأجر حاصل للداعية ومكتوبٌ إن شاء الله إذا قام بالدعوة، استجاب الناس أو لم يستجيبوا: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} [البقرة:272] وبعض الناس يتصور من الحديث: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم) أنه ما يحصل الأجر إلا إذا اهتدى الشخص، لا. له أجر على التبليغ، وأجر على الاهتداء، وهذه مسألة من الله، فالأجر موجود على الدعوة والتبليغ، ولو لم يستجب الناس.

وجوب تحمل الداعية لعداوة الناس للدعوة

وجوب تحمل الداعية لعداوة الناس للدعوة Q كيف الطريقة تجاه من كان على خطأ وعملت على نصحه، وتبين خطؤه بكل وضوح، ولكن وجد منه الصدود وعدم الاكتراث، بل أصبحت كالعدو بالنسبة له، وهذا غير ما يعمل علي بأن يجعلني نكتة في المجلس، عملت على تجنبه وعدم نصحه مرة أخرى فهل أكون آثماً؟ A لا ينبغي أن يصدنا عدوان الناس عن نصحهم، وإلا لترك نوح الدعوة منذ أول سنة وما انتظر تسعمائة وخمسين عاماً، ولكنه استمر على نصحهم ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً، تسعمائة وخمسين عاماً يدعوهم إلى الله عز وجل. ولا تقل يا أخي: عملت على تجنبه وعدم نصحه مرة أخرى، اعمل على اللين معه ونصحه مرة أخرى، ثم إن بعض الدعاة لا تكون علاقاتهم مع بعض المدعوين إلا الانتقاد، إذا جاء موضع المنكر أنكر عليه، فقط هذه العلاقة، إذا جاء موضع الخطأ خطأه، أين الصداقة التي إذا عقدتها معه صار ذلك من أسباب استجابته؟ أين العشرة الحسنة؟ أين الكلام الآخر غير قضية الإنكار والتخطئة؟ ألا يوجد كلام آخر بينك وبينه يلطف الجو؟ تصبح العلاقة إنكاراً وتخطئة؟ نقول: هذا قصور، ينبغي أن يتدارك.

صدقة نقية من نفس تقية

صدقة نقية من نفس تقية الصدقة تطفئ غضب الرب كما يطفئ الماء النار، وقد حث الشرع على الصدقة وجعل لها آداباً وشروطاً. هذا ما تناوله درس الشيخ إضافة إلى الكثير من الأحكام الخاصة بالصدقة، مع ذكر حرص الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة على البذل والإنفاق في سبيل الله.

آداب الصدقة

آداب الصدقة الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي أمرنا في كتابه بالصدقة ودعانا إليها وحثنا عليها، فقال: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:262] وصلى الله وسلم على نبينا محمد الذي أمرنا بالصدقة وحثنا عليها، فقال في خطبته: (أما بعد: فإن الله أنزل في كتابه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [النساء:1] إلى آخر الآية، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر:18] إلى قوله تعالى: {هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر:20] ثم قال عليه الصلاة والسلام: تصدقوا قبل أن تصدقوا؛ تصدق رجل من ديناره، تصدق رجل من درهمه، تصدق رجل من بره، تصدق من تمره، من شعيره، لا تحقرن شيئاً من الصدقة ولو بشق تمرة) رواه مسلم. حديثنا أيها الإخوة! عن "صدقة نقية من نفس تقية". ما هي آداب الصدقة؟ ما هي شروطها؟ ما هي مجالات الصدقة؟ ما هي بعض الأحكام المتعلقة بالصدقة؟ أما آداب الصدقة: فإن الله سبحانه وتعالى يقول في آدابها وشروطها، وما يتقبل منها: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:262]، وقال عز وجل: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:274]، وقال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة:245]، وقال سبحانه: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد:11]. هذه الدعوة من الله {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} [الحديد:11] إذا علم المقرض أن المقترض مليء غني ووفي ومحسن؛ كان ذلك أدفع له للصدقة، وأطيب لقلبه ولسماحة نفسه إذا علم المقرض أن الذي اقترض منه مليء، فهذا يدفعه إلى الصدقة إذا علم أن الذي يقترض منه يتاجر له فيها، وينميها له، ويثمرها حتى تصير أضعافاً مما كانت قبل سيكون بالقرض أسمح وأسمح، فإذا علم أن المقترض مع ذلك سيزيده من فضله ويعطيه أجراً آخر غير القرض الذي اقترضه، ليس فقط يرده إليه ويضاعفه وينميه وإنما سيعطيه شيئاً إضافياً عليه، لا شك أنه سيكون في ثقة وضمان، وأنه سيندفع إليها أكثر وأكثر، والله سبحانه وتعالى هنا قد أخبر: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} [الحديد:11] من المقترض؟ الله. هذه منة منه سبحانه وتعالى على عباده: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} [الحديد:11] ينميه ويثمره الغني ثم يعطيه، بالإضافة إلى ذلك أجر آخر غير أجر الصدقة {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد:11] غير الصدقة له أجر كريم. والله عز وجل قد بيَّن لنا في هذه الآيات -التي سبق ذكرها- آداب الصدقة: أولاً: أن تكون من مالٍ طيب لا رديء ولا خبيث. ثانياً: أن تخرج طيبةً بها نفس المتصدق يبتغي بها مرضات الله. ثالثاً: ألا يمن بها ولا يؤذي. قال سبحانه: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ)) [البقرة:262]، ((الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلانِيَةً} [البقرة: 274]، {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} [الحديد:18]. فتأمل يا أخي المسلم هذه الآداب الثلاثة: الأول: يتعلق بالمال أن يكون طيباً. الثاني: يتعلق بالمنفق بينه وبين الله، أن يكون مبتغياً مرضات الله طيبةً بها نفسه. الثالث: شيء يتعلق بينه وبين الآخذ، وهو ألا يمن ولا يؤذي.

مضاعفة أجر المتصدق

مضاعفة أجر المتصدِّق قال الله سبحانه وتعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:261]، فالله عز وجل بين صورة المضاعفة هنا، فقال: {كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ} [البقرة:261] سنابل من جموع الكثرة، ومع أنها سبع، لكنه قال: (سَنَابِلَ) استعمل جموع الكثرة، وفي قصة يوسف قال: {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ} [يوسف:43] سنبلات من جموع القلة، فاستعمل في السبع هنا في الرؤيا جمع القلة؛ لأنه لا مبرر للتكثير مع أنه سبع هنا وسبع هناك، لكن في السبع التي في آية الصدقة، قال عز وجل: {أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ} [البقرة:261] جمع كثرة {فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} [البقرة:261] لأن المقام مقام تكثير وتضعيف، فالسبع في مائة سبعمائة، وغير السبعمائة أضعاف كثيرة فوق السبعمائة. وقال الله سبحانه وتعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ} [البقرة:261] ما هو المشبه؟ {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ} [البقرة:261] شبهوا بأي شيء؟ ما هو المشبه به؟ الحبة. إذاً: شبه المنفق بالحبة، مع أن المثل فيه منفق ونفقة وباذر وبذرة، فاختار المنفق من الشق الأول، والبذرة من الشق الثاني، واختار من كل شقٍ من المثل أهمه، مع أنه هنا يوجد منفق ونفقة، لكن المهم هو المنفق {يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله} [البقرة:261] واختار هنالك البذرة؛ لأنها هي التي تنمو وتكثر، ولا يهم من الذي بذرها بالنسبة للمثل، فاختصره وجاء به في غاية البلاغة.

عدم اتباع الصدقة بالمن والأذى

عدم اتباع الصدقة بالمنِّ والأذى قال الله عز وجل: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:262] فهذا يبين القرض الحسن، وهو: أن تنفق أموالك في سبيل الله ثم لا تتبع ما أنفقت مناً ولا أذى، لأن عدم اتباعها بالمن والأذى يصيره قرضاً حسناً، والمن والأذى أنواع: النوع الأول: ما يكون بالقلب دون اللسان، يشعر الإنسان لما أعطى أنه منَّ على فلان لكنه ما جهر بذلك، صحيح أن هذا لا يبطل الصدقة لكنه لا يصيرها في المكان العالي والدرجة الرفيعة. النوع الثاني: المن باللسان، فيعتدي على من أحسن إليه ويريه أنه قد صنع إليه معروفاً عظيماً وأنه طوقه منة في عنقه، فيقول له: أما أعطيتك كذا، أما تذكر كذا، أو أن يقول له: أعطيتك ولكن لا يوجد فائدة! ما رأيت منك شيئاً، أو أعطيتك فما شكرت، حتى أن بعض السلف قال: "إذا أعطيت رجلاً شيئاً ورأيت أن سلامك يثقل عليه فكف سلامك عنه". وكان من كلام بعض السلف: "إذا اصطنعتم صنيعة فانسوها". إذا عملت معروفاً فانساه، "وإذا أسديت لكم صنيعة فلا تنسوها". ولذلك أخبر الله سبحانه وتعالى أن من صفات القرض الحسن عدم المن لا بالقلب ولا باللسان. وأما الأذى فإنه كثير أيضاً، والمن هو أذى فأكده، وهو نوع خاص من أنواع الأذى، ولا شك أنه إذا منّ عليه فإنه يؤذيه، قال الله: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ} [البقرة:262] ثم: تقتضي التراخي، لم يقل: ولا يتبعون، أي: ليس عدم المن فقط عند الإعطاء؛ لكن لا تمن ولو بعد الصدقة لمدة طويلة، ولذلك قال: {ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ} [البقرة:262] فالمن يحصل ولو بعد سنين من الصدقة؛ لأن بعض الناس عندما يعطي -مثلاً- لله ونفسه طيبة وقد يكون بعد موعظة، لكن بعد أسابيع أو أشهر أو سنين قد يأتيه الشيطان ويلعب في ذهنه أو قلبه، فيدفعه إلى أن يذكر الفقير أو الشخص الذي منَّ عليه، يقول: أما تذكر أني أعطيتك قبل سنوات كذا وكذا وكذا، أما تذكر أني أسديت لك كذا وكذا، ولذلك قال تعالى: {ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ} [البقرة:262] أي: على التراخي ليس فقط عند الإعطاء وحتى بعده، وهذا من بلاغة القرآن ومن مجال التدبر فيه الذي أمرنا به.

السر والعلن في الصدقة

السر والعلن في الصدقة قال سبحانه: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلانِيَةً} [البقرة:274] أيضاً النفقة تكون متتابعة بالليل والنهار، سراً وعلانية، فصدقة السر لها ميزان، وصدقة العلانية لها أحوال تكون أفضل، كما إذا كان يشجع غيره ويدفعه للصدقة، وإلا فإن الأصل أن تكون خفية حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، وصدقة السر تطفئ غضب الرب. ولا شك أن الذي يقول قولاً معروفاً: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً} [البقرة:263]. لأن القول المعروف صدقة، والمغفرة أن تغفر للناس ما أخطئوا عليك صدقة؛ هذه صدقتان خير من نفقة وصدقة يتبعها أذى فتكون باطلة. إذاً: حسنتان أحسن من حسنة باطلة، ولا نريد صدقة بالمنة مهما بلغت، ولو كان الإنسان لا يوجد عنده ما يتصدق به {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ} [البقرة:263] تصدق حذيفة بدية أبيه على المسلمين حين قتل أبوه في غزوة أحد بسبب ما حصل من اختلاط الأمور، فتصدق على المسلمين بديته. وكان بعض السلف يتصدق على من آذاه واغتابه في عرضه. وقد ختم الله سبحانه وتعالى الآية بقوله: {وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} [البقرة:263] أي: إذا كنتم ستمنون؛ فالله غني عنكم، وإذا كنتم ستئوبون وترجعون؛ فالله حليم لا يعاجل بالعقوبة، ويمهل عبده حتى يئوب إليه ويرجع، والله غني لا يحتاج إلى صدقاتكم فنفعها عائدٌ عليكم أنتم.

الرياء في الصدقة

الرياء في الصدقة ولقد بين الله عز وجل مثلاً لمن يرائي في الصدقة فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ} [البقرة:264] هذا الصخر الصلب {عَلَيْهِ تُرَابٌ} [البقرة:264] عليه طبقة من تراب {فَأَصَابَهُ وَابِلٌ} [البقرة:264] أصابه مطر شديد، ماذا سيحصل للتراب الذي على الصخر الأصم الصلب؟ هل سينبت؟! لا. وإنما سيزول، والمطر يغسل هذا الصخر من التراب، فكأنه لا مكان للبذل أصلاً ولا لخروج شيء {فَتَرَكَهُ صَلْداً} [البقرة:264] أملس كما كان قبل أن يكون عليه تراب {لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:264]. فإذاً: هذا معنى أن المن والأذى يحبط الصدقة. فقلب المرائي مثل الصخر لا ينبت شيئاً ولا ينبت خيراً، كما أن هذه الصخرة التي عليها التراب لم تنبت شيئاً، ما كان عليه إلا قليل من الغبار، شبه ما علق به من أثر الصدقة بالغبار، والوابل الذي أزال ذلك التراب عن الحجر هذا هو المن الذي أذهب أثر الصدقة وأزالها، بخلاف الذي ينفق ابتغاء وجه الله، يقول الله في شأنه: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة:265] الذي ينفق أمواله إخلاصاً لله وتصديقاً بموعود الله وتثبيتاً من نفسه وهو صدقه في البذل والعطاء لا شك أنه في هذه الحالة يكون حاله كمثل جنة -بستان- بربوة، أي: على مكان مرتفع، فإن البستان إذا صار في مكان مرتفع، في طريق الهواء والرياح تسطع عليه الشمس وقت طلوعها واستوائها وغروبها، ويكون الثمر أنضج وأحسن وأطيب ولا شك في ذلك، بخلاف الثمار التي تنشأ دائماً في الظلال، ولذلك قال في الزيتونة: {شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} [النور:35] أي: معتدلة في الوسط، الشمس تأتي عليها في جميع الأوقات {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ} [النور:35] فهذا أنفس الزيتون، وأنفس الأشجار ما تكون بهذه الصفة، فهذه الجنة التي بهذا المرتفع المتعرضة للشمس إذا أصابها الوابل والمطر الشديد آتت أكلها ضعفين؛ أعطت البركة أخرج ثمرتها ضعفي ما يثمر غيرها {فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ} [البقرة:265] إذا ما أصباها وابل {فَطَلٌّ} وهو دون الوابل الرش الخفيف؛ هذا يكفي لإنباتها أيضاً، لكن إنباتاً دون الإنبات الأول، فهذا مثل ضربه الله سبحانه وتعالى للسابق بالخيرات والمقتصد المقتصد صاحب الطل، والسابق بالخيرات صاحب الوابل. إذاً: هذا مثل المرائي ومثل الذي ينفق إخلاصاً لله سبحانه وتعالى. ثم إن الله عز وجل ضرب مثلاً آخر في سورة البقرة التي فيها هذه الأمثال العظيمة حاثاً عباده على أن تكون صدقاتهم خالصة له عز وجل، قال: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [البقرة:266] هذا الشخص تعلق قلبه بهذه الجنة من نواحي كثيرة: أولاً: أن فيها أعناب ونخيل، وهي من أنفس الثمار. ثانياً: أن هذا البستان يجري من تحته الأنهار. ثالثاً: أنه ليس فقط فيها أعناب ونخيل، وإنما فيها من كل الثمرات. رابعاً: أن هذه الجنة التي فيها أشرف أنواع الثمار التي يؤخذ منها: القوت، والغذاء، والدواء، والشراب، والفاكهة، والحلو والحامض التي تؤكل رطباً ويابسةً، أي: النخيل والعنب؛ هذه صفاتها، وبالإضافة إلى كل الثمرات؛ فإن هذا الرجل قد كبر سنه، ولا شك أن الإنسان إذا كبر سنه لا يقدر على الكسب والتجارة ويحتاج إلى الأشياء التي لها مدخولات ثابتة كالمزارع والعقار، ولذلك أصابه الكبر، فهو يحتاج إليها حاجة شديدة الآن، وكذلك فإن هذا الرجل إذا كبر سنه اشتد حرصه فتعلق قلبه بها أكثر، فإن الإنسان يهرم ويشب معه حب المال والحرص. وكذلك فإن هذا الرجل له ذرية؛ والذي له ذرية يحب أن يحفظ أمواله حتى يبقيها للذرية والأولاد، وبالإضافة إلى ذلك فإن هؤلاء الذرية ليسوا كباراً وإنما هم ضعفاء، وإذا كانت الذرية ضعفاء؛ فسيكون حرصه على هذا المال أكثر؛ لأن الذرية ضعفاء صغار لا يستطيعون الكسب، وكذلك فإنه هو الذي ينفق عليهم لضعفهم وعجزهم، كيف تكون مصيبة هذا الرجل إذا أصبح يوماً فرأى أن جنته قد احترقت بإعصارٍ فيه نار فاحترقت وصارت رماداً، كيف تكون وقع المصيبة عليه؟! هذا الرجل مثله مثل رجل عمل أعمالاً في الدنيا لكن برياء ومنّ وأذى، فجاء يوم القيامة وهو أحوج ما يكون إلى ثواب الأعمال؛ لأن أمامه النار والهلاك والدمار، فرأى أنه لا شيء له ألبتة؛ لأنها كلها ذهبت بالرياء والمن والأذى، فهذا مثل ضربه الله سبحانه وتعالى والله يضرب الأمثال للناس لعلهم يعقلون، وهذا مثل قلّ من يعقله من الناس، فكل واحد تسول له نفسه إحراق أعماله الصالحة بالرياء، فليتأمل هذا المثل، وليعرف أيضاً عظم المصيبة التي تنزل عليه عندما يدخل في موضوع الرياء أو يدخل الرياء في أعماله.

حث الشريعة على الصدقة

حث الشريعة على الصدقة أما بالنسبة للصدقة: فإن الصدقة لا شك أنها من الأشياء التي حثَّت عليها الشريعة، والتي كان النبي عليه الصلاة والسلام يدخلها في دعوته، حتى إن هرقل لما سأل أبا سفيان عن دعوة النبي عليه الصلاة والسلام أخبره أنه يأمر بالصلاة، والصدقة، والعفاف، والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، حتى إن هرقل قال: هذه صفة نبي. والصدقة منة من الله، ولذلك قال الصحابة: والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا فمن وفقه الله للدين الذي يوعز له بالصدقة؛ فإنه من الله حتى لو تصدقنا نحن، فالمنة لله؛ فالذي وفقنا إليها ومكننا منها، ورزقنا ما نتصدق به هو الله سبحانه وتعالى. ثم إن الصدقة لها باب خاص في الجنة، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أنفق زوجين في سبيل الله -من أي شيء- نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله، هذا خير؛ ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: فمن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة) المكثر من الصدقة يدعى من باب الصدقة. نقول: الزكاة واجبة، والصلاة واجبة، والصيام واجب، لكن المكثر من صيام النافلة يُدعى من باب الريان، والمكثر من صلاة النافلة يدعى من باب الصلاة، والمكثر من صدقة النافلة بالإضافة إلى الزكاة يدعى من باب الصدقة. والله سبحانه وتعالى أمرنا أن ننفق من الطيبات، فقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [البقرة:267]، وقد عنون البخاري رحمه الله على هذه الآية، باب: صدقة الكسب والتجارة. إذاً: إذا كان الكسب طيباً؛ تكون الصدقة عظيمة، وأطيب الكسب ما عمله الإنسان بيده، قال صلى الله عليه وسلم: (كل بيع مبرور) والزراعة، والتجارة الحلال كل هذه مغانم {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً} [الأنفال:69] لا تتنازل به المرأة للرجل {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} [النساء:4]. الأبواب التي يحصل بها الناس على الأموال كثيرة؛ كلما كانت أطيب وأبعد عن الشبهة؛ كان الإنفاق منها أحسن وأجود وأكثر أجراً.

حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على الصدقة

حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على الصدقة كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على الصدقة، مسارعاً إليها، فقد روى البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه: عن عقبة بن حارث، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم العصر فأسرع، ثم دخل البيت، فلم يلبث أن خرج، فقلت، أو قيل له -أي: عن سبب هذا الإسراع- فقال: كنت خلّفت في بيتي تبراً من الصدقة، فكرهت أن أبيته فقسمته) أراد أن يتخلص من هذا الذهب الباقي. وقال النبي صلى الله عليه وسلم حاثاً على الإسراع فيها: (تصدقوا؛ فإنه يأتي عليكم زمانٌ يمشي الرجل بصدقته فلا يجد من يقبلها، يقول الرجل المعطى: لو جئت بها بالأمس لقبلتها، فأما اليوم فلا حاجة لي بها) هذا في بعض الأزمنة يسود الرخاء، فلا يأخذ الناس الصدقات. وكذلك حث النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة قبل أن يأتي الموت، فقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا رسول الله، أي الصدقة أعظم أجراً؟ قال: أن تصدق وأنت صحيحٌ شحيحٌ تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تمهل -لا تؤجل- حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان: كذا وكذا، ولفلان: كذا وقد كان لفلان) إذا بلغت الروح الحلقوم صار المال من حق الورثة، وتعينت أنصبتهم ومقاديرهم وصار المال لهم، الآن إذا بلغت الروح الحلقوم قلت: أعطوا هذا وأعطوا هذا وأنفقوا هنا وهناك، خير الصدقة أن تتصدق وأنت صحيح لست مريضاً ولا على فراش الموت، شحيح، أي: تخشى الفقر وتأمل الغنى، ويكون فيك حرص على المال، ومع ذلك تنفق في سبيل الله سبحانه وتعالى.

حرص الصحابة على الصدقة

حرص الصحابة على الصدقة كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حريصين كل الحرص على الصدقة، حتى أن أحدهم كان إذا ما وجد مالاً يتصدق به؛ يذهب إلى السوق يشتغل حمالاً لكي يتصدق من الأجرة. قال البخاري رحمه الله في كتاب الإجارة، باب: من أجر نفسه ليحمل على ظهره ثم تصدق به وأجرة الحمال. وقال أبو مسعود الأنصاري: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمرنا بالصدقة انطلق أحدنا إلى السوق فيحامل -يعمل حمال- فيصيب المد -أجرة الحمال- لكي يتصدق به، ثم قال أبو مسعود الأنصاري رضي الله عنه: وإن لبعضهم لمائة ألف -أي: بعد الفتوحات- ما تراه إلا نفسه). أي: أنه قصد نفسه، كان يذهب إلى السوق ويعمل حمالاً ويتصدق وهو اليوم فتح عليه ما فتح وصار له مائة ألف. وينبغي على الإنسان المتصدق أن يراقب وجه الله، ولا يبالي بمن يتكلم عليه من الناس، فالمنافقون تكلموا على المتصدقين من المؤمنين، ففي حديث أبي مسعود المتقدم (لما نزلت آية الصدقة كنا نحامل، فجاء رجل فتصدق بشيء كثير، فقال المنافقون: مرائي، وجاء رجل وتصدق بصاع؛ شيء قليل، فقالوا: إن الله لغني عن صاع هذا، فنزلت: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ} [التوبة:79] يعني: المتطوعين {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} [التوبة:79] سخر الله من هؤلاء المنافقين. كان الصحابة رضوان الله عليهم يسارعون في الصدقة رجالاً ونساءً، ولما حثهم الرسول عليه الصلاة والسلام على الصدقة جاء رجلٌ بصرة كادت كفه أن تعجز عنها بل قد عجزت. وتتابع الناس بالصدقات، وجهز عثمان جيش العسرة، وحصلت أشياء كثيرة جداً من الصحابة مما سبقونا نحن المسارعة في الإنفاق بالقليل والكثير، حتى تصدق أبو بكر بماله كله، وتصدق عمر بنصف ماله، المهم أنه لا يستطيع منا أحد اليوم أن يتصدق بماله كله ولا حتى نصف ماله إلا نادراً جداً من يفعل ذلك، وهذا من أسباب تفوق الصحابة علينا. والنساء كن أيضاً إذا حثهن النبي صلى الله عليه وسلم ووعظهن يسارعن بذلك، كما جاء في خطبة العيد في صحيح الإمام البخاري: (ثم خطب، ثم أتى النساء فوعظهن وذكرهن وأمرهن أن يتصدقن، فجعلت المرأة تهوي بيدها إلى حلقها تلقي في ثوب بلال. وفي رواية: فجعلت المرأة تلقي القرط والخاتم وبلال يأخذ بطرف ثوبه). إذاً: نساءً ورجالاً رضي الله عنهم كانوا يسارعون بالصدقات.

مجالات الصدقة

مجالات الصدقة الصدقات فيها أولويات، فمثلاً: الصدقة على الأهل؛ هذه أولى من غيرها، إذا احتاج أهلك فهم أولى الناس، ابدأ بنفسك ثم أهلك والأقرب فالأقرب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصدقة ما ترك غنىً، واليد العليا خيرٌ من اليد السفلى -المعطي خيرٌ من الآخذ- وابدأ بمن تعول) تقول المرأة: إما أن تطعمني أو تطلقني، ويقول العبد: أطعمني واستعملني، ويقول الابن: أطعمني إلى من تدعني، فقالوا: يا أبا هريرة، راوي الحديث، سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: [لا، هذا من كيس أبي هريرة]. هذا الجزء الثاني من الحديث. والنفقة على الأهل بعض الناس يغفلون عن أنها صدقة يؤجر عليها الإنسان، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (نفقة الرجل على أهله صدقة). ولما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصدقة جاءت امرأة عبد الله بن مسعود إليه، فقالت له: إنك رجلٌ خفيف ذات اليد -فقير- وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمرنا بالصدقة، فأته فاسأله، فإن كان ذلك يجزي عني وإلا صرفتها إلى غيركم -إذا كان يجزي أن أعطيك صدقتي أعطيتك إياها يا زوجي، وإلا صرفتها إلى غيركم- فقالت: قال لي عبد الله: بل ائتيه أنت -استحيا أن يسأل- قالت: فانطلقت فإذا امرأة من الأنصار بباب رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجتها حاجتي، وكان صلى الله عليه وسلم قد ألقيت عليه المهابة، فخرج علينا بلال، فقلنا له: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره أن امرأتين بالباب تسألانك: أتجزأ الصدقة عنهما إلى أزواجهما وعلى أيتامٍ في حجورهما ولا تخبره من نحن؟ قالت: فدخل بلال على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من هما؟ فقال: امرأة من الأنصار وزينب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الزيانب؟ قال: امرأة عبد الله بن مسعود -حتى يعرف حال الزوج من هو- فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لهما أجران؛ أجر القرابة وأجر الصدقة). إذاً: إذا تصدق الإنسان يبدأ بفقراء أهله فيتصدق عليهم، وقد حدث أن ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها أعتقت وليدة في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال لها: (لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك). ومما يرتبط بهذا الموضوع أيضاً وبموضوع الإنفاق من أعز شيء على الإنسان وأنفسها عنده وأثمنها لديه حديث أبي طلحة رضي الله عنه؛ كان أبو طلحة أكثر الأنصار بـ المدينة مالاً، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد؛ هذا البستان العظيم ذو الثمار الطيبة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، فلما نزلت: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] كان سرعة التفاعل من ميزات الصحابة، تنزل الآية من هنا يكون تصرف تلقائياً. قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: [يا رسول الله! إن الله تعالى يقول في كتابه: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] وإن أحب أموالي إلي بيرحاء -أعز ما عندي من الأموال، وأثمن ما عندي بيرحاء - وإنها صدقة لله، فضعها يا رسول الله حيث شئت]. الواحد منا قد يتصدق بالشيء النفيس، لكن قد يضعه في غير محله، فإذا جاء أهل العلم دلوه، أو عهده إليهم ووكلهم، وقال: هذا ضعوه بمعرفتكم يا أهل العلم. جاء هذا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأعجب النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: (بخٍ بخ -هذه كلمة مدح- ذاك مالٌ رائح -وفي رواية: رابح-) فإذا وضعته أنت الآن في هذا الشيء لا ينفد بل يصبح باقٍ لك عند الله. يقول النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي طلحة: (قد سمعت ما قلت فيها، وأرى أن تجعلها في الأقربين. قال: أفعل يا رسول الله! فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه). إذاًَ: الإنسان عندما يضع الصدقة يبدأ بالأقرب فالأقرب فإنهم أولى بالمعروف، وإذا كانوا فقراء تصبح صدقة وصلة، وإذا كانوا أغنياء ذهب إلى الفقراء والمحتاجين.

أحكام الصدقة

أحكام الصدقة

أحوال التصدق بجميع المال

أحوال التصدق بجميع المال ومن الأحكام أيضاً: متى يتصدق الإنسان بجميع ماله؟ هذا حديث سعد بن أبي وقاص عند البخاري: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود من عام حجة الوداع من وجعٍ اشتد به، فقلت: إني قد بلغ بي من وجعي، وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا بنتٌ، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا. فقلت: بالشطر. فقال: لا. ثم قال: الثلث والثلث كثير، إنك إن تذر ورثتك أغنياء خيرٌ من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها حتى ما تجعل في في امرأتك) ما تضعه في فم المرأة من الأكل؛ تؤجر عليه. تصدق أبو بكر رضي الله عنه بماله كله، قال أهل العلم: لا يتصدق الإنسان بماله كله إذا كان لا يصبر، أما إذا كان يصبر؛ فيندب له أن يتصدق بماله كله كما فعل أبو بكر، أما أن يتصدق بماله كله ثم يمد يده للناس، أو يكون أولاده لا يصبرون ويمدون أيديهم للناس؛ فليس من الحكمة. ولذلك من أحكام الصدقة في الحياة أن الإنسان لا يشرع له أن يتصدق بماله كله إلا إذا كان لا يصبر. ثانياً: لا يجوز للإنسان أن يوصي بماله كله في الوصية بعد مماته، وأن أكثر ماله أن يوصي به الثلث والثلث كثير، ولذلك قال ابن عباس: [وددت أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع] جعل الوصية الربع؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الثلث والثلث كثير).

الأفضلية في القلة والكثرة في الصدقة

الأفضلية في القلة والكثرة في الصدقة وكذلك من الأشياء المتعلقة بالصدقة: أن الصدقة ليست دائماً أفضل إذا كانت كثيرة؛ بل قد يتصدق إنسان بدرهم ويتصدق إنسان آخر بمائة ألف ويكون الذي تصدق بالدرهم أجره أكبر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سبق درهمٌ مائة ألف درهم) ثم فسرها عليه الصلاة والسلام، فقال: (رجل له درهمان -ما عنده إلا هذين الدرهمين- أخذ أحدهما فتصدق به -أي: تصدق بنصف ماله- ورجل له مال كثير -عنده ملايين- فأخذ من عرض هذا المال مائة ألف فتصدق به). الأول تصدق بنصف ماله، هذا يمكن تصدق واحد على مائة أو واحد على ألف من أمواله، إذاً: صحيح الثاني أكثر بالعدد لكن الأول أكثر بالأجر؛ ذلك لأنه تصدق بنصف ماله مع حاجته إليه.

الأولويات في الصدقة

الأولويات في الصدقة كذلك من الأشياء التي لخصها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء؛ فلأهلك، فإن فضل شيء عن أهلك؛ فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء؛ فهكذا وهكذا) في أبواب الخير يميناً وشمالاً.

استحباب الصدقة في الكسوف

استحباب الصدقة في الكسوف ومن المقامات التي يستحب فيها الصدقة: الكسوف؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما كسفت الشمس على عهده خطب الناس، ثم قال: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك؛ فادعوا الله وكبروا وصلوا وتصدقوا) فإذا صار هناك خسوف أو كسوف؛ فإن الصدقة مشروعة.

مداواة المرض بالصدقة

مداواة المرض بالصدقة جاء في حديث حسن عن النبي صلى الله عليه وسلم: (المداواة بالصدقات مشروعة) فربما تكون الصدقة سبب للشفاء. كذلك لو أن الإنسان قال لصاحبه: تعال أقامرك، نلعب قمار؛ هذه من عادات الجاهلية، فيشرع له أن يتصدق ويكفر عن هذه الكلمة، كما جاء في حديث عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من حلف فقال في حلفه: واللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله) لو حلف رجل، فقال: ما أنام بحياتي، برأس أولادي، بشرفي، حلف بأي شيء، فعليه أن يقول: لا إله إلا الله (ومن قال لصاحبه: تعال أقامرك فليتصدق).

مشروعية الصدقة عن الأموات

مشروعية الصدقة عن الأموات الصدقة عن الأموات مشروعة، فقد جاء في صحيح البخاري، أن سعد بن عبادة رضي الله عنه توفيت أمه وهو غائب عنها، فقال: (يا رسول الله! إن أمي توفيت وأنا غائبٌ عنها، أينفعها شيء إن تصدقت به عنها؟ قال: نعم. قال: فإني أشهدك أن حائط المخراف صدقة عليها) فخرج من عهدته وصار صدقة لأمه. وكذلك فقد جاء أيضاً عن عائشة، أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (إن أمي افتلتت نفسها -ماتت فجأة- وأظنها لو تكلمت تصدقت، فهل لها أجرٌ إن تصدقت عنها؟ قال: نعم) رواه البخاري. إذاً: الصدقة عن الأقرباء الأموات أو عن الأموات عموماً حتى ولو تصدق لصاحبه تصل، هذا استثناء من الآية القرآنية {لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39] لكن من الاستثناءات من وصول الأجر للميت الصدقة عنه الحج عنه، العمرة عنه، قضاء دينه، قضاء نذره، قضاء صومه، أداء الكفارة عنه، الدعاء له، إشراكه في الأضحية، هذه الأشياء كلها تصل إلى الميت.

وقف الصدقة

وقف الصدقة من أعظم أنواع الصدقة: الوقف، وهو تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة؛ تجعل الأصل محبوساً لا يباع، لا يورث، ولا يوهب، ولا يشترى، وكل ما ينتج منه من ثمارٍ، أو مالٍ، أو عائدٍ، أو مردود يكون في سبيل الله. هذا هو الوقف. وقال البخاري رحمه الله: باب: أوقاف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمر: (لا يباع ولكن ينفق ثمره، فتصدق به) وقد جاء أيضاً موصولاً عنده رحمه الله في صحيحه في كتاب الشروط، عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن عمر بن الخطاب أصاب أرضاً بـ خيبر، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله! إني أصبت أرضاً بـ خيبر لم أصب مالاً قط أنفس عندي منها، فما تأمر به؟ قال: إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها). هذا هو الدليل على مشروعية الوقف، الأصل في الوقف حديث عمر ويتفرغ عنه مسائل كثيرة جداً. قال: فتصدق بها عمر أنه لا يباع، ولا يوهب، ولا يورث، وتصدق بها في الفقراء، وفي القربى، وفي الرقاب، وفي سبيل الله، وابن السبيل، ولا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف؛ الذي يتولى الوقف ويكون ناظراً عليه وراعياً له، يأكل منه بالمعروف، ويطعم غيره، لكن لا يأخذ منه مدخرات له، إنما يأكل منه فقط. وكذلك فإن الإنسان لو كان عنده مزرعة، فقال: هذه وقف لله تعالى؛ صارت الثمار في سبيل الله، يقول: في الفقراء المساكين أقربائي أولادي ونحو ذلك، هذه العمارة إيجاراتها في سبيل الله، سواء حدد المصارف أو لم يحددها، صارت وقفاً، لا يجوز له أن يرجع عنها؛ لا في حياته ولا بعد مماته لا يجوز لأحد أن يتصرف فيها، وقد حاول أعداء الله الاستيلاء على أوقاف المسلمين في كثير من البلدان، ولذلك كان هناك مدارس وعوائل تقوم على الأوقاف، ومساجد تعمر بالأوقاف، وينفق عليها من الأوقاف، وذهبت كلها لما اعتدى عليها أعداء الله؛ ولذلك فإن الوقف يبقى وقفاً إلى قيام الساعة، إذا تعطل تماماً يتصرف به تصرفاً ينشأ به وقف جديد له منفعة، ولا يجوز التصرف فيه بدون ضرورة.

حكم الرجوع في الصدقة

حكم الرجوع في الصدقة وكذلك من أحكام الصدقة أنه لا يحل لأحد أن يرجع فيها؛ فقد جاء عن عمر بن الخطاب قال: (حملت على فرس في سبيل الله، فأضاعه الذي كان عنده) أي: أعطيت واحداً فرساً في سبيل الله، صدقة خرجت مني، هذا الذي أخذه ما رعاه حق رعايته، أهمله، فربما أصابه الهزال والضعف. (فأردت أن أشتريه) أي: أشفق على الفرس، وقال: أشتريه من صاحبه، وأعود أغذيه، وأعتني به. فسألت عن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (لا تشتره وإن أعطاكه بدرهمٍ واحد؛ فإن العائد في صدقته كالكلب يعود في القيء). إذاً: الإنسان لا يجوز له أن يعود في الصدقة أبداً، لا يقول: يا فلان! حصل خطأ؛ أعطينا المال يا فلان! ندمنا، هات الصدقة التي أعطيناك إياها، لا يجوز أن يسترجعها ولو بالشراء، لكن لو أنك أهديت إنساناً، تصدقت على فقيرٍ بشاه حلوب، وهذا الفقير حلب لك وأهدى لك منها إناءً من لبن، فيجوز لك أن تشربه؛ لأنها قد جاءتك الآن هدية فلا بأس بأخذها، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يأكل الصدقة، ولا يجوز له ذلك، فلما تصدق على بريرة صدقة، أهدت بريرة منها لبيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (هو لها صدقة ولنا هدية) إذاً: يجوز عند ذلك الأكل منها.

حكم التصدق بالصدقة أو الهدية

حكم التصدق بالصدقة أو الهدية ومن الأحكام كذلك: أن الإنسان إذا تُصدِقَ عليه بصدقة؛ فيجوز له أن يتصدق منها؛ لو أعطاك رجل هبة أو هدية أو صدقة يجوز لك أن تتصدق وتخرج زكاتك منها، وكذا زكاة فطرك، ولكن أن تحج منها حجة الفريضة وكذلك لو أردت والعمرة؛ لأنك عندما قبضتها؛ صارت ملكاً لك. إذاً يجوز لك أن تتصرف فيها ولو أخرجت منها شيئاً واجباً، كذلك يجوز لك أن تعطي منها كفارة يمين، قال البخاري رحمه الله في كتاب الصوم: باب إذا جامع في رمضان ولم يكن له شيء فتصدق عليه فليكفر. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل، فقال: يا رسول الله! هلكت -وفي رواية: احترقت- قال: مالك؟ قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تجد رقبةً تعتقها؟ قال: لا. قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا. فقال: فهل تجد إطعام ستين مسكيناً؟ قال: لا. فمكث النبي صلى الله عليه وسلم، فبينا نحن على ذلك أتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر -والعرق: المكتل، مثل الزنبيل- قال: أين السائل؟ قال: أنا. قال: خذها فتصدق به -أخرج كفارتك من هذه الصدقة- فقال الرجل: أعلى أفقر مني يا رسول الله! فوالله ما بين لابتيها -أي: حرتي المدينة الشرقية والغربية- أفقر من أهل بيتي، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه، ثم قال: أطعمه أهلك) فهذا مسكين أتى وهو يحترق، وإذا به يرجع بطعامٍ إلى بيته؛ وهذا من يسر الدين وسهولته، أما اللعب بالدين والأحكام والتساهل في الشريعة وتمييع الأشياء، فهذا ليس بيسر، وإنما هذا تضييع وتحريف.

حكم الصدقة على من لا يستحق

حكم الصدقة على من لا يستحق وكذلك من الأشياء المتعلقة بالصدقة: أن الإنسان إذا تصدق على شخص ثم تبين فيما بعد أنه لا يستحق؛ فإنه يؤجر عليه، بل قد تكون سبباً في توبة هذا الشخص، وأوبته إلى الله، كما حدث في حديث الرجل -هذه في بني إسرائيل- النبي صلى الله عليه وسلم روى الحديث والحديث في البخاري، قال رجل: (لأتصدقن بصدقة، فخرج لصدقته، فوضعها في يد سارق، فأصبحوا يتحدثون: تصدق على سارق. فقال: اللهم لك الحمد على سارق، لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية، فأصبحوا يتحدثون: تصدق الليلة على زانية، فقال: اللهم لك الحمد لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد غني، فأصبحوا يتحدثون: تصدق على غني. فقال: اللهم لك الحمد على سارق، وعلى زانية، وعلى غني. فأتي فقيل له -رأى هذا الرجل في المنام، فقيل له في المنام وكان من الصالحين وهذه رؤيا حسنة-: أما صدقتك على سارق فلعله أن يستعف عن سرقته، وأما الزانية فلعلها أن تستعف عن زناها، وأما الغني فلعله يعتبر فينفق مما أعطاه الله). وكذلك من الأحكام: أنه يجوز للرجل أن يشتري صدقة غيره لكن لا يشتري صدقته كما سبق بيانه.

حكم من وصلت صدقته إلى ولده

حكم من وصلت صدقته إلى ولده ومن الأحكام كذلك: أنه إذا تصدق ووصلت الصدقة إلى ولده وهو لا يشعر فإن ذلك لا حرج فيه وهو مأجور، كما جاء عند البخاري، أن معن بن يزيد قال: (بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وأبي وجدي كلنا أسلمنا وخطب عليَّ فأنكحني، وكان أبي يزيد قد أخرج دنانير يتصدق بها، فوضعها عند رجل في المسجد -وكله يتصدق- فجئت فأخذتها فأتيته بها، فقال: والله ما إياك أردت -أنا ما أردت صدقة عليك، أنت ولدي- فخاصمته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لك ما نويت يا يزيد من الصدقة، ولك ما أخذت يا معن) أي: ليست من مقصودك.

حكم التصدق بالمال كله مع الضرر

حكم التصدق بالمال كله مع الضرر كذلك فإن الإنسان لو انخلع من ماله كله وأدى ذلك إلى ضررٍ عليه، فإنه له أن يرجع في ذلك، وهذا مثل ما حصل في قصة كعب بن مالك رضي الله تعالى عنه، قال البخاري رحمه الله: باب: "لا صدقة إلا عن ظهر غنى ومن تصدق وهو محتاج، أو عليه دين فالدين أحق أن يقضى من الصدقة والعتق هبة وهو رد عليه". أي: أن تصرف الصدقة غير صحيح، وليس له أن يتلف أموال الناس. وقال صلى الله عليه وسلم: (من أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله) إلا أن يكون معروفاً بالصبر فيؤثر على نفسه ولو كان به خصاصة، كفعل أبي بكر، وليس له أن يضيع أموال الناس بعلة الصدقة، أحدهم عليه ديون يذهب يتصدق، هذه أموال الناس يجب عليه أن يؤديها! وقال كعب بن مالك: (يا رسول الله! إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقةً إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم. قال: أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك) فلو أنه تصدق بكل المال ثم تبينت الحاجة؛ فإن له الرجوع، والإنسان لو كان خازناً أميناً كلما أمر بشيء أن يعطي أعطى؛ فإنه أحد المتصدقين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، هذه بشرى للخازن المسلم الأمين الذي ينفق ما أمر به كاملاً موفراً طيباً به نفسه، فيدفعه من الذي أمر به أحد المتصدقين، مع أنه ما أنفق شيئاً لكن بأمانة. وكذلك المرأة إذا تصدقت من مال زوجها بإذنه ورضاه من غير مفسدة؛ كان لها أجرها ولزوجها بما كسبا وللخازن مثل ذلك، ولو أن إنساناً تصدق وهو كافر ثم أسلم فإن أجر الصدقة يثبت له.

حكم التصدق على بعض الأولاد دون بعض

حكم التصدق على بعض الأولاد دون بعض كذلك لو أن إنساناً تصدق على بعض أولاده دون بعض، فإن صدقته عليهم مردودة؛ لما روى الإمام مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه، باب: من نحل بعض ولده دون سائر البنين، عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: (تصدق عليَّ أبي ببعض ماله، فقالت أمي عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق بي أبي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليشهده على الصدقة، فقال له صلى الله عليه وسلم: أفعلت هذا بولدك كلهم؟ قال: لا، قال: اتقوا الله واعدلوا في أولادكم. فرجع أبي فرد تلك الصدقة). وفي رواية: (أيسرك أن يكونوا إليك في البر سواء؟ قال: نعم. قال: فلا إذاً). ويؤخذ من هذا: أنه لا يجوز للشخص أن يخص بعض أولاده بمالٍ دون بعض إلا لحاجةٍ شرعية، كأن يكون أحدهم صاحب عيال محتاج ليس الآخر مثله، أو أحدهم مريض واحتاج إلى علاج والآخر ليس بمريض وهكذا.

الصدقة الجارية

الصدقة الجارية كذلك فإنه مما ينبغي أن يعلم في هذا الموضوع: أن الصدقة الجارية من الأشياء العظيمة، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الحسن: (أربع من عمل الأحياء تجري للأموات: رجل ترك عقباً صالحاً يدعو له ينفعه دعاؤه، ورجل تصدق بصدقة جارية من بعده له أجرها ما جرت بعدها) يبقى أجر الصدقة يجري عليه ما بقي، وهذا معناه أنه هو الذي يفعلها في حياته، ولو فعلت له بعد موته ليست أكثر أجراً من أن يفعلها على حياته، كأن يبني شيئاً له دخلٌ يجعله لله، هذه صدقة جارية يجعلها على حياته، تجري عليه بعد موته طالما بقيت هذه الصدقة أو بقي أصلها.

أنواع الصدقات

أنواع الصدقات يظن بعض الناس أن الصدقة هي الصدقة المالية فقط، ولكن الحقيقة أن الصدقة أنواع كثيرة جداً، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لفقراء الصحابة لما جاءوه: (يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالأجور؛ يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون من فضول أموالهم. قال: أو ليس قد جعل الله لكم ما تصدقون؟ إن لكم بكل تسبيحةٍ صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمرٌ بالمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة. قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟! قال: أرأيتم لو وضعها في الحرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر) رواه الإمام مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه. وقد وردت نصوص كثيرة في أنواع الصدقات. فمما اختصرته لكم من هذه الروايات من أنواع الصدقات: الكلمة الطيبة، عون الرجل أخاه على الشيء، الشربة من الماء يسقيها، إماطة الأذى عن الطريق، الإنفاق على الأهل وهو يحتسبها، كل قرض صدقة، القرض يجري مجرى شطر الصدقة، المنفق على الخيل في سبيل الله، ما أطعم زوجته، ما أطعم ولده، تسليمه على من لقيه، التهليلة، التكبيرة، التحميدة، التسبيحة، الأمر بالمعروف، النهي عن المنكر، إتيان شهوته بالحلال، التبسم في وجه أخيه المسلم، إرشاد الرجل في أرض الضلال؛ إذا تاه رجل وضل الطريق، ما أطعم خادمه، ما أطعم نفسه، إفراغه من دلوه في دلو أخيه، الضيافة فوق ثلاثة أيام، إعانة ذي الحاجة الملهوف، الإمساك عن الشر، قول: أستغفر الله، هداية الأعمى، إسماع الأصم والأبكم حتى يفقه، أن تصب من دلوك في إناء جارك، ما أعطيته امرأتك، الزرع الذي يأكل منه الطير أو الإنسان أو الدابة، ما سرق منه فهو صدقة، وما أكله السبع فهو صدقة، إنظار المعسر بكل يومٍ له صدقة، تدل المستدل على حاجةٍ قد علمت مكانه، تسعى بشدة ساقيه إلى اللهفان المستغيث، ترفع بشدة ذراعيك مع الضعيف، كل ما صنعت إلى أهلك، النخاعة في المسجد تدفنها، تعدل بين اثنين، تعين الرجل على دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه، كل خطوة تخطوها إلى الصلاة، التصدق على المصلي لكي تكون جماعة من يتصدق على هذا، إذا منحت منحة أعطيته إياها غدت بصدقة وراحت بصدقة صبوحها وغبوطها؛ ما يحلم في الصباح وما يحلم في المساء؛ هذه بعض أنواع الصدقة. والمتأمل لها يجد أنها على نوعين، الصدقات الغير مالية هذه على نوعين: الأول: ما فيه تعدية الإحسان إلى الخلق يكون صدقة عليه، مثل: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إقراء القرآن، تعليم العلم، إزالة الأذى عن الطريق، نفع الناس، استعمال وجاهة تكفيه أو شفاعة حسنة لنفع مسلم، الدعاء للمسلمين، الاستغفار لهم، هذا نفعه متعدي، وقد يكون أفضل من الصدقة بالمال. النوع الثاني: ما نفعه قاصرٌ على فاعله، مثل: التكبير، والتسبيح، والتحميد، والتهليل، والاستغفار، والمشي إلى المساجد وغير ذلك. إذاً: كل ما كان نفعه متعدٍ أكثر؛ كلما كان زيادة في الأجر، وكلما كان شرفه وفضله أكثر؛ فهو أيضاً زيادة في الأجر، فإن الذي يمشي إلى الصلاة بكل خطوة يخطوها حسنة تكتب، وسيئة تمحى، ودرجة ترفع.

الأسئلة

الأسئلة

حكم التصدق بجميع الدية مع وجود ورثة آخرين

حكم التصدق بجميع الدية مع وجود ورثة آخرين Q هل يجوز للوارث أن يتصدق بجميع الدية مع وجود ورثة آخرين؟ A لا. إنما يتصدق بنصيبه هو من الدية، لكن لا يتصدق بدية الآخرين.

حكم الإنفاق على الإخوان

حكم الإنفاق على الإخوان Q هل الإنفاق على الإخوان وإطعامهم من الصدقة؟ A نعم. هو ذلك إن شاء الله.

حكم قضاء دين المديون

حكم قضاء دين المديون Q هل قضاء دين المديون من الصدقة؟ A نعم. قضاء دين المديون من الصدقة.

حكم التصدق بمال حرام في جهة محرمة

حكم التصدق بمال حرام في جهة محرمة Q ما حكم التصدق بمالٍ حرام في جهة محرمة؟ A لا يجوز أن ينتفع من المال الحرام أبداً، فلو قال: إن البنك أعطاني ربا وبه أدفع ضريبة، فنقول: لا يجوز؛ لأنك استخدمت هذا المال الحرام بشيء عاد بالنفع عليك؛ وهو أنك وقيت نفسك من الظلم، فهذه منفعة استفدت من الربا، إذاً لا يجوز، ولا يقال: حرام في حرام أو من حرام في حرام يصير حلال؛ هذا لا يقول به قائل.

حكم التصدق بالصدقة اليسيرة

حكم التصدق بالصدقة اليسيرة Q لو تصدقت بريال هل تعتبر صدقة؟ A لا شك في ذلك.

حكم التصدق مع وجود دين

حكم التصدق مع وجود دَين Q إذا كان علي دين. فهل يجوز لي أن أتصدق؟ A إذا كان يضر بإخراج الدين وأنت مطالب لا يجوز لك أن تتصدق.

حكم الصدقة على غير المسلمين

حكم الصدقة على غير المسلمين Q ما حكم الصدقة على غير المسلمين بقصد ترغيبهم في الإسلام؟ A هذا جيد، وهو من أبواب الخير.

حكم إخراج الصدقة أو الزكاة لغير أهلها

حكم إخراج الصدقة أو الزكاة لغير أهلها Q بعض الناس يصرفون صدقاتهم في رمضان أو زكاوتهم إلى أقاربهم، وربما جعلوها عيدية في نهاية شهر رمضان مع أن أقاربه هؤلاء ميسورٌ حالهم، وليسوا من أهل الصدقة؟ A إذاً هذا زكاته غير مجزئة، لا يجوز له أن يعطيها لغير أهلها، ويجب عليه إعادة الإخراج إذا كان يعلم أنهم أغنياء.

حكم الإنفاق مع الحاجة

حكم الإنفاق مع الحاجة Q إذا كنت أنفق من راتبي شهرياً بشيء معين، والآن عندي التزامات من ديون وقسط شهري واستعداد للزواج، هل أستمر على إنفاقي مع حاجتي؟ A ما دام عندك حاجة، فمن الممكن أن توفر أشياء من المال بحاجتك، لكن أيضاً خذ في اعتبارك أنك إذا تصدقت، فالله سبحانه وتعالى يعوض ويغني (ما نقص مال من صدقة).

حكم التصدق بالمال المعطى من الولد

حكم التصدق بالمال المعطى من الولد Q إذا كان ولدي يعطيني مالاً، فهل أتصدق منه؟ وما عندي مال إلا ما يعطيني ولدي؟ A نعم، تتصدق من المال الذي أعطاها إياه ولدها، كما قالت أسماء للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله، مالي مالٌ إلا ما أدخل عليَّ الزبير -زوجها- فأتصدق؟ قال: تصدقي ولا توعي فيوعى عليكِ). إذاً: المرأة إذا أعطاها زوجها مصروفاً وتصدقت منه فهي مأجورة، الأم إذا كان ولدها يعطيها نفقة، فتتصدق منها؛ فهي مأجورة.

حكم التصدق بسبب الحلف

حكم التصدق بسبب الحلف Q شخص حلف إذا فاتته صلاة الفجر تصدق بشيء من المال، فما الحكم؟ A عليه أن يتصدق ما دام مستطيعاً.

حكم من أوقف نفسه لله في الدعوة

حكم من أوقف نفسه لله في الدعوة Q ما رأيك فيمن أوقف نفسه لله في الدعوة، هل تكون من الصدقة؟ A طيب إذا كان ذلك حاصلاً فعلاً؛ لأن الإنسان المسلم ينبغي عليه أن يكون وقفاً لله تعالى، لكن في كثير من الأحيان لا يحصل ذلك، فينبغي أن نجاهد أنفسنا على هذا.

حكم بناء مسجد ووضع اسم الوالد عليه

حكم بناء مسجد ووضع اسم الوالد عليه Q أريد بناء مسجد صدقة ووضع اسم والدي على هذا المسجد؟ A الأفضل ألا تضع اسم والدك عليه؛ حتى لا يكون ذلك مدخل للرياء، أو يقال: هذا فلان بنى لوالده مسجداً، ونحو ذلك، سمِّه بأسماء بعض الصحابة أو اسم طيب من الأسماء يكون أفضل.

الصدقة والدعاء للميت

الصدقة والدعاء للميت Q أيهما أفضل للميت: الصدقة أم الدعاء؟ A أعظم ما يصل إلى الميت الدعاء، والصدقة لا شك في وصولها.

حكم إعطاء الزكاة والصدقة لمن عليه التزامات مالية

حكم إعطاء الزكاة والصدقة لمن عليه التزامات مالية Q لي أقارب عندهم بعض الأعمال التجارية وهم موظفون، ولكن الظاهر لي أن عليهم ديون متفرقة بسبب ما عندهم من التزامات مالية من بناء بيوت ونحوها هل تحق الصدقة؟ A إذا ما كانت زكاة ليس هناك مانع أن تعطيهم إياها، لكن إذا كانت زكاة ينبغي أن تتأكد أنهم من أهل الزكاة، فإذا كان عليه دين وهو مطالب به، ولا يستطيع التسديد يُعطى من الزكاة.

حكم المنشورات التي تحث على الصدقة وتوضع في المساجد

حكم المنشورات التي تحث على الصدقة وتوضع في المساجد Q المنشورات التي توضع في المساجد تحث الناس على الصدقة؟ A لا بأس إذا كانت حقيقية وصحيحة تحث الناس على الصدقة؛ لأنها ليست إعلانات تجارية، لعله التبس عليه أو ظن أنها داخلة في مسألة: نشدان الضالة، أو التجارة، نقول: ليست كذلك.

حكم التصدق على الوالدة والأخوات مع عدم الحاجة

حكم التصدق على الوالدة والأخوات مع عدم الحاجة Q امرأة متزوجة، وليس لديها أولاد، وأمها ميسورة الحال لا تحتاج إلى صدقة، فهل من البر أن أتصدق على والدتي وأخوتي مع عدم احتياجهم؟ A نعم؛ لأنها تكون هبة أو هدية، الأشياء المالية ليست فقط صدقات؛ يمكن تكون هدايا أو هبة، صِلِ أمكِ وأعطها، ولو كانت غير محتاجة، فهذا من البر.

صاحب الدين لا أعرف مكانه

صاحب الدَّين لا أعرف مكانه Q إذا ذهب صاحب الدين إلى مكانٍ لا أعرفه؟ A إذا عجزت عن الوصول إليه تصدق بالمال نيابة عنه.

حكم إعطاء الوالدة المحتاجة من الزكاة الواجبة

حكم إعطاء الوالدة المحتاجة من الزكاة الواجبة Q ما حكم إعطاء والدتي المحتاجة من الزكاة الواجبة؟ A لا يجوز؛ لأنك مكلف بالإنفاق عليها، وعلى إخوانك الفقراء جائز.

حكم الجهر بنية الصدقة

حكم الجهر بنية الصدقة Q ما حكم من يقول: اللهم هذه صدقة عن جدي؟ A لا بأس، والله أعلم بنيتك، ولا داعي أن تتكلم.

حكم مساعدتي لأخي عندما يحتاجني

حكم مساعدتي لأخي عندما يحتاجني Q عندي شقيق أحواله المالية والمعيشية صعبة، ويحتاج إلى المساعدة، ويطلبني حين حاجته فأعطيه، هل تعتبر هذه الأعطية صدقة؟ A نعم. تعتبر صدقة ولك أجرها.

الفرق بين المن والسلوى، والمن والأذى

الفرق بين المن والسلوى، والمن والأذى Q ما الفرق بين المن والسلوى، والمن والأذى؟ A المن هذا غير المن الآخر؛ منٌ منَّه الله سبحانه وتعالى عليه، وقيل: شيء مخصوص، وقيل: إنه المن العام، وهو: غير المن الذي يمنُّ به صاحب المال على من يعطيه ويؤذيه به ذلك منة من الله على بني إسرائيل، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الكمأة من المنّ وماؤها شفاء للعين) وواضح لماذا هي من المن؛ لأنها تخرج بدون هذه الكمأة؛ وهي التي تخرج عند نزول المطر من الله؛ لكي لا يتعب الإنسان في زراعةٍ ولا حصد ولا بذر ولا سقيا ولا إجارة ولا شيء، فهي منة من الله.

حكم من استطاع الحج ورفض والده ذلك

حكم من استطاع الحج ورفض والده ذلك Q أريد الحج ووالدي يرفض ووالدتي موافقة وعندي مال وليس عندي ديون؟ A إذا حج فريضة؛ فيجب عليك أن تذهب إلى الحج، ولو كان الوالد لم يوافق مع سعيك في إرضائه.

حكم إعطاء الصدقة لمن يستعملها في المنكرات

حكم إعطاء الصدقة لمن يستعملها في المنكرات Q إذا كان هناك شخص فقير وأردت أن تتصدق عليه وأنت تعلم أنه يستعمل الصدقة في المنكرات؟ A لا تتصدق وإنما تشتري له بها طعاماً أو تعطيه لزوجته المأمونة، أو أولاده ولا تعطيها له.

حكم أخذ آل البيت للزكاة

حكم أخذ آل البيت للزكاة Q ما حكم أخذ الزكاة لآل البيت؟ A لا يأخذون الزكاة وإنما يعطون من مصرف في بيت المال، لكن إن لم يعطوا واحتاجوا؛ جاز لهم أن يأخذوا، كما أفتى بذلك شيخ الإسلام رحمه الله تعالى.

حكم الصدقة على من ظهر كذبه بعد إخراجها

حكم الصدقة على من ظهر كذبه بعد إخراجها Q لو قام سائل في المسجد يشكو حاله، فتأثر المصلون فتأثرت مثلهم، ولكن كنت أشك في حاله ولكن لدينا من أموال الصدقة فأعطيته ثم علمت بعد ذلك أن الرجل متسول فندمت أني أعطيته؟ A لك أجرك ما دام عملت بالظاهر وتصدقت عليه، وما ظهر لك خلاف الظاهر، فأنت بذلك مأجور إن شاء الله.

حال أخي السيئ

حال أخي السيئ Q لي أخ لا يصلي، ويسمع الغناء كثيراً، ويرافق قرناء السوء، ويلبس الحرير، ونصحته ولكن لا فائدة؟ A { إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] فلذلك لا تذهب نفسك عليه حسرات، مع مواصلتك واجتهادك في دعوته وتأتي معه بأسلوب، أو تطلب من غيرك أن ينصحه، فربما لا يقبل منك كأخ، لكن قد يقبل من غيرك إذا جاءه لصداقة ومودةٍ ونحو ذلك.

ألفاظ شركية

ألفاظ شركية Q إذا قال الإنسان: ما شاء الله وشئت، أو توكلت على الله وعليك، فهل هذا شرك؟ وكذلك إذا قال: ما شاء الله ثم شئت، أو توكلت على الله ثم عليك فهل يجوز؟ A نعم. إذا قال: ما شاء الله وشئت، أو توكلت على الله وعليك فهذا شرك ولا شك، ولا يساوى الله بالمخلوق، أما بالنسبة للشق الثاني من السؤال فيحتاج إلى تفصيل: إذا قال: ما شاء الله ثم شئت فهذا جائز، وقد جاء في الحديث، لكن لا يقول: توكلت على الله ثم عليك؛ لأن التوكل عبادة لا تجوز إلا لله، لا يتوكل على غير الله لا بالواو ولا بثم.

حكم إعطاء الزكاة للإخوة من أب

حكم إعطاء الزكاة للإخوة من أب Q لي أخوة من أب، وأبي مقعد عن العمل وأعطيه مصروفاً شهرياً لكن لا يكفيهم، ثم إني قد أعطيته زكاة حلي زوجتي؟ A لا بأس، إذا كانوا محتاجين تعطيهم من زكاة حلي زوجتك.

حكم من حلف يمينا ثم رأى غيرها خيرا منها

حكم من حلف يميناً ثم رأى غيرها خيراً منها Q من حلف بيميناً ثم رأى غيرها خيراً منها، هل يكفر عن اليمين الأولى؟ A نعم، يكفر ويأتي الذي هو خير.

أعمال الحج عن والدي المتوفى

أعمال الحج عن والدي المتوفى Q ماذا أعمل عندما أقوم بأعمال الحج عن والدي المتوفى؟ A تكون نيتك له فقط عند الإحرام، وتقول: ولبيك اللهم عن فلان، هذه التلبية.

حكم الهجر بين الإخوة لفترة طويلة

حكم الهجر بين الإخوة لفترة طويلة Q ما رأيك في أخوين ملتزمين لا يكلم أحد منهما الآخر منذ فترة ليست بالقليلة؟ A هؤلاء المغفرة عنهما محجوبة حتى يعودا: (أنظرا هذين حتى يصطلحا) يؤخر الله سبحانه وتعالى رحمته عنهما حتى يعودا إليه عز وجل، ينظر الله إلى أهل الأرض فيغفر لكل أحد إلا المشرك والمشاحن؛ وهو الذي بينه وبين أخيه شحناء، فإذا كان يريد أن تحجب المغفرة عنه فليستمر في العقوق والقطيعة.

امرأة رأت أباها قد ذهب للحج

امرأة رأت أباها قد ذهب للحج Q رأت امرأة في المنام أن أباها قد ذهب للحج هذا العام مع العلم أنه ميت، فهل توكل أحداً للحج عنه؟ A لا يؤخذ من المنامات أحكام شرعية ألبتة، وإنما إذا أرادت أن تحج عنه أو توكل من يحج عنه توكل، أما أنه يؤخذ من المنام فلا يؤخذ منه أحكام شرعية.

التصدق عن الميت والدعاء له

التصدق عن الميت والدعاء له Q هل المتصدق للميت أو الداعي له أجر؟ A لا شك في ذلك، وقد يكون إذا حج عنه يبتغي إبرار ذمته والإحسان إليه مثل أجره أو أكثر.

حكم الأخذ من المال المجهز للتبرعات

حكم الأخذ من المال المجهز للتبرعات Q اقتطعت مالاً ووضعته في صندوق خاص في البيت لجمع التبرعات، وبعد فترة اضطررت واحتجت حاجة شديدة فأخذت من المال؟ A إذا كان هذا الوعاء وعاء للفقير، مثل بعض الحصالات التي تكون للجمعيات الخيرية توزع ومكتوب عليها الجمعية أو نحو ذلك، فهذا وعاء الفقير لا يجوز لك أن تأخذ منه أبداً، لكن إذا كان هذا الوعاء وعاءك، أنت تجمع على جنب حتى تعطيها للفقراء، والوعاء ليس للفقير، إنما هو لك، فلا بأس أن تأخذ منها؛ لأنها ما قد صارت للفقير ولم تعط لوكيل الفقير، ولا وضعت في حصالة أو ماعون الفقير.

حكم إعطاء زكاة الفطر لمن ادعى أنه محتاج

حكم إعطاء زكاة الفطر لمن ادعى أنه محتاج Q هل يجوز إعطاء زكاة الفطر لمن ادعى أنه محتاج إلى ذلك؟ A نعم، ما لم يظهر شيء آخر.

حكم من لم يعمل له عقيقة وقد كبر

حكم من لم يعمل له عقيقة وقد كبر Q من ولد له ولد ولم يعمل له عقيقة وقد كبر الولد فماذا يفعل؟ A يعمل له عقيقة الآن، أو يعق الولد عن نفسه ولا مانع.

حكم الزكاة عن الدين الذي عند الناس

حكم الزكاة عن الدين الذي عند الناس Q لي مبلغ دين عند الناس ولم أقبضه هل أزكي عليه؟ A لو طالبتهم به لم يعطوك إياه فهو إما مماطل أو فقير؛ إذاًَ ليس عليك زكاة، أما إذا لو طالبته أعطاك فعليك الزكاة.

حكم الصدقة على الأب

حكم الصدقة على الأب Q أبي يسأل الناس وهو في كلامه أنه في حاجة هل أتصدق عليه؟ A نعم، على الأقل تعفه عن سؤال الناس.

حكم إعطاء الصدقة على شكل هدية

حكم إعطاء الصدقة على شكل هدية Q هل يجوز إعطاء الصدقة على شكل هدية؟ A نعم. يجوز ذلك.

حكم ارتداء المخيط قبل الحلق

حكم ارتداء المخيط قبل الحلق Q ارتديت المخيط قبل أن أحلق ما الحكم؟ A تعيد لبس ملابس الإحرام ثم تحلق، وليس عليك شيء ما دمت ناسياً أو جاهلاً.

حكم التصدق على قرابة محتاجين

حكم التصدق على قرابة محتاجين Q لي بعض القرابة ليسوا فقراء، ولكن حالهم يحتاج إلى مساعدة، وعلمت أن هناك أناساً عندهم مجاعة يحتاجون إلى صدقة باعتبار حالهم الشديد، ولا سيما وأننا نراهم شبه عراة؟ A إذا كانت الحاجة التي في الأقارب ليست شديدة، وهؤلاء حاجتهم شديدة جداً، فربما يكون تقديرهم وجيه، فيكون الأفضل إعطاء الأموال لهم.

حكم الصدقة على الجدة والخالة

حكم الصدقة على الجدة والخالة Q ما حكم الصدقة على الجدة أم الأم وأم الأب، والخالة؟ A الجدة ممن تلزمك نفقتها وكذا الجد والولد والحفيد والأب والأم إذا كان أعطاه من الزكاة، أما الخالة الفقيرة فيجوز أن تعطيها من الزكاة.

حكم إخراج الصدقة مجزأة دون علم من تصدق بها

حكم إخراج الصدقة مجزأة دون علم من تصدق بها Q أعطتني أمي مالاً أتصدق به؛ فأخرجته مجزأً من فترة إلى أخرى دون علمها؟ A إذاً تستسمح منها وتخبرها بما فعلت.

حكم الحلف على الأخذ وعلى عدم الأخذ

حكم الحلف على الأخذ وعلى عدم الأخذ Q حلف رجل على أن يأخذ شيئاً، والآخر على ألا يأخذه، فما الحكم؟ A الذي يحنث في يمينه عليه كفارة.

حكم مكافأة طالب الجامعة

حكم مكافأة طالب الجامعة Q هل مكافأة طالب الجامعة تعتبر من الكسب؟ A نعم. يتصدق منها ويؤجر على الصدقة منها.

حكم كفالة أختي الصغيرة

حكم كفالة أختي الصغيرة Q لي أخت صغيرة ووالدنا متوفى، هل كفالتي لها كفالة يتيم؟ A نعم. ولا شك في ذلك.

حكم شرب دم القنفذ للعلاج

حكم شرب دم القنفذ للعلاج Q شرب دم القنفذ للعلاج؟ A لا يجوز، لأن شرب الدم محرم.

صحة حديث: (يستحب العطاس ويكره الجشاء)

صحة حديث: (يستحب العطاس ويكره الجشاء) Q ما صحةحديث: (يستحب العطاس ويكره الجشاء)؟ A أما العطاس أنه مستحب فنعم، وقد ورد ذلك في الحديث: (إن الله يحب العطاس ويكره التثاؤب). أما الجشاء فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً تجشى أمام الناس، قال: (كف عنا جشاءك) لأنه يؤذي الآخرين والجلساء ولاشك.

حكم قصر صلاة المغرب

حكم قصر صلاة المغرب Q هل تقصر صلاة المغرب؟ A لا تقصر. بل تبقى كما هي ثلاث ركعات، وكذلك الفجر سواء في الحضر والسفر.

حكم الزكاة عن الولد الذي في بطن أمه

حكم الزكاة عن الولد الذي في بطن أمه Q هل تجب الزكاة عن الولد الذي في بطن أمه؟ A لا تجب زكاة الفطر عن الولد الذي في بطن أمه لكن يستحب.

حكم نقل الوقف إلى أرضه وأخذ أرض الوقف

حكم نقل الوقف إلى أرضه وأخذ أرض الوقف Q رجل في طرف أرضه أرض مسجد موقوف، هل يجوز أن يستبدل أرض المسجد بأرض مزرعته ويأخذ أرض المسجد؟ A لا يجوز ذلك، تبقى أرض المسجد الوقف كما هي إلا إذا تعطلت الاستفادة منها، فهنا يلجأ إلى القاضي في نقلها إلى مكانٍ آخر.

حكم من قال مازحا: تعال أقامرك

حكم من قال مازحاً: تعال أقامرك Q لو قال: تعال أقامرك مزاحاً فما الحكم؟ A يتصدق، ويتوب إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأن هذا أمر لا مزاح فيه.

الفرق بين الصدقة والزكاة

الفرق بين الصدقة والزكاة Q ما هو الفرق بين الصدقة والزكاة؟ A لا شك أن أبواب الصدقة أوسع من أبواب الزكاة، فمثلاً: الزكاة لا تصرف في بناء المساجد، ولا طباعة الكتب الإسلامية، ولا بناء المستشفيات، لكن الصدقات يمكن أن يبني بها مسجداً، ومستشفى، ويطبع بها الكتب، أو يشتري بها مصاحف ونحو ذلك، فباب الصدقات أوسع من باب الزكاة.

حكم إخراج الزكاة من الراتب غير الثابت

حكم إخراج الزكاة من الراتب غير الثابت Q أنا موظف ومالي من المعاش غير ثابت، ولا يبقى حتى الحول؟ A بعد سنة انظر ماذا تجمع عندك، وأخرج عن الألف خمسة وعشرين يكون هذا مريحاً لك. والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

ثغرات في بيوت الدعاة

ثغرات في بيوت الدعاة إنه لابد لمن أراد أن يدعو الناس إلى أمر أن يكون أولهم امتثالاً، وإذا كان الله تعالى قد أمر الناس بالالتزام بشرعه ما أمكن، فذلك بالدعاة أخص، وإلا فلمَ يقولون ما لا يفعلون؟ ومع أنه لن يشادَّ هذا الدين امرؤ إلا غلبه، إلا أن هناك تساهلاً كبيراً، وثغرات فظيعة نتيجة التساهل؛ في البيت في الأخلاق وغير ذلك، وقد تحدث الشيخ عن ذلك في هذه المحاضرة، وبينه أحسن بيان.

بيت الداعية لابد أن يكون أكمل من غيره في التدين

بيت الداعية لابد أن يكون أكمل من غيره في التدين الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، الحمد لله الذي هدانا للإسلام وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أيها الإخوة: إن الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى وظيفة الرسل، وهي مهمة شريفة، وخطيرة أيضاً، ولها شأن عظيم وخطرٌ كبير، ذلك أن الداعية إلى الله سبحانه وتعالى يبذل جهده ووقته لله رب العالمين وهو يسير في دعوته، وينبغي عليه أن يسير كما أمر الله سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] ولا شك أن الداعية إلى الله عز وجل تصلي عليه الملائكة والحيتان في البحر، لأنه ممن يعلمون الناس الخير. والداعية إلى الله عز وجل لا بد أن يكون متميزاً عن غيره، فهو ليس مسلماً عادياً كما يقول بعض الناس، وإنما هو فوق ذلك، بل إنه ليس شخصاً ملتزماً بالدين فحسب، بل هو فوق ذلك، إنه رجلٌ أو امرأة عرف الله وعرف الطريق، فقام يدعو إلى الله سبحانه وتعالى، وإلى سبيل هذا الدين ورفعته، ومن هنا فإن ما يتعلق بهذا الداعية ينبغي أن يكون غير عادي أيضاً بالنسبة إلى غيره من الناس، كما أن وظيفته غير عادية بالنسبة إلى غيره من العوام، وبعض الناس حين يسمع كلمة الدعاة وخصوصاً من المقصرين يظن أن الكلام لا يعنيه، وهذا خطأ كبير؛ فإنه يجب علينا جميعاً أن نكون دعاةً إلى الله سبحانه وتعالى، لأننا مأمورون بذلك: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ} [النحل:125] والخطاب للجميع، الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وتدخل فيه أمته، وكذلك فإنه عليه الصلاة والسلام قال: (بلغوا عني ولو آية) والتبليغ هو الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى. فلا تظنن أيها المسلم -مهما كان مستواك أو كانت منزلتك في العلم أو الالتزام بالدين- أنك خارج عن دائرة هذا الموضوع، وذلك لأن الدعوة إلى الله واجب علينا جميعاً، وهذه المحاضرة بعنوان: (ثغراتٌ في بيوت الدعاة) والمقصود المعالجة والكلام عن بعض الظواهر السلبية الموجودة في بعض البيوت، وإذا كانت موجودة في بيوت بعض الدعاة فلأن تكون موجودة في بيت غيرهم من باب أولى وأكثر منها، ولكن لعلنا نخص الكلام عن الدعاة إلى الله عز وجل نظراً لخطورة هذا الموضوع. فكما أن الداعية شخص غير عادي، فكذلك يجب أن يكون البيت الذي يسكن فيه أيضاً بيتاً غير عادي؛ والمقصود أن يكون الالتزام فيه بالإسلام أكثر ما يمكن، فإنه لا يمكن أن يتصور أن يدعو إنسان إلى الله في الشارع وبين الناس، ثم بعد ذلك إذا انقلب إلى بيته وجده بيتاً يعج بالمنكرات، أو بعيد عن شرع الله، أو لا توجد فيه الإيمانيات المطلوبة الموجودة في هذا الدين. ليست المسألة فقط مسألة أن يكون البيت على مستوى الدعوة، ولكن القضية مسئولية عند الله عز وجل قال تعالى:: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6] ثم إن الله سيسأله يوم القيامة عما استرعاه؛ أحفظ ذلك أم ضيع؟ ومن حساسية هذا الموضوع أن بعض الدعاة إلى الله عز وجل يجتهد في دعوة الآخرين ثم يقصر هو في دعوة أهل بيته؛ إنه يساهم في تطهير بيوت الآخرين من المنكرات، لكنه غير مهتمٍ بتطهير بيته، إنه يساعد في إعطاء المناهج والعلم للآخرين في بيوتهم، وحثهم على إصلاح زوجاتهم وتربية أولادهم؛ لكنه قد يكون مصاباً هو في قعر بيته، ولا شك أنه سيسأل عما استرعاه الله سبحانه وتعالى أحفظ ذلك أم ضيعه. فلا يليق به مطلقاً أن يكون جيداً في الصعيد الخارجي ومقصراً في الصعيد الداخلي، بل من الطبيعي أن ينطلق الإنسان من الأقرب الأقرب فالأقرب، هذا هو الأمر السليم، وكذلك فإن بيت الداعية إلى الله سبحانه وتعالى إذا كان بيتاً سليماً نظيفاً طاهراً نقياً؛ فإنه يكون من الأشياء التي تحمس للانطلاق في الدعوة وتعينه في ذلك، أما إذا أصيب الرجل في بيته الخاص به، والذي يسكن فيه ويأوي إليه؛ فإنه يكون قد أصيب في مقتل، فإن هذا البيت الذي قد أصيب يعطله عن الدعوة ويجعل بينه وبينها عوائق، بل أقل ما يمكن أن يقال: إنه يشغله عن متابعة سيره في الدعوة إلى الله عز وجل. إن بيت الداعية من الاختلافات التي يختلف بها عن بيوت بقية الناس، أنه بيتٌ يغشى للخير، يغشى للتعلم، يغشى للتدريس، يغشى للانتفاع، يغشى للإكرام أيضاً. روى البخاري رحمه الله تعالى عن أبي هريرة: أن الناس كانوا يقولون: أكثر أبو هريرة، وإني كنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشبع بطني، حتى لا آكل الخمير ولا ألبس الحبير -يعني: الثياب المزينة- ولا يخدمني فلانٌ ولا فلانة، وكنت ألصق بطني بالحصباء -يعني: الأرض- من الجوع، وإن كنت لأستقرض الرجل الآية هي معي كي ينقلب بي فيطعمني، وكان أخير الناس -هذا هو الشاهد- وكان أخير الناس للمسكين جعفر بن أبي طالب -ولذلك كان يلقب بـ أبي المساكين - وكان أخير الناس للمسكين جعفر بن أبي طالب كان ينقلب بنا فيطعمنا ما كان في بيته، حتى إن كان ليخرج إلينا العكة -قربة من الجلد يحفظ فيها السمن- حتى إن كان ليخرج إلينا العكة التي ليس فيها شيء فنشقها فنلعق ما فيها. فرضي الله عنه؛ يخرج العكة وليس فيها شيء إلا البقايا على جدرانها وأطرافها، فيشقها ليلعق ضيوفه ما فيها، فالداعية إلى الله كريم، بل ينبغي أن يكون بيته مفتوحاً للمساكين والفقراء، وأن يتخذ الإكرام وسيلة للدعوة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يجعل من إكرامه للناس وسيلة لاستمالة قلوبهم، كان يجيز الضيف ويعطيه، وإذا فتح الله عليه بشيء وزعه على الناس يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، حتى كان ذلك سبباً في إزالة الشحناء من قلوب كثير من أعدائه، ودخول الألداء من خصومه في دين الله سبحانه وتعالى، ولا شك أن بيتاً بهذه المهمات ينبغي أن يكون ذا مواصفاتٍ عالية، لأنه بيت ينطلق منه الخير، ويشع بالعلم، ويستقبل الناس الراغبين في الهداية والتعلم، بل ربما يستقبل بعض المصابين بالأمراض والذين فيهم ضلال، فيكرمون في هذا البيت، فيكون ذلك سبباً في هدايتهم وانقيادهم للحق وإلى طريق الله المستقيم، ولذلك كان الاهتمام ببيت الداعية من الأمور المهمة جداً.

ثغرات في بيوت الدعاة مع الزوجات

ثغرات في بيوت الدعاة مع الزوجات

قلة العبادة

قلة العبادة من الثغرات الموجودة في بيوت بعض الدعاة: خلوها من العبادة، أو قلة العبادة فيها، وعبادة الله سبحانه وتعالى لا شك أنها تجعل البيت منيراً مشرقاً بذكر الله سبحانه وتعالى، البيت الذي لا يذكر الله فيه كالميت، كيف يكون البيت وسيلة لهداية الناس ولا يذكر الله فيه؟! والنبي صلى الله عليه وسلم قال لنا: (اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم ولا تتخذوها قبوراً) وذلك حتى يكون البيت حياً بذكر الله سبحانه وتعالى، وعامراً بعبادة الله عز وجل، وإذا رأينا البيت لا قرآن فيه ولا نوافل، لا الزوجة ولا الأولاد يرون أباهم يرفع يديه ويدعو، أو يصلي في هذا البيت، أو يفتح المصحف ويقرأ، فكيف سيعيشون؟ وعلى أي شيءٍ سيتربون؟ إن النبي صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على عمارة بيته بذكر الله، وكان حريصاً على الصلاة فيه، وكانت هذه الصلاة وسيلة لتربية من في البيت، روى البخاري رحمه الله عن ابن عباس قال: (بت في بيت خالتي ميمونة بنت الحارث زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم عندها في ليلتها، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم العشاء، ثم جاء إلى منزله فصلى أربع ركعات، ثم نام، ثم قام، ثم قال: نام الغليم أو كلمة تشبهها، ثم قام فقمت عن يساره، قام ابن عباس فتوضأ نحو وضوئه صلى الله عليه وسلم، ثم قام عن يساره، فأخذ بأذنه صلى الله عليه وسلم فحوله عن يمينه، قال ابن عباس: فصلى خمس ركعات، ثم صلى ركعتين، ثم نام حتى سمعت غطيطه أو خطيطه، ثم خرج إلى الصلاة). إذن لما كان البيت فيه عبادة تشجع الولد على القيام للصلاة -لما رأى زوج الخالة- وهكذا عندما يرى الولد أباه يصلي يقوم معه؛ بل إن كثيراً من الأطفال الصغار جداً في البيت إذا رأوا من يصلي قاموا يشابهونه بالحركات (يحاكونه بحركاته). فهذه مسألة في غاية الأهمية، فإذا كانت بيوت الناس مقفرة من العبادة فينبغي أن يكون بيت الداعية حياً بالعبادة.

فساد الزوجة

فساد الزوجة ومن الثغرات الخطيرة جداً في بيت الداعية: الزوجة غير المتدينة؛ فإن رجلاً مسلماً داعية إلى الله عز وجل يريد أن ينطلق في الدعوة، وهداية الناس وإرشادهم، ودلالتهم إلى طريق الحق، إذا أصيب في بيته في أقرب الناس إليه، وابتلي بزوجة سيئة غير متدينة، لا تقيم للمعروف وزناً ولا تحذر من المنكر، فأي حالٍ سيكون فيها هذا الرجل؟ وكيف سيكون انطلاقه في الدعوة وهو مصاب في عقر داره وفي أقرب الناس إليه؟. - أسباب عدم تدين الزوجة:- أول من يحتاج إلى دعوته زوجته ولا شك، ولا شك أن هؤلاء الشباب الذين يتساهلون في الأمر ويقول الواحد منهم: أتزوجها الآن ثم بعد ذلك ستتدين بالتدريج، وتلتزم بالتدريج؛ لا شك أن هؤلاء يخاطرون مخاطرةً عظيمة، فإن المسألة ليست مضمونة، وكثيراً ما تبقي الزوجة على حالها. ثم إن الداعية إلى الله عز وجل من طبيعته الانشغال بدعوته، فهل سيكون متفرغاً لها بحيث يتابعها ويدعوها الدعوة التي تصلح شأنها، ويبذل لها المجهود المناسب لهدايتها، بإذن الله طبعاً؛ الهداية من الداعية هداية الدلالة والإرشاد، وليست هداية التوفيق والإلهام، فإن الله عز وجل هو الذي يهدي من يشاء، فهل يا ترى سيتفرغ لذلك، أم أنه سيظن أنه سيفعل ثم لا يفعل؟ لأن الواقع الذي سيعيش فيه سيجره لانشغالات كثيرةٍ خارج البيت، فإذا كان ظهره في البيت غير مؤّمن، وإذا كان لا يخرج من درعٍ حصينة، فلا شك أنه سيكون مكشوفاً، ويكون مضطرباً قلقاً، ولذلك تجد بعض الناس الذين يفعلون بعض النجاحات الخارجية في دعوتهم إلى الله عز وجل يعانون من مصائب داخلية في بيوتهم؛ فيعانون من مشكلات كثيرة في زوجاتهم هم. كما أن بعض النساء المتدينات أيضاً يعشن هذا الهاجس، وتحت مطرقة الزوج المنحرف، وبسبب أن منشأ القضية كان خطئاً: (تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك) هذا بالنسبة للرجل وبالنسبة للمرأة: (إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه) فحث الرجل على الاهتمام والانتقاء واختيار المرأة الصالحة، وأخبر أن الدنيا كلها متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة، بل أمر فقال: (ليتخذ أحدكم قلباً شاكراً، ولسانا ذاكراً، وزوجة مؤمنة تعينه على أمر الآخرة) أوصى بذلك وأمر به، وكذلك أمر أهل المرأة أن ينتقوا لبنتهم صاحب الخلق والدين، إذا كان منشأ القضية الغلط، فلم يحصل الانتقاء ولا الاختيار فلا يلوم بعد ذلك أو يتبرم الداعية ويقول: إنني أعاني من أقرب الناس إلي، أو تتبرم المرأة وتقول: إنني أعاني من أقرب الناس إلي؛ لأن المسألة خطأ من أصلها وبدايتها، وكان ينبغي أن يكون الحرص على صاحبة الدين وعلى صاحب الدين، وأن يكون الدين هو محور الاختيار، وهو الأساس في الانتقاء. أما إذا لم يحصل ذلك فلا تقل بعد ذلك يا أيها الداعية: كيف أشتغل في دعوة الناس وزوجتي عندها انحرافات؟ كيف أتفرغ لهم وعندي ما يشغلني في الجبهة الداخلية؟ نقول: أنت السبب؛ نعم الإنسان قد يبتلى، وقد يلبس عليه في أشياء، لكن إذا كان حريصاً فلا شك أن هذا الجانب سيكون قليلاً جداً وضيقاً، والزوجة غير المتدينة ستطالب زوجها بأمور منها منكرات ومحرمات، أو على الأقل شبهات، ولن تصمد أمام أقربائها والآخرين إذا دعوهم لإدخال شيءٍ من المنكرات إلى البيوت، بل ستطالب الزوج، وربما تجعل حياته جحيماً لا يطاق. إن الزوجة غير المتدينة لن تحتسب في غياب زوجها في الدعوة إلى الله وطلب العلم، ولن تصبر على افتقاده في البيت، ولا على بكاء الأطفال، ولا على تأخر الأغراض، ولا شك أن الإنسان إذا أمن الجبهة الداخلية ارتاح إذا انطلق في الخارج، وهذه مسألة لا يقدرها إلا من جربها. - علاج المشكلة:- لكن لنأتي الآن إلى الحل والعلاج فيما لو حصل شيء من التقصير من الزوجة؛ لو أنه ابتلي بزوجة غير متدينة، أو أنه تزوج امرأة متدينة ثم حصل منها تقصير، ومسألة الانتكاس أو التراجع شيء واقع موجود، فلو حصل هناك ضعف من جانب الزوجة أو الزوج فما هو الواجب إذن؟ ينبغي القيام أولاً بالتربية؛ تربية الزوجة وحثها على فعل الخيرات، وحضها على الصلاة: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه:132] وعلى تلاوة الكتاب العزيز، وحفظ الأذكار، والحث على الصدقة، وقراءة الكتب الإسلامية، واستماع الأشرطة المفيدة، واختيار الحلقة التي تعينها بصويحباتها على أمر الآخرة، ودرء الشر وسد منافذه. انظر إليه صلى الله عليه وسلم في بيته ماذا حصل لما وقعت عائشة في شيءٍ من القصور أو التقصير عن غير علمٍ منها؛ لكن المحرم يبقى محرماً، والمنكر يبقى منكراً، سواءً كانت الزوجة تعلم الحكم أولا تعلم الحكم، ولا بد أن يكون للزوج موقف، ولا بد أن يكون الموقف حاسماً، يتناسب مع العلاقة بينهما. روى البخاري رحمه الله: عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها فيما رواه أنها أخبرت القاسم بن محمد (أنها اشترت نمرقةً فيها تصاوير، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على الباب فلم يدخل!! -والنمرقة: هي الوسادة التي يجلس عليها- فعرفت في وجهه الكراهية فقلت: يا رسول الله! أتوب إلى الله، ماذا أذنبت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بال هذه النمرقة؟ قلت: اشتريتها لك لتقعد عليها وتوسدها -يعني نيتي صالحة- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أصحاب هذه الصور يوم القيامة يعذبون فيقال لهم: أحيوا ما خلقتم) وقال: (إن البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة). وفي كتاب المظالم والغصب أخرج رحمه الله تعالى الحديث عن عائشة: أنها كانت اتخذت على سهوةٍ لها ستراً فيه تماثيل، فهتكه النبي صلى الله عليه وسلم -هتكُه تدَّخل لتغييره بيده- فاتخذت منه نمرقتين، قد زالت التصاوير المحرمة عنها بالشق، فكانتا في البيت يجلس عليهما صلى الله عليه وسلم. بل إنه عليه الصلاة والسلام في أدق من ذلك، وهي الأشياء التي تلهي عن الصلاة وإن لم تكن محرمة؛ لكن من أجل أنها تلهي عن الصلاة بزخارفها مثلاً كان يحارب ذلك، فقد أخرج البخاري رحمه الله في كتاب الصلاة، عن أنس بن مالك: كان قرامٌ لـ عائشة سترت به جانب بيتها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أميطي عنا قرامك هذا، فإنه لا تزال تصاويره تعرض في صلاتي). وينبغي أن يكون موقف الزوج -كما سبق- موقفاً واضحاً جداً، وموقفاً مبنياً على الشريعة، لا بد أن يكون عنده علم، لأن الزوجة قد تسأله عن الدليل على تحريم هذا الشيء، فينبغي أن يكون عنده دليل. كذلك بعض الأزواج يمشي الأمور في بيته، فيقع منكر بسيط فيرضى به ويسكت، ثم يوضع شيء فيه منكر أكبر قليلاً؛ قد يكون الأول من المشتبهات، والثاني الشبهة فيه أكبر، والثالث محرم من المحرمات التي ليست بالكبيرة، وهكذا تتدرج الأمور، فينبغي أن يكون العلاج من البداية علاجاً حاسماً، وينبغي أن يظهر أثر إنكار المنكر على وجه الزوج؛ لأنه قد جاء في الرواية أيضاً عند البخاري رحمه الله عن عائشة قالت: حشوت للنبي صلى الله عليه وسلم وسادةً فيها تماثيل -كأنها نمرقة- فجاء فقام بين البابين وجعل يتغير وجهه صلى الله عليه وسلم!! فقلت: ما لنا يا رسول الله؟ قال: (ما بال هذه الوسادة؟ قلت: وسادة جعلتها لك لتضطجع عليها، قال: أما علمت أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة، وأن من صنع الصورة يعذب يوم القيامة يقول: أحيوا ما خلقتم) الزوج المتعلم يسهل عليه إقناع زوجته؛ لكن الجاهل الذي لا يعرف الحكم، ولا يعرف الدليل، ولا يعرف السبب فإنه لو سألَتْه: لماذا؟ يقول: افعلي ولا تناقشي، ولا شك أن هذه الطريقة ليست طريقة مؤثرة في العلاج أو إزالة المنكر، ولذلك الداعية إلى الله عز وجل ينبغي أن يكون عالماً بما يأمر، عالماً بما ينهى، حليماً فيما يأمر، حليماً فيما ينهى، وهكذا. - أهمية صلاح الزوجة:- ونعود مرةً أخرى فنقول: إن حياة الداعية تحتاج من زوجته إلى تضحيات؛ إن حياته للناس، فهو كما ينبغي أن يكون وقفاً لله تعالى وينبغي عليه أن يترك وقتاً لأهله؛ لكن لا شك أن الإنسان صاحب الارتباطات، الذي يغشى مجامع الناس وملتقياتهم وأنديتهم؛ ليقوم بواجب الدعوة والتذكير والنصح؛ لا شك أنه سيكون منشغلاً، إنه قد يلقي درساً أو موعظةً، أو يذهب في زيارةٍ، أو يمر على أماكن للتعليم فيها والإنكار والنصح ونحو ذلك، ويشترك في مناسبات تربوية لا شك أن هذه الأشياء تأخذ وقتاً منه. والمرأة بطبيعتها تحب أن يكون زوجها سلماً سالماً لها لا يشاركها فيه أحد، وإذا كانت لا تقدر هذه الأشياء فمن الذي يقدر؟ لا شك أنها إذا كانت متدينة تفقه هذه الأمور فإنها ستقدر، وأما إذا كانت امرأة عادية لا تفقه ولا تفهم هذه الأشياء فإنها لن تقدر الواقع، فلذلك تتبرم من تأخره وتتضجر من تغيبه عن البيت. ثم المسألة- أيها الإخوة- أعمق من ذلك، ولعلنا ندخل في شيءٍ من هذا العمق من خلال الرواية التالية في فائدة الأهل الطيبين، فائدة الزوجة الصالحة والأولاد الصالحين، والكلام ليس فقط عن الزوجة الصالحة؛ لأن أهل البيت يعينون أباهم أو يعينون الذي يرعاهم على الدعوة إلى الله، سواء كانوا رجالاً أو نساء؛ زوجات أو بنات، أولاداً ذكوراً أو إناثاً، المقصود أن يكون بيت الداعية صالحاً، ومن فيه صلحاء حتى يعينوه. أقول: إن مسألة حساسية أهل البيت وصلاحهم، لا شك أن له أثراً كثيراً في نجاح الداعية في حياته، وتمعنوا معي الآن في هذه الرواية: روى البخاري رحمه الله في كتاب المناقب في هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أبو بكر قد جهز راحلتين وعلفهما أربعة أيام استعداداً لأمر النبي عليه الصلاة والسلام، قالت عائشة: (فبينما نحن يوماً جلوسٌ في بيت أبي بكر في نحو الظهيرة قال قائل لـ أبي بكر: هذا رسول الله صلى الله

الخلافات الزوجية

الخلافات الزوجية ومن الثغرات الموجودة في بيوت الدعاة، والتي تؤثر كثيراً على دعوتهم: قضية الخلافات الزوجية؛ والخلافات الزوجية نارٌ يكتوي بها كثير من الناس، والشخص إذا كان صاحب عمل عادي ربما لا يتأثر كثيراً لأنه إذا خرج إلى العمل ارتاح من زوجته، وإذا رجع بعد ذلك يدبر أمره، لكن الداعية يدرك خطورة البيت، وما ينبغي أن يكون عليه أهله؛ فإذا دخل في أتون الخلافات الزوجية فإنه سيتأثر وتتأثر دعوته ويتأثر طلبه للعلم؛ كيف يركز في حلقة العلم وبينه وبين زوجته ما قام بين داحس والغبراء؟ كيف سيكون صاحب عطاء في الدعوة إلى الله وهناك مشاتماتٌ وسبابٌ وهجرٌ وقطيعةٌ ومخاصمة بينه وبين زوجته؟ لا شك أن الحزن الذي سيسببه ويخلفه هذا الخلاف سيؤثر في عطائه في الدعوة إلى الله؛ لأن الإنسان عندما ينطلق مرتاحاً بالدعوة وطلب العلم لا شك أنه سيكون مهيأ أكثر؛ ذهنه صاف، نفسه متطلعة ومنفتحة لأجل العطاء والتحصيل، لكن إذا كان مهموماً بالخلافات يعيش ويكتوي بنارها، ويصطلي بحرها، فكيف إذاً سيكون عطائه؟ وهذه الخلافات قد يكون سببها الداعية نفسه! قد يكون عنده شيء من الاستبداد، قد يكون عنده تحكمٌ ليس فيه حكمة، قد يكون مقصراً في الحقوق الزوجية، قد يكون عنده إهمال وتفريط مما يثير نقمة زوجته عليه، وبعضهم يغيب غياباً طويلاً جدا، ً ويهمل حاجات البيت فلا يأتي بما تحتاج إليه الزوجة، بل حتى النفقة يقصر فيها، فيكون باختصار هو السبب. وقد يجعل الداعية زوجته تعيش في غموض كبير، ويكثر من التوريات عليها فتفقد الثقة به! لأنه لابد من مستوى معين من المصارحة، نعم هو غير ملزم أن يعطيها جميع التفصيلات عن دقائق أموره، لكن لا بد أن يخبرها بأشياء، لا يمكن مثلاً أن يسافر ولا يخبرها أنه مسافر! وقد يرهقها بكثرة العمل أو الضيوف، بشيءٍ فوق المستوى المعقول، ومعاملة الزوجة بهذا الغموض وإخفاء الأشياء باستمرار حتى التي لا ضرر فيها ولا حرج، لا شك أن ذلك سيضايق الزوجة كثيراً، فإذاً الخلافات الزوجية قد يكون سببها الداعية!. وبعض الدعاة إلى الله يقرءون في أساليب الدعوة، والحكمة في الدعوة، ويقرءون في مراعاة الأولويات، ويقرءون في الوسائل الناجحة، وقد يكونون ناجحين فعلاً في استخدام هذه الوسائل والأساليب، لكنهم ليسوا بناجحين مطلقاً في سياسة زوجاتهم، يمكن أن يهدي مدعوه هديةً يتألف بها قلبه ثم هو لا يهدي زوجته هدية واحدة! إذاً هذا النجاح على صعيد والفشل على صعيد آخر؛ لا شك أنه يشقي الإنسان، ليس النجاح الذي يشقيه في صعيد الدعوة، لكن الذي يشقيه الفشل على صعيد الحياة الزوجية. إذاً لا بد من إعطاء الحقوق الزوجية، ولا بد من مصارحة الزوجة بما ليس فيه ضررٌ ولا حرج، لا بد من إشعارها بالاهتمام حتى ولو بالكلام، ولا شك أن المرأة تأنس إذا ما اعترف لها زوجها بتقصيرٍ مثلاً، أو طلب منها السماح في أمرٍ من الأمور، وتنازل عن رأيه في أشياء فتتنازل له بالمقابل عن أشياء كثيرة. وشيءٌ من الهدية مع شيءٍ من الكلام الطيب والإكرام، وإكرام أهل الزوجة أيضاً، وليس إكرام الزوجة فقط، والمعاملة الحسنة لأهل الزوجة، وتذكرهم في المناسبات؛ لا شك أنه يصلح الأحوال مما يريح الداعية كثيراً في مهماته، وإذا شعرت الزوجة أنه يشاركها في اهتماماتها، بل ويجعل لها من وقته حلقةً أو درساً، أو يقرأ معها من كتاب، أو يوقظها لقيام الليل كما في الحديث: (رحم الله رجلاً قام من الليل فأيقظ أهله، فإن أبت نضح في وجهها الماء) لا شك أن هذا الاهتمام يشعر الزوجة أن زوجها ليس صاحب هوى، ولا صاحب استبداد، وإنما هو إنسان يريد الخير لها فعلاً. ثم إنه إذا أذن لها بالمباح من اللهو؛ فإنها لا شك ستأنس به أكثر، ألم يأتك حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (دخل أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بعاث قالت: وليستا بمغنيتين). فهذا الغناء عبارة عن أشعار تنشد بصوتٍ جميل من قبل بنات صغيرات الآن عائشة لما تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم كان عمرها تسع سنوات، وكان عليه الصلاة والسلام يدخل لها صويحباتها ليلعبن معها، وكان يجعل لها ألعاباً، وكان يسألها عن الفرس الذي له أجنحة، وكان عندها لعب تتناسب مع سنها، لا شك أن السماح للزوجة بالصويحبات والجواري اللاتي كن معها بدون محرم، لما ظنه أبو بكر محرماً بين له عليه الصلاة والسلام أنه ليس بمحرم، (قال أبو بكر: أمزامير الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟) والمزمور يطلق على آلة اللهو المحرم، ويطلق على الصوت الحسن، ولا شك أن المقصود بالرواية هنا الثاني، ولا شك أن الكلام الذي كن ينشدنه ليس فحشاً ولا فجوراً، وإنما هو شيءٌ تقاولت به الأنصار في يوم بعاث، فبين النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر أنه ليس بمنكر وقال: (يا أبا بكر إن لكل قومٍ عيداً وهذا عيدنا) والترفية عن الزوجة وإتاحة المجال لها في العيد بما يرضي الله عز وجل لا شك أنه أمرٌ مطلوب. لقد كانت البساطة بينه وبين زوجته عليه الصلاة والسلام عاملاً كبيراً من عوامل الاستقرار والهناء في الحياة الزوجية، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (كنت أنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلاي في قبلته، فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي، فإذا قام بسطتهما قالت: والبيوت يومئذٍ ليس فيها مصابيح). وبالرغم مما سبق كله فهل يقال: إن من المطلوب ألا توجد الخلافات أبداً؟ نقول: هذا محال، فلا بد أن توجد خلافات زوجية، لكن لا بد أن تكون الأوبة سريعة، والخلاف يزول بسرعة، وتتدخل الأطراف التي عندها حكمة في حل الإشكالات. هل وجد خلافات زوجية على عهد النبي عليه الصلاة والسلام؟ لا شك في ذلك، وهذا مثال: عن سهل بن سعد قال: (جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت فاطمة فلم يجد علياً في البيت، فقال: أين ابن عمك؟ قالت: كان بيني وبينه شيءٌ فغاضبني فخرج فلم يقل عندي -أي: ما نام عندي القيلولة- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنسانٍ: انظر أين هو، فجاء فقال: يا رسول الله! هو في المسجد راقد، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع قد سقط ردائه عن شقه وأصابه التراب، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسحه عنه ويقول: قم أبا تراب قم أبا تراب) فالخلافات تعالج بسرعة وفي نفس اليوم، وترجع المياه إلى مجاريها، وليس هناك إصرار وعناد، والزوجة تفتح الباب وتمشي وتجلس عند أهلها الأسابيع والشهور وتقول: لا بد أن يأتي لي بربوة، وهو يقف أيضاً عند كبريائه، وهي تقول: لا أتنازل، وأهلها يقولون: لا ترضخي له، وتتسع المسألة وتتشعب، لا يمكن لإنسان في مثل هذه الحالة أن يعيش حياةً دعويةً سعيدة، أو ينطلق انطلاقة جيدة في دعوته وطلبه للعلم وهو يعاني من آثار هذه الخلافات. إذاً لو حصل خلاف فليعالج بالحكمة وبالحسنى، والمسألة سهلة بعد ذلك -إن شاء الله- إذا وجدت النية الطيبة من الطرفين.

عدم الاهتمام بتربية الأولاد

عدم الاهتمام بتربية الأولاد من الثغرات الموجودة: عدم الاهتمام بتربية الأولاد؛ فبعض الدعاة إلى الله يهتمون بأولاد الناس وأولادهم يهيمون في الشوارع، بعض الدعاة إلى الله يعلمون الناس الكلام الحسن وأولادهم يتعلمون الكلام القذر من أولاد الشوارع، بعض الدعاة إلى الله عز وجل يحاربون الفحشاء والمنكر وأولادهم ربما وقعوا في الفواحش، نعم هذا حاصل موجود، ونسأل الله السلامة. أليس من العيب إذاً أن يهتم الإنسان بأولاد غيره وهو يهمل أولاده؟ وما هو الانطباع الذي يحصل عند الناس عندما يرون أولاد هذا الداعية يعيشون في هذا الجو من المعاصي؟ الداعية ملتح وابنه حليق، الداعية يصلي الفجر وابنه في البيت نائم، الداعية في سيارته أشرطة القرآن والذكر وولده عنده سيارة يفحط بها وهي مملوءة بأشرطة الأغاني، لا شك أن المسألة فيها جانب كبير من التفريط، نعم: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] لكن هل بَذلَ الأسباب؟ هنا السؤال، على الأقل أشرك أولادك مع الآخرين، اجعل لهم رحلةً يخرجون فيها عن البلد يعيشون فيها برنامجاً إسلامياً أو شيئاً طيباً، كما أنك تحرص على ذلك مع أولاد الناس. إذاً المسألة أيها الإخوة فيها تفريط، وهو الذي يؤدي إلى هذه النتائج، ثم إن الخلافات الزوجية التي أشرنا إليها قبل قليل لها أثر سيئ على الأولاد، وعندما يكون الداعية في طرف وزوجته في طرف يكون هناك معسكران في البيت، لا شك أن هذا الأمر السيئ يلقي بظلاله الثقيل على نفوس الأطفال مما يسبب لهم العقد النفسية، وربما كره الولد طريقة أبيه عموماً بما فيها من الخير؛ نتيجة لبعض السلوكيات من هذا النوع.

الإقدام على تعدد الزوجات قبل الدراسة للوضع

الإقدام على تعدد الزوجات قبل الدراسة للوضع وقبل أن نغادر الجانب الاجتماعي في الحياة الزوجية لعلنا نشير إلى مسألة وهي قضية المشكلات التي يواجهها الداعية إذا كان متزوجاً أكثر من زوجة، فالموضوع ليس هذا محل التوسع فيه والبسط، ولعله سيأتي إن شاء الله، لكن هناك تلميحات سريعة. بعض الدعاة إلى الله لا يقدر الموقف حق قدره قبل أن يقدم على الزواج بالزوجة الثانية أو الثالثة؛ لو أنه ينطلق من عفته لنفسه لسكتنا، بل وهنأناه، ولا يمكن أن نقول له إلا الخير؛ ولو أنه يحرص على أن يكثر النسل ويربي هذا النسل، لقلنا له كلاماً حسنا موافقين له ومغتبطين بما فعل، لو ضم أرملةً أو ضم إليه ضعيفةً للإحسان إليها لكان مأجوراً عند الله، ولا شك أن من هذه الشريعة تعدد الزوجات، ولا يجادل في ذلك إنسان، لكن المقصود من هذا الكلام الذي نقوله الآن: دراسة الداعية لموقفه قبل أن يقدم على تعديد الزوجات: هل يطيق ذلك من جميع الجهات مادياً وجسدياً؟ وهل عنده قدرة على العدل أو لا؟ هذه مسألة شرعية: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء:3]. هل عنده استعداد للإنفاق أم أنه سيجور في النفقة؟ هل عنده استعداد لتربية الأولاد ومتابعة بيتين معاً أم لا؟ هذه من الأشياء المهمة. ولا يمكن أن يتصور أنه لن تحدث هناك مشكلات البتة، إن النبي عليه الصلاة والسلام كان يعاني من بعض الأشياء التي تحدث بين زوجاته، وقد جاء عن عائشة: أن نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم كن حزبين؛ فحزبٌ فيه عائشة وحفصة وصفية وسودة والحزب الآخر أم سلمة وسائر نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان المسلمون قد علموا حب رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة، فإذا كانت عند أحدهم هدية يريد أن يهديها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرها حتى إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة بعث صاحب الهدية بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة، فكلم أم سلمة حزبها فقلن لها: كلمي رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلم الناس فيقول: من أراد أن يهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هدية فليهد إليه حيث كان من بيوت نسائه، فكلمته، فلم يقل لها شيئاً، جاءوا إلى فاطمة طلبوا منها أن تكلمه فكلمته: (إن نسائك ينشدنك الله العدل في بنت أبي بكر فقال: يا بنية! ألا تحبين ما أحب؟ قالت: بلى). كون الناس يهدون إليه في بيت عائشة ليس هو مسئولاً عن هذا، هذا ليس من الإنفاق الذي يفعله هو من فعله، وليس من اللائق أن يقول للناس: لا تجعلوا هداياكم هنا واجعلوها هنا، هذا من شأن الناس؛ من أراد أن يهدي فليهد في الوقت الذي يريد وفي البيت الذي يريد. فأرسلن زينب بنت جحش حين لم تحصل فائدة من جهة فاطمة، فأتته فأغلظت وقالت: إن نسائك ينشدنك الله العدل في بنت أبي قحافة، فرفعت صوتها حتى تناولت عائشة وهي قاعدة فسبتها، حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لينظر إلى عائشة؛ هل تكلم؟ قال: فتكلمت عائشة ترد على زينب حتى أسكتتها، قالت: فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى عائشة وقال: إنها بنت أبي بكر، إذاً من شابه أباه فما ظلم. فهل كانت تحدث مشاكل؟ نعم ألم تكسر عائشة إناءً لإحدى أمهات المؤمنين حين أتت بطعامٍ فيه إلى بيتها، ثم إن النبي عليه الصلاة والسلام أخذ إناء التي كسرت السليم وأعطاها إناء بدل الإناء الذي كسر. إذن كان هناك مشكلات ناتجة عن وجود أكثر من زوجة، فينبغي أن توجد الضوابط الشرعية؛ قيام العدل، النفقة، العدل في المبيت، وغير ذلك. لكن نعود فنقول: هل هذا الرجل الذي أقدم على التعدد درس المسألة من جهة إمكاناته أم أنه فعل ذلك تقليداًَ للآخرين وقال: ما أحد أحسن مني؟ ولماذا فلان يتزوج أنا سأتزوج أيضاً. إذاً نحن الآن نقول: الإنسان لا بد أن يقدر المسألة حق قدرها شرعاً وواقعاً، ثم يقدم على الخطوة إذا وجد ذلك لمصلحته، وأنه مستطيع؛ لكن إذا وجد أنه لا يستطيع، وأنه ليس بحاجة من جهة العفة مثلاً، وإنما يفعل ذلك تقليداً للآخرين، وهو غير مستطيع للعدل فلا يقدم على ذلك، ولا شك أن بعض الذين أقدموا على ذلك قد عانوا جداً في مجال الدعوة إلى الله، وصارت أمورهم في حيص بيص، نتيجة لعدم الدراسة المسبقة والتقدير السليم للموقف. ثم نقول أيها الأخوة: إن عدم الاعتناء بهذه الثغرة؛ وهي ثغرة الزوجة لا شك أنه يسبب فشلاً كبيراً وعقوبةً عند الله سبحانه وتعالى وربما يكون سبباً في فشل الداعية في دعوته. وإن من العجب العجاب أن نجد بعض الذين يزعمون الاشتغال بالدعوة؛ يمشي بجانب زوجته التي وضعت نقاباً متسعاً فظهر الحاجب الذي عليه الكحل، وظهر أجزاء من الخد والوجه ونحوه، ولا شك أن هذا عملٌ محرم، أو أن يذهب بها في أماكن الاختلاط والأماكن المشبوهة، وأماكن النزهة المحرمة، فلا شك أن هذا عيبٌ كبير يرتكبه.

عمل الزوجة من غير داع لذلك

عمل الزوجة من غير داع لذلك ومن الثغرات كذلك عمل الزوجة من غير داعٍ، فلا شك أن عملها وما يتطلبه من مشقة، وما يترتب عليه من انشغال عن البيت والأولاد والزوج؛ لا شك أنه ثغرة في البيت، نعم قد يكون هناك حاجة، أو شرط عليه في العقد؛ فينبغي الوفاء به إذا لم يكن ذلك مصادماً للشرع، فعند ذلك تعمل، لكن عندما لا تكون الحاجة؛ فلماذا تذهب للعمل مع أن عملها الأساسي للبيت، وقد أثبتت التجارب وكلام العقلاء حتى الكفار قالوا: إن خروج المرأة من البيت للعمل مفسدة، وتضييع للبيوت، وتشتيت للأسر، وتشريد للأطفال، وسبب في زيادة الجرائم، وغير ذلك من الأشياء، ولا شك أننا نقول أيضاً: وعلى رأس ذلك فإنه سببٌ للفساد.

ثغرات في جوانب أخرى في بيوت الدعاة

ثغرات في جوانب أخرى في بيوت الدعاة

التقصير في إصلاح من في البيت

التقصير في إصلاح مَنْ في البيت وننبه أيضاً هنا على مسائل وهي: بالنسبة للشباب الذين يدعون إلى الله عز وجل من غير المتزوجين، ماذا لهم في هذا الموضوع؟ فهو ليس صاحب زوجة ولا أولاد، وليس صاحب بيت مستقل، نقول: إنه ليس بمعفو من المسئولية، فإن الله قال: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:6] ولا شك أن أباه وأمه، وإخوته وأخواته من أهله، فإذاً ماذا فعل من أجلهم؟ كم تكلف في إصلاح بيته الذي يسكن فيه؟ نعم، قد لا يملك في البيت السلطة الكاملة، فيكون في موقفه ضعف، وقد يكون مبتلى بأخٍ أكبر منه هو الذي يسيطر، أو أب فاسق، أو أم سيئة، أو أخوات عاصيات، نعم. هذا موجود! وهو يحتاج من وقتٍ لآخر أن يزوره إخوانه في بيته، فإذا زاروه في بيته وجد الحرج والضيق، البيت فيه ملاهٍ محرمة، البيت يخرج منه ويدخل فيه نساء متبرجات، البيت يسمع فيه صوت الموسيقى، كيف سيدخل إخوانه إلى بيته، إذاً يعسر عليه أن يستضيف أخاً له أو يدعوه إلى طعامٍ ونحو ذلك، لا شك أنه سيتعرض لمشقةٍ كبيرة، لكن يبقى السؤال باستمرار: ماذا قدم الشاب لأهله؟ ماذا قدم لبيته؟ هل هو من النوع الذي يذهب مع أصدقائه وأصحابه ويهمل أمر بيته تماماً ويقول: هذا شيءٌ ميئوسٌ منه،! أبي ميئوسٌ منه، أمي ميئوسٌ منها، إخواني ميئوسٌ منهم، أخواتي ميئوسٌ منهن، ولا يقدم شيئاً؟ إذا كان كذلك فليعلم أن هذا خطأٌ كبير، ونقول: هل جربت؟ هل أصررت؟ هل كنت حكيماً؟ هل اتبعت الوسائل الناجحة؟ لا شك أن كثيراً من الشباب مقصرون في بيوتهم، ولا شك أن ذلك ينعكس عليه في حياته الدعوية، لأنه يشعر أحياناً أنه كالمطرود من بيته، خاصة الذي يعيش حالة شتات وخصومة بينه وبين والديه وإخوانه، صحيح أنه يجد في إخوانه في الدين ملاذاً ومهرباً من مشكلاته البيتية، لكن ليس الحل الصحيح أن يهرب من أهله إلى إخوانه، لا بد أن يواجه الواقع، لو حاول ولم يكتب الله له النجاح لقلنا: قد فعل ما عليه وترك ذلك المكان الذي يعج بالمعاصي إلى وسط إخوانه المعمور بالطاعات، هذا أمرٌ حسن، لكن العتب على الذين لم يقدموا شيئاً؛ حتى أنه لا يستطيع أن يستغل بيته في خدمة الدعوة إلى الله.

غياب الأخلاق

غياب الأخلاق ومن الثغرات أيضاً: ثغرة الأخلاق، وغياب الرأفة والرحمة والمودة في البيت؛ إذا دخل البيت سكت الجميع؛ خافوا وهابوا؛ قام الجالس واستيقظ النائم، ربما يكون له أولاد لا يقبلهم، كما قال ذلك رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: تقبلون صبيانكم! إن لي عشرة من الولد ما قبلتهم، قال: (أو أملك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك) والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل الصبيان ويضاحكهم ويمازحهم، ويحملهم في الصلاة، ويطيل السجود حتى يأخذ الولد حظه من الركوب، إذاً مسألة الأخلاق من الثغرات التي تجعل البيت غير مريح، الجلوس فيه غير مريح، المعيشة فيه غير مريحة، إن الله إذا أحب أهل بيت أدخل عليهم الرفق، وهذا بيتٌ لا رفق فيه؛ البيت كله زعيقٌ وصياح، البيت كله شقاق وخلاف، فلا شك أن هذا سينعكس بالتأكيد على نفسيته وهو يدعو إلى الله سبحانه وتعالى.

مشكلة الخدم والسائقين

مشكلة الخدم والسائقين من الثغرات الموجودة أيها الأخوة: مسألة الخدم والسائقين؛ هذه القضية كنا نتكلم عنها في بعض المرات، ويشعر الإنسان أنه يوجه كلامه إلى العامة الذين يأتون بالخادمة بغير محرم، أو جاء بخادمة كافرة أو سائق ليس في مكانٍ منفصلٍ عن البيت، لكن الإنسان يفاجأ بأناسٍ يظن فيهم الفضل والخير يدخلون بيوتهم هذه الخادمة بفتنتها، وليس بالضوابط الشرعية؛ فالخلوة موجودة، الكشف موجود، وإذا ذهبت زوجته للعلم نام هو في البيت ويقول: ماذا أفعل أأنام خارج البيت؟ جاء قبل أن تأتي زوجته من الدوام فجلس في البيت، إذاً هناك عدم تقوى لله في هذه المسائل، وكأنه يظن أن الذهاب إلى مجالس الطيبين، والقيام ببعض الأنشطة الخيرية، وحضور بعض الدروس هو المهم وهو لب الموضوع، وأما بقاؤه في البيت مع الخادمة بمفردهما ليس شيئاً ذا أهمية فلا يعيره اهتمامه. وأقول: لا بد أن يوازن الإنسان في قضية دخول هؤلاء الخدم، هل هي بالضوابط الشرعية فعلاً أم لا؟ وحتى لو كانت بالضوابط أحياناً يكون تقييداً شديداً له لا يستطيع أن يتحرك ولا أن يتنقل، لأنه لا بد أن يتأكد أنها متحجبة، وأنها غير موجودة في الطريق ونحو ذلك، ولذلك يعيش حياةً فيها صعوبة من هذه الجهة. فإذاً نعود لمسألة التأكيد على قضية الضوابط الشرعية.

ضعف الداعية أمام العادات المخالفة

ضعف الداعية أمام العادات المخالفة ومن الثغرات الموجودة في البيوت أيضاً: الضعف أمام العادات الاجتماعية المخالفة للشريعة، وأول ما يبدأ بأشياء فيها تشبُّه بالكفار، ويرضى أن يكون في حفلة زواج فيها منكرات كالدبلة، وغير ذلك من علب الفضة؛ إلى وجود الفرقة الغنائية عند النساء؛ إلى آخره من أنواع المنكرات، وحتى يشترك في الزفة، وهذا محسوب على الدعاة الملتزمين، يشترك الشخص في الزفة ويدخل يصافح الحريم، وتؤخذ له الصورة فأين الدعوة التي يزعم أنه يمارسها.

وجود بعض المحرمات في البيوت كالملاهي

وجود بعض المحرمات في البيوت كالملاهي من الثغرات الموجودة أيضاً في بيوتنا أو بيوت الدعاة، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يحفظ بيوتنا جميعاً منها: مسألة الملاهي المحرمة، والوسائل المرئية أو المقروءة أو المسموعة المشتملة على الحرام، ولا شك في حرمتها وفسادها، وإفسادها واضحٌ جداً، فمناظر الاختلاط في هذه الوسائل موجودة، الحرب على الدين موجود، الاستهزاء بالمتدينين موجود؛ تعرض التمثيليات من أجل ذلك، والإعلانات التجارية وما فيها من المنكرات، وما يتفرج عليه الأولاد من أفلام؛ حتى أفلام الكرتون ما سلمت من الشرور والمفاسد، التي فيها إضرارٌ بالعقيدة ونحو ذلك! الصور المحرمة، الأدوات الموسيقية، الألعاب؛ حتى ألعاب الأطفال يهمل البعض في إدخالها إلى البيت وقد تكون فيها صلبان، أو فيها نرد وهو محرم، أو فيها بطاقات ألعاب فيها سحب من البنوك واقتراض بفوائد، أو الأصنام ذات الرءوس، وألعاب الكمبيوتر المحرمة، وربما يوجد فيها مناظر للنساء متعريات، ولدٌ يقبل بنتاً في ألعاب الكمبيوتر، وصور الكنائس، وربما أدخل الكمبيوتر على شاشة التلفزيون فيؤدي إلى رؤية أولاده لهذا في غيابه، وحتى عدم مراعاة الأضرار الصحية، حتى اضطرت شركات ألعاب الكمبيوتر الكتابة على الأجهزة؛ مثل شركة ناين تيندو وغيرها من الشركات تقول: إن الإدمان أو الإكثار من اللعب بهذه الألعاب هو من أسباب مرض الصرع عند الأطفال، وهذا واضح، ولذلك تجد عدداً من أطفال هؤلاء الدعاة ربما انهمكوا فيها، فتجد الولد عصبي المزاج من كثرة إدمانه على هذه الألعاب. فأقول: حتى بعض الأشياء التي ليس فيها منكرات قد يكون في الإدمان عليها أضرار صحية يحولها إلى منكرات، ولذلك يجب أن يكون اللعب بقدر محدود في مثل هذه الأشياء، لماذا لا يأتي لهم بألعاب التصويب والتهديف، أو الفك والتركيب، أو الألعاب العضلية، ويلعب بها هو معهم؛ كلعبة الكراسي ولعب الكرة، أو يأتي لهم بآلاتٍ متحركة، أو ببعض البرامج المفيدة: تربية الحيوانات، الدراجة، الأرجوحة؟ والمقصود أن هناك بدائل شرعية عن هذه الألعاب المحرمة الموجودة في السوق، وأشرطة الأناشيد التي ليس فيها محظورات من الميوعة في الألحان، ومطابقة ألحان الأغاني، وحتى الدمى هذه التي يعلب بها البنات ينبغي أن تكون مطابقة للشريعة، فإن بعض العلماء يحذر من هذه الدمى البلاستيكية متقنة الصنع، التي ربما تتكلم وتمشي وتتحدث، وتفتح عينيها وتغمضها، بل سمعنا من الطامات الآن أنه يوجد بعض المحلات الخاصة ببيع ملابس عرائس الأطفال، هذا محل يبيع ملابس باربي، هذا محل يبيع ملابس شنطة، الشنطة بكذا، والحزام بكذا، والملابس بكذا، محلات خاصة ببيع ملابس عرائس الأطفال، وتنفق فيها الأموال، وتهدر هذه الأموال التي ينبغي أن تذهب لمنفعة المسلمين. ثم ينبغي على الداعية أيضاً أن ينتبه لمسألة البديل، قد لا يوجد بديل في بعض الأشياء، فلا يلزم أن يوجد بديل لكل شيء، قد يكون الشيء محرماً بالكيلة لا يوجد له بديل فيلغى، يعني: إذا وجدت موسيقى هل هناك موسيقى إسلامية، وإذا وجد رقص فلا يوجد رقص إسلامي، فمثل هذه الأشياء التي توجد عند بعض الناس الذين لديهم أشياء من الجرأة والعقلانيات، لا شك أن هذا من منهج المنحرفين في مثل هذه الموضوعات.

مجاراة الناس والوقوع في الشبهات

مجاراة الناس والوقوع في الشبهات ثم من الثغرات الموجودة في بيوت الدعاة إلى الله عز وجل وقوعهم في المجاراة لغيرهم من الناس، فإذا أتى جاره بشيء أتى بمثله ولو محرماً، إذا طلبت منه زوجته أشياء محرمة أتى بها تحت الضغط، وكذلك إذا ألح عليه أولاده، وبعض الدعاة إلى الله يقعون في الشبهات، والشيطان ينفذ من باب الشبهات لإيقاعهم في المحرمات؛ وربما قال: آتي لهم بشاشة في البداية على غير محرم، ثم يحدث التوسع بعد ذلك في قضايا أخرى، لأنه غير قادر على الضبط، ويعتمد البعض على بعض الخلافات الفقهية ويقول: يوجد مشايخ أفتوا بالإباحة مثلاً؛ مع أن قوله مرجوح، والمفروض أن يكون هذا طالب علم يعلم بالراجح ويعمل بالدليل، ولا يتتبع الرخص، لكن مع الأسف ربما يُعلِّم غيره أشياء ويقع هو فيها. ثم هناك التنازلات التي تحدث في العلاقات الاجتماعية، وهو ربما لو طلب منه أبوه أن يصافح زوجة أخيه أقدم على ذلك، ويتساهل في كشف زوجته على إخوانه، وكشف الإخوان على زوجته، وكشف زوجات إخوانه عليه، ونحو ذلك، وهذا يقع في البيوت التي يسكن فيها مجموعة من العوائل في بيت واحد. وكذلك أيضاً لا بد أن ينتبه الداعية مما يدخل إلى بيته من المقالات أو المجلات أو الكتب، قد يكون بعضها فيه فوائد؛ لكن أيضاً فيه محرمات، وربما زوجتة تطلع عليها وتقرأ فيها، كتب بعض الدارسين للطب مثلاً يوجد فيها صور مشينة، فينبغي الحذر من ذلك، بعضهم قد يأتي بمقالات لمجلات أجنبية في موضوعات متخصصة قد يحتاج إليها أحياناً، لكن فيها أشياء سيئة لا يهتم بطمسها ولا بإزالتها، أو على الأقل بإبعادها عن متناول أيدي الزوجة والأطفال، وبعضهم يأتي بالمجلات والجرائد إلى البيت وقد يزعم أنه يريد أن يتتبع الأخبار، ثم يفاجأ بزوجته وأولاده يقرءون هذه الأشياء وفيها من السموم ما فيها.

التوسع في المباحات

التوسع في المباحات ثم من الثغرات الموجودة في بيوت بعض الدعاة إلى الله عز وجل: التوسع في المباحات توسعاً ملهياً، بل هو من مداخل الشيطان، فإن الشيطان يشغل الإنسان بالمباح عن الطاعة والعبادة؛ تجديد الأثاث، التزويق في البيت، الصف في الأسواق فترات طويلة ليشتري هذه وهذه، هذا يزعم أنه داعية إلى الله وأنه طالب علم و، أو ربما تكون زوجته كذلك، ثم يكون اللف والدوران في الأسواق على النجف والمزهريات والسجاد العجمي، فأين التقشف وأين ما ينبغي أن يكون عليه من الزهد في بيته؟ تجد فيه الزخارف بأنواعها، والنبي عليه الصلاة والسلام حذر من البيت المزوق، وبعض الصحابة رضوان الله تعالى عليهم رجع من البيت الذي كسي جداره من أجل ما فيه؛ فإنه قد جاء عن سهل بن عبد الله بن عمر: أعرست في عهد أبي، فآذن أبي الناس فكان أبو أيوب فيمن آذن، وقد ستروا بيتي بنجادٍ أخضر، فأقبل أبو أيوب فاطلع فرآه فقال: يا عبد الله: تسترون الجدر، فقال أبي واستحيا: غلبنا النساء يا أبا أيوب فقال: من خشيت أن تغلبه النساء يعني: ما أتوقع أن يغلبنك، فرجع ولم يدخل. فإذن يوجد هناك توسع في المباحات وكثير منه يكون بسبب مجاراة الآخرين، يدخل بيوت الناس يرى فيها تزويقاً فيريد أن يجعل ذلك في بيته، وعند فلان مزخرفات يريد أن يجعل ذلك في بيته، وزوجته تدخل بيوت نساء وتجد عندهن نجفاً وتحفاً فتطلب مثل ذلك في بيتها وهو يستجيب، إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحارب ذلك حتى في بيوته، وفي بيت فاطمة بنته؛ أتى النبي صلى الله عليه وسلم بيت فاطمة فلم يدخل عليها، وجاء عليٌ فذكرت له ذلك، فذكره للنبي صلى الله عليه وسلم وقال: لماذا لم تدخل إلى بيتنا يا رسول الله؟ قال: (إني رأيت على بابها ستراً موشياً؛ ثم قال: مالي وللدنيا! فأتاها عليٌ فذكر لها ذلك، فقالت: يأمرني فيه بما شاء قال: ترسل به إلى فلان أهل بيتٍ بهم حاجة) فقد لا يكون محرماً ولو كان محرماً لما جاز أن تعطيه إلى غيرها، لكنه عليه الصلاة والسلام لا يرضى بهذه الأشياء لأهله، وكان بيته صلى الله عليه وسلم متواضعاً، كما قال عمر رضي الله عنه: رفعت بصري في بيته، فوالله ما رأيت فيه شيئاً يرد البصر غير أهب ثلاثة، الإهاب: هو الجلد قبل الدبغ فقلت: ادع الله فليوسع على أمتك، فإن فارس والروم وسع عليهم وأعطوا الدنيا وهم لا يعبدون الله، وكان متكئاً فقال: (أو في شكٍ أنت يا بن الخطاب! أولئك قومٌ عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا) فقلت: يا رسول الله! استغفر لي الحديث، وكذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان على سرير مرمل يضطجع عليه حتى يؤثر في جنبه.

البخل وسوء معاملة الجيران

البخل وسوء معاملة الجيران ومن الثغرات في بيوت الدعاة: البخل وعدم الإنفاق، وسوء التعامل مع الجيران، وكثيراً ما يكون لهذا آثار سلبية في نظر الآخرين للداعية إلى الله سبحانه وتعالى، ويقولون في أنفسهم: هذا الذي يزعم ويزعم ويظهر، ثم هو بهذا البخل ولم يحسن إلينا مرةً واحدة، وربما كان يؤذي في إلقاء القمامة أو موقف السيارة ونحو ذلك، ولا شك أن لهذه الأشياء التي قد تبدو أحياناً بسيطة في أنظار البعض آثار سلبية في نفوس الآخرين، والمساعدة والمعاونة لأهل البيت قد تكون من الأشياء المفقودة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يكون في مهنة أهله -كما روت عائشة - فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة.

ثغرات أخرى

ثغرات أخرى ومن الثغرات الموجودة في البيت: جعل البيت فوضى مفتوحاً على مصراعيه لمن شاء، فليس له وقت نوم معين، ولا وقت أكل معين، ولا التفات لأهله أيضاً في وقت معين، وقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم ضيوف فأثقلوا عليه بطول الجلوس، فنزلت آية الاستئذان بسبب ذلك، وأنه لا يجوز للمؤمنين أن يؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنهم إذا طعموا فلينصرفوا، وعليه فلا يصح أن يكون البيت كالمقهى يُدخل إليه في أي وقت وفي أي حين. كذلك من الثغرات تضييع الأوقات بالكلام في الهاتف كلاماً طويلاً ليس من ورائه كبير فائدة، سواءً كان من الداعية أو من زوجته، فوجود مضيعات الأوقات في البيت من الثغرات. ثم لنختم بهذه النقطة وهي إهمال الكتب التي اشتريت من المعارض والمكتبات، فلقد شريت المجلدات وصففت على الرفوف، وأتي بها على اختلاف أحجامها وأنواعها ومواضيعها، وفصلت لأجلها هذه المكتبات الخشبية، ثم بعد ذلك تركت مركونةً مهملةً لا يُقرأ فيها؛ قد علاها الغبار وربما تأكلها الأرضة، أليست هذه ثغرة أيضاً يجب الالتفات إليها، ولا يليق بالداعية إلى الله عز وجل أن يهمل كتب العلم عنده في بيته، ولا يستفيد منها ولا غيره، والكلام في هذا الموضوع طويل، ونكتفي بهذه النقاط التي ذكرناها، ولعل في بعض الأسئلة ما يضيف أشياء أخرى إلى الموضوع، فنتوقف للصلاة ونعود إلى الأسئلة، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يطهر بيوتنا من المنكرات، وأن يعمرها بالطاعات، والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الأسئلة

الأسئلة

التقصير من الداعية عيب

التقصير من الداعية عيب Q يقول: أرى بعض التقصير عند بعض من يؤم الناس في المساجد، أو ينظر إليهم على أنهم من أهل الصلاح والتقوى، ومن أوجه هذا التقصير: خروج بعض نساء أهل بيته بشيءٍ من التبرج، أو تلفظهم بألفاظ من اللعن وغيره؟ A طبعاً كون الإنسان يصبح إماماً لمسجد هذا لا يعني أنه قد كمل، بل إنه يحتاج إلى تكميل نفسه كثيراً، لأن إمام المسجد قدوة، ولذلك ينبغي أن يركز على الاعتناء بنفسه أكثر من أي شخصٍ آخر يمارس دوراً أقل منه، ولذلك فإن من العيب الكبير أن ينصح المرء الناس بالصدقة ثم يبخل، وينصح الناس بالاقتصاد ثم هو يبذر ويسرف، وينصح الناس بأن تتحجب نساؤهم ثم أهل بيته يعيشون في تقصير سيئ.

تساهل بعض الدعاة بآلات اللهو في البيت

تساهل بعض الدعاة بآلات اللهو في البيت Q هناك بعض الشباب يجعلون في بيوتهم أجهزة اللهو، يتركونها لزوجاتهم وأولادهم يتفرجون عليها، وإذا نصحناهم بإبعادها قالوا: إنهم يتفرجون على الأخبار وأفلام الكرتون، وإذا دخل زوجاتنا في بيوتهم وجدوا أن أهل ذلك الشخص يسمعون الأغاني، ويرون المسلسلات العربية والغربية، ويقولون: هذه مسلسلات اجتماعية؟ A لا شك أن هذا من الانحراف، وأن الذي يرضى بالمحرم في بيته يرضى بالسوء في بيته، فلا شك أن فيه دياثة، وهذا الذي يقر الخبث في أهله ويرضى أن يتفرجوا على هذه الأشياء المنكرة ليس عنده غيرة؛ لو كان عنده غيرة لمنع الفساد في البيت، لذلك يجب على هؤلاء إخراج أدوات اللهو المحرم من بيوتهم.

التصرف السليم لمن في بيته خادمة

التصرف السليم لمن في بيته خادمة Q من أكبر الثغرات وجود الخدم في البيت؛ خاصة عندما تكون خادمة وتتجول في البيت؛ فأينما ذهب الشخص وجدها أمامه تقريباً، فما الحل؟ A إذا أراد أن ينتقل في الطريق فليتنحنح، ويطلب أن يكون الطريق خالياً، وهذا أمر ممكن لمن أراد أن يصون دينه، وأن تكون ملتزمة بالحجاب ما دام في البيت أو يتنقل فيه، ثم إن عليه أن يغض البصر، والله أعلم.

عذاب أهل الكبائر في البرزخ

عذاب أهل الكبائر في البرزخ لقد شرع الله سبحانه وتعالى لعباده شرائع، وحد لهم حدوداً، وبيَّن لهذه الأمة الحلال والحرام في كتابه، وعلى لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فمن ضعفت نفسه، واستهواه إبليس، ولم يتب عُذب في قبره حتى تقوم الساعة، ثم هو إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، وقد بين الشيخ في هذا الدرس أنواعاً من عذاب البرزخ لأهل الكبائر والعصاة.

حديث سمرة في عذاب البرزخ

حديث سمرة في عذاب البرزخ الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فموضوعنا اليوم حول حديث الرقائق من سلسلة هذه الدروس، التي نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلها حجة لنا، وأن يعلمنا منها ما نستفيد به موعظة في حياتنا، وزاداً لنا في آخرتنا. روى البخاري -رحمه الله تعالى- عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يكثر أن يقول لأصحابه: هل رأى أحد منكم من رؤيا؟ قال: فيقص عليه من شاء الله ما شاء الله أن يقصه) كثيراً ما كان عليه الصلاة والسلام يسأل: هل رأى أحدٌ رؤيا؟ فمن رأى رؤيا يقصها على النبي صلى الله عليه وسلم (وإنه قال ذات غداة: إني أتاني الليلة آتيان، وإنهما ابتعثاني، وإنهما قالا لي: انطلق، وإني انطلقت معهما، فأتينا على رجلٍ مضطجع، وإذا آخر قائم عليه بصخرة، وإذا هو يهوي بالصخرة فيثلغ بها رأسه) أي: يكسره ويشدخه (فيتدهده) أي: ينحط وينحدر (فيتدهده الحجر هاهنا) أي: من هذه الجهة (فيتبع الحجر فيأخذه فلا يرجع إليه) القائم الذي التقط الحجر لا يرجع إلى الرجل المضطجع (حتى يصح رأسه كما كان ثم يعود عليه، فيفعل به مثلما فعل به المرة الأولى، قال: قلت لهما: سبحان الله! ما هذان؟ قالا لي: انطلق انطلق. قال: فانطلقنا، فأتينا على رجل مستلقٍ لقفاه، وإذا آخر قائم عليه بكلوبٍ من حديد) أي: الحديدة المعوجة الرأس التي ينزع بها اللحمة من القدر مثل الخطاف (وإذا هو يأتي أحد شقي وجهه) وجه هذا الرجل المستلقي (فيشرشر شدقه) أي: يشق طرف الفم ويقطعه (إلى قفاه) من الخلف (ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه ثم يتحول إلى الجانب الآخر فيفعل به مثلما فعل بالجانب الأول، فما يفرغ من ذلك الجانب، حتى يصح ذلك الجانب كما كان، ثم يعود إليه فيفعل به مثلما فعل المرة الأولى. قال: قلت لهما: سبحان الله! ما هذان؟ قالا لي: انطلق انطلق. فانطلقنا فأتينا على مثل التنور -الفرن- قال: فأحسب أنه كان يقول: فإذا فيه لغط وأصوات فاطلعنا فيه، فإذا فيه رجالٌ ونساء عراة، وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم، فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضوا -أي: صاحوا وضجوا- قال: فقلت لهما: ما هؤلاء؟ فقالا لي: انطلق انطلق. قال: فانطلقنا فأتينا على نهرٍ حسبت أنه كان يقول: أحمر مثل الدم، وإذا في النهر رجلٌ سابح يسبح، وإذا على شاطئ النهر رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة، وإذا ذلك السابح يسبح ما يسبح، ثم يأتي ذلك الذي قد جمع عنده الحجارة، فيفغر -أي: الرجل السابح- له فاه فيلقمه حجراً، فينطلق يسبح ثم يرجع إليه، وكلما رجع إليه فغر له فاه فألقمه حجراً. قال: قلت لهما: ما هذان؟ قالا لي: انطلق انطلق. قال: فانطلقنا فأتينا على رجلٍ كريه المرآه، كأكره ما أنت راءٍ رجل مرآة، وإذا عنده نارٌ يحشها -يزيدها إشعالاً- ويسعى حولها، قال: قلت لهما: ما هذا؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق. فانطلقنا فأتينا على روضةٍ معتمة فيها من كل لون الربيع، وإذا بين ظهري الروضة رجل طويلٌ لا أكاد أرى رأسه طولاً في السماء، وإذا حول الرجل من أكثر ولدان رأيتهم قط. قال: قلت لهما: ما هؤلاء؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق. قال: فانطلقنا فانتهينا إلى روضة عظيمة لم أرَ روضة قط أعظم منها ولا أحسن، قالا لي: ارق فيها، قال: فارتقينا فيها، فانتهينا إلى مدينة مبنية بلبن ذهب ولبن فضة، فأتينا باب المدينة، فاستفتحنا ففتح لنا، فدخلناها فتلقانا فيها رجالٌ شطر من خلقهم كأحسن ما أنت راءٍ، وشطر كأقبح ما أنت راءٍ. قال: قالا لهم: اذهبوا فقعوا في ذلك النهر، قال: وإذا نهر معترض يجري كأن ماءه المحض -أي: الخالص- في البياض، فذهبوا فوقعوا فيه، ثم رجعوا إلينا وقد ذهب ذلك السوء عنهم، فصاروا في أحسن صورة. قال: قالا لي: هذه جنة عدن، وهذاك منزلك، قال: فسما بصري صُعُداً، فإذا قصرٌ مثل الربابة البيضاء -أي: السحابة البيضاء المنفردة المجتمع بعضها فوق بعض- قال: قالا لي: هذاك منزلك. قال: قلت لهما: بارك الله فيكما ذراني فأدخله. قالا: أمَّا الآن فلا، وأنت داخله. قال: قلت لهما: فإني قد رأيت منذ الليلة عجباً! فما هذا الذي رأيت؟ قال: قالا لي: أما إنَّا سنخبرك. أمَّا الرجل الأول الذي أتيت عليه يثلغ رأسه بالحجر، فإنه الرجل يأخذ القرآن فيرفضه وينام عن الصلاة المكتوبة. وأما الرجل الذي أتيت عليه يُشرشر شدقه إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه، فإنه الرجل يغدو من بيته فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق. وأما الرجال والنساء العراة الذين في مثل بناء التنور، فإنهم الزناة والزواني. وأما الرجل الذي أتيت عليه يسبح في النهر ويلقم الحجر، فإنه آكل الربا. وأما الرجل الكريه المرآة الذي عند النار يحشها ويسعى حولها، فإنه مالك خازن جهنم. وأما الرجل الطويل الذي في الروضة، فإنه إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وأما الولدان الذين حوله، فكل مولود مات على الفطرة. فقال بعض المسلمين: يا رسول الله! وأولاد المشركين؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأولاد المشركين. وأما القوم الذين كان شطرٌ منهم حسناً وشطرٌ قبيحاً، فإنهم قومٌ خلطوا عملاً صالحا وآخر سيئاً تجاوز الله عنهم).

اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بالرؤى الصالحة

اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بالرؤى الصالحة هذا الحديث العجيب الصحيح قد رواه الإمام أبو عبد الله البخاري رحمه الله في صحيحه، في مواضع: في كتاب الجنائز، وفي كتاب التعبير وغير ذلك، وأخرج قطعة منه الإمام مسلم رحمه الله، وكذلك الإمام أحمد، فهو حديث صحيح في غاية الصحة. يقول فيه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يكثر أن يقول لأصحابه: هل رأى أحدٌ منكم من رؤيا؟) وهذا سؤال منه صلى الله عليه وسلم عن الرؤيا واهتمامه بها، لأن الرؤيا جزء من النبوة، والرؤيا قد يكون فيها إخبار عن غيب مستقبلي، أو تحذير من شيء، وإذا كانت من رجل مؤمن صادق، فإنها تكون من أصدق ما يكون، كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم بيّن أن أصدقهم رؤيا أصدقهم حديثاً، فتأتي رؤياه مثل فلق الصبح، وربما تقع كما رآها بالضبط. وكان صلى الله عليه وسلم يؤول لأصحابه الرؤى ويفسرها لهم، وربما كان من أصحابه من يفسر أيضاً، وقد طلب أبو بكر الصديق مرةً أن يفسر رؤيا، فلما أذن له عليه الصلاة والسلام، قال له بعد تفسيرها: (أصبت بعضاً وأخطأت بعضاً).

تعريف الرؤيا وحكم تعبيرها بدون علم

تعريف الرؤيا وحكم تعبيرها بدون علم إذاً: الرؤيا علم، تفسيره من الله تعالى، لا يعلم تأويله إلا الله، ومن يُعلِّمه الله تأويل الرؤيا، وليس كل أحد يعلم تفسير الرؤى، وإنما ذلك علم يهبه الله من يشاء، وقد كان يوسف الصديق عليه السلام من أعلم الناس بتفسير الرؤى، واتجهت أنظار السجينين إليه مما كان عليه من الإحسان، ولذلك قالا: {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:36] فكان من المجيدين في تعبير الرؤى وهذا من البيان. وقد ذكر العلماء رحمهم الله: أن تعبير الرؤى من الفتوى، فلا يجوز أن يُعبِّر الرؤيا من لا يُحسن التعبير، ومن عبَّر رؤيا وهو لا يُجيد التعبير فكأنما أفتى بغير علم، كما نبه على ذلك الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله وغيره من أهل العلم، فلا يجوز الدخول في التأويل والتعبير لمن لا يحسنه.

أقسام الرؤى

أقسام الرؤى والرؤيا على ثلاثة أقسام: كما بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم: أولاً: الرؤيا الحسنة من الله. ثانياً: الحلم السيئ من الشيطان ليحزن المؤمنين. ثالثاً: الشيء يهتم به الرجل في يومه فيراه في ليلته، فلا هو حسن ولا هو سيئ، بل بحسب الهم النفسي الذي يكون عليه فيراه في الليل.

آداب من رأى ما يزعجه

آداب من رأى ما يزعجه وإذا كانت الرؤيا سيئة فالإنسان عليه عدة أمور: أولاً: إذا استيقظ عليه أن يتعوذ بالله من الشيطان، ويتفل عن يساره، ويتعوذ بالله من شر ما رآه ثلاثاً ثلاثاً ثلاثاً. ثانياً: أن يغير جنبه الذي كان نائماً عليه، وليس بشرط إذا كان على الجنب الأيمن أن ينقلب على الأيسر، وإنما ينقلب على ظهره مثلاً، وإذا كان على الأيسر يغير إلى الجنب الأيمن. ثالثاً: ورد في سنن الترمذي -أيضاً- صلاة ركعتين إذا رأى ما يُزعجه، ولا يخبر بها أحداً من الناس، وكثيراً ما يتلاعب الشيطان بالشخص في المنام، كما جاء في صحيح مسلم عن رجلٍ رأى أنه قد قطع رأسه وذبح وأنه يتدحرج، فلامه النبي عليه الصلاة والسلام على إخباره بها، وقال: (علام يخبر أحدكم بتلاعب الشيطان به في المنام؟!) أو كما قال عليه الصلاة والسلام.

آداب من رأى ما يسره

آداب من رأى ما يسره وإذا كانت الرؤيا حسنة، فإن الإنسان يُخبر بها من يُحب، ولا يقصها على عدو أو حاسد، وإنما يخبر بها العالم والناصح، وكثير من الأحيان يكون ما يراه الإنسان على نفسه مثل الجبل في الثقل، ولكن إذا استعاذ بالله من الشيطان ومن شر ما رأى، فإنه لا يهمه ذلك إن شاء الله. قال: (فيقص عليه من شاء الله ما شاء الله أن يقص). "من" تعود على الرائي الذي رأى الرؤية، و"ما" تعود على الرؤية نفسها.

روايات أخرى لحديث سمرة

روايات أخرى لحديث سمرة في بعض روايات هذا الحديث (فسأل يوماً: هل رأى أحدٌ رؤيا؟ قلنا: لا، قال: لكن رأيت الليلة وذكره) فكأنه قال لهم لما قالوا له: ما رأينا شيئاً، قال: أنتم ما رأيتم شيئاً لكني رأيت. وفي رواية عن سمرة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المسجد يوماً، فقال: من رأى منكم رؤيا فليحدث بها؟ فلم يحدث أحد بشيء، فقال: إني رأيت رؤيا، فاسمعوا مني). وفي حديث البخاري هذا قال: (وإنه قال لنا ذات غداة) وفي رواية: (كان إذا صلَّى صلاةً أقبل علينا بوجهه) وفي رواية: (إذا صلَّى صلاة الغداة) أي: صلاة الصبح كما جاء في روايةٍ أخرى، فهو بعد صلاة الصبح يلتفت إليهم؛ لأن الصبح بعد النوم، فيقول: (هل رأى أحدٌ منكم رؤيا؟) فإذا كان الشخص يجيد تفسير المنام، فلا بأس أن يقول: هل رأى أحدٌ رؤيا فأعبرها له؟ وأخرج الطبراني بسندٍ جيد عن أبي أمامة قال: (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد صلاة الصبح، فقال: إني رأيت الليلة رؤيا هي حق فاعقلوها) فذكر حديثاً يُشبه حديث سمرة، لكن الذي يظهر من سياق الحديث أنه حديثٌ آخر، فإن في أوله: (أتاني رجل فأخذ بيدي، فاستتبعني حتى أتى جبلاً طويلاً وعراً، فقال لي: ارقه، فقلت: لا أستطيع، فقال: إني سأسهله لك) فهذا الحديث فيه أن الآتي واحد، وحديث سمرة قال: إنهما اثنان؛ وأنهما: (ابتعثاني وقالا لي: انطلق) وهذا الحديث قال: (أنه أتى بي جبلاً وعراً، فجعلت كلما وضعت قدمي وضعتها على درجةٍ حتى استويت على سواء الجبل -أي: وسط الجبل- ثم انطلقنا فإذا نحن برجال ونساء مشققة أشداقهم، قلت: من هؤلاء؟ قال: الذين يقولون ما لا يعلمون). وفي بعض الطرق: (أنه رأى ناساً تسيل أشداقهم دماً، معلقون من عراقيبهم -العرقوب في القدم- تسيل أشداقهم دماً -بالعكس، مثل حال التعذيب- فسأل عنهم؟ فقيل: هؤلاء الذين يفطرون قبل تحلة صومهم) ولذلك ينبغي للصائم الانتباه إلى عدم الإفطار قبل الوقت الشرعي.

شرح ألفاظ حديث سمرة في عذاب البرزخ

شرح ألفاظ حديث سمرة في عذاب البرزخ قال: (إنه أتاني الليلة آتيان) هذان الآتيان هما ملكان، وهذان الملكان هما: جبريل وميكائيل كما جاء تفسيره،) وإنهما ابتعثاني) أي: أرسلاني، ويحتمل أنه رأى في المنام أنه كان نائماً، فأخذ من قبل الملكين وابتعثاه من النوم وأخذ به، فحدث ما حدث، فلما استيقظ استيقاظاً حقيقياً خبَّر بما سمعنا.

عقوبة من نام عن الصلاة المكتوبة

عقوبة من نام عن الصلاة المكتوبة قال: (وإني انطلقت معهما) وفي رواية: (إلى الأرض المقدسة) وفي رواية: (إلى أرض مستوية) قال: (وإنا أتينا على رجل مضطجع وإذا آخر قائم عليه بصخرة) وفي رواية قال: (فمررت على ملك وأمامه آدمي وبيد الملك صخرة يضرب بها هامة الآدمي). إذاً من هو الذي يتولى التعذيب؟ إنه ملك: (يهوي بالصخرة فيثلغ -أي: يشدخ- بها رأس هذا المضطجع) فإذاً الذي يتولى الشدخ هو ملك يحمل صخرة ويضرب بها رأس المضطجع فيشدخه والحجر يتدهده ويذهب هاهنا وهاهنا، فالملك يتبع الحجر ويأخذها، ويعود للرجل فلا يعود إليه إلا وقد عاد الرجل كما كان، ويصح رأسه فيضربه مرة أخرى، فالعذاب متكرر ومتوالٍ، فالرأس يعود كما كان ليعذب مرةً أُخرى. وفي رواية: (عاد رأسه كما كان)، وفي رواية: (فيقع دماغه جانباً وتقع الصخرة جانباً) يشدخه بالصخرة فيقع الدماغ على طرف، والصخرة تتدحرج من الطرف الآخر. وهذا الرجل هو الذي أُوتي القرآن فرفضه، ونام عن الصلاة المكتوبة، قال ابن العربي رحمه الله: "جعلت العقوبة في رأس هذا الشخص؛ لأن النوم موضعه في الرأس، فجعلت العقوبة في محل الإثم" وهذا الرجل بالتأكيد لا ينام لغلبة النوم لأنه معذور، وإنما يتعمد النوم عن الصلاة المكتوبة. وهنا ننبه الإخوان وخصوصاً أصحاب النوبات في الأعمال، فبعضهم يتعمد أن يقول لزوجته: لا توقظيني فأنا سوف أستيقظ؛ لأنه لا يريد أن يتقطع نومه، ويتعمد بعضهم ألاَّ يضع ساعة، فبدلاً من أن يُوصي زوجته بإيقاظه، يوصيها بعدم إيقاظه. إذاً فهذا تعمد النوم عن الصلاة المكتوبة، وفي رمضان يتعمد بعض الناس السهر حتى ينامون عن الصلاة المكتوبة. سألت ذات مرة عن شخص، فقلت لمن يعرفه: متى يكون فلان في بيته؟ قال: إنه يرجع من العمل الساعة الثالثة، لكنك لا تجده لأنه ينام. وقلت له: كيف ينام؟ قال: ينام من الساعة الثالثة عصراً إلى الساعة العاشرة ليلاً، ويسهر من العاشرة ليلاً إلى السادسة والنصف صباحاً، ويذهب إلى العمل ويرجع في الساعة الثالثة، وينام من الثالثة إلى العاشرة ليلاً، فينام من قبل العصر إلى بعد العشاء، فيفوت صلاة العصر والمغرب. لكن الجريمة العظيمة هي: كيف يكون هذا النظام في النوم؟ بكون النظام بتعمده النوم عن الصلاة المكتوبة حيث وأن ذلك واضح من كيفية نومه. إذاً أين يكون موضع هذا العذاب؟ هذا عذاب برزخي لهؤلاء الأشخاص يكون في القبر، فالذي يتعمد النوم عن الصلاة المكتوبة يُعاقب بأن يشدخ رأسه في القبر، ويعود رأسه ويشدخ، ويعود رأسه ويشدخ إلى قيام الساعة، هذا عقاب البرزخ، ولذلك يجب على الإنسان أن يعد العدة اللازمة للاستيقاظ سواء كان بالمنبه والساعة، أو أن يُوصي شخصاً أو بالهاتف أو غير ذلك كطارق يطرق، أو بالماء لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رحم الله رجلاً قام من الليل يصلي فأيقظ زوجته، فإن أبت نضح في وجهها الماء). فالنبي صلى الله عليه وسلم يُرشد إلى الإيقاظ بنضح الماء، لأن الماء منشط، وطارد للنوم وموقظ، وجرب تجد النتيجة، والإيقاظ بالماء من أحسن وسائل الإيقاظ للنائم. وإن كان بعضهم لا يعجبه هذا أبداً، فنقول: لا بأس فنأخذ الأسهل فالأسهل، لكن إذا لم يُوجد طريق لقيامك من النوم إلا بهذا فليكن، لأن القيام إلى الصلاة أهم من كل شيء.

عقوبة صاحب الكذبة تبلغ الآفاق

عقوبة صاحب الكذبة تبلغ الآفاق وبالنسبة للرجل الثاني: (فانطلقنا فأتينا على رجلٍ مستلقٍ لقفاه، وإذا آخر قائم عليه بكلوب من حديد) وجاء في رواية: (فإذا أنا بملك وأمامه آدمي، وبيد الملك كلوب من حديد، فيضعه في شدقه الأيمن فيشقه من اليمين إلى القفا، والعين من اليمين إلى القفا، والمنخر من اليمين إلى القفا) فالذي يتولى التعذيب هو ملك، ثم يتحول إلى الجانب الآخر فيفعل به مثل ذلك، ويلتئم الشق الأول -الذي في الشق الأيمن- ويعود ليشقه ويشرشره مرة أخرى. فهذا هو الكذَّاب الذي يكذب الكذبة فتبلغ الآفاق، والآن مع وجود البث الفضائي، أصبح انتشار الكذبة في الآفاق من أسهل ما يكون، فخذ العبرة، ولذلك قال ابن العربي رحمه الله: "شرشرة شدق الكاذب إنزال العقوبة في محل المعصية، وعلى هذا تجري العقوبات في الآخرة بخلاف الدنيا". والاختلاف في حال هذا الرجل بحسب اختلاف حاله، فقد جاء في رواية: أنه مضطجع، وفي رواية: أنه جالس، وفي رواية: أنه قائم. فهذا عذاب الكذابين الذين يكذبون الكذبات التي تبلغ الآفاق وتنتشر في العالم. والأفق هو: الناحية في السماء، والآفاق هي: النواحي. ولذلك فإن على الإنسان أن يحذر الكذب وكذا نشره في أي وسيلةٍ ينتشر فيها الكذب، وكلما كانت الوسيلة أشد انتشاراً كان العذاب أشد عليه. وكذلك فإن من أعظم الكذب: الكذب في المنام، بأن يري الرجل عينيه ما لم تريا، فهذا يكلف يوم القيامة أن يعقد بين شعيرتين، ولن يفعل لأن العقد بين الشعيرتين أمر محال، فيكلف بمحال، فيكون عليه عذاب نفسي وجسدي، لماذا ادعى أنه رأى الرؤيا الفلانية وهو لم يرها؟ وبعض الناس ربما يفعلها من باب الدعوة بزعمه! يقول: هذا لا يفيد إلا أن أخترع له رؤيا؟! أقول: رأيتك في القبر وكذا وكذا وكذا! فهذا حرام ولا يجوز، والغاية لا تبرر الوسيلة، يجب أن تكون الوسيلة شرعية، كما أن الغاية شرعية، أما أن نسلك وسيلة غير شرعية لتحقيق غاية شرعية، فليس هذا من هدي الإسلام. وهنا يأتي سؤال وهو: انظر إلى التقنية الحديثة ماذا تفعل؟ من الأبواب العظيمة التي فُتحت في هذا الزمان باب أتى به هذا الحاسوب في العالم وهو شبكة الإنترنت، فأحد الناس إذا قذف شخصاً على الشبكة كأن أرسل باتهامه وقذفه ربما إلى آلاف الأشخاص، الآن هذا الرجل كيف تكون عقوبته؟ لنا أن نتصور أن الكذبة التي تبلغ الآفاق بالوسائل العصرية من عدة جهات وبعدة صور وأشكال، فبعضهم ربما يستخدم هذه التقنية الحديثة في نشر الشر، والكذب، وظلم الأبرياء، وقذف المسلمين والمسلمات ونحو ذلك، ثم بعد ذلك إذا تاب يقول: ماذا أفعل؟

عقوبة الزناة والزواني

عقوبة الزناة والزواني قال في الشخص الثالث: (فأتينا على مثل التنور -في رواية- أعلاه ضيق، وأسفله واسع يوقد تحته نارٌ) إذاً هذا فرن أعلاه ضيق وأسفله واسع، قال: (فإذا فيه لغط وأصوات، وفيه رجالٌ ونساء، وإذا هم يأتيهم اللهب من أسفل منهم، فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضوا) أي: صرخوا، وفي رواية: (فإذا اقتربت ألسنة اللهب ارتفعوا حتى كادوا أن يخرجوا، فإذا خمدت -أي: ألسنة اللهب- رجعوا). هذا عقوبة الزناة والزواني، يجمعهم الله عز وجل في تنورٍ من نار، فهذا عذاب البرزخ للزناة والزواني. لو قال أحد من الناس: ما عقوبة الزناة والزواني؟ لإننا لم نجد أشياءً في القرآن تُخبر عن عقوبة الزناة والزواني، فكيف تكون عقوبة هذا الزنا الذي انتشر الآن، هذه المواعدات بين الفتيان والفتيات التي تنتهي بالفاحشة في كثيرٍ من الأحيان، وهذه بيوت الدعارة، والأفلام التي تدعو إلى الفاحشة فيقع الناس فيها، وهؤلاء الناس الذين يُسافرون إلى أماكن الخنى والفجور ليقعوا في الفواحش، أو أولئك الذين يذهبون إلى الفنادق أو يحضرون الحفلات ليقعوا في الفواحش، ويركبون في سفن كالفنادق، ويقعون في الفواحش، والذين يذهبون شرقاً وغرباً، هؤلاء الزناة والزواني ما عقوبتهم؟ الآن إذا كانت هذه العقوبة في البرزخ، تنور أعلاه ضيق وأسفله واسع، ويأتي اللهب من الأسفل ويرتفع هؤلاء الزناة والزواني في صياح من الألم، ثم ينزل اللهب فينهارون معه، ثم تصعد الألسنة فيصعدون، وكُلمَّا أوشكوا على الاقتراب من فوهته رجعوا مرة أخرى وهكذا إلى قيام الساعة، وهذا الفرن ورد أن رائحته موخمة منتنة، وأن من شراب أهل النار ما يخرج من القيح والصديد من فروج الزناة والزواني. إذاً هذه الفاحشة العظيمة لما حرَّمها الله، وقال: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:32]. معناها: أن العقوبة عليها شديدة، وإذا كان هذا في البرزخ المؤقت الذي ينتهي، فيكف يكون في نار جهنم؟ لا شك أنه سيكون أشد، لأن عذاب البرزخ أهون من عذاب النار، في البرزخ يُعرضون على النار عرضاً، لكن إذا قامت القيامة يدخلونها دخولاً؛ ولذلك قال الله تعالى عن قوم فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا} [غافر:46] هذا عرض يفتح له باب من النار، ويأتيه من سمومها وحميمها، هذا فقط في البرزخ ثم بعد ذلك يوم القيامة: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46].

عقوبة آكل الربا

عقوبة آكل الربا وبعد ذلك قال: فأتينا على نهرٍ أحمر مثل الدم -وفي رواية على نهر من دم- ثم فيه سابح يسبح، ثم يأتي ذلك السابح إلى الشاطئ، فيفغر ويفتح فاه، وعلى الشاطئ يوجد رجل معه صخور، فيفتح هذا فاه فيرمي الواقف على الشاطئ الصخرة في فمه، ويفتح فاه مرغماً فيلقمه إياها، هذا المنظر الكريه والمؤلم يسبح بالصخور في نهر الدم، سباحة بصخور عظيمة في البطن في نهر الدم، وتزداد الصخور وكلما زاد الربا والفوائد المركبة زاد العذاب بنسب مركبة، وهذه الصخور تزداد في بطن هذا السابح في نهر الدم وهكذا لازال يثقل، ولازال يسبح في الدم متألماً بهذه الصخور العظيمة المتراكمة جزاءً له، كما كان في الدنيا يأكل الربا، والربا يتضاعف أضعافاً مضاعفة، وهو لا يزال يأكله، وبحسب الربا الذي أكل بحسب العذاب يكون عليه، مثلاً بمثل سواءً بسواء: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49].

ذكر الرجل الكريه المنظر

ذكر الرجل الكريه المنظر ثم ذكر الرجل كريه المرآة -المنظر- كأكره ما أنت راءٍ رجلاً، وعنده نارٌ يحشها، وأخبر أنه مالك خازن النار، هذا الملك يُعذَّب أهل النار بمنظره. إذاً الملائكة الغلاظ الشداد الذين هم أعوان (مالك) خازن النار، يكون عذاب أهل النار بمنظرهم أيضاً، لأن المنظر المفزع لوحده عذاب ورعب، والرعب عذاب، ولذلك يكون عذاب أهل النار -غير الحرق بالنار- المنظر المفجع والمفزع لملائكة العذاب الذين في النار، وعلى رأسهم مالك خازنها.

ذكر الروضة المعتمة

ذكر الروضة المعتمة ثم ذكر الروضة المعتمة -أو المعتّمة- وهي: البستان العظيم الشديد الخضرة، حتى أنه كاد يسود من شدة الخضرة، كما قال الله تعالى في وصف الجنتين: {مُدْهَامَّتَانِ} [الرحمن:64] أي: شديدتا الخضرة، حتى ربما كانتا في اللون كالسوداوين من شدة الخضرة، فالخضرة إذا ازدادت أصبح اللون غامقاً. فيها من كل زهر ونبت الربيع، أي: من أجمل ما يكون، وبين ظهري الروضة يوجد رجلٌ طويل لا أكاد أرى رأسه طولاً وحوله ولدان، ثم بيَّن أن هذا إبراهيم الخليل عليه السلام، رآه جميلاً طويلاً وحوله هؤلاء الولدان. أما أولاد المسلمين فإن البشارة بموتهم لآبائهم أنهم في كفالة إبراهيم وسارة، يكفلانهم لآبائهم وأمهاتهم إلى أن تقوم الساعة، فلو أردت أن تعزي شخصاً في وفاة ولده، فقل له: أيهما أحب إليك: أن يكون ولدك حياً فتكفله أنت أو يكون عند إبراهيم وسارة؟ لأنه قد ثبت في الحديث أن إبراهيم وسارة يكفلان أولاد المسلمين الصغار لآبائهم حتى يعودوا إليهم يوم القيامة، فلاشك أن بقاء الولد في كفالة إبراهيم عليه السلام وزوجته سارة أفضل وأحسن وأعلى بكثير وبما لا يقارن من بقائه في كفالة أبويه في الدنيا، وربما أجرم أبواه في حقه، أما إذا صار في كفالة الخليل وزوجته فإنه يكون في أحسن ما يكون، فهذه من البشرى لمن مات له ولد صغير. وأمَّا بالنسبة لأولاد المشركين فقد تفاوتت أقوال أهل العلم فيهم، وقد سُئل النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث فقال: (وأولاد المشركين) وقال في حديث آخر: (الله أعلم بما كانوا عاملين) فيحتمل أنه كان لم يوحَ إليه شيء بشأنهم، فقال: (الله أعلم بما كانوا عاملين) ثم أوحي إليه بشأنهم، وفي رواية حسَّنها بعض أهل العلم: (أنهم خدم أهل الجنة) وقال بعض أهل العلم: أنهم يُمتحنون، وقد ذكر هذه المسألة الكبيرة الإمام ابن القيم رحمه الله في كتاب: شفاء العليل وتوسع فيها، ونحن لا يضرنا ماذا يكون مصيرهم لو لم نعرف ذلك؛ لأن الله عز وجل عادل لا يظلم أحداً، فمن صفاته سبحانه وتعالى العدل، وهو العدل.

عقوبة خلط العمل الصالح بالسيئ

عقوبة خلط العمل الصالح بالسيئ قال: (فانتهينا إلى مدينةٍ مبنية بلبن ذهب ولبن فضة) ولاشك أن هذه صفة الجنة، وأنهما أدخلا النبي صلى الله عليه وسلم داراً فيها شيوخ وشباب ونساء وفتيان، وأنه عليه الصلاة والسلام لقي رجالاً شطر من خلقهم حسن وشطر قبيح. الآن هل نصف هؤلاء الناس حسن ونصفهم قبيح؟ أو أن كل واحد من هذه المجموعة نصفه حسن ونصفه الآخر قبيح؟ اللفظ يحتمل كلا الأمرين، لكن أحدهما يرجحه باقي النص، فما هو الراجح؟ كل شخص نصفه قبيح ونصفه حسن، والذي يدل على هذا التأويل هو أنهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، فكان الجزاء من جنس العمل، لما خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، صار نصفهم قبيحاً ونصفهم حسناً. فقيل لهم: قعوا في النهر المعترض، الذي يجري بالعرض، كأن ماءه المحض -مثل اللبن الخالص- في البياض، وقيل: يحتمل أن يُراد به الماء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (واغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد) فهذا مُنقي ومطهر ومنظف، فيذهب السوء عنهم، ويصبح القبيح كالشطر الحسن، وهذا يدل على عظم رحمة الله، وأن رحمته سبقت غضبه. فأهل الأعراف الذين تساوت حسناتهم وسيئاتهم مصيرهم في النهاية إلى الجنة؛ لأن رحمة الله تسبق غضبه، لكن هذا الوقوف بين الجنة والنار مفزع بحد ذاته، لا يدري الإنسان إلى أين يتجه به، لذلك قال الله عز وجل: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185].

منزلة النبي صلى الله عليه وسلم وقصره في الجنة

منزلة النبي صلى الله عليه وسلم وقصره في الجنة رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام جنة عدن وسما بصره صعداً وارتفع، ثم رفع إلى قصر مثل الربابة، وهي السحابة البيضاء المنفردة دون السحاب، التي ركب بعضها على بعض، شبه القصر بهذا المنظر الجميل جداً، سحابة بيضاء متراكمة بعضها فوق بعض، فهذا قصره صلى الله عليه وسلم. قال: (ذراني فأدخله، قالا: أما الآن فلا، وأنت داخله) بالتأكيد ستدخله، وفي رواية: (فقلت: دعاني أدخل منزلي، قالا: إنه بقي لك عمر لم تستكمله، ولو استكملته أتيت منزلك). ثم أخبر الملكان -وهما جبريل وميكائيل- رسول الله صلى الله عليه وسلم عما رآه.

فوائد مأخوذة من حديث سمرة

فوائد مأخوذة من حديث سمرة في هذا الحديث خطورة رفض القرآن بعد حفظه، رجل أُوتي القرآن -حفظه- ثم رفضه، وهذه صورة للمرتد والمنتكس والمنقلب على عقبيه والمتولي عن الحق، الذي رزقه الله نعمة عظيمة وهي حفظ كتاب الله عز وجل، ثم هو بعد ذلك أعرض عنها وتركها، وينام عن الصلاة المكتوبة، فالعقوبة على مجموع الأمرين: ترك القراءة وترك العمل، وعلى ترك الصلاة المكتوبة. وهذا الرجل الذي يكذب الكذبة تبلغ الآفاق، ليس رجلاً متأولاً، ولا مكرهاً، لأن الإنسان يجوز له الكذب إذا أكره، فهذا الكاذب ليس بمكره، ولما كان الكاذب يساعد أنفه وعينه لسانه على الكذب في ترويج الباطل، وقعت المشاركة بين هذه الأعضاء في العقوبة. فإن قيل: الزناة والزواني ما هي مناسبة العذاب لجريمتهم؟ هناك شيء في العذاب يُناسب جريمتهم وهو أن النار تأتيهم من تحتهم، لأن جنايتهم من أعضائهم السفلى. وآكل الربا الذي يسبح في نهر الدم قيل: إن الدم أحمر وأعظم نقد موجود هو الذهب وهو أحمر، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض)، فقيل: وجه المشابهة هو أن الربا يقع في النقد وأعظم النقد الذهب، وما يقوم مقامه من العملات الورقية، ويزاد له العذاب إشارة إلى أنه يتخيل أن ماله يزداد لكنه في الحقيقة يزداد عذاباً. عوقب آكل الربا بسباحته في النهر الأحمر؛ لأن أصل الربا يجري في الذهب، وكذلك الملك يلقمه الحجر وراء الحجر، إشارة إلى أنه لا يغني عنه شيئاً، وكذلك الربا ممحوق ثم العذاب فيه متوالٍ. ما هي المناسبة في وجود أطفال المسلمين عند إبراهيم عليه السلام؟ لأنه ما من مولود إلا ويولد على الفطرة -التوحيد- وكان إبراهيم الخليل حنيفاً، وقد ابتلاه الله بسنن الفطرة، فإبراهيم الخليل عليه السلام هو أبونا {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} [آل عمران:68] والولدان الذين حوله هم كل مولود ولد على الفطرة، فلذلك يكونون معه. وأما بالنسبة لهؤلاء القوم الذين شطر منهم قبيح وشطر منهم حسن، فهذا فيه عظة وعبرة في أن المسلم يحذر أن يخلط عمله الصالح بعمل سيئ؛ لأن فيه نوعاً من العقوبة، وهو تشويه منظرة، وربما يئول بعد ذلك إلى عفو الله عز وجل، لكن بعد ماذا؟! وفي هذا الحديث: أن القصر الذي في الجنة لا يقيم الإنسان فيه إلا إذا مات حتى النبي والشهيد، وأن هناك قصوراً للأنبياء والشهداء والأولياء (ومن بنى لله مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة). وفي هذا الحديث: الحث على طلب العلم، فإن النبي عليه الصلاة والسلام كلما تعرض لموقف عجيب سأل عنه لمعرفة الحقيقة وطلبها والتماسها. وفي هذا الحديث: فضل الشهداء وأن منازلهم في الجنة أرفع المنازل. كذلك في هذا الحديث: أن من استوت حسناته وسيئاته فإن الله يتجاوز عنه، ونسأل الله تعالى أن يتجاوز عنا برحمته، إنه هو أرحم الراحمين! ثم في هذا الحديث: أن العقوبات تناسب الجرائم والجنايات، ولما كان الزنا يتم عادة بالخفية فضحهم الله في البرزخ وصاروا عراة، والعاري مفضوح، والزاني من شأنه طلب الخلوة، كما كان يزني في خلوة صار في تنور، وكما كان في خفاء فضح بالعري، ويأتيه النار من أسفل مناسبة لأداة الجريمة. وقد ذُكر في هذا الحديث أنواع من الجرائم، وهناك أنواع كثيرة من الجرائم لم تذكر، فهذا يغني عما لم يذكر، ثم كل الجرائم الأخرى لها عذاب، لكن لم نخبر عنه. فعلى كل شخص أن يتعظ ويتذكر بأن الجريمة التي يعملها لها عذاب وإن لم يخبر به، والله تعالى أعلم.

الأسئلة

الأسئلة

المدة التي يعتبر فيها الإجهاض نفاسا

المدة التي يعتبر فيها الإجهاض نفاساً Q إذا أجهضت المرأة بعد شهرين من حملها بسبب موت الجنين، وصار ينزل منها دم، فما هو الحكم؟ A الجنين يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم أربعين يوماً علقة، ثم أربعين يوماً مضغة، ثم يكون بعد ذلك التخليق بعد الثمانين، ولذلك قد ذكر ابن قدامة -رحمه الله تعالى- في المغني: أن الحامل إذا أسقطت بعد ثمانين يوماً تكون نفساء؛ لأن الجنين تخلق، وبدأ يظهر فيه تخطيط اليد والرأس ونحو ذلك، أما قبل الثمانين يوماً فلم يتخلق بعد. إذاً بعد الثمانين يوماً إذا أسقطت المرأة تكون نفساء، وقبل ثمانين يوماً تكون مستحاضة، وبناءً على هذا يكون صومها وصلاتها.

كيفية قضاء الفوائت من الصلوات

كيفية قضاء الفوائت من الصلوات Q رجل نام قبل صلاة الظهر، ولم يستيقظ إلا عند إقامة صلاة العصر، فكيف يصلي هذا الرجل؟ A هذا الرجل عليه أن يرتب الفوائت، فيصلي الظهر أولاً ثم العصر، ولا حرج عليه أن يُصلي الظهر وراء الإمام الذي يصلي العصر، وتكون صلاته بنية الظهر، وكذلك من فاتته عدة صلوات، كالمستيقظ من عملية جراحية، فيرتب الصلوات بعضها وراء بعض؛ لأن بعض الناس يظن أن الفوائت تقضى مثلاً: الظهر مع الظهر في اليوم التالي، والعصر مع العصر في اليوم التالي، ولكن الصحيح أنها تُقضى متوالية. فأول ما يستطيع القضاء عليه أن يصلي، ولو كانت كثيرة فإنه يصلي ويرتاح ويصلي ويرتاح، ويصلي الصلوات مرتبة.

حكم مسح الوجه بعد الدعاء

حكم مسح الوجه بعد الدعاء Q ما حكم مسح الوجه بعد الدعاء في صلاة التراويح؟ A هذا لا أصل له، ولا يجوز لأنه بدعة، أما المسح عموماً بعد الدعاء في خارج الصلاة، فقد وردت فيه أحاديث ضعيفة، بعضهم قال: إنها تصل إلى درجة الحديث الحسن لغيره، كما ذكره الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى.

حكم قول: "سيدنا" في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

حكم قول: "سيدنا" في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم Q قال شخص في حديثه: اللهم صلِّ على سيدنا محمد، فأنكر عليه آخر، وقال: الصحيح أن تقول: اللهم صلِّ على محمد، فهل هذا الإنكار صحيح؟ A هذا يعتمد على مكان ورود هذه العبارة، فإن قال: "اللهم صلِّ على سيدنا محمد" في الصلاة فنقول له: لقد زدت على تشهد النبي عليه الصلاة والسلام وعلى ما علمنا؛ لأنه لم يعلمنا لفظ "سيدنا"، فإذاً نحن لا نقولها في هذا الموطن. لكن لو قالها الإنسان خارج الصلاة فهذا شيء صحيح، ولا يمكن إنكاره، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنا سيد ولد آدم). فإذاً الإنكار في لفظة "سيدنا" إذا كانت في مكان معين بألفاظ معينة وليست هي فيها كأن يتلفظ بها في الصلاة الإبراهيمية في التشهد الأخير، فإضافتها بدعة، وإلا فيجوز أن نقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله، أو نقرأ آية الدين ونقول: هذا قرآن فيجوز! فنقول: لا، المسألة ليست أن نقول: هذا كلام صحيح أو غير صحيح؟ ولكن هل ورد هذا الكلام في هذا الحال أو في هذه المناسبة أو لم يرد؟ فلا نبتدع من عندنا ولا نضيف، ولما عطس رجل عند ابن عمر فقال: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، قال ابن عمر: وأنا أقول: صلى الله على محمد، لكن ما هكذا علمنا محمد صلى الله عليه وسلم. فإذاً: الزيادة في الأذكار الواردة المحددة من البدع، أما الكلام العادي المفتوح، كأن يقول خطبة، أو يتكلم كلمة ما ويقول: اللهم صلِّ على سيدنا محمد، وقال: سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فهذا لا بأس به.

حكم أخذ إجازة اضطرارية للعمرة

حكم أخذ إجازة اضطرارية للعمرة Q هل يجوز أخذ إجازة اضطرارية للعمرة؟ A لا يجوز؛ لأن الإجازة الاضطرارية تُعطى في حالات معينة ليست العمرة منها، فمن قدم إجازة اضطرارية لعمرة فمعنى ذلك أنه قد كذب في دعواه.

وقت صلاة الضحى

وقت صلاة الضحى Q أريد أن أجلس في المسجد إلى وقت شروق الشمس لأصلي ركعتين، فما هو وقت صلاة الضحى؟ A إذا ارتفعت الشمس قدر رمح، أي: بعد الإشراق بعشر دقائق أو ربع ساعة، بحيث تكون الشمس قد ارتفعت.

وجود الرقى في الجاهلية

وجود الرقى في الجاهلية Q هل طلب الكفار للرقية من الصحابة دليل على أن الكفار كانوا يرقون في الجاهلية؟ A نعم، ولذلك لما طلب عليه الصلاة والسلام أن يعرضوا عليه الرقى، قال: لا بأس بها ما لم يكن فيها شرك، فدَّل ذلك على أنهم كانوا يعرفونها في الجاهلية، ولكن كان فيها شرك.

سورة تبارك واقية من عذاب القبر

سورة تبارك واقية من عذاب القبر Q سمعت أن سورة تبارك تدفع عن حافظها عذاب القبر، فهل هذا صحيح؟ A نعم، تقي صاحبها عذاب القبر، إذا حفظها وراعى معناها، فإنها من أسباب الوقاية من عذاب القبر.

حكم النظر إلى العورة بعد انفصالها

حكم النظر إلى العورة بعد انفصالها Q قرأت عبارة معناها: كل عضو لا يجوز النظر إليه قبل الانفصال لا يجوز النظر إليه بعده. A نعم هذه عبارة مشهورة؛ فمثلاً: عملية فيها استئصال موضع في العورة، فقبل الاستئصال والانفصال لا يجوز النظر إليه، فكذلك لو استئصل هذا الموضع فلا يجوز النظر إليه بعد الاستئصال.

حكم من جاءتها الدورة وهي صائمة

حكم من جاءتها الدورة وهي صائمة Q ما حكم المرأة الصائمة إذا جاءتها الدورة في منتصف النهار؟ A بطل صومها، وهي مأجورة إن شاء الله، وعليها أن تفطر، ولكن إذا أخفت هذا عن أعين أولادها الذين لا يفهمون قضيتها، فهو أولى لكي تكون بعيدة عن التهمة.

حكم من ينام عن صلاة الفجر

حكم من ينام عن صلاة الفجر Q لي أخ ينام قبل الفجر بأقل من ساعة ليقوم إلى عمله الساعة التاسعة، وأحياناً يتسحر ثم ينام، ولا يصلي الفجر، وهو أكبر مني؟ A لابد أن تنصحه، ومن نصحك له: أن تورد له الأحاديث التي فيها الوعيد لمن أخر الصلاة عن وقتها.

الجمادات تصيبها العين

الجمادات تصيبها العين Q هل تعان الجمادات كالسيارة؟ A نعم تصيبها العين.

حكم بيع الماء المقروء عليه

حكم بيع الماء المقروء عليه Q هل يجوز بيع الماء المقروء فيه؟ A قد سألت شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز نفع الله بعلمه عن هذه المسألة، فقال: لا يجوز بيع الماء المقروء فيه، وقد حصلت أمور كثيرة من السخافات من بعض هؤلاء الذين يدعون الرقية، فيبيعون الماء ويعملونها تجارة، ويقول: هذا بخمسين، وهذا بمائة، وهذا بخمسمائة، لماذا؟ يقول: هذا مقروء فيه مرة، وهذا ثلاث مرات، وهذا مقروء فيه سبع مرات، وهذا مقروء فيه ثلاثين مرة، فكلما زاد عدد المرات زاد السعر حسب الجودة في السلعة، فيبيعون كلام الله، وبعضهم ما عنده وقت لينفث في الماء، فيوكل من ينفث، ولذلك فإن بعض هؤلاء لا يتقون الله، يكون رجلاً فاشلاً فيريد باب رزق يدخل فيه ويخدع عباد الله. فلا يجوز بيع الماء المرقي فيه، ولا الزيت أيضاً، لكن يباع على أنه ماء، فسعر الماء معروف، ويباع على أنه زيت فسعر الزيت أيضاً معروف، أما أن يرفع سعره لأنه مقروء فيه، فهذا لا يجوز.

جواز الاغتسال بالماء المرقي فيه في الحمام

جواز الاغتسال بالماء المرقي فيه في الحمام Q هل يجوز الاغتسال بالماء المقروء فيه في الحمام، علماً أنه يختلط مع النجاسات؟ A نعم، لا بأس بذلك، لأنه ليس للماء المقروء فيه القرآن حكم القرآن، ولا الشريط المسجل عليه القرآن حكم المصحف، ولذلك يجوز للجنب والحائض أن يمسا شريط القرآن، وكذلك يجوز أن يغتسل بالماء المرقي فيه في الحمام ولو كان ماء زمزم.

حكم قول: رضي الله عنه للتابعي

حكم قول: رضي الله عنه للتابعي Q هل يُقال للتابعي: رضي الله عنه؟ A نعم، من باب الدعاء، ولكن إذا أردنا أن نخص فنخص الصحابة، لقوله تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:100] وهكذا كان العلماء يترضون عن الصحابة.

حكم بلع النخامة والنخاعة في الصوم

حكم بلع النخامة والنخاعة في الصوم Q النخامة والنخاعة هل تفطر؟ A إحداهما: تكون من الأنف فتنزل الحلق، والثانية: تكون في الصدر فتصعد إلى الفم، فلا تبلع لا هذه ولا هذه، لكن إذا بلع شيئاً رغماً عنه فليس عليه شيء.

كيفية التعامل مع العائن

كيفية التعامل مع العائن Q إذا عُلم أن رجلاً يصيب بالعين، فكيف يتعامل مع هذا الشخص؟ A الإنسان يحوط نفسه، ويعوذها بالمعوذات والرقى الشرعية (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق) (بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم) و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1] ثم إن العلماء -رحمهم الله- قد ذكروا في أبواب الفقه في مسائل السجن من عرف أنه دائماً يصيب بالعين، فإن على الإمام أو الحاكم أن يحبسه في بيته ويمنعه من الخروج، ويرتب له من بيت المال رزقاً يجرى عليه ليكفي المسلمين شره.

المرأة البحرية

المرأة البحرية ضمن سلسلة قصص الصحابة في عهد النبوة يذكر الشيخ هذه المرة قصة عظيمة لامرأة عظيمة من فضليات الصحابيات، وهي أسماء بنت عميس، المهاجرة إلى الحبشة، ذاكراً حوارها مع عمر بن الخطاب، مبيناً ما تضمنته هذه القصة من فوائد تربوية ودعوية مهمة.

من فضائل الصحابة

من فضائل الصحابة

صبرهم وتضحياتهم في سبيل الدين

صبرهم وتضحياتهم في سبيل الدين الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فلا زلنا -أيها الإخوة- في هذه السلسلة من قصص الصحابة في عهد النبوة؛ نسترشد بسيرتهم، ونطيب أنفسنا بذكرهم وأخبارهم، ونستفيد دروساً عظيمةً من الأحداث والمواقف التي مرت بهم. أولئك القوم الذين اختارهم الله سبحانه وتعالى لصحبة نبيه محمدٍ صلى الله عليه وسلم، أبر الأمة، وأطهر الأمة، وأفقه الأمة، وأعبد الأمة لله عز وجل، أولئك الذين نزل الوحي بينهم، وهم الذين عقلوه ولم يعقل الوحي أحدٌ مثلهم رضوان الله تعالى عليهم، إنهم القوم الذين نستفيد منهم مواقف في العقيدة، مما تحملوه في سبيل الله، وجاهدوا به أعداء الله. إن واحداً منهم صدع بالقرآن في وجه الكفار فضربوه وآذوه، ولكنه استمر يقرأ القرآن عليهم. وآخر ينطق بالشهادتين، فيضربونه حتى يسيل منه الدم، فيصير كهيئة النصب الأحمر من كثرة ما سال من دمائه حتى يقع مغشياً عليه. إنهم ضربوا لنا أمثلة رائعة في الصبر، وكان يقذف بالواحد منهم على الرمال الحارة، وتوضع الصخرة على صدره فلا ينطق إلا بصفة من صفات الله التي تدل على وحدانيته، ورفض الشرك وعبادة الأوثان، وإن الواحد منهم كان يطرح على أسياخ الحديد المحماة، فلا يطفئها إلا الشحم الذي يسيل من ظهره عليها. وكان الواحد منهم يؤذى ويضرب حتى لا يستطيع أن يستوي قاعداً من شدة الضرب، إنهم الذين ضربوا لنا المُثُلَ في التحمل والصبر على الجوع في سبيل الله، فحوصروا حتى لم يعد الواحد منهم يجد شيئاً يأكله، فيبول فيرتد رشاش بوله من شيء في الأرض، فيأخذه فإذا هو جلد بعيرٍ قد فني منذ مدة وبقي هذا الأثر، يأخذه ليغسله؛ فينقعه ويقتاته أياماً. ولم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم وبلال من شيء يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه إبط بلال، وكان للواحد تمرة واحدة في اليوم يقتاتها وهم غزاةٌ في سبيل الله، ينقعونها في الماء يشربونه ويمصها الواحد منهم كما يمص الطفل ثدي أمه، اشتكوا من القلة إلى الله عز وجل لا إلى خلقه، وصبروا على العيلة والمسكنة، حتى جعل الواحد منهم من قلة الطعام يضغو كما تضغو الشاة، أي كالبعر الصغير تضعه الشاة، فكان الواحد من الصحابة إذا قضى حاجته لا يخرج منه إلا مثل ذلك، لأنهم لم يجدوا شيئاً يأكلونه، حتى ربطوا الحجارة المسطحة بمقدار الكف على بطونهم ليعتدل ظهر الواحد منهم؛ لأن الجوع احناه، ويبرد الحجر حرارة الجوع، ولأن ضغط الحجر على المعدة يؤدي إلى تقليل الإحساس بألم الجوع.

كثرة تعبدهم وحرصهم على نشر الإسلام

كثرة تعبدهم وحرصهم على نشر الإسلام وقد تعلمنا منهم دروساً في قيامهم بالليل بالقرآن، كالقراء الذين كانوا يصومون بالنهار ويقومون بالليل يقرءون القرآن، حتى مات وقتل عددٌ منهم في سبيل الله، كالسبعين الذي قتلوا في بئر معونة رضي الله عنهم، وكان أبو موسى الأشعري يقوم الليل بالقرآن، فيسمعه النبي صلى الله عليه وسلم فكأنما أوتي مزماراً من مزامير آل داود؛ والمزمار هو: الصوت الحسن الجميل، وكان عليه الصلاة والسلام يعرف صوت الأشعريين بالليل في قراءة القرآن. فهم الذين تعلمنا منهم الدروس في تلاوة القرآن، وتحسين الصوت به، والقيام به آناء الليل، وصيام النهار، رضوان الله تعالى عليهم. وهم الذين تعلمنا منهم الحكمة في الدعوة إلى الله عز وجل، وكيف أن مصعب بن عمير وعبد الله ابن أم مكتوم ذهبا إلى المدينة ليسلم على أيديهما رؤساء الأوس والخزرج، ويفتح مصعب المدينة بالقرآن، ويمهدها للنبي عليه الصلاة والسلام، فلم تفتح المدينة بالسيف، إنما فتحت بالقرآن، إنه القرآن الذي يقرأه الدعاة أمثال مصعب وابن أم مكتوم المرسلين من مكة.

حراسة الدين ونقله إلى من بعدهم من المسلمين

حراسة الدين ونقله إلى من بعدهم من المسلمين وقد تعلمنا منهم مقاومة المنافقين، والكشف عن دسائسهم، حتى كان الغلام منهم يتلقط الأخبار ليأتي بها إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وينزل الله آياتٍ تنبئ عن وفاء أذن هذا الغلام وصدقه، فكانوا صغاراً وكباراً جنوداً للدعوة، حراساً للعقيدة، أمناء على الدين، نقلة لأخبار المنافقين لكي يحذر منهم المؤمنون. تعلمنا منهم دروساً في مواجهة أعداء الله من اليهود والمشركين، وكيف كانوا يحرسون الخندق بعدما حفروه بأيديهم، ولم يستطع الكفار اقتحام المدينة، ولم يستطع اليهود أن ينالوا من النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته شيئاً تمنوه، أو أرادوا بلوغه فبلغوه، لأن الصحابة كانوا يحرسون كل ذلك. وتعلمنا من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم التواضع، تعلمنا منهم العفو، تعلمنا منهم الوقوف عند كتاب الله تعالى، تعلمنا منهم الجرأة في الحق، تعلمنا منهم الأمانة في نقل العلم، والحرص على حفظ الحديث وتأديته، فكم لـ أبي هريرة من الأجر، وأحاديثه في الصحاح والمسانيد والأجزاء الحديثية؛ تتلى وتقرأ في الدروس والخطب والمساجد، وتتناقل، هو الذي نقلها عن النبي عليه الصلاة والسلام، فله مثل أجر ذلك، وكذلك بقية المكثرين من الرواة كـ عائشة، وأنس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وغيرهم رضي الله عن الجميع.

حديث المرأة البحرية

حديث المرأة البحرية ونحن في هذه الليلة مع قصة من القصص التي حدثت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يرويها أبو موسى الأشعري رضي الله عنه، يقول: (بلغنا مخرج النبي صلى الله عليه وسلم ونحن بـ اليمن، فخرجنا مهاجرين إليه أنا وأخوان لي أنا أصغرهم، أحدهما أبو بردة، والآخر أبو رهم -في بضع وخمسين رجلاً من قومه- فركبنا سفينة، فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي في الحبشة، فوافقنا جعفر بن أبي طالب، فأقمنا معه حتى قدمنا جميعاً، فوافقنا النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر، وكان أناس من الناس يقولون لنا -لأهل السفينة-: سبقناكم بالهجرة، ودخلت أسماء بنت عميس، وهي ممن قدم معنا على حفصة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم زائرة، وقد كانت هاجرت إلى النجاشي فيمن هاجر، فدخل عمر على حفصة وأسماء عندها، فقال عمر حين رأى أسماء: من هذه؟ قالت: أسماء بنت عميس، قال عمر: آلحبشية هذه، البحرية هذه -التي ركبت البحر-؟ قالت أسماء: نعم، قال: سبقناكم بالهجرة، فنحن أحق برسول الله صلى الله عليه وسلم منكم، فغضبت، وقالت: كلا والله، كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يطعم جائعكم، ويعظ جاهلكم، وكنا في أرض البعداء البضغاء بـ الحبشة، وذلك في الله وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وايم الله لا أطعم طعاماً ولا أشرب شراباً حتى أذكر ما قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن كنا نؤذى ونخاف، وسأذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم وأساله، والله لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد عليه، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: يا نبي الله! إن عمر قال كذا وكذا، قال: فما قلتِ له؟ قالت: قلت له كذا وكذا، قال: ليس بأحق بي منكم، وله ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان، قالت: فلقد رأيت أبا موسى وأصحاب السفينة يأتوني أرسالاً يسألوني عن هذا الحديث، ما من الدنيا شيء هم به أفرح، ولا أعظم في أنفسهم مما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم) قال أبو بردة: [فلقد رأيت أبا موسى وإنه ليستعيد هذا الحديث منها]. هذا الحديث متفق على صحته؛ رواه الإمامان أبو عبد الله البخاري رحمه الله تعالى، والإمام مسلم بن الحجاج النيسابوري في صحيحيهما.

أهل اليمن خير من يستجيب لدين الحق

أهل اليمن خير من يستجيب لدين الحق يقول أبو موسى الأشعري: (بلغنا مخرج النبي صلى الله عليه وسلم ونحن بـ اليمن) يمكن أن يكون المخرج البعثة، ويمكن أن يكون الهجرة، بلغتهم الدعوة فأسلموا وأقاموا ببلاد اليمن، وأهل اليمن سباقون إلى الخيرات، أقاموا ببلادهم إلى أن عرفوا أن الهجرة واجبة، وأنه لا بد من الهجرة، فعزموا عليها، لكن الذي أخرهم إما عدم بلوغ الخبر إليهم، أو عدم علمهم بما كان المسلمون فيه من المحاربة مع الكفار، لم يكن هناك وسائل اتصال في القديم مثل الآن لتعرف الأخبار أول ما تقع، فربما يمكث الواحد شهوراً لا يعرف ماذا يحدث في المكان الآخر، فلما بلغتهم المهادنة طلبوا الوصول إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وربما أنهم مروا بـ مكة في حال مجيئهم إلى المدينة، ويجوز أن يكون هذا المرور في وقت الهدنة بين النبي عليه الصلاة والسلام وكفار قريش. يقول أبو موسى: (أنا وأخوان لي، أنا أصغرهم، أحدهما أبو بردة -واسمه عامر - وأبو رهم -الثاني واسمه مجديّ بالياء المشددة-) وهؤلاء من الأشعريين من أهل اليمن، وقد صارت هذه الكلمة تطلق بعد ذلك على الأشعريين، وهم غير الأشاعرة، أما الأشاعرة فلهم منهج في العقيدة ليس سوياً ولا مستقيماً، وفيه انحراف عن جادة السلف في الأسماء والصفات، وبعض القضايا الأخرى المتعلقة بالإيمان والقضاء والقدر ونحو ذلك من قضايا العقيدة. أما الأشعريون فهم قوم من اليمن منهم أبو موسى الأشعري، معه أخوان له، ومعهم ثلاثة وخمسون أو اثنان وخمسون رجلاً من قومهم. ويقول: فوافقنا جعفر بن أبي طالب أي: اتجهت السفينة من اليمن عن طريق البحر إلى الحبشة، ووافقوا جعفر بن أبي طالب في الحبشة، لأن جعفر بن أبي طالب خرج مع بعض المسلمين مهاجراً من مكة إلى الحبشة لما اشتد عليهم أذى قريش، وقاموا بما يستطيعون من الدعوة هناك، والمحافظة على هذه المجموعة التي ذهبت إلى هناك حتى رجعوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام بعد خيبر. فالتقى أبو موسى ومن معه بـ جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ومجموعة المسلمين هناك، وأقاموا معهم حتى هاجروا جميعاً مع جعفراً إلى المدينة، وقد جاء في رواية أن جعفر قال لهم: [إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثنا هنا، وأمرنا بالإقامة، فأقيموا معنا] فـ جعفر بن أبي طالب كان مقيماً في الحبشة بناءً على أوامر من النبي عليه الصلاة والسلام، ولما قدموا المدينة كان مع جعفر بن أبي طالب زوجته أسماء بنت عميس، ومن اليمنيين أبو موسى وجماعته، وجاء خالد بن سعيد بن العاص وامرأته، وأخوه عمر بن سعيد ومعيقيب بن أبي فاطمة.

أسماء بنت عميس تستخرج شهادة بالهجرتين

أسماء بنت عميس تستخرج شهادة بالهجرتين قال: [فوافقنا النبي صلى الله عليه وسلم بعد فتح خيبر مباشرة] وغنائم خيبر كانت فتحاً عظيماً للمسلمين وفكت ضائقة اقتصادية شديدة كانت نازلة بالمسلمين، ومعروف أن الغنائم توزع على من قاتل في المعركة، لكن نظراً للدور العظيم الذي قام به جعفر بن أبي طالب في الحفاظ على هذه المجموعة الإسلامية في الحبشة، وقيامهم بالدعوة هناك، وحكمتهم في دعوة النجاشي، وما حصل من وجود قاعدة إسلامية خلفية احتياطية، رديفة للقاعدة التي كانت موجودة في مكة، بحيث لو ضرب المسلمون في مكة فلا تزال مجموعة في الحبشة باقية، فنظراً لهذا الدور العظيم أشرك النبي هؤلاء المهاجرين في غنائم خيبر؛ مع أنهم ما شهدوا فتح خيبر، ولذلك جاء في رواية في البخاري: [فأسهم لنا ولم يسهم لأحدٍ غاب عن فتح خيبر منها شيئاً إلا لمن شهدها معه، إلا لأصحاب سفينتنا مع جعفر وأصحابه، فإنه قسم لهم معهم]. وكان أناس في المدينة يتباهون أنهم الذين هاجروا مع النبي عليه الصلاة والسلام، وأنهم حازوا قصب السبق، وأنهم أفضل، منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فالذي حصل أن أسماء بنت عميس، وهي زوجة جعفر، دخلت على حفصة بنت عمر، وهي زوجة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم دخل عمر على بنته يزورها، فوجد أسماء، قال عمر: من هذه المرأة التي عندك؟ فقالت: هذه فلانة، قال: ألحبشية هذه، أو ألبحرية هذه؟ أو البحيرية بالتصغير أما الحبشية، فنسبة لأنها كانت ساكنة في الحبشة، وأما البحرية لركوبها البحر، ثم ذكر عمر أنهم أولى بالنبي عليه الصلاة والسلام، وأنهم سبقوا بالهجرة، فقالت أسماء بنت عميس: كلا والله وأنتم كنتم عند النبي عليه الصلاة والسلام ينفق عليكم ويعلمكم، ونحن كنا صابرين على اللأواء والشدة في دار البعداء البغضاء، جمع بعيد بغيض: البعداء والبغضاء، لأن ذلك كان بلد نصارى، وإذا كان النجاشي أسلم، ومعه قلة قليلة جداً، فالبقية على دين النصارى، لم يسلم قوم النجاشي، لكنه أسلم رحمه الله، وبقي ملكاً عليهم مطاعاً فيهم، وحصل انشقاق ومعركة، وانتصر النجاشي ومن معه على الجناح المنشق الذي خرج عليه في قصة حضرها الصحابة من بعد، وأرسلوا من يأتي بالخبر سباحة ورجع إليهم، وبالتأكيد أنهم كانوا يدعون الله للنجاشي أن ينتصر، وأن دعوات الصحابة واكبت النجاشي في نصره على من خرج عليه. فقالت: -ولعمري لقد صدقت- كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يطعم جائعكم، ويعلم جاهلكم، وكنا البعداء والفرداء، قالت بهذه الرواية: نحن كنا هناك صابرين وذلك في الله وفي رسول الله. وايم الله: وايم اختصار لأيمن الله من اليمين، حلفت أن تخبر النبي عليه الصلاة والسلام بما قال عمر، وأخبرت النبي عليه الصلاة والسلام بعدما جاء، فأخبرها أنه ليس عمر أولى بي منكم، وأخبرها أن للذين هاجروا من مكة إلى المدينة هجرة واحدة، بينما لهؤلاء هجرتان؛ هجرة إلى النجاشي وهجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وبإسناد صحيح للشعبي، قال: قالت أسماء بنت عميس: (يا رسول الله! إن رجالاً يفخرون علينا ويزعمون أنا لسنا من المهاجرين الأولين). لأن الله مدح المهاجرين الأولين، فقال عمر: (نحن المهاجرون الأولون أي: وأنتم رتبة ثانية، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أنتم لكم هجرتان) أي: هاجرتم إلى أرض الحبشة ثم هاجرتم بعد ذلك إلى المدينة. وفي رواية قال: (للناس هجرة واحدة ولكم هجرتان) قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك والصحابة أحرص شيء على الأجر، وهذا شرف عظيم جداً؛ فحصل هناك بين هؤلاء المهاجرين انتعاش وفخر، وفرح وسرور بالغ لا يوصف، حتى أن أهل السفينة جاءوا أفواجاً وأرسالاً، سمعوا أن أسماء بنت عميس أخذت تزكية من النبي عليه الصلاة والسلام أن لهم هجرتين، فجاءوا يسألون أسماء فوجاً بعد فوج؛ لأنهم كانوا يحتسبون الأجر، يريدون أن يسمعوا هذه الكلمة. حتى أبو موسى وهو من كبار رواة الحديث، يأتي بنفسه لـ أسماء بنت عميس يقول: أسمعيني أسمعيني، يطلب منها أن تعيد له الحديث مرة أخرى فرحاً به.

الدروس المستفادة من حديث المرأة البحرية

الدروس المستفادة من حديث المرأة البحرية هذه القصة فيها فوائد متعددة نذكرها فيما يلي:

وفاء اليمنيين وثباتهم على الدين

وفاء اليمنيين وثباتهم على الدين فمن فوائد هذه القصة أن الإنسان المسلم يبقى وفياً لإسلامه ولو كان في أرضٍ بعيدة، فلقد بقي المسلمون في اليمن فترة من الزمن وأخبار المسلمين عنهم منقطعة، لكن انقطاع الأخبار لا يعني انتكاساً ولا ردةً ولا تغيير موقف، بل ثبات على الدين، نعم وصول ما استجد من وحي وما نزل من سور في مكة، أو الأخبار من النبي عليه الصلاة والسلام لا شك أن ذلك يزيد الإيمان، لكن لو ما وصلت فهم على العهد باقون، وعلى الدين ثابتون، لأنهم أناس مؤمنون دخلوا في دين الله لا لشخص، وهم مستمرون على عقيدتهم وعلى دينهم يعبدون الله بما وصلهم، وبحسب ما عندهم من العلم، وهكذا الإنسان لو ذهب إلى بلدٍ بعيدة.

الثبات على الدين في بلاد الغربة

الثبات على الدين في بلاد الغربة ودرس آخر نستفيده من وجود المسلمين في الحبشة، وهو لو أن أحداً ذهب إلى أمريكا أو أوروبا أو بلاد المشرق في أقصى الأرض وهو مسلم، فهو لا يزال على صلاته يؤديها في أوقاتها بالطهارة والخشوع، ولا زال معه مصحفه يقرأ فيه، ولا زال مع العلم الذي تعلمه، ولا زال يذكر الله كثيراً، ولازال يدعو الله، وهكذا لا يزال مع إخوانه المسلمين قدر الإمكان. إذاً: فالثبات على الدين حتى في بلاد الغربة درس عظيم يستفاد من هذه القصة.

التضحية لأجل الدين والعمل وفق مصلحته

التضحية لأجل الدين والعمل وفق مصلحته كذلك أن التحرك لأجل الدين ينبغي أن يكون نابعاً من مصلحة الدين لا مصلحة الأشخاص، هؤلاء الناس بقاؤهم في بلدهم في اليمن من ناحية الدنيا أحسن، فقد تكون لهم مزارع، وعندهم عقار، وبيوت وأهل وقبيلة، بلاد اليمن بلاد خير عظيم لا تقارن بما كان عليه المسلمون من الشدة، ومع ذلك تركوا بلادهم مهاجرين. إن ترك البلد التي فيها خير ونعيم لأجل الله ليست مسألة سهلة؛ فأن يترك الإنسان بيته ويذهب إلى مكان بدون بيت، ويترك زرعه وثمره يذهب إلى مكان لا يجد فيه ثماراً ولا يجد فيه إلا أشياء يسيرة يعد تضحية جسيمة، أين اليمن بخيراتها في ذلك الوقت مما كان يوجد في المدينة مثلاً؟ خيرات اليمن أكثر بكثير، ولذلك فإن ترك هؤلاء بلدهم لله ثمنه عظيم، وقدره كبير عند الله سبحانه وتعالى، فبعض الناس قد يترك بلده وفيها فقر؛ لكن الذي حصل هنا عكس ذلك؛ فإنهم تركوا بلد الخيرات الدنيوية لأجل خير الآخرة.

المخاطرة لأجل الدين

المخاطرة لأجل الدين كذلك في هذا الحديث: المخاطرة لأجل الدين، فركوب البحر خطر عظيم؛ خاصة أن القوارب أو السفن كانت بدائية في ذلك الوقت، واحتمال هيجان الأمواج في البحر كبير، وحصل لعدد من العلماء من اليمن إلى جدة رحلات بحرية ذكروها وذكروا الأخطار التي فيها، حتى ذكر الشيخ صديق حسن خان رحمه الله رحلةً بحرية من اليمن إلى جدة لأجل الحج، وذكر ما حصل من تلاطم الأمواج بالسفينة التي كانوا فيها حتى أوشكت على الغرق، ورأى بعض الناس في خضم هذه الأهوال بدلاً من أن يقولوا: يا الله أنقذنا، كل واحد منهم جعل ينادي الولي الذي يفزع إليه في وقت الشدة، يا عيدروس المدد المدد، يا بدوي المدد المدد، يا جيلاني المدد المدد، يا شاذلي أدركنا وهكذا، حتى أن أحد الموحدين قال: اللهم أغرق أغرق فما بقي أحدٌ يعرفك! كل واحد فزع إلى ولي وإلى بشر، وتركوا الله، ولذلك فإن مشركي عصرنا أسوء من مشركي قريش، أولئك إذا ركبوا في الفلك واضطربت الأمواج دعوا الله مخلصين له الدين، وهؤلاء لما ركبوا في الفلك واضطربت بهم الأمواج قالوا: يا فلان يا فلان، وتركوا الله عز وجل. فركوب البحر إذاً خطير، ومع ذلك ركبوا البحر مع كون الوسائل بدائية، ركبوه لله وفي سبيل الله، فالإنسان في سبيل الدين يخاطر، لكن عندما تكون المصلحة متحققة، فإنه قد صدرت أوامر إلى المسلمين بالهجرة. وركب المسلمون البحر للجهاد، والغازي في البحر أعظم من الغازي في البر، لأن الغزو في البحر فيه خطورة، وأجره أكثر، وقد طلبت إحدى النساء المسلمات من النبي عليه الصلاة والسلام أن يدعو لها أن تكون شهيدة في البحر، وقد كان ذلك فعلاً في غزوة في البحر رضي الله تعالى عنها، بايعت النبي عليه الصلاة والسلام واستشهدت، واستيقظ النبي عليه الصلاة والسلام يضحك، ورأى قوماً من أمته كالملوك على الأسرة يركبون ثبج البحر للجهاد في سبيل الله، هذه الجزر الموجودة كجزيرة قبرص وغيرها من الجزر فتحها المسلمون وعبروا منها إلى الأندلس، ركبوا البحر في سبيل الله وتفوقوا وانتصروا على الكفار. فإذاً ركوب البحر على المخاطرة التي فيه أجره أعظم ولا شك.

جواز تحدث المرء وفخره بنعمة الله ما لم يكن عجبا

جواز تحدث المرء وفخره بنعمة الله ما لم يكن عجباً كذلك من فوائد هذا الحديث أنه يحق للإنسان أن يفتخر بالمزية الشرعية؛ ما لم يكن في ذلك كبرٌ أو عجب، بشرط أن يكون هذا الافتخار صحيحاً، أي: أن تكون له ميزة صحيحة، وأن ذلك من التحدث بنعمة الله ومن الفرح بثواب الله عز وجل.

انتقاء المكان المناسب للفرار بالدين

انتقاء المكان المناسب للفرار بالدين وكذلك في هذا الحديث: انتقاء المكان المناسب للفرار بالدين، فإن النبي عليه الصلاة والسلام وجه أصحابه إلى الحبشة وقال: (إن فيها ملكاً عادلاً لا يظلم عنده أحد). والنجاشي كان عند ظن النبي عليه الصلاة والسلام، فحماهم وحافظ عليهم وأكرمهم، وأسلم، ولكن قيل إنه كان متكتماً على إسلامه عن قومه، كان يخشى لو أظهر إسلامه أن يخرجوا عليه، بل قد خرجوا عليه، ولكن الله نصره بمن معه على من انشق عنه وخرج عليه، لكن قال بعض أهل العلم كـ النووي رحمه الله: إن النجاشي كان مستسراً بإسلامه عن قومه. والعبرة أن الأسباب التي أدت إلى اختيار الحبشة هي وجود ذلك الحاكم الذي يعدل ولا يظلم، وهكذا حصل وجود قاعدة مهمة للمسلمين في ذلك المكان.

أن المسلم كالغيث أينما وقع نفع

أن المسلم كالغيث أينما وقع نفع ولم يقصر الصحابة في الدعوة في بلاد الغربة، وهذه فائدة أخرى، أن الإنسان إذا ذهب إلى بلد غربة وإن كان ضعيفاً، أو كان علمه قليلاً، وقد لا يجد مدداً من إخوانه، والعلماء والمشايخ ونحو ذلك، لكن هل يمنعه ذلك من الدعوة؟ بعض الناس إذا ذهب إلى الخارج انكفأ على نفسه وانزوى، وشعر بالوحشة والغربة فلا يفعل شيئاً للدين، لكن هؤلاء الصحابة لما هاجروا إلى الحبشة مع أنها أرض بعداء وبغضاء وكفارٍ نصارى، لكن اشتغلوا بالدعوة؛ واشتغلوا مع رأس الهرم، ومع القمة، ومع الأحبار والرهبان والقساوسة الذين كانوا مع النجاشي؛ يدعون إلى الله، يعبدون الله في تلك الأرض.

على المسلم المضطهد أن يهاجر

على المسلم المضطهد أن يهاجر ففيه أن الإنسان إذا ضيق عليه في دينه فعليه ألا يبقى في مكان لا يستطيع أن يقيم فيه شعائر الدين، وهذه مسألة مهمة جداً، أن إذا وجد الإنسان بأرض لا يستطيع أن يجهر فيها أو يظهر شعائر الدين؛ فلا صلاة ولا أذان، فلينتقل عنها: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء:97] فالمرء غير معذور بالإقامة في بلد لا يستطيع أن يصلي فيها أو لا يستطيع أن يقيم شعائر الإسلام فيها، فعند ذلك يتركها إلى بلد آخر أرحم وأرحب: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} [النساء:100] مراغماً يعني: يرغم أنوف الذين أخرجوه، فإن إظهار شعائر الدين مسألة مهمة؛ فهي حياة للدين، ونشر له، وإقامة لشعائره كالأذان، وإقامة الصلاة، وحتى صلاة العيدين، وعلى الأقليات الإسلامية في الخارج ألا يصلوا العيد في أماكن مغلقة، بل يخرجوا إلى الصحراء، وتخرج معهم النساء والحيض وذوات الخدور ليشهدن الخير ودعوة المسلمين، ويكون بذلك إظهار الدين، لأن إظهار الدين يلفت الأنظار، وفعل ذلك أبو بكر الصديق، فإنه ابتنى مسجداً بفناء داره، فجعل يقرأ القرآن والناس في الشارع يمرون، فجعل أبناء المشركين ونساؤهم يتجمعون للسماع؛ لأن إعلان صوت الحق مهم في الدعوة، بل كيف يعرف الكافر أن هنا ديناً وإسلاماً إذا لم تعلن الشعائر؟ ولذلك إذا تعذر إقامة الشعائر في بلد فعلى المرء أن يهاجر وأرض الله واسعة رحيبة: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} [النساء:100] فإذا خرج إلى أرض أخرى، أرغم أنوف الذين ضيقوا عليه في ذلك البلد، حتى يتمنوا لو قتل بل ربما يندمون على إخراجه، فيقولون: ذهب من بين أيدينا. ثم قد يلاحقونه ويطالبون به، ويريدون بأي طريقة إعادته من الغيظ الذي أصابهم حين انفلت من بين أيديهم، والله عز وجل قد تكفل بالعون لمن هاجر في سبيله، وأن يغنيه وينصره ويحميه ويحفظه، والذي يبقى تحت حكم الكفار غير معلن للدين حتى يموت أو يموت دينه، تقول له الملائكة عند الوفاة: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء: 97] لماذا لم تهاجروا؟

اختلاف أوضاع المسلمين والأجر على قدر الصبر

اختلاف أوضاع المسلمين والأجر على قدر الصبر وكذلك من دروس هذه القصة: أن حال بعض المسلمين أهون من بعض، وبعض المسلمين حالهم أشد من بعض، فلما قارنت أسماء بنت عميس وضعها الذي كانت فيه هي والمسلمين في الحبشة، مع وضع عمر بن الخطاب والمسلمين في المدينة، قالت: [معكم رسول الله يطعم جائعكم] مما يأتي من الصدقات والغنائم [ويعظ جاهلكم] أي: وعندكم مصدر العلم، وكنا صابرين في دار البعداء والبغضاء، فصَبْرُنا أعظم وأشد، فالآن لو قارنت أوضاع المسلمين في العالم لوجدتها تختلف في الشدة واليسر، ومادام كل واحد في مكانه يؤدي دوراً، فالثواب على قدر النصب، فنحن هنا عندنا أموال وخيرات، وعندنا أثاث ومتاع، وعندنا بيوت وسيارات، وفي بعض البلدان لا يوجد ذلك أبداً، بل هم حفاة عراة، بل لا بيوت لهم ولا سيارات، ما وجد بعض المسلمين في الصومال إلا الأشجار يتسلق عليها من الفيضانات، ويتعلقون بأغصانها، وإذا سقط الولد انتهى، لأنه موضوع على نصف الشجرة، والمياه عميقة، ولا يمكن لوالديه أن يرداه وإلا غرقا معه، فلا يقارن وضع هؤلاء بوضعنا في بيوتنا، وفي عمائرنا، وشققنا، وفللنا، ولا صبرهم على اللأواء والشدة بصبرنا نحن؟ وكذلك من أراد منا أن يذهب إلى درس في المسجد حرك السيارة بسرعة ووصل، لكن في بلدان أخرى لا توجد معهم سيارات، والحافلات مزدحمة فلا يصل إلا بعد ساعة أو ساعات، إذاً الأوضاع ليست سواء. وحتى بالنسبة للطعام واللباس، أحياناً الواحد يقول: كنت مرة قد أعطيت بعض الإخوان كتاب (أربعون نصيحة لإصلاح البيوت) كتيب صغير، قلت: هذا خذوه معكم إلى تلك البلاد ووزعوه، قالوا: لا توجد بيوت حتى تصلح، الناس في البراري والقفار، لا يوجد مكان يعيش فيه هؤلاء، ثم تقول: اجعل مكتبة صوتية في بيتك فيقول: لا يوجد مسجلات أصلاً ولا أشرطة وضع مأساوي! إذاً نحن قد نتكلم أحياناً في الدعوة، ونتكلم على مستوى الإمكاناتُ فيه موجودة ومتوفرة، لكن بعض المسلمين ما عندهم إمكانات مطلقاً. وتقول مثلاً: وطالب العلم إذا ما وجد شيخاً فليسمع أشرطة المشايخ، يقول: لكن ليس عندهم مسجلات أصلاً حتى يسمعوا أشرطة مشايخ، فلما قالت أسماء: أنتم مع النبي عليه الصلاة والسلام يطعم جائعكم، ويعظ جاهلكم، ونحن في أرض البعداء والبغضاء، الإمكانات إذاً في بلاد المسلمين تختلف، ولما صبرت أسماء بنت عميس ومن معها حازوا هجرتين بسبب صبرهم والشدة التي عانوها. فإذاً كل مسلم يصبر في المكان الذي هو فيه حسبما تقتضيه المصلحة الشرعية، وأجره يكون على حسب صبره، وربما يكون لبعض المسلمين من الأجر أكثر بكثيرٍ مما لنا نحن؛ لأن الإمكانات لدينا متوفرة؛ من خيرات وأموال وأوضاع مادية جيدة، وألوان من الطعام والأثاث ونحو ذلك.

الرجوع إلى أهل العلم عند الاختلاف

الرجوع إلى أهل العلم عند الاختلاف كذلك من دروس هذه القصة: أنه إذا حصل خلاف علمي فالمرجع إلى أهل العلم، فالآن حصل خلاف علمي بين أسماء بنت عميس وعمر بن الخطاب، في أي الفريقين خيرٌ وأفضل، فقال عمر: نحن هاجرنا مع النبي عليه الصلاة والسلام، وأنتم ذهبتم إلى الحبشة، فنحن أولى به، فتقول أسماء: وايم الله لا أطعم طعاماً ولا أشرب شراباً حتى أذكر ما قلته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمرجع للخلاف لأهل العلم.

الأمانة في النقل

الأمانة في النقل درسٌ آخر: الأمانة في نقل الخلاف والسؤال، ومع الأسف أنه إذا وقع اليوم خلاف في مسألة علمية، فكل واحد ينقلها إلى الشيخ بطريقة تختلف عن الآخر، وتجد تحريفاً حسب هوى الشخص، فتقول أسماء رضي الله عنها: [وسأذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم وأسأله، والله لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد عليه] سأنقل الحوار بالضبط كما حصل، وأسأله عن رأيه فيه لا أزيد ولا أزيغ ولا أكذب، وهكذا حصل وسألت النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: [يا نبي الله! إن عمر قال كذا وكذا].

على المفتي أن يتثبت ويستوفي السؤال

على المفتي أن يتثبت ويستوفي السؤال وهنا درس للمفتي: فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: (فما قلت له؟) يريد أن يعرف أيضاً ماذا قالت هي، وما هو رأيها فيه أيضاً، قالت: [قلت له: كذا وكذا] وذلك لاستطلاع رأي الطرف الآخر واكتشاف الأشخاص والفهم الموجود لديهم. وكذلك في هذا الحديث: الفيصل الذي يخرج من كلام العالم ليحسم الخلاف، لأن بعض الناس يقولون: نرجع للعالم، ثم يختلفون بعد ذلك، فبعضهم يفسر كلامه، ويقول: لعله ما فهم، أو لعلك ما فهمت الشيخ، نعم قد يكون هناك تقصير في الشرح، ولكن بعض الناس يرفض الفتوى لأنها تخالف هواه، فيقول: لا، وربما أنك ما سألته بشكل سليم، وما شرحت القضية كما حصلت، فهناك شجار وخصومات، وأحياناً تكون الفتوى مكتوبة مطبوعة ومع ذلك يقولون: لا. وفيها كذا وكذا، أما هنا فكلام النبي صلى الله عليه وسلم فصل في القضية، ولا أحد يعترض ويورد الإيرادات {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43].

فرح الصحابة بما يقربهم من الله

فرح الصحابة بما يقربهم من الله كذلك من دروس هذه القصة: فرح الصحابة رضوان الله عليهم بخبر الأجر والمنزلة التي لهم عند الله، (وهذه عاجل بشرى المؤمن) ولذلك من شدة فرح أهل السفينة أن جاءوا أفواجاً يسألون ويستعيدون الحديث من أسماء. ودرس في تواضع أبي موسى الأشعري فما قال: أنا أفقه من أسماء، وأنا رجل وهي امرأة؛ فأرسل إليها ولدي الصغير ليأتيني بالكلام. لا ذهب هو بنفسه: [فلقد رأيت أبا موسى وإنه ليستعيد هذا الحديث مني] ولقد عبرت عن الفرح بتلك الكلمات: [ما من الدنيا شيءٌ هم به أفرح ولا أعظم في أنفسهم مما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم].

إشراك الأقرباء فيما فيه خير

إشراك الأقرباء فيما فيه خير وكذلك في هذا الحديث: أن الإنسان يشرك أهل بيته في الأجر، فلقد خرج أبو موسى وأخواه، أبو رهم، وأبو بردة، والله تعالى إذا أراد لأهل بيت خيراً جعلهم شركاء في الدعوة، شركاء في طلب العلم، شركاء في الخير، يحضرون مجالس الخير، ثلاثة إخوة خرجوا من بيت واحد مهاجرين إلى الله ورسوله، فالإنسان عليه أن يحرص على إشراك إخوته، وأولى الناس الأشقاء، كانت منة موسى على هارون عظيمة لما طلب من الله أن يجعله نبياً معه حيث قال: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه:29 - 32] وصار نبياً مع موسى.

التقيد بالأوامر والتعليمات

التقيد بالأوامر والتعليمات وكذلك في هذا الحديث: أن على الإنسان أن يتقيد بالتعليمات التي جاءته في الله وفي سبيل الله من أهل العلم، فإن جعفراً رضي الله عنه قال لـ أبي موسى ومن معه: [أقيموا معنا] أي: فإن النبي عليه الصلاة والسلام أرسل إلينا أن نجلس هنا فنقيم، فأنتم أيضاً أقيموا معنا، وهذا ما حصل، فالتزموا بذلك، وكان جعفر رضي الله عنه سيداً حكيماً جليلاً، وهو الذي قاد دفة المسلمين، وكان رباناً ماهراً في بحار بلاد الكفر في الحبشة، وكانوا جرآء في الحق، ولعل جرأتهم كانت سبباً في هداية النجاشي رحمه الله تعالى، فقد أجمعوا أن يقولوا الصدق، وما يعتقدونه حقاً في عيسى ومريم.

إكرام أهل السبق

إكرام أهل السبق وكذلك في هذا الحديث: إكرام أهل السبق، فمع أنهم ما حضروا المعركة لكن النبي عليه الصلاة والسلام أشركهم، اعترافاً لأهل الفضل بفضلهم، والمواقف تقدر، ومن لم يقدر المواقف خسر الأشخاص، فالنبي عليه الصلاة والسلام أكرمهم وجعلهم مع أهل الغنائم، مع أنهم لم يشتركوا في المعركة؛ لِمَا صبروا، ولحاجتهم رضوان الله تعالى عليهم. هذه طائفة من الدروس التي اشتملت عليها القصة، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن يحب الصحابة، ويقتدي بهم، ويهتدي بهديهم رضي الله تعالى عنهم.

فوائد لغوية في ألفاظ حديثية

فوائد لغوية في ألفاظ حديثية كلمة (درك) بسكون الراء، أعوذ بك من درك الشقاء، قال في النهاية في غريب الحديث والأثر لـ ابن الأثير، الدرك: اللحاق والوصول إلى الشيء، تقول: أدركته إدراكاً، ودركاً المصدر، وأما الحديث" درك الشقاء" فإنه يستعيذ بالله أن يدركه الشقاء أي: يلحق به. قال صاحب اللسان في الحديث: نعوذ بك من درك الشقاء، الدرك: اللحاق والوصول إلى الشيء تقول: أدركته إدراكاً ودركاً، والإدراك اللحوق، يقال: مشيت حتى أدركته، وعشت حتى أدركت زمانه. قال ابن الأثير: في حاء وباء: رب تقبل توبتي واغسل حوبتي، حَوبتي أو حُوبتي، أي: إثمي، ومنه الحديث: اغفر لنا حَوبنا أو حُوبنا، أي: إثمنا، تفتح الحاء وتضم. والحمد لله؛ كل الآراء صحيحة في هذا، ومنه حديث الدعاء: إليك أرفع حَوبتي أو حُوبتي، أي: حاجتي. وهذا في نهاية غريب أثر الحديث، قال ابن الجوزي قوله: اغسل حوبتي، أي: إثمي، ومثله: الربا سبعون حوباً، أي: سبعون ضرباً من الإثم، وفيه لغتان فتح الحاء وضمها، انظر غريب الحديث لـ ابن الجوزي. هنا مضبوطة بالشكل أيضاً: رب تقبل توبتي واغسل حَوبتي، ومنه الحديث: اغفر لنا حَوبنا أي: إثمنا، وتفتح الحاء وتضم، وقيل: الفتح لغة الحجاز، والضم لغة تميم، أي: فكلاهما من لغات العرب.

وليمة سمك

وليمة سمك إن قصة خروج بعض الصحابة في سرية سيف البحر يبين الحالة التي كان عليها الصحابة رضوان الله عليهم؛ فقد كانوا في ضيق وشدة من العيش، حتى إنهم لم يجدوا إلا تمرة لكل واحد طيلة اليوم، وقليلاً من الماء يشربونه عليها، فبينما هم كذلك إذ فتح الله عليهم وأكرمهم بحوت عظيم قذفه البحر، فأكلوا منه حتى شبعوا وتزودوا، وأعطوا رسول الله صلى الله عليه وسلم منه، هذا ما تحدث عنه الشيخ حفظه الله، ثم ذكر عدة فوائد مستفادة من هذا الحديث.

حديث خروج سرية سيف البحر

حديث خروج سرية سيف البحر الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على آله وصحبه أجمعين وبعد: فحديثنا في هذه الليلة عن قصة أخرى من القصص التي كانت لصحابة النبي صلى الله عليه وسلم في عهده عليه الصلاة والسلام، وفيها فوائد وعبر، وفيها بيان ما كان عليه الصحابة من الشدة، وكيف تحملوا في ذات الله وفي سبيل الله. روى هذه القصة الإمام البخاري رحمه الله في عدد من المواضع من صحيحه، ورواها كذلك الإمام مسلم رحمه الله، وروى طرفاً منها الإمام الترمذي رحمه الله، وكذلك رواها ابن إسحاق من أهل السير أيضاً. وهذه رواية الإمام مسلم عن جابر قال: (بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر علينا أبا عبيدة نتلقى عيراً لقريش، وزودنا جراباً من تمر لم يجد لنا غيره، فكان أبو عبيدة يعطينا تمرةً تمرة، فقلت: كيف كنتم تصنعون بها؟ قال: نمصها كما يمص الصبي، ثم نشرب عليها من الماء فتكفينا يومنا إلى الليل، وكنا نضرب بعصينا الخبط ثم نبله بالماء فنأكله، قال: وانطلقنا في ساحل البحر، فرفع لنا على ساحل البحر كهيئة الكثيب الضخم، فأتيناه فإذا هي دابة تدعى العنبر، فقال أبو عبيدة: ميتة. ثم قال: لا، بل نحن رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي سبيل الله وقد اضطررتم فكلوا، قال: فأقمنا عليها شهراً ونحن ثلاثمائة حتى سمنا، قال: ولقد رأيتنا نغترف من وقب عينه الدهن بالقلال، ونقتطع منه الفدر كالثور أو كقدر الثور، ولقد أخذ منا أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلاً فأقعدهم في وقب عينه، وأخذ ضلعاً من أضلاعه فأقامها، ثم رحل أعظم بعير معنا فمر من تحتها، وتزودنا من لحمه وشائق، فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له، فقال: هو رزق أخرجه الله لكم، فهل معكم من لحمه شيء فتطعمونا؟ قال: فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فأكله).

خروج السرية لتلقي عيرا لقريش

خروج السرية لتلقي عيراً لقريش هذه الغزوة هي غزوة سِيف البحر، أو سرية الخبط، بعثهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ساحل البحر يتلقون عيراً لقريش، وكذلك جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثهم إلى حي من جهينة من المشركين مما يلي ساحل البحر، بينهم وبين المدينة خمس ليال، وأنهم انصرفوا ولم يلقوا كيداً، أي: هؤلاء الصحابة ذهبوا ولم يجدوا حرباً، وكانت هذه السرية في رجب سنة ثمانٍ، ولا مانع أن يكون النبي عليه الصلاة والسلام بعث هذه السرية لهدفين: الهدف الأول: إلى هذا الحي من جهينة من المشركين. والهدف الثاني: تلقي عير قريش، فتكون هذه السرية مزدوجة الهدف، أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يصيب أكثر من هدف بهذه السرية. فانطلقت هذه السرية إلى أرض جهينة، وأرادت أن تتلقى عيراً لقريش لتقطع الطريق عليهم، ومعلوم أن أموال المحاربين حلال للمسلمين، وهذه كانت تقريباً سنة ثمان للهجرة، كما أشار ابن سعد رحمه الله، ولكن الأرجح أنها كانت سنة ست أو قبلها قبل هدنة الحديبية، لأن هدنة الحديبية وضعت الحرب أوزارها بين المسلمين والمشركين، وإذا كانت في وقت الهدنة فيحتمل أنها كانت لتلقي العير لحفظها من جهينة، ولذلك لم يأخذوا شيئاً ولم يستولوا على شيء، أقاموا نصف شهر في مكان واحد ثم بعد ذلك رجعوا.

تأمير أبي عبيدة رضي الله عنه وفناء الزاد

تأمير أبي عبيدة رضي الله عنه وفناء الزاد يقول: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثاً قبل الساحل، وأمر عليهم أبا عبيدة بن الجراح فـ أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه بالإضافة إلى كونه أمين هذه الأمة فهو كذلك قائد عسكري مظفر، وله خبرة واسعة في القتال، ولذلك ليس بغريب أن يوليه عمر رضي الله عنه بعد خالد قيادة جيوش المسلمين، القيادة العامة لجيوش المسلمين. وخرج بهم أبو عبيدة رضي الله تعالى عنه، ولما كانوا في أثناء الطريق فني الزاد، انتهى زاد الجيش، ومعروف أن الجيوش من أهم الأشياء فيها التموين، لأن التموين مهم لاستمرارية التحرك نحو الهدف وتحقيق الهدف والعودة، لكن انتهى الزاد، فما هو الإجراء الذي اتخذه أبو عبيدة رضي الله عنه لمواجهة انتهاء الزاد؟ أمر أبو عبيدة بأزواد الجيوش، فجمع فكان مزود تمر كما في رواية البخاري، والمزود هو: ما يوضع فيه الزاد، فهذا المزود من التمر هو الذي كان يقيتهم أثناء الطريق، كيف كان ذلك؟ كل يوم قليلاً قليلاً حتى فني، وانتهى. قال: فلم يكن يعطينا إلا تمرة تمرة كان هناك زاد عام للجيش كله، ولما انتهى الزاد العام جمع أبو عبيدة ما كان عند كل واحد بمفرده، جمعه ثم أراد أن يقسمه على الجميع للمساواة بينهم، فجعله جميعاً في مزودٍ واحد إذاً: الزاد العام الذي زودهم به النبي صلى الله عليه وسلم من قبل كان جراباً، فلما نفد جمع أبو عبيدة الزاد الخاص فخرج جراب أيضاً، لكن غير الأول، ثم فرق عليهم تمرةً تمرة. فلنتصور الآن أن هؤلاء المسلمين ما معهم إلا تمرة تمرة، والتمر الذي وزع عليهم الأول كان من الجراب النبوي، ولذلك كان زاداً عاماً للجيش وفيه بركة، وبعد ذلك جمع ما تبقى لدى الأفراد لمواجهة الموقف الطارئ، فصار من نصيب الشخص تمرة واحدة، يعطي كل واحد تمرة واحدة، فإذا انتهت التمرة أعطاهم نصيبهم في المرة التي بعدها تمرة أخرى والذي يسمع الرواية يقول: وما تغني عنكم تمرة؟ فهذا وهب بن كيسان من التابعين -رحمه الله تعالى- يسأل جابراً ويقول: يا أبا عبد الله! أين كانت تقع التمرة من الرجل؟ ماذا تغني عنكم تمرة؟ فقال جابر: لقد وجدنا فقدها حين فنيت قال: أنت الآن تقول: ما فائدة التمرة؟ لكن لما فقدنا التمرة هذه التي أنت تستهين بها وجدنا أثر فقدها، أي: أن التمرة كانت تفعل لهم شيئاً عظيماً مؤثراً فقلت: كيف كنتم تصنعون بها؟ قال: نمصها كما يمص الصبي الثدي، ثم نشرب عليها الماء فتكفينا يومنا إلى الليل إذاً: طيلة اليوم تمرة واحدة بالمص كما يمص الطفل ثدي أمه، ثم يشربون عليها الماء، هذا زاد يوم كامل، وهذا ما تحمله الصحابة في سبيل الله. ولذلك هؤلاء هم المجاهدون حقيقةً، هؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم الذين ضحوا من أجل هذا الدين، وعلى تمرة واحدة في اليوم يمصونها، ليس بأكل ولا مضغ ما يكفي للمضغ، وعلى الماء، مقاتلين في سبيل الله، انتهى الزاد، وانتهى التمر، حتى التمرة لم تكن موجودة.

وصولهم إلى البحر وخروج الحوت العظيم

وصولهم إلى البحر وخروج الحوت العظيم قال: ثم انتهينا إلى البحر وصلوا إلى ساحل البحر، فإذا حوت مثل الضرب، والحوت: اسم جنس لجميع السمك، وقيل: هو اسم للسمكة العظيمة الكبيرة، ولاشك أن الذي وجدوه هو حوت، والحوت: السمكة العظيمة الكبيرة جداً، مثل الضرب، والضرب: الجبل الصغير، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في دعاء الاستسقاء: (اللهم على الآكام والضراب وبطون الأودية ومنابت الشجر) فالضراب: جمع ضرب، والضرب هو الجبل الصغير، والحوت كان بضخامة الجبل الصغير، مثل الكتلة العظيمة، على ساحل البحر، ومن صفات الضرب أنه يكون منبسطاً وليس مرتفعاً جداً، بل منبسطاً فوق الأرض. وفي رواية: (فوقع علينا على ساحل البحر كهيئة الكثيب الضخم، فأتيناه فإذا هو دابة تدعى العنبر)، والعنبر نوع من الحوت يمتاز بضخامته فألقى لنا البحر دابة يقال لها العنبر. وفي رواية: (فهبطنا بساحل البحر فإذا نحن بأعظم حوت)، قال أهل اللغة: العنبر سمكة بحرية كبيرة يتخذ من جلودها التروس، وهذا من قوة الجلد، ويقال: إن هذا العنبر الطيب المشموم يستخرج من رجيع الحوت، سبحان الله!! رجيع الحوت هذا هو العنبر المشموم الذي يستخدم كطيب، وقيل: إن المشموم يخرج من البحر ويؤخذ من أجواف السمك الذي يبتلعه، وقال الماوردي نقلاً عن الشافعي: سمعت من يقول: رأيت العنبر نابتاً في البحر ملتوياً مثل عنق الشاة، وفي البحر دابة تأكله وهو سم لها، فيقتلها فيقذفها فيخرج العنبر من بطنها. وقال الأزهري من علماء اللغة: العنبر سمكة تكون في البحر الأعظم، يبلغ طولها خمسين ذراعاً. وجاء في رواية عمرو بن دينار: (فألقى لنا البحر حوتاً ميتاً) ولما وجدوه قال أبو عبيدة: هذه ميتة، ثم فكر مرة أخرى؛ لأنهم كانوا قد أصابهم الجوع، ولما فني التمر ماذا حصل؟ كانوا يضربون ورق السلم، وهو الخبط، نوع الشجر، ويبلونها بالماء فيأكلونها، حتى تقرحت أشداقهم من أكل ورق الشجر وأصابتهم مخمصة، فلما وجدوا هذا قال أبو عبيدة: هذه ميتة، ثم تراجع بعد ذلك قائلاً: أنتم رسل رسول الله -الرسول صلى الله عليه وسلم أرسلكم- وفي سبيل الله، إذاً لا بأس أن تأكلوا، لأنهم في مخمصة، حتى ولو كانت ميتة؛ لأنه يوجد ضرورة. قال: فأكل منه القوم ثماني عشرة ليلة، وفي رواية عمرو بن دينار: فأكلنا منه نصف شهر، وفي رواية: شهر، يأكلون من هذا الحوت، ثم أمر أبو عبيدة بضلعين من أضلاعه فنصبا، ثم أمر براحلة فرحلت -البعير الكبير وعليه الحمولة- ثم مرت تحتها فلم تصبه، وهذا يدل على ارتفاع الضلع أوقفوه على الأرض، ثم رحلت الراحلة وعليها شخص راكب وما مس رأسه الضلع وجاء في رواية ابن إسحاق وحسنها الشيخ الوادعي، يقول ابن إسحاق في الرواية: ثم أمر بأجسم بعير معنا فحمل عليه أجسم رجل منا، فخرج من تحتها وما مست رأسه. وقيل إن هذا الرجل هو قيس بن سعد بن عبادة، وكان مشهوراً بالطول. وحصلت طرفة بين المسلمين والروم في عهد معاوية رضي الله عنه: أن الروم أخرجوا أطول رجل عندهم، والمسلمون أخرجوا أطول رجل عندهم، وأطول رجل عند المسلمين كان هذا: قيس بن سعد بن عبادة، فـ قيس بن سعد بن عبادة نزع سراويله للرومي، فكانت مثل طول الرومي؛ بحيث كان طرفها على أنفه وطرفها على الأرض سروال المسلم هذا جاء على طول الرومي كله، فكم سيكون طول المسلم؟ سيكن طوله ضعف طول ذاك، فكأنه يقول: غلبناكم بالدين وبالطول وبالعرض وكل الأشياء. وجاء في رواية مسلم: (فأخذ أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلاً، فأقعدهم في وقب عينه)، والوقب: هو حفرة العين التي في عظم الوجه، وأصل الوقب: النقرة في الصخرة يجتمع فيها الماء، وجمعها: وقاب، فمن عظم الحوت هذا أن الحفرة التي فيها عينه في وجهه قعد على حافتها ثلاثة عشر رجلاً، وقد جاء في حديث عبادة بن الصامت قال: (خرجت أنا وأبي نطلب العلم، وشكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع، فقال: عسى الله أن يطعمكم. فأتينا سيف البحر) والسيف هو: الساحل أو الشاطئ، وهذا مما أخذته اللغة الإنجليزية من العربية، ففي الإنجليزية ( saif) أي: شاطئ، وهي عندنا سيف البحر باللغة العربية، فأخذوها منا، وبعض الناس الآن يقولون: سيف؛ تقليداً للخواجات، وما يدرون أن الكلمة أصلاً عربية. قال: (فأتينا سيف البحر، فزخر البحر زخرةً فألقى دابةً، فأورينا في شقها النار، فطبخنا واشتوينا وأكلنا وشبعنا، قال جابر: فدخلت وفلان وفلان حتى عدَّ خمسةً في حجاج عينها وما يرانا أحد -أي دخلوا وصاروا مختفين داخل هذه الحفرة- حتى خرجنا وأخذنا ضلعاً من أضلاعها، فقوسناه ثم دعونا بأعظم رجل في الركب وأعظم جمل في الركب وأعظم كفل في الركب، فدخل تحته ما يطأطئ رأسه). فلعلها هذه القصة أو تتحد مع هذه القصة، مع أن الظاهر أنها كانت مع النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لعل فيها محذوفاً تقديره: فبعثنا النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فأتينا إلى آخر الكلام. استعملوا من هذا الحوت الدهن، لأنهم كانوا قد أصابهم هزال من الجوع، قال في رواية البخاري: وادهنا من ودكه، والودك هو: الشحم، وقال أيضاً: كنا نقطع منه الفدر كالثور، والفدر جمع فدرة، والفدرة: القطعة من اللحم قال: فحملنا ما شئنا من قديد وودك في الأسقية والغرائر أي: عبئوا من شحمها وأخذوا من اللحم. وحصل أيضاً في هذه الغزوة أن قيس بن سعد قال لأبيه: كنت في الجيش فجاعوا، فقال: انحر، فنحر للمسلمين مرة، ً ثم الثانية ثم الثالثة، حتى أمره أبو عبيدة أن يكف، ولعل ذلك لأنه كان ينفق هذا من ماله، فأراد أبو عبيدة ألا يفنى مال هذا الرجل، فأمره أن يكف عن ذبح هذه الأنعام.

رجوعهم إلى المدينة

رجوعهم إلى المدينة ولما رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أرادوا Q هل هذه ميتة؟ هل يجوز أكلها أو لا يجوز؟ فالنبي عليه الصلاة والسلام للتأكيد على إباحتها قال: (أطعمونا إن كان معكم منه) لأن النبي عليه الصلاة والسلام في البلد، وليس في مخمصة ولا مضطر، فقال: (أطعمونا إن كان معكم منه) فأتاه بعضهم بشيء من اللحم الذي تزودوا به من هذا الحوت، فأكله صلى الله عليه وسلم، إذاً: أكله له تأكيد على حله.

من فوائد حديث خروج سرية سيف البحر

من فوائد حديث خروج سرية سيف البحر وفي هذا الحديث فوائد منها: مواساة الجيش بعضهم بعضاً عند وقوع المجاعة، وأن الاجتماع على الطعام يسبب البركة فيه. ويستفاد منه: أن القائد يرفق بجنوده؛ فلعل الذي ذبح كان يستدين على ذمته وليس له مال، فأراد الرفق به، وقد وضع البخاري -رحمه الله- هذا الحديث في كتاب الشركة من صحيحه؛ لأن أبا عبيدة جمع ما عندهم من التمر فصار يوزع على الجميع من مال الجميع، فصاروا كأنهم شركاء؛ فإن عدد أفراد السرية هذه ثلاثمائة، وأميرهم أبو عبيدة بن الجراح رضي الله تعالى عنه، هذا العدد الذي كانت هذه السرية متكونة منه. والحديث يدل على ما كان عليه الصحابة رضوان الله تعالى عليهم من الزهد في الدنيا والتقلل منها، والصبر على الجوع وخشونة العيش، وعدم ترك الجهاد في حال الشدة، حتى مع الشدة ما تركوا الجهاد في سبيل الله. ويؤخذ منه: أن أبا عبيدة لما أمرهم فأقاموا هذا الضلع من أضلاع الحوت، ومر تحته الركب، ولم يصطدم رأس الرجل بالعظم هذا، لم يعتبر العلماء هذا من العبث، قالوا: إن مثل هذه الحركة لا تعتبر من العبث وإضاعة الوقت؛ لأنه ترويح مباح، فهو ينظر كم قدر هذا الحوت، وكم عظم هذا الحوت، فإن هذا الفعل من أبي عبيدة رضي الله عنه من المباح، فلا يعتبر من العبث ولا من إضاعة الوقت. وفي هذا الحديث: أن المفتي يطيب خاطر المستفتي بالفعل وليس بالقول فقط، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (كلوا رزقاً أخرجه الله لكم وأطعمونا إن كان معكم).

جواز أكل السمك الطافي

جواز أكل السمك الطافي والحديث يدل على جواز أكل السمك الطافي، الذي مات من نفسه، خلافاً لبعض الحنفية الذين يرون عدم جواز أكل هذا، ولكن الراجح -حسب ما دل عليه الحديث والسنة الصحيحة- جواز أكل الطافي من السمك، وما ألقاه البحر إلى الشاطئ، فلو قال أحد: لو وجدنا على ساحل البحر سمكة، أو وجدنا سمكه عائمة على الماء ميتة، فهل نأخذها فنأكلها؟ A نعم. وقد وقع لي مرة أنني كنت على ساحل البحر، فكانت هناك سمكة طافية فأخذتها، فمر رافضيٌ فقال: أتأكلون هذه الميتة؟! إنها فطيس، قلت: وأنت إذا صدتها من البحر وأخرجتها ماذا تصبح؟ أليست فطيساً يا أفطس العقل؟! فبعض هؤلاء من أهل البدع عندهم القضية هذه، أيضاً يفرقون بين ما أحل الله، لماذا؟! لذلك العلماء يقولون: إذا لم يكن متغيراً متعفناً فإنه يؤكل؛ لأن المتعفن يضر بالجسم، والسمك إذا صدته أو اللحم العادي إذا ذبحته وتركته حتى تعفن فإنه يضر، ولذلك إذا رأيت سمكة على سطح البحر فخذها؛ فإن كانت سليمة ليس فيها شيء؛ فكلها هنيئاً مريئاً، وهو سيموت بخروجه من البحر؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أحلت لنا ميتتان: السمك والجراد). وهذا الذي قذفه البحر يمكن أن يؤخذ منه أنه كرامة لأولياء الله؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا في الجهاد، وكانوا في مخمصة وفي مجاعة، فأخرج الله لهم هذا الحوت، كرامة منه سبحانه، وأطعم ثلاثمائة رجل من الصحابة، انظر إذا أراد الله أن يطعم كيف يطعم!! أطعمهم بهذه الوليمة الفاخرة، حوت يكفيهم شهراً، أكلوا منه، وحملوا معهم إلى المدينة، وقطعوا من اللحم، وأخذوا من الدهن واستمتعوا به، رزق ساقه الله إليهم (إنما هو رزق ساقه الله إليكم، وأنتم في مخمصة) والنبي عليه الصلاة والسلام وضح لهم حله، والصحابة أكلوا منه حتى سمنوا، فقد كان الواحد نحيلاً نحيفاً من المجاعة التي أصابتهم، فأكلوا منه لحماً طرياً {تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [فاطر:12]. إنه منة من الله، فأخرج لهم هذا، فأكلوا منه شهراً، وقددوا منه، أي: جففوا من الشرائح اللحم هذه الفدر، جففوا منها وأخذوا معهم، ولذلك قال بعضهم توفيقاً بين رواية أنهم أقاموا عليه خمسة عشر يوماً، ورواية أنهم أكلوا منه شهراً، قالوا: أكلوا خمسة عشر يوماً طازجاً وأكلوا باقي الشهر من القديد المجفف. وقال النووي رحمه الله في حكم السمك الطافي: وأما السمك الطافي -وهو الذي يموت في البحر بلا سبب- فمذهبنا إباحته، وبه قال جماهير العلماء من الصحابة فمن بعدهم، منهم أبو بكر الصديق، وأبو أيوب، وعطاء، ومكحول، والنخعي، ومالك، وأحمد، وأبو ثور، وداود وغيرهم، ودليلنا قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} [المائدة:96] قال ابن عباس والجمهور: صيدهُ ما صدتموه، وطعامه ما قذفه. كذلك ما ألقاه البحر أو جزر عنه، أحياناً البحر يكون فيه جزر، فيوجد سمك في قاع البحر كشف الجزر عنه، فيلتقط ويؤخذ. وأما حديث: (ما ألقاه البحر أو جزر عنه فكلوه، وما مات فيه فطفا فلا تأكلوه) فهو حديث ضعيف باتفاق أئمة الحديث، لا يجوز الاحتجاج به، فإن قال قائل: إنما أكلوه مضطرين. فكيف يرد عليه؟! يرد عليه بأن الرسول صلى الله عليه وسلم أكل منه ولم يكن في مخمصة، فهذا يدل على جواز الأكل منه. هذا ما تيسر ذكره من فوائد هذه القصة. نسأل الله تعالى أن ينفعنا بما سمعنا من سيرهم وأن يجزل لهم الأجر والمثوبة إنه سميعٌ قريب.

الأسئلة

الأسئلة

زكاة الذهب

زكاة الذهب Q يوجد لدي ذهب حال عليه الحول، وجزء آخر من الذهب سيحول عليه الحول بعد خمسة عشر يوماً، فكيف أزكي عنه؟ A إذا أردت أن تزكيه جميعاً فلا بأس -إن شاء الله- أن تزكي عن الجميع مرة واحدة، واجعله كله مع الذهب الموجود الذي حال عليه الحول الآن، واجعل هذا الحول لكل سنة، وأخرج عن الجميع.

تعريف السرية

تعريف السرية Q ما هي السرية؟ A هي القطعة من الجيش، وهي أصغر من الجيش وأقل عدداً.

جعل صدقة الميت في المساجد

جعل صدقة الميت في المساجد Q لي جدة توفيت وتملك ستة آلاف ريال، ونريد أن نتصدق بها، فماذا تنصح في توجيهها لأن الآراء كثيرة؟ A لو جعلتموها في شيء ثابت كمسجد وقف؛ فهذا طيب جداً.

الإمساك عن الأكل بطلوع الفجر في رمضان

الإمساك عن الأكل بطلوع الفجر في رمضان Q كنا في رمضان في رحلة إلى البر، ولم يكن هناك مسجد، فكيف نمسك عن الطعام؟ A بالرؤية، والنظر إلى الفجر، إذا نظرت إلى جهة المشرق فوجدت بياضاً معترضاً في الأفق من جهة المشرق، منتشراً ممتداً، فهذا هو الفجر الصادق، أما النور الذي تراه من وسط السماء إلى الناحية الأخرى، هو عمودي على الأفق كذنب السرحان -وهو الذئب- فليس بالفجر الصادق، إنما هو الفجر الكاذب الفجر الصادق فجر معترض منتشر في الأفق من جهة المشرق، وإذا نظرت إلى جهة المغرب تجده أسود دامساً وإذا نظرت إلى جهة المشرق رأيت اللون الفاتح البياض المنير المعترض الموجود في جهة المشرق، وإلا فاعتمد على الساعة والتقويم.

زكاة الفطر تكون طعاما

زكاة الفطر تكون طعاماً Q لي قريب دفع زكاة فطره مالاً، فما الحكم؟ A انصحه أن يدفع طعاماً، أو يعطي المال لمن يتوكل بإخراجه عنه طعاماً، فيشتري طعاماً ويعطيه للفقراء.

حكم المسابقات

حكم المسابقات Q ما حكم المسابقات؟ A المسابقات أنواع: فنوع يجوز بجعل وبغير جعل، ونوع يجوز بلا جعل، ونوع لا يجوز لا بجعل ولا بغير جعل، والجعل هو المقابل، أو الجائزة التي يسمونها للمسابقات. فأما المسابقات الجائزة بالجعل فهي على قول جمهور أهل العلم: الموجودة في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا سبق إلا في نصل أو خفٍ أو حافر) النصل: هي السهام، والخف: هي الإبل، والحافر: هي الخيل، فسباق الخيل والإبل والرماية يجوز فيها الجعل؛ لأنها تعين على الجهاد، مع أن الأصل أن العملية فيها ميسر وفيها مقامرة، عملية الجائزة على المسابقة فيها مقامرة، فإن الذي يسبق يأخذ الجائزة، ففيها شيء من المقامرة أباحته الشريعة في حالة المسابقات التي تعين على الاستعداد والتدريب للجهاد، وهي إجراء الخيل والإبل ورمي السهام. وألحق بعض العلماء مثل شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم بهذا مسابقات حفظ القرآن والسنة، لأن المقصود بها مثل المقصود بحديث: (لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر) الذي هو نشر الدين، قالوا: لماذا أبيحت الجوائز في مسابقات العدو بالخيل والإبل والسهام وهي نوع من المقامرة؟ أبيحت لأجل الجهاد، ولنشر الدين، إذاً: المسابقات التي فيها حفظ القرآن والسنة، وتشجيع الناس على حفظ القرآن والسنة، هذه أيضاً فيها تحصل قضية نشر الدين، إذا: ً يجوز فيها المسابقات، أما الجمهور فلم يُجِزْ إلا الثلاثة الأولى، ويقاس عليها: الرمي بالطائرة، والرمي بالمدفعية، والرمي بالبندقية، فإن المقصود هو الرمي كله. وكذلك المسابقات بالآلات الحربية وبالدبابات وبالعربات المصفحة؛ لأن هذه تقوم مقام الخيل والإبل، فكل شيء يعين على الجهاد يجوز جعل المسابقات فيه؛ لأجل أن تبقى الأمة مستيقظة متيقظة. النوع الثاني من المسابقات: ما يجوز بدون جعل ولا يجوز بجعل، كمسابقة العَدْو على الأقدام مثلاً، سباق الجري إذا لم يكن فيه كشف عورات، ولا إضاعة صلوات، ولا إلى آخره فيجوز أن تجعل مسابقة في الجري مثلاً، أو في السباحة، لكن لا يجوز أن تجعل فيها جوائز؛ لأنها ليست داخلة في حديث: (لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر) وهذا أسلوب حصر (لا سبق إلا) إذاً: الذي يجوز بدون جعل هو المسابقات المباحة، كالعدو على الأقدام، والدليل: أن النبي عليه الصلاة والسلام سابق عائشة فسبقته، ثم سابقها بعد ذلك فسبقها. هناك مسابقات تتردد بينهما، مثلاً: الغطس، قال الشافعية: هذا يفيد في الجهاد؛ لأنه في المعارك الحربية ونحوه، فأجازوا إدراجه في القسم الأول، وقال بعضهم: لا يدرج، فإن القسم الأول لتلك الأشياء فقط. النوع الثالث: مسابقات لا تجوز لا بجعل ولا بدون جعل، كنطاح الأكباش، ومصارعة الثيران، ومناقرة الديوك وتهييجها؛ لأن فيها إيذاء للحيوانات والبهائم والدواب، وهذا من رفق الشريعة بالحيوان، وهؤلاء الذين يصارعون بين الثيران- وهم يزعمون أن عندهم رفقاً بالحيوان- أولئك هم الثيران حقيقةً. أيضاً الملاكمة لعبة محرمة في الشريعة الإسلامية؛ لأن فيها ضرباً على الوجه، والضرب على الوجه حرام لا يجوز، ولذلك الآن كلما صارت حوادث موت والنزيف الدماغي، ووفاة بعض اللاعبين، قالوا: نريد أن نعيد النظر في قوانين الملاكمة وشرعية الملاكمة ونحو ذلك على مستوى القانون الدولي لهذه الرياضة. على كل حال في شرعنا يحرم ممارسة مباراة الملاكمة؛ لأجل أن فيها ضرباً على الوجه والرأس، وهذه مقاتل، وحرام ولا يجوز الضرب فيها فهذه مسابقة أخرى لا تجوز لا بجعل ولا بغير جعل. هنا مسألة، وهي: إذا عملوا مسابقة فيها أسئلة ليس لها علاقة بالشريعة ولا بنشر الشريعة ولا بنشر الدين ولا بشيء فما حكمها؟ لا يجوز أن يعطى فيها جوائز على قول جمهور أهل العلم، لحديث: (لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر) وإذا أضافوا إلى ذلك أنك لا تشترك في المسابقة إلا إذا دفعت مالاً أو اشتريت شيئاً؛ فتتأكد عملية المقامرة تأكداً شديداً، لأنك لا تدخل فيها لإحراز الجائزة إلا إذا دفعت مالاً تخسره يقيناً إذا لم تفز بشيء وقد تكسب، وهذه فكرة الميسر.

المقصود دعاء: (اللهم امكر لنا ولا تمكر علينا)

المقصود دعاء: (اللهم امكر لنا ولا تمكر علينا) Q في دعاء القنوت (اللهم امكر لنا ولا تمكر علينا) في قلبي شيء من الشطر الثاني في هذا الدعاء، فما معناه؟ A هذا الدعاء موجود في حديث صحيح من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وتجده في صحيح الجامع، ويمكن أن ترجع إلى شرحه، والله سبحانه وتعالى يمكر بمن مكر بالدين، قال تعالى: {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30] {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} [الأنفال:30]، {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُون * فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} [النمل:50 - 51]. إذاً: الله سبحانه وتعالى يمكر بالكفار، والله يمكر للمسلمين ويمكر على الكفار، يمكر للمسلمين لمصلحة المسلمين، ويمكر على الكفار، ويمكر بالكفار، أي: يوقع بهم، مثل الكيد كاده وكاد له، كاده أي: ضده، حاك ضده وعمل ضده، وكاد له، أي: من أجله ولمصلحته، قال الله تعالى: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} [يوسف:76] أي: لأجل يوسف، وأما إذا كاد الله شخصاً فإنه يهلك، ولذلك من كادك فكده، أي: اجعل الكيد عليه، وهذه الصفات لا يشتق منها أسماء، فلا يقال: الله هو الكائد والماكر؛ لأنها صفات مقيدة، الله ماكر بمن مكر به، وماكر بمن مكر بالدين، وماكر بمن مكر بالمسلمين، والله يكيد من يكيد للدين، ويكيد من يكيد المسلمين.

تأخير كفارة الصيام عن الشيخ الكبير

تأخير كفارة الصيام عن الشيخ الكبير Q هل يجوز تأخير كفارة الصيام عن الشيخ الكبير إلى بعد العيد؟ A نعم.

الإطعام بدون إدام

الإطعام بدون إدام Q هل يجوز الإطعام بدون إدام؟ A نعم. ولكن من الأفضل أن يجعل معه شيئاً من الإدام.

حكم التأمين

حكم التأمين Q ما حكم التأمين للعلاج؟ A إذا صار التأمين بالشروط الشرعية فهو جائز. سواءً للعلاج، أو للسيارات، أو لغير ذلك، لا بأس به إذا كان بالشروط الشرعية، وفكرة التأمين الشرعي: أن يجتمع مجموعة من الأشخاص، أو مؤسسة تتبنى هذا، وكل واحد من هؤلاء المشاركين في التأمين يدفع قسطاً معلوماً، ويتضامنون فيما بينهم ويتراضون إذا حصل على واحد منهم شيء أن يعوض من هذا الصندوق، وهذا الصندوق يمكن أن ينمى ويستثمر أو لا يستثمر، تستثمر الأموال التي فيه لصالح هؤلاء الأشخاص، فهذا المال ملك للذين وضعوه في الصندوق، ويعوضون منه حسب ما تراضوا عليه، وليس ملكاً للشركة، ولم تأخذ منه الشركة شيئاً، أما التأمين التجاري فإن الشركة تأخذ الأموال من الناس وتمتلكها هي وإذا صار شيء للشخص عوضوه، وإذا ما صار شيء ذهب ماله، فهذا هو الميسر.

حكم الزكاة عن أموال الجمعيات

حكم الزكاة عن أموال الجمعيات Q ما حكم الزكاة عن أموال الجمعيات؟ A الجمعية شيء آخر، والمال الذي يجمعونه إذا كان ليس خيرياً وليس مالاً للآخرين، وغير خارج عن ملك الشخص، ففيه الزكاة، أما إذا كان صندوق تبرعات خيرياً، والذي يدفع مالاً لا يسترده، فهذا ليس فيه زكاة، وهو مثل أموال صناديق التبرعات وصناديق الصدقات، فهذه الصناديق الخيرية ليس فيها زكاة، لأنه ليس لها مالك معين، وهنا قاعدة: (كل ما ليس له مالك معين فليس فيه زكاة).

أكل الحوت كان بعد أن أنضجوه

أكل الحوت كان بعد أن أنضجوه Q هل الحوت الذي أكلوه بعد النضج أم قبل النضج؟ A أكيد أنهم أوقدوا عليه وأنضجوه وأكلوا منه.

حكم إخراج صدقة جارية من مال الميت

حكم إخراج صدقة جارية من مال الميت Q هل يجوز إخراج صدقة جارية عن الميت من ماله الخاص قبل توزيعه على الورثة؟ A نعم. إذا رضي الورثة بذلك، لكن أجر الصدقة الجارية الحقيقي عندما يخرجه الميت من ماله قبل أن يموت، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث) فقال: (عمله) وليس عمل غيره، (انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقةٍ جارية) عملها قبل أن يموت (أو علم ينتفع به) تركه قبل أن يموت أما كوننا نتصدق عن الميت بصدقة جارية أو غير جارية فهي تصل إليه إن شاء الله، لكن إذا أردت تطبيق الحديث؛ فإنه الشخص يعمله قبل أن يموت، يعمله لنفسه قبل أن يموت.

تقسيم الساعات للذهاب إلى المسجد في صلاة الجمعة

تقسيم الساعات للذهاب إلى المسجد في صلاة الجمعة Q كيف نقسم الساعات للذهاب إلى المسجد في صلاة الجمعة؟ A تبدأ الساعة -كما ذكر ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد، ورجح ذلك من أوجه- من بعد طلوع الشمس إلى طلوع الإمام على المنبر، هذا الوقت يقسم إلى خمسة أجزاء، الجزء الأول منه هو الساعة الأولى، فإذا أراد أن يحصل أجر التصدق ببدنة، فيذهب في الساعة الأولى، وهي الجزء الأول بعد طلوع الشمس. وقال بعضهم: بعد طلوع الفجر، ولكن المسلمين ومن قديم عملهم ليس على هذا، فإن بعد الفجر كانوا يرجعون إلى بيوتهم، ويغتسل أحدهم ويتجهز ويأتي إلى المسجد، ولم يكن يجلس بعد الصلاة مباشرة، ولذلك التبكير والتهجير من بعد طلوع الشمس، وهو بداية الساعة الأولى.

حكم أخذ الزيادة من البنوك والشركات الإسلامية

حكم أخذ الزيادة من البنوك والشركات الإسلامية Q أودعت مبلغاً في شركة إسلامية للاستثمار، وبعد مدة وجدت في الرصيد زيادة، فما حكمها؟ A إذا كانوا يتاجرون ويستثمرون بطرق شرعية، كأن قالوا مثلاً: نحن نشتري نفطاً ونبيعه، أو عندنا مزارع ونبيع الثمار، ونحن عندنا تجارة مواد البناء، نستورد أسمنتاً وحديداً وخشباً ثم نبيعها في السوق المحلي، أو نحن نشتري جلداً من مكان ونبيعه على شركات في إيطاليا لدبغه، وبعد ذلك ننقله إلى لبنان لتصنيعه ملابس، ثم نبيعه في بلدان أخرى، تجارة دولية، فما دام أن هذه التجارة في مباحات فأرباحها حلال أن تأخذها، فأنت تستفسر منهم: ماذا يفعلون بالمال؟ وفي أي مجال يتاجرون به؟ أما إن قالوا: نتاجر في أسهم بنوك ربوية، أو قالوا: نتاجر في عملات ليس فيها تقابض يداً بيد أو في طرق غير شرعية، فلا تأخذ هذه الأرباح.

من هو الفقير الذي تحل له الزكاة؟

من هو الفقير الذي تحل له الزكاة؟ Q ما حكم دفع الزكاة إلى شخص فقير، ولكن سبب فقره عدم جده في العمل واعتماده على الغير؟ A النبي عليه الصلاة والسلام لما جاءه الرجلان وطلبا الزكاة، نظر فيهما وقال: (إنها لا تحل لغني ولا لذي مرةٍ سوي) ذي مرة، أي: قوي، وسوي، أي: سليم من العاهات قادر على العمل، فلا تحل له الزكاة، إذاً: القوي القادر على الكسب لا تحل له الزكاة.

ضبط كلمة (ضرب)

ضبط كلمة (ضرب) Q هذا يسأل عن ضبط كلمة (ضرب) يقول: لعل مفرد الضراب ضِرب، كما هو دارج في كثير من القبائل. A هذه القبائل ضاربة بالعامية، أما بالنسبة لكلام العلماء فإنهم قالوا: (الضَّرب) بفتح المعجمة (الضاد)، بفتح المعجمة، لكنه أشار إلى أن الراء مكسورة أيضاً، (ضَرِب) بكسر الراء فالضاد مفتوحة والراء مكسورة (ضَرِب).

حكم وضع كفارة اليمين مع زكاة الفطر

حكم وضع كفارة اليمين مع زكاة الفطر Q علي كفارة يمين، فهل يمكن وضعها مع زكاة الفطر؟ A لا، والسبب في ذلك أن زكاة الفطر يمكن أن تعطيها لشخص واحد، أما كفارة اليمين فيجب إعطاؤها لعشرة مساكين مختلفين، ولذلك أنت إذا وضعتها مع صدقة الفطر في كيس -مثلاً- فهي طعام عشرة مساكين، ثم يعطي لعائلة أو لشخص واحد، أو لعائلة ثلاثة مساكين أو خمسة.

حكم من أفطر ظانا أن الشمس قد غربت

حكم من أفطر ظاناً أن الشمس قد غربت Q سافرت إلى جدة في الساعة الخامسة، وبعد مضي نصف ساعة وضع ملاحو الطائرة الإفطار، ثم أفطرنا في الساعة الخامسة وخمس وأربعين دقيقة بعد ظننا أن الشمس قد غربت، ثم أعلن أحد الملاحين في الساعة السادسة أن الإفطار قد حان، فما حكم صيامنا؟ A عليكم إعادة هذا اليوم.

حكم من رأت الدم بعد الإفطار ولم تعلم متى نزل

حكم من رأت الدم بعد الإفطار ولم تعلم متى نزل Q امرأة رأت دم الحيض عند الوضوء لصلاة المغرب وذلك بعد الإفطار، ولا تدري هل هذا الدم نزل قبل المغرب أم بعده، فما حكم صيامها؟ A ما دام أنها لا تدري متى نزل الدم، ما علمت إلا الآن أنه نزل، ولا تدري قبل كيف كان، فالأصل أنها كانت طاهرة؛ ولذلك فصيامها صحيح.

حكم وضع السمك في المقلاة وهو حي

حكم وضع السمك في المقلاة وهو حي Q هل يجوز رمي السمك في المقلاة وهو حي فيطبخ بهذه الطريقة؟ A كرهه بعض أهل العلم لما فيه من تعذيب، وهذه من المسائل التي سئل عنها الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- في مسائله، وهي مذكورة في كتب الفقه أيضاً، فالأحسن أن يترك حتى يموت وحتى تذهب الحياة منه، ثم بعد ذلك يقلى.

حكم وضع أرباح الشركة في بنك ربوي

حكم وضع أرباح الشركة في بنك ربوي Q وضع أرباح الشركة في البنك الربوي؟ A إذا لم يكن هناك مجال لحفظ المال إلا هذا فيجوز من باب الضرورة، ولكن لا يجوز أخذ الفوائد عليه.

حكم دفع الزكاة للأعمال الخيرية

حكم دفع الزكاة للأعمال الخيرية Q هل تدفع زكاة المال لأعمال خيرية مثل المساهمة في تعمير المساجد؟ A لا، لأن مصارف الزكاة معروفة هي ثمانية، منها: في سبيل الله، وهو الجهاد، وبعض العلماء قال: الحج يدخل فيه؛ لأجل الحديث: (إن الحج والعمرة لمن سبيل الله) وأما تعمير المساجد فليس من الصدقات.

حكم دفع الزكاة للأقرباء

حكم دفع الزكاة للأقرباء Q هل يجوز دفع زكاة المال للأقرباء، مثل أهل الزوجة والعمات والخالات؟ A نعم، إذا كانوا فقراء مستحقين.

حسن الخاتمة

حسن الخاتمة Q من مات وهو يصلي، فكيف حاله؟ A من مات وهو يصلي يرجى أن يكون هذا من علامات حسن الخاتمة، وقد جاء في الحديث: (إن الله إذا أراد بعبد خيراًَ عسله قالوا: وما عسله؟ قال: يوفقه لعمل صالح ثم يقبضه عليه).

الصلاة في السفر

الصلاة في السفر Q كنت مسافراً، وفي العودة خرجت من المدينة التي كنت فيها قبل أذان العصر، والمسافة عادةً أن نصل إلى بلدنا قبل المغرب، فهل أصلي العصر قبل السفر أو أنتظر حتى أصلي في بلدي مع احتمال أن أصل بعد المغرب؟ A لا يجوز أن تؤخر العصر إلى المغرب، لابد أن تصليها في وقتها في الطريق، وهذا على حسب حالك؛ فإن كنت لا زلت مسافراً في البلد التي خرجت منها، كأن تكون جالساً فيها يوماً أو يومين أو ثلاثة مثلاً، فتقصر وتجمع العصر مع الظهر فيها وتنطلق ولا حرج، وإذا كنت مقيماً فيها فعند ذلك تصلي في الطريق على حسب حالك.

حكم المرور من الميقات بدون إحرام

حكم المرور من الميقات بدون إحرام Q ذهبت لأداء فريضة الحج قبل سنة، ومررنا بميقات وادي المحرم ولم نحرم؛ لأن الوقت كان مبكراً ونحن سوف ننزل إلى جدة، فقال بعض المشايخ: يجب أن تعودوا إلى الميقات، ولم نذهب بل ذهبنا إلى رابغ، فما الحكم؟ A إذا لم تحرم من المكان الذي مررت عليه فيلزمك الدم.

تعس عبد الدينار

تعس عبد الدينار عبد الدينار له صفات يعرف من خلالها، وقد تحدث عنها الشيخ في هذا الدرس، وتطرق إلى مسألة المال في الشرع من حيث امتلاكه، ففرق بين الامتلاك وبين العبودية لهذا المال. وفي الجزء الثاني من الدرس تكلم عن صفات بشَّر النبي صلى الله عليه وسلم من اتصف بها بالجنة. فإلى هذا الدرس لعل الله أن ينزع حب المال من القلوب، ويقذف فيها حب الآخرة والبذل من أجلها.

وقفات مع حديث (تعس عبد الدينار)

وقفات مع حديث (تعس عبد الدينار) الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، الحمد لله الذي أنزل علينا الكتاب ولم يجعل له عوجاً، والصلاة والسلام على رسول الله المبعوث رحمةً للعالمين، الذي بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين. أما بعد: أيها الإخوة: حديثٌ آخر من أحاديث الرقائق الذي علمنا إياه النبي صلى الله عليه وسلم وذكرنا به ألا وهو الحديث الذي رواه أبو هريرة في صحيح البخاري قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة، إن أعطي رضي، وإن لم يعطَ سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش، طوبى لعبدٍ آخذٍ بعنان فرسه في سبيل الله! أشعث رأسه مغبرة قدماه! إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع) روى هذا الحديث الإمام البخاري رحمه الله تعالى في كتاب الرقاق وفي كتاب الجهاد من صحيحه، وكذلك روى طريقاً له وروايةً الإمام الترمذي رحمه الله تعالى. يقول النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث:) تعس عبد الدينار) تعسَ معناها: هلك، دعاءٌ عليه بالخيبة، والهلاك ضد السعادة، شقيَ وهلك وانكب على وجهه، مثلما لو تعثر الشخص وانكب على وجهه، فكلمة تعسَ: دعاءٌ عليه بالهلاك، إن النبي عليه الصلاة والسلام مجاب الدعوة، يدعو على هذا الرجل بالهلاك والشقاء وأن يتعثر وينكب على وجهه، من هو؟ عبد الدينار.

عبد الدينار وشدة تعلقه بالمال

عبد الدينار وشدة تعلقه بالمال (تعس عبد الدينار) الدينار من الذهب، والدرهم من الفضة، والدينار يساوي عشرة دراهم، في المتوسط هكذا كان الدينار الإسلامي، قال: (عبد الدينار) أضاف العبودية إلى الدينار؛ لأن هذا الرجل تعلق قلبه بالدينار، كما يتعلق قلب العبد بربه، فكان الدينار أكبر همه فقدمه على طاعة ربه، وكذلك كان حاله مع الدرهم، فهذا يبين حال من يعبد الدنيا ويتذلل لها، ويخضع لها، فتكون مناهُ وغايته، فيغضب من أجلها، ويرضى من أجلها، ولذلك سماه عليه الصلاة والسلام عبداً، إنه يجمع الدينار والدرهم من الذهب والفضة من أي وجهٍ كان، قد بذل حياته لهذا الجمع، وهذه المحافظة وهذه التنمية لهذه الدنانير والدراهم مقدما ًإياها على طاعة الله، فلو تعارضت مع الشريعة قدمها على الدين، ولذلك كان عبداً لها، لذلك كان سروره وحزنه من أجلها فهو عبدٌ لها، يعمل لها طيلة عمره. (تعسَ عبد الخميصة، تعسَ عبد الخميلة) الخميصة والخميلة: نوعان من القماش والثياب، ثوب الحرير خميصة، وكذلك الخميلة: هي القطيفة، الثوب الذي له خمل من أي شيءٍ كان هذا الخمل، والخميل: هو الأسود من الثياب أيضاً، فالخميصة: كساءٌ جميل، والخميلة: فرشٌ وثير، فهذا الرجل متعلقٌ قلبه ليس بالدينار والدرهم فقط، وإنما أيضاً بالمفارش والثياب، بالحلل والأثاث، فقلبه متعلقٌ بالدنانير والدراهم وما يلبس وما يفرش كل همه في هذه الأشياء، ليس له همٌ إلا هذه فكان عابداً له، فسماه عبد الخميصة وعبد الخميلة. لقد جعل الدين وسيلةً للدنيا، فالدنيا عنده أعظم، لقد جعل الدنيا هي الأساس وهي المقدمة، فهل اكتفى عليه الصلاة والسلام بالدعاء عليه مرةً تعس عبد الدينار، تعس عبد الخميصة، تعس تعس؟ لم يكتفِ بذلك.

دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على عبد الدينار بأنه إذا شيك فلا انتقش

دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على عبد الدينار بأنه إذا شيك فلا انتقش لقد دعا أربع مرات على كل عابد لهذه الأشياء، ثم إنه أعاد الدعاء، فقال: (تعس عبد الدينار) عاوده المرض، انقلب على رأسه، باءَ بالخيبة، خاب وخسرَ، وهذا فيه ترقٍ في الدعاء عليه، لأنه إذا تعسَ، انكب على وجهه، فإذا انتكس انقلب على رأسه بعدما سقط، وليس هذا فقط دعاء عليه، وإنما تتوالى الأدعية من النبي صلى الله عليه وسلم على عابد الدنيا, يقول: (وإذا شيك فلا انتقش) إذا أصابته شوكة (شيك): أصابته شوكة، يدعو عليه ألا يجد أحداً يخرجها له بالمنقاش، ولا يستطيع أن يخرجها هو، هذا الدعاء عليه مرتبط بمقصوده، عكس مقصوده؛ لأن من عثر فدخلت في رجله شوكة فلم يجد من يخرجها، ماذا يصبح بالنسبة للحركة والسعي؟ عاجزاً عن السعي والحركة، وهذا الرجل كل سعيه وحركته من أجل الدنيا، فدعا عليه دعاءً يعطله عن ما نذر نفسه له من الدنيا، ويدعو عليه ألا يستطيع أن يحصل الدنيا، وأن يقعد به المرض، تقعد به صحته عن مواصلة السعي بالدنيا، وإذا وقع في البلاء لا يجد من يترحم عليه، لأن من وقع عليه البلاء فترحم عليه الناس وعطفوا عليه ورقوا له ربما هان عليه الخطب. (إذا شيك فلا انتقش)، ولا أحد يخرجها له بالمنقاش، فقد يهتم به أحد ليخرجها له بالمنقاش، لكن يدعو عليه أنه إذا أصابته ولو شوكة، بألا يجد أحداً يخرجها له، فكيف بما هو أعظم من الشوكة؟! إذاً: النبي عليه الصلاة والسلام يدعو عليه ألا يرق له قلب إنسان، ولا يعطف عليه إنسان، حتى لا تهون عليه مصيبته، ولا يتسلى بكلام الناس وتعزيتهم له، بل إنه يزيد غيظه، لأنه لا يجد أحداً يهتم به، ولا شك أن فرح الأعداء غيظ بالنسبة للمصاب. فما دعا عليه بهذه الدعوات، وتنوعت الدعوات وتكررت وصارت بهذه الشدة إلا لأن هذا الرجل وضعه في غاية السوء، إنه جعل مقصوده ومطلوبه هو المال والدنيا، وسعى للتحصيل بكل سبيلٍ ممكن، حتى صارت نيته مقصورةً على الدنيا يغضب لها ويرضى لها، ولذلك سماه عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد القطيفة وعبد الخميصة وذكر في هذا الحديث دعاءٌ وما هو خبر: (تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش) هذه حال من أصابه شر، لا نال المطلوب ولا تخلص من المكروه، وهذا حال من عبد المال أيضاً.

عابد المال: إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط

عابد المال: إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط قال في الحديث: (إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط) محتمل أن يكون المعطي هو الله، ومحتمل أن يكون المعطي إنساناً آخر، فهذا الرجل: إذا أعطاه الله شيئاً ربما يفرح لذلك وينشرح صدره، وإذا ما أعطاه الله قال: (ربي أهانن) سخط على ربه، وسخط على القضاء والقدر، ويحتمل أن يكون المعطي والمانع شخصاً من الأشخاص، مثل حال المنافقين مع النبي صلى الله عليه وسلم، ماذا قال الله عنهم؟ قال جل وعلا: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة:58]. إذاً هذا يرضى إذا أعطي، أعطاه الله أعطاه الناس يرضى إذا أعطي، وإذا لم يعط وحرم ومنع، سخط؛ سخط على الله أو على الناس أو على الإمام أو على أمير الجيش لأنه لا يعطيه، المهم أن يأخذ، وإذا لم يعطَ، فهو ساخط وغاضب يسب ويلعن؛ لأن الهدف عنده هو المال، ما الذي يسكته؟ الإعطاء، وما الذي يثيره؟ المنع، وإذا حرمه الله من شيء، قال: لماذا كنت فقيراً وهذا غني؟ فيكون ساخطاً على قضاء الله وقدره، والله إذا أعطى يعطي لحكمة، وإذا منع يمنع لحكمة سبحانه وتعالى، إن هذا الرجل لا يفقه أن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الآخرة إلا من يحب، إن هذا الرجل يظن أن الله إذا أعطاه فإن ما هو يحبه، ما هو الدليل على ذلك؟ ما هو الدليل على أن بعض الناس يظنون أن الله إذا أعطاهم أنه يحبهم؟ قال تعالى: {رَبِّي أَكْرَمَنِ} [الفجر:15] فإذا أعطاه الله سبحانه وتعالى قال: هذا إكرام من الله ذلك قد يكون ابتلاء ومحنة، وقد تكون هذه المنحة محنة عليه وهو لا يدري: {فَأَمَّا الْأِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} [الفجر:15 - 16] وهذه يعتبرها إهانة. والواجب على المؤمن أن يرضى بقضاء الله وقدره، إن أعطي شكر، وإن منع صبر، فهو راضٍ على ربه في جميع الحالات، لما كان هذا الرجل رضاه لغير الله وسخطه لغير الله، وكان متعلقاً بالمال، بالمتاع، أو بالرئاسة، أو بالصورة، أو بأي شيءٍ من أهواء النفس، فهذا عبد ما يهواه، وهذا هو الرق في الحقيقة، ولذلك سماه عبداً، فكل ما استرق القلب واستعبده، فهو عبده، صاحب هذا القلب عبد لهذا الشيء.

الموقف الشرعي من المال

الموقف الشرعي من المال ما هو موقف المؤمن من المال؟ ما هو الموقف الشرعي من المال؟ هل يطلبه الإنسان؟ A نعم: الله سبحانه وتعالى أمرنا أن نمشي في مناكبها ونأكل من رزقه، وهذا المشي يعني طلب للمال، هل نحافظ على المال؟ نعم: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} [النساء:5]. المال بالنسبة للعبد نوعان: نوعٌ يحتاج إليه، ونوعٌ لا يحتاج إليه، فما كان محتاجاً إليه من طعامٍ أو شرابٍ أو منكحٍ أو مسكنٍ ونحو ذلك، فهذا يطلبه من الله، ويسعى في سبيل تحصيله بالأسباب المباحة، فإذا حصَّل المال هذا، فهو يستفيد منه ويستخدمه في طاعة الله، ينوي به التقرب إلى الله حتى في المباحات ليس في الصدقات، لكنه -وهذه هي النقطة المهمة جداً جداً- لا يتعلق قلبه به، الإنسان قد يسعى في تحصيل المال، لكن لا يتعلق قلبه به، دعونا لنضرب أمثلة كما ذكر ابن تيمية رحمه الله، فيقول: يكون المال عنده يستعمله في حاجته، بمنزلة حماره الذي يركبه، وبساطه الذي يجلس عليه، وبيت الخلاء الذي يقضي حاجته فيه. فالإنسان يحتاج إلى مركب أم لا؟ من قديم كانوا يحتاجون الدواب كالحمير والبغال والجمال، يحتاج حماراً يركبه، وبساطاً يجلس عليه وبيت خلاء يدخل ليقضي حاجته فيه، لكن هل الواحد يحب الحمار جداً وقلبه يعشق الحمار، أو أنه متيم ببيت الخلاء ومتعلقٌ به ولا يصبر على مفارقته، فهذه هي النقطة التي من أدركها فقد أدرك نظرة الإسلام إلى المال، يريد الله تعالى منا أن نكون عباداً نسعى لتحصيل المال وإنفاقه في طاعة الله دون أن نتعلق به، فإذا كان المال عندك مثل الحمار الذي تركبه، أنت لا تستغني عن الدواب، أنت تحتاجها وتشتريها وتبحث عنها وعن الجيد منها، وتسعى لذلك، لكنك لا تعشقها، وأنت أيضاً تحتاج إلى بيت الخلاء، ولكنك لست متيماً ببيت الخلاء ولا عاشقاً له. إذاً: من كان المال عنده بهذه المثابة، فهو على خير وهذا هو المطلوب. النوع الثاني من الأموال وهو: الأموال التي لا تحتاج إليها، الزائدة عن حاجتك، فهذه لا تتبعها نفسك، إذا حصلت لك، أنفقت منها في سبيل الله، وإذا ما حصلت لك، فأنت غير محتاج إليها أصلاً، فهذه لا ينبغي أن يتعلق بها القلب، فإذا تعلق القلب بها صار مستعبداً لها، معتمداً على غير الله فيها، فلا يبقى في القلب توكل ولا شعبة من التوكل. إذاً هذه النظرة الشرعية للمال، كيف يجب أن يكون موقفنا من المال؟ نأخذه من الحلال، وننفقه في الحلال، ولا نعبده ولا نسخط إذا حرمنا ونرضى إذا أعطينا، وما نحتاج إليه نسعى إليه، وما لا نحتاج إليه لا نتعلق به، وما حصل لنا منه، فلسنا نحبه ونتيم به ونهيم من أجله، ولا يكون حبنا من أجل المال وكربنا من المال، ومن أعطانا أحببناه ومن منعنا كرهناه، ونؤدي حق الله فيه من الزكاة والصدقات، ونصل منه أرحامنا، ونفعل فيه بالمعروف: (نعم المال الصالح للرجل الصالح) فإذا كانت هذه هي العلاقة بالمال، فنحن على خيرٍ عظيم.

صفات رجل من أهل الجنة

صفات رجل من أهل الجنة إن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر هذه الصورة السيئة لهذا الشخص السيئ من باب التبيان وبضدها تتبين الأشياءُ، ذكر نموذجاً مختلفاً تمام الاختلاف -في الجزء الثاني من الحديث- مغايراً ومناقضاً للنموذج الأول، النموذج الثاني يقول: (طوبى لعبدٍ آخذٍ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع).

هذا الرجل دائما مستعد للجهاد في سبيل الله

هذا الرجل دائماً مستعد للجهاد في سبيل الله طوبى: هذا اسم للجنة واسم لشجرة الجنة، كما جاء في أحاديث ترتقي إلى درجة الحسن، أن طوبى شجرة في الجنة مسيرة مائة سنة، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها، من أغصانها تخرج ثياب أهل الجنة، هذه طوبى أكبر شجرة في الجنة يسير الراكب الجواد المضمر في ظلها كذا وكذا من السنين لا يدركها ولا يقطعها من عظمها. طوبى أيضاً: كلمة ثناء ومدح في اللغة، أيضاً طوبى: العيش الطيب والهنيء، كل هذه الأشياء لعبد ما هي صفاته؟ هل هو عبد الدينار والدرهم؟! إنه عبدٌ من نوعٍ آخر، إنه لم يذكره هنا مضافاً إليه، فإذاً ما له إلا سيد واحد، إنه عبدٌ لربه، لم تتشعب به الدنيا فيكون عبداً للدرهم وعبداً للدينار وعبداً للخميلة وعبداً للخميصة، وعبداً للزوجة، وإنما هو عبدٌ لله، آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، ما هو سبيل الله؟ الجهاد، ما هو الفرس؟ عدة الجهاد، آخذ بعنان الفرس: يعني هذا دائماً حاضر ومستعد للجهاد، ما يحتاج إلى تجهز وإعداد، لأنه دائماً في استعداد للجهاد، لأنه أخذ بعنان فرسه في سبيل الله، آخذ بعنان الفرس مستعد دائماً للجهاد، ما هو العنان؟ هو مِقود الفرس الذي يقاد منه الفرس، هذا الرجل آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، هذه حياته، قد نذر نفسه لهذا، لأجل الجهاد في سبيل الله، والجهاد في سبيل الله ليس له إلا معنى واحداً، من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله، الرجل هذا ليس إنساناً منعماً ولا مترفاً ولا منغمساً في الدنيا، ولا حريصاً عليها، والدليل على ذلك أنه قال في وصفه: أشعث رأسه، والأشعث: هو مغبر الرأس، من نتيجة ماذا حصل الغبار؟ من الجهاد؛ لأن الذاهب للجهاد والقتال يعلوه الغبار فالمقاتل في السفر وفي المعركة يثور عليه الغبار، فالرجل هذا أشعث. وقد جاء جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم بعد معركة الخندق وهو يحث النبي صلى الله عليه وسلم على الذهاب للجهاد، إلى بني قريظة، فهذا الرجل أشعث رأسه، ليس عنده كريمات ولا مرطبات، ولا أمشاط، في الجهاد أشعث رأسه، مغبرةٌ قدماه من فوق ومن أسفل غبار؛ لأن هذا الرجل يمشي في طريق الجهاد، فهو مغبرةٌ قدماه، الغبار كثير لكثرة جهاده ومصابرته، الغبار كثير على رأسه وقدميه، فهذا الرجل بالإضافة إلى أنه نذر حياته للجهاد، ومستعد دائماً له آخذاً بعنان فرسه، ونيته صافية في سبيل الله وليس منعماً ولا منغمساً في الدنيا بل إنه من كثرة الجهاد واستمراريته في الجهاد دائماً مغبر، الشعث رءوساً: المغبرون.

من صفات هذا الرجل أنه كالغيث أينما حل نفع

من صفات هذا الرجل أنه كالغيث أينما حل نفع وهناك صفة مهمة جداً من صفات هذا الرجل وهو أنه حيثما وضِعَ نفع، وحيثما عُين صبر على الوظيفة التي عين فيها، إن كان في الحراسة -مع أن القضية الآن قضية جهاد، فإذاً المهمات كلها مهمات جهادية- إن كان في الحراسة، قيل له: احرس، مع مشقة الحراسة؛ لأن فيها سهراً وتعباً، تحتاج إلى يقظة وانتباه، والمسئولية في الحراسة مسئولية، (إن كان في الحراسة، كان في الحراسة) ليس فقط يعني: استسلم للأمر لا. كان فيها، يعني: قائماً بحقها، فإذاً: انتبه إلى أن المسألة فيها أنه إذا كان في الحراسة كان في الحراسة يعني: إن وضع في الحراسة، استسلم للأمر وأطاع أمير الجيش ونفذ ما هو مطلوب منه، وقام بأداء الحق، (كان في الحراسة) أي: قائماً فيها غير مقصرٍ بنومٍ أو غفلة، فليس للحارس أن ينام، أو يغفل، فتقع النكبة، فهذا الرجل مطيع، ولو وضع في الأشياء الشاقة، الحراسة تحتاج إلى سهر ومقاومة النعاس، فهذا رجل مطيع وقائم بحق المكان الذي وضع فيه، لا ينام ولا يغفل، (وإن كان في الساقة) انظر سبحان الله! ضرب مثلين، ضرب الحراسة والساقة، الساقة: مؤخرة الجيش، ومؤخرة الجيش مكان لا يتمناه الناس؛ لأن آخر الجيش مكان خمول، فالرجل هذا ليس عنده فرق وضع في المقدمة أم وضع في المؤخرة. فإذاً: سواء كانت المهمة التي عين فيها شاقة، أو كانت المهمة التي وضع فيها مهمة الجندي المجهول الذي لا يؤبه له، المكان الذي وضع فيه ما عليه أنظار ولا عليه أضواء الناس، ولا يبرز اسمه بين الناس، في الساقة: في مؤخرة الجيش، قيل له: أنتَ وظيفتك أن تمشي خلف الجيش تحرسهم آخرهم من الخلف، وأي شيء يسقط من متاع الجيش تلتقطه، كما كان صفوان بن المعطل السلمي رضي الله عنه، كان ثقيل النوم، فربما تأخر في الاستيقاظ، فكان مستغلاً حتى لتأخره هذا فكان يمشي وراء الجيش وإذا سقط متاع لأحد أو أي شيء، أخذه وأتى به. هذا الرجل سواء كانت الوظيفة أو المهمة أو الموقع الذي وضع فيه موقعاً شاقاً أو موقعاً مغفلاً، موقعاً ليس مسلطاً عليه الأضواء، فهو مستسلم وراضٍ، ويفعل ما وكل إليه وما أمر به، إنه خامل الذكر، لا يقصد السمو وإنه يأتمر بالأمر، وإنه يتحمل مهما كانت المسألة شاقة، وهذا يدل على فضل الحراسة في سبيل الله. وقد جاء في فضل الحراسة في سبيل الله أحاديث عدة مثل: (أن النار لا تمس عيناً باتت تحرس في سبيل الله) وفي روايةٍ: (باتت تحرس الإسلام وأهله من أهل الكفر) وجاء عند ابن ماجة: (حرس ليلةٍ في سبيل الله، خيرٌ من ألف ليلةٍ يقام ليلها ويصام نهارها) وأيضاً من حديث عند ابن ماجة عن سهل بن معاذ عن أبيه مرفوعاً: (من حرس وراء المسلمين متطوعاً لم يرَ النار بعينه إلا تحلة القسم) أخرجه أحمد، وحديث أبي ريحانة مرفوعاً (حرمت النار على عينٍ سهرت في سبيل الله)، هذا جاء نحوه للترمذي وهو عند أبي يعلى من حديث أنس وإسناده حسن كما ذكر الحافظ رحمه الله. إذاً: الرجل يحرس ويعمل أي مهمة من مهمات الجهاد، هذا الرجل بالرغم من كل هذه المزايا التي فيه إلا أنه عبد لله، نيته خالصة في سبيل الله، الجهاد رغم ما فيه من المشقات والأهوال، مستعد دائماً، وفي أي موضع يوضع يعمل.

من صفات هذا الرجل أنه لا يحب الشهرة ولا الرئاسة

من صفات هذا الرجل أنه لا يحب الشهرة ولا الرئاسة هذا الرجل ليس له مكانة في قلوب الخلق أبداً، مستضعف لا يؤبه له، ما هو الدليل؟: (إن استأذن لم يؤذن له) فهو عند الناس ليس له جاه ولا شرف، حتى لو جاء يستأذن على أهل سلطةٍ لم يأذنوا له، لأنه ليس له مرتبة، ولا صاحب جاه، ولا صاحب مال، ولا صاحب حسب، ولا صاحب منزلة ومكانة دنيوية، ولذلك لو استأذن عليهم لم يأذنوا له، وبالإضافة إلى ذلك، هو إنسان يحب أن يسير في حاجات الخلق، ويشفع لهم، فقال النبي عليه الصلاة والسلام في صفات هذا الرجل: (وإن شفع لم يشفع) فهو إنسان محب للخير، محب لأداء الخدمات للآخرين، ما هي الشفاعة؟ التوسط للغير لجلب منفعةٍ أو دفع مضرة، هذه هي الشفاعة، فهو إن شفع لم يشفع، إذا طلب الدخول لم يؤذن له، وإذا طلب أن يتوسط لأحد لم يقبل كلامه؛ لأن الناس لا يرونه أهلاً للشفاعة، ولا أهلاً للتوسط، ولذلك لو جاء يتوسط لأحد ردوه، فالرجل هذا المدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره، وليس مهماً عنده أن يكون وجيهاً عند الناس بل المهم أن يكون وجيهاً عند الله، كما قال الله تعالى عن موسى عليه السلام: {وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً} [الأحزاب:69]. فليس المهم أن يكون الإنسان صاحب وجاهة عند الناس، المهم أن يكون عند الله وجيهاً، ولو أن الناس ما قبلوا شفاعته ولا أذنوا له، فإن هناك من يقبل وربما هذا الرجل يوم القيامة يخرج من النار آلافاً مؤلفة، فقد حدثنا الرسول صلى الله عليه وسلم عن رجل من هذه الأمة يخرج بشفاعته من النار مثل بني تميم، بنو تميم ملايين، واحد من هذه الأمة يخرج من النار بشفاعته عند الله، يشفع عند الله، يقول: يا رب! إخواني الموحدين في النار -هؤلاء عصاة فسقة، لكنهم موحدون وأصحاب صلاة- تجاوز عنهم، اقبل شفاعتي فيهم، فيخرجون من النار بشفاعة هذا الرجل. قال الشراح أو بعض الشراح: هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه، المهم أن هذا الرجل الذي لا يشفع وما تقبل شفاعته في الدنيا، يمكن أن يشفع لآلاف مؤلفة عند الله يوم القيامة، لأنه وجيه عند الله، فالله يقبل شفاعته، ويسمح له أن يخرج من النار على يديه أناساً من الموحدين استحقوا العذاب. (رب أشعث مدفوعٍ بالأبواب لو أقسم على الله لأبره) وهذا المقطع من الحديث يدل على مسألة ترك حب الرئاسة والشهرة، وحب الرئاسة والشهرة مسألةٌ ابتلي بها كثيرٌ من الناس، التطلع للمناصب، الظهور أمام العدسات، وفي الأضواء وفي المقدمة، ولابد أن يكون اسمه مكتوباً بالخط العريض، وإلا سخط، ولذلك كانت الشهرة وكان عالم الأضواء مهلكة؛ لأنه يذبح الإخلاص ويوقع في الرياء؛ لأن الإنسان يصبح هدفه الخلق والمكانة والذكر عندهم، وأن الخلق يثنون عليه، ويذكرون سيرته، ويكرمونه ويعظمونه، ويدعونه. إذاً: هذا الرجل الذي في الحديث، ونسأل الله أن نكون من النوع هذا من البشر، هذا رجل عنده خمول ذكرٍ لا يريد الأضواء ولا الشهرة أبداً، وهو إنسان متواضع، تارك للرئاسة والشهرة، وهذا الإنسان ليس إنساناً يدفعه إهمال الناس له إلى إهمال المهمة التي وكل بها، لا. فلا يقول: الناس أهملوني ودفعوني بالأبواب، وما أذنوا لي ولا قبلوا شفاعتي، فلن أعمل لهم شيئاً، لا، إنه قائمٌ بالمهمات، رغم أن الناس لا يرغبونه، هذه العظمة في هذا الرجل، أنه قائم بالمهمات رغم أن الناس لا يرغبون له، ومع ذلك قائم بالمهمات.

الناس في متاع الدنيا على قسمين

الناس في متاع الدنيا على قسمين هذا الحديث قسَّم الناس إلى قسمين: القسم الأول: ليس له هم إلا الدنيا، إما لتجميع المال، أو لتجميل الحال، فاستعبدت الدنيا قلبه حتى اشغلته عن ذكر الله. القسم الثاني: من أكبر همه الآخرة، فهو يسعى لها ولو في أعلى المشقات، وأصعب المهمات، والحديث يفيد أيضاً أن الذي ليس له هم إلا الدنيا قد تنقلب عليه الأمور، ولا يستطيع أن يصيب من الدنيا. ولذلك تجد بعض هؤلاء من التجار الفجار في النهاية يجعله الله عز وجل في نكبة، لا يستطيع أن يعمل أو يداوم أو يسافر، وحتى الأكل لا يتهنأ بالأكل، توضع أمامه المأكولات يقول: أنا ممنوع من هذا، وممنوع من هذا، وممنوع من هذا، يأخذ قليلاً من الخضار المسلوقة ويكفي، هذا كل ما يستطيع أن يأكله، فهو محروم.

أهمية الشفاعة الحسنة للمحتاجين

أهمية الشفاعة الحسنة للمحتاجين كذلك في هذا الحديث أن الرتب في الدنيا ليست بشيء، لا مدير عام، ولا مدير عام مساعد، كل هذا ليس بشيء مهما طالت الألقاب لا تعني عند الله شيئاً، فلا ينفع عند الله إلا من جاء بقلبٍ سليم وعملٍ صالح، وإنَّ دنو المرتبة عند الناس لا تستلزم دنوها عند الله، بل هذا الرجل الآن مدفوع بالأبواب. كذلك في الحديث أهمية الشفاعة الحسنة، يعني: أن الإنسان يتوسط في الخير للأشخاص الآخرين، أي شخص يريد منك واسطة خير فقدمها له، إن في الجاه زكاة كما في المال زكاة، ولما فعل بعض السلف شفع واحد لشخص عند الأمير في حاجة، فقضيت الحاجة، فجاء يشكره -جاء يشكر هذا الرجل الذي شفع له- فقال: علام تشكرني؟ نحن نرى أن للجاه زكاةً كما أن للمال زكاة. مثلما أن للمال زكاة، كذلك للجاه زكاة، فأنا أديت زكاة جاهي وشفعتُ لك عند الأمير، أنا عملت الواجب علي، وليس أني عملتُ معروفاً أو نافلةً حتى تشكرني عليها، أنا عملت الواجب، ما دمت أني معروف والناس يقدرونني، فأقوم بذلك زكاةً واجبةً علي في الجاه، كما أن الزكاة واجبة في المال. وكذلك في هذا الحديث: أنه قال: (تعس عبد الدينار) ولم يقل مالك الدينار؛ لأن الملك في حد ذاته ليس عيباً، وإنما العيب أن تستعبده الدنيا، وليس أن يملكها، ولذلك قيل للإمام أحمد رحمه الله: أيكون الرجل زاهداً وله مائة ألف؟ قال: نعم. بشرط ألا يفرح إذا زادت ولا يحزن إذا نقصت، لكن هل هذه سهلة، هل تتصورون يا إخوان أنه سهل للإنسان إذا جاءه مليون فجأةً ألا يفرح، وإذا خسر مليوناً فجأةً ألا يحزن؟! هذه مسألة صعبةٌ جداً جداً، فليست القضية بهذه السهولة، وكون المال يكون عند الواحد إذا جاء وإذا ذهب سواء، من الذي يصل إلى هذه المرتبة؟!

الناس أنواع عند تكليفهم بالمهمات

الناس أنواع عند تكليفهم بالمهمات هذا بعض ما اشتمل عليه هذا الحديث، وبالإضافة إلى مسألة إتقان المهمات، الآن نجد أن من الإشكالات الكبيرة أن يوكل الواحد بمهمة ثم ينسحب منها، أو يأباها، والناس مع المهمات أنواع: هناك أناس يهربون من المهمات هرباً لا يريد أن يقوم بأي مهمة، كسلان متواكل متخاذل، وهناك أناس لا يقبل مهمة إلا بعد رجاء وتقبيل الرأس واليدين، وهناك أناس يقبل المهمة ثم ينسحب منها في أولها أو في وسط الطريق ويسبب كارثة، وهناك أناس يقبل المهمة ثم لا يعطيها ولا يقوم بها حق قدرها ولا يقدرها حق قدرها ولا يقوم بها كحق القيام، ولذلك تكون أيضاً كارثة، قلة من الناس من يتقدم ليتحمل المسئولية على الوجه الذي يرضي الله، وقلة من الناس الذين إذا كلفوا بشيء أتقنوه. بينما هذا الرجل: إذا كلف بشيء أتقنه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، قائمٌ بحقها، فإذاً الأشخاص والمهمات، موقع الأشخاص أو تفاعل الأشخاص مع المهمات، هذه مسألة مهمة جداً وتحتاج إلى تبيين ودراسة وتمحيص؛ لأن كثيراً من الفشل يعود إلى بعض هذه الأسباب التي ذكرناها؛ من قضية الإعراض عن تحمل المسئولية، وقضية أنه لا يتحملها إلا بعد ترجٍ، وقضية أنه ينسحب في أثنائها، أو يقصر في أدائها، هذه من الكوارث التي أدت إلى فشل أعمال كثيرة للمسلمين. فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من الذين يعملون لنصرة دينهم، ويتحملون مسئوليات هذا الدين، نسأله أن يجعلنا مفاتيح للخير، مغاليق للشر، نسأله أن يجعلنا ممن استعملهم في طاعته، وصلى الله على نبينا محمد.

الأسئلة

الأسئلة

لا تصرف الزكاة في بناء المساجد

لا تصرف الزكاة في بناء المساجد Q هل يجوز إعطاء زكاة الأموال في بناء المساجد؟ A لا، لأن زكاة الأموال في مصارف محددة ليس بناء المساجد منها.

يجوز صرف الزكاة في إعانة شاب على الزواج

يجوز صرف الزكاة في إعانة شاب على الزواج Q هل يجوز إعطاء شخص يريد الزواج من مال الزكاة؟ A نعم. إذا كان يجد العنت إذا ما تزوج؛ يخشى على نفسه الحرام، يعطى ما يمكنه من الزواج دون إسراف، فإن قال قائل: هذا الرجل يدخل في أهل الزكاة من أي باب؟ الجواب يدخل من باب الفقراء؛ لأنه وإن كان غنياً بنفسه لكن هو فقيرٌ لأهله، فقير بزوجته.

حكم لبس البنطلون للفتيات

حكم لبس البنطلون للفتيات Q لبس البنطلون للفتيات من أسباب الشر العظيمة؟ A ولذلك أفتى من أفتى من علماء عصرنا بتحريم لبسه؛ ولأنه لو وضع ما وضع من الضوابط كم يمتثل لها من النساء؟ لا يكاد يذكر.

أم تعاني من ابنتها المراهقة

أم تعاني من ابنتها المراهقة Q أنا أمٌ لفتاة مراهقة، ولكنها عنيدة كثيراً لا تريد أن تفعل ما تريد، وكلما رفضتُ لها طلباً تغضب وتثور وترد كثيراً، وتحب أن تتكلم مع زميلاتها بالتليفون كثيراً، وعندما أمنعها تقول: كل زميلاتي لديهنّ أمهات لا يمنعنهن وتتفوه بكلمات جارحة، ومرات أغضب عليها وأدعو عليها، ونسيت أن الله أمرها بالطاعة في غير معصية الله؟ A تربية البنات وما أدراك ما تربية البنات! تربية البنات صارت في عصرنا هذا أمراً شاقاً وعسيراً ومهمة قل من تصدى لها وأعطاها حقها، مهمة تربية البنات؛ لأننا نتساهل مع البنات منذُ البداية، فإذا لبست ملابس فاضحة، قلنا: هذه صغيرة، وإذا صارت تقرأ بعض المجلات وتشاهد بعض الأفلام، غضينا النظر وتساهلنا في جلوسها في بعض المجالس وعلاقتها بأبناء عمها وأقربائها من الذكور من غير المحارم أو من أبناء الجيران، أو في بعض المجتمعات المفتوحة، ونتساهل عندما تدعى إلى حفلة عيد ميلاد، حفلة مبتدعة، محرمة من التشبه بالكفار، أو تدعى إلى حفلة فيها منكرات، كغناء وموسيقى، ورقص فاضح، وبعد ذلك نقول: البنت لا تسمع الكلام والبنت صار لها اتجاهات سيئة، والبنت بدت عليها أمور مشينة، ونحن لم نعالج ذلك من البداية، فالإهمال في البداية هو الذي يقود إلى النتائج السيئة. ثانياً: إن معاملة البنات تحتاج إلى شيءٍ من الحزم، ولكنها أيضاً تحتاج إلى شيءٍ من العاطفة، فلابد أن تكون العملية عاطفة ممزوجة بحزم، أما ترك المسألة للبنات تلبس البنت ما تشاء وتذهب إلى أين ما تشاء وتقول: هذه صاحبتي عزمتنا في الفندق، وعملت حفلة في مطعم في القسم العائلي، ونرسلها مع السائق وحدها ونحو ذلك من الأشياء، ونترك لها تقرأ سمر وسحر وتنظر في الأفلام، والأفلام هذه تأتي على النفس الفارغة فتملؤها. بعض الآباء والأمهات عندهم بعض القواعد، أو بعض الخلفيات الجيدة، أو بعض الممانعات للفسق والفجور نتيجة ما تعرضوا له من الحوادث في حياتهم والخبرة التي اكتسبوها والتجربة عرفوا أن هذا شر وهذا خير، فالأبناء لا يعرفون ذلك، الخبرة نفسها غير موجودة عندهم، ثم إن الزمن يكثر فيه الشر والسوء، وما كان في زمن الآباء والأجداد من وسائل الفساد الآن قد اخترع وروج أضعافه، ولذلك المسألة تحتاج إلى إغلاق أبواب الشر عن البنت وفتح أبواب الخير لها، من الصحبة الطيبة المجالس الطيبة مراكز تحفيظ القرآن درس أسبوعي قصص طيبة وهادفة يقصها الأب تارةً وتسمع من شريطٍ تارة وتقرأ في كتابٍ تارة تعليم الآداب؛ لأن الجيل الجديد هذا متميز بقلة الأدب إلا من رحم الله، فتعليم الآداب في الكلام والنقاش والسلام واحترام الآخرين. قضية الحياء: نحن نخدش حياة البنت بأشياء، ثم نقول: فقدت الحياء ولا تسمع كلامنا، الحياء يتعلم بالملابس بحشمة الملابس بحشمة الأماكن، الحياء يتعلم بتجنيب البنت التعرض للأفلام والمسلسلات التي تزيل الحياء وتهدمه، ثم إن جعل البنت تكلم من تريد متى شاءت وكيف شاءت تخرج متى شاءت، الحرية التي يتشدق بها بعض الآباء هي التي تفسد البنات. ولسنا نقول: اكتموا أنفاسهن، لا. عائشة تقول: [اقدروا قدر الجارية الحديثة السن الحريصة على اللهو] والشريعة سمحت بالألعاب رغم أنها مجسمات لذوات أرواح، سمحت بها لأجل مراعاة غريزة العناية بالأولاد والأمومة في نفس البنت من صغرها، غريزة الأمومة، ولذلك ترى البنت إذا أعطيت لعباً اعتنت بهن، تأخذها وربما غسلتها وأطعمتها وجعلتها في الفراش وعليها غطاء وسمتها اسما ًونحو ذلك، غريزة الأمومة في نفس البنت، فلهذا سمحت الشريعة بألعاب البنات، أيضاً النبي صلى الله عليه وسلم كان يسرب إلى عائشة صويحباتها يلعبن معها، لكن صويحبات خير، أيضاً الرسول صلى الله عليه وسلم كان يسمح لـ عائشة وصويحباتها بضرب الدف في الأعياد والإنشاد المباح. إذاً: البنت لابد أن تعطى مجالاً أيضاً، في اللعب المباح، عائشة تقول: [فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن الحريصة على اللهو] اللهو المباح، وموضوع الكلام في تربية البنات يطول، ونحن نسأل الله تعالى أن يهدي بنت هذه الأخت وسائر بنات المسلمين.

إخراج الزكاة للهيئات الخيرية

إخراج الزكاة للهيئات الخيرية Q هل يجوز إخراج زكاة الفطر للهيئات الخيرية؟ A إذا كانوا سيوزعونها في موعدها على مستحقيها ويشترونها من الأنصاف المشروعة وهم ثقاة، فنعم.

حكم التأخر عن الإجازة المقررة في العمل

حكم التأخر عن الإجازة المقررة في العمل Q هل يجوز أن نتأخر عن الإجازة التي أعطيتها؟ A إذا كان عقد العمل الذي أنت تأخذ راتباً بناءً عليه لا يسمح للتأخر عن الإجازة، فلا يجوز لك أن تتأخر، وإذا غبت عن يومٍ لا يجوز أن تأخذ أجرته بل تعيدها إليهم وإن عسر ذلك تصدق بها.

الصائم عند فطره يدعو بما يشاء

الصائم عند فطره يدعو بما يشاء Q للصائم عند فطره دعوة مستجابة، هل يدعو الواحد بدعوة واحدة؟ A يدعو بما شاء، ليست دعوة واحدة، يدعو بما شاء، ليس طلباً واحداً بل يطلب عدة طلبات.

لا يجوز بيع الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل

لا يجوز بيع الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل Q اشتريت طقم ذهب وفي اليوم التالي ذهبت لإرجاعه فرفض صاحب المحل، ولكن أعطاني وصلاً بسعرها، وقال: يمكنك شراء طقم آخر من أحد فروعنا، فذهبت لفرعٍ آخر وأعطيته وزدت عليه مائتين؟ A لا يجوز بيع الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل، يداً بيد، إذا اشتريت طقماً وزنه عشرون جراماً، وأردت أن تبدله، فأبدله بطقم آخر وزنه عشرون جراماً، بدون زيادة ولا نقصان أو تعيد الطقم وتأخذ مالك.

لا يجوز الاستلاف من الأمانة

لا يجوز الاستلاف من الأمانة Q لشخص مال عندي أمانة، وأريد أن آخذ منه مبلغاً لفترة مؤقتة؟ A لا يجوز أن تستلف من الأمانة شيئاً، إذا أعطيت أمانة تحفظها عندك لا تستلف منها ولا تسلف منها ولا تتصرف فيها أبداً، الأمانة لا يجوز التصرف فيها إلا بإذن الذي استأمنك عليها. الأمانة ملك الشخص الآخر فهو الذي يزكيها.

حكم استئذان الوالدين عند الذهاب للعمرة

حكم استئذان الوالدين عند الذهاب للعمرة Q أريد أن أذهب إلى العمرة فهل أستأذن والدي؟ A من البر أن تقول لهم: إنني أريد أن أذهب إلى العمرة.

لا يؤم المرء في بيته

لا يُؤَم المرء في بيته Q كثيراً ما أسمع: لا يُؤَم المرء في بيته؟ A نعم. هذا حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم صحيح: (لا يؤم الرجل الرجل في سلطانه، ولا يقعد على تكرمته في بيته إلا بإذنه) فصاحب البيت أولى بالإمامة، ولو ما كان هو الأقرأ، طبعاً إذا كان ممن تصح الصلاة خلفه، لكن إذا تنازل، وقال: صلِّ يا فلان؟ أنا قدمتك أنا سمحتُ لك، فلا بأس أن يصلي غيره.

لا فرق بين الوساطة والشفاعة

لا فرق بين الوساطة والشفاعة Q ما الفرق بين الشفاعة والواسطة؟ A هي الواسطة فالشفاعة قد تكون في الخير وقد تكون في الشر، من يشفع شفاعةً حسنةً يكن له نصيب منها: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا} [النساء:85].

دفع كفارة اليمين لإفطار الصائم

دفع كفارة اليمين لإفطار الصائم Q هل يجوز دفع كفارة اليمين لإفطار الصائم؟ A إذا كانوا عشرة فقراء يجوز أن تعطيهم إفطار صائم.

المقصود ببركة السحور

المقصود ببركة السحور Q ما المقصود ببركة السحور؟ A البركة الخير والكثرة والزيادة، قد تكون في الجسم وفي الصحة وفي أشياء لا ندركها، فما دام أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن فيه بركة، إذاً فيه بركة.

ما يقول المأموم عند ثناء الإمام على الله

ما يقول المأموم عند ثناء الإمام على الله Q ماذا يقول المأموم عند ثناء الإمام على الله في الدعاء؟ A يمكن أن يقول سبحانك، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا مر بآيةٍ فيها تسبيحٌ سبح، فإذا كان الموضع موضع تسبيح تسبح.

الجمع بين تدبر القرآن وكثرة قراءته

الجمع بين تدبر القرآن وكثرة قراءته Q أيهما أفضل تدبر القرآن أم كثرة القراءة؟ A الجمع بينهما.

التقصير في الوظيفة بحجة عدم الرضا عن الواقع

التقصير في الوظيفة بحجة عدم الرضا عن الواقع Q ما الحكم أن يقصر في أداء الوظيفة بحجة عدم الرضا عن واقع الحال؟ A إذا كانت وظيفة مباحة فلا يجوز، إذا كان غير راضٍ، يخرج منها، أما يقول: أنا لست راضياً، وأنا لن أفعل، لا. إما أن يقوم بالوظيفة أو يخرج منها، ما دامت وظيفة مباحة.

خروج المذي لا يؤثر في الصوم

خروج المذي لا يؤثر في الصوم Q خروج المذي هل يؤثر في الصوم؟ A جمهور العلماء أنه لا يبطل الصوم، ولكن هذا الرجل مسيء، وقد جرح صيامه وأنقص أجره بتعرضه لما يخرج المذي.

العدل مع الأولاد واجب

العدل مع الأولاد واجب Q عن هبة الوالدة لأحد أولادها؟ A لا يجوز أن يخص الوالد أو الوالدة أحد الأولاد ويعطيه إلا إذا أعطى الآخرين مثله، أو أن يكون هناك سبب شرعي لتخصيص هذا الولد؛ إما أنه مريض يحتاج إلى علاج، أو جائزة حفظ القرآن، أو يريد أن يتزوج فيعيه مهراً، أو قضاء دين، لابد أن يوجد سبب، أما أن يكونوا متساوين في الظروف، نعطي واحداً دون الآخر، فلا يجوز، هذا زور كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم.

الزكاة تجوز لأحد الأقارب إذا كان فقيرا

الزكاة تجوز لأحد الأقارب إذا كان فقيراً Q لي قريب متقاعد يستلم ألفاً وأربعمائة ريال شهرياً راتب تقاعد، له زوجتان ليس له أي مصدر آخر للدخل، سليم البدن بحث عن عمل وما يزال ولم يجد؟ A إذا كان لا يكفيه ما يأخذه فيستحق الزكاة.

لا يجوز أخذ مال أو شيء آخر مقابل الشفاعة

لا يجوز أخذ مال أو شيء آخر مقابل الشفاعة Q إذا عُرض علي أن أشفع لأحد ولكن طلبتُ منه أن يعطيني مقابلاً للشفاعة؟ A هذا حرامٌ لا يجوز لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن من شفع لأخيه شفاعةً فأعطاه هديةً فقبلها منه فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الربا، هذا ظاهره أنه حتى لو أن ما اشترط يدخل فيه، لا يجوز أخذ الهدية على الشفاعة، حتى تكون الشفاعة عملية مجانية، كل الناس يقومون بها لكل الناس، كل واحد محتاج يجدها، وليست خاصة لفلان وعلان ومقابل مال، وكل واحد يحتاج إلى شفاعة لا يجد إلا بالمال وبالمعرفة ويضيع أناسٌ كثيرون من المستضعفين، لذلك كانت الشفاعة في الإسلام يجب أن تبذل مجاناً لا يجوز أخذ الأجرة عليها.

رجل يمنع زوجته من زيارة الجيران

رجل يمنع زوجته من زيارة الجيران Q أبي يمنع أمي من الذهاب إلى الجيران ويمنع الجيران من الذهاب إليها؟ A إذا كان لسبب شرعي فهو محق، وإذا لم يكن هناك سبب شرعي فليس من البر أن يمنعها من البر.

صحة حديث الجلوس بعد الفجر إلى أن ترتفع الشمس

صحة حديث الجلوس بعد الفجر إلى أن ترتفع الشمس Q ما صحة حديث الجلوس بعد الفجر في المسجد ويذكر الله إلى أن ترتفع الشمس ويصلي ركعتين؟ A حسنه بعض أهل العلم، الإنسان يعمل وحتى لو كان الحديث فيه شيء؛ لأن ذلك فيه أجر عظيم بالتأكيد.

الإجازة المرضية حسب العقد المتفق عليه

الإجازة المرضية حسب العقد المتفق عليه Q مدرسة مريضة وتأخذ إجازة من الطبيبة، هل تأخذ المعاش؟ A هذا حسب النظام، نظام العقد التي تعاقدت معهم به وبناءً عليه تأخذ الراتب، إذا قالوا: الإجازة المرضية إلى حد كذا، نعطيها الراتب كاملاً، بعده نصف الراتب، بعده لا نعطيها شيئاً، فإذاً يكون على حسب النظام، العقد الذي تعاقدت معهم بناءً عليه.

التراجع تحت ضغط الواقع

التراجع تحت ضغط الواقع لقد أمرنا الله عز وجل أن نتمسك بالدين وأن نثبت عليه، وقد ثبت الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم وحذره من تقديم التنازلات، أو الركون إلى الكفار. وقد ظهر من بين المسلمين اليوم من يدعو إلى قضية التقارب بين الأديان، أو التأقلم مع الواقع والتمشي معه، ويتحججون بحجج أوهى من بيت العنكبوت، إنما هي من تلبيسات الشيطان، فيا ترى ما هو حكم هؤلاء في الكتاب والسنة؟ وهل لا يزالون في دائرة الإسلام أم لا؟ هذا ما تحدث عنه الشيخ في موضوعه هذا.

الحث على الثبات أمام ضغط الواقع

الحث على الثبات أمام ضغط الواقع إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن الله عز وجل قد أمرنا أن نعتصم بحبله المتين، وبكتابه المبين، وأن نقيم شرعه القويم: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً} [آل عمران:103]. وأن الاستمساك بالعروة الوثقى من علامات الإيمان، والاستمساك هو الأخذ بالجميع وعدم ترك شيءٍ: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة:93]. وقد أنزل الله عز وجل هذا الدين ليعمل به كما هو، بدون تغييرٍ ولا تبديل، ولا تحريف ولا زيادةٍ ولا نقصان: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3]. عباد الله! إن عدداً من المسلمين وخصوصاً في هذا الزمان، قد شرعوا تحت ضغط الواقع إلى عمل تغييراتٍ وإجراء تبديلاتٍ في بعض أحكام الدين، لأجل مسايرة من حولهم، وهذه قضيةٌ جِد خطيرة، أن ننتقل من المعصية إلى التبديل والتحريف، فإن العاصي الذي يفعل ما يفعل، وهو مقرٌ بالحكم الشرعي أهون عند الله من الذي يقول: إن الدين ليس هكذا أصلاً، فيحل ما حرم الله، ويبدل ويغير ويزعم أن هذا هو الحكم الذي أنزله الله، وأن الدين يبيح هذا الأمر! ونحن المسلمين لا يجوز لنا بأي حالٍ من الأحوال أن نرضى بأي تغييرات، التي يحاول بعض هؤلاء الانهزاميين أن يجروها على أحكام الدين ويشيعون هذه التغيرات بين العامة. وانتبهوا معي لهذه القضية، فإنها من الخطورة بمكان، تحت ضغط الواقع، وانهزاماً أمام الهجوم الذي يقوده أعداء الإسلام على الإسلام، وما يروجونه حول المسلمين في إعلامهم، يقوم بعض المسلمين بالكلام على أمورٍ من الأحكام الشرعية، يتضمن تقديم تنازلاتٍ والتراجع عن التمسك بأحكامٍ أو إثباتها، تراجعاً أمام الكفار، وانهزاماً أمام الهجوم ورضوخاً للضغوط، وتروج هذه الفتاوى الجديدة للعامة، في الفضائيات وغيرها على أن هذا من دين الإسلام، هذه من أخطر القضايا التي ينبغي على المخلصين أن يتصدوا لها، وأن ينتبهوا للمكرِ والسوءِ الموجود فيها.

تثبيت الله لرسوله صلى الله عليه وسلم

تثبيت الله لرسوله صلى الله عليه وسلم عباد الله: لقد قال عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إِذاً لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} [الإسراء:74 - 75]. والله سبحانه وتعالى أعلم نبيه عليه الصلاة والسلام بأن القضية قولٌ فصلٌ وليس بالهزل، وعندما عرض عليه الكفار شيئاً من المبادلة في المواقع وقالوا: نعبد إلهك سنة، وتعبد إلهنا سنة! أنصاف حلول نتوصل بها إلى أرضيةٍ مشتركة، نتعايش فيها وإياك يا محمد -صلى الله عليه وسلم- تعايشاً سلمياً بـ مكة، تعبد إلهنا سنة، ونعبد إلهك سنة: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم:9]. تتراجع أنتَ ويتراجعون هم وتصلون إلى حلٍ وسط: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] وناداهم بالكافرين، تصريحاً بكفرهم وإعلاناً بعداوتهم واتخاذاً بالموقف الصريح منهم: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] ليس يا أهل مكة الذين تقيمون معي ويا إخواننا في البلد، لا. {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون:1 - 5]. تكرار بعد تكرار وإصرارٌ بعد إصرار على الثبات على الأصل وعدم التراجع، وإعلان المفاصلة بقوله في النهاية: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6]. يودع المؤمنُ روحه التي تقبض في نومه بهذه السورة إعلاناً منه بالبراءة من المشركين والثبات على التوحيد قبل كل نومةٍ ينامها! {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1].

ثبات الكفار على دينهم الباطل

ثبات الكفار على دينهم الباطل عباد الله: إذا كان الكفار يثبتون على دينهم الباطل، ويقولون لأنبيائهم: إننا غير مستعدين لتغيير ما كان يعبد آباؤنا، ويقولون لأنبيائهم: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [الأعراف:70] {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [هود:62] وقال عن قوم فرعون عن قولهم لموسى: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [يونس:78] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [البقرة:170]. الشاهد هنا أن الكفار يتمسكون بما عندهم من الباطل، وإذا كانوا يصرون على الكفر، وليسوا مستعدين لترك ما كان عليه آباؤهم، أفلا يكون الأجدر بنا أهل الإسلام أن نتمسك بما نحن عليه من الحق، وألا نتراجع عما يروجه هؤلاء؟! سواء كانوا أعداء الإسلام، أو الذين يريدون أن يسيروا على منوالهم، ويستجيبوا لدعوتهم، ويتأثروا بضغوطهم.

الرد على دعاة التقارب بين الأديان

الرد على دعاة التقارب بين الأديان وإنّ من أوضح الأمثلة على هذا قضية التآخي بين الأديان، أو التقارب بين الأديان، هذه الدعوة التي يروجونها اليوم تحت عنوان السلام العالمي، والتقارب بين الأديان. ما معنى التقارب بين الأديان؟ إذا كان اليهود يقولون: عزير ابن الله، ويقولون: يد الله مغلولة، ويقولون: إن الله فقيرٌ ونحن أغنياء، وإذا كان النصارى يقولون: المسيح ابن مريم هو الله، أو هو ابن الله، أو هو ثالث ثلاثة!! كيف يكون التقارب مع مثل هؤلاء البشر؟ أنت يمكن أن تتقارب مع أناسٍ يشتركون معك في الأصول مثلاً، تتقارب معهم في الفروع، لكن إذا كانت الأصول مختلفة تماماً، فكيف يحدث التقارب؟! كيف يمكن أن يحدث التقارب؟! فالتقارب إذاً مع اليهود والنصارى ليس في ديننا وهو كفرٌ بالله عز وجل، والتقارب معهم خروجٌ عن الإسلام؛ لأن الله أنزل ديناً لا يقبل غيره، وأنزل شرعاً لا يرضى بتبديله عز وجل، ولا بالتنازل عن شيءٍ منه، هذا الكلام نقوله الآن في الوقت الذي يخرج أولئك في الفضائيات وغيرها، ليقولوا: إن هناك أخوةً بيننا وبين إخواننا المسيحيين، لماذا؟ قال فُض فوه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] نحن مؤمنون وهم مؤمنون! هذا الدليل. فإذا آمنوا بكفرهم وبباطلهم، فهم مؤمنون عنده، ونحن مؤمنون بالله، إذاً نحن جميعاً نشترك، ثم يقول: إن مودة المسلم لغير المسلم لا حرج فيها! أليس الله قد قال: {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة:1]. كيف نقول بعد ذلك: إن بيننا وبينهم مودة؟! يأتي إلى قوله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة:82] فيقول هذا الكلام كان بالنسبة للوضع أيام النبي عليه الصلاة والسلام وليس الآن؟ فقل لي -أيها المسلم- بالله عليك! أيهما أفظع في التسلط والحرب على الإسلام وأهله؟ يهود اليوم أو اليهود الذين كانوا أيام النبي عليه الصلاة والسلام؟! من هم أشد كيداً وقوةً وحرباً على الإسلام يهود اليوم أم يهود الأمس؟ ثم نأتي ونقول: هذه الآية خاصة بزمن النبي عليه الصلاة والسلام! وكلما تورط هؤلاء العقلانيون الضلال بورطة في نصٍ شرعي، أقرب ما يكون لها أن يُزعم أن هذه خاصة بأيام النبي عليه الصلاة والسلام، وهكذا أي حكم شرعي لم يستطيعوا تطويعه والعبث به، وخداع الناس في شأن تنفيذه أسهل ما يقولون: هذه خاصة بأيام النبي عليه الصلاة والسلام. وكأن الله عز وجل أنزل ديناً لسنواتٍ معينة، ثم ينتهي مفعوله، وكذلك بناءً عليه تباح الفروع الأخرى! فيما هو دون ذلك في قضية التهنئة بالأعياد مثلاً؛ لأن هذه بجانب هذه لا شيء، فإذا أجاز المودة وقال: إن العداوة أشد العداوة كانت في ذلك الزمان، إذاً قضية التهنئة بالأعياد ليس فيها شيء، قضية بسيطة وسهلة بجانب القضية الكبرى والقاعدة التي وضعت، وهي مسألة الأرضية المشتركة بيننا وبينهم. ثم يقال: إن العداوة بينا وبين اليهود هي عداوةٌ من أجل الأرض التي سلبوها وليست عداوة ًدينية، والله الذي لا إله إلا هو إذا كنا لا نكرههم لأنهم سبوا الله وقالوا: يد الله مغلولة، وأن الله خلق السماوات والأرض وتعب واستراح يوم السبت، وأن الله فقير ونحن أغنياء، إذا كنا لا نكرههم لأجل هذا فلا دين ولا إيمان، ولا خير فينا على الإطلاق. إذا كنا سنكرههم؛ لأنهم سلبوا شيئاً مادياً ودنيوياً وهو أرضٌ وزرعٌ، ولا نكرههم لأنهم سبوا إلهنا وخالقنا وأشركوا به، فأي خيرٍ فينا إذاً؟ وأي دينٍ وأي إيمان؟! أيها الإخوة: هناك ممارسات خطيرةٌ جداً تمارس في قضية العقيدة؛ تلبيساً وتشويهاً وتمويهاً، وخداعاً وتضليلاً على المسلمين، قل بحسن نية: يقصد ولا يقصد لكن هذه هي النتائج بوضوح. أيها الإخوة: إن الإنسان إذا شُتمَ وسبّ أبوه وأمه غضب وانتفخت أوداجه واحمر وجهه، فكيف إذاً يرضى بأن يحب أو يتقارب مع قومٍ سبوا إلهه، إذا كان الإنسان يغار على عرضه، أفلا يغار على دين ربه؟ لماذا إذا انتقص منا شيءٌ غضبنا، وإذا سلب منا مالٌ قمنا وفزعنا، وإذا انتقص شيءٌ من الدين سكتنا، ولم ندافع عن ديننا فأي خيرٍ في قومٍ هذه طريقتهم؟!!

قضية التأقلم مع الواقع

قضية التأقلم مع الواقع عباد الله! وإن من التنازلات التي تقدم التنازل في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، إن التنازلات في هذا المجال كثيرةٌ وكثيرةٌ جداً، وتأتينا تحت مسمى التأقلم والتمشي مع الواقع، يُعرف علماء الاجتماع هذا بالتأقلم مع المعطيات الاجتماعية والعلمية المتجددة في العصر. التأقلم والتمشي والمسايرة يجب أن ننتبه جداً لهذه الدعوة الخطيرة بهذه السكين التي تذبح العقيدة! وتذبح الأحكام الشرعية، فإذاً لو قال لك إنسانٌ: أنا سأتأقلم مع الواقع المعاصر، وسأنتقل من استعمال الجمل إلى استعمال السيارة، نقول: هذا تأقلمٌ جيد في أمور الدنيا، تأقلم بما أباح الله! وساير وواكب وتمشى بما أباح الله، لكن لو أن أحداً قال لك في أحكام الدين: سنتأقلم ونتمشى ونساير الواقع؛ فاعلم أنه ضالٌ مضلٌ، مفترٍ كذابٌ، أشر وداعيةُ باطل؛ لأن المقصود تغيير الدين، لو قال: هذا حكمٌ ولا أستطيع تطبيقه، بل لو قال: وأنا عاصٍ لا أطبقه لكان أهون، لكن أن يقول: إن الحكم ليس هكذا، وأن الحكم قد تغير في هذا الزمان؛ الحكم قد تغير؟! هذه كارثة كبرى، وهذه مصيبة عظيمة!! ولذلك كان من الوسائل التي استعملها هؤلاء المنهزمون، قضية العقل في مواجهة النص الشرعي، وجاءوا بالأمثلة، فإذا قلت، ثبت في الصحيحين عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (يؤتى بالموت كهيئة كبشٍ أملح) قال عقلي لا يقبل هذا! والموت أمر معنوي وكيف يكون كبشاً أو حيواناً من الحيوانات؟! فنقول: ألست تعلم أن الله على كل شيء قدير؟!! إن الله قادر على أن يبعث هذه الأجساد بعد أن صارت بالية، فما بالك إذاً بأن يجعل الشيء المادي معنوياً والمعنوي مادياً، أليس الله على كل شيءٍ قدير؟! وعندما يأتي إلى حديث في البخاري: (لن يفلح قومٌ ولوا أمرهم امرأة) قال: هذا لا يتماشى مع الواقع، لابد أن نتأقلم مع الواقع، والواقع الآن فيه رفعٌ لراية المرأة، وحرية المرأة، ودور المرأة، فكيف نستطيع أن نجاهر بهذا الحديث في عالم اليوم؟ لا مكان لحديث البخاري في عالم اليوم! عالم اليوم: عالم الحرية، عالم رفع لواء المرأة وتحرير المرأة، وتوسيع دور المرأة، كيف نقول: (لن يفلح قومٌ ولوا أمرهم امرأة)؟ إذاً: هذا حديث لا يصلح أن يطبق في عالمنا اليوم!. ولذلك هؤلاء لا يمكن أن يقروا أبداً أمام الناس وفي الملأ والفتاوى الفضائية بحديثٍ مثل: (ما رأيت من ناقصات عقلٍ ودينٍ أسلب للب الرجل الحازم من إحداكن) ما يمكن أن يقول بهذا، لأنه يراها عيباً، وهذا من أسوأ أنواع الانهزام، أن يرى الإنسان نصاً شرعياً وحكماً دينياً، يراه عيباً، ولذلك لما عرض عليه الحديث قال: هذه كانت مزحة من النبي عليه الصلاة والسلام، مزحة: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4]. كيف يكون هذا الكلام مزحة، وغير مقصود؟ هل النبي عليه الصلاة والسلام يلبس على الناس ويقول كلاماً لا نعرف جده من هزله ولا نعرف مقصوده؟! أهذه مزحة؟! أهذا نبي أم لعب؟! أهذا مسلسل فكاهي؟! أم هو نبيٌ يبين للناس ما نزل إليهم من ربهم! ثم يأتي إلى حديث: (ما رأيت من ناقصات عقلٍ ودين) يقول: مزحة!! فإذا قلت: قال النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (لا يقتل مسلمٌ بكافر) هذا مؤمن وذاك كافر لا يستويان عند الله فيقول: هذا مخالف للعدل، وهذا الحديث لا يليق بزماننا، سبحان الله! انظر للقضية لا يليق بزماننا! إذاً الزمان الآن هو الحاكم، والواقع هو المسيطر، والتشريع يأخذ من الواقع، وما كان مرفوضاً في الواقع فهو مرفوضٌ عنده، وما كان الواقع يقبله فهو مقبولٌ عنده، وليس ما يقبله الدين وما يرفضه الدين، وإنما ما يقبله الواقع وما يرفضه الواقع. فإذا قال لك إنسان: لو أن مسلماً قتل كافراً ماذا يكون عند الله؟ نقول: إذا قتله بحق، فهو مأجور، وتقرب إلى الله بقربةٍ من أعظم القربات، وإذا قتله معتدياً ظالماً فهو آثم عند الله (ومن قتل ذمياً بغير حق لم يرح رائحة الجنة) لكن شرعاً في القضاء الإسلامي لا يُقتل، مثل الوالد لو قتل ولده حكمه عند الله من جهة الإثم أنه آثم إثماً كبيراً. أزهق نفساً بغير حق، لكن الشارع هو الذي قال: لا يقاد والدٌ بولده، ولذلك لا يقتل الوالد، لاعتبارٍ معين يريده الشرع، لكن عند الله آثم يعذب في نار جهنم بالزبانية وبأشد العذاب، هذا أمرٌ معروف، لكن في الحكم والقضاء الشرعي لا يقتل! هذا شرع الله، فإذا قال لك: إن هذا ليس فيه عدل ولا إنصاف، كفر مباشرةً؛ لأنه يتهم الله بالظلم ويتهم الشريعة بالحدية. إذاً أيها الإخوة: تحت ثقل الواقع يرزح هؤلاء ويتراجعون عن أحكام الدين، ويشوهون الإسلام، وينقضون عرى هذه الشريعة عروةً عروة، باسم التأقلم والمسايرة والتمشي، ليس في الأمور الدنيوية، وإنما في الأمور الدينية وهذا هو الخطر. اللهم إنت نسألك أن تفقهنا في ديننا، وأن تبصرنا بشرعك يا رب العالمين، اللهم اجعلنا بدينك مستمسكين، اللهم إنا نسألك السلامة والعافية يا أرحم الراحمين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

حكم من يرفض بعض الأحكام

حكم من يرفض بعض الأحكام الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. عباد الله! قد عرفنا خطورة دعاوى هؤلاء الذين يريدون تغيير الأحكام الشرعية، ولا يقرون بالحدود مثلاً، فيرفضون تطبيق حد الردة، ويرفضون حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه) ويرفضون تطبيق حد رجم الزاني ويقولون: لا يتناسب مع العصر، ويرفضون قطع الأعضاء، مثل قطع يد السارق، أو إقامة حد المفسدين في الأرض، أن تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، ويقولون: هذه وحشية لا تتناسب مع العصر الحالي، عرفنا أن القائل بهذا ضالٌ مضل، بل إنه كافرٌ لأنه رافضٌ للحكم الشرعي الذي أنزله الله، ومن لم يرض بما أنزل الله فهو كافر، ومن لم يكفر الكافرين الذين كفرهم الله فهو كافرٌ كما نص العلماء، ومن رفض تكفير الكافر أو شك في كفره فهو كافر، لأن الله كفره، قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73] ثم قال هذا أنا لا أكفره، أو أتوقف في كفره والله قد كفره وقال: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73] عرفنا إذاً على ضوء ما تقدم الذين يقولون: إن الربا لا شيء فيه في هذا العصر، أو أن القليل منه: (1%) / (2%) لا يتجاوز (5%) لا بأس به إذا كان باسم مصاريف إدارية! إن ذلك كله هراء وكلامٌ فارغ، وأنه خروجٌ عن الشرع، ومصادمةٌ لدين الله عز وجل، والذين يقولون إن الاختلاط اليوم لا بأس به تحت ضغط الواقع، وأن المدارس والجامعات لو صارت مختلطة فلا بأس بذلك تحت ضغط الواقع، وأن النساء لو تساهلن في بعض الأشياء المتعلقة بالحجاب لا بأس به تحت ضغط الواقع، ولو قادت المرأة السيارة وخرجت بين الرجال فلا بأس به تحت ضغط الواقع. إن كل هذه الدعاوى ضالة مضلةٌ، مصادمة للشرع ولو قالوا: إنكم متخلفون ورجعيون، وتنظرون إلى الوراء وغير ذلك، فنقول: الحمد لله، من تمسك بهدي النبي عليه الصلاة والسلام فهو المفلح، نحن ننظر إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وإلى هديه وسيرته فنأخذ عنها.

التحذير من تقديم التنازلات

التحذير من تقديم التنازلات ونريد أن نذكر في هذا المقام في قضية ضغط الواقع والتأقلم والتمشي، ونحو ذلك من أنواع المسايرات ما يفعله بعض المقصرين من المسلمين في إدخال أمورٍ من المنكرات إلى بيوتهم وحياتهم. فيتساهلون بمجيء الخادمة بغير محرم، أو المرأة الكافرة إلى بيوتهم، وكذلك جلب أدوات اللهو وآلاته وأجهزته إلى بناتهم ونسائهم وأولادهم فيطلعون على الأمور المحرمة، ويتساهلون في اختلاط الرجال بالنساء في الأعراس مثلاً، وفي مصافحة المرأة للرجل في المقابلات العائلية، ويأمر زوجته بأن تترك الحجاب أمام إخوانه؛ لأن بالحجاب بزعمه تشتيتٌ للعائلة وتفريقٌ لهذه الجَمْعَة، وتخريبٌ لحلاوة السهرة، وإفسادٌ للوئام، ولمْ شمل العائلة كما يقولون. نعلم أن هذه كلها من التساهلات التي لا يرضى بها الشرع، وكذلك ما حدث من تقليد نساء المسلمين للكافرات في لباسهنّ وغير ذلك؛ وهذا كله من أنواع التساهل الذي فعله بعض الناس، قد يكون فعلاً بغير رغبة في المعصية، ولا إرادة مبدئية للخروج عن شرع الله، لكن فعلوه تحت ضغط النساء والأولاد، أدخلوا هذه المنكرات وأجهزة اللهو وسمحوا لبناتهم بممارسة أمور غير شرعية تحت ضغط هؤلاء، ومسايرة لهم، ومن كثرة إصرار زوجته عليه، ومما سمع من الكلام من بناته جلب ما جلب وسمح بما سمح، وتغاضى عما تغاضى عنه، وسكت عما سكت عنه! هذا حال كثيرٍ منا، لا يريد فعلاً أن يخرج عن شرع الله ابتداءً، ولو لم تكن هناك ضغوط لما رضي بهذا، هذا حال الكثيرين فيهم خيرٌ ودينٌ وطيبة، لكن تحت الضغط رضي بأشياء!! أيها الأخ المسلم! من أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس، ومن أرضى الله ولو سخط الناس، رضي الله عليه وأرضى عنه الناس. أيها الأخ المسلم! قدم دينك قبل زوجتك وبناتك وأولادك، قدم حكم الله على ضغط الواقع، أين الصمود وأين القبض على الدين؟! نحن نعلم أننا في زمن كثرت فيه الفتن، وأن القابض على دينه يوشك أن يصل إلى مرحلة القبض على الجمر، لكن يا إخوان: أليست هذه مسئولية؟! أليس هناك حسابٌ يوم الدين؟! أليس الله سائل كل راعٍ عما استرعاه أحفظ ذلك أم ضيع؟! إذاً لا بأس بالصبر على مرارة الضغوط من أجل تحصيل الحلاوة يوم القيامة! لا بأس بالصبر على ضغوط الواقع من أجل النجاة يوم الدين، عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة! ولذلك نذكر أنفسنا بيومٍ يجعل الولدان شيباً، بيومٍ طويل عبوسٍ قمطرير؛ أي طويل مهول يعبس الناس فيه من شدة الأهوال التي يرونها: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2]. أيها الإخوة: من خاف ربه لم يخف الناس! ومن خشي الله واليوم الآخر لم يخش الناس: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ} [آل عمران:175] {فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} [المائدة:3]. فمن وضع الآخرة نصب عينيه صبر على الضغوط، وصبر على ما يلقى من الأذى، وليس المقصود استعمال القوة دائماً والبطش، وإنما المعالجة بالحكمة؛ دارهم دون أن تغضب ربك! ليس على حساب الشرع، وإنما بالكلمة الطيبة، والحكمة والموعظة الحسنة، وفي النهاية الامتناع من قبلك عن جلب أي منكر، وعن الرضى بأي حرام لأجل أن يرضى الله عنك. اللهم ارض عنا يا رب العالمين، اللهم وفقنا لهداك، واجعل عملنا في رضاك، اللهم اجعلنا نخشاك كأننا نراك، وأسعدنا بتقواك، ولا تشقنا بمعصيتك، اللهم ألهمنا رشدنا، وقنا شر أنفسنا، وأصلح أولادنا وذرياتنا وبيوتنا يا رب العالمين، اللهم انصر إخواننا المسلمين في بلاد الشيشان، اللهم انصر المجاهدين في بلاد الشيشان، وفي كشمير وسائر البلدان يا رب العالمين! اللهم ارفع راية الجهاد، وأعلِ كلمتك في أرضك يا إلهنا يا رب العالمين، اللهم انصر المسلمين، وأذل الكافرين. اللهم إن نسألك أن تعاجل الروس واليهود والمشركين بنقمتك إنك على كل شيءٍ قدير، اللهم أنزل بهم بطشك وعذابك، اللهم أرنا فيهم آية، اللهم أرنا فيهم آية، اللهم أرنا فيهم آيةً يا رب العالمين، اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك، ويصدون عن سبيلك، واجعل عليهم زجرك وعذابك. اللهم آمنا في أوطاننا، اللهم من أراد بلدنا هذا وسائر بلاد المسلمين بسوءٍ فاجعل كيده في نحره، اللهم آمنا في الأوطان والدور، وارشد الأئمة وولاة الأمور، واغفر لنا يا عزيز يا غفور، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

مواقف تربوية مؤثرة من سير العلماء

مواقف تربوية مؤثرة من سير العلماء إن العلماء الربانيين هم القدوة الحسنة، لذلك لابد من معرفة المواقف التربوية في حياتهم حتى نتعلم منهم التربية الحسنة، ونستشف من مواقفهم العظيمة دروساً وعبراً وعظات، فلم يكن العالم صاحب علم فقط، بل كان صاحب علم ودين وتربية وأخلاق وآداب إذاً لابد من معرفة هذه المواقف والتأمل فيها والاستفادة منها هذا هو ما تحدث عنه الشيخ حفظه الله في هذا الدرس، حيث إنه قد ذكر عدة مواقف تربوية للعلماء الربانيين السابقين، مبيناً أثرها في التربية.

حقيقة التربية عند العلماء السابقين

حقيقة التربية عند العلماء السابقين الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسأل الله تعالى كما جمعنا في بيته هذا أن يجمعنا في دار الخلد في جنات النعيم، آمين وأشكر هذه الإدارة الكريمة على هذه الدعوة الكريمة في هذه الليلة، وأسأل الله أن يجزي بالخير جميع من حضر واشترك وساهم في إعداد هذه الدروس، التي نسأل الله عز وجل أن ينفعنا بها جميعاً. أيها الإخوة: إن الله سبحانه وتعالى قد طلب منا أن نكون ربانيين، فقال: {كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} [آل عمران:79] والرباني: هو الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره، وهذه الأمة علماؤها الذين ساروا على هدي النبي صلى الله عليه وسلم علماء ربانيون، مواقفهم تربي الناس. ما هو الموقف التربوي أيها الإخوة؟ هو كلمات أو تصرفات يقوم بها العالِم، أو طالب العلم، أو الداعية، أو مسلم من المسلمين، صاحب نيةٍ حسنة ينفع الله بها، تستقر في النفوس، وتعمل عملها في النفوس. وأبدأ بكلام لـ ابن الجوزي -رحمه الله- يبين هذا المفهوم، يقول رحمه الله في صيد الخاطر معبراً عن تأثره الشخصي بهذه القضية، قال: "ولقيت الجماعة من علماء الحديث أحوالهم مختلفة، يتفاوتون في مقاديرهم في العلم، وكان أنفعهم لي في صحبته العامل منهم بعلمه، وإن كان غيره أعلم منه، ولقيت جماعة من علماء الحديث يحفظون ويعرفون، ولكنهم كانوا يتسامحون بغيبةٍ يخرجونها مخرج جرح وتعديل، ويأخذون على قراءة الحديث أجرة ويسرعون بالجواب؛ لئلا ينكسر الجاه وإن وقع الخطأ، ولقيت عبد الوهاب الأنماطي فكان على قانون السلف، لم يُسمع في مجلسه غيبة، ولا كان يطلب أجراً على سماع الحديث، وكنت إذا قرأت عليه أحاديث الرقائق بكى واتصل بكاؤه، فكان -وأنا صغير السن حينئذٍ- يعمل بكاؤه في قلبي، ويبني قواعد الأدب في نفسي -وهذا هو الشاهد- وكان على سمت المشايخ الذين سمعنا أوصافهم في النقل، ولقيت الشيخ أبا منصور الجواليقي، فكان كثير الصمت، شديد التحري فيما يقول، متقناً محققاً، وربما سُئل عن المسألة الظاهرة التي يبادر بجوابها بعض غلمانه فيتوقف فيها حتى يتيقن، وكان كثير الصوم والصمت، فانتفعت برؤية هذين الرجلين أكثر من انتفاعي بغيرهما، ففهمت من هذه الحالة أن الدليل بالفعل أرشد من الدليل بالقول، فالله الله في العمل بالعلم فإنه الأصل الأكبر. أيها الإخوة: إن علماءنا -رحمهم الله ونفعنا بهم- وأهل العلم الذين عملوا بالعلم لا تزال سيرتهم تنقل عبر الأجيال، تؤثر في القريب والبعيد، والذي لم يشهد يقرأ هذه السير وينتفع بها من بعدهم، فيكون ذلك معيناً لأجورهم، لا ينضب عبر الأجيال، خلَّد الله ذكراهم بإقبالهم على الله وعملهم بالعلم. إن المواقف التربوية من سير العلماء هو ما ينبغي أن نتطلبه ونحن نؤكد على أهمية التربية، وكيف يربي الإنسان نفسه، وكيف يأخذها بمجامع الإيمان والأدب والخلق والعلم؟ هذه المواقف ينبغي أن نتوقف عندها وأن نتمعن فيها، وهي كثيرة جداً، وبعضها مشهور ومعروف، انتخبت بعضها؛ لكي تكون لنا ذكراً وتذكرة ونفعاً بإذن الله عز وجل.

تعظيم الحديث عند السابقين

تعظيم الحديث عند السابقين كيف كانت النصوص الشرعية وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم تؤثر في قلوب الناس ويكون لها وقع في قلوب الناس؟ لماذا تقرأ الأحاديث الآن ويندر أن تجد لها أثراً وقد كانت تقرأ من قبل ولها آثار عظيمة؟ السبب هو قلب الذي يقرأ وكيف تربى وكيف رُبىِّ بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، كان مالك رحمه الله من أشد الناس إجلالاً لحديث النبي صلى الله عليه وسلم، فعمن اكتسب هذا؟ يقول مالك رحمه الله وقد سئل عن أيوب السختياني: ما حدثتكم عن أحد إلا وأيوب أفضل منه، قال: وحج حجتين فكنت أرمقه -وكلمة (أرمقه) مهمة في معايشة أهل العلم والفضل والأدب والخلق المربين- فلا أسمع منه غير أنه إذا ذُكر النبي صلى الله عليه وسلم بكى حتى اخضل، فلما رأيت منه ما رأيت وإجلاله للنبي صلى الله عليه وسلم كتبت عنه. وقال مصعب بن عبد الله: كان مالك إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم يتغير لونه وينحني حتى يصعب ذلك على جلسائه، فقيل له يوماً في ذلك، فقال: لو رأيتم ما رأيت؛ لما أنكرتم علي ما ترون، لقد كنت أرى محمد بن المنكدر، وكان سيد القراء لا نكاد نسأله عن حديث أبداً إلا ويبكي حتى نرحمه، ولقد كنت أرى جعفر بن محمد، وكان كثير الدعابة والتبسم؛ فإذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم اصفر لونه، وما رأيته يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا على طهارة، ولقد اختلفت إليه زماناً -المسألة ليست مشهداً ولا مشهدين ولا موقفاً ولا موقفين- فما كنت أراه إلا على ثلاث خصال: إما مصلياً، وإما صامتاً، وإما يقرأ القرآن، ولا يتكلم فيما لا يعنيه، وكان من العلماء والعباد الذين يخشون الله، ولقد كان عبد الرحمن بن القاسم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم فينظر إلى لونه كأنه نزف من الدم، وقد جف لسانه في فمه هيبةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد كنت آتي عامر بن عبد الله بن الزبير فإذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم بكى حتى لا يبقى في عينيه دموع، ولقد رأيت الزهري، وكان ممن أهنأ الناس وأقربهم، فإذا ذُكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم كأنه ما عرفك ولا عرفته، ولقد كنت آتي صفوان بن سليم وكان من المتعبدين المجتهدين؛ فإذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بكى، فلا يزال يبكي حتى يقوم الناس عنه. إذاً: أيها الإخوة! كان للحديث شأن في نفس الإمام مالك؛ لأنه عايش وتربى على أيدي علماء كانوا يعظمون الحديث، فخرج معظماً للحديث مثلهم إن الأحاديث لها وقع في النفوس، ولها مكانة وهيبة. وكان هؤلاء العلماء من تربيتهم لتلاميذهم أنهم يشعرون المتلقي بعظمة العلم الذي يتلقاه وأهميته؛ فقد روى ابن أبي حاتم -رحمه الله- عن عمران بن عيينة، قال: حدثنا عطاء بن السائب، قال: أقرأني أبو عبد الرحمن السلمي القرآن، وكان إذا قرأ عليه أحدنا القرآن قال: قد أخذت علم الله، قد أخذت علم الله، فليس أحدٌ اليوم أفضل منك إلا بعملك، ثم يقرأ: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} [النساء:166] هذا المعلم يقول للمتعلم: انظر إلى العلم الذي تأخذه واعرف قدره ومنزلته. ولذلك كان للعلم تأثير عظيم في نفوسهم، وتعظيم نصوص الوحي والوقوف عندها وعدم الاعتراض عليها مبدأ مهم جداً في حياة المسلم، هذا المبدأ لو أُلقيت فيه محاضرات وخطب لا يكون مستقراً في النفوس كما لو صار مستقراً بمواقف وأحداث. قال الذهبي رحمه الله: وفي مسند الشافعي سماعنا: أخبرني أبو حنيفة بن سماك، حدثني ابن أبي ذئب، عن المقبري، عن أبي شريح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قُتل له قتيل فهو بخير النظرين، إن أحب أخذ العقل، وإن أحب فله القود) الدية أو القصاص، يقول الراوي: فقلت لـ ابن أبي ذئب: أتأخذ بهذا الحديث؟! فضرب صدري وصاح كثيراً، ونال مني، وقال: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: أتأخذ به؟ نعم. آخذ به، وذلك الفرض علي وعلى كل من سمعه، إن الله اختار محمداً صلى الله عليه وسلم من الناس؛ فهداهم به وعلى يديه؛ فعلى الخلق أن يتبعوه طائعين أو داخرين لا مخرج لمسلم من ذلك. وقال محمد بن أحمد البلخي المؤذن: كنت مع الشيخ ابن أبي شريح في طريق، فأتاه إنسان في بعض تلك الجبال، فقال: إن امرأتي ولدت لستة شهور، فكأنه يقول: هل هو ولدي أو ليس بولدي؟ فقال: هو ولدك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الولد للفراش) ما دامت الزوجة عندك، وما دامت الزوجية قائمة فهي فراشك، فعاوده -أي: السائل- فرد عليه بذلك، فقال الرجل: أنا لا أقول بهذا -غير مقتنع- فقال: هذا الغزو، وسل عليه السيف، فأكببنا عليه وقلنا له: جاهل لا يدري ما يقول، اعذره، تلطفنا معه حتى سلم منه. لقد كانت للنصوص هيبة عندهم، وتعظيم النص والتسليم له كان أمراً معروفاً عندهم، وقد يحتاج أحياناً العالِم لشيء من التأديب لبعض هؤلاء المعترضين. وهذه قصة ذكرها ابن كثير -رحمه الله تعالى- في تفسيره، ناقلاً عن ابن جرير، حدثنا هناد وأبو هشام الرفاعي، حدثنا وكيع بن الجراح، عن المسعودي، -ووكيع روى عن المسعودي قبل الاختلاط- عن عبد الملك بن عمير، عن قبيصة بن جابر، قال: خرجنا حجاجاً؛ فكنا إذا صلينا الغداة اقتدنا رواحلنا نماشى ونتحدث، قال: فبينما نحن ذات غداة إذ سنح لنا ظبي -سنح لنا، أي: أتى من الشمال، وإذا أتى من اليمين يقال: برح- فرماه رجل كان معنا بحجر فما أخطأ خشاءه -وهي المنطقة الناتئة خلف الأذن، أصابه في مقتله- فسقط ميتاً، قال: فعظّمنا عليه كيف تصيد في الحرم؟ قال: فلما قدمنا مكة خرجت معه حتى أتينا عمر رضي الله عنه، فقص عليه القصة، وإلى جنبه رجل كأن وجهه قُلْبُ فضة -وهو السوار الذي يكون لياً واحداً، وكان عبد الرحمن بن عوف أبيض مشرباً بحمرة، وهذا هو الذي كان جالساً بجانب عمر - فالتفت عمر إلى صاحبه فكلمه -يتشاور معه في الحكم، ثم أقبل على الرجل، فقال: أعمداً قتلته أم خطأً؟ قال الرجل: لقد تعمدت رميه وما تعمدت قتله، فقال عمر: [ما أراك إلا أشركت بين العمد والخطأ، اعمد إلى شاة فاذبحها وتصدق بلحمها وأسق إهابها] وعلق الشيخ محمود شاكر رحمه الله: [وأسقِ إهابها] أي: إعط إهابها من يدبغه، ويتخذ من جلدها سقاء [قال: فقمنا من عنده فقلت لصاحبي: أيها الرجل! عظم شعائر الله، عظم شعائر الله! فما درى أمير المؤمنين ما يفتيك حتى سأل صاحبه، اعمد إلى ناقتك فانحرها، ففعل ذلك، قال قبيصة: ولا أذكر الآية من سورة المائدة: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة:95] قال: فبلغ عمر مقالتي فلم يفجأنا منه إلا ومعه الدرة، فعلا صاحبي ضرباً بالدرة، وجعل يقول: أقتلت في الحرم وسفهت الحكم؟! ثم أقبل علي -ليؤدبه- فقلت: يا أمير المؤمنين! لا أحل لك اليوم شيئاً يحرم عليك مني. فقال: يا قبيصة بن جابر! إني أراك شاب السن، فسيح الصدر، بين اللسان، وإن الشاب يكون فيه تسعة أخلاق حسنة، وخلق سيئ، فيفسد الخلق السيئ الأخلاق الحسنة، فإياك وعثرات الشباب] لا تستعجل وتعترض على الحكم، حكم به ذوا عدل من الصحابة وتخالف وتفتي بغير ما قلناه، وهذا التأديب يكون سلطة لبعض الناس قد لا تتوافر للكثيرين، لكن الشاهد أنه وسيلة، موقف يتربى عليه قبيصة من عمر رضي الله تعالى عنهما في الوقوف عند الفتوى، وفي عدم الاستعجال في تخطئة العلماء.

التأثر بالآيات عند العلماء السابقين

التأثر بالآيات عند العلماء السابقين أيها الإخوة: لماذا تكون بعض الآيات حية في بعض النفوس والضمائر؟ لماذا يكون لها تأثير؟ لأن هؤلاء تلقوها بنفوس مفتوحة، والذي علموهم إياها لم يعلموهم إياها بنفسٍ باردة، بل علموهم إياها بنفوس وقلوب حية، ولذلك بقيت الآيات لها تأثير. خذ مثلاً قول الله تعالى في سورة مريم: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} [مريم:71 - 72] هذه الآية كان عدد من السلف إذا قرءوها بكوا بكاءً شديداً، [كان عبد الله بن رواحة واضعاً رأسه في حجر امرأته؛ فبكى فبكت امرأته، فقال: ما يبكيكِ؟ فقالت: رأيتك تبكي فبكيت، قال: إني ذكرت قول الله عز وجل: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً} [مريم:71] فلا أدري أأنجو منها أم لا؟] وكان مريضاً هذه تربية من الزوج لزوجته على هذه الآية، والخشية من الله. وكان أبو ميسرة إذا أوى إلى فراشه قال: "ليت أمي لم تلدني، ثم يبكي، فقيل: ما يبكيك يا أبا ميسرة؟ قال: أخبرنا أنَّا واردوها، ولم نخبر أنَّا صادرون عنها"، قطعاً أنا واردون جهنم {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم:71] لكن ليس عندنا شيء يثبت لكل واحد منا أنه سينجو منها. وعن الحسن البصري قال: قال رجل لأخيه: هل أتاك أنك واردٌ النار؟ -انظر إلى الموعظة وأسلوبها، هذا الأسلوب التربوي- قال: نعم. -تذكر الرجل الآية- قال: فهل أتاك أنك صادر عنها؟ قال: لا. قال: ففيم الضحك؟!

سيرة السلف وأثرها في التربية

سيرة السلف وأثرها في التربية كان العلماء رحمهم الله يخفون أعمالهم بالعبادة؛ فيطلع الله عز وجل بإخلاصهم بعض الناس على أعمالهم الخفية. إن على الإنسان أن يجتهد في عمله، لكن الله سبحانه وتعالى أحياناً يطلع بعض الناس من تلاميذهم أو من أصحابهم على أعمالهم الخفية، فإذا رأوها تأثروا بها؛ فيكون لذلك الموقف تأثير ما قصده الشخص، فما قصد الشخص أن يري الآخر عمله، لكن لإخلاص هذا الرجل يطلع الله بعض الناس على أعماله الخفية؛ فتكون تربيةً لهم. إن التربية -أحياناً- لا تكون مقصودة بالذات، لكن سيرة الرجل ما خفي منها وما ظهر كلها تربية، يقول حماد بن جعفر بن زيد: إن أباه جعفر بن زيد أخبره قال: خرجنا في غزاةٍ إلى كابول، وفي الجيش صلة بن أشيم؛ فنزل الناس عند العتمة فصلوا، ثم اضطجع، فقلت: لأرقبن عمله -هذا رجل يستحق أن نراقب أعماله، وننظر ماذا يفعل في خلوته وسره- فالتمس غفلة الناس، حتى إذا قلت: هدأت العيون، وثب فدخل غيضةً قريباً منا ودخلت على إثره -ينظر ويراقب- فتوضأ فقام يصلي -دخل في مكان فيه أشجار حتى يستتر عن الناس في الليل ثم قام يصلي- وجاء أسد حتى دنا منه؛ فصعدت في شجرة، فلما سجد قلت: الآن يفترسه فجلس ثم سلم، ثم قال: أيها السبع! اطلب الرزق من مكانٍ آخر، فولى وإن له لزئيراً تصدع الجبال منه! قال: فما زال كذلك يصلي حتى كان عند الصبح جلس -جهاد وقيام ليل- فحمد الله بمحامد، ثم قال: اللهم إني أسألك أن تجيرني من النار، ثم رجع وأصبح حتى كأنه بات -أي: بين الناس- وأصبحت وبي من الفزع شيء لا يعلمه إلا الله. وكذلك دخل رجل من طلاب النووي -رحمه الله- المسجد في الليل، فإذا صوت شيخه النووي قائماً في الليل في المسجد، يقرأ آية ويرددها ويبكي، ويقرأ آية ويرددها ويبكي، وهكذا قال: فوقع في نفسي من الخشوع ما الله به عليم. إذاً: الناس المخلصون يُطلع الله على بعض سيرتهم بعض الناس فينقلونها، وكثير من هذه الأشياء موجودة في الكتب، هذه مواقف كانت مخفية، وبعضهم اطلع بعض طلابهم على شيء، فاستحلفه ألا يخبر به حتى يموت، وهدده أنه لو أخبر به أن يقاطعه ولا يكلمه أبداً ولا يعلمه حرفاً، ولذلك ما نشرت الأعمال إلا بعد موت الشخص، نشرت وسطرت ونقلت إلينا في الكتب. ومن هؤلاء عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى، قال علي بن الفضل: رأيت الثوري ساجداً، فطفت سبعة أشواط قبل أن يرفع رأسه، وصلى بعد المغرب فسجد فلم يرفع حتى أذن العشاء، وكان الثوري -رحمه الله- إذا صلى الليل اضطجع فرفع رجليه على الجدار ليعود الدم إلى أسفل من كثرة وقوفه.

إخفاء الأعمال وأثره في التربية

إخفاء الأعمال وأثره في التربية إن إخفاء الأعمال له أثر تربوي كبير جداً، والإخلاص باب يفتح الله به على بعض الناس، يرى من خلاله سير بعض هؤلاء الذين أخفوا أعمالهم. ففي ترجمة محمد بن إسماعيل البخاري يقول أبو بكر بن منيف: كان محمد بن إسماعيل البخاري ذات يوم يصلي، فلسعه الزنبور سبع عشرة مرة، فلما قضى صلاته اشتكى، فنظروا فإذا الزنبور قد أصابه بالورم في سبعة عشر موضعاً ولم يقطع صلاته، فلاموه، فقال: كنت في آية فأحببت أن أتمها. وما قطع الصلاة. يقول علي بن محمد بن منصور: سمعت أبي يقول: كنا في مجلس أبي عبد الله البخاري، فرفع إنسان من لحيته قذاةً وطرحها إلى الأرض، فرأيت محمد بن إسماعيل ينظر إليها وإلى الناس -الآن حركات محمد بن إسماعيل تحت المجهر من ذلك الرجل- والبخاري يراقب الناس وينظر إلى القذاة، فلما غفل الناس رأيته مد يده فرفع القذاة من الأرض فأدخلها في كمه، فلما خرج من المسجد رأيته أخرجها وطرحها على الأرض، فكأنه صان المسجد عما تصان عنه لحيته. ففي هذا الموقف هل كان البخاري تقصد أن يراه ذلك الشخص؟ أبداً. لكن الموقف أطلع الله عليه واحداً ونُقل وسُطر، وفي سيرة البخاري يوجد هذا الموقف ويقرؤه طلاب العلم إلى الآن.

مواقف إثبات عقيدة السلف وأثرها في التربية

مواقف إثبات عقيدة السلف وأثرها في التربية وقد يكون الموقف -أحياناً- في تقرير السلف موقفاً تربوياً يظهر عقيدة السلف ويرد على البدعة فهذا الشيخ الصالح أبو جعفر الهمداني -رحمه الله- لما صعد أبو المعالي الجويني على المنبر يقول: كان الله ولا عرش. وهو يريد أن ينكر العلو، وينكر استواء الله على عرشه، فقال: يا أستاذ! دعنا من ذكر العرش، هذا شيء قد ثبت بالسمع وهو أمر منتهٍ، أخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا، فإنه ما قال عارف قط: يا ألله إلا وجد من قلبه ضرورة تطلب العلو، وما رفع داعٍ قط يديه يقول: يا ألله، إلا ونفسه وفطرته تطلب العلو، فكيف ندفع هذه الضرورة عن قلوبنا؟ قال: فلطم أبو المعالي على رأسه، وقال: حيرني الهمداني حيرني الهمداني، ونزل. هذا موقف واحد نصر الله به الحق موقف واحد قد يدخل به الإنسان الجنة موقف واحد يسكت به بدعة، أو ينصر به السنة خطبة واحدة أو درس واحد أو عبارة واحدة ينصر الله بها الحق، وتكتب عند الله حسنة عظيمة ترجح في الميزان، وربما لا ينقل عن بعض الأشخاص إلا موقف واحد فقط، ما عرفناه إلا من خلال هذا الموقف، لكن هذا الموقف لما كان عظيماً عند الله نُشر ونُقل وكتب الله له الخلود.

مواقف العلماء مع السفهاء وأثرها في التربية

مواقف العلماء مع السفهاء وأثرها في التربية أحياناً يقع العالم في تعامله مع سفهاء جاهلين، فكيف يكون موقفه؟ وكيف يتعلم الناس منه؟ وما هو التصرف لو نصحت شخصاً فرد عليك بسفاهة؟ لو أمرت بمعروف أو نهيت عن منكر فاعترض عليك بوقاحة؟ روى ابن أبي حاتم -رحمه الله-: حدثنا يونس بن عبد الأعلى قراءةً، أخبرنا ابن وهب، أخبرني مالك بن أنس، عن عبد الله بن نافع: أن سالم بن عبد الله بن عمر مرَّ على عير لأهل الشام وفيها جرس، فقال: إن هذا منهي عنه -الجرس في عنق البعير والدابة في السفر منهي عنه- (لا تصحب الملائكة رفقة وفيهم جلجل) أي: جرس -فقالوا: نحن أعلم بهذا منك -بهذه السفاهة- إنما يكره الجلجل الكبير، فأما مثل هذا فلا بأس به، فسكت سالم وقال: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199]. وستأتينا -إن شاء الله- مواقف حول هذا الموضوع في تصرف العالِم مع السفيه ومع الجاهل.

صيانة العلم عمن لا يستحقه وأثره في التربية

صيانة العلم عمن لا يستحقه وأثره في التربية كيف تكون للعلم قيمة؟ عندما يصان عمن لا يستحقه، ولا يوضع في غير موضعه؛ كان المازني -رحمه الله- من كبار علماء اللغة ذا ورع ودين، أراد يهودي أن يدرس النحو فقد حصّل جزءاً من هذا العلم فجاء ليقرأ على المازني كتاب سيبويه فبذل له مائة دينار وقال: أعطيك مائة دينار وأقرأ عليك كتاب سيبويه، فامتنع وقال: هذا الكتاب يشتمل على ثلاثمائة آية ونيف، فلا أمكن منها ذمياً أنت يهودي وهذا كتاب وإن كان في اللغة لكن فيه ثلاثمائة آية، فلا أمكن منه ذمياً، ولذلك يعظم العلم في نفوس الأصدقاء والأعداء بمثل هذه المواقف.

التواضع وأثره في التربية

التواضع وأثره في التربية من الأشياء التي نستفيدها من العلماء في مواقفهم: التربية في تواضعهم في أخذ العلم، وعزو العلم إلى قائله، ووصاياهم، فإذا ذكر شيء يقول الشخص: خفي عليّ، لم يكن لي به علم حتى أفادنيه فلان، هذه المسألة استفدتها من فلان، فلان علمني إياها، وهذا من التواضع. يقول أبو عبيد رحمه الله: زرت أحمد بن حنبل -والإنسان إذا ذهب يزور العلماء بنية الاستفادة يخرج بفوائد- فلما دخلت عليه بيته قام فاعتنقني وأجلسني في صدر المجلس، فقلت: يا أبا عبد الله! أليس يقال: صاحب البيت أو المجلس أحق بصدر بيته أو مجلسه؟ قال: نعم. يقعد ويُقعد من يريد، فقلت في نفسي: خُذ إليك أبا عبيد فائدة، ثم قلت: يا أبا عبد الله! لو كنت آتيك على حق ما تستحق لأتيتك كل يوم، فقال: لا تقل ذلك، فإن لي إخواناً ما ألقاهم في كل سنة إلا مرة، أنا أوثق في مودتهم ممن ألقى كل يوم، فقلت: هذه أخرى يا أبا عبيد، فلما أردت القيام قام معي، فقلت: لا تفعل يا أبا عبد الله! فقال: قال الشعبي: من تمام زيارة الزائر أن يُمشى معه إلى باب الدار، ويؤخذ بركابه -والآن حتى يدخل السيارة ويغلق باب السيارة ويتحرك- قال: فقلت: يا أبا عبد الله! من عن الشعبي؟ قال: ابن أبي زائدة، عن مجالد، عن الشعبي، فقلت: يا أبا عبيد! هذه الثالثة. هذه نفسية المستفيد، والذي يقول: استفدت الفائدة من شيخنا فلان، أو شيخي فلان علمني إياها ونحو ذلك.

جداول العلماء وبرامجهم اليومية وأثرها في التربية

جداول العلماء وبرامجهم اليومية وأثرها في التربية أحياناً تكون جداول العلماء ودروسهم وبرنامجهم -كما يقال- اليومي بحد ذاته عبرة لطالب العلم أن يتربى على الاستفادة من الوقت، عندما ينظر هذا الشيخ يُشغل وقته في أي شيء؟ وكيف يمر يومه؟ وكيف يغتنم عمره؟ ففي ترجمة ابن حجر العسقلاني -رحمه الله- يقول السخاوي تلميذه: وأما طريقته في تقضي أوقاته فكان في أوائل أمره يصلي الصبح بغلس في الجامع، ثم صار بعد ذلك لما انتقلوا إلى المدرسة وفيها مكان الصلاة يصلي فيها، ثم يجيء من خلوته النافذة لمنزل سكنه؛ فإذا فرغ من الصلاة فإن كانت لأحدٍ حاجة كلمه، ثم يدخل إلى منزله فيشتغل بأذكار الصباح أو التلاوة، ثم يأخذ في المطالعة أو التصنيف إلى وقت صلاة الضحى فيصليها، ثم إن كان بالباب من يستأذن للقراءة ظهر إليهم، فقرأ بعضهم روايةً وبعضهم درايةً، واستمر جالساً معهم إلى قريب الظهر، ثم يدخل إلى منزله قدر ثلث ساعة، ثم يقوم فيصلي الظهر داخل بيته، ثم يطالع أو يصنف إلى بعد أذان العصر بنحو ثلثي ساعة أو أقل أو أكثر، فيظهر إلى المدرسة فيجد الطلبة في انتظاره، فيصلي بهم العصر ثم يجلس للإقراء، وفي غضون قراءتهم عليه وكذا في نوبة الصباح يكتب على ما يجتمع عنده من الفتاوى الحديثية والفقهية، وربما دار بينه وبين بعض الطلبة الكلام في بعضها، ولا ينتهي غالباً من هذه الجلسة إلا عند الغروب، فيدخل إلى منزله، فإن لم يكن صائماً تعشى، وإلا انتظر الأذان فيأكل ثم يصلي ويشتغل أو يطالع إلى أن يسمع العشاء؛ فيقوم إلى المدرسة فيجد جمعاً من الطلبة أيضاً في انتظاره، فيصلي ركعتين، ثم يجلس للقراءة غالباً، أو للمذاكرة أكثر من ساعة، ثم يقوم فيصلي العشاء بالجماعة، ثم يدخل إلى بيته فيصلي سنة العشاء، وهكذا رحمه الله. هذا البرنامج اليومي والجدول الذي كُله نفع وإفادة واستفادة، هذا الوقت وهذا اليوم المليء بالغنائم هذا بحد ذاته -أيها الإخوة- فائدة، وعندما يراه طلابه يحصل في نفوسهم من الحماس للعلم الشيء الكثير، كان -رحمه الله- يغتنم وقته، حتى أوقات الانتظار الطارئة كان يغتنمها، توجه مرةً إلى المدرسة المحمودية فلم يجد مفتاحها، كان قد سها عنه بمنزله -نسي المفتاح- فأمر بإحضار نجار ليصنع المفتاح، وشرع في الصلاة إلى أن انتهى النجار من فتح الباب، فقيل له: لو أرسلت وأحضرت المفتاح من البيت كان أقل كلفة! قال: هذا أسرع، ويحصل الانتفاع بالمفتاح الثاني، النسخة الثانية هذه مفيدة.

مواقف فيها توبيخ وتقريع وأثرها في التربية

مواقف فيها توبيخ وتقريع وأثرها في التربية نرجع مرةً أخرى إلى المسألة التي سبق أن قلنا: إن الإنسان أحياناً أو صاحب العلم يحتاج إلى موقف أو يكون في موقف يتعامل فيه مع جاهل أو سفيه، وتقتضي القضية أحياناً شيئاً من التقريع والتوبيخ، لكن إذا كانت ممن يقبل كلامه فإنها تكون فائدة تربوية مؤثرة؛ لأن بعض الناس لا يقبل منهم لو قال. جلس أعرابي إلى يزيد بن صوحان وهو يحدث أصحابه، وكانت يده قد أصيبت يوم نهاوند، فقال الأعرابي: والله إن حديثك ليعجبني -أعرابي جاهل- وإن يدك لتريبني -يتهم الشيخ بأن يده يد سارق- فقال يزيد: ما يريبك من يدي؟ إنها الشمال، فقال الأعرابي: والله ما أدري اليمين يقطعون أو الشمال؟ فقال يزيد بن صوحان: صدق الله: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [التوبة:97]. فالموقف -أحياناً- يحتاج إلى شيء من التقريع والتوبيخ لأمثال هؤلاء السفهاء. ومن أمثلة هذا أيضاً: أن رجلاً جاء إلى أبي عبيد وهو من كبار علماء اللغة، وكان -رحمه الله- فقيهاً، وهو صاحب كتاب الأموال، فسأله عن الرباب فقال: أريد أن أعرف معنى الرباب. فقال: هو الذي يتدلى دوين السحاب -تحت السحاب بقليل- وأنشده بيتاً لـ عبد الرحمن بن حسان: كأن الرباب دوين السحاب نعام تعلق بالأرجل فقال: لم أرد هذا -ليس هذا مقصودي- قال أبو عبيد: فالرباب اسم امرأة، وأنشد: إن الذي قسم الملاحة بيننا وكسا وجوه الغانيات جمالا وهب الملاحة من رباب وزادها في الوجه من بعد الملاحة خالا فقال: لم أرد هذا أيضاً، فقال أبو عبيد: عساك أردت قول الشاعر: رباب ربة البيت تصب الخل في الزيت لها سبع دجاجات وديك حسن الصوت قال: هذا أردت -هذا هو الذي أبحث عنه- قال: من أين أتيت؟ قال: من البصرة. قال: على أي شيء جئت: على الظهر أم على الماء؟ -على دابة أم على سفينة؟ - قال: في الماء. قال: كم أعطيت الملاح؟ قال: أربعة دراهم. قال: اذهب واسترجع منه ما أعطيته، وقل: لم تحمل شيئاً فعلام تأخذ مني الأجرة؟ فقد يبتلى العالِم أو طالب العلم بأسئلة جهلة، يفترض فيهم في البداية حسن الظن، ويعطيه الأدلة وأقوال العلماء، ثم يتبين لهم أنهم في سخرية، فهنا يكون عليهم صارماً، هذا علم وليس لعب، هذا علم ينبغي أن يُوقر، فلما وجد الرجل خالياً قال له ما قال تربية له وتقريعاً وتوبيخاً لأمثاله.

أخلاق العلماء وأثرها في التربية

أخلاق العلماء وأثرها في التربية ونتعلم أيها الإخوة من سير العلماء: التربية على الأخلاق. مواقف يتربى فيها المطلع على أخبارهم وعلى أخلاقهم.

العلماء والكرم

العلماء والكرم خذ مثلاً كرم الزهري وهو يعد من كبار المحدثين، وهو الآن -إن شاء الله- في قبره تجري عليه الأجور أنهاراً إن شاء الله، فما من كتاب من كتب الحديث إلا وفي سنده محمد بن شهاب الزهري، هذا الرجل لم يكن فقط محدثاً وينفع الناس بالعلم، بعض الناس يتخيلون أن العالِم ليس عنده إلا العلم والفقه والحلال والحرام والأحكام والشروح، لا العلم وشخصية العالِم وطالب العلم أوسع من هذا بكثير، إنها خُلق وأدب. يقول الليث: كان ابن شهاب من أسخى من رأيت، وكان يعطي كل من جاءه وسأله، حتى إذا لم يبق معه شيء تسلف من أصحابه فيعطيهم، حتى إذا لم يبق معهم شيء تسلف من عبيده، وربما جاءه السائل فلا يجد ما يعطيه فيتغير وجهه، فيقول للسائل: أبشر فسوف يأتي الله بخير، قال: فيقيض الله لـ ابن شهاب على قدر صبره واحتماله أحد رجلين: إما رجل يهدي له، وإما رجل يبيعه وينظره. وكان -رحمه الله تعالى- ينفق على طلابه، يقول زياد بن سعد للزهري: إن حديثك ليعجبني، لكن ليست معي نفقة فأتبعك، فقال له الزهري: اتبعني أحدثك وأنفق عليك. وكان يأتيه الأعراب في البادية يفقههم ويعظهم كان يقصد الأعراب، مثلما نقول الآن: عليكم بالقرى والهجر اخرجوا للقرى والهجر اشتغلوا بالدعوة إلى الله في البادية، هناك أناس فيهم جهل عظيم، بعضهم لا يحسن الفاتحة ولا تصح صلاته، ولا ولا إلخ. وذات مرة ذهب إليهم واعظ، فوعظهم بعد الصلاة، فقال له إمامهم: يا شيخ، هل خروج الريح ينقض الوضوء؟ قال: نعم. من نواقض الوضوء. قال: والله لقد كان يخرج مني الريح وأصلي كل السنوات الماضية، وهو إمامهم، وربما سرد له أبياتاً من الشعر النبطي على أنها سورة من القرآن، أو أكمل لهم السورة بأبيات أو بأشياء من هذا الشعر. كان الزهري -رحمه الله- يقصد الأعراب في البادية يفقههم ويعظهم ويقدم إليهم الطعام؛ لأن هؤلاء الأعراب جزء كبير من مفتاح السيطرة عليهم، يكون بإكرامهم وإعطائهم. قال مالك بن أنس: كان ابن شهاب يجمع الأعراب، فيتذاكر بهم حديثه، يعيد الأحاديث فيستفيد هو، فإذا كان الشتاء شق لهم العسل وجاء بالزبد، وإذا كان الصيف شق لهم وجاءهم بالسمن، فجاءه أعرابي وقد نفذ ما في يده، فمد الزهري يده إلى عمامته؛ فأخذها عن رأسه فأعطاها للرجل، وقال: يا عقيل! أعطيك خيراً منها. هذا تلميذه الخاص، ومثل هذا بينه وبينه خصوصية، قال: أعطيك خيراً من هذه. وكان -رحمه الله تعالى- يقدم لطلابه كذا وكذا لوناً، ونزل الزهري مرةً بماء فشكا إليه أهل الماء أن لنا ثماني عشر امرأة عمرية، أي: لهن أعمار وليس لهن خادم، فاستلف ثمانية عشر ألفاً وأخدم كل واحدة خادماً بألف وقال عمرو بن دينار: ما رأيت الدرهم والدينار على أحد أهون منه على ابن شهاب، ما كانت عنده إلا بمنزلة البعر، وهل للبعر قيمة؟ فكذلك الدراهم والدنانير ذر ذا وأثنِ على الكريم محمد واذكر فواضله على الأصحاب وإذا يقال من الجواد بماله قيل الجواد محمد بن شهاب أهل المدائن يعرفون مكانه وربيع ناديه على الأعراب فهذا الكرم يفعل ما يفعله في اجتذاب النفوس، والطلاب إذا رأوا الشيخ يكرمهم اقتدوا به فأكرموا، وكان شعبة -رحمه الله- يُسمى أبا الفقراء، وكان صبيان الحي ينادونه: بابا بابا، هكذا ورد في كتب العلماء في سيرة شعبة، من كثرة ما كان يعطيهم، وكان يقول: والله لولا الفقراء ما جلست إليكم، فإني أحدث ليعطوا، وقال: لولا حوائج ما حدثتكم، ويقصد بالحوائج حوائج لنسوة ضعاف، وكان إذا قام في مجلسه سائل توقف عن الحديث حتى يُعطى السائل، وجاء مرة سائل فجلس فجأةً، فارتاب شعبة، وقال: ما شأنه؟ كيف جلس فجأةً؟ فقيل: ضمن عبد الرحمن بن مهدي أن يعطيه درهماً، قال له: اجلس وعلي درهم؛ ليمضي الشيخ في حديثه، وكان كريماً سخي النفس، وكان إذا ركب مع قوم في زورق دفع إيجار الزورق عنهم جميعاً. وكان الخطيب البغدادي -رحمه الله- يتعاهد تلاميذه، يقول أحدهم وهو الخطيب التبريزي: دخلت دمشق، فكنت أقرأ على الخطيب بحلقته بالجامع كتب الأدب المسموعة له، وكنت أسكن منارة الجامع، فصعد إلي وقال: أحببت أن أزورك تصور الآن العالِم عندما يزور طالب العلم، كم تكون كبيرة وعظيمة في النفس! وهذا موقف تربوي عظيم، الأعلى يزور الأدنى، هذا الشيخ يزور تلميذه الساكن في منارة المسجد، أو قل الآن: في غرفة المؤذن أو غرفة الفراش، ربما يسكن فيها أحد هؤلاء قال: فتحدثنا ساعةً، ثم أخرج ورقة، وقال: الهدية مستحبة، اشتر بهذه أقلاماً، ونهض وذهب، ففتحتها فإذا خمسة دنانير مصرية، ثم إنه صعد مرةً أخرى ووضع نحواً من ذلك. أحد المشايخ في هذا الزمن من الأفاضل، فقد أحد الطلاب نعاله عند المسجد، فخرج الطالب فما وجد النعال بعد الدرس؛ فعرف الشيخ، فأصر عليه أن يأخذه معه بسيارته إلى السوق، ودخل مكان النعال واشترى له نعالاً، ودفع الشيخ القيمة، وأصر على أن يدفع القيمة هو، وأعاده إلى مكانه. أيها الإخوة: هذه المواقف وإن كانت قد تبدو بسيطة، لكن أثرها عظيم في النفوس، فإن التربية مواقف وتصرفات وكلمات ينفع الله بها وتستقر في النفوس.

مواقف تربوية في تعليم الأخلاق

مواقف تربوية في تعليم الأخلاق لقد كان لهم مواقف تربوية في تعليم الأخلاق، وحسن الخلق، قيل للحسن البصري: إن فلاناً اغتابك -الآن ما هو التصرف المتوقع- فبعث إليه طبقاً من الحلوى، وقال: بلغني أنك أهديت إلي حسناتك فكافأتك. هذا موقف مؤثر في النفس، وهل ترى مثل هذا سيغتاب الحسن مرةً أخرى؟! هذا طبق حلوى فيه موعظة، ليس فيه حلوى بل فيه موعظة. وفي تواضعهم -رحمهم الله- مواقف تربوية كيف يتعلم الطلاب التواضع عندما يرون الشيخ متواضعاً؟ سأل الدارقطني أحدُ تلاميذه، وقال: هل رأيت مثل نفسك؟ قال الدارقطني: قال الله تعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [النجم:32] فقال: هل تعرف أحداً أحفظ منك يا شيخ؟ قال: يقول الله تعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [النجم:32] وكذلك سئل ابن حجر رحمه الله: أنت أحفظ أم الذهبي؟ فسكت وما أجاب. والمواقف التي تُنقل عن العظماء والأجلاء، عندما يأتي أحدهم إلى الإمام أحمد -رحمه الله- ويتمسح به، فينتفض ويدفع الشخص ويزجره، ويقول: عمن أخذتم هذا؟! من أين أخذتم هذا؟! والذي يأتي ويقول له: ادع لي، يطلب الدعاء؛ فيزجره الإمام أحمد -رحمه الله- ويذهب، ويقول: مني لا يطلب الدعاء، أنا أدعو لك! فإذا خلا بنفسه دعا له، والذي يقول له: جزاك الله عن الإسلام خيراً، فيقول: بل الإسلام جزاه الله عني خيراً، ومن أنا؟! موقف تربوي عندما يكتب ابن تيمية -رحمه الله- لـ ابن القيم خطاباً، ويقلب ابن القيم الخطاب ويجد مكتوباً وراءه: أنا الفقير إلى رب البريات أنا المسيكين في مجموع حالاتي أنا الظلوم لنفسي وهي ظالمتي عندما يقرأ التلميذ كلام الشيخ في ذمه لنفسه، هذا هو الشيء الذي يُعلم التواضع، وليس أن يمدح بعض الناس، فكأنه يقول: زد قليلاً زد قليلاً.

الدفع بالتي هي أحسن

الدفع بالتي هي أحسن من الأخلاق التي نتعلمها من المواقف التربوية في الأخلاق: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34]. كان ابن جرير الطبري -رحمه الله- يجلس في حلقة داود الظاهري، وابن جرير -رحمه الله- رزق فقهاً وفطنةً، فلاحظ بعض الأشياء الغريبة في منهج داود، فكان يناقشه في هذه المسائل، حتى ضاق أحد أصحاب داود الظاهري فأفحش الكلام في الطبري، وكلمه كلاماً فظاً غليظاً، فلم يفعل الطبري شيئاً، قام من المجلس وبدأ في تصنيف كتاب في مناقشة مذهب داود الظاهري، وأخرج منه مائة ورقة، فلما مات داود قطع الطبري كتابه. فقام محمد بن داود للرد على أبي جعفر، وتعسف عليه، وصنف مؤلفاً فيه سب للطبري، إلى أن جمعتهم المصادفة في منزل، فلما عرف الطبري أن هذا الذي ألّف فيه كتاباً يذمه رحب به، وأخذ يثني عليه ويمدحه ويصفه بالصفات الكريمة، فماذا حصل؟ لما رجع محمد بن داود إلى منزله قطع الكتاب وأتلفه لحسن أخلاق ابن جرير -رحمه الله- امتص الموقف، وسجلت لـ ابن جرير ضمن حسناته، وهي مكتوبة في سيرة ابن جرير إلى الآن رحمه الله تعالى. وجاء ذات مرة رجل معتوه إلى ابن حجر -رحمه الله- وهو في إحدى الحِلق في أحد الدروس، وبدأ يسب الحافظ ابن حجر -رحمه الله- بالألفاظ القبيحة، فقال الإمام: نقوم إلى أن يفرغ أو يروح، ونهض، هذا هو كل الذي فعله ابن حجر، ما قال لطلابه: خذوه وارموه في الشارع، بل قال: نقف حتى ينتهي هذا السفيه، وقام ودخل إلى الغرفة ورد بابها يسيراً، فترك المعتوه المكان وانصرف، فظن ابن حجر أن المعتوه لن يعود، ففتح باب الغرفة ووقف فإذا بالمعتوه قد أقبل من باب آخر، وزاد على ما كان عليه، فقال ابن حجر لتلاميذه: ما بقي إلا الانصراف، وأغلق الباب ولم يمكن أحداً من التعرض له، وسمع أن الوالي قد أخذ هذا وحبسه فتوسط له وأطلقه. إن الموقف التربوي الذي حصل أهم من إكمال الدرس في نظره؛ لأن هذا الموقف لا يقل أهمية وفائدة عن إكمال الدرس. واجتاز ابن جحر -رحمه الله- يوماً في طائفة من جماعته بباب جامع الغمري، فبدت من شخصٍ يوصف بالجذب -إنه مجذوب- كلمات يقول لـ ابن حجر وهو ماش: عمائم كالأبراج، وأكمام كالأخراج، والعلم عند الله. فأراد بعض طلاب ابن حجر -رحمه الله- أن يعزروه، فامتنع وقال: دعوه، هذا مجذوب يترك له حاله. المسألة تحتاج إلى حلم وامتصاص المواقف، وكثير من المواقف التي فيها مثل هذه الأشياء تحتاج إلى حلم.

ربط النصوص بالواقع

ربط النصوص بالواقع من المواقف التي نتعلمها من أهل العلم: ربط النصوص بالواقع؛ فإنه يثمر موقعاً عظيماً في النفس، كان الحسن إذا حدث بحديث الجذع وحنين الجذع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، حتى نزل النبي صلى الله عليه وسلم وضمه إليه حتى سكن الجذع، يقول الحسن بعد هذا: يا عباد الله! الخشبة تحن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شوقاً إليه، فأنتم أحق أن تشتاقوا إلى لقائه. إنه الربط بين الموعظة وبين الناس الحاضرين، بين الحديث والكلام الذي يقال، بين الواقع وبين الناس، الربط هو الذي يجعل المسألة مؤثرة. قال رجل قبل موت الحسن لـ ابن سيرين -وابن سيرين كان معروفاً بتأويل الرؤى-: رأيت كأن طائراً أخذ أحسن حصاةٍ في المسجد فقال: إن صدقت رؤياك مات الحسن. فلم يكن إلا قليلاً حتى مات الحسن رحمه الله، فإن أحسن حصاة في المسجد الحسن رحمه الله تعالى. ومن الربط بين النصوص والواقع: حادثة وقعت للإمام شيخ الإسلام أبي عثمان الصابوني -كما وصفه الذهبي في السير، وهو من أئمة أهل السنة، ألف عقيدة مهمة وعظيمة في بيان عقيدة أهل السنة، كان أبو عثمان الصابوني يعظ في المجلس، فدُفع إليه كتاب ورد من بخارى مشتملٌ على ذكر وباء عظيم بها، ليدعو لهم، ووصف في الكتاب أن رجلاً أعطى خبازاً درهماً، فكان يزن والصانع يخبز والمشتري واقف، فمات ثلاثتهم في ساعة من شدة الوباء، فلما قرأ الكتاب هاله ذلك قرأ الشيخ على الطلاب في الدرس الرسالة الواردة من بخارى بهذا الداء العظيم، فاستقرأ من أحد الطلاب قوله تعالى: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ} [النحل:45] الآيات، ونظائرها من الآيات التي فيها ابتلاء الله وإنزال العقوبة، وبالغ بالتخويف والتحذير، وأثر ذلك فيه وتغير، وغلبه وجع البطن، وأنُزل من المنبر من الوجع، فحمل إلى بيته أسبوعاً كاملاً من الألم، فأوصى وودع أولاده ومات رحمه الله تعالى. كم يا ترى سيتأثر الطلاب والناس من هذا الموقف؟ وعندما ربط لهم الشيخ بين الداء الذي صار وبين الواقع، وأدخل آيات في الموضوع، واستقاها من القارئ هذه مواقف تربوية تزيد الإيمان ولا شك.

عفة العلماء وأثرها في التربية

عفة العلماء وأثرها في التربية ومما نتعلمه -أيها الإخوة- من سير علمائنا في مواقفهم العظيمة في الأخلاق: العفة والتعفف عما في أيدي الناس. يقول عمر النسوي: كنت في جامع صور عند الخطيب البغدادي رحمه الله، فدخل عليه بعض العلوية وفي كمه دنانير، وقال للخطيب: فلان -وذكر بعض المحتشمين من أهل صور - يسلم عليك ويقول: هذا تصرفه في بعض مهماتك -أعطاه مالاً- فقال الخطيب: لا حاجة لي فيه، وقطب وجهه، فقال العلوي: فتصرفه إلى بعض أصحابك، قال: قل له يصرفه إلى من يريد. فقال العلوي: كأنك تستقله، ونفض كمه على سجادة الخطيب وطرح الدنانير عليها، وقال: هذه ثلاثمائة دينار! فقام الخطيب محمر الوجه! وأخذ السجادة ونفض الدنانير على الأرض وخرج من المسجد. قال الفضل بن أبي ليلى: ما أنسى عز خروج الخطيب وذل ذلك العلوي وهو قاعد على الأرض يلتقط الدنانير من شقق الحصر ويجمعها التعفف عما في أيدي الناس يؤدي إلى العزة، إنه موقف عظيم، وفيه تربية على التعفف والعزة. وفي هذه المناسبة قصة المحاميد الأربعة المشهورة، لما جمعت الرحلة بين محمد بن جرير الطبري، ومحمد بن نصر المروزي، ومحمد بن هارون الروياني ومحمد بن إسحاق بن خزيمة بـ مصر، والمحدثون وعلماء الحديث فيها، فأرملوا وافتقروا ولم يبق عندهم ما يقوتهم، وأضر بهم الجوع، فاجتمعوا ليلةً في منزل كانوا يأوون إليه، فاتفق رأيهم على أن يستهموا ويضربوا القرعة، فمن خرجت عليه القرعة سأل لأصحابه الطعام، فخرجت القرعة على محمد بن إسحاق بن خزيمة، فقال لأصحابه: أمهلوني حتى أتوضأ وأصلي صلاة الاستخارة، فاندفع في الصلاة، ماذا قال ابن خزيمة في صلاته؟ الله أعلم، كيف رغب إلى الله؟ الله أعلم، كيف لجوؤه إلى ربه؟ ربه يعلم، فإذا هم بالشموع وغلام من قبل والي مصر يدق الباب، ففتحوا الباب، فنزل عن دابته، فقال: أيكم محمد بن نصر؟ فقيل: هو هذا، فأخرج صرةً فيها خمسون ديناراً فدفعها إليه، ثم قال: أيكم محمد بن جرير؟ فقالوا هو ذا، فأخرج صرةً فيها خمسون ديناراً فدفعها إليه، ثم قال: أيكم محمد بن هارون؟ فقالوا: هو ذا فأخرج صرةً فيها خمسون ديناراً فدفعها إليه، ثم قال: أيكم محمد بن إسحاق بن خزيمة؟ فقالوا: هو ذا يصلي -في الصلاة- فلما فرغ دفع إليه الصرةً وفيها خمسون ديناراً، ثم قال: إن الأمير كان قائلاًَ بالأمس -أي: نائماً في الظهيرة- فرأى في المنام خيالاً يقول: إن المحامد -المحمدون هؤلاء الأربعة- طووا كشحهم جياعاً وهم عندك، فسأل: من هم المحمدون؟ من هم رفقاء محمدون؟ قالوا: هم الأربعة، فأرسل إليكم، وأقسم عليكم إذا نفذت أن تبعثوا إليه يمدكم بغيرها. إن العفة عما في أيدي الخلق جلب لهم الرزق من الله عز وجل، برؤيا أراها الله ذلك الرجل؛ فحركته لتفقد حالهم.

مواقف تربوية مع آداب العلماء

مواقف تربوية مع آداب العلماء بالإضافة إلى الأخلاق: الآداب العظيمة التي نتعلمها، وسير العلماء الصالحين -أيها الإخوة- هذه عبر وفوائد مليئة بالمواقف التربوية، فهذا شيخ عظيم من المحدثين، جالس في الحلقة في الدرس وكانت أمه كبيرة في السن، والدرس في بيته، فتقول له: يا فلان، قم ألقِ الشعير للدجاج. الآن هذا صاحب الفضيلة العلامة الحافظ الشيخ في المجلس يدرس الطلاب، وأمه كبيرة في السن قد لا ترعى كثيراً من الانتباه لمثل ذلك، وعندها دجاج، ويحتاج إلى شعير، فقالت: يا فلان، قم ألقِ الشعير للدجاج، فترك الدرس وقام يلقي الشعير للدجاج ويرجع، براً بأمه، ولم يقل لها: عيب! الناس أمامنا، وسأفعل بعد الدرس، هذا الكلام الذي قد يقوله أي أحد، ولكن يقطع الدرس ويذهب. وبعضهم ربما يصبر على أمر من هذا، قد يُبتلى بوالد فيه شيء في عقله، مثل واحد من كبار المحدثين كان له والد يجلس في المجلس في وسط الناس، فيرى الناس مجتمعين على ولده فينبسط ويقول: إن هذا خرج من هذا، ويشير إلى عورته؛ متباهياً بولده، وهذا من خفة عقله، فيصبر عليه براً به، وما نهره وما طرده وما قال: هذا يمنع عن المجلس، والناس يقدرون له، ويقدرون للعالِم موقفه براً بأبيه! ومما علمونا آداب الطعام، كيف كانوا يأكلون؟ من آداب الطبري في الأكل: أنه كان إذا تناول اللقمة سمى ووضع يده اليسرى على لحيته، وكان له لحية كثة، فيضع يده اليسرى على لحيته ليوقيها من الدسم، فإذا حصلت اللقمة في فيه أزال يده، ويتناول الطعام لقمةً لقمةًً من جانبٍ واحدٍ من القصعة. يقول محمد بن إدريس الجمال: حضرنا يوماً مع أبي جعفر الطبري وليمة، فجلست معه على مائدة، فكان أجمل الجماعة أكلاً، وأظرفهم عِشرةً، وكان الطبري إذا جلس لا يكاد يُسمع منه تنخم ولا تبصق - ليس مثل بعض الناس، يخرج البلغم من آخر شيء ومن أول شيء، وبأعلى صوت، والجشاء حدث ولا حرج- وإذا أراد أن يمسح ريقه أخذ ذؤابة منديله ومسح جانبي فمه هكذا بغاية الأدب في أكلهم، وما يخرج منهم شيء من الأصوات أو اللعاب، وهذا فيه غاية الأدب. هل سمعتم رفسة تربوية؟! قال أحمد بن منصور الرمادي: خرجت مع أحمد بن حنبل ويحيى بن معين خادماً لهما؛ فلما عدنا إلى الكوفة، قال يحيى بن معين لـ أحمد بن حنبل: أريد أن أختبر أبا نعيم. فقال له أحمد بن حنبل: لا تفعل الرجل ثقة، فقال يحيى بن معين: لابد لي، فأخذ ورقةً فكتب فيها ثلاثين حديثاً من حديث أبي نعيم، وجعل على رأس عشرة أحاديث حديثاً ليس من حديثه، ثم جاءوا إلى أبي نعيم، فدق عليه الباب، فجلس على دكان طينٍ مرتفع -حذاء بابه- وأخذ أحمد بن حنبل فأجلسه عن يمينه، وأخذ يحيى بن معين فأجلسه عن يساره، ثم جلست أسفل الدكان، فأخرج يحيى بن معين الطبق فقرأ عليه عشرةَ أحاديث وأبو نعيم ساكت، ثم قرأ الحادي عشر، فقال له أبو نعيم: ليس من حديثي فاضرب عليه، ثم قرأ العشر الثاني وأبو نعيم ساكت، فقرأ الحديث على رأسها الزائد، فقال أبو نعيم: ليس من حديثي فاضرب عليه، ثم قرأ العشر الثالث وقرأ الحديث الثالث على رأسها، فتغير أبو نعيم -عرف أن المسألة امتحان- وانقلبت عيناه، ثم أقبل على يحيى بن معين فقال: أما هذا -وذراع أحمد بن حنبل في يده- فأورع من أن يعمل مثل هذا، وأما هذا -يريدني- فأقل من أن يفعل مثل هذا، ولكن هذا من فعلك يا فاعل! ثم أخرج رجله فرفس يحيى بن معين، فرمى به من الدكان وقام فدخل داره، فقال أحمد لـ يحيى: ألم أمنعك من الرجل! وأقل لك: إنه ثبت؟! قال: والله إن رفسته أحب إلي من سفري. وماذا نقول -أيها الإخوة! - في قصص علمائنا ومواقفهم، ولقد لفت نظري مرةً خبر في سير أعلام النبلاء، فقلت: سبحان الله! هؤلاء العلماء من قديم يؤخذ منهم المواقف، ليس فقط منهم، بل من بعض العامة نأخذ مواقف، بل من بعض اللصوص، وهذا خبر طريف نختم به المجلس: يقول أحمد بن المعذل: كنت عند ابن الماجشون، فجاءه بعض جلسائه، فقال: يا أبا مروان أعجوبة! خرجت إلى حائطي بالغابة، -بستان- فعرض لي رجل -قاطع طريق في مكان مهجور- فقال: اخلع ثيابك، فقلت: لم؟ قال: لأني أخوك وأنا عريان، قلت: فالمواساة -نقسمها بيني وبينك- قال: لقد لبستها برهةً -بقي دوري أنا- قال: فتعريني: قال: قد روينا عن مالك أنه قال: لا بأس أن يغتسل الرجل عرياناً. قلت: ترى عورتي! قال: لو كان أحد يلقاك هنا ما تعرضت لك -لو أعرف أن هنا أناساً سيكونون في هذا المكان لما خرجت عليك في هذا المكان أصلاً- قلت: دعني أدخل حائطي وأبعث بها إليك. قال: كلا! أردت أن توجه عبيدك فأمسك. قلت: أحلف لك. قال: لا تلزم يمينك للص، فحلفت له بها طيبةً بها نفسي، فأطرق يفكر، ثم قال: تصفحت أمر اللصوص من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى وقتنا فلم أرَ لصاً أخذ بنسيئة -بالآجل لابد أن يكون نقداً- فأكره أن أبتدع، فخلعت له ثيابي. أيها الإخوة: نحن بحاجة وبخاصة في هذا الزمان الذي قل فيه العلم وقلَّت فيه التربية، وقد يوجد عند بعض الناس علم ولا يوجد تربية نحتاج حاجة ماسة للتربية، ونحتاج للمربين، والمربون الذين يحسنون التربية قلة، ولكن الذكي صاحب البصيرة لن يعدم أن يجد ولو من الأموات من يستفيد من سيرتهم ويتربى عليها. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا جميعاً من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يجعلنا من الربانيين الذين يعلمون الناس، ونسأله سبحانه وتعالى أن يرزقنا العلم النافع وحُسن الخلق وحُسن الأدب، والإخلاص في القول والعمل، إنه سميع مجيب قريب.

الأسئلة

الأسئلة

العلماء المعاصرون وبعض مواقفهم في التربية

العلماء المعاصرون وبعض مواقفهم في التربية Q إن التعرض حصل للعلماء الماضين، ولم يحصل شيء للعلماء المعاصرين، فهل من شيء حول هذا الموضوع؟ A سير العلماء في الغالب تكتب بعد وفاتهم، وأحياناً يُضيع العالِم طلابه، فلا يكتبون سيرته، ومن جهة أخرى في هذا الزمان العلماء قلة. وثانياً: لا يوجد حرصٌ شديد على كتابة سيرهم، وجمع أخبارهم، ولذلك لا ترى كثيراً من الأخبار، ولكن الذي يتقصى ويستمع ويحرص أن يسمع من طلاب الشيخ ومعاصريه، ستجتمع عنده أخبار الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله المفتي السابق كانت له ثلاثة مجالس، يدرس ثلاثة مستويات، للمتقدمين درس، وللمتوسطين درس، وللمبتدئين درس، ولو لاحظ أن أحد المبتدئين جاء إلى درس المتقدمين يطرده وينهره، ليس هذا مكانك، وليس من هنا تبتدئ، وهذا يورث العجب. وكان -أيضاً- من الذين يزعِون بالقوة، خصوصاً أن السفاهة موجودة في كثير من الناس، فكان يستعمل الشدة في دين الله مع من يستحق الشدة، وفتاواه رحمه الله فيها أشياء من هذا، وقد حصل مرةً أن بعض أهل الحسبة صادروا من شخص كتاب تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان، وفي هذا الكتاب تعرض لأئمة الدعوة، وسب لأئمة الدعوة، فالرجل هذا من عِوجه أرسل للشيخ يقول: أرجعوا لي الكتاب الذي صادرتموه أو عوضوني، وكان أخذ منه عدة نسخ، فقال الشيخ: أما نسخ الكتاب فقد جرى منا إحراقها، لما تشتمل عليه من الكذب والافتراء والبهتان بشأن أئمة الدعوة وتلاميذ إمام الدعوة رحمه الله تعالى وأحفاده وما فيها من الضلال، أما تعويضك عن قيمته فيكفيك أنك سلمت من العقوبة، هذا هو التعويض، ولولا أننا علمنا أن الذي دخلت معه غيرك لما تركناك هذا في فتاويه. كذلك الشيخ عبد الرزاق عفيفي رحمة الله عليه، من المشايخ والعلماء الموحدين -نحسبهم والله حسيبهم- كان قد ترك بلده في ما يظن أنه هجرة، وجاء إلى بلد التوحيد، ولما توفي الشيخ محمد حامد الفقي رئيس جمعية أنصار السنة المحمدية؛ أرسلوا إليه يطلبونه لكي يترأس الجمعية، فذهب وألقى عندهم درساً ومحاضرة ورجع، ولم يمكث عندهم؛ لأن نيته في نفسه كانت الهجرة، هكذا كانت في ذلك الزمان. ولذلك لم يشأ أن يضيع نيته، أو أن يخالف القصد الذي قصده، والذين كان يدرسهم في معهد القضاء يشهدون له بحسن تدريسه وتفصيله، وكان يأتي قبل الطلاب وينصرف بعدهم، وكذلك في الإفتاء يأتي أول الموظفين في دار الإفتاء ويخرج آخر الناس، وكانت طريقته في تقسيم الدرس وتسهيل المعلومات أمراً عجيباً يشهد له به تلاميذه، ويقولون: ما رأينا في التدريس مثله، وكذلك كان فيه من الرزانة وسعة الاطلاع وبُعد النظر ما تشهد به الفتاوى التي أصدرها مع سماحة المفتي محمد بن إبراهيم رحمه الله، وسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز نفع الله به، فقد لازمه منذ عام (1370) للهجرة، جاء إليه في ذي الحجة في الخَرْج، فرافق الشيخ أربعاً وأربعين سنة وأشهر، وفي الإفتاء رافق الشيخ عبد العزيز تسع عشر سنة في لجنة الفتوى، ولذلك الذي يتأسف على العالِم حقيقةً هم العلماء الذين كانوا معه وعرفوه، ولم يُعرف عنه ركضٌ وراء الدنيا، وكان يصون العلم ولم يتبذل. والشيخ حمود بن عبد الله التويجري رحمه الله من علماء هذا البلد، كان علامةً لم يعرف قيمته كثير من الناس، وكان يأمر أقرانه بالصلاة وهم يلعبون وعمره عشر سنوات أو أحد عشر سنة، كان يخرج بالعصا للصبيان وهم يلعبون وهو في مثل سنهم، يخرج إليهم بالعصا إلى الصلاة، ونحن الكبار نمر بجانب الصغار ولا نقول لهم كلمة، وكتب بيده ثلاثة مصاحف، ومن جميل خطه أن الناظر فيها يظنها مطبوعة، وكان يعمل بين رمضان والحج يكسب قوت سنته ليتفرغ في بقية السنة لطلب العلم، هو موسم واحد يعمل فيه، يشتري فيه شاحنة ويبيع ما فيها وهذه نفقة السنة، وقد تولى القضاء رحمه الله تعالى، وحصل له موقف أن اتهمه سبعة أشخاص بالغش وعدم الأمانة في القضاء، فلما صارت هذه الحادثة تأثر الشيخ ورفض الاستمرار في منصبه، وأغلق باب المحكمة، وأُلح عليه في العودة إلى القضاء فلم يفعل رحمه الله تعالى، ومات هؤلاء السبعة وبقي واحد منهم جاءه يستسمح منه، ويقول: سامحني على ذلك الموقف، فلعل الشيخ أراد موعظته، فقال: بيني وبينك رب العالمين، فشل الرجل وبقي مشلولاً على كرسي إلى أن مات، وكان رحمه الله يأخذ محبرته من رماد الحطب، يجعل معها خلطة ليكتب بها، وكان في الحرم يطوف بالبيت سبعة أشواط وراء سبعة أشواط، وهكذا، ويصلي ركعتين بعد كل سبعة، لقد كان عابداً من العُباد رحمه الله تعالى. والشيخ عبد العزيز بن باز -حفظه الله ونفع به- كم أخذ الناس من علمه! وكم نهلوا منه! حضرت معه في مجلس له موقفاً تربوياً، جاء رجل لعله جاء من بلد فيها اضطهاد للمسلمين، فقال: أنا مسكين ومحتاج وعندي أولاد أخي أيتام أريد مساعدة أريد حاجة، فيقول الشيخ: هات من يعرفك، فقال: أنا طالب علم، وأعطوني يا شيخ، فقال الشيخ: تقول: إنك طالب علم طالب العلم يعرف أن المدعي لابد أن يأتي ببينة، هات اثنين يشهدون لك. فقال: يا شيخ، أنا مضطهد، وقد عُذبت، وضُربت، وسُجنت وفقال الشيخ: احمد الله، لقد ابتلي من هو أفضل منك بأكثر من هذا فصبر، تريد أن تقول بأنك عُذبت كي تأخذ مالاً! فسكت، ومع ذلك ما أظن أنه انصرف إلا وقد أمر له الشيخ بشيء في النهاية. والشيخ محمد ناصر الدين الألباني محدث هذا العصر، الذي وقف على سلم المكتبة الظاهرية الساعات الطويلة، والله أعلم بحال قدميه، لكي يقلب المخطوطات، ويقلب الكتب، ويستخرج الأشياء، وربما بحث عن الورقة الضائعة فترة طويلة من الزمن، واستفاد في البحث عن هذه الورقة فوائد عديدة جداً حضرت له مجلساً فأراد أن يبصق -أخرج منديلاً فأراد أن يبصق- فسألني، فقال: أين القبلة؟ لأنه يعتمد حديث النهي عن البصاق جهة القبلة، وأنها خطيئة ولو في خارج الصلاة، ولذلك يتحرز ويتوقى منه، وهو الآن في وضع صحي حرج للغاية، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يشفيه ويعافيه وسائر مرضى المسلمين. أيها الإخوة: إن العلماء -والحمد لله- يُوجد منهم بقية، لكن أين المستفيد من سيرهم؟! أين الذاهبون إليهم؟! أين الجالسون عندهم؟! أين الآخذون منهم؟! أين السائلون عن سيرتهم؟! أين المتخلقون بأخلاقهم وآدابهم؟! نسأل الله تعالى أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً، وأن يجعل تفرقنا بعده تفرقاً معصوماً، وألا يجعل فينا ولا معنا شقياً ولا محروماً، وصلى الله على نبينا محمد.

حديث الرؤية والصراط

حديث الرؤية والصراط إن حديث الرؤية والصراط من الأحاديث العظيمة التي ترقق القلوب فقد جاء فيه ذكر رؤية الله تعالى يوم القيامة وفي الجنة، وجاء فيه ذكر الصراط وصفته، والمرور عليه، وكذلك اتباع كلٍّ لما كان يعبده في الدنيا هذا ما تحدث عنه الشيخ حفظه الله.

مسائل في حديث الرؤية والصراط

مسائل في حديث الرؤية والصراط الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الحمد لله الذي بلغنا هذا الشهر الكريم، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا فيه من عباده الأخيار، وأن يعيننا فيه على ذكره وشكره وحسن عبادته، ونسأله أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه سميع قريب مجيب. أيها الإخوة: في هذا الشهر الكريم فرصة عظيمة لمن قسا قلبه أن يرق، ولمن أعرض عن ربه أن يعود، ولمن أذنب أن يتوب، ولا شك أن مرققات القلوب من أعظم ما يتعبد به المسلم ربه في التعرض له؛ فإن الله تعالى لا ينجي يوم القيامة إلا من أتى بقلب سليم؛ سليم من الشبهة، وسليم من الشهوة، ولعلنا -إن شاء الله- في هذه الليالي الفاضلة نتعرض لأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم نرقق بها قلوبنا، وننظفها مما علق بها من أوساخ الدنيا. في هذه السلسلة من الأحاديث -أحاديث الرقائق- التي نستهلها بهذا الحديث العظيم الجليل الذي رواه الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه عن أبي هريرة قال: (قال أناس: يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال: هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا يا رسول الله! قال: هل تضارون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟ قالوا: لا يا رسول الله! قال: فإنكم ترونه يوم القيامة كذلك؛ يجمع الله الناس فيقول: من كان يعبد شيئاً فليتبعه، فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها إلى أن قال: فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا، فيتبعونه، ويضرب جسر جهنم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأكون أول من يجيز، ودعاء الرسل يومئذ: اللهم سلم سلم، وبه كلاليب مثل شوك السعدان، أما رأيتم شوك السعدان؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: فإنها مثل شوك السعدان، غير أنه لا يعلم قدر عظمها إلا الله، فتخطف الناس لأعمالهم، فمنهم الموبق بعمله، ومنهم المخردل ثم ينجو، حتى إذا فرغ الله من القضاء بين عباده وأراد أن يخرج من النار من أراد -أن يخرج ممن كان يشهد أن لا إله إلا الله- أمر الملائكة أن يخرجوهم فيعرفونهم بعلامة آثار السجود، وحرم على النار أن تأكل من ابن آدم أثر السجود، فيخرجونهم قد امتحشوا، فيصب عليهم ماء يقال له: ماء الحياة، فينبتون نبات الحبة في حميل السيل) الحديث. وهذا الحديث العظيم الذي رواه البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه في مواضع، منها في باب قول الله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} [الإسراء:71]، عن الزهري في قوله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} [الإسراء:71].

رؤية الله متعذرة في الدنيا

رؤية الله متعذرة في الدنيا قوله: (قال أناس: يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟) الصحابة يسألون النبي صلى الله عليه وسلم: هل نرى ربنا يوم القيامة؟ إذاً: الصحابة يعرفون أن الله لا يرى في الدنيا، فسؤالهم الآن: هل نرى ربنا يوم القيامة؟ إذاً: لا يرى الله تعالى في الدنيا، لم ير الله أحدٌ من العباد في الدنيا، وحتى النبي صلى الله عليه وسلم لم يره بعيني رأسه، ولكن رؤيته يوم القيامة مؤكدة وثابتة، وهي من عقيدة أهل السنة والجماعة، ويدل على أن الله لا يرى في الدنيا حديث الإمام مسلم رحمه الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا) ولذلك من ادعى ممن يسمون أنفسهم بالأولياء أو الأقطاب والأوتاد أنه يرى الله في الدنيا فهو كاذب؛ فإن الله عز وجل لا يُرى في الدنيا، وإنما يُرى سبحانه وتعالى يوم القيامة، وهذا الحديث ذكر فيه الحساب، فقال: (لتتبع كل أمة ما كانت تعبد).

رؤية الله تعالى يوم القيامة

رؤية الله تعالى يوم القيامة إن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن الله يرى في أرض المحشر، يوم يحشر الله الأولين والآخرين، ولما سأل الصحابة النبي عليه الصلاة والسلام عن رؤية ربهم؛ ضرب لهم مثلاً ليقرب لهم الأمر، فنظر إلى القمر ليلة البدر، وهو عليه الصلاة والسلام أجود الناس في التعليم، ويستعمل أحسن الأساليب في التعليم، فنظر إلى القمر ليلة البدر وقال: (إنكم ستعرضون على ربكم فترونه كما ترون هذا القمر) سألهم: هل تضارون؟ هل تنازعون؟ هل تضايقون في رؤية هذا القمر الذي في السماء؟ لا تضايقون ولا تزاحمون، وفي رواية: لا تضامون، فلا يحجب بعضكم بعضاً عن الرؤية فيحصل له ضرر، فإذاً: لن تكون هناك مضارة بازدحام، ولن يحجب العباد بعضهم بعضاً عن رؤية الله تعالى، ولن يظلم أحد في رؤيته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم عن رؤيته عز وجل: ترونه كذلك كما لا تضارون الشمس في رؤية، وخص الشمس والقمر لأنهما الكوكبان المنيران في السماء في وقت ليس فيه سحاب، كيف تكون الشمس؟ وكيف يكون القمر في هذا النور وفي هذا الضياء وفي هذا الجمال والكمال؟ ولكن الله عز وجل جميل، أجمل من أي شيء من المخلوقات؛ جماله سبحانه وتعالى صفة له تليق بجلاله وعظمته، الله جميل إذا نظر إليه أهل الجنة نسوا كل النعيم الذي هم فيه، ولذلك لذة النظر إلى وجهه لا تعادلها لذة، ولذة النظر إلى وجهه الجميل الجليل لا تدانيها لذة، ولا تقارنها لذة، فهي تنِسي كل لذة، فما أعطوا نعيماً أحب إليهم من النظر إلى وجهه. سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن رؤية الشمس وعن رؤية القمر، والقمر الذي يرى في الليلة الصافية ولا يؤذى أحد في رؤيته، استدل به الخليل على الوحدانية، واستدل به الحبيب على إثبات الرؤية؛ فإن إبراهيم الخليل قال لقومه لما نظر إلى القمر ورآه بازغاً، قال لهم محاجاً لهم: {قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنْ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} [الأنعام:77] فأراد إبراهيم أن يستدرجهم وأن يماشي عقولهم ويقول: أنتم تعبدون الكواكب، وهذا القمر قد أفل، فكيف يكون الإله حاضراً ثم يغيب آفلاً؟ لا يمكن أن يكون! فاستدل الخليل بالقمر، واستعمله في الوحدانية، والنبي عليه الصلاة والسلام استعمله في إثبات الرؤية حساً ويقيناً، بخلاف ما يقوله بعض أهل البدعة الذين ينكرون رؤية الله عز وجل، ولذلك يقال لهم: ما دمتم أنتم تقولون بعدم رؤيته، فلعلكم تحرمون رؤيته، إذا كنتم تنفون رؤية الله فربما تحرمون من رؤيته بسبب بدعتكم هذه، وهذا المذهب الذي ذهب إليه المعتزلة وغيرهم من الخوارج والأباضية في مسألة رؤية الله عز وجل، وقد أثبته الله سبحانه وتعالى بقوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23] فهي من النظر لوجه الله فيها نضرة ونعيم. وكذلك فإن الله سبحانه وتعالى قد أخبر أن المؤمنين {عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} [المطففين:23] إلى وجه الله {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيم} [المطففين:24] وأما الكفار فإنهم سيرونه -أولاً- ثم يحجبون عنه ليزدادوا حسرة وألماً، قال تعالى: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] فيتوارى الله عنهم؛ فيكون ذلك من عذابهم.

حشر الناس في صعيد واحد

حشر الناس في صعيد واحد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث: (يجمع الله الناس -وفي رواية: يحشر- في صعيد واحد، فيسمعهم الداعي وينفذهم البصر) والصعيد هي الأرض المستوية الواسعة، ومعنى ينفذهم البصر: يخترقهم حتى يجوزهم؛ يخترق العباد حتى يجوزهم، فهؤلاء العباد سيجمعون يوم القيامة جميعاً، إنساً وجناً، ذكوراً وإناثاً كباراً وصغاراً، مؤمنين وكفاراً سيجمعون يوم القيامة في صعيد واحد ليس فيهم علم لأحد، ولا فيهم مرتفع ولا منخفض، وليس فيه مكان يتوارى خلفه أحد، ينفذهم بصر الرحمن، ويسمعهم صوته سبحانه، ويناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب، يخترقهم البصر حتى ينفذ من خلالهم {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاع} [القمر:6] يحشرون، فيطلع عليهم رب العالمين، فإذا حشر الناس قاموا شاخصة أبصارهم إلى السماء، والشمس على رءوسهم في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، وقد جاء في الحديث الحسن الذي رواه الإمام أحمد رحمه الله: (أنه يخفف الوقوف عن المؤمنين حتى يكون كصلاة مكتوبة أو كما بين صلاة الظهر والعصر) كما جاء في حديث آخر، وهذا لأهل الإيمان، أما أهل الفسق والفجور وأهل الكفر والضلال والبدع؛ فشأنهم شأن آخر.

اتباع الناس لمعبوداتهم

اتباع الناس لمعبوداتهم قال صلى الله عليه وسلم في الحديث: (فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ومن كان يعبد القمر القمر) الذي كان يعبد القمر يتبع القمر، والذي كان يعبد الشمس يتبع الشمس؛ هؤلاء عباد الكواكب يتبعون معبوداتهم إلى النار جاء في حديث ابن مسعود: (ثم ينادي منادٍ من السماء: أيها الناس! أليس عدل من ربكم الذي خلقكم وصوركم ورزقكم ثم توليتم غيره أن يولي كل عبد منكم ما كان تولاه؟ فيقولون: بلى! ثم يقول: لتنطلق كل أمة لمن كانت تعبد) وفي رواية: (ألا ليتبع كل إنسان ما كان يعبد) وجاء في الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (فيلقى العبد -الله عز وجل يلقى العبد يوم القيامة- فيقول: ألم أكرمك وأزوجك وأسخر لك؟ فيقول: بلى! فيقول الله عز وجل: أظننت أنك ملاقيَّ؟ فيقول: لا. فيقول: إني أنساك كما نسيتني، ويلقى الثالث فيقول: آمنت بك وبكتابك وبرسولك وصليت وصمت، فيقول: ألا نبعث عليك شاهداً؟ فيختم على فيه وتنطق جوارحه) من هذا من الأصناف؟ هذا هو المنافق: (وذلك المنافق، ثم يناي منادٍ: ألا لتتبع كل أمة ما كانت تعبد، ومن كان يعبد الطواغيت يتبع الطواغيت). والطاغوت: هو كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع. إذاًَ: الطاغوت قد يكون جماداً وقد يكون إنساناً، كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع يكون طاغوتاً إذا كان راضياً، إذا كان ممن يعقل ورضي، يدخل في الطواغيت معبود أو متبوع تصرف له عبادة، أو يتبع على ضلالة في تحليل حرام أو تحريم حلال، فكل ما عبد من دون الله وهو راض فهو طاغوت، ولا يصح أبداً أن نقصر العبادة على السجود؛ فنقول: العبادة هي السجود لصنم أو شخص أو ما شابه ذلك، بل إن العبادة -أيها الإخوة- مفهومها واسع، ولذلك كل من أطاع شخصاً في تحليل حرام أو تحريم حلال فقد عبده. كذلك فسر النبي صلى الله عليه وسلم الآية لـ عدي بن حاتم وقال: (فتلك عبادتكم إياهم) هؤلاء الذين اتبعوه في تحريم الحلال وتحليل الحرام، هؤلاء الذين اتبعوه في الحكم بغير ما أنزل الله، هؤلاء الطواغيت كل من اتبعهم فهو معهم في نار جهنم وسيحشر معهم، ولذلك كما قال في الحديث: (فيذهب أصحاب الصليب مع صليبهم، وأصحاب الأوثان مع أوثانهم، وأصحاب كل آلهة مع آلهتهم) والحديث الذي معنا قال فيه: (ومن كان يعبد الطواغيت يتبعهم) فهذا فيه إشارة إلى مبدأ المعاملة بالمثل؛ كما اتبعه في الدنيا يتبعه في الآخرة. وما حال من عبد من دون الله وهو غير راضٍ كالملائكة وعيسى عليه السلام؟ فقد عبد بعض الناس الملائكة، كما عبدت النصارى عيسى، هؤلاء لا يكونون معهم في النار؛ لأنهم لم يرضوا بهذه العبادة، وجاء في رواية: (فيتمثل لصاحب الصليب صليبه ولصاحب التصاوير تصاويره) هذه الأصنام والأوثان المعبودة، وهذا التمثيل لكي يزدادوا عذاباً، عندما يرى الشخص أن الشيء الذي كان يقدسه في الدنيا ويوقره ويعبده ويبذل له كل شيء، قد صار معه من حطب جهنم، هذا تذكير وتحزين وتعذيب وخذلان؛ لأنه هو ومن عبده في النار.

بقاء الموحدين من هذه الأمة ومن غيرها

بقاء الموحدين من هذه الأمة ومن غيرها قال عليه الصلاة والسلام: (وتبقى هذه الأمة) يحتمل أن يكون المراد بها أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يراد ما هو أعم من ذلك؛ فيدخل فيهم من كان من بقية الأمم ممن كان في الدنيا -ولو ظاهراً- يعبد الله، فبعدما ذهب أهل المعبودات مع معبودات إلى النار يبقى من كان يعبد الله ولو ظاهراً؛ يبقون ليأتيهم الله عز وجل فيقودهم إلى الصراط (تبقى هذه الأمة فيها منافقوها) وفي رواية: (حتى يبقى من كان يعبد الله من بر وفاجر) فلو كان هناك رجل موحد لكنه فاجر فاسق زاني شارب خمر سارق مرتشي، هؤلاء ما حالهم؟ قال: (حتى يبقى من كان يعبد الله من بر وفاجر. وفي رواية: وغبرات أهل الكتاب) الغبرات: جمع غابر، والمقصود بهم من كان يوحد الله من أهل الكتاب؛ لأن أهل الكتاب فيهم الموحد وفيهم المشرك، فيهم الموحد مثل ورقة بن نوفل رضي الله عنه، وغيره في بقايا أهل الكتاب، وفيهم المشرك. يبقى في النهاية الموحدون من المسلمين والموحدون من أهل الكتاب، ويبقى الفجرة الموحدون أيضاً ويبقى المنافقون، فما هو شأن المنافقين؟ لما كانوا يتسترون للمؤمنين في الدنيا بقوا معهم، والذي يحصل أنهم يتميزون في ذلك المقام، ظن المنافقون أن تسترهم بالمؤمنين ينفعهم في الآخرة، كما كان ينفعهم في الدنيا، فيحشرون معهم، كما كانوا يظهرون الإسلام يحشرون مع أهل الإسلام، لكن سيحدث تمييز عندما يأتي الله تعالى في صورته الحقيقية، فيطلع عليهم رب العالمين، والمؤمنون يعرفونه بصفاته مع أنهم لم يروه من قبل في الدنيا، لكن إذا جاء الله إلى البقية الباقية في أرض المحشر -بعد ما ذهب اليهود والنصارى، وعبدة الأوثان، وعبدة بوذا، وعبدة الكواكب، وعبدة النار المجوس، وعبدة الطواغيت من البشر، كلهم ذهبوا إلى جهنم مع معبوداتهم حطباً- فماذا يحصل؟ يرون الله فيعرفونه، فكيف عرفوه وهم ما رأوه من قبل؟ يعرفونه بأسمائه وصفاته التي كانوا يعرفونها في الدنيا، وهذا ما يبين أهمية توحيد الأسماء والصفات، فإن معرفة صفات الله تعالى في الدنيا هو الذي يقود إلى معرفته عز وجل في الآخرة، فيقول لهم: (أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا) وفي رواية: (ثم يقال بعد ذلك للمؤمنين: هل بينكم وبينه علامة؟ أي: آية تعرفونها، فيقولون: الساق، فيكشف عن ساقه سبحانه وتعالى)، وصفاته لا تشابه صفات البشر؛ فلا يده كأيديهم، ولا وجهه كوجوههم، وهكذا في سائر صفاته سبحانه. فإذا رأوا الساق -العلامة- سجد المؤمنون سجوداً صحيحاً، وأما المنافق فينكشف في هذا الموقف بالعلامة، فالعلامة هي التي تميز وتكشف، قال عليه الصلاة والسلام: (ويبقى من كان يسجد رياءً وسمعة)، الذي كان منافقاً في الدنيا وكان يسجد رياءً وسمعة (فيصير ظهره طبقاً واحداً) يستوي فلا ينثني الظهر، يصبح متصلباً، وفي رواية مسلم: (فلا يبقى من كان يسجد من تلقاء نفسه إلا أذن له في السجود) أي: هون عليه وسهل له ومكن منه، (ولا يبقى من كان يسجد اتقاءً ورياءً إلا جعل الله ظهره طبقاً واحداً كلما أراد أن يسجد خر لقفاه) وفي رواية ابن مسعود: (وتبقى أصلاب المنافقين كأنها صياصي البقر)، وفي رواية الحاكم: (وتبقى ظهور المنافقين طبقاً واحداً كأنما فيها السفافيد) والسفافيد: جمع سفود، والسفود هو السيخ العظيم الذي يدخل في الشاة عند شوائها؛ لكي تتماسك على السيخ فيجعل الله ظهور المنافقين طبقاً واحداً، كأنما السفافيد في هذه الفقرات، وهي مضمومة بها سيخ، فلا يمكن أن ينثني، فلذلك كلما أراد أن يسجد وقع. في رواية علي بن عبد الرحمن قال: (ثم يطلع عز وجل عليهم فيعرفهم نفسه بالآية ثم يقول: أنا ربكم فاتبعوني فيتبعه المسلمون، يكونون في ذلك تابعين لربهم كما عبدوه يتبعونه) أولئك عبدوا الصليب اتبعوا الصليب، عبدوا البقر اتبعوا البقر، وهؤلاء عبدوا الله فيتبعون الله، فإلى أين يقودهم عز وجل؟ يقودهم إلى الصراط، وهذه الرؤية التي تحصل في أرض المحشر غير الرؤية التي تقع في الجنة فهذه رؤية الامتحان، وتلك لزيادة الإكرام، ورؤية الجنة هي المقصودة بقوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] الحسنى: هي الجنة، والزيادة: هي النظر إلى وجه الله عز وجل، هناك امتحانات في الموقف تابعة لامتحانات الدنيا، فالذي رسب هناك يرسب هنا، والذي نجح هناك ينجح هنا، ولا تنقطع الامتحانات إلا بالاستقرار في الجنة أو النار، والقبر أو منازل الآخرة وفيه ابتلاء وامتحان بفتنة السؤال وغير ذلك، وكما يكون في الدنيا تكاليف ففي الآخرة تكاليف قبل دخول الجنة وقبل دخول النار.

تقسيم النور على حسب الأعمال

تقسيم النور على حسب الأعمال بعد ذلك يقال للمسلمين: (ارفعوا رءوسكم إلى نوركم بقدر أعمالكم) وفي لفظٍ: (فيعطون نورهم على قدر أعمالهم فمنهم من يعطى نوره مثل الجبل ودون ذلك، ومثل النخلة ودون ذلك، حتى يكون آخرهم من يعطى نوره على إبهام قدمه) وفي رواية مسلم: (ويعطى كل إنسان منهم نوراً إلى أن قال: ثم يطفأ نور المنافقين) وفي رواية ابن عباس عند ابن مردويه: (فيعطى كل إنسان منهم نوراً -هؤلاء المتجهون إلى الصراط- ثم يوجهون إلى الصراط، فما كان من منافق طفأ نوره)، وفي لفظ: (فإذا استوى على الصراط سلب الله نور المنافقين، فيقولون للمؤمنين: انظرونا -أي: انتظرونا- نقتبس من نوركم) وفي حديث أبي أمامة: (وإنكم يوم القيامة في مواطن حتى يغشى الناس أمر من أمر الله؛ فتبيض وجوه وتسود وجوه، ثم ينتقلون إلى منزل آخر فتغشى الناس الظلمة فيقسم النور)، يقسم النور على حسب الأعمال، والصلوات، والصدقات، والصيام، والخشية، والحياء، ونحو ذلك (فيختص بذلك المؤمن ولا يعطى المنافق شيئاً؛ فيقول المنافقون للذين آمنوا: ((يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً)) [الحديد13]، فيرجعون إلى المكان الذي قسم فيه النور) المنافقون لما فقدوا النور وأرادوا الذهاب مع المؤمنين لا يمكنون من ذلك، بل يقال لهم: ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً؛ فيرجعون إلى المكان الذي قسمت فيه الأنوار من قبل؛ فلا يجدون شيئاً، فيريدون العودة فيضرب بينهم وبين المؤمنين بسور: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13]، باطنة أي: من جهة المؤمنين فيه الرحمة، وظاهره: من جهة المنافقين فيه العذاب، وهذه هي الخدعة العظيمة التي يخدع الله بها المنافقين: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ) [النساء:142] وهذه الخدعة هي القاضية عليهم.

المرور على الصراط

المرور على الصراط قوله صلى الله عليه وسلم: (ويضرب جسر جهنم -جسر مضروب على متن جهنم- ثم يكلف الناس بالعبور) الآن المنافقون اختزلوا إلى النار، وبعد الخدعة إلى النار من بقي؟ بقي الموحدون، فيهم الفجرة، وفيهم أهل الطاعة والإيمان، فيهم فجرة من الموحدين لم يخرجهم فجورهم عن الإسلام، لا زالوا داخل دائرة الإسلام، لكنهم أصحاب معاصي وفسق، وبقي أهل الطاعة والحسنات، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثم يضرب الجسر على جهنم وتحل الشفاعة ويقولون: اللهم سلم سلم) من الذي يقول؟ الأنبياء فقط. الناس في صمت مطبق من هول الموقف، لا يتكلم يومئذ إلا الرسل، وكلامهم: اللهم سلم سلم، فقط لا غير، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فأكون أنا وأمتي أول من يجوز) أول من يجوز ويقطع المسافة على هذا الصراط النبي صلى الله عليه وسلم -أولاً- ثم تقطع الصراط أمته خلفه، فإذا جاز هو وأمته جاز الأنبياء بأقوامهم. جاء في حديث عبد الله بن سلام عند الحاكم: (ثم ينادي منادٍ: أين محمد وأمته؟ فيقوم فتتبعه أمته برها وفاجرها، فيأخذون الجسر، فيطمس الله أبصار أعدائه العصاة الفجرة، فيتهافتون من يمين وشمال -يقعون في النار من يمين وشمال- وينجوا النبي والصالحون) وفي رواية: (فتفرج لنا الأمم عن طريقنا، فنمر غراً محجلين من آثار الوضوء، ودعاء الرسل يومئذ: اللهم سلم سلم، ولا يتكلم إلا الأنبياء، فيمر المؤمن كطرف العين وكالبرق وكالريح وكأجاويد الخيل والركاب) وفي رواية: (فيمر أولهم كمر البرق، ثم كمر الريح، ثم كمر الطير، وشد الرحال، تجري بهم أعمالهم) بحسب الأعمال يكون الجواز والمرور، والسرعة تتناسب تناسباً طردياً بحسب الأعمال الصالحة، كلما كانت الأعمال الصالحة أكثر كلما كان العبور أسرع، والناس يتفاوتون في السرعة بحسب أعمالهم؛ فمنهم من يمر كالبرق، وهؤلاء أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، أولياء الله يجوزون كالبرق، ثم أناس كطرف العين، ثم أناس بعدهم كالريح، وأناس كالطير، وأناس كشد الرحال، وأناس كالسحاب، وأناس كانقضاض الكواكب، وأناس كشد الفرس، حتى يمر الرجل الذي أعطي نوره على إبهام قدمه يحبو على وجهه ويديه ورجليه، يجر بيد ويعلق يداً، ويجر برجل ويعلق رجلاً، وتضرب جوانبه النار، حتى يمر آخر واحد ويتعثر في المشي وتضرب جوانبه النار ويتكفأ به الصراط، يميل الصراط ويهتز به، وجاء في رواية: (كأسرع البهائم، حتى يمر الرجل سعياً ثم مشياً، ثم آخرهم يتلبط على بطنه فيقول: يا رب لِمَ أبطأت بي؟ فيقول: أبطأ بك عملك) الله عز وجل لم يبطئ به ولكن الذي أبطأ به عمله.

صفة الصراط

صفة الصراط قال في الحديث في وصف الصراط: (وبه كلاليب، وفي رواية: وفي حافتي الصراط كلاليب معلقة مأمورة بأخذ من أمرت به) والكلاليب جمع كلوب، والكلوب هو الخطاف الذي يخطف الناس، وهذا الخطاف عظيم جداً للغاية، تقف الأمانة والرحم على جنبتي الصراط لعظم شأنهما وفخامة أمرهما؛ لكي يؤدب ويعاقب الخائن وينجو الأمين، ويعاقب القاطع وينجو الواصل لرحمه الأمانة والرحم يشهدان للمحق ويشهدان على المبطل {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ} [الأحزاب:72] (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ) [النساء:1]، فلما كانتا بهذه العظمة جعلتا على جنبتي الصراط. قال صلى الله عليه وسلم في وصف الكلاب والخطاف الذي يخطف الناس: (مثل شوك السعدان) السعدان: جمع سعدانة، والسعدانة نبات ذو شوك يضرب به المثل في طيب مرعاه، يقال: مرعى ولا كالسعدان (أما رأيتم شوك السعدان؟) شبه صورة الكلاليب بشوك السعدان، لكن عن عظم حجمها قال: (غير أنه لا يعلم قدر عظمها إلا الله) فهذه الكلاليب مثل الشوك تخطف الناس، قال: (فتخطف الناس بأعمالهم) فشبه الكلاليب بشوك السعدان لسرعة اختطافها وكثرة الانتشال فيها، عرفوها في الدنيا وألفوها مباشرة فعرض عليهم التشبيه بها، قال: (وبحافتيه -أي: الصراط- ملائكة معهم كلاليب من نار، يختطفون بها الناس). وفي رواية أبي سعيد: (قلنا: وما الجسر؟ قال: مدحضة مزلة) أي: تزل فيه الأقدام، وفي رواية قال أبو سعيد: (بلغني أن الصراط أَحَدُّ من السيف، وأدق من الشعرة) رواه مسلم، وهذا له حكم الرفع؛ لأنه لا يقوله برأيه، لابد أن يكون الصحابي قد سمعه (أَحَدُّ من السيف، وأدق من الشعرة)، فمن الذي سينجو من عليه؟ قال الفضيل بن عياض رحمه الله: [[بلغنا أن الصراط أدق من الشعرة، وأحد من السيف على متن جهنم، لا يجوز عليه إلا ضامر مهزول من خشية الله]. قال صلى الله عليه وسلم في أصناف الناس على الصراط: (منهم الموبق بعمله)، وفي رواية: (الموثق بعمله، ومنهم المخردل)، الخردل من صفته أنه مقطع، فهذا المخردل تقطعه كلاليب النار؛ فيهوي فيها، وخراديل، أي: قطع تقطعهم، ويحتمل أن يكون المعنى: تقطعهم عن اللحوم لمن نجا ثم ينجو. إذاً: هؤلاء الذين يعبرون الصراط ثلاثة أنواع جاء في حديث أبي سعيد: (فناجيٍ مسلََّم، ومخدوش، ومكدوس في جهنم، حتى يمر أحدهم فيسحب سحباً). إذاً: المارون على الصراط ثلاثة أصناف: 1/ ناجٍ بلا خدوش، مسلَّم لم يصبه شيء. 2/ مخدوش ثم ينجو، فهو في النهاية يعبر لكن بعد خدوش تصيبه من هذه الكلاليب. 3/ وهناك هالك من أول وهلة. فإذاً: هناك هالك من أول وهلة، مكردس، هذا يقع في النار، وهناك ناجٍ يعبر بعد أن يصيبه ما يصيبه، وهناك من ينجو بلا خدوش والمكردس أو المكدوس المنكفئ في قعر جهنم؛ نظراً لأن سيئاته كثيرة، فلابد من تطهير النار حتى يدخل الجنة طاهراً؛ لذلك يقع في النار، وكذلك الذي يصيبه على الصراط ما يصيبه؛ لكي يطهره ما أصابه من الآثام التي اقترفها ثم ينجو، وبعد ذلك يدخل الجنة نظيفاً، فلا يدخل الجنة شخص غير نظيف، لابد أن يطهر بما يصاب به، إن كان في الدنيا فبالمصائب والهم والغم والأمراض والخوف ونقص الأموال والأنفس والثمرات، وإن كان في القبر فبفتنة القبر وما يصيبه، وإن كان في الآخرة فبدنو الشمس والعرق والحر والزحام وطول الموقف، وإن كان بقي عليه شيء فإنه إذا عبر الصراط يخدش بهذه الكلاليب، ما دام أن سيئاته أكثر من حسناته، حتى إذا كان ذلك كافياً عبر، وإذا لم يكن كافياً كفى به في النار. وهنا نقف في شرح هذا الحديث؛ لنتحدث -إن شاء الله- بعد ذلك عن الشفاعة، وآخر من يخرج من النار متجهاً إلى الجنة، له قصة أخرى سنتحدث عنها -إن شاء الله- وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

الأسئلة

الأسئلة

رؤية الله في المنام

رؤية الله في المنام Q هل ورد أن الله تبارك وتعالى يرى في المنام؟ A نعم. قد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه في أحسن صورة، وذكر العلماء ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أن من رأى ربه في المنام يراه بحسب إيمانه؛ فإن كان إيمانه أكبر كانت الصورة التي يراها في المنام أجمل، لكن الله عز وجل لا تحيط به العقول، ولا تدركه الأبصار، ولا يُعلم كيف هو ولا يراه أحد في الدنيا، لكن الصورة التي في المنام على حسب العمل.

الموحدون هم الذين يجوزون الصراط

الموحدون هم الذين يجوزون الصراط Q فهمت أن الذي يجوز الصراط جميع الخلائق، وفهمت مرة أن الذي يجوزه هم عصاة الموحدين، أرجو التوضيح؟ A سبق بوضوح أن الكفار لا يجوزون الصراط، لا النصارى، ولا اليهود، ولا المجوس، ولا غيرهم، والمنافقون أيضاً يقعون من أوله، لكن المؤمنين والموحدين -ولو كانوا عصاة- هم الذين يجوزون الصراط، إذاً: من الذي يجوز الصراط؟ الموحدون هم الذين يجوزون الصراط.

حكم البيع المسمى (الإيجار والتمليك)

حكم البيع المسمى (الإيجار والتمليك) Q انتشر في هذه الأيام البيع المسمى (الإيجار والتمليك) فما حكمه؟ A نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عن بيعتين في بيعة، فلا يجوز لإنسان أن يجمع في عقد واحد بين بيع وإجارة، أو بين زواج وبيع، أو بين قرض وإجارة، أو بين قرض وزواج، ونحو ذلك، لا يجوز أن يجعل عقدين في واحد، لابد أن يفصل هذا عن هذا؛ لئلا يقع الغرر، فإذا جعلوهما عقداً واحداً؛ فهذا غير جائز، لكن إذا فصل العقدين عن بعضهما جاز ذلك، فلو قالوا له: نؤجرك السيارة، فإذا أنهيت كذا سنة في الإيجار نعقد معك عقد بيع جديد مستقل منفصل، نتفق فيه على سعر نحن وإياك، فهذا لا بأس به، إذا كان العقدان منفصلين فلا بأس، هذا بالنسبة لمسألة الإيجار المنتهي بالتمليك.

تغيير المكان للمعتكف في الحرم وطوافه

تغيير المكان للمعتكف في الحرم وطوافه Q هل المعتكف في الحرم له أن يغير موقعه داخل الحرم إذا احتاج إلى ذلك؟ A نعم. ولا بأس. السؤال: هل له أن يطوف يومياً؟ الجواب: كذلك يجوز له أن يطوف يومياً، هذه من العبادات التي يفعلها المعتكف في الحرم، ومن طاف أسبوعاً فأحصاه كان له كعتق رقبة كل أسبوع، أي: سبعة أشواط، إذا طاف سبعة أشواط وصلى ركعتين قِبل المقام، كأنه أعتق رقبة، ولذلك لا حرج مطلقاً أن يطوف سبعة أشواط ويصلي ركعتين، ثم يطوف سبعاً ويصلي ركعتين، ثم يطوف سبعاً ويصلي ركعتين هذه من العبادات العظيمة، فإذا فعله المعتكف فهو قربة إلى الله تعالى وطاعة يفعلها في اعتكافه وهو داخل الحرم بطبيعة الحال.

الاعتكاف مع الغير

الاعتكاف مع الغير Q هل الأفضل أن يعتكف وحده أو يكون معه آخر؟ A إذا كانا سيتعاونان على الطاعة فهذا طيب، أما إذا كانا سينشغلان بالحديث عن طاعة الله فهذا ليس في مصلحته

الزكاة على من ينوي البيع

الزكاة على من ينوي البيع Q شخص اشترى قطعة أرض وينوي بيعها في المستقبل، فهل عليها زكاة؟ A ما دام نوى البيع، إذاً: عليه زكاة، أما إذا اشتراها ليبني عليها مسكناً أو يقيم عليها مشروعاً استثمارياً، كمحطة أو عمارة أو مزرعة ونحو ذلك، فلا زكاة عليه، وكذلك إذا ترددت بيعته بين البيع وشيء آخر كالبناء، فما دامت النية مترددة فلا زكاة عليه، فإذا جزم بالبيع بدأ الحول.

الإتيان بعد صعود الإمام المنبر

الإتيان بعد صعود الإمام المنبر Q جاء في حديث صلاة الجمعة: (من أتى في الساعة الأولى فكأنما قدم بدنة فإذا صعد الخطيب على المنبر دخلت الملائكة يستمعون الذكر)، فما الحكم فيمن يأتي بعد صعود الإمام المنبر، هل له جمعة؟ A نعم له جمعة، لكن فاته أجر التبكير؛ لأن عندنا أجر سماع الخطبة والصلاة، وعندنا أجر التبكير إلى الجمعة، فإذا صعد الإمام المنبر فاته أجر التبكير، وبقي أجر الخطبة وأجر الصلاة، وإذا تأخر عن الخطبة يفوته من أجرها، فإذا فاتته الخطبة فاته كل أجر الإنصات إلى الخطبة، ويبقى أجر الصلاة، وهكذا يعطون أجورهم على حسب أعمالهم.

العمرة على أهل مكة

العمرة على أهل مكة Q أناس من أهل مكة يقولون: ليس على أهل مكة عمرة؟ A الصحيح أن لهم عمرة، ولكنهم يعتمرون من الحل خارج الحرم، أي: من التنعيم أو غيره.

رؤية الكفار لله

رؤية الكفار لله Q هل الكفار والمشركون يرون الله يوم القيامة؟ A يرونه في أول الأمر، ثم يحجبون عنه ليكون زيادة في تبكيتهم وتحزينهم وآلامهم: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15]

منع الأبناء من الذهاب إلى المساجد

منع الأبناء من الذهاب إلى المساجد Q هل يجوز منع الأبناء من الذهاب إلى المسجد؟ A الأولاد على نوعين: مميزون وغير مميزين. والتمييز في العادة سبع سنين، وهو يختلف ويتفاوت بحسب كل ولد، فمنهم من يميز قبل سبع، ومنهم من قد يتأخر تمييزه، ولكن في الغالب سبع، ولذلك ارتبطت العبادات كالصلاة -مثلاً- بالتمييز، ففي سبع يؤمرون بالصلاة؛ لأنه صار مميزاً مدركاً، وكذلك هناك عبادات أخرى ترتبط بالتمييز، كالأذان والإمامة إذا صار مميزاً على الصحيح، وإذا كان الصبي غير مميز، وكان الذهاب به إلى المسجد يسبب إزعاجاً للمصلين أو نجاسة للمسجد ونحو ذلك فلا يذهب به إلى المسجد، وأما إذا كان هناك من يصونه ويمنع أذاه فيذهب به، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسمع في الصلاة بكاء الصبي فيخففها، ولكن إذا تحول المسجد إلى حضانة، كل ولد يصرخ من جهة، ويصيح من جهة، حتى لا يكاد المصلون يستمعون قراءة الإمام؛ فهنا ينبغي أن يوجد حل لهذا، ولذلك بعض النساء وربما بعض أزواج النساء لا يدركون هذه القضية، فيأتي ويرمي الأولاد هكذا في المسجد، وقد يتعرض بعض الأولاد للأذى، فيكون قد آذى به وأهمله؛ فيأثم على إهماله، ولا شك أن صلاة المرأة في بيتها خيرٌ من صلاتها في المسجد حتى التراويح؛ لأن الحديث عام: (إني علمت أنك تحبين الصلاة معي، وصلاتك في بيتك خير لكِ) فإذا كانت تأتي بصبي يزعج الناس ويصيح، وبين أن تصلي في بيتها؛ فتصلي في بيتها أحسن من الجهتين.

حكم تأخر المأمومين في الصلاة عن الإمام

حكم تأخر المأمومين في الصلاة عن الإمام Q إمام المسجد قام في الركعة الثالثة، ولم يجلس في التشهد الأول، والذين في ناحية المسجد جلسوا ولم يعرفوا أن الإمام قائم إلا عندما كبر للركوع فقاموا، ثم رفع من الركوع ولم يدركوا الركوع، ثم سجدوا، وبعضهم بعد انتهاء الصلاة أتى بركعة، وبعضهم سلم مع الإمام ولم يأتِ بركعة، حيث إن هؤلاء لم يأتوا بركعة، فاتهم الركوع ولم يلحقوا الإمام فيه ولم يقضوه ولم يأتوا به؛ فإن صلاتهم غير صحيحة؛ لأن الركوع ركن ولم يأتوا به، فما حكم صلاتهم؟ A نبدأ أولاً بالموقف الصحيح، ثم نقسم هؤلاء المصلين. الموقف الصحيح: أن على الناس أن يتابعوا الإمام، فإذا حصل خطأ ولم ينتبهوا كأن انقطع مكبر الصوت فعلى المأمومين أن يتابعوا الإمام فوراً عندما يعلمون بالخطأ، فهؤلاء قالوا: الإمام بدل أن يجلس للتشهد قام، ونحن في طرف الصف ما رأيناه قام، ظنناه جلس للتشهد فجلسنا، فلما قال: الله أكبر للركوع، قمنا وظننا أنه قام للثالثة، فلما قال: سمع الله لمن حمده؛ تلخبطنا، فماذا يفعلون؟ هؤلاء إذا قاموا ثم سمعوا الإمام يقول: سمع الله لمن حمده، يركعون ويرفعون ويتابعون الإمام، وصلاتهم صحيحة. لكن حيث إنهم لم يفعلوا ذلك؛ فقد انقسموا إلى قسمين: قسم أتى بركعة بعد سلام الإمام، فهؤلاء جبروا الركعة التي فاتهم فيها الركوع، وهو ركن أتوا ببدل منه، فصلاتهم صحيحة، والذين سلموا وذهبوا بدون أن يأتوا بركوع مع الإمام ولا ركعة، فصلاتهم غير صحيحة؛ فعليهم إعادتها.

أهوال القيامة والنجاة منها

أهوال القيامة والنجاة منها Q كيف يستطيع المرء أن ينقذ نفسه من أهوال يوم القيامة؟ A أولاً: كما قال الله عز وجل: {إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:89]، فلابد أن يأتي بقلب سليم من الشبهات ومن الشهوات. ثانياً: لابد أن يعمل عملاً صالحاً، فإذا عمل عملاً صالحاً فقد فاز وزحزح عن النار وأدخل الجنة، ولا يفوز يومئذ إلا من لقي الله بإيمان وعمل صالح، إذاً: لابد من قلب سليم وعمل صالح، فهو الذي ينجي من أهوال القيامة.

وسوسة الشيطان لآدم وحواء عليهما السلام

وسوسة الشيطان لآدم وحواء عليهما السلام Q هل الجنة التي أخرج منها آدم عليه السلام هي جنة المأوى؟ وكيف دخل الشيطان وقد أخرجه الله منها؟ A لا يلزم من الوسوسة أن يكون قد دخل، فيمكن أن يكون قد وسوس للأبوين من خارج.

الزكاة على المال المدين

الزكاة على المال المدين Q أقرضت أخي مبلغاً من المال منذ ثلاث سنوات، وحالته المادية غير ميسورة، وأخبرني أنه سيرد المبلغ حين الميسرة، فهل على هذا المبلغ زكاة؟ A حيث إنه ليس بيدك، ولا يمكنك أن تطالب به، ولو قلت له: هات المال، لقال لك: ما عندي شيء، فإذاً ليس في هذا المبلغ زكاة.

الصلاة بعد الوتر

الصلاة بعد الوتر Q إذا أدى المسلم صلاة الوتر مع الإمام ثم أراد أن يصلي -مثلاً- سنة الوضوء، أو ذهب إلى مسجد آخر وأراد أن يصلي، فماذا يفعل؟ A يصلي ولا حرج عليه، وله أن يزيد ويصلي في الليل مثنى مثنى دون أن يوتر، لحديث: (لا وتران في ليلة)، فيكتفي بالوتر الأول، وإذا أراد الزيادة فيزيد مثنى مثنى.

الحكمة من المسح على الجوارب

الحكمة من المسح على الجوارب Q هل الحكمة من المسح على الجوارب فقط للتخفيف في البرد الشديد؟ A ليس المسح على الجوارب مرتبطاً بالبرد الشديد؛ فيمكن أن يمسح حتى في فصل الصيف، فهي رخصة ما دام لبس الجورب على طهارة، والجورب ساتر للقدمين، وكان طاهراً؛ فإنه يمسح عليه.

الاستمناء في نهار رمضان

الاستمناء في نهار رمضان Q ما حكم الاستمناء في نهار رمضان؟ A هذا مفسد للصوم، ومبطل له، وفاعله آثم، وقد ارتكب كبيرة عظيمة من الكبائر، وعليه أن يمسك بقية اليوم، وأن يتوب إلى الله، وأن يقضي يوماً بدلاً من هذا اليوم.

آداب الدرس والحلقة

آداب الدرس والحلقة طلب العلم عبادة عظيمة، وقد ميزت عن غيرها من العبادات، فجعل للعالم فضل على العابد يعادل فضل النبي صلى الله عليه وسلم على أدنى فرد من أمته. وفي هذه المادة حديث عن فضل العلم، وبعض ما يتعلق بحلقه من الضوابط والشروط والآداب، ونقاش علمي لواقع هذه الحلق اليوم، واسترشاد بواقع حلق العلم في عهد سلف هذه الأمة الصالحه.

فضل العلم وحلقه

فضل العلم وحلقه الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي المتقين، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده. أيها الإخوة: سنتحدث في هذه الليلة إن شاء الله عن عبادة عظيمة من العبادات، وموضوعٍ مهمٍ من المهمات وهو: حلق العلم، وشيء من فضلها وآدابها وشروطها، ونظرة نقدية لواقع حلق العلم التي يجلس فيها بعض الشباب، بل وبعض النساء أيضاً لنتعرف على شيءٍ من الآداب، وفي ذات الوقت الآفات التي تحيط بهذه القضية. أما بالنسبة للعلم، فإن طلب العلم من أجل العبادات وأفضل القربات، وهو حياة القلوب ونور الأبصار، به يطاع الله عز وجل ويعبد، وبه يحمد الرب ويوحد، وبه توصل الأرحام، ويعرف الحلال من الحرام، فتعلمه حسنة، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبذله قربة، وهو الأنيس في الوحدة، والصاحب في الغربة، والدليل في الظلمة، والسنان على الأعداء، وأهل العلم في المنارات العالية، قال الله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) [المجادلة:11] وفضل العالم على العابد كفضل النبي صلى الله عليه وسلم على أدناكم كما خاطب بذلك أصحابه، ولم يأمر الله نبيه أن يطلب الزيادة من شيء إلا من العلم، فقال: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه:114]. وهو دليلٌ على توفيق الله للعبد، قال عليه الصلاة والسلام: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) وفي حكمه جاء حديثه عليه الصلاة والسلام: (طلب العلم فريضة على كل مسلم) ونافلة العلم أفضل من نافلة العبادة، كما ورد في الحديث الصحيح () فضل العلم أحب إلي من فضل العباد) والملائكة ترضى عن طالبه بقوله عليه الصلاة والسلام: (وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضىاً بما يصنع) وكل وسيلة مشروعة لتحصيله فهي طريقٌ مؤدية إلى الجنة لقوله صلى الله عليه وسلم: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً، سهل الله له به طريقاً إلى الجنة) وحلق العلم من أعظم الوسائل الموصلة إلى العلم، ولذلك فإن هذا السبيل وهو حلق العلم من أعظم السبل المؤدية إلى الجنة. ولذلك كان حرياً بنا أن نتفطن لهذه القضية؛ وهي الاهتمام بحلق العلم، لأنها السبيل العظيم الموصل إلى الجنة، وقد وردت أحاديث في فضل حلق العلم عظيمة، منها ما هو مقيدٌ بالمسجد، ومنها ما هو مطلق، فمن الأشياء المقيدة بالمسجد حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما اجتمع قومٌ في بيتٍ من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه فيما بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده) وفي إتيان المساجد لتعلم القرآن، قال صلى الله عليه وسلم: (أيكم يحب أن يغدو كل يومٍ إلى بطحان أو إلى العقيق، فيأتي منه بناقتين كوماوين زهراوين في غير إثمٍ ولا قطيعة رحم، فلأن يغدو أحدكم إلى المسجد، فيتعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله خيرٌ له من ناقتين كوماوين، وثلاث خيرٌ له من ثلاث، وأربع خيرٌ له من أربع، ومن أعدادهن من الإبل) حديثٌ صحيح رواه الإمام أحمد وغيره، وهذا دليلٌ عظيمٌ على استحباب إتيان المساجد لحلق الذكر، أما غير المساجد، فقد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (لا يقعد قومٌ يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده).

هل يقتصر أجر حلق العلم على المسجد؟

هل يقتصر أجر حلق العلم على المسجد؟ وفي رواية لـ ابن حبان: (ما جلس قومٌ يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده) وبعض العلماء الذين شرحوا حديث (ما اجتمع قومٌ في بيتٍ من بيوت الله) ذكروا تنبيهاً، ومنهم المناوي الذي قال: التقييد بالمسجد غالبيٌ فلا يعمل بمفهومه، يعني: ليس الأجر الذي ورد في بيت من بيوت الله خاصاً بالمسجد، وإنما حتى الحلق التي تكون في البيوت والمجالس وأي مكان آخر غير المسجد فيها أجرٌ عظيمٌ أيضاً، لكن بيت الله تعالى مظنة الخشوع والبركة فيه أكثر، وإلا فليست حلق العلم المعقودة في البيوت خالية من الأجر الوارد في هذا الحديث، ولذلك قال: التقييد بالمسجد غالبيٌ فلا يعمل بمفهومه. أما بالنسبة لذكر الله الوارد بالحديث، فقد قال ابن حجر رحمه الله: ويطلق ذكر الله ويراد به المواظبة على العمل بما أوجبه أو ندب إليه كتلاوة القرآن وقراءة الحديث، ومدارسة العلم، والمناظرة فيه من جملة ما يدخل، قال: قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم والمناظرة فيه من جملة ما يدخل في مسمى ذكر الله عز وجل، وإن كان ذكر الله بالمعاني الأخرى أيضاً أقرب إلى مسمى ذكر الله من مدارسة أو ذكر الأسانيد ونحو ذلك. وقال عليه الصلاة والسلام فيما رواه عنه سهل بن الحنظلية: (ما اجتمع قومٌ على ذكرٍ فتفرقوا عنه إلا قيل لهم: قوموا مغفوراً لكم) وذكره الألباني رحمه الله في صحيح الجامع.

معنى حلق الذكر وبيان دخول حلق العلم فيها

معنى حلق الذكر وبيان دخول حلق العلم فيها إذاً هذه الأحاديث الدالة على فضل حلق الذكر عموماً، وحلق العلم تدخل في حلق الذكر، وينبغي أن يوسع موضوع حلق الذكر حتى لا يُظن أنها فقه وحديث وتفسير ونحو ذلك، فيدخل فيها الطلب من الله عز وجل والدعاء، وكذلك ذكر نعمة الله، إذا جلسوا يذكرون نعمة الله عليهم، فهي من حلق الذكر التي فيها هذا الأجر العظيم (وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم عن رجلٍ حضر حلقة علمٍ رأى فرجة جلس فيها أن الله آواه، وثانٍ جلس خلفهم واستحيا أن الله قد استحيا منه) وهذا يدل على فضل من حضر حلق الذكر. والصحابة جلسوا يذكرون الله ويحمدونه على ما هداهم للإسلام ومنَّ به عليهم، فإذاً تذكر الأشياء وتذكر نعمة الله تعالى، وتحديث البعض للبعض الآخر بنعمة الهداية مثلاً، يعتبر من مجالس الذكر، ولو لم يقرءوا فيه إسناداً ولا متناً، فلا يقتصر مفهومنا لحلق الذكر على قراءة المتون فقط، فالمسألة أعظم من ذلك. لو جلس جماعة يتواصون بالصبر، يتكلمون في مسألة الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسبل إعزاز الدين، ويناقشون كيفيات إعزاز الدين , والسبل الموصلة إلى تبليغ الدعوة، وكيف يحققون ذلك، لكان هذا من حلق الذكر. ولو جلس جماعة حتى لو لم يكونوا من أهل العلم ولا من حفاظ العلم، جلسوا يذكرون نعم الله عليهم، وهذا قد يتكلم فيه بعض العامة كلاماً جميلاً، يذكر نعم الله عليه، ويقارن حال المهتدين بحال الزائغين، ويبين فضل الله عز وجل على المهتدين، فهذه حلقة ذكر فيها أجرٌ عظيم. إذاً نحن نستطيع أن نحول كثيراً من مجالسنا، سواء كانت مجالس عائلية، مجالس كلام في العمل أحياناً، مجالس مع الأصدقاء ما قبل العشاء، ما بعد الغداء، في وليمة؛ يمكن أن نحولها إلى حلقة ذكر ونخرج منها بأجرٌ عظيم، فذكر الله كلمة عامة يدخل فيها مسائل العلم والحديث والتفسير والفقه والعقيدة، ويدخل فيها كل شيءٍ فيه ذكر فضل الله، ونعم الله، وهداية الله تعالى، وكذلك الدعوة إلى الله مثلاً. إذاً مجالس العلم مفهومها كبير وواسع، وينبغي أن يحقق، وإن كانت الكتب التي تتحدث عن حلق العلم تقتصر على ما يفهم منه قضية المتون والأحاديث، والإملاء والأسانيد، وغير ذلك، لكن المسألة أوسع من هذا بكثير، والصحابة كان حالهم أن يذكرون منة الله تعالى عليهم.

بعض ما يتعلق بحلق العلم من الآداب وغيرها

بعض ما يتعلق بحلق العلم من الآداب وغيرها لا شك أن حلق العلم من الأمور التي ينبغي الاهتمام بها لقلة العلم في هذا الزمان وتفشي الجهل، فهي من ذكر الله تعالى، ولما كانت حلق العلم قد اعتورها ما اعتورها من التقصير والآفات، فلعلنا نتحدث عن بعض ما يتعلق بحلق العلم، من الشروط والآداب وما كان في عهد السلف، ونناقش بعض عيوبنا في حلق العلم أو حلق الذكر، لنتوصل إلى سبلٍ لتصحيح الواقع، ونحث أنفسنا على الاهتمام بهذه العبادة العظيمة، وهي حلق العلم والذكر. كان السلف رحمهم الله عز وجل يهتمون بقضية الشيخ، ويتوسمون الخير في المشايخ، ويحرصون على حضور من يظهر لهم الخير فيه، فهذا أبو إدريس الخولاني رحمه الله قال: دخلت مجلس حمص فجلست في حلقة فيها اثنان وثلاثون رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، يقول الرجل منهم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيحدث، ثم يقول الآخر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيحدث، وفيهم رجلٌ أدعج براق الثنايا، فإذا شكوا في شيءٍ ردوه إليه، ورضوا بما قال، فلم أجلس قبله ولا بعده مجلساً مثله، فتفرق القوم وما أعرف اسم رجلٍ منهم، فبت بليلة لم أبت بمثلها، وقلت: أنا رجلٌ أطلب العلم، وجلست إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أعرف اسم رجلٍ منهم ولا منزله، فلما أصبحت غدوت إلى المسجد، فإذا أنا بالرجل الذي كانوا إذا شكوا في شيءٍ ردوه إليه يركع إلى بعض إسطوانات المسجد- يصلي- فجلست إلى جانبه، فلما انصرف قلت: يا عبد الله! والله إني لأحبك لله، فأخذ بحبوتي حتى أدناني منه، ثم قال: إنك لتحبني لله؟ قلت: إي والله إني لأحبك لله؛ قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن المتحابين بجلال الله في ظل الله وظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله) فقمت من عنده الحديث، أو بقية القصة. وقد حصل أيضاً في رواية أخرى من كلامه رحمه الله أنه سمع رجلاً من الصحابة يقول عن النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل: (حقت محبتي للذين يتحابون فيَّ، وحقت محبتي للذين يتباذلون فيَّ، وحقت محبتي للذين يتزاورون فيّ) قلت: من أنت يرحمك الله؟ قال: أنا عبادة بن الصامت، قلت: من الرجل؟ قال: معاذ بن جبل، ومعاذ بن جبل الذي أعجب ذلك الرجل هيأته وسمته رضي الله عنه وأرضاه، وهو الذي كان مرجعهم، وهو أعلم الأمة بالحلال والحرام، وأعلمهم بالفقه بعد النبي صلى الله عليه وسلم، يتقدم العلماء يوم القيامة برمية حجر، رأى أبو إدريس من سمته وهيأته ما حببه فيه وجلس إليه، ويمكن معرفة العالم الثقة أو المعلم الثقة، أو طالب العلم الثقة من خلال السؤال والتفرس، وكانوا يبحثون عن الحلق التي يظهر حسن السمت في طلابها، وهذه كانت ميزة من ميزات العلم والذكر في عهد السلف؛ فكان الإنسان يميز من الجالسين حالاً عجيبةً، يقول عبد الله بن محمد بن عبيد في مسعر بن كدام وهو من كبار علماء السلف: من كان ملتمساً جليساً صالحاً فليأت حلقة مسعر بن كدام فيها السكينة والوقار وأهلها أهل العفاف وعلية الأقوام فتتميز حلقهم بالعفة، والمجلس نفسه فيه سكينة ووقار، ليس مجلس لغط ولا هرج ومرج، لكن مجلس خشوع وسكينة، ويقول أبو حازم رحمه الله وهو من جلساء زيد بن أسلم في حلقته، يقول: لقد رأيتنا في مجلس زيد بن أسلم أربعين حضراً فقهاء، أدنى خصلة فينا التواسي بما في أيدينا، فما رئي منا متماريان ولا متنازعان في حديثٍ لا ينفعهما قط، إذاً كان الجالسون في الحلق من الذين يتخلقون بالأخلاق الحسنة، وليسوا حفاظاً فقط، وعندهم نبوغ في الفهم، فكانت قضية الأخلاق والآداب مهمة، يقول: أدنى خصلة فينا التواسي بما في أيدينا، أي: يواسي بعضنا بعضاً، فالذي عنده سعة يعطي الذي ضاقت حاله، هذه أقل خصلة فما بالك بما هو أعظم؟ وفي نفس الوقت لا يوجد مراء في المجلس، لا يوجد نقاشات فارغة، ما رئي منا متماريان ولا متنازعان في حديثٍ لا ينفعهما، ولذلك حصلت الاستفادة والبركة، لكن لما يجلس بعض الناس في حلق، ويكون همهم الجدال والنقاش حتى لو لم يكن مفيداً، وأن يظهر كل واحد صحة رأيه وفساد رأي الآخر ونحو ذلك من الكلام، وينتصر كل إنسان لنفسه، ويريد إبراز مواهبه في النقاش، عندما تكون الأغراض مشبوهة، والنوايا مشوبة بمثل هذه الترهات لا تحصل البركة في المجلس ولا الفائدة، ولذلك قال: ما رئي منا متماريان ولا متنازعان، فكانوا يسمعون العلم، فيستفيدون، لا يوجد مراء، ولا شيء يضيع الأوقات.

صورة بسيطة لحلقة علم

صورة بسيطة لحلقة علم وقد روى أبو سعيد رضي الله عنه وأرضاه، قال: كنت في حلقة من الأنصار وإن بعضنا ليستتر ببعض من العري وقارئ لنا يقرأ علينا، وفي هذا أنهم كانوا يلتمسون حلق الفقراء، وكانت طريقتهم في الحلق أن قارئاً يقرأ وهم يستمعون، فلو أن ناساً اجتمعوا في حلقة، وقالوا: يا فلان! أنت أندانا صوتاً، وأجودنا تجويداً، فافتح المصحف واقرأ علينا، ففتح المصحف وقرأ عليهم، فهذه حلقة ذكر كاملة، تحفها الملائكة، وتغشاها الرحمة والسكينة، ولو ما فعل فيها إلا قراءة القرآن. قال: كنت في حلقة من الأنصار، وإن بعضنا ليستتر ببعض من العري، وقارئٌ لنا يقرأ علينا، فنحن نسمع إلى كتاب الله عز وجل، وكان الصحابة رضوان الله عليهم إذا أرادوا سماع القرآن، أمروا أحدهم أن يقرأ والبقية يستمعون، إذاً حلقة الذكر ليست صعبة، بل هي قضية سهلة جداً، والمسألة لا تحتاج أكثر من همة جلوس، وسماع لواحد من الناس الذين يجلسون ويقرءون القرآن، ويحصل بذلك الأجر العظيم، ولا يشترط أن يكون فيهم طالب علم أو عالم. فإذا عرفنا أن المسألة سهلة، فلماذا لا نطبقها؟ هب أن بعضنا من الجالسين ليس عنده علم، ولا هو صاحب علم، ولا درس على مشايخ، ولا حفظ متوناً، ولا مسائل فقهية، ولا درس مذهباً فقهياً، جمع أهل بيته، فقرأ أو قرأت زوجته، أو قرأ أحد أولاده القرآن؛ فهذه حلقة ذكر، ونحن نريد إحياء هذا الأمر في البيوت والمجالس والمساجد وجميع المحلات، من مصلحتنا إحياء ذلك خاصة في زمن الجهل الذي نعيش فيه، عندك ربع ساعة في مصلى العمل، بنات عندهن وقت في مصلى الكلية، طلاب عندهم وقت في مصلى الجامعة، المسألة سهلة جداً، إنشاء حلقة ذكر سهلة جداً، وهذه قضية لها أثر كبير على النفوس، وهذا نوعٌ من التربية الإيمانية، وباب عظيم من أبواب الأجر ينبغي أن لا يفوت أبداً، لقد كان عند السلف خشوعٌ في حلقهم، ولم تكن مجالس مراء وكلام يقسي القلوب.

من الآداب الخشوع والصمت

من الآداب الخشوع والصمت يقول نصر بن عاصم الليثي أتيت اليشكري في رهطٍ من بني ليث، فقال: قدمت الكوفة، فدخلت المسجد، فإذا فيه حلقة كأنما قطعت رءوسهم من خفض الرءوس والخشوع والصمت، يستمعون إلى حديث رجلٍ، فقمت عليهم، فقلت: من هذا؟ قيل حذيفة بن اليمان، فدنوت منه فسمعته يقول: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر في الحديث المعروف. إذاً يلزم وجود سكينة في المجلس الذي يقرأ فيه حديث النبي عليه الصلاة والسلام، وعندما يقول الله تعالى في كتابه العزيز: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2] فإننا ونحن بعده ولم ندركه حياً عليه الصلاة والسلام نستطيع أن نطبق ذلك؛ بحيث نسمع حديثه يقرأ في مجلسٍ بدون أن يكون منا رفع صوت، فإذا لم يكن بين أظهرنا حياً بجسده فلنحترمه في عدم رفع صوتنا فوق صوته، فلا أقل من أن نسكت وننصت عندما يقرأ حديثه. أهل الحديث هم أهل الرسول وإن لم يصحبوا نفسه أنفاسه صحبوا فهذه أنفاسه التي بلغت إلينا، وحديثه ينبغي أن يسمع باحترام وتوقيرٍ وإجلال، لقد كانت الحلق تزيد الإيمان، ويحصل فيها من الخشوع ما يحصل، ويكون ذلك أحياناً بكلمة يسيرة، ولا يشترط أن تكون موعظة طويلة، يقول محمد بن واسع: كنت في حلقة فيها الحسن ومطرف وفلان وفلان، فتكلم سعيد بن أبي الحسن، حتى إذا قضى كلامه دعا، فقال في دعائه: اللهم ارض عنا ثلاثاً، فقال مطرف: اللهم إن لم ترض عنا، فاعف عنا، قال: فأبكاهم مطرف بهذه الكلمة.

بعض ما ينبغي على الشيخ في الحلقة

بعض ما ينبغي على الشيخ في الحلقة ومن شروط الشيخ في الحلقة: التواضع، وكان بعض العلماء لا يرضى بأن يقام له إذا دخل المجلس، ولا يقبل رأسه ولا يده، وإنما إذا تكامل الحضور، جاء إلى مكانه في الحلقة والدرس وجلس يتحدث، وإذا انتهى قام ودخل بيته.

تشجيع الطلاب المخلصين وتفقدهم

تشجيع الطلاب المخلصين وتفقدهم من الأشياء التي ينبغي عملها: تشجيع الطلاب المخلصين في الحلقة، مرَّ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في حلقة فيها علقمة والأسود ومسروق وأصحابهم، وهؤلاء من أنجب تلاميذ عبد الله بن مسعود، فوقف عليهم، فقال: بأبي وأمي العلماء بروح الله ائتلفتم، وكتاب الله تلوتم، ومسجد الله عمرتم، ورحمة الله انتظرتم، أحبكم الله وأحب من أحبكم. وتفقد الطلاب في الحلقة أمرٌ مهم، فقد روى قرة بن إياس رضي الله عنه أن رجلاً كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ومعه ابنٌ له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (تحبه؟ قال: نعم يا رسول الله! ففقده النبي صلى الله عليه وسلم زمناً؛ لا يأتي للدرس والحلقة، فقال: ما فعل فلان ابن فلان؟ قالوا: يا رسول الله! ابنه ذاك الذي رأيته معه مات، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم، فعزاه، ثم قال: ألا تحب أن تأتي باباً من أبواب الجنة إلا وجدته ينتظرك أو أن يكون عندك حياً، قال: لا بل لا آتي إلى باب من أبواب الجنة إلا وأجده، قد سبقني يفتحه لي، قال: فذلك لك، قالوا يا رسول الله: أله خاصة؟ قال: بل لكلكم) الحديث رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح وكذلك النسائي وصححه الألباني في أحكام الجنائز.

كرم الشيخ مع أهل حلقته

كرم الشيخ مع أهل حلقته وكرم الشيخ مع أهل حلقته كان من مزايا علماء السلف رحمهم الله، قال المزني: ما رأيت رجلاً أكرم من الشافعي، خرجت معه ليلة عيدٍ من المسجد وأنا أذاكره في مسألة حتى أتيت باب داره، فأتاه غلامٌ بكيس، فقال: مولاي يقرئك السلام، ويقول لك: خذ هذا الكيس، فأخذه منه وأدخله في كمه فأتاه رجلٌ من الحلقة من الطلاب، فقال: يا أبا عبد الله ولدت امرأتي الساعة ولا شيء عندي (نفقة الحلاق، وأجرة المولدة، والعقيقة، ونحو ذلك) فدفع إليه الكيس وصعد وليس معه شيء. وكان من عادتهم الإنفاق على الطلاب المحتاجين، وخصوصاً من طلاب الدرس، قال أبو يوسف رحمه الله: كنت أطلب الحديث والفقه وأنا مقلٌ رث المنزل، فجاء أبي يوماً وأنا عند أبي حنيفة، فانصرفت معه، فقال: يا بني أنت محتاجٌ إلى المعاش، يعني: اعمل، فذهب ليعمل، قال: ففقدني أبو حنيفة وسأل عني، فلما أتيته بعد تأخيري عنه، قال: ما خلفك؟ قلت: الشغل بالمعاش وطاعة والدي، فلما أردت الانصراف أومأ إلي، فجلست، فلما قام الناس دفع إلي صرةً، وقال: استعن بهذه والزم الحلقة، وإذا فقدت هذه فأعلمني، فإذا فيها مائة درهم، فجلست مجلسه حتى بلغت حاجتي وفتح الله لي، فكان ما حصل من علم أبي يوسف رحمه الله تعالى.

التنظيم والترتيب في حلق السلف

التنظيم والترتيب في حلق السلف كانت الحلقات على عهد السلف فيها تنظيم حسن، وترتيب جيد، ومن ذلك توزيع الدروس على الأيام، ابن مسعود يحدث الناس كل خميس، وكان ابن عباس يأتيه أهل التفسير، فإذا قاموا أتاه أهل الحديث وهكذا، حتى يأتيه أهل الشعر ويذاكرونه أبيات العرب. وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء في ترجمة أبي الدرداء: وقيل الذين في حلقة إقراء أبي الدرداء كانوا أزيد من ألف رجل، ولكل عشرة منهم ملقن، يعني: ألف رجل، لكن كانوا مجموعات عشرة عشرة، وكان أبو الدرداء يطوف عليهم قائماً، فإذا أحكم الرجل منهم -ضبط التلاوة وقرأ القرآن على هذا الملقن وحفظ- تحول إلى أبي الدرداء يعرض عليه، فإذاً هذا الشيخ الكبير بعدما ينتهي الطلاب من الدورات؛ من ينتهي منهم يأتي الشيخ الكبير، فيعرض عليه ما تعلمه. وقال الذهبي أيضاً في السير عن مكحول كانت حلقةٌ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يدرسون جميعاً، فإذا بلغوا سجدة بعثوا إلى أبي إدريس الخولاني فيقرأها ثم يسجد، فيسجد أهل المدارس، وقال يزيد بن عبيدة: إنه رأى أبا إدريس في زمن عبد الملك بن مروان وإن حلق المسجد بـ دمشق يقرءون القرآن يدرسون جميعاً، وأبو إدريس جالسٌ إلى بعض العمد، فكلما مرت حلقة بآية سجدة، بعثوا إليه يقرأ بها وأنصتوا له، ثم سجد بهم جميعاً. من الآداب التي كانت موجودة في حلق السلف أن الصغار وأحداث السن لا يتكلمون قبل الكبار، فلا يوجد استعجال، ولا تعالم ولا تسرع ولا قلة أدب: (ليس منا من لم يوقر كبيرنا) يقول واحدٌ منهم: كان إذا تكلم الحدث عندنا في الحلقة أيسنا من خيره، أي: عرفنا أنه لا خير فيه، إذ كيف يتكلم بحضرة الكبار والعلماء والشيوخ ومن سبقه؟ فإذاً يوجد أدب جم.

التربية والمواعظ في حلق السلف

التربية والمواعظ في حلق السلف كانت التربية لطلاب الحلقة حاصلة، يقول عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي: دخلت دمشق على كتبة الحديث، فمررت بحلقة قاسم الجوعي، فرأيت نفراً جلوساً حوله وهو يتكلم عليهم، فهالني منظره، فتقدمت إليه، فسمعته يقول: اغتنموا من زمانكم خمساً: إن حضرتم لم تعرفوا، وإن غبتم لم تفتقدوا، وإن شهدتم لم تشاوروا، وإن قلتم شيئاً لم يقبل قولكم، وإن عملتم شيئاً لم تعطوا به، وأوصيكم بخمسٍ أيضاً: إن ظلمتم لم تظلموا، وإن مُدحتم لم تفرحوا، وإن ذُممتم لم تجزعوا، وإن كُذبتم فلا تغضبوا، وإن خانوكم فلا تخونوا، فقلت: هذه فائدتي من دمشق، يكفي هذا عن كل الطرق والأسانيد، فكانت هناك تربية على الإخلاص، وتواص؛ فالشيخ يوصي التلاميذ بأن لا يبرزوا ليبتغوا حب الرئاسة، وأن يتطلع إليهم الناس، ويقول: أخملوا ذكركم، ولو حضرتم ولم تعرفوا فذلك أحسن. وكان الطلاب يؤمرون بالإخلاص؛ وعظ الحسن يوماً في مجلسه، فتنفس رجل، فقال الحسن: إن كان لله شهرت نفسك، وإن كان لغير الله فقد هلكت، وقال عبد الكريم بن رشيد: كنت في حلقة الحسن، فجعل رجلٌ يبكي وارتفع صوته، فقال الحسن: إن الشيطان ليبكي هذا الآن، يعني: إذا خشعت وحضرك البكاء فاكتم بكاءك، ولا تجعله ظاهراً يلتفت إليك الناس بهذا الصوت المرتفع. وكان من سماتهم وعظ أصحاب الحلقة، فعن الأعمش قال: كان ابن مسعود رضي الله عنه جالساً بعد الصبح في حلقة، فقال: أنشدُ الله قاطع رحمٍ لما قام عنا فإنا نريد أن ندعو ربنا، وإن أبواب السماء مرتجة دون قاطع الرحم، فهو إذاً يعظ الجلوس يقول: من كان قاطع رحم فلا يجلس معنا، لأننا نريد دعاءً مستجاباً، والدعاء لا يجاب بقاطع الرحم، ومرتجة أي: مغلقة، وقد جاء ذلك أيضاً أو مثله عن أبي هريرة أنه قال: أحرج على كل قاطع رحم إلا قام من عندنا، فلم يقم أحدٌ إلا شابٌ من أقصى الحلقة، فذهب إلى عمته لأنه كان قد صارمها منذ سنين فصالحها، فقالت له عمته: ما جاء بك يا ابن أخي؟ -ما هذا المجيء الغريب؟ - قال: إني جلست إلى أبي هريرة، فقال: أحرج على كل قاطع رحم إلا قام من عندنا، فقالت له عمته: ارجع إلى أبي هريرة واسأله لِمَ ذلك؟ فرجع فأخبره، فأخبره أبو هريرة بمثل ما تقدم عن ابن مسعود رضي الله عنه. فقد كان في مجالس العلم مواعظ، كان فيها تذكير، الطلاب بالواجبات الشرعية، وليس مجرد حشو معلومات، لقد تغيرت الأمور كثيراً عما كان عليه الأمر في عهد السلف، فقد كان هناك تربية على الإخلاص، وتذكير بالواجبات، وتواصٍ بالحق، وصارت أجود الحلق اليوم ما فيه كثرة معلومات، والباقي فيه كثير من الهدر وضياع الوقت، وليست القضية -يا إخوان! - معلومات فقط، بل ينبغي أن يكون في هذه الحلق إيمانيات، ومواعظ، وذكر لله، وتواص، وتذكير، فهذه قضايا مهمة جداً ينبغي أن تكون في الحلقة، ولا يصلح أن تكون حلقاً جافة ليس فيها إلا عبارات تحتاج إلى تفكيك فقط. إن المسألة التي تبتني عليها الأعمال وتصلح الأحوال، أن يكون ذلك مقترناً أيضاً بذكر الله والوعظ. وكان كلام المشايخ من إخلاصهم لا يتأثر بمجيء فلانٍ من الناس كائناً من كان، وكانت أسرار الحلقة تحفظ، وإذا خولف ذلك حصل التذكير والتنبيه، وهذه قصة فيها عبرة، يقول سعيد بن أبي مروان: كنت جالساً إلى جنب الحسن، إذ دخل علينا الحجاج من بعض أبواب المسجد ومعه الحرس، فدخل المسجد على برذونه، فجعل يلتفت في المسجد، فلم ير حلقة أحفل من حلقة الحسن، فتوجه نحوها حتى بلغ قريباً منها، ثم ثنى وركه، فنزل ومشى نحو الحسن، فلما رآه الحسن متوجهاً إليه تجافى له عن ناحية مجلسه، قال سعيد: وتجافيت له أيضاً عن ناحية مجلسي، حتى صار بيني وبين الحسن فرجة ومجلس للحجاج، فجاء الحجاج حتى جلس بيني وبينه، والحسن يتكلم بكلامٍ له يتكلم به في كل يوم، فما قطع الحسن كلامه، قال سعيد: فقلت في نفسي: لأبلون الحسن اليوم ولأنظرنه؛ هل يحمل الحسنَ جلوسُ الحجاج إليه أن يزيد في كلامه ويتقرب إليه، أو يحمل الحسنَ هيبةُ الحجاج أن ينقص من كلامه؟ فتكلم الحسن كلاماً واحداً نحواً مما كان يتكلم به كل يوم، حتى انتهى إلى آخر كلامه، فلما فرغ الحسن من كلامه وهو غير مكترثٍ به، رفع الحجاج يده فضرب على منكب الحسن، ثم قال: صدق الشيخ وبر، فعليكم بهذه المجالس وأشباهها فاتخذوها حلقاً وعادة، هذا عبد الله بن أبي بعد صلاة الجمعة كان يقوم ويذكر الناس؛ فإنه بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مجالس الذكر رياض الجنة، ولولا ما حملناه من أمر الناس والمسئوليات العظام ما غلبتمونا على هذه المجالس، ثم افتر الحجاج فتكلم حتى عجب الحسن ومن حضر من بلاغته، فلما فرغ طفق فقام، فجاء رجلٌ من أهل الشام إلى مجلس الحسن حين قام الحجاج، فقال: عباد الله المسلمين، ألا تعجبون أني رجلٌ شيخٌ كبيرٌ وأغزو، فأكلف فرساً وبغلاً وفسطاطاً، وأن لي ثلاثمائة درهم من العطاء، ولي سبع بناتٍ من العيال، فشكا من حاله حتى رق الحسن له، ولما فرغ الرجل رفع الحسن رأسه، فقال: ما لهم قاتلهم الله اتخذوا عباد الله خولاً، ومال الله دولاً، وقتلوا الناس على الدينار والدرهم، فإذا غزا عدو الله غزا في الفساطيط الهبابة وعلى البغال السباقة، وإذاً أغزا أخاه أغزاه طاوياً راجلاً، فما فتر الحسن حتى ذكرهم بأقبح العيب وأشده، فقام رجلٌ من أهل الشام كان جالساً إلى الحسن، فسعى به إلى الحجاج -وشاية- فلم يلبث الحسن أن أتته رسل الحجاج، فقالوا: أجب الأمير، فقام الحسن، وأشفقنا عليه من شدة كلامه الذي تكلم به، فلم يلبث الحسن أن رجع إلى مجلسه وهو يبتسم -وقلما رأيته فاغراً فاه يضحك، إنما كان يتبسم- فأقبل في مجلسه، فعظم الأمانة، وقال: إنما تجالسون بالأمانة كأنكم تظنون أن الخيانة ليست إلا في الدينار والدرهم، إن الخيانة أشد الخيانة أن يجالسنا الرجل فنطمئن إلى جانبه ثم ينطلق فيسعى بنا إلى شرارة من نار، ثم قال الحسن: إني أتيت هذا الرجل فقال: أقصر عليك من لسانك أتحرض علينا الناس قال: فدفعه الله عني.

موت الشيخ وأثر ذلك على الحلقة

موت الشيخ وأثر ذلك على الحلقة كان فقد الشيخ أمراً كبيراً، إذا مات الشيخ والعالم صاحب الحلقة أحدث فراغاً كبيراً، قال الربيع كنا جلوساً في حلقة الشافعي بعد موته بيسير، فوقف علينا أعرابيٌ فسلم، ثم قال لنا: أين قمر هذه الحلقة وشمسها؟ فقلنا: توفي رحمه الله، فبكى بكاءً شديداً، ثم قال: رحمه الله وغفر له، فقد كان يفتح ببيانه منغلق الحجة، ويسد على خصمه واضح المحجة، ويغسل من العار وجوهاً مسودة، ويوسع بالرأي أبواباً منسدة، ثم انصرف، وكان الشيخ يعين من طلابه من يلي الحلقة من بعده، وقد دخل على الشافعي في مرض موته الربيع والبويطي والمزني ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: فنظر إلينا الشافعي ساعة، فأطال يتفرس في وجوههم، وكان الشافعي من أشهر الناس في الفراسة، ينظر إلى الشخص فيعرف أشياء من أحواله خفية بفراسته، قال: أما أنت يا أبا يعقوب، فستموت في حديد، يعني: البويطي، ستحدث قضية تقيد بالأصفاد وتموت بالأصفاد، وكان البويطي من الثابتين في فتنة خلق القرآن فربط وقيد ومات في القيد، وأما أنت يا مزني، فسيكون لك بـ مصر هناتٌ وهناتٌ، ولتدركن زماناً تكون أقيس أهل ذلك الزمان، وأما أنت يا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم فسترجع إلى مذهب أبيك، يعني: إلى مذهب مالك، وكان قد تحول إلى الشافعية، ثم فعلاً بعد ما مات الشافعي حصلت له قضية واختلاف بينه وبين بعض الناس فرجع إلى مذهب مالك، وأما أنت يا ربيع فأنت أنفعهم لي في نشر الكتب، قم فتسلم الحلقة، قال الربيع: فكان كما قال، ما رأيت أفطن من الشافعي، سمى رجالاً ممن يصحبه، فوصف كل واحدٍ منهم بصفة ما أخطأ، فـ الشافعي عيَّن من يلي الحلقة من بعده، وكانت الحلقة أحياناً يتعاقب عليها العلماء وكأنها وراثة، فقال أحمد بن محمد الشافعي: كانت الفتوى بـ مكة في المسجد الحرام لـ ابن عباس، وبعد ابن عباس عطاء بن أبي رباح، وبعد عطاء؟ عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، وبعد ابن جريج؟ مسلم بن خالد الزنجي، وبعد مسلم؟ سعيد بن سالم القداح، وبعد سعيد محمد بن ادريس الشافعي وهو شاب، حلقة مكانها معروف في المسجد يتتابع عليها العلماء، إذا مات خلفه آخر، والثاني، والثالث وهكذا، ولم يكونوا يغترون بكثرة الطلاب.

تعامل علماء السلف مع طلابهم المنحرفين

تعامل علماء السلف مع طلابهم المنحرفين من الأشياء المهمة: عدم الاغترار بكثرة الطلاب، فقد جاء في كتاب عجائب الآثار عن شيخٍ كان يتفقه، وكان متفنناً في المسائل، ولكنه كان شاعراً ماجناً خليعاً، ومع ذلك كانت حلقة درسه تزيد على الثلاثمائة، هذا الكلام في القرون المتأخرة عام ألف ومائة وشيء، لكن الشاهد منه أنه ينبغي أن ينتبه لحلق أهل السنة وتميز عن حلق أهل البدعة، وحلق أهل العلم تميز من حلق غيرهم، وحلق المبتدعة لا تغرنا ولو كان فيها من الأعداد ما فيها، وهذا واضح، فإنك لترى الآن بعض مشايخ الصوفية ربما حضرت مجالسهم الآلاف، وإذا كانت الحلقة الآن أكثر ما فيها آلاف، فإن هناك حلقاً تعقد في استديوهاتٍ يحضرها الملايين، فلا يغرنك الكثرة ولو كانت كاثرة، فالعبرة بسلامة دين ومنهج صاحب الدرس والحلقة، سواءً كان في مسجد أو في مؤتمر أو في قناة فضائية، ليست العبرة بكثرة السامعين له، والمتناقلين لأخباره، فهذا واحد يقول: كان شاعراً ماجناً خليعاً يحضر عنده ثلاثمائة واحد. وكان من هدي السلف إفساد حلق المبتدعة والكذابين، ومن ضمن القصص الطريفة؛ قصة حدثت للأعمش رحمه الله؛ دخل الأعمش جامع البصرة، فرأى قاصاً يقص، وكان القصاص يكذبون لأجل تخويف الناس، ويفترون الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ويختلقونها على الرواة، وما سمعوها منهم، فدخل الأعمش جامع البصرة، فرأى قاصاً يقص، ويقول حدثنا الأعمش، وهذا القاص لا يدري من هو الأعمش، وأنه الجالس في الحلقة يقول: حدثنا الأعمش، فقام الأعمش فمشى إلى وسط الحلقة وجلس، وجعل ينتف شعر إبطه، فقال القاص: يا شيخ ألا تستحي، فقال: لم؟ أنا في سنة وأنت في كذب؛ أنا الأعمش وما حدثتك. وكذلك كان شأنهم في طرد الضالين والمفسدين من الحلقة تعزيراً وفضحاً ودرءاً لفتنتهم، فقال الذهبي رحمه الله في السير: واصل بن عطاء البليغ الأفوه، وعمرو بن عبيد رأسا الاعتزال (مذهب المعتزلة) طرده الحسن من مجلسه لما قال: الفاسق لا مؤمن ولا كافر، فانضم إليه عمرو واعتزلا حلقة الحسن، فسموا بـ المعتزلة، إذاً الحسن طرد واصل بن عطاء لأنه مفسد، فأي واحد مفسد أو مبتدع في الحلقة يطرد، تعزيراً وتوبيخاً وردعاً لأمثاله، وتحذيراً للآخرين من شره، وإيقافاً لفساده، فلا بد أن يتعامل معه بالحزم.

بعض آداب الحلق الظاهرة

بعض آداب الحلق الظاهرة كانت تلك لمحات عن وضع الحلق في عهد السلف، وقد ذكر العلماء آداباً للحلق، فقالوا: ينبغي لمن يأتي الحلقة أن يصلح هيأته ويأخذ أهبته، حتى أنهم قالوا: يتعاهد نفسه ويتجمل للحاضرين، فيغتسل، ويمشط شعره ولحيته، ويصلح عمامته وثوبه، ويتبخر، ويبتدئ بالسواك، ويلبس من الثياب البيض، ويستعمل الطيب، وينظر في المرآة قبل أن يأتي، ويهيئ نفسه للحاضرين وللدرس، ولمجلس الذكر الذي تحفه الملائكة، ويأتي مقتصداً في مشيته، ويبدأ من يلقاهم بالسلام، ويعم بالسلام كافة الحاضرين، لا يخص شخصاً بالسلام، وإذا كان في مسجد ودخله، فإنه يصلي ركعتين قبل جلوسه، ويجلس متربعاً متخشعاً، وقد جاء في الحديث الصحيح (أن النبي صلى الله عليه وسلم رآه شخصٌ قاعداً القرفصاء فقال: أرعدت من الفرق) يعني: من الهيبة لهيئة النبي عليه الصلاة والسلام، وكذلك يستعمل لطيف الخطاب في الكلام، ويحسن خلقه مع أصحابه وأهل حلقته، لأن النبي قال: (خالق الناس بخلقٍ حسن) وهؤلاء أولى الناس أن يحسن الإنسان خلقه معهم، ولذلك كانوا يحاولون كظم الغيظ، ومنع الغضب، والتلطف في الكلام، وتعيين الأيام للدروس؛ هذا مما ذكروه في آداب الحلق. وإذا عين لهم يوماً ووعدهم فيه، فلا ينبغي إخلاف موعده إلا بأمرٍ يعذر فيه من مرضٍ ونحوه، وكذلك كانوا يفضلون عقد المجالس في المساجد، لكن لو لم يحصل عقدوها في البيوت، وقد عقد النبي صلى الله عليه وسلم للنساء مجلساً في بيتٍ، وقال: موعدكن بيت فلانة لكل أناسٍ نحو سوقٍ مقاصد وسوق ذوي تقوى القلوب مساجدُ مثابة ذكراهم عشياً وبكرة وللعابدين الله فيها معابدُ فطوبى لهم يوم الجزاء إذا جزوا ونودوا بأن طبتم وطاب المُواعدُ ويجعل اتجاهه إلى القبلة ما أمكن، لكن شكل المجلس يأخذ الحلقة المستديرة، ولذلك فإن أصحاب كتب اللغة قد قالوا في تعريف الحلقة: القوم مجتمعون مستديرون، وكذلك إذا مس شيئاً فيه ذكر الله، فإنه يكون على طهارة، وكان بعض المحدثين يستفتح بسورة من القرآن، ويرفع صوته -أي: الشيخ- ليسمع الناس، ولا يرفع أكثر مما يسمع الحاضرين، لأنه قد يشوش على أناس آخرين في المسجد يقرءون القرآن مثلاً، فصوته لأهل الحلقة فقط، ولا بأس أن يجلس على مكانٍ مرتفعٍ إذا كثر الناس، ويفتتح ببسم الله الرحمن الرحيم، ولا ينسى الشهادة والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ويترحم على شيخه ويدعو له. وكذلك كانوا يبدءون أول شيء بالسند في الحديث باسم الشيخ، وإذا مر بذكر الصحابي قال: (رضي الله عنه) ثم يمر بذكر النبي صلى الله عليه وسلم، فيصلي على النبي عليه الصلاة والسلام، ولا يروي ما لا تحتمله عقول العوام، وينتقي للحاضرين ما يفيدهم، من معرفة الأحكام الشرعية، والعبادات والمعاملات، وحق الله تعالى ونحو ذلك، ويفسر الألفاظ الغريبة الغامضة إذا مر بها، وما لا يعرفه يسكت عنه، وكذلك فإنه لا يُمل الحاضرين ولا يضجرهم، ولا بأس بأن يختم المجلس بالحكايات الطريفة والنوادر إذا لاحظ شيئاً من الملل، حتى أن بعضهم كان يقول: الحكايات حبوبٌ تصطاد بها القلوب، كما يصاد الطير برمي الحب له. ولا بأس أن يجعل شيئاً من الأشعارِ في المجلس، وقد كان ابن عباس رضي الله تعالى عنه يجعل ذلك في مجلسه، وفيها فوائد وبالذات إذا كانت من أشعار العرب؛ لأن معاني الكلمات في القرآن والسنة على لسان العرب، فتعرف الكلمة من معناها في سياق بيت من الشعر قاله العرب الأوائل ونحو ذلك. ولا ينسى كفارة المجلس إذا قام من المجلس، وهذا من الأشياء التي يفرط فيها الكثيرون. كان هناك أدبٌ في الدخول من جهة الشيخ، ومن جهة التلاميذ تقدمت آداب ومن ذلك أنه يقدم الأكبر عند الدخول، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بالكبير، وقال الخطيب البغدادي رحمه الله: تقديم الأكابر في الدخول، فإذا اجتمع مجموعة عند الباب يقدم الأكبر سناً، وقال مرةً واحد منهم للكبير: تقدم، فقال: تقدم أنت فإنك أفقهنا وأعلمنا وأفضلنا، فإذا كان الأفقه والأعلم قدموه. وإن كانوا متقاربين فمن الذي يدخل أولاً؟ الأكبر بالسن، وكذلك يمشي على البساط حافياً حتى لا يلوث المجلس، وكذلك يجلس حيث ينتهي به المجلس، ولا يقيم أحداً من مجلسه ولا يجلس وسط الحلقة، ولا يجلس بين اثنين إلا بإذنهما، وإذا قام من مجلسه ورجع إليه، فهو أحق به، ويعظم المحدث أو العالم أو طالب العلم الذي يعلمه في هذه الحلقة ويكون له من الشاكرين.

ملاحظات فيمن يقوم بالتدريس

ملاحظات فيمن يقوم بالتدريس من الأشياء التي نريد أن ننبه عليها ببعض الملاحظات، في موضوع الحلق والدروس بعد أن ذكرنا حال الحلق في عهد السلف، وذكرنا بعض الآداب المتعلقة بالحلق مما ذكره أهل العلم في كتب الآداب، هناك ملاحظات، من هذه الملاحظات ما يتعلق بالشيخ، ومنها ما يتعلق بالتلاميذ، ومنها ما يتعلق بمهنج الدرس، ومنها ما يتعلق بوقته وتنظيمه، ونقول هذا الكلام في وقتٍ قلَّ فيه العلماء، ومجالس العلم، فيصبح الواحد أحياناً محتاجاً لأن يقوم بالتعليم، ولكن ينبغي ألا يُعلّم ما لا يعلم أو ما لا يفقه، هب أن مدرساً للتربية الدينية أو التربية الإسلامية في فصل وحوله الطلاب فإنهم ينظرون إليه على أنه شيخ، والأولاد إذا عقد لهم أبوهم درساً في البيت، فإنهم ينظرون إليه كأنه شيخ ومعلم، بل إن كثيراً من الصغار يظنون أن بعض الذين يمسكون الدروس مشايخ، ويعاملونهم على أنهم مشايخ، ويعتقدون فيهم ذلك، فالإنسان إذا اضطر أن يتبوأ مكاناً مثل هذا فعليه أن يعلم ما يحسنه وليس ما لا يحسنه، فهو يعرف أحياناً أنه أقل من مستوى أن يدرس؛ لكن للحاجة قعد، ولولا الحاجة ما صح له أن يقعد، فإذا قلنا هذا مدرس يدرس طلابنا، أو هذا طالب في الجامعة عقد مجلس علم لطلابٍ، فإنه قد يكون عنده شيء من القراءة أو الإلمام أكثر منهم، فينبغي أن يعرف حق الآخرين ويعرف حجم نفسه حتى لا يتقمص شخصية لا يصح له أن يتقمصها، ثم يعامل الآخرين بناءً على ذلك، ولذلك في كثير من الأحيان نضطر بسبب عدم وجود العلماء وطلبة العلم بالقدر الكافي، خصوصاً في مناطق قد لا يكون فيها كليات شرعية، ونحن لا ننظر مثلاً إلى هذه الجزيرة التي فيها بالنسبة لغيرها علماء كثيرون، وحتى إذا قسمت على عدد الناس فسيكون لكل مفتي، يعني: لكل واحد يحسن الإفتاء كم شخصاً من الناس بالنسبة له كذا ألف، يعني: فوق طاقته، فكيف ببقية البلدان التي لو أن الإنسان أحياناً فيها- وخصوصاً الجاليات الذين يعيشون في الخارج- يبحث عن شيخٍ يفتيه وعالمٍ أو صاحب علم يسأله، فلا يجد إطلاقاً، فمن الفتنة أن يحتاج الإنسان إلى معرفة حكم شرعي أو مسألة فلا يجد من يسأله، وحتى في الأماكن التي يوجد فيها علماء قد يصعب الوصول إليهم، لأنه يقول: الهاتف مشغول، أو الشيخ لا يرد، أو أنه غير موجود في بيته، إذاً نحن لا بد أن نتعلم الدين.

طرق مقترحة للطلب والتحصيل

طرق مقترحة للطلب والتحصيل أولى الطرق أن ندرس على العلماء وهذه لا نقاش فيها مطلقاً، وهي مفروضة، فإن لم يوجد فهل نعطل الدروس فلا ندرس شيئاً أبداً؟ طالب علم جيد يقوم هو بالتدريس، فإذا لم نجد طالب علم، فهناك طرق فردية مثل أن يمسك أشرطة العلماء ويمسك الكتاب أو المتن المشروح ويسمع كأنه في الدرس، ويلخص، ويكتب، وينقل على حاشية الكتاب، وهذه من أعظم طرق تعويض فقد العلماء أو قلة العلماء، الآن الحمد لله الله عز وجل لما قدر علينا أن نكون في آخر الزمان حيث يقبض العلم، وبدأ قبض العلم وموت العلماء، فإنه عوضنا بأمور من المخترعات الحديثة نستطيع بها أن ندرك شيئاً مما فات، ولو أن أجر دروس الحلقة لا يعدله أجر سماع الشريط بالتأكيد. نحن بدأنا الحديث بفضل حلق الذكر حتى نؤكد أنه لا يعدلها شيء من الدراسات الفردية، أو سماع الأشرطة، لا زالت الحلقة في البركة والأجر أكبر، حتى فهم الإنسان إذا جلس عند العالم أكبر من فهمه عندما يسمع شريطاً لكن إذا ما وجد فقد وجدت طرق فردية ومن أعظمها كما قلت: سماع أشرطة العلماء، وتلخيص ذلك، أو كتابة شرح الشيخ على حاشية المتن أو الكتاب الذي يشرحه، مثل: الأربعون النووية، مثلاً متن الواسطية، متن كتاب في السيرة النبوية، متن فقهي، زاد المستقنع، عمدة الأحكام، كشف الشبهات، الأصول الثلاثة، البيقونية إلخ، أي متن من المتون غالباً تجد له شروحاً للعلماء موجودة مسجلة، فتأخذ الأشرطة وتفتح الكتاب، تسمي الله وتسمع وتركز، فيها ميزات أن تعيد الشريط، لو كنت مع الشيخ ما استطعت تقول أعد أعد، تعيد الشريط حتى تفهم وهكذا، يبقى إشكاليات تدون حتى ترحل في سبيل حلها إلى عالمٍ في مكة أو في المدينة أو الرياض أو في القصيم، أو إذا جاء إلى المنطقة التي أنت فيها تلقاه فتعرض عليه ما لقيت من الإشكاليات، فأنت تعوض كثيراً مما فات، لكن هذه الأشياء فردية والأشياء الفردية يعتريها أمور من قلة الهمة والضعف، ضعف الهمة وقلة الصبر. وإن بعض الناس يقولون: إن الطريقة التي تذكرها من سماع الأشرطة والحواشي هذه بالنسبة لنا صعبة، ما عندنا صبر وطاقة، حيث أن هناك ما يعتور هذا، نقول: درب نفسك وعود نفسك، وجاهد نفسك، والصبر هذا هو الذي أوصل العلماء إلى ما وصلوا إليه، طيب وفي حالة وجود ضعف الهمة وعدم كفاية الأشرطة، والرغبة في الأجر، لأن الحلق لا يعوضها شيء، لا بد أن تعقد الحلق، ولأن فيها جوانب أخرى غير قضية الشرح الواضح، وفك المتن، وعبارات المتن، قضية حف الملائكة بأجنحتها، ونزول الرحمة والسكينة، هذا لا نريد أن نفوته، لأن في الحلق فوائد تربوية عظيمة، من قضية إحياء منهج السلف في طلب العلم، ولو لم نكن قادرين على إحيائه (100%) لأن أهل العلم قلة، فإن عقد الحلق مهم جداً جداً، لابد لكل واحد أن يكون له على الأقل حلقة أسبوعياً، وإلا فهو إنسان لا يعيش في عالم التربية الإسلامية على العلم كما ينبغي، إذا لم تكن عندك حلقة في الأسبوع على الأقل، فهذه مشكلة، كان عند الإمام النووي رحمه الله اثنا عشر درساً في اليوم، ونحن كل واحد منا له ما يشغله من الصباح إلى الليل، نقول نحن: درس في الأسبوع، لابد من درس في الأسبوع. وقد يقول قائل: لم نجد علماء، عرضنا على طلبة العلم فاعتذروا بالانشغالات، ماذا نفعل؟ ثم نحن عندنا أيضاً أمور من الأجر نريدها، نريد حلقة لأجل الأجر، وكما قلت: حتى لو قرأ أحدهم القرآن وجلس الباقون يستمعون، حتى لو جلسوا يتذكرون نعم الله عليهم لأجل الأجر، إذاً لا بد من وجود حلق، لا نريد أحداً يعيش بدون حلق، لا بد من وجود حلق ولو مع واحد (تعال بنا نؤمن ساعة) فإذا ما وجدنا عالماً أو طالب علم، سنبحث عن أمثل الموجودين لعله يقوم بالشرح، فإذا لم يستطع، فنحن سنتعاون على دراسة كتاب أو قراءة كتاب مجتمعين، والخطأ في فهم الجماعة أقل منه في فهم الواحد، فقد أقرأ وحدي وأخطئ في الفهم، فسأعقد حلقة ودرساً مع أصحاب لي ونقرأ، وإذا حدث خطأ في الفهم سيكون أقل، وحصلنا بركة الاجتماع وبركة الحلقة وأجر الحلقة، وأحيينا منهج السلف على حسب استطاعتنا في قضية التدريس والحلق، قالوا: تدريس بالإنترنت، نقول: الحلق لا بد منها تربوياً، لا تفكر بتربية من غير حلق، هذه قاعدة ومسلمات لا يمكن التغاضي عنها.

كتب مقترحة

كتب مقترحة سنقول إذاً نحن مجموعة من الشباب أو الشابات، أو الكبار، أو الصغار سنعقد، نستشير من أهل العلم من يدلنا على كتبٍ نقرأها، قالوا: كتاب الشيخ ابن سعدي في التفسير سهل، قالوا: مختصر المباركفوري لتفسير ابن كثير مطبوع حديثاً وهو جيد، وهذا تفسير أنا كنت مرة ذكرته وأخطأت في قصدي، كنت أريد أن أذكر تفسيراً فذكرت تفسيراً آخر، فأعيد التصحيح الآن: نصحت مرة بتفسير وهو تفسير جيد على أية حال، ذكرت تفسير البغوي، لكنني كنت أريد تفسيراً آخر وهو تفسير السمعاني رحمه الله، تفسير السمعاني مختصر وجيد وخال من الأسانيد تقريباً، والأقوال الكثيرة، وهو رجل من العلماء الكبار، وإن كان لا يعرف عند أكثر الناس، خدم الكتاب من ناحية أنه حقق، تحقيقاً طيباً تفسير السمعاني، نريد أن نقرأ تفسيراً، يا إخوان دلونا على تفسير سهل قالوا: خذوا تفسير ابن سعدي، خذوا مختصر المباركفوري لتفسير ابن كثير، خذوا تفسير السمعاني. وماذا نقرأ في الحديث؟ قالوا: مثلاً خذوا الأربعين النووية بشرحها، خذوا بهجة قلوب الأبرار للشيخ ابن سعدي مثلاً في شرح مائة حديث، خذوا كذا. ماذا نقرأ في الفقه؟ قالوا: خذوا كتاب الملخص الفقهي لـ صالح الفوزان مثلاً. ماذا نقرأ في السيرة؟ قالوا: خذوا كتاب السيرة النبوية للعمري أو لغيره. فعقدنا حلقة إذاً لنقرأ في هذه الكتب، وندون الإشكالات، وممنوع الإفتاء والتأليف كما يقولون، وأن الإنسان يقول من عنده كلاماً ويعلقه بأظن وربما، إذا كان عندك شيء مؤكد وإلا فاسكت، هذا العلم دين، بالإضافة إلى ذلك ينبغي أن يكون في المجلس إيمانيات ومواعظ وتذكير وتواص بالحق، وليس معلومات فقط، وهذه قضية أؤكد عليها كثيراً جداً، لا بد أن يكون فيها شئ من الوعظ ومطريات القلوب، أو مرققات القلوب؛ كالتذكير بتقوى الله، والصحابة الذين هم أعلم الأمة لم تكن مجالسهم معلومات ومتون فقط، بل فيها معلومات وأشياء أخرى ثمينة، قد تكون أثمن من بعض المعلومات وهي قضية الموعظة؛ تذكر نعم الله، سؤال الله الجنة والاستعاذة من النار، وكل ما يتعلق بالأذكار، إلى آخره.

مقترحات في تنظيم الحلق والدورس

مقترحات في تنظيم الحلق والدورس لو أنا الآن عقدنا هذا المجلس من أناس متقاربين وأقران، وحتى لا تكون فوضى، قلنا: أنت يا فلان تدير هذه الحلقة، أو قام واحد من أمثلهم، قد يكون هناك فارق بسيط بينه وبين غيره في العلم، لكنه إمام مسجد، أو قارئ، أو أي شخص عنده اهتمام بالعلم، قد يكون تخصصه دنيوياً، لكن عنده اهتمام بالعلم أكثر من الآخرين لا يصلح أن يعامل الآخرين، كأنه شيخٌ كبير وهؤلاء طلاب صغار، فيحسن المعاملة، وقد يطلب من شخصٍ ما تحضير موضوعٍ قبل إلقائه، إن العلماء الكبار كانوا يُحضِّرون، الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله كان وهو يدرس في كلية الشريعة أو المعهد العالي، كان يحرص على التحضير، وإذا انشغل جداً يأتي ويعترف ويقول اليوم أنا ما حضرت، نقرأ. من الأشياء التي تقلل جدوى بعض الدروس والحلق: ألا يُحضِّر هذا الشيخ أو هذا الشخص المسئول عن التحضير، أو يتخلف عن الحضور، ومن المساوئ: أنه يجد نفسه مضطراً للكلام في أشياء لا يحسنها فيتكلم لأنه وضع بمكانة شيخ، من المساوئ أن ينقد الحاضرين نقداً مستمراً أو يقسو عليهم مما يسبب النفور، أو يجامل البعض بالسكوت على أخطائه، ويمرر أشياء ويحابي ناساً دون ناس، أو تكون الأمور منفلتة في حلقته ودرسه، فلا يهتم بتحفيظهم، وإذا لم يحفظ أحدهم، يقول: حسناً! ثم لا يهتم الحاضرون بالحفظ ولا بالتحضير ولا بالقراءة المسبقة، ثم أحياناً قد لا يعدل بينهم في المحاسبة على التقصير أو الغياب؛ مما يوغر صدور بعضهم على بعض، وأحياناً لا يكون هناك توازن في مسألة العرض، فيتوسع في أشياء أقل أهمية على حساب أشياء أكثر أهمية، تأخذ فقرة أكثر من حقها، وتهضم الفقرة الأهم أو الفقرة الأخرى، عدم الالتزام بالوقت المخصص للفقرة مثلاً، ضعف جانب القدوة من هذا الإنسان في قضية الحفظ من المساوئ والعورات الكبيرة. ثم إن الحاضرين في الغالب يريدون الاقتداء، ينظرون للشخص أحياناً على أنه شيخ، ولو لم يكن هكذا فيقلدون، فينبغي أن يحسب لهذا الأمر حسابه، وإذا كانت القضية مدارسة جماعية كما قلنا وليس أحد منهم بأفضل من الآخرين في العلم، فلا داعي بأن يتصدر إنسان علمياً المجلس، وليس هو بأهلٍ لذلك التصدر، نعم هو قد يُقال: لا بد أن يكون هناك مقرر للدرس، كما كانوا يسمونه، مقرر الدرس مثلاً، فيبدؤه ويختمه وينتقل من كتابٍ إلى آخر مثلاً، حتى لا تصير فوضى، لكن هذا لا يفتي ولا يتعدى، وكذلك فإنه لا بد من استثمار النصوص والقصص التي تمر استثماراً تربوياً مفيداً، وتضييع مثل هذه الفرص يفوت جانباً مهماً جداً ينبغي الاعتناء به، ولذلك كلما وجد الإنسان مدخلاً لموعظة في درس من الدروس العلمية، أو تذكير بأدب أو خلق، أو واجب اجتماعي قد قصر فيه الحاضرون أو انتشر بينهم، انتهز الفرصة للتأكيد عليه، ثم إن بعض المقدمات قد تأخذ وقتاً طويلاً تضر بالفائدة من بقية المواضيع، فينبغي أن لا يكون هذا ديدناً؛ أن تجعل المقدمات مضرة بالعلم الذي ينبغي أن يُدرس أو يؤخذ.

بعض ما ينبغي على من يحضرون هذه الدروس

بعض ما ينبغي على من يحضرون هذه الدروس ثم إنه ينبغي على حاضري الدرس أن يهتموا به من عدة جوانب منها: أولاً: الإخلاص لله تعالى، وهذه قضية القضايا وأصل الأصول ومسألة المسائل. ثانياً: احتساب الأجر في الحضور، وقد مر معنا أشياء استفتحنا بها عمداً لأجل بيان خطر وعظم ومكانة قضية حلق العلم والدروس. ثالثاً: الانضباط في الحضور، وعدم الغياب والتأخر، ومما أفسد كثيراً من الدروس؛ يأتي كثيرٌ من الخيرين يقولون: لا بد أن نقيم درساً ونقرأ في كتاب، متى؟ يوم كذا في الوقت الفلاني، ثم هذا يغيب مرة، وهذا يتأخر مرة، حتى يفسد الدرس، فمما يفسد الدروس الغياب والتأخر، ولذلك يضطر بعض الناس أن يعمل غرامات، لماذا؟ هل نحن أطفال؟ أو نحن ناس إلى هذه الدرجة قضية غير مهمة عندنا؟ وبعض الناس يدفعون دفعاً إلى الحضور، واحد يقول: مروا علي وذكروني إذا لم أكن مشغولاً فسوف آتي، نحن الآن لماذا عقدنا الدرس أصلاً أليس للأجر والفائدة؟ ثم هذا يقول: عندي ظروف خاصة، هذا يقول: أهلي يحتاجوني في كذا، هذا يقول: دورة، هذا يقول: تأخرنا في الدوام وأنا اليوم متعب، ونحو ذلك من الأعذار، بعضها صحيح ولكن بعضها زائف، وقد بينت هذه القضية في درسٍ عن الأعذار المتهافتة أو السخيفة. وكذلك لا بد من الالتزام بالأوقات واحترام المواعيد، وجود تجانس ما أمكن بين الحاضرين، تقارب مستوى الفهم، حتى لا يكون هذا يريد الإعادة كذا مرة وهذا فهمها من أول مرة، تفريغ النفس من الشواغل ذهنياً حتى تفهم، الاستعداد المسبق لا لكثرة التعليقات وبالذات غير المفيدة، وكثرة الأسئلة دون داعٍ، مع أن السؤال مهم إذا وجد من يعطي جوابه، لا لكثرة المقاطعة أثناء الإلقاء، تترك التعليقات إلى نهاية كلام المصنف أو العالم أو صاحب الكتاب أو شارح الموضوع، وجعل وقت معين لفقرات الدرس من الأمور المهمة، يُقدَّم عرض للموضوع على الإضافات والتعليقات، ولا يصح أن نجعل التعليقات من الأشياء العقلية المجردة عن العلم التي تسيء إلى توقيت القضية. وكذلك من الآفات: أن يحضر الناس وفيهم نوم ونعاس، وقد ساءني وآلمني ما سمعت عن واقع حلقة علم لواحد من العلماء الكبار الموجودين، يقول: ذهبت بعد الفجر ووجدت درس الشيخ على شهرة الشيخ خمسة عشر رجلاً؛ اثنين نائمين، وواحد وراء العمود شخيره واصل إلى المجموعة، وواحد أتى له جوال فذهب يرد عليه، أي حلقة علم هذه؟!! ولذلك أول إجراء: إقفال جميع الأجهزة حتى يكون هناك فائدة من الدرس، على الأقل الأجراس، يا أخي إذا ما أردت أن تقفل الأجهزة، إذا ما احترمنا الدرس فلن يكون مفيداً إطلاقاً. وكذلك أن يكون هناك حدٌ أدنى يطالب به الجميع، وتنويع وسائل المنفعة قراءة وسماعاً ومناقشة، وإذا كان ليس على مستوى الترجيح فلا يرجح بين الأقوال الفقهية، يعرض الأقوال فقط، أو يقول وفلان يفتي بكذا من العلماء، كثمرة عملية يقلد تقليداً، ولا يرجح وهو ليس بأهل للترجيح، ثم إن بعض الأشخاص مثلاً قد يقرأ الموضوع قراءة مملة، فلا يستوعب الحاضرون المقصود، ولذلك العلماء كانوا يهتمون بقضية المملي والمستملي والمبلغ؛ أن يكون صيتاً حسن القراءة جيداً في اللغة ونحو ذلك، يقرأ المتن ثم الشرح ويراعى الفقرات الموجودة أين بدايتها وأين نهايتها. وكذلك لا بد من مراعاة عدد الناس الذين يمكن أن يستوعبوا هذا الموضوع، قد يحضر في درس المسجد آلاف، وقد يكون درساً في مجلس، لو حضره كثيرون ما وصل الصوت أصلاً، وكذلك فإن مراعاة شيء من الراحة أثناء فقرات الدرس طيب ومهم، وعندما قالوا في الدراسات الحديثة: إن حصة الجامعة لا تتعدى خمسين دقيقة مثلاً في الجامعات، ثم يأخذ راحة خمس دقائق، ثم حصة أخرى، هذه من مراعاة التركيز والذهن الذي يتشتت، وبعض الناس قد يسيئون للدرس بعمل ضيافات كبيرة قد تأخذ وقتاً طويلاً وتشتت الذهن، ولذلك إذا جعل الضيافة ففي الاستراحة، أما واحد يعظ أو يذكر شيئاً في كتاب الله، وهذا يقول: صب لي، وهذا يقول: لا أريد من هذا، ضع نعناعاً، وهذا يقول: أليس عندكم زنجبيل؟ فلذلك لا بد من مراعاة هذه القضايا، نعم لا بأس بشربة ماء، لكن أن يجعل الموضوع الأساسي هو العشاء والأكل والضيافة ثم هذا الدرس ربع ساعة، فهذه كارثة، ثم أن يعذر بعضهم بعضاً في الأعذار الصحيحة، ويتواصى بعضهم مع بعض في الأعذار الزائفة، ويحمس بعضهم بعضاً على الحضور وعلى الانضباط في هذه الدروس. لعلنا نكتفي بهذا المقدار، وهناك تكملة للموضوع لعلها تكون إن شاء الله في الدرس القادم، هذا الدرس هو آخر الدروس قبل إجازة الحج، وسيكون هناك إن شاء الله ذكر لبعض الأحكام المتعلقة بالحج وأحكام الأضحية، وعشر ذي الحجة في خطبة الجمعة بمشيئة الله، ونعاود الدرس في الأربعاء بعد فتح المدارس، أول أربعاء إن شاء الله بعد فتح المدارس، ونسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم لكل خير، وأن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، وصلى الله على نبينا محمد.

إصلاح ذات البين

إصلاح ذات البين إصلاح ذات البين من العبادات الجليلة التي رغب عنها الكثير من الناس، مع ما فيها من الأجر الجزيل والخير العميم؛ فإن من مقاصد التشريع تحقيق المودة والألفة بين الناس، وقد أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم أن إصلاح ذات البين أعلى درجة من الصلاة والصيام والصدقة. وقد كثرت النزاعات على مستوى المجتمع بين عامة الناس وعلى مستوى الزوجين، ومما يمكن أن يساعد في تقليل الخلاف ورأب الصدع إحياء هذه العبادة الجليلة.

التآلف والاجتماع من مقاصد الشريعة

التآلف والاجتماع من مقاصد الشريعة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار. عباد الله: إن الشريعة قد رغبت في جمع القلوب والإصلاح بين الناس وأن يكون أمر المسلمين مجتمعاً، ولذلك جعلت الأخوة أمراً مرغوباً فيه، مثاباً عليه لمن قام بحقه، وكذلك دعت إلى رفع ضده ومقاومة كل ما يشينه، ولذلك ترى الشريعة قد أمرت بإفشاء السلام، وإجابة الدعوة، وعيادة المريض، وكل ما من شأنه أن يقرب بين المسلمين، ونهت عن الكذب والنميمة والغيبة، وعن الهمز واللمز والسخرية، وعن كل ما من شأنه أن يسيء العلاقة ويقطع المودة بين المسلمين، ومن الإجراءات التي جاءت الشريعة بها لأجل الحفاظ على العلاقات بين المسلمين إصلاح ذات البين. إصلاح ذات البين -يا عباد الله- من الأمور العظيمة والعبادات الجليلة التي تركها كثيرٌ من الناس ورغبوا عنها، ونحن في مجتمعٍ مادي تغلب عليه المادة، وتكثر فيه المعاصي، ولذلك فإن الخلافات لابد أن تكثر تبعاً لذلك، والدعاة إلى الله عز وجل -بل وجميع المسلمين- عليهم واجب إصلاح ذات البين، ومحاولة إزالة ما في النفوس، وهذا من العبادات العظيمة ولا شك.

الضغينة حرمان من المغفرة

الضغينة حرمان من المغفرة إن الشريعة قد جعلت أمر مصارمة المسلم لأخيه أمراً خطيراً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن يومي الإثنين والخميس يغفر الله فيهما لكل مسلم إلا مضطغنين، يقول الله: دعهما حتى يصطلحا) وذلك لما سأل صلى الله عليه وسلم عن سبب الإكثار من صيامه للإثنين والخميس، فيحرم المتصارمان من مغفرة الله تعالى بسبب الشقاق الذي قام بينهما وبسبب الهجران الذي حل بينهما.

الإصلاح بين الناس

الإصلاح بين الناس أما الإصلاح بين الناس فإنه واجب، قال الله تعالى: {وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال:1] وهذا أمرٌ لابد منه، أصلحوا ما بينكم وبين إخوانكم، أصلحوا بين النفوس، قربوا بينها، أزيلوا أسباب العداوة. والصلح يكون بين متغاضبين كالزوجين، ويكون في الجراحات كالعفو على مال، ويكون لقطع الخصومة، كما إذا وقعت المزاحمة في الأملاك أو المشتركات، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم بذلك، وقد دلَّ الكتاب والسنة على فضل الإصلاح بين الناس.

فضل الإصلاح بين الناس

فضل الإصلاح بين الناس قال الله تعالى في فضل الإصلاح: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:114]. فإذاً كثيرٌ من الناس الذين يتسارون ويتناجون ليس في نجواهم خير إلا من قام بالتناجي في الخير وإصلاح ذات البين، فإن هذا مأجور ونجواه مأجورٌ عليها، وقد قال الله تعالى في أجر المصلح بين الناس: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:114] وعن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أدلكم على أفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إصلاح ذات البين؛ فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول: إنها تحلق الشعر، ولكنها تحلق الدين) رواه الترمذي وأبو داود وإسناده على شرط الشيخين. فلما كان نفع إصلاح ذات البين متعدياً، وخيره عميماً، وفائدته شاملة، صار أجره عظيماً، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في فضله: (كل سلامى من الناس عليه صدقة) كل مفصل من مفاصل الإنسان من هذه العظام عليه حقٌ واجب يجب على العبد أن يؤديه لربه شكراً على إنعامه على العبدية: (كلُّ سلامى من الناس عليه صدقة كل يومٍ تطلع فيه الشمس؛ يعدل بين اثنين صدقة) فإذا أصلح بينهما وعدل بينهما، أتى بصدقة من هذه الصدقات، وأدى بعض ما عليه من الحق. ولعظم هذه المسألة جعلت الشريعة إثم الكذب منتفياً عمن يصلح بين الناس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لم يكذب من نمى بين اثنين ليصلح) وفي رواية: (ليس بالكاذب من أصلح بين الناس فقال خيراً أو نمى خيراً). ومن أوجه ذلك أن يخبر بما علمه من الخير، ويسكت عما علمه من الشر، فلا ينقله ولا يبلغه، وذهبت طائفةٌ من العلماء إلى جواز الكذب لقصد الإصلاح، والأحوط أن يأتي بالتورية والتعريض. إذا نقل خيراً أو سئل: هل قال فلانٌ فيّ كذا؟ فنفى ذلك لم يكن كاذباً، مع أن الكذب في الشريعة أمرٌ قبيحٌ جداً، لكن لما كانت مصلحة إصلاح ذات البين أعظم من مفسدة الكذب رخصت فيه الشريعة، ولم تجعل فيه إثماً على من فعله لأجل الإصلاح بين الناس.

النبي صلى الله عليه وسلم يصلح بين الناس

النبي صلى الله عليه وسلم يصلح بين الناس وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم الفعلية محاولاتٌ وعملٌ دائبٌ منه صلى الله عليه وسلم في الإصلاح بين الناس، فقد روى البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه: (أن أهل قباء اقتتلوا حتى تراموا بالحجارة، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: اذهبوا بنا نصلح بينهم) أمر أصحابه أن يذهبوا للإصلاح بينهم، وعنون عليه البخاري رحمه الله: باب قول الإمام لأصحابه اذهبوا بنا نصلح. بل إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذهب في الإصلاح ولو بعدت المسافة وفاته شيءٌ من الجماعة لأجل الإصلاح بين الناس، كما روى البخاري رحمه الله: أن بني عمرو بن عوف بـ قباء كان بينهم شيء، فخرج يصلح بينهم صلى الله عليه وسلم في أناسٍ من أصحابه، فحبس رسول الله صلى الله عليه وسلم وحانت الصلاة، فجاء بلال إلى أبي بكر رضي الله عنه، فقال: يا أبا بكر إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حبس وقد حانت الصلاة، فهل لك أن تؤم الناس؟ قال: نعم إن شئت، فأقام بلال الصلاة، وتقدم أبو بكر رضي الله عنه، فكبر بالناس، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي في الصفوف يشقها شقاً حتى قام في الصف فأخذ الناس في التصفيح الحديث. تأخر عليه الصلاة والسلام عن صلاة الجماعة وذهب إلى قباء للإصلاح بينهم، كان ممشى خير وأجراً عظيماً، وندب إلى ذلك أصحابه، وكان عليه الصلاة والسلام يشير على المتخاصمين بالصلح. فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوت خصومٍ بالباب عالية أصواتهم، وإذا أحدهم يستوضع الآخر ويسترفقه في شيء -يقول: دع لي من أصل المال- والآخر يقول: والله لا أفعل فخرج عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أين المتألي على الله لا يفعل المعروف؟ فقال: أنا يا رسول الله! فله أي ذلك أحب) وعظه عليه الصلاة والسلام فقال: أين الذي يحلف بالله ألا يفعل الخير؟ فاستحيا الرجل وقال: أنا يا رسول الله، فله أي ذلك أحب، أي: فما أراده من عفو عن بعض المال فأنا راضٍ به، فكان عليه الصلاة والسلام يعظ في أمر الصلح ويرغب فيه، ويعط من رفض الصلح، كما وعظ الذي الذي حلف بالله ألا يقبل بعرض خصمه عليه. وكذلك جاء في صحيح البخاري رحمه الله تعالى: (أن كعب بن مالك تقاضى ابن أبي حدرد ديناً كان له عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فارتفعت أصواتهما حتى سمعهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيته، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهما حتى كشف سجف حجرته، فنادى كعب بن مالك، فقال: يا كعب، فقال: لبيك يا رسول الله، فأشار بيده أن ضع الشطر -أي: تنازل له عن النصف- فقال كعب: قد فعلتُ يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للخصم الآخر: قم فاقضه). فكان عليه الصلاة والسلام يشير بالصلح، وقد رأى هذا لا يستطيع الوفاء، والآخر يلح في الطلب، فطلب من أحدهما أن يتنازل عن شيء، وطلب من الآخر أن يقضيه الباقي، وهكذا كان صلى الله عليه وسلم يفعل، وهذه سياسته في أصحابه.

الصلح بين المسلمين المتقاتلين من أعظم الصلح

الصلح بين المسلمين المتقاتلين من أعظم الصلح ومن أعظم الصلح الصلح بين المسلمين المتقاتلين، لأن إراقة الدماء بين المسلمين من أعظم الكبائر ومما يفرق الصفوف أشد تفريق، ولذلك قال الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9] فهذا أمرٌ بالصلح. وكذلك فإن الإصلاح بين طالبي الدية في الجراحات مما جاء في السنة، فإن أنساً رضي الله عنه حدث أن الربيِّع بنت النضر كسرت ثنية جارية، اعتدت عليها فكسرت ثنيتها، فطلبوا القصاص فقال أهل الربيِّع: نعطيكم مالاً بدلاً مما فعلته الربيِّع، أو اعفوا عنها وتنازلوا عن طلب القصاص، فأبوا إلا القصاص، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فأمرهم بالقصاص لأنه كتاب الله، فقال أنس بن النضر: أتكسر ثنية الربيِّع يا رسول الله؟! -وكان رجلاً صالحاً من أولياء الله تعالى- لا والذي بعثك بالحق لاتكسر ثنيتها، فقال: يا أنس كتاب الله القصاص، فرضي القوم وعفوا، وفجأة تغير الموقف، فرضي القوم فعفوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره).

شرف الحسن بن علي بإصلاحه بين أهل العراق والشام

شرف الحسن بن علي بإصلاحه بين أهل العراق والشام وكان من أعظم البركة والخير على المسلمين الحسن بن علي رضي الله عنه، فإن الله أصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين، كما جاء في الصحيح أنه لما تواجه معاوية والحسن رضي الله تعالى عنهما، فقال عمرو: إني لأرى كتائب لا تولي حتى تقتل أقرانها، فقال له معاوية -وكان والله خير الرجلين- أي عمرو! إن قتل هؤلاء هؤلاء، وهؤلاء هؤلاء، فمن لي بأمور الناس؟ من لي بنسائهم؟ من لي بضيعتهم؟ فبعث إلى رجلين من قريش، فقال: اذهبا إلى هذا الرجل فاعرضا عليه وقولا له، واطلبا إليه، فأتياه، فقبل رضي الله عنه الصلح، ورجع عن القتال، وهذا مصداق ما أخبر به صلى الله عليه وسلم، فإنه التفت إلى الحسن مرةً وإلى الناس، فقال: (إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين).

ثمرات الصلح بين المسلمين

ثمرات الصلح بين المسلمين أيها المسلمون: إن فوائد الصلح كثيرة، فإنه يثمر إحلال الألفة مكان الفرقة، واستئصال داء النزاع قبل أن يستفحل، وحقن الدماء التي تراق، وتوفير الأموال التي تنفق للمحامين بالحق وبالباطل، والحماية من شهادة الزور، وتجنب المشاجرات والاعتداءات على الحقوق والنفوس، بل إن الشريعة جعلت للمصلح حقاً من الزكاة أو من بيت المال، لأداء ما تحمله من الديون بسبب الإصلاح، وإن كان قادراً على أدائها من ماله، فقال الله تعالى: {وَالْغَارِمِينَ} [التوبة:60] وهم من تحملوا الديات لأجل الإصلاح بين الناس، وكف بعضهم عن قتل بعض. نسأل الله عز وجل أن يصلح ذات بيننا، وأن يهدينا سبل السلام، وأن يخرجنا من الظلمات إلى النور. اللهم لا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا، واغفر لنا، إنك أنت الغفور الرحيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه رءوفٌ رحيم.

الصلح بين الزوجين من أعظم أنواع الصلح

الصلح بين الزوجين من أعظم أنواع الصلح الحمد لله رب العالمين، الحمد لله رب الأولين والآخرين، الحمد لله خالق السماوات والأرضين، وأشهد أن لا إله إلا هو الحي القيوم، وحده لا شريك له، هو الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون، وأشهد أن محمداً رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين. أيها المسلمون: يا عباد الله! ومن أعظم أنواع الصلح الصلح بين الزوجين المتخاصمين، فإن الأسر تقوم على المحبة والألفة وتدوم بدوامها، فإذا انتهت المحبة والألفة وحل الشقاق، صار الفراق، ولابد للمصلحين من القيام بواجبهم تجاه الأسر المتفككة والسعي في الإصلاح بين الأزواج، وقد قال الله عز وجل عند حصول الشقاق: {فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء:35]. إذا كانت النية طيبة جاءت النتيجة طيبة: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء:35]. وندب الله تعالى إلى المصالحة بين المرأة وزوجها، وقال الله عز وجل: {فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء:128]. الصلح خيرٌ من الشقاق، الصلح خيرٌ من الفراق، الصلح خيرٌ من البغضاء التي تقوم في النفوس. قالت عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً} [النساء: 128] قالت: [هو الرجل يرى من امرأته ما لا يعجبه -كبراً أو غيره- فيريد فراقها، فتقول: أمسكني، واقسم لي ما شئت، قالت: ولا بأس إذا تراضيا]. فإذا أراد أن يطلقها إيثاراً لزوجته الأخرى مثلاً، فقالت الأولى: أمسكني عند أولادي، وأبيحك من ليلتي، فهذا جائز، وقد جعلت ذلك سودة رضي الله عنها، أو تصطلح معه على أن تضع عنه شيئاً من النفقة، وتتنازل له عن شيءٍ منها من أجل أن تدوم الحياة الزوجية لقوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء:128].

التحكيم بين الزوجين من أجل الإصلاح

التحكيم بين الزوجين من أجل الإصلاح وقال تعالى: {فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء:35] فماذا يفعل الحكمان؟ يقوم كل واحدٍ منهما بالالتقاء بوكيله أو مندوبه الذي انتدبه، أو طرفه الذي ينوب عنه -وإذا قلنا: إنه حاكم، فإن كلام الحكمين معتمد- ويسمع منه سبب الشقاق والخلاف، ثم يجتمع الحكمان فيعتمدان أموراً، ويتوصلان إلى صاحب الخطأ، من هو الطرف المخطئ لأجل وعظه ونصحه، أو وعظ الطرفين إذا كان كلاهما مخطئ، والسعي في تقريب وجهات النظر، ولذلك فإن من الحكمة أن يذكر الحكمان الزوج بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنساء، وبقوله صلى الله عليه وسلم في الوصية بالزوجة: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي) ويقولان له: إن منك يا أيها الزوج أن تعامل زوجتك بالفضل لا بالعدل؛ الواحدة بواحدة، وإذا فعلت ترد عليها، وإنما تتعامل معها بالفضل وبالمسامحة وبالزيادة منك والتغاضي، لأن أهلها استودعوها عندك، وائتمنوك عليها، ووثقوا أنك لن تسبب لهم المتاعب بسببها، وأنها أم أولادك، أو أنها ستكون كذلك مستقبلاً، والولد الصالح مما ينتفع به أبوه في الحياة وبالدعاء له بعد الممات، وأن الزوجة كالأسيرة بيد زوجها، وليس من الإسلام ولا من المروءة ولا من الشجاعة التي جاء بها الإسلام أن يسيء المسلم إلى أسيرته، أو أسيره، فكيف إذا كانت الأسيرة الزوجة؟ وأن الزوج الكريم هو الذي لا يستغل قوته وبطشه ولا يتعسف باستعمال سلطته على زوجته على نحوٍ يلحق بها الضرر، فهذه المعاني إذا قدمها الحكمان إلى الزوج بأسلوبٍ لطيف وقولٍ لين، فالغالب أنها ستؤثر في نفس الزوج، وسيقلع عما أدى إلى الشقاق. وكذلك ينبغي للحكم من أهل الزوجة أن يكلم الزوجة بمعاني الإسلام، ويذكرها بأحكامه المتعلقة بالزوجة في علاقتها بزوجها، وأن يذكرها بعظيم حق الزوج عليها، وأن من حسن معاشرتها له بالمعروف أن تسمعه الكلمة الطيبة اللينة، وأن تسارع إلى طاعته فيما أوجبه الشرع عليها من طاعته، وفيما يأمرها به زوجها من المباحات، وألا تثقل عليه بطلباتها الكثيرة، وأن تتحمل عبوسه وصدوده وإساءته وأن تقابل ذلك بابتسامتها وإحسانها وخدمتها، فإن الزوج إذا رأى ذلك منها، فسرعان ما يزول عنه العبوس والصدود ويكف عن الإساءة، وعليها ألا تستقصي في طلب الحقوق، وإذا أحست بكراهتها له، فلتطرد هذا الإحساس، ولتذكر نفسها بأنه قد يجعل الله لها فيما تكرهه الخير الكثير، فيرزقها الله منه ولداً تقر به عينها، ويزول عن قلبها ما تحسه من كراهة لزوجها. فتذكير الطرفين بحق كل واحدٍ منهما على الآخر وبالمعاشرة بالمعروف التي أمر الله بها، مما يجعل أمرهما ليناً سهلاً، والصلح بينهما وشيكاً.

المصلح بين الناس وآدابه

المصلح بين الناس وآدابه إذا كان المتدخل في الخصومة غير عاقل لا يحسن التصرف، فإن إفساده أكثر من إصلاحه، وهذا أمرٌ مشاهد، فإن عدداً من الناس يتدخل في القضية لأجل الإصلاح بزعمه، فإذا به يبعد النجعة، ويباعد الشقة، ويتسبب في مزيدٍ من الفرقة، ويحصل الكثير من الخلاف بعد أن كان شيئاً محدوداً، فإذا به يستشري وينتشر. فنذكر المصلحين الذين يريدون التدخل للإصلاح: أولاً: أن يبتغوا وجه الله تعالى: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً} [النساء:35] أي: إذا كانت النية صافية ومُخْلَصَةً لله كانت النتيجة طيبة {يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء:35]. ثانياً: الحكمة في التعامل في الأمور، فإن في كثيرٍ من الأشياء بين المتخاصمين حساسيات. ثالثاً: التكتم: (واستعينوا على إنجاح الحوائج بالكتمان) كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فلكي تنجح القضية، لابد من التكتم وعدم نشر التفاصيل بين الناس. رابعاً: أن يذكر كل واحد من المتخاصمين بالله عز وجل، وبحق الآخر عليه، إن كان أخاً في الله يذكر بحقوق الأخوة، وإن كان زوجاً يذكر بحقوق الزوجة، وإن كانت زوجة تذكر بحقوق الزوج. وكذلك فإنه لا بأس أن تنقل إليه كلمات من الخير على لسان الطرف الآخر، وتكتم عنه أموراً من الشر جاءت على لسان الطرف الآخر، هذا من الحكمة والسياسة في الإصلاح بين المتخاصمين. أيها المسلمون: إن إصلاح ذات البين والإصلاح بين المتخاصمين عبادة عظيمة جداً فرط فيها الكثير، ولذلك عمت الفرقة والشتات في كثيرٍ من طبقات المجتمع ونواحيه، وتفككت كثيرٌ من الأسر، لو أن المسلمين تدخلوا كما أمر الله: {وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال:1]-وهو أمرٌ واجب- لتفادينا كثيراً من الشر، ولكنك ترى هذا يخالف الشرع، وهذا يهمل ولا يهمه الأمر، ولذلك انتشرت الخلافات وعم الشقاق بين المسلمين، فلنبادر إلى الإصلاح على جميع المستويات؛ الإصلاح بين الدعاة إلى الله أنفسهم، والإصلاح بين كل متخاصمين من المسلمين. أيها المسلمون: هذه عبادة أوصى بها الله، وأوصى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانتدبوا أنفسكم للقيام بها، فإن في القيام بها أجراً عظيماً لا يعلمه إلا الله عز وجل. اللهم إنا نسألك أن تجعل قلوبنا عامرةً بذكرك، وأن تطهر قلوبنا من الشرك والنفاق، وأن تطهر ألسنتنا من الكذب، اللهم إنا نسألك أن تجعلنا إخوةً متحابين في سبيلك، قائمين بحقوقك، عاملين بدينك، اللهم إنا نسألك أن تنصر الإسلام والمسلمين، اللهم ارفع راية الدين، واقمع أهل النفاق والشرك يا رب العالمين!

المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار

المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار في بداية هذا الدرس تحدث الشيخ عن هجرة اليهود من بلاد الشام، وعن هجرة العرب من اليمن إلى المدينة، ثم عرض لهجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف واجه هو وأصحابه المشركين حيث حاولوا قتله عليه الصلاة والسلام، وحاولوا منع الصحابة من الهجرة، كما ذكر أهمية الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام. ثم انتقل الشيخ إلى الحديث عن المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار وفوائدها.

المدينة قبل الإسلام

المدينة قبل الإسلام الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم بارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فسنتحدث -أيها الإخوة- في هذه الليلة -إن شاء الله- عن موضوع من موضوعات سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وبعض ما يستفاد منها، وهو: "المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار" التي حصلت في المجتمع المدني عند قدوم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. أما المدينة وكان اسمها القديم يثرب فكانت واحة خصبة التربة تحيط بها الحرات من جهاتها الأربع، وأهمها: حرة واق من الشرق، وحرة الوبرة في الغرب. وكانت حرة واق أكثر خصوبة وعمراناً من حرة الوبرة، ويقع جبل أحد شمال المدينة، وجبل عير في جنوبها الغربي، وتقع فيها عدة وديان أشهرها وادي بطحان ومذيميم ومأزور والعقيق، وهي تنحدر من الجنوب إلى الشمال حيث تلتقي عند مجمع الأسيال من رومة.

اليهود وهجرتهم إلى المدينة

اليهود وهجرتهم إلى المدينة استوطن اليهود يثرب، وجاءوا إلى الحجاز عامة نازحين من الشام في القرنين الأول والثاني بعد الميلاد، عندما هيمن الرومان على بلاد مصر والشام، فأدى ذلك باليهود إلى الهجرة إلى شبه جزيرة العرب، ووصلوا إلى يثرب على مجموعات واستقروا بها، ومنهم يهود بني النضير وبني قريظة، واستقر يهود بني النضير وقريظة في حرة واق وهي أخصب بقاع المدينة، وكذلك جاء بنو قينقاع الذين قال بعض المؤرخين: إنهم كانوا عرباً تهودوا، وقال بعضهم: إنهم كانوا يهوداً أصليين، وغير هؤلاء من اليهود، مثل بني عكرمة ومحمر وزعورة والشطيبة وجشم وبهدل وعوف وغيرهم. وكان عدد هؤلاء بالمئات، حتى إن المؤرخين قد ذكروا أن المقاتلين من بني قينقاع كانوا سبعمائة، ومثلهم تقريباً من بني النضير، وما بين السبعمائة والتسعمائة من بني قريظة، فالمقاتلون من يهود القبائل الثلاث يزيدون قليلاً على الألفين، وهناك غيرهم ممن يسكنون في أماكن متناثرة من يثرب. وقد خضع ذلك المجتمع لسيطرتهم قبل أن يقوى كيان العرب في ذلك الوقت، ونقلوا من الشام أفكاراً مثل: بناء الآطام وهي الحصون، حيث بلغ عددها في يثرب تسعة وخمسين حصناً، وكذلك حملوا معهم بعض الخبرات الزراعية والصناعية من بلاد الشام مما أدى إلى ازدهار البساتين في المدينة، وكذلك تربية الدواجن والماشية، وبعض الصناعات الأولية كالنسيج والأواني، وكان على رأس الأعمال الاقتصادية التعامل بالربا الذي يتقنه اليهود في كل مكان.

هجرة العرب إلى المدينة

هجرة العرب إلى المدينة بالنسبة للعرب فإنهم قد جاءوا من اليمن وسكنوا يثرب وهم الأوس والخزرج، وكانوا بعد اليهود؛ لأن اليهود قد سبقوهم إلى ذلك المكان، وتملكوا أخصب البقاع وأعذب المياه، ولذلك اضطر الأوس والخزرج إلى سكن الأراضي المهجورة، وهم ينتمون إلى قبيلة الأزد اليمنية التي خرجت من اليمن إلى الشمال في فترات مختلفة، وبعض المؤرخين يقول: إن خروجهم كان بسبب انهيار سد مأرب وحدوث سيل العرم، وهي عقوبة ذكرها الله لـ سبأ بسبب إعراضهم عن الحق. ولما هاجر هؤلاء الأزد واستقروا بـ يثرب إلى جانب اليهود، وكان هؤلاء قد أحكموا سيطرتهم عليها -كما قدمنا- ويمكن أن يقدر عدد الأوس والخزرج من المقاتلين الرجال بأربعة آلاف وهو ما قدموه لجيش الفتح الإسلامي الذي فتح مكة.

اليهود والكيد بين الأوس والخزرج

اليهود والكيد بين الأوس والخزرج وقد حاول اليهود الدفاع عن تسلطهم بتفتيت وحدة العرب من الأوس والخزرج، ولذلك أذكوا بينهم نار العداوة والحروب، وكان آخر معركة قامت بينهم هي يوم بعاث قبل الهجرة بخمس سنوات، حيث هزم الأوس الخزرج الذين طالما غلبوهم من قبل، ولجأت الأوس إلى محالفة بني النضير وبني قريظة. لكن هؤلاء المتنافسون من قبائل العرب فطنوا إلى خطورة الإجهاز على بعضهم البعض، فسعوا إلى المصالحة، حتى يكون هناك شيء من التوازن مع اليهود الذين يسكنون يثرب، فاتفقوا على ترشيح رجل من اليهود، وهو عبد الله بن أبي بن سلول ليكون رجلاً متوجاً على الجميع في يثرب، ولاشك أن هذه الوقائع قد ولدت شعوراً بالمرارة عند الطرفين، وكان عبد الله بن أبي على وشك تولي هذا الملك على الجميع بعد وقعة بعاث الذي قتل فيها أعداد كبيرة من الأوس والخزرج، وكانت هذه الموقعة تهيئة هيأها الله تعالى للنبي عليه الصلاة السلام قبل أن يأتي المدينة، ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها: كان يوم بعاث يوماً قدمه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد افترق ملؤهم، وقتلت سرواتهم وجرحوا. قدمه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في دخولهم الإسلام، فجاء على قوم متفرقين يلملمون جراحاتهم، قد قتل معظم ساداتهم. ولذلك كان هذا الحدث مما سهل قدوم النبي عليه الصلاة والسلام، وبروز المسلمين واجتماع الكلمة عليهم، ولو كانوا قوماً أقوياء متحالفين من الأصل لربما كان دخول المسلمين بينهم صعباً، فكان يوم بعاث منة من الله قدمها لنبيه صلى الله عليه وسلم. هذه لمحة سريعة عن حال يثرب قبل قدوم النبي عليه الصلاة والسلام، ولاشك أن الشائع عندهم عبادة الأصنام والأوثان، وكانت عندهم العادات الجاهلية السيئة، وكذلك كان عندهم الظلم والبطش والبغي، ولا يوجد عندهم انضباط في أخلاق أو في عادات تهيمن عليهم، ولذلك كان الغالب عليهم الفوضى. وكان كذلك من الأمور المتفشية الربا وأكله، والخمر وشربه، وغير ذلك من العادات السيئة، ولما حصلت الهجرة، وهو الحدث العظيم الذي أرخ المسلمون به تاريخهم، حيث جعل عمر رضي الله عنه العام الهجري هو الأصل، فأرخ المسلمون من الهجرة؛ لأنها كانت فعلاً البداية الحقيقية لظهور الإسلام؛ لأن المسلمين في مكة كانوا مستضعفين مغلوبين مقهورين، وكانت الهجرة هي الحدث الذي كان الانطلاقة القوية الحقيقية لانتصار الإسلام وهيمنة المسلمين في ذلك الوقت.

مبادرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالهجرة إلى المدينة

مبادرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالهجرة إلى المدينة وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالهجرة إلى المدينة، بعدما صارت بيعة العقبة الأولى والثانية، وصار هناك قاعدة من الأنصار من أهل المدينة تنصر النبي صلى الله عليه وسلم، فهب المسلمون متفانين بالهجرة، وضحوا بأوطانهم وأموالهم وأهليهم استجابة لنداء الله ورسوله، حتى إن قريشاً لما اعترضت صهيباً الرومي بحجة أنه جمع أمواله من العمل في مكة، ولم يكن له مال قبل قدومه إلى مكة، ترك لهم أمواله وهاجر بنفسه، فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (ربح البيع أبا يحيى). ومنع المشركون أبا سلمة رضي الله عنه من الهجرة بزوجته وابنه فلم يمنعه ذلك من الهجرة وحيداً تاركاً زوجته وطفله في مكة، وقد ظلت زوجته أم سلمة تخرج كل غداة بالأبطح تبكي حتى تمسي نحو سنة، حتى تمكنت من الهجرة بابنها ولحقت بزوجها، وهكذا كانت الهجرة في ظروف صعبة، وكانت تمحيصاً لإيمان المؤمنين، واختباراً لقوة عقيدتهم واستعلاء إيمانهم، وقدم لنا أولئك المهاجرون درساً عظيماً في كيفية ترك المسلم أعز ما عنده من أجل الله ورسوله. كيف يهجر المسلم بلده التي يحن إليها والمكان الذي تربى فيه وترعرع وشب لله ورسوله؟ بل تركوا الأموال والتجارات وتركوا بيوتهم التي كانت لديهم مهاجرين إلى الله ورسوله، ولذلك كان المهاجرون فعلاً أعظم المؤمنين على الإطلاق في ذلك الوقت، وصاروا مؤهلين للاستخلاف في الأرض بما جعلهم الله تعالى في الرتبة العالية. اختار الله عز وجل لنبيه المدينة للهجرة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (قد أريت دار هجرتكم، أريت سبخة ذات نخل بين لابتين) فاللابتان هما الحرتان، الحرة الشرقية والحرة الغربية، وبينهما الأرض ذات نخل، وهاجر المسلمون وتأخر النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر الصديق، حتى أذن الله تعالى له بالهجرة. وقد أحس المشركون بهجرة المسلمين، فغاظهم ذلك فتعاقدوا على قتل النبي عليه الصلاة والسلام، ولكن الله عز وجل أعمى أبصارهم فلم يروه، فخرج هو وصاحبه الصديق إلى المدينة يقطعان الصحراء، والنبي عليه الصلاة والسلام كان في الثالثة والخمسين من العمر، والصديق في الحادية والخمسين، ومع ذلك فإنهما خرجا إلى المدينة مهاجرين، ووصلا المدينة وقد جعل الله للمسلمين فرجاً ومخرجا، مصداقاً لقوله تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء:100]. ولذلك نعى الله عز وجل ولام الذين قدروا على الهجرة فلم يهاجروا، بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} [النساء:97 - 99] وعسى من الله موجبة، فإذا قال الله: عسى الله، أي: فإن هذا هو ما سيحدث.

أهمية الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام

أهمية الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام والهجرة بطبيعة الحال أمر مهم جداً؛ لأن المسلم إذا بقي بين الكفار فإنه سيكون من المعينين لهم ويكثر سوادهم، وينتفع المشركون بطاقاته وإمكاناته، في الوقت الذي يحرم المسلمون من هذا الرجل المسلم ومن طاقاته وإمكاناته، من صناعة وزراعة وخبرة حربية ونحو ذلك، بالإضافة إلى أن المسلم إذا جلس بين الكفار فإنه يتعرض للفتنة، بالإضافة إلى أنهم قد يجبرونه على الخروج معهم في الحروب وتكثير سوادهم، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (من جاء مع المشرك وسكن معه فإنه مثله) رواه أبو داود. وهذا يدل على وجوب الخروج من بين المشركين إذا كان هناك مكان للمسلمين يأوي إليه الشخص آمناً مستقراً. وفي حالة وجود بلد الإسلام الذي تطبق فيه شريعة الله تعالى، ويستقبل المسلمين لتكثير سوادهم وانتفاع البلد بهم، فإنه تجب الهجرة من بلاد الكفار إليه، وبعض المسلمين تأخروا عن الهجرة تحت ضغوط الأزواج والأولاد، فلما هاجروا بعد فترة ورأوا الذين سبقوهم من المهاجرين وقد تفقهوا في الدين، هموا بمعاقبة زوجاتهم وأولادهم، وكان ذلك سبب نزول الآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن:14] ثم أمر الله تعالى بالصفح والعفو، وهذا يدل على أن الزوجة والأولاد قد يكونون من العوائق التي تعيق تقدم الشخص في الدين وتفقهه فيه، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (الولد مجبنة مبخلة مجهلة محزنة) مجبنة، أي: يريد الأب أن يجاهد في سبيل الله فيتذكر الولد وأنه يحتاج إليه ونحو ذلك فيقعد، يريد الأب أن ينفق في سبيل الله فيتذكر الأولاد، يقول: أولادي أحوج فلا ينفق، يريد أن يذهب لطلب العلم فيشغله أولاده عن طلب العلم فيبقى في جهل، محزنة: أي أن الولد يمرض -مثلاً- فيحزن الأب ويصيبه الكرب، وإذا كان الولد عاقاً فإن ذلك يكون الهم اللازم والمصيبة الكبيرة والحزن العظيم في نفس الأب. ولذلك حذرنا الله من الركون إلى فتنة الزوجة والأولاد، وأمر بمجاهدتهم في الله عز وجل، وأن نحملهم على طاعة الله تعالى: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6]. واستمرت الهجرة من مكة ومن غير مكة إلى المدينة، حتى إن المدينة ضاقت بسكانها المتزايدين وما يحتاجونه من القوت وخصوصاً بعد الخندق، فلما صارت وقعة الخندق وبانت قدرة المسلمين على الدفاع عن كيانهم أمام الأحزاب مجتمعين، ولم تعد المدينة بحاجة إلى مهاجرين جدد، نظراً لأنه قد صار فيها القوة الأساسية التي يمكن الدفاع بها عن البلد ككل، وحصل نوع من الازدحام في المدينة، وصار هناك شيء من الشح في القوت والمسكن - طلب النبي صلى الله عليه وسلم من بعض المهاجرين بعد الخندق العودة إلى ديارهم قائلاً لهم: (هجرتكم في رحالكم) لأنه لم تعد هناك ثمة حاجة لإقامتهم في المدينة، بل صارت المصلحة أن يقيموا في أماكنهم وقبائلهم وأحيائهم، في الدعوة إلى الله خارج المدينة لتوسيع رقعة الإسلام. ولكن ذلك لم يكن إيقافاً للهجرة؛ لأن الهجرة من مكة لم تتوقف إلا بعد الفتح، بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا هجرة بعد الفتح) أي: لا هجرة من مكة إلى المدينة بعد الفتح؛ لأن مكة صارت دار إسلام، فلأي شيء يهاجر منها؟! فانقطعت الهجرة وما عاد هناك أجر للهجرة من مكة إلى المدينة؛ وبذلك سقط فرض الهجرة إلى المدينة، وبقي فرض الجهاد والنية.

المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار سببها وأهميتها

المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار سببها وأهميتها وأدت الهجرة إلى تنوع سكان المدينة، حيث صار فيها من الأحياء المختلفين غير الأوس والخزرج من العرب، وضم ذلك كله وحدة المسلمين، وكان أعداؤهم المنافقين واليهود، فانقسم الناس إلى ثلاثة أقسام: المؤمنين والمنافقين واليهود، لما اجتمع هذا العدد من المهاجرين في المدينة، كان لابد من إيجاد حل لهؤلاء الوافدين القادمين الذين كثيرٌ منهم ما عندهم أموال ولا بيوت ولا مأوى، فجاء الحل الشرعي وهو المؤاخاة، واعتبر الإسلام المؤمنين كلهم إخوة، فقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] وأوجب عليهم الموالاة لبعضهم، والتناصر في الحق بينهم، وحصلت المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار.

المؤاخاة بين المهاجرين أنفسهم

المؤاخاة بين المهاجرين أنفسهم وذهب بعض المؤرخين إلى أنه قد حصلت مؤاخاة في مكة بين بعض المكيين، وقد أخرج الحاكم وابن عبد البر بسند حسن عن ابن عباس أنه قال: (آخا النبي صلى الله عليه وسلم بين الزبير وابن مسعود) ولكن ذهب ابن القيم وابن كثير إلى عدم وقوع المؤاخاة بـ مكة، وأن المؤاخاة ما كانت إلا في المدينة، وكذلك هو رأي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الذي نفى وقوع المؤاخاة بين المهاجرين في مكة، وخصوصاً ما روج من بعض الأخبار في المؤاخاة بين النبي عليه الصلاة والسلام وعلي، ولأن المؤاخاة إنما كانت لإرفاق بعضهم بعضاً، وتأليف قلوب بعضهم على بعض، فلا معنى لمؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم لأحد، ولا لمؤاخاة مهاجري مع مهاجري. وابن حجر رحمه الله ذهب إلى أن النص إذا جاء فإنه لابد من الأخذ به، وأن هناك حكمة أخرى للمؤاخاة وهي: أن بعض المهاجرين كان أفضل من بعض بالمال والعشيرة والقوة، فآخا بين الأعلى والأدنى من المهاجرين أنفسهم، حتى يرفق الأعلى بالأدنى، ويستعين الأدنى بالأعلى، فآخا بين حمزة وزيد بن حارثة؛ لأن زيداً مولاهم، وإن كان هناك مؤاخاة في مكة فهي شيء يسير، ولو كان هناك في المدينة مؤاخاة بين بعض المهاجرين، فهي حالات خاصة من مهاجر عنده إمكانات.

المؤاخاة الأساسية بين المهاجرين والأنصار

المؤاخاة الأساسية بين المهاجرين والأنصار المؤاخاة الأساسية كانت بين المهاجرين والأنصار، وكانت المدينة بطبيعة الحال فيها الزراعة والصناعة التي لم يكن المهاجرون قد تمرسوا بشيء منها؛ لأن وظيفة المهاجرين الأساسية في مكة كانت التجارة؛ لأن مكة لم تكن بلداً ذات زرع. ثم إن هؤلاء المهاجرين لما قدموا إلى المدينة لم يستطيعوا ممارسة التجارة؛ لأن التجارة تحتاج إلى رأس مال، ولذلك لم يتمكنوا من شق طريقهم بأنفسهم في المجتمع الجديد، وكانت حياتهم في المدينة حياة صعبة، وكان الحنين إلى مكة شديداً، وأصابت المهاجرين حمى يثرب، وهي وباء كان فيها، فالنبي عليه الصلاة والسلام دعا الله أن تنتقل الحمى إلى الجحفة، ورفعت الحمى من المدينة ونزلت في الجحفة، فهي المرأة السوداء التي رآها عليه الصلاة والسلام في المدينة في منامه. ودعا النبي عليه الصلاة والسلام الله عز وجل أن يحبب المدينة إليهم كحبهم مكة أو أشد، وبالفعل صارت محبة المهاجرين للمدينة شديدة، حتى إنهم بعد فتح مكة ما جلسوا في مكة، وإنما رجعوا إلى المدينة، ورجع النبي عليه الصلاة والسلام إلى المدينة، مع أنها فتحت مكة ورجعت إليهم بيوتهم ودورهم وأموالهم، ولكن مع ذلك بقيت محبة المدينة هي الأساس، فرجع النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه المهاجرون جميعاً إلى المدينة.

المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار تحقيق للتكافل الاجتماعي

المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار تحقيق للتكافل الاجتماعي الذي حصل أن العلاج السريع الذي كان يتطلبه الموقف في قضية الفقر الذي كان عند المهاجرين، ومشكلة النازحين إلى المدينة كانت تتطلب حلاً جذرياً وسريعاً، ولذلك شرعت المؤاخاة، ولم يبخل الأنصار بشيء من العون، بل مدوا أيديهم لإخوانهم، وضربوا الأمثلة الرائعة في التضحية والإيثار، كما قال الله تعالى في كتابه العزيز: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9] وقد بلغ كرم الأنصار حداً عالياً، حيث اقترحوا على النبي صلى الله عليه وسلم أن يقسم نخلهم بينهم وبين المهاجرين، إلى هذه الدرجة؟! يعني يشاطره في ماله، نصفه لأخيه ونصفه يبقى له! ولكن المهاجرين ما كان عندهم علم بكيفية رعاية النخل؛ لأنهم ما كانوا أصحاب زرع في مكة، ولذلك خشي عليه الصلاة والسلام أن لو انتقل إليهم النخيل تموت عندهم، لا يعرفون إدارتها، ولذلك أبقى النخيل للأنصار، ولكنَّ المهاجرين يشاركونهم في الثمرة. وبذلك صار هناك مورد طعام -لأن التمر طعام- للمهاجرين من خلال هذه المشاركة، وبدأ المهاجرون يتعلمون الزراعة والاهتمام بها، وجاء في الحديث أن عمر وصاحبه الأنصاري كانا يتعاونان في طلب العلم والقيام على الزرع، فـ عمر ينزل يوماً وصاحبه يعمل، واليوم الذي بعده ينزل صاحبه وعمر يعمل، وهكذا صار هناك بداية لاستيعاب القيام بالنخل وما تحتاج إليه، وصار للزبير وغيره نخل، تعلموا وتدرجوا في التدريب على رعايتها. وابتنى النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه دوراً في أراضٍ وهبتها لهم الأنصار، وأراضٍ ليست ملكاً لأحد، ومع أن الأنصار قالوا: إن شئت فخذ منا منازلنا، فقال لهم عليه الصلاة والسلام: خيراً، ولما جاء هؤلاء المهاجرون ووجدوا هذه الرعاية الكريمة، قالوا: (يا رسول الله! ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساة في قليل، ولا أحسن بذلاً من كثير، لقد كفونا المؤنة، وأشركونا في المهنة -أي: مؤنة النخل كفونا إياها، وأشركونا في المهنة: الثمرة والنتيجة- حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله، قال عليه الصلاة والسلام: لا، ما أثنيتم عليهم ودعوتم الله لهم). فإذاً لو أن إنساناً صنع لك معروفاً، فأنت أثنيت عليه ودعوت الله له، فإنه يبقى لك نصيب من الأجر، ولذلك من المحاسن في الدين الإسلامي أن الإنسان إذا صنع له أخوه المسلم معروفاً أن يقول له: جزاك الله خيراً، ويدعو له بخير. ورغم بذل الأنصار وكرمهم، فإن الحاجة كانت لا تزال إلى إيجاد نظام يكفل للمهاجرين المعيشة الكريمة، خاصة أن المهاجرين لا يريدون أن يشعروا أنهم عالة على الأنصار، فجاء نظام المؤاخاة في السنة الأولى الهجرية، قيل: بعد بناء المسجد أو أثناء بناء المسجد، أي: بعد هجرة النبي عليه الصلاة والسلام بأشهر، حيث عقد النبي عليه الصلاة والسلام عقد المؤاخاة بين الطرفين: المهاجرين والأنصار، فآخا بين كل مهاجري وأنصاري، مع أن الأنصار تبرعوا وأعطوا، لكن الأعداد زيادة على التبرعات، فحلت القضية بما يلي: كل أنصاري معه مهاجري، لا يوجد مهاجري ما عنده مكان ما عنده بيت ما عنده مال، إلا ويوجد أنصاري يقوم بالتآخي معه، وشملت المؤاخاة تسعين رجلاً، خمسة وأربعين من المهاجرين وخمسة وأربعين من الأنصار، ويقال: إنه لم يبقَ مهاجري إلا وقد آخا النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين أنصاري. وترتب على هذا التشريع حقوق خاصة بين المتآخيين كالمواساة، والمواساة هي: تقديم جميع أوجه العون، سواء كان عوناً مادياً أو رعاية أو نصيحة أو تزاوراً أو محبة، وحتى التوارث، كان إذا مات الأنصاري يرثه المهاجري، وإذا مات المهاجري يرثه الأنصاري، يرثه بالتآخي، واستمر هذا فترة من الزمن حتى نسخ ذلك بقول الله تعالى: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال:75] فنسخ التوارث بين المهاجرين والأنصار، وكان مشروعاً يرثه تماماً إذا مات.

عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع والتآخي بينهما

عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع والتآخي بينهما لقد طابت نفوس الأنصار بما سيبذلونه لإخوانهم من عون، ووصل الأمر لدرجة أن سعد بن الربيع الأنصاري يقول لـ عبد الرحمن بن عوف المهاجري: إن لي مالاً فهو بيني وبينك شطران، ولي امرأتان فانظر أيهما أحب إليك، فأنا أطلقها، فإذا حلت -أي: بعد العدة- فتزوجها. إننا يسهل علينا أن نتصور أن يتنازل الواحد عن نصف ماله للآخر، لكن لا يسهل علينا على الإطلاق أن نتصور أن رجلاً يتنازل عن زوجة لآخر، ويطلقها من أجل الآخر؛ لأن العلاقة الزوجية قوية، وليس من السهل على الإنسان أن يتنازل عن زوجته، لكن لما صار الإيمان قوياً في قلوبهم، قال: هاتان زوجتاي -قبل فرض الحجاب- انظر أيهما أحب إليك، ليس الزوج هو الذي ينتقي إحدى زوجاته، أو يترك أقلهما تعلقاً بها وأقلهما محبة، لا. بل المهاجري هو الذي ينتقي، يقول: اختر أيهما تريد أطلقها لك. ولاشك أن ذلك كان آية من الآيات الدالة على تعمق الإيمان، وترسخ قواعد الأخوة في نفوسهم؛ لأن مثل هذا العمل لا يمكن أن يقوم به الشخص في الأحوال العادية، إلا إذا صار عنده إيمان ودين فعلاً، فإذا قارنت الآن بين هذا وبين ما يحدث الآن بين عامة المسلمين من أنواع الإيذاء وأكل الحقوق الواضحة للغاية، وهضم الحقوق المالية والاستيلاء عليها، والإيذاء بين الجيران والإخوان، والأشياء التي توجد فيها الأنانية والحسد والبغض، وسطو هذا على مال هذا، وإذا وجد هذا فرصة لأكل حق الآخر أكله دون أن يقصر، والأذية الموجودة لنعلم ما هو الفرق بيننا وبين الصحابة. عبد الرحمن بن عوف لما عرض عليه هذا العرض المغري لم يكن بالذي يوافق عليه، ويقول: طلق فلانة أو هات نصف المال، وإنما كان عفيفاً، والعفة مهمة، عفة النفس: أي: أن الإنسان لا يقبل بأعطيات الآخرين إذا لم يكن هناك شيء ماس، ولذلك قال عبد الرحمن لـ سعد: بارك الله لك في أهلك ومالك، دلوني على السوق، فلم يرجع إلا بسمن وأقط قد أفضله، ذهب إلى السوق وهو رجل يحسن التجارة، باع واشترى، وباع واشترى، ورجع بفائض من سمن وأقط، ورأى النبي صلى الله عليه وسلم عليه أثر صفرة بعد فترة، فقال: (مهيم؟ -ما الخبر؟ - عليك أثر صفرة الزعفران -هذا ليس من شئون الرجال بل هو من شئون النساء- فقلت: تزوجت امرأة من الأنصار -هذا من نتائج احتكاكه بزوجته- فقال عليه الصلاة والسلام: أولم ولو بشاة) أمره أن يولم ولو بشاة. وتزوج عبد الرحمن بن عوف، وكان المهر نواة من ذهب أصدقها لتلك المرأة، ونمت ثروته بعد ذلك ليصبح من كبار أغنياء المسلمين، وهذا فيه درس، أن الإنسان إذا كان صاحب خبرة وقدرة فلا يصلح أن يكون عالة على الآخرين، حتى لو تبرع له الآخرون، وحتى لو أعطوه وعرضوا عليه، تبقى عزة النفس عند الإنسان، صاحب القدرة بالذات أما غير صاحب القدرة وغير المتمكن يُعذر، لكن المتمكن يبقى الأفضل له أن يكون عصامياً بنفسه، وأن يكسب كسبه بيده، وهذا الذي فعله عبد الرحمن بن عوف -وهو التاجر الماهر- من الذهاب إلى السوق والكسب الحلال، وما فتح الله عليه أفضل من أن يكون عالة أو عبئاً على أخيه الأنصاري. بعد معركة بدر وزعت الغنائم وصار هناك شيء من الاكتفاء بالغنائم عند المهاجرين؛ لأن كثيراً من الذين خرجوا فيها من المهاجرين، وصار هناك شيء من الاكتفاء، فأُبطل نظام التوارث بين المتآخيين، بقوله تعالى: ((وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ)) لكن نسخ هذه الآية ليس نسخاً للمؤاخاة، وإنما نسخ للتوارث فقط، فقد بقيت المؤاخاة بالنصرة والرفادة والنصيحة، وبقيت العلاقة موجودة بينهم. ولذلك فإن التعاون والتناصح مستمر، ووردت أخبار تفيد التآخي بين أبي الدرداء وسلمان الفارسي رضي الله عنهما، مع أن سلمان أسلم بين أحد والخندق، ومع ذلك المؤاخاة استمرت بدون توارث، وكان سلمان له ملاحظات على أبي الدرداء صائبة أسداها له، وكان فيها خير عظيم على أم الدرداء وعلى بيت أبي الدرداء وعلى أبي الدرداء، وهذه لما بين له حقوق الضيف وحقوق النفس وحقوق الزوجة، وكان هذا التآخي ينبع منه تقديم النصيحة، وهذه مسألة في غاية الأهمية، أن التآخي بين المسلمين ليس كلمة، وإنما هو شيء له واجبات ومتطلبات، ومنها بذل النصيحة، وتسديد وإصلاح شأن أخيه وحاله.

عقيدة الولاء والبراء عند الصحابة

عقيدة الولاء والبراء عند الصحابة وكذلك فإن العقيدة هي الآصرة التي كانت تربط بين هؤلاء، وهذه القضية في غاية الأهمية، وهذا التآخي معبر عن اللحمة التي كانت هي نسيج المجتمع المسلم، وهي رابطة العقيدة، وأنها أقوى من رابطة القربى والدم والانتماء إلى أصل عرقي أو قبيلة من القبائل، ولذلك فإن المجتمع كله قد انصهر في هذه البوتقة -بوتقة العقيدة- وحصل نسيج واحد فيه تآلف وانسجام، وكان سبباً وعاملاً مهماً من عوامل النصر على الكفار. أبو عبيدة لما رأى أباه يقاتل في صف المشركين في بدر قصده فقتله، ورأى أبو حذيفة أباه المشرك وهو يسحب ليرمى في القليب بـ بدر دون أن ينكر قلبه ذلك. وأما مصعب بن عمير فإنه رأى أخاه أبا عزيز بن عمير، وكان أبو عزيز مشركاً خرج مع المشركين وأسر في المعركة، فـ مصعب يقول للأنصاري الذي أسر أبا عزيز بن عمير: اشدد يدك عليه، فإن أمه ذات متاع لعلها تفديه منك. أي: إن له أماً تدفع، وهذا مع أنها أمه، وهذا المأسور أخوه، ولكنه مع ذلك يقول لأخيه الأنصاري المسلم: اشدد يدك عليه، واطلب الفدية العالية فإن له أماً تدفع. وأبو عزيز كان صاحب لواء المشركين بـ بدر، فـ مصعب يقول هذا الكلام، فقال له أبو عزيز: يا أخي! أهذه وصايتك بي؟ فقال له مصعب: إنه أخي دونك. الأنصاري أخي دونك، أنت ليس بيني وبينك صلة. ولذلك فإن المنافقين حاولوا بشتى الوسائل أن يفصموا هذه العرى التي حصلت بين المهاجرين والأنصار، ولذلك كانت خطوة عبد الله بن أبي المنافق خبيثة للغاية جداً، حيث إنه لما سمع أن النزاع حصل بين المهاجرين والأنصار استغل الفرصة مباشرة، وقال: لقد كاثرونا في الأموال وفعلوا وفعلوا، إنما مثلنا ومثلهم كمثل القائل الأول لما قال: سمن كلبك يأكلك. صرفنا عليهم فلما تقووا قاموا يتحدوننا، وأوشك بسببه أن تحدث فتنة بين المهاجرين والأنصار، ولكن الله سلَّم. وولد عبد الله بن أبي اسمه عبد الله أيضاً، وهو الذي بلغت به العزة الإسلامية أن يقف على باب المدينة ويمنع أباه من الدخول، قائلاً له: [والله لا تنقلب حتى تقر أنك الذليل ورسول الله صلى الله عليه وسلم العزيز]؛ لأن عبد الله بن أبي بن سلول هذا المنافق، قال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، وولده مسلم سمع الكلام فسبقه إلى المدينة، ووقف على الباب ومنع أباه من الدخول، حتى يعترف أنه هو الذليل والنبي عليه الصلاة والسلام هو العزيز، وهذا واضح جداً في الدلالة على قوة العقيدة، وأن الإنسان كان يفاصل أباه وأخاه وأهله وعشيرته في سبيل الدين، ما انتصروا إلا بذلك، لم يكن هناك مجاملات على حساب العقيدة. نوح عليه السلام لما نادى ربه قال: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} [هود:45]، فقال الله: {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [هود:46] فالاعتبار برابطة العقيدة، وليس بالأبوة ولا بالقبيلة، ما انتصر المسلمون الأوائل إلا بعدما تخلصوا من هذه الأشياء، من الرواسب الجاهلية، أو التعصب للقبيلة، أو التعصب للبلد والعلاقة العائلية، فكان تعصبهم إنما هو لله ورسوله، وقطعت الوشائج والعلاقات ولم يبق إلا علاقة الدين، ورابطة العقيدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْأِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:23 - 24]. وقد فارق الصحابة الأهل والأموال والمساكن وهاجروا إلى الله ورسوله، فقام المجتمع قياماً صحيحاً مبنياً على العقيدة والولاء لله والرسول، والعلاقات أخوة بين المؤمنين: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] وكانت المحبة هي أساس هذه الأخوة، وتمثل في ذلك المجتمع حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتواصلهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر) (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه). ولذلك لم يكن يبيت الواحد شبعان وأخوه المسلم جائع، لم يحصل ذلك، ولذلك كانوا يؤثرون على أنفسهم، ويعطي الواحد منهم أخاه عشاءه وعشاء أولاده، ويبقى هو وزوجته وأولاده جياعاً، بهذه الصورة قام المجتمع الإسلامي.

إنفاق الصحابة أحب أموالهم في سبيل الله

إنفاق الصحابة أحب أموالهم في سبيل الله وكان أبو طلحة الأنصاري أكثر أهل المدينة نخلاً، وأحب أمواله إليه بير حاء، وكانت أمام المسجد، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يدخلها ليشرب من ماء فيها طيب، فلما نزل قوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] تفاعلت نفس الصحابي معها مباشرة، فجاء أبو طلحة إلى النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (يا رسول الله! إن الله يقول: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] وإن أحب أموالي إليّ بير حاء -هذه أنفس شيء عندي- وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها -يا رسول الله- حيث أراك الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذاك مال رائح) أي: أجرها يروح ويغدو عليك، وفي رواية: (هذا مال رابح) ربح هذا الاستثمار. وأشار عليه صلى الله عليه وسلم أن يقسمها بين الأقربين. وقام بعد ذلك المهاجرون الذين اغتنوا بتوزيع الصدقات وكفالة المحتاجين، وقام عثمان رضي الله عنه بالتصدق بقافلة ضخمة، كما جهز جيش العسرة، وفي عهد الصديق حصل شيء من الضائقة بـ المدينة، والناس ينتظرون المؤن، حتى التجار ليس عندهم سلع، فقدمت قافلة ضخمة لـ عثمان، توافق قدومها مع وقت الضائقة، وهي ألف بعير محملة بالبر والزيت والزبيب، فتوافد التجار على عثمان كل منهم يعرض عليه الواحد باثنين والواحد بثلاثة والواحد بخمسة، وهو يقول: أعطيت أكثر من ذلك، أعطيت أكثر من ذلك، أعطيت أكثر من ذلك، فقالوا: ومن الذي أعطاك، وما سبقنا إليك أحد، ونحن تجار المدينة؟ قال: إن الله أعطاني عشرة أمثالها، ثم قسمها بين فقراء المسلمين كلها، مع أنه كان مستطيعاً أن يبيعها في وقت الحاجة والسوق يتطلب، بأضعاف مضاعفة، ومع ذلك جاد بها لله جل وعلا. عندما يحس الشخص في المجتمع أن عنده مسئولية تجاه جميع أفراد المجتمع، لدرجة أنه يمكن أن يفوته مكسب عظيم جداً من أجل إخوانه المسلمين في البلد، ويتصدق على كل الفقراء بقافلة هي ألف بعير، معناها أن مجتمعاً مثل هذا المجتمع لا يمكن أن ينهزم، ولذلك فتحوا الروم والفرس، وفتحوا أقوى بلاد العالم، وسقطت أقوى دولتين في العالم الفرس والروم بأيدي هؤلاء القوم، ولذلك نصرهم الله عز وجل.

أهل الصفة في المدينة

أهل الصفة في المدينة كان من ضمن الأشياء التي حصلت في التكافل في المدينة أهل الصفة، فإن هؤلاء داخلون في عملية التكافل والأخوة، لكن دخولاً من نوع آخر، فقد قدم بعض المهاجرين وتكاثر قدومهم، وكثير منهم كانوا فقراء، مثل قوم أبي هريرة وغيرهم جاءوا فقراء محتاجين، كانوا يأتون أحياناً من قحط وشدة وجهد، وكان عليه الصلاة والسلام يرتب حلولاً لذلك، هذه هي الصعوبة، ترتيب الحلول لهؤلاء المحتاجين، ثم ليسوا واحداً أو اثنين، هم عشرات ومئات يأتون ولابد من إيجاد حلول، ولذلك خرجت فكرة الصفة. لما حولت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة بعد ستة عشر شهراً من الهجرة، بقي حائط القبلة الأولى في مؤخرة المسجد النبوي، فأمر النبي عليه الصلاة والسلام به فظلل، حائط القبلة القديمة كان جهة بيت المقدس، فظلل أو سقف وأطلق عليه الصفة أو الظلة. وهذا الصُفة صارت مخصصة للضيوف القادمين الذين لا مأوى لهم، وكانت تتسع لعدد لا بأس به، حتى إنه حضرها مرة ثلاثمائة شخص في وليمة، وأول من نزل الصفة هم المهاجرون، ولذلك نسبت إليهم، فقيل: صفة المهاجرين، وكذلك كان ينزل بها الغرباء من الوفود الذين كانوا يقدمون على النبي صلى الله عليه وسلم معلنين إسلامهم وطاعتهم، وكان إذا جاء الواحد ولم يجد أحداً ينزل عنده ينزل مع أصحاب الصفة، وكان من ضمن أصحاب الصفة أبو هريرة رضي الله عنه. فأولاً نزل المهاجرون والغرباء، وكان بعض الأنصار بالرغم من أن لهم بيوتاً -مثل كعب بن مالك الأنصاري- يتركون بيوتهم وأهليهم ويبيتون مع أهل الصفة من باب المشاركة الوجدانية والشعور والإحساس، فهو يترك بيته وينزل بينهم. وكان يؤتى بالقنو من التمر يعلق على حبل في المسجد لأهل الصفة، كل واحد عنده طعام زائد يأتي به إلى أهل الصفة، وكل واحد عنده تمر أو رطب أو شيء يأتي به إلى أهل الصفة، كانوا أخلاطاً من القبائل، وكانوا يزيدون إذا قدمت الوفود إلى المدينة، وكان ربما يصل عددهم إلى سبعين أو ثمانين أكثر أو أقل وهكذا. وكان هؤلاء عندهم فرصة للتفرغ للعلم والعبادة، حيث إن معيشتهم في المسجد، وكانوا في خلوتهم يصلون ويقرءون القرآن، ويتدارسون آيات الله تعالى، ويتعلم بعضهم الكتابة، واشتهر بعضهم بالعلم مثل أبي هريرة، فـ أبو هريرة هو ناتج من نتاج الصفة؛ لأنه ما كان عنده أهل أو أولاد أو بيت أو شغل أبداً، نازل في الصفة يصحب النبي عليه الصلاة والسلام على شبع بطنه فقط، ولكن همته ونهمته سماع الأحاديث، ولذلك صار هو أكثر صحابي روى أحاديث، مع أنه جاء في العام الثامن للهجرة، ومع ذلك له مرويات تقدر بخمسة آلاف حديث.

أهل الصفة رهبان بالليل فرسان بالنهار

أهل الصفة رهبان بالليل فرسان بالنهار ومن أهل الصُفة من كانوا رءوس المجاهدين، ومنهم الشهداء مثل خريم بن فاتك الأسدي، وصفوان بن بيضاء، وحارثة بن النعمان الأنصاري، ومنهم من استشهد بـ أحد مثل حنظلة الغسيل، ومنهم من استشهد بـ الحديبية مثل: أبي سريحة الغفاري، ومنهم من استشهد بـ تبوك مثل: ذي البجادين، ومنهم من استشهد بـ اليمامة بعد ذلك مثل سالم مولى أبي حذيفة، وزيد بن الخطاب، فهؤلاء كانوا رهباناً بالليل وفرساناً بالنهار، وهؤلاء كانوا فقراء، وليس عندهم أردية، وربما لا يكون لأحدهم ثوبٌ تام، فيربطون في أعناقهم الأكسية أو البرد ويأتزرون بالأزر أو الكساء، فمنهم من يبلغ إزاره نصف الساق، وأحياناً قد لا يبلغ الركبتين، ولذلك كانوا يخجلون الظهور بملابسهم أحياناً، وتتسخ ملابسهم، ويتعرضون للغبار، ومع ذلك يصبرون لله تعالى.

اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بأهل الصفة

اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بأهل الصفة كان جل طعام أهل الصفة من التمر، حتى إنهم ربما اشتكوا أنه أحرق بطونهم، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ليستطيع أن يوفر لهم أكثر من ذلك، فصبرهم وواساهم، وكان كثيراً ما يدعوهم إلى طعام في بيته، إذا جاءه طعام دعا أهل الصفة. وقد جيء النبي صلى الله عليه وسلم مرة بإناء من لبن، فقال لـ أبي هريرة: ادع أهل الصفة. فشربوا منه كلهم بمعجزة عجيبة حصلت للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان يطعمهم مما يأتيه، فمرة (حيس) وهو الطعام المطبوخ من التمر والدقيق والسمن، وجاءه مرة طعام مصنوع من شعير، وجاءه مرة شيء من اللحم، فكان يعطيهم ويقول لهم: (والذي نفس محمد بيده، ما أمسى في آل محمد طعام ليس شيئاً ترونه)، لا نخفي عنكم شيئاً. وكان أبو هريرة رضي الله عنه يصاب بالجوع الشديد، حتى إنه ربما كان يخر في الصلاة ويغشى عليه من الجوع، حتى يقول بعض الأعراب: إن هذا مجنون، وكان يصرع بين المنبر وحجرة عائشة لما به من الجوع، والناس يظنون أن به جناً، ولكن قلة الطعام هو السبب في خروره والغشيان عليه، وكان ربما لا يأكل الواحد منهم إلا التمرة أو التمرتين، ومع ذلك قنعوا بالقليل من الطعام والخشن من الثياب، وعافت نفوسهم النعيم، لأجل الزهد والعبادة وطلب العلم ونصرة الله ورسوله، والخروج في جيوش الفتوح، والجهاد في سبيل الله تعالى. وكان صلى الله عليه وسلم يقدر لهم هذه المواقف، فكان يزورهم ويتفقد أحوالهم ويكثر من مجالستهم، ويرشدهم ويوجههم إلى قراءة القرآن ومدارسته، وإذا جاءته صدقة سارع بإرسالها إليهم، وكذلك فإنه عليه الصلاة والسلام جاءته فاطمة فطلبته خادماً، فزار علياً وفاطمة في بيتهما، فوجدهما قد اضطجعا على فراشهما، فجلس بينهما وقال: (ألا أدلكما على شيء خير لكما من خادم؟ قالا: بلى يا رسول الله! فقال: إذا أخذتما مضاجعكما فسبحا ثلاثاً وثلاثين، واحمدا ثلاثاً وثلاثين، وكبرا أربعاً وثلاثين)، وقال لصهره وبنته: (لا أعطيكم وأدع أهل الصفة تلوى بطونهم من الجوع). وكان عليه الصلاة والسلام يحث الصحابة على الاعتناء بهم، فكان يقول: (من كان له طعام اثنين فليذهب بثالث -أي: من أهل الصفة- وإن أربعة فخامس أو سادس) فيمر أي صحابي عنده طعام فيأخذ واحداً من أهل الصفة يتعشى عنده، وآخر يمر ويأخذ واحداً آخر وهكذا، وكانوا يجيئون لهم بالماء ويضعونه بالمسجد، وبعض الصحابة من الأنصار ما عنده مال، فكان يذهب يحتطب ويبيع الحطب ويعطي ثمنه لأهل الصفة.

اهتمام الصحابة بأهل الصفة

اهتمام الصحابة بأهل الصفة واقترح محمد بن مسلمة الأنصاري أن يخرج كل واحد من أصحاب البساتين حين ينضج التمر قنواً -العذق بما فيه من الرطب- ويضعه لهم في المسجد، وكان معاذ هو الذي يحرس هذه الأقناء، وقيل: إنه نزلت فيهم آيات مثل قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة:273] وهؤلاء هم الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي. فهذه صورة من الصور التي كانت في المجتمع المدني، تعبر لنا عن قضية التآخي الذي حصل بين المهاجرين والأنصار، واعتناء المجتمع بالفقراء من أهل الصفة، وهذه الصور هي درس بليغ جداً لكل مسلم يريد أن يطبق معاني الأخوة في نفسه، ويحس بإحساس إخوانه الآخرين، ويحرص على الجود بما يوجد عنده لإخوانه، وهذا من المعاني المفقودة أو النادرة مع الأسف بيننا، حتى إن الواحد لا يدري بحاجة الآخر، ولا يدري أصلاً أنه محتاج أو أنه جائع أو عليه ديون أو لا يجد مالاً ونحو ذلك، ولذلك ترى واقعنا من سيئ إلى أسوأ، وواقع الصحابة كان من نصر إلى فتح، وفتح مبين. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل فيما ذكر دافعاً لنا لمزيد من تقديم العون لإخواننا، والشعور بشعورهم، وتطبيق مبدأ الأخوة الحقيقية، وتقديم آصرة العقيدة على كل الأواصر، وأن يكون المسلم الحقيقي ولو كان فقيراً ووضيعاً في النسب، يكون هو من أقرب الناس إلينا، وأقرب من إخواننا وآبائنا إذا كانوا هم أبعد عن الدين منه. والحمد لله رب العالمين.

الأسئلة

الأسئلة

حكم إعطاء الزكاة بصورة هدية

حكم إعطاء الزكاة بصورة هدية Q عندي زكاة مال، فهل يجوز أن تعطى للأخ أو لأحد الأقارب في صورة هدية؟ A يمكن أن تعطيها له ولا يشترط أن تقول له أنها زكاة، لكن لا تكذب، إنما أعطه إياها ولا يشترط أن تخبره أنها زكاة، فتستطيع أن تقول: هذه من الله خذها، أو هذه لك مثلاً.

الذي يفقد التمييز يسقط عنه التكليف

الذي يفقد التمييز يسقط عنه التكليف Q والدي أصيب بجلطة في الدماغ مؤخراً تسببت في عدم تحكمه في البول ونوع من التخريف، وقد صام الأيام السابقة من هذا الشهر بدون تعب أو مشقة لكن بدون صلاة، فهل يستمر أم نخرج عنه طعام مسكين؟ A إذا فقد التمييز ووصل حد الخرف، سقطت عنه الصلاة والصيام، وسقط عنه التكليف بالكلية، وعند ذلك لا قضاء عليه ولا كفارة، ولا شيء عليكم؛ لأنه ليس مكلفاً، أما لو كان يعقل فيؤمر بالصلاة وبالصيام ولابد.

حكم صلة الأرحام غير المحارم

حكم صلة الأرحام غير المحارم Q هل تجب صلة الرحم عليّ لقريبة لي تعيش في مكان بعيد بزيارة زوجها والسلام عليه؟ A نعم. على قدر المستطاع، وصلة المحارم غير صلة غير المحارم، فهي تختلف لأجل الحرية في الحديث والكلام معها، فكلما كانت أقرب كلما كانت الصلة أشد.

حكم رفع الصوت عند القنوت بالدعاء

حكم رفع الصوت عند القنوت بالدعاء Q ما حكم رفع الصوت عند القنوت بالدعاء؟ A لا ينبغي ذلك.

حكم مراجعة المرأة للطبيب

حكم مراجعة المرأة للطبيب Q هل يجوز للمرأة مراجعة الطبيب في قسم النساء في وجود ممرضة؟ A إذا وجدت المرأة التي تفي بالحاجة فلا يجوز للمرأة المسلمة أن يكشف عليها الرجل، ولذلك ذكر العلماء الترتيب، أولاً: الطبيبة المسلمة، ثانياً: الطبيبة الكافرة، ثالثاً: الطبيب المسلم، رابعاً: الطبيب الكافر، فالطبيبة الكافرة تقدم على الطبيب المسلم، لأجل قضية الكشف على العورات.

حكم الاستمتاع بالزوجة في نهار رمضان

حكم الاستمتاع بالزوجة في نهار رمضان Q ما حكم استمتاع الرجل بزوجته في نهار رمضان؟ A إذا كان يملك نفسه فنعم، وإذا كان لا يملك نفسه فلا يجوز له ذلك؛ لأنه ذريعة إلى إفساد الصوم، وكل ما كان وسيلة إلى حرام فهو حرام، ولاشك أن إفساد الصوم حرام، فكل وسيلة تؤدي إليه فهي حرام، وأما المذي فإنه لا يفسد الصوم على الراجح، ولكن لا يجوز له أن يأتي بشيء يسبب خروجه.

حكم التقبيل في الخد من غير الزوج

حكم التقبيل في الخد من غير الزوج Q أنا امرأة متزوجة، أذهب لزيارة أخوالي في جدة ويتم السلام عليّ، فما حكم التقبيل على الخد مع المصافحة، وهذا يغضب الزوج؟ A هذا يغضب الزوج إذاً لا تفعله، ثم إن هذا التقبيل منهي عنه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الرجل منا يلقى أخاه أيقبله؟ قال: لا. يعانقه؟ قال: لا. يصافحه؟ قال: نعم)، فالمعانقة وردت في القدوم من السفر، أما التقبيل لا، إلا تقبيل الأب لابنته والبنت لأبيها مثلاً، أو الرجل لأمه وهي تقبله أو لجدته، ويمكن أن يكون التقبيل على الرأس مثلاً، وأما الفم فإنه للزوج خاصة.

حكم الجمعية المعمولة بين عدة أشخاص يأخذها كل مرة شخص

حكم الجمعية المعمولة بين عدة أشخاص يأخذها كل مرة شخص Q الجمعية المعمولة بين عدد من الأشخاص كل مرة يأخذها واحد، ما حكمها؟ A الراجح جوازها إن شاء الله.

حكم تأخير قضاء أيام من رمضان

حكم تأخير قضاء أيام من رمضان Q أهملت بعض الأيام في خمس رمضانات، فما حكم ذلك؟ A عليك بالقضاء، وإطعام مسكين عن كل يوم كفارة للتأخير.

الجمع بين قوله تعالى: (أرض الله واسعة) وبين قول رسول الله: (لا هجرة بعد الفتح)

الجمع بين قوله تعالى: (أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً) وبين قول رسول الله: (لا هجرة بعد الفتح) Q كيف يمكن الجمع بين قوله تعالى: {أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً} [النساء:97] و (لا هجرة بعد الفتح)؟ A ( لا هجرة بعد الفتح) من مكة إلى المدينة، ولكن الهجرة مستمرة إلى قيام الساعة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام عند القدرة.

وقت التأمين للمأموم

وقت التأمين للمأموم Q متى يشرع التأمين للمأموم؟ A إذا وصل الإمام إلى موضع التأمين وشرع يشرع المأموم.

وجوب الزكاة في عروض التجارة

وجوب الزكاة في عروض التجارة Q أسقط بعض المصنفين في الزكاة كتاب عروض التجارة. A هذا رأي ذهب إليه ابن حزم رحمه الله وتبعه بعض أهل العلم، ومن المعاصرين العلامة محمد ناصر الدين الألباني، ولكن الراجح هو وجوب الزكاة في عروض التجارة ولاشك.

حكم تعويد الطفل على الصيام إلى وقت الظهر أو العصر

حكم تعويد الطفل على الصيام إلى وقت الظهر أو العصر Q ما حكم تعويد الطفل على الصيام فيفطر وقت أذان الظهر أو أذان العصر؟ A إذا كان غير قادر على إتمام اليوم، فيؤمر بأن يصوم بين الصلوات.

إخراج الزكاة من مدينة لأخرى

إخراج الزكاة من مدينة لأخرى Q هل يجوز إخراج الزكاة من مدينة إلى أخرى؟ A نعم. إذا وجدت حاجة كفقر قريب أو شدة.

حكم الزكاة على المنزل المعد للسكن

حكم الزكاة على المنزل المعد للسكن Q هل هناك زكاة تجب على المنزل الذي أسكنه؟ A لا.

بركة المرأة التي أسلمت

بركة المرأة التي أسلمت ذكر الشيخ المرأة التي أسلمت كما جاء في صحيح البخاري، كتاب التيمم، باب: الصعيد الطيب وضوء المسلم يكفيه عن الماء. ثم ذكر الفوائد من هذا الحديث العظيم. ثم ذكر الحكمة من نومه عليه الصلاة والسلام، واهتمام الصحابة بالصلاة وعظم مصيبة فواتها عليهم، وذكر سبب ارتحال النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك المكان إلى مكان آخر، وغيرها من الفوائد العظيمة، وفي الأخير تكلم عن دور المرأة المسلمة في الإصلاح.

نص حديث بركة المرأة التي أسلمت

نص حديث بركة المرأة التي أسلمت الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: في كتاب التيمم، باب: الصعيد الطيب وضوء المسلم يكفيه من الماء. في هذه القصة من الفوائد العديدة والأحكام الكثيرة ما تقر به عين المؤمن، وما ينتفع به طالب العلم، وما يكون فيه فائدة في حياة الإنسان المسلم، وفيها بيانُ بعض ما يحتاج إليه الناس في أمور العبادات. وهذه القصة رواها أبو رجاء، عن عمران رضي الله عنه قال: (كنا في سفرٍ مع النبي صلى الله عليه وسلم، وإنا أسرينا -أي: سرنا في الليل- حتى إذا كنا في آخر الليل وقعنا وقعةً -أي: نمنا نومة- ولا وقعة أحلى عند المسافر منها، فما أيقظنا إلا حرُّ الشمس، وكان أول من استيقظ فلان وفي رواية: أبو بكر، ثم فلانٌ، ثم فلانٌ، يسميهم أبو رجاء، فنسي عوف -الراوي عن أبي رجاء -ثم عمر بن الخطاب الرابع، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نام لم يوقظ حتى يكون هو يستيقظ، لأنا لا ندري ما يحدث له في نومه -لأن نوم الأنبياء وحي، فخاف الصحابة أن يوقظوه فينقطع الوحي، لأنه ربما يكون يرى وحياً- لأنا لا ندري ماذا يحدث له في نومه، فقعد أبو بكر عند رأسه، فجعل يكبر ويرفع صوته فلما استيقظ عمر، ورأى ما أصاب الناس -أي: أنه قد فاتت صلاة الفجر على الجيش بأكمله- وكان رجلاً جليداً -والجلادة هي القوة والصلابة- فكبر ورفع صوته بالتكبير، فما زال يكبرُ ويرفع صوته بالتكبير حتى استيقظ بصوته النبي صلى الله عليه وسلم، فلما استيقظ شكوا إليه الذي أصابهم، قال: لا ضير -أو: لا يضير- ارتحلوا. فارتحل، فسار غير بعيدٍ، ثم نزل فدعا بالوضوء فتوضأ، ونودي بالصلاة -الأذان- فصلى بالناس -صلاة الفجر بعد طلوع الشمس- فلما انفتل من صلاته إذا هو برجلٍ معتزلٍ لم يصلِّ مع القوم -قيل: هو خلاد بن رافع رضي الله عنه- قال: ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم؟! قال: أصابتني جنابةٌ ولا ماء. قال: عليك بالصعيد -أي: الزم الصعيد وتيمم به، والصعيد هو التراب، أو سطح الأرض مطلقاً- فإنه يكفيك. ثم سار النبي صلى الله عليه وسلم، وجعلني رسول الله صلى الله عليه وسلم في ركوبٍ بين يديه فاشتكى إليه الناس من العطش، فنزل فدعا فلاناً كان يسميه أبو رجاءٍ نسيه عوفٌ -وهو الرواي عن أبي رجاء - ودعا علياً فقال: اذهبا فابتغيا الماء. فانطلقا، فتلقيا امرأةً سادلةً رجليها بين مزادتين أو سطيحتين من ماءٍ على بعيرٍ لها -ذهبا يبحثان عن الماء فوجدا امرأةً راكبة قد أسدلت رجليها وبينهما مزادتان، والمزادة: هي القربة الكبيرة، سميت مزادة لأنه يزاد فيها جلدٌ آخر من غيرها، وتسمى أيضاً سطيحة، وهي القربة الكبيرة. فقالا لها: أين الماء؟ -أين موضع الماء من عينٍ أو بئرٍ؟ - قالت: عهدي بالماء أمس هذه الساعة -تقول المرأة: تركتُ الماء منذُ أمس، وهو اليوم الذي قبل يومك تسميه العرب أمس، في مثل هذه الساعة، والمعنى أن الماء يبعد مسافة أربع وعشرين ساعة، وفي رواية: يومٌ وليلة، ونفرنا خلوفاً. أي: رجالنا متخلفون لطلب الماء، وذهبوا وخلفوا نساءهم، وحدهن في الحي، تخبر عن حال قومها، أنهم نفروا في طلب الماء وتركوا أهلهم، وقومها من المشركين- قالا لها: انطلقي إذاً- مادام أنه لا يوجد ماء، وليس الماء إلا معها، فانطلقي إذاً- قالت: إلى أين؟ قالا: إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت: الذي يقال له: الصابئ؟ والصابئ: هو الذي خرج من دينٍ إلى آخر، وكانت المرأة مشركة، فقالت لما قالوا لها: إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: الذي يقال له الصابئ؟ - قالا: هو الذي تعنين -وهذه عبارة فيها حكمة بالغة، ما قالوا: نعم، ولكن قالوا: هو الذي تعنين- فانطلقي، فجاءا بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحدثاه الحديث، وفي رواية أنها قالت: وما رسول الله؟ فلم نملكها من أمرها شيئاً حتى استقبلنا بها النبي صلى الله عليه وسلم، وحدثاه الحديث -قال: فاستنزلوها عن بعيرها- فحدثته بمثل الذي حدثتنا من قضية الماء ورجال الحي، غير أنها حدثته أنها مؤتمةٌ -أي: ذات أيتام، هذا التفصيل الجديد- فمسح في العزلاوين -أي: العجلاوان: مثنى عزلى، والعزلى: فم المزادة الأسفل- ودعا النبي صلى الله عليه وسلم بإناءٍ ففرَّغ فيه من أفواهِ المزادتين أو السطيحتين، وأوكأ أفواههما -أي: ربطَ أفواههما- وأطلق العزالي -جمع عزلاء، وهي فم المزادة الأسفل الذي يخرج منه الماء بكثرة، فهو فرغ من أفواه المزادتين في إناء، ثم أغلق الأفواه- ونودي في الناس: اسقوا واستقوا -الذي يريد ماء يأخذ من هذا الإناء- فسقى من شاء واستقى من شاء- وفي رواية: فشربنا عطاشاً أربعين رجلاً حتى روينا، فملأنا كل قربةٍ معنا وإداوة، غير أنه لم نسقِ بعيراً -وكان آخر ذلك أن أعطى الذي أصابته الجنابه إناءً من ماء، وقال: اذهب فأفرغه عليك، وهي قائمةٌ تنظر إلى ما يفعل بمائها- والمرأة قائمة مذهولة تنظر إلى ما يفعل بمائها- وايم الله -يحلف الراوي- لقد أقلع عنها -أي: كف عنها وتركت- وإنه ليخيل إلينا أنها أشدُّ ملاةً منها حين ابتدأ فيها -يخيل إلينا أن هاتين المزادتين مع المرأة أشد امتلاءً مما كانت في البداية- وفي رواية: وهي تكاد تنض من الملء -أي: تنشق ويخرج منها الماء من شدة الامتلاء- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اجمعوا لها -مقابل الماء الذي أخذوه- فجمعوا لها من بين عجوةٍ ودقيقٍ وسويقةٍ -وهو طحين الحنطة والشعير وغيرهما- حتى جمعوا لها طعاماً -من الذي مع أفراد الجيش- فجعلوها في ثوب وحملوها على بعيرها، ووضعوا الثوب بين يديها، ثم قال لها: تعلمين ما رزئنا من مائِك شيئاً -أنت ترين بعينك أننا ما أنقصنا من مائك شيئاً- ولكن الله هو الذي أسقانا، فأتت أهلها -الحي الذي خرجت منه- وقد احتبست عنهم -تأخرت عنهم- قالوا: ما حبسكِ يا فلانة؟ قالت: العجب! لقيني رجلان فذهبا بي إلى هذا الذي يقال له: الصابئ، ففعل كذا وكذا، فوالله إنه لأسحر الناس من بين هذه وهذه، وقالت بإصبعها الوسطى والسبابة فرفعتها إلى السماء تعني: السماء والأرض، أو إنه لرسول الله حقاً -الاحتمال الثاني: أنه رسول الله حقاً كما زعموا؛ لأنهم قالوا: انطلقي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم- فكان المسلمون بعد ذلك يغيرون على من حولها من المشركين -في الجهاد- ولا يصيبون الصِّرْمَ الذي هي منه -والصرم: هي البيوت المجتمعة المنقطعة عن غيرها، يغيرون على ما حول قوم هذه المرأة ولا يصيبون قومها- فقالت يوماً لقومها: ما أرى إنَّ هؤلاء القوم يدعونكم عمداً -أي: ليسوا بغافلين عنكم- فهل لكم في الإسلام؟ فأطاعوها، فدخلوا في الإسلام، وفي الرواية الأخرى: فأسلمت وأسلموا).

فوائد منتقاة من حديث بركة المرأة المسلمة التي أسلمت

فوائد منتقاة من حديث بركة المرأة المسلمة التي أسلمت هذا الحديث الذي رواه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- فيه فوائد كثيرةٌ جداً، وهو حديثٌ عظيم، من أعلام نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه من المعجزات العظيمة التي أجراها الله تعالى على يديه، وفيه فوائد متعددة، فلنشرع في ذكر بعض هذه الفوائد، وما يؤخذ من هذا الحديث من الأحكام.

ترجمة راوي الحديث عمران بن حصين

ترجمة راوي الحديث عمران بن حصين راوي هذا الحديث هو عمران بن حصين الخزاعي قاضي البصرة، الذي كان من فضلاء الصحابة وفقهائهم، الذي ثبت أن الملائكة كانت تكلمه كرامةً له، والذي قال عنه أهل البصرة: إنه كان يرى الحفظة، وكانت تكلمه حتى اكتوى -أي: استعمل الكي- فلما استعمل الكي لم تكلمه الملائكة، وتوفي سنة (52هـ) وله في البخاري اثنا عشر حديثاً.

الثقة بالنفس والثقة بالله

الثقة بالنفس والثقة بالله يقول رضي الله عنه: كنا في سفر -إما خيبر أو الحديبية - مع النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر قصة أنهم سروا بالليل، ثم وقعوا نياماً، وأن الوقعة كانت في آخر الليل، ولذلك قال الرواي: ولا وقعة أحلى عند المسافر منها، وقد جاء في البخاري من حديث أبي قتادة ذكر سبب نزولهم في آخر الليل، وهي أن بعض القوم سألوا ذلك، وقد قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (أخافُ أن تناموا عن الصلاة) فقال بلال: أنا أوقظهم. تكفل بلال بإيقاظهم، فهذه إذاً تتمة القصة: أن بعض القوم تعبوا في الطريق، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزلوا، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (أخشى عليكم أن تناموا عن صلاة الفجر) ولم يرض بالنوم حتى تكفل بلال بإيقاظهم، وهذا قد جاء في حديث أبي قتادة، ولفظه: (سرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلةً، فقال بعض القوم: لو عرست بنا يا رسول الله -أي: لو نزلنا آخر الليل نستريح- قال: أخاف أن تناموا عن الصلاة، فيخرج وقت صلاة الفجر ولم نستيقظ، فقال بلال متبرعاً، وهو مؤذن القوم: أنا أوقظكم) ظناً منه أنه سيكون على حسب المعتاد، فإن من عادته الاستيقاظ لأجل الأذان، وكان بلال متعوداً على الاستيقاظ قبل الأذان، فاضطجعوا وأسند بلال ظهره إلى راحلته، فغلبته عيناه فنام، ألقى الله عليه النوم لحكمة بالغة؛ لتتبين أحكام في قضاء الصلاة، وماذا يفعل إذا استيقظ بعد طلوع الشمس (فغلبته عيناه فنام، فاستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم وقد طلع حاجب الشمس، فقال: يا بلال! أين ما قلت؟؟) أين الوفاء بقولك: أنا أوقظكم وهذا فيه لفتةٌ تربويةٌ بالغة من النبي صلى الله عليه وسلم، ينبه بلالاً فيها على اجتناب الثقة بالنفس وحسن الظن بها أين الوفاء بالذي وعدت أنك توقظنا للصلاة؟ أنت وعدتنا ولم تفِ، كأنه يقول: أنت وثقت بنفسك أكثر مما ينبغي، لأن المظنة أنك لن تقوم، ما دمت مسافراً ومتعباً ونزلت في آخر الليل؛ فكان ينبغي أن تراعي أنك ربما لن تقوم لأجل هذه العوامل. وفيه بيان فائدة عظيمة وهي: أن الإنسان لا يصلح أن يثق بنفسه، ومن العبارات الشائعة عند بعض الناس: تجب الثقة بالنفس، وهذه العبارة غلط، ولذلك يقول الشيخ محمد بن إبراهيم في فتاويه، وقد سئل عن قولهم: تجب الثقة بالنفس؟ فقال: لا تجب، بل لا تجوز الثقة بالنفس، وإنما الثقة بالله عز وجل، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله أن يكله إلى نفسه طرفة عين؛ لأن الإنسان إذا توكل على نفسه ضاع، لكن إذا توكل على الله استقام أمره، ولذلك بعض الأحيان تجد الشخص يقول: أنا مستعد أفعل كذا، وأنا مستعد أنجز كذا، وأنا مستعد أتكفل بهذا الأمر، وأنا واثق من نفسي، فتراه في كثيرٍ من الأحيان يخذل، يخذله الله بسبب اتكاله على نفسه وثقته بها، أو نسيان الله وعدم الثقة به، نسي أن يتوكل على الله أو أن يفوض الأمر إليه، وإنما اعتمد على نفسه واتكل عليها، فوكل إليها؛ فضاع، ولذلك نبه عليه الصلاة والسلام إلى هذه المسألة: ألا يتكل الإنسان على نفسه، وأن الشخص إذا كانت العوامل لا تساعده على النتيجة المطلوبة فلا يتبرع بشيءٍ يغلب على الظن أنه لا ينجزه أو لا يفعله، وإنما يقدر الموقف.

اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بصلاة الفجر

اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بصلاة الفجر وفيه كذلك: اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم البالغ بصلاة الفجر فإنه أبى في البداية أن ينزل الجيش، وأبى أن ينام في هذا الوقت، وقال لهم: (أخافُ أن تناموا عن الصلاة) ولم يرضَ إلا بعد أن تكفل بلال بأن يحرسهم لأجل الإيقاظ لصلاة الفجر. وفيه: أن القوم إذا نزلوا منزلاً يجعلون لهم شخصاً إذا ظنوا ألا يستيقظوا، أو كان الوضع حرجاً، مثل أن يكونوا متعبين أو يناموا قبل الفجر بقليل، فلابد أن يجعل لهم من يوقظهم. وفيه: أخذ الاحتياطات للاستيقاظ لصلاة الفجر، لا كما يفعل كثير من الناس اليوم من تضييع الصلاة، وتراهم -الآن- في رمضان ربما يسهرون إلى قرب الفجر، لأن الليل طويل، فيسهرون ثم ينعس فينام، فلا يصلي الفجر جماعةً ولا يصليها في وقتها، فتضيع عليه الصلاة، وبعضهم يهمل في وضع المنبه، وبعضهم يهمل في وصية أهله لإيقاظه، وبعضهم يهمل في النوم مبكراً، وبعضهم يهمل في الأذكار، وبعضهم يهمل في الوضوء قبل النوم، أسبابٌ مجتمعة تؤدي في النهاية إلى عدم الاستيقاظ للصلاة، وربما تعمد بعضهم ألا يضع شيئاً يوقظه، ونصح بعضهم أباً أن يوقظ ولده لصلاة الفجر، فقال: لا توقظه دعه يأخذ راحته، الجسم متى ما انتهت حاجته من النوم فإنه يقوم لوحده! إن كثيراً من الناس لا تنتهي حاجتهم من النوم، فإذاً: يجب أن يستيقظ الإنسان لصلاة الفجر ولو كان على حساب راحته ونومه، يجب الاستيقاظ للصلاة، ووضع بلال حارساً لأجل الاستيقاظ، مثل: وضع كافة الاحتياطات من شخصٍ يوقظك، أو هاتف، أو منبه، أو رش بالماء بأن يوصي زوجته أن ترشه بالماء لأجل الاستيقاظ وذلك لأهمية الصلاة، وكلما كان الإيمان قوياً كلما كانت الاحتياطات المتخذة للاستيقاظ للصلاة قوية، وكلما ضعف ضعفت، وربما أنها لا تكون موجودة أصلاً.

نوم النبي صلى الله عليه وسلم والحكمة منه

نوم النبي صلى الله عليه وسلم والحكمة منه قال: (فما أيقظنا إلا حر الشمس، واستيقظ أبو بكر، ثم استيقظ فلان وفلان، والرابع عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه). الصحابة كانوا لا يريدون إيقاظ النبي عليه الصلاة والسلام، لأجل أنه ربما يوحى إليه في منامه، فيخافون انقطاع الوحي وانقطاع الفائدة إذا أيقظوه، فتركوه حتى يكون هو الذي يقوم، فـ عمر قدَّر الموقف، رأى ما أصاب الناس من نومهم عن صلاة الصبح، ولا يوجد ماء، وكان عمر رجلاً جلداً جليداً قوياً، ولا شك أن المجتمع المسلم يحتاج إلى أمثال هؤلاء الرجال، وكان رفيع الصوت، يخرج صوته من جوفه بقوة، وهذا من معاني كلمات (جليداً) لأنه ورد في رواية مسلم: (رجلاً جليداً أجوف) أي: يخرج الصوت من جوفه بقوة، (فكبر ورفع صوته بالتكبير) قال العلماء: إن استعماله للتكبير سلك فيه طريق الأدب والجمع بين المصلحتين، إحداهما: الذكر، والأخرى: الاستيقاظ، لأنك يمكن أن توقظ الشخص بأي عبارة، فإذا أوقظته بذكرٍ من الأذكار، تكون قد جمعت بين إيقاظه وبين الذكر، فيكون لك أجران: أجر ذكر الله، وأجر إيقاظه للصلاة. ولذلك كبر وعلا صوته بالتكبير، وخص التكبير لأنه الدعاء إلى الصلاة، لأن أول عبارة في الأذان (الله أكبر) فهو أفضل الدعاء إلى الصلاة، والنبي صلى الله عليه وسلم استيقظ. وهنا قد يقول قائل: إننا نعلم أن قلوب الأنبياء لا تنام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن عيني تنامان ولا ينام قلبي) فما باله هنا قد حصل أنه نام عن الصلاة المكتوبة؟ وقد أجاب العلماء بأجوبة، ومنها: أنه كما يعتري الإنسان السهو في اليقظة كما في الصلاة، فكذلك في النوم من باب أولى، قد يحصل له سهو قلبي وهو في المنام، فالنبي صلى الله عليه وسلم ما سها في الصلاة وهو مستيقظ، والسهو سهو القلب، وسلم من ركعتين. إذاً: من باب أولى أن يحدث له سهوٌ قلبيٌ في المنام، حتى لو كان قلبه لا ينام، لكنه ليس مبرأ من السهو، فهذا جواب مما قيل عن هذا الأمر. وفي ذلك فائدة: لو استيقظ عليه الصلاة والسلام في الوقت وصلوا لما كان هناك بعض الفوائد التي حصلت، ولما عرفناها، فالمجتمع الأول أجرى الله سبحانه وتعالى فيه أحداثاً، وقدر فيه أقداراً؛ لتعرف أحكام ما كانت لتعرف لو لم تحصل هذه الأحداث.

عظم وقع مصيبة فوات الصلاة على الصحابة

عظم وقع مصيبة فوات الصلاة على الصحابة قوله: (فلما استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم شكوا إليه الذي أصابهم)، وهذا يبين عظم وقع مصيبة فوات وقت الصلاة على الصحابة، وشدة محافظة القوم عليها، وتحسسهم من فقدها، وتأذيهم من ذلك لدرجة أنهم اعتبروها مشكلة أذية شكوا إليه الذي أصابهم، اعتبروها مصيبة أصابتهم، فشكوا إليه مصيبتهم التي أصابتهم، وما هي المصيبة؟ خروج وقت الصلاة، لا كما هو حالنا اليوم، فربما تفوتنا الصلوات والصلوات ولا يعتري الإنسان وربما لا يحدث له شيئاً، يقوم يصلي وكأنه لم يصبه شيء، لا مصيبة ولا أقل من المصيبة، ولا شك أن فوات العبادة يؤذي النفس المستقيمة، ويجعل الحرج موجوداً فيها، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم من شدة ما رأى من وقع المصيبة عليهم وهي فوات صلاة الفجر؛ عزَّاهم وآنسهم، ولما عرض لهم من الأسف والحزن قال: (لا ضير أو لا يضير) قالها تأنيساً لقلوبهم، لا حرج عليكم لأنكم لم تتعمدوا، وهنا يكون الفرق بين من نام عن الصلاة وقد اتخذ الأسباب ففاتته، وبين من نام عن الصلاة مهملاً الأسباب، فالذي ينام عن الصلاة المكتوبة قد ورد عقابه في حديث البرزخ، رأى النبي صلى الله عليه وسلم قوماً يعذبون في البرزخ، وكان عذاب الذي ينام عن الصلاة المكتوبة أن يشدخ رأسه بالحجر، ويعود رأسه كما كان، ثم يشدخ بالحجر، ويعود رأسه كما كان، إلى أن تقوم الساعة، قيل: إلى أن يبعث الناس من قبورهم، وهو عذاب في البرزخ على الراجح، من هو هذا الرجل؟ قال: (الذي ينام عن الصلاة المكتوبة) يرفض كتاب الله وينام عن الصلاة المكتوبة، هذه عقوبته، ولو قيل لك: ما عقوبة النوم عن الصلاة عمداً؟ فقل: هذا هو عقابه، وهذا يبعث الإحساس بالمسئولية للصلاة، خصوصاً عند أصحاب الأعمال الذين يشتغلون في النوبات، فبعض الأعمال في الشركات والمستشفيات أو الطيران ونحو ذلك فيها نوبات، فربما تنتهي نوبة أحدهم قبيل الظهر وهو ساهر أكثر الليل والصباح، فربما ينام ولا يصحو إلا المغرب، ويضيع العصر والظهر، وربما انتهى أيضاً قبل الفجر بقليل وينام ويضيع الفجر، وهكذا وهؤلاء ليس لهم عذر في أخذ الاحتياط لأجل الصلاة.

سبب ارتحال النبي صلى الله عليه وسلم من المكان الذي ناموا فيه إلى مكان آخر

سبب ارتحال النبي صلى الله عليه وسلم من المكان الذي ناموا فيه إلى مكان آخر ثم قال صلى الله عليه وسلم: (لا ضير، ارتحلوا) لماذا ارتحل النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه؟ ولماذا لم يصلوا في نفس المكان؟ ولماذا أمر الجيش أن يرتحل؟ قيل: إن ذلك بسبب حضور الشيطان في ذلك الموضع الذي كانوا فيه، كما ورد ذلك في صحيح مسلم: (إن هذا مكان فيه الشيطان قوموا) فقاموا من ذلك المكان الذي حضرهم فيه الشيطان. وجاء عند أبي داود من حديث ابن مسعود في هذه القصة: (تحولوا عن مكانكم الذي أصابتكم فيه الغفلة) هذا وقد فات وقت الصلاة، فأمرهم بالارتحال من مكان الغفلة، لكي ينشط النائم ويقوم ويلحق بالناس من كان لم يقم بعد، ويتكامل العدد ويجتمعون، فنزل في مكان غير بعيد، لم يذهب ويؤخر الصلاة. بعض الناس يقول: ما دام فاتت فاتت! فإذا استيقظ الساعة السابعة، قال: ما دام فاتت فاتت، ويكمل النوم إلى الساعة العاشرة والحادية عشرة، ومع الظهر، وهذا من جهلهم؛ لأن الإنسان إذا نام عن الصلاة يجب عليه أن يؤديها حينما يستيقظ، لقوله صلى الله عليه وسلم: (من نام عن صلاةٍ أو نسيها فوقتها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك) لابد إذا استيقظ من النوم أن يصلي مباشرةً، ويجوز أن يتأخر شيئاً يسيراً لمصلحة؛ كأن يكون هناك جماعة فاتتهم الصلاة، فيقوم بعضهم فيؤذنون ويصلون السنة، وينتظرون بقية أصحابهم لأن يأتوا، كأن يقوموا من النوم ويتوضئوا، فإن الناس في قيامهم من النوم وطهارتهم ليسوا سواء، فبعضهم يقوم بسرعة، وبعضهم نومه فيه بطء، وبعضهم يتوضأ بسرعة، وبعضهم يحتاج إلى قضاء حاجة، وبعضهم ربما يطيل في قضاء الحاجة، فليسوا سواء، فحتى يدرك الجميع الجماعة فلا بأس بالتأخر اليسير في مثل هذه الحالة. فالنبي صلى الله عليه وسلم نزل غير بعيد وصلى، وقيل: إنه غيَّر المكان تحرزاً من العدو. وقيل: انتظاراً لما ينزل عليه من الوحي. وقيل: ليستيقظ من كان نائماً، وينشط من كان كسلاناً. وفيه: فائدة التحول من مكان الغفلة، فإذا كان في وادٍ يخرج منه. وقيل: إن هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يُدرى أن الشيطان حضر إلا بوحي. على أية حال: من حصل له غفلة عليه أن يغير مكانه، ولذلك ندبنا في خطبة الجمعة إذا نعس الواحد في مكانه؛ فعليه أن يغير مكانه مع من بجانبه من اليمين أو الشمال، يتحول إلى مكان صاحبه وليتحول صاحبه مكانه، كما جاء في الحديث، فإذا أشار لك من بجانبك في خطبة الجمعة بتغيير المحل فلا تقل: ماذا يريد؟ هو في وادٍ آخر. لا، عليك أن تفهم وتفقه وتتفطن أنه يريد أن يغير مكان الغفلة، ويجوز له أن يشير لأجل هذه المصلحة ولا يتكلم ولا تتكلم، ولا تقل: ماذا تريد؟ وإنما تغير مكانك بمكانه. إذاً: أُمر الناس في سماع الخطبة يوم الجمعة بالتحول من مكانٍ إلى مكان آخر، وأن من حصلت له الغفلة عن عبادةٍ يتحول من ذلك المكان، وأن التأخر اليسير عن الصلاة بعد خروج وقتها لأجل انتظار الجماعة -مثلاً- أو أن ينشط الكسلان ويقوم النائم النعسان وثقيل النوم، أنه لا حرج فيه.

مشروعية الأذان للصلاة الفائتة

مشروعية الأذان للصلاة الفائتة قوله: (ثم توضأ ونودي بالصلاة)، وهذا يدل على مشروعية الأذان للفوات، إذا فاتتك الصلاة فيشرع لك الأذان، ومنه يعلم أن الأذان ليس هو الإعلام بدخول الوقت فقط، بل فيه دعوة الناس للصلاة أيضاً. وفيه فائدة طرد الشيطان؛ لأن الشيطان إذا سمع التأذين ولَّى وله ضراطٌ حتى لا يسمع صوت التأذين، فإذا انتهى الأذان رجع، فإذا أقيمت الصلاة ولىّ، لأن الشيطان لا يطيق سماع الأذان ولا الإقامة، فإذا انتهت الإقامة رجع يوسوس للمرء ويحول بينه وبين صلاته. إذاً: الأذان للفائتة مشروع، وإذا كان هناك جماعة في سفر أو غيره، ولم يستيقظوا إلا بعد طلوع الشمس، فإنهم يؤذنون، والأذان مشروع للفائتة.

مشروعية الجماعة للصلاة الفائتة

مشروعية الجماعة للصلاة الفائتة كذلك في هذا الحديث قوله: (فصلّى بالناس) يؤخذ منه أيضاً: مشروعية الجماعة للفائتة، فلو كان هناك جماعة فاتتهم صلاة فإنهم يصلون جماعة وليس هناك مانع، ولا يقل أحد: يجب أن يصلي كل إنسان لمفرده! لا. فهذا النبي عليه الصلاة والسلام عندما فاتتهم الصلاة قام وصلَّى بالناس جماعة وأذن.

تفقد الإمام والمسئول أحوال الرعية

تفقد الإمام والمسئول أحوال الرعية ووقع كذلك في هذا الحديث قصة الرجل الذي اعتزل القوم ولم يصلِّ معهم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم سأله، فينبغي على الإمام تفطن أحوال المأمومين، وينبغي للأمير في السفر أن يتفقد أحوال رعيته، ويتفطن لهم، ويسأل عنهم.

التيمم للجنابة عند عدم وجود الماء

التيمم للجنابة عند عدم وجود الماء رأى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل معتزل القوم لم يصل معهم، فسأله: (ما منعك أن تصلي مع القوم) فالرجل بين ذلك بقوله: "أصابتني جنابةٌ ولا ماء" أي: لا يوجد معي ماء للاغتسال، فقال: (عليك بالصعيد) فهنا يتبين أن الإنسان إذا أصابته الجنابة ولا يوجد عنده ماء فإنه يتيمم، لأن التيمم يرفع الجنابة، ولذلك لو كان معه ماء يكفي للوضوء فقط وأصابته جنابه، والماء لا يكفي للاغتسال، فعليه أن يتوضأ ثم يتيمم، كما قال بعض أهل العلم، أو يتيمم فقط، لكن الوضوء وحده لا يكفي لرفع الجنابة عند عدم وجود الماء الكافي للغسل، ولا يرفعها إلا التيمم، فإنه يكفيك. إذاً: من السنة أن الإنسان إذا عدم الماء ينتقل إلى البدل، وهذه السنة واجبة، ومشروعية التيمم للجنب واضحة في هذه القصة، والصحابي كان يجهل هذا الحكم، فبينه له النبي صلى الله عليه وسلم.

الحث على صلاة الجماعة

الحث على صلاة الجماعة وكذلك فيه الحث على صلاة الجماعة، لأنه قال: (ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم؟) فهذا فيه الحث على صلاة الجماعة، وأن ترك الشخص الصلاة بحضرة الناس عيب، ولذلك لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلين في آخر المسجد لم يصليا مع القوم، سألهما عن السبب، فقالا: يا رسول الله! صلينا في رحالنا. قال: (إذا أتيتما مسجد قومٍ فوجدتماهم يصلون فصليا معهم، ولو كنتم صليتم) فإذا حضر الإنسان مكاناً فيه أناس مجتمعون للصلاة فلا يعتزل ويدعهم يصلون، لأنه يكون في موضع تهمة، سيقول الناس: لماذا لم يصل؟ أهو مستهزئ أم أن الإمام لم يعجبه؟! فلذلك الإنسان لو صلى في مكان وجاء إلى مسجد آخر لدرس أو لحاجة، فإن وجدهم يصلون دخل معهم وصلى وهي له نافلة، ولو كان وقت نهي، لأن الحديث كان بعد الفجر، ولو كان بعد الفجر، أو بعد العصر، فيدخل ويصلي معهم وهي له نافلة. وكذلك فيه اللطف في السؤال، فإنه قال: (ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم؟) أسلوب سؤال ولم يكن أسلوب توبيخ أو سخرية أو تأنيب أو قسوة، وإنما هو أسلوب سؤال لطيف لمعرفة سبب تخلف هذا الرجل عن الصلاة، وكذلك إنكار المنكر يكون بالأسلوب الحسن.

مشروعية الأخذ بالأسباب

مشروعية الأخذ بالأسباب في هذا الحديث مشروعية الأخذ بالأسباب؛ فإنه طلب من الصحابيين أن يتلمسا الماء، وأن الأخذ بالأسباب لا يقدح في التوكل، ومن الناس من يغلو في السبب حتى يجعل السبب هو كل شيء، ويعتمد عليه ويتوكل، وهذا حرام وشرك. ومن الناس في الجانب المقابل من يهمل الأسباب بالكلية، ويقول: إذا أراد الله أن تتيسر تيسرت، وإذا أراد الله أن تحصل حصلت، ولا يفعل شيئاً، فهذا إنسان غير عاقل، لأن العقل السليم يقتضي بذل الأسباب، وقد أمرت مريم أن تهز جذع النخلة مع أنها امرأة نفاس، في أضعف شيء، والنخلة قوية، وأمرت بهز النخلة، وكان يمكن أن ينزل عليها الرطب من غير هز، لكن الله تعالى يريد أن يعلم عباده الأخذ بما يستطيعون من الأسباب، فأنت خذ بالسبب والله تعالى يأتيك بالنتيجة. إذاً: الاعتماد على الأسباب شرك، وإهمال الأسباب جنون، وكلاهما مصادم لمفهوم التوكل الصحيح، أما الغربيون فإنهم يجعلون الأسباب هي كل شيء، ولذلك تراهم يخططون للأمر غاية التخطيط ولا يتوكلون على الله، ولا شك أن عندهم عقولاً وذكاءً، عندما يتخذون الأسباب، لكن ليس عندهم توحيد، ولذلك تجد الواحد يصاب بالانهيار إذا لم تأت النتيجة كما يريد؛ لأنه ليس عنده توكل على الله، والإنسان مهما كانت قوته، ومهما كان تخطيطه، وذكاؤه وعقله، فإنه في بعض الحالات يصل إلى طريقٍ مسدود، وفي بعض الحالات يشعر بالضعف، وأنه ليس هناك أسباب يمكن أن تفعل، أو أن الأسباب ضعيفة في بعض الأحيان، فلا ينجيه إلا إذا كان موحداً متوكلاً على الله تعالى. والطرف الآخر: هم بعض الصوفية ومن شابههم من الكسالى، فإن الكسالى مشابهون للصوفية في عدم الأخذ بالأسباب، فتجد الواحد منهم يقول: إذا أراد الله أن أنجح نجحت! وهو لا يريد أن يدرس، وبعض الناس يتركون الأسباب في مجال الأمور الدينية الشرعية، ويأخذون بالأسباب الدنيوية البحتة، فتراه إذا أراد تجارةً خطط ودبر وفعل ودرس وفكر وراقب وتابع وحضر وداوم، وفعل كل الأسباب! وفي الأمور الشرعية، يقول: إذا أراد الله أن يهديني اهتديت، وإذا أراد الله أن يعلمني تعلمت، وإذا أراد الله أن يفقهني تفقهت! ولا يأخذ سبباً. ولو قلت له: أنت الذي تقول هذا الكلام: إذا أراد الله أن يهديني اهتديت، وهذه حجة كثير من الناس عند النقاش، إذا كانوا مقيمين على منكر، يقولون: إذا أراد ربنا أن يهدينا اهتدينا! نقول: إذاً: لماذا لا تترك الزواج وإذا أراد الله أن يأتيك بولد أتاك؟ لا تتزوج ولا تنكح فسوف يضحك منك، ولذلك فإنهم يأخذون بالأسباب في الأمور الدنيوية، ويتركون الأسباب في الأمور الدينية، ويحتجون بأن الله إذا أراد شيئاً كان، وهذا هو فعل كثيرٍ من عصاة عصرنا.

صلاة المتيمم عند فقد الماء

صلاة المتيمم عند فقد الماء وكذلك في الحديث: أن من تيمم وصلى فإنه لا يحتاج إلى إعادة الصلاة إذا وجد الماء، ولذلك عندما وجد الماء، ثم أتت المرأة بعد ذلك لم يقل: يا فلان! أعد الصلاة، وإنما أعطاه الماء ليغتسل به لأجل الصلاة التي بعدها ورفع الجنابة. إذاً: الإنسان إذا اتخذ الأسباب، واتقى الله ما استطاع، وفعل ما تيسر، يكفيه، ولا يحتاج إلى إعادة العبادة.

حسن التعامل مع المرأة الأجنبية

حسن التعامل مع المرأة الأجنبية وكذلك في هذا الحديث: حسن التعامل مع المرأة الأجنبية ولذلك ما خلا واحدٌ منهما -أي من الصحابيين- بها، كانا جميعاً، وكان التوجيه بالكلام، وليس فيه أي ملامسةٍ ولا شبهةٍ، وهذا هو اللائق بالمسلم إذا وجد امرأةً وحيدةً منقطعة، وبعض من ركبه الشيطان واستحوذ عليه يعتبر الفرصة سانحة إذا رأى امرأة لوحدها، ويعتبرها غنيمة، ولذلك فإن الفسق يبلغ به أن ينتهز هذه الفرصة لتحقيق شهوةٍ في نفسه، أو انتهاك لحرمة الله تعالى، إذا وجد امرأة لوحدها، والعياذ بالله.

حسن التخلص في المواقف

حسن التخلص في المواقف في هذا الموضع أيضاً: حسن التخلص، فالصحابيان عندما قالا للمرأة: انطلقي، قالت: إلى أين؟ قالا: إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت: الذي يقال له: الصابئ؟ التخلص الحسن أنهما قالا: "هو الذي تعنين". لأنهما لو قالا: لا، ليس بالصابئ، وأنكرا عليها، لخافت وشردت ورفضت أن تأتي معهما، وفات المقصود، ولو قالا: نعم، لوافقاها على الباطل، والنبي عليه الصلاة والسلام ليس صابئاً، فتخلصا هذا التخلص الجميل بقولهما: هو الذي تعنين.

جواز أخذ ماء الغير للضرورة

جواز أخذ ماء الغير للضرورة وكذلك فإن أخذ الماء من المرأة يقال فيه: إما أنه من باب الضرورة، فيجوز أخذ الماء عند الضرورة من الآخر، ولو بغير رضاه. أو يقال: إنها من أهل الشرك كافرة حربية، فمالها حلالٌ لهم. وعلى تقدير أنها من أهل العهد نقول: إن ضرورة العطش تبيح للمسلم الماء المملوك لغيره، ثم إنهم قد أعطوها العوض بعد ذلك.

معجزة النبي صلى الله عليه وسلم في مباركة الماء

معجزة النبي صلى الله عليه وسلم في مباركة الماء كذلك في هذا الحديث: معجزةٌ ظاهرةٌ للنبي صلى الله عليه وسلم، وعلمٌ من أعلام نبوته، عندما حصلت البركة بمشاركة ريقه الطاهر المبارك للماء، فصار الماء كثيراً، وشرب منه أربعين رجلاً وملئوا الأواني، والمرأة ما نقص من مائها شيء، بل إنه أكثر مما كان، وهذا لا يمكن أن يكون إلا من نبي، ومهما حصل الآن من الاختراعات فلا يمكن أن يتوصلوا إلى أن يجعلوا قربة ماء تكفي أربعين رجلاً، ثم تملأ القرب وتكون أكثر مما كانت، فهذه معجزة لا يمكن أن تقع إلا لنبي، وهي من الآيات التي تقام بها الحجة على المشركين، ولذلك كانت المرأة مذهولة، وعرفت وقالت: أو إنه رسول الله. إما ساحر، وإما رسول الله.

مصلحة الشرب مقدمة على الطهارة

مصلحة الشرب مقدمة على الطهارة كذلك فيه: بيان أن شرب الآدمي والحيوان مصلحة مقدمة على الطهارة، فلو كان عند أحدٍ ماء قليل يكفيه إما للشرب وإما للطهارة، فإنه يقدم الشرب؛ لأن مصلحة بقائه على قيد الحياة أعلى من مصلحة الطهارة مع موته، فإنه إذا مات بعد ذلك فلا يتطهر ولا يتمكن من شيء. فيؤخذ منه لو أن إنساناً في الصحراء أو في مكان منقطع ليس عنده إلا ماءٌ قليل لا يكفي إلا للشرب، فإنه يتيمم ويجعل هذا الماء للشرب.

حسن معاملة من أخذ منه شيء وتطييب خاطره

حسن معاملة من أُخذ منه شيء وتطييب خاطره وكذلك في هذا الحديث: تطييب خاطر من أُخذ منه شيء، وحسن المعاملة مع الآخرين، وأن الإنسان لو أخذ شيئاً من غيره أو من صاحبه بغير رضاه لأجل الحاجة، فإنه يعوضه. وفيه: أن حسن المعاملة تأتي بالنتائج الباهرة، ولذلك المرأة مع أنه لم ينقص من مائها شيء، أعطيت وجمع لها طعام كثير وضع في ثوب، ووضع الثوب على البعير بين يديها ثم انطلقت. وكذلك فإن الحديث (ما رزئنا من مائك شيئاً) يدل على أن جميع الماء الذي أخذوه ليس من ملكها، لأنه مما زاده الله وأوجده.

جواز استعمال أواني المشركين

جواز استعمال أواني المشركين كذلك استدلوا بالحديث على جواز استعمال أواني المشركين ما لم يتيقن منها نجاسة، فهذه مشركة ومعها إناء لا يبدو منه نجاسة، ولا رائحة نجاسة، ولا طعم نجاسة، ولا لون نجاسة. إذاً: يجوز استعمال الأواني ما لم يظهر فيها نجاسة.

دعوة المرأة لقومها إلى الإسلام ودور المرأة المسلمة

دعوة المرأة لقومها إلى الإسلام ودور المرأة المسلمة وفيه كذلك وهي فائدة عظيمة: دعوة المرأة لقومها. وفيه: أن المسلمين كانوا يقصدون عدم الإغارة عليها لأجل المعروف الذي حصل منها، مع أنه حصل رغماً عنها، وأعطيت مقابلاً عليه، لكنهم ما كانوا يغيرون على قومها طمعاً في إسلامهم بسبب المرأة، أو رعاية للمعروف الذي أدته أو أُخِذَ منها. وفيه: أن ترك الهجوم على قومٍ لمصلحة تؤدي إلى إسلامهم أمرٌ شرعي، وترك بعض الكفار والهجوم على آخرين لعلهم يسلمون وهناك بوادر أمر شرعي، فلذلك ينبغي أن يكون الجهاد في حكمة، والهجوم في حكمة، وهذه المرأة بركتها على قومها عظيمة عندما قامت بدعوتهم، وذكرتهم بكف المسلمين عنهم، عندما قالت: " ما أرى إن هؤلاء القوم يدَعونكم عمداً -لا جهلاً ولا نسياناً ولا خوفاً- فهل لكم في الإسلام؟ وهذه هي الدعوة؛ فأطاعوها فدخلوا في الدين، وهذا فيه دليل على أنه ربما يكون المرأة على ضعفها وعجزها أثر بالغ على الرجال وعلى القوم كلهم، وفي زماننا نجد حالات في الواقع من هذا القبيل؛ أن بعض النساء يرزقها الله تعالى ديناً وإخلاصاً، فتقوم بدعوة أهل البيت، فيتدين أهل البيت على يديها، وتكون بركة عليهم امرأة واحدة ربما تكون سبباً في إسلام أو تدين جماعة من الناس، مثل هذه المرأة، فقد أسلم بسببها قومها كلهم. إذاً: المرأة إذا أحسنت تربيتها، وأحسن إعدادها، جاءت بالنتائج الباهرة، وكذلك يمكن أن تحمل هم الدعوة ومسئولية الدعوة، وتأتي بنتائج عظيمة قد لا يأتي بها بعض الرجال، وكم من زوجٍ صلح حاله بسبب زوجته، وكم من أبٍ اهتدى بسبب ابنته، وكم من أخٍ تدين بسبب أخته، وهذه أشياء مشاهدة في الواقع تدل على أهمية توجيه الدعوة للنساء، إذ بسبب هدايتهن ربما يحصل هداية البيت بأكمله، ونحن نرى في الواقع دخول الهداية والعلم والدين في بعض البيوت عن طريق النساء، وأن بعض البيوت ربما يفشل الرجال في إدخال شيءٍ إليها عن طريق رجل، فيأتي من طريق امرأة، وأن الضعيف ولو كان ضعيفاً لكن ربما يجري الله على يديه، أو يبارك في جهده بما لا يحصل لمن هو أقوى منه، فلا يصلح أبداً أن نستهين بدور المرأة في البيت، أو أن نهين المرأة، أو كما يفعل بعض الناس إذا قال: الحذاء عزك الله، يقول: المرأة أجلك الله! لماذا يقرنون في العبارة بين المرأة والحذاء أو النجاسة؟ هل هي شيءٌ يتقذر منه أو في ذكره عيب؟ ليس في ذكره عيب، فلذلك ليس من تكريم المرأة أن الإنسان يذكر عبارة يبين فيها أنها نجسه، أو أنها مستقذرة، أو أنها شيءٌ يستحيا من ذكره، كلا والله! فإن فضل بعض النساء على الرجال كبير، كما هو فضل عائشة وخديجة ومريم، وغيرهن من النساء، ثم إنه حتى على المستوى الدنيوي يوجد بعض النساء يتحملن بيوتاً، فربما يكون الذي في البيت عاجز عن الكسب من الرجال، أو أنه مهمل في القيام بشئون البيت، ثم هي تعمل وتحمل البيت بأكمله، وربما يدرس الأولاد ويكبر الذكور ويدرسوا وهي التي تنفق عليهم، وتنفق على أبيها وأمها، فلذلك إعداد النساء والقيام بالدعوة في صفوفهن ومراعاتهن يكون فيه خيرٌ بالغٌ، وأثرٌ كبيرٌ في داخل البيوت، بل على مستوى القوم أجمعين كما في هذه القصة، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

الصاحب ساحب

الصاحب ساحب لقد جاءت الآيات والأحاديث الدالة على الأمر بصحبة الأخيار والصالحين الذين يعينون على الخير ويحثون عليه. فمن أراد صحبة الصالحين فليبحث عنهم في المساجد، فهي أكثر الأماكن التي يتواجدون فيها، وقد كان السلف رضوان الله عليهم يفاضلون بين الأشخاص بالعلم والسنة وخدمة الدين والخلق، وأما صحبة الأشرار فأقل ما فيها ضياع الأوقات وإهدارها فيما لا نفع فيه.

الأمر بصحبة الأخيار

الأمر بصحبة الأخيار إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى أوصانا بوصايا، وكذلك نبيه صلى الله عليه وسلم حثنا على أمور، ولا يأمر الرب بشيء ولا نبيه صلى الله عليه وسلم إلا وفيه مصلحة عظيمة لنا، وهذا الفرق بين أوامر الرب ورسوله وبين أوامر البشر. ومِن أوامر الرب وأوامر رسوله: الأمر بصحبة الأخيار: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف:28] فأمر بصحبة الأخيار وملازمتهم، ونهى عن صحبة الأشرار: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} [الكهف:28]. وهذه مسألة عظيمة من مسائل هذه الحياة؛ فإن الإنسان لا بد له من صديق وصاحب، ولا بد له من قوم يأوي إليهم، ويكون معهم. ولعل هذا الوقت (في بداية العام الدراسي) بل وعودة كثير من العمال والموظفين إلى أعمالهم، يكون وقتاً مناسباً للتذكير بهذا الموضوع (إنشاء العلاقات الجديدة) وتنقية العلاقات القديمة وتمحيصها. قال الله تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تصحب إلا مؤمناً). وقال: (المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم مَن يخالل). وقال صلى الله عليه وسلم: (المرء مع مَن أَحَب). قال بعض السلف: لقد عظُمت منزلة الصَدِيق عند أهل النار، قال الله تعالى: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * {وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء:100 - 101]. وقال بعضهم في قوله صلى الله عليه وسلم: (المرء على دين خليله): انظروا إلى فرعون مع هامان، أضل هذا بهذا، وأخذ هذا من عزة هذا، وأعان بعضهم بعضاً على الكفر واستعباد البشر. وجليس الخير مفيد دائماً وأبداً، مثلما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل الجليس الصالح كمثل العَطَّار، إن لم يعطِك من عطره أصابك من ريحه) وهذا هو الفرق بينه وبين نافخ الكير، الذي يحرق ثيابك، أو تجد منه ريحاً سيئة.

مميزات الجليس الصالح

مميزات الجليس الصالح جليسك الصالح: يأمرك بالخير، وينهاك عن الشر، ويُسمِعك العلم النافع، والقول الصادق، والحكمة البليغة، ويبصِّرك آلاء الله، ويعرِّفك عيوب نفسك، ويشغلك عما لا يعنيك. وإن كان قادراً: سَدَّ خَلَّتك، وقضى حاجتك، ثم لا تحتاج بعد الله إلى سواه، إن ذكَّرته بالله طمع في ثوابه، وإن خوَّفته من عذاب الله ترك الإساءة، يُجْهِد نفسه في تعليمك وإصلاحك إذا غفلتَ عن ذكر الله، وإذا أهملت بشَّرك وأنذرك، يعتني بك حاضراً وغائباً. وإن كان مثلك أو دونك فهو: يسُدُّ خَلَّتك، ويغفِرُ زَلَّتك، ويُقيل عثرتك، ويستر عورتك، وإذا اتجهت إلى الخير حثك عليه، وكان لك عوناً عليه، وإذا عملت سوء أو توجهت إلى سوء حال بينك وبين ما تريد، وقال: أعرض عن هذا، واستغفر لذنبك إنك كنت من الخاطئين. وصالح إخوانك: لا يمل قُرْبَك، ولا ينساك على البعد، تُسَر بحديثه إذا حضر، إنه يشهد بك مجالس العلم، وحِلَق الذكر، وبيوت العبادة، ويزين لك الطاعة، ويقبح لك المعصية، ولا يزال ينفعك حتى يكون كبائع المسك وأنت المشتري. ولِصَلاحِه: لا يبيع عليك إلا طيباً، ولا يغشك، ولا يعطيك إلا جيداً، وإن أبيت الشراء فلا تمر بشارعٍ إلا وجدت منه ريح الطيب الذي يملأ المعاطس والأنوف؛ أولئك القوم لا يشقى بهم جليسهم تنزل عليهم الرحمة، فيشاركهم فيها، ويهم بالسوء فلا يقوله ولا يستطيع فعله، إذا لم يكن مخافةً من الله فحياءً من عباد الله الصالحين. أوصى بعض الصالحين ولده لما حضرته الوفاة، فقال: يا بني! إذا أردت صحبة إنسان فاصحب من إذا خدمته صانك، وإن صحبته زانك، واصحب من إذا مددت يدك للخير مدها، وإن رأى منك حسنة عدَّها، وإن رأى منك سيئة سدَّها. وقال بعض السلف: عليكم بإخوان الصدق، فإنهم زينة في الرخاء، وعصمة في البلاء. فالأخيار الأبرار الأتقياء إذا وُجدوا في مجتمع جذبوا أشباههم أو انجذبوا إليهم وسرى تيار المحبة بينهم. والصاحب ساحب. لو أن مؤمناً دخل إلى مجلسٍ فيه مائة منافق ومؤمنٌ واحد لجاء حتى يجلس إليه، ولو أن منافقاً دخل إلى مجلسٍ فيه مائة مؤمن ومنافقٌ واحد لا زال يمشي حتى يجلس إليه، وإن أجناس الناس كأجناس الطير، ولا يتفق نوعان في الطيران إلا وبينهما مناسبة. أيها الإخوة: ينبغي على الواحد منا أن يفتش نفسه. اعلم يا عبد الله! أن قلبك إن نفر من أهل الدين فأنت مريضٌ، فداو نفسك حتى تميل إلى أهل الخير، وإذا رأيت نفسك تميل إلى أهل الشر والفجور فاتهم نفسك واستدرك عمرك قبل الفوت. وإذا رأيت نفسك تميل إلى الأخيار، وتحب مُجالستهم مع علمك بسوء سيرتك، واعوجاج طريقتك، وقبح ما تُخفي وأنت بينهم؛ فاعلم أن فيك بقية خير، فاجتهد في اقتلاع الشر من نفسك لتكون مثلهم، وإذا رأيت نفسك تحب الذهاب مع المجرمين، وأنت من أهل الخير، ففيك شعبة من النفاق. إن الإخوان الصالحين نعمة عظيمة من الله. وقد روي عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال: [لولا ثلاثٌ ما أحببت البقاء ساعة: ظمأ الهواجر -الصيام في النهار الحار- والسجود في الليل، ومجالسة أقوام ينتقون أطايب الكلام كما يُنتقى أطايب الثمر]. وقال الشافعي رحمه الله تعالى: لولا القيام بالأسحار، وصحبة الأخيار؛ ما اخترت البقاء في هذه الدار. وكانوا إذا فقدوا أخاً عزيزاً عرف ذلك فيهم. قال أيوب السختياني رحمه الله: [إذا بلغني موت أخٍ لي فكأنما سقط عضوٌ مني]. أخاك أخاك فإن من لا أخاً له كساعٍ إلى الهيجا بغير سلاحِ ولذلك كان التفريط في الصالحين وتضييع الأخ الصالح من أعظم البؤس، وأشد البأس على النفس، وأعجز الناس من فرط في طلب الإخوان، وأعجز منه من ضيع مَن ظَفَر به منهم، فربما يلقاهم ثم يضيعهم؛ فهذا أعجز مِن الذي فرط في ملاقاتهم والتعرف عليهم أصلاً؛ لأنه عرف النعمة ثم كفرها، فهم يعرفون نعمة الله ثم يجحدونها ويتخلون عنها. والرجل بلا إخوان كاليمين بلا شمال والشمال بلا يمين. وقال الأصمعي رحمه الله: إذا أردت أن تعرف وفاء الرجل ووفاء عهده، فانظر إلى حنينه إلى إخوانه، وتشوُّقه إليهم.

فوائد صحبة الصالحين

فوائد صحبة الصالحين أيها الإخوة: إن مصاحبة الصالحين فيها فوائد كثيرة: 1 - النجاة يوم القيامة: كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المرء مع من أحب). 2 - النجاة من فزع ذلك اليوم: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ * يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} [الزخرف:67 - 68]. فإذا كان معهم في الدنيا نَجَى مِن الفزعِ، ولعْنِ بعضِ الناس بعضاً يوم القيامة. 3 - الانتفاع بدعائهم بظهر الغيب. 4 - الانتفاع بمحبة الله لمحبتهم: لأن الله قال: (وجبت محبتي للمتحابين فِيَّ، والمتجالسين فِيَّ، والمتزاورين فِيَّ، والمتباذلين فِيَّ) كما جاء في الحديث الصحيح القدسي. 5 - بركة المجالس والخير الذي يعم: (فتقول الملائكة: يا رب! إن فيهم فلاناً ليس منهم، إنما جاء لحاجة، فيقول الله للملائكة: هم القوم لا يشقى بهم جليسهم) لا يحرم من الفضل وإن جاء لحاجة، ما دام جلس مع الأخيار فلا بد أن يناله نصيب. قومٌ يذكرون الله فيناديهم المنادي من السماء: (قوموا مغفوراً لكم) فما أعظم النعمة بالجلوس معهم إذا كانوا سيقومون وقد غُفِر لهم؟! 6 - جلساء الخير يعرفونك على إخوان الخير فتزداد المعرفة؛ فصاحب الخير يدلك على صاحب الخير، وهكذا تزيد الاستفادة. 7 - التشبه بهم ثمرة من ثمرات مصاحبتهم: وإذا كانوا على خيرٍ صرت على خير. 8 - يحفظون الوقت والعمر من الإهدار. 9 - ذكر الله تعالى: قال عليه الصلاة والسلام: (أولياء الله تعالى الذين إذا رُؤُوا ذُكر الله عز وجل). وكان القعنبي رحمه الله إذا خرج على الناس قالوا: لا إله إلا الله. وكان من أهل الحديث. 10 - هم الزينة في الرخاء، والعدة في البلاء: هذه العدة التي يحتاجها الإنسان. 11 - وخير معينٍ على تخفيف الهموم والغموم: وكم في حياتنا هذه من غموم وهموم؟! وكم فيها من شدائد يحتاج الواحد إلى شخص يستمع إلى شكواه فلا يجد، ولو كان لا يريد منه شيئاً إلا مجرد السماع؛ لأن في بث الشكوى راحة، فبعض الناس من النعم التي حرموها أنهم لا يجدون أحداً يسمع شكواهم؛ لفَقْد صديق الخير، وصاحب الخير، لو ما سمع إلا الشكوى لكان في ذلك تنفيس وراحة، فكيف إذا كان سيعين ويساعد بعقله ومشورته، أو بماله وجاهه ومساعدته؟! خرج ابن مسعود مرةً على أصحابه فقال: [أنتم جلاء أحزاني]. وهكذا فعلاً يكون الإخوان تسليةً وتسريةً، يكون لقاء الأحبة مُصَفِّياً ومُنَقِّياً، ويكون طارداً للهم والغم. 12 - وكذلك فإن من أعظم النعم بمصاحبة الصالحين إن أُحْسِن الاختيار: تعلم العلم الشرعي. 13 - الإقبال على الدين. 14 - تكميل الشخصية. 15 - العون على العبادة. 16 - الحماس للطاعة. 17 - النصرة في الحق. 18 - الإعانة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 19 - السمو فوق عالم المادة. 20 - النجاة من اليأس. 21 - الرأي السديد. 22 - التخلص من العادات السيئة. 23 - البركة: كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (البركة في ثلاث: الجماعة، والثريد، والسحور). فإن قال قائل: أين أجد الصالحين؟ فنقول: من مظان وجود الصالحين، أعظم المظان على الإطلاق بيوت الله تعالى. عن الحسن بن علي قال: [من أدام الاختلاف إلى المسجد أصاب ثمان خصال: آية مُحكمة، وأخاً مُستفاداً، وعلماً مُستطرَفاً، ورحمةً منتظَره، وكلمةً تدله على هدى، أو تردعه عن ردى، وترك الذنوب حياءً، أو خشية]. المنطَلََق من المسجد، وهكذا يعرف الإنسان الإخوان وينتقيهم.

اختيار الصاحب

اختيار الصاحب إذا قال قائل: إنني وجدت منهم عدداً، فأيهم الذي أصاحب؟ و A نرجع إلى ما قاله السلف، فإنهم كانوا يفاضلون بين الأشخاص بأي شيء؟ بالعلم، والسنة، والعبادة، وخدمة الدين، والخلق. ولذلك فإن الإنسان لا يعْدِم مِن الموازنةِ التي تقوده إلى صاحبه الذي يخالطه، ويتابعه، ويعاشره، ويأوي إليه. فانظر فيهم: مَن أزكى علماً، وأشد اتباعاً للسنة، وأحسن خلقاً، وأكثر حرصاً على خدمة الدين والدعوة إلى الله؟ فعند ذلك تعرف من تخالط. ولذلك قال ابن الجوزي رحمه الله: "فالعجب ممن يترخص في المخالطة وهو يعلم أن الطبع يسرق، وإنما ينبغي أن تقع المخالطة للأرفع والأعلى في العلم والعمل ليُستفاد منه، فأما مخالطة الدون فإنها تؤذي، إلا إذا كانت للتذكير والتأديب" وهذه كلمةٌ عظيمة. إن كنت أنت الذي تدعوه وهو دونك فنَعَم، وتعلمه وهو دونك فنَعَم، وإلا فإن الإنسان يحرص دائماً على صحبة الأرفع والأعلى والأكثر فائدة. وتأمل في علاقة الإمام أحمد رحمه الله بـ محمد بن نوح كيف كانت متبادلة من الأعلى إلى الأدنى ومن الأدنى إلى الأعلى. قال الإمام أحمد رحمه الله عن محمد بن نوح الشاب: ما رأيت أحداً على حداثة سنه وقدر علمه أقوم بأمر الله من محمد بن نوح، إني لأرجو أن يكون قد خُتِم له بخير. وذلك لأنه لما أخذا معاً إلى المأمون في فتنة خلق القرآن مقيدَين فمات محمد بن نوح في الطريق، فغسله الإمام أحمد رحمه الله وكفنه وصلى عليه، وقال هذا الكلام في شأنه: إني لأرجو أن يكون قد خُتم له بخير. قال لي ذات يوم: يا أبا عبد الله! الله الله إنك لست مثلي! أنت رجلٌ يُقتدى بك، قد مد الخلق أعناقهم إليك لِمَا يكون منك، فاتقِ الله، واثبت لأمر الله. قال: فمات، وفُكَّ قيدُه، وصليت عليه، ودفنته يرحمه الله. اللهم ارحم موتانا، اللهم إنا نسألك صحبة الأخيار، وعيشة السعداء، وميتة الشهداء، وحياة الأتقياء، ومرافقة الأنبياء، إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

صحبة الأشرار وأضرارها

صحبة الأشرار وأضرارها الحمد لله، وسبحان الله، وأشهد أن لا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأشهد أن محمداً رسول الله؛ الرحمة المهداة، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه وأزواجه وذريته، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. عباد الله: إن الله تعالى حذَّّرنا من أهل السوء، قال: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:68]. يا من تُعاشِر صاحب سوء وأهل السوء! {فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:68] لا تقعد بعد الذكرى مع أهل السوء؛ فإن الله نهاك عن ذلك: {فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:68] هؤلاء الذين يتبرأ بعضُهم من بعض، ويقول الواحد منهم يوم القيامة: {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً} [الفرقان:28]. ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يستعيذ في دعائه من صاحب السوء كما قال: (اللهم إني أعوذ بك من يوم السوء، ومن ليلة السوء، ومن ساعة السوء، ومن صاحب السوء، ومن جار السوء في دار المقامة) لأنه ملازم؛ فإذا كان صاحب سوء فكيف يسلم من شره. (أعوذ بالله من صاحب السوء) قرين السوء الذي لا يمكن أن تأمنه على شيء؛ لا على عرض، ولا على مال، ولا على سر، لا يعينك على خير، ويزين المعصية، ويحث على الخبث. لا خير في صحبة من إذا حدثك كذبك، وإذا ائتمنته خانك، وإذا ائتمنك اتهمك، وإذا أنعمت عليه كفَرك، وإذا أنعم عليك مَنَّ عليك. ينبغي أن يُخْتَبَر الناسُ قبل مؤاخاتهم وذلك عند الهوى إذا هوى، وعند الغضب إذا غضِب، وعند الطمع إذا طمِع، ليُنْظر ما حاله في هذه المواقف الثلاثة! قال شيخ الإسلام رحمه الله: الناس كأسراب القَطا، مجبولون على تشبه بعضهم ببعض. ولا تقل: إنه لا يضرني، فالصاحب ساحب، والتشبه حاصل. واختر قرينك واصطفيه تفاخراً فكلُّ قرين بالمقارَن يَقتدي مَن الذي علم أصحاب المخدرات المخدرات؟! ومَن الذي جر الفحش إلى كثير من أهل الفحش؟! ومَن الذي أعطى القصص الخليعة وروايات السوء إلى من تأثر بها؟! َمَن الذي جلب إليهم الأفلام؟! مَن الذي سافر معهم إلى بلدان الشر والفساد؟! مَن الذي ضيعهم عن أهليهم؟! مَن الذي جعلهم يضيعون أماناتهم، وزوجاتهم، وأولادهم؟! إنهم قرناء السوء، أثرهم واضح في الواقع، يضيِّعون العمر، إنهم مَرَضٌ وهَمٌّ، وغَمٌّ وعجز. أيها المسلم! يا عبد الله! قد تكون أنت من أهل الخير، ولكن في نفسك شيء من الهوى إلى الجلوس إلى بعض أهل السوء، فإياك إياك أن يأخذك إلى أي مكان؟! إن صاحب الخير يأخذك إلى مسجد، أو حلقة علم، أو زيارة نافعة، أو عبادة وطاعة، أو قربة، أو يصحبك في حجٍ أو عمرة. أما ذلك فيأخذك إلى مكان دمَّر حياةَ كثير من الناس! فهل من توبة؟! وهل من عودة؟! وأقل ما في صحبتهم: ضياعُ الأوقات. حدثني واحدٌ قال: ذهبنا ووقفنا على أرجلنا إلى الساعة الواحدة ليلاً، ننتظر عملية القمار والميسر، ماذا ستكون نتيجتُها؟! ومَن الذي سيفوز بالسحب؟! ضاع الوقت، وضاع العمر، ومشاهدة المعصية، وهكذا الفكر الخالي، والعقل الخالي، والقلب الخالي؛ يسهُل جَرُّ صاحبِه. والناس إذا كانوا أصحاب تفاهات لو قيل لهم: إن في فَتِّ البعر سراً لأقبلوا على فَتِّه؛ لأن كثيراً منهم ليسوا بأصحاب عقولٍ راجحة، فيسهل الضحك عليهم، ويسهل خداعهم، وهذا حال كثير من الناس. فإذا لم يُوَفَّق الإنسان بصاحب عقلٍ راجح فكيف يكون العيش؟! وإذا كان الإنسان في مكان لم يجد فيه قريناً صالحاً، قد يعيش في مَجْمَع سكني، أو مكانٍ ناءٍ لا يجد فيه صحبة صالحة، يُبْتلى العامل بعمال حوله من النصارى والهندوس، أو غير ذلك ممن يكونون معه، فربما لا يجد أحداً من أهل الخير، فماذا يفعل عند ذلك؟ قال العلماء: فالأَولى للرجل في هذه الحالة ألا يزور إلا المقابر، ولا يفاوض إلا الكتب، وليستعن بالله على التوفيق، ويجعل خلوته أنساً بالله تعالى. إذا لم تجد أصحاباً فخالط كتب العلماء، وإذا لم تجد صالحاً تزوره فزر القبور. أيها الإخوة: كثيرٌ من الناس لا يغيرون العلاقات السيئة؛ لِقِدَم العهد وجريان العادة، فهو لَمَّا تعود على هذه الشلة لا يريد أن يفارقها؛ إن هناك جاذبيةً، إن سريان الوقت قد جعله متعلقاً بهم، فانتشال النفس من بينهم يحتاج إلى دينٍ، ومجاهدة، وإرادة قوية لا يُرْزَقُها إلا من أخلص النية لله من أجل الخلاص. يا أيها الأب: ساهم في توجيه ولدك إلى أهل الخير في الوقت المبكر؛ فإن الولد إذا كَبُر فَبَنَى علاقاته بنفسه، فإنه يصعب عليك جداً أن تغيرها أنت، اختَر له قبل أن يختار هو، فإذا رأيته مال إلى أهل الخير فشجِّعه، وأيِّده، وانصره، ووافقه على ما مال إليه؛ لأنه فيه صلاح دينه ودنياه. وبعضهم يقول للأخيار: أدفع لكم نقوداً وخذوا ابني. وبعضهم اعتَبَر بضياع الولد الأول، فلا يريد أن يضيع الثاني، والذي رأى تجارب غيره لا يحتاج أن يجربها. وهذه من مسئوليات الآباء في اختيار الأولاد الصالحين لمرافقة أبنائهم منذ السن المبكرة، وأن يتعاون الجميع على أن يوجدوا بيئات صالحة؛ وإيجاد البيئات الصالحة مسئولية عظيمة، وصدقة جارية، والله إن الذي يوجِد مجموعةً صالحة يعيش فيها ولده وولد غيره وولد جاره صدقةً جارية، تكون له في كل علم اكتسبوه، وخلق انتفعوا به. اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من الذين ينشغلون بذكرك، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك. اللهم اجعلنا ممن يصاحب الأخيار يا رب العالمين! اللهم لا تجعلنا من النادمين، اللهم لا تجعلنا من النادمين، واغفر لنا ذنوبنا أجمعين. اللهم انصرنا على أعداء الدين، اللهم عجِّل فرج المسلمين. اللهم إنا نسألك أن تهلك الكفرة الذين يعادون رسلك ويكذبون وحيك يا رب العالمين! اللهم أنزل بهم بأسك وعذابك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، ونجنا برحمتك يا أرحم الراحمين! سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

حقها عليه

حقها عليه إن من نعم الله سبحانه وتعالى على عباده أن جعلهما زوجين، ذكراً وأنثى، وجعل كلاً منهما يألف الآخر ويحن إليه، وقد جعل الشارع كذلك أسباباً وحقوقاً على كل من الزوجين تزيد في المودة والمحبة والألفة إن هم عملوا بها، ومن هذه الأسباب: حقوق الزوجة، وقد ذكر الشيخ حفظه الله في هذه المادة بعض حقوق المرأة على الرجل كالعشرة والنفقة وأحوالها، وما يصلح وما لا يصلح فيهما.

من حقوق الزوجة: المعاشرة بالمعروف

من حقوق الزوجة: المعاشرة بالمعروف الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: سنتحدث -يا أيها الإخوة- وما زلنا في الحقوق الزوجية، التي هي من الأمور الأساسية التي جاءت بها الشريعة في العلاقة بين الزوجين، وأن معرفة هذه الحقوق مما يدرأ المشكلات، ويجعل الحياة الزوجية حياة سعيدة, وأن كثيراً من أسباب الشقاء بين الزوجين يعود إلى الجهل بالحقوق الزوجية. ولا شك أن هناك حقوقاً تعود إلى الزوجة، مثل: المهر. والنفقة. والمعاشرة بالمعروف. وعدم الإضرار بالزوجة. والوطء وما يتعلق به. وأن هناك حقوقاً للزوج، مثل: طاعته. وقرارها في بيته. وألا تأذن لأحد بغير إذنه. وأن تحفظ مال الزوج. وأن تخدمه في بيته. وله عليها حق التأديب إذا احتاج الأمر إلى ذلك. وقد تكلمنا في المرة الماضية عن مسألة واحدة فقط من حقوق الزوج وهي: طاعتها له، ونتكلم اليوم عن حق من حقوق الزوجة، لنعود بعد ذلك إلى حقوق الزوج مرة أخرى، ونجعل هناك مناوبة بين الحقين. فمن حقوق الزوجة على زوجها: المعاشرة بالمعروف: أما بالنسبة للمعاشرة بالمعروف، فإن من حقوق الزوجة على زوجها: معاشرته لها بالمعروف، قال الله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19] ولا بد أن نعرف ما معنى المعاشرة بالمعروف، وما هي مستلزمات هذه المعاشرة.

معنى المعاشرة والمعروف في الآية

معنى المعاشرة والمعروف في الآية ما المقصود بالمعاشرة؟ المقصود بالمعاشرة: المخالطة، والمصاحبة، وينبغي أن تكون هذه المعاشرة بالمعروف. فما هو المعروف، بعد أن عرفنا معنى المعاشرة؟ قال ابن كثير رحمه الله في قوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19]: أي: طيبوا أقوالكم لهن، وحسنوا أفعالكم وهيئاتكم بحسب قدرتكم، كما تحبون ذلك منهن، فافعلوا أنتم بهن مثله. وقال بعض المفسرين: النَّصَفَة في المبيت، والنفقة، والإجمال في القول. وقال الجصاص رحمه الله في هذه الآية: أمر الله تعالى الأزواج بعشرة نسائهم بالمعروف، ومن المعروف: أن يوفيها حقها من المهر، والنفقة، والقَسْم -أي: القسم بين الزوجات إذا كان له أكثر من زوجة- وترك أذاها بالكلام الغليظ، والإعراض عنها، والميل إلى غيرها، وترك العبوس والتقطيب في وجهها بغير ذنب، وما جرى مجرى ذلك. إذاً: فَسَّر قوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19]: أن يوفيها حقها من المهر، والنققة، إذا كان له أكثر من زوجة، وأن يترك أذاها بالكلام الغليظ، والإعراض، والميل إلى غيرها، وأن يترك العبوس والتقطيب في وجهها بغير ذنب منها. وقال القرطبي رحمه الله في قوله: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19]: أي: عاشروهن على ما أمر الله به من حسن المعاشرة، وذلك بتوفية حقها من المهر، والنفقة، وألا يعبس في وجهها بغير ذنب، وأن يكون منطلقاً في القول؛ لا فظاً، ولا غليظاً، ولا مظهراً ميلاً إلى غيرها -لا يظهر الميل إلى غيرها- فأمر الله تعالى بحسن صحبة النساء، إذا عقدوا عليهن، لتكون أُدْمَة ما بينهم -أي: خلطة ما بينهم- وصحبتهم على الكمال، فإنه أهدأ للنفس وأهنأ للعيش. وقال الشيخ: محمد رشيد رضا رحمه الله في تفسير المنار في قوله: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19]: أي: يجب عليكم -أيها المؤمنون- أن تحسنوا عشرة نسائكم بأن تكون مصاحبتكم ومخالطتكم لهن بالمعروف، الذي تعرفه وتألفه طباعهن، ولا يُسْتَنْكر شرعاً، ولا عرفاً، ولا مروءة، فالتضييق في النفقة، والإيذاء بالقول أو الفعل، وكثرة العبوس -عبوس الوجه وتقطيبه عند اللقاء- كل ذلك ينافي العشرة بالمعروف، والغرض أن يكون كل منهما مدعاة سرور الآخر، وسبب هنائه في معيشته. وبالجملة: فإن قوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19] أن يجري مع زوجته بما جرى من عرف الناس، مما يعتبرونه من حسن المعاشرة، وتألُّف طباع النساء، وما يليق بكل زوجة بحسب حالها، بشرط ألا يُسْتَنْكَر ذلك شرعاً. فإذاًَ مراعاة العرف -أيضاً- من الأشياء المهمة ما لم يخالف الشرع.

حكم المعاشرة بالمعروف والأدلة عليها

حكم المعاشرة بالمعروف والأدلة عليها ومعاشرة الأزواج للزوجات بالمعروف واجب، ليس مستحباً فقط، وإنما هو واجب؛ لأن الله أمر به، فقال: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19] وهذا أمر، والأصل في الأمر الوجوب؛ إلا إذا قام الدليل على صرفه إلى الاستحباب، ولا صارف، هناك أمر، والأمر يقتضي الوجوب، ولا يوجد صارف، إذاً ما حكم المعاشرة بالمعروف؟ واجب، إذا أخلَّ بها الزوج يأثم. بل إن الأدلة متضافرة على وجوب المعاشرة بالمعروف، وتأكيد هذا الوجوب، فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (استوصوا بالنساء خيراً) رواه الإمام مسلم. وهذه الوصية من النبي عليه الصلاة والسلام، أن نستوصي بالنساء خيراً؛ لأنهن عَوان عندنا، وأسيرات، فلا بد من إحسان العشرة معهن، والمخالِف لذلك كثير، ولذلك إذا طغى الزوج، أو بغى، أو كان فظاً، أو غليظاً، أو سيئ المعاملة، أو نابي الألفاظ، أو مقصراً في النفقة، أو مقطباً في وجه زوجته، أو لا يكلمها، ولا يعطيها اهتماماً، ولا عطفاً، ولا حناناً، فإنه بالتالي يكون مخالفاً لهذه الآية، والمخالفة خطيرة، ولذلك ينبغي الرجوع إلى الكتاب والسنة. وقد حث الإسلام على الالتزام بهذا الأمر، وجعل أكثر الرجال خيرية خيرهم لنسائهم، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وخياركم خياركم لنسائهم). وجاء في حديث ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي). فإذاً جعل الخيرية في طبقات الرجال مَن كان خيراً لأهله؛ لأنه إذا كان معاشراً بالمعروف لأقرب الناس إليه، ومن كانت خلطته دائماً معها وهي زوجته وهو معها بشر وحسن خلق وحسن معاشرة فمن باب أولى أن تكون علاقته مع الناس البعيدين حسنة، ومع الناس الذين يجدهم بين الفينة والفينة حسنة، ولذلك تجد القاعدة فعلاً مُطَّرِدَة، إذا كانت معاشرة الرجل مع زوجته حسنة، في الغالب تجد أن معاشرته مع جميع الناس حسنة. ومما يؤكد وجوب المعاشرة بالمعروف للزوجة: التأسي بالنبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن الله تعالى قال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]. وماذا كان يفعل صلى الله عليه وسلم مع نسائه؟ كان جميل العشرة، دائم البشر، يداعب أهله، ويتلطف معهم، ويوسعهم نفقة، ويضاحك نساءه، حتى إنه كان إذا صلى العشاء، يدخل منزله يسمُر مع أهله قليلاً قبل أن ينام، يؤانسهم بذلك صلى الله عليه وسلم، ولذلك كَرِه السمر بعد العشاء إلا مع الأهل أو الضيف وما شابه ذلك من الحاجة، ولذلك فإن مسامرة الرجل لأهله من السنة، وسَمَرُه مع زوجته من السنة. ولعلنا نفرد فصلاً خاصاً لمعاشرة النبي عليه الصلاة والسلام وهديه في معاشرة زوجاته.

ضوابط معاشرة الزوج لزوجته

ضوابط معاشرة الزوج لزوجته ومع أن الإسلام أمر الزوج بمعاشرة زوجته بالمعروف، وجعل ذلك واجباً عليه، فإن هناك أموراً تعين الزوج على القيام بالواجب، ومنها:

معرفة طبيعة المرأة

معرفة طبيعة المرأة أولاً: معرفته لطبيعة المرأة: ولذلك إذا عرف طبيعة المرأة سهل عليه أن يعاشرها بحسب ما يحتاج الأمر، فمثلاً بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن المرأة خُلقت من ضِلَع أعوج، كما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى لله عليه وسلم: (إن المرأة خلقت من ضِلَع، لن تستقيم لك على طريقة، فإن استمتعت بها استمتعت بها على عوج، وإن ذهبت تقيمها كسرتها، وكسرها طلاقها). فإذا عرف الرجل أن المرأة خلقت من ضِلَع أعوج، آدم لما خلقه الله أخذ ضلعاً من أضلاع صدره، والضلع معروف، ضلع الصدر لا بد أن يكون معوَجَّاً محنياً من جهة رأسه، ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام قال في الحديث الصحيح: (استوصوا بالنساء خيراً، فإن المرأة خلقت من ضِلَع، وإن أعوج شيء في الضِّلَع أعلاه) معنى ذلك: أن العوج موجود هنا أيضاً (إن أعوج ما في الضِّلَع أعلاه). فمعرفة أن المرأة خلقت من ضلع أعوج، يعني: أن الاعوجاج موجود في طبيعتها، ولذلك لا تستنكر إذا حصلت أشياء لا تستقيم عندك، لأنك تعرف طبيعة المرأة سلفاً، صحيحٌ أن هناك عاقلات من النساء أكثر من بعض الرجال، لا شك، وكَمُل من النساء أعداد، كَمُل من النساء أربع، وهناك غيرهن قريبات من الكمال، وبعض النساء أعقل من بعض الرجال، لكن الغالب أن كمال العقل عند الرجل أكثر، كَمُل من الرجال كثير. والفساد يؤثر على الرجل، ربما يكون من شقائه: شربه للخمر، ومعاشرته، ومقارفة المنكرات، والكبائر، والفواحش، والأسفار، تكون المرأة هي العاقلة وهو الديوث، صاحب الفواحش الذي ليس فيه ولا يكاد يوجد فيه عقل، وتكون زوجته أعقل منه، وأربط للبيت منه، وأحفظ للبيت، ونحو ذلك؛ لكن الأصل أن الرجل هو الأعقل. فالآن تأمل معي أن أصل الخِلْقة، لما خلقت المرأة من ضِلَع، والضِّلَع مُعْوَجٌّ من الأعلى، كان هذا الشيء الذي هو أصل الخِلْقة مؤثراً على النتيجة التي هي المرأة المخلوقة (وإن أعوج شيء في الضِّلَع أعلاه، إن ذهبت تقيمه كسرته) الآن هذا الضِّلَع معوجٌّ، اخلع ضلعاً من ذبيحة، وحاول أن تقيم هذا الضلع من الأعلى وتجعله مستقيماً، إن جئت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوجاً (استوصوا بالنساء خيراً) معناه: هذا شيء أصلي موجود، وإصلاحه الجذري يجب أن تستبعده. ولكن لا شك أن الاعوجاج في النساء يختلف: فمنهن عاقلة موفورة العقل. ومنهن من لا يكاد يوجد فيها عقل. ولذلك لما قال: (استوصوا بالنساء خيراً) أي: اقبلوا وصيتي فيهن، واعملوا بها، وارفقوا بهن، وأحسنوا عشرتهن، (فإن المرأة خلقت من ضِلَع أعوج) فلا يُنْكر اعوجاجها، وليست مفاجأة يعني: إذا تصرفت تصرفاً طائشاً ليست مفاجأة؛ لأنك تعرف سلفاً طبيعة الخلقة.

أن الأصل في المرأة النقص وعدم الكمال

أن الأصل في المرأة النقص وعدم الكمال كذلك المرأة إن أردت إقامتها على الجادة تامة مرضية لا تَعْوَجَّ أبداً، لا يمكن؛ لأنك إذا أردت أن تستقيم المرأة (100%) ما يمكن، إلا بكسرها، وكسرها طلاقها، ولذلك إذا أردتها سليمة (100%) فإنه لا بد أن يؤدي ذلك إلى الشقاق والفراق وهو كسرها؛ لأنه لا يمكن، ليس من وسعها واستعدادها أن تكون (100%) مستقيمة، وإن صبرتَ على سوء حالها، وعدم قيامها بحق زوجها دام الأمر لك، ما دمتَ متوقعاً سلفاً، ومستعداً لما يصدر، ودام استمتاعك بها، وحصل بها الإعفاف وطلب الذرية الصالحة. ولذلك قال في رواية الترمذي: (إن المرأة كالضِّلَع، إن ذهبت تقيمها كسرتها، وإن تركتها استمتعت بها على عوج). وقد جاء في شرح الحديث: إن المرأة كالضِّلَع، يعني: أن النساء في خلقهن اعوجاج في الأصل، فلا يستطيع أحد أن يغيرهن عما جُبِلْن عليه، ولذلك ما معنى هذا؟ يجب على الزوج ألا يقسو عليها إذا صدر منها بعض التقصير في حقه، ولا يحمله تقصيرها على التقصير بواجب المعاشرة لها بالمعروف، فإن التقصير منها لا يقابَل بالتقصير منه، يجب أن يعرف الرجل أن زوجته ليست مثله في القوة والعقل والتحمل، وأنها إذا قصَّرت فإنه يعلم سلفاً أن تقصيرها بسبب أصل خلقتها، ولذلك لا يقابِل هو هذا التقصير بتقصير فتتسع الهوة، أو أنه يريد منها ألا تخطئ في شيء، فلذلك بعض الرجال إذا رأى شيئاً بسيطاً من التقصير، تأخر الغداء خمس دقائق، فوجئ أن الثوب غير مكوي، حصل أيُّ تقصير، زيادة الملح في الطعام، أقام الدنيا ولم يقعدها، فهذا النوع من الأزواج لا يفهم طبيعة المرأة أبداً، ما يعرف حديث: (إن المرأة خلقت من ضِلَع أعوج) أبداً، ثم إن الخطأ البشري ممكن؛ لأن المرأة بشر، والرجل قد يخطئ في أشياء كثيرة في عمله، ربما ينسخ على ورقة ليست مما يُكتب فيه، ويأخذ نموذجاً غلطاً يعبئه، واستمارة ليست هي المطلوبة، الخطأ يقع من الرجل أيضاً في أشياء كثيرة، فليتوقع أنه إذا حصل خطأ من المرأة أنه يعفو ويسامح، ومن سامح فهو كريم.

اعوجاج المرأة لا يعني عدم تقييمها

اعوجاج المرأة لا يعني عدم تقييمها وكذلك فإن اعوجاج المرأة على النحو الذي بيَّنه الحديث لا يعني أن الزوج ما يقوم شيئاً في المرأة، هذه مسألة مهمة، ليس معنى الحديث تيئيس الرجل من تقويم زوجته، لا، لكن معنى الحديث: أن الرجل لو حاول كثيراً جداً، ثم لم تأتِ النتيجة على ما يريد، أنه لا يُحْبَط؛ لأن المسألة فيها طاقة وقدرة إلى هذا الحد، وأن هناك شيئاً جِبِلِّياً في الموضوع، وشيئاً خَلْقياً في الموضوع، وشيئاً فِطْرياً وغريزياً في القضية، وشيئاً أصلياً؛ ولكن لا يعني أن هناك أشياء لا تتحسن، بل إن هناك أشياء كثيرة تتحسن، لكن المقصود أنك لن تصل إلى الكمال؛ لكن يمكن أن تكون المرأة عندها اعوجاج كبير فيخف بالمتابعة، والمعاهدة، والتربية، والتعليم، والتوجيه، والملازمة، والتقويم، تتغير أشياء كثيرة في المرأة، ودلالة الحديث على ما في المرأة من الاعوجاج يعني: فقط أن الوصول إلى الكمال التام غير ممكن؛ لكن لا يعني أن التحسن غير ممكن، وهذا أمر يجب أن يفهم. فطبيعتها تستعصي على التقويم الكامل؛ لكنها لا تستعصي على التقويم إلى درجة مهمة، وليس من المتعذر تقويمها على نحو مهم وكبير بحيث يحسِّن من حالها، وخدمة زوجها، وطاعتها له، ونحو ذلك.

أن الرفق واللطف مطلوب في إصلاح الزوجة

أن الرفق واللطف مطلوب في إصلاح الزوجة ومن الأمور المهمة: أن يعلم الزوج أن إصلاح الاعوجاج يتطلب رفقاً ولطفاً، وقد جاء في الحديث الصحيح: (إن الله يحب الرفق في الأمر كله، ما كان الرفق في شيءٍ إلا زانه، وما نُزع منه إلا شانه). وإذا لم تستقم الزوجة لزوجها، ولم تقم بحقوقه على النحو الذي هو يتمناه ويرجوه، وبقيت بقية من النشوز والاعوجاج، فعليه ألا يستغرب؛ لأن المسألة أصلية، ولا يحمله ذلك على كسرها وهو طلاقها، بل يتحملها ويحتسب تحملها عند الله، ويؤدي حق الله عليه فيها بحسن معاشرته لها، فهذا كَرَمُ الرجال ومروءة الأزواج، والرجل لا بد أن يكون عنده شهامة، ومروءة، وكرم.

تذكر حسنات الزوجة

تذكر حسنات الزوجة وكذلك من الضوابط الشرعية المهمة التي وردت في معاشرة الرجل لزوجه، مما يساعد على معاشرة الزوجة بالمعروف: أن يتذكر حسنات زوجته: وهذا الأصل وضحه عليه الصلاة والسلام بقوله في الحديث الصحيح: (لا يفْرِك مؤمنٌ مؤمنة -يعني: أي لا يكره- إن كره منها خُلُقاً رضي منها آخر، أو رضي منها غيره). قال النووي رحمه الله في شرح الحديث: أي: ينبغي ألا يبغضها؛ لأنه إن وجد منها خُلُقاً يكرهه، وجد فيها خُلُقاً مرضياً يقبله، كأن تكون شرسة في الخُلُق لكنها ديِّنة -يعني: ذات دين جيد-. وربما يكون فيها تقصير في الخدمة، لكن فيها جمال وعفة، وربما يكون عندها شيء من عدم الفطنة؛ لكنها رفيقة ومتحببة. إذاً: من الأشياء المهمة أن يتذكر الرجل حسنات زوجته؛ لأن تذكر الحسنات يطغى على السيئات، ويغطي التقصير، فلا يصح للزوج أن يركز نظره على الجانب الكريه من الزوجة، وينسى الجانب المضيء منها، لا يركز على الجانب المظلم، وينسى الجانب الطيب، عليه أن يستحضر حسناتها معه، وهو ينظر إلى سيئاتها معه أيضاً. إن هذا الاستحضار المزدوج يمكن أن يُسْتَشَف من قوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114]. والله تعالى قال: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين:1]. وقال: {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} [الأعراف:85]. فإذاً: العدل يقتضي ألا نغمض أعيننا نحن الأزواج عن حسنات المرأة إذا صدر منها أمر سيئ؛ لأننا إذا كرهنا منها خُلُقاً وجدنا منها خُلُقاً آخر مرضياً، وأن نعلم أنها امرأة غير معصومة من الخطأ، وأن الله عفو يحب من عباده أن يتشبهوا بما يجوز لهم التشبه فيه من صفاته، مثل: العفو، والكرم. المخلوق عليه أن يقتبس من صفات الخالق التي يجوز له أن يقتبس منها لنفسه؛ ولذلك يكون الزوج عفواً كريماً. وقال القرطبي رحمه الله: يغفر سيئتها لحسنتها، ويتغاضى عما يكره لما يحب.

أن الخير قد يكون في المرأة التي يكرهها

أن الخير قد يكون في المرأة التي يكرهها ثم أيضاً من الأشياء التي تساعد على معاشرة الزوجة بالمعروف: ما قال الله تعالى في الآية: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء:19]: على الزوج أن يتذكر بأن الخير قد يكون في زوجته التي يكرهها، ويأتي عن طريقها، كأن يرزقه الله منها ولداً صالحاً تقر به عينه، وينتفع به المسلمون، فضلاً عن انتفاعه به هو في الدنيا، وانتفاعه به في الآخرة، كأن يكون ولداً صالحاً يدعو له، وربما ينفع الأب استغفار ولده له فترفع المنزلة في الجنة (فيقول: مِن أين لي هذا؟ فيقولون: باستغفار ولدك لك). والآن هذه الآية يجب أن تؤخذ بتمامها: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء:19]. إذاًَ: إذا كرهتم شيئاًَ، يمكن أن يكون فيه خير من وجه آخر. ولذلك قال المفسرون {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ} [النساء:19]: قال القرطبي: أي: لدمامة -إن كرهتموهن لقبح في الشكل، عدم وجود جمال- أي: لدمامة، أو سوء خلق، مِن غير ارتكاب فاحشة أو نشوز، فإذا ما وصلت المسألة إلى الفاحشة والنشوز فوجود شيء من الدمامة أو شيء من سوء الخلق يُنْدَب الزوج إلى تحمله؛ لأنه عسى أن يئول الأمر إلى أن يرزقه الله منها أولاداً صالحين، ويجعل الله منها خيراً كثيراً. وقال ابن كثير رحمه الله في هذا الآية: أي: فعسى أن يكون في إمساكهن مع الكراهة فيه خير كثير لكم في الدنيا والآخرة. كما قال ابن عباس في هذه الآية: [هو أن يعطف عليها فيُرزَق منها ولداً أو يكون في ذلك الولد خير كثير]. وقال ابن العربي رحمه الله: المعنى: إن وجد الرجل في زوجته كراهيةً، وعنها رغبةً -يعني: رغب عنها، وليس فيها- ومنها نفرة، من غير فاحشة ولا نشوز، فليصبر على أذاها، وقلة إنصافها، فربما كان ذلك خيراً له. وكذلك قال بعضهم: إنكم إن كرهتم صحبتهن فأمسكوهن بالمعروف، فعسى أن يكون في صحبتهن الخير الكثير، مثل ولد يحصل فتنقلب الكراهة محبة، والنفرة رغبة، أو حصول الثواب الجزيل من الله؛ لتحمُّلِه إياها، والإحسان إليها، مع كراهيته لها. فإذاً: لاحظ أنهم قيدوا المسألة بما إذا لم يكن هناك فاحشة أو نشوز، إذا وجدت فاحشة فالمسألة انتهت، ليس هذا مما يُتَحَمَّل. {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ} [النساء:19] قال الشيخ: محمد رشيد رضا رحمه الله: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ} [النساء:19] أي: لعيب في الخَلْق أو الخُلُق مما لا يعد ذنباً لهن، أو لتقصير في العمل الواجب عليهن في خدمة البيت والقيام بشئونه، مما لا يخلو عن مثله النساء -يعني: الخلق هذا أو الاعوجاج أو التقصير موجود عند عامة النساء، إذا كان شيئاً موجوداً عند عامة النساء اصبر عليه، فالذي عند غيرك مثل الذي عندك، والتقصير الذي تشعر به يعاني منه كثيرون، فإذاً: المسالة في حدود العموم الموجود المنتشر الذي لا يخلو منه بيت، ولا تخلو منه امرأة- فلا تعجل بالمضارة والمفارقة {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء:19] ومن الخير الكثير، بل أهمه وأعلاه: الأولاد النجباء، فرب امرأة يملها زوجها، ويكرهها، ثم يجيئه منها ما تقر به عينه من الأولاد النجباء، فيعلو قدرها عنده، ومن الخير الكثير أن يصلح حالها بصبره وحسن معاشرته، فتكون من أعظم أسباب هنائه. ولذلك بعض الناس يقول: أنا أول خمس سنوات من زواجي تعبت جداً، ولكن بعد ذلك ارتحت إلى الغاية، بسبب أنه صبر على اعوجاج الزوجة، ومن صبر ظفر. والحاصل أن الدين يسر، والإسلام يوصِي المسلمين بحسن معاشرة في النساء والصبر عليهن إذا كرههن الأزواج، رجاء أن يكون فيهن خير كثير.

أن يعرف الرجل مركزه في البيت وقوامته

أن يعرف الرجل مركزه في البيت وقوامته ثم من أسباب المعاشرة بالمعروف، ومما يعين على المعاشرة بالمعروف: أن يعرف الزوج مركزه في البيت: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة:228] أن يتذكر ذلك دائماً، ولا ينساه، أن له القوامة على زوجته، والرياسة على عموم العائلة، وأن أمره نافذ، وطاعته واجبة في غير معصية الله، وزوجته كالرعية بالنسبة إليه، وكالأسيرة بين يديه، والشأن في المسلم الذي يخاف الله، ويتذكر نعمه، وفضله عليه، أن جعله بمركز الراعي لزوجته، وهي كالأسيرة بين يديه، الشأن به أن يترفق بزوجته، ويحسن إليها، وألا يكون فظاً غليظاً معها. ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة:228]: [الدرجة إشارة إلى حض الرجال على حسن العشرة، والتوسع للنساء في المال والخُلُق] يعني: يتحامل الإنسان على نفسه. فالمأمول والمرجو من الزوج المسلم أن ينأى بنفسه عن التعسف في استعمال سلطته الزوجية، وألا يسيء استعمال هذه السلطة ولا يستغل مركزه في البيت على نحو يضر بالزوجة، وليعلم أنه إذا ازداد تسامحاً مع زوجته وعفواً عندما يتكرر التقصير فإنه في هذه الحالة يصل إلى مبتغاه، من جهة أنه يجذبها إلى أن تتراجع عما هي متعنتة فيه عندما ترى عفوه ومسامحته. ولا شك أن القوي يستحي من إظهار عضلاته على مخلوقة ضعيفة. والرسول صلى الله عليه وسلم لَمَّا شبه المرأة بأنها عانية عند زوجها، أي: أسيرة، ومعنى أسيرة: أنها مغلوبة على أمرها، وأنه هو المتحكم فيها، فينبغي أن يحسن إلى الأسيرة الموجودة عنده، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (ألا واستوصوا بالنساء خيراً، فإنما هن عوان عندكم) وعوان: جمع عانٍ، والعاني هو: الأسير، وقوله: (فكوا العاني) العاني هو: الأسير. فالمعاشرة بالمعروف: واجب على الزوج نحو زوجته كما هي واجب عليها نحو زوجها، وهذا ما أكده الإسلام وحث عليه، ولذلك رخص الكذب لأحد الزوجين فيما يُسْتَجْلَب به المودة، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (لا أعده كذباً، الرجل يصلح بين الناس، الرجل يحدث امرأته، والمرأة تحدث زوجها) ومعنى هذا: أن الإنسان لو قال لزوجته مثلاً: إن هذا أحسن طبخ رأيته وطعمته في حياتي، وإن هذا أفضل أكلة أكلتها، ونحو ذلك، وهذا الكلام فيه مبالغة؛ لكن الرجل يتوسع فيه من أجل تأليف قلب زوجته، ولو أنها قالت له: أنت أكرم رجل في الدنيا ممن رأيت أو ممن عرفت ونحو ذلك، ولو كان هناك أكرم منه ممن تعرفهم من أقربائها مثلاً، فإن هذا الكلام لتأليف قلب زوجها لا بأس به ولا حرج، ولا يُعتبر كذباً. فالكذب من أجل إصلاح ما بين الزوجين، أو تأليف كل واحد منهم للآخر لا بأس به.

ذكر الزوجة بالخير والثناء عليها

ذكر الزوجة بالخير والثناء عليها ومن المعاشرة بالمعروف: أن الرجل لا يزال يذكر زوجته بخير، ولو بعد وفاتها: وقد كان صلى الله عليه وسلم حسن العهد وفياً، وكان كثيراً ما يحسن إلى خديجة بعد وفاتها، رضي الله عنها، فقد أخرج البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما غِرْتُ على امرأة ما غِرْتُ على خديجة، ولقد هَلَكَتْ قبل أن يتزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين، لِمَا كنت أسمعه يذكرها، ولقد أمره ربه أن يبشرها ببيت في الجنة من قصب، وإن كان ليذبح الشاة، ثم يهدي في خَلَّتها منها) يعني: في صُوَيْحِباتِها منها، وهن خلائلها وصديقاتها. وورد في البخاري في الأدب المفرد: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أُتِي بالشيء يقول: اذهبوا به إلى فلانة، فإنها كانت صديقة لـ خديجة). وأخرج الحاكم والبيهقي عن عائشة رضي الله عنها قالت: (جاءت عجوز إلى النبي صلى الله وعليه وسلم، فارتاع لها وخرج، فقال: كيف أنتم؟ كيف حالكم؟ كيف كنتم بعدنا؟ قالت: بخير بأبي أنت وأمي يا رسول الله، فلما خَرَجَت قلت: -يعني عائشة غارت- يا رسول الله! تُقْبِل على هذه العجوز هذا الإقبال؟! فقال: يا عائشة! إنها كانت تأتينا زمن خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان). (وجاءت هالة أخت خديجة، فقام وارتاع لها، ويسأل عن حالهم، وعن أخبارهم، فكانت عائشة تقول: ما تريد من امرأة حمراء الشدقين، قد أبدلك الله خيراً منها؟! -يعني: يعني: ماذا تريد بعجوز قد أبدلك الله خيراً منها- قال: إنها كانت وكانت، وكان لي منها ولد) فهو لا يزال يذكر زوجته الأولى خديجة، ولا شك فهي التي أعانته لما نزل الوحي، وهي التي هدَّأت من روعه، وهي التي آزرته ونصرته، وهي التي دعمته بمالها وساعدته، وكانت نعم الزوجة لزوجها، ولذلك بُشِّرت خديجة ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب. فهذا من المعاشرة بالمعروف، والمعاشرة بالمعروف من الحقوق المشتركة. فإننا قلنا: إن هناك حقوقاً على الزوج وحقوقاً على الزوجة، وهذا الحق وهو المعاشرة بالمعروف من الحقوق المشتركة، ولذلك فإن حسن المعاشرة مذكورة في الآية في قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:228] لاحظ بلاغة القرآن في بيان الحق المشترك: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:228] فلكل من الزوجين حق المعاشرة بالمعروف على الآخر؛ ولكن يختلفان في المعروف في الحق في بعض المواضع. ولذلك قال العلماء، ويسن لكل من الزوجين تحسين خُلُقه لصاحبه، والرفق به، واحتمال أذاه. ولذلك جاءت الشريعة بالحرص على دوام حسن المعاشرة بين الزوجين، وأن تكون الروابط قوية ومتينة، وإزالة ما يكدر هذا الصفو، إذا حصل شقاق فهناك علاجات، لعلنا نذكر تفصيلها كما في قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً} [النساء:35]. فهنا يتبين مسألة حق الزوجة على زوجها في المعاشرة بالمعروف. وهناك أشياء أخرى تفصيلية سنذكرها في النفقة، والوطء، والمبيت، والعدل بين الزوجات، مما يجب على الزوج، وأشياء أخرى تفصيلية في القرار في البيت، والاستئذان، وحفظ المال، ونحو ذلك مما سنذكره في حقوق الزوج على زوجته. والحمد لله رب العالمين.

حق النفقة

حق النفقة الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فقد سبق الكلام -أيها الإخوة- في الحقوق الزوجية في أمور شتى. وسنتكلم في هذه الليلة إن شاء الله عن مسألة مهمة، ذكرها الفقهاء، وتعرضوا لها، ألا وهي: موضوع نفقة الزوجة.

أدلة وجوب النفقة على الزوج

أدلة وجوب النفقة على الزوج من حقوق المرأة التي جاءت بها الشريعة: وجوب نفقة المرأة على زوجها، وعلى هذا دلت نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، وأجمع عليه العلماء، ولوجوب النفقة للزوجة على زوجها شروط معينة، وهي مقدرة شرعاً، لكفايتها من الطعام واللباس، والسكن، على قدر حال الزوج يساراً وإعساراً. وهذا النفقة فرض على الزوج لا بد أن يقوم به، ولا تسقط عنه، بل تصبح ديناً في ذمته إذا عجز عنها. وهناك أمور كثيرة تتعلق بالنفقة، مثل: وجوبها، وكيفيتها، وأنواعها، ومقدارها، واستيفائها، والاختلاف فيها، ومسقطات النفقة. أما وجوب نفقة الزوجة: فإنه واضح من الكتاب العزيز كما ذكر أهل العلم، واتفقوا على أن من حقوق الزوجة على الزوج النفقة والكسوة؛ لقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:233] {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ} [البقرة:233]: عليه، فيفيد الوجوب {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:233]. وثبت من قوله عليه الصلاة والسلام: (ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف). وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ هند زوجة أبي سفيان: (خذي -يعني: من مال زوجك أبي سفيان - ما يكفيك وولدك بالمعروف). قال ابن قدامة رحمه الله: نفقة الزوجة واجبة بالكتاب والسنة والإجماع، واحتج بقوله تعالى: {لِيُنْفِقْ} [الطلاق:7] هذا أمر {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7] وبقوله صلى الله وعليه وسلم: (اتقوا الله في النساء، فإنهن عوان عندكم، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولهن عليكم رزقهن، وكسوتهن بالمعروف). وقد دل الكتاب العزيز على وجوب إسكان الزوجة في قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق:6]. يعني: على قدر ما يجد أحدكم من السعة والمقدرة، والأمر بالإسكان أمر بالإنفاق أيضاً؛ لأنها لا تصل إلى النفقة إلا بالخروج للاكتساب، وهي ممنوعة من الخروج بحق الزوج، إذاً وجب عليه أن يكفيها الخروج، وأن ينفق عليها. وقال الله تعالى: {تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق:6] أي: لا تضارُّوهن في الإنفاق، فتضيقوا عليهن النفقة، فيخرجن لطلبها. وقال الله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق:7].

سبب وجوب النفقة على الزوجة

سبب وجوب النفقة على الزوجة وما هو سبب النفقة على الزوجة؟ ذهب بعض أهل العلم إلى أن سبب وجوب النفقة على الزوجة، أنها محبوسة عند زوجها بحبس النكاح، ممنوعة من الخروج للاكتساب؛ لأنها إذا كانت محبوسة عنده، كما قال صلى الله عليه وسلم: (فإنهن عوان عندكم) ولا يجوز لها أن تخرج إلا بإذنه، فمعنى ذلك أنها لا تستطيع أن تخرج لتكتسب إلا بإذنه، وهي محبوسة لحقه، متفرغة لشأنه وأولاده وبيته. فإذاً لا بد أن تنال كفايتها، وكل من كان محبوساً على أمر من الأمور بحيث يشغله هذا الأمر عن النفقة على نفسه، فإنه يُفرض له من بيت المال، كالقاضي والمفتي ونحوهم، إذا فُرِّغوا لأجل مصالح المسلمين، وجب أن يعطوا من بيت المال النفقة عليهم. وكذلك المرأة محبوسة عن النفقة، أسيرة في بيت زوجها، فكان لا بد له أن ينفق عليها. وذهب بعض أهل العلم -أيضاً- إلى أن سبب نفقة الزوجة على زوجها التي يجب أن يسلمها إياها هو تسليم نفسها إليه، وتمكينه تمكيناً تاماً من الاستمتاع بها، فإذا كانت الزوجة قد سلمت نفسها لزوجها وجب على زوجها أن ينفق عليها. وقال العلماء: إذا بذلت الزوجة تسليم نفسها البذل التام، بألا تسلم في مكان دون آخر، أو بلد دون آخر، بل بذلت نفسها لزوجها، وخلَّت بينها وبينه؛ بحيث يستمتع بها متى شاء، فإنه يجب عليه أن ينفق عليها. إذاً: إذا سلَّمت نفسها للزوج وجب الإنفاق. فلو قال قائل: أنا عقدت على امرأة وهي عند أبيها، ولم تسلِّم نفسها بعد، هل يجب علي أي نفقة؟ A لا. لأن النفقة لا تجب إلا عند تسليم الزوجة لنفسها، فإذا سلمت نفسها، فإنه يجب على الزوج أن ينفق عليها. وكذلك فإن العقد الصحيح سبب لوجوب النفقة، لأن العقد الفاسد ليس فيه نفقة، ولا يجب على الزوج أن ينفق عليها، ولذلك بعض الذين يسافرون إلى الخارج، ويقترفون المحرمات، ويفعلون الفواحش، ثم ترسل له الزانية بصورة البنت أو الولد قائلة: أرسل النفقة! هل عليه نفقة؟ ليس عليه نفقة؛ لأن هذا زنا وليس بزواج، وهذه البنت ليست ابنته، بل هي بنت الزانية تُنسب إليها، ولذلك لا نفقة لها، ولا لمن يأتي من الزنا، فالنفقة من النكاح الصحيح، وليس من النكاح الفاسد. وكذلك فإن الزوجة إذا نشزت وامتنعت عن تسليم نفسها لا نفقة لها، فتسليم الزوجة نفسها للزوج في نكاح صحيح، وحبسِها لنفسها في بيته هو سبب النفقة. فإذاً: لا يجوز للزوجة أن تمتنع عن تسليم نفسها لزوجها بدون سبب شرعي، وعليها أن تخلي بين نفسها وبين زوجها، وفي هذه الحالة تستحق النفقة، وإذا امتنعت عن الذهاب معه إلى بيته، فليس لها نفقة. وينبغي أن يكون تسليمها لنفسها حقيقياً بأن تأتي إلى بيته، فإذا زفت إليه -مثلاً- تم التسليم، كما يُعتبر التسليم حاصلاً حكماً إذا كانت مستعدة للانتقال إلى بيته في أي وقت شاء؛ لكنه هو الذي أخر هذا الانتقال، فهي إذاً جاهزة من أجله، فهنا يجب عليه النفقة.

حالات يحق للزوجة فيها الامتناع عن تسليم نفسها

حالات يحق للزوجة فيها الامتناع عن تسليم نفسها وللزوجة أن تمتنع عن تسليم نفسها بسبب شرعي، من أمثلة ذلك:

الامتناع عن إعطائها مهرها المعجل

الامتناع عن إعطائها مهرها المعجل ألا يعطيها مهرها وحقها: فإذا امتنع عن إعطائها المهر، جاز لها أن تمتنع عن الحضور إلى بيته، المهر المعجَّل الذي اتفقوا على تعجيله، سواءً أكان المهر كاملاً معجلاً أو جزءاً منه معجلاً، لا بد أن يسلَّمَ المهر كاملاً، وإذا لم يسلِّم المهر جاز للمرأة أن تمتنع عن تسليم نفسها، ويكون امتناعها مشروعاً؛ لأنه هو الذي امتنع عن تسليم الحق.

عدم تهيئة البيت الشرعي لها

عدم تهيئة البيت الشرعي لها وكذلك عدم تهيئة البيت الشرعي: كأن يسكنها في بيت ضرتها، أو في بيت فيه بعض أهله، أو في بيت لا تتوفر فيه شروط البيت الشرعي، فإن لها أن تمتنع عن تسليم نفسها إليه. ولذلك فإن من حقها أن يسكنها في دار مفردة لها؛ لأن السكن من كفايتها.

إذا سافر بها إلى بلاد الكفار أو بلد غير مأمون

إذا سافر بها إلى بلاد الكفار أو بلد غير مأمون وكذلك إذا أراد أن يسافر بها سفراً غير مأمون: أو أن يسافر بها إلى بلاد الكفار، ويجلسها هناك في مكان الفتنة، لغير حاجة ولا ضرورة فإن لها أن تمتنع، ويكون امتناعها امتناعاً شرعياً.

حالات نشوز المرأة

حالات نشوز المرأة أما إذا نشزت المرأة، وعصت الزوج، وامتنعت عما أوجبه الشارع عليها، كما لو امتنعت عن فراشه، أو خرجت من منزله بغير إذنه، أو امتنعت من الانتقال معه إلى مسكن مناسب لها، أو امتنعت من السفر معه سفراً مباحاً، فإنها في هذه الحالة لا نفقة لها؛ لأنها ناشز وعاصية، وخروج المرأة من بيت زوجها بدون إذنه يعتبر نشوزاً يسقط حقها في النفقة؛ لأنها بهذا الخروج قد خرجت عن طاعته، وفوتت عليه حق الاستمتاع بها، وخدمتها له. فمتى امتنعت من فراشه، أو خرجت من منزله بغير إذنه، أو امتنعت من الانتقال معه إلى مسكن لائق بها وشرعي متوفر فيه كل الشروط، ليس بمسكن ضرة ولا ضرار، أو امتنعت من السفر معه فلا نفقة لها ولا سكنى. فلو قال: تأتين معي إلى هذا البيت، أو إلى هذا البلد، الذي صار فيه رزقي وعملي، فامتنعت بدون سبب شرعي، ولا شرطت شيئاً في العقد، فإنها ناشز وعاصية، ولا نفقة لها. ولو قالت له: أرسلني يجوز له أن يمتنع عن الإرسال؛ لأنها عاصية وناشزاً. أما إذا شرطت في العقد ألا تسافر من بلد أهلها -مثلاً- ووافق الزوج، فإن شرطها ملزم للزوج، وملزم للإنفاق عليها، ولو غادر هو البلد. نقول أيضاً: إن امتناع المرأة ونشوز المرأة يعتبر مسقطاً للنفقة. وكذلك إذا خرجت من بيته بدون إذنه، فإنها تعتبر ناشزاً إذا كان خروجها لغير سبب مشروع. وكذلك فإنها إذا امتنعت عن الزفاف والقدوم إلى بيت زوجها، وقد أعطاها مهرها المعجل، وقالت: لا آتي إلى بيتك، ولا أريد الدخول، ولا أريد الزفاف، فإنها في هذه الحال تعتبر ناشزاً، ولا نفقة لها. وكذلك إذا امتنعت عن الوطء، وعن إعطاء الزوج حقه بالاستمتاع، فإنها تعتبر ناشزاً إذا امتنعت عن الوطء أو مقدماته بدون سبب شرعي، بحيث كان ممكناً لها حصول الوطء والاستمتاع من قبل الزوج؛ ولكنها تأبَّت وتمنعت وخرجت عن فراشه، فإنها لا نفقة لها، وتعتبر ناشزاً عاصية لله تعالى. وأما خروج المرأة للحج، فإن كان الحج فريضة أو العمرة واجبة فإن خروجها صحيح، ولها النفقة؛ لأنها فعلت ما أوجب الشرع عليها. وكذلك صيام رمضان، فإنها تمتنع عن زوجها بالاستمتاع لأجل حق الله. ولذلك لا يعتبر امتناعها في نهار رمضان عن زوجها نشوزاً، ولا يعتبر خروجها لحج الفريضة أو العمرة الواجبة خروجاً ولا نشوزاً عن طاعة زوجها، وبالتالي النفقة تكون سائرة ومستمرة لها، ولا تعتبر ناشزاً في هذه الحالة، بخلاف خروجها في حج النافلة بغير إذن الزوج؛ فإنها تعتبر ناشزاً. وأما خروج الزوجة الموظفة أو ذات الحرفة إلى العمل: هل يعتبر نشوزاً أم لا؟ إذا كانت شرطت على زوجها ذلك في العقد ووافق، وكان العمل حلالاً، أو سمح لها الزوج بالخروج، فإن خروجها صحيح إذا كان بالشروط الشرعية، ولها النفقة حتى لو كانت موظفة، لها النفقة، أما إذا لم يسمح لها الزوج بالخروج، وأمرها بالقرار في البيت، فخرجت بدون إذنه إلى وظيفتها -مثلاً- فإن خروجها يعتبر نشوزاً، فهي لم تحتبس في بيت زوجها، ولم تجلس فيه، وفوتت عليه مقاصده، وما يريد منها من القرار في البيت، فإن استمتاعه يكون به ناقصاً إذا كانت في النهار تعمل وتكدح، فتكون في الليل عنده متعبة. فإذاً إذا لم يحصل منها اشتراط، ولم يسمح لها الزوج، فإن خروجها للوظيفة نشوز يُسقِط النفقة، وعليها أن تتوب إلى الله، وترجع عن هذا النشوز؛ لأنها تكون عاصية لله تعالى، فإذا تابت إلى الله، وأطاعت برجوعها إلى بيته، عادت النفقة لها لعودها إلى الطاعة.

حكم النفقة حال الإعسار والغيبة

حكم النفقة حال الإعسار والغيبة وكذلك فإن المرأة إذا كانت ذات زوج معسِر، فما هو حقها في النفقة؟ إذا كان معسراً فإن حقها في النفقة ثابت، ويكون ديناً على زوجها، يجب عليه الوفاء به إلا إذا سامحته، ولا شك أن أمور الزواج مبنية على التسامح والمحبة، ولكن الحقوق لا بد من ذكرها حتى يُعرف الحد، وأما بالنسبة لقضية التسامح فإنها لا بد أن تكون هي الطاغية والحاصلة؛ ولا يكون شأن الزوجين التحاكم إلى القاضي في كل صغيرة وكبيرة، ولكن إذا علم كل واحد منهم ما أوجبه الله عليه فإنه يسارع إلى بذله، وكذلك ينفع هذا العلم عند حصول الخلاف، فيعرف كل من الزوجين ماذا يجب عليه. ثم إن بعض انتهاكات الحقوق الشرعية هي من مسببات الخلاف في الغالب، فتقصير الزوج في النفقة من مسببات الخلاف، خروج الزوجة للعمل من مسببات الخلاف. انظر إلى مسببات الخلافات الزوجية تَجِد أن أكثرها يعود إلى مُخالَفة هذه الحقوق التي تذكر. والزوجة إذا غاب زوجها عنها، فإن عليه أن ينفق عليها أثناء غيابه، وأن يرسل لها بالنفقة في غيبته؛ لأنها سلمت نفسها، لكن هو الذي سافر. وبالتالي فإن زوجة الغائب نفقتها على زوجها، إذا كانت قد سلمت نفسها إليه؛ ولكنه هو الذي سافر عنها. والنفقة تصير ديناً في ذمة الزوج إذا امتنع عن أدائها، وإذا كان معسراً فإنها تبقى ديناً عليه، وقد قال الله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:233] وكلمة (على) تفيد الإيجاب، فأخبر سبحانه عن وجوب النفقة والكسوة، وأطلق ذلك عن الزمان، أي: أنه دائماًَ عليه: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق:7] فإذا وجبت فإنها لا تسقط، لأنها مثل الحقوق، فإنها ما دامت عنده مسلِّمة نفسها يستمتع بها، فالنفقة عليه.

أنواع النفقة على الزوجة

أنواع النفقة على الزوجة وكذلك فإن النفقة على الزوجة أنواع: الله تعالى يقول: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:233]. {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق:6] هذا المطلقة الرجعية، لها النفقة والسكنى، فمن باب أولى الزوجة التي ليست بمطلقة. وقد قال حكيم بن معاوية القشيري: (يا رسول الله! ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: أن تطعمها إذا طعمتَ، وتكسوها إذا اكتسيتَ، ولا تقبح الوجه، ولا تهجر إلا في البيت). وكذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع: (ألا واستوصوا بالنساء خيراً، فإنما هن عوان عندكم، ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا لهن في كسوتهن وطعامهن). فدلت الآيات والأحاديث على أن الزوج ملزم بالنفقة على زوجته في هذه الأنواع الثلاثة، ما هي الأنواع الثلاثة؟ أولاً: السكن. ثانياً: الطعام. وثالثاً: الكسوة. ثلاثة أشياء واجبة على الزوج، يلزمه كل ما تحتاج إليه المرأة من مأكول ومشروب وملبوس ومسكن، وتوابع هذه الأشياء، كما قلنا، مثل: الخادم إذا كانت من أهل بلد هذا عُرْفُهُم، لا يمكن أن تعيش بدلاً منه، وهذا قضية تختلف باختلاف الأحوال.

أدوات الزينة والتنظيف والأدوية

أدوات الزينة والتنظيف والأدوية وكذلك تكلم الفقهاء رحمهم الله تعالى في مسألة أدوات الزينة، والتنظيف، والطيب، والأدوية، وأجرة الطبيب. بالنسبة لهذه الأشياء، فإنه إذا لم يكن عليه واجباً، فإنه لا بد أن يكون من مكارم الأخلاق، وحسن العشرة، أن يداويها إذا احتاجت، وأن ينفق عليها بأجرة الطبيب؛ لأن علاجها من مصلحته هو، ومرضها يفوت عليه الاستمتاع، وإنجاب الولد ونحو ذلك، وكثيراً ما تكون المرأة ليست ذات مال، وإنما معتمدة بعد الله على زوجها اعتماداً كلياً، فمن المعاشرة بالمعروف وهي شريكة العمر أن ينفق عليها فيما تحتاجه من الأشياء الأخرى، مثل: الأدوية، ونفقة الطبيب، وأدوات الزينة، والطيب، ونحو ذلك. ولو أن جمهور الفقهاء قد قالوا بأنه: لا يجب على الزوج الزينة، وأدواتها؛ ولكنه إذا طلب التزين لزمه أن يأتي بأدوات الزينة. قال الفقهاء: وعلى الزوج لزوجته مئونة نظافتها من دهن وسدر مثل: الصابون الآن، والشامبو، وغيره، وثمن ماء، ومشط، ويلزم الزوج ما يراد لقطع رائحة كريهة من جسمها. أما الحناء والخضاب ونحو ذلك من الأصباغ، مثل: ما يُحَمَّر به وجه، أو يُسَوَّد به شعر، فلا يُلْزَم الزوجُ بذلك؛ لأن ذلك من الزينة فلا يجب عليه. كما لا يجب عليه شراء الحلي، ولكن لو طلب الزوج من زوجته ما تتزين به له فهو عليه. وهو إذا أرادها للاستمتاع فإنه لا بد أن يعطيها ما يحصل به الاستمتاع من الطيب، وأدوات التنظيف، والحلي، ونحوه، إذا طلب منها لبسه وجب عليه أن يشتريه هو. ثم إن من مكارم الأخلاق أن يهديها في الأعياد وغيرها من الحلي على قدر ما أعطاه الله تعالى. فلو راجع الإنسان كتب بعض الفقهاء، ووجد فيها كلاماً عن عدم وجوب شراء الحلي، فهذا لا يعني أنه لا يكون من المستحب، ومن المعاشرة الطيبة، فالهدية إذا كانت مطلوبة بين الإخوان فالزوجة من باب أولى؛ لأنها أقرب الناس إلى زوجها، ولكن المرأة في المقابل لا تكلِّف زوجها ما لا يطيق، فتشترط أنواعاً من المكياجات، وأشياء من الحلي لا قِبَل للزوج بشرائها، وربما امتنعت عن فراشه إذا امتنع عن الإتيان بها، وعجز عن الإتيان، وربما خرجت من بيته، وبهذا تكون ناشزة. فإذا علمت المرأة أن هذه الأشياء الزينة والحلي في الأصل أنها ليست واجبة على الزوج، وإنما يفعل ذلك منه تكرماً وتلطفاً، فإنها لابد ألا تثقل عليه بطلب هذه الأشياء والمغالاة فيها، وإنما تطلب بما هو متعارف عليه، ومعتاد، وما هو -وهذا هو الأهم- في طاقة الزوج وحدوده التي لا يستطيع أن يتعداها. ولذلك فإن هذه المسألة من القضايا المهمة، ولا بد من معرفتها؛ لأنها تكون مثار خلافات زوجية كثيرة.

الطعام

الطعام أما بالنسبة للنفقة، فإن نفقة الطعام تختلف باختلاف قوت البلد، وما كان غالباً على قوت البلد يجب على الزوج أن يأتيها به، في ما يسد كفايتها, وهذا الواجب ينبغي أن يكون معلوماً، خصوصاً عند حدوث الخلاف أو الشقاق، فيما يجب عليه في قضية النفقة. ونحن في الأحوال العادية ربما لا نَسأل عن ذلك، ولا نحتاج إلى أن نعرف أن على الزوج الموسر مُدَّان من الطعام كل يوم لزوجته، لا داعي لهذا، فهو يشتري الطعام، ويأتي به للعائلة كلها، وهي تطبخ له ولها وللأولاد؛ ولكن إذا علمنا أن هناك بعض الأزواج بخلاء للغاية، حتى الطعام لا يأتون به إلى البيت، وربما تجلس المرأة ما عندها خبز في البيت، ولا ترى اللحم، وربما مِن بُخله يقول لها: اذهبي واستعيري من الجيران، خذي من هؤلاء خبزاً، ومن هؤلاء لحماً، ومن هؤلاء خضاراً، ومن هؤلاء فاكهةً. ولذلك ترى المسكينة إلى أي شيء تحتاج وتُدفع! تطرق الأبواب وزوجها مِن بُخله لا ينفق عليها، لو كان فقيراً لقلنا: مسكين، يُعطَى من الصدقات ومن الزكاة ومن الجيران ومن غيره، لكن بعض الناس عنده البخل والعياذ بالله مرض مستحكم، ولذلك الجيران يقولون: طبخة هؤلاء الجماعة علينا مقسطة، يأخذون الخبز من هؤلاء، والطماطم من هؤلاء، والخضار من هؤلاء، واللحم من هؤلاء، ويستلفون حتى الملح، أعطونا ملحاً، أعطونا كبريتاً، أعطونا، ما عندكم حفائظ أطفال؟ ما عندكم؟ ويستعيرون فعلاً أشياء يخجل الإنسان من ذكرها، بسبب بخل الرجل. ولذلك عندما نفتح ونقرأ في كتب أهل العلم، وأنهم أوجبوا على الزوج وماذا يجب عليه في النفقة بالتحديد، ماذا يجب عليه من الطعام، وماذا يجب عليه من الإدام، وماذا يجب عليه في اللحم، وماذا يجب عليه في الماء، وماذا يجب عليه في الملابس، وقضية النفقة في الشتاء والصيف، فهذه المعلومات مهمة في مسألة إلزام الزوج البخيل بإخراج النفقة، وبإعطائها إياها، فإن بعض الناس والعياذ بالله ربما لا يدفع إلا تحت تهديد القاضي. فالشاهد: أن ما غلب على البلد من الإدام والطعام، ما هو مستعمل فيه من زيته وسمنه وجبنه وتمره وخله وملحه ونحو ذلك، فإن عليه أن يأتيها بكفايتها. وهذا أيضاً متعلق بيسار الزوج وإعساره وتوسطه، فإذا كانت عادة أهل البلد تناول اللحم في كل يوم، كان لها ذلك، ولا يتقدر بوزن، وينبغي عليه أن يأتيها به، وللزوجة كذلك على زوجها ماء الشرب، ذكر ذلك الفقهاء، وربما يستغرب البعض هذا، ولكن في بعض الأماكن لا يكون الماء واصلاً إلى البيوت، فعليه أن يأتي بالماء إلى البيت ولا يتركهم بغير ماء، وربما ينقطع الماء في بعض البيوت، وربما ينقطع يوماً أو يومين متواليين أو أكثر، فمن النفقة أن يأتي لها بالماء، ينبغي أن يَعْلَم ذلك. وهذه النفقة مقدرة بالكفاية: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:233] أوجب الله النفقة مطلقاً غير مقيدة بتقدير وسمَّاها رزقاً: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ} [البقرة:233] يجب أن يرزق زوجته، ورزق الإنسان كفايته في العرف والعادة. ولما جاءت هند امرأة أبي سفيان، قالت: (يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل شحيح، وإنه لا يعطيني ما يكفيني وولدي، فقال صلى الله عليه وسلم: خذي من مال أبي سفيان ما يكفيك وولدك بالمعروف). فإذاً: يجوز للمرأة أن تأخذ كفايتها، فإذا ما أتى لها بالطعام تأخذ مالاً من جيبه وتشتري به طعاماً، وتأتي بالحاجة إلى البيت. فإذاً: نفقة الزوجة مقدرة بكفايتها، وبعض العلماء قالوا: يقدر بمُدَّين من طعام في اليوم، ويقدر بكذا من اللحم، ولكن الراجح أنه بحسب الحاجة، بدليل الحديث: (خذي من مال أبي سفيان -وهو زوجها- ما يكفيك ويكفي ولدك بالمعروف). فإذاً: هذا هو الصواب في المسألة، ويترتب على كون نفقة الطعام للزوجة مقدرة بكفايتها، أنه يجب على الزوج لزوجته من نفقة الإطعام قدر ما يكفيها من الطعام، كالخبز والإدام والدهن ونحو ذلك مما يؤكل مأدوماً، والله تعالى قال في كفارة إطعام المسكين: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة:89] يعطِي المسكين في كفارة اليمين من أوسط ما يطعم أهله، {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة:89]. إذاً ينبغي أن يكون هذا هو ما يعطَى للزوجة، ما يكفيها ويسد حاجتها، ولا يقول: كُلِي خبزاً طيلة الشهر، أو طيلة السنة، ما هنا إلا الخبز، يكفيك الخبز، ولن تموتي من الجوع، نقول: لكنه ليس بالمعروف! أين المعروف؟ فينبغي أن يكون طعاماً بالمعروف.

الكسوة

الكسوة أما بالنسبة للكسوة، فإن بعض العلماء قال: الكسوة مقدرة بنفسها. وقال الآخرون: هي مقدرة بكفاية الزوجة، مثل ما قالوا في الطعام. والذين قالوا: إنها تعطَى ما يكفيها، أو تعطَى الكسوة، قالوا: إنها تعطَى كفايتها، بطولها وقصرها، وسمنها ونحفها، وباختلاف البلاد في الحر والبرد، فماذا تحتاج؟ لو كان البلد برداً: إذاً تحتاج إلى كسوة من نوع خاص. إذا كان البلد حاراً: تحتاج إلى كسوة تناسب الحرارة. لو كانت المرأة طويلة أو سمينة، هزيلة أو قصيرة: كل امرأة تحتاج إلى كسوة بحسبها. ولذلك قال بعض أهل العلم: يجب للزوجة على زوجها كسوة في كل سنة مرتين، كسوة صيفية في الصيف، وكسوة شتوية في الشتاء؛ لأنها كما تحتاج إلى الطعام والشراب، تحتاج أيضاً إلى اللباس لستر العورة، ولدفع الحر والبرد، وكذلك يجب لها عليه ما يستر عورتها من الخمار إذا أرادت الخروج، والغطاء، ونحو ذلك. وعلى الزوج أن يتجمل لزوجته، وأن يعاشرها بالمعروف في مسألة اللباس، ويعطيها من أنواع الثياب التي تحتاج إليها، داخلية وخارجية، وداخل البيت وخارج البيت بالمعروف بما يكفيها، وألا يضيق عليها حتى ربما صارت رثة الثياب، مخرقة الأكسية، وهو لا يعطيها حقها. فإذاً: الإنفاق عليها في اللباس بحسب حاجتها، وفي المقابل المرأة لا تغالي وتطلب الغالي، ولا تقول: اشترِ من المحل الفلاني بشيء قيمته نصف راتب الزوج أو ربعه، فإنه لا يطيقه، وفي المقابل يكسوها بما يكفيها من اللباس الداخلي والخارجي، وما تظهر به خارج البيت من الخمار، والدرع، والغطاء، والجوارب، وقفازات، فعليه أن يسترها في داخل البيت وخارجه، وعندما تكون في الحر أو البرد وبحسب طولها وقصرها وسمنها ونحفها، فإنها تراعَى في كل هذا، وحراً وصيفاً وبرداً وشتاءً، فإنها بالمقابل لا تغالي في طلب الكسوة، فتقول: اشترِ هذا، واشترِ هذا، ولا يكفيني، وتريد أن تجدد في كل شهر لباساً، وفي كل حفلة فستاناً، وفي كل عرس كذا وكذا، هذا مما لم يأتِ في الشرع، فإن طلبات المرأة من هذا النوع يعتبر إرهاقاً وظلماً للزوج، ولا يجوز لها أن تكلفه ما لا يطيق. ثم هذه المغالاة وهذه الألبسة الكثيرة جداً التي ربما لا تلبسها في السنة ولا مرة، فبعض النساء عندهن ألبسة لا تلبسها في السنة حتى مرة، وإذا لبست فستاناً لا تريد أن يراها النساء وهو عليها مرة أخرى، وإذا رأينها عليها الفستان مرة ثانية صار عيباً عندها، ولذلك فإنها تكون في هذه الحالة مسرفة، والله يقول: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} [الأعراف:31].

السكن

السكن وأما بالنسبة للسكن فإن العلماء قالوا: ليس للرجل أن يجمع بين امرأتين في مسكن واحد بغير رضاهما، صغيراً كان أو كبيراً؛ لأن عليهما ضرراً لما بينهما من الغيرة، واجتماعهما في بيت واحد يثير الخصومة، وتسمع كل واحدة منهما حسه إذا أتى الأخرى، أو ترى ذلك، لكن إذا رضيتا جاز؛ لأن الحق لهما، فلهما المسامحة. فإذاً: يجب على الزوج أن يسكنها في دار تصلح لمثلها، فيها مقومات البيت التي لا بد منها، ولا يسكن زوجتين في بيت واحد إلا بإذنهما، وإلا فالأصل أن كل واحدة لها بيت مستقل، إلا إذا رضيتا بأن تكونا معه في بيت واحد؛ فإن الحق لهما. ومن كفاية المسكن: أن يكون بين جيران صالحين؛ لتأمن أذاهم، ولهذا فإن البيت إذا كان فيه جيران سوء، لا تأمن المرأة على نفسها منهم، وربما تسوروا عليها سور البيت، وربما حاولوا إيذاءها، أو النظر من خلال النوافذ، ونحو ذلك، فإن هذه الدار لا تصلح سكناً لها في هذه الحالة. وأما بالنسبة لأثاث المسكن، فإن البيت لا بد أن يحتوي ما تتهيأ به حاجة المرأة من أثاث لنومها وجلوسها، وما تحتاج من أدوات الطبخ والطعام، ونحو ذلك؛ لأن المرأة ليس عليها إلا تسليم نفسها في بيته، وعليه أن يهيئ لها جميع ما يكفيها بحسب حالها، من أكل، وشرب، ولبس، وفرش، وأثاث، وأدوات منزلية، ولذلك نص الفقهاء على أنه يهيئ لها آلة الطحن، والخَبز، وآنية الشرب، والطبخ، وسائر أدوات البيت، والأثاث، كحُصُر وطنفِسَة -التي يجلس عليها- لكن هذا كان في السابق، حيث كان عندهم هذه الأشياء. وقال صاحب كشاف القناع رحمه الله: وللنوم: فراش، ولحاف، ومخدة، وملحفة؛ لأنه معتاد، وللجلوس بساط من صوف. لأن هذا هو المعتاد عندهم، والآن يوفر لها سريراً، ويوفر لها ما تجلس عليه في البيت، ويوفر لها ما تطبخ به من قدور، وسكاكين، وملاعق، وما تحتاجه، والآن صارت الثلاجة من الأساسيات، ولم تكن عند العلماء من قبل؛ فلا بد من أن يوفر لها هذا، فإذا كان من المعروف أن يشتري لها غسالة اشترى، ولا يقول: اغسلي على يديك، وافعلي على يديك، مادام هذا صار عرف البلد مما يؤتَى به للزوجة لا شيء في مغالاة، ولا هو خارج عن العادة، ولا هو خارج عن الحد، مثل الغسالة، والثلاجة، فقد أصبحت هذه أشياء لا بد منها وهي من توابع السكن. كذلك مثلاً: البيت اليوم في مثل هذا البلد، لا يمكن أن يُعاش فيه في الصيف من غير تكييف وشيء يلطف الحرارة؛ لأن الجدران الإسمنتية والمسلح بالحديد من الداخل يكنز الحرارة، ولا يمكن أن يطيق الإنسان العيش فيه، ولذلك بيت بلا تكييف لا يُعتبر مسكناً يسد الحاجة. والإنسان مطالَب أيضاً على قدر حاجته، وعلى الزوجة ألا تقول: اشترِ لي آخر ما وصل إليه العلم والتكنولوجيا من العصارات والفرامات، وهات، وهات لا بد أن تجدد الأثاث كل ستة أشهر، مللنا من الكنب، ومللنا من غرفة النوم، ومللنا من كذا، ولا بد أن تجدد، هذا إسراف وتكليف للزوج وخروج عن المألوف، وهو غير مكلف بإعطائها ذلك، ولا بالاستجابة لها. قال ابن قدامة رحمه الله: يكون المسكن على قدر يساره وإعساره، لقوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق:6] فإذا كان يستطيع بيتاً مستقلاً فيسكنها بيتاً مستقلاً، وإذا لم يستطع فيسكنها شقة، ثم الشقق تختلف، هناك شيء بغرفة ومجلس وصالة ومطبخ وحمام، وهناك شيء بغرفتين، وشيء بثلاث، وشيء بأربع، وشيء بأكثر، فهو يسكنها على قدر ما تحتاج، على قدر ضيوفها، وحاجتها، وأولادها. فإذاً: السكنى على حسب حال الزوج، الله يقول: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق:6] من وجدكم: بحسب ما يتيسر لك فعليك أن تسكِن. ثم إن الزوج إذا امتنع عن أداء النفقة فإنه يجوز للزوجة أن تأخذ مما تصل إليه يدها من ماله، بقدر ما يكفيها ويكفي ولدها إن كان لها ولد، ولو كان بغير إذنه، تأخذ بالمعروف وبالقدر الذي عُرِف بالعادة بالكفاية، هذا أباحه النبي صلى الله وعليه وسلم. وإن امتنع وأخفى المال وما أبقى فلساً في البيت، فيجوز لها أن تذهب إلى القاضي تطالب بالنفقة، ويرتب القاضي لها نفقة، ويجبره على الدفع والإنفاق عليها ولها أن تطالب؛ لأن هذا حقها، لا بد أن يسلِّم لها حقها. وكذلك فإن على المرأة أن تحفظ مال زوجها في البيت، وسنأتي على ذلك في الحلقة الأخيرة من حقوق الزوج على زوجته. وقلنا: هذه النفقة تسقط بأشياء كثيرة، وذكرنا بعض هذه الأشياء، ومنها: سقوط النفقة بالطلاق: إذا انتهت العدة ما لها نفقة، إذا مات الزوج ليس لها نفقة بعد وفاته وانتهاء عدة الوفاة، وإنما تأخذ إرثها، ويكون هذا هو الذي انتهى إليها من حقها مما جاء من قِبَله. والمسألة على وجه العموم -أيها الإخوة- كما قلنا: بالمعروف، ينبغي أن يكون كل شيء بالمعروف، والزوج لا يحتاج أن يقول: أمشي على ما ذكر الفقهاء من الواجب، وما لي إلا واجب، نقول: لا، إذا أعطاك الله ويسَّر عليك وسِّع عليها، وأنت مأجور في كل ما تنفقه عليها، وكل ما توسِّع به على أهلك، وخصوصاً في الأعياد، لِمَا هو في معنى العيد من التوسعة على الأولاد، والأهل، والزوجة، التوسعة عليهم بالهدايا، بالطعام، بالكسوة، بالذهب، والحلي، يوسع عليها. ولذلك ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن مَن جعل يوماً معيناً يوسع فيه على أهله، يعود ويتكرر، يوسع فيه ويعطيهم نفقات وأشياء، فإنه في معنى العيد، ويكون هذا التعيين محرماً، مثل ما يحدث في بعض الاحتفالات التي يسمونها الآن بـ (القِرْقِيْعان)، والتي سنأتي عليها في هذه الأيام، ترى بعض الآباء يشترون للأولاد هدايا وتوسيعات، حقوقاً وأشياء، ويفرحونهم بهذا اليوم المعين، وهو الخامس عشر من رمضان أو الرابع عشر أو قبله أو كذا، ويُجعل احتفالاً ويُجعل فرحةً للأولاد في يوم معين، ويُشترى فيه أشياء وأكسية معينة للـ (قِرْقِيْعان)، وحلويات معينة، ومكسرات معينة لأجله، وقد أصدرت اللجنة الدائمة للإفتاء، برئاسة سماحة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن باز فتوى بتحريم الاحتفال بهذا، وقطع الطريق على من يريد إضافة أعياد أخرى حتى على مستوى الأطفال، بل إن فرحة الأطفال بـ (القِرْقِيْعان) هذا أشد من فرحتهم بعيد الفطر والأضحى في بعض الحالات، ثم إنه طبعاً صار وسيلة للرقص، وعرض المحرمات، ومشاركة البنات الكبيرات، وصارت مؤخراً -يا جماعة- احتفالات في الفنادق، حفلة (قِرْقِيْعان) في الفندق الفلاني، ونساء وبنات كبيرات. فانظروا ما يجر إليه الشر، يجر بعضُه بعضاً! وتنمو هذه الأشياء وتكثر! وتأسَّسَ عيدٌ عند الناس، وهكذا تكون البِدَع، وتستشري، وتستفحل. نسأل الله السلامة والعافية. ومن تأمل في الواقع عَرَف كيف يؤتى المسلمون من إحياء هذه الأمور التي يجب أن تمر كأي يوم آخر، ولا يكون التوسعة والفرحة والعيد الذي يعود ويتكرر إلا الفطر والأضحى. هذا نهاية الكلام عن موضوع نفقة الزوجة. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من الكرماء الأوفياء القائمين بحقوق الزوجات والأولاد. والله تعالى أعلم. وصلى الله على نبينا محمد.

وصايا من الله في العشرة الزوجية

وصايا من الله في العشرة الزوجية إن المتأمل في آيات كتاب الله يجد فيها توجيهات كثيرة تتجلى فوائدها في معالجة الواقع، من هذه الآيات آيتان في سورة النساء يبين الله فيهما قوامة الرجل والحكمة من جعل القوامة والسيادة للرجل، ويبين صفات المرأة المسلمة، ثم يتطرق إلى قضية من القضايا الزوجية وهي النشوز، واضعاً الأساليب والطرق لعلاجها.

الرجال قوامون على النساء (الحكم والأسباب)

الرجال قوامون على النساء (الحكم والأسباب) الحمد لله رب العالمين، وصلى الله عليه وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ الآية) [النساء:34] ومعنى قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء:34] أن الرجل هو القائم على المرأة، ويجب على المرأة أن تطيعه فيما يأمرها به بالمعروف، فإن طاعة المرأة للرجل ليست مطلقة، وإنما هي مقيدة بحديثه صلى الله عليه وسلم (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) وطاعة المرأة للرجل واجبة إذا كانت بالمعروف، فإذا أمرها بأمر ليس فيه إثمٌ، وجب عليها أن تطيعه.

الحكمة من جعل الرجل هو السيد

الحكمة من جعل الرجل هو السيد ولا يصلح حال البيوت إلا إذا صار الرجل هو السيد، ولذلك يخطئ كثير من الناس الذين يقولون: السيدات والسادة، فإن سيد المرأة هو الرجل وهو سيد البيت، أما المرأة فإنها لا تكون سيدةً؛ لأن السيد هو الذي يسود، والمرأة لا تكون سيدة على زوجها، ولكنها قد تملك عبداً، فتكون هي سيدة ذلك العبد، وإما إطلاق السيدة على المرأة، فهو من الإطلاقات البدعية المخالفة للكتاب والسنة. وقول الله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء:34] يعطي معنى السيادة للرجل بالمعروف، إذ أن الله تعالى جعل فيه من المزايا ما يكون به أهلاً للسيادة في الغالب، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يفلح قومٌ ولوا أمرهم امرأة) رواه البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما، فإذا جعل الرجال أمرهم إلى امرأة، فإن أمرهم إلى زوال وتباب، ولن يفلحوا. وقد يكون في بعض النساء رجاحة في العقل وفطنة وذكاء، ولكنها لا تزال تحيض ويقع لها في النفاس، وتكون معرضة لأنواع الضعف النفسي والعاطفي والجسمي بما لا تصلح معه أن تكون هي القائمة بالأمر مهما كان ذكاؤها وفطنتها. ولأن المرأة مطمعٌ للطامعين، ومجالٌ لعبث العابثين، وهدفٌ لأصحاب الشهوات من أولياء الشياطين، جعل الله تعالى الرجل حامياً لها وحافظاً، فجعل الأب ولياً، والزوج سيداً، ولا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم يقوم عليها ويحفظها؛ لأن سفرها بغير محرم يجعلها عرضةً للطامعين وأهل الشهوات، وتكون هي أيضاً معرضة للانحراف، فإذا أمن منها لم يؤمن عليها، ولذلك أحاطت الشريعة المرأة بحماية الرجل فقال الله: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء:34].

فضل الله الرجل على المرأة بمزايا هي من أسباب القوامة

فضل الله الرجل على المرأة بمزايا هي من أسباب القوامة لقد بين الله سبحانه وتعالى السبب الذي من أجله جعل الرجل قائماً على المرأة، فقال: {بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء:34] استحقوا هذه المزية بتفضيل الله للرجال على النساء بما فضلهم به من الصفات في العقول والأجسام، فأما من جهة العقل فإن الرجل غالباً هو الأعقل -مع وجود نساء أعقل من بعض الرجال، ولكن الحكم للأعم الأغلب، والشريعة لا تأتي بالحكم للنادر والقليل- بما جعل الله للرجل من العقل الراجح على المرأة، وكذلك الجسم، ولذلك كان الغزاة وقواد الجيوش، والحكّام، والأمراء، والخلفاء في الشريعة الإسلامية جميعاً من الرجال، فلا يجوز في الإسلام أن تكون المرأة هي الخليفة، أو الحاكم، أو الأمير، أو القاضي، فلابد أن يكون الرجل هو الذي يتولى هذه الأمور، والجهاد في الإسلام على الرجال، والمرأة تؤدي أدواراً جانبية في الجهاد كمداواة الجرحى، والسقي إذا أمنت الفتنة، وربما تضطر المرأة أحياناً لحمل السلاح في الحالات الاضطرارية، لكن أن نجعل هناك جيشاً من النساء، فهذا ليس من شريعة الله، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الحج جهاد كل ضعيف) وفي الرواية الأخرى الصحيحة (جهادكن الحج) لأن المرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن الله فضل الرجال بكذا وكذا، ويجاهدون معك، فماذا لنا نحن من الجهاد؟ فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (جهادكن الحج) فجعل الحج هو جهاد النساء. إن المرأة مكفية محمية، والعتب على الرجال الذين يضيعون نساءهم، فلا يقومون بأمرهن، وربما تركها الواحد تسافر بغير محرم، أو يهجر البيت ويسافر فترة طويلة، وربما تكون المرأة معرضة لمن يسطو على البيت، أو يقتحم البيت ونحو ذلك، فنقول: لا يجوز ذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت) فالعتب على بعض الذين يخرجون بحجة الدعوة ويتركون نساءهم في البيوت مضطرات إلى الأجانب، فتركب سيارة أجرة بمفردها، أو تذهب لشراء الأغراض بمفردها، وقد تكون وحيدة في البيت، أو معها أولاد صغار لا تأمن على نفسها، فهذا من التضييع المحرم ولا شك، ولذلك كان عمر رضي الله عنه وأرضاه لا يؤخر الزوج عن زوجته في الجهاد أكثر من أربعة أشهر أو ستة؛ على خلاف بين أهل العلم في المدة القصوى في ابتعاد الرجل عن زوجته، وكم تتحمل المرأة من فراق الزوج، ولذلك كان الذين يهجرون زوجاتهم فترات طويلة من الزمن متسببين في وقوع الزوجات في الفاحشة والحرام، وهذا واضحٌ في زمننا أشد الوضوح، فإنك لا تزال تسمع عن القصص الكثيرة المؤلمة والمأساوية التي وقع فيها عدد من النساء في الحرام، نتيجة هجر الزوج لزوجته، أو ترك البيت، أو السفر الطويل، فكان لابد من المحافظة على الزوجة. ويوجد بعض العمال الذين يذهبون للعمل والوظائف في البلدان الأخرى ملزمين في الشريعة باستئذان زوجاتهم إذا أرادوا الغياب عنهن أكثر من أربعة أشهر أو ستة، فإذا كان عقده سنوياً، ولا يأخذ إجازة إلا شهراً في السنة، وأحياناً لا يأخذها إلا كل سنتين مرة، فما حكم غيابه عن زوجته؟ A حرام لا يجوز إلا إذا وافقت الزوجة، ولم يكن عليها ضرر، ولا فتنة، ويجب عليه أن يستأذنها، فيقول: إني أريد الغياب في طلب الرزق أكثر من ستة أشهر، فهل تسمحين لي بذلك؟ فإن سمحت بهذا الغياب الطويل، وكانت في مكان آمن وليس عليها خوف من فتنة، جاز له هذا السفر الطويل، وإلا لم يجز، ولزمه أن يعود إليها.

النفقة على الزوجة من أسباب القوامة

النفقة على الزوجة من أسباب القوامة قال الله تعالى في سبب تفضيل الرجال على النساء: {بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34] فالله تعالى جعل الرجل هو الذي يعمل وينفق ويكسب، وأوجب النفقة عليه، ولذلك يلزم القاضي الرجل البخيل، أو الذي لا يعطي زوجته النفقة بإخراج النفقة، وتعتبر النفقة ديناً إذا عجز عنها، ويمكن أن تطالب به المرأة. والنفقة لا حد لها في الشريعة بمبلغ معين، ولكنها داخلة في عموم قوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19] فينفق عليها بالمعروف، فيشتري لها طعامها الذي تحتاجه، ولباسها الذي تحتاجه، ويهيئ لها سكنها الذي تحتاجه، وبالجملة فحاجات النساء متعددة، فيجب عليه أن ينفق عليها بالمعروف، وأن يكسوها بالمعروف، وأن يطعمها بالمعروف. فإذا بخل ومنع النفقة الواجبة وتركها وأولادها دون مال وطعام، أو دون كسوة بالمعروف، فإن لها أن تأخذ من ماله بغير إذنه، وقد رخص لها الشارع في الأخذ من ماله بغير إذنه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم للمرأة الصحابية: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف) أي: من وراء الرجل إذا كان بخيلاً، أما إذا كان يعطيها، فلا يجوز لها أن تأخذ من ماله شيئاً، ولا أن تتصدق بطعامه الذي يشتريه للبيت إلا بعد إذنه، فإذا علمت أنه يسمح بالتصدق بالطعام -والنبي صلى الله عليه وسلم قال (ذلكم أفضل أموالنا) - فيجوز لها أن تتصدق به، وإلا فلا بد من استئذانه. فتبين أنه يجب على المرأة أن تطيع الرجل؛ لأنه ينفق عليها، ولأنه قوامٌ عليها، وهو سيدها وبيده عصمتها وطلاقها، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم (استوصوا بالنساء خيراً فإنهن عوان) يعني: أسيرات، جمع عانٍ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم (فكوا العاني) والعاني هو: الأسير. فلما أوجب عليه النفقة أوجب له الطاعة، ولذلك كانت المرأة التي لا تطيع زوجها محرومة من النفقة في الشريعة، فلو أنها خرجت من بيته بغير إذنه وذهبت إلى بيت أهلها وعصته ولم ترجع، فليس لها قرش واحد، ولا يجب عليه النفقة عليها، ولا أن يرسل لها بالمصروف إلى بيت أهلها، لأنها نشزت أي: خرجت عن الطاعة، إذ خرجت من بيت الزوجية بغير إذنه، فإذا هجرته وتركته وخرجت، فليس لها مصروف ولا نفقة، ويختلف الأمر فيما لو كان هو الذي طردها فقد يرسل لها لإصلاح الأوضاع، أو لإزالة حنقها، أو لتأليف قلبها، لكن لا يجب عليه ذلك، ولذلك فإن موضوع النفقة في الإسلام موضوع مهم، يجب معرفة حدوده وضوابطه، وقد تكلم العلماء في موضوع النفقة في تفصيلات كثيرة، ولا يزال موضوع النفقة من الأشياء التي يحصل فيها الخلاف بين الرجال والنساء، والتي هي مثار لكثير من الخلافات الزوجية، فإنك لو تتبعت أسباب الخلافات الزوجية، لوجدت أن من أسباب الخلافات الزوجية الخلاف على النفقة، فقد تقول هي: أنت لا تعطيني إلا القليل، ويقول هو: أعطيك ما يكفيك وزيادة، فيختلفان في النفقة.

معاشرة النساء وحكم توظيفهن والأخذ من رواتبهن

معاشرة النساء وحكم توظيفهن والأخذ من رواتبهن ونلاحظ أيضاً أن المرأة عندما تكون موظفة، فإنها تدخل في شيء من حق الرجل، أو من ميزة الرجل، الرجل مكلف بالنفقة، فعندما تكون موظفة ولها راتب، فكأنها تزاحمه في موضوع النفقات، ولذلك تحصل الاحتكاكات والمشاكل، ويقول لها: ادفعي راتب الخدامة عليك إيجار البيت فواتير الهاتف عليك، ادفعي معي نصف الإيجار، ملابسك تشتريها من نفسك، فيحصل التنازع والخصام.

أصل النفقة على الزوج وإن كانت المرأة موسرة

أصل النفقة على الزوج وإن كانت المرأة موسرة فإذا قال الإنسان: ما حكم الإنفاق في هذه الحالة أي: لو كانت الزوجة موظفة، وربما تأخذ راتباً أكثر من زوجها، فهي مدرسة لها في الخدمة كذا سنة، وهي تستلم ثمانية آلاف ريال، وهو موظف على المرتبة الرابعة، أو الخامسة لا يقارب راتبه خمسة آلاف، فراتبها ضعف راتبه أو حول ذلك، فما حكم الإنفاق في هذه الحالة؟ A لا يزال الإنفاق على الرجل، ولم يجعل الله على الزوجة نفقة ولو كانت غنية، هب أنه تزوج ابنة رجل غني فمات، فورثت عن أبيها عشرات الملايين، وهو يأخذ بضعة آلاف لا تتعدى أصابع اليد الواحدة، فلا زالت النفقة على الزوج ولو كانت الزوجة غنية، ولذلك يقول الله: {وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34] ولا يجب على الزوجة لو قال لها: ادفعي الإيجار الفواتير أو راتب الخدامة ونحوها من مصاريف البيت، فتقول: لست ملزمة بذلك، ولها الحق في ذلك، لكنها تخرج من البيت للعمل، ويجوز للزوج أن يمنعها من الخروج، صحيح أنها غير ملزمة بالنفقة، ولا الاشتراك في النفقة، لكنها تخرج من البيت للعمل، فيجوز للزوج أن يمنعها منه إلا إذا كان شرطاً في العقد، فلو اصطلحا فقال لها: أتركك تخرجين للعمل مقابل المشاركة في النفقة، جاز هذا الصلح، بما أنه يحق له أن يمنعها من العمل والخروج إلى العمل، وبما أنها لا يجب عليها النفقة، فلو قال لها: أنت تخرجين من البيت وهذا يلحق بي ضرراً، فأنا أعود قبلك أحياناً من العمل، وأعود ولا أجد طعاماً جاهزاً، وأعود فأجدك متعبة منهكة، والأولاد ليسوا في رعايتك في الفترة الصباحية، وهذا لا شك أن فيه ضرراً.

الأصل ألا تعمل المرأة إلا لحاجة والبيت أفضل

الأصل ألا تعمل المرأة إلا لحاجة والبيت أفضل ولا ينصح بعمل المرأة إلا للحاجة، فما خرجت بنتا الرجل الصالح إلا للحاجة قال الله: {قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص:23] لولا أنه كبير لا يستطيع الرعي ما خرجنا، أي: نحن خرجنا اضطرارً للعمل، ولذلك فكثير من النساء في الحقيقة مخطئات أشد الخطأ عندما يخرجن للعمل للتسلية، أو لتبوء المكانة الاجتماعية التي تظن الواحدة منهن أن هذه المكانة المرموقة هي إثبات للجدارة، وإثبات للوجود في الوظيفة وهذا كلام فارغ وغير شرعي، قال الله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:33] ولذلك لا تخرج إلا للحاجة، كأن تساعد زوجها كما كانت تخرج بعض النساء للزرع والرعي مساعدة للزوج، وابنتما الرجل الصالح خرجتا لمساعدة الأب غير القادر على الإنفاق، أو أباها، فقد يكون الأب مريضاً، قد يكون طاعناً في السن، قد يكون مشلولاً وليس عنده ذكور، أو عنده ذكور، لكنهم عاقون لأبيهم، فالأب والأم، والأولاد الصغار، بل البيت قائم على هذه البنت الموظفة، هذه امرأة مأجورة في الحقيقة إذا خرجت تعمل لأنها تقوم بأمر بيت هي التي تنفق عليه، لأن البقية الذين في البيت لا يستطيعون النفقة، فيكون خروجها محموداً شرعياً وهي مأجورة عليه، لكن إذا خرجت للتسلية، أو لإثبات الجدارة، أو لتبوء المكانة كما يقولون فهي مخطئة، وقد أتت الأمر على غير وجهه الشرعي، لأنه ليس للمرأة الخروج من البيت للتسلية في العمل، أو لإثبات الجدارة، ولذلك تجد بعض النساء تريد أن تعمل بأي طريقة ولو بخمسمائة ريال المهم أنها تعمل، ويصير اسمها موظفة، وأصبح جلوس المرأة في بيتها عيباً، وجلوسها بعد خروجها من الكلية يعتبر سلبية وطاقة معطلة. وسبحان الله العظيم! جعل الله البنت عند الأب -لو حصل انفصال بين الزوج وزوجته- قبل البلوغ لأجل أن تستعد للخاطب إذا جاء، فالله جعل البنت عند البلوغ لا هم لها إلا انتظار الزوج القادم، لا وظيفة، ولا شيء، والعمل الأساسي للمرأة أنها تقوم بالبيت، زوجة، وأم وحارسة للقلعة، وليست مسئولة عن الوظائف والإنفاقات والماديات أبداً. ثم إن كثيراً من النساء اللاتي يخرجن للوظائف إنما ينفقن جزءاً كبيراً من الراتب في الموضات والأزياء، وأدوات الزينة والتجميل، فتخرج بما كره لها الشرع الخروج فيه لتضع المال فيما كره لها الشرع أن تضعه فيه، تخرج بطريقة لا تحمد شرعاً، وتضع المال في شيء لا يحمد شرعاً، ولذلك تجد العاقلات من النساء في الإنفاق من الموظفات قليلات، ومن هنا جعلت الشريعة الإنفاق على الرجل، وهو الذي يعرف أوجه الإنفاق أكثر من المرأة. والحاصل أن خروج المرأة له ضوابط، ويجوز أن يصطلح الرجل وزوجته الموظفة على قدر من المال تنفقه؛ كأن يكون عليها نصف إيجار البيت، أو نصف المصروف، أو ربع المصروف، أو تعطي زوجها نصف الراتب، أو ربع الراتب بحيث يسمح لها بالعمل، وهذا جائز شرعاً، فيجوز الاتفاق على مثل هذا مقابل خروجها من البيت، وما يتسبب من ذلك من تعطيل حق الزوج.

صفات المرأة المسلمة

صفات المرأة المسلمة قال الله عز وجل: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ} [النساء:34] قانتات أي: مطيعات لله، ثم مطيعات للأزواج، قائمات بما يجب عليهن من حقوق الله عز وجل وحقوق الأزواج. {حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ} [النساء:34] وهو الشيء المخفي، أي: عند غيبة الزوج، فإذا غاب عنها الرقيب حفظت نفسها وفرجها وولدها وبيتها ومال زوجها، قال الله في ذكر صفات المرأة الصالحة: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء:34] يعني: بحفظ الله ومعونته، فإنها لا تستطيع أن تحفظ عفتها ونفسها ومال زوجها وأولاده إلا إذا أعانها الله على ذلك فالحفظ الحقيقي من الله {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً} [يوسف:64]. والعبد يقوم بما عليه من الحفظ ضمن حفظ الله تعالى، فهذه صفات المرأة الصالحة: {قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ} [النساء:34] فلو وجدت لك امرأة قانتة، مطيعة لله، قائمة بأمر الله، محافظة على الصلوات وما طلب الله منها من الحجاب، قانتة لله، عندها أمانة في دينها، وفي حفظ عفتها ومال زوجها وولده، فارج خيراً منها، فلخص الله صفات الزوجة الصالحة بقوله: {قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ} [النساء:34].

من أحكام النشوز

من أحكام النشوز {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} [النساء:34] انتقل بعد ذلك لبيان حال غير الصالحة إذا طرأ خلل في صلاحها، أو نقصٌ في حالها من جهة الزوج، فتمردت عليه وعصته. {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} [النساء:34] والنشوز هو العصيان، وقالوا: نشزت المرأة إذا استعصت على بعلها بأن تعصيه ولا تطيع أمره، أو تخرج من بيته بغير إذنه، أو تمنعه نفسها بلا عذر. وللنشوز صور كثيرة: فخروجها من بيت زوجها بغير إذنه نشوز، ومنعه نفسها بدون عذر شرعي نشوز، وإنفاق ماله في غير ما أمرها به نشوز، أمرها بأن تعمل بالمعروف فرفضت إذا قلنا أن الخدمة واجبة عليها، فقالت: لا أطبخ طعامك، ولا أنظف بيتك، ولا أغسل ثيابك، ولا أقوم بأطفالك، دبر نفسك، اشتر لك غسالة وخدّامة، واشتر الأكل من المطعم، وهذا نشوز، هذه صور واضحة من صور النشوز، فإذا حصل هذا، فما هو موقف الزوج شرعاً؟ وهل يلجأ مباشرة إلى الطلاق بالثلاث مثلاً؟ A لا. فقد جعل له الشارع طرقاً وأساليب منها:

وعظ المرأة الناشز أولا

وعظ المرأة الناشز أولاً أولاً: يقول الله عز وجل: {فَعِظُوهُنَّ} [النساء:34]. الإجراء الأول تذكيرها بما أوجب الله عليها من الطاعة وحسن العشرة والترغيب والترهيب، فيقول لها مثلاً: اتقي الله يا امرأة! إن الله وعد المؤمنات اللاتي يطعن أزواجهن، فقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنهن من أهل الجنة بأن قال: (من عبدت ربها، وأطاعت زوجها، وحفظت فرجها، قيل لها: ادخلي الجنة) (خير نساء ركبن الإبل صالح نساء قريش، أحناهن على ولد في صغره، وأرعاهن للزوج بما في ذات يده) فحنو المرأة على الطفل، ورعايتها لمال الزوج من الخصائص العظيمة التي تميزت بها نساء قريش الصالحات، واشترك معهن من اشترك بتفاوت من بقية الصالحات من غير قريش. فتذكر ميزة المرأة إذا أطاعت زوجها، وتُذكر أيضاً بعقابها إذا لم تطعه، وأنها إذا تخلفت عن فراشه وقد دعاها لغير عذر، فإن ربها يغضب عليها ويسخط عليها وتلعنها الملائكة، فتوعظ هذا الوعظ ترغيباً وترهيباً، ترغيباً فيما لها إذا أطاعت، وترهيباً فيما لها إذا عصت، فإذا لم ينفع ذلك، فينتقل إلى إجراء أشد، لكن ليس هو الإجراء النهائي.

هجر الناشز شرعا إن لم تتعظ

هجر الناشز شرعاً إن لم تتعظ ثانياً: يقول الله: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء:34] أي: تباعدوا عن مضاجعتهن، قيل: أن يوليها ظهره في الفراش، وقيل: أن يغادر الفراش وينام في غرفة أخرى مثلاً، وقيل: ألا يكلمها: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء:34] وإذا لم يفد هذا الهجر مع أنه يؤثر في المرأة أن يتركها زوجها، طبعاً الترك المعروف، أما الهجر بغير معروف، فحرام، فبعض الرجال ظالماٌ في الهجر؛ يهجر زوجته فترة طويلة جداً مما يتسبب في وقوعها في الفاحشة، أو تعريضها للأذى النفسي البالغ، فالذي يهجر لأتفه الأسباب، أو يهجر وهو المخطئ المعتدي، ثم يقول: اعتذري! أو يفارق البيت ويتركها وحدها في البيت فهو ظالم، لكن إذا كانت هي الظالمة بعد الوعظ فيهجرها في المضجع.

ضرب الناشز للتأديب ضربا غير مبرح

ضرب الناشز للتأديب ضرباً غير مبرح ثالثاً: فإن لم يفد الهجران في المضجع، ينتقل بعد ذلك إلى الضرب، قال عز وجل: {وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء:34] وهذا الضرب ليس ضرب انتقام وطغيان، وإنما هو ضرب تأديب وإصلاح، وإذا كان ضرب تأديب وإصلاح وليس ضرب تخريب وعدوان، فمعنى ذلك أنه لن يكون فيه كسر عظم، ولا إراقة دم، ولا ضرب على الوجه -ولا يجوز الضرب على الوجه أبداً- فقد يسبب عاهة، قد يذهب بسمعٍ أو بصرٍ، وبعض الرجال كثيراً ما يخطئون في الضرب، فيتعدى في الضرب، وقد يضرب بسلك، أو حديدة، أو قطعة من الخشب، وقد يكون عنده حزام أسود في الكاراتيه، أو في غيرها من الألعاب، فيمارس بعض ما تدربه على زوجته، فهذا الرجل ظالم ولا شك؛ لأن الضرب بهذه الكيفية ليس هو المقصود، فليس مقصود الشارع الضرب بالعنف، وإنما هو ضرب تأديب وإصلاح. {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ} [النساء:34] أي: فإذا سلمت المرأة وأطاعت بعد هذه الإجراءات سواءً بعد الوعظ، أو بعد الهجر، أو بعد الضرب {فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} [النساء:34] فإذا تركن النشوز فلا يجوز البغي عليهن، ولا يجوز الهجر ولا الضرب ما دامت قد أطاعت ورجعت إلى رشدها، ثم ختم الله الآية باسمين كريمين مناسبين للواقع، قال: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً} [النساء:34] فإذا أنت أعلى من المرأة فالله أعلى منك، وإذا أنت أكبر من المرأة، فالله أكبر، فانظر كيف انتهت الآية، قال: {فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً} [النساء:34] فانتهاء الآيات مناسبة للموضوع، وما فيها من المعاني وهذه حكمة بالغة وبلاغة قرآنية عالية؛ فيا أيها الزوج لا تبغ؛ فإن هناك من هو أقوى منك، ولا تستعلِ فهناك من هو أعلى منك، ولا تستكبر فهناك من هو أكبر منك: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً} [النساء:34].

بعث حكمين للإصلاح من أهل الزوجين

بعث حكمين للإصلاح من أهل الزوجين {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} [النساء:35] يعني: تفاقم الخلاف، ولم تؤد المسألة إلى نتيجة إيجابية، وازدادت الهوة يبنهما واتسعت الشقة، فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها، أي: ابعثوا إلى الزوجين حكماً من أهلها وحكماً من أهله، حكماً يحكم بينهما ممن يصلح لذلك عقلاً وإنصافاً، فلا تبعث أحمق لا يحسن التصرف، أو متهور لا يصلح أن يكون حكماً، فإن الحكم لا بد أن يكون منصفاً عاقلاً صاحب دين: {فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} [النساء:35] ولم يقل: حكماً خارجياً كإمام المسجد؛ لأن الحكم الذي من أهله والحكم الذي من أهلها سيكونان قريبين من موقع المشكلة ومعرفة الخلاف، لأن القضايا الداخلية لا يطلع عليها من في الخارج، ولأنه في الغالب يكون متابعاً لتطورات المشكلة، فمثلاً: لو كان عمها يسمع أخبارها مع زوجها؛ أخوه أو أبوه يسمع عن أخباره مع زوجته، لكن الأجنبي الخارجي قد لا يسمع شيئاً ولم يعايش المشكلة، ولا يعرف تفاصيلها، ولا يعرف الأطوار التي مرت بها المشكلة، ومعرفة الأطوار والخلفية التاريخية مهم في أي مشكلة، فلذلك قال: {فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} [النساء:35] لأنهما أعرف بأحوال الزوجين. ثانياً: أنهما أحفظ لأسرار الزوجين، لأن الغريب لو جيء به لربما يخطب بهما خطبة الجمعة، أو يدلي بالتصريح في المجالس عما حصل بين فلان وفلانة، وأما إن كان من داخل العائلة، فإنه يكون في الغالب حافظاً للأسرار، لأنه لا يريد أن يمس سمعة العائلة بسوء، ولا يريد أن تنتشر الأخبار السيئة عن العائلة، فهذه هي الحكمة في أن يكون الحكمان من أهله وأهلها والله أعلم. قال الله تعالى: {فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} [النساء:35] يسعيان في الإصلاح، ويبذلان جهدهما في ذلك، فمثلاً: إذا كان الخلاف عن النفقة، يقول: يعطيها خمسمائة، وتقول: أريد ألفاً، فيجتمع الحكمان، فينظران في احتياجات الزوجة، وكم هو الإنفاق بالمعروف حسب حاله ومرتبه ودخله مثلاً، وحسب أسعار السوق وتكاليف المعيشة، فيحكمان بنفقةٍ متوسطةٍ، إن كان ما قاله الزوج حق، يقولان لها: ليس لك إلا ما يعطيك الزوج، ولو كان الزوج يعطيها قليلاً، يقولان له: زد قليلاً، فاجعل لها كذا وكذا، ويكتبان ذلك ويشهدان عليه إن رأياً كتابته والإشهاد عليه. لكن متى يحصل التوفيق بينهما؟ بشرط مهم جداً ذكره الله تعالى وهو: حسن نية الحكمين، فقال: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء:35] إذا كانت نيتهما طيبة، يريدان إصلاحاً بين الزوجين يوفق الله بينهما، فتعود الألفة وحسن العشرة إليهما، لكن إذا لم يريدا الإصلاح، اختلف الحكمان قبل أن يوفقا بين الزوجين، وستتسع دائرة الخلاف، وينظم كل واحد منهما إلى صاحبه أو إلى قريبه، وتتسع دائرة المشكلة، وسنحتاج إلى من يصلح بين الحكمين، ولذلك قال: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء:35] فانعكست النية الطيبة للحكمين على الزوجين، لأن الخلاف بين الزوجين. هذا مثال على أن النية الحسنة يكون لها أثر حسن في إزالة المشكلات، ولا شك أن الحكمين لهما أجرٌ عظيمٌ إذا أرادا إصلاحاً، قال تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:114] فلا شك أن المصلح بين المتخاصمين له أجرٌ عظيمٌ، وهو من الذين يسعون بالخير، ولا شك أن الساعي بالخير مأجورٌ أجراً عظيماً عند الله، وهذا نفعه متعد وليس نفعه على نفسه فقط، وقد يكون إنقاذ البيت على يديهما، وتعود الألفة بسببهما، ويأخذان الأجر العظيم من الله تعالى، ويجوز لهما حتى الكذب، لو اضطرا إليه واحتاجاه للإصلاح، لأنه لا يعتبر كاذباً الذي يصلح بين متخاصمين. فهذه بعض من توجيهات الله تعالى الحكيمة التي تتجلى فوائدها في الواقع لمن تأملها في آيتين من كتاب الله تعالى في سورة النساء، في هاتين الآيتين بيَّن قوامة الرجل، ولماذا صار هو السيد عليها، وصفات الزوجة الصالحة، وما هي الإجراءات التي يفعلها الرجل إذا نشزت زوجته، ثم الكلام عن الإصلاح بين الزوجين، والتوسع فيه مجال كبير في الكلام عن قضية القوامة، وقضية النفقة، وقضية النشوز، وقضية الإصلاح بين الزوجين، وهذه من الموضوعات التي ينبغي أن تطرق، لأن المجتمع فيه كثير من هذه الخلافات، ثم إذا حصل التفكك الأسري، يتبعه حصول الفواحش وانتشارها، ووقوع الخراب والدمار، وتفرق العائلة، وتشتت الأولاد، ولا شك أن ذلك سيترك مخلفات نفسية سيئة جداً على الجميع. نكتفي بهذا القدر، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

ماذا ينقصنا؟

ماذا ينقصنا؟ في هذا الدرس تحدث الشيخ عن بعض الأشياء التي تنقص المسلمين في واقعهم، وركز على أهمية توافرها في حياة الأمة والفرد، ومن تلك: الإخلاص القدوات الثبات العلم الشرعي الأخلاق وحسن المعاملة التربية الاعتزاز بالإسلام الرجولة وغيرها.

الإخلاص

الإخلاص الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحياكم الله ومرحباً وأهلاً في هذا البيت من بيوت الله، ونسأل الله عز وجل أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً، وأن يجعل تفرقنا بعده تفرقاً معصوماً، وألا يجعل فينا شقياً ولا محروماً: {رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} [آل عمران:193] {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201] {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة:126]. أيها الإخوة! سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، عنوان درسنا إن شاء الله "ماذا ينقصنا؟ " ولقد تأملت في النواقص التي تنقصنا نحن المسلمين، وفكرت في هذا العنوان، فرأيت أن الذي ينقصنا من كثرته لا يحصى، وأنه لعل الأجدى أن نفكر فيما يوجد عندنا، فهو أسهل في الحصر، وأما ما ينقص، فيصعب حصره من كثرته، ولكن من باب المحاسبة لأنفسنا؛ تعالوا نفكر في شيء مما ينقصنا؛ لنحاول الاستدراك وتحصيل بعض المطلوب، وقد قال الله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر:18] ماذا ينقصنا؟ أول ما يخطر في البال مما ينقصنا تحقيق الإخلاص لله عز وجل، الإخلاص مسألة المسائل وأصل الأصول، الإخلاص الذي إذا حصله الإنسان المسلم؛ صلح حاله في كل شيء.

أقوال السلف في الإخلاص

أقوال السلف في الإخلاص قال الشيخ ابن سعدي رحمه الله: يتعين على أهل العلم من المتعلمين والمعلمين، أن يجعلوا أساس أمرهم الذي يبنون عليه حركاتهم وسكناتهم الإخلاص التام، والتقرب إلى الله تعالى بهذه العبادة التي هي أجل العبادات وأكملها وأنفعها وأعمها نفعاً، ويتفقد هذا الأصل النافع في كل دقيق وجليل من أمورهم، فإن درسوا، أو دارسوا، أو بحثوا، أو ناظروا، أو أسمعوا، أو استمعوا، أو كتبوا، أو حفظوا، أو كرروا دروسهم الخاصة، أو راجعوا عليها أو على غيرها الكتب الأخرى، أو جلسوا مجلس علم، أو نقلوا أقدامهم في مجالس العلم، أو اشتروا كتباً، أو ما يعين على العلم، كان الإخلاص لله واحتساب أجره وثوابه ملازماً لهم؛ ليصير اشتغالهم كله قوةً وطاعةً، وسيراً إلى الله وإلى كرامته، وليتحققوا بقوله صلى الله عليه وسلم: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً، سهل الله له طريقاً إلى الجنة) أخرجه مسلم؛ فكل طريق حسيٍ أو معنويٍ يسلكه أهل العلم يعين على العلم أو يحصله؛ فإنه داخل في هذا. وقال البخاري رحمه الله تعالى: باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر، وقال إبراهيم التيمي: ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مكذباً، وقال ابن أبي مليكة: [أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول إنه على إيمان جبريل وميكائيل] ويُذكر عن الحسن: [ما خافه إلا مؤمن، ولا أمنه إلا منافق]. ما خاف عذاب الله إلا مؤمن، ولا أمن عذاب الله إلا منافق، هذا بعض ما ورد عن السلف مما يدفعنا إلى الحرص على الإخلاص، ومجاهدة النفس في سبيل الوصول إليه.

الطريق إلى الإخلاص

الطريق إلى الإخلاص وهنا يأتي السؤال المهم: ما الطريق إلى الإخلاص؟ كيف نحصل الإخلاص؟ هذا السؤال يجيبنا عليه العلامة ابن القيم رحمه الله، فيقول: لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح والثناء والطمع فيما عند الناس إلا كما يجتمع الماء والنار، الضب والحوت -فالضب يسكن في الصحراء والحوت يكون في الماء- فإذا حدثتك نفسك بطلب الإخلاص، فأقبل على الطمع أولاً، فاذبحه بسكين اليأس، عليك بالإياس مما في أيدي الناس، ولا ترجو على عملك الصالح شيئاً دنيوياً، اقطع الطمع من الدنيا بسكين اليأس، وأقبل على المدح والثناء، فازهد فيهما زهد عشاق الدنيا في الآخرة، فإذا استقام لك ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح؛ سهل عليك الإخلاص، فإن قلت: وما الذي يسهل عليَّ ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح؟ قلت: أما ذبح الطمع فيسهله عليك علمك يقيناً أنه ليس من شيء يُطمع فيه إلا وهو بيد الله وحده، لا يملكه غيره، ولا يؤتي العبد منها شيئاً، ولا يؤتي العبد منها إلا ما أراد. وأما الزهد في الثناء والمدح، فيسهله عليك علمك أنه ليس أحدٌ ينفع مدحه ويضر ذمه إلا الله وحده. كما ذكر ذلك الأعرابي للنبي عليه الصلاة والسلام: إن مدحي زينٌ، وإن ذمي شينٌ، فقال: (ذلك الله عز وجل، الذي مدحه زين، وذمه شين). إذا مدح الله عز وجل أحداً، كان زيناً، وإذا ذم أحداً؛ كان شيناً على هذا المذموم. فازهد في مدح من لا يزينك مدحه، وفي ذم من لا يشينك ذمه، وارغب في مدح من كل الزين في مدحه، وكل الشين في ذمه، ولن يقدر على ذلك إلا بالصبر واليقين، فمتى فقدت الصبر واليقين؛ كنت كمن أراد السفر في البحر بغير مركب، قال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} [الروم:60] وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24].

علامات الإخلاص

علامات الإخلاص ما هي العلامات التي يعرف بها العبد أنه مخلص؟ إذا كان يراقب الله في أعماله، ويحتسب الأجر في أفعاله وأقواله، ويعمل بعلمه، وينصر سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ويقمع البدعة، ويحلي باطنه، ويزكي نفسه، ويحس بقربه من الله، وأن قلبه منير، فعند ذلك هو إذاً من المخلصين. كان الصالحون يدخرون أعمالاً معينة عظيمة لآخرتهم، يقول ابن كثير رحمه الله عن السلطان عيسى بن العادل أبي بكر بن أيوب ملك دمشق والشام، يقول: لما توفي أبوه كان شجاعاً باسلاً عالماً فاضلاً، هذا الرجل تولى بعد أبيه، وكان شجاعاً باسلاً عالماً فاضلاً، اشتغل بالفقه على مذهب أبي حنيفة، وفي اللغة والنحو على التاج الكندي، وكان قد أمر أن يُجمع له كتاب في اللغة يشمل الصحاح للجوهري والجمهرة لـ ابن جريج والتهذيب للأزهري، وأمر أن يرتب له مسند الإمام أحمد، وكان يحب العلماء ويكرمهم ويجتهد في متابعة الخير، ويقول: أنا على عقيدة الطحاوي، وأوصى عند وفاته ألا يكفن إلا في البياض، وأن يلحد له، ولا يبنى عليه، وكان يقول: واقعة دمياط أدخرها عند الله تعالى، وأرجو أن يرحمني بها، يعني: أنه أبلى بها بلاءً حسناً رحمه الله تعالى، وقد جُمع له بين الشجاعة والبراعة والعلم ومحبة أهله. فالإنسان وكل واحد منا يحاول أن يعمل أعمالاً صالحةً يدخرها عند الله، هذه لآخرتي، هذه ليوم العطش الأكبر، هذه ليوم الخوف الأعظم، يعمل الصالحات ويدخرها للآخرة، اعمل وخبئ وادخر لذلك اليوم.

القدوات

القدوات أي شيء ينقصنا أيضاً بعد الإخلاص؟ ينقصنا -أيها الإخوة- القدوات، نحن في قحط في القدوات إلا من رحم الله فوفقه للقدوات: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل:120] يؤتم به، قال الله تعالى: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74]. ما طلبوا ذلك للشهرة، وإنما طلبوه ليحصل لهم أجر الاقتداء، لماذا يريدون أن يكونوا أئمة يُقتدى بهم؟ {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74]؟ لكي يحصل لهم الأجر بالاقتداء: (من دل على هدى، كان له من الأجور مثل أجر من تبعه).

أهمية القدوة

أهمية القدوة وموقع القدوة خطيرٌ ومهمٌ، ولذلك فإن الإنسان إذا صار يُقتدى به؛ لا بد أن يلاحظ أعماله، ويحاسب نفسه على تصرفاته أكثر من أن يكون شخصاً عادياً، ولذلك أهل القدوة الحقيقيون لا يكاد يوجد عليهم مقال، [عن مسروق أن امرأة جاءت إلى ابن مسعود، فقالت: أنبئت أنك تنهى عن الواصلة -التي تصل الشعر- فقال: نعم، فقالت: أشيء تجده في كتاب الله، أم شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أجده في كتاب الله وسمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: والله لقد تصفحت ما بين دفتي المصحف، فما وجدت فيه الذي تقول، فقال: فهل وجدت فيه، أي: في القرآن: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]؟ قالت: نعم، قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نهى عن النامصة والواشرة، والواصلة والواشمة، إلا من داء) قالت المرأة: فلعله في بعض نسائك، سمعنا أن زوجتك تفعل شيئاً من هذا، فقال لها: ادخلي البيت وانظري إلى نسائي في البيت، فدخلت، ثم خرجت فلم تجد فيه شيئاً مما ذُكر] أي: من المنكرات في الأعراس، أو في غيره، فإن ذلك قدحٌ في خيره وصلاحه وعلمه، لأنه يجب عليه تغيير ذلك، وإن كان هذا في حق الناس كلهم ممنوعاً في النكاح وغيره، لكن في حق العدل آكد، لأنه إذا حضر شيئاً من هذا وما شاكله، ترتب عليه مفسدتان عظيمتان: إحداهما وهي أشدها: سقوط عدالته، ولا تقبل شهادته، لأن الإنسان إذا جاء إلى منكر وجلس، وجلوسه حرام، فهو مجاهر بجلوسه في المنكر، وجلوسه منكر. والثانية: أنه قدوة، فيقع العوام بسبب تعاطيه ذلك في اعتقاد جوازه في الشرع، فيكون ذلك سبباً للإحداث في الدين. إذاً موقع القدوة مهم، إذا جعلك الله يا أخي قدوةً إماماً أو مدرساً، أو في أي مكان أنت فيه قدوة، حتى لو كنت أباً لأولادك أنت قدوة في البيت، فاحرص كل الحرص أن تعطي القدوة حقها، فلا تفعل منكراً، ولا تأته، ولا تجلس في مكانه، لماذا قيل في الصلاة على المجاهر بالمعصية المصر عليها أن أهل العلم والفضل لا يصلون عليه؟ لو جيء برجل معروف بشرب الخمر، أو مات منتحراً، أو مات بالمخدرات، جيء به إلى شيخ إمام معروف، أو عالم، أو داعية مشهور، فينبغي ألا يصلي عليه، ويقول: صلوا على صاحبكم، لماذا؟ لأنه موقع القدوة.

السلف في موقع القدوة

السلف في موقع القدوة نحن أيها الإخوة! ينقصنا قدوات، وينقصنا تحقيق موقع القدوة، قال الليث بن سعد: كنت في المدينة مع الحجاج وهي كثيرة السرجين، أي: الزِّبل من كثرة دواب الحجاج، فكنت ألبس خفين خفاً على خف، فإذا بلغت باب المسجد، نزعت أحدهما ودخلت، فقال يحيى بن سعيد الأنصاري: لا تفعل هذا، فإنك إمام منظور إليه، يريد لبس خف على خف، على مسألة بسيطة، قال: انتبه يا ليث أنت إمام ينظر إليك. وفي مجلس البخاري رحمه الله رفع إنسان قذاة من لحيته وطرحها في الأرض في المسجد، قال الراوي: فرأيت محمد بن إسماعيل ينظر إليها وإلى الناس، فلما غفل الناس، رأيته مد يده ورفع القذاة من الأرض، فأدخلها في كمه، فلما خرج من المسجد، أخرجها وطرحها في الأرض، فكأنه صان المسجد عما تصان عنه اللحية، فكان أبو عبد الله محط الأنظار، قدوة. ولذلك نقلت القصة، وكان هناك من يراقب ويشاهد، لأن هؤلاء أئمة، والإنسان إذا خالط القدوات يتعلم ويستفيد، ولذلك يقول أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله: زرت أحمد بن حنبل، فلما دخلت عليه بيته قام فاعتنقي، وأجلسني في صدر المجلس، فقلت: يا أبا عبد الله أليس يقال صاحب البيت، أو المجلس أحق بصدر بيته، أو مجلسه؟ قال: نعم، نعم هو أحق، لكن يقعد ويقعد من يريد، وأنا أردت أن أوثرك، فأقعدتك. فقلت في نفسي: خذ إليك أبا عبيد فائدة، ثم قلت: يا أبا عبد الله لو كنت آتيك على حق ما تستحق، لأتيتك كل يوم، فقال: لا تقل ذلك، فإن لي إخواناً لا ألقاهم في كل سنة إلا مرة، أنا أوثق في مودتهم ممن ألقى كل يوم، مع أني ما أراهم في السنة إلا مرة لبعد البلدان والانشغالات ونحو ذلك، لكني أحبهم أكثر من بعض الناس الذين أراهم يومياً، ذلك الغائب أحب إلي، قلت: هذه أخرى يا أبا عبيد، أي: لا يلزم أن يكون من لا يرى باستمرار مكروهاً، أو أقل محبة. فلما أردت القيام، قام معي، قلت: لا تفعل يا أبا عبد الله، قال: قال الشعبي: من تمام زيارة الزائر أن تمشي معه إلى باب الدار، ويؤخذ بركابه، قلت: يا أبا عبد الله من عن الشعبي؟ قال: ابن أبي زائدة عن مجالد عن الشعبي، قلت: يا أبا عبيد هذه الثالثة. نحن يا إخوان! ينقصنا الآن نقصاً حاداً جداً وجود القدوات، وجود القدوات في المدرسين والمدرسات، فهناك مدرس خلف سور المدرسة يدخن والطلاب في الطابور، وأخلاقه شرسة، ومدرسة تقول: الكعب العالي ممنوع يا بنات، واللباس لا بد أن يكون محتشماً، وهي كعب حذائها ارتفاعه كبير، والفتحة في تنورتها طويلة، وهناك أبٌ مقصرٌ في الصلاة ويريد من أولاده أن يصلوا، ويشاهد التلفزيون ويريد من الأولاد الامتناع، كيف سيحدث هذا؟!!

نقص في وجود الدعاة وأهل العلم

نقص في وجود الدعاة وأهل العلم عندنا نقصٌ حادٌ في وجود الدعاة، وأهل العلم، ومفاتيح الخير في الناس، فعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر، وإن من الناس مفاتيح للشر مغاليق للخير، فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه، وويلٌ لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه) رواه ابن ماجة رحمه الله وصححه الألباني نفس الله عنه وشفاه) إن من الناس مفاتيح للخير) المفتاح: آلة فتح الباب المعروفة، والمقصود: أن الله أجرى على أيدي هؤلاء العباد مفاتيح للخير، أجرى على أيديهم فتح أبواب الخير للناس، يفتحون للناس باب علم، أو باب صلاح، أو باب هداية، حتى كأنهم صاروا مفاتيح كأن المفاتيح وضعت في أيديهم، فيقال: هذا جعل الله مفاتيح الخير على يديه. أثنى النبي عليه الصلاة والسلام عليهم قال: (طوبى) طوبى لذلك، فمن الناس من يشتغلون بالخير ويشغلون غيرهم للخير، فيعمل حلقةً، فيأتي أصحابه إليها يستفيدون، أو يعمل مشروعاً خيرياً، فيشترك فيه الناس، فينتفع آخرون، وينتفعون هم، وينتفع هو في الدرجة الأولى، وهكذا يمشي في إصلاح بين الخلق، فيحصل الصلح وترجع المياه إلى مجاريها، ويرجع الوئام ويتصل حبل المودة، وتنصلح أحوال الأسرة، أو أحوال الشركاء المختلفين، فهذا الإنسان من مفاتيح الخير. ونحن في وضعنا الذي نعيش فيه نحتاج حاجةً ماسةً إلى مفاتيح الخير هؤلاء، لو قلّ أهل الخير في المجتمع؛ فإننا على خطر عظيم، روى الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن بشر، قال: لقد سمعت حديثاً منذ زمان، يقول: (إذا كنت في قوم عشرين رجلاً، أو أقل، أو أكثر، فتصفحت في وجوههم، فلم تر فيهم رجلاً يُهاب في الله، فاعلم أن الأمر قد رق) إذا صرت في مكان، في شركة، أو مكتب، أو مدرسة، فنظرت في عشرين رجلاً حولك لم تر فيهم واحداً من يُهاب لله، فاعلم أن الأمر قد رق، وأن أمر الدين صار رقيقاً ليس متيناً. ينقصنا دعاة، لأننا في حال بئيس، الناس يعيشون أزمة في العقيدة، وأزمة في الأخلاق، وأزمة علاقات اجتماعية، فيهم شرك، وفيهم بدعة، وفيهم معاصٍ، وفيهم موبقات، وتفكك أسري، وتناحر، وعصبية، وكيد، وسحر، وعين، من كل الجهات، إذا جئت تنظر؛ وجدت شراً كبيراً، ما الذي يصلح الأمر؟ وجود الدعاة إلى الله عز وجل الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، ونحن نعلم أن مهمة التغيير مهمة شاقة وصعبة. إن عمر بن عبد العزيز رحمه الله لما تولى المهمة العظيمة وشعر بحجم المسئولية، والخلافة تولاها على المسلمين، قال: "إني أعالج أمراً -أكافح وأناضل وأصارع، وأبذل الجهد- لا يعين عليه إلا الله، قد شب عليه الصغير، وهرم عليه الكبير، وهاجر عليه الأعرابي، وفصح عليه الأعجمي حتى حسبه الناس ديناً لا يرون الحق غيره". تعودوا على منكرات وأخطاء، شبوا عليها ونشئوا حتى صاروا يرونها حقاً، وأنا جئت أريد أن أغير "إني أعالج أمراً لا يعين عليه إلا الله" ابتداءً من الشرك الموجود في عصرنا بين المسلمين الذين يسألون غير الله، ويطلبون من أصحاب القبور قضاء الحوائج. ذهب موحدٌ فاضلٌ إلى أحد شيوخ الصوفية، فقال له: دعاء غير الله حرام وشرك، إذا سألت فاسأل الله، بدلاً من أن تقول: يا عبد الله وتنادي الميت، قل: يا ألله! قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأعراف:194] قال: يا ابني هذه آية وهابية ما لك فيها!! وذهب أحد الأفاضل إلى شيخ من هؤلاء، فقال له: إن الاستغاثة بالأموات حرام وشرك، والأدلة من القرآن والسنة كذا كذا، فقال ذلك الضال: فقط أنت عندك أدلة، أنا عندي أدلة، قال: وما هو دليلك؟ قال: عمتي تقول: يا شيخ سعد، أي: تنادي الولي سعد تستغيث به، فهذا دليل.

واقع الأمة المزري

واقع الأمة المزري فإذا ذهبت تنظر يا أخي في واقع الأمة فيما أصابها من الشرك الأكبر فضلاً عن الشرك الأصغر، لوجدت ذلك منتشراً معشعشاً. وإذا نظرت في قضية البدع، لوجدت أموراً لا يحصيها إلا الله. وعلى مستوى التفكك الأسري طلاق، ومهاجرات، وخصومات، وقضايا، وتشرد أولاد، وعدد كبير من حالات الانحراف في الفتيات وفي الأولاد في البيوت المفككة. فلانة أبوها طلق أمها ثم انتقلت إلى بيت جدتها، الرقيب ضعيف، فانحرفت البنت. وأخرى أبوها طلق أمها، ثم عاشت في بيت زوج أمها، لم تجد الرعاية، فانحرفت البنت، وانتقلت إلى بيت خالها، فحصل السوء، وهكذا التفكك يولد الفجور. وعلى مستوى الانحطاط الأخلاقي هناك أفلام وقنوات، وفحش في الأطباق الفضائية وأناس تستأجر شقة مفروشة بخمسين ريالاً في الليلة إلى الصباح ليسهروا على القنوات التافهة التي تأتي بها أجهزة مركبة على الصحون الفضائية، واشتراكات في القنوات ومواقع على شبكة نسيج العنكبوت الإنترنت، ودسكات كمبيوتر متداولة بأيدي المراهقين في المدارس المحملة بالأشياء القذرة حتى في شهر رمضان، والبريد الإلكتروني يرسل الفحش، وأشياء منتشرة كانتشار النار في الهشيم. ما الذي يصلح هذا الحال؟ قيام دعوة إلى الله بقوة لإصلاح الخلق ودعوتهم إلى الله بترقيق قلوبهم، وتذكيرهم ووعظهم. وترى التشبه بالكفار أمراً منتشراً متفشياً قد يصيب البعض باليأس، فقد دخلت داعية من الداعيات إلى مسرح مدرسة لإلقاء كلمة في الطالبات، فهالها وأصابها الإحباط أن كل ما رأت بعينها كان أحمر اللون، الطالبة التي ليست معها وردة حمراء معها شال أحمر، أو قفاز أحمر، أو حقيبة حمراء، أو منديل أحمر، لماذا هذا؟ عيد الحب، انتهت الورود الحمراء من المحلات في ليلة، إنها مصيبة وكارثة، البنات في المتوسطة يقلدنَ الكفار في عيد الحب. إن انتشال هؤلاء وإصلاح الأوضاع بحاجة ماسة إلى دعاة، الوضع يحتاج إلى حركة في الدعوة إلى الله، وإصلاح المجتمع، وإصلاح الخلق، وبذل الجهد في هذا، ما أسهل الهدم! وما أصعب البناء! والإنسان الداعية يأخذ أجر من اتبعه على الهدى الذي يدعو إليه إلى يوم القيامة، ولو تسلسل الناس الذين تعلم كل واحد من الآخر. ثم الداعية من فضله قد ينتج شخصاً أفضل منه، قد يكون داعية يدعو أحد الناس، وهذا الشخص يتفوق على الداعية مستقبلاً في العلم والقدرات والإمكانات ونصرة الدين، ولكن ذلك الأول مع أنه أقل في الإمكانات، لكنه لما أنتج هذا وهذا وهذا، سيكون له شيءٌ عظيمٌ من الأجر. ويقول أبو سليمان الداراني: اختلفت إلى مجلس قاص، واعظ، فأثر كلامه في قلبي، فلما قمت، لم يبق في قلبي منه شيء، فعدت إليه ثانيةً، فأثر كلامه في قلبي بعدما قمت وفكرت، ثم عدت إليه الثالثة، فأثر كلامه في قلبي حتى رجعت إلى منزلي، فكسرت آلات المخالفات، عود، وطنبور، وربابة، ومزمار، وطبل، والآن الشاشات والأفلام. أحد الشباب حضر جنازة عظيمة لامرأة نحسبها من الصالحات، فلما رأى كثرة الناس اتعظ من منظر الجنازة وهو ذاهب إلى المقبرة أخذ أشرطة الغناء من السيارة كلها وألقاها في الشارع. فالإنسان قد يتأثر فعلاً ويتعظ في لحظات، يقول أبو سليمان: أول مرة كان التأثير ضعيفاً، وفي المرة الثانية حصل التأثير في الشارع، وفي المرة الثالثة رجعت إلى منزلي فكسرت آلات المخالفات، ولزمت الطريق المستقيم، فحكيت هذه الحكاية لـ يحيى بن معاذ بعد سنين أي عندما صار أبو سليمان رجلاً مشهوراً ومعروفاً بالزهد والورع والعبادة والذكر، قال يحيى: عصفورٌ اصطاد كركياً -يبدو أن الكركي هذا نوع نادر ونفيس من الطيور- فقال: عصفورٌ اصطاد كركياً، أي: يقول: انظر سبحان الله! هذا القاص مثل: العصفور، لكن اصطاد لنا هذا الشخص العظيم. فالداعية له أجر وفضل، فليحرص الدعاة على دعوة الخلق وإنتاج الصالحين؛ لأنهم إذا بثوا في المجتمع، حصل نفعٌ كبيرٌ.

الثبات

الثبات وينقصنا فيما ينقصنا الثبات، لأن الإنسان قد يهتدي من داعية، وقد يهتدي من شريط يسمعه، أو محاضرة، وقد يهتدي من موت قريب، أو من منامٍ يراه، أو من مرض يمرض به، أو من حادث أو يرى الموت بعينه، ويقول: نجوت الآن وفي المرة القادمة لعلي لا أنجو، فيهتدي، لكن يحتاج إلى الثبات على الهداية. ولذلك نقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] ونكررها في الصلاة مراراً، زدنا هداية وثبتنا على الصراط المستقيم، ومعنى التكرار هنا طلب المزيد وطلب الثبات والدوام، والثبات مهم؛ لأن وضع المجتمعات الحالية التي يعيش فيها المسلمون، وفيها من أنواع الفتن والمغريات التي نكتوي بنارها يومياً، وشبهات وشهوات تبث بسببها صار الدين غريباً، وانطبق المثل العجيب: القابض على الدين كالقابض على الجمر.

الثبات في زماننا هذا

الثبات في زماننا هذا وحاجتنا اليوم إلى الثبات على الدين أشد من حاجة الناس المسلمين في العصور الأولى، لما كان المجتمع نظيفاً، وكانت الدنيا عامرة بذكر الله، ويندر أن ترى منكراً عامراً في الشوارع لقلة من يرتكب المنكر وكثرة من يُنكر، فلما انعكست الأمور في ندرة الإخوان وضعف المعين، وقلة الناصر، وفساد الزمان، صرنا نرى كثرة حوادث ردة وانتكاس ونكوص على الأعقاب حتى من بعض الذين كانوا ممن يشار إليهم، مما يحمل المسلم على الخوف من أمثال تلك المصائر، ويتلمس الثبات. فالثبات مسألة متعلقة بالقلب، وإنما سمي القلب من تقلبه، إنما مثل القلب كمثل ريشة تقلبها الريح ظهراً لبطن وبطناً لظهر، ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام كان كثيراً ما يدعو: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) الداعي هو الرسول صلى الله عليه وسلم أشد الأمة إيماناً وثباتاً على الدين، فما بالنا نحن؟!!

من أسباب الثبات

من أسباب الثبات ثم إن الثبات هذا له أسباب منها: أناس يوفقهم الله أن يكونوا عناصر مثبتة لغيرهم، خذوا هذا المثل من أهل جواثى من أهل الأحساء، لما أرسل النبي عليه الصلاة والسلام العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى العبدي، فأسلم وأسلم على يديه قومه، وأقام فيهم الإسلام والعدل، وبعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام تُوفي المنذر بعده بقليل، فلما مات المنذر، ارتد أهل البحرين، وقال قائلهم: لو كان محمد نبياً، ما مات، ولم يبق بـ الأحساء كلها على الثبات -هذا كلام ابن كثير - ولم يبق منها بلدة على الثبات سوى قرية يقال لها جواثى، وكانت أول قرية أقامت الجمعة ونجت من أهل الردة، كما ثبت ذلك في البخاري عن ابن عباس. أهل جواثى حاصرهم المرتدون، وضيقوا عليهم حتى منعوا عنهم الأقوات، فجاعوا جوعاً شديداً حتى فرج الله عنهم، وقال رجلٌ منهم، من أهل جواثى المسلمين الثابتين المحاصرين، وقد اشتد عليه الجوع: ألا أبلغ أبا بكرٍ رسولاً وفتيان المدينة أجمعينا فهل لكمُ إلى قومٍ كرامٍ قعودٌ في جواثى محصرينا كأن دماءهم في كل فجٍ شُعاع الشمس يعشي الناظرينا توكلنا على الرحمن إنا وجدنا الصبر للمتوكلينا ما لنا إلا الصبر، والقتل فينا والجوع والحصار، يقول ابن كثير رحمه الله: وقد قام فيهم رجلٌ من أشرافهم وهو الجارود بن المعلى، وكان ممن هاجروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً وقد جمعهم، فقال: يا معشر عبد القيس إني سائلكم عن أمرٍ، فأخبروني إن علمتموه، ولا تجيبوني إن لم تعلموه، فقالوا: سل، قال: أتعلمون أنه كان لله أنبياء قبل محمد؟ -صلى الله عليه وسلم- قالوا: نعم، هناك أنبياء قبل محمد، قال: تعلمونهم، أو رأيتموهم؟ الشيء هذا علمتموه، أو رأيتم الأنبياء؟ قالوا: نعلمهم علماً، قال: فما فعلوا؟ قالوا: ماتوا، قال: فإن محمداً صلى الله عليه وسلم مات كما ماتوا، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فقالوا: ونحن أيضاً نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأنت أفضلنا وسيدنا، وثبتوا على إسلامهم، وتركوا بقية الناس فيما هم فيه، وبعث الصديق رضي الله عنه وأرضاه العلاء بن الحضرمي، وحصل بعد ذلك ما حصل من رجوع الناس إلى الإسلام. إذاً في موقف الشدة، أحدهم ينقذ الموقف، ويثبت الناس، قال هؤلاء: لو كان محمدٌ نبياً ما مات، فقام وقال هذه الكلمة، فثبت الله به الناس.

التربية

التربية ومما ينقصنا أيها الإخوة! في تحصيل الثبات: التربية، فقد يوجد شيء من العلم والإيمان، والهداية، لكن المعدن ليس مصقولاً كما ينبغي، فينا نواقص، وفينا خروق، وعيوب، وضعف، فالمسألة لا بد فيها من بناء، فلا يصمد في وجه هذه القلوب القاسية إلا البنيان الثابت، والبنيان الثابت لا يمكن أن يتم إلا بالتربية العلمية الواعية المتدرجة الإيمانية التي تحيي الضمير بالخوف من الله والرجاء في ثوابه والمحبة له المنافية للجفاء والقسوة. التربية العلمية القائمة على الدليل الصحيح المنافية للتقليد والتبعية الذميمة، التربية الواعية التي تعرف سبيل المجرمين وخطط أعداء الإسلام، وتحيط بالواقع علماً وبالأحداث فهماً وتقويماً وهي التربية المتدرجة التي تسير بالمسلم شيئاً فشيئاً إلى كماله.

تربية الرسول للصحابة

تربية الرسول للصحابة كان الصحابة يتلقون ألوان التربية والتثبيت من النبي عليه الصلاة والسلام، ولذلك ثبتوا حتى في الظروف الصعبة القاسية في مكة مع الشدة والحصار، كان أحدهم يضرب حتى لا يستطيع أن يستوي قاعداً من الضرب، وحتى يأكل الجعلان. عن خباب بن الأرت، قال: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردةً له في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ ألا ترى ما نحن فيه من الشدة؟ فجلس محمراً وجهه، فقال: كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض، فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار، فيوضع على رأسه، فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظمٍ، أو عصبٍ، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون) رواه البخاري. وعن أنس بن مالك عن أبي طلحة، قال: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع، ورفعنا عن بطوننا عن حجرٍ حجرٍ) كل واحد مربوط على بطنه حجر من الجوع (جئنا نشتكي إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فرفعنا عن بطوننا، كل واحد في بطنه حجر، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حجرين) وهكذا كان الثبات والتربية، كان يُوضع في وقت الجوع والمخمصة ألواح من الحجارة يشد على البطن حتى يعتدل الظهر وتبرد حرارة الجوع فتضغط على المعدة حتى لا يحس الإنسان بخلوها، يستعينون بها على مواجهة المجاعة.

العلم الشرعي

العلم الشرعي ومما ينقصنا العلم الشرعي، سألني شخص أن أمه تصلي المغرب أربع ركعات، ولا تقرأ الفاتحة إلا في الركعة الأولى، وهذا يقول: إنه مسح على جوربيه سنوات طويلة بغير طهارة، أي: لو نقض الوضوء، يمسح على الجوربين ولو لبسها بغير طهارة، يقول: ما كنت أدري أنه لا بد من طهارة للبس الجورب، وهذا الذي تجلس بجانبه فيقرأ لك الصابرين والصادقين والقانتين والمنافقين والمستغفرين بالأسحار، أي: ذلك الرجل الذي قرأ من زمان ذلك الكتاب ولا زيف فيه، أي: تقول: ما كان هناك نقط في المصحف، أما الآن فهو منقط ومشكول، وانظر الأخطاء. ويقول لك بعض من يطلب العلم: هذا قرأناه في كتاب المحْلِي والمُغَنِي، سبحان الله! المحلى لـ ابن حزم، والمغني، ليس المغَني، والمربع صار، المربَّع، وهذا يقول: من هو الإمام (مقيده) الذي يكثر كان الشنقيطي النقل عنه؟ الإمام مقيده من هو؟ الشنقيطي يقول: قال مقيده عفا الله عنه، مقيده أي: الذي كتب الكتاب، يقول: هذا مقيده الشنقيطي يكثر النقل عنه، من هو الإمام (الباقون)؟ كل لحظة: قرأ الباقون، قرأ الباقون، الباقون أي: باقي القراء السبعة. وهناك باحث في رسالة ماجستير وتحقيق مخطوطة، يقول في التعريف: ويبدو أن أباه كان عالماً بالقراءات، أي: أبو المصنف كان عالماً بالقراءات، فإنه كثيراً ما يقول في كتابه: وقرأ أبي وقرأ أبي، وهي: قرأ أُبيّ، وهذا استنبط أن أبا المصنف كان عالماً بالقراءات، هذا باحث ماجستير. فيا إخواني! الجهل صار في هذه الأمة متفشياً عجيباً مؤلماً وحالات مضحكة، وهناك أمور من الأساسيات تختفي، تمارس علينا القنوات الفضائية غزواً فكرياً شريراً جداً جداً يهز الثوابت في نفوس العامة. مثلاً: استقر في نفوس العامة أن الربا حرام، ألف بألف ومائة حرام. فصار الكلام يدور الآن، وبدأ بعض العامة فعلاً تتخلخل عندهم قضية أن الربا حرام. مثلاً: تعدد الزوجات، نتيجة الهجوم على هذا المبدأ؛ بدأ بعض العامة يقولون: النساء وبعض النساء، وغير ذلك. إذاً: الثوابت تهتز ومعنى ذلك أن هناك خللاً كبيراً بسبب ضياع العلم عند بعض الناس.

العمل بالعلم الشرعي

العمل بالعلم الشرعي ثم نحتاج بعد قضية التعلم العمل بالعلم، فقد يوجد عند كثير من الملتزمين بالدين أطراف من العلم، لكن بكم يعملون منها؟ (مثل علم لا يعمل به كمثل كنزٍ لا ينفق منه في سبيل الله) موقوف على أبي هريرة. قال حفص بن حميد: دخلت على داود الطائي أسأله عن مسألة أشكلت، وكان كريماً، فقال: أرأيت المحارب إذا أراد أن يلقى الحرب، أليس يجمع آلته؟ قال: نعم، قال: فإذا أفنى عمره في الآلة، فمتى يحارب؟ شخص يجمع ويجمع، ثم لا يستعمل. والعلم ليس بنافعٍ أربابه ما لم يفد عملاً وحسن تبصرِ سيان عندي من لم يستفد عملاً به وصلاة من لم يطهرِ صلاة بلا طهارة مثلها مثل هذا العلم الذي لا يعمل به، علمٌ بلا عمل كشجرة بلا ثمرة. يقول عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يقرءون القرآن أنهم كانوا يستقرئون النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا تعلموا عشر آيات، لم يخلفوها حتى يعملوا بما فيها من العمل، فتعلمنا القرآن والعمل جميعاً. يقول ابن الجوزي رحمه الله: وجدت رأي النفس في العلم حسناً، أي: النفس مقبلة على التعلم، فهي تقدمه على كل شيء، وتفضل ساعة التشاغل به على ساعات النوافل، غير أني رأيت كثيراً ممن شغلتهم النوافل عن العلم قد ضلوا، ولكن في المقابل علم بدون تطبيق ولا ممارسة، قال: رأيت نفسي واقفةً مع صورة التشاغل بالعلم فصحت بها، فما الذي أفادك العلم؟ أين الخوف؟ أين التعلق؟ أين الحذر؟ أما سمعت بأخبار أخيار الأحبار في تعبدهم واجتهادهم؟! أما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد الكل؟! ثم أنه قام حتى ورمت قدماه؟! أما كان أبو بكر شديد النشيج كثير البكاء؟! أما كان في خد عمر خطان من آثار الدموع؟! أما كان عثمان يختم القرآن في ليلة؟! أما كان علي يبكي بالليل في محرابه حتى تخضل لحيته بالدموع، ويقول: [يا دنيا غري غيري]؟! أما كان الحسن يحيا على قوة التعلق بالله؟! أما كان سعيد بن المسيب ملازماً للمسجد، فلم تفته صلاة الجماعة أربعين سنة؟! أما صام الأسود بن يزيد حتى اخضر واصفر؟! أما قالت بنت الربيع بن خثيم له: ما لي أرى الناس ينامون وأنت لا تنام؟! قال: إن أباكِ يخاف عذاب البيات، أما صام يزيد الرقاشي أربعين سنة وهو يقول: وا لهفاه سبقني العابدون وقطع بي؟! أما كان سفيان الثوري يبكي الدم من الخوف؟! أما كان إبراهيم بن أدهم يبول الدم من الخوف؟! أما تعلمون أخبار الأئمة الأربعة في زهدهم وتعبدهم أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، احذري من الإخلاد إلى صورة العلم وترك العمل به. كان الأولون إذا نقلوا المعلومة؛ تجد الجدية في النقل، إذا سمع شيئاً أثر فيه، يقول سعد بن عبيدة: جلست أنا ومحمد الكندي إلى عبد الله بن عمر، ثم قمت من عنده، فجلست إلى سعيد بن المسيب، فجاء صاحبي وقد اصفر لونه، وتغير وجهه، فقال: قم إليَّ، قلت: ألم أكن جالساً معك الساعة؟ فقال سعيد: قم إلى صاحبك، فقمت إليه، فقال: ألم تسمع إلى ما قال ابن عمر؟ قلت: وما قال؟ قال: أتاه رجلٌ، فقال: يا أبا عبد الرحمن أعليَّ جناحٌ أن أحلف بالكعبة؟ قال: ولم تحلف بالكعبة؟ إذا حلفت بالكعبة، فاحلف برب الكعبة، فإن عمر كان إذا حلف قال: كلا وأبي، فحلف بها يوماً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تحلف بأبيك، ولا بغير الله، فإنه من حلف بغير الله، فقد أشرك) رواه الإمام أحمد. حديث سمعه رجل فقام مصفراً وجهه متغيراً لونه مما سمع من القصة، ولذلك ينبغي أن يكون عندنا تدقيق، وجدية في طلب العلم، وينبغي أن يكون عندنا عمل بالعلم، وأن يكون هناك أدب في الطلب، فإن بعض الشباب قد يتحمس في الطلب، لكنه لا يرزق أدباً، فيسيء مع الشيخ، ويسيء في السؤال، أو في الأسلوب، أو في الجلسة، أو في الاعتراض. عن عميرة قال: إن رجلاً قال لابنه: اذهب فاطلب العلم، فخرج فغاب عنه ما غاب، ثم جاءه فحدثه بأحاديث، فقال له أبوه: يا بني اذهب، فاطلب العلم، فغاب عنه أيضاً زماناً، ثم جاءه بقراطيس فيها كتبٌ فقرأها عليه، فقال له: هذا سوادٌ في بياض، اذهب فاطلب العلم، فخرج، ثم غاب عنه ما غاب، ثم جاءه، فقال لأبيه: سلني عما بدا لك، فقال له أبوه: أرأيت لو أنك مررت برجلٍ يمدحك ومررت بآخر يعيبك، ماذا تفعل؟ قال: إذاً لم ألُم الذي يعيبني، ولم أحمد الذي يمدحني، قال: أرأيت لو مررت بصفيحة ذهبٍ؟ قال: إذاً لم أهيجها، ولم أقربها، فقال: اذهب، فقد علمتَ. الآن جاء العلم، لما حصل الزهد في كلام الناس، والزهد في الدنيا، وقد شابهه ابن القيم في كلامه الذي قلناه في أول الدرس، قطع الطمع بالدنيا وقطع الطمع بكلام الناس هذا علامة الإخلاص. ينبغي أن يكون عندنا اشتغال بالطاعات، وقيام بالحقوق الشرعية عند حدوث المهمات والمُلِمَّات واستنفار عند حضور مواسم العبادة. لما تولى عمر بن عبد العزيز، أتى بزوجته فاطمة، فخيرها بين أن تقيم معه على أنه لا فراغ له إليها، وبين أن تلحق بأهلها، فبكت، وبكت جواريها من بكائها، فسمعت ضجةٌ في دارهم، ثم اختارت مقامها معه على كل حال رحمها الله، وقال له رجل: تقرب إلينا يا أمير المؤمنين، فأنشأ يقول: قد جاء شغلٌ شاغلٌ وعدلت عن طرق السلامة ذهب الفراغ فلا فراغ لنا إلى يوم القيامة هذه المهمة العظيمة ليست لطلب الفراغ، فقد انتهى الفراغ، وهكذا ينبغي أن يشغل الوقت بطاعة الله عز وجل.

اغتنام الأوقات في طاعة الله

اغتنام الأوقات في طاعة الله ينقصنا اغتنام الأوقات بطاعة رب البريات، قعد أحد السلف إلى رجل يقص له شاربه، فصار يذكر الله أي حرك الشفتين، فتضايق الحلاق، قال: اقفل حتى تقص، قال: أنت تعمل وأنا أعمل. ومرة جاء ابن حجر رحمه الله إلى المدرسة المحمودية ليخرج المفتاح، فاتضح له أنه نسي المفتاح في البيت، فأمر بنجار يأتي ليعمل مفتاحاً، وقام يصلي -فوراً قام يصلي- فجاء النجار وعمل المفتاح، فقال أحد الطلاب: لو أمرتني، لذهبت إلى بيتك وأتيتك بالمفتاح، فقال: نعمل في الوقت والمفتاح الثاني يفيدنا. وكان بعض العلماء يقلل الأكل؛ لأنه يحتاج إلى شغل ودخول الخلاء زيادة، والبخاري قال: اغتنم في الفراغ فضل ركوعٍ فعسى أن يكون موتك بغتة وكان بعض العلماء إذا قرأ عليه التلميذ من كتاب، والتلميذ عنده خطأ، أو عنده في الكتاب خطأ، فالتلميذ سيسكت عن القراءة ليصلح الخطأ، فكان الشيخ إذا توقف التلميذ، يذكر الله بصوت خفي حتى يفرغ الطالب من تصحيح الخطأ ويعاود القراءة، ولذلك من تأمل السلف في اغتنامهم لأوقاتهم، يقول أحدهم: لا يحل لي أن يذهب عني وقت بدون طاعة، تدريس، أو دراسة، أو قراءة، أو تلاوة، وحتى إذا استلقى ليرتاح وغمض عينيه، فهو يذكر الله، وحتى لو ما ذكر الله، فهو يتأمل في المسائل ويتأمل في عظمة الله تعالى، هكذا كانوا يفعلون، ونحن ينقصنا هذا المبدأ نقصاً شديداً.

الاهتمام بالسنن

الاهتمام بالسنن ينقصنا فيما ينقصنا الاهتمام بالسنن، والحرص عليها، بعض الناس يرى أن هذه أشياء تافهة، وأشياء جانبية وقشور، ابن عمر رضي الله عنهما لما رأى رجلاً قد أناخ راحلته لينحرها، قال له: [ابعثها قياماً مقيدةً سنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم] فالسنة أن تنحر الناقة قائمة معقولة الرجل اليسرى، تنحر في لبتها، فعند ذلك تطيح، فإذا وجبت، أي: طاحت: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج:36] لقد كانوا يهتمون بالسنن. يقول أبو غالب: صليت مع أنس بن مالك على جنازة رجل، فقام حيال رأسه -وضع الجنازة وقام مقامه خلف رأس الميت مباشرة- ثم جاءوا بجنازة امرأة من قريش، فقالوا: يا أبا حمزة صل عليها، فقام حيال وسط السرير، أي: الجنازة، فقال له العلاء بن زياد: أهكذا رأيت النبي صلى الله عليه وسلم قام على الجنازة مقامك منها، ومن الرجل مقامك منه؟ قال: نعم، فلما فرغ، قال العلاء: احفظوا هذه السنة. واستأجر أبو داود قارباً ليقطع النهر ويرد على رجل عطس وحمد الله ويقول له: يرحمك الله، وهذا الحديث: (فليقل له: يرحمك الله) أي: يُسْمِعه، فمن السنة أنك تشمته إذا سمعته قال الحمد لله، ولا تقل في سرك: يرحمك الله، بل تُسْمِعه: (فليقل له: يرحمك الله). وكان أبو بكر الحديدي شديد الحرص على السنة، لا يسامح أحداً في شيء من أدائها، وكان معه مقراض -مقص- فمن رأى شاربه طويلاً قصه، أي: أنه يحمل مقصاً في يده فإذا رأى شخصاً شاربه طويل يقص له شاربه، فإن امتنع، تبعه يقول: وا ديناه، وا سنة نبياه، وويجلس ويقص له شاربه. فالشاهد هو الحرص في إنشاء هذا الدين كله مهما كانت المسائل كبيرة أو صغيرة، يجب أن يقام به ويحرص عليه.

الرجولة

الرجولة لو تأملنا يا إخوان في حال هذه الأجيال التي نراها، لوجدنا عندنا نقصاً كبيراً في اتضاح معاني الرجولة، الرجولة التي أثنى الله عليها: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} [القصص:20] {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} [يس:20] {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} [غافر:28] {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة:108] {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} [النور:37] {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب:23]. تمنى كل واحد من أصحاب عمر أمنيتين، فلما جاء دور عمر، قال: [لكني أتمنى ملء هذه الحجرة رجالاً أمثال أبي عبيدة]. فتأمل في هذا الجيل، ماذا ترى؟ إنه ضعف وخور وميوعة، وانحلال، وتأنُّث، وكسل، ودنو همة، وعدم تحمل مسئولية، وبطالة، نريد رواحل ونريد رجالاً، يعتمد عليهم في حمل الدين والعلم والدعوة، وحمل المشاق، ومواجهة الأعداء، والرد على الشبهات، وإفحام خصوم الإسلام قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الناس كالإبل المائة لا تكاد تجد فيها راحلة) رواه البخاري. قال الشراح: المقصود في الحديث أقوالاً منها: لا تجد في مائة من الناس من يصلح للصحبة بأن يعاون رفيقه ويلين جانبه، وقيل المراد: إن أكثر الناس أهل نقص، وأما أهل الفضل فعددهم قليلٌ جداً، فهم بمنزلة الراحلة في الإبل، وقيل المعنى: إن الزاهد في الدنيا الكامل في صفاتها، الراغب في الآخرة قليل كقلة الراحلة في الإبل، قال النووي: هذا أجود، وأجود منه قول آخرين: إن المرضي الأحوال من الناس الكامل الأوصاف قليل. وقال القرطبي: الذي يناسب التمثيل أن الرجل الجواد الذي يحمل أثقال الناس والحمالات عنهم ويكشف كربهم عزيز الوجود كالراحلة في الإبل الكثيرة، فتَحمُل المسئوليات ما يطيقه أي أحد، ولا بد أن يتربى الجيل على تحمل المسئوليات. الآن حتى الخطوط والكتابة سيئة، الإملاء سيئ، القراءة سيئة، يصل إلى رابع ابتدائي وأخطاؤه في القراءة والكتابة عجيبة جداً، لا يتحمل الواحد أن يعمل شيئاً اطلع إلى فوق هات الحقيبة، انزل إلى تحت هات كذا، وشغل الأطفال مشغلة الخدم. يقول ابن كثير عن الوليد بن عبد الملك: كان أبواه يطرفانه، فشب بلا أدب، وكان لا يحسن العربية، وكان إذا مشى يتوكف في المشية، أي: يتبختر، وقد روي أن عبد الملك أراد أن يعهد إليه، أي: في الخلافة بعده، ثم توقف؛ لأن ولده لا يحسن العربية! فجمع الوليد جماعةً من أهل اللهو عنده -الآن لما اقترب الموت، أراد أن يصحح خطأ كذا سنة- فجمع له أهل اللهو، فأقاموا سنةً عند الوليد، وقيل ستة أشهر، فخرج يوم خرج أجهل مما كان. وسنعود إلى مسألة التربية، ثم الأولاد والزوجات بعد قليل إن شاء الله. كنا نتكلم أيها الإخوة! عن قضية الرجولة وحمل المسئوليات والجدية، الجدية المنافية للهزل، والآن تجد هزلاً كثيراً، وكثرة ضحك، وميوعة، لقد كان السلف يقاومون هذه الحركات، قال عبد الله بن المبارك عن الحسن البصري: قال رجل لأخيه: هل أتاك أنك وارد النار؟ قال: نعم. {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم:71] قال: هل أتاك أنك صادرٌ عنها؟ هل عندك إثبات أنك تنجو؟ قال: لا، قال: ففيمَ الضحك؟! وتحت قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ} [الجاثية:27] أورد ابن كثير رحمه الله القصة التالية: قدم سفيان الثوري المدينة، فسمع المعافري يتكلم ببعض ما يُضحك به الناس، فقال له: يا شيخ! أما علمت أن لله تعالى يوماً يخسر فيه المبطلون؟ قال: فما زالت تُعرف في وجهه حتى لحق بالله تعالى، أي: حتى مات وموعظة سفيان تعرف في وجهه وفي سمته، قلّ الهزل والضحك، صار الجد والإقبال والعمل، والآن كثر الضحك وقل العمل، وكثر الهزل وقل الجد، وهذه مصيبة أن تكون في الجيل، لا بد من جدية، إنهم لا يصبرون على ساعة علم، ويسمعون أشرطة الأناشيد بالساعات. قال لي أحد الشباب: دخلت على محل تسجيلات. نظرت (بيانو) عند الميكرفون، وهو آلة موسيقى والآن يقول لك: مؤثرات صوتية، إذاً ما هي النتيجة، إذا كانت النتيجة هي نفس آلات الغناء، إذاً ذهب الناس في الألحان وتركوا القرآن والله المستعان!!

حسن التصرف والتضحية

حسن التصرف والتضحية ينقصنا فيما ينقصنا حسن التصرف والتضحية وهذه المرة سنأخذها من النساء، يقول الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا يعقوب، حدثنا أبي عن ابن إسحاق، قال: حدثني يحيى بن عبد الله بن الزبير أن أباه حدثه عن جدته أسماء بنت أبي بكر قالت: [لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج معه أبو بكر احتمل أبو بكر ماله كله] ترك البنات في البيت عائشة وأسماء صغاراً، وحمل ماله كله، خمسة آلاف درهم، أو ستة آلاف درهم [قالت: فانطلق بها، فدخل علينا جدي أبو قحافة، وقد ذهب بصره، فقال: والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه]. أظن أن أباكم هذا هاجر وفجعكم بنفسه وماله، [قالت: قلت: كلا يا أبتِ إنه قد ترك خيراً كثيراً، قالت: فأخذت أحجاراً، فتركتها، فوضعتها في كوة البيت كان أبي يضع فيها ماله، ثم وضعت عليها ثوباً، ثم أخذت بيده، فقلت: يا أبتِ، أي: يا جدي، ضع يدك على هذا المال، فوضع يده عليه، فقال: لا بأس، إن كان قد ترك لكم هذا، فقد أحسن، وفي هذا لكم بلاغ، قالت: لا والله ما ترك لنا شيئاً، ولكني قد أردت أن أسكن الشيخ بذلك] هذه أسماء هي البنت التي رباها أبوها. ينقصنا في حسن التصرف التدبير في المعيشة، والاقتصاد في المعيشة، اليوم إسراف كثير، مصروفات لا داعي لها، ثم ينتهي المرتب قبل نهاية الشهر، ثم استلاف بسبب قلة التدبير.

الاعتزاز بالإسلام

الاعتزاز بالإسلام ينقصنا فيما ينقصنا: أن نعتز بإسلامنا، وأن نكون في غاية النباهة لمؤامرات أعدائنا خصوصاً وقد كثرت جداً في شتى أنحاء العالم في كلامهم وحركاتهم ومؤامراتهم وحروبهم، يعملون لنا شتى المؤامرات، ولا بد أن يكون لنا عزة واستبانة لسبيل المجرمين، والواحد قد يفوت على الأعداء شيئاً عظيماً بنباهته. والمسلم لا يستذل، ولا يرضى بالهوان، يقول ابن عباس: كان ناس من الأسرى يوم بدر لم يكن لهم فداء من المشركين -ليس عندهم أموال يفتدون بها أنفسهم- فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فداءهم أن يعلموا أولاد الأنصار الكتابة، يعلموا أولاد المسلمين، فإذا أتقن الكتابة، أطلقنا سراحه، فجاء يوماً غلام يبكي إلى أبيه، غلام مسلم جاء إلى أبيه يبكي، فقال: ما شأنك؟ قال: ضربني معلمي، قال: الخبيث يطلب بزحل، والزحل: هو الثأر والانتقام. قال: الخبيث يطلب بزحل بدر والله لا تأتيه أبداً، هذا الضرب لأنه كافر مأخوذ أسير يريد أن ينتقم، فأفرغها في هذا الولد ضرباً. ما كان مسلماً.

الأخلاق وحسن المعاملة

الأخلاق وحسن المعاملة فينبغي أيها الإخوة! أن يكون عندنا ومتوافر لدينا وهو مما ينقصنا أيضاً: الأخلاق: حسن المعاملة مع زوجاتنا وأولادنا وإخواننا وزملاء العمل، وبين البائع والمشتري. اشترى قوم من الليث بن سعد سلعة على أساس أن يستغلوها فندموا وما حصلوا الشيء المطلوب، فجاءوا إليه وقالوا: أقل البيع، قال: قد أقلتكم، مع أن الإقالة قد يكون فيها خسارة. ثم أرسل لهم مالاً إضافياً، فقال له ولده: ما الأمر؟ الآن أقلتهم، ثم أرسلت إليهم مالاً، قال: اللهم غفراً، إنهم كانوا قد أملوا فيه أملاً، فأحببت أن أعوضهم عن أملهم، فالسلعة أرجعناها ونزلنا على رغبتهم وعوضناهم الأمل الذي كانوا يؤملونه وفات عليهم. وأعطى منصور بن عمار ألف دينار، وقال: لا تُسمع بهذا ابني، فتهون عليه، فبلغ ذلك شعيب بن الليث هذا تربية أبيه، فأعطى منصور بن عمار تسعمائة وتسعة وتسعين ديناراً، الابن لما سمع أن أباه أعطى ألف دينار فأعطى تسعمائة وتسعة وتسعين ديناراً، فقال: إنما نقصتك هذا الدينار لئلا أساوي الشيخ في عطيته، حتى لا أساوي أبي، احتراماً لأبي، هذا الولد تعلم الكرم من شيخه محمد بن شهاب الزهري، قال: ما رأيت أسخى منه قط، كان يعطي كل من جاء وسأله، حتى يستلف من أصحابه ويعطي الناس. ومرة جاءه أعرابي والزهري ليس عنده شيء، قال: يا عقيل أعطني عمامتك وسأعطيك خيراً منها، فأخذ العمامة وأعطاه إياها، فأعطاه الأكل بعد ذلك. وعاش الإمام أحمد مع زوجته عشرات السنين، قال: عشت أنا وأم صالح، فلم نختلف يوماً قط، والآن تهديد بالطرد من البيت هذا إذا لم يطردها فعلاً، أو هي تغلق عليه الباب، أو تخنقه بعقاله، أو تقول: يا بخيل ما فيك خير، ما تجود لنا ولا تنفق علينا، والصياح يصل للجيران، وهذه أهل زوجها عملوا سحراً!! وهذه سحرت زوجها احتياطاً حتى لا يتزوج عليها!!

تربية الأولاد

تربية الأولاد أما مسألة تربية الأولاد التي أشرنا إليها قبل قليل، فيا إخواني مما ينقصنا جداً -والله- ضياع الجيل، لا توجد اهتمامات ولا متابعة للصلوات، ولا توجد متابعة في حفظ القرآن، في إنقاذهم من الأخلاق السيئة: كالكذب وغيره. ونأخذ عبرة من حياة امرأة، إنها فاطمة بنت أحمد حمدون الشقيلي كانت من الزاهدات العابدات، لما توفي بعلها ترك لها ثلاثة أولاد: الأول: نحو سبع سنين، والثاني: نحو أربع سنين، وأختهما ولها سنتان، فألزمت ولديها قراءة القرآن وحفظه، وكان الزمان إذ ذلك شديد الأهوال والجوع والقحط والغلاء الذي أفضى ببعض الناس والعياذ بالله إلى قتل أولادهم؛ لأنهم لا يجدون طعاماً يعطونهم إياه، وقد أُكِلَ الأموات جهاراً في شوارع فاس - المغرب - فكانت تجتهد في الكسب، وفي العمل بيديها بما يحصل قوتها وقوتهم، وكان خالها محمد بن خلف الأنصاري يشتري لها كتاناً تغزله ويبيعه لها، ويشتري لها بما زاد قمحاً وشعيراً تصنع منه خبزةً واحدةً تجعلها في قربة زيت كانت عندها فقط في البيت حتى تروى ثم تخرجها فتقسمها أرباعاً لكل ولد ربع وتأكل هي ربعاً، وعلى ذلك عاشوا تلك المجاعة، وكانت تستيقظ من آخر الليل، فتغزل غزلاً آخر غير الغزل الذي في النهار وهي تذكر الله, وتتركه حتى تجمع منه ما تنسج به حلةً أجرة معلم الأولاد، لأنها تريد أبناءها يحفظون القرآن، وهي مشتغلة في تعليمهما، ومجتهدة في إرشادهما، وراغبة في إصلاحهما، فوفى الله تعالى بقصدها وبحسن نيتها وأجابها إلى مرغوبها وأتم أولادها حفظ القرآن. من الأهمية بمكان الاعتناء بتربية البنات، فالفتاة التي لا علم لديها، لا يتمكن الإيمان في قلبها، ولا تستطيع أن تربي أولادها كما يجب، وقد اجتهد بعض الدعاة في بعض القرى على وضع منهج لتعليم النساء والفتيات، فلم تمض مدة وجيزة حتى كانت البيوت تحن بالقراءات والتعليم، وصرن يحفزن الرجال على أعمال الخير، وطالما عيرنهم على المظالم، وعلى ما يرتكبون منها.

تربية الزوجة

تربية الزوجة أما تربية الزوجة، فقد كان عبد الله بن رواحة واضعاً رأسه في حجر امرأته، فبكى فبكت، ثم قال: ما يبكيك؟ قالت: رأيتك تبكي فبكيت، قال: إني تذكرت قول الله عز وجل: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم:71] فلا أدري أنجو منها أم لا. هذه طائفة من الأشياء التي تنقصنا وما ينقصنا كثير، ولكن أكتفي بما تقدم وأسأل الله عز وجل أن يجعلنا جميعاً هداةً مهتدين، وأن يغفر لنا ذنوبنا أجمعين، ويسدد خللنا إنه سميعٌ مجيبٌ قريبٌ، والحمد لله رب العالمين.

الأسئلة

الأسئلة كنت أريد أن أذكر في آخر كل درس بعض الفتاوى التي استفدتها من الشيخ/ عبد العزيز بن باز رحمه الله نشراً لعلمه وفضله، وإفادة فيما كان قد أفتى به رحمه الله.

دفع العربون ثم غاب

دفع العربون ثم غاب Q سألته رحمه الله عن رجلٍ اشترى سلعة من رجل، فدفع المشتري إليه عربوناً، وبقيت السلعة لدى البائع، وغاب المشتري سنة ولا ندري أين هو؟ فماذا يفعل؟ A فأجابني: بأنه إذا لم يتمكن من العثور عليه، باع السلعة، وأخذ بقية حسابه، وتصدق بالباقي عن المشتري.

حكم الأسنان الزائدة

حكم الأسنان الزائدة Q وسألته عن فتاة كسرت سنها، ولو بردته لإصلاحه لصار أقصر من الذي بجانبه، فيحتاج الثاني إلى بردٍ أيضاً، فهل يجوز لها الأخذ منهما؟ A فقال لي: الظاهر أنه لا بأس به، ليس من التفليج، وهذا شين وعيب مثل: السن الزائدة والإصبع الزائدة، وما شابه ذلك.

حكم إزالة شعر الجبهة إذا كثر في المرأة

حكم إزالة شعر الجبهة إذا كثر في المرأة Q سألته رحمه الله هل يجوز للمرأة أن تزيل شعر الجبهة إذا كثر؟ A فقال: هذا يكون تشويهاً، وأخذه ليس من النمص.

اشتراط المؤجر على المستأجرين عدم وضع دش

اشتراط المؤجر على المستأجرين عدم وضع دش وأيضاً نكمل بعض الأسئلة من فتاوى الشيخ/ محمد بن صالح بن عثيمين حفظه الله. Q قلت له: هل يجب على صاحب العمارة في هذه الأيام أن يشترط على المستأجرين عدم وضع دش؟ A قال: نعم، إذا غلب على ظنه أنهم يركبونه، فيجب أن يشترط عليهم.

حكم هدايا الطلاب والطالبات لمدرسيهم

حكم هدايا الطلاب والطالبات لمدرسيهم Q وسألته حفظه الله أيضاً عن هدايا الطالبات للمدرسات، وهدايا الطلاب للمدرسين، فسألته عن ثلاث حالات: المدرس الذي يدرس الطالب الآن، والثاني: المدرس الذي يُحتمل أن يدرسه في المستقبل، وإن كان لا يدرسه الآن، والثالث: المدرس الذي لا يدرسه الآن، ولن يدرسه في المستقبل المنظور مثل: الطالب الذي يتخرج من الجامعة، والمدرس في المدرسة باقٍ. A فقال الشيخ/ محمد: لا يجوز أن يقبل هدايا طلاب الموضوع الأول، أو الثاني، وأما النوع الثالث فإذا انقطعت الصلة ولا يدرسه وأعلنت النتائج، فقال: لا بأس بها.

حكم هدايا المدرسات للمديرة

حكم هدايا المدرسات للمديرة Q وسألته سؤالاً عن هدايا المدرسات للمديرة إذا كانت المديرة تهديهن في المناسبات، في الولادة، وفي القيام من مرض، أو القدوم من سفر، وهكذا؟ A فقال: إذا كانت الهدايا متبادلة أصلاً، فلا بأس بذلك، وإلا تكون رشوة.

الدراسة في الطب وطلب العلم الشرعي

الدراسة في الطب وطلب العلم الشرعي نأتي الآن إلى بعض ما جاء من أسئلة الإخوان: Q أنا طالب في كلية الطب أرغب في طلب العلم الشرعي وليس لدي وقت؟ A يا أخي! لا يوجد شيء اسمه ليس لديك وقت، لابد من إيجاد وقت، أي: أما عندك ربع ساعة في الليل؟ أما عندك خميس وجمعة؟ أما عندك إجازة سنوية؟ إذاً يوجد، لأن الطالب يدرس في السنة سبعة أشهر أو ثمانية، فإذا أزلت الخميس والجمعة هذا الوقت يجب أن يغتنم.

تعريف القدوة

تعريف القدوة Q من هو القدوة؟ A الذي يتمثل الإسلام في واقعه ويطبق الأحكام هذا هو القدوة.

حكم تحديد اللحية

حكم تحديد اللحية Q ما حكم تحديد اللحية؟ A اللحية هي الشعر النابت على العارضين والذقن، فلا يجوز الأخذ من أي شعر نابت على العارضين والذقن، لأنه من اللحية لا تقصيراً، ولا تحديداً، ولا غير ذلك، لأنه عليه الصلاة والسلام قال: (أعفو اللحى) (أرخوا اللحى) (وفروا اللحى) (وخالفوا المشركين) ورخص بعض العلماء بالأخذ ما زاد عن القبضة.

حال التشهد مع الإمام للمتأخر في الصلاة

حال التشهد مع الإمام للمتأخر في الصلاة Q دخلت المسجد والإمام في الركعة الثالثة عند قراءة الفاتحة، وعندما يجلس الإمام للجلوس الأخير هل أقرأ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، أو التحيات فقط؟ A اقرأ التحيات والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كلها.

التلحيد في الأرض الرملية الرخوة

التلحيد في الأرض الرملية الرخوة Q التلحيد عندنا إذا كانت الأرض رخوة رملية وعمل اللحد صعب؟ A إذاً يكون الشق هو المعمول به ما دام أن هذه طبيعة الأرض.

مثبطات في طلب العلم

مثبطات في طلب العلم Q كلما أردت أن أتوجه لطلب العلم تأتيني بعض المثبطات من الوساوس؟ A خذ معك رفيقاً يطلب معك العلم ويشجعك ويحمسك.

بدائل عن الأجهزة التي يشاهدها الأولاد

بدائل عن الأجهزة التي يشاهدها الأولاد Q البدائل عن الأجهزة التي تعود الأولاد على مشاهدتها؟ A نحن إذا لم نحبب إليهم القراءة، فلن تكون القراءة بديلاً، وإذا لم نحبب إليهم الطيبين ومرافقة الأخيار، فلن تكون مكتبات المساجد بديلاً، وإذا لم نحبب إليهم حفظ القرآن، فلن تكون حلق التحفيظ بديلاً، وإذا لم نحبب إليهم الرياضات المفيدة، فلن تكون بديلاً، فنحن إذا اتبعنا الطريقة النافعة والجيدة والمجدية في تحبيب أطفالنا بهذه الأشياء، فستكون بديلاً، ولكن لا بد أن نعرف ما ذكرت عائشة رضي الله عنها أن البنت الحديثة السن الحريصة على اللهو، قالت: [اقدروا قدر الجارية الحديثة السن الحريصة على الوقت] لماذا لما حرمت الشريعة التماثيل وصور ذوات الأرواح والمجسمات، أباحت استثناءً ألعاب البنات: هيكلاً، ورأساً ويدين ورجلين، هيكل جسم، بدون تفاصيل دقيقة، لماذا؟ لأجل إشباع رغبة البنت في اللهو، وتعويد البنات على الأمومة، لأن تعويد البنات على الأمومة مصلحة كبيرة أكبر من هذه المفسدة، فإذاً لا بد أن نحرص على لعب الأطفال، نأخذهم إلى البحر ليسبحوا وإلى البر ليلعبوا، وإلى أماكن طيبة، تعمل لك أنت مع إخوانك وقت، أي: درس أسبوعي للأولاد فيه جزءٌ لعبٌ وجزءٌ جدٌ. اجتمع مجموعة من الطيبين واستأجروا مدينة ألعاب لا يدخلها غيرهم، قالوا: تعال كم تأخذ في اليوم؟ كم دخل الأسبوع؟ مثلاً كم تحصل من العصر إلى العشاء؟ لو أخذنا منك ثلاثة آلاف، ألفين، ألف وخمسمائة، وجمعوا ثلاثين، أربعين، أولاد هؤلاء جاءوا وجعلوا يلعبون بهذه الألعاب بدون موسيقى بدون انحراف، انتقوا مكاناً مناسباً، إما استراحة، أو مزرعة، فنحن ينبغي أن نحرص على اللهو المباح للأولاد مع إفادتهم.

نصيحة للمبتدئين في الالتزام

نصيحة للمبتدئين في الالتزام Q النصيحة للمبتدئين بالالتزام؟ A أنا أنصح بالاتجاه إلى الله بالتعبد، وممارسة العبادات، ففي ممارسة العبادات فائدة عظيمة: صيام، وقيام، وذكر، وتلاوة القرآن، وأدعية إلى الله، ومناجاة.

التربية بالمحفزات

التربية بالمحفزات Q يحدث من بعض أوساط الشباب أن بعض الشباب يُربى تحت تأثير المحفزات التربوية حتى يصبح لا يكاد يقوم بعمل إلا بوجود محفز؟ A ليس هناك مانع، لكن بشرط أن يكون المحفز صحيحاً، فلو كان المحفز دائماً كلمات، فأسلوب التربية خطأ، لكن لو كان المحفز الأجر والثواب من الله؛ فهذا صحيح طيب، فالمحفز ليس بشرط أن يكون ثناءً وهديةً وجائزةً، لا، لا بد أن تكون محفزات أخروية تدخل في التربية. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

ظاهرة الفحش والبذاءة

ظاهرة الفحش والبذاءة إن ظاهرة السب والشتم واللعن ظاهرة اجتماعية سيئة تفشت بين أوساط المجتمع الإسلامي، ولقد كان نبينا عليه الصلاة والسلام صاحب المنزلة العالية في الآداب الحميدة والكلام الحسن والابتعاد التام عن فحش القول وزوره، وقد حذر من هذه الظاهرة القرآن العظيم والسنة المطهرة في مواضع كثيرة، فواجبنا تجاه هذه الظاهرة بترها وقطع دابرها حتى يعيش الناس على ألفاظ القرآن والسنة، ومجانبة الألفاظ التي تؤذي المسلمين.

آداب النبي صلى الله عليه وسلم في الكلام

آداب النبي صلى الله عليه وسلم في الكلام إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. عباد الله! حديثنا في هذه الخطبة عن ظاهرة اجتماعية سيئة عمت كثيراً من الخلق، وهي متعلقة باللسان الذي هو أسهل الأعضاء حركة (وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم) وهذه الظاهرة هي ما نراه من انتشار السب واللعن والشتم في أوساط المسلمين، واستعمال الألفاظ البذيئة، فلا تكاد تدخل في سوق، أو محل، أو تجلس في مجلس إلا سمعت أشياء كثيرة، فضلاً عن الطرقات، والمدارس وغيرها من مجتمعات الناس. وهذه الظاهرة ظاهرة السب والشتم واللعن والبذاءة في الكلام قضية خطيرة، لا ينبغي التساهل فيها أبداً [لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا متفحشاً] رواه البخاري ومسلم. والفحش هو ما قبح من القول والفعل، وشر الناس منزلة عند الله من تركه الناس اتقاء فحشة، فترى هؤلاء ينطقون بالأقوال الأثيمة، وأحدهم عينه غمازة، ولسانه لمازة، ونفسه همازة، وحديثه البذاءة، لا يذكر أحداً إلا شتمه، ولا يرى كريماً إلا سبه وتعرض له بالسوء. والسب والشتم والطعن: التكلم في عرض الإنسان بما يعيبه، وهو فسوق وخروج عن طاعة الله تعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بالغ في المعاتبة قال: (ما له ترب جبينه) وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله يبغض الفاحش المتفحش البذيء) وقال: (إن الله لا يحب كل فاحش متفحش) وقال: (إن الله يبغض كل جعظري جواظ، صخاب بالأسواق، جيفة بالليل، حمار بالنهار، عالم بالدنيا، جاهل بالآخرة) والجعظري هو: الغليظ المتكبر، والجواظ هو: الجموع المنوع، والصخاب هو: كثير الصياح. وهذه أوصاف تنطبق على كثير من الناس غالب أحاديثهم ألفاظ شنيعة مستبشعة، يأتون بها من الأماكن القذرة، وحديثهم من المراحيض، وفي العورات، وأسماء الدواب والبهائم على ألسنتهم، واللعن جارٍ عليها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق) أي: يخرج عن طاعة الله تعالى، وقال: (ساب مؤمن كالمشرف على الهلكة) وقال: (المستبان شيطانان يتهاتران ويتكاذبان)، وقال صلى الله عليه وسلم: (أربى الربا شتم الأعراض) (أتدرون من المفلس؟ إن المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا الحديث) وفي آخره: (فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، حتى إذا فنيت حسناته، أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار). إذاً: عقوبة السب والشتم، والطعن واللعن، والفحش في القول يكون يوم القيامة، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم موصياً أحد الصحابة: (اتق الله! ثم قال له: وإن امرؤٌ شتمك وعيرك بأمر ليس هو فيك، فلا تعيره بأمر هو فيه، ودعه يكون وباله عليه، وأجره لك، ولا تسبن أحداً). إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرضَ من عائشة فعلاً معيناً كان في أعداء الدين، فقد استأذن رهط من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: السام عليكم- وكانوا يعنون بذلك الموت- أو يقولون: السِّلام عليكم- أي: الحجارة- فقالت عائشة رضي الله عنها- وقد فطنت لما قالوا وكانت نبيهة ذكية- قالت: وعليكم السام واللعنة، وفي رواية: عليكم السام ولعنة الله، وغضب الله عليكم، وفي رواية: عليكم السام والذام- أي: الموت والذم- هذه الكلمات التي تلفظت بها في حق هؤلاء اليهود، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المربي لزوجته: (يا عائشة! لا تكوني فاحشة) وفي رواية: (مه يا عائشة! فإن الله عز وجل لا يحب الفحش والتفحش، قالت: ألم تسمع ما قالوا؟ قال: قد قلت: وعليكم) رد بكلمة واحدة ليس فيها فحش ولا تفحش، وقال: (أوليس قد رددت عليهم الذي قالوا؟) هذا كلامها رضي الله عنها في هؤلاء.

استخدام ألفاظ الكناية في الكتاب والسنة

استخدام ألفاظ الكناية في الكتاب والسنة إن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم قد نهيا عن الفحش، ولا يريد الشارع أن يتعود لسان المسلم على السب والشتيمة واللعن مطلقاً، وتأمل طريقة القرآن في الكناية عما يستبشع ذكره ويستحيا منه. ألم تر أن الله كنّى عن الجماع بالملامسة، والمباشرة، والإفضاء، والرفث، والسِّر، قال ابن عباس: [المباشرة الجماع، ولكن الله يكني، أو يُكنِّي] وقد قال أيضاً: [إن الله كريم يكنِّي ما شاء، وإن الرفث هو الجماع].

ألفاظ الكناية في القرآن

ألفاظ الكناية في القرآن قال العلماء: من أسباب الكناية في القرآن: أن يذكر بالكناية ما يفحش ذكره في السمع، فيكني عنه بما لا ينبو عنه الطبع، وقد قال الله تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} [الفرقان:72] ومما قيل في تفسيرها: أي: كنوا عن لفظه ولم يوردوه على صيغته، وقد قال تعالى: {وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً} [البقرة:235] فكنى عن الجماع بالسر، وقال: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} [البقرة:187] فكنى عن الجماع بالمباشرة لما فيها من التقاء البشرتين، وقال: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء:43] بدلاً من الجماع، إذ لا يخلو الجماع من ملامسة، وكنى كذلك بقوله: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة:187] واللباس من الملابسة وهي الاختلاط الحاصل عند الجماع. وكذلك قال في آية أخرى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة:223] فكنى عنها بالحرث، وقال تعالى في قصة امرأة العزيز: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف:23] فطلبت منه ما تطلب المرأة من الرجل، فعبر عن ذلك بالمراودة. وقال كذلك في الجماع: {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ} [الأعراف:189]. وكنى عما يخرج من الإنسان من الفضلة في قصة مريم وابنها {كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} [المائدة:75] قال بعض أهل العلم بالتفسير: "أراد أيضاً مع الأكل البول والغائط، فأخبر بالمسبب إذ لابد للإنسان من البول والغائط، لكن لما كان مما يستقبح كنى عنه بذلك، وأراد أن يقول: إن مريم وابنها يأكلان الطعام ويخرجان الفضلات، ولا يمكن لأحدهما أن يكون إلهاً، فإن الله تعالى منزه عن ذلك". وقال عز وجل: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [المائدة:6] والمقصود بالغائط قسيم البول، ما يخرج من الإنسان من الفضلة، ولكن قال: الغائط، وهو المكان المنخفض من الأرض، لأن العرب كانوا إذا أرادوا قضاء حاجاتهم أبعدوا عن العيون إلى مكان منخفض من الأرض، حتى إذا نزل أحدهم فيه ليقضي حاجته لا يرى، فكنى عنه بالغائط، فانظر إلى لطيف اللفظ، وكيف يعلمنا الله الأدب في كتابه. وقال: {وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرُجُلِهِنَّ} [الممتحنة:12] ومعلوم ماذا يوجد بين أرجلهن، فالكناية عن الزنا، وكنى عن الاست بالدبر، فقال: {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [الأنفال:50].

ألفاظ الكناية في السنة النبوية

ألفاظ الكناية في السنة النبوية أما النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كان في غاية الأدب وهو يتحدث بتلك الأحاديث مما يعلم منه سلامة لسانه صلى الله عليه وسلم، وعفته. روى البخاري عن عائشة -رضي الله عنها- أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن غسلها من المحيض، فأمرها كيف تغتسل، قال: (خذي فرصة من مسك، فتطهري بها) ومعنى فرصة: أي قطعة من القطن أو الصوف قد أصابها المسك لتطييب المكان بالرائحة الطيبة، فقالت المرأة: (كيف أتطهر؟ قال: تطهري بها، قالت: كيف؟ قال: سبحان الله! تطهري) وفي رواية قالت أم المؤمنين: فاستحيا النبي صلى الله عليه وسلم، فعلمت ما أراد، قالت: فاجتبذتها إليّ، فقلت: تتبعي بها أثر الدم، طهري واغسلي ونظفي مكان الدم من الداخل، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (سبحان الله! تطهري بها) ولم يزد على ذلك. وكان عليه الصلاة والسلام حيياً أشد حياءً من العذراء في خدرها، ولما أراد أن يعلم الأمة متى يجب الغسل، قال: (إذا جاوز الختان الختان، فقد وجب الغسل)، وفي رواية: (إذا مس الختان الختان، فقد وجب الغسل) وقال صلى الله عليه وسلم لما سألته امرأة عن المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل، هل عليها من غسل؟ فقال: (نعم إذا رأت الماء) وقال: (الماء من الماء) فسمى ما يخرج من الرجل عند الجنابة ماء، وقال باللفظ اللطيف: (الماء من الماء)، فغسل الجنابة ماؤه واجب من الماء الذي يخرج، وكذلك إذا مس الختان الختان. هل تراه ذكر أسماء العورات كما يذكرها الناس اليوم والتي يعبرون عنها بأبشع الألفاظ، وأسوأ العبارات، وهذا نبيهم صلى الله عليه وسلم بهذا العفاف والطهر، ولكنهم لا يتعلمون منه، وترى المجالس يذكر فيها من أبشع الألفاظ وأسوأ العبارات، مما يخدش الحياء، ويذهب المروءة، والناس ساكتون، ومنهم من يضحك ويشارك، والنكات القذرة لا تخفى عليكم مما يذكر فيه كثير من هذا. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم، فإذا أتى أحدكم الغائط، فلا يستقبل القبلة، ولا يستدبرها، ولا يستطب بيمينه) رواه أبو داود والنسائي وهو حديث صحيح. قال ابن الأثير رحمه الله: الاستطابة: الاستنجاء؛ لأن الرجل يطيب نفسه بالاستنجاء من الخبث، والاستنجاء أثر النجوة وهو الغائط، وهكذا إذاً كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، وحتى الرواة لما نقلوا الكلام والفعل والحركة كانوا في غاية العفاف. ففي رواية أبي داود في الحديث الصحيح، قال: (فإذا جلس في الركعتين جلس على رجله اليسرى)، يقول أبو قتادة واصفاً صلاته صلى الله عليه وسلم: (فإذا جلس في الركعة الأخيرة قدم رجله اليسرى، وجلس على مقعدته) فكنى واستخدم لفظ المقعدة فيما هو معلوم. وروى ابن ماجة في سننه في كتاب الطهارة -وهو حديث صحيح- عن عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغسل مقعدته ثلاثاً في التطهر من الغائط) وكذلك عندما كانت الاستفتاءات تأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بغاية الأدب، يقول: وقعت على أهلي، أو وقعت على امرأتي في رمضان أو نحو ذلك، ولا يفحشون، ولا يقولون فحش القول أبداً، كيف وهم أمام النبي صلى الله عليه وسلم؟! وهذه امرأة رفاعة القرظي جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت عائشة جالسة عنده، وعنده أبو بكر فقالت: يا رسول الله! إني كنت تحت رفاعة، فطلقني فبت طلاقي- أي: بالثلاث- فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير، وإنه والله ما معه يا رسول الله إلا مثل هذه الهدبة، وأخذت هدبة من جلبابها، تريد أنه ضعيف، لا يستطيع الوقاع والجماع، فكنّت بهذه الكناية اللطيفة، ما معه إلا مثل هذه الهدبة، فما تسمي شيئاً من العورة، أو تذكر شيئاً قبيحاً، ومع ذلك كان خالد بن سعيد بالباب لم يؤذن له، فقال: يا أبا بكر! ألا تنه هذه عما تجهر به عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يزيد على التبسم، لأن من حق المرأة أن تستفتي وتشتكي، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (لعلكِ تريدين أن ترجعي إلى رفاعة- أي: الزوج الأول- لا، حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته) وهي: كلمة فيها معنى اللذة، وهي إشارة إلى وجوب الوطء بالنكاح الثاني، حتى إذا طلقها عادت إلى الأول. فانظر إلى عفافه صلى الله عليه وسلم، وقارن بينه وبين ما يتلفظ به كثير من الناس في هذه الأيام، [وقد جاء رجل إلى عائشة -رضي الله عنها- وهو عبد الله بن شهاب الخولاني كما في صحيح مسلم، فقال: فنزلت عندها- نام ضيفاً- فقال: احتلمت في ثوبي فغمستهما بالماء، فرأتني جارية لـ عائشة فأخبرتها، فبعثت إلي عائشة، فقالت: ما حملك على ما صنعت؟ قال: قلت: رأيت ما يرى النائم في منامه- لاحظ الأدب في العبارة والنائم يرى أشياء كثيرة، لكن فيها إشارة إلى شيء معين- قالت: هل رأيت فيهما شيئاً؟ قلت: لا، قالت: فلو رأيت شيئاً غسلته، لقد رأيتني وإني لأحكه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم يابساً بظفري]. لقد عبر الصحابة عن التبول بإراقة أو إهراق الماء، وكان أحدهم يقول: أصابتني جنابة، وكان يقال في الحديث: حصل بعض ما يكون بين الرجل وامرأته، ومعلوم ماذا يكون، ومع ذلك فإنهم كانوا يستخدمون الألفاظ المؤدبة النظيفة في الكلام والخطاب. وكذلك ما يحدث بين الرجل وامرأته لا يجوز الحديث به مع أنها امرأته وحلال له، فقد روى الإمام أحمد رحمه الله تعالى؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لعل رجل يقول ما فعل بأهله، ولعل امرأة تخبر بما فعلت مع زوجها، فأرمَّ القوم- أي: سكتوا- قال عليه الصلاة والسلام: لا تفعلوا، فإنما مثل ذلك مثل شيطان لقي شيطانة فغشيها والناس ينظرون) هذا إذا حدث بالحلال الذي بينه وبين زوجته، فانظر -الآن- ماذا فعلوا في الإجازة الماضية من المنكرات والكبائر، وهم يتفوهون بها. فإذاً هذه الألفاظ المستبشعة المستشنعة، وما يكون بين الرجل وزوجته لا يجوز الحديث به أمام الناس من باب الأدب، والعفاف.

خطورة انتشار ظاهرة اللعن والسب بين الناس

خطورة انتشار ظاهرة اللعن والسب بين الناس كذلك من المصائب المنتشرة اليوم فيما يتعلق بهذا: انتشار اللعن، واللعن هو الطرد والإبعاد من رحمة الله تعالى، وهو منتشر كثيراً على ألسنة الناس، وقد أخرج البخاري ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لعن المؤمن كقتله) وروى مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ينبغي لصديق أن يكون لعاناً) قال العلماء: "يحرم لعن إنسان بعينه أو دابة". وأخرج أبو داود عن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن العبد إذا لعن شيئاً صعدت اللعنة إلى السماء، فتغلق أبواب السماء دونها، ثم تهبط إلى الأرض، فتغلق أبواب الأرض دونها، ثم تأخذ يميناً وشمالاً، فإن لم تجد مساغاً- أي: مسلكاً- رجعت إلى الذي لعن، فإن كان أهلاً وإلا رجعت إلى قائلها) إذا كان الملعون يستحق اللعن وقعت اللعنة، أو كان ممن لعنه الله تعالى أو رسوله، أو كان لعن الجنس كلعن اليهود والنصارى، أو لعن الفاسقين والمتبرجات، أو لعن النامصات والمتنمصات ونحو ذلك مما يجوز لعنه على وجه العموم، وإلا رجعت على صاحبها. حتى الدواب والبهائم والجمادات لا يجوز لعنها، فقد أخرج مسلم عن عمران بن حصين رضي الله عنه، قال: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، فضجرت امرأة من الناقة، فلعنتها، فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: خذوا ما عليها من المتاع، ودعوها، فإنها ملعونة) لا يمكن أن يصحبنا ملعون في السفر، قال عمران: فإني أراها الآن تمشي في الناس ما يعرض لها أحد، الدابة مهملة ولا أحد اقترب منها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (دعوها) فتركوها، فإذاً هكذا عقوبة تعزيرية للاعن (لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة) حديث صحيح. إذاً: أيها المسلمون هذا اللعن المنتشر بين الناس حرامٌ في حرام، ويرجع على قائله في العموم والغالب، وحتى قضية السباب والشتام إذا جاوز الإنسان المسبوب والمشتوم، فإنه يأثم {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء:148]، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث أن إثم السب والشتم على البادئ إلا أن يتعدى المظلوم، فيسب ويشتم بأكثر مما حصل، وإن ترك السب والشتم حتى لو كان مظلوماً، فهو أحسن وأطيب. فعن أبي هريرة أن رجلاً شتم أبا بكر والنبي صلى الله عليه وسلم جالس، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يعجب ويتبسم، وأبو بكر ساكت، فلما أكثر رد عليه بعض قوله، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقام، فلحقه أبو بكر فقال: يا رسول الله! كان يشتمني وأنت جالس، فلما رددت عليه بعض قوله غضبت وقمت! قال: (إنه كان معك ملك يرد عنك، فلما رددت عليه بعض قوله، وقع الشيطان، فلم أكن لأقعد مع الشيطان، ثم قال: يا أبا بكر! ثلاثٌ كلهن حق: ما من عبد ظلم بمظلمة فيغضي عنها لله عز وجل إلا أعزه الله بها ونصره الحديث) رواه الإمام أحمد رحمه الله تعالى. ولهذا ينبغي الامتناع والكف عن ذلك، وقد ضرب الصحابة المثل الرائع في هذا، فعن جابر بن سليم قال: (قلت: اعهد إليّ يا رسول الله- أوصني- قال: لا تسبن أحداً، قال: فما سببت بعده حراً ولا عبداً، ولا بعيراً ولا شاة) أخرجه أبو داود بإسناد حسن. كم بين هذا وبين ما يحدث الآن من السب والشتم واللعن في المجالس والهواتف، والدكاكين والمحلات، ومجتمعات الناس ظاهرة سيئة، ويسب الرجل زوجته، ويلعن أولاده، وحتى أقرب الناس إليه. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يطهر ألسنتنا وقلوبنا، اللهم إنا نسألك العفة والعفاف، اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا، واحفظنا يا رب العالمين. أقول قولي لهذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

أسباب نهي الشارع عن اللعن والسب

أسباب نهي الشارع عن اللعن والسب الحمد لله رب العالمين، هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وذريته الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه وأنصاره والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. عباد الله! إن التعود على السب والشتم عادة قبيحة جداً، وقد توقع -والعياذ بالله- في الكفر، كما إذا سب الله تعالى أو النبي صلى الله عليه وسلم أو الملائكة، ومن السب ما يحكم بكفر صاحبه، ومنه ما يوجب الحد كما إذا قذف بالزنا، ولو قال: أنت أزنى من فلان فعليه حدان، لأنه قذف رجلين، وبعض ذلك يقتضي التعزير، وقد اتفق الفقهاء على أن من سب ملة الإسلام أو دين المسلمين يكون كافراً. وكذلك نهى الشارع عن سب الدهر، فقال: (لا تسبوا الدهر) لأن سب الدهر يعود على خالق الدهر، وهو الله تعالى، إذ أن الدهر لا ذنب له، وتأمل في سب الناس اليوم للساعة والأيام والسنين. وأما سب الأموات بغير مصلحة شرعية، فمنهيٌ عنه، وهو يفضي إلى إيذاء الأحياء، وأما أقوال العلماء في السب في هذه الألفاظ المنتشرة، فإن بعض أهل العلم قد ذكروا أنه إذا سبه سباً لا يصل إلى القذف بالزنا، فإنه يعزر بالجلدات المناسبة، أو ما يراه القاضي لدرء ذلك. وذكر العلماء -رحمهم الله- في كتبهم أمثله لمن سب شخصاً بألفاظ مقذعة، أو قال: يا فاسق، أو يا فاجر، أو يا ديوث ونحو ذلك، فإنه يعزر تعزيراً رادعاً ينهاه وينهى أمثاله. وكذلك إذا شتمه ببعض أسماء البهائم، فإن بعض أهل العلم قد ذكروا -أيضاً- أنه يعزر في ذلك، وأما النطق بألفاظ الخنا على الملأ مما يستبشع، فإنه يسقط مروءة الإنسان، حتى قال بعضهم: لا تقبل شهادته، قال ابن الهمام رحمه الله: "إظهار الشتيمة مجون وسفه، ولا يأتي به إلا أوضاع وأسقاط".

حالات جواز الجهر بالسب والشتم

حالات جواز الجهر بالسب والشتم وهناك بعض الحالات التي يجوز فيها الجهر بالسب والشتم: كما إذا سب آلهة الكفار لإغاظتهم دون أن يكون هناك منكر أكبر من ذلك يترتب عليه، ولذلك قال أبو بكر رضي الله عنه للمشرك: [امصص بضر اللات]، وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من تعزى بعزاء الجاهلية- أي: تعصب العصيبة الجاهلية- فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا) أي: قولوها بصراحة اللفظ، من باب زجره، والمراد بهن أبيه، أي: ذكر أبيه، يقال له ذلك: اعضضه، إذا تعزى بعزاء الجاهلية. وكذلك في استنطاق القاضي للمعترف بالزنا، كما قال الصحابي في كلمة النبي صلى الله عليه وسلم لـ ماعز، ثم قال الصحابي، ولا يكني لأجل الحاجة، لأن المسألة فيها إزهاق روحه وقتله، فلا بد من استنطاقه باللفظ الصريح. وكذلك قال النووي رحمه الله تعالى: "يجوز للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، وكل مؤدب أن يقول لمن يخاطبه في ذلك الأمر ممن فعل شيئاً سيئاً: ويلك! أو يا ضعيف الحال! أو يا قليل النظر لنفسه! أو يا ظالم نفسه! وما أشبه ذلك، بحيث يؤدبه بمثل هذا، وهذه حاجة في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر". والحاصل أيها الإخوة! أن الباعث على الفحش إما أن يكون قصد إيذاء الناس، أو العادة التي جرت بمخالطة أهل الفسق واللؤم والخبث، فإن الاعتياد في مخالطة الفساق يسبب تكرار مجالستهم، والاستماع إليهم، والتعود على ألفاظهم، وزوال شناعتها من النفس، والتلفظ بها في تقليدهم والاقتداء بهم. وما فعلته الأقلام الهابطة في القصص السيئة الماجنة، والأفلام المنحطة، ما فعلته في نشر السباب والشتائم والألفاظ الشنيعة، وإزالة الحياء والكلام في العورات، والكلام في الرفث والجماع ونحو ذلك، أمر عظيم جداً، وأثره في الأجيال واضح للغاية، وأصحاب السوء، والناس في الشوارع الذين يتعلم منهم بقية الأولاد الصغار السباب والشتائم أمر واضح جداً. لقد أقيمت في بعض الأماكن مسابقة بعنوان: أبو عيون جريئة، يكون الفائز فيها أوقح الشبان وأقلهم حياءً وأدباً، فتصور ذلك في مجتمع من مجتمعات المسلمين إلى هذه الدرجة، من أوقح وأشد شناعة في لفظه هو الذي ينال الجائزة.

واجبنا تجاه انتشار ظاهرة اللعن والسب

واجبنا تجاه انتشار ظاهرة اللعن والسب فهذه الأشياء التي تنشر الفحش ينبغي بترها وقطع دابرها، وينبغي على الآباء أن يصونوا أولادهم عن مرافقة أهل السوء، ونحن الآن في بداية عام دراسي جديد، هل ذهبت يأيها الأب إلى المدرسة، وتفرست في وجوه الطلاب الذين يدرسون مع ولدك في الفصل الدراسي الذي هو فيه، فانتقيت له عدداً من الأخيار ولو قلوا، وقلت له: الزم هؤلاء ولا تتعداهم، وتسمح له بأن يزورهم ويزوروه؟ هذه مسئوليتك، ليست المسئولية شراء الأقلام والدفاتر، والمسارعة لتلبية احتياجات المدرسة، إنما الأهم من ذلك مراقبة الولد من هم أصحابه؟ من هم الذين يماشيهم ويحتك بهم؟ فإنهم مصدر أخلاقه، ومنبع عاداته. ولذلك فإن مسئولية الأب مسئولية عظيمة، وكل واحدٍ من الراشدين البالغين مسئولٌ عن نفسه في أصحابه الذين يماشيهم ويصادقهم، فإن صاحب الفحاشين صار فحاشاً، وإن صاحب النمامين المغتابين صار كذلك وهكذا أيها الإخوة. ولنذكر إخواننا في مطلع هذا العام الدراسي، بالاعتناء بتربية أبنائهم، وعدم الاكتفاء بذهابهم إلى المدرسة، ونذكر المدرسين بمسئوليتهم في التربية قبل التعليم، إذ أن هناك فرقاً بين التربية والتعليم، فليست القضية نقل المعلومات، وإنما تأديب الطلاب وتربيتهم على المنهج الإسلامي. وكذلك نذكر بالفقراء والضعفاء ممن يحتاجون إلى الصدقات حتى في شراء لوازم المدرسة، وقد أفتى أهل العلم بجواز دفع الزكاة لنفقة الدراسة للطالب الفقير؛ لأنها صارت حاجة في هذه الأيام، لا تنال شهادة أو وظيفة في الغالب إلا بها، بل حتى الزواج، ولذلك يجوز دفع الزكاة فيها، ما لم يكن فيها شرٌّ أو إثمٌ أو معصية. وكذلك أيها الإخوة! الشفاعة لمن يحتاج الشفاعة في قبول ولده في المدرسة ونحو ذلك، لقوله صلى الله عليه وسلم: (اشفعوا تؤجروا) ونحو ذلك ممن يستحق من المسلمين. نسأل الله عز وجل أن يجعل أعمالنا في طاعته، وأن يوفقنا إلى مرضاته. اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة في الدين والدنيا والآخرة، اللهم إنا نسألك العفة والعفاف، اللهم ارزقنا الطهر والصدق يا رب العالمين. اللهم انصر إخواننا المجاهدين، وافتح لهم بلاد الكفار والمشركين، اللهم عجل بنصرهم، اللهم رد إلينا القدس الشريف وأخرج اليهود منه أذلة صاغرين، اللهم عليك بهم يا رب العالمين وبسائر أعداء الدين أرغم أنوفهم، وأفشل خططهم، واجعل مكرهم تدميراً عليهم يا رب العالمين. اللهم إنا نسألك الأمن في البلاد، والصلاح للعباد. اللهم إنا نسألك الأمن في الأوطان والدور آمنا في أوطاننا، وارشد الأئمة وولاة الأمور، وارحمنا يا رحيم يا غفور. إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمة يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.

الصاحب في الهجرة

الصاحب في الهجرة أيها الإخوة: في هذا الدرس تعيشون مع أحد صحابة رسول الله، مع رفيقه وأنيسه ووزيره وأبي زوجته، تعيشون مع حادثة الهجرة مع النبي صلى الله عليه وسلم والصديق رضي الله عنه في أحداث الهجرة ومسائلها وما يستفاد منها.

هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأخبارها

هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأخبارها إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. وبعد: أيها الإخوة: حديثنا في هذه الليلة عن أحد أصحاب رسول الله، عن صاحبه ورفيق هجرته، وأنيسه في دربه، ووزيره ومواسيه في نفسه وماله، وأبي زوجته، وخليفته من بعده، {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر:33] في رحلته معه صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، وانتقاله ونقلة الدعوة معه من مرحلة إلى مرحلة، وصاحبه في ذلك الحدث الذي غير وجه الأرض في ذلك الوقت؛ وهو الحدث الذي أرّخ به المسلمون؛ إعلاماً للناس بأهمية هذه اللحظة وهذا الحدث وهو حدث الهجرة.

الروايات في حادثة الهجرة

الروايات في حادثة الهجرة روى البخاري رحمه الله تعالى عن عائشة رضي الله عنها؛ ذكرت الحديث الطويل وفيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين: (إني أُريت دار هجرتكم ذات نخلٍ بين لابتين وهما الحرتان) فهاجر من هاجر قبل المدينة، ورجع عامة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة، وتجهز أبو بكر قبل المدينة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (على رسلك، فإني أرجو أن يؤذن لي. فقال أبو بكر: وهل ترجو ذلك بأبي أنت؟ قال: نعم) فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه، وعلف راحلتين كانت عنده ورق السَمُر -وهو الخبط- أربعة أشهر. قال ابن شهاب قال عروة قالت عائشة: (فبينما نحن يوماً جلوسٌ في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعاً في ساعة لم يكن يأتينا فيها. فقال أبو بكر: فداءٌ له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر). قالت: (فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذن فأذن له، فدخل فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر: أخرج من عندك؟ فقال أبو بكر: إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله. قال: فإني قد أُذن لي في الخروج، فقال أبو بكر: الصحبة بأبي أنت يا رسول الله؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم. قال أبو بكر: فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بالثمن). قالت عائشة: (فجهزناهما أحث الجهاز، وصنعنا لهما سفرةً في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب؛ فبذلك سميت ذات النطاقين). قالت عائشة رضي الله عنها: (ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في غارٍ في جبل ثور فكمنا فيه ثلاث ليالٍ يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر؛ وهو غلامٌ شابٌ ثقفٌ لقنٌ فيُدلج من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بـ مكة كبائتٍ فلا يسمع أمراً يُكتادان به إلا وعاه، حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة من غنم فيريحها عليهما حتى تذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رسلٍ، وهو لبن منحتهما حتى ينعق بها عامر بن فهيرة بغلس، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث، واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلاً من بني الدِيل؛ وهو من بني عبد عدي هادياً خريتاً -والخريت الماهر بالهداية- قد غمس حلفاً في آل العاص بن وائل السهمي وهو على دين كفار قريش فأمناه فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليالٍ براحلتيهما صُبح ثلاثٍ، وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل؛ فأخذ بهم طريق السواحل). قال ابن شهاب: وأخبرني عبد الرحمن بن مالك المدلجي؛ وهو ابن أخي سراقة بن مالك بن جعشم أن أباه أخبره: أنه سمع سراقة بن جعشم يقول: (جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر دية كل واحدٍ منهما من قتله أو أسره، فبينما أنا جالس في مجلسٍ من مجالس قومي -بني مُدلج- أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جُلوس، فقال: يا سراقة إني قد رأيت آنفاً أسودة بالساحل -أشخاص- أُراها محمداً وأصحابه) قال سراقة: (فعرفت أنهم هم، فقلت له: إنهم ليسوا بهم، ولكنك رأيت فلاناً وفلاناً، انطلقوا بأعيننا، ثم لبثت في المجلس ساعةً، ثم قمت فدخلت فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي من وراء أكمة فتحبسها عليَّ، وأخذت رمحي فخرجت به من ظهر البيت فحططت برمحي الأرض وخفضت عاليه حتى أتيت فرسي فركبتها فرفعتها تُقرب بي حتى دنوت منهم، فعثرت بي فرسي فخررت عنها، فقمت فأهويت يدي إلى كنانتي فاستخرجت منها الأزلام فاستقسمت بها: أضرهم أم لا؟ فخرج الذي أكره. -أي: لا يمضي ويرجع- فركبت فرسي وعصيت الأزلام تُقرب بي حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتفت، وأبو بكر يُكثر الالتفات ساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها، ثم زجرتها فنهضت فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمةً إذا بأثر يديها عثانٌ ساطعٌ في السماء مثل الدخان، فاستقسمت بالأزلام فخرج الذي أكره، فناديتهم بالأمان، فوقفوا، فركبت فرسي حتى جئتهم، ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له: إن قومك قد جعلوا فيك الدية. وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزاد والمتاع فلم يرزآني -لم يأخذا مني شيئاً- ولم يسألاني إلا أن قالا: أخفِ عنا فسألته أن يكتب لي كتاب أمنٍ، فأمر عامر بن فهيرة فكتب في رقعة من أديم ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم). وفي رواية: عن البراء قال: (اشترى أبو بكر رضي الله عنه من عازب رحلاً بثلاثة عشر درهماً، فقال أبو بكر لـ عازب: مر البراء فليحمل إليَّ رحلي. فقال عازب: لا. حتى تحدثنا كيف صنعت أنت ورسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرجتما من مكة والمشركون يطلبونكم؟ قال أبو بكر رضي الله عنه: ارتحلنا من مكة فأحيينا أو سرينا ليلتنا ويومنا حتى أظهرنا وقام قائم الظهيرة فرميت ببصري هل أرى من ظل فآوي إليه؟ فإذا صخرة أتيتها فنظرت بقية ظل لها فسويته، ثم فرشت للنبي صلى الله عليه وسلم فيه، ثم قلت له: اضطجع يا نبي الله، فاضطجع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم انطلقت أنظر ما حولي، هل أرى من الطلب أحداً؟ فإذا أنا براعي غنم يسوق غنمه إلى الصخرة يريد منها الذي أردنا، فسألته فقلت له: لمن أنت يا غلام؟ قال: لرجل من قريش، سماه فعرفته، فقلت: هل في غنمك من لبن؟ قال: نعم، قلت: فهل أنت حالب لنا؟ قال: نعم، فأمرته فاعتقل شاةً من غنمه، ثم أمرته أن ينفض ضرعها من الغبار، ثم أمرته أن ينفض كفيه، فقال: هكذا؛ ضرب أحد كفيه بالأخرى، فحلب لنا كثبة من لبن، وقد جعلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم إداوةً على فمها خرقة فصببت على اللبن حتى برد أسفله، فانطلقت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوافقته قد استيقظ، فقلت: اشرب يا رسول الله، فشرب حتى رضيت، ثم قلت: قد آن الرحيل يا رسول الله؟ قال: بلى. فارتحلنا والقوم يطلبوننا فلم يدركنا أحدٌ منهم غير سراقة بن مالك بن جعشم على فرسٍ له، فقلت: هذا الطلب قد لحقنا يا رسول الله، قال: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40]). حصل بعد ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم التقى بـ الزبير في الطريق، وكسا النبي عليه الصلاة والسلام وأبا بكر ثياباً بيضاً حتى ينطبق الوصف الموجود عند اليهود في التوراة كيف سيدخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة مع الصديق، وسمع المسلمون في المدينة بمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة فكانوا يغدون كل غداةٍ إلى الحرة فينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة، فانقلبوا يوماً بعدما أطالوا انتظارهم ورجعوا إلى بيوتهم، فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من يهود على أطمٍ من آطامهم -على حصن قلعة لليهود، أشرف عليها اليهودي بعدما انصرف المسلمون الذين كانوا ينتظرون النبي- لأمر ينظر إليه، فبَصر برسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه مبيضين يزول بهم السراب، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا معاشر العرب هذا جَدكم الذي تنتظرون -جَدكم أي: حظكم- فثار المسلمون إلى السلاح فتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهر الحرة. فاليهودي عرفه بصفاته المكتوبة عندهم في كتابهم، ولم يملك اليهودي نفسه أن صاح من هول المفاجأة والتطابق بين الواقع وبين الوصف المكتوب، وإلا فإن اليهودي لا يدل على الخير، ولكن من هول المفاجأة لم يملك اليهودي أن صاح: يا معاشر العرب: هذا جدكم -أي: حظكم، (وتعالى جدك) هذا شأنكم وهذا شرفكم- الذي تنتظرون. هذا الحديث الذي رواه الإمام البخاري رحمه الله عن البراء ورواه أيضاً عن عائشة في هذه القصة المجموعة التي تبين قصة هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وفيها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أُوحي إليه بمكان الهجرة وأخبر الصحابة؛ فبدأ الصحابة يتسربون إلى المدينة، وأراد الله تعالى للصديق أن يؤاخي نبي الله صلى الله عليه وسلم في هجرته، وأن يكون معه، هو رفيقه في حياته رضي الله عنه، ولذلك كان يرجو عليه الصلاة والسلام أن يُؤذن له لينطلقا معاً، وهذا ما حصل. وكان أبو بكر قد حبس نفسه لعله يؤذن للنبي صلى الله عليه وسلم فينطلق معه، واستعد براحلتين يطعمهما ورق السمر؛ وهو ورق الطلح يخبط بالعصا فيسقط وتُعلف به الدواب. واستغرقت فترة الإعداد التي كان أبو بكر رضي الله تعالى عنه يُعد فيهما هاتين الراحلتين أربعة أشهر، وهذه التي كانت بين ابتداء هجرة الصحابة وبين هجرته صلى الله عليه وسلم.

إجراءات النبي صلى الله عليه وسلم لكتمان الهجرة

إجراءات النبي صلى الله عليه وسلم لكتمان الهجرة جاء النبي صلى الله عليه وسلم في نحر الظهيرة وفيه: أن التخطيط للهجرة كان دقيقاً، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان على قمة الأخذ بالأسباب. ولذلك فإنه من بداية الأمر اختار الوقت الذي يأتي فيه لـ أبي بكر الصديق يكون الناس نياماً في شدة الحر في الظهيرة (القيلولة). جاء في نحر الظهيرة في أول الزوال، وأشد ما يكون من حرارة النهار، ويقيل الناس فيها، أتاه ظهراً، فاستغرب آل أبي بكر الصديق قالوا: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعاً، وهذا من الأسباب في إخفاء القضية أيضاً فإنه عليه الصلاة والسلام جاء متقنعاً مغطياً رأسه في وقت يندر أن يوجد أحد يمشي في الطريق. عرف الصديق أن النبي صلى الله عليه وسلم قد جاء لأمر مهم، فلما دخل النبي صلى الله عليه وسلم -إجراء ثالث- قال: (أخرج من عندك؟) لأن النساء والصبيان يتكلمون، وكم أوتي من أوتي من الحذرين من جهة النساء والصبيان، فقد لا يأبه لهم فيتحدث أمامهم بسره، ثم يتسرب السر عن طريق طفل، أو امرأة. ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم من اتخاذ الأسباب في هذا الأمر الخطير الذي يريد إخفاءه، قال: (أخرج من عندك؟) ولكن الصديق رضي الله عنه يعرف من ربى وكيف رباهم؟ قال: (إنما هما ابنتاي، إنما هم أهلك يا رسول الله) كل من في البيت عائشة وأسماء رباهم الصديق على عينه، يعرف من عنده ويثق وهو على مستوى كلمته التي قالها وأكثر. (الصحبة يا رسول الله قال: نعم) في رواية قالت عائشة: (فرأيت أبا بكر يبكي وما كنت أحسب أن أحداً يبكي من الفرح) وهذا من إخلاصه رضي الله عنه؛ لأن صحبة النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة شرف لا يعادله شرف؛ ولذلك بكى الصديق من الفرحة. فالبكاء: منه: بكاء حزن، وبكاء فرحة، وبكاء دهشة، وبكاء ألم، فالبكاء أنواع، وهذا كان بكاء فرحة. وعرض الصديق -من كرمه وبذله في سبيل الله- إحدى راحلتيه على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: (لا أركب بعيراً ليس لي. قال: هو لك. قال: لا. ولكن بالثمن). قيل: لماذا لم يقبل النبي صلى الله عليه وسلم عطية صاحبه؟ قالوا: لأنه أراد أن يهاجر من ماله، ويكسب أجر الإنفاق على الهجرة من ماله؛ لأن الهجرة هنا سفر طاعة عظيم كلما أنفق الإنسان فيه كان أكثر أجراً، فأحب ألا تكون هجرته إلا من مال نفسه. قيل: إن هذه الناقة التي أخذها النبي صلى الله عليه وسلم من أبي بكر الصديق بالثمن هي القصواء؛ وقد عاشت بعد النبي صلى الله عليه وسلم قليلاً ثم ماتت في خلافة أبي بكر الصديق. وجهزت عائشة وأسماء -الفتاتان المؤمنتان- راحلتي النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه -أبيهما- أحث الجهاز وأفضل الجهاز وكُل ما يحتاج إليه في السفر. (وصنعنا لهما سفرة في جراب) إذاً: الآن تجهيز جيد، والأخذ بالأسباب، حتى نعرف أن قضية الهجرة كان النبي صلى الله عليه وسلم قد رتب لها ترتيباً عجيباً، واتخذ فيها أسباباً مدهشة لتنجح، ليُعلم الأمة كيف يُحكمون أمورهم ولا يتركون مجالاً واحداً للفشل. (وصنعنا لهما سفرةً في جراب) وعاء للزاد يوضع فيه الزاد من الماء والطعام، قيل: إنه كان في السفرة شاةً مطبوخة. بقي الآن قضيت الربط؛ بأي شيء يُربط؟ بحثتا عن شيء تربطان به فلم تجدا شيئاً، فشقت أسماء نطاقها؛ والنطاق: حزام تلبسه المرأة على وسطها. (شقت) جعلته جزأين. (وربطتا بهما الزاد) شدت بأحدهما الزاد واقتصرت على الآخر. فسميت أسماء، ذات النطاقين من هذا الفعل. شقت نطاقها فأوكأن بقطعة منه الجراب، وشدت فم القربة بالباقي على رواية أخرى فسُميت بـ ذات النطاقين. التخطيط: كان الاتجاه إلى غار في جبل ثور، عكس الجهة، ليس الجهة التي يَتبادر إلى ذهن الكفار أنه هرب منها، قيل: إن خروجهما كان من خوخة في ظهر بيت أبي بكر. وخروجه صلى الله عليه وسلم كان يوم الإثنين. (ركبا حتى أتيا الغار وهو غار ثور فتواريا فيه) ومن إتمام الخطة أنه جاء: (أنه أمر علياً رضي الله عنه أن يبيت على فراشه). جاء عند الإمام أحمد من حديث ابن عباس بإسناد حسن كما قال الحافظ رحمه الله في قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} [الأنفال:30] قال ابن عباس رضي الله عنه: (تشاورت قريش ليلة بمكة، فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق، نقيده ونربطه ونسجنه -يريدون النبي صلى الله عليه وسلم- وقال بعضهم: بل اقتلوه، وقال بعضهم: بل أخرجوه). (فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك فبات علي على فراش النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى لحق بالغار، وبات المشركون يحرسون علياً يحسبونه النبي صلى الله عليه وسلم) أي: ينتظرونه حتى يقوم فيفعلون به ما اتفقوا عليه. فلما أصبحوا ورأوا علياً رد الله مكرهم، فقالوا: أين صاحبك هذا؟ قال: لا أدري، فاقتصوا أثره، فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم، فصعدوا الجبل فمروا بـ الغار فرأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالوا: لو دخل هاهنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاث ليالٍ، وخرجت قريش في كل وجهٍ، أي: في كل جهة تطلب النبي صلى الله عليه وسلم. وبعثوا في أثرهما قائفين -القافة: قصاصي الأثر- اشتركوا في التتبع، ورأى كرز بن علقمة أحد القائفين نسج العنكبوت فقال: هاهنا انقطع الأثر، وكمنا في الغار ثلاث ليالٍ. وهذا سبب آخر من الأخذ بالأسباب المؤدية للنجاح، وبلوغ المطلوب. والصديق رضي الله عنه بلغ من خشيته وخوفه على النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يمشي بين يديه ساعة، وخلفه ساعة، ومرة أمامه ومرة خلفه، فسأله عليه الصلاة والسلام؟ فقال: يا رسول الله أذكر الطلب -أذكر الناس الذين يطلبونك- فأمشي خلفك حماية لظهرك، وأذكر الرصد -الذين يترصدون- فأمشي أمامك، فقال: (لو كان شيئاً أحببت أن تُقتل دوني؟ قال: إي والذي بعثك بالحق، فلما انتهيا إلى الغار قال: مكانك يا رسول الله حتى أستبرئ لك الغار). حتى لا يكون فيه دابة، أو شيء مؤذٍ، فاستبرأه ليطمئن إلى أنه مكان آمن؛ لكي يأوي إليه النبي صلى الله عليه وسلم. فهل انتهت الأسباب؟ كلا. لقد كان من الخطة أن عبد الله بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: (وكان شاباً ثقفاً لقناً) ثقف أي: حاذق، لقن أي: سريع الفهم. كان يبيت مع كفار قريش في مكة في الصباح يستمع لكل الأخبار، ويلتقط الأخبار، ويحفظ كل شيء، (يصبح مع قريش بـ مكة كبائت) لماذا؟ لأنه يرجع قبل الفجر بغلس. (ثم يأتيهما بعد ذلك بالأخبار لا يسمع خبراً يُكتادان به) أي: من الكيد، لا يسمع خبراً فيه كيدٌ للنبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصديق إلا جاءهم به أولاً بأول. إذاً: الأخبار تصل أولاً بأول، المراسلات والأخبار، وكالة الأخبار تأتي بالأخبار أولاً بأول. هل انتهت الإجراءات والأسباب؟ لا. هناك رجل من شخصيات القصة اسمه: عامر بن فهيرة؛ هذا الرجل كان معهما، قام بأدوار: من هذه الأدوار: آثار الأقدام بقاؤها خطير؛ لأن العرب كانوا مشهورين بقص الأثر، ويمكن عن طريق قص الأثر معرفة المكان الذي توجه إليه، إذاً: كان لا بد من إخفاء آثار الأقدام، وكانت الطريقة الطبيعية التي لا تلفت النظر في إخفاء آثار الأقدام أن يؤتى بقطيع غنم تمشي فوق آثار الأقدام لتختلط الآثار وتنطمس، وهذا الذي فعله عامر بن فهيرة، ثم إن الغنم هذه فيها فائدة أخرى، وهي قضية السقاية من لبنها للنبي صلى الله عليه وسلم والصديق، تطمس آثارهما ويستقيان بلبنها، فكان يأتي باللبن الطازج أولاً بأول -من الغنم التي تطمس الآثار- إلى النبي صلى الله عليه وسلم. يروح عليهما بالغنم كل ليلة فيحلبان، ثم تسرح بكرةً في الصباح فيُصبح عامر بن فهيرة وغنمه في رعيان الناس فلا يُفطن لها، فالتوقيت كان سليماً؛ للذهاب بالغنم وعودتها، حتى الغنم والدواب الذهاب بها والإتيان بها كان توقيتاً سليماً. ويوضع لهما في رسلٍ اللبن الطري وكذلك الرضيف، وهو اللبن المرضوف الذي وضعت فيه الحجارة المحماة بالشمس أو النار لينعقد ويشتد وتزول رخاوته، طعام وشراب حتى ينعق عامر بغنمه وهو صوت الراعي إذا زجر الغنم، ثم يسرح بها في رعيان الناس فيذهب في وقت صحيح لا يُتفطن له، هذا كان من بني الدِيل، من بني عبد بن عدي. لم تنته القضية بل هناك شخصية أخرى مهمة لها دور أيضاً: وهو عبد الله بن أريقط؛ هذا رجل مشرك، لكنه كان رجلاً مأموناً موثوقاً به، ولماذا اختير عبد الله بن أريقط رغم أنه مشرك؟ لأنه كان هادياً خريتاً، خبيراً بالطرق، والمسارات، ودروب الصحراء، والخريت: هو الماهر بالهداية مثل: خرت الإبرة أي: ثقب الإبرة، لأنه يهتدي لأخرات المفازة وهي طرقها الخفية، وهذا الرجل كان قد غمس حِلفاً تحالف؛ وكانوا بالجاهلية إذا تحالفوا يغمسون أيديهم في دم أو عطر يكون فيه صبغ لليد وتأكيد للحلف الذي تحالفوا عليه. هذا الرجل كان أميناً ثقةً بالرغم من أنه مشر

سراقة بن مالك يدرك النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه

سراقة بن مالك يدرك النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه ثم اتجها عبر طريق الساحل؛ أيضاً تغيير الطريق المتوقع من الأسباب: (فأخذ بهما طريق الساحل) من أسفل مكة إلى الساحل حتى رجع مرة أخرى على طريق المدينة، على طريق الساحل فأبصر أحد الأشخاص بهم يمشون، والله عزوجل يقدر الأحداث حدثاً تلو الآخر: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} [يوسف:21]. فأخبر هذا الرجل شخصاً من قريش اسمه: سراقة بن مالك بن جعشم، يقول له: إنني شاهدت أشخاصاً على طريق الساحل؛ وأنا أظن أن هؤلاء الأشخاص محمد وصاحبه، ومعهما الخادم. وسراقة بن مالك يعلم بأن قريش قد جعلت على كل رأس مائة من الإبل؛ الدية كاملة لمن يأتي بمحمد عليه الصلاة والسلام وصاحبه أمواتاً، أو مأسورين. وسراقة بن مالك طمع في المائة؛ طمع في الدية، فكذّب الرجل الذي شاهد الأشخاص، قال: ليس ذاك ومستبعد أن يكونوا هم، هؤلاء فلان وفلان أشخاص آخرون قاموا من عندنا قبل قليل وذهبوا في ذلك الاتجاه أمام أعيننا، فطمع أن يكون له كل المال وهو مائة من الإبل. ثم استعد سراقة بن مالك للغنيمة، فأمر جاريته أن تُجهز له أمره، وعلى عادة المشركين الاستقسام بالأزلام قبل المضي في الأمر الخطير؛ فالاستقسام بالأزلام وهو نوع من الشرك: يضع الأزلام؛ وهي مثل السهام التي لا نصل لها ولا ريش؛ واحد مكتوب عليه: نعم، وواحد مكتوب عليه: لا، وواحد فارغ، يجعلها في مكان يسحب منه، ثم يسحب؛ فإذا طلع نعم مضى، وإذا خرج لا رجع، وإذا خرج الفارغ أعاد القرعة أو أعاد السحب. سراقة بن مالك لما أراد أن يُغادر استقسم بالأزلام؛ والاستقسام بالأزلام: هو تشاؤم، أو شيء لا علاقة له بالواقع، ولذلك هذا من سخافة العقل؛ لأنه ما العلاقة بين السحب نعم أو لا، وبين قضية أنه يذهب في السفر؟ أم لا يذهب في السفر؟ لكن يظنون أن الصنم يختار لهم الخير. استقسم؛ فلما سحب فإذا بالسهم المكتوب عليه: لا، فكره هذا لأنه يريد المائة من الإبل، يكره أن يخرج له السهم مكتوب عليه: لا. ولكنه بالرغم من ذلك مضى لأمره، جهز سلاحه ولبس لأمته -الدرع- وخفض رمحه لئلا يضرب عليها بريق الشمس فينعكس فيرى من بعد، فيتبعه أحد يشترك معه في الغنيمة، ولذلك جعل رمحه على الأرض ومضى. ثم أسرع بفرسه في تلك الجهة التي أخبره الرجل أنه رأى فيها الأشخاص، وفي الطريق أعاد مرة أخرى الاستقسام بالأزلام وأخرج الخريطة المستطيلة التي تُوضع فيها الأزلام ويسحب منها وسحب، وقلنا: الأزلام هي الأقداح وهي السهام التي لا ريش لها ولا نصل، فخرج الذي يكره، أي: لا يمضي، لا تضرهم، ولكنه استمر حتى بلغ النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه من بعيد فرآه أبو بكر رضي الله عنه. فقال للنبي عليه الصلاة والسلام أدركنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كلا. فنذكر في هذا الموقف يقين الأنبياء بالله عزوجل، وثقتهم بنصر الله سبحانه وتعالى، وحفظ الله سبحانه وتعالى، وتمام التوكل على الله. هذا التوكل الصحيح، الأخذ بالسبب وتفويض الأمر إلى الله أن يكلأ ويحفظ ويأتي بالنجاح، ويحقق المطلوب، فقد أخذوا بكل الأسباب، ثم كون سراقة لحقهم بعد ذلك بالرغم من كل هذه الأسباب، فهذا شيءٌ ليس بأيديهم منعه ولا عدم حصوله، إذاً. ماذا بقي؟ التوكل على الله عز وجل من قبل ومن بعد، فقال: (اللهم اصرعه) وفي رواية: (اللهم اكفناه بما شئت) هذه العبارة التي قالها غلام أصحاب الأخدود لما كان ذاهباً مع حرس الملك فوق الجبل وفي القارب فقال: (اللهم اكفنيهم بما شئت) فرجف الجبل فسقطوا وصرعوا، وانقلب القارب فغرقوا وبقي هو على قيد الحياة سليماً حتى أتى الملك. هذه العبارة التي كل إنسان إذا وقع في ورطة أو أراد أحد أن يعمل به شراً يقول: اللهم اكفنيه بما شئت. لما قال: (اللهم اكفناه بما شئت، اللهم اصرعه) فصرعه فرسه وساخت يدا الفرس، ووقعت على منخريها، دخلت يدا الفرس في الأرض وساخت حتى بلغت بطنها في الأرض، فارتطمت فرسه إلى بطنها، ودخلت يدا الفرس، أي: مقدمة الفرس، وهذا يدل على أن ركبتي البعير أو الفرس في يديه وليس في رجله، فساخت يدا الفرس حتى بلغتا الركبتين، والفرس صارت بطنها ملتصقة بالأرض. فوثب عنها سراقة، فقلت: ما هذا؟ ثم زجرتها فنهضت، وقامت تحمحم؛ والحمحمة صوت الفرس، ما كادت ترتفع الفرس إلا وثار عثانٌ؛ دخان من غير نار أو غبار، ثار الغبار، فعلمت أنه منع مني، أي: علمت أن المسألة الآن مسألة إلهيه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن الوصول إليه، لا يمكن إيذاؤه، ولا القبض عليه، ولا الوصول إليه، عند ذلك أُسقط في يدي سراقة ونادى بالأمان. الآن هذا رجل مُطارِد مُسلح تكون النهاية أنه يطلب الأمان، وهو لابس الدرع ومعه الرمح ومعه الجهاز ويطلب الأمان مستسلماً قائلاً: قد علمت يا محمد أن هذا عملك فادع الله أن ينجيني مما أنا فيه والله لأُعمّين عليك من ورائي، أي شخص يطلبك ويطاردك أنا سأكفيكهُ، ورجع سراقة وقد تعهد بأن يُحافظ عليهما ويقول: وأنا لكم نافع غير ضار، وأنا راجع ورادهم عنكم، يقول سراقة في تلك اللحظة: وقع في نفسي حينما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، عرف أنه منصور وأنه ظاهر، وأنه سيستعلي على من حوله. بالإضافة إلى ذلك فإن سراقة أتى ببقية الأخبار؛ كانت الأخبار إلى حد مغادرة الغار، وبقية الأخبار أتى بها سراقة إليهم، فأخبر بما حصل أثناء غيابهما في هذه الفترة، قال: إن قريشاً جعلت جائزة لمن يأتي بكما كذا وكذا وكذا. وسراقة بالإضافة إلى ذلك عرض عليهما الزاد والمتاع، وقال لهما: إن إبلي على طريقكم فاحتلبوا من اللبن وخذوا سهماً من كنانتي أمارةً إلى الراعي، حتى يُصدق الراعي أنكما من طرفي -هذه علامة سهم من كنانتي أي أن له علامة خاصة يعرفها الراعي- فالنبي عليه الصلاة والسلام رفض، فلم يأخذا منه شيئاً. قال: (لم ينقصاني مما معي شيئاً). قال: فإنك تمر على إبلي وغنمي بمكان كذا وكذا، فخذ منها حاجتك، فقال: (لا حاجة لنا في إبلك، ودعا له). طلب منه شيئاً واحداً فقط، قال: (أخفِ عنا). فقال: قد كفيتم ما هاهنا. وجعل سراقة لا يلقى أحداً -بعدما رجع- من كفار قريش، ذاهباً في نفس الاتجاه إلا قال: قد كفيتم ما هاهنا، كفيتكم ما هاهنا، أنا فتشت من هذه الجهة فلا يحتاج أنكم تبحثون، لا يلقى أحداً إلا رده، ووفىّ لهما. وفي رواية أنه قال: (يا نبي الله مرني بما شئت. قال: قف مكانك لا تتركن أحداً يلحق بنا، فكان أول النهار جاهداً على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان آخر النهار مسلحة له) أي: حارساً له بسلاحه. والله على كل شيء قدير، وهذا يثبت قدرة الله على كل شيء، فقد كان هذا الرجل ذاهباً للقبض عليهما مسلحاً في أول النهار فيرجع في آخره حارساً عليهما، عكس الذي كان ذاهباً من أجله تماماً، يُضلل الباحثين ويحرس الجهات؛ يحرس الجهة والطريق التي سلكها النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يجد أحداً إلا رده، يقول: قد فتشت قبلك ارجع لا يوجد لهما أثر. وقد طلب سراقة قبل أن يرجع حاجة: كتاب أمن بيني وبينك، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فأمر عامر بن فهيرة فكتب في رقعة من أدم) كتب له في جلد، أو في ورقة، أو في خرقة جعله سراقة في كنانته، كتب له كتاب أمان، سبحان الله! الآن المتوقع أن الخوف مع المُطارَدين، وإذا بالمطارِد المسلح يطلب كتاب أمان، يقول: اكتب لي كتاب أمان، فأمر عامر بن فهيرة فكتب له كتاب أمان.

انكشاف أمر سراقة بعد فتح مكة وإسلامه

انكشاف أمر سراقة بعد فتح مكة وإسلامه فلما كانت معركة حنين بعد فتح مكة خرج سراقة ليلقى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه الكتاب، بعد سنوات، قرابة ثمان سنين لقيه بـ الجعرانة، فلما دنا منه رفع يده بالكتاب قالوا: يا رسول الله هذا كتابك، قال: يوم وفاء وبر، ادن فأسلمت، هكذا حصل لـ سراقة. وكان عليه الصلاة والسلام قد أراد أن يبعث خالد بن الوليد إلى قوم سراقة، بعث جيشاً يُغير عليهم ويغزوهم، وكانوا مشركين، فأتاه سراقة وقال: أحب أن توادع قومي، ففيهم نزلت: {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [النساء:90]. قيل: لما انكشفت القضية وصل النبي صلى الله عليه وسلم وانكشف أمر سراقة بعد ذلك لقريش، فجعل أبو جهل يلوم سراقة كيف تركهم؟!! أي: النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر؟! فقال أبا حكم! -وأبو حكم هي كنية أبو جهل -: أبا حكم واللات؛ يقسم باللات لأنه كان مشركاً في ذلك الوقت. أبا حكم واللات لو كُنت شاهداً لأمر جوادي إذ تسيخ قوائمه عجبت ولم تشكك بأن محمداً نبيٌ وبرهانٌ فمن ذا يكاتمه؟! يقول: لو أنت كنت مقامي ورأيت الفرس تسيخ في الأرض ما قلت هذا الكلام. وحصل بعد ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي عبد الله بن الزبير في الطريق مصادفة عجيبة من قدر الله عز وجل، فهذه الصحراء المترامية التقاء بقدر الله النبي صلى الله عليه وسلم والصديق بـ الزبير؛ كان راجعاً بثياب من الشام، فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وكساهما ثوبين أبيضين. فلما مشى أبو بكر الصديق رضي الله عنه مع النبي عليه الصلاة والسلام حتى قام قائم الظهيرة -نصف النهار- رفعت لنا صخرة يقول أبو بكر، أي: ظهرت، ولها ظل، وهنا يظهر حرص الصديق على النبي صلى الله عليه وسلم وسعيه في راحته. فبسط فروة في الظل لأجل النبي صلى الله عليه وسلم، ونفض ما حولها من الغبار حتى لا تثيره الريح فتؤذي النائم، وجهز المكان ثم ذهب حوله ينظر الطلب يحرس النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد ذلك شاهد راعياً فقال له: (أفي غنمك لبن؟ قال: نعم. قال: أفتحلب؟ قال: نعم) وهذا الراعي كان لرجلٍ من قريش، فسأل أبو بكر الصديق الراعي عن اسم صاحب الغنم فعرفه أبو بكر الصديق؛ وكان أبو بكر نسابة يعرف العرب وأنسابها وبطونها، فعرف الرجل صاحب الغنم، وطلب من الراعي أن يحلب، فلعل الصديق قد علم أن صاحب الغنم لا يمانع ولذلك طلب من الراعي أن يحلب، فقد يكون بينهما صداقة، والصديق يعرف أن صاحب اللبن يرضى، أو على عادة العرب كانوا يوصون الرعيان بأن يحلبوا للمسافرين من الكرم. فإما أن يكون هناك إذن عام أو أن أبا بكر الصديق يعرف الرجل هذا، فلذلك طلب اللبن، وهذا أحسن من أن يقال: إنه مال حربي يجوز أخذه لأنه مال مشرك محارب؛ لأنه لم يكن قد فُرض الجهاد ولا شُرعت الغنائم في ذلك الوقت، فمرده إلى هذا السبب، ولما كان الصديق حريصاً على صحة النبي صلى الله عليه وسلم قال للراعي: (انفض يديك، انفض الضرع، اعتقل الشاة) فاعتقل الشاة أي: وضع رجلها بين فخذيه أو ساقيه يمنعها من الحركة من أجل الحلب (فأخذت قدحاً فحلبته) أو أمر الراعي فحلب كثبةً -قدر قدح- حلبة خفيفة من اللبن، وشرب النبي صلى الله عليه وسلم. وفي هذه الرواية رواية البراء: أن سراقة جاء بعد هذه القصة، وأبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: (اشرب، قال: فشرب حتى رضيت) من الذي شرب؟ هو النبي صلى الله عليه وسلم ومن الذي رضي؟ هو أبو بكر الصديق. (فشرب حتى رضيت) أي: أمعن في الشرب على غير عادته المألوفة صلى الله عليه وسلم حتى رضي الصديق؛ واطمأنت نفسه بأنه عليه الصلاة والسلام قد شبع وروي وأنه قد استراح. والنبي صلى الله عليه وسلم نام وأبو بكر يحرسه، ثم لما استيقظ عليه الصلاة والسلام قال: (قد آن الرحيل يا رسول الله؟!). وافق عليه الصلاة والسلام وانطلقا. هذا ما حصل حتى وصلا المدينة، وخرج ذلك اليهودي لينظر فرآهما مبيضين؛ بالثياب البيض قد جاءا وعليهما الثياب البيض التي كساهما إياها الزبير: (يزول بهما السراب) أي: يزول السراب عن النظر بسبب عروضهم له، أو ظهرت حركتهم للعين، مطابقاً للوصف المذكور في الكتاب عند اليهودي، فدهش وصرخ: يا معاشر العرب! يا بني قيلة! وهي الجدة الكبرى للأنصار والدة الأوس والخزرج اسمها: قيلة. يا بني قيلة! هذا جدكم، هذا حظكم، وصاحب دولتكم الذي تتوقعونه قد جاء، فاستقبلوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى آخر القصة التي حدثت بعد ذلك من المجيء إلى مكان المسجد وبقية التفاصيل.

دروس مستفادة من القصة

دروس مستفادة من القصة تلك كانت قصة الهجرة التي سافر فيها النبي صلى الله عليه وسلم مع صاحبه، ومن أعظم الدروس التي فيها قضية الأخذ بالأسباب إذ كانت أمراً واضحاً جداً. وكذلك يُؤخذ من الحديث: تَطلب النظافة في الشرب، كما هو واضح من فعل أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وحرصه على صحة النبي صلى الله عليه وسلم وعلى سلامة النبي صلى الله عليه وسلم. وكذلك جواز التعامل مع المشرك إذا كان مأموناً؛ وهذه مسألة قد ينخدع فيها الكثيرون، ولكن أصحاب الدين والقلوب الحية يعرفون ويميزون الخائن من غيره. كذلك فيه ثبات قلب النبي صلى الله عليه وسلم وثقته بالله لما قال له: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] وفيه عجائب أقدار الله، تظهر من القصة عجائب أقدار الله عزوجل؛ كيف تتم هذه الأشياء بكل هذه الدقة، ثم بعد ذلك يكتشف سراقة المكان. ثم بعد ذلك يتخلص النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه من سراقة، ثم بعد ذلك يجدان الراعي، وكذلك يجدان الزبير في الطريق رضي الله عنه فيكرمهما حتى وصلا إلى المدينة. وكذلك في هذا الحديث استعمال ما كان مأذوناً فيه من مال الآخرين مثل: الشراب هذا، أو الحلب، إذا كان مأذوناً به، وخدمة الصاحب لصاحبه، وشدة محبة الصديق للنبي عليه الصلاة والسلام وإيثاره إياه على نفسه. وكذلك تنظيف المأكل والمشرب، لو قيل: الإسلام دين النظافة فكيف ذلك؟ نقول: خذ هذا ما حصل، انظر كيف أمره أن ينفض ضرعها من الغبار، ثم أمره أن ينفض كفيه، ثم حلب؛ حتى لا يقع شيءٌ مزعج في هذا الإناء. وكذلك فيه: استصحاب ما يحتاج إليه المسافر في السفر وأن ذلك لا يقدح في التوكل خلافاً لبعض الصوفية الذين يقولون: لا نتجهز ونتوكل، ولا نأخذ معنا شيئاً ونتوكل، فهذا ليس بتوكل مطلقاً. وكذلك فيه: كيف نصر الله الدين بهذه الهجرة؟ وكيف أخرج النبي صلى الله عليه وسلم من بين ظهراني المشركين؟: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21]. وفي القصة فوائد أخرى نكتفي بهذا منها ونسأل الله عزوجل أن يجعلنا من المحبين لنبيه عليه الصلاة والسلام والمتبعين لسنته إنه ولي ذلك والقادر عليه.

الأسئلة

الأسئلة

طرق تحديد القبلة في السفر

طرق تحديد القبلة في السفر Q ما هي طريقة تحديد القبلة في الصلوات الخمس في السفر الطويل؟ A قد يوجد مع الإنسان مثلاً بوصلة يحدد بها الاتجاه، فإن لم يوجد ففي النهار يعرف الشرق والغرب من خلال الظل، وكذلك في الليل يعرفه بالنجوم، مجموعة النجوم التي تظهر في الليل على شكل علامة الاستفهام، أو الملعقة، فأول نجمين من رأسها يمد خطاً مستقيماً بينهما إلى الجهة الأخرى ليكون بعد ستة أمثاله في القطب الشمالي؛ والنجم الذي يشير إلى جهة الشمال وهو نجم خلقه الله وجعله في ذلك المكان لا يُغير اتجاهه، دائماً يشير إلى جهة الشمال، أو كذلك المثلثان المتجاوران إذاً: ثلث الزاوية التي تكون في أول أحدهما المثلث الأول إلى جهة اليمين فأخذ هذا مستقيماً ثلث الزاوية فإنه سيكون في النهاية يمشي الخط إلى القطب الشمالي أو النجم القطب الشمالي، فيعرف منه جهة الشمال، إذا عرف جهة الشمال تحددت بقية الجهات وبناء عليه يعرف القبلة، قال تعالى: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل:16]. ثم إن الإنسان إذا خفي عليه الوقت وليس عنده ساعة بالعقارب والشمس، ولا عصا يعرف بها الظل، ولا نجوم في الليل، ولا بوصلة، ولا شيء، يسأل فإذا لم يجد أحداً يسأله اجتهد وصلى وصلاته صحيحة.

حكم الضمادات للحاج

حكم الضمادات للحاج Q هل يمكن لف الشاش على يد وكتف المصاب بالصدفية عند ذهابه للحج؟ A نعم. لا بأس بذلك، هذه الضمادات وهذه اللاصقات التي توضع لا بأس بها إذا وضعها للحاجة ولا حرج عليه.

الأرضين السبع

الأرضين السبع Q أين توجد الأرضون السبع؟ A قال بعض العلماء: هي الطبقات بعضها فوق بعض.

حكم ما يتجاوز القبضة من اللحية

حكم ما يتجاوز القبضة من اللحية Q ما هو آخر ما يتجاوز القبضة من اللحية؟ A هذا رأي عبد الله بن عمر رضي الله عنه؛ كان إذا حج واعتمر قبض على لحيته فأخذ ما تجاوز من القبضة، والرأي الآخر: أن يعفيها ولا يأخذ منها شيئاً، وكلام العلماء في هذا معروف وهذه المسائل اجتهاديه فلا يكون فيها إنكار وخصومات، وإنما يتبع الإنسان السنة حيث ما تبينت له.

عود الضمير في (أعوذ بك)

عود الضمير في (أعوذ بك) Q ( أعوذ بك من شر ما صنعت) إلى أين يعود الضمير؟ A أعوذ بالله من شر ما صنعتُ أنا، من شر ما اقترفت يداي وأثمتُ وأذنبتُ ونحو ذلك، لأن شر الذنب هو العذاب وسخط الله ومحق البركة وغير هذا.

تجديد الوضوء لكل صلاة

تجديد الوضوء لكل صلاة Q أتوضأ عند الخروج للعمل ثم أصلي ركعتي الضحى وفي نفس الوقت نية الوضوء بصلاة الظهر أيضاً. هل يلزم تجديد الوضوء؟ A لا. الأحوال العادية لا يلزم تجديد الوضوء، لكن لصاحب السلس والمستحاضة فيجدد الوضوء بعد دخول وقت الفرض.

حكم من اقترب من زوجته في نهار رمضان

حكم من اقترب من زوجته في نهار رمضان Q اقترب من زوجته في رمضان بعد صلاة الفجر؟ A إذا لم يحصل إنزال ولا جماع فليس هناك شيء تفعله من جهة القضاء، أو الكفارة، فإذا حصل إنزال فيكمل اليوم، وعليه التوبة والقضاء، وإذا حصل الجماع فالكفارة المغلظة وإكمال اليوم والتوبة.

حكم الإسبال

حكم الإسبال Q ما حكم الإسبال لعدم القدرة على تقصير الثوب؟ A كيف؟ ليس هناك أسهل من تقصير الثوب، فلا يجاب على هذا السؤال أصلاً.

الزكاة في أموال الدين

الزكاة في أموال الدين Q هل تجب الزكاة في أموال الدين؟ A إذا كان مفقوداً معدوماً لا يُرجى تحصيله كأن يكون عند مماطل أو فقير؛ فلا زكاة فيه حتى تقبضه وتزكيه مرة واحدة.

من عرض أرضا للبيع

من عرض أرضاً للبيع Q من عرض أرضاً للبيع. فهل عليه الزكاة؟ A نعم. من عرض أرضاً للبيع فعليه الزكاة.

صحة قصة الحمامة

صحة قصة الحمامة Q صحة قصة الحمامة؟ A قصة الحمامة فيها ضعفٌ، والعنكبوت ذكر الحافظ رحمه الله كما قال عن ابن عباس، أي: موقوفاً بسند حسن وذكر القصة، فيمكن أن يُرجع إليها، وأيضاً هناك من حقق روايات الهجرة لـ ابن مسعود وهناك كتاب في تحقيق أحاديث الهجرة جيد أيضاً، وهناك من جمع قصصاً لا تثبت أيضاً ذكر تحقيقاً على الموضوع.

تقويم التاريخ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم

تقويم التاريخ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم Q هل كان حساب عدد السنوات على عهد النبي صلى الله عليه وسلم بالتقويم الميلادي لأن التقويم الهجري كان على عهد عمر؟ A لا. هذا كلام غير صحيح، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يعمل بالتقويم القمري، لكن بداية السنة الهجرية جعلها من محرم هو الذي كان على عهد عمر بن الخطاب، قال: يرجع الناس من الحج ومحرم أول السنة نجعله أول السنة نسميها السنة الهجرية أو من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم أرخوا، فجعلوا السنة رقم واحد هي السنة التي هاجر فيها؛ لأن الحدث هذا كان قد غير وجه الأرض، بداية الانتصارات وبداية قيام الإسلام حقيقةً كان بعد الهجرة. فلذلك قالوا: نجعل السنة رقم واحد هي السنة التي هاجر فيها، وشهر محرم نجعله أولها وهو شهر رقم واحد بعد رجوع الحجاج وبداية أعمال الناس نجعل شهر محرم رقم واحد، هذا الذي صار في عهد عمر رضي الله عنه، جعل السنة رقم واحدة سنة الهجرة، وشهر محرم رقم واحد، لكن على عهد النبي صلى الله عليه السلام كان يؤرخ بالسنة القمرية: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ} [التوبة:36]. قال الله: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} [البقرة:189]. فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعتمد التقويم القمري أول الشهر وآخر الشهر، أشهر قمرية هي اثنا عشر شهراً ليس فيها كلام، الأشهر الحرم كل الأحكام، الأشهر التقويم القمري بالسنة القمرية وليست الشمسية ولا الميلادية، وموافقة هؤلاء الكفار لا تنبغي، فلا ينبغي أن نجعل مدار حياتنا كلها على التقويم الميلادي الموافق لما عند الكفار، فقد يضطر الإنسان أحياناً أن يقول: الموافق لكذا، لكن لا يصح أن ننسى التقويم القمري الهجري، أو نجعل حياتنا تسير على التقويم الميلادي وهذه مشابهة للكفرة وإن كانت مشابهة مكروهة كما ذكر العلماء، وجعل الرواتب بالميلادي مكروهة، هو لأنه أربح، لا لأن المشي على منوالهم وعلى طريقتهم ليس مستحباً لنا ولا صحيحاً ويُنسى التقويم القمري، الآن لو تسأل بعض المسلمين في بعض البلدان التي تمشي على تقويم الميلادي هذا، قد تسأله: عن ربيع الأول وعن رجب وعن شعبان؟ لا يدري، لا يدرون إلا إذا جاء رمضان، استعملوا رمضان لأجل العبادة وإلا ففي بقية الأشهر الولد في المدرسة لا يدري ما هي الأشهر الهجرية ومتى دخلت؟ ومتى خرجت؟

زكاة ما يبقى من الراتب

زكاة ما يبقى من الراتب Q كيف تكون الزكاة فيما يبقى من الراتب؟ A من أول استلامه مالاً بالغاً النصاب بعده يأخذ سنة قمرية هجرية ثم يخرج الزكاة على الموجود عنده.

حكم البيع والشراء بعد الأذان الثاني

حكم البيع والشراء بعد الأذان الثاني Q ما حكم البيع والشراء بعد الأذان الثاني للجمعة؟ A البيع والشراء في أذان الخطبة الذي يكون الإمام على المنبر يحرم ولا يجوز.

الصوم في السفر

الصوم في السفر Q أفطر الصائم في مدينة الدمام، وركب طائرة حربية ووصل إلى تبوك ولم يحن أذان المغرب. هل يمسك أم لا؟ A العبرة بالإفطار والصيام في الطائرة، فإذا كان يريد أن يصوم؛ لأن المسافر يمكن أن يُفطر، لكن إذا قال: أريد أن أتم يوماً كاملاً صحيحاً فنقول: إذاً: تكون على الغروب، والفجر والمغرب في الطائرة في المكان الذي أنت فيه فوق تحت في أي مكان أنت فيه إذا غربت الشمس تُفطر. وإذا طلع الفجر تمسك، وهكذا، فإذا غادر هنا الدمام أو الظهران غادرها بعد المغرب اكتمل صومه ولا يضره إن رأى الشمس بعد أن أقلع إذا غادرها قبل المغرب وأراد أن يتم اليوم لا يُفطر إلا إذا غربت الشمس في المكان الذي هو فيه.

بطاقات المعايدة

بطاقات المعايدة Q بطاقات تهنئة في العيد نستخدمها في أعيادنا؟ A لا بأس إذا لم يكن عليها شعار خاص بعيد الكفار. أي: إذا أرسل لك شخص مثلاً بمناسبة عيد الفطر بطاقة مكتوب عليها (مري كرسمس)!!

معنى (التقاء الختانين)

معنى (التقاء الختانين) Q ما معنى: (التقاء الختانين)؟ A الختان: هو موضع القطع من الذكر في الغلام والفرج في الجارية؛ فهذا الختان، إذا مس الختان الختان، أي: حصل إيلاج، والحشفة غابت ودخلت فمس الختان الختان وبدون غياب الحشفة لا يمكن أن يمس الختان الختان وإنما بعد إيلاج الحشفة، إذاً: هو غياب وولوج مقدمة الذكر في الفرج، فذلك التقاء الختان بالختان فعند ذلك يجب الغسل، أما مجرد المس من خارج دون ولوج الحشفة فلا يُوجب الغسل.

لعن النساء المتبرجات

لعن النساء المتبرجات Q هل يجوز لعن النساء المتبرجات؟ A نعم من جهة العموم، تقول: لعنة الله على المتبرجات، لكن لا تقول: لعنة الله على فلانة بعينها؛ لأن لعن المعين لا يجوز؛ قد يتوب، قد يُسلم، أما لعن الجنس فنعم، تقول: لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ، لَعْنة اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ، ألا لعنة الله على النامصات، لعنة الله على المتنمصات، لعنة الله على المتفلجات، لعنة الله على المتبرجات، نعم. لكن لا تلعن المعين.

حكم الصيام بغير صلاة

حكم الصيام بغير صلاة Q احتلم قبل صلاة الفجر، وقام متأخراً وذهب إلى عمله دون اغتسال؛ وبالتالي لم يُصلِ هذا اليوم كله. هل صيامه صحيح؟ A الصيام صحيح، لكن الآن ما حكم إسلامه وقد ترك هذه الصلوات متعمداً؟ فيخشى على دينه، يُخشى على أصل القضية قبل الصيام، ولذلك عليه أن يتوب توبة عظيمة إلى الله، ويغتسل ويصلي كلما فات، ويقدم الصلاة على العمل، يحتاج الوضع إلى اغتسال يغتسل، الصلاة أهم تُتُرك لأجلها كل الأعمال، ويتحمل لأجلها كل العقوبات، ويُتحمل لأجلها كل الخصومات والخصميات.

أسباب دخول الجنة بغير حساب

أسباب دخول الجنة بغير حساب Q ما هي الأعمال الصالحة التي هي سبب لدخول الجنة بغير حساب؟ A بينها النبي صلى الله عليه وسلم؛ إن رأسها التوكل على الله: (يدخل من أمتي سبعون ألفاً الجنة من غير حساب ولا عذاب) وأخبر أنهم: (لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون) فالتوكل على الله السبب الأساسي والرئيسي لدخول الجنة بغير حساب.

حكم صلاة التراويح فردا

حكم صلاة التراويح فرداً Q ما حكم صلاة التراويح والقيام فرداً؟ A لا بأس.

تعظيم آيات القرآن

تعظيم آيات القرآن Q وجدت آيات من القرآن ممزقة في الأرض وقمت بجمعها وحرقها بنية أنها لا تُهان حيث أنها كانت ممزقة أو متسخة؟ A قد فعلت خيراً وأنت مأجور إن شاء الله. والحرق أو الدفن يكون في أرض نظيفة وإذا جمع بينهما فهو أحسن وأفضل.

(حكم قول القائل: (عملت الذي علي والباقي على الله

(حكم قول القائل: (عملت الذي عليّ والباقي على الله Q عملت الذي عليَّ والباقي على الله. هذه العبارة كثيراً ما تقال، فهل فيها شيء؟ A ما هو مقصود الذي يتكلم بمثل هذا كأن يقول مثلاً: أنا بذلت الأسباب والباقي على الله، لكن ينبغي ألا ينسى أن الذي بذل فيه الأسباب ينبغي أن يتوكل فيه على الله، أي: لا يقول: هذا توكلت فيه على نفسي، إلى هنا والباقي على الله، لا. التوكل على الله في كل شيء، الجزء الذي اتخذت فيه الأسباب والجزء الذي لم تتخذ فيه الأسباب كله تتوكل فيه على الله؛ لأن السبب قد يتعطل، وقد تبذل السبب ويصبح بالعكس. كان رجل كلما قاد السيارة ربط الحزام، وفي مرة من المرات نسي أن يربط الحزام، وسار في طريق الأحساء فصدم جملاً فمع الصدمة طار الرجل من الشباك، ولو كان رابطاً للحزام يقول: كان دهسه الجمل؛ لأن الجمل ركب فوق السيارة وصار سقف السيارة في بطن السيارة، فلو كان رابطاً للحزام لصار عجينه بداخل السيارة، لكن هذا لا يعني أننا لا نربط الأحزمة لأنه قد لا تصدم في جمل فقد تصدم في شيء آخر يجعلك تضرب بالمقود وتضرب بالزجاج وتحدث الكارثة، فلذلك الواحد يبذل الأسباب؛ لأن ربط الحزام من أسباب السلامة، لكن قد يربط الحزام فتحترق السيارة ولا يستطيع الخروج من السيارة بسبب الحزام فيكون الحزام سبباً في هلاكه. أي: أريد أن أقول من هذا الكلام وهذا المثال: أنه ليس على كل حال الأخذ بالأسباب في المنظور البشري يُؤدي إلى نتيجة سليمة، فقد تكون النتيجة غير ما تحسبه، من حيث لا تتوقع، ولذلك حتى لو أخذت بالأسباب يلزمك أن تتوكل على الله، في كل أجزاء العمل الذي تستطيعه وتأخذ بأسبابه والذي لا تستطيعه كذلك تأخذ بأسبابه وتتوكل فيه على الله.

(حكم قول: (ذاكرنا والباقي على الله

(حكم قول: (ذاكرنا والباقي على الله Q هناك طالب مهمل يقول: ذاكرنا الذي ذاكرنا والباقي على الله؛ فما حكم ذلك؟ A نقول: يجب أن يتوكل على الله في كل شيء حتى الطالب قد يذاكر ويحفظ وفي لحظة الاختبار يأتي السؤال من المكان الذي ذاكره وتخونه ذاكرته ولا يعرف من الجواب شيئاً. فإذاً: الاعتماد على الأخذ بالأسباب، وعدم التوكل على الله شرك؛ اسمه: شرك الأسباب؛ وهذا يؤدي إلى الانهيار إذا طلعت النتيجة غير المتوقعة، فلابد من التوكل على الله والأخذ بما يمكن أخذه من الأسباب الشرعية، أي: قد يأخذ الطالب بالأسباب غير الشرعية ويكتب (البراشيم) ويقول: نحن أخذنا بالأسباب. قالوا: إن واحداً أعمى قبض عليه في قاعة الاختبار، كلما سأله الممتحن سؤالاً أدخل يده في شنطة، فإذا به يغش على طريقة إبرايل، يمشي بأصابعه على الخروم المخرمة في الأوراق التي في الشنطة، وهو أعمى، فيجب أن تكون الأسباب شرعية وهذا شرط في عملية التوكل على الله والأخذ بالأسباب.

حكم المسابقات

حكم المسابقات Q ما حكم السحب على الكوبونات في المسابقات التي فيها دفع مال؟ A هي نوع من الميسر وهذا معروف.

ما يقول الإمام عند الرفع من الركوع

ما يقول الإمام عند الرفع من الركوع Q قول: سمع الله لمن حمده للإمام؟ A صحيحه، يجمع بين سمع الله لمن حمده وربنا لك الحمد.

حكم ستر العورة في سجود الشكر

حكم ستر العورة في سجود الشكر Q هل يشترط ستر العورة في سجود الشكر؟ A لا. لكن في سجود التلاوة يُشترط.

لبس (الشراب) للمحرم

لبس (الشراب) للمحرم Q ما حكم لبس المحرم للشراب؟ A لا يجوز لأنه من محظورات الإحرام، إلا إذا احتاج إليه فيخرج الفدية.

كلمة الجارية

كلمة الجارية Q كلمة (الجارية) تطلق على من؟ A تطلق الجارية على الأمة الأنثى من العبيد، وتطلق الجارية على البنت الصغيرة.

صحة حديث سواري كسرى

صحة حديث سواري كسرى Q حديث سواري كسرى؟ A ورد بسند مقطوع طرفاه، وأن عمر ألبسه سوارين لما جيء بهما لكن السند فيه مشكلة.

أخذ مقابل من الزوجة مقابل السماح لها بالتدريس

أخذ مقابل من الزوجة مقابل السماح لها بالتدريس Q استقطاع جزء من راتب الزوجة الموظفة مقابل السماح لها بالتدريس؟ A لا بأس إذا اصطلحت أنت وإياها على هذا فلا بأس. أقول: أنتِ تفوتي عليَّ جزءاً من الاستمتاع والخدمة فعوضيني بشيء مقابل أن تخرجي، فلا بأس بذلك. هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

العقوبات المعجلة للمعصية

العقوبات المعجلة للمعصية إن الرزق الحلال، والتوفيق إلى الطاعات، والمسرة والسعادة، وحلاوة العبادة ولذتها، والاستغناء عن الخلق واتباع الحق لهي الحياة الطيبة التي هي بغية كل إنسان. ولأجل الدعوة إلى ذلك جاءت هذه المادة موضحة نقيض ما سبق: الحياة الضنك، التي هي نتاج معجل للذنوب والمعاصي في تسعة آثار تلحق العاصي في الدنيا.

آثار السيئات

آثار السيئات إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى يعطي الحياة الطيبة للمستقيمين على شرعه كما قال عز وجل: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97] كما أنه يعطي المعيشة الضنك لمن يعصي الله تعالى، كما أخبر عز وجل: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:124] قال السلف في الحياة الطيبة: الرزق الحلال، وقيل: القناعة، وقيل: التوفيق إلى الطاعات، وقيل: المسرة والسعادة، وقيل: حلاوة العبادة ولذتها، وقيل: الاستغناء عن الخلق واتباع الحق، والحياة الطيبة تشمل جميع أنواع الراحة الدنيوية أياً كانت، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قد أفلح من أسلم، ورزق كفافاً، وقنعه الله بما آتاه) رواه مسلم

العيش الضنك

العيش الضنك وأما المعيشة الضنك: فإنها تكون بأمورٍ كثيرة يحس بها العاصي، قال ابن القيم رحمه الله: وآثار الحسنات والسيئات في القلوب والأبدان والأموال أمرٌ مشهودٌ في العالم، لا ينكره ذو عقلٍ سليم، بل يعرفه المؤمن والكافر، والبر والفاجر، وكما أن للحسنة نوراً في القلب وضياءً في الوجه، وقوة في البدن، وزيادة في الرزق، ومحبة في قلوب الخلق؛ فإن للسيئة في المقابل سواداً في الوجه، وظلمةً في القلب، ووهناً في البدن، ونقصاً في الرزق، وبغضاً في قلوب الخلق، وكذلك فإن المعاصي تورث قلة التوفيق، وفساد الرأي، وخفاء الحق، وخمول الذكر، وإضاعة الأوقات، ونفرة الخلق، ومنع إجابة الدعاء، وقسوة القلب، وحرمان العلم، ولباس الذل، وضيق الصدر، والهم والغم، وهكذا تتوالد هذه الآفات بسبب المعاصي

الحرمان من السعة في الرزق

الحرمان من السعة في الرزق والحرمان من السعة في الرزق بسبب الذنوب أمرٌ واضح [فإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه]. وقال الحسن رحمه الله لما شكا إليه رجلٌ الجدب: استغفر الله. وشكا إليه آخر الفقر فقال: استغفر الله. وشكا إليه آخر جفاف بستانه فقال: استغفر الله. وشكا إليه آخر عدم الولد فقال: استغفر الله. ثم تلا عليهم قوله تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} [نوح:10 - 12] ولذلك فلا تعجب إذا كانت المعاصي سبباً للطرد من وظيفة، أو تحصيل إنذارٍ في العمل، ومتعاطو المخدرات من أشد الناس فقداً لوظائفهم بسبب معاصيهم، وقد يترتب على المعاصي إتلاف عين المال، كما وقع لأصحاب الجنة الذين أتلف الله جنتهم وبستانهم بآفة سماوية أهلكت بستانهم وثمارهم، وأحرقتها، وجعلتها هشيماً يابساً، كما قال عز وجل: {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} [القلم:19 - 20]

هلاك مال العاصي

هلاك مال العاصي ولا تعجب يا عبد الله! من هلاك مال العاصي؛ لأن هناك ملائكة تدعو عليه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من يومٍ يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً) رواه البخاري، قال ابن حجر رحمه الله: وأما الدعاء بالتلف فيحتمل تلف ذلك المال بعينه، وقد يكون بمحق بركة المال، كما قال تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا} [البقرة:276] إما بأن يذهبه بالكلية من يد صاحبه، تذهبه النفقات والفواتير والأمراض وغير ذلك؛ من وجوهٍ تنفتح على صاحب الربا، تمتص ماله وتذهبه، وهذا ذهاب عين المال، وأما ذهاب البركة فلا يحس له بفائدة، ولا يطعم منه خيراً، إن هذا المعنى موجودٌ في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أحدٌ أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قِلة أو إلى قُلٍ) رواه ابن ماجة وهو حديثٌ حسن، ولذلك فإن هؤلاء الباعة الذين يغشون ويدلسون ويخفون عيوب السلع، وينزعون الملصقات المكتوب عليها بلدان التصنيع الحقيقية، ويضعون ملصقاتٍ أخرى لبلدان تصنيع وهمية، ونحو ذلك من أنواع الغش الذي يمارسونه في السوق، حتى قلما تجد صندوق خضرة أو فاكهة إلا ووجدت الرديء في أسلفه مغطىً بطبقةٍ جيدة فوقها، غش متكاثر، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في هؤلاء الباعة: (البيَّعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبيَّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما). ولذلك تجد كثيراً من هؤلاء الباعة بركة كسبهم ممحوقة، لا يستمتعون بمال، فإذا حلفوا على الكذب (فإن الحلف منفقةٌ للسلعة ممحقةٌ للبركة) كما روى البخاري رضي الله عنه في صحيحه

الحرمان من الرزق

الحرمان من الرزق وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن آثار المعاصي في الحرمان من الرزق في قوله: (ولم ينقص قوم المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين -أي القحط- وشدة المئونة، وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يُمطروا) وقد جعل الله سبحانه وتعالى هذا الحرمان أمراً داخلياً في نفس العاصي، فلو ملك كنوز الدنيا فهو لا يزال يحس بالجوع والحرمان؛ لأنه لا قناعة لديه، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (من كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يؤته من الدنيا إلا ما قُدِّر له) فتأمل قوله عليه الصلاة والسلام: (جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله) فمهما كان عنده من الأموال فلا قناعة تريحه، ويحس دائماً بأنه منقوصٌ مبخوس ولو كان عنده ملايين، فالشره سيعذبه، والحرص والجشع سيحطمه، وهكذا لا يستمتع بمال

الإصابة بالمسخ والأسقام والأوجاع والأمراض

الإصابة بالمسخ والأسقام والأوجاع والأمراض ثم إن للمعاصي -أيها الإخوة! - آثاراً سيئة على مرتكبيها في أنفسهم وأبدانهم، بما يصابون من المسخ والأوجاع والأسقام والأمراض، إن هذه المصائب قد تكون أوجاعاً ظاهرة، وقد تكون أوجاعاً نفسية، فأما الظاهرة فقد تكون بسبب عقوبةٍ شرعيةٍ حديةٍ، أي بالحدود والتعزيرات؛ كقطع يد السارق، وجلد شارب الخمر، ورجم الزاني ونحو ذلك، وقد تكون عقوبة قدرية في بدنه، فقد تكون على شكل مسخٍ، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (يكون في آخر هذه الأمة -ونحن في آخر الأمة نترقب حدوثه- خسفٌ ومسخٌ وقذفٌ) رواه الترمذي وهو حديثٌ صحيح، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليكونن من أمتي أقوامٌ يستحلون الحر -أي الزنا- والحرير - ثم قال: ويمسخ منهم آخرين قردةً وخنازير إلى يوم القيامة) فهذا مسخٌ حقيقي سيحدث بسبب المعاصي، فيصبح هؤلاء وقد مسخهم الله قردةً وخنازير، فيراهم الناس في صباح ذات يوم قردةً وخنازير، فهذه عقوبة حسية جسدية بالمسخ. وقد تكون بتسليط جنود الله الكونية، مثل هذه الميكروبات والفيروسات؛ فيصيبهم من الآفات ما الله به عليم، كما أخبر عليه الصلاة والسلام: (لم تظهر الفاحشة في قومٍ قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم) ومن تأمل ما حصل في هذا الزمان من الأمراض العجيبة التي ليس لها علاجٌ كمرض الإيدز وغيره؛ عرف أن هذه الإصابات عقوبة إلهية؛ لأنه مرضٌ لم يكن في أسلافنا الذين مضوا، فتنتشر هذه الآفات وتفتك بالملايين، ويقف الأطباء حيرى أمام هذه الأقدار الإلهية والعقوبات الربانية، لا يستطيعون بالرغم من تقدم علومهم، وتطور آلاتهم وأجهزتهم، ودقة مختبراتهم أن يقضوا على هذا المرض، بل لا زال ينتشر ويتفاقم ويودي كل يومٍ بالآلاف، وينتشر بالملايين، وهكذا يعاقب الله على المعاصي في الدنيا، ناهيك عن غير ذلك من الأمراض الجنسية وغيرها التي تصيب الناس بسبب وقوعهم في الزنا واللواط، وهذه القاذورات التي حرمها الله تعالى. وقد يكون المرض والألم مرضاً نفسياً، وأوجاعاً داخليةً ربما تفاقمت وزادت على بعض الأمراض الحسية، فالعبد قد يصيبه ألمٌ حسيٌ، فيطرحه عن قلبه ويقطع التفاته عنه، ويجعله في شقاء دائم، وهذه الآلام النفسية قد تكون عند بعض المسلمين بسبب تأنيب الضمير من جراء المعاصي التي وقعوا فيها، وقد تكون عند متبلدي الإحساس كآبة ووسوسة وهواجس، وحزن وخوف، وإقدام على الانتحار، وإصابة بالجنون، ومن تأمل الازدياد المريع في الحالات النفسية، والأمراض التي انتشرت، وعدد رواد عياداتها ومستشفياتها؛ علم قدر ما تؤدي إليه المعاصي من الفتك الذريع في نفوس هؤلاء: رعبٌ داخلي، وسوسة مستمرة، خوفٌ وهلع، قلقٌ وأرق، لا يأتيه النوم بسبب المعاصي. ويطلق زوجته، ويشرد أولاده، ويهجر أقرباءه، وهكذا يعيش العصاة مطاردون والبلاء داخل نفوسهم، فكيف يهربون والله يعاقبهم من الداخل والخارج

فقدان الأمن

فقدان الأمن وكذلك فقدان الأمن من آثار المعاصي، فتحدث المشكلات الكثيرة بسبب انتشارها، ويخاف الناس من بعضهم، وعلى أولادهم وممتلكاتهم بكثرة المعاصي

تسليط الأعداء

تسليط الأعداء وتسليط الأعداء من آثار المعاصي أيضاً، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذٍ؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاءٌ كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم) فإذا نزعت المهابة من صدور أعدائنا فإنهم سيتسلطون علينا بأنواع التسلط، فلا عجب في ذلك، وإذا صار بأسنا بيننا بسبب المعاصي والانحرافات العقائدية والعملية؛ فلا غرابة في ذلك، وإذا كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لما عصوه في أحد، وابتدروا الغنائم وتركوا المكان عوقبوا بتلك المصيبة العظيمة، كما جاء في الرواية: فلما أبوا صَرْفَ وجوههم أصيب سبعون قتيلاً، فما بالك بنا نحن ونحن أقل إيماناً وأضعف؟ ولذلك كان تسليط الأعداء علينا في هذا الزمان سبباً مباشراً وطبيعياً لما حدث عندنا من الانحرافات والمعاصي، ثم إن لله جنوداً يسلطهم؛ من ريحٍ مدمرة، أو زلازل مهلكة، أو براكين وهزاتٍ أرضية وصواعق وخسف وغير ذلك، وحتى عامة المسلمين يحسون بهذا. ولذلك وقعت مشاجراتٌ في تركيا بين بعضٍ عامة المسلمين وأصحاب الملاهي والخمارات، وقالوا لهم عيانا: أنتم سبب نكبتنا، وقام بعض العامة بالهجوم على شابٍ يُقَبِّلُ فتاة في الشارع بعد الزلزال بوقت، لا زالت الكارثة في أذهانهم ونفوسهم! ليقولوا وهم يهجمون: هذا سبب البلاء الذي نزل بنا، ولكن أصحاب الغفلة لا زالوا يصرون على تعليل هذه المصائب بأمورٍ دنيوية، وأنه لا علاقة للمعاصي بالقضية، ولا لترك الإسلام، وإذاً فقد كان المكان الذي ضربه الزلزال هو الذي اتخذ فيه قرار مواجهة المسلمين، وكذلك الإصرار على تنحية شرع الله، وليتهم يتعظون، فها هم يسنون القوانين لأجل تغيير أحكام قوامة الرجل على المرأة بحيث تخرج وقتما تشاء، وتكون حرةً في حياتها، وتشاركه في المقابل في النفقة، وهذا عين الفساد الذي أصاب الأسر الغربية، ولكن الله إذا طمس البصائر فلن تملك لهؤلاء هادياً ولا نوراً يدخل إلى قلوبهم. اللهم إنا نسألك بأنك أنت الله الحي القيوم أن ترزقنا التوبة من المعاصي، اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وإذا أردت بعبادك فتنةً فاقبضنا إليك غير مفتونين، إنك سميعٌ مجيب قريب، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم، وأوسعوا لإخوانكم يوسع الله لكم

الحرمان من نور العلم

الحرمان من نور العلم الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، ملك يوم الدين، أشهد أنه لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. عباد الله: إن من أشد العقوبات على المعاصي: الحرمان من نور العلم، فقد قال الله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282] فجعل التقوى سبب تعلم العلم، ولذلك تكون المعصية في المقابل وهي ترك التقوى سبب الخذلان والحرمان من العلم [إني لأحسب الرجل ينسى العلم بالخطيئة يعملها] وقال بعض السلف لآخر من أهل العلم يوصيه: إني أرى الله قد ألقى على قلبك نوراً فلا تطفئه بظلمة المعصية، وصية عظيمة من مالك للشافعي لِمَا رأى من فطنته وذكائه، يوصي بها كل مدرسٍ كل طالبٍ يرى عليه مخايل الذكاء والنجابة، والفهم العميق، فيقول: لا تطفئ ذلك بظلمة المعصية، وكم من نجباء وأذكياء ضاعوا في خضم المعاصي، فلم ينفعهم ذكاؤهم، ولم يوجه إلى خيرهم ونفعهم، ولا نفع غيرهم من المسلمين، وقد يكون للطائع من التوفيق في اتخاذ القرارات في الطاعات في بعض المسائل التي لا يعلم حكمها، ويقع فيما لا بد من اتخاذ قرارٍ فيه، فيصيب الحق بنور الطاعة، بينما يخسر آخرون كثيرون فلا يهديهم الله تعالى لإصابة الحق، إن من أساسيات طالب العلم البعد عن المعاصي حتى يوفقه الله للفهم، ويمكنه من التعلم: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282].

النفور الاجتماعي

النفور الاجتماعي ومن الآثار الفضيعة للمعاصي والذنوب: النفور الاجتماعي الذي يصاحب العاصي، فالمعاصي تُلحق بصاحبها بغضاً ومعاداة ونبذاً اجتماعياً رهيباً، والله تعالى لما أمر بإقامة حد الزنا قال: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2] فأراد الله إلحاق الأذى والذل بهؤلاء، وعدم الشفقة عليهم، وأن تكون الفضيحة بحضرة مجمعٍ من الناس ليكون أبلغ في الزجر والإهانة، ويحدث النفور الاجتماعي، والبغض في قلوب الخلق، وكذلك تغريب الزاني عاماً، فتحصل الوحشة في قلبه، وهكذا تكون الحدود من أسباب إهانة هؤلاء. ثم إن الشهادة عند القاضي المردودة بالمعصية من آثار هذا، وقد قال عز وجل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:4] فالله تعالى حكم عليهم بالفسق وأمر ألا تقبل شهادتهم، وسلب اسم الإيمان عنهم، وألحقهم بأسماء الفسق، فقال: {بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ} [الحجرات:11]. والإنسان العاصي يُسلب أسماء المدح والشرف؛ كالمؤمن والبر، والتقي والمنيب، والولي والأواب، والعابد والخائف، ويبدل بدلاً بذلك أسماء الفجور والمعصية؛ كالمفسد والخبيث، والزاني، والسارق، والقاتل، والكاذب، والقاطع، والغادر، ونحو ذلك، هذه الأسماء التي تجعل له وحشةً في قلوب الخلق فينفرون منه. وإن من الشؤم أن ينبذ الإخوان في الله صاحبهم العاصي من جراء معصيته، وهو يحس بأنه لا مكان له بينهم بسبب معاصيه، ويحس بأن قلوبهم قد تغيرت عليه، وأن هناك نفرةً، حتى ولو لم يؤذهم فإنه يحس بأن العلاقات متغيرة، وأن الوحشة حالة، وأن هناك تغيراً دون سببٍ ظاهرٍ، ولكن الله يوحش قلوب المؤمنين على العاصي؛ فلا يستقبلونه كما كانوا يستقبلونه، ولا يرحبون به كما كانوا يرحبون، ولا يكرمونه كما كانوا يكرمونه بسبب المعصية التي فعلها، وهكذا تتراكم المعاصي على قلب العاصي؛ فتهجره زوجته، ويستوحش منه أولاده وجيرانه، وهذه العلامة يحس بها العاصي إذا كان من حوله من عباد الله الصالحين، أما إذا كانوا من الفاسقين من مثله، فإنه قد لا يحس بشيء، بل هو في غفلته مع من يعمهون، ولذلك كان الانتظام في أهل الخير من أسباب سرعة الرد إلى الحق، عندما يحس العاصي بالوحشة فيسارع إلى التوبة والأوبة، والعودة إلى زمرة الصالحين، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا التقوى، وأن يجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن.

المسلمون في الشيشان

المسلمون في الشيشان عباد الله! إن إخواننا في الشيشان يعيشون اليوم محنةً عصيبة بما حشد هؤلاء الكفرة عليهم، ومن يؤيدهم من النصارى واليهود في العالم، من هذه القروض التي تتوالى، والسكوت الذي يتعاظم، وعندما يريد أهل تيمور النصارى الاستقلال يفزع إخوانهم في الغي إليهم، وعندما يريد المسلمون في الشيشان أن يكون لهم كيانٌ مستقل فالخذلان، بل والتأييد على حرمانهم من حقوقهم، ولا عجب في ذلك، فإن الله قد أخبرنا أن الكافرين بعضهم أولياء بعض، ولا يُنتظر من كافرٍ حماية لمسلمٍ أصلاً، ولو فعلوا ذلك نادراً فإنما هو لمصالحهم، لا من أجل سواد عيون المسلمين، إن هؤلاء النصارى الروس يتقدمون نحو نهر تيريك الكبير ليشكلوا حاجزاً بينهم وبين بقية بلاد الشيشان والداغستان، وتكون حينئذٍ المنافذ الوحيدة للسيارات والشاحنات والأفراد هي الجسور المعلقة التي يسيطرون عليها، ثم ينقلون العملاء إلى هذا المكان الذي احتلوه ويقيمون فيه كياناً يدفعون إليه اللاجئين، ويغدقون عليهم من أنواع الأموال، والمزايا الدنيوية ما يجعل الشطر الآخر فقيراً معدماً، ويجعل هذا الشطر الذي صار تحت حمايتهم غنياً تقوم فيه أنواع الخدمات المختلفة، ولا شك أن هذه الخطة الخبيثة التي ستقطع جزءاً كبيراً من أراضي المسلمين إنما هي نتيجة طبيعية لمكر هؤلاء الكفرة، نسأل الله عز وجل أن يرد كيدهم في نحورهم، وأن يجعل تدبيرهم تدميراً عليهم، وأن يرزق إخواننا القيام بالجهاد الحق في ذلك المكان، لنشر الإسلام وإقامة الدين، وطرد أعداء الله النصارى الحاقدين. اللهم دمر الروس ومن والاهم، اللهم اجعل بأسهم بينهم، فجر بلادهم، وزلزل أقدامهم، وأنزل عليهم عذاباً من فوقهم، الله أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً. اللهم فرق شملهم، وشتت جمعهم، الله اجمع كلمة المسلمين على جهادهم، وأيقظ في قلوب المؤمنين الحمية لقتالهم، اللهم اجعلنا ممن يشد أزرهم، ويعينهم على مصابهم، اللهم اجعلنا إخوةً في سبيلك متكاتفين، واغفر لنا ذنوبنا يا رب العالمين، اللهم آمنا في بلداننا يا أرحم الرحمين، واجعل بلدنا هذا آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، آمنا في الأوطان والدور، وأرشد الأئمة وولاة الأمور، واحفظنا بحفظك، واغفر لنا يا عزيز يا غفور. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالم

حاملة الأمانة

حاملة الأمانة إن الله سبحانه وتعالى عرض حمل الأمانة على السماوات والأرض فأبين حملها، ثم حملها الإنسان لظلمه وجهله. والمرأة شريكة الرجل في حمل الأمانة وأعبائها، وعليها أمانات كثيرة، وقد بين الشيخ حفظه الله أموراً كثيرة من الأمانات التي يجب على المرأة تحملها.

أهمية الأمانة وعظمها

أهمية الأمانة وعظمها الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وعلى آله وصحبه أجمعين. أيتها النساء الحاضرات: أيتها الفتيات المستمعات! السلام عليكن ورحمة الله وبركاته. أما بعد: فهذه فرصة أخرى من الفرص الطيبة التي نلتقي فيها من وراء حجاب كما أمر الله سبحانه وتعالى، في هذا المبنى وفي هذه الكلية، أسأل الله عز وجل أن يجعل اجتماعنا اجتماعاً مرحوماً، وأن يجعل تفرقنا بعده تفرقاً معصوماً، وألا يجعل فينا شقياً ولا محروماً. أيتها الفتيات المسلمات: أيتها النساء! موضوعنا في هذا اليوم بعنوان: حاملة الأمانة، وهو موضوع خطير وحساس؛ لأنه ينبع من الأمانة التي خلقنا الله سبحانه وتعالى لأدائها، قال الله عز وجل: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَات وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72] هذه الأمانة التي أشفقت السماوات باتساعها والأرض بامتدادها والجبال بشموخها وثقلها أشفقن من حملها، وحملها الإنسان. والإنسان فيه ظلم وجهل، ولذلك كان حمله لهذه الأمانة يحتاج إلى إعانة من الله وتعليم وعون من الله ليقوم بهذه الأمانة: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58]. فيجب عليك -أيتها المسلمة- أداء الأمانة التي كلفت بها إلى أهلها، وأنت تعلمين أن من أشراط الساعة تضييع الأمانة كما قال صلى الله عليه وسلم: (إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة). ما هي الأمانات المرتبطة بك أيتها المرأة المسلمة؟ إن هذه الأمانات متعددة، فمنها: أمانة الجوارح، وأمانة العبادة، وأمانة العلم، وأمانة الزوج، وأمانة الأولاد، وأمانة المال، وأمانة الدعوة، وأمانة المشاعر والأحاسيس. هذه بعض أنواع الأمانة المناطة بك والتي أنت مكلفة بالقيام بها وإعطائها حقها. إذاً -أنت أيتها المسلمة- تحملين أموراً ثقيلة، وأنت مكلفة بأداء مهمات صعبة، فاسألي الله العون والثبات لتحمل هذه الأمانة وأداء هذه المسئولية، والله قد وعدكِ بأنه سيعينك ويثيبك ويجزيك الجزاء الأوفى إذا كنت قمتِ بهذه الأمانات وتحملت التبعة: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً} [النساء:124] {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97] {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} [غافر:40] فالله قد وعدكِ أنه سيعطيك ويضاعف لك ويكون معك؛ إذا أنتِ آمنتِ وإذا حييتِ الحياة الطيبة وقمتِ بأداء الأمانة إلى أهلها وحملتِ هذه الأمانة فأعطيتها حقها، والويل كل الويل لمن تضيع أو تقصر في حمل هذه الأمانة بأنواعها. فلنأت أيتها المسلمات على بعض أنواع الأمانة، ولنذكر -يا حاملة الأمانة- لكِ شيئاً من هذه الأمانات علَّ الله تعالى أن يبصر بها، وأن يذكر المقصرات وأن يدفع المخلصات ويعينهن على حمل هذه الأمانات.

أمانة الجوارح

أمانة الجوارح أولاً: أمانة الجوارح: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} [الإسراء:36] فأنتِ محاسبة -أيتها المسلمة- على هذه الأعضاء والجوارح، أنتِ محاسبة على اللسان والسمع والبصر والتذوق والشم واللمس واليد والرجل وسائر الحواس والأعضاء والجوارح. فأنت أُعطيتِ هذه لتعبدي الله بها، فهذه أمانة ينبغي القيام بحقها، هذه الجوارح وسائل ينبغي أن توجه وتستعمل في طاعة الله سبحانه وتعالى.

أمانة اللسان

أمانة اللسان اللسان يستعمل في طاعة الله: تلاوة القرآن الأذكار الشرعية أذكار الصلاة من التكبير والتسبيح والتشهد والدعاء أذكار الصباح والمساء أذكار النوم الاستيقاظ العطاس السلام دخول الخلاء كفارة المجلس الاستخارة، الأذكار كلها بأنواعها، هذه من عبودية اللسان استخدام اللسان في السلام، إلقاء ورداً والأمر بالمعروف باللسان والنهي عن المنكر باللسان تعليم الجاهل أداء الشهادة الصدق في الحديث مذاكرة العلم. وينبغي أن تكفي اللسان عن استعماله فيما حرم الله، كالنطق بالكفر والاستهزاء بالدين، ككثير من هذه النكت أو الطرائف الموجودة التي فيها استهزاء بالجنة أو النار، أو يوم المحشر والحساب والجزاء، أو صفات الله سبحانه وتعالى، أو النبي صلى الله عليه وسلم، أو صحابته، أو شيء من شعائر الدين والعبادات، وأن تكفي اللسان عن النطق بالبدع المخرجة عن الملة وغير المخرجة عن الملة، البدع التي هي شر ما عمل العباد، وتحسينها وتقويتها، فعليك الكف عن ذلك كله، والكف عن الدعوة إليها واتباع السنة، الكف عن القذف، كاتهام بريئة بأنها زانية، أو سارقة، أو أنها بنت حرام، أو سب وشتم ولعن، وما أكثر اللعن في أوساط النساء، عدي هذه الصفة الذميمة -اللعن- كما قال صلى الله عليه وسلم: من أسباب دخول النساء النار: (يكثرن اللعن) الكذب وشهادة الزور والقول على الله بلا علم، ما أكثر اللاتي يفتين بغير علم وينقلن فتوى لا أساس لها، ما أكثر اللاتي يعطين الآراء المجردة عن الأدلة، يعطين الأدلة من عقولهن القاصرة مجردة عن العلم، فيقلن على الله بلا علم، ما أخطر القول على الله بلا علم! وما أعظمه! وما أشد إثمه! وما أكثر المتساهلات بالإفتاء! أو الكلام بأحكام الدين بغير دليل ولا بصيرة ولا نقل لأقوال أهل العلم، ظناً وتخرصاً، أو تقول: هكذا هو بالعقل. هذه الآفات من آفات اللسان خيانة للأمانة، أكثر ما يكب الناس في النار على وجوههم -يا فتاة الإسلام- هو حصائد ألسنتهم، كم أودى اللسان بمسكينات إلى النار، وكم أدخلهن جهنم من أبواب عدة، هذه المكالمات الهاتفية المحرمة مع الرجال الأجانب تجري في النهار والليل معصية لرب العالمين، خيانة للأمانة، استخدام اللسان فيما حرم الله، كلمات فاحشة، أنواع من الخنا والفجور يقال بالهاتف يتكلم بها مع من حرم الله الكلام معه، وبطريقة حرم الله الكلام بها هذه الخيانة من نماذج الخيانة للأمانة.

أمانة النظر

أمانة النظر ثم أعطاك الله نظراً وبصراً، فكيف تقومين بأداء الأمانة والوفاء بحقها؟ النظر في المصحف عبادة قراءة القرآن ومتابعة هذه الأحرف والكلمات بالبصر والنظر في كتب أهل العلم لزيادة الإيمان ومعرفة الأحكام النظر في السلع والأغذية لتمييز الحلال من الحرام، فهذا فيه صورة ذات روح لا يؤخذ، وهذا فيه صليب لا يؤخذ، وهذا فيه أشياء من الأمور المحرمة والدهون المحرمة فلا يؤخذ ولا يشترى، النظر في أمانات الناس لردها إليهم، وتمييز بعضها عن بعض هذه أمانة: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58] النظر في آيات الله في المصاحف أو النظر في آيات الله المنثورة في الكون والآفاق، في الجبال والشجر والمياه والأمطار والنجوم والسماء وغيرها من الشواهد الدالة على وحدانية الله. إن من الخيانة لجارحة العين، والإخلال بحقها استعمالها في معصية الله من أنواع النظر المحرم، كالنظر إلى صور الرجال بالفتنة والشهوة، والنظر إلى العورات -حتى عورات النساء- بأنواعها سواء العورات من وراء الثياب أو عورات من وراء الأبواب، والنظر إلى الأفلام والمسلسلات، وما أكثر اللاتي يخن الأمانة بالنظر إلى ما حرم الله من هذه الأفلام، التي تعلم الفحش وتعلم إقامة العلاقات المحرمة، والتي تنزع الحياء نزعاً من نفس المرأة المسلمة، والنظر إلى المجلات التي تلقي الشبه في الدين والعقيدة، المجلات التي تجرئ الفتاة المسلمة على الخروج وقول: لا، لتعاليم الشريعة، المجلات التي تجرئ الفتاة على إقامة العلاقات مع الجنس الآخر دون حياء ودون حواجز شرعية.

أمانة السمع

أمانة السمع أعطاك الله سمعاً، وأراد الله منك أن تستخدمي السمع فيما يحب، فمن القيام بالأمانة الإنصات بهذا السمع إلى ما يحبه الله ورسوله، استماع الإسلام وفروض الإيمان وقراءة الإمام في الصلاة الجهرية، واستماع العلم والفتاوى وذكر الله سبحانه وتعالى، والمواعظ، واستماع ما يحمي القلوب. وتجنب السماع المحرم، كاستماع الكفر والبدع إلا لمن يرد عليها، والتجسس على خلق الله، والتي تستمع إلى حديث امرأة وهي كارهة لاستماعها يصب في أذنها الآنك -الرصاص المذاب- يوم القيامة استماع أصوات المغنين والمغنيات، بل حتى المنشدات التي يفتن النساء بأصواتهن حرام لا يجوز استماع المعازف وآلات اللهو والطرب، وما أكثر النساء اللاتي لا يبالين بسماع صوت وتر أو عود أو آلة موسيقية أو فرقة بأكملها قرآن الشيطان يصب في آذان المسلمات صباً تقبل عليه اللاتي لا يرجين الله ولا الدار الآخرة استماع الغيبة والنميمة والفحش، ثم استماع الصوت الفاجر عبر جهاز الهاتف في هذه الاتصالات المحرمة، هذا الاستعمال خيانة للسمع، وستحاسب هذه الفتاة على انتهاك حدود الله بهذا السماع المحرم.

أمانة الذوق

أمانة الذوق حاسة التذوق نعمة من الله، تذوق الحلال وأكل الطعام لكي تحافظ على حياتها تذوق الدواء للعلاج تذوق الزوجة طعام الزوج أو طعام ضيوفه ومؤاكلة المرأة المسلمة لضيفتها وأكلها من طعام الوليمة -وبعض أهل العلم يرى وجوبه- كما إن إجابة الوليمة واجبة إذا كانت خالية من المنكرات. وأما التذوق المحرم فأنواع لا تعد ولا تحصى، كتذوق الخمور والمخدرات والسموم والتدخين، أو الأكل والشرب حال الصيام دون عذر شرعي، وتذوق الأمور المشتبهة، كالأكل من بيوت الذين كسبهم من الحرام كموظفي البنوك الربوية، والأكل فوق الحاجة والتخمة، وتذوق طعام الفجأة -أو الفجاءة- وهي المرأة المتطفلة على القوم التي تأتي بغير دعوة، أو تدخل على امرأة أخرى في بيتها دون أذن، فتذوقك لطعام من يطعمك حياء منك من غير طيب نفس لا يجوز، ومن أنواع التذوق أيضاً المنهي عنه: أكل طعام المرائين في الولائم والدعوات، الذين يعقدون الولائم والحفلات رياء ومفاخرة، فلا تتذوقي طعامهم.

أمانة الشم

أمانة الشم أعطاك الله حاسة الشم، تميزين بها بين الطيب والخبيث، والنافع والضار، وتشمين الروائح الطيبة، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يحب الطيب ولا يرد الريحان. ثم طالبك الشارع بأن تمتنعي عن شم المحرمات وشم ما يحرم شمه في حالة معينة، كشم الطيب في الإحرام، أو شم الطيب المغصوب والمسلوب واستعماله، أو شم طيب الرجل الأجنبي والافتتان به، أو شم طيب الظلمة والتبخر ببخور أصحاب المحرمات.

أمانة اللمس

أمانة اللمس أعطاك الله حاسة اللمس تمسين بها ما يجب مسه ويستحب مسه، كمس الأرض في السجود، ومس الحجر الأسود والركن اليماني في الطواف، ومس المصحف عند القراءة فيه وتقليب صفحاته، وكتب العلم، ومس ما تميزين به بين الحلال والحرام والطيب والخبيث، ومس الزوج بالحلال، ومس الأطفال بالحنان، ومصافحة الأخت المسلمة، وتقبيل الأبوين، ومصافحة المحارم بلا فتنة، ومس أجهزة التسجيل المفيدة لسماع مفيد. وحرم الله عليك لمس أمور ومحرمات كمس جسد الأجنبي ولو من وراء حائل كمصافحة الأجنبي مثلاً، ويحرم عليك لمس كل ما لا يجوز النظر إليه ولو عورة المرأة، فلا يجوز مس عورة امرأة بغير ضرورة شرعية، لا بحائل ولا من وراء حائل، وكذلك مس الزوج في الصيام مساً يؤدي إلى إفساد الصيام، أو مس الزوج بشهوة في الإحرام وقبل طواف الإفاضة، ومس الأمور الضارة، ومس صفحات المجلات وأزرار مذياع الموسيقى وفديو الأفلام الخليعة، ومس سماعة الهاتف بالإثم والعدوان.

أمانة اليد

أمانة اليد وأعطاك الله يداً -يا فتاة الإسلام- أمانة من الأمانات، ماذا تفعلين بها؟ وكيف تقومين بأداء الأمانة بها؟ إعانة المسكينة إغاثة الملهوفة مساعدة الضعيفة رمي الجمار استلام الركن اليماني والحجر الأسود الوضوء وغسل الأعضاء، والتيمم عند عدم الوضوء وبالعذر الشرعي تكسير أدوات المنكر وإتلافها استعمال أنامل اليدين لكتابة ما فيه دفاع عن الدين ومصلحة للإسلام والدعوة إلى الله تعينين صانعة أو تصنعين لمرأة خرقاء لا تحسن أن تصنع، وإفراغك من دلوك في دلو أختك لك صدقة. وحرم الله استخدام اليد، فمن خيانة اليد قتل النفس التي حرم الله، وضرب من لا يحل ضربه، ولعب الألعاب المحرمة، مثل ما كان فيه نرد، أو ورق اللعب المعروف، وكتابة الكفر والإلحاد، وقد سمعنا عن بعض النساء اللاتي يكتبن المقالات ويدبجنها وفيها خروج عن ملة الإسلام، وتشكيك في أهل الدين واتباع لمنهج أهل الكفر والعلمنة، ويكتبن المقالات لدعم تيار العلمنة والفسق في المجتمع، وتيار البدع والحداثة: {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة:79] كذلك كتابة الزور والظلم والافتراء، وعمل السحر باليد ووضعه في البيت أو في الطعام كتابة خطابات الحب والغرام والفسق، يوم تشهد عليهم أيديهم وألسنتهم بالسوء إمساك سماعة الهاتف لسماع الكلام المحرم، يوم تنادي عليهم جوارحهم بالويل والثبور يوم القيامة: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} [آل عمران:182] فهل تريدين أن تشهد عليك يداك بالخير أو بالشر يوم القيامة؟ يوم يتبرأ الإنسان من هذه الحواس التي استخدمها في المعصية، وتقول المرأة لحواسها: تباً لكن فعنكن كنت أناضل، يوم يختم على فيها فتشهد عليها رجلها ويدها وعينها وسمعها ولسانها بما عملت: {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمْ اللَّهُ دِينَهُمْ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [النور:25].

أمانة الرجل

أمانة الرجل أعطاك الله الرجل فكيف تقومين بأداء الأمانة فيها؟ المشي إلى الصلاة الطواف بالبيت والسعي بين الصفاء والمروة السعي لطلب العلم المشي لحضور الحلقات والمواعظ المشي لإجابة الدعوة المشي لصلة الرحم وزيارة أخت في الله. وتخان أمانة الرجل عندما يمشى بها إلى المعاصي، وكل ماشٍ في معصية الله فهو من جند إبليس موعد محرم لحفلة بدعية، كعيد ميلاد أو مولد أو حفلة محرمات، زفاف موسيقى وتصوير، ومناسبة اختلاط وحضور مجالس غيبة. فهذه أمانة الجوارح وشيء منها، فهل ستقوم المرأة المسلمة بالوفاء بهذه الأمانة واستخدام هذه الجوارح فيما يرضي الله أم أنها ستندم ندماً يوم القيامة؟ {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمْ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنْ الْخَاسِرِينَ * فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنْ الْمُعْتَبِينَ} [فصلت:19 - 24].

أمانة العلم

أمانة العلم ثانياً: أمانة العلم. أمانة العلم أمانة عظيمة. فالمرأة الجاهلة أسهل شيء على إبليس وأهونه وأحقره، والمرأة العالمة بشريعة الله المتفقهة بدين الله ما أصعبها على إبليس وما أشد مراسها، بل إنه ربما يئس منها يأساً شديداً، حتى لا يكاد يستطيع أن يضرها بشيء. وهذا دين ليس بلهو ولا لعب، فلابد من القيام بأمانته: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] وقد أمرك الله بالقيام بهذه الأمانة وهي أمانة طلب العلم الشرعي، فقال الله لك وللنساء من قبلك: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34] وقال رسوله صلى الله عليه وسلم: (طلب العلم فريضة على كل مسلم) لما أحست النساء المسلمات بهذه الأمانة قمن مجاهدات جاهدات في حقها، وفي سبيل تحصيل العلم أحست المرأة أنها أمانة فذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تقول: (يا رسول الله! ذهب الرجال بحديثك، فاجعل لنا من نفسك يوماً نأتيك فيه تعلمنا مما علمك الله، فقال صلى الله عليه وسلم: اجتمعن في يوم كذا وكذا في مكان كذا، فاجتمعن، فأتاهن، فعلمهن مما علمه الله). كان استشعار أمانة التعلم يدفع المرأة للاستجابة للأمر النبوي، للخروج لصلاة العيد حائضاً وغير حائض، وتقول إحداهن: (يا رسول الله! إحدانا لا يكون لها جلباب؟ قال: لتلبسها أختها من جلبابها). الأمانة يا أيتها الفتاة المسلمة! يا أيتها الأخت في الدين والعقيدة! الأمانة هي التي دفعت النساء إلى التفقه في الدين وعدم الحياء في هذا الأمر، كما قالت عائشة: [نعم النساء نساء الأنصار، لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين] جاءت أم سليم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: (يا رسول الله! إن الله لا يستحي من الحق -هذه مقدمة جميلة- فهل على المرأة من غسل إذا احتلمت؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم إذا رأت الماء، فقالت أم سلمة وكانت تسمع: يا رسول الله! أوتحتلم المرأة؟ فقال: تربت يداك! فبم يشبهها ولدها؟!) إذاً هي لها ماء كماء الرجل، فإذا احتلمت وخرج منها الماء فإن عليها الاغتسال. فما منعها الحياء أن تسأل وتتفقه لأنها تعلم أن هذه أمانة، وأمانة طلب العلم لابد أن تقوم بها. الأمانة هي التي دفعت النساء الصالحات من أوائل هذه الأمة لحفظ أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، كما فعلت حبيبة محمد صلى الله عليه وسلم الفقيهة الربانية المبرأة من فوق سبع سماوات، أفقه نساء هذه الأمة على الإطلاق، تزوجها وهي بنت تسع سنوات وأقام معها تسع سنوات، وفي هذه التسع السنوات تعلمت علماً جماً؛ لأنها أحست بالأمانة، وأنها لابد أن تحمل الأمانة، توفي عنها النبي صلى الله عليه وسلم وعمرها ثماني عشرة سنة، إنها أصغر منكن -يا أيتها المستمعات- إنها في السن أقل منكن -يا أيتها الحاضرات- في تسع سنين حفظت آلاف الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وروتها، فلما مات عليه الصلاة والسلام ملأت أرجاء الأرض علماً، فروت علماً كثيراً طيباً مباركاً فيه، عن زوجها وعن أبيها وعن غيرهم. أمانة العلم هي التي دفعت نساء الصحابة إلى التعليم بعد أن حفظن العلم، رأيت مشيخة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يسألون عائشة عن الفرائض، ولو جمع علم الناس كلهم وأمهات المؤمنين لكانت عائشة أوسعهم علماً، كانت يتعجب من فقهها وعلمها ويقول الرجل: ما ظنكم بأدب النبوة. يقول عروة ابن أختها: لقد صحبت عائشة فما رأيت أحداً قط كان أعلم منها بآية نزلت، ولا بفريضة ولا بسنة ولا بشعر ولا أروى له ولا بيوم من أيام العرب ولا بنسب ولا بكذا ولا بفضائل، فقلت لها: يا خالة! الطب من أين علمتيه؟ فقالت: كنت أمرض فينعت الشيء ويمرض المريض فينعت له -يعني: يوصف الدواء- وأسمع الناس ينعت بعضهم لبعض فأحفظه. هذه الأمانة في طلب العلم هي التي دفعت النساء المسلمات بعد ذلك للحفظ وأداء الأحاديث، وجعلت من النساء عالمات فقيهات بلّغن الأمانة، كانت بنت الإمام مالك تسمع من وراء الباب قراءة طلابه عليه، فإذا غفل أبوها ولحن القارئ وأخطأ؛ دقت الباب، فيعلم أبوها أن القارئ قد أخطأ فيقول: ارجع فالغلط معك. حتى جارية الإمام مالك اشترى خضرة وكانوا لا يبيعون الخضرة إلا بالخبز فقال لها: إذا كان عشية حين يأتينا الخبز فأتينا نعطك الثمن، قالت: ذلك لا يجوز، فقال لها: ولماذا؟ قالت: لأنه بيع طعام بطعام غير يد بيد، فسأل عن الجارية فقيل له: إنها جارية مالك بن أنس فهذا أشهب تعلم من جارية مالك بن أنس. وهذه بنت سعيد بن المسيب رحمها الله ورحم أباها، هذه المرأة التي حفظت عن أبيها علماً جليلاً، هذه المرأة لما تزوجت وأراد زوجها أن يخرج للقاء أبيها العالم، قالت له: إلى أين تريد؟ قال: إلى مجلس سعيد أتعلم العلم، قالت: اجلس أعلمك علم سعيد، اجلس أعلمك علم أبي. لما استشعرت النساء المسئولية قمن لله سبحانه وتعالى لتعلم أحكام الدين والشريعة، وحفظ القرآن والأحاديث. كيف تقومين بأداء أمانة العلم الشرعي أيتها المرأة المسلمة؟ لابد أن تتعلمي كيف تقرئين القرآن، وكيف تحفظينه، وكيف تسمعينه، وكيف تتدبرين معاني القرآن؟ لابد على الأقل أن يكون عندك تفسير بسيط لمعاني القرآن، فتتعلمين معاني ما أنزل الله بدلاً من أن يكون طلاسم ومبهمات، وهو كلام ربك، وأنتِ تفهمين في الموضات والأزياء وفن الطبخ أكثر مما تفهمين من كلام الله، هذا لعمر الله من أعظم ما يسبب الخجل من النفس، مصيبة وطامة، بل هل تفهم سائر نسائنا معاني مفردات بسيطة في سور قصيرة يقرأنها دائماً، وهل يعرفن معنى الصمد والفلق والخناس والغاسق ووقب فضلاً عن معنى {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً * {فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً} [العاديات:1 - 2] أليس أمراً مؤسفاً ألا تعلم كثير من النساء معاني الآيات. ثم لابد أن تتعلمي حديث النبي صلى الله عليه وسلم ومعانيه، وتميزي بين الصحيح والضعيف، وما اشتمل عليه الحديث من الأحكام. لابد أن تتعلمي العقيدة، فأركان الإيمان الستة مهمة جدا، ً والسيرة النبوية والفقه وأركان الإسلام، وأحكام النكاح، خصوصاً إذا أردت الزواج. معرفة مخططات الأعداء، من حمل أمانة العلم -أيتها الفتاة المسلمة -الاستفتاء بالطريقة الشرعية سؤال الثقات من أهل العلم الصدق في السؤال وعدم التلاعب في صياغته كما يحدث من بعض النساء عدم تتبع الرخص والتنقل من شخص إلى آخر بحثاً عن منفذ اتباعاً للهوى، ولابد لك من القراءة في الكتب والبحث والاطلاع.

أمانة المال

أمانة المال ثالثاً: أمانة المال. لقد أعطانا الله سبحانه وتعالى هذا المال واستخلفنا فيه؛ لينظر سبحانه وتعالى كيف نعمل بالمال، أنتِ تأخذين مكافأة من الكلية، وإذا توظفتِ تأخذين راتباً، وكثير من النساء عندهن أموال من عطايا الآباء أو الأزواج، وربما يكون عندها إرث؛ فتكون ذات مال، فماذا تفعل بهذا المال؟ والمال أمانة يجب القيام بها. هل تؤدين زكاته؟ بعض النساء لديهن أسهم في الشركات، وأموال وأرصدة في المصارف، ومَن مِن النساء ليس لديها حلي؟ هذا كله من أنواع المال، وقد يكون لها أرض باسمها مسجلة، هل تعلم المرأة أحكام الزكاة لتؤدي حق المال؟ وأمانة المال أن تأخذه من حله فتصرفه في حقه، فهل تكسبه من حلال؟ بعض النساء يسرقن، والله! سمعنا عن حوادث مخجلة من دخول بعضهن إلى محلات وأسواق فيأخذن خلسة، فيخفين في الثياب، ويضعن في هذه المحافظ الموجودة والشنط اللاتي يحملنها، وربما سرقت المرأة من بيت امرأة أخرى، وربما أتت بعد سنوات تتوب وتقول: ماذا أفعل الآن هذه الأسورة التي سرقتها من بيت فلانة محرجة في ردها؟ بعض النساء يعملن في أعمال راتبها حرام؛ كأن تعمل في بنك ربوي أو تعمل في مكان فيه اختلاط وتبرج وفتنة، فكيف يجوز لها أن تعمل وما حكم الراتب التي تأخذه؟ وأعداء الإسلام يخططون لكي يفتحون مجالات عمل محرمة للنساء، فتعمل النساء فيها. كثير من النساء في البلاد الإسلامية والعربية يعملن في مجالات عمل إما أن تكون محرمة أصلاً كالبنوك الربوية، أو محرمة لما يقترن بها من الاختلاط والسفور والتبرج واحتكاك الرجال بالنساء، ولمس المرأة للرجل ونحو ذلك، فهل هذا المال حلال عليها أم أنها ستسأل عنه يوم القيامة من أين اكتسبته وفيما أنفقته؟ أين تنفقين أموالك يا فتاة الإسلام؟ هل تنفق لشراء أفلام وقصص حب وغرام، أو لشراء مجلات تافهة تحطم العقيدة في النفوس وتزلزل كيان الدين، وتلقي الشبه عن النكاح وعن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، وعن تعدد الزوجات وعن أمور كثيرة جداً في عدل الشريعة، وأن الشريعة ما عدلت، وأن الشريعة ظلمت المرأة؟ المجلات المحرمة الموجودة الآن المنتشرة ابتداء من فتاة الغلاف وحتى دعاية التدخين الموجودة على الغلاف الآخر، وما بينهما طامات كثيرة تشترينها بأموالكِ أنتِ. تشترين ثياباً محرمة، تلبس إلى ما فوق الركبة، وعليها صور ذوات الأرواح، أو صور مغنيين. هذه الصورة الرعناء القبيحة، حيث تجد شعره كالمكنسة ويكتبون عليها سيدو ديدو، لا يكاد يوجد في محل من محلات السوق فنيلة أو قميص أو بنطلون أو فستان إلا وعليه شعار اللامبالاة والقباحة في الشكل والوساخة، يريدون أن يجعلوا من أجيال المسلمين نماذج من سيدو ديدو، وهذا مطبوع على كثير من هذه الملابس، فتشتريها النساء ويلبسنها. تنفقين أموالك على هذه الملابس المحرمة، على ثياب شهرة، تنفقين أموالاً كثيرة في تفصيل ثوب عند خياطة لا يساوي المال الذي تصرفينه وتنفقينه؛ لأن الذي تنفقينه إسراف في الحقيقة؛ لأن سعره غير معقول وفوق العادة، يحمل عليه المباهاة والفخر على خلق الله، ولكي تمشين به متبخترة في الحفلات والمناسبات، ويشار إليك بالبنان: صاحبة الفستان الـ، تشترين حجاباً غير شرعي، وتشترين خماراً عليه تطريزات وزخارف ونقوشات وألوان، وتشترين الكاب أو تلبسينه فوق الكتفين ليظهر حجم الجسد والكتفين. تنفقين الأموال في تصفيف الشعر والموضات وفي التسريحات والنمص المحرم، لو كان تجملاً بطريقة شرعية؛ لقلنا نعم قبلنا ذلك، لكن قصات تشبه الرجال، وقصات تشبه قصات الكافرات فتشبه من جميع الأنواع. تنفقين المال في توافه الكماليات، أنت تعلمين أن من خطط أعداء الله إلهاء النساء بهذه الأشياء والركض وراء السراب، وتقذف دور الموضة وأدوات التجميل بأشياء كثيرة جداً، وأنواع من العطورات غالية الثمن لا تحتاج إليها المرأة في الحقيقة؛ لأنها في الغالب تستخدم في الحرام، ووضعها عند الخروج بين الرجال، لو وضعتها لزوج ولو وضعتها في مجتمع نساء بشكل معقول بحيث لا تصل الرائحة للرجال، لا هي داخلة ولا خارجة ولا أثناء جلوسها لقلنا: نعم، أليس من الإسفاف والسخف أن تشتري بعض النساء صوراً لمطربين يعلقنها في الثياب أو يضعنها في الشنط. تشترين ملصقات فيها عبارات إما تدعو إلى قومية أو حزبية أو عصبية جاهلية، فما هو مصير هذه الأموال؟ المرأة تدفع أموالها إلى بيوت الأزياء التي يديرها اليهود، وتتنافس مع زميلاتها في اقتناء الثياب الأوروبية بالأثمان الغالية، فتجدها تدخل إلى محل تطلب قماشاً يكون من النوع الذي لا بأس به بكم المتر؟ يقول: بكذا، تقول: هذا رخيص، ليس بجيد أما عندك أحسن؟ والبائع يجد فرصة للعب بالعقول والضحك والخداع، فيأتي لها بقماش مثله في النوعية، ولكنه يزيد في السعر لكي يرضي غرورها وجهلها، فتأخذه فرحة مسرورة، وتخرج إلى المحل ترقص على جبينها جهلاً وغروراً، وثمن الفستان يساوي راتب مدرس في شهر كامل، وفستان العرس يعادل راتب مدرس مدة سنة كاملة، رحمة الله على عائشة لم تكن تستجد ثوباً حتى ترقع ثوبها الأول، وقد جاءها يوماً من عند معاوية رضي الله عنه -وقد كان يصل أمهات المؤمنين- ثمانون ألفاً فما أمسى درهم واحد عندها، قالت لها جاريتها: هلا اشتريت منه لنا لحماً بدرهم، قالت: لو ذكرتني لفعلت. قالت عائشة لـ عروة: [والله! يا بن أختي إن كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقد في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم ناراً قط، قلت: يا خالة! ما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان التمر والماء، إلا أنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار وكانت لهم منائح -شياه- فكانوا يرسلون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من ألبانها فيسقينا].

أمانة العبادة

أمانة العبادة أمانة أخرى من الأمانات ألا وهي: أمانة العبادة، عبادة الله سبحانه وتعالى الصلاة الزكاة الصيام الحج قراءة القرآن النوافل قيام الليل ذكر الله الدعاء تذكر الموت: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد:18] أمانة معرفة كيفية الصلاة لكي تصلين، صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه نابعة من أمانة العلم، صفة ما هي الأموال التي يجب فيها الزكاة وكم نسبة الزكاة، ومازالت زكاة الحلي قضية غير واضحة في أذهان كثير من النساء حتى الآن، فضلاً عن زكاة بعض الأموال التي أسلفناها قبل قليل. تعبدين الله بالصلاة والصيام، فلابد لك من معرفة أحكام الحيض والنفاس والاستحاضة الصفرة الكدرة الطهر تقطع الحيض اتصاله زيادته نقصانه آثار استخدام الحبوب واللولب أشياء متعلقة بالعبادات، فهذه أمانة. وكثير من النساء تفرط في هذه الأحكام، ولا تدري أين هي موجودة وموضوعة، وحتى بعض النساء اللاتي فيهن نوع من الدين والخير. والآن نحن في صيام الست من شوال، ما حكم صيام الست بغير إذن الزوج؟ إذا طهرت الحائض في النهار ماذا يلزمها في الليل؟ عندها مال للحج ويوجد محرم فما حكم الإنابة في الحج؟ إذا حاضت المرأة وهي تريد الإحرام ماذا تفعل؟ هل جدة ميقات للمرأة التي تذهب من هنا؟ وكيف تلبي المرأة؟ ما هي محظورات الإحرام؟ كيف تقصر شعرها في الحج والعمرة؟ العبادات أمانة ومسئولية، فمن من النساء اللاتي تعلم كيف تعبد الله؟ نسأل الله أن يكثرهن، ونحن على يقين أنه يوجد من الصالحات العابدات القانتات العالمات من تعرف كيف تعبد الله، لكننا نسأل الله أن يكثر هذا العدد وأن يزيل الجهل، ونسأل الله أن يفقه نساءنا في أمور الدين، وأن يصرفهن إلى العبادة، ويحبب العبادة إليهن. قال عبد الله بن الزبير: [ما رأيت امرأتين قط أجود من عائشة وأسماء، أما عائشة فكانت تجمع الشيء، حتى إذا اجتمع عندها قسمته، وأما أسماء فكانت لا تمسك شيئاً لغد، وكانت تسرد الصيام سرداً]. قال عروة: [كنت إذا عدوت أبدأ ببيت عائشة رضي الله عنها فأسلم عليها، فغدوت يوماً فإذا هي قائمة تسبح وتقرأ: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:27] وتدعو وتبكي وترددها، فقمت حتى مللت القيام، فذهبت إلى السوق لحاجتي ثم رجعت، فإذا هي قائمة كما هي تصلي وتبكي]. ولما بُعث إلى عائشة بمائة ألف درهم قسمتها، قالت بريرة: أنت صائمة، فهلا ابتعت لنا بدرهم لحماً؟ قالت: لو ذكرتني لفعلت. قالت: يا جارية! هاتي فطوراً -لما جاء وقت الإفطار- فجاءتها بخبز وزيت. أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها كانت تصنع وتعمل بيدها وتتصدق في سبيل الله (أسرعكن لحوقاً بي أطولكن يد) كانت زينب تعمل وتتصدق، دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد فإذا حبل ممدود -اجتهاد من زينب - فقال: (حلوه، ليصل أحدكم نشاطه فإذا فتر فليقعد) زينب أم المساكين، صالحة صوامة قوامة بارة زاهدة حميدة متعبدة، مفزع اليتامى والأرامل. هؤلاء النساء الصالحات اللاتي يتواضعن لله فيذكرن ذنوبهن وما أقل ذنوبهن! ونساؤنا اليوم مع كثرة الذنوب يتذكرن الأعمال الصالحة فقط. هنا عندنا نساء ولله الحمد فيهن خير كثير في المجتمع، يصلحن قدوات، يجمعن صدقات، ويرتبن مرتبات للعوائل، يتفقدن الأرامل والأيتام والأسر الفقيرة، يتصدقن من حليهن. الرسول صلى الله عليه وسلم لما دعا النساء إلى الصدقة صرن يلقين من الحلي والأقراط، ويوجد -ولله الحمد- نساء لو قلنا في المسجد: ألقوا ما أنتم ملقون، لألقوا من الحلي والأقراط اقتداء بالنساء الأول. كان الحسن بن صالح يقوم الليل هو وجاريته، فباع جاريته لقوم، فلما صلت العشاء افتتحت الصلاة فما زالت تصلي إلى الفجر، وكانت تقول لأهل الدار كل ساعة تمضي من الليل: يا أهل الدار! قوموا. يا أهل الدار! صلوا. فقالوا لها: نحن لا نقوم إلا الفجر، فجاءت إلى الحسن فقالت: بعتني لقوم ينامون الليل كله، أخاف أن أكسل من نومهم، فردها الحسن إليه رحمه الله. كانت عجردة العمِّية تغشانا فتضل عندنا اليوم واليومين، فكانت إذا جاء الليل لبست ثيابها وتقنعت ثم قامت إلى المحراب، فلا زالت تصلي إلى السحر، يقول لها أهل الدار: لو نمت من الليل شيئاً؟ فتبكي وتقول: ذكر الموت لا يدعني أنام. قال الهيثم بن جماز: كانت لي امرأة لا تنام الليل وكنت لا أصبر معها على السهر، فكنت إذا نعست ترش علي الماء في أثقل ما أكون من النوم، وتنبهني برجلها وتقول: أما تستحي من الله؟ إلى كم هذا الغطيط؟ فوالله إني لأستحي مما تصنع. نحن الآن لا نطالب النساء أن يقمن كل الليل، لا والله! ولا أن يقمن كل النهار، لكن تضييع قراءة القرآن، والصيام، والسنن والنوافل فلا يعبدن الله إلا في رمضان وغيره من الأيام، منصرفات عن العبادات، أين أمانة العبادة في القيام بها أو بفقهها ومعرفة ما تنطوي عليه من الأحكام؟

أمانة حق الزوج

أمانة حق الزوج نوع آخر من الأمانة الآن: أمانة الزوج، المرأة إذا تزوجت دخل في رقبتها نوع آخر من الأمانة أمانة الزوج، اسمعي هذه الأحاديث -يا أمة الله- لكي تعلمي شيئاً عن عظم أمانة الزوج، قال صلى الله عليه وسلم: (اثنان لا تجاوز صلاتهما فوق رءوسهم عبد آبق من مواليه حتى يرجع، وامرأة عقت زوجها حتى ترجع) وفي رواية: (ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط) وقال: (إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها، لعنتها الملائكة حتى تصبح) وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحصنت فرجها، وأطاعت زوجها، قيل لها: ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئتِ) (لا تنفق امرأة شيئاً من بيت زوجها إلا بإذنه، قيل: ولا الطعام يا رسول الله؟ قال: ذلك أفضل أموالنا) (أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس، فحرام عليها رائحة الجنة) (ثلاثة لا تسل عنهم: رجل فارق الجماعة وعصى إمامه ومات عاصياً، وعبد أبق من سيده فمات، وامرأة غاب عنها زوجها وقد كفاها مؤونة الدنيا فتبرجت بعده فلا تسأل عنها) (لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، والذي نفس محمد بيده لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها كله، حتى لو سألها نفسها وهي على قتب لم تمنعه) فلو كانت على التنور ما تمنعه وتلبي طلبه، وقال في الحداد: (المتوفى عنها زوجها: لا تلبس المعصفر من الثياب، ولا الممشقة، ولا الحلي، ولا تختضب، ولا تكتحل) فالمرأة المحدة من حق الزوج أربعة أشهر وعشرة أيام لا تمس طيباً، ولا كحلاً، ولا حناء، ولا أصباغاً، ولا مكياجات، ولا تلبس ثياباً جميلة، ولا تخرج من البيت، ولا تلبس ذهباً ولا حلياً. (لا تأذن المرأة في بيت زوجها إلا بإذنه) (لا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا إلا قالت زوجته من الحور العين: لا تؤذيه قاتلك الله! إنما هو عندك دخيل يوشك أن يفارقك إلينا) (لا يحل لامرأةٍ أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه) ما عدا الصيام الواجب. فإذاً ستة من شوال يجب استئذان الزوج فيها (لا يصلح لبشر أن يسجد لبشر، ولو صلح أن يسجد بشر لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها) (والذي نفسي بيده! لو أن من قدمه إلى مفرق رأسه قرحة تنبجس بالقيح والصديد، ثم أقبلت تلحسه ما أدت حقه) حديث صحيح. استشعرت المرأة المسلمة الأولى حق الزوج، فقعدت عنده، وسمعت كلامه، وأطاعت أمره، ولبت طلبه، وقامت بخدمته، وكنست بيته، وطبخت طعامه، وهيأت ثيابه، وربت أولاده، وحفظت بيته أثناء غيابه، هل تعلمين كيف كانت المرأة تحمل أمانة الزوج؟ أخرج الشيخان عن أسماء قالت: [تزوجني الزبير بن العوام وماله في الأرض مالٌ ولا مملوك ولا شيء غير ناضح -جمل يسقي به- وغير فرسه، فكنت أعلف فرسه، وأكفيه مئونته وأسوسه، وأدق النوى لناضحه، فأعلفه وأسقيه الماء، وأغرز غربه -حتى الدلو ترقعه- وأعجن، ولم أكن أحسن الخبز، فكان يخبز لي جارات من الأنصار وكن نسوة صدق، وكنت أنقل النوى من أرض الزبير التي اقتطعه له رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسي، وهي على ثلثي فرسخ -تنقل النوى من أرض الزبير - قالت: فجئت يوماً والنوى على رأسي، فلقيت النبي صلى الله عليه وسلم ومعه نفر من أصحابه، فدعاني وقال: إخ إخ -يعني: ينيخ راحلته ليركبها- ليحملني خلفه، فاستحييت وعرفت غيرته -أي غيرة الزوج- فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أني قد استحييت فمضى، فجئت الزبير فقلت: لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى رأسي النوى ومعه نفر من أصحابه، فأناخ لي أركب فاستحييت منه، وعرفت غيرتك، قال الزوج مشفقاً: والله لحملك النوى على رأسك أشد علي من ركوبك معه، حتى أرسل إلي أبو بكر بخادمة، فكفتني سياسة الفرس -فقط- فكأنما أعتقني] هذا رد على كل من يقول: إن خدمة الزوجة لزوجها غير واجبة، بل يروح يأتي بخادمة. بعضهم من دعاة تحرير المرأة، وبعضهم من الذين يرجمون بالغيب، أو الذين لا يحسنون نقل أقوال الفقهاء يشيعون ذلك، فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم جرت الرحى حتى أثرت في يدها، واستقت بالقربة حتى أثرت في نحرها، وكنست البيت حتى اغبرت ثيابها، تطلب خادماً يقول لها صلى الله عليه وسلم: (ألا أدلك على ما هو خير لك من خادم؟ تسبحين الله ثلاثاً وثلاثين، وتحمدين الله ثلاثاً وثلاثين، وتكبرين أربعاً وثلاثين حين تأخذين مضجعك) رواه مسلم، هذا دليل على أن ذكر الله -يا فتاة الإسلام- يقوي الجسد. إذاً أمانة الزوج طاعته دوام الحياء منه السكوت عند كلامه الابتعاد عما يسخطه طيب الرائحة له وغض الطرف أمامه، حفظ ماله لا إسراف ولا تبذير، وحفظ سمعته، فكيف تمشي المرأة متبرجة؟ أو كيف تمشي المرأة أو تذهب مع السائق وحدها؟ ماذا يقال عنه؟ يتهم بين الناس لا تدخل أحداً البيت إلا بإذنه تكليم الأجنبي من وراء الباب وبالهاتف بحذر وقيود وحدود وإيجاز على قدر الحاجة، دون لين ولا تكسر. أمانة الزوج القيام بها في تربية أولادها، التجمل له، إذا نظر إليها سرته، الاعتناء بهندامها عند قدومه من سفره الابتسامة الطيب التجمل تحين الفرصة الملائمة لإخباره بالأشياء المؤلمة والمؤذية، قالت أم سليم لزوجها عن طفلها الميت: (هو الآن أسكن ما يكون) ثم أخبرته في الوقت المناسب. إذاً ما حال المرأة التي إذا غاب عنها زوجها تلعب من ورائه، وتخرج وتسلم من ورائه، إذا غاب في العمل أو غاب في السفر، إن ذلك خيانة للأمانة -أمانة الزوج وأمانة الزوجية. أما بالنسبة للفتاة المسلمة التقية النقية الزوجة الصالحة ما الذي يضمن ألا تلعب من وراء زوجها، ولا تكلم أجنبياً ولا تدخله إلى بيت زوجها، أو تخرج هي للفواحش؟ A حمل الأمانة التي هي موجودة في آية من كتاب الله: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء:34] حافظات بمعنى إذا غاب الأزواج حفظن أنفسهن، وحفظت فرجها ونفسها. ثم من قيام حق الزوج الأمانة أن تأمريه بالمعروف، فتأمريه بالصلاة وتوقظينه لصلاة الفجر وصلاة العصر، ولو كان راجعاً من الدوام ومتعب، فإن الرحمة به إيقاظه للصلاة وليس تركه نائماً. وإذا كان الزوج من أهل السوء والعياذ بالله، إذا كان من أهل الأفلام والمحرمات ومن أهل المسلسلات والصحف الفاسدة والمجلات، إذا كان من أهل رفقاء السوء والألعاب المحرمة، ما موقف الزوجة؟ تأمره بالمعروف، وتنهاه عن المنكر، وإذا كان زوجها قاسقاً، صاحب خمور ومخدرات، فتجاهد زوجها حتى يترك الخمور والمخدرات، ويجوز لها طلب الطلاق طبعاً؛ لأن هذه العيشة لا يصبر عليها، فالزوج الفاسق الذي يسافر إلى الخارج يزني ويتباهى بالصور أمام أصحابه، وربما تواقح وقال لها بعضاً ما يفعل ليؤذيها، هي تجاهد في الله وتدعوه إلى الله وتنصحه وترغبه وترهبه، فإذا كان كافراً بالله يستهزئ بالدين وبالحجاب وبالصلاة ويترك الصلاة بالكلية وهو يعلم حكمها ما هو الحل؟ فارقته ولا تقعد عنده لحظة، فالمسألة الآن مفاصلة وتبري من الزوج الكافر.

أمانة تربية الأولاد

أمانة تربية الأولاد من أنواع الأمانة -يا أيتها المرأة المؤمنة- أمانة الأولاد. ليس عبثاً أن يقول عليه الصلاة والسلام لرجل لما سأله: (من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك) ليس عبثاً أن تجعل الشريعة للأم ثلاثة أمثال ما للأب، إن هذا لم يأت من فراغ، ومعنى ذلك أن الأم قائمة بأمانة عظيمة تستحق أن تبر ثلاثة أمثال الأب، ليس عبثاً أن تجعل الجنة تحت قدم الأم، وهذا ليس مجاناً، معناه: أنها قامت بفضل عظيم، يخرج من حناياها الولد، وتحت جناحها يشب، إنها قوام البيت ومحوره، منه بدأ وإليه يعود. المرأة المسلمة التي تنجب الأطفال تقرباً إلى الله لزيادة عدد المسلمين ولتحقيق مباهاة النبي صلى الله عليه وسلم للأمم يوم القيامة، المرأة تموت في النفاس فهي شهيدة، المرأة هي حاملة تربية الأولاد، فلا تتخلى عن وظيفة التربية للخادمة، وتتفرغ هي للفساتين وصاحباتها وزياراتها وخروجاتها، كيف هذه المرأة تكون تحت قدمها الجنة؟ هذه المرأة دعاؤها لولدها أو على ولدها مستجاب. إذاً أنت تربين النشء، فعليك متابعة الأولاد في الصلاة، وتذكيرهم بأوقاتها، وأمرهم بها في السابعة. وكذلك تعليمهم الصوم والترغيب في الوضوء ومتابعتهم عليه، وحثهم على التلاوة وسماع وحفظ القرآن الكريم وملازمة حلق حفظ القرآن، ومعالجة مشكلات الشباب والميوعة والدلع الزائد عند الأطفال، ومحاربة قرناء السوء وأثر الشارع والمدرسة السلبي أحياناً، إزالة عقد الخوف الجبن الخجل الشعور بالنقص الأخلاق السيئة الحسد العناد الغضب، مسئولية من باب القيام بأمانة الولد. تعليم الأطفال الأخلاق الحسنة الرحمة الإيثار العفو، تعليمه آداب الطعام والشراب المجلس الحديث زيارة المريض السلام العطاس الأذكار هذه من القيام بأمانة الأطفال، عمل المسابقات للأطفال، قصص إسلامية تقرأ أسئلة عنها، أشرطة مسجلة طيبة. بناتك أمانة في عنقك، أمرهن بالحجاب الترديد مع المؤذن الصلاة قبل النوم الفجر في وقته الرحمة الحقيقية في حمل الأطفال على الصلاة، نساء الصحابة يصومن أولادهن ويعطونهم اللعب من العهن والصوف لتسكيت ألم الجوع إذا كان الصوم لا يضره التشجيع على الصدقة، مع تحفيظهم أذكار الصباح والمساء وأذكار دخول الخلاء والعطاس والسلام والنوم والاستيقاظ وأذكار الصلاة، إذا صاح الديك ونهق الحمار ونبح الكلب بالليل والأحلام المفزعة. تعليمه الاستئذان على الأبوين خصوصاً في دخول غرفة النوم، التفريق بينهم في المضاجع ومراقبة الذكور والإناث، وتحدث الطامات في البيوت بسبب غياب الوعي وموت الضمير محاربة الأخلاق السيئة كالكذب اصطحاب الأطفال في الحج والعمرة إذا تيسر تهيئة الألعاب المباحة وعرائس القطن والصوف والدمى المصنوعة من القماش للبنات، وتربيتهن على أعمال المنزل ورعاية الصغار وتحمل المسئولية، حتى ضرب الطفل ينبع من الأمانة الملقاة على عاتقك، أيتها الأم! فضربه فيه قيام بالأمانة الشرعية، وله حدود، فلا يجوز أن يتعدى عشر ضربات، ولا يجوز أن يكون بآلة قاسية، ويجب أن يباعد بين زمن الضربات ويفرقها ولا يجمعها في مكان واحد، ويجب أن يتجنب ضرب الرأس والوجه والعورة، ولا يجوز أن يضرب حال الغضب، ورفع اليد عن الضرب إذا توسل الطفل بالله تعالى، إعظاماً لله وإجلالاً له، ويجب أن يسبق الضرب ويتبعه شرح لسببه؛ لماذا حصل؟ قالوا لنا: المرأة اليابانية أفضل الأمهات في متابعة الأولاد، فهي تصطحب ولدها إلى الجامعة إذا أراد الاختبار في جامعة طوكيو، قالوا لنا: إحدى دور الحضانة التي تعذر فيها إجراء قبول للأطفال؛ لأن أعمارهم في حدود العامين، اختبرت أمهات الأطفال بالنيابة عن أطفالهن. قلنا نحن: دعوة الأم المسلمة لابنها عند خروجه من البيت تساوي هذا كله: وفقك الله يا ولدي! وقاك الشر يا ولدي! كان الله معك يا ولدي! لو صارت الأم مربية حقيقة تربي النشء والله تفوق كل الأمهات في العالم، عندها أمومة الأم قبل العطش والجوع، الرضيع يتعرف على أمه من رائحتها ثم من صوتها، لغة الأم أول لغة يقلدها الطفل. أثر غياب الأم أكثر سلبية على الأطفال بكثير من أثر غياب الأب؛ وهذا من أسباب قول الله: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33] لأجل ذلك جعلت الحضانة للأم وكلف الرجل بالإنفاق عليها؛ لتقعد في بيتها وتتفرغ لصناعة الأجيال. ما هو الفرق بين الأم والخادمة؟ فهناك أمهات يقصرن في أمانة الأطفال فيلقينها على الخادمات. الفرق أن الأم تعتني بولدها بدافع الحب، والخادمة تعتني بدافع الواجب، في الوقت الذي تشعر الخادمة بالتعب والملل في خدمة الرضيع، تشعر الأم بالحب والحنان واللذة والسعادة في خدمة الرضيع، مساكين الأطفال الذين يعيشون أزمة حنان؛ لأن الأمهات انشغلن، وألقين بالأولاد على الخادمات، أزمة حنان تؤثر على مستقبلهم وتمزق نفسياتهم.

أمانة التزام الحجاب

أمانة التزام الحجاب أمانة الحجاب التي ضيعت من كثير من النساء، قالت عائشة في البخاري: [يرحم الله نساء المهاجرين الأول، لما أنزل الله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31] شققن مروطهن فاختمرن بها] لم ينتظرن حتى تحصل كل منهن على خمار، وإنما تنفيذ فوري، شعرن بالأمانة -أمانة الحجاب- فبادرت كل امرأة إلى شق مرطها، فتحصلت على خمار غطت رأسها وأسدلت على جيبها كما أمر الله. الأمانة هي التي دفعت حاملة الأمانة عائشة لما جاء صفوان بن معطل السلمي وهو رجل أجنبي قريباً منها، فاسترجع فسمعت صوته فاستيقظت وقالت: [فخمرت وجهي]. الأمانة هي التي دفعت حاملة الأمانة لما مر بها رجال أجانب في الحج وهي محرمة أن تغطي وجهها، فلما تجاوزوا كشفته، إحرام المرأة في وجهها، أين القيام بأمانة الحجاب الآن؟ أين أين؟ هذه أنواع وأصناف الحجاب المزري تباع في الأسواق وتشتريها النساء، وثوب قصير، وثوب شفاف، وثوب ضيق، وثوب زينة في نفسه وشيء فيه مشابهة للرجال، وأنواع من الملابس فيها مشابهة للكفار، أين أمانة الحجاب يا أمة الله؟ A=6000287> وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281].

أمانة الدعوة إلى الله

أمانة الدعوة إلى الله وأخيراً: أمانة الدعوة إلى الله، أنت أيتها المرأة! حاملة رسالة وأمانة، النساء داخلات مع الذكور في وجوب تبليغ الدعوة: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} [آل عمران:104] رجالاً ونساءً فالخطاب عام: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:71] مريم بنت عمران قامت بالأمانة، صدقت بكلمات ربها وكتبه، آسية امرأة فرعون قامت بأمانة الدعوة، دعت زوجها إلى الله وصبرت على الأذى حتى الموت. المرأة المسلمة داخلة ومخاطبة بقوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33]. المرأة لها نصيب من قوله صلى الله عليه وسلم: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه) المرأة داخلة في حديثه صلى الله عليه وسلم: (نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها) كم حديث حفظت وأديت إلى الناس؟ يقول: (نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها) كم حديث يا أيتها المرأة حفظت؟ فأنت عليك تكليف: (نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها) كم أديتِ؟ قلن قولاً معروفاً، الدعوة في صفوف النساء من القيام بالأمانة، بيان الأحكام التي تختص بالنساء كأحكام الدماء الطبيعية مثلاً، دعوة الرجال من الأزواج والمحارم عليك أمانة، تعليم بنات جنسك أمانة، خطب أبو طلحة أم سليم فقالت: (والله ما مثلك -يا أبا طلحة - يرد، ولكنك رجل كافر -انظري إلى القيام بأمانة الدعوة- لكنك رجل كافر وأنا مسلمة ولا يحل لي أن أتزوجك حتى تسلم، فذلك مهري وما أسألك غيره، فأسلم فكان ذلك مهرها، قال ثابت: فما سمعت بامرأةٍ قط كانت أكرم مهراً من أم سليم، مهرها الإسلام) ما طلبت أساور ولا خواتم ولا أحزمة ذهب ولا معضدة فلان، ودمعة فلان وخزام فلان، عن معاذة قالت: [سألت عائشة فقلت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ قالت: أحرورية أنت؟ قلت: لست بحرورية ولكني أسأل. قالت: كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة]. عليك بأمانة في الدعوة إلى الله؛ لأن المرأة أقدر من الرجل على البيان والتبليغ في المجتمعات النسائية، المرأة قدوة متنقلة بين النساء، والرجل لا يمكن أن يتنقل بين النساء، المرأة إذا أمرت أختها بشيء فإنها تراعي حال المرأة لأنها امرأة مثلها. المرأة التي تعيش في مجتمع النساء تعرف الأولويات ومع توجيه الرجال يتم النجاح. المرأة تلاحظ الأخطار في واقع النساء، ولا يستطيع الرجل أن يلاحظ. المرأة قادرة على التنبيه المباشر والرجل لا يستطيع أن يمسك المرأة ويكلمها مباشرة إلا إذا كانت من المحارم أو شيئاً بسيطاً. المرأة عندها قدرة لإنكار المنكر، ونحن الرجال لا ندري عما يحصل في واقع النساء من المنكرات إلا إذا وصلنا من النساء، أنا إمام في المسجد لا أدري ما يحدث في مصلى النساء، لولا امرأة تخبرني أن بعض النساء يضعن عطورات، وبعضهن لا يكملن الصف، وتقف واحدة بينها وبين الأخرى متر، وهذه تأتي برائحة الطبيخ، وحفائظ الأطفال في المسجد، وبخور وطيب، والله ما أدري حتى يأتي الخبر من النساء فيتولى الرجل التنبيه، أنا المحاضر من وراء حجاب وجدران لا أعلم عن منكرات بنات الكلية، وما يدريني ما يفعلن حتى تأتي رسالة أو سؤال تقول: إن النساء بدأن في وضع علامة كرستيان ديور ( HRISTIAN DUAR) ويخيطنها على الملابس، CHRISTIAN تعني: نصراني. المرأة يمكن أن تخلو بالمرأة فتنصحها، لكن الرجل لا يمكن أن يخلو بالمرأة فينصحها. صد تيارات العلمنة من النساء بشكل جماعي فصد تيار نزع الحجاب وقيادة السيارات وحرية الصداقات إلخ له معنى معين إذا جاء من النساء. فإذاً عليك أمانة في الدعوة إلى الله، كلمة تعدينها فتلقينها، تأني وتذكير واختيار ألفاظ ونقل كلام العلماء والدقة في النقل وصحة الأحاديث وجودة الإلقاء هذه أمانة. الكتابة والنصيحة والمراسلة هذه أمانة، إذا صرت مُدرِّسة فذلك مجال عظيم في الدعوة إلى الله هذه أمانة، تحفيظ القرآن ومشاركتك في تعليم النساء كيفية التلاوة أمانة، عقد الندوات أمانة. فإذاً المرأة المسلمة عليها أمانة عظيمة في مجال الدعوة إلى الله بين بنات جنسها بالذات: (({فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ} [الأحزاب:72] الرجال والنساء: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72]. أيتها المرأة المسلمة: هذه طائفة من الأمانات الملقاة على عاتقك فهل قمت بالأمانة؟ وإذا أردتِ أن أقول لك ختاماً شيئاً عن أمانة المشاعر والأحاسيس فأقول لك كلمة مختصرة؛ لأن هناك أسئلة عن الموضوع: أمانة المشاعر والأحاسيس هذه أمانة، الحب في الله أمانة البغض في الله أمانة بغض أهل الكفر والإلحاد والعلمنة وبغض الفاسق على حسب فسقه أمانة بغض أهل البدع على حسب بدعهم إن كانت مكفرة أو مفسقة أمانة بغض الراقصات والممثلات والمغنيات والفاجرات هذه أمانة محبة العلماء وأولياء الله والصالحات الداعيات القانتات العالمات أمانة، ثم الأخوة في الله والحب في الله أمانة، فلا تعبثي بها ولا تخلطي الحب في الله بالعواطف الجياشة والتعلق المذموم والعشق الإجرامي الذي يوصل إلى الشرك بالله، وإلى اتباع قولها دون الله، وإلى التفكير بها كل وقت وحين، وإلى كتابة الخطابات التي أشبه ما تكون بألفاظها الغرامية، هذه كلها من العبث بأمانة المشاعر والأحاسيس التي صانها الإسلام، أن تعكف واحدة على واحدة فقط دون باقي أخواتها في الله هذا شيء مشبوه، وأن تكون الحركات مريبة هذا أمر مشبوه، وأن تكون الألفاظ مشبوهة هذه خيانة للأمانة. إذاً أمانة المشاعر والأحاسيس لا تخلطيها وتشوبيها بما يريب، وبما يغضب الله وبما يوصل إلى التعلق المذموم، وإلى عشق يفسد القلب ويزيل محبة الله. هذا ما أردت أن أقوله لكِ، وأسأل الله لي ولك التوفيق والسداد والإخلاص وحسن النية وحسن الختام، أسأل الله أن يجعلنا في قبورنا آمنين مطمئنين، ويوم الفزع ويوم الحسرة والندامة يجعلنا من الفائزين السعداء، وإذا افترق الناس إلى أهل الجنة وأهل النار أن يجعلنا في صف أهل الجنة بحوله وقوته إنه أكرم الأكرمين. وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ولا تنسين الدعاء لنا وللجميع بالفلاح والنجاح، وأستودعك الله.

الزوجة الوفية

الزوجة الوفية لو نظرنا إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته لوجدنا أن الرجال لم ينفردوا بنصرة هذا الدين ومؤازرة النبي صلى الله عليه وسلم، بل وجد من النساء من فاقت كثيراً من الصحابة بفهمها ونصرتها لرسول الله، ومؤازرتها له، ورجاحة عقلها وحنكتها وحكمتها في تثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم في بدء دعوته للناس، مما جعل في قلب رسول الله أشد الحب لها.

فضائل خديجة كما في الأحاديث النبوية

فضائل خديجة كما في الأحاديث النبوية الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. وبعد: فإن من القصص العظيمة التي تُذكر لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في عهده عليه الصلاة والسلام قصة تلك الزوجة الوفية المخلصة النقية التي دافعت عن زوجها، وكانت تقية: خديجة بنت خويلد رضي الله تعالى عنها التي يجهل سيرتها الكثيرون، ولا يقدرها حق قدرها إلا من عرف حياتها واطلع على سيرتها، وهاكم -أيها الإخوة- بعض الأحاديث الصحيحة في فضل هذه المرأة وشأنها؛ لتكون نبراساً للنساء والرجال. عن علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (خير نسائها مريم، وخير نسائها خديجة). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما غرت على امرأة للنبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة، هلكت قبل أن يتزوجني لما كنت أسمعه يذكرها، وأمره الله أن يبشرها ببيت من قصب، وإن كان ليذبح الشاة فيهدي في خلائلها -في أصدقاء خديجة- فيرسل قطعة من الشاة لهذه وقطعة لهذه، يرسل إليهن ما يسعهن). وعنها رضي الله عنها قالت: (ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة من كثرة ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها، وتزوجني بعدها بثلاث سنين، وأمره ربه عز وجل أن يبشرها ببيت في الجنة من قصب). وعنها رضي الله عنها قالت: (ما غرت على أحدٍ من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة، وما رأيتها ولم أدركها، ولكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء، ثم يبعثها إلى صدائق خديجة، فربما قلت له: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة، فيقول: إنها كانت وكانت وكان لي منها ولد). وعن إسماعيل، قال: قلت لـ عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما: (هل بشر النبي صلى الله عليه وسلم خديجة؟ قال: نعم، ببيت من قصب لا صخب فيه ولا نصب). وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: (أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (استأذنت هالة بنت خويلد -أخت خديجة - على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرف استئذان خديجة فارتاع لذلك، فقال: اللهم هالة، قالت: فغرت، فقلت: ما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين هلكت في الدهر، قد أبدلك الله خيراً منها).

نسب خديجة وشرفها

نسب خديجة وشرفها أما خديجة فهي بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي، وبه تجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهي من أقرب نسائه إليه في النسب، ولم يتزوج من ذرية قصي غيرها إلا أم حبيبة، وتزوجها سنة خمس وعشرين من مولده صلى الله عليه وسلم، زوجه إياها أبوها خويلد، وقيل: غيره، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يتزوج خديجة قد سافر في مالها مقارضاً إلى الشام، فرأى منه ميسرة -غلامها- ما رغبها في تزوجه، قال الزبير: وكانت خديجة تُدعى في الجاهلية الطاهرة، وماتت بعد المبعث بعشر سنين في شهر رمضان، فأقامت معه صلى الله عليه وسلم خمساً وعشرين سنة، وكذلك فإنها ماتت قبل الهجرة بثلاث سنين.

أسباب محبة النبي صلى الله عليه وسلم لخديجة

أسباب محبة النبي صلى الله عليه وسلم لخديجة

قوة يقين خديجة عند نزول الوحي

قوة يقين خديجة عند نزول الوحي ومن ثباتها في الأمر ما يدل على قوة يقينها، ووفور عقلها، وصحة عزمها، ما حدث عندما أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم في الحادثة المشهورة لما جاءه الوحي أول ما جاءه، ضمه جبريل مرة ومرتين وثلاث، حتى بلغ منه الجهد وهو يقول له: اقرأ، والنبي عليه الصلاة والسلام يخبره أنه لا يقرأ: ما أنا بقارئ حتى علمه: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} [العلق:1 - 3] فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، فقال: (زملوني زملوني، فزملوه، فقال لـ خديجة وأخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسي، فقالت خديجة: كلا والله) هذه هي الكلمات المهمة التي تقال في الوقت العصيب، قالتها المرأة الصالحة رضي الله عنها لزوجها محمد صلى الله عليه وسلم، فثبتت بها فؤاده، قالت خديجة: (كلا والله، لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم -تعرف زوجها- وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، ثم انطلقت به إلى ورقة بن نوفل وهو ابن عمها، فقالت له خديجة: يا ابن عم! اسمع من ابن أخيك، فقال له: يا بن أخي! ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ورقة: هذا الناموس الذي أنزل على موسى، يا ليتني فيها جذعاً -ليتني عندما تقوم بالدعوة أكون قوياً حتى أنصرك- ليتني أكون حياً حين يخرجك قومك، فقال صلى الله عليه وسلم: أو مخرجي هم؟ قال: نعم. لم يأتِ رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً) ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي. فهذه خديجة رضي الله عنها التي كان لها الفضل العظيم في تثبيت زوجها محمد صلى الله عليه وسلم، وأنها قالت له: (كلا والله، لا يخزيك الله أبداً) ثم استدلت من سيرته عليه الصلاة والسلام ومن خبره وحاله وما تراه من شأنه في الاستدلال على أنه على صراط مستقيم.

مؤانسة خديجة للنبي صلى الله عليه وسلم حال المواقف الحرجة

مؤانسة خديجة للنبي صلى الله عليه وسلم حال المواقف الحرجة كذلك فإنها آنسته بذكر ما ييسر عليه الأمر ويهونه عليه، وأنَّ من نزل به أمر يستحب له أن يطلع من يثق بنصيحته وصحة رأيه، وهكذا لجأ إليها صلى الله عليه وسلم، أول ما لجأ صلى الله عليه وسلم بعد ذلك الموضوع المخيف الذي حصل له عليه الصلاة والسلام لجأ إلى زوجته الأمينة وهو يقول: (لقد خشيت على نفسي) ثم قامت بواجبها خير قيام في إلقاء الطمأنينة في نفسه وإشاعة الأمن في قلبه رضي الله تعالى عنها، وهذا مما يدل على قوة قلبها، ويقينها، ورزانة عقلها، وثبات أمرها، فلا جرم أنها كانت أفضل نسائه صلى الله عليه وسلم على الراجح، وهي التي قال فيها صلى الله عليه وسلم: (خير نسائها خديجة) والمقصود بالضمير في نسائها -أي: الدنيا- أي: خير نساء الدنيا خديجة رضي الله تعالى عنها، وجاء في رواية عنه عليه الصلاة والسلام أنه أشار - وكيع - في الرواية إلى السماء والأرض، والمراد: أن يبين أنها خير نساء الدنيا تحت السماء وفوق الأرض من النساء خيرهن خديجة رضي الله تعالى عنها. وكذلك فإنها كانت في الأرض معه صلى الله عليه وسلم حتى صُعد بروحها إلى السماء.

منزلة خديجة ومريم ابنة عمران في الأفضلية

منزلة خديجة ومريم ابنة عمران في الأفضلية كذلك فإنها قد ساوت مريم بنت عمران لما ذكرهما معاً في هذا الحديث، وإذا كانت مريم خير نساء زمانها، فإن خديجة رضي الله تعالى عنها خير نساء زمانها، وقد جاء في رواية عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لقد فضلت خديجة على نساء أمتي كما فضلت مريم على نساء العالمين) وهذا حديث حسن الإسناد كما قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى، واستدل به من استدل على أن خديجة أفضل من عائشة، ونسائها يشمل كل امرأة على الأرض ممن كانت موجودة في زمن خديجة وممن ستوجد بعد ذلك. وقد أخرج النسائي بإسناد صحيح عن ابن عباس مرفوعاً: (أفضل نساء أهل الجنة خديجة وفاطمة ومريم وآسية) فهؤلاء خير نساء الجنة، وقد قال صلى الله عليه وسلم أيضاً: (سيدة نساء العالمين مريم، ثم فاطمة، ثم خديجة، ثم آسية)، وقيل: إن مريم نبية، وقال بعضهم إنها ليست بنبية، لأنه لا يبعث من الأنبياء إلا رجال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً} [يوسف:109]. وهذا الحديث تقول عائشة رضي الله عنها فيه: (ما غرت على امرأة للنبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة) وهذا يدل على أن الغيرة تقع من النساء الفاضلات فضلاً عمن دونهن، وأن عائشة كانت عندها غيرة عظيمة، فكانت تغار من خديجة مع أنها لم تجتمع هي وإياها في مكان واحد، أو تشترك هي وإياها في زوج، ومع ذلك غارت منها لكثرة ذكر النبي صلى الله عليه وسلم إياها، ولذلك قالت في السبب: (من كثرة ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها) وغيرة المرأة ناشئة من تخيل محبة غيرها أكثر منها، فإذا تخيلت أن زوجها يحب غيرها أكثر منها فهذا مبعث ومنشأ الغيرة. ولا شك أن كثرة ذكر الرجل للمرأة يدل على كثرة المحبة، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يكثر من ذكر خديجة لكثرة محبته لها؛ يمدحها ويثني عليها، ويذكر أياديها البيضاء، وسالف أيامه الجميلة مع تلك الزوجة الوفية، تقول عائشة رضي الله عنها: (هلكت قبل أن يتزوجني) مع أنها ماتت قبل أن يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم عائشة، ومع ذلك كانت الغيرة موجودة، كيف لو كانت خديجة حية؟ إذاً لكانت الغيرة أشد. تقول في الحديث: (وأمره الله أن يبشرها) وهذا دال على محبة الله لها، قالت: (وإن كان ليذبح الشاة، ثم يقسمها في خلائلها في أصدقاء خديجة -أي: صويحبات خديجة، يذبح الشاة وفاء لذكرى زوجته- فيرسل قطعة من الشاة لهذه وقطعة لهذه، يرسل إليهن ما يسعهن) أي: ما يكفيهن وما يتسع لهن وما يشبعهن. تقول عائشة رضي الله عنها: (وتزوجني بعدها بثلاث سنين) أرادت بذلك زمن الدخول، وأما العقد فكان بعد ذلك بسنة ونصف، (وأمره ربه عز وجل أن يبشر خديجة رضي الله عنها ببيت في الجنة من قصب). تقول عائشة: (وما رأيتها ولم أدركها) كما في راوية لـ مسلم. أما إدراكها لها فلا نزاع فيه؛ لأن عائشة كان عمرها عند موت خديجة ست سنوات، لكنها لعلها أرادت أنها ما اجتمعت بها عند النبي صلى الله عليه وسلم، وبناءً عليه ما أدركتها في تلك الحال، ولقد ماتت قبل أن يتزوجها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم عندما يذكر خديجة رضي الله عنها يكثر من ذكرها، تقول عائشة: (كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة) فكان عليه الصلاة والسلام يرد، ويقول: (إنها كانت وكانت) يذكر صفاتها كانت عاقلة كانت فاضلة كانت وفية، إنها رعتني، إنها دافعت عني، إنها أنفقت علي من مالها، وفي رواية: (آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله ولدها إذ حرمني أولاد النساء).

جميع أولاد النبي صلى الله عليه وسلم من خديجة إلا إبراهيم

جميع أولاد النبي صلى الله عليه وسلم من خديجة إلا إبراهيم وقوله صلى الله عليه وسلم: (وكان لي منها ولد) لأن جميع أولاد النبي صلى الله عليه وسلم من خديجة إلا إبراهيم، فإنه كان من جاريته مارية، وأولاده صلى الله عليه وسلم من خديجة: القاسم وبه يكنى عليه الصلاة والسلام، مات صغيراً قبل البعثة أو بعدها، وكذلك بناته الأربع: زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة، وقيل: إن أم كلثوم كانت أصغر من فاطمة، وعبد الله ولد بعد المبعث، فكان له الطيب أو الطاهر، ويقال: هما أخوان له، فإذاً القاسم وعبد الله، ويقال: إن لقب عبد الله الطاهر أو الطيب، ويقال: هما أخوان مستقلان، وكل الذكور ماتوا صغاراً، فهو عليه الصلاة والسلام له أجر فقد الولد، فقد أخبر عليه الصلاة والسلام عن أجر فقد الولد الذي لم يبلغ الحلم (وأنه يأتي إلى باب الجنة يفتحه لأبيه) تقول عائشة رضي الله عنها: (فأغضبته يوماً، فقلت: خديجة! فقال: إني رزقت حبها) وكان حبه صلى الله عليه وسلم لـ خديجة لما تقدم ذكره من الأسباب، وهي كثيرة، كل واحد يكفي ليكون سبباً مستقلاً لوجود المحبة.

خصائص خديجة رضي الله عنها

خصائص خديجة رضي الله عنها

لم يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم على خديجة أحدا

لم يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم على خديجة أحداً ومما كافأ به النبي عليه الصلاة والسلام خديجة في الدنيا أنه لم يتزوج في حياته غيرها، ولذلك تقول عائشة رضي الله عنها: [لم يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم على خديجة حتى ماتت] فمن عظم قدرها عنده ومزيد فضلها، لأنها أغنته إلى غيرها؛ ليس بحاجة إلى أن يتزوج امرأة أخرى.

مكثت خديجة مع النبي صلى الله عليه وسلم ثلثي الحياة الزوجية

مكثت خديجة مع النبي صلى الله عليه وسلم ثلثي الحياة الزوجية واختصت بقدر لم يشترك فيه غيرها، لأنه صلى الله عليه وسلم عاش بعد أن تزوجها ثمانية وثلاثين عاماً، انفردت خديجة بخمس وعشرين عاماً منها، أي: ثلثي المدة، ومع طول المدة التي قضاها معها، فصان قلبها من الغيرة ومن نكد الضرائر، لأن الضرة تسمى ضرة لأنها تضر بصاحبتها، وهي: الزوجة الأخرى، وما يكون بينهما من النكد والحسد والتنافس والخصومات ونحو ذلك، فـ خديجة استأثرت بثلثي الحياة الزوجية للنبي عليه الصلاة والسلام، وأغنته عن غيرها من النساء، وواسته بمالها، ودافعت عنه، وكانت هي التي تحميه وتثبته وتصبره، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم ما نسي لها ذلك الفضل، فلم يتزوج عليها في حياتها ألبتة.

سبق خديجة نساء الأمة إلى الإيمان بالنبي عليه الصلاة والسلام

سبق خديجة نساء الأمة إلى الإيمان بالنبي عليه الصلاة والسلام ومما اختصت به خديجة رضي الله عنها: أنها سبقت نساء الأمة كلها في الإيمان، وهذا يمكن أن يكون من أفضل ما حصل من الخير لهذه المرأة، ولذلك سنت لكل من آمنت بعدها من النساء سنة حسنة، فيكون لها مثل أجورهن؛ لأن من سنَّ سنةً حسنة، كان له أجرها وأجر من استن بها إلى يوم القيامة، وقد شاركها في ذلك أبو بكر الصديق بالنسبة للرجال، ولا يعرف قدر ما لكل منهما من الثواب إلا الله عز وجل، لأن الصديق فتح الباب، فسنَّ السنة للرجال، وخديجة فتحت الباب فسنت السنة للنساء، فكل امرأة بعد خديجة تكون مقتدية بـ خديجة، فلـ خديجة مثل أجرها، وكونه عليه الصلاة والسلام عاش معها في هذا الوفاء فإنه يدل على حسن العهد، وحفظ الود، ورعاية حرمة الصاحب والمعاشر حياً وميتاً، لأن حسن العهد من الإيمان، كون الإنسان يكون وفياً لصاحبه الذي عاش معه السنوات الطويلة هذا من الإيمان. وكذلك في هذا الحديث إكرام وإعانة الصديق والصاحب؛ لو مات لك صاحب عزيز، فإكرام أصدقائه من السنة، والنبي عليه الصلاة والسلام لما ماتت زوجته خديجة، أكرم صويحباتها؛ لأجل خديجة، وكان يهديهن ويذبح لهن الشاة ولا ينساهن.

تبشير النبي صلى الله عليه وسلم لخديجة ببيت من قصب

تبشير النبي صلى الله عليه وسلم لخديجة ببيت من قصب بشر النبي صلى الله عليه وسلم خديجة ببيت من قصب، والمراد به: اللؤلؤة المجوفة الواسعة كالقصر المنيف، كأنه قصد قصب اللؤلؤ، وليس من هذا القصب الذي في الدنيا، إنه قصب منظوم بالدر واللؤلؤ والياقوت، فلماذا اختير لفظ القصب؟ لعله كما قال السهيلي شارح السيرة: أحرزت قصب السبق بمبادرتها إلى الإيمان دون غيرها، ولذلك قال: بيت من قصب، ثم إن القصب من طبيعته وصفته أنَّ أكثر أنابيبه مستوية، فلـ خديجة من الاستواء ما ليس لغيرها؛ إذ كانت حريصة على إرضائه بكل ما يمكن عليه الصلاة والسلام، ولم يصدر منها قط ما يغضبه كما وقع من غيرها، فغيرها أغضبنه أما هي فلم تغضبه، ولا نقل: أنها في شيء أغضبته صلى الله عليه وسلم، ولذلك أعدَّ الله لها بيتاً من قصب لا نصب فيه ولا صخب مثل ما أنها لم تتعب زوجها أبداً، ولم تكدر خاطره، وما شقت عليه، كذلك كان الجزاء من جنس العمل، فكان بيتها لا نصب فيه، لأنها لم تتعب زوجها. كذلك البيت الذي لها في الجنة لا نصب فيه، مع أن الجنة كلها ما فيها نصب، لكن بيت خديجة خص بهذا مزيداً من العناية ومزيداً من الراحة في الجنة لهذه المرأة. ولماذا قال: بيت، ولم يقل: قصب؟

خديجة أول ربة بيت في الإسلام

خديجة أول ربة بيت في الإسلام أيضاً من المناسبات أنها كانت أول ربة بيت في الإسلام، لم يكن على وجه الأرض عندما بعث محمد صلى الله عليه وسلم بيت إسلام إلا بيت هذه المرأة، وهذه فضيلة لم يشاركها فيها غيرها، وجزاء الفعل يذكر غالبًا من جنسه.

أن مرجع أهل البيت إلى خديجة

أن مرجع أهل البيت إلى خديجة وكذلك فإن مرجع أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم إليها، أيضاً قال: "في الجنة بيت"، لأن مرجع البيت إلى خديجة: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} [الأحزاب:33] قالت أم سلمة رضي الله عنها لما نزلت: (دعا النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة وعلياً والحسن والحسين، فجللهم بكساء، فقال: اللهم هؤلاء أهل بيتي) مرجع أهل البيت إلى خديجة؛ لأن الحسنين من فاطمة وهي من خديجة، وعلي رضي الله عنه نشأ في بيت خديجة، ثم تزوج ابنتها بعد ذلك، فمرجع أهل البيت النبوي في النهاية إلى خديجة دون غيرها.

خديجة لم تزعج زوجها ولم تلجئه إلى صخب وصياح

خديجة لم تزعج زوجها ولم تلجئه إلى صخب وصياح حيث أن خديجة رضي الله عنها لم تزعج زوجها في شيء، ولم تتعبه بشيء، ولم تحوجه إلى صياح ولا خصام ولا شيء، ولا بينها وبينه أي تكدر في العلاقات، فكان بيتها لا صخب فيه ولا نصب، والصخب هو: الصياح والمنازعة برفع الصوت، فلأنها لم تحوج زوجها إلى صراخ ولا منازعة، ولذلك كوفئت ببيت لا صخب فيه، كما أن بيتها في الدنيا لا صخب فيه، فكذلك بيتها في الآخرة لا صخب فيه، وكما أنها وفرت الراحة للنبي عليه الصلاة والسلام في بيتها في الدنيا، فالله يوفر لها الراحة في الآخرة في هذا البيت العظيم (لا صخب فيه ولا نصب)، لا عيب ولا صياح ولا تعب في هذا البيت، لم تحوجه إلى رفع صوته ولا إلى منازعة ولا إلى تعبٍ، بل على الضد من ذلك؛ أزالت عنه كل نصب وتعب، وآنسته من كل وحشة، وهونت عليه، فناسب أن يكون منزلها الذي بشرت به من ربها بهذه الصفة، بل إنها كانت عوناً له على دعوته، وما أحوج نساء الدعاة إلى الاقتداء بسيرة خديجة رضي الله تعالى عنها! هؤلاء نساء الدعاة ليسن كبقية النساء، لأن الداعي إلى الله سبحانه وتعالى من طبيعته الانشغال والكد والتعب في الدعوة، فإذا لم يكن له زوجة موفقة تزيح عنه الهموم والغموم، ولا تكدر خاطره، ولا تجلب له مشكلات، بل إنها تفرج عنه همومه، وتسكن خاطره، وتهدئ من روعه، وتزيل مخاوفه، وتثبت جنانه بكلماتها التي تعلمتها وأخذتها من الكتاب والسنة، لا شك أنها هي الخط الخلفي، وهي عامل النجاح وصمام الأمان في حياة هذا الداعية.

أن الله عز وجل أقرأ على خديجة السلام وجبريل

أن الله عز وجل أقرأ على خديجة السلام وجبريل لقد جاءت خديجة بإدام أو طعام أو شراب، جبريل كان عند النبي عليه الصلاة والسلام وخديجة آتية بهذا الإناء، فقال جبريل للنبي عليه الصلاة والسلام، والملك يرى ما لا يرى النبي عليه الصلاة والسلام، قال: (هذه خديجة قد أتت بإناء فيه إدام أو طعام أو شراب، فاقرأ عليها السلام من ربها ومني، فقالت خديجة جواباً على ذلك لما أخبرها صلى الله عليه وسلم: هو السلام ومنه السلام وعلى جبريل السلام)، وقد قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يقرئ خديجة السلام، فقالت جواباً: إن الله هو السلام، وعلى جبريل السلام، وعليك يا رسول الله! السلام ورحمة الله وبركاته) ماذا يعني ذلك؟ أي شرف أعظم أن امرأة أو شخصاً يقال له: إن ربك يقرأ عليك السلام! ولذلك لا يوازي فضل هذه المرأة العظيمة من بقية النساء بعدها شيء، فإن السلام حصل من الله ومن جبريل كلاهما لـ خديجة رضي الله تعالى عنها، كما أن هذا دليل على فقه خديجة، لأنها لم تقل لما قال رسول الله: (إن الله يقرأ عليك السلام) ما قالت: وعليه السلام؛ لأن الله هو السلام، كيف تقول: وعليه السلام وهو السلام؟ ولذلك قالت: (إن الله هو السلام، وعلى جبريل السلام، وعليك يا رسول الله السلام ورحمة الله وبركاته) هذه النقطة فاتت رجالاً حصلت لهم قصة بعد ذلك، كان الصحابة يقولون في التشهد: السلام على الله من عباده، فنهاهم النبي عليه الصلاة والسلام، وقال: (إن الله هو السلام قولوا: التحيات لله) فـ خديجة اكتشفت هذا الأمر وفقهته وعرفته منذ سنوات قبل هؤلاء الصحابة، أول ما جاء إليها، قال: (إن الله يقرأ عليك السلام، قالت: إن الله هو السلام) من أسمائه سبحانه: السلام، الذي سلم عباده المتقون من عقوبته. السلام: السالم من كل نقص وعيب سبحانه وتعالى. وأي سلامة مصدرها من الله، فلا يقال: السلام على الله، الله هو السلام، فعرفت خديجة بصحة فهمها أن الله لا يرد عليه السلام كما يرد على المخلوقين؛ لأن السلام اسم من أسمائه، ثم إذا قلت: السلام عليك أنت تدعو له بالسلامة من كل شر، أو السلام عليك، أي: أن الله فوقك يراقبك، السلام اسم من أسمائه فوقك يراقبك. وأيضاً: السلام عليك: دعاء للشخص بالسلامة من الشرور والآثام، فلا يقال: السلام على الله، ولذلك ردت بالرد الذي يليق لله عز وجل، وقالت بعد ذلك: (وعلى جبريل السلام، وعليك السلام يا نبي الله ورحمة الله وبركاته). وهذا فيه أيضاً من الفقه الذي تعلمناه من خديجة: رد السلام على من أرسل السلام وعلى من بلغ السلام، فعندما يأتي شخص يقول لك: فلان يقرأ عليك السلام ورحمة الله وبركاته، ماذا تقول له؟ تقول: وعليك وعليه السلام، فترد السلام على المسلم والمبلغ، والذي يظهر أن جبريل كان حاضراً عند جوابها، فردت عليه وعلى النبي صلى الله عليه وسلم، لكنها كانت لا تراه، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم ليبلغها. كذلك عائشة حصل لها موقف مشابه أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغها سلام جبريل، لكن خديجة أفضل، لأن خديجة بلغها النبي صلى الله عليه وسلم سلام الله وسلام جبريل، وعائشة بلغت بالسلام من جبريل فقط، ولـ عائشة بطبيعة الحال من الفضائل مالا يحصى، ولكن لعل الذي يترجح -والله أعلم- هو تفضيل خديجة رضي الله تعالى عنها.

المفاضلة بين خديجة وفاطمة وعائشة

المفاضلة بين خديجة وفاطمة وعائشة أما المفاضلة بين خديجة وبين فاطمة رضي الله عنها من جهة، وبين عائشة وفاطمة من جهة أخرى، لأنه لا شك أن من جهة الأزواج فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب خديجة ثم عائشة، وهناك من العلماء من فضل خديجة مع عائشة، وبقية نساء النبي صلى الله عليه وسلم سواء في الفضل. ومن كرامة خديجة عند زوجها عليه الصلاة والسلام أن هالة بنت خويلد أخت خديجة استأذنت مرة على النبي عليه الصلاة والسلام وهي قادمة إلى المدينة، وكانت من المهاجرات، فجاءت إليه عليه الصلاة والسلام وكان في قيلولة، فلما سمع صوتها وهو في القيلولة، ارتاع -فزع- وقال: (هالة! هالة) وفي رواية قال: (اللهم هالة) اللهم اجعلها هالة، هذه التي أتت لتكن هالة، كان راقداً فاستيقظ مرتاعاً، لماذا؟ لأنه بعد هذه السنين الطويلة تذكَّر فجأة صوت زوجته الأولى، لأن الصوت يشبه الصوت، عرف استئذان خديجة من استئذان هالة، لأنها ذكرته باستئذان خديجة لشبه صوتها بصوت أختها، فتذكر خديجة فارتاع وقام من القيلولة فزعاً متغيراً من السرور الذي حصل له من هذه المفاجأة السارة، ومن أحب شيئاً أحب ما يشبهه وما يتعلق به، وهذه معروفة، وقاعدة في نفوس الناس: أن الذي يحب شيئاً يحب كل شيء يشبهه، بل ربما إذا أحب شخصاً أحب كل من اسمه نفس اسم هذا الشخص، وإذا ذكر اسم شخص مشابه للشخص الذي يحبه، نبض قلبه وتسارعت خفقاته مما سمع، فالنبي عليه الصلاة والسلام من شدة حبه لـ خديجة لما استأذنت هالة عرف صوتها، وارتاع، كل ذلك يوقظ في نفس عائشة الغيرة رضي الله تعالى عنها، فقالت: (ما تريد من عجوز حمراء الشدقين هلكت في الزمن الغابر) حمراء الشدقين: لعل المقصود بذلك أن المرأة أو الشخص إذا سقط أسنانه من الشيخوخة، فإنه لا يبقى داخل فمه إلا اللحم الأحمر من اللثة وغيرها، فتقول: (ما تريد من عجوز حمراء الشقين) وهنا لا بد أن نتذكر أن المرأة أو الزوجة تسامح فيما لا يسامح فيه غيرها من شدة الغيرة، فقالت: (ما تريد من عجوز حمراء) لا زلت تذكر خديجة وهي عجوز حمراء الشدقين قد أبدلك الله خيراً منها، وإن سلمنا أنها خير منها، ففي حسن الصورة وصغر السن ممكن، ولكن في الفضل لا، بل إنه قد ورد في بعض الطرق أنه عليه الصلاة والسلام رد، فجاء عند أحمد والطبراني، قالت عائشة: (أبدلك الله بكبيرة السن حديثة السن، فغضب حتى قلت: والذي بعثك بالحق لا أذكرها بعد هذا إلا بخير) غضب عليه الصلاة والسلام من هذا الفعل، والروايات تفسر بعضها بعضاً، وفي رواية أنه عليه الصلاة والسلام قال: (ما أبدلني الله خيراً منها، آمنت بي إذ كفر بي الناس) ولكن هذا يدل على أن الغيرة تسامح فيها الزوجة ولا تعاقب لما جبلت عليه النساء، ولذلك لم يعاقب عليه الصلاة والسلام عائشة على هذا الكلام، ولعلها كانت في صغر سنها وأول شبيبتها، فصفح عنها عليه الصلاة والسلام، وكان يدللها كثيراً، وحملتها الغيرة على ذلك، ولذلك فإنه صلى الله عليه وسلم تجاوز عنها. هذا طرف من سيرة هذه المرأة رضي الله عنها، ولكن أعظم ما فيها الشيء الذي نتذكره كثيراً الفائدة التي حصلت للإسلام من وراء خديجة: نصرة الدين، أي: أهم شيء فعلته خديجة رضي الله عنها نصرة الدين، وعندما يكون الدين في أوله، ويكون المسلمون في خطر عظيم، هم قلة وحولهم أوباش قريش ومن يترصد للمسلمين في أول الأمر، والخشية على الإسلام، يكون الأمر شديداً جداً، فتكون التضحية في هذه المدة بالنفس والمال وتقديم النصرة لله ورسوله: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} [الحديد:10] كيف إذا كان في أول نزول الوحي؟! وكيف إذا كانت المسألة لما ساموه عليه الصلاة والسلام سوء العذاب وضيقوا عليه؟! وواسته خديجة وما كان معه شيء واسته خديجة وكانت امرأة غنية فأنفقت مالها عليه وعلى الدعوة وعلى أصحابه أول بيت في الإسلام. إذاً: أعظم مآثر هذه المرأة حقيقة: نصرتها لدين الله من ذلك القلب المعمور بالإيمان. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرضى عنها، وأن يجزل مثوبتها، وأن يرفع درجتها، وأن يجعلنا ممن يقتفي أثر هذه السيدة الكريمة رضي الله تعالى عنها، وأن يجعل نساءنا ممن يسرن على خطاها، غفر الله لها ورحمها، وصلى الله على نبينا محمد.

الأسئلة

الأسئلة

معنى قول العلماء: بالاتفاق

معنى قول العلماء: بالاتفاق Q ما معنى قول الفقهاء: بالاتفاق؟ A معناه: أن أكثر العلماء على ذلك، حتى أن بعض المصنفين يقول: اتفقوا، ويقصد ثلاثة من الأئمة الأربعة، أما الإجماع: فكل من يعتد به من أهل العلم أجمعوا على كلام واحد لم يخالف أحد منهم.

أم زوجة الأب ليست بمحرم

أم زوجة الأب ليست بمحرم Q هل يجوز لإنسان أن يتزوج امرأة وابنه يتزوج أمها؟ A نعم يجوز للإنسان أن يتزوج امرأة وابنه يتزوج بأمها، لأنها ليست من محارمه.

حكم من جاوز الميقات بدون إحرام

حكم من جاوز الميقات بدون إحرام Q سافرت إلى جدة وكنت أنوي أداء العمرة قبل سفري، فلما وصلت إلى جدة قضيت فيها أسبوعاً ثم أحرمت منها؟ A كيف تحرم من جدة وأنت نويت العمرة قبل مجاوزة الميقات؟ إذاً يجب عليك ذبح دم يوزع على فقراء الحرم.

كيفية زكاة الذهب

كيفية زكاة الذهب Q لدى زوجتي ذهب، بعضه اشتريناه قبل سنة، وبعضه اشتريناه قبل ستة أشهر؟ A تزكي عما مضى عليه سنة، والباقي تزكي عنه بعد ستة أشهر إذا بلغ النصاب، حيث يكون قد مضى عليه سنة.

عدة المطلقة وأنواعها

عدة المطلقة وأنواعها Q ما هي عدة المطلقة؟ A المطلقة أنواع: إذا كانت حاملاً فعدتها وضع الحمل. وإذا كانت تحيض فعدتها ثلاث حيضات. وإذا كانت يائسة كبيرة، أو صغيرة لم تبلغ سن الحيض فعدتها ثلاثة أشهر. هذه عدة المطلقة، وهذا بعد الدخول. أما قبل الدخول؛ أي: عقد على امرأة فطلقها قبل الدخول فلا عدة لها، لقوله تعالى: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب:49].

مكالمة الزوجة المطلقة بالهاتف

مكالمة الزوجة المطلقة بالهاتف Q هل يجوز مكالمة الزوجة المطلقة بالهاتف؟ A إذا دخل بالمرأة وطلقها، فالعدة تكون في بيته: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ} [الطلاق:1] فهي لا تزال في عصمته، وهذه تعتبر فترة مراجعة نفس، وتمكين للزوج من مراجعة الزوجة، ويعيد النظر في القرار، وهذا في الطلاق الرجعي، أما الطلاق البائن فتذهب من عنده. فالمطلقة طلاقاً غير بائن تكون عنده في بيته، وهي زوجته؛ فيجب عليها أن تستأذن منه إذا أرادت الخروج، ويستطيع أن يخلو بها ويكشف عليها فهي ما زالت زوجته، لكنها دخلت في عدة الطلاق.

حكم أداء العمرة عن الغير

حكم أداء العمرة عن الغير Q بعض الناس إذا ذهب للعمرة يأخذ عمرة ثانية عن أبيه؟ A السنة عمرة واحدة في السفرة الواحدة.

علامات رؤية ليلة القدر

علامات رؤية ليلة القدر Q علامات رؤية ليلة القدر؟ A ليلة القدر ليلة طلقة بلجة، -أي: منيرة- لا حارة ولا باردة، ولا يرمى فيها بنجم، وتكون الشمس صافية، وتطلع الشمس صبيحتها لا شعاع لها مثل الطست، ليس لها شعاع يبهر العيون، مستديرة صافية حمراء ضعيفة أي: لا شعاع لها، لكن هذه العلامات تكون في صبيحتها وتعرف بعد انقضائها. وعلى أية حال، إجهاد النفس في العبادة أولى من إجهادها في معرفة هل هذه الليلة ليلة القدر، وهل هي صافية فيها غيم، أو ليس فيها غيم هل هي باردة أم حارة أم معتدلة؟ هل هي منيرة أو غير منيرة؟ هل فيها نور أم لا؟ ليس هذا هو المقصد الأساسي، بل إنها أخفيت حتى يجتهد العباد في العبادة.

وجود الجنة والنار

وجود الجنة والنار Q هل الجنة والنار موجودتان الآن؟ A نعم. لا شك في ذلك، فإن الله خلق الجنة والنار، وقال لجبريل: اذهب وانظر إليهما، فذهب ونظر إليهما، فحفت النار بالشهوات، وحفت الجنة بالمكاره، فهي قطعاً موجودة، والنبي عليه الصلاة والسلام في صلاة الكسوف تقدم ليأخذ قطفاً من عنب عرض له، وتأخر -أيضاً- لأنه خشي من لهب النار، فالجنة والنار موجودتان الآن، فـ المعتزلة والمبتدعة والضالون يقولون: إنهما غير موجودتان وغير مخلوقتان الآن، وهذا من ضلالهم وإفكهم. ومن الأدلة على أنهما موجودتان: أن الإنسان عندما يموت إذا كان من أهل الجنة تفتح له طاقة إلى الجنة ويأتيه من ريحها وريحانها ويرى مقعده وزوجاته وقصره من هذه النافذة، وأما الذي في النار، فتفتح له طاقة إلى النار، فيأتيه من سمومها وحميمها. وقال عز وجل لما قبض آل فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً} [غافر:46] وهم في البرزخ يعرضون على النار غدواً وعشياً. إذاً: لا شك في وجودهما -الآن- قطعاً.

القزع كيفيته وحرمته

القزع كيفيته وحرمته Q نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حلق القزع، ما هي كيفيته؟ A القزع: هو حلق بعض الرأس من أي جانب، فإذا حلق من الخلف، أو من اليمين، أو من الشمال، أو من الوسط، أو من المقدمة، فإنه يكون قزعاً منهياً عنه، فيدخل في التشبه بالكفار تخفيفه جداً من الجوانب وترك الوسط كالطاقية مثلما يفعل بعض المقلدين للكفرة، والآن الابتداعات والبدع في الشعر كثيرة جداً، ولذلك ينبغي التنبيه على أحكام الشعر، لأن كثيراً من الناس يقعون في مشابهة الكفار ويقعون في أشياء محظورة، فالشعر أصبح مجالاً للمحرمات، فمثلاً: بعض النساء تقصره جداً حتى يكون مثل الرجل وهذا حرام، وبعضهن تصبغ كل خصلة بلون؛ مشابهة لبعض فرق الخنافس والبنكس، وكذلك من العبث به حلق بعضه وترك بعضه، أو تقصير بعضه من الجوانب وتوفيره في الوسط، كذلك مشطة المائلات المميلات للنساء، المشطة المائلة التي هي من منكرات الكوافير في الشعر. كذلك بعضهم عندهم الآن رسم على الرأس، فيحلقون القفا ويرسمون عليه وجهاً لا تميز وجهه من قفاه، واخترع الكفرة أشياء وقلدهم كثير من المسلمين في هذا الأمر، فالمهم أن الشعر مجال واسع في التلاعب بالخلقة، وتغيير خلق الله؛ مشابهة للكفار، وارتكاباً للمحذورات، وبعض النساء يحلقن الشعر بالكلية حلاقة، وحلاقة المرأة لشعرها حرام، اللهم إلا إذا كان لعلاج أو شيء اضطراري، فالمهم أنه ينبغي معرفة أحكام الشعر في الشريعة حتى لا يقع الإنسان في المحظورات.

معنى: لا يفد إلي لمحروم

معنى: لا يفد إليّ لمحروم Q قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى يقول: إن عبداً أصححت له جسمه، ووسعت عليه في معيشته، تمضي عليه خمسة أعوام لا يفد إلي لمحروم) ما المراد بقوله: لا يفد إلي لمحروم؟ A أي: في الحج لا يأتي البيت العتيق، والحديث حسن أو صحيح.

حكم من طاف للقدوم بدون وضوء ولم يذكر إلا بعد الحج

حكم من طاف للقدوم بدون وضوء ولم يذكر إلا بعد الحج Q ذهبت إلى مكة لأداء مناسك الحج، ودخلت في النسك بنية التمتع بعد الانتهاء من طواف القدوم، ثم تذكرت أني لم أكن على طهارة، وأنهيت جميع المناسك؟ A إذا كان المقصود من أنه أنهى جميع المناسك، يعني: ذهب إلى عرفة ومزدلفة ومنى ورمى الجمرات، فهذا يكون حجه قد انقلب من تمتع إلى قران، لأن طواف العمرة قد فسد، إذاً ماذا فعل هذا عندما أحرم بالحج في اليوم الثامن؟ أدخل العمرة على الحج وصار قارناً، لكن لو كان ذكر ذلك أنه على غير وضوء بعدما سعى، أو قبل أن يسعى فماذا يفعل؟ يعيد طواف القدوم.

نصيحة مقدمة للزوجات الضرائر

نصيحة مقدمة للزوجات الضرائر Q يقول: في تناولك لموضوع الضرة حيث أن زوجتي معي، فهل من كلمة عن صبر المرأة على الضرة ولو من كلمات قليلة جداً حتى لا يحدث هذه الليلة طرد من المنزل، والله أعلم أين أنام؟ A على أية حال: هو لم يقل: لا تقرأ الرسالة، فلعل قراءتها لوحدها موعظة، إن كان يمزح، فالحمد لله، وإن كان جاداً فهذه المصيبة، أن الرجل يخشى ما سيحدث له، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (والله لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه) إذا كان الذي لا يأمن جاره يبقى في خوف، الليلة لا يدري ماذا يحدث له من جاره يا ترى! أي مصيبة ستنزل علي من جاري؟ فإذا كان الزوج لا يأمن على نفسه هذه الليلة ماذا سيحدث له من زوجته وأي مصيبة ستفعلها له، فهذه من الطوام! والحديث السابق دلَّ على غيرة عائشة رضي الله عنها، وكيف تحمل النبي صلى الله عليه وسلم غيرتها، وأنه لما غضب لم يخرج من عند عائشة إلا وقد تعهدت بعدم إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم، وقالت: [لا أذكرها إلا بخير] وأن عائشة رضي الله عنها كل الذي حصل منها كلام في قضية ما تذكر من خديجة، أما التمرد على الزوج فهذا شيء خطير، الآن بعض النساء تقول: هذه عائشة ونحن نفعل أكثر، نقول: لا. أولاً: عائشة إذا كان الذي صدر كلام، فبعض الزوجات تمتنع من الخدمة، ومن المبيت مع الزوج، ولا تطبخ طعامه، ولا تكوي ثيابه ولا تغسله، ولا تنظف بيته، وهذا تمرداً ونشوز. ثانياً: عند عائشة من الفضائل ما يغطي على كل ما فعلت، فماذا عند النساء هؤلاء من الفضائل حتى يغطين كل ما يفعلن؟ فلا تقول هي: إذا فعلت عائشة كذا نحن نفعل أكثر، لا، لأن عائشة عندها من الفضائل ما إذا انغمرت فيها هذه الكلمات ذهبت، لكن ماذا عند المرأة من الفضائل حتى تغمر إيذاءها لزوجها فيه، يعني: هذا كلامنا كله في خديجة، وكيف أنها هيأت لزوجها السكن المريح والجو الهادئ وخدمته ونحو ذلك، هذا الذي ينبغي أن تقوم به المرأة تجاه زوجها، ونحن بلينا بالأفلام والمسلسلات التي تصور أن الشقاء لازم لكل من تزوج اثنتين، وأنه لابد أن تحدث كوارث، ولابد أن ينتهي بطلاق إحداهما، وأنه إذا انكشف أنه تزوج الثانية معناه أنه سوف يحصل شر عظيم ونحو ذلك، كل هذا جاء من أعداء الإسلام لأجل أن يقع الناس في الحرام ولا يتزوجوا الزوجة الثانية والثالثة، وتكون هناك عوائق كبيرة جداً أمام من يريد أن يعف نفسه، فهذا الكلام هذا طويل في موضوع تعدد الزوجات، وليس الآن مجال الطرح، ولكن نوصي الزوج إذا أراد التعدد فعليه بالعدل، ويجب على الزوجات أن يتقين الله في الزوج، والعدل أساس كل شيء بالتجربة، كل المجربين يقولون: إن المرتاح هو الذي يعدل، لأنه إذا عدل، لم يبق لامرأة أي كلام عليه.

حكم لبس القفازين في الصلاة

حكم لبس القفازين في الصلاة Q ما حكم من تصلي وهي لابسة القفازين؟ A جائز، ولكن تركه أولى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم استحب لنا مباشرة الأرض، فتخلع القفازين وتصلي، إلا إذا كان هناك رجال أجانب مثلاً فلا تخلعها.

وجوب الإحرام من الميقات

وجوب الإحرام من الميقات Q شخص يريد أن يذهب إلى أهله في الإجازة إلى مكة والمدينة وعنده نية أن يعتمر فماذا يفعل؟ A إذا مر بالميقات أحرم ما دام عنده نية.

سجود السهو بعد السلام للزيادة في الصلاة

سجود السهو بعد السلام للزيادة في الصلاة Q إمام أراد أن يقوم في صلاة المغرب من الرابعة ظناً منه أنها الثالثة، ثم تيقن أنها الرابعة، فرجع؟ A إذا كان قد قام، فإنه يسجد للسهو بعد السلام.

الهدية بمقابل تعتبر رشوة

الهدية بمقابل تعتبر رشوة Q ما الحكم في أحد أعطى موظفاً هدية نظير خدمة أسداها له؟ A لا يجوز إعطاء الموظف هدية كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (هدايا العمال غلول) إذاً لا يجوز أن يعطيه، وهذه تعتبر رشوة.

بقاء المرأة مع زوجها في الجنة

بقاء المرأة مع زوجها في الجنة Q هل المرأة تبقى مع زوجها في الجنة أم تستطيع أن تختار من تشاء من أهل الدنيا؟ A قال عليه الصلاة والسلام: (المرأة لآخر أزواجها) فإذا كانت هي وإياه من المؤمنين، فإنها ستتغير وهو سيتغير قلباً وقالباً، ولذلك لن يكون شعورها نحوه في الجنة مثل شعورها الآن، فإنه يختلف تماماً.

حكم من حلف أكثر من مرة

حكم من حلف أكثر من مرة Q من حلف اليمين أكثر من مرة لا يتذكر عددها فكيف يخرج الكفارة؟ A يقدرها تقديراً بما يغلب على ظنه، ويخرج الكفارة.

بيان النقاب الشرعي ووجوبه

بيان النقاب الشرعي ووجوبه Q ماذا أفعل في النقاب الشرعي لزوجتي؟ A إذا كنت تقصد أنها تلبس نقاباً واسعاً فيه فتحتين، فهذا يعني: أنك تحتاج إلى إصلاح وضع النقاب بأن تكن فيه فتحة صغيرة على قدر العين أو لا تكن فيه فتحة إذا كانت تحسن الرؤية من وراء الغطاء، وأما إن كانت لا تضع شيئاً على وجهها أصلاً، فعند ذلك لا بد أن تستر الوجه الذي فيه معالم الجمال عند المرأة. فينبغي إذاً التركيز على قضية تبيان الحجاب ووجوب ستر المرأة وجهها، وهذا قد ذكر العلماء فيه رسائل، مثل: رسالة الحجاب للشيخ/ محمد بن صالح العثيمين وهي رسالة جيدة فيها ردود على الشبهات، فلعلها تكون محل إقناع أو حجة.

مصيبتنا سمعنا وعصينا

مصيبتنا سمعنا وعصينا أفرد الله المنافقين بآيات كثيرة، بل سمى سورة باسمهم؛ وما ذاك إلا لعظم خطرهم على المجتمع؛ ولكي يفضحهم أمام الملأ. وقد بين سبحانه أن من أبرز علاماتهم مبدأ: (سمعنا وعصينا) الذي قد ينزلق الكثير فيه وهم لا يشعرون، وذلك من خلال شبهات يردون بها حكم الله وحكم رسوله، وقد ذكر الشيخ بعض ذلك في هذه الخطبة.

أظهر علامات النفاق

أظهر علامات النفاق إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فيا عباد الله! لقد أُفرد ذكر المنافقين في القرآن الكريم في آيات كثيرة تنبيهاً من الله تعالى على خطرهم، وعلى سوء مبدئهم وعملهم، كما جاء ذلك في مطلع سورة البقرة في آيات فاقت في عددها ذكر المتقين والكافرين، وذلك لخفاء أمر المنافقين، وأيضاً في سور النساء، والتوبة، والنور، والأحزاب، وسورة محمد صلى الله عليه وسلم، كما أُفردت سورة لهم سميت بسورة المنافقين؛ لأجل بيان حال هؤلاء. وخطر النفاق عظيم، ويكفي أن المنافق في الدرك الأسفل من النار تحت الكافر الصريح. عباد الله! لقد امتاز المنافقون بعلامات وسمات كانت لهم، ومن ذلك سمتان فظيعتان: الأولى: الإعراض عن الحكم الشرعي، وعدم تحكيمه وقبوله والصد عنه. الثانية: العصيان والامتناع عن التنفيذ، والتلكؤ والتباطؤ في العمل بحكم الله ورسوله، وعدم التسليم له والقناعة به، ومن جهة أخرى مبدأ: (سمعنا وعصينا). فهاتان الصفتان الفظيعتان للمنافقين كانتا من أعظم أسباب الخطر.

عدم التسليم لحكم الله

عدم التسليم لحكم الله المسألة الأولى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} [النساء:60 - 61]. فإذاً: لا يوجد إقرار بحكم الله ورسوله، ولا قناعة به، ولا تسليم له، بل يوجد صد وإعراض عنه، وتحاكم إلى غير شرع الله ورسوله، ولذلك قال الله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} أي: من الخصومات {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ} [النساء:65] فليس فقط أن يحكموك في ما شجر، وإنما أيضاً لا يجدون في أنفسهم حرجاً مما قضيته، وليس هذا فقط بل: {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] منقادين مذعنين طائعين، مذللين أنفسهم وقلوبهم لحكم الله ورسوله. {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} [النور:48 - 49] إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم تولوا وأعرضوا؛ لأنهم لا يسلِِّّمون بحكم الله ورسوله، لكن إذا كان الحكم لهم في الخصومة وكان الشرع سيحكم لهم، قالوا: لا نريد إلا الشريعة، ثم جاءوا منقادين لأن الحق لهم، ولأنه وافق هواهم، ولأنه في مصلحتهم: {وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ} [النور:49 - 50] أي: فيظلمهم ويجور عليهم: {أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [النور:50]. فإذاً: لقد ناقض المنافقون قاعدة الإسلام العظيمة في التسليم لله ورسوله بالحكم، وعدم الاعتراض عليه بعدم قناعتهم به، بل واستبدلوا الشريعة بقوانين الكفر واللجوء إلى الكافر واليهودي والكاهن للحكم بينهم. والمسألة الثانية أيها الإخوة: (مبدأ سمعنا وعصينا) عدم التنفيذ وعدم العمل، قال الله تعالى: {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} [النساء:81] يظهرون الطاعة، وأبطنوا المخالفة والمعصية: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ} [النور:53] أي: في الجهاد، ويطيعوا أمرك وينفذوا: {قُلْ لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} [النور:53] فقد جربناكم من قبل، وبلوناكم وعرفنا أمركم من التجارب السابقة: {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [النور:53] طاعة معروفة في الظاهر أما في الباطن فلا. ولذلك لما وقعت غزوة تبوك تخلفوا وما خرجوا، فقال الله تعالى: {لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً} [التوبة:42] أي: غنيمة سهلة {وَسَفَراً قَاصِداً} [التوبة:42] أي: قريباً ليس ببعيد {لَاتَّبَعُوكَ} [التوبة:42] لكن عصوا. {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي} [التوبة:49] لقد برروا عدم خروجهم واعتذروا عن الخروج بالأعذار السخيفة، وقال قائلهم: إني أخاف على نفسي من نساء بني الأصفر (الروم): {أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} [التوبة:49] أي: سقطوا في الفتنة بعدم خروجهم وتنفيذهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة:49].

ذرائع المخالفين لحكم الله

ذرائع المخالفين لحكم الله عباد الله! إذا نقلنا المسألة إلى واقعنا، ووقفنا مع أنفسنا وقفة صريحة وصادقة للنناقش: هل نحن ننفذ حكم الله ورسوله فينا أم لا، فماذا سنجد؟ نحن نتعلم أشياء كثيرة: فنسمع في الخطب والأشرطة، ونقرأ في الكتب، ونُوعَظ في المجالس، ونسمع كلاماًَ كثيراً عن الأحكام الشرعية وعن الحلال والحرام، فما هو الموقف إزاء ذلك؟ وهل ننفذ ونسمع ونطيع، أم أننا نسمع ولا نطيع؟ وما هي أسباب عدم التنفيذ؟

التذرع بالجهل وعدم العلم

التذرع بالجهل وعدم العلم قد يقول قائل: إننا لا نعلم، لكن بعد انتشار شيء من التوعية يصعب أن نصدق أن واحداً من هؤلاء لا يعلم، أي: أو ليست لديه أية فكرة عن الحلال والحرام، إنهم من خلال الخطب والدروس وما سمعوه ووعظوا به ونصحوا يعلمون، والأشياء التي لا يعلمون بها إما أنهم معذورون بالجهل فيها، أو أنهم على معصية بعدم تعلمها لإمكانهم تعلمها، فندع هذه المسألة جانباً ولنأخذ ما نعلمه وما اطلعنا على حكمه، وما تبين لنا ونُصحنا به. المعلومات كثرت، لكن أين التطبيق وأين التنفيذ؟ مما يفاجئك به بعض الناس في هذه المسألة أن يقول لك: ليس عندي قناعة بالحكم. فمثل هذا الكلام كيف يزول؟ إنه يزول ببيان الدليل والحكم الشرعي، فإذا بينت المسألة، وقامت الحجة، وذكر الدليل، وسوق كلام أهل العلم، وأورد شبهة ورددت على شبهته؛ فعند ذلك إذا قال لك: غير مقتنعٍ، فإن كلامه بعدم القناعة نفاق واضح لا لبس فيه؛ لأنه يكون حينئذٍ عدم تسليمٍ بحكم الله ورسوله، أوردت له الحكم، وبينته له، وأعطيته كتاباً حول الموضوع، وشرحاً وافياً، وجواباً عن شبهة، ماذا بقي؟ بقيت قضية واحدة لا غير، ليس هناك إلا شيء واحد: نفاق عدم تسليم بالحكم الشرعي مشاغبة على الحكم الشرعي. وهذه مسألة يجب أن يصارح فيها الشخص نفسه إذا وقع فيها، إذا تبين له الحكم بالدليل وكلام أهل العلم ثم لم يقتنع؛ فإنه لا يكون إلا منافقاً، وليس هناك احتمال ثانٍ ألبتة، ليس إلا النفاق: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] أي: أنه لو أقره ولكن على مضض وعن كره للحكم فهو منافق، فكيف إذا ما أقر بذلك؟

التذرع بعدم وجود البديل المباح

التذرع بعدم وجود البديل المباح وقد يتذرع بعض الناس في تلكئهم بعدم تنفيذ الحكم بعدم وجود البديل، ويقولون: هات البديل؟ والحمد لله أن الله عز وجل ما حرم شيئاً إلا وجعل من الحلال من جنسه ما هو أكثر منه ويفوقه، فعندما حرمت الشريعة الخمر أباحت من المشروبات ما لا عد له ولا حصر، وعندما حرمت لبس الحرير على الرجال ولبس الذهب، أباحت لهم من الملابس ما لا حصر له ولا عد، وأباحت خاتم الفضة للرجل مقابل خاتم الذهب المحرم؛ لأن الشارع يعلم حاجة الناس إلى التزين، وعندما حرمت الشريعة الربا أباحت البيوع بأنواعها مما لا حصر له ولا عد من وجوه المكاسب المختلفة، فبدل أن تكسب من الربا جعل لك البيع بأنواعه: المعجل والمؤجل بشروطه، وبيع السلم بشروطه، والمعاوضة، والمعاطاة، والمزاد، والأمانة، ثم من المكاسب: الإجارة، والجعالة، والوكالة بالمقابل وغير ذلك مما تأخذ عليه أجراً. فلما حرمت الشريعة وحرمت وحرمت؛ جعلت هناك من الحلال من جنسه ما هو أكثر منه ويفوقه. ثم إن البدائل عن سائر الأشياء قد تتوفر في الواقع، وقد لا تتوفر من تقصير المسلمين وليس من قصور الشريعة، وفي مسألة البديل يشاغب بعض الناس فيقولون في مسألة الموسيقى والألحان مثلاً: ما هو البديل؟ فإذا قلنا: بديل سماع الألحان هو سماع القرآن، فيقول: لا. سماع القرآن ثقيل على النفس، أما سماع الألحان خفيف ولذيذ ومطرب، فليس هذا من هذا، فنقول: ما هو إلا الهوى والله، وإلا فقل أيضاً: إن الزنا له لذة، وعندما يزني بعشرات النسوة ليس كهذه الزوجة التي قد صارت مملةً. فنقول: قد لبت الشريعة ذلك بالتعدد والتسري وملك اليمين، وكون الحرام له لذة من تزيين إبليس لا يعني أن الزواج ليس بديلاً؛ لكن يعني أن الفطرة قد أصبحت منتكسة، فالبديل الذي يلبي حاجة النفس موجود في الشريعة، لكن البديل الذي يلبي هوى النفس دائماً هذا الذي يريده هؤلاء العصاة. فنقول: هذا البديل موجود في الجنة، سماع غناء الحور العين، سماع غناء النساء في الجنة، ولبس الحرير والذهب لك في الجنة، فإن العوض سيأتي بعد قليل، اصبر: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:20]. وعندما يقول بعض الناس: نريد أن نُؤَمِّن؛ لأن التأمين قد صار حاجة، والحوادث قد كثرت، فنحن مضطرون للتأمين ولا يوجد له بديل. نقول: إن التأمين التعاوني هو البديل، وهو أن يدفع هؤلاء المشتركون مبالغ توضع في صندوق يستثمر أو لا يستثمر، ويتراضون بينهم على أن يعوض من أصيب من هذا الصندوق التعاوني، ولا يكون هذا المال في الصندوق ملكاً لشركة أو لطرف ثالثٍ يأخذه لنفسه ثم يعطيك إذا حصل لك، ويضيع مالك إذا لم يحصل لك كما هو التأمين المحرم، وهذا هو الميسر والقمار بعينه. فإذا وجد التأمين التعاوني بتعاون المسلمين فالحمد لله، وإذا لم يوجد البديل بسبب تقصير المسلمين فما هو الحل وما هو المخرج؟ A لا بد من الصبر حينئذٍ على هذا البلاء، ووفر نقودك واشتراكاتك في شركة التأمين حتى إذا حصل لك شيء تأخذ من الرصيد، وربما تكتشف أنك كنت على ربح عظيم، فإذا لم يوجد بديل من جراء تقصير المسلمين، فلا بد أن نصبر ولا نقول: نحن مضطرون لارتكاب الحرام. إن الاضطرار موضعه عندما يكره الشخص على الشيء، ولا بد له منه ولا مخرج له إلا به، ولا مندوحة عنه لديه، ولا يستطيع أن يترك القضية ولا أن يتلافاها، ويجبر عليها من الخارج، فهذه المسألة مسألة اضطرار، والله سبحانه وتعالى لا يؤاخذ عليها، كما لو كان في بلد يمنع من القيادة فيه إلا بالتأمين ويكره على ذلك، فهذه مسألة اضطرار، أما أن يختار التأمين اختياراً فليس باضطرار، ولابد أن يصبر ويؤمن بقضاء الله وقدره، ويتوكل على الله عز وجل، وإذا حصل شيء كان الرضا بالمكتوب هو المفروض أن يقع، أما أن يقال: نحتاط بالتأمين المحرم، فلا وألف لا أيها الإخوة، إن وجد الحلال أخذنا به والحمد لله، وإن لم يوجد صبرنا.

التذرع بالمشقة والتعب

التذرع بالمشقة والتعب بعض الناس يقولون في سبب عدم التنفيذ: إن الحكم فيه مشقة وتعب، سواء كان فعل واجب أو ترك محرم. وهل يظن هذا أن الجنة رخيصة، وأن طريقها مفروش ومعبد وميسور لا مشقة فيه ولا عوائق؟ إذاَ: ً كيف ستحصل المجاهدة، والجهاد إنما هو جهاد النفس أولاً؟ كيف سيحصل جهاد النفس المؤدي إلى الجنة والذي يتفاوت الناس فيه، فيتفاوتون في مراتب الجنة؟ كيف سيحصل الجهاد إذا لم توجد مشقات في الأحكام؟ كيف ستحصل المجاهدة إذا لم توجد مشقة في صلاة الفجر تُبيِّن الطائع من العاصي، والمجاهد من غير المجاهد؟ أليست هي حجة المنافقين بعينها: {لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً} [التوبة:42] لو كانت القضية مريحة، وغنيمة سهلة، وسفراً قصيراً {لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ} [التوبة:42] المسافة من المدينة إلى تبوك طويلة، والعدو الروم وليست قبيلة من قبائل العرب؛ ولكن الروم! {وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ} [التوبة:42] ولذلك تخلفوا عن الذهاب لأجل المشقة، وكانت غزوة تبوك في حر شديد لذا تناصحوا بقولهم: {وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ} [التوبة:81] فبماذا أجابهم الله؟ {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [التوبة:81]. إذاً: لابد أن يكون في التكاليف مشقة، ولكن من رحمة الله أنه جعل المشقة محتملة في التكاليف، فلا تقول: أنا لا أستطيع أن أقوم لصلاة الفجر، لا. بل تستطيع، فأنت عندما لا تستطيع تنفيذ الحكم يسقطه عنك الشارع ولا يطالبك به، ولا يقول للمريض الذي لا يستطيع القيام: صلِّ قائماً، وإنما يقول له: فإن لم تستطع فصل قاعداً، هذه شريعة من الله وليست دساتير وضعية من البشر. وبعض الناس يتعللون بعدم تنفيذ الأحكام الشرعية بأن الجو الاجتماعي والوظيفي المحيط بالشخص لا يساعد، وهذه حجة سخيفة؛ لأن معنى ذلك: أنه يُقَدم الناس على الله، وأنه يطيع الناس ويعصي الله، وأنه يرضي الناس بسخط الله، هذا معنى كلمة: الجو الاجتماعي المحيط لا يساعد على ترك هذا المنكر، والناس من حولي لا يعينونني على أداء الواجب، هذا معناه: أنه أرضى الناس بسخط الله، هذا معناه نوع من النفاق، وضعف في الإيمان، وتخاذل ومحبة للناس فوق محبة الله.

التذرع بالصعوبات والمشكلات

التذرع بالصعوبات والمشكلات وهذا يقودنا إلى نقطة أخرى هي: أن بعض الناس مستعد لتنفيذ الأحكام الشرعية ما دام لا يتعرض للمشكلات، فإذا تعرض للصعوبات والمشكلات امتنع عن التنفيذ؛ لأنه غير مستعد للتضحية في سبيل الله، وغير مستعد أن يواجه صعوبة: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} [الحج:11] أي: حافة {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ} [الحج:11] قال: هذه شريعة حسنة وهذا دين عظيم، وهذه أحكام بليغة: {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ} [الحج:11] ماذا يفعل إن أصابته مصيبة وشدة؟ {وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} [الحج:11] ارتد وانتكس وتولى وأعرض، ولم ينفذ الحكم، وعصى الله ورسوله: {انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11]. ومما يتعلق بهذا السبب أيضاً: خوف الاضطهاد: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت:10] وهذه الآية العظيمة تبين لنا مبدأً عظيماً، وهو: {فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت:10] ما مسه في الدنيا من سخرية، أو كلمات جارحة، أو شيء من المقاطعة أو الهجر، جعلها كعذاب الله في الآخرة، ورضخ، وأعطاهم ما يريدون، ووافقهم على معصيتهم، أما الاضطهاد الذي يكره الإنسان فإن الله لا يؤاخذ على ترك الحكم فيمن هذا حاله. وهذا الذي حصل للمسلمين بـ مكة، كان الرجل يضرب حتى لا يستطيع أن يستوي قاعداً من شدة ألم الضرب، ولا بد أن يستلقي طيلة الوقت، حتى يقولوا له: هذا الجعل إلهك، وهذا الخنفس إلهك فيقول: نعم! من شدة الضر الذي نزل به، لكن هؤلاء أكرهوا وقلوبهم مطمئنة بالإيمان، ولذلك عذرهم الله تعالى واستثناهم، وقال في شأنهم: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} [النحل:106] ولكن المصيبة: {مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً} [النحل:106] أي: قَبِل الكفر ورضي به، فعندما تصل المسألة إلى أذىً لا يطيقه البشر، ولا يطيقه الشخص كالضرب الشديد، والسجن الطويل، والتعذيب المؤلم، عند ذلك إذا ترك الحكم في الظاهر وقلبه مطمئن بالإيمان فعند ذلك لا حرج عليه لو تكلم بما يريدون، أما أن يترك الإنسان حكماً شرعياً لكلمة أو سخرية أو استهزاء فهذه سخافة؛ لأن هذا طريق الأنبياء، وبماذا كان الأنبياء يقابلون الاستهزاء والسخرية؟ إذاً لا يجوز مطلقاً أن نترك الأحكام لمثل هذه الأسباب الواهية التي يضخمها الشيطان ليقنعنا بأننا معذورون في ترك الحكم الشرعي. ونحن في زمن فتنة، والقابض على دينه كالقابض على الجمر، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يقوي إيماننا، وأن يحفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا، اللهم ارزقنا اليقين، وتب علينا إنك أنت أرحم الراحمين، اللهم لا تؤاخذنا بما فعلنا واغفر لنا أجمعين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

التذرع بضغط الزوجة والأولاد

التذرع بضغط الزوجة والأولاد الحمد لله رب العالمين؛ ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً رسول الله النبي الأمين، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى أزواجه وذريته الطيبين الطاهرين، وعلى من اتَّبعهم بإحسان إلى يوم الدين. عباد الله: ومما يتعلل به كثير من الناس في مسألة عدم تنفيذ الأحكام الشرعية، وبالذات في قضية إخراج المنكرات من البيوت: عدم الصبر على ضغط الزوجة والأولاد. فهم يتذرعون في عدم إخراج آلات اللهو، وصحون الاستقبال التي تسمم البيت، وتدخل الدياثة فيها؛ بأنهم لا يقوون على احتمال ضغط الزوجة والأولاد، وهذه ذريعة سخيفة أيضاً. وقدر يا عبد الله! ماذا ستجيب الله يوم القيامة عندما يسألك عما استرعاك، وعن هذا المنكر الذي أدخلته بيتك، فهل ستقول له يوم القيامة: ضغط الزوجة والأولاد؟ وهل يقبل الله مثل هذا العذر؟ ألم يقل لك في كتابه: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن:14] هل قال لك: طاوعوهم؟ هل قال: وافقوهم؟ هل قال: أعطوهم مطلبهم؟ هل قال: أعطوهم ما يشتهون، وأدخلوا لهم ما يريدون أم قال: فاحذروهم؟ هذا هو الوقت الذي يجب عليك أن تطبق فيه قول الله تعالى: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6] الناس هم شعلة النار، هم حطبها، هم وقودها وجمرها: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (التحريم:6] {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77]. هذه حيلة، وهذا عذر غير مقبول، والواجب الآن دعوة الزوجة والأولاد وتربيتهم والاهتمام بهم؛ فإذا وجدت مجالات مباحة للترفيه -وهذه عبارة صارت في عصرنا خطيرة جداً، ولها أبعاد كثيرة (صناعة الترفيه في العالم) - وألعاب وتسليات مباحة فعند ذلك يكون البديل لهذه الأشياء المحرمة، وهناك أشياء كثيرة مباحة والحمد لله.

التذرع باختلاف المفتين

التذرع باختلاف المفتين وبعض الناس يعتذرون عن عدم الالتزام بالحكم الشرعي بتضارب الفتاوى واختلاف المفتين، ويقولون: لكن فلاناً يقول: هي حلال، لقد احترنا، نسمع من هنا أنه حرام، ومن هنا أنه حلال، ونحن في سعة ما دام هناك من يقول بالإباحة. نعم. إذا كان إبليس يقول بالإباحة؛ فهناك دائماً من يقول بالإباحة في أي محرم، وهناك من هو متساهل ومفرط، وهناك من يفتي بشبهة في الفتوى، يقول: نوسع على الناس ليدخلوا في الدين، وما هو إلا إدخالهم من باب وإخراجهم من الباب الآخر، هذا معنى التساهل في الفتوى، هؤلاء يحملون أوزارهم يوم القيامة كاملة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم: {أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [الأنعام:31] {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [العنكبوت:13] أي: يفترون على الله عز وجل. والإنسان إذا عرف شخصاً أنه مفرط ومتساهل في الفتوى فبأي حجة عند الله يتبعه. ثم أليس لك عقل؟ أليس عندك ميزان؟ ألا يوجد تفكير في الأمور؟ عندما يأتي مثلاً من يحلل الربا، ويقول: هو حلال، وأنت تعلم لو فكرت بعقلك أن هذا المال الذي تضعه عند المرابي، لو كان مجرد وديعة وأمانة هل يجوز التصرف فيها؟ هل يجوز للمرابي الذي يأخذ المال الذي عنده أو يتصرف في الوديعة والأمانة، هو يتصرف ويستثمر فيها ويعمل إذاً فهو قرض، وليس أمانة ولا وديعة، وكلامه هذا كذب وحيلة واحتيال، والمال إنما هو قرض بدليل أن الأمانة لا يجوز التصرف فيها، وهذا يتصرف في المال. ثم الوديعة لو تلفت بغير تفريط من المستأمن فإنه لا يضمن في الشريعة، ويقول: احترقت مع بيتي، لكن هذا المرابي يضمن المال لو سرق ولو احترق مكانه؛ لأنه أخذه قرضاً لا وديعة، فأنت تعلم أنه قرض، ثم تأخذ عليه زيادة فماذا يكون؟ لا يكون إلا ربا. فلو جاء مائة وألف من المفتين وأصحاب العمائم، وأقسموا بالله جهد أيمانهم، وأنهم يتحملون المسئولية أمام الله عن هذه الفتوى وقالوا: إنه حلال، فماذا تفعل وقد عرفت الحكم؟ لو جاء من هؤلاء الأئمة المضلين من قال: إن الغناء مباح، والموسيقى إذا كانت ليست بصاخبة وكانت هادئة فهي حلال، وأنت تعلم من حديث النبي صلى الله عليه وسلم الصحيح الذي سمعته مراراً وتكراراً عن أناس أخبر عنهم النبي صلى الله عليه وسلم أنهم يستحلون -أي: يأخذون الحرام فيجعلونه حلالاً- الحر يعني: الزنا، والحرير: المحرم على الرجال، والمعازف، وما هي المعازف؟ أليست الأورج والبيانو، والقانون والكمنجا، والعود والطبل، أليست هي المعازف؟ فلماذا نلف وندور؟ أليس الشارع قد حرمها بالكلية، وما استثنى منها إلا الدف فقط للنساء في الأعراس والأعياد؟ ثم ألم تسمع حديث النبي صلى الله عليه وسلم الصحيح: (صوتان ملعونان: وذكر منهما مزمار عند نعمة) والملعون هل يكون مكروهاً أو مباحاً؟ الملعون لا يكون إلا محرماً، فهل تقول بعد ذلك إن المزمار مباح؟ وعندما يأتي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن الكوبة) والكوبة هي: الطبل، فعندما نعلم يقيناً أيها الإخوة الحكم الشرعي والأدلة فهل بعد ذلك إذا قال فلان وفلان من الناس؛ مهما كان ارتفاع عمامته؛ وطول لحيته، وشهرته؛ إذا قال إنها مباحة فهل نسمع له ونطيع؟ وهل نقول: إن المسألة فيها اختلاف، وإنه يسعنا أن نأخذ بما نريد من أقوال المفتين وكلٌ على خير؟ ما هذا اللعب؟! {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق:13 - 14] هذا دين ليس بلعب. ولذلك أيها الإخوة! لو تعارض عندك أقوال المفتين، فإذا علمت بالدليل الصحيح والحكم الشرعي فلا يسعك أن تتركه ولا أن تخالفه إلى قول أحد كائناً من كان، لأنك تطيع الله ورسوله؛ لا فلان وفلان، فإذا جاء الحكم عن الله ورسوله فعلى الرأس والعين، لابد أن نقبل به ولو قال من قال بذلك، قد يكون مجرماً منافقاً مضلاً، وقد يكون مسكيناً فمن قلة عمله والشبهة التي عنده قال بذلك. أيها الإخوة! إن التذرع باختلاف المفتين في أن ننتقي ما نريد بأهوائنا مدخل شيطاني، لكن عندما تسمع أقوالاً ولا تعرف أدلة ولا تعرف حكم الله ورسوله، وليس عندك حجة ولا بينة، ماذا تفعل؟ تقلد الأعلم، هذا هو المطلوب منك كعامي من عامة الناس أن تقلد الأعلم، إذا لم تكن طالب علم تحسن البحث وتنظر في الأدلة فتقلد الأعلم من العلماء، وقلنا تقلد الأعلم ولم نقل تقلد الأشهر، لأن هذه مصيبة في هذا العصر، أن الناس يقلدون المشهور بسبب شهرته ولا يقلدون الأعلم، وهذه فضيحة جديدة في عالم الإفتاء؛ أن يتجه الناس إلى الأشهر وليس إلى الأعلم، فكم من مشهور أقل علماً ممن هو أقل منه شهرةً. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجنبنا الهوى والفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم إذا أردت فتنةً بعبادك فاقبضنا إليك غير مفتونين، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه. اللهم انصر الإسلام والمسلمين، وأعل كلمة الدين، وأقم لواء الجهاد في الأرض يا رب العالمين، اللهم اقمع أهل البدعة والمشركين، اللهم انصر إخواننا المستضعفين في كوسوفا وكشمير وفلسطين، اللهم أنقذ المسلمين من الفيضانات في السودان وبنجلادش إنك على كل شيء قدير، اللهم إنهم حفاة فاحملهم، وإنهم عراة فاكسهم، وجياع فأطعمهم، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد، والحمد لله رب العالمين.

جسر الأهوال

جسر الأهوال جهنم مصير الكافرين والفاجرين نعوذ بالله منها، يضرب بين ظهرانيها جسر وهو الصراط، سيمره جميع الخلق، وهذا الصراط له صفات تشيب لها رءوس الولدان، فمن صفات هذا الصراط، أنه يضرب في ظلمة جهنم، وأن له كلاليب وخطاطيف تخطف الناس، وحده ودقته كحد السيف. والناس على الصراط بين ناجٍ وهالك، أما الناجون فبين ناج مسلم وبين ناج مخدوش، وأما الهالكون فبين هالك مكردس، وهالك منكوس في نار جهنم، فالعدة العدة لذلك الأمر الجلل.

الصراط حقيقة لا مرية فيها

الصراط حقيقة لا مرية فيها إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن يوم القيامة يوم عظيم يوم كان شره مستطيراً، وكان يوماً عبوساً قمطريراً، وطول ذلك اليوم خمسون ألف سنة، ذكره الله لنا في كتابه لنحذر شره، وذكَّر عباده به ليستعدوا لذلك اليوم لئلا يقول أحد: يا رب! لم تخبرني بما يكون فيه، فقد أخبرنا الله بالتفصيل في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وقد سبق أن ذكرنا في خطبة ماضية الحشر وبعض ما يكون فيه، وسنذكر في هذه الخطبة -إن شاء الله- أمراً واحداً من الأمور التي تكون في ذلك اليوم، وهو الصراط ولا شك أن التفكر في أهوال الآخرة هو الضامن لإصلاح النفوس وتغيير الحال إلى الأفضل. العظة باليوم الآخر هي التي تغير سلوك الناس توقظ الغافلين، وتنبه السادرين في غيهم. عباد الله: إذا جمع الله الأولين والآخرين، وحُشِرَ الناس، وأخذ بالكفار إلى النار، يبقى من ينتسب إلى الإسلام ينتظرون الله تعالى، فيأتيهم الله عزَّ وجلَّ في صورة غير صورته -كما جاء في صحيح البخاري - يمتحنهم، والمؤمنون يعرفون ربهم، فإذا جاء في صورته سجد المسلمون الذين كانوا يسجدون لله في الدنيا؛ لأنهم عرفوا ربهم، وأما المنافقون الذين كانوا يسجدون رياءً يجعل الله ظهر الواحد منهم طبقاً واحداً فلا يستطيع السجود، وهذا الامتحان لكشف المنافقين من المؤمنين، ثم إن الله تعالى يدعوهم فيتبعونه، فيأخذهم الله عزَّ وجل إلى شفير جهنم، ويستشفع النبي صلى الله عليه وسلم، فيأُذن بضرب الجسر على متن جهنم، وهو الصراط. فالصراط: هو الجسر الممدود على متن جهنم، وهو الطريق الذي سيعبر عليه الناس، والصراط حتم واجب الإيمان به، قامت الأدلة عليه من الكتاب والسنة، قال الطحاوي رحمه الله في عقيدة أهل السنة والجماعة: ونؤمن بالبعث وجزاء الأعمال يوم القيامة، والعرض والحساب، وقراءة الكتاب، والثواب والعقاب، والصراط والميزان، فالميزان من عقيدة أهل السنة والجماعة لا بد من الإيمان به.

عبور الصراط أمر لا خيار فيه

عبور الصراط أمر لا خيار فيه إذا صار الناس عند الجسر، تقول عائشة رضي الله عنها: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: (أين الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات؟ فقال: هم في الظلمة دون الجسر)، قال مجاهد: قال ابن عباس: (أتدري ما سعة جهنم؟ قلت: لا. قال: أجل والله ما تدري؛ إن بين شحمة أذن أحدهم وبين عاتقه - أي: الواحد من أهل النار- مسيرة سبعين خريفاً -أي: سبعين سنة- تجري فيها أودية القيح والدم. قلت: أنهاراً؟! قال: لا. بل أودية. ثم قال: أتدري ما سعة جهنم؟ قلت: لا. قال: أجل والله ما تدري، حدثتني عائشة أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله: ((وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ)) [الزمر:67]، فأين الناس يومئذٍ يا رسول الله -إذا طوى الله الأرضين والسماوات، أين يكون الناس واقفين؟ - قال صلى الله عليه وسلم: هم على جسر جهنم) أخرجه الإمام أحمد، وإسناده صحيح. فالصراط: هو جسر جهنم الذي سيعبر عليه الناس، وتكليفهم بعبوره هو اضطرارهم إليه حيث لا خيار لهم فيه، بل لا بد لهم من عبوره، فالأوامر يوم القيامة ملزمة للجميع لا يستطيع أحدٌ أن يتخلف عن تنفيذ أمر الله أبداً، فإذا شق عن قبورهم دعاهم الداعي إلى أرض المحشر مرغمين، يجب عليهم أن يجتمعوا إلى ذلك الموقف، وإذا ناداهم الله إلى الجسر اتبعوا ذلك مرغمين لا خيار لهم، وإذا أمروا بعبور الصراط فهم مرغمون على ذلك لا خيار لهم الأوامر يوم القيامة لا مجال للنكوص عنها أو التلكؤ عن تنفيذها.

أوصاف الصراط

أوصاف الصراط وصف النبي صلى الله عليه وسلم الصراط بعدة أوصاف: أولاً: أنه زلقٌ؛ فقد جاء في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قلنا: (ما الجسر يا رسول الله؟ قال: مدحضة مزلة) ومعنى مدحضة: أي: تزلق فيه الأقدام. ومزلة أي: تسقط فيه الأجساد والأرجل. إذاً: أول صفة للصراط أنه مضروب على متن جهنم من الطرف إلى الطرف. أتدرون -يا عباد الله- ما سعة جهنم؟ يؤتى بها ولها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها، وعمقها إذا رمي الحجر من شفيرها لا يصل إلى القعر إلا بعد سبعين عاماً وإذا كان الواحد من أهل النار ضرسه كالجبل، وما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعين سنة من الدم والقيح، فكيف سيكون سعة جهنم؟ يانياً: أ، هـ دحض مزلة. ثالثاً: أن له جنبتين وحافتين كما جاء في حديث أبي بكرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يحمل الناس على الصراط يوم القيامة، فتتقادع بهم جنبتا الصراط تقادع الفراش في النار)، وهذا حديث حسن، أخرجه ابن أبي عاصم رحمه الله تعالى وغيره. ومعنى: تتقادع بهم جنبتا الصراط: أي: يسقط بعضهم فوق بعض. وإذا جاء في بعض صفات هذا الصراط أنه أدق من الشعر فهل يكون لبعض الناس دون بعض؟ أو يكون في مرحلة دون مرحلة؟ أو هو من علم الله بالغيب الذي لا يمكن أن ندركه؟ كيف يكون له جنبتان وهو أدق من الشعرة؟ نقول: إن الله على كل شيءٍ قدير، فتتقادع جنبتا الصراط بالناس تقادع الفراش في النار، تسقطهم فيها بعضهم فوق بعض؛ تتلاعب بالناس تلاعباً. رابعاً: أن له كلاليب على حافتيه؛ فقد روى مسلم -رحمه الله- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وفي حافتي الصراط كلاليب معلقة مأمورة بأخذ من أمرت به)، وفي حديث أبي سعيد: (قلنا: يا رسول الله! ما الجسر؟ قال: مدحضة مزلة، عليه خطاطيف وكلاليب وحسكة مفلطحة لها شوكة عقيفاء، تكون بـ نجد يقال لها: السعدان) رواه مسلم. وفي البخاري عن أبي هريرة: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في صفة الصراط: (وبه كلاليب مثل شوك السعدان أما رأيتم شوك السعدان؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: فإنها مثل شوك السعدان، غير ألا يعلم قدر عظمها إلا الله). قال الشراح: الكلاليب: جمع كلوب، وهو حديدة معطوفة الرأس يعلق عليها اللحم. والخطاف: الحديدة المعوجة كالكلوب يختطف بها الشيء. والحسكة: شوكةٌ صلبةٌ معروفة؛ وقيل: نبات له ثمر خشن يتعلق بأصواف الغنم. والمفلطحة: العريضة. والعقيفاء: المعوجة. وشوك السعدان: نبات ذو شوك يَرعى البدو إبلهم عنده، وهو مشهور بـ نجد، يقال: مرعى ولا كالسعدان. أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقرب لهم كيف تعلق هذه الكلاليب بأجساد الناس، وكيف تتخطف هذه الخطاطيف الناس، وتعلق بأجسادهم مثل شوك السعدان الذي يعلق، وإذا نشب لا يخرج. خامساً: أن حده مثل حد الموسى أو حد السيف؛ كما جاء في حديث سلمان رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ويوضع الصراط مثل حد الموسى، فتقول الملائكة: من يجيز على هذا؟ فيقول الرب عزَّ وجلَّ: من شئت من خلقي. فيقولون: ما عبدناك حق عبادتك) أخرجه الحاكم وإسناده صحيح. وفي حديث ابن مسعود الطويل:) والصراط كحد السيف دحض مزلة). إذاً: هو حاد جداً مثل حد السيف أو الموس، وبه خطاطيف وكلاليب تنهش الناس يميناً وشمالاً، ومن أسفل حدٌ كحد السيف يقطع من يمر عليه، وهو يروغ بالناس تتقاذفهم جنبتاه، فيتساقطون في جهنم إلا من شاء الله.

كيفية مرور الناس على الصراط

كيفية مرور الناس على الصراط المرور على الصراط إجباري لجميع الخلق، فلا بد أن يمر عليه الذين نجوا من غير الكفار، فإن الكفار لا يمرون على الصراط؛ لأنه قد أُخِذَ بهم إلى جهنم من قبل، أما الذين يمرون على الصراط فهم المسلمون منهم الطائع ومنهم العاصي منهم البر ومنهم الفاجر منهم المؤمن ومنهم الفاسق. أما المرتدون والكفرة فقد أُخذ بهم إلى جهنم من قبل، فلا مرور لهم على الصراط.

مرور المنافقين

مرور المنافقين يتفاوت الناس في المرور على الصراط تفاوتاً عظيماً، وذلك لأن المرور عليه يكون بقدر الأعمال الصالحة؛ فيعطي الله كل إنسان نوراً على قدر عمله يتبعه على الصراط؛ لأن من صفة الصراط أنه مظلم إظلاما تاماً فتأمل الآن يروغ بهم وتتقاذفهم جنبتاه، وعليه كلاليب وخطاطيف وحسك، وهو كحد السيف؛ فتكون الأنوار على قدر الأعمال قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ويعطى كل إنسان منهم منافق أو مؤمن نوره، ثم يتبعونه) قبل المرور على الجسر يعطى كل واحد نوراً حتى المنافقون الذين دخلوا مع المؤمنين في الدنيا، ثم يبدأ المرور على الجسر، فيطفئ الله أنوار المنافقين، فتكون الخدعة الكبيرة، قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142]، فإذا اطفئت أنوار المنافقين سقطوا في جهنم.

النور في الصراط على قدر الأعمال

النور في الصراط على قدر الأعمال بقي المسلمون البر والفاجر الطائع والعاصي، فيعطون أنواراً على قدر أعمالهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم يتبعونه وعلى جسر جهنم كلاليب وحسك تأخذ من شاء الله) رواه مسلم. وفي حديث ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (فيعطون نورهم على قدر أعمالهم؛ فمنهم من يعطى نوره مثل الجبل بين يديه يضيئ كل ما أمامه، ومنهم من يعطى نوره فوق ذلك، ومنهم من يعطى نوره مثل النخلة بيمينه، ومنهم من يعطى دون ذلك بيمينه، حتى يكون آخر من يعطى نوره على إبهام قدمه؛ يضيء مرة ويطفئ مرة، إذا أضاء قدَّم قدمه وإذا أطفئ قام) لا يستطيع أن يمشي لأنه نور في تلك الظلمة، فإذا أضاء له مشى، وإذا أظلم قام واقفاً؛ لأنه إذا غامر بالمشي ربما يسقط؛ فيقوم على حد السيف والكلاليب من حوله، يطفأ نوره مرة ويوقد مرة بحسب العمل، أما أولياء الله فنورهم فوق الجبل، وفي ذلك الموقف الرهيب ينطفئ نور المنافقين فيسقطون -كما تقدم- وينجو المؤمنون.

سرعة المرور على الصراط

سرعة المرور على الصراط الناس لهم سرعات تختلف بحسب أعمالهم في المرور على الصراط؛ لأن جهنم في الأسفل، واللهب يشتد، والنار لها زفير وشهيق، والمنظر من الأسفل في غاية الرعب؛ فإن جهنم من الأسفل توقد {نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ} [الهمزة:6]، وتختلف سرعة الناس في المرور على الصراط باختلاف قوة النور الذي يُعطى لهم؛ فالنور تابع للسرعة. جاء في حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ويمرون على الصراط؛ والصراط كحد السيف دحض مزلة، فيقال لهم: امضوا على قدر نوركم؛ فمنهم من يمر كانقضاض الكوكب) هناك أناس يمرون على الصراط من الجهة إلى الجهة الأخرى كانقضاض الكوكب هل رأيت النجم عندما يرمى به في السماء بغاية السرعة مع المسافة الشاسعة؟ كذلك هم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ومنهم من يمر كالريح -كالإعصار في السرعة- ومنهم من يمر كالطرف -كطْرف العين- ومنهم من يمر كشد الرِّجِل أو الرَّجِل -أي: الراجل غير الراكب الذي يجري جرياً- يرمل رملاً، فيمرون على قدر أعمالهم، حتى يمر الذي نوره على إبهام قدمه، تخر يدٌ وتعلق يدٌ، وتخر رجل وتعلق رجل، وتصيب جوانبه النار، فيخلصون بعد العنا الشديد إلى الطرف الآخر، فإذا خلصوا قالوا: الحمد لله الذي نجانا منك بعد أن أراناكِ، لقد أعطانا الله ما لم يعطِ أحداً). وجاء في صحيح مسلم في صفة سرعة هؤلاء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فيمر أولكم كالبرق)، ولذلك لا يتأثر هؤلاء بجهنم مطلقاً؛ لا بخطاطيف، ولا بكلاليب، ولا بحسك، ولا بحد السيف، ولا بلهب النار، وهؤلاء هم أولياء الله، وكبار الصالحين، والعلماء العاملون (قلت: بأبي أنت وأمي! أي شيء كمر البرق؟ قال: ألم تروا إلى البرق كيف يمر ويرجع في طرفة عين؟ ثم كمر الريح، ثم كمر الطير وشد الرجال، تجري بهم أعمالهم، ونبيكم قائم على الصراط يقول: رب سلِّم سلِّم، حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلا زحفاً) زحف على حد الموسى، أو حد السيف، مع الخطاطيف من أول جهنم إلى آخرها، هكذا جزاء الله تعالى {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن:60]، ويقول الله في الحديث القدسي: (يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)، يكفي هذا الموقف موقف الصراط حتى نغير كل الطريقة التي نسير عليها، ومن كان يراوغ في الدنيا فليعتدل، ومن كان يعصي الله فليتب، والله لو عقلنا الصراط فقط من دون عذاب جهنم لاعتدل سلوكنا وتغير. ثم يمر آخر واحد ويزحف زحفاً، جاء في حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يرد الناس كلهم النار، ثم يصدرون منها بأعمالهم، فأولهم كلمع البرق، ثم كمر الريح، ثم كحضر الفرس، ثم كالراكب، ثم كشد الرجال، ثم كمشيهم) وهذا على حسب الأعمال، فكلما كانت حسناتك أكثر كلما كان مرورك أسرع، وكلما كانت حسناتك أقل كلما كان مرورك أبطأ. وهكذا تكون السرعة على متن جهنم حسب أعمال العباد، حتى يكون آخر الناس مروراً على الصراط بعد الزاحف رجل آخر هو المسحوب؛ كما جاء في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (حتى يمر آخرهم يُسحب سحباً) رواه البخاري، يسحب على حد السيف سحباً حتى يجاز به إلى الطرف الآخر على متن جهنم. وجاء في وصف آخر رجل في حديث ابن مسعود، قال: (ثم يكون آخرهم رجلاً يتلبط على بطنه، يقول: يا رب! لم أبطأت بي؟ فيقول: إنما أبطأ بك عملك) وهو صحيح عن ابن مسعود، وهذا لا يقال: إنه من جهة الرأي، فله حكم الرفع. وهذا الأخير مع ما لقي من العذاب الأليم إذا جاز الصراط عدَّها نعمة ما بعدها نعمة، ولذلك جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن آخر من يدخل الجنة رجلٌ يمشي على الصراط، فينكب مرةً ويمشي مرةً، تسفعه النار مرةً، فإذا جاوز الصراط التفت إليها -إلى جهنم- فقال: تبارك الذي نجاني منك، لقد أعطاني الله -انتبهوا لعبارة الرجل؛ عبارة آخر واحد يجوز جهنم مع ما لاقاه من العذاب الأليم ما لم يعط أحداً من الأولين والآخرين)، إلى هذه الدرجة يستشعر الرجل النعمة، ويظن أنه ما أحد أعطي نعمة مثله من الأولين والآخرين من الأهوال التي رآها، فكيف بالذين يسقطون في النار؟!

الأمانة والرحم على جنبي الصراط

الأمانة والرحم على جنبي الصراط وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن صفة الصراط -أيضاً- وما يحدث عنده، فلما ذكر ذهاب الناس إلى آدم وإبراهيم وموسى ثم عيسى ثم محمد صلى الله عليه وسلم، قال عليه الصلاة والسلام: (وترسل الأمانة والرحم فتقومان جنبتي الصراط يميناً وشمالاً) الأمانة عن يمين الصراط والرحم عن شماله؛ يبعث الله الأمانة -والله يخلق ما يشاء- عن يمين الصراط، والرحم عن شماله. قال العلماء: لعظم شأنهما عند الله، وضخامة أمرهما، وعظم حقهما، يوقفان هناك عن يمين الصراط وعن شماله؛ لأجل أن تكونا شاهدتين للأمين وعلى الخائن، وللواصل وعلى القاطع يحاجان عن المحق فينجو، ويشهدان على المبطل فيهلك؛ فكل من خان في أمانة فليحذر، وكل من هو قاطع للرحم فلينتبه.

أول من يجتاز الصراط

أول من يجتاز الصراط أول من يجيز الصراط هو النبي صلى الله عليه وسلم ثم أمته قال عليه الصلاة والسلام: (يضرب الصراط بين ظهراني جهنم، فأكون أنا وأمتي أول من يجيزها) أول من يخترق ويمر هو محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، وفي رواية: (فيضرب الصراط بين ظهراني جهنم، فأكون أول من يجوز من الرسل في أمته)، حتى جاء في رواية: (أنهم يفسحون الطريق يميناً وشمالاً لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم وأمته)، قال عليه الصلاة والسلام: (ولا يتكلم يومئذٍ أحد إلا الرسل، وكلام الرسل يومئذٍ: اللهم سلِّم سلِّم) لا يتكلم أحد مطلقاً من هول الموقف، ولا يتلفظ أحد بكلمة ما عدا الرسل، فإن عندهم قدرة على الكلام، لكن كلامهم محدود بعبارة من ثلاث كلمات فقط، وهي: اللهم سلِّم سلِّم، يدعون بالسلام للناس لهول الموقف. وفي رواية أبي هريرة عند مسلم: (إلى أن تمر أمتي كلها، ونبيكم قائم على الصراط يقول: رب سلِّم سلِّم)، وهذا من شفقته عليه الصلاة والسلام على أمته، وكذلك الأنبياء كما جاء في رواية أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والأنبياء بجنبتي الصراط، وأكثر قولهم: اللهم سلِّم سلِّم). نسأل الله تعالى أن يجعلنا في ذلك اليوم من الناجين، اللهم ثبت أقدامنا يوم تزل الأقدام، اللهم ثبت أقدامنا على الصراط يوم تزل الأقدام، وعافنا في الدنيا والآخرة يا رب العالمين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الناس على الصراط بين ناج وهالك

الناس على الصراط بين ناج وهالك الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً، وأشهد أن لا إله إلا هو الحي القيوم لم يتخذ صاحبةً ولا ولداً، وأشهد أن محمداً رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين. عباد الله: أما حال الناس على الصراط فهم بين ناجٍ وهالك. ذكر أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم في نتيجة مرور الناس، فقال: (فناجٍ مسلم، ومخدوش مكلَم، ومكردس في النار)، وجاء في حديث أبي سعيد عند ابن ماجة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في تصنيف العابرين على الصراط: (فناجٍ مسلم، ومخدوجٌ به ثم ناجٍ، ومحتبسٌ به ومنكوس فيها)، وفي رواية البخاري (فناجٍ مسلم، وناجٍ مخدوش، ومكدوس في نار جهنم)، فاتضح أن الذين يمرون على الصراط ينقسمون إلى أقسام: أولاً: ناجٍ بلا خدش؛ لا تمس منه الكلالبيب والخطاطيف شيئاً، ولا تصيبه النار مطلقا؛ قال الله تعالى: {أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:101]، وقال تعالى: {لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} [الأنبياء:102]، وذلك من سرعة المرور {لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ * {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} [الأنبياء:102 - 103]، وأي فزعٍ أكبر من فزع ذلك اليوم؟!! أولاً: ناج بلا خدش. ثانياً: هالكٌ من أول وهلة، ساقط في النار. ثالثاً: متوسط بينهما، يصاب ثم ينجو، وكذلك جاء في رواية ابن ماجة: المحتبس به؛ أي: يحبس على الصراط حتى يطلق سراحه. وأما الناجي بلا خدشٍ، فقد ذكره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (ناجٍ مسلَّم) وهؤلاء الذين يعطون نوراً عظيماً لأجل أعمالهم، فينجون ويجوزون، قال صلى الله عليه وسلم في حديث جابر: (ثم ينجوا المؤمنون، فتنجو أول زمرةٍ وجوههم كالقمر ليلة البدر سبعون ألفاً لا يحاسبون)، وهؤلاء هم أولياء الله الذين تعبوا في الدنيا قاموا الليالي، وصاموا الأيام، وعفوا عن الحرام، وعملوا لله، وجاهدوا في سبيل الله، بوارق السيوف على رءوسهم، فهؤلاء لا يفوت أجرهم عند الله {وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [النساء:13]. قال (ثم الذين يلونهم كأضوأ نجم في السماء)، وأما الهالك من أول وهلة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم وصفهم بأوصاف، فقال: (مكردس في النار)، وقال: (منكوس فيها)، وقال:) مكدوس في نار جهنم)، ومن هؤلاء المنافقون، والناس الذين زادت سيئاتهم على حسناتهم، فهؤلاء يسقطون في النار ويعذبون حتى يأتي فرج الله، أما المنافقون فهم في الدرك الأسفل من جهنم. قال العلماء: المكردس الذي جمعت يداه ورجلاه وألقي إلى موضع. والمنكوس: المقلوب على رأسه؛ فرأسه إلى أسفل، ورجلاه إلى أعلى في نار جهنم. والمكدوس هو من تكدس الإنسان إذا دفع من ورائه فيسقط. والمكدوش: الذي يساق سوقاً شديداً حتى يوقع فيها. هؤلاء الذين أوبقتهم أعمالهم. أما الصنف الثالث؛ الذي يصاب ثم ينجو: فهؤلاء وصفهم بقوله: (مخدوش مكلم)، وفي رواية: (مخدوج به)، وفي رواية: (ومنهم المجازى حتى ينجى) رواه مسلم. ومعنى ذلك: أن هذا الصنف الثالث تتخطفهم الكلاليب، فتجرح أجسادهم، ثم ينجون بعد ذلك. ومعنى مخدوشٌ مكلم: خدش الجلد قشره. ومعنى مخموش: ممزوق، والمخدوش هو المخمش الممزق، والخمش تمزيق الوجه بالأظافير، والمكلم أي: المجروح. ومخدوجٌ به: من الخداج وهو النقصان؛ ومعنى ذلك: أن كلاليب الصراط والخطاطيف تجرحه وتنهشه يميناً وشمالاً، فتنقص من جسده، ويجرح طيلة الطريق وهو يعبر من أول جهنم إلى آخرها، جراحٌ وخدشٌ وخدج، أي: نقصان ينقص من جسده بحسب ما يسحب الخطاطيف والكلاليب من أجسادهم، فإذا نجوا بعد ذلك يقولون كما مر في الرواية: (الحمد لله الذي نجانا منكِ بعد أن أراناكِ، لقد أعطانا الله ما لم يعطِ أحداً) هذا كلامهم إذا نجوا.

تذكروا الصراط وأعدوا له حسنات

تذكروا الصراط وأعدوا له حسنات وقد نصب الصراط لكي يجوزوا فمنهم من يكب على الشمال ومنهم من يسير لدار عدن تلقاه العرائس بالغوالي يقول له المهيمن يا وليي غفرت لك الذنوب فلا تبال قال القرطبي رحمه الله: فتفكر الآن فيما يحل بك من الفزع بفؤادك، إذا رأيت الصراط ودقته، ثم وقع بصرك على سواد جهنم من تحته، ثم قرع سمعك شهيق النار وتغيظها، وقد كلفت أن تمشي على الصراط مع ضعف حالك، واضطراب قلبك، وتزلزل قدمك، وثقل ظهرك بالأوزار المانعة لك من المشي على بساط الأرض فضلاً عن حدة الصراط، فكيف بك إذا وضعت عليك إحدى رجليك فأحسست بحدته، واضطررت إلى أن ترفع القدم الثاني، والخلائق بين يديك يزلون ويعثرون، وتتناولهم الخطاطيف والكلاليب، وأنت تنظر إليهم كيف ينكسون فتسفل إلى جهة النار رءوسهم، وتعلوا أرجلهم، فياله من منظرٍ ما أفظعه! ومرتقىً ما أصعبه! ومجازٍ ما أضيقه! {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة:197]. عباد الله: إن الورود على الصراط هو المقصود بقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} [مريم:71 - 72] فما من أحدٍ منا إلا وهو سيمر على جهنم؛ فإن نجا عرف نعمة الله عليه، وإن هلك ففي النار، فليس لأحدٍ -حتى الأنبياء- إلا وهم يمرون على جهنم ولا بد؛ لأن الله قال: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً} [مريم:71] فلا بد من الورود على جهنم؛ وقد فسر كثيرٌ من العلماء الورود بالمرور على الصراط، وقال بعضهم: بالدخول ولكنها لا تؤذي المؤمنين فينجيهم الله تعالى {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} [مريم:72]. عباد الله: من أراد النجاة فلينجُ من الآن قبل أن يندم حين فوات الأوان. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا في ذلك الموقف من الناجين، وأن يرزقنا شفاعته عند الصراط؛ فإن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم أن يشفع لي يوم القيامة، فقال: أنا فاعل، قلت: يا رسول الله! فأين أطلبك؟ -هؤلاء الأولون والآخرون أين أجدك وسط هؤلاء؟ - قال: اطلبني أول ما تطلبني على الصراط. قلت: فإن لم ألقك على الصراط؟ قال: فاطلبني عند الميزان. قلت: فإن لم ألقك عند الميزان؟ قال: فاطلبني عند الحوض فإني لا أخطئ هذه الثلاثة المواطن) رواه الترمذي وهو حديث حسن. فمن وفقه الله بمحبته للنبي عليه الصلاة والسلام، ومتابعته لسنة محمد صلى الله عليه وسلم، وإيمانه بما جاء به صلى الله عليه وسلم، فإن الله يرزقه شفاعة نبيه في تلك المواطن العظيمة. فهانحن قد عرفنا حال الصراط فقط، ولا نتكلم الآن عن عذاب جهنم بل عن الصراط فقط، فماذا أعددنا لذلك اليوم يا عباد الله؟ ماذا أعددنا للجواز على الصراط؟ نسأل الله تعالى أن يردنا إلى الدين رداً جميلاً، اللهم عافنا واعف عنا، نحن عبادك المقصرون المحتاجون إلى رحمتك فلا تحرمنا من رحمتك يا رب العالمين، وأنقذنا على الصراط يا أرحم الراحمين، وارزقنا الفوز بجنات النعيم. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

ثغرات تسدها المرأة المسلمة

ثغرات تسدها المرأة المسلمة إن الله عز وجل حمَّل بني الإنسان قاطبة ذكرهم وأنثاهم الأمانة والمسئولية، فدور المرأة لا يقل عن دور الرجل في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، فكما أن للرجال ثغرات يجب عليهم سدها فكذلك للنساء ثغرات يجب عليهن سدها، ومن هذه الثغرات: ثغرة تعلم العلم وتعليمه، وثغرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وثغرة الأولاد، وثغرة الزوجية وحقوق الزوج، وغير ذلك من الثغرات التي يجب على المرأة سدها والقيام بها.

المرأة المسلمة ودورها في سد ثغرات الإسلام

المرأة المسلمة ودورها في سد ثغرات الإسلام الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أيتها النسوة! السلام عليكن ورحمة الله وبركاته. وبعد: فهذه مناسبةٌ طيبة للقاء هنا من وراء الحجاب كما أمر الله سبحانه وتعالى، ونكرر هذا دائماً تنبيهاً على هذا الأمر المهم، وهو قول الله سبحانه وتعالى وأمره بالحجاب، وبمخاطبة النساء من وراء الحجاب. يا معشر النساء! إنكن في هذه الحياة الدنيا مسئولات أمام الله سبحانه وتعالى يوم القيامة عما تعملن في هذه الحياة الدنيا، والمسئولية كبيرة وكبيرةٌ جداً وخصوصاً إذا عرفت المرأة دورها، فإن كثيراً من النساء لا يعرفن أدوارهن إلا القليل، وقلةٌ من النسوة اللاتي يقمن لإنقاذ الموقف المتردي الذي وصل إليه المجتمع، والذي تقهقر إليه كثيرٌ من طبقاته وأسره وأفراده، قلةٌ من النسوة اللاتي يدركن ما أمر الله سبحانه وتعالى به وما نهى عنه، وقلةٌ منهن اللاتي يعين ما هو الدور المطلوب الذي ينبغي على المرأة أن تقوم به. أيتها الأخت المسلمة! (كلكم راع وكلكم مسئولٌ عن رعيته) وأنت وكل واحدةٍ منكن على ثغرةٍ من ثغرات الإسلام، فالله الله أن يؤتى الإسلام من قبلك، كل واحدة على ثغرة في بيتها في مدرستها في مجتمعها، أو مكان عملها، وحتى في ساحات الجهاد كلكن على ثغرة، ومع الهجمة الشرسة التي يتعرض لها المجتمع المسلم من قبل أعداء الله اليوم سواءً كان هجوماً فكرياً، أو هجوماً عسكرياً ونحو ذلك، فإن هذا الهجوم يتطلب دفاعاً وهجوماً مضاداً، ينبغي عليك يا أيتها المرأة القيام به. مفهوم سد الثغرة في حياة المرأة المسلمة اليوم يكاد أن يكون مفقوداً؛ نظراً لأن كثيراً من النساء وقعن في اللهو، وانصرفن عما أمر الله به، فبدلاً من أن تعيش لهذا الدين، وتبذل لهذا الدين، وتقوم بما أمرها الله سبحانه وتعالى به من عبادته، والدعوة إليه، وتربية الأولاد، وإنكار المنكر، والدعوة إلى الله، وتعليم الأخريات العلم الشرعي، نجد بدلاً من هذا كله انصرافاً إلى مباهج الحياة الدنيا وملذاتها إلى الثياب الحفلات السهرات الأسواق السفريات ونحو ذلك، بحيث أنه قد صار هناك خللٌ كبير في هذه الحياة التي نعيشها اليوم بسبب انصراف المرأة عن المهمة والواجب المطلوب. المرأة في ثغرة الأمومة لها دورٌ عظيم المرأة في ثغرة الحياة الزوجية عليها واجب كبير المرأة في ثغرة التعليم والدعوة عليها مسئوليات جسام المرأة في العمل طباً وتمريضاً وتدريساً ونحو ذلك تواجه مشكلاتٍ متعددة، والمرأة في الأعمال الخيرية أدوار مفقودة، وأدوار عليها ملاحظات، وأدوار تحتاج إلى تكميل المرأة في التبليغ عن المنكرات ومحاربة الفساد ثغرة عظيمة تحتاج إلى القيام بالمسئولية. أنت تعلمين يا أيتها المرأة المسلمة أن المسئولية ستسألين عنها أمام الله سبحانه وتعالى {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم:95] وأقول لك: إن المرأة التي تلقي بالمسئولية على الأخريات، وتقول: يوجد هناك من الداعيات من يقوم بالمسئولية، فتريد أن تنصرف هي لملذات الحياة الدنيا والعبث واللهو؛ امرأة ما عرفت الله ولا حق الله، وكثيرٌ من الثغرات الموجودة في المجتمع مهمة عظيمة تقوم بها امرأة واحدة، لقد قامت النسوة من الصحابيات رضوان الله عليهن بأمورٍ كثيرة في الحياة التي سُطِّرت ونقلت إلينا، وكذلك فإن النساء الكافرات اللاتي يعملن بجد لقضاياهن المنحرفة، وعالم التيه والضلال الذي يسعين إلى نشره وإقراره في المجتمع، أحياناً تكون المرأة التي نشرت لواء الفساد ورفعته في مكانٍ ما في زمن ما، ولعل المرأة المسلمة إذا عرفت الدور السيئ الذي قامت به امرأة واحدة ربما تتشجع هي أن تقوم بدورٍ طيب، أنت تعلمين أن النبي صلى الله عليه وسلم مات مسموماً مقتولاً، لم تكن ميتته ميتةً طبيعية وإنما كان موته بالسم؛ أثر السم بقي في جسده عليه الصلاة والسلام ويعاوده كل فترة حتى كانت النهاية، وقضاء الله محتوم، وأجله اللازم المكتوب. إن الذي تسبب في موت النبي عليه الصلاة والسلام ليس جيشاً عرمرماً، ولم يكن رجلاً أو رجالاً، لكن المتسبب في قتل النبي عليه الصلاة والسلام بالسم هي امرأة من اليهود، جاء النبي عليه الصلاة والسلام إليهم عندما دعوه إلى طعام، فسألت امرأة من اليهود ماذا يحب النبي صلى الله عليه وسلم من الشاة ومن اللحم؟ فلما علمت أنه يحب الكتف أكثرت من السم في الكتف، فحضر النبي صلى الله عليه وسلم وأكل من الطعام وأكل معه عددٌ من الصحابة، ثم أخبرته الشاة المطبوخة بالسم الموجود؛ فكف عليه الصلاة والسلام عن الطعام ولم يفعل شيئاً للمرأة، ولكن بعد أن مات أحد الصحابة بالسم اقتص منها فقتلت، وصار هذا السم الذي أكله صلى الله عليه وسلم يعاوده بين فترةٍ وأخرى، نوبات من الحمى، حتى كانت النوبة التي مات فيها صلى الله عليه وسلم، وقال لـ عائشة: (لا زالت أكلة خيبر تعاودني)، وقال () يا عائشة! لا أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت في خيبر)، وقال أيضاً: (فهذا أوان انقطاع أبهري) وهو عرقٌ بين القلب والظهر إذا انقطع مات الإنسان. وكما قامت في مطلع هذا القرن عدد من النسوة المعدودات المشهورات بأدوار عظيمة من الفساد؛ كما فعلت هدى شعراوي، وكما تفعل عابدة حسين وغيرهن من النسوة في قضية تحرير المرأة، ونشر الفساد، وتتابع على ذلك أهل الفساد نساءً ورجالاً، وهدى شعراوي هي التي قادت المظاهرة التي انتهت بإلقاء الحجاب على الأرض وإشعال النار فيه، والزعم بأنه قد آن الأوان لتحرير المرأة العربية، فامرأة واحدة تدمر جيلاً، وهكذا قمن هؤلاء النسوة السيئات بأدوارٍ من الفساد معلومة، والذي يقرأ كتاب: تحرير المرأة للأستاذ الشيخ: محمد قطب وغيره يدرك حجم الكارثة، وخطورة الدور الذي قام به بعض النسوة. امرأة واحدة أحياناً تكون سبباً في تدمير جيل، أو محاربة حكم شرعي كحكم الحجاب مثلاً، فماذا تفعلين أنت أيتها المرأة الواحدة من أجل نشر الإسلام والعقيدة؟ ومن أجل إعادة النسوة إلى حياض الدين، وإلى الواقع الإسلامي الصحيح؟ إن الطريق الذي يؤدي إلى تحقيق مطلوب منك هو استشعارك بالثغرة التي ينبغي أن تكوني عليها، والمسئولية الملقاة على عاتقك، والشعور بأن الله سبحانه سيحاسبك عن كل صغيرةٍ وكبيرة. نحن اليوم -على سبيل المثال- يا معشر النساء نعاني من جهل كبير في الأحكام الشرعية على مستوى النساء الموجودات في المجتمع، فماذا فعلتِ أنت في مسألة تعلم هذا الدين وتعليمه؟

ثغرة تعلم الدين وتعليمه النساء

ثغرة تعلم الدين وتعليمه النساء هناك ثغرة كبيرة في قضية الأحكام الشرعية وجهل النسوة بها، ودائماً إذا طرقنا مثل هذه المواضيع نحب أن نعود إلى الماضي لنتلمس ماذا كان يحصل في عالم الصحابيات الأول من هذه الأمة، وكان النسوة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يسألن ويتعلمن ويعلمن وينقلن العلم، بل كن يساعدن النبي صلى الله عليه وسلم في تعليم النساء. عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة الأنصاري، عن جدته أم سليم قالت: كانت مجاورة أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فكانت تدخل عليه، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت أم سليم: (يا رسول الله! أرأيت إذا رأت المرأة أن زوجها يجامعها في المنام أتغتسل؟ فقالت أم سلمة: تربت يداك يا أم سليم! فضحت النساء عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت أم سليم: إن الله لا يستحيي من الحق، وإنا إن نسأل النبي صلى الله عليه وسلم عما أشكل علينا خيرٌ من أن نكون منه على عمياء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أم سلمة: بل أنت تربت يداك -أي: أنت أخطأت يا أم سلمة بطلبك منها أن تفعل الكلام واعتبارك السؤال الفقهي فضيحة- ثم قال: نعم يا أم سليم، عليها الغسل إذا رأت الماء، فقالت أم سلمة: يا رسول الله! وهل للمرأة ماءٌ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فأنى يشبهها ولدها؟ هن شقائق الرجال) والحديث حسن بمجموع طرقه، وله ألفاظ متعددة. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستمع لإجابات النساء ويبادر إلى تعليم النسوة حتى ولو لم يطلبن ذلك كما حصل في خطبة العيد، لكن المرأة أيضاً هي التي تحمس النبي عليه الصلاة والسلام وتطلب منه درساً خاصاً، ويأتي وفد النسوة إلى النبي عليه الصلاة والسلام ليقولن: ذهب الرجال بحديثك فاجعل لنا يوماً تأتينا فيه، فواعدهن يوماً معيناً في بيت فلانة؛ فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فعلمهن. إذاً النسوة هن اللاتي يطلبن العلم ويردن العلم، وكذلك فإنهن إذا سمعن شيئاً استأصلن واستفسرن كما جاء في حديث مسلم رحمه الله، عن عبد الله بن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يا معشر النساء! تصدقن وأكثرن الاستغفار؛ فإني رأيتكن أكثر أهل النار، فقالت امرأة منهن جزلة -أي: ذات عقلٍ ورأي، لم تكن سفيهة، ولم تكن سليطة، ولا متمردة، لا بصياحٍ ولا اعتراض على النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما سؤالٌ متأدب- وما لنا يا رسول الله أكثر أهل النار؟ قال: لأنكن تكثرن اللعن، وتكفرن العشير، وما رأيت من ناقصات عقلٍ ودين أذهب لذي لب -أي: صاحب العقل- منكن، قالت: يا رسول الله! وما نقصان العقل والدين؟ -استفسرت المرأة مرةً أخرى- قال: أما نقصان العقل فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل -فهذا نقصان العقل، وهذا شيء من خلقة الله للمرأة، المرأة ليس لها ذنب في هذا، الله سبحانه وتعالى خلقها هكذا، فيها هذه العاطفة التي قد تغلب عقلها كثيراً، فلأجل ذلك جعل شهادة امرأتين بشهادة رجل، فإذا أدت الشهادة كما أمر الله فليس عليها شيء أبداً- وتمكث الليالي لا تصلي، وتفطر في رمضان، فهذا نقصان الدين) وهذا خبر وليس بوعيد؛ ما توعدهن على أنهن ناقصات عقلٍ ودين، إنما هو خبر يخبر عن شيء من أمر الله في خلقه في النساء، ولذلك فإنه صلى الله عليه وسلم بيَّن لهن وبيَّن للمرأة أنها: (إذا صلت خمسها، وصامت شهرها، وحصنت فرجها، وأطاعت زوجها، قيل لها: ادخلي الجنة من أي الأبواب شئت). إذاً: عليها مسئوليات معينة ينبغي القيام بها. المرأة أيضاً كانت تساعد النبي صلى الله عليه وسلم في التعليم، وهذا واضح من قصة عائشة رضي الله عنها لما جاءت امرأة تسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن غسلها من المحيض، فأمرها كيف تغتسل، قال: (خذي فرصةً ممسَّكةً؛ -وهي قطعة من الصوف أو القطن فيها شيء من الطيب­- فتطهري بها، قالت: كيف أتطهر؟). إذاً: هي كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عندما سألته أسماء عن غسل المحيض؟ قال: (تأخذ إحداكن ماءها وسدرتها فتطهر فتحسن الطهور، ثم تصب على رأسها فتدلكه دلكاً شديداً حتى تبلغ شئون رأسها، ثم تصب عليها الماء، ثم تأخذ فرصةً ممسكةً فتطهر بها، فقالت أسماء: فكيف تطهر بها؟ فقال: سبحان الله! تطهرين بها، وفي رواية: تطهري بها، قالت: كيف أتطهر؟ قال: تطهري بها، قالت: كيف؟ قال: سبحان الله تطهري) النبي صلى الله عليه وسلم لا يريد أن يقول أكثر من ذلك. هنا يأتي دور المرأة؛ المرأة مع المرأة، الرجل ليس من المناسب أن يشرح هذا، والنبي عليه الصلاة والسلام كان أشد حياءً من العذراء في خدرها؛ العذراء التي ليس لها عهد بالرجال، إذا كانت في مخدعها فدخل عليها رجلٌ أجنبي فجأة فماذا يكون حالها من الاستحياء؟ هكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أشد حياءً من العذراء في خدرها، فهنا تدخلت عائشة هذا التدخل الحكيم، قالت عائشة: (فاجتذبتها وقلت: تتبعي بها أثر الدم) فأرشدتها عائشة إلى غسل مكان خروج دم الحيض بهذه الفرصة الممسكة أو المطيبة. وهذا الحديث يدل على استعمال الكنايات فيما يتعلق بالعورات، والاكتفاء بالإشارة في الأمور المستهجنة. ويدل كذلك على سؤال المرأة العالم عن أحوالها التي يحتشم منها، وعدم ترك المسألة بغير سؤال، وتبقى المرأة على جهلها وهذه مصيبة. وكذلك على المرأة أن تستر عيوبها حتى عن زوجها، ولو كانت هذه العيوب مما جبلت عليها، وهي هذه الرائحة الكريهة، فإنها تتخلص منها حتى لا يتأذى الزوج. وكذلك فيه تعليم النساء بعضهن بعضاً فيما يستحيا من ذكره في حضرة الرجال، فالمرأة لما راجعت النبي عليه الصلاة والسلام تدخلت عائشة بالشرح إنقاذاً للموقف، وصيانة للنبي صلى الله عليه وسلم. أقول: يا أيتها المرأة! الآن نحن في عالم يسود فيه الجهل، ووجد نساء لا يعرفن أن صلاة الفجر ركعتين فتصلي أربعاً، وعدد من النساء يصلين صلاة الظهر يوم الجمعة ركعتين تظن أن صلاة الظهر يوم الجمعة ركعتين مثل الرجال وهي تصلي في بيتها، وهذا ضلال مبين؛ فإن صلاة الظهر أربع ركعات في بيتها، وبعض النساء تقتدي بالإمام في بيتها وتقتدي بإمام الحرم من الشاشة، والجهل كثير، ولو انتقلنا إلى الزكاة وأحكام زكاة الذهب وما يتعلق به، ولو انتقلنا إلى بدع الحداد الكثيرة جداً المنتشرة في البلاد الإسلامية لوجدنا جهلاً كثيراً يبدأ من إنكار قضية الحداد بالكلية، وحتى اختلاط هذا الحكم بكثيرٍ من البدع التي ما أنزل الله بها من سلطان؛ كمسألة تحريم النظر في المرآة، ووجوب قلب السجاد، وتحريم النظر من الشباك، وتحريم النظر إلى القمر، وتحريم التحرك في سطح البيت وفي ساحته، وتحريم المشي بالحذاء، وتحريم مصافحة المرأة المتزوجة، وتحريم الهاتف، ونحو ذلك من الأشياء التي ما أنزل الله بها من سلطان. على أية حال نقول: هذه ثغرة، وهذا بعض ما ينبغي.

ثغرة التعليم والتدريس

ثغرة التعليم والتدريس ننتقل الآن إلى ثغرة أخرى من الثغرات التي تسدها المرأة المسلمة: وهي قضية التعليم والتدريس. لا يصلح أن يشتغل الرجال بتعليم النساء على نطاق واسع، ولا يتمكن الرجال من هذا، وليست هناك طاقات كافية لفعل هذا أصلاً، وحال الفتن الموجودة في المجتمع لا تسمح بالتوسع في تعليم الرجال للنساء، بل إن المصيبة الكبيرة في بلدان المسلمين مسألة الاختلاط في التعليم في المدارس والجامعات، وينشأ عن ذلك من العلاقات المحرمة والفتن ما لا يعلمه إلا الله. وهنا المرأة التي تشتغل في التعليم والتدريس على ثغرة، إذا وجدت في تلك الثغرة فإن عليها مسئولية؛ وهذه مسئولية شائكة ومعقدة؛ نظراً للمستوى المتدني في الدين والخلق الذي صارت عليه الفتيات والطالبات اليوم في المدارس، والمرأة في التدريس لا شك أنها بادئة ذي بدء يجب عليها أن تتأكد من سلامة الموقع والموقف، وأن تتأكد أن عملها في هذا المجال لا يفوت عليها واجباتٍ أهم كالزوج والأولاد والبيت، فإذا لم تكن بذات زوج، أو كان لا يتعارض عملها مع المصالح العظيمة التي أمر بها الشارع في الاهتمام بالزوج والأولاد والبيت، فعملت في قطاع التدريس مثلاً؛ فإن عملها في هذا القطاع هو محاولة بالقيام بسد شيء من الثغرة الكبيرة الموجودة في عالم تدريس البنات، لأن تدريس البنات في هذا الزمان قد انتشر، وصار الإيمان عند الجميع بأن البنت يجب أن تدخل المدرسة وتتعلم، وتدرس المواد المختلفة ولو كانت تشابه المواد التي يدرسها الرجل، ولو كانت لا تحتاج إليها في حياتها؛ كالمعادلات، والرياضيات، والكيمياء، والفيزياء ونحو ذلك من الأشياء، والمرأة قد لا تستطيع أن تغير نظام التعليم ولكن ينبغي عليها تكثيف المطالبة بما يناسب البنات من المناهج الدراسية، وكتابة الملاحظات الملخصة على المناهج الموجودة، والمطالبة بالتعديل، والنصح في الله سبحانه وتعالى من أجل الوصول إلى مستوى أفضل في قضية نوعية المناهج التي تقدم إلى البنات والفتيات في المدارس، والمعلمة في المدرسة لا شك أنها على ثغرة من عدة جهات: فمنها: وجوب أن تكون قدوة؛ وكثير من المعلمات في المدارس يلبسن الكعب العالي، ويضعن العطورات، ويجعدن الشعر، ويلبسن ما يحسر عن القدمين، وغطاء شفاف، ومكياج، ثم يأمرن الطالبات بالالتزام بالحجاب الشرعي وتعليمات إدارة تعليم البنات ونحو ذلك!! ونتساءل ونقول: من أين ستنفذ الطالبات هذه التعليمات؟ وكيف ستكون الطاعة والالتزام إذا كانت الآمرة الناهية لا تأتمر بأوامر الشريعة ولا تنتهي عما نهى الله عنه؟ ولا شك أن انحدار مستوى البنات في المدارس من أسبابه: عدم وجود القدوات من المعلمات الصالحات بالشكل الكافي في المدارس، ولو استعرضت في عدد المدرسات في المدارس عن المتمسكات بالدين منهن لما زلنا نحس بالقصور الكبير في هذا الجانب. وكذلك فإن عدداً من هؤلاء المدرسات لا يتعدين المنهج من جهة تقديمه، وأحياناً بغير إخلاص في التدريس، ولكن المقصود: أن تقديم المواد الجامدة من غير توجيه شرعي ومتابعة إسلامية هو قصور في وظيفة المعلمة في المدرسة، فإن كثيراً من البنات يحتجن إلى رعاية وتوجيه، أشد من الحاجة لشرح المادة ذاتها، والمعلمة يجب أن تعطي من وقتها ما تقدم به لدينها، أما أنها تأتي وتلقي الدرس وتأخذ راتباً في آخر الشهر فلا أظن أن هذا إخلاص وقيام بواجب الدين في المدرسة، ستلاحظ أن فلانة من الطالبات تصرح بأنها لا تصلي، وإذا سئلت تقول: لماذا أصلي وأنا الأولى دائماً في الفصل؟ وعلى النقيض من ذلك؛ قالت بنت ذات مرةٍ بعد خروج النتائج النهائية وعرفت أنها رسبت: لماذا أصلي وقد رسبت؟ فسأترك الصلاة، وبعض الطالبات ربما يصرحن بالشك في دين عقيدة المسلمين، ويقلن: ما يدرينا أن الإسلام هو الحق، وقد يكون الحق مع اليهود أو النصارى، فلا بد أن نعرف عقيدة أولئك القوم ونحو ذلك، وكثير من الأشياء التشكيكية تأتي عبر قراءة المجلات المنحرفة الموجودة بين أيديهن مما يصل إليهن من خلال ما تقذفه المطابع المختلفة في أنحاء العالم شرقاً وغرباً من أنواع الفساد المسطر والمصور في هذه المجلات والمنشورات، وهذا بالنسبة للفساد العقدي أو الفساد من جهة الأركان. وأما الفساد من جهة الخلق والعلاقات المحرمة مما يحدث في الهواتف، والخروج مع الأجانب، والحجاب، أو الثياب اللاتي يرتدينها، أو تعاطي المواد المحرمة، فهذا أمرٌ كثيرٌ جداً، ولذلك فإن المرأة المعلمة المسلمة تشعر فعلاً بأن هناك مسئولية كبيرة، وأن مواجهة هذا الفساد لا يعين عليه إلا الله، والمنكرات الموجودة في أوساط الطالبات، منها: الإعجاب بالممثلات والمغنيات، بل عشق صور اللاعبين وتشجيع الفرق، ونحو ذلك، لا شك أنه شيء سيئ جداً يحتاج إلى مقاومة كبيرة تغرسها هذه المعلمة في نفوس الطالبات، وتقرير مبدأ الولاء والبراء في نفوس الطالبات، فتكره الطالبة كل كافرٍ وكافرة، وتحب كل مسلم ومسلمة، وتشعر بالولاء لدين الله ولمن سار على هذا النهج، وتشعر بالعداء والكره والبغضاء لكل من يعادي هذا الدين ولو كان جميل الصوت أو جميل الخلقة ونحو ذلك. وتمشي هذه المعلمة بالعدل بين الطالبات، فلا تعامل واحدة معاملة خاصة بدون سبب شرعي، وكذلك فإنها تعدل في الدرجات والامتحانات ونحو ذلك. ومن الأمور المهمة التي تفشت بين الطالبات والتي ينبغي على المعلمات الانتباه لها والقيام بمعالجتها: مسألة العشق والتعلق الحاصل عند بعض البنات في المدارس، ومسألة الإعجاب الذي يبدأ بالإعجاب وينتهي بالعشق. إعجاب فتعلق فعشق يضاد التوحيد، وقد يوقع في الشرك والكفر والعياذ بالله، عندما تصرح مثلاً بأن علاقتها محبة فلانة حب عبادة، ونظرات حارة وخطابات ومكاتبات وكلام ونحو ذلك، وتصريح أحياناً يصل إلى درجة الوقاحة لقضية التعلق بالمعلمة وأنها وراءها ووراءها لن تتركها ونحو ذلك، فهنا يجب أن يكون العلاج حاسماً، وأن تكون المعلمة على مستوى فهم المشكلة، تفهم المشكلة ويكون عندها خبرة من خلال القراءة والممارسة والتفكير والسؤال بكيفية العلاج، وإيقاف هذه القضية عند حدها؛ لأن هذه المسألة لها علاقة بالعقيدة، وتؤدي إلى أن تصبح في محبتها لغير الله أشد من محبتها لله. وكذلك فإننا نغادر هذه النقطة لننتقل إلى نقطة أخرى، وهي: المرأة في ثغرة الأمومة والأولاد.

ثغرة الأمومة والأولاد

ثغرة الأمومة والأولاد لا شك أن الله سبحانه وتعالى قد جعل المرأة سكناً للزوج، وقص سبحانه وتعالى علينا أن من نعمه أنه خلق لنا من أنفسنا أزواجاً لنسكن إليهن وجعل بيننا وبينهن مودة ورحمة، وأنه {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف:189] ولفت النظر إلى أن المرأة والحمل في بطنها قد بدأ وقبل ذلك أن تبتغي بهذا النكاح وجه الله، وإنجاب الأولاد لتربيتهم على الدين، وليست قضية الولد مجرد شهوة دنيوية تعير بها المرأة العاقر التي لا تنجب، ويستهزأ بها من بعض الفاسقات، ولا قضية الولد مجرد أرحام تدفع وأرض تبلع، المسألة أعظم من ذلك. إن قضية الإنجاب لها ضوابط شرعية، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد حثَّ على التكاثر، فلا ينبغي معاكسة رغبته صلى الله عليه وسلم بالتكاثر في هذه الأمة عبر استخدام هذه الوسائل من حبوب منع الحمل ونحوه التي تمنع الإنجاب مؤقتاً، أو استخدام الوسائل التي تمنع الإنجاب بالكلية؛ مثل ربط المبايض، وبعض العمليات التي تجرى لإيقاف الولادة، أو إيقاف الحمل بالكلية، وهذا يكون من عدم تقدير النعمة وإعطائها حقها لما أنعم الله بها وشكر النعمة، ولذلك فإن العلماء قالوا مثلاً في موضوع الموانع: على المرأة ألا تتعاطى مانعاً يمنع الحمل بالكلية فهذا حرام، وإذا تعاطت مانعاً فإنها لا تتعاطاه أكثر من سنتين من أجل تحصين مصلحة الولد الأول وإرضاعه، وألا يكون ضاراً بها، وأن تكون الموافقة من الزوجين على ذلك، فالمسألة من أول الإنجاب فيها أحكام شرعية من بداية الحمل قضية الحمل وعدم الحمل فيها أحكام شرعية، ثم إنه صار في بطنها فإنها تسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعله من الصالحين سواءً كان صالحاً في بدنه أو صالحاً في دينه فكلاهما مراد، فهي تسأله أن يكون تام الخلقة تام الجسد ليس فيه عاهة ولا تشويه ولا عيب، وكذلك فإنها تسأل ربها أن يكون صالحاً في دينه، فإذا وضعته بعد العناء فإنها تحتسب الأجر والله يعلم كم من السيئات تكفر بسبب الألم الذي تجده الحامل عند وضع الحمل، وهذا أمرٌ لا تفقهه كثير من النساء، ولذلك فإنهن يعمدن إلى التقليل من الأولاد، ويردن ألا يشعرن بالألم، وألا يحصل لهن مشقة، وهذا غير ممكن. أقول: أيتها النسوة! إن المجيء بالولد والإتيان به لا شك أنه يترتب عليه مسئولية كبيرة، وغرس مبادئ العقيدة في الطفل أمر مهم في غاية الأهمية، وكلما تدرج الولد ينبغي أن تقوم بحقه في التعليم، خصوصاً في غمرة انشغال بعض الآباء وإهمالهم فإنه لا يبقى من صمامات الأمان إلا المرأة التي تراقب وتربي الولد، وكثير من الانحرافات التي حصلت عند الأولاد بسبب إهمال المرأة لهذه التربية، ثم بعد ذلك نحصد ونجني الثمار المرة المترتبة في كثير من الانحرافات. نقول: إن المرأة ينبغي عليها أن تعلم ماذا تعلم الولد، وماذا يناسب عقله، وأن تتحلى بالصبر وعدم العجلة، وكذلك تغرس في نفس هذا الطفل الأمور الكثيرة المتعلقة بمحبة الله ورسوله ودينه، وهذه الأمور ينبغي أن تركز عليها المرأة في تعليمها لولدها، وتذكيره بالله، أو تعليمه الأذكار، أو تحفيظه القرآن، أو تشجيعه على الصيام، أو تهيئه للنوم المبكر حتى لا يسهر ويستطيع يقوم لصلاة الفجر، وأن يعود على الأذكار الشرعية؛ كآداب النوم وأذكاره، والطعام وأذكاره، وآداب الخلاء وأذكاره، وآداب العطاس وأذكاره، وآداب السلام ونحو ذلك من الأمور، وتقديم سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في طريقة القصص المبسطة الجذابة من مسئولية الأم التي ينبغي عليها أن تغرسه في نفس طفلها، وأن تعلمه سرعة الاستجابة للنبي صلى الله عليه وسلم، كيف استجاب له علي وهو صبي؟ وكذلك فإن قصص التضحية في سبيل نصرة النبي عليه الصلاة والسلام والدفاع عنه كثيرة، قصي عليه قصة ابني عفراء، وأخبريه بأحداث أنس بن مالك الذي كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم وهو صبي صغير، وأخبريه ببعض مغازيه عليه الصلاة والسلام وجهاده، وكيف لو أنه صلى الله عليه وسلم كان حياً وكان هناك شخص يهجم عليه وكان هناك إنسانٌ مسلم موجود بجانبه لوجب أن يتلقى القتل دونه؛ لأن حمايته صلى الله عليه وسلم وتقديمه على النفس واجب، لو انطلق سهم باتجاه النبي عليه الصلاة والسلام وهناك مسلم بجانبه لوجب عليه أن يتلقى السهم ويقوم يقول: نحري دون نحرك يا رسول الله! أي: تفديته بالنفس واجب. هذه أمور ينبغي أن تغرس في الأطفال مع مسألة تحفيظهم بعض أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم المناسبة لهم. أيتها المرأة المسلمة! الكلام طويل وليس هذا موضعه، لكن المسألة الآن شحذ الهمم للقيام بهذه المسئولية، لأننا الآن لو نظرنا في هذه المآسي التي ترتبت -كما قلت لك قبل قليل- عن موضوع غياب التربية الإسلامية من قبل الأم والأب كذلك مشارك في طبيعة الحال لوجدنا هذه المسألة مسألة شنيعة جداً، حوادث سرقات الأطفال التي يقومون بها، الاعتداء على البيوت، ومحاولة الاعتداء على الخادمات، وتسلق جدران مدارس البنات، وكتابة الكلام البذيء، وتخريب المرافق العامة، وكتابة الكلمات البذيئة على حمامات المساجد، بل وتخريب بعض المساجد ومكبرات الصوت، وإيذاء المصلين من الخلف، والقيام بالفواحش بأنواعها، بل تصل إلى القتل، والتجسس على النساء، والنظر إلى نساء الجار من خلال الشقوق والنوافذ وشبابيك الحمامات، وغير ذلك من الأمور المأساوية التي تعج بها مجتمعاتنا، وإطالة الشعور والأظفار، بل حتى القذارة في الجسد، وعدم الاكتراث لنظافته هذا نابع من طبيعة بيئته، عندما تعوده على القذارة فيخرج قذراً، ولا تهتم بنظافته يخرج وسخاً، بل وصل الأمر ببعض الأمهات لما عوتبت على القمل في رأس ابنتها أنها قالت: نحن نفتخر به، سبحان الله! كيف تصل الأمور إلى هذه الدرجة، هؤلاء الشباب الآن الذين يشتغلون بالمعاكسة في الهواتف والأسواق، ويغرون بنات المسلمين بالذهاب معهم، وتحدث بعد ذلك الكوارث، بل إنهم يخونون الجار في زوجته وينتهزون فرصة خروجه للدوام والمناوبة ونحو ذلك، هذه الأشياء نتيجة أي شيء؟ فساد البنات الصغيرات لا يتوقع من بنت أن يكون عندها هذا المستوى في الفساد في خامسة أو سادسة ابتدائي والمرحلة المتوسطة أدهى وأمر، التدخين عند الأولاد، كما أن المكياج والسفور عند البنات، والملابس غير المحتشمة ولا الشرعية، هذه نتيجة أي شيء؟! ما يحدث من هذه المآسي، وانتشار الأغاني، والأشرطة الإباحية والخلاعية، وإلقاء الأرقام، وأخذ الأرقام؛ هذه أشياء كلها نتيجة لأمر واحد وهو: إهمال الأولاد، والله سبحانه وتعالى يحاسب: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) فأنت ستقفين أمام الله سبحانه وتعالى لكي يحاسبك عما قدمت وعما اقترفت يداك، ويحاسب سبحانه وتعالى عن التقصير والإهمال، حتى يسأل الرجل عن أهل بيته، ويسأل المرأة عن بيت زوجها. وكثير من العقد النفسية عن الأطفال نتيجة فقدان الحنان، المفروض أن يكون من المرأة كما وصف النبي صلى الله عليه وسلم (صالح نساء قريش أحناهن على ولد في صغره). وكذلك هي تحافظ على مال زوجها وهو عندها، كما أنها تحفظ فرجها في غياب زوجها، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم.

ثغرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

ثغرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أيتها النسوة! إن هناك عدداً من الثغرات الأخرى، مثل: قضية دورك أنت في مقاومة المنكرات، كما قلنا: المجتمع فيه منكرات كثيرة في مستويات مختلفة، فمثلاً: هناك منكرات في العقيدة، كم عدد النساء اللاتي يذهبن إلى السحرة والساحرات؟ كم عدد النساء اللاتي يذهبن إلى العرافين والكهان؟ كم عدد النسوة اللاتي يذهبن إلى الدجالين والمشعوذين؟ أعداد كبيرة جداً هذه تذهب لتعمل السحر للأخرى، وهذه تذهب لفك السحر عند الساحر، وهذه تذهب لتستشير الدجال والكاهن في قضية زواج أو نقل بيت ونحو ذلك، والأخرى مستعدة أن تسافر، أو تتصل بالهاتف وتدفع خمسمائة ريال رسمي لأجل السؤال ويأتيها الجواب من الدجال، وهذه تذهب وهي تعلم أنه دجالٌ مشعوذ لكن تقول بعضهن: نجرب، وبعضهن تقول: ما عندنا طريقة نجلس نتألم طيلة الوقت! نقول لك: إن الصبر على ألم الجسد خيرٌ من ذهاب العقيدة ولو شفي الجسد، وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام عن أمر يهودي كان يرقي ويفيد، أخبر أن هذا بسبب الشيطان يعينه وينخس ذلك العرق فيسكن، فالشيطان يتدخل في قضية العروق فينخس العرق ليسكن، فيتوهم المسلم أن اليهودي هو السبب في هذه الخفة التي أحس بها، هذه نافذة للشر كبيرة جداً موجودة في المجتمع، ماذا فعلت أنت من أجل محاربة هذه القضية؟ ولك قريبات وجارات وصديقات يقعن في هذا المنكر العظيم، والذي يأتي دجالاً أو كاهناً فإن آمن به فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يعلم الغيب إلا الله، والسحر كفر ونحو ذلك، والتي تأتيه تجرب لا تُقبل لها صلاة أربعين يوماً، ويجب عليها أن تصلي وإلا كفرت، لكن ليس لها أجر على الصلاة إلا إذا تابت إلى الله توبة عظيمة. وتأملي في الأجر المترتب على إنكارك، وفي الأجر المترتب على تعليمك الخير، ومنعك لهؤلاء من الذهاب إلى المشعوذين وتذكيرهم بالله، كم أم امتنعت نتيجة تحذير ابنتها الصالحة، وكم جارة امتنعت نتيجة نصيحة جارتها الملتزمة المتدينة التي تفقه هذه المسائل الجسام من أمور العقيدة، وهذه المرأة التي إذا رأت النساء اللاتي يتسلين بقراءة الفنجان، قامت لله متجردة تذكر وتنصح، أو رأت إحداهن تعبث بقراءة كف ولو كان بالمزاح تقوم وتخبر أنه لا مزاح في هذه الأمور وأنها أمور خطيرة جداً لا يجوز المزاح فيها. من الأشياء الأخرى: انتشار قضية الدعارة في المجتمع، وانتشار مسألة الفساد، وقضية دخول بيوت النساء وذهاب النساء مع الأجانب، وشيوع الفاحشة التي تبدأ من الاغراءات والمعاكسات تغذيها الأفلام والمجلات لتنتهي بالفواحش والوقوع في الكبائر الموبقات، هذه مسألة كثير من الأحيان ما يدري عنها إلا امرأة امرأة أخرى تدري عن حال امرأة، ما يدريني أنا الرجل أن هذا أمر واقع في بعض البيوت أو بعض النساء بينما قد تدري المرأة عن هذا، كثير من هذه الثغرات لا يستطيع الرجال سدها؛ لأن الذي يدري عنها امرأة، في الغالب يدري عن منكرات النساء المرأة. قضية التشبه بالكافرة، ماذا يدريني أنا الرجل عن الموضات التي تظهر عند النساء، والقصات، والملابس، والعادات السيئة التي نأخذها يومياً من الغرب والشرق، لكن المرأة هي التي تحضر الأعراس والحفلات، وتذهب إلى مدارس البنات، وتحضر المناسبات، فهي التي ترى أثر تقليد الكفار على هذه وهذه وهذه، وهي التي ترى العادات السيئة وتلاحظ الظواهر، ولذلك فإن من مهمات المرأة المسلمة رصد الظواهر السيئة في المجتمع النسائي، قد يكون هناك إلحاديات تتسلل وأشياء من المنشورات والكتب السيئة والمجلات والمقالات قد يكون هناك تجمعات مشبوهة، أو جمعيات مشبوهة تذهب إليها بعض النساء تكون تحت عنوان خيري، أو عنوان اجتماعي ونحو ذلك، فماذا يدري الرجال عما يحدث في هذه الجمعيات النسائية المشبوهة إذا لم تتكلمي أنت، ولم ترصدي أنت، ولم تنقلي الخبر أنت، ولم تقومي لله بالنصح أنت فمن سيقوم؟! فإذاً عالم المرأة مملوء بالثغرات التي ينبغي القيام لسدها. وأيضاً من الأشياء الموجودة: العصبية القبلية المتفشية والمفاخرة، هؤلاء الذين يفاخرون بالعصبيات القبلية إما أن يتركونها أو ليكونون أهون عند الله من الجعلان؛ هذا الجعل الذي يدهده الخرأ بأنفه كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، ستكون العاقبة وخيمة يوم القيامة، ينبغي عليك مكافحة العصبيات القبلية، ونصح النسوة بترك المفاخرة بالأنساب والأحساب، والطعن في أحساب الآخرين وأنسابهم؛ وهذه تقول: أنت مالك أصل، وهذه تقول كذا، ونحو ذلك، وهذه مسألة متفشية مع الأسف كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام: (ثلاث من أمور الجاهلية لا تدعها هذه الأمة). أنت التي تشعرين بالظلم الذي يقع على بعض البنات في بعض البيوت، هذه أبوها ربما يربطها ويضربها ويحبسها، وهذه عضلها أبوها فلا يزوجها وجعلها قصراً على ابن عمها ونحو ذلك من الرجال، وهذا لا يجوز له شرعاً أن يفعل ذلك، وأنت التي تحسين بالظلم الواقع على الزوجة من أم زوجها أو بسوء الأدب من الزوجة لأم زوجها. وأنت التي تحسين بمنكرات الأعراس، وتحسين بالمحرمات وتعرفينها وهي تستشري وتنتشر في المجتمع. وأنت التي تتعرضين لأنواع من الأذى التي تستوجب تنبيه ونصح بنيات جنسك من عدم الوقوع فيها. هناك عدد من النسوة التائبات مررن بتجارب سيئة في الحياة الجاهلية التي كُنَّ يعشن فيها، وخرجت بخلاصة دفعت ثمنها من دموعها ودمها شيئاً. إذاً: هل تترك هذه القضية لتمشي هكذا دون تنبيه ودون تحذير لبنات جنسها؟ كلا والله، لا يمكن أن تكون المرأة المسلمة بهذه السلبية أبداً، لا يمكن أن ترى المرأة منكراً في عرس أو مناسبة ثم لا تنكر، وأقل شيء أنها تقوم من المجلس خارجة منه مفاصلة لأصحابه لتعلن براءتها مما يدور من المنكرات، هذه مسألة واجبة لا بد أن تحدث.

ثغرة أعمال البر المطلقة

ثغرة أعمال البر المطلقة وكذلك فإن هناك أنواعاً من أعمال البر عبارة عن ثغرات في عالم النساء، فمثلاً: كثير من البيوت التي فيها فقراء لا يدري عنهن إلا النساء عن طريق النساء تصل الأخبار فيما لا يدري عنه كثير من الرجال؛ فلانة أرملة فلانة عندها أيتام فلانة فقيرة، فمسألة جمع التبرعات للعوائل الفقيرة وإيصالها ورصد العوائل هذه النساء فيها أحسن من الرجال بمراحل، ولا إنكار في ذلك ولا مجادلة، وهذا معلوم ومشاهد ومجرب، وهناك عدد من النساء الخيرات اللاتي يقمن بالسعي على الأرملة واليتيم: (الساعي على الأرملة كالمجاهد في سبيل الله) (أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين، وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى صلى الله عليه وسلم). بعض النساء يذهبن إلى المسجد لحضور المحاضرات، ولكنهن لا يكلفن أنفسهن حتى حفظ الأولاد من الصياح ولا المسجد من الوساخة، فإذا غادرت النساء مع الأولاد المصلى يتركنه في غاية الاتساخ وفي غاية القذارة، بل وربما تركت حفائظ الأطفال في المصليات والمساجد، وترك الطفل يبول على سجادة ستصلي عليها امرأة أخرى، أو يصلي عليها الرجال في صلاة الجمعة، ومن الذي يتحمل المسئولية والإثم؟ هذه المرأة المهملة التي جاءت إلى المسجد. وما يحدث من النساء من اللغط وارتفاع الأصوات في المحاضرات والدروس وصلاة التراويح، وجعل المسجد مثل المقهى أو الحضانة التي تأتي إليه؛ لكي تنفس عن نفسها وعن مشكلاتها بالأحاديث مع أن هذا مكان عبادة، أو مكان تعليم ودرس ومناسبة محاضرة، أو إلقاء لأمورٍ من الأمور الشرعية، لكن كثيراً من النساء لا يقمن بهذا. كانت هناك ثغرة تسدها امرأة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فاسمعي حتى تعلمي ما هي المسافة بيننا؛ بين المرأة الآن ودروها في المسجد التي تأتي إلى المسجد، وبين المرأة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم: روى الإمام البخاري رحمه الله تعالى: عن أبي هريرة: (أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فماتت، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عنها، فأخبروه أنها ماتت، قال: أفلا كنتم آذنتموني بها دلوني على قبرها، فأتى قبرها، فصلى عليها صلى الله عليه وسلم) هذا الحديث استدل به العلماء على فضل تنظيف المسجد، وأن هذه المرأة السوداء سأل النبي صلى الله عليه وسلم عنها لأنه افتقدها، كانت تقوم بمهمة تنظيف المسجد، ونحن الآن نقول: المسجد قد يكون فيه منظفين أو عمال، لكن على الأقل تنظف ما خلفت من الأشياء وما خلف غيرها لا بأس أن تقوم هي بسد خلل غيرها إذا جاءت إلى المسجد في محاضرة أو في درس. من الأمور ومن أعمال البر والخير مثلاً: مساعدة من يريد الزواج في البحث عن امرأة، فهي تسأل، وهي التي تأتي بالعناوين والأسماء والمعلومات من العمر والدراسة ونحو ذلك، هذه مسألة تنجح فيها المرأة نجاحاً كبيراً، لا يستطيع رجل أن يذهب ويقول: من عندكن من النساء وهاتين معلومات، لكن المرأة يمكن أن تقوم بهذا، وكانت النسوة من السلف يقمن بدور الخاطبات، وتتوصل إحداهن لتسعى في مشروع زواج فتكون من الدالات على الخير، والدال على الخير كفاعله، في موضوع الخطبة -أيضاً- يوجد هناك مجال متسع وهي ثغرة تقوم عليها النساء، حتى في تغسيل الميتة تغسيل الميتة هذه الآن ثغرة من الثغرات، ومعلوم أن المرأة تغسلها المرأة إلا إذا كانت ذات زوج أو محرم غسلها زوجها. والمرأة تغسل المرأة، وإذا غسلتها احتساباً فإن الله سبحانه وتعالى يأجرها أجراً عظيماً، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن المسلم الذي يغسل المسلم فيستره ولا يخبر بالسوء عنه، أن الله سبحانه وتعالى يستره ويثيبه بأجر عظيم يوم القيامة، وأن المرأة التي تلي أختها فتحسن كفنها، فإن الله سبحانه وتعالى يعوضها ويعطيها أجراً عظيماً يوم القيامة كما أنها أحسنت إلى أختها الميتة فغسلتها حسب السنة، وليس بالجهل والبدعة، لا بد في المسألة من علم؛ عن هشام بن حسان، عن الحسن قال: إذا ماتت المرأة ولم يجدوا امرأة تغسلها غسلها زوجها أو ابنها، وإن وجدوا يهودية أو نصرانية غسلتها، أي: كأن المرأة اليهودية والنصرانية مقدمة على الرجل المسلم؛ لأنه كما هو الحال في الطب؛ وهو أيضاً ثغرة أخرى من الثغرات، فإن المرأة التي تعمل في مجال الطب وتمريض النساء تسد ثغرة، وتقدم أشياء كثيرة، الطبيبة المسلمة أولاً: تعلم المريضة أن الشفاء بيد الله، وتعطيها من الإرشادات الدينية ما ينفعها، وليس فقط تعطيها من الأدوية والنصائح الطبية ما يفيد جسدها، وإنما تعطيها من الأشياء الدينية ما يفيد دينها وعقيدتها، فالطبيبة إذاً هي من الداعيات إلى الله سبحانه وتعالى، بل هي في ثغرة عظيمة جداً وتمثل القيام بدور كبير، وهذا الكلام نؤكد عليه كثيراً، يشترط ألا يكون مجال العمل فيه منكرات تقع فيها المرأة، أما إذا كان مجال العمل فيه منكرات تقع فيها المرأة فإنها لا تشتغل فيه؛ لأنها تقدم دينها على أن تنفع الآخرين، لابد أن تنجو بنفسها هي ما طلب الله منها أن تقدم وتنفع الأخريات في مكان تضر فيه نفسها، هذه قضية مهمة، ولستِ مسئولة ما يحاسبك الله على ثغرة لماذا لم تسديها؟! إذا كان يترتب على سدها مضرة عليك في دينك وفتنة لك، ووقوع في أمور من المنكرات أو فوران الشهوات، فلا شك أن هذا حرام، وليس بعذر أن تقولي: أعمل فيه وهي تكشف على عورات الرجال، أو ممرضة تمد يدها لتفحص الرجل، أو تأخذ حرارته وتقيس الضغط، ويترتب على ذلك أن تمسه، هذا حرام، لا يجوز لها هذا، ولا يجوز أن تعمل في هذا المجال ولا تسد هذه الثغرة، فإننا نقول في موضوع الثغرات: إن هناك عدداً من النساء يقعن في فخ الشيطان؛ يأتي إليها الشيطان يقول لها: هذه ثغرة وينبغي أن تسديها، وأن تشتغلي بها، وأن تدخلي في هذا المجال، وهذا فيه خير، ووسيلة دعوة، ومكان إلخ، وفي النهاية نلاحظ إهمال الزوج والأولاد والوقوع في المنكرات اختلاط ونحو ذلك، وكم حصل من القصص المأساوية في هذا الأمر. إذاً نقول: المرأة إذا وجدت مجالاً للخدمة ترقي النساء تغسل الميتة، فإذاً الثغرات التي لا يترتب عليها وقوع في منكر يجب على المرأة أن تتقدم لسدها، والتي يترتب عليها وقوع في منكر ومحرم فليست مسئولة عن سدها.

ثغرة الزوجية والبيت

ثغرة الزوجية والبيت أقول أيضاً: أيتها الأخت المسلمة! في ثغرة الزوجية وبيت الدعوة بيتك يجب ألا يعرف الخراب؛ لأنه يتكون معه أسباب الحماية من الحب والرضا بينك وبين الزوج، وهذه ثغرة كل زوجة في القيام بحق زوجها، وينبغي أن يكون الزوج أحب الناس إلى زوجته، وأن يكون البيت قائماً على الالتزام بالإسلام، وتربية الأولاد التربية الصالحة، والدعوة إلى الله، ودعوة الجيران، والقيام بالحقوق الشرعية، والمرأة تحتسب -وهذا أمر مهم- تحتسب في الطبخ والتنظيف وكي الملابس وغسلها تحتسب المرأة في خدمة الزوج، وطبخ الطعام للضيوف تحتسب في تنظيف الولد من النجاسات، وتحتسب المرأة في آلام الحمل وما يحدث في الولادة؛ لأن عدداً من النساء يجعلن هذه القضايا عادة فلا تنوي فيها وجه الله فيفوت أجراً عظيماً، ولذلك صحيح أن المرأة مفطورة على هذه الأشياء، لكن احتسابك الأجر يجعل لك حسنات كثيرة لا تحصل لك دون احتساب، فإذاً الاحتساب: أن تتذكري لحظة القيام بالعمل، أنك تقومين به لوجه الله، ابتغاء مرضات الله سبحانه وتعالى، ولا تدمري البيت للخروج للعمل ويصبح العمل قضية موضة وتقليد للآخرين وفخر، وأنه يسعى إليه سعياً حثيثاً ولو أدى إلى ما يؤدي إليه من الفساد، هذه تقول: نفسيتها مرهقة جداً، وهذه تقول: كثرت المشاجرات بيني وبين زوجي؛ لأن فلاناً يأتي من العمل متعباً فأي مشكلة بسيطة تثير الأعصاب، وهذه تقول: أولادي يفتقدون حناني، ولا يشعرون نحوي بما يجب من الشعور من الأم لولدها، وقد تعلقوا بالخادمة أكثر مني، هذا عيب كبير جداً أن يحدث. وعليك -أيتها المرأة المسلمة- بتقوى الله سبحانه وتعالى، وإرشاد الأخريات، علميهن أن القراءة في كتب العلم الشرعي أهم من القراءة في زاوية طبق الشهر وطبق الأسبوع. لا تكوني سلبية! استغلي مناسبات الأعياد والزيارات لإلقاء النصائح والتوجيه وكسب القلوب في مشوار الالتزام بالإسلام انصحي في ذات الله، الجارات الجيران مصدر للشر أو الخير، فإذا قمت على هذه الثغرة -وهي نصح الجارات- تكونين قد أديت حقاً عظيماً من حقوق الجيران، واحذري فالمؤمن ليس خباً ولا لئيماً لكن لا يسمح للئيم أن يخدعه، حذريهم من النزول إلى الأسواق نزولاً محرماً، أو الخلوة بالسائق الأجنبي، أو تضييع الأموال في الإكسسوارات والمكياجات والعطورات والملابس والأقمشة والأحذية والشنط، علميهن الاعتدال في هذه الأمور، وعلميهن الحشمة في الكلام مع البائع، ولتكوني أنت قدوة أمام الأخريات في هذا الجانب. أنكري المنكرات مما يحدث في الأعراس من الأغاني الهابطة، والكلمات التي تخدش الحياء وتفسد الفطرة، وتكوني أنت أيضاً قائمة بثغرة إذا كنت تستطيعين المشاركة في استبدال هؤلاء المفسدات في الأعراس بنساء أنت معهن أو تأتين بهن من الطيبات اللاتي يقمن ببرامج نافعة وطيبة في تلك الليلة، وحاربي هذه المشاهد العفنة من الملابس القصيرة، أو الشفافة، أو شبه العارية، أو المليئة بالصور، والكتابات الأجنبية السيئة الموجودة على صدور المسلمات. وحاربي الإسراف في الولائم والتبذير فيها، ولا يجوز لك السكوت عن منكر كرمي الطعام مع القاذورات، وكذلك حاربي الإسراف في جميع مظاهره، سواء في فستان العرس، أو ما شاكل ذلك من الأمور، وحاربي العادات التي تأتي من الكفار من الأمور المختلفة التي وقع فيها نساؤنا اليوم، وحاربي السخف الموجود في المجتمع عند النساء؛ من الآراء السخيفة، أو الأمور السخيفة، التي أضرب لها مثلاً بهذه الأشياء التي تأتي إلينا من دور الأزياء الغربية ولو كانت سخيفة، فهذا عطر برائحة البطيخ خرج وانتشر مع أنه لا ذوق فيه، ولا رائحة طيبة، لكن هكذا يحصل. وكذلك -أيتها المرأة المسلمة- ينبغي أن يكون هناك مشاعر فياضة منك تجاه أخواتك، وحفظ الود، وعدم إفساد العلاقات بالغيبة أو النميمة أو الحقد، والحسد والنظرات العابسة والجبين المقطب الذي يؤدي إلى حصول القطيعة والشقاق، وتجلسين شهوراً لا تكلمين فلانة، وسنين لا تدخلين بيت فلانة لأتفه الأسباب التي لا ترضي الله سبحانه وتعالى، ليست سبباً شرعياً للهجر، وأنت تعلمين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لامرئٍ مسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث). وكذلك فإنني أقول لك أيضاً: إنه ينبغي محاربة الفساد في البيوت مما يكون عند الأخت أو القريبة في صور أو مجلات وأفلام تكون موجودة في البيوت وأنت شاهدة عليها، ولو قلت: ما استمعت لي، وما انتصحت وما تأثرت، فأقول لك: إن المهم أن تقومي بما عليك من واجب الدعوة، وإقامة الحجة والنصح والبيان، انصحيهم بين حين وآخر. وكذلك أقول لك: إن زيارتك لأخواتك في الله هذه من الطاعات والعبادات المهمة التي إذا تسنت الفرصة فيها بإذن الزوج أو ولي أمرك؛ الأب مثلاً فإنك تخرجين بالحشمة والملابس الشرعية، وتختارين الوقت المناسب واليوم المناسب للزيارة، وتجتنبين الزيارات المفاجئة دون موعد مسبق ولا استئذان كما يحدث لبعض النساء اللاتي يحرجن أخواتهن، ولا تطيلي مدة الزيارة لأنها تكون ثقيلة على أختك التي يكون لها مسئولية وهي زوجة وأم وربة بيت، وكذلك فإن عليك أن تتحفظي وقت الزيارة في الأقوال والأفعال، وعدم إيذاء الأخريات، وأن تحفظي أولادك من العبث بممتلكات الآخرين، وعدم توسيخ وتقذير بيوتهم، وكذلك أظهري الرضا والسرور بما يقدم إليك من الضيافة، وتجنبي كثرة المزاح الذي يؤدي إلى الحقد والاحتقار، وقومي بشكر صديقاتك عند نهاية الزيارة والدعاء لهن بالخير والصلاح والأجر العظيم من الله سبحانه وتعالى. هذا ما أردت أن أقوله في موضوع الثغرات التي تسدها المرأة المسلمة. وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا جميعاً هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، وأن يغفر لنا ذنوبنا أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

الأسئلة

الأسئلة

الفرق بين المحبة والتعلق بالأشخاص

الفرق بين المحبة والتعلق بالأشخاص Q ما هو الفرق بين المحبة في الله وبين التعلق بالأشخاص؟ A المحبة في الله لها علامات، فمن ذلك: أن تحب المرأة صاحبتها وأختها في الله؛ لا لشكلها، ولا لمظهرها، ولا لملابسها، ولا لظرافتها، أو خفة دمها، ولا لحسبها ونسبها، ولا لمالها وغناها، وإنما تحبها لله، ومعني: تحبها لله أي: أنها كلما كانت أتقى لله كلما ارتبطت بها، ولو كانت امرأة مشلولة، ولو كانت امرأة مشوهة، ولو كانت امرأة فقيرة، فإنها تحبها لله وفي الله، كلما كانت أقرب إلى الله كلما كانت المحبة أكبر، أما التعلق والإعجاب والعشق، فلا يتوقف أبداً على الدين، فإنها تحب هذه وتتعلق بها لشكلها ومظهرها ونحو ذلك من الأمور، وهذه علاقات مدمرة، ثم إن المحبة لا تقتصر على امرأة معينة، فإنها تحب هذه وهذه، وتكلم هذه وهذه، وتزور هذه وهذه، وتقف مع هذه وهذه، أما التعلق والعشق فإنه يكون مقتصراً على امرأة معينة في الغالب؛ لا تمشي إلا معها، ولا تقف إلا معها، ولا تتكلم إلا معها، وتنكفئ عليها، وتصبح كل واحدة منهما حكراً على الأخرى، وهذا خطير جداً كما قلت، ويؤدي إلى إفساد العلاقة بين المسلم وبين ربه، ويؤدي إلى صرف بعض أنواع العبادة لغير الله سبحانه وتعالى.

جواز رؤية المطلقة طلاقا رجعيا

جواز رؤية المطلقة طلاقاً رجعياً Q إذا كانت المرأة مطلقة من زوجها من غير ورقة طلاق، هل يجوز لها رؤيته؟ A الطلاق الشرعي إذا حصل فإن الورقة لا تقدم ولا تؤخر من جهة الحكم، وإنما تؤخذ الورقة لضبط الشيء، أما الطلاق إذا كان قد حصل بشكل شرعي فقد حصل، وبناءً على ذلك فإنها إذا كانت في العدة وهي ثلاث حيض من وقوع الطلقة يجوز لها أن تجلس مع زوجها، وأن تكون معه في البيت، بل إنه لا يجوز للزوج أن يخرجها من البيت: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق:1] أما ما يفعله بعض الفاسقات اليوم، وأقول: الفاسقات؛ لأنهن مخالفات لأمر الله، وكل من خالف أمر الله فهو فاسق، مجرد ما يطلقها زوجها تخرج من البيت، لا يجوز لها ذلك: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ} [الطلاق:1] لأن الله سبحانه وتعالى جعل البقاء في البيت وقت العدة؛ لأن وراءه حِكَمْ لا تجوز مخالفته، لكن إذا طردها فهذا شيء آخر يتحمل الإثم، لكنها لا تخرج من تلقاء نفسها، إذا كانت الطلقة رجعية بعد الأولى والثانية. أما الطلقة الثالثة فهذه لا تجلس عنده في البيت؛ لأنه لا فائدة من الجلوس، حيث أنه لا يجوز له أن يرجع إليها بعد الطلقة الثالثة، فلأي شيء تجلس؟

حكم لبس العباءة المزخرفة

حكم لبس العباءة المزخرفة Q ما حكم لبس العباءة على الكتف ولبس العباءة المزخرفة؟ A هذا من المنكرات التي انتشرت في المجتمع، الآن أنواع الملابس الغير الشرعية كثيرة جداً؛ هذا شفاف، وهذا قصير، وهذا ضيق، وهذا مطيب ومبخر، وهذا مزخرف، وهذا عليه ورود وألوان وحاشية، وفي أطرافه زينة تخرج به المرأة من أنواع الكشاكش والزينة وغيرها التي تكون موجودة على الثياب، وهذا حرام، هذه متبرجة بزينة فهي عاصية لله؛ مخالفة لما أمر الله سبحانه وتعالى: {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} [النور:60] وهذه تتبرج بزينة. وأما لبس العباءة على الكتف فإنه يجسم الكتفين، لو رفعت العباءة على الرأس فلا يجسم الكتفين، وكذلك إذا لبستها على الكتفين فإن الخمار المشدود على الرأس يظهر حجمه، لو رفعت العباءة فوق رأسها ما أظهر حجم الرأس، ثم إن رفع العباءة فوق الرأس مطابق لما أمر الله: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59] وإدناء الجلباب يعني: أن تلبس من الأعلى إلى الأسفل.

حكم ركوب المرأة مع سائق الأجرة

حكم ركوب المرأة مع سائق الأجرة Q ما رأيك في النساء اللاتي يأتين إلى المركز والمستشفى بسيارة أجرة مع رجل أجنبي؟ A يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما) فإذا كانت معها امرأة أخرى وكان السائق مأموناً جاز لها أن تنتقل، وإذا لم يكن معه إلا هي فلا يجوز لها أن تنتقل بهذه الطريقة، وجلوسها في بيتها خير لها من الذهاب ولو إلى مركز تحفيظ القرآن؛ لأن الذهاب صار معصية، ولا يجوز أن نتوصل إلى طاعة بالمعصية، لا يمكن أن نجعل طريقنا إلى طاعة بمعصية الله.

نصيحة لتاركة الصلاة

نصيحة لتاركة الصلاة Q هل من نصيحة لتاركة الصلاة؟ A تاركة الصلاة يصبح عملها وكل ما ذكرناه الآن هباءً منثوراً بجانب ترك الصلاة، كل هذه التوصيات مبنية على أنها للمرأة المسلمة، فإذا كانت تاركة للصلاة صارت امرأة والعياذ بالله كافرة؛ إذا تركت الصلاة بالكلية خرجت من الدين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بين الرجل وبين الشرك أو الكفر ترك الصلاة، فمن تركها فقد كفر) امرأة أو رجل إذا تركتها كفرت، ويجب عليها أن تأتي بالشهادتين، وتغتسل، وتدخل في الدين، وتعاود الصلاة، وتتوب إلى الله سبحانه وتعالى، واعلمي أن الراجح من أقوال العلماء: أنه لا سبيل إلى قضاء الصلاة الفائتة عمداً أبداً، ولذلك عليك بالإكثار من النوافل علَّ الله أن يتجاوز عنك، ويكمل نقص فريضتك من النوافل والسنن.

نصيحة لامرأة تدرس في مكان فيه اختلاط

نصيحة لامرأة تدرس في مكان فيه اختلاط Q ما نصيحتك لفتاة أجبرتها الظروف على الدراسة في جامعة مختلطة، وحاولت بشتى الوسائل لكن لم تتمكن، ووالدتها ومعظم أفراد عائلتها منعوها من إكمال تعليمها في كلية البنات؟ A إذا وجدت أنها تتعرض لفتن فلا يجوز لها أن تجلس في المكان أبداً، يجب عليها أن تتركه وتغادره وترفض الذهاب إليه، فإذا غصبوها بالقوة وضربوها فالإثم عليهم، وعليها أن تحتشم قدر الإمكان، أما أنها تذهب طائعة مختارة وهي تملك ألا تذهب فلا يجوز لها ذلك.

حكم الغش في الامتحانات

حكم الغش في الامتحانات Q هل الذي يغش في الامتحانات النهائية وامتحان الشهر فإن الأموال التي يكسبها حرام؟ A ليس ببعيد إذا كان يعمل بهذه الشهادة، ثم إن الغش حرام، وهو آثم حتى لو لم يعمل بالشهادة فالغش حرام.

نصيحة لأولياء الأمور تجاه بناتهم

نصيحة لأولياء الأمور تجاه بناتهم Q بعض أولياء الأمور من الرجال أو النساء الملتزمات والملتزمين لا يعلمون عما يحصل في بيوتهم من المنكرات، حيث تقوم البنت باستخدام الهاتف استخداماً سيئاً للمغازلات، وقد يكون لها علاقة بالشباب، وهذا يرجع إلى عدم عناية الأب بأبنائه والتزامه لا يتعدى نفسه؟ A إذا علمت بذلك ماذا تفعلين؟ أقل شيء تنبهي أمها، وتقولي: ابنتك عليها ملاحظات في قضية استخدام الهاتف نعم، قد لا تخبريها بجميع التفاصيل وخصوصاً الأشياء التي لست متأكدة منها، أما الأشياء التي أنت متأكدة منها فإنك تبلغين عنها وليها أو أمها على الأقل جدتها خالتها عمتها وبعد استفراغ النصح من البنت إذا كنت تستطيعين نصحها، وهناك عدد من الفتيات أنقذهن الله من براثن المعاكسين والمعاكسة بفضله سبحانه، ثم بفضل بعض الداعيات الملتزمات، والنسوة اللاتي أحسسن بهذه الثغرة فقمن بسدها والقيام بنصح هذه الفتاة.

ما يجوز للمرأة عند الحيض وما لا يجوز

ما يجوز للمرأة عند الحيض وما لا يجوز Q المرأة الحائض عندما تلبس ثوباً ثم تتركه ثم تلبسه مرة ثانية دون أن تغسله هل يصبح نجساً؟ A لا يصبح نجساً ما دام أنه ما أصابه دم الحيض فهو باقٍ على طهارته، وكذلك المرأة الحائض يجوز لها عقد النكاح في حال الحيض، كما يجوز للمرأة الحائض عقد الإحرام عند العمرة والحج، وهذا أمر يجهله كثير من النسوة، يعتقدن أن الإحرام في الحج من الميقات والعمرة لا يشمل الحائض، وتتجاوز الحائض الميقات من غير إحرام، وهذا عليه دم يلزمها، ولا يجوز لها أن تحرم بعد الميقات، تحرم من الميقات حتى لو كانت حائضاً، الحيض لا يمنع الإحرام يمنع الطواف بالبيت، كما أن الملكة للحائض جائزة يعقد عليها وهي حائض، لا مانع من ذلك، والمحرم هو وطؤها وليس عقد النكاح.

حكم لبس المرأة الملابس الخليعة أمام النساء

حكم لبس المرأة الملابس الخليعة أمام النساء Q ما حكم لبس المرأة الملابس الخليعة أمام النساء؟ A حرام لا يجوز حتى ولو أمام النساء.

حكم من وجد ورقة سحر

حكم من وجد ورقة سحر Q وجدت عند الشغالة ورقة سحر؟ A أحرقيها، أو ألقيها في الماء والملح فإنه يفسدها. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يحسن خاتمتنا، وأن يتوب علينا أجمعين. والحمد لله رب العالمين، وسبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.

رسالة عاجلة في المشكلات الزوجية

رسالة عاجلة في المشكلات الزوجية في بداية هذا الدرس ذكر الشيخ أسباب حدوث المشكلات بين الزوجين. كما بيَّن حل المشكلات التي تحدث بين زوجين أحدهما كافر، وكذلك المشكلات التي تحدث بين زوجين أحدهما فاجر. ثم تحدث عن المشكلات الزوجية بين المستقيمين، ومن هذه المشكلات ضرب المرأة الاستيلاء على راتبها البخل وعدم الإنفاق على الزوجة إخضاع الزوج تأخر الزوج عن البيت شدة خوف المرأة من أشياء وهمية بحيث تعطل الزوج عن قضاء حوائجه الشرعية الدنيوية إلخ مع بيان الحلول والنصائح في ذلك كله.

العمل على حل المشكلات لا تناسيها

العمل على حل المشكلات لا تناسيها الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده رسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. الحمد لله الذي خلق لنا من أنفسنا أزواجاً لنسكن إليها، وجعل بيننا مودة ورحمة، الحمد لله الذي أنعم علينا بإباحة النكاح ليكون ذلك وسيلة مهمة جداً لبناء المجتمع المسلم الذي يتكون من الأسر المسلمة؛ ولذلك كان الحديث عن مشكلات الأسر المسلمة وإلقاء الضوء الشرعي على تكوينها وتركيبها وحل مشكلاتها ومعضلاتها من لوازم الأمور. أيها الأخوة: يأتي الكلام على هذا الموضوع، في هذه المرحلة الحساسة وهذا الوقت العصيب، وأقول: إن الصحيح أن تحل المشكلات فوراً، مادمنا نعيش هذا الخطر، ومادمنا نعيش هذه الأيام التي لا ندري ما يكون وراءها وماذا ستلد والأيام حبالى؟ ولا أقول تناسي المشكلات، وإنما أقول: حل المشكلات؛ لأن بعض الناس قد يتناسون خلافاتهم أيام الخطر، فإذا زالت أيام الخطر، رجعوا إلى ما كانوا فيه، ولذلك نقول: حل الإشكالات وفض النزاعات حتى نستطيع أن نواجه الخطر بخلايا محكمة من الأسر المسلمة، وأن يكون هناك علاقة مودة ووئام وتراحم بين الزوج والزوجة. أيها الأخوة: لقد هالني ما سمعته ووصل إلي شفوياً وتحريرياً من المشكلات الكثيرة من العدد الكبير الهائل من المشكلات التي تعاني منها الأسر والبيوت المسلمة في المجتمع، والحقيقة أنني كنت أفاجأ بين فترة وأخرى بكثرة هذه النزاعات والمشكلات، وهذا مما اطلعت عليه يمثل جزءاً قليلاً من الحجم الحقيقي الموجود في المجتمع، ولذلك فإن أهمية هذا الكلام تكون عالية؛ نظراً لكثرة المشكلات وشيوعها، حتى أنه لا يكاد يسلم بيت منها، وأنتم ترون جدراناً ونوافذ ولا تدرون ماذا وراءها! ولكن كثيراً ما يكون وراء هذه الحيطان وتلك الجدران مشكلات عويصة، وأمور خطيرة، لا يعلمها إلا الله عز وجل. أيها الأخوة: لن نتكلم في هذا الدرس عن حقوق الرجل على المرأة في الإسلام، أو حقوق المرأة على الرجل في الإسلام، فهذا له موطن آخر، والكلام على قضية النفقة والكسوة والسكن والطاعة إلى آخره له مكان آخر، لكن نريد أن نلقي الضوء على بعض المشكلات التي تحصل، وأقول: إن الكلام سيكون عن أكثر من جانب، فالعلاقة والتعامل من أكثر القضايا الشرعية والأحكام الدينية المتعلقة بالرجل وزوجته، ولن نتكلم عن مشكلة الطلاق وأسبابها وعلاجها، ولن نتكلم عن تعدد الزوجات والعدل بينهن، فإن ذلك سيكون له مجال آخر وإن كنت أعدكم بأنني سأتكلم عن القضيتين الأخيرتين، الطلاق وتعدد الزوجات في مناسبات قادمة إن شاء الله تعالى. أيها الأخوة: إن من أهم الطرق لحل المشكلات والخلافات الزوجية: النظرة الواقعية للأمور، فبعض الخطباء والوعاظ والمتحدثين إذا تكلموا عن هذه الأمور، أعطوا نظرة مثالية جداً لما ينبغي أن تكون عليه الأمور، وقالوا للزوج: يجب أن تكون كذا وكذا، وللزوجة: يجب أن تكوني في الصفات الآتية، كيت وكيت، حتى أنه يندر أو يكاد ينعدم وجود هذه الصفات في أي زوج أو زوجة. مسألة عدم وجود مشكلات زوجية على الإطلاق هذه قضية شبه مستحيلة، لا يكاد يوجد بيت إلا وفيه مشكلات، ولذلك الكلام عن بيت مثالي لا توجد فيه أي مشكلة بعد نوعاً من المستحيل تقريباً، ولذلك فإننا لا بد أن ننظر إلى الأمور بواقعية، ونحن نعلم من واقعية الأمور أن المشاكل لا بد أن تحدث. ولكن القضية ليست الكثرة والقلة في هذه المشكلة؟ ولا بد أن نستعد نفسياً لمواجهة المشكلات.

أسباب المشكلات الزوجية

أسباب المشكلات الزوجية عندما تأملت في الشكاوي الواردة في هذا الموضوع ظهر لي أن الشكاوى من جانب النساء أكثر منها بكثير من جانب الرجال، وهذا يعود لعدة أسباب في نظري: الأمر الأول: إن مبنى المشكلات والزوجية في كثير من الأحوال على الظلم، والظلم يتأتى من الرجل أكثر من المرأة، نظراً لأنه الجانب الأقوى. ثانياً: أن الشكاية من النساء كثيرة -هذا الشيء مقابل تماماً للمسألة السابقة- ورسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح في التعليل لسوء حال كثير من النساء: (تكثرن الشكايا). ثالثاً: أن المرأة ضعيفة، فهي تشتكي، والرجل قد يكون عنده من المشكلات شيء كثير جداً، لكنه يحجم عن الشكوى؛ لأن الشكوى بالنسبة له عبارة عن نقطة ضعف، وهو لا يريد أن يظهر بمظهر الضعف، ولا يريد أن يقول للشيخ أو للواعظ أو للمحدث أو للصديق: إنني أعاني من مشكلات لا أستطيع حلها، وإنني ضعيف أمام زوجتي ونحو ذلك، ولذلك يحجم كثير من الرجال عن الشكوى بينما تكثر من النساء. وأقول كذلك أيها الأخوة: إن الشرع يأمر الجميع بالإحسان، يأمر الرجل بالإحسان ويأمر الزوجة بالإحسان، ولكن حق الرجل على زوجته أكبر؛ من ناحية أن الشرع ندبها إلى إرضائه أكثر، وتجد الآيات والأحاديث في تبيان حق الزوج أكثر؛ لأنه هو القوام وهو الذي يقود السفينة، ولذلك يحتاج إلى طاعة ويحتاج إلى إعانة ومساعدة، ولكن في نفس الوقت لم يهمل الإسلام المرأة ولا حقها، وجاءت النصوص المتكاثرة بحقوق المرأة على زوجها. ومن الأسباب التي تتحصل بسببها المشكلات الزوجية -بالإضافة للظلم- قضية العناد الذي يكون مترسباً في نفس الزوجة والزوج عند التعامل، بل إن صغر العقل -إن صحت التسمية- أو تعامل الأطفال -إن صحت العبارة كذلك- هو سبب مباشر لأخطاء التعاملات الزوجية كما ظهر لي. وكذلك مسألة أن كل واحد منهما يريد إثبات شخصيته، وإزاحة الشخص الآخر عن موقع التأثير نهائياً، وإثبات الكيان وإثبات الموقف هو من الأسباب الرئيسية للمشكلات الزوجية. وكذلك فإن الحساسية المفرطة عند المرأة -وهي مسألة مقابلة لظلم الرجل تقريباً- الحساسية المفرطة عند المرأة من أكبر أسباب المشكلات الزوجية كذلك. ومن الأمور أيضاً: أن الواقع الحاضر في مسألة تعليم المرأة وعملها ووظيفتها، جعل هناك تفريطاً كبيراً في جانب النساء تجاه حقوق الأزواج، جعل الأمور تسير وكأنها طبيعية في قلة، أو تدني مستوى خدمة الزوجة للزوج، وكأن تقول له: هذه الحياة وماذا نفعل؟ لا بد أن نذهب إلى المدرسة، ولا بد أن نذهب إلى الكلية، ولا بد أن نذهب إلى الوظيفة، وأنت عليك أن تتحمل! وكأن هذا صار شيئاً واقعاً مفروضاً، مع أن الخلل قد يكون في أساس هذه المسائل. وسيكون الحديث عن المشكلات -أيها الأخوة- على شقين: عندنا مشكلة تبدأ من الزوج أو الزوجة -والعياذ بالله- الكافرين المرتدين عن دين الله، وتنتهي بالمشكلات الطفيفة الموجودة في بعض البيوت، ولعل الكلام عن المشكلات المتعلقة بالزوج المرتد أو المرأة الكافرة، الأمر فيها يكون أوضح؛ لأن الحل في كثير من الأحيان قد يكون حلاً تغييرياً شاملاً، تغير الطرف الآخر وتنتهي القضية، ولا يمكن الاستمرار على تلك الحالة، ولكن الكلام الأكثر تعقيداً من جهة الحل وليس من جهة صعوبة الحالة هو في المشكلات التي تكون بين الأزواج الزوجات المسلمين، ولا بد أن نشير كثيراً إلى قضايا تتعلق بمشاكل الدعاة مع زوجاتهم، والمستقيمين مع زوجاتهم، إذ أن القضية تفاقمت كثيراً في الآونة الأخيرة حتى أن نسبة الطلاق ازدادت حتى بين كثير ممن يطلق عليهن ملتزمين وملتزمات.

مشاكل زوجية بين زوجين أحدهما كافر

مشاكل زوجية بين زوجين أحدهما كافر ونبدأ الكلام بذكر بعض الحالات من المشكلات الموجودة في البيوت ذات الطرف المرتد أو الكافر. أيها الإخوة: عندنا مشكلات مستعصية جداً وحالات سيئة جداً، موجودة في المجتمع، تتمثل في أزواج وزوجات مجانبين لشريعة الله تماماً، وفي غاية الانحراف، وهاكم بعض الأمثلة الواقعية وأصارحكم بأني قد قضيت في تحضير هذا الدرس شهوراً عديدة، حتى توصلت إلى جمع كثيرٍ من النقاط المتعلقة بحال الأسر الآن من الواقع ومن الأخبار، ومن الأسئلة التي تأتي بعد الدروس في المساجد، حتى أن البعض سيظن من الكلام أنني أتكلم عن مشكلته هو شخصياً، أو عن مشكلة زوجته شخصياً مع أن الكلام أعم من ذلك؛ لأن الحالات تتكرر وتتشابه، فقد يظن البعض عند السماع أن هذا الكلام هو مسألته شخصياً فلان بن فلان الفلاني، وليس الأمر كذلك، فإن المسألة أعم وإن الحالات تتشابه والأمور متكاثرة، وإن الطيور على أشكالها تقع. عندنا زوجات مكتويات بنار أزواج مرتدين عن دين الله، وقد يكون الزوج علمانياً، أو حداثياً، أو على أي ملة من ملل الكفر ومرتداً عن دين الله، تتمثل ردته عن دين الله باستهزائه بالدين وبالشرع وبالسنن المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، أو ترك أمور تخرج من الإسلام بالكلية كترك الصلاة نهائياً. ماذا يكون حال امرأة زوجها يرفض الصلاة ولا يصوم ويريد أن يأتي زوجته في نهار رمضان في دبرها، وهو مع ذلك يهينها وإذا دعته للإسلام والشريعة قال: ما لك دخل ربي يحاسبني! وهو يطلقها في كل حين، وهي تظن أنها الآن تعيش معه بالحرام، ليس فقط من جهة حكمه الشرعي بأن الله يقول: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة:10] ولكن من جهة هذه الطلقات الكثيرة المتتابعة؟ ما هي حال امرأة تحت رجل إذا صلت أمامه ورفعت كفيها تدعو قال: أنتِ شحاذة، ما أنتِ إلا شحاذة، تشحذين من ربك، فيستهزئ بها في صلاتها، ودعائها؟ ما حال زوجةٍ تحت رجل لا يصلي ولا يصوم ويسكر، ويضربها ضرباً شديداً مما أدى إلى إسقاط جنينها؟ ما حال امرأة تحت رجل يدخل البيت مخموراً، ويضرب أولاده، وطلقها مرات كثيرةٍ جداً وهو يسب الدين ويلعن الرب ويحرم زوجته من المصروف يقول لها: اذهبي واشتكي؟ ما حال امرأة قد لعب عليها رجل باطني من ملة منحرفة عن دين الإسلام، فضحك عليها، وعقد عليها وتزوج بها وعندما رأى أن عندها بعض الأحاديث عن أبي هريرة رضي الله عنه مزقها وألقاها في القمامة ولما سألته قال: هذا كذاب هذا خبيث، هذا منافق وهكذا؟ ما حال امرأة إذا تحجبت قال لها زوجها: أنت مثل القرد، وأهله قد يمالئونه على الإثم والعدوان، يقول لزوجته: أنت عجوز، أنت قبيحة، أنت كبرت استهزاءً بالحجاب؟ ما حال زوجة قد أمهلها زوجها ثلاثة أيام لتكشف وجهها أمام إخوانه وإلا فإنه سيطلقها إذا رفضت، وهو لا يدخل بيته ولا ينام معها حتى تنتهي المهلة وسنتدرج معكم من الزوج الكافر المرتد إلى الزوج العاصي الفاسق الفاجر وهكذا. ماذا يكون حال هذا النوع الذي ذكرناه قبل هذا المثال الأخير، الزوج المرتد، الزوج الكافر؟ وفي المقابل يوجد زوجات كافرات، ربما تسب الدين وتستهزئ بأهل الدين، وهي تاركة للصلاة بالكلية، وربما أنها متمردة على شرع الله، وتقول: الحجاب لا أعترف به، وهذه تعقيدات، الأوامر التي تقولون عنها في القرآن والسنة لا تناسب العصر، وتنادي بتحرير المرأة ونحو ذلك، ما هو حال مثل هذا الوضع الموجود؟

العشرة لا تجوز بين زوجين أحدهما كافر أو مرتد

العشرة لا تجوز بين زوجين أحدهما كافر أو مرتد نقول: قال الله عز وجل: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة:10] فبين الله عز وجل أن الرجل المسلم لا يجوز له أبداً أن يتزوج من امرأة كافرة، إلا ما كان من المحصنات من أهل الكتاب، وبين الله عز وجل في هذه الآية أن المرأة المسلمة لا يجوز أن يعقد عليها رجل كافر لا يصلي أبداً، ويستهزئ بالدين ويفعل ويفعل من الأمثلة التي ذكرناها. فإذاً الحل: أن العقد باطل ويجب التفريق بينهما، وأن المرأة ترجع إلى أهلها، إذا كان زوجها على الحال التي ذكرناها، وأن المرأة إذا كانت كافرة وزوجها مسلم فإن العقد باطل، وهو ينفصل عنها، ولا تجوز العشرة بينهما، وإذا استمر على العشرة معها، أو استمرت على العشرة معه إذا كان كافراً أو كانت كافرة، فإن الحال هو زنا وفاحشة -والعياذ بالله.

المجتمع والدعاة يتحملون المسئولية

المجتمع والدعاة يتحملون المسئولية وإنني أتساءل كما تتساءل بعض النساء المظلومات التي تقول: كيف أخرج من البيت وعندي أولاد؟ زوجي كافر، وأنا أعلم أنه كافر، وقد أقمت عليه الحجة ونصحته بلا فائدة، كلمت الأقارب، استعنت بالأهل والأصدقاء، ليس هناك فائدة إذا ذهبت إلى بيت أهلي ماذا يحدث للأولاد؟ ثم إنها قد تقول: أكثر من ذلك إن أهلي يرفضون عودتي إليهم، ولو رجعت لردوني إليه، وقالوا: اذهبي إلى بيت زوجك، وليس لك عندنا مكان، أو تقول: لا أخ ولا أب ولا عائل، وليس لي أهل وأهلي في بلد بعيد، أو ليس لي أهل يؤونني إليهم، فماذا أفعل؟ أجلس في بيت أختي، وأضايق زوج أختي أم ماذا أفعل؟ إن هناك كثيراً من المشكلات المستعصية من هذا النوع، هذا نتيجة انحراف المجتمع عن شرع الله، ونتيجة شيوع التيارات الإلحادية الكافرة في المجتمع؛ نتيجة تخلف الدعوة وتخلف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتخلف التزام الناس بشعائر الدين، هذه واحدة من الآثار السيئة التي نعاني منها في المجتمع نتيجة الانحراف عن شرع الله عز وجل، إذاً المسئولية لا تتحملها المرأة فقط، يتحملها المجتمع كله بسبب حصول هذا التقصير، وإلا لو كانت الشريعة مطبقة تماماً لكانت هذه الحالات نادرة جداً. ولكن مادامت تسمع يميناً وشمالاً ودائماً فمعناها أن هذه الانحرافات موجودة متكاثرة، وتعني بأن الحال لا زال من السوء بحيث يفرض علينا الإسلام أن نتحرك لمواجهة هذه الانحرافات، حتى يعود الناس إلى دين الله، وعند ذلك لا يكون هناك من الحلول إلا أن تجتنب إذا تعذر عليها الخروج من البيت، أن تجتنب الزوج وأن لا تكشف عليه، وأن تبتعد عنه، ولا تجعله يقترب منها؛ لأنه كافر وهي مكرهة، ثم أنه لو اضطرها للجماع وهو كافر بالقوة فهي مكرهة والإثم عليه، علماً بأنه يجب عليها أن تسعى بكل طريق من المحكمة إلى أي إنسان آخر، أو مصدر من مصادر القوة والسلطة من الابتعاد عن هذا الرجل الكافر، فلا خير مطلقاً في البقاء عنده، ولو كانت أخلاقه عسلاً مصفى.

مشاكل زوجية بين زوجين أحدهما فاجر

مشاكل زوجية بين زوجين أحدهما فاجر رجل فاجر يقول لزوجته: يجب أن تكشفي وجهك عند إخواني، وإن لم تكشفي فسأطلقك، ويعطيها مهلة، أو يكون الزوج فاجراً يقيم علاقة محرمة مع الخادمة وتعلم الزوجة بأن ذلك الرجل زانٍ وأنه يفعل الفواحش، هذه ثلاثة خادمات رفضن الإقامة في البيت؛ لأن هذا الرجل يحاول أن يفجر بهن، وإذا كان الرجل أيضاً يفعل أموراً أخرى من الفواحش كأن يصر على وطء الزوجة في الدبر، ويقول: يكفينا العيال وأنا أريد أن آتيك من الخلف ونحو ذلك، فماذا يمكن أن تفعل؟ أو أنه يبلغ به السوء من أول ليلة الزفاف أن يضربها ويعطيها حبوباً مخدرة وأن يربطها ويأتيها بالقوة في المكان الذي حرمه الله عز وجل في الوقت الذي حرمه الله عز وجل مثلاً: في زمن الحيض. فإذاً هناك نوعية أخرى من المشكلات، وبلغ من فجور بعضهم أنه ربما قطع الكتب الإسلامية لزوجته وأتلف الأشرطة التي عندها، ومنعها من طلب العلم، وماذا نفعل في زوجٍ فاسق؟ قد يكون مصلياً مسلماً، لكنه يشرب الخمر، وهي تأمره وتنهاه وهو يضربها، وهي تدفعه بقوة للصلاة فرضاً وراء فرض، حتى صارت الحياة مملة؛ لأنها سئمت هذا الرجل المتقاعس عن الصلاة الذي يصلي مرة ويترك مرة، وقد أخذ مصاغها ونقودها وهو يبقى ثلاثة أيام جنباً لا يغتسل؟ ما نفعل في زوج آخر قد يستهزئ من التزام زوجته بالدين، أي في بعض الشعائر واعتبر ذلك تزمتاً وتنطعاً؟ وقد يصلي ويفعل أشياء من الإسلام، لكن عنده هذه النظرة القاتمة النقدية إلى شيء من أمور الدين التي لا يمكن أن يتنازل عنها الشخص المسلم المتمسك بالسنة؟ هذه امرأة تقول: إذا دخلت السوق وقلت ذكر السوق وهو: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير إلى آخره، قال: بعدين يكفي، خلاص باسم الله يكفي، أنت تريدين إلقاء خطبة لماذا؟ لأنه حتى ذكر السوق لا يريد من زوجته أن تتلفظ به، أو أنه يريد أن يرغمها بالقوة على أن ما تفعله من العبادة رياء ونفاق، وهذه مسألة موجودة. رجل آخر بلغ من فجوره أنه إذا رأى زوجته تتسنن وتصلي وتقوم الليل، وتقرأ القرآن وتدعو ربها، قال: هذا نفاق ورياء، وأنتِ تظنين نفسك مأجورة على هذا، كلا. أنتِ لا تريدين وجه الله، وأنت تفعلين ذلك أمام الضيوف، وأنت وأنتِ، حتى بدأت المسكينة -فعلاً- تشك في نفسها أنها منافقة، وأنها مرائية من جراء هذه الألفاظ وهذه الحيل التي يأتي بها. مسألة تكاسل بعض الأزواج عن صلاة الفجر نوع من الفسوق؛ حتى أنهم لا يصلون الفجر إلا بعد طلوع الشمس، ومنع النساء من حِلق الذكر ومن القراءة والاطلاع في المسائل الشرعية، إذاً هذه حالة أخرى من الفجور أدنى من الحالة السابقة، ماذا تفعل المرأة في مثل هذه الحالات؟

حل المشاكل الزوجية بين زوجين أحدهما فاجر

حل المشاكل الزوجية بين زوجين أحدهما فاجر بالنسبة للزوج المسلم الفاجر الفاسق، يجوز شرعاً للمرأة أن تبقى عنده، من ناحية الجواز يجوز، لا يمكن أن نقول لها: إن بقاءك مع الزوج المسلم شارب الخمر هو زنى أبداً، لكن ينبغي عليها أن تواصل في دعوته إلى الله عل الله أن يهديه، وبما أن الواقع قد أثبت أنه قد أمكن هداية كثير من الأزواج على يد زوجاتهم الصالحات، فإن الحالة الاستمرارية في الوعظ لا بد أن تستمر، لكن المرأة إذا لم تتحمل فجور زوجها، فإنه يحل لها شرعاً أن تطلب الطلاق، لأن بعض الرجال من فجورهم لا يمكن العيش معهم أبداً. وكذلك في الجانب المقابل، فإنه يوجد زوجات فاجرات -كما وصفن- قد لا ترد يد لامس، وقد تقبل أن تعاكس بالهاتف، وتتكلم مع الأجانب، وتخرج من البيت بغير إذن زوجها، أو تذهب إلى محلات مريبة، أو ترفض لبس الحجاب، تقول: مقتنعة أن الحجاب صحيح لكن أنا لا أستطيع أن أغطي وجهي وأن أخنق نفسي، وترفض لبس الحجاب، وربما أنها وقفت في السوق معها ولدها الرضيع فأخرجت ثديها أمام الناس لترضعه. ماذا يكون الحل إذاً في مثل ذلك؟ على الزوج أن يدعوها إلى الله، وأن يفعل كما أمر الله في التدرج في معاملة الزوجة العاصية الناشز، وخصوصاً عندما يكون النشوز ليس في مسألة عصيانه في بعض الأشياء الدنيوية، وإنما في قضايا شرعية، فيجب عليه أن يقوم بالوعظ والتذكير والتنبيه وأن يعمل من الإجراءات الشرعية المذكورة التي ستمر معنا ما يحمل به زوجته على شريعة الله، فإن أصرت وبقيت على فجورها فلا يمكن أن يستمر البيت على هذا، ولا يمكن أن يطمئن الرجل لأولاده وهم يعيشون مع مثل هذه المرأة الفاجرة السافرة، فعند ذلك لابد من الكي وهو آخر الدواء، ومفارقة تلك المرأة والاستغناء عنها؛ لأنها امرأة سوء، وامرأة مخربة، وسيبدله الله خيراً منها، ولو كانت جميلة وكان متعلقاً بها، ولو كانت غنية: (من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه) وكان من الأسباب المانعة لرفع الدعاء، أن يبقى الرجل عند امرأته السيئة الخلق دون أن يطلقها. والعجيب -أيها الأخوة- أن بعض الناس يتهاونون في علاج الوضع المتردي لزوجاتهم من ناحية الالتزام، فقد تتهاون في الالتزام شيئاً فشيئاً، أول ما يتزوجها تكون ملتزمة بالدين ثم تتراخى وتتهاون، وبالعكس قد يكون الزوج ملتزماً بالدين ثم يتراخى ويتهاون، وحصلت أمثلة كثيرة لهذا. فإذاً: الدعوة والنصح، للوصول إلى إصلاح الأوضاع مطلوب، لكن إذا استحال الأمر ومضت فترة زمنية كافية للحكم على أنه لا يمكن الرجوع في هذا المنظور القريب، فعند ذلك يكون الفراق هو النهاية، لذلك فإنني أنصح كل رجل مستقيم إذا رأى نوعاً من التهاون في زوجته بأن وصل إلى مراحل فجور وفسوق عندها ألا يتهاون مطلقاً في العلاج؛ لأن بعض الأزواج قد ينشغل بعمله أو وظيفته -ربما أحياناً بالدعوة إلى الله- والمرأة تتردى في الالتزام وتتردى في مستواها الإيماني حتى أنها تصل في النهاية إلى حالة سيئة جداً، ويمكن أن أقول لكم عن قصة رجل تنازل عن كشف زوجته، قالت: أما الحجاب لا. أنا لا يمكن أن أغطي وجهي، كل شيء إلا تغطية الوجه، وأصرت وألحت، وصممت، ورضخ الرجل وقال: حسناً! سكت عن كشف وجهها، وبعد ذلك صارت تحسر عن شعرها، وأكثر وأكثر حتى وصل الأمر أنه صارت تغازل الشباب بالهاتف، وتخرج مع فلان وعلان، فإذاً مسألة ترك الأمور حتى تستفحل دون أن تعالج علاجاً حاسماً من البداية هو أمر خطير جداً. ومن العجيب أن بعض الأزواج يسافر ويشرب وزوجته متدينة، يقول: أنا الآن مبسوط جداً لماذا؟ يا جماعة أنا أنصحكم أن تتزوجوا نساء متدينات، لماذا؟ قال: لأني أخرج من البيت وأنا مطمئن، انظر هو فاجر، لكن يريد أن تكون مستقيمة، وهذه نوعية من الرجال موجودة، هو فاجر يعمل الفسوق، لكن يقول: لا. هذه أم الأولاد، لا يشاركني فيها أحد، هذه متدينة، وقد يمجدها وهو إنسان فاسق، ولكنه متمسك بها، وعند ذلك ينبغي على الزوجة أن تستغل هذه العلاقة وهذا التمسك في جعل زوجها يستقيم على طريق الحق. وإني أقول: إن كثيراً من النساء يملكن المفتاح والزمام، وإن المرأة قد تستغل أوضاعاً نفسية معينة في جعل زوجها يمشي على الطريق المستقيم، وهناك زوجات فاضلات إذا رأت عند زوجها صوراً أو أفلاماً أتلفتها، أو أشياء من المشروبات المحرمة ونحو ذلك كسرتها وأراقتها، ومنعت زوجها من السفر وضغطت عليه، وهناك كثيرٌ من الأزواج قد يستجيبون لنسائهم في هذه القضية، فينبغي على الزوجة ألا تتهاون أيضاً في العلاج الحاسم لمثل هذه الأمور.

ستر عيوب الزوج أو الزوجة بعد التوبة أمر مطلوب

ستر عيوب الزوج أو الزوجة بعد التوبة أمر مطلوب وأنبه هنا إلى أنه قد يقع شيء من الذنوب من الزوج أو من الزوجة، قد تقع -والعياذ بالله- فواحش من الطرفين، فماذا يفعل كل طرف؟ يعتمد على الحال التي تكون عليها القضية مثلاً: بالنسبة للزوجة، إذا تابت إلى الله توبة نصوحاً فستر عليها فالحمد لله، وإذا لم تتب إلى الله عز وجل فينبغي أن يفارقها، ولا يمكن لإنسان أن يعيش مع امرأة فاجرة، وكذلك هي لها الحق أن تطلب الطلاق منه إذا عرفت أنه إنسان فاجر زان مصر على الفجور والفواحش، فإذا حصلت التوبة فلا بد من الستر ولا يجوز فضح الطرف الآخر بأمور كان يفعلها في جاهليته الخاصة به، وهذه مسألة مهمة. فإنني أعلم من الواقع أنه هناك كثيراً من الأزواج قد يعير زوجته بأمور باحت له بها في بعض المناسبات، وقالت له عن أشياء معينة وهي قد تابت إلى الله، وهو كل ما حصل مشكلة أو شيء قال: أنت كنت تفعلين، وكنت تفعلين، وبالعكس أيضاً يمكن أن يحدث ذلك لأشياء كان يفعلها الرجل في الماضي، لذلك -أيها الإخوة- عليكم بالستر الذي أمرنا الله به، ونحن لا بد أن نستتر بستر الله عز وجل، ولا داعي لأن تخبرها ولا لأن تعيرها بأشياء حدثت مادام تابت فيما بينها وبين الله عز وجل، ونبقى على الستر، ونبقى على ما أمر الله سبحانه وتعالى به من الطهر والعفاف. أما بالنسبة لبقية المشاكل التي هي أقل من هذا، بمعنى: أنك قد لا تصل إلى فواحش أو كبائر، لكن هي قد تكون معاصي كظلم أو أخطاء في التعامل ومخالفات واضحة جداً لقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19] وحقوق المرأة على الزوج، كحقوق الزوج على زوجته.

مشاكل زوجية بين زوجين ملتزمين وحلولها

مشاكل زوجية بين زوجين ملتزمين وحلولها فالآن دعونا نتكلم في هذا القسم الثالث -إن صح التقسيم- في هذه المشكلات التي تقع حتى بين بعض المستقيمين وبين زوجاتهم الملتزمات بشرع الله.

(وعاشروهن بالمعروف)

(وعاشروهن بالمعروف) أولاً: أيها الأخوة! كل المشاكل يمكن أن تعالجها بكلمتين من كتاب الله سبحانه وتعالى، ونحن لا ينقصنا العلم في بعض الأحيان إنما ينقصنا التطبيق، قال الله عز وجل: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19] لو كل رجل طبق هاتين الكلمتين فقط: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19] لانتهت قضايا كثيرة جداً لا يعلم بها إلا الله، لكن لأننا نغفل ونهمل ونعصي الله عز وجل في المعاشرة بالمعروف؛ يقع الظلم في العلاقات الزوجية، وتقع الإشكالات. إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (أحرج عليكم حق الضعيفين، استوصوا بالنساء خيراً) تكفي هذه المقاطع يا أخي: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19] (استوصوا بالنساء خيراً) (خيركم خيركم لأهله) تكفي هذه النصوص الشرعية في حملنا على العلاج، لكن القضية في الإرادة وفي مجاهدة النفس، هذا بالنسبة للرجل.

أحاديث في وجوب طاعة الزوج

أحاديث في وجوب طاعة الزوج بالنسبة للمرأة يكفي أنها تلتزم بما أمر الله سبحانه وتعالى به من معاملة البعل بالإحسان وطاعته، وفي ذلك يقول الله عز وجل: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} [النساء:34]. (إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحصنت فرجها، وأطاعت بعلها، دخلت من أي أبواب الجنة شاءت) حديث صحيح. (أيما امرأة ماتت وزوجها راض عنها دخلت الجنة). (لا يصلح لبشر أن يسجد لبشر، ولو صلح لبشر أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها) من عظم حقه عليها. (والذي نفسي بيده، لو كان من قدمه إلى مفرق رأسه قرحة تجري بالقيح والصديد ثم استقبلته فلحسته ما أدت حقه) حديث حسن، رواه الإمام أحمد في المسند. فالمرأة يكفيها هذه الأحاديث لتحل الإشكالات التي بينها وبين زوجها، ينقصنا تطبيق الشريعة، نحن نتكلم عن تطبيق الشريعة في قضايا الاقتصاد والسياسة، ونغفل عن تطبيق الشريعة على مستوى أدنى من ذلك في البيوت والأسر، ولو طبقنا الشريعة في البيوت لحُلت جميع المشكلات. وانظر إلى الخطبة الرائعة التي أخبر بها صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع! الناس مجتمعون -مائة وأربعة وعشرون ألف شخص- مع الرسول صلى الله عليه وسلم، لا ينتهز هذه الفرصة ليتكلم إلا إذا كان الكلام مهم جداً، وإلا لانتقى ما هو أهم منه، لكن ركز على أشياء في خطبته حجة الوداع، فقال: (إلا واستوصوا بالنساء خيراً فإنهن عوان عندكم، -أسيرات- ليس تملكون شيئاً غير ذلك، إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن ذلك فاهجروهن في المضاجع، واضربوهن ضرباً غير مبرح، فإن أطعنكم، فلا تبغوا عليهن سبيلاً). ثم الطرف المقابل، فلا ننسى الرجل ولا المرأة، بعض الناس يتكلم عن الرجال كأنهم هم المخطئون فقط، وينسى النساء، وبعض الناس يتكلم عن النساء كأن النساء هن المخطئات فقط، وينسى الرجال، وأنت ترى طريقة الشريعة والنصوص تعالج الجانبين معاً: (ألا وإن لكم على نسائكم حقاً، ولنسائكم عليكم حقاً، فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون، ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون، ألا وإن حقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن) الحديث.

العلاقة الزوجية تتطور من مرحلة إلى أخرى

العلاقة الزوجية تتطور من مرحلة إلى أخرى وأريد أن أقول -أيها الأخوة- في مطلع الكلام عن المشكلات التي ذكرناها من قبل، نقطة من النقاط التي تحدث في الحياة الزوجية. البداية أول ما يدخل الإنسان بزوجته أو يعقد عليها، من العقد إلى وقت نشوء المشكلات تمر الحياة الزوجية بمراحل بعد العقد في فترة أحاديث ودية جداً، وتبادل الأحاسيس والمشاعر، والإنسان يدخل حياة الزوجية ويحس أن له طرفاً آخر مرتبطاً به، وأنه مقبل على شيء جديد، وأن هذه لذة أباحها الله عز وجل، وأنه سيقيم الآن علاقات أسرية، ولذلك يبدأ كثير من الشباب يكلمون زوجاتهم التي عقد عليها، ماذا سنقرأ؟ وماذا سنسمع من الأشرطة؟ وكيف سنقوم الليل في المستقبل؟ وكيف سنربي الأولاد؟ ويتكلمون عن أحلام كثيرة وعن قضايا شرعية، ونسأل المشايخ وإلى آخره، ويتواصى معها، قرأت كتاب كذا، وسمعت شريط كذا، وهي تقول له: حفظت سورة كذا، وحضرت محاضرة كذا، وهكذا بالهاتف قبل الدخلة، بعد الدخلة فترة مجاملة. فترة المجاملة هذه عبارة عن مدارات وكلام طيب وأشياء من العسل، ولكن فترة المجاملات هذه بعد حين من الزمن تبدأ في الانحسار، وإذا انتهت المجاملات ظهرت المشكلات؛ لأن بعد فترة المجاملات بعد الدخلة سواء كانت أسبوعاً أو أسبوعين، شهراً أو شهرين، المهم في فترة مجاملات كل واحد يحاول أن يغطي عيوبه عن الآخر، ويحاول أن يراعي نفسية الآخر ومشاعر الآخر، والآن هما مقدمان على حياة جديدة وعلاقة جديدة، ويريد أن يكسب ودها وتكسب وده وهكذا. بعد فترة المجاملات تظهر الشخصيتان على حقيقتهما، تبدأ المجاملات تنحسر وتبدأ المشكلات تظهر، وتبدأ عيوب الزوج وعيوب الزوجة في الظهور، مثلاً: قضية العناد كانت مخفية فالآن ظهرت، قضية عيوب في التعامل وأشياء في الاحتكاك قوي كان غير موجود في فترة المجاملات والآن ظهر، وتبدأ المشكلات والاحتكاك والمصادمة، وقد تكون الطبائع فيها اختلاف لكن في فترة المجاملات كان في تغطية من الطرفين، فإذا انحسرت المجاملات تبدأ قضية المصادمة والمشكلات والعناد، وربما وصل الأمر إلى الشتائم والضرب إلى آخره من الأشياء الموجودة في الحياة الزوجية. بعد فترة المصادمة هنا البيوت تختلف والأزواج يختلفون والزوجات يختلفن، فبعد انتهاء فترة المجاملات تأتي فترة المصادمات، ظهور العيوب والمشاكل، بعد فترة العيوب والمشاكل يبدأ كل طرف بالتعود على عيوب الطرف الآخر، ويبدأ كل منهما في استيعاب مشكلات الطرف الآخر، ويبدأ كل منهما أو أحدهما بمحاولة تضييق فجوة الخلاف، ومحاولة التكيف مع هذه العيوب، وهذه الأخطاء الموجودة، ومحاولة مداراة كل واحد للآخر خصوصاً إذا صارت المسألة فيها أولاد، وتبدأ الحياة تسير سيرها الطبيعي، فالمشاكل موجودة لكن وجد الاعتبار، وربما أعقبه وئام إذا وفق الله وحصل التقاء بعد ذلك، ولكن هذه الفترة الأخيرة، المرحلة الأخيرة ربما لا تحدث، وربما تستمر المصادمات والمشاكل إلى أن تنتهي القضية بالطلاق أو الموت. وهذه المراحل التي ذكرتها تحدث في الأحيان العادية، ولكن ليس كل الزواجات تنتهي بالمواءمة في النهاية، وليس كل الزواجات فيها مشاكل في البداية فربما يكون الزواج سلساً جداً، ولذلك لا يغفل المرء لحظة واحدة عن الإقبال على الله عز وجل في أن يختار له الخير، ويختار له الأحسن والأفضل، ونحن الآن نتكلم بعد فترة المجاملات، وقد سبق أن تكلمنا في محاضرة (المرأة المسلمة على عتبة الزواج) وكانت موجهة للمرأة قبل الزواج إلى العقد، نحن الآن نتكلم في هذه اللحظات، وما سيليها من كلام، ليس بعد فترة العقد، ولا ما بعد العقد من الملاطفات، ولا ما بعد الدخلة من المجاملات، نحن نتكلم الآن عن تلك المرحلة عندما تبدأ العيوب في الظهور، وهي الفترة التي يعيشها ربما كثير من الأزواج والزوجات.

مشكلة السب والشتم عند الزوجين

مشكلة السب والشتم عند الزوجين من المشاكل الزوجية: قضية تعيير أحد الطرفين للآخر وأضرب لكم أمثلة: بعض الرجال يعيرون زوجاتهم بعيوب خلقية، يا عرجاء يا حولاء، يا قصيرة، يا ذميمة، وهي تقول له مثلاً: أنت يا بدين، يا سمين ونحو ذلك من الألفاظ، قضية التعيير مشكلة من المشكلات، وربما يكون إنساناً عنده سوء بحيث أنه قد يعيرها بحادث أصابها، العيوب الخلقية ليست ذماً للشخص ولا للمرأة بل هي من الله، كيف إذا كان هذا العيب نتيجة حادث معين قدره الله على الرجل أو المرأة؟ فإذاً هذا إثم كبير أن يقول لها: أنت فيك وفيك، واذهبي عالجي نفسك، سبحان الله! كأنه لا علاقة له أبداً في القضية أي: علاج زوجته. وقد يكون السب والشتم بكلمات نابية، قضية العقم، إذا كان الزوج لا ينجب أو الزوجة لا تنجب، أثناء المصادمات يعيرها يقول: أنتِ يا عقيم، أو تقول له: أنت يا عقيم، وأنت الذي أنا صابر عليك وصابر على عدم إنجابك، وصابرة على أن السبب منك، وتنزل عليه، أو ينزل عليها في المقابل، قضية العقم هذه من الله عز وجل: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً} [الشورى:49 - 50] وسبحانه وتعالى على كل شيءٍ قدير، حكيم عليم. ومن قضايا الشتائم والسباب التي تحدث: مسألة اللعن، مع الأسف قطاع لا بأس به من الأزواج والزوجات بينهم لعن متبادل، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن اللعن، واللعن: هو الطرد والإبعاد من رحمة الله، فإذا قلت لها: لعنة الله عليك، معناه: أنك تدعو الله ألا يدخلها في رحمته، وإذا كانت هي بريئة، وإذا كنت ظالماً ومتعدياً في اللعن، فاللعن يرجع عليك، تصعد اللعنة إلى السماء وترجع إلى الأرض فإن كان الملعون يستحقها أصابته، وإن كان الملعون لا يستحقها رجعت على اللاعن، وكم من لعنٍ في اليوم يحدث من كثير من الأزواج والزوجات في البيوت؟! الذي يقول: لعنة الله عليك، ولعن الله وجهك وقفاك وإلى آخره من ألفاظ اللعن وهي قد تبادله الشيء الآخر. ومسألة الألفاظ الجارحة: اقلبي وجهك، الله يقطع هذا الوجه، أنت عقدة في نفسي وحياتي، وإذا لم أذهب بك إلى مستشفى المجانين ما يكون اسمي فلان، ولا أريد أنظر رقعة وجهك، أكلك سيئ وأكل المطاعم أحسن منه، أنا سوف أحطم حياتك وحياتي مع بعض أو أنت لا تفهمي، أنتِ هندية، أنتِ بقرة أو يا غبية، أو يتفل عليها أمام أولادها، المشكلة أمام الأولاد، وكم يكون لذلك من أثر سيئ على نفسية الأولاد، وعقد لا يعلم بها إلا الله تتركز وتترسب في نفسيات الأطفال، ثم بعد ذلك تكون عندنا العقد، ويصير الأطفال انطوائيين، أو فيهم عيوب قد تكون في الكلام واللسان، أو غير مبدعين وغير منتجين، أو أطفال يكون عندهم قصور في جوانب حتى في وظائفهم الجسدية، وأطفال عندهم عقد نفسية، ولا يجرءون على مواجهة المجتمع، ولا يحل مسألة ولا يتكلم في الفصل أمام أستاذ ولا أمام الطلاب إلى آخره، والسبب هو ما يرى هذا الولد يومياً من المشكلات والسباب والشتائم التي تحصل بين أبيه وأمه. من الأشياء الموجودة: قضية الإهانة، قد تكون الإهانة باللفظ، مثلاً أن يقول: أنا أخذتك من الشارع، انظر أنا أخذتك من الشارع! نقول: أيها الأخوة: إن الله عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ} [الحجرات:11] وقال الله عز وجل: {وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات:11].

ضرب الزوجة

ضرب الزوجة ومشكلة أخرى من المشكلات في الحياة الزوجية: قضية الضرب؛ الضرب يحصل في الغالب من الرجل، أي من النادر أن تسمع أن زوجة ضربت زوجها، لكن الغالب أن الظلم في هذا يقع من الرجل، فهو الذي يحمل العصا أو الأنبوب البلاستيكي أو الحذاء ويضرب زوجته، ويد الرجل غير جلد المرأة وجسمها، فهذا الضرب إذا كان في غير مشروع فهو حرام وهو ظلم وتعدٍ يأثم الرجل عليه، وإذا كان نزل منها دماء، فأول ما يقتص يوم القيامة في الدماء، والجرح الذي يجرحه به الزوج زوجته لن يضيع عند الله، حقوق العباد لا تضيع، وكم من ظلمة في البيوت؛ بعضهم كسر عظم زوجته، أو جرحها وأسال دمها، أو كسر سنها، وربما عطل شيئاً من حواسها، أو أسقط جنينها، ونحو ذلك في قضية الضرب، وربما لا تستطيع أن تمشي، ثم إن هذا الضرب إذا علم في جسدها وصار علامة خضراء أو حمراء أو سوداء في الجسد، كيف تقابل الناس؟ وعندما يكون هذا في الوجه، كيف تقابل أهلها، وكيف تقابل الجيران بالضرب؟ ثم إن الضرب في الوجه أصلاً حرام، غير أن الضرب إذا كان غير مشروع فهو ظلم، كما إذا كان الضرب في الوجه فإنه يكون حراماً، ولذلك نهى صلى الله عليه وسلم عن الضرب في الوجه، فأما بالنسبة لقضية الضرب فإليك هذه الأحاديث المبينة: قال صلى الله عليه وسلم: (لا تضربوا إماء الله، فجاء عمر رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ذأرن النساء على أزواجهن) أي: تمردن، أنت منعت الضرب، فبعض النساء العاصيات الناشزات أخذن راحتهن لما عرفن أن الضرب ممنوع، فرخص عليه الصلاة والسلام في ضربهن، ولكن ضرب من؟ ضرب الناشز -العاصية- فأطاف بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء يشتكين للنساء، جاءت نساء المدينة إلى نساء الرسول صلى الله عليه وسلم وزوجاته تشتكي كل واحدة إلى امرأة من زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم زوجها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فأطاف بآل بيت محمد نساء يشتكين أزواجهن، ليس أولئك بخياركم) الرجال هؤلاء الذين يضربون ظلماً ليسوا بخياركم. وقال عليه الصلاة والسلام: (ائت حرثك أنى شئت، وأطعمها إذا طعمت، واكسها إذا اكتسيت، ولا تقبح الوجه ولا تضرب) لا تقول: قبح الله وجهك، ولا تضرب في الوجه، والآن الضرب الذي يحصل في كثير من البيوت هو تعدٍ لحدود الله؛ لأنه ليس عقاباً تعزيرياً مشروعاً للناشز؛ لأنه قد تكون المرأة مطيعة، وإنما تضرب لأتفه الأسباب، أو تضرب ظلماً، هناك أناس عندهم نزعة سادية -كما يقولون في مذاهب علم النفس- يتلذذ بالتعذيب، عنده تعذيب الزوجة مسألة فيها لذة لنفسه، ولذلك فهو يشفي غليله ويريح نفسه إذا ضرب، فإن لم يضرب فلا يستريح، فهذه النوعية السيئة يقول عليه الصلاة والسلام مبيناً: (يعمد أحدكم فيجلدها جلد البعير، ولعله يضاجعها في آخر النهار!) أي: يلفت نظرنا، يقول: يا جماعة! يعمد أحدكم إلى امرأته فيجلد امرأته جلد البعير، ضرب مبرح جداً يعلم في الجسد، وفي آخر النهار يقول: تعالي للفراش، أي: كيف تتوافق القضية، كيف تتناسب هذه مع بعضها، كيف ينتقل من مرحلة الضرب الشديد إلى مرحلة الملاطفة؟! فهذا التناقض الذي يعيشه بعض الرجال مع زوجاتهم يعبر عن نفسية سيئة. على الأقل لابد للإنسان قبل أن يضرب بأن ينصح إذا أخطأت ونشزت ولم تنتصح، إذا وعظت وهجرت في الفراش، فلم تجد فائدة فعند ذلك يُلجَأُ إلى الضرب، بعد أن يستنفذ جميع الحلول يلجأ للضرب، أما الضرب من أول شيء فخطأ ولو كانت المرأة مخطئة: {فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء:34] هنا ترتيب كما سنتكلم بعد قليل.

منع الرجل امرأته من الخروج معه إلى السوق

منع الرجل امرأته من الخروج معه إلى السوق هنا مشكلة: بعض النساء تقول: زوجي لا يذهب بنا إلى السوق أبداً، ويقول: أنا أشتري لكم جميع الأشياء حتى ملابس النساء، وحتى ملابس الأولاد هو يشتريها. السوق لا شك أنه شر البقاع عند الله، وليس من المحمود أبداً التجوال في الأسواق لكثرة ما فيها من منكرات -على الرجل وعلى المرأة- لكن من أين يشتري الإنسان حاجته؟ لا بد أن يكون عندنا نظرة واقعية في السوق، ينبغي على الإنسان أن يتحين الأوقات التي يذهب بها إلى الأسواق، في أوقات لا يكون فيها ازدحام. قضية ثانية: هناك بعض الأشياء في السوق لا تحسن شراءها إلا المرأة، وقليل من الرجال الذين يعرفون النوعيات الجيدة أو المناسبة للأطفال أو الأشياء المناسبة، المرأة التي هي ستلبس، على الأقل يكون عندها حرية في الاختيار والأشياء التي ستلبسها، أقل شيء يجعلها ترى بعض الأشياء، مثلاً: ألوان الأقمشة، إذا كنت مصمماً على الأقل تقول لك: أريد من هذا النوع بدلاً من أن تقول لها: أن الذي سأتحكم فيك وفي لبس الأولاد، أنا الذي سأشتري وأنت عليك أن تلبسي كما أريد وكما أنتقي، وربما هو لا يفهم شيئاً في ملابس النساء والأطفال، ويشتري أشياء غير مناسبة، حتى الأشياء التي فيها تشبه بالكفار من أنواع الملابس والأشياء المحرمة قد لا تدركها إلا الزوجة، فإذاً ليس من الصحيح القذف بالزوجات في الأسواق وترك الزوجة في السوق بدون رجل، فتكون عرضة للأذى من الغادي والرائح وتحصل المنكرات العظيمة، وربما تؤدي إلى فواحش -والعياذ بالله- هذا حرام لا يجوز، وفي نفس الوقت لا بد من مراعاة حس المرأة في مسألة شراء الأشياء المناسبة لها ولأولادها من السوق، بعض الناس لا يستطيع أن يفرق بين الملابس الرجالية والنسائية، فيذهب يشتري لبنته شيئاً يصلح للذكور، وقد يشتري لولده شيئاً لا يصلح إلا للبنات. ولكن أول شيء إذا أنزلت زوجتك إلى السوق أنزلها في وقت لا يكون فيه السوق مزدحماً بالمنكرات، وثاني شيء لا تكثر التنزيل للسوق، وثالث شيء أن تلبي لها رغبتها في أن تشتري ما يناسبها بنفسها.

إهانة الزوج أو الزوجة بالفعل

إهانة الزوج أو الزوجة بالفعل وقضية أخرى من القضايا: وهي مسألة الإهانة، نحن تكلمنا سابقاً في الإهانة بالقول، فلا يفوتنا أن نتكلم عن الإهانة بالفعل. هناك رجالٌ يهينون زوجاتهم، كيف تكون الإهانة؟ كأن المسألة أنه يريد أن يكسر رأسها وأن يكسر أنفها، طبعاً أقصد الكسر المعنوي، وليس الكسر الحسي، الكسر المعنوي بأن يرغمها لأن تكون خاضعة ذليلة عنده، وأن تكون مثل العبد عند سيده تماماً، بحيث أنه لا رأي لها ولا شخصية ولا كلمة، وأن تكون حقيرة مهينة أمامه، فمثلاً: بعض الرجال يعتمدون سياسات خاطئة في معاملات الزوجات من جهة الإذلال وتحطيم الشخصية ومسحها تماما، ً فهو يريد ألا يرى أمامه أي رأي وأي كلام وأي نقاش، فهو يريد أن تسكت وتخرس ولا تقول أي كلمة، وهذا دائماً شأنه في كلامه، دائماً هذه كلمة: اسكتي هي عنوان الحديث، وربما أن بعضهم إذا دخل البيت يمد رجله وهو واقف حتى تنزل هي وتخلع الجورب ولا بد، وينبغي كذلك أن تخلع له حذاءه، وإذا جاءت له بكوب الماء أن تكون واقفة عند رأسه حتى يشرب، ولو ظل يشرب كأس الماء على نصف ساعة، لا بد أن تكون واقفة مثل الصنم عند رأسه، ولا تتكلم ولا تتحرك ولو صاح الولد ولو حصل ما حصل من الطبخ على النار، وأقول لكم: إنه عليه الصلاة والسلام كان يراعي زوجاته ويراعي مشاعرهن جداً، اسمع إلى هذا الحديث: إن صفية زوج النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم معتكفاً -المعتكف لا يخرج من المسجد إلا لضرورة، عيادة مريض أو تشييع جنازة أو لقضاء حاجة، كغسل، وطعام لا يستطيع أكله في المسجد- قالت صفية: فأتيته أزوره ليلاً في المسجد -وهو معتكف- فحدثته ثم قمت لأنقلب إلى البيت، فقام معي ليقلبني -محافظته على زوجته، ومن حمايته لها ومراعاته مشاعرها، قام معها ليرجعها إلى البيت بنفسه عليه الصلاة والسلام، وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد، فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: على رسلكما إنها صفية، على رسلكما إنها صفية بنت حيي، فقالا: سبحان الله يا رسول الله! فقال: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، إني خشيت أن يقذف في قلوبكم شراً، أو قال شيئاً) الحديث رواه البخاري وغيره. تأمل كيف قام معها من المعتكف ليرجعها إلى البيت، المرأة بدلاً من أن تذلها ينبغي أن تحيطها وتحميها، خذ لك هذا المثال الآخر: عن أنس بن مالك رضي الله عنه في حديث طويل قال: (لما أولم الرسول صلى الله عليه وسلم بـ صفية قال: ثم خرجنا إلى المدينة فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحوي لها من ورائها بعباءة -أي: يحيطها ويشملها بها- ثم يجلس عند بعيره، فيضع ركبته فتضع صفية رجلها على ركبته حتى تركب) هذا هو التواضع وهذه هي الرحمة والشفقة والإحسان ومعاملة الزوجة! رواه البخاري وغيره. ينبغي أن نشير في المقابل إلى أن بعض النساء عندهن قضية إذلال الزوج وعدم تلبية رغباته، فبعض الزوجات من إهمالها لزوجها إذا أمرها أن تضع الطعام، كأنه يشحذ منها شيئاً، أرجو أن تضعي الطعام، وإذا دعاها إلى الفراش كذلك كأنه يشحذ منها شحاذة، ويتوسل إليها توسلاً، وبعض النساء عندهن من قضايا الإهمال وقضايا حب تركيع الزوج -إن صح التعبير- في هذه المسائل أمور سيئة جداً، وهذا مما يسبب على المدى الطويل كره الزوج، فيقول الزوج: أتحمل إلى متى؟ إلى متى أذل نفسي؟ كلما أردت أن أدعوها إلى الفراش، لا بد أن أذل نفسي حتى تأتي وأتوسل إليها، وآتي بعبارات كثيرة جداً؟ ولذلك أمرها الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (تأتي وإن كانت على قتب) وإن كانت على تنور وعلى فرن وهي تخبز، تترك كل شيء وتأتي إلى فراش الزوج، لأن الزوج لا يعلم نفسيته الآن، قد يكون رأى شيئاً في السوق، رأى امرأة في الشارع، قد يكون ثار في نفسه رغبة الآن لا بد من تحقيقها، والزوج إذا ما لبت رغبته بالحلال فلماذا تزوج؟! من أجل أن تأتي وتتمنع عليه، وترفض طلبه، ولا تأتي إلا بعد التماسات وبعد توسلات لا يمكن هذا! لا يمكن أن يكون هذا من شريعة الله في العلاقات الزوجية! ولئن كنا تكلمنا عن تسلط الزوج في أشياء فهناك تسلط لبعض الزوجات، فكأنها هي القوامة والمتحكمة في البيت والمتحكمة في الرجل، توجهه يميناً وشمالاً شرقاً وغرباً، اشتر لا تشتر اذهب لا تذهب، حتى تتحكم فيه في قضايا عمله الخاص به، افعل ولا تفعل.

المرأة الموظفة ذات الراتب وحق الزوج في راتبها

المرأة الموظفة ذات الراتب وحق الزوج في راتبها نأتي الآن إلى مشكلة أخرى، وهي قضية الزوجة الموظفة ذات الراتب وحق الزوج في هذا الراتب، وماذا يحدث في هذه المشكلة؟ أول شيء: الأصل أنها في البيت تخدم زوجها، قال تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33] لكن قد يحصل أن المرأة تعمل في عمل مباح، بحشمة كاملة، وبيتها خير لها، لكنها تعمل في وظيفة معينة، فمن الذي عليه النفقة؟ الزوج ولا خلاف في ذلك، سواء كانت الزوجة ثرية جداً تملك الملايين، أو كانت معدمة فقيرة جداً، ولذلك بعض الأزواج يرتكب خطأ عندما يقول لزوجته: أنت عندك إرث من أبيك لماذا تكلفيني؟ أنا لا أعطيك أي شيء، عندك أموال وأراضٍ وعقارات. هل رأيت شيئاً في الشريعة اسمه إذا كانت الزوجة ثرية فإن النفقة تسقط على الزوج؟ لا يوجد هذا. إذا رضيت لك وجادت بأن تعطيك من مالها، أو أن تسقط النفقة عنك، وتقول: أنا أنفق على نفسي وأنت وفر مالك، قد تحتاج لأن تبني بيتاً، يمكن أن تحتاج مصروفات للمستقبل، تشتري سيارة؛ هذا من طيبها وجزاها الله خيراً إن فعلت ذلك. بالنسبة للوظيفة، إن شرطوا عليك في عقد الزواج أن تعمل والنقود لها فلا يجوز لك أن تمنعها من العمل وراتبها لها، إذا رضيت بالشرط إلا إذا صار العمل في حرام أو في منكرات، ولا إشكال أبداً في هذا، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أحق الشروط بالوفاء ما استحللتم به الفروج) لكن لو لم يكن هناك شرط، تزوجت وهي موظفة؟ فالمرأة قد تأخذ راتباً وفي بعض الأحيان يكون راتب المرأة أكثر من راتب الرجل، راتبه أربعة آلاف خمسة آلاف، وهي راتبها في التدريس مع الخبرة يصل إلى سبعة آلاف أو ثمانية آلاف، فيطمع الرجل في نقود زوجته، ويقول: بدلاً من أن تصرفيها على أهلك وجارتك وزيناتك وملابسك، أنا أحق فيها هاتيها، فيريد أن يأخذ راتبها بالقوة. هنا لا بد أن ننظر نظرة فيها عدل، حالة ما فيها شرط في العقد، الآن الزوجة عندما تذهب إلى العمل هل تخل بشيء من حق الزوج؟ أنا أقول لكم A نعم ولا شك، لا يمكن للواحدة أن ترجع منهكة من العمل ويكون طبخها أحسن ما يمكن، وترتيب بيتها أحسن ما يمكن، والعناية بالأولاد أحسن ما يمكن، واستقبال الزوج أحسن ما يمكن، هذا لا يمكن أن يكون أبداً، لا بد أن يحدث تقصير في حق الزوج. إذاً: يمكن أن تحدث عملية مفاهمة واتفاقية غير مكتوبة ومعلنة، كأن الزوج يقول لزوجته في هذه الحالة التي نتكلم عنها الآن: مقابل أن عندك تقصيراً في حقوقي وواجباتي فإن من المناسب أن تعطيني من الراتب شيئاً يعادل التقصير في الحقوق الذي نتج من الوظيفة التي أنت تعملين فيها، فإذا اصطلحا على نسبة تعطيها إياه من الراتب مثل النصف أو الربع، أو الثلث ونحو ذلك، فإن هذا جائز شرعاً ولا غبار عليه بل هو أمر محمود، وذلك مقابل خروجها من البيت وربما ترك الأطفال عند الخادمة أو ترك الأطفال في حضانة أو نحو ذلك، وعدم ترتيب البيت، والرجوع منهكة من العمل وربما لا تعطيه حقه في الفراش تماماً أو في الطبخ أو إلى آخره. هناك فرق بين الزوجة في حيويتها التامة عندما تستقبل الزوج، وفرق بين الزوجة المنهكة عندما تستقبل زوجها المنهك، فإذا حصل هذا الاتفاق فهو أمر طيب جداً، ويمكن أن يتفاهم عليه شفوياً، يقول: هلا سمحت لي بجزء من الراتب مقابل الوظيفة وخروجك من البيت؟ فإن طابت نفسها فالحمد لله، انتهت المشكلة هنا، لكن المشكلة تكون إذا منعها من الوظيفة وقد شرط ذلك في العقد، والعمل ليس فيه محرم، فلا يجوز له ذلك، ولها أن تطلب الفسخ، بعض الرجال يعمد ظلماً فيستولي على جميع ممتلكات زوجته، لأنه لا يوجد شرط في العقد. تريد أن تمنعها من العمل لك الحق، لكن لا تستول على أموالها كلها دون رضا منها، هذا حرام يا أخي يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه) لا يجوز لك أن تفعل هذا، وبلغت الدناءة ببعضهم أنه تقدم إلى خطبة امرأة عندها شهادة، يقول: أشترط لكي أتزوج بنتكم أن تشتغل وتعطيني الراتب! حصل هذا، وهذا الأخذ للاستيلاء على المال الذي يحصل أنه يسلبها راتبها كله لا يبقي لها شيئاً، والمرأة عندها -مثلاً- هدايا، صديقتها أنجبت مولوداً، تريد أن تهدي لصديقتها شيئاً بهذه المناسبة، تريد أن تهدي هدية لأمها أو لأبيها تبرهما من راتبها، تشتري شيئاً لنفسها، وهو يسلب الراتب كله ويضعه باسمه في البنك، ويقول: نحن نعمر ونبني بيتاً ونفعل، وربما يصرفه وربما يتزوج به زوجة أخرى عليها من مالها. الزواج بالثانية حلال، لكن أن يصل الكيد إلى درجة أنه يستولي على راتبها؛ لكي يتزوج ويكون مهر الثانية هو راتب الأولى فغير حسن. وبعض الناس ما عنده زوجات موظفات، مهنة زوجته ربة بيت -ونِعمَ المهنة! - فتقع عندها مشكلة مالية أخرى وهي مصروفات الزوجة، تريد ثياباً وأدوات زينة، وأغراضاً شخصية، هدايا إلى أهلها إلى صديقاتها، وليس لها مصروف، فتقع النزاعات؛ تقول الزوجة: أنت لا تعطيني شيئاً، الذي تعطيني قليل، الزوج: لا. هذا يكفيك أنت مبذرة، الزوجة: أنت ظالم، أنت بخيل، الزوج: أنتِ مسرفة، ويقع المشاجرات في هذه القضية. فالآن ينبغي للواحد أن ينظر إلى المسألة بعين العدل والإنصاف، يا أخي! إذا وسع الله عليك وسع على أهلك، وهذا شيء تؤجر عليه، النفقة تؤجر عليها، والتوسعة تؤجر عليها، وهذه أقرب الناس لك زوجتك، فإذا كان عند الرجل سعة في المال، فلماذا لا يجعل لها مصروفاً جيداً؟ وهو متأكد أنها تصرفه في الحلال إن شاء الله، أما إذا كان في الحرام فلا يعينها بقرش واحد. الآن عندنا طريقتان للإنفاق، إما أنها تطلب ويعطيها، مثلاً: خاطت ثوباً، خاطت فستاناً، تقوم أنت وتعطيها أجرة الخياط. تقول لك: أريد أن أشتري هدية لأهلي، فتقوم أنت وتعطيها مالاً لذلك. الحالة الثانية: بعض الناس عندهم نظام محاسبي، يعني: يريد أن يبرمج نفسه ويمشي على نظام معين ويعرف مصروفاته ومدخولاته، فهو إنسان مرتب، قد تكون المصلحة له أن يعمل لزوجته مصروفاً شهرياً، ومما يحل النزاعات أحياناً عمل مصروف شهري، افرض -مثلاً- أعطيتها في الشهر حسب راتب الشخص ألف ريال أو سبعمائة أو خمسمائة، بحسب راتبك أنت والتزاماتك قد يكون راتب الزوج خمسة عشر ألف ريال، لكن عنده التزامات قد يعول أكثر من عائلة، وعنده بناء بيت وأقساط سيارة، فإذاً ليست المسألة فقط أن تقول: أنت راتبك خمسة عشر ألف ريال لا بد أن تعطيني، لا. قد يكون عليه التزامات. فإذاً: مصروف الزوجة الشهري يحدد بناء على راتبه ومصروفاته والتزاماته، والناس يتفاوتون في الالتزامات، وليسوا سواء في المستويات الاجتماعية، هناك أناس صرفهم أكثر من أناس، هناك أناس -مثلاً- اجتماعيون وعندهم عزائم وولائم، وأناس انعزاليون انطوائيون نوعاً ما، لا يدخل الضيف بيته إلا نادراً، فيكون مصروفهم أقل، البعض حجم عائلته عشرة أشخاص، وواحد حجم عائلته اثنان. فإذاً المسالة لا بد أن تراعى فيها هذه العوامل، ثم بعد ذلك يرتب لزوجته مصروفاً شهرياً يعطيها في أول الشهر، مثلاً: إذا استلم الراتب أعطاها، هي بعد ذلك حرة توفر منه، تنفقه كله في أول يوم، تنفق منه إلى آخر الشهر هذا يرجع إليها، وهذه المسألة مجربة ونافعة في حل كثير من المشكلات المالية التي تنشأ بين الزوجة وزوجها، بدلاً من أن تتخيل المرأة أن زوجها ما أعطاها شيئاً وأنه بخيل، وبدلاً من أن يتخيل هو أنه أعطاها، أو أن يتمنى كل واحد على الآخر، يقول مثلاً: أعطيتك في تلك المرة كذا، وأعطيتك كذا، وأنتِ لا تذكرين الجميل، وأنتن تكفرن العشير، صحيح أنه يحصل منهن كفران العشير، لكن قد يكون الزوج أحياناً متعدياً في الأوصاف، فإذاً قد تحدث مثل هذه، تكون قضية المصروف حلاً، وقد يكون كل ما لزمها أعطاها، ولا يرد لها طلباً مادام معقولاً والحمد لله تمشي الأمور.

الزوج البخيل

الزوج البخيل نأتي الآن إلى مسألة أخرى، ومشكلة عويصة، وهي الزوج البخيل، الزوج البخيل يتصور في الزوج لا في الزوجة، الزوجة قد يكون فيها بخل لكن ينعكس أكثر إذا كان من الزوج، ويظهر أثره السلبي الواضح في الأسرة، بعض الأزواج الحقيقة أنهم لا يخافون الله في الصرف على العائلة وحتى الأولاد، فمثلاً: البيت قذر، البلاعات تطفح، ويخرج ما فيها في البيت، الروائح كريهة، ودهان الجدران مقشر، والمكيفات لا تعمل، والثلاجة تفح بالماء، والغسالة معطلة، والأشياء تتلف في البيت تدريجياً، وهو من بخله لا يصرف ولا ينفق، ولا يصلح البيت، وقد تكون عنده قدرة لشراء بيت جيد، وإذا أنعم الله على عبده فإنه يحب أن يرى أثر نعمته عليه، ومع ذلك لا يصرف شيئاً في البيت، بالنسبة للمصروف لا يعطيها مصروفاً ولا تشتري ثياباً، وربما تكون ثيابها التي عليها هي ثياب أختها. الطعام قد يكون مقتراً في البيت جداً ولا يأتي بالأكل؛ حتى أن بعض الجيران قد يشفقون عليهم ويلاحظون فيعطونهم على الغداء وعلى العشاء؛ لأنهم يعرفون أن زوج هذه المرأة لا يشتري شيئاً حتى الطعام، ما في الثلاجة إلا الخبز، وربما لا تفطر ولا تتعشى إلا خبزاً وشاهي فقط، بعض الناس عندهم عجائب في هذا الجانب، ولا يدري إلا من سمع وتقصى الأخبار، وربما لا يدخل اللحم إلى البيت إلا في العيدين -من العيد إلى العيد- عقيقة الأولاد ربما لا يذبحها من بخله، إذا جاء ضيف قال: قولي له: غير موجود، ينعزم ولا يعزم، وهذا الوضع سيئ. ربما بعض الأزواج تصل بهم الدناءة أن أهم شيءٍ عنده إشباع بطنه، فمثلاً: يمكن أن يُعزَم في العمل إلى وليمة أو شيء من هذا القبيل، لكن لا يهتم أبداً هل عندهم طعام في البيت أم لا، المهم أنه تغدى وملأ بطنه، والزوجة والأولاد أكلوا أم لم يأكلوا الأمران عنده سواء، وبعضهم من البخل لا يشتري ألعاباً لأولاده، واللعب للأولاد شيء ضروري، وقد لا يشتري لهم حلويات، حتى أن بعض النساء يمكن أن تجمع من ضيافات الناس، عندما تذهب إليهم وتقول: والله أخبيها لعيالي؛ لأن أباهم عمره ما أتى لهم بقطعة حلويات، تقول: أنا الآن أهلي يصرفون علي، آخذ نفقتي من أهلي، وربما نشتري أغراض البيت من أهلي، أنا الآن أبي زوجني لكي يتخفف عنه بعض المصروفات، وإذا بي جئت عبئاً عليهم بمصروفي ومصروف زوجي وأولادي وهذا شيء حاصل، وربما أخوها يعطف عليها ويعطيها، فإذا كان الوضع بهذا الحال، فماذا تفعل الزوجة يا ترى؟ عن عائشة رضي الله عنها قالت: (جاءت هند بنت عتبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل شحيح ولا يعطني ما يكفيني وولدي، إلا ما أخذت منه وهو لا يعلمه -مضطرة تشتكي وهذه ليس غيبة؛ لأنها مضطرة أن تشتكي حالها، لا بد من إيجاد حل، وهذا أمر عائلي مستمر، هذه ليست عيشة ساعة أو ساعتين أو يوم أو يومين، هذه حياة مستمرة، وهذه مشكلة متأصلة ولا بد من إيجاد حل- قال صلى الله عليه وسلم لها: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف) رواه البخاري ومسلم. وبناءً عليه يكون عندنا حكم شرعي مقر من الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو أن المرأة إذا بخل عليها زوجها يجوز لها أن تأخذ ما تحتاج بالمعروف، الشرط: بالمعروف، تأخذ من جيبه حتى لو لم يعلم، تأخذ وتصرف على نفسها وبيتها وأولادها وهو لا يعلم، ولا تعتبر سرقة ولا يعتبر حراماً، بشرط أن يكون بالمعروف، أما أن تختلس منه وتسرق وهو ينفق عليها وغير مقصر معها، فإنه لا يجوز لها ذلك أبداً، ويا ويلها عند الله إن فعلت ذلك وأخذت ماله بغير علمه.

شدة الخوف من المرأة

شدة الخوف من المرأة ننتقل إلى مشكلة أخرى: بعض النساء عندها طبيعة الخوف: فهذه المرأة تخاف من الظلام، وتخاف من الحشرات كبيرها وصغيرها، وتخاف من الوحدة في البيت، وتخاف من الأصوات إذا صارت خارج البيت، وهذا شيء نراه طبيعياً نوعاً ما، لكن أحياناً قد يزيد جداً بحيث أنه يصبح أمراً غير طبيعي، ويصبح هذا الخوف معطلاً للزوج عن قضاء مصالحه الدنيوية والشرعية، فلا يستطيع أن يذهب إلى جلسة علم، ولا يصلي الفجر في المسجد؛ لأن الزوجة خائفة وتتمسك به: أرجوك لا تخرج ولا تذهب، هناك شيء في الخارج، هناك لص، وإذا سقطت كرة الأولاد على البيت فقفز أحدهم يأتي بها، فهنا قد تقطعت أمعاؤها، واصفر وجهها، وسقطت مغمىً عليها. صحيح أن الرجل أثبت فؤاداً وأقوى جناناً، لكن ليس بصحيح أن المرأة تصل إلى هذه الدرجة من الخوف، ثم إن المسألة إذا صار فيها تعطيل الزوج عن شيء شرعي، مثل: صلاة العشاء أو صلاة الفجر أو محاضرة بحجة: لا تتركني وحدي وتذهب تصلي. لابد أن تتعود غصباً عنها. نحن نتكلم بشرط أن يكون الرجل مؤمِّناً لزوجته المسكن المناسب، أي: الإجراءات الأمنية في البيت، أي: الأقفال والأبواب والمفاتيح والسور وهذه أشياء موجودة متوفرة، وبشرط كذلك أن يثبت أن الزوجة كلامها أوهام لا يوجد سارق ولا أصوات إنما هي أوهام ووسوسة تأتي بها هذه المرأة الخوافة إلى نفسها، فعند ذلك تتعود مع الزمن، ويكون الزوج له مواقف حاسمة وجادة في هذه القضية، ومسألة ترك واجبات وترك صلوات من أجل هذا لا يمكن أن يحدث.

تأخر الزوج عن الرجوع إلى البيت

تأخر الزوج عن الرجوع إلى البيت الآن ننتقل إلى مشكلة أخرى وهي تأخر الأزواج عن الرجوع إلى البيت، بعض الرجال يعكف عند زوجته مرابطاً طيلة الوقت ويقول: أيها الإخوة! آسف! حلقات العلم أعتذر عنها، أنا تغيرت حياتي وتزوجت وصار عندي مسئولية، وأنا إنسان الآن في أسرة، فأنا أعتذر منكم عن جميع الأشياء العلمية والحلقات الشرعية، وأعتذر عن دعوة فلان وفلان؛ لأنه متعلق بزوجته تمام التعلق بحيث إنه لا يفارقها لحظة واحدة، كله مع الزوجة، لا عطاء في الدعوة لا في طلب العلم، ولا عطاء للمجتمع، ولا زيارات اجتماعية، ولا صلة رحم، ولا دعوة الجيران والأقارب إلى آخره، هذه الأشياء كلها راحت مع الزواج، وهذا قد يكون منعطفاً من المنعطفات السيئة. في المقابل: بعض الأزواج، عندهم العكس تماماً، سبحان الله! الأمور دائماً تكون بين إفراط وتفريط، الحق وسط بين طرفين، فيتأخر دائماً في الرجوع إلى البيت، لا تراه زوجته إلا نادراً، لا يراه أطفاله أبداً لأنه أصلاً عندما يرجع إلى البيت متأخراً يكون الأطفال قد ناموا، فيحرم الأولاد من ملاعبة أبيهم لهم وحنانه عليهم، وتربيته وتأديبه لهم؛ لأنه دائماً خارج البيت بعض الناس قد يذهبون في أشياء شرعية، لكن بعض الناس يذهبون في أشياء دنيوية، وتقول: إن زوجي لا يرجع من العمل إلا في الساعة الثالثة في الليل، هذا ليس نظاماً بل هذا شتات، هذا رجل عنده وظيفة عادية -تجارة- لكن من فرط انشغاله بتجارته لا يرجع إلا متأخراً في الليل، العمل والأشغال والأعمال والتجارات وهكذا، وبعضهم قد تكون أسباب الانشغال أو التأخر أشياء شرعية: كنا في حلقة علم، كنت مع شباب طيبين كنت في مشروع خير وكذا. فالآن لا بد أن يكون الإنسان متوازناً، فلا هو الذي يمتنع عن عمل الخيرات ويلتصق بالبيت، ولا هو الذي يرجع دائماً متأخراً في الليل، قد تستطيع أن تجعل لك يوماً أو يومين أو ثلاثة تخرج من البيت وقد تتأخر، لكن لماذا تتأخر طيلة أيام الأسبوع؟ ثم إن الأزواج يختلفون، بعضهم قد يكون عنده مسئوليات دعوية وعلمية كثيرة جداً، وبعضهم قد يكون عنده مسئوليات قليلة في هذا الجانب، والزوجة لا بد أن تعذر زوجها من أي نوع، مثلاً: امرأة الزهري تقول: إن كتبه أضر عليّ من ثلاث ضرائر؛ أي: من عكوفه على العلم، وفرق بين العالم وغيره؛ أي: زوجة العالم ينبغي أن تعذره أكثر من زوجة الإنسان العادي، وزوجة طالب العلم أو زوجة الداعية ينبغي أن تعذره أكثر من الشخص العادي الذي ليس عنده إمكانيات في هذا الجانب. أرى أن الوقت انتهى تقريباً وأرى أن المسألة ما اكتملت، وانظر إلى المشاكل ما أكثرها، فالله يكفينا شر المشكلات، ولذلك الظاهر أنه ينبغي أن نعدكم بمحاضرة أخرى نكمل فيها الكلام على بقية المشكلات، والحقيقة أن هذه أشياء واقعية واجتماعية مأخوذة من الواقع وليست أجنبية أو غريبة، ونسأل الله سبحانه تعالى أن يهدينا وإياكم سواء السبيل، وأن يوفقنا لحياة زوجية مستقرة، وأن يرزقنا تقواه في السر والعلن، وصلى الله على نبينا محمد، وإلى لقاء قادم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

آداب عيادة المريض

آداب عيادة المريض في هذا الدرس عرض لأبيات من قصيدة الآداب لابن عبد القوي؛ مع خلاصة من شرحها غذاء الألباب للسفاريني؛ تعرض فيها الشيخ حفظه الله لزيارة المريض وفضلها وآدابها وبعض أحكام التطبيب، وأحكام قتل الحيوانات، وما يستحب قتله وما يكره وما يحرم، وبعض آداب الطعام والشراب.

فضل زيارة المريض

فضل زيارة المريض الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: مما يعز علي في هذا المقام أن يكون هذا الدرس هو آخر درسٍ في سلسلة الآداب الشرعية، ولعل الفرصة تتاح -إن شاء الله- لإكمال هذه الآداب في مناسبةٍ قادمة، وفي ختام هذه السلسلة في هذه الأيام، لعلنا نتم الكلام عن بعض أبيات القصيدة التي ابتدأنا فيها، وهي قصيدة ابن عبد القوي رحمه الله تعالى. وكنا قد ذكرنا بعض أبيات هذه القصيدة العظيمة فيما سبق، ونختار أبياتاً أخرى من النصف الثاني من هذه القصيدة، لشرح بعضها والتعليق عليها، يقول رحمه الله تعالى: ويشرع للمرضى العيادة فائتهم تخص رحمةً تغمر مجالس عود أي: أن العيادة للمريض مشروعة، فائتهم، فإنك تمشي في الرحمة وتخوض فيها في ذهابك ومجيئك، وتكون مغموراً بالرحمة أثناء جلوسك فيها، والعود: جمع عائد. فسبعون ألفاً من ملائكة الرضا تصلي على من عاد ممسىً إلى الغد إذا عاده في المساء صلوا عليه إلى الصباح. وإن عاده في أول اليوم واصلت عليه إلى الليل الصلاة فأسندِ إذا عاده في الصباح واصلت الملائكة عليه الصلاة إلى الليل، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا المقصود بقوله (فأسندِ) أي: أسند الحديث في عيادة المريض والأجر فيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

آداب الزيارة

آداب الزيارة

تخفيف الزيارة أو تطويلها حسب حالة المريض

تخفيف الزيارة أو تطويلها حسب حالة المريض فمنهم مغباً عده خفف ومنهم الذي يؤثر التطويل من متوَرِّدِ من المرضى من يكون مغباً يعاد يوماً فيوماً، ومعنى الغب: قيل هو من (غب الإبل) وذلك إذا كانت تشرب يوماً وتترك يوماً، فقوله: فمنهم مغباً عده، أي: عده يوماً واتركه يوماً، وقال بعضهم: إذا أراد أن يكون غباً، أي يوماً في الأسبوع. فمنهم مغباً عده خفف، أي لا تطل الجلوس عنده، (ومنهم -أي ومن المرضى- الذي يُؤثر التطويل من متوردِ) والمتورد: وهو طالب الورود، وهو الذي يحب التطويل من الذين يقدمون عليه، والمرضى يختلفون، بعضهم يريدك أن تطيل عنده وتزوره كل يوم، وبعضهم قد يمل ويتعب من كثرة الزيارة والإطالة، ولذلك لابد من مراعاة الحال، ولذلك قال رحمه الله تعالى:

لا تنكد على المريض بكثرة الأسئلة

لا تنكد على المريض بكثرة الأسئلة وفكر وراع في العيادة حال من تعود ولا تكثر سؤالاً تنكدِ لا تكثر السؤال على المريض: متى جاءك المرض؟ وما هو شعورك؟ وكيف حالك؟ ونحو ذلك، كما يفعل بعض طلاب الطب مع المرضى. (ولا تكثر سؤالاً تنكدِ) تنكد على المريض.

استعمال أهل الذمة

استعمال أهل الذمة ومكروه استئماننا أهل ذمةٍ لإحراز مالٍ أو لقسمته اشهد أي: يُكره أن نجعل الأمانة عند أهل الذمة لأنهم أعداؤنا في الدين فلا يؤتمنون، نعم إن منهم أمناء: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً} [آل عمران:75] أي إلا إن كنت تطالبه باستمرار. (لإحراز مالٍ) أي: لحفظه، (أو لقسمته اشهدِ) أي: اشهد بذلك واعتقده ولا تعدل عنه، فإنه يُكره أن نستأمنهم وأن نستعملهم في قسمة الأموال، وأن نجعلهم ممن يوزعون الرواتب مثلاً.

الاستطباب عند أهل الكتاب

الاستطباب عند أهل الكتاب ومكروهٌ استطبابهم لا ضرورةً وما ركبوه من دواء موصدِ ويكره أيضاً أن نستعمل النصارى واليهود وأهل الكتاب في الطب ولو كانوا أهل ذمة، لكن إذا دعت الحاجة والضرورة فلا بأس بذلك. ولذلك قال رحمه الله: (ومكروهٌ استطبابهم لا ضرورة) أي: في حال الضرورة لا يُكره ذلك. (وما ركبوه من دواءٍ موصدِ) الموصد: المنسوج والمركب الدواء، أي: أيضاً يُكره اللجوء إليهم في تركيب الأدوية وأخذ الأدوية منهم، فإنهم قد يخلطون معها أشياء من المسمومات أو النجاسات، لأنهم قوم لا دين لهم صحيح، فربما جعلوا فيها سموماً من باب الخيانة، أو جعلوا فيها أشياء من النجاسات، لأنهم لا يحترزون عن النجاسات، وكثير من الأدوية المركبة فيها نجاسات، أو مأخوذة من النجاسة، أو ربما يكون فيها أشياء مما يُسكر.

من أحكام التطبيب

من أحكام التطبيب

حكم تطبيب الذكر للأنثى

حكم تطبيب الذكر للأنثى وإن مرضت أنثى ولم يجدوا لها طبيباً سوى فحلٍ أجزه ومهد إذا مرضت أنثى من المسلمين طببتها أنثى مسلمة، فإن لم توجد أنثى مسلمة، فطبيبة كافرة، فإن لم توجد، قال: (ولم يجدوا لها طبيباً سوى فحلٍ)، قال في الشرح: أي لو كان هناك خصي أو كان خُنثى فهو أولى من الفحل الذكر، لكن إذا لم يوجد إلا الطبيب الذكر الفحل فـ (أجزه) أي: أجز تطبيبه للمرأة للضرورة، ويقدم الطبيب المسلم على الطبيب الكافر.

حكم الحقنة في المخرج

حكم الحقنة في المخرج ويكره حقن المرء إلا ضرورةً وينظر ما يحتاجه حاقنٌ قدِ الحقنة: إيصال الدواء من المخرج إلى الجوف بالحقنة، ويكره حقن المرء إلا ضرورةً لما في ذلك من التعذيب وكشف العورة، لكن لو احتاج إلى الحقنة، فلا بأس. ويكره حقن المرء إلا ضرورةً وينظر ما يحتاجه حاقنٌ قدِ أي: وعلى الحاقن الذي يضع الدواء أو الحقنة في الشرج أن ينظر على قدر الضرورة ولا يتعداها. كقابلةٍ حلٌ لها نظرٌ إلى مكان ولادة النساء في التولدِ ومثل الحاقن الذي يحتاج إلى النظر إلى العورة لوضع الحقنة مثله في إباحة النظر للحاجة والضرورة مثل القابلة، والقابلة هي التي تولد، أحل لها النظر إلى مكان ولادة النساء، ومكان ولادة المرأة العورة الكبرى، فيجوز لها النظر إليها في حال الولادة.

حكم إبانة عضو به آكلة وحكم قطع البواسير

حكم إبانة عضو به آكلة وحكم قطع البواسير ويكره إن لم يسر قطع بواسر وبط الأذى حلٌ بقطع مجودِ وكذلك قطع البواسير ولكن إذا لم يكن يسري ولم يكن يضر، فلا بأس به، وبط الأذى مثل الدمامل والقروح، إخراج ما فيها من صديد، إذا كان الذي يخرجها جيداً لا يضر، لأن بعض الناس قد ينبشها فتضره. لآكلة تسري بعضوٍ أبنه إن تخافن عقباه ولا تترددِ إذا أصاب الداء أو الآكلة عضواً واحتاجوا إلى بتره فـ (أبنه) أي اقطعه وابتره، (إن تخافن عقباه) أي: سريان الداء إلى مواضع أخرى في الجسد، مثل بعض الأمراض كالسرطان أو غيره، وإذا أصاب الداء عضواً وكان ينتشر يضطرون في بعض الأحيان لقطع العضو، فما حكم قطعه؟ A لا بأس بذلك، لأجل المصلحة العظيمة في قطعه أو درء المفسدة الكبيرة، ويلف ويدفن.

حكم الكي

حكم الكي وقبل الأذى لا بعده الكي فاكرهن وعنه على الإطلاق غير مقيدِ أي: اكره الكي قبل المرض، أما بعد المرض إذا حصل فلا بأس به، (وعنه على الإطلاق غير مقيدِ) أي: جاء أيضاً عن الإمام أحمد رحمه الله في رواية عنه بكراهية الكي على كل حال، لكن نقول: الكي إذا لم يكن له حاجة لا يستعمل، فإذا صار له حاجة فإن وجد ما يغني عنه يترك، لأن فيه استعمال النار، وفيه نوعاً من المثلة، لأنه يشوه مكان الكي، ولذلك لا يستحب فعله، لكن إن دعت الحاجة إليه ولم يكن إلا هو فلا بأس بذلك، فإن آخر الدواء الكي.

حكم الخصاء

حكم الخصاء وفيما عدا الأغنام قد كرهوا الخصا لتعذيبه المنهي عنه بمسندِ أي: وفيما عدا الأغنام يُنهى عن الخصا، وهو قطع الخصيتين، لكن في الأغنام يباح، والسبب أنه أطيب للحمها، وقد ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين موجوءين خصيين. فقطع خصيتيه لهذا لا بأس به لأجل طيب لحمه وما ينتج عنه لأجل المصلحة، لكن غيره لا يُقطع، ولذلك قال: (وفيما عدا الأغنام قد كرهوا الخصا لتعذيبه) لماذا لا يجوز الخصاء؟ لأن فيه تعذيباً ومثلة. (لتعذيبه المنهي عنه بمسندِ) المسند: الحديث المسند مثل حديث الصحيحين: (لعن الله من مثل بالحيوان).

قطع قرون الدواب وشق آذانها

قطع قرون الدواب وشق آذانها وقطع قرونٍ والأذان وشقها بلا ضررٍ تغيير خلقٍ معودِ وأيضاً مما يُنهى عنه قطع القرون، قرون الشاة مثلاً (والأذان) هي الآذان، فهي أيضاً لا تُقطع، لأن الشيطان قال كما حكى الله عنه: {وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ} [النساء:119]، (وشقها): شق الآذان، (بلا ضررٍ تغيير خلقٍ معودِ) لماذا لا يقطع قرنها ولا تشق أذنها؟ لأنه من تغيير خلق الله، وإليه الإشارة بقوله: (تغيير خلقٍ معودِ)، أي: الخلق المعتاد، لا نفعله لئلا نغير خلق الله.

أحكام قتل الحيوانات

أحكام قتل الحيوانات

ما يستحب قتله

ما يستحب قتله ويَحسن في الإحرام والحل قتل ما يضر بلا نفعٍ كنمرٍ ومرثدِ انتقل رحمه الله لبيان بعض ما يتعلق بأحكام قتل الحيوانات، قال: (ويحسن في الإحرام والحل) في الحل والإحرام (قتل ما يضر) سواء كنت محرماً أو غير محرم، وفي حدود الحرم أو خارج حدود الحرم، يجوز لك (قتل ما يضر بلا نفعٍ)؛ لأن الحيوانات على ثلاثة أقسام: منها: ما ينفع بلا ضرر، ومنها: ما يضر بلا نفع، ومنها: ما ينفع ويضر، وسيأتي حكم كل واحدٍ من هذه الثلاثة. قال: ويحسُن في الإحرام والحل قتل ما يضر بلا نفعٍ كنمرٍ ومرثدِ والنمر: ضربٌ من السباع فيه شبهٌ من الأسد، غير أنه شرسٌ جداً، لا يملك نفسه عند الغضب، وربما قتل نفسه من شدة الغضب، فهذا يجوز قتله في الحل والحرام، والمرثد: اسمٌ من أسماء الأسد، والأسد له عند العرب أكثر من خمسمائة اسم، ومن أشهر أسمائه عندهم أسامة والحارث وحيدرة والهزبر والضرغام والضيغم والعنبس والغضنفر وقسورة والهرماس والليث؛ فمرثد هنا من أسماء الأسد، ولذلك قال: ويحسن في الإحرام والحل قتل ما يضر بلا نفعٍ كنمرٍ ومرثدِ فالأسد مما يباح قتله لأنه من السباع الضارية المعتدية، لكنه إذا ترك فريسةً لا يعود إليها، وإذا ولغ الكلب في ماء لا يشربه، فهو يأنف أن يشرب من الماء الذي ورد فيه الكلب. قال: وغربان غير الزرع أيضاً وشبهها كذا حشرات الأرض دون تقيدِ أي: أن الغربان يجوز قتلها، مثل الغراب الأبقع، لكن إذا كان من غراب الزرع، فلا يجوز قتله للمحرم، لأنه من الصيد، لجواز أكله، وغراب الزرع منقاره أحمر، فلا يصيده المحرم، وإنما الذي يقتله المحرم الغراب المعروف الذي لا يكون في الزرع وسمي الغراب بهذا لأنه أسود. ومما يشبه الغراب مما يقتل الحدأة والقنفذ أيضاً فإنه يباح قتلها في الحل والحرم، وهو خبيث لا يؤكل؛ فالصحيح أنه لا يجوز أكله ولو ذكي. (كذا حشرات الأرض دون تقيدِ): والحشرات كثيرة مثل الصرصور وغيره، وضرب لها أمثلة في البيت الذي بعده فقال: كبقٍ وبرغوثٍ وفأرٍ وعقربٍ ودبرٍ وحيات وشبه المعددِ فالبق معروف، والبرغوث هو من الحشرات التي لها أداةٌ تمص بها الدم، حتى إن بعض الظرفاء قال: لا تسب البرغوث إن اسمه برٌ وغوثٌ لك لا تدري فبره مص دمٍ فاسدٍ وغوثه الإيقاظ للفجر والفأر هو الجرذ، والعقرب هي من أفتك ما يدب على الأرض، حتى إنها تقتل الحية، وكم تهلك الأفاعي بسموم العقارب! ومنها أنواعٌ إذا لدغت إنساناً تساقط لحمه وتناثر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله العقرب لا تدع مصلياً ولا غيره) وجاء أن العقرب لدغت النبي عليه الصلاة والسلام، وجاء أن عقرباً لدغت أحد أصحابه، فأراد صاحبٌ له أن يرقيه، فاستأذن النبي عليه الصلاة والسلام، فأذن له، وقال: (إن استطاع أحدكم أن ينفع أخاه بشيءٍ فليفعل) فالرقية من سم العقرب مشروعة. الدَبْر: جمع دبور، وهو الزنبور، وقد جاء في الحديث الصحيح: أن عاصم بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه لما قتله المشركون أرادوا أخذ جثته، وكان قد عاهد الله ألا يمس مشركاً ولا يمسه مشرك، فأرسل الله الدَبْر، فأظله، فجاءوا ليأخذوه فلم يستطع المشركون أخذ جثته لأن الدبر -الزنابير- قد أظلته، فلم يستطيعوا مد أيديهم إليه. والزنبور مما يحل قتله وربما تجتمع الزنابير على رجل فتقتله، وقد ذكروا أن رجلاً كان مع صحبه، فسب أبا بكر وعمر، فبعد حين جاءت الزنابير إليه فاجتمعت وهي كثيرةٌ عليه فاستغاث بأصحابه، فأرادوا أن يغيثوه فاتجهت إليهم، فنفروا عنه حتى مات، قال أحدهم: ثم جاء زنبورٌ منها على أحدنا فلم يصبه بشيء، فعلمنا أنها مأمورة. قال: كبق وبرغوث وفأر وعقرب ودبر وحيات وشبه المعدد والحيات يجوز قتلها أيضاً للمحرم وغير المحرم، وسيأتي بعض الاستثناءات، (وشبه المعددِ): وهي الأشياء التي تشبه ما عددناه قبل قليل، يجوز قتلها كالوزغ مثلاً.

ما يكره قتله

ما يكره قتله ويُكره قتل النمل إلا مع الأذى به واكْرَهَنْ بالنار إحراق مفسدِ فإذاً قتل النمل منهي عنه، إلا إذا صار مؤذياً، فيجوز قتله، مثل أن تكون له قرصةٌ مؤذية، والنمل أنواع منها ما يكون له قرصةٌ مؤذية، ومنها ما ليس بمؤذٍ، ومنه ما يدخل في الطعام ويفسد، ومنه ما هو مسالم، فإذا كان النمل مؤذياً سواءً بقرصته أو بإفساده للطعام ودخوله فيه ونحو ذلك، فإنه يجوز قتله، ولذلك قال: (ويكره قتل النمل)، لأن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن قتل أربع: النمل والنحل والهدهد والصرد). (ويكره قتل النمل إلا مع الأذى به) فإنه لا يكره، (واكْرَهَنْ بالنار إحراق مفسدِ): فإذاً بالنار لا تُحرق الحيوانات ولا ذات الأرواح، يُنهى عن إحراق كل ذي روح، لأنه لا يعذب بالنار إلا رب النار. ولو قيل بالتحريم ثم أجيز مع أذىً لم يزل إلا به لم أُبَعِّد أي: لو قيل أنه لا يجوز التحريق بالنار، إلا إذا كان هناك مؤذٍ لا يزول إلا بالإحراق، أو بتدخينه، (لم يزل إلا به) أي: بالتحريق جاز، ولو قلنا بجوازه، قال الناظم: لم أُبَعِّدِ: أي: لم أبعد عن الحق. ويُكره لنهي الشرع عن قتل ضفدعٍ وصردان طيرٍ قتل ذين وهدهدِ فإذاً نهى الشرع عن قتل الضفدع، لما رواه أحمد وأبو داود: (أن طبيباً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ضفدع يجعلونها في الدواء، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن قتلها). إذاً لا يجوز استعمال الضفدع أو أخذ شيء منه للدواء، وعلى الذين يركبون الأدوية ألا يأخذوا من الضفادع شيئاً، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتلها، وجاء أن نقيقها تسبيح، لكنه لا يصح. والله أعلم. فلما كان ليس منها فائدة لا هي تؤكل ولا يستخرج منها دواء، فلماذا تقتل؟ فلا تقتل إلا إذا كانت مؤذية، لكن في الأحوال العادية لا تُقتل. ويُكره لنهي الشرع عن قتل ضفدعٍ وصردان طيرٍ قتل ذين وهدهدِ صرادن: جمع صرد، والصرد نوع من الطيور لا يؤكل لحمه، فكان قتله من باب العبث، ولذلك يُترك، وعموماً لا يجوز العبث بقتل الدواب عموماً، إما أن يكون هناك فائدة من قتله كالصيد أو الأكل أو يكون فيه دفع ضرر، وإلا فلا تقتل أي بهيمة بدون سبب، فلا تقتل للتسلية مثلاً. أي: لا تقتل الضفدع والصرد، والهدهد أيضاً، وكنية الهدهد أبو الأخبار، وهو الذي جاء لسليمان عليه السلام وقال له كما ذكر الله في كتابه: {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ} [النمل:22 - 23]. قال: ويكره قتل الهر إلا مع الأذى وإن ملكت فاحظر إذاً غير مفسدِ فإذاً الهر لا يقتل، ومن أسمائه البس والسنور والقط، إلا إذا صار مؤذياً، بأكل الفراخ وكفء القدور، فإن بعضها قد يؤذي بأكل الفراخ وكفء القدور. وبعض الناس يقول: عندنا قطة تؤذينا أو عندنا بسٌ يؤذينا أو عندنا هر يدخل علينا فيؤذينا واحترنا معه وأخرجناه خارج البيت ورجع، ويلد عندنا ويؤذينا بنتنه وأولاده ونحو ذلك، فهذا يُؤخذ ويرمى بعيداً ولا يقتل، لكن لو لم يندفع شره إلا بالقتل، كأن يكون ممن يخدش ويفعل الأشياء المؤذية والضارة بالأطفال، وربما مات طفلٌ بسبب أن قطاً كبيراً جلس على وجهه حتى خنقه فمات، فإذاً قد يكون القط مؤذياً، ندفعه ونطرده، فإذا لم يكن دفعه ممكناً إلا بالقتل فيقتل في نهاية المطاف، وإن مُلكت، أي مُلك القط فاحظر: أي لا تقتله لأنه صار ملكاً للغير (إذاً غير مفسد) إذا كان غير مفسد فلا يقتل، فإذا كان مفسداً يقتل.

قتل الحيات

قتل الحيات وقتلك حيات البيوت ولم تقل ثلاثاً له اذهب سالماً غير معتد مما ينهى عنه أيضاً: قتل حيات البيوت، إذا لم تنذرها ثلاثاً ولم تقل: اذهب سالماً غير معتد. وحيات البيوت هذه فيها كلام طويل، بعض العلماء يرى أنه لا يجوز قتل حيات البيوت إلا بعد إنذارها في أي مكان، وبعضهم قال: إن هذا خاص بـ المدينة، بيوت المدينة لا تُقتل فيها الحيات، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن جناً بـ المدينة قد أسلموا) والجن منهم من يكون على هيئة حيات، ومنهم من يكون على هيئة السعالي، ومنهم من يطيرون، ومنهم من يحلون ويظعنون مثل أهل البادية. فما دامت الجن تتمثل بالحيات والكلاب، فلابد من إنذار الحية قبل قتلها، علماً بأن الكلب الأسود شيطان فيقتل مباشرة، لكن الحية قد تكون جناً مسلماً، وقد تكون جناً كافراً، وقد تكون حية أفعى أصلية. فالآن العلماء بعضهم قال: إن حيات البيوت تنذر إذا وجدت في بيوت المدينة للحديث، وبعضهم قال: لا تقتل الحيات العوامر التي تسكن البيوت في أي بيتٍ وفي أي: مدينة، إذا وجدها لا يقتلها مباشرة، وإنما يُنذرها. واختلف العلماء في معنى ثلاثاً التي جاءت في الحديث، هل هي ثلاثة أيام، أو هي ثلاث مرات، هل ينذرها ثلاثة أيام كل يوم يقول: أحرج عليك بالله أن تخرجي، أي: أقسم عليك بالله أن تخرجي وتتركي بيتنا مثلاً؟ إن كان جناً مسلماً فسيغادر، وإن لم يغادر فهو شيطان فاقتله، هكذا أمر النبي عليه الصلاة والسلام. لكن اختلفوا هل هي ثلاثة أيام أو ثلاث مرات؟ ثم إن الإنسان لو أنذرها ثلاثاً ولم تخرج، فليس ملزماً أن يبقيها في البيت، ممكن يدخلها في كيس أو شيء ويحاصرها ويرميها بعيداً أي: لا يقتلها، أي: واحد لو قال: أنا أنتظرها حتى تذهب وتدخل في المتاع ولا أدري أين تذهب، وقد تكون أفعى عادية وليس لها علاقة بالجن، فماذا أفعل هل أتركها؟ نقول: أنتَ لست ملزماً بإبقائها في البيت، لكن أنت تنهى عن قتلها فقط، حتى تنتهي المهلة، إذا وجدتها بعد ذلك فاقتلها ولا حرج. وجاء أن رجلاً من شباب الأنصار كان عند النبي صلى الله عليه وسلم وكان شاباً قوياً، وأراد الشاب أن يذهب فأذن له وأمره أن يأخذ معه سلاحه وقال: إني أخاف عليك، فلما جاء إلى بيته وجد امرأته عند باب الدار خارجة، وكان رجلاً له غيرةً قوية، فهم أن يضربها بالرمح فيقتلها، لأنها خارج البيت من غير حجاب، فقالت: اصبر وادخل فانظر ما الذي أخرجني، فدخل فوجد حيةً عظيمةً قد تكومت فانتظمها برمحه قتلها ثم ركزها على الحائط فانقلبت عليه، فلا يُدرى أيهما أول موتاً الحية أم الفتى، فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم بذلك قال: (إن جناً بـ المدينة أسلموا) فالمهم أنه إذا وجدها ينذرها ثلاثاً، يقول: أقسم عليك بالله ثلاثاً أن تخرجي وتدعي هذا البيت، ونحو ذلك من العبارات، فإن كانت جناً مسلمةً خرجت ولم تؤذ، وإن كانت شيطاناً عصت فاستحقت القتل. وذو الطفيتين اقتل وأبتر حيةٍ وما بعد إيذانٍ ترى أو بفدفدِ هناك حيات تقتل مباشرةً سواء كانت في البيت أو خارج البيت، وذو الطفيتين، نوع معين من الحيات له خطان على ظهره، خطان متوازيان، قيل خطان أبيضان، وقيل خطان أسودان، هذا يسمى ذا الطفيتين، يُقتل مباشرة لا بإنذار ولا بشيء. (وأبتر حيةٍ) هذا نوع من الحية؛ والأبتر عظيم النهاية، الحية تكون في العادة غليظة من فوق والمنتصف ثم في النهاية تدق حتى يكون لها ذنبٌ أو ذيلٌ دقيق في النهاية، أما الأبتر هذا فكأنه مقطوع الذنب، فهو من جهة الذنب في النهاية غليظ، كأنه مقطوع الذيل، فهذا الأبتر يقتل مباشرة؛ وذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام قال في حديث في الصحيحين: (فإنهما يسقطان الحبل ويلتمسان البصر) أي: أن المرأة تسقط الولد الذي في بطنها بمجرد رؤيته، وكذلك يلتمسان البصر، قيل: إنه بمجرد النظر إليه يُعمي، وقيل: إنه يستهدف بصر الإنسان عند اللسع، ففيه قوةٌ سمية تسبب العمى، ونظراً لضرره ولأن الجني المسلم لا يتمثل بهذا النوع فإنه يقتل مباشرةً. وذو الطفيتين اقتل وأبتر حيةٍ وما بعد إيذانٍ ترى أو بفدفدِ والفدفد: هي الفلاة، فالحيات في الفلاة تقتل مباشرة، لا يلزم تحريج ولا قسم ولا شيء، فالحكم إذاً بالتحريج خاصٌ بحيات البيوت، ويستثنى من حيات البيوت ذو الطفيتين والأبتر.

حكم قتل ما فيه ضر ونفع

حكم قتل ما فيه ضر ونفع وما فيه إضراراٌ ونفعٌ كباشقٍ وكلب وفهدٍ لاقتصاد التصيدِ انتقل الآن إلى النوع من الحيوانات الذي فيه نفعٌ وضر، نفعٌ من جهة، وضرٌ من جهة، (وما فيه إضرارٌ ونفعٌ كباشقٍ) وهذا مثل البازي والصقر، الباشق قد يكون أحياناً يُؤنس ويستوحش أحياناً، وإذا صار أنيساً صاد ونفع صاحبه، وإذا صار مستوحشاً آذى، فهذا تكون أنت مخيراً في قتله وتركه. (وكلب) وكذلك الكلب، (وفهدٍ لاقتصاد التصيد) فإن الكلاب والفهود يمكن أن تدرب للصيد، فالفهود ممكن أن يصاد بها، ويجوز الصيد بها، فإذا صار نافعاً يترك، وإذا صار مؤذياً يُقتل، مثل الكلب الأسود يُقتل لأنه شيطان، والكلب العقور الذي منه داء الكلب، فهو أيضاً يقتل لضرره. إذا لم يكن ملكاً فأنت مخيرٌ وإن ملكت فاحظر وإن تؤذ فاقددِ فإذا كان لا يملكه أحداً غيرك فأنت مخيرٌ بين قتله وتركه، (وإن مُلكت فاحظر) أي: لا تقتلها لأنها ملكٌ لغيرك، (وإن تؤذ فاقددِ) أي: فاقتلها إذا آذت.

من آداب الطعام والشراب

من آداب الطعام والشراب ثم قال رحمه الله: ويكره نفخٌ في الغدا وتنفسٌ وجولان أيدٍ في طعامٍ موحدِ فإن كان أنواعاً فلا بأس فالذي نهى في اتحادٍ قد عفا في التعددِ سبق في آداب الطعام أن الإنسان يأكل مما يليه، فإذا كان الطعام مختلفاً كالفاكهة المتنوعة، فيجوز أن يأخذها مما لا يليه. وأخذٌ وإعطاءٌ وأكلٌ وشربه بيسراه فاكره ومتكئاً ذُدِ فالأكل والشرب والأخذ والإعطاء باليسار من فعل الشيطان فلا تفعله. وأكلك بالثنتين والأصبع اكرهاً ومع أكل شين العرف إتيان مسجدِ الأكل بالأصبع الواحدة والثنتين كبر، وبالثلاث سنة، (ومع أكل شين العرف): الرائحة الكريهة، لا تأت المسجد إذا أكلتها. ويكره باليمنى مباشرة الأذى وأوساخه مع نثر ما انفه الردي فإذاً باليمنى لا تخرج الأوساخ ولا تباشر النجاسات ولا تخرج ما في أنفك. كذا خلع نعليه بها واتكاؤه على يده اليسرى ورا ظهره اشهدِ أي إذا خلع نعله بدأ باليسرى، وإذا انتعل بدأ باليمنى، والاتكاء على اليد اليسرى وإلقاؤها خلف الظهر قد ورد النهي عنه في سنن أبي داود وهو حديثٌ صحيح. ويكره في التمر القران ونحوه وقيل مع التشريك لا في التفردِ أي: إذا كان له شركاء فيه، إما إذا كان يأكل لوحده فلا بأس، وتقدم في آداب الطعام. وكن جالساً فوق اليسار وناصب اليمين وبسمل ثم في الانتها احمدِ ويكره سبق القوم للأكل نهمةً ولكن رب البيت إن شاءَ يبتدي ولا بأس عند الأكل من شبع الفتى ومكروهٌ الإسراف والثلث أكدِ ويحسن تصغير الفتى لقمة الغدا وبعد ابتلاع ثني والمضغ جودِ أي: تجويد المضغ من آداب الطعام. ويحسن قبل المسح لعق أصابعٍ وأكل فتات ساقطٍ بتثردِ وغسل يدٍ قبل الطعام وبعده ويكره بالمطعوم غير مقيدِ أي: لا تغسل يدك بالأشياء المطعومة، أما الماء فهو للغسل. وما عفته فاتركه غير معنفٍ ولا عائبٍ رزقاً وبالشارع اقتدِ النهي عن عيب الطعام. ولا تشربن من في السقاء وثلمة الـ إناء وانْظُرَنْ فيه ومصاً تَزَرَّد أي: لا تشرب من فم الإناء ولا من ثلمته، فالشرب من فيه يسبب رائحة نتنة وإيذاء من بعدك واختلاط الشراب بما يُغير رائحته، وقد تكون هناك حشرة بداخل هذه القربة، ولذلك لا تشرب من الفم مباشرة حتى لا تدخل في الجوف. فهذه من فوائد عدم الشرب من في الإناء، ألا تنتنه فتؤذي من بعدك، وألا يكون فيه حشرة -مثلاً- فتبتلعها معه. وأما الثُلم المكسورة فلا تشرب منها؛ فإنها مجتمع أوساخ، وقد يكون فيها جراثيم أيضاً، وكذلك ربما جرح فم الشارب. (وانظرنَ فيه) أي: تأكد ألا يكون فيه حشرة ونحوها. (ومصاً تزردِ) أي: لا تعبه عباً، ولكن ارشفه رشفاً رقيقاً ومصه مصاً، فإنه أهنأ وامرأ. ونح الإنا عن فيك واشرب ثلاثة هو أهنا وامرا ثم ارو لمن صدي أي إذا شربت الشربة الأولى فنحه عن فيك، ولا تتنفس فيه.

من أحكام اللباس

من أحكام اللباس ويكره لبسٌ فيه شهرة لابسٍ وواصف جلدٍ لا لزوجٍ وسيدِ إذاً: يُنهى عن اللباس الذي يتميز به الإنسان عن سائر الناس، اللباس الذي يلفت الأنظار، فهو لباس شهرة، وقد توعد صاحبه يوم القيامة أن يُلهب فيه النار، وبالنسبة للمرأة لا يجوز لها أن تلبس ما يصف الجلد، إلا لزوجها، أو سيدها إذا كانت أمة. وإن كان يبدي عورةً لسواهما فذلك محذورٌ بغير تردد وخير خلال المرء جمعاً توسط الأمور وحالٌ بين أردى وأجودِ أي: لا تلبس غالياً جداً ولا رديئاً جداً. وأحسن ملبوسٍ بياضٌ لميت وحيٍ فبيض مطلقاً لا تسود فلبس البياض سنة للحي والميت. وأحمر قانٍ والمعصفر فاكرهن للبس رجال حسبُ في نص أحمدِ فإذاً لبس الأحمر القاني للرجال منهي عنه، أما إذا كان أحمر مخططاً فلا بأس، لبس النبي عليه الصلاة والسلام حبرةً أو إزاراً أو ثوباً فيه خطوط، أما الثوب الأحمر القاني فلا يلبسه الرجل، نعم تلبسه المرأة، أما الرجل فلا يلبس الأحمر القاني، لا بدلة رياضة ولا غيرها. إما إذا كان مخلوطاً بغيره كهذه الأغطية للرأس مخلوطةٌ بالبياض فلا تدخل في ذلك، والمعصفر المصبوغ بالعصفر هذا لا يلبس أيضاً للرجال، وهو من ثياب النساء. قال رحمه الله: ويحرم سترٌ أو لباس الفتى الذي حوى صورةً للحي في نصِ أحمدٍ فالثوب الذي فيه صورة من ذوات الأرواح لا يجوز لبسه لا للصغار ولا للكبار، لا للنساء ولا للرجال، الثياب التي فيها صور لذوات الأرواح لا يجوز لبسها. وأطول ذيل المرء للكعب والنسا من الأزر شبراً أو ذراعاً لتزددي بالنسبة للرجل لا يلبس تحت الكعبين، بالنسبة للمرأة ترخي شبراً أو ذراعاً لأجل عدم انكشاف الساقين عند هبوب الريح أو عند طلوعها ونزولها مثلاً، فيُرخص للمرأة أن تُرخي ذيلها شبراً أو ذراعاً من الخلف حتى إذا هبت الريح لم تكشف شيئاً من عورتها. وأشرف ملبوسٍ إلى نصف ساقه وما تحت كعب فاكرهنه وصعّدِ اصعد فوق الكعبين، وأحسنه إلى منتصف الساق. وللرسغ كم المصطفى فإن ارتخى تناهى إلى أقصى أصابعه قدِ السنة الكم إلى الرسغ، فإن تناهى أطراف الأصابع لا بأس، لكن بعض الناس عندهم أكمامٌ ذات أخراج وعمائم ذات أبراج، فهذه من أنواع الإسبال، فهناك شيء اسمه إسبال الأكمام، إذا كانت الأكمام واسعة جداً، فهذا من إسبال الأكمام فيُنهى عنه، وكذلك ما يلبس الواحد كماً يُغطي اليدين والأصابع ويمتد، والسنة أن يكون إلى الرسغ، ولو جاوزه قليلاً فلا حرج. ويحسن تنظيف الثياب وطيها ويكره مع طول الغنى لبسك الردي تنظيف الثياب وطيها مستحسن، وإذا كنت غنياً فلا تلبس الردي: (إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده). ومن يرتضي أدنى اللباس تواضعاً سيكسى الثياب العبقريات في غدِ الذي يتواضع في لباسه يكسوه الله يوم القيامة من الحلل ما شاء لأنه تواضع. وقل لأخٍ: أبل وأخلق ويخلف الـ إله كذا قل عش حميداً تسدد فيقال لمن لبس ملبوساً جديداً: أبل وأخلق، ويخلف الله، كذلك تقول له: (البس جديداً، وعش حميداً، ومت شهيداً) كما قال النبي عليه الصلاة والسلام لـ عمر.

من أحكام الخواتم

من أحكام الخواتم ولا بأس بالخاتم من فضةٍ ومن عقيق وبلورٍ وشبه المعددِ يجوز اتخاذ خاتم الفضة للرجال، ولو كان فيه فص من عقيق أو بلور فلا بأس بذلك. ويكره من صُفرٍ رصاصٍ حديدهم ويحرم للذكران خاتم عسجدِ (من صفر) هو النحاس، (رصاص) خاتم الرصاص، (حديدهم): خاتم الحديد، يكره هذا للرجال، (ويحرم للذكران خاتم عسجد) يحرم على الذكر أن يلبس خاتماً من الذهب. ويحصل في اليسرى كـ أحمد وصحبه ويُكره في الوسطى وسبابة اليدِ إذا لبست الخاتم باليمين أو لبسته بالشمال، فكلاهما وارد في السنة، وتضعه في الخنصر أو البنصر، لا تضعه في الوسطى ولا السبابة، فقد ورد النهي عن ذلك كما جاء في صحيح مسلم في النهي عن لبس الخاتم في السبابة أو الوسطى والتي تليها، فلا تلبس في الوسطى ولا السبابة، والبس في الخنصر أو البنصر. ويحسن في اليمنى ابتداء انتعاله وفي الخلع عكسٌ واكره العكس ترشدِ فإذاً عند الخلع تخلع اليسرى أولاً ثم اليمنى، وعند اللبس تلبس اليمنى أولاً ثم اليسرى. ويكره مشي المرء في فرد نعله اختياراً أصخ حتى لإصلاح مفسدِ فإذاً يكره للإنسان أن يمشي في النعل الواحدة، والسبب أنه قد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنها مشية الشيطان (فإن الشيطان يمشي في النعل الواحدة) وإن انقطعت إحدى الفردتين، فاقتلع الاثنتين حتى تصلحها وتمشي بهما جميعاً أو تحفيهما جميعاً. وسر حافياً أو حاذياً وامش واركبن تمعدد واخشوشن ولا تتعودِ إذاً من السنة أن الإنسان يمشي حافياً أحياناً، لأجل أن يخشوشن وقوله: تمعددُ أي: انتسبوا إلى معد بن عدنان، إلى معد الذي كان من عادته الرجولة والخشونة. ويكره في المشي المطيطي ونحوها مظنة كبرٍ غير في حرب جحدِ (المطيطي) مشية فيها خيلاء، وقوله: (غير في حرب جحدِ) أما في الحرب فيجوز أن تتبختر وتتمخطر بين الصفين إغاظة للعدو. ويكره لبس الخف والأزر قائماً كذاك التصاق اثنين عرياً بمرقدِ لا تلبس حذاء يحتاج إلى مئونة في لبسه واقفاً، كالأحذية التي لها رباطات، قيل: حتى لا يسقط، وقيل: حتى لا يظهر قفاه ظهوراً قبيحاً، وقيل: إنه دليل على الكبر، فنزوله إلى الأرض لربط حذائه أحسن، فإذاً الأحذية التي فيها رباطات يُنهى عن لبسها قائماً، فالسنة أن يلبسها جالساً، أما هذه النعال التي تُدخل الرجل فيها إدخالاً يسيراً فلا يحتاج إلى جلوس للبسها.

من آداب النوم

من آداب النوم ويكره لبس الخف والأزر قائماً كذاك التصاق اثنين عرياً بمرقدِ نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يلتصق اثنين عرياً بمرقدٍ واحد، نهى أن يضطجع الرجلان ويتغطيان بغطاءٍ ليس عليهما شيءٌ من الثياب. وثنتين وافرق في المضاجع بينهم ولو إخوةً من بعد عشرٍ تُسدد يتأكد التفريق بين الأطفال في المضاجع، حتى لا يقع الفساد بينهم، سواء كانوا ذكوراً أو إناثاً، لا شك أن التفريق بين الذكور والإناث أوجب، ولكن حتى لو كانوا ذكوراً بمفردهم بمعزل أو إناثاً بمعزل أيضاً يفرق بينهم في المضاجع، وبالذات بعد سن العشر. ويكره نوم المرء من قبل غسله من الدهن والألبان للفم واليدِ حتى لا ينام وفيه زفر، قال: ويكره نومٌ فوق سطحٍ ولم يُحط عليه بتحجيرٍ لخوفٍ من الردي الذي ينام على سطح ما له سور، يمكن أن يكون عرضة للسقوط، فلا يفعل ذلك حتى لا يسقط، فمن فعله فقد برئت منه العهدة. ويكره بين الظل والشمس جلسةٌ ونومٌ على وجه الفتى المتمددِ وذلك لأن الجلوس بين الظل والشمس مجلس الشيطان؛ فلا تجلس فيه، والنوم على البطن منهي عنه؛ لأنه ضجعة أهل النار؛ فلا تضطجع هذه الضجعة. ويحسُن عند النوم نفض فراشه ونومٌ على اليمنى وكحلٌ بإثمدِ (ويحسُن عند النوم نفض فراشه) كما جاء في السنة، فربما كان فيه شيء أو حشرة. والكحل الإثمد لونه يميل إلى الأحمر أو الأصفر أو البني، وهو يجلو البصر، ولذلك الاكتحال بالإثمد مما يجلو البصر ويُحسن النظر.

من آداب الزواج

من آداب الزواج وخذ لك من نصحي أُخَيَّ نصيحةً وكن حازماً واحضر بقلبٍ مؤيدِ ولا تنكحن من تسمو فوقك رتبةً تكن أبداً في حكمها في تنكدِ إذا أردت أن تتزوج فلا تتزوج واحدة أغنى منك، أو أشرف منك أو أعلى رتبة منك، فإنها ستتطاول عليك وتقول: أنا كذا وأنت كذا، علماً أن هذا ليس بشرط، غير أنها في العادة تتطاول خاصة عند حصول الخلاف، وتذكرك بفضلها عليك في مالٍ أو نسبٍ. ولا تَرْغَبَنْ في مالها وأثاثها إذا كنت ذا فقرٍ تذل وتضهدِ إذا كنت ذا فقرٍ، فلا تأخذ منها، وليس بالضرورة إذا أخذ منها أن تذله، لكن الإنسان يستغني أحسن. ولا تَسْكُنَنْ في دارها عند أهلها تسمع أذىً أنواع من متعددِ أحسن لك ألا تسكن عند أهل المرأة، اسكن لوحدك، حتى لا تسمع شيئاً من الأذى، وأيضاً هذا ليس بالضرورة، قد يكون أهلها فيهم خير وطيبة، وأنت محتاج فلا بأس. وكن حافظاً إن النساء ودائعٌ عوانٍ لدينا احفظ وصية مرشدِ وخير النسا من سرت الزوج منظراً ومن حفظته في مغيبٍ ومشهدِ قصيرة ألفاظٍ قصيرة بيتها قصيرة طرف العين عن كل أبعدِ تغض البصر، قليلة الكلام، دائماً في البيت. عليك بذات الدين تظفر بالمنى الودود الولود الأصل ذات التعبدِ ذات التعبد: صاحبة الدين.

نصائح لطالب العلم

نصائح لطالب العلم ثم قال رحمه الله: ولا يذهبن العمر منك سبهللاً ولا تُغبننْ بالنعمتين بل اجهد سبهللاً: أي فراغاً بدون فائدة، ولا تغبننْ بالنعمتين: أي الصحة والفراغ. فمن هجر اللذات نال المنى ومن أكب على اللذات عض على اليد أي: ندماً بعد الموت حين فات الأوان. وخير جليس المرء كتبٌ تفيده لوماً وآداباً كعقلٍ مؤيدِ وخالط إذا خالطت كل موفقٍ من العلما أهل التقى والتعبدِ يفيدك من علمٍ وينهاك عن هوى فصاحبه تُهدى من هداه وترشدِ وإياك والهماز إن قمت عنه البذي فإن المرء بالمرء يقتدي وحافظ على فعل الفروض بوقتها وخذ بنصيبٍ في الدجى من تهجدِ وناد إذا ما قمت بالليل سامعاً قريباً مجيباً بالفواضل يبتدي ومد إليه كف فقرك ضارعاً بقلبٍ منيبٍ وادع تعط وتسعدِ ولا تطلبن العلم للمال والريا فإن ملاك الأمر في حسن مقصدِ وكن عاملاً بالعلم فيما استطعته ليُهدى بك المرء الذي بك يقتدي حريصاً على نفع الورى وهداهم تنل كل خيرٍ في نعيمٍ مؤبدِ ادعُ إلى الله وعلم الناس الخير. وإياك والإعجاب والكبر تحظ بالسعادة في الدارين فارشد وأرشد وها قد بذلت النصح جهدي وإنني مقرٌ بتقصيري وبالله أهتدي تقضت بحمد الله ليست ذميمةً ولكنها كالدر في عقد خُرَّدِ يحار لها قلب اللبيب وعارفٌ كريمان إن جالا بفكر منضدِ ثم قال في آخر بيت من هذه القصيدة وقد كملت والحمد لله وحده على كل حالٍ دائماً لم يصدد فالحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا جميعاً ممن استفاد وأفاد، وأخذ من السنة ما يعمل به في حياته، ونسأله عز وجل أن يختم لنا بالصالحات أعمالنا.

الأسئلة

الأسئلة

حال حديث: (خاتم الحديد حلية أهل النار)

حال حديث: (خاتم الحديد حلية أهل النار) Q حديث: (خاتم الحديد حلية أهل النار) حديثٌ ضعيف كما نص عليه أهل العلم؟ A هذا أمرٌ مختلفٌ فيه، فبعضهم صحح الحديث.

التربع عند الأكل من الاتكاء

التربع عند الأكل من الاتكاء Q هل التربع من الاتكاء؟ A عند الأكل.

مرجع قصيدة الآداب لابن عبد القوي

مرجع قصيدة الآداب لابن عبد القوي Q ما هو اسم الكتاب الذي توجد فيه القصيدة؟ A قلنا: إن القصيدة هي قصيدة الآداب لابن عبد القوي شرحها السفاريني في غذاء الألباب في مجلدين، وهي موجودة في آخر المجلد الرابع من موارد الظمآن، يمكنك الرجوع إليها، فهي فيه متتابعة.

من خصائص الإثمد

من خصائص الإثمد Q ما هو الإثمد؟ A الإثمد: الذي يميل إلى الاحمرار.

وقوع الطلاق إذا كان باللفظ الصريح

وقوع الطلاق إذا كان باللفظ الصريح Q هل يقع الطلاق إذا قال: عليّ الطلاق أنتِ طالق؟ A نعم، إذا ما وقع هكذا فإنه يقع، أي: أنه ما ترك لنفسه مجالاً.

أين يكون الإسبال؟

أين يكون الإسبال؟ Q الإسبال يكون في الأكمام، فهل يأخذ هذا الإسبال حكم إسبال الثياب فيما نزل عن الكعبين؟ A هو إسبال لكن أخف منه.

من تعامل الأعراب مع المرأة

من تعامل الأعراب مع المرأة Q يقول الأعراب: إذا صاب الحرمة ماعون في البيت اكسره؟ A لا، هذا ما هو بهذه الدرجة، بحيث لا تجعلها تتملك شيئاً، وإذا صار لها ماعون تكسره حتى لا يكون لها فضل عليك، هذا ليس بصحيح، وقد تكون المرأة غنية وزوجها فقير.

حكم التنفس في الإناء الخاص بالشارب

حكم التنفس في الإناء الخاص بالشارب Q ما حكم التنفس في كأسٍ خاص بشاربه؟ A حتى التنفس في كأسٍ للشارب قد يضر نفسه.

حكم تصديق من يخاطبون الجن

حكم تصديق من يخاطبون الجن Q إذا كان هناك من يخاطب الجن ويذكرون له بعض الأخبار عندهم وغير ذلك، فهل نصدق هذه الأخبار؟ A لا، لأننا لا ندري بحالهم وقد يكونون كفرة، وقد يكونون كاذبين.

حكم قتل حيات البيوت إذا كانت سوداء

حكم قتل حيات البيوت إذا كانت سوداء Q إذا كان لون حيات البيوت أسود؟ A ولو كان أسود، لأن التخصيص بالسواد للكلاب السود.

حكم تملك القطط

حكم تملك القطط Q هل يجوز تملك القطط؟ A نعم، لكن ورد النهي عن شرائها وبيعها.

حكم تهذيب اللحية

حكم تهذيب اللحية Q هل تعديل اللحية حرام؟ A نعم، لا يجوز الأخذ من اللحية، لا من طولها ولا من عرضها، لكن بعض العلماء أجازوا أخذ ما طال عن القبضة كما كان ابن عمر يفعل في الحج والعمرة، لكن كثيرٌ منهم يرون عدم المس بها مطلقاً وعدم الأخذ منها أبداً.

حكم انعقاد البيع عن طريق الهاتف

حكم انعقاد البيع عن طريق الهاتف Q هل ينعقد مجلس البيع عن طريق الهاتف؟ A نعم، إذا قال: بعت وقال: اشتريت وانفصلوا، يعتبر بيعاً.

حكم البيع إذا لم يتم بلفظ صريح

حكم البيع إذا لم يتم بلفظ صريح Q اتفقت مع أحد التجار على أن يُقدم لي خدمة عن طريق الهاتف، فأعطاني تسعيرة وأرسلتُ إليه عينة ليقوم بفحصها ومعاينتها ويعيد النظر في تسعيرته، وفعل ذلك، وقام بخفض السعر، وعندما عزمت إرسال باقي البضاعة عليه حسب الاتفاق أخبرني بتغيير السعر، لعدم ملاءمته له؟ A ما دام لم يتم البيع، المسألة مسألة مراسلات بينك وبينه وعروض، ولا يوجد عقد وقع ولا لفظ: (بعت واشتريت) فلم يتم البيع.

حكم التسمية عند قتل الحيوان

حكم التسمية عند قتل الحيوان Q ما حكم البسملة عند قتل أي حيوان؟ A لا بأس، لأن البسملة وردت في جميع الحالات.

الكلب الأسود شيطان

الكلب الأسود شيطان Q هل جميع الكلاب السود شياطين؟ A نعم: (الكلب الأسود شيطان).

أهمية استحضار الطبيب لنية الزيارة

أهمية استحضار الطبيب لنية الزيارة Q يحصل لمن يشتغل بالطب أنه كثيراً ما يدخل على المرضى في اليوم الواحد، فينسى الدخول على المريض بنية عيادة المريض حتى يصبح روتيناً؟ A ولذلك يجب أن يذكر نفسه دائماً باستمرار ويحتسب الأجر أن يعتبرها مثل عيادة مريض ويؤجر عليها.

وصف ذي الطفيتين

وصف ذي الطفيتين Q هل ثعبان الكوبرا الذي سمه قاتل في رأسه خطان أسودان يتحول كالورقة عند الغضب هو نفسه ذو الطفيتين؟ A ذو الطفيتين هذا على ظهره الخطان ممتدان، ولا شك أن هذا الثعبان مما يقتل.

حكم الجهاز الكهربائي الذي يقتل الحشرات

حكم الجهاز الكهربائي الذي يقتل الحشرات Q ما حكم استخدام جهاز كهربائي فيه ضوء يجذب الحشرات فيقتلها؟ A ننظر في الحشرات المقتولة فإن وجدناها محترقة، عرفنا أنه هذا يُلحق بالنار، فلا نستعمله، وإن وجدناها كاملة لكن قُتلت بالصعق وليس بالحرق، فلا بأس بذلك، فالحكم يعتمد على عمل هذا الجهاز هل يحرق أو يصعق، إن كان يحرق فلا نستعمله، وإن كان يصعق الحشرة كاملة بالصدمة الكهربائية، فلا بأس باستخدامه.

رشف الشاي وآدابه

رشف الشاي وآدابه Q بعض الإخوان عندما يرشفون الشاي أو القهوة يحدثون صوتاً عالياً. A هذا من قلة الأدب في الشرب، وليس معنى الرشف أن يحدث الإنسان صوتاً عالياً.

قتل الغراب والحدأة والفأر ولو لم تؤذ

قتل الغراب والحدأة والفأر ولو لم تؤذ Q الغراب والحدأة والفأر هل أقتلها ولو أنها لا تؤذيني؟ A نعم.

كيفية تمييز ثلث الطعام

كيفية تمييز ثلث الطعام Q كيف أعرف الثلث المذكور في الحديث: (وثلث لطعامك)؟ A هم يقولون: إن معدة بني آدم ثمانية عشر شبراً، فقالوا: يأكل ستة أشبار؛ هكذا مكتوب، كيف يأكل ستة أشبار؟ لا أدري!! لكن على أية حال الإنسان يعرف نفسه؛ ولنفترض مثلاً أنه يشبع الشبعة التامة بستين لقمة، فليأكل عشرين لقمة ويصير هذا ثلثاً.

حكم تداول الإناء لشرب اللبن

حكم تداول الإناء لشرب اللبن Q عندنا عادة في نوع من الأكل، وهو عبارة عن خبز يؤكل مع الشرب من لبن يتداول شربه من قدح، فنأكل اللقمة ثم نشرب عليها ملء الفم تقريباً من اللبن، وتُعطي الذي يليك. A تداول الإناء لا مانع منه.

معنى حديث: [البذاذة من الإيمان]

معنى حديث: [البذاذة من الإيمان] Q ما معنى حديث: (البذاذة من الإيمان)؟ A أي: التواضع في اللباس من الإيمان.

حكم الاتكاء على اليدين

حكم الاتكاء على اليدين Q ما حكم الاتكاء على اليدين الاثنتين؟ A لا أعلم فيه تحريماً، ولكن يحتاج إلى مراجعة الحديث، لأن فيه عند أبي داود أيضاً إلقاء اليدين خلف الظهر، فنحتاج أن نراجع صحته ومعناه.

حكم كي المواشي

حكم كي المواشي Q هل كي المواشي للتوسيم جائز؟ A جائز في غير الوجه.

حكم شق آذان الأغنام

حكم شق آذان الأغنام Q ما حكم شق آذان الأغنام ليبين أنها قد طببت؟ A استخدم وسيلة أخرى كالرش من بخاخ.

مسألة في القدر

مسألة في القدر Q رجل كافر ومات على الكفر، هل يدخل النار علماً أن الله قدر عليه الكفر والموت عليه قبل الولادة؟ A لا شك في ذلك، فهو عنده قدرة وعنده إرادة، وسمع بالحق، لماذا لم يتبعه؟! أليس قد اتبع هواه؟!

قاعدة في أكل الحيوانات

قاعدة في أكل الحيوانات Q هل يجوز أكل الحيوانات الواردة في الكتاب والسنة فقط؟ A هناك أشياء واردة في الكتاب والسنة لا يجوز أكلها كالحمار الأهلي والكلب، لكن كل ما هو مستقذر عند عرب الحجاز وقت نزول الشريعة لا يجوز أكله، وكل ما له نابٌ لا يجوز أكله، وكل ما له مخلبٌ لا يجوز أكله، والجلالة التي تأكل القاذورات والنجاسات لا يجوز أكلها. وقد ورد في الشريعة ضوابط للحيوانات التي لا تؤكل، مثلاً: القرد، الكلب، الحمار الأهلي، بخلاف حمار الوحش، القنفذ، الخنزير، هذه الأشياء لا تؤكل، ومن الأشياء التي تؤكل قطعاً بهيمة الأنعام، والسمك، والأرنب، والدجاج وغيرها، ومن الأشياء التي اختلفوا فيها: التمساح، قالوا: إنه حيوان مائي، وبعضهم قال: إنه ذو أنياب فاختلفوا! والتمساح هو الحيوان الوحيد الذي يفتح فمه إلى الأعلى، وجميع الحيوانات تفتح فكها إلى الأسفل. والله تعالى أعلم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

النجاسات الحسية والمعنوية

النجاسات الحسية والمعنوية الطهارة هي رفع الحدث وإزالة النجاسة، وقد أمر الله عز وجل بها وأثنى على أهلها، وقد لخص الشيخ في هذه الخطبة طائفة من الأحكام تختص بالطهارة، وقد اقتصر فيها على القول الراجح، فتناول مسألة التطهير بغير الماء كالمنظفات الكيماوية والشمس والريح، والاستحالة، وتطهير السطوح الصقيلة بمسحها، مفصلاً القول في كيفية تطهير الأرض والسجاد والبئر، ومبيناً حكم السمن إذا وقعت فيه النجاسة، وأردف ذلك بذكر نجاسة الكلب وطهارة الهرة، وفرق بين حكم المني وحكم كل من المذي والودي من حيث الطهارة. ثم ذكر أقسام الدماء، وشرح كيفية تطهير الخف، وكيفية التطهر من بول الغلام وبول الجارية، وختم خطبته بذم الوسوسة والموسوسين، والتذكير بقبح النجاسة المعنوية كالشرك والنفاق.

أهمية معرفة أحكام الطهارة

أهمية معرفة أحكام الطهارة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن حديثنا -أيها الإخوة- في هذه الخطبة عن إزالة النجاسات، وقد اخترت هذا الموضوع لعدد من الأسباب، منها: أنه لا تصح بعض العبادات إلا بذلك، فإن من شروط الصلاة مثلاً إزالة النجاسات من الثوب والبدن والبقعة، وكذلك فإن السؤال يكثر عنها، وأيضاً يقع الاستحياء من السؤال، فعدد من الناس باقٍ على الجهالة، ثم إن هذا الأمر فيه خطورة؛ لأن من أسباب عذاب القبر إهماله، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما مر بقبرين، قال: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، بلى إنه كبير -ثم قال:- وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله) رواه البخاري رحمه الله تعالى. وكذلك فإن من الأسباب الدافعة إلى طرح هذا الموضوع انتشار أمر الوسوسة فيه، ومن سبل القضاء عليها معرفة الطريقة الصحيحة لإزالة النجاسة، واليقين الذي يقضي على الوسوسة أمر مطلوب، فلا يزاد على الطريقة الشرعية. وكذلك فهذا الموضوع من التفقه في الدين: (ومن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين). ثم إن النجاسات الحسية تذكرنا بأمور أخرى من المعنويات ستأتي الإشارات إليها في آخر الخطبة إن شاء الله تعالى.

تعريف الطهارة

تعريف الطهارة عباد الله: لقد أمرنا الله عز وجل بالطهارة، وأثنى على المتطهرين، والطهارة: رفع الحدث وإزالة النجاسة، فهي طهارة من الحدث وطهارة من النجاسة، فطهارة الجسد والثوب والمكان الذي يصلي فيه المصلي، وإزالة النجاسة منه مشروعة ومأمور بها، قال الله عز وجل: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4] وقال تعالى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة:125]. وقال صلى الله عليه وسلم: (اغسلي الدم وصلي).

تعريف النجاسة وأقسامها

تعريف النجاسة وأقسامها والنجاسة هي: الخبث والقذر، وكل ما هو مستقذر شرعاً، وهي إما أن تكون حسية كالبول والغائط والميتة، أو معنوية كنجاسة الكفار والأصنام والمعتقدات الشركية، وهي: إما أن تكون عينية، فالنجس عيناً لا يطهر بحال أبداً، فلو أتيت بماء البحر وأهرقته على روثة حمار لم تطهر، أو أعيان متنجسة نجاسة حكمية؛ كأي شيء كان طاهراًَ في الأصل، ثم طرأت عليه النجاسة، فيكون في حكم النجس، وهذا يمكن تطهيره. وقد قسم بعض العلماء النجاسة إلى أقسام باعتبار آخر، فقالوا: منها ما هو مغلظ، وهي نجاسة الكلب، ومنها ما هو مخفف كبول الذكر الرضيع، ومنها ما هو متوسط كسائر النجاسات من البول والغائط.

استحباب المبادرة إلى إزالة النجاسة

استحباب المبادرة إلى إزالة النجاسة وتنبغي المبادرة إلى إزالة النجاسة؛ فإذا أصاب البدن أو الثوب أو البقعة نجاسة، فعليك أن تبادر -أيها المسلم- إلى إزالة ذلك وبسرعة. أولاً: لأن هذا هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ولما بال الأعرابي في المسجد، قال عليه الصلاة والسلام للصحابة لما قضى بوله: (أهريقوا عليه دلواً من ماء) وفي رواية: (أمر بذَنوب من ماء فأريق عليه)، فبادر عليه الصلاة والسلام إلى إزالتها. وثانياً: لأنه تخلص من القذر والخبث والرائحة الكريهة. وثالثاً: حتى لا يقع الإنسان في النسيان، فينسى النجاسة أو يجهل مكانها بعد ذلك، وربما أدى ذلك إلى الصلاة في النجاسة. فبادر يا عبد الله إلى إزالة النجاسة حال وقوعها. وهنالك نجاسات اتفق العلماء عليها، كالميتة والبول والعذرة من الآدمي، وبعضها قد اختلف فيه كنجاسة الدم وغير ذلك. وقد اتفق العلماء على أن التطهير من النجاسة لا يحتاج إلى نية، فليست النية شرطاً في طهارة الخبث، فلو أزاله بغير نية ثم صلى، فصلاته صحيحة.

التطهير بالماء وأحوال التطهير بغير الماء

التطهير بالماء وأحوال التطهير بغير الماء وهاكم يا أيها المسلمون طائفة من الأحكام لخصتها لكم من كلام أهل العلم، فانتبهوا رحمكم الله لها، قد اختصرت الكلام فيها على القول الراجح مع الدليل ما أمكن. لقد اتفق الفقهاء رحمهم الله على أن الماء المطلق رافعٌ للحدث مزيلٌ للنجاسة، لقوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال:11] ولحديث أسماء قالت: (جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إحدانا يصيب ثوبها من دم الحيضة، فماذا تصنع به؟ قال: تحته، ثم تقرصه، ثم تنضحه بالماء، ثم تصلي فيه) متفق عليه.

التطهير بالاستحالة

التطهير بالاستحالة وقد اتفق الفقهاء على أن هناك نجاسات تزول بالاستحالة، كقولهم في الخمر باعتبار أنها نجسة عندهم: إنها تزول بالاستحالة إذا انقلبت خلاً بنفسها، وكذلك إذا تنجس بالتغير، فزال التغير بنفسه طهر، وجاء في بعض الأحاديث التطهير بالدباغة، كقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا دبغ الإهاب فقد طهر) أخرجه الإمام مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه.

التطهير بالمنظفات الكيماوية وبتكرير مياه المجاري

التطهير بالمنظفات الكيماوية وبتكرير مياه المجاري لكن هل يشترط في إزالة النجاسة الماء، أو يصح بكل مزيل حتى لو لم يكن ماءً؟ الراجح أنه يزول ويصح التطهير بأي طريقة، وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله، وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، قال العلامة الشوكاني: والحق أن الماء أصلٌ في التطهير، لوصفه بذلك كتاباً وسنة، لكن القول بتعينه وعدم إجزاء غيره يرده حديث مسح النعل، ولم يأت دليل بحصر التطهير في الماء. فبأي مزيل زالت النجاسة أجزأ ذلك، حتى لو كان بالمعقمات والمطهرات الكيماوية، فإن ذلك مجزئ على الراجح. فمادام قد زال وصف النجاسة، فلا ريح ولا طعم ولا لون، فقد صار الشيء طاهراً، وقد كثرت وسائل التعقيم والتكرير، فها أنت ترى في بعض الأماكن تكرير مياه المجاري حتى تعود نظيفة، فهذه إذا زال وصف النجاسة عنها عادت إلى الطهارة، وكذلك بعض المغاسل تنظف الملابس بالمنظفات الكيماوية، فإذا زالت النجاسة وعينها وأوصافها، فهذا يرجع إلى الطهارة، وهذا هو الراجح إن شاء الله تعالى.

التطهير بالشمس والريح

التطهير بالشمس والريح واختار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وابن القيم -وهو مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى- أن الشمس تطهر المتنجس إذا زال أثر النجاسة به، إذ أن المقصود هو الإزالة، وكذلك الريح تطهر المتنجس، ولكن مجرد اليبس ليس تطهيراً، بل لابد أن يمضي عليه زمن تزول عين النجاسة منه، ولذلك إذا وقعت النجاسة على ثوب أو أرض، ثم جفت فلابد من غسلها.

تطهير السطوح الصقيلة

تطهير السطوح الصقيلة وأما السطوح المصقولة، كالمرآة والسكين والرخام وبعض البلاط في زمننا هذا، فإنه يكفي دلكه حتى تزول النجاسة منه، فلو تنجست مرآة ثم دلكتها حتى أصبحت واضحة لا دنس فيها، فإنها تطهر على الراجح. وزوال النجاسة بالدلك كذلك اختيار شيخ الإسلام رحمه الله، وكذلك اختار أن النجاسة لو تحولت فصارت رماداً أو ملحاً فإنها تطهر بهذه الاستحالة، وكذلك اختار ذلك تلميذه ابن القيم رحمه الله، كما في أعلام الموقعين.

كيفية غسل النجاسة

كيفية غسل النجاسة وإذا كانت النجاسة مرئية، فإنه يطهر المحل المتنجس بها بزوال عينها، ولو بغسلةٍ واحدة على الصحيح، ولو كانت النجاسة كثيرة، ولا يشترط تكرار الغسل، فلو قال إنسان: كم غسلة نغسل ثلاثاً أو سبعاً؟ فنقول: لم يرد في الشرع تحديد لعدد مرات غسل النجاسات، فإذا زال بغسلةٍ واحدة كفى ذلك، وإذا احتاج الأمر إلى اثنتين غسلت اثنتين، أو إلى ثلاث غسلت ثلاثاً، وهكذا، إلا نجاسة لعاب الكلب كما سيأتي. فأنت تستمر في غسل النجاسة حتى يزول الطعم واللون والريح، فإن عسر زوال اللون، كما يقع كثيراً في غسل الدم عن الثوب، فإنه لا يضر ذلك، فاللون والريح إذا تعسر زوالهما، فإنه لا بأس بترك ما بقي إذا تعسر، والدين مبني على رفع الحرج. عباد الله! إذا أزيلت النجاسة بكل ما حولها من رطوبة ونحوه، كما لو اجتثت اجتثاثاً وقلعت اقتلاعاً، فإنه حين ذلك لا حاجة إلى غسل، لأن الذي تلوث بالنجاسة قد أزيل كله. وإذا علم موضع النجاسة في الثوب مثلاً، فإن غسل موضع النجاسة كافٍ، ولا حاجة إلى غسل الثوب كله. وإن خفيت، فإن كان يمكن غسله كله غسل كله، كالثوب والبقعة الضيقة من الأرض، وإن كان المكان واسعاً، وخفيت النجاسة أو نسيت، غسل ما غلب على الظن ويكفي ذلك.

كيفية تطهير الأرض

كيفية تطهير الأرض وإذا طرأت النجاسة على أرض فإنه يشترط لطهارتها أن تزول عين النجاسة، ولو كان بغسلة واحدة كما تقدم، والدليل أن الأعرابي لما بال في المسجد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أريقوا على بوله ذنوباً من ماء) ولم يأمر بعدد، فأريق ذنوب واحد عليه، فإن كانت النجاسة على وجه الأرض، وما اتصل بها من الحيطان والأحواض والصخور، فتكفي غسلة واحدة تذهب بعين النجاسة، وإن كانت النجاسة ذات جرم، فإنه لابد من إزالة عين النجاسة أولاً وجرمها، كما لو وقعت عذرة -وهي الغائط- على مكان فإنها تقتلع أولاً، ثم تتبع بالماء.

كيفية تطهير السجاد إذا عسر نزعه

كيفية تطهير السجاد إذا عسر نزعه ويسأل كثير من الناس عن تنظيف سجاد البيوت الملصوق بالغراء على أرض البيت إذا وقعت عليه النجاسة، فكذلك تزال النجاسة من بول وغائط وتقلع، وبعد ذلك نسكب ماءً وننشفه، ونسكب وننشف، وهكذا حتى تزول النجاسة من ذلك المكان، وإذا أمكن اقتلاعه وغسله فعل ذلك، وإلا فهذه الوسيلة كافية. وإذا أصاب الأرض ماء المطر أو السيول، فغمرها وجرى عليها، فكما لو صب عليها الماء، فإنها تطهر، ولا تعتبر النية في ذلك.

تطهير البئر

تطهير البئر عباد الله: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين أن الماء طهور لا ينجسه شيء، وأن الماء إذا بلغ قلتين لا ينجس، ومعنى ذلك أن الماء إذا لم يزل أحد أوصافه ويتغير بنجاسة، فإنه باق على طهارته، وخصوصاً إذا كان كثيراً كالقلتين: (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث) وأما إذا حصل تغير في لونه أو طعمه أو ريحه، فإن تطهير المياه النجسة يكون بأشياء، كصب الماء عليها ومكاثرتها بالماء حتى يزول التغير، أو نزح بعض الماء الذي فيه النجاسة حتى يزول التغير، ولو زال التغير بنفسه عاد الماء طهوراً. وقد ذهب العلماء رحمهم الله إلى أن البئر إذا حصلت فيها نجاسة يكاثر بالماء، فيزاد عليه ويصب فيه حتى يزول أثر النجاسة، أو إذا نبع فيه الماء واستمر في النبع حتى زال أثر النجاسة عاد طهوراً وجاز الوضوء منه. وأما الغسالة التي يوسوس فيها كثير من الناس بسبب الماء المنفصل عن الشيء المتنجس إذا غسل، فأقول: إذا غسلنا ثوباً نجساً، فانفصل عنه ماء الغسالة، فإذا كان ماء الغسالة متغيراً بالنجاسة بلون أو طعم أو ريح، فإنه نجس، أما لو نزل من الثوب ماء نظيف ليس فيه أثر للنجاسة، فإن ماء الغسالة في هذه الحالة ماء طهور، فلا توسوس -يا عبد الله- فيما انفصل عن البدن أو الثوب عند غسل النجاسة إذا كان لم يتغير بشيء.

حكم السمن إذا وقعت فيه النجاسة

حكم السمن إذا وقعت فيه النجاسة وإذا وقعت النجاسة في شيء جامد كالسمن، فإن النجاسة ترفع وما حولها وتطرح، ويكون الباقي طاهراً، لقول ميمونة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن فأرة سقطت في سمن، فقال: (ألقوها وما حولها وكلوا سمنكم) رواه البخاري رحمه الله. وإذا وقعت النجاسة في مائع، فإنه ينجس ولا يطهر عند جمهور الفقهاء، وذهب شيخ الإسلام رحمه الله إلى عدم التفريق بين المائع والجامد وأن الزيادة التي وردت في التفريق ضعيفة.

التطهير من ولوغ الكلب وحكم ولوغ الهرة

التطهير من ولوغ الكلب وحكم ولوغ الهرة وأما ولوغ الكلب، فإذا ولغ الكلب بلسانه في إناء، أو لحس ثوباً أو شيئاً، فطهارته بسبع غسلات أولاهن بالتراب، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب) رواه مسلم. وهذا يفيد كثيراً، فأما لو أمسك الكلب بفيه صيداً، فإن ذلك مما عفي عنه شرعاً، هذا اختيار شيخ الإسلام رحمه الله، ولا يجب غسل ما أصاب فم الكلب عن صيده، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا ولغ، ولم يقل: إذا عض. وهذه الأحكام تفيد الذين يستعملون الكلاب، ككلب الزرع والصيد والماشية، والذين يستعملونها لشم المواد الضارة كالمخدرات لاكتشافها وتتبع أثر المجرمين ونحو ذلك. أما كلاب البيوت وكلاب الألعاب، وكلاب الذين يتشبهون بالكفار والذين يصحبونها للنزهة -وقد رأيناهم بأعيننا يمشون بالكلاب، فرأينا كلاباً تقود كلاباً- فإن اتخاذ ذلك حرامٌ ولا شك، ينقص من عمل صاحبه قراريط، وهو يداوم على اتخاذها، وهؤلاء لا من الله يستحيون، ولا من خلقه أيضاً، فهم على إزعاجهم قائمون مستمرون، يتخذون الكلاب في البيوت، وهناك وسائل كثيرة للأمن والحراسة، ومع ذلك يتخذونها، وكثير منهم يفعل ذلك تشبهاً بالكفرة. أما ولوغ الهر في الإناء فلا يضره، لأنه من الطوافين علينا الذين يكثر تطوافهم، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم.

حكم ميتة ما لا نفس له سائلة وبول وروث ما يؤكل لحمه

حكم ميتة ما لا نفس له سائلة وبول وروث ما يؤكل لحمه وأما ما لا نفس له سائلة فإنه لا ينجس بالموت، فلو وقعت الخنفساء أو العقرب أو البق أو البعوض أو الجراد أو الذباب في ماء وماتت فيه، فإنه لا ينجس، وكذلك بول وروث ما أكل لحمه، كبول الإبل والبقر والغنم والغزلان والأرانب وذرق الحمام، يقول بعض الناس: كنا نمشي إلى المسجد فأصابنا شيء مما سقط من الحمام، فنقول: هو طاهر، والنبي صلى الله عليه وسلم أمر العرنيين أن يشربوا من أبوال الإبل وألبانها لما أصابتهم الحمى، وأذن صلى الله عليه وسلم بالصلاة في مرابض الغنم، مع أنها لا تخلو من بولها وروثها.

العفو عن يسير جميع النجاسات

العفو عن يسير جميع النجاسات والعفو عن يسير جميع النجاسات قول مبني على قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} [الحج:78] وهو مذهب أبي حنيفة واختيار شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، ويستدل أيضاً بأن الشريعة لا توجب غسل الأثر الباقي بعد الاستجمار، ومعلوم أنه لو استجمر فلابد أن يبقى أثرٌ، وربما حصلت رطوبة أو عرق في المكان، ومع ذلك فإن هذا كله لا يضر ولله الحمد، وكذلك أهل الحمير الذين يمارسونها يشق عليهم التحرز من كل شيء.

طهارة المني ورطوبة فرج المرأة ونجاسة المذي والودي

طهارة المني ورطوبة فرج المرأة ونجاسة المذي والودي أما إذا سألت يا عبد الله عن أثر الجنابة في الثوب، وقلت: أصاب الثوب منيٌّ، فماذا نفعل به؟ فنقول لك: افعل به كما حدثت عائشة رضي الله عنها: (كنت أفرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يابساً، وأغسله إذا كان رطبا) ولا فرق في ذلك بين مني الرجل والمرأة، والراجح أن مني الآدمي طاهر، ومنه خلق الأنبياء والأولياء وسائر الناس، والأصل في الأشياء الطهارة، وعائشة رضي الله عنها كانت تفرك اليابس من مني النبي صلى الله عليه وسلم وتغسل الرطب منه، ولو كان نجساً ما اكتفت بذلك، ولوجب غسله حتى لو كان يابساً، ولكن لما اكتفت بالفرك علمنا أن المني طاهر بخلاف دم الحيض مثلاً، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تحته ثم تقرصه بالماء) فإذا جف على ثوبها تحتّه؛ وتفركه وتزيل أثره، ثم بعد ذلك تقرصه بالماء، أي: تغسله بالماء، ثم تنضحه ثم تصلي فيه، وكذلك ريق الإنسان ومخاطه وعرقه وبلغمه ودمعه ولعابه كل ذلك طاهر. ورطوبة فرج المرأة وما يسيل منها أثناء حملها، الراجح أنه طاهر أيضاً. أما المذي والودي: المذي: سائل أبيض رقيق لزج يخرج عند الشهوة واللمس والنظر، بلا دفق ولا شهوة أثناء خروجه، ولا يعقبه فتور، وربما لا يحس الإنسان بخروجه. أما الودي: ماء أبيض كدر ثخين يشبه المني، ولا رائحة له بخلاف المني، وهو كدر بخلاف المني فإنه صافٍ، وهذا الودي يخرج عقيب البول من بعض الناس في بعض الحالات، أو عند حمل شيء ثقيل فاتفق العلماء على نجاستهما. وقد جاء في حديث علي: كنت رجلاً مذاءً، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم بواسطة المقداد، فقال عليه الصلاة والسلام: (يغسل ذكره ويتوضأ) رواه البخاري ومسلم، وغسل الأنثيين عند أبي داود. والودي يخرج عقب البول فهو ملحق بالنجاسات فهذه السوائل تغسل وجوباً بخلاف المني، وقد بينا الفرق بينهما، فلا تلتبس عليك يا عبد الله. ونجاسة المذي مخففة لحديث سهل بن حنيف قال: كنت ألقى من المذي شدة وعناءً، وكنت أكثر منه الاغتسال، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (إنما يجزيك من ذلك الوضوء، فقلت: يا رسول الله! كيف بما يصيب ثوبي منه؟ قال: يكفيك أن تأخذ كفاً من ماء فتنضح به ثوبك، حيث ترى أنه قد أصاب منه) فإذاً لو نضحه كان ذلك كافياً عند بعض أهل العلم لهذا الحديث.

أقسام الدماء من حيث الطهارة والنجاسة

أقسام الدماء من حيث الطهارة والنجاسة وأما الدماء فإن العلماء قالوا: إن الدماء على ثلاثة أقسام: دم نجس لا يعفى عن شيء منه كدم الحيض وكالدم الخارج من السبيلين، وثانياً: دم نجس يعفى عن يسيره، وقد ضرب له جمهور العلماء مثلاً بدم الآدمي الذي يخرج من الجرح، والقول القوي أن دم الآدمي طاهر ما لم يخرج من السبيلين لأدلة كثيرة، والثالث: الدم الطاهر وهو دم السمك مثلاً؛ لأن ميتته طاهرة، والدم اليسير الذي لا يسيل، كدم البعوضة والبق والذباب عند قتلها مثلاً، فلو تلوث الثوب بشيء منه فهو طاهر لا يجب غسله. ويستدل لذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه) ومعلوم أن غمسه يسبب قتله، ومع ذلك قال: (فليطرحه، وليطعمه بعد ذلك إذا أراد). وكذلك الدم الذي يبقى في الشاة المذبوحة مثلاً بعد ذبحها وتذكيتها، والدم الموجود في العروق والقلب والطحال والكبد، فكل هذا طاهر قليله وكثيره، ودم الشهيد طاهر؛ حتى إن أكثر من يقول من العلماء بنجاسة دم الآدمي يقولون بطهارة دم الشهيد، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن غسل دمائهم، وأمر أن يزملوا بها، لأنهم يبعثون بها يوم القيامة، ولها رائحة كرائحة المسك. ويغسل الدم النجس حتى يزول، وإن بقي له أثر فلا يضر ذلك، إذا اجتهد الإنسان في غسله.

كيفية تطهير الخف

كيفية تطهير الخف وأما الخف إذا علقت به نجاسة، فقد جاء في الحديث الصحيح: (إذا جاء أحدكم إلى المسجد، فلينظر فإن رأى في نعليه قذراً أو أذى، فليمسحه- وقد كانت الشوارع والطرقات متربة- وليصل فيهما) وفي حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا وطئ أحدكم بنعليه الأذى، فإن التراب له طهور) وفي لفظ: (إذا وطئ الأذى بخفيه، فطهوره التراب) رواه أبو داود وابن خزيمة، وسنده حسن.

كيفية تطهير بول الغلام والجارية

كيفية تطهير بول الغلام والجارية فإن قلت: فما حكم بول الغلام والجارية؟ فاعلم رحمك الله أنه يجزئ في بول الغلام الذي لم يطعم الطعام، لم يأكل الطعام بشهوة ولا إرادة منه، وإنما لا زال على رضاع أمه، فإن نجاسة بوله نجاسة مخففة، ولو كان يلعق العسل أو الشيء اليسير، لحديث أم قيس بنت محصن أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجلسه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجره، فبال على ثوبه، فدعا بماء فنضحه ولم يغسله، وقال صلى الله عليه وسلم: (ينضح بول الغلام، ويغسل بول الجارية) فبول الغلام إذا أصاب ثوبك يكفي أن ترشه بالماء، وبول الجارية -وهي البنت الصغيرة- لا يجزئه إلا الغسل.

حكم استعمال آنية الكفار

حكم استعمال آنية الكفار وكذلك يسأل بعض الناس عن آنية الكفار وملابسهم، فاعلموا أن هذه الأعيان الأصل فيها الطهارة، فإنها طاهرة مادمنا لا نعلم فيها نجاسة، واستثنى العلماء السراويل التي تلتصق بأجسامهم، لأنهم أناس لا يتوقون النجاسات، فلا تستخدم إلا بعد غسلها، وأما الآنية فإنه يكره استخدامها لحديث أبي ثعلبة الخشني، قال: قلت: يا رسول الله! إنا بأرض أهل الكتاب، أنأكل في آنيتهم؟ قال: (لا تأكلوا في آنيتهم إلا ألا تجدوا بدا، فإن لم تجدوا بداً فاغسلوها وكلوا فيها). فهذه الأواني -أواني الكفار- تغسل قبل استخدامها، والملابس التي عليهم إذا كانت خارجية، فإنه لا بأس باستعمالها، ومن الأدلة على أن الأصل الطهارة في أواني الكفار أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ من مزادة امرأة مشركة.

ما صبغ بالنجاسة أو طبخ بها

ما صبغ بالنجاسة أو طبخ بها وأما المصبوغ بالنجاسة، فإنه لا يطهر بغسله، وذهب بعض أهل العلم إلى أنه يطهر بغسله وإن بقي لونه. وأما اللحوم المطبوخة بالنجاسات، كما يفعل بعض الكفرة في الطبخ بدهن الخنزير أو يخلطون الخمر معه، فقد ذهب عدد من أهل العلم إلى أنه لا سبيل إلى تطهيرها، وقال بعضهم: تغلى وتغلى ويسكب عليها الماء الطهور وتغلى إلى أن يخرج منها كل شيء.

لا يكلف الإنسان بغسل ما في داخله من النجاسات

لا يكلف الإنسان بغسل ما في داخله من النجاسات والنجاسات -يا عباد الله- إذا لم تخرج خارج الإنسان فلا حكم لها، فلا يكلف الإنسان بغسل ما بداخله من النجاسة، مادامت لم تخرج، ولو أحس بانتقال شيء من البول ولم يخرج خارج الذكر فلا غسل، ولا وجوب لإزالة النجاسة، وكل آدمي داخله نجاسة، ألم يقل القائل: أولك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وفيما بين ذلك بول وعذرة؟! ففي داخل كل إنسان نجاسات، لكن لا يكلف بها إلا إذا خرجت، وهذا علاج ناجع للوسوسة والموسوسين الذين يحاولون إدخال الأشياء لإخراج النجاسة أو غسلها ونحو ذلك، وهذا تنطع لم يأت في دين الله تعالى. هذه طائفة من أحكام النجاسات، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لتطهير قلوبنا وتطهير أبداننا وثيابنا من سائر النجاسات. ونسأل الله تعالى أن يرزقنا الفقه في دينه واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

ذم الوسوسة في الطهارة

ذم الوسوسة في الطهارة الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا هو الملك الحق المبين، شرع لنا هذه الشريعة، وأنزل علينا الكتاب، وأرسل إلينا رسوله صلى الله عليه وسلم، أشهد أنه رسول الله، وحجة الله على خلقه، علمنا فأحسن تعليمنا، وأدبنا فأحسن تأديبنا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، وعلى ذريته والتابعين بإحسان إلى يوم الدين. عباد الله: إن ما ذكرنا بصحة الاهتمام بغسل النجاسات لا يصح أن يدفع أبداً إلى الوقوع في الوسوسة التي مرض بها كثير من الناس، حتى صار الواحد منهم يغسل ويفرك ويتأكد من وصول الماء إلى بدنه، ثم يشك بعد ذلك أنه تطهر، وربما مكث الساعات الطوال في دورة المياه والحمامات والمراحيض، وربما فاتته تكبيرة الإحرام، أو فاتته صلاة الجماعة، وأحياناً فاتته الصلاة كلها، ولبعضهم أفعال كأفعال المجانين، لا يمكن أن نصدق أنهم عقلاء، وهم يقومون بها. واعلموا أن الشريعة قد جاءت بالأدلة البينة على ذم الوسوسة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إذا وجد أحدكم في بطنه شيء فأشكل عليه أخرج منه شيئاً أم لا، فلا يخرج من المسجد حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً) رواه مسلم. فإذاً لا تجوز الوسوسة بحال، وهي اتباع للشيطان، ولعلاجها نُهينا عن البول في المستحم؛ وهو المكان الذي نغتسل فيه، لأجل قطع الوسوسة، وكذلك أرشدنا إلى نضح ما أمام مكان خروج النجاسة بالماء ورشه، حتى إذا حس الإنسان ببلل، قال: هذا من الماء الذي رششته قبل قليل، وكذلك فإنه ينهى عن الإسراف في استخدام الماء الذي هو شعار الموسوسين. قال محمد بن عجلان رحمه الله: الفقه في دين الله إسباغ الوضوء وقلة إهراق الماء، وقال الإمام أحمد: كان يقال: من قلة فقه الرجل ولَعه بالماء. واعلم يا عبد الله أن الوسوسة داء لا علاج له إلا بإهماله وقطعه. إن التنطع داء لا دواء له إلا تركك إياه برمته

من أعاجيب الموسوسين في الطهارة

من أعاجيب الموسوسين في الطهارة وقد ابتدع البعض إجراءات عجيبة لأجل الطهارة من البول بزعمهم، كما ذكر ذلك ابن القيم رحمه الله، فقال: يفعلون بعد البول عشرة أشياء: السلت، والنتر، والنحنحة، والمشي، والقفز، والحبل، والتفقد، والوجور، والحشو، والعصابة، والدرجة. فأما السلت: فهو عصر الذكر ليخرج منه البول، والنتر: نفضه ليخرج ما بداخله بزعمهم بعد الاستنجاء، والنحنحة لإخراج الفضلة، والقفز بالارتفاع عن الأرض ثم الجلوس فجأة وبسرعة، والحبل يتخذه بعضهم يتعلق به حتى يكاد يرتفع ثم يقعد، والتفقد النظر في المخرج، هل بقي فيه شيء أم لا، والوجور: أن يفتح الثقب ويصب الماء فيه، والحشو: أن يدخل قطناً ونحوه، والعصابة: أن يعصبه بخرقة لئلا يخرج منه شيء، والدرجة أن يصعد في السلم قليلاً ثم ينزل بسرعة. فهذا هراء، وهو من استدراج إبليس، ولا شك أنه فعل المجانين، والشريعة لم تأمر بذلك، قال شيخ الإسلام رحمه الله: وذلك كله وسواس وبدعة، فأنت تغسل ما خرج فقط. عباد الله: إذا وطئ الإنسان على نجاسة جافة وهو جاف فهو لا ينجس، يقول الفقهاء: جاف على جاف طاهر بلا خلاف، فانظر كم من الناس يوسوسون وينشغلون بهذا.

النجاسات المعنوية

النجاسات المعنوية

نجاسة المشركين

نجاسة المشركين ثم اعلموا رحمكم الله -وقد تكلمنا عن هذه النجاسات الحسية- أن الكلام يذكرنا بالنجاسات المعنوية التي هي أشد وأسوأ من النجاسات الحسية، فمثلاً: الكفار نجس، قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:28] فهل عندما تقابل كافراً -يا عبد الله- تحس باشمئزاز لنجاسته في شركه؟ لأنه جاحد لله، ومشرك مع الله، ومستهزئ بالله، وتارك لكل ما فرض الله، وهل يكون اشمئزازك من الكافر أشد من اشمئزازك من البول والغائط؟ لا يلزم أن تظهر له ذلك خصوصاً إذا كنت في مقام الدعوة، ولكن هل تشعرون أيها الموظفون المخالطون للكفار بالاشمئزاز منهم عند رؤيتهم أشد من اشمئزازكم من العذرة والبول؟ قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:28] أي: لما حرم دخول الكفار إلى الحرم، قال بعض المسلمين: ذهبت التجارات، وستكسد أموالنا لأن الرواد سيقلون. مثلما يقول الآن عدد من الناس في بعض بلدان المسلمين، إذا قال لهم العلماء والدعاة: امنعوا السائحين من الكفار من دخول مساجدكم وأماكنكم، وفيهم قذر وأمراض، قالوا: هذا ينقص الدخل القومي، والله يقول: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} [التوبة:28] أي: فقراً أو نقصاً في الدخل {فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة:28]. وقد أغنى الله الصحابة لما اتقوا الله بأموال الجزية أضعاف أضعاف ما كان يأتيهم من أموال الكفار إذا دخلوا الحرم.

نجاسة المنافقين

نجاسة المنافقين وقال الله في المنافقين: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ} [التوبة:95] أي: خبثاء أنجاس البواطن والمعتقدات، وقال الله عز وجل: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:125]. لقد كان هذا الشعور عند المسلم في العصر الأول شعوراً متأصلاً؛ فعندما قدم أبو سفيان رضي الله عنه قبل أن يسلم إلى المدينة يريد أن يجدد عهد الحديبية، دخل على ابنته أم حبيبة، وهي رملة بنت أبي سفيان زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فلما ذهب أبوها ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عندها، طوته عنه، فقال: يا بنية! ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش، أم رغبت به عني؟ يقول: هل أنا أقل من الفراش فطويتيه عني، أم الفراش أقل من مستواي فطويتيه عني؟ قالت: بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت رجل مشرك نجس، ولا أحب أن تجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، تقول لأبيها: أنت رجل مشرك نجس، هكذا كان شعورهم، ومن كان هذا شعوره أنى له أن يقلد الكافر أو يحبه ويتأثر به؟! ولكن انظر إلى الناس الآن ماذا يفعلون، لأنهم لا يشعرون أن الكفار نجس، ولذلك يحبونهم ويقلدونهم، وقصة رملة عند ابن إسحاق بإسناد حسن.

نجاسة الميسر والأوثان والمعاصي

نجاسة الميسر والأوثان والمعاصي ومن النجاسات المعنوية نجاسة الميسر والأوثان وسائر المعاصي لقوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج:30] نجاسة المعاصي والآثام، قال بعض السلف: لو كان للذنوب رائحة ما طاق الجلوس إلي منكم أحد، وهذا من تواضعه، فالذنوب لو كان لها رائحة، ماذا يكون حالنا نحن؟ لو كان للذنوب رائحة كرائحة العذرة التي تخرج من الدبر، ماذا يكون حالنا نحن؟ وكيف تكون روائحنا أيها المسلمون؟ إن بعض الناس قطعاً متلطخ بالآثام والأوزار ما يكون أشدَّ من تلطخ الإنسان بالبول والعذرة من رأسه إلى أخمص قدميه لكن من الذي يحس بالقاذورات المعنوية؟ الناس يتخلصون من القاذورات الحسية، وبعضهم لا يتخلص حتى من القاذورات الحسية، فيعملون هذه المراحيض المعلقة على الجدران لقضاء الحاجة، يبول ثم يرفع أحدهم الثوب والبنطلون كما يفعل الكافر، وهؤلاء يضع أحدهم أماكن قضاء الحاجة والشطاف بجانبه، وتعجب معي كيف ينتقل من كرسي قضاء الحاجة إلى الشطاف، حتى الفرنجة في أماكن قضاء الحاجة فعلناها كما فعلوها. فالشاهد -أيها المسلمون- وجوب النظافة من القذارات الحسية والمعنوية: الكذب، والنظر الحرام، شهادة الزور، أكل المال الحرام، ونحو ذلك من القاذورات، كم يا ترى على آكل الربا من القاذورات وهو لا يشعر؟ نسأل الله السلامة والعافية، اللهم إنا نسألك أن تجعلنا ممن أعنتهم على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم اجعلنا ممن أصلحت بواطنهم وظواهرهم، اللهم اجعلنا من المتطهرين، واجعلنا من عبادك المخلصين، وانصر المجاهدين، واقمع أعداء الدين، واجعلنا في بلداننا آمنين يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك الأمن في الأوطان والدور، والإرشاد للأئمة وولاة الأمور، والمغفرة لنا يا عزيز يا غفور! سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

مسئولية المسلم عن سمعه

مسئولية المسلم عن سمعه السمع نعمة عظيمة من نعم الله تعالى التي أنعم بها على الإنسان؛ فهي وسيلة من وسائل الإدراك، وطريق لتحصيل العلم وغيره، إلا أن هناك من لا يشعر بعظيم هذه النعمة فيحولها إلى نقمة، فيصد عن سبيل الله تعالى ويكون ممن قال الله فيهم: (قالوا سمعنا وهم لا يَسْمَعون). وفي هذه المادة حديث رائع حول ذلك.

السمع نعمة من نعم الله العظيمة

السمع نعمة من نعم الله العظيمة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإنَّ أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. يقول الله في محكم تنزيله: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36] ولما أعطانا الله هذه النعم؛ فإنه سيسألنا عنها يوم القيامة فيما استخدمناها، وفي أي مجال استعملناها. أيها الإخوة! إن السمع من نعم الله العظيمة، وهو أكبر مدخل إلى القلب، ومن يفقد السمع فهو أسوأ ممن يفقد البصر؛ فإن عقله يضعف جداً، بل غالباً ما تجده في عداد المجانين.

إدراك العلم بالسمع

إدراك العلم بالسمع السمع طريق عظيم لاكتساب العلم، والمدرَك بحاسة السمع أعم وأشمل من المدرَك بحاسة البصر، فللسمع العموم والشمول، والإحاطة بالموجود والمعدوم، والحاضر والغائب، والحسي والمعنوي، فالسمع أساس العقل وأصل الإيمان، وقد أمر الله عزوجل بالسماع، فقال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا} [المائدة:108]، وقال عزوجل: {وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} [التغابن:16]، سماعٌ يترتب عليه إدراك وفهم وقبول، وإجابة لنداء الله عزوجل. إنَّ إخواننا المؤمنين من الجن لما سمعوا كلام الله عزوجل أدركوا معنى ذلك القول، قال الله تعالى عنهم: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ} [الجن:1 - 2] فاتصل بسمعهم لكلام الله إيمانٌ وإجابة. ومما هو مطلوب من السامع الفهم لكلام الله سبحانه وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، هذا الفهم الذي حرمه كثير من العصاة والفجرة فضلاً عن الكفار، فشبههم الله عزوجل بالموتى، فقال سبحانه وتعالى: {فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} [الروم:52]، وهذا هو سماع الفهم.

سماع القبول والإجابة

سماع القبول والإجابة وأما سماع القبول والإجابة فإنه يتمثل في قول الله عزوجل: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [البقرة:285] فترتب على السماع طاعة الله عزوجل، ولذلك كان من علامات أهل الباطل أنهم يسدُّون أسماعهم عن سماع الحق، ولذلك كان نوح عليه السلام قد تعب مع قومه تعباً شديداً وهو يدعوهم إلى الله، ويأمرهم بما أمرهم الله به، وينهاهم عما نهى الله عنه، ولكنهم قابلوا ذلك بسدِّ الآذان {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} [نوح:7]. وبمثل هذا الإعراض قابل الكفار من قريش دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا القرآن الذي تلي عليهم، {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ} [فصلت:26] ولما صعَّد كفار قريش حملاتهم الإعلامية على دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانوا يقفون على مداخل مكة، فمن جاء من خارج مكة ليدخلها استلمه أولئك الضُلاَّل المضلِّون، وقالوا له: إياك والفتنة! إياك أن يؤثر فيك الساحر المجنون! إياك وكلام الكاهن الذي فرق بين القريب وقريبه، وأتانا بما لا نعرف، سفَّه ديننا، وعاب آلهتنا. وعلى إثر ذلك وصل أثر تلك الحملات الإعلامية أنَّ بعض الداخلين إلى مكة كان يحشو أذنيه كرسفاً، وهو القطن؛ حتى لا يسمع كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الصد عن سماع الحق

الصد عن سماع الحق إن الجاهلية تحارب الحق بشتى الوسائل إنها تحارب الحق عبر الوسائل المختلفة حتى تجعله في أعين الناس باطلاً، وحتى تصور دعاة الحق كأنَّهم ثعابين يلدغون الناس، وتُصوِّر دعاة الحق كأنَّهم سحرة يسحرون الناس، كأنَّهم مجرمون يريدون أن يغووا الناس، ولذلك ترى كثيراً من سفهاء الناس من المتأثرين بأقوال شياطين الإنس يحشون آذانهم حتى لا يسمعوا كلام دعاة الإسلام، ويعرضون عنهم بشتى الوسائل. ولئن كان الأولون يحشون آذانهم كرسفاً حتى لا يسمعوا الحق؛ فإن آذان كثير من الناس اليوم قد حُشيت بوسائل اللهو والإلهاء والانشغال بالمحرمات عن سماع الحق وأهل الحق، والله عزوجل وصف الكفرة فقال فيهم: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف:179] لماذا لا يسمعون؟ هل لأنهم ليست لديهم آذان؟ كلا، بل لديهم آذان، ولكن لا يسمعون بها الحق {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179]. لماذا شبه الله الكفرة بالأنعام؟ ولماذا وصفهم بأنهم أضل من الأنعام؟ لأن بعض الناس عندما يسمع كلام الله، وعندما يسمع الحق؛ فإنه لا يأنس به ولا ينقاد له، وإنما يعرض عنه إعراضاً شديداً، أما البهائم والغنم فإنها إذا سمعت حادي الراعي ونعيف الراعي بها؛ فإنها تأنس لصوته، وتستجيب له، وتنقاد إليه، فتأتي إلى الراعي وهو يدعوها. إذاً: الأنعام أفضل من هؤلاء، فإن الأنعام تأنس بالصوت وتأتي، أما أولئك فهم يفرون ويبعدون. وما أكثر أحوال الناس اليوم في هذا الجانب! فليتهم يسمعون الحق ثم ينقذونه لو شاءوا، ولكنهم يرفضون سماع الحق من البداية، وإن رفض سماع الحق من البداية مشكلة عويصة؛ إذ كيف تحاول أن تهدي الناس إلى سبيل الرشاد وهم يرفضون سماعك أصلاً! كيف يستجيبون وهم يوصدون الأبواب في وجهك من البداية؟ كيف يتَّبعونك وهم يطردونك ويأمرونك بالسكوت قبل أن تتكلم؟ وكثير منهم يقولون: نحن نعرف ما تريد أن تقول، ونحن سمعناه قبلك، ولكن لا فائدة، لا تحاول معنا.

تفاعل السمع مع الواقع وأنواع السماع

تفاعل السمع مع الواقع وأنواع السماع السمع -أيها الإخوة- جاء في الدين متفاعلاً مع أحداث الواقع، هذا السمع يجب أن يكون حياً متفاعلاً مع الواقع ومع أحداث الواقع، ولذلك ترى بعض الأحاديث الآتية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تبين هذا التفاعل، قال عليه الصلاة والسلام: (إذا سمعت النداء فأجب داعي الله) أي: الأذان، والحديث صحيح، وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول) (إذا سمعتم صوت الديكة فاسلوا الله من فضله) (إذا سمعتم نباح الكلاب ونهيق الحمير بالليل فتعوذوا بالله من الشيطان) (من سمع رجلاً ينشد ضالةً في المسجد، فليقل: لا ردها الله عليك، فإن المساجد لم تبن لهذا). والتفاعل مع سماع الأخبار أمر مهم، قال عليه الصلاة والسلام: (من سمع بالدجال فلينأ عنه) لا يقل: أنا أتحداه، لا. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: فلينأ عنه وليهرب منه؛ فإن الرجل يأتيه ويظن أنه مؤمن، فإذا قابله انقلب إلى الكفر والعياذ بالله (إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوا فيها). أيها الإخوة: المطلوب من المسلم عندما يسمع الأخبار أن يتفاعل معها، فإذا سمع نبأً عن انتصار المسلمين أن يحمد الله ويسأل الله المزيد، ويدعو لإخوانه بالتثبيت والنصر على الأعداء، وإذا سمع أنباءً تفيد شراً حصل بالمسلمين، وعذاباً وقع بهم، وتشريداً حصل لهم، ونكايةً؛ فإن عليه أن يتفاعل مع هذه الأخبار إن كان في قلبه إيمان، ولو بالدعاء لهم، فإن المؤمن يألم لأهل الإيمان، والمؤمن في أهل الإيمان كالعضو من الجسد (إذا اشتكى عضوٌ تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى). إن التفاعل مع الأخبار التي تُسمع يوجب تأييداً ودعماً، وإن التفاعل مع المنكرات التي يسمع الإنسان عنها في حيه وفي بلده ينبغي أن توجب له تحركاً لدرء هذا المنكر وتغييره والأخذ على أيدي السفهاء. إن الناس اليوم الذين يسمعون أحوال المنكرات فلا يتغير في أنفسهم شيء إن هم إلا {كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف:179]، إنهم يسمعون الأحداث لكن لا يتفاعلون معها.

سماع القرآن

سماع القرآن ومن أعظم العبادات المرتبطة بالسماع: سماع القرآن. فهذا السماع حادٍ يحدو القلوب إلى جوار علام الغيوب، وسائق يسوق الأرواح إلى ديار الأفراح، ومحركٌ يثير ساكن العزمات إلى أعلى المقامات وأرفع الدرجات، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر أحد الصحابة أن يقرأ فيسمع لقراءته، ويقول: (إني أحب أن أسمعه من غيري). وكانت طريقة الصحابة -رضوان الله عليهم- في سماعهم للقرآن إذا جلسوا في جماعة أن يتحلّقوا فيأمروا واحداً منهم أن يقرأ ثم يستمع الباقون. والقلب يتأثر بالسماع بحسب ما فيه من المحبة، فإذا امتلأ من محبة الله وسماع كلام محبوبه فإنه يتفاعل مع كلام الله، وأما من امتلأ قلبه من محبة الشياطين واللهو فإنه يقبل على سماع اللهو والغناء، وحرام على قلب قد تربى على غذاء السماع الشيطاني أن يجد من ذلك في سماع القرآن، بل إن حصل له نوع لذة فهو من قبيل الصوت المشترك، بمعنى أن بعض الناس اليوم إذا فتحوا الإذاعة فوجدوا قارئاً يقرأ، وقد يكون هذا القارئ من الذين يُلحِّنون القرآن بحسب ألحان الأغاني -والعياذ بالله- ويأتي بالإيقاعات في قراءته كإيقاعات الأغاني والموسيقى، بل إن بعض من سمع أخبار بعض المقرئين الذين يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأنهم: (أكثر منافقي أمتي قراؤها) حديث صحيح. يقول: وفي حفلات الغناء للمطربات المشهورات تجد في الصف الأول نفراً من المشتهرين بقراءة القرآن تذاع أصواتهم، يجلسون في تلك الحفلات لكي يكتسبوا إيقاع تلك الأغاني، فينقلوه إلى قراءتهم فيما بعد والعياذ بالله! إن بعض الناس اليوم قد يتفاعل مع سماع القرآن، لكن أي نوع من أنواع التفاعل؟ إنه يطرب لصوت القارئ، ولكنه لا يتفاعل مع المعنى، ولذلك تجد هؤلاء يتأوهون بالآهات الطويلة بعد فراغ المقرئ من مقطع أو آية، تأوهات تدل على الطرب والنشوة، ولكن ليس لله ولا لمعنى القرآن، وإنما للحن الجميل الذي أعجبهم فتأوهوا عند سماعه، ولذلك كان لا بد من انتقاء المقرئين الذين إذا قرءوا القرآن تأثر الناس بقراءتهم تأثراً بالمعنى، وخشعت قلوبهم لذكر الله، وليس أن تخشع أسماعهم وغرائزهم لجودة الألحان والإيقاعات الموسيقية في القراءة. وقد ذم السلف التمطيط في القراءة، ولذلك تجد بعض الناس اليوم يقتنون أشرطةً مسجلةً لبعض المشهورين من القراء، فيسمعونها في بعض الأحيان، ولكن لأن الصوت شجي جميل فيه ألحان وإيقاعات، فعليكم أن تقتنوا من أصوات قراء القرآن ما يؤثر في النفس تأثيراً إيمانياً يتفاعل مع معنى القرآن.

سماع الشيطان

سماع الشيطان وأما السماع المقابل لسماع القرآن فهو سماع الشيطان؛ وهو الغناء الذي ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل، فإنه ما اعتاده أحدٌ إلا نافق قلبه وهو لا يشعر، وما اجتمع في قلب عبدٍ قط محبة الغناء ومحبة القرآن إلا طردت إحداهما الأخرى. يقول ابن القيم رحمه الله: "ولقد شاهدنا نحن وغيرنا ثقل القرآن على أهل الغناء وسماعه، وتبرمهم به -يتبرمون بسماع القرآن- وصياحهم بالقارئ إذا أطال عليهم، وعدم انتفاع قلوبهم بما يقرأ، فلا تتحرك ولا تخشع، فإذا جاء قرآن الشيطان فلا إله إلا الله! كيف تخشع الأصوات، وتهدأ الحركات، وتسكن القلوب وتطمئن، ويقع طِيب السَّهر، وتمنّي طول الليل. أيها الإخوة: إن كثيراً ممن ابتلي بسماع الأغاني يسهرون الليالي، ويَطرَبُون في سماع تلك الأغاني. تلي الكتاب فأطرقوا لا خيفةً لكنه إطراق ساهٍ لاهي وأتى الغناء فكالذباب تراقصوا والله ما رقصوا من أجل الله دف ومزمار ونغمة شاهد فهل شهدت عبادةً بملاهي ثقل الكتاب عليهموا لما رأوا تقييده بأوامر ونواهي لماذا لا يحبون سماع القرآن؟ لأن القرآن يمتلأ بالأوامر والنواهي، والنفس تريد الخفة لا تريد أوامر ونواهي وتقييدات تكاليف، تريد أن تنتشي، وأن تخفَّ من هذه الأشياء وتنطلق وتتحرر، ولذلك يسمعون الأغاني أكثر مما يسمعون القرآن. فانظر إلى النشوان عند شرابه وانظر إلى النشوان عند تلاهي فاحكم بأي الخمرتين أحق بالـ تحريم والتأثيم عند الله النشوة الحاصلة بالخمرة، النشوة الحاصلة عند سماع الأغاني؟ ولأنه ليس موضوعنا -أيها الإخوة- الكلام عن الغناء فنكتفي بهذا القدر، وإلا فإنَّ أثر الغناء في نفوس العصاة اليوم أثر عظيم يستخف به العصاة، وهو يدمِّر نفوسهم تدميراً، ويسد عليهم الطرق لسماع كلام الله والتأثر به، ولذلك فإن الله عوض أهل الجنة الذين امتنعوا عن سماع الملاهي في الدنيا بسماع أغاني الحور العين يوم القيامة في الجنة، فإن الحور العين ليغنيِّن أزواجهم أغاني جميلة جداً لا تقارن بأغاني أهل الدنيا، فمن امتنع عن سماع الأغاني في الدنيا فسيعوضه الله بسماع أغاني الحور العين يوم القيامة، كما أن من امتنع عن شرب الخمر في الدنيا فسيعوضه الله بشرب خمرة لا كخمر الدنيا يوم القيامة، ومن امتنع عن لبس الحرير ممن حُرِّم عليه في الدنيا فسيعوضه الله بلبس الحرير يوم القيامة، ومن امتنع عن الزنا في الدنيا فسيعوضه الله بالحور العين يوم القيامة، وبالزوجات الصالحات، وبالقدرة على الجماع حتى أنَّ أحدهم يُعطى قوة مائة رجل. أيها الإخوة: لا تظنوا أنكم إذا حرمتم أنفسكم اليوم من شيء من المحرمات التي حرمها الله أن ذلك سيضيع، قال الله عن أهل الجنة: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} [الروم:15]، يحبرون أي: يسمعون سماعاً طيباً. نسأل الله أن نكون من أهلها. اللهم اجعلنا من أهل الجنة، وأعلِ مراتبنا فيها. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

حكم السماع

حكم السماع الحمد لله الذي لا إله إلا هو لم يكن له شريك في الملك ولا ولي من الذل وأكبره تكبيراً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً. أيها الإخوة: وأما حكم السماع فهو بحسب المسموع، فإن كان المسموع يحبه الله فقد يكون واجباً أو مستحباً، وإن كان يبغضه الله فهو محرم، وإن كان مما سكتت عنه الشريعة فهو سماع مباح، ولهذا أمثلة كثيرة: فمن السماع الواجب: سماع القرآن، وخصوصاً في الصلاة. ومن السماع المقابل لهذا السماع المحرم قول الله عز وجل فيما يصف به المؤمنين: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} [القصص:55]، وهذا من إعجاز القرآن وبلاغته، فإن كلمة اللغو تشمل جميع المحرمات بل والمكروهات من المسموعات؛ ولذلك كان من الأمور المحرمة سماع الكذب والأخذ والتصديق به، وسماع الغيبة وسماع النميمة. ومن المسموعات كذلك المذمومة ما ذم الله تعالى في كتابه نفراً، فقال: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة:47]، ومعنى سماعون لهم: أي: مستجيبون لهم. واليوم يقدم كثير من المسلمين ليعيروا آذانهم لأعداء الله ليسمعوا منهم الباطل، ويسمعوا منهم ما يقال عن دعاة الإسلام، ويسمعوا منهم الشبهات التي تحاك وتدار حول الدين إنهم يسمعون منهم الأوامر التي فيها هدم للدين، والله نهى عن الركون إليهم، وعن الاستماع إليهم. وكذلك من أنواع المسموعات المحرمة المخربة تخريباً شديداً في المجتمع المسلم: سماع الوشاة الذين يريدون أن يفرقوا بين الأخ وأخيه الوشاة الذين يريدون أن يفرقوا بين الملتزم بدينه ومن يلتف حوله الوشاة الذين يريدون أن يخربوا المجتمع الأخوي المسلم إن على الواعين من المسلمين وغير الواعين أن يعوا هذه المسألة؛ وهي مسألة سماع الوشاة. وسماع الوشاة له أمثلة كثيرة وصور عديدة، فإن بعض الناس لا يدققون فيما يسمعون، ولا يطلبون البينة على الاتهامات الباطلة التي يسمعونها، بل إنه يعطي سمعه لكل أحد صادقاً أو كاذباً؛ وهذا -أيها الإخوة- أمر خطير يُؤدي إلى اتهام البريء، وقد يؤدي كذلك إلى تبرئة المذنب، وكم من بيوت قد خربت، وعلاقات قد فصمت وانقطعت بسبب سماع كلام الوشاة! ومن المسموعات المذمومة كذلك: سماع الصوفية المنحرفين كالغناء والألحان التي أوردنا ذكر بعضها، بل إنهم يوهمون غيرهم من السذج أنهم يسمعون الجماد، وأنهم قد وصلوا إلى مستويات إيمانية عالية، قال أحدهم: سمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول: دخلت على أبي عثمان المغربي ورجل يستقي الماء من البئر على بكرة، فقال: يا أبا عبد الرحمن: أتدري ماذا تقول هذه البكرة؟ فقلت: لا. قال: تقول: الله الله. انظروا إلى هذه الخرافة، وإلى هذه التراهات التي ينطق بها هؤلاء! ولئن كنتم لا تسمعون أنتم في واقعكم مثل هذه الخرافات فإن في بيئات أخرى ومجتمعات أخرى أناساً عندهم هذا الغلو وأضعافه، فينبغي أن يكون المؤمن حذراً يقظاً وهو يسمع مثل ذلك الكلام. وما أحسن أن يستمع المسلم إلى شكوى أخيه المسلم؛ أن يستمع الموظف -مثلاً- إلى شكوى مراجع فيقضي له بالحق وينصفه، وكثير من الناس الذين أُكلَت حقوقهم اليوم إنما سبب ذلك عدم سماع شكاويهم، وعدم إنفاذ الحق فيها، ولذلك لا بد من سماع شكوى المظلوم وإحقاق الحق له، وما أحلى أن يسمع الأخ المسلم الهمَّ الذي يعتلج في نفس أخيه فيفرج همه، وما أحلى أن يسمع ما يدور في خاطره من أنواع الهموم فيسري عنه! وما أحلى أن يسمع مشاكله فيحل له تلك المشاكل، ويوجد له العلاجات والحلول لهذه الأشياء التي يعاني منها. إن السماع والإنصات مهم جداً في إيجاد الحلول للناس، فعلى دعاة الإسلام أن يفقهوا هذه المسألة، وإن سماع كلام أهل العلم من أقرب العبادات إلى الله عز وجل، فبها تزول ظلمات الجهل والشك والريبة. والحديث طويل -أيها الإخوة- في أنواع السماع، ولكن وصيةٌ أخيرة نوصي بها أنفسنا -جميعاً- ونحن نعيش في أتون الجاهلية المحرقة، التي يراد من ورائها إسماعنا أشياء لا نريد سماعها، بل إنه حتى على مستوى البيت، فإنك تجد إنساناً شاباً قد التزم بدين الله، فيأتي فاسق من الفسقة في ذلك البيت فيرفع صوت الأغنية مثلاً إلى أقصى حد نكاية بذلك الملتزم بدينه، وحتى يسمعه رغماً عنه، وهنا لا بد أن يستعيذ المسلم بالله من شر ما يسمع، وما يفرض عليه أن يسمع، وما يراد منه أن يسمع؛ لكي يسير في طريق الشيطان، وعليه أن يعتصم بالله، فكأنه موجود وغير موجود، فهو في عزلة شعورية عن هذا الواقع الفاسد، لا يسمع المحرمات، ويحاول أن يشغل نفسه بسماع الأشياء الطيبة، وأن يعتزل تلك المجالس، ولذلك فرق علماؤنا بين السماع والاستماع، ولمَّا تحدث ابن القيم رحمه الله عن قصة ابن عمر عندما كان يسير فسمع مزمار راعٍ فوضع أصبعيه في أذنيه حتى لا يسمع ذلك، قال: ولا يجب على كل مسلم أن يفعل هذا، بل إنه إذا وجد في نفسه نفرة من ذلك؛ كإنسان يسير في الشارع فسمع غناءً من بيت، فلا يجب عليه أن يغلق أذنيه بإصبعيه، ولو فعل ذلك لكان أمراً محموداً، ولكن ما دام أنه يحس بنفرة مما يسمع وبكراهية لما يسمع، فهو لا يستمع لها ولكنه يسمعها، فهو لا ينصت لها ولا يتأثر بها، أما إذا أحس في قلبه تأثراً، أو وجد في قلبه ميلاً للسماع فبدأت مرحلة الاستماع؛ فإن عليه أن يغلق أذنيه، وعليه أن يهرب من ذلك المكان بأسرع وقت ممكن. اللهم يا عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، يا فاطر السماوات والأرض أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك. اللهم واجعل ما نسمع من طاعتك، اللهم وأبعدنا عن المحرمات من المسموعات، اللهم وافتح أسماعنا لكل من يريد أن يخبرنا بحق، أو يدلنا على حق، أو يأمرنا بحق، اللهم وأغلق آذاننا أمام كل من يريد أن يجرفنا إلى منكراً، أو يسمعنا منكر، اللهم واجعلنا من عبادك الذين يخشونك بالسر والعلانية، اللهم واجعلنا ممن أحببتهم وأحبوك، واقذف في قلوب عبادك حبنا، واجعلنا ممن يحبك ويحب من يحبك. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

إن الله مع الصالحين

إن الله مع الصالحين أمر الله الناس بعمل الصالحات، وأثنى على الصالحين، وجعل أجرهم عظيماً. وهذه المادة قد بينت فوائد الصلاح وضوابطه، ومصير النفس الصالحة، وأشارت في ختامها إلى فضل صيام ست من شوال.

الثناء على الصالحين

الثناء على الصالحين إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71] أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار. أيها المسلمون: لقد ندبنا الله عز وجل لعمل الصالحات، وأثنى على الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وذكر الصالحين في مقامٍ عظيم، فقال عز وجل: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ} [النساء:69 - 70]. الصالحون وما أدراك ما الصالحون؟! الذين اتقوا ربهم فأطاعوه في ما أمر، واجتنبوا ما نهى عنه وزجر، الذين اقتفوا سنة النبي صلى الله عليه وسلم والتزموا بها، الصالحون الذين يورثهم الله تعالى الأرض، كما قال الله عز وجل: {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ} [الأعراف:128] وقال: {أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105]. فهم ورثة الأرض، الله يستخلفهم فيها، وينصرهم على عدوهم، فيقيمون شرع الله فيها، والعاقبة لهم، وإن تغلب الكفار حيناً من الزمن فإن العاقبة للمتقين الصالحين. أيها المسلمون: إن هذه المرتبة العظيمة؛ مرتبة الصالحين التي دعا النبي صلى الله عليه وسلم عند موته أن يلحق بها، فقالت عائشة رضي الله عنها، كما جاء في صحيح مسلم: (سمعت النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه وأخذته بحة يقول: مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، قالت: فظننته خُيِّر حينئذٍ بين البقاء في الدنيا وبين الرحيل ليكون معهم، فاختار الرحيل ليكون معهم، وهم الرفيق الأعلى، وحسن أولئك رفيقاً، واختارهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: بل الرفيق الأعلى). هؤلاء الصالحون آنية الله في الأرض، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الحسن الذي رواه الطبراني: (إن لله تعالى آنية من أهل الأرض، وآنية ربكم قلوب عباده الصالحين، وأحبها إليه ألينها وأرقها).

مصير النفس الصالحة

مصير النفس الصالحة لقد انتدب النبي صلى الله عليه وسلم الناس للصلاة على رجلٍ؛ لأنه من الصالحين مع أنه لم يمت بينهم، وإنما مات بعيداً عنهم، ولكن لأنه من الصالحين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قد توفي اليوم رجلٌ صالح من الحبشة، فهلم فصلوا عليه، قال: فصففنا، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم ونحن معه صفوف) كأن الجنازة موضوعة أمامهم، كما جاء في صحيح البخاري رحمه الله تعالى؛ جنائز الصالحين تختلف عن جنائز غيرهم، قال عليه الصلاة والسلام: (إذا وضعت الجنازة واحتملها الرجال على أعناقهم، فإن كانت صالحةً، قالت: قدموني، وإن كانت غير صالحةٍ، قالت: يا ويلها أين يذهبون بها، يسمع صوتها كل شيءٍ إلا الإنسان، ولو سمعه صعق) رواه البخاري. فالصالح إذا رفعت جنازته على الأكتاف، وحملت وسير بها، فإنها تتكلم بكلامٍ حقيقي، تقول: قدموني؛ لأنها تريد ما أعد الله لها، وتتشوق إلى ما بعد الموت من الجزاء الحسن. أما في القبر، فإن الصالح منزلته عظيمة، وثوابه جزيل وحاله حسن، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الميت تحضره الملائكة، فإذا كان الرجل صالحاً، قال: اخرجي أيتها النفس الطيبة، أخرجي حميدة، وأبشري بروحٍ وريحان، وربٍ غير غضبان، فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج، ثم يعرج بها إلى السماء، فيستفتح لها، فيقالُ: من هذا؟ فيقول: فلان، فيقال: مرحباً بالنفس الطيبة، كانت في الجسد الطيب، ادخلي حميدة، وأبشري بروحٍ وريحان، وربٍ غير غضبان، فلا يزال يقال لها ذلك حتى ينتهى بها إلى السماء التي فيها الله تبارك وتعالى). وبعد ذلك يكون في القبر من أنواع النعيم ما فيه، فإنه يفسح له سبعين في سبعين، ويجعل عليه خضراً إلى يوم يبعثون، وينور له، ويأتيه عمله الصالح في أحسن صورة، ويفتح له بابٌ إلى الجنة، فيأتيه من طيبها وروحها وريحانها ما الله به عليم، هذا جزاؤه في القبر. أما في الآخرة، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فاقرءوا إن شئتم: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17]) رواه البخاري رحمه الله تعالى. والله عز وجل يتولى الصالحين، فينصرهم ويحوطهم، ويرعاهم ويكلؤهم ويحفظهم عز وجل، يتولاهم الله بصلاحهم، ويدافع عنهم، ويطرح لهم القبول في الأرض، ويجعل الألسنة تلهج بذكرهم، وتثني عليهم، ويقتدي الناس بهم، يثبتهم الله، فينزل عليهم بركةً ورحمةً من عنده، وسكينةً يسكنهم بها، ويجعل قلوبهم عامرة، ويجعلهم محبين له مثنين عليه.

فوائد الصلاح

فوائد الصلاح من فوائد الصلاح: أن الله يحفظ أصحابه، ألم تسمع إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أوى أحدكم إلى فراشه، فلينفض فراشه بداخلة إزاره، فإنه لا يدري ما خلفه عليه، من دابةٍ أو أذى ونحو ذلك) ثم يقول: (باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها -وفي روايةٍ: (فاغفر لها) وكلاهما في البخاري - وإن أرسلتها -أي: لم تقض عليها بالموت في تلك النومة وفي تلك الليلة، وكتبت لها الحياة- وإن أرسلتها، فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين) فالله يحفظ الصالحين ويتولاهم، بل إن الله يحفظ أولادهم وأحفادهم بصلاحهم وعبادتهم، قال الله عز وجل في قصة موسى مع الخضر لما أقام الجدار: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الكهف:82] بصلاح أبيهم، قال ابن كثير رحمه الله:" وكان أبوهما صالحاً" فيه دليلٌ على أن الرجل الصالح يحفظ في ذريته، وتشملهم بركة عبادته في الدنيا والآخرة بشفاعته فيهم، ورفع درجتهم إلى أعلى درجةٍ في الجنة، لتقر عينه بهم، كما جاء في القرآن ووردت السنة به: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور:21] ولو كانت الذرية أدنى منه في العمل؛ فإن الله يلحق ذريته به في الجنة، لتكون قرة عينٍ له، فيفرح بهم، وبمصاحبتهم حين يكونون معه. انظروا إلى الصلاح -أيها المسلمون- ما فائدته العجيبة، يرفع ناساً في الجنة من منزلة إلى منزلةٍ أعلى لصلاح الأب، ويحفظ مال اليتيم بصلاح أبيه وجده، بل ربما بصلاح أجداده، فإن الدعوة تبلغ في الذرية مبلغاً عظيماً، من قبل الرجل الصالح. قال ابن كثير رحمه الله: قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: حفظ بصلاح أبيهما ولم يذكر لهما صلاحاً، ما ذكر لنا أنه لما بلغا أشدهما كانا صالحين، وإنما ذكر أنهما حفظا وحفظ المال لهما بصلاح أبيهما، ولم يذكر لهما صلاحاً، وتقدم أنه كان الأب السابع على ما قاله بعض المفسرين، الصالح دعوته تبلغ في ذريته مبلغاً عظيماً، ودرجةً بالغة. والصالحون -أيها المسلمون- تنفعهم أعمالهم في اللحظات الحرجة، والمواقف الدقيقة، ولذلك لما انطبقت الصخرة على الثلاثة في الغار، لم يكن لهم طريقٌ للخروج إلا أن يدعو كلٌ منهم الله عز وجل بعملٍ صالحٍ كان قد عمله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (انطلق ثلاثة رهطٍ ممن كان قبلكم حتى آووا المبيت إلى غار، فدخلوه فانحدرت صخرةٌ من الجبل فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، فقال رجلٌ منهم: اللهم كان لي أبوان الحديث) في الصحيحين وغيرهما دليلٌ على أن الأعمال الصالحة تنقذ الإنسان من الورطة، والعمل الصالح والولد الصالح ينفع أباه، كما أن الأب الصالح ينفع ولده، كما تقدم قبل قليل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاث: صدقةٍ جارية، أو علمٍ ينتفع به، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له) يؤتى بالرحمة بسبب صلاح ولده، يرفع في الجنة، يقول مم ذاك؟ فيقال: بدعوة ولدك لك، صلاح الولد نفع الأب، تأمل عظم الصالح عند الله تعالى وشرف منزلته. والأعمال الصالحة حماية من النار، لو كان الإنسان عليه مظالم، فإنه يؤخذ من أعماله الصالحة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كانت له مظلمةٌ لأخيه من عرضه أو شيء، فليتحلله منه اليوم قبل ألا يكون دينارٌ ولا درهم، إن كان له عملٌ صالحٌ أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات، أخذ من سيئات صاحبه، فحمل عليه، ثم طرح في النار). فالعمل الصالح حماية، ورؤيا الرجل الصالح تختلف عن رؤيا غيره، إن منام الرجل الصالح ليس كمنام عامة الناس، منام الرجل الصالح له منزلةٌ خاصة، له قيمة عظيمة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رؤيا الرجل الصالح جزءٌ من ستةٍ وأربعين جزءاً من النبوة) رواه مسلم. ولذلك فيها وضوحٌ وصدقٌ، فيها فائدةٌ وتحذيرٌ وتبشيرٌ: (رؤيا الرجل الصالح جزءٌ من ستةٍ وأربعين جزءاً من النبوة) فتأمل -يا عبد الله- حتى المنامات تتأثر بصلاح أصحابها، ثم إن الرجل الصالح إذا مرض أو سافر أو اعتل أو أصابه شيء، فإن عمله الصالح لا يزال يجري له مع أنه قعد عنه بمرضه وعلته. فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا كان العبد يعمل عملاً صالحاً، فشغله عنه مرضٌ أو سفرٌ، كتب له كصالح ما كان يعمل وهو صحيحٌ مقيم) فهذا من بركة الصالح، أن الله يمضي له أجر العمل وهو لا يقوم به؛ لأنه معتل أو مسافر؛ لأنه كان صالحاً في أيام صحته وإقامته، فيجري له مثل أجر ما كان يعمل. الصالحون هم الوسط الذي يُعاش فيه، الصالحون هم الجو الذي تحيا فيه النفوس، الصالحون هم الرفقة والأخلاء الذين لا يندم من صاحبهم، فالرجل الذي قتل مائة نفس نصحه العالم بالذهاب من قريته إلى قريةٍ أخرى؛ لأن فيها قوماً صالحين، ليعبد الله معهم فهم الذين يذهب إليهم، ويسافر إليهم، يخالطون ويُعاش معهم وبينهم. الرجل الصالح أمنية، ألم يأتك حديث البخاري في قصة سعد رضي الله عنه من مناقبه، قالت عائشة: أرق النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة؛ أصابه الأرق لم يأته النوم، فقال: (ليت رجلاً صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة) تمنى أمنية (ليت رجلاً صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة إذ سمعنا صوت السلاح، قال: من هذا؟ قال: سعد يا رسول الله! جئت أحرسك -قيظ الله لنبيه رجلاً صالحاً هو سعد يأتيه فيحرسه- فنام النبي صلى الله عليه وسلم حتى سمعنا غطيطه) قرت عينه واطمأنت نفسه ونام لحراسة الرجل الصالح، فالرجل الصالح أمنية، فالرجل الصالح هو الجدير بالاستئجار والتوظيف، قال الله عز وجل: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص:26] وعنون عليه الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل في صحيحه باب استئجار الرجل الصالح. إن الرجل الصالح جديرٌ بالتزويج، قال الله عز وجل: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32]. فلا تتوقف لضعف وظيفته وقلة راتبه وضآلة ماله، فالله يبارك ويكثر ويغني من فضله، المهم أن يكون صالحاً. المرأة الصالحة أمنية الأمنيات، قال النبي صلى الله عليه وسلم في شأنها: (الدنيا متاعٌ، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة، إذا غاب عنها حفظته في ماله وعرضه) إذا جاءها رعته وأطاعته، المرأة الصالحة أمنية. الصالحون من أسباب النصر على الأعداء، وكان بعض القواد يأتي بالصالحين معه مع أنهم ليسوا من أصحاب الحرب، يرجو بركة دعائهم وصلاحهم، يستعينون ببركة دعائهم وصلاحهم فينصر الله الجيش، الصالحون عملة نادرة، الصالحون أسباب إنقاذ المجتمع، الصالحون هم الراحلة، وهم الرواحل التي تحمل المسئوليات. اللهم اجعلنا من الصالحين، اللهم أصلح ذات بيننا، وأصلح شأننا، وأصلح عملنا، وأصلح ألسنتنا وقلوبنا، وأصلح مكاننا عندك يا رب العالمين! اللهم أصلح زوجاتنا وذرياتنا، إنك أنت خير مسئولٍ وأنت أرحم الراحمين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

أجر الصالحين

أجر الصالحين الحمد لله معزِّ من أطاعه ومذلِّ من عصاه، الحمد لله الذي كتب الصلاح لمن شاء، وكتب الشقاء على من شاء، أشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير، وأصلي وأسلم على نبينا محمد رسول الله المبعوث رحمةً للعالمين، هو البشير النذير والسراج المنير، بلغ الدعوة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى أصحابه الذين نصروه، وعلى آله وأزواجه وذريته الطيبين الطاهرين، وعلى من تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعلى الصالحين. أيها المسلمون: الصالحون عملةٌ نادرة لا يبقون كثيراً، فإن الله يحبهم، وبما أنه أعد لهم أجراً عظيماً، فإنه سرعان ما يقبضهم إليه، ويبقى شرار الناس في آخر الزمان لا يوجد رجلٌ صالحٌ واحد، تقوم الساعة على شرار الخلق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يقبض الصالحون الأول فالأول، وتبقى حثالة كحثالة التمر والشعير- والحثالة هي: الرديء من كل شيء- لا يعبأ الله بهم شيئاً) رواه البخاري رحمه الله. والصالحون قد يشدد عليهم، فيبتلون ويضطهدون، ويؤذون في ذات الله فيصبرون، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الصالحين يشدد عليهم، وإنه لا يصيب مؤمناً نكبةٌ من شوكةٍ فما فوق ذلك، إلا حطت عنه بها خطيئة، ورفع له بها درجة) حديثٌ صحيحٌ رواه الإمام أحمد وغيره. والآن انتبه معي -أيها الأخ المسلم- لما يصيب الصالحين من الفائدة العظيمة في كل صلاة ٍنصليها ويصليها غيرنا من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وفي كل صلاةٍ صلاها الأنبياء والشهداء والصديقون، والسابقون الأولون والمهاجرون والأنصار والذين اتبعوهم، وكل صلاةٍ صلاها إمام من أئمة السلف أو المهتدين من الخلف، كل صلاةٍ صليت في العالم وتصلى إلى قيام الساعة تحدث فيها فائدة عظيمة للصالحين، قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله هو السلام، فإذا صلى أحدكم فليقل: التحيات لله والصلوت والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فإنكم إذا قلتموها، أصابت كل عبدٍ لله صالحٍ في السماء والأرض، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله) رواه البخاري. فكل صلاةٍ فيها التحيات صُليت وتُصلى وستُصلى، فإن للصالحين منها نصيباً، كم صلاة صُليت من قبل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومن تبعهم إلى يوم الدين؟ وستُصلى؟ وفي كل صلاة فائدة للصالحين، ودعوة لهم، تصيب الدعوة الصالحين، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، تصيب كل عبدٍ صالحٍ لله في الأرض وفي السماء. والله تعالى أخبرنا عن دعاء بعض أنبيائه {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل:19] {رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [الشعراء:83]. اللحوق بالصالحين منية، إنها أمنية أن نكون صالحين، أن يكون الرجل صالحاً فهذا شيءٌ عظيم، وأجره جزيل، ومقامه رفيع، وثوابه لا يُعلم عند الله عز وجل مكتوب.

السيئات تخرج الإنسان من مسمى الصالحين

السيئات تخرج الإنسان من مسمى الصالحين تأملوا -أيها المسلمون- الآن: كم واحد منا أخرج نفسه من الصالحين بأعمالٍ فاسقة؟ كم واحد أخرج نفسه من اسم الصالحين بفاحشةٍ ارتكبها ويرتكبها؟ وبغناءٍ سمعه ويسمعه؟ وبنظرةٍ محرمةٍ يلحظها بعينه؟ وبمسلسلٍ وفلمٍ يتابعه؟ وبمحرمٍ يكسبه؟ وبكذبٍ يلفظ به؟ وبخيانةٍ يأتي بها؟ وبرشوةٍ يقبضها؟ وبسيئةٍ يقترفها؟ كم واحدٍ منا أخرج نفسه من عداد الصالحين، وحرم نفسه هذه البركة بالسيئات؟! أليست خسارة؟! أليس فوات مغنم أن نخرج أنفسنا من مسمى الصالحين؟ نخرج أنفسنا من لقبهم، ونحرم أنفسنا من درجتهم، ومما تقدم ذكره من أجرهم وفائدتهم وغير ذلك، نخرج أنفسنا من ذلك بفسقنا وسيئاتنا وإسرافنا وتقصيرنا ومعصيتنا لله، وعودتنا إلى السيئات بعد رمضان. اللهم أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، وتب علينا يا أرحم الراحمين، اللهم اجعلنا من الصالحين، واجعلنا معهم واحشرنا في زمرتهم، واجعلنا في درجتهم يا أكرم الأكرمين!

صيام الست من شوال

صيام الست من شوال وصيام الست من شوال متتابعاً أو متفرقاً صحيح، وإن جعله إثنين وخميس، وإثنين وخميس، وإثنين وخميس، فهو صحيح، وإن جعل أيام البيض منه صحيح، ولكن ليكن لك نيةٌ -يا عبد الله- من الليل، فإن بعض أهل العلم يشترط لصيام النفل المعين نية، فكن على نيةٍ من الليل تنوي بها صيام غد ٍليكون يوماً من شوال تضاعف لك فيه الحسنة بعشرة أمثالها، فلا تفرط ولا يلهينكَ ما ترى من الدنيا عن عمل الصالحات ونعيم الآخرة. نسأل الله عز وجل أن يأخذ بأيدينا إلى طريق الحق والصواب، اللهم تب علينا وارحم ضعفنا، اللهم أغننا من فقر، اللهم أبدلنا من بعد خوفنا أمناً، اللهم اجعلنا في بلدنا هذا آمنين مطمئنين وسائر المسلمين، اللهم إنا نسألك أن ترحمنا برحمةٍ تلم بها شعثنا، وتصلح بها شأننا، وتغفر بها ذنبنا، وترفع بها درجتنا يا أكرم الأكرمين! اللهم ارحم المجاهدين، واجمع كلمتهم على الحق المبين، اللهم انصرهم على عدوهم وعدوك يا رب العالمين! اللهم دمر أعداء الدين، وأنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

دليل أعمال الخير

دليل أعمال الخير لقد جاء في السنة النبوية الكثير من الأحاديث التي تدلنا على الخير وترغبنا فيه وتحثنا عليه، وأكثر هذه الأحاديث تختلف عن بعضها، فهي أعمال مختلفة حتى لا يمل الإنسان عندما يقضي ليله ونهاره في عمل واحد، ومن هذه الأعمال أعمال يسيرة إذا عملها الإنسان بصدق فإنها تكون سبباً في دخول الجنة، وهذا دليل على عظمة هذا الدين.

أبواب الخير

أبواب الخير إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فما أكثر ذكر الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات؛ لقد ذكرهم في القرآن كثيراً جداً، وأمر الله تعالى بالمسارعة في الخيرات وأثنى على أنبيائه في هذا الجانب بأنهم كانوا يسارعون في الخيرات، وأمر بالتنافس فيها وحث على ذلك بقوله: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]. وعمل الخيرات هو المنجِّي يوم القيامة، والحرص على الخير يشغل النفس عن الشر، ومعرفة الأجر في الخير يحث عليه، ويحمِّس إليه، ولذلك اعتنى العلماء بكتابة كتب الترغيب والترهيب في ذكر الترغيب في الأعمال الفاضلات. ونحتاج -أيها الإحوة- أن نذكر أنفسنا ببعض الأعمال الصالحة، وبأجر هذه الأعمال لكي نتحمَّس إليها، وننشغل بها؛ لأن عليها مدار الفوز والنجاة يوم القيامة. وهذه الأعمال لا يتم الأجر لصاحبها إلا إذا نوى بها وجه الله تعالى، وإذا عرف ما فيها من الأجر كان ذلك عاملاً مهماً للاحتساب؛ فإنه إذا احتسب الأجر زاد أجره فيها. فتعالوا -أيها الإخوة- نذكر أنفسنا بطائفة من الأعمال الصالحة؛ نراجع بها مسيرة حياتنا على ضوئها، وننظر في تقصيرنا وتفريطنا، ونحمِّس أنفسنا للعمل بها، لعل الله أن يتغمدنا برحمته، ولا شك أن هذا جزءٌ عظيمٌ من التربية الإيمانية التي ينبغي أن يربي المسلمُ نفسَه عليها. في هذه الطائفة المختارة من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم يبين فيها أبواباً عظيمة من الخير:

تعلم العلم والدعوة إلى الله

تعلَّم العلم والدعوة إلى الله قال عليه الصلاة والسلام: (مَن علم علماً فله أجر مَن عمل به لا ينقص مِن أجر العامل) رواه ابن ماجة، وهو حديث صحيح. وقال صلى الله عليه وسلم: (مَن دل على خيرٍ فله مثل أجر فاعله) رواه أحمد ومسلم. يبين -أيها الإخوة- فضل تعليم العلم. فاعقدوا يا طلبة العلم المجالسَ للناس، واقرءوا عليهم الكتب المناسبة لحالهم؛ في تفسير القرآن الكريم، وفي أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، كـ رياض الصالحين ومختصري الشيخين رحمهما الله تعالى، وكذلك يُقرأ عليهم ما ينفعهم في عباداتهم ومعاملاتهم من الفتاوى الفقهية الموثوقة، بحيث أنه يخرج من المسجد وقد استفاد علماً جزيلاً. فيكون لك يا طالب العلم مثل أجره عندما يطبِّق، بالإضافة إلى أجر التعليم. وقال صلى الله عليه وسلم: (أيُّما داعٍ دعا إلى هدىً فاتُّبع، فإن له مثل أجور مَن اتبعه ولا ينقُص مِن أجورهم شيئاً) رواه ابن ماجة، وهو حديث صحيح. وقال صلى الله عليه وسلم: (من استسنَّ خيراً فاستُنَّ به -كأن أحيا سنة ماتت بين الناس- كان له أجره كاملاً، ومن أجور من استن به ولا ينتقص من أجورهم شيئاً) رواه ابن ماجة، وهو حديث صحيح. فهنيئاً للدعاة إلى الله سبحانه وتعالى الذين يدْعون الناس إلى الهدى، ويدلونهم على الخير، ويفتح الله بهم مغاليق القلوب، والذين يكتب الله على أيديهم هداية البشر. يا عبد الله: يا من قعد به الشيطان، يا من فتر، يا من تكاسل عن تبليغ الدعوة وعن القيام بها! انظر في هذا الأجر، كل إنسانٍ تدعوه إلى الله، وتدله على الخير، وتزيل عنه غبار الغفلة، وصدأ قلبه يكون لك من الأجر مثلما عمل طيلة حياته بعد أن كنت سبباً في هدايته. فلماذا التقاعس عن الدعوة إلى الله؟! ولماذا لا نتعامل مع هؤلاء الذين أصابتهم الغفلة ونصبر على أذاهم؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في المؤمن وهو الداعية الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم؟ لأي شيء؟ ليعلمهم، ويهديهم سبل السلام بإذن ربهم. فقوموا إلى الدعوة إلى الله يرحمكم الله، وإياكم والتخاذل عن هذا الواجب المهم! فما انتشرت المنكرات إلا لما ضُيِّعت هذه الفريضة العظيمة؛ فريضة الدعوة إلى الله عزوجل. وقال عليه الصلاة والسلام: (لأن أقعد مع قومٍ يذكرون الله تعالى من صلاة الغداة حتى تطلع الشمس أحب إليَّ من أن أعتق أربعةً من ولد إسماعيل، ولأن أقعد مع قومٍ يذكرون الله من صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس أحب إليَّ من أن أعتق أربعة) حديث حسن. فضل عقد مجالس الذكر التي تزيد الإيمان، وفيها العلم النافع بعد الفجر، وبعد العصر، وسائر اليوم والليلة. قال عليه الصلاة والسلام: (ما اجتمع قومٌ على ذكر فتفرقوا عنه إلا قيل لهم: قوموا مغفوراً لكم) حديث صحيح. وقال: (ما جلس قوم يذكرون الله فيقومون حتى يقال لهم: قوموا قد غفر الله لكم ذنوبكم وبُدِّلت سيئاتكم حسنات) حديث صحيح.

حفظ القرآن الكريم

حفظ القرآن الكريم وحفظ القرآن الكريم، وما أدراك ما حفظ القرآن الكريم؟! له أجر عظيم، قال صلى الله عليه وسلم: (لو جُمع القرآن في إهابٍ ما أحرقه الله بالنار) حديث حسن. فهذا الذي جمع القرآن في صدره يكون حفظه له من أسباب وقايته من النار. وقال عليه الصلاة والسلام: (يجيء القرآن يوم القيامة فيقول: يا ربِّ! حَلِّه، فيُلْبَس تاج الكرامة، ثم يقول: يا ربِّ! زِدْه، فيُلْبَس حلة الكرامة، ثم يقول: يا ربِّ! ارضَ عنه، فيرضى عنه، فيقول: اقرأ وارق فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها). فهنيئاً لمن حفظ، وهنيئاً لمن أكثر التلاوة.

التبكير إلى الصلاة

التبكير إلى الصلاة قال صلى الله عليه وسلم: (مَن صلى لله أربعين يوماً في جماعة يدرك التكبيرة الأولى كُتِب له براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق) رواه الترمذي، وهو حديث حسن. صلى لله أربعين صلاة في جماعة متوالية، يدرك التكبيرة الأولى، يعني: يكون قائماً في الصف عندما يقول الإمام في تكبيرة الإحرام: الله أكبر، ما هي النتيجة؟ تحصل له براءتان: - براءة من النار. - وبراءة من النفاق. شيء يفيد في الدنيا وينفع يوم القيامة، وآخر لا شك في فائدته يوم القيامة. وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا تطهَّر الرجل، ثم مر إلى المسجد يرعى الصلاة -ينتظر الصلاة بعد الطهارة- كَتَب له كاتبه -الملَك الموكَّل- بكل خطوةٍ يخطوها إلى المسجد عشر حسنات، والقاعد يرعى الصلاة كالقانت، ويُكتب من المصلين من حين يخرج من بيته حتى يرجع إليه) رواه الإمام أحمد، وهو حديث صحيح. فهذا الأجر لمن بكَّر، ولمن انتظر بعدما تطهَّر. وقال صلى الله عليه وسلم: (من توضأ فقال بعد فراغه من وضوئه: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا الله، أستغفرك وأتوب إليك -كالدعاء الذي يقال في كفارة المجلس- كتب في رَقٍّ، ثم جُعِل في طابع، فلم يُكْسَر إلى يوم القيامة) حديث صحيح. يُخْتَم عليه، ويُجْعَل في ظرفٍ، فلا يُفَك إلا يوم القيامة؛ ليجازي الله به صاحبه. وقال عليه الصلاة والسلام في يوم الجمعة: (ورجل حضرها بإنصات وسكون، ولم يتخطَّ رقبة مسلم) وما أكثر الذين يتخطون رقاب المسلمين فيؤذونهم بعدما جاءوا متأخرين، وليست هناك فراغات تجعل مَن أمامهم مفرطاً بعدم سدِّها، أو مكان ينفذون منه، فيتخطون الرقاب. وقال في شأن الذي لا يتخطى: ((ورجل حضرها بإنصات وسكون، ولم يتخطَّ رقبة مسلم، ولم يؤذِ أحداً) وما أكثر الذين يؤذون حين يسدون بسياراتهم على مَن هو موجود ينتظر ويتأخر، ويشتري وينتهي ليخرج بعد ذلك بشيء من الدعوات عليه، أو المسبات واللعنات؛ وهو يستحقها. إذاً: (حضرها بإنصات وسكون، ولم يتخطَّ رقبة مسلم، ولم يؤذِ أحداً؛ فهو كفارة إلى الجمعة التي تليها، وزيادة ثلاثة أيام، وذلك بأن الله يقول: ((مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا)) [الأنعام:160]) حديث صحيح. وقال صلى الله عليه وسلم في شأن السواك بالليل: (إذا قام أحدكم يصلي من الليل فليَسْتَك؛ فإن أحدكم إذا قرأ في صلاته وضع ملكٌ فاه على فيه، ولا يخرج من فيه شيءٌ إلا دخل فم الملَك) حديث صحيح.

الجهاد في سبيل الله

الجهاد في سبيل الله وفي شأن الجهاد في سبيل الله، يقول صلى الله عليه وسلم: (أيُّما مسلمٍ رمى بسهمٍ في سبيل الله فبلغ مخطئاً أو مصيباً فله من الأجر كرقبةٍ أعتقها من ولد إسماعيل) حديث صحيح. وقال: (لَقِيام رجل في الصف في سبيل الله عزوجل ساعةً أفضل من عبادة ستين سنة). وقال: (موقف ساعة في سبيل الله خيرٌ من قيام ليلة القدر عند الحجر الأسود). وقال: (حُرِّم على عينين أن تنالهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس الإسلام وأهله من أهل الكفر) لا تحرس المحاربين فقط، وإنما تحرس الإسلام؛ فعين رقيبٍ، وعين منافحٍ عن الدين ينظر ماذا يكتبون ليرد عليهم، وماذا يعملون ليفضحهم، ويقوم بحراسة الإسلام، فعينه لا تمسها النار. وقال صلى الله عليه وسلم: (أيكم خَلَفَ الخارج في أهله وماله بخيرٍ كان له مثل نصف أجر الخارج) قال: خَلَفَه في أهله وماله بخيرٍ؛ لأن بعضهم لا يخلُف الغائب بخير، فاشترط لمن يخلُفُه بخير أن يكون له ذلك.

الصدقة وإنظار المعسر

الصدقة وإنظار المعسر وقال صلى الله عليه وسلم: (ما تصدَّق أحدٌ بصدقة من طيب؛ ولا يقبل الله إلا الطيب، إلا أخذها الرحمن بيمينه، وإن كانت تمرة، فتَرْبو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل، كما يربي أحدكم فُلُوَّهُ أو فَصِيْلَهُ) ولد الخيل الصغير يربَّى ثم يكبر، وكذلك الله تعالى يربِّي الصدقة للمسلم لتعظُم عنده. وقال عليه الصلاة والسلام: (ما من مسلم يقرض مسلماً قرضاً مرتين إلا كان كصدقة مرة) هذا أجر القرض، فما هو أجر إنظار المعسر؟! قال عليه الصلاة والسلام: (مَن أنْظَرَ معسراً، أو وضع عنه؛ أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله). وقال: (مَن أنْظَرَ معسراً فله بكل يومٍ مثله صدقة) إذا حلَّ الدَّين فأنْظَرَه فله بكل يومٍ مثله صدقة، وكلما ازداد إنظاراً -كلما أجَّل أجلاً بعد أجل- ازداد الأجر. المهم: أن يحتسب ذلك، لا أن يُنْظِرَه مكرهاً لأنه لا حل عنده.

صلاة الجنازة واتباعها

صلاة الجنازة واتباعها وقال عليه الصلاة والسلام: (مَن تبع جنازة مسلم إيماناً واحتساباً وكان معها حتى يصلَّى عليها، ويُفْرَغ من دفنها، فإنه يرجع من الأجر بقيراطين؛ كل قيراط مثل أحد، ومَن صلَّى عليها ثم رجع قبل أن تُدْفَن فإنه يرجع بقيراط من الأجر). وهناك مِن عباد الله مَن يغشون المساجد التي تكثُر فيها الجنائز في صلاة العصر وغيرها لا يدري مَن هو الميت، يقصد أن يصلِّي على ميتٍ، ويتبع جنازته، وهو لا يدري مَن هو، كل ذلك رغبة فيما عند الله وفي موعود الله. وقال عليه الصلاة والسلام: (مَن صلى على جنازة فله قيراط، ومَن انتظرها حتى توضَع في اللحد فله قيراطان؛ والقيراطان مثل الجبلين العظيمين). سجدة التلاوة التي يسجدها كثير من الناس ينبغي إمعان الأجر فيها واحتسابه، قال عليه الصلاة والسلام: (إذا قرأ ابن آدم السجود فسجد اعتزله الشيطان يبكي، يقول: يا ويله! أُمِرَ ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأُمِرْتُ بالسجود فعصيتُ فلي النار) رواه مسلم رحمه الله. وفي شأن البنات، والذين يتأففون من البنات، وفي البنات ابتلاءٌ ولا شك، ومن ذاق عرف، قال عليه الصلاة والسلام: (مَن كان له ثلاث بناتٍ فصَبَر عليهن، وأطعمهن، وسقاهن، وكساهن من جِذَته -يعني: من ماله، وما أعطاه الله- كنَّ له حجاباً من النار يوم القيامة) رواه الإمام أحمد وهو حديث صحيح. الصبر على البنات له شأن عظيم؛ لأن تربية البنات في هذا الزمان أمرٌ جلل وخطير للغاية، ولذلك قال: (فصبر عليهن). وإذا شبت -يا عبد الله- ووخَطَكَ الشيب في طاعة الله فأبشر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيما رجل شاب في سبيل الله فهو له نور). نسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن شاب في ذكره وطاعته. اللهم اجعل مبدأنا على طاعتك، ومنتهانا على دينك والثبات عليه يا رب العالمين. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

إفشاء السلام

إفشاء السلام الحمد لله رب العالمين. أشهد أن لا إله إلا هو الحي القيوم، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، لا يموت، والجن والإنس يموتون، خلق السموات بغير عمد، وخلق الأرض فذلَّلها لعباده، سبحانه ما أكرمه! وأشهد أن محمداً رسول الله، والرحمة المهداة، البشير النذير، والسراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. عباد الله: ومن أبواب الخير: إفشاء السلام والابتداء به، حتى كان بعض السلف يغشَون الناس لا لشيء إلا لأجل إفشاء السلام. قال صلى الله عليه وسلم: (السلام اسم من أسماء الله وضعه الله في الأرض، فأفشوه بينكم، فإن الرجل المسلم إذا مر بقومٍ فسلم عليهم فردوا عليه كان له عليهم فضل درجة بتذكيره إياهم السلام، فإن لم يردوا عليه) وما أكثر الذين يهملون اليوم، ولا يردون السلام، وترفع السَّمَّاعة لتلقي السلام على شخص أو موظف ليقول لك: نعم، وهلا، ونحو ذلك من الألفاظ التي ليس فيها شيء من طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم بوجوب رد السلام (فإن لم يردوا عليه رد عليه مَن هو خير منهم وأطيب) من هو الذي يرد عليه إذاًَ؟! ملائكة الله عزوجل. حديث صحيح. وقال صلى الله عليه وسلم: (زار رجلٌ أخاً له في قرية، فأرصد الله له ملكاً على مدرجته، فقال: أين تريد؟ قال: أريد أخاً لي في هذه القرية، فقال: هل له عليك من نعمة تردها؟ قال: لا. إلا أني أحبه في الله، قال: فإني رسول الله إليك: أن الله أحبك كما أحببته). فهنيئاً لمن يزور شخصاً قَرُب أو بَعُد في الله ومحبةً في الله، لا لشيء من الدنيا.

أبواب مختلفة من الخير

أبواب مختلفة من الخير قال صلى الله عليه وسلم: (بَخٍ بَخٍ بَخٍ -كلمة تقولها العرب مدحاً للشيء- لَخَمْسٌ ما أثقلهن في الميزان: لا إله إلا الله، وسبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، والولد الصالح يُتَوفَّى للمرء المسلم فيحتسبه!) حديث صحيح. وقال صلى الله عليه وسلم: (ما مِن أحد ينصر مسلماً في موطنٍِ يُنْتَقص فيه مِن عرضه ويُنْتَهك فيه مِن حرمته، إلا نصره الله في موطن يحب فيها نُصْرَته) يعني: يوم القيامة. وقال: (مَن ذبَّ عن عرض أخيه بالغيبة كان حقاً على الله أن يعتقه من النار) حديث صحيح. فما أكثر الذين يقعون في الأعراض! وما أقل الذين يدافعون! وقال صلى الله عليه وسلم: (ما مِن امرئٍ مسلمٍ يعود مسلماً إلا ابتعث الله سبعين ألف ملك يصلُّون عليه -يدعون له بالمغفرة والرحمة- في أي ساعات النهار كان حتى يمسي، وأي ساعات الليل كان حتى يصبح، وله خريف في الجنة على قدر طول طريقه) كما أخبرنا صلى الله عليه وسلم. وقال عليه الصلاة والسلام: (لقد رأيت رجلاً يتقلب في الجنة في شجرة قَطَعَها من ظهر الطريق، كانت تؤذي الناس) وفي رواية: (مر رجل بغصن شجرة على ظهر طريق، فقال: والله لأُنَحَيَنَّ هذا عن المسلمين، لا يؤذيهم، فأُدْخِل الجنة). وقال صلى الله عليه وسلم: (مَن رفع حجراً عن طريقٍ كُتِبَ له حسنة، ومَن كانت له حسنة دخل الجنة) حديث حسن. وقال عليه الصلاة والسلام: (ما مِن راكب يخلو في مسيره بالله وذكره) إذا كنت مسافراً فاستمعت للقرآن الكريم، أو قرأته، أو ذكرت الله تعالى في طريقك، يؤنسك ذكره عزوجل، وسماع كتابه (ما مِن راكب يخلو في مسيره بالله وذكره إلا كان رَدِفَه ملَك) معه ملَك من ملائكة الله عزوجل. وقال عليه الصلاة والسلام: (ثلاثة يحبهم الله: وذكر منهم: والرجل يكون له الجار يؤذيه -وما أكثر المؤذين في هذا الزمن! - فيصبر على أذاه حتى يفرق بينهما موتٌ أو ضعنٌ) أحدهما ينتقل، أو يموت، هذا يحبه الله تعالى. وقال صلى الله عليه وسلم: (مَن كَظَمَ غيظاً وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رءوس الخلائق حتى يخيره من الحور العين يزوجه منها ما شاء) كثيرةٌ هي تلك الأحداث التي تثير الأعصاب، وتُخرج الإنسان عن طوره، ولكن مَن ملَكَ نفسه عند الغضب وكَظَمَ غيظه من رجل أثار حفيظته، واعتدى على شيء شخصي في حقه، فالله تعالى يثيبه يوم القيامة. وقال صلى الله عليه وسلم: (مَن قَتَل وَزَغاً في أول ضربة) ذلك الحيوان الذي كان ينفخ على إبراهيم الخليل (مَن قَتَلَ وَزَغاً في أول ضربة كتب له مائة حسنة، ومَن قَتَلَها في الضربة الثانية فله كذا وكذا حسنة، وإن قَتَلَها في الضربة الثالثة فله كذا وكذا حسنة، أي: أقل) حديث صحيح، رواه الإمام أحمد ومسلم. ولذلك كانت عائشة رضي الله عنها تتخذ رُمْحاً لقتل الأوزاغ. وهذه الأشجار التي يغرسها الناس عشوائياً بسببٍ أو بدون سبب أو تقليداً للآخرين، نادراً من يحتسب فيها الأجر التالي: قال عليه الصلاة والسلام: (ما مِن مسلم يزرع زرعاً، أو يغرس غرساً، فيأكل منه طير، أو إنسان، أو بهيمة إلا كانت له به صدقة). أيها الإخوة: هذه طائفة من أبواب الخير مما ذكره العلماء رحمهم الله تعالى في كتب الترغيب، لعل الله تعالى أن ينفعنا بذكرها واستعراضها، فنتذكرها ونتدبرها ونُقْبِل عليها. نسأله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته. اللهم إنا نسألك أن تجعلنا ممن يفعلون الخيرات، ويتركون المنكرات، ويحبون المساكين. اللهم ارفع درجاتنا، واغفر خطيئاتنا، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان. اللهم إنا نسألك أن تجعلنا بالخير عاملين، ولسنة نبيك متبعين. اللهم اجعل خروجنا من هذه الدنيا على شهادة التوحيد (لا إله إلا الله). اللهم إنا نسألك أن تغفر لأمواتنا وأموات المسلمين. اللهم اشف مرضانا، وارحم موتانا، واقضِ ديوننا، واستر عيوبنا، وأهلك عدونا. اللهم إنا نسألك أن تجعل فرج المسلمين قريباً. اللهم اكشف البأس عنا وعن المسلمين، اللهم اكشف البأس عنا وعن المسلمين، اللهم اكشف البأس عنا وعن المسلمين، فإنه لا يكشف البأس والكرب إلا أنت يا أرحم الراحمين. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

فتنة النساء

فتنة النساء إن الناظر إلى أحوال الناس يعرف أن الرجل لابد له من محبوب ينتهي إليه، ومعبود يعتمد عليه، فمن لم يكن الله معبوده ومنتهى حبه وإرادته، فلابد أن يعبد غير الله من الشهوات والملذات؛ ولذلك حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من الشهوات، وفي هذا العصر تعاظمت فتنة النساء، وتمادى دعاة الشهوات في الدعوة إليها، تكلم الشيخ حفظه الله عن موقف الشريعة من الشهوات، وحكم التعلق بها وعواقبها، وأقوال السلف في التحذير من فتنة النساء.

التعلق بالشهوات

التعلق بالشهوات إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى جعل أساس التوحيد لا إله إلا الله، وهو المستحق وحده أن يكون المقصود والمدعو والمطلوب والمعبود عز وجل، فهذه هي الغاية التي من أجلها خلقنا، ومن نظر في الأحوال عرف أن الرجل لا بد أن يكون له محبوبٌ ينتهي إليه، ومعبودٌ يعتمد عليه، فمن لم يكن الله معبوده ومنتهى حبه وإرادته فلا بد أن يكون له مراد ومحبوب آخر يستعبده غير الله عز وجل، إما المال، وإما الجاه، وإما الأشكال. إن الناظر إلى واقعنا -أيها الإخوة- يرى أن الناس قد غرق الكثير منهم في أنواعٍ من التعلق بالشهوات والافتتان بها، فما أكثر المسلمين الذين أشربوا حب الشهوات من النساء والأموال، والملبوسات والمركوبات، والمناصب والرئاسات، والولع بالألعاب والملاهي.

موقف الشريعة من التعلق بالشهوات

موقف الشريعة من التعلق بالشهوات ما هو موقف الشريعة تجاه الشهوات؟ إن هذه الشريعة المباركة المنزلة من عند أحكم الحاكمين سبحانه وتعالى سلكت السبيل الوسط بين أهل الفجور وأصحاب الرهبانية والتشدد، فأهل الفجور أضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات، وغرقوا في المعاصي والآثام، وأهل الرهبانية حرَّموا ما أحل الله من الطيبات، فيقولون: فلان ما ذبح ولا نكح، أي: لم يأكل اللحم، ولم يتزوج النساء، ولم يطأ في عمره؛ فلذلك لم يصبر الناس على طريقتهم، فتركوا الرهبان وهجروهم، بل إن كثيراً من الرهبان لم يصبروا على ما اعتقدوه، فوقعوا هم في أنواع الشهوات الخفية، فاكتشفوا وافتضحوا بين الخلق، وهذه الشريعة هي دين الله عز وجل تراعي أحوال الناس، وأن لهم غرائز وشهوات، وكذلك فإن الشريعة تعترف بها ولكن تضبطها وتهذبها. ولما كان العبد لا ينفك عن الهوى مادام حياً، وأن الهوى ملازمٌ له؛ كان الأمر بخروجه عن الهوى بالكلية غير ممكن، ولذلك فإن الله عز وجل لم يأمرنا بأن نصرف قلوبنا عن هوى النساء بالكلية؛ بل صرفنا إلى نكاح ما طاب من النساء مثنى وثلاث ورباع، ومن الإماء ما شاء الإنسان، فصرف الهوى إلى الحرام بالهوى إلى المباح، وهكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حبب إلي من دنياكم الطيب والنساء).

نتائج التعلق بالشهوات

نتائج التعلق بالشهوات إن المتتبعين لشهواتهم من الأشكال والصور، والطعام والشراب واللباس، لا بد أن يستولي على قلب أحدهم ما يشتهيه حتى يقهره ويملكه، ويبقى أسيراً للهوى، ولذلك فإن الإنسان إذا صار عبداً لشيءٍ من الدنيا غرق واستولى ذلك الشيء عليه، فصار هو الذي يقوده. قال الشافعي رحمه الله: من لزم الشهوات لزمته عبودية أبناء الدنيا. لا بد أن يكون عبداً لأحدهم، لجمالٍ أو مالٍ، أو شهوة أو رئاسة ونحو ذلك، وإذا كان الإفراط في الشهوات مذموماً شرعاً: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} [مريم:59] فكذلك اتباع الشهوات مذمومٌ عقلاً. إن العاقل إذا تبصر في أمور الذين يتبعون الشهوات ويغرقون فيها، يعرف تمام المعرفة بأن هذا الاتباع للشهوات والعبودية لها يصرف الإنسان عن مصالح كثيرة، ويفوت عليه منافع عظيمة، ولذلك فإن الصبر عن الشهوة -أي: الامتناع عن الشهوة المحرمة- أسهل من الصبر على ما تقتضيه إذا غرق فيها، فإن الصبر عن الشهوة المحرمة تعقبه لذة يقذفها الله في قلب الصابر. وأما إطلاق العنان للنفس في الشهوات، فإن ذلك يوجب آلاماً وعقوبةً وإن كان في لحظة الفاحشة أو لحظة الحرام سكران لا يدرك ذلك، ومخمور لا يشعر به. فتأمل يا عبد الله! كيف تورث المعصية بالشهوة حسرة وندامةً بعدها، (لذة ساعة شرٌ إلى قيام الساعة وما بعد قيام الساعة) أو تثلم عرض الإنسان، أي: أنه ينفضح بين الخلق، أو تذهب مالاً له خيراً له أن يبقى عنده، أو تضع قدراً وجاهاً له فيحقر بين الخلق كان حفظ جاهه أنفع له، أو أن تسلب نعمة بقاؤها ألذ وأطيب من قضاء الشهوة، أو أن تطرق لوضيعٍ -إنسان تافه وحقير- طريقاً يتسلط به عليك بسبب الشهوة، فيهدد أو يتوعد، أو يفعل ويأخذ ما يشاء، أو أن تجلب هماً وغماً، وحزناً وخوفاً لا يقارب لذة الشهوة، أو أن تنسي علماً ذكره ألذ من الشهوة، أو تشمت عدواً شماتة تتمنى أنك لم تقع في تلك الشهوة، أو تقطع الطريق على نعمةٍ مقبلة من الله، أو تبقي عيباً وصفةً لا تزول، والأعمال تورث الصفات والأخلاق.

فتنة النساء مستنقع القرن العشرين

فتنة النساء مستنقع القرن العشرين وأما شهوة النساء -يا عباد الله- والوقوع في حبائل الشيطان من هذه الجهة؛ فإن السعار الموجود في هذه الأيام والولوغ في مستنقعات الشهوة الآسنة ما أكثر منه، وهؤلاء الذين يتتبعون القنوات وشبكات الإنترنت والصور وغيرها قد سمروا أعينهم على الشاشات في سبيل ملاحقة برامج الفحش والرذيلة، وما أكثر الذين يشدون رحالهم إلى بلاد الفجور في سبيل تلبية شهواتهم المحرمة، وهذا المستنقع مستنقع القرن العشرين والحادي والعشرين الذي سيقدمون عليه، تعاظمت فيه الشهوات، وبذلت فيه أنواع الفنون في التصوير، وتصوير ذوات الأرواح هو باب الشر العظيم في هذا الزمان، وما أعظم الشريعة حين حرمت تصوير ذوات الأرواح؛ لأن تصوير ذوات الأرواح هو الذي أوقع الناس في ألونٍ كثيرةٍ من الفجور، قال تعالى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} [النساء:27] فتكالب شياطين الإنس والجن -يقودهم اليهود- في إفساد العالم، وإغراقه بالجنس، وإشاعة الفاحشة، حتى لا يبقى هناك طهرٌ ولا عفافٌ، ولا عرضٌ محفوظٌ ولا صيانةٌ، ولا تقوى ولا دين، فيسهل لليهود قيادة ذلك القطيع البهيمي، وإرخاء العنان للشهوة، وإحداث السعار والتولع بذلك لا يمكن أن يحدث شبعاً، بخلاف ما يقوله أصحاب النظريات الغربية من أن الإشباع يؤدي إلى الراحة، وهذا لا يمكن إطلاقاً، بل إن الانغماس يؤدي إلى مزيدٍ من الجوع، ولم نسمع أن رجلاً غرق في الزنا فشبع من فتنة النساء فكف وعف. قال علي الطنطاوي رحمه الله: لو أوتيت مال قارون، وجسد هرقل، وواصلتك عشر آلافٍ من أجمل النساء من كل لونٍ وكل شكلٍ وكل نوعٍ من أنواع الجمال هل تظن أنك تكتفي؟! لا. أقولها بالصوت العالي لا. أكتبها بالقلم العريض، ولكن واحدةٌ بالحلال تكفيك. ولا تطلبوا مني الدليل، فحيثما نظرتم حولكم وجدتم في الحياة الدليل قائماً ظاهراً مرئياً، واحدة في الحلال تكفيك كثيراً أو اثنتان في الحلال إلى أربع، وأما في الحرام فلو فجر بألف امرأة من نساء الدنيا فلا يمكن أن يكون عاقبته العفة. ومن وقع في هذه المفاسد أنهك الجسد، وأتلف المال، وجلب العار، وأزال المروءة، وذهبت جلالته ووقاره، والعجيب أن يكون الرجل العاقل الكبير صاحب الأولاد والذرية قد أقبل على أقبح ما يكون بالوقوع في هذا السعار، والله عز وجل حكيمٌ عليم، وقد قال لنا: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً} [النساء:28].

أقوال السلف في النظر إلى النساء

أقوال السلف في النظر إلى النساء قال طاوس رحمه الله: " من نظر إلى النساء لم يصبر ". وقال ابن عباس: [لم يكن كفر من مضى إلا من قبل النساء] وهو كائنٌ كفر من بقي من قبل النساء، فهذه فتنة بني إسرائيل التي حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم منها بقوله: (ما تركت بعدي فتنةً أشد على الرجال من النساء) وهذا قد يكون من أسباب الكفر، فإن بعض الناس إذا دخل في هذا المستنقع كفر، وخصوصاً إذا أعجب بكافرة، وخصوصاً من الذين يذهبون إلى بلاد الكفر والانحلال.

بعض قصص الذين فتنوا بالنساء

بعض قصص الذين فتنوا بالنساء ساق المؤرخون المسلمون عدداً من القصص حول هذا الموضوع، ومن ذلك:

قصة صالح المؤذن

قصة صالح المؤذن قال أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله: بلغني عن رجلٍ كان بـ بغداد يقال له: صالح المؤذن، أذن أربعين سنة وكان يعرف بالصلاح، صعد يوماً إلى المنارة ليؤذن؛ فرأى بنت رجلٍ نصراني كان بيته إلى جانب المسجد، فافتتن بها، فجاء فطرق الباب، فقالت: من؟ فقال: أنا صالح المؤذن، ففتحت له، فلما دخل ضمها إليه، فقالت: أنتم أصحاب الأمانات فما هذه الخيانة؟! فقال: توافقيني على ما أريد وإلا قتلتك، فقالت: لا. إلا أن تترك دينك، فقال: أنا برئ من الإسلام ومما جاء به محمد، ثم دنا إليها، فقالت: إنما قلت هذا لتقضي غرضك ثم تعود إلى دينك، فكل من لحم الخنزير فأكل، قالت: فاشرب الخمر فشرب، فلما دب الشراب فيه دنا إليها فدخلت بيتاً وأغلقت الباب، وقالت: اصعد إلى السطح حتى إذا جاء أبي زوجني منك، فصعد فسقط فمات، فخرجت فلفته في ثوبٍ، فجاء أبوها، فقصت عليه القصة، فأخرجه في الليل فرماه في الطريق، فافتضح أمره بعد ذلك، فرمي في مزبلة مرتداً!!

قصة ابن عبد الرحيم

قصة ابن عبد الرحيم ذكر ابن كثير رحمه الله في كتابه البداية والنهاية في حوادث سنة (278هـ) ما يلي: قال: وفيها توفي ابن عبد الرحيم قبحه الله، ذكر أن هذا الشقي كان من المجاهدين كثيراً في بلاد الروم، فلما كان في بعض الغزوات والمسلمون يحاصرون بلدةً من بلاد الروم إذ نظر لامرأة من نساء الروم في ذلك الحصن، فهواها فراسلها، ما السبيل إلى الوصول إليك؟ فقالت: أن تتنصر وتصعد إلي، فأجابها إلى ذلك، فما راع المسلمين إلا وهو عندها، فاغتم المسلمون بسبب ذلك غماً شديداً، وشق عليهم مشقةً عظيمة، فلما كان بعد مدة مروا عليه وهو مع تلك المرأة أثناء الحصار وهو فوق وهم حول السور، فقالوا: يا فلان! ما فعل قرآنك؟! ما فعل علمك؟! ما فعل صيامك؟! ما فعل جهادك؟! ما فعلت صلاتك؟! فقال: اعلموا أني أنسيت القرآن كله إلا قوله تعالى: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ * ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر:2 - 3] وقد صار لي فيهم مالٌ وولد، أي: صار لي عند النصارى مال وولد. يقول يزيد بن الوليد محذراً من سببٍ من أسباب الوقوع في الخنا والفجور -وهذا السبب منتشر كثيراً جداً في هذا الزمان-: يا بني أمية! إياكم والغناء، فإنه ينقص الحياء، ويزيد في الشهوة، ويهدم المروءة، وإنه لينوب عن الخمر، ويفعل ما يفعل السكر، فإن كنتم لا بد فاعلين فجنبوه النساء؛ فإن الغناء داعية الزنا. قال ابن القيم رحمه الله: ومن الأمر المعلوم عند القوم أن المرأة إذا استصعبت على الرجل اجتهد أن يسمعها صوت الغناء، فحينئذٍ تعطي الليان وتنقاد، وهذا لأن المرأة سريعة الانفعال للأصوات جداً، فإذا كان الصوت بالغناء، صار انفعالها من وجهين: من جهة الصوت، ومن جهة المعنى، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أنجشة الصحابي: (يا أنجشة! رويدك رفقاً بالقوارير) أي: النساء. فكيف إذا استمع إلى هذه الأغنية والدف والشبابة والرقص بالتخنث والتكسر، فلو حبلت المرأة من شيءٍ لحبلت من الغناء. لعمر الله كم من حرةٍ صارت بالغناء من البغايا وكم من حرٍ أصبح به عبداً للصبيان أو الصبايا وكم من غيورٍ تبدل به اسماً قبيحاً بين البرايا وكم من معافى تعرض له فأمسى وقد حلّت به أنواع البلايا

الحكمة من الأمر بغض البصر

الحكمة من الأمر بغض البصر النظر المحرم والغناء طريقان مباشران إلى الزنا، ولذلك حرمت الشريعة الحكيمة النظر، وأمرت بغض البصر، وحرمت الغناء والمعازف، رغماً عن أنف كل قذرٍ يفتي بإباحة الموسيقى التي حرمها الله ورسوله، البصر صاحب خبر القلب يأتي إلى القلب بالأخبار رسول القلب يرسله فيأتي بأخبار المبصرات فينقشها في القلب، فيجول القلب في هذه الصور ويشتغل ويفكر وينهمك ويهتم بها، ولذلك يكون بعده الوقوع في الحرام: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ * {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:30 - 31] بدأ بغض البصر قبل حفظ الفرج، لأن هذا هو الطريق إلى وقوع ذاك في الحرام: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30] وهذا النظر -أيها الإخوة- الذي أطلقه الناس اليوم في النساء العابرات، والفتيات الماشيات، والخارجات، وفي الشاشات وأنواع المسلسلات والصور العاريات؛ خرّب أفئدة كثير من الناس في هذا الزمان، والنظرة سمٌ يؤثر في القلب؛ ولذلك كان من الحكمة أن تقطع من أولها ومبادئها، لأن الناظر إذا استمرأ النظر صعب عليه أن يتركه، ثم تتطور الأمور بامتلاء القلب من الصور المحرمة، وعند ذلك يكون الوقوع في الحرام. نسأل الله عز وجل أن يرزقنا العفة والعفاف، وأن يباعد بيننا وبين المحرمات، وأن يجعلنا من الأتقياء الأطهار، البررة الأبرار، إنه سميعٌ غفار. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

خطورة اختلاط الرجال بالنساء

خطورة اختلاط الرجال بالنساء الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي المتقين، وأشهد أن محمداً رسول الله خاتم الأنبياء وسيد المرسلين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، والشافع المشفع يوم الدين، صلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. عباد الله: كيف إذا انضم إلى ما سبق: الاختلاط وقيام سوق الاختلاط بعمل المرأة مع الرجال؟ كيف إذا انضم إلى ما سبق هذه المخالطة والملابسة والقرب، وأن تجلس بجانبه أو تتكلم إليه، أو يأتي إليها، أو يخلو بها في مستشفى أو مكتب، أو يسمع الصوت بالهاتف، أو يتخذها سكرتيرة ونحو ذلك من الأعمال التي ينادي الكفرة والمنافقون بحصولها بيننا، ويرفعون عقيرتهم بأهميتها، وأنه لا بد من الحرص عليها، وتشغيل نصف المجتمع لتحطيم النصف الثاني وتخريبه، ويكون الخراب في النصفين جميعاً؟! كيف إذا صار الطالب مع الطالبة، والموظف مع الموظفة، والعامل مع العاملة؟ كيف إذا صار الاختلاط يعم؟ فماذا يحدث عند ذلك من أنواع الانغماس في الفواحش والقاذورات؟ عباد الله! قال العلماء: لا ريب أن تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال بلية وشر، وهو من أعظم أسباب نزول العقوبات العامة، كما أنه من أسباب فساد أمور العامة والخاصة، وهو من أسباب الموت العام والطواعين المهلكة. يقول ابن القيم رحمه الله: "ولما اختلط البغايا بعسكر موسى عليه السلام، وفشت فيهم الفاحشة، أرسل الله عليهم الطاعون، فمات في يومٍ واحدٍ سبعون ألفاً". والقصة مشهورة في كتب التفسير، فمن أعظم أسباب الموت العام كثرة الزنا. هذا الكلام يقوله ابن القيم رحمه الله في الطرق الحكمية منذ مئات السنين، يقول: من أسباب الموت العام الاختلاط. وقد رأينا الطواعين في هذا الزمان التي تسبب الموت العام نتيجة الفواحش، فالكلام واحدٌ ومتصل من القديم إلى الحديث، وهذا الولع والانكباب على الشهوات سبب ضعف التوحيد، ويؤدي إلى العشق، والعشق هو الذي يبتلى به أصحاب الإعراض عن الله، وأما المخلصون فلا يقعون فيه، كما قال الله عز وجل عن يوسف: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24] وامرأة العزيز كانت مشركة، فوقعت -مع زواجها- فيما وقعت فيه من السوء، ويوسف عليه السلام مع عزوبته ومراودتها له واستعانتها عليه بالنسوة والتهديد بالسجن، عصمه الله بإخلاصه. إذاً: لو كان متزوجاً ولا يريد العفاف فسيقع في الحرام. وقال عز وجل عن إبليس: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص:82 - 83]، وقال تعالى {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر:42] والغي: هو اتباع الهوى. إن الافتتان بالنساء والولع بهن يورث أنواعاً من البلايا والعقوبات، ويورث عمى لا يبصر حقارة ما يعمله ولا قبحه، كما قال عز وجل: {إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر:72] هؤلاء قوم لوط الذين في الفواحش، فأعماهم ذلك عن معرفة قبح ذنبهم فأدمنوا عليه، والإنسان إذا أصيب بالإدمان فمن ذا الذي يخرجه؟! والتعلق بالحرام لا يكاد الإنسان يفارقه حتى يعود إليه، ولذلك كانت عقوبتهم في البرزخ (في الفرن في التنور) الهبوط ثم الصعود، حتى إذا كادوا يخرجوا من التنور رجعوا في قعره مرة أخرى، كما جاء في حديث البخاري، أنه عليه الصلاة والسلام (رأى الزناة والزواني في تنورٍ أعلاه ضيق وأسفله واسع توقد تحته نار، فيه رجالٌ ونساءٌ عراةٌ، فإذا أوقدت النار ارتفعوا حتى كادوا أن يخرجوا، فإذا أخرجت رجعوا فيها) وهكذا لا يخرج هذا العاشق ولا المدمن على الحرام منه حتى يرجع إليه، بسبب ما فرط في جنب الله عز وجل.

بيان خطورة ما يعرض من الفحش على الإنترنت والقنوات المشفرة

بيان خطورة ما يعرض من الفحش على الإنترنت والقنوات المشفرة أيها الإخوة! ولقد وصلتني عددٌ من الرسائل في هذا المسجد، وخلاصتها ومن آخرها: رسالةٌ من امرأةٍ تقول: زوجي كان صاحب دينٍ يختلط بالأخيار ويغشى مجالسهم، وكانت حالنا في البيت جيدة وعلاقته بي وبأولاده ممتازة، وهناك استقرارٌ بيتيٌ وعاطفي، ومنذ أن أدخل اشتراك الإنترنت في بيته -لا بارك الله فيه- انقلبت الأحوال، فصار يغلق على نفسه الباب، وطال انحباسه عنا، ثم تهاون بصلاة الجماعة في المسجد، ثم تهاون بالصلاة أصلاً حتى في البيت، ثم حلق اللحية، ثم ترك الأخيار وترك مجالس الخير، وصار عاكفاً على هذا الصنم، وساءت العلاقة بيننا، وغاب عن أولاده، وصرنا في غاية السوء، وقال: إذا لم يعجبك الحال الحقي بأهلك. ورسالة ثانية: نفس القضية ولكن بالقنوات الفضائية، وببعض القنوات المشفرة وغير المشفرة التي تبث في أوقاتٍ مختلفة، وبأجهزة تركب على الدش ووو وغير ذلك من أبواب الفواحش التي انفتحت على الناس، فخربت البيوت، وأفسدت العلاقات، وضاع الأولاد، وأزهقت المرأة من هذه الحياة، والمرأة السليمة تغار أن يرى زوجها هذا الحرام، وتقبل عليه تنصحه ولكن أذنٌ من طينٍ، وأذنٌ من عجين، طينٌ حرام وعجين إبليس الذي يسد به طريق النصيحة فلا تصل. أيها الإخوة: إننا -والله- أمام كارثة كبيرة قد أحدثت ببيوتنا وبشبابنا بل وبشيباننا، وترى الرجل الكبير العاقل تفتنه هذه الأمور القذرة. نحن نعلم أننا في آخر الزمان، وأن كيد يهود في نشر هذه الأمور كبير جداً، ولكن أين ذكر الله؟ أين التحصن بالله؟ أين عبادة الله؟ أين بيوت الله التي تقي من دخل فيها؟ من دخلها كان آمناً من الشهوات إذا دخلها بصدق، أين مرافقة الأخيار الذين يحوطونك فيمنعونك من الوقوع في مثل هذه التراهات إذا أنت عملت فيهم بقول الله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:28] لا دشاً ولا شبكةً ولا مجلة ولا سوقاً ولا هاتف مغازلة، ولا باب مدرسة بنات، ولا غير ذلك {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف:28]. اللهم احفظنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، واجعل قلوبنا معمورة بذكرك، اللهم اصرف عنا الشهوات المحرمة، اللهم اصرف عنا كيد إبليس، اللهم اصرف عنا فتنة النساء، اللهم ارزقنا غض البصر. اللهم إنا نسألك أن تجعلنا ممن رزقوا العفاف. اللهم اجعلنا ممن يخافك ويتقيك في الغيب والشهادة أمام النا، ومن وراء الناس، وإذا غاب الناس. اللهم اجعلنا ممن يخشاك كأنه يراك، وأسعدنا بتقواك، ولا تذلنا بمعصيتك، واحفظ بلادنا وبلاد المسلمين، واحفظ أولادنا وأولاد المسلمين، وطهر بيوتنا وبيوت المسلمين. اللهم انصر المسلمين في بلاد الشيشان على الروس الكفرة، وانصر المسلمين في كشمير على هؤلاء الهنود، اللهم إنا نسألك النصر للإسلام وأهله في بلاد فلسطين على اليهود الغاصبين، اللهم إنا نسألك النصر العاجل لأهل الإسلام في أصقاع الأرض يا رب العالمين. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

محبة الله والطريق إليها

محبة الله والطريق إليها المحبة كما يعرفها ابن القيم: هي المنزلة التي فيها تنافس المتنافسون، وإليها شخص العاملون، وإلى علمها تسمى السابقون، وعليها تفانى المحبون، فهي قوت القلوب وغذاء الأرواح وقرة العيون إلى آخره. وقد ذكر الشيخ علامات تدل على حب الله للعبد، والأشياء التي يتوصل بها العبد إلى محبة الله عز وجل، وكذلك بعض المسائل المتعلقة بهذا الموضوع.

محبة الله

محبة الله الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فاعلموا -يا إخواني- أن محبة الله تعالى والطريق إليها موضوع له أهمية عظيمة في حياتنا التي نعيشها اليوم. فمن الأسباب المهمة الملجئة لطرق الموضوع: أنه إذا تأمل الإنسان نفسه، وتأمل مَن حوله، فإننا نجد -أيها الإخوة- أن كثيراً من عباداتنا مثل الصلاة وغيرها، قد تحولت إلى عادات. فصرنا ندخل المساجد، ونكبر وراء الإمام، ونقوم بأداء الركعات، ثم نسلم ونحن لم نفقه من أمر الصلاة شيئاً. وإذا أتى الصيام تناول الواحد السحور بعملية أوتوماتيكية ثم يفطر، وهكذا يمر شهر رمضان وهو لم يستفد من الصيام شيئاً. ويذهب الواحد إلى الحج، وقد تثور في نفسه بعض المشاهد التي تذكره بالله عز وجل؛ ولكن إذا كرر هذه العبادة، فإن هذا الحماس وهذا التأثير يتلاشى. كذلك -يا إخواني- كثيرٌ من الذين يتمسكون بالإسلام، ويلتزمون به يكون تمسكهم بالإسلام في البداية على غير أساس صحيح؛ لأنهم دخلوا في هذا التمسك تقليداً لا محبة لله عز وجل، كأن يرى مَن حوله يصلون فيصلي، ويرى من حوله لا يسمعون الأغاني فيترك الأغاني، ويرى مَن حوله يقصر ثوبه فيقصر ثوبه، تقليداً لا حباً في الله عز وجل، فبَعد فترة من الزمن ينتكس هذا الشخص وينقلب على عقبيه. فالشاهد -أيها الإخوة- أن هذا الموضوع (محبة الله عز وجل) موضوع مهم وخطير جداً. حتى نصحح العبادات، وحتى نصحح الالتزام بالإسلام، ونصحح طريق السير إلى الله تعالى لا بد أن نعرف: ما هي محبة الله؟ كيف تكون محبة الله؟ ما هي علامات حب الله للعبد؟ وما هي الأشياء التي يتوصل بها العبد إلى محبة الله عز وجل؟ أشياء كثيرة لا بد من معرفتها. والمحبة -أيها الإخوة- من أعمال القلوب؛ لأننا نعلم أن الإيمان هو: قول القلب، وعمل القلب، وقول اللسان، وعمل الجوارح. وهنا كلامٌ سأسوقه إليكم الآن وهو مُجَمَّعٌ أكثره من كلام العالم الرباني شيخ الإسلام الثاني ابن القيم رحمه الله تعالى، جمعتُ بعضَه، ووجدت بعضه مجموعاً في بحوث لبعض الأشخاص. ولا بد قبل البداية -أيها الإخوة- أن أسرد عليكم مقدمات لهذا الموضوع ذكرها هذا الرجل الفذ في بعض كتبه؛ لأنها عظيمة في المعنى. فيقول رحمه الله تعالى: " الحمد لله الذي جعل المحبة إلى الظَفَر بالمحبوب سبيلاً، ونصب طاعته والخضوع له على صدق المحبة دليلاً، وحرَّك بها النفوس -يعني: بالمحبة- إلى أنواع الكمالات إيثاراً لطلبها وتحصيلاً، والمحبة: هي روح الإيمان والأعمال، والمقامات والأحوال، التي متى خلت منها فهي كالجسد الذي لا روح فيه " عبادة ليس فيها محبة كالجسد لا روح فيه، تدخل وتخرج من العبادة بدون أي تأثير. ثم يقول رحمه الله: " المحبة: هي المنزلة التي فيها تنافس المتنافسون، وإليها شخص العاملون، وإلى علَمها شَمَّر السابقون، وعليها تفانى المحبون، وبروح نسيمها تروَّح العابدون فهي قوت القلوب -محبة الله قوت القلوب، هي الوقود، وهي الدافع للأعمال- وغذاء الأرواح، وقرة العيون، وهي الحياة التي مَن حُرِمَها فهو في جملة الأموات، والنور الذي مَن فَقَدَه فهو في بحار الظلمات، والشفاء الذي مَن عَدِمه حلت به أنواع الأسقام، واللذة التي مَن لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام، وهي روح الإيمان والأعمال والمقامات والأحوال، تحمل أثقال السائرين إلى بلاد لم يكونوا إلا بشق الأنفس بالغيها، وتوصلهم إلى منازل لم يكونوا أبداً بغيرها واصليها، وتبوئهم من مقاعد الصدق مقامات لم يكونوا لولاها داخليها، وهي مطايا القوم التي مسراهم على ظهورها دائماً إلى الحبيب، وطريقهم الأقوم الذي يبلغهم إلى منازلهم الأولى من قريب، تالله لقد ذهب أهلها بشرف الدنيا والآخرة. والمحبة -أيها الإخوة- تتنوع، كل إنسان يحب شيئاً، وأنت إذا نظرت إلى مراد الأشخاص ومحبيهم في الدنيا، وجدتها متعددة! فسبحان من صرَّف عليها القلوب أنواعاً وأقساماً بين بريته، وفصلها تفصيلاً! فجعل لكل محبوب لمحبه نصيباً! فقسمها بين: - محب للرحمن. - ومحب للأوثان. - ومحب للنيران. - ومحب للصلبان. - ومحب للأوطان. - ومحب للإخوان. - ومحب للقرآن. - ومحب للنسوان. - ومحب للأثمان. يعني: الأموال والتجارات. - ومحب للألحان. يعني: الأغاني. فهي شجرة: عرقها الفكر في العواقب -ماذا سيحدث بعد الموت- وساقها: الصبر، وأغصانها: العلم، وورقها: حسن الخلق، وثمرتها: الحكمة. فإذا غُرِسَت هذه الشجرة في القلب، وسُقِيَت بماء الإخلاص ومتابعة الحبيب صلى الله عليه وسلم، وهما ركنا العمل الصالح أثْمَرَت أنواع الثمار وآتت أكلها كل حين بأمر ربها، أصلها ثابت في قرار القلب، وفرعها متصل بسدرة المنتهى. ولأجل المحبة -أيها الإخوة- أنزل الله الكتاب والحديد، فجعل الكتاب هادياً إليها، ودالاً عليها، وجعل الحديد لمن خرج عنها وأشرك بها مع الله أحداً غيره، ولذلك ذم الله المشركين الذين يحبون أندادهم مثل محبة الله، {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة:165] هذا شرك المحبة ".

علامات حب الله للعبد

علامات حب الله للعبد فإذا سألت -يا أخي المسلم- ما هي العلامات التي أعرف بها أن الله يحبني بها؟ كيف أعرف هذا؟

حمايته من الدنيا

حمايته من الدنيا أولاً: المحبة على الصحيح من أقوال العلماء ليس لها تعريف إلا لفظها فقط، ولها مترادفات، وكثير ممن عرَّفها إنما عرَّفوها بآثار لها، آثار المحبة عرَّفوها بالمحبة، والصحيح: أنه لا تعريف لها، ولا يمكن تعريفها؛ لأنها شيءٌ شعوريٌ يقوم في القلب، لا يمكن تحديده بألفاظ مطلقاً. فإذا نظرت لبعض الآيات والأحاديث التي فيها علامات محبة الله للعبد نجد بعضاً منها على النحو التالي:- عن قتادة بن النعمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أحب الله عبداً حماه الدنيا كما يظل أحدُكم يحمي سقيمه الماء) أخرجه الترمذي، وحسنه الألباني. حديث: (إذا أحب الله عبداً حماه الدنيا كما يظل أحدكم يحمي سقيمه الماء). (حماه الدنيا): يعني: يحميه من فتنة الدنيا، من فتنة أموالها وبهرجها وزخرفها وزينتها، يحميه من هذه الأشياء، (حماه الدنيا): مَن الحِمْيَة، وهي: المنع. (كما يظل أحدكم يحمي سقيمه الماء): أحياناً يكون الماء مضراً للمريض، فتجد أهل المريض يمنعون عنه ما يضره، فإذا قال لهم الأطباء: أن كثرة شرب الماء مضر للمريض منعوا عنه الماء، كذلك يحمي الله تعالى عبده الذي يحبه كما يحمي أهلُ المريض المريضَ من شرب الماء الذي يكون مضراً به في بعض الأحيان.

العلامة الثانية من العلامات: الابتلاء

العلامة الثانية من العلامات: الابتلاء فعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن عِظَم الجزاء مع عِظَم البلاء، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سَخِطَ فله السُّخْط). وهذا الابتلاء -أيها الإخوة- يكون على قدر الإيمان، فلما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (أيُّ الناس أشد بلاءً؟ قال: الأنبياء، ثم الأمثل، فالأمثل، يبتلَى الرجل على قدر دينه، فإن كان دينه صلباً اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض، وليس عليه خطيئة). يقول تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:155 - 157]. يكون البلاء -أيها الإخوة- أحياناً نتيجة معاصٍ وذنوب، وأحياناً قد يكون الإنسان طائعاً لله، سائراً على طريق الله، صالحاً؛ لكن يأتيه البلاء، فهل هذا عقاب؟ لا. بل يكون لمحبة الله لعبده، أي: أن الله عز وجل قد قدر على العبد أن يصل إلى الدرجة الفلانية في الجنة. وأعمال العبد؛ الصلاة، والصيام، والصدقات، والدعوة، والتعلُّم لا توصله إلى هذه المرتبة! إذاً فكيف يرفعه من هذه المرتبة التي بلغها بهذه الأعمال إلى المرتبة التي قدَّرها؟! يكون ذلك بالابتلاء كأن يضاعف عليه البلاء، والمصائب، والأمراض، والفقر، والجوع، ويموت قريبه، ويمرض ابنه، ويفقد ماله، فيصبر على هذا البلاء فيرفعه الله إلى تلك الدرجة، ولولا البلاء لم يبلغ تلك الدرجة، هذا من حِكَم الله جل وعلا.

القبول في الأرض

القبول في الأرض وكذلك من علامة حب الله للعبد: القبول في الأرض: وهذا الحديث الذي رواه الإمام مسلم جاء فيه قصة: أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لما تولى أمور الناس، وحج بهم أطل على الناس، فقال أحد أبناء التابعين لأبيه: [هذا -يعني: عمر بن عبد العزيز - يحبه الله تعالى - قال: إن الله يحب عمر بن عبد العزيز - فقال له أبوه: كيف عرفت ذلك يا بني؟ قال: إن الناس يحبون عمر بن عبد العزيز، فلا بد أن يكون الله قد أحبه قبل أن يحبه الناس، فقال: صدقت يا بني] ثم روى لابنه الحديث التالي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، في الحديث الصحيح: (إن الله إذا أحب عبداً دعا جبريل، فقال: إني أحب فلاناً فأحبه، قال: فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضَع له القبول في الأرض) وتجد كل الناس يحبونه؛ لأن الله قد أحبه، وأحبته الملائكة قبل أن يحبه أهل الأرض، فيحبه الجميع، أهل السماوات وأهل الأرض. وهذه نعمة -أيها الإخوة- لا تشترى بالمال، ومهما عمل التجار، ومهما عمل الكادحون، فلا يصلون إليها إلا بتقوى الله والأعمال الصالحة. كذلك يُسْتَدل من هذا الحديث على أن محبة قلوب الناس للشخص هي علامة على محبة الله.

الرفق

الرفق الشيء الرابع من علامات محبة الله للعبد: الرفق: لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح في صحيح الجامع: (إن الله إذا أحب أهل بيت أدخل عليهم الرفق). تجد أمورهم تسير بغاية الرفق، تجد الزوج يرفق بزوجته، والزوجة ترفق بزوجها، وهما يرفقان بأولادهم، والأولاد يرفقون بأبيهم، وييسر الله لهم سبل الرزق، فيأتيهم رزقهم رغداً من كل مكان من حيث لا يحتسبون.

حسن تدبير الله للعبد

حسن تدبير الله للعبد من ضمن العلامات كذلك: حسن تدبير الله للعبد، وحسن تربية الله لعبده منذ صغره:- فتجد التوفيق حليفه دائماً، لا يطرق باباً إلا ويجده مفتوحاً، ولا يتعسر عليه أمر إلا ويكون التيسير حليفه بعد حين، {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} [الشرح:6]. " فإن الله -كما يقول ابن القيم رحمه الله- إذا أحب عبداً اصطنعه لنفسه -مثلما اصطنع موسى- واجتباه لمحبته -ومثلما اجتبى إبراهيم- واستخلصه لعبادته، فشغل همه به، ولسانه بذكره، وجوارحه بخدمته ". فيشغل الله جسد الإنسان بعبادته، ويشغل لسان عبده بذكره، ويشغل همه وتفكيره في كيف يرضي الله عز وجل. وهذا توفيقٌ من الله.

موافقة العبد لله فيما يقوله من كلام وأحكام

موافقة العبد لله فيما يقوله من كلام وأحكام كذلك -أيها الإخوة- من العلامات: موافقة العبد لله عز وجل فيما يقوله من كلام وأحكام: وأكبر شاهد على هذه القضية: ما حصل في غزوة الحديبية! فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لما عقد الصلح مع الكفار استشاط بعض المسلمين غضباً لشروط الصلح، وظنوا أن شروط الصلح تملي عليهم أشياء تخالف موقف القوة، وتضعهم في موقف ضعف، هكذا ظنوا؛ ولكن الله أراد أمراً آخر. وكان عمر بن الخطاب ذا نفسية لا ترضى بالدون، ولا ترضى بالضعف، لَمَّا شاهد الشروط ثار وذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟! قال: نعم. قال: فعلامَ نعطي الدنية في ديننا؟!) كيف نوافق على شروط مثل هذه؟! كيف إذا جاءنا المسلم نرده، وإذا ذهب واحد منا من المدينة إلى قريش لا يردونه؟! كيف نوافق على هذه الشروط؟! فماذا أجاب الرسول صلى الله عليه وسلم؟ قال: (إني رسول الله، وهو ناصري، ولست أعصيه -هكذا أمرني ربي- فقال له عمر: ألم تكن تحدثنا أنا نأتي البيت فنطَّوَّف - نطوف- به؟! فقال عليه الصلاة السلام: أقلت لك أنك تأتيه العام؟) -قلت لك أنك ستأتيه هذا العام الذي عقدنا فيه الصلح؟ - (قال: لا، قال: فإنك آتيه ومُطَّوِّفٌ به) يعني: يا عمر! ستأتي البيت في يوم من الأيام وتطوف به. فكلام عمر ليس عن عدم اقتناع، وإنما أراد أن يزداد إيماناً، وأن يتثبت في موقفه، ثم ذهب فوجد أبا بكر الصديق فعرض عليه نفس الأسئلة، ولم يعلم أبو بكر بما دار من حوار بين الرسول صلى الله عليه وسلم، وعمر؛ لأنه كان بعيداً، قال عمر لـ أبي بكر: (ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟! قال: نعم. قال: فعلامَ نعطي الدنية في ديننا؟! قال أبو بكر -بالحرف الواحد-: إنه رسول الله، وهو ناصره، وليس يعصيه) ماذا قال الرسول؟ (إني رسول الله، وهو ناصري، ولست أعصيه) طرح عمر السؤال الثاني، قال: (ألم يحدثنا الرسول صلى الله عليه وسلم أنا سنأتي البيت فنَطَّوَّف به؟! فقال أبو بكر: أقال لك أنك تأتيه العام؟ -ماذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم؟ -قال: قلتُ لك أنك تأتيه العام؟ توافُق- قال عمر: لا. -كما قال للرسول صلى الله عليه وسلم- قال أبو بكر له: فإنك آتيه ومطَّوِّف به) ماذا قال عليه الصلاة السلام؟ (فإنك آتيه ومطَّوِّفٌ به). هذا التوافق -أيها الإخوة- ليس عبثاً، لكن إذا أحب العبدُ اللهَ وفق اللهُ العبدَ فيُجْرِي الحقَّ على لسانه، فلا يَخرج منه إلا الحق. وعمر كان من أصحاب هذه المرتبة، فلذلك يقول: [وافقت ربي في ثلاث، أو في أربع:]. وافق عمر ربه في ثلاث: - كان يتمنى نزول تحريم الخمر؛ فنزل تحريم الخمر. - كان يتمنى نزول آية الحجاب؛ فنزلت آية الحجاب. - كان له موقف من أسارى بدر؛ فنزل القرآن تصديقاً له. هؤلاء الأولياء -أيها الإخوة- يُجْرِي الله الحق على لسانِهم، فيوافقون الله ورسوله، حتى لو لَمْ يطَّلِعوا، فيوفقهم الله ويسددهم. ولذلك -أيها الإخوة- كلما قويت مَحبة العبد لله قوي سلطان القلب في الْمَحبة فاقتفى أثر الطاعات، وترك المعاصي والْمُخالَفات. وممن تصدر المعصية؟ تصدر المعصية ممن ضعفت محبته. وهناك فرق عظيم بين مَن تَحمله المحبة على فعل الطاعة، وبين مَن يَحمله الخوف من السوط والضرب والعقوبة على فعل الطاعة. بعض الناس عندما يعمل الطاعة تقول له: لماذا تعمل؟ يقول لك: لأني أخاف إذا ما عملت أن أدخل جهنم، هذا شعور ممدوح؛ لكن هناك شعور أكمل من هذا. ما هو الشعور الأكمل من هذا؟ أنني أعبد الله عز وجل لأنني أحبه، والذي يحب أحداً يسعى لإرضائه. أعبد الله لأني أحبه، وأطمع في جنته، وأخاف من ناره، بعض الناس يعبدون الله خوفاً من العقوبة لا حباً له، وهذه مرتبة أدنى من مرتبة الذي يعبد الله مُحِباً له، طائعاً له، طامعاً في جنته، خائفاً من ناره. ولذلك -أيها الإخوة- المحبة المجردة عن التعظيم تكون ميِّتة، لا يتبعها عمل. لذلك قال السلف: "من عَبَد الله بالحب وحده؛ فهو زنديق. ومن عبده بالرجاء وحده؛ فهو مرجئ. ومن عبده بالخوف وحده؛ فهو حروري ". الزنادقة المنافقون، إذا قلت لأحدهم تقول: أنت تحب الله؟ يقول: طبعاً نحب الله. فإذا نظرت إلى واقعه، فهو أسوأ ما يكون! المحبة خرجت من اللسان وليس من القلب. فالذي يزعم أنه يحب الله فقط بدون عمل فهذا زنديق. أما الذي يقول: أنا أعبد الله بالرجاء، أتمنى على الله الأماني، وأتمنى أن الله يدخلني الجنة، وأتمنى الفوز بها والنجاة من النار، فهل أنت تعمل لهذا؟ لا يعمل؛ لكن يتمنى على الله الأماني، هذا من المرجئة.

أنواع المحبة

أنواع المحبة اعلموا -أيها الإخوة- أن المحبة أنواع: - محبة طبيعية: مثل محبة الجائع للطعام، ومحبة الظمآن للماء. - محبة رحمة وشفقة: مثل محبة الوالد لولده، والأم لولدها. - محبة أنس وألفة: مثل محبة الإخوان بعضهم لبعض، ومثل محبة أصحاب الحرفة الواحدة بعضهم لبعض. - محبة الله وهي تختلف عن كل هذه الأنواع وأهم شيء في محبة الله أنه يقترن بها التعظيم. الوالد عندما يحب ولده هل يعظم الولد ويخاف من الولد؟ لا. وكذلك محبة الإخوان عندما يحب أحدهم الآخر. الجائع عندما يحب الطعام هل يخاف من الطعام ويعظم الطعام؟ لا يعظم الطعام. محبة الله من صفاتِها: أنَّها محبة تَجمع بالإضافة إليها الخوف والتعظيم، وهذه الأشياء لا يمكن أن تُجمَع إلا بمحبة الله عز وجل، فإذا صُرِف التعظيم إلى غير الله وقعنا في الشرك؛ لذلك ليس هناك محبة مقترنة بالتعظيم، وصحيحة إلا محبة الله عز وجل.

المحبة تزداد بالطاعة وتنقص بالمعصية

المحبة تزداد بالطاعة وتنقص بالمعصية والمحبة -أيها الإخوة- كغيرها من أعمال القلوب تزداد بالطاعة وتنقص بالمعصية. فالذي يعمل المعاصي لا نقول: إنه لا يحب الله مطلقاً! هذا خطأ، وإنما يقال: هو يحب الله على قدر أعماله الصالحة. والذي تزداد طاعته لا نقول: إنه بلغ الْحَد الأعلى، وعنده بعض الْمَعاصي، نقول: إنه يبلغ من الْمَحبة بقدر أعماله الصالِحة. ما هو الدليل على هذا؟ الدليل ما رواه البخاري عن عمر بن الخطاب: (أن رجلاً كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله، وكان يُضْحِك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب -يعني: في الخمر - فأتي به يوماً فأُمر به فجلد، فقال رجل من القوم -من الصحابة-: اللهم العنه، وقال أحدهم: قاتلك الله! ما أكثر ما يؤتى بك! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تلعنوه، فوالله ما علمتُ إلا أنه يحب الله ورسوله) أو كما قال عليه السلام. الله عز وجل أطلع الرسول صلى الله عليه وسلم بالوحي على أن هذا الرجل فيه حب لله، حتى لو فعل هذه المعصية، ما زال فيه حب لله، لكن الذي تنتفي منه محبة الله نهائياً هذا كافر. والذي يرتكب بعض المعاصي، ويكون فيه حب لله بقدر الطاعات التي يؤديها، فإن محبته تنقص بقدر المعاصي، كلما عمل معاصي أكثر نقصت المحبة أكثر، حتى يصل إلى درجة والعياذ بالله إذا صارت أعماله معاصي في معاصٍ، وليس هناك طاعات، إلى درجة الكفر. بعض الناس عندهم حجج! يأتي ويقول: كيف تريدني أن أكره الخمر والله أوجدها في الدنيا؟! ولو كان الله لا يحب الخمر لما أوجدها في الدنيا، كيف تريدني أن أمتنع عن الزنا والله قدر علي هذا الشيء؟! ولو كان الله لا يحب هذا لما قدره. قال شيخ الإسلام رحمه الله: " ناقشتُ بعض هؤلاء الذين عندهم هذا المنطق، فقال لي -هذا الرجل المارق الملحد- قال: المحبة نار تحرق من القلب ما سوى مراد المحبوب -يعني: المحبة تحرق كل شيء إلا الذي يريده الله، فأي شيء موجود معناه أن الله يحبه، بزعم الرجل هذا- والكون كله مراده، فأي شيء أبغض منه؟! قال: فقلت له: فإذا كان المحبوب -يعني: الله عز وجل- قد أبغض بعض ما في الكون، فأبغض قوماً ومَقََتَهم ولعنهم وعاداهم -أبغض شُرَّاب الخمر، وأبغض الزانيات، والزواني، والذين يأكلون الربا، والكفار، والمشركين، أبغضهم ولعنهم ومقتهم، فجئت أنت وواليتهم وأحببتهم تكون موالياً للمحبوب؟! -يعني: لله عز وجل- موافقاً له، أم مخالفاً له ومعادياً؟! قال: فكأنما أُلْقِمَ حجراً ". إن الله عز وجل خلق بعض الأشياء فتنة للناس: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان:20] لماذا خلق الله عز وجل الشر والخير؟ {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [الأنفال:37] لو لم يكن هناك شر فإن كل الناس سيدخلون الجنة، بدون تميير؛ لأنك لا تميز الخير من الشر، فالله عز وجل له حكمة في خلق الشر، حتى تتميز النفوس، وإلا لم يصلح الناس لدخول الجنة: (ألا إن سلعة الله غالية) ليست رخيصة حتى يدخلها كل واحد، لذلك هناك أناس سيدخلون في جهنم ويخلدون فيها، وأناس سيحترقون ثم يخرجون إلى الجنة بحسب الإيمان والكفر ودرجاتهما.

الأشياء التي يتوصل بها العبد إلى محبة الله

الأشياء التي يتوصل بها العبد إلى محبة الله لذلك -أيها الإخوة- أمرنا الله عز وجل بأشياء كثيرة حتى نتوصل بها إلى محبته، فمن هذه الأشياء:

ذكر الله تعالى

ذكر الله تعالى مثلاً: ذكر الله تعالى: (لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله) وصية الرسول صلى الله عليه وسلم، لا يأتيك الموت إلا ولسانك رطب من ذكر الله، هذه الأشياء مهمة، فالإنسان إذا أحب شخصاً ماذا يفعل؟ تجد ذكر الشخص هذا وسيرته دائماً على لسان الرجل الذي يحبه، فإذا كنا نحب الله فعلاً لا بد أن يكون ذكر الله على لساننا دائماً. ما هو ذكر الله؟ أشياء كثيرة من ذكر الله منها: - قراءة القرآن. - التحميد، والتهليل، والتسبيح. - الدعاء. - الدعوة إلى الله. - طلب العلم الشرعي. - العبادات بأنواعها. فيجب أن يكون لسان الإنسان وجوارحه دائماً مشتغلة بذكر الله، إذا أراد فعلاً أن يثبت أنه يحب الله. ولذلك بعض الشعراء في الجاهلية كانوا إذا أرادوا أن يظهروا إخلاصهم فماذا يفعلون إذا عشق أحدهم امرأة وأراد أن يظهر شدة محبته لها؟ يذكرها في الحرب أثناء شدة القتال، يقول عنترة بن شداد: ولقد ذكرتُك والرماحُ كأنها أشطان بئر في لِبان الأدهم فهو يتفاخر بذكر محبوبته أثناء الحرب، والله عز وجل أمرنا بأكثر من هذا، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً} [الأنفال:45] يعني: في الحرب: {فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:45]. لماذا كان ذكر الله في الحرب عند القتال من العلامات الدالة على المحبة؟ لأن الإنسان في حالة الخوف -أيها الإخوة- ينسى كل شيء، همه أن يهرب، وأن يقي نفسه الهلاك، وألا يُقْتَل، ولا يُصْرَع، ففي تلك اللحظة إذا ذكر الإنسان الله، فمعناه أن محبة الله متأسسة في نفسه ومغروسة، لدرجة أنه حتى في حالة الشدة يذكر الله، فلذلك أمرنا الله أن نذكره في جميع الأحوال وخص ذلك بالأمر بذكره في حالة القتال والخوف.

السعي في تحصيل محبوب المحبوب

السعي في تحصيل محبوب المحبوب كذلك -أيها الإخوة- من علامات المحبة أن يسعى الإنسان في تحصيل محبوب محبوبه: إذا كان محبوبك يحب شيئاً، ماذا تفعل أنت؟ تحاول أن تصل بشتى الوسائل إلى ذلك المحبوب -الشيء الذي يحبه محبوبك- وتحققه، إذا كنت تحب محبوبك فعلاً. وأي شيء يبغضه محبوبك أنت تبغضه وتبتعد عنه، إذا كنت صادقاً في المحبة.

الرضا بقضاء الله

الرضا بقضاء الله وكذلك الرضا بقضاء الله: إذا رضي الإنسان بقضاء الله صارت نفسه مطمئنة، وصار هذا دليلاً على محبته لله. أما إذا تسخَّط وتشكَّى وتبرَّم فيكون هذا دليلاً على كذبه في المحبة، وواقعه يشهد بضد ما يقول.

الأنس بالله عز وجل

الأنس بالله عز وجل كذلك من الأمور التي تدل على محبة العبد لله عز وجل: أن يكون أنسه الخلوة بالله: أي: يرتاح تماماً عندما يخلو بالله؛ في الصلاة، في الثلث الأخير من الليل، ومعنى يخلو: ينقطع عن الناس أحياناً وليس دائماً، حسب المصلحة الشرعية إلى الله عز وجل، يخلو به ويذكره ويدعوه بينه وبين نفسه، ليس هناك واسطة بينهما، فيتلو كتاب الله، ويجتهد ويواظب ويغتنم هدوء الليل وصفاء الوقت وانقطاع العوائق والعلائق الدنيوية، ويُقْبِل على الله عز وجل: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9]. فمتى فعل الإنسان هذه الأشياء صارت محبة الله عز وجل تسهِّل له هذه الطاعات وتحثه وتدفعه عليها، ويكون في لذة أعظم من لذة الظمآن عندما يشرب الماء البارد، وأعظم من لذة الجائع شديد الجوع عندما يجد الطعام الشهي. فلذلك -أيها الإخوة- المؤمنون عندما يحبون الله يكلمونه ويدعونه، يرفعون أيديهم ويدعون، يحبون أن يتكلموا مع الله ويخاطبون ربهم، إذا أحب الإنسان شخصاً أحب أن يتكلم معه وأن يخاطبه وأن يجاذبه أطراف الحديث، وأن يفضي إليه بهمومه وأشجانه، وأن يصارحه بما عنده، هذا ما يقع الآن بين الأشخاص في الدنيا. فإذا أحب الإنسان الله فإنه يحب أن يتكلم مع الله. كيف يتكلم مع الله؟! جاء الحديث بتوضيح هذا: (من أراد أن يتكلم مع ربه فليقرأ القرآن) يدعو الله عز وجل، يشكو حزنه إلى الله، يقول يعقوب عليه السلام: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف:86] ما قال: إلى فلان وفلان {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف:86] إلى الله عز وجل مباشرة. فليس هناك -أيها الإخوة- أطيب من الخلوة بالله عز وجل، ومناجاته، والمثول بين يديه، والانقطاع عن الخلق من أجل الخلوة بالله عز وجل، ومن أعظم الخلوات: الصلاة؛ لذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يرتاح جداً عندما يصلي، وكان يقول لـ بلال: (يا بلال! أرحنا بالصلاة) وهذا من معاني قول بعض السلف: " إن في الدنيا جنة، من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة "، ما هي جنة الدنيا؟ اللذة الحاصلة بالطاعات، (أرحنا بالصلاة يا بلال!). فيقول ابن القيم رحمه الله: " فالصلاة قرة عيون المحبين، وسرور أرواحهم، ولذة قلوبهم، وبهجة نفوسهم، يحملون هم الفراغ منها إذا دخلوا فيها، كما يحمل الفارغ البطال همها حتى يقضيها بسرعة ". فهؤلاء المحبون إذا دخلوا في الصلاة فهم في هَمٍّ. ما هو هذا الهم؟ كيف ستَنْتَهي الصلاة؟! ماذا نعمل بعد أن تنتهي الصلاة؟! يقولون: نحن نريد أن نبقى في صلاة، وهذه مرتبة كبيرة، فالواحد لو فكر في نفسه يجد مراحل بين حال هؤلاء وحالنا، إذا دخل في الصلاة صار مهموماً لأن الصلاة ستنقضي، يحمل هَمّاً وهو داخل الصلاة، مصيبة! ستصير المصيبة أنه سينتهي من الصلاة، كما يحمل الفارغ البطال هَمَّ الصلاة؛ متى تنتهي الصلاة؟! انظر الفرق بين الطائفتين! يدخل بعض الناس في الصلاة فيقول في نفسه: طوَّل الإمام! فتراه يتثاقل، ويقدم رِجْلاً ويؤخر أخرى، ويتأفف في الصلاة، هذا في الصلاة، أولاً: متى تنتهي؟! وبعد الصلاة يتبرم ويشتكي ويرفع صوته في المسجد فيقول للإمام: طولت علينا، وبعد ذلك يخرج من الصلاة فيقول: الله لا يبارك في فلان. ما هو الفرق؟! فكلهم بنو آدم! وكلهم بشر! الفرق: محبة الله عز وجل! يحس الواحد عندما يكبر في الصلاة أنه يُقْبِل على الله، وأن الله قد انتصب أمامه؛ لأن الله عز وجل ينتصب لعبده في الصلاة، لذلك الإنسان يستأنس عندما يصلي ويكبر ويُقْبِل على الله عز وجل. " فلهم فيها شأن -للمحبين في الصلاة شأن- وللنقَّارين شأن -النقارون الذين ينقرون الصلاة مثل نقر الغراب أو نقر الديك، لا تلحقه، يسرع، لا تدري هل قال الرجل: (سبحان ربي الأعلى) نصف مرة أو ربع مرة - فله فيها شأن، وللنقَّارين شأن آخر، يشكون إلى الله سوء صنيعهم بها -هؤلاء المحبون يشكون إلى الله سوء صنيع البطالين بالصلاة، كيف ينقرونها نقراً؟! - إذا أتموا بهم، كما يشكو الغافل المعرض تطويل إمامه -شخص يشتكي من الإمام، أحياناً يأتم بواحد مخل بالصلاة يشتكي من فعله بالصلاة ومن تخريبه، وآخر يشتكي من تطويل الإمام في الصلاة- فسبحان من فاضل بين النفوس وفاوت بينها هذا التفاوت العظيم. وبالجملة: فمن كانت قرة عينه في الصلاة فلا شيء أحب إليه، ولا أنعم عنده من الصلاة، ويود أنه لو قطع عمره بها غير مستغنٍ بغيرها وإنما يسلي نفسه إذا فارقها بأنه سيعود إليها عن قرب ((ورجل قلبه معلق المساجد) كلما خرج من صلاة بماذا يفكر؟! متى يأتي وقت الصلاة الجديدة؟! - فهو دائماً يتوق إليها، فلا يزن العبد إيمانه ومحبته لله بمثل ميزان الصلاة -ليس هناك أعظم من ميزان الصلاة- فإنه الميزان العادل ". لذلك -أيها الإخوة- من الحكم كما يقول ابن القيم رحمه الله في النهي عن المرور بين المصلي وبين السترة: أن الإنسان عندما يكبر في الصلاة يقف أمام الله عز وجل، لذلك يكره الإنسان أي شيء يمر أمامه ويقطعه عن الله عز وجل، فلذلك أمر صلى الله عليه وسلم بدفع المار، ونهى عن المرور بين الرجل وبين سترته. فحالُ المحبين الصادقين -أيها الإخوة- هي في الدوام على طاعة الله عز وجل، ولذلك ورد في عدة أحاديث أشياء يحبها الله تعالى، فمن ذلك: (أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قلَّ) فالأشياء التي يداوم عليها صاحبها هي أحب الأعمال إلى الله؛ لذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عمل عملاً أثبته، يعني: دائماً يعمل به، ما ينقطع مرة ويترك مرة ويفعل مرة، فكان إذا نام من الليل أو مرض صلى من النهار -بعد طلوع الشمس- اثنتي عشرة ركعة، وهي السنة لمن فاتته صلاة الوتر في الليل. هذه الصلاة -أيها الإخوة- تحتاج إلى مكابدة، ما تأتي اللذة بها هكذا، تحتاج إلى مجاهدة. لذلك يقول أحد السلف: " كابدت الصلاة عشرين سنة، وتنعمت بها عشرين سنة أخرى " يعني: جلست فترة طويلة حتى أعود نفسي على أن ألتَذَّ بالصلاة، وبعد فترة من الجهاد وصلت إلى المرحلة التي أحس بها في اللذة، لأنه لا يعقل -أيها الإخوة- أن الإنسان إذا قام إلى الصلاة وكبر مباشرة يشعر باللذة، لا. إن اللذة تحتاج إلى مقاومة ومدافعة للوساوس وللشيطان وللدنيا، والمجاهدة على التطويل في الصلاة، وعلى الخشوع، وعلى استحضار معاني الآيات وعلى التفكير، هذا معروف، لا بد من التدرج حتى يصل الإنسان إلى مثل هذه المراحل. تظهر محبة العبد لله على فراش الموت: عند الموت يخرج قلب الإنسان ما فيه كأنك ضغطت على زر مسجل والشريط ظل يتكلم بدون إرادة من المسجل. إن الإنسان في الحياة -يا إخواني- يستطيع أن يسيطر على نفسه، فقد يخفي في قلبه شيئاً ولا يظهره للناس، عنده قوة تحكم وإرادة بهذا، أما عند الموت -الموت إذا نزل نسأل الله السلامة وأن يسلمنا وإياكم في ذلك الموقف الذي لا بد أن يأتي- عند الموت يفقد الإنسان قدرته على التحكم في إظهار ما في قلبه، فتبدأ الأشياء التي في قلبه تظهر على لسانه، فأما من كان محباً لله عز وجل فتظهر الشهادة على لسانه عند الموت وذكر الله بكل يسر وسهولة، لماذا؟ لأن هذا ما يخفيه في قلبه؛ لكن كثيراً من الناس والعياذ بالله يحصل لهم من سوء الخاتمة الأمور العجيبة فتظهر في حال الاحتضار على فراش الموت المكنونات التي كانت مخبأة في القلوب، بعضهم على فراش الموت كان يغني أغنية؛ لأن قلبه متعلق بالأغاني ويحب الأغاني ودائماً يردد الأغاني، ولو أن إنساناً من هؤلاء الإخوة الذين يسمعون الأغاني يحاسب نفسه: هل يردد الأغاني أكثر أو ذكر الله؟ يجد أنه يردد الأغاني أكثر: لأن في السيارة أغاني، وفي البيت أغاني، وينام على الأغاني، ويصحو على الأغاني وهكذا ديدنه، لذلك لا يستبعد حال الموت أن لسانه ينخرس عن ذكر الله ويظهر ما في القلب مباشرة، وهذا حصل في الواقع، وهناك قصص كثيرة لأناس جاءهم الموت وهم يرددون مقطعاً من أغنية لفلان وفلان. وأحدهم قابل أصحاب حادث سيارة على الطريق، فوجد أحدهم النزع الأخير وهو يشتد، فأراد أن يذكره بـ (لا إله إلا الله) قال: قل: (لا إله إلا الله)، فكان يقول: (إِتِّي إِتِّي) يشجع الاتفاق أو الاتحاد، يشجع فريقاً. وبعضهم كان يحب المال والتجارة بشكل كبير طغى على محبته لله عز وجل، فصار وهو على فراش الموت يقول -وأخبرني رجل قريب له أنه حضره عند الموت، وكان تاجراً يبيع القماش فجعل يقول: هذه قطعة جيدة، هذه على قدرك، هذه مشتراها رخيص، يساوي كذا وكذا، حتى مات. وبعضهم يقول: بعتُ واشتريت بفلس بفلس. وبعضهم يقول: شاه ملك، يعني: مات؛ لأنه كان يلعب الشطرنج وهو مغرم به، فكان يقول: مات، يعني: في اللعبة هذه. وهكذا تظهر الأشياء الحقيقية في تلك اللحظة. أما المحبون لله فماذا يظهر على ألسنتهم؟ تظهر الشهادتان؛ لذلك كان لا بد من الإخلاص في الأعمال، ومجاهدة النفس للتخلص من الرياء؛ لذلك كان اهتمام السلف بتصحيح العمل أعظم منه بالعمل، يعني: أن يكون العمل خالصاً لله عز وجل.

خفض البصر أمام المحبوب مهابة له

خفض البصر أمام المحبوب مهابة له كذلك -أيها الإخوة- من علامات محبة العبد لله: أن المحب -الحب الذي فيه تعظيم - عندما يقف أمام محبوبه ينظر إلى الأرض، ولا ينظر إلى وجه محبوبه، مهابةً له وحياءً منه. لذلك -مثلاً- تجد الواحد إذا وقف أمام الرئيس أو أمام الوزير أو أمام الكبير لا يحدق فيه ببصره طوال الوقت، هذا يعتبر من قلة الأدب، وهذه من الأشياء التي تبغض الرئيس، وإنما تجد عيونه في الأرض، مطرقاً، وعليه المهابة، والتعظيم، هذا من التعظيم. إذا وقف الإنسان في الصلاة أين يضع بصره؟ في موضع سجوده، ولا ينظر إلى الأعلى، لماذا نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن النظر إلى السماء؟! وقال: (أما يخشى الذي يرفع بصره في الصلاة أن يحول الله رأسه رأس حمار؟!) لماذا هذا الوعيد الشديد؟! لأن من محبة الله عز وجل التي يقترن بها التعظيم أن تضع بصرك كالمطأطئ له، المعظم مهابةً وخشوعاً. وهذا الحديث أحد الأدلة على أن الله في السماء، لذلك نهى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يرفع المصلي بصره إلى الله عز وجل، وإنما ينظر إلى الأرض مهابةًَ له، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤدباً جداً في غاية التأدب لما صعد إلى الله عز وجل في المعراج، ماذا قال الله تعالى: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17] فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لما صعد إلى الأعلى ما جلس ينظر هناك عند الله عز وجل، وإنما أطرق في الأرض تعظيماً ومهابةً لله: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17].

محبة دار المحبوب

محبة دار المحبوب ومن هذه الأشياء أيضاً: محبة دار المحبوب: ألا ترى أن الإنسان في الدنيا إذا أحب شخصاً ازداد تكرار زيارته له ومجيئه إليه في بيته، وتراه دائماً يحضر إليه، يجلس معه، ويذهب إليه، حتى لو كان بعيداً يسافر إليه؛ لذلك جعل الله تعالى الحج إلى بيته العتيق من علامات المحبة، وكانت نفوس المحبين تتعلق ببيت الله عز وجل، لا لأنه أحجار ولأنه بناء بهذا الشكل؛ وإنما لأن الله أضافه إلى نفسه فقال: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} [الحج:26] أضاف البيت إلى نفسه.

محبة أحباب المحبوب

محبة أحباب المحبوب كذلك محبة أحباب المحبوب من الأشياء التي يُستدل بها على محبة الإنسان لله: لذلك كانت مجالسة العلماء والصلحاء والأخيار وأولياء الله عز وجل من الأمور المطلوبة شرعاً، بدلاً من مجالسة أهل السفاهة والضلال والإفساد في الأرض، وقد بلغ الأمر الآن ببعض الناس الذين يحبون -مثلاً- أن يحب أحدهم امرأة ويهواها هوىً شديداً، حتى تجد أن قلبه يتعلق بكل ما يتعلق بها، فتجده يحب حتى حذاءها ونعلها وثوبها، ويحب هذه التوافه، وتجد بعضهم في أشعارهم -بعض هؤلاء الماجنين- يقول: وأحببت فيها حتى كذا وحتى كذا من الأشياء التافهة. انظر إلى أنس بن مالك في الحديث عندما كان يقول: (فأنا أحب الدُّبَّاء كثيراً) الدُّبَّاء هذا: نوع من القرع، لماذا كان يحب أنس الدُّبَّاء؟! لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحب الدُّبَّاء، وكان يتتبعها في الصحفة، يعني: رأى أنس الرسول صلى الله عليه وسلم يتتبع الدُّبَّاء في جوانب الصحفة -صحفة الطعام- لاحظوا -يا جماعة- أن هذه القضية ليست بسيطة -يعني: هذه قضية أكل- فانتقلت المحبة هكذا، فصار أنس يحب الدُّبَّاء؛ لأن الرسول يحب الدُّبَّاء، وهذه المسألة ليست مطلوبة شرعاً، وليست من السنن؛ لأن السنن تنقسم إلى قسمين: - سنة عادة. - وسنة عبادة. وهذه من سنن العادة، لكن وصل الأمر بالصحابي إلى هذه الدرجة.

بذل النفس في رضاء المحبوب

بذل النفس في رضاء المحبوب كذلك كان من واجبات الحب في الله أو المحب لحبيبه أن يبذل نفسه في رضاء المحبوب:- حتى بذل الصحابة أنفسهم رضوان الله عليهم في الدفاع عن الرسول صلى الله عليه وسلم في المعارك؛ لأنهم يحبونه، فكان أحدهم يأتي أمام الرسول والسهام تتطاير ويقول: (يا رسول الله! نحري دون نحرك) يصيبني ولا يصيبك، فإذا كانت هذه هي حالهم في محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، فكيف حالهم في محبة رب الرسول صلى الله عليه وسلم؟! لذلك يقول أحد الصحابة رضي الله عنهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم: ثوى في قريش بضع عشرة حجة يذكر لو يلقى حبيباً مواتيا ظل يدعو الكفرة في قريش بضع عشرة حجة! وليس هناك فائدة! ويعرض في أهل المواسم نفسه فلم يرَ مَن يؤوي ولم ير داعيا فلما أتانا واستقرت بها النوى وأصبح مسروراً بطَيْبَة راضيا بذلنا له الأموال من حل مالنا وأنفسنا عند الورى والتآسيا نعادي الذي عادى من الناس كلهم جميعاً وإن كان الحبيبَ المصافيا ونعلم أن الله لا رب غيره وأن رسول الله أصبح هاديا يعادون من يعادي الرسول صلى الله عليه وسلم، ويدافعون عنه، ويبذلون أموالهم. هذه هي الأشياء التي تدل على المحبة.

الأسباب التي تجلب محبة الله

الأسباب التي تجلب محبة الله كذلك -أيها الإخوة- هناك أسباب جالبة للمحبة منها:

قراءة القرآن

قراءة القرآن قراءة القرآن الكريم، وتدبره، والتفهم لمعانيه، وما أُرِيْدَ به: قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله: " لا شيء عند المحبين أحلى من كلام محبوبهم، فهو لذة قلوبهم، وغاية مطلوبهم ".

التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض

التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض كذلك من ضمن الأشياء التي تؤدي إلى المحبة: التقرب إلى الله عز وجل بالنوافل بعد الفرائض: فإنها توصل إلى درجة عالية من المحبة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث القدسي عن ربه عز وجل: (إن الله تعالى قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه). فإذاً: التقرب إلى الله بالنوافل من أسباب محبة الله عز وجل، حتى يصل الأمر إلى درجة عظيمة جداً كما في الحديث: (فإذا أحببته -ماذا يحصل؟ - فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه).

إيثار محبة الله على محاب النفس

إيثار محبة الله على محاب النفس كذلك -أيها الإخوة- إيثار محبة الله على محاب النفس وما يحبه الله على هوى النفس: الإيثار يقتضي شيئين: - الأول: فعل ما يحبه الله إذا كانت النفس تكرهه: أحياناً النفس تكره شيئاً من العبادة، كأن يكون فيها بخل أو شح أو كسل، فالإيثار الحقيقي أن تقدم محبة الله على كره نفسك. - النوع الثاني من الإيثار: ترك ما يكرهه الله عز وجل حتى لو كانت نفسك تحبه وتهواه.

التفكر في بر الله وإحسانه وآلائه

التفكر في بر الله وإحسانه وآلائه كذلك من ضمن الأمور: مشاهدة بر الله وإحسانه وآلائه ونعمه الباطنة والظاهرة فإنها داعية إلى المحبة: الناس في الدنيا يحبون من أحسن إليهم؛ لأن النفوس جبلت على حب من أحسن إليها؟! إذا أعطاك إنسان أشياءً وأنعم عليك بأشياءٍ طيبة وأهداك ألا تحب هذا الرجل؟! نعم. فإذاً: من الأشياء الجالبة للمحبة: أن تتفكر في نعم الله عز وجل، التي لا تعد ولا تحصى. مثال: هذا التنفس أليس هو نعمة من الله عز وجل؟! لولا التنفس لانقطع عنك النَّفَس -لا سمح الله- ولو انقطع ماذا يحصل بك؟! تموت، ما هي إلا بضع دقائق فتختنق وتموت، كل نفس لوحده نعمة من الله عز وجل، كم نتنفس نحن الآن، كم نتنفس في الدقيقة؟! لا أدري كم يقول الأطباء؟! كم نَفَساً في الدقيقة؟ ثلاثون؟ عشرون! لم تحسب المسألة، فكم نَفَساً في اليوم! تجد أنها قريبة من أربعين ألف نَفَس، كل نفس بحد ذاته نعمة من الله عز وجل. كل يوم أربعون ألف نعمة هذا فقط في نعمة التنفس وأما النعم الأخرى فلم نحسبها، فعندما نستشعر هذه الأشياء نحب الله عز وجل، عظمت كثرة النعمة وأحسسنا بها أحببنا الله عز وجل أكثر وأكثر. فلذلك كان التفكر بنعم الله على عباده، وبره بهم، وإحسانه إليهم، وحفظه لهم، يؤدي للمحبة: {قُلْ مَنْ يَكْلَأُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ} [الأنبياء:42] مَن الذي يحفظكم غير الله عز وجل؟! هل هناك أحد يحفظ البشر غير الله عز وجل؟! {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34]. كذلك -أيها الإخوة- من نعم الله عز وجل: أنه فتح لنا باب الدعاء وباب الإجابة: هذه نعمة عظيمة، تأمل معي في هذا الحديث، حديث النزول الإلهي! (ينزل الله عز وجل كل ليلة إلى السماء الدنيا) تأمل في هذه النعمة، ينزل الله عز وجل كل ليلة إلى السماء الدنيا، يسأل عن عباده، ويستعرض أحوالهم، ويستعرض حوائجهم بنفسه، ويدعوهم إلى سؤاله، فيدعو مسيئهم إلى التوبة، ومريضهم إلى أن يسأله أن يشفيه، وفقيرهم إلى أن يسأله غناه، وذا حاجتهم أن يسأله قضاء حاجته في كل ليلة، (ينزل الله إلى السماء الدنيا في كل ليلة فيقول: هل من سائل فأعطيه؟ هل من تائب فأتوب عليه؟) إلى آخره، ينزل الله إلى السماء الدنيا يتفقد حوائج عباده بنفسه عز وجل، ويطلب. فيقول: يا أيها العباد اسألوني، اسألوني أعطِكم هل تريد أعظم من هذه النعمة؟! تأمل معي هذه الآية في سورة البروج! قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج:10] الآن تتكلم الآية عن ماذا؟ تتكلم عن أصحاب الأخدود هؤلاء الطواغيت الذين أحرقوا المؤمنين لما رفضوا العبودية لغير الله، أحرقوهم داخل الأخاديد التي شقوها في الطرقات، ماذا قال الله عز وجل عن هؤلاء الفجرة الكفرة الذين أحرقوا المؤمنين؟ قال: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [البروج:10] يعني: فتنوهم عن دينهم وعذبوهم وأحرقوهم: {ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج:10] تصوَّر! مع هذه الشناعة في الأعمال، أحرقوا عباده ودفنوهم في الأخاديد، ثم قال الله تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} [البروج:10] ما قطع عنهم التوبة قال: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} [البروج:10] يعني: لو أنهم تابوا لتاب عليهم، مع شناعة جرمهم كان تاب عليهم.

التفكر في أسماء الله

التفكر في أسماء الله كذلك -أيها الإخوة-: مطالعة القلب لأسماء الله وصفاته ومشاهدتها ومعرفتها وتقلب النفس في رياض هذه الأسماء من أعظم الأسباب الجالبة للمحبة: أسماء الله وصفاته عظيمة، ما يكفي أن نطبع هذه الأسماء في أوراق صغيرة ويأتي الواحد يقرأها قراءة عادية ويضعها في مكان، لا. وإنما عليه أن يفكر في هذه الأسماء! ماذا تعني كلمة الرحمن؟! ماذا تعني كلمة الرحيم؟! ماذا تعني السميع، البصير، الودود؟! الودود: المتودد إلى خلقه، إنها أسماء عظيمة إذا تأملنا في معانيها، وكل اسم له معنى يدل عليه تختلف عن الأسماء الأخرى مع ترابطها مع بعضها ودلالتها على ذات واحدة هي ذات الله عز وجل، هذه أشياء تجلب المحبة للنفس. لذلك كان المؤولة المعطلة بقايا الفرعونية والجهمية قُطَّاع الطرق ولصوص القلوب الذين يسرقون حب الله من قلوب عباده، وليس هذا الآن مجال الرد عليهم وتبيان شبههم، ولكن تأمل أسماء الله ومعرفة معانيها مهم جداً لمحبته عز وجل. ولذلك تفاوت الخلق بمنازلهم ومراتبهم في محبة الله على حسب تفاوت مراتبهم في معرفة الله والعلم به، فأعرفهم بالله أحبهم له، ولهذا (كان رسول الله صلوات الله وسلامه عليه أعظم الناس حباً له، والخليلان من بينهم أعظمهم حباً، وأعرف الأمة، وأشدهم حباً لله؛ خليل الله محمد صلى الله عليه وسلم، وخليل الله إبراهيم) أفضل الأنبياء قاطبة محمد صلى الله عليه وسلم، ويليه في الأفضلية كما قال علماء السلف أهل السنة والجماعة: إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام.

الانكسار والخضوع بين يدي الله عز وجل

الانكسار والخضوع بين يدي الله عز وجل وأيضاً -أيها الإخوة- من الأشياء التي تجلب المحبة: الانكسار بين يدي الله عز وجل والتذلل له والخضوع والإخبات والانطراح بين يديه والاستسلام له: فما أقرب الجبر من هذا القلب المكسور، عندما ينكسر الإنسان أمام الله، ويُظْهِر الضعف والاستكانة، فإن الله عز وجل يجبر هذا الكسر، ويقوي هذا الضعف، ويغني هذا الفقر، وما أدنى النصر والرحمة والرزق من حال الإنسان المتذلل الكسير أمام ربه الذي يُظْهِر ضعفه وحاجته ولجوءه إلى الله عز وجل. يضرب ابن القيم رحمه الله مثلاً جميلاً لانطراح الإنسان أمام الله عز وجل، ثم إقبال الله على هذا الإنسان، يقول: " تأمل هذا الحال - وهذا الحال يُشْبِه ليس هو مثله بالضبط- فإن انطراح الإنسان وإقبال الله عليه كرجل كان في رعاية أبيه، يغذيه أبوه بأفضل الطعام والشراب واللباس، ويربيه أحسن التربية، ويرقيه على درجات الكمال أتم ترقية، فيبعثه أبوه في حاجة له، فيخرج عليه في الطريق عدو يأسر هذا الولد ويكتفه ويشد وثاقه، ثم يذهب به إلى بلاد الأعداء ويسومه سوء العذاب، ويعامله بضد ما كان أبوه يعامله أبوه، فهو يتذكر تربية أبيه، وإحسان أبيه، وبر أبيه به، وعطفه عليه، الفينة بعد الفينة -كلما يعذَّب يتذكر تلك الأيام- فبينما هو في أسر عدوه يسومه سوء العذاب ويريد نحره في آخر الأمر -يعني: ذبحه- إذ حانت منه التفاتة إلى ديار أبيه، فرأى أباه قريباً منه، فسعى إليه، وألقى نفسه عليه، وانطرح بين يدي أبيه، يستغيثه: يا أبتاه يا أبتاه يا أبتاه انظر إلى ولده وما هو فيه، ودموعه تستبق على خديه، قد اعتنقه أباه والتزمه وعدوه يسعى في طلبه حتى وقف على رأسه والابن منطرح متمسك بأبيه، فهل تقول أنت أيها الإنسان: إن والده يُسْلِمُه مع هذه الحال إلى عدوه ويخلي بينه وبين العدو؟! ". إنسان اجتاله الشيطان عن طريق الله، كان يمشي في طريق الله، والله عز وجل منعم عليه، يطيع الله عز وجل, ويرغب إلى الله عز وجل بالطاعات ويفعلها، ثم اجتاله الشيطان -انتكس هذا الرجل- وذهب الشيطان به ينزله منزلة بعد المنزلة في العصيان حتى أوشك أن يهلكه ويقذفه في مهاوي الكفر والضلال، ثم إن هذا الرجل الذي أغواه الشيطان التفت وأحس بالله عز وجل قريباً منه ينتظر متى يتوب، فانقلع عن هذه الأشياء وفر من الشيطان وطرق الضلال إلى الله عز وجل معترفاً بذنبه مقراً، يطلب التوبة واللجوء إلى الله، هل يطرده الله عز وجل ويرده خائباً؟!

مجالسة المحبين الصادقين

مجالسة المحبين الصادقين كذلك -أيها الإخوة-: مجالسة المحبين الصادقين والتقاط أطايب الثمرات من كلامهم كما يُنْتَقى أطايب الثمر، وهذه النقطة من الطرق العظيمة التي توصل إلى محبة الله: لذلك كان لا بد من الرفقة الصالحة، والجماعة الصالحة، ولا بد لكل إنسان بل يجب عليه فرضاً، خصوصاً في هذا العصر أن يبحث عن رفقة صالحة يجتمع معهم ويجالسهم ويتعلم منهم وينتفع بهم: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62 - 63].

اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم والزهد في الدنيا

اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم والزهد في الدنيا اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم من الأسباب العظيمة لمحبة الله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]. الزهد في الدنيا والتقلل منها من أسباب محبة الله: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الحسن: (إن مطعم ابن آدم قد ضرب للدنيا مثلاً) -هذا الطعام الذي نأكله نحن الآن الغداء والعشاء هذا مثل للدنيا، كيف؟ - يقول عليه السلام: (فانظر ما يخرج من ابن آدم، وإن قزَّحه وملحه قد علم إلى ما يصير) هذا الطعام تطبخه وتعتني فيه وتملحه وتحسنه وتعتني بطهيه، وترى شكله الآن جميلاً قبل أن تتناوله، فإذا أكلته كيف يخرج منك بعد ذلك؟! قاذورات ونجاسات، هكذا حال الدنيا. انظر إلى دقة الرسول صلى الله عليه وسلم في المثل، يضرب الطعام هذا بمثل الدنيا هذه، في البداية تكون جميلة، لكن ماذا تصير بعد ذلك؟!

الصدق في الحديث وأداء الأمانة وحسن الجوار

الصدق في الحديث وأداء الأمانة وحسن الجوار كذلك -أيها الإخوة-: الصدق في الحديث، وأداء الأمانة، وحسن الجوار: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من سره أن يحب اللهَ ورسولَه أو يحبه اللهُ ورسولُه فليصدق حديثه إذا حدث، وليؤدِّ أمانته إذا اؤتُمِن، وليُحسن جوار من جاوره). إن البحث مازال فيه أشياء كثيرة، فما هي الخصال التي يحبها الله عز وجل؟! ترجع إلى أحاديث كثيرة مثل: أحب الأعمال إلى الله كذا وكذا، إن الله يحب كذا وكذا. أشياء كثيرة في القرآن والسنة، يقول تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222]. لكن -أيها الإخوة- لا أرى الآن المجال لذكرها، لأن الوقت قد طال بنا، فنقتصر على ما ذكرناه فيما يتعلق بهذا الموضوع (محبة الله والطريق إليها). نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن يحبهم ونحبه حق المحبة عز وجل، وأن يوفقنا إلى ذلك، وأن يجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاه عز وجل، وأن يرزقنا وإياكم حسن الخاتمة، وأن يوفقنا لطرق محبته وذكره حق الذكر والثناء عليه سبحانه وتعالى، وصلى الله على سيدنا محمد.

الأسئلة

الأسئلة

أخذ رأي المرأة عند الزواج

أخذ رأي المرأة عند الزواج Q تقول السائلة: ما حكم أخذ رأي المرأة عند الزواج؟ A حكم الإسلام في أخذ رأي المرأة عند الزواج معروف وواضح، ألا وهو: أنه لا يجوز لولي المرأة أن يزوج ابنته أو أخته -مثلاً- إلا برضاها، إذا لم تكن راضية لا يجوز له أن يزوجها، ويأثم لو زوَّجها بغير رضاها؛ بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد فسخ نكاح امرأة زوجها أبوها بدون رضاها جاءت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم تشتكي أنها لا تريد فلاناً وقد زوَّجها، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ارجعي) أرْجَعَها، فلا بد من أخذ رأي المرأة. لكن أحياناً قد يتقدم إلى الفتاة رجلان: - أحدهما مطيع لله عز وجل، يخاف الله عز وجل، تقي؛ لكن المرأة تقول: لا أريده. - ويأتي رجل آخر عاصٍ فاسق متلبس بالمعاصي؛ وتقول المرأة: أريد هذا. عند ذلك رأي المرأة لا قيمة له شرعاً ولوليها أن يرفض أي رجل يتقدم إليها إذا كان من غير أهل الصلاح. يقول الشيخ ابن عثيمين: " ولا يأثم ولي المرأة إذا رد كل خاطب فاسق لا يؤتمن على دينه، حتى لو بقيت المرأة بغير زواج طيلة حياتها " وهذا الكلام يريحنا تماماً عندما تعترض امرأة على أبيها وتقول له عندما تبلغ حد العنوسة: ما زوجتني أنت فعلت بي كذا أنت أوصلتني إلى هذه الدرجة أنت كذا أنت ضريتني أنت كذا لو أخذت فلاناً كنت الآن مبسوطة ولو أخذت فلاناً إلخ. هذا خطأ، إذا كان الرجل المتقدم عاصياً لله عز وجل.

جواز ترك الجماعة لعذر شرعي

جواز ترك الجماعة لعذر شرعي Q أنا رجل أعمل في الجبيل وأعود إلى الخُبَر يومياً، والشركة التي أعمل فيها عندها حافلتان، الأولى تتحرك الساعة الثالثة والنصف، والثانية تتحرك الساعة الخامسة، والساعة الثالثة والنصف فيها إقامة الصلاة، فلو صعدت في الحافلة الأولى فلا أصلي العصر جماعة، ولو صليت العصر فسوف أنتظر ساعة ونصف حتى أرجع مع الحافلة الثانية، فما هو الحكم؟ A يقول الشيخ ابن عثيمين جزاه الله خيراً في هذا السؤال: " هذا عذر له في ترك الجماعة " إذا كان سيتأخر ساعة ونصف لكي يدرك الجماعة فإنه يجوز له أن يصعد في الحافلة الأولى ويصلي العصر هنا، طبعاً إذا كان سيمكنه؛ ولا يخرج الوقت إذا جاء، فيجوز له هذا.

كراهية التحدث بالرؤية السيئة

كراهية التحدث بالرؤية السيئة Q أحياناً يرى الإنسان أشياء طيبة وغير طيبة، فهل يحدث بكل ما يراه؟ A إذا كان طيباً يحمد الله، وإذا كان سيئاً يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، وإذا كان بعضه طيب وبعضه سيئ ماذا يفعل؟ أجاب عن هذا السؤال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز فقال: " يحمد الله على الجزء الطيب من الرؤيا أو هذا المنام، ويستعيذ بالله من الأشياء السيئة التي رآها.

حكم الأوراق المكتوب عليها (حاسب نفسك) أو ما شابهها

حكم الأوراق المكتوب عليها (حاسب نفسك) أو ما شابهها Q عن الأوراق التي مكتوب فيها (حاسب نفسك) وفيها: هل أديت صلاة الفجر في جماعة؟ هل صليت كذا؟ هل المحاسبة بالأسئلة، أظن رأيتموها؛ لأنها منتشرة ومطبوعة. A هذه يقول فيها الشيخ ابن عثيمين: " هذه من البدع، والسلف رحمهم الله تعالى ما حاسبوا أنفسهم بهذه الطريقة "، ويقول: " وللأسف كُتِبَت على هذه الأوراق آية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر:18] ثم جاء بهذه الأسئلة الطويلة، يقول الشيخ ابن عثيمين: " هل هذه الآية نزلت بعد السلف؟! " لا. هل السلف يعرفون في المحاسبة أقل منا، ونحن نعرف أكثر منهم؟! لا. يقول: فهذه الأوراق أو المحاسبة بها بدعة، وهناك أيضاً بعض النماذج فيها سطور، وتضع (صح)، صليت (صح) (صح) (خطأ) وتجمع العلامات، إذا كنت أكثر من هكذا تصير طيِّباً، وما كنت كذا فهذه -أيها الإخوة- ليست من طرق المحاسبة الشرعية إطلاقاً، والشيخ ابن عثيمين يشدد فيها كثيراً، فقد: قال فيها كلاماً شديداً، ثم قال: " ما أحسن أن يأتي طلبة العلم إلى العلماء ويسألونهم عن مثل هذه الأشياء؛ حتى يبينوا هذه البدع للناس! وقال أيضاً من ضمن التعليلات قال: " أحياناً الإنسان يرى أنه إذا فعل طاعة في يوم معين بالنسبة له يستطيع أن يفعل أكثر من طاعة أخرى؛ ولكن هذه الورقة تلزمه؛ لا بد أن يفعل جميع البنود، مع أنه قد يرى أن فعل بند معين أكثر من مرة يعني: هو مُقْبِل عليه أكثر من فعل بند معين مثلاً. ومن ضمن الأشياء -مثلاً- قال: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (أحب الصيام إلى الله صيام داوُد، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً) قال: ومع ذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يصوم يوماً ويفطر يوماً، هل خالف الرسول صلى الله عليه وسلم الشرع؟ قال: لا؛ لكن كانت عنده شواغل تشغله على أن يصوم يوماً ويفطر يوماً، كان يحتاج قوته ليستجمعها في الجهاد. وفي المعارك، وفي السفر، فما كان يصوم يوماً ويفطر يوماً.

حكم قراءة الإنجيل

حكم قراءة الإنجيل Q هل يصح قراءة كتاب الإنجيل؟ ولماذا؟ أرجو التوضيح. A قراءة الكتب الأخرى المحرفة -وليس هناك أصلاً كتب ليست محرفة إلا القرآن الكريم- غير جائزة بتاتاً، فقد شنع الرسول صلى الله عليه وسلم على عمر تشنيعاً شديداً لما رأى في يده صفحة من التوراة، والذي يقرأ فيها كأنه يقول: إن القرآن ما يكفيني لذلك، وإنما يريد أن يتوسع. لو قال أحدهم: أنا أقرأ من باب حب الاستطلاع، نقول له: أيضاً ما يجوز. لماذا؟ لأنه قد يدخل في نفسك شيء من الشبه، وأنت تقرأ من باب حب الاستطلاع، فلو تقفل هذا الباب يكون أحسن. لكن أجاز بعض أهل العلم قراءة هذه الكتب في حالة واحدة وهي: لمن كان على علم يعني: كان عالماً في أمور الدين، وشبه اليهود والنصارى، فقرأها ليرد عليهم ويناقشهم، مثل ما يفعل الآن بعض كبار المفكرين من المسلمين يضطرون للمناظرات مع الكفار، ولا بد أن يقرءوا ليقول لهم: أنتم قلتم في كتابكم كذا، وهذا خطأ، أنتم تقولون: كذا، والذي في كتابكم يخالف إلى آخره. فلا يجوز قراءتها إلا للعلماء من أجل مناظرة الكفار ودعوتهم إلى الله عز وجل.

ترك سماع الأغاني وحكم ترديدها سرا

ترك سماع الأغاني وحكم ترديدها سراً Q بفضل من الله تركت الأغاني والموسيقى؛ ولكنني أردد الأغاني بيني وبين نفسي فهل هذا حرام؟ A طبعاً هذا الشيء واقعي، فالقضية ليست غريبة؛ لأن هذا الشيء يكون تلقائياً لماذا؟ لأن الإنسان عندما يعيش في جاهلية جهلاء يعني: في معاصٍ، وأغانٍ، ويرتكب جميع أنواع المعاصي، فالأغاني هذه يسمعها يومياً ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً، في الطريق وفي السيارة وفي البيت، فكثرة السماع تطبع الأغاني في القلب طبعاً، ويحفظ الإنسان هذه الأشياء فيصير يرددها بين الحين والحين بغير حس أو شعور، بغير ما يشعر تجد لسانه ينطلق بالأغاني، هذا واقع، وعندما يهديه الله عز وجل تبقى في النفس -أيها الإخوة- رواسب من الجاهلية؛ لذلك كما يقول أحد كبار المفكرين في هذا العصر الأستاذ سيد رحمه الله تعالى يقول: " فلا بد للإنسان الذي يدخل عتبة الإسلام أن يخلع -الذي يدخل في الإسلام ويلتزم به- أن يخلع على عتبة الإسلام جميع ملابس الجاهلية ". من ملابس الجاهلية مثلاً: الأغاني، فالإنسان حتى بعد أن يمن الله عليه بالهداية والتوفيق؛ لابد أن تبقى فيه رواسب. أبو ذر رضي الله عنه مع صدقه وثبوت قَدَمِه في الإسلام حصل له موقف مع بلال رضي الله عنه، وقال له كلمة، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنك امرؤ فيك جاهلية) فالآن -أيها الإخوة- هذه حال كثير من الإخوة الملتزمين، فإنه لا يزال في أنفسهم أو لا يزال في بعض النفوس رواسب جاهلية سابقة تظهر بين الحين والحين، وليس بغريب أن الواحد أحياناً وهو ملتزم ينتبه فجأة وإذا به يردد أغنية، لماذا؟ لأنه أساساً عندما كان في ماضيه الأسود كان يحفظ هذه الأشياء وقد ترسَّخت في داخله، فتنطلق منه أحياناً بغير شعور. فينبغي إذا حصل منه هذا أن يتوب إلى الله ويستغفره، ويحاول أن يجاهد نفسه قدر الإمكان، ويخلص نفسه من هذه الألبسة الجاهلية، وإلا فإن هذه الملابس ستثور عليه يوماً ما وتطغى عليه وينتكس ويعود إلى الماضي.

كفارة الحلف على شيء واحد أكثر من مرة

كفارة الحلف على شيء واحد أكثر من مرة Q ما كفارة الحلف على شيء واحد أكثر من مرة؟ A قال العلماء إذا أقسم عدة أقسام على شيء واحد، ثم نكث بيمينه، فالكفارة واحدة، مثلاً: إنسان أقسم في يوم خمس مرات أنه لا يشرب السيجارة، يعني: أقسم خمس مرات، في الصباح، وفي الظهر، وفي العصر، وفي المغرب، وفي العشاء، ولكنه ما استطاع أن يصبر فشرب سيجارةً في الليل؟ فعليه كفارة يمين واحدة. أما إذا أقسم ثم نكث بيمينه، ثم أقسم ثم نكث بيمينه، هذا حالته مختلفة، نحن نتكلم على شخص أقسم أكثر من مرة على شيء ثم نكث فيه مرة واحدة فهذا عليه كفارة واحدة، كفارة يمين واحدة: إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم، أو تحرير رقبة، {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة:89] وهذا لا يعني أنك عندما تصبح عليك كفارة تشرب السيجارة، لا. الكفارة تكون إلزاماً عليك بالإضافة إلى الإثم الذي ترتب عليه من شرب السيجارة.

الحل لترك سماع الأغاني

الحل لترك سماع الأغاني Q أنا والحمد لله أؤدي الصلاة وتوجد لدي الأشرطة الدينية؛ ولكن مشكلتي أنني أحاول ألا أسمع الأغاني، ولكن محاولتي تبوء بالفشل، أفيدونا جزاكم الله خيراً؟ A هذه المحاولات والحمد لله تدل على أنك اهتديت، وأديت الصلاة، وعندك أشرطة إسلامية طيبة تنتفع بها، وهذه مهمة -أيها الإخوة- إيجاد البديل، فالواحد عندما يكثر من سماع الأغاني ثم يتوب لا بد أن ينشغل بأشرطة أخرى طيبة، أشرطة أخرى فيها مثلاً: أشياء حماسية، أو فيها مثلاً: أناشيد حماسية، ليست بالأناشيد الصوفية الضالة -مثلاًَ- أو فيها -مثلاً- أخلاقيات أو تعلم النفس الشمائل الطيبة، لا بأس بهذا، وكذلك المحاضرات، والخطب المفيدة، لا بد من الاستبدال، لا بد من استبدال السيء بالحسن، أما المحاولات -يا أخي- فلا بد أن تجاهد نفسك، وكما ذكرنا أن الوصول إلى هذه المراتب يحتاج إلى مجاهدة، ويحتاج إلى شدة وإلى معاناة؛ ولكن يعتمد على ضعف الإيمان وقوة الإيمان. وليس هناك وصف سحري أول ما تستخدمه تترك الأغاني، هذا غير ممكن، لا بد من مجاهدة، ولا بد من الاحتكاك ومخالطة الأصحاب الطيبين الذين يشغلون وقتك بالعلوم النافعة والأشياء الطيبة عن سماع مثل هذه الأغاني، وحاول ألا تخلو بنفسك حتى يسوِّل لك الشيطان؛ لأن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد. وفقنا الله وإياكم لطاعته ومحبته. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

أهمية الرفق في حياة المسلم

أهمية الرفق في حياة المسلم الرفق هو لين الجانب بالقول والفعل، والأخذ بالأسهل والألطف، وهو أهم ما يكون في حياة المسلم وبالذات في حياة الداعية؛ لأنه يواجه الكثير من الأشياء التي يحتاج فيها إلى اللين والرفق، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم هو القدوة لجميع الدعاة في هذا الجانب، فهو أرفق الناس بأمته عليه الصلاة والسلام.

أهمية الرفق

أهمية الرفق الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. إخواني في الله! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛ فهذا موضوعٌ أخلاقيٌ عظيمٌ من الأخلاق الفاضلة التي حث عليها الإسلام حثاً شديداً كما سيتبين معنا إن شاء الله في طيات الآيات والأحاديث، وهذا الموضوع -أيها الإخوة- موضوع الرفق يدخل في أعمال كثيرة من الأعمال التي يقوم بها الإنسان المسلم، ولعلكم تتبينون معي إن شاء الله تعالى بحوله وقوته دخول هذا الخلق العظيم في مواضيع شتى من الأشياء التي يؤديها المسلم يومياً، بل إنه يدخل في أبواب عظيمة من أبواب الإسلام. والرفق -أيها الإخوة- كما يعرفه علماؤنا يقولون: الرفق: هو لين الجانب بالقول والفعل، والأخذ بالأسهل واللطف وحسن الصنيع، وضده العنف والشدة, والرفق -أيها الإخوة- نعمة عظيمة من نعم الله عز وجل، من أعطاه الله إياها، فقد فاز بخيرٍ عظيمٍ في الدنيا والآخرة، ولذلك امتن الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم بأنه رفق ولان لإخوانه المسلمين، فجمعهم الله عز وجل على رسوله بهذا الرفق وبهذا اللين، فقال عز وجل: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] قال ابن كثير رحمه الله: أي لو كنت سيئ الكلام، قاسي القلب عليهم، لانفضوا عنك وتركوك، ولكن الله جمعهم عليك، وألان جانبك لهم تأليفاً لقلوبهم. فالدرس الأول من هذه الآية يا إخواني: أنك إذا سألت ما هو الشيء الذي يجمع قلوب الناس وأنفسهم في مجتمع واحد على رجل واحد تكون كلمتهم واحدة ويداً واحدة؟ إنه الرفق واللين الذي قال الله تعالى عنه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران:159] وإذا سألت عن سبب تفرق القلوب الذي ينتج عنه تفرق الأجسام والتنازع الذي يحصل بين أفراد المجتمع، فاعلم يا أخي المسلم بأنه العنف والحدة والغلظة التي هي ضد الرفق، ولذلك قال عز وجل: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159]. ولذلك كان وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن قول الله عز وجل: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] فهو إذاً بالمؤمنين رءوفٌ رحيمٌ، أما صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتب المتقدمة من قبلنا، فهو ما رواه البخاري رحمه الله تعالى بإسنادٍ صحيح إلى عبد الله بن عمرو بن العاص أن هذه الآية التي في القرآن: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} [الأحزاب:45] قال: (في التوراة مقابل هذه الآية: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً، وحرزاً للأميين أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، ولا سخاباً في الأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن ليعفو ويصفح، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا لا إله إلا الله، ويفتحوا بها أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً). رواه البخاري. فالشاهد من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة قوله: ليس بفظ ولا غليظ، ولا سخابٍ في الأسواق، فالرسول صلى الله عليه وسلم ليس فظاً، ولا غليظاً، وهذه الصفة في الرسول صلى الله عليه وسلم هي التي جمعت عليه الصحابة، وفتحت له قلوب الناس، فكانوا معه يداً واحدة، يأتمرون أمرهم على قلب رجلٍ واحدٍ هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجب على كل رجل يريد أن يؤلف الناس على الإسلام أن يلين لهم ويرفق بهم، وهذا الخلق العظيم من الأخلاق التي يحبها الله عز وجل، فلذلك روى الإمام مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف) قال ابن حجر رحمه الله في كتاب الأدب من صحيح البخاري عن هذا الحديث: يعني: أن الرفق يتأتى معه من الأمور ما لا يتأتى مع ضده، تأتيك بالرفق أشياء، وتنفتح لك مغاليق أمورٍ لا تنفتح لك بغير الرفق مطلقاً، ولذلك قال الشاعر: من يستعن بالرفق في أمره قد يخرج الحية من جحرها أشياء كثيرة قد تبدو مستحيلة في ظاهرها، وفي بداية الأمر صعبة جداً، تنال بالرفق، الرفق هو الذي يأتيك بها؛ لأن الله كتب أنه يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، يعطي عليه أشياء صعبة مستحيل أن يعطيها بغير الرفق، أما بالعنف، فلا يأتي شيء البتة، ولا تستفيد منه مطلقاً، وتظل الأمور منغلقة عليك. والقول الثاني في هذا الحديث كما يقول ابن حجر رحمه الله: وقيل المراد يثيب على الرفق ما لا يثيب على غيره، يعني: يعطي ثواباً على الرفق ما لا يعطي على شيء آخر، ولذلك يقول عليه السلام مبيناً الأثر السلبي والدرجة الواطئة التي يكون عليها الرجل العنيد الذي حرم الرفق بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد والترمذي عن أبي الدرداء مرفوعاً: (من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظه من الخير، ومن حرم حظه من الرفق فقد حرم حظه من الخير) إذا لم يوجد رفق يعني: لا يوجد خير، هكذا بهذه البساطة، ويقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الآخر: (من يحرم الرفق يحرم الخير كله) قال النووي رحمه الله: أي: يحرم كل الخير الناشئ والناتج من الرفق، وغلظ القلب كما قال العلماء: هو عبارة عن تجهم وجه، وقلة الانفعال في الرغائب، وقلة الإشفاق والرحمة، ومن ذلك قول الشاعر: يبكى علينا ولا نبكى على أحد لنحن أغلظ أكباداً من الإبلِ فالذي ليس عنده رفق، ولا عنده هذا اللين، لن يبكي على المحرومين من خلق الله مطلقاً.

أبواب يدخل فيها الرفق

أبواب يدخل فيها الرفق والرفق أيها الإخوة! له جوانب عديدة وتطبيقات كثيرة، ويدخل في أبواب عظيمة، فمن هذه الأبواب:

تربية النفس

تربية النفس أولاً: تربية النفس، وأخذ الدين، كيف يدخل الرفق في تربية النفس، وفي أخذ الدين؟ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن هذا الدين متين، فأوغلوا فيه برفق) حديث حسن، رواه الإمام أحمد والنسائي مرفوعاً في صحيح الجامع. ما معنى (فأوغلوا فيه برفق)؟ قال ابن الأثير رحمه الله في كتابه النهاية: يريد سر فيه برفق، وابلغ الغاية القصوى منه، لأن بعض الناس ربما يفهم سر برفق يعني: خذ قليلاً برفق هكذا يفهم بعض الناس، ومعنى هذا أنك لا تبلغ الغاية العظمى لنفسك في الدين، إذا فهمت هذا المفهوم الخاطئ، ولذلك يقول ابن الأثير رحمه الله: يريد سر فيه برفق، وابلغ الغاية القصوى منه. أنت حدد أن القمة هي الهدف، لا تقل: أنا سأبقى عند السفل، حدد أنك ستصل إلى القمة، لكن كيف تصل؟ تصل برفق، لكن هذا لا يعني أن تضع في حسبانك أنك ستبقى في أسفل الجبل، لا. ويقول: بالرفق لا على سبيل التهافت والخرق، ولا تحمل على نفسك وتكلفها ما لا تطيق، فتعجز وتترك الدين والعمل، أي أن المقصود من الحديث سر برفق، ولا تحمل نفسك ما لا تطيق، لأنك إذا حملت نفسك في البداية تكليفات عظيمة، فإنك ستعجز بعد فترة قليلة من الزمن، لأنك لا تستطيع أن تمشي فجأة بدون تجرد سيراً سريعاً في الدين، فيبدأ بصيام النفل فيصوم يوماً ويفطر يوماً، ويقوم أكثر الليل، ويقرأ خمس ساعات في اليوم، في البداية لو أنك اتخذت هذا المنهج وهذا الأسلوب بدون تدرج، فإنك ستعجز، وستنقطع عن الدين وعن العمل، وهذا حال كثير من الجهلة الذين يهجمون على الدين هجوماً يريدون أن يتعلموا الدين ويطبقوه في أيام، فتكون النتيجة انقلاب مفاجئ بعد فترة قصيرة من الزمن. وهذه الأحاديث التربوية أيها الإخوة على جانب عظيم من الأهمية، وانظروا إلى مدى دخول الرفق في هذه الجوانب، يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي يرويه الإمام أحمد والحاكم عن بريدة وهو حديث صحيح في صحيح الجامع: (عليكم هدياً قاصداً، فإنه من يشاد هذا الدين يغلبه) الذي يشاد الدين يغلبه الدين، ما معنى: (عليكم هدياً قاصداً) قال المناوي رحمه الله في فيض القدير: أي: طريقاً معتدلاً غير شاقٍ، الزموا القصد في العمل وهو استقامة الطريق، والأخذ بالأمر الذي لا غلو فيه ولا تقصير. وهذا الكلام مهم، لأن بعض الناس يقول: أنا آخذ من الدين نسبة بسيطة، يعني: أقع في محرمات لا بأس، لا أريد أن أضغط على نفسي، وليس هذا هو المقصود من الحديث، المقصود من الحديث: أنك تسير في طريق لا غلو فيه، ولا تقصير، فالغلو مثلما كان يفعل الخوارج، أو مثلما جاء الثلاثة إلى أبيات الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال أحدهم: أنا أقوم الليل ولا أنام، وأحدهم قال: أنا أصوم ولا أفطر، وأحدهم قال: أنا لا أتزوج النساء، هذا غلو، لكن ليس من الغلو أن تلتزم بسنن الرسول صلى الله عليه وسلم في مظهرك وملبسك، وليس من الغلو أن تؤدي صلاة الجماعة في المسجد حتى صلاة الفجر، والأمثلة كثيرة يظنها الناس غلواً وليست بغلو، وإنما أتوا من جهلهم بالدين وغفلتهم وسطحيتهم في فهم الدين. والأخذ بالأمر الذي لا غلو فيه ولا تقصير، هو معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عليكم هدياً قاصداً) ما معنى: أنك إذا شاددت الدين، يغلبك؟ يعني: من يقاومه ويقاويه ويكلف نفسه من العبادات فوق طاقته، يؤدي به ذلك إلى التقصير في العمل، وترك الواجبات، النفس -أيها الإخوة- ليست آلة، وإنما لها حدود وطاقات، فإذا قمت من البداية بالالتزام بالنوافل الكثيرة من غير تدرج وترويض وألزمت بها نفسك، فإنك ستتعب، ولا يمكن أن تواصل في نفس المستوى، فسينقطع بك الطريق، وتسقط في هاوية الانحراف والنكوص على عقبيك والعياذ بالله. فإذاً: الرفق في أخذ الدين مهم، ومن الشواهد الصحيحة من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ما يلي: قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي يرويه الإمام أحمد وأبو داود عن عائشة مرفوعاً: (اكلفوا من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا، وإن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل) وإن قل: لا يعني: أن ينزل إلى درجة المحرمات، أو ترك الواجبات، لا. أنت ملتزم بالواجبات، ومنته عن المحرمات، لكنك لا تأخذ من نوافل الأمور أشياء أكثر من الذي تطيقها نفسك بغير تدرج: (اكلفوا من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا، وإن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل). فحتى لا تصبح المسألة -أيها الإخوة- مسألة حماس واندفاعية مؤقتة تنتهي بعد فترة قصيرة من الزمن، لا بد من الرفق في أخذ الدين، هذا جانب يدخل فيه -أيضاً- الرفق في طلب العلم، بعض الناس يريدون أن يطلبوا العلم فيتحمسون، يتحمس من كلمة يسمعها، أو خطبة، أو شريط، أو يفكر في نفسه، فيرى أنه مقصر جداً في طلب العلم، ماذا يفعل؟ يذهب ويبدأ بالمجلدات الضخمة التي ليس عنده قدرة على فهمها والقراءة فيها، ويقول: أنا سأقرأ اليوم خمس ساعات، سبع ساعات، لابد أن أجلس، وأجلس، وأجاهد نفسي، من البداية وهذا لا يصلح، لا بد أن ترفق بنفسك، فتأخذ الكتب بالتدرج، الأسهل فالأصعب فالأصعب وهكذا، تأخذ الأشياء الواضحة في المعنى المبسطة في الأسلوب، ثم بعد ذلك ترتقي في قراءتك وفهمك حتى تصل إلى المستوى الذي تقرأ فيه أصعب الكتب، وهذا لا يعني تثبيطاً ولا تخذيلاً، وإنما سلوك الطريق الصحيح.

الرفق مع الإخوان

الرفق مع الإخوان النوع الآخر الذي يدخل فيه الرفق: الرفق مع الإخوان: الإنسان منا -أيها الإخوة- له أصدقاء وله زملاء وله إخوان في الله، أناس كثيرون له علاقة بهم، هؤلاء الناس لا بد أن يرفق بهم، قال الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:215] اخفض جناحك: أي: كن ليناً هيناً رفيقاً بهم متواضعاً لهم فرِساً معهم، لذلك -أيها الإخوة- إذا دققت في الأسباب التي تؤدي إلى انفصام عرى الأخوة بين كثير من المسلمين، وجدتها في طرف من الأطراف، أو في كلا الطرفين، لوجدت الأمر حدة في الطبع، وصعوبة في التعامل، وخشونة في الألفاظ، وغلظة، وعزة على المسلمين، بدلاً من أن يكون الأمر: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54]. انقلب الأمر عند كثير من المسلمين اليوم للأسف إلى أن يكونوا أذلة على الكافرين، أعزة على إخوانهم المؤمنين، فكثيراً ما يجد الأخ بينه وبين أخيه وحشة وتنافراً، لو دقق في التفكير لوجد السبب يعود إلى هذه العوامل التي ذكرناها التي يسببها فقدان الرفق. انعدام الرفق هو الذي يسبب هذه الوحشة وهذا التقاطع وهذا التنافر، لا بد -أيها الإخوة- من قبول أعذار الناس، والمساهلة معهم كما قال علماء السلف، لا بد من اللين مع الإخوان في المعاملة، ولا بد من خفض الجناح، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ورد في الحديث الصحيح الذي يرويه الإمام أبو داود والحاكم عن جابر رضي الله عنه مرفوعاً قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخلف في المسير، فيزجي الضعيف، ويردف، ويدعو له) انظروا إلى لين الرسول صلى الله عليه وسلم ورفقه بإخوانه، كانوا في الجيش فإذا تقدم الناس كان الرسول يتخلف إلى الوراء، ولا يكون دائماً في المقدمة، فيرى من هو الضعيف، ومن هو المسكين العاجز، ومن هو الذي ليس عنده دابة تحمله، فيحمله الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن هو الذي يحتاج إلى مساعدة وإعانة، فيعينه الرسول صلى الله عليه وسلم بالعمل والدعاء، لأنه قال في الحديث: (كان يتخلف في المسير، فيزجي الضعيف، ويردف) يردفه وراءه على دابته رفقاً بهم وبحالتهم، (ويدعو لهم) وهكذا في صحيح الجامع.

الرفق في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

الرفق في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكذلك -أيها الإخوة- يدخل الرفق دخولاً أساسياً في موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، نحن الآن نستعرض استعراضاً بعض الجوانب التي يدخل فيها الرفق، ولا نريد أن نفصل في جانب معين، لأن هذا الجانب يصلح أن يكون موضوعاً مستقلاً بذاته. الرفق في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من القواعد التي وضعها علماؤنا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، يقول: لا بد للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يكون عالماً فيما يأمر، عالماً فيما ينهى رفيقاً فيما يأمر، رفيقاً فيما ينهى. بعض الناس قد يكون عندهم علم أن هذا معروف، وأن هذا منكر، لكن ليس عنده رفق في الدعوة، ليس عنده رفق في أسلوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولذلك ترى نتيجة جهود هذا الرجل عشوائية ساقطة فاسدة، لا أحد يستجيب له، ولا يصغي إليه، بل إن النتيجة هي الإعراض وشذوذ الناس الذين يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ما هو السبب؟ افتقاد هذا الخلق الإسلامي العظيم، خلق الرفق في أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، انظروا معي إلى هذه الحادثة التي لو سارت بشكل آخر، لو سارت الحادثة كما سارت في بدايتها، كيف ستكون النتيجة؟ روى البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: [قام أعرابي، فبال في المسجد] جريمة عظيمة جداً أن يقوم أحدهم ويبول في المسجد، مكان العبادة وأطهر مكان، فالصحابة انبهروا لهذا التصرف، فتناوله الناس، وفي رواية للبخاري -أيضاً- فسار الناس ليقعوا فيه، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (دعوه لا تزرموه) يعني: لا تقطعوا عليه بوله، قد ينحبس البول فيتضرر الرجل، أو يهرب وتنتشر النجاسة في بقعة أوسع من المسجد، فلما قضى الأعرابي بوله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أريقوا على بوله سجلاً، -بمعنى دلواً وزناً ومعنى- فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين) رواه البخاري رحمه الله في كتاب الوضوء باب صب الماء على البول في المسجد. لو أن الأمور سارت بالشكل الذي بدأ به الصحابة، كيف ستكون النتيجة؟ أولاً: الوحشة في نفس الأعرابي، وربما يترك الإسلام، وربما كان قادماً ليسلم، فربما يرجع بعد أن يجد هذه المعاملة، وأيضاً: انتشار البول، وقد يتضرر شخصياً. ما دام الأمر حدث وانتهى، فلا بد من درء أعلى المفسدتين في ارتكاب أدناهما، فلذلك الرسول صلى الله عليه وسلم أوقفهم، وجاءت الروايات بعد ذلك أن هذا الأعرابي قال: [اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً] لأن هذا هو التصرف الذي رآه من الرجل العظيم الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا بد من الرفق في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا بد من اللين، ولذلك قال الله تعالى لموسى وهارون عندما أرسلهما إلى فرعون: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً} [طه:44] لماذا قولاً ليناً؟ {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44] بعث أعظم داعيتين في زمانهما إلى أسوء مخلوق في زمانه فرعون، وقال لهما: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً} [طه:44] فما بالكم اليوم بإخواننا المسلمين الذين يخطئون كيف نوجههم ونرشدهم؟ إذا كان أعظم داعية أرسل إلى أسوء مخلوق، فقيل له: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً} [طه:44] فكيف يجب أن يكون موقفنا نحن؟ فقد يرى بعض الناس منكراً، فيثورون بعنف بلا حكمة، ولو أنهم تريثوا في الأمر وألانوا القول لكان خيراً لهم. ومن الأمور التي يدخل فيها الرفق -أيضاً- في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: أنه إذا كان النهي عن المنكر يحصل بدون عنف وغلظة وهي ضد الرفق، فلا داعي لها عندئذٍ، ومما يشهد لهذا المعنى ما رواه البخاري رحمه الله عن عائشة رضي الله عنها، قالت: (دخل وفدٌ من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: السام عليكم -يعني: الموت- فـ عائشة تقول: ففهمتها - عائشة كانت فطنة وذكية- قالت: ففهمتها، وقلت: وعليك السام واللعنة، إخوان القردة والخنازير، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مهلاً يا عائشة! فإن الله يحب الرفق في الأمر كله، فإن الله يحب الرفق في الأمر كله فقلت: يا رسول الله! أولم تسمع ما قالوا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقد قلت وعليهم -يعني: سمعت ما قالوا وفهمت أيضاً- ولكن قلت: وعليكم، وبما أننا يستجاب لنا فيهم، ولا يستجاب لهم فينا، فدعاؤنا عليهم مستجاب، ودعاؤهم علينا غير مستجاب) فهم قالوا: الموت عليكم، فأنا قلت: وعليكم، فالذي يستجاب دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم، ودعاء المؤمن على هذا الرجل اليهودي أو النصراني، أو الكافر الذي يقول له: السام عليكم، فمادام -أيها الإخوة- حصل المقصود، ورد كيد اليهود في نحورهم، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (وعليكم) فما دام أن الغلظة عليهم، لأننا الآن مأمورون بالغلظة على اليهود والكفار، لا نعاملهم المعاملة الحسنة، لكن هذا لا يعني -يا إخواني- أن نطلق السباب والشتائم عليهم بغير داعي، لما حصل المقصود بالدعاء عليهم بالموت، والرد عليهم بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (وعليكم) فلماذا قول: وعليكم السام واللعنة إخوان القردة والخنازير؟ فيقول ابن حجر رحمه الله: والذي يظهر أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد ألا يتعود لسانها بالفحش، أو أنكر عليها الإفراط في السب.

الرفق في دعوة الناس إلى الإسلام

الرفق في دعوة الناس إلى الإسلام والرفق -أيها الإخوة! - يدخل دخولاً أساسياً كذلك في دعوة الناس إلى الإسلام، وتعليمهم إياه، وتربيتهم عليه. أما الرفق في دعوة الناس إلى الإسلام، فله أمثلة كثيرة في السيرة النبوية، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: أتسمع يا أبا الوليد؟ أتجلس؟)، وكان يقول لـ ثمامة: (ما عندك يا ثمامة؟) وكان يقول لفلان: (ألا أدلك على أمر خير من هذا؟) كان صلى الله عليه وسلم يتلطف في أسلوب الدعوة، كان ليناً في دعوة الناس إلى الإسلام، ولذلك فتح الله له برفقه مغاليق قلوب زعماء الكفر والإلحاد، وألان له نفوسهم كما يلان الحديد، ألينت له نفوسهم بسبب السلاح الفتاك الذي استعمله وهو الرفق، الرفق سلاح فعال استعمله الرسول صلى الله عليه وسلم في الدعوة، فأسلم ثمامة، وأسلم غيره من الكفرة الذين كانوا من زعماء الضلال والشرك، وصاروا قادة في الإسلام، وقدوات في الدين بعد ذلك، كان السبب هو أسلوب الرفق المستخدم في دعوته إلى الإسلام.

الرفق في تعليم الناس

الرفق في تعليم الناس وأما استخدام الرفق في تعليم الناس، فأمثلته كثيرة -أيضاً- ومنها: ما رواه مسلم وغيره في صحيحه عن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه وأرضاه وهو رجل أتى من البادية، وكان قبل ذلك موجوداً لكنه خرج في عمل له في البادية، وكان الكلام في الصلاة مباحاً، وكان بعض الصحابة يقول لأخيه: هذه الآيات التي يقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أي سورة؟ ومتى نزلت؟ كان الكلام مباحاً في الصلاة، ثم نزل قول الله عز وجل: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] فحرم الكلام، هذا الرجل جاء من البادية ولم يعلم بأن الكلام في الصلاة قد صار محرماً، فدخل في الصلاة مع الناس، قال: (بين أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: وا ثكل أمياه!) يعني: وافقد أمي إياي فإني هلكت فقال: (وا ثكل أمياه ما شأنكم تنظرون إلي؟) يعني: انظر عندما لا يكون هناك رفق، الأمور تسوء أكثر، لأن الرجل ماذا قال في الأول؟ قال: يرحمك الله، الآن هذا الرجل مستحيل تعليمه فكيف يتعلم؟ رموه بأبصارهم فزاد الأمر سوءً، وتكلم الرجل زيادة، قال: وا ثكل أمياه، مالكم تنظرون إلي؟ والصحابة -أيضاً- لا يستطيعون أن يتكلموا (فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم -زيادة في التنبيه- فلما رأيتهم يصمتونني، لكنني سكت) قال في السيرة: لما رأيتهم يصمتونني، يعني: غضبت وتغيرت، لكني سكت. (فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبأبي هو وأمي ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فوالله ما نهرني، ولا ضربني، ولا شتمني، ثم قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) هذه من لفظة معاوية، ربما ما كان يحفظ الحديث بالضبط، ولذلك قال: أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه هي الطريقة الصحيحة عندما يروي الإنسان حديثاً ليس متمكناً من ألفاظه. ووقع في رواية لـ أبي داود: (فما رأيت معلماً قط أرفق من رسول الله صلى الله عليه وسلم) لاحظ هذه العبارة ولاحظ كيف أدى الرفق في التعليم الهدف المطلوب، الكلام حصل في الصلاة وانتهينا، الآن لا نستطيع أن نرجع الزمن ونعدل الأمور، فإذاً ما هو الحل؟ أن نصبر على هذا الرجل حتى تتاح الفرصة المناسبة لتفهيمه وتعليمه، وعند ذلك ينتهي الإشكال. وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم كان رفيقاً بمن يعلمهم، كان الناس يأتون الرسول صلى الله عليه وسلم من شتى الأماكن ليتعلموا، يسافرون إلى المدينة لطلب العلم، فيجلسون عند الرسول صلى الله عليه وسلم، هؤلاء الناس الذين يأتون عندهم أهل يشتاقون إليهم، فماذا كان يفعل الرسول صلى الله عليه وسلم بهؤلاء الناس الذين يأتون ليتعلموا؟ انظر كيف كان يرفق بهم، من كلام هؤلاء الرجال روى البخاري رحمه الله عن مالك بن الحويرث، قال: (أتينا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ونحن شببة متقاربون) شببة يعني: جمع شاب تجمع على شببة، متقاربون يعني: في السن، مالك بن الحويرث جاء مع إخوانه شباب حديثي عهد، أعمارهم متقاربة (فأقمنا عنده عشرين يوماً وليلةً نتعلم، وكان رحيماً رفيقاً، فلما رأى شوقنا إلى أهالينا، قال: ارجعوا) هؤلاء الصحابة جاءوا لكن اشتاقوا إلى أهليهم واستوحشوا، وتغيرت نفسياتهم نوعاً ما بسبب ابتعادهم وحنينهم، فالغريب يحن إلى أهله، فلما رأى شوقنا إلى أهالينا، قال: (ارجعوا فكونوا فيهم، وعلموهم، ومروهم، وصلوا كما رأيتموني أصلي، فإذا حضرت الصلاة، فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم). لماذا قال: (وليؤمكم أكبركم) ولم يقل: يؤمكم أقرأكم؟ لأن هؤلاء الناس جاءوا مع بعض، وتعلموا مع بعض، يعني: أنهم حفظوا مع بعض، فكان علمهم متقارباً وهجرتهم واحدة، فانتقل الأمر إلى كبر السن، فقال: (وليؤمكم أكبركم) والأفضل أن الناس يؤمهم أقرؤهم بشرط أنه إذا كان هناك ثلاثة علماء هل يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، يعني: أحفظهم للكتاب، وأجودهم قراءة، أم يؤمهم أفقههم في الدين؟ فقال بعض العلماء: يؤمهم الأفقه، فإذا تفاوتوا في الفقه، ينظر في الحفظ، وقال بعضهم: يؤم الأحفظ مطلقاً، والقول الوسط الذي جمع ابن حجر رحمه الله بين القولين، قال: يؤم الأحفظ بشرط أن يكون عنده من الفقه ما يقيم به صلاته، ويعرف كيف يتصرف إذا أخطأ في الصلاة، مثل أحكام سجود السهو، وترك الواجب إلى آخره، فعند ذلك يؤم الأحفظ، وإذا لم يكن فقيهاً فيؤم الأفقه، قال ابن حجر: باتفاق العلماء. فقال: (فإذا حضرت الصلاة، فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم). إذاً -أيها الإخوة- كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفق بمن يعلم، فكان إذا شعر بأنهم قد حنوا إلى أهليهم، يسمح لهم بالذهاب، بل هو يأمرهم بالذهاب، يقول: (ارجعوا إلى أهليكم) والرجوع إلى الأهل على أية حال ليس شراً وانقطاعاً عن الخير، لا. بل فيه خير عظيم أيضاً، بأن ينشر الإنسان فيهم الدعوة، وينشر فيهم العلم، ويعلمهم ما تعلم من الخير، فرجوع الإنسان إلى موطنه من بلد العالم فيه خير ونفع عظيم.

الرفق بالمسلمين إذا ولي من أمرهم شيئا

الرفق بالمسلمين إذا ولي من أمرهم شيئاً ثم نأتي -أيها الإخوة- على مسألة أخرى: وهي تحمل المسئولية؛ وتحمل المسئولية لا بد فيها من الرفق، وأؤكد على هذا الجانب بالذات تأكيداً شديداً، لأن الذي يتولى أمور المسلمين إذا لم يكن رفيقاً بهم، فإن الفساد والفوضى ستعم، والظلم سينتشر، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي روته عائشة رضي الله عنها، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به) رواه مسلم. لاحظ العبارة: (ومن ولي من أمر أمتي شيئاً) لا يشترط أن يكون الخليفة، فيمكن أن يكون أدنى منه بكثير، من ولي ولو أمر رجل واحد، من ولي أمر رجل واحد من المسلمين، يجب عليه أن يرفق به، فما بالك بالذي يلي أمر اثنين، أو ثلاثة، أو عشرة، أو مجموعة من البشر. فالمدير في مدرسته، والوزير في دائرته، وكل صاحب سلطان وولاية، وكل صاحب أسرة يجب أن يرفق بمن تحت يديه، وبمن هو مسئول عنه، وإلا فإن الله سيشق عليهم يوم القيامة، وفي الدنيا أيضاً، فالدعاء عام: (من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به) وهذا الدعاء من رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاءٌ مستجاب، ويؤكد عليه الصلاة والسلام هذا المعنى بقوله في الحديث الذي رواه الإمام أحمد ومسلم عن عائد بن عمر رضي الله عنه أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (إن شر الرعاع الحطمة) الراعي الذي يرعى الغنم، أو البقر إما أن يكون رحيماً بها، فيذهب بها إلى موارد الماء والعشب، ويريحها، ويعطيها فترة النوم والراحة، وإما أن يتعبها فيشق عليها، ويشد عليها، ويمنعها الأكل والماء والعشب، هذا الرجل الذي يحطم هذا القطيع الذي يرعاه هو من شر الناس. (إن شر الرعاع الحطمة) أي: شر الرعاع الراعي الذي يحطم قطيعه، قال العلماء في شرح الحديث: هذا مثل لطيف ضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم للراعي والرعية، فشر الناس الذي إذا تولى أمر رعية من المسلمين، جعل يحطمهم كما يحطم ذلك الراعي الغنم، وخيرهم الذي يرفق بهم ويلين معهم، ويسد خلتهم. وهذا عمر رضي الله عنه خرج في الليل يعس، فسمع صوتاً من أحد البيوت، فاقترب منه فسمع امرأة تقول: تطاول هذا الليل واسود جانبه وأرقني أن لا خليل أداعبه فوالله لولا الله أني أراقبه لحرك من هذا السرير جوانبه تقول المرأة وهي زوجة لرجل ذهب في الجهاد، وتشكو نفسها، ولولا مخافة الله لحصل أمراً آخر، فـ عمر رفيق بالرعية، فقام فجمع النساء، فسأل: [كم تستطيع المرأة أن تصبر على زوجها؟ فقلن له: أربعة أشهر، فقال: إذاً لا أحد من الجنود يتغيب عن زوجته أربعة أشهر] فكان يجعل بينهم مناوبات فيذهب الأول ويبقى الثاني ويرجع الأول ويذهب الثاني وهكذا حتى تبقى العلاقة بين الزوج وزوجته، فكان رفيقاً برعيته، وهكذا يجب أن يكون كل من تولى مسئولية، أو أمراً من أمور المسلمين أن يكون رفيقاً بهم، فبعض الناس تجدهم يشدون على من تحت أيديهم من المسلمين، ويهلكونهم بالأعمال، وهذا -أيها الإخوة- فيه خطر عظيم، فيسبب العصيان والتمرد، ويسبب الوحشة في النفس والكراهية حتى على مستوى الصغير في البيت تجد الأولاد يكرهون الأب إذا كان شديداً عليهم، والزوجة تكره زوجها إذا كان شديداً عليها، وقد يتمرد الأولاد ويعصون الأب بسبب فقدان الرفق. فإذاً هذا هو مدار التعامل، ومدار استقامة الأمور.

الرفق في الإمامة بالناس

الرفق في الإمامة بالناس ومن جوانب الرفق كذلك أيها الإخوة: الرفق في الإمامة بالناس، بعض الأئمة يصلون بالناس، فيطيلون الصلاة جداً، وينهكون قوى الناس الذين يصلون وراءهم، وهذا الحديث يوضح هذا الأمر، فعن أبي مسعود عقبة بن عمرو البدري رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إني لأتأخر عن صلاة الصبح من أجل فلان -الإمام- مما يطيل بنا، يقول الراوي: فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم غضب في موعظة قط أشد مما غضب يومئذٍ، فقال: يا أيها الناس! إن منكم منفرين، فأيكم أمَّ الناس فليوجز، فإن من ورائه الكبير والصغير وذا الحاجة) متفق عليه. فلا بد من الرفق بالمأمومين، وهذا الإمام الذي تولى أمر الناس الذين وراءه لا بد أن يرفق بهم، ولا يطيل بهم، ولكن هنا نقطة لا بد من توضيحها، وإن كانت ليست في صلب الموضوع، ما معنى: فليوجز؟ فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (يا أيها الناس! إن منكم منفرين، فأيكم أمَّ الناس فليوجز) هل معنى يوجز أن يقرأ قل هو الله أحد وإنا أعطيناك الكوثر في الصلوات، هل هذا هو الإيجاز المطلوب؟ المعنى -أيها الإخوة- كما ذكر العلماء يعني: ليقتصر على ما ثبت في السنة ولا يزيد عليها مع إتمام الأركان والسنن، فلو أن الإنسان منا صلى الجمعة، فقرأ بالناس سورة المنافقين وسورة الجمعة، فاستغرق في القراءة -مثلاً- ربع ساعة، هل يعتبر هذا الرجل مطولاً على من وراءه، وأنه شق عليهم، وأنه نفرهم؟ لا. لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما صلى بالناس الجمعة، قرأ بهم سورة الجمعة والمنافقين، وقرأ -أيضاً- سبح والغاشية، كان ينوع، ويقرأ -مثلاً- ق والرحمن أحياناً، فإذاً هذا هو معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (فليوجز) وليس معناه أن يقرأ والعصر، وإنا أعطيناك الكوثر، وقل هو الله أحد.

الرفق بالأهل والأولاد

الرفق بالأهل والأولاد كذلك -أيها الإخوة- من الجوانب التي يدخل فيها الرفق أيضاً: الرفق في البيت بشكل عام ومع الزوجة والأولاد بشكل خاص، وهذه نقطة اجتماعية حساسة وخطيرة، ولا بد من الانتباه إليها، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (ما أعطي أهل بيت الرفق إلا نفعهم) رواه الطبراني عن ابن عمر صحيح الجامع. وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا أراد الله بأهل بيت خيراً، أدخل عليهم الرفق) قال شارح الحديث: يعني أدخل عليهم الرفق بحيث يرفق بعضهم ببعض، فيرفق الزوج بالزوجة، ويرفق الرجل بأبيه وأمه، ويرفق الأب والأم بالولد، ويرفق الإخوة بعضهم ببعض، وهم يرفقون بجيرانهم، وهكذا وعامة البيوت التي تفوح منها روائح المشاكل والخلافات والنعرات والشتات والفرقة، إذا تأملت فيها وجدت السبب عدم الرفق في علاقة أفراد البيت بعضهم ببعض، فإذا أتينا إلى مسألة الرفق بالزوجة فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح: (استوصوا بالنساء خيراً، فإن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج ما في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء) متفق عليه، وفي رواية لـ مسلم: (فإن ذهبت تقيمه كسرته، وكسرها طلاقها). الشاهد: (استوصوا بالنساء خيراً) أي: ارفقوا بهن، وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الثاني الذي يرويه الترمذي: (فإنما هنَّ عوانٌّ عندكم) معنى عوان: أسيرات، المرأة في بيت زوجها كالأسير عند السجان، لا حول لها ولا قوة، هذا هو الغالب من أمر النساء، فلما كانت المرأة مسكينة لا حول لها ولا قوة، والأمر بيد الرجل، ولا بد من استئذانه، كان لا بد من أن يرفق بها الرجل، وأن يشفق عليها، وأن يرحمها، وأن يستوصي بها خيراً، ومرة اشتكى الصحابي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم تمرد النساء، فأذن لهم بالضرب عند الحاجة، فلما أذن بالضرب قام الرجال فأخذ كل واحد زوجته ونزل فيها ضرباً، فيقول الراوي: (فجاء النساء إلى أبيات الرسول صلى الله عليه وسلم يشتكين) وهذا من فوائد كثرة زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم، الرسول صلى الله عليه وسلم اختصه بأنه تزوج أكثر من أربع، هذه الخاصية له من دون الأمة، فإن سأل سائل عن السبب، فهناك أسباب كثيرة منها متعلق بهذا الحديث؛ أن زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم كثرتهن تؤدي إلى سهولة نقل أوضاع المجتمع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لكي يعلق عليها ويعقب، فكان نساء المجتمع يأتين إلى زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم ويخبرنهن بما يردنه، وهؤلاء ينقلن بدورهن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. المرأة -أيها الإخوة- فيها حساسية ليست في الرجل، وفيها ثقة ليست في الرجل، فلا بد من الاستيصاء بالنساء خيراً، وكثيرٌ من الرجال يستعملون العنف بشكل عجيب مع الزوجات، فمنهم من يضرب زوجته في الوجه، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن الضرب بالوجه، حتى لو كانت مخطئة وتريد أن تعزرها بعد أن وعظتها في الكلام وهجرتها في المضجع، ووصلت إلى الضرب، فإنك تضرب، لكن لا تضرب الوجه، تضرب على الكتف، وعلى العقب، وعلى الظهر، وعلى الرجل في مكان لا يؤذي، أما الضرب على الوجه الذي قد يكسر سناً، أو يفقأ عيناً، أو يفقد السمع، هذا الضرب لا يجوز حتى لو كنت مصيباً، لا يجوز لك أن تضرب على الوجه، وبعض الرجال يمسكون التسلسل بالمقلوب، لا يبدأ بالموعظة الحسنة، ثم الهجر بالمضجع، ثم الضرب، أما البدء بالضرب فليس من الإسلام، ولا هذه تعاليم الإسلام، وليست هذه هي المعاملة الصحيحة. أيها الإخوة! نسمع أحياناً أشياء عجيبةً عن فعل بعض الرجال بزوجاتهم، يفعلون والله بهن أفعالاً لا ترضي الله عز وجل مطلقاً، وتعجب أحياناً لرجل ظاهره الصدق والالتزام كيف يتعامل مع زوجته ألوان من التعامل لا تخطر ببال، بل قد يصل الأمر ببعضهم إلى أن يستعمل العنف حتى في جماع زوجته حتى تكرهه، يقول: أنا أريد أن أتزوج واحدة أخرى، فما هو الحل؟ يكون معها عنيفاً حتى تكرهه، وتقول: اذهب واكفنا من شرك، واذهب تزوج. فيا أيها الإخوة! ليس هذا هو الطريق، بعض الناس يعامل زوجته بهذه النفسية، وهذه القضية خطيرة جداً، ومخالفة صريحة واضحة لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم، أين الاستيصاء بالنساء؟ وأين قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ليس أولئك بخياركم)؟ أي: ليس أولئك الرجال بخياركم، وهذا الموضوع البسط فيه وارد جداً من واقع معاملات الناس اليوم، الغالب أن الرجل ليس هو المظلوم، الذي يحصل أن الرجل هو الذي يفرض عضلاته ويستخدم قوته، ويضرب زوجته ضرباً مبرحاً، ويوقع عليها شتى أنواع الإهانة والسب والشتم، أحياناً قد يكون أشد من الضرب بعدة مراحل، فيهينها ويحقرها، ويذكر معايبها، ولا يترك شاردة ولا واردة إلا ويقع فيها. فلا بد -أيها الإخوة- من تطبيق الإسلام، ليس الإسلام فقط خارج البيت وأمام الناس في المساجد، ومع الزملاء والأصدقاء وفي حلقات العلم، لا. لا بد من تطبيق الإسلام في البيوت، وإلا فماذا نستفيد إذا كان بيت كل واحد منا مهلهلاً مشتتاً مبعثراً، ليس هناك أواصر الرحمة بين الزوج وزوجته، وبعد ذلك ليسوا أولئك بخياركم حتى لو كانوا أعلم وأفقه وأكثر نشاطاً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله، إذا أردت أن تصبح إنساناً ملتزماً بالإسلام، وجاداً في الالتزام بالإسلام فعليك أن ترفق بأهل بيتك. والرسول صلى الله عليه وسلم في حادثة في طريق سفر أمر بالرفق بالنساء، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم في سفر، وكان معه بعض نسائه، وكن النساء يركبن الإبل، وكان هناك حادٍ يحدو هذه الإبل وهو غلام أسود حسن الصوت يقال له: أنجشة أي: يصدر الأصوات التي تحدو الإبل، وعليها نساء الرسول صلى الله عليه وسلم، ومعهن أم سليم امرأة أخرى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (رويدك يا أنجشة، رفقاً بالقوارير) قال أبو قلابة من رواة الحديث: يعني النساء. رواه البخاري في كتاب الأدب في صحيحه. قال العلماء في شرح الحديث: كنى عن النساء بالقوارير لرقتهن وضعفهن عن الحركة، والنساء شبهن بالقوارير في الرقة وضعف البنية، وقيل: إذا أسرعت الإبل لم يؤمن على النساء السقوط، يعني: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم لـ أنجشة: (يا أنجشة! رفقاً بالقوارير) أقل من الحداء قليلاً، حتى لا تسرع الإبل زيادة بفعل الحداء، وهذه المرأة رقيقة، ولا تتحمل سرعة الإبل، وقد لا تثبت على البعير وتستوي عليه استواءً كاملاً، فتسقط لأنها ضعيفة، فكأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لـ أنجشة: ارفق بهذه الإبل في المسير كأن على ظهورها قوارير، كيف لو كان على ظهور الإبل قوارير هل تسرع فيها؟ لا. لأن القوارير تتكسر. وقيل: إن الرسول صلى الله عليه وسلم كره أن تسمع النساء الحداء، فشبه ضعف عزائمهن، وسرعة تأثير الصوت فيهن بالقوارير في سرعة الكسر إليها، الرسول صلى الله عليه وسلم كان يخشى من الفتنة، وكان يسد كل طريق فيه فتنة، فكان يخشى أن هذا الرجل الذي صوته جميل، أن يفتن النساء بصوته، فيأتي في قلوبهن أشياء لا يرضاها الله تعالى، فقال له: (رفقاً بالقوارير) وبعض العلماء جمع بين المعنيين، ومنهم القرطبي رحمه الله في مسلم، فقال: شبههن بالقوارير لسرعة تأثرهن وعدم تجلدهن، فخاف عليهن من حتف السير بسرعة السقوط، أو التألم من كثرة الحركة والاضطراب الناشئ من السرعة، أو خاف عليهن الفتنة من سماع النشيد، فلهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (رفقاً بالقوارير). الخلاصة -أيها الإخوة- أنه يجب علينا أن نرفق بنسائنا، يرفق الإنسان بزوجته وأمه وأخته وابنته. أما بالنسبة للرفق بالأولاد، فقد كان صلى الله عليه وسلم يرفق بالصبيان كثيراً، فورد في صحيح الجامع من رواية أبي داود الطيالسي عن أنس (أنه عليه الصلاة والسلام كان رحيماً بالعيال) وورد -أيضاً- في الحديث المتفق عليه عن أنس رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يزور الأنصار، ويسلم على صبيانهم، ويمسح رءوسهم، وقد كان يركب على ظهره الحسن والحسين، وكان يطيل السجود حتى ينزل الولد من على ظهره صلى الله عليه وسلم، وكان مرةً يخطب فترك الخطبة، لأنه رأى الحسن والحسين يمشيان ويتعثران في مشيتهما، فخشي عليهما، فقطع الخطبة ونزل وأخذهما وضمهما إليه، وهذا هو الحنان والرفق. والرجل الأعرابي الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (إنكم تقبلون صبيانكم، إن عندي عشرة من الولد ما قبلت واحداً منهم، فقال صلى الله عليه وسلم: أو أملك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك؟) أي: ماذا تريدني أن أفعل لك إن نزع الله الرحمة من قلبك؟ فالشاهد هنا -أيها الإخوة- أن بعض الناس لا يرأفون بأولادهم، ويشتدون عليهم في الضرب والعقوبة، وتحدث لذلك مآسٍ كثيرة، وبعض الأخبار التي نسمعها تجعلك تأسف جداً من هذه المعاملة، وتقف مندهشاً وتقول: أي أبٍ وأي أم اللذين يفعلان بأولادهما هذه الأفعال؟! ولقد سمعت من ولدٍ أن أباه كان إذا أراد أن يضربه أخذ سلكاً من النحاس الغليظ -سلك كهرب- وبدأ يضربه، وإذا لم يجد الأب السلك ذهبت الأم لتأتي بهذا السلك، وإذا أراد الولد أن يأكل لا يأكل معهم، يأكل بعدما ينتهون، يقولون: أنت نجس لا يصلح أن تأكل معنا، لكن بعد أن نقوم تعال فكل، وأن أباه مرةً في الشتاء القارس طرده إلى سطح البيت لينام في عشة للحمام، وأغلق عليه من غير غطاء. هذه الألوان، وهذا التحجر وغلظة القلب يمكن أن يؤدي -أيها الإخوة- ببساطة إلىمثل الذي حد

الرفق في المعيشة

الرفق في المعيشة كذلك أيها الإخوة! الرفق لا بد أن يكون -أيضاً- في المعيشة، يرفق الإنسان بمعيشته، بعض الناس يبذرون أموالهم في المأكولات واللبس وفرش البيت وغير ذلك، فلا بد أن يكون الإنسان رفيقاً في هذه الأشياء، ولذلك ورد في بعض الآثار عن سالم بن أبي الجعد أن رجلاً صعد إلى أبي الدرداء وهو في غرفة له، وهو يلتقط حباً منثوراً، فما جاء بالمكنسة وكنس الحب ورماه، وإنما ظل يلتقط هذا الحب، فقال أبو الدرداء: [إن من فقه الرجل رفقه في معيشته] هذا الحديث روي مرفوعاً، لكنه ضعيف وهو موقوف محتمل للتحسين، قال أبو الدرداء: [إن من فقه الرجل رفقه في معيشته] يعني: لا يتكلف ويتبسط في الحياة. بعض الناس عندهم تعقيد، ولذلك يعيش في شقاء، لأنه لا يمكن أن تنزل هذه الموضة والموديل في السوق دون أن يقتنيه، فيجلس ويتابع ويشقى، ويجري وراء هذه الأشياء المجمعة، ليس هذا هو الرفق في المعيشة الذي قال عنه أبو الدرداء: [إن من فقه الرجل رفقه في معيشته].

الرفق بالحيوان

الرفق بالحيوان كذلك من أنواع الرفق: الرفق بالحيوانات، والرفق بالحيوانات أدلته كثيرة، وهذا الأدب العظيم الذي سبق الكلام به الرسول الكفار الغربيين بمئات السنين، وبعض الكفرة اليوم يتعالون على المسلمين الجهلة، ويقولون: انظروا إلى ما عندنا من المحاسن، نحن لدينا جمعيات رفق بالحيوان، ونفعل ونفعل. إذاً تعال معي -يا أخي المسلم- لأستعرض معك بعض الأحاديث التي تنسف ما زعمه هؤلاء، وترد هذا الجهل المتأصل في نفوس بعض المسلمين المخدوعين بما عند الغرب. روى أبو داود رحمه الله بإسناد صحيح عن عبد الله بن جعفر قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم حائطاً لرجل من الأنصار، فإذا جملٌ في البستان، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم الجمل حن الجمل وذرفت عيناه، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم، فمسح سراته إلى سنامه، يعني: مسح ظهره إلى سنامه، وزجراه، يعني: أصل أذنه، فسكن البعير، لمسح الرسول صلى الله عليه وسلم عليه، انظر الرفق! فقال: (من رب هذا الجمل؟) يعني: من صاحب هذا الجمل؟ فجاء فتى من الأنصار، فقال: لي يا رسول الله! فقال: (أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها، فإنه شكا إليَّ أنك تجيعه وتدئبه) يعني: تتعبه وتكده، وهذه من المعجزات. ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم بمعنى الحديث: اتقوا الله في هذه البهيمة العجماء يعني: التي لا تنطق، ولا تشتكي، وهناك أناس اختصاصهم وهوايتهم تعذيب الحيوانات، ولذلك لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من اتخذ شيئاً فيه روح غرضاً يرمى إليه، كأن يضع أحدهم دجاجة، ويتسلى عليها في الرمي، أو يضع أرنباً ويتسلى عليه، وهذه المرأة التي حبست الهرة حتى ماتت فدخلت النار، وامرأة من البغايا من الزناة من بني إسرائيل رحمت كلباً، فنزلت في بئر، فملأت خفها ماءً، فسقت كلباً قد عطش، فأدخلها الله الجنة بهذا الفعل. وكذلك عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ على رجل واضع رجله على صفحة شاة -على رقبة شاة- وهو يحد شفرته وهي تلحظ إليه ببصرها، هكذا يقول الراوي: فقال: (أفلا قبل هذا؟) يعني: أفلا حددت الشفرة قبل هذا؟ (أتريد أن تميتها موتتين). عن عبد الله قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفرٍ فانطلق لحاجة، فرأينا حمرةً -طائراً صغيراً لونه أحمر- فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمرة، فجعلت تفرش -يعني: ترفرف بجناحيها وتقترب من الأرض وهي تبحث وتتحسس على هذين الفرخين- فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها عليها) انظر إلى رفق الرسول صلى الله عليه وسلم، هذه الأحاديث كلها صحيحة وموجودة في سلسلة الأحاديث الصحيحة المجلد الأول. إذاً -أيها الإخوة- هذه بعض الجوانب التي يدخل فيها الرفق، فتأمل معي عظم هذا الخلق العظيم، وشموليته، ودخوله في نواحي كثيرة من الحياة.

ضرورة الحذر من انقلاب الرفق إلى ذل ومهانة

ضرورة الحذر من انقلاب الرفق إلى ذل ومهانة وختاماً: لا بد أن نؤكد -أيها الإخوة- على نقطة مهمة وهي أن الرفق قد ينقلب أحياناً إلى ذلٍ ومهانةٍ، بعض الناس يخطئون في المكان الذي يرفقون فيه، يعني: الموقف الذي يستخدم فيه الرفق يكون خطأ، المفروض أنه لا يستخدم الرفق في هذا الجانب، فينقلب الرفق في حقه إلى ذل ومهانة، فلا بد من التوسط في الأمور، ولذلك قال بعض السلف: لا تكن رطباً فتعصر، ولا يابساً فتكسر، وقال بعضهم: لا تكن حلواً فتبلع، ولا مراً فتلفظ إلى الخارج، هل كان الرسول صلى الله عليه وسلم يرفق في كل المواقف؟ لما قتل أسامة بن زيد الرجل الذي قال لا إله إلا الله، حيث رفع أسامة سيفه على رجل من الكفار قتل من المسلمين في إحدى المعارك خلقاً كثيراً، فلما رفع السيف عليه، قال الكافر: لا إله إلا الله، فقال أسامة: بعد ماذا؟ قتلت كل الناس والآن تقول لا إله إلا الله، فقتله، فلما رفع الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرف القصة، لم يقف موقف الرفق، وإنما وقف موقف الشدة الشديدة جداً، وجلس يوبخ أسامة بن زيد، ويقول له: (أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله) أو قال له: (ماذا تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟) حتى يقول أسامة: [فتمنيت أني ما أسلمت قبل يومئذٍ] يعني: تمنيت لو أني كنت كافراً لما قتلت الرجل وأسلمت بعدما قتلته، من شدة اللوم الذي شعر به. لماذا لم يقف الرسول صلى الله عليه وسلم موقف الرفق؟ لأنه ليس موقفاً مناسباً، إذا انتهكت أمامك حرمات الله، هل تقف موقف اللين والرفق مع الناس، وتبتسم وتضحك وهم ينتهكون حرمات الله أمامك ويستهزئون بالدين، ويسبون الرسول والقرآن والرب عز وجل والعياذ بالله تعالى! فإذاً -أيها الإخوة- كل شيء له حدود، وكل شيء له موقف معين يتخذ فيه، فهناك فرقٌ بين الرفق والتساهل غير الشرعي، وتمييع الأمور، لا يعني الأمر بالرفق أن نترك الناس على راحتهم، لو أن زوجتي ارتكبت محرماً، أو أن ولدي نظر إلى محرم، هل أكون رفيقاً به بمعنى أني ألين معه فلا آمر بالمعروف ولا أنهى عن المنكر؟ لا. وفرقٌ -أيها الإخوة- بين أن يكون الرفق وسيلة إلى تحصيل المقصود، وبين أن يكون الرفق هو الهدف، المهم أنه يصل إلى اللين حتى لو كان الوضع لا يسمح. الرفق يجب أن يكون وسيلة يحقق المقصود، فإذا كان المقصود لا يتحقق بالرفق، وإنما يتحقق بالشدة والغلظة، فلا يجوز استخدام الرفق في هذه الحالة، ولا يعني الرفق الذلة للكفار، والذلة للذين يستهزئون بالمسلمين كالصور التي يطبقونها، وكالذين يسبون الله عز وجل، فهؤلاء ليس لهم الرفق، إذا دعوا إلى الله، ودين الله والحكمة، ووعظوا، وأصروا، فليس لهم إلا الغلظة {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التحريم:9] هذا التنبيه مهم جداً حتى لا تنقلب الأمور، وحتى لا تخرج عن إطارها الصحيح. وفقنا الله وإياكم لأن نسلك طريق الرفق، ونسأله عز وجل أن ينمي هذا الخلق العظيم في أنفسنا، ويجعله لنا سبيلاً ومنهجاً ومسلكاً، وأستغفر الله لي ولكم.

الأسئلة

الأسئلة

التحذير من وصف العلماء برجال الدين

التحذير من وصف العلماء برجال الدين Q يقول: هل هناك تقسيمات في علماء الدين كما عند اليهود والنصارى، وهل هذه الألقاب لها أصل في الإسلام؟ ولماذا تطلق بعض الألفاظ على بعض العلماء؟ A أيها الإخوة: ليس هناك شيء اسمه رجال دين في الإسلام، لأن المسلمين كلهم يجب أن يكونوا رجال دين، ورجال الدين هذه تسميتها وردت إلينا من النصارى، هم الذين ابتدعوا هذه التسمية، لأن عندهم الدين مختص برجال، وبقية المجتمع بلا دين، وقت الحاجة تذهب إلى الكنيسة، قال بعض مفكريهم: إن الناس في إنجلترا يعبدون بنك إنجلترا ستة أيام في الأسبوع، ثم يتوجهون في اليوم السابع إلى الكنيسة، هذه هي حالهم فعلاً، يعبدون البنك المركزي ستة أيام في الأسبوع، ثم يتوجهون في اليوم السابع إلى الكنيسة.

التفريق بين الرفق في إنكار المنكر

التفريق بين الرفق في إنكار المنكر Q يقول: كيف أفرق بين الرفق في إنكار المنكر والمداهنة في الدين؟ A إذا كان تصرفك سيكون على حساب أن يفهم الناس الإسلام فهماً خاطئاً بأن يفعل أحدهم منكراً وأنت تسكت، وتقول: والله لعله فعل كذا، ولعله فعل كذا، من الأعذار السخيفة فالناس يفهمون أن هذا الفعل ليس فيه شيء، ويفهمون أنك ليس لديك موقف، ولا عندك جرأة وثبات. أما الرفق فإنك تتخذ اللين في أسلوب عرض الدعوة بدون التخلي عن مبدأ واحد من مبادئ الدعوة، المبادئ باقية لم تتغير، فقط الأسلوب الذي تغير بدل أن أرفع صوتي وأهدد آتي باللين، هذا هو الفرق باختصار بين المداهنة وبين الرفق في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

حكم الصلاة خلف الإمام المبتدع

حكم الصلاة خلف الإمام المبتدع Q ما حكم الصلاة خلف الإمام المبتدع المجاهر ببدعته؟ A إذا كان الإمام فاسقاً فيحاول الناس أن يغيروه، لكن إلى أن يتغير تجوز الصلاة وراءه، ولو كان فاسقاً، لا تترك صلاة الجماعة في المسجد لأن الإمام فاسق، قد يكون الإمام مبتدعاً، والبدعة تنقسم إلى قسمين: بدعة كفرية تخرج من الملة مثل: بدعة الذين يقولون أن الأولياء يعلمون الغيب، وأن الأولياء يصرفون أمور الكون، أو بدعة الذين يشركون بالله ويطوفون في القبور إلى آخره، هؤلاء المشركون لا تجوز الصلاة وراءهم مطلقاً، بل تقام جماعة أخرى إلن لم يستطيعوا تغيير الإمام، وإذا كانت البدعة غير كفرية، فتكره الصلاة وراء هذا الرجل، ولا بد من تغييره، لأن البدعة -أيها الإخوة- خطيرة، بل عدها العلماء من أكبر الكبائر بعد الإشراك بالله، وبعدها قتل النفس، لكن لو جهلنا عقيدة إمام معين، ولا نعرف عقيدة هذا الإمام هل هو من أهل السنة والجماعة، أم أنه رجل مبتدع؟ أقول: لم يكلفنا الإسلام بالتنقيب عن قلوب الناس، نقول: تعال يا فلان قبل أن تصلي بنا، يجب أن نختبرك أين الله؟ وما هي عقيدتك في الأسماء والصفات؟ وأي معتقدك في جوهري الألوهية، وفصل لنا في كلام الله، ونقول له: ما هي عقيدتك في الولاء والبراء؟ لم يكلفنا الإسلام بهذا، إذا كان ظاهره الصلاح والاستقامة فيكفي حتى يثبت أنه على بدعة، فعند ذلك نتخذ الموقف، لكن ما دام أنه لم يثبت، فنحن لم نكلف بالتفتيش والتنقيب، وأن نمتحن الناس، هذه خلاصة كلام ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. نكتفي بهذا، وأسأل الله عز وجل لي ولكم الإخلاص في القول والعمل، وأن يجمعنا وإياكم على طاعته، سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.

احتجاج المذنبين بالقدر

احتجاج المذنبين بالقدر إن اعتذار المذنبين واحتجاجهم بالقدر يعتبر من المزالق الخطيرة التي تزيد في غضب الرب عز وجل؛ لأن هذا الاعتذار ينافي التوبة إلى الله من الذنوب والمعاصي، ويعتبر خللاً في العقيدة، وينقل العبد من دائرة الإسلام إلى دائرة الشرك والكفر، ويؤدي إلى فساد عقيدة الولاء والبراء؛ ففي هذه المادة رد على من يحتج بالقدر، وبيان للمنهج السليم في التعامل مع القدر.

شبهة الاحتجاج بالقدر

شبهة الاحتجاج بالقدر إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلَّى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أيها الإخوة المسلمون! نتحدث اليوم عن موضوع يتعلق بنفسية التائب إلى الله عز وجل، ومن الأمور التي ذكرناها سابقاً مسألة الاعتذار؛ الاعتذار إلى الله عز وجل عن الذنوب التي ارتكبها العبد.

خطر الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي

خطر الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي وهاهنا -أيها الإخوة- مزلق عظيم يقع فيه كثير من الناس، ويتورطون فيه وهو من مصائد الشيطان، وذلك أن أحدهم إذا جاء ليعتذر إلى ربه عن الذنوب والسيئات التي ارتكبها، فإنه يعتذر إليه بالقدر، يعتذر إلى ربه اعتذار المخاصم، واعتذار الذي كأنه يقول: لست أنا الذي أخطأت وأذنبت، وإنما أنت الذي قدرت عليَّ هذا الذنب، وأنت الذي أجبرتني على فعله. ولذلك كان هذا المزلق الخطير من الأمور التي تزيد في غضب الرب عز وجل، بدلاً من أن تنقل هذا الإنسان إلى مواقع الرحمة وعظيم رضوان الله تعالى. وإن كثيراً من الذين يزعمون أنهم يتوبون إنما هم مخاصمون لله عز وجل في مسائل القدر، وأحياناً يكون خصامهم عن جهل، وهو جهل قبيح جداً لا يعذر فيه المسلم، وأحياناً يكون عن شُبَهٍ، وأحياناً يكون عن إصرار وإقدام، فهذا كيف يغفر الله عز وجل له؟ فالذي يزني ثم يقول لربه -بينه وبين نفسه-: أنت الذي قدرت عليَّ الزنا، وأنت الذي أجبرتني عليه، فما هي حيلتي؟ وما هو ذنبي؟ هذا القائل -أيها الإخوة- على خطر عظيم؛ لأنه لم يُرد بالاعتذار التقرب إلى الله عز وجل، وإظهار ضعفه، والمسكنة بين يديه، وتبيان غلبة العدو عليه، ولكنه أراد أن يخاصم ربه، وأن يحتج عليه، فكيف يقبل الله اعتذار هذا الرجل، فمثل هذا الذي يخاصم ربه مخاصمته منافية للتوبة. فإن العبد أذنب فقال: يا رب هذا قضاؤك، وأنت قدرت عليّ، وأنت حكمت عليَّ، وأنت كتبت عليَّ، فالله يقول له: وأنت عملت، وكسبت، وأردت واجتهدت، وأنا أعاقبك عليه؛ لأن هذا ليس بعذر إطلاقاً، أما إذا كان لسان حال العبد يقول: يا رب أنا ظلمت، وأخطأت، واعتديت، وفعلت، فعند ذلك ترى الله يقول له: وأنا قدرت عليك، وقضيت وكتبت، وأنا أغفر لك. فالاعتذار أيها الإخوة! اعتذاران: اعتذار ينافي الاعتراف، فهذا مناف للتوبة، واعتذار يقرر الاعتراف، يقول: يا رب أنا فعلت وقصرت، وأخطأت وأذنبت وأجرمت، وأنا مقر بذنوبي ومعترف بها، واعتذر إليك عما فعلت، فهذا الاعتذار -أيها الإخوة- هو الذي يرضاه الله عز وجل، ويقبله. وأما من خاصم الله تعالى، وقال له: أنت قدرت عليَّ، فما هو ذنبي؟ فعذره غير مقبول، وهذا الاعتذار بالقدَر يتضمن تنزيه الجاني لنفسه، فكأنه يقول لربه: أنا لست مذنباً، فينزه نفسه وهو الذي تمرغ في أوحال الذنوب والمعاصي، وينزه ساحته وهو الظالم الجاهل، الذي قال الله تعالى فيه: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72] {إِنَّ الْأِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} [العاديات:6] والكنود هو: الكفور الذي يجحد نعم الله، ويعد المصائب وينسى النعم، هو الذي تنسيه الخصلة الواحد من الإساءة، الخصال الكثيرة من الإحسان، هذا هو الكنود. هذا الظالم الجاهل لو تأمل في حال نفسه، لعلم بأنه هو الذي قعد على طريق مصالحه يقطعها عن الوصول إليه، هذا هو الحجر الذي يمنع تسرب الماء، وهذا هو الغي الذي يمنع شمس الهدى عن التدفق إلى القلب والسطوع عليه، فما أضر هذا الاعتذار السيئ على هذا العبد. ما تبلغ الأعداء من جاهل ما يبلغ الجاهل من نفسه هذا الجاهل نفسه تجني عليه، وهو يتضرر بهذه الأعذار القبيحة أكبر مما يتضرر من اعتداء الأعداء عليه، هذا الرجل ينادي ويقول: طردوني وأبعدوني، وهو الذي ولى ظهره إلى الباب؛ بل هو الذي أغلقه على نفسه، وأضاع المفاتيح وكسرها. هذا الرجل الذي يعتذر بالقدر، يقول لله: أنت قدرت عليّ، أنا ليس لي حيلة، وهو الذي ولى ظهره إلى الباب، وكسر المفاتيح بعدما أغلق الباب، ثم يقول: طردوني وأغلقوا الباب دوني. هذا الرجل الذي جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم الشفيق وأخذ بحجزته عن النار، يريد أن يمنعه من التقحم في النار، وهو يجاذبه ثوبه ويغلبه ويقتحمها، ثم يقول: ما حيلتي وقد قدموني إلى هذه الحفرة وقذفوني فيها! ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد نصحه، وقال له: الحذر الحذر من الوقوع في هذه الحفرة! وبين له مصائر الذين تقحموا فيها قبله، وتلا عليه من الوحي كيف كان الكفار والفسقة والعصاة، وكيف أوردتهم ذنوبهم وكفرهم إلى حفر النار، وهو ينازع الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يريد أن يمنعه من جهنم، ينازعه ويتقحم في النار، ثم يقول: هو الذي قذفني فيها.

أمثلة واقعية تبطل الاحتجاج بالقدر

أمثلة واقعية تبطل الاحتجاج بالقدر كيف هي عقلية هذا الرجل؟ يا ويله! ظهيراً للشيطان على ربه، خصماً لله مع نفسه، عاجز الرأي، مضياعاً لفرصته، معاتباً لأقدار ربه، يحتج على ربه بما لا يقبله من عبده وأمته. لو أن إنساناً -أيها الإخوة- قال لأحد أولاده: ائتني بكأس من الماء، أو قال لزوجته: ائتيني بالحاجة الفلانية، ثم إن هذا الولد أو هذه المرأة عصت هذا الرجل، ورفضت الانقياد له، وهذا الولد لم يأتِ لأبيه بكوب الماء، فلما غضب أبوه عليه وقال له: لماذا امتنعت؟ قال: هذا قدر الله، والله قدر علي ألا أطيعك وألا آتيك بالكأس من الماء، ماذا ترى هذا الأب يفعل؟ هل يرضى بهذا العذر السخيف من الولد؟ أم تراه يقوم إليه معاقباً، وعلى رأسه ضارباً ومهدداً ومتوعداً، بهذا العذر السخيف. فيكف يرضى هذا الرجل أن يعذر نفسه بأعذار لا يقبلها من زوجته ولا من ولده، فلو أمر أحدهم بأمر ففرط فيه، أو نهاه عن شيء فارتكبه وقال هذا المذنب: القدر ساقني إلى ذلك لما قبل منه هذه الحجة، ولبادر إلى عقوبته. إذا تسبب أحد الموظفين في خسارة، فلما ناقشه مديره قال: إن القدر ألجئني إلى هذا الشيء، وأنا ليس لي ذنب فيه، هل يرضى المدير من الموظف هذا العذر؟ كلا.

الرد على المحتجين بالقدر

الرد على المحتجين بالقدر إذاً: لماذا يعتذر ويحتج أولئك الفسقة والعصاة إلى ربهم بهذه الأعذار، ويقول أحدهم: أنا ليس لي حيلة، وليس لي مهرب، أنت الذي قدرت عليَّ، وهذا مع تواتر إحسان الله إلى هذا العبد، أحسن إليك أشد الإحسان، أزاح عللك، ومكنك من التزود إلى جنته، وبعث إليك الدليل وهم الرسل، وأعطاك مؤونة السفر، وزودك بالتوجيهات القرآنية والنبوية، وأعطاك ما تحارب به قطاع الطريق من الأبالسة، وشياطين الإنس الذين يوقعونك في المعاصي، وأعطاك ما تحذر منهم، من الأدوات التي تحاربهم بها، وأعطاك السمع والبصر والفؤاد، وعرفك الخير والشر، والنافع والضار، وأرسل إليك رسوله، وأنزل إليك كتابه، ويسره للذكر والفهم والعمل، وأعانك بمدد من جنده الكرام من الملائكة، يثبتونك ويحرسونك، ويحاربون عدوك، ويطردونه عنك -وهذه من وظيفة الملائكة- ويريدون منك ألا تميل إلى هذا العدو ولا تصالحه. وأنت تأبى إلاَّ مظاهرة هذا العدو عليهم، واتباع طريق الشيطان، وموالاته دونهم؛ بل تظاهره وتواليه دون وليك الحق الذي هو أولى بك. لماذا طرد الله إبليس من سمائه؟ ولماذا حرمه الجنة وأبعده عن قربه؟ لأنه رفض أن يسجد لك أنت أيها الإنسان، لكرامتك عند الله طرد إبليس من أجلك؛ لأنه لم يسجد لك واحتقرك وامتهنك، وقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12]. من أجلك أنت طرد الله إبليس عن سمائه، وأخرجه من جنته، ثم أنت توالي هذا الشيطان، وتسير في ركابه، وتسلك طريقه معادياً ربك الذي أكرمك أنت بطرد إبليس. وبعدما توالي هذا العدو، وتميل إليه وتصالحه تتظلم وتشتكي بالطرد والإبعاد. أمرك الله بشكره لا لحاجته إليك، ولكن لتنال أنت المزيد من فضله، فجعلت كفر نعم الله والاستعانة بها على مساخطه من أكبر أسباب زوال النعم، وأمرك الله بذكره ليحسن إليك بالثواب، فجعلت نسيان الله ديدنك، فجعلت الله ينساك: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة:67]. أيها الإخوة! إن هذا الرجل لا يصلح على عافية ولا على ابتلاء، فالعافية تسبب الزيادة في المعاصي، وكفران النعمة، والابتلاء يجعل الإنسان يشتكي إلى الخلق ويقول: {رَبِّي أَهَانَنِ} [الفجر:16] دعاك إلى بابه فما وقفت عليه ولا طرقته، ثم فتحه لك فما عرجت عليه ولا ولجته، أرسل إليك رسوله يدعوك إلى دار كرامته فعصيت الرسول، وقلت: لا أبيع ناجزاً بغائب، ولا نقداً بنسيئة. خذ ما رأيت ودع شيئاً سمعت به في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل هذا لسان حال العصاة، يقول: آخذ النعيم الذي أراه الآن أمامي، لا أنتظر النعيم الآخر المؤجل الغائب عن نظري، أنا أريد هذا النعيم. إذا وافق حظ هذا الإنسان طاعة الرسول أطاعه؛ لا طاعةً وحباً في رسول الله، ولكن ليحصل على مبتغاه، ومع ذلك فإن الله تعالى لم ييئيسك من رحمته؛ بل قال: متى جئتني قبلتك، إن أتيتني ليلاً قبلتك، وإن أتيتني نهاراً قبلتك، وإن تقربت مني شبراً تقربت منك ذراعاً، وإن تقربت مني ذراعاً تقربت منك باعاً، وإن مشيت إليَّ هرولت إليك، ولو لقيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً أتيتك بقرابها مغفرة، ولو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني غفرت لك، ومن أعظم مني جوداً وكرماً، عبادي يبارزونني بالعظائم، وأنا أكلؤهم على فرشهم، إني والجن والإنس في نبأ عظيم؛ أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر سواي، خيري إلى العباد نازل، وشرهم إليّ صاعد، أتحبب إليهم بنعمي وأنا الغني عنهم، ويتبغضون إليّ بالمعاصي وهم أفقر شيء إليّ، من أقبل إليّ تلقيته من بعيد، ومن أعرض عني ناديته من قريب، ومن ترك لأجلي أعطيته فوق المزيد، ومن تصرف بحولي وقوتي ألنت له الحديد. أهل ذكري أهل مجالستي، وأهل شكري أهل زيادتي، وأهل طاعتي أهل كرامتي، وأهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي، إن تابوا إلي فأنا حبيبهم، فإني أحب التوابين وأحب المتطهرين، وإن لم يتوبوا إليّ، فأنا طبيبهم أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من المعائب. بلغ من رحمة الله أنه يبتلي بعض العباد بالمصائب ليكفر عنهم ذنوبهم، من آثرني على سواي، آثرته على سواه، الحسنة عندي بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعافٍ كثيرة، والسيئة عندي بواحدة، فإن ندم عليها واستغفرني غفرتها له، اشكر اليسير من العمل، واغفر الكثير من الزلل، رحمتي سبقت غضبي، وحلمي سبق مؤاخذتي، وعفوي سبق عقوبتي، أنا أرحم بعبادي من الوالدة بولدها، قال صلى الله عليه وسلم: (لله أشد فرحاً بتوبة عبده من رجل أضل راحلته بأرض مهلكة دوية عليها طعامه وشرابه، فطلبها حتى إذا أيس من حصولها، نام في أصل شجرة ينتظر الموت، فاستيقظ فإذا هي على رأسه، قد تعلق خطامها بالشجرة، فالله أفرح بتوبة عبده من هذا براحلته).

أهمية التركيز على موضوع القدر

أهمية التركيز على موضوع القدر أيها الإخوة: ما حال كثير من الناس اليوم الذين يعذرون أنفسهم بذنوبهم، ويخاصمون الله تعالى؛ بل إنهم يعذرون العصاة فترى أحدهم إذا رأى رجلاً منغمساً في المعاصي، قال: هذا مسكين معذور! تسلط عليه إبليس شهوته قوية لا يستطيع أن يمنع نفسه، وهكذا. بل بلغت الوقاحة ببعضهم أنه رأى سارقاً قد قطعت يده، فقال: إنه مسكين أجبره الله على السرقة، ثم قطع يده عليها، هكذا هؤلاء الكفرة القدرية الذين يخاصمون الله تعالى، وسيكون الله خصمهم يوم القيامة. واعلموا -أيها الإخوة- إن التركيز على هذا الموضوع من الأهمية بمكان؛ لأنه -وللأسف الشديد- قد تطرق الخلل إلى عقيدة كثير من العامة في هذا الأمر. كثير من العامة إذا جئت تناقشهم يقول: هذا قدر الله ماذا أفعل؟! هذا كتبه الله عليَّ، فما هي حيلتي وما هو ذنبي؟ هذا الخلل خطير جداً في العقيدة، وهذا الخلل قد ينقلك من حظيرة الإسلام إلى دائرة الشرك والكفر. وهذا الخلل عظيم ينبغي الانتباه إليه اليوم كثيراً، وينبغي لدعاة الإسلام أن يتحسسوا مواطنه في قلوب الناس، ويزيلوا عن أعينهم هذه الأغشية من الشبهات، ويوضحوا عقيدة أهل السنة والجماعة في القضاء والقدر، إيضاحاً شافياً كافياً للناس. إن الله أعطانا الإرادة، وسهل لنا سبيل الخير، وأنزل علينا الكتب، وأرسلنا إلينا الرسل، وقال: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:5 - 10]. جعلنا الله وإياكم من أهل طاعته، وأهل طريق الخير والسعادة، ونسأله أن ييسرنا لليسرى، وصلى الله على نبينا محمد.

جوانب الاعتذار بالقدر

جوانب الاعتذار بالقدر الحمد لله وحده لا شريك له، لا إله إلا هو له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله سيد الأولين والآخرين.

الاعتذار بالقدر في حقوق العباد

الاعتذار بالقدر في حقوق العباد أيها الإخوة: هناك جانب من الاعتذار لا بأس أن يقوم به الإنسان، وهذا الاعتذار هو ما كان في حق العبد للعبد، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعذر في حقه، فإذا كان الخطأ في حقك أنت أيها المسلم، فإن من السنة أن تعذر أخاك المسلم في حقك، فقد قالت عائشة رضي الله عنها: (ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده خادماً ولا دابة ولا شيئاً قط، إلا أن يجاهد في سبيل الله). وقال أنس رضي الله عنه: (خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي لشيء صنعته لم صنعته، ولا لشيء لم أصنعه لم لم تصنعه، وكان إذا عاتبني بعض أهله قال الرسول صلى الله عليه وسلم: دعوه فلو قضي شيء لكان). كان يعذر المسلمين بالقدر للأخطاء التي تكون في حقه، والأخطاء التي تكون في حقه صلى الله عليه وسلم كرجل كان يعذر الناس فيها، فلم يكن يضربهم ولا يلومهم ولا يقرعهم.

منع الاعتذار بالقدر في حق الله تعالى

منع الاعتذار بالقدر في حق الله تعالى أما الأشياء التي تكون في حق الله، فلم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يعذر فيها أحداً بالقدر مطلقاً، فإنه لما سرقت المرأة قطع يدها، وما قال الرسول صلى الله عليه وسلم أبداً: هذه المرأة قدر الله عليها بالسرقة، وما ذنبها، إذاً لا نقطع يدها، كلا؛ بل قطع يدها؛ لأن هذا حق من حقوق الله عز وجل. وكذلك لما تخلف بعض الناس عن صلاة الجماعة، ما قال الرسول صلى الله عليه وسلم هذا قضاء الله وقدره، دعونا نستسلم للقضاء والقدر ولا نعاقب هؤلاء؛ بل قد همَّ بتحريق بيوتهم عليهم. ولما زنت المرأة، وزنى الرجل رجمهما صلى الله عليه وسلم، ولم يعذرها بالقدر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرف بالله وبحقه من أن يحتج بالقدر على ترك أمر الله تعالى، ولكنه يقبل هذا إذا كان في حقه، فقد عذر أنس بالقدر في حقه وقال: (لو قضي شيء لكان) فصلوات الله وسلامه عليه.

مفاسد الاعتذار العباد بالقدر في حقوق الله تعالى

مفاسد الاعتذار العباد بالقدر في حقوق الله تعالى أما عذر النفس بالذنوب، أو عذر العباد في تقصيرهم في حقوق الله تعالى، فهذا مزلق عظيم يؤدي إلى معذرة عبدة الأصنام والأوثان، وقتلة الأنبياء، وعذر فرعون وهامان، ونمرود بن كنعان وأبو جهل وأصحابه، وسيؤدي بك الأمر إلى إعذار إبليس وجنوده، وكل كافر وظالم ومتعدٍ لحدود الله. ثم إن من عقيدة أهل السنة والجماعة الموالاة والمعاداة في الله، والحب في الله والبغض في الله، وكثيرٌ من المسلمين -اليوم- يحبون من أبغض الله، ويبغضون من أحب الله، ويوالون من عادى الله، ويعادون من والى الله، زالت عقيدة الولاء والبراء من نفوس هؤلاء الناس، هذا الرجل المجرم العاصي الفاسق المتعدي على حدود الله، والمنتهك لأوامره ولشرعه؛ أنت تحبه والله يبغضه، أنت تواليه والله يعاديه، كيف يكون هذا؟! كيف تكون أنت رجلاً مسلماً وأنت توالي من عادى الله! إذا عذرت الناس بالقدر على معاصيهم، فإنك توالي أعداء الله، وتحب أعداء الله. الاحتجاج بالقدر -أيها الإخوة- يؤدي إلى فساد عقيدة الولاء والبراء، وهكذا الشرك والكفر، هذه الظلمات يؤدي بعضها إلى فساد بعض، ويعود بعضها بالنقض على بعض. إذا اختل شيء بذاك الأساس تضاعف في الصرح ذاك الخلل إذا كانت العقيدة مهزوزة، وفيها شروخ وأخطاء انعكس ذلك على العمل، وعلى المواقف من النفس والناس الآخرين، فلابد من تصحيح عقيدة الولاء والقدر في نفوسنا، ونسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى؛ أن يصفي عقائدنا من دخن الشرك والكفر والزيغ والبدع، اللهم واجعلنا على عقيدة أهل السنة والجماعة سائرين، وبتوحيدك متمسكين، وبسنة نبيك صلى الله عليه وسلم متشبثين. اللهم لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد سيد الأبرار.

من أحكام التوبة

من أحكام التوبة للتوبة أهمية عظيمة؛ فقد أمر الله بها جميع المؤمنين، بل قسم الخليقة إلى تائب وظالم، فالتوبة مطلوبة من المحسن والمسيء، لا يختص بها فرد بعينه أو مجتمع بذاته. وهناك علاماتٌ تظهر على حال التائب يستدل منها على صحة التوبة أو فسادها، بعضها ظاهرة جلية وبعضها دقيقة خفية. ومن لم يقع في كبيرة فعليه أن يحذر من احتقار التائبين من أهل الكبائر؛ لأن احتقارهم كبيرة من نوعٍ آخر.

أهمية التوبة

أهمية التوبة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أيها الإخوة: كنا قد تكلمنا في الخطبة الماضية عن أطراف مما يتعلق بموضوع التوبة، ونظراً لأهمية هذا الموضوع من جهتين على الأقل، فإنه بدا لي أن أتوسع فيه بذكر بعض النقاط الأخرى المهمة في هذا الشأن العظيم من شئون الإسلام.

تقسيم أهمية التوبة إلى عامة وخاصة

تقسيم أهمية التوبة إلى عامة وخاصة وأهمية التوبة ترجع إلى أهمية عامة وأهمية خاصة: فأما الأهمية العامة -أيها الإخوة-: فإن هذا الأمر -التوبة- من الأمور العظيمة جداً في الإسلام، حيث أمر الله تعالى به المؤمنين، فقال: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31] فهو لم يوجه الأمر بالتوبة إلى الفسقة والظلمة والكفار فقط، وإنما أمر بتوبة المؤمنين أيضاً، وهذا مما يدل على أهميتها في الإسلام، وعلى عظم شأنها عند الله عز وجل. والأمر الآخر -أيها الإخوة-: أنه في هذا الظرف الذي نعيش فيه من تكالب الحياة المادية على نفوس البشر، وابتعادهم عن الإسلام، وعن الصحوة الإسلامية التي بدأت تدب في نفوس الناس، فإن الحديث عن التوبة حديث ذو شجون، وله من الأهمية شيء عظيم جداً؛ لأن الكلام في هذا الموضوع هو بداية التصحيح، وهو المعيار الحساس الذي يحس به أولئك العائدون إلى الله عز وجل، الذين بدأ انتشالهم من أوحال المعاصي والذنوب. ولذلك كان لابد من معاودة الكلام وتكراره في المجالس، ولابد للدعاة إلى الله عز وجل أن يحوموا حول هذا الموضوع وأن يقعوا فيه، وأن يبينوا للناس عظم شأن التوبة بشروطها وأركانها وواجباتها ومستحباتها، وعظم شأنها في الإسلام. لأن هذا الموضوع هو النور الذي ينير لمن ابتعد عن شرع الله عز وجل، وهو منار الهدى الذي تهفو إليه أفئدة وبصائر أولئك الناس الذين اغتالتهم الشياطين بعيداً عن دينهم، وإن هذا الموضوع هو الذي يجدد الأمل في نفوس التائبين، ويزيل اليأس من نفوس العائدين إلى مائدة الله عز وجل، وإلى شرع الله تعالى

تقسيم الخليقة إلى تائب وظالم

تقسيم الخليقة إلى تائب وظالم فقسم الله عز وجل الخليقة إلى قسمين: فقال الله عز وجل: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات:11] فانقسم العباد إلى قسمين: إلى تائب وإلى ظالم، وليس ثمة قسم ثالث ألبتة، فهم إما تائبون وإما ظالمون {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.

توبة المفاليس

توبة المفاليس واعلموا أيها الإخوة! أن للتوبة الصحيحة علامات، وللتوبة السقيمة المريضة المرفوضة علامات أيضاً: فمن علامات التوبة السقيمة: أنها لا تؤدي إلى الإقلاع عن الذنب، ولا إلى تعظيم الله عز وجل، بل إنها تكون غالباً لظرف دنيوي بحت، لا علاقة له بالخوف من الله عز وجل إطلاقاً. والتائب من هذا النوع -التوبة السقيمة المرفوضة- لا يشعر أصلاً بأنها توبة، وهي ما سماه السلف بتوبة أرباب الحوائج والمفاليس، الذين يتوبون من بعض الأمور للمحافظة على حاجاتهم ومنازلهم بين الناس، فبعض الناس يتوب إما محافظة على حاله، فهذا تاب للحال، لا توبة من خوف ذي الجلال. وبعض الناس يتوب طلباً للراحة من الكد في تحصيل الذنب، بعض الذنوب تتعب الإنسان جسدياً وذهنياً، فيقلع بعض الناس عن بعض هذه الذنوب طلباً لراحة الجسم والتفكير، كمن يخطط للاختلاس، فإن ذهنه يتعب، وكمن يخطط لتهريب الأمور المحرمة، فإنه يتعب ذهنه وبدنه، فهذا قد يقلع عن هذا الذنب، ليس خوفاً من الله عز وجل، وإنما طلباً لراحة ذهنه وجسمه، فهذا توبته مرفوضة وغير صحيحة. أو تاب اتقاء لما يخافه على عرضه وماله ومنصبه، كقاض يقع في ذنوب كبيرة، فيتركها لأنه يخاف أن يفتضح بين الناس، أو رجل وجيه وصاحب منصب، يخشى أن يلوك الناس عرضه، وأن يتكلموا عنه في المجالس، فيترك هذا الذنب لا خوفاً من الله عز وجل، وإنما خوفاً على منصبه وسمعته، ويخاف الفضيحة بين الناس فيترك الذنب، فهذا توبته سقيمة غير صحيحة. وأحياناً تكون التوبة لضعف داعي المعصية في القلب، وخمود نار الشهوة، كرجل زانٍ بقي يزني مدة طويلة في شبابه، فلما اقترب من سن الشيخوخة ودخلها، ضعفت الشهوة في جسمه، وذبل هذا الدافع لجريمة الزنا، فترك الزنا لا خوفاً من الله تعالى، ولا خوفاً من النار، ولا لعلمه بأن هذا أمر محرم، ولكنه ترك الزنا لأن جسمه لم يعد يقوى على الزنا، فهذه توبة سيئة لا يرضاها الله عز وجل. أو لمنافاة المعصية لما يطلبه من متاع الحياة الدنيا، ونحو ذلك من العلل التي تقدح في كون التوبة خوفاً من الله وتعظيماً له ولحرماته، وإجلالاً له وخوفاً من سقوط المنزلة عند الله والبعد منه والطرد عنه. فهذه التوبة -أيها الإخوة- لون، وتوبة الصادقين المخلصين لون آخر.

علامات التوبة الصحيحة

علامات التوبة الصحيحة وأما التوبة الصحيحة فإن لها علامات تدل عليها.

تعظيم الجناية

تعظيم الجناية ومن هذه العلامات أيها الإخوة: تعظيم الجناية التي وقع فيها العبد: تعظم في عينيه وتظهر له كوحش كاسر يريد أن يفترسه، وكجبل عظيم يوشك أن يقع عليه، فكلما عظمت الجناية في عين العبد؛ كانت توبته منها أشد وأصح، وعلى قدر تعظيم الجناية يكون ندمه على ارتكابها أكبر، فإن من استهان بضياع فلس -وهو الشيء الحقير من المال- ولم يندم على إضاعته، فإذا تبين له أن الذي ضاع منه في الحقيقة دينار وليس فلساً فهنا ينقلب الأمر في نفسه، ويشتد ندمه على هذا الأمر العظيم الذي أضاعه وفقده. الناس عندما يرتكبون الذنوب يستصغرون شأنها، وتكون في أعينهم غير ذات بال وشأن، ولكنهم إذا تابوا إلى الله استعظموا الذنوب، وبدت لهم الذنوب التي عملوها ليست صغيرة، وإنما هي أمور عظيمة، فتكون توبتهم أكبر وأشد حرارة إلى الله عز وجل. وتعظيم الجناية أيها الإخوة ينشأ عن ثلاثة أمور: الأمر الأول: تعظيم الأمر الذي وقع فيه هذا الرجل. والأمر الثاني: تعظيم الآمر الذي أمر بالابتعاد عن هذا الشيء، ثم أنت وقعت فيه، وهذا هو الأهم؛ فإن من أسماء الله عز وجل -العظيم- فكلما آمنت بهذا الاسم العظيم فإنك تشتد هيبة من الله عز وجل، وبعداً عن الوقوع في المحرمات. والأمر الثالث: التصديق بالجزاء، التصديق بأن هذا الأمر إذا صممت عليه فإن عقوبته النار عند الله عز وجل

اتهام صحة التوبة

اتهام صحة التوبة والأمر الثاني -أيها الإخوة- من علامات صحة التوبة: اتهام التوبة نفسها، بأنك تخاف أن تكون هذه التوبة لم تقع على الوجه المطلوب منك، وعلى الوجه الذي من المفترض أن تؤديها عليه، فتخاف أنك لم توفها حقها، وأنها لم تقبل منك، وأنك لم تبذل جهدك في صحة هذه التوبة، وأنها قد تكون من توبات العلل التي تكلمنا عنها قبل قليل، أنك تشك في صحة هذه التوبة، ليس الشك الذي يجعلك موسوساً مبتعداً عن رحمة الله واقعاً في اليأس والقنوط، وإنما الخوف أن تكون هذه التوبة فيها نقص أو غير مقبولة عند الله، إن هذا الأمر يساعدك على تعظيم التوبة وتوكيدها أكثر من ذي قبل. وكذلك -أيها الإخوة- من العلامات التي تقابل هذا الأمر في التوبة السقيمة: أن التائب يطمئن ويثق تماماً بأن الله قد قبل توبته، حتى كأنه أعطي منشوراً بالأمان كما يقول ابن القيم رحمه الله: كأنه أعطي صكاً بدخول الجنة، هذه التوبة تخوّف، وهذه التوبة في خطر؛ لأن هذا -أيها الإخوة- من علامات التهمة، تتهم بها نفسك، لو أنك أحسست من بعد التوبة بأنك قد ضمنت دخول الجنة، وأنك متيقن بأن الذنب قد انتهى وأن الله قد غفره.

الإقبال على الله والبكاء على الذنب

الإقبال على الله والبكاء على الذنب ومن علامات صحة التوبة: الإقبال على الله عز وجل، والبكاء على الذنب الذي حصل، وإذراف الدموع على تلك المعصية التي وقعت فيها، بخلاف الأمر في التوبة السقيمة التي يكون من علاماتها: جمود العين، لا دموع ولا عبرات تسكب خوفاً من الله تعالى من هذا الذنب الذي وقعت فيه

الإلحاح على الله بقبول التوبة

الإلحاح على الله بقبول التوبة أيها الإخوة: إن من علامات التوبة الصحيحة: أنك تتملق الله عز وجل، ومعنى التملق هو: الإلحاح إلى الله تعالى، والاعتذار إليه عما وقع منك، والاعتراف والإلحاح على الله بقبول التوبة، والاعتراف عند الله مهم جداً، لذلك كان في ضمن سيد الاستغفار، أن يقول العبد: (اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليّ -أبوء أي: اعترف- وأبوء بذنبي فاغفر لي). فإذاً: صار الاعتراف بالذنب عند الله عز وجل من الأمور المهمة.

من علامات التوبة الصحيحة: كسرة خاصة تحصل للقلب

من علامات التوبة الصحيحة: كسرةٌ خاصة تحصل للقلب وكذلك انخلاع القلب وتقطعه ندماً وخوفاً من هذا الأمر العظيم. وكذلك من موجبات التوبة الصحيحة كسرة خاصة تحصل للقلب لا تحصل بأي شيء آخر سواه، لا بعبادة ولا بغيرها. الانكسار الذي يحدث في نفسك عند التوبة إلى الله عز وجل، هذا النوع من الانكسار لا يحدث إلا بالتوبة، إذا ما حصل هذا الانكسار وهذه الذلة أمام الله تعالى، والخجل والحياء من الله عز وجل؛ فعند ذلك تتهم التوبة. فانكسار القلب بين يدي الرب عز وجل، كسرة تامة وإلقاؤه بين يدي ربه طريحاً ذليلاً خاشعاً، كحال عبد هرب من سيده، فأُخذ وأمسك وأحضر بين يديه، ولم يجد ما ينجيه من سطوته ولا منه مهرباً، وعلم إحاطة سيده بتفاصيل جنايته، هذا مع حبه لسيده وحاجته إليه، وعلمه بضعفه وعجزه وقوة سيده، وذله وعزة سيده، فتجتمع في هذه الحال كسرة وذلة وخضوع ما أنفعها للعبد! وما أحسن عائدتها عليه! وما أعظم جبرها! وما أقربه بها إلى سيده! فليس شيء من الأشياء يعدل هذه الكسرة، وهذا الخضوع والتذلل، فيقول ابن القيم رحمه الله: فلله ما أحلى قول القائل: أسألك بعزك وذلي إلا رحمتني، أسألك بقوتك وضعفي، وبغناك عني وفقري إليك، هذه ناصيتي الكاذبة الخاطئة بين يديك، عبيدك سواي كثير، وليس لي سيد سواك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال الخاضع الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، سؤال من خضعت لك رقبته، ورغم لك أنفه، وفاضت لك عيناه، وذل لك قلبه. هذه هي حال التائب توبة حقيقة، هذا لسانه يعبر به عما يستجيش في نفسه، وعما يختلج في قلبه من الشعور بأهمية رحمة الله وبأهمية حصوله عليها. فما أصعب التوبة الصحيحة أيها الإخوة! وما أسهلها باللسان والدعوى! التوبة باللسان والدعاوي سهلة، لكن التوبة الصحيحة التي تجتمع فيها هذه العلامات توبة صعبة، ولكن من أقبل على الله وأخلص له، فإنه لابد أن يوفقه لهذه التوبة الصحيحة.

خطر احتقار التائبين

خطر احتقار التائبين ثم إن هناك أمراً مهماً -أيها الإخوة- يغفل عنه كثيرٌ ممن ينتسبون إلى الصلاح والاستقامة، فيقول ابن القيم رحمه الله في حال هؤلاء الناس: وأكثر الناس من المتنزهين عن الكبائر الحسية والقاذورات، يقعون في كبائر مثلها أو أعظم منها أو دونها. بعض الناس لا يشرب خمراً ولا يزني ولا يسرق ولا يخون ولا يكذب، ولكنه واقع في أمر لا يقل نكارة عن هذه الأمور من الكبائر التي ذكرناها الآن. ما هو هذا الأمر الذي قد يقع فيه هذا الرجل؟ الإزراء على أهل الكبائر واحتقارهم، ومنته على الخلق بلسان الحال. أي: أن بعض الناس لا يرتكبون الكبائر المعروفة التي ذكرناها، ولكنهم يحتقرون التائبين الذين سبق لهم الوقوع في المعصية، يحتقرهم أولاً لأنهم قد وقعوا فيها، فيحتقرهم مع أنهم تابوا منها، وهذا الاحتقار خطير أيها الإخوة، لأنك تحتقر من تاب، رجل وقع في الذنب ثم تاب إلى الله، لماذا تحتقره؟ إن احتقارك له يعني أولاً: احتقارك لتوبته، يعني احتقارك لهذه العبادة العظيمة التي قام بها هذا التائب. ثانياً: احتقارهم لأنه يعتقد أنه أرفع منهم شأناً، وأصلح منهم حالاً، وأعلى منهم ذاتاً، وأقرب منهم إلى الله، وأنه صاحب عبادة وصيام وصلاة وتهجد وعلم ودعوة، فهو يستعلي على أولئك الناس لا استعلاء إيمانياً صحيحاً، وإنما استعلاء تجبر وتكبر واحتقار، وهذا لا يقل خطورة عن تلك الكبائر التي وقع فيها أولئك الناس. أيها الإخوة: أن يرى الإنسان نفسه أعلى من الآخرين، وأنهم حقيرون بجانبه، وأنه ليس لهم شأن، وأنه هو صاحب الصلاة والصيام والزكاة والدعوة والعلم، وأنه أحسن منهم حالاً؛ شعور يؤدي إلى التكبر عليهم، واحتقارهم في توبتهم. هذا اللسان -أيها الإخوة- من أنواع ألسنة الحال خطير جداً، الرسول صلى الله عليه وسلم مع علمه ودعوته وجهاده وطاعته وعبادته وخشوعه وذله، كان إلى الله ذليلاً منكسراً، يحقر من شأن نفسه، ويرتمي على عتبة الله عز وجل، يستغفر الله ويتوب إليه في اليوم والليلة أكثر من مائة مرة، هذا الرسول صلى الله عليه وسلم. فالذين يحتقرون الناس ويتكبرون عليهم لاعتقادهم بأنهم هم الذين يدخلون الجنة والآخرون إلى النار، هذه النفسية من أسوأ النفسيات. يقول ابن القيم رحمه الله: وقد يكون من رحمة الله تعالى بهذه النوعية من البشر، أن يبتليهم بكبيرة يقعون فيها، يقع يوماً من الأيام في الزنا أو السرقة أو شرب الخمر. ولماذا يكون هذا من رحمة الله بهذه النوعية المستعلية استعلاءً حقيراً خاطئاً؟ يكون وجه الرحمة -أيها الإخوة- أن يجعل الله نفوس هؤلاء تنكسر إليه بعد تكبرها وصلفها وتجبرها واحتقارها للناس. الواحد بهذه النفسية -نفسية المتكبر المحتقر للآخرين التائبين من الذنوب- إذا ابتلاه الله في يوم من الأيام بفاحشة من الفواحش، فقد يكون في هذا خير له؛ لأن نفسه ستنكسر، ويعلم أنه ليس بهذا المستوى الذي يظن نفسه فيه. وأنا لا أدعو بهذا الكلام أصحاب الصراط المستقيم الذين تنزهوا عن الفواحش، أن يقعوا فيها مرة واحدة، لا. ليس هذا هو المقصود، وإنما المقصود نزع التكبر والاحتقار لعباد الله من النفس، وتطمينها والدعوة إلى الله بالحسنى. يا أخي الداعية: يجب أن يشعر الناس وأنت تدعوهم أنك لا تحتقرهم، أنك تنصحهم نصيحة أخ مشفق على حالهم، تطامن إليهم، تتودد إليهم، وليس أن تستعلي عليهم استعلاء الاستكبار والاحتقار.

أحكام التوبة

أحكام التوبة وكذلك -أيها الإخوة- فإن للتوبة أحكاماً مهمة لابد من معرفة بعضها: فمن هذه الأحكام: أن المبادرة إلى الله عز وجل من الذنب هي فرض على الفور، ولا يجوز تأخيرها بأي حال من الأحوال، فمن فعل ذنباً وأخر التوبة فقد عصى الله تعالى بذنب آخر وهو تأخير التوبة، من فعل ذنباً وأخر التوبة إلى الله فقد وقع في ذنب ثان، ألا وهو تأخير التوبة. فلو أن هذا الرجل كان يشرب الخمر وأخر التوبة إلى ما بعد سنتين أو ثلاث، ولم يتب إلى الله، ثم تاب بعد سنتين من شرب الخمر، فهذا قد تاب من ذلك الذنب الأول، وبقي عليه توبة أخرى وهي: التوبة من تأخير التوبة. يقول العلامة ابن القيم رحمه الله: وهذا أمر يفوت على كثير من الناس ولا يدركونه، ويشبه هذا الأمر أمر آخر وهو: أننا قد نقع في ذنوب، ونحن لا نحس بأننا قد وقعنا فيها، يمكن أن نغتاب في مجلس ولكننا ننسى ولا نذكر مطلقاً بأننا قد وقعنا في الغيبة، وقد نقع في الذنوب ونحن نجهلها، نقع في أشياء ونحن مذهولون عنها لم نعِ أننا وقعنا في الذنب، هذا يحدث كثيراً. ما هو الحل والعلاج؟ العلاج في سنة نبيك صلى الله عليه وسلم فاستمع لها يا أخي المسلم، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل، فقال أبو بكر: فكيف الخلاص منه يا رسول الله؟)، ما دام أن الشرك خفي جداً لا يتفطن إليه كثير من الناس، قد تقول في مجلس: أنا اعتمدت على الله وعليك، وتفوت عليك هذه الكلمة، أو تقسم بغير الله، تقول: وحياة أبي، أو والأمانة، أو وشرفي إلخ. ويفوت عليك أنك حلفت بغير الله، وأن هذا من الشرك الأصغر، لا تنتبه لهذا الأمر، ما هو العلاج؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن تقول: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك مما لا أعلم). انظر إلى دقة قضية التوبة في الإسلام، إنه يأمر المسلم أن يتوب إلى الله من الأشياء التي يجهل أنها ذنوب، ولا يعلم بأنه وقع فيها. ولذلك كان من دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم، أنه كان يدعو في صلاته: (اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي جدي وهزلي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت إلهي، لا إله إلا أنت). وكان يقول أيضاً في دعائه: (اللهم اغفر لي ذنبي كله، دقه -صغيره- وجله -عظيمه- خطأه وعمده، سره وعلانيته، أوله وآخره). فهذا التعميم والشمول في الاستغفار؛ لتأتي التوبة على جميع الذنوب التي وقع فيها العبد، سواء كان عالماً بها أو غير عالم، شاعراً بها أو غير شاعر. أسأل الله أن يوفقني وإياكم للتوبة النصوح، والإنابة إلى الله، وصلّى الله على نبينا محمد.

مسائل تتعلق بالتوبة

مسائل تتعلق بالتوبة الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا هو ولي الصالحين المتقين، وقابل التوب وغافر الذنب شديد العقاب ذو الطول لا إله إلا هو وإليه المصير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي علمنا التوبة وشرائطها وأدعيتها؛ لنلتزم بها، فصلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

حكم التوبة من ذنب مع الإصرار على آخر

حكم التوبة من ذنب مع الإصرار على آخر وهنا في هذا الموضوع -أيها الإخوة- قد يرد سؤالٌ في أذهان البعض: هل تصح التوبة من الذنب مع الإصرار على ذنب آخر؟ إنسان يزني ويشرب الخمر، ثم تاب إلى الله من الزنا، ولكنه ما زال مصراً على شرب الخمر، فهل يقبل الله توبته من الزنا أم لا؟ اختلف العلماء في هذه القضية، ولكن ابن القيم رحمه الله تعالى أتى بكلام وسط طيب في هذه المجال فقال: الذي عندي في هذه المسألة: أن التوبة لا تصح من ذنب مع الإصرار على آخر من نوعه، وأما التوبة من ذنب مع الإصرار على ذنب آخر ليس مثله في النوع، فإنها توبة صحيحة مقبولة إذا توفرت فيها الشروط. فيضرب لذلك أمثلة فيقول: فمن تاب من الربا، ولم يتب من شرب الخمر مثلاً، فإن توبته من الربا صحيحة مقبولة، ولكن إذا تاب من ربا الفضل -نوع من أنواع الربا- ولم يتب من ربا النسيئة -وهو نوع آخر من أنواع الربا - وأصر على النوع الثاني، وتاب من النوع الأول من أنواع الربا أو بالعكس، فإن توبته غير صحيحة؛ لأنه مازال مرابياً، لا يعني أنه أقلع عن نوع من أنواع الربا أن توبته صحيحة من النوع الآخر؛ لأنه مازال واقعاً في الربا. أو مَن تاب مِن تناول المخدرات وأصر على شرب الخمر -التي يقول ابن القيم عنها الحشيشة- هل توبته من المخدرات صحيحة؟ لا. لماذا؟ لأنه مازال واقعاً في نفس النوع من الذنب وهو السكر، فهذا لا تصح توبته. وكمن يتوب من الزنا بامرأة، وهو مصر على الزنا بامرأة أخرى، واحد يزني بامرأتين -لا حول ولا قوة إلا بالله! نسأل الله لنا ولكم السلامة- فتاب من الزنا بإحداهما، ولكنه ما زال مصمماً ومصراً على الزنا بالمرأة الأخرى، فهل توبته من الزنا بالمرأة الأولى صحيحة؟ A كلا. ليست توبته صحيحة؛ لأنه مازال واقعاً في فاحشة الزنا، وإن تنوعت أشكالها ومحل وقوعها، أو من تاب من شرب عصير العنب المسكر، وهو مصر على شرب غيره من الأشربة المسكرة، فهذا في الحقيقة لم يتب من الذنب، هذا بخلاف من تاب من معصية، ولكنه مصرٌ على معصية من نوع آخر، فإن الله يقبل توبته من المعصية المختلفة.

سبب الوقوع في المعصية بعد الإقلاع عن معصية أعظم

سبب الوقوع في المعصية بعد الإقلاع عن معصية أعظم بعض الناس -أيها الإخوة- يقلعون عن المعاصي، ويتشبثون بمعاص أخرى، ما هو السبب؟ السبب: لأنه يتوب من معصية؛ لأن وزرها أعظم، ويتشبث بمعصية أخرى؛ لأن وزرها أخف، هكذا يعتقد، يتوب من الزنا لكنه يبقى مصمماً على النظر إلى المرأة الأجنبية، سواء كان في التلفاز أو الجرائد والمجلات أو الشارع أو السوق. لماذا يصمم بعض الناس على النظر إلى المرأة الأجنبية لكنه لا يقع في الزنا؟ لأنه يعتقد أن الزنا إثمه كبير، أما النظر إلى المرأة الأجنبية فإثمه قليل، فذلك لا بأس بفعله. وهذا مدخل خطير؛ لأن الإصرار على الصغيرة يجعلها كبيرة كما هي القاعدة عند أهل السنة. وإما لغلبة داعي الطبع عليه. كمن طبعه متعود على معصية، لكن معصية أخرى ليس متعوداً عليها، فيترك المعصية الأخرى ولا يأتيها؛ لأنه غير متعود عليها، ويصمم على المعصية التي هو متعود عليها. وآخر أسباب المعصية حاضرة أمامه، بينما أسباب المعصية الأخرى ليست حاضرة أمامه. مثلاً واحد يزني؛ لأنه يعرف الزانيات، والسبيل إلى الوصول إليهن سهل، لكنه لا يستعمل المخدرات؛ لأن سبيل الوصول إلى المخدرات صعب، فلذلك هو يقع في الزنا، لكنه لا يستعمل المخدرات، هذه أحد الأسباب التي تجعل الناس يقعون في ذنوب ويتركون ذنوباً أخرى. وإما لاستحواذ قرنائه وخلطائه عليه، فيزينون له معاصي، لكن لا يزينون له معاصي أخرى، فيقع في هذه المعصية مجاراة لأصحاب السوء الذين يزينون له هذه المعصية. وإما لجاه وحظوة لا تطاوعه نفسه على إفساد جاهه بالتوبة، كما قال أبو نواس لـ أبي العتاهية وقد لامه على تهتكه في المعاصي: أتراني يا عتاهي تاركاً تلك الملاهي أتراني مفسداً بالنسك عند القوم جاهي هذا الرجل جاهه عند الناس أن يفعل المعاصي، لو أقلع عن المعاصي ما صارت له قيمة عند الناس، وزالت أهمية منصبه، فهو لذلك يقترف المعاصي لكي يبقي على حظوته وجاهه عند الخلق.

الإساءة المتخللة بين الطاعتين ترتفع بالتوبة

الإساءة المتخللة بين الطاعتين ترتفع بالتوبة وكذلك أيها الإخوة! لو أن إنساناً كان يعمل الحسنات، ثم عمل السيئات، بقدر تلك الحسنات أو أكثر، فمحيت تلك الحسنات بهذه السيئات -سقطت تلك الحسنات- فهل إذا تاب إلى الله عز وجل بعد ذلك تعود إليه حسناته أم لا؟ يجيبك على ذلك هذا الحديث الصحيح الذي يرويه حكيم بن حزام أنه قال: (يا رسول الله! أرأيت عتاقة أعتقتها في الجاهيلة - هو أعتق عبداً في الجاهلية وهو كافر- وصدقة تصدقت بها في الجاهلية -وهو كافر- وصلة وصلت بها رحمي في الجاهلية، فهل لي فيها من أجر؟ -بعد أن أسلم الآن والتزم شرع الله، فهل تعود إليه تلك الحسنات؟ - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسلمت على ما أسلفت من خير) أي: كان إسلامك على ما أسلفت من خير، أي: أعمالك الصالحة السابقة إذا تبت إلى الله وعدت وأسلمت تحسب لك من جديد. يقول ابن القيم رحمه الله في تعليل هذا: وذلك لأن الإساءة المتخللة بين الطاعتين قد ارتفعت بالتوبة، وصارت كأنها لم تكن، فتلاقت الطاعتان التي قبل التوبة والتي بعد التوبة، فاجتمعتا. وهذا من رحمة الله أيها الإخوة! إذا تبت إلى الله تعود إليك الحسنات التي محيت بسبب السيئات. وكذلك لابد في التوبة من إرجاع الحقوق إلى الآدميين، ولعلنا نسرد فصلاً بهذا في المستقبل إن شاء الله.

هل يرجع العاصي بتوبته إلى درجته قبل معصيته؟

هل يرجع العاصي بتوبته إلى درجته قبل معصيته؟ النقطة الأخيرة: بعض الناس عندما يتوب من الذنب يتساءل في نفسه تساؤل النادم المتحسر: هل الآن بعد توبتي أرجع إلى ما كنت عليه قبل حصول الذنب مني؟ واحد كان على درجة من تقوى الله، فعل معصية أو معاصي، نزلت مرتبته عند الله بسبب المعاصي، لو تاب من هذه المعاصي، هل يعود إلى نفس الدرجة الأولى؟ رجل عند الله عز وجل في الدرجة العشرين من الجنة مثلاً، ثم عمل معاصي فنزل إلى الدرجة العاشرة، ثم تاب من المعاصي هل يعود إلى الدرجة الأولى أم لا؟ بعض العلماء قال: لا يمكن أن يعود، وقد مثل لذلك ابن الجوزي في صيد الخاطر، فقال: لأن من لبس ثوباً سليماً ليس كمن لبس ثوباً مرقعاً، وبعض الناس قال: يعود مطلقاً إلى المرتبة التي كان فيها. وفصل ابن تيمية رحمه الله تعالى في هذا الأمر تفصيلاً ممتازاً، فقال: إن من التائبين من لا يعود إلى درجته، ومنهم من يعود إليها. من التائبين من لا يعود إلى درجته الأولى أبداً، فيبقى أنزل منها، ومنهم من يعود إليها، ومنهم من يعود إلى أعلى منها، فمن التائبين من يعود إلى أعلى من الدرجة التي كان فيها، فيصير خيراً مما كان قبل الذنب. وكان داود عليه الصلاة والسلام بعد التوبة خيراً منه قبل الخطيئة، قال: وهذا بحسب حال التائب بعد توبته وجده وعزمه وحذره وتشميره، فإن كان هذا الجد والعزم والتشمير على طاعة الله بعد التوبة كبير جداً، بحيث إنه فاق سرعة الطاعة قبل التوبة، فهذا يعود إلى مرتبة أحسن من التي كان عليها قبل وقوع الذنب. وإن عاد في سيره إلى مثل ما كان عليه قبل الذنب -نفس السرعة- فإنه يعود إلى نفس الدرجة، وإن كان سيره أبطأ، ترك الذنب وتاب، لكن دخل في نفسه نوع من الفتور والكسل، فصار سيره أقل في الطاعات، فهذا لا يعود إلى المرحلة الأولى أبداً. وهذا أيها الإخوة! كرجل مسافر سائر على الطريق بطمأنينة وأمن، فهو يعدو مرة ويمشي مرة، ويستريح مرة، وينام مرة، وهكذا، فبينما هو كذلك إذا عرض له ظل ظليل، وماء بارد، وروضة مزهرة، فدعته نفسه إلى النزول في ذلك المكان، فنزل فيه، فوثب عليه عدو من ذلك المكان، فوثقه وربطه، فلما أيس هذا الرجل واعتقد أنه هالك، وأنه سيصبح رزقاً للوحوش والسباع، وبينما هو في هذه الحالة تتقاذفه الظنون، إذا واقف على رأسه والده الشفيق القادر، فحل وثاقه وقيوده، وقال له: اركب الطريق واحذر هذا العدو مرة أخرى، فإنه على منازل الطريق لك بالمرصاد، واعلم أنك ما دمت حاذراً منه، متيقظاً له، فإنه لا يقدر عليك. فإن كان هذا الرجل كيساً فطناً لبيباً، فإنه سيسرع في الطريق إسراعاً أكثر من إسراعه الأول، حتى لا يغويه شيء من الزينة في مراحل الطريق، وقد يكون سيره أضعف، فيعود في سيره في الطريق إلى نفس السرعة الأولى، وقد يكون سيره أقل. فهذا مثل من عمل الذنب ثم تاب منه، فمنهم من يكون بعد التوبة من الذنب أشد لحوقاً بالمشوار، وأكثر سيراً وطاعة، فهذا يصبح أحسن منه قبل الذنب، وهكذا كما ذكرنا في تفصيل المثال. اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، وفقنا إلى التوبة النصوح يا رب العالمين، اللهم واجعل توبتنا إليك توبة صحيحة، لا عودة بعدها إلى الذنوب، اللهم واجعلنا من التائبين والقانتين لك، والمخبتين إليك، واجعلنا من الأوابين المنيبين التوابين، واغفر ذنوبنا واغسل حوبتنا، اللهم اسلل من نفوسنا سخام الخطايا والذنوب والشرك، واجعلنا من المتعبدين لك على منهاج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى العقيدة الصحيحة وبها متمسكين، وبسنة نبيك صلى الله عليه وسلم وعليها سائرين. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

علاج الهوى

علاج الهوى إن الله خلق الخلق وجعل من طباعهم التسلط والتكبر والظلم على وجه هذه الأرض، فإذا اتبع العبد هواه وشهواته عاش في جحيم في الدنيا والآخرة؛ لذلك لابد من معالجة هوى النفس، وكبت الشهوة بالرجوع إلى الله عز وجل، والتعلق به سبحانه، وإيثار إرضاء الله وطاعته على هواه وشهوته، وليكن ذلك بعلو الهمة وإدمان النظر في الكتاب والسنة.

أهمية علاج الهوى وأحوال العبد تجاهه

أهمية علاج الهوى وأحوال العبد تجاهه إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. إخواني في الله! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فاستكمالاً لما كنا قد تحدثنا عنه في موضوع: الهوى، فذكرنا بعض الحالات التي يدخل فيها الهوى، وما هو تعريف الهوى، وتحذير القرآن والسنة من الهوى، وحال السلف الصالح رحمهم الله تعالى في هذا الشأن، ونحن نتكلم اليوم إن شاء الله عن علاج الهوى، وهذا هو لب الموضوع، وهي الثمرة والفائدة المراد معرفتها من طرق هذا الموضوع، وإن كان جزءٌ كبيرٌ من العلاج يكون في اكتشاف الحالات التي يقع فيها الهوى، لأنه كثيراً من الأحيان -أيها الإخوة- لا يدري الإنسان أن هذا التصرف الذي وقع به هو عبارة عن هوى، ولذلك قمنا في المرة الماضية بتسليط الضوء عن كثير من الحالات التي يقع فيها الهوى، قال الشاطبي رحمه الله تعالى: مخالفة ما تهوى الأنفس شاقٌ عليها، وصعبٌ خروجها عنه، ولذلك بلغ الهوى بأهله مبالغ لا يبلغها غيرهم، وكفى شاهداً على ذلك حال المحبين، وحال من بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشركين وأهل الكتاب، وغيرهم ممن صمم على ما هو عليه حتى رضوا بإهلاك النفوس والأموال، كفار قريش خرجوا في معركة بدر وأهلكوا النفوس والأموال في سبيل الهوى الذي استقر في نفوسهم، وتمكن من قلوبهم، فحرمهم الاستفادة والاستجابة لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، الهوى سواءً كان عند أبي جهل وغيره هو: حب الرئاسة، وسواءً كان عند سدنة الأصنام هو: حب الأصنام، وسواءً عند الغوغائيين والتبع هو: حب من يعتقدون أنه قدوتهم وأنه من أئمتهم وهم من أئمة النار في الحقيقة. فإذاً هؤلاء رضوا بإهلاك النفوس والأموال، ولم يرضوا بمخالفة الهوى، أليس كذلك؟ حتى قال الله تعالى في شأنهم: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:23] وقال: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد:14] ويقول ابن القيم رحمه الله مبيناً أهمية تخليص الأعمال من الهوى، يقول في شأن القلب وحال الإنسان: ولا تتم له سلامته مطلقاً حتى يسلم من خمسة أشياء: من شرك يناقض التوحيد، وبدعة تخالف السنة، وشهوة تخالف الأمر، وغفلة تناقض الذكر، وهوى يناقض التجريد والإخلاص. وللإنسان مع الهوى ثلاثة أحوال كما يقول أحد السلف: الحالة الأولى: أن يغلبه الهوى، فيملكه، ولا يستطيع له خلافاً، وهو حال أكثر الخلق، وهو الذي قال الله فيه: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:23]. الثاني: أن يكون الحرب بينهما سجالاً، تارةً له اليد، وتارةً عليه اليد، تارةً يغلب الهوى، وتارةً يغلب الإنسان هواه. الثالثة: أن يغلب الإنسان هواه، فيصير مستولياً عليه؛ مستولياً على هذا الهوى لا يقهره بحال من الأحوال، وهذا هو الملك الكبير والنعيم الحاضر، قال عليه الصلاة والسلام: (ما من أحدٍ إلا وله شيطان) أي: يأمر بالشر، حتى الرسول صلى الله عليه وسلم يأمره بالشر، الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح: (إلا أن الله أعانني عليه فأسلم) قيل: إن هذا الشيطان أسلم أي: صار مسلماً، وقيل: المعنى: فأسلم أنا من شره، أي: حتى الشيطان للرسول صلى الله عليه وسلم أسلم، فصار الرسول صلى الله عليه وسلم لا أحد يأمره بالشر. فإذاً هذا منتهى النعيم العظيم أن الإنسان يسيطر على هواه، فلا يدخل الهوى عليه، ولا يجد عليه سبيلاً.

علاج الهوى بالرجوع إلى الكتاب والسنة وترك مناهج أهل الضلال

علاج الهوى بالرجوع إلى الكتاب والسنة وترك مناهج أهل الضلال ونحن في علاجنا للهوى -أيها الإخوة- يجب أن نتوجه إلى دين الله نستمد منه النور والضياء، وإلا فلو أننا تركنا لأنفسنا من أن نضع منهجاً لعلاج الهوى، فإننا لن نحل المعضلة، بل سنزيدها تعقيداً، لذلك كان لا بد من الذهاب إلى القرآن والسنة لمعرفة المنهج الذي على أساسه نحارب الهوى ونسيطر عليه. وقد وضع أقوامٌ من البشر مناهج يعالجون فيها الهوى، فضلوا أيما ضلال، وارتكبوا أخطاء شنيعة، ومن هؤلاء الأقوام الصوفية ومن نحا منحاهم في طريقة علاجهم للهوى، فإنهم أتوا بأشياء لم ينزل الله بها من سلطان، وابتدعوا في دين الله أشياء عجيبة، فمن ذلك أن أحدهم قال لمريد تابع له: إن أردت استخراج الهوى من نفسك، واستخراج الكبر، والاستعلاء على البشر، فعليك أن تفعل هذا الذي آمرك به، ما هو هذا الشيء؟ قال له: اذهب الساعة إلى الحجام، واحلق رأسك ولحيتك، وانزع عنك هذا اللباس، وابرز بعباءة، وعلق في عنقك حقيبة، واملأها جوزاً، واجمع حولك صبياناً، وقل بأعلى صوتك: يا صبيان! من يصفعني صفعةً فأعطيه جوزةً، وادخل إلى سوقك الذي تعظم فيه، هذا هو علاج الهوى عند هذا الرجل، حلق الرأس واللحية، ولبس الثياب البالية، ويعطي الأطفال جوزاً، ويقول: من يصفعني صفعة أعطيه جوزة. فهذا المنهج الضال الذي لم ينزل الله به سلطاناً ليس هو المنهج الصحيح في علاج الهوى، وهذا آخر من البشر غلبه هواه فنظر إلى جارية، فلم يفعل ما يأمره الله به من التوبة والاستغفار، وإنما ماذا حصل؟ قلع عينه التي نظر بها إلى المحرم، هذا هو العلاج!! أن يقلع عينه التي نظر بها إلى المحرم، هل هذا هو العلاج الذي أمر الله به من ينظر إلى المحرمات؟! فإذاً أيها الإخوة! الناس إذا ابتعدوا عن منهج الله، يأتون بأشياء مبتدعة غير صحيحة وهذه من جملتها، لذلك كان لا بد من التمعن في طريقة القرآن والسنة في علاج الهوى، ولما امتحن المكلف بالهوى من بين سائر البهائم، وكان كل وقت تحدث عليه الحوادث من هذا الهوى جعل فيه حاكمان: حاكم العقل، وحاكم الدين وهما لا يتناقضان، ولا يتعارضان، إذ أن الصحيح من الشرع لا يعارض الصريح من العقل مطلقاً كما دلت على ذلك قواعد القرآن والسنة، معرفة أن هذا الهوى ابتلاء من الله عز وجل مهم جداً، معرفة أن هذا الذي تميل إليه نفسك من المحرمات أنه ابتلاء يبتليك الله به حتى يعلم مدى صمودك، ومدى ثباتك، ومدى مقاومتك لنفسك في سلوك الطريق المحرم.

كيفية علاج الهوى

كيفية علاج الهوى

الاستعانة بالله عز وجل وربط القلب به سبحانه

الاستعانة بالله عز وجل وربط القلب به سبحانه أيها الإخوة: أول ما يحتاج الإنسان في معالجته الاستعانة بمولاه على هذا الأمر، من هو مولانا الذي نستعين به على الشدائد وعلى الأهواء التي نكابدها ونلاقيها؟ إنه الله عز وجل، ولذلك -أيها الإخوة- كان لا بد من فتح الطريق مباشرةً بين العبد وبين ربه في استعانته بمولاه على هذا الهوى الذي يصيبه، ومن ضمن الأشياء التي يشتمل عليها هذا المنهج في الاتصال بين العبد وربه الدعاء؛ فإنه من أنفع الأمور التي تنفع العبد في التغلب على الهوى، ولذلك كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم كما روى الترمذي والطبراني والحاكم عن زيد بن علاقة رضي الله عنه وهو حديث صحيح وهو في صحيح الجامع، كان من دعائه عليه السلام: (اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق، والأعمال، والأهواء، والأدواء) فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أسلم شيطانه، فسلم من شره، ولم يعد أحدٌ يوسوس إليه بالشر، وهو المعصوم صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ من الأهواء، فما بالنا نحن الضعفاء الذين لا يقارن حالنا بحال رسولنا صلى الله عليه وسلم. وربط القلب بالله عز وجل خوفاً وطمعاً، ورهبةً ورغبةً، والوقوف بين يدي الله تعالى من أكبر الأشياء التي تنفع في مقاومة الهوى، والدليل على ذلك قال الله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40 - 41] قال مجاهد: هو العبد يهوى المعصية، فيذكر مقام ربه عليه في الدنيا ومقامه بين يديه في الآخرة، فيتركها لله: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40 - 41]. إذاً من أين أتى نهي النفس عن الهوى؟ كيف حصل للإنسان أن ينهى نفسه عن الهوى؟ حصل له هذا الشيء بالخوف من الله عز وجل، لأن الله قال: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40 - 41] ولذلك كان نهي النفس عن الهوى هي نقطة الارتكاز في دائرة الطاعة، فالهوى هو الدافع القوي لكل طغيان، وكل تجاوز، وكل معصية، وهو سبب البلوى، وينبوع الشر، وقلَّ أن يؤتى الإنسان إلا من قبل الهوى.

العزيمة والخوف من الله

العزيمة والخوف من الله خوف الإنسان من الله عز وجل، خوفه من عقاب الله في الدنيا، ومن عذاب الله في الآخرة هو الوسيلة حقيقةً لأن ينهى الإنسان نفسه عن الهوى، وقد عقد العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى عليه في كتابه: روضة المحبين، فصلاً في آخر الكتاب ذكر فيه أموراً كثيرةً من الأشياء التي تعين على مقاومة الهوى، ولخص بعضها من كتاب: ذم الهوى لـ ابن الجوزي رحمه الله تعالى، فقال: ويمكن التخلص منه بأمور بعون الله وتوفيقه: أولاً: عزيمة حرٍ يغار لنفسه وعليها. والمشكلة أن قوانا تضعف وتخور أمام مواجهة الأهواء والشهوات، فلا بد من العزيمة التي تملأ النفس صموداً وثباتاً ومقاومةً لهذه الأهواء والشهوات، ولا بد من جرعة صبر يصبر نفسه على مرارتها تلك الساعة، لأن امتناع الإنسان عن ولوج المعصية وقت المعصية طعمه مر، وقت حصول المعصية وأنت تواجهها لا تستطيع أن تنزع نفسك بسهولة، بمشقة شديدة جداً، ولكن عندما تطعم نفسك هذا الصبر الذي يكون علقماً في بعض الأحيان مثل: الدواء للمريض، يكون الدواء في بعض الأحيان مراً، ولكن لا بد منه وهو علاجٌ نافعٌ، فلا بد من تناوله، فأنت حين تقاوم وتجاهد، ستشعر بمرارة فراق المعصية، ولكن إذا تجاوزت هذه المرحلة، فإن الله يعقب في نفسك حلاوةً عظيمةً تجدها في نفسك بعد انتصارك على نفسك. لحظات المعركة يكون الوقع شديداً ليس سهلاً، لا تأتي الفرحة مباشرةً، ويأتي السرور مباشرة، لا بد من لحظات مجاهدة شديدة على النفس وشاقة وصعبة، بعد الانتصار يعقب الله في نفس العبد حلاوة الطاعة وحلاوة ترك المعصية، فالذي يصبر على العلقم في البداية يجد الحلاوة في النهاية، ولا بد من قوة نفس تشجعه على شرب تلك الجرعة، ولا بد من ملاحظة حسن موقع العاقبة والشفاء بتلك الجرعة، أنت تعرف أن مقاومة الهوى ليست سهلة، تعرف أن الامتناع عن المعصية صعب، لكن أنت إذا جلست تفكر في العاقبة التي ستكون لك بعد امتناعك عن الوقوع في هذه المحرمات وفي هذه الشهوات، هذا يسهل عليك الأمر، وإذا جلست تفكر في الحلاوة التي ستجدها بعد المرارة، وفي النعيم الذي ستجده في الآخرة، سيسهل عليك الأمر، وكذلك يتفكر الإنسان أنه لم يخلق للهوى، وإنما هو لأمرٍ عظيمٍ لا يناله إلا بمعصيته للهوى كما قال الشاعر: قد هيئوك لأمرٍ لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهملِ لما يفكر الإنسان أنه ما خلق من أجل أن يتبع أهواءه، وإنما خلق من أجل طاعة ربه. هناك -أيها الإخوة- هدف عظيم، هناك من الناس من لا يختلفون مطلقاً عن الدواب، يمشي كالبهيمة يتبع شهواته وأهواءه، لما يفكر الإنسان أنه وجد على هذه الأرض لا لاتباع الهوى، وإنما لاتباع شيء آخر. قد هيئوك لأمرٍ لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهملِ قد هيئوك: أنت أيها العبد المسلم قد هيئت لأمر عظيم وهو عبادة الله. لو فطنت له: المشكلة أن أكثر الناس لا يفطنون له. فاربأ بنفسك: ارتفع بنفسك. أن ترعى مع هذا الهمل، ومع هذه الحيوانات التي ليس لها همٌّ إلا اتباع الهوى والشهوات.

ألا يختار لنفسه أن تكون الحيوانات أحسن منه

ألا يختار لنفسه أن تكون الحيوانات أحسن منه وكذلك ألا يختار لنفسه أن يكون الحيوان أحسن حالاً منه، ولهذا تساق الحيوانات إلى منحرها وهي منهمكة في شهواتها، أنت الآن عندما تنظر إلى حال رعاة الغنم تجد أنهم يسوقون القطعان إلى المنحر وإلى المجزرة، القطيع وهو يمشي على الأرض إلى المنحر، ويكون في الطريق أعشاب ماذا يحدث؟ يأكل من هذه الأعشاب وهو يمشي إلى المنحر، وإلى المكان الذي ستزهق فيه روحه، ويذبح ويهلك فيه وهو يأكل حتى آخر لحظة من هذه الحشائش الموجودة في الأرض. إذاً: لا نريد أن نساق إلى جهنم، ونحن قد جعلت على أعيننا غشاوة الهوى والمسكرات من المنكرات؛ لأن الشهوات والمنكرات تسكر، فلا يعيش الإنسان في حالة وعي؛ فيساق إلى جهنم، فلا يكون الحيوان أحسن حالاً من الإنسان، يجب على الإنسان أن يرتفع فوق مستوى البهائم، ولو فكر العاقل لحظة قضاء وطره وقارنها بما سيعقب بعد ذلك من الحسرة التي سيقضي فيها بقية عمره؛ لما اقترب من هذا الوطر ولو أعطي الدنيا، والطريق الأعظم في الحذر ألا يتعرض لسبب الفتنة ولا يقاربه، كم من معصية مضت في ساعتها كأنها لم تكن، ثم بقيت آثارها، ولذلك فإنه لا بد للمسلم أن يسير بقلبه في عواقب الهوى، فيتأمل كم فوتت هذه المعصية من فضيلة! وكم أوقعت في رذيلة! وكم أكلة منعت أكلات!! الآن بعض الناس يأكلون بغير حساب؛ فيضر كثرة الأكل أجسامهم، فيذهب إلى الطبيب يشتكي، فيمنعه الطبيب من قائمة كثيرة من الأكلات، ويحدد له أكلات قصيرة، أكلات ضئيلة قليلة، يحرمه من تلك الأكلات، ما الذي منعه من هذه الأكلات الطيبات؟ إنه كان يأكل بغير نظام في الماضي، فلذلك كم من شهوةٍ كسرت جاهاً، ونكست رأساً، وأورثت ذماً، وأعقبت ذلاً، وألزمت عاراً لا يغسله الماء غير أن عين صاحب الهوى عمياء!! هذه المعاصي أيها الإخوة! الله عز وجل جعل سنته في الكون أن العاصي لا بد أن يعاقب في الدنيا، فكم من شهوةٍ كسرت جاهاً بسبب هذه المعاصي، حتى أن الإنسان وأمام الناس ليس له وجه، المعصية كسرت جاهه، وأوقعته من مكانته أمام الناس، ونكست رأسه، فلا يستطيع أن يرفع رأسه أمام الناس، وأورثت له ذماً، وأعقبت له ذلاً، وألزمته عاراً لا يغسله الماء بسبب الغشاوة التي على أعين متبعي الهوى.

التأمل في العاقبة

التأمل في العاقبة وكذلك مما يعين على علاج الهوى: أن يتصور العاقل انقضاء غرضه ممن يهواه، ثم يتصور حاله بعد قضاء الوطر، هب أن رجلاً أراد أن يزني وجاءه هوى الشهوة، فعليه أن يفكر قبل أن يقع في الزنا، يفكر لو أنه قضى وطره من هذه المرأة المحرمة، ماذا سيكون بعد ذلك؟ تأمل العاقبة مهم جداً؛ لأنه هو الذي يمنعك من الوقوع في البداية، والله سبحانه وتعالى قد شبه من يتبعون أهواءهم بأخس الحيوانات وأذلها وأحقرها ألا وهو الكلب، فقال عز وجل عن الرجل الذي أعرض عن آيات الله عز وجل: {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف:176] فالرجل الذي يتبع الهوى عندما يتصور بأن حاله مثل حال الكلب، هل يا ترى يقدم على هذه الجريمة، وعلى هذه الشهوة؟! وشبههم الله تعالى مرة بالحمير، فقال: {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} [المدثر:50 - 51].

أن يتأمل آيات الله عز وجل

أن يتأمل آيات الله عز وجل وكذلك إذا تأمل متبع الهوى حاله من بعض الآيات كقول الله عز وجل: {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:124] لو تأمل هذه الآية سيجد أن عز وجل حرم الإمامة على متبع الهوى، لماذا؟ لأن الله يقول في آية أخرى: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الروم:29] وهناك قال: {قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:124] فالظالم يتبع الهوى، والظالم قد حرم من الإمامة، فمتبع الهوى قد حرم من الإمامة في الدين، فلا يمكن أن يجعله الله عز وجل إماماً يؤتم به في الدين وهو متبع للهوى، فهو ليس بأهل لأن يطاع، ولا أن يكون إماماً ولا متبوعاً في الخير. وجعل الله متبع الهوى بمثابة عابد الوثن، فقال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:23] وجعل الله حظار جهنم -الشيء الذي يحوط جهنم- الهوى والشهوات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات) وجعل الرسول صلى الله عليه وسلم اتباع الهوى من المهلكات، فقال: (أما المهلكات: فهوىً متبع، وشحٌ مطاع، وإعجاب كل ذي رأيٍ برأيه). ولو تأمل صاحب الهوى، أو الذي يأتيه الهوى ما له من العاقبة الحسنة إذا خالفه هواه، ومن النور الذي يدخله الله في قلبه، لثبت عند هذا ووقف، قال بعض السلف: الغالب لهواه أشد من الذي يفتح المدينة وحده. تأمل! الغالب لهواه أشد من الذي يفتح المدينة وحده، فتح مدينة بأكملها من شخص واحد أمر عسير جداً، لكن أعسر منه أن يخالف الإنسان هواه. وكذلك جهاد الهوى إن لم يكن أعظم من جهاد الكفار فليس بدونه، قال ابن القيم رحمه الله: وسمعت شيخنا يقول: جهاد النفس والهوى أصل جهاد الكفار والمنافقين؛ فإنه لا يقدر على جهادهم حتى يجاهد نفسه وهواه أولاً، ثم يخرج إليهم.

المجاهدة والصبر على مقاومة الهوى

المجاهدة والصبر على مقاومة الهوى وكذلك الذي يمتنع عن الهوى كأنه سيأخذ دواءً مراً، ولا بد أن يصبر على هذا الدواء، ولا بد أن يتبع نظاماً في الحمية من الهوى كما يتبع الرجل الذي يأكل الأكل المضر نظاماً في الحمية، ولذلك قال عبد الملك بن قريب: مررت بأعرابي به رمد شديد في عينيه، ودموعه تسيل على خديه، فقلت: ألا تمسح عينيك؟ قال: نهاني الطبيب عن ذلك، وقال لي: إذا مسحت عينيك، يزداد الألم، ويزداد المرض شدة. ولا خير فيمن إذا زجر لا ينزجر، وإذا أمر لا يأتمر، فعلاً الآن الذين يصيبهم الرمد هذا مثل حرق العين يريد أن يحك عينه، وقد يكون الطبيب نهاه عن هذا الفعل، وأخبره إن هو حك عينه، أن المرض سينتشر وسيشتد، فماذا يفعل؟ تجد الإنسان قوي الإرادة كأنه قد ربط بحبل يقاوم يده أن تمتد إلى عينه مع أنها تحرقه جداً، لكنه يقاوم أن يمد يده إلى عينه، قد يصيب جلد الإنسان حساسية أو حبوب , فيخبره الطبيب ألا يحك جلده مطلقاً؛ لأنه إذا حكها سينتشر، ماذا يكون شعور الإنسان في تلك الحالة؟ الشخص العاقل يحس بأن هناك دافعاً قوياً لأن يحك جلده، لكنه يصبر على الحك، لأن الحك سيجعل الأمر أسوأ من ذي قبل، كذلك حال الذي يأتيه الهوى، إذا اتبع الهوى سيكون الأمر أسوأ، ولذلك هو يصبر كما يصبر هذا الرجل الذي به رمد شديد وحرقة في عينيه، فلا يحك عينه لأنه أمر بهذا، يقول عبد الملك بن قريب: فقلت لهذا الأعرابي: ألا تشتهي شيئاً؟ قال: بلى، ولكني أحتمي، عندي نظام في الحمية، الطبيب نهاني عن أكلات، يقول الأعرابي: إن أهل النار غلبت شهوتهم حميتهم فهلكوا، الله عز وجل أمرهم أن يمتنعوا عن أشياء، يتبعوا نظام الحمية من أشياء معينة، فغلبت شهوتهم حميتهم فهلكوا. قال الفضيل بن عياض في كلام على أن اتباع الهوى يحرم العبد من إصابة الحق، ومن معرفة الدليل، ومن التوفيق في أمور الدنيا والآخرة، يقول: من استحوذ عليه الهوى واتباع الشهوات، انقطعت عنه موارد التوفيق، فالذي ينغمس في الهوى لا يكاد الله يوفقه إلى خيرٍ أبداً، بل تجد بأن الطرق بينه وبين الخير مسدودة، والعوائق موجودة، لا يستطيع أن يصل إلى الخير؛ لأنه متبع للشهوات والهوى، ما اتخذ الأسباب فكيف يهديه الله؟! {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] والذين لم يجاهدوا فينا، ماذا ستكون عاقبتهم؟ وكذلك كان بعضهم يطوف في البيت، فنظر إلى امرأة جميلة، فمشى إلى جانبها، ثم قال: أهوى هوى الدين واللذات تعجبني فكيف لي بها واللذات والدين قال: أنا أهوى الدين، لكن اللذات التي أراها تعجبني، فكيف أجمع بين هوى اللذات وبين الدين؟ فقالت المرأة: دع أحدهما تنل الآخر، فعلاً دع الدين تنل الهوى، الإنسان عنده هذه الإرادة: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:1] طريق الخير وطريق الشر، أنت مخير، لا أحد يرغمك على سلوك أحد الطريقين، دع أحدهما تنل الآخر، وهذا ترك الهوى، الآن لحظات تمر على الإنسان يعاين فيها مواقفاً من الشهوات والهوى، فإذا هو قاوم نفسه هذه المقاومة فإن هذه المواقف في الدنيا التي يقاوم فيها الهوى لا تنسى عند الله يوم القيامة مطلقاً، في ذلك الموقف الذي تزل فيه الأقدام، والذي تدنو فيه الشمس من الخلائق، لا ينسى الله تعالى لعبده أبداً هذه المواقف التي وقفها في الدنيا. أحدهم ترك شهوات وأهواء ولذائذ كثيرة في الدنيا محرمة من أجل الله عز وجل، فلا ينساها الله تعالى له يوم القيامة، وقال عبد الرحمن بن مهدي: رأيت سفيان الثوري رحمه الله تعالى في المنام -بعض المنامات التي ترى للصالحين لا بأس من حكايتها، إذا لم يرد فيها مخالفات شرعية، فبعض المنامات أو الرؤى التي رآها صالحون لأناس صالحين، كان السلف رحمهم الله يدرجونها في كتبهم، ويكتبونها وينشرونها، لأنها تؤثر، الرؤيا الصالحة عاجل بشرى المؤمن- فقال عبد الرحمن بن مهدي وهو من كبار أئمة الدين: رأيت سفيان الثوري رحمه الله تعالى في المنام، فقلت له: ما فعل الله بك؟ قال: لم يكن إلا أن وضعت في لحدي حتى وقفت بين يدي الله تبارك وتعالى، فحاسبني حساباً يسيراً، ثم أمر بي إلى الجنة، فبينا أنا أدور بين أشجارها وأنهارها لا أسمع حساً ولا حركةً إذ سمعت قائلاً يقول: سفيان بن سعيد؟ فقلت: سفيان بن سعيد، فقال: تحفظ أنك آثرت الله عز وجل على هواك يوماً؟ فقلت: إي والله، فأخذني النثار من كل جانب -النثار في اللغة: هو ما يرش على العروس في ليلة العرس من الزينة، أو الذهب، أو الزهور، إلى آخر ذلك. نسأل الله تعالى أن تكون هذه من الرؤى الصالحة التي رئيت لـ سفيان الثوري رحمه الله، فإنه كان من المجاهدين في الله حق جهاده في العلم والتقوى، ونال الإمامة في الدين. يقول ابن القيم رحمه الله في حديث: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله) كيف نالوا هذا الظل؟ يقول: إذا تأملت السبعة الذين يظلهم الله عز وجل في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله وجدتهم نالوا ذلك الظل بمخالفة الهوى، فإن الإمام المسلط القادر لا يتمكن من العدل إلا بمخالفة هواه؛ لأن عنده من القوة والنفوذ والسيطرة ما يستطيع به بسهولة أن يتابع هواه، فلما قاوم نفسه وقاوم هواه، وحكم شرع الله تعالى، ولم يتبع شهواته، وعدل بين الرعية كان له الظل يوم أن تدنو الشمس من رءوس العباد. والشاب المؤثر عبادة الله على داعي الشباب لولا مخالفة هواه لم يقدر على ذلك، لولا أن هذا الشاب الذي نشأ في طاعة الله خالف هواه لما نشأ في طاعة الله، والرجل الذي قلبه معلقٌ بالمساجد إنما حمله على ذلك مخالفة هواه الداعي له إلى أماكن اللذات، خالف الهوى الذي يدعوه إلى الذهاب إلى أماكن اللذات، وصار يذهب إلى أماكن العبادة والمساجد، أعقب الله عز وجل له الأجر الجزيل بأن أظله في ظل عرشه. والمتصدق المخفي لصدقته عن شماله لولا قهره لهواه (هوى الرياء) وهوى أن يشاهده الناس، وأن يتحدثوا عن كرمه لم يقدر على ذلك، لو ما خالف هذا الهوى لما صار في هذا المكان يوم القيامة. والذي دعته المرأة الشريفة الجميلة، فخاف الله عز وجل وخالف هواه، نال نفس الكرامة. والذي ذكر الله خالياً ففاضت عيناه من خشيته، إنما أوصله إلى ذلك مخالفة هواه، فلم يكن لحر الموقف وعرقه وشدته سبيلاً عليهم يوم القيامة.

تأمل اللذة التي تنتج عن مخالفة الهوى

تأمل اللذة التي تنتج عن مخالفة الهوى ومن الأشياء التي تعين في علاج الهوى: تأمل اللذة التي تنتج عن مخالفة الهوى، فإن في قهر الهوى لذة تزيد على كل لذة، وغالب الهوى يكون قوي القلب عزيزاً؛ لأنه قهر هواه، بينما الذي يتبع الهوى يكون ذليلاً؛ لأنه اتبع هواه، فالحذر الحذر من رؤية المشتهى بعين الحسن. أحياناً يا إخواني! الشيطان يزين للإنسان المعصية، فيراها جميلة جداً، فينظر إلى المعاصي بعين الحسن، المفروض أن ينظر إلى المعاصي بعين الاستقباح وعين الكراهية لهذا الأمر، كما أن اللص يرى لذة أخذ المال من الحرز الذي يأخذه بكل يسر وسهوله، لكنه لا يرى بعين الفكر قطع اليد، فلذلك يسرق. وما مثل الهوى إلا كسبع في عنقه سلسلة، فإن استوثق منه ضابطه كفه، الهوى مثل السبع، ومثل الأسد، إذا ربطته بسلسلة قوية، ما ينفلت منك. يقول ابن الجوزي في صيد الخاطر: على أن من الناس من يكف هواه بسلسلة، ومنهم من يكفه بخيط.

أنه إذا جاءك الهوى فخالفه

أنه إذا جاءك الهوى فخالفه ومن الأمور المهمة في معالجة الهوى: أنه إذا جاءك الهوى في مسألة فخالفه، النفس الأمارة بالسوء، أو الشيطان يأمرك أن تفعل هذا الأمر، فعليك بمخالفته فوراً، قال أحد السلف: اعلم أن البلاء كله في الهوى، والشفاء كله في مخالفتك إياه، قال بعض الحكماء: إذا اشتبه عليك أمران، فانظر أقربهما من هواك فاجتنبه. مثلاً: الإنسان موقفه من الأحكام الشرعية يحتار هل هذا هو الصحيح، أم هذا هو الصحيح؟ أحياناً يكون الإنسان صادقاً ومخلصاً ويريد أن يصل إلى الحق، فيحتار ما هو الحل؟ فمن ضمن الأشياء التي ترجح قولاً على آخر أن ينظر الإنسان ويدقق ويفتش في نفسه، فينظر أي القولين أقرب إلى هواه فيخالفه ويأخذ الآخر، لماذا؟ لأن النفس في العادة تميل إلى المحرمات، وتميل إلى الخطأ، تميل إلى الأسهل، تميل إلى ما يشبع رغبتها، تميل إلى الحكم الذي لا يكلف الإنسان عناءً ولا مشقةً، لذلك ترى كثيراً من الناس يتبعون أهواءهم في الأحكام الفقهية، فيأخذ الحكم الذي لا يكلفه، لنفترض أن رجلاً من الناس قد وقف أمام حكمين في مسألة فقهية لم يستطع أن يرجح أحدهما على الآخر، فما هي أحد المرجحات التي يستطيع أن يستخدمها؟ أن ينظر نفسه إلى أي قول من هذه الأقوال تميل، فينظر القول الذي تلين له نفسه، ثم يتركه ويأخذ الآخر، إذا اشتبه عليك أمران، فانظر أقربهما من هواك فاجتنبه. أحياناً في بعض التصرفات الإنسان قد يشتبه عليه أكلة من الأكلات، هل هذه الأكلة فيها شيء محرم، أم ليس فيها شيء محرم؟ وليس عنده دليل يقطع فيها بأنها محرمة، فهل يأكل، أو لا يأكل؟ ينظر ماذا تميل إليه نفسه، غالباً يجد أن نفسه تميل إلى الأكل، فإذاً يخالف الهوى ولا يأكل؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (اتقوا الشبهات) وغالباً ما تهوى النفس الوقوع في الشبهات، فلذلك لا بد من المخالفة، وهذا من أكبر العلاجات، ويقول ابن الجوزي رحمه الله: تأملت أمراً عجيباً وهو انهيال الابتلاء على المؤمن، وعرض صور اللذات عليه مع قدرته على فعلها، فقلت: سبحان الله! هاهنا يتبين أثر الإيمان لا في صلاة ركعتين، عندما تقف أمام الهوى أو الشهوة. كما أرجو -أيها الإخوة- عندما أذكر في كلامي الشهوة، لا يعني شهوة الجنس فقط، لا فقد تكون شهوة المال، وقد تكون شهوة الوقوع في الغيبة والنميمة، وقد تكون شهوة الجور في الحكم بين الأولاد، أو بين الناس، أشياء كثيرة كلها شهوات في الحقيقة، شهوة الجاه والمنصب. أقول: سبحان الله! هاهنا يبين أثر الإيمان فعلاً عند الوقوف أمام المحك، أمام المنعطف، هنا يبين أثر الإيمان، لا يبين في صلاة ركعتين مثلما يبين في هذا الموقف، والله ما صعد يوسف عليه السلام ولا سعد إلا في مثل ذلك المقام، تأملوا حاله لو كان وافق هواه، فعلاً، تأمل حال يوسف وفكر لما دعته امرأة العزيز {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} [يوسف:23] يوسف الآن أمام هذا الموقف، امرأة جميلة وصاحبة منصب وهي سيدة، وهو عبدٌ, وهو غريبٌ عن بلده وشابٌ، وهو أعزبٌ، وقد غلقت الأبواب، وغاب الرقيب، وسيدها ليس له غيرة، لأنه قال بعد ذلك: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ} [يوسف:29] ليس للسيد غيرة، وليس هناك أحدٌ يشاهد، واجتمعت دواعي وقوع الفاحشة أمام يوسف عليه السلام مما لا يجتمع مثله بين رجل وامرأة قط، لما حدث هذا الأمر تأمل لو أن يوسف عليه السلام وافق هواه ووقع على تلك المرأة، هل سيصبح نبياً صديقاً؟! ولكن وقوف يوسف عليه السلام في تلك المحنة أمام شهوته هو الذي أوصله إلى ذلك المقام: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24] {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف:23]. ولذلك كان سؤال الله الصراط المستقيم في الصلاة أكثر من مرة دائماً: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] فيه تذكير للإنسان بألا يتبع الهوى، ويسأل الله أن يهديه الصراط المستقيم: الطريق المستقيم لا طريق الهوى.

استطراد في الكلام حول هوى الشهوة والتعلق والعشق

استطراد في الكلام حول هوى الشهوة والتعلق والعشق وأنا أتكلم في هذا المقام الآن على نوع من الهوى فهو مهم وخطير، ولا بد من تفتيح العقل على معالجة هذا النوع من الهوى ألا وهو: هوى الشهوة، وهوى العشق، وهوى التعلق بالمخلوقين، هذه المشكلة التي كانت ولا زالت سبباً كبيراً من أسباب انحراف الناس عن شرع الله عز وجل، ومن وقوعهم في حبائل الشيطان.

محاربة أعداء الله للمسلمين عن طريق الشهوة

محاربة أعداء الله للمسلمين عن طريق الشهوة إن أعداء الإسلام لمعرفتهم بخطر هذا النوع من الهوى، صاروا يستخدمونه ضد المسلمين، لذلك تجد اليوم نشر المغريات من أنواع الفساد، وتزيين الشهوات في أعين الناس، وفي عرضها عليهم من أكبر ما يورط الناس في الوقوع في المحرمات، أعداء الإسلام ما كفوا لحظة واحدة عن دراسة الوسائل التي تحرف المسلمين عن الصراط المستقيم، فكان من أقوى هذه الوسائل دواعي الشهوة، واستغلال الغريزة الكامنة في نفوس الناس لحرفهم عن الصراط المستقيم، قال ابن القيم رحمه الله: وإذا أراد النصارى أن ينصروا الأسير -يعني: المسلم- أروه امرأة جميلة، وأمروها أن تقنعه في نفسها، يعني: هي التي تدخل عليه في سجنه، وتقدم له الأكل، وهي التي تنظفه، أو تلبسه ثيابه وهو مأسور، وهو في السجن لا يستطيع مقاومة، وتتلطف وتتودد إليه بالتصرفات والكلمات الجميلة المعسولة، وتطمعه في نفسها، حتى إذا تمكن حبها من قلبه، فعندما يشتاق إليها ويقع في حبائلها، بذلت له نفسها إن ترك دينه، فهناك {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [إبراهيم:27] هذه كانت من وسائل النصارى في القديم، فالنصارى من زمان وهم يفعلون ويخططون للمسلمين هذه المخططات، هكذا كانوا يفعلون بأسارى المسلمين، من أي منطلق ينطلقون؟ وأي سبيل يسلكون لكي يصلوا إلى هدفهم في تنصير المسلمين؟ إنهم ينطلقون ويسلكون مسلك الغريزة واستغلال الشهوة، هوى الشهوة في نفس المسلم لكي يوقعوه في حبائلهم، فيصبح نصرانياً مرتداً عن ملة الإسلام وعن دين الله عز وجل.

شهوة الجنس مشكلة العصر

شهوة الجنس مشكلة العصر وهنا من أكبر الشهوات التي تواجه الناس اليوم قضية شهوة الجنس المتمثلة في ميل الرجال إلى النساء، وميل النساء إلى الرجال، هذه المشكلة -أيها الإخوة- من أكبر المشاكل في قضية الهوى، وكذلك قضية العشق: وهو تعلق القلب بالصور الجميلة سواءً كانت صورة امرأة، أو أمرد حسن، هذه من البلايا والطامات التي ابتلي بها المسلمون، وهي تحدث بكثرة في أوساط المسلمين، رفع إلى ابن عباس وهو بـ عرفة شابٌ قد انتحل حتى عاد لحماً على عظم، فقال ما شأن هذا؟ قالوا: به العشق، فجعل ابن عباس يستعيذ بالله من العشق عامة يومه، لما رأى حال هذا الشاب الذي أدى به العشق إلى هذه الحالة، جعل ابن عباس يستعيذ بالله من العشق من هذه المسألة عامة يومه وهو بـ عرفة. وقد بلغ بالعشاق عشقهم مبالغ عظيمة من التردي في المهاوي والمهالك، بل إنه أدى بهم إلى الوقوع في سوء الخاتمة والعياذ بالله، قال ابن القيم رحمه الله في كتابه: الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي: يروى أن رجلاً تعلق قلبه برجل، فتعلق به وهواه واشتهاه، وصارت صورة هذا الرجل منطبعة في ذهن هذا الإنسان، ومستغلقةً عليه، حتى أن قلبه قد تعلق به أشد التعلق، فاشتد كلفه به، وتمكن حبه من قلبه، حتى وقع من هذا الألم، ولزم الفراش بسببه، وتمنع ذلك الشخص عليه واشتد نفاره عنه، نفر عنه نفرةً شديدةً، فلم تزل الوسائط يمشون بينهما حتى وعده بأن يعوده، فأخبره بذلك الناس، الناس أخبروا هذا الرجل الذي مرض بسبب العشق والعياذ بالله بأن معشوقه سيزوره، فماذا حدث؟ ففرح واشتد فرحه وانجلى غمه، وجعل ينتظره للميعاد الذي يضرب له، فبينما هو كذلك، إذ جاءه الساعي بينهما، فقال: إنه وصل معي إلى بعض الطريق، لكنه غير رأيه ورجع، ورغبت إليه وكلمته، فقال: إنه ذكرني وفرح بي، يعني: هذا العاشق ذكرني وفرح بي، ولا أدخل مدخل الريبة، ولا أعرض نفسي لمواقع التهم، فعاودته، فأبى وانصرف، فلما سمع البائس أسقط في يده، وعاد إلى أشد مما كان عليه، وبدت عليه علائم الموت، فجعل يقول في تلك الحالة: أسلم يا راحة العليل ويا شفى المدنف النحيل رضاك أشهى إلى فؤادي من رحمة الخالق الجليل يقول هذا العاشق وهو فيه علائم الموت قد ظهرت: رضاك أشهى إلى فؤادي من رحمة الخالق الجليل فقلت له: يا فلان اتق الله، قال: قد كان، أي: حصل الذي حصل، فقمت عنه، فما جاوزت داره حتى سمعت صيحة الموت، فعياذاً بالله من سوء العاقبة وشؤم الخاتمة. هذه قضايا العشق والشهوة، والتعلق بالمخلوقين، وبالصور الجميلة، كلها ناتجة عن اتباع الهوى، وعن إسلاس القياد للنفس، وعن إسلاس النفس لتسير مع شهوتها، ومع متعلقاتها حتى تقع في الهاوية، والذي يتعلق قلبه بشيء -أيها الإخوة- من الصعب أن ينفك عنه، والذي يتراجع في بداية الطريق أسهل بكثير من التراجع وقد مضى شوطاً في الطريق؛ لأنه كلما مضى أكثر كلما تعلق قلبه أكثر، وقد تبدأ العملية في بدايتها في نوع من الإعجاب بتصرفات الشخص الآخر، والإكثار من ذكره وقصصه وسيرته، ولكنها تنتهي في النهاية إلى نوع من التعلق الشديد الذي يطغى على حب الله تعالى، ويصبح إرضاء ذلك الشخص هم العاشق الوحيد الذي تعلق قلبه بمعشوقه، حتى أنه يقدم إرضاء ذلك الشخص على رضا الله تعالى، فيكون قد وقع في شرك المحبة وهو الشرك العظيم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة:165] وهذه القضية -أيها الإخوة- فيها من الخطورة شيء عظيم، فإنها تسبب شقاء القلب وكلالته وتعبه حتى أنه ليسقط مريضاً مما ينعكس على الجسد فيمرض كما يقول هذا الشاعر: فما في الأرض أشقى من محبٍ وإن وجد الهوى حلو المذاقِ تراه باكياً في كل حينٍ مخافة فرقةٍ أو لاشتياقِ فيبكي إن نأوا شوقاً إليهم ويبكي إن دنو حذر الفراقِ إذا ابتعد عنه بكى شوقاً إليه، وإن اقترب منه خاف على نفسه، فبكى خوف الفراق، ما الذي يسبب وقوع هذا النوع من المشاكل في قلوب بعض الناس؟ إنه القلب الفارغ من محبة الله عز وجل، هو الذي يسبب وقوع هؤلاء الناس في العشق وفي الهوى، قال الشاعر: أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلباً خالياً فتمكنا الشاهد: الشطر الأخير (فصادف قلباً خالياً فتمكنا) القلب إذا كان معموراً بحب الله عز وجل، والإنابة إليه، والإخبات إليه، والتوكل عليه، ومراقبة الله عز وجل دائماً، هذا القلب الممتلئ بهذه الصفات الإيمانية من أعمال القلوب كيف يدخل فيه تعلق بالمخلوقين؟! كيف يحدث فيه عشقٌ؟! لا يحدث، لذلك لا تحدث هذه المشكلة إلا في قلوب الناس الذين فرغت قلوبهم من محبة الله.

القلب إذا لم تشغله بطاعة الله شغلك بمعصيته

القلب إذا لم تشغله بطاعة الله شغلك بمعصيته والقلب -أيها الإخوة- لا بد أن يشغل بحب شيء، القلوب تهوى وتحب، النفوس تحب، لا بد أن تشغل بحب شيءٍ، فإن لم تشغلها بحب الله تعالى أشغلتك بحب المخلوقين، ونحن لا نتكلم الآن عن الحب الصحيح، أو الحب الشرعي كحب الرجل لزوجته، أو الحب الطبيعي كحب الجائع للطعام، ولكننا نتكلم عن هذا النوع من الحب والعشق المحرم الذي يقع فيه كثير من الناس لداعي الهوى، فقد تقدم أن العبد لا يترك ما يحبه ويهواه، ولكن يترك أضعفهما محبةً لأقواهما محبة، كما أنه يفعل ما يكرهه لحصول ما محبته أقوى عنده من كراهة ما يفعله، أو لخلاصه من مكروه، هذا كلامٌ دقيقٌ، لأن بعض الناس قد يكون في قلوبهم حبٌ لله، لكن هذا الحب قليل، فيدخل في قلب هذا الرجل حبٌ لشخص آخر، فيطغى هذا الحب على ذلك الحب، وبهذا التفسير نستطيع أن نفهم كيف يقع بعض الناس الذين يسلكون سبيل الطاعة بالتعلق بالمخلوقين؟ وفي عشق الصور الجميلة؟ لأن هذا الرجل الطائع فيه محبة لله، كيف وقع في العشق؟ كيف وقع في التعلق؟ إنه وقع في التعلق بسبب أن محبة الله في قلبه أقل من محبته لذلك الشخص، فطغت محبته لذلك الشخص على محبة الله، فأخرجت محبة الله من قلبه وطردتها طرداً، وأشغلت القلب كله بهذا الشيء، ولذلك كان لا بد من التدقيق في علاج هذه المشاكل، ومن الانتباه لها من بدايتها حتى لا تستفحل، وحتى لا تؤدي إلى ترك طريق الاستقامة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

كيفية معالجة التعلق والعشق

كيفية معالجة التعلق والعشق

تذكر مناتن المعشوق

تذكر مناتن المعشوق فمن الأشياء التي يستطاع أن يتغلب بها على هذا الأمر أمور كثيرة منها: قال ابن مسعود: [إذا أعجبت أحدكم امرأة، فليتذكر مناتنها] مناتنها: جمع منتن، المكان الذي يكون فيه النتن، والوسخ، والقذارة، إذا أعجبت أحدكم امرأة فليتذكر مناتنها، هذا التذكر للمناتن يساعد على التخلص من عشق هذه المرأة، ونفس القضية بالنسبة للمرأة مع الرجل، فتتذكر مناتنه، لأن كل مخلوق من البشر فيه مناتن؛ بول، وعذرة، وعرق، ورائحة كريهة، وبخرٌ يخرج من الفم من جراء هضم الطعام في المعدة، هذه المناتن والقبائح التي تكون في الشخص تذكرها يعين على الخلاص من هذه المشكلة. ويضرب ابن الجوزي رحمه الله في صيد الخاطر مثلاً آخر لهذا الموضوع، فيقول: إن العقل يغيب عند استحلاء تناول المشتهى من الطعام عن التفكر في تقلبه في الفم وبلعه، الآن عندما يرى الإنسان طبقاً من الطعام جميل وشهي، ويسيل اللعاب عند رؤية هذا الطعام، الإنسان عندما يأكل الطعام في العادة هل يتذكر هذا الرجل صورة هذا الطعام وهذا اللحم المشوي، أو هذه الفاكهة اللذيذة، أو هذه الخضار الناضجة، هل يتذكر وهو يأكلها في الغالب كيف يكون في فمه وهو يطحن واللعاب يختلط به، وكيف ينزل إلى المعدة فتنزل عليه العصارات، فتشوه شكله بالكلية، إنك لو أكلت أشهى لقمة من لحم مشوي، فمضغتها في فمك، ثم أخرجتها من فمك لأي سبب كيف يكون شكلها؟ تأمل، كيف يكون شكل هذه اللقمة بعد إخراجها من فمك ومضغها. إذاً تدبر مناتن من تتعلق بهم من الأمور المساعدة على صرف التعلق، وعلى صرف النظر عن هؤلاء الأشخاص؛ لأن لكل أشخاص قبائح، ولكن المشكلة أن كثيراً من الناس يفتنون بظاهر الشخص، لا يعرفون عيوبه الداخلية، فلو قدر لهم معرفة عيوبه الداخلية لما فتنوا به. فيقول ابن القيم رحمه الله: والداخل في الشيء لا يرى عيوبه، والخارج منه الذي لم يدخل فيه لا يرى عيوبه، ولا يرى عيوبه إلا من دخل فيه ثم خرج منه -الذي يدخل في الشيء، لأن الذي هو داخل فيه لا يرى عيوبه، والشخص الخارج تماماً الذي ما دخل لا يرى عيوبه، من الذي يرى عيوبه؟ الذي دخل ثم خرج، ثم قال جملةً جميلةً- ولهذا كان الصحابة الذين دخلوا في الإسلام بعد الكفر خيراً من الذين ولدوا في الإسلام؛ لأنهم عرفوا حلاوة الإسلام لما كانوا في الجاهلية ثم خرجوا إلى الإسلام، فعرفوا بالمقارنة مناتن الجاهلية، وعرفوا حال الشقاء الذي كانوا يعيشونه، فكانت المقارنة، وانتقالهم من تلك الحال إلى هذه الحال من أكبر الأمور التي أعانتهم على التشبث بهذا الإسلام، ومعرفة حلاوته وذوقها، والعيش فيها بأحسن صورة وأجمل حال، وهذا الأمر ليس مطرداً طبعاً، لا يعني أن كل من ولد في الإسلام هو دون من كان في الجاهلية ثم انتقل إلى الإسلام، لكن من الأمور التي تعين على معرفة العيوب أن يكون الإنسان في الشيء ثم يخرج منه إلى الصورة الصحيحة، عند ذلك يعرف الأمر تماماً.

أن يعتقد أن هذا ابتلاء من الله

أن يعتقد أن هذا ابتلاء من الله ومن الأمور المساعدة على النجاة من هذا الابتلاء: أن من ابتلي بعشق امرأة، أو امرأة ابتليت بعشق رجل، أو رجل ابتلي بعشق أمرد من الناس، هؤلاء الناس يجب عليهم أمور: الأمر الأول: أن يعتقد بأن هذا ابتلاء من الله عز وجل، قد ابتلاه به ليعلم أيصبر أو لا يصبر؟ أيجاهد أو لا يجاهد؟ فإذا علم أن هذا ابتلاء، فإنه يسهل عليه.

الإقبال على الله والفرار إليه

الإقبال على الله والفرار إليه الأمر الثاني: هذا الابتلاء يدفع إلى التعلق والفرار إلى الله عز وجل، وطلب الخلاص منه، والدعاء، والإقبال عليه بحرارة.

الابتعاد عن مصدر الفتنة

الابتعاد عن مصدر الفتنة الأمر الثالث: الابتعاد عن مصدر الفتنة، وهذا أمرٌ مهمٌ -أيها الإخوة- لدرجة أن بعض العلماء قالوا في علاج مثل هذه الحالات المشكلة: أن يبتعد الشخصان عن بعضهما حتى لا يرى أحدهما الآخر، ولا يسمع له خبراً، ولا يقف له على أثر، وإن كان في حي هو معه فيه، فإنه ينتقل إلى حي آخر، وإذا لم ينته الأمر بهذا، فإنه يترك بلده للبلد الآخر، فإن هذه الهجرة في سبيل الله، ولكن من استعان بالله قد لا يضطر إلى اللجوء إلى هذه الحلول، أما إذا تضايقت الأمور، ولم يتمكن الإنسان من علاج نفسه إلا بالمفارقة الكلية، فلا بد من فعلها والإقدام عليها. وكذلك التعلق بالله عز وجل، وازدياد الأمور التي تحبب هذا الإنسان بالله تعالى تطرد حب هذه الأشياء إلى الخارج، أنت عندما تحب امرأة، أو تتعلق بإنسان ما، ثم بعد ذلك تسلك السبل التي تزيد محبة الله في نفسك من فعل الطاعات، والإكثار من النوافل، وقراءة القرآن، وتعلم العلم النافع، والاشتغال بالدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ هذه الأمور -أيها الإخوة- تساعد في طرد محبة هذا الشخص سواءً كان رجلاً أو امرأةً من هذا القلب الذي مرض به، وتدبر معايب المتعلق به كما ذكرنا، وإشغال الذهن بالمفيد، فإن كثيراً من الناس الذين ابتلوا بما يسمونه الحب أو العشق يشغلون أذهانهم ليلاً ونهاراً، ولذلك -وهذه من المصائب للأسف في هذا العصر- ترى شعرهم الذي يكتبونه كله في هذه القضية، إذا فتحت صفحات جرائد ومجلات كثيرة، تجدها ممتلئة تماماً بهذه القصائد التي فيها مخاطبة الحبيب والحبيبة، لماذا؟ لأن العشق تمكن من قلوبهم حتى صاروا يصدرون أشعاراً تعبر عن مواقفهم تجاه هذه الأمور المحرمة، فاشتغل ذهنه بهذا الأمر، فصار يصدر أشعاراً تعبر عن ما في قلبه، ولو أنهم أشغلوا أذهانهم بالأشياء المفيدة كطلب العلم، والتفكر في الأمور التي تدل على الله عز وجل، وخشية الله عز وجل، فلو شغل الإنسان نفسه بمشاكل الدعوة إلى الله عز وجل، لما وقع في هذه المشاكل مطلقاً.

أن يعلي همته ويتدبر قصة يوسف

أن يعلي همته ويتدبر قصة يوسف وكذلك أن يعلي الإنسان همته، فيحاول أن يصل إلى معالي الأمور، وليس سفسافها وحقيرها. وكذلك تدبر قصة يوسف عليه السلام، لأنها من أنفع الأشياء، حتى قال ابن القيم رحمه الله: وفي هذه القصة نحواً من ألف فائدة، ولعل الله أن يعينني لإفرادها بمصنفٍ مستقلٍ، يقول ابن القيم في الجواب الكافي: ألف فائدة. وكذلك البعد عن أسباب الفتنة، وكتمان العاطفة، فإنه من الحزن كتمان العاطفة.

ومن علاج الهوى التجرد الحقيقي لله عز وجل

ومن علاج الهوى التجرد الحقيقي لله عز وجل وبعد هذا النوع من الاستطراد في هذه المشكلة التي قد تقع أحياناً، فإننا نعاود الكلام في النقطة الأخيرة في هذا الموضوع عن الحل الأساسي في علاج الهوى: وهو التجرد. التجرد لله عز وجل من العلائق الدنيوية، التجرد من حظوظ النفس ومن شهواتها، فنحن عندما ذكرنا أمثلة في المرة الماضية نعيد سردها مع عرض جانب التجرد فيها، عندما ينتقد الإنسان، وتوجه إليه النصيحة، يجب عليك يا أخي المسلم وعليَّ أنا أيضاً أن أقف موقف المتجرد عندما توجه لي النصيحة، وأفكر هل هذا الأمر الذي نصحت فيه فعلاً أنا واقعٌ فيه، أم لا؟ لا داعي لأن أكابر، وأن أرد، وأن أقول للآخر: من أنت حتى تنصحني؟ هذا من اتباع الهوى الذي يحملك على أن تربأ وتنأى بنفسك عن كل انتقاد وعن كل نصيحة، لأن حظ النفس وهوى النفس ألا تنتقد، فتجرد عندما توجه إليك النصيحة، عندما تقرر بخطأ ما، تناقش هل أنت أخطأت في هذا الأمر أم لم تخطئ؟ تجرد لله عز وجل وأنت تقرر بهذا الخطأ، تجرد لله عز وجل إن كان الأمر فيه اعتراف بالخطأ، ولا داعي للمكابرة، ومحاولة إيجاد التبريرات والأعذار السقيمة التي تجعلك تشعر أنك بمنأى عن الخطأ وأنك لم تقع فيه، وهذه بلية قد ابتلي فيها كثير من الناس، فإنهم إذا وقعوا في أخطاء، وجاءوا يناقشون ويقررون بأخطائهم، يرفضون الاعتراف. إنه من جانب الهوى، تجرد وتفكر، تجرد لله عز وجل، قل: أنا أخطأت، قولك: إنني مخطئ يزيدك في أعين الناس جلالةً وقدراً، خلاف ما يصور لك الشيطان، وما يصور لك اتباع الهوى من أنه ينقصك ويدني منزلتك، كلا، إن كثيراً من السلف من الأسباب التي وصلوا إليها أنهم كانوا معترفين بأخطائهم، عمر بن الخطاب كان يقف على المنبر، ويعلن أمام الناس أنه مخطئ، ولذلك شهد التاريخ لنا بعظمة عمر؛ لأنه كان من جوانب عظمته أنه كان يقر بخطئه وهو خليفة المسلمين، الرجل الذي يجب أن يظهر أمام الناس بأحسن صورة، حتى لا يقول الناس أخطأ الخليفة، من هذا الرجل المولى علينا، كيف نمشي وراءه ونقتدي به، مع ذلك كان إذا قرر على خطئه أقر، وترى اليوم أناساً مغمورين في أبواب الدعوة إلى الله ينكرون أدنى خطأ ينسب إليهم؛ بسبب الهوى الحامل لهم على التعصب الذي يعمي أبصارهم عن رؤية أخطائهم وعن الاعتراف فيها. إن هذه المسألة من الخطورة بمكان -أيها الإخوة- لأنها تقضي على كل محاولة للتصحيح، لأن التصحيح ينشأ من الاعتراف بالخطأ، أنت إذا أقررت بالخطأ بدأت تسلك الطريق الصحيح، أما إذا أنكرت وكابرت، وقلت: أنا غير مخطئ، فلن تصحح مطلقاً، هذه من البلايا التي ابتلي بها كثيرٌ من المسلمين اليوم. تجرد إلى الله من هذا الهوى، وراقب الله، وكف بصرك، وكذلك وأنت تحاول ونفسك تحاول أن تتملص من بعض الأحكام الشرعية تجرد إلى الله، وحاسب نفسك، وقل: هل أنا في تملصي هذا على حق، أم أنني مخطئ، ويجب أن أتمسك بهذه الأحكام؟ وأنت تتعامل مع إخوانك تجرد إلى الله من الأهواء، تجرد إلى الله من هوى الجور بينهم، فإن كثيراً من الناس يجورون في الحكم بين إخوانهم. تجرد إلى الله من هوى الميل إلى بعضهم على حساب بعض، ورفع أناس لا يستحقون الرفعة، وخفض آخرين هم أهل لها بسبب الهوى الذي يحملك على تقديم فلان من الناس، لا لأنه أتقى لله وأعلم، وإنما لأنه أظرف، أو أجمل صورة، أو أخف دماً مثلاً، هذه المعايير الجاهلية التي يسلكها كثيرٌ من الناس في تقدير منازل العالم كلها من باب الهوى. تجرد إلى الله وأنت تقيم الأشخاص، تجرد إلى الله وأنت تعدد مساوئهم ومحاسنهم، حبك الشيء يعمي ويصم، كثيرٌ من الناس إذا طلب منه مثلاً شهادةً في فلان من الناس، فتراه يخفضه ويرفعه من مقياس الهوى، لا من المقياس الشرعي الصحيح، وهذه من الطامات التي تسبب محق البركة في العلم. وكذلك تجرد من الهوى وأنت مع إخوانك عندما تعاملهم، فأنت قد تغلظ على إنسان في القول، أو في الفعل، لأنه لا يوافق مزاجك، ولا طريقة تفكيرك، بينما أنت تحسن إلى فلان، وقد يكون أقل تقوىً، وأقل علماً من ذلك الرجل لمجرد أنه دخل في مزاجك، أو استهويت شخصيته. وتجرد إلى الله عز وجل، والهوى يغالبك في عدم القيام لصلاة الفجر، ويجعلك تشد إلى الفراش لتريح جسدك أكثر وتنام أكثر. وتتجرد المرأة لله تعالى، تتجرد لله تعالى وتقاوم هواها وهي تحكم بين أولادها. ويتجرد الإنسان إلى الله عز وجل من هوى الفوضى الذي يحمله على عدم ضبط مواعيده، وعلى عدم الانضباط في طلب العلم والإقبال على مائدة القرآن والسنة. تجرد إلى الله، بعض الناس يأتيه الهوى، فيقول: أنا أستطيع أن أتعلم لوحدي، أنا أستطيع أن أمشي لوحدي، وهذا في نفسه هوى الفوضوية هو الذي يعمي عينيه عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية). تجرد إلى الله من هوى المشاركة في المجالات التي كلها لهو ولعب. وتجرد إلى الله عز وجل من هوى الزواج بالجميلة حتى ولو كانت أقلَّ ديناً، أو حتى لو لم تكن ذات دين. تجرد إلى الله عز وجل وأنت تقرأ الكتب. تجرد إلى الله عز وجل في قراءة الكتب الصحيحة النافعة، وليس في قراءة الروايات والقصص التي تهواها النفس وتميل إليها. وتجرد إلى الله عز وجل يا أخي الطالب وأنت تدرس، وقدم دينك وخدمة دعوة نبيك على كل غرض دنيوي، ووازن بين الأمور، لا يطغى جانبٌ على جانب، الموازنة الوسطية هي من صفات هذه الأمة، الوسطية (لا ضرر ولا ضرار) لا تتضرر في خدمة قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا في خدمة طلب العلم، ولا في خدمة الدراسة، وازن بين الأمور، لا يحملك الهوى على الانقطاع عن جانب والانغماس تماماً في الجانب الآخر. تجرد إلى الله تماماً يا أخي الموظف وأنت في دائرة عملك، وتعايش كثيراً من المنكرات، ويأتيك الهوى، فيقول لك: من المصلحة أن تسكت، فإنك إذا تكلمت قد تطرد من العمل، وقد تضايق. تجرد إلى الله وأنت تعرض عليك الوظيفة في مكان من الأماكن المحرمة، تجرد إلى الله وهوى نفسك يدفعك إلى أن تقبل بها، لأنها أكثر راتباً، أو أعلى منصباً. تجرد إلى الله عز وجل في موقفك من الأقوال والأحكام الفقهية، في موقفك من العلماء، بعض الناس يتعصبون لعلماء على آخرين، ولمذاهب على مذاهب، هذا النوع من اتباع الهوى خطير، ويؤدي إلى الضلال، وقال الله سبحانه وتعالى: {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} [الأعراف:85] فالهوى يجعلك تبخس فلاناً حقه، وفلاناً جميله، وتنكر فضل فلان عليك، لا، تجرد إلى الله من هذا الهوى، أقر بفضل فلان وفلان من أهل الفضل، ولا تتعصب لعالم على آخر، اتبع الحق بدليله، لا تتبع هواك في انتقاء الأحكام. فإذاً، أيها الإخوة! قضية التجرد ليست سهلة، لكن الذي يجاهد نفسه في سبيل الله، فلا بد أن يهديه الله السبل التي يستطيع بها أن يصل إلى مبتغاه. أظن أن فيما ذكرنا كفاية، ولا أريد أن أطيل عليكم أكثر من هذا. وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقني وإياكم لاتباع الحق. اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه. اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحيينا حياة طيبةً، وأدخلنا الجنة مع الأبرار. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والحمد لله أولاً وآخراً، وجزاكم الله خيراً، والسلام عليكم رحمة الله وبركاته.

حق العالم على المسلم

حق العالم على المسلم العلماء هم أهل خشية الله، وهم ورثة الأنبياء، وحملة الحق من بعدهم، لحومهم مسمومة، وعادة الله فيمن تنقَّصَهم معلومة. للعلماء صفات يعرفون بها، أوردتها هذه المادة، بالإضافة إلى موضوعها الأساس في بيان حقوق العلماء على الناس، ومكانة العلماء الحقيقية في المجتمع.

منزلة العلماء عند ربهم

منزلة العلماء عند ربهم الحمد لله العالم ما في السماوات وما في الأرض، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم القرآن العظيم، وقال له في محكم التنزيل: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} [النساء:113]، وأمر الله نبيه بالاستزادة من شيء واحد لم يأمره بالاستزادة من غيره، فقال جل وعلا لرسوله صلى الله عليه وسلم آمراً: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه:114]. الحمد لله الذي جعل في كل زمانٍ بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، ويحيون بكتاب الله الموتى، وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجهالة والردى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن آثارهم على الناس، وما أقبح آثار الناس عليهم، ينفون عن دين الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين. ولما قال الله جل وعلا في الكتاب العزيز: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ} [النساء:59] قال علماؤنا في التفسير: المراد بأولي الأمر: بها العلماء العاملون، الذين يعلمون الوحي ويعملون به ويعلمونه للناس، وأشهد الله العلماء على أعظم حقيقة في هذا الكون، وفضَّلهم بالشهادة عليها على الملائكة، فقال الله جل وعلا: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ} [آل عمران:18] هذه أعظم حقيقة أيها الإخوة، من أشهد الله عليها؟ أولو العلم، ونفى الله المساواة بين العلماء والجهال، فقال جل وعلا: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9].

خطر غيبة العلماء أو انتقاصهم

خطر غيبة العلماء أو انتقاصهم قال الحافظ ابن عساكر رحمه الله تعالى في بيان فضل العلماء وخطر شأنهم: واعلم بأن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، ومن وقع فيهم بالسلب، ابتلاه الله قبل موته بموت القلب، قال الله تعالى: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً} [الحجرات:12] فالذي يغتاب العلماء إنما يأكل لحماً مسموماً. وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، إذ أن هؤلاء العلماء -أيها الإخوة- هم أولياء الله جل وعلا، فإذا لم ينتقم من أعداء هؤلاء العلماء فممن ينتقم؟! وقد أخبر أن من أسمائه المنتقم. فهؤلاء العلماء -أيها الإخوة- هم شهداء الله في أرضه، والأمناء على وحيه، وأهل خشيته، والأنوار في الظلمات، والمنائر في الشبهات، وهم وارثو علم الأنبياء. وقد قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] فشهد لهم بأنهم هم الذين يخشونه حق الخشية، علماؤنا -أيها الإخوة- من السلف والخلف الملجأ إليهم بعد الله عند نزول الملمات، عند حلول الكربات، هم الذين يفرجون عن عباد الله ظلمات الجاهلية، ويرفعون عن الناس ظلمات الجهل، إليهم الملجأ بعد الله إذا اشتد الخطب في الأمة.

فضل العلماء في التصدي للفتن

فضل العلماء في التصدي للفتن ولذلك -أيها الإخوة- كان لعلمائنا الأجلاء فضل عظيم في الوقوف أمام ظلمات الفتن والأهواء والبدع، فهذا الإمام أحمد رحمه الله تعالى قام في وقت عصيب قد طغت فيه البدعة على السنة، عقد المبتدعة ألوية بدعتهم وقاموا فيها وأعلنوها واستعلنوا بها، فمن الذي رد الناس كلهم إلى الحق مثل الإمام أحمد. وعندما غزا التتر بلاد الإسلام وولغوا في دماء المسلمين، من الذي أنقذ الله الأمة على يديه؟ إنه مجدد الأمة في عصره الإمام ابن تيمية رحمه الله، فالعالم -أيها الإخوة- في البلد كمثل عين عذبة يرتوي منها كل الناس، وكان علماؤنا في الماضي لهم مكانة عظيمة، وكانت مجالسهم في مدن المسلمين مشهورة مزدحمة، فهذا مجلس عاصم بن علي شيخ البخاري كان يحضره ما يزيد على سبعين ألف إنسان، وكان من ضخامته أنه يكون فيه أناس يسمعون غيرهم، لأن هؤلاء السبعين ألفاً كانوا لا يستطيعون كلهم السماع مباشرة.

صفات العلماء التي يعرفون بها

صفات العلماء التي يعرفون بها أخرج ابن كثير في كتابه البداية والنهاية أن أبا محمد البربهاري الحنبلي، عطس يوماً وهو يعظ في مجلس الوعظ الضخم فشمته الحاضرون، ثم شمته من سمعهم حتى شمته أهل بغداد، فانتهت الضجة إلى دار الخلافة، هؤلاء العلماء -أيها الإخوة- لهم صفات لا بد من معرفتها حتى نعلم من هو العالم الذي تجب طاعته؟ ومن هو العالم الذي يجب الاقتداء به؟ ومن هو العالم الذي نلجأ إليه بعد الله إذا نزل بالبلاد والعباد الكرب وعمت الأهواء؟ ليس أي أحد يلجأ إليه في مثل هذه الأمور، وقد صنف علماؤنا في بيان صفات أهل العلم مصنفات عديدة وليس هذا الدرس مكاناً لذكر صفات العلماء بالتفصيل ولكن نعرج عليها بسرعة:

صفات العلماء المتعلقة بالعلم والعمل

صفات العلماء المتعلقة بالعلم والعمل أولاً: لا بد أن يكون العالم ذو علم صحيح، مستمد من الكتاب والسنة الصحيحة، وأن يكون له عموم اطلاع على أقوال أهل العلم المعتبرين، ولا بد أن يكون مخلصاً لله جل وعلا، لا يرجو في إبلاغ علمه للناس جزاءً ولا شكوراً، إلا رضا الله جل وعلا، وكذلك سنَّ علماؤنا نهجاً واضحاً في التخفف من الدنيا والابتعاد عن إذلال النفس وإهانتها، في سبيل تحصيل فضول العيش، وكانوا لا يستنكفون عن القيام بأي عمل يدوي مهما كان حتى يعيشوا من ورائه، وكانت لهم صفة مهمة، كذلك كانوا ملتصقين بالناس ما كانوا يعيشون في كهوف أو تحت الأرض، أوفي الظلام، أو وراء الكواليس لا يدري عنهم أحد ولا يسمع بهم أحد، بل كانوا يظهرون إلى الناس، ويعايشون مشكلات المجتمع ويفتون في المواقف التي تنزل بالمسلمين، لم يكونوا بمعزل عن الحياة كانوا يخالطون الناس في مساجدهم وأسواقهم ومجتمعاتهم، ولذلك نجحوا في علاج مشكلات الناس، وكان لهم وزن في المجتمع، ولذا حاول الاستعمار أو الاستخراب عندما دخل بلاد المسلمين، كان من أول أهدافه: عزل العلماء عن الأمة؛ لأنهم شعروا بخطر القضية. وكذلك من صفات العلماء العمل بالعلم، فإن الله ذم اليهود؛ فقال جلَّ وعلا: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ} [الجمعة:5] العالم من اليهود {ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [الجمعة:5] ولذلك كان علماؤنا يحرصون على العمل بالعلم، فهذا الإمام أحمد كان يحرص على ألا يدع حديثاً في مسنده الذي كان مسنداً ضخماً بلغت أحاديثه تقريباً أربعين ألف حديث كان لا يضع حديثاً حتى يعمل به ولو مرة واحدة، وقال عن نفسه: احتجمت فأعطيت الحجام ديناراً؛ لأنه ثبت عندي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى الحجام ديناراً. وكانت محبتهم للظهور معدومة، ما كانوا يحبون الظهور بمعنى: المراءاة والتباهي بالعلم، إذا غابوا لم يفتقدوا، كانوا بعيدين عن الأضواء، والمقصود بالأضواء ليس مخالطة الناس، وإنما مجتمعات الثناء والتكريم مجتمعات الأعطيات والأموال والهدايا الثمينة كانوا يبتعدون عنها. وكانوا يتصفون بصحة العقيدة، فإذاً العالم الحق هو الذي يكون صحيح العقيدة، ولا يشترط أن يكون العالم مجتهداً ملماً في جميع الأمور؛ بل قد يكون العالم مختصاً بنوع من أنواع العلوم، ومع ذلك يعتبر عالماً.

موقف العلماء من بعضهم بعضا

موقف العلماء من بعضهم بعضاً كذلك يا إخواني موقف العلماء بعضهم من بعض يدل على صفات عظيمة يجب أن تكون في العلماء، فثناء بعضهم على بعض كان صفة لازمة للمخلصين منهم، كانوا يثنون على بعضهم في المجالس وفي حلقات العلم، وكان اللاحق منهم يترحم على السابق إذا ذكر فائدة أخذها عنه، وكانوا يستفيدون من كتب بعضهم، وكان يحضر بعضهم مجالس بعض، ما كانوا متكبرين ولا متعالين، ومع أن بعضهم قد يكون حدث بينه وبين بعض العلماء أشياء ولكنهم كانوا رجاعين إلى الحق. هذا شيخ الهند في عصره وعالمها الإمام صديق حسن خان، كان بينه وبين عبد الحي اللكنوي، منافسات شديدة، فلما توفي اللكنوي تأسف صديق خان بموته تأسفاً شديداً، وما أكل الطعام في تلك الليلة، وقال حفيده: إنه أمر بإغلاق مدينة بهوبال التي هو ملكها؛ لأنه كان ملكاً عالماً ثلاثة أيام حزناً على الشيخ أبي الحسنات اللكنوي، وقال: اليوم مات ذوق العلم. وقال: ما كان بيننا من منافسات إنما كان للوقوف على المزيد من العمل والتحقيق. وهذا شيخنا العلامة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز لا يكاد يجد فرصة يذكر فيها أحد علماء العصر إلا ويثني عليه، تواضعاً منه وما حباه الله به من هذه الصفة العظيمة، فتراه مثلاً يقول عن محدث العصر الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، يقول: لا أعلم تحت أديم السماء رجلاً أعلم منه بالحديث، ولا أشد اشتغالاً ولا تفرغاً ولا عناية به من أحد من أهل العلم بالحديث، وهذا كلام سمعته منه بنفسي، وقد نفى أنه قال: ليس تحت أديم السماء أعلم من الألباني بالحديث، قال: أنا لا أقول بهذا، أنا أقول: لا أعلم شخصياً، يقول الشيخ: لأن الإحاطة لله جل وعلا. ويثني على الشيخ الشنقيطي رحمه الله، ويثني على الشيخ ابن عثيمين في المجالس، وعلى الشيخ الفوزان وبقية العلماء. التواضع صفة لازمة، قال الله جل وعلا {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:76] ولذلك كانوا يكثرون من قولة: لا أدري، إذا سئلوا عن مسألة لا يعلمونها، يقول أحدهم: لا أدري، وكان لا يستحون من ذكر هذه الكلمة، بل إن ذكرها أيها الإخوة دليل اطمئنان وارتياح للعالم الذي يقولها، لأنك تثق من كلامه عندما يقول في المسألة: لا أدري، لا يزعم الإحاطة والعلم بالأمور ويفتي بغير علم. وقد سألته مرة حفظه الله: هل الغيرة من الحسد أم لا؟ فلبث ملياً متفكراً، ثم قال: لا أدري، قد يقول قائل: هذه مسألة لا علاقة لها بالفقه وليس فيها أحكام، ولكن فيها درس لكل عالم ولكل طالب علم بالتورع عن القول بما لا يدري، وعن الوقوف ولا ينزل من شأنه أن يقول: لا أدري، وهذا الإمام مالك سئل عن ثمانية وأربعين مسألة فأجاب عن ست وثلاثين منها: لا أدري، فقال له السائل: ماذا أقول للناس إذا رجعت إليهم قال: قل لهم: يقول مالك: لا أدري.

رجوع العلماء إلى الحق وعدم اتباع الأهواء

رجوع العلماء إلى الحق وعدم اتباع الأهواء ومن صفاتهم كذلك: الرجوع إلى الحق وعدم اتباع الهوى، ومن صفاتهم: الخشية، قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] وبعض الناس تجد عنده علماً لكن ليس لديه خوف من الله جل وعلا ولا خشية، ولذلك قد لا يعمل بعلمه، وقد يفتي بالهوى ويتبع الشهوات والآراء، وهذا حال كثير من المتعالمين الذين يدعون العلم لا تجد عند كثير منهم الخشية، وهي صفة مهمة من صفات العالم، وكان علماؤنا في مرحلة الطلب يحرصون على اختبار مشايخهم قبل الأخذ عنه، يبتلي العالم هل هو الرجل المطلوب أم لا؟ احتياطاً في الدين وورعاً في الأخذ، ما كانوا يأخذون عن أي أحد، وقد جاء في ترجمة أبي نعيم الفضل بن دكين، أن يحيى بن معين وأحمد بن حنبل أتيا يريدان أن يسمعا حديثاً من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ومعهما ولد صغير فعندما أتيا قال يحيى بن معين لـ أحمد بن حنبل: نختبر الرجل قبل أن نأخذ عنه، فقال أحمد بن حنبل: الرجل فذ لا يحتاج إلى اختبار، قال: ما نعلم عن حاله بل لابد أن نختبره، فقرأ عليه يحيى بن معين أحاديث ويزيد مع كل عشرة أحاديث حديثاً ليس من حديثه، أي: يحيى بن معين كان يحفظ من أحاديث أبي نعيم، فجاء يسأل أبا نعيم يقول له: هل هذه الأحاديث أنت رويتها؟ فيأتي بعشرة أحاديث ثم يأتي على رأس العشرة بحديث ليس من أحاديث أبي نعيم، اختباراً له، وقرأ عليه ثلاثين حديثاً، وبعد أن انتهت الأحاديث قال أبو نعيم الفضل بن دكين: أما هذا الغلام فصغير، وأما أحمد بن حنبل فأورع من أن يفعل هذا، والذي فعل هذا أنت، أي أنه فطن لها، فأخذ رجله وجعل يرفس يحيى بن معين حتى قلبه على قفاه، فقال أحمد بعد أن انتهت القضية، ألم أقل لك: إن الرجل فذ! قال يحيى: والله إن رفسته أحب إلي من كذا وكذا. فكانوا يختبرون علماءهم قبل أن يأخذوا عنهم، قال البخاري رحمه الله تعالى في أول كتاب الفرائض من صحيحه: قال عقبة بن عامر رضي الله عنه: [تعلموا قبل الظانين] قال البخاري: أي قبل الذين يتكلمون بالظن، قال النووي في مقدمة المجموع ما معناه: تعلموا العلم من أهله المحققين الورعين قبل ذهابه ومجيء أقوام يتكلمون في العلم بمثل نفوسهم وظنونهم التي ليس لها مستند شرعي. لذلك لا بد من الحرص على لقاء العلماء قبل أن يذهبوا، والعالم إذا مات انثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها إلا مجيء عالم مثله.

حرص العلماء على الأدلة

حرص العلماء على الأدلة من صفات العلماء: الحرص على المسائل بأدلتها، وعلى أن يكون موردهم نبع الكتاب والسنة على فهم السلف الصالح، لذلك إذا رأيت العالم يقول: قال فلان قال فلان، فقط، فاعلم أنه ليس بعالم، أو الذي يحفظ قول المذهب فقط من غير أدلة، فليس بعالم. قال الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله وأمد في عمره: والعلماء الذين يصح أن يقال عنهم علماء هم الذين تفقهوا في الإيمان وأخذوا علمهم من الكتاب والسنة وليس العالم هو المقلد لفلان أو فلان، أو الذي يعرف مختصراً من المختصرات، أو كتاباً من الكتب فيقلد، ولا يدري عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. يقول الشيخ عبد العزيز: فهذا لا يعد من العلماء بإجماع أهل العلم، وقال في موضع آخر في مناسبة أخرى: ليس العالم من حفظ متخصر خليل أو زاد المستقنع، العالم من ورد حوض الكتاب والسنة فنهل منهما.

أربعة لا يؤخذ العلم عنهم

أربعة لا يؤخذ العلم عنهم قال الإمام مالك في وصف العلماء المعتبرين: لا تأخذوا العلم عن أربعة وخذوا العلم ممن سواهم، لا يؤخذ من سفيه معلوم بالسفه، وإن كان أروى الناس -أي: أكثر الناس رواية- ولا من صاحب هوى يدعو الناس إلى هواه، ولا من كذاب يكذب في أحاديث الناس وإن كنت لا تتهمه بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا من شيخ له عبادة وفضل إذا كان لا يعرف الحديث. هذا الأخير نوع مهم من الواجب معرفته، صاحب العبادة التقي الورع الذي يداوم على الصلاة والصيام، حاله على الرأس والعين، لكن إذا جئنا إلى قضية الأخذ لا نأخذ منه، فرق بين العابد والعالم، العلم لا يؤخذ عن العباد ولكن يؤخذ عن العلماء، وكثير من الناس يغترون بشخصيات من هذا القبيل، فيبدو على رجل ما سمات الصلاح والتقوى، فيأتي إليه أخونا هذا فيسأله وليس هو بمحل للسؤال، ولذلك يقول الإمام مالك في كلام مشهور: من شيوخي من أستسقي بهم -أي: أطلب منهم أن يدعوا الله بالسقيا- لأني أظن أن دعاءهم مستجاب، ولكني لا آخذ حديثهم. فالورع والصلاح شيء والعلم الشرعي شيء آخر، أقصد شيئاً آخر في معرفة ممن يتلقى، لكني لا أعني التفرقة بينهما بحيث أن العالم لا يشترط فيه أن يكون صالحاً ولا ورعاً ولا زاهداً، بل سبق الكلام أنه لا بد أن يكون كذلك. وسئل الشيخ عبد العزيز بن باز: ما حكم الأخذ عن فاسق؟ فقال: ينبغي أن يتحرى الصالحين الطيبين، وإن وجد فائدة عن فاسق أو حتى كافر لا يردها بل يأخذها، فإن الحكمة ضالة المؤمن أنَّى وجدها فهو أحق بها. المقصود بالفائدة: أي فائدة صحيحة، لكن هذا لا يعني أن نأخذ العلم عن المبتدعة وأهل الأهواء، كلا وحاشا، وإذا اجتمع اثنان فأكثر فيجب على الإنسان الاجتهاد في أعلمهم، والبحث عن الأعلم والأورع والأوثق ليقلده إن كان لا يحسن البحث في كتب أهل العلم، ولا سؤال العلماء ومعرفة الأدلة.

الاغترار بطلبة العلم المبتدئين

الاغترار بطلبة العلم المبتدئين من هذا -أيها الإخوة- نعلم بأن هناك قضية خطيرة منتشرة بين الناس اليوم وهي الاغترار بطلبة العلم الصغار، نظراً لقلة العلماء في هذا الزمان وندرتهم صار كثير من طلبة العلم يبرزون أحياناً بقصد منهم أو بغير قصد، فلا بد من التنبه إلى هذه المسألة، صغار طلبة العلم لا يُسألون، ولا يستفتون أقصد: لا يُعطى لهم مجال للاجتهاد؛ لأنهم ليسوا هم محل الاجتهاد، ومن أشراط الساعة أن يلتمس العلم عند الأصاغر، فلا يغتر بمثل حال هؤلاء في طلب الفتوى والاجتهاد. يقول الذهبي رحمه الله تعالى في السير: الفقيه المبتدئ والعامي الذي يحفظ القرآن أو كثيراً من السنة لا يسوغ له الاجتهاد أبداً، فكيف يجتهد؟ وما الذي يقول؟ وعلام يبني؟ أي: يبني اجتهاد الفتوى على ماذا؟ ماذا عنده أصلاً؟ وكيف يطير ولما يريش؟ الطائر الذي لم ينبت له ريش هل يطير؟ فكيف يطير هذا ولما يريش، والريش هو أدوات الفتوى والاجتهاد؟ فإن قال قائل: فما وظيفة طلبة العلم إذاً؟ هل طلبة العلم لا نأخذ عنهم وليس لهم مكانة بيننا؟ كلا. فإن لطبلة العلم دوراً مهماً جداً في المجتمع، نظراً لقلة العلماء وعدم تيسر البحث والاتصال بهم في كثير من الأحيان أو الوصول إليهم، خصوصاً لغير العالمين بأحوالهم، فإن طلبة العلم عليهم واجب عظيم ألا وهو تبليغ الناس أقوال أهل العلم وفتاويهم. هم الجسور والقنوات التي تصل بها المعلومات من أهل العلم إلى الناس؛ لأن كثيراً من الناس لا يتصلون بالعلماء ولا يسمعونهم؛ إما لضعف أو هوى أو عدم مقدرة على ذلك، أو جهل بقيمة العالم وهو الغالب، فيبحث عن أي شخص ويسأله، وهذا ما يفعله جهلة الحجاج، تجدهم عندما تعرض لهم مسألة في الحج يستوقف أي رجل عنده لحية ويسأله، يظن أنه يعلم: ما حكم كذا؟ وبعض الجهلة من هؤلاء إذا سئل وهو لا يدري يفتي بغير علم، فيضل ويضل.

خطورة ظاهرة التعالم وكيفية الوقاية منها

خطورة ظاهرة التعالم وكيفية الوقاية منها هناك ظاهرة خطيرة لا بد أن يفرد لها مجالات للنقاش وهي ظاهرة التعالم، ظهور أناس على السطح ليسوا بعلماء يدعون العلم فيضلون الناس، وينشرون الكتب ويقيمون المحاضرات في الفتاوي ويقررون أشياء خطيرة، في مسائل مهمة واقعية للناس في هذا العصر ولشيخنا بكر بن عبد الله أبو زيد رسالة مهمة سوف تظهر إن شاء الله عن ظاهرة التعالم وأثرها السيئ في العالم الإسلامي، لذلك أيها الإخوة كان لا بد من سؤال أهل الاختصاص. العلماء الآن ليسوا على مرتبة واحدة في جميع درجات وأنواع العلوم، فبعضهم يحسن شيئاً لا يحسنه الآخرون، ويفقه في أشياء من العلم لا يفقه فيها العالم الآخر مثله، لذلك دع كل صانع وصنعته، لا بد من اللجوء إلى أهل الاختصاص، فعندما يكون عندك حديثاً لا تعرف حاله اذهب للعالم بالحديث واسأله عنه، ولا بد إن كان في مسألة فقهية تحتاج إلى فقه اذهب إلى رجل مشهور بالفقه واسأله، وإن كان هناك مسألة أصولية اذهب لأهل الاختصاص في الأصول واسألهم، وإن كان هناك مسألة تتعلق بالواقع المعاصر والمذاهب الهدامة، فاذهب إلى العالمين بقضية المذاهب الهدامة وخطرها على الناس، أو ما يتعلق بالواقع المعاصر واسألهم، فليس كل أحد يجيد أي شيء، وهذا واضح، هذا الكلام الذي أقوله ليس بدعاً، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم دل في كلامه على بعض أحوال الصحابة في أشياء تشبه هذا، فمن قوله مثلاً: قال: (أرأف أمتي بأمتي أبي بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياءً عثمان -إلى أن قال- وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقرأهم أبي بن كعب، وأقضاهم علي، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل) لذلك يسبق العلماء برتوة يوم القيامة، رمية سهم. فالصحابة كان عندهم تخصص، فمنهم من برع بالفرائض، ومنهم من برع بالحلال والحرام، ومنهم من برع بالقضاء والفصل في الخصومات بين الناس، ومنهم من برع بعلم القراءات، فلا بد من الذهاب إلى أهل الاختصاص قدر الإمكان.

واجب الأمة نحو علمائها

واجب الأمة نحو علمائها من واجبنا نحو العلماء بالإضافة للذهاب لأهل الاختصاص منهم، نقل الأخبار إليهم، فنذهب إلى المخلصين منهم فنوعيهم بالأمور التي قد لا يدرون عنها، فقد تصدر في المجلات أو الجرائد أو الكتب أشياء قد لا يكون عند العالم الوقت الكافي ليطلع عليها فينقدها أو يبين خطأها أو عوارها، فعند ذلك قد يكون مشغولاً بالقضاء أو بالتعلم، أو التعليم أو قد يكون عاجزاً أو مقعداً أو قليل الحركة أو فيه شيخوخة، أو لا يستطيع الذهاب إلى الأسواق ومعرفة ما نزل من الكتب، لا بد لطلبة العلم أن يذهبوا إلى العلماء ويخبروهم بالأشياء المستجدة وبالقضايا المعاصرة حتى يكون العالم على علم بها، فهؤلاء الطلبة هم بمثابة أدوات الحس للعالم التي يحس بها. ومرة سئل الشيخ محمد بن عثيمين حفظه الله تعالى عن هذه الورقة التي ظهرت بين الناس، وموجودة هذه الأيام بكثرة ورقة المحاسبة، هل صليت الفجر في جماعة؟ هل اتبعت جنازة؟ هل زرت مريضاً؟ هل كذا؟ وتضع صح أو خطأ، وبعد ذلك تجمع العلامات وتنظر أنت في أي حالة؟ فأجاب بأن هذه الورقة بدعة، وأن السلف ما كان هذا حالهم في المحاسبة، وقال: والعجيب أن من كتب هذه الورقة صدرها بآية {اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر:18] فقال هل هذه الآية نزلت في زمن بعد الصحابة والسلف؟ كلا. هل نحن نعلم بها أكثر من الصحابة؟ كلا. فإذاً لماذا لم يفعل السلف هذه القضية؟ قال: ما كانت هذه هي طريقة السلف، وأجاب عن أشياء في نقد هذه الورقة، ثم قال معقباً: وما أحسن ما يأتي به أحد الناس إلى العلماء بمثل هذه الأشياء فيطلعهم عليها، ويقول: ما رأيكم فيها؟ ما رأيكم في مثل هذه الأشياء ومثل هذه الرسائل ومثل هذه الأوراق؟ تشيع بين الناس وتنتشر مثل الوصية المزعومة المكذوبة المنتشرة في هذه الأيام لخادم الحرم النبوي، بأنه من لم يصورها ولم يطبعها يحصل له من المصائب كذا وكذا، وللشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رسالة خاصة في نقد هذه الرسالة والرد وتأثيم من ينشرها بين الناس، وبيان كذب ما يوجد فيه. المقصود: هو الذهاب إلى العلماء في عرض مثل هذه الأشياء. كذلك من واجبنا نحو العلماء الجري ورائهم، والبحث والتنقيب عنهم، هذا موسى عليه السلام رحل من أجل أن يلقى الخضر عليه السلام ويسأله ويتعلم منه. العلم يؤتى ولا يأتي، قد لا يكون للعالم فرصة في التجوال على الناس على مجالس الناس، لا بد أن نذهب نحن إليهم ونجري وراءهم، نحن نذهب إلى أماكن وجودهم إلى بيوتهم إلى مساجدهم نتصل بهم هاتفياً نكتب إليهم الرسائل، نحن نجري لأننا نحن أصحاب الحاجة، لا بد من الجري وراءهم. لذلك كان عبد الله بن عمر يقول: [قل لطالب العلم يتخذ نعليه من حديد، حتى لا تحفى قدميه في الجري وراء العلماء، وطلب العلم] وكان معاذ بن جبل رحمه ورضي عنه يقول وهو على فراش الموت: [اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب البقاء في الدنيا لجري الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولكن كنت أحب البقاء لمكابدة الليل الطويل -أي: القيام- ولظمأ الهواجر في الحر الشديد، ولمزاحمة العلماء بالركب في حلق الذكر] لا بد من مزاحمة العلماء بالركب في حلق الذكر، فيذهب إليهم الإنسان، لا أقصد المزاحمة، أي: التضييق عليهم؛ لا. لكن نجري وراءهم ونتعلق بهم ونحرص على لقياهم حتى ولو كان في ذلك السفر إليهم، وفي السفر في طلب العلم مصنفات. العلماء أحياناً إذا ما جاءهم الناس ما قصدوهم ولا سألوهم قد يموت العلم عندهم، وقد تبرد الحماسة في نفس العالم، يقول سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز في هذا الموضوع: "وقد ظهر في بلاد الإسلام حركات تنشد الحق، وتطلب الدليل، وتعنى بالكتاب والسنة"، هذه المسألة كان الناس في غفلة عنها تقليد وتعصب، وجهل، يقول الشيخ: " وإن وقع تقصير من العلماء فعلى طالب العلم أن يسأل العالم ويشجعه على نشر العلم، فإن العالم إذا سئل واتصل به طلبة العلم فإن هذا يعينه على العناية بالعلم ومراجعة الآيات والأحاديث والاستعداد للإجابة ولإظهار العلم، فإن غفل هذا وغفل هذا -يعني العالم وطالب العلم- فمن يبقى؟ يموت العلم".

صور من الأدب مع العلماء

صور من الأدب مع العلماء كذلك من الأدب مع العلماء: عدم ضرب أقوالهم ببعض، كأن تأتي إلى العالم تسأله ثم بعد أن يجبك تقول: لكن فلان يقول بخلاف قولك، تقصد أن تضرب أقوال العلماء بعضهم ببعض، عندهم، وإظهار ما لديك من علم أو متباهياً به مع هذا العالم، هذا خطأ، لا بد أن تظهر التواضع، لا تقل: فلاناً قال كذا، استخفافاً به وبقوله، أو إظهاراً لخطأه أو لإحراجه. كذلك عدم نقل كلام بعضهم إلى بعض لإغارة الصدور، لا تذهب إلى عالم وتقول: قال عنك فلان كذا، قد يكون يجهل ما قال فيه فلان، أو لا يدري عنه، تقول: انظر! فلان يقول عنك: لا أدري عنك ولا سمعت فيك، أنت مجهول بالنسبة إليه، يجب نقل الكلام الطيب، وثناء أهل العلم بعضهم على بعض، حتى يحصل بينهم اتصال قلبي، من ثمرته المحبة، لأن مسألة التحاب بين العلماء هدف سام وخطير وكبير ولكن دور طلبة العلم يعتبر دوراً عظيماً في ذلك. كذلك عدم مجادلتهم وإعنافهم بالسؤال، يقول الماوردي في أدب الدنيا والدين: فربما وجد بعض المتعلمين قوة في نفسه لجودة ذكائه -طالب العلم يكون فيه جودة في ذكائه وحدة في خاطره، فيقصد من يعلمه بالإعناف له، والاعتراض عليه، والازدراء به، فيكون كمن تقدم به المثل السائر: أعلمه الرماية كل يوم فلما اشتد ساعده رماني فلا يجوز لطالب العلم الذي عنده ذكاء واجتهاد وحدة خاطر، أن يكون غرضه للقعود في حلقات العلم هو الاعتراض على العلماء، والازدراء بههم، والتنقيب عن أخطائهم، وإظهار جهلهم أمام الناس، هذا مرض خطير، ولكن يذهب إلى العالم ويقول له بالمناصحة بينه وبين نفسه: يا أخي، أنت أخطأت في كذا، أنت قلت كذا، فإن لم يصحح العالم بعد ذلك على الملأ، فإنه يكون له الحق في إظهار الحق، لأنه لا يجوز كتم العلم. وقضية السؤال لوحدها أدب قائم بنفسه في العلاقة بين طلبة العلم والعلماء، قال عليه الصلاة والسلام: (هلا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال) ما الذي يشفي الجهل ويذهب الحرج؟ سؤال تقع في مسألة أو مأزق، ولا تعرف كيف تتصرف، ما هو الحل؟ السؤال، ولهذا قال بعض السلف: "العلم خزائن، والسؤالات مفاتيحها"، وقيل: "حسن السؤال نصف العلم"، ومع ذلك نهى الرسول صلى الله عليه وسلم أناساً آخرين بعدما أمر أناساً بالسؤال، فقال: (أنهاكم عن قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال)، وقال عليه الصلاة والسلام: (إياكم وكثرة السؤال، فإنما هلك من قبلكم بكثرة السؤال) هل بين هذه الأحاديث تعارض؟ كلا. فإنما أمر في الحالة الأولى بالسؤال لمن كان قصده بالسؤال علم ما جهل، جاهل يريد أن يتعلم، لا بد أن يسأل، ونهى في الحالة الثانية عن السؤال إذا قصد بالسؤال إعناف من يسمع منه، أو كان السؤال في غير موضعه، أو المقصود بالسؤال إثارة الشبهات والشكوك، فعند ذلك لا يجوز السؤال، وقيل لـ ابن عباس: بم نلت هذا العلم؟ فقال: [بلسان سئول، وقلب عقول]. وكان من الأسئلة التي وجهت إلى الشيخ ابن باز: إذا سألت عالماً فهل يجب عليَّ أن أتبعه ولا أسأل غيره أو أسأل حتى يطمئن قلبي؟ فقال: هذا القول ليس بصحيح، ويجب على طالب العلم أن يتحرى الأعلم فالأعلم، والأورع فالأورع، وأن يسأل حتى يطمئن قلبه، لأنك قد تسأل ولكن الإجابة لا تشفي غليلك ولا تكفيك، ويظل في نفسك شيء وحرج، وهل الشيخ فهم السؤال أو لم يفهم السؤال؟ هل وقع الجواب على مسألة بعينها أو على مسألة أخرى ما فهمها؟ فلا بأس أن تسأل مرة أخرى وثالثة ورابعة، حتى تطمئن نفسك، هذا إذا كان في نفسك شيء من الشك أما من يذهب ويسأل عالماً معتبراً ثم يفتيه في قضية فلا تعجبه لهوى، يقول: والله هذا الجواب صعب، دعنا نسأل آخر ونرى ماذا عنده! أو تأتي تقول: سألت الشيخ فلان، يقول: يا شيخ، دعه فإنه متشدد، اسأل فلاناً الذي في المسجد الفلاني. قال ابن عباس: [إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم] تأخذ علمك ممن؟ تسأل أي واحد؟ ليس كل إمام مسجد أهل للإفتاء والاجتهاد، بل نادر منهم في هذا العصر وهم ندرة جداً، وحسبك أن ينقل إليك أقوال العلماء. وعن حكم افتراض المسائل والسؤال عنها، يقول سماحة الشيخ: إذا سأل عن مسألة يخشى أن يقع فيها فلا بأس بذلك، أما أ، يسأل عن مسائل افتراضية لا يمكن أن تحصل، لإضاعة الوقت، فهذا منهي عنه، فإذا سأل عالماً ثم سأل عالماً آخر وتنبه أحد طلبة العلم إلى خطأ في الجواب فهل يجوز له أن يتكلم؟ يجوز له أن يتكلم إذا كانت الفتوى باطلة، أو يعلم بطلانها، إذا امتنع يعتبر من كتم العلم، أما إذا كانت الفتوى ليست باطلة فعند ذلك لا يجوز له أن يتكلم، إذا كان المفتى به قولاً معتبراً من أقوال أهل العلم معلوم بالدليل الواضح. فالخلاصة أن الذين يسألون تتبعاً للرخص وبحثاً عن المتساهلين من العلماء، ويقلبون الحقائق كما يفعل بعض الناس حين يسأل، فلا يعجبه الجواب، فيذهب لشيخ آخر ويغير السؤال، يريد أن يحصل على جواب يوافق هواه، فإن هذا ضلال وزيغ وفعل محرم.

عدم المغالاة في اتباع العلماء

عدم المغالاة في اتباع العلماء فمن واجباتنا نحو العلماء: عدم المغالاة في اتباعهم، فلا ينبغي أن يبعث المتعلم معرفة الحق لهم على قبول الشبهة منهم، ولا يدعوه ترك الإعناف لهم على التقليد فيما أخذه عنهم، فإنه ربما غالى بعض الأتباع في عالمهم، حتى يروا أن قوله دليل، بعض الناس من مغالاتهم وتعصبهم للعالم الفلاني يعتبر أن قوله دليل، فإذا سألته: ما حكم الشيء الفلاني؟ يقول لك: جائز والدليل: قال، فلان كذا. لا. قول فلان ليس دليلاً!! الدليل قال الله وقال رسوله وقال الصحابة، هذا هو العلم، هذا هو الدليل، أما قال فلان وفلان فليس بدليل، هذا نقل للفتوى. فإنه ربما غالى بعض الأتباع في عالمهم حتى يروا أن قوله دليل وإن لم يستدل، حتى لو لم يأت لهم بدليل، وأنه اعتقاده حجة وإن لم يحتج، فيفضي به الأمر إلى التسليم له فيما أخذ عنه، هذا نص كلام الماوردي. وهنا طرفة تحضرني الآن: بعضهم يناقش الآخر قال: ما حكم النوم بعد صلاة العصر؟ قال: والله ما فيها شيء، قال: ما هو دليلك على ذلك؟ قال: أنا ذهبت للشيخ ابن باز بعد العصر فوجدته نائماً!! أي: هل أصبح هذا دليلاً على قضية حكم النوم بعد صلاة العصر! فالواجب أن نفرق بين فعل العالم لنفسه والحكم، ولذلك قال بعض العلماء: إنك ترى العالم يفعل لنفسه أشياء، فإذا قلت له: هات الدليل، توقف، لأنه قد يجتهد لنفسه في أشياء لكن لا يجوز لنفسه أن يفتي بها الآخرين. فالعالم ليس رسولاً، يكون تركه حجة، وفعله حجة، وأقواله كلها حجة، لا. كل يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم؛ كما قال الإمام ذلك مالك وهو في الحرم النبوي. كذلك بعض العلماء عظَّم حق العالم حتى قدمه على حق الوالد، حتى قال بعض الشعراء: من علم الناس كان خير أب ذاك أبو الروح لا أبو النطف الأب أبو النطفة، والعالم أبو الروح، هو الذي يشفي روحك ويسمو بها في عالم القرآن والسنة.

سؤال الأعلم وليس الأشهر

سؤال الأعلم وليس الأشهر كذلك من الأدب مع العلماء: ألا يطلب الصيت وحسن الذكر باتباع أهل المنازل من العلماء، يعني عالم في منصب معين أو مشهور ولكن هناك غيره ليس له صيت أو ليس له تلك الشهرة، لا تذهب للعالم الفلاني فتقول: والله سألت الشيخ كذا، أو صاحب المنصب الفلاني حتى تشتهر بمنصبه إذا كان هناك غيره أعلم منه، وإنما تذهب للأعلم حتى لو كان أخفى أو متوارياً عن الأنظار، أو غير معروف بين الناس، القضية قضية الأخذ من الأعلم وليست قضية البحث عن الشهرة. إذا قرب منك العلم فلا تطلب ما بعد، وإذا سهل من وجه فلا تطلب ما صعب، وإذا حمدت من خبرته فلا تطلب من لم تختبره، فإن العدول عن القريب إلى البعيد عناء، وترك الأسهل بالأصعب بلاء، والانتقال من المفضول إلى غيره - الذي خبرته - سقط. لا تلح على العالم إذا فتر، أحياناً العالم يفتر مثلاً أو يفتي ويفتي ثم يتعب لا تأتٍ أنت في وقت التعب وفي وقت الراحة وتزعج الرجل، هذا من الأدب مع العالم، لا تأخذ بثوبه إذا نهض، لا تشر إليه بيدك، لا تفش له سراً، لا تمش أمامه، ولا تتبرم منه من طول صحبته، فإنما هو بمنزلة الرحمة فانتظر ما يسقط عليك منه منفعة. حتى صفة القعدة أوضحها أهل العلم، فقالوا: لو قعد كما قعد جبريل عليه السلام عندما وضع يديه على فخذيه وانتصب أمام العالم احتراماً وإجلالاً له.

ستر زلات العلماء وأخطائهم

ستر زلات العلماء وأخطائهم أيضاً من الآداب الواجبة نحو العلماء ستر زلاتهم، وأخطائهم وهذا سنتكلم عنه بعد قليل كلاماً مفصلاً، لكن الذي أقوله الآن: أن بعض الناس -للأسف- مثل الذباب لا يقعون إلا على النجاسات والأوساخ.

مشاورة العلماء والدعاء لهم والقيام على خدمتهم

مشاورة العلماء والدعاء لهم والقيام على خدمتهم ومن الأشياء التي يلجأ إليها عند العلماء مشاورتهم حتى في الأمور الخاصة والانقياد لعلمهم والدعاء لهم والترحم عليهم، وحسن الكلام معهم، تقول له: يرحمك الله في القضية الفلانية، أو رضي الله عنك، أو وفقك الله وسددك، عبارات رقيقة تستفتح بها في السؤال. كان أحد السلف يجمع ويحفظ من أخذ عنه من أهل العلم فيدعو لهم كل ليلة واحداً واحداً قبل أن ينام، والتواضع لهم، والقيام على خدمتهم، وقد يكون العالم ما عنده وقت لأن يأتي ببعض الأشياء الضرورية له، وقد يجهل مكانها، فأنت تذهب وتقدم له شيئاً يسهل له شيئاً من أمور حياته القيام على خدمته، هذا من الأدب نحو العلماء والتقرب إلى الله بذلك، والتواضع له. أخذ ابن عباس على جلالة قدره بركاب زيد بن ثابت الأنصاري، وقال: [هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا] كذلك تعظيم حرمتهم والرد على من يغتابهم أو يتكلم فيهم، فإن عجز الإنسان عن ذلك يجب عليه أن يقوم ويفارق المجلس، لا يجلس مع أناس يتكلمون ويلغون في أعراض العلماء. كذلك التحري في إدخال السرور على قلوب العلماء، وإتحاف أولادهم استلطافاً لهم، حتى يتعدى الاحترام التوقير والمنفعة إلى ولد العالم، فتستلطف أولاد العالم مثلاً حتى تتقرب إلى قلب العالم وتنال من محبته.

معنى مقولة: نحن رجال وهم رجال

معنى مقولة: نحن رجال وهم رجال هناك لفظة شنيعة يقولها بعض الناس عندما يقال له: هذا قول عالم، أو تقول له مثلاً: قال الشيخ فلان كذا، يقول لك: نحن رجال وهم رجال، هذه قولة سخيفة وباطلة يقصد بها احتقار واستنقاص العلماء، تقول له: أليس فلان رجلاً عنده عقل وتفكير؟ يقول: نعم وأنا عندي عقل وتفكير إذاً أنا أفكر على كيفي، وأستنبط من كلام السنة على كيفي، يعني أنا حر!! هذا أيها الإخوة يشبه فعل الخوارج، ويشبه منهج الخوارج. أبو حنيفة على جلالة قدره قال هذه العبارة في أي مناسبة؟ قال: إذا أتى العلم عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو عن الصحابة أخذنا به، وإذا جاء عن التابعين فهم رجال ونحن رجال. نقول: أولاً: ما قالها عن الصحابة ولا عن النبي صلى الله عليه وسلم. ثانياً: قالها عمن عاصرهم من التابعين ولحق بآخرهم، لكن أن يأتي الآن بعض الجهلة صغار الناس ويقول: نحن رجال وهم رجال، كيف ذلك؟! أيها الإخوة! يجب الإنكار على قائلها، وهذا ليس في قلبه أدنى احترام للعلماء الذي يقول مثل هذه الكلمة، ومن التأدب مع العلماء عدم الإفتاء بحضرتهم، أحياناً يأتي شخص يسأل الشيخ وتلقى شخص آخر خرج من بين الناس وأعطى الحكم مباشرة، أو يكون هناك زحمة على الشيخ فيأتي أحدهم يريد أن يسأل الشيخ، فيقول له رجل آخر: ماذا تريد؟ وعن أي شيء تسأل؟ فيفتيه مباشرة والعالم موجود، وقال أحدهم: لا يفتى ومالك في المدينة، وكان بعض الصحابة لا يفتي، يقول بعضهم: إن أحدكم يفتي بالمسألة لو أتت على عمر لجمع لها أهل بدر. والإفتاء الآن كل تجد شخصاً يفتي على كيفه، وبحضور العالم للأسف!! وبعض العلماء لقن أحد طلبته درساً طيباً، فكان جالساً في مجلس وسأل أحدهم سؤالاً في اللغة، فقام الطالب مباشرة وأجاب، فقال له عبارة جميلة قال له: تزببت وأنت حسراً، الآن العنب أول ما يكون حامضاً، ثم يصبح في آخر أمره زبيباً، فقال له: تزببت وأنت حسراً، فهذا من مخالفة الأدب أن يتكلم الرجل ويفتي بحضرة العلماء.

الصبر على جفوة الشيخ

الصبر على جفوة الشيخ الصبر على جفوة الشيخ قد يكون الشيخ مثلاً فيه جفوة أو شدة، والناس خلقوا على طباع مختلفة، فيهم الشديد والسهل واللين، والعلماء من البشر قد يقع عند بعضهم شيء من هذا، قد يكون مثلاً عنده خلق لا يرضى بعض الطلبة أو عنده شدة أو حدة، بعض العلماء كانوا مشهورين بالحدة. قال بعضهم عن شيخ الإسلام رحمه الله: كان له حدة يقهرها بالحلم حليم يقهر الحدة، وكان له حدة تعتريه حال البحث والسؤال والمناظرة، فيتحمل الطالب إذا شد عليه الشيخ ولا يتركه ويذهب، لا. يصبر على جفوته، بل يبدأ بالاعتذار حتى لو كان الخطأ من العالم، ولا يدخل عليه في مجلسه إلا بالاستئذان، ولا يطلب القراءة عليه في وقت يشق على الشيخ، أو لم تجرِ عادته بالإقراء فيه، ولا يطرق عليه الباب، بل ينتظره حتى يخرج، ولا يوقظه إن كان نائماً، كان ابن عباس يجلس في طلب العلم على باب زيد بن ثابت حتى يستيقظ، فيقال له: ألا نوقظه لك، فيقول: لا، وربما طال مقامه وقرعته الشمس في الصباح، وكان يقول: أجلس عند باب أحدهم فتسفني الريح على وجهي ثم يخرج، فيقول زيد: يا ابن عم رسول الله، أنا أحق أن آتيك، فأقول: لا. أنا آتيك، العلم يؤتى ولا يأتي. وعن أبي عبيد القاسم بن سلام أنه قال: ما دققت على محدث بابه قط، بل كنت أصبر حتى يخرج إلي، وتأولت قول الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} [الحجرات:5] وروى الخطيب بسنده عن عبيد الله بن عبد الكريم قال: سمعت أحمد بن حنبل وذكر عنده إبراهيم بن طهمان وكان من علماء السلف، وكان متكئاً من علة، الإمام أحمد كان يؤلمه جسده فكان متكئاً فلما ذكر إبراهيم بن طهمان، اعتدل فاستوى جالساً، فقال: لا ينبغي أن يذكر الصالحون ونحن متكئون. وقال الشافعي: "كنت أصفح الورقة بين يدي مالك صفحاً دقيقاً، هيبة لها، لئلا يسمع وقعها"، يعني: حين يقلب أوراق الكتاب أمام مالك -وكان يطلب العلم عند مالك - كان يقلب الورق برفق لئلا يزعج الشيخ بقلب الأوراق، وكانوا كما ذكرنا سابقاً يذهبون ويسافرون من أجل طلب العلماء والبحث عنهم، والعلماء في أوجه من أوجه الشبه مثل الكعبة يأتيها البعداء ويزهد فيها القرباء، يكون العالم جالساً بجنبك في نفس البلد فلا تذهب إليه ولا تعرف قدره، لكن الذي يسمع عنه من بعد يأتي ويحرص، مثل الكعبة يأتيها البعداء ويزهد فيها القرباء.

أدب النقاش والمجادلة

أدب النقاش والمجادلة وكذلك حسن الظن بهم إذا أخطئوا، والهدوء في النقاش معهم وعدم مجادلتهم وممارتهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تعلم العلم ليباهي به العلماء، أو يماري به السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله جهنم) حديث صحيح. ولا يكثر الكلام عند العالم من غير حاجة، ولا يحكي ما يضحك منه أو ما فيه بذاءة، أو يتضمن سوء مخاطبة أو سوء أدب.

أدب دقة النقل

أدب دقة النقل كذلك من الأمور المهمة دقة النقل عنهم في الفتاوي، هذه مسألة على درجة عظيمة من الأهمية، بعض الناس يذكرون لك فتاوي عن بعض العلماء لا تدري أين المستند وأين الأصل؟ وإذا ذهبت وطلبت علو الإسناد أو ذهبت إلى العالم بنفسه وسألته تكشفت لك الدواهي، وتشيع بين الناس فتاوٍ الله أعلم بها، فلا بد من الورع في نقل فتوى العالم والاحتياط، يأتي واحد يقول لك: قال ابن باز، سمعته؟! عمن نقلت أنه قال ابن باز؟! قال ابن عثيمين، قال فلان، من الذي سمعت عنه قال فلان؟ وإذا أتى لك بالحجة والله سمعته بنفسي، سمعته في شريط، سمعته من فلان الذي حضر مجلسه، سمعته من الثقة فلان، عند ذلك تأخذ، أما أن يقول لك: قال فلان، على الماشي، وهناك أشياء تتكشف عندما يذهب الواحد للعالم ويقول له: هل صحيح أنك قلت كذا؟ هل صحيح أنك فعلت كذا؟ فتتكشف أشياء عجيبة جداً.

آداب الجلوس في الدرس

آداب الجلوس في الدرس كذلك من الأدب مع العالم، الالتفاف إليه، والانتباه له أثناء إلقاء الدرس، وعدم التشاغل بشيء وهو يتكلم، وعدم إظهار -وهذا من دقيق الأدب- الإنسان أنه يعلم ما يقول الشيخ فلا يكترث، إذا كان يعلم ذلك، يقول عطاء: إني لأسمع الحديث من الرجل وأنا أعلم به منه، فأريه من نفسي أني لا أحسن منه شيئاً، وعنه قال: إن الشاب ليتحدث بحديث فأسمع له كأني لم أسمعه من قبل، ولقد سمعته قبل أن يولد. ونقل مثل هذا عن الشافعي رحمه الله تعالى، كان لا يظهر عليه أنه يعرف الأشياء، لذلك من الخطأ أن تجد بعض طلبة العلم في الحلقات يظهر أنه متشاغل وأن هذا كلام معاد ومكرر، فلا يصغي وينشغل ويظهر أنه يعلم الأشياء التي تقال، وبالتدبر قد يظهر للإنسان في الشيء المعاد أشياء لم تظهر له من قبل. كتاب الرسالة للشافعي، قال بعض العلماء: قرأتها قرابة خمسمائة مرة، ما قرأتها مرة إلا وظهر لي فيها أشياء جديدة، هناك ملاحظة: هذا الكلام أيها الإخوة في توقير العلماء وفي الأخذ عنهم كذا إلى آخر ما ذكرناه -وهذا في حدود الشرع- فلو أتى العالم بما يخالف الشرع أو لم يأتِ على كلامه بدليل، أو وجد من كلام العلماء الآخرين ما هو أقوى منه، يترك ويؤخذ بالكلام الأقوى والكلام الذي يوافق الدليل. كذلك هنا نقطة جديرة بالتنبيه أن بعض الناس قد يتكلمون على توقير العلماء والأخذ منهم وو إلى آخره، لكن مدار كلامهم إذا أردت أن تعرف نهاية الكلام ماذا يقصد هذا، تجد أنه يقصد أمراً عجيباً، يقصد التعصب للعلماء، أي: أن التوقير والاحترام للعالم أي التعصب له وعدم الخروج عن رأيه، ونبذ الدليل، وهذا كلام فارغ، واحترام العلماء فيما أتوا به إلينا من الكتاب والسنة، إذا خالفوا أو ببدع أو أتوا بأخطاء فنحن نتبع الحق، فمن كلام علي: [الرجال يعرفون بالحق، وليس الحق يعرف بالرجال] أي: الحجة للحق على الرجال وليس الحجة للرجال على الحق.

الموقف من زلات العلماء

الموقف من زلات العلماء قال الذهبي رحمه الله: إن الكبير من أئمة العلم إذا كثر صوابه وعلم تحريه للحق، واتسع علمه، وظهر ذكاؤه وعرف صلاحه وورعه واتباعه يغفر له زلله، ولا نضلله ونطرحه، وننسى محاسنه، ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك. قال سعيد بن المسيب: [ليس من شريف ولا عالم، ولا ذي فضل، إلا وفيه عيب، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه]. هناك حديث استشهد منه ابن حجر في الفتح استشهاداً جميلاً جداً في هذا الموضوع، تعليقاً على حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن أنس رضي الله عنه قال: (كان للنبي صلى الله عليه وسلم ناقة تسمى العضباء لا تسبق، فجاء أعرابي على قعود فسبقها، فشق ذلك على المسلمين حتى عرفه -أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم عرف هذه المشقة والحرج- فقال: حق على الله ألا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه) ما يرتفع شيء إلا وضعه، الكمال لله، فقال الصحابة في رواية أخرى: خلأت القصواء، قيل: القصواء هي العضباء، وقيل: ناقة أخرى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما خلأت القصواء وما ذلك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة) قال ابن حجر: وفي الحديث جواز الحكم على الشيء بما عرف من عادته وإن جاز أن يطرأ عليه غيره، فإذا وقع من شخص هفوة لا يعهد منه مثلها، لا ينسب إليها ويرد على من نسبه إليها. عالم صوابه كثير لكنه أخطأ مرة، نأتي ونشنع عليه بهذا الخطأ.

كلام الذهبي في الاعتذار للعلماء

كلام الذهبي في الاعتذار للعلماء قال الذهبي رحمه الله مستشهداً استشهاداً جميلاً بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم عندما كان الذهبي يتكلم على العلماء، قال: بعض العلماء صوابهم كثير وخطأهم قليل، ويعذرون فيما لا يعذر فيه غيرهم، ويتسامح معهم فيما لا يتسامح فيه مع غيرهم ممن كثر خطؤه وقل صوابه، فقال: ألم تر أن الماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث، فقال عن أحد العلماء لما ذكر خطأه، قال: وهذا الخطأ مغمور في بحر علمه وفضائله، وكان من كلامه الجميل جداً يقول في ترجمة ابن حزم -وأوصي كل طالب علم أن يقرأ ترجمة الذهبي في سير أعلام النبلاء لـ ابن حزم رحمه الله- قال الذهبي: ولقد وقعت له على تأليف يحث فيه على الاعتناء بالمنطق ويقدمه على العلوم فتألمت له، لأن علم المنطق علم مذموم، وابن حزم كان من أخطائه رحمه الله أنه اهتم بعلم المنطق، فتألمت له، فإنه رأس في علوم الإسلام متبحر في النقل، عديم النظير على يبس فيه وفرط ظاهرية في الفروع دون الأصول. كان عنده شيء من الظاهرية وبعض الأخطاء، لكن كيف أثنى عليه؟ ثم قال: فلا نغلو فيه ولا نجفو عنه، وقد أثنى عليه قبلنا الكبار، ثم قال: ولي أنا ميل إلى أبي محمد -أي ابن حزم - لمحبته في الحديث الصحيح ومعرفته به، وإن كنت لا أوافقه في كثير مما يكتب من الرجال والعلل، وأقطع بخطأه في غير ما مسألة، ولكن لا أكفره ولا أضلله، وأرجو له العفو والمسامحة وللمسلمين وأخضع لفرط ذكائه وسعة علمه. انظر الآن كيف تجد الذهبي رحمه الله تكلم عن ابن حزم على ما فيه من بعض الأخطاء، كيف أتى بهذا الأسلوب، هل تخرج أنت أيها السامع بالنفور من هذا الرجل؟ وتصد نفسك عن القراءة من أي شيء له؟ لا. بل تجد فيه محاسن، معرفته بالحديث الصحيح واتباعه له في كثير من الأحيان، وكان رأساً في علوم الإسلام إلى آخر هذا الكلام.

أدب الرد عند ابن القيم

أدب الرد عند ابن القيم وحتى ابن القيم رحمه الله -أفادني بهذه الفائدة أحد الإخوة جزاه الله خيراً- قال: لما جاء ابن القيم يرد على ابن حزم في مسألة السعي في الحج، مع العلم ابن حزم له رأي أن الذي يذهب ويعود هذا شوط واحد، ليس العودة شوط والذهاب شوط كما المعروف والصحيح، فيقول ابن القيم ويرحم الله ابن حزم فإنه لم يحج، ولو حج لتبين له خطأ هذا القول. فانظر كيف اعتذر له عن خطأه، لأن ابن حزم كان في الأندلس فما تيسر له أن يقدم إلى مكة ويحج. الخلاصة أيها الإخوة: موضوع العلماء هذا موضوع خطير، والتساهل فيه في الناس كبير، وحقوق العلماء في هذه الأيام ضائعة وللأسف! فيجب علينا القيام بحقوقهم، والقيام على شئونهم وخدمتهم وحسن التلقي عنهم. وفقنا الله وإياكم لعمل الطاعات، والأخذ عن العلماء المعتبرين، وأن يوفقنا للبحث عنهم والجلوس إليهم، وأن يكون علمنا من الكتاب والسنة وألا نرجع فيه إلى أهوائنا وإلى عقولنا القاصرة، نسأل الله حسن الخاتمة، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

الأسئلة

الأسئلة

شروط طلب العلم

شروط طلب العلم Q ما هي شروط طلب العلم؟ A هذا الموضوع يحتاج إلى محاضرة كاملة أو أكثر، وأظن الإجابة عليه الآن هي نوع من القصور وغير مناسبة، ولكن رأس العلم مخافة الله والإخلاص في القول والعمل، هذه هي الوصية الأساسية لكل طالب علم. الإخلاص: أن يكون التعلم لوجه الله، لا للدنيا، وكثير من طلبة العلم يفتقد هذا الأساس، لذلك سأقتصر على ذكر هذه الميزة فقط، وأبقي الموضوع إن شاء الله إلى فرصة أخرى في المستقبل، هناك شريط في الكلام عن صفات طالب العلم للشيخ ابن عثيمين، جزاه الله خيراً.

حكم صلاة الكسوف إذا لم يره الناس

حكم صلاة الكسوف إذا لم يره الناس Q بعض الإخوان سأل سؤالاً فقهياً عن صلاة الكسوف؟ A سبق البارحة نقاش مع الشيخ عبد العزيز بن باز حول هذا الموضوع، كان السؤال: لو ظهر غيم في السماء فحجب الشمس فما عدنا نرى الشمس ولا نعرف حالها، لكن علمنا من الجرائد ومن الأخبار أنه حدث كسوف اليوم فما هو العمل؟ فقال الشيخ: لا تصلوا حتى تروا الشمس، فإن لم تروها لا تصلوا، طبعاً حتى لو شوهد الكسوف في مكان آخر ما انطبق الحكم على الناس في هذا المكان؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما رأى الكسوف خرج فزعاً إلى الصلاة، فالكسوف يحدث في نفس المسلم فزعاً، فإذا لم نر الكسوف كيف نفزع أساساً إلى الصلاة؟ فلذلك كما هي فتوى الشيخ، كما حدث في أغلب المساجد والحمد لله الناس لم يصلوا لأنهم لم يروا، وهذا الذي كلفنا به.

حكم الخروج من الدرس بدون استئذان

حكم الخروج من الدرس بدون استئذان Q لو نبهت على قيام الناس والعالم يلقي الدرس، وقد أخبرنا القرآن أن الصحابة إذا كانوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم على أمر جامع لم يقم أحد حتى يستأذنوه؟ A تنبيه طيب جزاك الله خيراً، لكن أنا أحسن الظن بكل من قام أنه قام لحاجة - يتوضأ مثلاً، أو يريد أن يذهب إلى الخلاء لقضاء حاجة- أما ترك الحلق للهوى ففيه خطر عظيم، كما في الحديث أن رجلين حضرا عند الرسول صلى الله عليه وسلم، وذهب الثالث، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وأما الثالث فأعرض فأعرض الله عنه) لكن إذا كان الإنسان يريد أن يذهب في حاجة ضرورية، لماذا لا يذهب؟ يذهب إن شاء الله مغفوراً له.

رحلة حج محمد الأمين الشنقيطي

رحلة حج محمد الأمين الشنقيطي في هذا الدرس نبذة صغيرة عن حياة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، وكيف طلب العلم؛ مع ذكر بعض مشايخه، وكذلك رحلته إلى الحج وذكر ما لاقى فيها من الصعاب، ومن لقي فيها من الطلبة والعلماء، وبيان لمناقشات ومباحثات في سفره مع بعض العلماء والطلبة أثناء رحلته إلى الحج. وقد تحدث الشيخ حفظه الله عن دور الشيخ العلمي في السعودية وتدريسه للتفسير واللغة والأصول.

الشنقيطي وطلبه للعلم وبعض مشايخه

الشنقيطي وطلبه للعلم وبعض مشايخه الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فأما هذا العلامة فقد تقدم أن اسمه: محمد الأمين فاسمه مركب: الأمين اسمه ومحمد أضيفت، كما كان العامة يضيفون للبركة، محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر بن محمد بن أحمد نوح، من أولاد الطالب هوبك، وهذا من قبيلة جكن الأبرجد، وهي القبيلة الكبيرة المعروفة المشهورة بالجكنين، ويرجع نسبهم إلى حمير. وقد ولد رحمه الله تعالى سنة (1325) هـ عند ماء يسمى تنبة، من أعمال مديرية كيفا من القطر المسمى شنقيط في دولة موريتانيا المعروفة الآن، ونشأ رحمه الله يتيماً.

الشنقيطي يبدأ بحفظ القرآن

الشنقيطي يبدأ بحفظ القرآن قال: توفي والدي وأنا صغير، أقرأ في جزء عم، وترك لي ثروة من الحيوان والمال، وكانت سكناي في بيت أخوالي -وأمي بنت عم أبي- وحفظت القرآن على خالي عبد الله بن محمد المختار بن إبراهيم، حفظ القرآن وعمره عشر سنوات رحمه الله تعالى، وتعلم رسم المصحف العثماني عن ابن خاله وقرأ عليه التجويد، لقراءة نافع، برواية ورش وكذلك قالون، وأخذ عنه بذلك سنداً إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان عمره ست عشرة سنة، ودرس القرآن منهجاً متكاملاً، بما في ذلك رسمه ونوع كتابته، وضبط المتشابه في الرسم والتلاوة، وحفظ في ذلك السن بعض الأراجيز المتعلقة بهذا الفن والعلم، وكذلك درس مختصرات في فقه الإمام مالك رحمه الله كرجز الشيخ ابن عاشر، وأخذ مبادئ النحو الآجرومية، وتمرينات واسعة في أنساب العرب وأيامهم والسيرة النبوية، أخذها عن أمه، فكانت أمه إذاً عندها علم واضح بهذا، وهذا كثير عند الشناقطة الاهتمام باللغة العربية، وحفظ المنظومات في هذا، وكذلك في الأصول أخذ نظم الغزوات لـ أحمد البدوي الشنقيطي يزيد على خمسمائة بيت وشروحه لابن أخت المؤلف المعروف بـ حماد، ونظم عمود النسب للمؤلف وهو يُعد بالآلاف، ودرس أشياء في علوم القرآن والأدب والسير والتاريخ. هذا فقط في محيط الأقارب من أخواله وأبناء أخواله وزوجات أخواله، وكذلك درس بقية الفنون، مثل الفقه المالكي على الشيخ محمد بن صالح، قسم العبادات، ثم درس عليه النصف من ألفية ابن مالك رحمه الله، ودرس على عدد من العلماء الشناقطة الجكنين، كالشيخ محمد بن صالح المشهور بـ ابن أحمد الأفرم، والشيخ أحمد الأفرم بن محمد المختار والشيخ العلامة أحمد بن عمر وغيرهم. قال: وقد أخذنا عن هؤلاء المشايخ كل الفنون، النحو والصرف والأصول والبلاغة، وبعض التفسير والحديث، وأما المنطق وآداب البحث والمناظرة فقد حصلناه بالمطالعة، وكانت طريقة التدريس أن يأتي بعض المشايخ أو بعض العلماء في البوادي يحلون بها، ويتوافد عليهم الطلاب في خيام أو في مبانٍ بدائية تعد لهذا الغرض، وكان الشيخ يُعرف بالمرابط الذي يأتي ويدرس، ولا يأخذ مالاً بل إن كان لديه مال وزعه على الطلبة وأعطاهم، وكانت طريقتهم أنه لا يحق للطالب لديهم أن يجمع بين فنين في وقت واحد، بل يدرس فناً حتى يكمله، كالنحو مثلاً ثم يبدأ في البلاغة، وهكذا، ويبدأ في الفقه ثم بعد ذلك يثني بالأصول ونحو ذلك. يكتب الطالب في لوح خشبي قد لا يستطيع حفظه ثم يمحوه ثم يكتب قدراً آخر حتى يتم المقرر في الفن، مثل: الألفية في النحو يكتبها أبياتاً حتى يحفظها، ويمحو ويكتب الأبيات التي بعدها وهكذا، فإذا حفظ المتن تقدم للدراسة على الشيخ، يشرحه لهم، في مجالس شرحاً وافياً بقدر ما عنده من تحصيل، وليس العادة أن يفتح الشيخ كتباً عندهم، وبعد ذلك يراجعون ما أخذوه عن الشيخ ويستذكرونه ويناقشونه، ويقابلونه لكي يتأكدوا من ضبط ما أخذوه.

رحلة الشنقيطي في طلب العلم

رحلة الشنقيطي في طلب العلم وكان الشنقيطي -رحمه الله- في أول أمره وهو في سن الطفولة ميالاً للهو واللعب كغيره من الأطفال، قال: كنت أميل للهو واللعب أكثر من الدارسة حتى حفظت الحروف الهجائية، وبدءوا يقرءونني إياها بالحركات، بَ فتحة، بِ كسرة، بُ ضمة، وهكذا التاء والثاء، فقلت لهم: أو كل الحروف هكذا؟ إني أستطيع قراءتها كلها على هذه الطريقة، فتركوني فقرأتها، قال: ولما حفظت القرآن وأخذت الرسم العثماني وتفوقت فيه على الأقران، عنيت بي والدتي وأخوالي أشد العناية، وعزموا على توجهي للدراسة في بقية الفنون، فجهزتني والدتي بجملين، أحدهما عليه مركبي وكتبي والآخر عليه نفقتي وزادي، وصحبني خادم ومعه عدة بقرات وقد هيئت لي مركبي كأحسن ما يكون من مركب، وملابسي كأحسن ما تكون فرحاً بي، وترغيباً لي في طلب العلم إلى أن قال: هكذا سلكت سبيل الطلب والتحصيل. فإذاً الدرس العظيم الذي نأخذه من هذه القصة، أن تنشئة الأطفال على طلب العلم وإظهار الفرح بهم إذا حفظوا شيئاً أو نبغوا في شيء، وإعطائهم من الدنيا والأعطيات والهدايا والملابس الجميلة ونحو ذلك، وبيان قدرهم ورفعة شأنهم من الأشياء التي تحمس الولد على الطلب، وهكذا كانوا يعتنون به ولا شك أن مثل هذه الأم في هذه العناية تخرج مثل الشنقيطي رحمه الله تعالى. وبعد ذلك سار في هذا المركب، يطوف على أهل العلم في القرى التي حوله يحصل ويجلس إليهم، وقال: قدمت على بعض المشايخ لأدرس عليه ولم يكن يعرفني من قبل، فسأل عني من أكون في ملأ من تلامذته، فقلت مرتجلاً: هذا فتى من بني جكان قد نزلا به الصبا عن لسان العرب قد عدلا رمت به همة العلياء نحوكم إذ شام برق علوم نوره اشتعلا فجاء يرجو ركاماً من سحائبه تكسو لسان الفتى أزهاره حللا إذ ضاق ذرعاً بجهل النحو ثم أبى ألا يميز شكل العين من فعلا وقلنا: عين الفعل من أكثر المشكلات في دراسة اللغة العربية، وما هي التغيرات التي تطرأ على عين الفعل، وأنواع الأفعال بالنسبة لعين الفعل، قال: وقد أتى اليوم صَبّاً مولعاً كلفاً فالحمد لله لا أبغي له بدلا وهذا إشارة إلى قصيدة لامية الأفعال، المبدوءة بالحمد لله، وقصد بقوله شكل العين دارسة قصيدة لامية الأفعال على هذا الشيخ، ولما لُوحِظت نجابته أذن له مشايخه بأن يقرن بين كل فنين -مع أن العادة عندهم عندما يبدأ الطالب لا يجمع أكثر من فن واحد- تفرساً فيه، وحرصاً على سرعة تحصيله، فانصرف بهمة عالية.

الزواج في حياة الشنقيطي

الزواج في حياة الشنقيطي قال: ومما قلت في شأن طلب العلم وقد كنت في أخريات زمني في الاشتغال بطلب العلم، دائماً اشتغالي به عن التزويج؛ لأنه ربما عاقني عنه، وكان إذ ذاك بعض البنات ممن يصلح لمثلي يرغبن في زواجي ويطمعن فيه، فلما طال اشتغالي بطلب العلم عن ذلك المنوال أيست مني. كانت امرأة تريد أن تتزوج منه، لكنها يئست منه؛ لأنه كان في الطلب طويل الباع. فتزوجت ببعض الأغنياء وقال لي بعض الأصدقاء: إن لم تتزوج الآن، من تصلح لك؟ تزوجت عنك ذوات الحسب والجمال ولم تجد من يصلح لمثلك، يريد أن يصرفني عن طلب العلم، فقلت في ذلك هذه الأبيات: دعاني الناصحون إلى النكاح غداة تزوجت بيض الملاح فقالوا لي تزوج ذات دل خلوف اللخط حائلة والوشاح ضحوكاً عن مؤشرة رقاق تمج الراح بالماء القراح ثم قال: فقلت لهم دعوني إن قلبي من الغي الصراح اليوم صاح ولي شغل بأبكار عذارى كأن وجوهها غرر الصباح أراها في المهالك لابسات براقع من معانيها الصحاح أبيت مفكراً فيها فتضحى لفهم الفدم خافضة الجناح أبحت حريمها جبراً عليها وما كان الحريم بمستباح يقصد مسائل العلم، وأنه قد صار مغرماً بها وأنه اشتغل بها عن النساء، وكما قلنا بأن الشنقيطي رحمه الله لم يكن مُتعبداً بترك الزواج، ولم يكن راغباً عنه مخالفةً للسنة، وهو يعلم أن الزواج سنة المرسلين وتزوج وأنجب أولاداً بعد ذلك، ولكن حيثُ أنه لم يكن ممن يجب عليه الزواج، فإنه لم يُسارع إليه، وإلا لو كان يُخشى على الإنسان من الشهوة أو يخشى على نفسه الحرام ويخشى على نفسه العنت فإنه يجب عليه أن يتزوج حالاً، وذكر نص العلماء في كتب النكاح من كتبهم الفقهية، في أوائل كتاب النكاح في كتب الفقه تجد أحكام النكاح الخمسة، يذكرها بعضهم ومنها: الوجوب، وأنه إذا لم يكن له طريق لتحصين نفسه من الزنا إلا بالنكاح، فيجب عليه أن يتزوج. وإذا كان ذا شهوة ويصبر ويضبط نفسه، فيستحب له أن يتزوج، وكذلك المرأة، قالوا: إن كانت محتاجة إلى النفقة وإن كانت تواقة إلى الرجل، وإن كانت تخشى على نفسها من دخول واقتحام الفجرة عليها، فيجب عليها أن تتزوج. المرأة ماذا تفعل؟ تخلي بين الزوج المتقدم وبين النكاح، أي: لا تمتنع، فهي لا تستطيع أن تطوف وتقول: تزوجوني أيها الرجال، لكن ماذا تفعل؟ ما الحل بالنسبة للمرأة؟ إذا وجب عليها النكاح، ألا تمنع من يتقدم إليها، ولا تمتنع عمن يتقدم إليها إن كان ذا خلقٍ ودين. وبرز الشنقيطي رحمه الله بعلمه مبكراً، فصار يُدرس ويُستفتى ويستقضى ويطلب قضاؤه، ويُرحل إليه في هذا، وصارت أخبار نجابته شائعةً ذائعةً في القطر الموريتاني.

الشنقيطي وطريقته في القضاء

الشنقيطي وطريقته في القضاء اشتغل بالتدريس والفتيا عند خروجه من مسقط رأسه للحج، حيث وجد أرضاً متعطشة للعلم، ولذلك أفتى ودرس وحكم في طريق رحلته إلى الحج ماراً بقرية كيفا في موريتانيا، وتامشقط والعيون والنعمة وغيرها. وكان مروره في هذه القرى على بعير ثم باعه في قرية النعمة وركب السيارة، وقلنا: لعله أراد بذلك الاستعجال لإدراك موسم الحج قبل فواته، فالرحلة كانت تأخذ وقتاً طويلاً حتى يصل إلى مكة، وأكمل الطريق إلى قرية فاوى مروراً ببلد بنيامي عاصمة النيجر الفرنساوية في ذلك الوقت، وقرية الجنينة، وبلدة أندرمان في السودان، وسيأتي ذكر بعض فوائد هذه الرحلة العظيمة جداً في رحلة الشنقيطي رحمه الله في الحج، وهذا مؤلف مستقل رحلة الحج للشنقيطي رحمه الله. وطريقته في القضاء أنه إذا أتاه الطرفان استكتب رغبتهما في التقاضي أولاً حتى يذعنا للحكم، يستكتب المدعي دعواه ويكتب جواب المدعى عليه في أسفل كتابة الدعوى، ثم يكتب الحكم مع الدعوة والإجابة، ويقول لهما: اذهبا إلى من شئتم من المشايخ أو الحكام أي: القضاة، فلا تأتي هذه العريضة واحداً من المشايخ إلا أقرها وصدق عليها عندما يرى قضاء الشنقيطي وحكمه فيها رحمه الله. وكان يقضي في كل شيء إلا في الدماء والحدود، من ورعه رحمه الله، وقد كُونت لجنة بمسمى لجنة الدماء وطُلب من الشيخ الشنقيطي أن يكون فيها، فكان أحد أعضاء هذه اللجنة ولم يخرج من بلاده حتى علا قدره وعظم تقديره رحمه الله. ألف في صغره كتاباً أو نظماً في أنساب العرب قبل البلوغ، قال في أوله: سميته بخالص الجمان في ذكر أنساب بني عدنان قبل البلوغ، إن أولادنا الآن يلعبون بالأتاري، وبعد البلوغ يلعبون بالأتاري أيضاً، أما الشنقيطي فكان يؤلف نظماً في أنساب العرب، ولكنه بعد البلوغ دفنه، وقال: لأنه كان على نية التفوق على الأقران، لم يكتبه بنية خالصة، وقد لامه بعض المشايخ على دفنه، وقالوا: كان من الممكن تحويل النية وتحسينها، لكنه لم يفعل ذلك، وكتب رجزاً في فروع مذهب مالك، يختص بالعقود من البيوع والرهون يبلغ آلافاً متعددة، يقول فيها: الحمد لله الذي قد ندبا لأن نميز البيع عن نفس الربا ومنى بالمؤلفين كتبا تطرد أطواد الجهالة هبا تكشف عن عين الفؤاد الحجبا إذا حجاب دون علم ضربا أشار رحمه الله إلى هذا النظم في مصنفه في التفسير، وفي قوله تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا} [البقرة:276] وعلق ما نصه: وقد كنت حررت مذهب مالك في ذلك في الكلام على الربا في الأطعمة، في نظم لي طويل في فروع مالك، بقولي: وكل ما يُذاق من طعام ربا النسي فيه من الحرام مقتاتاً أو مدخراً أو لا اختلف ذاك الطعام جنسه أو ائتلف وكذلك كما قلنا: إن مسائل الأطعمة من المسائل التي اختلف العلماء في علة الربا فيها، الآن الذهب بالذهب مثلاً بمثل والفضة بالفضة مثلاً بمثل، إذا زاد أو لم يحدث تقابض فهو ربا، وكذلك التمر بالتمر، صاع بصاعين ربا، القمح بالقمح والشعير بالشعير والملح بالملح. بقية المطعومات وبقية الأشياء، والرز لم يذكر في الحديث، هل يقاس عليها أم لا؟ وهذه الأشياء كالزبيب والأشياء الأخرى التي لم تذكر مثل اللحوم، هل يجري فيها الربا أم لا؟ وغير ذلك من الثمار ونحوها ما هو الضابط، إذا بعت كيلوين بكيلو هل يصير ربا؟ ما هو الضابط؟ ما هي حدود الأشياء التي يجري فيها الربا؟ قيل الطعام. وقال بعضهم: العلة الوزن، إذا كانت الأطعمة توزن، أما إذا كانت معدودة كتفاحتين بتفاحة، مثلاً فلا بأس وهكذا. والآن صارت بعض الأشياء توزن، وبعض الأشياء كانت تباع بالعدد، البيض مثلاً أو التفاح تباع بالعدد، الآن يباع بالوزن، فهل الآن لما صار الناس يجرون على الوزن تغيرت المسألة الأولى؟ هذه مسألة عويصة فيها نقاش طويل، فقال في المنظومة: وكل ما يذاق من طعام ربا النسي فيه من الحرام مقتاتاً أو مدخراً أو لا اختلف ذاك الطعام جنسه أو ائتلف وإن لم يكن يطعم للدواء مجرداً فالمنع ذو انتفاء إلى آخر الكلام، فكانت هذه إشارة إلى هذه المسألة، المقصود أنه ألف نظماً في هذا، ثم ألف نظماً في الفرائض أولها تركة الميت بعد الخامس بخمسة محصورة عن سادس وحصرها في الخمس بالاستقراء وانبذ لحصر العقل بالعراء إلى آخر القصيدة، وكذلك فإنه رحمه الله تعالى قد ألف منظومات أخرى، ولما عزم على الحج ركب في رحلته المشهورة الزاخرة إلى الحج بأنواع المحاضرات والدروس، والمناظرات، والنكت الأدبية، والعلمية، والفوائد والشروحات التي حصلت وكتابة الفتاوى، وكتابة القضايا، رحمه الله تعالى.

الشنقيطي وخروجه لأداء حج بيت الله

الشنقيطي وخروجه لأداء حج بيت الله بدأ الرحلة في السابع من شهر جمادى الآخرة، وحط عصا الترحال في العشر الأوائل من ذي الحجة من نفس العام، وصل على الموسم رحمه الله، وكان الباعث على الخروج كما بين قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران:97] لا قول عمر بن أبي ربيعة: إن كنت حاولت دنياً أو أقمت لها ماذا أخذت بترك الحج من ثمن ثم قال: اعلم أنا خرجنا من عند أهلنا بجانب الوادي والبطاح والمياه والنخيل وودعنا كل قريب وخليل، والبين يولج في القلوب الداء الدخيل، فترى ورد الخدود يطله جمود الدموع، والأعين تنكر السنة والهجوع، ماء العيون في الجفن حائر حسبما قال الشاعر: ومما قد شجاني أنها يوم ودعت ولت وماء العين في الجفن حائر فلما أعادت من بعيد بنظرة إلي التفاتاً أسلمته المحاجر وخرج لسبع مضين من جمادى الآخرة في سنة (1367) هـ، يقول: وكان يوم خروجي لهذه القاعدة الكبيرة لسبع مضين لجمادى الآخرة، ومن سنة (1367) هـ أمننا الله مما نخشاه من الأمام والخلف.

وصول الشنقيطي إلى كيفا

وصول الشنقيطي إلى كيفا فخرجنا من بيتنا يصحبنا بعض تلامذتنا إلى قرية اسمها كيفا فوصلناها في مدة خفيفة، والجمال تسعى بنا في الأودية والرمال، وفي مدة إقامتنا في كيفا، سألتنا كريمة من بنات العم وهي أم الخيرات عن مسألتين فيما يحيك في النفس من عدم الفرق بين علم الجنس واسم الجنس، انظر هذه من النساء تسأل في مسألة لا نعرف معناها، فضلاً عن الراجح فيها، وما هي الأقوال فيها ونحو ذلك. فأجاب رحمه الله في أربع صفحات وعن السؤال الثاني في صفحة ونصف، قال: ثم ارتحلنا من كيفا عشية بعد أن توادعنا مع من يعز علينا، يُشيعنا فلان وفلان، فمررنا في الطريق بـ أم البوادي أم الخز، ونزلنا عند حي من قبيلة الأقيال اسمها حلة أهل الطالب جدة، فأحسنوا إلينا غاية الإحسان، ومن جملة من زارنا عالم ذلك الحي ومفتيه، الشيخ الأستاذ محمد فال بن أحمد نوح، فسألنا عن قول الأخضري في سلمه -في كلامه- على القياس الاستثنائي، وذكر البيت وجوابه عن القياس الاستثنائي، وبعد ذلك تابع المسيرة، قال: فصلنا عند قرية تامشقط عند صلاة المغرب، فزارنا جُل من فيها من الأكابر والعلماء، وعاملونا معاملة الكرماء، وذكر الذين نزلوا عنده صاحب البيت، وفلان وفلان، ودارت المذاكرة في البيت، والسؤال عن مسألتين فذكرهما، ومنهما تحقيق الفرق بين خطاب التكليف وخطاب الوضع، فأجاب عن ذلك في ثلاث صحائف، الأولى والثانية في صحيفة. ثم قال: ثم ذهبنا من قرية تامشقط قبيل غروب الشمس، ونحن على جمالنا في أخريات جمادى الآخرة، وشيعنا جّل من فيها من الأكابر وودعونا وقدم لنا وقت الوداع العالم الأديب الشيخ أحمد بن عبد الرحمن بن جدة بن خليفة القلاوي أبياتاً: مني إلى المعهود ذي الفتح الجلي درع الكماة إذا التقت في الجحفل

مباحثات علمية في قرية العيون وتمبدرة

مباحثات علمية في قرية العيون وتمبدرة وذكر قصيدة في مدحه، مشوا وارتحلوا إلى قرية العيون وإلى تمبدرة، وإلى تنبتقة، وهكذا وصلوا إلى ذلك المكان في شهر الله رجب الفرد، قال: في هذه المسألة فتذكرت كل ما مر بي من اسم. أحياناً يمر بأسماء بلدان، فيذكر أبياتاً شعرية ورد فيها هذا الاسم دليلاً على سعة حفظه للشواهد الشعرية والأبيات بشكل عجيب جداً، ربما لا يُعرف له مثيل في عصرنا، لما وصل قال: وصلناها في شهر الله رجب الفرد، تذكرت قول مسلم بن الوليد الأنصاري المعروف بصريع الغواني: ما مر بي رجب إلا نعمت به يا حبذا رجب لو دام لي رجب وحصل هناك مباحثات أيضاً لما نزلوا في ذلك المكان، وكانت من المسائل التي نوقشت النص الفلاني منسوخ بالإجماع، ما حكم قول هذا؟ ودخلوا في مسألة الإجماع، لا يجوز النسخ به شرعاً أم لا؟ وأجاب عن ذلك ودارت مناقشة في مسألة هل يجوز الجمع بين الأختين بملك اليمين؟ لا يجوز الجمع بين الأختين من الحرائر في الزواج من حرائر، أما ملك اليمين إذا اشتريت إماء، هل يجوز أن تشتري أمة وأختها، أم لا؟ هذه مسألة فيها خلاف بين أهل العلم، هل يشمل قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء:23] عموم يدخل في الإماء أو لا يدخل؟ أجاب عنها بسبع صفحات رحمه الله تعالى، وذكر مناقشات حصلت في فروع مذهب مالك رحمه الله. ومن المسائل: هل يجوز السلم في الكاغد المتعامل به في فلوس النحاس؟ لأن هناك عُملات ورقية وعُملات معدنية، فأجاب عن ذلك، فهناك من علمائنا الآن من يجيز ذلك عشر ورق بتسع معدن، ومنهم من يقول: لا يجوز؛ لأن الكل ريالات، ومادامت العملة واحدة، ولو كانت من عملات مختلفة، يجوز التفاوت، قد تشتري -مثلاً- دولاراً بأربعة ريالات بشرط التقابض، ريال بمائة ليرة بشرط التقابض، فتفاوت العدد إذاً هنا جائز مادام اختلفت العملات؛ لأن اختلاف العملات ينزل منزلة اختلاف الأجناس، لكن لو كان من عملة واحدة هنا ريال معدن بريال ورق فما هو الحكم؟ فبعض أهل العلم قال: إن هذا مثل استلاف الأجناس، وهذا ورق وهذا معدن، ومنهم من قال: لا. الريال واحد، الريال هو الريال، وهذه الأوراق في الحقيقة لا قيمة لها من جهة الورق في الكتابة عليه وما يُضمن به من قِبل الجهات التي تضمنه، فليس في الحقيقة للريال قيمة من جهة الورق ككونه ورقاً بخلاف المعدن، قد يكون له قيمة في نفسه، قد يكون المعدن ثميناً، مثلاً: بعض العملات ذهبية وبعضها فضية، إلى آخره، فالمقصود أنه حصل نقاش في هذه المسألة. وقال: ومما سألونا عنه مذهب أهل السنة في آيات الصفات وأحاديثها كقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54] وقوله عز وجل: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10] وقوله صلى الله عليه وسلم: (قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمان) ونحو ذلك، فأجابهم في أربع عشرة صفحة، والذي يستدعي الوقوف هنا، أن الشنقيطي رحمه الله كان سلفياً منذ أول أمره، في الأسماء والصفات. ولما سُئل عن هذه الأسئلة أجاب عنها بقول السلف، وهذا موجود مسطر في رحلته في الحج أجابه في أربع عشرة صفحة.

الشنقيطي يحفظ الشواهد الشعرية والطرائف

الشنقيطي يحفظ الشواهد الشعرية والطرائف المباحثات العلمية أحياناً تحتاج إلى شيء من الملح والطرائف والنوادر الشعرية للترويح حتى لا تمل النفس ونحو ذلك، وقد حصل في بعض المجالس سؤال عن أيام العرب وأشعارها وملح الأدباء ونوادرهم، وقلنا: إن دروس ابن عباس رضي الله عنه كان فيها درس في التفسير ودرس في الحديث ودرس في كذا، ومنها درس في الشعر، أو في كلام العرب، والشواهد الشعرية هذه مفيدة جداً في تقوية الملكة العربية، والفصاحة ثم معرفة معنى الكلمة، لأن الكلمة عندما توضع في بيت شعر تعطيك معناها حسب السياق تفهم المعنى. فربما تأتي الكلمة في القرآن أو في السنة، فيرجع العلماء إلى الشواهد الشعرية المذكورة فيها هذه الكلمات لمعرفة معناها عند العرب، فالشواهد الشعرية مهمة؛ ولذلك ترى كتاب ابن جرير الطبري رحمه الله مليئاً بالشواهد الشعرية، فالشواهد لها فوائد في معرفة معاني الكتاب والسنة. وكذلك ربما كانت تستعمل في الملح والأحماض، لطرد الملل من المجالس، قالوا: ومما وقع السؤال عنه في أثناء المذاكرة، ثناء أدباء الشعراء في قصار النساء، كقول الشاعر: من كان حرباً للنساء فإنني سلم لهن فإذا عثرن دعونني وإذا عثرت دعوتهن وإذا برزن لمحفل فقصارهن ملاحهن قال: معاني القصر جداً وصف مذموم كما يدل عليه قول كعب بن زهير. لا يشتكى قصر منها ولا طول أي: أن من محاسن المرأة أن تكون متوسطة لا مفرطة في الطول ولا في القصر، وكذلك ذكر رحمه الله طرفة، قال: إننا لما دخلنا -أي: ذكر عن بعض العامة، جهلهم- لما جاءوا على مدينة خرطوم في السودان، قال: قال لنا واحد بكلامه الدارج ومضمونه، أنه يغبطنا ويغار منا بسبب أننا نمر من أرض السودان التي فيها موضع شريف، قلنا له: وما ذاك الموضع الشريف -يقول: أنا لا أعرف أن في السودان موضعاً جاء فضله في الكتاب والسنة، مثل مكة والمدينة وبيت المقدس - فقال: الخرطوم، قلنا: وأي شرف للخرطوم؟ قال: مذكور في القرآن العظيم في قوله تعالى: {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} [القلم:16] فقلنا له: ذاك خرطوم آخر غير الخرطوم الذي تعنيه، فضحك من يفهم من الحاضرين. وحصل مناقشة في مجلس قال: واستدل بعضهم بدليل هو عليه لا له، وهذه من الأشياء التي يقع فيها حتى بعض الشباب من طلاب العلم ونحوهم فقال بعض الحاضرين وكان عندهم أدب -عندهم الأدب يعني: أنهم يحفظون الأشياء والطرائف- قال: هذا مثل مغني اللصوص، فضحك من له خبرة بقصة مغني اللصوص، وهي قصة مشهورة، ملخصها أن بعض الأمراء أسر لصوصاً كانوا يقطعون الطريق، فقدمهم للقتل واحداً بعد الآخر حتى لم يبقَ منهم إلا واحد، فقال: لا تقتلوني فأنا لست من اللصوص، وإنما كنت مغنياً لهم، أطربهم بالأناشيد والأغاني، فقالوا له: بم كنت تغني لهم؟ ماذا كنت تغني للصوص؟ فقال: أغنيهم بقول الشاعر: عن المرء لا تسل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي فإن كان ذا شر فجانب بسرعة وإن كان ذا خير فقارنه تهتدي فهذا مغني اللصوص الذي جاء بالأشعار يظنها أنها حجة له فإذا هي حجة عليه. وطلب منا قوم من أهل النعمة أن أفسر لهم سورة الواقعة، ففسرتها لهم ليلاً، وسأل بعض طلبة العلم عن الفعل المبني للمفعول، هل هو أصل أو فرع، فأجابه عن ذلك، ودخل في المناقشة في قضية تتعلق بهذه المسألة.

الشنقيطي في قرية النواري

الشنقيطي في قرية النواري وقال: بتنا في القرية الفلانية بـ النواري ولم نعرف أحداً من أهلها -يقول: البلد هذه النواري ما عرفنا فيها أحداً- فتذكرت قول الشاعر: إن للدهر إن تأملت صرخة يكسب المرء حكمة واعتبارا ها أنا اليوم بـ النواري مقيم أي عهد بيني وبين النواري ليست لي علاقة فيهم، ولا أعرف أحداً منهم، لكن اضطر الحال إلى أن نزلت في هذه البلد، وليس لي فيها معرفة. قال: وجاءت بنا السيارة، بلد بامكوف الليلة الثالثة آخر الليل فنزلنا عند تاجر منا طيب الشمائل والأخلاق اسمه أحمد بن الطالب الأمين، وهو من أخص إخواني وتلاميذي، فبالغ في إكرامنا وأهدى لنا ثياباً ودفع عنا أجرة السيارة إلى بلدة نبتا فابتدرنا السفر إلى هذه الجهة، وركب معنا أخونا المذكور في السيارة، وباتت بنا في تلك الليلة في قرية اسمها سكثو وباتت في الليلة الثانية في قرية اسمها صن، ومررننا في طريقنا على قرى صغيرة مساكنها العرش والأخواص، يزرعون الذرة واللوز، وليس على أبدانهم شيء من الثياب أصلاً، ونساؤهم حالقات الرءوس، عاريات جميع البدن، والواحد منهم ذكراً كان أو أنثى يجعل خرقة صغيرة جداً أو ورقة من أوراق الشجر على سوءة قبله، ولا يستتر بشيء غير ذلك، وهم سود الألوان، سمعت بالاستفاضة أنهم وثنيون يعبدون الشجر، وما نزلنا في شيء من قراهم، ولا كلمنا منهم أحداً مع أن السيارة تمر بنا من بين مزارعهم، وسمعت أنهم ربما أكلوا الناس، ويسمون باللسان الدارجي العرايا وهم تحت حكم فرنسا. ثم جاءت بنا السيارة بلدة مبتى وقت الظهر فنزلنا في دار فيها تجار منا فبالغوا في إكرامنا وبتنا معهم ليلتين، ثم ذهبنا إلى بلدة فاوى ودوينصة، ودخلنا فاوى وقت الضحى، فنزلت عند رجل تاجر من أبناء العلم اسمه الزاوي، وهو رجل طيب الأخلاق والشمائل فأحسن إلينا غاية الإحسان، واجتمع علينا التجار من قبيلتنا الجكنين، كانوا في أرض فاوى فمكثنا معهم أسبوعاً في غاية الإكرام والتبجيل. وزارنا كثير من أهل فاوى، وسألونا عن مسائل منها: امرأة غاب زوجها، فسمعت في غيبته أنه مات، فظنت صدق الخبر فاعتدت وتزوجت، فحملت من الزوج الثاني ثم انكشف الغيب عن حياة الزوج الأول وعدم فراقه لزوجته، ما الحكم في ذلك في مذهب مالك رحمه الله؟ فأجبناهم بفتوى كتبناها لهم محررة بنصوص فروع مذهب مالك، وذكر صاحبها في صفحة ونصف تقريباً. يعني هل تبين حكم الزواج بالثاني أنه باطل، لماذا؟ لأنها ما زالت في عصمة الأول؛ لأن الأول ما طلق ولا مات لتعتد عدة صحيحة، فإذاً الزواج الثاني باطل. فهل ترجع إلى الأول؟ كيف ترجع إلى الأول وفي بطنها حمل؟ إذاً لا بد أن تنتظر حتى تضع حملها فإذا وضعت حملها وصار الرحم نظيفاً وبعد ذلك يُقال للأول: هل تريدها أم لا؟ فإذا قال: أريدها، رجعت إليه، وإن قال: لا أريدها، نقول: طلقها، فيطلقها فتعتد فيتزوجها الثاني زواجاً صحيحاً. المهم هذه المسألة وفيها مناقشات وأبحاث للفقهاء، على أية حال أجابهم رحمه الله عن ذلك.

الشنقيطي يلقى الترحيب والإكرام في أكثر القرى التي مر بها

الشنقيطي يلقى الترحيب والإكرام في أكثر القرى التي مر بها قال: ولما قدمنا إلى بلدة أنيامي في الضحى بعد الليلة الثانية، نزلنا عند تاجر اسمه الكيدي تورى، وهو رجل كريم السجايا والطبائع، فيه نفع للمار به من عامة المسلمين -جزاه الله عنهم خيراً- ففرح بقدومنا وأكرمنا غاية الإكرام، ورغب جداً في أن نقيم عنده شهر رمضان وقد استهل ونحن عنده، ووعدنا بأن يحملنا من كيسه في طائرة إلى جدة إن أقمنا معه مدة، فقلنا له: لا بد لنا من أن نجد في السير في الوقت الحاضر فأهدى لنا وودعنا. فقد يقول قائل: ولماذا لم يسافروا بالطائرة إلى جدة؟ يقال: إن في سفره فوائد، فهو يريد أن يفيد الناس، وإذا ذهب إلى جدة بالطائرة فاتت كل الفوائد على الناس، وكذلك ربما يريد رحمه الله أن يدفع من جيبه أجرة الحج لأنه لا شك أنه كلما بذل الإنسان في حجه من جيبه كان أفضل، فالذي يحج على نفقته، أفضل من الذي يحج على نفقة غيره، مع أن الحج على نفقة الغير صحيح ولو كان فرضاً. في مدة إقامتنا عند الحاج الكيدي تورى جاءنا رجل من أهل العلم من قبيلة تسمى الطلابا اسمه محمد بن إبراهيم وطلب منا أن نبين له معاني سلم الأخضري في فن المنطق بدرس شاف فأجبته، وكان يكتب ما أملي عليه من إيضاح معانيه، ليلاًً ونهاراً خوفاً من معاجلة السفر قبل إتمامه يقول: قبل أن يذهب الشيخ، نكتب ما عنده من العلم ليلاً ونهاراً، يكتب، الطالب قد يتحمل لكن الشيخ جاء من سفر، وفي سفر ومع ذلك بذل نفسه رحمه الله في الإملاء والتعليم، فجاء الإملاء شرحاً وافياً وعن غيره كافياً، الحمد لله رب العالمين. ثم سألنا عن تعين الناسخ لآية الوصية للوالدين والأقربين ما الذي نسخها؟ فقلت له: كان هذا مشكلاً عليّ في زمن درسي فن أصول الفقه إشكالاً قوياً -فما الذي نسخ الآية؟ هل هي آية المواريث أم آية من القرآن أخرى، أم الذي نسخها من السنة، وهو حديث: (لا وصية لوارث) وإذا كان هذا فهل السنة تنسخ القرآن؟ وفي ذلك بحث طويل- فالشاهد أنه أجابه وبين له وجه الإشكال في خمس صفحات ورد عليه. قال: ثم بعد ذلك قدمنا إلى بلدة مرادي وفي العشر الأوائل من رمضان أكرمت فيها ونزلت عند أحد أبناء عمي وفي ضيافته خمسة أيام، وقدّمنا فلوساً كانت عندنا إلى فورنلي بطريق الحوالة -يحتاجون إلى إرسال نقود إلى قرية سيأتون عليها، أو بلد سيأتون عليها فأرسلوا لها حوالة -ثم سافرنا من القرية التي تسمى مرادي، إلى بلد اسمها كانو، فلما مشينا قليلاً مررنا على مركز فرنساوي، هو الحدود بين النيجر الفرنسي ونيجيريا الإنجليزية وهذه تحت الاستعمار الفرنسي، وهذه تحت الاستعمار الإنجليزي، فنظر رئيس المركز في جوازات السفر وأمضاها، وبتنا تلك الليلة في بلد اسمها كتنة، ثم من الغد نزلنا وكان آخر النهار فنزلنا عند شريف ظريف، اسمه محمد الأمين الشريف، فأحسن إلينا غاية الإحسان، وبتنا عنده ليلة وبادرنا السفر من صبيحتها متجهين إلى قرية تسمى جص.

الشنقيطي وبعض الصعوبات التي واجهته أثناء الرحلة

الشنقيطي وبعض الصعوبات التي واجهته أثناء الرحلة ركبنا في قطار الحديد إلى قرية تسمى جص فبتنا دونها ليلة، وجئناها من الغد فوجدناها كما قال الشاعر: ولكن الفتى العربي فيها غريب الوجه واليد واللسان غريب الوجه: أي: ما ترى فيها عربي، واليد واللسان، ولا لسان عربي، فلم يفهموا كلامنا، ولم نفهم كلامهم، وبتنا فيها ليلة واحدة، ثم وجدنا واحداً يفهم من العربية قليلاً، فحصل بيننا مفاهمة مع صاحب سيارة ذاهبة إلى بلدة مادثري، فدفعنا لصاحبها أجرتها وركبنا فيها، فلما سارت بنا تسعة وستين ميلاً وقع فيها خلل مانع من الحركة، فمكثنا يومين وليلة في محل واحد موحش، كثير البعوض والندى -الرطوبة- في خلاء من الأرض ثم أصلح فسادها حتى لم يبق بيننا وبين البلدة التي يقصدونها إلا مائة ميل وسبعة عاودها الفساد، فمرت بنا سيارة ذاهبة إلى تلك البلدة، فدفعنا الأجرة لصاحبها وركبنا فيها، فأدخلتنا البلدة في تلك الليلة، فنزلنا على تاجر اسمه عبد المحمود، فأصلح لي خللاً كان في جواز رفيقي عند الحكومة، فشكرت له، وتذكرت قول الشاعر: وإذا امرؤ أسدى إليك صنيعةً من جاهه فكأنها من ماله ومكثنا في هذه البلدة ليلتين، ثم سافرنا إلى فورنلي، فركبنا بالأجرة في سيارة مشت بنا خمسة أميال ففسدت فساداً مانعاً من الحركة، فبتنا في ذلك المكان، وأرسل الله مطراً كأفواه القرب، فلما كان آخر النهار فعل لها سائقها شبه الإصلاح، وسرنا فيها آخر النهار سيراً ضعيفاً للخلل الواقع بها، فلما سارت بنا ستة أميال راجعها الفساد بأشد من الحالة الأولى فبتنا في ذلك المكان تلك الليلة، ولما ارتفع النهار مرت بنا سيارة، فدفعنا الأجرة إلى صاحبها وركبنا فيها، فسارت بنا بقية اليوم، فلما كان آخر النهار حبسها المطر، في قرية اسمها كنبار، فلما كان من الغد وجاءت بنا آخر النهار إلى بلد اسمها كسرى، فأتعبنا أهل مركزه بتفتيش المتاع، وأخذوا منا جوازات السفر وباتت عندهم. أي: هذا يؤخذ منه، كيف الذي كان يحج البيت العتيق، يعاني من المشاق الشديدة في السفر، والآن ينبغي أن نحمد الله سبحانه وتعالى على الوسائل التي هيأها للسفر، فكيف كانوا يعانون لأجل الذهاب إلى البيت العتيق، وتعترضهم هذه الاعتراضات. وذكر قصة أن بعضهم قد أصر على أن يدفع أجرة السيارة عنهم، وأنه دعا له بالخير حيث قال: جزاه الله خيراً، ومعروف حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أن من قال لأخيه جزاك الله خيراً فقد أجزل له في العطاء) أي: إذا صنع لك معروفاً ولم تستطع أن تسدي له مثله، فلتدعو لصاحبه، فبأي شيء تدعو له؟ من السنة أن تدعو له بأن يجزيه الله خيراً، فتقول: جزاك الله خيراً. قال بعد ذلك: جميع السيارات التي نحن فيها والتي ترافقنا مشحونة من السوادين الذين لا يفهمون كلامنا ولا نفهم كلامهم، وأكثرهم كالبهائم -أي: لا دين ولا عقل- فذكرتني مرافقتنا معهم أبيات -تصور أن واحداً يرافق أناساً لا دين لهم ولا عقل، كالبهائم- لـ محمد بن السالم الشنقيطي: إذ يطرحوني أرضاً لا يؤانسني إلا لص هريت الشدق نباح فكم تكنفني في ظل مدرسة شم الأنوف لهم كتب وألواح وكم يغازل جماء العظام على أنيابها العنبر الهندي والراح وفي تلك الأيام أغلق الفرنسيون الطريق المعهودة إلى قرية آتيفا، فهاشت بنا السيارة إلى بحر الغزال، فبتنا دونها ليلة وجاء من الغد ورحنا آخر النهار متوجهين إلى قرية آتين في طريق غير معبد، فهو إلى بنيات الطريق أقرب منه إلى الطريق كلما خرجنا من ورطة حبستها أخرى، والأرض هناك رمال لينة جداً، بتنا الليل كله نمشي على أقدامنا، لكن قليلاً قليلاً لكثرة عوائق السيارات من الرمل اللين، فدخلنا وادياً فيه زراعات ومياه، وفيه الفلفل الأحمر بكثرة لا ندري ما اسمه، وقلنا فيه -من القيلولة- ثم رحنا منه آخر النهار. ثم جئنا بعد ذلك إلى القرية فالتمسنا عربياً نبيت عنده، فدعاني رجل عربي -هذه قصة جيدة- والله ما سألته عن اسمه ولا اسم أبيه خوفاً من الغيبة -الآن دخلوا بلداً فأبوا أن يضيفوهم، حتى جاء رجل عربي رضي أن يضيفهم، لكن لما رأى الشنقيطي رحمه الله مستوى الضيافة، أو ما عند الرجل أو ماذا سيقدم لهم، ما سأله عن اسمه ولا اسم أبيه، خشية الغيبة، خشية أن يذكره بعد ذلك بشر وهو يعرف اسمه- قال: والله ما سألت عن اسمه واسم أبيه خوفاً من الغيبة، فأنزلنا في مكان يعوي منه الكلب، وأغلقه علينا من الخارج، فبتنا بليلة لا أعاد الله علينا مثلها، أشد من ليلة النابغية وأشد من ليلة المهلهلية، فذكرتني ليلة النابغة: كليني لهم يا أميمة ناصب وليل أقاسيه بطيء الكواكب ليلة مرت علينا طويلة جداً من المشقة في ذلك المكان، واستعار أيضاً من المهلهل يصف ليلة طويلة: كأن كواكب الجوزاء عود معطفة على ربع كسير كأن الجدي أثناه ربق أسير أو بمنزلة الأسير هذا الجدي والجوزاء نجوم في السماء، لها منازل إذا مرت الليلة تمر النجوم، يقول: كأن الجدي هذا مربوط كأنه أسير. كواكبها زواحف لاغبات كأن سماءها بيدي مجير ثم بعد ذلك مضت تلك الليلة، وصُبح تلك الليلة أحب غائب إلينا، فخرجنا من ذلك الضيق أول النهار.

الشنقيطي يناقش مسألة الزواج بنية الطلاق

الشنقيطي يناقش مسألة الزواج بنية الطلاق ونزلوا على الحاج مكي في محطة فقابلهم بالبشر والترحاب، وأكرمهم فدعا له، قال: جزاه الله خيراً، ثم بعد ذلك جاءوا إلى بعض المراكز -يقتربون الآن من مراكز حدودية وتفتيش- قال: ومما سأله عنه أهل قرية الجنينة، تولية المسلم على المسلم إذا كانت صادرة من غير مسلم متغلب، هل هي منعقدة أم لا؟ -متغلب من هو مثلاً: فرنسي أو إنجليزي، إذا ولى مسلماً على مسلم ولاية، هل تنعقد الولاية؟ هل هي شرعاً صحيحة؟ - ومما سألونا عنه صلاة الجمعة في مسجد جديد بناه رجل من أهل البلد في جانب من جوانب البلد، هل يجوز لمن أراد صلاة الجمعة فيه أن يصليها فيه، أو يرسلهم يصلوا في الجامع الكبير الذي هو مسجد الجمعة العتيق؟ ومما سئلنا عنه: الغريب في بلد يريد التزوج فيه ونيته أنه إن أراد العودة لوطنه ترك الزوجة طالقاً في محلها، فهل تزوجه مع نية الفراق بعد مدة، يجعل نكاحه نكاح متعة، فيكون باطلاً أم لا؟ فالمسألة باختصار هل يجوز الزواج بنية الطلاق؟ بدون أن يشرط عليهم ذلك ولا يخبرهم ولا يكلمهم ولا يتفق معهم في العقد ولا شيء، شخص تزوج امرأة بنية أن يطلقها بعد مدة؟ قول جمهور العلماء الجواز، وأنها فرق بين هذا وبين نكاح المتعة، نكاح المتعة نكاح على أجل معلوم بين الزوجين يُذكر في العقد، وبانتهاء المدة ينتهي العقد، أما هذا نية حديثة في النفس غير مخبر عنها ولا متفق عليها ولا هي في العقد، ثم كما يقول الشيخ عبد العزيز في تبين رجحان الجواز، قال: قد يأتيه منها أولاد وقد يرغب فيها، وقد يمسكها ولا يطلقها، وأن الفراق ظني، فقول جمهور العلماء في هذه المسألة: الجواز. قال: ونزلنا الأبيض بعد ذلك، فنزلنا عند رجل اسمه محمد خير مكثنا في قرية الأبيض ليلتين وصاحبنا الذي نحن في ضيافته، يُرسل لنا في يومينا قبل المغرب قطعة من عصيدة الدخن عليها بعض الإدام، فمرة تركناها وأكلنا من زادنا، ومرة تناولناها، فتذكرت قول الشاعر: الجوع يطرد بالرغيف اليابس فعلام تكثر حسرتي ووساوسي والموت سوى حين عدّل قسمه بين الخليفة والفقير البائس يقول: الجوع مطرود بالرغيف اليابس فلماذا أتحسر على طعام لا أشتهيه، أو على طعام ليس بجيد، الجوع يطرد بالرغيف اليابس.

الشنقيطي في معهد أم درمان

الشنقيطي في معهد أم درمان ثم ذكر بعد ذلك في الطريق أن بعض الأساتذة المدرسين في معهد أم درمان، وأثنى على أم درمان، وعلى معهد أم درمان، وعلى الطلاب الذين في هذا المعهد الديني، وقال: إنه سأله بعض الأساتذة أن يتكلم له على قوله جل وعلا: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً} [الرعد:31] ذكر الجواب في ثلاث صفحات. ثم سألونا عن وجه الجمع بين قوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} [الإسراء:16] وبينا قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} [الأعراف:28] وذكر في تفسيره أضواء البيان كلاماً رائعاً حول هذا، والقراءات في (آمرنا وأمّرنا، أمرنا) أن أمر أو أمِر في اللغة تأتي بمعنى الكثير أي: كثرناهم، ويستشهد بقول أبي سفيان: أمِر أمر ابن أبي كبشة أي: عظم وانتشر. ثم سألني بعض أذكياء الطلبة عن قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج:52] في معهد أم درمان سألوه عن تفسيرها، وعن قصة الغرانيق، فأجابهم في تسع صفحات. ثم سألوه عن تحقيق بيتين في ألفية ابن مالك، فأجابهم عن ذلك، وسألوه عن مسائل أخرى لغوية ونحوية، ذكرها رحمه الله في كتابه الذي هو رحلة الحج، ثم سألنا بعض الطلبة: هل عثرنا على نص من كتاب أو سنة يُفهم منه وجود دولة لليهود في آخر الزمن؟ فأجاب رحمه الله ما ملخصه: إن ذلك قد جاء بالإشارة أن بعض النصوص فيها إشارة إلى هذا، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (تقاتلون اليهود) وأن المقاتلة على وزن مفاعلة، والمفاعلة لا بد أن تكون بين طرفين، هم طرف وأنتم طرف، وإذا كان هذا معنى ذلك أنه لا بد أن يكون هناك جيشان، وإذا كان هناك جيش فلا بد أن يكون هناك اجتماع ونظام وأمير لكل من الطرفين. فمعنى ذلك، قال: وفي هذا إشارة إلى أنه يكون لليهود دولة وقوة حتى يقاتلوا، هذا كله أخذه من أين؟ كل الكلام هذا من قوله صلى الله عليه وسلم: (تقاتلون اليهود) وذكر أن فيها إشارة فعلاً إلى ذلك وأنه لا يصلح أن يقاتلونا وهم كما قال الله تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً} [الأعراف:168] أنهم مقطعين مشردين فلا بد أن يجتمعوا وتكون لهم قوة ويعملون جيشاً ثم يقاتلون، ولكن ستكون الغلبة في النهاية للمسلمين عليهم. وسأله بعض الطلاب عن الحديث الثابت في قتال الترك: (كأن وجوههم المجان المطرّقة) فما معنى هذا؟ ومن أين أخذ؟ وقال: لم تزل المذاكرة بينا وبين علماء معهد أم درمان الديني حتى جاء حديث الضيافة والإحسان إلى الضيف في قوله صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه) ذكروا أن الشعراء ربما هجوا على عدم القِرة -أي: عندما يأتي ضيف فلا يجد أحداً يُضيفه- وذكرت لهم نبذاً من هجاء الشعراء -انظر العالم وميزة العالم، أن كل شيء يأتي تجد أن له فيه إسهاماً، من شعر أو قول فكانت هذه الملح في هذا- قال: وأنهم ربما هجوا على قلة المقدم إليهم، كما قال بعض الأدباء: أبو جعفر رجل عالم بما يصلح المعدة الفاسدة تخوف من تخمة أضيافه فعودهم أكلة واحدة فهذا من بخله، لكن الشاعر، يتندر عليه فيقول: هذا حريص على صحتنا، وعلى عدم تلبك معدتنا. ولما ذكرت لهم بهذه المناسبة بيتي الأديب أحمد بن عبد الله البوحسني الشنقيطي المعروف بالذئب، وقد استضاف أقواماً فلم يضيفوه، رفضوا أن يضيفوه: مات الغداء لدينا أهل ذا الأفق والخطب سهل إذا كان العشاء بقي ولست أحسبه يبقى وقد زعمت عوّاده أنه في آخر الرمق أي: أنهم سيأكلوا الآن العشاء والضيف يبقى بلا شيء، فضحكوا. ثم سألني صديق كبير ذو الشمائل الطيبة، أحد أساتذة المعهد المذكور الشيخ إبراهيم يعقوب فقال: أأنت شاعر أم لا؟ فقلت: أما بالجبلة والطبيعة فنعم، الشعر يجري في نفسي، وأما من حيث التوصل بالشعر إلى الأغراض والأكل به من الملوك والأمراء فلا، فألح عليّ أن أسمعه شيئاً كنت قلته من الشعر فيما مضى، فأخبرته أن عهدي ينسج القريض أيام الصبا، وأكثر ما جرى على لساني في عنفوان الشباب، وأني لما عزمت على ألا أقول شعراً قلت أبياتاً في ذلك مقتضاها أن مقاصد الشعراء ليست لي بمقاصد. المهم أنهم أصروا عليه فأسمعهم بعض الأبيات التي سبق أن نظمها، وسألوه عن آيات أيضاً من القرآن الكريم، ثم قال: لما عزمنا على السفر من أم درمان اجتمع بنا الأخ الفاضل محمد صالح الشنقيطي رئيس لجنة في السودان فأحسن إلينا وأكرمنا غاية الإكرام وجمع بيننا وبين السيد عبد الرحمن فعزيناه في ولد ولده كان متوفى عند ملاقاتنا، ففرح بلقائنا وأظهر لنا البشر والإكرام، وأهدى لنا هدية سنية، وشيعنا بسيارته الخاصة، وأخذ لنا ولجميع من معنا تذاكر السفر في القطار الحديدي؛ كي نسافر.

الشنقيطي في أرض الحجاز

الشنقيطي في أرض الحجاز سافرنا في العشر الأواخر من ذي القعدة من سنة (1367) هـ متوجهين إلى سواكن، فبتنا دونها، وجئناها من الغد فنزلنا في خيم مبنية للحجاج، وأخذنا جوازات السفر إلى الحجاز، وما توصلنا إلى أخذها حتى تعبنا من الزحام في المركز لكثرة الحجاج المزدحمين لأخذ الجوازات، وكان بواب المركز يُدخل قبلنا كثيراً من أخلاط الناس من أسود وأحمر ونحن جئنا قبلهم، فذكرني ذلك قول عصام بن عبيد الزماني: أدخلت قبلي قوماً لم يكن لهم في الحق أن يدخلوا الأبواب قدّامي أي: هذه شغلة الواسطات، دخل ناس قبلنا ونحن واقفون، ثم بعد أن تحصلنا على أخذ الجوازات وبعد أن سلمنا الرسوم المقررة مكثنا في محل النظر في صحة الحجاج ثلاثة أيام، ثم ركبنا في السفينة متوجهين إلى جدة، فمكثت السفينة بنا يوماً وليلة في البحر، ثم نزلنا من الغد في جدة في بيت لآل جمجوم عمومي لنزول أهل قطرنا -أي: هذا البيت مخصص للشناقطة ينزلون فيه- فمكثنا ليلتين في جدة، ولم نجتمع بأحد من أهلنا، لكن اجتمعنا برجل سوداني موظف في بعض الشركات اسمه أحمد بكري، فأحسن إلينا وحملنا إلى مكة المكرمة بواسطة رجل طيب من موظفي إدارة الحج، فركبنا من جدة بعد صلاة المغرب، محرمين ملبين تلبية النبي صلى الله عليه وسلم: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، وكان إحرامنا بالحج مفرداً. الشنقيطي رحمه الله في كتابه أضواء البيان في سورة الحج، تكلم على أنواع النُسك، ونصر القول بالإفراد نصراً عظيماً وأتى له بالأدلة وحشدها حشداً يكاد القارئ له أن تزول قناعته باستحباب التمتع، ولكن مذهب جمهور أهل العلم كما هو معروف أن التمتع هو الأفضل لكن من أراد أن يَنظر في تقرير استحباب الإفراد فعليه بما كتبه الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان. وبعد ذلك نزل رحمه الله في منى بجانب بعض الخيام، وسأله بعضهم عن مسائل متعلقة باللغة والشعر، وحصلت مباحثات أيضاً فقهية وغيرها، قال: ثم سافرنا من مكة المكرمة بعد أن اعتمرنا من التنعيم وطفنا وقت السفر طواف الوداع، ودعونا الله ألا يجعل ذلك آخر عهدنا ببيته الحرام، فبتنا ليلة في جدة، وتوجهنا إلى المدينة وركبنا في سيارة ومالكها معنا وهو يحفظ القرآن العظيم وعرض علينا في الطريق أجزاء عديدة من القرآن، أي: حفظاً، هذه قراءة العرض، ولا بأس بقراءته وحفظه، ووقفت بنا السيارة بعد المغرب في محطة اسمها ذُهْبَان، ثم مرت بنا على محطة اسمها: توَل هذه يسمونها الآن البادية، تول بإسكان التاء وغيرهم والحاضر يقولون تُول، ووقفت فيها قليلاً ثم سارت بنا إلى البلدة المعروفة رابغ وذكر قول الشاعر هنا: فلما أجزنا الميل من بطن رابغ بدت نارها قمراء للمتنور ولما أضاء الفجر عنّا بدت لنا ذرى النخل والقصر الذي دون عزور فإذاً هذا موضع آخر عزور هذا في الطريق، وكان كلما جاء إلى مكان، هو يراه لأول مرة، ولكن اسم المكان معروف عنده من شواهد العرب من قبل، فكل ما جاء على بلد وعلى مكان يتذكر ما قيل من الشعر في هذا المكان، قال: ووجدنا غالب الطعام الموجود فيها لحم السمك، وقال: ثم ذهبنا في تلك الليلة من رابغ بعد ظرف قليل من الزمن، صعدت بنا السيارة جبلاً عُبدت فيه الطريق للسيارات فقال لنا صاحب السيارة: هذا الجبل اسمه هرشى، فتذكرت قول الشاعر: خذا بطن هرشى أو قفاها فإنه كلا جانبي هرشى لهن طريق وأخبرته أنه يُروى، وهذا السفر طبعاً يقطع بمنح وبأشياء وملح وطرائف، فأخبرتهم أنه يروى عن بدوي من الأعراب أنه قرأ سورة إذا زلزلت، وقرأ فيها فمن يعمل مثقال ذرة شراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، فقالوا له: قدمت المؤخر وأخرت المقدم، أي: الآية، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه} [الزلزلة:7] الخير أولاً ثم الشر، فقال لهم: خذا بطن هرشى أو قفاها فإنه كلا جانبي هرشى لهن طريق قال هذا من جهله وجفائه. ثم عرّجنا آخر الليل بين جبال كثيرة وأخذنا هجعة لنستريح، فما استيقظنا حتى اتضح الصبح فتوضأنا، وصلينا الرغيبة وفرض الفجر وركبنا في محطات متعددة، وذكر بعض هذه المحطات إلى أن وصل أبيار علي، حصل للسيارة عائق إلى صلاة العشاء خلصت منه وتقدمت إلى المدينة، وصلوا المسجد النبوي وقد أغلقت أبوابه وانصرف الناس عنه كالعادة، فلم يُقدر لهم صلاة في تلك الليلة في المسجد النبوي. ثم نزلوا عند الشيخ محمد بن عبد الله بن آد، فتلقانا بالبشر والسرور ولم نُدرك ذلك اليوم صلاة الصبح مع الجماعة، لأننا لم نستيقظ من شدة تعب السفر حتى ضاق الوقت، فصلينا الرغيبة وفرض الصبح في محلنا لضيق الوقت، ولما ارتفعت الشمس وحل النفل -وصارت صلاة النفل جائزة- ذهبنا الحرم المدني.

الشنقيطي يقيم نشاطا دعويا وعلميا في السعودية

الشنقيطي يقيم نشاطاً دعوياً وعلمياً في السعودية هذه رحلة الشيخ رحمه الله باختصار، والذي يقرأ الكتاب سيجد فيه الفوائد الكثيرة والعظيمة جداً، وحصل في خِلال إقامة الشيخ أشياء، ومن أهم الأشياء التي حصلت من أن الشيخ كان قد سمع دعايات عن الوهابية في بلده، فقد جاء إلى البلد هنا وعنده فكرة أنه سيواجه الآن أناساً من المنحرفين ومن المتعصبين -الوهابية فيهم وفيهم- مع أن الشيخ عقيدته صحيحة، لكن ليست عنده فكرة صحيحة عن الوهابية الذين أطلقت عنهم الدعايات في مواسم الحج وغيره من الضلال وعمموا بها على العالم الإسلامي، ومن ذلك بلد الشيخ. فتعامل بعض أهل علماء البلد معه بحكمة، وقُدم للشيخ كتاب المغني في أصل المذهب، وبعض كتب شيخ الإسلام، كمنهج العقيدة، فقرأها وتعددت اللقاءات مع علماء البلد، فوجد مذهباً معلوماً من مذاهب أهل السنة ومنهجاً سليماً في العقيدة، وقيل له: هذا الذي يُدَّرس، وهذا الذي عليه أهل العلم، فعند ذلك انكشفت القضية للشيخ، وعرف حقيقة الأمر واتضحت له القضية، وزيف الدعايات الباطلة وظهر معدن الحقيقة الصحيحة، وتوطدت العلاقات بينه وبين علماء هذه البلاد، وأعرب عن رغبته بالتفسير.

تدريس الشنقيطي للتفسير واللغة

تدريس الشنقيطي للتفسير واللغة فقال: ليس من عمل أعظم من تفسير كتاب الله في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم -هذه أمنيته- تحققت أمنية الشيخ وحقق الله مراده، وبلغه أمنيته، وأُقر له درس في المسجد النبوي وفسر القرآن فيه مرتين، وتوفي ولم يكمل المرة الثالثة، كان بداية الدرس في عام (1369) هـ وعام (1370هـ) على مدار العام، ثم صار مقتصراً على الإجازة الصيفية في عام (1371) هـ حيث كان يدرس في كلية الشريعة واللغة في الرياض، فإذا نزل إلى المدينة في الإجازة الصيفية درس وأكمل التفسير، استمر على ذلك إلى سنة (1381) هـ حيث صار الشيخ مدرساً في الجامعة الإسلامية. وكان يخص التفسير في وقت من الأوقات، في شهر رمضان من العصر إلى المغرب، ويُظهر فيه الأعاجيب فظهر علمه للناس، وكان يحرص على ربطه بالواقع ما وجد إلى ذلك فرصة، كربط تكشف النساء اليوم بفتنة إبليس لحواء في الجنة، في قوله تعالى: {يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا} [الأعراف:27] وقال: إن فتنة الجاهلية الأولى كانت أن يطوفوا بالبيت عرايا رجالاً ونساء. وهاهو الشيطان في هذا الزمان يستدرجهن في التكشف شيئاً فشيئاً، بدءاً بكشف الوجه ثم الرأس ثم الذراعين إلى آخر كلامه رحمه الله، ومن أراد أن يرجع إلى كلامه فعليه أن يقرأ أضواء البيان في تفسير هذه الآية، ووصل إلى قوله تعالى: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف:12] فتكلم في القياس كلاماً عجيباً في إثباته، والرد على ابن حزم وغيرهم من نفاة القياس، فعرف الناس منزلة الشيخ وعلمه واجتمعوا عليه وكان درسه حافلاً وكانت له ثلاث مستويات في التفسير، في الشرح الإسهاب والتوسع في المسجد النبوي في شهر رمضان من كل عام، من العصر إلى قريب الغروب. الحالة الثانية: التوسط، وهذا كان في تدريسه في الفصل، والاقتضاب إذا رأى في آخر السنة أن الوقت قد ضاق والمنهج لم يكتمل، فإنه كان يختصره اختصاراً، تولى تدريس التفسير في دار العلوم في المدينة، عام (1369) هـ إلى أن انتقل إلى الرياض عام [1371هـ] ودرس التفسير والأصول بالمعهد العلمي وكليتي الشريعة واللغة، وظل هناك عشر سنين استفاد منه من لا يُحصى في الدروس النظامية وغيرها. كان يتكلم في علم الأصول في الرياض الشيخ عبد الرزاق عفيفي والشيخ محمد خليل هراس رحمهما الله، فلما جاء الشنقيطي إلى الرياض سُلمت الراية إلى صاحبها، وحصلت المناظرات وعقدت المجالس، وكانت تلك المجالس حافلة جداً، لا شك أنه قد فاتنا الخير العظيم، نحن كلنا ما حضرنا هذا ولا رأيناه، فلا شك أن مثل تلك المجالس يتأسف الإنسان وبود كل واحد أنه حضر تلك المجالس. الشنقيطي رحمه الله يتكلم في الأصول، لو أنك قلت بأنه لا يُعرف مثل الشنقيطي رحمه الله في التفسير والأصول في هذا العصر -أقصد في هذا الزمن الذي نعيش فيه- لكان ذلك صحيحاً واضحاً، تفسير وأصول لا يُعلى على محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله يُسلم له بذلك، وكان الشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ محمد ناصر الدين الألباني يحضران مجلسه في التفسير في المسجد النبوي. وكان أيضاً يعقد له في صحن المعهد في الرياض بين المغرب والعشاء درس، وكلفه الشيخ محمد بن إبراهيم المفتي السابق رحمه الله بتدريس أصول الفقه لكبار الطلبة، قال: هو أحق بذلك مني، فعقد درساً خاصاً لنجباء الطلاب بعد صلاة العصر، وأملى وشرح مراقي السعود، وحصل بعد فتح الجامعة الإسلامية عام (1381) للهجرة انتقال الشيخ إلى المدينة، ليدرس في الجامعة. وفي عام (1386) للهجرة عندما افتتح معهد القضاء العالي بـ الرياض وكانت الطريقة استخدام الأساتذة الزائرين، كان من ضمن وأهم من يزور ذلك المعهد هو الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى، وصار الشنقيطي في لجان لأهل العلم تفتي في القضايا المعاصرة، وقد شهد له أهل العلم بحسن الإدارة، وبعد النظر في الأمور، وحسن التدبر للعواقب، ولما صارت بعض البعثات من الجامعة الإسلامية إلى بعض الدول الإسلامية، للدعوة والتعليم سافر الشنقيطي رحمه الله تعالى وكان لا شك فيه شوق إلى بلده، فذهب في رحلة من السودان انتهت في موريتانيا، موطن الشيخ، رافقه فيها عدد من أهل العلم، ويوجد الآن عشرة أشرطة تسجيل لدروس الشيخ في رحلة أفريقيا، عشرة أشرطة رحلة الشيخ إلى أفريقيا مسجلة وموجودة، ولا زالت محفوظة.

الكتب التي ألفها الشنقيطي في بلاد الحرمين

الكتب التي ألفها الشنقيطي في بلاد الحرمين وألف الشيخ رحمه الله في فترة إقامته في هذه البلاد، كتباً عظيمة جداً منها: أضواء البيان، منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز، وحاول أن يرد عليه واحد اسمه عبد العظيم المطعني، ولكنه لا شك أن بين علمه وبين علم الشيخ بوناً شاسعاً، وكذلك فإن الشيخ رحمه الله قد ألف كتابه العظيم دافع الإيهام والاضطراب عن آيات الكتاب، الذي بين فيه التوفيق بين الآيات والنصوص التي ظاهرها التعارض؛ لأن القرآن نزل من عند الحكيم العليم، العزيز الكريم، لا يمكن أن يكون فيه تعارض، فإذا ظهر التعارض فلنا نحن. فبين رحمه الله أي آيات فيها تعارض، يظهر للشخص وما هو وجه إزالة هذا التعارض، وكذلك فإنه رحمه الله كتب رحلة الحج إلى بيت الله الحرام (1367) هـ موجود ومطبوع، ورسالة في النسخ، ورسالة لمنهج دراسات الأسماء والصفات الذي تم عرضه مسبقاً، وتفسير سورة الوقعة وخبر الآحاد، وحكم صلاة الجمعة في المسجد الجديد، الفوائد التي حصلت في رحلته، قد دونت أيضاً. وشرح على مراقي السعود لمبتغي الرقي والصعود، شرحه رحمه الله شرحاً لا شك أنه شرح نفيس ومهم جداً لهذا الكتاب، وكذلك بيان الناسخ والمنسوخ من الآي والذكر الحكيم، وشرح على سلم الأخضري، ولعل الشيخ عبد العزيز قد أخذه عنه تلميذاً في هذا الفن. وكذلك فإن له رسائل متفرقة في التوحيد والوعظ وتحكيم الشرع، وأحوال الاجتماع بين المجتمع والاقتصاد، وكذلك تسلط الكفار على المسلمين، ومشكلة ضعف المسلمين، ومشكلة اختلاف القلوب بين المجتمع، وله محاضرات مطبوعة، منها: في تفنيد شبه حول الرق وحكم الصلاة في الطائرة، وبين صحة ذلك، وقال: أما بعد: فقد طلب مني بعض فضلاء إخواني أن أقيد لهم حروفاً تظهر بها صحة صلاة من صلى في الطائرة، فأجبناهم إلى ذلك. قلنا: لا شك أن الشيخ كان رحمه الله تعالى سلفي العقيدة، وأنه كان مقاوماً للشرك، ويظهر كلامه في مؤلفاته في رفضه للبدع الشركية والقبور والأضرحة، وتحقيق التوحيد يظهر لمن تأمل تفسيره رحمه الله تعالى، والرد على الصوفية في مسائل الإلهامات والخواطر، والزنادقة والرد عليهم كما في معنى قوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] والكلام في مسائل في العقيدة، لأهل الفرق فيها ضلالات، كنزول عيسى وعصمة الأنبياء وغير هذا كثير جداً.

وفاة الشنقيطي وبعض الأبيات في رثائه

وفاة الشنقيطي وبعض الأبيات في رثائه لما حج الشيخ رحمه الله في آخر عمره جاء للسعي يوم الحج الأكبر سعى شوطاً واحداً على قدميه، ثم أخذت له العربة، فحصل معه ضيق في التنفس من ذلك الشوط الذي طافه على قدميه، ثم تُوفي في اليوم السابع عشر من ذي الحجة، في عام: (1393) للهجرة ضحى يوم الخميس، يقول غاسله الشيخ أحمد بن أحمد الشنقيطي وغسلته في بيته في مكة، بشارع المنصور، وصلى عليه الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز في الحرم المكي مع من حضر من المسلمين ودفن بمقبرة المعلاة بريع الحجون بـ مكة، حرسها الله تعالى، وقد رثاه عدد من العلماء من طلابه ومحبيه، منهم ابن عمه الشيخ أحمد بن أحمد الجكني الشنقيطي، الذي يقول: أبكي الأمين وليتني من علمه ما عشت فزت بنيل كل بيان أبكي الأمين محمداً وإنني أبكي الأمين لشرعة القرآن من ذا يلومك إن بكيت مفوهاً سمح الخليقة من بني الإنسان إلى آخر الآبيات، وكذلك الشيخ محمد بن عبد الله بن أحمد المزيدي الجكني الشنقيطي رثاه بقصيدة مطلعها: نعى الأمين نعاة قد نعوا علما بحراً خضماً بموج العلم ملتطما أبكته أجيال علم حين عد له ريع الحجون مصيراً بعدما ختما ما كان يرغب في السكنى بذي بلد غير المدينة طابت مسكن الكرما فبنى بها وببيت الله دار سكناً فالخير فيما أراد الله منحتما ثم قال: من للنوازل مثل الشيخ إن نزلت أو للحوادث إن أدمت بنا كلْما أضواؤه كشفت أبعاد مطلبه والدفع يدفع ما في الوحي قد وهما البيت هذا فيه اسم كتابين وهما أضواء البيان، ودافع الإيهام والاضطراب. إن النصوص لها جرح به أثر قد كان يلئمه بالعلم فالتأما معروفه عرفت منه الأرامل ما يغني عن الذكر والمسكين والهما عز العلوم وطلاب العلوم ومن يعرض سؤال علوم أو أصولهما إلى آخر تلك القصيدة، ورثاه عدد من أهل العلم، منهم أيضاً الشيخ محمد بن مدين الشنقيطي بقوله: الله أكبر مات العلم والورع يا ليت ما قد مضى من ذاك يرتجع يبكي الكتاب كتاب الله غيبته كذا المدارس والآداب والجمع مفسر الذكر الحكيم وما من الحديث إلى المختار يرتفع أخلاقه الشهد ممزوجاً بماء صفا وما يغير طبعاً زانه طبع فهو الإمام الذي من غيره تبع له وهل يستوي المتبوع والتبع إذا ما بدا في الدرس تحسب فيضه على الناس صوب المدجنات السحائب كما قال في قصيدة أخرى، محمد الأمين محمد المختار رحمه الله.

تواضع الشنقيطي وزهده وحسن أخلاقه

تواضع الشنقيطي وزهده وحسن أخلاقه أما بالنسبة لسمته وأخلاقه: الإمام أحمد رحمه الله نقل عبارة: أصل العلم خشية الله، وبرؤية العالم يُعرف من شكله وسمته، وهكذا قال بعض من واجهوه، وكان من عنايته بالعلم يقول ابنه عنه: قال لي أبي: لا توجد آية في القرآن إلا درستها على حدة، وأخبرني وكذلك قال أحد تلاميذه: كل آية قال فيها الأقدمون شيئاً فهو عندي، هذا لم يتباه به في مجالس أمام الناس بل قاله لولده، وقاله لأحد أصحابه خاصةً، وكان يلهج دائماً بالوصية، يقول ولده: سألت أبي: ما الذي يطرد وساوس الشيطان؟ قال: التدبر في كتاب الله. وبهذه الوصية افتتح كتابه وبه ختمه، الوصية بتدبر القرآن، وفي قوله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] كلام طويل له رحمه الله في هذا، وكان مُتبعاً للسنة، إذا عرف الدليل اتبعه، وكان يقول لبعض الحجاج والزوار من بلده، وكان أهل بلده مذهبهم مالكي، يقول: أنا المالكي لا أنتم، لأني آخذ بالدليل متبعاً في ذلك الإمام مالك رحمه الله لا متعصباً له، ولما سأله بعض تلاميذه أن يدرسوا عليه، قال: ادرسوا عليّ البخاري ومسلماً، ما بين أهمية اعتماده على السنة وتمسكه بها، لكن منيته عاجلت فلم يتحقق تدريسه للبخاري ومسلم في ذلك الموقف. وكان يجلس في المجلس فيأتي الضيف ولا يشعر به، حتى ينبهه ابنه إلى قدوم الضيف، لانشغال فكره بتجميع شواهد من كتاب الله تعالى، ومنذ أن كان في بلده معروفاً بكثرة التأمل، والعالِم لا بد أن يتأمل، والتأمل شيء ضروري، يقول هو: جئت للشيخ لقراءتي عليه، فشرح لي كما كان يشرح ولكن لم يشفِ ما في نفسي على ما تعودت، ولم يروِ لي ظمئي -هذا كان وهو يطلب العلم- وقمت من عنده وأنا أجدني في حاجة إلى إزالة بعض اللبس، وكان الوقت ظهراً، فأخذت الكتب والمراجع فطالعت حتى العصر، فلم أفرغ من حاجتي، فعاودت حتى المغرب فلم انتهِ، فأوقد لي خادمي أعواداً من الحطب، أقرأ على ضوئها كعادة الطلاب، وواصلت المطالعة، وأتناول الشاي الأخضر كلما مللت أو كسلت، والخادم بجواري يوقد الضوء حتى انبثق الفجر وأنا في مجلسي لم أقم إلا لصلاة فرض أو تناول طعام، وإلى أن ارتفع النهار، وقد فرغت من درسي وزال عني لبسي، فتركت المطالعة ونمت. هي مسألة واحدة، هكذا جرى فيها من بعد درس شيخه إلى عصر اليوم التالي رحمه الله تعالى، درس فيها في الليل على ضوء المشاعل، وفي النهار في ضوء النهار، وكان رحمه الله شديد التباعد عن الفتوى، وإذا اضطر يقول: لا أتحمل في ذمتي شيئاً، العلماء يقولون: كذا وكذا، وقال: إن الإنسان في عافية ما لم يبتل، والسؤال ابتلاء، لأنك تقول عن الله، أن الله حرم وحلل، ولا تدري أنك تصيب حكم الله أم لا، فما لم يكن عليه نص قاطع من كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وجب التحفظ فيه، ويستشهد بقول الشاعر: إذا ما قتلت الشيء علماً فقل به ولا تقل الشيء الذي أنت جاهله فمن كان يهوى أن يرى متصدراً ويكره (لا أدري) أصيبت مقاتله وجاءه وفد من الكويت في آخر حياته فسألوه عن مسائل فقال: أجيبكم بكتاب الله، ثم جلس مستوفزاً فقال: الله أعلم، هذا الجواب. قال: أجيبكم بكتاب الله، ثم قال: الله أعلم، قال الله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36] لا أعلم فيها عن الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم شيء، وكلام الناس لا أضعه في ذمتي، فلما ألحوا عليه، قالوا: فلان قال كذا -أي من العلماء- قال: وأنا لا أقول شيئاً.

زهد الشنقيطي في الدنيا

زهد الشنقيطي في الدنيا وكذلك فإنه كان زاهداً في الدنيا عفيفاً عنها، وقال: الذي يُفرحنا أنه لو كانت الدنيا ميتة، لأباح الله لنا منها سد الخُلة، وكان يأخذ من راتبه مصروف الشهر ويوزع الباقي، قال ابنه: كنت أتولى التوزيع على ضعاف طلبة العلم والعجائز الأرامل من القريبات، وكان يقول: والله لو عندي قوت يومي ما أخذت راتباً من الجامعة، ولكنني مضطر لا أعرف أشتغل بيدي، وكان يحذر ولده كثيراً من الدنيا، ويقول: الكفاف منها يكفي، وإن الشيطان ربما سول للإنسان جمعها ليتصدق بها وهو تلبيس، أي: الشيطان يقول: تاجر واربح لأجل أن تتصدق، ثم ينشغل الإنسان بالدنيا ولا يتصدق إلا بالنزر اليسير، وكان لا يُقرض الناس. يقول: إن كنت محتاجاً إلى ما عندي فلا أعطيه؛ لأني محتاج إليه، وإن كنت غير محتاج فأعطيه من غير قرض، هبة، أو صدقة، أو هدية، أما قرض لا يمكن. أصلاً ما عنده شيء يقرضه، يأخذ حاجته ويتصدق بالباقي، وكان لا يبعثر النقود بل يعطيهم شيئاً قليلاً تربية لهم، وقال مرة: أنا مختار وعبد الله لا أعطيهم مالاً؛ لأن الأموال تخرب الرجال، وبعض الناس قد يوزع على أولاده بالآلاف، ثم الولد يفسق ويفجر بها، ويرحل ويسافر بالحرام. وكان الريال والألف عنده سواء، قال: الريال الواحد والألف سواء، المهم أن يكون صرفها سليماً، وأهدي له بيت في الطائف فرده ولم يقبله، وقال: الذي بناه يحتاجه لنفسه أما أنا فلم أبنه ولا أحتاجه، وعندي بيت في المدينة يكفيني، وبيته بناء شعبي سقفها من خشب، وليس من حديد فيه دوران الأول أربع غرف فوق وتحت أربع غرف للطلبة، ويغص بالمغتربين، وكان يشرب من ماء الزير، ويجلس على الحصير، ويكتب في الدهليز ويطالع. ولم تبع كتبه في حياته، وقال: علم نتعب عليه ويباع وأنا حي، لا يمكن هذا، ولكن أنا أدفع وآخر يدفع المال، يقول: يأتي تاجر يطبع لي كتبي يوزعها وأنا مستعد، أما أن أبيع كتبي فلا، ويوزع للناس مجاناً وقال: أنا أعلم أنه سيصل إلى من لا يستحقه لكن سيصل أيضاً إلى من لا يستطيع الحصول عليه بالمال، أي: قيل له: اطبعها وضعها في المكتبات، فكان يرفض أن تباع كتبه، وكان لا يلتفت إلى المظهر حتى أن نعله ربما تكون ذات لونين، مرة يغلط يلبس نعالاً أخضر وآخر أحمر، ما كان يبالي بالدنيا إطلاقاً، ولا ينظر في نعال ولا في لباس رحمه الله تعالى. وقال لبعض طلابه: إني لا أعرف فئات العملة الورقية. لا يعرف أن يميز الخمسين من المائة من العشرة من عزوفه عن الدنيا واشتغاله بالعلم، وقال: جئت من شنقيط، جئت من البلاد ومعي كنز قل أن يوجد عند أحد وهو القناعة، ولو أردت المناصب لعرفت الطريق إليها، فإني لا أوثر الدنيا على الآخرة، ولا أبذل العلم لنيل المآرب الدنيوية. ولما حاول بعض طلابه أن يثنيه عن الحج؛ لأن صحته كان سقيمة في آخر عمره، قال: دع عنك المحاولة إن سفري إلى لندن أريد الشفاء بها، لا بد أن أكفر عنه بحج، قال لهم: أني سافرت إلى لندن للعلاج، هذه لا بد لها من تكفير، مع أنه سفر علاج، قال: تكفير لذلك الحج، ولا طالب بمرتب ولا بترفيع، ولا بمكافأة، ولا بعلاوة، ما جاءه من غير سؤال أخذه، ويوزع ما زاد عن حاجته ولم يخلف ديناراً ولا درهماً إطلاقاً. اتهموه منذ القديم أن رجلاً هجا رجلاً فأعطى المهجو أبيات يرد فيها على الهاجي، فقال: أنا أدخل بين رجلين نزغ الشيطان بينهما لا يمكن أن يكون، ودافع عن نفسه بقصيدة، قال فيها: وتمنعني من ذاك نفس عزيزة غلا سعرها في السوق يوم كساده تهاب الخنا والنقص في كل موطن وقلب يقويها بشدة آبه ولست بمن يغريه من جاء مغرياً ولا من يعادي الدهر من لم يعاده وإني لأكسو الخل حلة سندسٍ إذا ما كساني من ثياب حداده وكائن يغيظ المرء ظن حبيبه به السوء بعض الظن إثم فعاده وكائن أي: وكأين وكم عَادِ ظن السوء وإياك وظن السوء. وكانت المروءة شعاره، وكان يذهب مع ولد له إلى الحرم المدني في صلاة الظهر في حر الصيف في السيارة، يرجع وقد امتلأت السيارة طلبة وجيرانا، فيقول لولده: عيب أن تنزل أحداً قد ركب، اذهب أنت ماشياً، وبعض زوجاته تبكي عليه، لأنه كان في غاية المراعاة للزوجة، وكان يقول: هذه ضيفة، كلمة تخرجها من البيت (أنت طالق) ولذلك ما زال يبكي عليه أهله بعد وفاته رحمه الله.

الشنقيطي كان راميا بارعا

الشنقيطي كان رامياً بارعاً وكان من نوادره أيضاً: من الأشياء العجيبة أنه كان يحرص على الرماية، كان قناصاً لا يخطئ في الرمي، وتُوفي وعنده بندقية شوزن وساكتون، بندقيتان، وكان يصيد خارج حرم المدينة، لا يصيد في حرمها، وكأنه يستحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان رامياً، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي) أثنى عليه العلماء، كالشيخ عبد العزيز بن باز، وحضر مجالسه وتتلمذ عليه، والشيخ محمد ناصر الدين الألباني، وقال عنه في سعة علومه مدحاً كثيراً، وغيره من أهل العلم، وكان الشيخ محمد بن إبراهيم يقوم له، وما قام لأحد من الباب ليودعه ويرجع، هذه كانت نبذة من سيرة الإمام العلم الكبير فقيد العلم بهذا الزمان، الذي لا يعرف الأكثرون اسمه فضلاً عن أن يقرءوا في كتبه. هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

كلمة الإخلاص وتحقيق معناها لابن رجب

كلمة الإخلاص وتحقيق معناها لابن رجب هذه الرسالة على صغر حجمها إلا أنها عظيمة؛ وذلك لما احتوت عليه من كلام النبوة في التوحيد، وهي معينة لمن أراد معرفة حقيقة التوحيد والرجوع إلى طريق الحق. وقد لخص الشيخ هذه الرسالة وأتى فيها بما يدل على أهمية شهادة التوحيد، ليس في الدنيا فقط بل وفي الآخرة يوم يقوم الأشهاد، وبما يدل على فضائل هذه الكلمة في الدنيا والآخرة، وهذا بعد أن ذكر ترجمة جميلة للحافظ ابن رجب رحمه الله

ترجمة ابن رجب

ترجمة ابن رجب الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فالرسالة التي سنستعرضها وإياكم في هذه الليلة بمشيئة الله تعالى هي: (كلمة الإخلاص وتحقيق معناها) للحافظ ابن رجب رحمه الله عز وجل. ونبذة عن الحافظ ابن رجب رحمه الله قبل الشروع في هذه الرسالة:

بداية نشأته

بداية نشأته هذا الحافظ الجليل قد عاش في القرن السابع الهجري، وكان وقت ملك دولة المماليك البحرية الذين استلموه بعد الدولة الأيوبية، وكانت ولايتهم على مصر والشام وساحل فلسطين والأردن والحجاز وبلاد الحرمين، ولا شك أنهم ورثوا مسئوليةً عظيمةً في الدفاع عن المسلمين أمام عدوين خطيرين جداً التتار والنصارى. وهم الذين أوقفوا زحف التتار إبان احتلالهم للعراق، وحصلت في عهدهم الوقائع التاريخية الفاصلة كمعركة عين جالوت سنة [658هـ] والخزندار سنة [699هـ] وشقحب سنة [702هـ] وفي هذا الجو عاش الحافظ ابن رجب رحمه الله. وكان كذلك هناك من أعداء الإسلام الكسرويين الباطنية والدروز في جبال غرب الشام، وكان الحافظ ابن رجب رحمه الله عز وجل من الذين لم يحرصوا على تولي الولايات والمناصب، وكان مشهوراً بالزهد مع كون المناصب موجودة في دولة المماليك تلك إلا أنه رحمه الله كان عزوفاً عما في أيدي الناس غير مشتغلٍ بالرياسة، ولكنه في ذلك الوقت كان مطلعاً على ما يدور في عصره، وهو قد ذكر في تقسيم الناس أن بعضهم من المشتغلين بالذكر كانوا ملازمين للذكر بحيث يشغلهم ذلك عن مصالحهم المباحة، وينقطعون عن الخلق. ثم ذكر قسماً ثانياً ممن يذكر الله عز وجل ويستحضر ذكره وعظمته وثوابه وعقابه، ويدخل في مصالح دنياه من اكتساب الحلال، والقيام على العيال، ويخالط الخلق فيما يُوصل إليهم به النفع مما هو عبادةٌ في نفسه، كتعليم العلم والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهؤلاء أشرف القسمين وهم خلفاء الرسل، لعله رحمه الله تعالى كان من هذا القسم الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خيرٌ من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم). وكان رحمه الله تعالى قد عاش في دمشق الفترة العظمى من عمره، وكان فيها العلم منتشراً، وكان العلماء كثرة، والمدارس الشامية في تلك البلد متعددة، وكان العلم يُدرس في الجامع الأموي بـ دمشق، وجامع الجراحين في الباب الصغير، وجامع الحنابلة في الجبل، وجامع النحاس في صالحية دمشق، وجامع باب المصلى، وغير ذلك، وكانت المدارس أيضاً منتشرةً والأوقاف محبسةً عليها لكي تدر مقابلاً يعيش منه أهلها، ومن تلك المدارس أو دور الحديث المشهورة: المدرسة الأشرفية، وكذلك دار الحديث السكرية بالقصاعين، وكان القيم عليها عبد الحليم ابن تيمية والد شيخ الإسلام، وتولى شيخ الإسلام بعده، وبعده تولى الحافظ الذهبي رحمه الله، وقد سكن ابن رجب رحمه الله في هذه المدرسة بالذات ودرس فيها الفقه والحديث. ومن المدارس المشهورة في ذلك الوقت أيضاً المدرسة الجوزية التي أنشأ لها الإمام أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي ودرس فيها آل ابن قدامة المقادسة والمرداوي وابن مفلح، وهذه البيئة التي عاش فيها رحمه الله كان فيها انتشار للمذاهب الأربعة وفقهائها، وكانت السيطرة فيها للأشاعرة من جهة المعتقد، ولكن كان هناك مواجهة بينهم وبين أتباع السلف الذين كثيرٌ منهم على مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى. والأربطة كانت موجودة في ذلك الوقت وهي مأوى الفقراء وطلبة العلم، وكان الإمام ابن رجب رحمه الله ممن عاش في تلك الأربطة. أما اسمه فهو: الحافظ عبد الرحمن بن أحمد بن رجب، ورجب اسمه عبد الرحمن، من أجداد الحافظ رحمه الله، وسمي برجب، لأنه ولد في شهر رجب، ابن الحسن السلامي البغدادي الدمشقي الشامي موطناً والحنبلي مذهباً، والسلفي معتقداً، المشهور بـ: ابن رجب رحمه الله، فرجب إذاً هو أحد أجداد الحافظ الذين تحدثوا عنه. إذاً: اسم مؤلف: كلمة الإخلاص وجامع العلوم والحكم، أو لطائف المعارف أو فتح الباري لابن رجب: عبد الرحمن. إذاً: العالم الذي نتحدث عنه اسمه عبد الرحمن، وأحد أجداده اسمه عبد الرحمن ولقب برجب ونسب الحافظ إليه، فيقال: ابن رجب، أما لقبه، فهو زين الدين، وأما كنيته، فهي أبو الفرج، ويشترك في ذلك مع أبي الفرج ابن الجوزي رحمه الله، وكذلك الشيخ/ عبد الواحد بن محمد الشيرازي إمام مذهب الحنابلة في الشام، كل هؤلاء الثلاثة كنيتهم (أبو الفرج) ولا يشترط أن يكون له ولد بهذا الاسم، لأن العرب كانت تسابق بالكنية الحسنة حتى لا يُوضع للشخص كنية سيئة ويلقب بلقب سيئ، وهذا من فوائد التكنية عند المسلمين، ومن فوائدها كذلك إظهار الميل إلى الرجولة عند الأطفال كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يلقب أخا أنس بن مالك الصغير بـ أبي عمير.

رحلته في طلب العلم

رحلته في طلب العلم ولد الحافظ ابن رجب رحمه الله سنة (736) هـ على الراجح في بغداد، وصرح بأنه سمع من شيوخ بغداد وهو صغير، وتوفي رحمه الله تعالى سنة (795) هـ بـ دمشق، وعلى ذلك يكون قد عمر نحواً من ستين سنة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أعمار أمتي بين الستين والسبعين) دُفن بمقبرة الباب الصغير بجوار قبر إمام المذهب في الشام عبد الواحد الشيرازي، وكان في وفاته عبرة، فقال العالم: ابن نصر الدين، ولقد حدثني من حفر لحد ابن رجب -حفار القبور- أن الشيخ زين الدين ابن رجب جاءه قبل أن يموت بأيام، فقال لي: احفر لي هنا لحداً، وأشار إلى البقعة التي دفن فيها، قال: فحفرت له، فلما فرغت، نزل في القبر واضطجع فيه، فأعجبه، وقال: هذا جيد، قال الحفار: فو الله ما شعرت بعد أيام إلا وقد أتي به محمولاً في نعشه، فوضعته في ذلك اللحد وواريته فيه. فهو لما أحس بدنو أجله رحمه الله، أمر الحفار أن يحفر له ذلك القبر الذي دُفن فيه، وقال ابن عبد الهادي رحمه الله: أنه وجد في هامش كتاب القواعد الفقهية لابن رجب أنه قال عند خروج روحه ثلاثين مرة: يا الله العفو. الأسرة التي عاش فيها الحافظ ابن رجب كانت أسرة علم، وجده عبد الرحمن رجب بن الحسن السلامي من علماء بغداد، ثم انتقل مع أهله في آخر حياته إلى دمشق. ويقول ابن رجب: قرأت على جد أبي أحمد بن رجب بن الحسن غير مرة في بغداد وأنا حاضر في الثالثة والرابعة والخامسة، أي: من عمره، لما كان عمره ثلاث سنوات وأربع سنوات وخمس سنوات. وقرأ أيضاً على أبيه وهو أحمد بن رجب رحمه الله، وقد رحل به أبوه من بغداد إلى دمشق بعد وفاة الجد، فسكنوا دمشق، وكانت للأب رحلات مع ولده الحافظ عبد الرحمن إلى دمشق والقدس من قبل، وأسمعه فيها من المشايخ، ومات أبوه سنة [774هـ] وبذلك يكون الابن قد تتلمذ على أبيه وعلى جده، فكانت بيئةً صالحةً نهل منها الحافظ ابن رجب رحمه الله. ومما يدل على ذلك أنه في صغره كان يحضر الدروس وأنه قال عن درس حضره وعمره خمس سنين وكان لا يفقهه جيداً، ولكنه حضر؛ وذكر في ترجمة شيخه أبي عبد الله محمد المؤذن الوراق أنه حضر عليه وعمره أربع سنوات قراءة كتاب النكاح من صحيح البخاري بكامله. وكذلك حضر قراءة على شيخه الربيع علي بن عبد الصمد البغدادي هو في الخامسة من عمره. فإذاً لا عجب أن تكون هذه الشخصية التي طلبت العلم في هذه المرحلة المبكرة من السن شخصيةً نابغةً، شبَّ في طلب العلم، ورحل مع والده، وحصل السماعات، وسمع ابن القطيعي وأجازه وهو متوفى سنة [739هـ] ولقي في دمشق الحافظ أبا القاسم البرزالي وهو قرين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وأجاز ابن رجب. ورحل إلى دمشق وسمع فيها، ومصر، ونابلس، والقدس، وفي عام [749هـ] سافر إلى الحج مع والده، وكان قد سمع قبل تلك الرحلة ثلاثيات البخاري بالسند على عمر بن علي البغدادي سنة [749هـ] بـ بغداد بالحلة اليزيدية. ومن أشهر شيوخ الحافظ ابن رجب رحمه الله على الإطلاق هو: الإمام العلم ابن القيم أبو عبد الله الذي لازمه ابن رجب أكثر من سنة، وسمع منه كتابه العقيدة النونية، المسماة: (الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية)، وكان يثني على ابن القيم جداً، فإنه قد ذكر في ذيل طبقات الحنابلة في ترجمة ابن القيم، قلت: وكان رحمه الله ذا عبادة وتهجد وطول صلاة إلى الغاية القصوى، وتأله ولهج بالذكر، وشغف بالمحبة والإنابة والاستغفار والافتقار إلى الله، والانكسار له والانطراح بين يديه، لم أشاهد مثله في ذلك، ولا رأيت أوسع منه علماً، ولا أعرف بمعاني القرآن والسنة وحقائق الإيمان منه، وليس هو المعصوم، ولكن لم أر في معناه مثله، وقد امتحن وأوذي مرات، وحبس مع الشيخ تقي الدين -أي: ابن تيمية - في المرة الأخيرة بالقلعة منفرداً عنه، ولم يُفرج عنه إلا بعد موت الشيخ إلى آخر الكلام. توفي ابن القيم رحمه الله سنة [751هـ] وكان عمر ابن رجب تقريباً [15سنة]. إذاً لازم ابن القيم في أوائل شبابه، ولا شك أنها فرصة عظيمة للتأثر من ابن القيم رحمه الله في الإيمان والعلم، وقد قرأ عليه مختصر الخرقي من حفظه، وسمع منه أجزاء كثيرة من مصنفاته. فإذاً ابن رجب تلقائياً ينتمي إلى مدرسة ابن تيمية وابن القيم وغيرهما من السلفيين في ذلك الوقت رحمهم الله تعالى، لكن ابن رجب رحمه الله عُني عناية خاصة بالحديث، واستفاد من مدرسة المحدثين من طبقة الحافظ جمال الدين المزي وتلامذته الإمام الذهبي وابن الخباز، ولذلك انصبغ ابن رجب رحمه الله بصبغة حديثية، واجتمعت له العقيدة السلفية والمذهب الحنبلي في الفقه مع غيره بطبيعة الحال والاهتمام بالحديث، ولذلك كان شخصاً مثالياً.

بداية تدريسه

بداية تدريسه لما بلغ مبلغاً من العلم ينتفع به غيره في نظره، تصدر للتدريس، وتولى حلقة الثلاثاء التي كان يقوم بها شيخه ابن قاضي الجبل، تولاها بعد وفاته سنة [771هـ] وكانت حلقة مشهورة يحضرها أناس كثيرون، ودرس في المدرسة الحنبلية وهي قرب الجامع الأموي، وكذلك في مدرسة تربة الصالحين. تميزت دروس ابن رجب رحمه الله بالشمولية بالفقه والحديث وعلوم السنة، وأفتى بفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وكان فيه ميزة مهمة جداً وهي: القدرة على الوعظ وتحريك القلوب. أن تجد بعض العلماء قد يُعلم، لكن في تعليمه شيء من الجفاف، ابن رجب رحمه الله امتاز مع علمه بوعظه، فقيل في صفة جلسته الوعظية: كانت مجالس تذكيره للقلوب صارعة، وللناس عامة مباركة نافعة، أجمعت الفرق عليه، ومالت القلوب إليه، وواضح جداً تأثر ابن رجب في الوعظ بـ أبي الفرج ابن الجوزي، فإنه يقتبس كثيراً من كلامه، وابن قيم الجوزية رحمهم الله تعالى. خلّف ابن رجب طلبة مشهورين صاروا علماء منهم: الشيخ علي بن محمد البعلي المشهور بـ ابن اللحام صاحب كتاب القواعد الأصولية في المسائل، والأخبار العلمية الفقهية في اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية. وكذلك الشيخ عمر بن أحمد بن الملقن والذي بلغت مؤلفاته نحواً من ثلاثمائة، وهو من شيوخ ابن حجر العسقلاني. إذاً ابن رجب من طبقة شيوخ ابن حجر العسقلاني، وكذلك من تلاميذه: أبو ذر عبد الرحمن بن محمد المصري الحنبلي المعروف بـ الزركشي، وكذلك شمس الدين محمد بن أحمد بن سعيد المقدسي النابلسي.

زهده في الدنيا

زهده في الدنيا بالإضافة إلى ما خلف من التلاميذ فإنه قد خلف سيرةً معطرةً بالزهد والورع، فعزف عن المناصب والولايات، والأشياء التي تولاها تدريسية خيرية، ولم يتولَّ قضاءً، ولم يتولَّ رئاسةً، وكان عزوفاً عن السلاطين، والدخول عليهم والطلب منهم، وهذه مشابهة واضحة لسيرة الإمام أحمد رحمه الله عز وجل في زهده وعزوفه عن الدنيا. والغالب على أكثر أصحاب أحمد العفة والزهادة والنظافة، ومن أسباب عدم انتشار مذهب الحنابلة بشكل كبير: أن كثيراً من فقهاء الحنابلة أخذوا بطريقة أحمد رحمه الله في الزهد والبعد عن الرئاسات، ولا شك أن انتشار المذهب في كثير من الأحيان يُعزى إلى تبوء مناصب ورئاسات، فإذا كان كبير القضاة شافعياً، عين القضاة الشافعية، وإذا كان له مكانة عند السلطان، رتب في المساجد أو المدارس أئمة أو علماء من مذهبه، فانتشر المذهب وحملت كتبه ونسخت، وسارت في الأمصار بأمر السلطان، لكن الكثير من الحنابلة كانوا على مذهب إمامهم رحمه الله الإمام أحمد في البعد عن الولايات والرئاسات، كانوا يسكنون في المدارس والأوقاف والأربطة، ويكتفون من الدنيا بالقليل، ولكن مع ذلك قد خلفوا علماً عظيماً والحمد لله أن الله نشر فقههم وعلمهم، ولا زالت كتبهم مراجع أساسية لدى كثير من الباحثين. فـ ابن رجب رحمه الله بناءً على تأثره بطريقة الإمام أحمد تقتضي أن يكون صاحب عبادة كبيرة، خصوصاً أنه تخرج على يد عباد مثل: ابن القيم رحمه الله، ولذلك كان ابن رجب رحمه الله قواماً لليل، صاحب عبادة وتهجد ومرتبة في العمل والأذكار والأدعية، وأعمال القلوب، وكان يرجى له الإخلاص في أقواله وأعماله إن شاء الله. من ورعه ما حكاه تلميذه ابن اللحام، قال: ذكر لنا مرة الشيخ -أي: ابن رجب - مسألةً فأطنب فيها، فعجبت في ذلك ومن إتقانه لها، فوقعت بعد ذلك بمحبر من أرباب المذاهب وغيرهم، فلم يتكلم فيها الكلمة الواحدة. هو قد شرح لهم المسألة شرحاً مفصلاً مسهباً واسعاً في أحد الدروس، لما جاء ابن رجب ومعه طبعاً تلميذه ابن اللحام والتلميذ يتعلم التواضع من الشيخ، ويتعلم أشياء كثيرة، حضروا بمحضر من أرباب المذاهب، ما تكلم ابن رجب ولا بكلمة، مع أن المسألة قد طرحت هي بذاتها. فلما قام قلت له: أليس قد كلمت فيها بذلك الكلام؟ قال: إنما أتكلم بما أرجو ثوابه، وقد خفت الكلام في هذا المجلس، أي: أن يكون لا لله، ويكون فيه رياء، أو حب لإظهار ما عندي، ولذلك صمت ولم يتكلم بكلمة واحدة، وكان يحفظ كثيراً من سير أعلام السلف، ويسير على منوالهم، وسكن المدرسة السكرية بالقصاعين في دمشق، وكان فقيراً متعففاً غنياً عن الناس رحمه الله تعالى. لا شك أن ابن رجب رحمه الله ممن مُدحوا من قبل العلماء، فيقول ابن اللحام: سيدنا وشيخنا الإمام العالم العلامة الأوحد الحافظ شيخ الإسلام مُحل المشكلات وموضح المبهمات إلى آخر ما مدحه به، وهو مستحقٌ لذلك.

عقيدته السلفية ومهارته في العلوم

عقيدته السلفية ومهارته في العلوم لكن من الأشياء المهمة جداً في ابن رجب رحمه الله عقيدته السلفية، نظراً لأن السالكين لسبيل تلك العقيدة في ذلك الزمان لم يكونوا هم المسيطرين على الأمور، لأن الغلبة كما قلنا كانت لمذهب الأشاعرة، ولكنهم كافحوا في سبيل تقرير العقيدة السليمة والدفاع عنها مكافحة عظيمة. فنرى في كتب ابن رجب رحمه الله الخط الواضح الأصيل للعقيدة السلفية في الأبواب المختلفة، فمثلاً في الأسماء والصفات يقول: والصواب ما عليه السلف الصالح من إمرار آيات الصفات وأحاديثها كما جاءت لا تكييف، ولا تمثيل إلى آخره. وكذلك في مسألة الرجوع إلى الكتاب والسنة، قال: العلم النافع من هذه العلوم ضبط نصوص الكتاب والسنة وفهم معانيها، والتقيد في ذلك بالمأثور عن الصحابة والتابعين وتابعيهم في معاني القرآن والحديث، وفيما ورد عنهم من الكلام في مسائل الحلال والحرام والزهد والرقائق والمعارف وغير ذلك، فهو إذاً يضع في رأس العلوم تفسير القرآن ومعاني الحديث، والحلال والحرام، وهذا قمة ما يمكن أن يطمح إليه طالب العلم الشرعي الذي يسير على الطريقة السلفية. ولأنها تمثل عقيدة أهل السنة والجماعة نقل عنه أهل السنة والجماعة، فلذلك تجد كثيراً من أئمة دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ينقلون عن ابن رجب كما ينقلون عن شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، والحافظ لم يكن حنبلياً صرفاً، وإنما كان له اطلاع على المذاهب، وكان له إتقان خاص بمذهب الإمام أحمد رحمه الله يتابعه من غير تَشَهٍ ولا هوى. وكتاب القواعد الفقهية لـ ابن رجب خير مثال على سعة فقه الرجل وعلمه، وهذه القواعد الكثيرة التي وضعها في هذا المجلد النافع الكبير الذي عُد من عجائب الدهر؛ حتى إن بعض المنتسبين إلى العلم استكثروا على ابن رجب كتاب القواعد، قالوا: هذا ليس من تأليفه، حتى زعم بعضهم إنما وجد قواعد مبددة لـ ابن تيمية رحمه الله، فجمعها ونسبها لنفسه، يقول ابن عبد الهادي رداً عن هذه الفرية: ليس الأمر كذلك، بل كان رحمه الله فوق ذلك. من كتبه المشهورة: كتابه الحافل ذيل طبقات الحنابلة الذي ذيل به على طبقات الحنابلة لـ أبي يعلى، وأكمله وفيه فوائد فقهية وحديثية وعقدية ولغوية غير المعلومات التاريخية التي سطرها رحمه الله. وكذلك فإنه حصل له باعٌ كبيرٌ في علم الحديث كما قلنا، ورافق زين الدين العراقي في السماع، ومهر في فنون الحديث أسماءً ورجالاً وعللاً وطرقاً واطلاعاً على معانيه، وأتقن الفن، وصار أعرف أهل عصره بالعلل وتتبع الطرق كما يقول ابن حجر رحمه الله مادحاً ابن رجب. من أشهر الآثار التي تركها ابن رجب وهي دالةً على سعة اطلاعه في الحديث كتابه العظيم فتح الباري في شرح صحيح البخاري، لكن اخترمته المنية قبل أن يتمه، ومن العجائب أنه توقف فيه، مات وهو يشرح في كتاب الجنائز من صحيح البخاري، تلقف ابن حجر رحمه الله اسم كتاب ابن رجب وسمى كتابه فتح الباري في شرح صحيح البخاري، وأتى بالكتاب كاملاً، فالقطعة الموجودة من كتاب ابن رجب فتح الباري في شرح صحيح البخاري شرحٌ نفيسٌ أتى فيه بالعجائب. وكذلك كتاب جامع العلوم والحكم الذي شرح فيه الأربعين النووية شرحاً متقناً، وله على جامع الترمذي شرحٌ كبيرٌ يقع في عشرين مجلداً، وقد أجاد فيه، ولكن هذا الكتاب مع الأسف احترق في دمشق خلال إحدى الفتن التي وقعت فيها، ولم يبق منه سوى وريقات، لكن بقي كتاب اسمه شرح علل الترمذي، شرحه ابن رجب وهو مطبوع في مجلدين، ويظهر فيه سعة علم هذا الرجل، لأن الكلام في العلل لا يُحسنه كل أحد، قمة علماء الحديث هم الذين يتكلمون في العلل، العلل يتلكم فيها الدارقطني، يتكلم فيها الإمام أحمد رحمه الله، أو البخاري، يتكلم فيها طبقة معينة من علماء الحديث. علم العلل يحسنه طبقة خاصة من الناس وذلك واضح جداً من كتاب ابن رجب في شرح علل الترمذي وأنه أحد هؤلاء، حصلت له محنة في آخر حياته نتيجة إفتائه بفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فقام عليه أعداء شيخ الإسلام ابن تيمية، وثربوا عليه وعابوه، وحصل لهم عليه منافرة وشغب مما جعله يمتنع عن الإفتاء بهذه الفتاوى مما سبب له في المقابل شيئاً من عتب التيميين، لكنه رحمه الله لعله أراد البعد عن الإشكالات خصوصاً أنه لم يكن صاحب مهاترات وصراعات ودخول في نقاشات تقسي القلب، ولذلك فإنه في آخر عمره آثر شيئاً من الانعزال توفي بعده رحمه الله. الحافظ ابن رجب له عبارات صوفية، لعل نشأته في بعض الأربطة والأوقاف التي كان يغشاها الصوفية ربما يكون لها أثر في اقتباسه لبعض العبارات، لكنه لم يكن صاحب شطحات وخرافات، لكن في كلامه تأثر ببعض عباراتهم، وعندما ينقل عن بعضهم كـ ذي النون المصري والبسطامي وبشر الحافي ورابعة العدوية ونحوهم، فإنه لا ينقل الأقوال الباطلة والعقائد المنحرفة، وإنما يختار من كلامهم، ويختار من كلام أئمة التصوف ما هو موافق للكتاب والسنة، كقول أبي سليمان: إنه لتمر بي النكتة من نكت القوم، فلا أقبلها إلا بشاهدين عدلين الكتاب والسنة. وقول الجنيد وكان من أئمة الصوفية: علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة، من لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يُقتدى به في علمنا هذا وهكذا. لكن الرجل بشر، ووقوع الخطأ منه متصور، ولذلك يمكن أن يكون في بعض عبارات ابن رجب كلمات صوفية لا تُرتضى، أو لا تُقر، فإنما تُحمل على أحسن المحامل، ولو كانت خطأ يقال هي خطأ، ولا إشكال في ذلك، لكن الرجل فيه رقة في أسلوبه لعله أخذ من ابن القيم رحمه الله أشياء من هذا، حتى إن بعض عبارات ابن رجب لو قرأتها بدون أن تعرف من الذي قالها، لربما أنك تعزوها لـ ابن القيم رحمه الله، كما قال ابن رجب في كتاب استنشاق نسم الأنس: الحمد لله الذي فتح قلوب أحبائه من فج محبته، وشرح صدور أوليائه بنور معرفته، فأشرق عليهم النور ولاح، أحياهم بين رجائه وخشيته، وغذاهم بولايته ومحبته، عمَّا هم فيه من السرور والأفراح، فسبحان من ذِكره قوت القلوب، وقرة العيون، وسرور النفوس، وروح الحياة، وحياة الأرواح.

مؤلفات ابن رجب

مؤلفات ابن رجب لقد ترك الحافظ ابن رجب رحمه الله مؤلفات كثيرة جداً مثل: أحكام الخواتيم، واختيار الأولى في شرح اختصام الملأ الأعلى، وكتاب الخراج، واستنشاق نسيم الأنس من نفحات رياض القدس وأهوال القبور وأحوال أهلها إلى دار النشور، والبشارة العظمى للمؤمن بأن حظه من النار حمى، وتحقيق كلمة الإخلاص، وهو الذي سنتحدث عنه إن شاء الله، وقد يكون له أسماء أخرى من كتاب التوحيد أو شرح معنى لا إله إلا الله، وكذلك له كتاب في تعليق الطلاق بالولادة، والتخويف من النار والتعريف بحال دار البوار، وتسلية نفوس الآباء والرجال عند فقد الأطفال، وتفسير سورة الإخلاص وسورة الفلق وسورة النصر، كلها في أجزاء منفصلة، وكتاب جامع العلوم والحكم، والحكم الجديرة بالإذاعة من قوله صلى الله عليه وسلم: بعثت بالسيف بين يدي الساعة، والخشوع في الصلاة وهو من أشهر كتيباته أو رسائله الصغيرة، ويُسمى الذل والانكسار للعزيز الجبار، وله كتاب مخطوط ذم قسوة القلوب وذيل طبقات الحنابلة في التاريخ، وسيرة عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز، هذا الشاب الذي تُوفي وعمره واحد وعشرون سنة، ابن رجب رحمه الله خصص له رسالة خاصة مع كتاب آخر في مختصر سيرة عمر بن عبد العزيز. وشرح حديث أبي الدرداء في طلب العلم، وكذلك أحاديث أخرى متفرقة مثل: (ما ذئبان جائعان) (ويتبع الميت ثلاثة) وغير ذلك، وله كتاب نزهة الأسماع في مسألة السماع في إبطال سماع الغناء، وشرح علل الترمذي في المصطلح، وفتح الباري شرح صحيح البخاري المشار إليه سابقاً، وكتاب الفرق بين النصيحة والتعيير، وصدقة السر وفضلها، وكتاب مهم جداً فضل علم السلف على علم الخلف. وكذلك كتاب القواعد الفقهية، أو قواعد الفقه الإسلامي، وهو من أقوى كتب ابن رجب الفقهية على الإطلاق، وكشف الكربة في وصف حال أهل الغربة، ولطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف، كتاب مهم جداً ينبغي ألا يستغني عنه أي خطيب أو واعظ، وكذلك المحجة في سير الدلجة ونور الاقتباس من مشكاة وصية النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس. وكذلك قطعة من شرح جامع الترمذي الذي ذهب في الحريق كما تقدم، وله عدة كتب أخرى أيضاً. هذا شيءٌ من تاريخ هذا العلم والإمام الذي ذهب إلى ربه رحمه الله عز وجل.

أحاديث الشهادة والمقصود بجزاء قائلها

أحاديث الشهادة والمقصود بجزاء قائلها أما بالنسبة لكتاب كلمة الإخلاص وتحقيق معناها، فإن أهمية هذا الكتاب تنبع من أنه يُوضح معنى شهادة لا إله إلا الله، لأن هذه الكلمة التي خفي معناها على الكثيرين، وجعلها بعضهم وسيلة لدخول الجنة بلا تعب، يقولها كلمات دون أن يعقل معناها، أو يعمل بمقتضاها، أو يوفيها حقها، أو يقوم بشروطها، فأراد ابن رجب رحمه الله أن يبين عِظم هذه الكلمات، وأن مفتاح الإسلام لا إله إلا الله هذه عبارة عظيمة جامعة لها معاني وفيها شروط ينبغي أن تحقق وأن تطبق، استهلها بعد البسملة بقوله: خرّج البخاري ومسلم في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه، قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم ومعاذ بن جبل رديفه على الرحل -ولذلك أحياناً يطلق على هذه الرسالة شرح حديث معاذ - فقال: يا معاذ! قال: لبيك يا رسول الله وسعديك! قال: يا معاذ! قال: لبيك يا رسول الله وسعديك! قال: يا معاذ! قال: لبيك يا رسول الله وسعديك! قال: ما من عبدٍ يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله إلا حرمه الله على النار قال: يا رسول الله ألا أخبر بها الناس فيستبشروا؟ قال: إذاً يتكلوا، فأخبر بها معاذ عند موته تأثماً). وكذلك جاء في الصحيحين عن عتبان بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله) وكذلك حديث: (أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما، فيحجب عن الجنة). وكذلك في الصحيحين عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من عبد قال لا إله إلا الله، ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة، -يقول أبو ذر - قلت: وإن زنا وإن سرق؟ قال: وإن زنا وإن سرق، قلت: وإن زنا وإن سرق؟ قال: وإن زنا وإن سرق ثلاثاً، ثم قال في الرابعة: على رغم أنف أبي ذر، فخرج أبو ذر وهو يقول: وإن رغم أنف أبي ذر). وكذلك حديث عبادة بن الصامت في صحيح مسلم أنه قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، حرمه الله على النار) وفي رواية: (من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروحٌ منه، وأن الجنة حق والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل) رواه مسلم. الآن نأتي إلى قضية ما معنى هذه الأحاديث التي فيها أن قول: لا إله إلا الله يدخل الجنة وينجي من النار؟ هل المقصود هو قول هذه الكلمة فقط كما يفهمه كثير من العامة أنك إذا قلت الكلمة دخلت الجنة بمجرد القول، وتنجو من النار؟ وإذا احتججت على بعضهم، أو ناقشته في معاصيه، أو في فسق فلان وفجوره، أو في كفر فلان، قال: هذا يقول لا إله إلا الله، ومن قال: لا إله إلا الله دخل الجنة. فما هو الكلام في مسألة التلفظ بالشهادتين، ما حقيقة هذا التلفظ؟ وكيف ينبغي أن يُنظر في الأحاديث هذه التي ساق ابن رجب رحمه الله طرفاً منها؟ قال: وأحاديث هذا الباب نوعان: أحدهما: ما فيه أن من أتى بالشهادتين دخل الجنة ولم يحجب عنها، وهذا ظاهر. يقول: هذا لا إشكال فيه، فإن النار لا يخلد فيها أحدٌ من أهل التوحيد الخالص، وقد يدخل الجنة ولا يحجب عنها إذا طُهر من ذنوبه في النار. إذاً أولاً: من قال: لا إله إلا الله، ليس قوله مانعاً من دخوله النار، لكن يدخل الجنة بعد التطهير، وحديث أبي ذر وما في معناه وإن زنا وإن سرق، وإن زنا وإن سرق، ليس معناه أن من قال: إلا إله إلا الله دخل الجنة بدون عذاب وإن زنا وإن سرق، وإن زنا وإن سرق، وإن زنا وإن سرق، لا، وإنما معناه أن الموحد وإن زنا وإن سرق سيكون مصيره في النهاية إلى دخول الجنة، أصابه قبل ذلك ما أصابه، ممكن يحترق في النار مليون سنة على معاصي وكبائر عملها، لكن في النهاية سيدخل الجنة. فإذاً الأحاديث تدل على أن الموحد مصيره في النهاية إلى الجنة، لكن هذه الأحاديث لا تعني إطلاقاً أنه لن يمسه عذاب قبل ذلك، ولذلك ورد في بعض الأحاديث: (من قال: لا إله إلا الله، نفعته يوماً من دهره يصيبه قبل ذلك ما أصابه) وبوضوح أن بعض أهل التوحيد يعذبون، ويصيبهم من النار ما يصيبهم نتيجة كبائر ومعاصي اقترفوها، أو واجبات تركوها، وفي النهاية يخرجون من النار ويدخلون الجنة. إذاً هذا اتجاه، ومعلم واضح في فهم هذه الأحاديث. ثانياً: بعض هذه النصوص، فيها أنه يحرم على النار، لا أن يكون مصيره فقط إلى الجنة بل يحرم على النار، فكيف نفهمها؟ وقد دلت أحاديث وآيات كثيرة على أن أصحاب الكبائر يعذبون والعصاة يعذبون والفجرة يعذبون، فكيف نجمع بين هذه النصوص الكثيرة جداً، والتي فيها أن الله يُعذب من شاء من أهل الكبائر والمعاصي وهم موحدون، وبعض النصوص التي فيها أن شهادة أن لا إله إلا الله تحرم صاحبها على النار، نحن الآن انتهينا من أنها تدخل صاحبها الجنة، قلنا: نجمع أنه يدخل الجنة بعد أن يُعذب إلا إذا عفا الله، فكيف نفهم الآن بعض النصوص التي فيها أن من قال هذه الكلمة فإنه يحرم على النار؟ كيف نجمع بين هذا وبين النصوص التي فيها تعذيب بعض أصحاب الكبائر، أو الآثام والمعاصي؟ A أننا نقول: يحرم الموحد على النار من جهة الخلود فيها، أي: يحرم عليه الخلود في النار لا الدخول والعذاب، أو أنه لا يدخل النار التي فيها خلود، لأن نار جهنم دركات، فالدرك الأعلى يدخله كثيرٌ من العصاة الموحدين بذنوبهم، ثم يخرجون بشفاعة الشافعين، وبرحمة أرحم الراحمين، يدل على هذا حديث الصحيحين: (أن الله تعالى يقول: وعزتي وجلالي لأخرجن من النار من قال: لا إله إلا الله) فلاحظ هنا الكلام (لأخرجن من النار من قال لا إله إلا الله) إذاً دخلوها، وعذبوا فيها، ثم خرجوا منها. إذاً: الذي امتنع عنهم هو الخلود وليس الدخول والتعذيب. إذاً القاعدة الأولى قلنا: الموحد مصيره إلى الجنة في النهاية، وإن أصابه قبل ذلك ما أصابه. ثانياً: الموحد لا يخلد في النار، ولا بد أن يخرج منها في يوم من الأيام إذا دخلها، هذا فهم للنصوص قال به أهل العلم. فهمٌ آخر تُفهم به أحاديث: (من قال لا إله إلا الله، دخل الجنة) (ومن قال لا إله إلا الله، حرم من النار) قالت طائفة من العلماء: المراد من هذه الأحاديث: أن (لا إله إلا الله) سببٌ لدخول الجنة والنجاة من النار، ومقتضٍ لذلك، لكن المقتضي لا يعمل عمله إلا باستجماع شروطه وانتفاء موانعه. أي: نقول: إذا أردنا أن نجري النصوص بجميع ما في معناها، أي: نقول: (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة) (من قال لا إله إلا الله حرم من النار). إذا انتفت عنه الموانع، وتوفرت فيه الشروط: (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة) (من قال لا إله إلا الله حرم على النار) إذن تقول: (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة) بلا عذاب و (من قال لا إله إلا الله، حرم من النار) ولو لحظة، أي: حرم على النار مطلقاً، فلا بد أن تقول إذاً: إذا قام بشروط لا إله إلا الله وحققها، وانتفت الموانع التي تمنع من دخول الجنة دون عذاب، وانتفت الموانع التي توجب دخول النار والتعذيب فيها، لأن بعض الموحدين قد يتخلف عنهم بعض الشروط، أو توجد فيهم موانع تمنع من دخولهم الجنة مباشرة، وابن رجب رحمه الله رجح الثاني وهو قضية الشروط والموانع بأن تفسر النصوص بقضية الشروط والموانع.

أهمية الشهادة بالنسبة لما بعدها من الأعمال

أهمية الشهادة بالنسبة لما بعدها من الأعمال قال: وقال الحسن للفرزدق وهو يدفن امرأته: " ما أعددت لهذا اليوم؟ -يذكر الفرزدق - قال: شهادة أن لا إله إلا الله منذ سبعين سنة، قال الحسن: نِعْمَ العدة، لكن للا إله إلا الله شروطاً، فإياك وقذف المحصنة ". لأن الشعراء قد يقعون في القذف بسهولة ويحصل في شعره قذف، يهجو فيقذف، فيقول الفرزدق: أنا أعددت شهادة أن لا إله إلا الله لأجل يوم القيامة والحساب، قال: نِعْم العدة، ولكن للا إلا إله إلا الله شروطاً، فإياك وقذف المحصنة. إذاً معناها أنه إذا قذف المحصنة، لا يكون قد قام بشروط لا إله إلا الله، فعدته ناقصة. قال: وقيل للحسن: " إن أناساً يقولون: من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة، قال -مفسراً- من قال لا إله إلا الله فأدى حقها وفرضها، دخل الجنة ". وقال وهب بن منبه لمن سأله: " أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنة؟ قال: بلى، ولكن ليس مفتاح إلا له أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان، فتح لك وإلا لم يُفتح لك ". وأسنان مفتاح لا إله إلا الله تحقيق شروطها، وانتفاء موانعها، والقيام بحقها، وقد جاء في الصحيحين عن أبي أيوب: (أن رجلاً قال: يا رسول الله! أخبرني بعمل يدخلني الجنة، قال: تعبد الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم). وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة (أن رجلاً قال: يا رسول الله! دلني على عملٍ إذا عملته، دخلت الجنة قال: تعبد الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان فقال الرجل: والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا ولا أنقص منه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة، فلينظر إلى هذا). وفي المسند عن بشير بن الخصاصية وفي السند مجهول، قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم لأبايعه، فاشترط عليَّ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن أقيم الصلاة، وأن أوتي الزكاة، وأن أحج حجة في الإسلام، وأن أصوم شهر رمضان، وأن أجاهد في سبيل الله، فقلت: يا رسول الله! أما اثنتين فوالله لا أطيقهما: الجهاد والصدقة -أي: أضحي بنفسي ومالي! - فإنهم زعموا أن من ولى الدبر، فقد باء بغضبٍ من الله -أي: ولى الأدبار في المعركة، باء بغضبٍ من الله- فأخاف إن حضرت تلك جشعت نفسي وكرهت الموت والصدقة، فوالله ما لي إلا غُنيمة وعشر ذودٍ، أي: من الإبل هنَّ رُسُلُ أهلي وحمولتهُن -أي: هذه عزيزة عليَّ وقليلة- قال: فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يده، ثم حركها، ثم قال: فلا جهاد، ولا صدقة، فبمَ تدخل الجنة إذاً؟ قلت: يا رسول الله أبايعك، فبايعته عليهن كلهن). ففي هذا الحديث أن الجهاد والصدقة شرطٌ في دخول الجنة مع حصول التوحيد والصلاة والصيام والحج. ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام لما قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله) ففهم الصديق أن من امتنع عن الزكاة يُقاتل، لأنه ما أدى حق لا إله إلا الله، قالوا: فسر معنى الحديث: (فإذا منعوا ذلك، منعوا مني دماءهم إلا بحقها وحسابهم على الله) قال أبو بكر: [الزكاة حق المال] فهذا فهم الصديق الصريح الذي فاء إليه الصحابة ووافقوه عليه وساروا وراءه فيه: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة:5] {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11]. إذاً: لابد من أداء الفرائض مع التوحيد، أي: إذا قال لا إله إلا الله، ولا صلاة، ولا زكاة، يكون من إخواننا في الدين؟ نخلي سبيله؟ لا نقاتله؟ بل نقاتله إذا امتنع عن هذه الفرائض. فإذا عُلم يا إخواني أن عقوبة الدنيا لا تُرفع عمن أدى الشهادتين مطلقاً: لو زنا، يجلد أو يرجم، ولو سرق، تُقطع يده، بل يُعاقب عليها، وإن أدى الشهادتين يعاقب في الدنيا، وتقام عليه الحدود، فكذلك عقوبة الآخرة لا تمتنع على من خالف، بعض العلماء ذكروا شيئاً، قالوا: إن هذه النصوص (من قال لا إله إلا الله، دخل الجنة) (من قال لا إله إلا الله، حرم من النار) قيلت قبل نزول الحدود، وقبل نزول تحريم الأشياء، وقبل نزول الفرائض، ولكن هذا القول استبعده الحافظ ابن رجب رحمه الله. وبعضهم قال: تلك الأحاديث التي سبق تصدير الرسالة منسوخة، ولكن الأرجح أن يُقال: أحاديث محكمة وقيلت في الفرائض وبعد الفرائض ونزول تحريم الأشياء، لكن لا إله إلا الله لها شروط إذا توفرت وانتفت الموانع، حصلت النتيجة وهي الفوز بالجنة والنجاة من العذاب. ثم يلفت النظر إلى أن بعض النصوص المطلقة قد جاءت مقيدة، ففي أحاديث: (من قال: لا إله إلا الله مخلصاً من قبله) (من قال: لا إله إلا الله مستيقناً بها) (من قال: لا إله إلا الله يصدق لسانه قلبه) (يقولها حقاً من قلبه) وفي رواية: (قد ذل بها لسانه، واطمأن بها قلبه) هذا الذي ينجو، تخيل رجل لا يؤدي الصلاة ولا الزكاة ولا يحج ولا يصوم ويزني ويشرب الخمر ويكذب ويسرق ويفعل ويفعل ثم يكون مستيقناً بلا إله إلا الله، وقال لا إله إلا الله مخلصاً من قلبه، ممكن؟ لا يمكن أن يكون ذلك. فإذاً لا بد من هذا المفهوم أن يتضح، وهذه المسألة مهمة، لأن الناس العامة يناقشون في هذه القضية، فلابد من تفهيمهم هذه المسألة، وأن تُعقد الخطب والدروس لشرحها، وأن تكون المواعظ من أجلها والمناقشات في المجالس عليها.

علاقة أعمال القلوب بالشهادة

علاقة أعمال القلوب بالشهادة ثم لفت ابن رجب رحمه الله النظر إلى مسألة مهمة جداً، وهي أن هذه النصوص التي فيها (مستيقناً بها قلبه) (خالصاً من قلبه) تفيد أهمية أعمال القلوب. فإذاً لا إله إلا الله لها علاقة مباشرة بأعمال القلوب، ما معنى لا إله إلا الله؟ أي: لا يأله القلب غير الله حباً ورجاءً وخوفاً وتوكلاً واستعانةً وخضوعاً وإنابةً وطلباً، وأعمال القلوب كثيرة، فمنها: الوجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال:2]. الإخبات: {فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} [الحج:54]. الإنابة: {وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق:33]. الطمأنينة: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]. التقوى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32]. الانشراح: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام:125]. السكينة: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح:4]. اللين: {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:23]. الخشوع: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد:16]. الطهارة: {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب:53]. الهداية: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11]. العقل: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} [الحج:46]. التدبر: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]. الفقه: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا} [الأعراف:179]. الإيمان: {مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} [المائدة:41]. الرضى والتسليم: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65]. إذاً: القلوب لها أعمال مرتبطة ارتباطاً مباشراً بلا إله إلا الله، ثم إنه لا يمكن للإنسان أن يحقق لا إله إلا الله إلا إذا حقق محمد رسول الله، هذا الربط مهم جداً، منه نصل إلى قضية اتباع السنة واجتناب البدعة، وأن المبتدع لم يحقق لا إله إلا الله، من قال لا إله إلا الله، وأطاع الله عز وجل، يُطاع ولا يُعصى هيبةً له وإجلالاً ومحبةً وخوفاً ورجاءً وتوكلاً عليه وسؤالاً منه ودعاءً له، هذا الذي إذا حقق تلك المعاني، فإنه يكون محققاً للا إله إلا الله. ومما يدل على أن من مقتضيات شهادة أن لا إله إلا الله: اجتناب المعاصي، أنه قد جاء في وصف بعض المعاصي بالكفر والشرك، وهذه المعاصي إذا كانت دون الكفر فالمقصود بها إذاً الكفر الأصغر، والشرك الأصغر كما ورد إطلاق الشرك على الرياء، وعلى الحلف بغير الله، وعلى قول من قال: ما شاء الله وشاء فلان، وما لي إلا الله وأنت. فإذاً هناك أشياء تقدح في كلمة التوحيد مثل هذه الأمور. فكيف يقال من قال: لا إله إلا الله مجردة تنجيه وتدخله الجنة دون حساب، ولا عذاب؟ ثم هو يقع فيما يناقض لا إله إلا الله بكلامه وأفعاله، وقد وصف بالكفر من أتى حائضاً، أو امرأة في دبرها، ووصف كذلك بالشرك بعض الأعمال كما تقدم، وورد إطلاق الإله على الهوى المتبع، قال الله عز وجل: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:23] وقيل في تفسير هذه الآية: هو الذي لا يهوى شيئاً إلا ركبه، ليس يحجزه عنه شيء، كلما اشتهى شيئاً أتاه، ولا ورع يمنعه من ذلك ولا تقوى. إذاً: ممكن أن يقع في العبودية لغير الله أناس يقولون: لا إله إلا الله كما دل عليه حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش) هذا كله يدل على أن كل من أحب شيئاً وأطاعه وكان هو غايته ومقصوده وطلبه، ووالى لأجله وعادى لأجله فهو عبده، وإن كان يقول: لا إله إلا الله، وقد سمى الله طاعة الشيطان عبادة كما قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [يس:60]. ومن هذا حاله تكون شهادة أن لا إله إلا الله في حقه مدخولة مخترقة بهذه المعاصي والآثام، وقد قال الخليل لأبيه: {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً} [مريم:44]. فإذاً: الذين حققوا قول لا إله إلا الله هم عباد الله الذين ليس لإبليس عليهم سلطان، فصدقوا قولهم بفعلهم، ولم يلتفتوا إلى غير الله محبةً ورجاءً وخشيةً وطاعةً وتوكلاً، هؤلاء الذين صدقوا في قول لا إله إلا الله هم أهل لا إله إلا الله حقاً، ولا يمكن أن يكون منهم الذي قال لا إله إلا الله بلسانه، ثم أطاع الشيطان واتبع هواه في معصية الله ومخالفته {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} [القصص:50]. ثم يقول ابن رجب واعظاً: فيا هذا كن عبد الله لا عبد الهوى، فإن الهوى يهوي بصاحبه في النار: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف:39] تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار! والله لا ينجو غداً من عذاب الله إلا من حقق عبودية الله وحده، ولم يلتفت إلى شيء من الأغيار -أي: ما أطاع شيئاً آخر غير الله عز وجل- من علم أن إلهه معبوده فرد، فليفرده بالعبودية، ولا يشرك بعبادة ربه أحداً. فقول لا إله إلا الله تقتضي ألا يحب سواه، فإن الإله هو الذي يطاع، فلا يُعصى مع محبته والخوف منه ورجائه. قال: ومن تمام محبته محبة ما يُحبه، وكراهية ما يُبغضه، فمن أحب شيئاً يكرهه الله، أو كره شيئاً يُحبه الله لم يكمل توحيده، ولا صدقه في قوله: لا إله إلا الله، وكان فيه من الشرك الخفي بحسب ما أحب من الأمور التي يبغضها الله، وبحسب ما أبغض من الأمور التي يحبها الله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:28]. قال: " قال الليث عن مجاهد في قوله: {لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} [النور:55] قال: لا يحبون غيري ". وقال الحسن: " اعلم أنك لن تحب الله حتى تحب طاعته ". ليس من أعلام الحب أن تحب ما يبغض حبيبك، كل من ادعى محبة الله، ولم يوافق الله في أمره، فدعواه باطلة. ونقل أيضاً عن يحيى بن معاذ قوله: ليس بصادقٍ من ادعى محبة الله ولم يحفظ حدوده. وقول رويم: " المحبة الموافقة في جميع الأحوال " وهذا من معنى قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]. قال الحسن: " قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا نحب ربنا حباَ شديداً، فأحب الله أن يجعل لحبه علماً -دليل على صدق المحبة المدعاة- فأنزل الله تعالى هذه الآية. ومن هنا يُعلم أن شهادة لا إله إلا الله لا تتم إلا بشهادة أن محمداً رسول الله، فإنه إذا علم أنه لا تتم محبة الله إلا بمحبة ما يحبه وكراهية ما يكرهه. فكيف تعرف الذي يحبه الله والذي يكرهه الله؟ أليس من كتابه ومن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم المبلغ عن ربه؟ فإذاً: الأخذ بالسنة واجبٌ وحتمٌ، وصارت محبة الله مستلزمة لمحبة النبي صلى الله عليه وسلم {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة:24] وهدد وقارن الله بين طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم في مواضع كثيرة، وقال: (ثلاثٌ من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما) الحديث. وهذا حال سحرة فرعون لما سكنت المحبة قلوبهم، سمحوا ببذل النفوس، وقالوا لفرعون: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طه:72] ومتى ما تمكنت المحبة في القلب، لم تنبعث الجوارح إلا إلى طاعة الرب. وهذا معنى الحديث القدسي: (ولا يزال عبدي يتقرب إليًّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها). فإذاً لما استغرقت المحبة قلب العبد واستولت عليه، لم تنبعث جوارحه إلا إلى ما يُرضي الرب، وصارت نفسه مطمئنةً بإرادة مولاها عن مرادها وهواها.

ومن الناس من يعبد الله على حرف

ومن الناس من يعبد الله على حرف يقول ابن رجب: " يا هذا اعبد الله لمراده منك لا لمرادك منه " ماذا يريد منك؟ اعبده بناءً على ما يريد منك، ولا تعبده بناءً على ما تريده منه، فإذا جئت مضطراً وغرقت في البحر، جئت تعبده لكي ينجيك، وإذا مرضت، صرت تعبده لكي يشفيك، وإذا افتقرت صرت تعبده لكي يغنيك فقط، يقول: هذا خطير، فمن عبده لمراده منه، فهو ممن يعبد الله على حرف، إن أصابه خيرٌ اطمأن به، لو جاءك المال قلت: هذه العبادة هذا الأثر منها، ولو جاءتك الصحة بعد المرض، قلت: هذا بسبب الدعاء والعبادة. ولو طلبت الغنى بعد الفقر وما أتاك الغنى، وطلبت الصحة في المرض وما أتتك الصحة، هنا ينقلب الذين لم تثبت في طريق الدين أقدامهم. ولذلك قال: " يا هذا اعبد الله لمراده منك، لا لمرادك منه، فمن عبده لمراده منه فهو ممن يعبد الله على حرف، إن أصابه خيرٌ اطمأن به، وإن أصابته فتنةٌ انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ". كان بعضهم يأتي إلى المدينة، يقول: نجرب الإسلام، إن ولدت المرأة ذكراً، وأنتجت الخيل وجاءت بمهر، فهذا دين خير، وإن جاءت زوجته بأنثى وهذه الخيل ماتت والزرع ضاع، قال: هذا دين سوء، لا رغبة فيه. فإذاً: العبادة على مراد الشخص، وليست على مراد الله، فمن كان يفعل العبادة بناءً على هذا ينتكس وينقلب قال: " وفي بعض الكتب السالفة: من أحب الله لم يكن شيءٌ عنده آثر من رضاه، ومن أحب الدنيا لم يكن شيءٌ عنده آثر من هوى نفسه". قال الحسن: " ما نظرت ببصري، ولا نطقت بلساني، ولا بطشت بيدي، ولا نهضت على قدمي؛ حتى أنظر على طاعة الله أو على معصية، فإن كانت طاعة تقدمت، وإن كانت معصية تأخرت ". البطشة أو الكلمة أو النظرة أو الخطوة إن كان طاعة تقدمت، وإن كانت معصية تأخرت، وهكذا تكون حقيقة العبودية أن ينزل العبد أعمال الجوارح على الآيات والأحاديث ومقاييس طاعة الله عز وجل، فإن وافقت مراد الله وما يحبه الله تقدم وعمل، وإن خالفت أحجم ورجع.

طهارة قلوب المحبين

طهارة قلوب المحبين قال: " هذا حال خواص المحبين الصادقين، فافهموا رحمكم الله هذا، فإنه من دقائق أسرار التوحيد الغامضة " ثم استشهد بقول المتنبي: أَرُوحُ وقد ختمت على فؤادي بحبك أن يحل به سواكا فلو أني استطعت غضضت طرفي فلم أنظر به حتى أراكا أحبك لا ببعضي بل بكلي وإن لم يُبق حبك لي حراكا وفي الأحباب مخصوصٌ بوجدٍ وآخر يدعي معه اشتراكا إذا اشتبكت دموعٌ في خدودٍ تبين من بكى ممن تباكى فأما من بكى فيذوب وجداً وينطق بالهوى من قد تشاكى فالله سبحانه وتعالى أغنى الأغنياء عن الشرك، ولا يرضى أن يزاحم عز وجل بأصنام الهوى، والحق غيور يغار على عبده المؤمن أن يُسكن في قلبه سواه، أو يكون في قلبه شيء غير ما يرضاه. أردناكم صرفاً فلما مزجتم بَعُدتُم بمقدار التفاتِكُم عنا بحسب الالتفات إلى غير الله يكون البعد عن الله، وإذا كان النظر دائماً إلى الله سبحانه وتعالى، ومراد الله ومطلوب الله وما يحبه الله، صار العبد ملتجئاً إلى الله عز وجل باستمرار. قال: " لا ينجو غداً إلا من لقي الله بقلب سليم ليس فيه سواه -أي: سوى محبة الله والأنس به ورجائه وخوفه- قال الله تعالى: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89] ". والسليم من الشبهات والشهوات الطاهر من أدناس المخالفات، أما المتلطخ بشيءٍ من مكروهات الرب، فلا يصلح لمجاورة الله عز وجل، ومجاورة الله تكون في الجنة، لأن الجنة هي جوار الله عز وجل، فكيف يجاوره غير المتطهر، فلا بد من تطهير، فيمر على النار: (إن الله طيبُ لا يقبل إلا طيباً). قال: " فأما القلوب الطيبة، فتصلح للمجاورة من أول الأمر بدون تطهير، لأنها طاهرةً أصلاً: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:24] {سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر:73] {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ} [النحل:32].

الرياء وأثره على الأعمال

الرياء وأثره على الأعمال " ومن لم يُحرق اليوم قلبه بنار الأسف على ما سلف -التوبة والندم- فنار جهنم له أشد حراً، ما يحتاج إلى التطهر بنار جهنم إلا من لم يكمل تحقيق التوحيد والقيام بحقوقه. أول من تُسعر بهم النار من الموحدين العُبّاد المراءون بأعمالهم، وأولهم العالم المرائي بعلمه، والمجاهد والمتصدق للرياء ". لأن يسير الرياء شرك، ما نظر المرائي إلى الخلق بعمله إلا لجهله بعظمة الخالق، لو عنده علم بعظمة الخالق ما نظر إلى الخلق أثناء عمله، كان عمله إلى الله عز وجل، وعمل لله تعالى. قال: " المرائي يُزور التوقيع على اسم الملك ليأخذ البراطيل لنفسه ". البراطيل جمع برطيل وهو: الرشوة، وطبعاً هنا العلاقة بين الله سبحانه وتعالى هو ملك الملوك، والمرائي ماذا يفعل؟ يزور على اسم الملك ليأخذ البراطيل، فكأنه يتزيا بزي العُبّاد، ويتظاهر بالعبادة ليأخذ نصيبه من الناس ثناءً وشكراً وسمعةً. يزور ليوهم أنه من خاصة الملك، وهو ما يعرفه الملك حقيقةً، وأهل الرياء وأصحاب الشهوة وعبيد الهوى يدخلون النار، الذين أطاعوا هواهم وعصوا مولاهم، أما عبيد الله حقاً، فيقال لهم: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30]. ولذلك إذا مرَّ أهل الإخلاص والتوحيد على النار أثناء العبور على الصراط، فإنها تكون عليهم برداً وسلاماً كما كانت على إبراهيم، حتى لربما كان للنار ضجيجاً من بردهم، فهذا ميراثٌ ورثه المحبون من حال الخليل عليه السلام، وأما الذين يمرون على النار وهم ليسوا من أهل التوحيد الخالص، وقد كدروا التوحيد بالمعاصي والفجور، فإنهم يسقطون في النار، وتنالهم النار بمعاصيهم، فينبغي أن يكون الهم كله لله، ومن أصبح وهمه غير الله فليس من الله قال: " وكان داود الطائي يقول: همك عطل عليَّ الهموم وحالف بيني وبين السهاد -منعني النوم مثل قيام الليل- وشوقي إلى النظر إليك أوبق مني اللذات -أخمدها وقتلها- وحال بيني وبين الشهوات. يقول ابن رجب رحمه الله: إخواني إذا فهمتم هذا المعنى، فهمتم معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (من شهد أن لا إله إلا الله صادقاً من قلبه حرمه الله على النار). فأما من دخل النار من أهل هذه الكلمة فلقلة صدقه في قولها، فإن هذه الكلمة إذا صدقت طهرت القلب من كل ما سوى الله. من صدق في قول لا إله إلا الله لم يحب سواه، ولم يرج سواه، ولم يخش أحداً إلا الله، ولم يتوكل إلا على الله، ولم يبق له بقيةً من آثار نفسه وهواه، وكلما زلق العبد في هوة الهوى أخذ بيده سبحانه إلى نجوة النجاة، ويسر له التوبة إذا كان من أهل الله، وينبهه على قبح الزلة فيفزع إلى الاعتذار، ويبتليه بمصائب مكفرة تكفر ما جناه، فلا يعني أن أهل التوحيد الصادقين لا يعصون ولا يقعون في المعصية، لكنهم سريعو الفيئة، والله عز وجل من حبه لهم كلما زلقوا في هوة الهوى أخذ بأيديهم إلى ساحل التوبة والنجاة، وجعلهم يفزعون إلى الاعتذار، ويبتليهم بمصائب ليكفروا آثام المعصية، فيكونوا أنقياء، فيدخلون الجنة أنقياء. ولذلك قال في الحديث: (الحمى تُذهب الخطايا كما يذهب الكير الخبث) رواه مسلم، وجاء عن عبد الله بن مغفل أن رجلاً رأى امرأة كانت بغياً في الجاهلية، ثم أسلما كلاهما، لكن هذا لما لقيها في الطريق تذكر الماضي، وربما أصابه شيءٌ من الرغبة في العودة، فجعل يلاعبها حتى بسط يده إليها أراد أن يلمسها، فقالت: مه! أي: كف، فإن الله قد أذهب الشرك وجاء بالإسلام، فتركها وولى، أي: اتعظ من كلامها وولى، فجعل يلتفت خلفه ينظر إليها حتى أصاب الحائط وجهه وشُج وسال دمه، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر، فقال: (أنت عبدٌ أراد الله بك خيراً) ثم قال: (إن الله إذا أراد بعبده شراً، أمسك ذنبه حتى يوافي به يوم القيامة). فهذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد وابن حبان يدل على أن الله إذا أحب شخصاً في الدنيا، وكان قد عصى، فإن الله إما أن يوفقه إلى توبة، أو يبتليه بمصيبة يُكفر بها ذنبه حتى يلقاه يوم القيامة وهو نقي، لأن من لم تنقه التوبة في الدنيا ولا المصائب، فلا بد من التطهير يوم القيامة، والتطهير لا يكون إلا بالعبور على الصراط وركوب النار وما تأخذه منه بسبب معصيته.

فضل كلمة الإخلاص وآثارها

فضل كلمة الإخلاص وآثارها قال" يا قوم! قلوبكم على أصل الطهارة، وإنما أصابها رشاش من نجاسة الذنوب، فرشوا عليها قليلاً من دموع العيون تطهر ". " اعزموا على فطام النفوس عن رضاع الهوى " هذا من بليغ كلام ابن رجب رحمه الله افطم نفسك عنه الهوى، " فالحمية رأس الدواء ". " متى طالبتكم -أي: نفوسكم- بمألوفاتها -أي: بهواها، قالت لك: انظر إلى الحرام، امش إلى الحرام، اسمع الغناء الحرام، كل الربا الحرام- فقولوا مقالة تلك المرأة لذاك الرجل الذي دمي وجهه: قد أذهب الله الشرك وجاء بالإسلام، والإسلام يقتضي الاستسلام والانقياد للطاعة. ذكروها إذا اشتهت المعصية بقول الله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:30] لعلها إلى الاستقامة ترجع. عرفوها اطلاع من هو أقرب إليها من حبل الوريد، لعلها تستحي من قربه ونظره: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [لعلق:14] {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:14]. راود رجل امرأة في فلاة ليلاً، فأبت، فقال لها: من يرانا إلا الكواكب؟ قالت: فأين مكوكبها؟ أكره رجل امرأة على نفسها وأمرها بغلق الأبواب، فقال لها: هل بقي بابٌ لم يغلق؟ قالت: نعم، الباب الذي بيننا وبين الله تعالى، فتركها ولم يتعرض لها. رأى بعض العارفين رجلاً يُكلم امرأة في ريبة، فقال: إن الله يراكما، سترنا الله وإياكما ". المراقبة: علم القلب بقرب الرب؛ وصى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً أن يستحي من الله كما يستحي من رجل صالح من عشيرته لا يفارقه. وقال بعضهم: استح من الله على قدر قربه منك، وخف من الله على قدر قدرته عليك. وبعد أن انتهى ابن رجب رحمه الله من هذه المواعظ والتذكير بمعنى لا إله إلا الله المعنى الحقيقي الذي يغيب عن أذهان الكثيرين، عقد فصلاً في فضل لا إله إلا الله وفضائلها، وقال: إن لها فضائل عظيمة لا يمكن استقصاؤها، فلنذكر بعض ما ورد فيها: لأجلها خلق الخلق: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]. ولأجلها أرسلت الرسل وأنزلت الكتب: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]. ولأجلها جردت السيوف للجهاد، وهي حق الله على جميع العباد، ما أنعم الله على العباد نعمةً أعظم من أن عرفهم لا إله إلا الله، أعظم نعمة أنه عرفنا لا إله إلا الله. ولا إله إلا الله لأهل الجنة كالماء البارد لأهل الدنيا، من قالها عصم ماله ودمه، ومن أباها فماله ودمه هدر، وهي مفتاح الجنة ومفتاح دعوة الرسل، وبها كلم الله موسى كفاحاً، من قالها صادقاً أدخله الله الجنة، وهي ثمن الجنة، ومن كان آخر كلامه من الدنيا: لا إله إلا الله دخل الجنة. وهي النجاة من النار، سمع النبي صلى الله عليه وسلم مؤذناً يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، فقال: (خرج من النار) رواه مسلم. وهي التي توجب المغفرة، وهي أحسن الحسنات، قلت: (يا رسول الله! - أبو ذر - كلمني بعمل يقربني من الجنة ويباعدني من النار، قال: إذا عملت سيئة فاعمل حسنة، فإنها عشر أمثالها. قلت: يا رسول الله! لا إله إلا الله من الحسنات؟ قال: هي أحسن الحسنات) رواه الإمام أحمد وسنده حسن. وهي التي تمحو الذنوب وتحرقها رئي بعض السلف بعد موته في المنام فسئل عن حاله فقال: ما أبقت لا إله إلا الله شيئاً، أي: الحمد لله بإخلاصي فيها قد محيت ذنوبي. وهي تجدد ما اندرس من الإيمان، كما في المسند عند عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن نوحاً قال لابنه عند موته آمرك بلا إله إلا الله، فإن السماوات السبع والأرضين السبع لو وضعت في كفة ووضعت لا إله إلا الله في كفة، رجحت بهن لا إله إلا الله، ولو أن السماوات السبع والأرضين السبع كن في حلقة مبهمة، خصمتهن لا إله إلا الله). وفي رواية: (قصمتهن) فهي تنفذ إلى كل شيء، قويةٌ غاية القوة، وبلا إله إلا الله ترجح كفة الحسنات، وترجح صحائف الذنوب كما في حديث السجلات والبطاقة وهو حديث صحيح، وهي التي تخرق الحجب حتى تصل إلى الله عز وجل. عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما قال: عبدٌ لا إله إلا الله مخلصاً إلا فتحت له أبواب السماء حتى تفضي إلى العرش ما اجتنبت الكبائر) رواه الترمذي وحسنه وهو حديث حسن. وقال أبو أمامة: ما من عبدٍ يهلل تهليلة، فينهنهها شيءٌ دون العرش. التهليل لا يحبسه شيء عن الله، يصعد إلى الله مباشرة، وهي التي ينظر الله إلى قائلها: (من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، مخلصاً بها روحه، مصدقاً بها لسانه؛ إلا فتق له السماء فتقاً -الله سبحانه وتعالى- حتى ينظر إلى قائلها من أهل الأرض، وحق لعبد نظر إليه أن يعطيه سؤله) رواه النسائي رحمه الله. وهي الكلمة التي يصدق الله قائلها كما جاء في الحديث الصحيح: (إذا قال العبد لا إله إلا الله، والله أكبر، صدقه ربه). وهي الكلمة التي من يقولها في مرضه، فيموت لا تطعمه النار، وهي أفضل كلمة قالها النبيون كما ورد في دعاء يوم عرفة، وهي أفضل الذكر على الإطلاق كما في حديث جابر المرفوع: (أفضل الذكر لا إله إلا الله) وهو حديث حسن. وهي أفضل الأعمال، وأكثرها تضعيفاً، وتعدل عتق الرقاب، وهي حرزٌ من الشيطان كما جاء في حديث الصحيحين: (من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يومه مائة مرة، كانت له عدل عشر رقاب، وكتب له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، ولم يأتِ أحدٌ بأفضل مما جاء به إلا أحدٌ عمل أكثر من ذلك) (ومن قالها عشر مرات، كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل) أي: من أنفس الرقاب. وفي حديث السوق: (من قالها -وأضاف فيها-: يحيي ويميت وهو حيٌ لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، كتب الله له ألف ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيئة، ورفع الله له ألف ألف درجة) حسنه بعض أهل العلم، وهي أمانة من وحشة القبر وهول المحشر، وشعار المؤمنين إذا قاموا من قبورهم، وهي التي تفتح لقائلها أبواب الجنة الثمانية كما جاء في حديث عبادة في الصحيحين: (من قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروحٌ منه، وأن الجنة حق والنار حق، أدخله الله من أي أبواب الجنة الثمانية شاء). وهذا الحديث الصحيح يبين عظمها وفضلها، وأن أهل النار أيضاً الموحدين لو دخلوا النار بتقصيرهم، فلا بد أن يخرجوا منها لأجل هذه الكلمة، كما جاء في حديث الصحيحين، يقول الله عز وجل: (وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لأخرجن منها من قال لا إله إلا الله). ولذلك إذا اجتمع الموحدون العصاة في جهنم مع المشركين، وقال المشركون: أنتم كنتم تقولون: لا إله إلا الله في الدنيا، ماذا أغنت عنكم؟ فيغضب الله لهم، فيخرجهم من النار ويدخلهم الجنة. فإذاً ينجيهم الله بكلمة التوحيد ولو عذبهم فيها ما داموا من الموحدين ليسوا من المشركين. كان بعض السلف يقول في دعائه: اللهم إنك قلت عن أهل النار: إنهم {أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [المائدة:53]-أي: في الدنيا- {لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} [النحل:38] ونحن نقسم بالله جهد أيماننا ليبعثن الله من يموت، اللهم لا تجمع بين أهل القسمين في دارٍ واحدةٍ. قال رحمه الله في آخر رسالته: " إخواني! اجتهدوا اليوم في تحقيق التوحيد فإنه لا ينجي من عذاب الله إلا إياه " ما نطق الناطقون إذا نطقوا أحسن من لا إله إلا هو

الأخوة في الله

الأخوة في الله الأخوة في الله لها أهمية عظيمة، ومما يدل على أهميتها أن الله جل وعلا رتب عليها الأجر العظيم، وهي عبادة نتقرب إلى الله بها، بل قد تكون سبباً من أسباب دخول الجنة. والإخوة في الله لهم حقوق وواجبات، فمن هذه الحقوق: الزيارات قضاء حوائجهم النصيحة لهم وغير ذلك. وهناك أخطاء وسلبيات يرتكبها البعض مع إخوانهم في الله منها: كثرة مخالطتهم بغير فائدة عدم التماس الأعذار لهم التعلق المحرم التصرف بأموالهم وممتلكاتهم دون إذنهم إخلاف المواعيد إلخ.

أهمية الأخوة في الله

أهمية الأخوة في الله الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين. نحمد الله تعالى -أيها الإخوة- أن جمعنا وإياكم في بيتٍ من بيوته عز وجل نذكره سبحانه وتعالى، ونتذاكر نعمه، ومنها نعمة الأخوة، قال تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11]. نسأل الله عز وجل أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً، وأن يجعل تفرقنا بعده تفرقاً معصوماً، وأن يجعلنا وإياكم من الإخوة في الله المتآخين في سبيل الله ولا يجعل فينا ولا معنا شقياً ولا محروماً. أيها الإخوة: كما سمعنا في الآيات الكريمة قول الله عز وجل: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ} [آل عمران:103] لا بأي شيء آخر: {فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} [آل عمران:103]. أيها الإخوة: لا يوجد في دين من الأديان، أو مذهب من المذاهب، أو مكان من الأمكنة شيءٌ اسمه الأخوة التي هي بهذا الطعم إلا في الإسلام، لا يمكن أن يوجد مطلقاً؛ لأن هذا الشعور -شعور الأخوة في الله والتآخي في الله- نعمة عظيمة لا يشعر بها إلا المسلمون، لا يشعر بها إلا الذين جعلهم الله إخوة: {فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} [آل عمران:103]. والمجتمع الإسلامي يقوم على دعامتين أساسيتين: الإيمان والأخوة: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} [آل عمران:103]. فلا يمكن أن يقوم المجتمع الإسلامي قياماً صحيحاً على سوقه كما أمر الله إلا بهاتين الدعامتين الأساسيتين: الإيمان والأخوة، ولذلك أمر الله بالتآخي، وعقد من عنده عز وجل عقد الأخوة بين المؤمنين، فقال عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] و (إنما) من فوائدها حصر الخبر في المبتدأ، أو المبتدأ في الخبر {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] أي: ليس المؤمنون إلا إخوة، من عظم الأخوة أن الله جعلها هي الوصف الأكمل للمؤمنين، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} [الحجرات:10] المؤمنون عبارة عن أي شيء؟ عن إخوة: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10] فالأخوة تنبثق من التقوى ومن الإسلام.

الأخوة في الله عبادة

الأخوة في الله عبادة ما هو أساس الأخوة؟ الاعتصام بحبل الله عز وجل، وبمنهج الله عز وجل، وبطريق الله تعالى. والأخوة عبادة، ولابد أن نعرف أن الأخوة عبادة من العبادات التي نتقرب بها إلى الله عز وجل، فهي عبادة نتقرب إلى الله بها مثلما نتقرب إليه بالصلاة أو بالصيام، أو بالحج بالدعاء بالتوكل. فهي عبادة من العبادات الجليلة التي ركب الله تعالى عليها فضلاً عظيماً منه عز وجل، وهي نعمة عظيمة جداً، نعمة عظيمة لا يحس بها إلا من توافرت فيه شروط الأخوة، وإلا فأقول لكم بصراحة: إن كثيراً من الناس اليوم تجده يقول: فلان من أعز أصدقائي، أو هذا فلان صديق عزيز، أو هذا فلان كنت أنا معه من السنة الفلانية، أو من المرحلة الابتدائية، أو كنا معاً في حارة واحدة، هذا فلان من أعز أصدقائي، هذا الكلام -أيها الإخوة- لا يعني مطلقاً أن هذين الرجلين متآخيان في الله، لا. فقد تكون العلاقة بينهما هي علاقة تجاذب وتقارب وتوافق نفسي فقط، اثنين يرتاحان لبعض، أما الأخوة في الله فهي مسألة أعلى من ذلك بكثير، فهي مراتب وصفات لا يحس بها إلا من عرفها وذاق طعمها.

الأخوة والمحبة من سبل النجاة

الأخوة والمحبة من سبل النجاة ومن الأدلة على أن الأخوة في الله عز وجل لها فضلٌ عظيم وأجرٌ جسيم -وهذا يدلك على خطورتها وعلى عظمها ومنزلتها العالية -أن الله عز وجل وصف أهل الجنة بأنهم إخوة في الله، قال عز من قائل: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47] إذا دخل أهل الجنة الجنة لا يزال في صدورهم بعض الأشياء العالقة من الدنيا، فإذا دخلوا الجنة نزع الله من صدورهم الغل فصارت عندهم أخوة نقية ما فيها شائبة واحدة. ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم من ضمن شروط الإيمان (أن يحب المرء لا يحبه إلا لله) إذا صارت هذه القضية فإن الله تعالى يظل هؤلاء المتحابين تحت ظل عرشه يوم لا ظلَّ إلا ظله ((ورجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وتفرقا عليه). إذاً -أيها الإخوة- هذا الحديث الأخير الذي ذكرته الآن يوضح معنى الكلام الذي قلته قبل قليل، وهو أن الأخوة في الله مرتبة عالية، ولها شروط كثيرة، فلذلك ليس أي اثنين تحابا يظلهم الله في ظله، لا. بل لابد أن تكون الأخوة كما فسرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: (ورجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وتفرقا عليه) اجتمعا من أجل الله وعلى منهج الله، والطريق التي ارتضاها الله عز وجل، وتفرقا على نفس الشيء، ما تغيرت القضية بالمجلس، لما جلسوا ما تغيروا بل تفرقوا على مثلما جلسوا عليه، اجتمعا عليه وتفرقا عليه، سواء في المجلس أو في مجالس متفرقة، أو كانت في الدنيا عموماً، اجتمعا عليه وفرق الموت بينهما وهما ما زالا على نفس العهد والميثاق الذي أخذه الله عليهما. أيها الإخوة: نحن أحياناً لا ندقق في العبارات ولا ندقق في الآيات والأحاديث، لكنك لو دققت تجد أشياءً توضح لك لماذا القضية عظيمة (رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه) ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الحسن في صحيح الجامع (ما من مسلمين يلتقيان فيسلم أحدهما على صاحبه ويأخذ بيده لا يأخذ بيده إلا لله، فلا يفترقان حتى يغفر لهم) والآن نحن نلتقي كثيراً، وكثيراً ما يسلم بعضنا على بعض، لكن هل توافرت الشروط التي تجعل هذا الالتقاء ينتهي بمغفرة الذنوب لكلا الطرفين: (ما من مسلمين يلتقيان فيسلم أحدهما على صاحبه ويأخذ بيده لا يأخذ بيده إلا لله) لماذا نركز على هذا المفهوم؟ لأن الالتقاءات التي تحدث اليوم بين الناس -أيها الإخوة- ليست لله، ولا في الله، وإنما هي من أجل عرضٍ من الدنيا زائل. الآن الناس يتلاقون فيسلم الواحد على الثاني، ويأخذ بيده ويصافحه، لكن إذا نظرت في الحقيقة لماذا يصاحبه؟ ولماذا يسلم عليه؟ ولماذا يأخذ بيده؟ تجد الغرض من وراء هذا كله مصلحة دنيوية، الآن الناس يلتقون لكن اللقاءات على الماديات الفانية: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:27] فلذلك لا يحس الواحد من هؤلاء طعماً مطلقاً، لا يجدون حلاوةً للقاء؛ لأن القضية فيها مصلحة، مسألة مصالح؛ ولذلك تجد الواحد يسلم على الثاني ويقابله ويبتسم بوجهه ويرحب به ويكيل له ألفاظ الثناء والمديح فإذا انصرفا وتفرقا، نزل فيه سباً وشتماً وغيبة، لماذا؟! من الأسباب: أن أصل اللقاء فاسد، وما بني على فاسد فهو فاسد، فأصل اللقاء فاسد وهو الدنيا، فمن الطبيعي أن يتفرقوا على أشياء كثيرة من البغضاء والشحناء، وهذه الابتسامات والمودة الظاهرة هي من أجل متاع دنيوي، لذلك لا يمكن لهؤلاء الناس أبداً أن يرتاحوا بهذه العلاقة التي تنشأ بينهما.

أجور عظيمة على المحبة في الله

أجور عظيمة على المحبة في الله والحب في الله والأخوة في الله عميقة جداً جداً إلى أبعد ما يتصور الإنسان المسلم، وهي عبارة عن محبة متزايدة يدفعها إلى التزايد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما تحاب اثنان في الله تعالى إلا كان أفضلهما أشدهما حباً لصاحبه) انظروا -أيها الأخوة- محاسن الدين الإسلامي، محاسن الإسلام عظيمة جداً! أحياناً لا نتصور، نتكلم: الإسلام أحسن والإسلام أفضل والإسلام لكن فسر كلامك: كيف الإسلام أحسن؟ لا تجد تفسيراً، لكن عندما ندقق في الآيات والأحاديث (إلا كان أفضلهما أشدهما حباً لصاحبه) معناه المحب في ازدياد، وكلما أحببت أخاك أكثر كلما ازددت فضلاً عند الله، فمعنى ذلك: أن الأفراد في المجتمع المسلم متلاصقون في غاية التلاصق، ويحب بعضهم بعضاً حباً جماً، هكذا يريد الله من المسلمين، ولذلك المجتمع الإسلامي مجتمع متماسك لا يمكن أن تتخلله الشائعات ولا الأشياء المغرضة ولا وشايات الأعداء ومخططاتهم؛ لأنه إذا كان الأفراد في تلاحم، فمن أين ينفذ الشر؟ وكيف ينفذ؟. ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم موضحاً الأجر العظيم للمحبة في الله والأخوة في الله وبعض بنودها، يقول عليه الصلاة والسلام عن الله عز وجل في حديث قدسي (حقت محبتي للمتحابين فيَّ، وحقت محبتي للمتواصلين فيَّ -صلة زيارة رسالة بالهاتف- وحقت محبتي للمتناصحين فيَّ، وحقت محبتي للمتزاورين فيَّ -في سبيل الله- وحقت محبتي للمتباذلين فيّ) وقال عليه الصلاة والسلام أيضاً: (المتحابون في الله على منابر من نور يغبطهم النبيون والصديقون والشهداء) هذا يبين عظم المحبة وفضلها ومنزلة المتحابين في الله عند الله عز وجل، يكونون في منابر مرتفعة من نور يغبطهم على هذا المكان النبيون والصديقون والشهداء، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إن الله يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي) رواه مسلم. الإخوان -أيها الإخوة- سلعة غالية جداً لا يمكن أن تجد لها بديلاً، ولو بذلت أعلى الأسعار. إخوانكم لا شيء أغلى منهمُ لا شيء يعدلهمْ من الأشياءِ وفعلاً، لا يمكن أن تجد سعراً في الدنيا ولا عرضاً من الدنيا يوازي أو يساوي أخاً واحداً في الله، تتآخى أنت وهو في صدق على منهج الله عز وجل. لنأخذ حالة من الحالات التي تبين لنا أهمية الإخوة في الله.

بالأخوة في الله نستطيع مواجهة الحياة

بالأخوة في الله نستطيع مواجهة الحياة المرء -أيها الإخوة- قليلٌ بنفسه كثيرٌ بإخوانه، الواحد منا لوحده لا يقوى أبداً على مواجهة الحياة وظروفها ومشاكلها، والعقبات التي تكون في طريقه، فالمشاكل كثيرة جداً، والهموم عظيمة، والمهمات صعبة، فأنت الآن -أيها المسلم- مكلف بمهمات وستواجهك عقبات أثناء الطريق، إذا ما كنت في وسط إخوة في الله عز وجل ستذوب شخصيتك في هذه الحياة الدنيا الفانية، وستنهال عليك المصائب من كل جانب، ولا من معين. وتظهر أهمية الأخوة في الله بدلائل كبيرة عندما يكون المسلمون في حالة ضعفٍ واضطهاد، وعندما يكون الإسلام متأخراً في نفوس الناس، وعندما ينحسر المد الإسلامي في العالم، ويحس المسلمون بالغربة؛ عند ذلك تنبع أهمية الأخوة في الله. أيها الإخوة: إن ما يمر به المسلمون اليوم من ظروفٍ كالليل الحالك، وكالظلمة الشديدة، في خضم هذه الجاهليات العاتية التي تصدم المسلمين من كل جانب، يحتاج الفرد المسلم إلى تقوية نفسه، وإلى إيجاد شيءٍ يرتكز إليه عندما يواجه هذه المصاعب والتحديات، تحديات كثيرة تواجه المسلمين اليوم، لو لم تكن هناك أخوة في الله تثبت هذا المسلم على الدين لتزلزل بفعل العواصف التي تأتي من أعداء الإسلام. والمسلمون الآن يعيشون في غربة، إذا ما كان هناك أخوة تسهل عليك هذه المصائب، وتزيل عنك هذه الوحشة التي تجدها في قلبك، فكيف يكون لك الاستمرارية في السير في هذا الطريق؟! من هنا كانت الأخوة في الله مهمة جداً، مهمة جداً في طلب العلم، وفي الدعوة إلى الله، مهمة جداً في تربية النفس، مهمة جداً إذا نزلت بك مصائب وواجهتك عقبات. إذا فكر الإنسان -أيها الإخوة- في مواجهة العالم وأعداء الإسلام لوحده يحس أنه لا شيء، ماذا يمكن أن يفعل لكي يغير الواقع، ماذا يمكن أن يفعل بمفرده؟ A لا شيء، عندما يفكر منطلقاً من إخوانه يحس أن هناك قوة كبيرة جداً تدفعه إلى الأمام، وتقوي هذه النفسية حتى تجعلها على مستوى التحديات، فتقاوم هذه التيارات وتشق طريقها بقوة، هذه النفسية التي تدعو إلى الله وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وبدونها -أي: بدون الأخوة في الله- يشعر الإنسان بالإحباط، ويشعر باليأس ويفقد الأمل في تغيير الواقع. وإذا أخذنا نموذجاً من النماذج التي كانت عليها حياة السلف في باب الأخوة في الله، كيف كانت مجتمعاتهم؟ كيف كانت جماعاتهم؟ كيف كانت بيئاتهم؟ كيف كانت مجالسهم العلمية؟ فاستمع معي لما يقوله الإمام أبو حازم الأعرج رحمه الله تعالى. يقول رحمه الله: لقد رأيتنا عند زيد بن أسلم - زيد بن أسلم من العلماء- أربعين فقيهاً أدنى خصلة فينا التواسي بما في أيدينا، وما رأيت في مجلسه -هذا الفقيه- متماريين -متجادلين- ولا متنازعين في حديثٍ لا ينفعنا. هكذا كانت مجالس السلف، هذا هو العموم الشائع، لا يعني أنه لم تكن هناك مشاكل ولا أمراض، لكن هكذا كانت مجالسهم، أربعون على قلب رجلٍ واحد، لا توجد مشاكل بينهم.

ضرورة تطبيق حقوق الأخوة في الواقع

ضرورة تطبيق حقوق الأخوة في الواقع الآن -أيها الإخوة- نحن نتكلم عن الأخوة، والأخوة لها واجبات كثيرة، وتعداد الواجبات قد يكون أكثركم على اطلاعٍ بمعظمها، فتعداد الواجبات قد يأخذ منا وقتاً نحتاجه في عرض مشاكل أخرى، لكن عندما نتكلم عن الأخوة حلاوتها وواجباتها يجب -أيها الإخوة- أن نكون كما أمرنا الله عز وجل، إن الله ذم أناساً من المؤمنين بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2] يجب أن نرتفع من مستوى الكلام والنظريات؛ لأن الكلام حول الأخوة قد يكون سهلاً وجميلاً ومستساغاً، وعندما تقرأ تنبسط من الكلام الذي تقرؤه في بعض الكتب، والقصص التي تسمعها عن بعض السلف، وأحدهم ذهب فوجد أخاه في الله غير موجود، فسأل الجارية: أين ذهب؟ قالت: غير موجود. قال: دلوني على مكان المال، فدلته الجارية، فأخذ ما يحتاج إليه وانصرف، فلما رجع الأخ المسلم وعرف ما فعل أخوه وأنه أخذ المال الذي يحتاجه ولم يشعر بأي حرج، قال للجارية: إن كنت صادقة فأنت حرة لوجه الله، ففتش المال فوجده قد أخذ منه فعلاً فعتقت الجارية. هذا الكلام جميل جداً، لكن القضية هي الارتفاع من مستوى الكلام والنظريات إلى مستوى الواقع العملي والأفعال، هنا النقطة، ليست النقطة في وصف الأخوة والإسهاب في عرض المبادئ النظرية، بل المهم الآن هو التطبيق، لذلك عندما ذكرنا في عنوان المحاضرة: الأخوة في الله بين المفهوم الإسلامي -لأن بعض الناس يعرفون المفهوم الإسلامي- والواقع الحاضر أو التطبيق الحاضر الذي يحدث الآن، المفهوم قد يكون واضحاً لا إشكال فيه، لكن التطبيق كيف؟ كيف نطبق الآن؟ هنا لا بد أن نقف، لكن لا بأس أن نستعرض وإياكم بعض الأحاديث التي ذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم، والتي تبين بعض سمات وصفات الأخوة.

من واجبات الأخوة

من واجبات الأخوة

إعانة الأخ المسلم في قضاء حوائجه

إعانة الأخ المسلم في قضاء حوائجه يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم -هذا الحديث الحسن الذي رواه الطبراني عن ابن عمر مرفوعاً إلى الرسول صلى الله عليه وسلم- (أحب الناس إلى الله أنفعهم -الذي ينفع أكثر يحبه الله أكثر- وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرورٌ تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة -واقع في مشكلة فتزيلها عنه- أو تقضي عنه ديناً) هذا الأخ عليه ديون وعليه نقود تزوج -مثلاً- وعليه ديون، احتاج لحاجة معينة، صار له حادث سيارة، يبني بيتاً، صار عليه دين- (أو تطرد عنه جوعاً -أحياناً قد يجوع المسلم، قد يجد الطعام أو لا يجده، المهم أن يكون في مناسبة أو في وضع جائع- ولئن أمشي مع أخي المسلم في حاجته أحب إلي من أن أعتكف في المسجد شهراً) المسجد النبوي الصلاة فيه بألف صلاة، وفي بعض الروايات: خمسمائة صلاة، فشخص يعتكف شهراً في المسجد النبوي سيصلي (150) صلاة تقريباً، والاعتكاف ليس فيه (150) صلاة فقط، بل فيه تسبيح وتهليل وأجر الاعتكاف نفسه، فكم سيكون الأجر؟ أجر هائل، اعتكاف في المسجد النبوي فيه (150) صلاه، وتسبيح بعد كل صلاة، وذكر لله، والصلوات التي تكون بين الأذان والإقامة، وأجر الاعتكاف نفسه، وقراءة القرآن، أجر هائل جداً وعظيم لا يُتصور! يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ولئن أمشي مع أخي المسلم في حاجته أحب إليّ من أن أعتكف في المسجد شهرا) تمشي مع أخيك المسلم في حاجته، فتأخذ أكثر من أجر الاعتكاف في المسجد النبوي شهراً، فهذه المسألة تحتاج إلى تفكير؛ لأن تصورها صعب. أمشي مع أخي المسلم لأقضي له حاجته: عنده مشكلة، أو عنده شيء يريد مساعدة فيه -أي مساعدة- فأذهب معه حتى أقضي له حاجته وأزيل عنه هذه الكربة أفضل عند الله من الاعتكاف شهراً في المسجد النبوي (ومن مشى مع أخيه المسلم في حاجته أثبت الله قدمه يوم تزل الأقدام) متى تزل الأقدام؟ على الصراط كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (الصراط أحد من السيف وأدق من الشعرة، مضروب على متن جهنم يعبر عليه الناس فتزل الأقدام) والذي يمشي في حاجة أخيه المسلم حتى يقضيها له يثبت الله قدمه يوم تزل الأقدام. فلاحظ أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: حتى يقضيها له (ومن مشى مع أخيه المسلم في حاجته حتى يقضيها له) لأن بعض الناس -وهذه مشكلة- تأتي تكلمه أن عندك مشكلة، فتقول له: يا أخي! أنا عندي المشكلة الفلانية كذا وكذا، فيقول: أبشر ولا يهمك، أنا مستعد أن أذهب غداً، وهو يعرف أنه لن يفعل شيئاً بالموضوع، ولكن من باب المجاملة وينتهي المشوار على لا شيء، وهو يعلم سلفاً وقد يخبئ في نفسه وسائل أخرى للوصول إلى المقصود، لكن يقول: فلان هذا قد يكون واسطة خير، ولكن أنا أريد أن أبقيه لنفسي؛ يمكن أحتاج للشخص هذا في يوم من الأيام، فما أريد الآن أن أستعمل هذه الورقة وأحرقها من أجل فلان، فأنا أذهب وأتوسط بكلمتين ولا أشد عليه أو ألزم عليه، فيرفض، ولكن من باب رفع الحرج، هذا كل يوم على رأسي، ويعرف أن المشكلة لن تنتهي، فلذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم ((حتى يثبتها له) أو على الأقل يتفانى بجهده الكامل حتى لو لم تنتهِ المشكلة لكن بذل جميع ما في قدرته وجميع ما في وسعه. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم (اتقِ الله، ولا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي، وأن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط) حديثٌ صحيح رواه ابن حبان عن جابر بن سليم الهجيمي رضي الله عنه ((وأن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط) الآن كثيرٌ من المسلمين يتلاقون فإذا إشارات العبوس، وجبين هذا مقطب، وهذا متجهم الوجه، هذه حال كثير من المقابلات، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول (ابتسامتك في وجه أخيك المسلم صدقة) ولا تحقرن من المعروف شيئاً ولو هذه الابتسامة؛ لأن الابتسامة هذه تعبر عن أشياء كثيرة.

التزاور حق من حقوق الأخوة

التزاور حق من حقوق الأخوة ومن حقوق المسلمين على المسلمين ومن حقوق الأخوة في الله: التزاور، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم () إن رجلاً زار أخاً له في قرية أخرى -تصور، أي: ذهب من قرية إلى قرية، ليس مثلنا الآن نتكاسل في الذهاب من بيت إلى بيت- فأرصد الله له على مدرجته ملكاً -في الطريق- فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أريد أخاً لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه نعمة تربها؟ -يعني: هل أنت ذاهب إليه تريد منه شيئاً، أي: مصلحة معينة؟ - قال: لا. غير أني أحببته في الله فقال الملك: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه) رواه مسلم، وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح () ألا أخبركم برجالكم من أهل الجنة؟ ثم ذكر عدة أصناف من الرجال- ثم قال: والرجل يزور أخاه في ناحية المصر -يعني: في ناحية البلد- في الله) ليس لأنه يحتاج منه شيئاً، لا. في الله فقط، فهذا من أنواع الناس في الجنة. - زيارة المريض: ومن الزيارات المؤكدة -أيها الإخوة- زيارة المريض (وإذا مرض فعده) الآن الواحد منا يمرض أخوه المسلم، ويجلس في المستشفى أياماً، ويشفى من المرض، ويخرج من المستشفى، وبعدها يسمع -كأنه خبر في نشرة أخبار- خبر أخيه هذا كأنه خبر عادي: صار كذا وكذا، وانتهت الحادثة بكذا وكذا، دخل فلان المستشفى فمكث فيها أربعة أيام وأجريت له عملية والآن هو في البيت يأخذ نقاهة مثل الأخبار التي نسمعها للمرضى، هذه حقيقة. أشياء كثيرة تعود إلى التقصير، والزيارات الآن بين المسلمين ليست على المستوى المطلوب، فكثيرٌ من الناس يتعذرون بالأشغال، وغالب الأشغال دنيوية، وتجد الاثنين عندما يتقابلان يقول أحدهما للآخر: يا أخي! أنا أعرف أنك مشغول وأنا مشغول؛ لذلك ومن أجل هذا -أنت مشغول وأنا مشغول- لا داعي أني أشغلك زيادة ولا أنت تشغلني زيادة، فلذلك لا زيارات. وهذا ليس صحيحاً، يعني: هل يوجد شخص مشغول أكثر من النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك كان يذهب لزيارة أم أيمن، وهي امرأة كبيرة في السن من الأنصار كان يزورها، وأحدنا الآن قد لا يرجو من وراء هذه المرأة نصر الإسلام ولا الجهاد ولا كذا لكن النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا يوجد أحد مشغولاً أكثر منه كان يذهب ويزور أم أيمن ويزور غيرها من الصحابة، وكثير من الأحاديث الفعلية، تجد الراوي يقول: وأن الرسول صلى الله عليه وسلم ذهب ليزور فلاناً، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم عاد سعد بن عبادة، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم، فزيارات الرسول صلى الله عليه وسلم كثيرة. وكان الإمام أحمد رحمه الله تعالى إذا بلغه عن شخصٍ صلاحٌ أو زهدٌ أو قيامٌ بحقٍ أو اتباعٌ للأمر -للسنة- سأل عنه، وأحب أن تجري بينهما معرفة، وأحب أن يعرف أحواله، الإمام أحمد كان حريصاً على جمع أهل السنة وتوحيد جهودهم، وكان حريصاً على زيارتهم في الله، فكان إذا سمع عن رجل فيه خير وفيه اتباع للسنة، أحب أن يجري بينه وبين ذلك الرجل معرفة، ويزوره، ويلتقي به، ويتحدث إليه، ويتعرف على أخباره.

نصيحة الأخ المسلم

نصيحة الأخ المسلم وكذلك من الواجبات الأخوية: مسألة النصيحة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم (من أفتى بغير علمٍ كان إثمه على من أفتاه، ومن أشار على أخيه بأمرٍ يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه) رواه أبو هريرة وهو حديث حسن. شخص جاء -مثلاً- يستشيرني هل يتوظف في المكان الفلاني أو الفلاني؟ هل الزواج من بيت فلان أو بيت فلان؟ هل يقدم على الخطوة الفلانية أم لا؟ وأنا أشرت عليه بأمر غير الذي أعتقد أنا أنه الصحيح فقد خنته، والآن يحدث من بعض المسلمين حسد وكيد، يقول له: أذهب إلى الوظيفة الفلانية أم الفلانية؟ يقول: لا. تلك أحسن، بينما الحقيقة غير هذا، لكن حسد، يقول: هذا في الغد يمشي في الوظيفة، ومعه شهادة، فيترقى ويصبح أعلى مني، لا. دعني أدله خطأ، وأوجهه خطأ وشخص يقول للثاني: أريد أن أعمل مشروعاً تجارياً، ما رأيك أفعل كذا أو كذا؟ فيقول: لا. هذا مشروع فاشل، عليك بالأمر الفلاني أحسن، لماذا؟ حسداً من عند نفسه؛ لأنه قد يصير أحسن وأكثر منه مالاً، وهكذا أحياناً: شخص يريد أن يعمل تجارة وأنت قد تفهم من الموضوع أن هذا المشروع طيب ومناسب ولكن تقول: انتبه هذه الأيام الدنيا لا تساعد، وقد تفشل، ويمكن كذا، أي: تثبيط، ليس لأن الأمر مثبط، لا. بل حسداً من عند نفسك، تشير عليه في أمرٍ وأنت تعلم أن الرشد في غيره، فهذه خيانة وقطع للعلاقات الأخوية بسكين الخيانة. والنصيحة -أيها الإخوة- ((إذا استنصحك فانصحه) قال العلماء: هذه واجبة، البدء بالسلام سنة، لكن إذا استنصحك -أي: طلب منك النصيحة- يجب عليك أن تنصحه، وإذا لم تنصحه تأثم. والنصيحة تأخذ عدة أشكال وعدة جوانب: فمن النصائح مثلاً: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم مبيناً أهمية النصيحة وهو حديثٌ من الأحاديث الصحيحة، وهو في السلسلة الصحيحة برقم [926] ((المؤمن مرآة المؤمن، والمؤمن أخو المؤمن، يكف ضيعته، ويحوطه من ورائه) أنت الآن إذا نظرت إلى المرآة ماذا تشاهد؟! أي عيب فيك تشاهده في المرآة. يقول المناوي رحمه الله تعالى في شرح هذا الحديث: فأنت مرآة لأخيك يبصر حاله فيك. كأنه أنت المرآة، فهو يبصر حاله فيك، وهو مرآة لك تبصر حالك فيه. يكف الضيعة، أي: يجمع عليه معيشته ويضمها إليه، فيلبي له احتياجاته في معيشته، إن كان عنده فضل يعود به عليه، ويحوطه من ورائه، يعني: يحفظه ويصونه ويذب عنه ويدفع عنه من يغتابه أو يلحق به ضرراً، ويعامله بالإحسان والشفقة والنصيحة، هذه من واجبات الأخوة. مثلاً: كنت في مجلس وشخص تكلم على فلان، أقوم أنا وأثور وأتكلم وأرد عن هذا الغائب: (ويحوطه من ورائه) فإذا حدث كلام من ورائه تجد هذا الأخ يذب ويدافع. الشاهد: أن الرسول صلى الله عليه وسلم شبه المؤمن للمؤمن بالمرآة، يقول الشارح: فكما يزيل عنك كل أذىً تكشفه لك المرآة فأزل عنه كل أذى فيه عن نفسه، مثلما أنك إذا نظرت إلى المرآة تزيل الأذى عن نفسك، كذلك هذا الأخ المسلم مثل المرآة، هو الذي يدلك على عيوب نفسك، فأنت ترى به عيوبك أنت، فتصلح عيوبك بواسطته هو، ولذلك -أيها الإخوة- الله عز وجل أمر بالتواصي فقال: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3] لا بد من التواصي أي: التناصح مثل: يا فلان! أوصيك بكذا، أي: أنصحك بكذا، لابد من مد جسور النصيحة بين المسلمين؛ لأنك قد لا ترى عيوبك بنفسك لكن الآخرين يرون عيوبك. قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: [إلى من يشكو المسلم إذا لم يشكُ إلى أخيه المسلم؟ ومن الذي يُلزمه من أمره مثل الذي يلزمه؟ إن المسلم مرآة أخيه، فيه يبصر عيبه، ويغفر له ذنبه، قد كان من كان قبلكم من السلف الصالح يلقى الرجل الرجل فيقول: يا أخي! ما كل ذنوبي أبصر -أنا لا أنظر كل ذنوبي- ولا كل عيوبي أعرف، فإذا رأيت خيراً فمرني به، وإذا رأيت شراً فانهني عنه]. والآن إذا جئنا على مستوى هؤلاء الإخوة في الله، قد لا تحدث النصيحة -أيها الإخوة- لأسباب، منها: قد يتهيب الأخ المسلم من نصح أخيه، قد يكون أكبر منه سناً فلا ينصحه، قد يكون أعلى منه قدراً في العلم أو الجاه فيتهيب من نصحه، فتجده يخاف أو يصير عنده نوع من الوجل، فلان أكبر مني كيف أقدم له نصيحة؟ فيسكت، أحياناً قد يمسك عن النصيحة لا يقول لأخيه ماذا يدور في نفسه، شخص -مثلاً- أسلوبه فظ ويعاملني بقسوة، من الخطأ في بعض النفسيات أن تكتم الأساليب الخاطئة التي تعامل بها، نفسية كتومة فتتراكم الأشياء فيها من معاملة خطأ كلمة خاطئة أسلوب عنيف شيء بعد شيء وقطرة بعد قطرة حتى يتدفق السيل الجرار الذي يقطع العلاقات ويهدم الجسور بين هذا الأخ وأخيه، بسبب ماذا؟ بسبب الكتمان، كتمان كتمان ثم يأتي الوقت الذي ينفجر فيه، فإذا انفجر معناه انتهت العملية. فلذلك لا بد -أيها الإخوة- من المصارحة، لا بد أن نتصارح فيما بيننا، إذا وجدتُ خطأً وما استطعت أن أبتلعه تماماً وبقي في نفسي أثر، ليس صحيحاً أن أبقي هذا الأثر؛ حتى لا تتراكم الآثار وتنفجر القضية وتنقطع علاقتي بهذا الأخ، ولا أريد أن أقابله مرة أخرى، لا. لابد أن نتدارك الأخطاء أولاً بأول، ونتصارح فيما بيننا، وإلا ما قمنا بواجب النصيحة والأخوة في الله. ومن أسباب عدم حدوث النصيحة: اللامبالاة، وهي من العوامل المهمة التي تحجب النصيحة، مثلاً: إنسان ما يحس بأهمية النصيحة، ولا بقيمتها، فلا يبالي بإلقائها -النصيحة- فيكون سلبياً يقول: دع غيري ينصحه، لا داعي أن أكلف نفسي بالنصيحة، قد يكون هذا العيب ما رآه أحدٌ إلا أنت، لا بد أن تنصح، وقد يكون كلام واحد غير كافٍ، لكن عندما يجتمع الكلام من عدة مصادر يحدث التأثير، فلا تقل: أنا لا أريد أن أتكلم، لا. انصح وتكلم، قد يكون كلامك في غاية الأهمية: (لا تحقرن من المعروف شيئاً).

حفظ عرض الأخ المسلم

حفظ عرض الأخ المسلم وكذلك -أيها الإخوة- حفظ عرض المسلم، والمحافظة على قيمته وصيانته، من الأمور التي تنتهك الآن غيبة ونميمة سب وشتم انتقاص أشياء كثيرة تقع بسبب عدم استشعار المسلم لحرمة أخيه المسلم، عدم الاستشعار بأن اللحوم مسمومة، قال تعالى: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً} [الحجرات:12] ولذلك ترى في الوقت الذي نحتاج فيه إلى تطبيق قواعد الأخوة في الله، وصيانة إخواننا المسلمين نجد ألسنة الافتراء والكذب والبهتان تنطلق بلا حدود في تجريح الإخوة المسلمين، وبيان عيوبهم ومثالبهم. إذا كان الكلام عن عيب الأخ في غيبته حرام، فكيف إذا كانت القضية غير موجودة في الأخ، وإنما هي افتراءٌ عليه وبهتانٌ له؟! كيف يكون هذا عند الله عز وجل؟ افتراءات تبرر بتبريرات عجيبة، والإسلام بريءٌ منها، بقصد يتوهم صاحبه أنه حسن، أو يتوهم أن هذه مصلحة، فيبدأ يجرح ويتكلم، ولكن المسألة عند الله عز وجل بخلاف ذلك، كلمة قد تهوي بالإنسان في النار سبعين خريفاً، كلمة واحدة فكيف بشخص منطلق بلا حساب، يكيل التهم والسباب والشتائم والتنقص من إخوانه المسلمين. وبعض الناس من منظار التعصب -أحياناً- لا يعامل بمبادئ الأخوة في الله إلا من هو على شاكلته، وأما إذا اختلف مع شخصٍ آخر في رأيٍ من الآراء، أو منهجٍ من المناهج، أو طريقة من الطرق، فإنه يعامله بالفظاظة والغلظة والقسوة التي لا تليق بالمسلم أبداً. الرسول صلى الله عليه وسلم قال () المسلم أخو المسلم) ما دام أنه مسلم لابد أن تؤاخيه وهذه الحواجز التي توضع أحياناً بسبب الخلافات في الآراء يجب أن تزول وألا تكون مانعة من مد جسور الأخوة في الله عز وجل إلى جميع الأخوة المسلمين في جميع أقطار المعمورة فمتى وصلت إليه فهو أخوك المسلم، الأخ المسلم ليس من الجيران فقط، ولا من القرابة فقط، ولا من البلد فقط، ولا ممن هو على شاكلته، يبقى أخي المسلم هو أخي المسلم ما دام أنه من أهل السنة والجماعة، ما دام أنه على العقيدة الصحيحة، مادام أنه يتمسك بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ما دام أنه ليس مبتدعاً ولا ظالماً ولا فاسقاً فهو يبقى أخي في الله عز وجل، بل إنه حتى لو كان فاسقاً فإن ابن تيمية رحمه الله يبين فيقول: وقد يجتمع في المسلم إيمانٌ وفسوق؛ لأن الله عز وجل يقول في القرآن بإيضاح أنه قد يحصل في المؤمن إيمانٌ وشركٌ أصغر، أو إيمانٌ وفسق، لكن لا يجتمع الإيمان مع الشرك الأكبر ولا مع الكفر، فيقول ابن تيمية رحمه الله: وكل إنسانٍ نواليه بحسب ما معه من الإيمان، ونبغضه بحسب ما هو عليه من الفسق. فنواليه ونعاديه في نفس الوقت، حتى لو كان فاسقاً فإن له حقاً من الموالاة، ولا بد من الموالاة في الله. فنعود ونقول: إن قصر حقوق الأخوة في الله على طائفة من المسلمين دون الباقي لهو انحراف وقصور في فهم الأخوة التي أمر الله بها، وينبغي -أيها الإخوة- أن تكون هذه قضية واضحة، ينبغي أن تكون هذه المسألة مطبقة في واقعنا وإلا فنحن مقصرون. فإذاً: أيها الإخوة! هذا الافتراء وهذا البهتان الذي ينطلق أحياناً من بعض ألسنة المسلمين ضد إخوانهم الآخرين، هو من الأشياء التي لا تُرضي الله عز وجل، وصار شعار بعض المسلمين بدلاً من: تعال بنا نؤمن ساعة، صار شعارهم: تعال بنا نغتب ساعة، فتجد المجالس كلها مؤسسة على الغيبة وعلى القدح والانتقاص. فإذاً: أيها الإخوة! الخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية، كوني أختلف أنا وأنت في مسألة فقهية، كوني أختلف أنا وأنت في رأي في الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر -البشر من طبيعتهم الاختلاف- يحصل بيني وبينك اختلاف في الرأي، هذا لا يعني مطلقاً أن أعاديك وأبغضك، أبداً، فإن الصحابة كانت تقع بينهم خلافات. علي بن أبي طالب وقع بينه وبين بعض الصحابة حروب باجتهادات، ماذا كان يقول علي رضي الله عنه عندما يشتم بعض الذين قاتلوه في المجلس؟ كان ينهى نهياً شديداً عن ذلك، وكان يقول عندما يطلب رأيه فيمن قاتله: [إخواننا بغوا علينا] هو بويع على أنه خليفة، فحصلت اجتهادات من بعض الناس الآخرين، منهم المأجور مرة ومنهم المأجور مرتين، منهم مجتهد مخطئ ومنهم مجتهد مصيب، رضي الله عنهم أجمعين، كان يقول: إخواننا بغوا علينا، ما أخرجهم عن كونهم إخوة أبداً، إخواننا لكن أخطئوا علينا -بغوا علينا- لكن لا زالوا إخواننا، والله عز وجل قال: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات:9] كيف سماهم مؤمنين وهو يقول اقتتلوا؟ ما أخرجهم عن صفة الإيمان، فلذلك هذا الصنف من الناس الذي يشبهه بعض المفكرين المسلمين بالذبابة التي لا تقف إلا على الخبث، وتنقل هذا الخبث من مكان إلى آخر، هؤلاء الذبابيون - إن صحت تسميتهم بذلك- يقفون على الخبث ويتتبعون سقطات الناس وعيوبهم وأخطاءهم وعوراتهم، ثم يجلسون في المجالس ويعيدون ويكررون ما خرجوا به، هؤلاء الناس مثل الذباب لا يقع إلا على الخبائث وينقل هذه الخبائث من مكان إلى آخر: أنسى عداء المجرمين سياسة وأغيظ أهلي من بذيء سبابي للظالمين تحيتي ومودتي ولأهل ديني طعنتي وحرابي هذا جحيمٌ لا يطاق ومنطقٌ يأباه وحشٌ قابعٌ في الغاب مهما كان أيها الإخوة، المسلمون في العالم إخوة لنا في الله ما داموا على طريقة أهل السنة، والإحساس بأحاسيس الإخوة والشعور بمشاعرهم عبادة عظيمة. وذكر عن الشيخ محمد رضا رحمه الله تعالى؛ الداعية المعروف، أنه من فرط اهتمامه بأمور المسلمين ومشاكلهم يكون في حالة يذهل فيها عن نفسه، يعني: يسرح أحياناً وهو في هم عظيم، وهو يفكر في واقع المسلمين، وقد حصل له مرة أن أمه اقتحمت عليه خلوته وهو جالس يفكر في وضع المسلمين، فرأته واجباً فقالت له تمازحه باللهجة العامية، وهو في مصر: (هو في مسلم مات اليوم في الصين) أي: مادام أنك مهموم فأكيد اليوم مسلم مات في الصين. فإذاً: كان الرسول صلى الله عليه وسلم قدوتنا في هذا، كان يشارك المسلمين آلامهم وآمالهم، كان يفرح لفرحهم ويحزن لحزنهم، وكان يشاركهم. أيها الإخوة: من المؤسف أن تجد أخاً وقع في مشكلة أو مصيبة وهو مغموم والآخر أمامه ينكت ويضحك، وهذا أمامه الآن مغموم وذاك لا يعطي له أي اعتبار ولا يشاركه في أي شعور من مشاعره، فهذا مما يفصم عرى الأخوة في الله.

التماس الأعذار

التماس الأعذار وكذلك من واجبات الأخوة: أن تلتمس الأعذار لأخيك، والمؤمن يطلب المعاذير والمنافق يطلب الزلات، ومن روائع كلام الشافعي رحمه الله تعالى أنه كان يقول: من صدق في أخوة أخيه قبل علله -كل واحد فيه عيوب وأخطاء، لا يوجد إنسان كامل- وسد خلله، وعفا عن زللِه. هذا سيخطئ عليك ويزل عليك، فأنت ما هو موقفك؟ أن تعفو عن زلته.

بعض سلبيات الاجتماعات والمجالس بين الأخوة

بعض سلبيات الاجتماعات والمجالس بين الأخوة والآن -أيها الإخوة- سنتكلم عن بعض القضايا الواقعية التي تحدث في أوساط الإخوة في الله، وهذه الأشياء من المشاكل التي تواجهنا، ولا بد من إيجاد الحلول لها.

الاجتماع والجلوس لغير فائدة

الاجتماع والجلوس لغير فائدة الآن نتيجة التقارب الذي يحدث بين المسلمين المتآخين في الله عز وجل، فإنهم يكثرون من الجلوس مع بعضهم، وتتعدد مجالسهم، ويجلسون مع بعضعهم كثيراً، وهذا طبيعي؛ لأن الخير لا بد أن ينجذب إليه الأخيار، فسيجلسون مع بعضهم، وهذا الجلوس ليس محموداً في بعض الحالات، بل إنه ينتج عنه مشاكل، ونحن الآن نريد أن نناقش بعض هذه المشاكل. يقول ابن القيم رحمه الله: اجتماع الإخوان على قسمين: اجتماعٌ على مؤانسة الطبع وشغل الوقت؛ وهذا أقل ما فيه أنه يفسد القلب ويضيع الوقت، والثاني: اجتماعٌ على التعاون على أسباب النجاة؛ وهذا من أعظم الغنيمة وأنفعها. والآن ليس كل الناس الطيبين إذا اجتمعوا مع بعضهم يخرجون بنتائج طيبة، لا. أحياناً الناس يجتمعون مع بعضهم، لماذا يجتمعون مع بعضهم؟ أحياناً يكون الاجتماع بسبب أن فلاناً فيه توافق وتجانس بين شخصيتي وشخصيته، في مطابقة بين شخصيتي وشخصيته، تآلف هناك أي: أرتاح له ويرتاح لي، المسألة مسألة ارتياح، فنتيجة لذلك نجلس مع بعضنا كثيراً، هذا الجلوس إذا تعدى حداً معيناً فإنه يكون مذموماً، لماذا؟ لأن هذا الجلوس هو عبارة عن استئناس بالجالس، وتفكه ومفاكهة بالحديث معه، وإمضاء للوقت، وهذا الإنسان معاشرته طيبة وحديثه جميل، ونحن نتبادل مع بعض أحاسيس وأخبار، يعني: ارتياح، لا تتعدى المسألة الارتياح، لذلك تجد هذا المجلس ما فيه تواصٍ بالحق والصبر، وليس فيه علم شرعي يطرح، ولا مسائل مفيدة تناقش، وإنما تكون قضايا دنيوية أو أحاسيس وأشياء تقال في هذه المجالس لمجرد الارتياح فقط، هذه الأشياء يقول عنها ابن القيم رحمه الله: هذا أقل ما فيه أنه يفسد القلب ويضيع الوقت. أما النوع الثاني: فهو الاجتماع على التعاون وعلى أسباب النجاح، التعاون لطلب العلم، التعاون للمشاورة والمناقشة في أوضاع المسلمين، وماذا يصلح لهم، التعاون والجلوس لحل مشكلة معينة واقع فيها إنسان مسلم أو بعض المسلمين، مجالس الوعظ والتذكير وزيادة الإيمان، هذه المجالس التي تزيد الإنسان صلة بالرحمن. أما إذا كان المجلس بسبب الارتياح لا بسبب الذكر ولا طلب العلم، بل لمجرد الارتياح والتوافق النفسي، فإن هذا المجلس سيكون فيه سلبيات، فمن هذه السلبيات بالإضافة إلى ضياع الوقت وفساد القلب تزين بعضهم لبعض. فتجد الناس إذا جلسوا مع بعض كل واحد يداري عيوبه؛ وقد تصبح فيها مجاملات، وكل إنسان يريد أن يظهر أحسن ما عنده من الأخلاق، فلا يظهر لأخيه على حقيقته، فلذلك إذا غادر المجلس تغيرت طباعه، فيسبب تزين بعضهم لبعض، وهذه من آفات المجالس، أن الناس يتزينون لبعضهم، ولا يبدون أمام بعضهم البعض بكل صراحة ووضوح، وإنما يداري العيوب وتنكشف في أماكن أخرى، أحياناً: يجلس الإنسان مع أخيه -مثلاً- في مجلس فيظهر له في غاية البشاشة واللطف، وبغاية الحسن في الأسلوب والأدب، فإذا انقلب إلى بيته وجدت علاقته بزوجته علاقة سيئة جداً، لا فيها لطف، ولا حسن معاملة، ولا أدب، ولا شيء، لماذا؟ بسبب التزين الذي يحدث في المجالس، يتزين بعضهم لبعض. هذه من المشاكل. وتزداد الخلطة بهؤلاء الناس عن مقدارها الذي تحتاج إليه، فتتحول إلى شهوة تلهي عن المقصود، وتعطل الإنسان عن القيام بالواجبات، وهذه حاصلة، تجد بعض الناس يجتمعون مع بعض، ويجلسون مع بعض، وقد يكون فيهم خير وليسوا سيئين، ولا فيهم منكرات ولا فسوق؛ لكن تطول بهم مجالس الاستئناس والارتياح فتلهيهم عن طلب العلم، وعن صلاة النافلة، وعن قراءة القرآن، وعن محاسبة النفس، وتلهيهم عن الدعوة إلى الله. أيها الإخوة: لا بد أن نفكر جدياً أن هناك من يحتاج إلى أوقاتنا من الضائعين من المسلمين الذين يحتاجوننا بشدة أكثر مما يحتاجه فلان وفلان، عندما نجلس مع بعض لمجرد الاستئناس والارتياح، هذه الاستئناسات والارتياحات تفوِّت عليك أشياء عظيمة جداً وواجبات كبيرة، بدل ما تجلس يا أخي تتكلم في كلام ما نقول كلام محرم بل كلام مباح، قم من هذا المجلس واذهب إلى فلان هذا الحائر الضائع، وانصحه وكلمه لعل الله أن يهديه على يديك، بدلاً من أن تجلس أنت وتضيع الوقت في الكلام مع هؤلاء الناس، وأحياناً لأن طابع المجلس طابع إسلامي، فإن هذا الشيء يُغبش على بعض الأنظار فلا ترى هذا الخطأ، فيقول في عين نفسه: أنا أجلس مع إخواني في الله، الحمد لله أنا جالس مع أناسٍ طيبين، ولذلك لا يفكر في تغيير واقعه، وقد يكون فيه خطأ كبير، أقل ما فيه اشتغال بالمفضول عن الفاضل، وهذا مدخل من مداخل الشيطان. الانطلاق في المجتمع أفضل من أن تجلس جلسات الارتياح والمؤانسة، انطلق -يا أخي- فهناك في المجتمع منكرات كثيرة تحتاج إلى تغيير بشتى أنواع التغيير، هناك أناس يحتاجونك بشدة، هناك أقارب لك يعيشون وهم بحاجة إلى شخص ينصحهم، وأحياناً عندما تأتي وتكلم الناس تجد هناك إقبالاً وتعطشاً عند كثير من الناس، لكن هذه الاستئناسات تشغلك عن هذه القضية. كان ابن الجوزي رحمه الله يحتال على زائريه، أناس يأتون لتضييع الأوقات، يقولون: هذا ابن الجوزي حسن الكلام والمفاكهة، فيأتونه ويزورونه، وابن الجوزي رحمه الله من الناس الذين عندهم عصامية في القراءة وطلب العلم، فإذا كل شخص جاء يريد أن يكلمه، وكل شخص يريد أن يزوره؛ فمتى يقرأ لنفسه؟ ومتى يبحث؟ ومتى يحاسب نفسه؟ ومتى يربي نفسه؟ ومتى يذكر الله؟ ومتى يصلي الصلوات النافلة؟ فكان ابن الجوزي رحمه الله يحتال لهؤلاء، فيقول: فكنت أترك لزيارتهم الأشغال التي تحتاج إلى وقت ولا تحتاج إلى تفكير، يعني: كنت أترك الأشياء التي تحتاج إلى وقت ولا تحتاج إلى تفكير هذه أؤخرها إلى أن يجيئني شخص. مثل ماذا؟ مثل بري الأقلام، وتقطيع الأوراق، فهذه كان يخليها عندما يأتي الناس، قال: لأني أقع في مشكلة إذا رددت الناس قالوا: لماذا هذا يردنا؟ هذا متكبر وهذا وهذا وإذا أدخلتهم وجلسوا ضاع الوقت وراحت القضية في كلام لا فائدة فيه، فصار يرجئ قضية بري الأقلام وتقطيع الأوراق إلى أن يأتي الناس، فإذا جاءوا جلس يقطع ويبري ويتكلم معهم حتى ينصرفوا، أي: لا بد من الحكمة في تصريف الأمور، وليس يأتي إنسان فتقول: اليوم لن أجلس معك؛ لأن هذه المجالس كلها كلام لا فائدة فيه. فلا بد من الحكمة والتروي واتخاذ الأسلوب المناسب.

كيفية التعامل مع الأخ المذنب

كيفية التعامل مع الأخ المذنب ومن القضايا كذلك التي تحدث في أوساط الإخوة: قد يستزل الشيطان مسلماً من المسلمين فيوقعه في فاحشة من الفواحش، أو في منكر من المنكرات، أو في خطأ شرعي، قد تضعف نفس هذا الأخ المسلم في وقتٍ من الأوقات فيقع في فاحشة أو منكر أو يرتكب معصية، فيكون وقع هذه المعصية على نفوس إخوانه كبيراً جداً، لأنه من المفترض أنه يبتعد عن هذه الأشياء، لكن الضعف البشري صفة ملازمة للبشر؛ لأن النقص في البشر وفي بني الإنسان مسألة موجودة، فإذا وقع شخص من إخوانك المسلمين في هذا الخطأ أو في هذه المعصية ماذا يحدث؟ في الحقيقة -أيها الإخوة- أن ردود الفعل تتفاوت، فمن ردود الفعل الخاطئة والخطيرة جداً -بل إن عواقبها وخيمة للغاية- أن هؤلاء الناس المحيطين بهذا الرجل إذا عرفوا أنه قد وقع بهذه الخطيئة، أو في هذه المعصية، يتبرءون منه حالاً، وينفضون عنه، لا يجالسونه، ولا يكلمونه ويقاطعونه، ولا يسلمون عليه، ولا يسألون عنه، لأنه في نظرهم قد صار فاسقاً، وهذا التصرف تصرف خطير جداً، بل إنه من أعز أمنيات الشيطان، وأعز أمنياته أن يتصرف المسلمون مع أخيهم المسلم الذي وقع في المعصية هذا التصرف، وود الشيطان أن يصل إلى هذه النتيجة، لماذا؟ لأن ذلك المسلم المخطئ الذي ارتكب هذا المنكر عندما يرى انفضاض إخوانه من حوله ماذا سيحدث؟ سيبتعد عنهم، ومن الذي يجتذبه؟ يجتذبه أعوان الشر وإخوان الشياطين، ويذهب إلى غير ما رجعة، بينما لو كانت الأمور عولجت بأسلوب آخر لكان قد تلافينا الوضع ورجعت المياه إلى مجاريها بغير هذه النتائج الخطيرة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري في قصة الصحابي الذي أخطأ وعصى الله وشرب الخمر، وقد أتي به ليجلد، فبينما هم يجلدونه أخذوا يسبونه: لعنة الله عليه فقال الرسول صلى الله عليه وسلم للصحابة (لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم) من المستفيد؟ فأنت الآن عندما تشتمه علناً وتسبه وتلعنه ثم تقاطعه من المستفيد؟ الشيطان هو المستفيد وحزب الشيطان هم المستفيدون الوحيدون من هذه المعاملة، لذلك يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: [إذا رأيتم أخاكم اقترف ذنباً فلا تكونوا أعواناً للشيطان عليه، كأن تقولوا: اللهم أخزه، اللهم العنه، ولكن سلوا الله العافية] لأنك يمكن أن تقع بالخطأ الذي وقع فيه، وأنت لست معصوماً، وربما تزل قدمك في يوم من الأيام وتضعف نفسك لا سمح الله وترتكب هذا الخطأ الذي وقع هو فيه وللآن أنت جالس تنتقص منه وتخاصم وتعاديه وتقطع علاقاتك معه من أجل هذا الخطأ، أنت يبتليك الله بما وقع فيه في يوم من الأيام. فإذاً في هذه الحالة ماذا يكون التصرف الصحيح؟ من قواعد الشريعة -أيها الإخوة- كما قال علماؤنا -وهذا كلام مهم جداً- أن من كثرت حسناته وعظمت، وكان له في الإسلام تأثيرٌ ظاهر فإنه يحتمل منه ما لا يحتمل من غيره، ويعفى عنه مالا يعفى عن غيره -كلام ابن القيم رحمه الله كلام جميل- فإن المعصية خبث، والماء إذا بلغ القلتين لم يحمل الخبث. انظر الاستدلال الجميل جداً، فالماء إذا بلغ قلتين ووقع فيه شيءٌ من النجاسة، هل تظهر فيه النجاسة؟ لا. لأنه ماء كثير، وهذا رجل من إخوانك في الله له محاسن كثيرة، وله فضائل كثيرة، وله جهود مشكورة، فعندما يقع في خطأ، هذا الخطأ السيئ الذي وقع فيه بجانب الحسنات الكثيرة التي عنده: ماذا تكون؟ نقطة في شيءٍ كثير من الماء، فلذلك يقول ابن القيم رحمه الله: ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمر ((وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدرٍ فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم؟!) قالها في أي مناسبة؟ في قصة حاطب بن أبي بلتعة؛ وحاطب بن أبي بلتعة صحابي جليل جداً شهد معركة بدر، وقاتل مع المسلمين، وأهل بدر غفر لهم الله عز وجل، وحاطب بن أبي بلتعة فعل خطأً عظيماً، فلقد أرسل رسالة إلى كفار قريش يخبرهم فيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عازمٌ على المسير إليهم في فتح مكة، أليس هذا الخطأ خيانة كبيرة للمسلمين؟ إرسال خبر إلى الكفار لكي يستعدوا ويتأهبوا وتضيع الفرصة على المسلمين خيانة عظيمة، وخطأ كبير جداً، لكن حاطب رضي الله عنه له حسنات هائلة، فهو صحابي جليل، وقد ناصر الرسول صلى الله عليه وسلم وناصر الإسلام، وخرج في معركة بدر وقاتل وفي غيرها من المعارك، ونصر الله ورسوله في مواقف كثيرة جداً، ويطلب العلم مع المسلمين ويدعو معهم إلى الله عز وجل، ومرة وقع في هذا الخطأ بسبب ضعفٍ نفسي، فكيف عالج النبي صلى الله عليه وسلم الأمور؟ عمر رضي الله عنه كان غضوباً، قال: أقتل الرجل، فهذا قد نافق وهو جاسوس، أأضرب عنقه؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لـ عمر مهدئاً: (وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم؟!) هذا الكلام لـ عمر. أما ما قال لـ حاطب: فالرسول صلى الله عليه وسلم أتى به بهدوء وقال له (ما حملك على هذا) أولاً: معرفة الأسباب، فهذا من أوائل الأمور، كيف نواجه الأمر؟ أولاً: إذا وقع شخص من إخواننا المسلمين في خطأ أو معصية -أيها الإخوة! هذا منهج مهم جداً نسأل الله أن يوفقنا وإياكم لاتباعه- أولاً: لا نواجه هذا المخطئ أو هذا العاصي الذي وقع في المعصية بالسب والشتم واللعن ونصفه بالفسق والفجور، وثانياً: لا نغير علاقتنا معه ونقطعها، كما ذكرنا قبل قليل. ثالثاً: لا بد أن نعرف عذره، وكيف وقع في هذا الخطأ، وكيف ارتكبه. أحياناً قد يكون الرجل عنده عذر قوي، حاطب رضي الله عنه وأرضاه كان عنده بعض العذر والرسول صلى الله عليه وسلم استفهم من حاطب، أجلس حاطباً وقال (ما حملك على هذا) ما حملك على ما صنعت؟ لأنك أحياناً إذا تبين لك عذر الشخص يمكن أن يتلاشى كل ما في نفسك عليه، فقد تعذره في هذا الشيء الذي وقع فيه، فقد يكون وقع فيه بغير إرادته، وقد يكون الشيء الذي أنت تصورته عن وضعه غير صحيح. فلا بد إذاً -أيها الإخوة- من معرفة العذر، ثم بعد ذلك تقدر الأمور وينظر إلى عذر هذا الرجل: ما هي قوته؟ هل يعاتب؟ هل يوبخ؟ والتوبيخ من وسائل التعزير، إذا كانت مقاطعته مفيدة -مثلما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم مع كعب بن مالك - تُفعل. فـ كعب بن مالك متى قاطعه النبي صلى الله عليه وسلم؟ لما كان مجتمع المدينة كله مسلماً تقريباً، قاطع الرسول صلى الله عليه وسلم كعباً، وأفادت القطيعة، لكن إذا قاطعت الآن أحد المسلمين الذين يخطئون، ماذا تكون النتيجة؟ آلاف من أهل الشر ينتظرونه ليتلقفوه. فإذاً مقاطعته في هذه الحالة تكون من عدم الحكمة، فلذلك لا بد من الإحسان إليه، ونعظه في الله موعظة، ونذكره بعقوبة هذا الجرم الذي وقع فيه عند الله، وإذا تاب واستغفر وحسنت حاله فقد يرجع التائب إلى درجة أعلى من الدرجة التي كان فيها قبل الذنب، كما ذكره ابن القيم رحمه الله، يقول: من التائبين من يعود إلى درجة أعلى مما كان عليه قبل أن يقع في الذنب، ومنهم إلى نفس الدرجة، ومنهم من يرجع إلى أقل منها، بحسب حاله وتوبته وإنابته. لا بد من إحسان الظن بالإخوة، لا بد أن نحسن الظن بإخواننا ونلتمس العذر لهم، وأن نحمل الأمر على أحسن أوجهه، حتى نحصل على أفضل النتائج، ونسد أي ثغرة من الثغرات التي يفتحها الشيطان، يقول أحد السلف: إذا تغير أخوك وحال عما كان عليه فلا تدعه لأجل ذلك، فإن أخاك يعوج مرة ويستقيم أخرى. وقال أحدهم لرجل من السلف وقد انقلب صاحبه عن الاستقامة -أي: رجل من السلف له صاحب، وهذا الصاحب انقلب عن الاستقامة، فقيل لهذا الرجل-: ألا تقطعه وتهجره؟ -يعني: هذا الرجل الآن أصبح عاصياً لماذا لا تقطعه وتهجره؟ -فقال: إنه الآن أحوج ما يكون إليَّ. بمعنى: أنه عندما وقع في عثرته فأنا آخذ بيده، عندما يكون الشخص مستقيماً قد لا يحتاج لأحد، لكن عندما يقع في الخطيئة ويقع في المعصية تكون حاجته لإخوانه في الله أكثر من حاجته قبل المعصية بكثير. إذاً لا بد من تقدير هذه النقطة، وإذا ما قدرت ضاع هذا المسكين، حاجة المخطئ لإخوانه بعد الخطيئة أعظم من حاجته إليهم قبل أن يخطئ، فإنه فعلاً يحتاج الآن إلى انتشال، ويحتاج إلى إصلاح، وتغيير حاله وإعادته مرة أخرى. كذلك بعض الناس إذا كانت المناسبة -مثلاً- مناسبة لعب أو حفلة، فإنهم يحضرون كلهم في المجلس، أما إذا كانت مناسبة علم شرعي، فإنك ترى بعضهم يتخلفون، فهؤلاء ليسوا بإخوة في الله حقيقة، ولو كانوا كذلك لحرصوا على ما يرضي الله، ولاجتمعوا عليه وتفرقوا.

سلبيات وأخطاء في عالم الأخوة في الله

سلبيات وأخطاء في عالم الأخوة في الله

التعلق بين المتآخين

التعلق بين المتآخين وقد تتحول -وهذه من الممارسات الخاطئة في قضية الأخوة- الأخوة في الله إلى شكلٍ آخر من الأشكال التي لا ترضي الله عز وجل، فقد يحصل الغلو في باب الأخوة لدرجة أنها تخرج عن مفهومها الإسلامي الصحيح، وتتحول من أخوةٍ في الله إلى لونٍ من ألوان التعلق القلبي بالمخلوقين وصورهم، فتجد بدلاً من العلاقة الأخوية القائمة على التناصح والاستفادة تنقلب هذه العلاقة إلى علاقة تعلق وتجاذب بين المتجالسين أو المتآخيين، تخرج بها عن حدها الشرعي وتوقع الإنسان في مهاوٍ كثيرة، فتفسد عليه قلبه، فأحياناً يتعلق شخصٍ بشخص آخر تعلقاً مذموماً، لدرجة أنه قد يفكر فيه في الصلاة، فهو في الصلاة لا يدري متى تنتهي الصلاة حتى يذهب يقابل هذا الرجل؛ لأنه تعلق به تعلقاً قلبياً، تعلق بشخصيته وما تعلق بعمله الصالح ولا بمنهجه وطريقته وعلمه، ولا تعلق به كقدوة، ولكن تعلق به كصورة وشكل، أو كظرافة وخفة دم مثلاً، فهنا تنقلب القضية من أخوة في الله إلى أشياء أخرى خطيرة، فتأخذ الأمور مجرىً آخر، ويصبح قلب الإنسان متعلقاً بشخصية هذا الرجل، فدائماً يطرأ على باله فيتذكره ويتعلق قلبه به، ويشتغل قلبه عن حب الله عز وجل بحب هذا الرجل محبة غير شرعية لا ترضي الله عز وجل، وينشغل قلبه عن الصلاة -مثلاً- وعن ذكر الله تعالى، ويكون همه هو الجلوس إلى هذا الرجل والاستئناس إليه، وقد يحدث هذا الأمر في نطاق النساء كثيراً؛ لأن النساء فيهم عاطفة بطبعهم، ولذلك تجد أشكالاً كثيرة من الانجذاب. بعض الناس أحياناً يصل بهم الأمر لدرجة التعلق ولدرجة أنه لا يستطيع فراق الشخص الآخر مطلقاً، فإذا غاب لا يدري متى يرجع إليه، وإذا فقد صوته تجده أحياناً يتصل بالهاتف ليسمع صوته فقط ويكلمه أي كلام، ثم يقفل السماعة، وبعد قليل لأنه لا يقدر على مفارقة صوته يتصل مرة أخرى وما عنده كلام فيقفل التلفون، ثم مرة ثالثة وهكذا تأخذ القضية أشكالاً عجيبة وصوراً لا ترضي الله عز وجل. فهذه القضايا من التعلق من أحسن من كتب في علاجها ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، فإن السؤال الموجه إليه في هذا الكتاب، هو قضية التعلق، فأجاب عنه رحمه الله إجابة شافية وافية، وذكر أشياء كثيرة في النصف الثاني من الكتاب، فليراجعها من شاء، المهم أن نفرق بين الأخوة وبين التعلقات الشخصية، وألا يلبس التعلق الشخصي لبوس الأخوة في الله، ولا يلبس على المسلمين هذا الأمر، فتخرج القضية عن حدودها الشرعية.

التساهل في احتشام الأهل من الأخ في الله

التساهل في احتشام الأهل من الأخ في الله كذلك -أيها الإخوة- من الأشياء الخاطئة التي في أوساط الأخوة في الله: التساهل في العلاقات بأهل الأخ في الدخول عليه وعلى بيته، فأحياناً الإنسان يدخل بيت أخيه وقد لا يكون الأخ موجوداً، قد يكون في البيت نساء ويتساهل الإنسان في الدخول، قد تظهر أمامه أشياء لا يجوز له أن يراها، قد يطلع على عورات لا يجوز له الاطلاع عليها، أحياناً من كثرة الدخول والخروج يكون هناك نوع من الألفة بين الرجل وبين النساء في بيت أخيه، وأحياناً قد يفتحون له الباب فيرى شكل المرأة أو منظرها مثلاً، وهذه قضية لا ترضي الله عز وجل، فلا بد من المحافظة على الحدود الشرعية، صحيح أن هذا بيت أخي ولي الحق أن أدخل فيه وأجلس وأستريح، ولكن هذا لا يعني أن أطلع على حرماته ويحصل هذا التساهل وهذه الألفة التي تؤدي إلى انكشاف العورات وأن أرى ما لا يرضي الله تعالى، وأحياناً تحدث قصص ومآسٍ تكون بدايتها هذه القضية. كذلك يحصل التساهل أحياناً بين بعض الإخوة في القعود مع بعضهم ومع أهلهم، مثلاً أناس يذهبون في رحلة إلى البحر، وكل واحد منهم يأخذ زوجته معه، هؤلاء أناس نفكر أنهم إخوان في الله، فماذا يحصل في النهاية؟ اجتماعٌ عام، وتصير القضية خلطة، وتصير المسألة مجلس منكر من المنكرات، ويتداخل الرجال مع النساء، بفعل تطور الأمور، التي قد تكون بدايتها طيبة لكن تكون النهاية مأساوية، فيجب التزام حدود الشرع في فصل النساء عن الرجال فصلاً كاملاً، وعدم نظر الرجل إلى المرأة الأجنبية. كذلك -أيها الإخوة- الأخوة في الله لا تعني عدم التزام الآداب الإسلامية مع الأخ المسلم، يعني: إهمال قضية السلام، أو إهمال قضية الاستئذان، فمن الآداب الإسلامية أنك تستأذن قبل أن تدخل، أحياناً يصبح الواحد معتاداً على أخيه المسلم فيدخل عليه من غير أن يستأذن، وقد يكون الأخ في حالة غير مستعد فيها لاستقبال الناس، وهذا داخل على غرفته أو داخل على بيته وخارج هذا ليس صحيحاً، نعم هو أخوك في الله وبينكما عشرة عمر، ولكن في نفس الوقت لا بد أن تحافظ على آداب الاستئذان، ولا بد أن تستأذن، ولا تدخل حتى يسمح لك بالدخول، وألا تؤدي العشرة وكثرة الخلطة إلى هذه القضية.

التصرف بمال الأخ من دون إذنه

التصرف بمال الأخ من دون إذنه كذلك -مثلاً- التصرف في ممتلكات الأخ بغير إذنه أو استشارته، أحياناً شخص يقول: هذا أخي في الله، آخذ سيارته وهو لا يعلم، ويأتي هذا الأخ يحتاج السيارة في وقتٍ عصيب وضيق فلا يجد السيارة، من الذي أخذها؟ فلان من الناس، كيف؟ والله أنا وأنت مالي مالك، وسيارتك وسيارتي. يا أخي! مهما كان لا بد أن تستأذن؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول (لا يحل مال امرئٍ مسلم إلا بطيب نفسٍ منه) واحد يحتاج كتاباً دراسياً أو علمياً أو غيره، يأتي أخ له فيدخل على بيت هذا فيأخذ الكتاب من غير استئذان، وبعد ذلك يأتي هذا المسكين يبحث عن الكتاب فلا يجده، قد يكون عنده امتحان، قد يكون عنده واجب، قد يكون عند شيء، فلا يدري هذا الشيء، هذا غير صحيح، فالأخوة في الله لا تعني أن تأخذ ممتلكات هذا الشخص بغير إذنه.

إسقاط الاحترام بين الإخوة

إسقاط الاحترام بين الإخوة كذلك مناداته بأحب الأسماء إليه، فبعض الناس يعتاد على أخيه اعتياداً مذموماً، فيسقط الاحترام والهيبة، وهذه مسألة مهمة، أحياناً الناس الذين يعيشون في أجواء الأخوة تسقط فيما بينهم قضية احترام المسلم لأخيه المسلم، فيتعدى عليه بألفاظ، قد يناديه باسمٍ قبيح، قد يغلط عليه في الأسلوب، ثم يقول: لا مشكلة، يعني: أخوة، حسناً: الأخوة لا يعني أن تسقط هيبة أخيك المسلم من نفسك، بل لا بد أن يكون له احترام وتقدير، وأحياناً الشخص حتى أمام الناس -مثلاً- يتكلم مع أخيه المسلم بكلام غير لائق وبكلام غير مناسب، لماذا؟ لأنه أخذ عليه كثيراً، ما أصبح هناك احترام، وهذه من الأشياء الواقعة التي ينبغي الانتباه إليها.

المزاح الثقيل والتساهل في المواعيد

المزاح الثقيل والتساهل في المواعيد كذلك -أيها الإخوة- المزاح الثقيل، واحد يمزح مع أخيه ويقول: هذا أخي في الله، ويمزح معه مزاحاً قد يؤلمه ويجرح شعوره، بينما لو ذهب ليمزح مع إنسان آخر ستجده لبقاً ويستخدم ألفاظاً مناسبة في مكانها، لكن إذا جلس مع أخيه المسلم الذي تعود عليه أخرج كلاماً غير مناسب. كذلك من الأمور التي تحدث: التساهل في المواعيد، يقول: ما دام أن هذا أخي في الله فإنه مقدر لظروفي، إذاً دعني أتأخر ساعة أو نصف ساعة، ليس مهماً، فيتساهل الإنسان في مواعيده، ولكن إذا واعد رجلاً آخر ما بينه وبينه معرفة كبيرة تجده يأتي بالضبط والدقة والموعد، ويريد أن يعطي الشخص الآخر فكرة مهمة عن احترام المسلم للمواعيد، وأن من إذا وعد أخلف تعتبر فيه صفة من صفات المنافق، لكن إذا جاء مع أخيه يقول: لا يهم، هذا أخي في الله. اتركنا نتأخر ما في مشكلة وهو سوف يسامحنا أصلاً.

التساهل في تقديم الخدمات

التساهل في تقديم الخدمات كذلك من القضايا التي تحدث: التساهل في تقديم الخدمات لإخوانك المسلمين، بحجة أن هذا أخ مسلم ولا يحتاج أن أبذل معه جهداً وأقدم له، معونة قد أدعو واحداً إلى عشاء وأتكلف له لأنه غريبٌ عني، لكن أخي المسلم القريب مني من الممكن أطعمه أي شيء، أو أن لا أتكلف بأن أدعوه إلى الوليمة، يعني هذا قريب ويحتاج، الرسول صلى الله عليه وسلم ماذا قال في الحديث (أو تطرد عنه جوعا) أوليس الأخ المسلم القريب منك والملتزم بالإسلام أكثر من واجبك أن تكرمه؟ ألم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم (لا تصحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي)؟! ما معنى أن يأتي الغريب فتكرمه وتضيفه وعندما يأتي أخوك المسلم تقدم له أي شيء؟

الحسد

الحسد كذلك -أيها الإخوة- من المشاكل التي تقع أحياناً بين الإخوة في الله: قضية الحسد، وتنتج هذه المسألة -وسبق أن تكلمنا فيها- نتيجة بروز موهبة عند هذا الأخ، مثلاً: في حسن صوته، أو جمال خطه، أو فصاحته، أو جودة أسلوبه، أو جاذبيته، أو نجاحه في الدعوة إلى الله عز وجل، هنا يأتي الشيطان فيثير هذه الأشياء، فيقول: لماذا فلان أحسن مني؟ ولماذا كذا فتنطلق الأحقاد ويحس المسلم بشعور الحسد نحو أخيه، وهذا خطأٌ عظيم! الحسد من الأمراض القاتلة التي تحرق الحسنات، والمفروض أن الإنسان يفرح إذا ظهرت موهبة من أخيه المسلم حتى يستفيد الإسلام منها، والمفروض أن تفرح بهذا الشيء، وأن تفرح لهذه الموهبة التي وهبها الله أخيك. سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك. وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، والحمد لله أولاً وآخراً.

أهل النار

أهل النار قد انشغل الناس في هذا العصر بعمران الدنيا وخراب الآخرة، مما أدى إلى صدودهم عن سماع المواعظ، لذلك كان لزاماً على الدعاة تذكير الناس بحال أهل النار، وكان لزاماً على الناس أن يقفوا مع أنفسهم وقفة محاسبة ليجعلوا بينهم وبين عذاب الله وقاية.

أسباب صدود الناس عن سماع المواعظ

أسباب صدود الناس عن سماع المواعظ إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار. أيها الإخوة: هناك ظاهرةٌ منتشرةٌ بين الناس تحتاج إلى تفكير لمعرفة أسبابها وعلاجها، وهذه الظاهرة هي ظاهرة النفور من سماع مواعظ النار والموت، فإن الناس إذا جئت تخبرهم عن هذه الأمور، وجدتهم يصدون عنك صدوداً، ورأيتهم يحبون الكلام عن رحمة الله تعالى، ولا يحبون الكلام عن عذاب الله تعالى وجدتهم يحبون الكلام عن الجنة، ولكنهم لا يرغبون في الكلام -مطلقاً- عن النار وجدتهم يحبون الكلام عن ثواب الطاعات، ولكنهم لا يحبون الكلام مطلقاً عن عذاب القبر وأهواله، ولا شك بأن النصف الأول من هذه الظاهرة طيبٌ وحسنٌ، ولكن المشكلة في النصف الثاني من هذه القضية. لماذا يصد الناس عن سماع المواعظ، وعن التذكرة بالخوف، وعذاب القبر، وعذاب جهنم، وأهوال المحشر والنشور؟ إنهم يصدون عن ذلك لأسباب منها:

الكلام عن النار يؤلم النفس

الكلام عن النار يؤلم النفس أولاً: أن الكلام عن النار وعذاب القبر والسيئات ومآلها يسبب ألماً في النفس، والنفس تنفر من كل ما يؤلمها؛ ولذلك فإن الناس لا يحبون الكلام في هذه المواضيع.

عمران الناس للدنيا وترك الآخرة

عمران الناس للدنيا وترك الآخرة ثانياً: أن الناس قد عمروا دنياهم وخربوا آخرتهم، فإذا جئت تذكرهم بالموت، فإن هذا يعني الانتقال من العمار إلى الخراب، والانتقال من الدنيا وزينتها وزخِرفها إلى خراب الآخرة الذي لم يعدوا له العدة، ولم يحسبوا له الحساب؛ ولذلك- يا إخواني- كان الخوف من الله عز وجل من أجلَّ العبادات، وأقربها إلى المولى سبحانه وتعالى، فإن الخوف والرجاء خطان متقابلان من خطوط النفس البشرية، يركز القرآن والسنة عليهما تركيزاً شديداً؛ لأن الناس يتحمسون للعبادة والطاعة إذا اجتمع لهم رحمة الله وثوابه وحسناته وهذا هو الرجاء، واجتمع لهم الخوف من عذابه وجهنم، فإن هذا الخوف هو الذي يبعثهم على ترك المعاصي والازورار عنها، والاقتراب من طاعة الله عز وجل.

التذكرة بعذاب الآخرة

التذكرة بعذاب الآخرة أيها الإخوة: سبق أن تكلمنا عن جوانب من الرجاء، وتكلمنا عن الجنة، وما فيها من النعيم والحور العين في خطبٍ سابقةٍ، ولعل الوقت مناسبٌ أن نتكلم بعض الشيء عن جهنم، وما أعد الله فيها من العذاب، واعلموا بأن القصد من الحديث عن جهنم ليس هو الحكم على الحاضرين -جميعاً- بأنهم من أهل النار! كلا والله! ولا هو تنفير، أو تشديد كما يفعله بعض الجهلة، وإنما هو تذكيرٌ بعذاب الله عز وجل؛ نتذكر فيه -جميعاً- حتى تكون فيه العبرة والعظة، نحن نذكر جهنم في هذا المقام لا لنحكم على الحاضرين بأنهم من أهلها، ولكن لنبعد أنفسنا وأهلينا عن هذه النار، ولنأخذ بأسباب النجاة.

صفة جهنم

صفة جهنم إن جهنم عظيمة، لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها، فاضرب سبعين ألفاً في سبعين ألفٍ لتعرف كم عدد الملائكة العظام الذين يجرون جهنم، كما ورد في حديث الإمام مسلم: (أهلها عميٌ وبكمٌ وصمٌ)، قال عز وجل: {وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ} [الأنبياء:100].

حال أهل النار

حال أهل النار توضع في أعناقهم حبال النار كامرأة أبي لهب، ويجرون أمعاءهم فيها كـ عمرو بن عامر الخزاعي تسود وجوههم {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنْ اللَّيْلِ مُظْلِماً} [يونس:28] ((تَلْفَحُ وُجُوهَهُمْ النَّارُ)) [المؤمنون:104]. {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [العنكبوت:54] {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف:41] فراشهم من النار، ولحافهم من النار، ما طعامهم؟ {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ * لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} [الغاشية:6 - 7] {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} [الدخان:43 - 46] {وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً} [المزمل:13] فإذا غصوا بهذا الشوك والزقوم الذي أكلوه، ماذا يكون لهم من الشراب؟ هذا الزقوم- أيها الإخوة- الذي قال فيه عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد والترمذي عن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه، قال عليه الصلاة والسلام: (لو أن قطرةً من الزقوم قطرت في دار الدنيا، لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم) فكيف بمن تكون طعامه؟ فكيف بمن يكون الزقوم طعامه دائماً وأبداً؟ فإذا غصوا بهذا الزقوم، فما شرابهم الذي يستعينون فيه على بلع اللقم؟ {وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد:15] حميماً متناهياً في الحرارة: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً} [الكهف:29] مهلاً كعكر الزيت المغلي، {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} [ص:57] حميمٌ وغساقٌ وما سال من جلود أهل النار من قيحهم وصديدهم، وما يخرج من فروج الزناة والزواني من النتن: {وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ} [إبراهيم:16 - 17] {يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ} [الحج:19 - 20]. فما لباسهم؟ {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} [الحج:19] قال إبراهيم التيمي رحمه الله: [سبحان الله الذي خلق من النار ثياباً قطعت لهم]. فما ظلهم الذي يستظلون به؟ {انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ} [المرسلات:30] دخانٌ كثيفٌ جداً ينقسم من ضخامته إلى ثلاثة أقسام: {لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ} [المرسلات:31] هل يظلهم؟ إنه لا يظلهم: {لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ} [المرسلات:31]. إنها جهنم: {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} [المرسلات:32] شررها فقط وليس لهيبها، شررها كالقصور والحصون الضخمة: {كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ} [المرسلات:33] أو كأنه إبل سود عظيمة. فإذا تسلقوا جهنم ليخرجوا منها كيف يعادون فيها؟ {وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} [الحج:21] مطارق تضربهم بها الملائكة، فيعودون يقعون في جهنم. كيف يسحبون فيها؟ {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} [القمر:48] {إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ} [غافر:71] {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلا وَأَغْلالاً وَسَعِيراً} [الإنسان:4] {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:30 - 32]. كيف صورهم؟ وما هي خلقتهم؟ إن الله يغير خلقة أهل النار بشكل يتناسب مع عذابهم، حتى يشتد ويعظم ويشمل البدن العظيم من بدن هذا العاصي، وهذا الكافر. روى الإمام أحمد عن زيد بن أرقم مرفوعاً إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام- وهو حديث صحيح- (إن الرجل من أهل النار ليعظم للنار- يضخمه الله ويكبره- حتى يكون الضرس من أضراسه كـ أحد - مثل: جبل أحد) هذا ضرسٌ واحدٌ من أضراسه. وقال عليه الصلاة والسلام فيما رواه الترمذي والحاكم عن أبي هريرة بإسناد صحيح: (وإن مجلسه من جهنم ما بين مكة والمدينة) المكان الذي يشغله من جهنم ما بين مكة والمدينة. وقال عليه الصلاة والسلام فيما يرويه الإمام أحمد والحاكم عن أبي هريرة: (ضرسُ الكافر يوم القيامة مثل: أحد، وعرض جلده سبعون ذراعاً، وعضده مثل: البيضاء) وهو جبل من جبال العرب، عضد الرجل في النار مثل: جبل من جبال العرب يسمى البيضاء (وفخذه مثل: ورقان) وهو جبل أسود على يمين المار من المدينة إلى مكة، هذا حجم ضرسه وفخذه وعضده وسمك جلده. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه فيما رواه ابن ماجة بإسناد حسن واصفاً عليه الصلاة والسلام بكاء أهل النار، يقول: (يرسل البكاء على أهل النار فيبكون، حتى تنقطع الدموع، ثم يبكون الدم بدلاً من الدموع، حتى يصير في وجوههم كهيئة الأخدود لو أرسلت فيها السفن لجرت) من عظم هذه الأخاديد المملوءة بالدم بعدما انقطعت الدموع. هل يموتون؟ هل يستريحون من عذابهم {لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى} [طه:74] {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} [إبراهيم:17] {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [فاطر:36] {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77] ليمتنا ربك فنستريح {لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77].

عذاب الدنيا لا يقارن بعذاب الآخرة

عذاب الدنيا لا يقارن بعذاب الآخرة أيها الإخوة: إذا قارنتم بأعظم عذاب في الدنيا مع عذاب الآخرة، هل يساوي بجنبه شيء؟ كلا والله! في الدنيا إذا اخترق جلد الإنسان، وفني جلده، ماذا يكون بعد ذلك؟ إنه الموت؛ إذ لا جلد بعد ذلك يتعذب به الإنسان، ولكن في جهنم: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56] إنها {نَزَّاعَةً لِلشَّوَى} [المعارج:16] تنزع جلد الرأس، ليس العذاب عذاباً حسياً فقط؛ بل إنه عذابٌ معنويٌ كذلك: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا} [الحج:22] إنه الغم، لا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ويقول لهم مبكتاً: {قَالَ اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108]؛ بل إن الاستهزاء من نصيبهم في العذاب، فإن الله عز وجل يقول مستهزئاً بأهل النار عندما يذيقهم من عذابها: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان:49]. وفقنا الله وإياكم للعمل بطاعته والبعد عن معصيته، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه.

العبرة من ذكر جهنم

العبرة من ذكر جهنم الحمد لله وحده، وأشهد أن لا إله إلا هو يسبح كل شيء بحمده، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، دلنا على النجاة وطرقها، ودلنا للبعد عن المهالك وطرقها. أيها الإخوة: هذه الطائفة اليسيرة من أنواع العذاب الواردة في القرآن والسنة لا بد أن تحدث في نفوسنا خوفاً من الله عز وجل يباعد عن معاصيه، وعن المهالك وسبل الشيطان، ولا بد أن تولد في أنفسنا حناناً واقتراباً من طاعة الله تعالى للفوز بالجانب الآخر من أنواع الجزاء وهو الجنة.

وقفة محاسبة

وقفة محاسبة أيها الإخوة: هذه أنواع العذاب في النار، من يصمد لها ومن يقوى عليها؟ أين الزناة والزواني؟ وأين أهل اللواط والفاحشة؟ أين الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا؟ أين أكلة الربا، وأكلة أموال الأيتام؟ أين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً؟ أين الذين يحكمون بغير ما أنزل الله، ويشرعون للبشر من عند أهوائهم وأنفسهم؟ أين الذين يعقون آباءهم وأمهاتهم؟ أين الذين اتخذوا سبيل الغي وتركوا سبيل الرشد؟ أين الذين يستهزئون بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أين الذين يتطاولون على عباد الله المؤمنين، فيصفونهم بالتشدد والرجعية؟ أين الذين ظلموا أنفسهم وظلموا غيرهم من الناس؟ أين الذين يزينون للناس سبل الباطل والشيطان؟ أين الذين اتخذوا الكذب والنفاق أخلاقاً، وانعدم من ضمائرهم أي خلق فاضل، وأي صدق، وأي أمانة؟ أين الذين يخونون الله بالليل والنهار؟ وأين الذين يختانون أنفسهم؟ أين الذين زينوا للناس كل وسائل اللهو والعبث التي تلهيهم عن ذكر الله، وعن الصلاة؟ أين الذين جانبوا كتاب الله وسنة نبيه، وغرقوا في أوحال المادة، وحياة الدنيا، يلهون ويلعبون غير مكترثين بما يكون لهم غداً عند الله من العذاب والنكال؟ أين الذين أعرضوا عن القرآن والسنة وأحكامهما؟ أين الذين إذا تليت عليهم آيات الله أغاروا عليها بسهام التأويل والتحريف وسهام الاستهزاء والتأويل بالباطل؛ حتى عادت آيات الله وأحاديث رسوله رسوماً وأطلالاً ليست لها في أنفسهم حرمةٌ، ولا عهد؟ أين الذين خانوا عهد الله؟ أين الذين انكبوا على وجوههم- وينكبون يوم القيامة في جهنم-؟ والنار مثوى لأهل الكفر كلهمُ طباقها سبعةٌ مسودةُ الحفرِ فيها غلاظٌ شدادٌ من ملائكةٍ قلوبهم شدةً أقسى من الحجرِ سوداء مظلمةٌ شعثاء موحشةٌ دهماء محرقةٌ لواحة البشرِ فيها الجحيم مذيبٌ للوجوه مع الأمعاء من شدة الإحراقِ والشررِ فيها السلاسل والأغلال تجمعهم مع الشياطين قسراً جمع منقهرِ والجوع والعطش المضني لأنفسهم فيها ولا جلدٌ فيها لمصطبرِ لها إذا ما غلت فورٌ يقلبهم ما بين مرتفعٍ فيها ومنحدرِ جمع النواصي مع الأقدام سيرهم من القوس محميةً من شدة الوترِ يا ويلهم تحرق النيران أعظمهم بالموت شهوتهم من شدة الضجرِ ضجوا وصاحوا زماناً ليس ينفعهم دعاء داعٍ ولا تسليم مصطبرِ وكل يومٍ لهم في طول مدتهم نزعٌ شديدٌ من التعذيب والسعرِ اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك. اللهم يا من تقي من الشرور، قنا عذابك يوم تبعث عبادك. اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، نجنا من عذاب النيران يا رب العالمين! {رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} [الفرقان:65 - 66]. اللهم واجعلنا من الناجين على الصراط، ولا تخدشنا بكلاليب النيران يا أرحم الراحمين. اللهم إنا نعوذ بك من جهنم من زقومها وغسلينها وحميمها ويحمومها. اللهم أعتق رقابنا من النار، ولا تزل أقدامنا يوم تزل الأقدام، واكتب لنا الجنة برحمتك وعفوك يا أرحم الراحمين. أيها الإخوة: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.

الحق والباطل

الحق والباطل لقد ضرب الله عز وجل في القرآن الكريم الأمثال للناس لعلهم يتفكرون ويعتبرون، وجعل من الأمثلة القرآنية مجالاً للتربية العالية لكل إنسان يتقبل الهدى والعلم، ومن هذه الأمثلة مثالين في سورة الرعد، وقد تكلم الشيخ عن المثالين ومرادهما، ومجال التربية فيهما، وما يحمل كل مثل من العبر والعظات.

الحكمة من ضرب الأمثال

الحكمة من ضرب الأمثال إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار. إخواني في الله: لقد ضرب الله عز وجل في القرآن الكريم الأمثال للناس لعلهم يتذكرون، ويتفكرون، ويعتبرون، وجعل في ضرب الأمثلة تربيةً قرانيةً عاليةً لكل إنسان يتقبل الهدى والعلم النافع.

المثل المائي: إنزال الماء على الأرض

المثل المائي: إنزال الماء على الأرض إن من هذه الأمثلة التي ضربها الله تعالى في محكم تنزيله، قوله عز وجل: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} [الرعد:17] فلما ضربها الله للتذكرة، وللاعتبار، وللتفكر، كان لزاماً على كل مسلم أن يتفكر ويعتبر بهذه الأمثال ويفهمها، ولذلك قال ابن القيم رحمه الله في تعليقه على هذا المثل القرآني، بعد أن بيَّن أن فيها مثلين مضروبين للحق والباطل، قال: "ومن لم يفقه هذين المثلين، ولم يتدبرهما، ويعرف ما يراد منهما، فليس من أهلهما". وكما قال بعض السلف الحريصين على فهم القرآن أمثالاً وحكماً وأحكاماً، وتشريعات وتوحيداً وقصصاً، قال هذا الرجل: كنت إذا قرأت مثلاً من القرآن، فلم أفهمه، بكيت على نفسي؛ لأن الله تعالى يقول: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43] فأبكي، لأنني لست من العالمين الذين عرفوا هذه الأمثلة، وهذه الآية التي قرأناها نمرُّ بها كثيراً- أيها الإخوة- {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} [الرعد:17].

بيان وجه التشابه بين المطر والوحي في الإحياء

بيان وجه التشابه بين المطر والوحي في الإحياء لما كانت الأرض الميتة لها ما يحييها من الماء النازل من السماء، فإن الله عز وجل قد أنزل على القلوب الميتة ما يحييها، ويجعلها روحاً، ويكون لها بمثابة الروح: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى:52] فالله تعالى يقرن بين إنزال الوحي وبين نزول المطر من السماء في آيات كثيرة؛ لعموم التشابه بينهما، ولذلك إذا تمعنت في سورة الحديد، وجدت الله يقول: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16] ماذا قال الله بعد هذه الآية مباشرةً؟ {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الحديد:17] جاء ذكر إنزال الغيث بعد ذكر إنزال الوحي مباشرةً؛ تنبيهاً على ما بينهما من أوجه التشابه في الإحياء وغيره، وكما قال الله عز وجل في سورة النحل: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النحل:64]، ثم قال بعدها مباشرة: {وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [النحل:65] فإنزال المطر مقترن بإنزال الوحي.

فائدة التعبير بالأودية

فائدة التعبير بالأودية أيها الإخوة! قال الله: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد:17] شبه القلوب بالأودية، لما نزل المطر من السماء؛ احتمل كل وادٍ من ماء المطر بحسب سعته وضيقه، فكذلك قلوب العباد عندما ينزل عليها الوحي من السماء، تأخذ منه وتتسع بحسب ضيقها وعظمها، فقلبٌ كبيرٌ يحتمل وحياً عظيماً كما يحتمل الوادي الكبير ماءً كثيراً، وقلبٌ صغيرٌ كوادٍ صغيرٍ احتمل من العلم شيئاً قليلاً كما احتمل من الماء ذاك الوادي الصغير، فاحتملت القلوب هذا العلم بقدرها كما سالت أودية بقدرها.

آنية الله في الأرض هي القلوب

آنية الله في الأرض هي القلوب أيها الإخوة: يتفاوت الناس في استقرار العلم في صدورهم، وفي اتساع العلم، وفي اتساع القلوب لهذا العلم تفاوتاً يرتبط ارتباطاً مباشراً بالإيمان، واعلموا بأن الماء النازل من السماء لا يحتمله وادٍ واحد؛ لكثرته، وكذلك الوحي النازل من السماء لا يحتمله كله قلبٌ واحدٌ، وإنما تتفاوت القلوب، لا يحيطون بالله علماً، وهذا من أدلة عجز البشر، وعلى أنهم مهما وصلوا إليه من العلم في العلوم الشرعية، فإنهم لن يحيطوا بعلم الله أبداً، بل ولو حتى بما أنزله عليهم من القرآن، ولذلك لا بد أن نترفق في أخذ العلم، ولا بد أن نجاهد أنفسنا قليلاً قليلاً. وأمر القلوب في اتساعها للوحي والإيمان أمرٌ عظيم جداً، هذا القلب الذي يصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه كالمضغة في صغره، والمضغة هي: الشيء اليسير، يستطيع أن يحوي في جنباته إيماناً عظيماً كبيراً جداً، فإن في بعض قلوب العباد- أيها الإخوة- من العلم والإيمان ما لو نزل على جبل، لتركه قاعاً صفصفاً متصدعاً من هذا العلم والإيمان. انظروا إلى عظمة الله في خلقه، خلق قلوب العباد صغيرة في الحجم الحسي، لكنها كبيرةٌ جداً في الحجم المعنوي، تسع علماً كثيراً، وإيماناً عظيماً، وتسع من المعرفة والعلم بالله أشياء كثيرة لمن كان له قلب صحيح أو ألقى السمع وهو شهيد. وكذلك- أيها الإخوة- يصف رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخبر بأن لله آنيةً في الأرض، والآنية جمع الإناء، فالله تعالى له آنية في الأرض، ما هي هذه الآنية؟ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الحسن الذي أخرجه الطبراني عن أبي عنبة رضي الله عنه وأرضاه: (إن لله تعالى آنيةً من أهل الأرض، وآنية ربكم قلوب عباده الصالحين، وأحبها إليه ألينها وأرقها) يملؤها الله نوراً وعلماً وإيماناً لمن كان له قلب (وأحبها إليه) أحب هذه الآنية، هذه القلوب (وأحبها إليه ألينها وأرقها) التي إذا سمعت آيات الله تتلى عليها، ترى جلود أصحابها تقشعر من خشية الله عز وجل، هذه الآنية التي يملؤها الله سبحانه وتعالى من فضله ورحمته ما يوصل إلى خشيته وعبادته. المطر عندما ينزل من السماء، فيغسل الأرض، ويتجمع في هذا الوادي يحمل معه في هذا الوادي الزبد -الغثاء- الذي يطفو على سطح الماء ويتجمع في هذا الوادي عالياً على الماء. هذا الزبد- أيها الإخوة- يكون رابياَ عالياً منتفخاً فوق الماء، ولما كانت الأودية ومجاري السيول فيها الغثاء ونحوه، كما يمر عليه السيل فيحتمله، فإن هذا الغثاء بعد فترة من الزمن يفرقه الوادي، ويقذفه إلى جنبيه، ويتعلق بالأشجار، وتتقاذفه الرياح، فتأخذه، ويظهر الماء في الوادي لمّاعاً صافياً يفيد الناس، فيستقون منه ويرعون، فكذلك العلم والإيمان إذا خالط القلوب، أثار ما فيها من الشهوات، عندما ينزل الماء على الأرض فيسيل، يجرف معه من هذه الأرض كل ما هب ودب من النافع وغير النافع حتى يصير زبداً عالياً فوق سطح الماء، هذا العلم عندما يدخل القلوب، وتخالط بشاشته، فإنه يثير ما في القلب من الشبهات والشهوات، يثيرها لا ليبقيها في القلب، وإنما يثيرها ينفض القلب نفضاً فيثير ما فيه من أمراض الشهوات والشبهات، يثيرها ليقلعها، ويذهب بها حتى يُنقي القلب من هذه الأدران والأخلاق الرديئة. وإذا ذهبت الشهوات والشبهات، يبقى القلب صافياً من كل ما علق به وكدّره، ويبقى هذا القلب فيه العلم والإيمان يفيد الناس تعليماً، ويفيد النفس خشيةً وعملاً وعبادةً وتطبيقاً، كما يفيد الماء الذي بقي في الوادي، فإنه ينبت الأشجار على جنبتي الوادي، ويستقي منه الناس، ويشربون، ويسقون أنعامهم بإذن الله. وكذلك هذا العلم إذا نزل في القلوب، ينبت الله به أشجار العبادة والخشية زهية قائمةً على أصولها في قلوب المؤمنين، وكذلك فإن هذا الماء يستقر في الوادي -عبَّر هنا بالوادي ولم يعبر بالنهر حتى يبين الاستقرار الحاصل للماء في هذا الوادي- كما يحصل به الاستقرار للعلم عندما ينزل في القلوب، فإنه يبقى فيها ثابتاً متكاثراً فيه البركة والنفع العظيم، واستقر العلم والإيمان في جذر القلوب، فلا يزال ذلك الغثاء والزبد يذهب جفاءً ويزول شيئاً فشيئاً، ويبقى العلم والإيمان نافعاً، فكان عباد الله أعلاهم قدراً أكثرهم إحاطةً ووعياً بما أنزل الله تعالى. كان الوادي قبل أن ينزل الماء عليه جافاً منتناً متسخاً، فيه من أكدار الطبائع ما يجعل فيه من الشوائب أشياء كثيرة، فلما نزل الماء، غسل الأودية، ونظفها، وأزال الخشونة والجفاوة التي فيها، فكذلك قلوبنا تكون فيها من مخالطة الحياة المادية قسوةٌ كبيرةٌ، وفيها جفاءٌ كبيرٌ، وجفافٌ عظيم، فعندما ينزل عليها الوحي من السماء يطريها، وينعمها، ويصلحها، وينظفها، يجب أن يفعل الوحي بقلوبنا كما يفعل الماء النازل من السماء بأودية الأرض وطرقاتها.

الحكمة من تقديم ذكر الزبد على النفع

الحكمة من تقديم ذكر الزبد على النفع أيها الإخوة: هذا الزبد الذي يزول ويتفرق وتنسفه الرياح، تقدم ذكره في الآية على ذكر ما ينفع الناس، فإن الله قال: {فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ} [الرعد:17]، ثم قال: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد:17] فقدم ذكر الزبد على ذكر ما ينفع الناس. من أسباب وحكم هذا التقديم: أن الزبد هو الذي يظهر للناس؛ فأنت إذا نظرت إلى الوادي الممتلئ بالماء، أول ما تنظر إليه عينك إلى الزبد، وقد تغفو العين ولا ترى الماء المتجمع في الوادي. أيها الإخوة: إن الباطل إذا علا في يوم من الأيام، فإن الناس أول ما ينظرون ويرون هو هذا الباطل، وقد يغفلون عن كون الماء النقي الصافي موجود تحته، فلا يرونه، ولكنه موجود، وقد يظنون بأن الماء غير موجود، كذلك يظنون بأن الحق قد مات، أو غاب، أو أنه غير موجود، وأن الباطل هو الذي استقر وعلا، وبقي، ولكن الحقيقة بخلاف ذلك، فإن من تحت هذا الزبد حقاً يتأجج، ينتظر الفرصة المواتية لكي يستعلي، وينتظر الأسباب التي يهيئها الله عز وجل لانقشاع الزبد الباطل؛ لكي يظهر الحق لامعاً نظيفاً على صفائه ونقائه الذي أراده الله. وفقنا الله وإياكم لأن نكون من أهل الحق، الصابرين عليه، وألا يجعلنا من المغترين بالباطل وانتفاشه، أسأل الله لي ولكم التوفيق والعلم النافع، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

المثل الناري

المثل الناري الحمد لله وحده، وأشهد أن لا إله إلا هو ولي الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي بلغ هذا الوحي للناس، وأقام الحجة عليهم، فصلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.

بيان وجه الشبه بين المثل الناري والوحي

بيان وجه الشبه بين المثل الناري والوحي أيها الإخوة: لما ضرب الله المثل المائي في الجزء الأول من الآية، أعقبه بذكر المثل الناري، والمثل المائي كان في إنزال الماء على الأرض، والمثل الناري في قوله تعالى: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ} [الرعد: 17] الناس إذا أرادوا أن ينقوا المعادن التي يستخرجونها من الأرض من الشوائب؛ ليحصلوا على هذا الذهب الصافي، أو الفضة الصافية، أو النحاس والحديد الصافي، ماذا تراهم يفعلون؟ إنهم يأخذون هذا الخام من المعادن المختلطة، فيوقدون عليها النار إيقاداً شديداً، حتى تذهب الأخلاط، ويبقى المعدن النافع، فيجعلونه على كيفيات تناسبهم في حياتهم العامة. هذا هو المثل الثاني عندما تخالط قلوب العباد المحن والفتن، ويكتوي المؤمن بنارها، فإنها تنقيه، وتهذبه من الشوائب، وتجعل معدنه أصيلاً صافياً. إن في الابتلاءات والمحن والفتن نفعٌ عظيمٌ؛ لإخراج أخلاط الدعة والكسل والركون إلى الحياة الدنيا، والتراجع والجبن إخراج هذه الأخلاط من النفس يحتاج إلى صهرٍ بحرارةٍ عظيمةٍ من حرارات الفتن، والابتلاءات التي تمحص معادن الناس، والتي تزيل الأخلاق والطبائع الرديئة منهم، وتجعل الأخلاق الحسنة والطبائع الجيدة هي التي تبقى كما يبقى معدن الذهب الصافي بعد إيقاد النار تحت الأخلاط التي فيه. يقول الله تعالى: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ} [الرعد:17] هذان المثلان: المثل المائي، والناري ضربا في القرآن للحق والباطل إذا اجتمعا، فإن الله يقول: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} [الرعد:17] يضربها للحق والباطل، يعني: أن الحق والباطل إذا اجتمعا، فإنه لا ثبات للباطل، ولا دوام له أبداً، كما أن الزبد لا يثبت مع الماء، ولا مع الذهب ونحوه مما يسبك في النار، بل يذهب ويضمحل، فالباطل وإن علا في بعض الأحوال -كما يقول القرطبي رحمه الله- فإنه يضمحل كاضمحلال الذهب والخبث يضمحل ولا يبقى مطلقاً، ولو ظن الناس بأنه طويل العمر والأمد، فإنه لا بد من ذهابه حتى يأذن الله ويشاء، ويخرج الحق عالياً مرفرفاً فوق الأرض، معلناً للناس بأن دين الله موجود، وبأن شرعته باقية، وبأن الطائفة المنصورة موجودة إلى قيام الساعة.

بيان حكمة الله في مخاطبة الناس حسب أحوالهم

بيان حكمة الله في مخاطبة الناس حسب أحوالهم انظروا إلى حكمة القرآن في ضرب الأمثلة، فإنه ضرب مثلين. أحدهما: يصلح لأهل البوادي وهو المطر والماء والوادي. والمثل الثاني: يصلح للمتقدمين من أهل الصناعات، هذا القرآن يفهمه كل أحد، فيه من النور ما يكفي بياناً لكل أحد، في آياته نورٌ لكل من أراد الوصول إلى الحق، ولا بد للدعاة إلى الله عز وجل من اقتفاء أثر القرآن وطريقته ومنهجه في ضرب الأمثلة للناس. ومن عموم الفوائد في هذه الآية- أيها الإخوة- قاعدة عظيمة: أن البقاء للأصلح، والأنفع، وأن البقاء للحق، فهذا الزبد لا ينفع شيئاً، ولكنه يذهب ويبقى الماء من تحته، وهذا الركام يذهب ويبقى الذهب خالصاً نقياً. كذلك يوجد في العالم كثيرٌ من الأمور والطوائف والمذاهب التي ما أنزل الله بها من سلطان، لا تنفع الناس بل تضرهم، لكن ليعلم العالم كله بأن البقاء للأصلح البقاء لدين الله تعالى، مهما تعالت الجاهلية وانتفشت، فإن دين الله عامٌ منتصرٌ، وكثيرٌ من الناس لا يفقهون هذه القضايا، ويظنون الظنون السيئة بالله عز وجل، ويتساءلون: ترى متى ينقشع الظلام! ومتى يبزغ نور الفجر من جديد؟ {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21]. فالأصلح لا بد له من البقاء والاستمرارية؛ لأن الله قد أذن بهذا وأمر بهذا أمراً كونياً قدرياً لا بد أن يحصل، وهو أمرٌ شرعي كذلك يحبه الله تعالى، يحب الله أن يبقى الإسلام، ويحب الله أن يبقى ما هو الأصلح للناس، لذلك كان لزاماً على كل مسلم موحد أن يفكر جدياً أن يلبس لبوس الإسلام النافع ظاهراً وباطناً؛ حتى ينفع الله به ويبقى وإن لم يبق الجسد، فإن المنهج باقٍ، والناس يتوالدون، والله يحمل في طيات أجيال بني البشر ما يجعل منهم في المستقبل رواداً للحق قاضين به مقيمين لشرعة الله عز وجل. اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك. اللهم يا مصرف القلوب صرف قلوبنا على دينك ووحيك وشرعتك. اللهم واجعلنا من أهل الحق ورواده، ومن القائمين به شرعةً ومنهاجاً. اللهم وأبعدنا عن الباطل وأهل السوء. اللهم واكتب النصر للحق والسنة، اللهم وانصر أهل السنة على أهل البدعة، واجمع المسلمين على الحق وعقيدة التوحيد الصافية يا رب العالمين. اللهم وثبت الأمن والاستقرار في ربوع بلدنا هذا، وبلاد المسلمين يا رب العالمين. اللهم من أراد دينك ووحيك وسنة نبيك، وبلاد المسلمين بسوء، فاردد كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره يا رب العالمين. عباد الله: إن الله يأمر بالدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.

تحكيم الشرع

تحكيم الشرع إقامة الحدود الشرعية أعظم دليل على تحكيم الشريعة، وإذا لم تتم الحدود خرب الدين، وقد أقام النبي صلى الله عليه وسلم الحدود في حياته، وفي هذه المادة شرح حديث من البخاري فيه إقامة حد الزنا، كما تجد في شرحه فوائد عظيمة عن أسباب وحلول لمشاكل عصرية تؤدي إلى تلك الجريمة.

حديث البخاري في حكم النبي بحد الزنا

حديث البخاري في حكم النبي بحد الزنا إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار. إخواني في الله: روى الإمام البخاري -رحمه الله- تعالى في صحيحه في باب الشروط التي لا تحل في الحدود، عن أبي هريرة وزيد بن خالد -رضي الله عنهما- أنهما قالا: (إن رجلاً من الأعراب أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! أنشدك بالله إلا قضيت لي بكتاب الله، فقال الخصم الآخر- وهو أفقه منه-: نعم. فاقض بيننا بكتاب الله، وائذن لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قل؟ قال: إن ابني كان عسيفاً عند هذا، فزنا بامرأته، وإني أخبرت أن على ابني الرجم، فافتديت ابني منه بمائة شاة ووليدة، فسألت أهل العلم، فأخبروني أن على ابني مائة جلدة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده! لأقضين بينكما بكتاب الله. الوليدة والغنم ردٌ عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، اغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها، قال: فغدا عليها، فاعترفت، فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجمت). هذا الحديث العظيم الذي رواه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه يخبرنا عن حادثة من الحوادث التي وقعت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف حَكَمَ فيها رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ هذان الرجلان جاءا من الأعراب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أحدهما- يشتكي-: (يا رسول الله! أنشدك بالله إلا قضيت لي بكتاب الله) يلح على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقضي له بكتاب الله، وهذا من قلة فقهه؛ إذ أن قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب الله لا يحتاج إلى إلحاح ولا إلى زيادة في الطلب، فإنه عليه الصلاة والسلام لا يقضي بغير كتاب الله مطلقاً. قال الخصم الآخر- وكان أفقه منه-: (نعم. فاقض بيننا بكتاب الله، وائذن لي) كان مؤدباً في سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال له: نعم أوافق خصمي على ما قال، اقض بيننا بكتاب الله، ولكن أرجو أن تسمح لي أن أتكلم وأفصل لك في الموضوع، و (حسن السؤال نصف العلم) فلذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل الثاني: قل؟ قال: (إن ابني كان عسيفاً- يعني: أجيراً، أو خادماً- عند هذا الرجل- الخصم: ابني كان خادماً عند خصمي -فزنا بامرأته- ابني الشاب الأعزب زنا بامرأة هذا الرجل وهو خادم عنده -وإني أخبرت، وفي رواية أخرى: فسألت من لا يعلم- سألت أناساً جهالاً لا يعلمون بأحكام الدين -فقالوا: إن على ابني الرجم، فلما علمت هذا الحكم ذهبت إلى هذا الرجل زوج المرأة، فحاولت أن أرضيه بشيء من المال، فأرضيته، فاصطلحنا واتفقنا على أن أعطيه مقابل الزنا الذي حصل بامرأته، أعطيه مائة شاة ووليدة -أي: جارية- بعد ذلك سألت أهل العلم بكتاب الله فأخبروني أن ما على ابني هو مائة جلدة وتغريب عام) أن يذهب به بعيداً عن وطنه وبلدته لمدة عام زائداً الجلد مائة جلدة، وهذا هو حد الزاني غير المحصن الأعزب الذي لم يتزوج، وأن على امرأة هذا الرجل الآخر الرجم -لا بد أن ترجم لأنها محصنة ومتزوجة- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده! لأقضين بينكما بكتاب الله -يعني: بحكم الله تعالى سواءً في القرآن أو في السنة- الوليدة والغنم ردٌ عليك) يأيها الخصم! أرجع المائة شاة والجارية إلى الرجل فهذا شيء باطل، وعلى ابنك مائة جلدة وتغريب عام، ثم التفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد الصحابة الذين كانوا يوكلون بإقامة الحدود، وقال: (اغد يا أنيس إلى امرأة هذا الرجل -اذهب عليها وقررها- فإن اعترفت، فارجمها. قال: فغدا عليها أنيس فاعترفت، فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجمت).

فوائد من حديث حكم النبي صلى الله عليه وسلم في حد الزنا

فوائد من حديث حكم النبي صلى الله عليه وسلم في حد الزنا هذا الحديث- أيها الإخوة- يشتمل على أصول عظيمة من أصول الإسلام، وعلى فوائد مهمة، وعلى تحذيرات ينبغي للمسلمين أن يتنبهوا إليها ويعوها ويعرفوها حق المعرفة، ويرعوها حق الرعاية.

الانتباه لقضية الخدم ومن في البيت

الانتباه لقضية الخدم ومن في البيت أولاً: لقد كان ولد هذا الرجل خادماً عند رجلٍ آخر، فزنا بامرأته. مشكلة الخدم- أيها الإخوة- مشكلة عويصة وكبيرة وخطيرة جداً، ومهدمةٌ لأخلاق البيوت، وقاضية على العفة والطهارة، إذا لم يلتزم فيها بآداب الدين وأحكامه، ومشكلة الخدم في عصرنا هذا أضحت من المشاكل العظيمة التي احتار فيها الناس، وبعضهم أودت بهم وببيوتهم إلى مهاوي من الرذيلة والفساد، وفتحت على المسلمين أبواباً من الشرور لا زالت تستفحل حتى الآن. ترى الرجل عنده خادمة في البيت شابةٌ جميلةٌ، وعنده أولادٌ بالغون كبار عزاب يختلطون بهذه الخادمة، وتجد كذلك خادماً، أو سائقاً شاباً موجوداً في البيت بهي الطلعة مفتول العضلات، يخالط الفتيات من البنات في هذا البيت، ويخالط الزوجة في البيوت، هذه- أيها الإخوة- من الطامات والبلايا التي ابتلينا بها في هذا العصر، فنشأ عن هذا مشاكل كبيرة، وبلايا عظيمة، وانتهاك لحرمات الله، وجرائم أخلاقية تتنافى مع شرع الله لا أول لها ولا آخر، وأصبح أولاد الزنا مشكلة من المشاكل المتولدة عن قضية الخدم، ونحن في هذا المقام لن نناقش هذه القضية، لأن الوقت لا يسمح لها الآن، ولعل الفرصة تتاح لهذا في المستقبل.

الاختلاط سبب الفتن

الاختلاط سبب الفتن ما هو السبب في الفتنة؟ لماذا تحدث الطامة، وتحدث البلية من هؤلاء الخدم؟ أحد الأسباب لهذه الجرائم التي تحصل- ما أشار إليه الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في شرح هذا الحديث فقال-: وإنما وقع له- يعني: للشاب- ذلك لطول الملازمة المقتضية لمزيد التأنيس والإدلال، فيستفاد منه: الحث على إبعاد الأجنبي عن الأجنبية مهما أمكن؛ لأن العشرة قد تفضي إلى الفساد، ويتوصل بها الشيطان إلى الإفساد، المرأة بطبيعة الحال إذا رأت رجلاً أجنبياً أمامها فجأة، فإنها تنفر منه وتهرب عنه، هذا لو كان في قلبها إيمان واعتراف بحدود الله ومحارمه، فإذاً: لماذا نجد الفاحشة -أحياناً- تقع بين هذا النوع من النساء والخدام والسائقين في البيوت؟ السبب- أيها الإخوة- طول الملازمة المقتضية لمزيد من التأنيس والإدلال العشرة والمعاشرة كثرة المخالطة والمعايشة مع هذا السائق، أو هذا الخادم هي التي تفضي إلى المحرم المقابلة الأولى قد لا توقع إلى محرم، وقد لا تفضي إلى شيء، ولكن زيادة الخلطة والمخالطة والمعاشرة تجعل الجو طبيعياً جداً، وتجعل وجود هذا الأجنبي في البيت بين النساء أمراً عادياً لا ينقد، هذا هو بداية الفساد، وهذا هو الجو المهيأ لوقوع الرذيلة والفاحشة.

إيجاد الحلول لوجود الخدم والسائقين في البيوت

إيجاد الحلول لوجود الخدم والسائقين في البيوت أيها الإخوة: إن وجود الخدم والسائقين داخل البيوت يعاشرون نساءنا ويتجولون بينهن من الخطورة بمكان؛ لأنه سيزيل حاجز الكلفة بين هذا السائق، أو هذا الخادم وهذه المرأة، سيصبح هذا الرجل كأنه من أهل البيت لا فرق بينه وبين الزوج أو الابن أو الأخ، يدخل متى شاء ويخرج متى شاء، يدخل والمرأة في حالة من التكشف كأنها أمام زوجها، وكأنه لا يوجد عندها رجل أجنبي، وهذه المخالطة وهذه الإزالة للحاجز هي التي توقع في الجريمة، وهي التي تهيئ أسباب الفساد، لذلك كان لا بد من إبعاد الأجنبي عن الأجنبية مهما أمكن؛ لأن العشرة هي التي تفضي إلى الفساد، مَن مِن الناس اليوم الذين يوجد عندهم خدم وسائقون يفصلون بين بيت الخدم وبيت النساء؟ مَن مِن اليوم يمنع السائق من الدخول إلى داخل البيت، ويبقي السائق في حجرة خارجية خارج سور البيت، أو له باب آخر مختلف عن باب البيت؟ من الذي يحرص على منع الاختلاط؟ إنهم قلة من الناس جداً، بل إن هذا الفصل غير واقعٍ تقريباً في أحوال البيوت اليوم، ولذلك- يا إخواني- نسمع بالمآسي، ونسمع بالطامات، ونسمع بمواليد يولدون لا يمتون بصلة إلى الأب، أو الزوج في البيت. هذه مشاكل- أيها الإخوة- نشأت عن إهمال حدود الله تعالى، وعدم تعظيم حرمات الله. فالحذر الحذر من هذه الفتنة العظيمة، والطامة الكبيرة، التي عمت ودخلت كل بيت، فأصبحت من الفتن. الله الله في بيوتكم الله الله في نسائكم الله الله في محارم الله الغيرة الغيرة- أيها الإخوة- على حدود الله ومحارمه جنب أولادك ونفسك ونساء بيتك هذه المحرمات التي شاعت بسبب تعود الناس عليها وعدم إنكارها.

وجوب التحاكم إلى شرع الله

وجوب التحاكم إلى شرع الله هناك قضية أخرى من القضايا الأصولية العظيمة في هذا الحديث وهي: وجوب التحاكم إلى القرآن والسنة: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً} [الزمر:23] وأوحى إلى رسوله عليه الصلاة والسلام وحياً -قرآناً وسنةً- لا لتبقى على الرفوف معزولة عن واقع الناس وحياتهم، وإنما ليحكم بين الناس بما أنزل الله، ويحكم من بعده عليه الصلاة والسلام بما أنزل الله تعالى. يجب التحاكم إلى الكتاب والسنة، ونبذ أي مصدر آخر للتشريع غير القرآن والسنة، وأي مصدر من المصادر يُتحاكم إليه غير الكتاب والسنة فهو طاغوت من الطواغيت، ومحادة لله تعالى، وإشراكٌ به -عز وجل- شركاً أكبر يخرج عن الملة، وينقل من دائرة الإسلام إلى دائرة الكفر- والعياذ بالله- وكثيرٌ من الناس اليوم يتحاكمون إلى الهوى، أو إلى العادات والتقاليد، أو إلى شرائع شرعوها بينهم- ما أنزل الله بها من سلطان- فيقعون في الكفر- والعياذ بالله- وقد لا يعذرون بجهلهم، وهذا الرجل في هذا الحديث مثالٌ على الجاهل الذي ظن بأن هذا الحد الذي وقع فيه ابنه من الأشياء التي يمكن أن يصالح عليها بالمال فجاء إلى هذا الرجل، وقال له: ما يرضيك؟ كيف أرضيك؟ هذا ابني زنا بزوجتك. ماذا يرضيك؟ فدفع له مائة شاة وجارية؛ لكي يرضا ذلك الرجل عن الزنا الذي حصل بزوجته- والعياذ بالله- هذا تحاكمٌ إلى عادات أو تقاليد أو أعراف أو أهواء موجودة في المجتمع، نسف صلى الله عليه وسلم هذا الحكم من أصوله واجتثه، وقال: (المائة شاة والوليدة ردٌ عليك) ارجع ما دفعت إليه هذا باطل لا يجوز.

خطر التحاكم إلى غير شرع الله

خطر التحاكم إلى غير شرع الله كثيرٌ من الناس اليوم يجعلون القرآن والسنة في جانب، ويتحاكمون إلى العادات والتقاليد، أو الأشياء التي شرعت من دون الكتاب والسنة، أو الأهواء التي اتبعت {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} [النساء:60]. {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50]. {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة:49]. {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]. {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45]. {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47] ثلاثة أوصاف في سورة المائدة بينت قضية الحكم، يجب أن يكون الحكم لله، لا تُحكِّم عادة، ولا تقليد، ولا عرف من الأعراف، ولا هوى من الأهواء، ولا أشياء شرعها البشر من عند أنفسهم، لا يجوز تحكيم إلا القرآن والسنة وإلا فلسنا بمسلمين. ولذلك- أيها الإخوة- حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بحكم الله من فوق سبع سماوات أن يجلد هذا الشاب مائة جلدة، وأن ترجم المرأة؛ لأنها زانية محصنة قد تزوجت، ثم زنت بعد إحصانها وزواجها، فوجب أن ترجم بالحجارة حتى تموت، وأقيم الحد عليها بعد اعترافها.

حدود الله لا يساوم عليها ولا يتراضى فيها

حدود الله لا يساوم عليها ولا يتراضى فيها لم يرض الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الحكم الجاهلي الذي ابتدعه هذا الرجل، واتفق عليه هو وصاحبه، وكثير من الناس اليوم يتراضون فيما بينهم بأحكام لم ينزل الله بها من سلطان، ويعرضون عن القرآن والسنة، وينسون حق الله بالحدود. رجل يزني بامرأة رجل آخر، ثم يقول له: ما الذي يرضيك حتى أدفعه لك؟! أين حكم الله؟ هل هذا هو حكم الله؟!! التعويضات المالية في عملية الزنا هي حكم الله؟! لا والله. لذلك كان من محادة الله تعالى ومعاداته ما يقع في تشريعات كثيرٍ من البشر اليوم أنهم قالوا: لو أن رجلاً زنا بامرأة وهي راضية برضاها وهو راضٍ، فلا شيء عليهما، لماذا؟ قالوا: لأنهما رضيا كل منهما راضٍ بالزنا، فلا شيء عليهما، تعالى الله عما يقول الكافرون علواً كبيراً. ويأتي رجلٌ آخر يقول: أنا أتفق مع البنك على الربا أنا راضٍ وهو راضٍ بالربا، كلنا راضين، لا أحد مكره على هذا، إذاً الربا حلال، لماذا؟ لأنني أنا راضٍ والطرف الآخر راضٍ أيضاً، هذا هو عين الكفر هذا هو عين الوقوع في محرمات الله تعالى، إذا كنت أنت راضٍ وهي راضية، فهل رضي الله عزَّ وجلَّ عن هذا الأمر الذي ستقدم عليه وتفعله؟ كثيرٌ من الناس يحتجون بمبدأ الرضا في العقود حتى ولو كانت مخالفة لشرع الله تعالى، وهذا- أيها الإخوة- خطرٌ عظيمٌ جسيمٌ يهدد الأمة ويسلخها سلخاً عن دين الله، ويبعدها إبعاداً كبيراً عن أحكام الله وشرائعه. إذا كنت راضياً والطرف الآخر راضٍ، والله لم يرض عن هذا العمل، وقال الله في كتابه: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاءَ سَبِيلاً} [النساء:22] أو قال في كتابه أنه يحارب من يفعل هذا الفعل، ثم أنت تقول: أنا راضٍ والطرف الآخر راضٍ، فنحن نقدم على هذا الفعل، ما دام أنه لا أحد مكره، فإن الله لا بد أن يحاربك، ولا بد أن ينتقم منك، وقد ينتقم في الدنيا قبل الآخرة. لا بد- أيها الإخوة- من الاحتكام إلى القرآن والسنة وتطبيق الحدود، وعدم المساومة عليها بالأموال، وعدم التراضي، إذا وصل الحد إلى القاضي أو الإمام، فلا يجوز التراجع عنه مطلقاً، لا بد من الاحتكام إلى كتاب الله تعالى. أين حق الله الذي ضيع في كثيرٍ من الحدود التي يقع فيها الناس اليوم؟ الحدود والمحرمات التي يقترفونها يتحاكمون فيها إلى من؟ يجب العودة إلى الكتاب والسنة. أيها الإخوة المسلمون! وفقني الله وإياكم لتحكيم شرع الله في أنفسنا، والعودة إلى القرآن والسنة، تطبيقهما في واقعنا، ونسأل الله أن يعصمنا وإياكم من الإشراك به، أو تحكيم غير كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم.

الرجوع إلى أهل العلم في مسائل الشرع

الرجوع إلى أهل العلم في مسائل الشرع الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. كان من الفوائد غير ما تقدم في هذا الحديث العظيم الذي رواه الإمام البخاري رحمه الله تعالى فائدة عظيمة جليلة، وهي: الرجوع إلى أهل العلم العالمين بالكتاب والسنة، فإن هذا الرجل سأل بادئ ذي بدء أناساً غير عالمين بكتاب الله، فقالوا له: إن على ابنك الرجم، وليس على الولد الرجم؛ لأنه أعزب غير متزوج وزنا، ففي هذه الحالة ليس عليه الرجم، فأخبروه بهذا الحكم المخالف لحكم الله تعالى مما جعله يفتدي ولده من هذا الرجل بتلك الأموال العظيمة التي دفعها إليه، فلما سأل أهل العلم أخبروه. قال في الحديث: (ثم إني سألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم) ثم إني سألت أهل العلم، قال الله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43] وهذه من المصائب التي وقع فيها الناس اليوم، فإذا أرادوا أن يسألوا عن حكم من الأحكام، فإنهم لا يسألون المحققين من العلماء، ولا يسألون من عرف بالعلم والتقوى من العلماء، وإنما تجد أحدهم يسأل جاهلاً مثله أو أقل منه، وتجد أحدهم يسأل كبيراً في بيته، أو في عشيرته، ثم يحتكم إلى قوله، وتجد أحدهم يسأل قاصاً من القصاصين، أو أديباً من الأدباء، أو مؤرخاً من المؤرخين ممن لا علاقة له بفقه الكتاب والسنة مطلقاً، فترى الناس لا يميزون اليوم بين أهل العلم وغيرهم، فيسألون من شاءوا ممن واجهوا وممن سمعوا عنهم وحتى ولو كانوا ليسوا من أهل العلم. لابد أن نتحرى من هم العلماء الصالحون، ولابد من السؤال عنهم ثم سؤالهم، قال الله تعالى: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} [الفرقان:59] لابد من الرجوع إلى الخبراء بالكتاب والسنة. الناس اليوم إذا مرضوا اختاروا أحسن الأطباء والمتخصصين في هذا المرض، فإذا وقعوا في مرض من الدين لم يرجعوا إلى المختص بهذا المرض، وإنما سألوا أي واحد من الناس. أنتم ونحن مسئولون جميعاً عمن نسأل في ديننا، ستسأل أمام الله تعالى هذه المسألة التي وقعت لك من سألت فيها؟ لماذا سألت فلاناً من الناس فيها؟ ستسأل يوم القيامة لماذا انتخبت فلاناً من الناس وسألته؟ هل لأنك تعرف بأنه يصدر الفتاوى السهلة التي ما أنزل الله بها من سلطان؟ هل لأنه يقول ويحكم بالأسهل -بغض النظر عن كونه حقاً أو غير حق- فأنت تسأله لمجرد أنه يفتيك بالأسهل؟ أم لمجرد أنك توهمت أن عنده شيئاً وليس عنده شيء، أو لمجرد أنه قد نفخ نفسه أمام الناس بالعلم، وادعى به ثم أنت تسأله؟ لابد أن تتحرى -يا أخي المسلم- من تسأل، لا تسأل أي أحد، ارجع إلى العلماء الأجلاء، ونحن والحمد لله -أيها الإخوة- في مجتمعنا هذا يوجد عندنا علماء أجلاء من كبار العلماء في العالم، لكن للأسف معطلين لا يرجع إليهم الناس ولا يسألونهم ولا يتصلون عليهم هاتفياً أو يكاتبونهم أو يسافرون إليهم. الواحد إذا أراد أن يستورد بضاعةً أو يجلب عاملاً أو سائقاً سافر من أجله آلاف الأميال، أما إذا وقع له شيء في الدين فإنه لا يكلف نفسه السفر ولو لبضع مئات من الأميال، مع أن هذا دين وليس تجارة ليس مالاً ليس عرضاً دنيوياً. الناس يسافرون إلى أعراض دنيوية المسافات الشاسعة، ثم لا يكلف نفسه مطلقاً لا بالاتصال ولا بالكتابة ولا بالسفر إلى العلماء الأجلاء وهم موجودون في بلده ليسوا ببعيدين عنه، لا يكلف نفسه الاتصال بهم وسؤالهم، ويسأل أي واحد من الناس أو يحكم هواه هو، فيقول: لعل هذه المسألة ما فيها شيء، لعل هذه القضية حلال إن الله غفور رحيم هذه فاتت وماتت، وهي لم تمت بل هي مسطرة عند الله تعالى. فلابد من الرجوع إلى العلماء لا أدعياء العلم ولا الجهلة، ولا تسأل قاصاً أو مؤرخاً أو أديباً عن مسألة شرعية تتعلق بالكتاب والسنة، أو تسأل واعظاً. هناك فرق بين الواعظ والعالم الواعظ قد يذكرك بالله والجنة والنار، لكن قد لا يستطيع أن يحكم، أو يفتيك في مسألة تتعلق في الفقه أو تتعلق بالحلال أو الحرام، يجب أن تفرق بين الواعظ الذي يبكيك وتشعر بأن كلامه يطري القلب فقط، وبين العالم الذي تعلَّم العلم وأفنى فيه عمره وطبقه وخشع لله من أجل هذا العلم: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] العلماء الحقيقيون هم الذين يخشون الله، لابد من الرجوع إليهم وسؤالهم، والتحري عنهم والتثبت، تسأل من؟ وما هو دليله على كلامه الذي يقوله لك؟ عند ذلك تكون على صراط مستقيم. اللهم إنا نسألك بأنك أنت الله الواحد الأحد الفرد الصمد الديان، أن ترينا الحق حقاً وترزقنا اتباعه، وأن ترينا الباطل باطلاً وترزقنا اجتنابه. اللهم إنا نسألك التحاكم إلى القرآن والسنة، اللهم وفقنا العودة للقرآن والسنة والتحاكم إليهما ونبذ الشرائع الضالة التي اخترعها البشر. اللهم إنا نسألك أن تحمي بلدك هذا وبلاد المسلمين من شر كل ملحد وطاغوت. اللهم من أراد ببلدنا هذا أو بلاد المسلمين سوءاً فاردد كيده في نحره، واجعله عبرةً لمن يعتبر. اللهم من أراد دينك بسوءٍ فاقطع يده وشتت شمله، ودمره تدميراً، وانصر دينك وكتابك ورسولك على سائر الأديان والملل. اللهم واجعل دينك عاماً منتصراً على سائر الأديان، واجعل عقيدة التوحيد مهيمنة على سائر العقائد والبدع. اللهم واجعلنا من أهل السنة والجماعة الذين اتبعوا نبيك صلى الله عليه وسلم وما حرفوا دينك وما بدلوه تبديلاً. اللهم واجعلنا من المتمسكين بسنة نبيك صلى الله عليه وسلم العاضين عليها بالنواجذ، وجنبنا الإحداث والبدع. اللهم واجعلنا من المتمسكين بشرعك الحافظين لحدودك. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر اليهود والكفرة والملحدين وسائر أعداء الدين. اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلا نوراً من الإيمان تقذفه في قلوبنا نرى به طريق الحق. اللهم وارزقنا الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، وأعذنا من النار وما قرب إليها من قول وعمل، اللهم وأظللنا بظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك. اللهم واجعلنا ممن سلمتهم على الصراط يوم الفزع الأكبر، اللهم سلمنا على الصراط، اللهم سلمنا على الصراط واجعلنا ممن يجوز عليه إلى جنة عرضها السماوات والأرض. وصلوا على نبيكم الرحمة المهداة، سيد الأولين والآخرين محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

الصبر على طاعة الله

الصبر على طاعة الله الصبر من أعظم الأسباب التي أعانت الأنبياء عليهم السلام على نشر دعوتهم؛ لأنهم بصبرهم استطاعوا أن يتحملوا كل ما يواجهونه من قومهم من تكذيب لهم وسخرية منهم ومما يدعون إليه. فالصبر يعين السالك إلى طريق الله عز وجل، فيصبر على طاعة الله وعلى ما يأمره الله عز وجل من الأوامر المختلفة التي يحتاج فيها إلى الصبر والتحمل.

تعريف الصبر

تعريف الصبر الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، أشهد أن لا إله إلا هو رب الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى سبيله القويم، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. وبعد: أيها الإخوة! الموضوع الذي سنتحدث عنه موضوع مهم جداً، وإذا تأملت معي -يا أخي المسلم- أهمية هذا الموضوع في الحياة التي نحياها الآن، لوجدته أمراً ذا بال، وأمراً خطيراً جداً. نحن الآن -أيها الإخوة- عندما نؤدي هذه الأركان وهذه العبادات لله عز وجل، يشعر الإنسان المسلم أحياناً بأنه متثاقل وهو يؤدي هذه العبادات يشعر بأن عليه مشقة كبيرة جداً لأداء صلاة الفجر أو أداء صلاة الجماعة في المسجد. وعندما يخرج الصدقات والزكوات يحس بأنه يجاهد نفسه لكي يخرج هذه الأموال، فيشعر بمشقة. وكذلك إذا دعا داعي الجهاد في سبيل الله وجدت الأمر صعباً. وكذلك إذا جاء الإنسان المسلم الذي هداه الله عز وجل ليستقيم على شرع الله، ويلتزم بأحكام الله، وجد المجتمع يؤذيه من كل جانب، ووجد أقرب الناس إليه وأحب الناس إليه يؤذونه ويثبطونه عن المضي في هذا الطريق. وامرأة مسلمة هداها الله إلى الإسلام تريد أن تلتزم بالحجاب تحس بأن الالتزام بالحجاب صعب جداً. وتاجر مسلم يريد أن يطهر أمواله من الربا، وينقيها من الحرام، يحس بأن هذا العمل شاق وصعب وشديد. الإنسان مع إخوانه في الله وهو يعيش معهم قد ينزغ الشيطان بينه وبينهم في أشياء كثيرة، وتعاملات عديدة، فلا يعجبه تصرف من هذا، أو قولة من ذلك إلى آخر تلك الأمور التي تحدث، مما يجعل الإنسان -أحياناً- يفكر في أن يترك إخوانه في الله -مثلاً- فكونه يجلس معهم ويجاهد نفسه للبقاء معهم أمرٌ عسير وشاق؛ هذه الأمور وغيرها -أيها الإخوة- مزاولتها تحتاج إلى صبر شديد؛ هذا الصبر الذي سنتحدث عنه، هو الذي يسهل هذه الأمور ويذلل الصعاب أمام الإنسان المسلم وهو يسير في طريقه إلى الله تعالى. فتعالوا بنا لنتعرف على هذه الكلمة العظيمة (كلمة الصبر) ونعرف معناها في اللغة والشرع؟ وكيف أتت في القرآن والسنة؟ وما هي أقسام الصبر؟ وما هي الأسباب الجالبة له؟ وما هي أنواعه من حيث تعلقه بأشياء كثيرة؟

اشتقاقات كلمة الصبر في اللغة

اشتقاقات كلمة الصبر في اللغة اعلموا -رحمكم الله- أن أصل هذه الكلمة -كلمة الصبر- معناها في اللغة: المنع والحبس. يقال: صبر يصبر صبراً، وصبر نفسه، كما قال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف:28] معنى {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ} [الكهف:28] أي: احبس نفسك، وامنعها عن تركها هؤلاء، اصبر نفسك معهم واحبسها. ويقال: "الصبر هو حبس النفس عن الجزع، واللسان عن التشكي، والقلب عن السخط". وكلمة الصبر لها اشتقاقات كثيرة في اللغة تتعلق بما نحن بصدده، من بيان معنى الصبر، فمن اشتقاقاتها -مثلاً- صبر، وتصبر، واصطبر، وصابر، وغيرها من الاشتقاقات، وكثير من هذه الألفاظ وردت في القرآن الكريم، بحيث يحتاج المسلم أن يعرف ما هي الفروق بين هذه الألفاظ؟ يقال للإنسان: صبر إذا أتى بفعل الصبر، وإذا تصبر الإنسان المسلم يقال: تصبر إذا تكلف الصبر واستدعاه، تكلف إحضار الصبر إلى نفسه، واستدعى هذا الصبر، فيسمى عندئذٍ تصبر، أي: جلب الصبر واستدعاه وتكلف حضوره، وهذه اللفظة كما يقول شيخ الإسلام رحمه الله في الفتاوى: هي المعنى الوارد في قول الله عز وجل: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} [البقرة:177] فقال: البأساء: هو الفقر، والضراء: كل الأذى الذي يحدث في البدن، مثل: المرض وغيره فالصابرين في البأساء والضراء، أي: المتصبرين على البأساء والضراء. الذي يصبر ويستدعي الصبر ويتكلف الصبر، وهو يعيش في جو البأساء ومرارة الحاجة، هذا يسمى متصبر؛ لأنه قد جلب الصبر واستدعاه وتكلف حضوره. وكذلك يقال في اللغة: اصطبر، أي: تعلم الصبر واكتسبه، فالإنسان إذا كان يتعلم الصبر، ويحاول أن يكتسب الصبر، فإنه يسمى: مصطبراً. وهذه اللفظة تقودنا إلى شيء مهم جداً: هل الصبر خلق يكتسب؟ أم هو خلق فطري يولد مع الإنسان ولا يمكن الزيادة فيه ولا النقصان منه؟ الصحيح في هذه المسألة: أن الصبر من الفطر التي يفطر الناس عليها، فترى بعض الناس من طبيعتهم أنهم يصبرون، وبعض الناس لا يصبرون، لكن الصبر بالإضافة إلى هذا الكلام يمكن تعلمه واكتسابه، بمعنى: يمكن أن يكون الإنسان غير صابر، فيتعود على أشياء معينة، ويتعلم أشياء معينة تصل به إلى اكتساب الصبر. ما هو الدليل؟ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام البخاري: (ومن يتصبر يصبره الله). إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم يقرر بأن الإنسان يمكن أن يتصبر -يعلم نفسه الصبر- ويكافح حتى يصل إلى مرحلة يكتسب فيها هذه الخصلة وهي الصبر، فإن المزاولات -مزاولة الشيء- تعطي الملكات ومن زاول شيئاً واعتاده وتمرن عليه صار ملكاً له، وسجيةً، وطبيعة كما يقول ابن القيم رحمه الله. وقد جعل الله في الإنسان قوة القبول والتعلم لهذه الطبائع- بالرغم من أنها طبائع إلا أنه من الممكن تعلم هذه الطبائع واكتسابها- غير أن العبد أحياناً إذا كان نزقاً لا يصبر، ثم حاول أن يكتسب الصبر ويتعود ويتطبع بالصبر، فقد يكون انتقاله هذا من عدم الصبر إلى الصبر ضعيفاً، فيعود العبد إلى طبعه الأصلي بأدنى فاعل؛ فأدنى وقعة تجعله يعود إلى عدم الصبر الذي كان سجيةً له. أحياناً يكون التصبر فيه قوة، بحيث لا يعود إلى سجيته الأولى التي هي عدم الصبر والحدة إلا بباعث قوي، فقد يكون في موقف قوي بحيث يخرجه عن هذا التصبر إلى السجية الأولى التي كان عليها، وأحياناً يكون التعلم والاكتساب للصبر قوياً جداً، بحيث يملك على الإنسان نفسه، ولا يعيده إلى ما كان عليه في الماضي. وإذا جئنا إلى اللفظة الأخرى من اشتقاقات الصبر وهي كلمة صابر؛ فإن لفظة صابر تفيد وقوف الإنسان مع خصمه في عملية الصبر، ولذلك فلفظة: صابر، على وزن فاعل؛ وهذه اللفظة تعني: أنه لا بد من وقوعها بين اثنين على الأقل، مثل: شاتم، هذا شتم فلاناً وفلان شتمه، كذلك صابر، أي: هذا صبر وهذا صبر، كل واحد يصبر من جهة، فأيهم الذي يكون صبره أكثر من صبر الآخر؟ عملية التسابق في الصبر تسمى مصابرة؛ والمصابرة أعلى مرتبة من الصبر، لأن الإنسان يمكن أن يصبر لكن لا يصابر، قد يصبر لفترة معينة لكن لا يصبر مع خصمه إلى النهاية، فيفقد الصبر في منتصف الطريق، فلا يقال: صابر، وإنما يقال: صبر. الآن بعد أن عرفنا هذه الأشياء تأمل قول الله تعالى في آخر سورة آل عمران، تتضح لك معانٍ لم تكن متضحة من قبل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200]. قد يقول إنسان قبل أن يتعلم هذه الألفاظ: ما هو الفرق بين صبر وصابر؟ كيف يأمر الله الناس: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا} [آل عمران:200] ما هو الفرق؟ فالآن المقام مقام كلام على المرابطة والجهاد، يأمر الله الناس أن يصبروا ويصابروا الأعداء؛ لأن الأعداء قد يصبرون، فالمؤمنون يجب أن يصابروا عدوهم، حتى يفوقوهم في الصبر والجلد في مجال المعركة {وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200]. فالمصابرة: هي حال الإنسان في الصبر مع خصمه، فإن العبد قد يصبر لكنه لا يصابر.

تعريف الصبر شرعا

تعريف الصبر شرعاً أما تعريف الصبر من ناحية الشرع: فقد ذكر بعض العلماء: "أنه خلق فاضل من أخلاق النفس يمتنع به الإنسان الصابر من فعل ما لا يحسن ولا يجمل شرعاً". هذا الخلق الذي يحمل النفس على الامتناع عن الأشياء التي لا تجمل ولا تحسن شرعاً، هذا هو الصبر. وكذلك قال بعض السلف: "الصبر ثبات القلب عند موارد الاضطراب". والصبر والجزع ضدان، ولهذا يقابل أحدهما الآخر، ولذلك قال الله عن أهل النار: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} [إبراهيم:21] أهل النار يوم القيامة عندما يطبق عليهم العذاب من كل جانب، يقول بعضهم لبعض: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا} [إبراهيم:21] أي: فقدنا الصبر على هذا العذاب ((أَمْ صَبَرْنَا} [إبراهيم:21] على هذا العذاب ليس هناك فائدة، كله واحد {مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} [إبراهيم:21] أي: ليس هناك مهرب ولا مفر؛ لأنهم لو صبروا على العذاب أو جزعوا فإن النتيجة واحدة، وهي أن العذاب مستمر، فإن صبرهم لن يفيدهم شيئاً. أيها الإخوة: الصبر إذا كان صبراً عن شهوة الفرج، فإنه يصبح عفة، تأمل في الصبر كيف أنه يداوي ويقلب الصفات الذميمة إلى صفات حسنة، فإذا كان صبراً على شهوة الفرج، فإنه يسمى عفة، وضدها الفجور والزنا. وإن كان صبراً على شهوة البطن وعدم التسرع في الطعام، أو تناول ما لا يحسن الإنسان أن يتناوله، فإنه يسمى شرف نفس، وشبع نفس، ليس شبع بطن، وضده الشره والدناءة. وإن كان صبراً على إظهار ما لا يحسن إظهاره من الكلام، فإنه يسمى: كتمان سر. وعكسه إذاعة السر وإفشائه، أو اتهام الناس، أو فحشهم وسبهم، والكذب عليهم وقذفهم والافتراء عليهم، هذا كله ضد صبر النفس وصبر اللسان عن التكلم بما لا يحسن التكلم به شرعاً. وإن كان صبراً على فضول الدنيا، فإنه يسمى: زهداً. وإن كان صبراً على قدرٍ يكفي من الدنيا؛ فإنه يسمى: قناعة. وإن كان صبراً عن إجابة داعي الغضب في النفس، فإنه يسمى: حلماً. وإن كان صبراً عن إجابة داعي العجلة والتسرع، فإنه يسمى: وقاراً وثباتاً. وإن كان صبراً عن إجابة داعي الفرار والهرب، فإنه يسمى: شجاعةً. وإن كان صبراً عن داعي الانتقام، فإنه يسمى: عفواً وصفحاً. فتأمل معي كيف أن هذا الصبر هو الذي يقلب الأخلاق السيئة في النفس إلى أخلاق حسنة، وهو الذي يداوي الأمراض النفسية ويجعلها تصل بالنفس إلى مراحل عليا. وعرف بعض العلماء الصبر: "بأنه الثبات على أحكام الكتاب والسنة". وقال بعضهم: هو الاستعانة بالله.

أنواع الصبر

أنواع الصبر اعلموا -أيها الإخوة- أن الصبر ينقسم إلى نوعين: 1 - صبر بدني. 2 - صبر نفساني. وكذلك فإنه ينقسم إلى نوعين آخرين من جهة أخرى: 1 - صبر اختياري. 2 - صبر اضطراري. ولو جمعنا هذين النوعين إلى هذين النوعين لأصبح عندنا أربعة أنواع: الصبر البدني الاختياري: وهو صبر يتعلق بالبدن لكنه اختياري، يمكن أن يفعله الإنسان ويمكن ألا يفعله، مثل: الصبر على تعاطي الأعمال الشاقة، كالذي يصبر على حمل الأشياء الثقيلة؛ فهذا صبر بدني اختياري. 2 - الصبر البدني الاضطراري، كشخص أخذ وعذب وضرب، فهو الآن يضرب من قبل الذي يعذبه، فهذا صبر بدني اضطراري. 3 - الصبر النفساني الاختياري: كصبر الإنسان على حبس النفس عن الغضب. 4 - الصبر النفساني الاضطراري: كصبر النفس عن محبوبها قهراً إذا حيل بينها وبينه، مثلاً: شخص أراد أن يهاجر في سبيل الله، ولكنه حبس أن يهاجر إلى أقوام صالحين، أو حبس عن إتيان شيء من الأشياء المحمودة شرعاً. فهذه الأنواع الأربعة بعضها يجتمع في الحيوان، وبعضها لا يكون إلا في الإنسان، هناك نوعان لا يكونان إلا في الحيوان، والنوعان وهما: البدني والاضطراري؛ وهذا من صبر الحيوان؛ لأن الحيوان ليس له اختيار. إذاً: بعض الناس عندهم صبر بدني، كأن يكون جسمه قوي فيستحمل، وهذا النوع من الناس لا يكون محموداً دائماً، لأنك تجد بعض الكفرة أو بعض الناس الذين يجرون وراء الماديات، عنده استعداد أن يصبر في العمل والكد ويشتغل في اليوم اثنا عشر ساعة أو أربعة عشر ساعة، كسائق الشاحنة الذي يذهب ويرجع على الخطوط ويتنقل ويصبر على هذا التعب؛ فهذا الصبر ليس محموداً دائماً، هذا الصبر فيه من صبر الحيوانات، بل إن بعض الحيوانات تصبر في الصبر البدني أكثر من الإنسان. وكذلك الصبر الاضطراري، فإن الحيوان يصبر على الآلام اضطراراً، فما هو يا ترى النوع الذي يفترق فيه الإنسان عن الحيوان؟ الصبر الذي يفترق فيه الإنسان عن الحيوان هو الصبر النفساني والصبر الاختياري؛ هذه الأشياء التي يفترق فيها الإنسان عن الحيوان. ولذلك تجد بعض الناس يعمل بكد ويتعب نفسه ويصبر على هذا التعب البدني؛ لكي يحصل الأموال، فهذا مثل الحيوان ولا يوجد فرق بينهما، وإذا صار فيه مرض صابر غصباً عنه؛ لأنه لا يمكن أن يزيل المرض بالقوة، فيصبر على هذا المرض. فهذه الأنواع من الصبر ليست هي الأنواع التي ترفع الإنسان إلى المكانة العليا إلا إذا قصد بها وجه الله. الأشياء التي تحتاج إلى مصابرة فعلاً هي: المصابرة النفسية على أشياء النفس وهواها، وكذلك على الأشياء الاختيارية التي يمكن للإنسان أن يفعلها أو لا يفعلها، وهو مع ذلك يفعلها في الخير؛ هذه الأشياء التي تفرق بين الإنسان والحيوان؛ فالإنسان إذا صابر باعث الهوى ودفعه صار مثل الملائكة في هذا الجانب، وإذا غلبه باعث الهوى والشهوة فإنه يصبح مثل الشياطين، وإذا غلبه طبع الأكل والشرب والجماع فقط فإنه يصبح مثل البهائم. الصبر ينقسم إلى ثلاثة أنواع: 1 - صبر على طاعة الله. 2 - صبر عن معصية الله -أي: يصبر عن المعصية فلا يرتكبها. 3 - صبر على أقدار الله. وكلامنا سوف يتركز على النوعين الأوليين: الصبر على الطاعة، والصبر عن المعصية. هذه الثلاثة الأشياء اجتمعت في آية واحدة، وهي قول لقمان لابنه وهو يعظه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان:17]. فإن في قوله: {أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ} [لقمان:17] فعل الطاعة والصبر على الطاعة. {وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [لقمان:17] ليس من المعقول أن ينهى عن المنكر وهو يفعل المنكر، فمعنى هذا: أن لقمان يوصي ابنه بالصبر عن المعصية. {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان:17] الصبر على أقدار الله التي تصيب الإنسان. فهذه الأشياء: الصبر على الطاعات، والصبر عن المحرمات، والصبر على الأقدار. هل هي واجبة، أو مستحبة، أو مكروهة، أو محرمة؟ A يجب على الإنسان أن يصبر على هذه الأشياء؛ يصبر على الطاعة يصبر على الصلاة، يصبر على الزكاة، وكذلك الصبر عن المحرمات، مثل: الصبر عن الشهوات، فلذلك يقول ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى، في مسألة الاستمناء: من فعل الاستمناء تلذذاً، أو تذكراً، أو عادةً، بأن يتذكر في حال استمنائه صورة كان يجامعها، فهذا كله محرم، لا يقول به أحمد ولا غيره؛ لأن المشهور من مذهب الحنابلة: أن الاستمناء مباح، فيقول شيخ الإسلام رحمه الله: وهذا لا يقول به أحمد ولا غيره، والصبر عن هذا من الواجبات لا من المستحبات. والصبر عن المحرمات واجب وإن كانت النفس تشتهيه وتهواه، قال تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:33] ما هو الاستعفاف؟ ترك المنهي عنه، وقد سبق أن ذكرنا الشيء الذي إذا صبرت عليه فإنك تصبح عفيفاً.

التفاضل بين أنواع الصبر

التفاضل بين أنواع الصبر إذاً: هذه الأشياء واجبة وليست مستحبة، أو مكروهة. إن سألت: هل الصبر الاضطراري أفضل أم الصبر الاختياري؟ أي: هل الصبر على الفعل الذي يفعله الإنسان باختياره أفضل أم الصبر على الشيء الذي وقع بدون اختيار؟ هل الصبر على الطاعة التي يمكن أن تفعلها ويمكن ألا تفعلها، أو الصبر عن المعصية التي يمكن أن تفعلها ويمكن ألا تفعلها أفضل؟ أم الصبر على مرض أصابك، أو على بلية حلت بك؟ وهذا كله واجب، فيجب أن تصبر في كل الحالات، لكن أيهما أفضل؟ يقول ابن تيمية رحمه الله: والصبر الاختياري أكمل من الاضطراري، ولهذا كان صبر يوسف الصديق صلى الله عليه وسلم عن مطاوعة امرأة العزيز أكمل وأفضل من الصبر على ما ناله من الحبس، أو على ما ناله من إلقاء إخوته له في الجب؛ لأن الصبر فيهما صبر اضطراري، لا يمكن ليوسف أن يدفعه عن نفسه، لكن لما صمد أمام امرأة العزيز، وهذا صبر اختياري، لأنه كان يستطيع أن يقع في المحرم لكنه منع نفسه منها، فلهذا صار صبره من هذه الناحية أفضل، وهو وقع في الحالتين -يوسف عليه السلام- فإن صبره على امرأة العزيز صبر اختياري وإيثار ومحبة لله عز وجل. وكذلك كان صبر نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام على ما أمرهم الله من الأوامر وأعطاهم من الشريعة؛ صبرهم باختيارهم وفعلهم ومقاومتهم لأقوامهم أكمل من صبر أيوب على ما ناله في الله من ابتلاء، فكان صبر هؤلاء أكمل من صبر أيوب. وكذلك كان صبر إسماعيل الذبيح، وصبر أبيه إبراهيم على تنفيذ أوامر الله عز وجل بالذبح، أكمل من صبر يعقوب على فقد ولده. لماذا؟ لأن صبر إبراهيم وإسماعيل صبر اختياري، كان يمكن أن ينفذ الذبح ويمكن ألا ينفذ، ويمكن أن يعترض إسماعيل وممكن ألا يعترض، ولكنهما أسلما لله عز وجل وصبرا صبراً اختيارياً، صبر إيثار ومحبة لله عز وجل، بخلاف صبر يعقوب على فقد ابنه يوسف، فإنه صبر اضطراري؛ فقد ابنه فماذا بإمكانه أن يفعل؟ يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى: وهكذا إذا أوذي المسلم على إيمانه، وطلب منه الكفر أو الفسوق أو العصيان، فإذا لم يفعل أوذي وعوقب فاختار الأذى والعقوبة على فراق دينه، أو الحبس والخروج من بلده، كما جرى للمهاجرين حيث اختاروا فراق الأوطان على فراق الدين، وكانوا يعذبون ويؤذون؛ هذا كله من أنواع الصبر الاختياري العظيم الأجر، وقد أوذي النبي صلى الله عليه وسلم بأنواع من الأذى فكان يصبر عليها صبراً اختيارياً، فإنه إنما يؤذى لئلا يفعل ما يفعله باختياره، كان يمكنه أن يتوقف عن الدعوة إلى الله عز وجل، لكنه آثر واختار أن يسير في مشوار الدعوة اختياراً، صبر على هذا صبر اختيار، فكان هذا أعظم من الصبر الاضطراري. وكذلك فقد حبس المشركون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في شعب أبي طالب، ولما مات أبو طالب اشتدوا عليه. إذاً -أيها الإخوة- هذه الأنواع من الصبر أنواع عظيمة جداً؛ لأن أصحابها قد اختاروا الصبر في ذات الله عز وجل اختياراً من أنفسهم، وهذا هو الذي يحمل الإنسان على المجاهدة في سبيل الله عز وجل، ولذلك كان الأمر الموجه للرسول صلى الله عليه وسلم موجه لنا أيضاً {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35] ما قال: فاصبر كما صبر أيوب، إنما قال: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35] لأن صبرهم كان قمة صبر الاختيار، وهؤلاء أولو العزم هم الذين صار عليهم مدار الشفاعة يوم القيامة، حتى ردوها إلى أفضلهم وخيرهم وأصبرهم لحكم الله، وصلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وعلى محمد صلى الله عليه وسلم. إن قال إنسان: هل الصبر على فعل المأمور أفضل أم عن فعل المحظور؟ أي: الصبر على الطاعة أفضل أم الصبر عن المعصية؟ هذه المسألة اختلف فيها العلماء، وقد رجح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: بأن الصبر على فعل الطاعة أعلى من الصبر عن فعل المعصية؛ لأن الأصل المأمور، وما جاء النهي عن المحظور إلا تكملة وحفظاً للمأمور، صار الصبر على فعل المأمور أعلى. ويقول ابن القيم رحمه الله: يكون الصبر في وقت المأمور وفي الوقت المحظور هو الأفضل، فإذا حضرك شيء محظور كان الصبر عنه هو الأفضل في ذلك الوقت، وإذا حضرك شيء مأمور به صار الصبر عليه هو الأفضل في وقته.

أنواع الصبر عند ابن القيم

أنواع الصبر عند ابن القيم وقسم بعض العلماء كما يقول ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين: الصبر إلى ثلاثة أنواع: 1 - صبر لله. 2 - صبر مع الله. 3 - صبر بالله. - فأما الصبر الذي بالله: فإن الله إذا لم يصبرك لم تصبر، فلذلك يقول الله تعالى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل:127] لأن الله عز وجل إذا ما صبرك لا تصبر، لأن الصبر آتي من الله عز وجل؛ لأنه هو الذي يرزقك الصبر. وأما الصبر لله: فهو أن يكون لوجه الله، فإن بعض الناس قد يصبرون عن أشياء لكن ليس لوجه الله، -مثلاً- على فعل الصلاة رياء، فيجب أن يكون صبره لله، إنسان يصلي أمام الناس من أول الصلاة إلى آخر الصلاة وهو يصبر نفسه ويحبسها على أفعال الصلاة، ولكن ليس صبراً لله وإنما لمراءاة الناس، فهذا لا يكون صبراً لله. - وأما الصبر مع الله: فبعض الصوفية يعرفونه بتعريفات منحرفة، ولكن يوجه ابن القيم رحمه الله هذه القضية، فيقول: الصبر مع الله، أي: مع أوامر الله بحيث يدور الإنسان المسلم معها حيث ما دارت، فأينما توجهت به الأوامر توجه معها، فهذا الإنسان يكون صبره دائماً مع الله عز وجل، حيث ما كانت مرضاة الله فهو يصبر.

صبر النعمة

صبر النعمة هناك أشياء في الصبر لا بد للإنسان المسلم منها، أحياناً يتصور الإنسان أن الصبر هو على قضية البلاء، لكن -أيضاً- لا بد أن يتصور الإنسان المسلم أن الصبر على النعماء لا يقل شدة عن الصبر على البلاء، ولذلك يقول بعض السلف: "ابتلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر". أحياناً الإنسان في مواجهة التحدي والمصاعب يصمد ويصبر، لكن إذا فتح عليه من زهرة الدنيا وزينتها لا يصبر. ويقول بعض السلف أيضاً: "البلاء يصبر عليه المؤمن والكافر، ولا يصبر على العافية إلا الصديقون". فعلاً! قد تجد بعض الكفار يصبرون على البلاء، قد تجد كافراً لا يتسخط ولا يشتكي، لكن لا يصبر على العافية إلا المخلصون والصديقون، فإذا جاءتك نعمة من الله عز وجل فكيف يكون صبرك عليها؟ أولاً: ألا تركن إليها ولا تغتر بها؛ هذا من الصبر في حال النعمة. ثانياً: ألا تنهمك في نيلها وتبالغ في استقصائها، كمن يبالغ في الأكل والشرب والجماع، حتى يؤدي ذلك إلى ضد ما يتمنى، فيؤدي به الإفراط في الأكل والشرب إلى التخمة، وإلى أن يضطر إلى أن يحمي نفسه عن الأكل والشرب، ويؤدي به الإفراط في الجماع إلى استنزاف قواه، وخور قواه العقلية أيضاً، ولذلك لا بد أن يحفظ الإنسان نفسه ولا يفرط في هذه الأشياء. ثالثاً: الصبر على أداء حق الله في هذه النعم، حتى لا يضيع الإنسان هذه الأشياء فيسلبها الله منه. رابعاً: أن يصبر عن صرف هذه الأشياء في الحرام؛ هذا كله من صبر النعمة. وكان بعض الصالحين يحمل في جيبه رقعة يخرجها كل ساعة فيطالعها إذا غفل، وكان مكتوب فيها: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور:48] فإن الإنسان قد يصبر في الضراء لكن لا يصبر في السراء، فيجب أن يكون الصبر مصاحباً له في جميع الأحوال.

الصبر وقوة الإقدام والإحجام

الصبر وقوة الإقدام والإحجام والصبر -أيها الإخوة- من أشق الأشياء على النفوس، وهذه المسألة التي سنذكرها الآن مهمة جداً. النفس فيها قوتان: 1 - قوة إقدام. 2 - قوة إحجام. النفس فيها قوة تجعل الإنسان يقدم في مواطن، وكذلك فيها قوة تجعل الإنسان يحجم. فيجب على الإنسان بعملية الصبر أن يجعل قوة الإقدام مصروفة إلى الأشياء التي تنفعه، وقوة الإحجام يجعلها بالصبر إحجاماً عما يضره. ومن الناس من تكون قوة صبره على فعل ما ينتفع به أقوى من صبره على ما يضره، فلذلك تجد بعض الناس يصبرون على مشقة الطاعة ولكنهم لا يصبرون عن المعصية، فهو قد تحكم في قوة الإقدام ففعل الطاعة، لكنه ما تحكم بصبره في قوة الإحجام فيقع في المعصية، فيقول ابن القيم رحمه الله: "فكثير من الناس -وهذه حالة عجيبة موجودة عند بعض الناس فعلاً- يصبر على مكابدة قيام الليل - يقوم في الليل ويكابد ويصبر على الطاعة- في الحر والبرد، ويصبر على مشقة الصيام ويصوم ولكنه لا يصبر على نظرة محرمة". فعلاً قد تجد بعض الناس يصلي الفجر في المسجد ويواظب على الصلاة ويصوم صيام النفل، لكنه إذا رأى امرأةً تعبر الطريق لم يتمالك نفسه عن النظر إليها. وكثير من الناس له صبر عن المعاصي، لكن ليس له صبر على الطاعات، فقد تجد بعض الناس يصبر على الشهوات؛ ولا ينظر إلى المرأة الأجنبية، ولا يتلذذ بالمحرمات، لكنه لا يستطيع أن يصبر نفسه عن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وجهاد الكفار والمنافقين؛ وهذا أيضاً حاصل، ما هو السبب في حدوث هذه الصورة المتناقضة؟ السبب يرجع إلى أمرين: 1 - القوة التي تدعوك: الجاذبية التي تدعوك لعمل هذا العمل. 2 - سهولة عمل هذا الفعل بالنسبة للإنسان. فإذا اجتمع في الفعل هذان الأمران كان الصبر عنه أشق شيء على الصابر، فلو كانت قوة الداعي إلى فعل هذا الأمر قوية جداً، مثلاً: إنسان شهوته قوية جداً، وقضاؤها ميسر له، فعند ذلك يكون الصبر في هذا الموقف في أعلى الدرجات، وإن فقدا معاً إذا لم تكن هناك قوة تدفعك إلى فعل هذا الأمر المحرم، وأيضاً هذا الأمر صعب جداً لا يكاد يوجد -نادر- فيكون الصبر في هذه الحالة سهل؛ لأنه ليس هناك قوة تدفعك إلى هذا العمل، وفي نفس الوقت هذا العمل صعب جداً أن يتوفر، فلذلك يكون الصبر سهل جداً، وبحسب تفاوت العامل الأول والثاني يتفاوت الصبر. وقد يوجد أحدهما ويفقد الآخر، فمثلاً: هناك أناس ليس عندهم دافع إلى القتل والسرقة، وفي نفس الوقت القتل والسرقة قد يكون صعب فعلهما، ففي هذه الحالة يكون صبره على القتل والسرقة سهلاً. وقد يكون الداعي إلى هذا العمل أحياناً قوياً وسهلاً، فيكون الصبر عليه شديداً، ولذلك كان صبر السلطان عن الظلم، وصبر الشاب عن الفاحشة، وصبر الغني عن اللذات والشهوات، صبره عند الله بمكان عظيم؛ لأن الإنسان عندما يكون في السلطة والمنصب يكون الداعي إلى ظلم الناس كبير الداعي لهم بفعل التسلط والتجبر والارتفاع عليهم، وكذلك العملية سهلة، فكونه يصبر نفسه ويكون إماماً عادلاً صار هذا الصبر عظيماً. لذلك كان من السبعة الذين يظلهم الله، الشاب الذي يصبر على الفاحشة، داعي العمل، الرجل الذي (دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله) هذا الرجل الشاب داعي الفاحشة في نفسه قوي؛ لأنه شاب. والداعي الثاني: أن المرأة متيسرة، فلما صبر عن هذه القضية صار من السبعة الذين يظلهم الله، فصار صبرهم عند الله بمكان؛ لأن الداعي قوي، والفعل سهل ومتيسر، ومع ذلك صبروا. وهاتان المسألتان -أيها الإخوة- مهمتان، لماذا؟ لأنهما تعللان لنا لماذا الناس -أحياناً- يصبرون على طاعات كثيرة، لكنهم لا يصبرون على آفات اللسان. لماذا كان الصبر عن آفات اللسان شديداً؟ لأنه متيسر؛ حركة اللسان سهلة جداً، فلذلك أصبح الكلام في عيوب الناس من فاكهة الإنسان، فكثير من الناس يقعون في الغيبة، والنميمة، والكذب، والثناء على النفس، وتزكيتها، مع أنهم يصلون مع الناس في المساجد، ويؤدون الزكاة، ويصبرون في الصيام، ويفعلون أشياء كثيرة جداً، بل قد يدعون إلى الله، وقد يصبرون على المشاق، لكن آفات اللسان عندهم متفشية؛ لماذا؟ لأن قضية اللسان سهلة متيسرة؛ فلذلك يقع فيها الإنسان، فكان الصبر في هذه الحالة قوياً جداً. فإذا اعتاد العبد على المعاصي اللسانية فإنه يعز عليه الصبر عنها؛ ولهذا يقول ابن القيم رحمه الله: ولهذا تجد الرجل يقوم الليل، ويصوم النهار، ويتورع عن استناده إلى وسادة حرير لحظة واحدة -أي: لو أعطيته وسادة حرير لا يمكن أن يستند عليها ولو لحظة واحدة- وكذلك يتورع عن الدقائق من الحرام، والقطرة من الخمر، ومثل رأس الإبرة من النجاسة؛ ولو أصابه قليل منها ذهب يغسل ويحتاط، لكنه إذا جاء إلى مسائل الغيبة والنميمة والتفكه في أعراض الخلق أطلق فيها لسانه؛ لسهولة العملية، بل وصل الأمر ببعضهم كما يقول ابن القيم رحمه الله إلى حالة عجيبة، فيقول: وكما يُحكى أن رجلاً خلا بامرأة أجنبية، فلما أراد مواقعتها قال: يا هذه! غطي وجهك فإن النظر إلى وجه الأجنبية حرام. فالدافع للشهوة عنده قوي!! النظر إلى وجه الأجنبية حرام، ثم يقع عليها ويواقعها. هذا كله من الورع الفاسد، وهذا الورع يشبه ورع ذلك الرجل الذي جاء في الحج إلى ابن عمر يسأله عن دم البعوض في الإحرام؟ فقال ابن عمر: من أين أنت؟ فقال: من أهل العراق، فقال ابن عمر: (تسألني عن البعوض وقد قتلتم ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وإني سمعته -صلى الله عليه وسلم- يقول: هما ريحانتاي من الدنيا) السبب أن هناك أناساً عندهم هذا الانحراف فعلاً، وهذه الازدواجية العجيبة، وعندهم مثل هذا الورع الفاسد، ما هو السبب؟ السبب يعود إلى قوة الدافع، وسهولة حصول الأمر.

أهمية الصبر

أهمية الصبر الصبر له أهمية عظيمة، فالذي يتدبر آيات الكتاب العزيز يجد جانباً كبيراً من هذه الأهمية، فتجد أن الله عز وجل، كما يقول الإمام أحمد رحمه الله: عظم أمر الصبر في القرآن جداً، فأمر به في قوله: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل:127] ونهى عن ضده، فقال: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} [آل عمران:139]، وقال: {وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف:35] نهى عن ضد الصبر، وعلق الفلاح على الصبر، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200] وأخبر عن مضاعفة الأجر للصابرين بأضعاف مضاعفة وبغير حساب، فقال تعالى: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} [القصص:54] بل إنه يضاعف بغير حساب، كما قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10]. قال أحد السلف: كل عمل يعرف ثوابه إلا الصبر؛ لأن الله قال: {بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10] ولذلك كان أجر الصوم غير مقدر، كما يقول الله في الحديث القدسي: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به) لأن الصوم يتعلق أساساً بالصبر؛ وهو عبارة عن حبس النفس ومنعها عن الطعام والشراب والجماع والغيبة إلى آخره، بل إن الله علَّق الإمامة في الدين، على الصبر واليقين، كما قال الله عز وجل: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} فإن الله عز وجل جعل طائفة من الناس أئمة؛ يأتم بهم الناس ويقتدون بهم {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} [السجدة:24] فإذا أراد أحد منا أن يكون إماماً للناس يقتدى به، فعليه أن يأخذ بالصبر بالدرجة الأولى {وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] ولذلك كان من أقوال ابن تيمية رحمه الله: "بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين". بل إن الله جعل للصابرين ظفراً ليس مثله ظفر، وهو: الظفر بمعيته عز وجل، فقال: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153]. وجمع للصابرين ثلاثة أمور لم يجمعها لغيرهم، وهي: 1 - صلاة منه عليهم. 2 - رحمته لهم. 3 - هدايته إياهم. ما هو الدليل؟ {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:155 - 157] فجمع لهم ثلاثة أشياء ما جمعها لأحد غيرهم: صلوات من ربهم، ورحمة، واهتداء. وكذلك جعل الله الصبر عوناً لنا، فقال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45] فجعله عوناً وزاداً وسلاحاً. وعلق النصر على الصبر، فقال عز وجل: {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةُ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران:125]، ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (واعلموا أن النصر مع الصبر). وأخبر سبحانه وتعالى أن الملائكة تسلم على المؤمنين في الجنة لصبرهم، فقال سبحانه: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:23 - 24] صبرتم على ماذا؟ صبرتم على الطاعة، وعن المعصية، وعلى أقدار الله تعالى، وعلى المصائب. وكذلك جعل الله أهل محبته هم أهل الصبر، فقال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:146]. وأخبر أن خصال الخير لا تجتمع ولا تعطى ولا تلقى إلا للصابرين، جاء في موضعين في القرآن، يقول الله عز وجل في قصة العلماء الذين كانوا من بني إسرائيل وكانوا صالحين وهم من قوم قارون: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص:80]. وكذلك قال عز وجل عمن صار بينه وبين أحدٍ عداوة فعامله بالحسنى، قال: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35]. إذاً: خصال الخير كلها تجتمع في الصابرين. وأخبر عز وجل بأنه لا ينتفع بآياته إلا أهل الصبر، فقال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [إبراهيم:5]. والله عز وجل قرن بين الصبر وبين أشياء عظيمة، عندما تجده مقترناً بشيء عظيم فإن هذا يدل على عظمته هو، فقرن الله الصبر بالتقوى، وقرن الصبر بالعمل الصالح، وقرن الصبر بالمرحمة، فمن اقتران الصبر بالتقوى قوله عز وجل: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران:186]، وقال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ} [يوسف:90]، وكذلك قرن الله الصبر بالوحي، فقال: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [يونس:109]، وقرن بين الرحمة والصبر فقال عز وجل: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} [البلد:17]. وبالنسبة للصبر والرحمة فهذه الأشياء لو اجتمعت فيكون أنواع الناس في الصبر والرحمة أربعة أنواع: 1 - أن يصبر ولا يرحم. 2 - أن يرحم ولا يصبر. 3 - أن يصبر ويرحم. 4 - ألا يصبر ولا يرحم. يقول ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى كلاماً جميلاً عن هذه الآية: إذ من الناس من يصبر ولا يرحم كأهل القوة والفساد، فهم يصبرون ويجالدون لكنهم لا يرحمون. ومنهم من يرحم ولا يصبر كأهل الضعف واللين، مثل كثير من النساء ومن يشبههن. أي: أن من طبيعة النساء أنهن يرحمن ولكن لا يصبرن؛ فقد تجد المرأة فاسقة والعياذ بالله، لكن إذا رأت طفلاً يحتاج إلى إرضاع وجائع رحمته وأرضعته، وقد تكون ممن لا تصبر على الفواحش؛ وهذه خصلة في المرأة أكثر من الرجل ينبغي على المرأة الانتباه إليها أنها قد ترحم ولكن لا تصبر، فلا تعتبر نفسها إذا رحمت أنها بخير إذا كانت من غير أهل الصبر، يجب عليها أن تجمع إلى رحمتها الصبر. ومنهم من لا يصبر ولا يرحم كأهل القسوة والهلع. أناس عصاة يصبرون لأن عندهم جلد لكن عندهم هلع لا يصبرون أيضاً. قال: والمحمود هو الذي يصبر ويرحم. والصبر -أيها الإخوة- هو زادٌ في طريق الدعوة إلى الله تبارك وتعالى، كما قال صاحب الظلال رحمه الله. الصبر على أشياء كثيرة، الصبر على شهوة النفس ورغباتها وأطماعها ومطامحها وضعفها ونقصها وعجلتها ومللها من القريب، أي: أن النفس تميل بسرعة. الصبر يكون في مجالات كثيرة من أعظمها: الصبر عن شهوة النفس، وكذلك: الصبر عن شهوات الناس ونقصهم وضعفهم وجهلهم وسوء تصورهم وانحراف طبعهم وأثرتهم وغرورهم والتوائهم واستعجالهم الثمار. إذا كنت داعية تدعو إلى الله عز وجل لا بد أن تصبر على ما تواجهه من الناس؛ لأنك ستواجه أشياء كثيرة، منها: الشهوات: رجل عنده شهوة المال، فإذا دعوته لا يستجيب، وآخر عنده شهوة محرمة فلا يستجيب لك، ويصمم على النظر إلى المرأة الأجنبية والاستمتاع والتلذذ بالمحرمات، وإنسان عنده شهوة منصب لا يستجيب لك؛ وشهوة المنصب تحمله على الغرور، وعلى التعسف، وعلى رفض الحق الذي تدعو إليه، وهم عندهم جهل، تأتي تناقش بعضهم بأشياء فتجده في غاية الجهل، فتجد مِنْ نفسك أنه لا بد أن تقطع مشواراً طويلاً حتى توصل هؤلاء الناس إلى جانب من العلم لا بد لهم منه، فإذا ما صبرت على جهلهم وأحياناً يفعلون أشياء عجيبة جداً، فإذا ما صبرت نفسك على جهل هؤلاء، فإنك ستيئس من دعوة أولئك الناس. وكذلك سوء تصورهم: الناس عندهم سوء في التصور؛ تصوراتهم في العقيدة تصوراتهم في القضاء والقدر تصوراتهم في مغفرة الله ورحمته تصورات سيئة في أشياء كثيرة جداً، فلا بد من الصبر على سوء تصور الناس، وبعضهم عندهم غرور، والتواءات نفسية، ومزالق، تأتي للواحد من اليمين يذهب في الشمال، تأتي من هنا فيذهب من هناك، يروغ منك كروغان الثعلب، لا بد من الصبر على التواءات الناس. وكذلك الصبر على تنفش الباطل، ووقاحة الطغيان، وانتفاش الشر، وغلبة الهوى، وعلى تصعير الغرور والخيلاء، فإن الإنسان إذا رأى انتفاشة الباطل ولم يكن عنده صبر، فإن هذا الأمر سوف يُؤدي به إلى اليأس والقنوط، وفقد الأمل تماماً في الوصول بالأمة إلى المرتبة التي يريدها الله عز وجل. والصبر على قلة الناصر، وضعف المعين، وطول الطريق، ووسواس الشيطان في ساعات القرب والضيق؛ وكل كلمة من هذه الكلمات تحتاج إلى دروس كاملة. الصبر على قلة الناصر، هذه الأشياء التي يحس بها الدعاة إلى الله عز وجل وهم يدعون الناس؛ الناس كثرة في الشر، وهؤلاء الدعاة قلة من أهل الخير، فلا بد من الصبر على قلة الناصر، وضعف المعين، وطول الطريق؛ طريق الشر قصير وسهل، وطريق الخير طويل وشاق وصعب. يعتريه وسواس الشيطان، شيء من النفس الأمارة بالسوء، وشيء من القرين ال

أشياء مناقضة للصبر

أشياء مناقضة للصبر من الأشياء المقابلة والمعاكسة للصبر: عملية الاستعجال: كثير من الناس وحتى الدعاة إلى الله يستعجلون الثمرة، يريدون من الناس أن يلتزموا بالإسلام بسرعة، ويريدون من الناس أن يتمسكوا بسرعة، ويريدون من الناس أن يتركوا المنكرات بسرعة وبدون صبر على هؤلاء الناس، وهذا لا يحصل، بل إنه حتى لو التزم هؤلاء الناس فإنهم يريدون منهم أن يترقوا في مدارج العلم ومدارج التربية بسرعة، يريد منه أن يصل في لحظة من مرحلة ترك المعصية، والبعد عن المنكرات إلى مرحلة العلم، وإلى مرحلة التصورات الصحيحة، وإلى مرحلة العمل للإسلام بسرعة كبيرة، يريد أن ينقله نقلة بعيدة في وقت قصير جداً؛ هذه العملية دون صبر لا تصلح، ولذلك ترى ثمرات هؤلاء العاملين الذين عدموا الصبر في هذه المواقف ثمراتٍ ناشفة غير ناضجة لماذا؟ لعملية الاستعجال المنافية للصبر. أحياناً الإنسان يتسرع فيحكم على الناس بالخطأ، وأحياناً يتسرع فلا يعذرهم، ولو أنه صبر لكان خيراً له؛ حتى طالب العلم يحتاج إلى الصبر في أشياء كثيرة، أحياناً الإنسان يتسرع فيأخذ علماً من العلوم وهناك ما هو أهم منه، فلا بد أن يصبر ويتريث، وأحياناً يقرأ الإنسان ثم يزهق ويمل فلا بد أن يصابر نفسه. كيف وصل العلماء الكبار إلى حالات عجيبة من الصبر على طلب العلم؟ كيف كان بعضهم له خمسة دروس في اليوم والليلة متواصلة غير وقت الطلب الخاص به الذي يبحث فيه بنفسه ويقرأ فيه، كما كان النووي رحمه الله، فقد كان معه عشرة دروس متواصلة، وكذلك الشنقيطي رحمه الله كان له أكثر من خمسة دروس متواصلة غير وقت الطلب الخاص به، وكيف صبر علماء الحديث، على طلب الحديث وقد كانوا يسافرون في طلب الحديث الواحد الشهور حتى يصلوا إلى مبتغاهم، وهذا الشيخ ناصر رحمه الله من علماء الحديث المعاصرين كان يجلس في المكتبة الظاهرية ليبحث عن حديث، فتراه ينتقل من رف إلى رف يجلس على السلم قرابة خمس ساعات متواصلة وهو يبحث في المجلدات، ويقرأ المخطوطات وهي بهذا الخط الدقيق الصعب القراءة وهو يبحث ليصل إلى نتيجة ما. تخيل: يجلس على السلم خمس ساعات متواصلة وينظر في الرفوف، ويسحب كتاباً وينزل آخر، ويفتح المخطوطة ويدقق، ويقرأ قراءة تكاد العين تعمى منها فكيف وصل هؤلاء إلى هذه المرتبة؟ لم يصلوا إليها إلا بالصبر الصبر على طلب العلم ومجاهدة النفس. اصبر على ما كرهت تحظ بما تهوى فما جازع بمعذور إن اصطبار الجنين في ظلم الـ أحشاء أفضى به إلى النور والمسلم الداعية الذي لا يعرف الصبر داعية فاشل لا يعلم سنن الله تعالى، فإذا استحكمت الأزمات، وتعقدت في حبالها، وترادفت الضوائق، وطال الليل، فالصبر على الهدى والحق هو الذي يشع للمسلم النور العاصم من التخبط والهداية الواقية من القنوط. وكذلك أيها الإخوة: عاش السلف -رحمهم الله- في أجواء التربية، يتنقلون من مرحلة إلى مرحلة، وكان رديفهم الصبر دائماً، ولذلك وصلوا إلى هذه المرحلة العالية، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [وجدنا خير عيشنا بالصبر] أحسن العيش أحسن أوقات الحياة التي عشناها كانت بالصبر؛ فلا بد من هذا الدواء الذي أوله مر، ولكن في النهاية يكون حسن الطعم جداً. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم هذا الأمر العظيم من أمور الدين، وأن يجعلنا من الصابرين المصابرين المصطبرين في ذات الله تعالى، وأن يجعل صبرنا لله وبالله ومع الله. هذا آخر ما تيسر ذكره من الكلام على مسألة الصبر، ومن شاء الزيادة فليرجع إلى كتاب: عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين، وكذلك تكلم ابن تيمية رحمه الله كلاماً جيداً على الصبر في المجلد العاشر من مجموع الفتاوى، وكذا تكلم ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين عن منزلة الصبر، وغيرهم من علماء السلف، فمن شاء الزيادة فليرجع إلى مثل هذه المراجع وغيرها، وأفضل ما يمكن للإنسان أن يعلم به حقيقة الصبر هو: المعايشة اليومية للمشاكل التي تواجهه مشاكل كثيرة جداً مشاكل اجتماعية مشاكل مع نفسه مع الشهوات مصارعات لهذه الشهوات، مع الناس، في الدعوة إلى الله، امرأة تصبر على الحجاب وزوجها يثنيها عنه، وامرأة تريد أن تطلب العلم وتريد أن تجعل من بيتها بيتاً مستقيماً وقد لا توفق بزوج صالح، فلا بد أن تصبر نفسها على هذا البلاء الذي حل بها، الإنسان الداعية في جميع مواقفه، والمجاهد الذي يجاهد في سبيل الله يحتاج إلى الصبر. فأحسن قضية يمكن أن يتعلم الإنسان فيها الصبر قضية الممارسة والمعايشة اليومية لأحداث الحياة، ولا تكاد تتأمل حادثة من حوادث الحياة التي تمر بك إلا وتحس بأن الصبر هو المفتاح لما أغلق، وهو الدواء والحل لجميع المشاكل التي تواجهها. سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله أولاً وآخراً.

التعاون بين المسلمين

التعاون بين المسلمين الإنسان محتاج إلى المعاونة في كافة أمور الحياة، والشرع قد أمر بالتعاون على البر ونهى عن التعاون على الإثم والعدوان، وفي هذه المادة بيان للتعاون المشروع وغيره مقروناً بالأمثلة، وتوجيه للتعاون لكي يكون على الخير.

التعاون على البر والتقوى

التعاون على البر والتقوى إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن الاستعانة بالله عز وجل ركن التوحيد، كما قال الله تعالى وكما نقولها في الصلاة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، وكان عليه الصلاة والسلام يستعين بربه على قومه، فروى البخاري رحمه الله عن ابن مسعود (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دعا قريشاً كذبوه واستعصوا عليه، فقال: اللهم أعني عليهم بسبعٍ كسبع يوسف، فأصابتهم سنَةٌ -أي: قحط- حصت كل شيء حتى كانوا يأكلون الميتة). وقال يعقوب -عليه السلام- لما ذكر له أولاده الكذب في فقد يوسف، ثم قالوا له ما حصل في فقد أخيه الأصغر، قال: {وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18]. وكذلك قالها عثمان رضي الله تعالى عنه عندما أخبره أبو موسى بكلام النبي صلى الله عليه وسلم: (افتح له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه. قال: فقمت ففتحت له وبشرته بالجنة، فأخبرته بالذي قال صلى الله عليه وسلم فقال عثمان: الله المستعان!) رواه البخاري. وذكر لنا ربنا عز وجل في محكم تنزيله قاعدة عظيمة جداً تحوي أموراً لا يمكن حصرها، فقال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] قال ابن كثير رحمه الله: يأمر تعالى عباده المؤمنين بالمعاونة على فعل الخيرات وهو البر، وترك المنكرات، وينهاهم عن التناصر على الباطل، والتعاون على المآثم والمحارم، ففعل الخيرات هو البر نتعاون فيه، وترك المنكرات هو التقوى نتعاون عليه كذلك، ولا نتعاون على إثم كالباطل، ولا على محرم؛ لأن المعاون فيه شريك في الإثم.

عمل النبي صلى الله عليه وسلم بمبدأ التعاون وحثه عليه

عمل النبي صلى الله عليه وسلم بمبدأ التعاون وحثه عليه عباد الله: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد طبق في السيرة العملية هذا الأمر، فقام يعاون ويتعاون في بناء المسجد: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ} [التوبة:17] {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة:18] فقام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالتعاون على بناء المسجد، كما قاموا بالتعاون على إقامة الجهاد وحفر الخندق؛ إنفاذاً لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2]. وأوصى النبي صلى الله عليه وسلم بالمعاونة على المستوى الفردي، كما قام هو وأصحابه بالتعاون على المستوى الجماعي؛ فقال صلى الله عليه وسلم: (كل سُلامَى عليه صدقة، كل يوم يعين الرجل في دابته يحامله عليها أو يرفع عليها متاعه صدقة) وقال البراء: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبعٍ ومنها: وعون المظلوم) رواهما البخاري رحمه الله. وكذلك قال عليه الصلاة والسلام: (على كل مسلمٍ صدقة، فقالوا: يا نبي الله! فمن لم يجد؟ قال: يعمل بيده فينفع نفسه ويتصدق، قالوا: فإن لم يجد؟ قال: يعين ذا الحاجة الملهوف) فهذه الإعانة صدقة عظيمة لمن لم يستطع أن يستقل بعملٍ بنفسه، فيعين غيره فيكون شريكاً في الأجر. وأمرنا عليه الصلاة والسلام بإعانة العبيد فيما كلفناهم به، فقال: (إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم) رواه البخاري. والإعانة إذا كانت في أمرٍ نفيسٍ وشيءٍ عظيمٍ ذي مرتبةٍ في الدين، فإن المعاون فيها له أجر عظيم. قال الإمام مسلم رحمه الله: باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله بمركوبٍ وغيره وخلافته في أهله بخير. وقال البخاري رحمه الله: قال مجاهد: [قلت لـ ابن عمر: الغزو، قال: إني أحب أن أعينك بطائفة من مالي، قلت: أوسع الله علي، قال: إن غناك لك، وإني أحب أن يكون من مالي في هذا الوجه] أي: لا تحرمني من المعاونة والأجر. وعلى المستوى الاجتماعي بين الرجل والمرأة كلٌ منهما يعين الآخر في البيت، قال البخاري في صحيحه: باب عون المرأة زوجها في ولده، وأخذ ذلك من حديث جابر رضي الله عنه أنه تزوج ثيباً لتعينه على القيام بأخواته، وهذا من شيمة المرأة الصالحة أنها تعين زوجها حتى فيما لا يجب عليها، كخدمة أهله وأخواته، هي مكلفةٌ ببيتها، ولكن إذا تعدت الإعانة إلى أهل زوجها وأخواته فإن ذلك من جميل العشرة، ولها فيه أجرٌ عظيم. هذه نماذج من الإعانات على سائر المستويات، وهكذا يفهم قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2].

النهي عن التعاون على الإثم والعدوان

النهي عن التعاون على الإثم والعدوان وأما التعاون على الإثم والعدوان فإنه حرام ولا يجوز وقد نهانا الله عنه، فلا نعين على محذور، وقد فهم الصحابة ذلك حتى في الأمور الدقيقة، فعن عبد الله بن أبي قتادة أن أباه حدثه، قال: (انطلقنا مع النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، فأحرم أصحابه ولم أحرم، فأنبأنا بعدوٍ فتوجهنا نحوهم، فبصر أصحابي بحمار وحشٍ، فجعل بعضهم يضحك إلى بعض، فنظرت فرأيته، فحملت عليه الفرس فطعنته فأثبته، فاستعنتهم فأبوا أن يعينوني، فأكلنا منه، ثم لحقنا النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله! إن أصحابك أرسلوا يقرءون عليك السلام ورحمة الله وبركاته، وإنهم قد خشوا أن يقتطعهم العدو دونك فانظرهم ففعل، فقلت: يا رسول الله! إنا اصطدنا حمار وحشٍ، وإن عندنا فاضلةً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: كلوا، وهم محرمون)، وفي رواية: (أن هذا الرجل استعان أصحابه، فقالوا: لا نعينك عليه بشيء، فإنَّا محرمون)، وفي رواية أيضاً عنه رضي الله تعالى عنه قال: (كنا في منزلٍ في طريق مكة، والقوم محرمون وأنا غير محرم، فأبصروا حماراً وحشياً وأنا مشغولٌ أخصف نعلي، فلم يؤذنوني به، وأحبوا في أنفسهم لو أني أبصرته، والتفت فأبصرته، فقمت إلى الفرس فأسرجته، ثم ركبت ونسيت السوط والرمح، فقلت لهم: ناولوني السوط والرمح، فقالوا: لا والله لا نعينك عليه بشيءٍ، وفي القصة أنه خبَّأ عضداً، ولما أدرك النبي صلى الله عليه وسلم سأله عن الحكم؟ قال: معكم منه شيءٌ، فقلت: نعم، فناولته العضد فأكلها حتى نفذها وهو محرم) كل الروايات في صحيح الإمام البخاري رحمه الله. فلم يعينوه على المحظور، وأما الأكل مما صاده الحلال غير المحرم فهو جائزٌ للمحرم. وقال عليه الصلاة والسلام لمَّا أقيم حدٌ على إنسان مسلم وأقامه الصحابة قالوا: فمنَّا الضارب بيده، والضارب بنعله، والضارب بثوبه، فلما انصرف قال بعض القوم: أخزاك الله -لهذا المحدود- فقال عليه الصلاة والسلام: (لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان)، وفي رواية: (لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم) رواهما البخاري. فإذا كان المحدود قد جُلِد والحد كفَّارة له؛ فلأي شيء يُدعى عليه، ولأي شيء يَشْعُر أنَّ إخوانه أعداؤه، فيكونون عوناً للشيطان عليه، بل الواجب تسهيل المشوار عليه بعد التوبة، واستقباله بعد تطهيره بالحد استقبالاً حسناً. وعن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قِبلَ بدر، فلما كان بـ حرة الوبرة -وهو مكان بعد المدينة - أدركه رجلٌ يذكر منه جرأة ونجدة، ففرح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأوه -أي: رأوا هذا المشرك الشجاع المحارب جاء يلتحق بهم- فلما أدركه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: جئت لأتبعك وأصيب معك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم له: تؤمن بالله ورسوله؟ قال: لا، قال: فارجع فلن أستعين بمشرك، ثم مضى حتى إذا كنا بالشجرة أدركه الرجل، فقال له كما قال أول مرة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم كما قال أول مرة: ارجع فلن أستعين بمشرك، ثم رجع فأدركه بالبيداء؛ فقال له كما قال أول مرة: تؤمن بالله ورسوله؟ قال: نعم. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: فانطلق وادخل في الجيش نستعين بك الآن) الحديث في صحيح مسلم. فإذاً قد يكون الحرام في الاستعانة في الشخص المستعان به، وقد يكون الحرام في موضوع الاستعانة؛ ولذلك لا بد أن يكون التعاون على البر والتقوى بالشروط الشرعية، وألا نتعاون على الإثم والعدوان. وفقنا الله عز وجل لفعل الخيرات، وترك المنكرات، والتعاون على البر والتقوى، إنه سميعٌ مجيب قريب. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

نماذج من الاستعانة

نماذج من الاستعانة الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وسبحان الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأشهد أن محمداً رسول الله، الرحمة المهداة، البشير والنذير، والسراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. عباد الله: إن من الاستعانة والتعاون ما يكون واجباً، ومنه ما يكون مستحباً، ومنه ما يكون مباحاً، ومنه ما يكون مكروهاً، ومنه ما يكون محرماً. فمثل الواجب: إعانة المضطر على الطعام والشراب بإعطائه ما يحفظ عليه حياته، وكذلك إنقاذ كل معصومٍ من غرقٍ أو حرقٍ أو نحو ذلك، فإذا كان الإنسان قادراً عليه وجبت الإعانة عليه وجوباً عينياً، وكذلك إعانة الصغير لإنقاذه من مهلكة واجبة، وتجب الإعانة لتخليص المال المحترم -أي: الذي له حرمة في الشريعة- قليلاً كان أم كثيراً، حتى أن الصلاة تقطع لأجل ذلك. والإعانة في دفع الضرر العام عن المسلمين أو الخاص عن مسلم واجبةٌ أيضاً: (المسلم أخو المسلم)؛ بل إن إعانة البهائم واجبة إذا كانت عند الإنسان، ولذلك دخلت امرأة النار في هرةٍ حبستها ولم تطعمها، بينما دخل الجنة رجلٌ في كلبٍ أعانه على شربٍ في مهلكة وعطش، فسقاه فشكر الله له فغفر له، وقال عليه الصلاة والسلام: (في كل ذات كبدٍ رطبٍ أجر) فهذا إذا كان مستحباً فإن الإعانة مستحبة. والمباحة تعامل الناس في التجارات وغيرها في الحلال. والإعانة على المكروه مكروهة؛ كالإعانة على إسراف لا يصل إلى درجة التحريم. وينبغي الانتباه لعدم الوقوع في الإعانة المحرمة وهي كثيرةٌ جداً في هذا الزمان، فإن عدداً من الناس يعينون على الحرام؛ كتوفير الخمور والإتيان بها، أو الإعانة على الزنا وتسهيل طريقه، أو الدلالة عليه، أو على مكانه، أو على البغي، وكذلك الإعانة على الخصومات المحرمة، وإعانة الظالم مصيبة عظيمة، والنبي صلى الله عليه وسلم لما أخبر عن الظلمة ذكر أن من صدَّقهم في كذبهم وأعانهم في ظلمهم فليس مني ولست منه. وكذلك الإعانة على غير الحق أمر مذموم ومحرم؛ ضرب له النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً كما جاء عند ابن حبان: (مثل الذي يعين قومه على غير الحق كمثلٍ بعيرٍ تردى في بئرٍ فهو ينزع منها بذنبه) فكيف يخرج إذاً من هذه الورطة التي ورط نفسه فيها، بإعانته على الإثم والعدوان وعلى غير الحق، يعين قومه تعصباً لهم، وعدد من الناس يعينون في استيلاء من ليس له حقٌ على أرضٍ، ويعينون في شهادة زورٍ، ويعينون في اعتداء شخصٍ على وظيفة لا يستحقها، ويسهلون دفع الرشاوي، وكل ذلك من الإعانة على الإثم والعدوان، ويدلون على ذلك. وصور التعاون على المحرم -مع الأسف- في هذا العصر قد كثرت، ولذلك كان لا بد من التنبه لهذه المصيبة العظيمة، حتى صار الناس يدل بعضهم بعضاً على الشر والعياذ بالله؛ في رؤية أماكن معينة، أو قنواتٍ معينة، أو الذهاب إلى أمكنةٍ معينة محرمة. إنه حرام أن توصله بسيارتك إلى ذلك المكان، أو تدله على العنوان، أو غير ذلك من وسائل الإعانة. إن المتبصر في الواقع -أيها الإخوة- ليرى أن عدداً من المسلمين قد ضربوا بقوله تعالى: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] عرض الحائط! فلا يستجيبون إلى ذلك؛ فيشاركون في الإثم والعدوان يشاركون في الحرام والاعتداء، وبعضهم يقول: أنا لم أفعله ولم أرتكبه، نقول: ولكنك ساعدت غيرك عليه دللته عليه سهلت طريقه إليه، إذاً أنت شريك في الإثم، ولو أن إنساناً أمسك شخصاً لآخر كي يقتله اقتص منهما جميعاً، فإذاً المشارك في الإثم له نصيبٌ منه، وكل بحسبه والله لا يظلم أحداً. اللهم إنَّا نسألك أن تجعلنا ممن يخافك ويتقيك يا أرحم الراحمين. اللهم اجعلنا ممن يتعاونون على البر والتقوى، ولا تجعلنا ممن يتعاونون على الإثم والعدوان. اللهم اجعلنا دعاةً إلى سبيلك، مستمسكين بسنة نبيك صلى الله عليه وسلم. أيها المسلمون: ما أعظم النعمة عندما يتعاون عباد الله تعالى على الدعوة إلى الله عندما يتعاونون على هداية شخص، فيكلِّمه هذا بأسلوب، ويأتيه هذا بأسلوبٍ آخر، ويزورانه جميعاً، أو يجعلون له بيئة خيرٍ تجذبه إلى الخير وأهله إنهم شركاء في الأجر العظيم، ما أعظم النعمة على قومٍ تعاونوا على طلب العلم! فهذا يوصل بسيارته، وهذا يدل على مكان الدرس وموعده، وهذا يعطي آخر ما فاته من الدرس إنه تعاونٌ على البر والتقوى، هذه أشكال المعاونة التي نريدها على صعيد التربية والدعوة وطلب العلم وفعل الخيرات عموماً. إن التعاون بالشفاعة الحسنة -وليست الواسطة المحرمة- والتدخل الحميد؛ لإيصال حقٍ إلى صاحبه، أو إعانته على زواجٍ -مثلاً- يعفُّ به نفسه، فيدله على امرأة صاحبة دين أو بيت صلاحٍ يخطب منه، ويعين المسلمون أخاهم في تجميع المهر، أو يأتي الواحد بشاةٍ أو غيرها يعينونه على الوليمة؛ طوبى لهم وأجرٌ عظيم -إن شاء الله- بهذا التعاون المبارك، فلا بد من إحياء هذه الشعيرة التعاون على البر والتقوى فيما بيننا. نسأل الله عز وجل أن يحسن خاتمتنا، وأن يتوب علينا، وأن يستر عيوبنا، ويقضي ديوننا، ويشفي مرضنا، ويرحم موتانا، والحمد لله رب العالمين.

حفظ الدين

حفظ الدين من أهم مقاصد الشريعة حفظ الدين، وهذا الدين لاشك أن له أعداءً كثيرين من داخله ومن خارجه. ولقد تعهد الله بحفظه وبشر رسوله بانتشاره، فوضع سبحانه وسائل لحفظه: فالعمل به أولاً والجهاد لإقامته ثانياً، والدعوة إليه ثالثاً، والحكم به رابعاً، ورد كل ما يخالفه خامساً، من أهم وسائل حفظ الدين.

حفظ الدين أول مقاصد الشريعة

حفظ الدين أول مقاصد الشريعة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن المقصد الأول من مقاصد هذه الشريعة هو حفظ دين الله عز وجل حفظ الدين الذي أنزله الله سبحانه وتعالى وجعله مهيمناً على سائر الأديان، ولم يرتضِ من عباده غيره {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ} [آل عمران:19] {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85]، ولذلك تكفل الله بحفظه، وأما بقية الأديان فلم يبقَ منها دينٌ إلا وهو محرفٌ، أو مشوَّهٌ، أو مختلطٌ بآراء البشر. لقد جاءت هذه الشريعة -أيها الإخوة- بوسائل متعددة لحفظ الدين ينبغي أن نتمعن فيها، لأننا إذا عرفنا طريقة الشريعة لحفظ الدين التزمنا هذه الطريقة، وحرصنا عليها، ووجب علينا أن نسلك السبل التي جاءت بها الشريعة لحفظ الدين. إن الناس بدون دين كوحوش في الغابة، قويهم يأكل ضعيفهم، وظالمهم مسيطرٌ على مظلوهم، والناس بدون دين أموات {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122]. الناس بدون دين بهائم {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} [محمد:12] {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44] وطرق الشريعة لحفظ الدين: العمل به أولاً، والجهاد من أجل إقامته ثانياً، والدعوة إليه ثالثاً، والحكم به رابعاً، ورد كل ما يخالفه خامساً.

حفظ الدين بالعمل به وإقامة أركانه

حفظ الدين بالعمل به وإقامة أركانه لقد حفظت الشريعة الدين، وجاءت بالوسائل الكفيلة لحفظه من جهتين أولهما: المحافظة على ما يقيم أركانه ويثبِّت قواعده. ثانيهما: درء الفساد الواقع، أو المتوقع عليه، والمحافظة بدرء ما يحرفه أو يزيله. فأما العمل بالدين -وهو الطريقة الأولى لحفظه وإقراره في الواقع- فإنه من المعلوم أن الله ما شرعه إلا ليُعمَل به، لا لتحفظ ألفاظه فحسب، ولا ليحفظ الكتاب رسماً فحسب، ولا لتحفظ السنة حروفاً وكلمات فحسب، وإنما شرع الله الدين لإقامته والعمل به، ولو حُفِظَت نصوصه وضيعت معانيها ولم يُلتزم بها؛ فلا نُعتَبر قد قمنا بشيء هو المطلوب منا، ولذلك كان حفظ الدين فرضاً علينا لا في نصوصه فقط، وإنما بالعمل به أيضاً، وبعض أعداء الدين يناسبهم أن يحفظ بعض الأطفال القرآن، ولذلك تراهم يتباهون به، لكن أن يُطَبَّق القرآن فهذا شيءٌ آخر. والمسلم معنيٌّ بتطبيق الدين في واقع الحياة، ومن أقام الدين في نفسه فهو معين على إقامة الإسلام في الأرض، فإذا أقامه كل واحد قام الدين، والشريعة فيها واجبات عينية، وواجبات كفائية، فالواجبات العينية لا بد على كل إنسان أن يقيمها؛ كالصلاة مثلاً، والواجبات الكفائية لا بد أن تقوم بها الأمة بأجمعها، بحيث إذا أخلَّت به، أثم جميع أفرادها، فإذا كان الجهاد في الأصل فرض كفاية، فإذا حقق سلمت الأمة من الإثم، وإذا ضُيِّع أثم المسلمون جميعاً. وحفظ الدين واجبٌ على كل إنسان مكلفٍ بإقامة أركانه وواجباته؛ كإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والصوم، والحج، وغير ذلك من فرائض الإسلام العينية التي يجب أن يقام بها، ولأجل تكميل ذلك شرعت الشريعة المندوبات استحباباً للقيام بها، وترك المكروهات -أيضاً- من الدين للمحافظة على أصوله وخطوطه وقواعده. ومن هنا ندرك -أيها الإخوة- الفرق بين المسلمين والإسلام، فأعمال المسلمين في ذاتها قد تكون صواباً، وقد تكون خطأً قد تكون حقاً، وقد تكون باطلاً، وأما الإسلام فلا يكون إلا حقاً غير محتملٍ للباطل، والعمل بالدين يؤثر في حياة الناس، وعندما يحصل الاختلال في التطبيق، والتغاير بين العمل والدين؛ فإن ذلك العامل بالخطأ لا يقال عنه: إنه عاملٌ بالدين، وكم شوهت هذه الأعمال من الدين، وكم منعت من الدخول فيه، وكل من يمارس عملاً خاطئاً متعمداً معلناً به فهو من الذين يصدون عن سبيل الله بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشر، حتى الذين يظلمون العمال الكفرة -مثلاً- فيظن هؤلاء الكفرة أن هذا هو الإسلام، فإن كل ظالمٍ لهم آثمٌ وصادٌ عن سبيل الله، وهكذا الذين يذهبون إلى بعض الأقطار من المسلمين يمارسون الفواحش، وبعضهم يمارسونها بين المسلمين، فهؤلاء الذين يعطون الصورة السيئة عن الإسلام بممارساتهم الخاطئة الآثمة هم من الذين يصدون عن سبيل الله هذا من جهة العمل به. وأما الحكم به فهو ضرورة من ضرورات حفظه؛ لأنه لا يمكن أن يكون الدين محفوظاً إلا إذا صار هو الحاكم في الأرض، والله سبحانه وتعالى قد قيض العلماء ليبينوا للناس الإسلام، فيكون الدين محفوظاً من جهة بيانه ومعرفته، فإنه في كثير من الحالات لا يوجد دين عند بعض الناس، أو في بعض المجتمعات؛ لأنه لا يوجد علماء صدقٍ يُبينون الدين، ويُعلنون حلاله وحرامه، ويُظهرونَه، ويفتون في مسائله لماذا يضيع الدين عند بعض الناس؟ لأنه لا يوجد من أولي العلم من يقوم به ويبينه، ولذلك كان لا بد من الحكم بالدين، فالقاضي والعالم والمفتي الذي يحكم بالدين هو مقيم له في الأرض، ومبين له، ومعلنٌ به، والله تعالى يريد ذلك، وعندما يُحكَم بغير الإسلام فإن هذا إقصاءٌ للدين عن الحياة، وإحلالٌ للأهواء والآراء الشخصية محل دين الله، وأي تضييعٍ للدين أعظم من هذا؟! وأي جنايةٍ عليه أكبر من هذا؟! فعندما يحكم الإنسان بالإسلام ويحكم المسلمون به؛ فإنهم يكونون مطبقين وقائمين بالأمر، لأن الله قال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]؛ ولأن الله قال: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65]. فحفظ الدين في المجتمع بإظهار أحكام الإسلام وشعائره، وإقامه حدوده إقامة الحدود أمرٌ مهمٌ في بقاء الدين الحكم بالإسلام التراجع إلى المحاكم الشرعية إعادة القضايا إلى قضاة الشريعة، كل ذلك أمرٌ مهمٌ في إقامة الدين، والذين لا يعملون ذلك فهم مضيعون للدين، وإنما يخفى الدين بين الناس وبين العوام، لأن القضايا لا ترد إلى الشريعة. والحكم بالدين وتطبيق أحكامه يسد الباب على أهل الكفر والضلال والانحراف عندما يحاولون نشر مذاهبهم؛ لأنهم لا يتمكنون من ذلك عند إقامة حد الردة في الأرض وفي المجتمع، لا يتمكنون من نشر كفرهم لا تحت ستار البحث العلمي، ولا تحت ستار الحرية الفكرية، وكثيرٌ من الكفر المعلن اليوم في الأرض يعلن تحت ستار البحث العلمي والرسائل الأكاديمية، أو تحت ستار الحرية الفكرية حرية اعتناق المذاهب والأديان والأفكار.

حفظ الدين عن طريق الدعوة إليه

حفظ الدين عن طريق الدعوة إليه الوسيلة الثانية لحفظ الدين وهذا أمرٌ كلنا مأمورون به: أننا -جميعاً- معنيون بإقامة الدين أفراداً وجماعات عن طريق الدعوة إلى الله، فإن الدعوة إلى الله عز وجل وظيفة الأنبياء والمرسلين، ومن أجلها تحملوا المتاعب، وصبروا على الأذى، وقَاتَلوا وقُتِلوا في سبيل الله عز وجل، لا يمكن أن يتصور قيام دين وانتشاره بدون دعوة إليه، وبيانٍ لمحاسنه، وتوضيحٍ لأحكامه وآدابه، وكشف الشبهات عنه. إن كل صاحب فكرة يريد نشرها يقوم بالدعوة إليها، ويفعله أعداء الإسلام كثيراً، ويضحي بعضهم ويتفانى لأجل ذلك، فيعلنه، وينشره، ويعتمد الأموال لأجل ذلك والأفراد، وتُستَغل سائر الوسائل لنشر الأفكار من القلم إلى الإنترنت وهكذا يقومون بنشر الأفكار، وهكذا تقام المعاهد، وتقام دورات الإقناع، وهذا الجهد النصراني مثالٌ واضحٌ على ذلك، فهم يدرسون مقررات (كيف تقنع مسلماً بـ النصرانية) ونادراً ما تسمع أن مسلماً درس مقرراً، أو تدرب على الدعوة إلى الله عز وجل بشكلٍ مخططٍ له يكافئ الواجب الملقى على عواتقنا في سبيل نشر الدين، بل كثيراً ما نجد المسلمين في غاية التراخي والإهمال والتفريط في واجب الدعوة، أفلا يكون أولى بدعاة الحق الذين يعلمون صدق ما يدعون إليه، وأنه هو الدين الوحيد الصحيح أن يقوموا بالدعوة إلى الله عز وجل، خصوصاً وهم يرون أن الكفار ينشرون الدعوات المغرضة عن الدين بكل وسيلة ممكنة، ويحاولون غرس المفاهيم التي تناقض مفاهيم الدين، ويشوهونه باستخدام الوسائل المختلفة المسموعة والمقروءة والمرئية كل ذلك تشويهاً للدين، ثم نحن نتقاعس عن الدعوة، والرد، وبيان حقيقة الدين! أليس هذا تفريطاً ما بعده تفريط؟! إن ترك الدعوة تهديدٌ واضحٌ لوجود الدين، وطمسٌ لمعالم الدين، وإن ترك الدعوة هو ترك المجال للكفر للظهور، وإفساح المجال للكفرة لتشويه الإسلام عند الآخرين، ويفعلونه في وسائل كثيرة يشوهون الدين وأهل الدين، ولذلك كانت الدعوة إلى الله من أعظم الوسائل وأنفعها لحفظ الدين، والله قد قال: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} [آل عمران:104] فأول صفتهم أنهم يدعون إلى الخير {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:110] وهذه من الدعوة، وقال سبحانه وتعالى: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [القصص:87]، وقال سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125]، وقال سبحانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]، وقال صلى الله عليه وسلم: (بلَّغو عني ولو آية). ماذا قام كل واحد منا بهذا الشأن؟ سؤالٌ يوجهه كل إنسان إلى نفسه: هل دعوت غيرك إلى الإسلام يوماً ما؟ إن كان كافراً دعوته إلى اعتناق الدين الجديد، وإن كان مسلماً مفرطاً دعوته للتوبة والعودة والتمسك بالدين الذي هو عليه، فالدعوة تشمل تعليم الدين، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والرد على المخالفين، وكشف الشبهات، وفضح المخططات، ليكون الدين واضحاً للناس، فهذا شيءٌ أساسيٌ أنزله الله تعالى في صميم هذا الدين. إن هذا الدين يعلو ولا يعلى عليه، فكيف سيعلو ولا يعلى عليه إذا لم يقم أهله وأصحابه وأبناؤه بالدعوة إليه؟ الدعوة الدعوة يا عباد الله! فإن فيها تعليماً للجاهل، والذي لم يسمع بالدين من قبل، وكذلك فيها كشف للشبهات، وإظهارٌ للحقائق الواضحات، وتفويت للفرصة على أعداء الإسلام، وتحقيقٌ لشمول الدين وعمومه {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} [سبأ:28].

حفظ الدين بالجهاد في سبيل الله

حفظ الدين بالجهاد في سبيل الله شرعت هذه الشريعة الجهاد في سبيل الله لحفظ الدين؛ لأنَّ الدعوة تقابل في كثير من الأحيان بالرفض والجحود والإنكار، فيقبلها من يقبلها، وتحصل المنفعة من الدعوة، فإذا رفضها من رفضها فما هو الحل إذاً؟ ما هو الحل في حجر العثرة في الحواجز القوية في السدود المنيعة التي توضع في سبيل انتشار الدين؟ لا حل لذلك إطلاقاً إلا بفل الحديد بالحديد، ومواجهة القوة بالقوة؛ إرغاماً لأنوف المعاندين، وكسراً للحواجز، وأن يخلَّى بين الناس وبين دين الله، وكذلك انقاذاً للمستضعفين من المؤمنين الذين سيذوبون بغير الجهاد، وقد تسلط عليهم الأعداء. والجهاد لأمرين واضحين الأول: جهاد لنشر الدين، ولتحطيم كل الحواجز التي تعيق نشره بالقوة. الثاني: جهاد للدفاع عن الدين، وعن المسلمين والمستضعفين، وعن بلاد المسلمين؛ حتى لا يتسلط عليها الكفار، والذين يقصرون الجهاد على الجهاد الدفاعي أغبياء وجهلة، فإن الله شرع لرسوله قتال الكفار، فقال: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة:123] {قَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة:36] فإذا قدر المسلمون فلا بد من جهاد الهجوم، وإذا لم يقدروا فالشكوى إلى الله ليقوموا بجهاد الدفع إذاً، وكثيراً ما لا يستطيعون في هذا الزمان لا جهاد الهجوم، ولا جهاد الدفاع، ولكن لا بد حينئذٍ من الاستعداد للجهاد، وإعداد النفس لذلك؛ بحملها على الدين، وتربيتها عليه؛ استعداداً للقيام بالواجب. إن الجهاد ضروري لإنقاذ الأماكن التي يعبد الله فيها، قال الله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} [الحج:40] الدفع: دفعٌ بالقوة، قوة المجاهدين الذين يدفعون الأعداء، فيدفع الله بعض الناس الكفرة ببعض الناس المؤمنين: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40] لولا ما شرعه الله لأنبيائه وللمؤمنين من قتال الأعداء؛ لاستولى أهل الشرك، وعطلوا ما بنى المؤمنون من بيوت الله في الأرض، ولذلك الكفرة إذا هاجموا بلاد المسلمين أول ما يتسلطون عليه المساجد، فيحولوها إلى حانات للخمور، أو صالات لعرض سينمائية، أو إسطبلات للخيول، أو كنائس للكفار، أو يهدموها ويحرقوها ويزيلوها من الوجود، فضاعت كثيرٌ من أوقاف المسلمين، وضاعت كثيرٌ من الأماكن التي يُعبد الله فيها في الأرض؛ بسبب التخاذل عن إقامة هذا الفرض العظيم. ثم إن في الجهاد تمكيناً لإقامة الشعائر والحكم بما أنزل الله في الأرض، والمعركة بين أهل الإسلام وأهل الكفر قائمة إلى قيام الساعة (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين يقاتلون من خالفهم) لم يترك أعداء الإسلام للمسلمين شأناً يقومون به في عبادة الله، فلا بدَّ أن يقاتلوهم، وهذه قضية أذن الله بها وشاءها وقضاها، وأخبرنا عنها، فقال: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217]. ولم يترك الله -عز وجل- أهل الحق والإيمان عُزلاً، وإنما شرع لهم الأخذ بالأسباب الدينية الشرعية والمادية الإيمانية القلبية، والمادية التي يستطيعون بها إرغام أنوف العدو، وقد أمر الله تعالى بإعداد العدة، فقال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال:60] وهذا الإعداد يتضمن أموراً كثيرةً منها: إعداد النفس الذي يقصر فيه الكثير منّا، قال عليه الصلاة والسلام: (من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو) هذا هو الإعداد النفسي، فمن الذي حدث نفسه بالغزو؟ بل البعض يقول: أنا غير قادر على الغزو، وقد يكون محقاً حقيقة في ذلك، لكن هل حدث نفسه به؟ وهل انطوت نفسه على أنه متى ما قامت القوة والقدرة للمسلمين أنه سيجاهد في سبيل الله () ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق). أيها الإخوة: لابد من إعداد النفس إعداداً إيمانياً وعلمياً، ولقد مكث المسلمون في مكة ثلاثة عشر عاماً لا تنقصهم جرأة، ولا شجاعة، ولكن لأن الله لم يأذن بالجهاد لأنه لم يأت وقته بعد، كانوا يعدون أنفسهم ليوم بدر وأحد والخندق والحديبية وحنين والفتح الأعظم، ولذلك جاءت النتائج باهرة؛ لما أخذوا بالقوة الكافية، واختاروا التوقيت السليم. فالجهاد في سبيل الله يمنع من تسلط الكفار على المسلمين، ويحرر الأماكن لعبادة الله فيها، ويخرج الناس من عبادة الشيطان إلى عبادة الرحمن، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام يخرجهم حتى لا يكونوا عُبَّاداً للعباد، وإنما ليصبحوا عباداً لله تعالى. هذا شيء مما جاءت به الشريعة لحفظ الدين ينبغي على المسلمين فهمه والعمل به. اللهم إنَّا نسألك أن تجعلنا من القائمين بأمرك، الناصرين لدينك، المحافظين على حدودك. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

حفظ الدين بإقامة الحدود

حفظ الدين بإقامة الحدود الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا هو ولي المتقين، وأشهد أن محمداً رسول الله إمام المجاهدين، وقائد الغر المحجلين، والشفيع المشفَّع يوم الدين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من اتبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين. يا عباد الله: لقد شرع الله من الحدود ما يكفل حفظ الدين، وهو حد الردة الذي يحفظ به جانب الإسلام من الهدم يُكَبتُ فيه الباطل والمتقولون بالباطل، والرافعون لرايات الكفر الذين يتفوهون به ويتشدقون، هكذا إذاً شُرِع حد الردة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه) والمقصود بالدين -ولا شك- هو الإسلام، وإلا فمن بدل من النصرانية إلى الإسلام فلا يقتل، بل يصبح أخاً في الإسلام ويقول عليه الصلاة والسلام: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة) جماعة المسلمين الذين هم على منهاج الصحابة، وعلى دين النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. فلو لم يقتل المرتد لكان الداخل في الدين يخرج منه بكل سهولة، وهذا الحد العظيم الذي عطله أكثر المسلمين في هذا الزمان، بل لم يكد يعد يُسمع في الأرض مطلقاً، بأي سببٍ أيها الإخوة؟ مع كثرة المرتدين، وكثرة المتشدقين بالكفر، الذين لا يشهد على ردتهم واحدٌ أو اثنان، وإنما يشهد على ردتهم وعلى كفرهم وزندقتهم ألوف من المشاهدين، فيعرض الكفر والإلحاد -الآن- في قصة تطبع وتروج، أو فيلم ينشر في القاعات ليشاهده الناس، أو في مناظرة تلفزيونية بزعمهم، يسمح للمرتد بعرض دينه الكفري، وعقيدته الباطلة، وزندقته وانحلاله، وهجومه على شريعة الله ورسوله، وطعنه في هذا الإسلام، ويشهد على ردته عشرات الآلاف من الناس، أو أكثر!! إذاً: حد الردة بضرب عنق المرتد بالسيف هو أمرٌ شرعه الله لحفظ دينه ذهب أبو موسى الأشعري إلى اليمن، ثم اتبعه معاذ بن جبل، فلما قدم عليه، ألقى عليه وسادة، وقال: انزل. وإذا برجلٌ عنده موثقٌ، قال معاذ: ما هذا؟ قال: كان يهودياً، فأسلم ثم تهود قال: - أبو موسى لـ معاذ - اجلس حتى يقتل قضاء الله ورسوله قضاء الله ورسوله قضاء الله ورسوله. فضربت عنقه. رواه البخاري. لماذا؟ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أرسل معاذاً إلى اليمن قال له: (أيما رجل ارتد عن الإسلام فادعه، فإن عاد وإلا فاضرب عنقه، وأيّما امرأة ارتدت عن الإسلام فادعها، فإن عادت وإلا فاضرب عنقها) قال ابن حجر رحمه الله: سنده حسن. هذا حكم الله ورسوله فيمن يرتد عن الدين، ويخرج منه {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:217]. كم واحد يسب الرب من المسلمين! وكم واحد يسب الرسول صلى الله عليه وسلم! وكم واحد يسب الدين! وكم واحد ينتقد القرآن! وكم واحد يعيب الحدود الشرعية! وكم واحد يحل ما حرم الله من الربا وغيره! وكم واحد يقوم بالسحر والشرك والاتصال بالشياطين والتكهن! كل هؤلاء ما هو حدهم؟ حدهم ضربة بالسيف تقطع رقبتهم، هذا إجماع أمة محمد صلى الله عليه وسلم منذ أن ارتد المرتدون من العرب، فقام لهم الصديق رضي الله عنه وأرضاه قومةً لله عز وجل، وجيَّش الجيوش لقتال المرتدين الذين خرجوا عن الدين، وهكذا فعلوا ببني حنيفة وبـ مسيلمة، وبغيره من الكفار، فقتلوا من قتلوا حتى رجع إلى الدين صاغراً من كان قد خرج عنه، وهكذا قام علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه فيمن اعتقدوا فيه الإلهية لما دخل الكوفة، فسجدوا له، فدعاهم إلى التوبة فأبوا، فخدَّ لهم الأخاديد، وملأها حطباً، وأضرم فيها النيران، وقذفهم فيها، وقال: لما رأيت الأمر أمراً منكراً أججت ناري ودعوت قمبرا وهو مولى علي رضي الله عنه وأرضاه، ولم يعترض ابن عباس على هذا الحكم إطلاقاً، وإنما كان رأيه ألا يحرقوا وإنما يقتلوا قتلاً. وهكذا حصل ما حصل في عهد من بعدهم من المسلمين، وفي عهد التابعين قام أميرهم على المنبر في يوم الأضحى خالد بن عبد الله القسري، وقال: أيها الناس! ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضحٍ بـ الجعد بن درهم، فإنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، ثم نزل فذبحه في أصل المنبر شَكَر الضحية كل صاحب سنة. هكذا يرتدع كل من تسول له نفسه الخروج من الدين، أو التهجم على الدين، وما أكثرهم في هذا الزمن! هذه هي الوسائل التي جاءت بها الشريعة لحفظ الدين فما أحكمها! وما أعدلها! وما أقواها! وما أحزمها! وما أشدها على من بغى وطغى! نسأل الله تعالى أن يعاملنا بلطفه، وأن ينقلنا إلى رحمته، اللهم إنا نسألك أن تخرجنا من الظلمات إلى النور، اللهم اجعلنا هادين مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، قائمين بشرعك يا رب العالمين. اللهم أقم علم الجهاد، واقمع أهل الزيغ والفساد والعناد، وانشر رحمتك على العباد، اللهم إنَّا نسألك أن تحرر بلاد المسلمين من الكفرة المغتصبين، اللهم ادرأ عن إخواننا المسلمين كيد المعتدين، اللهم أنزل بأسك وسطوتك باليهود والنصارى والمرتدين يا رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على رسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله رب العالمين.

رفع المعنويات

رفع المعنويات إذا تلفت المسلم حوله، ورأى ما حل بالأمة الإسلامية من ذل وهوان، وكيف صار تعامل الأعداء مع أمة الإسلام، وامتهانهم لها في تجبر واستكبار، فحينئذ يتسرب اليأس إلى قلبه، وهذا ليس هو المنهج الذي ينبغي للمسلم أن ينتهجه في حياته، بل الأجدر به أن يستعرض حياة أسلافه، مستنيراً خلال ذلك بالكتاب والسنة؛ حتى يستلهم من تلك السِّيّر ما يقوي عزيمته في مواجهة هذه التحديات.

حال الأمة اليوم وواجب الدعاة في رفع المعنويات

حال الأمة اليوم وواجب الدعاة في رفع المعنويات الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: غربتنا شديدة لا يعلمها إلا الله، يتلفت المسلم حوله فيرى كفراً مسيطراً، وشراً مستطيراً، وعدواً متجبراً. الأعداء كثير، والتخطيط محكم، سلاحهم قوي، حاملات، وطائرات، وصواريخ، وقنابل، وأقمار ترقب، وعدو يترقب، حاملات يهودية وأخرى صليبية، أحاطوا بالأمة إحاطة السوار بالمعصم، ووضعوا حبال مكرهم وبطشهم حول رقبتها، وشدوا الحبل ليخنقوها، يتلفت المسلم فيرى حوله في بلاد المسلمين خراباً ودماراً، أيتاماً وأيامى، أرامل ومفجوعين، بيوت تهدم، وأعراض تنتهك، وحمىً يستباح، وثروات تنهب، وهيمنة وتسلط واستبداد، وظلم وتحكم القوي على الضعيف، والجبار على الأسير. وهكذا يرى المسلم هذا الظلم المنتشر والأمة متخبطة متفرقة متناحرة، يرى قلة الناصر وضعف المعين فيقول: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} [إبراهيم:21] وأن الهلاك هو العقوبة. وهذه الكلمات ليست للتخدير ولا لمحاولة نسيان الواقع المر، وإنما هي للنهوض بالنفوس لئلا تقع فريسة لليأس القاتل والقنوط المقعد عن العمل، بل لتنطلق بهذه المبشرات إلى الجد والاجتهاد، يحدوها حادي الرجاء في وعد الله القادم. إن من واجب الدعاة إلى الله في ظل الظلمات الواقعة اليوم أن يشيعوا نور الأمل، ويخبروا الناس بحقيقة الفجر السَّاطع الذي لا يأتي إلا بعد شيوع ظلمة الليل. إن هذه الكلمات انطلاقة من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (بشِّروا ولا تنفروا) هكذا كان حال الرعيل الأول من المؤمنين لا تزيدهم الفتن والبلاء إلا ثباتاً وإيماناً: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} [الأحزاب:22] وذلك أنهم مهما وقع عليهم من البلاء والضيم فهم الأعلون كما قال الله: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139]. المؤمن يعرف كيف يتصرف، كيف ينهض ويعمل؛ ليصل بالواقع المتدني إلى المستوى المطلوب، وليس من الصحيح أن يصدر الحكم على الأمة بالهزيمة، وأنها تنتظر رصاصة الرحمة، وأنها قاعدة بلا حولٍ ولا قوة، كلا. إنه يترفع عن ذلك، ولا يطلق عليها وصف الهلاك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قال الرجل: هلك الناس فهو أهلكُهم) (فهو أهلكَهم) رواه مسلم، هاتان الروايتان على الرفع: (أهلكُهم) معناها: أشدهم هلاكاً، وعلى النصب (أهلكَهم) فمعناها: هو جعلهم هالكين لا أنهم هلكوا في الحقيقة. فأما ما في هذا الحديث فإن معناه: أن الرجل لا يزال يعيب الناس ويذكر مساويهم ويقول: فسدوا وهلكوا ونحو ذلك، فإذا فعل فهو أهلكهم أي: أسوأ حالاً منهم؛ لما يلحقه من الإثم في عيبهم والوقيعة فيهم، وربما أداه ذلك إلى العجب بنفسه ورؤيته أنه خير منهم، فلا يدخل في هذا من قالها تحزناً لما يرى في نفسه وفي واقع الناس من نقص أمر الدين.

صور من القرآن والسنة في رفع معنويات الأمة

صور من القرآن والسنة في رفع معنويات الأمة أيها المسلمون! أيها الإخوة! إن المسلم عندما يرى هذا البلاء المسيطر فإنه بالرغم من ذلك ينظر إلى بصيص الأمل، ويعلم أن الأيام يداولها الله بين الناس، وأن الاستضعاف مرحلة لا بد أن تأتي بعدها القوة، فهو وإن نظر إلى انتشار الفواحش والمعاصي فلا يحكم على الناس جميعاً بالهلاك، ولا يقول: لا مخرج ولا فائدة، فإن هذا من سوء الظن بالله، وإحباطٍ لمعنوياتِ الأمة والدعاة والمصلحين. إننا نحتاج في هذه الآونة إلى رفع المعنويات كثيراً في غمرة الظلم الذي ربما يزداد، والقتل الذي ربما يكثر، والتهجير والتشريد الذي ربما يحلُّ بالمسلمين في أماكن من الأرض ومنها فلسطين. إن رفع المعنويات في هذا الزمان مهم جداً لنا للعمل، إنه المتنفس، لقد كان القرآن الكريم يرفع من معنويات المؤمنين بكلام الله الذي ينزل على نفوسهم برداً وسلاماً، حتى في لحظات البلاء والشدائد: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214]. فعندما نعلم ما أصاب الذين سبقونا نوقن بأن الطريق واحد، وأنه مهما أصاب هذه الأمة فإنه لحكَمٍ يريدها الله سبحانه وتعالى.

وتبشير القرآن بقرب النصر والفرج

وتبشير القرآن بقرب النصر والفرج من رفع المعنويات في القرآن: أنه كان يبشر بقرب النصر والفرج به إذا حصل، كان ذلك للمؤمنين المضطهدين في مكة تحت الحصار والجوع والقتل والتعذيب والتشويه الإعلامي؛ فكان يقال لهم: {الم * غُلِبَتْ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ} [الروم:1 - 5]. لما أصيب المسلمون بالإحباط في غزوة أحد عندما قتل منهم سبعون! مآسٍ حصلت، الدواب تحمل بالجثث منطلقة إلى المدينة، هذه تخبر بأنها قد أصيبت بأبيها وأخيها وزوجها، وهذه بابنها، وتلك بخالها وعمها، أيتام وأرامل، ألمٌ نفسي، وهمٌ عظيم أصاب المسلمين في أحد، ماذا سيقول العرب الذين ينظرون؟ ماذا يجري بينهم وبين كفار قريش؟ وسيقول العرب: هؤلاء هزموا، ودينهم لم ينصرهم، فماذا سيكون من التولي إذن، والقوة للكفار؟ ومع ذلك تأتي الآيات ترفع المعنويات وتحيي الأمل في النفوس، يذكرهم أولاً: بأن نصراً قريباً قد حصل: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [آل عمران:123] ويعدهم بنصرٍ ومدد فيقول: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ} [آل عمران:124]، بل هناك زيادة: {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران:125]. بعد الغزوة كان الصحابة يحتاجون أحوج ما كانوا إلى رفع المعنويات, بعد الذي لاقوه من الهزيمة والجراحات والقتل؛ فقال الله لهم مخففاً ومسلياً ورافعاً لنفوسهم: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ} [آل عمران:139] وإن هزمتم بالسلاح فأنتم الأعلون منهجاً وديناً أنتم الأعلون شرعةً وشريعةً أنتم الأعلون بما في نفوسكم من الإيمان بالله عز وجل الذي تضعون به جباهكم لرب العالمين ساجدين: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139]. ويذكرهم بما لحق الكفار من المصائب ويقول لهم: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} [آل عمران:140] كما أصابكم ما أصابكم فقد أصاب الكفار أيضاً قتل وجراح، وهذه أشياء نشهدها حتى اليوم في حال المسلمين المستضعفين في فلسطين، بالرغم مما يصيبهم فإنه يصيب اليهود أيضاً قتل ودمار، يصيبهم أيضاً في اقتصادهم وأمنهم، وهكذا يداول الله الأيام بين الناس: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران:140].

تسلية الله لنبيه ورفع معنوياته بالقصص والإسراء والمعراج

تسلية الله لنبيه ورفع معنوياته بالقصص والإسراء والمعراج لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم بما حصل عليه من الأذى يسليه ربه، ويخفف عنه، وينعش فؤاده وقلبه، فيخبره أن ما أصابك قد أصاب الرسل من قبلك، فلا تبتئس بما كانوا يعملون: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} [الأنعام:112] يقول له: هذا يوسف انظر إليه! ماذا جرى عليه من حسد إخوته وكيدهم له، وإلقائه في الجب وبيعه واسترقاقه وسجنه وبعده عن أبيه وأخيه واتهامه وهو بريء، وفي نهاية الأمر يظهر الله براءته ويمكن له في الأرض, ويجمع له أهله, ويجمعه بأبويه وإخوانه! خذ قصة موسى يتلو عليه جبريل الآيات، انظر ماذا فيها من البلاء الذي حصل والفتنة، وما كان عليه الأمر من الشدة حتى في أوله، ويلقى في اليم وهو صغير، وينجو من القتل، ويفر من البلد بعد ذلك، ويعمل أجيراً في رعي الغنم، ثم يمكن الله له ويجعله في أمنٍ، وينصره على فرعون بعدما ذاق منه خوفاً وتهديداً وأذىً شديداً، وهكذا يصيبه من بني إسرائيل ما يصيبه بعدما عبروا البحر، ولكنه يصبر لأمر الله سبحانه وتعالى. وعندما يصاب النبي عليه الصلاة والسلام بأمرٍ شنيع من الأذى، تأتي حادثة الإسراء والمعراج لإنعاش النفوس ورفع المعنويات, وما حصل له عليه الصلاة والسلام من التسلية العظيمة بسببها، فمات عمه الذي كان ينصره، وماتت زوجته الوفية خديجة، وضيق عليه وحوصر وقتل من أصحابه من قتل، وأغارت قريش بالغارات الإعلامية عليه بأنه: ساحر، كذاب، مجنون، شاعر، به جنة، يريد مُلكاً، ويريد ويريد، ويقول عليه الصلاة والسلام لـ عائشة لما سألته: (هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ قال: لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة؛ إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي, فلم أستفق إلا وأنا بـ قرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابةٍ قد أظلتني) بعد هذا الهم والغم يرسل الله له أمراً لرفع المعنويات. الملائكة تسأله: ماذا يريد؟ ماذا يأمر لينفذوا؟ بعث الله إليه ملك الجبال ليأمره بما شاء فيجيب وينفذ في كفار قريش. وتكون رحلة المواساة العظيمة إلى السماوات العلى, بعدما صلى بالأنبياء في بيت المقدس ليرى سدرة المنتهى، والبيت المعمور، ويرى جبريل على صورته الحقيقية.

التذكير بمصير الشهداء

التذكير بمصير الشهداء كانت آيات الله تعالى بمصير المؤمنين الشهداء ترفع معنويات المجتمع الذي أصيب بهمّ في بئر معونة لما قتل سبعون من خيار المسلمين؛ يصومون النهار ويقومون الليل، من الحفاظ الزهَّاد العبَّاد، من أهل الصفة، من أهل المسجد، من أصحاب القناديل المعلقة فيه، ماذا أنزل الله؟ قرآناً كان يتلى حتى رفع ونسخ: (بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا رضي الله وأرضانا). كانت البشائر من النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في مكة في الاضطهاد لرفع المعنويات، يأتي خباب مصاباً بإحباطٍ وبشدة يقول: (يا رسول الله! ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ ألا ترى ما نزل بنا؟! قال عليه الصلاة والسلام: كان الرجل فيمن كان قبلكم يحفر له في الأرض، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب وما يصده ذلك عن دينه). إذاً: هذا حصل لمن قبلكم، فخذوا العبرة، الطريق واحد، فيه أذى وخاصة في بدايته. ثم يأتيه بالبشارة ويقول: (والله ليتمن هذا الأمر, حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون). (قد كان من قبلكم): تسلية وإشارة إلى الصبر حتى تنقضي المدة المقدرة من الله عز وجل، والمسلمون تحت الشدة والحصار والبأس الشديد, لكنكم تستعجلون، ويبشرهم بأن الله معهم لرفع المعنويات. أبو بكر الصديق في الغار كيف كان حاله؟ كيف كان وضعه النفسي؟ يصف التأزم الشديد الذي كان فيه ويقول: (يا رسول الله! لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: ما ظنك يا أبا بكر! باثنين الله ثالثهما) رواه البخاري. والنبي صلى الله عليه وسلم ينقل لأصحابه البشارة، ثلاثمائة وخمسة عشر رجلاً أمام نحوٍ من ألف من المشركين هم أكثر عدةً وعدداً منهم، يقول: (أبشر يا أبا بكر! أتاك نصر الله، هذا جبريل على ثناياه النقع). وبعد هزيمة أحد لماذا أصر النبي عليه الصلاة والسلام على الرجوع لتحدي قريش؟! رفعاً لمعنويات المسلمين. ويذهب إلى حمراء الأسد بالمسلمين الذين فيهم جراحات، لماذا؟! إظهاراً لقوة المسلمين، وإلقاءً للرعب في صفوف الأعداء. قال الطبري: إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مرهباً للعدو، وليبلغهم أنه قد خرج في طلبهم ليظنوا به قوة، وأن الذي أصابهم لم يوهنهم عن عدوهم.

مشاركة الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه في حفر الخندق

مشاركة الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه في حفر الخندق كان من رفع المعنويات: مشاركة القائد للجنود، كان ينقل معهم التراب في الخندق ويقول: والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينةً علينا وثبت الأقدام إن لاقينا عمل ودعاء! كان هناك جهد وسؤال وطلب من الله عز وجل في بناء المسجد، ترتفع المعنويات بمشاركته عليه الصلاة والسلام لهم وهو يقول معهم: اللهم لا خير إلا خير الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة حتى شعارات المسلمين في معاركهم كانت تنبئ عن معنويات مرتفعة، ولذلك ورد في سنن أبي داود في الحديث الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام قال لأصحابه في معركة من المعارك قبل أن تحدث وهو يخشى عليهم من العدو: (إن بُيِّتُمْ -يعني: قصدوكم بالليل ليقتلوكم وليأخذوكم على حين غرَّة- بغتة -وحصل اختلاط- فاجعلوا شعاركم حم لا ينصرون؛ ليميز المسلم أخاه) هذه الكلمة التي تقال، ثم فيها الفأل أن الكفار لا ينصرون.

عدم نشر الأخبار السيئة وإشاعتها

عدم نشر الأخبار السيئة وإشاعتها كانت المعنويات يحافظ عليها بعدم نشر الأخبار السيئة وإشاعتها في لحظات الشدة، ولذلك يقول ابن هشام في قصة غزوة الأحزاب: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث السعدين سعد بن عبادة وسعد بن معاذ، قال: (انطلقوا حتى تنظروا أحقٌ ما بلغنا عن هؤلاء القوم من نكث العهد -اليهود- فإن كان حقاً فالحنوا لي لحناً أعرفه، ولا تفتوا في أعضاد الناس، وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا به للناس). وكان التفاؤل بتغيير الحال وتغيره، وأن الأمر لم يعد مثلما كان من قبل ليبث الأمل في النفوس، بعد غزوة الأحزاب ماذا قال عليه الصلاة والسلام: (الآن نغزوهم ولا يغزوننا، نحن نسير إليهم). عندما يخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن هوازن قد جمعوا له في حنين، وخرجوا عن بكرة أبيهم بضعنهم ونعمهم وشائهم حتى الغنم والنساء والأولاد، ماذا يقول عليه الصلاة والسلام وهو يتبسم؟ (تلك غنيمة المسلمين غداً إن شاء الله) صحيح أبي داود.

ثناء الرسول على المحسنين من أصحابه

ثناء الرسول على المحسنين من أصحابه كان عليه الصلاة والسلام يثني على المحسنين من أصحابه، ويبث الأمل في نفوسهم ويرفع من معنوياتهم، ويقول لـ عمار وهو ينقل لبنتين لبنتين (يمسح عن رأسه، ويح عمار -كلمة ترحم لحاله- تقتله الفئة الباغية، عمار يدعوهم إلى الله ويدعونه إلى النار) وهكذا كان يقول لـ علي رضي الله عنه عندما مسح عنه الوجع الذي كان في عينيه، ويقول كذلك للأنصار لما ذهب الناس بالشاء والبعير: (أما ترضون أن يذهب الناس بالدنيا وتذهبون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم -تذهبون به معكم-؟ قالوا: بلى. قال: لو سلك الناس وادياً أو شعباً لسلكت وادي الأنصار أو شعبهم).

الإيمان بالقدر وتصبير الرسول لأصحابه

الإيمان بالقدر وتصبير الرسول لأصحابه كان الإيمان بالقضاء والقدر مما يرفع المعنويات، حتى عند المصائب الشديدة، يقول الله للمؤمنين: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً} [آل عمران:145] وكانت عقيدة الثواب أن الله يثيب الطائعين ويعطيهم الأجر العظيم، هذا مما كان يدفع إلى العمل: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ} [التوبة:111]. ما الذي كان يرفع معنويات آل ياسر، ياسر زوجته سمية أم عمار وهم يضطهدون على بطحاء مكة الحارة وعلى الحصى والرمل والصخر الحار؟ ماذا كان يثبتهم ويرفع معنوياتهم وهم في استضعاف تحت التعذيب؟! كلمات (صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة). إذاً: الوعد بالثواب من الله عز وجل هو الذي كان يصبرهم. ما الذي كان يصبر المؤمنين على القتال في صفوف المعركة؟ أيها الإخوة! إن الشهداء كانوا يقتلون في سبيل الله، يضحي الإنسان بنفسه في المعارك تحت ظلال السيوف؛ لأجل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلف سرية، ولوددت أني أقتل في سبيل الله, ثم أحيا ثم أقتل, ثم أحيا ثم أقتل) وهكذا عليه الصلاة والسلام يخبرهم عما ينال المجاهد من الأجر؛ ليصبروا عند اللقاء. وهكذا كان يصبر المصابين في أبنائهم وأهاليهم وأصحابهم، هذا حارثة لما قتل يوم بدر بسهم طائش لا يدرى من رماه، ماذا جاءت أمه تقول؟ ماذا قالت أم الربيع بنت البراء وأم حارثة بن سراقة؟ تقول: (يا رسول الله! إن كان في الجنة صبرت، وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء -فكانت الكلمات كافية في تثبيتها وإشاعة الأمل في نفسها- يا أم حارثة! إنها جنان في الجنة، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى).

قوة الله وضعف الكفار

قوة الله وضعف الكفار إن قوة الله وضعف الكفار هو المبدأ الذي كان يرفع من معنويات المسلمين، ويقال للنبي صلى الله عليه وسلم: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً} [النساء:84] {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد:7] {إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ} [آل عمران:160]. وهكذا كان ما أصاب المسلمين مع ما أصاب الكفار، وإن تماثل في الصورة لكن الفرق يرفع معنويات المسلمين, وقال لهم ربهم: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ} [النساء:104] لكن ما هو الفرق؟ {وَتَرْجُونَ مِنْ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:104] كانت قضية التثبيت في المعارك, ورفع المعنويات بالرغم من قلة عدد المؤمنين وكثرة عدد الكفار، عندما يقول المؤمنون للمرجفين المخذلين الذين يقولون: {لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} [البقرة:249] ماذا قال لهم أولئك؟ {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:249].

مواقف الثابتين ترفع المعنويات

مواقف الثابتين ترفع المعنويات إن المواصلة وعدم القعود بالرغم من حجم المصيبة ترفع المعنويات، هذا المبدأ الذي مثله أنس بن النضر وهو يقول للمسلمين عندما أشيع قتل النبي عليه الصلاة والسلام، فقعد بعضهم محبطاً يائساً قال: [ما تنتظرون؟ قالوا: قُتل رسول الله، قال: فما تصنعون بالحياة بعده، قوموا فموتوا على ما مات عليه] فوجد الرجال الذين يَثبتون ويُثبتون. لما فرَّ من فرَّ من المسلمين في حنين والنبي عليه الصلاة والسلام على بغلته البيضاء، وأبو سفيان آخذٌ بلجامها، والنبي عليه الصلاة والسلام يستصرخ العباس لكي يصرخ بالمسلمين ليرجعوا وهو يقول: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب) وهكذا فإن مواقف الثابتين ترفع المعنويات.

من ذاكرة التاريخ الإسلامي في رفع المعنويات

من ذاكرة التاريخ الإسلامي في رفع المعنويات

الملك المظفر قطز مع التتار

الملك المظفر قطز مع التتار إذا نظرنا في تاريخ المسلمين في أحوال الشدة التي كانت مسلَّطة عليهم من قبل التتر، الذين اجتاحوا العالم الإسلامي وقتلوا الملايين من المسلمين، ولما اجتمعت العساكر الإسلامية في الديار المصرية؛ ألقى الله تعالى في قلب الملك المظفر قطز الخروج لقتالهم بعد أن كانت القلوب قد أيست من الانتصار على التتار؛ لكثرة عددهم، واستيلائهم على معظم بلاد المسلمين، معظم بلاد المسلمين في فترة من الفترات كانت تحت حكم التتر الذين اجتاحوا أكثر العالم الإسلامي، وما قصدوا إقليماً إلا فتحوه، ولا عسكراً إلا هزموه، لم يبق خارجاً عن حكمهم في الجانب الشرقي من العالم الإسلامي إلا الديار المصرية والحجاز واليمن، وهربت جماعة من المغاربة الذين كانوا بـ مصر إلى المغرب وهرب جماعة من الناس إلى اليمن، والباقون في وجلٍ عظيم وخوفٍ شديد، يتوقعون دخول العدو وأخذ البلاد. وصمم الملك المظفر رحمه الله على لقاء التتر، وخرج بالجحافل الشامية والمصرية وسافر إلى بلاد الشام للقائهم، ونزل بـ الغور بـ عين جالوت وفيه جموع التتر في يوم الجمعة الخامس عشر من رمضان. اصطف الفريقان، والتحم الجيشان، وتقاتلا قتالاً شديداً لم ير مثله، حتى قتل من الطائفتين جماعة كثيرة، وانكسرت ميسرة المسلمين كسرة شنيعة -كما يقول صاحب النجوم الزاهرة في وصف المعركة- فحمل الملك المظفر رحمه الله بنفسه في طائفة من عساكره، وأردف الميسرة حتى تحايوا ورجعوا، واقتحم المظفر القتال وباشره بنفسه، وأبلى في ذلك اليوم بلاءً حسناً، وعظمت الحرب وثبت كلٌ من الفريقين مع كثرة التتر، والمظفر يشجع أصحابه، ويحسن إليهم الموت، ويكرُّ بهم كرة بعد كرة، حتى نصر الله الإسلام وأعزه، وانكسرت التتر، وولوا الأدبار على أقبح وجهٍ بعد أن قتل معظم أعيانهم، وأصيب قائدهم كتبغانيين فإنه لما عظم الخطب باشر القتال بنفسه فأخزاه الله، وقتل شر قتلة، وكان الذي حمل عليه وقتله الأمير جمال الدين آقوش الشمسي رحمه الله. وولى التتار الأدبار لا يلوون على شيء، واعتصمت طائفة منهم في التلِّ المجاور لمكان الوقعة، فأحدقت بهم عساكر المسلمين، وصابروهم حتى أفنوهم قتلاً، ونجا من نجا، وتبعهم الأمير ركن الدين بيبرس البندقاري في جماعة من الشجعان المسلمين إلى أطراف البلاد، واسترجعوا البلاد والضياع التي أخذها التتر، وقتل منهم مقتلة عظيمة جداً. وهكذا كانت الحال عندما يثبت المسلمون أمام الكفار. ومما لا شك فيه أنه لا يقدر على الجهاد كل الناس، فيبقى أناس من المعذورين أصحاب العاهات، وربما كان عندهم شيء من القنوط والهم والغم الذي ركبهم، وكانت الآية: (لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبل الله) فجاء ابن أم مكتوم يقول: [يا رسول الله! لو أستطيع الجهاد لجاهدت] وكان رجلاً أعمى، فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم: {غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ} [النساء:95] ثلاث كلمات من أجل أصحاب العاهات؛ حتى لا تكون معنوياتهم منخفضة، وإنما: (إن بـ المدينة رجالاً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم).

ثبات الدعاة والعلماء كشيخ الإسلام ابن تيمية

ثبات الدعاة والعلماء كشيخ الإسلام ابن تيمية للعلماء للدعاة للخطباء للمربين دورٌ كبيرٌ في رفع المعنويات، لما قال بنو إسرائيل: {لَنْ نَدْخُلَهَا} [المائدة:24] {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا} [المائدة:24] ماذا قال الرجلان من أولئك: {مِنْ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ} [المائدة:23] اقتحموا والله يأتي بالنتائج وبالنصر، افعلوا ما طلب منكم وما أمرتم به، قاتلوا واقتحموا: {ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:23]. دورٌ عظيم يقوم به العلماء. كان شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: أبو عمر البزار: كان من أشجع الناس وأقواهم قلباً. يا إخوان! لا بد أن نأخذ العبرة من هذا، لا ندري متى تكون مواجهتنا مع العدو، فإذا واجهناهم فلا بد أن يكون هناك في المسلمين من يوقد الحمية في القلوب للقتال, ويكون عنصراً مثبتاً لهؤلاء في المواجهة. كان أثبت الناس جأشاً، ولا أعظم عناءً في جهاد العدو منه، يجاهد في سبيل الله بقلبه ولسانه ويده، ولا يخاف في الله لومة لائم. وأخبر غير واحد أن الشيخ رضي الله عنه كان إذا حضر مع عسكر المسلمين في جهاد يكون بينهم واقيتهم وقطب ثباتهم، إن رأى من بعضهم هلعاً أو رقةً أو جبناً شجعه وثبته وبشره ووعده بالنصر والظفر والغنيمة، وبين له فضل الجهاد والمجاهدين، وإنزال الله عليهم السكينة، كان إذا ركب الخيل يتحنك, ويجول في العدو كأعظم الشجعان, ويثبت ويقوم كأثبت الفرسان, ويكبر تكبيراً أنكى في العدو من كثيرٍ من الفتك بهم، ويخوض فيهم خوض رجل لا يخاف الموت. وحدثوا أنهم رأوا منه في فتح عكة أموراً من الشجاعة يعجز الواصفون عن وصفها، ولقد كان السبب في تملك المسلمين عكة بفعله ومشورته وحسن نظره كما ذكر في الأعلام العلية وقال: ولما ظهر السلطان غازان على دمشق جاءه ملك الكرج وهو ملك كافر معه كفار يطلب من غازان أن يملكه من رقاب المسلمين ليفتك بهم، ووصل الخبر إلى الشيخ؛ فقام من فوره، وشجع المسلمين، ورغبهم في الشهادة، ووعدهم على قيامهم بالنصر والظفر والأمن وزوال الخوف، وانتدب منهم رجالاً من وجوههم وكبرائهم فخرجوا إلى غازان، فلما رآهم السلطان قال: من هؤلاء؟ قيل: إنهم رؤساء دمشق. فأذن لهم، وحضروا بين يديه، ثم تقدم الشيخ أولاً، فلما أن رآه السلطان أوقع الله له في قلبه هيبة عظيمة، حتى أدناه من مجلسه، وأخذ الشيخ في الكلام أولاً في عكس رأيه عن تسليط المخذول ملك الكرج على المسلمين، يريد ألا يوافق على هذا، وأخبره بحرمة دماء المسلمين، وذكره ووعظه، فأجابه إلى ذلك طائعاً، وحقنت بسببه دماء المسلمين، وصين حريمهم. وكان -رحمه الله- لما وقع الخوف في دمشق وقال الناس: لا طاقة لجيش الشام مع هؤلاء المصريين بلقاء التتر لكثرتهم، يعني: لو اجتمعت العساكر المصرية والشامية لن تقف أمام التتر، وأن عليهم الانسحاب، وتحدث الناس بالأراجيف، واجتمع الأمراء يوم الأحد بالميدان، وتحالفوا على لقاء العدو، وشجعوا أنفسهم، ونودي بالبلد ألا يرحل أحد منه، فسكن الناس، وجلس القضاة بالجامع، وحلف جماعة من الفقهاء والعامة على القتال، وحلفوهم عليه، وتوجه الشيخ تقي الدين بن تيمية إلى العسكر الواصل من حماة فاجتمع بهم فأعلمهم بما تحالف عليه الناس من لقاء العدو، فأجابوا إلى ذلك وحلفوا معهم. وكان الشيخ تقي الدين رحمه الله يحلف للأمراء والناس: إنكم في هذه الكرة منصورون، فيقول له الأمراء: قل إن شاء الله، فيقول: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً، وكان يتأول في ذلك أشياء من كتاب الله عز وجل مثل قوله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ} [الحج:60] وهكذا كان يدور على الجيش ويفتيهم، وكانت المعركة في رمضان فيفتي بالفطر مدة قتالهم، ويأكل هو بنفسه أمام الناس أشياء ويقول: أفطروا فالفطر أقوى لكم، ويستدل لهم بحديث النبي صلى الله عليه وسلم. ولما صارت سنة سبعمائة للهجرة، وحصلت الفتنة في دمشق وهرب أكثر الناس من البلد، وجرت خبطة قوية، ووردت الأخبار بقصد التتر بلاد الشام، وأنهم عازمون على دخول مصر أيضاً، انزعج الناس، وازدادوا ضعفاً على ضعفهم، وطاشت عقولهم وألبابهم، وشرع الناس في الهرب إلى بلاد مصر والكرج والشوبك والحصون المنيعة، حتى بلغ ثمن الحمار الذي يوصل إلى مصر خمسمائة دينار، وبيع الجمل بألف دينار والحمار بخمسمائة، وبيعت الأمتعة والثياب بأرخص الأثمان، لأن الناس تبيع متاعها وتهرب من البلد. أما الشيخ تقي الدين بن تيمية فقد جلس بمجلسه في الجامع وحرض الناس على القتال، وساق لهم الآيات والأحاديث الواردة في ذلك، ونهى عن الإسراع في الفرار، ورغب في إنفاق الأموال في الذب عن المسلمين وبلادهم وأموالهم، وأن ما ينفق في أجرة الهرب إذا أنفق في سبيل الله كان خيراً، وأوجب جهاد التتر حتماً، وتابع المجالس في ذلك، كما ذكر ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية. هذا دور العلماء، هذا دور طلبة العلم، إذا جد الجد وحصل الالتحام مهما كان الكفار أكثر عدداً وعدةً فعند ذلك لا بد من نفخ روح الحمية للقتال في الناس والصبر وعدم الهرب.

أثر التوحيد على الثبات في زمن الفرقة

أثر التوحيد على الثبات في زمن الفرقة كانت قدرة المسلمين على التوحد بالرغم من الخلافات التي تكون بين بعضهم في عدد من المواقف هي الأمر الذي كان يرد الكفار. يكتب معاوية إلى ملك الروم الذي أوشك على اقتحام بلاد المسلمين؛ انتهازاً للفرصة بالخلاف بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، فقال له معاوية في رسالته: والله لئن لم تنته وترجع إلى بلادك يا لعين! لأصطلحن أنا وابن عمي عليك، ولأخرجنك من جميع بلادك، ولأضيقن عليك الأرض بما رحبت؛ فعند ذلك خاف ملك الروم وانكف، وبعث يطلب الهدنة. هكذا كان التوحد في زمن الفرقة عاملاً مهماً من عوامل الثبات، فـ المعتمد بن عباد يرسل إلى يوسف بن تاشفين: أيها السلطان! ناشدتك الله إن سقطت إشبيليا لم يبق للإسلام في تلك الجزيرة في الأندلس اسم ولا رسم؛ فالحق بنا وأنقذنا. يقول له وزيره وهو يكتب الرسالة: أيها السلطان! كيف ترسل إلى يوسف بن تاشفين فغداً إذا جاء وانتصر وصار الملك، تصير أنت عنده أجيراً، أترضى بذلك وأنت السلطان؟! فنظر المعتمد بن عباد إليه وقال له: يا هذا! أنت وزيري تنصحني بما يملأني وزراً، والذي نفسي بيده لأن أكون راعياً للجمال عند مسلم اسمه يوسف بن تاشفين خير من أن أرعى الخنازير للفونسو غداً. وهكذا يكون التفاؤل أيضاً باعثاً على رفع المعنويات.

حسن الظن بالله

حسن الظن بالله {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} [الحج:15] الذي يقول: إن الله لا ينصر المسلمين؛ يأخذ حبلاً يعلقه في السقف -في سماء الغرفة- ويربطه حول عنقه ويشنق نفسه. إذاً فالله ينصر المؤمنين، وقد توعد بنصرهم، وأخبر أن نصره قريب، وأن نصره ينزل عليهم، إذا رجعوا إليه سبحانه. لماذا كان التفاؤل من السنة؟! لماذا كان عليه الصلاة والسلام يتفاءل بالاسم الحسن؟! إن التفاؤل يشحذ الهمم للعمل، ويغذي القلب بالطمأنينة والأمل، ولا شك أن هذا من أهم عوامل النجاح, لما يقبل الإنسان على القيام بعمل ما وهو متفائل، النتيجة تختلف تماماً عما إذا قام يعمل وهو متشائم. ووسط هذا الظلام الدامس الذي يعيش فيه المسلمون اليوم يلتفتون يمنة ويسرة، وتثور في النفوس تساؤلات كثيرة: أما آن لهذا الليل أن ينجلي، ولهذه الغمامة أن تنقشع؟ متى يأتي نصر الله؟ {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214]. وإذا تأملت ما يكون من أنواع النصر من الله لوجدت شيئاً عجيباً! فقد نصر رسله: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر:10] فنصره الله، وهكذا انتقم من المكذبين ولو بعد حين. الله عز وجل قد يمكن للكفار مدة من الزمن، لكن بعد ذلك لا بد أن ينكسروا. والذين حاولوا قتل عيسى وصلبه انتقم الله منهم بتسليط الروم عليهم فساموهم أشد العذاب. عندما ترى صور انتصار الموحدين انتصار المبدأ انتصار المنهج كما في قصة الغلام مع الملك في أصحاب الأخدود، كان ثبات المؤمنين إلى النهاية هو نصر بحد ذاته. إبراهيم يقذف في النار وهو يقول: حسبي الله ونعم الوكيل. هذا قمة الانتصار. بلال عندما كان تحت الصخرة يقول: [أحدٌ أحدْ] ولا يتراجع. هذا انتصار. آل ياسر عندما يصبرون على الرمضاء. انتصار. الإمام أحمد عندما يصبر على القول: بأن القرآن كلام الله. ولا يجيب إلى القول بخلقه، مع كون الحديد في رجليه، والضرب الشديد الذي يقول فيه السلطان للجندي: اضرب، شدّ يدك قطع الله يدك. ومع ذلك يصبر، هذا انتصار؛ لأن الحق عند الناس في المجتمع ظاهر لم ينهزم، لم يرضخ فلان، لم يسكت فلان، لم يتراجع فلان عن مبدئه، هذا انتصار، انتصار الحجة مهم جداً: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [الأنعام:83]. لما قال إبراهيم للنمرود: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة:258] هذا انتصار، ولو كان النمرود عنده الجنود والسلاح والسلطان والهيلمان. هذا انتصار. لا بد أن نعرف معنى الانتصار الشرعي، وليس فقط أنه انتصار السلاح.

مبشرات للأمة وأسباب هلاك الأعداء

مبشرات للأمة وأسباب هلاك الأعداء هناك مبشرات كثيرة للأمة بأن الله لا يمكن أن يبقي الكفار في تمكين وإلا تفسد الأرض، لكن مداولة للأيام بين الناس. وهكذا نقول اليوم لأنفسنا: متى تنكسر شوكة هؤلاء اليهود والصليبين؟!

غطرسة الأمم الكافرة

غطرسة الأمم الكافرة إنهم ينفقون الأموال الطائلة والمخططات: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال:36] هل الغلبة ستكون في الدنيا، أو في الآخرة فقط؟ {فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [آل عمران:56] لقد استوفت الأمة الظالمة اليوم المستكبرة في الأرض أسباب الهلاك، لقد ادعوا دعاوى الألوهية، وتغطرسوا كثيراً، ومارسوا طريقة فرعون: {أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى} [النازعات:24] ولكن ماذا كانت نتيجة فرعون؟ {وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} [الأعراف:137]. تألوا على الله، وزعموا أنه أخرجهم لقيادة العالم، وكذبوا على الله، وزعموا أنه اختارهم ليخلصوا البشرية ويقودوها في مطلع القرن الحادي والعشرين، وقالوا: فليباركنا الرب. وألف فوكوياما كتابه نهاية التاريخ مغروراً يعني: أن هذه الأمة عندهم (الكفرة) وصلت إلى القمة وليس هناك بعدها شيء. هذه هي النهاية، والسيطرة، والتمكين، والغلبة لهم، (نهاية التاريخ) بكل غرور قالوها، فلذلك حققوا عدداً من أسباب الهلاك والله يقصم ظهور هؤلاء ولا بد.

كثرة الذنوب والمعاصي عند الغرب الكافر

كثرة الذنوب والمعاصي عند الغرب الكافر ومن أسباب ذلك: الذنوب والمعاصي. لقد صاروا قادة العالم في الموبقات، والجنس والقذارة، وأنواع الفواحش، والآراء الضالة التي فرضوها، والسياسة والاقتصاد والثقافة، وعالم السينما والإعلان، وغير ذلك، والله عز وجل يأخذ المذنبين، ألم يقل: {فَأَخَذَهُمْ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران:11]؟ هذه الأمة الغربية التي صالت وجالت في العالم, قال عز وجل عن قوم لوط: {وَمَا هِيَ مِنْ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:83] فهو يهلك الظلمة، كفروا النعمة، جحدوها، استعملوها في الطغيان، والله عز وجل قال: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} [القصص:58]. ألم يقعوا في الترف والإسراف في المآكل والمشارب والمساكن والمراكب والأثاث وصناعة الترفيه والسياحة والرياضة والأفلام؟! إن ذلك مؤذنٌ بتدمير دولتهم. ألم يقل الله: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} [الإسراء:16]؟! ألم يغتروا بقوتهم ويقولوا كما قالت عاد: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت:15]؟ ماذا فعل الله بعاد؟! {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [فصلت:16]. هذه الأمة الغربية المجرمة اليوم بيت الجريمة في العالم فيها وتصدره لغيرها، أجرموا، وسفكوا الدماء، وقتلوا الأبرياء، ودنسوا حرمات المساكين، وهؤلاء الأطفال الذين يموتون من جرَّاء جرائمهم، الله عز وجل وعد بأنه سيجزي القوم المجرمين وأنه سيهلكهم، وسنته ماضية: {فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنْ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [البقرة:59] إن الله لا يصلح عمل هؤلاء؛ لأنهم مفسدون: {إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:81]. أليسوا أصحاب مكر، وحيل، وخداع، وخطط، ودهاء، وأساليب، سيناريوهات وإخراجات لضرب أهل الإسلام؟! يتشدقون اليوم، ويتبجحون ويقولون: سنحتل وننصب منا رجلاً، هؤلاء لا شك أن مكرهم سيكون دماراً عليهم، والدليل قوله تعالى: {اسْتِكْبَاراً فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ} [فاطر:43] ينتظرون {إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} [فاطر:43] {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} [النمل:50 - 51] هؤلاء كل أسباب إهلاك القرى في القرآن اجتمعت في هذه الأمة الملعونة، فماذا ينتظرون إلا أن يأتي أجلهم: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34].

شهادة أعدائنا بتفوق هذا الدين

شهادة أعدائنا بتفوق هذا الدين ولنعلم بأن مما يرفع نفوسنا، ويقوي هممنا، ويشحذ عزائمنا؛ أن هؤلاء الكفرة بأنفسهم قد شهدوا لنا بالتفوق، ولديننا بالعلو، يقول لورنس براون: إن الإسلام هو الجدار الوحيد في وجه الاستعمار الأوروبي. ويقول جلادستون: ما دام هذا القرآن موجوداً في أيدي المسلمين, فلن تستطيع أوروبا السيطرة على المشرق. قال الشيوعيون وهم في سدة الحكم: من المستحيل تثبيت الشيوعية قبل سحق الإسلام نهائياً. أشعايا بومن في مقالٍ نشره قال: لم يتفق قط أن شعباً مسيحياً دخل في الإسلام ثم عاد نصرانياً. بن جوريون اليهودي يقول: إن أخشى ما نخشاه أن يظهر في العالم العربي محمد جديد. ونحن نعرف أن محمداً عليه الصلاة والسلام آخر الأنبياء، لكنه يقصد قائداً جديداً. وهكذا يقول إرل بورجر الكاتب الصهيوني: إن المبدأ الذي قام عليه وجود إسرائيل منذ البداية هو أن العرب لا بد أن يبادروا ذات يوم إلى التعاون معها، ولكي يصبح هذا التعاون ممكناً, فيجب القضاء على جميع العناصر التي تغذي شعور العداء ضد إسرائيل في العالم العربي وهي عناصر رجعية، تتمثل في رجال الدين والمشايخ. وهكذا يقول إسحاق رابين: إن مشكلة الشعب اليهودي هي أن الدين الإسلامي ما زال في دور العدوان والتوسع، وليس مستعداً للمواجهة، وأن وقتاً طويلاً سيمضي قبل أن يترك الإسلام سيفه. وقد مات وهلك والإسلام لن يترك سيفه. يقول براون: كان قادتنا يخوفوننا بشعوبٍ مختلفة، لكننا بعد الاختبار لم نجد مبرراً لمثل تلك المخاوف، خوفونا بـ اليابان الأصفر، والخطر البلشفي، وإلى آخره! وتبين لنا أن هؤلاء حلفاؤنا وهؤلاء أصدقاؤنا وهؤلاء! لكننا وجدنا أن الخطر الحقيقي علينا موجود في الإسلام, وفي قدرته على التوسع والإخضاع، وفي حيويته المدهشة! هانوتر الفرنسي يقول: لا يوجد مكان على سطح الأرض إلا واجتاز الإسلام حدوده وانتشر فيه، فهو الدين الوحيد الذي يميل الناس إلى اعتناقه بشدة تفوق كل دين آخر. ألبرن شاذر يقول: من يدري ربما يعود اليوم الذي تصبح فيه بلاد الغرب مهددة بالمسلمين، يهبطون إليها من السماء لغزو العالم مرة ثانية، وفي الوقت المناسب، يقول: لست متنبئاً لكن الأمارات الدالة على هذه الاحتمالات كثيرة، ولن تقوى الذرة ولا الصواريخ على وقف تيارها، إن المسلم قد استيقظ، وأخذ يصرخ: هأنذا، إنني لم أمت، ولن أقبل بعد اليوم أن أكون أداةً تسيرها العواصم الكبرى. ويقول أشعايا بومن أيضاً: إن شيئاً من الخوف يجب أن يسيطر على العالم الغربي من الإسلام, لهذا الخوف أسباب: منها: أن الإسلام منذ ظهر بـ مكة لم يضعف عددياً، بل إن أتباعه يزدادون باستمرار. من أسباب الخوف: أن هذا الدين من أركانه الجهاد. هكذا قال في مقالة نشرها في مجلة العالم الإسلامي التبشير والاستعمار. أنطوني ناتنج يقول في كتابه العرب: منذ أن جمع محمد -صلى الله عليه وسلم- أنصاره في مطلع القرن السابع الميلادي وبدأ أول خطوات الانتشار الإسلامي, فإن على الغرب أن يحسب حساب الإسلام كقوة دائمة صلبة تواجهنا عبر المتوسط. يقول سالازار في مؤتمر صحفي: إن الخطر الحقيقي على حضارتنا هو الذي يمكن أن يحدثه المسلمون حين يغيرون نظام العالم. ويقول آخر: إن العالم الإسلامي عملاق مقيد، عملاق لم يكتشف نفسه حتى الآن اكتشافاً تاماً، فهو حائر وقلق وكاره لانحطاطه وتخلفه، وراغب رغبة يخالطها الكسل والفوضى في مستقبل أحسن وحرية أوفر. وهكذا يقول مورو برجر: إن الإسلام يفزعنا عندما نراه ينتشر بيسر في القارة الأفريقية. ويقول هانوتو: رغم انتصارنا على أمة الإسلام وقهرها, فإن الخطر لا يزال موجوداً في انتفاض المقهورين الذين أتعبتهم النكبات التي أنزلناها بهم؛ لأن همتهم لم تخمد بعد. ويقول: مرمديوك باكتل: إن المسلمين يمكن أن ينشروا حضارتهم في العالم الآن بنفس السرعة التي نشروها بها سابقاً بشرط: أن يعودوا إلى الأخلاق التي كانوا عليها حين قاموا بدورهم الأول؛ لأن هذا العالم الخاوي لا يستطيع الصمود أمام روح حضارتهم. وهكذا يقولون: إنه إذا وجد القائد المناسب الذي يتكلم الكلام المناسب عن الإسلام فإن من الممكن لهذا الدين أن يظهر قوةً عظمى في العالم مرةً أخرى. ويقول جب: إن الحركات الإسلامية تتطور عادةً بصورةٍ مذهلة تدعو إلى الدهشة! تنفجر انفجاراً مفاجئاً قبل أن يتبين المراقبون من أماراتها ليدعوهم إلى الاستراب في أمرها، فهذه لا ينقصها إلا ظهور صلاح الدين جديد.

دراسات غربية تدل على قوة انتشار الإسلام والمسلمين

دراسات غربية تدل على قوة انتشار الإسلام والمسلمين هناك أشياء كثيرة درسوها هم وتبينت لهم تدل على قوة المسلمين القادمة. فمن الدراسات التي أعدت شارلز ويليم أنه في دراسته بعنوان الشرق الأوسط في القرن الواحد والعشرين لمعهد الشرق الأوسط بـ واشنطن، ويهيمن عليه اليهود ويؤثر في توجيه سياسات القوم هناك: كان المسلمون يشكلون في عام (1980م) حوالي (18%) من سكان العالم، وبحلول نهاية الربع الأول من القرن القادم من المتوقع أن يشكلوا أكثر من (30%) وفي الشرق الأوسط نفسه من المتوقع أن يستمر هذا المعدل السريع في النمو، وهكذا فإن مصر من المتوقع أن تصعد من مستوى سكان أقل من سبعين مليون نسمة اليوم إلى قرابة مائة وعشرين مليوناً بحلول منتصف القرن القادم، ومن المتوقع أن تزيد السعودية ثلاثة أضعاف في حجم السكان, فتزيد من واحد وعشرين مليوناً إلى واحد وستين مليون نسمة، وسوف تصبح سوريا قوة سكانية كبرى حيث سيصل سكانها إلى خمسين مليوناً تقريباً عام (2050م) إن هذه التحولات الديموجرافية السكانية المهمة ستبدل تاريخ المنطقة. وفي كثير من تلك الدول هناك ملمح مميز للسكان وهو: تضخم أعداد الشباب الذين يشكلون بحماستهم ضغوطاً شديدة. ويواصل كاتب الدراسة التركيز على زيادة شريحة الشباب في الدول الإسلامية التي تشكل مزيداً في قوة المسلمين المستقبلية. وهذا صمويل هنتكتن الذي يقول في كتابه صدام الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي: بأن الشباب في الثقافات الإسلامية يتسمون بعنف زائد في نوعه. وهكذا فإنه من غير المطمئن ما سيجده هؤلاء من التضخم في عدد الشباب في العشرين سنة الأولى من القرن القادم. وإذا أضفنا إلى ذلك انتشار الإسلام في بلادهم، وتمعنا ماذا سينتج عن ذلك؟ وماذا يمكن أن يكون الوضع في المستقبل؟ إنه أمر مخيف لهم أيضاً! فيقولون بأن الإحصائيات في عام (1970م) كان عدد المسلمين في أمريكا خمسمائة ألف, أي: نصف مليون فقط، الآن قرابة تسعة ملايين مسلم، بل إن عددهم يفوق عدد اليهود الأمريكيين وهم في زيادة. ثم يرصدون أنه بعد (11 سبتمبر) تضاعف عدد الداخلين في الإسلام ثلاثة أضعاف من أهل البلاد الأصليين، وهذا يعني بأن الناس هناك يريدون التعرف على الإسلام والقراءة عنه، هناك دهشة لما يحصل في بوسطن كان يوجد فقط في عام (1982م) مسجد واحد فقط، يوجد الآن في بوسطن (30) جامعاً تصلى فيه صلاة الجمعة، ومصليات في مستشفيات هناك، وفي ثانويتين توجد مصليات، قضايا الحجاب ترفع بعضها فيكسبها أهلها المسلمون, وبعضها لا يكسبونها، لكنها تنبئ عن تحدٍ واستمرار على الدين وتمسك به. يقول أحد خبرائهم: أحد إغراءات الإسلام أن أخلاقهم صارمة، الكثير من الناس الذين يعيشون حياة الفسق يريدون تغيير حياتهم, لكنهم يحتاجون للمساعدة، ثم يجدون المساعدة في دين الإسلام. واضطرت هيلاري كلينتون إلى الاعتراف بأن الإسلام هو الأسرع انتشاراً في أمريكا، وبدأ المسلمون يتحركون بشكل إيجابي في بعض النواحي، ومما يؤكد على قضية الإغراء الخاص لهذا الدين بما ينتزعه من عدد من الناس من الطبقة الوسطى ويصهر الأعراق في بعضها، في المساجد أكثر من ثمانين ألفاً من المسلمين الأمريكيين هم من أصول أوروبية.

انتشار الكتب الإسلامية ونسخ ترجمة القرآن

انتشار الكتب الإسلامية ونُسخ ترجمة القرآن وهكذا إذا وجدنا أيضاً من الأمور أنه قد حصل إقبال كبير بعد الأحداث الأخيرة على تفسير القرآن الكريم، ويقدر بعض الخبراء في أمريكا أن الذين يعتنقون الإسلام سنوياً فيها خمسة وعشرون ألف شخص، وأن معدلات اعتناق الإسلام تضاعفت أربع مرات بعد الأحداث الأخيرة؛ ويعود ذلك إلى سعة انتشار الكتب الإسلامية، ونسخ القرآن الكريم المترجمة (ترجمة المعاني) وتزايد الإقبال على شرائه في المكتبات، معارض كتب تنتهي فيها الكتب الإسلامية، تنتهي فيها ترجمات معاني القرآن العظيم، وصارت الكتب الإسلامية تحتل مكانة في قائمة الكتب العشرة الأكثر مبيعاً لدى شركة بيع الكتب عبر الإنترنت: amazon. com ثم تجد بعد ذلك الإقبال على مواقع الإنترنت الإسلامية من قبل الكفار أنفسهم، والإقبال على المواقع الإسلامية بالملايين سنوياً. وهكذا صار الإسلام هو الدين الأسرع نمواً لديهم، ونجد إقبالاً من الغربيين على القراءة في كتب الإسلام، والمكتبات أعلنت أنه نفدت عندها النسخ من بعض الكتب الإسلامية، وتقول مديرة إحدى المكتبات في فرنسا: إننا نشهد حالياً بروز جمهور فرنسي جديد تماماً علينا، يبدي اهتماماً خاصاً بشراء ترجمات القرآن الكريم باللغة الفرنسية، ويقبل بكثرة على الكتب المبسطة من نوع: اكتشف الإسلام، أو ما هو الإسلام؟ أو تاريخ الإسلام. المواطنون الألمان في الجهة الأخرى فضلوا ألا يكونوا بدورهم أسرى لأجهزة الإعلام -بعضهم على الأقل- ونفدت في مكتبة بوفيث في بون الكتب الإسلامية عندما أقبل عليها الناس وانتشرت ثلاثة أضعاف عن الأيام العادية، وصار من الكتب المرغوبة جداً تفاسير القرآن الكريم باللغة الألمانية، وما يتعلق بالحياة اليومية للمسلم، وما يخص المرأة والعائلة والحياة في الإسلام. وعشرات من المواطنين يتصلون يومياً بالمراكز الإسلامية ويطرحون أسئلة واستفسارات، ويتصلون على مواقع الإنترنت ليسألوا عن أشياء عن الإسلام. مدارس ابتدائية ومتوسطة في بعض الولايات المتحدة تطلب من بعض الطلاب العرب الموجودين في الجامعات هناك أن يأتوا ويتكلموا ساعة عن الإسلام. وهكذا اعترافات المحللين الغربيين، والمؤرخين المستشرقين، بأن المستقبل لهذا الدين، وأن طبيعته في الانتشار عجيبة.

انتصار الإسلام في كافة المواجهات العقدية

انتصار الإسلام في كافة المواجهات العقدية ثم نلاحظ أيضاً انتصار الإسلام في كافة المواجهات العقدية كما حصل بين ديدات وسوقر على سبيل المثال، ليس هناك منازلة دخلها عالم مسلم، أو فقيه مسلم، أو طالب علم متمكن، أو داعية متمكن إلا هزم الذي أمامه، مهما كان من القوة والخبرة والسن والإمكانات والبلاغة إلى آخره، لا توجد معركة حجة وبيان دخلها مسلم متمكن إلا وانتصر فيها، فما معنى ذلك؟!! ثم إن هناك مطالبة بالزي الإسلامي، والذبح الحلال، وانتشار الحجاب، واسترجاع الهويات الإسلامية، حتى من أناس قد كانوا ضاعوا هناك، ترتفع شعبيات إذاعات القرآن الكريم، إقبال في مواسم الطاعة عجيب، امتلاء المساجد، الإسلام دين الفطرة، إنه لأمر غريب جداً أن تقبل أبعد النساء عن الدين إلى التوبة مثل الفنانات والممثلات! إنه شيء غريب فعلاً، هذا التحول الكبير! حتى صار يخشى على حلبات الفن ألا يوجد فيها أحد يمثل أو يغني، ولا بد من دفع أناس جدد كثيرين كما تقتضي الخطة العفنة لسد فراغ الفنانات التائبات والمغنيات. وتناقش قضية حجاب المذيعات في القنوات، وتضطر القنوات الفضائية إلى استضافة مزيد من المشايخ، وفتح مزيد من البرامج عن الإسلام.

اعتراف الأعداء بصحة الأحكام الإسلامية

اعتراف الأعداء بصحة الأحكام الإسلامية نجد كذلك من الأشياء التي ترفع معنوياتنا وتعطينا الثقة أكثر: أنهم يعترفون من خلال أبحاثهم وكتاباتهم بصحة أحكام الشريعة الإسلامية، حتى إن جوستاف لوبون يقول: إن مبدأ تعدد الزوجات الشرقي نظام طيب يرفع المستوى الأخلاقي في الأمم، ويزيد الأسر ارتباطاً، لا تعدم امرأة من الأمم التي تجيز تعدد الزوجات زوجاً يتكفل بشئونها، والمتزوجات عندنا -هو يقول- نفر قليل وغيرهن لا يحصين عدداً، تراهن بغير كفيل بين بكر من الطبقات العليا قد شاخت وهي هائمة متحسرة، ومخلوقات ضعيفة من الطبقات السفلى يتجشمن المشاق، ويتحملن مشاق الأعمال، وربما ابتذلن فيعشن تعيسات متلبسات بالخزي والعار، قد سفك دم شرفهن على مذبحة الزواج الذي لا يحصل. اعترفوا حتى بالأشياء التي حرمت عندنا في شريعتنا ونسخت كل الشرائع: أن لحم الخنزير ضار؛ لاحتوائه على البوليك بشكل مكثف، وأنه عسير الهضم، وأن من كل مائة رطل من لحم الخنزير يوجد خمسون رطلاً من الدهن، بينما في الضأن (17%) وفي العجول (5%) وثبت بالتحليل احتوائه على نسب كبيرة من الأحماض الدهنية المعقدة، ومن الكليسترول الضار أيضاً. اعترفوا بمنافع السواك، اعترفوا أن الوضوء والاستنشاق حلٌ لقضية التهاب الجيوب الأنفية، وأن الوضوء يقي من الأمراض الجلدية، وأن الصوم فيه صحة، وأن كثرة تعرض جسد المرأة للشمس وانكشافه للجو يزيد نسبة سرطان الجلد عندها، وهناك كتب عندهم: التداوي بالصيام لـ شلتن، الصوم الطبي النظام الغذائي الأمثل ألن كوت، هناك لوحة كبيرة في مستشفى ألماني مكتوب باللغة الألمانية: (ما ملأ ابن آدم وعاءً شراً من بطنه، فإن كان لا بد فاعلٌ فثلثٌ لطعامه، وثلثٌ لشرابه، وثلثٌ لنفسه) بعد قوله: (بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه). وهكذا اكتشفوا بأن الاختلاط ضار، وأن منع الاختلاط هو الصحيح، وتبنى الرئيس الأمريكي قرار البروفيسور إميليو إفانيو رجل القانون المتخصص في النظام التربوي في أمريكا بالدراسات العديدة التي تؤكد أن الفصل بين الجنسين في المجال الدراسي يساعد على اجتياز الفتيات والفتيان بصورة أفضل، وأن الأولاد يفضلون الدراسة في الفصول غير المختلطة، وكذلك الفتيات يفضلن هذا الأمر؛ حتى لا يضطررن إلى التزين قبل الذهاب إلى المدرسة؛ لأنه يضيع وقتهن، ويعرقل تقدمهن الدراسي. وهكذا قامت كليات ومدارس مدعومة من قبل الحكومة لديهم على أساس الفصل بين الجنسين؛ لأنه ثبت لديهم أنه يعطي نتائج أفضل في المستوى التعليمي للذكور والإناث.

فزع الكفار ورعبهم من أبناء المسلمين

فزع الكفار ورعبهم من أبناء المسلمين ثم ماذا نجد بعد ذلك من إقبال على الشريط الإسلامي، والكتاب الإسلامي، والمدارس الإسلامية. إن هذه القضية أيها الإخوة توضح لدينا بجلاء بأن الإسلام قادم وقادم بقوة، وعندما نجد حتى حوادث لدى الضعفاء المساكين من المسلمين في فلسطين ضد اليهود تضحك جداً. وعندما يقوم واحد من المسلمين بقتل عشرة من اليهود كل واحد برصاصة، ويجرح خمسة وهو واحد ببندقية قديمة، حتى قالوا: إنها فضيحة كبيرة للمؤسسة العسكرية الإسرائيلية. وأعلنت وزارة الدفاع الإسرائيلية أنها ستعترف بمرض جندي إسرائيلي قال إنه أصيب صحياً خلال خدمته العسكرية, عندما تعرض لصدمة نفسية؛ بسبب حمار فلسطيني -طبعاً الحمير لها جنسيات- وكان الجندي قد تولى مهمة حراسة خلال نشاط الوحدة العسكرية التي يخدم فيها، وهي وحدة مختارة من شعبة الاستخبارات في أغسطس عام (1999م). يقول الجندي اليهودي: في ساعة متأخرة من الليل أنه سمع صوتاً فاشتبه في الأمر واعتقد أن فدائيين فلسطينيين اكتشفوا وجوده فقال: انخفضت دقات قلبي، وشعرت أنني جمدت في مكاني دقائق طويلة، واتضح فيما بعد أن الصوت صادر عن حمار فار من الحظيرة التي أعدها له صاحبها الفلسطيني، ولكنه كان مخيفاً -كما يقول الجندي اليهودي، لا أدري كيف شكل هذا الحمار- ويضيف: ومنذ ذلك الحين وأنا أشعر بجفاف في لساني وفمي وبحاجة دائمة للشرب، فتوجهت إلى طبيب فقال: إنني مصاب بالسكري، وعند تسريحه من الجيش توجه الجندي إلى السلطات العسكرية طالباً الاعتراف به كمعوق أمني، لكن الوزارة رفضت ذلك وقالت: إنه لا علاقة له بمرض السكري، فاعترض وقدم إثباتات على أن السكري ينجم أيضاً عن حالات خوفٍ شديد أو غضب، وتوجه إلى المحكمة طالباً هذا الاعتراف وما ينجم عن ذلك من تعويضات مالية وحقوق أخرى، وعندما شعر ممثل النيابة العسكرية أن المحكمة تميل لقبول الدعوى, أعلن انسحابه وتعهد بالاعتراف بأن الجندي معوق أمنياً ودفع كامل حقوقه له. والقصة نشرتها وكالات الأنباء أيضاً. وقريباً قبل أيام نشر الخبر التالي: أثناء التوغل الإسرائيلي أمس في قطاع غزة، قفز الجنود الإسرائيليون فجأةً وأخذوا يترجلون من سياراتهم ويشهرون السلاح في وجوه المواطنين، ويجبرونهم على الرجوع إلى الخلف، فيما قام جنود آخرون بتمشيط المكان، والاستعانة بخبراء المتفجرات إثر سقوط بعض المواد من سيارة فلسطينية، وبعد قضاء عدة ساعات من عمليات التمشيط والتفتيش تبين أنها حزمة سبانخ وليست أية مواد متفجرة، وكان المزارع أبو فتحي من سكان خان يونس قد اعتاد في ساعات الصباح الأولى أن يحمل كمية كبيرة من السبانخ لبيعها في سوق دير البلح، ونظراً لصعوبة الطريق وكثرة الاهتزازات وقعت حزمة سبانخ على الأرض إثر ارتطام سيارته بأخرى على مدخل حاجز المطاحن، وتحديداً بجوار الجدار الإسمنتي الموجود في منتصف شارع صلاح الدين. الجيش اليهودي يعيش حالة رعب وفزع كثيرة إثر عمليات المقاومة الفلسطينية. إذاً: رعب أعدائنا منا رعب! الرعب هذا يعني: (نصرت بالرعب) وهو للأمة عموماً وليس خاصاً بزمن النبي عليه الصلاة والسلام فقط كما ذكر العلماء، إنهم يعيشون والله العظيم رعباً من المسلمين. وإذا رأوا واحداً أراد أن يأخذ شنطته في الطائرة تقافزوا نحوه. رعب كبير يعيشونه، فما معنى ذلك؟!!

مصير الإسلام ليس مربوطا برجال معينين

مصير الإسلام ليس مربوطاً برجال معينين إن الإسلام كالشمس إن غربت في جهة طلعت من جهة أخرى، فلا تزال طالعة، وإن مات فرد من أفراده أقام الله من المسلمين من يجبر النقص ويسد الثغرة: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:8]. إن هذه الأمة قادرة بإذن الله على تعويض النقص الذي يطرأ عليها، ولقد تبدلت أحوال وبقيت هذه الأمة، لو أن أمةً أخرى شنت عليها الغارات التي شنت على هذه الأمة لاندثرت منذ زمن بعيد، ومع ذلك فإن مصير الإسلام غير مربوط برجال أو أفراد معينين، ولا جماعات معينة، إنه دين أنزله الله ليبقى لا ليندثر ولا لينمحي، وقد يموت شخص فتحيا أمة: إذا مات فينا سيد قام سيد قئول لما قال الكرام فعول إن هذه الأمة معطاءة ولود, إذا سكت منها صوت خلفه أصوات، وإذا مات خطيب خلفه خطباء، وإذا استشهد مجاهدٌ خلفه من يحمل الراية ويهاجم الأعداء، وهذا وعد الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها) حديث صحيح، يحيي ما اندرس من الدين ويعيده صافياً نقياً. وقال عليه الصلاة مبيناً أن الله يجعل في الأجيال من يقوم بالدين: (لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرساً يستعملهم في طاعته) رواه الإمام أحمد، وهو حديث صحيح. (لا يزال) إذن هناك توالي في العملية، وهناك شباب قادمون وأجيال ستأتي، غرس يغرسه الله عز وجل: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] الطائفة المنصورة منصورة باقية لا تهزم: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله) إنها أمة عجيبة مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره، كله نافع للزرع، المطر المتقدم والمطر المتأخر، نعم. إن المتقدم كالصحابة والسلف أهمَّ، لكن المتأخر مفيد أيضاً، ومن المعلوم أن الله يعلم أيهما خير، ولكن في آخر الأمة هناك أناس يقاربون في الفضل وإن لم يصلوا إلى ذلك الفضل. وإذا نظرنا في شواهد التاريخ، أتى الصليبيون بلاد المسلمين في القرن الخامس، احتلوا أكثر مدن الشام أكثر من مائتي عام، وسقطت القدس في أيديهم (92) سنة، وقتلوا فيها تسعين ألفاً من المسلمين، وشابت الولدان من أهوال جرائمهم، ولكن رجعت مرةً أخرى إلى المسلمين، وقام نور الدين محمود الملك العادل ليث الإسلام، وحامل رايتي العدل والجهاد، أظهر السنة وقمع أهل البدعة، شجاع وافر الهيبة، فقاد الجموع، انتزع من الكفار نيفاً وخمسين مدينةً وحصناً، قال: لما التقينا بالعدو خفت على الإسلام فانفردت ونزلت ومرغت وجهي على التراب وقلت: يا سيدي! -يخاطب الله عز وجل- من محمود؟! الدين دينك والجند جندك، وهذا اليوم افعل ما يليق بكرمك، قال: فنصرنا الله عليهم. قال الفقيه الشافعي النيسابوري يوماً: بالله لا تخاطر بنفسك، فإنك لو قتلت قتل جميع من معك، وأخذت البلاد، وفسد حال المسلمين. قال: اسكت يا قطب الدين! إن قولك إساءة أدب على الله، ومن هو محمود؟! من كان يحفظ الدين والبلاد قبلي غير الذي لا إله إلا هو؟! ومن هو محمود؟! فبكى من كان حاضراً رحمه الله. ثم مرت الأمة بشدة أعظم وأدهى وأمر، عندما اكتسحها في أوائل القرن السابع التتر وفعلوا ما لا يصفه قلم، ملايين القتلى، ومع ذلك كما تقدم انتصر المسلمون، ورجعت القوة لأهل الإسلام مرة أخرى، وعقر جواد قطز في المعركة وبقي ثابتاً راجلاً والقتال دائر، ولامه من معه: لم لا تركب فرس فلان؟ فلو أن بعض الأعداء قتلك هلك الإسلام. قال: أما أنا فكنت أروح إلى الجنة إن شاء الله، وأما الإسلام فله رب لا يضيعه ولن يضيع الإسلام. وهكذا حمل الراية الظاهر بيبرس وغيره، وجاء الأشرف خليل ليقضي على آخر إمارة للصليبيين في عكا سنة (690) للهجرة ويخرجهم منها، صمد الإسلام أمام أعنف الضربات وأقساها وحشية، ولكن بعث الإسلام وطلائعه كانت تأتي حيناً بعد حين، ولا زال الله يقيض لهذه الأمة من يقوم بأمره سبحانه وتعالى. هذه أمة عظيمة، أليست هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس؟! أليست هذه الأمة أمة مرحومة؟! أليست هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة؟! أليست هذه الأمة محفوظة بحفظ الله لا تهلك بغرقٍ عام، ولا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستأصلهم عن آخرهم؟! أليست هذه الأمة من أول الأمم دخولاً الجنة؟! ألسنا الآخرين السابقين يوم القيامة، الآخرون زماناً السابقون يوم القيامة؟! ألسنا فضلنا بيوم الجمعة، والتأمين خلف الإمام، والتحية بالسلام، وأن صفوفنا على صفوف الملائكة؟! ألسنا ثلثي أهل الجنة؟! أليس يبعث الله على كل رأس مائة سنة واحداً منا يجدد لنا الدين، أو جماعة يجددون الدين يعدهم بالنصر والتمكين؟! أليس الوعد من النبي عليه الصلاة والسلام حاصلاً: (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدرٍ ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين, بعز عزيزٍ أو بذل ذليلٍ، عزاً يعز الله به الإسلام وذلاً يذل به الكفر) (بشر هذه الأمة بالسناء والتمكين والرفعة)؟! إذاً: لا يمكن أن تجتث ولا أن تهزم، ولو ضربوها بالقنابل الذرية والنووية، ولو مسحوا مدناً وأبادوا أهلها، ولو هجَّروا أهل فلسطين منها كما يريدون في مخططهم الجديد المزعوم. فإن الله تعالى سيقيض من هذه الأمة من يهزمهم حتماً، ومن يموت على نية حسنة يموت شهيداً ويذهب إلى جنةٍ عرضها السماوات والأرض، ومن يبقى وهو ملازم لأمر الله سبحانه وتعالى؛ فإنه يعيش كبيراً ويموت كبيراً لأجل عظم الغاية التي يعيش من أجلها. أيها الإخوة! إن هذه الكلمات هي لرفع المعنويات والإثبات بالأدلة الشرعية، وبالواقع العملي أن الإسلام هو القوة القادمة، وأن النصر له لا شك ولا ريب. وفي هذا العالم الذي نعيش فيه اليوم في الظلمات والظلم, يصاب الكثيرون باليأس والإحباط فنقول لهم: كلا كلا. لكن لا يجوز الاتكال على الشرف، ونقول: سننصر بدون سبب، فلا بد من العمل: (اعملوا فكلٌ ميسر لما خلق له) اعملوا: {وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد:35]. أيها الإخوة والأخوات! نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرد المسلمين إليه رداً جميلاً، وأن يجعلنا من عباده المتقين الذين يقولون الحق وبه يعدلون، وأن يجعلنا ممن نصر بهم دينه، إنه سميع مجيب. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

إغلاق منافذ الشر

إغلاق منافذ الشر باب سد الذرائع له أهمية في الشريعة الإسلامية، والكتاب والسنة مليئان بالأدلة التي توضح أهمية هذا الباب، وقد ذكر الشيخ عدة أدلة من الكتاب والسنة على ذلك، كما تحدث عن كثير من القضايا في باب سد الذرائع، وأتى أيضاً بعدة فتاوى للعلماء المعاصرين تدخل تحت هذا الباب.

مقدمة في باب سد الذرائع

مقدمة في باب سد الذرائع إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار. أيها الإخوة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فنحمد الله سبحانه وتعالى أن عدنا جميعاً إلى هذا المكان وإلى هذا الدرس، نسأل الله أن يجعله عوداً حميداً وقولاً سديداً، وأن يشملنا وإياكم برحمة منه ومغفرة، وأن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً وتفرقنا بعده تفرقاً معصوماً، وألا يجعل فينا شقياً ولا محروماً. أيها الإخوة هذا الدرس -إن شاء الله- سيكون من الآن وحتى الحج أو إجازة الحج درس أسبوعي في كل يوم أربعاء لقلة الأسابيع المتبقية وما سيعقب الإجازة من توقف لظروف الامتحانات وغيرها. وموضوعنا في هذه الليلة موضوع مهم، موضوع من مباني هذه الشريعة، ومما يدل على عظمتها وتماسكها، ومما يدل على إحكامها وإتقانها من لدن حكيم خبير سبحانه وتعالى، وهذا الموضوع الذي أشير إليه بعنوان "إغلاق منافذ الشر" هو في الحقيقة كلام عن باب سد الذرائع في الشريعة، وسد الذرائع من الأمور المهمة جداً، ولهذا المفهوم تطبيقات كثيرة في الواقع نحتاج إليها، نحتاج أن نستلهم من الشريعة طريقتها، نحتاج أن نستلهم من الشريعة طريقتها في معالجة الأمور وفي أحكامها؛ لأن الإنسان إذا اهتدى بهدي الشريعة في واقعه فإنه يصل إلى خير كثير بإذن الله. أما الذرائع: فإنها المنافذ والسبل، وفي اللغة: الذريعة هي السبب الموصل إلى الشيء، والطريق المؤدي والباب والوسيلة، الوسيلة إلى شيء تسمى ذريعة، وهي تحمل معنى التحرك والانتقال من شيء إلى آخر، والذريعة في اللغة: كل ما يتخذ وسيلة إلى غيره. وفي الشرع إن كان المقصود مصلحة فينبغي فتح الذرائع إليه، وإن كان محرماً ينبغي سد الذرائع، إذاً هناك في الشريعة فتح ذرائع وسد ذرائع، الشريعة جاءت لسد الذرائع وفتح الذرائع، سد الذرائع إلى المحرمات وفتح الذرائع إلى الخير والبر كما قال الناظم: سد الذرائع إلى المحرم حتم كفتحها إلى المنحتم وهو الواجب حتم أيضا. قال ابن القيم رحمه الله: إذا حرم الرب شيئاً وله طرق تفضي إليه وتؤدي إليه فإنه يحرم هذه الطرق والوسائل تحقيقاً لتحريمه وتثبيتاً له ومنعاً من الاقتراب من حماه. وفي المقابل إذا أمر الله بشيء وأوجبه فإن الشريعة جاءت لفتح الطرق إليه، لفتح الذرائع إلى هذا الأمر وهذا الخير الذي أمر الله به، انظر مثلاً إلى النظر إلى المرأة الأجنبية، لما كان ذريعة إلى الزنا صار محرماً، والسعي إلى البيت الحرام لما كان ذريعة للحج وأداء الفرض صار مأموراً به يوصل إلى الحج المشروع، فالمنع من النظر إلى الأجنبية سد للذريعة، والسعي إلى البيت الحرام فتح للذريعة. والأشياء التي جاءت الشريعة بتحريمها قد تكون حراماً لذاتها كالخمر، وقد يكون حراماً إذا أدى إلى حرام مثل بيع العنب لمن يعصره خمراً، وهناك أمور قد أجمع العلماء على عدم سدها، وأمور قد أجمع العلماء على سدها، وأمور قد حصل فيها الخلاف، فمن الأمور التي أجمع العلماء على عدم سدها مثل: منع زراعة العنب، لا يمنعون من زراعة العنب بحجة أنه يُتخذ منه الخمر؛ لأن العنب فيه فوائد كثيرة، فإنه يؤكل بالحلال ويؤخذ منه الزبيب وغير ذلك من الأشياء المباحة. التجاور في البيوت والسكنى في العمائر قد يؤدي إلى الوقوع في المحرمات، ودخول الجار على زوجة جاره بالحرام، لكن لم يمنع منه العلماء؛ لأن فيه فوائد عظيمة للناس، والناس يحتاجون للازدحام والسكن، يحتاجون إلى السكنى في العمائر والبيوت المتجاورة، فلم تحرم عند العلماء من أجل أنها تؤدي إلى مفاسد؛ لأن المصالح التي فيها أعظم لا تقارن بالمفاسد، وكذلك بيع السكاكين في الأحوال العادية ليس محرماً، السكين فيها منافع كثيرة، فبها تذكى بهيمة الأنعام، ويستخدمها الناس في أشياء متعددة، فهل يقال بمنع بيع السكاكين لأنه ربما يستخدمها بعض الناس في الإجرام؟ A لا. لكن إذا صار وقت فتنة فلا يباع السلاح في وقت الفتنة. هناك إذاً مفاسد مهدرة لا يلتفت إليها بجانب حاجة الناس والمصالح العظيمة، وهناك أمور أجمع العلماء على سدها مثل: سب الأصنام إذا كان يؤدي إلى أن يسب المشرك الله عز وجل، إذا سببت إلهه وصنمه سب الله، فلا يجوز لك أن تسب صنمه؛ لأنه يفضي إلى أمر أعظم. وكذلك المنع من شهادة الخصم على خصمه لأنه يخشى الشهادة بالباطل، وهناك أشياء اختلفوا فيها كبيع الأجل.

الأدلة على مفهوم سد الذرائع

الأدلة على مفهوم سد الذرائع إن قال إنسان: ما هي الأدلة على هذا المفهوم -يعني: سد الذرائع وإغلاق منافذ الشر-؟ ولعلنا سنركز على هذا الجانب وهو سد الذرائع، مع أن فتح الذرائع موضوع مهم جداً أيضاً لعلنا نذكر منه طرفاً.

الأدلة من القرآن

الأدلة من القرآن أما الأدلة من القرآن على هذه القاعدة كثيرة، فمنها: قول الله سبحانه وتعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:108] فنهينا عن سب آلهة المشركين إذا كان سبها يؤدي إلى سب الله. ومنع المسلمون من مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة (راعنا) حتى لا يستعملها اليهود والمنافقون شتيمة للنبي عليه الصلاة والسلام لأنهم كانوا يقولون: يا محمد! راعناً -يعني: من الرعونة والطيش- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} [البقرة:104] لأن كلمة "انظرنا" لا تحتمل معنى سيئاً بخلاف الكلمة الأولى: {وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة:104] ومنع الله آدم وحواء من الاقتراب من الشجرة. أيها الإخوة! أرجو أن نتفطن لهذا المفهوم، هذا المفهوم دقيق ويحتاج إلى تفكير وتركيز، وفهمه يسهل فهم أشياء كثيرة جداً، ويسهل عليك اتخاذ إجراءات كثيرة في حياتك، ويسهل عليك معرفة أحكام شرعية كثيرة، ويسهل عليك فهم فتاوى العلماء في كثير من الأحيان. مفهوم "سد الذرائع" هذا له ارتباطات اجتماعية ودعوية واقتصادية وغيرها كثير في الواقع، هذا المفهوم "سد الذريعة". منع الله آدم وحواء من الاقتراب من الشجرة حتى لا يكون ذلك ذريعة إلى الأكل منها، فقال الله عز وجل: {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} [البقرة:35] الأصل المنع من أكلها، لكن سداً لذريعة قد يتوصل بها إلى الأكل نهياً عن الاقتراب: {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:35] وغير ذلك من الأمثلة الكثيرة في القرآن.

أدلة من السنة على باب سد الذرائع

أدلة من السنة على باب سد الذرائع وأما في السنة فإن الأدلة قد جاءت أيضاً بمفهوم سد الذرائع التي توصل إلى المحرمات، وعلى رأسها الشرك، فمثلاً: نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: ما شاء الله وشاء محمد، للشخص حسماً لمادة الشرك وسداً لذريعة التشريك في المعنى، وقال لمن قال له: ما شاء الله وشئت قال: (أجعلتني لله نداً؟) ونهت الشريعة عن رفع القبور، أكثر من شبر، وتعليتها لا تجوز، ونهت عن تجصيصها وإنارتها والكتابة عليها حتى لا تكون ذريعة إلى عبادة الموتى وتعظيمهم وصرف أنواع من العبادة لهم كما حدث للكثيرين من المسلمين في هذا الزمان وغيره نتيجة بناء الأضرحة على القبور وتشييد المباني عليها وجعل الخدام والسدنة لها وهكذا. نهت الشريعة عن تعليق التمائم حتى لا يكون ذريعة للشرك، يعتقد الناس أن النفع من التميمة، وأن التميمة تؤثر بذاتها، والأمثلة كثيرة في كتاب التوحيد للشيخ/ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، فإنه عقد في كتابه هذا فصلاً خاصاً بعنوان "باب ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد وسده كل طريق يوصل إلى الشرك" لاحظ وسده كل طريق يوصل إلى الشرك، وساق فيه حديث (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً ولا تجعلوا قبري عيداً) وفي الشرح لهذا الحديث ذكروا حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تُشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) فمنعنا من شد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، فلا يجوز شد الرحال لزيارة مسجد آخر غير هذه الثلاثة. وكذلك أتى بالأبواب في كتابه العظيم مثل: لبس الحلقة والخيط والرقى والتمائم والذبح في مكان يذبح فيه لغير الله، والعبادة في القبور، نهينا عن الصلاة في المقبرة؛ لأنها ذريعة إلى عبادة الموتى، لا يجوز الذهاب إلى العرافين والكهان ولو كان الإنسان غير معتقد أنهم يعلمون الغيب، لا يجوز إلا إذا كان للإنكار عليهم أو لإفحامهم وإقامة الحجة، أو لأخذهم وإقامة التعزير ورفع أمرهم إلى القاضي ونحو ذلك. لماذا نهينا عن سب الدهر؟ لأنه يؤدي إلى سب الله عز وجل الذي خلق الدهر، الدهر ليس له تصرف، لا يضر ولا ينفع، الله الذي خلقه، يقلب الأيام والليالي سبحانه وتعالى. لماذا نهي السيد أن يقول: عبدي وأمتي، وإنما يقول: فتاي وفتاتي وغلامي؟ نهينا عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها حتى لا يكون ذريعة إلى مشاركة المشركين الذين يعبدون الشمس في ذلك الوقت، حتى في الأمور المتعلقة بالتطير وهذا له اتصال وثيق بالتوحيد، مثلاً: جاء النهي عن التسمي بأفلح ويسار ورباح ونجيح، لأنه ذريعة إلى التطير والتشاؤم الذي كان موجوداً عند كثير من العرب في ذلك الوقت، فإذا جاء وقال: بركة موجودة أو موجود؟ قالوا: ما في بركة. تطير وتشاءم، ونحو ذلك من الأسماء، فإذا كان يخشى التطير والتشاؤم عند قوم فلا يجوز التسمي بها بينهم. وكذلك جاءت الشريعة بسد الذرائع المؤدية إلى الوقوع في البدعة، ففكر معي الآن لماذا نهينا عن تقدم صيام رمضان بيوم أو يومين إلا إذا وافق صوم الإنسان؟ لماذا نهينا عن صيام يوم الشك وحرم علينا صيام يوم العيد، واستحب لنا تعجيل الفطر وتأخير السحور، والأكل قبل عيد الفطر؟ والمصلي إذا خرج من الفريضة لا يصلي وراءها مباشرة قد ورد النهي عن ذلك، يفصل بينها وبين النافلة إما بكلام أو قيام، تغيير المكان أو الخروج من المسجد ويصلي في بيته، لا يصل صلاة الجمعة بصلاة وراءها حتى يتكلم أو يخرج، نهينا عن الوصال في الصوم، نهينا عن الرهبانية والتبتل كل ذلك سداً لذريعة البدعة والزيادة في العبادة. نهانا الشارع عن تصديق أهل الكتاب وتكذبيهم فيما لم يوافق شرعنا أو يخالفه، لأنه إذا وافق شرعنا صدقنا وإذا خالف شرعنا كذبنا، لكن إذا لم يخالف ولا وافق فلا نصدق ولا نكذب؛ لأنه قد يكون حقاً فنكذبه أو يكون باطلاً فنصدقه.

سد ذريعة الفواحش

سد ذريعة الفواحش وتأمل طريقة الشارع الحكيم -طريقة الشريعة- في سد أبواب الفواحش فإن الشريعة لم تحرم الزنا مثلاً فقط وإنما حرمت كل طريق، وسدت كل منفذ يؤدي إلى الوقوع في الفاحشة، تأمل قول الله عز وجل مثلاً: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30] قول الله: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [النور:31] قول الله: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:33] {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور:31] {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32] {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب:53] النهي عن خروج المرأة متعطرة تمر على رجال فهي زانية، سفر المرأة وحدها بغير محرم فيطمع فيها الفسقة، النظر إلى العورات، النهي عن الجلوس في الطرقات خشية النظر إلى العورات، ولذلك أمر بغض البصر إذا كان لا بد من الجلوس؛ لأنه ليس له مجلس. الخلوة بالأجنبية: (ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما) وصف المرأة المرأة لزوجها، وإفشاء أسرار العلاقة الزوجية، التفريق بين الأولاد في المضاجع. إذاً الشريعة فيها حكمة من الحكيم الخبير، كل من منفذ يؤدي إلى الشر سدته، وهذا الكلام مهم جداً في هذه الأيام التي عمت فيها سبل الفاحشة من أفلام وتسهيل السفريات وغير ذلك من الأشياء، لو قلت: ما حكمها في الشريعة؟ نقول: انظر إلى ما تؤدي إليه. قد تكون في الأصل مباحة كالسفر، لكن لما كان يؤدي إلى المحرمات صار حراماً؛ لأن الوسائل لها حكم المقاصد، إذا كان المقصد حراماً فالوسيلة حرام، إذا كان المقصد مكروهاً فالوسيلة مكروهة، إذا كان المقصود واجباً فالوسيلة واجبة، وذلك هو ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، إذا كان المقصد مستحباً فالوسيلة مستحبة، إذا كان المقصد مباحاً فالوسيلة مباحة. وتأمل لماذا لا تؤذن المرأة بين الرجال، ولا تكون المرأة إمامة للرجال؟ صفوف النسوة خلف صفوف الرجال، لا يرفع النساء أبصارهن إلا بعد رفع الرجال، يعني: لا يرفعن من السجود إلا بعد رفع الرجال حتى لا تظهر العورات، لأن الرجال كانوا يلبسون الأزر. وكذلك لو قالوا: ما حكم أن تدرس النساء عند رجل أحكام التجويد؟ قلنا: إذا كانت المرأة تُحسِّن صوتها وتزينه بحيث يؤدي إلى فتنة، فإن كان هناك من النسوة من يُعلم ولو كان هؤلاء النسوة لا يتقنها كل الإتقان، يعني: لا يأتين بالأشياء الدقيقة فنقول: يكفين في تعليم النساء. وكذلك لو راجعنا ما جاء في الشريعة في مجال اجتناب مواطن التهم، ألا يكون الإنسان في موضع تهمة يُظن به ظن سوء، النبي عليه الصلاة والسلام لما كان مع زوجته صفية ورآه رجلان من المسلمين يمشي معها أسرعا المشي، قال عليه الصلاة والسلام: (على رسلكما، إنها صفية) قالا: سبحان الله يا رسول الله! يعني: استعظما ذلك، فأخبرهم عليه الصلاة والسلام أن الشيطان يجري في ابن آدم مجرى الدم، فإذاً الإخبار أنها زوجته وأي واحدة من زوجاته؟ صفية، وحددها بالاسم سداً لذريعة إلقاء الشيطان الشبهة أو الشك في نفس هذين الرجلين.

أبواب متفرقة في سد الذرائع

أبواب متفرقة في سد الذرائع لماذا يُنهى عن الخروج من المسجد بعد الأذان وقبل الصلاة؟ إذا أذن المؤذن لا تخرج من المسجد حتى تصلي إلا لحاجة أو ضرورة مثل أن يحتاج إلى الوضوء، أو صار له ظرف طارئ، لكن الأصل النهي ورد عن خروج الرجل من المسجد بعد الأذان وقبل الصلاة حتى لا يظن به ظن سوء. وكذلك إذا جئت إلى مسجد وهم يصلون وأنت قد صليت هل تجلس وراء الصفوف تتفرج عليهم؟ لا. كما ورد الأمر بذلك في الصلاة ولو صليت في رحلك وصليت في مسجد آخر ثم أتيت مسجد جماعة فوجدتهم يصلون فصل معهم؛ لأن جلوسك وحدك وراءهم يسبب الشك والشبهة والظن السيئ بك، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام -الحديث في الصحيح- لرجل: (ألست من المسلمين؟) واحد أتى ما صلى معهم، أقيمت الصلاة قاموا يصلون وهو ما صلى معهم، قال: (ألست من المسلمين؟ قال: بلى يا رسول الله) لكن أنا صليت. فأخبره عليه الصلاة والسلام أنه إذا جاء مسجد جماعة وهم يصلون فليصل معهم ولو كان صلى، تحسب له نافلة والأولى هي الفريضة. وهذا الباب يحتاجه الناس الآن، الإنسان لا بد أن يجلي موقفه، يستفيد من طريقة الشريعة في توضيح الأمور سداً لطريق الشيطان من إلقاء الظنون السيئة في نفوس الآخرين، أولاً: يجتنب أن يكون في مواضع التهم، فلو أن واحداً قال: أكون واقفاً مع الفسقة في الشارع، أو في مكان معروف أنه يرتاده الفساق، نقول: إن جلوسك معهم ووقوفك معهم ذريعة للظن بك ظن السوء، فإذا لم يكن هناك مصلحة راجحة من وقوفك، أو أن تستطيع توضيح موقفك للآخرين فلا تقف هذه الوقفة، ولا تجلس هذه الجلسة، ولا تغش هذا المكان، وأماكن الشر التي يتردد عليها الفساق كثيرة، مثلاً: هل يليق بشاب مسلم يخاف الله أن يذهب إلى مقهى من المقاهي التي تكون فيها الشيشة، ولعب الورق، والطاولة وغير ذلك ويجلس فيها، يكون معهم؟ لا. والشريعة كذلك تحرص على معالجة النفوس وسد كل طريق من طرق الشحناء والبغضاء، لماذا نهينا عن تخطي المسجد المجاور على فرض ثبوت حديث الذي فيه كلام للعلماء؟ لكن لو ثبت الحديث النهي عن تخطي المسجد المجاور والانتقال إلى المسجد الآخر. فذلك حتى لا يكون في ذلك ذريعة لهجر المسجد، لأن الناس إذا تخطوا المسجد المجاور وذهبوا إلى مساجد أخرى هجروا مسجدهم، فبقي المسجد بلا رواد، وكذلك قد يكون فيه إيحاش للإمام يقول: هذا لماذا لا يصلي ورائي؟ هل يظن بي سوءاً في ديني، أو خللاً في عقيدتي؟ لماذا لا يصلي ورائي؟ وكذلك يكون فيها تهمة للشخص؛ لأنه من الحارة ومن الحي ومع ذلك لا يرى في المسجد، فأين هو؟ هل هو نائم في بيته؟ لماذا يتخلف عن الصلوات؟ فيظن به ظن سوء؛ ولذلك على الإنسان أن يصلي من الصلوات ما يكون به ساداً لذريعة ظن السوء به. وكذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الحديث بعد العشاء إلا في طاعة أو مجلس علم أو إكرام ضيف حتى لا يؤدي هذا السهر إلى تفويت قيام الليل أو إلى تفويت صلاة الفجر. ثبت في الحديث النهي عن النوم قبل صلاة العشاء حتى لا يؤدي إلى ترك صلاة العشاء أو تفويت وقتها، ولذلك الآن أصحاب الأعمال والدوام والنوبات الذين يعملون في الشركات، كمجال الطيران وغيره، هؤلاء قد يداومون في الليل ويحتاجون إلى نوم في النهار، فينبغي عليهم الانتباه إلى ألا يؤدي نومهم إلى تضييع الصلاة. وكذلك الطلاب في أوقات الامتحانات بعضهم يسهر في الليل للمذاكرة وينام في النهار مما يؤدي إلى تضييع صلاة الظهر والعصر أحياناً، وهذا حرام لا يجوز، فإذا كان العمل أو النوم مباحاً لكن إذا كان يؤدي إلى تضييع الصلاة لا يجوز أن ينام حتى يصلي، أو يتخذ من الإجراءات ما يوقظه للصلاة. نهى الشارع أن يمدح الشخص أخاه المسلم في وجهه؛ لأنه يؤدي إلى فتنته وإدخال العجب والغرور في نفسه. النهي عن الاحتباء في الجمعة حتى لا يؤدي إلى خروج الريح، أو انكشاف العورة، أو إلى النوم، أو هذه الجلسة تؤدي إلى جلب النعاس. ومنعت المعتدة من وفاة زوجها من الزينة والطيب، ولا يجوز أن يصرح إنسان بخطبتها، لأن النكاح محرم في العدة، فنهيت عن كل ما كان ذريعة إليه من التطيب والتزين والتصريح بالخطبة. هذه قاعدة أيضاً معناها موجود في كثير من الأدلة في العلاقة الزوجية مثل الحائض فإنه لا يأتيها إلا إذا ائتزرت بإزار، ويستمتع بها ما فوق السرة وما تحت الركبة، ولا تجوز المباشرة في الفرج مطلقاً لأنه يؤدي إلى الوقوع في الجماع في الحيض وهذا محرم. فنقول: أحياناً يكون الشيء مباحاً، ولكن يؤدي إلى شيء مذموم، هب أن إنساناً قدم بلداً وهو ما زال مسافراً سيمكث فيها يوماً أو يومين في نهار رمضان، فإنه يجوز له الإفطار، لكن لا يجوز له أن يفطر أمام الناس لئلا يظنوا به ظن السوء، ما أدراهم أنه مسافر؟ سيجلب التهمة إلى نفسه. وكذلك ما ذكره العلماء من عدم وضع السم في الطعام للفئران إذا كان في مكان تصل إليه يد الأطفال مثلاً، ونحو ذلك.

سد ذريعة الفحشاء والبغضاء

سد ذريعة الفحشاء والبغضاء أما في العلاقات الأخوية فإن سد الذرائع قاعدة موجودة واضحة في النصوص، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبيع الرجل على بيع أخيه، إذا كان الواحد يساوم البائع فلا يجوز لإنسان أن يدخل بينه وبين البائع حتى تستقر الأمور على شيء، إما أن تصل إلى طريق مسدود أو يتفقا، لا يجوز إذاً أن تدخل في المساومة -طبعاً هذا غير بيع المزايدة، بيع الحراج هذا أمر آخر، هذا جائز في الشريعة- لكن شخص يتفاوض مع البائع في الدكان على سلعة لا يجوز لآخر أن يدخل بينه وبين البائع، إذا كان اتفق وإياه على السعر ولم يبق إلا العقد والاستلام والتسليم فلا يجوز أن يدخل بينه وبين البائع، إذا تم العقد وهما في خيار المجلس -يعني: في الدكان ما غادراه- يحق لكل منهما الرجوع ولا يجوز أن يأتي بائع آخر يقول من بعيد: تعال، أنا أعطيك بأقل، افسخ البيع وتعال. أو إذا كانا في خيار الشرط، كأن يقول: أشتريتها منك فإن لم تناسبني أرجعتها إليك بعد يوم، فلا يجوز أن يأتي شخص آخر يقول: بكم اشتريتها؟ ردها إليه، وأنا أعطيك بأقل، كما أنه لا يجوز لمشتر آخر أن يأتي إلى البائع ويقول: افسخ البيع مع المشتري وأنا أشتريها منك بأكثر. وإنما نهي المسلم عن البيع على بيع أخيه والسوم على سوم أخيه سداً لذريعة البغضاء والشحناء بين المسلمين. لا يخطب على خطبة أخيه، لو علمت أن فلاناً من إخوانك المسلمين تقدم لخطبة فتاة، فلا يجوز لك أن تتقدم إليهم تخطب البنت وأنت تعلم أن فلاناً قد تقدم، حتى يردوه أو أنهم يصرفوه ولو بالسكوت بمعنى: أنهم لم يركنوا إليه، فإذا ركنوا إليه لا يجوز أن تدخل بينه وبينهم، إذا لم يركنوا إليه فهم مترددون أو ردوه ورفضوه فيجوز لك أن تتقدم أو استأذنت منه فهذا جائز، قلت: يا أخي! ائذن لي أن أخطب هذه، أنت ستجد غيرها، أنت إنسان معروف وأنا غير معروف وما عندي إلا هذه الفتاة التي أتوقع أن يوافقوا لي عليها، فهل تأذن لي أن أتقدم وأخطبها؟ فإن أذن جاز لك، وإن لم يأذن لا يجوز سداً لذريعة الشحناء والبغضاء. النهي عن تناجي اثنين دون الثالث، لأن ذلك يحزنه، هذه فيها ذريعة إلى البغضاء بين المسلمين، النهي عن الجلوس بين اثنين إلا بإذنهما. كل ذريعة تؤدي إلى قطع الرحم فهي حرام، وقد منعت الشريعة نكاح المرأة على عمتها والمرأة على خالتها؛ لأن ذلك يؤدي إلى قطع الرحم، لأن كلاً منهما ستغار من الأخرى، هذه عمتها وهذه خالتها وستغار منها، وستكون القطيعة، فلا يجوز الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها. أما في المعاملات والبيوع مثلاً، هذا ذكرنا طرفاً منه فيما يتعلق بآداب الأخوة، وأيضاً الشريعة تسد كل ذريعة إلى الربا، وكل طريق يوصل إليه، ولذلك لا يجوز بيع العينة: وهي أن تبيع سلعة إلى أجل -إلى سنة- بعشرة آلاف ثم تقول: تبعنيها نقداً بثمانية آلاف هذا حرام، لا يجوز لأنه ذريعة إلى الربا. كذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن سلف وبيع، مع أن الشريعة تجيز السلف لوحده وتجيز البيع لوحده، لاحظ معي الشريعة تجيز السلف لوحده وتجيز البيع لوحده، لكن حرمت السلف والبيع في آن واحد، لأنه إذا اجتمع سلف وبيع كان ذلك طريقة إلى القرض الذي يجر نفعاً، فإذا قال: أقرضك عشرة آلاف على أن تبيعني ساعتك بكذا. فلا يجوز، لكن القرض لوحده جائز والبيع لوحده جائز، هذا من الشواهد في السنة.

عمل الصحابة في باب سد الذرائع

عمل الصحابة في باب سد الذرائع أما في عمل الصحابة رضوان الله عليهم فالشواهد كثيرة وكثيرة جداً، فمن ذلك أن الصحابة قتلوا الجماعة بالواحد، اجتمع جماعة على واحد فقتلوه، لئلا يكون ذريعة إلا ضياع دماء المسلمين، كلما أرادوا قتل واحد جاءت جماعة فقتلوه وضاع دمه، فالصحابة قضوا بقتل الجماعة بالواحد. وكذلك نفى عمر من كان سبباً في فتنة النساء بجماله؛ سَمع عمر أن فلاناً يذكر على أنه أجمل أهل المدينة فقال: عليَّ به. أتى به فحلق رأسه لعل الفتنة تزول، فازداد الرجل حسناً لما زال شعره وظهرت جبهته كاملة، فقيل إنه عممه بعمامة فلا زال جميلاً! فقرر عمر أن يبعده إلى بلدة أخرى حتى لا يكون سبباً لفتنة المسلمات في هذا البلد، وزوجه وأحسن إليه، لأنه رجل ليس بمذنب، فليس ذنبه أن يكون جميل الخلقة فإن الله قد كتب أن يكون جميلاً، لكن سداً لذريعة فتنة النساء مادام أن خبره واسمه وذكره منتشر بين النساء ومتداول أبعده عمر. قطع عمر رضي الله عنه شجرة بيعة الرضوان التي تبايع الصحابة عندها في غزوة الحديبية لأجل ألا يكون اجتماع الناس عليها ذريعة إلى الشرك. ولما وجد الصحابة قبر دانيال عليه السلام -هذا أحد الأنبياء- في الفتوحات، وجدوه عند قوم كان يستسقون به، يخرجون جسده وقت القحط، وأجساد الأنبياء لا تأكلها الأرض، قالوا: مات منذ مئات السنين لكن ما تغير جسمه. قالوا: فحفرنا بالنهار ثلاثة عشر قبراً متفرقة، فلما كان بالليل دفنوه في واحد منها وسووا القبور كلها لتعميته على الناس حتى لا ينبشوه، كل هذا من حرص الصحابة على سد ذرائع الشرك وتعظيم الموتى. لماذا عزل عمر خالداً رضي الله عنهما؟ أخبر عمر أنه ما عزله عن سخط ولا عن كره ولا عن خيانة، لكن قال: ولكن الناس فُتنوا به فِخفت أن يوكلوا إليه -بدلاً أن يتوكلوا على الله يقولون: مادام أن الجيش فيه خالد فنحن منصورون- فتنوا به فخفت أن يوكلوا إليه ويبتلوا به فأحببت أن يعلموا أن الله هو الصانع، هو الذي يصنع النصر وهو الذي يقدر النصر سبحانه وتعالى. من يخبرني لماذا أمر عمر ببناء الكوفة والبصرة؟ خاف عمر على المسلمين إذا سكنوا في بلاد الفرس والروم أن يختلطوا ويتأثروا بعاداتهم وأخلاقهم، وقد يؤدي إلى الوقوع في شيء من المحرمات، أراد عمر أن يجعل بلداناً خاصة للمسلمين، يكون المسجد في الوسط وحوله المساكن، ويجعل له قاضياً وإماماً، فـ عمر خشي من اختلاط المسلمين إذا سكنوا في بلدان الكفرة أن يتفرق المسلمون فيها ويتأثرون بهم، فمصَّر للمسلمين أمصاراً خاصة. هذه بعض من أفعال الصحابة في مسألة سد الذرائع، ولا زال العلماء يفتون بقاعدة سد الذرائع، وهذا مشهور في المذاهب ومن أعظمها مذهب الإمام مالك رحمه الله فإن المالكية يعتمدون كثيراً على هذا الباب، لكن ينبغي أن يعلم أنه لا بد أن تكون الذريعة واضحة للتحريم والمنع، لا متوهمة ولا قليلة.

فتاوى عصرية في مسائل سد الذرائع

فتاوى عصرية في مسائل سد الذرائع ولنضرب أمثلة من فتاوى العلماء المعاصرين في مسائل سد الذريعة:

فتاوى في حكم الاعتناء بالآثار

فتاوى في حكم الاعتناء بالآثار قام واحد من الكتاب في إحدى الجرائد فذكر جواباً، وذكر فيه أن الدعوة إلى إعادة الآثار وصيانة هذه الآثار وتسهيل الطرق إليها وجعل المرشدين والمصاعد وغير ذلك فيه مشابهة للكفار في تعظيم آثار عظمائهم، وإنفاق الأموال في غير وجهها الشرعي، وغير ذلك، وذكر من ضمن الأسباب أنها من وسائل الشرك لأنها تؤدي إلى تعظيم الأماكن، ونقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كلاماً في عدم مشروعية صعود جبل الرحمة ودخول القبة التي في أعلاه المسماة بقبة آدم، وعدم مشروعية إتيان المساجد التي عند الجمرات وزيارة المساجد غير المسجدين مثل المسجد الذي تحت الصفا سابقاً، وفي سفح جبل أبي قبيس، والمساجد السبعة في المدينة، بعض الناس يقول: نذهب لنرى الآثار، ونذهب لزيارة المساجد السبعة ونحو ذلك، ومعلوم ما نقل عن الصحابة في المنع من إتيان جبل الطور مع أن جبل الطور جبل عظيم كلم الله عليه موسى، لكن الصحابي نصح الآخر قال: لو علمت أنك ستذهب منعتك، وكذلك فعل عمر في قطع الشجرة التي في بيعة الرضوان، لو كان الاحتفاظ بهذه الآثار الإسلامية مشروعاً لاحتفظ بها الصحابة وسيجوها وسوروها وأصلحوا ما انهدم منها ونحو ذلك، فإذاً: هي من ذرائع الشرك والبدع والوسائل المفضية إليها.

فتوى في عدم جواز إظهار النصراني لدينه في الجزيرة

فتوى في عدم جواز إظهار النصراني لدينه في الجزيرة وكذلك من فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء ملخصات سريعة: عدم جواز تمكين الكافر من إلقاء محاضرات في المسائل الدينية في محافل المسلمين على مسمع من العامة. لا يجوز أن يقام مهرجانات يحضر فيها عوام المسلمين أو مؤتمرات يحضر فيها عوام المسلمين يقوم فيها نصراني بالكلام عن صحة دين النصرانية، وأصل دين النصرانية، والدفاع عن دين النصرانية، لأنه قد يؤدي إلى تأثرهم.

فتوى في عدم جواز التجنس بجنسية الدولة الكافرة

فتوى في عدم جواز التجنس بجنسية الدولة الكافرة وكذلك المنع من التجنس بجنسية الدولة الكافرة في غير الضرورة، وأن هذا التجنس وسيلة إلى موالاتهم والموافقة على ما هم فيه من الباطل والإقامة عندهم ونحو ذلك، قلنا: في غير الضرورة، المنع من التجنس بجنسية الدولة الكافرة.

فتوى في تحريم تمثيل أدوار الصحابة في الأفلام وغيرها

فتوى في تحريم تمثيل أدوار الصحابة في الأفلام وغيرها وكذلك الفتوى التي جاءت في منع تمثل أدوار الصحابة في المسلسلات والأفلام أنه لا يجوز، هذه الفتوى من هيئة كبار العلماء واللجنة الدائمة للإفتاء أيضاً، لأنه يؤدي إلى امتهانهم والاستخفاف بهم والتعريض للنيل منهم، ولاحظ أن الذي يمثل دور الصحابي يكون قد دخل الاستديو الذي قبله ومثل في فلم حب وغرام، هو نفسه الممثل! يمثل دور صحابي وهو من أفسق وأفجر الناس، وتخرج امرأة تمثل دور سمية أو دور إحدى أمهات المؤمنين وهي من أفسق وأفجر الممثلات، فلا يجوز تمثيل أدوار الصحابة.

فتوى في تحريم قيادة المرأة للسيارة في المدن

فتوى في تحريم قيادة المرأة للسيارة في المدن كذلك الفتوى التي صدرت بتحريم قيادة المرأة للسيارات في المدن. ذكر الشيخ/ عبد العزيز في فتواه: معلوم أنها تؤدي إلى مفاسد وذكر منها: الخلوة والاختلاط والسفور والزينة، وكشف الوجه وترك البيوت، ونحو ذلك من الأسباب التي تؤدي إليها قيادة المرأة للسيارة، يعني: لو أنها قادت في بر بعيد وما حولها أحد لا تقل إنه حرام، القيادة بحد ذاتها ليست بحرام، إمساك المرأة للمقود وتبديل الناقلة في المحرك والدوس على دواسة البنزين والكابح ليس محرماً بحد ذاته، لكن لو أنه سمح به في المدينة فلا يجوز، النساء اليوم كثير منهن (مفلوتات) من غير قيادة فكيف لو قادت بنفسها وذهبت إلى من تشاء، وواعدت الشاب، لا يحتاج إلى أن يذهب هو إليها، هي تأتي إليه وهي تمشي، وإذا واحد أشار إليها وقفت، وإذا بنشر إطار نزلت وحسرت وغيرت وبدلت، وإذا خالفت المخالفات المرورية تقف ويحاسبها شرطي المرور! المهم تصير المسألة امتهاناً، وفيها مساعدة على انتشار الرذيلة والفساد والاختلاط المحرم.

فتوى في تحريم دراسة المرأة لبعض التخصصات

فتوى في تحريم دراسة المرأة لبعض التخصصات وكذلك ما صدر من فتوى عن الشيخ بتحريم دراسة المرأة لبعض التخصصات التي يعلم أنها ستتوظف بعدها في مجال محرم، يعني مثلاً: ما حكم دراسة المرأة لتخصص في أعمال السكرتارية؟ الطباعة والمراسلات والمقابلات، واختزال الاجتماعات ونحو ذلك، دراسة المرأة لهذا الحقل ماذا يؤدي إليه؟ ليس حراماً أن تتمرن عليه وتفتحه وتدرس المقررات فيها، لكن فكروا يا جماعة، لأن أعداء الإسلام يخططون، وهذا الباب مهم جداً "سد الذرائع" في إفشال مخططاتهم، ووعي المسلم بعظمة دينه وشريعته، ومن مباني الشريعة سد الذرائع، وهو مهم في الرد عليهم وفي إفحام أهل الباطل، فدراسة المرأة لبعض التخصصات التي يُعلم أنها لو درستها بعد التخرج ستتوظف في الأماكن المحرمة لا يجوز دراسة التخصصات هذه أصلاً، وهناك تخصصات مباحة وجائزة مثل أن تتخصص في التدريس أو الخياطة ونحو ذلك، وهناك تخصصات يمكن أن تؤدي إلى محرمات، كأن تختلط وتكشف، وهذا حرام، وممكن أنها تكون في مستوصف نسائي مثلاً تداوي النساء، أو مستشفى نسائي، أو ما تختلط بالرجال ولا تكشف ولا تلمس رجلاً أجنبياً ونحو ذلك، فنقول: هذا مباح. وهناك أعمال واضح جداً أنها بعد التخرج منها ستشتغل في الأعمال المحرمة، في تخصصات مثل تخصص السكرتارية مثلاً.

فتوى بخصوص الزواج من الكتابيات

فتوى بخصوص الزواج من الكتابيات وكذلك ما صدر من الفتوى بالزواج بالأجنبيات -الكتابيات- هو مباح أم لا؟ الزواج بالكتابية ليس مباحاً على إطلاقه، وإنما المحصنات من أهل الكتاب، إذا كانت معروفة بالعفة، وأما إذا كان لها أصدقاء وتخرج وتذهب لتعاشر من شاءت فهذه لا يجوز الزواج منها، لكن افرض أنها محصنة في ألمانيا والقانون الألماني يعطي الحق للزوجة في الأولاد، لو اختلفت أنت وإياها، أنت المسلم وهي الكافرة لو اختلفت فلجأت للقانون يأخذون منك الأولاد بالقوة، وبسبب هذا تنصر كثير من أبناء المسلمين، عمدتهم في الكنيسة وذهبت وصاروا نصارى، كبروا هناك وصاروا نصارى، هذه حالات كثيرة، والذين درسوا في الخارج واشتغلوا في الخارج وأقاموا في الخارج يعلمون هذا جيداً. فإذاً هل يقال: هيا تزوج من الكتابية وهو معلوم أنه سيتسبب في أن يلحق أولاده بـ النصرانية أو يكون عليه تسلط من الكفار؟ والآن في حياتنا الاجتماعية لو قلت لي: ما حكم نزول الأولاد إلى الشارع؟ ينزل الأولاد يلعبون في الشارع، ما حكم لعب الأولاد في الشوارع؟ في الأصل أنه مباح لكن إذا كنت أو علمت بالتجربة وبالعلم وبالخبر أن نزول الأولاد إلى الشارع يسبب تعلم أولادك التدخين والمخدرات والألفاظ البذيئة والفاحشة والوقوع في اللواط والخطف إلخ، وأنت تعلم هذا من الواقع ومن الشواهد، فهل تترك أولادك ينزلون إلى الشوارع ويقضون الساعات في الشوارع؟ هذا باب سد الذرائع باب مهم جداً. وكذلك لو قلنا: ما حكم فتح وكالة سفريات؟ جاء واحد يسأل قال: أنا سأفتح وكالة سفريات، ما رأيكم؟ فتح وكالة سفريات إذا كان يؤدي إلى محرمات مثل المشاركة في نقل الناس إلى عواقب الفساد في الصيف إلى مانيلا وإلى بانكوك وغيرها، وإركابهم الطائرات في خطوط أجنبية تحمل الخمر والخنزير، وذهاب المسلمين إلى بلاد الكفار وغير ذلك، إذاً لا يجوز فتحها، صار هذا عملاً محرماً، أنت تساعد على الفساد. وكذلك لو قلت: ما حكم فتح محلات الكوافيرات؟ ما حكم تزيين المرأة لشعر امرأة أخرى؟ A مباح جائز، إلا إذا حصل فيه محرم مثل النمص، والصبغ بالسواد إلخ، أو أنها تجعل شعرها على قصة قصيراً جداً مثل الرجل أو مثل الكافرات إلخ المحاولات الكثيرة الموجودة عند الكوافيرات. إذا لاحظ الإنسان أن الكوافيرة ستفتح مرتع فساد، وأنه سيكون من عملها نزع شعر المرأة والكشف عن عورتها أو عن جزء أو شيء من العورة، وهذا معلوم، هذا ليس مبالغة، والذي يعرف أخبار الكوافيرات يعلم أكثر من هذا بكثير جداً، فإذا لاحظ أن هذا هو الذي سيحدث أو إذا فتح -مثلاً- معمل خياطة نسائي إذا كان يعلم أنه يؤدي إلى أن يكون مكان فساد فعدم فتحه من باب سد الذرائع. اتخاذ محلات ألعاب مثلاً يضعون فيها ألعاباً ويأتي إليها هؤلاء الشباب الذين يرتادون محلات الألعاب العامة عادةً ماذا يكون حالهم؟ إذا لاحظ الإنسان أن المكان صار مكان فساد، وتواعد على مواعيد اللواط؟ وهذا صار شيئاً معروفاً فما حكم فتح المحل؟ وما حكم الاستمرار في المحل؟ هو يرى أمامه أن هذا هو الحاصل. انظر هذا باب سد الذرائع والله باب عظيم جداً من أبواب الشريعة، ولو أن الناس فقهوا فيه والذين يعملون المشاريع وغير ذلك من الناس فهموه لكفينا شراً كثيراً جداً. مدينة ملاهي، تعمل لك مدينة ملاهي، ثبت لك بالتجربة والواقع أن مدينة الملاهي يعني تبرج النساء والاختلاط ومواعدة الشباب للفتيات في هذه الأماكن مثلاً، نقول: إذا غلب على ظنك أن هذا هو الذي سيحدث فمنعهم لا شك فيه.

سد الذرائع في الدعوة إلى الله وفي السياسة الشرعية

سد الذرائع في الدعوة إلى الله وفي السياسة الشرعية وفي مجال الدعوة إلى الله والسياسة الشرعية فسد الذرائع باب عظيم، فأنتم تعلمون حديث معاذ في حق العباد على الله عز وجل ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً، قال: (قلت: يا رسول الله! أفلا أبشر الناس؟ قال: لا تبشرهم فيتكلوا) أي: إذا بشرتهم كان ذلك ذريعة إلى اتكالهم، ولهذا قال علي رضي الله عنه: [حدثوا الناس بما يعقلون أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟] في مجال الدعوة والتعليم، لا تعط الناس كلاماً فوق مستواهم وفوق عقولهم؛ لأنه يكون ذريعة إلى التفريط بأشياء من الدين أو النفور من الدين ونحو ذلك. وكذلك هجر الكافر وهو من الشريعة، لكن إذا كان هجره يؤدي إلى زيادة في ابتعاده ومستغن عنك وعن أمثالك، ولو هجرته استراح منك ومن نصحك، وقال: الحمد لله أني افتككت منك، هجر العاصي إذا كان يسبب زيادة معصيته لا يؤجر؛ لأنه يؤدي إلى نفوره، لكن هجره إذا كان يؤدي إلى رجوعه إلى الحق وشعوره بالخطأ يؤجر. كذلك المبتدع الأصل وجوب هجره والإغلاظ عليه، لكن إذا كان الإغلاظ عليه يؤدي إلى وقوع مقتلة، إراقة دماء فلا، فينبغي أن يُفهم هذا، وهو من باب السياسة الشرعية. ومثل ذلك أيضاً ترك البناء على النوايا الخفية سداً لذريعة الفساد، مثل النبي صلى الله عليه وسلم ما قتل المنافقين مع أنه قد ثبت لديه نفاق بعضهم، لكن لم يقم عليهم حد الردة؛ لأنه خشي أن يقول الناس: إن محمداً يقتل أصحابه.

التوسع في باب سد الذرائع

التوسع في باب سد الذرائع وفي نهاية المطاف في هذا الباب بقي عندنا نقطتان: النقطة الأولى: أن التوسع في باب سد الذرائع فيه محاذير لأنه قد يؤدي إلى تحريم أشياء لم تحرمها الشريعة، وكذلك لا بد من الانتباه إلى أن تكون المفسدة حقيقية وليست مفسدة متوهمة، هل نمنع زراعة العنب في أرجاء الأرض لأن بعض الناس سيتخذونه خمراً؟ لا. لكن هل تبيع العنب على صاحب مصنع خمر؟ لا. إذاً ما هو الفرق؟ منع زراعة العنب بالكلية، ومنع بيع العنب بالكلية، ومنع بيعه على من عنده مصنع خمر؟ لأن بيعه على صاحب مصنع خمر مفسدة واضحة، لأنه سيستخدمه في صنع الخمر، لكن ذاك ما فيه مفسدة واضحة، الناس يأخذونه ويشربون عصيره ويصنعون منه زبيباً، فالمفسدة منه ليست واضحة ومتأكدة. نأخذ بعض المسائل والمفاسد المتوهمة التي يؤدي سدها إلى الوقوع في مفاسد أخرى أشد، لو قال: أخشى إن تزوجت أن أكون فقيراً أمد يدي إلى الناس، أخشى إن تزوجت أن أصبح فقيراً وعندي أولاد ما عندي راتب يكفيني ومصروفات، وأصبح فقيراً أمد يدي إلى الناس، وهو يعلم أنه لو ترك الزواج سيقع في المحرمات، فنقول: لا، لا تقل: أترك الزواج سداً لذريعة الفقر، وإنما افتح الذريعة وتزوج يغنيك الله من فضله، تزوج لتسد ذريعة الوقوع في الفاحشة. كذلك مثلاً من أمثلة المفاسد المتوهمة العصرية، المفاسد الأقلية التي لا تراعى مثلاً: زراعة الجراثيم في معامل الأدوية والعقاقير لعمل الأمصال الواقية، قد يحصل منه مفسدة وانتشار أشياء، لكن هناك مصالح كثيرة في زراعة هذه الجراثيم وعمل الأمصال الواقية والمضادة لها. فإذاً من الذي يقدر المسألة التي فيها مفسدة فنسد الباب ونمنع ويكون التحريم أو ما فيها مفسدة؟ لا بد أن يكون صاحب علم شرعي طبعه معتدل، وصاحب عقل لا يقع في وسوسه؛ لأن بعض الناس ممكن أن يوسوس في هذا الباب فيسد كل المنافذ؛ وبالتالي يعقد حياته وحياة من معه بحجة سد الذرائع، فمثلاً: يقول للمرأة: لا تخرجي من البيت نهائياً ولا إلى بيت أهلك أو إلى الجيران أو إلى المحل أبداً؛ لأنه يمكن أن تتعرضي للفساد. فالقول بأنه لا تخرج المرأة نهائياً إلا إلى القبر ما هو صحيح، فمثل هذا الرجل عمل مفسدة، حيث توهم أن كل خروج فيه مفسدة، وهذا غير صحيح، المرأة إذا كانت معروفة عند زوجها بعفتها وصلاحها، فلماذا نمنعها من الخروج بالكلية؟ نعم. لا نُكثر من خروجها؛ لأن الله قال: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33] قاله لأتقى نساء الأرض لأمهات المؤمنين: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33]. فإذاً، إنسان لا يعرف أن يقدر المفسدة؛ يلجأ إلى صاحب علم وعقل يقدر له المفسدة.

مسألة فتح الذرائع إلى الخير من الشريعة

مسألة فتح الذرائع إلى الخير من الشريعة ذكرنا أن سد الذرائع من الشريعة، وينبغي أن يعلم أن فتح الذرائع -أيضاً- إلى الخير من الشريعة، مثلاً: ففتح الذرائع إلى تعلم العلم مهم، السفر إلى العلماء، وحضور الدروس، تمكين الأولاد من حضور الدروس والمحاضرات. يا أيها الأب: يجب أن تفتح الذريعة إلى الخير، انتشار المعروف خير لا بد من فتح الذرائع إليه، التوعية، استخدام الشريط والكتاب ونحو ذلك، الولد لا بد أن يصلح حاله، تفتح الذرائع إلى ذلك فتشجعه على الصلة بالشباب الطيبين وتسهل تعرفه عليهم وتعرفهم عليه والإتيان بهم. فإذاً هذا الباب فتح الذرائع إلى الخير أيضاً باب عظيم وأصل مهم من الأصول الشرعية؛ كما أن سد الذرائع إلى المحرمات أصل عظيم وركن ركين من أركان هذه الشريعة. وكان هذا نهاية المطاف في ما لدينا من النقاط في هذا الموضوع الذي هو في الحقيقة وفي نظري واجتهادي أنه موضوع مهم ينبغي علينا أن نتفقه فيه لأنه يوفر لنا كثيراً من الحصانات، ويرشدنا إلى كثير من أسباب الوقاية، وأيضاً يسهل لك الرد على المبطلين، يقول: الجهاز هذا جهاز كهربائي، شاشة وهذا ليس فيه شيء. تقول: إنه ذريعة إلى الفساد والشر إذا كان يستخدم في الشر. فنسأل الله أن يلهمنا رشدنا، وأن يقينا شر أنفسنا.

الأسئلة

الأسئلة

حكم المأموم الذي سبقه الإمام بركوع أو سجود دون علمه

حكم المأموم الذي سبقه الإمام بركوع أو سجود دون علمه Q حدث ارتباك في الركعة الأخيرة ولا نعرف سبب ذلك، هل هو من مكبر الصوت؟ A لعل هذا السؤال من النساء، أما عند الرجال فما حدث شيء، فهذا يعني أن ذلك من مكبر الصوت عند النساء. والمهم أنه إذا انقطع مكبر الصوت وفات على المصلي شيء من صلاته فإنه يأتي بما فاته إذا اكتشف صمته ويتابع الإمام، كشخص قائم في الصلاة على أن الإمام يقرأ الفاتحة في الركعة السرية، وفجأة سمع الإمام يقول: سمع الله لمن حمده؛ فماذا يفعل المأموم؟ يكبر فيركع ثم يرفع ويتابع الإمام.

حكم تزين الشاب الوسيم

حكم تزين الشاب الوسيم Q هل يمكن أن يكون اللباس والتزين للشاب الوسيم وسيلة وذريعة إلى الفاحشة؟ A نعم. فإذا كان جميلاً أو أمرد يخشى على نفسه فتنة فلا يتزين ويتعطر ويتطيب ويخرج بين الفسقة أو أهل الأهواء، أو مثلاً يحسر ثوبه عن ساقيه فقد يكون فيها فتنة أيضاً، وهذا لا يجوز، حرام، فإذاً الإنسان أدرى بنفسه ويعلم بالتجربة، هذه أشياء تعلم بالتجربة، ما فيها جواب واحد لجميع الناس.

حكم الجلوس مع أناس لا تظهر عليهم التقوى

حكم الجلوس مع أناس لا تظهر عليهم التقوى Q الجلوس مع أناس يتعاطون الدخان أو أناس لا يتبين من مظاهرهم أنهم أهل التقوى؟ A إذا كان لنهيهم عن المنكر ينهاهم، وإذا ما انتهوا عن المنكر يتركهم، هذا ما يفعل.

تحريم كل عمل يوصل إلى حرام

تحريم كل عمل يوصل إلى حرام Q الأمور التي ليست حراماً في أصلها لكن نهي عنها سداً للذريعة هل يجوز أن نعملها؟ A إذا كان يؤدي إلى الحرام فلا يجوز أن يعملها، أما إذا كان مقصود السائل شيئاً آخر فيأتي ويبين لأن كل الأمور إما أن تكون حراماً بذاتها أو حراماً لما تؤدي إليه.

الخروج من المسجد بعد الأذان

الخروج من المسجد بعد الأذان Q ما هو الحديث الذي ورد وفيه النهي عن الخروج من المسجد بعد الأذان؟ A الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أنه رأى رجلاً خرج من المسجد بعد الأذان وقبل الصلاة فقال: (أما هذا فقد عصى أبا القاسم) صلى الله عليه وسلم.

امرأة تدعو رجلا أجنبيا إلى الله

امرأة تدعو رجلاً أجنبياً إلى الله Q شخص غير ملتزم لكنه مقبل على الخير، وكان مبتلىً بمعاكسة النساء ابتلاءً عظيماً، دُعي إلى الفاحشة أكثر من مرة ولكنه لم يفعل شيئاً والحمد لله، وقد أعجبت به إحدى الفتيات التي يظهر عليها أنها متحجبة أو يقول: يظهر عليها الحجاب، وأعطته هدية ورسائل فيها كلام طيب. A انظر هذه ذريعة، فتاة أجنبية تعطي رجلاً أجنبياً أشرطة وكتباً، وتقول له: إذا صار عندك أي أسئلة اتصل علي، وأصحيك لصلاة الفجر -أنا والله لا أمزح، أنا أقول: والله من جد هذا قد يحصل- أصحيك لصلاة الفجر. هذا ذريعة للشر، أي نعم، هذا ذريعة للشر والفساد وأعلم يقيناً حالات وقع فيها أناس في محرمات من هذه الطريقة، ما هذه طريقة نصح الرجال للنساء والنساء للرجال.

حكم الدش

حكم الدش Q ما حكم اقتناء الدش؟ A طبعاً هذا واضح، هذا فيه فتوى مثل الشيخ/ عبد العزيز والشيخ/ محمد بن صالح بن عثيمين وغيرهم في تحريمه؛ لأنه ينقل إلينا المحرمات والأفلام الإباحية الموجودة في المحطات الكثيرة العالمية.

الضابط في تحريم الألعاب المسلية

الضابط في تحريم الألعاب المسلية Q ما الضابط في تحريم الألعاب المسلية. A نذكر بعض الضوابط، بعض الألعاب نص الشارع على تحريمها كالزهر -النرد- كل لعبة فيها نرد -النرد: المكعبات المعروفة- ورد النص بتحريمها بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله) (من لعب بالنردشير فكأنما غمس يده في لحم خنزير أو دمه) فهذا واضح. الألعاب التي فيها قمار حرام، ألعاب تلهي عن ذكر الله حرام، ألعاب فيها صليب حرام، ألعاب فيها تماثيل. الألعاب التي تعتمد على التهديف، لنقل مثلاً: لعبة البولنج، اللعبة تعتمد على التهديف، تأخذ الكرة وترمي بها مجموعة من القوارير ما عملت فيها مقامرة ولا ألهتك عن الصلاة -مثلاً- أو التهديف بالسهام ونحو ذلك، إذا كان لا يرمي بها في طريق إنسان؛ لأن بعض هذه الألعاب قد تكون مؤذية من مجال أن فيها حداً يخرق ويجرح، فهذه إذا كانت مؤذية فلا يجوز إعطاؤها للأطفال أصلاً، يأثم الأب إذا أعطى لأولاده أشياء يجرحون بها أنفسهم. الألعاب التي فيها تهديف، أو فيها جمع أشياء وتركيبها، هذه أشياء مفيدة للأطفال، أو عمل سيارات أو طائرات أو محركات، هذه الألعاب فنية وجيدة، الشاهد: أن هناك ألعاباً كثيرة مباحة وألعاباً أخرى محرمة ذكرنا بعضها.

حكم إعفاء اللحية إذا ترتب عليها ضرر

حكم إعفاء اللحية إذا ترتب عليها ضرر Q ما حكم إعفاء اللحية إذا كان يترتب عليها ضرر؟ A نقول: إذا كان يترتب عليه ضرر لا يتحمل كأن يسجن مدى الحياة أو سنوات طويلة، أو يضرب أو يجلد، أو يؤذى بأنواع من الإيذاء أو يقتل، ففي هذه الحالة يجوز له حلقها، وأما إن كانت المسألة مساءلة وأشياء من التحقيقات التي يتحملها الإنسان في العادة فهذا لا يجوز له أن يحلقها.

مشكلة ضعف الالتزام

مشكلة ضعف الالتزام Q نرى في السنوات الأخيرة كثرة إقبال الناس على الإسلام والتمسك به، لكن هناك نوع من الضعف والفتور في وسط كثير منا -الملتزمين- عموماً في نواحي المحافظة على الوقت والخلطة الزائدة، وفي الضعف في طلب العلم وتربية النفس وغير ذلك من النواحي؟ A هذا ذكرناه في محاضرات سابقة، مثلاً: ذكرناه في محاضرة منذ فترة ليست ببعيدة بعنوان "مظاهر نقص الاستقامة" فيمكن أن يرجع إليها أو "الجدية في التزام الإسلام" محاضرة -أيضاً- منذ فترة سابقة وقديمة.

الطريقة المثلى لإنكار التبرج

الطريقة المثلى لإنكار التبرج Q يوجد بعض المنكرات مثل: تبرج النساء المسلمات، فكيف ينكر الشاب على المرأة؟ A عليه أن يمشي فإذا رأى متبرجة يقول لها: اتقي الله وتحجبي فقط، ولا يقول: تعالي، أريد أن أكلمك كلمتين، وإنما يقول: اتقي الله يا بنت، أو يا فتاة، أو يا امرأة، وعليك أن تتحجبي وتتغطي.

حكم تخطي المسجد المجاور إلى غيره بغرض طلب العلم

حكم تخطي المسجد المجاور إلى غيره بغرض طلب العلم Q هل يجوز لواحد أن يتخطى مسجداً لكي يذهب في حلقة علم؟ A نعم. هو ما ذكرنا في مسألة المواظبة على ترك المسجد المجاور، دائماً يتركه، أما أنه أحياناً يذهب لحضور حلقة علم أو يستفيد فائدة أو يكون عنده موعد مع أحد الناس فهذا لا بأس به.

صيام أربعة أيام من شوال

صيام أربعة أيام من شوال Q إذا صام شخص أربعة أيام في شوال أو ثلاثة فهل يحصل جزء من أجر الصيام؟ A نعم. لأن الحديث يقول: (الحسنة بعشر أمثالها) صيام ستة أيام في شوال بشهرين؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها، ستة في عشرة بستين، فإذا صام أربعة يكون له صيام أربعين يوماً.

تشريع سد الذرائع

تشريع سد الذرائع Q هل باب سد الذريعة تشريع حكمه كحكم القرآن والسنة؟ A لا. ليس بتلك الدرجة، سد الذريعة أقل من القرآن والسنة والإجماع والقياس، بل هو من الأبواب التي حصل فيها خلاف، وحصل فيها إنكار من بعض أهل العلم، لكن الصحيح أنها من القواعد المعتمدة، وهي في درجة الاحتجاج، وليست مثل الكتاب والسنة والإجماع والقياس، هي أقل.

نصيحة للنساء

نصيحة للنساء Q ما هي النصيحة التي توجهها للنساء في بيوتهن حيث يكثر الفراغ في هذه الأيام؟ A أنصح النساء بتقوى الله تعالى: (من صلت خمسها، وحصنت فرجها، وأطاعت زوجها، قيل لها: ادخلي من أي أبواب الجنة شئت) طاعة الزوج بالمعروف، المحافظة على الصلوات، بعض النساء يضيعن الصلوات، ما تصلي إلا في آخر الوقت، أو تنشغل بالأولاد والبيت وتهمل الصلاة، أو تخرجها عن وقتها، أو تنام عنها، وكذلك الاستفادة من الوقت ربما تنشغل في المطبخ بأشياء فلتجعل لها شريطاً تستمع إليه في هذا الوقت. وكذلك أن تخالط النساء الطيبات الفاضلات التي تتأثر بهن وتتعلم منهن أو يتعلمن منها، وكذلك فإن المرأة حارسة للقلعة فينبغي أن تصون البيت عن كل منكر ومحرم سواءً كان من لعب أطفال، أو من دخول أجانب أو أناس لا يرضاهم الزوج، أو لا يجيز الشرع دخول هذه الأشياء إلى بيتها، فهي حارسة.

مسألة تقديم الدين على الحج أو العكس

مسألة تقديم الدَّين على الحج أو العكس Q عليَّ دين وأريد أن أحج، فأيهما أقدم؟ A قدم سداد الدين على الحج.

لا يجوز الاتصال بالمشعوذات والمشعوذين

لا يجوز الاتصال بالمشعوذات والمشعوذين Q هناك امرأة تتصل بها وتخبرها ما بك، فتقول لك: اتصل بعد ساعة. فتتصل بعد ساعة فتخبرك بمرضك؟ A واضح أن هذه من المشعوذات الدجالات اللاتي لا يجوز الاتصال بهن ولا الذهاب إليهن، ومن اتصل بها فعليه التوبة إلى الله والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى، وفعله حرام ويخشى على دينه وتوحيده.

إثم من لم يحج وعنده استطاعة

إثم من لم يحج وعنده استطاعة Q لم أحج وعندي قدرة، وعمري سبعة عشر عاماً، هل عليَّ إثم إذا لم أحج وعندي استطاعة؟ A يجب عليك أن تحج ولو خالفت أباك: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) تذهب ولو لم يرض.

الصلاة في المقابر محرمة

الصلاة في المقابر محرمة Q قلت: إن الصلاة على القبور محرمة، في بلادنا يصلون على الميت في المقبرة؟ A لا. هذا استثناء، واحد ما صلى على الميت صلاة الجنازة يأتي عليه بعد ما يدفن ويصلي صلاة الجنازة فلا حرج إذا كان في حدود شهر كما ذكر بعض أهل العلم، إذا كان العهد قريباً فلا حرج في ذلك. أما أن يصلي صلوات الفرض أو النفل ونحو ذلك فلا يجوز، وقد سبق أن جاء سؤال عن عمال في المقبرة لهم بيت يصلون فيه، فقال الشيخ/ عبد العزيز: لا. لا يصلون، يخرجوا خارج المقبرة.

الأشهر الحرم

الأشهر الحرم Q يقول: هل نحن في الأشهر الحرم؟ A لا. الأشهر الحرم غير أشهر الحج، يجب التفريق، أشهر الحج: شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، أما أشهر الحرم فهي ذو القعدة وذو الحجة ومحرم، هذه ثلاثة متوالية، ورجب من الأشهر الحرم.

حكم سماع أشرطة أناشيد تثير الشهوة

حكم سماع أشرطة أناشيد تثير الشهوة Q أستمع إلى بعض الأشرطة فتثور عندي الشهوة؟ A إذا وجد الإنسان أن الاستماع إلى بعض الأشرطة وقد تكون أحياناً ليست أشرطة غناء ولا موسيقى ولكنه يثيره فلا يجوز أن يستمع إليه، نفرض أنه -مثلاً- أحس بفتنة أو شيء من سماع شريط نشيد فلا يجوز له أن يستمع إليه؛ لأن الصوت قد يفتن، أو امرأة -فتاة- قد تصاب بعشق أو إعجاب أو شيء من هذا القبيل في سماع شريط من هذه الأشرطة مثل الأناشيد، فتعلم عند ذلك أنه لا يجوز لك سماعه.

حكم مجالسة أهل البدع بقصد الدعوة

حكم مجالسة أهل البدع بقصد الدعوة Q مجالسة أهل البدع بقصد دعوتهم؟ A إذا كان جاداً في الدعوة وعنده علم فلا بأس بذلك.

لا تخن من خانك

لا تخن من خانك Q أعمل في شركة، وحدث أن أصلحت جهازاً متعطلاً على حسابي، وعند إحضار فاتورة الإصلاح لم يتم صرف استحقاقي، وبعد فترة أخذت الجهازي معي إلى المنزل وعندي نية في عدم رده، فما الحكم في ذلك؟ A لا. رده، لا تخن من خانك كما صدرت بذلك الفتوى.

حكم مخالطة أبناء الأقارب وفيهم بعض الفساد

حكم مخالطة أبناء الأقارب وفيهم بعض الفساد Q زيارة الأهل والأقارب تؤدي إلى رؤية الأطفال التلفاز، ومخالطة أبنائهم وكسب بعض الأشياء السيئة؟ A فإذاً تقصر الزيارة، وربما توضع في وقت لا يكون فيها أطفال قدر الإمكان، أو أن يشغل الأطفال في غرفة أخرى بألعاب ونحو ذلك، أو أن يأخذهم الأب وتزور الأم أقرباءها، وتأخذهم الأم فيزور الأب أقرباءه، المهم تحاشي هذا الأمر.

حكم الجلوس في المقاهي

حكم الجلوس في المقاهي Q كنت أسافر مع مجموعة من الركاب في سيارة أجرة، فتوقفوا عند أحد المقاهي في الطريق لشرب الشاي وقال السائق: لا يبق أحد في السيارة، فهل يجوز الجلوس في المقهى؟ A إذا كان المقهى في ذلك الوقت لا ترتكب فيه منكرات فلا بأس من الجلوس فيه، أو يجلس الإنسان في مكان آخر أو عند الباب أو على جانب الطريق، أو في مسجد محطة مثلاً إذا كان هناك مسجد، أو يفترش الأرض بجانب السيارة ويجعل بساطاً يجلس عليه.

حكم لبس الذهب المحلق

حكم لبس الذهب المحلق Q الذهب المحلق؟ A الصحيح من أقوال العلماء أن لبسه لا بأس به.

حكم الصلاة السببية في وقت النهي

حكم الصلاة السببية في وقت النهي Q هل يجوز صلاة ركعتي السبب وفي وقت النهي؟ A الصلاة لسبب جائزة، صلاة الأسباب جائزة. وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

رحل الثلاثة فأدركوا البقية

رحل الثلاثة فأدركوا البقية إن منزلة العلماء في الإسلام عظيمة، وما ذاك إلا لأثرهم العظيم على الناس، فكم من جاهل أرشدوه! وكم من تائه دلوه! وكم من مترد من أوحال الكفر انتشلوه! فهم جدار الحماية وصمام الأمان لهذه الأمة، وإنَّ فَقْدَ الواحد منهم ثلمة لا تجبر، ومن هؤلاء العلماء الشيخ/ محمد بن صالح العثيمين، وفي هذا الدرس عرض لبعض المواقف من حياته وجنازته، ثم قصيدة رثاء لفقده، وتنبيه أهمية التأسي به والاستفادة من مؤلفاته وكتبه.

شرف منزلة العلماء

شرف منزلة العلماء إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. الحمد لله الذي جعل في كل زمان بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، وينهون عن الردى، ويحيون بكتاب الله الموتى، وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجهالة والردى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه! وكم من ضال تائه قد هدوه! فما أحسن أثرهم على الناس! وما أقبح أثر الناس عليهم! ينفون عن دين الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، هؤلاء العلماء شهداء الله في أرضه، هؤلاء العلماء الذين رفعهم الله عز وجل: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11] العلماء فوق المؤمنين: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ} [آل عمران:18] فبدأ سبحانه وتعالى بنفسه، وثنى بملائكته، وثلث بأهل العلم، وكفاهم بذلك شرفاً وفضلاً وجلالة ونبلاً: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]. ولذلك أحال الله الأمة إليهم فقال: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء:7] وهذه آياته لا يعقلها إلا العالمون، وهذا كتابه مستودع في صدورهم: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49] فهم أهل الخشية حقاً: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] وهم خير البرية بعد الأنبياء: {أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} [البينة:7] هم أهل الخشية: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة:8] هم الدين أراد الله بهم خيراً: (من يرد الله به خيراً يفقه في الدين) ورثوا أنبياءه (والعلماء ورثة الأنبياء) وهذه درجة المجد والفخر، وبهذه الرتبة نالوا الشرف والذكر، فلا رتبة فوق رتبة النبوة، ولا شرف فوق شرف وارث ميراث تلك النبوة، وفضل العالم على العابد كفضل النبي صلى الله عليه وسلم على أدنى واحد فينا. هؤلاء العلماء يستغفر لهم من في السموات والأرض من مخلوقات الله عز وجل: (فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب) لا رتبة فوق رتبة من تشتغل الملائكة وغيرهم بالاستغفار والدعاء لهم، وتضع أجنحتها من أجلهم، هؤلاء الذين ألهمت الحيوانات والدواب في قاع البحر، وداخل الجحر أن تستغفر لهم، وبلغ من فضلهم أن الله سخر دواب الأرض التي لا تعقل أن تستغفر لهم، هؤلاء الذين عبدوا الله بالعلم، وخافوه بالخشية والتقوى، وحملوا هذا الدين وبلغوه للناس، شرحوا للناس كتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، والذي يعظمهم، فإنه يعظم ربه؛ لأنه عظَّم الذين يشرحون رسالات الله سبحانه وتعالى إلى الخلق، هؤلاء أهل العز حقاً، وهؤلاء رؤساء العالم صدقاً، تعلموا العلم وطلبوه وتذاكروا به وبحثوا عنه وبذلوه وعلموه. أرفع الناس عند الله منزلة، من كان بين الله وبين عباده، وهم الأنبياء والعلماء، ومن أراد النظر إلى ميراث الأنبياء، فلينظر إلى مجالس العلماء، هنا تقسم تركة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم. وما عبد الله بمثل الفقه، قال الشافعي رحمه الله: "إن لم يكن الفقهاء العاملون أولياء لله، فليس لله ولي" هؤلاء الذين اشتغلوا بالعلم، لكي ينقذوا بكتاب الله تعالى وسنة النبي صلى الله عليه وسلم أهل الضلالة والجهالة، فكم من إنسان قد اهتدى من بعد ضلالة، وكم منهم قد تعلم من بعد جهالة!

العلم قبل القول والعمل

العلم قبل القول والعمل عباد الله: إن العلم قبل القول والعمل، قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19] {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر:32] والوارث قائم مقام الموروث، فله حكمه فيما قام مقامه، والأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر. فالعلماء أصحاب النصيب الوافر، وأصحاب الحظ العظيم الكامل، هؤلاء الذين سهل لهم طريقاً في الآخرة وطريقاً في الدنيا، بما وفقهم إليه من الأعمال الصالحة، وقد جاءت البشائر بفضلهم، وهم أهل الخشية، وليسوا أهل الترخيص والتسهيل، هم أهل الكتاب والسنة، وليسوا أهل التحجر والتعصب والتقليد الأعمى، هؤلاء هم أهل السنة، وليسوا بأهل البدعة، فيموت من أهل البدعة رأس ويموت من أهل السنة رأس، ويشاء الله ذلك، لكن ليعلم أهل الإخلاص والدين والسنة، من هم أهل العلم حقاً. عباد الله: إنه قد يشتهر كثير من الناس لكن الذين يخشون الله، ويعلمون الناس الدين يختلفون عن حال أولئك الذين تفخمهم وتعظمهم تلك الوسائل. أيها المسلمون: إن الذي يريد أن يعرف العالم حقاً، فلينظر إلى مكانة دينه وقوته في أمر الله، وإنكاره للمنكر، ولينظر إلى نصحه للمسلمين، وليس إلى التساهل والترخيص المقيت.

حقوق العلماء على المسلمين

حقوق العلماء على المسلمين عباد الله: إن لهؤلاء علينا حقوقاً ولا شك؛ في أمور كثيرة:

الطاعة لهم

الطاعة لهم إن طاعة العلماء عبادة، وقد ذكر أهل التفسير أن أهل العلم من أولي الأمر الواجب طاعتهم، وهم شهداء الله في أرضه، والأمناء على وحيه، وأهل خشيته، وهم الأنوار في الظلمات، والمنائر في الشبهات، وهم ورثة الأنبياء، هم الذين أبانوا الحق للناس، وهم الذين صمدوا في الفتن، فلنذكر صبر الإمام أحمد رحمه الله تعالى وإبانته الحق للناس، وهكذا صمد ابن تيمية رحمه الله أمام التتر وقاد الأمة للجهاد، وهكذا جدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله الدين يوم كانت الدنيا تمتلئ شركاً وقبوراً، وهكذا سار أهل العلم يجددون فقه الشافعي رحمه الله، وفقه عالم المدينة مالك، وهكذا من قبل ومن بعد علماء كثر. إن مثل العالم في البلد كمثل عين عذبة يردها الناس فيستقون منها، هؤلاء أهل العلم الصحيح من الكتاب وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، لا من البدع والترهات، ولا من الشرك والكفر، هؤلاء أهل الإخلاص في طلبه وتبليغه للناس، ليسوا بأهل دنيا، ولا جماعون للأموال، ولا مرتادون للفارهات، إنما هم أهل الزهد والخشية، الذين كانت سيرتهم في أنفسهم دليلاً على خشيتهم لربهم، هؤلاء الأعزة الذين علموا الناس دين الله، وكانوا كثيراً ما يستخفون من الناس، ولكن الله سبحانه وتعالى يظهر فضلهم ومواقفهم، هؤلاء أهل التواضع الذين لو كثر الناس من حولهم فلا يحملهم ذلك على الترفع والتكبر، هؤلاء أهل الحق الذين يجانبون الهوى، فلا تميل بهم الأهواء. قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] هؤلاء الذين يتكلمون بالعلم لا بالظن، فإذا جاءوا إلى مسألة لا يعرفونها، قال الواحد منهم: لا أدري، وتوقف عن الفتيا، ومن هو في العلم؟ جبل عظيم.

تحريهم والأخذ بفتواهم

تحريهم والأخذ بفتواهم أيها المسلمون: لذلك كان حقيقاً على كل واحد منا أن يتحراهم، ويتتبع أخبارهم، ويأخذ من عملهم، ويستفتيهم، ويلجأ إليهم في مسائله وفتاواه، هؤلاء الذين لا يخفون على أهل البصيرة، أما أهل الجهل والبسطاء، فيظنون كل من لبس لباساً معيناً عالماً، ويظنون أن كل من أظهر إظهاراً معيناً فقيهاً، ولذلك فإن المسألة بحق تحتاج والله إلى فقه وبصيرة حتى من قبل العامة، فيا من يلجئون إليه للاستفتاء والسؤال! هذا دين أمانة، ولذلك ينبغي على المسلمين أن ينقبوا تنقيباً عن أهل العلم، ولو سافروا إليهم، ولو وقفوا الساعات الطويلة على هواتفهم وأبوابهم، هؤلاء الذين يعتمد طلبة العلم عليهم. من هو العالم الذي نسأله؟ من هو العالم الذين نستفتيه؟

التأدب معهم في جميع المعاملات

التأدب معهم في جميع المعاملات العلماء الواجب نحوهم الأدب، ولذلك فإنه يتلطف في سؤالهم، ولا يضرب بأقوال بعضهم البعض، ولا يحمل الإنسان التعنت على مجادلتهم والمشقة عليهم، هؤلاء الذين ينبغي أن يتلطف معهم غاية التلطف عند توجيه الأسئلة، هؤلاء الذين ينبغي على الإنسان أن يعمل بفتواهم ويجانب الهوى، وليس أن يتتبع الرخص، ويسأل عن الأسهل. هؤلاء -أيها الإخوة- ينبغي أن يكون لنا معهم موقف شرعي في عدم الغلو بهم، وعدم جفائهم وترك الأدب معهم، وإنما هو أدب معهم، وإنزال لهم منازلهم، حق العالم على الإنسان أعظم من حق الوالد. من علم الناس كان خير أب ذاك أب الروح لا أب النطف

ستر أخطائهم وعيوبهم

ستر أخطائهم وعيوبهم هؤلاء الذين ينبغي التأدب معهم حتى في طريقة إتيانهم، فلا تلح عليه إذا كسل ولا تأخذ بثوبه إذا نهض، ولا تشر في وجهه بيدك، ولا تفش له سراً، ولا تمش أمامه، ولا تتبرم من طول صحبته، فإنما هو بمنزل النخلة، تنتظر ما يسقط عليك منها، القعدة بين أيديهم، كقعدة جبريل التي علمنا إياها. هؤلاء الذين تستر أخطاؤهم وعيوبهم، ولا يشنع عليهم، وهؤلاء الذين يدعى لهم، وحتى عند الاستفتاء لا تقل: رحمك الله، ولا تقل: رضي الله عنك، ولا تقل: وفقك الله وسددك، ورحم والديك، يتقرب إلى الله بخدمتهم، والتواضع لهم، تعظم حرمتهم، وتستر زلاتهم، وتقضى حوائجهم، ويدخل السرور عليهم، بل ويتحف أولادهم. هؤلاء الذين ينبغي أن يدعى لهم، كان بعض العلماء يدعو لمشايخه في كل ليلة، هؤلاء الذين لا يصح الإفتاء بحضرتهم، فكيف يتزبب ولم يتحصرم بعد، هؤلاء الذين يصبر على جفوتهم، وتبذل لهم الأعذار إذا أخطئوا ومن الذي لا يخطئ من البشر؟ لا تدخل مجالسهم إلا بالاستئذان، ولا يشق عليهم، ولا تطرق الأبواب عليهم في حين راحتهم. كان ابن عباس رضي الله عنه يجلس في طلب العلم على باب زيد حتى يستيقظ، فيقال له: ألا نوقظه لك؟ فيقول: لا. وربما طال مقامه وقرعته الشمس. وقال أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله: [ما دققت على محدث بابه قط، وكنت أصبر حتى يخرج إلي، وتأولت قول الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} [الحجرات:5]]

حفظ لحومهم

حفظ لحومهم وكذلك تحرم غيبتهم جداً، ولحومهم مسمومة، وعادة الله في الانتقام من شانئيهم معلومة، وهكذا ينبغي علينا أن نسعى في نشر علمهم، وهذا هو المكسب يا عباد الله؛ العلم ونشره، فإن نشر العلم من الصدقات الجارية، ولو لم تكن صاحب علم، فإذا نشرت كتاباً أو وزعته أو صورت فتوى، ونحو ذلك من العلوم، كان لك من الأجر مثل أجر من انتفع بها، فاحرص يا عبد الله على نشر العلم، فإنها من الصدقات الجارية. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من أهل الفقه في الدين، وأن يرزقنا اتباع طريق سيد المرسلين، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، اللهم فقهنا في ديننا يا رب العالمين، واجعلنا من أهل الإخلاص لا من أهل الهوى، إنك سميع مجيب قريب، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

وفاة الشيخ ابن عثيمين

وفاة الشيخ ابن عثيمين الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله العليم علام الغيوب، وأشهد أن محمداً رسول الله، علمنا فأحسن تعليمنا، صلى الله عليه وعلى آله وصبحه أولي العلم والنهى، صلى الله عليه وعلى من تبعه بإحسان إلى يوم الدين. عباد الله: إن فقد العلماء مصيبة، وإن ذهابهم رزية، وإن موت العالم العظيم ثلمة في الإسلام، وإنها لمصيبة ينبغي أن تقدر حق قدرها، وينبغي أن نعلم ماذا خسرنا حقاً، لا لأجل أن ننوح ونصيح، ولكن لأجل أن نسعى في استدراك النقص، والوصول إلى الطرق التي تؤدي إلى التعويض. يا عباد الله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الرعد:41] كان ابن عباس رضي الله عنه يقول: [موت علمائها وصلحائها]، وكثير من أهل التفسير ذهبوا إلى أنه نقصان بلاد الشرك بفتحها من قبل أهل التوحيد: لعمرك ما الرزية فقد مال ولا شاة تموت ولا بعير ولكن الرزية فقد شهم يموت بموته خلق كثير فعندما يودع العالم قبراً، يتأسف على العلم، فيدفن في القبر علم كثير غزير، فمن بمثل اجتهاده وقدرته على النظر في الأمور. الكتب كثيرة -يا عباد الله- لكن الفقه والقدرة على الاجتهاد والاستنباط من الذي يقوم بها؟ لا الآلات الحاسوبية ولا غيرها، إنما هي عقول العلماء، إنما هي تلك القلوب الحية التي يعقلون بها، وقد فجع المسلمون بوفاة شيخهم وعالمهم وصاحب الاجتهاد والفقه/ محمد بن الصالح العثيمين رحمه الله رحمة واسعة، الذي ذهب إلى ربه ورحل عن هذه الدنيا، وكان قد استمر حتى آخر عمره في التعليم ونفع الناس والحرص على ذلك، رحل بعد مرض نرجو أن يكون له شهادة عند ربه. خلوت به قبل موته فقلت له مواسياً: يا شيخنا إن عشت؛ فهو خير ونفع عظيم لنا إن شاء الله، وإن رحلت فليس في هذه الدنيا كبير شيء يؤسف عليه، والحمد لله أنك تركت علماً كثيراً، فقال: أقول كما قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله فيما رواه البخاري عنه قال: [إن للإيمان فرائض وشرائع وحدوداً وسنناً، فمن استكملها استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان، فإن أعش فسأبينها لكم حتى تعملوا بها، وإن أمت فما أنا على صحبتكم بحريص]. رحل ولم يترك أرصدة في بنوك، ولا قصوراً فارهةً، ولكن ترك العلم بهذه المؤلفات والفتاوى، وهذا ميراث الأنبياء، لقد كانت الجنازة مشهودة، والقاعدة السلفية تقول: آية ما بيننا وبينهم يوم الجنائز. وإن الناظر في العدد الكبير من الحضور، والكم الهائل من البشر الذين شهدوها، ليذكر قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} [مريم:96] وكذلك نذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم، لما قال أنس: (مروا بجنازة فأثنوا عليها خيراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وجبت، ثم مروا بأخرى، فأثنوا عليها شراً، فقال: وجبت، فقال عمر رضي الله عنه: وما وجبت؟ قال: هذا أثنيتم عليه خيراً، فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شراً، فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض) وفي رواية: (شهادة القوم المؤمنون، شهداء الله في الأرض) وهكذا استنبط شيخ الإسلام رحمه الله من هذا: أن من أثنى عليه المسلمون خيراً، واجتمعت كلمتهم على الثناء عليه أنه من أهل الجنة إن شاء الله، واجتماع العدد الهائل ومئات الألوف والمنظر الغريب لأهل مكة في اختراق شوارعهم، من أعداد الناس صغاراً وكباراً، شيباً وشباناً وكهولاً، حيث تعطلت الشوارع، وخرجت الجنازة بعد العصر مباشرة، فلم يفرغ إلا قبل المغرب بمدة يسيرة. أيها المسلمون: هذا فيه درس عظيم لنا في حسن السيرة، إذا أحسنا سيرتنا، فإن الله يقيض من ألسنة المسلمين من يثني علينا خيراً، وبالتالي يكون حكم المسلمين عند الله ثابت: (أنتم شهداء الله في الأرض) فأين حسن السيرة، وحسن الطريقة والتزام الحق المبين؟ لا شك أن الفجيعة عظيمة، ولكن ليس لنا بد من الصبر، فماذا نفعل إلا الصبر، وهل عندنا غير الصبر؟ وهل يطيب العيش إلا به؟

قصيدة رثاء

قصيدة رثاء تباركت ربي حين تعطي وتمنع تباركت ربي حين تدني وترفع تباركت ربي عزةً وجلالةً إليك إذا ما احلولك الخطب نفزع لك الخلق تقضي حكمة وتلطفاً وكل إلى الله المهيمن يرجع لك الحكم إن ضاقت علينا وإن بغت ففضلك يا منان أرضى وأوسع لك الأمر إن لاحت خطوب جسيمة فحفظك يا رحمان أقوى وأنفع تباركت ثبت مهجة قد تفطرت وقلباً على وقع الرزايا يفزع أتاك لظى دمعي وهمي وغربتي وآهات روحي والفؤاد المفجع أعالج جمراً في الحشا وصبابة وتصلى على نار المصيبة أضلع وأبكي فأستعزي بذكر حبيبنا فأسلو وما يجديك أنك تجزع لعمري وإن كانت حياة طويلة فكل له في صولة الدهر مصرع غرورٌ وأحلامٌ وهمٌ وحسرةٌ وظلٌ تولى والجديد يرقع أأبكيك شيخ الزهد والعلم والتقى وقد حق أن أبكي فؤاداً يصدع وتسلمنا الدنيا لبلوى ومحنة وللشر أنياب بها السم يلمع لئن غبت جثماناً فوالله لم تغب وذكرك يبن الناس أبقى وأرفع تراثك موصولٌ وعلمك خالدٌ وخيرك للغادي مصيف ومربع وما مات من زانت بساتين فكره وفتواه في العلياء كالشمس تسطع وما مات من أسدى إلى الحق عمره وقلبك بالأخرى شغوفٌ مولع يهل كأن القطر من حسن قوله فتثمر أغصانٌ ويزهر بلقع ركبت مطايا العزم تقوى وهمة وأنت لفعل الخير أدنى وأسرع وأسدلت ثوب الزهد ثوباً مسربلاًً وذلك ثوب ليس والله يخلع ومن ذاق طعم الأنس بالله حقبةً فليس له في عيشة الزيف مطمع وغيرك يستعلي عروشاً كسيحة وأنت على عرش القلوب تربع تفكرت في دنياك والأمن سابغٌ لمن كان لله المهمين يخشع صلاةٌ وقرآنٌ وذكرٌ ومسجدٌ وحولك أجيالٌ وعانٍ وموجع فأنَّى لظلم النفس حظٌ وإنما شغلت بفعل الخير والدرب مهيع وكم قمت في عين الملمات فانثنت وأنت لحصن الدين باب ممنع وقفت بشهر الصوم طوداً على الضنا تبش فلا تشكو ولا تتوجع بلاءٌ لو استعلى على رأس شاهقٍ لخر من البلوى طريحاً يصدع بليت وفي البلوى طهورٌ ورفعةٌ وفي غمرة السكرات تفتي وتنفع ومن حولك الأجيال من كل بقعةٍ وأرواحهم تشتاق والدهر يسمع فأنساهم خوفاً عليك من الردى فوائد حبرٍ عن قريبٍ تشيع تركتهم جمعاً أقاموا على الأسى أعيذهمُ بالله من أن يضيعوا ستخلدي يا ذكرى العثيمين معلماً على هامة الأيام تاجٌ مرصع فوالله لا تنفك تبكيك أمتي ويأسى على ذكراك قلب ومدمع فتاواك أنوارٌ وصوتك رحمةٌ ونصحك مثل الغيث والشرح ممتع ونعشك أجفاني وقبرك مهجتي وذكرك للصحب المحبين منبع لئن أودعوك اليوم في طيب الثرى فقد علموا من في ثرى الطيب ودعوا وجاورت قبر الباز حباً وصحبةً عسى أن يكن في جنة الخلد مجمع تخلد أعمال الدعاة وتزدهي وفاءً إذا ما زال كسرى وتبع عليك سلام الله ما هل هاطل وما هب نسمٌ وانحنى متضرع {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30] قوموا فلنمت على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، تلك العبارات العظيمة، تلك الآية العظيمة والقاعدة الجليلة التي لأجلها وعليها استمر الصحابة بعد النبي صلى الله عليه وسلم.

الحث على الاستفادة من مؤلفات الشيخ ونشرها

الحث على الاستفادة من مؤلفات الشيخ ونشرها أيها المسلمون: إن عزاءنا في فقده علمه الذي تركه، فهو الذي ينبغي الاستفادة منه، ونشره، مع نشر فتاوى أهل العلم، خصوصاً في هذه القضايا المعاصرة التي تكلموا فيها ولا توجد في كتب الفقه من قبل. أيها المسلمون: إننا ولله الحمد نعتقد اعتقاداً جازماً بأن ما عند الله خيرٌ للأولياء المتقين مما في الدنيا، وهذا الذي يخفف المصاب، وإننا لنعتقد أن الله لا يضع دينه، وأن الله جاعلٌ في هذه الأمة خيراً، وأن الله سبحانه وتعالى لا بد أن يقيض لهذه الأمة من يرفع شأن الدين، ولا يزال في هذه الأمة طائفةٌ منصورة ظاهرة على الحق، لا يزال في هذه الأمة مجتهدٌ وقائمٌ لله بالحجة، وإنها لفرصة أن نذكر أعداء الدين من المنافقين أن عناية الله بالدين مستمرة، وأنهم لا يصح لهم أن يفرحوا، وإنما هو مسلسل مستمر، وأن السيد سيخلف السيد إن شاء الله، وأن الله سبحانه وتعالى ما أنزل دينه إلا ليستمر، وأنه لا يخلو الزمان من إمام قائم لله بالحجة، وإننا في الوقت الذي نقدر فيه خطورة الموقف بتوالي ذهاب العلماء، وخصوصاً الثلاثة الكبار الذين رحلوا عنا، عبد العزيز بن باز، ومحمد ناصر الدين الألباني، ومحمد بن الصالح العثيمين، فإننا في الوقت نفسه نؤكد على أن العلم لا بد أن يستمر مشواره، وأنه لا بد أن تبذل الأوقات من أجله، وأنه لابد أن يحرص على طلبه. أيها المسلمون: إننا نريد أن نوجه عواطفنا توجيهاً إيجابياً لأجل إنقاذ العلم واستمراره والحرص عليه. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من أهل العلم الحريصين عليه، وأن يجعلنا من المستفيدين من فتاوى أهله، وأن يجعلنا من الذين ينشرونه. اللهم ارحم الشيخ محمداً، وارفع درجته في المهديين، وأخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، واجزه عن الإسلام وأهله خير الجزاء. اللهم انفع بعلمه وفقهه، واجزه به الجزاء الأوفى، اللهم اجعله مع الرفيق الأعلى، اللهم اجعله مع الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، اللهم إنا نسألك أن تغيث هذه الأمة غوثاً عاجلاً يا رب العالمين! اللهم انصر أهل العلم والجهاد، واقمع أهل البدعة والفساد، اللهم من أراد إفساد ديننا، فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

(100) فائدة من العلامة الشيخ ابن عثيمين

(100) فائدة من العلامة الشيخ ابن عثيمين لقد فجع المسلمون بوفاة أحد ورثة الأنبياء في هذا الزمان، وهو الشيخ الفقيه الزاهد محمد بن صالح بن عثيمين، إذ يحتل مكانة عظيمة في نفوس الأمة. ولقد جاءت هذه المادة مبينة لجزء كبير من حياة هذا الشيخ الذي صبر متعلماً ومعلماً فنال شرف الإمامة في الدين، فقاد الأمة وبصرها بأمور دينها حتى آخر لحظة من حياته.

قبسات من حياة الشيخ ابن عثيمين

قبسات من حياة الشيخ ابن عثيمين الحمد لله الذي جعل في كل زمانٍ أئمة يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، وينهون عن الردى، ويحيون بكتاب الله أهل العمى، ويدلونهم على التقى، فكم من قتيلٍ لإبليس قد أحيوه، وكم من ضالٍ تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وما أقبح أثر الناس عليهم. ينفون عن دين الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، هم للناس كالنجوم في السماء، يُهتدى بهم في ظلمات الجهل والشبهات، كما يهتدى بالنجوم في الظلمات الحالكات، والطرق المهلكات، ويحرسون الشريعة من سهام شياطين الإنس والجن، الملبسين والمفسدين، كما تحمي النجوم السماء من مسترقي السمع والمردة الشياطين، وهم فخر الشريعة وزينة الدين، كما كانت النجوم زينة للسماء وأنساً للمسافرين، فهم مصابيح الدجى، وأئمة الهدى، وحجة الله في أرضه، وورثة الأنبياء، والقائمون على وحيه، فهم غيظ الشيطان، وركيزة الإيمان، وقوام الأمة، وهم الساهرون على حراسة الحق الناشرون له، المعارضون للباطل المحاربون له، المتحملون في هذا السبيل كل أذىً ومشقة، يصلحون ما فسد، ويقومون ما اعوج، ويدعون إلى الطريق المستقيم؛ طريق النجاة والسلامة، غير هيابين ولا وجلين، ولا يخافون في الله لومة لائم، ولذلك شرفهم الله بقوله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]، لا يسكتون عن حقٍ وجبت إذاعته، ولا يكتمون مما أنزل الله حكماً شرعياً؛ لأنهم آمنوا بقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة:159]، رفع الله مكانتهم، وقرن شهادته بشهادتهم، فقال سبحانه وتعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18] وهم أهل الفضائل والمكاسب، الذين بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم فضلهم بقوله: (فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب). أيها الإخوة والأخوات: إن الحديث عن العلماء ليبعث الرهبة في النفس، لأننا نتحدث عن ورثة الأنبياء، وإذا مات العالم العظيم انثلم في الإسلام ثلمة حتى يخلف الله غيره، وقد فجعنا وفجع المسلمون بوفاة أحد ورثة الأنبياء في هذا الزمان ممن نحسبه، وهو الشيخ الفقيه الزاهد محمد بن صالح بن عثيمين رحمة الله عليه، ونحن نعلم أن الموت نهاية كل حي، ولذلك لا بد أن نعكف على علوم العلماء وأخبارهم، لأن المقصود ليس إثارة الأحزان، ولا تقليب المواجع والوجدان، ولكن الاقتداء بهم، والاستفادة منهم، والتعلم من علومهم، والتشبه بسيرتهم: فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاحُ

مولد الشيخ ابن عثيمين وحرصه على العلم والعمل

مولد الشيخ ابن عثيمين وحرصه على العلم والعمل ولد الشيخ رحمه الله في 27/رمضان من عام (1347هـ) وأنفق نحواً من خمسين سنة من حياته يعلم دين الله تعالى. كان حريصاً على العلم منذ صغره، فقد نبغ وحصل المتوسطة والثانوية والجامعة في أقل من ست سنين، وزامل الشيخ عبد الله البسام رحمه الله في الدراسة على يد الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، فكانا يحفظان المتون معاً، ويسرد كل واحدٍ منهما على الآخر ما حفظه من المتون، وحدثني الشيخ عبد الله البسام أنه كان يراجع القرآن مع الشيخ ابن عثيمين، يبدأ الأول فيقرأ ثمناً، ثم يقرأ الآخر الثمن الذين يليه وهكذا، حتى إذا انتهت الختمة بدءا ختمة جديدة، لكن فمن بدأ أولاً يبدأ ثانياً وهكذا حتى يكون كلٌ منهما قد قرأ القرآن وراجعه كله.

صبر الشيخ متعلما

صبر الشيخ متعلماً وقد صبر الشيخ رحمه الله متعلماً، وصبر معلماً. فأما عن صبره معلماً فسيأتي، وأما صبره متعلماً فلا بد أنه قد صابر نفسه كثيراً حتى وصل إلى ما وصل إليه، ومن ذلك: أنه كان يلازم شيخه العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي، فأخذ عنه الكثير؛ خلقاً وعلماً. وقد حدثني أحد أولاد الشيخ السعدي: أن الشيخ محمداً كان يمشي مع شيخه عبد الرحمن حتى في طريقه إلى الدعوات التي يدعى إليها شيخه، يسأله في الطريق ويأخذ عنه، حتى يصل إلى باب بيت صاحب الدعوة، فيدخل الشيخ ابن سعدي ثم قد يرجع الشيخ محمد وقد يدخل. وقد تأثر الشيخ محمد بشيخه عبد الرحمن جداً، وسمعت عن رؤيا له في شيخه، فسألته عنها في أحد مواسم الحج، فقلت: ذُكر أنكم رأيتم شيخكم عبد الرحمن السعدي في المنام، فسألته: ما أكثر ما نفعك عند الله بعد الموت؟ فقال: حسن الخلق، فهل هذه الرؤية صحيحة؟ فقال: نعم، غير أني لا أذكر الآن هل قال لي: تقوى الله، أو حسن الخلق، ولكن الرواية التي سمعتها جزماً من بعض طلاب الشيخ أنه قال له: إن أكثر ما نفعه عند الله حسن الخلق. أيها الإخوة: عندما يتعلم الإنسان العلم والأدب يكون شيئاً آخر، ولابد من علم وأدب مجتمعين، وهكذا كان طلاب الإمام أحمد في درسه وحلقته يتعلمون العلم والأدب. وقد اهتم الشيخ محمد رحمه الله بالحفظ جداً؛ وهذا الذي نفعه كثيراً، وكان يقول: قرأنا كثيراً فلم يبق معنا إلا ما حفظنا، وكان يوصي بحفظ المتون والقواعد في الفنون المختلفة، وفقه الشيخ الكتاب والسنة، ولم يكن متعصباً لمذهبٍ، ولا أسيراً لعباراتٍ معينة، والأمر كما بين شيخه عبد العزيز بن باز رحمه الله، بأنه ليس العالم الذي يحفظ مختصر خليل، ومتن الخرقي، ولكن العالم هو الفقيه بالكتاب والسنة.

عبادة الشيخ

عبادة الشيخ كان الشيخ محمد رحمه الله ذا عبادة؛ ينام مبكراً بعد العشاء، فإذا جاءت الساعة الثانية يستيقظ تلقائياً بغير منبه؛ ليقوم الليل ويعمل ما يعمل، وقال أحد من رافقه مرة في سفرٍ، وقد ذهب مع الشيخ في دعوة فرجعا متأخرين كالين متعبين إلى مسكنهما، فوضع كلٌ منهما رأسه الساعة الواحدة ليلاً، واضطجع الشيخ، قال المرافق: وأثناء النوم انتبهت قرابة الساعة الثالثة أو الثالثة والنصف، وكنا قد نمنا قرابة الواحدة والنصف، فحينما انتبهت انتبهت على صوت الشيخ وهو قائم يصلي، وفي هذا الوقت الذي كان هو في أمس الحاجة إلى النوم والراحة فيه، كان -رحمه الله- قائماً لله جل وعلا يصلي.

مداومة الشيخ ابن عثيمين على العمل

مداومة الشيخ ابن عثيمين على العمل كان الشيخ رحمه الله يداوم على العمل، فإذا عمل عملاً لا يتركه؛ امتثالاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم وحديثه في المداومة على العمل: (أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل) فكان لا يترك صيام ثلاثة أيام من كل شهر، ولو سافر وانشغل قضاها بعد سفره، ولما اعتاد الذهاب إلى بيت الله الحرام ومكة للتدريس، استمر على هذه العادة، ولم ينقطع حتى في السنة التي مات فيها، وفي مرض الموت ذهب إلى هناك على عادته يعبد الله ويدرس دين الله، ولما رتب الدروس لطلاب العلم لم يكن ينقطع عن ذلك، ولم تتوقف الدروس إلا فيما ندر، وهذا مما رغب طلبة العلم فيه، فجاءوا إليه من أماكن بعيدة، بينما ترى أنت أحياناً اليوم عدداً ممن يفتح دروساً سرعان ما يغلقها، فلا يصبر الذي يُلقي ولا الذين معه، وسرعان ما ينفرط العقد، وقضية العلم -أيها الإخوة- لا بد فيها من صبرٍ ومصابرة. وكان الشيخ -رحمه الله- يواظب على الصدقة صباح كل يوم جمعة، ولم يترك هذه المواظبة إلا لما تبين له أنه لم يثبت في ذلك سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم. وكان -رحمه الله- مداوماً على قراءة ورده من القرآن، يقرأه وهو ماشٍ إلى الصلاة، كان لا يركب بل يمشي، ولا يقبل أن يقاطعه أحدٌ وهو ذاهبٌ إلى المسجد؛ لأن هذا وقت الورد -ورد القرآن- فإذا اضطر إلى كلامِ صاحبِ الضرورة وتأخر شيئاً ما في قراءة الورد ووصل إلى المسجد ولم يتم ورده وقف عند باب المسجد ولم يدخل إلى إقامة الصلاة حتى ينهي ورده، فيستغرب بعض الذين يرونه: الشيخ واقفاً وليس معه أحد، ماذا يفعل؟ وفي الحقيقة أنه يتم ورده.

زهد الشيخ ابن عثيمين في الدنيا

زهد الشيخ ابن عثيمين في الدنيا وكان الشيخ زاهداً في الدنيا، ليس من أهل العقارات ولا الأموال، وكان ما يأتيه من الرواتب ينفقه على أهله، وقد أعطي سيارة جديدة فلم يستعملها، فلما علاها الغبار سحبت من أمام البيت، وأعطي بيتاً كبيراً فوهبه لطلبة العلم، وسيارته قديمة (مازدا من الثمانينات) ومن تأمل غترته وبشته ونعله عرف أنه رجلٌ زاهد غير متعلقٍ بالدنيا، ولا هو من أصحاب المظاهر.

ورع الشيخ ابن عثيمين

ورع الشيخ ابن عثيمين كان الشيخ -رحمه الله- عالماً ورعاً فيما نحسب، وقد يفتي بجواز أشياء ويترجح لديه إباحتها ولكنه لا يستعملها ورعاً كالكحول، فأخبر أنه لا يضع الطيب الذي فيه كحول؛ ولكنه قال: ولكني قد أستعمله في تعقيم الجروح. ومن قصص ورعه: أن الكلية قد كلفته مرة أن يضع منهجاً لأحد المراحل، وخففوا نصابه التدريسي لأجل ذلك، ليكون عنده شيءٌ من التفرغ لإتمام ذلك المنهج في الوقت المحدد، وبعد أن فرغ من إتمامه -رحمه الله- صرفت له الكلية مكافأة، وهي تصرف له ولغيره ممن يضع المناهج، ويكتب هذه المواد الدراسية، فاستغرب الشيخ من تسليمه هذه المكافأة، وأخذها إلى أحد مسئولي فرع الجامعة ليعيدها، فاعتذر بأدبٍ عن استرداد المبلغ؛ لأن الشيخ قبل بالتكليف، ولوائح الجامعة وأنظمتها تنص على صرف مثل هذه المكافأة، وإعادة المبلغ بعد صرفه فيه إرباك للإدارة المالية هي في غنى عنه لم يعجب الشيخ تصرف الكلية بعدم أخذ المال، وذهب إلى مدير الجامعة لإعادة المال الذي حاول بدوره إقناع الشيخ بأحقيته بهذه المكافأة، كما تنص عليه أنظمة الجامعة، فرد الشيخ -رحمه الله- بأن الكلية حينما كلفته بالتأليف خففت عنه نصاب التدريس وأنه استفاد من هذا التخفيف في التأليف وهذا مقابل هذا، فلماذا إذاً يعطى شيئاً إضافياً وهو لا يستحقه، فاقترح عليه مدير الجامعة أن يتصدق بالمبلغ، ولكن حتى هذا الاقتراح لم يقبله، وأصر على إرجاع المبلغ وبعد ذلك تتصرف به الجامعة. حدثني ضابط مرور، قال: وهذه القصة حصلت معنا، وإذا أردت أن تذكرها فاذكرها، خرج الشيخ مرة مع شخصٍ بسيارته -بسيارة هذا الشخص- يقودها من عنيزة إلى بريدة في مهمة في مشروع خيري، فأسرع السائق المرافق للشيخ، وكان في الطريق نقطة تفتيش على السرعة الزائدة، فأوقفوا السيارة لإعطاء المخالفة، فنظر العسكري في السيارة فإذا فيها الشيخ محمد بن صالح العثيمين فاستحيا، وقال: تفضلوا امشوا، فمشت السيارة، وبعد برهة يسيرة قال الشيخ للذي معه: لماذا أوقفونا؟ قال: لأجل السرعة الزائدة، قال له: ارجع إلى هذه النقطة، فاستدار ورجع على أمر الشيخ، فلما وصل إلى المكان قال لهذا العسكري: لماذا أوقفتنا قبل قليل؟ قال: يا شيخ! كان في سرعة زائدة، قال: ولماذا تركتنا نمضي؟ قال: قلت لعلكم مستعجلون وعندكم مسألة مهمة، قال: لا. كم هي مخالفة السرعة؟ قال: يا شيخ! لا داعي لذلك! قال: كم هي مخالفة السرعة؟ قال: ثلاثمائة ريال، قال الشيخ: هذه مائة وخمسون مني ومائة وخمسون تأخذها من هذا لأنه خالف، ولأني لم أنصحه، وأصر على دفع المبلغ. ومن احتياطه لأموال المسلمين: أنه سلم مرة رئيس جمعية خيرية كيس تبرعات فيه مال وفير، فلما أخذه هذا وانطلق به إلى سيارته لحقه الشيخ إلى السيارة، وقال: انتبه! إن في الكيس نصف ريال، كأن الشيخ خشي أن ينسوه حين تفريغ الكيس؛ لأنه نصف ريال، وهذه صدقة مسلم قد تقع عند الله موقعاً عظيماً، وهي أمانة، وإذا وكلت ذكر الموكل.

تواضع الشيخ ابن عثيمين

تواضع الشيخ ابن عثيمين وكان رحمه الله متواضعاً لا يأنف أن يركب أي سيارة مهما كانت قديمة، بل ربما ركب بعض السيارات وتعطلت به، ونزل يدفع مع السائق، ويخشى أن تفوت الصلاة في المسجد، ودخل مرة البلد والمساجد مغلقة بعد ما رجع من سفر، فلف على المساجد حتى وجد مسجداً مفتوحاً فبدأ به بركعتين تطبيقاً للسنة. وكان رحمه الله من تواضعه لا يرضى أن يقال له: العلامة، وإذا سجل أحد طلابه ذلك في الشريط، قال له: امسحه من الشريط، وقلت له مرة: يا شيخ! هذه المسائل التي سألتك إياها سنجمعها في كتاب ونسميه: مسائل العلامة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين، قال: لا نريد العلامة ولا غيرها. وفي أحد اللقاءات الشهرية قال له أحد الحاضرين: يا شيخ! إني قد اغتبتك فاجعلني في حل، فقال: من أنا حتى لا أُغتاب وأنت في حل. وكان يقرب الفراشين الذين كانوا يخدمونه في المسجد، ويتحدث معهم. واستأذن بعض الشباب بقراءة أبياتٍ من الشعر نظمها في مدح الشيخ رحمه الله، فكان الشيخ يقاطعه مراراً معترضاً على مدحه، وطلب تغيير تلك الكلمات، وكلما سمع مدحاً اعترض وقاطع وأوقف الطالب، حتى قال الطالب: لا يصلح هذا يا شيخ! إما أن أقرأ ما كتبت أو أتوقف، فقال الشيخ: توقفك أحب إليَّ، ولم يرضَ رحمه الله بهذا المديح، والقصة تسمعها في الشريط فتتأثر من هذا والقصة ملخصة على النحو التالي: قال الطالب بين يدي الشيخ: أما بعد: فضيلة الشيخ! أستأذنكم في هذه القصيدة: يا أمتي إن هذا الليل يعقبه فجرٌ وأنواره في الأرض تنتشرُ والخير مرتقبٌ والفتح منتظرُ والحق رغم جهود الشر منتصرُ وبصحوة بارك الباري مسيرتها نقية ما بها شوبٌ ولا كدرُ ما دام فينا ابن صالح شيخ صحوتنا بمثله يرتجى التأييد والظفر قال الشيخ: أنا لا أوافق على هذا البيت؛ لأني لا أريد أن يربط الحق بالأشخاص، كل شخص سيفنى، فإذا ربطنا الحق بالأشخاص فمعناه أن الإنسان إذا مات قد ييأس الناس من هذا، فأقول: إذا أمكنك الآن فبدل البيت: ما دام فينا كتاب الله وسنة رسوله فهذا طيب. الطالب: مادام فينا كتاب الله وسنة رسوله ابن العثيمين الشيخ: لا هذه لا تأتي بها لا توقف الطالب: فقيهنا. تداخل: دعه يواصل. الشيخ: لا لا لا لا. لا أرضى، ما عندك إلا هذا؟ الشيخ: أبداً وليس له داعٍ يا رجال! فقط أنا أنصحكم من الآن وبعد الآن ألا تجعلوا الحق مربوطاً بالرجال، الرجال قد يضلون، حتى ابن مسعود يقول: [من كان مستناً فليستن بمن مات؛ فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة] الرجال إذا جعلتم الحق مربوطاً بهم، فالواحد منهم قد تقتلب نفسه -نعوذ بالله من ذلك- ويسلك طرقاً غير صحيحة، ولذلك أنا أنصحكم الآن ألا تجعلوا الحق مقيداً بالرجال لأمور: أولاً: لا يأمن الإنسان -نسأل الله أن يثبتنا وإياكم- الزلل والفتنة. ثانياً: أنه لا أحد يبقى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء:34]. ثالثاً: أن بني آدم بشر، ربما يغتر إذا رأى الناس يبجلونه ويكرمونه ويلتفون حوله، ويظن أنه معصوم، ويدعي لنفسه العصمة، وأن كل شيءٍ يفعله فهو حق، وكل طريق يسلكه فهو مشروع، فيحصل بذلك الهلاك، ولهذا امتدح رجلٌ رجلاً عند النبي عليه الصلاة والسلام فقال: (ويحك! قطعت عنق صاحبك، أو قال: ظهر صاحبك)، وأنا أشكر الأخ مقدماً وإن لم أسمع ما يقوله فيَّ على ما يبديه من الشعور نحوي، وأسأل الله أن يجعلني عند حسن ظنه أو أكثر، ولكن لا أحب أن أمدح.

صبر الشيخ ابن عثيمين معلما

صبر الشيخ ابن عثيمين معلماً وأما عن صبر الشيخ في التعليم: فقد صبر عالماً ومعلماً، واتجه الشيخ للتعليم من مرحلة مبكرة من عمره، فدرس قريباً من خمسين عاماً، نصف قرنٍ من الزمان أنفقها ذلك الشيخ -رحمه الله- في تدريس دين الله، وكان قبل أن يشتهر مواظباً على التدريس مهما كان عدد الحضور، حتى إنه كان لا يحضر عنده في بعض الأوقات إلا أربعة أشخاص، وأحياناً يغيب نصفهم، ومرة جاء الشيخ إلى مكان الدرس فلم يجد إلا كتاباً وضعه أحد الطلاب في مكان الحلقة وانصرف لشيءٍ، فلما رأى الشيخ ذلك، توجه إلى المحراب وأخذ مصحفاً وجلس يقرأ فيه، فجاء الطالب ووجد الشيخ يقرأ ولا يوجد إلا كتابه فاستحيا وأخذ الكراس وانصرف. وظل الشيخ مصابراً حتى فتح الله عليه، فصار يجلس في حلقته نحو خمسمائة طالب، وفي درسه في الحرم ومحاضراته الخارجية أضعاف هؤلاء، وصبر على الإفتاء في شتى المجالات، ورتب الدروس والمحاضرات. وكان له رعاية لطلابه، وكان يكلف بعضهم بمراجعة الأحاديث، أو تحرير بعض المسائل، وينظر في ذلك كله ويتابعه، بل كان يجعل بعضهم يدرس بعض المبتدئين. وقد سعى الشيخ -رحمه الله- إلى توفير سكنٍ للطلاب المتزوجين وغير المتزوجين، وهيأ لهم داخل السكن مكتبة تضمنت سائر أنواع الفنون، وكان حريصاً على تمرين طلابه على إلقاء الكلمات، وذلك في كل ليلة جمعة بعد المغرب وقبل الدرس، وكان حريصاً على طلابه، فإذا مرض أحدهم وأدخل المستشفى زاره فيه إن استطاع، وإذا صار الطالب المريض في مسكنه زاره في غرفته في العمارة المخصصة إن كان من العزاب، وفي شقته في عمارة المتأهلين إذا كان متزوجاً. وكان يتفقد طلابه ويعينهم وخصوصاً بالشفاعات، وكم دخل من طلابٍ الجامعة بسببه، وعولج أشخاص بسببه، وقضيت حاجات بتدخله وشفاعته، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اشفعوا تؤجروا) رواه البخاري. وفي فصل الشتاء كان يعطي طلاب السكن أوراقاً بمبالغ مالية محولة على محلاتٍ معينة ليشتروا بها ملابس شتوية لأنفسهم ولأولادهم، وكان يتابع تلامذته أثناء الدرس حتى لا يشرد ذهن أحدهم فتضيع عليه الفائدة، وذات مرة كان أحد تلامذته غير حاضر الذهن في الدرس، فأوقفه الشيخ وقال له: هل أنت فاهمٌ لما قلته؟ فقال الطالب: إن شاء الله، فقال الشيخ: هل على رأسك شماغ؟ فقال الطالب: نعم، فقال الشيخ: لِمَ لم تقل: إن شاء الله؟ لكنك عندما كنت غير فاهم للدرس قلت: إن شاء الله، والشماغ جزمت به! وكان له مع طلابه رحلة في كل ثلاثة أشهر يآنسهم فيها ويقيم مسابقات لهم بنفسه، ويخرج معهم إلى بعض المزارع المشتملة على أماكن للسباحة، وقد يلاطفهم فيأمرهم أن يغطسوا هذا، ويرموا هذا في الماء، وينتقي البدين، ولما أعرب أحدهم عن شكه في قدرة الشيخ على السباحة أثبت له ذلك عملياً، وسابق الشيخ بعض طلابه على الأقدام. وكان رحمه الله عالماً مؤدباً، لا يأذن لمن رفع يده الشمال في الدرس أن يجيب، ويأمر من دخل المجلس أن يصافح الأكبر سناً ثم من عن يمنيه، ودخل المسجد رجلٌ ومعه ولده المميز والولد لابسٌ حذاءً في قدميه في المسجد، فأراد الولد أن يسلم على الشيخ، فرفض الشيخ حتى يخرج الولد فيخلع نعاله خارج المسجد ثم يأتي فيسلم إذا أراد، ففعل الولد وخرج وخلع نعاله، ثم جاء وسلم على الشيخ فرد عليه وهش له، فخاف الأب أن الولد قد نفر من المسجد أو من الشيخ، فراقبه قال: فصار ولدي بعدها لا يمكن أن يدخل المسجد بحذائه. وربما يشتد الشيخ أحياناً على بعض السائلين تأديباً لهم لمخالفتهم للأدب معه، وما ترى من شدة في الشيخ أحياناً فلأنهم اجترئوا عليه، وربما لأجل هذا التأديب يشتد أحياناً. وكان للشيخ -رحمه الله- أدوارٌ عالمية، تمثلت في عدة جوانب، ومنها: إلقاء الدروس الشهرية وغيرها عبر الهاتف لبعض المراكز الإسلامية في أقطار الأرض، واتصاله بالأوضاع المأساوية التي حدثت في بلاد المسلمين، وأرسل بعض طلابه للتدريس وللدعوة في الخارج، وشارك في إرسال الكتب والأشرطة، ومراسلة المستفتين من الخارج بكتابات مدونة بخط يده، وهكذا.

الوفاء بالوعد عند الشيخ ابن عثيمين

الوفاء بالوعد عند الشيخ ابن عثيمين ومن دقته وعدله رحمه الله، أنه كان صادق الوعد، محافظاً على وقته، وإذا قلت: إن الشيخ يمر الساعة الرابعة إلا خمس دقائق مثلاً بالمكان الفلاني وهو ذاهبٌ إلى المسجد، فإنك تجده يمر بذلك المكان في ذلك الوقت بالضبط، يمشي كالساعة، وإذا أعطى موعداً التزم به على كثرة مواعيده وأشغاله، وقد جربت ذلك معه في موعدين في الأسبوع على هاتفه الخاص خصصت للرد لأسئلة المستفتين عبر الإنترنت، فكان يلتزم بالإجابة ويخبر بالتأجيل إذا حصل له شيء كظرف سفرٍ ونحوه، وكان في طريقه من المسجد إلى البيت راجعاً إذا بدأ أول طالب في القراءة عليه تصبح له الأحقية في الوقت، فإذا تدخل سائلٌ بسؤال استأذن الشيخ من القارئ قائلاً: هل تأذن لي أن أجيبه؟ وكان متحرياً للدقة والعدل، ومن أمثلة ذلك: التصحيح وتقدير الدرجات في الاختبارات، حتى لربما أعطى طالباً درجة واحدة من خمس وأربعين درجة؛ بل وواحداً من ثمانين، فيراجع في ذلك، فيقول: لا أستطيع أن أزيده فأظلم غيره، ولا أنقصه فأظلمه.

الشيخ ابن عثيمين وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر

الشيخ ابن عثيمين وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر كان الشيخ رحمه الله قائماً بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ما يستطيع، وإذا رأى أناساً لا يصلون في الطريق -يلعبون- أمرهم بالصلاة، وفي إحدى المرات كان الشيخ قد أدى العمرة مع جمع من تلامذته، وسكنوا جميعاً في مسكن واحد، وفي أثناء رجوعهم من المسجد الحرام إلى المسكن مر الشيخ -رحمه الله- على مجموعة من الشباب اللاهي يلعبون كرة القدم، فوقف الشيخ ينبههم وينصحهم للصلاة، فقابلوا الشيخ ببعض اللامبالاة والاستهزاء، فطلب ممن معه أن يذهبوا إلى المسكن، وبقي وحده مع أولئك الشباب، فلما رأى الشباب أن الشيخ مصر على البقاء ليذهبوا معه تلفظ أحد منهم لفظاً سيئاً في حق الشيخ، لعله قال حتى لا أجعل له مجالاً أن يبقى بيننا ويجعله ينصرف، فتبسم الشيخ وبقي جالساً مصراً على أن يقوموا للصلاة، وأن هذا الساب يذهب معه، وجلس وسطهم، فكأن الشباب استاءوا من مسبة صاحبهم لهذا الشيخ المسن، وقالوا له: اذهب مع الشيخ، كأنهم قالوا: خذه، فذهب هذا الشاب مع الشيخ فلما دخلوا المسكن استأذن الشيخ من الشاب قليلاً، فخاطب بعض طلاب الشيخ ذلك الشاب، وقالوا له: هل تعرف الشيخ ابن عثيمين من قديم؟ فكاد أن يغمى عليه من الصعقة، وقال: ماذا تقول؟ من هذا؟ قال: هذا الشيخ ابن عثيمين، ثم دخل الشيخ، فتأثر الشاب جداً وبكى وقبل رأس الشيخ، وطلب المسامحة، فما كان من الشيخ إلا أن سامحه، وهو الذي صبر عليه من قبل وهو يشتمه، ثم علمه الوضوء والصلاة، فتاب ذلك الشاب واستقام على يد الشيخ رحمه الله.

اهتمام الشيخ ابن عثيمين بأمور الجهاد وقضايا الأمة

اهتمام الشيخ ابن عثيمين بأمور الجهاد وقضايا الأمة لقد اهتم الشيخ -رحمه الله- بأمور الجهاد، ومن ذلك: جهاد المسلمين في بلاد البوسنة والهرسك، وكان قد خصص من وقته ساعة أو أكثر في كل أسبوع لأمور الجهاد في البوسنة يتصلون به فيفتيهم، وينظر حاجتهم، ويسمع أخبارهم ويستبشر بها وينشرها، واتصل به بعض المجاهدين مرة من البوسنة وسألوه عن حكم قتل الخطأ، وماذا يجب على القاتل؟ فبعد أن أجابهم الشيخ بما يجب من حق الله وحق أهل القتيل، قال: أما دية المقتول فعليَّ وسأرسلها لكم إن شاء الله. وكذلك كان اهتمامه بالجهاد في الشيشان، حتى ذهب بعض طلابه إلى هناك يعلمون ويدرسون، ويشرفون على تطبيق الشريعة في بلاد الشيشان. واهتمام الشيخ بقضايا الأمة، وقضية الاعتداء على حرماتها قديم، هذه خطبة خطبها الشيخ قبل اثنين وأربعين سنة وهي موجودة في كتاب الضياء اللامع من الخطب الجوامع. أما بعد: أيها الناس: فلقد مضى على احتلال اليهود للمسجد الأقصى أكثر من ثمان سنوات، وهم يعيثون به فساداً وبأهله عذاباً، وفي هذه الأيام أصدرت محكمة يهودية حكماً بجواز تعبد اليهود بنفس المسجد الأقصى، ومعنى هذا الحكم الطاغوتي إظهار شعائر الكفر في مسجد من أعظم المساجد الإسلامية حرمة، إنه المسجد الذي أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، ليعرج من هناك إلى السماوات العلا، إلى الله جل وتقدس وعلا، وإنه لثاني مسجد وضع في الأرض لعبادة الله وتوحيده، ففي الصحيحين عن أبي ذر وساق الحديث، ثم ذكر قصة طلب موسى من قومه دخول المسجد الأقصى -دخول تلك الأرض المقدسة- وماذا حصل لما تولوا، ثم قصة استيلاء الفرنجة والنصارى عليه، وقال بعد ذلك في شروط النصر: وأن الله ينصر من ينصره، وأن النصر لا يكون بالأقوال البراقة، والخطب الرنانة التي تحول القضية إلى قضية سياسية، وهزيمة مادية، ومشكلة إقليمية، وإنها والله لمشكلة دينية إسلامية للعالم الإسلامي كله. إن نصر الله عز وجل لا يكون إلا في الإخلاص له، والتمسك بدينه ظاهراً وباطناً، والاستعانة به، وإعداد القوة المعنوية والحسية بكل ما نستطيع، ثم القتال لتكون كلمة الله هي العليا، وتطهر بيوته من رجس أعدائه، أما أن نحاول طرد أعدائنا من بلادنا، ثم نسكنهم قلوبنا؛ بالميل إلى منحرف أفكارهم، والتلطخ بسافل أخلاقهم، أما أن نحاول طردهم من بلادنا ثم يلاحقهم رجال مستقبل أمتنا يتجرعون أو يستمرئون صديد أفكارهم، ثم يرجعون يتقيأونه بيننا، أما أن نحاول طردهم من بلادنا ثم نستقبل ما يرد منهم من أفلامٍ فاتنةٍ وصحفٍ مضلة إلى آخر كلامه المؤثر -رحمه الله تعالى- في قضية المسجد الأقصى.

نشاط الشيخ ابن عثيمين

نشاط الشيخ ابن عثيمين لقد كان الشيخ -رحمه الله- نشيطاً، فكان يذهب إلى المسجد على قدميه، والمسافة تقريباً كيلو ذاهباً وكيلوا راجعاً، ومقدار الزمن ربع ساعة بالمشي تقريباً، وأحياناً يذهب حافياً بدون نعال، وقد ثبت في السنة الاحتفاء أحياناً، وإذا كان هناك مطر أخذ معه مظلة، وقال لي الشيخ عبد الله بن جبرين مرة: هذا الرجل يمشي عشرة كيلو مترات يومياً من بيته إلى المسجد ذاهباً وراجعاً، وكان ذلك بعد أن عاد أخاه في الله محمد بن عثيمين في القصيم. وقد رأيت الشيخ محمداً مرة في المسعى، فمشيت معه أسأله وحوله بعض الشباب، فلما وصلنا (العلم الأخضر) جرى وجرينا فسبقنا كلنا، وكان الشيخ في السبعين تقريباً.

كرم الشيخ ابن عثيمين

كرم الشيخ ابن عثيمين كان الشيخ مكرماً للضيف، ذات مرة أصر على أحد طلبة العلم أن يبيت عنده، فقال الطالب: يا شيخ! أنا مشغول وعندي ارتباطات، وحاول أن يعتذر، فشمر الشيخ ممازحاً، قال: يعني بالقوة تبيت عندي، فوافق، قال: لكن عندي يا شيخ موعد الليلة في بريدة وسأرجع متأخراً، قال: ولو، فرجع هذا الساعة الثانية عشرة ليلاً، قال: آتي بيت الشيخ محمد وأطرق عليه الباب طرقة واحدة لأنني وعدته، ولا بد أن آتيه على الموعد، فإن فتح وإلا انصرفت، قال: فذهبت ووصلت بيت الشيخ الساعة الثانية عشرة ليلاً، فطرقت طرقة واحدة فما كادت الطرقة تنتهي إلا والشيخ يفتح الباب، وأدخله، وقال: هذا الفراش والماء والساعة المنبه؛ عدة أصحاب الحديث في القرن العشرين؛ الفراش، والماء، والساعة المنبه.

لطافة الشيخ ابن عثيمين وفكاهته

لطافة الشيخ ابن عثيمين وفكاهته كان رحمه الله لطيفاً؛ يلاطف الصغار، وكان في طريقه بين البيت والمسجد مدرسة ابتدائية، فإذا مر بها وقت خروج الطلاب سلم عليهم ولاطفهم ومازحهم، فجاءه مرة طفلٌ يقول: يا شيخ! أجب لي على أسئلة هذه المسابقة، فقال: أجيب لكن إذا فزت فعليك أن تعطيني نصف الجائزة، وجاءه مرة طفل إلى حلقته في المسجد -سبحان الله! عندما يكون العلماء مأوى حتى الأطفال- وجعل يخترق الطلبة، ويتخطى الرقاب، والطلاب يستغربون من هذا الطفل الذي يتجه إلى الشيخ وقت الدرس الجاد، حتى وصل الطفل إلى الشيخ وقام على رأسه، قال له ببراءة الأطفال: أعطني ريالاً جديداً، فلم يتردد الشيخ لإعطائه ريالاً وبكل سرور، ولعلها كانت ملحة وترويحاً للطلاب. كان الشيخ رحمه الله ذا فكاهة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يمزح ولا يقول إلا حقاً، ولا يكاد يخلو درسٌ من الدروس العامة للشيخ من مثل هذه المفاكهة والممازحة، فكان الشيخ يتكلم ذات مرة في درسٍ من دروس الفقه عن عيوب النساء في أبواب النكاح، فسأله سائل وقال: إذا تزوجت ثم وجدت زوجتي ليس لها أسنان فهل هذا عيب يبيح لي طلب الفسخ؟ فضحك الشيخ وقال: هذه امرأة جيدة حتى لا تعضك. وسأله سائلٌ قال: شخصٌ كبيرٌ في السن ولا يستطيع الصوم، ويطعم عن كل يوم مسكيناً، وفي يوم من أيام رمضان أراد أن يأتي أهله -العجوز هذا- فهل يجوز؟ فضحك الشيخ وقال: أولاً أخبرني: هل زوجته عجوزٌ مثله أم لا؟ وجاء مرة رجلٌ مسلمٌ أعجميٌ من أهل الباكستان يريد أن يسأل الشيخ، وكان يناديه: يا شيك! يا شيك! لأن الأعجمي لا يستطيع نطق الخاء، فقال السائل المسلم: يا شيك! يا شيك! فقال له الشيخ محمد: والله إني شيك بمائة وعشرين ألف ريال، وهي الدية. وجاءه شخصٌ من العامة أثناء دروسه في الحرم، وهو جالس على كرسيه، فجاءه من الخلف، والشيخ يشرح، ويقول: عندي سؤال يا شيخ! فقال الشيخ: ما رأيك لو تسورت المحراب، فأصر العامي على السؤال ولم يعرف طبيعة الدرس والشيخ يمازحه ويلاطفه ولا يجيبه، فلما أصر هذا الرجل العامي توجه الشيخ للطلبة، وقال: هل تسمحون له بالسؤال، فكلهم أجاب: أن نعم، فأجابه ثم انصرف.

حلم الشيخ ابن عثيمين

حلم الشيخ ابن عثيمين وأما عن حلمه: فإنِّ كل من يتصدر للعامة لا بد أن يناله من أذاهم، وكان الشيخ رحمه الله يصبر، كان يُقرأ عليه ذات مرة من كتاب في الطريق من المسجد إلى البيت وهو راجع، فجاء رجلٌ أعرابيٌ جلفٌ فدفع طالبين هذا لليمين وهذا للشمال، ودخل بينهما، وأمسك بكتف الشيخ من الخلف، وجبذه بقوة حتى استدار جسد الشيخ من قوة الجبذة، وأمسكه من كتفه، وقال: هذه حاجتي ومد إليه بورقة، قال: ما حاجتك؟ قال: اقرأ فهي مكتوبة في الورقة، أنت لا تتفرغ لي! قال الطلاب: الآن، الله يستر ماذا سيحدث؟ وماذا سينال هذا الرجل؟ قال: لكننا فوجئنا أن الشيخ هش له وبش وابتسم واعتذر عن قضاء الحاجة الآن، فأصر الرجل ولم يقبل اعتذار الشيخ، ولم يزل بالشيخ حتى قضى له حاجته. وليس ذلك بغريبٍ على من يدرس طلابه صحيح البخاري وفيه عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه قال: (كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه بردٌ نجرانيٌ غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثرت بها حاشية البرد من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد! مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ضحك، ثم أمر له بعطا) رواه البخاري.

حب الشيخ ابن عثيمين للشيخ ابن باز وحب الشيخ ابن باز له

حب الشيخ ابن عثيمين للشيخ ابن باز وحب الشيخ ابن باز له كان الشيخ محمد رحمه الله يحب شيخه عبد العزيز بن باز جداً، وقد اتصلت به مرة في مرض الشيخ عبد العزيز وحادثته في هذا، فقال عبارة: لا أرانا الله يوم فقده، فتعجبت من هذه العبارة، ولما مات الشيخ عبد العزيز اتصلت صباح اليوم التالي بالشيخ محمد فقلت له: بلغك الخبر، فقال: نعم، نِعْمَ الرجل، فرأيتها تطبيقاً عملياً لحديث: الثناء على الميت إذا بلغه الخبر (ومن أثنيتم عليه خيراً وجبت). ثم سألته عن السفر للصلاة على الشيخ عبد العزيز فلم ير في ذلك بأساً، وسألته عن إبلاغ إمام المسجد جماعته في الوفاة، فقال: لم يكن من هدي السلف الإخبار عن وفاة كل ميت من قبل الإمام إلا صاحب الشأن في الإسلام. وكان يحب الشيخ عبد العزيز وكانت له مكانة في نفس الشيخ محمد نفسه، فقد خلوت بالشيخ محمد مرة بعد وفاة الشيخ عبد العزيز أحادثه في موضوع الفتوى بعد الشيخ ابن باز، حال الفتوى، وكيف واقعها، فقال لي بمرارة: بعد الشيخ ابن باز ما عاد لنا رأس، هذا كلام الشيخ محمد. وكان الشيخ عبد العزيز بن باز كذلك يحب الشيخ محمداً ويقدره قدره، وكنت في مجلس الشيخ عبد العزيز في الطائف، فكان الناس يأتون ويسلمون على الشيخ عبد العزيز وهو جالسٌ على كرسيه، فلما أخبر بقدوم الشيخ محمد بن عثيمين قام إليه، ولم أره قام لأحدٍ غيره، فاعتنقه، ورأيت وجه الشيخ عبد العزيز يتهلل بالبشر والسرور للقاء الشيخ ابن عثيمين، قال الشيخ محمد للشيخ عبد العزيز: الناس يسألوننا المعتكفين أو المعتمرين لأجل إكمال الطواف عن حكم الخروج من الحرم للصعود على السلم الكهربائي إلى السطح، فنقول لهم: إنما خرجتم لتدخلوا- يعني أنه لا بأس بذلك؛ لأنك خرجت لتدخل ولم تخرج لتخرج- فكان الشيخ عبد العزيز يسمع، وأقره على ذلك. واستمر الشيخ -رحمه الله- في هذا العطاء العظيم حتى حلَّ به المرض.

قصة مرض الشيخ ابن عثيمين

قصة مرض الشيخ ابن عثيمين أما قصة مرض الشيخ رحمه الله: فقد سمعت منه وخلوت به مرة بعد مرضه، فقال لي: لما أحسست بالألم ظننته باسوراً، وكنت قد عملت عملية بواسير في الماضي، فظننتها مثلها، فلما زاد الألم راجعت المستشفى، وكنت أريد أن أكشف على عيني أيضاً؛ لأنني اشتكيت منها، فأجروا لي التحاليل، وأخبروني أني مصاب بالسرطان، وكان الشيخ يسميه المرض الخطير، ويرفض أن يسميه المرض الخبيث، ويقول: ليس في أفعال الله خبيث، وقد سألته بعد فترة بالهاتف عن الألم؟ فقال: يأتي ويذهب إلا في موضع المرض الأصلي الذي انتشر منه فإنه مستمر، فتأمل الشيخ كيف جلس شهوراً طويلة وهو يعاني من ألم مستمر وألم إضافي يأتي ويذهب وهو يدرس ويفتي ويعبد الله ويمارس عمله رحمه الله تعالى. ولعل البعض قد لاحظ أن الشيخ أثناء فترة المرض كان يرفع صوته، فكأنه يتجلد ويظهر للناس أنه بخير، ولما كان يُعطى المسكنات؛ لأن المرض لما عرف أنه انتشر ولم يعد ينفع معه علاج، وقد رفع الأطباء أيديهم، وكان ذهاب الشيخ للسفر للعلاج تأكيداً لتقرير الأطباء أن المرض انتشر ورجع، ومعروف أنه ليس هناك علاج ينفع في تقدير الأطباء، ولا يوجد إلا المسكنات، فكان الشيخ -رحمه الله- يكره المسكنات كما قال لي أحد الأطباء الذين يعالجونه؛ لأنها تنومه وتعيقه عن قيام الليل والتدريس. وكان له أمنية حدث بها أحد المشايخ، فقال: أنا أريد أن أموت وأنا قريب من الكعبة أنشر العلم، وكان الشيخ يرى أن نشر العلم من أعظم القربات عند الله، ولهذا اشتغل به، ولعل هذا الكلام أخذ من حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أراد الله عز وجل بعبد خيراً عسله، قيل: وما عسله؟ قال: يفتح الله عز وجل له عملاً صالحاً قبل موته ثم يقبضه عليه) رواه الإمام أحمد، ولذلك لما حصل للشيخ تعب إضافي في صبيحة اليوم التاسع والعشرين من رمضان وهو بـ مكة في الصباح قرر الأطباء نقله من الحرم إلى مستشفى جدة، وبالفعل تم نقله إلى هناك وأدخل العناية المركزة، وجلس قرابة خمس ساعات، وعندما جاء العصر تحسنت حالته شيئاً ما، فأصر رحمه الله أن يرجع إلى مكة، رغم محاولة الأطباء نهيه عن ذلك، فقال: لا تحرمونا هذا الأجر فهذه آخر ليلة في رمضان، وبالفعل رجع الشيخ إلى مكة ومعه الأطباء المرافقين، وأجلس في غرفته داخل الحرم، وأول ما دخل الغرفة طلب أن يتوضأ، وصلى المغرب والعشاء، وبعدما انتهى من الصلاة طلب أن يعدل الدرس، ثم ألقى الدرس في آخر ليلة، وقال: بما أن هذه الليلة متممة للثلاثين من رمضان فهذا آخر درس لهذا العام، فكان آخر درسٍ له رحمه الله، وبعد الدرس هذا قال للأطباء: كيف تحرمونني من هذا الأجر العظيم؟ كنتم تريدون أن تبقوني في جدة؟ ولما جلست مع الشيخ رحمه الله في المرض قلت له مسلياً: يا شيخ محمد! إن عشت فهو إن شاء الله خيرٌ لنا بهذه الفتاوى والدروس وما تنفع به الأمة، وإن رحلت فنرجو إن شاء الله أنما عند الله خيرٌ لك مما عندنا، وليس في الدنيا كبيرُ شيءٍ يؤسف على فراقه، الشيخ زاهد في الدنيا، متعلق بماذا؟! يأسف على ماذا؟! على العمائر والقصور والأموال؟! فقال لي: أقول كما قال عمر بن عبد العزيز فيما رواه البخاري: [إن للإيمان فرائض وشرائع وحدوداً وسنناً فمن استكملها استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان] فإن أعش فسأبينها لكم حتى تعملوا بها، وإن أمت فما أنا على صحبتكم بحريص، ثم أشاح بوجهه، وقال لي: هيه كلٌ يريد الحياة. والشيخ رحمه الله كان قلقاً في موضوع الفتيا، وسألته لما خلوت به عن العلماء الذين يُسألون -احتياطاً للمستقبل- فقال: إن هناك ناساً عندهم معلومات، قال: لكن أين الفقيه؟ المشكلة أين الفقيه الذي يجتهد ويستنبط؟ ثم أثنى على مجموعة من أهل العلم، منهم: الشيخ صالح الفوزان، والشيخ عبد الرحمن بن ناصر البراك وغيرهما، وكان شديداً في قضية التساهل على الذين يتساهلون ويفتحون للناس أبواباً مما يخالف الدين، وكان متألماً لهذا، وأن بعض هؤلاء لا تبرأ الذمة باستفتائهم.

اشتداد المرض على الشيخ ابن عثيمين ووفاته

اشتداد المرض على الشيخ ابن عثيمين ووفاته وكذلك فإن الشيخ -رحمه الله- لما نقل من الحرم في آخر يوم بعد ما انتهى من الدرس من شدة الالتهاب الرئوي الذي أصابه إلى جدة في العيد، عولج من هذا الالتهاب الرئوي، فقال لي الطبيب المعالج: تحسنت حالة الشيخ، ففرحنا، ولكن ما زالت آثار السرطان باقية وشديدة، وكان طيلة الوقت، إذا أفاق يقرأ القرآن ويذكر الله، قال: وفي آخر ليلتين اشتد عليه المرض جداً، وسمعناه يقرأ أشياء من القرآن فاستمعنا وأنصتنا، فسمعناه يقرأ قول الله تعالى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ} [الأنفال:11] قال: فأعجبنا ذلك، ثم في آخر يومين اشتد عليه المرض جداً، وفي يوم وفاته بعد الظهر الساعة الواحدة والنصف دخل في غيبوبة إلى الساعة السادسة إلا عشر دقائق، وتوقف القلب من النبض، وتوقف النفس، وأسلم الروح رحمه الله تعالى. وقد ذكر المغسلون الذين قاموا بتغسيل الشيخ وتكفينه ما رأوه من حسن منظره، وسهولة تغسيله، ونظافة بدنه، حتى أنهم ظنوا أن الشيخ قد غسل قبل المجيء به، وبعد ذلك حصل ما علمتم ورأيتم من توافد هذه الجموع الكبيرة للصلاة عليه، وهبَّ هؤلاء الكثيرون لإمامهم، وأديت صلاة الجنازة في ذلك الزحام العظيم، ومشى الناس إلى المقبرة التي تبعد خمسة أو ستة كيلو مترات على الأقدام، وكان منظراً غريباً لأهل مكة أن يروا هذه الجموع تخترق الشوارع وتمشي؛ الكبير والصغير، والشيخ والشاب، ولم يفرغ من دفنه إلا في وقتٍ متأخر من شدة الزحام. وكان الشيخ رحمه الله في حياته لا يرى الجلوس للعزاء، وكان ينفذ ما يراه صواباً، فلما مات أبوه ولما ماتت أمه لم يفتح بيته للعزاء، تلقى العزاء في المسجد والطريق، وهكذا فعل أولاده من بعده، رحمه الله تعالى رحمة واسعة. أساً بقلبٍ طليح الهم محزونِ يعتاده الكرب من حينٍ إلى حينِ قد رق حتى غدا من فرط رقته يكاد يوقفه نبض الشرايينِ وأسعفته دموعٌ سح ساجمها كأنه الغيث يهمي في البساتينِ تقرحت مقلتي من حزنها أسفاً لفاجعٍ ظل بالدهياء يرميني فأسكب الشعر دمعاً ساخناً ودماً لعله من أسىً مرٍ يسليني أضحى بياني عرياً من فصاحته حتى غدا عاطلاً من وصف تبيينِ غداة قيل طوت أيدي المنون لنا ثوب الحياة عن الشيخ العثيمين تبكي القصيم وطلابٌ وجامعةٌ ومسجد في عنيزة جد محزونِ تبكي المنابر والقاعات من حزنٍ وسوف تندبه شتى الميادينِ وكتبه سوف تبقى الدهر شاهدة على براعته غر العناوينِ قولٌ مفيدٌ على التوحيدِ قيده أو زاد مستقنعٍ في الفقه والدينِ عقدٌ ثمينٌ يزين الجيد رونقه تلقفه أيادينا بتثمينِ والله نسأله للشيخ مغفرة ورحمة يوم نشر الدواوينِ هذه الأبيات لشاعرٍ مسلم كتبها من قطر.

تركة الشيخ ابن عثيمين العلمية

تركة الشيخ ابن عثيمين العلمية لقد ترك الشيخ -رحمه الله- علماً واسعاً، وبلغت أشرطته في التسجيلات قرابة ثلاثة آلاف ومائة وثلاثة وثمانين شريطاً، وهناك فتاوى مكتوبة عند الناس، وأشرطة أخرى عند طلابه القدامى، وأشرطة مسجلة في قاعات وفصول الدراسة في الكلية، ومجلداتٍ كثيرة في الشروح، وسنأتي على ذكر شيء من منهجه وبعض فتاويه ومسائله. لقد ذهب الشيخ -رحمه الله- إلى ربه، وبقيت هذه التركة العظيمة من العلوم التي خلفها، وكتب الله لفتاويه القبول، ولعلمه الانتشار، في مشارق الأرض ومغاربها، وإذا كان قد قيل سابقاً: عالم المدينة ملأ المدينة علماً، فإن عالم عنيزة في هذا الوقت مات وقد ملأ الدنيا علماً، وذهب بعض الدعاة وأهل العلم إلى الخارج في بلدان بعيدة، فشاهدوا عدداً من المسلمين يعكفون على كتبه ورسائله وفتاويه، وقد كتب بعض الأفاضل في منهج الشيخ رحمه الله، وهذه من القضايا المهمة. لقد اعتنى الشيخ -رحمه الله- في البداية بشرح كتب المذهب الحنبلي؛ كـ زاد المستقنع، والكافي، وقواعد ابن رجب، وغير ذلك، وكان يوصي بـ زاد المستقنع، لكنه في الوقت نفسه يعظم الدليل، ويحرم متابعة المذهب فيما خالف الدليل، ويشدد كثيراً على وجوب اتباع الدليل، وهذه كتبه ومحاضراته ودروسه فتاويه مشحونة بتقرير ذلك، عندما يقول: العبادات لا تتم إلا بالإخلاص لله تعالى والمتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم، والمتابعة لا تتحقق إلا إذا كانت موافقة للشرع في ستة أمور: السبب، والجنس، والقدر، والكيفية، والزمان، والمكان، فلا تقبل العبادة إلا إذا كانت صفتها موافقة لما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم عليه وسلم، ولهذا فقد خالف الشيخ المذهب في مئات المسائل التي يرى أن الدليل فيها بخلاف المذهب، كمسألة الطلاق بالثلاث، ومسألة مدة القصر في الصلاة في السفر، ومسألة نقض غسل الميت للوضوء، وغير ذلك. وكذلك فقد عني بكتب الحديث؛ فشرح صحيح البخاري، وصحيح مسلم، وكتب الأحكام المبنية على الأحاديث؛ كـ بلوغ المرام، وعمدة الأحكام.

المؤثرات التي تأثر بها الشيخ ابن عثيمين

المؤثرات التي تأثر بها الشيخ ابن عثيمين لقد تأثر الشيخ رحمه الله بمؤثراتٍ أربعة: أولاً: طلبه للعلم على العلامة الفقيه عبد الرحمن السعدي رحمه الله، وهو من جهابذة الفقهاء الذي كانت له عناية خاصة بالتأصيل والتقعيد، فقد ألف في أصول الفقه، والقواعد الفقهية، وأصول التفسير، وجمع كتاباً حافلاً بالقواعد والضوابط والأصول من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم فيه نحو ألف وست عشرة قاعدة ضابطاً، وهو المسمى بـ طريق الوصول إلى العلم المأمول بمعرفة القواعد والضوابط والأصول. وكذلك يقول عن شيخه: إنني تأثرت به كثيراً في طريقة التدريس وعرض العلم وتقريبه للطلبة بالأمثلة والمعاني. ثانياً: طلبه للعلم على الشيخ العلامة المحدث عبد العزيز بن باز رحمه الله، فقد استفاد منه العناية بالحديث، كما قال الشيخ محمد عن نفسه: تأثرت بالشيخ ابن باز من جهة العناية بالحديث. ثالثاً: عنايته بكتب الإمامين: شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله، فقد شرح للطلبة الحموية والتدمرية، والواسطية، والاقتضاء، والسياسة الشرعية، وشرح النونية لـ ابن القيم ومختارات من زاد المعاد، وأعلام الموقعين، وغير ذلك، وقد تأثر بهما تأثراً عظيماً رحمهما الله تعالى. رابعاً: اهتم الشيخ بجانب أصول الفقه وتعمق فيه، وبالقواعد الفقهية، واشتغاله بـ نظم الورقات، والقواعد، والأصول، ومختصر التحرير، ومنظومة في القواعد الفقهية، وقواعد ابن رجب والعناية التامة بذلك، ثم باللغة العربية التي برع فيها وأعرب ألفية ابن مالك إعراباً سريعاً في جلسة واحدة، وله دروسٌ في اللغة العربية في شرح الآجرومية، وألفية ابن مالك، وكان إذا لحن القارئ طلب منه إعراب ما لحن فيه، واعتناؤه بأصول الفقه وبالنحو أفاده جداً في الفقه والتفسير، ولذلك فإن دروس التفسير لدى الشيخ مميزة جداً.

مميزات الشيخ ابن عثيمين

مميزات الشيخ ابن عثيمين لقد كان للشيخ رحمه الله مميزات منها: 1 - الشمولية العلمية في هذه الموسوعات التي تجدها له في شتى مجالات العلم الشرعي. 2 - أنه كان منضبطاً في إنتاجه العلمي، وكان يأخذ بالقواعد العامة؛ كاتباع الظاهر في الأحكام والعقائد، إلا ما دل الدليل على خلافه، لكن اتباع الظاهر في العقائد أوكد؛ لأنها أمور غيبية لا مجال للعقل فيها؛ بخلاف الأحكام فإن العقل يدخل فيها أحياناً، لكن الأصل أننا مكلفون بالظاهر. 3 - أنه كان لا يتردد في إعلان توقفه، وأن يقول: لا أدري في مسائل، وقد جربت ذلك في عددٍ من القضايا مع الشيخ رحمه الله. 4 - أنه كان يسير على طريقة السبر والتقسيم والتفصيل، وهذا يفيد الطلاب جداً، ويركز المعلومات في أذهانهم، فتجده مثلاً يقول في أحكام الشعر: إنه ينقسم إلى ثلاثة أقسام: شعرٌ أمر الشارع بإزالته كشعر العانة والإبط والشارب، وشعر نهى الشارع عن إزالته كشعر اللحية، وشعرٌ سكت عنه مثل شعر اليدين والرجلين، ويقسم حركة الصلاة إلى خمسة أقسام، والنجاسة إلى ثلاثة أقسام وهكذا تجده كثير التقسيمات، بارعاً في طريقة السبر، وهذه توضح المسائل في أذهان الطلبة جداً. وكان ذا تحديدٍ دقيقٍ للمصطلحات، كما يتبين من تعريفه في حد الحدث، وتعريف النجاسة، والاحتياط، والغرض، والإجزاء، ونحو ذلك، ويعتني بالفروق الفقهية، وهذه قضية تدل على الرسوخ في العلم، فيبين مثلاً: الفرق بين القضاء والأداء في الصلاة، والفرق بين فروض العين وفروض الكفاية، والفرق بين أركان الصلاة وشروط الصلاة، والفرق بين صفة الكمال وصفة الإجزاء في العبادة وهكذا، وكثيراً ما يستعمل القواعد الفقهية الكلية ويرد جزئيات المسائل إليها، وهذه من صفات أهل الاجتهاد، وكثيراً ما تسمعه يقول هذه القواعد في أثناء شرحه: (العبرة بالأمور بمعانيها لا بصورها) (البدل له حكم المبدل منه) (عدم السبب المعين لا يقتضي السبب المعين) (يثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً) (المشقة تجلب التيسير) (الفرع أضعف من الأصل) (القضاء يحكي الأداء) (كل ما وجب في العبادة فإن فواته مبطلٌ لها) (اليقين لا يزول بالشك) (الشيء في معدنه لا حكم له): مثاله: البول والغائط نجسٌ أم لا؟ أيجوز لأحد أن يصلي ومعه بول وغائط؟ كيف وفي بطن كل واحد منه، فليس له حكم إلا إذا خرج، أما إذا كان في الداخل فليس له حكم، فإذا خرج صار له الحكم (ما شك في وجوده فالأصل عدمه) وهكذا يورد القواعد الأصولية، وينبه عليها، وهذا ولا شك من حسن تدريسه، ومما تميزت به علومه رحمه الله.

مسائل متفرقة أجاب عنها الشيخ ابن عثيمين

مسائل متفرقة أجاب عنها الشيخ ابن عثيمين كنت قد سألت الشيخ ابن عثيمين عن مسائل ثم كتبتها، وعرضتها عليه مرة أخرى قراءة، ومن باب الفائدة اخترت بعضها في هذا الدرس. 1/ سألته رحمه الله: عن التبول في البانيو أثناء الاستحمام، هل يدخل في حديث النهي عن البول في المستحم، أم لأن مجرى الماء مفتوح فلا يدخل؟ فقال رحمه الله: لا يدخل؛ لأنه إذا بال فسوف يريق عليه الماء ثم يزول البول، لكن لا يستحم حتى يزيل البول بإراقة الماء عليه. 2/ وسألته: هل من السنة حلق شعر الأنثيين والدبر؟ فقال: ليس من سنن الفطرة، لكنه إذا كان الشعر كثيراً فإنه لا بد من إزالته حتى لا يتلوث بالخارج. 3/ وسألته: هل الصدف أو القواقع البحرية تعتبر من العظم الذي لا يجوز الاستجمار به؟ فقال: لا. بل يجوز الاستجمار بها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لوفد الجن: (لكم كل عظمٍ ذكر اسم الله عليه)، وهذه -أي: الصدف والقواقع البحرية- لا تدخل في الحديث. 4/ وسألته رحمه الله: عن النهي عن الخروج من المسجد بعد الأذان، هل يشمل المرأة إذا كانت تحضر درساً أو محاضرة؟ فقال: لا يشملها؛ لأن المرأة لا تجب عليها الجماعة أصلاً. 5/ وسألته: عن الذي يصلي على الكرسي في المسجد، هل يجعل أرجل الكرسي الخلفية بمحاذاة أرجل المصلين في الصف؟ أم يجعل أرجل الكرسي الأمامية بمحاذاة أرجل المصلين؟ فقال: يجعل أرجل الكرسي الخلفية بمحاذاة أرجل المصلين، والعبرة به حال قعوده الآن وليس لو قام أين سيكون. 6/ وسألته رحمه الله: عن إمام مسجد انتقل أهل مسجده عنه ولا يصلي معه إلا شخصٌ أو يصلي وحده، فهل يستمر بالصلاة في المسجد وحده؟ أم ينتقل إلى جماعة مسجدٍ آخر؟ وما مدى استحقاقه للراتب؟ فقال: أرى أن يبقى إذا كان معه مأمومٌ ولو واحداً، فإذا لم يكن معه أحد ذهب إلى مسجدٍ آخر يصلي فيه مع الجماعة، أما بالنسبة للراتب فلا بد أن يبلغ المسئولين بذلك. 7/ وسألته رحمه الله: عن وجود بعض الملحقات خارج المسجد كخيمة يجعل فيها النساء مع الصبيان حتى لا يشوشوا، ويمد إليها الصوت بالسلك، وبين الخيمة والمسجد ممر أو درج، وهذه الخيمة في مواقف سيارات المسجد، هل يصح الاقتداء؟ فقال رحمه الله: لا تجوز الصلاة خارج المسجد إلا للضرورة، وهذه ليست بضرورة؛ لأن المرأة لا يجب عليها حضور الجماعة، فليست في ضرورة إلى ذلك، وصلاتها في بيتها أفضل لها من صلاتها في المسجد. متى يصح الاقتداء؟ إذا كان الواحد داخل المسجد يسمع تكبيرات الإمام ليقتدي، وإذا امتدت الصفوف إلى الخارج صح الاقتداء أيضاً، لكن إذا كان بينه وبين المسجد ممر وليس هناك ضرورة فعند ذلك لا يقتدي بالإمام. 8/ وكذلك سألته: عن مأمومٍ حضره البول أو الريح بشدة وهو في التشهد الأخير، هل تصح صلاته إذا سلم قبل الإمام بعد التحيات والصلاة الإبراهيمية والركن والواجب؟ فقال: نعم تصح لأنه معذور. 9/ وسألته: عن إمام قرأ باللغة الإنجليزية الفاتحة -أي: معانيها- فهل صلاة من وراءه باطلة؟ فقال: تكون صلاتهم باطلة، لكن إذا دخلوا معه قبل أن يعلموا أنه يقرأها باللغة الإنجليزية نووا الانفراد عنه وأكملوا صلاتهم على ما سبق، أما بالنسبة للإمام فيلزمه أن يتعلم الفاتحة باللغة العربية، فإن لم يمكنه سقط عنه وجوبها إلى بدلها من الأذكار المعروفة عند أهل العلم، مثل: سبحان الله، والحمد لله. 10/ وسألته: يوجد في أمريكا بنوك اسمها بنوك الحليب، يشترون الحليب من الأمهات الحوامل ثم يبيعونه على النساء اللواتي يحتجن إلى إرضاع الأولاد من صاحبات العمل، أو من بها مرض وحليبها ناقص، فما حكم شراء الحليب من تلك البنوك؟ فقال: حرام، ولا يجوز أن يوضع بنك على هذا الوجه ما دام أنه حليب آدميات، لأن الأمهات ستختلط ولا يدري من أمه بالرضاعة، والشريعة الإسلامية يحرم فيها بالرضاعة ما يحرم من النسب، أما إذا كان اللبن من غير الآدميات فلا بأس، أو كان من نساء معيناتٍ يمكن الإحاطة بهن، كأن يكون هذا لبن فلانة، وهذا لبن فلانة، وهذا لبن فلانة، لأنه في هذه الحال ستعرف أمهاتهم من الرضاعة. 11/ وسألته: عن بعض الحالات المرضية وخصوصاً النادرة التي يريد بعض الأطباء تصوير المريض أو جزءٍ من جسده، كالصدر والظهر والرجلين لينفع هذا في تدريس المادة لطلاب الطب، أو تعرض في بعض المؤتمرات الطبية للفائدة؟ فقال: إذا كان بعلم المريض وفيها مصلحة للجمهور فلا بأس بذلك، أما إذا كان بغير إذنه فلا يجوز. 12/ وسألته رحمه الله: عن حكم إزالة حب الخال في الوجه وحوله الشعر وهو يشوه المنظر؟ فقال: لا بأس بإزالته؛ لأن ذلك إزالة عين، وليس لزيادة التجميل. 13/ وسألته: عن حكم إجراء الأبحاث عن الحيوانات لتطوير الأدوية؟ فقال: لا أرى في هذا بأساً؛ لعموم قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} [الجاثية:13] ولكن يجب أن تُسلك أسهل الطرق في التجارب، وأبعدها عن تعذيب الحيوانات. 14/ وسألته رحمه الله: عن حكم استعمال الأجهزة الطبية، أو الأشعة فوق الصوتية لمعرفة جنس الطفل وهو في رحم أمه: هل هو ذكر أم أنثى؟ فقال: لا بأس بهذا، إلا إذا كان فيه نفقاتٍ باهظة، فقد يقال: أنه من إضاعة المال، حيث أنه لا يترتب على معرفة جنس الجنين إلا مجرد الفرحة بمعرفة جنسه، وبين قوسين "والخيبة عند من يكرهون البنات إذا كانت بنتاً" فإذا كانت المعرفة لا تحصل إلا بنفقات باهظة فهو من إضاعة المال، فإنه لا يجوز عندئذٍ. 15/ وسألته: ما حكم إخبار إمام المسجد كلما توفي شخص في الحي بعد الصلاة أن فلاناً مات، والصلاة عليه في مكان كذا؟ فقال: لا أرى هذا؛ لأنه لم يكن من عادة السلف الصالح الإعلان عن موت كل ميت مسلم، اللهم إلا أن يكون الميت ذا قيمة كعالمٍ وغنيٍ ينفع الناس؛ لأن الناس يتشوفون إلى تشييع جنازته. 16/ وسألته رحمه الله: هل يتحمل الأب مصاريف سفر أولاده لرؤية أمهم المطلقة إذا طلبت الأم ذلك؟ فقال: إذا كان الزوج قد أغناه الله والزوجة حالها متوسطة أو دونها، فإن من المروءة أن يتحمل النفقة، ولكنه ليس بواجبٍ عليه أصلاً. 17/ وسألته: هل يجوز أن يؤخر أحدهم الإنجاب ويجعله كل خمس سنين، لأنه يرى فساد المجتمع، ويدعي أنه لا قدرة له على التربية في هذا الوقت؟ فقال: أما ما دامت هذه هي النية فإنه لا يجوز؛ لأنه إساء الظن بالله عز وجل فيما يرغبه النبي عليه الصلاة والسلام حيث قال: (تزوجوا الودود الولود) أما إذا كان تنظيم النسل من أجل حال المرأة من أنها لا تتحمل؛ فهذا قد نقول بجوازه، وإن كان الأولى تركه، وقوله: إن أولاده سوف يفسدون، فهذا غير مسلم به، فقد يكونون صالحين ينفعون المجتمع. 18/ وسألته رحمه الله: عن امرأة سيذهب زوجها إلى بلاد الكفار لأمرٍ دنيوي، فطلب منها أن تسافر معه، فهل تسافر معه أم لا؟ فقال: أرى أن تذهب معه؛ لأن ذلك أقرب لسلامته من الفتن، وهي لا ضرر عليها ما دامت تقوم بالواجب من التستر والحشمة، وأما ذهابه وحده فيخشى عليه، وهي أيضاً إذا بقيت ليس عندها زوج ستكون في تعاسة، وقد يخشى عليها من الفتنة. 19/ وسألته رحمه الله: عن تفتيش الزوج محفظة الزوجة والعكس؟ فقال: هل يرضى أحد الزوجين بذلك؟ إذا كان برضا صاحبه فلا بأس، أما إذا كان بغير رضاً فلا يجوز. 20/ وسألته: عن حكم ذهاب الزوج إلى أولاد زوجته الثانية في يوم الزوجة الأولى لتدريسهم في أيام الامتحانات؟ فقال: هذا حرامٌ إلا برضا الزوجة الأخرى، وإذا أراد أن يدرسهم فليأتِ بهم إلى الزوجة صاحبة البيت الذي هو فيه الآن والتي عليها الدور، ثم يردهم إلى أمهم. 21/ وسألته: عن رجلٍ مات فولدت امرأته بعد موته بساعات، هل يجوز أن تغسله؟ A قال الشيخ رحمه الله: لا. إذا ولدت انقطعت العلاقة بينها وبين زوجها، فلا يجوز أن تغسله؛ لأنها صارت الآن غير زوجة له، ولهذا لو عقد عليها عاقد في هذه الساعة صار العقد صحيحاً؛ لأن عدة المتوفى عنها زوجها إذا كانت حاملاً وضع الحمل. 22/ وسألته رحمه الله: إذا حلف على شخص ألا يفعل ففعل، فهل يجب على هذا الشخص الثاني أن يخبر الحالف ليكفر؟ فقال: نعم يلزمه ذلك، ولكن الأفضل للمؤمن أن يبر بقسم أخيه. 23/ وسألته رحمه الله: عن رجلٍ وضع مبالغ بأسماء أولاده في حسابات في شركات استثمارية، فهل الزكاة على كل حساب بمفرده؟ أو يجمع الجميع إذا كان مبلغ كل واحد لا يبلغ نصاباً؟ فقال: كل إنسان له ماله الخاص، فإذا بلغ نصاباً زكَّاه وإلا فلا، ولا يضم بعضها لبعض لتكميل النصاب. 24/ وسألته رحمه الله: عن بيع بعض المحلات للهاتف الجوال، ويسددون ثمن الشريحة لشركة الاتصالات، ثم يقسطون كل المبلغ على المشتري، ويكون بالزيادة؟ فقال: الظاهر أن هذا لا يجوز؛ لأن المشتري يقول للبائع: أقرضني ثمن الشريحة، أي: سدد عني لشركة الاتصالات ثم أسدد لك بزيادة، وهذه الزيادة رباً، لكن يجوز أن يبيعه الهاتف فقط بالأقساط لأنه يملكه، أما أن يقول: سدد عني الشريحة وأعطيك بزيادة، فهذا قرضٌ بزيادة وهو رباً. 25/ وسألته: عن بضع محلات غسيل الملابس التي تبيع بطاقات بسبعين ريالاً ويغسلون بمائة ريال، تدفع مقدماً سبعين ريالاً ويغسلون لك بمائة ريال؟ الجواب: نعم يجوز. 26/ وسألته رحمه الله: عن صاحب مستشفى، وهذا يمكن أن ينفع ويكون بديلاً في قضية التأمين، يقول للزبائن أو للشركات: ادفعوا خمسمائة ريال مقابل عشرين كشفاً طبياً عن الشخص من موظفيكم، سواء كان لمرض يصيبه، أو فحص عام يجريه على مدار السنة، بحيث إذا استنفذ العدد كان ذلك مقابل المبلغ، وإن لم يستنفذ العدد فإنهم لا يسترجعون النقود؟ فقال: لا بأس بهذه المعاملة إذا كان العدد معلوماً. 27/ وسألته رحمه الله: عن شركة لها أموال في البنك، ووافق البنك أن يقرض موظفي الشركة بغير زيادة؟ فقال: لا مانع من اقتراض الموظف من هذا البنك ما دام القرض بدون رباً، واشتراط تحويل الراتب إلى البنك، المقصود به في هذه الحالة أن يتوثق البنك من حقه. 28/ وسألته رحمه الله: عن صاحب محل تجاري في بلاد الغرب يدخل

فوائد مختصرة من كتب الشيخ ابن عثيمين

فوائد مختصرة من كتب الشيخ ابن عثيمين وأخيراً فقد تم اختيار بعض فتاوى الشيخ بالاختصار من أكثر من عشر مجلدات من فتاويه، وسوف أسردها عليكم للفائدة، وسأذكر مختصر الفتوى فقط، حتى يكون أيضاً المجلس ليس فقط مسألة عواطف، ولكن نستفيد من علم الشيخ في نقاط سريعة: 1/ الصحيح أن تعليق التمائم ولو من القرآن أو الأحاديث النبوية محرم. 2/ التسمية إذا كان الإنسان في الحمام تكون بقلبه ولا ينطق بها بلسانه. 3/ النساء إن أقمن الصلاة فلا بأس. 4/ يجوز للمرأة الحائض أن تجلس في المسعى. 5/ لا يجوز التعامل بالشيكات في بيع الذهب والفضة. 6/ يجوز دخول الحمام بأوراق فيها اسم الله ما دامت في الجيب وليست ظاهرة. 7/ جواز البول قائماً، بشرط: أن يأمن التلويث، وعدم انكشاف العورة. 8/ جواز صحة الصلاة ولو كان الحمام أمام القبلة، إلا إذا كانت هناك رائحة كريهة فيجتنبه. 9/ لا بأس بالذهاب إلى مسجد آخر غير المجاور لحضور خطبة الجمعة إذا كان لمصلحة دينية. 10/ الصف بين السواري والأعمدة إذا كان هناك زحام فلا بأس. 11/ لا بأس بإظهار أعمال التطوع في البيت لأجل أن يُقتدى به. 12/ الأفضل أن يدعو لوالديه ولا يجعل لهما عملاً صالحاً كالحج والعمرة، بل الحج والعمرة يجعلهما لنفسه ويجعل الدعاء لوالديه هذا في النافلة، أما إذا كان أبوه وأمه لم يحجا الفريضة وقد حج الفريضة فيحج ويعتمر عنهما. 13/ ليس على المرأة إثمٌ إذا ماتت ولم تحج بسبب عدم وجود المحرم. 14/ جواز إمامة الذي يتعتع ما دام يقيم الحروف والكلمات والحركات. 15/ تحريم استخدام الأجهزة لغير مصلحة الدوائر الحكومية الموجودة فيها، فلا يجوز استخدامها في الأشياء الخاصة، وهناك فتوى أخرى قال الشيخ: الشيء الذي لا يتأثر ولا ينقص إذا استخدم كالمسطرة يجوز استعماله في شيء شخصي، والذي ينقص لا يجوز استعماله في شيء شخصي. 16/ إذا أزيلت النجاسة بأي شيء سواء كان ماءً أو بنزيناً أو مزيلاً فإنه يكون مطهراً. 17/ جواز المسح على كل ما لبس على القدم، وهو القول الصحيح. 18/ القول الراجح أنه يجوز المسح على الجورب المخرق والخفيف. 19/ لا يجوز إحضار الأولاد إلى المسجد إذا كانوا يشوشون على المصلين. 20/ السنة أن يسبح باليد اليمنى. 21/ لا بأس باتخاذ النعل سترة، إلا إذا كان فيها شيء ظاهر من النجاسة. 22/ التأمين التجاري الذي يكون الغرض منه المرابحة مَيسرٌ محرم. 23/ من زوج أولاده الكبار فلا يجوز له أن يوصي لأولاده الصغار بمثلما زوج به الكبار، فإذا زوج أولاده الكبار وكبر الصغار زوجهم مثل الأولين إذا استطاع، وإذا مات قبل أن يكبروا فليس عليه شيء، ولا يوصي لهم بشيء. 24/ استقدام الخادمة بدون محرم معصية. 25/ لا يجوز للإنسان أن يشاهد صور النساء الأجنبيات في المجلات أو الدش أو غير ذلك. 26/ لا يجوز الاختلاط بين الرجال والنساء في عمل حكومي، أو في قطاع خاص، أو مدارس حكومية أو أهلية. 27/ إذا جاءتك امرأتك بولدٍ يكون شبهه موجباً للشبهة فلا تلتفت إلى ذلك، ولا يجوز أن تقول: هذا لا يشبهني، وهذا لا أدري من أين جاءت به، ولذلك بعض أهل البادية عندهم شيءٌ فظيع، يقول أحدهم: هذا ولدي إن صدقت أمه، ما هذا الشرط الفظيع؟ سوء الظن حرام، ولعله نزعه عن إقناع. 28/ المقدم بالقبول ما ارتضته الفتاة من الخطاب، فإذا اختارت من ليس كفئاً فلا يؤخذ برأيها. 29/ يجوز للإنسان أن يتزوج بامرأة أخذ لها من دمه، أي: أن التبرع بالدم لامرأة لا يحرمه. 30/ المراد بقوله: (والقواعد): العجائز الكبيرات، وليس المراد: القاعدة عن العمل، والبعض الآن يفهم من قوله تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ} [النور:60] أن تكشف هذه المتقاعدة عن العمل. 31/ الأفضل ألا يشترط على الزوج إكمال دراسة الزوجة، وهذا يكون تقييد له، وقد تكون المصلحة أنها لا تكمل الدراسة. 32/ عدم تصريح الخاطب بما كان خفياً من المرض غش، وعلى من فعل ذلك طلب السماح من الزوجة. 33/ المغالاة في المهور مخالفة للشرع، وشهر العسل أخبث وأبغض. 34/ الرقص من النساء قبيح لا نفتي بجوازه، ومن الرجال أقبح. 35/ العزل أثناء الجماع بدون سبب لا بأس به، لكن لا يعزل عن الحرة إلا بإذنها. 36/ للرجل أن يهجر امرأته في الكلام في حدود ثلاثة أيام، أما في المضجع فيهجرها حتى تتوب. 37/ لا يجوز للرجل الغياب عن زوجته أكثر من نصف سنة إلا لعذر، أو إذا سمحت بذلك. 38/ المبتلى بالوسواس لا يقع طلاقه ولو تلفظ به. 39/ الحلف على المصحف صيغة لا أعلم لها أصلاً من السنة، فليست بمشروعة. 40 - (طهور إن شاء الله) يظهر أنه ليس من باب الدعاء، بل من باب الخبر والرجاء والتفاؤل لهذا المريض. 41/ المرتد إذا كان مؤذياً للمسلمين يدعى عليه، وإذا لم يكن كذلك فالأحسن أن يدعى له بالهداية. 42/ قسوة الولد على أبيه لأجل تخليص أمه من ضرب أبيه لا بأس به. 43/ لا يجوز قول: (المرحوم) للميت بقصد الخبر، أما بقصد الدعاء فلا بأس. 44/ من أنكر كفر اليهود والنصارى أو شك في كفرهم فقد كذَّب الله، وتكذيب الله كفر، ومن زعم أن في الأرض ديناً يقبله الله سوى دين الإسلام فإنه كافر. 45/ الإنسان مأجور على قراءة القرآن، سواء فهم معناه أم لم يفهم، ولكن ينبغي الحرص على فهم معناه. 46/ ترجمة ألفاظ القرآن لا تمكن، وإنما تجوز ترجمة معانيه للحاجة. 47/ الأشرطة التي تتضمن شيئاً من الأحاديث أو الآيات إذا رماها الإنسان، أو دخل بها مكان قضاء الحاجة بشرط ألا يقصد إهانتها فإنه ليس في ذلك بأس، فإذاً: شريط القرآن الكريم ليس له حكم المصحف. 48/ يجب على الشباب ستر أفخاذهم، ولا يجوز مشاهدة اللاعبين الكاشفين أفخاذهم. 49/ لا حرج من قطع الغريزة الجنسية عند القطط إذا كانت كثيرة ومؤذية. 50/ لا أرى مانعاً أن يقول الإنسان: مبروك. 51/ وضع لفظ الجلالة وبجانبه اسم الرسول صلى الله عليه وسلم لا يجوز. 52/ تعليق لوحة عليها اسم النبي صلى الله عليه وسلم تبركاً غير جائز. 53/ تأجير المحلات لمن يستعملها في الحرام حرام. 54/ إذا دخل الإنسان المسجد والمؤذن لا يزال يؤذن فالأفضل أن يجيب المؤذن، ثم يدعو بعد ذلك بما ورد، ثم يصلي تحية المسجد. 55/ إذا قرأ المأموم آية فيها سجدة فلا يسجد؛ لأن متابعة الإمام واجبة، وسجود التلاوة سنة. 56/ أسباب توقف العالم عن الفتوى يكون لتعارض الأدلة عنده، وقد يكون لظنه أن هذا المستفتي متلاعب. Q هل صام الشيخ رحمه الله رمضان الماضي؟ الشيخ رحمه الله لم يتمكن من صيام رمضان الماضي لمرضه، وقد عذره الله سبحانه وتعالى عذر المريض، ونسأله عز وجل أن يرفع درجته، ويعظم أجره.

أبراج الحظ تدمر أسوار الإسلام [1]

أبراج الحظ تدمر أسوار الإسلام [1] ادعاء علم الغيب من الأمور المناقضة للإيمان والهادمة لأركان التوحيد، ومن هذا الادعاء كتابة الأبراج في المجلات والجرائد التي عم بها البلاء وطم. وقد تكلم الشيخ عنها فبين طرق كتابتها المختلفة والوسائل الخبيثة المستخدمة للتأثير على الناس، مع ذكر أهداف كتابة الأبراج، وفي الأخير بيّن حكم الكاهن والعراف، وحكم الذي يقرأ هذه الأبراج، إما باعتقاد أنها حق أو بقصد التسلية في قراءتها.

لا يعلم الغيب إلا الله

لا يعلم الغيب إلا الله إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أيها الإخوة: إن للتوحيد مكانة عظيمة في نفوس المسلمين، أو هكذا ينبغي أن يكون الحال، ولذلك جاء في القرآن والسنة من النصوص التي تحمي جناب التوحيد، وتسد الذرائع المؤدية إلى الشرك أشياءٌ كثيرة ينبغي أن تنهض بهمة الإنسان المسلم حتى يتعلم توحيد الله عز وجل، ويحذر من الوقوع في الشرك وأنواعه. وكان من جملة ما أصاب المسلمين في دينهم -ونسأل الله عز وجل ألا يجعل مصيبتنا في ديننا-: أن وقع فيهم البلاء والشر المستطير في قضايا تنافي التوحيد، وهي من الشرك الخالص، بل إنها كفرٌ أكبر تنقل الإنسان عن الملة، ولا حول ولا قوة إلا بالله! أشياءٌ عظيمةٌ أيها الإخوة تنافي التوحيد وتضاده، تقع على مسامع كثيرٌ من المسلمين وأبصارهم صباحاً ومساءً، بل قد صارت مثل التسالي التي يُتَسَلى بها، أمورٌ تناقض آيات عظيمة من صفات الله عز وجل. ربنا جل وعلا يقول عن نفسه: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج:70]. {إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [فاطر:38]. {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [السجدة:6]. {يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ} [الرعد:42]. {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل:65]. الآيات تنص نصاً واضحاً قطعياً على تفرد الله عز وجل بعلم الغيب، وأنه لا يوجد في السماوات والأرض من يعلم الغيب إلا الله، لا يوجد من يعلم ماذا سيحصل بعد دقيقةٍ، أو بعد ساعةٍ، أو بعد شهرٍ، أو سنةٍ، أو سنين، لا يوجد من يعلم ماذا سيحصل فيها إلا الله عز وجل. كل الأمور الغيبية والحوادث التي ستحدث يتفرد الله عز وجل بعلمها. {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان:34]: متى تقوم القيامة {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} [لقمان:34]. {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ} [الشورى:28]. يتوقع الفلكيون نزول الغيث، ويقولون: الفرصة مهيأة لنزول الأمطار، وتتجمع الغيوم في السماء، وتنذر الحالة بأن المطر سينزل، ولكن في اللحظات الأخيرة يصرِّف الله الرياح كيف يشاء، فتذهب بهذه الغيوم القاتمة دون أن تنزل من السماء قطرة واحدة. {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} [لقمان:34]. ويعلم ما تزيد الأرحام وما تنقص: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد:8]. فإن قالوا: لقد عرفنا هل في بطن الأم ذكراً أو أنثى، فنقول لهم: متى علمتم بهذا؟! هل علمتم به في الأيام الأولى للحمل، وكانت نطفة، ثم علقة، ثم مضغة؟! هل علمتم بذلك قبل أن يدخل الرجل بزوجته: ماذا سيولد له؟! لو علمتم نوع الجنس ذكراً أو أنثى، فهل علمتم ماذا سيكسب من الأرزاق؟! هل علمتم هل هو شقيٌ أم سعيد؟! هل علمتم كم عمره، وماذا يكون أجله؟! يرسل الله الملَك الموكَّل بهذه النطفة فيكتب: أذكرٌ أم أنثى! أشقيٌ أو سعيد! ما هو رزقه! ما هو أجله! وما هو عمله! هل يدري عن هذه الأشياء مجتمعة أحدٌ غير الله عز وجل؟! {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان:34].

التنجيم ومطالعة الأبراج يهدم التوحيد

التنجيم ومطالعة الأبراج يهدم التوحيد إن النصوص السابقة أيها الإخوة تتعرض اليوم لمصادماتٍ صريحة في الوسائل المرئية والمسموعة والمقروءة، تهدم عقائد المسلمين، وتزلزل أركان التوحيد في نفوسهم بجميع أنواع الشرك والكفر بالله عز وجل. ومنها أيها الإخوة ما سنتكلم عنه، وأرجو ألا تستغربوا من هذا الموضوع الذي انتقيته لأتكلم عنه الآن، فإني قد سمعت كثيراً وبلغتني أشياء عظيمة من تصديق الناس بهذه الأشياء، هذه الأمور التي تسللت إلى حياتنا ونفوسنا حتى صدَّق بها كبار القوم وصغارهم، أغنياؤهم وفقراؤهم، إنها مسألة التنجيم، ومعرفة ومطالعة الأبراج التي تخصَّص لها الزوايا والصفحات في الجرائد والمجلات. الأبراج أيها الإخوة، التي يدعي من كتبها علم الغيب، ويصدق من يقرأها، ماذا سيحصل؟! ما كتب الكاهن والعراف في تلك الزوايا المتكاثرة يوماً بعد يوم، وشهراً بعد شهر، وسنةً بعد سنة، تغزو عقولنا وأنفسنا وقلوبنا بعد أن غزت جرائدنا ومجلاتنا. عن معاوية بن الحكم قال: قلت: يا رسول الله، أمورٌ كنا نصنعها في الجاهلية، كنا نأتي الكُهَّان -نأتي الكاهن ونسأل- قال: (فلا تأتوا الكُهَّان، قال: قلت: كنا نتطير، قال: ذلك شيءٌ يجده أحدكم في نفسه، فلا يصدكم) الحديث رواه الإمام مسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم -موضحاً خطورة إتيان الكاهن أو العراف وسؤاله- يقول: (من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول؛ فقد كفر بما أنزل على محمد) والذي أنزل على محمد هو القرآن والسنة، والذي يصدق بهذه التنجيمات والتخرصات، وهذه الأشياء التي تُكتب في الصحف والمجلات، في الأبراج فقد كفر بما أنزل على محمد. ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الآخَر مبيناً الخطورة الزائدة: في صحيح مسلم عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وهي: حفصة كما قال أصحاب طرق الحديث أنه قال: (مَن أتى عرافاً، فسأله عن شيءٍ، فصدقه بما يقول، لم تُقْبَل له صلاة أربعين يوماً) لا تُقبل له صلاة. إذاً: أيها الإخوة! يكفر بما أنزل على محمد، ولا تُقْبَل له صلاةٌ أربعين يوماً وليلة، وهذا لا يعني أنه يترك الصلاة، بل إنه يصلي ومع ذلك لا يأخذ حسنة واحدة على صلاته، وإذا كانت هذه هي حال السائل الذي يسأل الكاهن والعراف! فما حال المسئول: الكاهن والعراف نفسه؟! كيف يكون حاله؟! والعراف أيها الإخوة كما قال علماؤنا: الذي يدعي معرفة الأمور بمقدماتٍ يستدل بها. وقال شيخ الإسلام: إن العراف اسمٌ للكاهن، والمنجم، والرمال، ونحوهم ممن يتكلم في معرفة الأمور بهذه الطرق، كالحازر الذي يدعي علم الغيب أو الكشف، قال: والمنجم يدخل في اسم العراف. والمنجم يدخل في اسم الكاهن أيضاً عند الخطابي وغيره من العلماء. وقال أبو السعادات رحمه الله: العراف والمنجم والحازر: الذي يدعي علم الغيب، وقد استأثر الله به، قال: في الدين الخالص. والمقصود من هذا كله: مَن يدعي معرفة شيءٍ من المغيَّبات فهو: إما داخلٌ في اسم الكاهن، أو مشاركٌ له في المعنى، فيُلحق به.

طرق معرفة الغيب عند المنجمين والعرافين

طرق معرفة الغيب عند المنجمين والعرافين ومعرفة الغيب أيها الإخوة تكون بأمور، منها: - استخدام الشياطين. - والزجر. - والطِّيَرة. - والضرب في الأرض. - والضرب بالحصى. - والخط في الأرض. - والتنجيم. - والكهانة. - والسحر. - وقراءة الكف. - والاستقسام بالأزلام. - والذي يقرأ (أباجاد) (أبجد هوز) للاستدلال بها على الغيب. - وغير ذلك، مثل: قراءة الفنجان. وقاتل الله مَن وَضَعَ كلمات قصيدة قارئ الفنجان، ومَن لَحَّنَها، ومَن غَنَّاها، جازاهم الله بشر ما يستحقون على تخريبهم عقائد الأمة. أيها الإخوة: لا تحسبوا أن كلمات الأغاني هي مجرد كلمات عاطفية، كلا إن في بعضها كلماتٌ مناقضة لأصل العقيدة، وأصل التوحيد، ادعاء أن قارئة الفنجان تعلم الغيب، وتخبر هذا السائل ماذا سيحصل له.

حكم اعتقاد تأثير الأبراج والكواكب والنجوم

حكم اعتقاد تأثير الأبراج والكواكب والنجوم سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عمن يعتقد أن الكواكب لها تأثيرٌ في الوجود، أو يقول: إن له نجماً في السماء يسعَد بسعادته، ويشقَى بعكسه، ويقول: إنها صَنْعَة إدريس عليه السلام -التنجيم- ويقول هذا المفتري الكاذب: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان نجمه العقرب أو المريخ، هل هذا من دين الإسلام؟ وماذا يجب على قائله؟ فأجاب رحمه الله إجابة طويلة، منها نقتطف قولَه: الحمد لله. النجوم من آيات الله الدالة عليه، المسبحة له، الساجدة له: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} [الأعراف:54]-النجوم مسخرة بأمر الله جعل الله لها وظائف: هداية المسافر في البر والبحر، رجوماً للشياطين، تسبح الله، وتسجد- ثم قال: وهكذا المنجمون في ادعائهم الغيب والخرافات والأكاذيب حتى إني خاطبتهم بـ دمشق -لأنه كان يعيش فيها شيخ الإسلام - وحظر عندي رؤساؤهم، وبينت فساد صناعتهم بالأدلة العقلية التي يعترفون هم بصحتها، قال رئيسٌ منهم: والله إنا لنكذب مائة كذبة حتى نصدُق في كلمة واحدة. واعتقاد المعتقد أن نجماً من النجوم السبعة هو المتولي لسعده ونحسه اعتقاده فاسد، وإن اعتقد هذا المعتقد أن هذا النجم هو الذي يدبر له -يعني: أموره- فهو كافر، أي: كافر بالله. ثم إن الأوائل من هؤلاء المنجمين المشركين الصابئين - الصابئة: كلمة يطلقها بعض العلماء على عُبَّاد النجوم، ولا زال هناك إلى الآن من يعبد النجوم، ومنهم أقوامٌ يسكنون بأرض العراق حتى هذه الساعة- وأتباعهم قد قيل: إنهم كانوا إذا وُلِد لهم المولود أخذوا طالع المولود وسَمَّوا المولود باسمٍ يدل على ذلك -يعني: ذلك الطالع- وهكذا جاء مَن بعدَهم -يسأل الرجل عن اسمه واسم أبيه واسم أمه ليعرف طالعه ويعرف سعده من نحسه وحظه في الدنيا ورزقه وهكذا- وأما اختياراتهم -يقول شيخ الإسلام - وهو أنهم يأخذون الطالع لما يفعلونه من الأفعال، مثل اختياراتهم للسفر أن يكون إذا كان القمر في شرفه وهو السرطان -هذا اعتقاد المنجمين- إذا كان السفر في برج السرطان فهو سفرٌ طيب، وألا يكون في هبوط القمر وهو برج العقرب، فهذا إذا اعتقد هذا فهو من الباب المذموم. ولما أراد علي بن أبي طالب أن يسافر لقتال الخوارج عرض له منجمٌ فقال: يا أمير المؤمنين، لا تسافر! فإن القمر في العقرب -في برج العقرب، لا تسافر- فإنك إن سافرت والقمر في العقرب هُزِم أصحابُك -أو كما قال- فقال له علي: بل أسافر -بل أسافر في هذا الوقت- ثقة بالله، وتوكلاً على الله، وتكذيباً لك، وإرغاماً لأنفك، فسافر علي رضي الله عنه بجيشه، فبورِك له في ذلك السفر، حتى قَتَل عامَّة الخوارج، وكان ذلك من أعظم ما سُرَّ به. ثم أجاب شيخ الإسلام عمَّن ادعى أن صنعة التنجيم لإدريس عليه السلام، وأنه برج الرسول صلى الله عليه وسلم في العقرب والمريخ، فقال: هذا كلامٌ لا دليل عليه، ولا علم لقائله به، بل إنه من التُّرَّهات. وكانت إجابةً طويلة مسجلة. رحمه الله تعالى.

طريقة كتابة الأبراج في المجلات والجرائد

طريقة كتابة الأبراج في المجلات والجرائد الأبراج الآن أيها الإخوة التي تُكتب في المجلات والجرائد تُكتب بعدة طرق:- فمنها: ما يُكتب بطريقة الأبراج: برج الحمل، برج الثور، برج الجوزاء، برج السرطان، وهكذا. ومنها: ما يُكتب بطريقة السنوات: إذا كنت من مواليد السنة الفلانية؛ فسنتك الجديدة سنة كذا وكذا وكذا، أو فالحذر مطلوب، أو فالحظ حليفك. ومن السخافات ما قرأته في بعض هذه الأشياء أن المنجم يقول: إذا كنتَ مولوداً في سنة (1910م) فليس هناك ما يميز سنتك الجديدة سلبياً، إلا بعض المشاكل الصحية، وخصوصاً فيما يتعلق بالعضلات. طبعاً ماذا نتوقع في شخص مولود في عام (1910م)؟! وقد تُكتب بطريقة الأشهر: فتجد الجداول: شهر كانون الثاني، ماذا يوجد فيه من السعد والنحس! شهر شباط، شهر آذار، شهر نيسان، وهكذا، وتُستخدم لها عناوين جذابة: أنت والنجوم، أُورِسْكُوب، ألوان الحظ، ماذا تخبئ سنة (1987م) أو (1988م)، الفلك بين يديك، حظك هذا الأسبوع، حديث الأبراج، أبراج القراء، وهكذا، حتى إنهم اخترعوا طريقة للذي لا يعرف ميلاده ولا تاريخ ولادته، فقال قائلهم: إذا كنت ساقط القيد، ولم تعرف تاريخ يوم ميلادك، فبرجك تعرفه من اسمك، وجعلوا للأحرف موازين وأعداداً استنبطوا منها الأبراج، ثم قالوا له: ارجع إلى الجدول المرفق في الأبراج لكي تعرف ماذا ينتظرك.

الوسائل الخبيثة لكتاب الأبراج

الوسائل الخبيثة لكتّاب الأبراج هؤلاء الدجالون أيها الإخوة يأتون في كلامهم بأشياء تقع دائماً، وليست غريبة، مثل قولهم: باب الصعوبات تعترض سبيله: وهل يوجد إنسان لا يعترضه بعض الصعوبات؟! خبرٌ سارٌ يصلك من إنسانٌ تحبه: وهل رأيتم إنساناً ما وصله إليه في حياته خبرٌ سار من شخصٌ يحبه؟! بعض المشاكل المادية: هل يوجد إنسان ما واجه مشاكل مادية؟! علاقتك ببعض الأشخاص تزداد مكانة: أمر طبيعي! تنتظر جواباً من شخص قد يصلك الرد في هذا الأسبوع: طبعاً قد يصلك في هذا الأسبوع، وقد لا يصلك هذا الأسبوع. ماذا يريدون وراء هذه الكلمات؟! يا أيها المسلمون انتبهوا من رقدتكم! يريدون إيهام العوام والجهال أنه قد تحقق كلامهم، ويرى الشخص فعلاً بأن الرسالة قد وصلت في هذا الأسبوع، فيقول: نعم، إنهم يعرفون، يرى أنه قد وقع بعد قليل في مشاكل مادية، يقول: نعم، لقد صدقوا، هذا من وسائل الإيهام، والدجل، والتخريف، وخداع الناس. وكذلك من وسائلهم الخبيثة في كتابتهم في تلك الأبراج: يتقربون إلى الشخص القارئ بأسلوب الناصح الأمين، ثم يدسون له الأشياء الأخرى، فيقولون له مثلاً -بأسلوب الناصح الأمين-: لا تبالغ في إرهاق نفسك. حافظ على حكمتك. كن طويل النَّفَس. انتبه لصحتك. برج الجوزاء: تجنب المشاحنات. وهكذا، حتى يشعر القارئ بأنهم ينصحونه ويقدمون له الكلمات المعسولة التي تفيده، وهذه أشياء لا علاقة لها بالتنجيم مطلقاً، نصائح طيبة في الظاهر يُراد منها الوصول إلى الأشياء الخطيرة المنافية للعقيدة، ويضللون الناس بتسمية من يكتب هذه الأبراج، يعدها اليوم الفلكي الدكتور فلان، يكتبها الفلكي فلان، ما معنى كلمة الفلكي؟ إنها تتضمن حقاً وباطلاً، فتخدر الناس هذه الإبرة الكلامية (الفلكي فلان) يعني: ليس يعدها المشعوذ فلان، ولا الدجال فلان، ولا المخرف فلان، ولا الكاهن فلان، أو الساحر فلان، وإنما يعدها الفلكي فلان، يكتبها لك اليوم: فلان الفلاني. وفي هذا إضفاء صفة الشرعية على هذه الأشياء المناقضة للعقيدة والتوحيد، إنها الدجل والكذب والإفك والعرافة بعينها. ويسرق بعضُهم من بعض، ما تجده مكتوباً في صحيفة تجده بعد فترة مكتوباً بالنص في صحيفة أخرى، أو في مجلة أخرى، يسرق بعضُهم من بعض، هم يكذبون وجهالنا يصدقون، هم يكفرون بالرحمن، ومغفلونا يصدقون بكفرهم، ويؤمنون به.

أهداف كتابة الأبراج

أهداف كتابة الأبراج إذا تأملتَ في الكلام المكتوب في تلك الأبراج يا أخي المسلم تجد أنه السم الزعاف المؤدي إلى تحطيم أخلاق المسلمين، هذا غرضٌ من الأغراض وأقرأ عليكم بعض الأمثلة الواقعية المكتوبة فعلاً: - برج الحمل: إذا كان وضعك العاطفي لا يرضيك، فالوقت مناسب لإجراء التغييرات المطلوبة. يعني: إنشاء علاقات حب وغرام جديدة حرمها الله عز وجل. - برج الثور: استمري في تتبع خطوات شقيقتك فيما يتعلق بموضوع المهنة. إذاً: إخراج النساء من البيوت، وزَجِّهِن في أماكن العمل، يخالطن الرجال. اقتدي بشقيقتك في المهنة. - برج الجوزاء: قد تلامين من قبل أسرتك على غيابك المتكرر؛ لكن قد تجدين العزاء في العمل. أيها الإخوة فكروا معي بعقلية المسلم الذي يغار على إسلامه وعلى مجتمعه وعلى فتيان هذا المجتمع وفتياته، ماذا تعني هذه العبارة: قد تلامين من قبل أسرتك على غيابك المتكرر؟! ماذا تعني؟! لكن قد أنتم تعرفون ماذا تعني؟! تجدين العزاء في العمل، يعني: إذا سألوك فتحججي بأي شيء. - برج العقرب: انتظاركِ للحبيب لن يطول، فالأسبوع هذا يتيح لكِ فرصة اللقاء به. سمٌ زعاف، تحطيم لأخلاق الأمة وأخلاق البنات والبنين، أليس أولئك البنات اللاتي يقرأن هذا الكلام ضُرِبَت عليهن الذلة والمسكنة، مسكينات! ماذا يقرأن؟! - برج الدلو: تتخلص من الشعور بالذنب الذي لازمك في مرحلة سابقة. فكر في الجملة: تتخلص من الشعور بالذنب الذي لازمك في مرحلة سابقة، نحن المسلمون لو وقع الواحد في معصية، يشعر بالذنب، هذا الشعور بالذنب يدفعه إلى التوبة. مهم أنَّ هذا الذنب يكون مثل الجبل الذي تخاف أن يقع عليك، فتستغفر أكثر وتتوب أكثر وتظل متذكراً لتلك الذنوب، لكن يقول هذا الرجل: برج الدلو: تتخلص من الشعور بالذنب الذي لازمك في مرحلة سابقة، قطع الطريق على الناس بالتوبة إفقادهم الشعور بالذنب غمسهم في أوحال المعاصي، زيادة بزيادة. - برج كذا: تتعرف على صديقة حب. - برج الجوزاء: كوكب الزهرة يزيد من رهافة إحساسك تجاه الحب. - برج العذراء: حاول أن تأخذ فترة تأمل مع شريكة حياتك أو مَن تحب. مزج الحلال بالحرام، إذا ما كان لك شريكة حياة تتأمل معها فقف وقفة مع من تحب تتأمل. التغرير بالأحداث من وسائلهم، وجعلهم يتيهون في الآمال الكاذبة والسراب، فتجد: - برج كذا: مكالمة هاتفية تجلب لك مستقبلاً باهراً، اتصال هاتفي هام يجعلك تحلم بمستقبل باهر. ويجلس هذا الشاب المسكين البطال وهو ينتظر تلك المكالمة التي تجلب له المستقبل الباهر، أن يُجْعَل الناس يجرُون وراء الأوهام ووراء السراب، ويقعدون عن العمل، ينتظرون المكالمة والرسالة المهمة التي ستجلب له الحظ السعيد وتفتح لهم المستقبل. ومن غرائب ما قرأتُ وأنا أحضِّر هذه الخطبة، وقد جَمَّعت مصادر لقراءتها، لا حباً ولا تسلياً بها، وإنما من أجل أن أعرض عليكم يا إخواني ماذا يُكْتَب: إذا كنتَ من مواليد (1953م) أو (1957م) فأنت محظوظ في سنة (1987م). ما علاقة عام (1953م) و (1957م) بعام (1987م)؟! يجلس هذا العراف على كرسيه ويخترع الأرقام ويؤلف، ومجانينُنا يصدِّقون! هذا ما يحصل أيها الإخوة، ضد العقيدة والتوحيد، ضد أعز ما يملك الإنسان المسلم. وفقنا الله وإياكم أن نعي هذه الشرور، وأن نقاومها، وأن نتمسك بحبل الله المتين، والعقيدة الصحيحة. وصلى الله على نبينا محمد.

علاقة الأبراج بالتوحيد

علاقة الأبراج بالتوحيد الحمد لله الذي لا إله إلا هو، عالم الغيب والشهادة، الرحمن الرحيم، الذي لم يتخذ صاحبةً ولا ولداً: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ * عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [الرعد:8 - 9]. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الذي علمنا التوحيد، وعلمنا أن الكهانة والسحر والتنجيم والعرافة والتطيُّر من الكفر والشرك، وما ترك خيراً إلا ودلنا عليه، ولا شراً إلا وحذرنا منه. يظن بعض الْمُغفلين أن هذه الأشياء تسليةً لا علاقة لها بالعقيدة، ولا تَمَس العقيدة، ويقولون: إن هذه بعيدة عن التنجيم كل البعد. ولكن أيها الإخوة، الذي يقرأ ما كتبوا وسطروا فيها يجد المخالَفة الصريحة للعقيدة، وارتباط هذا العمل بالتنجيم المحرم. فمثلاً: يقول قائلهم: - برج العقرب: وجود أورانوس في برجك الشمسي يجعلك عصبياً ومتهوراً. إذاً كاتب هذا يعتقد بأن هذا الكوكب له تأثير على أخلاق الناس وطبائعهم. - بروج الأسبوع: كوكب زحل يمنحك النجاح والظهور، في الوقت الذي زيد فيك متاعبك ومشاكلك، ويجعلك زحلٌ حكيماً فيلسوفاً ذكياً مثابراً. سبحان الله! كوكب خلقه الله هو الذي يجعلك حكيماً مثابراً فيلسوفاً ذكياً؟! ويدخل في هذه الأبراج: التشاؤم والتفاؤل بالأرقام، وهو من الطِّيَرة المحرمة، فيقول: - برج الحمل: رقم الحظ: [4]، يوم السعد: الإثنين. - برج الحوت: رقم الحظ: [7]، يوم السعد: الثلاثاء. وهكذا. - هذا الشهر: الأرقام الأكثر حظاً يوم: [7] و [9] و [11] و [25]، الأيام الأقل حظاً: يوم: [3] و [13] و [19] وهكذا. هذه القضية أيها الإخوة فيها خطورة كبيرة على الناس. كثيرٌ من الناس يتخذون قراراتٍ هامة في قضايا الزواج، أو الانفصال والطلاق، أو السفر، أو التجارة، أو الصداقة، وغيرها، بناءً على ما كتبه ذلك المنجم في تلك الأبراج. وترى من يتقدم للزواج، تسأله الخطيبة: ما هو برجك؟ فإذا كان العراف قد كتب في ذلك البرج أن هذا لا يلتقي مع ذلك البرج التي فيه الفتاة، ترفض الفتاة الشاب؛ لأن برجه لا يتوافق مع برجها. وقد حدثت حادثة طريفة: أن خطيبة فَسَخَت الخِطبة لخطيبها؛ لما اكتشفت أن برجه لا يوافق برجها، فاضطر ذلك الرجل أن يذهب إلى محرر صفحة الأبراج ليقنعه ويدفع له أن يكتب له في العدد التالي أن البرج هذا يوافق البرج ذاك؛ لكي تقرأه تلك المرأة، وتصدق مرة أخرى بأن هذا الرجل مناسبٌ لها. تحديد مواعيد الزواج باليوم والشهر والسنة من الأمور التي يُلجأ فيها إلى العرافين، وتُكتب في المجلات: الممثلة الفلانية، قال لها عرافها فلان الفلاني: إن اليوم المناسب للزواج الذي يجلب السعد هو اليوم الفلاني في الشهر الفلاني في السنة الفلانية. ويتعلق القراء بهذه الترهات والأباطيل، ويراسلون، ويراسلن محرري صفحات الأبراج في الصحف والمجلات. فتسأل إحداهن وتقول -هذا كلام مكتوب-: برج الأسد: هل يمكنني معرفة حسنات وسيئات هذا البرج؟! ومع أي الأبراج يتفق؟! ويجيبها ذلك الدجال بما عنده ويسطر تلك الترهات والأباطيل.

من فوائد دراسة التوحيد

من فوائد دراسة التوحيد مع ذكر ما سبق يظل الناس يقولون: ما فائدة دراسة التوحيد؟! لماذا ندرس في المراحل الابتدائية توحيد الألوهية والربوبية والأسماء والصفات؟! هذه قضايا فطرية، هذه قضايا معروفة، هذه قضايا يفهمها كل جاهل، ما هي قيمة كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب؟! ولماذا أُلّف الكتاب؟! الناس في غِنَىً عنه، ألفه -يا أيها الإخوة- من أجل مثل هذه الأمور، اقرءوا كتاب التوحيد وادرسوه، فأبوابه متينة، تعالج قضايا خطيرة وأساسية، تتجنب بواسطة الفقه في الدين في هذه الأبواب كثيراً من الشرور، فتجد في كتاب التوحيد: باب ما جاء في السحر، باب ما جاء في التَطَيُّر، باب ما جاء في التنجيم. وهكذا. يَجِب أن تحرصوا أيها الإخوة على تنمية جوانب العقيدة، ودراسة كتب التوحيد؛ لتعرف كيف توحد الله، وكيف تتجنب الشرك. هذه الأشياء الخطيرة تنقض الإيمان بالله عز وجل، تنقض الإيمان بركنٍ أساسي من أركان التوحيد، بحقيقة أساسية تكسرها كسراً، تحطمها تحطيماً، قضية تفرد الله عز وجل بعلم الغيب: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل:65] هذه الأشياء المكتوبة في الأبراج تحطم هذه القضية الأساسية تحطيماً، وتشوه عقيدة القضاء والقدر في نفوس القراء، مخالفة صريحة وواضحة لآيات الله عز وجل، وأحاديث رسوله.

حكم الشريعة في الكاهن والعراف والمصدق لهما

حكم الشريعة في الكاهن والعراف والمصدق لهما ما هو حكم هؤلاء في الشريعة يا ترى؟! قال ابن قدامة رحمه الله: نُقِل عن الإمام أحمد عن الكاهن والعراف أن حكمهما القتل أو الحبس حتى يموتا. ومن اعتقد من القراء الذين يقرءون هذه الأبراج -من اعتقد منهم اعتقاداً جازماً- أن كلام هذا العراف الفلكي حقٌ ويرسم حياته بناءً على ما كُتِب وفقاً لأقوال الكاهن والعراف؛ فلا شك أنه يكفر كفراً مخرجاً من ملة الإسلام، لا ينفعه صلاةٌ ولا صيامٌ ولا زكاةٌ ولا حجٌ، وهو مناقضٌ لشهادة التوحيد التي يلفظ بها في الصلاة. والذي يأخذ قول الكاهن عن تجربة، يقول: أجرِّب، قد يكون صحيحاً وقد لا يكون، هذا قد وقع في الشرك العملي الشرك الأصغر. الجاهل يُعَلَّم، والذي عنده شبهة يناقَش لتُزال الشبهة. يعني: أقول: إن من المحاذير: إطلاق الكفر على الناس الجَهَلَة بالسهولة، لا. إذا رأيت منهم من يصدق بهذا اجلس معه، ناقشه، وبيِّن له بالأدلة من القرآن والسنة هذا الكفر وهذا الشرك، وبعد ذلك إن أصر على كفره فهو كافرٌ ولا شك. وقد سألنا بعض علمائنا عن حكم قراءة هذه الأشياء على سبيل التسلية؛ لأن بعض الناس يقولون: أنا أُمَضِّي الوقت، وأقرأ صفحة الاستراحة التي تحوي هذه الأشياء، ما حكم قراءتها للتسلية؟ قال علماؤنا: قراءتها للتسلية حرام لا تجوز، وهي ذريعة للشرك، وقد يصدق هذا القارئ للتسلية يصدق بعض ما جاء في هذه الأشياء، وتُقرأ هذه القضايا على صغارنا، يتربون عليها، تقرؤها عليهم أمهم أو أبوهم أو أخوهم أو خالهم، تُقرأ في البيوت بصوتٍ مرتفعٍ أحياناً، فتترسخ هذه الشركيات في عقول أطفالنا. لماذا نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب عن النظر في صحائف التوراة المحرفة؟ لماذا غضب الرسول غضباً شديداً وهو يرى عمراً ينظر في صحائف التوراة؟ لا يجوز النظر أصلاً فيما كُتب من الشرك والكفر إلا لمن أراد أن يحذر الناس وينبههم بهذا الشر المستطير، عند ذلك يكون من باب الدعوة إلى الله، أو من يريد أن يرد عليهم، فيكون من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. إذاً أيها الإخوة: يجب أن ننتبه لهذه الشرور والآفات، وأن نحصن أنفسنا ومجتمعاتنا وأولادنا من هذه الأشياء، نعلمهم التوحيد، فالقضية مرتبطة بالواقع، ليست خيالات أو آثار من القرون البائدة، إنها أشياء نسمعها اليوم ونقرأها. وفقنا الله وإياكم للاعتقاد بالعقيدة الصحيحة، وأن نسير عليها، وأن نتمسك بتوحيد الله، وأن يوفقنا وإياكم لتجنب الشرك والكفر كبيره وصغيره، جليله وحقيره، وأن يجعلنا وإياكم على ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم، على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك. اللهم طهِّر قلوبنا من الشرك والنفاق والرياء. اللهم وسدد ألسنتنا، واسلل سخائم قلوبنا، ووفقنا لما يرضيك، وباعد بيننا وبين ما لا يرضيك، واجعلنا ممن فقهته في الدين. وصلوا على نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم، فإن من صلى عليه صلاة صلى الله عليه بها عشراً.

أبراج الحظ تدمر أسوار الإسلام [2]

أبراج الحظ تدمر أسوار الإسلام [2] العقيدة أعز ما يملك الإنسان المسلم، فإذا طعن فيها فقد سلب منه أعظم ما يملك. ولطالما حاربها الكفار والمنافقون في القديم والحديث، وشنوا عليها غارات التجهيل والشعوذة والدجل، والطرق الشيطانية المستوحاة من شياطين الإنس والجن؛ ليصدوا عن العقيدة الصحيحة والتوحيد. وفي هذه المادة عرض لمجمل الطرق التي يستخدمها الكهان والدجالون في السحر والشعوذة، وذكر بعض الأمور المنتشرة في المجتمع من الشركيات والأباطيل المخالفة بل المناقضة للتوحيد.

الدفاع عن عقيدة الإسلام

الدفاع عن عقيدة الإسلام إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. تكلمنا في الخطبة الماضية يا إخواني عن موضوعٍ يمس العقيدة مساساً خطيراً، وهو موضوع: التنجيم وأبراج الحظ المنتشرة في المجلات والجرائد والتي يقرؤها أبناؤنا وبناتنا في الليل والنهار. والعقيدة أعز ما يملك الإنسان المسلم، فإذا طعن فيها فقد سُلِب منه أعظم ما يملك. ولذلك وجب علينا الدفاع عن عقيدة الإسلام، وعن دين التوحيد الذي بعث الله به الأنبياء وختمهم برسول الله صلى الله عليه وسلم. هذه العقيدة -أيها الإخوة- التي طالما حاربها الكفار والمنافقون في القديم والحديث، وشنُّوا عليها غارات التجهيل والشعوذة والدجل، والطرق الشيطانية المستوحاة من شياطين الإنس والجن، ليصدوا الناس عن العقيدة الصحيحة والتوحيد. يجب أن يكون موقفنا حاسماً تجاه هذه الأمور، التي تكاد تعصف برأس المال للرجل المسلم. وفي هذا العصر مع أنه يسمى عصر الحضارة والتقدم العلمي والحضاري والتقني والمكتشَفات والمخترَعات، بالرغم من ذلك فإن الناس قد تفشت فيهم هذه الأوبئة المنافية للعقيدة. وهذا يدل -أيها الإخوة- على أن الشعوذة والدجل والكهانة لا تحارَب بالحضارة والتقدم العلمي التقني أو التكنولوجي -كما يسمونه- بل إنها تحارَب بالعقيدة، تحارَب بالقرآن والسنة؛ سلاح المسلم الوحيد الفعَّال الذي يجابه به الشرور والآثام والإفساد في الأرض. ولذلك ترى في المجتمعات الكافرة بالرغم مما وصلوا إليه من التقدم والحضارة، ترى الشعوذة والدجل والتنجيم والعرافة والكهانة متفشية بينهم، بل إنك ترى دكتوراً في جامعة من الجامعات المحترمة -على حد زعمهم- يتردد إلى عرافة أو دجال من الدجاجلة. إذاً فالمصدر الوحيد الذي نستطيع من خلاله أن نقاوم ونصد هذه الهجمات الشرسة على دين الإسلام هو القرآن والسنة، والنور الذي أنزله الله من السماء، لكي يتبين به المسلم طريقه في دياجير الظلمة والشرك. واعلموا -يا إخواني- أن الناس يستبسطون ويتساهلون في الإقدام وإتيان العرافين والكهنة، حتى إنه قل ما يخلو بيتٌ من البيوت في هذا العصر إلا وتجد فيه مصدِّقاً بدجالٍ أو مشعوذ، يأتونهم بالليل والنهار، بل إنهم يسافرون إليهم، فتجد إنساناً أصيب بسحرٍ مثلاً، يسافر إلى الهند أو بعض البلدان المجاورة؛ ليذهب إلى ساحرٍ كافرٍ لكي يفك له السحر، أو يريد أن يعرف مستقبله المالي، فيذهب إلى عراف أو عرافة، فتقرأ له الكف أو الفنجان أو الوَدَع حتى تطمئنه على مستقبله المالي؛ لأن الثقة بالله قد فُقِدَت؛ ولأن العقيدة قد دُمِّرت في نفوس أولئك الناس. وذكرنا في الدرس الماضي شيئاً عن مسألة التنجيم والأبراج، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح: (مَن اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر، زاد ما زاد) رواه أبو داود بإسنادٍ صحيح. هذه المسألة: مسألة التنجيم التي عرَّفها علماؤنا بأنها: مسألة الاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية، هي من الأمور الشائعة اليوم.

الطرق التي يستخدمها الكهان في الكهانة

الطرق التي يستخدمها الكهان في الكهانة ونذكر أيضاً -أيها الإخوة- في هذه الخطبة بعض الطرق الأخرى التي يستخدمها أولئك الكهان، فمن الطرق مثلاً:

كتابة الرقى والعزائم

كتابة الرُّقى والعزائم الرقى الشركية التي تحوي استغاثة بالجن أو بالموتى، وتحوي كذلك طلاسم من الرسومات المجهولة، أو الأرقام الغريبة، أو الأحرف التي لا تدل على معنى واضح، وقد تكون مكتوبة بلغة أجنبية، لا يستطيع الإنسان أن يقرأها، وقد تكون مكتوبة بلغة عربية واضحة، وأنا أعرض لكم مثالاً من الأمثلة، التي وُجِّهت لعلمائنا الأجلاء، فأجابوا عنها الإجابات الشافية الواضحة: يقول أحدهم متوجهاً ب Q إن عندنا في بلادنا رُقْيَة منتشرة تسمى: بـ (رُقْيَة العقرب) ونص هذه الرُّقْيَة يقول: باسم الله، يا قراءة الله، بالسبع السماوات، وبالآيات المرسلات، التي تَحْكُم ولا يُحْكَم عليها، يا سليمان الرفاعي، ويا كاظم سُم الأفاعي: نادي الأفاعي باسم الرفاعي، أنثاها وذكراها، طويلها وأبترها، إلى آخر الرُّقْيَة المزعومة. وقد أجاب علماؤنا عن هذه الأسئلة الموجهة من بعض الحريصين الذين وقع عندهم استغراب لما يقرءون، ولما اطلعوا عليه، فأجابوا بأن مثل هذه الرُّقْيَة رُقْيَة شركية؛ تنافي التوحيد، وتضاد العقيدة، مثل قوله في هذه الرُّقْيَة: بالسبع السماوات؛ يستغيث بالسبع السماوات، والسبع السماوات مخلوقة من مخلوقات الله عز وجل، أو يقول منادياً ذلك الولي بزعمهم: يا سليمان الرفاعي، يا كاظم سم الأفاعي: نادي الأفاعي باسم الرفاعي، والاستغاثة بالأموات لا تجوز مطلقاً. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إذا سألتَ فاسأل الله، وإذا استعنتَ فاستعن بالله) انظر كيف استبدلوا الأدعية الصحيحة التي علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الأشياء الشركية. ماذا علَّمنا عليه الصلاة والسلام؟ ألم يقل لنا في أذكار الصباح والمساء أن نقول: (باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيءٌ في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم)؟! نستغيث بالله عز وجل، نطلب العون باسم الله عز وجل فقط، لا باسم غيره، ولا بأي مخلوقٍ من المخلوقات مهما كان عظيماً، باسم الله -فقط- الذي لا يضر مع اسمه شيءٌ في الأرض ولا في السماء، وهو السميع العليم، الذي يقولها في الصباح والمساء لا تصيبه آفة ولا يضره شرٌ بإذن الله عز وجل. ألم يعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقول: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق)؟! أليس عندنا من الرصيد في القرآن وصحيح السنة ما يغني عن هذه الأشياء المحرمة، بل إن فيه أجراً بالإضافة إلى الحفظ الذي يحفظ الله به قارئ هذه الأشياء وتاليها؟! القارئ والتالي يحفظه الله، ويكسب الأجر أيضاً، أما تلك الأشياء المحرمة فإنها توقع في الشرك، ويَكْسَب بها الإثم، ولا تحميه من شيء، وإن حصل شيءٌ فهو بإذن الله عز وجل، وليس بسبب هذه الشركيات والشعوذات. ووجه سؤالٌ أيضاً لعلمائنا يقول السائل: هناك فئة من الناس يعالجون بالطب الشعبي على حسب كلامهم، وحينما أتيت أحدَهم قال لي: اكتب اسمك، واسم والدتك، ثم راجعنا غداً، وحينما يراجعهم الشخص يقولون له: أنت مصابٌ بكذا، وعلاجك كذا، فما حكم إتيانهم وسؤالهم؟! فكان الجواب الموفق على هذا السؤال: مَن كان يعمل هذا الأمر في علاجه فهو دليلٌ على أنه يستخدم الجن، ويدَّعي علم المغيبات، فلا يجوز العلاج عنده، كما لا يجوز المجيء إليه، ولا سؤاله؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الجنس من الناس: (مَن أتى عرافاً فسأله عن شيءٍ لم تُقْبَل له صلاةٌ أربعين ليلة) رواه مسلم. وكل من يدعي علم الغيب باستعمال ضرب الحصى، أو الوَدَع، أو التخطيط في الأرض، أو سؤال المريض عن اسمه أو اسم أمه أو اسم أقاربه، فكل ذلك دليل على أنه من العرافين أو الكهان الذين نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن سؤالهم وتصديقهم، وكذلك الذين يكتبون هذه الأحجبة والتمائم والعزائم الشركية لا يجوز إتيانهم، ولا أخذ هذه الأحجبة والتمائم منهم، ولا استعمالها ولا دفع قرشٍ واحدٍ من أجلها. الآن الناس إذا أصاب أحدهم سحرٌ، أو مرض، أو مكروه، أو شيء غريب، أو امرأة أسقطت، أو مرض ولدها، أو أصابتها عينٌ، أو أصاب إنساناً حسدٌ مثلاً، يفزعون إلى من؟! قال الله عز وجل: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62] من الذي يجيب المضطر إذا دعاه؟! ومن الذي يكشف السوء؟! إنه الله عز وجل، هو الذي يكشف الضر وينزل رحمته على عباده بعد أن قنطوا، ويئسوا، بدلاً من أن يلتجئ هؤلاء الذين يتسمون بأسماء المسلمين إلى الله عز وجل ليكشف لهم هذا الذي نزل بهم؛ فإنهم يسافرون ويذهبون وينقبون ويسألون، وتجد الواحد يهمس في أذن الآخر: هناك عراف في البلد الفلاني اذهب إليه، في الشارع الفلاني توجد امرأة تفك هذه الأشياء اذهب إليها، سافر إلى بلد كذا وأنا أعطيك عنواناً اذهب إليه، لقد جربتُه فنفع أكثر من مرة، ضحك الشيطان عليهم، استحوذ عليهم الشيطان، فأنساهم ذكر الله، أنساهم مَن الذي يكشف الضر: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء:80 - 82]. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في المعوذات: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1] {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] (ما تعوذ متعوذ بمثلهن) هذه السور التي يجب أن نتعوذ بها، أن نقرأ بها على أنفسنا، أن ننفث في أكفنا بعد أن نجمعها، ونقرأ هذه السور قبل النوم، ونمسح بها أجسادنا. هذا هو العلاج الشرعي لهذه الأشياء. الناس اليوم ماذا يفعلون؟! إلى من يلجأون؟! ماذا يقرءون؟! وماذا يستعملون؟! إنها دياجير الشرك والظلمة التي خيمت على عقول وقلوب أولئك النفر الذين جهلوا التوحيد، وما يضاد التوحيد، لا يكفي أن نتعلم التوحيد فقط، لكن يجب أن نتعلم ما يضاد التوحيد؟ ما الذي ينافي التوحيد؟ ما هو الشرك؟ ما هي أنواع الشرك؟ تعلُّم التوحيد -أيها الإخوة- مهم؛ لكن تعلم الشرك أيضاً مهم؛ ولذلك بين لنا القرآن وبينت لنا السنة أنواعاً من الشرك؛ لكي يحذرها الإنسان. لا يكفي أن تتعلم الخير فقط، بل يجب أن تتعلم ما يحذرك من الشر! ما هي طرق الشر! ما هي أساليب الدجالين والمشعوذين! حتى تحذر منهم. كذلك انظر إلى تلك الأوراق! ماذا يُكْتَب فيها! لقد فتحنا بعضَها أيها الإخوة، فإذا الرائحة العفنة تنطلق منها، أوراق بالية كُتِبَت بحبرٍ قديم، يعلوها التراب، جلد معفِّن يضعونه على أعناقهم، أوراق يضعونها بين أجسادهم وثيابهم، يزعمون أنها تنفع وتدفع، يعلقون الخيوط والتمائم والأحراز، ثم يقول أحدهم في أحد الرُّقَع التي أعطاها أو العزائم التي أعطاها لبعض الناس كَتَب فيها: يُنْقَش في خاتم من ذهب، ويُبَخَّر بعودٍ وعنبر، ويُلْبَس على طهارة تامة، ويُديم ذكر اسم الله تعالى: عليٌ عظيم، في دبر كل صلاة [1130] مرة لمدة أسبوع، من بعد صلاة الصبح يوم الجمعة، تنتهي يوم الخميس بعد صلاة العشاء. إلى آخر الدجل والشعوذة. هات دليلاً على قراءة هذَين الاسمَين [1130] مرة بعد كل صلاة لمدة أسبوع! يعطونها للجهلة على أنها وصفات مثل الوصفات الطبية، لها مقادير معينة، مرات معينة تستخدَم، مدة العلاج كذا وكذا. حتى متى يظل أغبياؤنا وجُهَّالنا يصدِّقون بمثل هذه الأمور؟! وبعد ذلك يقول ذلك المجرم: يُنْقَش في خاتم من ذهب. وهل يجوز للرجل أن يلبس خاتماً من ذهب؟!

قراءة الكف

قراءة الكف من الطرق كذلك المستخدمة عند هؤلاء الدجالين والمشعوذين: قراءة الكف: ويقولون: إن خطوط الكف هذه مرتبطة بالفلك، وأن الأصابع والنتوءات الصغيرة الموجودة على راحة اليد لَها علاقة بالكواكب. ويقولون: في الكف أربعة خطوط: الخط العمودي الأول: يدل على الحالة الصحية. والخط الثاني: خط القلب. والخط الثالث: هكذا. والخط الرابع: خط القدر. ثم يأتي هذا العراف أو العرافة تقول: افتح كفك، وتقرأ لك مستقبلك. وعندهم قواعد قعَّدوها لهذا الفن بزعمهم، فن قراءة الكف، يقولون مثلاً: الدوائر ترمز إلى الفشل. والنقط نذير مشاكل صغيرة. ومع مرور السنين تتغير هذه الخطوط والدوائر في الكف، فتتغير الأحداث، ويقولون لك عن الأحداث الجديدة التي ستحدث. ولذلك ينبغي عليك أن تذهب سنوياً لقراءة الكف على الأقل هذا عندهم في حد زعمهم. هذا هو الذي حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم منه، فقال عليه الصلاة والسلام: (من أتى عرافاً فسأله عن شيءٍ فصدقه؛ لم تُقْبَل له صلاة أربعين يوماً).

قراءة الفنجان

قراءة الفنجان ولها قواعد عندهم، يقولون مثلاً: البن يكون مطحوناً وناعماً، والقهوة على الطريقة التركية، ويُصَب (التفل) في فنجان، مع كمية قليلة من البن، ويُدار ثلاث مرات باتجاه عقارب الساعة، ويُقْلَب فجأة، ثم تقرأ. ويقولون أيضاً: فإذا رأيت في الفنجان هذا تمساحاً: فهو يدل على حادث السيارة أو وسيلة نقل. وإذا رأيت عنكبوتاً: فإنه يدل على مدخولٍ مادي. وإذا رأيت مظلَّة: فإنها تدل على حب جديد. وإذا رأيت جبلاً: فإنه يدل على مشروعٍ كبيرٍ جداً. والكلب: صديق. والحصان: نصر. إلى آخر الدجل والشعوذة. هؤلاء الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم: (من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم).

بقع الحبر

بقع الحبر تأخذ هذا الحبر من القلم فتنفضه ثلاث عشر مرة على صفيحة من الورق، ثم يبدأ ذلك الدجال يقرأ لك: عنقود العنب: يدل على دعوة غداءٍ أو عشاء. والبيضة: ترمز إلى حبٍ خفي. والبيت: يدل على الأمان. والطبل: يدل على الأقوال المتناقضة. وهم طبولٌ جوفاء أقوالهم متناقضة.

كرة الكريستال

كرة الكريستال ثم ظهرت طرقٌ أخرى، مثل: طريقة كرة الكريستال التي تتموج بالألوان:- فيأخذون من هذه الألوان الحوادث التي تقع لك في المستقبل، فيقول: إذا كانت الألوان حارة: فهذا دليلٌ على خطر. وإذا كانت الألوان مريحة: فهذا دليلٌ على خير. وإذا تحركت الصور إلى الأعلى: هذا دليل على نجاح المشاريع. إذا تحركت إلى الأسفل: فإنها تدل على فشل المشاريع. وإذا رأيت صورة رأس في كرة الكرستال: فهذا يدل على موتٍ سيحدث. وهكذا. هؤلاء الذي حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم، فقال لـ معاوية بن الحكم السلمي لما قال له: قلت: (يا رسول الله! إنَّ مِنَّا رجالاً يأتون الكهان، قال: فلا تأتهم) لا يجوز أن تأتيهم. رواه الإمام مسلم.

رمي الودع

رَمْي الوَدَع هذه الأشياء ليست أشياء بائدة أو منقرضة قد اختفت تماماً، لا، هذه أشياء موجودة الآن في مجتمعنا الذي نعيش فيه، في داخل بيوتنا، وحوارينا، وشوارعنا، ومجتمعاتنا، يوجد أناس يصدقون بهذه الأشياء ويذهبون إليها، وأنتم تسمعون ربما أكثر مما سمعتُ عما يحدث من الأشياء المناقضة لدين الله وللتوحيد وللعقيدة التي تؤدي إلى الوقوع في الشرك والكفر. يذهب أو تذهب إلى العرافة أو العراف أو الدجال، فتأتي له بكومة من الحصى والوَدَع والمفاتيح والحدائد، فترميها بينك وبينه، ثم تبدأ تقرأ له من واقع الأشياء المرمية على الأرض ما هي الحوادث التي ستستقبله في زمانه القادم، هؤلاء الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في وصفهم أنهم يكذبون قال: (فيكذبون) كذب. إذاً أيها الإخوة: هذا الدجل وهذه الشعوذة المنافية للعقل الصحيح، لو كان عقل أولئك صحيحاً لما قبلوه، وانتبه -يا أخي- فقد تجد مثلاً أن أماً من الأمهات، أو أختاً من الأخوات، أو كبيرة في السن، أو رجلاً عجوزاً، وربما شاباً جامعياً مثقفاً يستخدم هذه الأشياء، تأمل فيها لتعرف ما مدى الدجل الموجود، العين تعالج بخرزات، وبعضهم يسخن روث الحمار لكي يعالج به العين، وبعضهم يستعمل في العلاج دم الحائض، ويكتحل به، ويأمره الكاهن والدجال أن يكتحل بدم الحائض المخلوط بالمني. أيها الإخوة أشياء مقرفة، تتقزز النفس عند سماعها.

كتابة الأرقام

كتابة الأرقام وهناك كتب لهذه الأمور، منها: كتاب الرحمة في الطب والحكمة الذي يستحق أن يسمى: اللعنة في الطب والحكمة، كله علاج مرض كذا، علاج مرض كذا، علاج كذا، بهذه الأشياء المقرفة، التي تتقزز منها الأنفس، وتصطك لها الأسماع عند سماعها.

كتابة بعض الوصايا المكذوبة

كتابة بعض الوصايا المكذوبة ثم إن الدجل والشعوذة لم ينتهِ عند حدٍ معين، فقد طلع علينا أولئك بأشياء كثيرة، منها: تلك الوصايا المكذوبة التي عمدوا إلى نشرها بين الناس، منها مثلاً: وصية خادم الحرم النبوي الشيخ أحمد -كما يزعمون- هذه الوصية التي فيها أنه: رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وفي بعض الأوراق التي وُزِّعت -وقد حذرت منها الجهات الرسمية من نشرها وتداولها، ويجب على كل من رآها أن يمزقها بدلاً من أن ينشرها- يقول: أنه قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، وفي بعض الأوراق: أنه قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم حقيقةً قبل أن ينام رآه بعينه، رأى جسمه حقيقة، ومن عقيدة أهل السنة والجماعة أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يُرى بعد موته حقيقة، وإنما يمكن للمؤمنين أن يروه في المنام بصفاته الموجودة في السنة، وقال له أشياء كثيرة، وهذه الوصية مكذوبة عليه، بل إن بعض أقارب الشيخ أحمد هذا حدثوا بأنه قد مات من حوالي (200) سنة وأنه لم ترد عنه وصية مطلقاً فيما تركه من إرثه، ولكن الدجاجلة يكتبون ويؤلفون، والجهال والمجانين يصدقون وينشرون. وفيها قضايا من علم الغيب لا يمكن أن يطلع عليها إلا الله عز وجل، أنه مات في يوم كذا في الجمعة الفلانية مائة وستون ألفاً على الكفر، ومَن الذي يعرف أنه مات مائة وستون ألفاً على الشرك أو الكفر إلا الله عز وجل؟! ثم يقول: من كتب هذه الورقة أو وزعها أو نقلها من بلد إلى بلد بنى الله له قصراً في الجنة، ما رأينا في القرآن ولا في السنة أن من كتب القرآن العظيم -كتبه بيده من أوله إلى آخره- يُبنى له قصر في الجنة، فهل كتابة هذه الوصية أغلى عند الله من كتابة القرآن الكريم؟! وكذلك هذه الرؤيا المنسوبة إلى زينب عليها السلام، والتي فيها أنه ينبغي أن توزع ثلاث عشرة مرة، أناس في المكاتب، وفي العمل، وفي المدارس يوزعونها، ويقشعر أحدهم خوفاً وهو يقرؤها أنه إن لم تصور ولم توزع ستنزل بك المصيبة الفلانية. وهذا نتج من أي شيء يا إخواني؟! ما نتج إلا من الجهل المستقر في أنفس هؤلاء, ما نتج إلا من الشرك الذي قد انطلى عليهم. والأمور كثيرة، ونسأل الله السلامة. وصلى الله على نبينا محمد.

بعض الأمور الشركية المنتشرة في المجتمع

بعض الأمور الشركية المنتشرة في المجتمع الحمد لله الذي لا إله إلا هو، لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، أشهد أنه رب الأولين والآخرين، سبحانه وتعالى، عالم الغيب والشهادة، لا يطلع على غيبه أحداً: {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن:27] وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أدى الرسالة، وبلغ الأمانة، ونصحنا، وحذرنا، ما ترك خيراً إلا ودلنا عليه، ولا شراً إلا وحذرنا منه. أيها الإخوة: هذه الأشياء التي نسمعها اليوم كثيرة جداً. وقد حدثني بعض الإخوة عن أمورٍ منتشرة في المجتمع، قد لا يعرفها كثيرٌ من الناس، وقد لا يعرف كثيرٌ من الناس أنها أمور من الشرك، وأنها محرمة.

حرق البخور لطرد الجن

حرق البخور لطرد الجن بعضهم يُحْرِق البخور أو الشَّبَّة لطرد الجن من الغرفة، أو يُحْرِق الحبة السوداء! وكذلك يذهب أحدهم بامرأته إلى بعض الدجالين والمشعوذين ليعالجها، ويطلب هذا المشعوذ من الزوج أن يبقى في الخارج، ثم هو بعد ذلك يمارس الفاحشة مع امرأته! أي دينٍ هذا؟! وأي عقيدة فاسدة هذه؟! وأي فقدانٍ للغيرة قد انطوت عليها أنفس هؤلاء؟!

الخرزات الزرقاء

الخرزات الزرقاء الأطفال عندما يولَدون من ضمن الهدايا التي تأتي إليهم من الأقارب: الخَرَزات الزرقاء: مصحف ذهب مكتوب فيه (آية الكرسي)، وكلمة (الله)، ومعها أيضاً خَرَزات زرقاء، هذا ما يُهدى اليوم عند ولادة الأطفال، يزعمون أن هذه الخَرَزات الزرقاء تقي هذا الولد العين.

الطبوب

الطبوب كذلك أيها الإخوة ما يسميه البعض بـ (الطبوب): وهو لا شك أنه من السحر، يذهبون إلى بعض السحرة ليفك السحر الذي حدث له، ففرق بينه وبين زوجته، ويقول له المشعوذ: افعل كذا، اقرأ سورة يس مائة مرة، صلِّ ثمانين ركعة، وبعد ذلك لا يحدث شيء. يصبُّ الماء على المسافر، ويوضع القرآن فيمر تحته بزعمهم حتى يسلَم في سفره:- ويكتبون في جدران البيوت: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص:85] يزعمون أن هذه الآية ترد المسافر إلى بيته سليماً! حوادث فظيعة نسمعها بسبب التصديق بهؤلاء المشعوذين! امرأة تسقط أولاداً، كلما جاء جنين أسقطته، فتذهب إلى مشعوذ من المشعوذين فيقول لها: عندك بنتٌ في البيت، بنتك هذه نذيرة شؤم ونحس على البيت!! ما هو الحل يا أيها الكاهن والعراف؟! الحل أن تكويها بمسمارٍ مسخنٍ من الحديد ثلاث مراتٍ في ظهرها، وتذهب هذه الأم الجاهلة فتكوي تلك النبت الصغيرة وهي تئن وتصرخ من الألم، وتلك الأم الجاهلة تحرق ابنتها بذلك المسمار المحمَّى بالنار. وما هي قيمة الوصفة؟ خمسمائة ريال! تحرق البنت ثلاث مرات بمسمار من نار، وقيمة الوصفة: خمسمائة ريال. سلسلة توضع على البطن مقفولة بقفل: يزعمون أن وضع السلسلة عليها القفل ينفع المرأة إذا أسقطت عدة مرات، يعني: قفلنا فلن يسقط الجنين مرة أخرى!

تعليق الملح

تعليق الملح ويعلقون الملح في السيارات! ويزعمون بأن السباحة في الماء المالح أو السفر في البحر يدفع العين ويزيل الحسد والشر!

الذبح لغير الله

الذبح لغير الله يذبحون الخروف على باب البيت، ويلطخون عتبة البيت وباب البيت بدم الذبيحة! وبعضهم يخوضون في الدم بأقدامهم! أو يذبح دجاجة على السيارة لكي لا يصيب السيارة مكروه! وهكذا. يا أخي لو كان في ثوبك بقعٌ من الزيت هل تغسله بالقطران؟! ذلك ما يفعله الذين يذهبون إلى المشعوذين. كذلك يذهب إلى الكاهن فيقول له الكاهن: لكي تشفى يجب عليك أن تذبح ذبيحة للجني الفلاني باسم الجني الفلاني! فيذهب صاحبنا يفعل هذا، ويقع في عين الشرك، يقول الله عز وجل: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2] انحر لله عز وجل، وهذا ينحر باسم الجني الذي أعطاه إياه الكاهن، فيقع في الشرك الأكبر وهو الذبح لغير الله. أجزاء من حيوان توضع في علبة تعلق في الصدر! حذوة حصان تعلق على الباب! تحضير الأرواح! وغير ذلك كثيرٌ، كثير جداً من الشعوذات، ويضحكون بها على أولئك المغفلين. جاء أحد الناس وعليه ديونٌ كثيرة، قالوا له: اذهب إلى ذلك العراف لعله يساعدك في قضاء الديون! فقال له العراف: هات مائة وستين ألف ريال، وأنا أجعلها لك مليون وستمائة ألف ريال، يزيدون أصفاراً! فذهب بها إليه، فعملوا له بخوراً، وشعوذات كثيرة، ثم سلبوا منه المال وهربوا، وبقي هو وقد ازداد الدين الذي عليه! وهكذا يفعل هؤلاء المحتالون.

التشاؤم

التشاؤم وكذلك أيها الإخوة من القضايا المنتشرة: مسألة التشاؤم:- التشاؤم بصوت البوم أو الغراب مثلاً، أو أنهم يجعلون للأيام مهمات معينة فيقولون: - يوم السبت: يوم مكيدة أو صيد. - ويوم الأحد: يوم بناءٍ وغرس. - ويوم الإثنين: يوم سفرٍ وتجارة. - ويوم الثلاثاء: يوم دم. - ويوم الأربعاء: يوم نحس. - ويوم الخميس: لقضاء الحوائج. - والجمعة للنكاح والأعراس. وهكذا. يعتقدون عقائد في هذه الأيام. ويتشاءمون بالأرقام -كما ذكرنا لكم سابقاً- يوم السعد كذا، ويوم النحس كذا. ويتشاءمون بالأرقام، فيقولون: رقم (13) هو الرقم المشئوم. وقد فعلت بعض شركات الطيران العالمية مصدِّقة بهذا، فلا يوجد في مقاعد الطائرة مقعد رقم (13)! إلى هذه الدرجة أولئك المساكين! ونحن الذين شرفنا الله بهذا الدين الذي ينافي الخرافة والدجل نصدِّق أولئك الكفرة! في صحيح مسلم عن معاوية بن الحكم السلمي أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: مِنَّا أناسٌ يتطيرون قال: (ذاك شيء يجده أحدكم في نفسه، فلا يصدكم) لو أنك تشاءمت بأي صوت، أو منظر، فردَّك عن سفرك فقد وقعت في الشرك، فإذا تشاءمت وشعرت بحرج، فعليك أن تمضي ولا تعتمد على ما جال في نفسك، ولا ما حاك فيها. يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (ليس منا من تَطَيَّر أو تُطِيِّر له، ومن تكَهَّن أو تُكُهِّن له) رواه البزار بإسناد جيد. وعن ابن مسعود مرفوعاً أنه عليه الصلاة والسلام قال: (الطِّيَرة شرك، وما منا إلا؛ ولكن الله يذهبه بالتوكل) يعني: ما من أحد إلا وقد يقع في نفسه شيء من التشاؤم والتَّطَيُّر؛ ولكن كيف يذهب؟ بالتوكل على الله. وعن ابن عمر مرفوعاً: (مَن ردَّته الطِّيَرَة عن حاجته فقد أشرك. قالوا: فما كفارة ذلك يا رسول الله؟ قال: أن تقول: اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طَيْر إلا طَيْرك، ولا إله غيرك) هذه هي كفارة التشاؤم أو التَّطَيُّر إذا وقعت فيه، أن تقول: (اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طَيْر إلا طَيْرك، ولا إله غيرك) حديث صحيح. يجب أن تعلم يا أخي أن الله يقول: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:22]. اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك. اللهم يا مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك. اللهم واجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين. اللهم باعد بيننا وبين أهل الشعوذة والدجل والسحر، واجعلنا من أهل التوحيد، وصحح عقائدنا، وتوفنا على الملة المحمدية، واجعل خروجنا من الدنيا على شهادة التوحيد (لا إله إلا الله، محمد رسول الله). اللهم وفقنا لما يرضيك، وباعد بيننا وبين ما لا يرضيك، واكشف لنا سبل المجرمين. اللهم واجعلنا هداة مهتدين، دعاة إلى سبيلك، نحذِّر الناس من الشر ومن الوقوع فيه. اللهم وفق أبناءنا في امتحاناتهم. اللهم واجعل عملهم في رضاك. اللهم وباعد بينهم وبين الغش والخديعة، وأكل مال الحرام بالشهادات المزورة. اللهم اجعلنا ممن يخافك ويتقيك. وصلِّ اللهم على نبينا محمدٍ صلاة كاملة تامة كما تحب وترضى. وصلى الله على نبينا محمد.

أبراج الحظ تدمر أسوار الإسلام [3]

أبراج الحظ تدمر أسوار الإسلام [3] لقد جاءت الشريعة الإسلامية بشتى الطرق والوسائل للقضاء على الأمراض والأوبئة التي تفشت بين أبناء المجتمع المسلم؛ كالشعوذة والسحر والكهانة ونحوها من الأمراض التي تفتك بعقيدة العبد، ومن تلك الوسائل التي جاءت بها الشريعة: إشاعة التوحيد وتدريسه بين أبناء المجتمع وتحذيرهم من جميع أنواع البدع والشرك والخرافات، وأيضاً تنبيه من أصيب بمثل هذه الأمراض لاستخدام العلاج النافع لهم، وكذا التشهير بالمشعوذين بين الناس ومناقشتهم ومناظرتهم وتبيين زيفهم وخداعهم للناس.

طريقة الشريعة الإسلامية في محاربة الأمراض والأوبئة

طريقة الشريعة الإسلامية في محاربة الأمراض والأوبئة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. إخواني: تكلمنا في الخطبتين الماضيتين عن أمورٍ تتعلق بالتنجيم مثل أبراج الحظ المنتشرة في المجلات والجرائد. وتكلمنا عن بعض الأمور المتعلقة بالكهانة والسحر والدجل الذي يفعله كثيرٌ من الجهلة وأعوان الشياطين، وحكم الذين يذهبون إليهم من المسلمين، وبينا صوراً كثيرة للبدع المنتشرة في هذا المجال. ونريد أن نختم الكلام عن هذا الموضوع في هذه الخطبة بتبيان الواجبات على المسلم: - ما هو دوره في إنكار هذا المنكر الذي قد استشرى وانتشر كالهشيم في مجتمعات المسلمين؟! - ما هي الوسائل التي يجب اتخاذها؛ لكي نحارب هذه الأمور المنافية للعقيدة والمخالفة لها من جميع الوجوه؟! ونحن نجمل بعض النقاط التي تتعلق بهذا الواجب حتى تتكون لدى المسلم فكرة واضحة عن الأمور التي تساعده في محاربة هذه الأشياء. واعلموا -بادئ ذي بدء يا إخواني- أن طريقة الشريعة في محاربة الأوبئة والأمراض تتلخص في قضيتين أساسيتين: الأولى: تحقيق الشروط. والثانية: انتفاء الموانع. أما الأول: طريقة الشريعة في محاربة إتيان الكهان، أو البدع المتعلقة بالسحر والدجل والشعوذة، إذا تأملت فيها فإنك تجد الإسلام قد جاء بنصوص فيها تحقيق شروط التوحيد، التي تؤدي إلى هدم قواعد السحر والكفر والكهانة والتنجيم وغيرها. هذا من باب تحقيق الشروط. وأما الثاني: فإنك تجد الشريعة قد جاءت بنصوصٍ تحرم إتيان الكهان والسحرة، بل إن فيها ألفاظاً شديدة من جهة الخروج عن شريعة الرسول صلى الله عليه وسلم والكفر بما أنزل عليه، وهذا من باب تحقيق انتفاء الموانع. ولذلك كان لا بد للمسلم عندما يحاول أن يحارب هذه الأشياء أن يبحث عن سبب المشكلة أولاً، فقد تجد أن السبب عند من يأتي المنجمين، أو قراء الكف أو من يفتحوا أبراج الحظ في الجرائد والمجلات قد تجد السبب في هذا أنه لا يؤمن بقول الله عز وجل: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل:65]، ولم يستقر في قلبه وعقله مطلقاً أن الله عز وجل هو المتفرد بعلم الغيب، وأنه لا يمكن لأي أحدٍ آخر أن يعلم الغيب إلا الله عز وجل. عدم الإيمان بتفرُّدُ اللهِ بعلم الغيب، هذه المسألة هي سبب البلاء والمشكلة، ولُب الموضوع، فإذا أردت أن تواجه هؤلاء الناس فإن عليك أن تقر في أذهانهم هذه المسألة، وتأتي بالنصوص من القرآن، والسنة، وأقوال علماء السلف، أن الله هو وحده الذي يعلم الغيب، وأن من ذهب إلى أناسٍ يعتقد أنهم يعلمون ما يحدث في المستقبل فإنه قد نازع الله تعالى في حقٍ عظيمٍ من حقوق الربوبية، وهو: علم الغيب، وهذا كفرٌ شنيع، ولا حول ولا قوة إلا بالله! وإذا تأملت -مثلاً- وأردت أن تعالج أحوال الناس الذين يُعلقون التمائم الشركية، والأحجبة التي يسمونها بـ (العزائم)، فإنك ستجد أن هؤلاء الناس يعانون من نقصٍ خطير في فهم قول الله عز وجل: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} [الأنعام:17] والإيمان بهذا النص وما شابهه. فإذاً: لو كانوا يؤمنون بأنه إذا مَس الإنسانَ ضرٌ فإنه لا يكشفه إلا الله عز وجل، فلماذا يذهبون إلى أولئك الكهان والعرافين، يطلبون منهم أن يكشفوا هذا الضر الذي نزل بهم؟! وبالجملة؛ فإن تعليم الناس أسماء الله وصفاته من الأمور التي تحارب الشرك والدجل من أساسهما. وإذا انتقلت معي إلى الشطر الآخر، وهو انتفاء الموانع، فإننا يجب أن نُعلِّم الناس ما هو حكم إتيان الكهان؟ وماذا يكون حكم من صدقهم؟ ونأتي لهم بالآيات والنصوص الدالة على ذلك.

إقامة الحلقات العلمية لتدريس التوحيد والتحذير من الشرك

إقامة الحلقات العلمية لتدريس التوحيد والتحذير من الشرك من الوسائل التي تخدم الغرضين السابقين: إقامة الحلقات العلمية في المساجد والبيوت وغيرها من مجالس الناس، وأماكن اجتماعهم، التي تُنْتَقَى فيها المراجع الجيدة من كتب التوحيد التي ألَّفها علماؤنا الأجلاء. ويُدَرَّس دروسٌ خاصة في هذا الجانب يُجمع لها الناس، وخصوصاً النساء في البيوت اللواتي طالما صدَّقن بهذه الدجل والشعوذة، نتيجة قلة العقل والدين الذي طُبعت عليه المرأة. فلو وجدنا -مثلاً- أن في مجتمعنا مسألة تعليق التمائم والعزائم منتشرة، وتعليق الأوتار والخيوط، فنأخذ مثلاً: كتاب التوحيد لمجدد الدعوة الشيخ: محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وشرحه فتح المجيد، فنستخرج لهم من هذا الكتاب الأبواب المناسبة لمحاربة هذه الأدواء التي انتشرت فيما بينهم، ونقرأ عليهم: (باب: مِن الشرك لُبس الحلقة والخيط لرفع البلاء أو دفعه) والأبواب التي تتكلم عن العزائم والتمائم وحكم تعليقها، والتصديق بما فيها. وإذا رأينا أن السحر هو المنتشر فننتقي لهم -كذلك- الأبواب التي تتكلم عن السحر والنشرة: وهي إزالة السحر وحله عن المسحور، وما حكم إتيان الكهان لرفع السحر أو إزالته؟ وهكذا تعليم الناس وتوعيتهم بهذه الأمور، وتوزيع الكتيبات والأشرطة المتضمنة للشروح الجيدة لأبواب التوحيد، وكذلك الأبواب التي تبين أنواع الشرك حتى يحذرها الناس.

الشريط الإسلامي وأهميته للمريض وغيره

الشريط الإسلامي وأهميته للمريض وغيره أيضاً إعطاء البديل الإسلامي المشروع في علاج كثيرٍ من الأمراض والنوازل والأدواء، التي بسببها يقع الناس في الشرك، ويحاولون حلها وإزالتها بالذهاب إلى الكهان والسحرة؛ فيقعون في الكفر والعياذ بالله. فنقول لهم مثلاً: إن في القرآن الكريم آية يقول الله فيها: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء:82]. إذاً: في القرآن شفاءٌ من الأمراض البدنية والقلبية، وهذا السحر أو العين مرضٌ من الأمراض التي تصيب البدن بأشياء خفية، علاجها في القرآن الكريم. ومن أمثلة ذلك: - المعوذات القواقل: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1] {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]. - وسورة الفاتحة. - وآية الكرسي. - وتُقرأ الآيات التي فيها مثل قول الله عز وجل: {مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:81] {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه:69]، على مَن أصيب بالسحر، فتنفعه بإذن الله. وتُقرأ الآيات التي فيها الاستعاذة من شر الحاسد إذا حسد. - {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ} [القلم:51]، فتنفع من أصيب بالعين بإذن الله.

طرق علاج المرضى والمصابين بأمراض السحر والشعوذة ونحوها

طرق علاج المرضى والمصابين بأمراض السحر والشعوذة ونحوها ويعلمهم كذلك: أن لكلٍّ من هذه الأمراض طرقٌ للعلاج بيَّنها العلماء، فمن علاج السحر -مثلاً- استخراج السحر والبحث عنه، وإتلافه بالحرق ونحوه؛ حتى يزول أثره عن المسحور، وهكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سحره اليهودي الساحر لبيد؛ فإن رسول الله عليه الصلاة والسلام قد طلب السحر الذي سُحِر به، حتى استخرجه علي رضي الله عنه، فأتلفه، فزال أثر السحر عنه عليه الصلاة والسلام. وهذا يقع كثيراً في بيت الإنسان المسحور أو متاعه الشخصي، فينقِّب عنه، فإذا وجده أتلفه، فيكون هذا من أسباب زوال هذا السحر والضرر عن المسحور. وقد تنفع الحجامة كما بيَّن ذلك ابن القيم رحمه الله في الزاد. ونبين للناس -أيضاً- أن هناك آياتٍ وأذكاراً ودعواتٍ جاء بها الإسلام؛ كنحو ما قدمنا قبل قليل من الآيات، ونحو قول رسول الله عليه الصلاة والسلام -فيما علمنا- الاستعاذات: - (أعوذ بكلمات الله التآمات من شر ما خلق). - (أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطانٍ وهامَّة، ومن كل عينٍ لامَّة). - (أعوذ بكلمات الله التآمات التي لا يجاوزهن برٌ ولا فاجرٌ، مِن شر ما خلق وذرأ وبرأ، ومن شر ما ينزل من السماء، ومن شر ما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ في الأرض، ومن شر ما يخرج منها، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن شر طوارق الليل؛ إلا طارقاً يطرق بخيرٍ يا رحمان). - وغيرها كثير من الأذكار الواردة في علاج هذه الأمور. وكذلك علاج العين في صب غُسالة العائن على المعين، بأن يؤمر فيتوضأ ويَغسل داخل إزاره وأطرافه، ثم يُؤتي بهذه الغسالة فتصب على المعين من خلفه، فيزول أثر العين بإذن الله، كذا روى أبو داود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي صح في ذلك. ويُقرأ على الذي أصابته العين: (باسم الله أرقيك، من كل شيءٍ يؤذيك، ومن شر كل نفسٍ أو عين حاسدٍ، الله يشفيك، باسم الله أرقيك) رواه مسلم. فإذاً: أيها الإخوة! نربط هؤلاء الذين قد وقع فيهم هذا المصاب بالله عز وجل: - قرآن؛ كلام الله. - أذكار؛ يُذكر الله فقط. - تعاويذ؛ عَلَّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف نتعوذ؟ وبِمَ نتعوذ؟ ومن أي شيءٍ نتعوذ؟ فالقضية هي ربط هذا المريض بالله فقط. وهكذا ينفع العلاج إذا تم التوكل على الله. ويأتي بعض الناس يقولون: قرأنا فلم ننتفع، وجرَّبنا فلم نبرأ؟! فنقول: إن البلاء في نفوسكم أنتم، ليس في الآيات، والأذكار، والتعويذات النبوية، فلو صح التوكل في قلوبكم على الله لَبَرِئتم؛ ولكن لما أقبلتم على هذه الأشياء بنفس المجرب الذي يشك؛ هل تنفع أو لا تنفع؟! هل تؤثر هذه الآيات أو لا تؤثر؟! وتأخذونها مأخذ المجرب الذي يشك في الأمور؛ فلذلك لم تنفع، فالبلاء في نفوسكم أنتم لا في هذه الآيات والأحاديث صححوا التوكل والإيمان في قلوبكم، فإنكم سوف تبرءون باستخدامها بإذن الله. إذا استطاع الإنسان أن يصل إلى أحدٍ من الدجالين أو المشعوذين أو قابَلَه، أو مر على مجلسٍ من مجالسه فعليه أن يبين لهذا الكاهن أو الساحر أو الدجال أن فعله هذا شرك، ويقيم عليه الحجة.

مناقشة الرسول عليه الصلاة والسلام لابن صياد

مناقشة الرسول عليه الصلاة والسلام لابن صياد هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين أنه تقصَّد أن يذهب إلى ابن صياد الدجال، واختبأ له لكي يصل إليه، فلم يشعر به ابن صياد، حتى ضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم على ظهره من الخلف، ثم قال له عليه الصلاة والسلام -وأصل القصة في الصحيحين، وهذه الرواية في صحيح مسلم - قال: (أتشهد أني رسول الله؟ قال ابن صياد: أشهد أنك رسول الأميين، ثم قال ابن صياد لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أتشهد أني رسول الله؟! فرفضه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: آمنت بالله ورسله، ثم قال له عليه الصلاة والسلام: ما يأتيك؟ فقال: يأتيني صادقٌ وكاذب، ثم قال له عليه الصلاة والسلام: ما ترى؟ قال: أرى عرشاً على الماء، قال عليه الصلاة والسلام: فإني قد خَبَّأت لك خَبِيْئاً! قال ابن صياد: الدُّخُّ الدُّخُّ! قال عليه الصلاة والسلام: اخسأ! فلن تعدوَ قدرك؛ فإنما أنت من إخوان الكهان). فناقشه عليه الصلاة والسلام، وأفحمه، وأخبره أنه قد خبأ له آية من الآيات، وهي شرطٌ من أشراط الساعة، وهي: الدُّخَان الذي يخرج، ولم يخبره عليه الصلاة والسلام ما هو الشيء الذي خبأه له؛ ولكن - ابن صياد - كانت الشياطين تنزل عليه، فتخبره بالخبر النازل من السماء استرقوا السمع، لكنهم لم يسترقوا منه إلا نصف الكلمة، لم تسمع الشياطين إلا (الدُّخُّ الدُّخُّ)، لم تسمع الكلمة كاملة؛ (الدُّخَان الدُّخَان)، فنزلوا على ابن صياد، فأخبروه، فقال: الدُّخُّ الدُّخُّ! فقال عليه الصلاة والسلام: (اخسأ! فلن تعدوَ قدرك؛ فإنما أنت من إخوان الكهان) فأقام عليه الحجة، وألزمه بالحق، وكشف باطله، وبيَّن أنه من إخوان الكهان.

مناقشة ابن تيمية للبطائحية والرفاعية

مناقشة ابن تيمية للبطائحية والرفاعية وكذلك كان يفعل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في مناقشته ومناظرته للبطائحية، والرفاعية وغيرهم، وقال لهم لما دخلوا في النار وزعموا أن أجسادهم لا تحترق: اغسلوها حتى يزول هذا الدهن والنارَنْج وغيره من الأشياء التي طلَوا بها أجسادهم، فلا تؤثر فيها النار، قال: اغسلوها ثم ادخلوا النار لو كنتم صادقين، فبيَّن عُوارَهم، وكشف دجلهم وباطلهم أمام الناس أجمعين. وسبق أن ذكرنا في مرة ماضية مناقشته رحمه الله تعالى لبعض المنجمين.

إتلاف الأشياء التي فيها سحر وتمزيقها

إتلاف الأشياء التي فيها سحر وتمزيقها ومن الوسائل: إتلاف وتمزيق هذه الأشياء التي فيها السحر، وكذا التمائم المربوطة التي تعلق، وهذه الوصايا المكذوبة التي سبق أن بيناها؛ كوصية خادم الحرم الشيخ أحمد فيما كُذب ونُسب إليه، كما بين ذلك أقرباؤه وغيرها من الوصايا التي تنتشر بين الناس؛ مَن لم يكتبها يحصل فيه من المصائب كذا وكذا، ولا تزال -أيها الإخوة- حتى هذه الساعة توزع في بعض المساجد هنا، حيث يقوم بعض الجهلة بتوزيعها، والجهلة الآخرون بأخذها وتصويرها ونشرها. هذه التمائم والعزائم والأوراق المنتشرة يجب أن نمزقها ونحرقها أمام الناس؛ لنبين لهم أنه ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في السماء إلا بإذن الله، وأن من يمزق هذه ويحرقها لا يصيبه شيءٌ إلا بإذن الله، وأنني قد مزقت هذه الورقة أمامكم -أيها الناس مثلاً- فما أصابني شيء وهذا كذب، وحتى لو أصابني فإني أعتقد بأن ما أصابني ليس بسبب تمزيق هذه الأوراق، وإنما لأن الله قدَّر عليَّ هذا {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ * وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر:49 - 50] فالقضاء والقدر من الله تعالى، فنمزق ونحرق هذه الأشياء ونقول للناس: انظروا! ماذا تغني عنكم؟! وماذا حصل لنا لما أحرقناها ومزقناها؟! فنبين للناس عملياً دجل وكذب ما هو مكتوب فيها.

كشف حقيقة المشعوذين أمام الناس

كشف حقيقة المشعوذين أمام الناس أيضاً كشف حقيقة الكهان والمشعوذين والعرافين والسحرة للناس، وأنهم يتعاملون مع شياطين الجن، وأنهم يقعون في الكفر، ونقول للناس: إن الذين يأتون هؤلاء الكهان الذين يتصلون بشياطين الجن لا يرضَون منهم إلا أن يقعوا في الشرك، حتى يقع هذا المريض المسكين الجاهل في الشرك، فيقول الكاهن للمريض: إن الجني الفلاني يطلب منك لكي يعالجك أن تذبح له ذبيحة، فيذبح هذا المسكين للشيطان، فيكون قد وقع في الشرك وهو الذبح لغير الله. أو يقول: أريد مالاً، أو أريد شيئاً أو غيرها من الأشياء. أو يقول: إن الجني يطلب منك أن تدعوه، وتقول: يا فلان! اشفني أو عافني أو أزل كربتي، فيقع في الشرك، وهو دعاء غير الله. فنكشف للناس فنقول: انظروا ماذا يطلبون لكي يزيلوا الضر -بزعمهم- الذي نزل بكم، يطلبون منكم أن تقعوا في عين الشرك. ولذلك إذا وجدت -يا أخي- بعض الآيات في الأحجبة التي يكتبها هؤلاء المشعوذون فلا تظن بذلك خيراً، ومثل هذا لا يُفْرَح به أبداً، فإنه كما قال شيخ الإسلام رحمه الله، فإنهم يكتبون كلام الله بالنجاسة، بأن يأخذ من النجاسة شيئاً ويقطُر قلمُه بها، فيكتب بها الآيات بعدما يلوثها بحبرٍ ونحوه، أو يكتب كلام الله بالدم النجس وغيره، وقد يقلبون الحروف، ويكتبون الآيات بالمعكوس لكي يضلوا الناس، ويهينوا كلام الله عز وجل.

رواية قصص كذب الدجالين والمشعوذين بين الناس للتحذير منهم

رواية قصص كذب الدجالين والمشعوذين بين الناس للتحذير منهم أيضاً نشر قصص الدجالين والمشعوذين ومن انخدع بهم بين الناس في المجالس حتى يحذروا منهم، فيقال للناس مثلاً: هذا المسكين الذي كان عنده دين قال له بعض المشعوذين: هات مائة وستين ألفاً، ونحن نجعلها لك مليوناً وستمائة ألفاً، ثم خدعوه، وأخذوا المال، وهربوا. وتلك المرأة التي سمعت كلام الكاهن المشعوذ، فكَوَت ابنتها بثلاث كوياتٍ بمسمارٍ محمى، فصارت تلك العلامات في ظهر البنت حتى الآن، هذه البنت التي تشكو إلى الله صنيع أمها الجاهلة، وتقف تلك الكويات والتشويهات التي في ظهرها عقبة أمام كل خاطبٍ ومريدٍ للزواج. فإذاً: تبيين هذه الأشياء وعرضها للناس يزيل الغشاوة عن أعينهم.

تحذير الناس من الوسائل التي يستخدمها الدجالون

تحذير الناس من الوسائل التي يستخدمها الدجالون بعض الناس يأتي ويقول: يا أخي! إن الكاهن أو الرجل الفلاني لَمَّا ذهبتُ إليه قال: سيحدث لك غداً كذا، أو بعد أسبوع كذا، أو بعد شهرٍ كذا، وقد حدث لي فعلاً بالتفاصيل التي ذكرها! فكيف تقول: إنه دجال ومشعوذ؟! لقد رأيتُ بعينِي ما أخبرني به! فماذا نقول للناس عند ذلك، وهذه الحكاية منتشرة بين الناس:- نقول: إن الكلام الذي أخبروا به إما أن يكون خبراً عاماً من الممكن أن يحصل جداً لأي إنسان، كما سبق أن بينا ذلك في موضوع التنجيم وأبراج الحظ، فتراهم يكتبون: - مكافأة مالية ستصلك، وكل الناس ممكن أن تصله مكافئات مالية، فإذا حدثت قال: صدق الكاهن، وأي صدقٍ في ذلك؟! - ترى غائباً قادماً من سفرٍ بعيد -من الممكن جداً أن ترى غائباً قادماً من سفرٍ بعيد- فنبين لهم هذه الخديعة، وإن كانوا قد أَخبروا بأشياء لا تحدث في العادة، فقال لك مثلاً: إنك ستذهب إلى الصين، وتقابل كذا وكذا، وحدث لك أن ذهبت فعلاً، فنقول للناس عند ذلك: الأحاديث قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الشياطين يركب بعضهم فوق بعض إلى السماء، فيسمع الخبر الذي تتناقله الملائكة -يوحي الله عز وجل للملائكة افعلوا كذا، ولفلان كذا وأنزلوا كذا- فيسمع بعض الشياطين الخبر فينقلونه إلى شياطين الإنس، فيكذبون معه تسعة وتسعين كذبة، ثم يخبرون الناس) والمشكلة عند الناس أنهم لا يتذكرون من كلام الكاهن إلا التي صدق فيها، يكون الكاهن قد أخبر مائة خبر، صدق مرة وكذب تسعاً وتسعين كذبة فالناس لا يتذكرون ولا يعْلَق في أذهانهم إلا الخبر الصادق، فيقولون: فلان صدق! عجباً! لقد أخبر بما تحقق فعلاً! إذاً: هو يعلم ما في الغيب، وينسون تلك الكذبات. فنقول لهم: هذا بسبب استراق السمع من الشياطين الذين يخبرون أولياءهم من شياطين الإنس، فيخبرونكم أنتم به فتضلون. كذلك أيها الإخوة: يأتي بعضهم فيقول: لقد ذهبنا إلى الكاهن أو العراف الفلاني، وقبل أن نسأله عن أي شيء إذا به بمجرد ما أخبرناه عن اسم الآتي إذا به يخبرنا عن اسم أبي وأمي، وأسماء أخوالي وأعمامي، وأين كانوا يعملون، وكيف انتقل أحدهم من بلدٍ إلى آخر؟ وماذا جاء لفلان من الأولاد؟ فكيف عرف الكاهن هذا؟! وهذا الكاهن من بلد بعيد ذهبت إليه؟! فنقول له: يا أخي! اعلم أن الجن قال الله عنهم: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27] هم يروننا من حيث لا نراهم، ويرون أحوالنا، ويسمعوا كلامنا، فينقله هذا الشيطان إلى ذلك الكاهن الذي تأتيه، يقول له: إن فلاناً له من الأخوال والأعمام كذا، وأبوه كان لونه كذا، وعمله كذا، وتوفي في اليوم الفلاني بالمرض الفلاني يخبرك الكاهن فتصدقه. ولو أنك علمت أن الله يقول: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27] وعلمت بأن مع كل إنسانٍ شيطان، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد ومسلم عن ابن مسعود: (ما منكم من أحدٍ إلا وقد وُكِّل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة) فكل واحد منا -الآن- معه قرينٌ من الجن وقرينٌ من الملائكة، فهذا الملك يحثه على عمل الخير، وذاك الشيطان يحثه على عمل الشر فهذا الشيطان الملازم للإنسان يعرف أحوال الإنسان ويراها، ولذلك شرعت لنا التسمية وقراءة المعوذات لنستعيذ من شره. فهذا القرين الملازم لك يعرف أحوالك، فيخبر الكاهن الذي ذهبت إليه بأحوالك الشخصية حتى لو أغلقت الغرفة على نفسك وفعلت أشياء، فيقول لك الكاهن: لقد أغلقت عليك الغرفة في اليوم الفلاني، وفعلت كذا. من الذي أخبر الكاهن؟! إنه الشيطان الملازم لك، فقد وصل الخبر إلى الكاهن عن طريقه. ونحن لو عرفنا هذه الأحاديث لم نستغرب مطلقاً من تلك الأخبار والتفصيلات الدقيقة التي يخبر بها بعض المشعوذين. وكذلك تلك القصة التي حدثت مع بعض الصالحين، لما دخل على بعض الأمراء وعنده عراف يقول للناس: خذوا ما شئتم من الحصى في أيديكم فإني أعرف كم عددها! فيأخذ الناس الحصى ويخبئونها عن ذلك الرجل فيعُدُّونها، ثم يقول ذلك العراف: في يدك كذا من الحصى ويكون كلامه صحيحاً، فلما جاء ذلك الرجل الصالح قال: أتحداه أن يعرف ما في يدي، فأخذ قبضة من الحصى، فلم يعدها وقال: للعراف: كم في يدي من الحصى؟ قال: كذا، فعَدَّها، فاذا هي بخلاف ما قال العراف، فقالوا له: كيف فعلت؟! قال: أنتم عددتم الحصى لَمَّا قبضتموها، فعدَّ معكم القرين، فأخبر العراف، وأنا لم أعدها، فلم يعد معي القرين، فلم يستطع أن يعرف. إذاً: أيها الإخوة! لا ننخدع بهذه الألاعيب والأشياء التي نسمعها. وفقنا الله وإياكم لأن نعيش ونحيا على التوحيد، وأن نموت على التوحيد، وأن يكون آخر كلامنا من الدنيا شهادة التوحيد، وصلى الله على نبينا محمد، وأستغفر الله لي ولكم.

الرد على شبهة أن الكاهن قد يصدق أحيانا

الرد على شبهة أن الكاهن قد يصدق أحياناً الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، وأشهد أن لا إله إلا هو ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، سيد ولد آدم. ومما ينبغي عمله -يا إخواني- كذلك مع هؤلاء الناس الذين يصدقون بهذه الترهات: أن نزيل استغراباتهم من بعض الحوادث الحقيقية التي تقع، ونبين لهم ما هو سبب وقوعها؛ حتى نسد عليهم الطريق أمام الذهاب إلى العرافين والكهان. فبعض الناس سمعتهم يشكون ويقولون: تختفي علينا الأموال من بيوتنا بطريقة عجيبة! نغلِق عليها، ونضعها في أماكن لا يعرفها أحد، ولا يدخل الغرفة أحد لا خادم ولا خادمة ولا إنسان، ولا يمكن أن يصل إلى ذلك المكان أحد، أو جميع مَن في البيت موثوقٌ فيهم، ومع ذلك اختفت الأموال، فقد يأتي هؤلاء الشيطانُ فيقول لهم: اذهبوا إلى الساحر أو الكاهن الفلاني حتى يعلمكم من الذي أخذها؟ وأين توجد؟ فيقعون في شيءٍ من الشرك. ولكن إذا راجعنا نصوص أئمة الإسلام لوجدنا الجواب واضحاً: قال شيخ الإسلام رحمه الله في الفتاوى عن بعض الأشياء التي يقوم بها بعض شياطين الجن، يقول: "وإما أن يأتيه بمال من أموال بعض الناس، كما تسرقه الشياطين من أموال الخائنين، ومن لم يذكر اسم الله عليه، وتأتي به". فإذاً: هؤلاء الشياطين الذين ينفذون من الجدران، ويدخلون البيوت التي لم يقل صاحبُها عندما أقفل بابها: باسم الله، ولم يقل صاحب المال لما أودعه في مكانه: باسم الله، يستطيعون أن يذهبوا إلى المال فيخرجوه ويسرقوه من جوف البيت، ولم يرهم أحد، فيمكن أن يفعلوا هذا، ويأتون به إلى الكاهن، ويُنصح أولئك المساكين أن يأتوا الكاهن، فيذهبون للكاهن، فيقولون: لقد سُرِقْنا، أين المال؟ ابحث لنا عنه؟ فيقول: أنا آتيكم به، ثم يغيب ويخرج المال، وهو عين المال والمجوهرات والمصوغات التي سرقت، فيتعلق الناس بهذا الكاهن. ومن الذي جلبها إليه؟! إنه الشيطان الذي سرقها من داخل البيت الذي لم يذكر فيه اسم الله. ويقول شيخ الإسلام: "وأعرف في كل نوعٍ من هذه الأنواع من الأمور المعينة، ومَن وقعت له مما أعرفه ما يطول حكايته، فإنه كثيرٌ جداً". كان شيخ الإسلام رحمه الله مركز معلومات، يأتيه الناس القاصي منهم والداني يشكون إليه، وهو يعلمهم التوحيد، ويكشف لهم الخداع والألاعيب. هكذا يجب أن يكون موقفنا مع الناس. فنقول له: قبل أن تضع نقودك سَمِّ الله، واحرص على أن تكون أموالك حلالاً، فلا تصل إليها الشياطين بإذن الله، هذا بعد أن يكون قد تأكد أنه لا أحد من أهل البيت قد سرقها؛ لأنها قد تكون حادثة سرقة عادية جداً. كذلك من كشف ألاعيب هؤلاء وحِيَلهم: أن الشياطين تستطيع أن تتشكل، وتقلِّد أصوات بني آدم بدقة، فيقوم بعض جهلة العُبَّاد ينادون أولياء الله الميتين أو الأحياء يقول: يا سيدي فلان! اشفِ مريضي، فيقلد الشيطان صوت ذلك الميت؛ لأنه كان قد ضبطه، أو الحي البعيد، فيقول: نعم، قد أجبتك، فيظن هذا المسكين أنه قد دعا ذلك السيد أو الولي فأجابه، وهذا أيضاً من الأشياء التي ذكرها شيخ الإسلام رحمه الله. وقد يخبرك يوماً من الدهر إنسانٌ أنها قد حدثت له، أو قال لك: أسمع أصواتاً لا أدري من أين مصدرها أسمع شخصاً يناديني باسمي وألتفت فلا أرى أحداً. ولقد حدثت قصص واقعية للسلف بسبب إيذاء الشياطين الذين يريدون أن يخيفوا بني آدم فينادونهم في الليل بأصواتهم وأسمائهم. كذلك أيها الإخوة: يجب علينا أن نبين للناس ما حكم الأموال التي تُدفع إلى هؤلاء الكهان والمشعوذين؟ ونقول لهم: إن الأجرة التي تدفع لهؤلاء الناس حرام، وقد جاء في الحديث الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام: (نهى عن حلوان الكاهن، ومهر البغي). حلوان الكاهن: هو الْحَلاوة الْمَالية النقدية الأجرة التي تدفع للكاهن من أجل قيامه بالعمل من كشف الغيب، وإزالة الضرر ونَحوِه. وفي الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام قال: (حلوان الكاهن خبيث). فإذاً: هذه الأجرة لا يجوز دفعها ألبتة. قال شيخ الإسلام رحمه الله: "الأجرة المأخوذة على ذلك، والهبة، والكرامة التي تُعطى للساحر والمشعوذ والكاهن، حرامٌ على الدافع والآخذ". وهناك مسألة وهي:- لو قال إنسان: أنا عندي عقارات وقد اكتشفت أن إحدى الشقق المؤجرة يسكن فيها أحد الكهان، وأن الناس يأتونه ليَقرأ لهم الغيب والمطالع والفأل، ويعالج أمراضهم بالشعوذة، ماذا أفعل؟ أقول لك: اسمع هذه الفتوى من شيخ الإسلام: "يحرم على الملاك -ملاك العقارات- والوكلاء -كأصحاب المكاتب العقارية مثلاً- إكراء الحوانيت أو غيرها من هؤلاء الكفار والفساق، إذا غلب على ظنهم أنهم يفعلون فيها هذا الجبت الملعون". قال شيخ الإسلام: "ويجب على ولي الأمر وكل قادرٍ السعي في إزالة ذلك، ومنعهم من الجلوس في الحوانيت أو الطرقات، أو الدخول على الناس في منازلهم لذلك، وإن لم يفعل ذلك -أي: يغير المنكر- فيكفيك قول الله عز وجل: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} [المائدة:79]، وقوله سبحانه وتعالى: {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْأِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ} [المائدة:63] ". يجب أن نتناهى عن المنكر، وأن نبين للناس هذا الدجل. ثم قال شيخ الإسلام: "والقيام في ذلك من أفضل الجهاد في سبيل الله". وختاماً أيها الإخوة: أُذكِّر كل مسافرٍ إلى أي بلدٍ من بلاد المسلمين، أو حتى بلاد الكفار في الإجازة القادمة؛ لأن كثيراً من إخواننا المقيمين في هذه البلاد يذهبون إلى بلادهم في الإجازة، أو من يذهبون إلى الخارج للعلاج وما شابه ذلك. أذكرهم بأن عليهم واجباً أساسياً من الواجبات وهو: الدعوة إلى الله، ونشر التوحيد، ومحاربة الشعوذة بين أقربائهم ومعارفهم وأصدقائهم، في بلدانهم التي يذهبون إليها، ويتزودون لذلك بكتب التوحيد النافعة، وينشرونها بين الناس ويبينونها لهم. وحتى -أيها الإخوة-: في بلاد الكفار -مع الأسف- لما نام أهل السنة في سباتٍ عميق، ماذا حصل؟! انتشرت بين الكفار الدعوات الصوفية والشعوذات باسم الإسلام. ترى رجلاً أمريكياً دخل في الإسلام، فعندما تُدَقِّق في أحواله تجد أنه على دين الصوفية المخرفين، سواء ارتفع كفرهم أو نزلت بدعتهم. فإن كان يؤمن بوحدة الوجود وهو: أن كل ما ترى بعينك فهو الله، فيكون قد انتقل من النصرانية إلى الردة والإلحاد. وإن كان على بدعة مثل: حِلَق الذكر المبتدعة بالطبول، وهذا موجود في أمريكا وغيرها. من الناس يزعمون أنهم دخلوا في الإسلام، ما وجدوا أمامهم إلا أولئك المنحرفين، ليعرضوا عليهم الصورة المحرفة المشوهة للإسلام من تلك الطرق المبتدعة، فيكون أحسن أحوالهم أنهم انتقلوا من دين النصرانية إلى البدع. فنحن قد نقابل هؤلاء في سفرنا -مثلاً- الذي ينبغي أن يكون سفر طاعة أولاً وآخراً، فنبين لهم، وندعوهم إلى الله، ونبين لهم التوحيد، ونتلو عليهم النصوص من القرآن والسنة، ونحارب تلك الشعوذات في البلاد التي نذهب إليها. اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك. اللهم بين لنا دينك وفقهنا فيه. اللهم واجعلنا على ملة التوحيد، عليها نحيا وعليها نموت، وعليها نبعث إن شاء الله. اللهم وهيئ لنا من أمرنا رشداً، وأصلح لنا بيوتنا وذرياتنا ونساءنا وأزواجنا. اللهم واجعلنا من التائبين لك، الأوابين إليك، المنيبين إليك، واجعل لنا بلاغاً إلى خير. اللهم وفقنا لما يرضيك، وكن معنا يا رب العالمين. اللهم وفق أبناءنا في اختباراتهم، وكن معهم، واجعل عملهم في رضاك. اللهم واجعل خروجنا من الدنيا على شهادة التوحيد. وصلّ يا رب وسلِّم على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. أيها الإخوة: صلوا عليه في هذا اليوم العظيم، الذي تضاعف فيه أجر الصلاة على رسولكم عليه الصلاة والسلام.

إجابات على تساؤلات

إجابات على تساؤلات هذا الدرس عبارة عن إجابة عن كثير من التساؤلات التي ترد على كثير من الناس، ففيه أسئلة في الأحكام الفقهية، وبعضها في الأمور الاجتماعية والحياة الزوجية

الرد على من قال: لا إنكار في مسائل الخلاف

الرد على من قال: لا إنكار في مسائل الخلاف الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. إخواني: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً على طاعة الله، وأن يعقبه مغفرة من الله، وأن تنزل علينا فيه ملائكة الله، ونسأله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من المقبولين عنده، ومن الذين رفع درجتهم وغفر ذنوبهم، وأبدل سيئاتهم حسنات. إخواني: إن الله عز وجل خلق عقل الإنسان، ومن حكمته سبحانه وتعالى أن جعل هذا الإنسان يفكر، وأن ترد على ذهنه الأسئلة التي تثير عنده حب المعرفة والتعلم، ولولا استثارة الذهن لفقد الإنسان جزءاً كبيراً من علمه؛ لأن الإنسان يتعلم بالتلقي والتلقين، ولكنه أيضاً يتعلم بطريقة السؤال، ولذلك يقول أحد السلف رحمه الله: العلوم خزائن والسؤالات مفاتيحها، والعقل المتوقد هو الذي لا تمر به الأمور هكذا، ويتلقى أي شيء يسمعه أو يقال له من دون قناعة ولا دليل ولا تساؤل، والإنسان البليد هو الذي يقبل كل شيء بغير تروٍ وبغير تساؤل ودليل، وبغير محاولة للتفهم والاقتناع بما يسمع وبما يقال له أو بما يقرأ. ونحن قد خصصنا هذا الدرس للإجابة على تساؤلات دارت في أذهان البعض، وأسئلة متراكمة كثيرة من المرات السابقة، ولعل الله سبحانه وتعالى أن يجعل فيها الفائدة لنا جميعاً، وبعض هذه الأسئلة أسئلة تصورية، وبعضها فقهية عن الأحكام الشرعية، وأيضاً هناك أسئلة تتعلق بمشكلات اجتماعية موجودة في الواقع الذي نحيا فيه. Q يقول: هل القاعدة التي تقول: لا إنكار في مسائل الخلاف، هل هي قاعدة صحيحة أم لا؟ A هذه المقولة تتردد على ألسنة الكثيرين، فإذا حصل خلاف في مسألة يقوم واحد ويقول: لا إنكار في مسائل الخلاف، ودع الناس كل واحد يأخذ بالقول الذي يرتاح إليه ويعجبه، ولا تنكر على أحد، وكل واحد معذور في فناعاته التي وصل إليها. ونقول أيها الإخوة: إن فهم هؤلاء الناس الذين يقولون بهذا فيه خطأ كبير، فإن القاعدة الصحيحة أنه لا إنكار في مسائل الاجتهاد، لا أنه لا إنكار في مسائل الخلاف، يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: إذا كان القول يخالف سنة أو إجماعاً شائعاً وجب إنكاره اتفاقاً، وإذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع، وللاجتهاد فيها مساغ لم تنكر على من عمل بها مجتهداً أو مقلداً، وإنما دخل هذا اللبس من جهة أن القائل يعتقد أن مسائل الخلاف هي مسائل الاجتهاد، كما اعتقد ذلك طوائف ممن ليس لهم تحقيق في العلم، والصواب ما عليه الأئمة؛ أن مسائل الاجتهاد ما لم يكن فيها دليل يجب العمل به وجوباً ظاهراً، مثل حديث صحيح لا معارض له من جنسه فيسوغ فيها. والمعنى: أن بعض الناس يقول: أي مسألة حصل فيها خلاف فلا مشكلة، فإذا حصل خلاف مثلاً في مسألة الوضوء من لحم الإبل فلا إشكال، فالذي يرى أن الوضوء من لحم الإبل يجب وجب عليه أن يتوضأ، والذي لا يرى الوضوء من لحم الإبل فلا يجب عليه أن يتوضأ، والذي يرى أن الزكاة في حلي الذهب واجبة عليه زكاه، والذي لا يرى أنها واجبة فليس عليه ذلك، وهكذا. ونقول: ليس هذا صحيحاً على إطلاقه؛ لأن بعض المسائل فيها خلاف، وقلما تجد مسألة ليس فيها خلاف، صحيح أن هناك طائفة كبيرة من المسائل ليس فيها خلاف، لكن الناس الذين يتبعون الرخص يبحثون عن أسهل قولٍ في المسألة، فيقال له: القول الفلاني، فيقول: إذاً أتبعه، ومن ثم إذا جئت تنكر عليه، يقول: لا يا أخي، هذه مسألة اختلف فيها العلماء، وأنا حر، أخذت بالقول الذي أريده، والقول الذي أرتاح له فلا تنكر عليّ. ونقول: ليست القاعدة الصحيحة أنه لا إنكار في مسائل الخلاف، وإنما القاعدة الصحيحة لا إنكار في مسائل الاجتهاد، والفرق أن المسائل التي فيها دليل قطعي فحتى لو حصل فيها خلاف فالخلاف هنا غير معتبر، أما إذا حصل خلاف في مسألة اجتهادية ليس فيها دليل قطعي، ولا سنة ثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا إجماع من العلماء، وهي في مجال الاجتهاد فنقول هنا: نتباحث ونتناقش لكن لا ينكر أحد على أحد. قد يقول إنسان: هل هناك مسائل حدث فيها خلاف بين أهل العلم وفيها دليل واضح؟ نقول: نعم. هناك مسائل كثيرة ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى، قال: والمسائل التي اختلف فيها السلف والخلف، وقد تيقنا صحة أحد القولين في كثير، مثل: كون الحامل تعتد بوضع الحمل. قبل أيام جاء سؤال: امرأة حامل مات زوجها في الصباح وولدت في الليل، كم عدتها؟ والجواب: بمجرد وضع الحمل تنتهي العدة، قال تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4]. ومثل: إن إصابة الزوج الثاني شرط في حلها للأول فيمن طلق زوجته طلقة ثالثة بائنة وتزوجها رجل آخر، فلا تحل للأول حتى يصيبها الزوج الثاني، وعدم إصابة الزوج الثاني وتطليقها ليتزوجها الأول وهو المعروف بالتيس المستعار (لعن الله المحلل والمحلل له). ومثل: أن الغسل يجب بمجرد الإيلاج وإن لم ينزل. وقد حصل فيها خلاف، ولكن الدليل وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (وإن جهدها فقد وجب عليه الغسل أنزل أو لم ينزل). وإن المتعة حرام، فزواج المتعة حصل فيه خلاف، لكن الأدلة واضحة على أن زواج المتعة حرام، فلا يأتي واحد يقول: أنا حر والمسألة فيها خلاف، ويأخذ بجواز نكاح المتعة، نقول له: خطأ ولا يجوز، والخلاف فيها غير معتبر، والدليل فيها واضح. وأن المسح على الخفين جائز حضراً وسفراً، وأن السنة في الركوع وضع اليدين على الركبتين دون تطبيق اليدين ووضعهما بين الفخذين كما ورد ذلك وقد نسخ، وأن رفع اليدين عند الركوع وعند الرفع منه سنة، وأن المحرم له استدامة الطيب دون ابتدائه، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم رئي وبيص الطيب في مفرق رأسه وهو محرم؛ لأنه كان قد وضعه قبل الإحرام، فإذا أحرم وعليه الطيب فلا يلزمه غسله، لكن لا يجوز أن يضع طيباً جديداً بعد الإحرام. وأضعاف أضعاف ذلك من المسائل. ولا عذر عند الله يوم القيامة لمن بلغه ما في المسألة من هذا الباب وغيره من الأحاديث والآثار التي لا معارض لها، لا عذر له عند الله إذا نبذه وراءه ظهريا، وقلد من نهاه عن تقليده، وقال له: لا يحل لك أن تقول بقولي إذا خالف السنة، وهذه مشكلة متعصبة المذاهب، يقيمون على أقوال في مذاهبهم مخالفة للدليل، ويقول لك: قال إمامي، نقول: إمامك يقول: إذا رأيت الدليل يخالف قولي فاضرب بقولي عرض الحائط وخذ بالدليل. وهذه أيضاً مشكلة بعض الإسلاميين الذين يعتقدون أن المجال واسع في الاختلاف، وأن هناك مجالس لوحدة المسلمين، أو لوحدة المنتسبين إلى الإسلام من أهل القبلة وغيرهم؛ فيقال: نتفق على ما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه، وهذه القاعدة كما ذكر الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله ليست من قواعد أهل السنة والجماعة، ولا تعرف أنها من قواعد أهل السنة والجماعة، وإنما نتفق على الأصول الصحيحة من الكتاب والسنة في أبواب العقيدة واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وغيرها من الأشياء، ولا نقول: هذا مبتدع وأنا من أهل السنة، ونحن نؤمن بوجود الله، إذاً نجتمع على وجود الله، ولا يمكن أن ينصر الله خليطاً فيهم هذه الأجناس وهذه التفكيرات العجيبة والقناعات اللاشرعية.

علاقة الثواب بالمشقة

علاقة الثواب بالمشقة Q هل صحيح أن الثواب على قدر المشقة أم لا؟ A هذه قناعة عند بعض الناس، يقول: أن الثواب على قدر المشقة. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ومما ينبغي أن يعرف أن الله ليس رضاه أو محبته في مجرد عذاب النفس، حتى يكون العمل كلما كان أشق كان أفضل، كما يحسب كثير من الجهال أن الأجر على قدر المشقة في كل شيء، لا. ولكن الأجر على قدر منفعة العمل، ومصلحته، وفائدته، وعلى قدر طاعة أمر الله ورسوله، فأي العملين كان أحسن، وصاحبه أطوع وأتبع كان أفضل من العمل الآخر، فإن الأعمال لا تتفاضل بالكثرة، وإنما تتفاضل بما يحصل في القلوب حال العمل، ولهذا لما نذرت أخت عقبة بن عامر أن تحج ماشية حافية منعها النبي صلى الله عليه وسلم وقال لأخيها: (إن الله لغني عن تعذيب أختك نفسها، مرها فلتركب). وكذلك حديث جويرية وقد دخل عليها الرسول صلى الله عليه وسلم ضحى، ثم دخل عليها عشية، -أي: عند الظهر- فوجدها على تلك الحال، قال لها: أما زلت على تلك الحال التي فارقتك عليها؟ فقالت: نعم. فقال صلى الله عليه وسلم: (لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات، لو وزنت بما قلت منذ اليوم لرجحت، سبحان الله عدد خلقه، سبحان الله رضا نفسه، سبحان الله زنة عرشه، سبحان الله مداد كلماته) فهذه أربع كلمات قالها ثلاث مرات، كانت أرجح من تسبيح جويرية من الضحى إلى العشي. فإذاً ليس الثواب على قدر المشقة دائماً، وإنما تتفاوت الأجور بتفاوت قرب العمل من الله ورسوله، والإخلاص فيه، والمتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم، وكلما كان العمل أخلص، ومتابعة صاحبه أكثر كلما كان أفضل، وليست المسألة بالمشقة دائماً، صحيح أن الذي يكثر من صيام النفل -وفيه مشقة- أفضل من الذي لا يصوم النفل، لكن هذه ليست قاعدة مضطردة. صحيح أن الذي يقوم الليل أطول، يكون أفضل من الذي لا يقوم نهائياً أو يقوم خمس دقائق، لكن ليس هذه قاعدة على إطلاقها كما ذكرنا. مثال آخر: لو صلى إنسان في ليلة ألف ركعة، وصلَّى آخر إحدى عشرة ركعة متأنياً متمهلاً، فمن هو الأفضل؟ الذي صلّى إحدى عشرة ركعة، نقول: الرسول صلى الله عليه وسلم صلى إحدى عشرة فقط أو ثلاث عشرة ولم يصلِّ ألفاً، فليست المسألة مسألة زيادة فقط، وإنما مسألة إخلاص ومتابعة. قال شيخ الإسلام رحمه الله: وأصل ذلك أن يعلم أن الله لم يأمرنا إلا بما فيه صلاحنا، ولم ينهنا إلا عما فيه فسادنا، ولهذا يثني الله على العمل الصالح، ويأمر بالصلاح والإصلاح وينهى عن الفساد. فالله سبحانه إنما حرم علينا الخبائث؛ لما فيها من المضرة والفساد، وأمرنا بالأعمال الصالحة؛ لما فيها من المنفعة والصلاح لنا، وقد لا تحصل هذه الأعمال إلا بالمشقة. أي: حتى لا يأتي من يقول: إذاً ليس هناك داعي لأن نشق على أنفسنا، بل علينا أن نريحها، وعليه فلا داعي لأن نجاهد أو نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، ولا أ، نسهر لطلب العلم؛ لأنه مشقة، فنقول: لا. هناك أعمال فرضها الله لا تنال إلا بالمشقة. يقول شيخ الإسلام رحمه الله: وقد لا تحصل هذه الأعمال إلا بمشقة كالجهاد، والحج، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وطلب العلم، فيحتمل تلك المشقة، ويثاب عليها لما يعقبه من المنفعة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عائشة لما اعتمرت من التنعيم عام حجة الوداع: (أجرك على قدر نصبك) النصب: التعب، وأما إذا كانت فائدة العمل لا تقاوم مشقته، أي: أن فائدة العمل والمنفعة أقل من المشقة التي فيه، فهذا فساد والله لا يحب الفساد. والأمر المشروع المسنون مبناه على العدل والاقتصاد والتوسط الذي هو خير الأمور، مثل الفردوس، وسط الجنة وأعلى الجنة، فإذاً الأعلى والأفضل والأكمل هو أواسط الأمور، لا إفراط ولا تفريط.

سبب الوحشة بين الإخوان في الله

سبب الوحشة بين الإخوان في الله Q ما سبب الوحشة التي تحدث بين الإخوان في الله؟ A هذا السؤال -أيها الإخوة- له نصيب كبير من الواقع، ولابد أن يتساءل الإنسان الذي يحدث بينه وبين بعض إخوانه نفور، لماذا يحدث هذا النفور؟ وما هي الأسباب؟ فنقول: إن من الأسباب التي تُوجِد النفرة بين قلوب الإخوة متعددة فمنها: أولاً: المعاصي، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (ما تواد اثنان في الله فيفَرَّق بينهما إلا بذنب أحدثه أحدهما أو كلاهما) فالمعاصي سبب للتفريق بين الإخوان، وسبب لتفرق الكلمة وضعف الصف، لذلك كان يحرص قادة الجيوش الإسلامية أن يبعدوا الجنود عن المعاصي؛ لأنه سهل على الأعداء اختراق الصف الذي تملأه المعصية، ولذلك ورد عن بعضهم أنه قال: لأنا أخوف على الجنود من المعاصي أكثر من الأعداء. والصف الإسلامي في حالة مقاومة ومجابهة للباطل، ولذلك فهو يحتاج إلى وحدة واعتصام بالكتاب والسنة، حتى لا يحصل التفرق والتنابذ والتفسخ بين أفراد الصف الإسلامي. ثانياً: ومن أسباب النفور بين الإخوة كذلك: عدم القيام بحقوقهم: فحقوق الإخوة كثيرة، وإذا قصر بعضهم في حقوق إخوانهم الآخرين حصلت بسبب ذلك الفرقة، فمن ذلك مثلاً تقصير بعضهم في السؤال عن أحوال البعض الآخر، وفي تفقد شئون البعض الآخر، ومساندة ودعم بعضهم الآخر في حال الضائقة والملمات، فعندما ينظر الواحد ويرى أن أخاه قد أعرض عنه ولم يسأل عن حاله، وأنه وقع في ضائقة ولم يجد من ينقذه؛ فإن هذا يسبب نفرة بلا شك. ثالثاً: كذلك من الأسباب التي يحصل بسببها الشقاق بين الإخوة: إساءة الإخوة الأدب مع بغضهم، فمثلاً: يكثر بعضهم من مقاطعة البعض الآخر في الكلام، أو قد يأتي في وصفه له بكلمات غير مناسبة وغير صحيحة، وليست من أدب الإسلام، فيحصل بذلك فرقة وشقاق، وقد يكون تدخل بعضهم في شئون الآخر تدخلاً مذموماً، مما يحصل بسببه شقاق وفرقة وخلاف. ويسأل بعض الإخوان سؤالاً فيقول: كيف نعرف التدخل الصحيح من التدخل غير الصحيح؟ فأقول لك يا أخي: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قعد لنا قاعدة مهمة في هذا، وهي قوله عليه الصلاة والسلام: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) فمثلاً: قد يتدخل إنسان في خصوصيات إنسان آخر، وليس عند الإنسان الآخر منكر يوجب التدخل، ففي هذه الحالة يكون هذا التدخل غير صحيح، وكذلك الإلحاح عليه في الأسئلة المزعجة والمتكررة، للحصول على معلومات ليس من ورائها طائل، ولا مصلحة شرعية بقدر ما تسبب له من الإيذاء والإحساس بالحرج وأنت تلح عليه في السؤال. ومن ذلك مثلاً التجسس، وهو تدخل في أمور الآخرين، وهو محرم ولاشك. ومن التدخل ما يكون صحيحاً، مثل أن يكون التدخل لتغيير منكر، أو دعوة إلى الله، أو لتعديل وضعه بحيث يصبح أفضل أو أحسن، لو أنك رأيت عيباً في طريقة إلقائه فأرشدته بإرشادات تجعل طريقة إلقائه أفضل وأحسن، فهذا التدخل طيب لكن المهم هو الأسلوب في التدخل. والتدخل يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص؛ مثال الاختلاف بالأشخاص مثلاً: الأب يحق له التدخل في أمور ابنه ما لا يحق لواحد غريب، المدرس يحق له التدخل في شئون تلميذه في الفصل ما لا يحق لواحد خارج الفصل، فيختلف باختلاف الأحوال والأشخاص. وأحياناً يختلف بحسب درجة الاستفصال في السؤال، فلو أنك مثلاً لقيت إنساناً فقلت له: هل تزوجت؟ قال: نعم. قلت: بارك الله لك وبارك عليك وجمع بينكما في خير، فهذا شيء طيب، لكن ولو أنك زدت فقلت له: وهل دخلت بأهلك أم لا؟ ومتى كان ذلك؟ هنا يكون التدخل أمراً مشيناً ومعيباً، ولا يحق لك أن تفعل مثل هذا الأمر. بعض الناس أحياناً يدسون أنوفهم ويتدخلون في أشياء لا تخصهم، مثلاً: لماذا أثاث البيت لونه أخضر؟ أنا لا يعجبني، لابد أن تجعل لونه أزرق؛ لأنه يعجبني اللون الأزرق، نقول: يا أخي! ليس لك حق أن تتدخل بهذه الطريقة، وهنا تعتبر إنساناً قد وضع الأمر في غير محله. فإذاً قد يكون التدخل محرماً مثل: التجسس، وقد يكون واجباً مثل التدخل لتغيير منكر عند أخيك أو في بيتك، وقد يكون مستحباً مثل تحسين وضع أخيك -كما ذكرنا- وقد يكون مكروهاً مثل الإلحاح على شخص في أمر تحرج من ذكره، وقد يكون مباحاً مثل أن تسأل الإنسان مثلاً: هل سافرت أم لا؟ هذا ملخص عن قضية التدخل، بعد أن تكلمنا عن بعض الأسباب التي توجب تفرق الإخوان عن بعضهم.

العلاقة الزوجية في حياة الداعية إلى الله

العلاقة الزوجية في حياة الداعية إلى الله Q بالنسبة لعلاقة المرأة مع الرجل، وبالذات زوجة طالب العلم والداعية إلى الله، فقد تطالبه بأشياء أكثر من حقها المشروع مما يضيع عليه الوقت، فهل من نصيحة؟ A نقول أيها الإخوة: الحقوق الزوجية أمر من صلب الإسلام، ومع الأسف الشديد أننا لا زلنا نسمع عن قصص عجيبة في العلاقات الزوجية السيئة؛ تحدث أحياناً بين بعض الناس الذين ظاهرهم التمسك بالدين، وهذه مسألة خطيرة جداً. واحد من الناس أول ما تزوج ضرب زوجته في ليلة العرس، وواحد آخر كان يدس لزوجته الحبوب المخدرة، على أنها أقراص مهدئة أو مسكنة للصداع. وواحد يكتف زوجته بالحبل ويطأها في دبرها رغماً عنها، وهو معروف أنه حرام، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لعن من أتى امرأة في دبرها. وإنسان يطرد زوجته من البيت، وقد يرميها بأقرب إناء في يده. في المقابل زوجات تثور على زوجها لأتفه الأسباب، وتقول له: اغسل ثيابك بنفسك، وقد تقول له أيضاً: إذا لم يعجبك الأكل فاذهب إلى المطعم، وقد تتمرد عليه في الفراش ولا تجيبه، والرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أن من فعلت ذلك تلعنها الملائكة حتى تأتي، وأن من دعاها زوجها إليها وجب أن تأتيه ولو كانت على التنور؛ لأنه قد يقوم في نفس الزوج في بعض الحالات من الحاجة إلى زوجته شيئاً كبيراً طارئاً لابد أن يلبى في آنه. وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن من رأى امرأة في الطريق فأُعجب بها، فمن تمام كفارة ذلك وعلاج هذا الأمر أن يأتي أهله، فقد يحصل ذلك فيدخل البيت فيجدها تطبخ فيطلبها، فيجب عليها أن تلبيه فوراً؛ لأنه قد تحصل مفاسد من الامتناع عن ذلك. وهذه مسألة الكلام فيها طويل، ولعل الله عزَّ وجلَّ ييسر لنا فرصة لنتكلم عنها بتفاصيل أكثر، وتبيان ما ورد في الشرع من آداب العشرة الزوجية، وحق الرجل على زوجته، وحق الزوجة على زوجها، ولكن نصيحة أقدمها بشأن هذا السؤال؛ زوجة الداعية إلى الله أو طالب العلم، لابد أن تراعي حال زوجها في أمور كثيرة، فمثلاً قد يكون الزوج ينفق قسطاً لا بأس به من مرتبه أو دخله في أشياء من الطاعات، كصدقات، أو شراء كتب علمية، أو إنفاقها على إخوانه في الله، وقد يكون الإنفاق مع مطالبته لها بأمور مثل الولائم وما شابه ذلك. فالمرأة المسلمة الصادقة لابد أن تراعي حال زوجها، فالداعي إلى الله وطالب العلم عليه من المسئوليات التي تستتبع متطلبات مادية غير الشخص العادي، ولذلك لابد أن تراعي زوجته هذا الجانب؛ لأنه قد يكون عنده احتياجات ومتطلبات يحتاج إليها في خلال دعوته إلى الله وطلبه للعلم، فمثلاً: لا تكلفه بأن يشتري لها الثياب الغالية، أو أن يستأجر لها شقة مترفة أو مزينة ووثيرة الأثاث، فإنه لا يستطيع أن يتحمل الجمع بين الأعباء المالية التي تكلفه بها الزوجة، ومع المتطلبات المالية التي يحتاج إليها في خلال دعوته إلى الله وطلب العلم الشرعي، هذا من جهة. من جهة أخرى: فإن الداعية إلى الله في عصرنا سيستغل جزء كبير من وقته في الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، وطلب العلم وتعليمه للناس، والزوجة تريد من زوجها أن يجلس معها في البيت كثيراً، وأن يخلو بها كثيراً، وأن يخرج بها للفسحة كثيراً، تحب هذا منه، ووقته مزدحم بأعباء وأشغال، والتأخر الحاصل في حال المسلمين يتطلب من الإنسان المسلم عملاً دائباً وجهداً كبيراً، وهذا العمل والجهد يزاحم قضية الانفراد بالزوجة والخروج بها للفسحة وغيره، فلابد أن تراعي هذا الأمر، وألا تطلب منه كثيراً أن يأتي ويجلس معها دائماً، أو يخرج بها يفسحها ويزورها إلى آخره، أقول: لا تطلب منه كثيراً، لا ألا تطلب منه نهائياً. كذلك قد يرهقها بأعمال، فهو يحب إكرام الناس، وقد يستغل الولائم في الدعوة إلى الله، والدخول إلى قلوب الخلق، وهذا سيرتب عليها مسئولية أن تطبخ، وقد تكثر هذه الأشياء بين فترات قريبة، فيحصل منها بعض التضايق في هذا الجانب، وقد يفاجئها بوليمة من غير خبر مسبق، إما أن يطرق الباب ويقول: حهزي فقد جاء معي خمسة؛ فاصنعي عشاء بسرعة، أو بالهاتف يقول: بعد نصف ساعة أنا سآتي ومعي سبعة أشخاص، نحن لا نقول: فعل الزوج هذا صحيح تماماً، لكن نقول من جهة الزوجة: أنه لابد أن تراعي هذا الشيء، ومن ثم قد تطبخ وتتعب وتنفخ وهكذا، ثم يأتي يلاحقها: أما أنجزتي، أسرعي في التجهيز إلخ. الغريب أحياناً أن هذا قد يقع، يدخل الواحد على زوجته معبساً مقطباً، فيأخذ الطبق ويدخل على إخوانه في المجلس مبتسماً منشرح الصدر، وهذا شيء غير صحيح، لكن الظروف قد تدفع الإنسان لهذا، فعليه أن يجاهد نفسه في هذا الأمر، وكما أنه يأخذ الأطباق مثلاً مستعجلاً عابساً، ينسى كلمة الشكر للزوجة، فإنه إذا ردها إليها بعد الأكل، أين الشاي؟ أين القهوة؟ تأخذ الأطباق، وينسى أن يقول لها كلمة ملاطفة، أو كلمة شكر واحدة. إزاء هذه الأشياء التي تحدث؛ فلابد أن تكون الزوجة -زوجة طالب العلم والداعية إلى الله- واسعة الصدر، لا تغصب، ولا تشمئز، صحيح أن هذا الأمر قد يثير في نفسيتها أشياء، وقد يجرح كبرياءها وشعورها، ولكن التي تفهم الأمر كما ينبغي، وتعي الواقع جيداً، فإنها ولاشك ستحتسب هذا عند الله، وكما أن زوجها يقوم بالدعوة إلى الله وطلب العلم وتعليم الناس، فهي تقوم بدور لا يقل عنه أهمية في دعمه، وحمل المشاق عنه، وتوفير الجو الهادئ له. قد يكون هذا الشخص منشغلاً بالقراءة وطلب العلم، يدخل ويقفل على نفسه ويترك المرأة مع الأولاد، وقد تقول له: علمني مما علمك الله، فيقصر في حقها، تقول له: أنت تذهب تعلم الناس وتطلب العلم، وأنا ليس لي شيء، وهو مقصر في حقها، لكن المراعاة من المرأة مهم، فنحن نتكلم من جانب الزوجة. وإذا دخل البيت متعباً والأولاد يصرخون، فقد يقول: خذي الأولاد واذهبي غرفة ثانية بسرعة؛ أنا أريد أن أنام، أم هي فكأنها لا تريد أن تنام بزعمه، فقد تحزن أيضاً، فنقول: إن الحياة الزوجية ينبغي أن تكون قائمة على المودة، و (سددوا وقاربوا) فكما ننصح المرأة بهذا الكلام، نقول للزوج أيضاً: وأنت كذلك أيها الأخ المسلم، عليك بمراعاة زوجتك، وستخطئ عليها في كثير من الأحيان ولاشك، فعليك بتدارك ما فات، وإصلاح ما ينبغي أن يصلح، وألا تترك الأخطاء تتراكم منك على زوجتك.

تذكر مشاهد محرمة قبل الزواج والأثر السيئ لذلك

تذكر مشاهد محرمة قبل الزواج والأثر السيئ لذلك Q هذه مسألة متعلقة بالزواج، واحد يتكلم عن ضرر المشاهد المحرمة التي شاهدها قبل أن يلتزم بدين الله ويستقيم على شرع الله. A بين يدي نقطتين الآن أذكرهما في هذا الجانب: المعاصي -أيها الإخوة- لها آثار سيئة، وأحياناً قد يكون الأثر السيئ ممتداً إلى سنوات طويلة، وهذا مثاله: فهذا شخص يقول: أنه تاب إلى الله واستقام على شرع الله، وترك الأشياء المحرمة، والنظر إلى النساء الأجنبيات، ومشاهدة المسلسلات المشتملة على النساء، والمجلات وغيرها، ترك هذا كله، لكنه يقول: إنه إذا خلى بنفسه، فإنه لا يزال يتذكر من هذا الرصيد الضخم الذي كان قد شاهده في حياته الجاهلية؛ من صور النساء وغيرها من الأشياء المثيرة ما يقوده للوقوع في المحرم مثل: الاستمناء وغيره، لا حول ولا قوة إلا بالله! لكن هذا حاصل. أقول: انظر إلى الأثر السيئ، والحياة السيئة التي كان يعيشها الإنسان، فلها آثار جانبية ممتدة، وليست المسألة تنتهي بنهاية المعاصي، اللهم إلا من جاهد نفسه وعصمه الله، فنسي تماماً أو جاهد نفسه في أول فكرة وخاطرة خطرت له فانتهى الأمر من ذهنه بالكلية، والنفس إلم تشغلها بطاعة الله شغلتك بالمعصية؛ حتى بتذكر الأِشياء، هذه سلبية من سلبيات مشاهدة المناظر، فإن بعض الناس يستعيدونها في مخيلتهم، بحيث أنها تقودهم إلى ارتكاب بعض المعاصي. وضرر آخر من هذه الأشياء متعلق بالزواج: المشاهد المحرمة التي شاهدها الإنسان في السابق، فإن بعض الشباب عندما يتزوج ويدخل بزوجته؛ فإنه إما في مقتبل الأمر أو بعد فترة، لا يشاهدها بمستوى الجمال الذي كان يتخيله عند الزواج، أو وهو يبحث عن الزوجة. لماذا لما يشاهدها بنفس المستوى من الجمال الذي كان يتخيله قبل الزواج؟ ولماذا لا يقنع كثير من الشباب بزوجاتهم بعد الزواج؟ مما يدفعهم إلى مسائل كبيرة مثل الطلاق، أو إلى إساءة معاملتها، وفي شيء لا ذنب لها فيه، هذا يحصل أحياناً. أحياناً الشخص يتبرم وينفر، وفي النهاية لا تجد سبباً معقولاً أو معيناً، كأن تكون الزوجة قد قصرت في حقه، وإنما يقول: ليست هذه هي المرأة التي كنت أتخيلها قبل الزواج، لأن كلاً منهم كان يظن في حال الخطبة أو البحث؛ أنه سيتزوج ملكة من ملكات الجمال، وملكات الجمال هذه بدعة شهوانية كفرية وردت إلينا من الكفار. فأحد الأسباب غير قضية الرضا والقناعة بما قسمه الله له، أن هذا الشاب كان قد شاهد من قبل في أثناء حياته الأولى السيئة مناظر كثيرة على صفحات المجلات، وفي المسلسلات والأفلام وغيرها، مما جعل يتصور مستوى جمال معين، ويقول: أنا أريد أن أعف نفسي، فأنا أريد زوجة أجمل من كل التي رأيتهن في المسلسلات والأفلام والمجلات، فبعضهم عندهم هذه النفسية، فلما يرى المجتمع ليس فيه ذلك، فمن أين نأتي بجميلات؟ والله عز وجل خلق النساء متفاوتات في الجمال، فإذا أنت بحثت وبحثت فلم تجد إلا هذا الشيء، فأنت الذي فتحت على نفسك الباب، ولابد أن تواجه نفسك وتذكرها أنها السبب. في الماضي كان الرجل قد لا يرى زوجته في الخطبة، لكن يدخل عليها ويرضى بها وتسير الحياة بطريقة عادية، مع أن المرأة قد تكون دميمة؛ لأنه لم يكن يوجد انتشار لهذه الصور والأشياء التي تجعل الواحد يضع في ذهنه ومخيلته مستوى معيناً من مستويات الجمال، فتحصل بعض المشاكل في الحياة الزوجية من هذا الباب. فانظر -يا أخي- إلى الأثر السيئ للمعاصي التي تحدث سابقاً كيف تمتد حتى تدخل في أشياء كثيرة حتى بعدما يهتدي الإنسان، وهذا مما يؤكد أهمية استئناف الحياة الإسلامية الصحيحة، التي في ظلها تتربى الأجيال المسلمة التي تكون بمنأى وبمبعد عن هذه التأثيرات الشهوانية، والمناظر المحرمة التي تسبب له المشاكل في المستقبل.

الرد على من يحتج بحديث (المؤمن يزني) في جواز الزنا

الرد على من يحتج بحديث (المؤمن يزني) في جواز الزنا Q هذا والله سؤال عجيب، يقول: واحد يريد أن يزني بامرأة أو يفعل الفاحشة بشخص، فاستدل لإقناع الطرف الآخر بحديث (المؤمن يزني؟ قال: نعم). A هناك حديث مشهور أن الرسول صلى الله عليه وسلم سئل: (المؤمن يزني؟ قال: نعم. المؤمن يسرق؟ قال: نعم. المؤمن يكذب؟ قال: لا) هذا الحديث فيه ضعف، وإنما الذي صح في هذا الباب أحاديث منها: الحديث الصحيح الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: (يطبع المؤمن على الخلال كلها، إلا الخيانة والكذب) ولنفترض أن الحديث صحيح، وربما يكون هذا المعنى صحيح فأن المؤمن إذا زنى لا يخرج عن الإسلام، ولا ينتفي عنه الإيمان كله، ولكن ينقص من إيمانه بقدر المعصية التي فعلها. ولكن هل هذا مبرر لمن يزني؟ كون الرسول صلى الله عليه وسلم يخبر أن المؤمن لا يخرج عن الإيمان بالكلية إذا زنى، وأنه يبقى داخل دائرة الإسلام، ويكون مسلماً عاصياً فاسقاً ومرتكب كبيرة، لا دليل فيه على إباحة الزنا، وقضية الاستدلال الخاطئ بالقرآن والسنة هو منهج أهل البدعة ولاشك. ولذلك كان من منهج أهل السنة والجماعة صحة الاستدلال، ليس الأمر أن تأتي بآية أو حديث، لكن المهم أن تأتي لي بهما في المكان المناسب، وإلا فإن كثيراً من أهل البدع استدلوا لصحة مذاهبهم بأدلة من القرآن والسنة الصحيحة، لكن الموضع الذي استشهدوا به خطأ، ومن ضمنهم الخوارج الذين خرجوا على علي رضي الله عنه، استدلوا بأشياء من القرآن. بعض الفتيات تضع قصة خطبة خديجة للرسول صلى الله عليه وسلم ومحادثة الرسول صلى الله عليه وسلم مع خديجة، حجة في جواز محادثة الفتيان والمعاكسات في الهاتف، وانظر كيف الاستدلال! والله لو أن الشيطان يريد أن يفكر فيها يمكن ألا يتوصل إليها. ومن هذا الباب استدل أحد الناس النشالين بقوله عز وجل: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} [الشرح:7] قال: فانصب، أي: انصب واسرق، فإذا فرغت أي: إذا فرغت جيوبك من الفلوس فانصب على العالم. ومن هذا الباب ترجم أحد المستشرقين الفرنسيين القرآن إلى اللغة الفرنسية، فلما جاء في قوله عز وجل: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء:43]، والمعنى: إذا جامعت زوجتك أو ما ملكت يمينك ولم تجد ماء وأنت تريد الصلاة فتيمم، فلما جاء يترجم (أو لامستم النساء) قال: وهذا دليل على إباحة الإسلام للزنا؛ لأنه قال: لامستم النساء، وهي عامة، إذاً فالإسلام يبيح الزنا، انظر إلى خبث المستشرقين. وكما قاس مصطفى محمود على قول الله عز وجل: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية:17] قال: أفلا ينظرون إلى المرأة كيف خلقت، فهذا دليل قياس على القرآن. فإذاً أيها الإخوة: قضية الاستدلال خطيرة جداً، ولابد فيها من العلم، وليس الأمر أن تحفظ من القرآن والسنة فحسب، بل الأهم أن يصح استدلالك بهما، ولذلك عقد العلماء فصولاً وكتباً خاصة في هذا الموضوع، ومما أحيلك عليه: الباب الرابع في كتاب الاعتصام للشاطبي رحمه الله الذي خصصه فقط لقضية الاستدلال، وصحة الاستدلال، ومواجهة أهل البدع في استدلالاتهم الخاطئة من القرآن والسنة. تعقيباً على هذا الذي يقول: المؤمن يزني؟ فيقول: يجوز هذا، فنقول له: إن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود والحاكم عن أبي هريرة: (إذا زنى العبد خرج منه الإيمان، فكان على رأسه كالظلة، فإذا أقلع رجع إليه).

حكم قول المرأة للرجل والعكس: إني أحبك في الله

حكم قول المرأة للرجل والعكس: إني أحبك في الله Q ما حكم قول المرأة للرجل والعكس إني أحبك في الله؟ A وهذا السؤال صارت دارت مناقشات ومباحثات أسفرت عنا استفهامات وإشكالات نوضحها إن شاء الله، وكنت قد سمعت بأن الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين قد سئل عن هذا السؤال، فأخبر أنه يجوز، فسألته بنفسي حتى أعرف ماذا قال بالتفصيل. ونقول أيها الإخوة: إن الرسول صلى الله عليه وسلم بين بأن الإنسان المسلم إذا أحب أخاه فليعلمه، وقال أيضاً عليه السلام: (إذا أحب أحدكم أخاه فليبين له، فإنه أدوم في الألفة وأبقى في المودة) أو كما قال، والحديث في السلسلة الصحيحة رقم ثلاثة، ونعلم أن أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم تشمل الرجال والنساء، وأنه لا نفرق إلا فيما دل الدليل على التفريق فيه، ولكن عندما يكون هناك مجال ومدخل للفتنة في أمر جائز في الشريعة، ولكن يؤدي إلى حرام، فإنه يصبح حراماً ولاشك. ولذلك يقول الشيخ ابن عثيمين: قلنا لمن سأل هذا السؤال: إنه يجوز بشرط الأمن من الفتنة، بحيث يعرف أن الرجل الذي إذا قالت له المرأة هذا الكلام لا يكون فيه قابلية للفتنة، وضرب لي مثالاً، فقال: افرض أن امرأة كلمت الشيخ ابن باز، فقالت له: إني أحبك في الله، فلا شيء في ذلك؛ لأن ذلك الرجل في مقام لا يتصور منه حصول هذا الأمر، ولكن أن يكون شاباً، وكان يذكر بالخير، ثم تتصل عليه وتقول: إنني أحبك في الله، فهذا لا يجوز. قال: ونحن نتحذر من هذا كثيراً؛ لأن المحبة في الله قد تؤدي إذا أسيء استخدامها، أو أسيء تطبيقها إلى محبة لغير الله، وقد تؤدي إلى محبة مع الله وهذا شرك، فلابد أن تؤمن الفتنة أمناً كاملاً. هذا هو الجواب على هذا الاستشكال، فإذاً لا يصلح لامرأة أن تتصل على شاب مهما بلغ من العمل والتقى -مادام أنه عرضة لأن يقع في الحرام- وتقول: إني أحبك في الله، ولا يصلح هو أن يتصل على شابة أو امرأة أجنبية ويقول: إني أحبكِ في الله. وإني أعرف قصصاً من هذا القبيل كانت هذه الكلمة سبباً لحصول مقابلة محرمة، فإذاً -أيها الإخوة- لابد من الحذر من هذه الأشياء تماماً.

حكم إعطاء الهدية للمخطوبة

حكم إعطاء الهدية للمخطوبة Q هل يجوز للخطيب أن يهدي خطيبته قبل أن يعقد عليها هدية؟ A قال الشيخ ابن باز: نعم يجوز. أن يرسل لها هدية لكي يرغبها وأهلها فيه، ولكن من غير خلوة أو مقابلة خبيثة.

حكم التسمية بـ: (وداعة الله، نور الله، جار الله)

حكم التسمية بـ: (وداعة الله، نور الله، جار الله) Q ما حكم التسمية بالأسماء التالية: وداعة الله، غلام الله، جار الله، نور الله؟ A يقول الشيخ ابن باز: يجوز التسمية بوداعة الله وجار الله، والأحسن تغيير اسم غلام الله، وينبغي تغيير اسم نور الله، أما غلام الرسول أو عبد النبي، وغيره من المعبدة لغير الله فلا تجوز، وأما التسمية ببشير ونذير، فإنها تصح ولا بأس بهذه التسمية.

حكم إطلاق كلمة (صديق) على الكافر

حكم إطلاق كلمة (صديق) على الكافر Q هل يجوز إطلاق كلمة الأخ أو الصديق على اليهودي أو النصراني؟ A جواب الشيخ ابن باز: لا يجوز؛ لأنه نوع من المودة.

حكم خروج الزوج مع زوجته إلى بيت مستقل

حكم خروج الزوج مع زوجته إلى بيت مستقل Q هل يحق لي الخروج من بيت والدي مع زوجتي، وذلك للحذر من التلفاز والخلوة، حيث أن أخي يسكن معنا حتى لو مانع أبي؟ A جواب الشيخ ابن باز: لا حرج عليك، ولو لم يرض والداك بذلك.

حكم حلق الشعر الذي أسفل الشفة

حكم حلق الشعر الذي أسفل الشفة Q ما حكم حلق الشعر الذي أسفل الشفة بالقرب من الفم؟ A جواب الشيخ: لا يتعرض لها، فهي تبع للحية.

حكم قول الإمام لوالده المؤذن: أقم

حكم قول الإمام لوالده المؤذن: أقم Q هل للإمام الشاب أن يقول لوالده المؤذن: أقم؟ A يقول الشيخ: لا بأس بذلك.

حكم التهنئة بالمعانقة في العيد والمصافحة

حكم التهنئة بالمعانقة في العيد والمصافحة Q هل التهنئة بالمعانقة أو المصافحة في العيد لها أصل؟ A المعانقة في العيد ليس لها أصل، وتركها أولى.

حكم طمس اسم الله حتى لا يهان

حكم طمس اسم الله حتى لا يهان Q هل يجوز طمس اسم الله حتى لا يهان على الأوراق مثلاً؟ A جواب الشيخ ابن باز: إذا خشي أن يهان أو يداس فلا بأس بطمسه.

حكم كتابة اسم الله على الملابس

حكم كتابة اسم الله على الملابس Q ما حكم كتابة اسم الله على الفنيلة؟ A قال الشيخ: لا يجوز. لأنه إذا اتسخ رميته؟ في الغسالة وأحياناً يكون فيها نجاسات، وقد تعرق عليه، فلا يصح كما قال الشيخ.

حكم الصور على المعلبات

حكم الصور على المعلبات Q ما حكم الصور التي على المعلبات التي تشترى من الأسواق؟ A نحن نعلم أن الصور التي عليها أرواح محرمة، سواءً كانت مجسمة أو غير مجسمة؛ لأن الحديث عام. (لعن الله المصورين) وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم أيضاً: (لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة). فيقول الشيخ ابن باز: جائز لأنها مهانة. لأن المعلبات هذه مهانة تستعمل وترمى. وبالإضافة إلى ذلك فقد عمت بها البلوى، فلو تريد أن تشتري منتجات ليس عليها صور يمكن ألا تجد، فقد عمت بها البلوى، والمشقة تجلب التيسير، والشريعة ما بنيت على التعسير، لكن إذا اشتريت شيئاً واستطعت أن تلغي الصورة قبل استخدامه وإدخاله البيت؛ فهذا حسن، وإذا ما استطعت، فلا جرج فإنها ستلقى وتهان.

مسألة شراء الذهب بالذهب مع دفع الفارق

مسألة شراء الذهب بالذهب مع دفع الفارق السؤال يقول: ما حكم مبادلة ذهب قديم (مستعمل) بذهب جديد (غير مستعمل) عند صائغ مع دفع فارق الثمن والوزن واحد؟ A فيقول الشيخ عبد العزيز: لا يجوز هذا، ومن كانت من النساء عندها ذهب قديم وتريد أن تأخذ ذهباً جديداً، فلا يجوز المبادلة ولو مع دفع الفرق، وإنما تبيع الذهب القديم أولاً وتقبض ثمنه، ثم تشتري بالثمن أقل أو أكثر أو تزيد عليه أو تنقص منه ذهباً جديداً، إنما لا يجوز تعطيه القديم وتأخذ الجديد مع دفع الفرق، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (الذهب بالذهب يداً بيد الحديث).

حكم ذكر شخص لغيره بالسوء دون وجود أحد

حكم ذكر شخص لغيره بالسوء دون وجود أحد Q إذا ذكر غيره بسوء وهو لوحده، فهل هذا من الغيبة؟ A فيقول الشيخ عبد العزيز بن باز حول دخول هذا في الغيبة، يقول: نعم يدخل هذا في الغيبة لعموم الحديث، أنه ذكرك أخاك بما يكره، وأنت قد ذكرته بما يكره.

حكم تغيير اسم الكافر إذا أسلم

حكم تغيير اسم الكافر إذا أسلم Q يقول السؤال: إذا أسلم الكافر فهل عليه تغيير اسمه، وهل يجب عليه الختان؟ A يقول الشيخ عبد العزيز: إذا كان اسمه معبداً لغير الله حتى ولو بغلة أجنبية فيجب تغييره، وإن كان من أسماء الكفار المختصة بهم فيحسن تغييره. قد يكون نصرانياً واسمه جميل ثم يدخل في الإسلام، فلا يغير؛ لأنه ليس مختصاً بالكفار، وأما إن كان مختصاً بالكفار فيحسن تغييره. ويختتن إذا لم يترتب عليه خطر؛ لأنه قد يكون الختان خطراً على حياته، قد يسبب له نزيفاً كما يحدث. وبعض الناس لا يحسنون الدعوة إلى الله، فأول ما يمسك واحداً وقد قرب من الإسلام، يقول له: يجب عليك الختان، وهو عملية جراحية، وذاك رجل مسكين، قد يتراجع عن الإسلام من أجل هذا الشرط.

حكم اطلاق كلمة (سير) للمدرس الأجنبي

حكم اطلاق كلمة (سير) للمدرس الأجنبي Q ما حكم إطلاق (سير) بمعنى سيد على المدرس الأجنبي؟ A يقول الشيخ عبد العزيز: ينبغي تركها؛ لأن فيها تكريماً للكفار ولا يجوز تكريم الكافر.

حكم إرضاع النصرانية للمسلم

حكم إرضاع النصرانية للمسلم Q هل تقع رضاعة النصرانية للمسلم؟ بعض الناس عنده خادمات في البيوت، وهذه الخادمة هذه نصرانية أو بوذية، وقد تأخذ الولد وترضعه، فهل تقع الرضاعة؟ A يقول الشيخ عبد العزيز: نعم تقع. ولذلك ينبغي أن ينتقي الإنسان. وكانت العرب تنتقي للولد المرضعة من أوساط الناس ومن أجوادهم؛ لأن لبن المرأة المرضعة يؤثر في الولد.

مسألة في الرضاعة

مسألة في الرضاعة دعوني أسألكم سؤالاً بمناسبة الرضاعة: اذكروا لي حالة يكون فيها لشخص أب من الرضاعة ولكن ليس له أم من الرضاع؟ A شخص له زوجتان، أتي بولد فأرضعته الزوجة الأولى ثلاث رضعات، وأرضعته الزوجة الثانية رضعتين، فالخمس رضعات يقع بها الرضاع، فصار الزوج أباً من الرضاع، وهل كل واحدة من اللتين أرضعتا صارت أماً له؟ لا؛ لأن كل واحدة منهما أرضعته أقل من خمس رضعات معلومات.

حكم تخيل ليلة الزواج قبل الزواج

حكم تخيل ليلة الزواج قبل الزواج Q بعض الشباب يتصور ليلة زواجه قبل أن يتزوج، فما الحكم؟ A يقول الشيخ ابن باز: إذا كان مجرد تصور فلا بأس، أما إذا كان هذا الأمر يؤدي إلى محرم مثل الاستمناء وغيره فلا يجوز؛ لأنه وسيلة إلى المحرم.

حكم قراءة القرآن للجنب بعد الوضوء

حكم قراءة القرآن للجنب بعد الوضوء Q قول بعضهم إن وضوء الجنب قبل أن ينام يخفف الجنابة، بحيث يقرأ أذكار النوم المشتملة على آيات القرآن، هل هذا صحيح أم لا؟ A يقول الشيخ عبد العزيز حفظه الله: ما أعلم لهذا أصلاً، وبعض الناس يظن هذا، والرسول صلى الله عليه وسلم ما كان يحبسه شيء عن القرآن إلا الجنابة، ولما قرأ بعض الآيات قال: هذا لمن لم يكن جنباً، أما الجنب فلا ولا آية، كما روى أحمد في المسند بإسناد جيد. فإذاً: هو يخفف ولاشك، لكنه لا يبيح قراءة القرآن حتى يغتسل الشخص.

رجل اشترى أرضا فوجد فيها كنزا

رجل اشترى أرضاً فوجد فيها كنزاً Q أعطى رجل آخر مالاً، فحلف ألا يأخذه، وحلف الآخر ألا يرجع إليه؟ A هناك قصة في حديث صحيح: أن رجلاً باع أرضاً لرجل آخر، فالشخص المشتري وجد في الأرض جرة من ذهب، فرجع إلى الشخص الذي باع، وقال له: هذه الجرة لك، أنا اشتريت منك الأرض، ولم اشتر الجرة، وقال الآخر من أمانته، قال: لا. أنا بعتك الأرض وما فيها، فاحتكما إلى رجل، فقال لأحدهما: هل لك ولد؟ قال: نعم عندي ابن ذكر، وقال للآخر: هل لك ولد؟ قال: نعم. عندي بنت فقال: زوج هذه من هذا واجعل المهر من هذا الذهب، وهذا من أعدل الأحكام وأجودها. فهنا كان الأمر سهلاً لو أنهم أعطوه لفقير، لكن المشكلة أن هذا الشخص الآخذ أخذ المال، وأودعه في حساب الشخص الآخر في المصرف، ثم جاء الآن يسأل عن الحكم. فيقول الشيخ عبد العزيز حفظه الله: إذا أخذه الآخذ بنية إرجاعه لا بنية أخذه، فإنه لا يحنث، والآخر عليه الكفارة إذا علم بها -ولابد أن يعلم لأنه سيأتيه كشف الحساب ويعلم- وهل يجب على الشخص الذي وضعها في الحساب أن يخبر الآخر أنه قد وضعها في حسابه أم لا؟ فقال: الأقرب أنه يجب عليه، لأنه قد ألزمه بالكفارة وحنثه، فيجب عليه إخباره بما فعل.

حكم تغطية الآنية في الليل

حكم تغطية الآنية في الليل Q حديث (غطوا الإناء وأوكوا السقاء، فإن في ليلة داء ينزل فيها فيدخل في الآنية المفتوحة) يقول السائل: لو أني نسيت إناء فيه ماء مفتوحاً في الليل، فهل يشرع لي أن أسكبه أم لا؟ A يقول الشيخ: من باب الاحتياط لو تركه للوضوء، أو لغسل الأواني، أو أراقه فلا حرج.

حكم وضع اليدين عند القيام من الركوع على الصدر

حكم وضع اليدين عند القيام من الركوع على الصدر Q هل يضع المريض أو المصلي نفلاً يديه عند القيام بعد الرفع من الركوع وهو جالس؟ A يقول الشيخ عبد العزيز: يضعها على صدره مثل الصحيح.

حكم غسل الجمعة للمرأة

حكم غسل الجمعة للمرأة Q غسل الجمعة هل هو مشروع للمرأة؟ A يقول الشيخ عبد العزيز بن باز: هو لمن أتى الجمعة؛ لأن الحديث يبين أن مشروعية غسل الجمعة لمن أتى الجمعة، وأما من كان مريضاً في بيته أو كانت امرأة، فإنه لا يشرع له هذا الغسل ولا يجب عليه، لأنه ليس ممن يأتون الجمعة.

المرأة تصلي الفجر وتذكر الله إلى طلوع الشمس

المرأة تصلي الفجر وتذكر الله إلى طلوع الشمس Q امرأة تسأل تقول: الذي يجلس يذكر الله في المسجد من بعد الفجر إلى طلوع الشمس، ثم يصلي ركعتين بعد ارتفاع الشمس له أجر حجة وعمرة تامة تامة تامة، فهل المرأة إذا صلت في بيتها، وجلست تذكر الله إلى طلوع الشمس في مصلاها، ثم صلت ركعتين، هل يحصل لها نفس الأجر؟ A يقول الشيخ عبد العزيز: يرجى لها ذلك، وأما لفظ جماعة في الحديث: (من صلى الفجر في جماعة الحديث) فهي معذورة؛ لأنها ليست من أهل الجماعة.

حكم صلاة الجماعة للمرأة

حكم صلاة الجماعة للمرأة Q هل يفضل للمرأة أن تصلي جماعة؟ A يقول الشيخ: ليس هناك دليل في الموضوع، وقصارى الأمر الجواز، أي: أنه لا يمكن أن يكون مستحباً أو واجباً؛ لأنهن لسن من أهل الجماعة، فالأفضل أن تصلي منفردة، ولكن يقول الشيخ: لو صلت جماعة فلا بأس، فقد يستفيد المصليات من إمامتهن أي: من المرأة التي تؤم إذا كان عندها علم. أو قد يتعلمن كيفية الصلاة، والأمر واسع في هذا والحمد لله.

حكم من يصلي في رمضان أو الجمعة فقط

حكم من يصلي في رمضان أو الجمعة فقط يقول Q هل الذي لا يصلي إلا في رمضان فقط أو الجمعة فقط، هل هو مرتد؟ A يقول الشيخ عبد العزيز: ليس هناك شك؛ لأنه ضيع الصلاة وتركها، ولا يخفى الحديث (بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة) وإذا كان لا يصلي إلا الجمعة أو رمضان فقط، فهذا لا يصلي ولا يعتبر مصلياً.

المدخن الملتحي أولى من الحليق غير المدخن بالإمامة

المدخن الملتحي أولى من الحليق غير المدخن بالإمامة Q اجتمع ملتحٍ مدخن وحليق لا يدخن، فمن أولى بالإمامة؟ A يقول الشيخ ابن باز: الأظهر أن الملتحي الذي يدخن أولى من الحليق الذي لا يدخن، لماذا؟ يقول: لأن الحليق معصيته ظاهرة، والمدخن معصيته خفية، وليس كل الناس يدرون عنه -المدخن- وقد يكون لها آثار تبيين -التدخين- وقد لا يكون لها آثار؛ بخلاف المجاهر و (كل أمتي معافى إلا المجاهرين). ومرة قلت هذه الفتوى في المسجد، فقال واحد من المصلين: -وهناك أناس عندهم حساسية عجيبة من هذه الأشياء، مع أننا إنما نريد أن ننصح ونبين- فواحد كان يحلق لحيته، فقال: انظر ذلك الإمام الذي قال الفتوى، كأنه يقول لي: أنت أنت الذي هناك لا تصل معنا، مع أن المسجد فيه كثير من غير الملتحين، ولكن هكذا يفهم الناس الأمور. وهذا ليس صحيحاً فكلنا مقصرون، وبعض الناس مقصر أكثر من بعض، وبعض الناس مقصرون في جوانب، والبعض في جوانب أخرى، ويجب على الجميع استكمال التقصير، فالذي أخلاقه سيئة لابد أن يحسن أخلاقه، والذي ليس ملتحياً لابد أن يلتحي، والمسبل لابد أن يترك الإسبال، والكذاب لابد أن يترك الكذب، وهكذا لابد أن ننصح في الدين.

حكم الزكاة في مؤخر الصداق

حكم الزكاة في مؤخر الصداق Q هل تجب الزكاة في مؤخر الصداق غير المدفوع أم لا؟ بعض الناس يتزوج ويجعل المهر معجلاً ومؤخراً، يدفع المعجل ويبقى المؤخر، فهل تجب الزكاة في المؤخر؟ A يقول الشيخ عبد العزيز: الظاهر أنه تجب فيه الزكاة إذا كان على مليء، أي: إذا كان الزوج غنياً، بحيث لو طلبته الآن لأعطاها إياه، أما إذا لم يكن لاحتاج أن يوفر من مرتبه في شهور حتى يجمعه لها؛ فليس عليها زكاة، والزكاة على الزوجة؛ لأنها هي صاحبة المال، فهنا لا تجب الزكاة إذا كان سيوفر لها من راتبه، حتى لو كانت حالته مستورة. أما إذا كان معسراً أو مماطلاً، لو قالت له: أعطني وهو يوزعها على ستين طريق ولا يعطيها، فلا يجب عليها الزكاة في المهر حتى تقبضه.

قصة عمر بن الخطاب ومنكر ونكير غير صحيحة

قصة عمر بن الخطاب ومنكر ونكير غير صحيحة Q ما صحة القصة: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بلغ من شدته أنه لما مات بدلاً من أن يسأله منكر ونكير كان هو الذي سأل منكراً ونكيراً؟ A القصة واضحة البطلان، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستثن من سؤال الملكين عمر ولا غيره، وأيضاً هذه قضية غيبية، فكيف تصلنا وخصوصاً أنه مات بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن هذا مثال على المبالغات التي تكون عند بعض الناس، فبعض الناس من شدة إعجابهم بشخصية معينة، أو من حبهم لها يؤلفون عليها القصص، ويكذبون ويروجون هذه الإشاعات، صحيح أن عمر بن الخطاب ثاني الخلفاء، وأفضل الأمة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم وبعد أبي بكر رضي الله عنه، لكن ليس إلى هذه الدرجة، وهذه مشكلة الناس، فليس لديهم الميزان الصحيح في الكلام على الرجال، فتجد أن الكثير بين إفراط وتفريط، بين أن يرى فلاناً من الناس وينسى له كل جميل وكل فعل حسن، ولا يذكر إلا معايبه، فيكون مثل الذباب الذي لا يقع إلا على القاذورات، فلا يذكر إلا العيوب، وبعض الناس لا يذكر إلا الحسنات، وإذا جئت تبين خطأً في فلان أو في منهج فلان، قال: لا أقبل ولا أرضى، وهذا فوق مستوى الكلام، من هو يا أخي؟ أهو النبي صلى الله عليه وسلم؟ وهذا ليس صحيحاً، فأنت لا تحتقر الناس وتنتقص قدرهم، وبنفس الوقت لا تقدسهم، فتجعلهم أعلى من مرتبة الكلام.

أشياء لا تعد من العدل بين الزوجتين

أشياء لا تعد من العدل بين الزوجتين Q رجل عنده زوجتان إحداهما صغيرة السن والثانية كبيرة السن، والزوج يتعرض مع الزوجة الصغيرة للعب والمزاح بالحركات، بحيث لا يستطيع أن يعمل نفس الشيء مع الزوجة الكبيرة؛ لأن الكبيرة إذا مزح معها بنفس الحركات فإنها تعتبر حركات مخجلة ولا تستحسنها. A جزى الله هذا السائل خيراً على أنه يحب العدل، لكن ليس من العدل الواجب الوصول إلى هذا المستوى، لأن إحداهما قد تكون جارية صغيرة في السن، فيمكن أن يمزح معها مزحات لو مزحها مع كبيرة في السن لاستهجنته، فليس المقصود بالعدل أن يكون مثلاً بمثل في كل شيء، والعدل هو أن تعطي لهذه نصيبها في حسن المعاشرة، وتلك نصيبها في حسن المعاشرة، فقد يكون نصيب إحداهما في حسن المعاشرة نوعاً من المزاح أو الحركات أو اللهو، وتلك نصيبها من المعاشرة التوقير والاحترام والتبجيل، فأعط كل واحدة ما يليق لها من حسن المعاشرة، وما يسعدها، وبهذا يتحقق العدل. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم ممن فقهوا في دين الله، وممن تعلموا شرع الله، ونسأل الله أن يغفر لنا ولكم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

أحكام المسابقات وأضواء على عاشوراء

أحكام المسابقات وأضواء على عاشوراء أصل المسابقات مشروع في الإسلام، ولكن بشروط وأركان، وقد جدَّ اليوم ما جد من الحوادث، وتوسع الناس في المسابقات حتى دخلت في أمور هي محل نظر عند أهل العلم، وفي هذا الدرس تجد نبذة عن هذا الموضوع وما يحل منه وما يحرم ثم تجد حديثاً لطيفاً عن يوم عاشوراء وحكم صومه، وما أحدث فيه أهل البدع

أقوال أهل العلم في السباق وبعض أحكامه

أقوال أهل العلم في السباق وبعض أحكامه إن الحمد لله؛ نستعين به ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. عباد الله: لما كثرت المسابقات وجوائزها، وانتشرت بين الناس؛ رأيت أن أنقل لكم طرفاً من أقوال أهل العلم في مسألة السباق وبعض أحكامه، والمسابقة وما جاء عنهم فيها من أحكام.

حكم السباق والمسابقة

حكم السباق والمسابقة فأما السباق -أيها المسلمون- فإن الأصل فيه الجواز بالسنة والإجماع، أما السنة فروى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم (سابق بين الخيل المضمرة من الحيفاء إلى ثنية الوداع وبين التي لم تضمر من ثنية الوداع إلى مسجد بني زريق) وهذه مسافة معلومة سابق فيها النبي صلى الله عليه وسلم -أي: أذن بالسباق فيها- والمسابقة سنة إذا كانت بقصد التأهب للقتال بإجماع العلماء ولقوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال:60] وفسر النبي صلى الله عليه وسلم القوة بالرمي، وقد روى البخاري رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على قومٍ من أسلم ينتضلون فقال: (ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان رامياً) ولخبر أنس رضي الله عنه وأرضاه: (كانت ناقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم تسمى العضباء لا تسبق، فجاء أعرابيٌ على قعودٍ له فسبقها، فاشتد ذلك على المسلمين، وقالوا: سبقت العضباء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن حقاً على الله أن لا يرفع شيئاً من الدنيا إلا وضعه) قال الزركشي رحمه الله: وينبغي أن تكون المسابقة والمناضلة فرض كفاية؛ لأنهما من وسائل الجهاد، وما لا يتوصل إلى الواجب إلا به فهو واجب، والمسابقة في السهام آكد لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ارموا واركبوا، ولأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا) وقال الترمذي -رحمه الله- حسنٌ صحيح، ومعناه أن السهام تنفع في السعة الضيق، بخلاف الفرس فإنه لا ينفع في مواضع الضيق؛ بل قد يضر، ولذلك يكره لمن تعلم الرمي أن يتركه كراهة شديدة، بل قد يكون حراماً لظاهر الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم. أما إذا قُصدِتْ المسابقة لغير الجهاد، فالمسابقة حينئذ مباحة بالشروط الشرعية. واعلموا رحمكم الله أن المسابقة تكون على جوائز وتكون على غيرها.

من أحكام المسابقة

من أحكام المسابقة فأما المسابقة بغير جوائز كالمسابقة على الأقدام، وبالسفن والبغال والحمير، والمصارعة، ورفع الحجر ليعرف الأشد، والمسابقة على الأقدام قد وردت بالسنة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعائشة؛ فمثل هذه المسابقات جائزة إذا كانت بغير جوائز، وبغير عوض كما ذكر ذلك الفقهاء رحمهم الله تعالى، أما المسابقات التي فيها إيذاءٌ للنفس، أو التي فيها فعل محرمات أو التي فيها لبس قصيرٍ وإظهار عورة، ودق طبولٍ ومزامير، وإضاعة للصلوات، فلا شك أنها حرام، سواء كانت بعوضٍ أو بغير عوض. أما النوع الثاني من المسابقات: وهو المسابقة بعوضٍ وجوائز كغالب المسابقات اليوم؛ فلا شك أن جمهور الفقهاء ذهبوا إلى أنه لا يجوز السباق بعوض إلا في النصل والخف والحافر؛ لأجل حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا سبق إلا في نصلٍ أو خفٍ أو حافر) أي: لا جائزة تجعل للسباق ولا عوض إلا في هذه الأشياء الثلاثة. قال ابن قدامة -رحمه الله-: المراد بالنصل هنا السهم، وبالحافر الفرس، وبالخف البعير، فهذا المقصود به المسابقة بجوائز وعوض في كل ما يعين على الجهاد، وذهب بعض الفقهاء رحمهم الله، إلى إلحاق الرماح، والرمي بالأحجار بمقلاعٍ، والرمي بالمنجنيق ونحوه، والتردد بالسيوف والرماح، أن ذلك داخلٌ فيما يجوز بعوض؛ لأنه يعين في الجهاد. وكذلك المسابقة في الرمي بالآلات الحديثة، جائزة بعوض قياساً على ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال الفقهاء رحمهم الله: ولا تصح المسابقة بعوضٍ على كرة الصولجان، وكان عندهم لعبة يركب فيها بعض الناس دوابَّ، ويقذفون بالكرة بعضهم إلى بعض، قال العلماء: لا تصح المسابقة بعوض -بجوائز- على كرة الصولجان، ولا على الشطرنج، ولا على الوقوف على رجلٍ واحدة ليُنظَر من الذي يصمد أكثر، ولا على معرفة ما في يده شفع أو وتر فإن قال: اعلم ما في يدي إذا كان خمساً أو ستاً أو سبعاً أو شفعاً أو وتراً ولك كذا فهذا لا يجوز، وكذلك سائر أنواع اللعب كالمسابقة على الأقدام؛ لأن هذه الأمور لا تنفع في الحرب؛ كاللعب بكرة الصولجان والشطرنج فإنه لا يجوز جعل الجوائز فيها؛ فضلاً عن كون بعضها محرماً عند كثيرٍ من أهل العلم. ولا تصح المسابقة بعوضٍ على الكلاب ومهارشة الديكة ومناطحة الكباش بلا خلافٍ بين أهل العلم، وذهب بعضهم إلى جواز جعل الجوائز على مسابقات الغطس لأنه يستعان به في الحرب. فأنت ترى -رحمك الله تعالى- أنهم إنما أباحوا الجوائز على المسابقات التي فيها تدربٌ على الجهاد وإعدادٌ للعدة فيه؛ لأن هذه الأمة أمة جهاد، ولا يجوز لها ترك الجهاد، ولو تركت الجهاد ذلت؛ ولذلك حثت الشريعة على كل ما يعين على الجهاد، وأباحت الجوائز بالمسابقات على كل ما يعين على الجهاد، وأما غير ذلك فلا يجوز جعل الجوائز فيه على قول جمهور العلماء، وألحق شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وتلميذه ابن القيم رحمه الله جعل الجوائز على مسابقات حزب القرآن الكريم والحديث، ونشر العلم والسنة، والدين والشريعة الإسلامية قياساً على إباحة الجوائز في مسابقات الجهاد؛ لأن ذلك مما يرفع شأن الدين ويقويه، أما جعل الجوائز على مسابقاتٍ لا علاقة لها بالعلوم الشرعية، ولا علاقة لها بالجهاد؛ فإن جمهور العلماء أخبروا على تحريم ذلك، وأن المال الذي يؤخذ منه حرامٌ لا يجوز.

توسع الناس في العصر الحاضر في المسابقات التجارية

توسع الناس في العصر الحاضر في المسابقات التجارية أيها المسلمون انظروا -رحمكم الله- فيما توسع فيه الناس اليوم في جعل الجوائز على المسابقات، وما جاء في حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: (لا سبق إلا في نصلٍ أو خفٍ أو حافر) فهذا واضحٌ في جعل الجوائز لمسابقات الجهاد، أما غيرها مما لا يعين على الدين، فلا يجوز جعل الجوائز في المسابقة عليه، وحتى المسابقات التي فيها جوائز إنما تشرع وتجوز بشروطٍ ذكرها الفقهاء؛ منها تحديد المسافة، وتعيين أول المسافة، وتعيين الفرسين أو البعيرين، وكذلك أن يكون هناك من يعيّن بدايته ونهايته، وأن يكون فيها محللٌ لا يدفع من الجائزة شيئاً عند الجمهور. وكذلك فإن لهم شروطاً في السباق في السهام؛ كأن يستوي عدد الرشق، وصفة الإصابة، ومعرفة قدر الغرض وهو الهدف الذي يرمى، ونحو ذلك من الأمور. وكذلك فإن هذه المسابقات التي توسع فيها الناس اليوم في كثيرٍ من الأمور التي لا تخدم الجهاد، ولا تعين على نشر الدين؛ فإن كانت بغير عوض، وكانت المسابقة مباحة كالسباق على الأقدام وغيره فلا بأس به، أو من يرفع حجراً فلا بأس به إذا كان بغير جائزة، أما إذا كان في أمرٍ محرم كنطاح الكباش ومهارشة الديكة ونحو ذلك؛ فإنه حرام لا يجوز بعوضٍ ولا بغير عوض، فتأمل الآن حال هذه المسابقات التجارية التي يكتبون فيها عن اسم المنتج وصفته ولونه، والذي يحلها له جائزة، وعند جمهور أهل العلم أخذ الجوائز على هذه المسابقات لا يجوز لأنه مخالفٌ لحديث: (لا سبق إلا في نصلٍ أو خفٍ أو حافر). قارن الآن بين الحديث وكلام أهل العلم وبين التوسع الذي يحصل لتعلم -رحمك الله- أن القضية الآن لا تدور على الشريعة في كثيرٍ من الأمور، وإنما هي داخلة في تغريرٍ أو خداعٍ، أو دعاية رخيصة، أو إضاعة لأوقات الناس، أو إكساد لسلع التجار الآخرين ومنافسة غير شريفة ونحو ذلك. وقد كثر الحرام في الأموال ولا حول ولا قوة إلا بالله، نسأل الله السلامة والعافية، ونسأل الله عز وجل أن يحعلنا من الذين يدورون على الشريعة، وأن يجعلنا من المتمسكين بها الحريصين عليها, أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم، وأوسعوا وأفسحوا لإخوانكم يفسح الله لكم.

حكم صيام يوم عاشوراء

حكم صيام يوم عاشوراء الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، أشهد أن لا إله إلا هو رب الأولين ورب الآخرين، أشهد أنه الحي القيوم، لا يموت والجن والإنس يموتون، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وذريته الطيبين الطاهرين، وعلى من تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين. عباد الله: مناسبة عاشوراء في الأمة الإسلامية مناسبة عظيمة وشرعية، وقد جاء في الصحيحين عن ابن عباس قال: (قدم رسول صلى الله عليه وسلم المدينة فوجد اليهود صياماً يوم عاشوراء، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ قالوا: هذا يومٌ عظيمٌ أنجى الله فيه موسى وقومه، وأغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكراً فنحن نصومه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فنحن أحق وأولى بموسى منكم) نحن أمة التوحيد وموسى من الموحدين، ونحن أحق وأولى بموسى منكم، فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه؛ انتزع الفضيلة فلم يبقِ لهم فضيلة، وإظهاراً للمخالفة فإنه صلى الله عليه وسلم أمر بصيام يومٍ قبله وقال: (لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع)، وصار المستحب صيام تاسوعاء وعاشوراء.

وجوب صيام عاشوراء قبل فرض رمضان

وجوب صيام عاشوراء قبل فرض رمضان كان عاشوراء صياماً واجباً، فلما فرض رمضان قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن عاشوراء يومٌ من أيام الله، فمن شاء صامه ومن شاء تركه) لأنه صلى الله عليه وسلم أول ما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه فكان صياماً واجباً فرضاً، فلما فرض رمضان صار صيام عاشوراء مستحباً ونسخت فرضيته، وقال: (فمن شاء صامه ومن شاء تركه) رواه مسلم، ولما قال عليه الصلاة والسلام: (عاشوراء يومٌ من أيام الله) علمنا أنه شرفٌ عظيمٌ لهذا اليوم؛ لأن إضافة الشيء إلى الله تدل على عظمة هذا الشيء، فلما قال: (يومٌ من أيام الله) دل ذلك على شرف هذا اليوم وعظمته، وفي الصحيحين عن الربيع بنت معوذ تروي لنا قصة جميلة، وتعرض لنا لوحة فذة مما كان عليه المجتمع الأول، حيث كانت العبادة في المجتمع الأول من الرأس إلى القاعدة، وكانت العبادة على جميع المستويات قالت: (فكنا بعد ذلك نصومه ونصوم صبياننا الصغار منهم، ونذهب من المسجد فنجعل لهم اللعبة من العهن -الصوف- فإذا بكى أحدهم على الطعام -أي: بسبب الجوع- أعطيناه إياها حتى يكون عند الإفطار) يلهون الأولاد تصبراً لهم على الصيام، وفي رواية: (فإذا سألونا الصيام أعطيناهم اللعبة تلهيهم حتى يتموا صومهم) رواه مسلم رحمه الله. هذا اليوم العظيم الذي احتسب النبي صلى الله عليه وسلم على الله أن يكفر بصيامه السنة التي قبله، ولا يحتسب عليه الصلاة والسلام إلا على حق ووعدٍ أكيدٍ من الله عز وجل.

استحباب صيام التاسع والعاشر من محرم

استحباب صيام التاسع والعاشر من محرم أيها المسلمون! صار الأفضل صيام تاسوعاء وعاشوراء، وإن صام عاشوراء ويوماً بعده صح أيضاً، وإن صام عاشوراء وحده جاز أيضاً. وأما الذين صاموا الأربعاء والخميس فلا حرج عليهم في ذلك أبداً، ولو اكتشفوا أن عاشوراء الجمعة فإن صيامهم الأربعاء لا حرج عليهم فيه، كيف وقد رغب النبي صلى الله عليه وسلم في صيامِ محرم، وأن أفضل شهرٍ يصام بعد رمضان محرم، فأي صيامٍ فيه شرعيٌ موافقٌ للشريعة، فهو مستحبٌ لأنه من محرم، فلا حرج عليك -أيها المسلم- إذا صمت الأربعاء، والخميس، وإن أضفت إليه الجمعة احتياطاً فهو أحسن وأحوط لإصابة عاشوراء، فإن من صام الخميس والجمعة أصاب عاشوراء قطعاً في هذه السنة، ولو صام الأربعاء لا حرج عليه ولو صارت ثلاثة أيام، وفي رواية الميموني عن الإمام أحمد قال: نصومهما -أي التاسع والعاشر- فإن اختلف في الهلال صام ثلاثة أيامٍ احتياطاً، وابن سيرين يقول ذلك، وممن قال بصيامهما الشافعي وأحمد وإسحاق، وإذا جاءك حكم منهم فحسبك به!

مسائل متفرقة في عاشوراء

مسائل متفرقة في عاشوراء

وجه مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم لليهود في يوم عاشوراء

وجه مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم لليهود في يوم عاشوراء لقد ظهر في هذا اليوم مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الكتاب؛ حيث كانت اليهود من أهل المدينة وخيبر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخذونه عيداً، وكان أهل الجاهلية يقتدون بهم في ذلك، وكانوا يكسون فيه الكعبة، وقد ورد شرعنا بخلاف ذلك، ففي الصحيحين عن أبي موسى قال: (كان يوم عاشوراء يوماً تعظمه اليهود وتتخذه عيداً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صوموه أنتم)، وفي رواية لـ مسلم: (كان أهل خيبر يصومون عاشوراء ويتخذونه عيداً، ويلبسون نساءهم فيه حليهم وشارتهم -والشارة: هي اللباس الحسن الجميل، والمظهر الحسن- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فصوموه أنتم) وهذا يدل على النهي عن اتخاذه عيداً، وعلى استحباب صيام أيام أعياد المشركين؛ لأن الصيام ينافي معنى العيد؛ لأن العيد فيه توسعٌ ومآكلٌ، والصيام فيه امتناعٌ عن الأكل والشرب؛ لذلك لا يجوز صيام عيد الفطر ولا الأضحى، ولا صيام الجمعة فقد ورد النهي عنه لأنه عيد المسلمين في الأسبوع. لما كان اليهود يظهرون الفرحة فيه أمر النبي صلى الله عليه وسلم بصيامه، وإن كانوا صاموه فقد خالفهم بصيام يومٍ قبله، فلا يبقى في الشريعة موافقة لأهل الكتاب بالكلية.

حكم تخصيص عاشوراء بالتوسعة على العيال أو اتخاذه مأتما

حكم تخصيص عاشوراء بالتوسعة على العيال أو اتخاذه مأتماً أما مسألة التوسعة على العيال فقد ورد فيه حديثٌ حكم عليه شيخ الإسلام ابن تيمية بالوضع وما أبعد، وقد سئل عن الحديث الإمام أحمد فقال: لا أراه شيئاً، فلا تقوم به حجة، وسع على عيالك سائر السنة ولا تخص عاشوراء بعيدياتٍ ولا بتوسعة. قال ابن رجب رحمه الله في كتابه لطائف المعارف: وأما اتخاذه مأتماً -أي اتخاذ عاشوراء مأتماً- كما تفعل الرافضة لأجل قتل الحسين بن علي رضي الله عنه فهو من عمل من ضل سعيه في الحياة الدنيا وهو يحسب أنه يحسن صنعاً. {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً * ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً} [الكهف:103 - 106]. قال ابن رجب رحمه الله: ولم يأمر الله ولا رسوله باتخاذ أيام مصائب الأنبياء وموتهم مأتماً، فكيف بمن دونهم، كـ الحسين وغيره، لم يؤمر باتخاذ يوم أحد مأتماً وقد قتل فيه سبعون من المسلمين الأخيار الأبرار، ولا يوم بئر معونة الذي قتل فيه سبعون من القراء من حفظة كتاب الله من الصحابة، ولا في يوم موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما أهل الشرك فهم يفعلون المآتم، والله يريد أن يعذبهم في الدنيا بأيديهم قبل الآخرة، يعذبون أنفسهم بأيديهم ويصدون الناس عن دين الإسلام، ليأخذ الناس الفكرة السيئة عن دينهم وأصحابه وأهله، والكفرة مهرة في اقتناص مثل هذه الفرصة إعلامياً.

دروس وعبر من يوم عاشوراء

دروس وعبر من يوم عاشوراء أيها المسلمون! يوم عاشوراء يذكرنا بالتوبة إلى الله عز وجل، هذا يومٌ من أيام الله نجى الله فيه موسى وصامه النبي صلى الله عليه وسلم، فهو موسم عبادة، قال بعض السلف: آدم أخرج من الجنة بذنبٍ واحد وأنتم تعملون الذنوب وتكثرون منها وتريدون أن تدخلوا بها الجنة. تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي درج الجنان بها وفوز العابدِ ونسيت أن الله أخرج آدماً منها إلى الدنيا بذنبٍ واحدِ العجب ممن عرف ربه ثم عصاه، وعرف الشيطان ثم أطاعه: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} [الكهف:50] نريد أن يكون هذا اليوم موسم انطلاقة في العبادة والطاعة والتوبة والاعتراف بالذنب؛ ربنا إنا ظلمنا أنفسنا فاغفر لنا وارحمنا، نريد أن يكون هذا اليوم تجديداً للعهد مع الله تعالى، وتجديد عقد التوبة مع الله -عز وجل- أيها المسلمون، لا نريد أن يكون منعطفاً أو انتكاسات. تقول إحدى النساء: تزوجته وهو ملتزمٌ بالدين، في أول سنة صار يدخن، وفي السنة الثانية عكف على أهل السوء والفسق، وفي السنة الثالثة صار يشرب الخمر، وبعد ذلك ترك الصلاة بالكلية، إذا سافر لأهله أو جاءه ضيف قام يصلي مجاملة، فإذا ذهبوا ترك الصلاة. وتقول الأم المسكينة: صبرت عليه وتعبت عليه، وعالجته وأدخلته المستشفى من المخدرات، ثم يخرج فيرجع إلى رفقاء السوء، ويقول: تبت وتبت وأقلعت كيف أصدقه؟! كيف يتوب وأنا أرى بين أغراضه إبر المخدرات وعليها أثر الدم، نريد أن يكون هذا اليوم توبة إلى الله، نريد أن نجعل هذا اليوم عودة إلى الله، نريد أن نجعله ذكراً لله تعالى. وصلت إليكم معشر الأمة رسالة من أبيكم إبراهيم بعد وفاته، مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال عليه الصلاة والسلام: (رأيت يوم أسري بي إبراهيم فقال: يا محمد أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة عذبة الماء، طيبة التربة، وأنها قيعان، وأن غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر) وقال عليه الصلاة والسلام: (من قال سبحان الله وبحمده غرست له نخلة في الجنة) قال الحسن رحمه الله: [الملائكة يعملون لبني آدم في الجنان، يغرسون ويجنون، من قال سبحان الله غرسوا له نخلة، ومن بنى بيتاً بنى الله له بيتاً في الجنة، وربما أمسكوا وتوقفوا عن الغرس والبناء فيقال: لهم ما لكم توقفتم؟ فيقولون: حتى تأتينا النفقة، فهل نبني بغير نفقة ونغرس بغير نفقة، قال: فابعثوهم بأبي أنتم وأمي على العملبذكر الله تعالى، أرض الجنة اليوم قيعان والأعمال الصالحة لها عمران، بها تبنى القصور وتغرس أرض الجنان، فإذا تكامل الغراس والبنيان انتقل إليه السكان]. رأى بعض الصالحين في منامه قائلاً يقول له: قد أمرنا بالفراغ من بناء دارك، واسمها دار السرور فأبشر، وقد أمرنا بتنجيدها وتزيينها والفراغ منها إلى سبعة أيام، فلما كان بعد سبعة أيامٍ مات، فرئي في المنام فقال: أدخلت دار السرور وأنا في سرور، فلا تسأل عما فيها لم ير مثل الكريم إذا حل به المطيع. ورأى بعضهم كأنه أدخل الجنة، وعرض عليه منازله وأجواده، فلما أراد أن يخرج تعلق به أزواجه، وقالوا له: بالله حسن عملك، فكلما حسنت عملك ازددنا نحن حسنا. العاملون اليوم يسلفون رءوس أموال الأعمال فيما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، إلى أجل يومٍ مزيد في سوق الجنة، فعجلوا رحمكم الله بالأعمال، وقدموها أمامكم، وانتقلوا بخير ما بحضرتكم. اللهم تب علينا، واغفر ذنبنا، واقضِ ديننا، واشفِ مريضنا، وارحم ميتنا، واهد ضالنا، اللهم آمنا في أوطاننا ودورنا، واجعلنا في بلدنا هذا آمنين مطمئنين، من أرادنا بسوءٍ فاكشف زيفه، واجعل شأنه في تباب وأمره إلى خراب، يا رب العالمين، اللهم وفق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك وسنة نبيك محمداً صلى الله عليه وسلم، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك يا رب العالمين، انصر إخواننا الذين يقاتلون لإعلاء كلمتك يا رب العالمين. وهاهم وقد اجتمع عليهم من الغرب والشرق، ولا ناصر إلا الله، ولا معين إلا هو سبحانه، وأنتم ترونهم في بلاد البوسنة وكشمير والشيشان لا منقذ لهم إلا الله، اللهم إنا نسألك أن تنصرهم على عدوهم، وأن تسدد رميتهم، وأن تجمع كلمتهم على التوحيد يا رب العالمين. وهاهم قد اقتحموا المنطقة التي وقف عندها العسكريون النازيون الألمان في الحرب العالمية، وسموها بوابة موسكو قد اقتحمها المجاهدون المسلمون في بلاد البوسنة، وانتزعوها من أيدي الصرب، وقتل الله منهم أكثر من مائة، واختار الله الشهداء، نسأل الله أن يجعلهم كذلك، وأن يغفر لهم وأن يرفع درجتهم في عليين. ونسأل الله عز وجل أن يرزقنا وإياكم الشهادة، وأن يجعلنا يوم الدين من الفائزين، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين والحمد لله رب العالمين، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.

أخبار عيسى في أحاديث محمد صلى الله عليه وسلم

أخبار عيسى في أحاديث محمد صلى الله عليه وسلم إن الله ناصر دينه لا محالة، وقد هيأ الله لكل مجال رجاله وأهله، ومن ذلك النصر ما سيجعله الله على يد المهدي وعيسى بن مريم عليهما السلام. وقد استعرض الشيخ في محاضرته شيئاً من مباركة الله على نبيه عيسى وأمه عليهما السلام، وعقيدة أهل السنة فيه، وكيف كان حرصه على تبليغ دعوة الله للعالمين، ثم ذكر النصر الذي سيجعله الله على يده من قتل المسيح الدجال وقيادة الأمة أمام خطر يأجوج ومأجوج إلى غير ذلك من الكرامات.

ميلاد العبد الرسول ابن مريم البتول

ميلاد العبد الرسول ابن مريم البتول الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: لقد كان في القرآن الكريم ذكرٌ كثيرٌ لهذا النبي في عددٍ من السور، وفي عددٍ من المناسبات، وكذلك في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وسنتعرض -إن شاء الله- في هذه الليلة لطائفة من أخبار هذا النبي الكريم عيسى في أحاديث محمد عليهما الصلاة والسلام.

دعوة جدة عيسى له ولأمه

دعوة جدة عيسى له ولأمه لقد كانت بداية عيسى عليه السلام قديمة لما كانت جدته -أم مريم امرأة عمران - تدعو الله سبحانه وتعالى لمن في بطنها ولذريته أن يقيهم الله عز وجل من الشيطان الرجيم، فلما حملت امرأة عمران توجهت إلى الله سحبانه وتعالى بالدعاء قائلة: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران:35 - 36]. فكانت دعوة الجدة لحفيدها ساريةً من ذلك الجيل إلى الجيل الذي بعده، وظهرت آثارها في مريم وفي ولدها عيسى، وصلاح الأجداد له علاقة بالأولاد كما قال الله: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً} [الكهف:82] فلصلاح الأب حفظ الله مال ذريته، وكذلك بصلاح امرأة عمران حفظ الله بنتها وابن بنتها، فقال صلى الله عليه وسلم: (ما من مولودٌ إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخاً من مس الشيطان إياه إلا مريم وابنها) ثم يقول أبو هريرة: [واقرءوا إن شئتم ((وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ))] لقد كانت تلك الدعوة الصالحة التي وقعت من تلك المرأة الكريمة فأثرت تأثيراً بالغاً، فما من بني آدم مولودٌ إلا يمسه الشيطان حين يولد غير مريم وابنها لم يستطع الشيطان أن يمسهما.

فضل مريم بنت عمران

فضل مريم بنت عمران خط رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأرض أربعة خطوط وكان أحد الخطوط يشير إلى مريم بنت عمران عليها رضوان الله، ثم قال لأصحابه: (أتدرون ما هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد ومريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون) هذه الأم الطيبة، وتلك الجدة الطيبة جدة عيسى عليه السلام، ولم تكن أخت هارون -أي: شقيقة- أخو موسى، وقد حصل عند بعض الصحابة شيءٌ حول هذا فأزال النبي صلى الله عليه وسلم عنهم اللبس، فجاء حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: (بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نجران) والحديث في صحيح مسلم وكانوا نصارى والمغيرة ذهب ينقل إليهم رسالة من النبي عليه الصلاة والسلام، وقد نزلت فيهم آيات طويلة من سورة آل عمران فيها محاجة ومناقشة أهل الكتاب، فقال نصارى نجران مستشكلين للمغيرة: (أرأيت ما تقرءون: (يا أخت هارون) وموسى قبل عيسى بكذا وكذا) قال النصارى في نجران للمغيرة بن شعبة: أنتم تقرءون في كتابكم: (يا أخت هارون) وهي مريم عليها السلام، كيف تقولون: عن مريم أخت هارون وبين مريم وموسى وهارون كذا وكذا من آلاف السنين؟ قال: (فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بالأنبياء والصالحين قبلهم). يعني: هذا كما يقول العامة عندنا " اسم على اسم" وكانت بنو إسرائيل يتسمون بأسماء الأنبياء تيمناً بالأنبياء، فيتسمون موسى وهارون كثيراً، ومريم أخوها هارون ليس هو هارون أخو موسى وإنما هارون آخر اسمه على اسم هارون النبي تيمناً به، فهذا هو زوال الإشكال، فمريم لما جاءت لقومها تحمل عيسى قالوا: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} [مريم:28]. أمها امرأة صالحة وهي زوجة عمران، فلما وضعت مريم ودعت لها أنجبت بعد ذلك عيسى عليه السلام، وكانت مريم بنت عمران امرأة كاملة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام) رواه البخاري.

حقيقة كون عيسى كلمة الله وروح الله

حقيقة كون عيسى كلمة الله وروح الله من مريم خرج عيسى عليه السلام بدون أب، أم صالحة وجدة صالحة: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً} ولأن عيسى مخلوق بكلمة الله: (كن) سمي بـ (كلمة الله) ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروحٌ منه، والجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل) رواه البخاري. فإذاً: عيسى خلق بالكلمة: (كن) فكان، ولذلك يسمى عيسى بـ (كلمة الله). ولماذا يسمى روح الله؟ سمي بذلك من باب إضافة التشريف وإضافة المخلوق إلى الخالق، كما نقول: (ناقة الله، بيت الله) ولأن عيسى نفس منفوسة خلقها الله عز وجل بالكلمة: (كن) فكان، ولذلك عيسى كلمة الله وروح الله. وقد جاء في الحديث روح الله، فما معنى: وروحٌ منه؟ معناه: أن عيسى روحٌ من الله. ومن هنا: من أين أتى عيسى؟ خلقه الله، فإذاً لما خلق الله لنا السماوات والأرض منه فهذا يعني أنها منه لا من غيره، وأنه هو الموجد، وكذلك عيسى روحٌ منه، يعني: أن الله عز وجل هو مصدر الإيجاد. عيسى من أين خلق؟ خلقه الله عز وجل، فلذلك يسمى عيسى كلمة الله، وروح الله، وروحٌ من الله، وليست: (من) هنا للتبعيض، أي: أن عيسى جزء من الله تعالى الله عن ذلك. والنصارى قد يدخلون هذه الشبهة ويحاجون بها، كما حصل في مجلس بعض الخلفاء: أن أحد النصارى قال له الخليفة: لماذا لا تسلم؟ قال: أنا مقتنع بالإسلام والقرآن، ولكن هناك آية التبست عليَّ، وأنا أرى أن فيها تأييداً لنا ولعقيدتنا نحن النصارى. قالوا: ما هي؟ قال: إن عيسى عندكم في القرآن مكتوب عنه: " وروحٌ منه" فهو جزء من الله وهذا ما نحن نقوله: (ابن الله). فالتفت الخليفة إلى من عنده من العلماء، فقال أحدهم: يا أمير المؤمنين! إن الله يعلم أن هذا الرجل سيستشهد بهذه الآية، وسيأتي بهذه الآية ليستشكل، والأمر كما قال الله تعالى في الآية الأخرى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} [الجاثية:13] فهل الأرض جزء من الله؟! و (منه) هي سؤال عن مصدر خلقها وإيجادها، وكذلك عيسى مصدر خلقه هو الله عز وجل، وكلمته لأنه مخلوق بكلمة (كن)؛ ولأنه حجة الله على عباده، وآية من آيات الله.

كيفية حمل مريم بعيسى عليهما السلام

كيفية حمل مريم بعيسى عليهما السلام خلق الله بني آدم على أربعة أنواع: فمنهم من خلقه من أبٍ وأم كسائر البشر، ومنهم من خلقه بلا أبٍ ولا أم: وهو آدم، ومنهم من خلقه من أمٍ بدون أب: وهو عيسى، ومنهم من خلقهم من ذكرٍ بلا أنثى: وهي حواء. فإذاً: كان عيسى نموذجاً فريداً في البشرية أن يخلق بغير أب، وليس المقصود بغير أب يعني بغير زوج أو بغير زواج شرعي أو لا يعرف من أبوه، لا. فلا يوجد هناك ذَكر في الموضوع أصلاً؛ لذا قالت مريم: {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} [آل عمران:47] لا بالحلال ولا بالحرام، فجاء جبريل فتمثل لها في هيئة البشر، وكانت قد انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً، قيل: أصابها الحيض فخرجت عن المسجد، حتى لا تقذر المسجد، والحائض لا تقرب المسجد، فانتبذت مريم مكاناً في شرقي المسجد، فأتاها جبريل على هيئة بشر، وكانت امرأة عفيفة فلما رأت أمامها رجلاً فزعت واستعاذت بالله منه: {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً} [مريم:18] إن كنت تخاف الله ابتعد عني: {قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً} [مريم:19 - 20] لست بغياً ولا بذات زوج، فمن أين يأتي الولد؟! {قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً} [مريم:9] فماذا فعل جبريل؟ {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا} [الأنبياء:91] فالنفخة خرجت من جبريل، وأين نفخ؟ في جيب درعها -فتحة الفستان أو القميص عند الرقبة- فولجت النفخة إلى الرحم بقدرة الله فحملت، وهذا على الله يسير، فالذي خلق كل هذا الكون لا يعجزه أن يخلق إنساناً بغير أب، وهكذا خلقه من أنثى بغير ذكر، فهذا هو عيسى عليه السلام. ولما استدعى النجاشي المسلمين الذين جاءوا إليه وسألهم ماذا تقولون في عيسى؟ قال له جعفر بن أبي طالب: نقول فيه الذي جاء به نبينا؛ هو عبد الله ورسوله، وروحه، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول، قال: فضرب النجاشي بيده إلى الأرض -أي: أخذ منها عوداً- ثم قال: ما عدا عيسى ابن مريم ما قلت هذا العود. وهذا من إيمان النجاشي، قال: ما وصفتم به عيسى هو الحق، وما تعديتم الحق، فتناخرت بطارقته حوله حينما قال ما قال، فقال: وإن نخرتم والله، هذا النجاشي رحمه الله.

حماية الله لعيسى من الشيطان بدعوة جدته

حماية الله لعيسى من الشيطان بدعوة جدته لقد ولد عيسى مبرأ بعيداً عن مس الشيطان، ولم يستطع أن يصل إليه بسوء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل بني آدم يمسه الشيطان يوم ولدته أمه إلا مريم وابنها عيسى عليهما السلام) وفي رواية: (ما من مولودٌ إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخاً من مس الشيطان إلا مريم وابنها) ثم يقول أبو هريرة: [واقرءوا إن شئتم: ((وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)) [آل عمران:36]]. وفي حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كل بني آدم يطعن الشيطان في جنبه حين يولد إلا عيسى بن مريم ذهب يطعن فطعن في الحجاب) ما معنى هذا الحديث؟ الشيطان له أصبع كما هو ثابت في الحديث، كما أن له قرنان، والشمس تطلع بين قرني شيطان، وله لسان، والدليل: أن النبي عليه الصلاة والسلام خنقه في الصلاة حتى وجد برد لسانه على يده، وكل مولود يولد يتعرض له إبليس بالأذى، نكاية في بني آدم، فماذا يفعل الشيطان؟ يطعن في خاصرة كل مولود بأصبعه، فيصرخ الولد، لماذا؟ يقول الأطباء لا يوجد سبب للصراخ، لكن عندنا جواب في السنة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من مولودٌ إلا ويمسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخاً) فإذا انطعن بأصبع إبليس يصرخ المولود من مس الشيطان، والاستثناء حصل على مريم وولدها لأن الأم الصالحة قالت في الدعاء: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران:36] فأعاذ الله مريم وولدها من الشيطان الرجيم، وما طعن مريم ولا ولدها، وإنما ذهب يطعن فطعن في الحجاب، قال ابن حجر في فتح الباري: أي في المشيمة التي ولد فيها الولد، قال القرطبي رحمه الله: هذا الطعن من الشيطان هو ابتداء التسليط فحفظ الله مريم وابنها ببركة دعوة أمها حيث قالت: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} ولم يكن لمريم ذرية غير عيسى. فإذاً: استهلال الولد صارخاً هو من نخسة الشيطان، فسبب صراخ الصبي أول ما يولد هو ما يجده من الألم من مس الشيطان إياه، والاستهلال هو: الصياح، وجعل الله تعالى دون الطعنة حجاباً فأصاب إبليس الحجاب ولم يصبهما، هذه البداية. ولد عيسى عليه السلام مبرأ محفوظاً من الشيطان، ولم يستطع أن يتسلط عليه كما يتسلط على أطفال بني آدم، وحدثت المعجزة في ولادته من غير أب، ثم حدثت المعجزة التالية عندما تكلم عيسى عليه السلام في المهد، وكان رضيعاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة وذكر منهم: عيسى بن مريم) فجاءت به تحمله، واستنكر قومها عليها ذلك، من أين جاءت بولدٍ وليست بذات زوج وأسرتها أسرة طيبة كيف خرجت هذه المرأة هكذا؟!! فأشارت إليه فاستغربوا، فتكلم عيسى وقال: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً * وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ} [مريم:30 - 31].

صفة عيسى وشمائله وفضائله

صفة عيسى وشمائله وفضائله ما هي صفة عيسى عليه السلام؟

صفة عيسى الجسدية

صفة عيسى الجسدية لقد جاء وصف عيسى عليه السلام في الأحاديث الصحيحة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقيت ليلة أسري بي عيسى -فنعته النبي صلى الله عليه وسلم فقال:- ربعة أحمر كأنما خرج من ديماس). وكذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رأيت عيسى وموسى وإبراهيم، فأما عيسى فأحمر جعدٌ عريض الصدر). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أراني الليلة عند الكعبة في المنام فإذا رجلٌ آدم كأحسن ما يرى من آدم الرجال، تضرب لمته بين منكبيه، رَجِلُ الشعر، يقطر رأسه ماءً، واضعاً يديه على منكبي رجلين يطوف بالبيت، فقلت: من هذا؟ فقالوا: هذا المسيح بن مريم). وفي رواية: (بينما أنا أطوف في الكعبة فإذا رجلٍ آدم سبط الشعر، يهادى بين رجلين ينطف رأسه ماء، أو يهراق رأسه ماء، فقلت: من هذا؟ قالوا: ابن مريم) هذا وصف عيسى عليه السلام، فما معنى هذه الأوصاف؟ أما بالنسبة لقوله عليه الصلاة والسلام عن عيسى: (إنه رجلٌ آدم) فإن المعنى أنه أبيض مشرب بحمرة. وكذلك لما قال صلى الله عليه وسلم: (ربعة) يعني: مربوع؛ ليس بطويلٍ جداً ولا بقصير جداً. وقوله: (كأنه خرج ديماس) الديماس يعني: الحمام الذي يغتسل فيه، والمراد بذلك وصف عيسى بصفاء اللون، فهو كمن يخرج من الحمام صافياً نقياً نظيفاً، وقد وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بنقاء اللون، ونضارة الجسم، وكثرة ماء الوجه حتى كأنه كان في حمام فخرج منه ينطف رأسه ماء، وهذا يزيد في نضارة الوجه. وكذلك فإن قوله عليه الصلاة والسلام في وصف عيسى: (إنه رجلٌ سبط) نعتٌ لشعر رأسه يعني: ليس بجعد الشعر، والرواية الأخرى فيها أن عيسى جعد، والجعود عكس السبوطة، فكيف يكون الجمع؟ قالوا: هذه الجعودة في الجسم وليست في الشعر، الشعر سبط ولكن الجعودة في جسمه، يعني: جسمه مجتمع مكتنز. ومعنى: (لمته بين منكبيه) اللمة شعر الرأس، وقد جاوزت المنكبين وألمت به. (رجل الشعر) قد سرحه ودهنه، وله (لمة تقطر ماءً) هذه صفة عيسى عليه الصلاة والسلام عندما رآه النبي عليه الصلاة والسلام يطوف بالكعبة.

نزول الإنجيل وحرص عيسى على التبليغ

نزول الإنجيل وحرص عيسى على التبليغ متى أنزل الإنجيل على عيسى؟ قال عليه الصلاة والسلام: (أنزلت صحف إبراهيم أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة على موسى في ست خلون من رمضان، وأنزل الزبور على داود في اثنتي عشرة ليلة خلت من شهر رمضان، وأنزل الإنجيل على عيسى في ثماني عشرة ليلة خلت من رمضان، وأنزل القرآن لأربعٍ وعشرين خلت من رمضان). وكان عيسى عليه السلام حريصاً على تبليغ الدعوة، ولذلك جاء في الحديث الصحيح (أن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بهن وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، وأن عيسى ابن مريم قال له: إن الله أمرك بخمس كلمات أن تعمل بهن وأن تأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن فإما أن تأمرهم وإما أن آمرهم، قال: إنك إن تسبقني بهن خشيت أعذب أو يخسف بي). فإذاً عيسى كان حريصاً على التبليغ، ومعنى ذلك أنه معاصر ليحيى بن زكريا، قال ليحيى إذا كنت لا تريد أن تبلغ، فأنا سأبلغ، إما أن تأمرهم، وإما أن آمرهم، فيحيى بن زكريا قال: أخشى أن أعذب، فجمع بني إسرائيل ووعظهم حتى امتلأ المسجد والشرفات إلى آخر القصة وهي قصة صحيحة.

ذكر شيء من شمائل عيسى وفضائله

ذكر شيء من شمائل عيسى وفضائله كان عيسى عليه السلام معظماً لله عز وجل، شديد الإيمان، فقال عليه الصلاة والسلام: (رأى عيسى ابن مريم رجلاً يسرق، فقال: له أسرقت؟ قال: كلا والذي لا إله إلا هو! فقال عيسى: آمنت بالله وكذبت عيني) أي: رضيت بالذي حلفت به وكذبت عيني. عيسى عليه السلام رفع إلى السماء، ما مات ولم تقبض روحه بعد، رفع بجسده وروحه من الأرض إلى السماء، أين مكانه؟ قال صلى الله عليه وسلم في حديث الإسراء والمعراج: (فأتينا السماء الثانية، فقيل: من هذا؟ قيل: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمدٌ صلى الله عليه وسلم، قيل: أوقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحباً به ولنعم المجيء جاء، فأتيت على عيسى ويحيى فقالا: مرحباً بك من أخٍ ونبي) فإذاً عيسى في السماء الثانية. وأما فضل عيسى عليه السلام، فإن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (الحسن والحسين سيدا شباب الجنة إلا ابني الخالة عيسى بن مريم ويحيى بن زكريا). أما موقف عيسى عليه السلام من قومه يوم القيامة، فإنه سيتبرأ من المشركين والكفار، ويقول: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} [المائدة:117]. وأما بالنسبة لعلم عيسى بأمر الساعة فإنه لا يعلم عن قيام الساعة، لأن علم الساعة من الغيب الذي اختص الله به، ولكن عيسى عليه السلام سيكون في آخر الساعة وشرطاً من أشراطها، وإنه لعَلَمٌ للساعة، وفي القراءة المعروفة: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} [الزخرف:61] عيسى عليه السلام عِلْمٌ أو عَلَمٌ للساعة، فلذلك كان نزول عيسى ابن مريم شرطاً من أشراط الساعة الكبرى. عيسى عليه السلام بشر بنبينا صلى الله عليه وسلم: {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف:6] وقال عليه الصلاة والسلام: (وسأنبئكم بأول ذلك؛ دعوة إبراهيم وبشارة عيسى بي). ونزول عيسى بن مريم سيكون في آخر الزمان، ونحن في آخر الزمان، والعهد قريب بيننا وبين عيسى، ولم يبق شيءٌ كثير.

أحوال الناس قبل ومع نزول عيسى

أحوال الناس قبل ومع نزول عيسى ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وصفها، قال: (لا تقوم الساعة حتى يخرج كذابون ثلاثون آخرهم الأعور الدجال، ممسوح العين اليسرى، وإنه سيظهر على الأرض كلها غير الحرم وبيت المقدس، وإنه يسوق الناس إلى بيت المقدس فيحصرون حصراً شديداً. إلى أن قال: فيصبح فيهم عيسى ابن مريم فيقتله وجنوده حتى إن الحجر أو جذم الحائط- أصل الحائط- لينادي: يا مسلم! يا عبد الله! هذا يهودي مستتر بي فتعال فاقتله) فإذاً عيسى عليه السلام نزوله من أشراط الساعة الكبرى.

معركة مرج دابق

معركة مرج دابق وعيسى عليه السلام سيكون نزوله موافقاً لخروج المهدي الذي يبعثه الله، وسيكون نزول عيسى بعد قتال المسلمين للنصارى، فقال عليه الصلاة والسلام: (لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بـ الأعماق أو بـ دابق). قال ياقوت الحموي في معجم البلدان: الأعماق المراد به العمق، وهي ناحية كورة قرب دابق بين حلب وأنطاكية، أنطاكية في تركيا وحلب في سوريا ودابق: مكان معروف الآن، وهي قرية قرب حلب من أعمال عزاز بينها وبين حلب أربعة فراسخ. الروم سينزلون في ذلك المكان قرب مدينة حلب في سوريا الآن، فإذا تصافوا قالت الروم: خلوا بيننا وبين الذين سبوا منا نقاتلهم، ناس كانوا مع الروم فالتحقوا بالمسلمين، أو أخذوا من الروم وأسلموا عند المسلمين، فالروم يقولون للمسلمين: أعطونا الذين أخذوا منا نقاتلهم نصفي بني جلدتنا أولاً، فيقول المسلمون: لا والله لا نخلي بينكم وبين إخواننا. نعم هؤلاء أصلهم من الروم، لكن أسلموا وصاروا إخواننا، كيف نتركهم إليكم ونسلمهم إليكم؟ والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (المسلم أخو المسلم لا يسلمه) لا يتخلى عنه ويتركه للأعداء. قال: فيقول المسلمون: لا والله ما نخلي بينكم وبين إخواننا، فيقاتلونهم، فينهزم- يعني من المسلمين- ثلثٌ لا يتوب الله عليهم أبداً، ويقتل ثلثٌ هم أفضل الشهداء عند الله، ويفتتح الثلث لا يفتنون أبداً. ثلث جيش المسلمين الباقي لا يفتنون أبداً إذا صارت الموقعة عند مرج دابق بين حلب وأنطاكية، وسيتوجه المسلمون بعد كسر جيش النصارى إلى القسطنطينية فيفتحونها. فبينما هم يقتسمون الغنائم قد علقوا سيوفهم بالزيتون -معنى ذلك أنه سيكون القتال بالسيوف- إذ صاح فيهم الشيطان: إن المسيح قد خلفكم في أهليكم، والمسيح المقصود به هنا المسيح الدجال، فيخرجون، وذلك باطل فإنه لم يخرج الدجال بعد، ولكن الشيطان لا يريد أن يدع المسلمين يفرحون بالنصر، يريد أن ينغص عليهم، فيقوم المسلمون ويأخذون السلاح ويستنفرون بسرعة للقاء الدجال وحربه. قال: فإذا جاءوا الشام يخرج الدجال حقيقةً وصدقاً، فبينما هم يعدون للقتال ويسوون الصفوف استعداداً للمعركة الفاصلة مع الدجال -لأنه قد تم القضاء على النصارى عسكرياً، وبقي الآن القضاء على اليهود وقائدهم الدجال- فينزل عيسى ابن مريم فإذا رآه عدو الله هرب، فإذا أدركه ذاب كما يذوب الملح في الماء، فلو تركه لذاب حتى يهلك، ولكن يقتله بيده، فيريهم دمه في حربته، فيكون إذاً قتل المسيح الدجال على يد المسيح ابن مريم، وينهي مسيح الهداية مسيح الضلالة ويقضي عليه.

قتال عيسى للمسيح الدجال

قتال عيسى للمسيح الدجال وجاء تفصيلٌ أيضاً في حديثٍ آخر، قال صلى الله عليه وسلم في القتال الشديد الذي سيكون في آخر الزمان بين المسلمين والروم: (ومعهم فوارس، وإني لأعلم أسماءهم وألوان خيولهم) معهم خيول ومعهم سيوف، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى تمتلئ الأرض ظلماً وعدواناً، ثم يخرج رجل من أهل بيتي فيملؤها قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وعدواناً) وهذا المهدي سيكون رفيق المسيح ابن مريم. فالدجال يعلم بأن عيسى سينزل، ولذلك لما تقابل مع تميم الداري في الجزيرة التي في البحر، أخبرهم عن أشياء يعلمها وكيف سيخرج في الأرض. فإذا خرج الدجال ومعه الفتن، انبعث له عيسى ابن مريم والمؤمنون، وهذا الانبعاث قد وصفه النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر خروج الدجال، قالت أم شريك يا رسول: فأين العرب يومئذٍ؟ قال: (العرب يومئذٍ قليل). فإذاً: العرب سيقلون في آخر الزمان (ولا تقوم الساعة حتى يكون الروم أكثر الناس) والعرب قليل إمامهم رجلٌ صالح وهو المهدي عليه السلام من نسل النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (فبينما إمامهم قد تقدم يصلي بهم الصبح) هذه الصلاة المفسرة لما أجمل، فالمسلمون في حالة استنفار وتجميع وتسوية صفوف مع المهدي، وهو أمير الجيش وقائده، يستعدون لقتال الدجال، وحين يجتمعون لصلاة الصبح ينزل عيسى ابن مريم عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، فيرجع ذلك الإمام يمشي القهقرى حين يرى نزول عيسى، لكي يكون عيسى هو الإمام (فيضع عيسى عليه السلام يده بين كتفيه، ثم يقول له: تقَدِّم فصلِّ، فإنها لك أقيمت، فيصلي بهم إمامهم) وهذا كرامة من الله لهذه الأمة، أن واحداً من نسل النبي عليه الصلاة والسلام يصلي إماماً وعيسى وراءه، وعيسى نبي وهذا ليس بنبي، إكراماً من الله لهذه الأمة، قال: (فإذا انصرف قال عيسى عليه السلام: افتحوا الباب) فيفتحون على البلد الذي فيه الدجال واليهود معه: (فيفتح ووراءه الدجال ومعه سبعون ألف يهودي كلهم ذو سيف محلى وساج، فإذا نظر إليه الدجال، ذاب كما يذوب الملح في الماء) هذا الدجال الذي معه جنة ونار وبستان، ونهر خبز، ونهر لحم، وأنه يبعث في الأرض الحياة، ويأمر السماء تمطر فتمطر، ويأمر كنوز الأرض أن تتبعه فتتبعه، هذا هيّن على الله، ولذلك أول ما يرى عيسى يذوب، كل هذا الكلام يذهب وينطلق هارباً، فيدركه عند باب اللد الشرقي فيقتله، فمكان قتل الدجال معين عند الباب الشرقي لمدينة اللد في أرض فلسطين المعروفة الآن، فيهزم الله اليهود ولا يبقى شيءٌ مما خلق الله يتوارى به يهودي إلا أنطق الله ذلك الشيء.

شكل الحياة بعد قتل المسيح الدجال

شكل الحياة بعد قتل المسيح الدجال وقال النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً في عيسى ابن مريم بعد هذا: (فيكون عيسى ابن مريم في أمتي حكماً عدلاً، وإماماً مقسطاً، يدق الصليب، ويذبح الخنزير، ويضع الجزية، ويترك الصدقة فلا يسعى على شاة ولا بعير) لا توجد زكاة، وعيسى لا يرسل أحداً يجبي الزكاة، بل يترك الصدقة، والمتصدق الذي يجمع الزكاة لا يسعى على شاة ولا على بعير ولا على شيء، وترفع الشحناء والتباغض (وتنزع حمة كل ذات حمة) يعني: كل ذات سم ينزع سمها حتى يدخل الوليد يده في الحية فلا تضره، وتضر الوليدة الأسد فلا يضرها، ويكون الذئب في الغنم كأنه كلبها، وتملأ الأرض من السلم كما يملأ الإناء من الماء، وتكون الكلمة واحدة فلا يعبد إلا الله، وتضع الحرب أوزارها، وتكون الأرض كثاثور الفضة تنبت نباتها بعهد الله، حتى يجتمع النفر على القطف من العنب فيشبعهم، ويجتمع النفر على الرمانة فتشبعهم، ويكون الثور بكذا وكذا من المال وتكون الفرس بدريهمات. هذه هي نهاية الدجال، وهذا هو عيسى عليه السلام وهو يقتل الدجال. نزوله علمٌ للساعة قبل يوم القيامة عند المنارة البيضاء في دمشق، قال عليه الصلاة والسلام مشتاقاً للقيا عيسى وموصياً أمته من بعده ونحن منهم: (إني لأرجو إن طال عمرٌ أن ألقى عيسى ابن مريم، فإن عجل بي موتٌ فمن لقيه منكم، فليقرئه مني السلام) أي: من منا يدرك زمن عيسى فليبلغ عيسى السلام من النبي عليه الصلاة والسلام. رواه الإمام أحمد. هذا عيسى ابن مريم ينزل ويعيش في الأرض بعد قتل الدجال.

أعمال عيسى في الأرض

أعمال عيسى في الأرض قال: (ليهبطن عيسى ابن مريم حكماً عدلاً، وإماماً مقسطاً) الإنجازات التي تتحقق بنزول عيسى عديدة مجملة فيما يلي: أولاً: كسر الصليب، واستئصال عبادة النصرانية، والقضاء على دين النصارى قضاءً مبرماً، وليس فقط هزيمة عسكرية، بل حتى الدين نفسه يزول. ثانياً: يقتل الخنزير، فيستأصل الخنازير. ثالثاً: يقاتل الدجال وأعوانه من اليهود. رابعاً: يقتل من بقي من اليهود حتى لا يجد أحدٌ منهم ملاذاً يتجه إليه، فيتم القضاء على اليهود. خامساً: لا يقبل إلا دين الإسلام، وتكون الكلمة واحدة، ولا يعبد إلا الله وما يبقى دين كافر في الأرض إطلاقاً، فقط الإسلام هو الذي يبقى. سادساً: مواجهة يأجوج ومأجوج بعد ذلك، وانتهاء حكم الجهاد في عصره، لأنه لا يوجد كفر ولا كفار في عصر عيسى، وبعد أن تنتهي العمليات الجهادية وتضع الحرب أوزارها والإسلام في الأرض لا يوجد جهاد. سابعا: يؤم المسلمين بعد أن يصلي وراء إمام المسلمين، ويحج من فج الروحاء متجهاً إلى مكة، وسيدعو إلى القرآن والسنة، فينتهي الحقد في عهده، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد. وتكون البركة في الثمار، وتزول العداوة حتى بين الإنسان والحيوان، وينتشر السلم في الأرض، فالسلام الذين يسمونه السلام العالمي لن يحقق إلا في عهد عيسى عليه السلام. ولن يوجد فقيرٌ واحد، وستترك الزكاة، لأنه لا يوجد أحد يأخذ الزكاة أصلاً، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى ينزل عيسى حكماً مقسطاً وإماماً عدلاً) وقال: (والذي نفسي بيده ليهلن ابن مريم من فج الروحاء حاجاً أو معتمراً أو ليثنينهما) فقوله صلى الله عليه وسلم: (ليهلن) يعني: ليرفعن صوته بالتلبية قائلاً: لبيك اللهم لبيك محرماً بحجٍ أو عمرة (أو ليجمعن بين الحج والعمرة معاً) وفج الروحاء مكان في الطريق بين المدينة إلى بدر على بعد ستة أميال منها، وكذلك يصبح هو إمام الصلاة مع قيامه بأعباء الإمامة العظمى للمسلمين، ويموت المهدي عليه السلام بعد أن يمكث سبع سنوات، ويصلي عليه عيسى والمسلمون، ثم يكون عيسى في هذه الأمة هو الإمام، وهو الذي يقودها. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ويهلك الله في زمانه المسيح الدجال الكذاب) وقال صلى الله عليه وسلم: (أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم لأنه لم يكن بيني وبينه نبي وإنه نازلٌ، فإذا رأيتموه فاعرفوه، فإنه رجلٌ مربوع إلى الحمرة والبياض، سبطٌ كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل بين مخصرتين). فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية، ويعطل الملل حتى تهلك في زمانه كلها غير الإسلام، ويهلك الله في زمانه المسيح الدجال، ويعم الأمان الأرض حتى ترتع الإبل مع الأسد جميعاً، والنمور مع البقر، والذئاب مع الغنم، ويلعب الصبيان والغلمان بالحيات لا يضر بعضهم بعضاً، فيمكث ما شاء الله أن يمكث، ثم يتوفى فيصلي عليه المسلمون ويدفنونه. فإذاً ستكون النهاية بوفاة عيسى عليه السلام ويصلي عليه المسلمون ويدفنونه، كم سنة يمكث؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سيمكث في الأرض أربعين سنة، ثم يتوفى فيصلي عليه المسلمون).

قيادة عيسى للمسلمين ضد يأجوج ومأجوج

قيادة عيسى للمسلمين ضد يأجوج ومأجوج وكذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن عيسى عليه السلام سيكون له إنجاز آخر في قيادة المسلمين ضد يأجوج ومأجوج، فقال عليه الصلاة والسلام في حديث النواس بن سمعان في حديث الدجال الطويل: (فبينما هم كذلك -يعني المسلمين- إذ بعث الله المسيح ابن مريم فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين واضعاً كفيه على أجنحة ملكين، إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رفعه تحدَّر منه جمانٌ كاللؤلؤ، فلا يحل لكافرٍ يجد نَفَسَه إلا مات، ونَفَسُه ينتهي حيث ينتهي طرفه). وحين ينزل عيسى فإن أي كافر على مرمى بصر عيسى يستنشق نفسه ويموت في مكانه، قال: (فلا يحل لكافرٍ يجد نفسه إلا مات، ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه، ثم يأتي عيسى قوماً قد عصمهم الله من الدجال، فيمسح من وجوههم ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة) وهذا من علم الغيب، والله يوحي لعيسى بخبر فلان وفلان وفلان من المسلمين الذين هربوا من فتنة الدجال، فيمسح عن وجوههم ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة. انتهت قضية الدجال، ثم قال: (فبينما هو كذلك إذ أوحى الله إلى عيسى عليه السلام أني قد أخرجت عباداً لي لا يدان لأحدٍ بقتالهم) لا قدرة ولا استطاعة ولا قوة لأحد من البشر بقتال هؤلاء، وهم يأجوج ومأجوج، ما هي الأوامر الإلهية لعيسى؟ الاتجاه إلى أين؟ قال: (فاحرز عبادي إلى الطور) خذ المسلمين إلى جبل الطور وتحصنوا هناك. (ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون، فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية، فيشربون ما فيها ويمر آخرهم فيقولون: لقد كان بهذه مرةً ماءٌ، ويحصر نبي الله عيسى عليه السلام وأصحابه) لأنه من كثرة يأجوج ومأجوج ولا قدرة على قتالهم سيبقى عيسى مع المسلمين محاصرين في جبل الطور (حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيراً من مائة دينارٍ لأحدكم اليوم -ويصبح في شدة وجوع- فيرغب نبي الله عيسى عليه السلام وأصحابه إلى الله تعالى فيرسل الله عليهم- يعني: على يأجوج ومأجوج- النغف- مثل الدود التي تكون في أنوف الغنم- في رقابهم فيصبحون فرسى (هلكى) كموت نفسٍ واحدة) موت شامل جماعي في وقت واحد كموت نفس واحدة. (ثم إن المسلمين يقولون: من يعرف لنا الخبر؟) لأنهم محاصرون في الطور لا يعرفون ما الخبر، فيوطن أحد من المسلمين نفسه على أنه ميت، فيقول المسلمون: ألا رجلٌ يشري لنا نفسه، فينظر لنا ما فعل العدو، يعني: يضحي بنفسه: (فيتجرد رجلٌ منهم لذلك محتسباً لنفسه على أنه مقتول، فيخرج ليتحرى الخبر فيجدهم موتى- بعضهم على بعض، فينادي: يا معشر المسلمين! ألا أبشروا، فإن الله قد كفاكم عدوكم، فيخرجون عن مدائنهم وحصونهم). فيكون هناك حصون أو مستعمرات أو مدائن فيها المسلمون مع عيسى متحصنين في جبل الطور، فيخرجون عن مدائنهم وحصونهم، ويسرحون مواشيهم، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم يهبط نبي الله عيسى عليه السلام وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون في الأرض موضع شبرٍ إلا ملأه زهمهم ونتنهم -من رائحة يأجوج ومأجوج وجثثهم المتعفنة- فيرغب نبي الله عيسى عليه السلام إلى الله بالدعاء لتخليصهم من الكرب الموجود- فيرسل الله طيراً كأعناق البخت فتأخذهم فتطرحهم حيث شاء الله) طيور عظيمة يرسلها الله فتأخذ جثث يأجوج ومأجوج وترميها في البحر. ثم يبقى في الأرض أوساخ، قال: (ثم يرسل الله مطراً لا يُكِنُّ منه بيت مدر ولا وبر) مطر يخترق جميع السقوف، لا توجد عوازل مائية تصمد أمامه (فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلقة- مثل: المرآة- ثم يقال للأرض أنبتي ثمرك وردي بركتك).

انتشار الخير مدة حكم عيسى عليه السلام

انتشار الخير مدة حكم عيسى عليه السلام ينتهي النصارى واليهود والكفار ويأجوج ومأجوج ولا يبقى كافر على الأرض، إذاً الأرض لماذا تمنع البركة؟ (فيومئذٍ تأكل العصابة من الرمانة ويستظلون بقحفها) فالرمانة الواحدة يأكلها جماعة من الناس من كبرها، فالبركة التي في التوحيد تجعل في الأرض الثمار؛ فتكون عظيمة وكبيرة جداً جداً. وعندما يكون عيسى في الأرض أربعين سنة عند ذلك لا يعبد إلا الله، والعصابة التي تكون معه من المسلمين يحرزها الله من النار، أي: يحرمون على النار، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (عصابتان من أمتي أحرزهما الله تعالى من النار، عصابة تغزو الهند، وعصابة تكون مع عيسى ابن مريم عليه السلام) أخرجه النسائي والحديث إسناده صحيح، ويكون العيش في غاية الطيب، حتى قال صلى الله عليه وسلم: (طوبى لعيشٍ بعد المسيح، يؤذن للسماء في القطر، ويؤذن للأرض في النبات، حتى لو بذرت حبك على الصفا لنبت) لو رميت الحب على الصخور الصماء أنبتت (وحتى يمر الرجل على الأسد فلا يضره، ويطأ على الحية فلا تضره، ولا تشاح، ولا تحاسد، ولا تباغض). هذه ستكون النهاية بالنسبة لقصة عيسى عليه السلام، ثم يموت حقيقة ويصلي عليه المسلمون، وبعد ذلك يرسل الله ريحاً تقبض أرواح المؤمنين، وتخرج أجيال بعد ذلك لا تعرف معروفاً ولا تنكر منكراً، ويعم الكفر الأرض، وتقوم الساعة على شرار الناس. وقد يرد هذا Q قال الله تعالى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران:55] فكيف يقال: إنه لم يمت؟ للإجابة على هذا عدة مسالك منها: المسلك الأول: أن في الكلام تقديمٌ وتأخير والتقدير: إني رافعك إلي ومطهرك، ثم تنزل، ثم إني متوفيك. المسلك الثاني: وهو قويٌ: أن (متوفيك) معناها قابضك وحائزك، فإن العرب تقول: توفيت ديني من فلان، يعني: قبضته وأخذته، فمتوفيك ليس معناها: أنزع روحك من جسدك، وإنما متوفيك أي: حائزك إليّ ورافعك وقابضك، وسآخذك إليَّ بروحك وجسدك، لأن توفى معناها أخذ، واستوفى الدين يعني: أخذ الدين.

أربعون نصيحة لإصلاح البيوت

أربعون نصيحة لإصلاح البيوت الأسرة هي وحدة بناء المجتمع، وإصلاحها هو المقصود الأول في هذه المحاضرة. وقد مهّد الشيخ لنصائحه النفسية بكلام عن نعمة البيت والسكن، وواجب المرء تجاهها. ثم بدأ بذكر نصائحه معلقاً عليها، وهي تتمحور حول المواضيع التالية: الطاعات داخل البيوت، والعلاقات والأخلاقيات وفيها، وكيفية إزالة المنكرات، وتربية الأطفال، ونصائح وأحكام أخرى

نعمة البيوت وأهمية القيام بإصلاحها

نعمة البيوت وأهمية القيام بإصلاحها إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أيها الإخوة! موضوعنا في هذه الليلة "أربعون نصيحة لإصلاح البيوت" وهي وإن كانت ليست بالعدد، بل ربما تزيد على هذا قليلاً، ولكن المهم -أيها الإخوة- من وراء طرح هذا الموضوع هو الالتفاف ولفت الأنظار من قبل إخواننا المسلمين وأخواتنا المسلمات إلى بيوتهم وبيوتهن، ولعلكم تدركون معي جميعاً أهمية طرق هذا الموضوع ولا أدل على ذلك من حضوركم في هذه الليلة بهذا العدد لسماع هذا الموضوع.

محاور الكلام في هذا الموضوع

محاور الكلام في هذا الموضوع وسنتحدث إن شاء الله في هذا الموضوع عن مقدمة في نعمة البيت، ثم نصائح في الطاعات في البيوت، ونصائح في العلاقات في البيت، ونصائح في أخلاقيات البيت، ونصائح عن الأطفال في البيت، ونصائح عن المنكرات في البيت، ونصائح تتعلق بأحكام البيوت، وأخرى تتعلق بسنن البيوت، ونختم بخاتمة عن اختيار البيت المناسب. والكلام عن هذا الموضوع في شقين:- الشق الأول: جلب المصالح، والشق الثاني: درء المفاسد، وأنتم تعلمون أن طريقة الشريعة في علاج أي موضوع تكون بذكر أمرين: جلب المصالح ودرء المفاسد، ونستطيع أن نعبر بعبارة أخرى أن الكلام عن هذا الموضوع سيكون في الأمر بالمعروف وهو جلب للمصالح، والنهي عن المنكر وهو درء للمفاسد.

كيفية إدراك هذه النعمة العظيمة

كيفية إدراك هذه النعمة العظيمة أما البيوت فإنها نعمة عظيمة امتن الله بها على عباده فقال: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً} [النحل:80] قال ابن كثير رحمه الله: يذكر تبارك وتعالى تمام نعمه على عبيده بما جعل لهم من البيوت التي هي سكن لهم يأوون إليها، ويستقرون بها، وينتفعون بها من سائر وجوه الانتفاع. وأنت تعلم أيها الأخ المسلم مدى نعمة الله عليك في البيت عندما تتذكر أكلك أين يكون، وراحتك أين تكون، ونكاحك لأهلك أين يكون، وخلوتك أين تكون، واجتماعك بأهلك وأولادك أين يكون. وتأمل في أحوال الناس الذين لا بيوت لهم ممن يعيشون في الخيام، أو يفترشون أرصفة الطرقات كيف يكون وضعهم، وعندما تسمع وتتذكر من قصص الناس الذي لا بيوت لهم كما يقول أحدهم: إن ثيابي في سيارتي ولا مكان ثابت لي، فأنا أنتقل من بيت فلان، إلى حجرة فلان، إلى الفندق الفلاني لأنام فيه، وأحياناً أنام على رصيف الشارع عندما تتذكر هذه المسألة تعلم فعلاً بأن البيت نعمة عظيمة من نعم الله عز وجل. البيت مكان لستر المرأة، ولصيانتها، النساء بدون بيوت كيف تكون أوضاعهن؟ ولذلك قال الله عز وجل: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:33] ولما انتقم الله من يهود بني النضير الذين كانوا بقرب المدينة قال الله عنهم: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} [الحشر:2] ثم قال: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر:2] فالبيت أيها الإخوة مكانٌ يقضي فيه الناس كثيراً من أوقاتهم، خصوصاً في الحر الشديد، والبرد الشديد، والأمطار، وفي أول النهار وآخره، وأوقات الإجازة.

علاقة صلاح البيت بصلاح المجتمع

علاقة صلاح البيت بصلاح المجتمع الشاهد: أن إصلاح البيت مهم جداً؛ لأنه مأوى وملجأ ومكان استقرار يعيش فيه الإنسان جزءاً كبيراً من حياته، لذلك إذا صلح البيت وأهله، صلحت عيشة المسلم وحياته؛ لذلك لابد من التركيز على إصلاح البيوت. مجتمعات المسلمين تتكون من عوائل يعيشون في بيوت، والبيوت تكون أحياء، والأحياء تكون مدناً، والمدن هي مجتمعات المسلمين، فإذا صلحت هذا اللبنة من اللبنات وصلحت اللبنات الأخرى صار المجتمع صالحاً. يقول عليه الصلاة والسلام موصياً المسلم عند الفتنة وعندما يحدث منه شر أن يلجأ إلى بيته: (طوبى لمن ملك لسانه ووسعه بيته وبكى على خطيئته) حديث حسن وقال صلى الله عليه وسلم: (خمس من فعل واحدة منهن كان ضامناً على الله: من عاد مريضاً، أو خرج غازياً، أو دخل على إمامه يريد تعزيره -يعني: نصرته- وتوقيره، أو قعد في بيته فسلم الناس منه وسلم من الناس) أحياناً إذا خرج الشخص من البيت أساء، فإذا قعد في البيت ستر نفسه وكف شره عن الناس، وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الحسن: (سلامة الرجل في الفتنة أن يلزم بيته). والبيت مسئولية عظيمة يقول صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى سائل كل راع عما استرعاه أحفظ ذلك أم ضيعه؛ حتى يسأل الرجل عن أهل بيته) حديث حسن. وهذه هي المسئولية التي لو استشعرناها جميعاً لاتجهنا فعلاً إلى إصلاح البيوت، ولتوجهت همتنا حقيقة إلى بعث الروح الإسلامية في بيوتنا. بيوتنا أيها الإخوة تحوي منكرات كثيرة، وفيها تقصير كثير، وإهمال وتفريط، لذلك ينبغي أن تتجه الهمم خصوصاً في هذا الزمان لإعادة رسالة البيت المسلم إلى ما كانت عليه، لجعل هذا البيت عشاً يلجأ إليه المسلم، وكنفاً يطمئن في جنباته، يغلق بابه عليه فيعرف كيف يربي نفسه وأهله وأولاده.

نصائح لتكوين البيت المسلم

نصائح لتكوين البيت المسلم ومن النصائح التي نبدأ بها: نصيحة لمن يريد أن يكوِّن البيت المسلم:-

حسن اختيار الزوجة

حسن اختيار الزوجة أولاً: أن يحسن اختيار زوجته؛ فإن البيت يقوم على الزوج والزوجة، ومنهما ينبثق الأولاد، فإذا كان الزوج صالحاً وكانت الزوجة صالحة صار البيت صالحاً، ومظنة لخروج الأولاد الصالحين، وكثير من البيوت التي يكون فيها الزوج سيئاً أو الزوجة سيئة يكون البيت سيئاً؛ نكداً خبيثاً يخرج نباته خبيثاً كما أن مكوناته خبيثة.

على الزوج أن يكون قدوة في الدين

على الزوج أن يكون قدوة في الدين نصيحة: ولابد أن يكون رب المنزل قدوة في الخير يتعلم منه أهل المنزل طاعة الله عز وجل، لابد أن يكون هذا الرجل صمام أمن في بيته، يدرأ عنه المفاسد، ويجلب إليه المصالح، قال الله عز وجل: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74] وقال صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله). نصيحة: لابد أن يحمل كل رجل مسلم زوجته على الالتزام بهذا الدين، لابد أن يجعلها تعيش حياة إسلامية، ويكون ذلك بأمور كثيرة ووسائل متعددة: من تعليمها وتربيتها ووعظها، وأن يجعلها تزار من أخوات صالحات، وتزور أخوات صالحات، ويهدي إليها الكتب النافعة، والأشرطة الجيدة، وأن يدرأ عنها المفاسد، ويراقب تصرفاتها، فإذا أوشكت أن تقع في حرام وعظها وجنبها إياه، وقد تكلمنا عن هذه المسألة في محاضرة بعنوان "قوا أنفسكم وأهليكم ناراً".

أهمية جعل البيت مكان عبادة وذكر

أهمية جعل البيت مكان عبادة وذكر نصيحة: اجعل البيت مكان عبادة، قال الله عز وجل عن موسى وبني إسرائيل: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [يونس:87] قال ابن كثير رحمه الله: قال بعض أهل العلم: إن العلماء ذكروا في تفسير قوله: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} [يونس:87] معنيين:- الأول عن ابن عباس: أمروا أن يتخذوا مساجد، أي يسجدون فيها، أي يصلون فيها، أي يعبدون الله فيها. وعن إبراهيم معنى آخر قال: كانوا خائفين من فرعون، فأمروا أن يصلوا في بيوتهم، لا يستطيعون أن يتجمعوا في المساجد مثلاً فأمروا أن يصلوا في بيوتهم. قال ابن كثير: وكان هذا -والله أعلم- لما اشتد بهم البلاء من قبل فرعون وقومه وضيقوا عليهم، أمروا بكثرة الصلاة كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:153] أمروا أن يجعلوا بيوتهم قبلة. فجعلوا البيت مكاناً يصلى فيه، يقول عليه الصلاة والسلام: (لا تجعلوا بيوتكم مقابر) أي: لا تجعلوها خالية من العبادة كالمقبرة، والمقبرة لا يجوز الصلاة فيها إلا صلاة الجنازة على الميت بعد دفنه في القبر، وإلا فلا مصلى، ولا يصلى في المقابر البتة (لا تجعلوا بيوتكم مقابر) أي: صلوا فيها. نصيحة: لابد أن يجعل البيت بيتاً يذكر الله فيه بأنواع الذكر، سواءً كان ذكر القلب أو ذكر اللسان أو الصلوات أو قراءة القرآن في البيت، أو قراءة كتب العلم، ومدارسة أنواع العلم، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت لا يذكر الله فيه مثل الحي والميت) وكثير من بيوت المسلمين اليوم -حقيقةً- ميتة بمعنى الكلمة؛ لأنها مليئة بالمنكرات والمعاصي، والألحان، والكذب، والغيبة، والنميمة، والاختلاط، والتبرج بين الأقارب من غير المحارم، أو الجيران الذين يدخلون في البيوت، كثير من البيوت مليئة بالمنكرات على جدرانها، وفي أرصفها، وفي خزاناتها، وفي أنواع اللهو المعمول فيها، هذه البيوت كيف تدخلها الملائكة! البيت الذي يعج بالشياطين كيف تدخله الملائكة، البيت من هذا النوع كيف يمكن أن يكون مصدراً للإصلاح؟! إذاً النصيحة: (مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه مثل الحي والميت) فأحيوا بيوتكم -رحمكم الله- بأنواع الذكر وأصنافه.

احترام أوقات الصلوات

احترام أوقات الصلوات نصيحة: وينبغي أن يتعلم أهل البيت احترام أوقات الصلوات، احترام الأذان إذا أذن للصلاة كما ورد عنه صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (أنه كان يكون في مهنة أهله فإذا أذن المؤذن خرج للصلاة) استعد للصلاة وخرج للصلاة، توقفت الأعمال كلها في البيت استعداداً لهذا الحدث العظيم والخطب الجسيم وهو الصلاة، هذه الصلوات الخمس ينبغي أن يكون لها وزن، ولآذانها وقع في بيوتنا نحن، ينبغي أن نتوقف عن الأعمال فعلاً لأداء الصلاة توقفاً حقيقياً يرضي الله عز وجل. نصيحة: وأمر أهل البيت بالصلاة من شعائر هذا الدين، قال الله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه:132] ومدح الله نبياً من أنبيائه فقال: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ} [مريم:55] وقال صلى الله عليه وسلم: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر) فأثبت أمر الأولاد غير البالغين بالصلاة، فما بالك بأمر البالغين وأمر الكبار بالصلاة، من النساء والأولاد الشباب في البيوت، وحتى أمر الولد أباه بالصلاة برفق وإحسان يدخل في هذا ولا شك. وكثير من المسلمين اليوم ضيعوا ذرياتهم وأولادهم فلا يأمرون بصلاة، وربما يكون الأب صالحاً لكن صلاحه في نفسه، فيخرج هو للصلاة فقط ويذر أولاده نائمين أو لاهين، وزوجته في البيت تعمل لا يسألها مطلقاً ولا يذكرها هل صلت أم لا! أين هو من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أن الرجل سيوقف بين يدي الله سبحانه فيسأله عن أهل بيته، وعن مسئوليته فيهم؛ أحفظ ذلك أم ضيعه.

أهمية الجماعة وأداء النوافل

أهمية الجماعة وأداء النوافل نصيحة: واحرص على إقامة صلاة الجماعة في المسجد إن أمكن ذلك، فإن فاتتك الصلاة في المسجد لعذر؛ فاجمع أهلك في البيت وصل بهم، إن عدت من المسجد فأحببت أن تتنفل بهم فصل بهم مرة أخرى، واجمعهم أحياناً حتى تقام هذه الشريعة، ويتعلم هؤلاء منك كيفية الصلاة، يتعلمون الاطمئنان في الصلاة منك وأنت تصلي بهم، ويتعلمون قراءة القرآن في الصلاة منك وأنت تقرأ بهم، وتصحح كثيراً من الأخطاء في الصلاة إذا أنت أممتهم فصليت بهم، كما ثبت أنه عليه الصلاة والسلام صلى ببعض المسلمين في بيوتهم رجالاً ونساءً وأطفالاً، وعلمهم كيفية الصلاة. نصيحة: اجعل النوافل من الصلوات في بيتك تنفيذاً لأمره عليه الصلاة والسلام: (إذا حضر أحدكم الصلاة في مسجده، فليجعل لبيته نصيباً من صلاته؛ فإن الله جاعل في بيته من صلاته خيراً) أي أن هذه الصلاة هي سبب خير للبيت عموماً، لكن ما هي الصلوات التي تجعل في البيت؟ هي ما سوى الفرائض، لأن الفرائض للرجال مكانها في المسجد، قال عليه الصلاة والسلام: (أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة) ويقتدي أهل البيت عملياً بالرجل وهو يصلي في بيته. نصيحة: وتجعل المرأة صلاتها كلها في بيتها، وكلما كانت داخل البيت كلما كان أفضل، قال صلى الله عليه وسلم: (صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في حجرتها) ولذلك كلما كانت أعمق في البيت وكانت أستر كانت صلاتها أفضل.

كيفية التربية الإيمانية

كيفية التربية الإيمانية ولابد -أيها الإخوة- أن نتكلم عن التربية الإيمانية لأهل البيت لأننا مسئولون عنهم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6] كيف تكون التربية الإيمانية؟ إليكم هذا المثال:

حث الأهل على الصلاة في الليل بالتي هي أحسن

حث الأهل على الصلاة في الليل بالتي هي أحسن عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل فإذا أوتر قال: (قومي فأوتري يا عائشة) رواه مسلم في صحيحه فكان يصلي في الليل ويوقظ عائشة يقول: (قومي فأوتري) فلابد أن تتربى الزوجة كما يتربى الزوج على هذه النواحي، وقال صلى الله عليه وسلم: (رحم الله رجلاً قام من الليل، فصلى فأيقظ امرأته فصلت، فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل، فصلت فأيقظت زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء) فلابد من الاعتناء بالصلاة، والمحافظة على الوقت والكيفية والخشوع. وكذلك فإن بعض الزوجات إذا رأت زوجها نائماً بعد رجوعه من العمل وحان وقت صلاة العصر، تقول في نفسها مما يوحي إليها الشيطان: اتركيه لينام ويرتاح، فإنه عائد الآن من العمل وهو متعب؛ فتتركه فتضيع عليه صلاة الجماعة في المسجد، وهذا لا يجوز، فلابد لها من إيقاظه؛ لأنه أمر بالمعروف، وهذا المعروف واجب وهو الصلاة في المسجد للرجل. وكذلك فإن بعض الرجال قد يذهب لصلاة الفجر في المسجد، فيترك زوجته نائمة، ويجلس في المسجد فلا يعود لإيقاظها، لا هو يوقظها قبل أن يذهب ولا بعد أن يعود قبل خروج الوقت، فيرجع إلى البيت وتكون زوجته نائمة والشمس قد أشرقت. وبعض الناس أيضاً مستعد أن يوقظ ولده مبكراً في موسم الامتحانات، يعتني بإيقاظه للمدرسة ولا يعتني بإيقاظه للصلاة ويقول: مسكين! دعه ينام، وتقول الأم: هذا ولدي أرحمه فأتركه، ويضيع الصلوات. أي رحمة هذه؟ الرحمة الحقيقية أن يؤمروا جميعاً بالصلاة، ومن التربية الإيمانية لأهل البيت الصيام والتواصي به. نصيحة: أن يهتم الرجل بزوجته في العبادات، فمثلاً: يأمرها بالصلاة لأوقاتها، يعلمها كيفية الصلاة، ويتواصى معها في الصيام، ويوصيها بسرعة القضاء، ويتابعها في ذلك؛ فإن كثيراً من الزوجات يدركهن رمضان الجديد وعليهن أيام من رمضان الماضي، مع أنه لا يجوز تأخير قضاء رمضان الماضي حتى يدخل رمضان الجديد دون عذر، وهذه مسئولية مشتركة مع الزوج؛ لابد أن يذكر زوجته بالقضاء. وفي شهر رمضان لا يجعل البيت مطبخاً لجميع أنواع الأكل والشراب، لابد من الاقتصاد في الطعام وعدم التبذير، الطبخ الجيد نعمة، لكن لا تبذير ولا إسراف، ونحن قادمون على شهر نسأل الله أن يبلغناه جميعاً، فلنتواصى بهذه المسألة ألا يكون بيتنا في رمضان معرضاً للمطعومات والمشروبات، وإنما يكون خلية ذكر، ومكان عبادة يتجلى فيه أثر هذا الصيام.

حث أهل البيت على الزكاة والصدقات

حث أهل البيت على الزكاة والصدقات ويتابع أهله بالزكاة من مالها وحليها ويحثها على الصدقة، ويقول لها: (يا معشر النساء تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار) هذا حديثه صلى الله عليه وسلم، وإن لم يكن لها مال فيعطيها من ماله الخاص مصروفاً لها لتتمكن من الصدقة إذا حثها على الصدقة، ولك الأجر أنت أيضاً إذا أعطيتها هذا المال، وهي مأجورة أيضاً؛ لأنها تملك المال بالهبة وهي تتصدق منه. والعناية بالأذكار وحفظها، والعناية بمواسم العبادات كالعشر الأواخر والحج والعمرة، وأن تحثها على جلسات الخير مع صويحباتها. نصيحة: ومن إصلاح البيت حث أهله جميعاً؛ كباراً وصغاراً، رجالاً ونساءً على الصدقة، وقد اقترح بعض الأخيار أن يوضع صندوق لجمع الصدقات في البيت خصوصاً إذا كان أهل البيت كثيراً عددهم، ثم يتولى واحد إيصال هذه التبرعات لأهلها، وإيصال هذه الصدقات لمستحقيها.

نشر العلم الشرعي في البيت بطرق مختلفة

نشر العلم الشرعي في البيت بطرق مختلفة نصيحة: ولابد من تعليم العلم الشرعي لأهل البيت، والحرص على ذلك ما أمكن، ولذلك قال المفسرون في قوله تعالى: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:6] قالوا: حق على المسلم أن يعلم أهله من قرابته وإمائه وعبيده ما فرض الله عليهم وما نهاهم عنه. وقال علي: علموهم وأدبوهم. وقال الكيا الهراسي الطبري رحمه الله: فعلينا تعليم أولادنا وأهلينا الدين والخير وما لا يستغنى عنه من الأدب. ولأجل ذلك لابد من سلوك الوسائل لهذا التعليم، قال البخاري رحمه الله: باب تعليم الرجل أمته وأهله، ثم أتى بحديثه عليه الصلاة والسلام: (ثلاثة لهم أجران: فذكر منهم: ورجل كانت عنده أمة فأدبها فأحسن تأديبها، وعلمها فأحسن تعليمها، ثم أعتقها فتزوجها فله أجران) قال ابن حجر في شرح الحديث: مطابقة الحديث للترجمة للأمة بالنص، وفي الأهل بالقياس، وإذا كان تعليم الأمة حث عليه الشرع وهي أمة فما بالك بالحرة من أهل بيتك، إذ الاعتناء بالأهل الحرائر في التعليم من فضائل الله وسنن رسوله آكد من الاعتناء بالإماء، ومن هذا تخصيص يوم لتعليم أهل البيت. نصيحة: قال البخاري رحمه الله: باب هل يجعل للنساء يوم على حدة؟ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (قالت النساء للنبي صلى الله عليه وسلم: غلبنا عليك الرجال فاجعل لنا يوماً من نفسك. فوعدهن يوماً لقيهن فيه، فوعظهن وأمرهن -طبعاً وهن متحجبات أو من وراء حجاب-) وفي رواية لـ سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة (فقال صلى الله عليه وسلم: موعدكن بيت فلانة، فأتاهن فحدثهن). فإذاً -أيها الإخوة- لنجعل لأهلينا مواعيد معينة نعلمهن فيها آيات الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأنا أوصيكم بأن تجعلوا في هذه الحلق تفسيراً وحديثاً وفقهاً، وأقترح عليكم ثلاثة كتب تجعلوها مناهجاً لتدريس النساء والأهل في البيت: فأولها: تفسير مبسط سهل، ميسر وشامل، وهو تفسير الشيخ العلامة عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي رحمة الله عليه تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان. وثانياً: كتاب رياض الصالحين لما يشتمل عليه من الأحكام والآداب وأبواب أعمال القلوب المختلفة. وثالثاً: كتاب عظيم صنفه العلامة صديق حسن خان رحمة الله عليه من علماء البلاد الهندية هذا الكتاب اسمه حسن الأسوة بما ثبت عن الله ورسوله في النسوة كتاب عظيم جامع، تنتقي منه أبواباً تقرأ منه على أهل بيتك، أوصيكم بهذا الكتاب فإنه كتاب عظيم في شأن وأمر النسوة. ولابد أن تعلم النساء في البيوت أحكام الطهارة والدماء والصلاة وأحكام الأطعمة والأشربة، سنن الفطرة، من هم المحارم، من الذين تكشف أمامهم، ومن الذين لا تكشف عليهم، وأحكام اللباس والزينة؛ لأنها تتعرض كثيراً لأحكام الأطعمة والأشربة واللباس والزينة. وكذلك تعلم الأحكام في كثير من المنكرات: حكم الغناء حكم التصاوير وهكذا. نصيحة: ومن هذه السبل: تذكير الأهل بالدروس والمحاضرات العامة، ومعارض الكتب التي تخصص فيها أيام للنساء. نصيحة: ومن السبل لتعليم أهل البيت لإصلاح الأوضاع في البيت: جعل مكتبة إسلامية في البيت، وهذه قضية مهمة، ومسألة عظيمة، تخصيص ركن في البيت، في مجلس عام منه، مثل المجلس الذي يجتمع فيه أهل الدار، توضع فيه مكتبة بمظهر جذاب وأنيق، توضع فيها الكتب المناسبة والملائمة لمختلف المستويات، كتب تصلح للكبار، وكتيبات للصغار، وكتب للرجال وأخرى للنساء، وكتب للإهداء، حتى لو زارك ضيف تهديه بعضاً من هذه الكتب، وتفيد الأولاد في المدارس، وفي قراءتهم الخاصة، وتستغل معارض الكتب لإنشاء هذه المكتبات البيتية، أو توضع غرفة قراءة في البيت إن أمكن، وتوضع بعض الكتب في غرفة النوم؛ لأن بعض الناس قد يستغلون أوقاتهم قبل النوم في قراءة بعض الكتب، وكثير من العقلاء ينهي كتباً بأكملها من جراء ما يقرأ يومياً قبل أن ينام ولو ربع ساعة، فيتجمع عنده علم طيب من وراء استغلال الأوقات. ويدرب أولادنا على ترتيب هذه المكتبة وعدم رمي الكتب وإلقائها، والحرص عليها، وتكون هذه الكتب جذابة في طباعة نظيفة حتى تكون النفس مقبلة على قراءتها هذه الكتب سبق أن ذكرنا بعضاً مما ينبغي أن يكون موجوداً في مكتبة البيت المسلم، في محاضرة بعنوان "شكاوي وحلول". نصيحة: إدخال الأشرطة الإسلامية للبيوت -في كل بيت مسجل ولا شك- وبعض المسجلات بأنواع رهيبة من سعتها وقوة مكبراتها، فبما أنه يوجد في البيت مسجلات فلابد أن يوجد في البيت أشرطة إسلامية، وهذا الفراغ في المسجل إذا ما ملأته بشريط نافع سيملأ من ورائك بشريط خبيث، وهذه الأغاني التي تلعلع في بيوتنا وأصوات الشيطان وألحانه من وسائل إفساد البيوت لابد من إيجاد البدائل الإسلامية لهذه الأشياء، أشرطة القرآن المسجلة بأصوات خاشعة مثل ما يقرأ في صلاة التراويح من أصوات بعض الأئمة، فإن صوت القارئ في الصلاة بالقرآن أخشع من قراءته خارج الصلاة. وأشرطة فتاوى العلماء أيضاً لابد أن يحرص على إيجادها في البيت، مثل فتاوى الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله، وفتاوى الشيخ محمد ناصر الدين الألباني حفظه الله، وفتاوى الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين وغيرهم من العلماء، وبدلاً من أن تدار إبرة الراديو -المذياع- على الإذاعات السيئة التي تلقي إلى أسماع أولادنا وأهلينا بالسموم، فإن المقترح أن تجعل إبرة المذياع مثبتة على إذاعة القرآن الكريم مثلاً حتى يستمع أهل البيت للأشياء النافعة. الحرص على الأشرطة الموثقة التي يهتم المحاضر فيها بتوضيح العقيدة السليمة، وصحة الأحاديث، وعرض المنهج الصحيح والوعظ السليم بالطريقة السليمة، وتبيين الأحكام، والأشرطة التي تعالج الموضوعات الاجتماعية، وقد كثرت والحمد لله، ولكن عليكم بالانتقاء فإنها الآن قد كثرت، وليست كلها تصلح للاستماع أو قل: إن سماع بعضها اشتغال بالمفضول عن الفاضل؛ ولذلك فاجعل هذه الأشرطة مثار انتباه لأولادك، والأولاد يقبلون على السماع ولا شك، ويحفظون من الأشرطة أشياء عجيبة، طفلك ذاكرته خالية يحفظ أشياء عجيبة، فاحفظ هذه الأشرطة لهم، واجعلها مصونة لا تكسر وتصبح ملعباً للأولاد. وتوضع لربات البيوت في المطبخ -مثلاً- مسجل وأشرطة تستمع لها، أو عند النوم كما يحلو لبعضهم أن يفعل.

دعوة الصالحين من الدعاة والعلماء إلى البيت

دعوة الصالحين من الدعاة والعلماء إلى البيت نصيحة: احرص على دعوة الصالحين للبيت؛ من طلبة العلم والأخيار والدعاة إلى الله عز وجل الذين تعمر بهم المجالس، وتثار بحضرتهم النقاشات المفيدة والنافعة، إذ أن بحضورهم يجلس الأولاد والكبار، بل إن بعض الآباء إذا دعا ولده شيخاً أو طالب علم أو خيراً من الأخيار أو داعية جلس الأب، وصارت فرصة للأب أن يجلس مع هذا الرجل، ويأخذ عنه أموراً كان غافلاً عنها أو جاهلاً بها، ويستمع النساء من وراء الحجاب لما يقوله هذا الشخص في المجلس، وإن لم يمكن فإن على هذا المسئول عن البيت أن يلخص لأهله ما قاله هذا الرجل الخير في مجلسهم بعد ذهابه، ويقول لهم: إن فلاناً عندنا فهل لديكم أسئلة تريدون معرفة إجابتها؟ إن دعوة الأخيار إلى البيوت زيادة على ما فيها من الفائدة؛ فإن فيها إشغالاً للمجالس عن أهل السوء، قال نوح عليه السلام: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح:28].

تجنيب البيت دخول أهل السوء

تجنيب البيت دخول أهل السوء نصيحة: إياك وإدخال أهل السوء إلى البيت، لا يجوز إدخال الفسقة الفجرة الذين ينقلون السموم سواءً كانوا رجالاً أو نساءً إلى البيت، ولا يجوز للمرأة أن تدخل إلى بيت زوجها من لا يرضى زوجها أن يدخل. كثير من البيوت تحطمت بسبب دخول عناصر مفسدة إلى البيت، كثير من العلاقات الزوجية شابتها ظلمات من النكد والمشكلات بسبب دخول بعض الجارات من صاحبات النميمة والغيبة إلى البيوت، وكثير من الرجال أهملوا بيوتهم، وفسقوا وعصوا ربهم، وضيعت عوائل بسبب جلساء السوء الذين يدخلون إلى المجلس وتشرب فيه المنكرات، ويلعب فيه باللعب المحرمة التي أقل ما يقال فيها أنها تضيع الأوقات. وبعض البيوت حصلت فيها سرقات، وبعضها حصل فيها وضع للسحر الذي يفرق به بين المرء وزوجه، من دخول هذه العناصر المشبوهة إلى البيت، ولو كان أقرب قريب، إياكَ وصديق السوء، إياكِ وجارة السوء. بعض الناس يسكتون تحت الإحراج فيسمحون لمن هب ودب بالدخول، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يحذر النساء يوم خطبة عرفة: (يا أيها الناس أي يوم أحرم؟ أي يوم أحرم؟ أي يوم أحرم؟ قالوا: يوم الحج الأكبر. قال -من خطبته فيهم-: فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون، ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون، ألا وإن حقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن). وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد والبخاري: (أخرجوا المخنثين من بيوتكم) وهذا المخنث الذي ليس برجل ولا امرأة يحدث فيه تساهل من الدخول على النساء، ويصف النساء اللاتي في البيوت للرجال الأجانب، ولذلك هين المخنث الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا فتح الله عليك الطائف فإن عليك بابنة فلان؛ فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان -يعني عكن البطن- هذا بعده مباشرة عليه الصلاة والسلام أخرجه من بيته، ومنعه من دخول بيته، لأن معنى ذلك: أنه كما وصف بنات الناس سيصف نساءه يوماً من الأيام؛ فلذلك لا يدخل هؤلاء في البيوت.

نصائح في العلاقات الاجتماعية

نصائح في العلاقات الاجتماعية وأما بالنسبة للعلاقات الاجتماعية نصيحة: أيها الولي في البيت، أيها القائم بأمر البيت عليك بدقة الملاحظة لأحوال أهل بيتك، عليك بملاحظة من يتصل بأولادك، من يعاشر نساءك، التعرف على أصدقاء الأولاد، ماذا يجلب للأولاد معهم من خارج البيت، ماذا يوجد في أدراجهم وتحت وساداتهم وتحت فرشهم وأسرتهم؟ إلى أين تذهب ابنتك ومن تزور؟ أليس يحدث أنها تزور أحياناً بعض الفاسقات يعلمنها من المحرمات شيئاً عظيماً؟ وبعض الأولاد يحضرون إلى البيوت الصور والأفلام الخليعة والدخان، وبعضهم يدخل الحبوب والمخدرات إلى بيته والعياذ بالله، والأب نائم يغط في غفلة عظيمة، أتينا من وراء عدم الانتباه إلى ما يدخل البيوت؛ مجلات مفسدة وأفلام تدخل البيوت من غير رقابة من ولي الأمر في البيت، إذا كان أبوك مهملاً أنت أيها الولد الصالح كن رقيباً على البيت.

فن مراقبة الأبناء وجلسات المصارحة

فن مراقبة الأبناء وجلسات المصارحة ولكن ننبه أيها الإخوة إلى قضية تربوية وهي أن المراقبة يجب ألا تكون بطريقة إرهابية كما يفعل البعض، بل إن المراقبة الناجحة هي التي تتم دون شعور الأولاد، هم يشعرون أنك حازم، أنك تتابع الأمور، لكن لا تجعل الجو في البيت إرهابياً، فتقوم بتفتيش مفاجئ وهم في البيت، وتعمل أشياء تشبه ما يحدث في الأفلام البوليسية، ولكن عليك بأن تنصح، أو تعاقب إذا لزم الأمر، وتعظ بدون أن يكون هناك سلبيات في هذه المراقبة والملاحظة. وأذكر لكم قصة رجل كان عنده شيء زائد من هذا التدقيق فأدى إلى كرهٍ له من قبل أولاده، كان لديه في البيت كمبيوتر، ووصل به الأمر إلى أنه يخزن في هذا الكمبيوتر أخطاء أولاده، وإذا حصل شيء من أحد أبنائه: استدعاه بمذكرة، وفتح الجهاز وفتح الصفحة والخانة قال: أنت عملت كذا وكذا وأنت عملت كذا وكذا، وسجل هذه الجديدة مثل هذه الطرق التي لا تحدث في كبريات الشركات، ينبغي ألا تكون أيضاً من السلبيات التي تحدث في مراقبة بعض الآباء والأولياء لتصرفات أبنائهم، بل تكون مراقبة عن بعد، وإذا حدث شيء أو شعرت بشيء يمكن أن تبحث خفية، ثم تعظ وتنصح وتوجه، وتعاقب إذا لزم الأمر ذلك. نصيحة: عليك بالاهتمام بالجلسات الفردية، جلسات المصارحة بينك وبين أولادك أو زوجتك، أو بين الأم وبناتها وأولادها، جلسات المصارحة التي تقول فيها للولد أشياء كثيرة، جلسات المصارحة التي يحس الولد من خلالها أنك تحبه، أنك تحرص على مصلحته، أنك تريد الخير له، وتكون بمعزل عن بقية الناس، لا يكون فيها تشهير، ولا تحطيم لمعنوياته وشخصيته.

أهمية تنظيم شئون البيت

أهمية تنظيم شئون البيت نصيحة: الحزم في تنظيم أوقات أهل البيت، وبعض الناس بيوتهم مثل المطاعم والفنادق؛ متى ما جاء فلان أكل، ومتى ما شاء فلان دخل، ومتى ما شاء فلان نام، ومتى ما شاء فلان استيقظ، وترى الأولاد يضيعون أوقاتهم في السهر، وفي أشياء ضارة من إدخال الطعام على الطعام؛ ولذلك لابد من الحزم في تنظيم الأوقات لأهل البيت، وليس هناك شيء اسمه التأخر عن البيت في غير طاعة الله عز وجل. نصيحة: احرص على جعل أوقات تناقش فيها الأمور والمشكلات العائلية، وليس المقصود عمل اجتماعات عمل كما يقع في بعض الشركات، وإنما المقصود اختيار الوقت المناسب عند اجتماع الأهل والأولاد في البيت مثلاً فتناقش فيها مثلاً قضية عمرة رمضان، أو قضية الحج، أو سفر الإجازة، أو زيارة أقرباء لكم، أو زيارتكم لهم، أو تنظيم عرس، أو وليمة، أو عقيقة، أو مساعدة الجيران أو الفقراء في الحي؛ مشاريع خيرية، إرسال الطعام، مناقشة أوضاع العائلة وتطويرها، والإسهامات في حل مشكلاتها، إذا كانوا لا يرون بعضهم كثيراً، لابد أن تناقش المشكلة لننظر كيف يرون بعضهم. أيها الإخوة بعض البيوت فعلاً مثل الفنادق، كل واحد له غرفة بمفتاح وانتهت القضية، لا يرون بعضهم ولا يجتمعون مع بعضهم، تقطعت بهم الأسباب، ولابد أن يحاول ولي الأمر في بيته استشارة وأخذ رأي أهل البيت، خصوصاً في الأمور المهمة كنقل البيت مثلاً، فلا يفاجئون بقرار مفاجئ بنقل البيت دون أن تؤخذ آراؤهم في مثل هذه القضايا. ولا بد أن تكون روح الجماعية مسيطرة على البيت، لا روح الاستبداد والأحكام التعسفية.

عدم إظهار الخلافات مع الزوجة أمام الأبناء

عدم إظهار الخلافات مع الزوجة أمام الأبناء نصيحة: إذا حصل بينك وبين زوجتك خلافات فاحرص على ألا تظهر أمام الأولاد، وكثير من العقد النفسية تنشأ في أنفس الأطفال من كثرة ما يشاهدون من الخصومات بين آبائهم وأمهاتهم. لو أردت أن تثور فتجنبه أمام ولدك، طبعاً قد يكون مثالياً لكن لابد أن نحرص عليه، والجميع عرضة للخطأ، لكن لا بد أن نتواصى فيما بيننا على تلافي هذه القضية، ولابد من الحرص على تماسك البيت وسلامة البناء الداخلي، وما أعظم الجريمة التي تحدث أحياناً أن يقول الوالد لابنه: لا تكلم أمك! وتقول الأم لابنها: لا تكلم أباك!

ضوابط عمل المرأة خارج البيت

ضوابط عمل المرأة خارج البيت نصيحة: لابد من دراسة وضع عمل المرأة خارج البيت، وتأثير عمل المرأة على البيت، ويتنازع الناس في هذه المسألة عادة أمران سلبياته وإيجابياته. تجد الواحد بين سلبيات عمل المرأة خارج البيت وإيجابيات عمل المرأة خارج البيت، فمثلاً بعضهم يقول: عمل زوجتي خارج البيت مهم؛ لأنها تعبت على الشهادة ودرست، وخسارة أنها ترمي هذه الشهادة وتضيعها، وبعضهم يقول: تساعدني في البيت، قد يكون الزوج قليل ذات اليد، قد يكون هذا سبباً وجيهاً فعلاً لعمل المرأة، أو أن تساعد أهلها إن كانوا ضعفاء، أو أن تسلي على نفسها إن كانت غير ذات ولد، أو يكون لديها هدف كالدعوة إلى الله مثلما يقع من بعض المدرسات الفاضلات. ولهذه المسألة أيضاً جوانب سلبية: كعدم إعطاء الزوج حقه، وإهمال البيت، والتقصير في حق الأولاد، بالإضافة إلى الإرهاق الذي لا يناسب طبيعة المرأة وفطرتها. فماذا يفعل الإنسان حيال هذا الأمر؟ نقول: لابد أن يوازن بين المصالح والمفاسد، فإذا رأى أن المفاسد أكبر، وأن الأمور تسير من سيء إلى أسوأ، فلا داعي لأن تعمل المرأة، ونفضل السعادة على المال، وإن كانت السلبيات محتملة والإيجابيات كبيرة يمكن أن تعمل بالشروط الشرعية، وقد يكون الأفضل أن تعمل فترة من الزمن تساعد زوجها في بناء بيت مثلاً، ثم بعد ذلك تتوقف؛ لأنه يصير عندها من الأولاد ما يمنعها من إكمال العمل.

نصائح في أخلاقيات البيوت

نصائح في أخلاقيات البيوت أخلاقيات البيوت:- (إذا أراد الله بأهل بيت خيراً أدخل عليهم الرفق) وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله إذا أحب أهل بيت أدخل عليهم الرفق) حديثان صحيحان. البيت الذي فيه عنف وشدة؛ يكون بيت نكد وتعاسة وشقاء. البيت الذي يكون فيه رفق وسهولة في التعامل ويسر؛ يكون بيت سعادة، بيتاً يود الإنسان ألا يخرج منه، ويتمنى ويرقب متى يرجع إليه، ولذلك لابد من الحرص على الأخلاقيات في البيوت.

التواضع والرفق بأهل البيت

التواضع والرفق بأهل البيت نصيحة: تواضع الرجل في بيته، قالت عائشة رضي الله عنها: (كان صلى الله عليه وسلم يخيط ثوبه، ويخصف نعله، ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم) فما كان صلى الله عليه وسلم متكبراً، ولا كان يقول: هذا ليس لي شأن به، هذا من عمل المرأة، بل إنه كان يكون في مهنة أهله كما ورد في الحديث الصحيح، يساعدهم في العجن وفي الخبز، بعض الآباء يترفعون عن مساعدة زوجاتهم في البيوت، الأكل على النار والولد يصرخ ليرضع، فلا هو يريد أن ينتبه لهذا ولا هو يستطيع -طبعاً- أن يرضع الولد، فإذاً لابد أن يقوم الرجل بشيء من مساعدة أهله. نصيحة: عليك بملاطفة أهلك وممازحتهم مزاحاً حقاً، ومعاشرتهم بالمعروف، حتى لا يصبح في البيت تعاملات رسمية مثل الشركة، فإن البيت يختلف، بعض الآباء يدخلون بوجه كالح عبوس مقطب إلى البيت، إذا دخل سكت المتكلم، واستيقظ النائم، وخاف الآمن وهذا بيت لا يمكن أن يكون بيتاً سعيداً أبداً، ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان يداعب زوجاته ويلاعبهن، وكان يلاطفهن بالكلام، وكان يقول لـ عائشة كلاماً كثيراً، لعله يكون بسط هذا الكلام في موضوع "العشرة الزوجية" الذي سنتكلم عنه بعد رمضان إن شاء الله من خلال ما نناقش من مشكلات الحياة العائلية والزوجية بالذات. بعض البيوت -أيها الإخوة- كئيبة؛ لأن الآباء لا يلاطفون أولادهم، لا يعرف الطفل حنان الأب، ولا يعرف ملاعبة الأب، (كان صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر تلقي بصبيان أهل بيته) رواه أحمد ومسلم وغيرهما، وهو حديث صحيح يدل على حب الصبيان واشتياقهم له، فإنهم ما إن يسمعوا بمقدمه حتى يخرجوا لملاقاته صلى الله عليه وسلم.

أهمية مقاومة الأخلاق الرديئة

أهمية مقاومة الأخلاق الرديئة نصيحة: لا بد من مقاومة الأخلاق الرديئة في البيت، والقضاء على الكلمات والألفاظ البذيئة التي تدور كثيراً داخل بعض البيوت، انظر إلى العملية التربوية روى الإمام أحمد وغيره عن عائشة رضي الله عنها (أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا اطلع على أحد من أهل بيته كذب كذبة لم يزل معرضاً عنه حتى يحدث توبة) حديث صحيح. ومن الأمور المعينة على الأدب؛ ما أرشد إليه عليه الصلاة والسلام في الحديث عن الحسن (علق السوط حيث يراه أهل البيت فإنه أدب لهم) لأن الأعوج عندما يرى وسيلة العقاب يخاف، فبعض الناس الذين لا يصلحهم الوعظ، ولا تصلحهم النصيحة اللفظية والكلامية قد تصلحهم العقوبة، ودعوا عنكم نظريات الغرب الزائفة الذين يقولون: إن الضرب ليس وسيلة تربوية فيمنعونه بإطلاق، فإنه هراء، والدليل على نسف هذه النظرية قوله صلى الله عليه وسلم: (واضربوهم عليها لعشر) طبعاً نحن لا نقول: إن أول علاج يعمل في مواجهة السلبيات هو الضرب كلا. يعمد أحدكم إلى أهله يجلدهم جلد العبد ثم لعله يضاجعها بعد ذلك! لا يجوز، آخر شيء هو الضرب والعقوبة، لكن لابد من وضع شيء يشير إلى أن هناك احتمال استخدام العقوبة في وقت من الأوقات.

نصائح عن الأطفال في البيوت

نصائح عن الأطفال في البيوت الأطفال في البيوت:- ملاعبة الصبيان كما سبق وأن ذكرنا قبل قليل من سنته وهديه صلى الله عليه وسلم، وقد ورد في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، وتأملوا في شخصية نبينا صلى الله عليه وسلم، تأملوا في شمائله وأخلاقه، تأملوا في هديه وسنته، تأملوا في سيرته وطريقته: (إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدلع لسانه للحسن بن علي -أي يخرج لسانه للحسن بن علي - فيرى الصبي حمرة لسانه فيبهش إليه) في السلسلة الصحيحة رقم سبعين، ومعنى يبهش: أي يسرع، يقال: إذا نظر إلى الشيء فأعجبه واشتهاه فأسرع إليه يقال: قد بهش إليه.

تعليم الأبناء وتأديبهم واختيار القصص النافعة لهم

تعليم الأبناء وتأديبهم واختيار القصص النافعة لهم نصيحة: تعليم الأولاد وتأديبهم وإلقاء القصص عليهم قبل النوم وغيره. القصص أيها الإخوة لها وقع خاص جداً في نفوس الأطفال، وكثير من الآباء والأمهات لا يدركون هذه القضية، فيتركون أولادهم نهباً للقصص الغير مفيدة مثل قصص "ميكي ماوس" و"سوبر مان" وأحياناً بعض القصص غير الحسنة في مجلة ماجد وغيرها، يتركون أولادهم نهباً لهذه الأشياء، مع أن لدينا ثروة عظيمة جداً من القصص التي تزخر بها مصنفات المسلمين. ولا أجمل من أن يجمع الأب أولاده ليقص عليهم قصة، ولقد جربت بنفسي أن أقص مرة قصته صلى الله عليه وسلم مع الرجل والجمل الذي أرهقه صاحبه إرهاقاً شديداً، وقصة إبراهيم في تحطيم الأصنام وكيف أنقذه الله، وقصة موسى عليه السلام وكيف كان يتهادى ذلك الصبي على ماء النهر حتى وصل إلى بيت فرعون، وقصة عمر بن الخطاب مع المرأة وأولادها، لما كان عمر يعس في الليل مع صاحب له، فوجد خيمة بعيدة فيها امرأة عجوز وأولاد يبكون من الجوع فذهب وسألهم، ثم أتى وأدخل إليهم المئونة وطبخ لهم وأكلوا، ثم ذهب يتفرج عليهم من بعيد وهم يقفزون ويلعبون حتى ناموا، وقصة أصحاب الجنة في سور "ن" وقصة يونس عليه السلام في بطن الحوت هذه قد يكون لها انشداد كبير من الطفل، وأثر عظيم في نفسه. وتجنبوا القصص الخرافية، والقصص المخيفة التي ترعب الأولاد، وتجعلهم يستيقظون من الليل يصيحون، وتفسد واقعيتهم كما يحدث في كثير من أفلام الرسوم المتحركة.

ضوابط في ألعاب الأبناء

ضوابط في ألعاب الأبناء نصيحة: إياك وأن يخرج أولادك إلى الشارع للعب، اجعل لهم في البيت أمكنة يلعبون فيها، وإن كان ولابد يلعب مع أحد خارج البيت فاجعل هذا الولد يدخل إلى بيتك، أو يدخل ولدك إلى بيت الجيران إذا كان مناسباً وواسعاً، وهم أناس مستقيمون، فلابد من إيجاد الحياة الاجتماعية التي تناسب الطفل، أما أن يذهب إلى الشارع ويتعلم من أخلاق الشارع كما يحدث في كثير من أولادنا فهذه من المصائب العظيمة. إياك والمنكرات المتعلقة بالأطفال، شيء اسمه حفلة عيد الميلاد لابد أن يلغى نهائياً؛ لأنه تشبه بالكفار و (من تشبه بقوم فهو منهم). نصيحة: اهتم بألعاب أولادك، اهتم بأن تجعل لهم أشياء مشروعة يلعبون بها، تجنب الأدوات والألعاب الموسيقية، الألعاب التي فيها أرواح متقنة الصنع، وأما عرائس البنات المحشوة بالقطن والتي لها هيكل عام ويدين ورجلين ودائرة في الرأس هذا لا بأس بها، أما الأشياء المتقنة الصنع فتجنبها، وإذا رأيت على لعبة ولدك صليباً فاجعله هو يغيره بنفسه؛ ليتعلم الولد أن هذا أمر قبيح، واجعل له لعباً مسلية وهادفة، وتجنب ألعاب العنف التي تنشئ الأولاد على العنف، اجعل لهم غرفة يمارسون فيها هوايتهم، أو زاوية من البيت مثلاً، بعض الأولاد الذين يكبرون في السن نوعاً ما قد يحبون الأشياء الميكانيكية، قد يحبون الأشياء الإلكترونية، قد يحبون أن يشتغلوا في نجارة شيء ما، أو إصلاح أشياء معينة، لا بأس أن يجعل لهم هذه الأشياء، وتجعل لهم خزائن يضعون فيها ألعابهم وأدراج يرتبونها فيها لأن هذه في الحقيقة تدرأ عن أولادنا مصائب كثيرة جداً، من الأفلام والأشياء التي تغزو بيوتنا من وسائل الشر والفساد.

التفريق بين الأبناء في المضاجع

التفريق بين الأبناء في المضاجع نصيحة: (وفرقوا بينهم في المضاجع) هذا شيء من صميم البيت وذلك بين الأولاد والبنات، وحتى بين الأولاد أنفسهم والبنات أنفسهن، وإلا فإن هناك كثيراً من الظواهر السيئة تحدث في البيوت نتيجة عدم التفريق، وهذه من الأشياء التي تميز بيوت المسلمين عن بيوت الكفار.

نصائح في المنكرات داخل البيوت

نصائح في المنكرات داخل البيوت نصيحة: الاهتمام بملابس المرأة في البيت أمام محارمها، فبعض الناس يطلقون لنسائهم في البيت العنان، تلبس ما فوق الركبة، وما يظهر وسط الظهر، وما هو ضيق يجسد العورة مثلاً وهذا حرام لا يجوز حتى أمام أبيها وأمام أخيها؛ حتى أمام أمها، لا يجوز أن تكشف عورتها، ولذلك تستر البنت نفسها أمام إخوانها، فمثلاً تظهر شعرها، وجهها، عنقها، أعالي الصدر، أعالي موضع القلادة الذراعين، القدمين نعم لا بأس، لكن لبس القصير جداً في البيوت من المنكرات.

حكم دخول الأقارب من غير المحارم

حكم دخول الأقارب من غير المحارم نصيحة: لا بد من مراعاة أحوال الأقارب من غير المحارم الذين يعيشون في البيت، فبعض الناس قد يسكن هو وأخوه في بيت واحد، بعض الناس يسكن مع عمه أو مع خاله في بيت واحد، أخو الزوج ليس محرماً، خال الزوج ليس محرماً للزوجة، عم الزوج ليس محرماً للزوجة، فلا يجوز لهؤلاء أن يختلوا بالنساء في البيوت، قال صلى الله عليه وسلم: (إياكم والدخول على النساء. قالوا: يا رسول الله! أرأيت الحمو) الحمو قريب الزوج، إذا كان الزوج غير موجود هل ينتظر على الباب؟ قال: (الحمو الموت) مبيناً خطورة هذه القضية. وكثير من المصائب حدثت فعلاً؛ عندما لم يهتم أرباب البيوت بالذين يدخلون في بيوتهم من الأقرباء من غير المحارم، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يبيتن رجل عند امرأة في البيت إلا أن يكون ناكحاً أو ذا محرم) كخالها، عمها، جدها، ذي محرم.

نصيحة عن سكن السائقين والخدم مع أهل البيت

نصيحة عن سكن السائقين والخدم مع أهل البيت نصيحة: السائق وما أدراك ما السائق؟ الأصل أيها الإخوة ألا يكون هناك أجانب في البيت، الأصل ألا نأتي بسائقين ولا نأتي بخدم فيبقى البيت خالياً من اللوثات، ولكن افرض أنك اضطررت وأصبحت تحت الأمر الواقع، فعلى الأقل لابد أن يكون السائق مسلماً أميناً، لا يؤتى به إلا عند الضرورة، لا يترتب على وجوده في البيت فتنة، أن يكون مسكنه ليس داخل البيت مع الناس الذين في البيت، أن يؤتى بزوجته معه. وكذلك الخدم في البيوت، فهم من المصائب التي ابتليت بها بيوت المسلمين، الآن يوجد خدم يترتب على وجودهم في البيوت من المعاصي التي لا يعلم بها إلا الله، فساد وخراب لا يعلم به إلا الله، ولنا في التاريخ عظة: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ} [يوسف:23] بعض الناس يظن الشر من الخادم والسائق، بعض الأحيان يكون السائق مسكيناً والخادم مسكيناً، ويكون الشر من أين؟ {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ} [يوسف:23] كان الزوج غائباً في العمل، وفي صحيح البخاري: (إن ابني كان عسيفاً عند هذا فزنى بامرأته) حدثت شكوى عند الرسول صلى الله عليه وسلم يقول هذا: كان ولدي خادماً عند هذا فزنى بامرأته، فأخبرنا ما هو الحكم يا رسول الله؟ هذا لأن هناك تساهل فيدخل الخادم البيت وهذه شبهة. وكذلك الخادمة، خراب بيوت، أولاد زنا، فساد العلاقات الزوجية، لو حدث أن أصبحت عندك خادمة -واحرص على ألا يحدث- فعلى الأقل تكون مسلمة، فإن لم تسلم فرحلها فوراً (أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب) فما بالكم بغير اليهود والنصارى من الوثنيين وعباد الأوثان، وعباد الكواكب وعباد البقر؟ وأن تكون متحجبة لا تبدي مفاتنها للشباب في البيت، لا يكون هناك خلوة، ولا يكون هناك أثر سيء على الأولاد. أيها الإخوة إنني أرى أنه لا يصلح أن نسوق إليكم القصص التي فيها المفاسد التي حدثت في البيوت من وراء الخدم؛ لأنني لو رويت لك الآن قصصاً عن مفاسد البيوت من الخدم والخادمات فماذا زدتك أنا؟ أزيدك قصة وأنت تعرف قصصاً، ليست القضية الآن سرد قصص عن المنكرات من وراء وجود الخدم، ولكن المهم الآن علاج الموقف، المهم الآن استدراك الخطر، المهم أن نعرف كيف نفعل، ليس أن تسفر الخادمة بعد فوات الأوان {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:6] تأتي بأسباب الفتنة وتضعها في البيت! لو اضطررت يا أخي كأن تكون الزوجة حاملاً عندها أربعة أولاد، فهي بذلك لا تستطيع أن تعمل، فيمكن أن يكون هناك رجل تكون أنت في البيت وهو ينظف البيت، ويمكن أن توجد خادمة تدور على مجموعة من البيوت ولا تكون مستقرة في البيت، تستأجر لساعات تفعل الغرض وتمشي، نستخدم المغاسل السريعة، نستخدم أطباق الورق، لابد أن نحل المشكلة. تقول أسماء امرأة الزبير؟ [كنت لا أحسن العجن، فكن نسوة من الأنصار يعجن لي].

خطر الهاتف وأهمية مراقبته

خطر الهاتف وأهمية مراقبته نصيحة: مراقبة الهاتف في البيوت. كم جر الهاتف على بيوت من مصائب! وكم كان الهاتف سبباً في تدمير بيوت بأسرها! وكم كان سبباً في إدخال الشقاء والتعاسة إلى أفراد وبيوت المسلمين! أو جر بعض الأفراد وجرهن إلى مهاوي الرذيلة والفساد، وأقل ما فيه من بعض المفسدات أنه مضيعة للوقت في بعض الأحيان. ما هي خطورة الهاتف؟ أنه منفذ مباشر من خارج البيت والأسوار والجدران إلى داخل البيت هذه خطورة الهاتف. ولذلك فهو آلة ذو حدين، إذا لم يحسن استخدامها عمت المعاصي وانتشرت المنكرات، ولا داعي أن أسرد عليكم كثيراً من القصص التي كان فيها عدم الرقابة عليه من جهة أولياء الأمور في البيوت سبباً في مصائب عظيمة لا يعلمها إلا الله، لا بد أن يكون هناك وعي ورقابة. يا أخي عندما تسمع أصواتاً في الليل من الهاتف؛ البنت تتكلم الساعة الثانية عشرة في الليل فاعلم أن هذا شيء غير طبيعي! أين الغيرة على النساء؟! وكذلك عندما يمسك الهاتف ساعات طويلة جداً. والشريعة الإسلامية كفيلة بجعل استخدام هذا الجهاز صحيحاً حتى لو غاب رب الأسرة، وآخر الدواء الكي، لو لم يكن إلا فصل حرارة الهاتف فصلناه. واحرصوا على عدم تخون أهليكم، بعض الناس يقول: مع من كنت تتكلمين؟! اليوم أنا اتصلت من العمل ثلاث مرات وكان التلفون مشغولاً في أوقات مختلفة فاعترفي! وهذا أسلوب التخوين أسلوب سيء جداً يهدم العلاقات.

إزالة المنكرات أو الإتيان بالبديل

إزالة المنكرات أو الإتيان بالبديل نصيحة: واحذروا الاختلاط في البيوت عند زيارات الأصدقاء والزيارات العائلية، جلوس غير المحارم مع نسائكم في البيوت، هذه المصائب والله، وهذا حرام لا يجوز، وقد قدمنا من الأدلة ما يشير إليه. إزالة المنكرات من البيوت؛ التلفزيون، الفيديو الذي يعرض الأفلام السيئة، لو لم تتمكن من إزالة هذه المنكرات؛ فعليك أن تأتي بالبدائل. متى لا يمكنك الإزالة؟ بعض الناس يلعب عليهم الشيطان يقول: لا أستطيع أن أزيله، ونقول: بل تستطيع أن تزيله، لكن أحياناً ييقول الشخص: أنا لست صاحب سلطة في البيت هنا فعلاً قد تعجز عن إزالة منكر، لو كسرته أتوا بأحسن منه، لو أخرجته أتوا بآخر أو أخرجوك أنت، وعند ذلك لابد من الحرص على إيجاد البدائل، أعط إخوانك الصغار بدل ما هم يتفرجون على هذه الأفلام أشرطة ألعاب في الكمبيوتر، بعض الألعاب قد تجدها سيئة، وبعضها ليس فيها شيء ولا حرج فيها، هات أفلام فيديو فيها محاضرات إسلامية تشغلهم عن الأشياء الأخرى السيئة هذا لو ما استطعت أن تخرجه أصلاً. والحذر من وسوسة الشيطان، فإن بعضهم يحتج بأجهزة الكمبيوتر يقول: أرى فيها الطنطاوي أو الشعراوي حسناً.

إخراج التماثيل والصور ذوات الأرواح

إخراج التماثيل والصور ذوات الأرواح نصيحة أخرى: من إزالة المنكرات إخراج الأصنام والتماثيل وصور ذوات الأرواح، قال صلى الله عليه وسلم: (إن البيت الذي فيه صور لا تدخله الملائكة، أتاني جبريل فقال: إني كنت أتيتك البارحة فلم يمنعني من أن أكون دخلت عليك البيت الذي كنت فيه إلا أنه كان على البيت تماثيل وكان في البيت قرام ستر فيه تماثيل فمر برأس التمثال الذي في البيت فيقطع، فيصير كهيئة الشجرة، ومر بالستر فليقطع فيجعل وسادتين منبوذتين توطآن) حديث صحيح، معناه: إخراج هذه الأشياء من البيوت، إخراج ذوات الأرواح، التماثيل، الصور المعلقة على الجدران، إذا كان ولا بد فأعطهم بدائل؛ صور مناظر طبيعية، أشجار، أنهار، صورة المسجد الأقصى، من الصور التي لا محذور شرعي فيها، إذا كان ولابد عندهم من وضعها على الحيطان. وإخراج الكلب من البيت، وبعضهم يستهين بوضع الكلاب في البيت، وفي حديث صحيح: (لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها، فاقتلوا منها كل أسود دهيم، وما من أهل بيت يرتبطون كلباً إلا نقص من عملهم كل يوم قيراط؛ إلا كلب صيد أو كلب حرث أو كلب غنم) كلب الحراسة لا بأس به للضرورة، أما تقليد الكفار بوضع الكلاب في البيوت (فمن اقتنى كلباً ليس بكلب صيد ولا ماشية ولا أرض؛ فإنه ينقص من أجره قيراطان كل يوم) رواه مسلم. من إزالة المنكرات في البيوت: منع استخدام الأشياء المحرمة كالتدخين والشيشة وغيرها ابتداءً وانتهاءً، بعض الناس يتساهلون مع الضيوف، يا أخي ضع ملصقات وصرح، إذا جاء يدخن قل: لا مجال للتدخين عندي في البيت، لا أسمح لك، ليس هناك في البيت الإسلامي طفايات ولا ولاعات ولا منافذ سجائر.

في أحكام البيوت

في أحكام البيوت نذكر الآن طائفة من أحكام البيوت: ومن أحكام البيوت: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27]. حكم آخر: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} [النور:29] {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النور:61] {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} [البقرة:189] ولما تحرج بعض الصحابة من الأكل في بيوت أقربائهم إذا لم يكن القريب في البيت أنزل الله عز وجل في رفع الحرج: {وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ} [النور:61] لو كان غير موجود وأنت تعلم أنه راض أن تأكل في بيته -طبعاً بدون ما يكون في وجودك حرام مثل الخلوة- فلا بأس أن تأكل من ذلك البيت كما هو نص الآية.

استئذان الأطفال والخدم قبل الدخول

استئذان الأطفال والخدم قبل الدخول من أحكام البيوت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ} [النور:58] أولادك الصغار والخدم لا يدخلون عليك في مضجعك في غرفة النوم إلا بعد استئذانك؛ حتى لا يكون الرجل أو الزوج والزوجة في وضع لا يصلح أن يراه الأطفال، فما هي هذه العورات الثلاث؟ {مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ} [النور:58] لأن الواحد إذا نام قد يكون متكشفاً {وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ} [النور:58] لأنه وقت قيلولة أيضاً {وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ} [النور:58] لأنه وقت النوم، فلا يدخلوا حتى يستأنوا، ولا يهجموا على المخدع وعلى البيت هجوماً على غرفة نوم الرجل مثلاً. {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور:59] أي: من الأطفال الذين من قبلهم الأجانب فيصبح الأولاد إذا بلغوا لا يدخل على أبيه وأمه حتى لو في غير هذه الأوقات الثلاث، وبعض الناس يتساهلون فتحدث تصرفات شاذة من الأطفال في البيوت، وأظنكم تعلمون وتفهمون ما أقصد.

بعض حقوق المرأة على زوجها

بعض حقوق المرأة على زوجها من الأحكام: حق المرأة على الزوج أن يطعمها إذا طعم، ويكسوها إذا كسا، ولا يهجر إلا في البيت، فلا يهجرها خارج البيت، فيتركها في البيت لوحدها، وعندما تهجر تهجر في الفراش. ثانياً: لا يجوز إخراج المطلقة الرجعية من البيت، لابد أن تجلس معك، لا تذهب بها عند أهلها إذا طلقتها، العدة في المرأة المطلقة الرجعية في البيت حتى يتمكن الزوج من المراجعة {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق:1].

فوائد وأحكام أخرى في البيت

فوائد وأحكام أخرى في البيت حكم آخر: لا يُؤم الرجل في سلطانه، ولا يُجلس في بيته إلا بإذنه، فلا تؤم صاحب البيت في بيته، ولا تجلس في البيت حتى تستأذنه، ولا تقم من البيت حتى تستأذنه. إذا مات الميت في البيت فالملائكة كما في الحديث: (فإن الملائكة تؤمن على ما يقول أهل الميت). القط في البيت إذا ولغ في الآنية قال صلى الله عليه وسلم: (السنور من أهل البيت، وإنه من الطوافين عليكم والطوافات) ولذلك لو شرب من إناء فالماء يبقى طاهراً وليس بنجس هذه خصوصية للقط. بالنسبة للأضاحي: على كل أهل بيت أن يذبحوا شاة في كل رجب -كما ثبت في الصحيح- واستحباباً، وفي كل أضحى شاة، وأهل البيت هم من يعيشون في بيت واحد. من الأحكام: من بات على ظهر بيت ليس عليه حجاب فقد برئت منه الذمة؛ لأنه قد يسقط ولا يوجد حاجز، قد يتدحرج أثناء النوم ويسقط. والرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن الوحدة: أن يبيت الرجل لوحده، فعليه أن يحرص أن يكون معه أحد آخر قدر الإمكان. كذلك: لا يجوز النظر من خلال أبواب البيوت، وإذا فقئت عين إنسان ينظر فليس لها دية.

نصائح متعلقة بسنن البيوت

نصائح متعلقة بسنن البيوت ومن السنن في البيوت: اقرءوا سورة البقرة في بيوتكم؛ فإن الشيطان لا يدخل بيتاً يقرأ فيه بسورة البقرة، قال صلى الله عليه وسلم أيضاً: (لا تجعلوا بيوتكم مقابر؛ إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة) (إن الله تعالى كتب كتاباً قبل أن تخلق السماوات والأرض بألفي عام وهو عند العرش، وإنه أنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة، ولا يقرآن في دار ثلاث ليال إلا لا يقربها الشيطان) كل يوم تقرأ هاتين الآيتين من سورة البقرة فلا يقربك الشيطان. وأما قراءة سورة البقرة فإنه لا حد لها محدود كما أفادني به الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله وقال: كل ما استطاع أن يقرا سورة البقرة في البيت يقرأها حتى لا يدخلها الشيطان. أذكار دخول البيت: باسم الله، والخروج من البيت: باسم الله أيضاً، وعند الأكل: باسم الله؛ وهي تحرم الشيطان من المبيت والأكل في البيت. باسم الله توكلت على الله الحديث المعروف عند الخروج، وكان صلى الله عليه وسلم إذا دخل بيته بدأ بالسواك.

نصائح في اختيار البيت المناسب وكيفية الإنفاق

نصائح في اختيار البيت المناسب وكيفية الإنفاق وأما بالنسبة لاختيار البيت فلا بد أن يكون في بيتك مميزات: أن يكون بجانب مسجد، وهذا شيء ضروري، ولا يكون في عمارة فيها فساق أو مجمعات سكنية لشركات فيها كفار، لا يكون فيه كشف، ولو حصل فلا بد من ستر الجدران، وتعلية السور، وستر النوافذ. تصميم البيت من الداخل بحيث يكون هناك مدخل للرجال ومدخل للنساء، ويكون مهيئاً لعدم الاختلاط، صالات البيوت منفصلة، فلا يمر بعضهم على بعض، تكون الحمامات -المراحيض وبيت الخلاء- في وضع غير مستقبل القبلة. كذلك إذا استطعت أن تهيئ مسكناً واسعاً كما قال عليه الصلاة والسلام: (أربع من السعادة وذكر منها: المسكن الواسع) وقال: (أربع من الشقاء وذكر منها المسكن الضيق)، والله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده. اختيار الجيران مهم، والجار قبل الدار، قال صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ بك من جار السوء في دار المقامة، فإن جار الباب يتحول) لو ذهبت إلى مكان ما ووضعت خيمة، وكان بجانبك ناس أهل طبل ومزمار سيغادرون بعد يوم أو يومين، أو ستغادر أو تنتقل أنت فذلك يهون، لكن المصيبة لو أن سكنك بجوار فساق فماذا يحولهم؟ وهذا ما جعل بعض المخلصين يفكرون جدياً في السكن في عمارات يستأجرها هو ومجموعة من الطيبين حتى يحفظ بعضهم بعضاً. الاهتمام بالإنفاق على البيت في الأشياء الضرورية، توفير وسائل الراحة في البيت، بعضهم يهمل بيته ترتع فيه الحشرات، وتسير فيه البلاعات، ويمتلئ البيت بالأثاث المحطم والفاسد، والقمامة تفوح رائحتها، فلابد من الاعتناء بالبيت وجعله مكاناً للراحة، ولابد من التفريق بين الأشياء الحاجية والأشياء التبذيرية، هناك حاجات مثل المواد العازلة للحرارة؛ هذه حاجية حتى لو أنفقت فيها، لكن تزويق البيوت من الأشياء المنهي عنها، نهي أن يدخل البيت المزوق، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى لم يأمرنا فيما رزقنا أن نكسو الحجارة واللبن والطين) (ونهى صلى الله عليه وسلم أن تستر الجدر) حديث حسن مرسل، وهذا من عمل الكفار قالوا: {أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ} [الإسراء:93] {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف:33 - 35] (ستفتح عليكم الدنيا حتى تنجدوا بيوتكم كما تنجد الكعبة، فأنتم اليوم خير من يومئذ) حديث صحيح، وفي صحيح البخاري أن أبا أيوب دعاه ابن عمر على وليمة عرس، فرأى في البيت ستراً على الجدران -كما هو الآن في بعض البيوت من سجاجيد على الجدران- فعاتب أبو أيوب ابن عمر، فقال ابن عمر: غلبنا عليه النساء؛ يعتذر إليه أن هذا من عمل النساء، فقال أبو أيوب: [من كنت أخشى عليه فلم أكن أخشى عليك] إذا خشيت على أحد من النساء لكن أنت ما أخشى عليك، فكيف تقول هذا الكلام؟ وأخرج أحمد في كتاب الزهد أن ابن عمر أتى رجلاً في بيته وقد ستر بالكرور -هذه الأغطية والسجاجيد والأشياء على الحيطان- فقال ابن عمر: يا فلان متى تحولت الكعبة إلى بيتك؟ ثم قال لنفر معهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ليهتك كل رجل ما يليه. ستر الجدران قال عنه بعض العلماء: حرام، وقال بعضهم: مكروه؛ لماذا؟ لأنه من التبذير، وهذه الأشياء والتحف المملوءة بها البيوت. وختاماً: فإن العناية بأحوال البيت مهمة، كان صلى الله عليه وسلم إذا مرض أحد من أهل بيته نفث عليه المعوذات، وكان يأمر للمريض بالحساء والتلبينة، ويهتم بصحة الأولاد، والاهتمام بالتغذية في البيت، (بيت لا تمر فيه جياع أهله)، الحرص على الأشياء الصحية: (خمروا الآنية، أوكئوا الأسقية، أجيفوا الأبواب، وأطفئوا المصابيح) وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تتركوا النار في بيوتكم حين تنامون) هذه أيضاً من الاهتمام بالأشياء التي في البيت، كل ما فيه ضرر وأذى لابد من إزالته قبل النوم. هذه جوانب ولمحات -أيها الإخوة- من الوسائل والنصائح التي نعالج بها بيوتنا، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وممن صلحت بيوتهم وذراريهم ونساؤهم وأهلوهم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أسئلة وأجوبة متراكمة

أسئلة وأجوبة متراكمة في هذه المادة أجاب الشيخ عن كثير من الأسئلة المتعلقة بمواضيع كثيرة، منها أسئلة عن: مصاحبة الصالحين كيف تسأل أهل العلم؟ سيادة الشريعة، وأسئلة أخرى متفرقة في أبواب مختلفة.

حال من سكن مع شباب منحرفين

حال من سكن مع شباب منحرفين الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، ثم أما بعد: فهذه أيها الإخوة! حلقة خاصة للإجابة عن الأسئلة التي وردت في خلال المحاضرات الماضية وهي أسئلة كثيرة. ونبدأ الآن بأسئلة محاضرة "مصاحبة الصالحين" وبعدها أسئلة "كيف تسأل أهل العلم" وبعدها أسئلة محاضرة "سيادة الشريعة" وسيتخلل ذلك إن شاء الله أسئلة أيضاً وردت من بعض الإخوان واستفتاءات أتينا لهم بالإجابات عنها. Q أريد أن ألتزم ولكني أسكن أعزباً مع شباب منحرفين، وللأسف أهلي في مدينة أخرى وأنا جئت هنا لأبحث عن عمل؛ فلا مناص من مجالستهم ولو إلى حين؟ A هذه المشكلة من المشكلات التي يعاني منها كثير من الناس الذين يسكنون أو يقيمون في بيئات ليس فيها أناس ملتزمون بالدين، والبيئات تختلف، فمن البيئات ما يكثر فيها أهل الدين أو الشباب الطيبون، مثل الجامعات مثلاً، ومن البيئات ما يكون وجود الشباب الطيبين فيها شيئاً نادراً، فيحس الإنسان ولا شك بغربة نتيجة توحُّده بين هؤلاء الناس. ولذلك نقول لهذا الأخ: إن عليك أن تكون بين هؤلاء الأقوام حاضراً غائباً، حاضراً بجسدك غائباً عنهم بمشاعرك، وتنمية مفهوم العزلة الشعورية لدى المسلم في هذه الحالة شيء مهم، وقد كتب عنه عدد من العلماء مثل ابن القيم رحمه الله، وعدد من المعاصرين مثل سيد قطب رحمه الله، مفهوم العزلة الشعورية من المفهومات المهمة، كيف تعيش بين الناس ولا تشاركهم في المنكرات والمحرمات التي يقترفونها. ثم إن على هذا الأخ أن يبحث عن إخوة طيبين من خارج هذا الوسط الذي هو فيه، فلو كان يعيش مثلاً في سكن شركة، وهذا السكن ليس فيه أناس طيبون مطلقاً أو ملتزمون بالدين، فإنه لن يعدم أناساً ملتزمين بالدين في أماكن أخرى قريبة يصل إليهم، ويعقد معهم أواصر الأخوة، فلا يجوز أن يبقى لوحده؛ لأنه سيضعف.

أصحابي في المدرسة أشرار

أصحابي في المدرسة أشرار Q إذا كان أصحابي في المدرسة أشرار، فماذا أفعل؟ A نقول: نعم، إن هذا النوع من الجوار في الفصول الدراسية شيء واقع، وهو أن يجاور الإنسان عن يمينه وشماله في الفصل الدراسي أناساً من الفسقة، أو من الطلاب اللاهين اللاعبين، ففي هذه الحالة ينبغي عليه أن يحذر هذا الجوار، ولذلك فإن تنسيق المواقف قبل تعيين الأماكن في الفصول من القضايا المهمة التي ينبغي أن يحرص عليها أهل الخير، فإن مجاورة الطيب للطيب تعينه كثيراً، ومجاورة الطيب للسيئ من الأمور التي كثيراً ما تأتي بنتائج هدامة، وكثير من الشباب الذين ضلوا وانحرفوا؛ بسبب مجاورتهم في الفصل الدراسي لأناس من التائهين الذين يجلبون معهم إلى الفصل أموراً من المحرمات. ولذلك فإنني أعيد وأؤكد على قضية تنسيق الجوار في الفصل الدراسي قبل بداية العام الدراسي، أو قبل أن يأخذ الطلاب أماكنهم.

حكم الجلوس مع العصاة من غير ضرورة شرعية

حكم الجلوس مع العصاة من غير ضرورة شرعية Q إذا اضطر شخص للجلوس مع عصاة وإن لم يكن لضرورة شرعية، مثل أن يكونوا أقارب في وليمة أو غير ذلك، هل يعتبر من الازدواجية المذمومة؟ A هناك حالات كثيرة يكون فيها مخالطة أهل الشر أمراً متعيناً مثل قضية الولائم، فإنه يحضر فيها من الأقارب مثلاً من ليس بملتزم بالدين، أو من هو بعيد عن الشريعة، وفي هذه الحالة فإن على الإنسان أن يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر، وإذا حصل شيء من الاستهزاء بالدين فلابد أن يقوم بواجب الإنكار. وكذلك يحاول أن يشغل هذا المجلس بشيء من الكلام الطيب؛ لأن هذه المساحة إذا احتلت بشيء من الخير؛ فإن إشغالها بشيء من الشر سيكون عسيراً، وليحذر الإنسان من الدخول في الأمور التي تقلب المجلس إلى مجلس سوء، فمثلاً بعض الناس يفتح المجال لطرفة؛ فإذا بهؤلاء الناس الذين عندهم قابلية لعمل بعض النكات التي تصادم الدين يدخلون من هذا المدخل، بسبب عدم الجدية في الطرح، ولا نقصد أن يأتي بمواعظ تبكي، أو أنه يقول: لابد أن آتيهم بكلام علمي عميق، بل إن مثل هؤلاء الناس تعجبهم القصص الهادفة، وهي كثيرة. ولذلك لا بد أن يكون لدى الشخص ذخيرة من القصص الهادفة، حتى إذا جلس في هذه المجالس استطاع أن يأتيهم بهذه القصص، وهذه القصص لا يُشترط أن تكون من قصص الأنبياء والمرسلين والصحابة والتابعين، وإنما قد تكون قصصاً مؤثرة حصلت في الواقع؛ إما أن تكون مكتوبة أو سمعها سماعاً، فعند ذلك إذا طرحها تلتفت إليه الأذهان أو الأسماع وتنشغل الأذهان بهذه القضية، ولا نعتبر هذا الشخص يعيش ازدواجية مذمومة في هذه الحالة.

الشعور بالنقص أمام الشباب الملتزمين

الشعور بالنقص أمام الشباب الملتزمين Q أشعر أنني لا أصلح للبقاء مع الشباب لأنني لست مثلهم في أخلاقهم؟ A كثير من الشباب يتهمون أنفسهم بهذا الاتهام، ويقولون: إننا لسنا على مستوى كثير من الشباب الذين نخالطهم، فهناك من عنده علم، وهناك من هو صاحب عبادة، وهناك من هو من الدعاة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وهذا الشخص قد يكون حديث التدين وليس عنده مثل ما عند أولئك من الخبرة أو العلم أو الجرأة، وقد يكون عنده بقايا معاصٍ، وهذه المعاصي الباقية تسبب لديه نوعاً من الشعور بالنفاق، أو أنه قد يكون سبباً في فشلهم. وفي هذه الحالة نقول: أنت مأمور شرعاً بأن تكون مع الجماعة والرفقة الطيبة، وتركك لهم معصية لله عز وجل، وابتعادك عنهم اقتراب من الشيطان، مهما كان عندك من المعاصي والفسوق؛ فإن هذا لا يمنع أن تجالسهم وتخالطهم، ثم الإنسان كيف يتعلم إذا لم يخالط هؤلاء؟ وبعد سنوات ستصبح رمزاً فيهم وشخصاً يشار له بالبنان، وسيأتي أناس آخرون من القادمين الجدد الذين يحتاجون إلى الاختلاط بك أنت، فأنت هيئ نفسك من الآن لتبوء مركز القدوة في المستقبل.

حكم تعلم العلوم غير الشرعية

حكم تعلم العلوم غير الشرعية Q هل تعلم العلوم غير الشرعية وغير المفيدة في الحياة مثل علوم الهندسة هو الذي استعاذ منه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من العلم غير النافع؟ A إن النبي عليه الصلاة والسلام قد استعاذ من أربعة أشياء فقال: (اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعاء لا يرفع أعوذ بك من هؤلاء الأربع) فنقول: إن العلم غير النافع قد يكون علماً ضاراً أو يكون علماً فيه ضياع وقت، مثلما يحدث مثلاً في علوم بعض الأشياء الرياضية أقصد البدنية النظرية، أو بعض التخصصات الأدبية التي فيها دراسة لتاريخ أوروبا في القرن السادس عشر والسابع عشر وغير ذلك من الأشياء التي لا يحتاج المسلمون إليها إلا لمن كان متخصصاً في هذا الجانب. فنقول: إن دراسة هذا الشخص في قسم الأدب أو التاريخ بهذا الشكل هو من الانشغال بالأمور التي سيضيع وقته فيها، وربما يسأل عنها أمام الله عز وجل. أما أن يدرس في علوم الطب أو الهندسة ونحو ذلك من علوم الجيولوجيا، أو العلوم التي تساعد في المخترعات ونحوها، وتساعد في أمور الحياة فليس ذلك من العلم غير النافع، بل إنه من العلم النافع، صحيح أنه في المنزلة أدنى من العلم الشرعي، لكنه ليس علماً ضاراً بحيث أن الإنسان يخرج منه.

تأثر الطلاب بزملائهم الأجانب والمبتدعة في الكليات غير الشرعية

تأثر الطلاب بزملائهم الأجانب والمبتدعة في الكليات غير الشرعية Q بالإضافة إلى أن أكثر الدارسين معنا من الأجانب والمبتدعة، لهم تأثير مهما تجنبناهم؟ A هذا الشيء يحس به كثيراً الذين يدرسون في الخارج، قد يدرس في فصل عنده مجموعة كبيرة من غير المسلمين، فربما كان لوحده أو معه مسلم آخر؛ لكن قد يكون مسلماً منحرفاً، نحن الآن لا نحس بما يعانيه بعض المسلمين الذين يدرسون في الخارج، يدرس في الخارج فتدرسه امرأة، ومعهم بنات في الفصل، وأغلبهم كفار، قد يوجد منهم يهود وليس نصارى فقط أو لا دينيين، أو حتى شيوعيين من أصحاب المذاهب المنحرفة، ثم إن الفصل الدراسي هذا يحدث فيه نقاشات ضد الإسلام وأشياء تطرح ضد الدين، ولذلك الإسلام لا يحث المسلم أن يرمي نفسه في مجاهل الكفر، وإنما يقول له: ارجع إلى بلاد الإسلام وإلى المجتمعات الإسلامية، فلا يصلح للمسلم أن يُلقي بنفسه في تلك الأماكن إلا إذا دعت الضرورة الشرعية لذلك، وكان عنده علم يدفع به الشبهات، وعقل يدفع به الشهوات. أعطيكم مثالاً قد حدث: جاء سؤال قال: شخص كافر طرح على آخر مسلم قال: أنتم لماذا في دينكم يوجد الختان؟ إذا كان الإنسان يولد كاملاً فلماذا يُختن؟ هذه خلقة رب العالمين، فكونكم تختنونه وتقطعون منه شيئاً فأنتم تغيرون خلق الله؟! أقول: هذه الأشياء قد تروج، وبعض المسلمين لا يعرف كيف يجيب عنها، فمثل هذا يقال له مباشرة: أولاً: استنباطك للشيء هذا استنباط عقلي، والنص الذي عندنا في الشريعة نص شرعي من الوحي، فلا يمكن أن نقدم الشيء العقلي على الشيء الشرعي. ثانياً: إن الذي حرم تغيير الخلق وهو الله عز وجل هو الذي أمر بهذا الأمر، فإذاً لا تعارض فلابد من طاعته. ثالثاً: إن الإنسان تطول أظفاره أو يطول شعره فهل يبقي شعره إلى منتصف الظهر وأظفاره متراً أو مترين أو أنه يقصها؟ وهذه الأظافر من جسده فإذاً كون الشريعة أمرت بقصها فمثل ذلك أمرت بقطع تلك القلفة أو قطعة اللحم التي تكون في ذكر الإنسان. رابعاً: إن أطباءكم يا معشر الكفار قد أثبتوا أن هذه القطعة الزائدة فيها ضرر، يجتمع فيها أوساخ وميكروبات، وتعيق حتى إتيان الرجل أهله بالطريقة المريحة، ولذلك فنقول: طبكم والعقول الصحيحة بعد شرعنا تثبت ذلك. على أية حال نقول: إن الذين يدرسون في الخارج يتعرضون لهجمات شرسة واستهزاءات من الناس الذين يجلسون معهم في الفصول الدراسية، ولذلك لا يمكن أن ننصح شاباً أن يذهب إلى الخارج إلا إذا كان في ذهابه مصلحة شرعية واضحة وكان شخصاً محصناً. بعض الناس يقولون: فلان ذهب إلى الخارج والتزم بالدين، ما كان هنا متديناً وذهب إلى هناك فتدين نقول: هؤلاء كم يمثلون من المبتعثين؟ افرض أن المبتعثين مثلاً خمسين ألفاً كم منهم الذي كان فاسقاً ثم رجع دَيَناً؟ وكم منهم الذي كان فيه خير ودين فرجع منكوساً؟ فلا تحتج عليَّ بالقلة أو بالندرة وانظر إلى العموم، ثم إن هناك نصوصاً شرعية حرمت الإقامة بين أظهر المشركين فكيف ننتهك هذه النصوص الشرعية بغير ضرورة شرعية.

حكمة النهي عن السهر بعد العشاء

حكمة النهي عن السهر بعد العشاء Q قد جاء في الحديث النهي عن السهر بعد العشاء، فما هي الحكمة من ذلك؟ A نعم. قد ثبت النهي عن الحديث بعد العشاء، كما هو في صحيح البخاري وغيره: (نهى صلى الله عليه وسلم عن النوم قبل صلاة العشاء وعن الحديث بعدها) هذا له أسباب، منها: -أن تضيع صلاة الفجر، وقد رُخص للمسافر ولطالب العلم الذي يجلس لطلب العلم في سمر أو علم ونحوه، أو مسامرة أو مؤانسة ضيف أن يسهر، وأما الجلوس بعد العشاء لغير حاجة فإنه أمر مذموم، صحيح أن الناس الآن قد تغير نمط الحياة، وهذه الكهرباء قد أدت إلى جر الناس إلى السهر، لكن ينبغي الحرص قدر الإمكان على عدمه.

حكم الجلوس بين أناس يأتون بمنكر

حكم الجلوس بين أناس يأتون بمنكر Q أنت تتكلم عن الصالحين فإنني محتار بين أمرين: إن الشباب الذين من جماعتي بعضهم يشربون الدخان وبعضهم لا يشربون، فماذا أفعل؛ هل أجلس معهم أم لا؟ A لا يجوز أن يقارب الإنسان أناساً يرتكبون منكراً حال جلوسه معهم، فإذا كانوا الآن يشربون الخمر فلا يجوز أن تجلس معهم، الآن يشربون الدخان لا يجوز أن تجلس معهم، لكن لو أنهم كانوا أصحاب منكرات خارج المجلس وهم جالسون معك لا يقترفون المنكر؛ فلا بأس أن تجلس معهم عندما يكون هناك أمر شرعي أو اجتماعي مثل صلة الرحم -مثلاً- أو الدعوة إلى الله.

أب يمنع ابنه من حضور حلقة القرآن

أب يمنع ابنه من حضور حلقة القرآن Q هناك حلقة قرآن بعد صلاة العصر، ونشاط بعد المغرب، أريد أن أذهب إلى الحلقة وبعدها إلى المكتبة، لكن أبي يقول لي: لا تذهب وراجع دروسك، ويرفض الذهاب إلى الحلقة؟ A كثير من الآباء ينقصهم الوعي بأنشطة الدعاة إلى الله عز وجل، فهم لا يفهمون ما هي المكتبة، وما هي نشاطات المكتبة، وماذا يحدث في حلق تحفيظ القرآن ونحو ذلك؛ ولذا ينبغي على الدعاة إلى الله أن يقوموا بمجهود لتوعية الآباء بالأنشطة الإسلامية، فمن ذلك مثلاً: إرسال النشرات التي تتحدث عن النشاط. ثانياً: دعوة الآباء إلى هذه الأماكن والمحلات. فإذا كان هناك مثلاً تخريج لبعض الحفاظ أو عدد من الذين حفظوا أجزاء من القرآن مثلاً، أو نشاط في المكتبة مثل درس أو محاضرة، أو تعرف على أولياء الأمور، ينبغي أن تكون هذه القنوات موجودة بين الدعاة إلى الله ومراكز النشاط الإسلامي وبين أولياء الأمور؛ لأن الناس أعداء ما جهلوا، وإذا لم يتعرف أولياء الأمور على ما يدور في هذه الحلق من الأنشطة الإسلامية الطيبة؛ فإنهم لن يقيموا لها وزناً؛ وبالتالي فإن منعه من الذهاب أمر وارد عند الجاهل به. ثم إن على هذا الشاب أن يأتي بتقارير دراسية جيدة لأبيه، فإن التقارير السيئة الشهرية التي تأتي الأب فعلاً؛ هي التي تجعل الأب لا يكون حريصاً على حضور ولده، هذا إذا لم يمنعه. أما إذا كانت التقارير الدراسية جيدة وكان الولد مهتماً بدروسه؛ فلن يكون هناك منفذ للأب لمنعه؛ ولذلك في كثير من الحالات يكون تحسين الموقف الدراسي سبباً مباشراً في إقناع الأب بالسماح لولده بغشيان هذه المناسبات أو الأماكن الطيبة.

توفير الصحبة الصالحة للمرأة

توفير الصحبة الصالحة للمرأة Q كيف تبحث المرأة عن الصحبة الصالحة؟ وأين تجدها؟ وزوجي يريدني أن أذهب معه عند أناس وأنا أعرف أن عندهم منكرات؟ A لا شك أن الصعوبة في بحث المرأة عن الصاحبات الطيبات أكبر من الصعوبة عند الرجل؛ لأن الرجل سهل التنقل سهل التعارف، أما المرأة فمكانها محدود ونشاطها محدود، ومجالات التعرف عندها محدودة، ولذلك إذا لم تجد المرأة جارة طيبة أو صاحبة صالحة؛ فإن بيتها خير لها في هذه الحالة، وليست مطالبة أن تذهب إلى مختلف الأماكن لتبحث عن نساء طيبات، لكن عندما يكثر الخير في المجتمع لن تعدم أن تجد ممن حواليها من النساء اللاتي التزمن بهذا الدين وأقبلن على هذه الشريعة. وينبغي عليها أن تحذر أصنافاً من النساء:- المرأة النمامة. المرأة التي تنشغل بالغيبة. المرأة الكذابة. المرأة المضيعة لحقوق الزوج. المرأة التي تنشر أسرار الاستمتاع الزوجي في المجالس. المرأة التي تتعامل مع الكهنة والسحرة، أو تذهب إليهم وتدعو للذهاب إليهم. المرأة التي تدعو إلى حضور الأعراس أو الحفلات التي تشتمل على منكرات وهذه الطبقة والنوعية من النساء موجودة في المجتمع، فإذا لم تجد فليسعها بيتها، وعلى زوجها مسئولية أن يأتي إليها من أهله أو من زوجات أصدقائه الصالحات بمن تزورها في بيتها.

قيام الشباب الصالحين بإفادة الناس

قيام الشباب الصالحين بإفادة الناس Q هل من كلمة للشباب الصالحين الذين لا يتواجدون إلا ساعة في الأسبوع والشباب يحتاجونهم لمخالطتهم، فكيف العمل؟ A إن الشخص الذي هو أهل للقدوة والذي فيه صلاح وخير، لا بد أن يمكن الناس من الاستفادة منه، وأن يغشى مجالسهم، وأن يُعطيهم من وقته، وفي الحقيقة أن بعض الطيبين لا يشعرون بالحاجة إلى نشر خيرهم للناس، مع أنه قد يكون عنده من العلم أو من الفقه أو من الأدب ما ينقله إلى غيره، لكن مع الأسف تجده -مثلاً- انطوائياً منعزلاً، أو تجده أيضاً قابعاً على عدد معين من الأشخاص لا يتعداهم إلى غيرهم. فنقول: إن هؤلاء عليهم إعطاء شيء من وقتهم لأجل تمكين هؤلاء الشباب المبتدئين من مصاحبتهم، وهذا لا يعني أن يوزع الشخص وقته بحيث يضيع، ولكن يُعطي الشيء الذي يستطيعه للناس.

لدي صديق ولكن فيه عيبان

لدي صديق ولكن فيه عيبان Q لدي صديق أتعاون معه في أمور الدعوة ولكن هناك عيبان هجرته من أجلهما:- أولاً: قلما نجتمع ولا نغتاب. والثاني: أننا نطيل الجلوس حتى أننا نفرط في حقوق أهلينا وطلب العلم. فبماذا تنصحني؟ هل أستمر في هجره أم لا؟ A هناك شيء يمكن التحكم فيه، وشيء لا يمكن التحكم فيه، الشيء الذي يمكن التحكم فيه الإطالة، فأنت ممكن أن تجلس -مثلاً- مدة معينة؛ نصف ساعة أو ساعة حسب المتيسر ثم تقوم، لكن الغيبة إذا لم يتركها فلا بد أن تنصحه ثم تقوم من المجلس.

حكم شراء سيارة بالتقسيط ثم بيعها نقدا

حكم شراء سيارة بالتقسيط ثم بيعها نقداً Q هل يجوز شراء سيارة بأقساط قيمتها خمسين ألف ريال وبيعها بقيمة أربعين ألف ريال نقداً؟ A هذه مسألة التورق، والظاهر أنها تجوز خصوصاً إذا كان هناك حاجة، فإذا حصلت حاجة ولم يجد من يقرضه ولا عنده مال فاشترى سيارة بالتقسيط وباعها نقداً لأجل السيولة؛ فإن ذلك لا بأس به إن شاء الله تعالى.

حكم تدريس مادة فيها أمور محرمة

حكم تدريس مادة فيها أمور محرمة Q مدرس في جامعة يدرس مادة فيها أمور محرمة مثل الربا ونحوه، فهل يجوز له هذا التدريس أم لا؟ A لا يجوز له أن يدرس الأفكار التي تخالف الشريعة، وهذه موجودة بعض الأحيان في الكليات النظرية مثل الأدبية والتاريخية ونحوها، وكذلك في الكليات الاقتصادية والإدارية كثيراً ما توجد أشياء مخالفة للشريعة، فيجب على المدرس المسلم إذا درس هذا أن يبين حكمه وأنه حرام، ثم يتجنب اختبار الطلبة فيه؛ لئلا يكون مؤكداً لهم على هذا الأمر وهو أمر غير شرعي، وإنما يأتي بأسئلة معاكسة لما هو موجود من الأمور غير الشرعية والتي قام بشرحها بنفسه.

حكم شراء الذهب بالتقسيط

حكم شراء الذهب بالتقسيط Q هل يجوز شراء الذهب بالأقساط؟ A لا يجوز شراء الذهب بالأقساط قال صلى الله عليه وسلم: (الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء) فلا بد أن يكون التقابض في مجلس العقد، يُعطي النقود ويأخذ الذهب، ولا يجوز له أن يؤجل الدفع ولا جزءاً من الثمن، فإذا لم يجد عنده قيمة كاملة؛ ترك الذهب في الدكان حتى يكمل القيمة ويأتي لدفعها، وشراء الذهب بالأقساط لا يجوز.

حكم تحنيط الحيوانات لأجل الدراسة

حكم تحنيط الحيوانات لأجل الدراسة Q ما حكم تحنيط الحيوانات لأجل الدراسة مثل الحمام مثلاً؟ A الشيخ عبد العزيز يقول: إذا ذبحوها ذبحاً شرعياً -ذكوها- فلا بأس بذلك، إذا كان هناك حاجة فعلاً مثل علم التشريح.

حكم إعطاء الراتب بالشهر الميلادي

حكم إعطاء الراتب بالشهر الميلادي Q رجل يُعطي عماله الراتب بالشهر الميلادي فهل يأثم؟ A الشيخ/ عبد العزيز: يكره له هذا لما فيه من التشبه بالكفار.

حكم الاستمناء من غير إنزال مع الصوم

حكم الاستمناء من غير إنزال مع الصوم Q رجل شرع في الاستمناء وهو صائم لكنه لم ينزل، فهل يُفطر؟ A الظاهر أنه لا يفطر، لأن الإنزال لم يحصل، وإفساد الصوم متعلق بالإنزال وخروج الماء عمداً.

علامات الأخوة في الله

علامات الأخوة في الله Q كيف أعرف أن علاقتي مع فلان هي أخوة في الله؟ A تعرف ذلك بأمور:- أولاً: إذا ناقشت نفسك في سبب إقامة العلاقة معه، هل هي لأنه إنسان تقي عنده علم وعنده خلق، أو أنك صادقته وعقدت معه أواصر العلاقة من أجل أمر دنيوي. ثانياً: هل أنت عاكف عليه لا تتعدى العلاقة إلى غيره من الناس الطيبين الذين ربما تستفيد منهم أكثر منه؟ وهل هي مقصورة أم متعدية إلى غيره؟ فإذا كانت مقصورة فاتهم نفسك. ثالثاً: هل علاقتك معه تزيدك إيماناً، أو أنها تسبب في ضياع الوقت ومرض القلب، والوصول إلى مهاوي التعلق بغير الله سبحانه وتعالى؟ فهذه علامات تستطيع أن تعرف بها هل علاقتك أخوة في الله أم لا.

كيفية تكوين علاقة أخوة في الله

كيفية تكوين علاقة أخوة في الله Q كيف أكون علاقة أخوة في الله؟ A أولاً: انتقاء الشخص. ثانياً: حُسن التعرف عليه. ثالثاً: زيارته. رابعاً: الاشتراك معه في أنشطة إسلامية وشرعية مثل: حضور الدروس والحلق العلمية، وحفظ القرآن الثنائي ونحو ذلك.

الرد على من قال: ادفع لفقراء بلادك ثم تبرع للأفغان

الرد على من قال: ادفع لفقراء بلادك ثم تبرع للأفغان Q بعض الناس إذا قلت له: تبرع للأفغان قال: ادفع لفقراء بلادك ثم تبرع للأفغان؟ A إن فقراء المسلمين لهم حقوق علينا جميعاً، ونحن نُعطي من يكون أحوج ولا ننسى فقراء البلد، لكن لا ننسى أيضاً فقراء العالم الإسلامي، فإذاً كونه يقول: أولاً أعطي فقراء بلدك ثم أعطهم، وقد أفتى أهل العلم بإعطائهم، فمعنى ذلك أن الرجل هذا عنده قصور في النظر، أو أنه من أعداء الجهاد.

حكم التقليل من كتب السلف والاعتكاف على الكتب الفكرية

حكم التقليل من كتب السلف والاعتكاف على الكتب الفكرية Q ما حكم من يقلل من أهمية الدروس العلمية والمحاضرات، وحفظ القرآن في الحلقات، وحفظ المتون، ويعكف على الكتب الفكرية وترك كتب السلف؟ A أولاً: هذا السؤال يحتاج إلى تمعن: هل هو اتهام لشخص بريء أم هو فعلاً قضية واقعة؟ فإذا كانت قضية واقعة فإن الإعراض عن دروس العلم، والمحاضرات الشرعية، وحفظ القرآن، وحفظ المتون لا شك أنه ضلال، والعكوف على الكتب الفكرية لا يكوّن عقل الإنسان المسلم، عقل الإنسان المسلم يتكون من أشياء، الكتب الفكرية مهمة والأمور الشرعية أهم، فلابد من الحرص على هذه النواحي جميعاً وعدم العكوف على ما كتبه المفكرون وترك ما كتبه علماء الشريعة، بل كتب علماء الشريعة أولى وأحرى.

أريد الزواج ولكن لا أستطيع

أريد الزواج ولكن لا أستطيع Q أنا شاب صالح ولكنني في سن المراهقة ولا أستطيع الزواج، ولا أستطيع الصيام، وعندي شهوة قوية، فماذا أفعل؟ A ذكرنا في كتاب " العادة السيئة " أشياء من الأمور التي يمكن أن تقوم بها لحماية نفسك، وكثير من الشباب يريدون حلاً سهلاً ولا يريدون أن يجاهدوا أنفسهم، وهذا مكمن الخطورة، فالصيام يحتاج إلى مجاهدة، فالشاب كأنه يريد حبوباً يبلعها ويصبح عفيفاً، العفة لا تأتي إلا بالمجاهدة، العفة لا تأتي بحلول سحرية أو حبوب معينة لتُبتلع.

كيفية المحافظة على الصحبة

كيفية المحافظة على الصحبة Q عندي صحبة صالحة، وإني أحبهم كثيراً لكني لا أداوم معهم، فكيف لي بالدوام؟ A إذا كانوا هم يمرون عليك لأخذك فهذا يجعلك تنضبط معهم، أما إذا قلت لهم: اذهبوا أنتم وأنا آتيكم فهذا مدعاة لك للتفلت. ثانياً: ينبغي تفريغ النفس عند المواعيد الدورية مثل الدروس والحلق العلمية، فالإنسان المسلم إذا عرف -مثلاً- أنه في هذا الوقت من كل أسبوع يحضر حلقة أو درساً، فينبغي له أن يفرغ نفسه من الشواغل في هذا الوقت، وأن يقطع عن نفسه كل ما يمكن أن يدخل عليه إشغاله في هذا الوقت، والناس ينتجون هذا الإنتاج بالتفرغ، إذا فرغ نفسه لشيء أنتج، أما إذا ترك نفسه نهباً للصوارف لا يمكن أن ينتج ولا في مجال من المجالات. افرض أنك تريد أن تبحث عن قضية من القضايا، أو تقرأ في كتاب لابد أن تقرأه، لو كنت تقرأ على التساهل، ففتحت الكتاب فجاءت مكالمة وجاءك شخص، ثم جاء آخر وذهب الوقت، لكن لو أنك ذهبت إلى مكان فيه خلوة لا يوجد فيه أحد يطرق عليك ولا يتكلم معك، اعتكفت على الكتاب ساعة أو ساعتين أو ثلاث حسب طول الكتاب فسوف تنهيه ولا بد، وبالتجربة أقول لكم: إن الإنتاج وليد التفريغ للقضية المعينة التي تريد أن تنجزها.

رجل تمنعه زوجته من إخراج التلفزيون

رجل تمنعه زوجته من إخراج التلفزيون Q نحن مجموعة شباب متزوجون جميعاً، تدور بنا دروس منتظمة ونصائح لبعضنا البعض، لكن يوجد شخصان عندهما جهاز تلفزيون ويعتذران عن إخراجه من المنزل مع ما فيه من الفساد، ونصحتهما كثيراً لكن لم يخرجاه بسبب زوجتيهما؟ A حسناً تعس عبد الزوجة، الذي لا يُزيل المنكر من أجل زوجته، فهو إذاً من الذين صاروا تحت عبوديات زوجاتهم، وقد ذمهم صلى الله عليه وسلم، ولذلك فليست إرادة هؤلاء الأشخاص قوية، أين القوامة التي جعلها الله للرجل على المرأة! كيف يرضى الرجل بالمنكر في بيته ويقول: المرأة أزعجتني، المرأة أقلقت راحتي، المرأة نغصت عيشتي أين شخصيتك أنت؟ أين مواقفك الصلبة؟ أين الحزم؟ أين الهجر إذا ما استجابت لك؟ بل أين تغيير المرأة إذا كانت سيئة الخلق والدين في نهاية المطاف؟!

النصيحة لمن يدعو المقصرين

النصيحة لمن يدعو المقصرين Q ما هي النصيحة التي توجهها لمن يقوم بالدعوة وهو يدخل على بعض المقصرين؟ A أولاً: يا أخي أنصحك ألا تغشاهم وهم يفعلون منكراً، إذا لم يتركوه وأنت داخل عليهم. ثانياً: لا أرى أن تطيل معهم، وإنما تعطيهم ما تريد إعطاءهم من الأشياء في مدة قصيرة بأسلوب جذاب ثم تمشي. ثالثاً: اصطحب معك مساعداً ومعيناً، فإن بعض الدعاة إلى الله عز وجل، أو بعض الناس قد يدخل في شباب لدعوتهم فإذا به يتأثر بهم وينخرط معهم، وقد يشاركهم في منكرات، لكن لو كان معه معين أو آخر يسانده على الأقل إذا ما استجابوا انسحب هو وصاحبه.

مجاهدة الشيطان

مجاهدة الشيطان Q كنت أستعمل المخدرات والدخان، والحمد لله الذي أبعدني عنها، وكنت أمشي مع أهل السوء والآن أمشي مع أهل الخير، والشيطان يحاول إبعادي عنهم، وأنا أصر وأجبر نفسي عليهم؟ A حسناً هذا ما يجب عليك، يجب عليك أن تجبر نفسك كما قال الله عز وجل: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف:28] فما معنى "اصبر نفسك"؟ احبس نفسك معهم، المسألة تحتاج إلى مجاهدة، والمسألة تحتاج إلى مواظبة، والمسألة تحتاج إلى تمعن في الأجر الذي يكون للمرء: (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم).

أهم التحقيقات لكتاب التوحيد

أهم التحقيقات لكتاب التوحيد Q وجدت كتاباً أو كتيباً عنوانه " ضعيف كتاب التوحيد " ذكر عدداً من الأحاديث والآثار الضعيفة الواهية في الكتاب، وحيث أني مدرس للكتاب أرجو التوجيه لأهم التحقيقات لـ كتاب التوحيد؟ A كتاب النهج السديد في تخريج أحاديث وآثار تيسير العزيز الحميد للشيخ/ جاسم بن فهيد الدوسري من الكتب التي خرجت أحاديث هذا الكتاب فعليك به.

علاقة الدخان بالوضوء

علاقة الدخان بالوضوء Q هل الدخان ينقض الوضوء؟ A الدخان لا ينقض الوضوء، لكن كيف تقف بين يدي رب العالمين وأنت متلوث بهذا المنكر وتؤذي الملائكة والرائحة المنكرة تنبعث من فيك؟! فنقول: يجب عليه أن يتوب إلى الله وأن يقلع، وإذا أراد أن يصلي لابد أن يستاك، ويطهر فاه قبل أن يقف بين يدي الله والملائكة حاضرة.

حكم إهداء الكفن

حكم إهداء الكفن Q إهداء الكفن هل هو من البدع؟ A قال الشيخ عبد العزيز: لا أعلم فيه شيئاً، والأصل الإباحة.

تأثير العين على الجمادات

تأثير العين على الجمادات Q سيارة أصيبت بالعين وأتي بوضوء من عانها، فهل يصب على مقدمتها؟ وكذلك الساعة مثلاً، هل الجمادات محل تأثر بماء العائن؟ A قال الشيخ: عبد العزيز النصوص الشرعية على العموم كما ورد في كلمة "شيئاً" وقد جُرب فأفاد، إذاً الأشياء الجامدة هي محل للتأثر بماء العائن.

حكم من صلى الفجر والسنة ركعتين ركعتين من غير تحديد نية

حكم من صلى الفجر والسنة ركعتين ركعتين من غير تحديد نية Q رجل لا يدري سنة الفجر قبل الفرض أم بعده؟ فصلى ركعتين ثم ركعتين بنية إن إحداهما فرض والأخرى سنة من غير تحديد؟ A قال الشيخ: يظهر لي أنه لا يجزي ولابد أن يعيد نية الفرض.

حكم عمل مجسمات للحج وشعائره

حكم عمل مجسمات للحج وشعائره Q روضة أطفال يريدون عمل مجسمات للحج والكعبة، والجمار، والصفا والمروة، ويلبس الأولاد ملابس الإحرام ويجعلونهم يطوفون حول هذا المجسم، ويرمون الجمار بالحجر لتعلم كيفية الحج؟ A الشيخ: الطواف حولها لا يجوز، وإنما يعلمونهم بالوصف والكلام، وأما النماذج دون الطواف حولها فإذا كانت مؤقتة تزال بعد ذلك فلا بأس.

حكم مجاوزة الميقات بدون إحرام مع نية العودة

حكم مجاوزة الميقات بدون إحرام مع نية العودة Q شخص جاوز الميقات بغير إحرام على أن يعود إلى الميقات، هل يجوز له ذلك؟ A نعم، يجوز ذلك إذا كان يذهب فيقضي حاجته ثم يرجع فيحرم من الميقات، وهو لما جاوز الميقات لم يجاوزه للحج والعمرة، وإنما جاوزه لقضاء الحاجة، وفي نيته أنه سيعود إليه.

حكم الصلاة في مكان اكتشف فيما بعد أنه مقبرة

حكم الصلاة في مكان اكتشف فيما بعد أنه مقبرة Q ذهبوا إلى البر وجلسوا أياماً وصلوا، ثم اكتشفوا قبل رحيلهم أنهم كانوا جالسين في مقبرة، فماذا عن الصلاة؟ A الشيخ: الصلاة صحيحة لكونهم لم يتعمدوا الصلاة في المقبرة. لأنهم حين صلوا لم يكونوا يعلموا أنها مقبرة.

حكم ذهاب المصاحف إلى فلسطين

حكم ذهاب المصاحف إلى فلسطين Q أهل فلسطين يحتاجون مصاحف، هل يجوز لمسلم أن يذهب بمصاحف إليهم علماً أن اليهود سيفتشونها ويقلبون صفحاتها؟ A يقول الشيخ عبد العزيز: لا بأس إن شاء الله لحاجة المسلمين إذا كان الأغلب السلامة، فما دام أنهم سيفتشونها ويرجعونها، وصحيح أن مس اليهود للقرآن حرام، لكن ما دام هناك مصلحة لأناس يحتاجون المصاحف؛ فلا بأس أن يأخذوها إلى الداخل.

براءة الذمة بإرجاع اللقطة إلى مكانها

براءة الذمة بإرجاع اللقطة إلى مكانها Q هذا شخص التقط لقطة فشق عليه تعريفها، فهل تبرأ ذمته إذا أرجعها إلى نفس الموضع الذي وجدها فيه؟ A كلا لا تبرأ ذمته، ويجب عليه تعريفها ولو استأجر شخصاً من أجل هذا التعريف.

حكم صوم ست من شوال دون موافقة الزوج

حكم صوم ست من شوال دون موافقة الزوج السؤال يقول: هل تصوم المرأة ستة أيام من شوال إذا لم يوافق زوجها؟ A لا يجوز للمرأة أن تصوم صيام النفل إلا بإذن زوجها، فإذا لم يأذن فلا تصوم، إلا إذا كان مسافراً؛ فإنها تصوم الست وغيرها ما دام أنه مسافر، أما إذا كان حاضراً فلا تصوم إلا بإذن زوجها للحديث الوارد في ذلك.

صديق لا يصلي إلا وقت الشدائد

صديق لا يصلي إلا وقت الشدائد Q لي صديق لا يصلي إلا وقت الشدائد، أو وقت ما نشد عليه فإنه يصلي، وإذا ذهبنا نسي كل شيء، ونأمره بالصلاة أحياناً فلا يجيب، هل نستمر معه بنفس الصداقة؟ A إذا كنتم تأمرونه فيستجيب فالحمد لله، إما إذا لم يستجب وجلستم معه فترة فاتركوه إلى غيره ممن يستجيب؛ لأن وقت الإنسان المسلم ثمين؛ فلماذا يعكف على شخص استجابته ضعيفة، وهناك من عباد الله من هو خير وأحسن في الاستقبال والتأثر من هذا الرجل، وهذا لا يُقطع بل يمر عليه بين فترة طويلة وأخرى حسب الفراغ.

حكم الشعور بعدم الراحة لبعض الإخوة

حكم الشعور بعدم الراحة لبعض الإخوة Q هل الإنسان يحاسب إذا شعر بأنه لا يرتاح لبعض الإخوة الملتزمين؛ علماً بأنه لا يعمل أي شيء من الضرر بهم؟ A من رحمة الله أنه لا يؤاخذنا على ما حدثنا به أنفسنا ما لم نتكلم أو نعمل، فإذا جاء في نفسك شعور بشيء من النفور نحو شخص متدين، فالذي عليك أن تفعله مجاهدة نفسك في الارتياح، أو إزالة الضغائن، أو أي نوع من الأحقاد بينك وبينه، وتهادوا تحابوا، والمصارحة في كثير من الأحيان تكون حلاً للمشكلات، لكن هناك أناس لا يجرءون على المصارحة مع أن المصارحة مهمة جداً، وما دام أن الأمر لم يصل إلى شيء من الفعل أو القول؛ فإنك لا تأثم إن شاء الله تعالى ما دام البغض شخصي وليس بغضاً للدين، لكن لو كان بغضاً للدين فهذا خطير للغاية.

حكم مشاركة بعض الشباب في لعب البلوت

حكم مشاركة بعض الشباب في لعب البلوت Q أنا شاب يحسبني الناس ملتزماً والله بصير بالعباد، أجلس أحياناً على الأرصفة مع مجموعة من الشباب الذين يلعبون البلوت على الأرصفة وأنا معهم، وقد ألعب معهم أحياناً بحجة أنه إذا حان وقت الصلاة يقومون احتراماً لي فقط وليس خوفاً من الله، فإذا لم أكن معهم واصلوا لعب البلوت إلى ما بعد الصلاة والصلاتين أحياناً، فهل تصرفي هذا تصرف صحيح؛ علماً بأنهم لا يصلون إلا إذا أمرتهم؟ A أرى أنك تمر عليهم في وقت الصلاة وتأمرهم بالصلاة، فإذا كانوا يحترمونك فلا بأس أن يصلوا في البداية من أجل احترامك، ولكن لا تجلس معهم فتشاركهم في المنكر، وإنما إذا كانت لك منزلة عندهم فمر عليهم في وقت الصلاة، أما أن تجلس معهم تلعب أحياناً فكيف يحدث هذا، وكيف ترضى لنفسك المشاركة في المنكر؟!

الموقف ممن يستهزئ بالمذاهب الأربعة

الموقف ممن يستهزئ بالمذاهب الأربعة Q أنا موظف، وأحياناً يأتيني بعض الموظفين من المبتدعة يقومون بالاستهزاء من المذاهب الأربعة وشتم الصحابة، ماذا عليّ؟ A يجب عليك أن تذب عن أعراض الصحابة وأن تقول لهم: (من سب أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) حديث صحيح وتقول له: إن الله قال في كتابه: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} [المائدة:119] فإذا رضي الله عنهم ورضوا عنه وأنت لا ترضى عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الكافرين.

حكم مقولة: إن الله معنا في كل مكان

حكم مقولة: إن الله معنا في كل مكان Q ما صحة هذه المقولة "إن الله معنا في كل مكان" في البيت والسيارة وأمامك وخلفك وفي كل مكان؟ A هذا فيه تفصيل، فيسأل المتكلم عن قصده، فإن قال: قصدي أن الله معنا بعلمه فنقول: نعم، إن الله معنا بعلمه في كل مكان؛ إذا كنت في البيت أو في السيارة أو في المسجد أو في أي مكان فالله معك بعلمه. أما إذا قال: إن الله معنا بذاته نقول: هذا قول أصحاب وحدة الوجود الذين يقولون: إن كل ما تراه بعينك فهو الله، هؤلاء في الحقيقة صوفية باطنية، لأن الصوفية مذاهب وفرق. من الصوفية من تقتصر بدعته على أذكار وأوراد بدعية، ومسابح أبو ألف وأبو خمسمائة وأبو مائة وهكذا هؤلاء متصوفة بدعتهم مقتصرة على الأذكار المبتدعة، أو على طريقة مبتدعة في التسبيح. هناك متصوفة بدعتهم أكبر من ذلك، إذا دخلت في قضايا الاعتقاد مثل الغلو في الصالحين اعتقادهم أنهم ينفعون يقولون لك: هذا قبر أبو العباس المرسي هذا الترياق المجرب، ما تذهب إليه امرأة لا تحمل إلا حملت، هذه شجرة إذا تمسحت بها العقيم حملت ونحو ذلك فهذه اعتقادات شركية. وبعضهم يعظمون رؤساء الطريقة فإذا كان -مثلاً- نقشبندياً أو رفاعياً أو شاذلياً أو بدوياً فإنه يشجع -ما هو بدوي من سكان الصحراء- وإنما من أتباع أحمد البدوي هذا الذين يقولون له الآن: قبر يزوره مئات الآلاف، بل إذا أحصيتهم في السنة يعدون بالملايين، وله باب يدخل منه الناس وباب يخرجون ويطوفون حول قبره، ويرشدك القائم على القبر بالاتجاه الذي تدخل منه وتطوف، وللقبور سدنة ويأخذون أموالاً يجبونها من الناس، ويُذبح عندها القرابين، ويحلق عندها الشعر، ويطاف حولها مثل الحج، حج رسمي: طواف وحلق شعر وذبح رسمي عند قبور هؤلاء. هذا من الشرك الذي أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سيقع في هذه الأمة، مع أن بعض هؤلاء الأولياء -كما يقولون ويزعمون- قد يكون صالحاً مثل الجيلاني رحمه الله فهو رجل صالح من أهل السنة لكن غلا فيه أناس بعده فصاروا من أصحاب الطريقة الجيلانية. وبعضهم قد يكون شخصاً مشركاً مثل الرفاعي مثلاً، أحمد الرفاعي الذي يقول: إنه كان يقف فيسيح قال: فرأيته ذاب حتى صار مثل الماء، ثم رجع مرة أخرى. أو مثل البدوي الذي كان يعتقد بسقوط التكاليف وأنه ليس عليه صلاة ولا عليه شيء، بل إنه ربما وقف على جدار فبال على الناس وقال: بول كل ما أكل لحمه فهو طاهر وأنا الناس يغتابوني ويأكلون لحمي، فما عليكم أنا بولي طاهر فمثل هؤلاء الأشخاص الذين لهم هذه التخريفات وأتباعهم الذين يوافقونهم على بدعهم وشركهم لا شك أنهم مشركون مثلهم. وأصحاب وحدة الوجود أو أهل الاتحاد والحلول يقولون: إن الله حل في خلقه، أو إن ما تراه بعينك فهو الله هؤلاء الذين يقولون: كل ما تراه بعينك فهو الله، هؤلاء أفراخ جهم، الذي قال لما سألوه عن الله أين الله؟ جلس أربعين يوماً يفكر، ثم خرج عليهم فقال: هذا الهواء هو الله. فهؤلاء الذين يقولون: أن كل شيء وكل جزء من الكون فهو من الله؛ فإن الله هو الكون فنحن إذاً من الله وهكذا، ولذلك يقولون: فرعون كان مصيباً لما قال للناس: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24] {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]. لكن موسى خفيت عليه. فرعون محق فهو قال: أنا ربكم الأعلى، صحيح، لأنه هو من الله، ويقولون: موسى غابت عنه، فلم يفهم قصد فرعون، فأنكر عليه ولا ينبغي الإنكار على فرعون. وهم الذين يقولون: ما الكلب والخنزير إلا إلهنا وما الله إلا راهب في كنيسته ويقولون أشياء تعالى الله عن ذكرها. وهؤلاء أصحاب الفرق الباطنية متعددون وكُثر، فمنهم الباطنية الذين يعتقدون بأن الله عز وجل -والعياذ بالله- يحل في أحد خلقه تأنيساً للخلق وتعريفاً به، فيقولون: الله حل في علي بن أبي طالب، فـ علي بن أبي طالب هو الله، وعلي بن أبي طالب خلق محمداً صلى الله عليه وسلم، ومحمد صلى الله عليه وسلم خلق سلمان الفارسي، وسلمان الفارسي خلق الأيتام الخمسة: أبا ذر وقنبر بن كادان الخ، وأوكل إليهم إدارة شئون الكون. وعندهم أن الله يتمثل بصورة نبي تأنيساً للخلق، انظر ولاحظ يقولون: تأنيساً للخلق وتعريفاً به، وأنه له صورة وله معنى، فـ علي بن أبي طالب هو المعنى أي: أنه هو الحقيقة وهو الله، ومحمد هو الصورة الذي عن طريقه يُوصل إلى المعنى، ويقولون: يوسف هو المعنى وهو الحقيقة ويعقوب هو الصورة، أي أن الله عبر الأجيال البشرية يتمثل في صور بعض الأشخاص وله صورة وله معنى، فالمعنى هو الحقيقة، والصورة هي باب يدخل إليه. ولذلك انظر إلى الباطل كيف يبلغ بأهله قالوا: ولذلك لما جاء إخوة يوسف إلى يعقوب قالوا: استغفر لنا قال: سوف أستغفر لكم ربي. أي: أرجع إليه بالاستغفار، ولما جاءوا إلى يوسف قال: لا تثريب عليكم، فلما رجعوا إلى الإله أعطاهم لكن لما جاءوا إلى الباب قال: لا بد أن أرجع. وهكذا يؤولون آيات وأحاديث وأشياء عجيبة جداً ويقولون: شيث هو المعنى وآدم هو الصورة، وهارون هو المعنى وموسى هو الصورة، وسليمان هو المعنى وداود هو الصورة وغير ذلك من الأشياء العجيبة التي هي هراء، وهؤلاء بعضهم كانوا حشاشين فعلاً، لما اخترعوا العقائد كانوا تحت تأثير المخدرات والحشيش، بل إن الجذبات التي تنقل عن الصوفية هي في الأصل ومردودها في الحقيقة أنهم يتعاطون الحشيش. ولذلك هناك في كتاب " طبقات الأولياء " للشعراني يقول: مثلاً الولي الفلاني رأى نفسه كذا ورأى لنفسه كذا وقال لا أرى إذا كذا وأرى نفسي أنا الله، هو في الأصل حشاش يتعاطى المخدر أو الحشيش هذا؛ لأن هذه الحشيش لها تأثير على حواس الإنسان، فقد يجعل الإنسان يسمع الألوان ويرى الأصوات. الحشاش والذي يتعاطى المخدرات يسمع الألوان يقول: أنا أسمع اللون الأحمر واللون الأصفر، وأسمعه جيداً! وأيضاً يرى الأصوات: أرى صوتك وأنت تتكلم فهذا يحدث؛ لأن المخدر يسبب اختلاط وتداخل الحواس فيشم العقيدة ويسمع اللون وهكذا.

مصاحبة من هو أعلى في الدين واتخاذه قدوة

مصاحبة من هو أعلى في الدين واتخاذه قدوة Q قلت إن الإنسان المؤمن يجب أن يصاحب دائماً من هو أعلى منه في الدين، ولا يصاحب من هو أقل منه في هذه الحالة لن يصاحب أحد أحداً؛ لأن كل واحد سيبحث عن من هو أعلى منه ويترك منه أدنى منه؟! A عندما نقول: إن الإنسان يحرص على أن يقتدي بشخص أعلى منه في الدين أو العلم مثلاً فما معنى هذا الكلام؟ هل يعني أنه سيخالطه أربعة وعشرين ساعة؟ لا. وإنما هي دعوة للبحث عمن هو أعلى منك لتقتدي به، وبقية الأوقات تخالط مثلك ومن هو دونك، فتتعاون أنت وإياهم ويستفيدون منك، لا يوجد أحد من الناس إلا ويوجد من هو أعلى منه وأدنى منه، فهو يبحث عن الأعلى ليخالطه ويستفيد منه ويقتدي به، وبقية الأوقات هو مع زملائه ومع أقرانه، ومع الناس الذين يدعوهم إلى الله. فالإنسان ليس فقط متلقي ومقتدي، هو أيضاً داعية، هو أيضاً ينشر الخير، فلا يُفهم إذاً من الكلام السابق أننا ندعو فقط إلى أن كل إنسان يذهب إلى من هو أعلى منه، وفي النهاية الناس الذين تحتهم ليس لهم أحد، فهذا نظرياً لا يمكن تخيله.

حكم الجلوس مع الذين يغتابون الناس بحكم العمل

حكم الجلوس مع الذين يغتابون الناس بحكم العمل Q ما حكم الجلوس مع من يغتابون الناس بحكم الارتباط معهم بالعمل خصوصاً أنهم أرفع في الرتبة؟ A إذا كان الإنسان يعمل بعمل عسكري مثلاً نقول: إن الإنسان لا يجوز له أن يخالط من يرتكب المنكر، وإذا أكره على شيء، فالإثم على من أكرهه.

الحل لمن جلس بين أشخاص دينهم قليل

الحل لمن جلس بين أشخاص دينهم قليل Q مصاحبة الصالحين لا شك أنها طيبة؛ لكن الشخص قد يضطر أن يكون بين أشخاص دينهم قليل، فمنهم من يتكلم بالغيبة والنميمة والقصص الغرامية وغير ذلك، والعمل يُحتم عليك أن تقعد بينهم؟ A أول شيء إذا تحتم عليك أن تقعد معهم أن تنشغل بذكر الله. ثانياً: لابد أن تكون كارهاً لهذا العمل في نفسك. ثالثاً: يجب عليك أن تحاول التغيير، فتنصح وتتكلم وتُشغل المجلس بأمور طيبة.

زملائي في العمل ليسوا بصالحين

زملائي في العمل ليسوا بصالحين Q لدي زملاء خارج العمل صالحون نذهب بعض الأحيان مع بعض، ولكن الزملاء في العمل ليسوا صالحين هل أجلس معهم أم ماذا أفعل؟ A افرض أن طالباً قال: كل الذين عندي في الفصل غير ملتزمين بالدين، نقول: على الأقل في الفسحة أو في أوقات الفراغ أن تذهب وتختلط بالناس الطيبين لتزيل صدأ قلبك.

أخي أخرج عني الزكاة بعد الاتفاق دون أن أعطيه نقودا

أخي أخرج عني الزكاة بعد الاتفاق دون أن أعطيه نقوداً Q اتفقت مع أخي على أن نجعل زكاتنا سوياً، فاشتراها وأخرجها لكنني نسيت أن أعطيه فلوساً؟ A لا حرج عليك، أنت وكلته بإخراج زكاة الفطر فهو أخرجها، بقي عليك أن تسدد له ولو سددت له بعد العيد لا حرج.

رجل يجهل: رياض الصالحين العقيدة الطحاوية

رجل يجهل: رياض الصالحين العقيدة الطحاوية Q ما هو رياض الصالحين؟ وهناك سؤال آخر عجيب يقول: ما هي العقيدة الطحاوية؟ هل هي عقيدة إسلامية أم هي عقيدة منحرفة؟ أو هي طريقة من الطرق المنحرفة في العقيدة؟ A هذه الأسئلة يا جماعة تدل على ماذا؟ كون الواحد لا يعرف كتاب رياض الصالحين مع أن كتاب رياض الصالحين كتاب مشهور معروف، ألفه الإمام النووي رحمه الله ورتبه على أبواب منها ما هو متعلق بالعقيدة ومنها ما هو متعلق بالرقائق ومنها ما هو متعلق بالأدب، ومنها ما هو متعلق بالأخلاق، ومنها ما هو متعلق بالفقه، فكيف يجهل إنسان مسلم مثل هذا! أو يقول: العقيدة الطحاوية هذه مثل العقيدة الأشعرية والماتريدية والمرجئة والخوارج! هذه ألفها الإمام الطحاوي رحمه الله وكتبها وشرحها بعض الأئمة بعده، وهي في مجملها عقيدة لـ أهل السنة والجماعة، لا تخلو من انتقادات وأحرف يسيرة بسيطة، وقد نبه بعض أهل العلم مثل تعليقات سماحة الشيخ/ عبد العزيز بن باز على هذه العقيدة. فنقول: كيف يغفل المسلم عن هذه الأشياء؟ هذا يدل على قلة العلم وضعف الاطلاع حتى لا يعرف الشاب رياض الصالحين ولا العقيدة الطحاوية لا يعرف هل عقيدة طيبة أو لا.

حكم قول: (هل أنت مسلمة؟) للمضيفات

حكم قول: (هل أنتِ مسلمة؟) للمضيفات Q هل قول "هل أنتِ مسلمة" للمضيفات في الطائرات من الشباب المسلم صحيح؟ A لا، أنا لا أرى هذا أبداً أن يمسك مضيفة ويقول لها: تعالِ هل أنت مسلمة أو لا؟ هذا فتح باب شر والعياذ بالله، ما لك ولها؟ أصلاً أنت الآن ينبغي عليك أن تبتعد عن هذه الفتنة وتغض بصرك، وإذا أردت شيئاً تطلبه من المضيف الرجل ما أمكنك ذلك، أما أن تستدعيها وتنصحها لا، أقصى شيء ممكن أن يقول الواحد: امرأة أجنبية أن يقول لها: تستري يا أمة الله وهو لا ينظر إليها.

حكم مجالسة الأهل والإخوان وهم على المعصية

حكم مجالسة الأهل والإخوان وهم على المعصية Q ماذا عن مجالسة الأهل والإخوان إذا كان الوالد يدخن، وينظر إلى التلفاز، والمسلسلات، والنساء المتبرجات؟ A هذا شيء موجود في المجتمع شئنا أم أبينا، ومخالطة الشاب المسلم لأناس من أهل الفسق مسألة محتومة الآن في هذا المجتمع، صعب جداً أن ينجو الإنسان بنفسه في عالم نظيف جداً إلا في حالات نادرة. ولذلك نقول: الإنسان المسلم المعتصم بالله، والذي له من الإخوة الطيبين من يزيلون عنه الغربة التي يعيشها في بيته أو في مدرسته أو مكان عمله لا شك أن وجود هؤلاء الطيبين نعمة عظيمة من الله عز وجل؛ لأن الإنسان إذا عاش في غربة فترة طويلة فقد يبدأ في التساهل في أساسيات الدين، أو يجهل أساسيات الدين.

حكم شراء الأشرطة بسعر رخيص ثم بيعها

حكم شراء الأشرطة بسعر رخيص ثم بيعها Q كنت أشتري أشرطة في مسجد يبيع الأشرطة بسعر رخيص والربح يعود للمسجد والمكتبة، وأشتري الشريط بريالين وأبيعه بأربعة، أي هو يشتري الشريط من المسجد ويبيع؟ A إذا اشتراه من المسجد؛ فقد ملكه، فإذا ملكه؛ جاز له أن يبيعه أو يهبه أو يهديه، أو يفعل به ما يشاء، لكن الملاحظة هنا على حكم بيع الأشرطة في المساجد أنه لا يجوز، حتى لو كان عملاً خيرياً لا يجوز بيع الأشرطة في المساجد.

شخص يؤاخي شخصا آخر ويجعل جل وقته معه

شخص يؤاخي شخصاً آخر ويجعل جل وقته معه Q ما رأيك فيمن يؤاخي شخصاً ويجعل جلّ وقته معه، ويتحمس لخدمته دون غيره ويقول: أخلاقه حسنة، ويُوجد فيمن حوله من هو أحسن منه خُلقاً، ويجعله شخصية خاصة فهل هذا مخطئ؟ A نعم، أنا أرى أنه مخطئ وأن أمره خطير، وأنه سيؤدي به في وقت من الأوقات إلى الوقوع في العشق المحرم؛ لأن هذا الرجل الذي عكف على هذا مع أنه يقول: إنه يوجد من حوله من هو أحسن خلقاً ومن هو أفضل منه، لكنه يتحمس لخدمته ويجعل جل وقته له معنى هذا أن الرابطة ليست لله: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67] فقد يكون هو وإياه من الأعداء يوم القيامة؛ لأن اجتماعهم ما كان لله ولا في الله.

حكم الذهاب إلى الأصحاب الضالين للنصيحة

حكم الذهاب إلى الأصحاب الضالين للنصيحة Q هل يجوز أن أذهب إلى الأصحاب الضالين الذين من الواجب نصحهم، وعندما أكون معهم أحس بضعف الإيمان؟ A إذا كان الإنسان مع أناس فيهم انحرافات، فأحس بضعف الإيمان هذا شيء طبيعي؛ لأنه لا يمكن أن يحس الإنسان بقوة الإيمان وهو يرافق أناساً فيهم بعد عن الدين، لكن إذا كانت مخالطتك لهم تسبب وقوعك في منكر، أو ترك واجب مثل صلاة الجماعة، أو ارتكاب محرم مثل مشاهدة أشياء محرمة فيجب عليك أن تفارقهم.

تصرفات بعض الشباب الملتزمين غير جيدة

تصرفات بعض الشباب الملتزمين غير جيدة Q بعض الشباب الملتزمين يعملون بعض الأعمال التي لا تكون للشاب الملتزم؛ كالمزح الشديد في الطرقات، والضحك برفع الصوت؟ A هذا لا يليق، المسلم يجب أن يمثل الإسلام في عمله، والرسول عليه الصلاة والسلام أخبر أن كثرة الضحك تميت القلب، ولم يكن عليه الصلاة والسلام يقهقه ولا يرفع صوته، ولا يضحك في الطرقات بصوت مرتفع، وهناك شيء مهم عند الشباب ينبغي أن يهتموا به وهو قضية السمت النبوي والوقار، وقضية الاتزان، فكثير من الشباب تجد عنده تصرفات طائشة، أو ليس عنده اتزان في الأفعال، أو ليس عندهم سمت حسن. فحركاتهم غير متزنة، كلامهم غير متزن، ضحكهم غير متزن وهكذا، فهذا معناها أنهم ما انطبعوا بالأخلاق الإسلامية بشكل جيد، وإنما يحتاجون إلى مزيد من التربية؛ حتى يصلوا إلى الحد الذي يكون الإنسان عنده شخصية راسية وراسخة تعطي انطباعاً حسناً عن أهل الدين، لا انطباع خفة، يقال: هذا عقله خفيف، وتصرفاته تصرفات أطفال، هذا لا يليق أن يكون عليه الشاب المسلم.

حكم السلام على من تعرفه فقط

حكم السلام على من تعرفه فقط Q بعض الناس لا يكون منهم السلام إلا على من مثلهم؟! A السلام لله، أي: يجب أن يكون خالصاً لله، فمن أشراط الساعة أن يكون السلام فقط للمعرفة، فإن سلم على الذي يعرفه فقط فهذا غلط، ينبغي أن يكون السلام للجميع.

التردد في الإقبال على الخير والانضمام إلى صحبة صالحة

التردد في الإقبال على الخير والانضمام إلى صحبة صالحة Q بعض الناس تجد أن عنده إقبالاً على الخير ويريد أن ينضم إلى صحبة صالحة لكن تجد عنده تردداً؟ A ما هي أسباب التردد؟ لماذا يتردد الشخص في مصاحبة صحبة طيبة؟ الجواب: إما أن يكون خوفاً منه، يظن أنهم -مثلاً- أناس متزمتون، أو أناس متشددون، أو أنهم سيؤدون به إلى كارثة أو إلى عقد نفسية، ويحطمون شخصيته. ثانياً: أن الناس في كثير من الأحيان ليس عندهم جرأة على التعرف، فالسبب الذي لا يجعل بعض الشباب يدخلون في الصحبة الطيبة أنه ليس لديه جرأة على التعرف، فهو يخشى أي غريب، مع أن هذا قد يُفوت عليه خيراً كثيراً، ربما هذا الشخص الذي يخشاه ولا يجرأ أن يتعرف عليه يكون فاتحة خير عظيمة له من علم أو صلاح، أو حتى أمور تعينه في دنياه كوظيفة وزواج. فإذاً قضية التخوف من الدخول مع الناس الطيبين عقبة موجودة في كثير من العامة، ينبغي عليهم أن يتخلصوا منها. وكذلك من الأشياء: اعتقاد -مثلاً- أنهم يحرمون الضحك، يقول: الآن أدخل فمعناه أن لا ضحك، مشكلة! أنا لا يمكن أن أعيش من غير ضحك ومن قال لك: إنه لن يكون هناك ضحك؟ الرسول صلى الله عليه وسلم كان يضاحك أصحابه، ويضاحك زوجته، ويضاحك من يعاشره بالأدب الشرعي. فينبغي إزالة هذه العوائق، وينبغي على الدعاة إلى الله عز وجل أن يشرحوا هذا للناس ويقولوا لهم: ما هي العوائق؟ دعونا نذلل لكم العوائق لدخولكم في الأوساط الطيبة. أو أنه يظن أنهم سيستهزئون به أو يحتقرونه، يقول: هؤلاء الآن كلهم متدينون وأنا إنسان مبتدئ، يمكن أني أسأل سؤالاً فيستهزئون بي، أو يضحكون مني ويسخرون، ولذلك يتحمل هؤلاء الطيبون جزءاً من المسئولية في حسن استقبال الوافد إليهم.

الشروط الواجب توفرها في الداعية إلى الله عز وجل

الشروط الواجب توفرها في الداعية إلى الله عز وجل Q ما هي الشروط التي يجب توفرها في الداعية إلى الله عز وجل؟ A هذه كثيرة جداً فمن ذلك مثلاً: العلم الشرعي، والأخلاق، والقدوة، والسلاسة في التعامل، والانبساط، والابتسامة.

شبهة: تكثير سواد الصالحين في أماكن غير مرغوب فيها

شبهة: تكثير سواد الصالحين في أماكن غير مرغوب فيها Q مجموعة من الشباب الصالحين يتواجدون في أماكن غير مرغوب فيها، وعندما ننكر عليهم يقولون: نحن نريد أن نكثر سواد الصالحين ونخلف جواً إسلامياً؟ A حسناً هذا ادعاء طيب، لكن التطبيق قد يكون فيه خلل، فمثلاً: لو قال إنسان: نذهب إلى مدينة ملاهي ونكون جواً إسلامياً، هل هذا يليق؟ أو مثلاً: نذهب إلى مدرسة بنات نكون جواً إسلامياً هل هذا يليق؟ فإذاً قضية التطبيق العملي لهذه المسألة قد يكون خاطئاً. أما إذا كان هناك مجمع من الناس، وحضور أهل الخير فيه يجعل اتجاه الحديث والمجلس يتجه بشكل طيب وخيّر، هذا مطلوب تكثير السواد فيه، يؤيد بعضهم بعضاً ويساعد بعضهم بعضاً، ألم يطلب موسى من ربه أن يرسل معه أخاه هارون؟ {وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي} [طه:29 - 30] فالوزير والمعين مهم جداًَ في الدعوة إلى الله، يشد بعضهم بعضاً.

حاجة المسلمين إلى العلماء الشرعيين

حاجة المسلمين إلى العلماء الشرعيين Q هل المسلمون اليوم في حاجة إلى العلماء الشرعيين أكثر من حاجتهم إلى العلماء التجريبيين؟ A لا شك أن حاجتهم إلى العلماء الشرعيين أكبر بكثير من حاجتهم إلى العلماء التجريبيين، في بعض البلاد مثل مصر عدد حاملي الشهادات العليا (الدكتوراه والماجستير) النسبة تفوق أمريكا، لكن القضية الآن ليست بكثرة حملة الدكتوراه والماجستير، المسألة أولاً: قبل هذا في بناء الشخصية الإسلامية بالعلم والإيمان أحوج منها إلى الهندسة والفلك ونحوه، صحيح أن هذه القضايا الدنيوية مهمة للمجتمع الإسلامي، كيف يعيش المجتمع من غير أطباء؟ كيف يعيش المجتمع من غير خبراء في المياه؟ كيف يعيش المجتمع من غير مهندسي كهرباء يشغلون المحطات؟ كيف يعيش المجتمع من غير خبراء في الجريمة؟ فإذاً العلوم الدنيوية مهمة -ولا شك- في المجتمع الإسلامي، لكن السؤال: أيها أهم؟ لا شك أن الذين يجيبون الناس على استفتاءاتهم ويقدمون الحلول لجميع المشكلات، والذين يشرحون للناس القرآن والسنة، يحتاجهم الناس أكثر بكثير مما يحتاجون إلى المهندس وغيره من الذين يحصلون العلوم الدنيوية. ثم هناك قضية: لماذا الانفصام النكد بين العلوم الشرعية والعلوم الدنيوية؟ إما طبيب أو طالب علم؟! ألا يمكن أن يكون طبيباً وطالب علم؟ ألا يمكن أن يكون مهندساً وداعية؟ ألا يمكن أن يكون رجل أمن وناصحاً؟! فلماذا الانفصام النكد الذي يكون أحياناً في عقول البعض في التفكير في هذه القضايا؟!

انشغال طلاب العلم عن إفادة الآخرين

انشغال طلاب العلم عن إفادة الآخرين Q أنا شاب أشعر أن عندي طاقة قوية في طلب العلم والدعوة إلى الله، ولكن المشكلة أنني عرضت نفسي على أكثر من واحد من طلبة العلم لكي أستفيد منهم ووجدتهم مشغولين عني، فماذا أفعل؟ A أقول: أحياناً قد يأتي شخص إلى طالب علم في وقت غير مناسب، أو ظرف غير مناسب ويقول له: أريد أن آتيك كل يوم نصف ساعة هذه قضية قد لا تكون ممكنة بالنسبة له، فإذاً انتقاء الفرصة المناسبة للالتقاء مسألة مهمة لكي تستفيد. ثانياً: بعض الشباب عندهم عقدة (الشيء الخاص) يقول: أريد شيئاً خاصاً، لا أريد جلسات في المسجد تعطينا فقهاً وغيره، أريد أن تشرح لي كتاباً لوحدي فإذا كان كل طالب علم، أو كل شيخ، أو كل عالم سيشرح الكتاب لواحد بعينه دائماً فكيف يتم هذا؟ فعقدة الخصوصية عند بعض الشباب تمنعه من الاستفادة، أي: كأنه يظن أن حلقة العلم تكون للعامة فقط، يقول: لا أريد هذا، أريد شيئاً خاصاً ما هذا الشيء الخاص؟ هذا الدين واضح، لا يوجد أسرار في الدين، الدين للجميع، فإذا حضرت حلقة تفسير أو حديث أو فقه أو شيء في الأخلاق أو الأدب؛ فأنت مستفيد جداً. ثم بعض الشباب لا يقيمون وزناً للكتب يقول: هذا تفسير ابن كثير اطلعنا فيه وانتهينا. مع أنه -صدقني- لم يقرأه مرة واحدة، بل ولا مجلد ولا ربع التفسير، فهؤلاء الذين يستخفون بالكتب يقولون: نحن لا نريد تفسير ابن كثير نريد تفاسير مثل: تفسير الخازن والكشاف والبحر المحيط وأعطنا من هذه التفاسير غير المعروفة حسناً، يمكن تفسير ابن كثير أبرك وأنفع، وأحسن وأرجى، وأفهم وأقبل للفهم أكثر من الأشياء التي أنت تطلبها. ثم إن طلب العلم بالجماعة فيه بركة، ولذلك ما هو منهج السلف في طلب العلم؟ هل يخصصون لكل طالب شيخاً؟ هل المسألة دروس خصوصية؟! طلب العلم بالحلق وبالمدارسة، تعلم الأدب والعلم بالمجموعات، هكذا كان يفعل السلف، هذه حلقة سفيان، هذه حلقة الحسن، هذه حلقة الأوزاعي، هذه حلقة سعيد. بعد ذلك كونه يوجد عندك أسئلة خاصة بك هذه قضايا طارئة، من الممكن أن تأتي في عشر دقائق أو في ربع ساعة أو نصف ساعة أحياناً تحلها وتنتهي، ولا تحتاج المسألة إلى ترتيب موعد دوري من أجلها. فأنا أقول: إن طلب الخصوصية يحطم كثيراً من الشباب في مسألة طلب العلم، نعم بعض العلماء يختصون بعض الطلبة بشيء في البيت، نعرف بعض العلماء -مثلاً- عندهم في البيت حلقة خاصة لكبار الطلبة الذين يشرح لهم أشياء صعبة مثلاً، هذا موجود عند علمائنا، لكن كثيراً من الشباب الذين يزعمون أنفسهم في هذه الدرجة يقولون: هذه حلقات المساجد نحن الآن أكبر من هذا المستوى، هم في الحقيقة ليسوا أكبر من هذا المستوى، ولكن يعظمون أنفسهم ويتعالون على أشياء فيها نفع كبير لهم، لكن قضية الأنا هي التي أودت بهم المهالك.

حكم مصاحبة أهل البدع

حكم مصاحبة أهل البدع Q هل يجوز مصاحبة أهل البدعة؟ A كلا والله.

داء الحزبيات المتفشية بين الشباب

داء الحزبيات المتفشية بين الشباب Q ذكرت وجوب توحد الشباب الصالح، ولكن من خلال معرفتي بأنواع من الشباب لا أجد فيهم حب التوحد والجماعة، فهذا يكره هذا، ولا يرتاح مع هذا، ولكن اكتشفت بعد فترة أن السبب هو هذه الحزبيات المتفشية والموجودة بينهم التي تزرع الأحقاد، وتخلف التعصب، فكيف يتخلص من هذا الداء الذي انتشر بين الشباب؟ A هذه قضية مهمة ولا شك، بعض الناس يتعصبون للجنس، بعض الشباب يتعصبون للبلد، بعض الناس يتعصبون للغة، بعض الناس يتعصبون للمهنة، فالطبيب لا يخالط إلا أطباء، والمهندس لا يخالط إلا مهندسين، والمدرس لا يخالط إلى مدرسين، وبعض الناس يتعصبون للقبيلة، وبعض الناس يتعصبون لتجمع فكري أو دعوي التعصب هذا كله حرام إلا التعصب للحق فقط، فإذا كان أي نوع من أنواع الانتماء فوق الانتماء الشرعي فهو حرام، فلو كان انتماء إلى أي مجتمع من المجتمعات يجعل تقطع الروابط الأخوية سبباً؛ فإنه خلل يجب أن يُسعى إلى تغييره. ثم إنه قد تدعو المصلحة الدعوية إلى أنه يتخصص أناس في أمر العلم في نشره، وفي الناس من عنده خبرة في الوعظ، ومن الناس من عنده خبرة في الجهاد والأمة الإسلامية تحتاج إلى طاقات في مجالات مختلفة، لا يمنع التخصص، لكن التخصص شيء، والتنافر والتخالف والتحارب والتعادي شيء آخر، فلا يمنع أن يكون هناك مجموعة تشتغل بشأن الجهاد، ومجموعة تشتغل بشأن التعليم، ومجموعة تشتغل بشأن إنكار المنكرات هذا لا يمنع، لكن هؤلاء هم مسلمون، أمة واحدة: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج:78] إبراهيم سماهم أمة واحدة، فلا يصلح أن يكون التخصص سبباً للعداء أو التنافر. ولذلك نقول: لابد من تصفية النفوس أولاً بدراسة قضايا سلامة الصدر، موضوع سلامة الصدر من المواضيع غير المطروقة مع الأسف في كثير من الأوساط الإسلامية، مثل الصحابي الذي كان يبيت وليس في صدره شيء على أحد من المسلمين، هذا الرجل ينبغي أن يكون قدوة لنا في هذه المسألة. ثم لابد من علم شرعي لتعرف الهامش المسموح به من الخلاف، يمكن أن أختلف معك في وجهة نظر، لكن لا يمكن أن أختلف معك في المعتقد، إذا اختلفنا في المعتقد فأحدنا ضال، لكن ما هو الهامش المسموح به من الاختلاف؟ ما هي الأشياء الاجتهادية وما هي الأصول؟ هذه قضايا غير واضحة بالنسبة لكثير من الشباب، وينتج بناءً عليها مفاصلات، مفاصلات على قضايا جزئية لا يجب أن يفاصل فيها، فقد تجد أحدهم مثلاً يفاصل الآخر لأنه يلبس بنطلوناً، فإذا لبس بنطلوناً واسعاً وغير مسبل ماذا يعني؟ أو واحد يفاصل آخر لأنه مثلاً يفعل شيئاً في الصلاة بخلاف فعله، ولا يجوز ذلك، وليس هذا موضع مفاصلة، الولاء للمسلمين أكبر من قضية مفاصلته على مسألة من المستحبات، حتى لو فعل منكراً من المنكرات فإنه ينصح، فمعرفة نقاط الالتقاء والافتراق في منهج أهل السنة والجماعة من المواضيع الأصلية. فإذاً هناك قضيتان لحل المشكلة: قضية تتعلق بالأخلاق والآداب التي هي سلامة الصدر، وقضية تتعلق بمنهج العلم الشرعي والتي هي دراسة نقاط مواضع الافتراق والاختلاف في منهج أهل السنة والجماعة.

نصيحة لشاب يجالس الصديق الصالح والصديق السيئ

نصيحة لشاب يجالس الصديق الصالح والصديق السيئ Q بماذا تنصح الشاب الذي يجالس الصديق الصالح والصديق السوء؟ A نقول: هذا الرجل يعاني من نوع من النفاق أو الازدواجية، وينبغي عليه أن يطهر وقته وصداقاته من الناس السيئين؛ لأنه ليس من الشريعة في شيء أن يبني قصوراً من الحسنات مع أناس، ثم يذهب إلى آخرين فيهدمها في لحظات.

واجبنا تجاه إخواننا المسلمين في العالم

واجبنا تجاه إخواننا المسلمين في العالم Q هل نحن مذنبون تجاه إخواننا المسلمين في العالم الذين يتعرضون للقتل والجوع والتنصير والسجون، ونحن لا نستطيع أن نفعل شيئاً؟ A لا تأثم إذا كنت لا تستطيع أن تفعل شيئاً؛ لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها، لكن إذا كنت تستطيع أن تفعل شيئاً ولو بالدعاء فلماذا لا تفعل!

ملتزم مبتلى بحب مشاهدة مباريات كرة القدم

ملتزم مبتلى بحب مشاهدة مباريات كرة القدم Q شاب ملتزم -نحسبه والله حسيبه- حريصاً وخيراً ومرتبطاً ببيئة صالحة؛ لكن -عافانا الله وإياكم- مبتلى بحب مشاهدة مباريات كرة القدم التي كان عليها في ماضيه قبل التزامه، ما هي الوسائل المناسبة للعلاج؟ A إن عدم التخلص من رواسب الجاهلية هي من المشاكل التي تواجه كثيراً من الشباب الذين سلكوا مشوار التدين، ألم يقل مفكرو الإسلام ودعاة الإسلام: إن المسلم ينبغي أن يخلع على عتبة الإسلام جميع أردية الجاهلية؟ فالاهتمام ومتابعة مباريات كرة القدم بالتفصيل من أردية الجاهلية، فكيف يدخل هذا عالم الالتزام بالإسلام ولا زال يرتدي شيئاً من أردية الجاهلية؟ إذاً ينبغي عليه أن يخلع هذه. ثانياً: إن عدم الإحساس بالمسئوليات الملقاة على عاتق الشخص هو الذي يجعله يشتغل بهذه الترهات، فالشخص الذي لا يشعر بأهمية العلم الشرعي، أو أهمية الدعوة إلى الله، وأهمية التربية، وأهمية الجهاد، وأهمية إنكار المنكر، وأهمية نصرة المظلومين من المسلمين في العالم، وجمع المساعدات لهم، الذي لا يحس أن الأمة فيها مآسٍ وثغرات كثيرة، الذي لا يحس أنه على ثغرة من هذه الثغرات لا شك أنه سيجري وراء كرة القدم ولا شك في ذلك، هذه نتيجة طبيعية. بعض الأشخاص يلتبس عليهم مفهوم "اللهو" ومفهوم "روحوا عن القلوب ساعة وساعة" صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم: (كل لهو محرم إلا ملاعبة الرجل أهله، وتأديبه ولده، وسياسة الفرس، والسباحة) أو كما ورد بمعناه في الحديث الصحيح، الإنسان كونه ينشغل بمضاحكة أهله، أو بملاعبه ولده، أو سياسة فرسه، أو تعلم شيء ينفعه مثلاً كالسباحة أو كالرماية هذه قضايا ليست من اللهو المحرم، فكون الإنسان يبقى في حلق العلم وفي الدعوة دائماً يتعب، فهو ينتقل إلى ممازحة الأهل وملاطفة الأولاد، وتعلم شيء من الهوايات التي تقوي البدن كالسباحة أو الرماية، أو خبرة يكتسبها في الحياة، أو أي شيء يتعلق بتصليح سيارة مثلاً فهذه أشياء جيدة. لكن أي شيء يفيده من متابعة كرة القدم؟ لا شيء إلا الشعور باللذة حينما تلج الكرة الشباك وفي أي زاوية تدخل، ومن بين أي مدافعين تمرق، وتحت أي رجلين تخترق، وهذه هي المسألة، وإلا فليس هناك فائدة واضحة من مشاهدة مباراة كرة القدم إلا حرق الأعصاب، وتضييع الأوقات، والتعصب للجاهلية والأندية الجاهلية.

الحنين إلى المعاصي في الماضي

الحنين إلى المعاصي في الماضي Q من المشاكل التي تواجه الشاب الملتزم بعد ارتباطه بإخوة طيبين الحنين إلى الماضي، أي الحنين إلى المعصية التي كان مصراً عليها في الماضي، ثم منّ الله عليه فتركه بعد التزامه وارتباطه بهذه الصحبة الطيبة، فهل على الشخص إذا التزم أن يقطع أو يتناسى هذا الحنين؟ أم أنه لا خطر من هذا الحنين إذا لم يؤد به إلى الوقوع في المعصية؟ A هذا الحنين دافع شيطاني، والشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فقد لا يملك الإنسان أن يتخلى عن جميع الفكر التي يفكر بها في ماضيه، لكن قد يشعر أحياناً بشيء من الانجذاب، فينبغي أن يعالج مسألة التمني، فرق أن يخطر ببالك معصية كنت تفعلها في الماضي، أو شخصاً تقارف معه معصية، وبين أن تتمنى الآن أن تكون معه لمقارفة المعصية؛ لأن التمني من أعمال القلوب، والتمني خطير، فينبغي أن ينتبه الإنسان إلى قضية التفريق بين الخاطر الذي لا يؤاخذ عليه وبين التمني، فمشكلة كثير من الشباب أنه الآن التزم بالإسلام لكنه يتمنى في قرارة نفسه أحياناً أن يواقع معصية من المعاصي، يقول لك: إذا التزمنا وأصبحنا مع الشباب الطيبين لا نستطيع أن نذهب إلى تلك الأجواء، صارت المسألة الآن إحراج؛ كيف نذهب إلى هناك ونحن! فهو إذاً يتمنى، وهذه قضية خطيرة، فإذا كان في المسألة خواطر فلا يأثم عليها إن شاء الله لأن هذا حديث النفس، لكن إذا تطور إلى أمنيات وإصرار وتخطيط لكن لم يتهيأ له؛ فهذا تخطيط عمل يأثم به.

كيفية الانضمام إلى الصالحين

كيفية الانضمام إلى الصالحين Q أين الصالحون؟ وكيف يمكن الانضمام إليهم؟ A إنهم موجودون ومن مظان وجودهم المساجد، وكيف يمكن الذهاب إليهم؟ لا شك أنه لا بد من إسقاط حاجز الخوف من مصاحبتهم، والتعرف عليهم، ثم إنك لست مطالباً بالانخداع بالمظاهر، وأي واحد يظهر عليه الخير تذهب معه، ولا بد أن تختبره وتبتليه قبل أن تصاحبه.

نصيحة للذين يراسلون الإذاعات الأجنبية

نصيحة للذين يراسلون الإذاعات الأجنبية Q عندما يسمع الإنسان اسمه في المذياع يحس بالنشوة؛ لأنه منبوذ في المجتمع وأقرب المقربين إليه، فما هي نصيحتك للمجتمع في احتضان هؤلاء الذين يراسلون الإذاعات الأجنبية؟ A إذا كان الإنسان يعتقد بعقيدة الولاء والبراء فكيف يوالي أعداء الله؟! فكيف يوالي أناساً يتكلمون في هدم الشريعة، ويثيرون شبهات حول الإسلام؟ كيف يراسلهم؟!!

فراغ العمل من الصالحين

فراغ العمل من الصالحين Q إذا كان العمل الذي تؤمن منه رزقك اليومي لا يوجد فيه أحد من الصالحين بل يكاد يخلو منهم، أكثرهم من العامة الذين لا يكادون يذكرون الله إلا من رحم ربي، فماذا نفعل؟ A إننا في كثير من الأحيان نلقي باللوم على غيرنا ونقول: الوسط هذا تعبان، الوسط هذا سيئ، لا خلاف لكن ماذا فعلت أنت لتعديل الوضع؟ اسأل نفسك وحاسبها، ماذا فعلت لإصلاح الوضع؟ ماذا فعلت لاجتناب المنكر؟ ماذا فعلت لنشر الخير؟ هل فعلت شيئاً؟ قبل أن تلعن الظلام أوقد شمعة، فما هي شمعة الخير التي أوقدتها من أجل الآخرين قبل أن تقع فيهم؟ فإذاً أنا أقول: إذا فكرنا من وجهة النظر الإيجابية في تغيير الأوضاع ربما تجد أعواناً لك على الخير في هذا المكان، والأمة فيها خير ولا شك.

فضل حفظ القرآن

فضل حفظ القرآن Q لماذا لا يكون عنوان الدرس القادم "أهمية حفظ كتاب الله" و"التحزبات التي تواجه الشباب" في الدرس الذي بعده؟ A هذه قضايا قد لا تكون هي لوحدها مجالاً لمحاضرة كاملة، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (إذا جُمع القرآن في إهاب لم يحرقه الله بالنار) أي: أن هذه من فضيلة حفظ القرآن أن الإنسان إذا حفظ القرآن؛ فإن الله عز وجل لا يحرق بالنار جسداً جُمع فيه القرآن، فهذا من فضيلة حفظة كتاب الله عز وجل: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49]. عند الدفن من الذي يقدم؟ إذا كان هناك عدة موتى الآن نريد أن ندفنهم أول واحد نقدم منهم أحفظهم لكتاب الله، كان يسأل في غزوة أحد عن القوم إذا اجتمع اثنان في الدفن في قبر واحد لأن المسلمين منهكون بالجراحات، فيصعب عليهم حفر قبر لكل واحد، فقال الرسول: ادفنوا الاثنين والثلاثة في قبر واحد، عمقوا ووسعوا، ادفنوا الاثنين والثلاثة في قبر واحد، وكان إذا أراد أن يدفن سأل أيهم أكثر قرآناً فقدمه. ويؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإذاً حفظ القرآن فيه ميزة عظيمة، كيف لا وأنت تستطيع أن تستشهد به في المجالس، وتدعو به إلى الله؟ والله يقول عن القرآن: {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً} [الفرقان:52] أي بالقرآن، ونحن أحياناً نأتي بكلام من عندنا مع أن كلام الله عز وجل أشد تأثيراً وأعمق في النفس، لكن نغفل عن قضية الاستشهاد بآيات الكتاب العزيز لأسباب منها: عدم حفظها، كيف تستشهد بها وأنت لا تحفظ؟!

الإلتزام بالإسلام من دون مصاحبة الصالحين

الإلتزام بالإسلام من دون مصاحبة الصالحين Q من لا يصاحب الصالحين ينحرف ويفعل المعاصي، هل يمكن للإنسان أن يلتزم بالإسلام من دون مصاحبة الصالحين؟ A نظرياً ممكن للإنسان أن يلتزم بالإسلام من غير مصاحبة الصالحين، لكن كيف يُكمل المشوار، وكثير من تشريعات الإسلام جماعية: يا أيها الذين آمنوا، يا أيها الذين آمنوا فكيف يمكن أن يكمل الشريعة وكيف له أن يحيا الحياة الإسلامية وحيداً؟ كيف يتعلم التضحية والإيثار من غير أن يكون مع مجموعة من الناس الصالحين؟ كيف يتعلم؟ وممن يتعلم؟ لابد أن يكون هناك إنسان يعلمه.

الواجب تجاه أصحاب الوجهين

الواجب تجاه أصحاب الوجهين Q أنا في إحدى المكتبات في المساجد، ويوجد فيها طلاب صالحون والعكس فهناك طلاب غير صالحين ويعتبرون من أصحاب الوجهين، ويعتقد أستاذ المكتبة أنهم صالحون، فماذا يجب عليّ؟ A عليك أن تنصحهم، فإذا لم يتغيروا؛ فلا بأس أن تقول لهذا الأستاذ: إن أناساً فيهم الأمراض الفلانية لا للغيبة ولا للنميمة، لكن لكي يجد وسيلة هو يساعدهم بالإصلاح.

حكم من لم يستطع الجهاد لمانع شرعي

حكم من لم يستطع الجهاد لمانع شرعي Q إذا أراد المسلم أن يجاهد بنفسه، ثم كانت هناك أشياء تعيقه مثل عدم موافقة أبيه، أو كونه وصياً على أيتام، هل يبلغ مراتب الشهداء؟ A يُرجى أن يكون له أجر الجهاد إذا منعه عن الجهاد طاعة أوجب منه.

إعطاء الفقير مالا لا يكفيه

إعطاء الفقير مالاً لا يكفيه Q ما رأيك فيمن قال: لا تعطي المحتاج الفقير مبلغاً كبيراً يغنيه، بل أعطه القليل حتى يبقى دائماً في حاجتك ولا يستغني عنك؟ A هذا شيء سيء، المال مال الله، أنت الآن تعطيه لله لا تعطيه لكي تلفت إليك الأنظار، والناس يأتون إليك، ويحومون حولك، ويطرقون بابك، ويناشدونك ويلتمسون منك لا، فالعلماء قالوا: يُعطى الفقير نفقة سنة حتى يحين موعد الزكاة التي بعدها.

الامتناع عن الزوج لشربه الخمر

الامتناع عن الزوج لشربه الخمر Q هل لزوجة شارب الخمر أن تمتنع منه إذا دعاها للفراش؟ A نعم، لها أن تمتنع منه وتطالبه بالتطهر.

حكم من وضع ولد الزنا في حمامات عامة لا مطروقة ولا مهجورة وذهب

حكم من وضع ولد الزنا في حمامات عامة لا مطروقة ولا مهجورة وذهب Q رجل أخذ ولد زنا ووضعه في حمامات عامة لا مطروقة ولا مهجورة، وذهب، وبعد سنوات رآه في المنام يقول له: ضيعك الله كما ضيعتني (ثلاث ليال متوالية) فماذا عليه؟ A هذا رجل عليه أشياء كثيرة: يتوب إلى الله، ويكفر عن المعصية، ويعمل طاعات كثيرة، وقد أجاب الشيخ عبد العزيز بالنسبة للكفارة قال: عليه التوبة فقط لأن وفاة الولد غير متحققة، يحتمل أنه التقطه أحد ويحتمل أنه ما التقطه، فبما أن الوفاة غير متحققة فلا يلزم الكفارة، لكن عليه أن يتوب إلى الله توبة عظيمة؛ لأن هذه نفس نفخ فيها الروح ولها الحق في الحياة، وليس ذنبه أنه ولد زنا فيموت ويخنق ويرمى في الزبالة، فبعد أن نفخت فيه الروح يتحمل مسئوليته الذي أنجبه.

حكم التبول وانغماس الجنب في الماء الذي في البانيو

حكم التبول وانغماس الجنب في الماء الذي في البانيو Q هذا سؤال عرض لنا في درس الفقه، وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن التبول في الماء الدائم، ونهى عن دخول الجنب للماء الدائم الذي لا يجري، فالماء الذي في البانيو الذي في الحمامات اليوم إذا وضع فيه السدادة أو البركة ماذا يكون حكمها؟ A جواب الشيخ عبد العزيز: حكمها حكم الماء الدائم، لا يجوز التبول فيها ولا الانغماس للجنب فيها، فإذا نزعت السدادة صار حكمها حكم الماء الجاري، فلو كان الماء ينزل عليه والبلاعة تشفط الماء فيعتبر أن هذا الماء جارٍ، فلو أنه دخل فيه وهو جنب فلا يضر ولا بأس بذلك، أو حصل به حاجة للتبول فتبول لا بأس، أما الماء المحصور في حوض أو مكان معين لا يجري فإنه لا يجوز التبول فيه ولا الدخول فيه وهو جنب.

حكم المباهلة في الأمور غير المستحقة

حكم المباهلة في الأمور غير المستحقة Q ما رأيك فيما يفعله كثير من الناس والشباب حينما يختلفون يعمدون إلى المباهلة؟ A المباهلة ما هي؟ اثنان متخالفان يقولان: لعنة الله عليّ إن كنت من الكاذبين، وذاك يقول: لعنة الله عليّ إن كنت من الكاذبين، أو غضب الله عليّ، أو أهلكني الله إذا كنت كاذباً يدعو على نفسه بالهلاك إذا كان كاذباً، هل هذه تُفعل لأي شيء ولأبسط الأشياء؟ أي: أنهم اختلفوا هذه سيارة فلان أو سيارة فلان قال: تعال نتباهل، فهذه من المصائب أن ينزلوا إلى هذه الدرجة، وأما المباهلة فقد قال الله عز وجل: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ} [آل عمران:61] فإذاً هذه مع أهل الكتاب يجعل لعنة الله على الظالم فيهم وعلى الكاذب فيهم، بيننا وبين أهل الكتاب نبتهل، وليس بين مسلمين على شيء تافه يقولون: تعال نتباهل!

حكم مساعدتي لأبي مع الإحراج

حكم مساعدتي لأبي مع الإحراج Q أنا أب عائلة وأساعد أبي المتزوج من امرأتين مادياً إلى درجة أني أُحْرج؟ A يجب عليك أن تساعد أباك المحتاج بشرط ألا تضر بنفسك، فإذا وصل الأمر إلى ضررٍ في نفسك؛ فليس عليك المساعدة في ما لا تطيقه.

كفارة اليمين

كفارة اليمين Q زوجتي كانت غضبى وأنا أريد أن أخرج من البيت، فحلفت علي ألا أخرج وخرجت، هل يجب عليها الكفارة؟ A نعم، إذا حلفت ألا تخرج ثم خرجت فعليها الكفارة. يتبع السؤال: ما هو الترتيب؟ الجواب: أولاً: إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام، فثلاثة على التخيير والثانية على الترتيب -والتي هي الرابعة- وهي الصيام لا يجوز أن ينتقل إلى الصيام وهو يستطيع واحدة من الثلاث التي قبله. يتبع السؤال: علماً أنها كررت اليمين أكثر من مرة؟ الجواب: من كرر اليمين على شيء واحد فعليه كفارة واحدة.

حكم تقديم الإمام لرجل ليس بالأقرأ

حكم تقديم الإمام لرجل ليس بالأقرأ Q إذا نوَّب الإمام رجلاً ليس بالأقرأ فهل يقدم عليه الأقرأ؟ A الإمام ولي أمر في المكان الذي هو فيه، الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (ولا يؤم الرجل رجلاً في سلطانه) فإذاً الإمام في المسجد هو ولي أمر، فإذا عين أحداً فلا يصلح التقدم على النائب الذي عينه ولي أمر المسجد وهو الإمام، فإذا كان هذا إمام معروف، فإذا نوب شخصاً فيلتزم بالنائب ولا يتعدى عليه.

قراءة الكتب دون الخروج بالفائدة

قراءة الكتب دون الخروج بالفائدة Q أقرأ الكتب ولا أخرج بفائدة. أفيدونا جزاكم الله خيراً؟ A سبق وأن ذكرنا في محاضرة "كيف تقرأ كتاباً" نماذج أو أشياء مما يساعد في حفظ المعلومات؛ منها: تلخيص الكتاب، وضع خطوط تحت النقاط المهمة، ترقيم المعلومات، وضع فهرس دقيق، إعادة قراءة الكتاب أكثر من مرة، إلقاؤه وتقديمه للآخرين. والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

أسباب الزيادة في الرزق

أسباب الزيادة في الرزق إن لزيادة الرزق أسباباً شرعية وغير شرعية، فمن الأسباب الشرعية: الاستغفار والتوبة، وتقوى الله تعالى، والتفرغ لعبادته، والتوكل، والمتابعة بين الحج والعمرة، وصلة الرحم، وكذلك الإنفاق في سبيل الله والهجرة هذا ما تحدث عنه الشيخ، وذكر أنه لابد أن يأخذ الإنسان بهذه الأسباب حتى يرزقه الله تعالى، وذكر أسباباً غير شرعية؛ كالسرقة والرشوة، والربا وغيرها، وبين أن على الإنسان أن يحتنبها ويحذر منها.

أسباب الزيادة في الرزق

أسباب الزيادة في الرزق إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فيا عباد الله: إن الله تعالى أمرنا بالضرب في الأرض لطلب المعاش والرزق، وللرزق أسباب شرعية جاءت في الكتاب والسنة، ولعلنا نعرض لها في هذه الخطبة، إضافةً لما تقدم من خطبة ماضية حول هذا الموضوع، وهذا العرض نافع لكل من لم يجد عملاً أو وظيفة، ونافع لكل من ركبته ديون لا يستطيع أداءها، ونافع لكل من لم يحصل على حقه فهو ينتظره على أحر من الجمر، ونافع كذلك لمن لا يكفيه راتبه، ولا يكفيه دخله من كثرة المصروفات وأبوابها المفتوحة عليه. وبالجملة: فإن موضوع المال والاقتصاد من الموضوعات الحساسة، ولذلك جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية ذكر كبير لما يتعلق بهذه القضية؛ لأنها قيام الناس قال تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} [النساء:5] فشأنكم وحياتكم يقوم بالمال. ولذلك فإن هذه المسألة كان لها مساحة لا بأس بها في القرآن والسنة، يحتاج إليها المسلم. ونقول هذا الكلام -أيضاً- في وقت رجع فيه كثير من الناس من الإجازات، وقد أنفقوا كل ما ادخروه في السنة الماضية، وصار بعضهم في شيء من الضيق.

الاستغفار والتوبة

الاستغفار والتوبة أيها المسلمون: اعلموا -رحمكم الله تعالى- أن من الأسباب العظيمة للرزق الشرعي: الاستغفار والتوبة (أستغفر الله وأتوب إليه). الاستغفار والتوبة من الأمور العظيمة التي جاء في القرآن والسنة ذكرها، قال الله تعالى عن نوح عليه السلام: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} [نوح:10 - 12]. وكثير من الناس اليوم يستغفرون باللسان؛ لكن لا حقيقة للاستغفار في قلوبهم، وإذا تابوا فتوبتهم ناقصة، فبعضهم لا يقلع عن الذنب أصلاً، وبعضهم إذا أقلع فإنه لا يندم على ما فات، بل ربما تمنى أن يحصل له الذنب مرةً أخرى، وأما العزم على عدم العودة فغير حاصل؛ وذلك لأنه لعله يترقب أن يحصل له من الفرص ما يعود به إلى الذنب؛ لأن الاستغفار ليس من القلب، ولأن التوبة ليست صادقة، فكثير من الناس يُضَيَّق عليهم في معاشهم، وليس كلهم؛ فإن بعض الناس يملي الله لهم ليزدادوا إثماً. والله تعالى لما قال عن نوح: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً} [نوح:10 - 11] قال العلماء رحمهم الله: أي: إذا تبتم إلى الله واستغفرتموه وأطعتموه كَثُر الرزق عليكم، وأسقاكم من بركات السماء، وأنبت لكم من بركات الأرض، وأنبت لكم الزرع، وأدرَّ لكم الضرع، وأمدكم بأموال وبنين، أي: أعطاكم الأموال والأولاد، وجعل لكم جنات فيها أنواع الثمار، وخللها بالأنهار الجارية بينها. فإذاً: قضية الاستغفار والتوبة مسألة عظيمة. جاء رجل إلى الحسن البصري يشكو الجدب والقحط، فقال له: استغفر الله. ثم جاءه آخر يشكو إليه الفقر، فقال له: استغفر الله. ثم جاء ثالث يقول: ادعُ الله أن يرزقني ولداًَ، فقال له: استغفر الله، وشكا إليه رابع جفاف بستانه، فقال له: استغفر الله، فقلنا له في ذلك وفي رواية: فقال له الربيع بن صبيح: أتاك رجال يشكون أنواعاً فأمرتهم كلهم بالاستغفار! فقال: ما قلت من عندي شيئاً، إن الله يقول في سورة نوح: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} [نوح:10 - 12]. عباد الله: إن الذي يكثر من الاستغفار؛ فإن الله يفرج همه، وينفس كربه، ويرزقه من حيث لا يحتسب، مصداقاً لما في كتاب الله تعالى.

التقوى

التقوى والعامل الثاني من عوامل الرزق الشرعي: التقوى وقد عرفها العلماء بقولهم: امتثال أمر الله ونهيه، والوقاية من سخطه وعذابه سبحانه وتعالى. ولذلك فإن الذي يصون نفسه عن المعاصي متقٍ لله، والذي يقوم بالواجبات متقٍ لله، والدليل على ارتباط التقوى بالرزق قول الله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3]. {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ} [الطلاق:2] فيما أمره به، وترك ما نهاه عنه، يجعل له من أمره مخرجاً {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:3] أي: من جهة لا تخطر بباله. وهذا له قصص كثيرة، وشواهد في الواقع؛ لكن أين المتقون؟! إن الذين يفعلون المعاصي ويرتكبون المنهيات كثير ينظرون إلى ما حرم الله، ويستمعون إلى ما حرم الله، ويمشون إلى ما حرم الله، ثم يقولون: لا نجد رزقاً، لا نجد عملاً، لا نجد وظيفة! نقول: اتقوا الله يجعل لكم مخرجاً، فقد قال ربنا: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف:96]. بركات من السماء، أي: المطر، وبركات الأرض، أي: النبات والثمار، وكثرة المواشي والأنعام، وحصول الأمن والسلامة؛ لأن السماء تجري مجرى الأب، والأرض تجري مجرى الأم، ويحصل لهذا المخلوق على الأرض وتحت السماء من الرزق -إذا ما اتقى الله- ما الله به عليم. عباد الله: إن تطبيق الشريعة وسيلة عظيمة لحصول الرزق للناس، ودليله قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ} [المائدة:66] أقاموا الشيء المنزل من السماء، أقاموه وطبقوه وحكَّموه {لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [المائدة:66] هذه الآية السادسة والستون من سورة المائدة، وهكذا يكون تطبيق الشرع عاملاً من عوامل الرخاء، وسعة الرزق، ووجود البحبوحة للخلق.

التوكل على الله

التوكل على الله وأما النقطة الثالثة: فهي التوكل على الله سبحانه وتعالى والتوكل تفويض الأمر إلى الله، والاعتماد على الله وحده، وعدم التعلق بالعباد؛ لأن الله قال: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} [العنكبوت:17] وهذه أبلغ من قوله: (فابتغوا الرزق عند الله)، أي: عنده لا عند غيره، التمسوه منه لا من غيره. التوكل على الله أن تفرغ قلبك من التعلق بالخلق، وتُوكل أمرك لله، وترجو الفرج من الله، وتنتظر الرزق مع بذل الأسباب والأخذ بها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله؛ لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً). (تغدو) أي: تذهب في أول النهار. (خماصاً) أي: جياعاً. (وتروح) أي: ترجع في آخر النهار. (بطاناً) جمع بطين، وهو عظيم البطن، والمراد: شباعاً. هؤلاء خَلْق الله؛ الطير في السماء تتوكل على الله أكثر بكثير من البشر (لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير) {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3] فالله يكفيه، ويقضي دينه، ويسد جوعته. ولا شك أن الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل على الله، بل إنه داخل في التوكل على الله، ومن صلب التوكل أن تأخذ بالأسباب، وإلا صار التوكل لغواً. سئل الإمام أحمد رحمه الله تعالى عن رجل جلس في بيته أو في المسجد وقال: لا أعمل شيئاً حتى يأتيني رزقي، فقال: هذا رجل جهل العلم، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وجعل رزقي تحت ظل رمحي) يعني: الجهاد، وكم يحتاج إلى إعداد! وتجميع الطاقات! وبذل الأسباب! والتوقيت المناسب! وخداع العدو! وأخذه على حين غرة! ونحو ذلك الأمور الحربية! (وجُعِل رزقي تحت ظل رمحي) فإذا كان الرزق تحت ظل الرمح، وكان الجهاد في سبيل الله باباً عظيماً للرزق؛ لأن الله قال: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً} [الأنفال:69] أي: غنمتم من المعارك مع الكفار، خذوه حلالاً طيباً، ولا شك أن الجهاد يحتاج إلى بذل أسباب، والرزق تحت ظل الرمح؛ إذاً: لابد من بذل الأسباب. وقال الإمام أحمد رحمه الله تكملةً للجواب عن Q فقد قال -أي: النبي صلى الله عليه وسلم-: (لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً) فذكر أنها تغدو وتروح في طلب الرزق. فتأملْ فقه الإمام رحمه الله الطير تتوكل على الله؛ لكن هل تقعد في أعشاشها، أو أنها تغدو وتروح، تذهب في الصباح للبحث عن الرزق، وتعود محملةً بالطعام لأولادها في أعشاشها؟ كَدٌّ وسعي وذهاب في طلب الرزق، فلم يقل: توكلوا فقط، بل قال: (اعقلها وتوكل). وهذه المسألة مسألة الأخذ بالأسباب باب يغرق فيه كثير من الناس، فبعضهم يجعل كل شيء الأخذ بالأسباب، ولا يتوكل على الله، وقلبه غير معلق بالله، وإنما معلق بالواسطة الفلانية، والموظف الفلاني، والصديق الفلاني، والأوراق التي قدمها، والإعلانات، وترقب النتائج من الشركة، ونحو ذلك، لكن لا يترقب شيئاً من الله، وبعض الناس مضيع للأسباب لا يبذل شيئاً. أحدثكم عن قصة حدثت مع شخص جاء إليَّ، شاب يقول: إنني أحتاج إلى إيجار الشقة التي استأجرتها للسكنى، وأحتاج إلى قرض لكي أسكن وأدفع الإيجار، فاعتذرتُ إليه بأن إقراضه غير متيسر الآن، والناس كان أكثرهم مسافرين، فذهب هذا الشخص يسعى في طلب الرزق، فبدأ بهذه المطاعم الموجودة يلف عليها، ويقول: ما حاجتكم من الخضراوات والفواكه واللحوم؟ وبدأ يسجل هذه الاحتياجات ويقولون: قدم لنا تسعيرة. ثم ذهب إلى سوق الخضار المركزي يسجل ويدون الأسعار، ثم قدم تسعيرته إلى بعض المطاعم، واكتفى بربح معقول، فبدأ هذا المطعم يأخذ منه، وهذا المطعم يأخذ منه، والثالث يأخذ منه، وهكذا، حتى دفع إيجار بيته بالكامل. إذاً: يمكن للإنسان إذا تحرك وفكر أن يحصل على الرزق، ولستُ أقول: اذهبوا إلى المطاعم الآن كلكم، وإنما المقصود -أيها الإخوة- ضرب المثل، قد يوجد في البقالات مستلزمات تحتاج إلى شراء من تجار الجملة ونحو ذلك، فالمقصود تحريك الذهن لمن لم يجد وظيفة أن يسعى في العمل، ولو كان عنده وظيفة، يسعى في العمل، والله يرزقه لو أحسن التوكل على الله {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6].

التفرغ لعبادة الله تعالى

التفرغ لعبادة الله تعالى وكذلك من الأسباب العظيمة للرزق: التفرغ لعبادة الله تعالى ومعنى التفرغ لعبادة الله: أن يكون العبد حاضر القلب عند العبادة، هذا هو المقصود بالتفرغ لعبادة الله؛ لأن الله تعالى يقول في الحديث القدسي: (يا بن آدم: تفرغ لعبادتي؛ أملأ صدرك غِنَىً، وأسد فقرك، وإلا تفعل ملأت يدك شغلاً، ولم أسد فقرك) حديث صحيح. فبعض الناس عندهم أشغال؛ لكن فقرهم لم يُسَد، الله ملأ أيديهم بالأشغال والمقاولات والأعمال؛ لكن لا يوجد بركة ولا فائدة، خسارات متوالية، ولا يجدون الكفاية. وقال الله تعالى في الحديث القدسي في اللفظ الآخر: (يا بن آدم: تفرغ لعبادتي؛ أملأ قلبك غِنَىً، وأملأ يديك رزقاً، يا بن آدم: لا تباعدني؛ فأملأ قلبك فقراً، وأملأ يديك شغلاً) فيشغله بنفسه، ويكثر عليه الأشغال والأعمال؛ لكن الفقر لا زال موجوداً، وهو تحت الصفر، والحساب بالناقص، وهكذا

المتابعة بين الحج والعمرة

المتابعة بين الحج والعمرة ومن أسباب الرزق -يا عباد الله- المتابعة بين الحج والعمرة ومعنى المتابعة بين الحج والعمرة: أن يجعل أحدهما تابعاًَ للآخر، واقعاً عقبه، أي: إذا حج يعتمر، وإذا اعتمر يحج، وهكذا والدليل قوله صلى الله عليه وسلم: (تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة -أي: الأشياء الرديئة والشوائب- وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة) فتأمل أنه جعل المتابعة بين الحج والعمرة، نافية للفقر والذنوب، مذهبة لهما.

صلة الرحم

صلة الرحم ومن أسباب الرزق الشرعية: صلة الرحم والرحم هم أقرباء الرجل من جهة أبيه وأمه، سواءً كانوا يرثونه أو لا يرثونه، وهذا الكلام مأخوذ من قوله صلى الله عليه وسلم: (مَن سرَّه أن يُبْسَط له في رزقه، وأن يُنْسأ له في أثره؛ فليصل رحمه). وقال صلى الله عليه وسلم: (تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، فإن صلة الرحم محبة في الأهل، مثراة في المال، مَنسأة في العمر) يعني: تطيل عمر الإنسان. فهذه صلة الرحم بما فيها من هذا الفضل العظيم، حتى لو كان الإنسان فاسقاً، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أعجل الطاعة ثواباً صلة الرحم، حتى إن أهل البيت لَيَكونوا فَجَرَة -مقيمين على مَعاصٍ- فتنمو أموالهم، ويكثر عددهم، إذا تواصلوا) رواه ابن حبان وهو حديث صحيح. فإذاًَ: عليك بصلة الرحم، تصل الأقارب وتزورهم، تعين محتاجهم، تهديهم، وتعودهم، وجميع أنواع الصلات سبب لمجيء الرزق إليك، ولو كانوا على البُعد، فلن يخلو الأمر من وسيلة للصلة.

الإنفاق في سبيل الله، والنفقة على طلاب العلم

الإنفاق في سبيل الله، والنفقة على طلاب العلم سابعاً: الإنفاق في سبيل الله قال تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ:39] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله تبارك وتعالى: يا بن آدم أَنفق أُنفق عليك) رواه مسلم رحمه الله تعالى، فهذا وعد الله {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} [النساء:122] ومن أصدق من الله وعداً. والملَك يدعو ويقول: (اللهم أعطِ منفقاً خلفاً) والنبي عليه الصلاة والسلام يوصي بلالاً ويقول: (أنفق يا بلال، ولا تخشَ من ذي العرش إقلالاً) قال تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} [البقرة:268] يقول: لو أنفقتَ نقص مالك، أنت محتاج إليه، قدم نفسك على الناس، أولادك أحوج، والله يقول: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ:39] (أَنفق أُنفق عليك). ومن الأسباب كذلك: الإنفاق وإعاشة عباد الله المتقين من طلاب العلم والدليل على هذا الكلام: ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كان أخوان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أحدهما يأتي النبي صلى الله عليه وسلم والآخر يحترف -واحد متفرغ للعلم، وواحد متفرغ للتجارة- فشكا المحترف أخاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! لا يبذل شيئاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لعلك تُرْزَق به) لعل السبب في رزقك هو إنفاقك عليه، رواه الترمذي رحمه الله تعالى، وهو حديث صحيح.

الهجرة

الهجرة أيها المسلمون: هذه بعض الأسباب الجالبة للرزق؛ فإذا ضاقت الدنيا بالإنسان في بقعة من البقاع فمن أسباب طلب الرزق: الهجرة قال تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} [النساء:100] سعة في الرزق، وإرغاماً لمن أخرجوه، ولذلك لما هاجر المهاجرون في سبيل الله، وتركوا وطنهم لله، فَتَحَ الله عليهم الدنيا، وجاءت الغنائم، وتَبِعَتْ غنائمَ المشركين غنائمُ كسرى وقيصر، جاءت إلى المهاجرين، فوسَّع الله عليهم توسعة عظيمة، ومشكلة الناس أنهم يستعجلون النتيجة، يقولون: تُبْنا اليوم فما جاءنا الرزق بسرغة، هاجرنا اليوم فما حصل شيء بسرعة، ولكن المسألة تحتاج إلى مصابرة وتحتاج إلى استمرار، فإن نتائج كثير من الأعمال لا تُرى فوراً. نسأل الله تعالى أن يمد في أعمارنا في طاعته، وأن يوسع في أرزاقنا ويجعلها عوناً لنا على طاعته. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

أسباب غير شرعية لزيادة الرزق

أسباب غير شرعية لزيادة الرزق الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه. أشهد أن لا إله إلا هو الرزاق {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} [هود:6] كتب الرزق قبل أن يخلق السماوات والأرض، وكتب رزق كل مولود قبل أن يولد -سبحانه وتعالى- وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. عباد الله: هذه بعض الأسباب الشرعية لطلب الرزق، فهل هناك أسباب غير شرعية لطلب الرزق؟ A نعم، وهي كثيرة جداً، وإن البلاء في هذا الزمان أن يجد العبد أبواباً للحرام كثيرة، ولا يجد أبواب الحلال إلا قليلة، ولكن: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} [الطلاق:2]. فأبواب كسب الرزق بالحرام متعددة: كالسرقة، والرشوة، والشفاعة مقابل المال أنقلك من مكانك إلى مكان وتدفع لي خمسة آلاف أبحث لك عن عمل أشفع لك لتأخذ الوظيفة، وأنقل لك زوجتك من مدرسة إلى مدرسة، وأساعد في توظيف زوجتك بعد تخرجها من الكلية بالمال، والشاهد أخذ المقابل على الشفاعة، وقد جاء النهي عن ذلك، فأما من يقوم بالعمل، ويطالب وراء المعاملة، ويذهب ويجيء؛ فهذا يأخذ أجرة تعبه دون تَعَدٍّ على غيره، فإن كثيراً من الذين يشتغلون في هذه الأعمال يتعدون على دَور غيرهم، ويظلمون الناس. ومن الناس من يتعامل بالربا، ويستلف بالربا؛ ليقيم مشروعاً بالربا، ثم يأخذ بعض العوائد ليسدد الربا، ويجادلون بالباطل ويقولون: استفدنا واستفاد البلد، ونقول: إنما هو دمار وخراب ونزع للبركة، ولو كثرت الأرقام فإنه كما جاء في الحديث الصحيح: (إن الربا وإن كثر فإن عاقبته إلى قُلٍ) سيكون قليلاً. وهكذا يفعل كثير من الناس في أنوع من المحرمات والشبهات، ثم يجادلون بالباطل، صار الربا شيئاً مسَلَّماً من المسلمات الشرعية، صار يُناقش ويقول: أقنعني، ويعطون الرُّشا لمندوبي المبيعات، ومندوب المبيعات لا يشتري من الدكان إلا برشوة محسوبة داخل الفاتورة أو خارج الفاتورة، علماً أن له راتباً يأخذه من الشركة التي يعمل فيها، وتجده قد يعطى مبلغاً زهيداً إذا كان من هذه العمالة الآسيوية أو غيرها، ويعطى غيره مبلغاً أكبر، وهكذا، والجامع واحد؛ إعطاء الرشوة، إفساد الذمم، وتخريب العمال على مَن وظفهم، وأصحاب شركاتهم، وصارت هناك دخول أخرى، هناك بعض الناس لهم دخول أخرى، دخلهم الوظيفي ليس بشيء بجانب هذا، وأكثرها من الحرام، ومن تأمل عرف وشاهد بأم عينيه. ومنهم من يسعى لجذب الزبائن باستخدام الميسر وجوائز السحب، وما أكثرها! ويعملون المسابقات التي لا تَمُتُّ لا إلى جهاد ولا إلى علم شرعي، ويعطون عليها الجوائز لجذب الناس، وإيغار صدور الباعة الآخرين عليهم، والتغرير بالمشترين، وهذه أشياء كثيرة. وقد تكلمنا في خطبة ماضية عن الدولار الصاروخي، الذي يتعامل به الآن عددٌ من الناس، ويوزعون قسائمه، ويبيعونها، ويرسلون المبالغ بالشيكات إلى الكفار يا عباد الله! ويُضْحَك عليهم بإرسال أربع قسائم ليبيعوها، ويقول: رجع إلي مالي، ومسكت الدور لعلها تأتيني الفرصة والكسب العظيم، وقد سبق بيان أن ذلك حرام، وفتوى أهل العلم في المسألة في هذا الدولار الصاروخي الذي يقولون فيه: استرخِ وأَصْبِح غنياً، ووصف للنجاح بواسطة هذه الوصفة، تستطيع أن تربح رأس المال بدون التزامات مالية مقابل دفع كذا على القسائم، تغريرٌ بالناس، وأكل أموالهم بالباطل، وقد أفتى علماؤنا أنه ميسر داخل في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة:90] ثم بعد ذلك إذا بيعت هذه القسائم، وتطورت الأمور، سيجد عددٌ كثير من الأغبياء عندهم قسائم، ولا يجدون من يبيعونها عليه؛ لان أكثر الناس قد اشتروا القسائم ولا يوجد من يباع عليه، وهذه القاعدة الهرمية السفلى هم الأغبياء والمغفلون، والذين باعوا عليهم هم آكلو الحرام، الواقعون في الميسر، المُعِيْنُون للكفرة، المُرَوِّجُون للباطل. فالناس بين ذكي يستخدم ذكاءه في الشر، وبين غبي تنطلي عليه الخدع بسبب جهله وعدم استفتائه وعدم سؤاله، فهو واقع فيه، ومع التحذير الذي ذكرناه سابقاً والفتوى التي أشرنا إليها من أهل العلم؛ فلا زال الناس يتعاملون، وتنتشر هذه الأوراق سعياً في طلب رزق يكون وهمياً بالنسبة لأكثر من (99%) من الذين يشترون هذه القسائم، ويبقى بعض المحظوظين بزعمهم الذين ينالهم شيء. فابتعدوا -يا عباد الله- رحمكم الله عن أبواب الرزق المحرم، ابتعدوا عن الشبهات، اتقوا الله وخلِّصوا أموالكم من الحرام. نسأل الله تعالى أن يطيب مكاسبنا، وأن يجعل رزقنا حلالاً. اللهم اقضِ ديوننا، وسُد جوعتنا. اللهم اكفنا مد الأيدي للناس، واجعلنا غير محتاجين إلى أحد من خلقك. اللهم اجعلنا عليك متوكلين، وإليك منيبين، واغفر لنا ذنوبنا أجمعين. والحمد لله رب العالمين، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.

استدراك ما فات

استدراك ما فات خلق الله الإنسان ضعيفاً، وسلط عليه الشيطان فتنة، فلا إنسان إلا ويفوته من فعل الخيرات أمور كثيرة، بل قد يقع في المنكرات قلَّت أو كثرت، لكن السلف كانوا يستدركون ذلك، ويبحثون عن خير القربات للتعويض، ولا ييئسون لكبر عمر أو ضعف جسم أو قلة ذات اليد، وفي هذه المادة كلام غزير نافع حول هذا الأمر، يبحثه من حيث أسبابه وعلاجه، ويضرب أمثلة ويبين سبلاً فعليك به لعلك ترشد!

فضل حلق الذكر

فضل حلق الذكر الحمد لله الذي لم يزل عليماً خبيراً، قد أحصى كل شيء ولا يفوته شيء، وخلق كل شيء فقدره تقديراً، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وكان بعباده خبيراً بصيراً، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً. إخواني الأحبة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: فإنني أسأل الله كما جمعنا في بيته هذا، أن يجمعنا في دار كرامته ومستقر رحمته وفسيح جنته، النفس أيها الأخوة تزكو بالذكر، والبلد يزكو بحلق الذكر ودروس العلم، فتصبح الملائكة في شوارعها وأحيائها تذهب وتجيء، وتصعد وتنزل ملتزمة حلق الذكر؛ فتتنزل السكينة وتعم الرحمة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لله ملائكة يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قوماً يذكرون الله تنادوا: هلموا إلى حاجتكم، فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا، فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم الحديث إلى أن قال في آخره: أن الله يقول للملائكة: فأشهدكم أني قد غفرت لهم) رواه البخاري. وفي رواية أحمد (إن لله عزَّ وجلَّ ملائكة فضلاً يتبعون مجالس الذكر يجتمعون عند الذكر، فإذا مروا بمجلس علا بعضهم على بعض حتى يبلغوا العرش الحديث) اللهم اجعلنا في هذه الساعة من أهل هذا الحديث يا رب العالمين، اللهم اجعل هذا البلد آمناً وارزقهم من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر. وقبل البداية أيها الأخوة، لابد من شكر المسئولين والقائمين على هذه السلسلة الطيبة التي استمعتم إلى عدد من دروسها في هذا المكان الطيب، فجزى الله بالخير كل من تسبب في قيامها وتنفيذها والإعانة عليها ابتغاء وجهه الكريم. أيها الأخوة: درسنا لهذه الليلة أحكام وعظات، ونظرات تربوية في استدراك ما فات، وسبب الحديث عن هذا الموضوع أن هناك ملحظاً فيما يخص مسألة التفويت والتضييع، والاستسلام لليأس، وعدم السعي إلى الإصلاح والاستدراك. أناس كانوا في جاهلية فهداهم الله، وبعضهم كانوا في بدعة فأنقذهم الله، فكيف يعوضون ما مضى من عمرهم؟ وآخرون تردت أحوالهم، وضعف إيمانهم، وانتكست مسيرتهم، وبردت هممهم، واعتراهم من الشيطان ما اعتراهم، ومسهم من كيده ما آذاهم، فوقفوا يتلمسون الطريق. ولهم أصحاب يدعونهم إلى الهدى ائتونا، قل إن هدى الله هو الهدى، وبعض هؤلاء يحاولون الرجوع، وبعضهم لا يزالون في أمرهم يترددون فلنلق نظرة على هذا الموضوع، وأجد أنه بحق موضوع مهم لنا جميعاً (استدراك ما فات) ننظر ماذا قال العلماء في هذا الموضوع، وكيف يمكن أن نستفيد منه في مسيرتنا وحياتنا

فوات الدين أعظم من فوات الدنيا

فوات الدِّين أعظم من فوات الدنيا العنوان مكون من جزئين: استدراك ما فات. والاستدراك لغة: استفعال من درك، والدرْك والدرَك اللحاق والبلوغ، وفي اللغة استدرك الرأي والأمر إذا تلافى ما فرط فيه من خطأ ونقص، والاستدراك عند العلماء، وهو الذي يرد كثيراً في كلام الفقهاء: إصلاح ما حصل في القول أو العمل من خلل أو قصور أو فوات، ويقولون: استدراك نقص الصلاة بسجود السهو، واستدراك الصلاة إذا بطلت بإعادتها، واستدراك الصلاة المنسية بقضائها، والاستدراك بإبطال خطأ القول وإثبات صوابه، إذا كنت تتحدث وأخطأت تستدرك كلامك وتأتي بالصواب. ويقول العلماء أحياناً: التدارك، وهي لفظة أخرى يستخدمها الفقهاء، والتدارك في الأفعال: فعل العبادة المتروكة، أو فعل جزئها في محله المقرر شرعاً ما لم يفت، كما في قول صاحب كشاف القناع رحمه الله من علماء الحنابلة: لو دفن الميت قبل الغسل، وقد أمكن غسله لزم نبشه، وأن يخرج ويغسل تداركاً لواجب غسله، وكقول الرملي رحمه الله: إذا سلم الإمام من صلاة الجنازة تدارك المسبوق باقي التكبيرات بأذكارها، وقوله: لو نسي تكبيرات صلاة العيد فتذكرها وقد شرع في القراءة وفاتت فلا يتداركها. وقد يقطع الغلط في القول فيحتاج الإنسان إلى تداركه، بأن يبطله ويثبت الصواب، ولذلك طرق ومنها: قولهم (بل) فيقول كلاماً فيتذكر أو يعرف أنه خطأ، فيغير ويقول (بل) ويأتي بالصواب، هذا هو الاستدراك. أما الفوات فمن الفوت، والفوات يقال في اللغة: فاته الشيء إذا ذهب عنه كما في اللسان، والفوات منه ما يكون في أمور الدين، ومنه ما يكون في أمور الدنيا، أما فوات الدنيا فهو شيء قليل سهل ويسير يمكن تعويضه، ومن نظر في دينه إلى من هو فوقه فاقتدى به، ونظر في دنياه إلى من هو دونه فحمد الله على ما فضله الله به عليه كتبه الله شاكراً صابراً. ومن نظر في دينه إلى من هو دونه ونظر في دنياه إلى من هو فوقه فأسف على ما فاته منه، لم يكتبه الله شاكراً ولا صابراً، وقد تولى الله علاج الألم النفسي الذي يترتب على الفوات، تولى الله علاج ما حصل من ذلك في نفوس الصحابة في غزوة أحد، فقال الله تعالى: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [آل عمران:153]. فقوله تعالى: {فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ} [آل عمران:153] أي: فجزاكم غماً على غم، وقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: الغم الأول بسبب الهزيمة، والغم الثاني حين قيل: قتل محمد صلى الله عليه وسلم، كان ذلك عندهم أشد وأعظم من الهزيمة، فإذاً: كان ألماً عظيماً بالهزيمة والقتل والجراح. لما قيل: قتل محمد صلى الله عليه وسلم، كان غم غطى على الغم الأول فنسوا الغم الأول، ثم تبين أن محمداً صلى الله عليه وسلم حي، فسروا وكان الغم الأول قد نسي في غمرات الغم الثاني، وهذه حكمة إلهية بديعة قدرها الله تعالى في أحداث هذه الغزوة. {لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} [آل عمران:153] أي: على ما فاتكم من الغنيمة، والظفر بعدوكم، ولا ما أصابكم من الجراح والقتل. إذاً فوات الدين في نفوس المؤمنين هو الأعظم، ويحصل الهم لفوات الدنيا لأنهم بشر، فأي إنسان إذا فاته شيء من الدنيا ربما يتألم؛ لكن ينبغي أن يعلم أن فوات الدين أعظم بكثير من فوات الدنيا. ومما يساعد على التغلب على ألم فوات شيء من مال أو نجاح أو أي شيء فاتك من الدنيا: الإيمان بالقضاء والقدر، ولذلك قال الله تعالى في سورة الحديد: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد:23] فأخبر أنه كتب كل المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض، وكل مصيبة قبل أن تحدث فهي مكتوبة عند الله، أي: فعلنا ذلك وكتبناه وقدرناه من قبل أن نخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد:23] أي: فأعلمناكم -كما يقول ابن كثير في تفسيره رحمه الله- بتقدم علمنا وسبق كتابتنا للأشياء قبل كونها، وتقديرنا الكائنات قبل وجودها لتعلموا أن ما أصابكم لم يكن ليخطئكم، وما أخطأكم لم يكن ليصيبكم، فلا تأسوا على ما فاتكم، لأنه لو قدر شيء لكان. إذا فاتتك عبادة وعلم فهو الذي يحزن عليه حقاً، وهو المصيبة كما جاء عن نوفل بن معاوية أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله) أي: فكأنما فقد أهله وماله. أما الدنيا فتعوض؛ حدثني أحد التجار في الحج قال: أنا نزلت إلى تحت الصفر وطلعت إلى مئات الملايين، ثم نزلت إلى تحت الصفر ثم طلعت إلى مئات الملايين أربع مرات في حياتي، فالدنيا تذهب وتجيء، لكن الدين إذا ذهب: لكل شيء إذا ضيعته عوض وما من الله إن ضيعته عوض

أحوال السلف في استدراك ما فات

أحوال السلف في استدراك ما فات هناك آية في سورة الفرقان تذكر المؤمنين باستدراك ما فات، قال الله عزَّ وجلَّ: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} [الفرقان:62] قال المفسرون في قوله خلفة، أي: من فاته في الليل عمل أدركه بالنهار، أو فاته بالنهار أدركه بالليل، فمن رحمة الله بهذه الأمة أنه لما علم قصر أعمارها، وضعف أجسادها بالنسبة لمن سبقها، عوضهم تعالى بالمناسبات تضاعف فيها الأجور، يدركون بها من سبقهم ويسبقونه، ليلة القدر خير من ألف شهر، صيام عرفة يكفر سنتين، وعاشوراء يكفر سنة، وصيام شوال بشهرين، الحسنة بعشر أمثالها.

كيفية استدراك السلف لبعض الطاعات التي فاتتهم

كيفية استدراك السلف لبعض الطاعات التي فاتتهم كيف كان حال السلف رحمهم الله إذا فاتهم شيء من الطاعات؟ نحن الآن نتكلم أيها الأخوة في غمرة أحوال تفوت فيها علينا أشياء كثيرة من الطاعات، وربما يكون عندنا ضعف في الإيمان فلا نحزن على ما فات من الطاعات.

استدراك الصحابة ما فاتهم من الجهاد

استدراك الصحابة ما فاتهم من الجهاد مثال فوت ملاقاة العدو: كان بعض الصحابة يفوتهم أشياء لعذر ويتأسفون عليها يريدون التعويض، ونحن تفوتنا أشياء لغير عذر وربما لا نحزن ولا نتألم، ولا نسعى للتعويض؛ عن أنس قال: غاب أنس بن النضر عن قتال بدر، فقال: يا رسول الله! غبت عن أول قتال قاتلت المشركين، لئن أشهدني الله قتال المشركين ليرين الله ما أصنع، فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون، قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء، أي: المسلمين، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء، أي: المشركين، ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ، فقال: يا سعد بن معاذ! الجنة! ورب النضر إني لأجد ريحها من دون أحد، قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع، قال أنس: فوجدنا به بضعاً وثمانين ضربة ما بين ضربة بالسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم، ووجدناه قد قتل، وقد مثل به المشركون فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه. فهذا الذي وجد فيه بضع وثمانون ضربة وجرحاً، كم قاتل حتى ضرب هذه الضربات؟ وكم تحامل على نفسه وواصل في القتال حتى يضرب هذا العدد؟ ومن حنقهم عليه مثلوا به هذا التمثيل. قال أنس: كنا نظن أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ الآية)) [الأحزاب:23]) وهذا الحديث رواه البخاري رحمه الله. وروى النسائي عن عاصم بن سفيان الثقفي أنهم غزوا غزوة ذات السلاسل ففاتهم الغزو، فرابطوا ثم رجعوا إلى معاوية وعنده أبو أيوب وعقبة بن عامر، فقال عاصم: يا أبا أيوب! فاتنا الغزو العام، وقد أخبرنا أنه من صلى في المساجد الأربعة غفر له ذنبه، فقال: يا بن أخي! أدلك على أيسر من ذلك، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من توضأ كما أمر، وصلى كما أمر، غفر له ما قدم من عمل) أكذلك يا عقبة؟ قال: نعم. وشهد معه على الحديث. إذاً: فهناك تحسر على ما فات ورغبة في التعويض، وسؤال واستفتاء: فاتنا فكيف نعوض؟

استدراك بعض السلف ما فاتهم من اللقاء بالنبي صلى الله علهي وسلم أو بالشيوخ

استدراك بعض السلف ما فاتهم من اللقاء بالنبي صلى الله علهي وسلم أو بالشيوخ من الأشياء التي نلاحظها أيضاً في سير السلف ألمهم لفوات لقاء الشيوخ والعلماء، وعلى رأس هؤلاء محمد صلى الله عليه وسلم الذي كان بعض التابعين يريدون اللحاق به ليصبحوا صحابة فلم يقدر لهم؛ كما حدث لـ أبي مسلم الخولاني رحمه الله تعالى، رحل إلى المدينة ليرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما دخل المدينة إذا الصحابة قد فرغوا من دفنه عليه الصلاة والسلام. وأبو ذؤيب الهذلي الشاعر المشهور، ذكر ابن حجر رحمه الله في الإصابة عنه، قال: قدمت المدينة ولأهلها ضجيج بالبكاء كضجيج الحجيج إذا أهلوا جميعاً بالإحرام فقلت: ما الأمر؟ فقالوا: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الرجل كان الطاعون قد أصاب خمسة من أولاده فماتوا في عام واحد، وكانوا رجالاً ولهم بأس ونجدة، فقال في قصيدته التي أولها: أمن المنون وريبها تتوجع والدهر ليس بمعتب من يجزع وتجلدي للشامتين أريهم أني لريب الدهر لا أتضعضع وإذا المنية أنشبت أظفارها ألفيت كل تميمة لا تنفع والنفس راغبة إذا رغبتها وإذا ترد إلى قليل تقنع المحدثون ذهبوا في المدن يجوبون الطرق راحلين لطلب العلم وسماع الحديث، فكيف حصل لبعضهم عندما يفوته الشيخ؟ روى السمعاني رحمه الله عن رجل من المحدثين أنه رحل إلى ابن خلف -وهو من مشاهير المحدثين- فقال: دخلت نيسابور وأنا أعدو إلى بيت أحمد بن خلف، فلقيت أحد طلابه، فعاتبني وقال: تعال أطعمك أولاً، فقدم طعاماً وأكلنا، وأخرج لي مسموعاته من ابن خلف، وقال: مات ودفنته، قال: فكادت مرارتي تنشق لفوت الشيخ. وذيَّل الخطيب البغدادي رحمه الله، كتابه الرحلة بذكر من رحل إلى شيخ يبتغي علو إسناده، فمات قبل ظفر الطالب منه ببلوغ مراده، وذكر أن عبد الله بن داود الخريبي قال: كان سبب دخولي البصرة لأن ألقى ابن عون، فلما صرت إلى قناطر بني دارى تلقاني نعي ابن عون فدخلني ما الله به عليم، فهكذا كان شعورهم في فوات الشيوخ.

فوات مجالس العلم

فوات مجالس العلم وأيضاً: فوات مجالس العلم، كان المحدثون يحدثون في الحلقة ثم ينتهي الدرس، فبعض الناس يأتي بعد الدرس ولم يسمع الشيخ، وربما لا يسمع والشيخ وفاته الحديث، الشيخ سيحدث بأحاديث أخرى، فكان لفوات المجلس عليهم أثر عظيم، خصوصاً أن المشايخ في ذلك الوقت كانوا يشعرون الطلبة بأهمية الدرس، ولا يعيدونه حتى يقول أحد: يا أخي! إذا ما لحقت الجماعة الأولى ألحق الجماعة الثانية، المسجد -الحمد لله- فيه جماعات متوالية، المسألة عندهم يسيرة، ولكن أين أجر الجماعة الثانية من أجر الجماعة الأولى؟ كان المشايخ يعلمون الطلبة قيمة الدرس، وكان الناس في الخير الذي هم فيه يتأملون ويحسون، جاء رجل إلى الأعمش فقال: يا أبا محمد! اكتريت حماراً بنصف درهم وأتيتك لأسألك عن حديث كذا وكذا -بعد ما انتهى من المجلس- فقال: اكترِ بالنصف الآخر وارجع. وقال يحيى بن معين: كنا عند ابن عيينة، فجاء رجل وقد فاته إسناد الحديث، فذكر الشيخ المتن، فقال هذا الآتي: أمل علي إسناده فقد فاتني الإسناد فقال: قد بلغتك حكمته ولزمتك حجته، ولم يحدثه؛ ليتعلم ويأتي مبكراً مرة أخرى. وكان يزيد بن هارون رحمه الله إذا جاءه من فاته المجلس، قال: يا غلام! ناوله المنديل، أي: أكلنا وغسلنا والآن في التنشيف، أعطه المنديل. وكان يزيد بن هارون يقول لرجل من ولد عمر بن الخطاب من نسله، جاء وقد فاته المجلس وسأله أن يحدثه، فقال له: يا أبا فلان أما علمت أنه من غاب خاب، وأكل نصيبه الأصحاب. وقال الخطيب رحمه الله: وقد كان خلق من طلبة العلم بـ البصرة في زمن علي بن المديني يأخذون مواضعهم في مجلسه في ليلة الإملاء، ويبيتون هناك حرصاً على السماع وتخوفاً من الفوات، قال جعفر بن طلسطويه: كنا نأخذ المجلس في مجلس علي بن المديني وقت العصر اليوم لمجلس غد، فنقعد طول الليل مخافة ألا نلحق من الغد موضعاً يسمع فيه. والآن بعض المشايخ لا يجدون طلاباً للدروس، وتفتح الدروس ثم تغلق، وتبدأ ولتنتهي ولا يوجد طلاب، أو ثلاثة أربعة، خمسة، من ضعف الهمم، وعدم الحرص على العلم.

استدراك الصحابة ما فات من أعمارهم في الجاهلية وسؤالهم عن أفضل الأعمال

استدراك الصحابة ما فات من أعمارهم في الجاهلية وسؤالهم عن أفضل الأعمال ثم لننتقل إلى جانب آخر، ومسألة تحصيل ما فات، كثير من الصحابة رضوان الله عليهم أسلموا بعدما تقدم بهم العمر، فكانت سنون طويلة من حياتهم قد ذهبت في الجاهلية، وما عاش بعضهم في الإسلام إلا فترة يسيرة، أو عاش سنين، لكن هذه السنين اغتنموها فعلاً إلى الحد الأقصى، ولذلك نحن نعيش الآن عشرات السنين في الإسلام ولا ندرك شيئاً مما فعلوه. من الأسباب التي رفعتهم: أنهم نظروا في أعمارهم فعرف الواحد منهم أنه لم يبق إلا القليل، فأحب اغتنام هذا القليل في أفضل ما يمكن، ولذلك إذا استعربت كلمة أفضل في بعض المعاجم الحديثية، وجمعت الأحاديث التي فيها كلمة أفضل، ستلاحظ أمراً واضحاً في حرص الصحابة رضوان الله عليهم ليس فقط على الخير، وإنما على الأفضل؛ لأنهم قالوا: هذا العمر قصير، فينبغي أن نستغله في الأفضل. فمثلاً: قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! أي العمل أفضل؟ قال: الصلاة على ميقاتها، قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله، فسكت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو استزدته لزادني). رواه البخاري. وعن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى عليه وسلم سئل: أي العمل أفضل؟ فقال: إيمان بالله ورسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور). رواه البخاري.

بحث الصحابة عن الأجور المضاعفة

بحث الصحابة عن الأجور المضاعفة أمة تبحث عن الأجر المضاعف، عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قالوا: يا رسول الله أي الإسلام أفضل؟ قال: (من سلم المسلمون من لسانه ويده). رواه البخاري. ثم لم يقتصر الأمر على الأفضليات في الأمور عامة، وإنما سألوه عن الأفضل في الأبواب المخصوصة المعينة، ففي الصلاة مثلاً: روى جابر رضي الله عنه قال: (سئل الرسول صلى الله عليه وسلم: أي الصلاة أفضل؟ قال: طول القنوت) رواه مسلم. وفي العتق سأله أبو ذر رضي الله عنه فقال: (يا رسول الله! فأي الرقاب أفضل؟ قال: أغلاها ثمناً وأنفسها عند أهلها) رواه البخاري. وفي الصدقة جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رجل للنبي عليه الصلاة والسلام: (يا رسول الله! أي الصدقة أفضل؟ قال: أن تتصدق وأنت صحيح شحيح ترجو الغنى وتخشى الفقر، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا ولفلان كذا، وقد كان لفلان) راوه البخاري. فإذا بلغت الحلقوم لم تعد تنفع الوصية، تقول: وزعوا كذا، وأعطوا فلاناً كذا، وضعوا في الأيتام كذا، وفي المساجد كذا، وفي أبواب الخير الفلانية كذا، لا. انتهى، إذا وصلت روحه الحلقوم صار في حكم الميت، وقوله عليه الصلاة والسلام: وقد كان لفلان، -أي: المال قد أصبح للورثة- انتهى الآن وأقفل باب التوزيع. وفي الذكر روى أبو ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أي الكلام أفضل؟ قال (ما اصطفى الله لملائكته أو لعباده: سبحان الله وبحمده) رواه مسلم. وفي أبواب من الخير مجموعة: روى عبد الله بن حبشي الخثعمي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: (أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان لا شك فيه، وجهاد لا غلول فيه، وحجة مبرورة، قيل: فأي الصلاة أفضل؟ قال: طول القنوت، قيل: فأي الصدقة أفضل؟ قال: جهد المقل) الآن لو أن واحداً عنده ألف ريال فتصدق بخمسمائة، فقد تصدق بنصف ماله، وآخر عنده مائة مليون تصدق بمائة ألف ريال، فقد تصدق بعشر ماله، والأول أفضل، وهو جهد المقل. (وقيل: فأي الهجرة أفضل؟ قال: من هجر ما حرم الله عزَّ وجلَّ، قيل: فأي الجهاد أفضل؟ قال: من جاهد المشركين بماله ونفسه، قيل: فأي القتل أشرف؟ قال: من أهريق دمه وعقر جواده) رواه النسائي. ومما يدلك على أن القوم كانت هممهم متصاعدة لعمل أفضل وليس لعمل فاضل فحسب؛ هو أن المناقشات كانت تدور بينهم على هذه الأشياء، وستنظر في المناقشات التي تدور بين الإخوان والأصحاب، وتعرف ما الذي يشغل بالهم. جاء عن النعمان بن بشير قال: (كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رجل: لا أبالي ألا أعمل عملاً بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج، وقال آخر: لا أبالي ألا أعمل عملاً بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام، وقال آخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم، فزجرهم عمر رضي الله عنه، وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم -وكان يوم الجمعة- ولكن إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيه فيما اختلفتم فيه، فأنزل الله عزَّ وجلَّ: ((أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)) [التوبة:19]) رواه مسلم رحمه الله في صحيحه.

أمثلة من الشريعة في مجالات استدراك ما فات

أمثلة من الشريعة في مجالات استدراك ما فات ومباحث المفاضلة في كتب العلماء كثيرة مما يدل على أن المسألة لها وزن واهتمام، ولنأتِ -أيها الأخوة- الآن إلى صعيد آخر لننظر ما هي الوسائل التي جاءت بها الشرعية للاستدراك: إن الله عزَّ وجلَّ يعلم أن البشر ضعفاء، تعتريهم عوامل النقص والضعف، والنسيان، والمعصية، فإذا قصر الواحد في عبادة، وجد السبل متاحة أمامه كي يعوض، وفي كتب الفقه أبواباً لذلك؛ فمن ذلك: القضاء والإعادة والفدية والكفارة.

القضاء والإعادة والفدية والكفارات

القضاء والإعادة والفدية والكفارات والعلماء يعرفون القضاء بأنه: فعل الواجب بعد وقته، والإعادة: فعل الواجب في وقته مرة أخرى لخلل حصل في المرة الأولى، كمن صلى الظهر بدون وضوء، ثم بعد الصلاة تذكر ذلك فعليه أن يعيد صلاته، وأما الأداء فهو: فعل الواجب في وقته. والقضاء والإعادة لاستدراك ما فات في العبادة، أحياناً لا يوجد سبيل للاستدراك من جهة الإعادة أو القضاء كمن ترك الرمي حتى انتهت أيام التشريق، فإذا غربت شمس يوم الثالث عشر انتهى وقت الرمي، ولا يمكن أن يقضي الرمي في اليوم الرابع عشر. وهل هذا له حل في الشريعة؟ وهناك أشياء يرتكبها الإنسان، كمن يفعل محظوراً من محظورات الإحرام، وله أيضاً حل في الشريعة رحمةً من رب العالمين، فقد جاءت الشريعة بما يقضي الفوائت، ويعوض الناس عما فاتهم، فمثلاً: الفدية، وهي البدل الذي يتخلص به المكلف من مكروه توجه إليه، أو وقع فيه، والكفارة تغطي الإثم وهي أخص من الفدية، مثل كفارة اليمين، وكفارة الظهار، وكفارة القتل. هناك أشياء جاءت بها الشريعة لتعويض النقص الذي هو من طبيعة البشر، لو جئنا إلى موضوع الصلاة، لوجدنا بعض الناس تركوا الصلوات متعمدين، فماذا يفعل الواحد منهم، خصوصاً إذا عرفنا مثلاً أن القول الراجح: أن من تعمد ترك صلاة حتى خرج وقتها فلا سبيل إلى قضائها، والله لا يقبلها في غير وقتها، وإن لله عملاً في الليل لا يقبله بالنهار، وعملاً في النهار لا يقبله بالليل. هل هناك يا ترى فرصة؟ يأتيك الآن تائب يقول لك: أنا ضاعت علي صلوات لمدة سنين، فما هو الحل وأنت -مثلاً- تعرف هذا القول الراجح في عدم القبول؟

تكميل الفرائض بالنوافل

تكميل الفرائض بالنوافل الحل: عن حريث بن قبيصة قال: قدمت المدينة، فقلت: اللهم يسر لي جليساً صالحاً قال: فجلست إلى أبي هريرة، فقلت: إني سألت الله أن يرزقني جليساً صالحاً، فحدثني بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لعل الله أن ينفعني به، فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن خابت فقد خاب وخسر، فإن انتقص من فريضته شيء قال الرب عزَّ وجلَّ: انظروا هل لعبدي من تطوع؟ فيكمل بها ما انتقص من الفريضة، ثم يكون سائر عمله على ذلك) رواه الترمذي وصححه في صحيح الجامع. ورواية النسائي عن حريث بن قبيصة قال: قدمت المدينة، قلت: اللهم يسر لي جليساً صالحا، فجلست إلى أبي هريرة رضي الله عنه فقلت: إني دعوت الله عزَّ وجلَّ أن ييسر لي جليساً صالحاً، فحدثني بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لعل الله أن ينفعني به، فذكر الحديث وفيه: (فإن انتقص من فريضته شيء قال: انظروا هل لعبدي من تطوع فيكمل به ما نقص من الفريضة، ثم يكون سائر علمه على نحو ذلك). وروى أبو داود رحمه الله أيضاً، وقال فيه: (انظروا هل لعبدي من تطوع فإن كان له تطوع قال: أتموا لعبدي فريضته من تطوعه، ثم تؤخذ الأعمال على ذاكم) وفي رواية قال: (ثم الزكاة مثل ذلك، ثم تؤخذ الأعمال على حسب ذلك) رواه أبو داود وصححه في صحيح الجامع. شخص نقص من الزكاة وما عوض، ينظر يوم القيامة في صدقاته فيعوض منها، وشخص نقص في الصيام، كأن جرح صيامه بعمل المعاصي، فينظر في صيام نوافله، وتعوِّض ما فاته من رمضان.

الإتيان بما نسي وقت تذكره أو جبره بنحو سجود السهو

الإتيان بما نسي وقت تذكره أو جبره بنحو سجود السهو إذاً من المسائل المهمة جداً في استدراك ما فات الإكثار من النوافل، وحتى النوافل نفسها لو فاتت فتحت الشريعة فيها أبواباً للتعويض، مثلاً: البسملة في الوضوء واجبة، فإذا نسيها في أوله وذكر أثناء الوضوء، ماذا قال العلماء؟ قالوا: فإن نسي في أوله وذكر أثناءه سمى بقوله: باسم الله، يأتي بها في أثنائه تداركاً لما فاته، كما في كتاب نهاية المحتاج. وبعضهم قاس على الطعام فيقول: باسم الله أوله وآخره، لكن إذا فاتته ولم يتذكر إلا بعد نهاية الوضوء فات محلها، فيكثر من ذكر الله أي: الأذكار العامة. غسل الميت تقدم معنا، لو دفن ميت دون غسل وقد أمكن غسله لزم نبشه لغسله تداركاً لواجب غسله، ما لم يُخشَ تغيره وهذا قول الجمهور. تدارك المتروك في الصلاة، كمن نسي سجدة مثلاً، أو التشهد الأول فإن كان ركناً عاد إليه وجوباً، فأتى به وما بعده على الترتيب، وواجبات الصلاة عند الحنابلة كالتشهد الأول وتكبيرات الانتقال، وتسبيح الركوع والسجود، إن تركه سهواً فيجب عليه تداركه ما لم يفت محله -قبل أن يرفع من الركوع تذكر أنه ما قال سبحان ربي العظيم، إذاً يأتي بها- ويفوت محله بالانتقال لما بعده، فإذا اعتدل من الركوع وقد نسي سبحان ربي العظيم فلا يعود؛ لأنه دخل في الركن فلا يعود للواجب، ويستدرك بسجود السهو -سبحان الذي شرعه- فإذا لم يعتدل رجع إلى الركوع فأتى بالتسبيح، وكذلك التشهد الأول يرجع إليه ما لم يعتدل قائماً، فإذا اعتدل فلا يرجع وعليه سجود السهو. وأما السنن فقد جاء في كشاف القناع أنه لا تتدارك للسنن إذا فات محلها، كما إذا ترك الاستفتاح حتى تعوذ، أو ترك التعوذ حتى بسمل، أو ترك البسملة حتى شرع في القراءة، أو ترك التأمين حتى شرع في السورة. وسألت والدنا وشيخنا العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز عن بعض هذه المسائل فقال: إذا تجاوز الاستفتاح يرجع إليه ولو شرع في الاستعاذة، ويرجع إلى الاستعاذة ولو شرع في البسملة، ويتدارك السنن، قال: وما المانع؟ إلا إذا كان مأموماً وشرع الإمام في القراءة فإنه ينصت. لو نسي سجود السهو يرجع فيأتي به وشيخ الإسلام يقول: حتى في البيت، أي أنه لم يتذكره إلا بعد فترة، والجمهور يقولون: إذا تذكره عن قرب رجع إليه فأتى به. إذا نسي تكبيرات صلاة العيد حتى شرع في القراءة، فلا يتداركها لأنها سنة فات محلها، وهذا قول الشافعية والحنابلة، غير أن الشافعية قالوا: يتداركها في الركعة الثانية مع تكبيراتها. ومن دخل في صلاة الجنازة والإمام في التكبيرة الثالثة فماذا يفعل؟ سألت شيخنا -نفع الله بعلومه- عن هذه المسألة، فقال: إنما أدركه المأموم مع الإمام هو أول صلاته، ثم يتم الباقي إذا سلم الإمام، فإذا دخلت مع الإمام في صلاة الجنازة وهو في التكبيرة الثالثة يقرأ الدعاء للميت، وأنت تقرأ سورة الفاتحة.

ما لا يدرك كله لا يترك كله

ما لا يدرك كله لا يترك كله إذا ترك شوطاً في الطواف أو بعض شوط كمن دخل في الحجر وخرج منه أثناء الطواف، فعليه أن يأتي بما تركه إذا كان في وقت قريب عند الحنابلة؛ لأنهم يشترطون الموالاة بين الطوافات، وأما من ترك شوطاً من السعي أو بعض شوط، فعليه تداركه بالإتيان به ولو بعد مدة، لأنه لا يشترط الموالاة في الطواف كما ذكره ابن قدامة رحمه الله في المغني. إذا نسي الرمل في الأشواط الأولى من طواف القدوم -وهو سنة للرجال- فات محله، لكن لو تذكر في الشوط الثاني، تذكر أنه لا يرمل وبإمكانه أن يرمل، هل يقول: فاتنا الأول فنكمل على الأول؟ نقول: لا. انتهز الفرصة وأكمل الرمل في الثاني. ولا يشرع له تدارك الهرولة في السعي بين العلمين الأخضرين في الصفا والمروة إذا فات؛ لأنه تعدى الموقع فلا يهرول بعدما تعدى الموقع. إذا فاته الاضطباع في طواف القدوم ثم تذكر وهو في الشوط السابع أنه لم يضطبع، فعليه أن يخرج كتفه الأيمن ويكشفه، ولا يقول: فاتني ستة فأكمل، لا. بل ينتهز الفرصة ويأتي بما بقي. وهكذا من الأشياء في طواف الوداع إن خرج دون أن يأتي به فعند الشافعية والحنابلة يجب عليه الرجوع لتداركه إن كان قريباً دون مسافة القصر، ويسقط عنه الإثم والدم، فإن تجاوز مسافة القصر لم يسقط عنه الدم، ومن تجاوز الميقات دون إحرام، إذا رجع إليه فأحرم فلا يلزمه شيء. نلاحظ عموماً أيها الأخوة، أن المبادرة بالتدارك تنقذ الشخص من الإثم أو التبعات كالكفارة أحياناً. وفي مجال الآداب قال صلى الله عليه وسلم: (إذا أكل أحدكم طعاماً، فليقل: باسم الله، فإن نسي في أوله فليقل: باسم الله في أوله وآخره) يتدارك، رواه الترمذي. وفي النوافل: عن عائشة رضي الله عنها (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا فاتته الصلاة من الليل -من وجع أو غيره- صلى من النهار اثنتي عشرة ركعة) رواه مسلم. من فاتته صلاة الجماعة: قال البخاري في صحيحه: باب فضل صلاة الجماعة، وكان الأسود إذا فاتته الجماعة ذهب إلى مسجد آخر. صلاة العيد: قال البخاري رحمه الله: باب إذا فاته العيد يصلي ركعتين، وكذلك النساء، ومن كان في البيوت والقرى، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا عيدنا نحن أهل الإسلام) وقال عطاء: إذا فاته العيد صلى ركعتين. وهناك صلوات إذا فاتت فلا تتدارك، كصلاة الكسوف، إذا انتهى الكسوف فلا يمكن الصلاة. وهكذا النوافل كالعيد والضحى والرواتب التابعة للفرائض والأظهر أنها تقضى، وسألت شيخنا الشيخ عبد العزيز -نفع الله به- عمن دخل المسجد فجلس؛ هل تفوت التحية؟ فقال: يقوم فيصلي ركعتين كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك. حتى قضاء الحقوق، قال العلماء: يتدارك بقضاء ما عليه كالنفقة الواجبة على الزوجة عند الجمهور، فمن تركها وأهملها فلا تسقط النفقة، وتبقى على الرجل لزوجته ديناً لا يسقط بمضي الزمن. وحتى مسألة العدل بين الزوجتين، قالوا: والزوج إذا لم يبت عند ذات الليلة لعذر أو لغير عذر قضاه لها عند الشافعية والحنابلة. وإذا استعرضنا القواعد الفقهية وجدنا أن من بينها (مالا يدرك كله لا يترك كله) و (الميسور لا يسقط بالمعسور) واستدلوا له بحديث البخاري: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) وللقاعدة ألفاظ منها: مالا يدرك كله لا يترك جله، أي ما لا يدرك كله لا يترك باقيه، ومنها: مالا يدرك كله لا يترك كله، أي بل تأتي بما تستطيع، ومثلوا لها بأمثلة فمثلاً: إذا كان بعض العضو مقطوعاً وجب عليه غسل ما بقي، وإذا قدر على ستر بعض العورة لزمه ذلك، ومن قدر على بعض صاع في الفطرة أخرجه، ولو عجز عن سداد كل الدين أدى ما قدر عليه. وهذه مسألة يخطئ فيها كثير من الناس، فبعض الناس قد يستلف عشرة آلاف، فإذا جاء وقت السداد، وطولب بالدين وما عنده إلا خمسمائة، يقول: ماذا تغني الخمسمائة في العشرة آلاف؟! فينفقها هنا وهنا ويقول لصاحب الدين: ما عندي شيء، نقول: تستطيع أن تؤدي خمسمائة من العشرة آلاف أدها، ومسألة تضييع الحقوق في الديون لا تحصى ولا تعد. ثم أيها الأخوة: في مسألة تدارك ما فات، قد يكون ما فات بتقصير وقد يكون بغير تقصير، وليست الدعوة الآن لأن نعوض ما فاتنا إذا قصرنا فقط، بل حتى إذا لم تقصر وفاتك شيء من الخير فابحث عن أبواب أخرى، وتمثل حديث أبي هريرة رضي الله عنه (أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ذهب أهل الدثور بالدرجات العلا والنعيم المقيم، فقال: وما ذاك؟ قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلا أعلمكم شيئاً تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحدٌ أفضل منكم إلا من صنع مثلما صنعتم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين مرة). هؤلاء هم المهاجرون رضي الله عنهم فقراء، فاتتهم الصدقة ليس بتقصير منهم، ومع ذلك جاءوا يسألون كيف نعوض؟ الرسول عليه الصلاة والسلام فاته قضاء سنة الظهر، ليس من تقصير ولكن شغل بطاعة عن طاعة، شغله وفد عبد القيس، فاستدركها وقال لمَّا سئل عن ذلك: (وإنه أتاني أناس من بني عبد القيس فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر فهما هاتان) كما في البخاري عندما رأته أم سلمة يصلي بعد العصر وكان عندها نساء، فقالت للجارية: (قومي بجنبه، فقولي له: تقول لك أم سلمة: يا رسول الله! سمعتك تنهى عن هاتين، وأراك تصليهما، فإن أشار بيده فاستأخري عنه، ففعلت الجارية، فأشار بيده، فاستأخرت عنه، ثم ذكر الحديث). ومن فوائد الحديث: أن الإنسان إذا احتاج أن يكلم المصلي ولا بد، يكون بجانبه ليس أمامه ولا خلفه، يكون بجانبه ويكلمه، وأرادت أم سلمة أن تذكره عليه الصلاة والسلام لأنه ربما نسي.

أسباب تفويت الطاعات

أسباب تفويت الطاعات

التسويف من أسباب التفويت

التسويف من أسباب التفويت فإن جئنا -أيها الإخوة- إلى أسباب التفويت وجدنا أن من أعظم أسباب التفويت التسويف، وعندنا شاهد لهذا المعنى في قصة كعب بن مالك لما قال: لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها إلا في غزوة تبوك، كان من خبري أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزاة، والله ما اجتمعت عندي قبله راحلتان قط حتى جمعتهما في تلك الغزوة، ثم قال: وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال، وتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم، فأرجع ولم أقض شيئاً. فأقول في نفسي: أنا قادر عليه -لاحظ هنا التسويف- فلم يزل يتمادى بي حتى اشتد بالناس الجد، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئاً، فقلت: أتجهز بعده بيومٍ أو يومين ثم ألحقهم، فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز فرجعت ولم أقض شيئاً، ثم غدوت ثم رجعت ولم أقض شيئاً، فلم يزل بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو، وهممت أن أرتحل فأدركهم؛ وليتني فعلت، فلم يقدر لي ذلك، فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم فطفت فيهم أحزنني أني لا أرى إلا رجلاً مغموصاً عليه النفاق، أو رجلاً ممن عذر الله من الضعفاء. رواه البخاري.

الرفقة من أسباب التفويت

الرفقة من أسباب التفويت من أسباب التفويت عند كثير من الشباب رفقاء السوء، أو الرفقاء الذين لا فائدة منهم، نحن الآن إذا جئنا ننصح الشباب نقول لهم: رفقاء السوء ورفقاء السوء، بعضهم يقول: ليس عندنا رفقاء سوء، الحمد لله كلهم أصحاب لحى، وكلهم على خير، لاحظ -يا أخي- قد لا يكونون أهل سوء، لكن لا يكونون أهل فائدة، فإنك لا تستفيد منهم يضيعون وقتك.

من أسباب التفويت الزوجة والأولاد

من أسباب التفويت الزوجة والأولاد قد تكون الزوجة هي سبب فوات الطاعات، وقد يكون الأولاد إذا شغلوك بغير الطاعة: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن:14] ونأخذ مثلاً من السيرة يوضح كيف كان الأولاد والزوجات سبباً في تفويت طاعة عظيمة وهي الهجرة، ثم ننظر في موقف الإنسان المسلم في عدم الانتقام ممن كان سبباً في التفويت إذا كان الانتقام بغير فائدة؛ عن عكرمة عن ابن عباس، وسأله رجل عن هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن:14]. قال ابن عباس: هؤلاء رجال أسلموا من أهل مكة، وأرادوا أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم، إذاً: الزوجة والأولاد قد يقعدوا بالإنسان عن الطاعة، أو يثبطوه عن فريضة، عن حج، يقعدوا به عن طلب علم، قال: فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم، وتحت وطأة الزوجة والأولاد ينهار الإنسان، وفي كثير من الأحيان تغلب العاطفة، يتابع الزوجة والأولاد فيما يسيرونه إليه. فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرين بعد سنوات، فرأوا الناس قد فقهوا، فالذي تعلم قد تعلم، والذي جاهد جاهد، فلما رأوا ذلك هموا أن يعاقبوا أزواجهم وأولادهم؛ فأنزل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن:14]. ثم أمر تعالى بالعفو، ما فائدة الانتقام من الزوجة والأولاد الآن وقد فاتهم ما فات؟ الآن راقب الله فيهم واحملهم على الطاعة.

من الوسائل في الاستدراك

من الوسائل في الاستدراك

البيئة تؤثر على المرء في الاستدراك

البيئة تؤثر على المرء في الاستدراك وسط الإنسان المحيط به له دور في دفع الشخص للاستدراك أو للتفويت، والدعاة إلى الله عليهم دور عظيم في حث المسلم الجديد لاستدراك ما فاته بعمل الصالحات، مقابلة السيئات التي كان يفعلها في الجاهلية. بعض الصحابة لما أسلموا كان عندهم هذا الشعور. عن ابن عباس قال: (كان المسلمون لا ينظرون إلى أبي سفيان ولا يقاعدونه، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا نبي الله! ثلاثاً أعطنيهن قال: نعم. قال: عندي أحسن العرب وأجمله أم حبيبة بنت أبي سفيان أزوجك، قال: نعم -وبعض المحدثين قد اعترض على هذه اللفظة، والخطأ في هذا الموضع- قال: ومعاوية تجعله كاتباً بين يديك، قال: نعم. قال: وتؤمرني -هذا الشاهد- حتى أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين، قال: نعم) رواه مسلم. إذاً: أبو سفيان لما رأى نظرة الناس له عرف وأحس بالتقصير، وأراد أن يعوض. ,خالد بن الوليد وعمرو بن العاص، لما أسلموا اندفعوا للتعويض، وينبغي على المسلم إذا هداه الله أن يندفع للتعويض، فقد كان في جاهلية؛ كان في سنوات الضياع والتيه والبعد عن الشريعة، فإذا اهتدى اندفع للتعويض. لاحظ معي هذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد رحمه الله، وقال الهيثمي عن إسناده: رجاله ثقات، ولعل في بعضهم شيئاً من الكلام، لكن هذه المسألة في القصص والسيرة، يقول عمرو بن العاص رضي الله عنه: لما انصرفنا من الأحزاب عن الخندق -وكان مع المشركين- جمعت رجالاً من قريش، وكانوا يرون مكاني ويسمعون مني، فقلت لهم: تعلمون -والله- إني لأرى أمر محمد يعلو الأمور علواً كبيراً منكراً، وإني قد رأيت رأياً فما ترون فيه؟ قالوا: وما رأيت؟ قال: رأيت أن نلحق بـ النجاشي فنكون عنده، فإن ظهر محمد على قومنا كنا عند النجاشي، فإنا أن نكون تحت يديه أحب إلينا من أن نكون تحت يد محمد، وإن ظهر قومنا فنحن من قد عرف، نرجع إلى قومنا فلن يأتينا منهم إلا خير، فقالوا: إن هذا لرأي. واضح أنه بعد معركة الأحزاب بدأ ميزان القوى يتحول، قال: فقلت لهم: فاجمعوا له، أي: للنجاشي ما نهدي له، وكان أحب ما يهدى إليه من أرضنا الأدم، أي: الجلود، فجمعنا له أدماً كثيراً، فخرجنا حتى قدمنا عليه، فوالله إنا لعنده إذ جاء عمرو بن أمية الضمري، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعثه إليه -أي: إلى النجاشي - في شأن جعفر وأصحابه، فدخل عليه ثم خرج من عنده، فقلت لأصحابي: هذا عمرو بن أمية الضمري لو قد دخلت على النجاشي، فسألته إياه فأعطانيه، فضربت عنقه، فإذا فعلت ذلك رأت قريش أني قد أجزأت عنها حين قتلت رسول محمد صلى الله عليه وسلم. فدخلت عليه فسجدت له كما كنت أصنع، فقال: مرحباً بصديقي -وهذا يدل على قوة العلاقة بين النجاشي وعمرو بن العاص - أهديتني من بلادك شيئاً؟ قال: نعم أيها الملك قد أهديت لك أدماً كثيراً، ثم قدمته إليه فأعجبه واشتهاه، ثم قلت له: أيها الملك! إني قد رأيت رجلاً خرج من عندك وهو رسول رجل عدو لنا، فأعطنيه لأقتله، فإنه قد أصاب من أشرافنا وخيارنا، قال: فغضب، ثم مد يده فضرب بها أنفه ضربة فظننت أنه قد كسره، فلو انشقت لي الأرض لدخلت فيها فرقاً منه، ثم قلت: أيها الملك والله لو ظننت أنك تكره هذا ما سألتكه، قال النجاشي: أتسألني أن أعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى لتقتله؟! قال: قلت: أيها الملك أكذاك هو؟ فقال: ويحك يا عمرو أطعني واتبعه، فإنه والله لعله الحق، وليظهرن على من خالفه كما ظهر موسى على فرعون وجنوده. قال: قلت: فبايعني له على الإسلام، قال: نعم. فبسط يده وبايعته على الإسلام ثم خرجت إلى أصحابي، وقد حال رأيي عما كان عليه، وكتمت أصحابي إسلامي، ثم خرجت عامداً لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأسلم، فلقيت خالد بن الوليد وذلك قبيل الفتح، وهو مقبل من مكة إلى المدينة، فقلت: أين يا أبا سليمان؟ قال: والله لقد استقام المنسم -وفي بعض المراجع الميسم: هو أثر الحسن والجمال في الشيء، ويعني: خالد رضي الله عنه الحق، أي أن: الحق استبان- وإن الرجل لنبي، أذهب والله أسلم، فحتى متى؟ هذه كلمة مهمة جداً، يقول خالد بن الوليد: الحق استبان فحتى متى لا نتدارك أمرنا الآن ونسلم، فقلت: والله ما جئت إلا لأسلم، فقدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم وأسلمنا. وهكذا قد يسمع بعض الشباب التائبين الحق في أمريكا، هو هنا ضال، يذهب إلى أمريكا يسمع كلمة الحق هناك ويهديه الله، ويرجع مهتدياً من هناك بعد أن كان ضالاً هنا، وهذا عمرو بن العاص ذهب فسمع من النجاشي، ورجع متأثراً.

التوبة وسيلة لاستدراك ما فات

التوبة وسيلة لاستدراك ما فات إن هناك عدداً من المذنبين سمعوا مواعظ، وسمعوا أشياء حركت فيهم المشاعر الجياشة للتوبة، بعض الناس عندهم رغبة في التوبة، ومن المهم جداً للدعاة إلى الله أن يفتحوا لهم الأبواب، بتوضيح كيف يستدركوا ما فاتهم، وكيف يصلحوا أخطاءهم، يريدون التوبة لكن لا يعرفون كيف الطريق! عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (إن ناساً من أهل الشرك قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، ثم أتوا محمداً صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن الذي تدعو إليه لحسن -نحن مقتنعين بما تقول- ولو تخبرنا أن لما عملنا كفارة، فنزل قول الله تعالى {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً} [الفرقان:68] ثم قال: {إِلَّا مَنْ تَابَ} [الفرقان:70] ونزل {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً الآية} [الزمر:53]) رواه مسلم. نلاحظ أن الشريعة فتحت باب الاستدراك، أنت يا أيها التائب عندك معاصٍ كثيرة والقضية مهمة، وبعض الناس يسألون عن أحكام التوبة، ما هي؟ والتوبة: هي عملية استدراك لما فات، فكما قال السفاريني رحمه الله تعالى في غذاء الألباب: اعلم -رحمك الله تعالى ووفقك- أن الحق الذي تاب منه التائب إما أن يكون لله أو لآدمي، ثم ذكر أشياء عن حق الله، وأشياء عن الحقوق المشتركة، ثم حق الآدمي المحض، وكل معصية وكل اعتداء على حق آدمي فهو اعتداء على حق الله تعالى ومعصية لله، لا بد أن يتوب منها الشخص ثم يعيد حق الآدمي. إذا كان حق الآدمي قصاصاً مكنه من نفسه، أو كان مالاً أعاده إليه، فإن كان قد أتلف شيئاً عوضه عنه، وإذا لم يستطع استسمح منه، وإذا اغتابه أو قذفه، ثم لو جاء وقال: يا فلان! أنا اغتبتك وقلت فيك كذا وكذا، وخصوصاً أن بعض الناس لا تدري ما ردة فعله، فإنه قد يطلب منك ما قلته فيقول: لا. ماذا قلت بالضبط؟ أنا أريد أن أعرف ماذا قلت بالضبط، وإلا لا أسامحك إلى يوم الدين. يأتي الأخ هذا فيقول: أنا أريد أن أتوب قذفت فلاناً واغتبت فلاناً، فكيف أفعل؟ لو أخبرته لربما تفاقم الشر، فذهب شيخ الإسلام رحمه الله وتلميذه ابن القيم وغيرهم من العلماء، إلى أنه إذا قدر أن الشر سيزيد ويعظم ويقع في نفس صاحبه عليه أشياء، ويجد عليه أموراً ما كان يجدها عليه من قبل، فإنه يكتفي بالاستغفار والدعاء له، ويدافع عنه في المجالس الذي اغتابه فيها، ويكذب نفسه في المجالس الذي قذفه فيها، ثم لعله إذا جاء يوم القيامة ووجد في صحيفته حسنات فيقال له: هذا استغفار أخيك الذي اغتابك فإنه استغفر لك، لربما سامحه إذا وجد استغفار أخيه له. وهكذا عللوا قضية الاستغفار، رجاء أن يرضى عنه خصمه يوم القيامة ببركة استغفاره، وقال ابن المبارك: لا تؤذه مرتين، اغتبته ثم تقول له: قلت فيك كذا وكذا. وكل أنواع الذنوب لها حل، وهذا ما يجب أن نؤكد عليه أمام التائبين، ونخبرهم به لنفتح لهم الأبواب فيقبلوا، ولا بد أن نعيد الحقوق لأصحابها قبل أن يأتي يوم لا دينار ولا درهم، ولكن بالحسنات والسيئات، كما جاء في الحديث الصحيح.

التغلب على مشاعر الإحباط لاستدراك ما فات

التغلب على مشاعر الإحباط لاستدراك ما فات من الأمور المهمة في علاج ما فات -ونتكلم عن بعض الأمور التربوية- أنه لابد من التغلب على مشاعر الإحباط التي تعتري الشخص المقصر، خصوصاً عندما يأتيه شيطان فيقول: لا فائدة! فما فعلته في الماضي لا سبيل إلا إنقاذ نفسك من تبعته ومسئوليته، ولا تستطيع أن تعوض. فلا يجوز أن يشعر الإنسان بمشاعر الإحباط حتى تسيطر عليه وتقعد به عن محاولة التقدم وتعويض ما فات. بعض الناس إذا استعرض في ذهنه الأشياء الذي فاتته وجدها كثيرة جداً فيستعظم ذلك، وقد نهينا عن (لو) التي تفتح عمل الشيطان؛ لأنها تسبب القنوط واليأس الذي لا فائدة منه، بل يضر. إن تحقيق الأماني لا يكون بالندم على ما فات، ولا باجترار الأحزان على الماضي، وهو الندم السلبي؛ -لأن هناك ندم إيجابي كما سيأتي- وإنما يكون بالجد والعمل واغتنام كل فرصة. بادر الفرصة واحذر فوتها فبلوغ العز في نيل الفرص فابتدر مسعاك واعلم أن من بادر الصيد مع الفجر قنص أما إضاعة الحاضر بالاستسلام للأوهام والأشياء التي حصلت في الماضي، والانسياق وراء وساوس الشيطان فإنها ضارة للغاية. أفنيت يا مسكين عمـ ـرك في التأوه والحزن وقعدت مكتوف اليديـ ـن تقول حاربني الزمن ما لم تقم بالعبء أنـ ـت فمن يقوم به إذن؟ من المهم -أيها الأخوة- أن ننظر في أحوالنا، ونصحح المسيرة، ونستدرك ما فاتنا، ونحاسب أنفسنا بحسب الإمكانات، ولا يمكن أن تكون محاسبة طالب في تخصص شرعي في مسألة طلب العلم كمحاسبة الموظف الذي له دوامان أو دوام طويل، لأن الإمكانات تختلف، فما يفوت هذا أعظم مما يفوت ذاك، وما ينبغي أن تكون عليه الدرجة في المحاسبة أشد في حق طالب العلم المتفرغ. ثم لابد من إزالة الحواجز النفسية التي تمنع الاستدراك، كأن يقول: أنا كبرت، وذاكرتي قد ضعفت فلا فائدة الآن من حفظ المتون وطلب العلم في حالتي. نقول: يا أخي! بعض الصحابة أنتجوا في أعمار متأخرة، وبعضهم ما عاشوا إلا أشهراً قلائل وعلموا أشياء كثيرة جداً، ثم استحضار قصص الذين طلبوا العلم متأخرين، بعضهم ما طلب العلم إلا بعد الأربعين وأصبحوا علماء، فـ ابن أبي ذئب طلب العلم متأخراً، وكان يقارن بـ مالك، وقالوا: لو طلب العلم مبكراً لما قورن به مالك ولا كان قريباً منه، رضي الله عنهم جميعاً ورحمهم. وإذا نظرنا في حال بعض العلماء كيف استدركوا الأمور وكيف تقدموا، لوجدنا أمراً عظيماً! ابن حزم رحمه الله طلب العلم بعدما بلغ السادسة والعشرين وابن حجر رحمه الله مرت عليه سنوات لم يكن يطلب فيها الحديث، حتى كان ينشد شعراً فسمعه شخص فقال: ليس هذا من شأنك، هذا لا يليق بك، فانصرف إلى الحديث. الذهبي رحمه الله قال: رأى خطي رجل، فقال: إن خطك يشبه خط المحدثين، فوقع في نفسي طلب الحديث. ابن القيم رحمه الله مضى فترة من عمره مع الصوفية، ثم رجع وصار العلم العظيم، يقول: يا قوم والله العظيم نصيحة من مشفق وأخ لكم معوان جربت هذا كله ووقعت في تلك الشباك وكنت ذا طيران حتى أتاح لي الإله بفضله من ليس تجزيه يدي ولساني حبر أتى من أرض حران فيا أهلاً بمن قد جاء من حران فالله يجزيه الذي هو أهله للجنة المأوى مع الرضوان أخذت يداه يدي وسار فلم يرم حتى أراني مطلع الإيمان ورأيت أعلام المدينة حولها نزل الهدى وعساكر القرآن ورأيت آثاراً عظيماً شأنها محجوبة عن زمرة العميان لا تقل: فاتتنا المرحلة الذهبية في طلب العلم، فاتتنا مرحلة الذاكرة القوية، ولا فائدة، فهناك من طلب العلم متأخراً وأفلح، وهذا عبد الصمد شرف الدين ذكر في مقدمة تحقيقه لـ تحفة الأشراف أنه ما طلب العلم إلا بعد الأربعين. الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله جاء إلى شيخه السندي في المدينة فرأى الناس يطوفون بقبر النبي عليه الصلاة والسلام، وكان محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في مقتبل عمره، فقال لشيخه السندي: ما تقول في هؤلاء؟ قال: إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون، ولكن من يقوم لهم؟ قال الشيخ: فوقعت في نفسي. أحياناً كلمة من عالم موجه، من مربٍ فاضل، أو قدوة، تغير مجرى حياة الإنسان، وحتى لو ذهبنا بعيداً بين الشعراء هذا النابغة الذبياني ما قال بيتاً من الشعر إلا بعد أن بلغ الأربعين. أيها الأخوة: بعض الناس فاتهم حفظ القرآن، فلما تقدم بأحدهم العمر قال: لا سبيل إلى حفظه وقد ضعفت الذاكرة، نقول له: راجع ما حفظته يا أخي، واسع للحفظ من جديد، بعض الناس حفظوه بعد الأربعين، وهناك امرأة كبيرة في السن حفظت القرآن في سنة ونصف، من كثرة سماعه ومواظبتها وحرصها وسعيها، فتحت الشريط وهي تغسل الصحون في المطبخ، ذهبت مركز تحفيظ القرآن فتأثرت، وأحضرت أشرطة القرآن، وهي في المطبخ تستمع الأشرطة، تستمع وتستمع حتى حفظته في سنة ونصف، ولو كانت أمية فإنها تحفظ من الأشرطة. فالإنسان إذا كان صاحب همة يستدرك ما فاته مهما كان، ويمكنه أن يعمل أشياء كثيرة جداً، مثلاً: عدد من الطلاب ندموا أنهم لم يكونوا يكتبون الفوائد والنفائس، ويقيدون الأفكار والخواطر، وذهب الموضوع من ذهنهم وضاع التحضير، لأن النقاط كانت في ورقة صغيرة وضاعت، فيقول: لا فائدة قد ذهب الكثير، نقول: قيد الآن، ابدأ من جديد، قيد ورتب وفهرس.

الشعور بأن هناك شيئا فات والاندفاع إلى التعويض

الشعور بأن هناك شيئاً فات والاندفاع إلى التعويض وختاماً أيها الأخوة! في مسألة استدراك ما فات ينبغي أن ينتابنا شعوران: الشعور الأول: أن نشعر فعلاً أن هناك أشياء فاتت؛ لأن الذي لا يحس أن هناك أشياء فاتت سيندفع إلى ما هو أعظم؛ لأنه لا يشعر أنه قد فاته شيء، فلابد أن نحاسب أنفسنا ونعرف ماذا فاتنا في كل جانب من الجوانب؛ في طلب العلم، في الأخلاق، في الدعوة إلى الله، في بر الوالدين، في صلة الرحم، وهكذا ثم نستدرك ونبدأ بإصلاح الأوضاع. الشعور الثاني: العزم والاندفاع للتعويض، إذاً الشعور الأول أن نحس أن هناك أشياء فاتت، الشعور الثاني العزم والاندفاع للتعويض، ونمثل للأول بأبيات، وللثاني بأبيات نختم بها هذا الدرس. الأول الذي هو المحاسبة والشعور بأن هناك أشياء فاتت، قال الشاعر رحمه الله: تفيض عيوني بالدموع السواكب ومالي لا أبكي على خير ذاهب على العمر إذ ولى وحان انقضاؤه بآمال مغرور وأعمار ناكب على غرر الأيام لما تصرمت وأصبحت منها رهن شؤم المكاسب على زهرات العيش لما تساقطت بريح الأماني والظنون الكواذب على أشرف الأوقات لما غبنتها بأسواق غبن بين لاهٍ ولاعب على أنفس الساعات لما أضعتها وقضيتها في غفلة ومعاطب على صرفي الأيام في غير طائل ولا نافع من فعل فضل وواجب على ما تولى من زمان قضيته ورجيته في غير حق وصائب على فرص كانت لو اني انتهزتها لقد نلت فيها من شريف المطالب وأحيان آناء من الدهر قد مضت ضياعاً وكانت موسماً للرغائب هذا شعور بالتفريط والمحاسبة وأن هناك أشياء كثيرة فاتت، ثم هذه الأبيات لـ جمال الدين الصرصري رحمه الله، وبعد هذا الشعور، يقول في قصيدة له: فيا من مد في كسب الخطايا خطاه أما يأن لك أن تتوبا ألا فاقلع وتب واجهد فإنا رأينا كل مجتهد مصيبا وأقبل صادقاً في العزم واقصد جناباً للمنيب له رحيبا وكن للصالحين أخاً وخلاً وكن في هذه الدنيا غريبا وغض عن المحارم منك طرفاً طموحاً يفتن الرجل الأريبا فخائنة العيون كأسد غاب إذا ما أهملت وثبت وثوبا ولا تطلق لسانك في كلام يجر عليك أحقاداً وحوبا ولا يبرح لسانك كل وقت بذكر الله رياناً رطيبا وصلِّ إذا الدجى أرخى سدولاً ولا تضجر به وتكن هيوبا تجد أنساً إذا أودعت قبراً وفارقت المعاشر والنسيبا وصم ما تستطيع تجده ريا إذا ما قمت ظمئانا سغيبا وكن متصدقاً سراً وجهراً ولا تبخل وكن سمحاً وهوبا تجد ما قدمته يداك ظلاً إذا ما اشتد بالناس الكروبا وكن حسناً السجايا ذا حياء طليق الوجه لا شكساً غضوبا نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من التائبين المنيبين، وأن يغفر لنا ذنوبنا أجمعين، اللهم إنا نسألك فعل الخيرات والحسنات وحب المساكين، اللهم إنا نسألك ترك المنكرات، اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك الأخيار، الأتقياء الأخفياء الحنفاء، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد.

استنهاض الهمم للعمل للإسلام

استنهاض الهمم للعمل للإسلام إن العمل للإسلام واجب لا مفر منه، ولا يشترط العمل للإسلام عمراً محدداً، بل يجب العمل له في جميع مراحل العمر، وإن من أكبر المعوقات التي تعيق عن العمل للإسلام هي الدنيا والانشغال بملذاتها والتمتع بها، فالله الله في استنهاض الهمم للعمل له، والحذر من المعوقات التي قد تعيقنا عن ذلك.

العمل للإسلام واجب لا يقف عند حد معين

العمل للإسلام واجب لا يقف عند حد معين إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى قد أمرنا بالعمل، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم، والعمل للدين -يا عباد الله- هو حياة الإنسان المسلم الذي يعبد الله سبحانه وتعالى على بصيرة العمل وترك البطالة والكسل هو منهج حياتنا العمل للإسلام واغتنام الفرص لأجل ذلك العمل لإعزاز دين الله العمل لرفع راية لا إله إلا الله. إن العمل -أيها المسلمون- هو ما ينبغي علينا أن نقوم به، لأن من حق الله عز وجل علينا أن نعمل لدينه، وأن نقوم بما يريده منا سبحانه وتعالى، ولذلك خلقنا لأجل أن نعمل. أيها المسلمون: إن العمل للإسلام واجب لا مفر منه، وإن المعوقات عن هذا الواجب لا بد من إزالتها والتغلب عليها، والعمل للإسلام في جميع مراحل العمر، فإن من نعم الله علينا في هذا الدين أن العمل له صالح في كل الأعمار، للصغير والكبير، والذين يقولون: إن السن قد تقدم ولا مجال للعمل، وقد رق العظم، وظهر الشيب، فلنتركه للشباب إن هؤلاء ما فقهوا دين الله تعالى، وقد قال عز وجل: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99]. قال الحسن البصري رحمه الله: [لم يجعل الله للعبد أجلاً في العمل الصالح دون الموت] فالنهاية التي نقف عندها هي الموت، ألم تر أن ورقة بن نوفل رضي الله تعالى عنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً). هذا مع كبر سنه وذهاب بصره، وتمنى أن يكون فيها جذعاً قوياً عندما يظهر أمر الدعوة، ليقوم بالواجب إن مثل هذه الأمنية تنفع صاحبها عند الله، لأن نيته حسنة. وقال أبو طلحة الأنصاري لما قرأ سورة براءة، وأتى على هذه الآية: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} [التوبة:41] قال: [أرى ربنا عز وجل استنفرنا شيوخاً وشباباً، جهزوني أي بني. فقال بنوه: يرحمك الله! قد غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات، ومع أبي بكر رضي الله عنه حتى مات، ومع عمر رضي الله عنه حتى مات، فنحن نغزو عنك، فأبى، فجهزوه فركب البحر، فمات غازياً في البحر في سبيل الله، فلم يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد سبعة أيام، ولم يتغير، فدفنوه فيها]. أيها المسلمون: إن العبد لا يجوز له أن يطعم طعم الراحة التامة والنهائية من العمل ولا يستريح إلا بالموت، بل قال الإمام أحمد رحمه الله لما سئل: متى يجد العبد طعم الراحة؟ قال: عند أول قدم يضعها في الجنة. وهؤلاء الأنبياء بعثوا بعد الأربعين، وعملوا إلى الموت، وهذا عمر رضي الله عنه يعمل في مصالح المسلمين، وهو مطعون وجرحه يثعب دماً!!

خطر الانهماك في الدنيا على حساب العمل للإسلام

خطر الانهماك في الدنيا على حساب العمل للإسلام أيها المسلمون: إن الدنيا تشغلنا عن العمل للإسلام كثيراً، وإن أوقات الكثيرين لتذهب في قضايا الدنيا، وبعضهم يعمل مع أنه يكسب أكثر من حاجته، لكن الطمع في الدنيا يجعله يعمل زيادة، ولو كان لابن آدم واد من ذهب لتمنى أن يكون له ثان، وهكذا فإذا قنعك الله -يا عبد الله- بما رزقك، فاستعمل بقية وقتك في خدمة دينك، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (فاتقوا الله وأجملوا في الطلب). وإن الانهماك التام في الأعمال الدنيوية يضيع على العبد فرصاً عظيمة لنيل الأجر والثواب، فكيف بمن ينشغل بالدنيا عن عمل الآخرة؟! وقد مدح الله المؤمنين الذين يتركون عمل الدنيا عند حضور عمل الآخرة، فقال: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور:36 - 37]. وترى بعض الطلاب ينهمكون في دراسات قد لا تعود عليهم بفائدة في أمتهم ودينهم، ويعملون أكثر من المطلوب، ويستهلكون وقت اليوم كله في أمور الدنيا، كما يستهلكه أولئك التجار وغيرهم من العاملين للدنيا، من عمل إلى عمل، ومن قضية إلى قضية، إلى آخر اليوم فماذا بقي للآخرة إذاً؟ يا أخا الإسلام: أين العمل للآخرة في برنامجك اليومي؟ هذه الصلوات تؤديها، لكن العمل لإعزاز الدين ونشره والدعوة إليه أين هو في حياتك؟ أين إقامة الإسلام؟ أين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ أين تعليم الشرع؟ أين نصح الناس في حياتك؟ لما تخاذل أكثر المسلمين عن نشر الدين؛ صرنا في هذه المنزلة الوضيعة بين الخلق، وكثيرٌ من الموظفين لا يغتنمون مجالات الدعوة في وظائفهم لنشر الإسلام، والدعوة إليه، ونصح الخلق. خذ على سبيل المثال: هؤلاء الأطباء الذين يحتكون يومياً ويتعاملون مع المرضى، ومن أسهل شيء عليهم أن يقوموا بدعوة المرضى للتمسك بالدين، من خلال المعالجة التي يقومون بها، فماذا قدم هؤلاء وغيرهم من أصحاب المكاتب لأجل الدين، حتى في وسط العمل، وفي وسط الموظفين الذين يعملون معهم؟ كم أمروا شخصاً بإقامة الصلاة؟ وكم نهوا شخصاً عن منكر ومعصية؟ وكم نصحوا للدين وأخلصوا لله؟ أيها المسلمون: إنها مسئولية سوف نحاسب عليها، يقول تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ} [الزخرف:44]. عباد الله: إن بعض الناس أتوا من فساد تصورهم، فتركوا العمل للدين، وقالوا: إن القضية ليست قضيتنا، ونحن نتركها للدعاة العاملين، وأنا مقصر لست ملتزماً بكثير من الأحكام، فليست الدعوة من شأني ولا من وظيفتي، وليس إقامة الدين والنصح من أمري كيف -أيها الأخ المسلم- تقول ذلك؟ إن نشر الدين ليس مقتصراً على طبقة دون طبقة، ولا على مستوى دون مستوى، ولا على نوعية من المسلمين دون أخرى، بل كلنا دعاة وكلنا ناصحون، وكلنا يجب أن نقوم بأمر الدين، قال الله: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26] {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133]. أين المسارعة في الخيرات؟ {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون:61]، كل واحد يجب عليه أن يقوم من الدعوة بما يقدر عليه -كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى- وقد تبين بذلك أن الدعوة نفسها أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، فإذاً لا بد لكل إنسان أن يقوم بذلك، ليس نهياً عن المنكر فقط، وإنما أمر بالمعروف أيضاً، وإنما هو تعليم للدين، وإرشاد ونصح.

خطر الاشتغال بنقد الآخرين عن العمل للإسلام

خطر الاشتغال بنقد الآخرين عن العمل للإسلام أيها الإخوة: أيها المسلمون: كم من الخلل والعيب يكون عندما ينشغل الإنسان عن العمل بنقد الآخرين، فيكون شأنه أن يلمز هذا، ويسخر من هذا، وينتقص هذا من الدعاة العاملين، وهو لا يعمل شيئاً؟! أيها الإخوة: إن الذي يعمل هو الذي يخطئ، والذي لا يعمل قد لا يُرى منه خطأ، فلا يغرنك ألا ينتقد شخص، فربما يكون سبب عدم انتقاده أنه لا يعمل أصلاً.

مشكلة ترك العمل لأجل الناس

مشكلة ترك العمل لأجل الناس إيها الإخوة: إن حساسية بعض الناس من النقد تجعله يترك العمل، ويقول في نفسه: لماذا أصبر على لوم الناس؟ وما الذي يجبرني على تحمل هذه الانتقادات؟ فيترك العمل، وهل الدين إلا مناصحة، ودلٌّ على العيوب؟ كما قال عمر رضي الله عنه داعياً ربه: [رحم الله امرأً أهدى إلينا عيوبنا] وكذلك كان الصالحون يطلبون النقد لأعمالهم والتصحيح، ولذلك قال ميمون بن مهران رحمه الله: قولوا لي ما أكره في وجهي، لأن الرجل لا ينصح أخاه حتى يقول له في وجهه ما يكره. وليس المقصود إساءة الأدب، ولا التطاول والتعدي، ولكن يكون النصح في بعض الأحيان ثقيلاً على النفس؛ لأن فيه نوع انتقاد، ألا فلا ينبغي أن يمنع هذا، أو أن يترك الإنسان العمل لأجل خوف نقد الآخرين، فإن شخصية المسلم ليست شخصية هزيلة، وإن مرضاة الناس لا تقدم عنده على مرضاة الله عز وجل. ثم إن بعض هؤلاء يقولون: إن الآخرين لا يقدرون جهودنا سبحان الله! وهل نحن نعمل لأجل أن يقدر الآخرون جهودنا؟ إننا نعمل لوجه الله {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً} [الإنسان:9] وكل ما لا يراد به وجه الله يضمحل ويذهب. أيها الإخوة: إذا كان القصد أن يثني الناس على أعمالنا فقد هلكنا والله، فينبغي أن نعمل سواءً قدر الآخرون جهدنا وأثنوا علينا، أو لم يثنوا علينا، ذكرونا بخير أو ذكرونا بغيره، فإنه ينبغي علينا أن نعمل لأن الثناء من الله هو مقصودنا، وكذلك ينبغي أن يكون الثواب من الله عز وجل هو الباعث لنا على العمل، لا ثناء الناس ولا مدحهم. أيها الإخوة: إننا في حال نحتاج فيه إلى أن نصبر أنفسنا مع العمل للإسلام، وألا نتغير مزاجياً مع الأمور والأودية والأنواع والمجالات، فلا نتم هذا ولا نتم هذا، بل (إن الله يحب من أحدكم إذا عمل عملاً أن يتقنه) فإذا أمسكت بعمل -يا عبد الله- فأتمه وأتقنه. ولم أر في عيوب الناس عيباً كنقص القادرين على التمام فاثبت عليه وأتمه وأتقنه، وعند ذلك تكون منجزات تحسب لك عند الله عز وجل، أما الانقطاع في منتصف الطريق، والتغير من مكان إلى مكان، دون أن يكون في ذلك مصلحة شرعية، فهي من خدع إبليس، يريدك ألا تتم هذا ولا تكمل هذا، حتى لا تظهر الثمرة ولا يُنتفع بالعمل.

حقيقة الحياة الكريمة

حقيقة الحياة الكريمة عباد الله: إن بعض الناس يريد الحياة أن تكون سهلة مريحة، خالية من كل ما يكدر الخاطر ويتعب البال، وهذه حياة ليست والله بحياة كريمة، فإن المسلم ينبغي أن يسعى في طاعة ربه، ولو كان ذلك متعباً، ولو كان ذلك قاسياً، ولو كان ذلك شاقاً، لأنه يريد الحياة المريحة في الجنة. قالوا السعادة في السكون وفي الخمول وفي الجمود في العيش بين الأهل لا في المشي عيش المهاجر والطريد خلف الركب في دعة وفي خطو وئيد في أن تقول كما يقال فلا اعتراض ولا ردود قلت الحياة التحرك لا السكون ولا الهمود وهي التلذذ بالمتاعب لا التلذذ بالرقود هي أن تذود عن الحياض وأي حر لا يذود هي أن تحس بأن كأس الذل من ماء صديد فإذا أحس الإنسان بأن ما يتجرعه المسلمون من الذل اليوم هو من ماء صديد، فإنه يرفض أن يتجرع الكأس مع الآخرين، فينهض للعمل، وينفض عنه غبار النوم والكسل، ويقوم لله تعالى بالواجب والمطلوب.

الصلة بالله تبعث على العمل للإسلام

الصلة بالله تبعث على العمل للإسلام عباد الله: إن العمل لا يعظم ولا يندفع الإنسان له -ونتحدث عن عمل الآخرة بالذات- إلا إذا كان للمرء صلة قوية بربه، ولذلك كان العابدون أعظم المندفعين للعمل، لأن صلتهم القوية بالله عز وجل كانت تجعلهم يغتنمون أوقاتهم في العمل للدين. قال الوليد بن مسلم رحمه الله تعالى: رأيت الأوزاعي يثبت في مصلاه، يذكر الله حتى تطلع الشمس. وأخبروا عن بعض السلف أنهم كان هذا هديهم، في ذكر الله إلى طلوع الشمس، ثم يقوم بعضهم إلى بعض -بعد الخلوة والعبادة الفردية- يفيضون في ذكر الله تعالى، والتفقه في دينه، قال ضمرة بن ربيعة: حججنا مع الأوزاعي سنة خمسين ومائة، فما رأيته مضطجعاً في المحمل، كان يصلي فإذا غلبه النوم أستند إلى القتب، وكان يحيي الليل صلاة وقرآناً وبكاءً، حتى إن أمه كانت تدخل منزله وتتفقد موضع مصلاه، فتجده رطباً من دموعه في الليل. قال ابن جريج: صحبت عطاء ثماني عشرة سنة، وكان بعدما كبر وضعف يقوم إلى الصلاة، فيقرأ مائتي آية من البقرة، وهو قائم لا يزول منه شيء ولا يتحرك فكيف إذاً كان لما كان قوياً؟! وكان الربيع بن خثيم يبكي حتى يبل لحيته من دموعه ثم يقول: أدركنا قوماً كنا في جنبهم لصوصاً. أي: إذا نسبنا أنفسنا إليهم، وأعمالنا إلى أعمالهم، كنا في جنبهم لصوصاً، وهكذا يقول مع شدة عمله. أيها الإخوة: إن العمل في النهار يحتاج إلى عبادة بالليل، والعمل في الضحى يحتاج إلى ذكر بعد الفجر، وهكذا إذا كان الإنسان حسن الصلة بالله قوي العبادة، كان ذلك زاداً له في طريق الدعوة، وتحصيل العلم، ونشر الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ثم إن من أكثر ما ذبح أولئك الذين يريدون العمل: زوجات غير صالحات، أشغلنهم في أمور الدنيا، وأركبنهم مطاياها، وذهبن بهم في أوديتها، كما قال الإمام مالك رحمه الله: ينطلق أحدهم فيتزوج امرأة قد سمنها أبواها وترفوها، حتى كأنها زبدة، يتزوجها فتأخذ بقلبه، فيقول لها: أي شيء تريدين؟ فتقول: كذا وكذا. فيأتي به، ثم يقول: أي شيء تريدين؟ فتقول: كذا وكذا. فيأتي به، فتمرط والله دينه وتمزق، ولو أنه تزوج يتيمة ضعيفة كساها أُجِرَ على ذلك. إذاً: ينبغي أن يكون إرضاء الله مقدماً على إرضاء الزوجات والأولاد، ولكلٍّ حقٌ يجب القيام به: (إن لربك عليك حقاً، وإن لأهلك عليك حقاً، وإن لنفسك عليك حقاً، وإن لضيفك عليك حقاً، فأعطِ كل ذي حق حقه). اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من العاملين لدينك يا رب العالمين، اللهم اهدنا سبل السلام، وأخرجنا من الظلمات إلى النور، اللهم إنا نسألك الرشد في الأمر، والعزيمة على الرشد، ونسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

أهمية مرافقة الصالحين

أهمية مرافقة الصالحين الحمد لله معز من أطاعه ومذل من عصاه، وأشهد أن لا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأشهد أن محمداً رسول الله، الرحمة المهداة، والبشير النذير والسراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. عباد الله: إن من أعظم الأسباب الداعية إلى مواصلة العمل للإسلام وعدم تركه: أن يكون الإنسان مع العاملين المخلصين أن يؤاخيهم، ويرافقهم، وألا ينفصل عنهم المحيا محياهم، والممات مماتهم، وهكذا يكون معهم أخاً صادقاً {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] يكونون كالبنيان المرصوص في مواجهة كيد الأعداء، ويكونون كالجسد الواحد في التآخي فيما بينهم، إذا اشتكى عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى إن الانفصال عن الأخيار العاملين هو الداء الوبيل، وهو الشر الكبير. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية) وذكَّرنا بأن يد الله مع الجماعة، وذكَّرنا بأن البركة في ثلاث: في الجماعة، والثريد، والسحور. إذاً: الجماعة المجتمعون على الخير بركة، فإذا كنت مع الأخيار عملت، وأججوك وأزوك للعمل ودفعوك، واقتديت بهم، ونلت نصيحة أو حافزاً وحماساً، أو تسديداً وستراً على عيب، وتكميلاً لشخصية، واقتباس خلق، وعلم، ونحو ذلك من الفوائد العظيمة.

المعاصي وأثرها في العمل

المعاصي وأثرها في العمل عباد الله: أيها المسلمون! إن المعاصي من شر ما يقطع الإنسان عن العمل للدين، وإن الشيطان ليستثمر المعصية استثماراً ويرابي فيها، بحيث تكون قاطعة عن الله والدار الآخرة، ولا يزال يقول لمن اتبع دربه ومشى في ركبه: أنت عاص مقصر، لا يليق بك أن تدعو وتعمل وتنصح ولا شك أن هذا في الحقيقة إضافة تقصير إلى تقصير، فلو أن المقصر ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأجل هذه الحجة الواهية، التي ليست بحجة أصلاً، فماذا سيحدث أيها الإخوة؟ إنه سيضيف إلى معاصيه وتقصيره معصية وتقصيراً آخراً، وهو ترك إنكار المنكر الواجب، وترك النصيحة الواجبة في الدين. وهكذا يتنقل الشيطان بالمرء من حفرة إلى حفرة، وينزل به سلم الدرج حتى يورده قاع الذل والهزيمة والمعصية، فإياكم -يا عباد الله- من الاستجابة لهذه الخدعة الإبليسية!!

خطر الكسل والخمول وعلاجه

خطر الكسل والخمول وعلاجه أيها المسلمون: إن الإنسان المسلم قد تعرض له عوارض، فيعرض له ضعف، ويعرض له شيء من الكسل والخمول، فعليه أن يزيله بالإقبال على الله، والانطراح بين يديه، والذل عنده يقف ويناشد ربه أن يعيد إليه إيمانه جذوة مشتعلة، وحماسة متقدة، وأن يأخذ بيده إلى سبيل الطاعة والنهوض بنفسه مرة أخرى، ويطلب من إخوانه المسلمين أن يكونوا عوناً له ومدداً في تجاوز هذا الحال المؤقت. إن هذه المنعطفات الموجودة في طريق الطاعة عند كثير من الناس ينبغي أن يتغلب عليها لا أن يستسلم لها، وأن نأخذ من كتاب ربنا ومن سيرة سلفنا ونبينا إمامهم وقدوتهم العلاج في مواجهة مثل هذه الحالات التي تحدث لدينا من كسل أو خمول أو تباطؤ أو فتور، بل حتى وانتكاس، لنعود مرة أخرى متغذين بهذه المحفزات لأعمال الخيرات، وأن نرجع مرة أخرى إلى الطريق كما كنا وأفضل مما كنا، والسعيد من عرف كيف يعالج نفسه، ولو أنك لم تهتد إلى علاج فسألت من إخوانك من يدلك على الطريق والعلاج لكان ذلك من الحكمة العظيمة.

ضرورة الصبر والمصابرة في العمل للإسلام

ضرورة الصبر والمصابرة في العمل للإسلام أيها الإخوة: إن القضية تحتاج إلى مكابدة، وإلى تعب نفس {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} [العنكبوت:14] فهذا نوحٌ يدعو قومه تسعمائة وخمسين عاماً من غير كلل ولا ملل، هذه الهمة العالية من نبي الله الكريم في القيام بالواجب، وحتى التغلب على عيوب النفس يحتاج إلى مصابرة، قال ابن المنكدر: كابدت نفسي أربعين سنة حتى استقامت. وكذلك قال ثابت البناني عن الصلاة: كابدت الصلاة عشرين سنة، وتنعمت بها عشرين سنة. وهذه العبارة توضح لك -يا عبد الله- كيف تتم المصابرة في موضوع مثل قيام الليل، الذي يكون شاقاً على النفس، ومراً عندما يحاول الإنسان أن يفعله وأن يطيل فيه، ولكن الحل والعلاج هو الاستمرار حتى تأتي الحلاوة، فإن الحلاوة قد لا تأتي إلا بعد وقت من الزمن. أيها الإخوة: إن الاستمرار في الأعمال يرزق الإنسان به حلاوة إيمان يستشعر طعمها حتى يفارق الدنيا، فهذا ربيعة بن يزيد ما أذن المؤذن لصلاة الظهر أربعين سنة إلا وهو في المسجد، إلا إذا كان مريضاً أو مسافراً. وهذا بشر بن الحسن الصفي، سمي بالصفي لأنه كان يلزم الصف الأول في مسجد البصرة خمسين سنة. وهكذا كانت الأعمال ترتقي بهم من مرحلة إلى مرحلة حتى يحس المعاشر لهم أنهم يزدادون كل يوم، وهذه هي القضية العظيمة. قال إبراهيم الحربي -رحمه الله- وهو من أصحاب الإمام أحمد عن شيخه: ولقد صحبته عشرين سنة صيفاً وشتاء، وحراً وبرداً، وليلاً ونهاراً، فما لقيته في يوم إلا وهو زائد فيه عما بالأمس. يا مطعوناً في العزم: أين أنت والطريق؟! طريق تعب فيه آدم، وبكى لأجله نوح، ورمي في النار الخليل، وأضجع للذبح إسماعيل، وبيع يوسف بثمن بخس، ولبث في السجن بضع سنين، ونشر بالمنشار زكريا، وذبح السيد الحصور يحيى، وقاسى الضر أيوب، وزاد على المقدار بكاء داود، وعالج الفقر وأنواع الأذى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف نحن باللهو واللعب؟ أيها المسلمون: عباد الله! ليكن شعارنا: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل:127] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200] كيف يهنأ المسلم بعيش ويرتاح له بال؟! وهو يرى أفراد أمته يجرون وراء اليهود والنصارى والكفار تشبهاً بهم. وما جرى في يوم عيد الحب ببعيد، عندما رأيت أنواع هذه الترهات يبيعها الناس في أسواقهم، الورود والبطاقات، وترسل التهاني عبر شبكة نسيج العنكبوت، وغير ذلك من أنواع التبادل، وتتحدث القنوات عن قضية عيد الحب، وتنتهي الورود الحمراء من المحلات، وتتقاذف القلوب الأوراق المقصوصة وغيرها على هيئة القلوب، تتنقل في أيدي شبابنا وبناتنا. هذه الغيرة التي تأخذ بنفس الإنسان المسلم، والحسرة والغصة مما يتجرعه من هذا المرأى الشنيع لبنات وشباب من آباء وأمهات مسلمين، يعيشون مع المسلمين، ثم يصل بهم الانحدار إلى أن يركبوا مركب الكفار، ويسيروا في ركبهم، ثم تعمل الحفلات، وتسمع عن الديجيه وغير ذلك من أنواع الموسيقى والرقصات أناسٌ يهيمون في أودية إبليس، والشيطان يستجرهم هذا مثل واحد. ثم تجد في المقابل مذابح الشيشان، وتجد الطعن في العيون، وبقر البطون، وأنواع الاغتصاب، والإذلال والمجاعة مدن تهدم بأكملها على رءوس قاطنيها، وعاصمتهم تغلق، ومحصورون في الجبال وفي الثلوج والجوع، ثم هؤلاء يهيمون في الأسواق والمراكز التجارية وعلى الشواطئ يلعبون بالكفر والتشبه بالكفرة تهدم العقيدة، ويزلزل الدين، ويتشبه بالكفرة الذين يقاتلوننا. إذاً أيها الإخوة: القضية والله تؤجج للعمل، وتدفع للمنازلة، والقدوم إلى ساحة الوغى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله، كفى لعباً، وكفى لهواً ونوماً وكسلاً، انفضوا ذلك الغبار، وقوموا لله بالواجب، وإلا فإن السفينة ستغرق والله. اللهم إنا نسألك الهداية لنا وللمسلمين جميعاً، اللهم ردنا إلى الإسلام رداً جميلاً، ونعوذ بك من غضبك وعقابك، ونعوذ بك من همزات الشياطين وأن يحضرون يا رب العالمين. اللهم فقهنا في ديننا وعلمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، اللهم اجعل حياتنا على التوحيد، واجعل مماتنا على التوحيد، واجعل خير أيامنا يوم نلقاك. اللهم اجعل بلدنا هذا آمناً مطمئناً يا رب العالمين، ومن أراد بلدنا هذا بسوء فاشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، اللهم ومن أراد المسلمين في هذا البلد وفي غيره من بلدان المسلمين بسوء اللهم فأرنا فيه عجائب قدرتك يا رب العالمين. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

استوصوا بالتائبين خيرا

استوصوا بالتائبين خيراً إن العناية بالتائبين من الأمور التي أكد عليها الشرع، وراعاها النبي صلى الله عليه وسلم وعلمها أصحابه، وهي الآن منوطة بالدعاة إلى الله؛ إذ يجب عليهم أن يتعلموا كيفية التعامل معهم، فهم وإن كان ماضيهم في عصيان فإن حاضرهم طاعة، ومخالطتهم تزيد الإيمان إلى هذا أشار الشيخ في هذه المادة، كما أشار إلى أن التوبة ضرورية لكل فرد وإن كان صالحاً

بيان أهمية توبة الصالحين

بيان أهمية توبة الصالحين الحمد لله العزيز الوهاب، غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، لا إله إلا هو، إليه أدعو وإليه متاب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد خير من استغفر وأناب، وعلى آله وصحبه أولو الأيدي والألباب، وعلى من سار على نهجه واقتفى سنته إلى يوم الحساب. أيها الإخوة: نحن نعيش في وقت نشهد فيه رجعة من المسلمين إلى الله واضحة، وكثير من الناس صاروا ما بين تائب وأوَّاب، وتيمم كثير منهم شطر المسجد والمحراب، يريدون المغفرة من ربهم ويواصلون قرع الأبواب، والدعاة إلى الله في مواقفهم من هؤلاء التائبين العائدين إلى ربهم يحتاجون إلى تعلم الحكمة وكيفية الخطاب، فكان لابد لاستقبال هؤلاء التائبين الجدد من إعداد العدة والأخذ بالأسباب. وقد سبق أن تكلمنا في لقاء منفصل عن التوبة وأهميتها وعوائقها، وكيف تزال هذه العوائق، ونحن نتكلم الآن في لقاء موجه إلى الدعاة إلى الله أكثر من غيرهم عن هذه المسألة. ونحن نعلم -أيها الإخوة- أن الحديث عن موضوع التوبة حديث ذو شجون، فإن آثام الناس في هذا العصر قد كثرت، وتبين لكثير من المخطئين خطأهم وذنوبهم، وأرادوا أن يرجعوا إلى الله عز وجل، والتوبة فيها تجديد لمعاني أسماء الله وصفاته في النفس، فإنه يتبين في قلب التائب من معاني أسماء الله: التواب، الكريم، الواسع، الغفار، الغفور، الرحمن، الرحيم، ومن صفاته: أنه غافر الذنب، وقابل التوب سبحانه وتعالى. وموضوع التوبة بالنسبة للصالحين موضوع مهم، فإن الكثير يطرق موضوع التوبة بالنسبة للمذنبين العصاة، ولا يطلق موضوع التوبة بالنسبة للصالحين والدعاة إلى الله إلا قليلاً، علماً بأن الجميع يحتاج هذا الموضوع من أكبر صالح إلى أكبر مذنب. وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يستغفر الله ويتوب إليه في اليوم والليلة أكثر من سبعين مرة، فما بالنا نحن العبيد المقصرون؟! وماذا يكون حالنا في هذا الميزان، ونحن نرى رسولنا صلى الله عليه وسلم كان يفعل ما يفعل؟! وموضوع التوبة بالنسبة للصالحين له مجالات متعددة، فإن هذا الصالح كان في يوم من الأيام مذنباً، ثم تاب إلى الله وأصبح صالحاً، ولكن هذه الفترة التي مضت من عمره كان فيها منغمساً في أوحال الذنوب والمعاصي، ثم أحدث التوبة بعد ذلك، هذه الفترة التي مضت دون توبة عاجلة، وتأخرت توبته سنوات، ثم صلح حاله بعد ذلك، هذه التوبة تحتاج إلى توبة من تأخير التوبة. لأننا في كثير من الأحيان نذنب، أو نكون قد أذنبنا في فترات ماضية، ولكن لم نتب إلا بعدها بسنوات، إذاً فهذا التأخير الحاصل بالنسبة للتوبة هو ذنب مستقل يحتاج إلى توبة، وكذلك فإن هناك كثيراً من الأمراض التي تنتاب بعض الصالحين مثل: غرور العبادة، والتألي على الله عز وجل، والاستكبار في الأرض، ومشاهدة بعض الناس لأعمالهم الصالحة، ودخول الرياء على الكثيرين حتى من الصالحين، وحب الرئاسة والظهور من الأمراض التي لا يسلم منها إلا النادر من الناس.

التوبة مهمة لأصلح الصلحاء كأكبر الفجار

التوبة مهمة لأصلح الصلحاء كأكبر الفجار والذي يظن أن موضوع التوبة هو مهم فقط بالنسبة للعصاة المذنبين أرباب الفواحش والمنكرات إنسان مخطئ جداً؛ لأننا في كل يوم نقصر في حق الله عز وجل، وقد لفت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله النظر إلى مسألة مهمة فقال: إن الذنوب تحصل في نوعين: ترك الواجبات، وفعل المحرمات. وكثير من الناس الذين يبدو على ظاهرهم الالتزام بهذا الدين والعمل له؛ يتركون أشياء من الواجبات، فهم قد لا يقعون في منكرات وفواحش، لكنهم يتركون أشياء من الواجبات، وهذا الترك يحتاج إلى توبة، وهذا التقصير لابد من استدراكه بالاستغفار والندم، والعزم على المواصلة، والسير إلى الله سيراً حثيثاً. وكثير من الذين يشتغلون بالدعوة إلى الله عز وجل يصابون بآفات وأمراض أثناء سيرهم في الطريق؛ من أنواع البرود والتقهقر والتراجع، وغيبة تخرج مخرج جرح وتعديل ليست عند الله شيئاً، وطعن بعضهم في بعض، والذي يحصل في قلوب بعضهم من التكبر على خلق الله هو في الحقيقة مرضٌ مزمن وخطير يحتاج إلى توبة. أضف إلى ذلك احتقار بعض الصالحين لبعض المذنبين، والنظر إليهم بعين النقص؛ مع أنهم ربما يكونون في حالة ندم ترتفع معها أعمال قلوبهم في بعض الأحيان، لتكون أحسن من أعمال قلوب بعض الصالحين الذين حصل في نفوسهم هذا الكبر والغرور والاحتقار لخلق الله، وسنضرب لذلك أمثلة ونسوق عليها أدلة يتبين فيها حجم هذه المشكلة.

التوبة العامة وأهميتها

التوبة العامة وأهميتها أيها الإخوة: إن التوبة من أنواع الذنوب، سواء كانت ترك واجبات أو فعل محرمات مثل الاستفراغ والقيء الذي يتقيؤه المريض لإخراج ما في بطنه من أنواع العفن والمواد الضارة بالجسم، وكذلك هي مثل الترياق والدواء المستخدم ضد السموم، هذه لفتة عن أهمية التوبة. أضف إلى ذلك أن كثيراً من المسلمين لا يتوبون توبة عامة، لكن إذا أذنب ذنباً تاب منه بالذات، فإذا نظر إلى امرأة أجنبية في السوق قال: أستغفر الله وأتوب إليه، لكنه ينسى التوبة العامة غير المرتبطة بذنب معين، وهذه هي التوبة التي كان صلى الله عليه وسلم يكثر أن يتوب منها، وهذه التوبة العامة يغفل عنها حتى الدعاة إلى الله عز وجل، وعن تجديدها في كل حين ووقت. ألا ترى أن المسلم قد يذنب ذنباً وهو لا يرى أنه قد أذنب! ألا ترى للدعاء الذي يقول فيه المسلم: (اللهم إني أستغفرك مما أعلم ومما لا أعلم) لأننا في كثير من الأحيان نقع في ذنوب دون أن نشعر أننا قد وقعنا فيها. وكذلك قد يكون الإنسان واقعاً في بدعة من البدع يظنها عملاً صالحاً، ثم يتبين له بعد ذلك أنها عمل غير صالح، وأنها مخالفة لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله وهديه وسنته، هذا الرجل لا يشعر عندما فعل تلك الأعمال أنه اقترف ذنوباً ليست فواحش ولا كبائر في نظره، لكن بعد ذلك عندما يشعر أنه كان يعبد الله على غير بصيرة في بعض المسائل فهو محتاج إلى توبة من هذه النوعية أيضاً. وقد يتلطخ الإنسان ببعض أمور الجاهلية وإن نشأ بين أهل علم ودين، وأذكر هذه الملاحظة لكثير من الإخوان الذين يعيشون في بعض البيئات الصالحة، فإنهم بالرغم من معيشتهم في وسط أناس صالحين، وبين أهل علم ودين، إلا أنهم لا يسلمون من الوقوع في بعض المعاصي والتلطخ بها، والشيطان يدخل على الصالحين من عدة مداخل، وقد يدخلهم في أنواع من البدع. ولذلك لابد من تجديد التوبة حتى لهؤلاء، ولذلك فإننا نقول أيضاً في هذا المقام: إن بعض الصالحين قد يتركون واجبات لا يعلمون وجوبها، وبعد ذلك يكتشف أن هذه الأشياء واجبة، وأنه كان قد تركها في الماضي جهلاً، وليس كل الناس يعذرون بجهلهم، لأننا نقول: الشخص الذي يعيش في بيئة فيها أهل العلم فالواجب أن يسألهم، فكونه يكتشف أنه كان قد ترك واجبات وهو لا يعلم أنها واجبات، ووقع في محرمات وهو لا يعلم أنها محرمات، نقول له: لماذا لا تسأل وتفكر بالسؤال؟ لماذا كنت تسير هكذا مع التيار دون تحقيق وتمحيص؟ أليس هذا قد يكون ذنباً يحتاج إلى التوبة والاستغفار؟

تأخير التوبة إصرار على الذنب

تأخير التوبة إصرار على الذنب واعلموا أيها الإخوة أن المسلم الذي يؤخر التوبة إلى أمد معين هو مصر على الذنب، فبعض الناس يقول: إذا جاء رمضان فسوف أتوب، وهو عازم على التوبة في رمضان، ولكنه رجل مذنب مصر على الذنب، ويطلق عليه أنه يصر على الذنب؛ لأن المفروض عليه المبادرة بالتوبة ولا يجوز تأخيرها إلى أمد معين، ولكن كثيراً من الناس عندهم هذا المبدأ وهذا المفهوم يقول: عندما يأتي رمضان سأتوب إن شاء الله توبة كاملة، ويقول بعضهم: سأذهب إلى العمرة وأتوب، ولن أعمل بعدها أي عمل سيء، وبعضهم يقول: إلى الحج وبعد الحج سأتوب. وما يدريه أنه سيعيش إلى رمضان أو الحج؟! هذا أولاً، وثانياً: لو عاش إلى رمضان أو الحج أليس هذا التأخير الذي تأخره في التوبة ذنباً يستحق التوبة أيضاً ولو تاب في رمضان أو الحج؟! لكن هذا التأخير هو إصرار يحتاج إلى توبة، وكون الإنسان يعزم على التوبة بعد فترة من الزمن لا يعفيه من الذنب، ولا ينفعه عند الله عز وجل في هذا الموضوع. وكذلك فإن التوبة تحدث في النفس من الآثار الحسنة في الاندفاع نحو الطاعات أموراً كثيرة، وتجعل الإنسان المسلم يحس بالتقصير، ويحس بأنه دائماً لا يفعل ما يجب عليه من الحقوق تجاه ربه، وهذا الشخص الذي يستشعر النقص دائماً يستمر في الأعمال الصالحة؛ لأنه يعلم علم اليقين أنه مهما عمل من الأعمال الصالحة فإنه لا يزال مقصراً، ولو أنه فكر في هذه الأعمال الصالحة من الصلوات والزكوات والعبادات، وطلب العلم، والدعوة إلى الله، ثم وزنها ببعض نعم الله عليه مثل السمع والبصر والفؤاد، لوجد أنها لا تساوي شيئاً. فإذا كنا مهما عبدنا الله لن نؤدي شكر النعم فقط، فكيف بالواجبات التي أوجبها علينا؟! بعض الصالحين قد يقع في أخطاء في حقوق إخوانه المسلمين، أو قراباته أو جيرانه، فهذا عليه ألا ينسى الدعاء والاستغفار لهم بظهر الغيب؛ لأن ذلك يعوض هذا التقصير في الحقوق تجاههم. ونحن بشر لا نسلم من التقصير، قد تكون أنت تطلب العلم وتدعو إلى الله عز وجل، ومع ذلك أنت مقصر في حقوق أقربائك، وقد تكون أخطأت في الموازنة بين الواجبات المترتبة عليك، لذلك يكون الاستغفار لمن قصرت في حقه من عباد الله والدعاء له من الأشياء التي تنفع في إصلاح ذلك النقص والخلل.

التوبة من التقصير والخلل

التوبة من التقصير والخلل ونأتي الآن إلى بيان نوع آخر من أنواع التوبة التي يحتاج إليها الصالحون، ألا وهو التوبة من التقصير والخلل الذي يحدث في عباداتهم، فلو أنك أتيت بأصلح الناس حالاً، ثم قلت له: هل ترى بأنك قد خشعت في جميع صلواتك؟ وهل ترى بأنك قد جاهدت الشيطان -في الصلاة فقط- حق الجهاد؟ وهل ترى بأنك في الحج لم تؤذ أحداً من عباد الله البتة في الزحام ونحوه؟ وهل ترى بأنك قد قمت بهذا العمل بالضبط كما هو الواجب فيه، أم أن الخلل والتقصير ملازم لي ولك في جميع أعمالنا الصالحة؟ فإذاً لابد من توبة أيضاً من هذه التقصيرات الحادثة في الأعمال الصالحة.

استوصوا بالتائبين خيرا (نصائح وتوجيهات)

استوصوا بالتائبين خيراً (نصائح وتوجيهات) ثم دعونا الآن ندخل في صلب الموضع، وهو: استوصوا بالتائبين خيراً. أيها الإخوة: نحن الآن في وقت تشهد فيه ديار ومجتمعات المسلمين -ولله الحمد- صحوة إسلامية، وهذه الصحوة -كما ذكرنا- صحوة مباركة عاد فيها كثير من الناس إلى الله عز وجل، وهناك أفواج كثيرة الآن تأتي إلى طريق الهداية، وإلى المساجد وحلق الذكر، هناك أناس كثيرون بدءوا يسألون عن المخرج ويريدون معرفة الطريق الصحيح، ودب في قلوبهم الندم على الماضي الأسود الذي خلفوه، هناك أناس كثيرون شعروا بالإفلاس التام بعد تلك المعاصي الكثيرة التي عملوها، وشعروا أنهم أهدروا سنوات طويلة من أعمارهم في لا شيء، بل في معصية الله. هؤلاء القادمون إلى الطريق المفروض أن يستلمهم، ويأخذ بأيديهم، ويرشدهم ويعلمهم الدعاة إلى الله عز وجل، فهم الذين تقع على عواتقهم أهمية إرشاد هؤلاء التائبين إلى الطريق، واستقبال هذه الأفواج واحتواؤها في ضمن المجتمعات الإسلامية المصغرة؛ كلٌ بحسب طاقته وقدرته، حتى يقوى عود هذا التائب ويصلب، ولا ينكص ويعود، وكثيرٌ من الذين انتكسوا كان من أسباب انتكاسهم المواقف الخاطئة لبعض الدعاة، ولذلك يتحمل هؤلاء الذين لا يحسنون استقبال التائبين جزءاً من المسئولية عند الله في انتكاس هؤلاء المنتكسين.

نظرة المسلمين الصالحين إلى أخيهم المسلم المذنب

نظرة المسلمين الصالحين إلى أخيهم المسلم المذنب ولذلك فإننا نقول الآن: ما هو موقع المذنب في المجتمع الإسلامي؟ كيف يجب أن تكون نظرة المسلمين الصالحين في المجتمع الإسلامي إلى أخيهم المسلم المذنب؟ بعض الناس يقول: ينبغي أن تكون نظرة قاتمة؛ وعنده أن هذا الشخص الذي أذنب ينبغي أن نهجره ونقاطعه ولا نكلمه ولا نزوره ولا نسلم عليه؛ لأنه وقع في ذنب، وهذا الموقف في هذا الزمن بالذات في غاية الخطأ والخطورة؛ وإذا قاطعته وهجرته فهذا الهجر غير شرعي، فإن هناك آلافاً من شياطين الإنس مستعدون لإيوائه واحتوائه وجذبه إليهم. كعب بن مالك رضي الله عنه، لما أخطأ وترك الخروج مع الرسول صلى الله عليه وسلم للجهاد في مجتمع إسلامي الهجر فيه مفيد، قاطعه الرسول صلى الله عليه وسلم وأمر الصحابة بمقاطعته، ولكن ماذا فعل ملك غسان الكافر وأصحابه؟ لقد اصطادوا الخبر فوراً وأرادوا انتهازه، فكتب ملك غسان إلى فرد مسلم في المدينة رسالة، فجاء بها نبطي من أنباط الشام فدخل المدينة، وأخذ يسأل في السوق عن كعب بن مالك، فطفق الناس يشيرون إليه، يقول كعب: فأتاني فدفع إليّ رسالة من ملك غسان، يقول فيها: قد سمعنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك. هذا موقف خطير جداً، ملك الكفار مهتم بموضوع شخص في المجتمع الإسلامي؛ لأن كيد أهل الباطل لأهل الإسلام لا يتوقف، ولذلك فهم يحاولون الاصطياد في الماء العكر دائماً، وأي واحد يأنسوا فيه ضعفاً من الدعاة والصالحين حاولوا فوراً التقاطه وجذبه إليهم. كعب بن مالك صحابي جليل فقيه، يعلم تماماً بمؤامرات أعداء الإسلام، ويعلم أن هذه محنة وابتلاء فصمد، قال كعب: فقلت في نفسي: وهذا أيضاً من البلاء، فتيممت بها التنور فسجرتها. لكن قل لي: كم من المسلمين من لو وقع في ذنب، وصار عنده ضعف سيكون موقفه لو عرض عليه بعض أهل الباطل مثلما عرض على كعب؟ كم منهم سيكون موقفه مثل موقف كعب بن مالك رضي الله عنه؟ فاستوصوا بالتائبين خيراً، أول ما يقع الإنسان في الذنب فمن الخطأ الكبير أن نهجره مباشرة، فنقاطعه ولا نكلمه، ولا نسلم عليه ولا نزوره، ولا نعوده ولا نساعده في شيء، هذا خطأ كبير، إلا إذا كان الهجر نافعاً له -كما يذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله- وسيعيده إلى صوابه فعند ذلك نهجره، أما إذا كان هجره سيتسبب في إمعانه في الضلال وزيادته في الانتكاس، فإن من الجرم هجره والحالة هذه.

حسن استقبال المذنب في المجتمع الإسلامي

حسن استقبال المذنب في المجتمع الإسلامي ما هو موقع المذنب في المجتمع الإسلامي؟ إذا أخطأ شخص وندم، فإن أهل الوعي من المسلمين لابد أن يحسنوا استقباله مرة أخرى، حتى يرى المذنب أن المجال مفتوح أمامه، وأن خط الرجعة ممكن، فلا يمعن في الضلال والابتعاد. وهذه الحادثة العظيمة التي رواها النسائي وغيره بإسناد صحيح عن ابن عباس تبين لكم هذا الفقه العظيم في باب الدعوة إلى الله في الموقف من المذنبين، كان هناك رجل من الأنصار أسلم ثم ارتد ولحق بالمشركين، ثم تندم، هل هناك أكبر من الردة ذنباً؟ لا يوجد. ثم تندم فأرسل إلى قومه: سلوا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، هل لي من توبة؟ هذا الموقف يجب أن يستغل مباشرة، يمكن أن يأتي مذنب ويقول: أنا أشعر بالندم فهل لي من توبة؟ فجاء قومه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن فلاناً قد ندم، وإنه أمرنا أنا نسألك هل له من توبة؟ فنزل قول الله عز وجل: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} [آل عمران:86] حتى جاءت الآية التي فيها: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [آل عمران:89]. الذين تابوا بعد هذه الردة والظلم {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:89] فأرسل إليه صلى الله عليه وسلم أن هناك مجالاً لك، فجاء فأسلم مرة أخرى، فما هو المطلوب؟ إن المطلوب أن يعود الشخص إلى الصراط المستقيم لأن هذا هو عين المطلوب. حادثة أخرى تبين لنا الموقف: رجل من المسلمين شرب الخمر، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بجلده، قال أبو هريرة: فمنا الضارب بنعله، ومنا الضارب بثوبه، فقال واحد من المسلمين: قاتلك الله! -أمام الناس- أو أخزاك الله، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم). شخص أمسك به وقد ارتكب ذنباً وأقيم عليه الحد، فهو كفارة للذنب؛ لأن من أقيم عليه الحد في الدنيا وتاب؛ فإن هذا الحد كفارة للذنب. فما هو الداعي لأن يقال لمثل هذا الشخص: أخزاك الله؟ هذا خطأ! ولذلك قال: (لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم) يطبق عليه الحد ويجلد، ولكن لا يدعى عليه، لا يقال له: أخزاك الله، فإن قلت له ذلك؛ ففد أعنت الشيطان عليه، وبدأ يكره هؤلاء الناس الذين يقولون له مثل هذه الكلمات. قصة أخرى: أخرج أحمد والبيهقي عن أبي ماجدة قال: كنت قاعداً مع عبد الله بن مسعود، فقال: إني لأذكر أول رجل قطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: حد السرقة- أُتي بسارق فأمر بقطعه فكأنما أسف وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما قطعت يده، لاحظ الصحابة في وجه الرسول صلى الله عليه وسلم كأنه أسف، فيه علامات تأسف على ما حصل. (فقالوا: يا رسول الله! كأنك كرهت قطعه، قال: وما يمنعني؟ -لماذا لا أكره قطعه- لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم) إنه لا ينبغي للإمام إذا انتهى إليه حد ألا يقيمه، إن الله عفو يحب العفو: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:22] قال الشيخ ناصر في السلسلة الصحيحة: هو عندي حسن. فإذاً كان من الأولى أن يعفى عن هذا السارق، لكن مادام وقد رفع أمره، وثبتت عليه السرقة عند الإمام أو الوالي أو القاضي أو ولي الأمر، فلابد من إقامة الحدود، ولا يمكن أن تنفع بعد ذلك شفاعة ولا واسطة، وحتى لو تنازل المسروق منه فلابد من إقامة الحد إذا وصل إلى ولي الأمر، هذا حكم شرعي. فكأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: لو أن هذا الشخص ما أُتي به إلي، ولم تبلغني القضية، وسامحه الناس الذين سرق منهم ما قطعت يده، ونحن نتكلم عن هذه الحالة بالذات، ولا نتكلم عن شخص كثيرة جرائمه، وقد عمت البلوى وصار لا يسلم أحد من شره، لا. هذا قد يكون في قطع يده إصلاحاً له. وهناك أيضاً حادثة أخرى من السيرة تبين كيف كان المذنب يستقبل في المجتمع الإسلامي الأول، عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: إن قريشاً أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه امرأة شريفة في القوم لها مكانة من بني مخزوم، هذه يحكم عليها بقطع يدها؟! فكانت هذه مشكلة عندهم، قالوا: من يتوسط فيها، ويكلم لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يوجد أحد أبداً إلا أسامة، فهو أقرب الناس إليه، والرسول صلى الله عليه وسلم يحبه جداً، وهذا موضوع خطير وحساس لا يمكن أن يتكلم فيه إلا أسامة. كلموا أسامة: توسط لنا عند رسول الله، فأُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمرأة، فكلمه فيها أسامة بن زيد، فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغضب، فقال: (أتشفع في حد من حدود الله) فقال أسامة وشعر بالذنب الشديد: استغفر لي يا رسول الله! أي: لأني تجرأت بأن أتوسط في حد من الحدود. لا تجوز الوساطة في الحدود نهائياً، ومن أكبر الجرائم إخراج شخص قد حكم عليه بحد، وبلغ الإمام، فمن يتوسط له يبوء بإثم عظيم عند الله. فلما كان العشي قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً، فأثنى على الله تعالى بما هو أهله، ثم قال: (أما بعد: فإنما هلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وإني والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها، ثم أمر بتلك المرأة التي سرقت فقُطعت يدها أمام الناس). هذه قصة معروفة للجميع، لكن الشيء الذي يجهله الكثير من الناس تكملة القصة، والقصة في صحيح مسلم، قالت عائشة: [فحسنت توبتها بعد -هذه المرأة السارقة تابت إلى الله، وحسنت توبتها بعد ذلك وتزوجت- وكانت تأتيني بعد ذلك، فأرفع حاجتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم] هذه عبارات عظيمة جداً ينبغي أن نقف عندها، هذه المرأة السارقة لما تابت لم تصبح منبوذة، لم ينظر الناس إليها بعين السخط والازدراء على ما وقع منها من ذنب، لقد وجدت لها مكاناً في المجتمع الإسلامي، لقد وجدت من يتزوجها، لقد كانت تأتي إلى عائشة فتفتح لها البيت وتستقبلها، بل لقد كانت حاجتها ترفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قائد الأمة، وأعلى رجل في الدولة الإسلامية. إذاً هذا الاستقبال الحسن هو الذي يجعل التائب يواصل في التوبة عندما يشعر أن له مكاناً وأن الاستقبال حسن؛ فإنه يواصل في التوبة، ولكن في كثير من الأحيان لا يحسن البعض استقبال التائبين، وينظر إليهم بعين الازدراء والاحتقار والنقص؛ لأنه كان صاحب سجل في الماضي، فيرى نفسه منتقصاً، فيقول: الأحسن ألا أرجع إلى الناس الذين كنت معهم في الماضي، لماذا أعيش بين أناس ينظرون إلي بهذه النظرة؟ وهذا السيء في الاستقبال يتحمل إثم نكوص الشخص الذي كان قد تاب، ثم نظر إليه بهذه النظرة ولم يفسح له المجال، فهو يتحمل شيئاً من إثم هؤلاء الذين لم يحسن استقبالهم.

أهمية الاعتناء بالتائبين

أهمية الاعتناء بالتائبين أيها الإخوة! استوصوا بالتائبين خيراً، لابد أن نلتقط الناس الذين تابوا نتيجة ظرف معين، لابد أن نبحث عنهم وندقق في الأحوال، ونتلمس هذه النوعية لكي تحاط بشيء من العناية والرعاية والاهتمام حتى يستكمل هذا الشخص المشوار. مثال: هناك الآن أناس كثيرون بعد الحج والعمرة يتغيرون، بعد حادث سيارة يتغير، وبعد مرض يشفى منه يتغير، وهذا التغير قد لا يستمر، فالواجب على الدعاة إلى الله أن ينتهزوا الفرصة، وأن يبادروا مباشرة إلى هذا الشخص الذي تأثر الآن، وأن يضربوا على الحديد وهو حامٍ ليتشكل التشكل المطلوب، وهذه نقطة مهمة جداً؛ لأن بعض الناس يرى شخصاً ما جاء من الحج وتأثر، ولكن يقول: ألتفت إليه فيما بعد (يؤجله) الشخص هذا رجع من الحج، وجلس في فترة تأثر، ثم بدأ يضعف شيئاً فشيئاً، ويرجع إلى عادته الأولى، وإلى أصحابه القدامى، ويرجع إلى ما كان عليه، ثم تأتي إليه بعد ذلك بفترة لتجد الشخص قد رجع تماماً مثلما كان، الآن أثر الكلام لن يكون قوياً، والشخص الآن قد لا يتأثر، لكن لو جئته مباشرة بعد ذلك العمل الصالح الذي قام به، أو بعد ذلك المرض أو الحادث الذي نجا منه، فكلمته وأعطيته دفعات من أعمال الخير والأعمال الصالحة، ودللته على الحق وأبواب الخيرات، واهتممت به وراعيت أحواله، فإن حاله يتطور إلى المزيد. فلابد أن يتلقف مثل هذا الشخص، ويحاط بمجموعة من أهل الخير، ويدخل في وسط طيب، ويصبح أصحابه من أهل الخير، ويصبح الرجل يشترك ويأتي في المناسبات الطيبة التي تحفظ عليه الإيمان الذي اكتسبه من هذه الحادثة، أو من هذا العمل الصالح الذي قام به. هذه البذرة إذا لم تتعهد بالرعاية، ولم تسق بماء الإيمان فإنها تموت، ومن المسئول بالإضافة إلى الشخص نفسه؟ إن المسئول هو الداعية المقصر الذي لم يلتفت إليه وضيع الفرصة.

مخالطة التائبين

مخالطة التائبين استوصوا بالتائبين خيراً، هؤلاء التائبون الذين قدموا إلى طريق التوبة، وهم يشعرون بغاية الندم والأسى والأسف والحزن على ما مضى، والجلوس معهم أيها الإخوة يزيد الإيمان جرب هذا، قم واجلس مع شخص تاب الآن في هذه الأيام، اجلس معه سيزيد إيمانك فعلاً، ولو اهتديت قبله بسنوات طويلة، ولكن الواحد يصيبه البرود عبر الزمن حتى الأشخاص الصالحين، إذا جلست مع هؤلاء التائبين الجدد ستشعر بزيادة في الإيمان؛ لأنه شخص مقبل على الله يشعر بالندم والأسف، يريد الازدياد من الأعمال الصالحة. ولذلك بعضهم يجرؤ على أعمال صالحة ويستطيعها، أو يقبل عليها ما لا يقبل عليها شخص صالح له في الطريق سنوات طويلة؛ لأنه جاء متحمساً لاستدراك ما فات، ولابد من فعل الحسنات لتمحو السيئات الماضيات. ولذلك تجد من يقول: أريد أن أذهب لأعتمر وأحج وأعتكف وأصوم، أنا أصوم الإثنين والخميس، أنا أصوم يوماً وأترك يوماً، يفعل أشياء كثيرة جداً، قد يقرأ القرآن كثيراً، قد يبكي من خشية الله، فلو جعلت تائباً الآن في هذه المرحلة الجديدة من حياته إماماً للناس، لوجدت أن القلوب تخشع وراءه في الصلاة وهو يتلو القرآن ما لا تخشع وراء رجل سار لسنوات في طريق الهداية في بعض الأحيان. لأن هذه النفسية المقبلة على الله، والتي تحس بما أجرمت في الماضي مشحونة بالإيمان، ولذلك يمكن حتى الدعاة إلى الله أن يستفيدوا منها بزيادة إيمانهم من الجلوس مع مثل هذه النوعيات من الناس، جدد إيمانك، واجلس مع تائب توبته لازالت طرية. وهؤلاء القادمون الجدد في طريق التوبة يحدث في نفوسهم من الانكسار والضعف لله رب العالمين ما يجعلهم قريبين لله جداً، وبعض هؤلاء مما يحمسهم في الأعمال الصالحة أنه يضع ذنبه نصب عينيه، فهو يراه دائماً إن قام وإن قعد، وإن مشى وإن أكل، وإن أراد أن ينام. هذا الشخص التائب يكون هذا الذنب الذي ارتكبه دافعاً في قلبه ليحيي في هذا القلب الخوف من الله، والحياء منه، والانطراح بين يديه، والانكسار، وطأطأة الرأس. ولذلك تجد عند هؤلاء التائبين الجدد من البكاء من خشية الله والخشوع ما لا تجده عند بعض القدماء من الصالحين، وقد يبلغ الأمر أن الشيطان يتندم أنه أوقعه في هذا الذنب، فيقول: يا ليتني لم أوقعه فيه؛ لأن هذا الذنب هو الذي كان سبباً في التوبة وازدياد الحسنات واستدراكها. أضف إلى ذلك أنك تجد عند هؤلاء من الهمة في الأعمال الصالحة ما لا تجده عند شخص سار في طريق العبادة سنوات، لأنه مندفع ومتحمس كما ذكرنا.

ستر المذنب منهم

ستر المذنب منهم استوصوا بالتائبين خيراً، ماذا يمكن أن نفعل أيضاً بالنسبة لهؤلاء الأشخاص؟ من الأمور المهمة ستر ذنوبهم وزلاتهم الماضية، وإسدال الستار تماماً على ما مضى من حياتهم، وطي صفحاتهم السابقة بالكلية، والمقصود هو سترهم، فأي مذنب تاب لابد أن تستره: (من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة) ومن أسماء الله الستير، وهي صيغة مبالغة من ستر (إن الله حيي ستير) غفار أي: يغفر، المؤمن أي: يؤمن أولياءه من العقاب يوم القيامة يؤمنهم فلا يعاقبهم، وستير: أي: يستر على عباده. ولذلك ورد في الحديث الصحيح: (يبيت يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عليه) هؤلاء هم المجاهرون بالمعصية. ولذلك يأتي الله يوم القيامة بالعبد المؤمن ليس بينه وبينه ترجمان، فيقرره بذنوبه فيقول الله لعبده: فعلت كذا وكذا في يوم كذا وكذا، فيقرره بذنوبه لا يستطيع العبد أن ينكر منها شيئاً، حتى إذا رأى العبد ألا مجال له في النجاة أبداً، وأن الذنوب عدت كلها عليه من ربه وأيس، قال الله له: إني قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أسترها عليك يوم القيامة، ثم يدخله الجنة، اللهم اجعلنا منهم. فإذاً الله عز وجل من أسمائه الستير، فهو يستر عباده، والشريعة تدعو لستر المذنب والتائب، ولا يجوز بأي حال من الأحوال نبش ماضيه، ولا التكلم بسيئاته الماضية، ولا فضح معاصيه السابقة، ولا التشهير به مطلقاً، لا يجوز ذلك أبداً، وفضحه والتشهير به وهو تائب من إعانة الشيطان عليه، وهذا المشهر الفاضح قد يفضحه الله يوم القيامة جزاءً وفاقاً بما أساء لأخيه المسلم التائب. ولذلك فإننا نقول لبعض الناس: بعض الإخوان أحياناً يريد أن يضرب مثالاً على شخص في مجلس من المجالس فيفضحه دون أن يشعر، فيقول للناس: تصوروا كان هناك واحد يعمل في مكان كذا، وعمل كذا وكذا، ثم الآن تاب إلى الله، وهو الآن قد صلح، والشخص الذي بهذه الأوصاف أصبح معروفاً للآخرين ومكشوفاً. فليس من المصلحة الشرعية أن تأتي على كل تائب وتقول للناس: هذا كان يفعل كذا وكذا، بل لابد من ستره، ونقول أيضاً: هب أنك رأيت شخصاً يتعاطى المخدرات مثلاً، وأحسست أنه يتعاطى المخدرات، لكن شعرت أن هذا الشخص نادم، وأنه يريد الإقلاع عن هذا الإدمان فعلاً، وأنه الآن في مرحلة علاج، وأن الرجل صادق فعلاً في الإقلاع، فهذا لابد أن تستره أيضاً. افرض أنك علمت عن امرأة من الجيران أنها تفعل شيئاً في الخفاء، فأنت قدمت النصيحة وذكّرت بالله، فالمفروض أن تستر ما شاهدت حيث لا مجاهرة، وأن المسألة في السر، إلا أن تكون المسألة مستفحلة، وأن هذا وكر فساد، وأن المسألة تتفاقم، وأن أناساً آخرين ينضمون إلى الجريمة، فعند ذلك لابد من فضحهم حتى لا يستشري فسادهم. لكن إذا شاهدت أحدهم يعمل ذنباً، فعليك أن تذكره بالله وتنصحه وتستر عليه، ومن باب أولى إذا أذنب وتاب ألا تتكلم بذنوبه السابقة. من أنواع الستر: أن يكون هذا المذنب مثلاً قد يفقد وظيفته، أو فقدها، فيأتي أحد الصالحين فيهيئ له وظيفة بعد توبته؛ لأن بعض الناس لا يبالون بمثل هذه الشخصيات، يقول: هذا كان مدمناً ماذا أريد به!! وبعض الناس لو علم أن هذه المرأة الملتزمة كان لها سوابق في الماضي، فيقول: لا يمكن أن أقترب منها مطلقاً في مسألة الزواج، وبعض الأزواج لو علم أن زوجته ارتكبت معصية فإنه يشهر بها مباشرة ويطلقها، دون أن يدع لها مجالاً للتوبة، مع أن المفروض أن يعظها، ويذكرها بالله عز وجل، ويعطيها الفرصة، فإن استقامت فالحمد لله، وإن لم تستقم طلقها.

إرشاد المذنب إلى باب التوبة

إرشاد المذنب إلى باب التوبة انظر إلى مواجهة الرسول صلى الله عليه وسلم لـ عائشة لما أشاع المنافقون الإفك، وأنها وقعت في الفاحشة مع صفوان بن المعطل السلمي رضي الله عنهما، ماذا كان موقف الرسول صلى الله عليه وسلم؟ لقد قال هذه العبارة: (يا عائشة! إن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله) الرسول كان غير متأكد، فماذا فعل؟ قال لها: (إن كنت ألممتي بذنب فاستغفري الله) فقط. والآن بعض الناس قد يقع في بعض هذه الظروف، فيقول نفس الشيء: إن كنتِ ألممت بذنب فاستغفري الله، وإن اشتبهت في شخص، فقل له: إن كنت ألممت بذنب فاستغفر الله، فقط. أما أنك تتهم شخصاً أو تلزق به التهمة والمسألة مازالت ظنوناً، فهذا من الجرائم، وهذا بعينه ذنب من الذنوب ترتكبه باتهامك لشخص بريء. ولذلك كان من الاستيصاء بالتائبين خيراً: إرشادهم إلى باب التوبة المفتوح، وإلى عظم مغفرة الله ورحمته، وهذه فيها نصوص كثيرة جداً من القرآن والسنة، قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156] {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53] {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:135]. (إن للتوبة باباً عرض ما بين مصراعيه كما بين المشرق والمغرب، لا يغلق حتى تقوم الساعة) (التائب من الذنب كمن لا ذنب له) (من علم أني ذو مقدرة على مغفرة الذنوب غفرت له ولا أبالي) (يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم) (يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة). إرشاد للناس هؤلاء، فتح للطريق، حين تريهم الأمل فإنك تجعلهم يستمرون في التوبة، وتجعلهم يقبلون على الله عز وجل، وتزيل اليأس من قلوبهم؛ لأن كثيراً من هذه النوعيات يحصل عندهم اليأس والقنوط، فيقول: الآن لا يمكن أن يغفر الله ذنوبي كلها، وليكن موقفك فيه كموقف العالم الذي جاءه قاتل المائة، قال: (قتلت مائة نفس، فهل لي من توبة؟ قال: ومن يحول بينك وبين التوبة؟). أما قضية أن يرى الإنسان مذنباً، فيقول: والله لا يغفر الله لك، فهذه من أعظم المصائب. يُروى أن رجلاً قال: (والله لا يغفر الله لفلان، قال الله: من ذا الذي يتألى علي ألا أغفر لفلان، فإني قد غفرت لفلان وأحبطت عملك) تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته، ولهذه قصة وردت في الحديث الصحيح التالي: (كان رجلان في بني إسرائيل متواخيين، وكان أحدهما مذنباً، والآخر مجتهداً في العبادة، وكان لايزال المجتهد يرى الآخر على الذنب، فيقول: اقصر -كف عن الذنوب- فوجده يوماً على ذنب، فقال له: اقصر فقال: خلني وربي أبعثت علي رقيباً، فقال: والله لا يغفر الله لك، أو والله لا يدخلك الجنة، فقبضت روحهما، فاجتمعا عند رب العالمين، فقال لهذا المجتهد: أكنت بي عالماً؟ أو كنت على ما في يدي قادراً؟ وقال للمذنب: اذهب فادخل الجنة برحمتي، وقال للآخر: اذهبوا به إلى النار). بعض الناس الذين يصيبهم غرور في العبادة، يظن أنه الوحيد الذي يغفر له، وأن هؤلاء المساكين إلى النار مباشرة، فيتحكم في رحمة الله، وينازع الله في ألوهيته ويقول: هذا للجنة وهذا للنار، فهذا قد يدخل النار كما ثبت في هذا الحديث، وليعلم كل داعية إلى الله أن هذا الانكسار الذي يحدث عند توبته، والذل والخضوع يخلص المذنب من الكبر والعجب الذي يكون مترسخاً في نفوس البعض من العابدين، وأنين المذنبين أحب إلى الله من زجل المسبحين المتفاخرين، ولعل الله قد أسقاه بهذا الذنب دواء استخرج به داءً قاتلاً هو فيك وأنت لا تشعر. ولذلك قد يكون تعيير المسلم لأخيه بذنب فعله أعظم إثماً من المذنب نفسه، لما فيه من إظهار الطاعة، وتزكية النفس وتبرءتها من الذنوب، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إذا زنت أمة أحدكم فليقم عليها الحد، ولا يثرب)، أي: لا يعيبها، فلا يظل بين فترة وأخرى يذكرها الذنب، يقول: أنت فعلت كذا وكذا، أنت فعلت الذنب!! فهذا التعيير غير جائز لهذا المذنب الذي أقيم عليه الحد، أو الذي تاب من ذنبه، وقد ورد عن بعض السلف: أن من عير أخاه بذنب قد تاب منه لم يمت حتى يعمله. فيبتليه الله بأن يعمل نفس الذنب الذي عير أخاه به، وتعيير المسلم فيه نوع من الشماتة به، ولذلك ورد في القول المأثور: "لا تظهر الشماتة بأخيك فيرحمه الله ويبتليك". ولابد أن يشعر كل واحد من الدعاة إلى الله بأن الله يمكن أن يضله في أي لحظة: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً} [الإسراء:74] وقال يوسف: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف:33] وكان عامة يمينه صلى الله عليه وسلم: (لا ومقلب القلوب) وكان يكثر أن يقول: (يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك).

إزالة العوائق النفسية لدى بعض التائبين

إزالة العوائق النفسية لدى بعض التائبين والاستيصاء بالتائبين خيراً: يكون من ضمنه إزالة العوائق النفسية التي تكون عند بعض التائبين، وتقديم الحلول العملية لهم، وشرح شروط التوبة لهؤلاء، فإن كثيراً من الناس يريدون التوبة ولا يعرفون شروطها، فلابد أن تشرح لهؤلاء، تقول لهم: لابد من الإقلاع عن الذنب فوراً، والندم على ما فات، والعزم على عدم العودة إليه، وإرجاع حقوق العباد الذين ظلمتهم، أو طلب البراءة منهم ومسامحتهم، وأن يكون ترك الذنب لله لا لشيء آخر، فتقول لهذا الشخص: انتبه! ينبغي أن تكون توبتك صادقة. فمثلاً لا تقبل توبة من ترك ذنباً لحفظ صحته، كمن ترك الزنا أو الفاحشة؛ لما فيها من الأمراض الفتاكة، أو ترك السرقة خوفاً من الشرطي، أو ترك أخذ الرشوة لأنه خشي أن يكون معطيها من هيئة مكافحة الرشوة مثلاً، أو شخص ترك الكذب لأن لسانه أصيب بالشلل، أو سارق ترك السرقة؛ لأنه فقد أطرافه في حادث، هؤلاء ينبغي أن تكون توبتهم لله لا لأشياء أخرى، أو واحد ترك المخدرات؛ لأنه خاف على وظيفته؛ أو خشي أن يطرد من عمله. إن التوبة ينبغي أن تكون لله عز وجل لا لشيء آخر، وأن يستقبح العبد الذنب ويشعر بالضرر. وينبغي أن نبين أضرار الذنوب: كحرمان العلم، ووحشة القلب، وتعسير الأمور، ووهن البدن، وحرمان الطاعة، ومحق البركة، وقلة التوفيق، وضيق الصدر، وتوالد السيئات، واعتياد الذنوب، وهوان المذنب على الله، وعلى الناس، ولعنة البهائم له، ولباس الذل، والطبع على قلبه، والدخول تحت لعنة الله ورسوله، ومنع إجابة الدعاء، والفساد في البر والبحر، وانعدام الغيرة، وذهاب الحياء، وزوال النعم ونزول النقم، والرعب في قلب العاصي، والوقوع في أسر الشيطان، وسوء الخاتمة، وعذاب الآخرة. لابد أن نبين لهم عاقبة وأضرار الذنوب، كذلك لابد أن نقول لهم: انتبهوا! إنكم قد تتركون معاصي وتصرون على معاصٍ أخرى، قد تنتقل من معصية إلى معصية لأن طبعك متعلق فيها، أو لأن أسبابها حاضرة، أو لأن الشهوة فيها أقوى، أو أن القرناء لا يخالطونك إلا بها. وكذلك فإنه لابد أن نذكر أنفسنا جميعاً أن التائب لا ينبغي أن يشعر أن الله غفر له وانتهينا، وأنه الآن صارت صفحته بيضاء تماماً، بل ينبغي ألا يزال يشعر ويخاف من تلك الذنوب، ويشعر أنها جبل يريد أن يقع عليه، هو يرجو رحمة الله ولا ييئس، لكن لا يقول: أنا متأكد أن الله غفر ذنوبي، وإني داخل الجنة. وكذلك لابد أن نرشده إلى ما أرشده ذلك الرجل الصالح لقاتل المائة حيث قال: اذهب إلى بلدة كذا وكذا فإن فيها أناساً صالحين يعبدون الله فاعبد الله معهم، لابد أن ترشد التائب، تقول: أول شيء أصحاب السوء لابد أن تتركهم، كيف تخالط فلاناً وفلاناً وتعاشرهم وتريد الاستمرار على التوبة!!. ثانياً: وسائل المعصية لابد من إتلافها فوراً، لو كان عندك صور سيئة في البيت، أو مجلات سيئة وأفلام محرمة، وأشياء محرمة تتعاطى، وأدوات لهو، ومزامير ومعازف، وأشرطة فساد لابد أن تتخلص منها فوراً، هذا شيء لابد أن يرسخ في نفوس التائبين.

سبب الاستيصاء بالتائبين خيرا

سبب الاستيصاء بالتائبين خيراً استوصوا بهم خيراً؛ لأن كثيراً من التائبين قد يعودون إلى الذنوب مرة أخرى؛ لأن وسائل الذنوب مازالت موجودة على مقربة منهم، ولذلك يسهل عليهم العودة، فلابد أن تعلمه أن يترك كل تلك الأشياء، وأن يتلفها، وأن يخلع على عتبة التوبة كل ملابس الجاهلية وأوضارها، وأن تشرح له أن يعمد إلى هذا البدن الذي رباه بالسحت والحرام فيصرف طاقته في طاعة الله حتى يبارك الله فيه.

أهمية إيجاد الحلول العملية للتائبين

أهمية إيجاد الحلول العملية للتائبين ومن الأمور المهمة أيها الإخوة: أن نوجد الحلول العملية لهؤلاء التائبين، فبعض التائبين يعاني من مشكلات، وعلاقات في الماضي، ومشاكل ترتبت على حياته الماضية، لابد أن نمد لهؤلاء يد العون، وأن نقول لهم: إننا على استعداد لمساعدتهم، والأخذ بأيديهم، والوقوف بجانبهم، إنهم ليسوا لوحدهم، فإننا أيضاً نشد من أزرهم ونعينهم على ما هم فيه من الطاعة والإقبال على الله عز وجل. وكثير من المشاكل النفسية كشعور التائب أن الله لا يمكن أن يغفر له، وأن ذنوبه أعظم من مغفرة الله، أو يقول: هل لابد أن أذهب وأعترف بالذنوب التي ارتكبتها، وهل لابد أن أذهب إلى المحكمة وأقر بالزنا الذي فعلته؟ هل إذا أذنبت ذنباً ثم تبت ثم أذنبت كأني لم أتب، أم أن التوبة الأولى صحيحة إذا استوفت شروطها؟ لابد أن نقوم بالإجابة على جميع علامات الاستفهام الموجودة، أن نعلمهم صلاة التوبة، وإذا أذنب ذنباً كيف يتوب، ما هي صلاة التوبة وصفاتها، وماذا يقول فيها؟ بعض أصدقائه القدامى قد يهددونه، واحد يقول: كانوا يدسون له الصور من تحت الباب، أخذوا له صوراً في الماضي، فلما تاب صاروا يهددونه، ويضعون له الصور تحت الباب، ويرسلونها له في رسائل، ليقولوا له: نستطيع أن نفضحك، وعندنا إثباتات عليك. أو واحدة مثلاً: خبيث يسجل لها مكالمات كانت تكلمه في الماضي، ثم يهددها بفضحها، هنا لابد أن تقوم الواعيات من المسلمات بالوقوف بجانب هذه التائبة، ولابد أن يقوم الواعون من المسلمين بالوقوف بجانب هذا التائب، هذه لحظات حرجة وحساسة.

إرشاد التائب إلى أهل العلم ليرشدوه إلى ما يفعله بما تحت يده من الحرام

إرشاد التائب إلى أهل العلم ليرشدوه إلى ما يفعله بما تحت يده من الحرام أو مثلاً بعض الناس ليس عنده إجابات واضحة، يقول مثلاً: أنا تركت صلوات هل علي قضاؤها أم لا؟ وتركت صياماً هل علي قضاؤه أم لا؟ أنا تركت زكاة لم أخرجها في الماضي، قد يقول: قتلت وسرقت فكيف أفعل وأنا محرج في إرجاع الأشياء المسروقة إلى أصحابها، فكيف أرجعها؟ قد يقول: أنا لا أعرف كم سرقت بالضبط، قد يقول: الناس الذي سرقت منهم ذهبوا ولا أعرف عناوينهم، فماذا أفعل؟ قد يقول: سرقت شيئاً هل يجب أن أعيده بذاته أو أعيد قيمته؟ قد يقول: أخذت رشوة، قد يقول: أنا عملت أعمالاً محرمة، يمكن أن مغنياً تاب إلى الله وعنده أموال من الغناء، زانية تتوب إلى الله عندها أموال من الزنا، مروج للمخدرات عنده أموال من ترويج المخدرات، هذه الأموال ما حكمها، وماذا يفعلون بها؟ المرابون الذين يتعاملون بالربا، كيف يفعلون بأموالهم؟ كيف يتوبون؟ واحد فعل فاحشة بامرأة قد يكون مغتصباً وقد يكون برضاها، ما هو الفرق بين الحالتين؟ مثلاً واحد عقد على زانية، هل العقد صحيح وماذا يترتب على ذلك؟ رجل كان ينشر الأفكار الإلحادية كيف تكون توبته الآن؟ هناك مسائل علمية تحتاج إلى إجابات، وأمور تحتاج إلى تبيين، فينبغي أن نرشد هؤلاء إلى أهل العلم ليبينوا لهم. وذكر أحاديث الترغيب والرجاء المناسبة مهم، لأن بعض الناس يمكن أن يذكر أحاديث غير مناسبة، يذهب إلى أناس من اللاهين واللاعبين يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة) وهؤلاء لاهون لاعبون عابثون، لا يريدون التوبة، يقول لهم هذه الأحاديث فتكون فتنة. ولذلك يقول أحد السلف: "ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة" ولذلك لابد من شرح معنى الحديث لهم، وإذا وجدت أنهم لا يفهمونه فيجب ألا تذكره أصلاً، مثلاً حديث العابد الذي قال لصاحبه المذنب: اقصر، والمذنب قال له: خلني وربي أبعثت علي رقيباً، لو وجدت بعض الناس لن يفهموا الحديث، أو أن بعض المذنبين سيقول لكل داعية أو آمر بالمعروف أو ناهٍ عن المنكر: خلني وربي أبعثت علي رقيباً، لو تحس أنه سيفهم من الحديث هذا المفهوم فلا يجوز لك أن تحدثه به، ليس كل الآيات والأحاديث تصلح أن يخاطب بها جميع الناس، ولذلك لابد من انتقاء الأشياء المناسبة لمثل هؤلاء. هذه بعض الواجبات التي أرى أنه لابد للدعاة إلى الله عز وجل أن يقوموا بها تجاه التائبين. استوصوا بالتائبين خيراً، هؤلاء وفد الله قدموا إليكم، ومن حقوقهم عليكم إكرامهم وحسن وفادتهم، ونسأل الله أن يعيننا وإياكم على هذه الأمور.

الأسئلة

الأسئلة

حكم من أخطأ في التعامل مع التائب مما أدى إلى انتكاسه

حكم من أخطأ في التعامل مع التائب مما أدى إلى انتكاسه Q قلت: إن الداعية إذا أخطأ في التعامل مع التائب مما أدى إلى انتكاسه، أن عليه بعض المسئولية عند الله، كيف يكون ذلك، وهذا الإنسان اجتهد وأخطأ، والله يقول: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286]؟ A المقصود أن الشخص الذي لم يجتهد أصلاً، فهذا هو الذي يتحمل المسئولية، وأما من اجتهد وأخطأ وكان اجتهاده فعلاً نابعاً من قدراته وهذا هو الذي يستطيعه، فهذا ليس عليه شيء عند الله إن شاء الله.

حكم الصلاة على المنتحر الذي علم صلاحه

حكم الصلاة على المنتحر الذي علم صلاحه Q رجل كان يصلي ثم انتحر لأسباب غير معلومة، فهل يصلى عليه؟ A إذا كان مسلماً مصلياً، ليس عنده نواقض الإسلام فيصلى عليه، لكن ينبغي لأهل العلم والفضل والقدوة أن يتركوا الصلاة عليه تأديباً لأمثاله الذين يفكرون في الانتحار، ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم ترك الصلاة على بعض المسلمين لمَّا عملوا بعض الجرائم وماتوا عليها تأديباً لأمثالهم ممن هم واقعون في نفس الجريمة، لكن بقية المسلمين يصلون عليهم.

حكم الصلاة على من عزم على التوبة وشهد بأنه مات عليها

حكم الصلاة على من عزم على التوبة وشهد بأنه مات عليها Q رجل في مدينة جدة كان يصلي فرضاً ويترك فروضاً، وكان يشرب المخدرات، وفي يوم من الأيام في الساعة الثالثة ليلاً صب على نفسه البنزين، وأشعل النار كي ينتحر، وتداركه إخوته، ونقل إلى المستشفى ثم قعد ثمانية عشر يوماً ثم توفي، هل يصلى عليه، علماً أنه أثناء فترة وجوده في المستشفى كان يقول: إنه سيتوب وكان يقول: لا إله إلا الله؟ A إذا كان في فترة جلوسه في المستشفى قد تاب إلى الله، ويصلي، فإنه يصلى عليه كما قدمنا.

حكم من تاب وهو يفكر بالملذات السابقة

حكم من تاب وهو يفكر بالملذات السابقة Q هل يأثم التائب الذي يفكر بين الحين والآخر بالملذات السابقة؟ A أما من ناحية الإثم فإنه قد لا يأثم، لأن الله (تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل) لكن لو وصلت إلى مرحلة القول فيأثم صاحبها، فلو جلس مع أصحابه وقال: أنا أتمنى أن الزنا غير محرم حتى أرجع إليه، فهذا قول خطير جداً، ولو قال: كنت أفعل وأفعل متفاخراً، لا على سبيل الندم بل على سبيل التفاخر فهذا يأثم، أو قال مثلاً: والله لقد كانت الذنوب التي أقارفها في جاهليتي لذيذة، ويتحدث عنها بنوع من الانتشاء فهذا يأثم، فإذا وصلت المسألة إلى القول أو العمل فإنه يأثم، وإذا ظلت حبيسة النفس وهو يجاهد نفسه؛ لأنه أحياناً إذا تذكر إثماً معيناً ينتشي ويشعر باللذة على شيء مضى، فهنا ينبغي أن يجاهد نفسه مادامت الأمور حبيسة ونرجو أن الله عز وجل لا يؤاخذه عليها.

حكم من تاب من بعض ذنوبه

حكم من تاب من بعض ذنوبه Q أنا شاب أبلغ من العمر ثمانية وعشرين عاماً، لي ذنوب وكبائر تهز الجبال لا يعلمها إلا الله، وعند رؤية أول شعرة بيضاء في رأسي استيقظت من سبات عميق، وتبت إلى الله توبة نصوحاً صادقة، وتركت كل ذنوبي، وعاهدت الله أن أترك جميع الذنوب إلا شرب الدخان لم أستطع تركه، فما هو الحل؟ A هذا الشخص إذا صدق في كلامه فإن التوبة تَجُبُّ ما قبلها، وهذه التوبة من الذنوب الماضية تمسح الماضي، إلا الذنب الذي بقي مصراً عليه، وهذه مسألة علمية ومهمة، يقول: لو أن واحداً تاب من ذنب وبقي مصراً على ذنب آخر ما هو الحكم؟ ذكر ابن القيم رحمه الله: أنه إذا كان الذنب الذي تاب منه يختلف عن الذنب الذي لا يزال مصراً عليه؛ فإن التوبة صحيحة، وإذا كان من نفس النوع فإن التوبة غير صحيحة. مثال: رجل تاب من شرب الخمر وهو مصر على عقوق الوالدين، فحكم توبته من شرب الخمر صحيحة، ويبقى عليه إثم عقوق الوالدين. واحد تاب من الزنا بامرأة ولا يزال مصراً على الزنا بامرأة أخرى، فلا تصح توبته. واحد تاب من ربا الفضل لكنه مصر على ربا النسيئة فلا تقبل توبته. شخص تاب من شرب الدخان لكنه لا يزال مصراً على شرب الشيشة، فهذه الذنوب من نفس النوع لا تقبل التوبة إذا ترك ذنباً ومازال مصراً على ذنب آخر من نفس النوع، لكن لو تاب من ذنب وهو مصر على ذنب آخر مختلف عنه؛ فإن التوبة من هذا الذنب صحيحة والذنب الآخر لازال عليه.

حكم من تزوج بامرأة واكتشف أنها حبلى من الزنا

حكم من تزوج بامرأة واكتشف أنها حبلى من الزنا Q تزوج رجل بامرأة فاكتشف أنها حامل فتركها حتى وضعت، ثم أخذ الطفل ووضعه عند المسجد، واحتفظ بزوجته فماذا يتوجب عليه؟ A أولاً: إذا تزوج رجل بامرأة ثم اكتشف أنها حامل فإن العقد باطل، ولابد أن يتركها ويفارقها حتى تضع، فإذا تابت إلى الله وتأكد من توبتها جاز أن يعقد عليها، وإلا لم يجز العقد عليها: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور:3]. فالعقد على الزانية باطل، والعقد على امرأة في رحمها شيء من غيره باطل، ولا يجوز العقد عليها إلا بعد توبتها. أما بالنسبة للمولود فإن رعاية اللقيط فرض كفاية، لابد أن يقوم به بعض المسلمين، أو يرعى من بيت مال المسلمين فهذا أمر لابد منه، ولو تُرك اللقطاء ولم يقم بشأنهم أحد من المسلمين أثم كل المسلمين، حتى يقوم من المسلمين من يكفل اللقيط، وله في ذلك أجر عظيم. وهذه أسئلة عن أشياء مختلفة، مثل بعض الأشياء الواردة في المحاضرة: ترك الصلاة، والصيام، والزكاة، وتوبة المرتشي والذي عنده أموال من الربا إلى آخره. أقول: إن شاء الله، لعل الله سبحانه وتعالى ييسر لنا إخراج أشياء تتعلق بهذه الأحكام في رسالة صغيرة؛ لأنه سبق أن تكلمنا عن بعض هذه الأحكام في لقاء بعنوان: أريد أن أتوب ولكن! كانت موجهة إلى التائبين، وهذه محاضرة موجهة أكثرها إلى الدعاة الذين يدعون التائبين وما هو الموقف، فلعل الله عز وجل ييسر لنا إخراج هذه الرسالة التي فيها إجابات على كثير من هذه الأسئلة، سواء ما كان من عوائق نفسية أو مسائل علمية تحتاج إلى بيان. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد. سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.

إصلاح القلوب

إصلاح القلوب في القلب مضغة تتبعها الجوارح صلاحاً وفساداً، ولذا اعتنى بصلاحها الفضلاء، والسلف الصلحاء، وفي هذه الخطبة ترشف من عبير السلف الصالح في ذلك، وتستقي نصائح تعينك على صلاح قلبك فاقرأ والزم.

صلاح القلب بإخفاء العمل

صلاح القلب بإخفاء العمل إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. عباد الله: لما كان في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب، كان القلب موضع نظر الرب، قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم) ومن هنا كان لابد على العبد أن يشتغل بإصلاح قلبه، فإن ربه إنما ينظر إلى قلبه. وإذا تساءلت -يا أخي- عن السبب الذي تفشت به الخيانة بين الناس في الأموال والنكاح وغير ذلك من الأمور، وإذا تساءلت عن السبب في حصول السرقات والاختلاسات، وإذا تساءلت عن السبب في حصول الهجران والقطيعة بين الناس، وإذا تساءلت عن سائر أسباب أمراض المجتمع؛ فاعلم أن ذلك نتيجة لفساد القلب. الله أعلم بما في أنفسهم؛ فالقلوب قد تكون سليمة، وقد تكون مريضة مصابة بالوهن، وهذا سبب آخر لتسلط الأعداء علينا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بل أنتم يومئذ كثير -كما في حديث القصعة- ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله المهابة من صدور أعدائكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن. قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت) فمن فساد القلوب أن يقذف فيها الوهن.

الأعمال الظاهرة ثمرة الإيمان

الأعمال الظاهرة ثمرة الإيمان لما فسدت القلوب تسلط الأعداء، وقد عرفنا سابقاً أن الدين القائم بالقلب هو الأصل، وأن الأعمال الظاهرة هي الفروع، وأنه إذا لم تكن أعمال فإن ذلك دليل على خلو القلب من الإيمان، وأن الذين يقولون لك: إن المهم هو ما في القلب يطالبون بالإثباتات والدلائل على أن ما في قلوبهم سليم، وذلك بالأعمال ولا بد من الأعمال. والأعمال مهمة مع تصحيح ما في القلب؛ فكيف نصحح ما في القلب؟ كيف يجعل الإنسان المسلم قلبه سليماً؟ كيف يكون القلب عامراً بمحبة الله تعالى؟ ألم تر أن المصليين تلتصق مناكبهما ببعض وأقدامهما ببعض وبينهما كما بين السماء والأرض في درجة الصلاة؟ وذلك أن أحدهما مقبل بقلبه على ربه في الصلاة، والآخر قلبه يسرح في أودية الدنيا، فهذا له نصف وذاك أكثر وهذا أقل وآخر قد ردت صلاته. عباد الله: إن الاهتمام بإصلاح قلوبنا أمر في غاية الأهمية، فإصلاح القلوب يترتب عليه صحة الأعمال، وصحة السيرة، وصحة التصرفات والسلوكيات، وكثير من التناقضات إنما تحدث من مخالفة الباطن للظاهر والظاهر للباطن، قال سفيان بن عيينة رحمه الله: إذا وافقت السريرة العلانية فذلك العدل، وإذا كانت السريرة أفضل من العلانية فذلك الفضل، وإذا كانت العلانية أفضل من السريرة فذلك الجور والظلم. عباد الله: قال بعض السلف: من صفا -أي: صفا قلبه من الشوائب- صُفِّي له، ومن كَدَّر كُدِّر عليه، ومن أحسن في نهاره كوفئ في ليله، ومن أحسن في ليله كوفئ في نهاره، ومن صدق في ترك الشهوة ذهب الله بها من قلبه، ولله أكرم من أن يعذب قلباً بشهوة تركت له. وصاحب القلب السليم، والبصيرة الصحيحة يكون طيباً بحيث يشم أهل الخير منه رائحة روحه على بدنه وثيابه وإن لم يضع طيباً، والفاجر يشم صاحبُ البصيرة السليمة رائحة فجوره على بدنه وثيابه وإن وضع أطيب أطياب الأرض، والمزكوم لا يشم لا هذا ولا هذا، بل إن زكامه يحمله على الإنكار، فقد يقشعر وينفر من بعض أهل الخير، فلا يحسن التمييز بين صاحب القلب الطيب وصاحب القلب الخبيث. ولما كان سلفنا رحمهم الله أحرص ما يكونون على الخير كان اعتناؤهم بقلوبهم أشد ما يكون، ومن اعتنائهم بقلوبهم إخفاؤهم لأعمالهم، لما وصف عمر رضي الله عنه أبا بكر الصديق قال: [اللهم علمي به أن سريرته خير من علانيته، وأنه ليس فينا مثله] سريرته خير من علانيته، وهذه المنزلة العالية.

مواقف تبين إخفاء ابن المبارك لعمله

مواقف تبين إخفاء ابن المبارك لعمله ولما وصف أحمد بن حنبل رحمه الله عبد الله بن المبارك قال: ما رفعه الله إلا بخبيئة كانت له. كان يخفي أعماله الصالحة؛ فرفع الله قدره، وكانوا في جميع الميادين من الحريصين على إخفاء الأعمال. قال عبدة بن سليمان المروزي: كنا في سرية مع عبد الله بن المبارك لبلاد الروم فصادفنا العدو، فلما التقى الصفان خرج رجل من العدو ودعا إلى المبارزة، فخرج إليه رجل من المسلمين قد تلثم فلا يعرف، فطارده ساعة فطعنه فقتله، ثم خرج من الكفار رجل آخر ودعا إلى المبارزة فخرج له نفس الرجل من المسلمين فطارده ساعة فطعنه فقتله، فازدحم عليه المسلمون يريدون معرفة شخصيته، وكنت فيمن ازدحم عليه، فإذا هو ملثم وجهه بكمه، فأخذت بطرف كمه فمددته؛ فإذا هو عبد الله بن المبارك، فقال ابن المبارك لهذا الذي كشف وجهه: وأنت يا أبا عمر ممن يشنع علينا؟! قالها تواضعاً لله تعالى. وقال عبد الله بن سنان: كنت مع ابن المبارك ومعتمر بن سليمان بـ طرسوس فصاح الناس: النفير، فخرج ابن المبارك والناس، فلما اصطف الجمعان خرج رومي فطلب المبارزة، فخرج إليه رجل فشد العلج عليه فقتله -قتل المسلم- حتى قتل ستة من المسلمين، وجعل يتبختر بين الصفين يطلب المبارزة، ولا يخرج إليه أحد، فالتفت إلي ابن المبارك فقال: يا فلان! إن قتلت فافعل كذا وكذا، وذكر له وصيته، ثم حرك دابته وبرز للعلج فعالج معه ساعة فقتل العلج وطلب المبارزة، فبرز له علج آخر فقتله حتى قتل ستة علوج، ستة بستة، وطلب البراز فكأنهم كاعوا عنه -جبنوا وخافوا- فضرب دابته وطرد بين الصفين وغاب عن الأنظار فلم نشعر بشيء، وإذا أنا به في الموضع الذي كان بجانبي فقال لي: يا عبد الله! لئن حدثت بهذا أحداً وأنا حي فذكر كلمة، أنه توعده بشيء عظيم لو نشر هذه القصة وعبد الله بن المبارك حي، فرفع الله ذكره، وهذه سيرته منشورة وقصصه سائرة رحمه الله تعالى بسبب صدقه وإخلاصه وإخفائه للعمل.

من أخفى عمله أظهره الله ورفع قدره

من أخفى عمله أظهره الله ورفع قدره المرائي يرائي، والمسمع يسمع الناس، ويحدث بعمله ليظهر ويعلو شأنه، والله يجعل نوره منطفئاً وأمره زائلاً، وإذا أخفى العبد العمل نشر الله ذكره، ورفع شأنه، وأظهر أمره، وحبب الناس فيه، عن أبي حمزة الثمالي أن علي بن الحسين كان يحمل الخبز بالليل على ظهره يتبع به المساكين في الظلمة، ويقول: إن الصدقة في الليل تطفئ غضب الرب. كان ناس في المدينة يعيشون لا يدرون من أين كان معاشهم، يأتون إلى بيوتهم فيجدون عندها الطعام، يخرج أحدهم من الباب يجد عنده صدقة لا يدرون من وضعها، فلما مات علي بن الحسين رحمه الله فقدوا ذلك، ولم يعودوا يجدون الطعام الذي كانوا يجدونه عند أبواب بيوتهم؛ فعلموا من الذي كان يأتيهم بالليل. وعن عمر بن ثابت قال: لما مات علي بن الحسين وجدوا بظهره أثراً مما كان ينقل الجرب بالليل إلى منازل الأرامل، فمن ثقلها على ظهره أثرت فيه، فصارت أثراً مستمراً، وجدوه في بدنه عند تغسيله رحمه الله تعالى. وأما الصلاة والدعاء فحدث عنهم ولا حرج في أخبارهم رحمهم الله تعالى، قال سلام بن أبي مطيع: كان أيوب يقوم الليل يخفي ذلك، فإذا كان قبيل الصبح رفع صوته كأنه قام في تلك الساعة. لم يكن يشعرهم أنه كان قد قام قبلها بوقت طويل. وكان منصور بن المعتمر إذا صلى الغداة -أي: الصبح- أظهر النشاط لأصحابه فيحدثهم ويكثر إليهم، ولعله إنما بات قائماً على أطرافه؛ ليخفي عنهم العمل. وكان مسروق رحمه الله يرخي الستر بينه وبين أهله ثم يقبل على صلاته ويخليهم ودنياهم. وكان حسان بن أبي سنان يفتح باب الحانوت فيضع الدواة ويفرش الحساب ويرخي ستره داخل الدكان ثم يصلي، فإذا أحس بإنسان قد جاء -زبون قادم- جاء يقبل على الحساب يريه أنه كان يحسب ميزانية المحل وما دخل وما خرج رحمه الله تعالى. وعن الأعمش قال: رأيت إبراهيم النخعي وهو يقرأ في المصحف، فاستأذن عليه رجل فغطى المصحف وقال: لا يرى هذا أنني أقرأ فيه كل ساعة. كان عمل الربيع كله سراً، إن كان ليجيء الرجل وقد نشر المصحف ليقرأه فيغطيه بثوبه، وكان بعض السلف إذا حضرته الرقة في المجلس وأثر فيه الوعظ وأوشك على البكاء لف المنديل على أنفه وامتخط وقال: ما أشد الزكام! قال محمد بن واسع رحمه الله: لقد أدركت رجالاً كان الرجل يكون رأسه مع رأس امرأته على وسادة واحدة قد بلَّ ما تحت خده من الدموع وزوجته لا تشعر به! ولقد أدركت رجالاً يقوم أحدهم في الصف فتسيل دموعه على خده ولا يشعر به الذي بجانبه! وكان محمد بن سيرين رحمه الله يسمع بكاؤه بالليل وضحكه بالنهار، وكانت البيوت متجاورة متلاصقة، قال الإمام البصري رحمه الله: كان الرجل يتعبد عشرين سنة لا يشعر به جاره، وأحدهم الآن يصلي ليلة أو بعض ليلة فيصبح وقد استطال على جاره وهذا الفرق، بعض الناس يقولون: تصدقنا وأنفقنا واعتمرنا وحججنا، وفعلنا وفعلنا لمرة واحدة، والصالحون يفعلونه سنين ولا يحدثون به، بل لا يدرى عنهم، ولكن الله يكشفه ويرفع قدر صاحبه؛ ولذلك بلغ السلف والصالحون ما بلغوا، وإن كانت أعمالهم مستورة لكن الله يحببهم إلى العباد، ويغرس في قلوب العباد محبتهم هذه من نتيجة طاعة الله تعالى. أقام عمر بن قيس -رحمه الله- عشرين سنة يصوم ويكثر الصيام لا يعلم به أهله، يأخذ إفطاره في الصباح وهو ذاهب إلى دكانه، يغدو إلى الحانوت فيتصدق بغدائه على المساكين، ويصوم وأهله لا يدرون، ويرجع إليهم قبيل المغرب حيث كان ينتهي وقت العمل في ذلك المجتمع، ثم يأكل بعد ذلك كأنه يتغدى غداءه العادي! أفعال الخير كانت عندهم -رحمهم الله تعالى- حتى مع العجائز، هذا طلحة رضي الله عنه رأى عمر في سواد الليل يدخل بيتاً ويخرج منه، فلما أصبح طلحة ذهب إلى ذلك البيت لينظر إلى أين دخل عمر بالليل وماذا كان يفعل، فإذا بعجوز عمياء مقعدة فقال لها: ما بال هذا الرجل الذي يأتيك بالليل؟ قالت: إنه يتعاهدني منذ كذا وكذا، يأتيني بما يصلحني، ويخرج عني الأذى. قال طلحة: ثكلتك أمك يا طلحة! أعثرات عمر تتبع؟! هكذا كانوا رحمهم الله تعالى، هكذا كانوا في إخفائهم لأعمالهم، فإذا أردت يا عبد الله أن يصلح قلبك فاعمل وأخف العمل، فإن في ذلك إصلاحاً عظيماً للقلب. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يصلح قلوبنا، وأن يصلح أعمالنا، وأن يصلح سرائرنا وأن يصلح ظواهرنا، وأن يتوب علينا ويغفر لنا تقصيرنا وإسرافنا في أمرنا. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

أمور تعين على صلاح القلب

أمور تعين على صلاح القلب الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، أشهد أن لا إله إلا هو ولي الصالحين، وناصر المستضعفين، والمنتقم من الظالمين، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى آله وذريته الطيبين الطاهرين، صلى الله عليه، إمام المتقين وقائد الغر المحجلين، الشافع المشفع، وصاحب لواء الحمد والمقام المحمود، صلى الله عليه صلاة دائمة ما تتابع الليل والنهار، وعمل الأبرار والفجار، صلى الله عليه صلاة دائمة إلى يوم الدين.

الخلوة

الخلوة عباد الله: إن من الأمور التي تعين على إصلاح القلب وإخفاء العمل الخلوة المشروعة، فلا بد للعبد أن يكون له مجالس يخلو فيها بذكر ربه، وتعداد ذنوبه، ومحاسبة نفسه، وإصلاح قلبه، وطلب المغفرة من ربه. قال شيخ الإسلام رحمه الله: لا بد للعبد من أوقات ينفرد بها بنفسه في دعائه وذكره وصلاته وتفكره ومحاسبته، قال طاوس رحمه الله: نعم صومعة الرجل بيته، يكف فيها بصره ولسانه. إذا أراد الإنسان تحقيق علم أو عمل فتخلى في بعض الأماكن مع محافظته على الجمعة والجماعة؛ فهذا حق كما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله، ومن أجل ذلك شرع الاعتكاف؛ لقطع النفس عن العلائق والانشغالات الدنيوية حتى يصفو القلب ويتهذب، لكن ليست خلوة صوفية في كهف من الكهوف أو برية من البراري ينقطع الإنسان بها عن المجتمع وعن المسجد، وعن الجمعة والجماعة، وعن تعليم الناس وإنكار المنكر كلا، بل هي خلوة وقتية يخلو في بيته، أو يخلو في بيت الله معتكفاً يحاسب نفسه، لا بد من خلوة (ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه) فهو من السبعة الذين يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله. وجرب -يا عبد الله- مسألة الخلوة هذه، في مكتب أغلق عليك، أو في حجرة في بيتك، اعبد ربك واذكر ذنبك، وحاسب نفسك، واستغفر الله تعالى؛ تجد لها أثراً ولابد. الخلوة مسألة مهمة في إصلاح القلب، ومن فقد أنسه فقد الخشوع والأنس بالله، فقد مظاهر الإيمان، من فقد أنسه بين الناس ووجده في الوحدة فهو صادق ضعيف، ومن وجده بين الناس وفقده في الخلوة فهو معلول مريض، الذي لا يجد الخشوع إلا بين الناس، فإذا خلا بنفسه لا يجد خشوعاً؛ فهذا مريض، ومن فقده بين الناس وفي الخلوة فهو ميت مطرود، ومن وجد في الخلوة وبين الناس حلاوة الإيمان والخشوع والخوف من الله فهو المحب الصادق القوي، وليتنا هكذا! ومن كان هذا حاله في الخلوة لم يكن مزيده إلا منها، ومن كان لا يستشعر الإيمان إلا إذا جلس مع الناس لم يكن مزيده إلا معهم، ومن كان يجد تلك الحلاوة في أي مكان كان فهذا عبد الله حقاً حقاً.

مراقبة الله

مراقبة الله ومما يعين على إصلاح القلب مراقبة الله: {يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} [النحل:19] {وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الحديد:6] سئل بعض السلف: بم يستعان على غض البصر؟ وما أحوجنا إليه في هذا الزمان، ما أكثر النساء المتبرجات! ما أكثر العيون المكحلة! ما أكثر هذا النقاب الفاضح، والشفاف من اللباس والقصير والضيق والصور المتحركة الحقيقية في الشوارع والمطبوعة على الأغلفة! ما أكثرها!! سئل بعض السلف: بم يستعان على غض البصر؟ قال: بعلمك أن نظر الله إليك أسبق من نظرك إلى المنظور. فإذا علمت أن نظر الله إليك أسرع وأسبق من نظرك إلى المرأة ربما استحييت وأطرقت وغضضت من بصرك. وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان فاستحي من نظر الله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني

الحياء من الله

الحياء من الله عباد الله: إن الاستحياء من الله عز وجل دافع لترك المعصية، إنه يصلح القلب. ومن أسباب صلاح القلب: أن يتذكر العبد المساءلة بين يدي الله عز وجل. هذه الوظائف وهذه الشهادات وهذه الجامعات، وهذه القصور والبيوت، وهذا النعيم إنما هو زائل وسوف نغادر، والنبي عليه الصلاة والسلام شبهه برجل استظل في ظل شجرة ثم راح وتركها، فهو ظل زائل، وفي الجنة ظل ممدود لا يزول ولا ينحسر. عباد الله: إن قضية الاشتغال بإصلاح القلب هو من نهج السلف رحمهم الله تعالى، ولكن فات ذلك على كثير منا؛ فينبغي أن نبادر ونسرع بإصلاح ذلك. اللهم يا من أظهر الجميل وستر القبيح، يا من لا يؤاخذ بالجريرة ولا يهتك الستر، نسألك اللهم أن تمن علينا بسترك الجميل، وفضلك الجزيل، اللهم اجعل سريرتنا خيراً من علانيتنا، واجعل علانيتنا حسنة، اللهم استرنا فوق الأرض واسترنا تحت الأرض واسترنا يوم العرض ولا تفضحنا بين الخلق. اللهم إنا نسألك الإيمان والعفو عما سلف وكان، يا رحيم يا رحمن! اللهم انصر المسلمين، واخذل أعداء الدين، وانشر السنة في العالمين، وارفع لواء الجهاد في الأرض إنك أنت الذي تنصر المستضعفين يا رب العالمين! اللهم آمنا في أوطاننا وبيوتنا، اللهم أصلحنا وأصلح شأننا وتب علينا، اللهم آمنا في الأوطان والدور وأصلح الأئمة وولاة الأمور، واغفر لنا يا عزيز يا غفور!

اعتناء الإسلام بنفسية المسلم وشعوره

اعتناء الإسلام بنفسية المسلم وشعوره مشاعر الإنسان من أغلى ما يملك. وكذا نفسه التي بين جنبيه. وقد رأينا اهتمام علماء النفس بهذا الموضوع أيما اهتمام، لكن أنى لهم بمثل ما جاء به الإسلام: من مراعاة المشاعر والأحاسيس التي اعتبرها جزءاً من الإنسان، وسلَّط الضوء عليها بصورة مباشرة وغير مباشرة. نصوص شرعية كثيرة لم يكن القصد من قولها ولا من تشريع الأحكام التي تضمنتها إلا مراعاة مشاعر الإنسان بل والحيوان، والعمل على تهدئة نفسيته والمطالبة بحفظها حتى لا يتعرض لها أو تجرح بشيء. جمع من النصوص والمواقف تبرز هذه الحقيقة ناصعة نجدها في ثنايا هذه الكلمات.

تعامل الإسلام مع النفسيات

تعامل الإسلام مع النفسيات الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. إخواني: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أحييكم في هذه الليلة في هذا المكان المبارك في بيت من بيوت الله عز وجل، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل ليلتنا هذه ذات فائدة وما يقدم فيها له أثر في حياتنا ومعاملاتنا. والمسلم الحقيقي هو الذي يسير على نور من ربه، ويسلك صراط الله المستقيم، ويسير على طريق أهل السنة والجماعة، الطريق الذي سار فيه الأنبياء والعلماء والشهداء، الطريق الذي بيَّن الله أنواره ومعالمه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. والذي نلاحظه على الكثيرين أنهم قد يهتمون بأبواب أو بأجزاء من هذا الطريق، فقد يهتمون بالعقيدة فقط، أو يركزون على الطريقة الصحيحة في التفقه، والأخذ بالدليل، والبحث عن الحديث الصحيح، وقد يركزون على أعمال القلوب فقط وأمور الرقائق، وقد يركِّزون على الجانب الخلقي السلوكي، والصحيح والحظ العظيم هو التركيز عليها كلها مجتمعة، حتى يجعل طريقه هذا طريقاً متكاملاً. وموضوع التعامل من الموضوعات المهمة، وأهل السنة والجماعة لهم أصول في قضايا التعامل والقضايا السلوكية ولم يتركوها هملاً، وإنما وضعوا لها ضوابط مستمدة من القرآن والسنة. ونحن نجد الآن بين المسلمين تنافراً في شخصياتهم، وخلافات كثيرة بينهم، وطريقة معاملة بعضهم لبعض ليست صحيحة، وباختصار قد تقطعت أواصر الأخوة الإيمانية فيما بينهم. وهذا التقطع نشأ من عدم الاهتمام بمراعاة الجانب السلوكي الخلقي، وعدم الاهتمام بمشاعر الأخ المسلم، وعدم الاهتمام من الأخ المسلم بنفسية أخاه المسلم، كيف يعامله؟ كيف يتجنب الأشياء التي تؤذيه؟ كيف يبتعد عن جرح شعوره بالتصرفات القاسية المؤذية؟ والحقيقة -أيها الإخوة- أننا كثيراً ما نتلفظ بكلمات، ونأتي بأفعال لها مردود سلبي وسيئ على علاقتنا الأخوية مع إخواننا الآخرين، ينبغي أن ننقي هذه التعاملات، وأن نعرف كيف نتكلم، وكيف نخرج الأخ المسلم من موقف حرج يتعرض له، وكيف نتجنب إحراجه. واليوم لا يوجد اهتمام بقضية عدم إحراج المسلم لأخيه المسلم، إلا من رحم الله يهتم بهذا الأمر. هناك أناس من المسلمين يتميزون بالغلظة والجفاء واللامبالاة، لا يسألون عن أوضاع إخوانهم المسلمين، ينتقدونهم بأمور وطرق تجرح مشاعرهم، لا ينتقون الألفاظ المناسبة، فنريد أن نبيَّن في هذا الدرس أن هذا الأمر من صميم الإسلام، ونريد أن نبين من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ومن القرآن قبل ذلك أن هذه المسألة قد رُكِّز عليها تركيز عظيم، وأنها لم تهمل، وأنه يجب على الفرد المسلم أن يتمعن فيها وينظر كيف يعامل إخوانه.

معالجة القرآن لمشاعر المسلمين

معالجة القرآن لمشاعر المسلمين عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما نزلت: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:1 - 2] إلى قوله عز وجل: {فَوْزاً عَظِيماً} [الفتح:5]-وقد نزلت هذه الآيات عندما رجع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الحديبية - وقد كان الصحابة يخالطهم الحزن والكآبة، لأنهم رجعوا من غزوة الحديبية ولاهم بالذين حاربوا الكفار، وقاتلوهم، وانتصروا عليهم، ولا هم بالذين دخلوا مكة واعتمروا وحققوا الشيء الذي خرجوا من أجله، بل قد وضعت لهم شروط واتفاقيات مع كفار قريش، رجعوا بسببها إلى المدينة من غير أن ينالوا شيئاً، وكان في بعض هذه الشروط، ما يظنه الرجل الذي ينظر إلى ظاهر الأمر وينظر نظرة سطحية بدون تمعن، أن فيها ظلماً للمسلمين، فرجعوا وهم في غاية من الحزن والكآبة. وفي هذه الأثناء تنزل الآيات، ويصف القرآن هذا الصلح بأنه فتح مبين {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:1 - 2] فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقد أنزلت عليّ آية هي أحب إليّ من الدنيا جميعاً). لماذا كانت هذه الآية لها أثر عظيم؟ لأنها أزالت الكآبة والحزن من نفوس الصحابة. إذاً: كان القرآن ينزل لأهداف منها: معالجة الحزن والكآبة في نفوس الصحابة، يقول الله عز وجل بعد غزوة أحد -تعليقاً عليها في الآيات-: {فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ} [آل عمران:153]، ففي غزوة أحد قتل من الصحابة خلق عظيم، وعلى رأسهم حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أكبر حملة ألوية الدعوة إلى الله، وكان رجلاً صنديداً فقُتل، والرسول صلى الله عليه وسلم جرح جراحاً شديدة، وأشيع أنه قتل، وصلت هزيمة بالمسلمين. يقول الله عز وجل: {فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ} [آل عمران:153]، ما معنى {فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ}؟ ذكر بعض أهل التفسير من أوجه ما قيل في هذه الآية قول عبد الرحمن بن عوف: الغم الأول بسبب الهزيمة. والغم الثاني: حين قيل: قتل محمد صلى الله عليه وسلم، قال ابن قمئة: قتلت محمداً، وصدقه الكفار وبعض المسلمين. لما شعر المسلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل، نسوا في غمرة الغم العظيم الهزيمة، وصاروا الآن في الغم الجديد، وهو قتل الرسول صلى الله عليه وسلم، فانظر كيف عالج الله أثر الهزيمة في النفوس، بأن أعطاهم غماً آخر غير حقيقي وهو مقتل الرسول صلى الله عليه وسلم، فانشغلت النفوس به عن الهزيمة، ثم تبين أنه غير مقتول، وكانت قد نسيت أشياء من الهزيمة، فانظر كيف عالج الله هذه النفسيات، وكيف شفى الله نفوس المسلمين من أمور كثيرة.

نماذج من اهتمام الإسلام بالمشاعر والنفسيات

نماذج من اهتمام الإسلام بالمشاعر والنفسيات الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. إخواني: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أحييكم في هذه الليلة في هذا المكان المبارك في بيت من بيوت الله عز وجل، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل ليلتنا هذه ذات فائدة وما يقدم فيها له أثر في حياتنا ومعاملاتنا. والمسلم الحقيقي هو الذي يسير على نور من ربه، ويسلك صراط الله المستقيم، ويسير على طريق أهل السنة والجماعة، الطريق الذي سار فيه الأنبياء والعلماء والشهداء، الطريق الذي بيَّن الله أنواره ومعالمه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. والذي نلاحظه على الكثيرين أنهم قد يهتمون بأبواب أو بأجزاء من هذا الطريق، فقد يهتمون بالعقيدة فقط، أو يركزون على الطريقة الصحيحة في التفقه، والأخذ بالدليل، والبحث عن الحديث الصحيح، وقد يركزون على أعمال القلوب فقط وأمور الرقائق، وقد يركِّزون على الجانب الخلقي السلوكي، والصحيح والحظ العظيم هو التركيز عليها كلها مجتمعة، حتى يجعل طريقه هذا طريقاً متكاملاً. وموضوع التعامل من الموضوعات المهمة، وأهل السنة والجماعة لهم أصول في قضايا التعامل والقضايا السلوكية ولم يتركوها هملاً، وإنما وضعوا لها ضوابط مستمدة من القرآن والسنة. ونحن نجد الآن بين المسلمين تنافراً في شخصياتهم، وخلافات كثيرة بينهم، وطريقة معاملة بعضهم لبعض ليست صحيحة، وباختصار قد تقطعت أواصر الأخوة الإيمانية فيما بينهم. وهذا التقطع نشأ من عدم الاهتمام بمراعاة الجانب السلوكي الخلقي، وعدم الاهتمام بمشاعر الأخ المسلم، وعدم الاهتمام من الأخ المسلم بنفسية أخاه المسلم، كيف يعامله؟ كيف يتجنب الأشياء التي تؤذيه؟ كيف يبتعد عن جرح شعوره بالتصرفات القاسية المؤذية؟ والحقيقة -أيها الإخوة- أننا كثيراً ما نتلفظ بكلمات، ونأتي بأفعال لها مردود سلبي وسيئ على علاقتنا الأخوية مع إخواننا الآخرين، ينبغي أن ننقي هذه التعاملات، وأن نعرف كيف نتكلم، وكيف نخرج الأخ المسلم من موقف حرج يتعرض له، وكيف نتجنب إحراجه. واليوم لا يوجد اهتمام بقضية عدم إحراج المسلم لأخيه المسلم، إلا من رحم الله يهتم بهذا الأمر. هناك أناس من المسلمين يتميزون بالغلظة والجفاء واللامبالاة، لا يسألون عن أوضاع إخوانهم المسلمين، ينتقدونهم بأمور وطرق تجرح مشاعرهم، لا ينتقون الألفاظ المناسبة، فنريد أن نبيَّن في هذا الدرس أن هذا الأمر من صميم الإسلام، ونريد أن نبين من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ومن القرآن قبل ذلك أن هذه المسألة قد رُكِّز عليها تركيز عظيم، وأنها لم تهمل، وأنه يجب على الفرد المسلم أن يتمعن فيها وينظر كيف يعامل إخوانه.

النهي عن المكوث في بيوت النبي بعد الأكل طويلا

النهي عن المكوث في بيوت النبي بعد الأكل طويلاً القرآن يريد من المؤمن أن يحس ويشعر بهذه الأمور، وكيف يتجنب جرح شعور إخوانه المسلمين {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} [الأحزاب:53]. فالصحابة كانوا يدخلون بيوت الرسول صلى الله عليه وسلم يريدون أن يأكلوا، ثم يمكثون بعد الأكل وقتاً طويلاً، والرسول صلى الله عليه وسلم يريد أن ينصرف إلى أهله، ويرتاح، وينام، ويخلد إلى نفسه قليلاً. وكان من الصحابة من يطيل في المجلس، وهذه الإطالة فيها أذى لصاحب البيت، فنزلت هذه الآية: {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} [الأحزاب:53]، اخرجوا بسرعة حتى يتهيأ لصاحب البيت أن يذهب إلى أهله، ويجلس، ويستريح: {وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ} [الأحزاب:53] أي: أذىً نفسياً، فالرسول صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها، كان يستحي أن يقول: قد أطلتم فانصرفوا، ولكنه يريد منهم أن يشعروا بأنفسهم. بأن الوقت قد حان للانصراف.

النهي عن تناجي اثنين دون الثالث

النهي عن تناجي اثنين دون الثالث وخذ مثلاً آخر في القرآن: قضية النجوى التي قال الله في شأنها: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [المجادلة:10]، لو وُجد ثلاثة في مجلس فلا يجوز لاثنين الحديث دون الثالث سراً من دون علمه بما يقال؛ فهذه هي النجوى. فلا يجوز أن تأخذ شخصاً وتتكلم معه في السر، وتترك الشخص الآخر في المجلس، إلا إذا كان معه شخص رابع فلا مانع، حتى لا تحزنه؛ فربما يشعر أنك والآخر تتآمران عليه، أو أنه ليس على مستوى الكلام الذي تسر به إلى أخيك، هذا فيه أذى، ويدخل فيه أيضاً كما ذكر بعض أهل العلم، أن الاثنين يتحدثان بلغة لا يفهمها الشخص الثالث حتى ولو كانا يتكلمان بصوت مرتفع. وقد تحدث هذه عند ما يكون رجل من كبار السن في المجلس، وهو لا يعرف اللغة الإنجليزية، فيأتي اثنان كل شخص يتكلم مع الثاني باللغة الإنجليزية، والكبير لا يفهم ماذا يقولان، وفي هذا أذى للنفوس ولذلك نهى الله عنه في القرآن، وكذلك على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يتناجى اثنان دون الثالث؛ فإن ذلك يحزنه)، وهو حديث في الصحيح.

أسلوب يوسف عليه السلام في معاملة إخوته

أسلوب يوسف عليه السلام في معاملة إخوته تأمل أيضاً عندما جاء إخوة يوسف ودخلوا عليه، وهم قد أخطئوا في حق أخيهم خطأً عظيماً، فقد ألقوه في البئر، وربما كان يموت ويهلك، فأنقذه الله ببعض السيارة المارَّين -أخذوه وباعوه- وتسببوا في أن يعيش فترة من حياته مملوكاً، فظلموه، وهذا من الحسد حيث قالوا: كيف يحب يعقوب أخانا يوسف أكثر منا؟! لابد أن نعمل ما يبعده عنه؛ فنلقيه في الجب، أو نقتله، أو نطرحه في أرض غريبة فيضيع. وبعد فترة من الزمن أعطى الله يوسف عليه السلام الملك والحكمة، وأعطاه النبوة، وقلَّده خزائن الأرض، وجاء بإخوته، وأبيه، وأهله من البدو وأسكنهم في المدينة. فما هو موقف إخوة يوسف أمام أخيهم القادر، صاحب السلطة؟ يستطيع أن يفعل بهم أي شيء، ما هو موقفهم أمامه؟ وبأي شيء يشعرون؟ يشعرون بالخجل، بل بغاية الخجل منه، وقد يشعرون بالخوف من أن قد يبطش بهم. فهذا الموقف ماذا يفعل فيه المسلم الحقيقي؟ يوسف عليه السلام كان حليماً، لا يريد أن ينتقم، فماذا فعل؟ وماذا قال لإخوته؟ قال: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} [يوسف:100]، لم يقل: أخرجني من الجب، وإنما قال: أخرجني من السجن فقط، فلم يذكر الجب مطلقاً مع أن الله أخرجه من الجب لماذا؟ حتى لا يشعرهم بأنهم أخطئوا، وأنه يوبخهم. وأيضاً هو عندما أتى بأهله رفع عنهم جهد الجوع والتعب الشديد، والعيشة القاسية في البادية، وأتى بهم إلى المدينة، فحتى لا يَمتنَّ عليهم، ماذا قال لهم؟ قال: {وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} [يوسف:100] أي: الحمد لله الذي جاء بكم من البدو، ولم يقل: وأنا أتيت بكم من البادية، ووطّنتكم في المدينة، وأعطيتكم وأعطيتكم وأعطيتكم لماذا؟ حتى لا يشعرون بالذل، وأنه هو الذي تفضل عليهم، وإنما تلافى هذا الشعور الخاطئ، حتى يحفظ كرامتهم وماء وجههم، فصلاة الله وسلامه على هذا النبي الكريم. ثم قال: {مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} [يوسف:100] من المخطئ؟ إنهم إخوته الذين أخطئوا لكنه قال: من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي، فوضع القضية بكاملها على الشيطان، ولماذا وضع القضية بكاملها على الشيطان؟ حتى لا يشعرهم بأنهم أخطئوا. وهذا أسلوب نحن نفتقده، فنحن نفتقد أسلوب التعامل مع شخص أخطأ عليك، ثم قدرت عليه وأصبحت في موقف القوة، كيف تعامله؟ كيف تعفو عنه وتصفح؟ ليس فقط تعفو وتصفح، بل كيف تتجنب أن تشعره بأنك تتفضل عليه اليوم، يوسف ليس فقط عفا عنهم، لكنه لم يشعرهم أنه قد تفضل عليهم، فقال: فعلت لكم، وفعلت لكم وأنا الآن أنعم عليكم وأعف عنكم، أنتم ظلمتموني، لكن أنا أحسن منكم لا. لكن أتى بهذا الأسلوب اللطيف.

الأمر بتسليم الراكب على الماشي والماشي على الراكب

الأمر بتسليم الراكب على الماشي والماشي على الراكب فكر معي في مقصد الإسلام عندما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (يسلم الراكب على الماشي، والماشي على القاعد). لماذا كان من السنة أن الراكب يسلم على الماشي؟ لأن الراكب الذي يركب السيارة أو الدابة مستواه أعلى من الماشي على رجله، فعندما يبتدئ الراكب بالسلام على الماشي يكون في هذا إكرام لنفس الماشي. وعندما يسلم الماشي على القاعد، من الذي في الموقف الأعلى؟ الماشي، فهو الذي يمر على القاعد؛ لذا فهو الذي يلقي عليه السلام، وفي هذا اعتبارات معينة في آداب السلام لحفظ المشاعر ومراعاة الشعور.

النهي عن إقامة الرجل من مجلسه والجلوس مكانه

النهي عن إقامة الرجل من مجلسه والجلوس مكانه خذ مثلاً -يا أخي- حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يقيم الرجل الرجل من مقعده ثم يجلس فيه، ولكن تفسحوا وتوسعوا). وبعض الناس الجهلة اليوم إذا جاء ووجد المجلس ممتلئاً، يقول: قم، فيقيم شخصاً ويجلس مكانه، وهذا خطأ؛ لأنك عندما تقول له: قم أمام الناس، ثم تقعد مكانه فقد آذيته، وجرحت شعوره أمام الناس، ولكن اجلس حيث انتهى بك المجلس. ولذا فإن بعض المتكبرين عندما يدخل المجلس ولا يجد مكاناً في صدر المجلس يستمر واقفاً ينتظر شخصاً يقوم حتى يجلس مكانه، عجيب! أين التواضع؟ وإن قام شخص فبنفس منكسرة لا عن طواعية، بخلاف ما لو دخل وجلس فقام له شخص وقال له: اجلس في المكان هذا، أو صاحب البيت طلب منه أن يجلس في هذا المكان، أما هذا فينتظر ليقوم له شخص حتى يجلس في مكانه. وكان ابن عمر إذا قام له رجل من مجلسه لم يجلس فيه، يقول: لا. اجلس فيه. وعن أبي هريرة أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: (من قام من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به). فمثلاً: كان شخص جالساً في مكان كالصف الأول في المسجد فأحس بريح في بطنه وأنه بحاجة إلى أن يجدد الوضوء فترك مكانه وذهب إلى مكان الوضوء ليتوضأ ويرجع، وفي أثناء غيابه جاء شخص وقعد في مكانه، وعندما رجع الشخص الذي ذهب يتوضأ إلى مكانه وجد أن هناك شخصاً آخراً فيه، فمن الأحق بالمجلس؟ الأول؛ لأن غيابه قصير، بخلاف شخص ذهب إلى البيت أو خرج ثم جاء بعد ساعة، انتهى حقه في المجلس، لكن فترة غياب بسيطة تحفظ لصاحب المجلس مكانه، أي: إذا رجع فهو أحق به حفظاً لنفسيته وشعوره.

النهي عن تقدم الضيف في الإمامة على مضيفه

النهي عن تقدم الضيف في الإمامة على مضيفه خذ مثلاً آخر من الأحاديث الصحيحة، وانظر كيف يراعي الإسلام المشاعر والنفسيات: (إذا زار أحدكم قوماً فلا يصل بهم، وليصل بهم رجل منهم)، أي: من أصحاب البيت، فصاحب البيت أولى بالإمامة ولو كان من الضيوف من هو أحفظ منه لكتاب الله، مادام أنه يقيم الفاتحة والصلاة فهو أحق. فلماذا جعل الإسلام صاحب البيت أولى بالإمامة من الضيف، حتى لو كان الضيف أحفظ؟ لأنه صاحب البيت والسلطان، فليس من المناسب لمشاعره ونفسيته أن يتقدم عليه أحد الضيوف، فمادام هو صاحب البيت فهو أحق بالإمامة، إلا إذا تنازل وقال: صلِّ يا فلان! فهنا يجوز للضيف أن يتقدم. وهذا الكلام فيما لو أن المسجد كان بعيداً جداً، ولا يسمعون النداء، أو أن الصلاة فاتتهم، أو تعذَّر خروجهم من البيت، وإلا فالأصل أنهم يصلون في المسجد.

الأمر بتقديم الأكبر في الكلام

الأمر بتقديم الأكبر في الكلام وتعال معي إلى حديث آخر من الأحاديث الصحيحة، أخرج الشيخان والنسائي وغيرهم من حديث رافع بن خديج وسهل بن أبي حثمة -وفي أثناء القصة- قال: (فذهب عبد الرحمن بن سهل وكان أصغر القوم يتكلم قبل صاحبيه -هناك اثنان أكبر من الثالث أمام الرسول صلى الله عليه وسلم، وجاء الصغير وأراد أن يتكلم أمام الرسول صلى الله عليه وسلم قبل الاثنين الكبار- فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: كبر، كبر)، أي: دع الكبير يتكلم، لماذا دع الكبير يتكلم؟ احتراماً لنفسيته ومشاعره، فالكبير هو الذي يتكلم أولاً قبل الصغير، هذا من آداب الإسلام، فلو تكلم الصغير أولاً لكان فيها نوع من الاستهانة بالكبير، وإذا لم يرد الكلام تكلم الصغير.

ضرورة تبيين السبب عند رد الهدية

ضرورة تبيين السبب عند رد الهدية مراعاة نفسية الشخص إذا أهدى لك شيئاً فرددت الهدية لسبب من الأسباب: فلو أن شخصاً أهداك شيئاً ثم رددت الهدية لسبب من الأسباب، فإنه يتأثر بفعلك، إلا إذا كان هناك سبب شرعي لرد الهدية. وفي الحديث الصحيح عن الصعب بن جثامة الليثي رضي الله عنه، أنه أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم حماراً وحشياً، وهو بـ الأبواء أو ودان، والرسول صلى الله عليه وسلم كان محرماً، والمحرم لا يجوز له أن يصيد وهو محرم، ولا أن يأكل صيداً قد صِيدَ لأجله. والصحابي هذا لا يعرف الحكم، جاء واصطاد للرسول صلى الله عليه وسلم حماراً وحشياً -والحمار الوحشي يجوز أكل لحمه، لكن الحمار الأهلي الذي في المدن والذي يحملون عليه لا يجوز أكله، لكن الحمار الوحشي الذي يعيش في الصحراء أو في الغابات فإنه يجوز أكله- وجاء يهديه إليه، فتصور الموقف، رجل يهدي لآخر هدية، يقول له: تفضل هدية، لكنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم لا يصح أن يأكل منه، فماذا يجب عليه؟ أن يرده، ولو رده إلى صاحبه لتأثر، فماذا فعل عليه السلام؟ قال: (فرده عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الصحابي: فلما أن رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما في قال: إنَّا لم نرده عليك إلا أنَّا حرم). فالرسول صلى الله عليه وسلم بيَّن السبب، قال: يا فلان! لم نرده عليك أنك دون المقام، أو أن هديتك ليست في المستوى، لا، وإنما رددناه عليك لأنَّا في حالة إحرام، ولا يجوز لنا أن نأكل الصيد الذي صيد لأجلنا، فلما بين السبب ارتاح الصحابي واطمأن. وذات مرة أهدى أحد الصحابة خميصة لها أعلام -نوع من الملابس فيه زينه- للنبي صلى الله عليه وسلم، فلبسه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قام للصلاة صار هذا الثوب يشغله في الصلاة، وهو لا يحب أن يشغله شيء عن الصلاة، فخلعها وقال: (اذهبوا بها إلى أبي جهم). ولو ردها إلى الصحابي لتأثرت نفسيته وشعر بالحزن، فقال عليه الصلاة والسلام: (وأتوني بانبجانية أبي جهم)، قال: ردوا عليه هذه، لكن أحضروا لي من عنده نوعاً آخر من الملابس لا تشغل في الصلاة، فصارت واحدة بدل واحدة. فلماذا قال: ردوها وأتوا لي بدلاً منها؟ حتى لا يحزن.

مراعاة الإسلام لشعور الضيف

مراعاة الإسلام لشعور الضيف الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. إخواني: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أحييكم في هذه الليلة في هذا المكان المبارك في بيت من بيوت الله عز وجل، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل ليلتنا هذه ذات فائدة وما يقدم فيها له أثر في حياتنا ومعاملاتنا. والمسلم الحقيقي هو الذي يسير على نور من ربه، ويسلك صراط الله المستقيم، ويسير على طريق أهل السنة والجماعة، الطريق الذي سار فيه الأنبياء والعلماء والشهداء، الطريق الذي بيَّن الله أنواره ومعالمه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. والذي نلاحظه على الكثيرين أنهم قد يهتمون بأبواب أو بأجزاء من هذا الطريق، فقد يهتمون بالعقيدة فقط، أو يركزون على الطريقة الصحيحة في التفقه، والأخذ بالدليل، والبحث عن الحديث الصحيح، وقد يركزون على أعمال القلوب فقط وأمور الرقائق، وقد يركِّزون على الجانب الخلقي السلوكي، والصحيح والحظ العظيم هو التركيز عليها كلها مجتمعة، حتى يجعل طريقه هذا طريقاً متكاملاً. وموضوع التعامل من الموضوعات المهمة، وأهل السنة والجماعة لهم أصول في قضايا التعامل والقضايا السلوكية ولم يتركوها هملاً، وإنما وضعوا لها ضوابط مستمدة من القرآن والسنة. ونحن نجد الآن بين المسلمين تنافراً في شخصياتهم، وخلافات كثيرة بينهم، وطريقة معاملة بعضهم لبعض ليست صحيحة، وباختصار قد تقطعت أواصر الأخوة الإيمانية فيما بينهم. وهذا التقطع نشأ من عدم الاهتمام بمراعاة الجانب السلوكي الخلقي، وعدم الاهتمام بمشاعر الأخ المسلم، وعدم الاهتمام من الأخ المسلم بنفسية أخاه المسلم، كيف يعامله؟ كيف يتجنب الأشياء التي تؤذيه؟ كيف يبتعد عن جرح شعوره بالتصرفات القاسية المؤذية؟ والحقيقة -أيها الإخوة- أننا كثيراً ما نتلفظ بكلمات، ونأتي بأفعال لها مردود سلبي وسيئ على علاقتنا الأخوية مع إخواننا الآخرين، ينبغي أن ننقي هذه التعاملات، وأن نعرف كيف نتكلم، وكيف نخرج الأخ المسلم من موقف حرج يتعرض له، وكيف نتجنب إحراجه. واليوم لا يوجد اهتمام بقضية عدم إحراج المسلم لأخيه المسلم، إلا من رحم الله يهتم بهذا الأمر. هناك أناس من المسلمين يتميزون بالغلظة والجفاء واللامبالاة، لا يسألون عن أوضاع إخوانهم المسلمين، ينتقدونهم بأمور وطرق تجرح مشاعرهم، لا ينتقون الألفاظ المناسبة، فنريد أن نبيَّن في هذا الدرس أن هذا الأمر من صميم الإسلام، ونريد أن نبين من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ومن القرآن قبل ذلك أن هذه المسألة قد رُكِّز عليها تركيز عظيم، وأنها لم تهمل، وأنه يجب على الفرد المسلم أن يتمعن فيها وينظر كيف يعامل إخوانه.

صور من مراعاة شعور الضيف

صور من مراعاة شعور الضيف ومراعاة مشاعر الضيف ونفسيته من الأشياء المهمة، لذلك الضيافة لها آداب، منها: ما ورد في القرآن الكريم عن نبي الله إبراهيم عليه السلام: {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ} [الذاريات:26 - 27] وهذه الآيتان قد جمعت من آداب الضيافة أشياء عظيمة، كيف؟ إنه راغ إلى أهله بدون أن يقول لهم: عن إذنكم سأذهب وآتي بالغداء، ثم هم يقولون: لا نريد، وهو يقول: لابد منه، ولكن راغ إلا أهله بخفية، وأخذ عجلاً وجعله حنيذاً وهذا طعام لذيذ، وهذا من أجل إكرام الضيف، ثم قربه إليهم، ولم يقل: تعالوا أنتم على الأكل، بل قربه إليهم، فمن الآداب أن تقرب الطعام إلى الضيف. ولكن لو حدثت صعوبة في تقريب الطعام للضيف؛ لأن السفرة لابد أن تجهَّز-لأننا الآن لم نعد نأكل صنفاً واحداً بل نأكل عشرين صنفاً، فيصعب أن تأتي بالرز، ومن ثم اللحم، والفواكه، والكيك- فلا بأس بأن تضعه في غرفة ثم تدعوهم إليه، لكن لو قربته إليهم لكان أحسن. ثم قال: {أَلا تَأْكُلُونَ} [الذاريات:27] واليوم بعض الناس يضعون الطعام ويسكتون، ولا يقولون للضيوف شيئاً، والضيوف ينظرون ويخجلون أن يمدوا أيديهم، لكنَّ إبراهيم عليه السلام قال: ألا تأكلون؟ وهذا من مراعاة شعور الضيف. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إني مجهود -قد بلغ مني الجهد وما عندي شيء آكله- فأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بعض نسائه، فقالت: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء -انظر الزهد- ثم أرسل إلى أخرى فقالت مثل ذلك، حتى قلن كلهن مثل ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يضيف هذا الليلة يرحمه الله؟ فقام رجلٌ من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله! فانطلق به إلى رحله، فقال لامرأته -الصحابي يقول لامرأته-: هل عندك شيء؟ قالت: لا، إلا قوت صبياني، قال: فعليهم بشيء -أي: اجعلي الأولاد الصغار يتلهون بشيء- فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج وأريه أنَّا نأكل، فإذا أهوى ليأكل، قومي إلى السراج حتى تطفئيه. فهيأت طعامها، وأصبحت سراجها -أضاءت السراج- ونومت صبيانها، ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته. انظر -سبحان الله العظيم! - كيف فقه النساء، هذا الأدب العظيم، قامت كأنها تصلحه فأطفأته، لماذا أطفأته؟ حتى لا يشعر بأنهما لا يأكلان معه؛ لأنه لا يوجد إلا طعام قليل قدماه وجلسا ولم يأكلا، ولو كان الضوء موجوداً لشعر الضيف بالإحراج ولم يهنأ بالأكل لأنه يأكل وهما لا يأكلان! فانظر إلى تلك المرأة كيف راعت شعور هذا الضيف، وأطفأت السراج حتى لا يرى هذا الضيف أنهم لا يأكلان شيئاً، ليس هذا فقط. قال: فجعلا يريانه أنهما يأكلان، أي: أتيا بأصوات وحركات إذا سمعها الشخص الآخر يتوهم أنهم يأكلون، انظروا الصحابة إلى أي درجة وصل بهم الأمر، قال: فقعد وأكل الضيف، فباتا طاويين، والأولاد الصغار ناموا من الجوع. ونحن اليوم نبذر، فالواحد منا عنده الملايين ويقدم للضيف مائدة طويلة عريضة أنفق عليها الألوف، لكن ليس هذا هو الكرم الحقيقي، الكرم هو أن يكون ليس عندك شيء أو عندك شيء تحتاجه، فتؤثر به غيرك، فهذا أعلى الدرجات، ولكن مع ذلك إذا جاءك الضيف وعندك قليل أو كثير أنت تكرمه، لا كما يفعل الناس اليوم يتكلفون ما ليس في وسعهم، وربما يحلفون بالطلاق على الضيف إلا نزل عندهم وأقاموا له الذبائح وهذا يحلف بالطلاق، والثاني مثله! والحلف بالطلاق من عادات الجاهلية، وربما يرفض، أو يعتذر؛ فيقع الطلاق على زوجته من حيث لا يشعر. وما المانع من أن يعزم عليه بدون طلاق حتى لا يقع فيما لا يحمد عقباه بعدها؟ ثم يأتي هذا الشخص إلى العلماء يسال: أنا حلفت على الضيف بالطلاق ولم يفعل، فما حكم زوجتي؟ لماذا أورطت نفسك أصلاً في هذا؟! والتلفظ بالطلاق في هذه المناسبات صار -مع الأسف- مسألة من أسهل الأمور عند الناس. وهذا أمر ينبغي علينا الانتهاء عنه واجتنابه. فلما أصبح غدا على النبي صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام: (قد عجب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة)، أي: مِنْ عِظم ما فعلوا عجبَ الله عز وجل من صنيعهما، سبحان الله العظيم! وفي رواية: (ضحك الله من صنيع فلان وفلانة) وضحك الله عز وجل صفة تليق بجلاله وعظمته، ليست كضحك المخلوقين، وهي تدل على رضا الرب عز وجل عن هذا الفعل، ولكنه ضحك يليق بجلاله وعظمته. أحياناً يأتيك ضيف، وتكرمه، وتذبح له، فيشعر الضيف أنك تكلفت، فبعض الناس يتعمَّدون إشعار الضيف أنهم تكلفوا له، أتينا بالذبيحة وصنعنا وفعلنا، فيُحرَج الضيف. انظر معي إلى هذا الحديث الذي رواه أبو داود وابن حبان عن لقيط بن صبرة قال: (كنت وافد بني المنتفق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فلما قدمنا لم نصادفه في منزله، وصادفنا عائشة أم المؤمنين، فأمرت لنا بخزيرة -نوع من اللحم يقطع ويطبخ- فلم ننشب أن جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكفأ، فقال: هل أصبتم شيئاً؟ فقلنا: نعم يا رسول الله! ضيفونا، ولكنه عليه السلام أمر راعي غنم له أن يذبح شاة من أجل الضيوف، ثم قال للقيط: لا تحسبن أنَّا ذبحنا الشاة من أجلك -انظر لا يريد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يشعر الضيف بالتكلف- لنا غنم مائة -عندنا مائة رأس- لا نريد أن نزيد عليها، فإذا ولَّد الراعي بهمة -أي: إذا ولدت جديدة- ذبحنا مكانها شاة) إذا أصبحت مائة وواحدة ذبحنا واحدة، ونحن ذبحنا الآن واحدة لتبقى الغنم مائة لا نريد الزيادة، فانظر كيف راعى عليه السلام نفسية الضيف، حتى لا يظن أنه تكلف له وذبح ذبيحة.

صورة تبين مراعاة الإسلام لشعور المضيف

صورة تبين مراعاة الإسلام لشعور المضيف ومن الجهة المقابلة: كيف يراعي الضيف شعور المضيف؟ شخص آتى له ضيف فجأة، ولا يوجد عند صاحب البيت أكل، كيف يتلافى الضيف الموقف ويشعر صاحب البيت أنه لا يضر وأنه غير متأثر، ولا يعتبرها إهانة؟ هذا الحديث الصحيح في السلسلة الصحيحة، يقول ثوبان رضي الله عنه: (نزل بنا ضيف بدوي) أي: عند الرسول صلى الله عليه وسلم، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام بيوته -ما هي بيوت الرسول صلى الله عليه وسلم؟ هل هي فلل؟ كل بيت حجرة، هذه حجرة عائشة، وهذه حجرة أم سلمة، ولو وقف الواحد فيها لضرب رأسه بالسقف. (فجعل يسأل عن الناس) هذا البدوي أتى من البادية، والرسول صلى الله عليه وسلم حكيم يهتم بأمور المسلمين، فجلس مع البدوي يسأله، يقول: كيف البادية عندكم؟ أظنهم يصلون ويؤدون الشعائر، ومهتمين بالدين، ويراعون الحلال والحرام، ويسألون عما أشكل عليهم؟ فجعل الرسول صلى الله عليه وسلم يسأل البدوي عن الناس في البادية: (كيف فرحهم بالإسلام؟ وكيف حدبهم على الصلاة؟ فما زال يخبره من ذلك بالذي يسره، حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم نضراً، فلما انتصف النهار وحان أكل الطعام، دعاني مستخفياً -انظر الأدب، فلم يقل: يا ولد! أحضر الطعام، لا- قال: دعاني مستخفياً لا يألو: أن ائت عائشة رضي الله عنها فأخبرها أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ضيفاً. فقالت عائشة لما ذهب ثوبان إليها: والذي بعثه بالهدى ودين الحق ما أصبح في يدي شيء يأكله أحد من الناس. فردني إلى نسائه -الرسول صلى الله عليه وسلم عندما جاءه الخبر، يقول: اذهب إلى فلانة، وإلى فلانة، على زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم كلهن- كلهن يعتذرن بما اعتذرت به عائشة رضي الله عنها، قال: فرأيت لون رسول الله صلى الله عليه وسلم خسف) لماذا خسف؟ لأنه ليس عنده شيء، يريد أن يكرم الضيف فصار في موقف حرج. والبدوي كان ذكياً رضي الله عنه، وكان رجلاً فقيهاً، لم تجعله البادية ينسى قضية الاهتمام بالنفوس ومراعاة الشعور، (فقال البدوي لما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم قد حرج، قال: إنَّا أهل البادية معانون على زماننا، لسنا بأهل الحاضرة، فإنما يكفي القبضة من التمر، يشرب عليها من اللبن أو الماء فذلك الخصب) أي: إذا وجد تمر وعليه ماء أو لبن، فهذا أعلى شيء، وهذا هو الخصب. وبعد ذلك حلب له الرسول صلى الله عليه وسلم، وصارت معجزة للرسول صلى الله عليه وسلم حيث درت شاة من الشياه، وشرب البدوي حتى ارتوى. فانظر كيف أن هذا البدوي من فطنته ورقته ومراعاته لهذه الأشياء ذكر هذا الكلام، حتى لا يحرج الرسول صلى الله عليه وسلم.

مراعاة الإسلام مشاعر الغرباء

مراعاة الإسلام مشاعر الغرباء عندما يفارق الناس أوطانهم ويبتعدون عن أهليهم يشعرون بنوع من الوحشة، وقد يصيبهم مرض في غربتهم، ولابد من مراعاة شعور هؤلاء، خصوصاً إذا تركوا أوطانهم لله، وهاجروا من ديارهم في سبيل الله. لمَّا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجراً، وعك أبو بكر وبلال -أصابهم المرض- قالت عائشة: فدخلت عليهما فقلت: يا أبتي! كيف تجدك؟ ويا بلال! كيف تجدك؟ قالت: فكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول: كل امرئ مصبح في أهله والموت أدنى من شراك نعله وكان بلال إذا أقلعت عنه الحمى، يرفع عقيرته ويقول: ألا ليت شعري هل أبيتنَّ ليلة بواد وحولي إذخر وجليل وهل أردن يوماً مياه مجنة وهل يبدون لي شامة وطفيل هذه أشياء كانت في مكة وبلال يحن إليها، الإذخر، ومياه مجنة، وشامة وطفيل، أشياء تُذكّر بلالاً بـ مكة. وهذه الوحشة التي يعاني منها بلال هي لأنهم تركوا البلد والوطن لله مهاجرين في سبيل الله، قالت عائشة: (فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، وصححها -أي نقها من الأمراض- وبارك لنا في صاعها ومدها، وانقل حُمَّاها فاجعلها بالجحفة) كان في المدينة حمى فنقلت كمعجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصارت بـ الجحفة، وهو مكان يبعد عن المدينة. فانظر كيف راعى الرسول صلى الله عليه وسلم أحوال هؤلاء الغرباء وشعورهم، وفي البخاري أيضاً عن مالك قال: (أتينا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ونحن شببة متقاربون -أي: أتينا من بلدتنا نطلب العلم عند الرسول صلى الله عليه وسلم ونحن في سن الشباب، متقاربون في السن- فأقمنا عنده عشرين يوماً وليلة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيماً رفيقاً، فلما ظن أنّا قد اشتقنا إلى أهلنا، سألنا عمن تركنا خلفنا، فأخبرناه -أي قال: كيف أهلكم؟ كيف تركتموهم؟ كيف الذين جئتم من عندهم؟ - ثم قال عليه السلام: ارجعوا إلى أهليكم، فأقيموا فيهم وعلموهم). لم يقل: ابقوا عندي زيادة تتعلمون، بل راعى شعورهم، فهم شباب صغار فارقوا الأهل والأوطان والأحبة، قال: (ارجعوا إلى أهليكم) شفقة بهم وعليهم، ومراعاة لنفوسهم وشعورهم.

مراعاة الشعور عند التعليم والتعلم

مراعاة الشعور عند التعليم والتعلم التعليم والتعلم أيضاً فيه مراعاة للشعور، وعند سؤال العالم يجب أن يكون فيه مراعاة للشعور، ولذلك لا يأت السائل إلى عالم ويقول: أنت! أو يا هذا! ما الحكم في كذا؟ أو يقول: أجب على هذا السؤال، لا. بل لابد أن يراعي الإنسان شعور العالم ويحفظ له قدره، ويأتي بالألفاظ التي تشجعه على الإجابة، كغفر الله لك، وأحسن الله إليك، ويرحمك الله أجبني على كذا، وبيَّن لي كذا. يقول علي رضي الله عنه: (كنت رجلاً مذاءً)، أي يخرج منه المذي بسرعة وبكثرة عند ملامسة النساء أو الاجتماع بالزوجة مثلاً، وزوجته هي فاطمة الرسول بنت صلى الله عليه وسلم. والمذي هو الذي يخرج من الرجل عند مداعبة الزوجة، أو عند الجماع فالذي يخرج المني لا المذي. فكان علي رضي الله عنه لا يدري بحكم المذي هذا، وكان يغتسل حتى ولو كان الجو بارداً إذا خرج منه حتى تشقق ظهره. فأراد أن يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الحكم، ولو أنه سأله لشعر بالحرج منه، وهذا الشيء الذي يسأل عنه يخرج منه عندما يجلس علي مع بنت الرسول صلى الله عليه وسلم. فقال علي: (فأمرت المقداد بن الأسود أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم لمكان ابنته مني، فسأله، فقال: فيه الوضوء)، وفي رواية: (توضأ واغسل ذكرك -وفي رواية-: وأنثييك) فأصبح الحكم لمن خرج منه المذي أن يغسل ذكره وانثييه -ما أسفل الذكر- ثم يتوضأ، ويكون بذلك قد تطهر من خروج المذي. وجاء معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه إلى المدينة ولم يكن يعلم أن الكلام في الصلاة قد حرم، فعطس رجل من الناس، فقال له معاوية بن الحكم: يرحمك الله، فضرب الصحابة على أفخاذهم فقال: ما فعلت؟! وهو في الصلاة ولا يدري أن الكلام في الصلاة قد حرِّم، لأنه في أول الأمر كان الكلام في الصلاة مباح، كان الواحد يسأل الآخر ويقول: متى نزلت هذه الآية التي نسمعها الآن من الرسول صلى الله عليه وسلم؟ ثم نزل قول الله عز وجل: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] ومُنع الكلام. فلما سلموا من الصلاة وإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يرفق بهذا الرجل ويقول: (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي كذا وكذا) فعلمه بدون أن يشهر به، وبدون أن يقسو عليه. وكذلك الأعرابي الذي بال في المسجد، رفق به الرسول صلى الله عليه وسلم. وعطس رجل في مجلس ابن المبارك ولم يقل الحمد لله، فرموه الناس بأبصارهم، ينكرون عليه كيف لم يقل: الحمد لله، فتدارك عبد الله بن المبارك الرجل قبل أن تلتهمه أبصار الناس، فقال له: ماذا يقول الرجل إذا عطس؟ قال: يقول: الحمد لله، قال عبد الله بن المبارك: يرحمك الله. فانتهت المشكلة، جعله يقول: الحمد لله من غير إحراج، ورد عليه يرحمك الله. ومن الأمثلة -أيها الإخوة- التي تدل أيضاً على مراعاة النفوس في طلب العلم: ذُكر أن الأصمعي اجتمع بـ الخليل بن أحمد، وحرص على فهم العروض منه -العروض هي أوزان الشعر- فأعياه ذلك، فقال له الخليل بن أحمد يوماً -يريد أن يفهمه من غير أن يجرح شعوره-: قطِّع لي هذا البيت: إذا لم تستطع شيئاً فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع ففهم ما أراد، فأمسك عنه ولم يشتغل به.

مشاركة الناس أفراحهم وأحزانهم

مشاركة الناس أفراحهم وأحزانهم أحياناً قد يتهم رجل بأنه مذنب، ثم تتبين براءته من الذنب، فلابد من تعويضه عما وقع عليه، وأن يرفع الظلم الذي نزل به. مثل هذا حادثة زيد بن أرقم -في الصحيح - لما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بقول المنافق وتكذيبه للرسول صلى الله عليه وسلم، وجاء المنافق وحلف أنه ما قال هذا، والرسول صلى الله عليه وسلم أخذ بقول المنافق ولم يأخذ بقول زيد بن أرقم -وهو شاب صغير- فاتهم الناس زيد بن أرقم وقيل له: ما أردت إلا أن مقتك رسول الله وكذبك والمسلمون. قال: فوقع عليَّ من الهم ما لم يقع على أحد. قال: (فبينما أنا أسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، قد خفقت برأسي من الهم، إذ أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرك أذني، وضحك في وجهي، فما كان يسرني أن لي بها الخلد في الدنيا، ثم إن أبا بكر لحقني، فقال: ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وجاء عمر وسأل) حتى يراعوا نفس هذا الصحابي الصغير الذي كان متهماً ظلماً، ثم تبينت براءته، وأنزل الله تصديقه في القرآن: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} [المنافقون:1] إلى آخر الآيات. مشاركة الحزانى في أحزانهم: وفي يوم بدر عندما أسر الرسول صلى الله عليه وسلم سبعين من المشركين، سأل الصحابة، قال: (ما ترون في هؤلاء الأسارى؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله! هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فدية فتكون لنا قوة على الكفار، فعسى الله أن يهديهم للإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما ترى يا بن الخطاب؟ قال: قلت: لا والله يا رسول الله، ما أرى الذي رأى أبو بكر، إني أرى أن تمكنَّا فنضرب أعناقهم، فتعطي كل واحد قريبه من المشركين يقتله، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديده، وفي قتلهم مصلحة للمسلمين. قال عمر: فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلت، فإذا كان من الغد جئت، فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر يبكيان، فقلت: يا رسول الله! من أي شيء تبكي أنت وصاحبك، فإن وجدت بكاء بكيت -انظر قال عمر: أخبرني ماذا يبكيك لعلي أشارك في البكاء يا رسول الله! - وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما) تظاهرت بالبكاء حتى أشارككما بالشعور إلى آخر الحديث. فهذا ابن الخطاب يريد أن يشارك بالبكاء. وكذلك عائشة لما رميت في حديث الإفك، واتهمها المنافقون وسرت الإشاعة بين المسلمين، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يتبين له شيء، واعتزل عائشة، تقول عائشة: (وبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، ثم بكيت ليلتي المقبلة لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، وأبواي يظنان أن البكاء فالق كبدي، فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي، استأذنت علي امرأة من الأنصار، فأذنت لها فجلست تبكي). مع أن المشكلة ليست مشكلتها هي، لكن جلست تبكي من باب مشاركة عائشة في المصيبة. الشاهد: أن مشاركة الناس في أحزانهم مهمة، فلا يكون المرء في مصيبة وهو يبكي وأنت بجانبه تضحك، وتقول أمامه الطرائف والنكت. ولو أنه فرح، ماذا تفعل؟ تشاركه أيضاً في الفرح. كعب بن مالك في قصة تخلفه عن غزوة العسرة المعروفة والمشهورة لما تاب الله عليه وبشره شخص بصوت من بعيد، يقول: (فانطلقت أتأمم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتلقاني الناس فوجاً فوجاً يهنئونني بالتوبة -انظر الصحابة كيف يشاركون بعضهم البعض- ويقولون: لتهنك توبة الله عليك، حتى دخلت المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحوله الناس، فقام طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني، ووالله ما قام رجل من المهاجرين غيره، قال الراوي: فكان كعب لا ينساها لـ طلحة) لماذا لا ينساها لـ طلحة؟ لأنه قام من مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم ومشى واستقبل كعباً وهنأه وصافحه. عندما يتنافس اثنان في عمل، وواحد منهما ينجز العمل والثاني لا ينجزه، والذي لم ينجز العمل هو صادق يريد إنفاذ العمل، لكن فاز به الآخر، فلابد من مراعاة شعور هذا الرجل. كان اثنان من الصحابة - معاذ ومعوذ - يتسابقان لقتل أبي جهل، وأحدهما هو الذي قتله فعلاً بالضربة القاضية، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم لما أتياه بعد القتل، قال: (أيكما قتله؟ قال كل واحد منهما: أنا قتلته، فقال صلى الله عليه وسلم: هل مسحتما سيفيكما؟ قالا: لا. فنظر في السيفين، فقال: كلاكما قتله) أي: كلاكما شارك في قتله، لماذا؟ مراعاة للشعور، حتى لا يشعر الشخص الآخر أن ذاك هو الذي أدى المهمة وهو فشل. ولو رأيت إنساناً في غم، ماذا تحاول أن تفعل؟ تهون عليه، فالرسول صلى الله عليه وسلم في حادثة النفقة على نسائه، -والرسول صلى الله عليه وسلم ليس عنده النفقة- جلس مهموماً حزيناً، فدخل عمر بن الخطاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجده جالساً حوله نساؤه واجماً ساكتاً، فقال عمر في نفسه: (لأقولن شيئاً أضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! لو رأيت بنت خارجة -يقصد زوجته- سألتني النفقة، فقمت إليها فوجأت عنقها -أي: لو أتت وسألتني النفقة وأنا ليس عندي نفقة فوجأت عنقها، ما رأيك في هذا التصرف؟ - فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: هن حولي يسألنني النفقة). فانظر إلى عمر كيف فعل هذا التصرف حتى يخفف عن الرسول صلى الله عليه وسلم.

تفقد أحوال الناس ومعرفة حاجاتهم من تعابير وجوههم

تفقد أحوال الناس ومعرفة حاجاتهم من تعابير وجوههم شخص محتاج إلى شيء، لكن لا يستطيع أن يكلم الناس بما يريد، فهذا لابد من مراعاة شعوره. أحد الصحابة جاء وليس معه راحلة، فجعل يصرف بصره يميناً وشمالاً يريد شيئاً، فما تفطن له الناس، فقال عليه الصلاة والسلام: (من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له، قال الراوي: فذكر من أصناف المال ما ذكر، حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل شيء) حتى ظن الصحابة أنه لابد من توزيعها على المسلمين. فانظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف فطن لهذا الرجل، فهو يصرف بصره لأنه محتاج إلى شيء ولا يتكلم لأنه محرج، ولا يريد أن يعرف الناس. معرفة وجوه الناس: إذا كان فيه جوع أو مشكلة أو شيء يُعرف من وجهه، ولو كنت تتفرس في وجوه إخوانك المسلمين لعرفت من وجوههم ماذا يريدون. عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يقول: (آلله الذي لا إله إلا هو! إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت يوماً على طريقهم الذي يخرجون منه -أي: من بيوتهم إلى المسجد- فمر أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله، ما سألته إلا ليشبعني) أبو هريرة يقول: أنا استحي أن أقول لـ أبي بكر: أعطني طعاماً، لكن قال أبو هريرة: أسأل أبا بكر سؤالاً، فلعله يتفطن لي أثناء عرض السؤال أني جائع وأني منهك القوى، قال: (فسألته، فمر ولم يفعل) سأله وأجاب على السؤال ومشى، ولم يتفطن. (ثم مرَّ بي عمر، فسألته عن آية من كتاب الله تعالى، ما سألته إلا ليشبعني، فمرَّ ولم يفعل، ثم مرَّ بي أبا القاسم فتبسم حين رآني، وعرف ما في نفسي وما في وجهي -قبل أن يتكلم أبو هريرة بشيء، عرف من وجهه أنه جائع- قال: أبا هر، فقلت: لبيك يا رسول الله! قال: الحق، فمضى فتبعته، فدخل فاستأذن فأذن لي، فدخل فوجد لبناً في قدح) إلى آخر الحديث الصحيح. فكان عليه الصلاة والسلام يعلم من نبرات الصوت ومن الألفاظ ومن تعابير الوجه ما هي حالة المتكلم، ولذلك في الحديث الصحيح يقول عليه الصلاة والسلام لـ عائشة: (إني لأعلم إذا كنت عني راضية، وإذا كنت عليَّ غضبى -مراعاة الزوج لحال زوجته- أما إذا كنت عني راضية فإنك تقولين: لا ورب محمد -تحلفين برب محمد- وإذا كنت عليَّ غضبى قلت: لا ورب إبراهيم). ولو أن أناساً احتاجوا للسؤال وجاءوا إلى رجل عنده خير وأرادوا من الخير الذي عنده، فحتى لا يريق ماء وجوههم، لا ينتظرهم حتى يسألوه، لكن يقول: لعلكم جئتم تحتاجون شيئاً، ماذا تريدون؟ ولذلك لما جاء أبو عبيدة من البحرين على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة جياع، سمعوا بالخبر فجاءوا للرسول صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر، فتعرضوا له في الطريق، فما انتظر الرسول صلى الله عليه وسلم من الصحابة أن يقولوا له: سمعنا أن أبا عبيدة جاء من البحرين فأعطنا من المال الذي جاء به، لا. بل بادرهم هو، قال: (أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء من البحرين، فقالوا: أجل يا رسول الله، قال: فأبشروا وأمِّلوا ما يسركم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم) إلخ ولو أن شخصاً أخطأ وندم على خطئه، أو عمل عملاً خطأ، فيحاول المسلم أن يستر على أخيه المسلم، ولو أخطأ في حقك لا تدعُ عليه، وتقول: اللهم أهلكه، ولكن قل: اللهم اهده، اللهم يسر له أمره، اللهم اغفر له

من صور رحمة الرسول صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين

من صور رحمة الرسول صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين هذه قصة طريفة وصحيحة عن المقداد رضي الله عنه قال: (قدمت أنا وصاحبان لي وقد ذهبت أسماعنا وأبصارنا من الجهد -أي: من الجوع- فجعلنا نعرض أنفسنا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس أحد منهم يقبلنا -ليس عندهم شيء- فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم فانطلق بنا إلى أهله، فإذا ثلاث أعنز -جمع عنزة- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: احتلبوا هذا اللبن بيننا -احلبوه كل يوم واجعلوه في إناء ثم نقتسم اللبن، كل واحد يشرب نصيبه من هذا اللبن- قال: فكنا نحتلب فيشرب كل إنسان منا نصيبه، ونرفع للنبي صلى الله عليه وسلم نصيبه -أي: الرسول صلى الله عليه وسلم كان ينشغل عنهم ويتأخر، فيأتي في الليل فيأخذ نصيبه ويشربه- قال: فيجيء من الليل فيسلم تسليماً لا يوقظ نائماً ويسمع اليقظان) وانظر إلى مراعاة شعور النائمين، لعل أناساً لم يناموا بعد، فيسلم عليهم بصوت منخفض، إن كانوا أيقاظاً ردوا عليه، وإن كانوا نائمين لم يزعجهم الصوت، ثم يأتي المسجد فيصلي، ثم يأتي شرابه فيشربه. قال المقداد: (فأتاني الشيطان ذات ليلة وقد شربت نصيبي -وبقي نصيب الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يأت له بعد- فقال: محمدٌ يأتي الأنصار فيتحفونه، ويصيب عندهم، وما به حاجة إلى هذه الجرعة، فأتيت فشربتها، فلما أن وغلت في بطني، وعلمت أنه ليس إليها سبيل -لا يمكن أن تخرج- ندمني الشيطان -وهذا الشيطان لا يترك أحداً، لا إذا أطاعه ولا إذا عصاه- فقال: ويحك! ما صنعت؟! أشربت شراب محمد؟! فيجيء فلا يجده فيدعو عليك فتهلك، فتذهب دنياك وآخرتك؟ يقول المقداد: وعليَّ شملة إذا وضعتها على قدمي خرج رأسي، وإذا وضعتها على رأسي خرجت قدماي، وجعل لا يجيئني النوم -من هذا الندم ولوم النفس- وأما صاحبيَّ فناما ولم يصنعا ما صنعت. فقال: فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، فَسلّم كما كان يُسلّم، ثم أتى المسجد فصلى، فلما أتى شرابه كشف عنه فلم يجد فيه شيئاً، فرفع رأسه إلى السماء، فقلت: الآن يدعو عليَّ فأهلك. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: اللهم أطعم من أطعمني، واسق من سقاني -هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، حريص على المؤمنين، عزيز عليه ما عنتم، بالمؤمنين رءوف رحيم- فلما سمع المقداد هذا الدعاء قام إلى الأعنز المحلوبة وأخذ الشفرة وقال: أذبح له واحدة منها بدل اللبن الذي شربته، قال: فوجدتها كلها حُفَّل -كلها فيها لبن، معجزة- قال: فحلبت منه وجئت به إليه. فقلت: اشرب يا رسول الله! فشرب وشرب وشرب، قال: فلما رأيته قد شرب وشبع، ضحكت حتى استلقيت على قفاي من الضحك، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: إحدى سوءاتك يا مقداد! فقلت: يا رسول الله! صار من أمري كذا وكذا. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: هلا أيقظت صاحبيك ليشربا معنا الآن، قال: والله يا رسول الله! لا أبالي من شرب بعدك بعدما شربت يا رسول الله!). وهذه قصة صحيحة رواها مسلم وغيره.

من آداب النبوة تجاه مشاعر الآخرين

من آداب النبوة تجاه مشاعر الآخرين من مراعاة الشعور لو حصل شيء يخجل المرء، كيف يعالجه؟ مثال: يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:) إذا أحدث أحدكم في صلاته) وهذا موقف محرج، تصور شخصاً واقفاً في الصلاة، وخرجت منه ريح، أو أنه سجد وخرجت منه ريح، ماذا يفعل؟ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا أحدث أحدكم في صلاته فليأخذ بأنفه ثم لينصرف) لماذا؟ كأنه أصابه الرعاف، لأنه لو ما فعل كذا وخرج، يقول الناس: هذا فعلها في الصلاة، لكن عندما يخرج ويده على أنفه يظن الناس أن به رعافاً. والله الذي لا إله إلا هو! إن هذا لدين عظيم، ووالله الذي لا إله إلا هو لا تجدون هذا عند اليهود أو النصارى أو سائر أصحاب الديانات، بل ولا عند أصحاب الأدب أو من ليس عندهم أدب؛ لأن هذا شيء خاص بعظمة هذا الدين. وقد يقول قائل: ليتك ما علمتنا وما أعلنت هذا، فلو رأينا من يخرج من الصف نقول: أكيد أنه كذا وكذا، لكن بعض أهل العلم قال: لو رأيت رجلاً خرج من الصف وهو على هذه الحال هل تجزم أنه قد أحدث في الصلاة؟ لا. لأنه قد يكون رعف فعلاً، فما زال في الأمر احتمال، فمع هذا الحديث إلا أنك لا تستطيع الجزم بالحال التي هو عليها. في حديث صحيح آخر -لولا أن الصحابي قاله- قد تستغربون من لفظه، فيه لفظ بعض الناس يظنون أنه شَين في الحديث، فيقولون: كيف تقوله في المسجد؟! لكن لأنه حديث صحيح رواه الطبراني في الأوسط عن جابر، وهو في صحيح الجامع (نهى صلى الله عليه وسلم عن الضحك من الضرطة) قد يكون بعض الناس جالسين في المجلس، ثم يحدث شخصاً حدثاً فيه صوت، ماذا يفعل الناس؟ يضحكون، على ماذا؟ على هذا المسكين. هذا مسكين عنده غازات، لا يملك نفسه وليس متعمداً، عدل الجلسة فإذا به يخرج منه هذا: (فعلام يضحك أحدكم مما يفعل؟!)، أي: هذا الشيء قد يحدث منك ومن غيرك، فلماذا تضحك على أخيك المسلم؟ فاستمر في حديثك وكأنه لم يحدث شيء، وهذا من الآداب، حتى لا يُحرج الرجل القاعد، فلو ضحكوا عليه لعله يترك المجلس ويذهب. كذلك لو وقع شخص وقعة مشينة، أو تعثر فوقع ماذا يفعل الناس؟ يضحكون عليه، عن الأسودي قال: (دخل شباب من قريش على عائشة رضي الله عنها وهي بـ منى وهم يضحكون، فقالت: ما يضحككم؟ قالوا: فلان خر على طنب فسطاط فكادت عينه أن تذهب -هذا شخص في الحج تعثر بحبال الخيام ووقع، وكاد أن يجيء على عينه، فهؤلاء الشباب ضحكوا- فقالت: لا تضحكوا، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتبت له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة) انظر إلى رحمة الله، وجع في ضرس، أو صداع في الرأس، أو مغص في البطن، يكفر عنك السيئات، أين تجد هذا في أي دين؟ ومن هذا الباب أيضاً -عدم إحراج الناس- قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (لا تحدوا النظر إلى المجذومين)، وفي رواية: (لا تديموا النظر إلى المجذومين) أي: الذي به جذام أو برص أو أي تشوه في الخلقة، يقول عليه الصلاة والسلام: (لا تحدوا النظر إلى المجذومين) إذا رأيت أبرص أو من فيه بهاق أو مجذوماً لا تحدق فيه، لماذا؟ بعض الناس قد يقول حتى لا تنتقل إليك العدوى، وهذا ليس بصحيح، لكنَّ السبب حتى لا تحرجه. إذا جاء رجل مصاب بالبرص أو غيره فدخل وجلس، فجعل الناس ينظرون إليه. فماذا يحدث في نفسه؟ يحزن. ومن الغرائب أني ذات مرة قلت هذا الحديث في مسجد، وكان رجل يجلس وفيه هذا المرض، وليس أحد من الناس ينظر إليه فلما قلت هذا الحديث إذا بالذي بجواره ينظر إليه بنوع من الاحتقار، وكأن الواحد يقول: ما أصابني الذي أصابك، أين أنا وأين أنت؟ وهذا ابتلاء من الله، يمكن أنه الآن كُفّرت عنه سيئات كثيرة هي ما زالت على ظهرك. انظر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم عندما يرى أحد الصحابة قد أصابه الأذى. كعب بن عجرة جيء به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في الإحرام، قال: (فحُمِلتُ إليه والقمل يتناثر على وجهي، فقال عليه الصلاة والسلام ملطفاً عليه: ما كنت أرى أن الجهد بلغ منك ما أرى -أي: لم أكن أتوقع أن يصل بك الحال إلى ما أنت عليه الآن- أتجد شاة؟ قلت: لا، فنزلت هذه الآية {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196]-تخفيف من الله على عباده- فقال: صوم ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، نصف صاع طعام لكل مسكين، قال: فنزلت فيَّ خاصة، وهي لكم عامة، فقال عليه السلام: احلق رأسك واذبح أو صم أو أطعم) مع أنه في الإحرام لا يجوز حلق الشعر، لكنه مسكين القمل قد آذاه. من مراعاة الشعور أيضاً المرأة البكر، إذا جاء القاضي يسألها أمام الناس، يقول لها: ترضين بفلان؟ هل تتوقعون امرأة بكراً تقول أمام القاضي: نعم أرضى بفلان، وأمام العالم والناس؟ بل تسكت، كيف يعرف القاضي أنها موافقة؟ بالسكوت، ولذلك عليه الصلاة والسلام قال: (ولا تنكح البكر حتى تستأذن، قالوا: يا رسول الله! وكيف أذنها؟ قال: أن تسكت -وفي رواية-: إذنها صماتها) إذا سكتت فهي موافقة، وإذا رفضت ستقول: لا. فلماذا جعل الصمت؟ حتى لا تحرج هذه المرأة المسكينة، انظر إلى الإسلام كيف يراعي الشعور. مثلاً: الزوجة تريد أن تلعب. الرسول صلى الله عليه وسلم تزوج عائشة وهي صغيرة، والمرأة وهي صغيرة تحب اللهو واللعب في حدود الشرع، فلا يأت واحد يغلق عليها ويحجر، ويقول: ممنوع أن تلعبي أو تقومي أو تتحركي من مكانكِ، بل تغسلين، وتطبخين، وتكنسين فقط، وليس لك غير هذا. لا، لا يصلح هذا. فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يداعب نساءه، وكان يداعب عائشة، وأم سلمة، ويمازحهم، ويتكلم ويتلطف معهم، ومرة سابق عائشة في السفر، قال للصحابة: تقدموا، حتى لا يراهم أحد، فسابق عائشة. عن عائشة رضي الله عنها: (أنها كانت تلعب بالبنات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم -كانت عندها دمى تلعب بها- قالت: وكانت تأتيني صواحبي، فكنَّ ينقمعن من رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: يحدث نوع من الخجل من رسول الله صلى الله عليه وسلم- قالت: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسربهن إليّ) يدخلهنَّ على عائشة يلعبن معها. لو أنَّ ناساً مخلصين عملوا عملاً ولم ينجحوا، يقول عليه الصلاة والسلام: (ما من غزية أو سرية تغزو فتغنم وتسلم، إلا كانوا قد تعجلوا ثلثي أجورهم، وما من غزية أو سرية تخفق وتصاب إلا كَمُلَ أجرها) أخفقوا ولم ينتصروا فلهم الأجر كاملاً، والذين انتصروا وأخذوا المغانم لهم ثلثي الأجر. ويقول عليه الصلاة والسلام: (أيما مسلم رمى بسهم في سبيل الله فبلغ مخطئاً أو مصيباً فله من الأجر كرقبة أعتقها من ولد إسماعيل) فلو كان معك بندقية وجاءك أعداء المسلمين، وأطلقت عليهم، أصبت أو لم تصب كأن لك من الأجر مثل رقبة أعتقتها من ولد إسماعيل، حديث صحيح رواه الطبراني عن عمرو بن عنبسة. وكذلك يقول عليه الصلاة والسلام في مراعاة شعور الناس الذين يريدون أن يخرجوا للجهاد وما استطاعوا: (إن في المدينة رجالاً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم، حبسهم العذر) أي: أصبح لهم الأجر مع أنهم قاعدون، لكنهم لا يستطيعون الذهاب للجهاد. وفي مراعاة شعور التائب إذا تاب من الذنب، يقول عليه الصلاة والسلام: (إذا زنت أمة أحدكم فليقم عليها الحد ولا يثرِّب) أي: لا يعيِّبها، شخص عمل الذنب وتاب، لا تعيّره بالذنب تقول: اذكر كذا، لكن استر عليه، من ستر مسلماً ستره الله، ولا تعيبه أمام الناس أنه فعل الذنوب ما دام أنه تاب. وختاماً: أيها الإخوة: من عظمة هذا الموضوع ومن أهميته أنه ليس فقط مراعاة شعور بني الإنسان ونفسياتهم، بل إن الإسلام جاء بمراعاة شعور الحيوانات، تقول لي: كيف جاء الإسلام بمراعاة شعور الحيوانات؟ أقول لك: اسمع هذا الحديث الصحيح: (مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل واضعاً رجله على صفحة شاة -أي: أتى بشاة ووضع رجله على جنب الشاة- وهو يحد شفرته) تخيل المنظر: الشاة على الأرض وهو واضع رجله عليها، ويحد الشفرة (وهي تلحظ إليه ببصرها -وهذا شيء يقطع القلب حتى ولو حيواناً، فمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا الرجل في هذه الحالة- فقال: أتريد أن تميتها موتات -مقرعاً وموبخاً، تميتها قبل أن تموت- هلا حددت شفرتك قبل أن تضجعها) مراعاة للشعور حتى في البهائم، وهذا من رحمة الإسلام. فإذاً -أيها الإخوة- نقول: هذا الباب باب عظيم، وقل من ينتبه له من المسلمين اليوم، وكم من أناس جرحوا شعور إخوانهم بكلمات وتصرفات سيئة، وكم من أواصر تقطعت وأناس هجروا بعض ولم يسألوا عن بعض بسبب كلمة واحدة قالها واحد للآخر في المجلس، كلمة أدت إلى قطيعة سنوات، لماذا؟ لعدم الاعتناء بالشعور والنفوس. وفقنا الله وإياكم لأن نقوم بحقوق إخواننا، وأن نعتني بمشاعرهم، وأن يوفقنا وإياكم للقيام بحقوق الأُخوة الإسلامية، وأن يجعلنا إخواناً متحابين في سبيله، قائمين بشرعته، ونصر دينه، وأن يغفر لنا ولكم، وأن يدخلنا الجنة بحوله، وقوته، ورحمته رجالاً ونساءً وأولاداً، وصلى الله على نبينا محمد. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

اغتنام الأوقات بالطاعات

اغتنام الأوقات بالطاعات ذم الله في الكفار تضييعهم لأوقاتهم، ومدح الله المؤمنين لاستغلالهم لأعمارهم بالأعمال الصالحة. وهذه الأوقات تتفاوت في فضلها، وتتفاوت أيضاً الأعمال في أفضليتها وتقديم بعضها على بعض. وفي حياة السلف نماذج رائعة، وصور مشرقة، في استغلال الأوقات، وإنجاز الأعمال العظيمة. كما تحتوي هذه المادة أيضاً على تفصيل لأحكام جمع الصلوات في المطر، وبيان لبعض المخالفات في ذلك.

مسئولية اغتنام الأوقات

مسئولية اغتنام الأوقات إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن الله تعالى جعل الليل والنهار خلفةً لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [إبراهيم:33] وقد أنب الله تعالى الكفار لما أعطاهم العمر المديد، فلم يستفيدوا منه، فقال عز وجل: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر:37] ومدح المؤمنين، لأنهم استفادوا من أعمارهم، واغتنموا أوقاتهم، فقال عز وجل: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:24] فوبخ هؤلاء مع أنه عمرهم؛ لأنهم لم يستفيدوا من العمر، ومدح هؤلاء؛ لأنهم اغتنموا الأيام الخالية، اغتنموا العمر في طاعة الله تعالى، وهذا المبدأ مهمٌ للغاية- أيها المسلمون- أن يعلم الإنسان قيمة عمره (لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه)، وقال عليه الصلاة والسلام: (اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك) فتأمل! أنه يُسأل عن العمر عموماً، ويسأل عن الشباب خصوصاً؛ لأنها مرحلةٌ فيها نشاطٌ وقوةٌ وحيويةٌ، ففي أي شيء صرفها؟ وفيمَ قضاها؟ وكذلك يسأل عن الصحة؛ لأنها نعمة يستطيع أن يفعل فيها أكثر مما يفعل في حال المرض، ويسأل كذلك عن أوقات الفراغ -يا عباد الله- والنبي صلى الله عليه وسلم بين هذا المفهوم بقوله: (عجلوا الخروج إلى مكة، فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له من مرض أو حاجة)، وقال: (من أراد الحج، فليتعجل؛ فإنه قد يمرض المريض، وتضل الضالة، أو تعرض الحاجة) حديث صحيح.

الإسراع في اغتنام الأوقات

الإسراع في اغتنام الأوقات انتهاز الفرصة، واغتنام الأوقات قبل ورود المشاغل، وقبل الانشغال بالمرض، وقبل الانشغال بالفقر، وقبل الانشغال بالأولاد والزوجة، وقبل الانشغال بما سينزل به من الموت. ومع الأسف! فإن كثيراً من الناس لا يعرفون قيمة عمرهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس: الصحة والفراغ) فالحديث يدل على توفر أمرين: الوقت، وقوة الجسد الوقت الذي يمكن ملؤه، وقوة الجسد المعينة على العمل، وفترة الشباب تكون زاخرةً بهذين الأمرين. عباد الله: ونحن مقبلون على موسم الطاعة، وعلى شهرٍ عظيمٍ، وسيكون فيه إجازةٌ من المدارس، فماذا سيفعل الشباب ويفعل الناس عموماً في هذا الموسم القادم؟ إذا علمنا أنه لا يتحسر أهل الجنة على شيء إلا على ساعةٍ مرت بهم في الدنيا لم يذكروا الله عز وجل فيها، فإذا قارنا هذا بالساعات الطوال التي تضيع في غير ما فائدة، بل إنها تقضى في المعاصي، ولا يبقي كثيرٌ من الناس لربهم وعبادته سبحانه إلا ساعة إذا اكتملت، هذا إذا اكتملت، وأهل الجنة يتحسرون على ساعة مرت لم يذكروا الله تعالى فيها، وكثيرٌ من الناس في هذا الزمان لا يتعدى ذكرهم لله في اليوم ساعة، وبقية الأوقات في الأشغال والملاهي والمحرمات، وهنا ينبغي أن يقف العاقل مع نفسه وقفةً يتذكر فيها ربه، ويعد العدة لما بعد الموت. عباد الله: ينبغي اغتنام كل فرصة، واغتنام العمر حتى آخر لحظة، وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألَّا تقوم حتى يغرسها، فليفعل) رواه الإمام أحمد. في هذا الحديث الصحيح انتهاز الفرصة في عمل صالح في آخر لحظة، ولو كان الإنسان لم ير ثمرته، فسوف يرى ثمرته في الآخرة، ولو لم يجدها في الدنيا. عباد الله: إن المشكلة تكمن في عدم معرفة قيمة الوقت الوقت سريع التقضي أبي التأتي، لا يرجع مطلقاً، والعاقل هو الذي يفعل ما يغتنم به وقته، قال بعض أهل العلم: ينبغي للإنسان أن يعرف شرف زمانه، وقدر وقته، فلا يضيع منه لحظة في غير قربة، ثم ليس فقط انتهاز العمر بالطاعات، واغتنام الأوقات بالعبادات، وإنما يقدم الأفضل فالأفضل من القول والعمل، اغتنام الوقت في أفضل ما يمكن مسألة تحتاج إلى فقه؛ لأن مسألة التفاضل بين الأعمال لا يمكن التوصل إليها إلا من خلال الأدلة الشرعية، ولذلك فلا بد أن يكون للمسلم علمٌ بالأعمال التي نص الشارع على فضلها، وأنها أفضل من غيرها. ولذلك نجد في بعض الأحاديث: (أفضل الأعمال إيمانٌ بالله وحده، ثم الجهاد، ثم حجةٌ برة) (أفضل الأعمال الصلاة على وقتها، ثم بر الوالدين، ثم الجهاد في سبيل الله) وهكذا تتفاوت الأعمال في الفضل كما تختلف بالنسبة للأشخاص في ظروفهم وأحوالهم وإمكاناتهم، وكذلك فإنه قد يكون الأفضل لشخصٍ ما ليس لآخر، فالأذان لمن كان حسن الصوت، وقيادة عسكر الجهاد لمن كان له خبرةٌ وقوةٌ، والصدقات للأغنياء، وتعليم الناس لأهل العلم، والشفاعة الحسنة من صاحب الجاه، وغير ذلك من الأعمال التي تعتمد على إمكانات الأشخاص، ثم إنه قد لا يكون هناك من يقدر على هذا العمل ويستطيع القيام به إلا هو، فيتعين عليه. وكذلك أن يكون العمل أنفع، فكلما كانت دائرة النفع أشمل، كلما كان أفضل، ولذلك كان نفع المسلم لأخيه المسلم من قضاء دين، أو تعليم علم، أو سد جوعة ونحو ذلك من أفضل القرب؛ حتى ربما فاق الاعتكاف في المسجد النبوي شهراً. وكذلك فإنه إذا عرف أن بعض الأعمال أفضل لمشقتها، فإنه يقدم عليها كما جاء في فضل إسباغ الوضوء على المكاره، والمشي في الظلم إلى المساجد، والجهاد في سبيل الله، ولذلك فإن احتساب الأجر في التصدي لأهل البدع وأعداء الدين فيه أجرٌ عظيمٌ؛ لأنه يترتب عليه مشقة شديدة وتضحية، والمؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من الذي لا يخالطهم ولا يناله شيء من أذاهم. عباد الله: حتى القرآن وهو كلام الله تعالى فيه آيات وسور بعضها أفضل من بعض، والأذكار الشرعية بعضها أفضل من بعض، فالحمد لله أفضل من سبحان الله، والكل واردٌ، وبعضه محددٌ في مناسبات، ولكن إذا جئت للأذكار المطلقة، هنا يظهر الفقه في انتهاز الوقت في العبادة والذكر التي هي أفضل من غيرها.

استغلال الأوقات فيما ينفع قبل ازدحام الأعمال

استغلال الأوقات فيما ينفع قبل ازدحام الأعمال عباد الله: إن على المسلم أن ينظر في أي شيء يصرف وقته، قال بعض أهل العلم: رأيت عموم الخلائق يدفعون الزمان دفعاً عجيباً، إن طال الليل فبحديث لا ينفع، أو بقراءة كتاب وسمر قراءة كتاب في أي شيء؟ فيما لا ينفع ككثيرٍ من القصص التافهة، والمجلات الماجنة، وإن طال النهار فبالنوم، وهم في أطراف النهار على دجلة، أو في الأسواق، هذه ملاحظة أحد علماء العراق في زمانه، قال: تراهم في أطراف النهار على دجلة -كما يضيع كثير من الناس أوقاتهم على الأرصفة والشواطئ والصف في الأسواق، تضيع الأوقات عمرٌ يهدر، شهورٌ وسنواتٌ تجري وهو لم يفعل غير الصف في الأسواق، والجلوس في الطرقات، وإضاعة الأوقات في الملاهي والمحرمات، ليتهم كان صرفهم لوقتهم في شيء لا يضرهم! ولكنه يصرفونه فيما يضرهم ولا ينفعهم- قال: وهم في أطراف النهار على دجلة، أو في الأسواق، فشبهتهم بالمتحدثين في سفينة وهي تجري بهم وما عندهم خبرها. لماذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قيل وقال، وكثرة السؤال، ونهى عن سؤال ما لم يقع؟ لأجل حفظ الوقت، فيكون حال الجاهل بحق ربه ومصلحة نفسه من يضيع أوقاته في مثل هذه الترهات، وكثيرٌ ما هم! ونحن قادمون على إجازة في شهرٍ كريمٍ، فما هي الخطة؟ وما هو المنهج؟ وماذا كان الإعداد. عباد الله! إن العوارض كثيرة، والأشغال متعددة، وتتزاحم الهموم، وينشغل التفكير، ويتكدر صفاء الذهن بمشكلات الحياة الكثيرة، ولذلك لا بد من اغتنام الأوقات قبل عروض المشاغل، والإنسان لا يدري ماذا تخبئ له الأيام، وبعض الناس قد انشغل بمرض سنوات طويلة أقعده وآلمه، وصرفه عن سعيه ونشاطه، ولا يظنن الشاب أن الأمر سيستمر على ما هو عليه. أترجو أن تكون وأنت شيخٌ كما قد كنت أيام الشبابِ لقد كذبتك نفسك ليس ثوب دريسٌ كالجديد من الثيابِ وينبغي على الطالب أن يغتنم وقته قبل أن يصبح موظفاً، وكذلك من لم يتزوج ينتهز وقته قبل أن ينشغل بالزواج والأولاد وهكذا تشغل الحياة الدنيا من فيها، فالسعيد العاقل من انتهز الوقت وعرف قيمته. عباد الله: تمر بنا إجازات كثيرة، وعُطلٌ عن الأعمال في آخر الأسبوع وغيرها، ففي أي شيء تقضى؟ وفي أي شيء تصرف؟ والمسألة تحتاج إلى إمام يدفع لقضاء الأوقات في الطاعات.

نماذج ممن عرفوا فضائل الأوقات

نماذج ممن عرفوا فضائل الأوقات بماذا انتهز عبد الله بن عمرو بن العاص وقته؟ واغتنمه في أي شيء؟ جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إن لي قوة- شاب عندي قوة- وذكر له الصوم، فقال عليه الصلاة والسلام: (صم من كل عشرة أيامٍ يوماً ولك أجر التسعة، فقال: إني أقوى من ذلك، قال: فصم من كل تسعة أيامٍ يوماً ولك أجر الثمانية، فقال: إني أقوى من ذلك. قال: فصم من كل ثمانية أيامٍ يوماً ولك أجر تلك السبعة، قال: إني أقوى من ذلك، قال: فلم يزل به حتى قال: صم يوماً، وأفطر يوماً، فقال: إني أطيق أفضل من ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا أفضل من ذلك) فكان ينتهز عمره وفرصة شبابه في الصيام. كيف تعود الأعمش رحمه الله على ألا تفوته تكبيرة الإحرام ستين عاماً؟ لقد كان العلماء يعرفون فضائل الأوقات. والبخاري -رحمه الله- كان يتمثل بهذين البيتين: اغتنم في الفراغ فضل ركوعٍ فعسى أن يكون موتك بغتة كم صحيحٍ رأيت من غير سقمٍ ذهبت نفسه الصحيحة فلتة وفعلاً فقد توفي البخاري رحمه الله بالسكتة وموت الفجأة مثلما كان يقول في هذين البيتين، ولكن: ماذا ترك محمد بن إسماعيل رحمة الله عليه؟ ترك هذا الكتاب العظيم الذي هو أصح كتابٍ بعد كتاب الله، ومنه ينهل الواردون، ويأتي المتعطشون للعلم، ويستدل بأحاديثه في الخطب والدروس والمواعظ، فكم جاء لـ أبي عبد الله في قبره من حسنة، والله يعلم شأن عباده. عباد الله: إن الله لما أمر نبيه بالعبادة، أو بالصلاة، أتبع الصلاة بعمل آخر، قال: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح:7 - 8] والمؤمن يخرج من عبادة ليدخل في أخرى، وهذا هو الاغتنام الحقيقي، فتحسن نيته حتى يكون نومه وأكله وشربه ونكاحه عبادة إذا حسنت النية، وابتغى بذلك وجه الله عز وجل.

توزيع الأوقات في حياة السلف

توزيع الأوقات في حياة السلف عباد الله: كان السلف -رحمهم الله- أوقاتهم موزعة بين العبادة والتعلم والحفظ والتدريس والتصنيف والإفتاء، وربما كان يقرأ عليهم في الطريق، ويقرءون هم في الطريق، وكان الخطيب البغدادي رحمه الله يمشي وفي يده جزء يطالعه، وكان جد شيخ الإسلام إذا دخل المغتسل، أمر قارئاً يقرأ ويرفع صوته ليستفيد من العلم وهو يغتسل، وكانوا يأكلون الطعام نيئاً أحياناً لضيق الوقت، ويختارون سفَّ الكعك، لأنه أسهل وأشد يسراً في البلع، ولا يأخذ وقتاً في المضغ، وربما تعلم واحدٌ منهم المسألة وهو على فراش الموت يحتضر، وقال عمر رضي الله عنه وأرضاه: [تفقهوا قبل أن تسودوا] لأن السيادة لها ضريبة في الشغل والانشغال، فإذا لم يدخل فيها المرء بعلم وفقه، فأي شيء يفعل؟ وكيف يقود؟

التحول الكبير في خلافة عمر بن عبد العزيز

التحول الكبير في خلافة عمر بن عبد العزيز عباد الله: تبقى مسالة معرفة قيمة الزمن وشرف الوقت، فإذا خلصت النية فالله يبارك، هذا عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- في سنتين ونصف فقط أحدث انقلاباً في حياة الناس، صار الناس في غاية الشغل في العبادة والطاعة، وكانوا في عهد من قبله يسأل بعضهم بعضاً عن القصور والبساتين والعمائر والزراعات والتجارات، وفي عهد عمر صار الواحد يسأل الآخر عن الختمة والحجة والعمرة والطاعة، فالإنسان يمكن أن يفعل لنفسه ولغيره من النفع العظيم في وقت يسير إذا خلصت النية، وكذلك ينبغي الانتباه (لسوف) ومرض (التسويف)، كما قال بعض السلف: "كلما جاء طارق الخير، صرفه بواب لعل وعسى"، فينبغي أن يسارع المسلم الآن، لأن قولة: (عسى وسوف) لا تغني شيئاً، بل ربما سوف وفاتت عليه الفرصة، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعمر أوقاتنا بالطاعات، وأن يجعلنا من القائمين بالعبادات، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

صور مختلفة من الاستعداد للشهر الكريم

صور مختلفة من الاستعداد للشهر الكريم الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، وصلى الله وسلم على النبي الأمين، محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه أجمعين. عباد الله: أمران أنبه عليهما في هذا الاجتماع، لم يبق على رمضان إلا أيام قليلة، فينبغي إعداد العدة لقدوم الشهر الكريم، وإذا كان التجار يستعدون بتكديس المواد الغذائية، وأهل المعاصي يستعدون بالسهرات المحرمة والفوازير والمسابقات القائمة على الميسر والقمار الشائعة بين الناس، وغيرهم من أهل الدنيا في لهو ولعب، واستعداداتهم للشهر دائرة بين الانشغال بالمباحات، أو الإعداد للمحرمات، فينبغي للمسلم أن يعد العدة لهذا الشهر الكريم، فأما من كان على ثغرة في تعليم الناس، فينبغي أن يعد العدة فيما يقرأ عليهم، وأي شيء يذكرهم به، وأن يقرأ في فتاوى الصيام وأحكامه ليكون على استعداد لتعليم غيره ونفعه بما ينبه به غافلاً، ويعلم به جاهلاً، وهذه مسألة في غاية الأهمية، وهي تنبع من الشعور بالمسئولية، وحمل الأمانة التي كلف الله بها أهل هذا الدين.

أحكام قضاء الصيام

أحكام قضاء الصيام ننبه من كان عليه قضاء من رمضان ماضٍ بأن يسارع إلى القضاء قبل دخول رمضان الجديد؛ لأنه لا يجوز للمسلم أن يؤخر ما عليه من الدين لله تعالى من رمضان الماضي حتى يدخل رمضان الجديد، وإنما ينبغي عليه أن يقضي قبل ذلك، ولو كان له شغلٌ أخر قضاءه إلى شعبان كما كانت عائشة -رضي الله عنها- تفعل في انشغالها بشأن زوجها صلى الله عليه وسلم حتى تجعل قضاءها في شعبان، فإنها الفرصة الأخيرة، فننبه -وبالذات- النساء في البيوت اللاتي عليهن قضاء من نفاس، أو رضاع أشغلهن في رمضان الماضي للمسارعة في القضاء، وأما إن اتصل العذر، فكانت في حمل ونفاس ورضاع حتى دخل رمضان الجديد ولم تمكن من القضاء، أو المريض الذي اتصل مرضه من رمضان الماضي حتى دخل رمضان الجديد، فليس عليه شيء غير القضاء فيما يستقبل إذا زال العذر وتمكن منه. كما أنبه- أيها الإخوة- إلى أنه لا يجوز تأخير القضاء بعذر الاختبارات والامتحانات، فإنها ليست بعذر؛ لأن قضاء الصوم أعلى درجةً بكثير من اختبارات الدنيا وامتحاناتها، فلا يكون ذلك عذرٌ، فتنبه يا ولي أمر الطالب والطالبة، وكذلك فإننا نسأل الله التوفيق للأبناء، وأن يجعل سعيهم في طاعته.

ضوابط الجمع بين الصلوات

ضوابط الجمع بين الصلوات عباد الله: أمرٌ آخرٌ في قضية الجمع في المطر وقد سبق التنبيه على عدم التنازع وتحويل المساجد إلى ساحات للصراع في الآراء، ورفع الأصوات والصياح، والاختلاف بين المسلمين، حتى لو أن كافراً يريد أن يسلم واطلع على بعض ما يدور في جماعة مسجد من المساجد في هذا الشأن، لربما صده ذلك عن ديننا، فلا يجوز رفع الأصوات في المساجد والصياح والاختلاف فيها، وقد غضب النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى شيئاً من ذلك، فاجتنبوا ذلك يرحمكم الله، والمسألة واضحة فيما ذكره أهل العلم في الجمع في المطر من استمرار نزوله مطراً حقيقاً يبل الثياب، فيه مشقة وحرج في قدوم الناس إلى المسجد، فهذا المطر الذي يجمع فيه- وقد ذكر علماؤنا هذه المسألة- وأنقل لكم هذه الفتوى التي صدرت من سماحة الشيخ ابن باز في هذه المسألة: يجب على المسلم أداء الصلوات الخمس في أوقاتها التي حددها الله لها، وبينها رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله وبفعله، قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء: 103] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (صلِّ الصلاة لوقتها) فلا يجوز فعل الصلاة في غير وقتها لا قبله ولا بعده إلا لمن يجوز له الجمع بين الصلاتين لعذر شرعي يبيح له الجمع، كالسفر الذي تقصر فيه الصلاة، والمرض الذي يحصل فيه على المريض بترك الجمع مشقة، وفي حالة المطر والوحل. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: لأن فعل الصلاة في وقتها فرض، والوقت أوكد فرائض الصلاة، كما أن صيام شهر رمضان واجب في وقته ليس لأحد أن يؤخره عن وقته، لكن يجوز الجمع بين الظهر والعصر بـ عرفة، وبين المغرب والعشاء بـ مزدلفة باتفاق المسلمين، وكذلك يجوز الجمع بين صلاة المغرب والعشاء، وبين الظهر والعصر عند كثيرٍ من العلماء للسفر والمرض ونحو ذلك من الأعذار، وأما تأخير صلاة النهار إلى الليل، وتأخير صلاة الليل إلى النهار فلا يجوز لمرض، ولا لسفر، ولا لشغل من الأشغال، ولا لصناعة باتفاق العلماء، بل قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: [الجمع بين صلاتين من غير عذر من الكبائر] انتهى كلام شيخ الإسلام رحمه الله. وبناءً على ذلك فالذين يسارعون إلى الجمع لمجرد وجود غيم، أو مطر خفيف لا يحصل منه مشقة، أو لحصول مطر سابق لم ينتج عنه وحلٌ في الطرق، فإنهم قد أخطئوا خطأً كبيراً، ولا تصح منهم الصلاة التي جمعوها إلى ما قبلها؛ لأنهم جمعوا من غير عذر، وصلوا الصلاة قبل دخول وقتها. وأيضاً: لا يجوز الجمع بين الجمعة والعصر، لأن ذلك لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابه رضي الله عنهم، ولأن الجمعة ليست من جنس العصر، فمن جمع بين الجمعة والعصر فعليه أن يعيد صلاة العصر لكونه صلاها قبل وقتها لغير مسوغ شرعي. فإذاً إذا كان مطراً واضحاً يبل الثياب ويحصل منه مشقة ولو لبعض الناس، لأن بعض المجاورين للمسجد قد لا يحصل له شيء، فعند ذلك تُجمع الصلاتان. وينبغي -يا عباد الله- كذلك الائتلاف والاتفاق وعدم الاختلاف، وبيان كلام أهل العلم في المسائل، وليس الجمع شهوة، المسألة ليست كما قال أحد الناس، قال: اجمعوا أين نجد هذه الفرصة؟ ليست المسألة بيعاً وشراءً، وليست عرضاً تجارياً، المسألة مسألة صلاة ودين، ولذلك ينبغي أن يكون الجمع صحيحاً، ولنعلم أيضاً: أن حال الأحياء والمدن يختلف، فبعض المساجد قد يحيط بها مستنقعات من المياه حتى لو توقف المطر يخوضون في الوحل والماء، فهؤلاء يجمعون، وآخرون ليس عندهم هذا العذر لا يجمعون، وبعض المخططات السكنية فيها خوض في الوحل والطين يجمعون ولو توقف المطر، وغيرهم لا يجمع، لأنه ليس عندهم عذر الجمع، وقد يكون المطر كثيفاً في طرف البلد خفيفاً في الطرف الآخر أو منقطعاً، فينبغي مراعاة كل مسجد وكل حي بحسبه. وكذلك فإنه ينبغي تعلم دين الله تعالى، فإن بعض الناس بلغ من جهلهم أنهم جمعوا في المطر في البلد وقصروا!! وهذا من تقصيرهم وجهلهم، فأين سمعت بقصر صلاة في البلد وليس قصرٌ إلا في السفر؟! ومن فعل ذلك، فعليه التوبة والإعادة، وأحياناً يكون الإمام من الأعاجم، فيتسلط عليه من في المسجد، ويلزمونه بجمع ليس فيه جمع شرعي، ويكون بجهله ربما يؤدي إلى قصر الصلاة، وهم بجهلهم لا ينبهونه، ويخرج الناس من المسجد ويتفرقون ولم يقضوا واجب الله تعالى، ولذلك ينبغي الحرص على العلم، ومعرفة أقوال أهل العلم وتحقق العذر، ولا بأس إذا كان العذر قائماً أن يذهب إلى مسجد فيه جمع ليجمع ما دام العذر قائماً، وأما إذا لم يكن قائماً، فلا يجمع ولو معهم، ولا يصلي معهم ولو نافلة؛ لئلا يكون مقراً لهم على حالهم، وينبغي أن تكون النصيحة بالحسنى فيما بينه وبين إمامه وبين المصلين وبعضهم، وكونوا عباد الله إخواناً. نسأل الله تعالى أن يرزقنا الفقه في دينه والعمل بكتابه. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

اغتنم فراغك قبل شغلك

اغتنم فراغك قبل شغلك من أعظم النعم التي أنعم الله بها علينا هي نعمة الزمن، التي ما استطاع كثير من المسلمين أن يستغلوها في مرضاة الله عز وجل، وخيرٌ للمسلم أن يقدم له أعمالاً؛ لكي يلقى الله عز وجل بها، ولكي تكون له نوراً في قبره؛ لأنه لا يعلم ماذا قد قدر الله عليه من أمراض، وغيرها من الأسباب التي تشغله عن طاعة الله عز وجل.

الزمن نعمة من نعم الله

الزمن نعمة من نعم الله إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. الحمد لله القائل في كتابه، ممتناً على عباده: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:33 - 34]. فإذاً: هذه الشمس وهذا القمر، وهذا الليل، وهذا النهار من نعم الله، ولو لم يكن هناك ليلٌ ولا نهار، ولا شمسٌ ولا قمر، ولم يكن هناك زمن يقضي فيه العباد أعمالهم، فكيف سيكون الحال؟ ولذلك كان هذا الزمن نعمة من نعم الله، جعله الله ليستفيد منه العباد: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} [الفرقان:62]. جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، ولذلك لما كان هذا الزمان نعمة مسئول عنها العبد، كانت محاسبة الله للكفار شديدة، فإن الله يؤنبهم يوم القيامة، لما أعطاهم العمر المديد ففرطوا فيه قال الله عز وجل: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر:37]. تأنيب، أولم نعمركم في الدنيا؟! ولكن ليست هناك منفعة، ولا تذكر أحد، وجاءكم النذير، ويمدح الله المؤمنين عندما يدخلون الجنة فيقول: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:24]. يعني: أنهم استغلوا الأيام وصاموا فيها، وعبدوا الله فيها، ولذلك يوم القيامة في الجنة كوفئوا على هذا الاستغلال للوقت: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:24] أي: في الدنيا. عمر الإنسان ما هو؟ هو لحظات دقائق ساعات أيام شهور سنوات، وهذه الشجرة، يا ابن آدم! إنما أنت لحظات، فإن ذهبت لحظة ذهب بعضك حتى يذهب الإنسان كله، ولذلك الله عز وجل عندما يعطي العبد نعمة يسأله عنها: (لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه) حديثٌ صحيح.

حديث: "اغتنم خمسا قبل خمس"

حديث: "اغتنم خمساً قبل خمس" وحتى لا يشعر العباد بالبخس، ولا تفوتهم الفرصة قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم -ويجب أن نشعر أن هذا الحديث موجه إلى كل واحدٍ منا- قال: اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك؛ لأن الشباب فيه من الطاقة والحيوية ما ليس في الهرم، وصحتك قبل سقمك؛ قبل أن يأتيك مرض يشغلك، وغناك قبل فقرك؛ أي: قبل أن تأتي حاجة أو مصاريف كثيرة تقضي على المال وتفتقر، فاغتنم المال الذي بين يديك وتصدق منه قبل أن تفتقر، فأنت لا تدري ماذا سيحدث لك في المستقبل، وفراغك قبل شغلك؛ فكل الفراغ الذي يحصل لك في الدنيا اغتنمه، فقد تنشغل في الدنيا، وقيل: اغتنم فراغك في الدنيا قبل أن تنشغل بالعذاب في الآخرة- وحياتك قبل موتك، فعلى وجه الإجمال اغتنم حياتك قبل موتك، وهو حديثٌ صحيح. وسنركز أيها الإخوة على واحدة من هذه الخمس وهي: اغتنم فراغك قبل شغلك: أريد أن أسألكم سؤالاً: حديث: (اغتنم خمساً قبل خمس، شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك) هذا الحديث يدور على عدة أشياء. أليس بعض هذه الخمس يدخل في بعض؟ يعني: فراغك قبل شغلك يدخل في حياتك قبل موتك، والوقت هذا واحد، وثانياً: الصحة، وثالثاً: المال. لأن الصحة من الشباب، والمال منصوص عليه في الحديث، الواحد منا إذا كان عنده وقت وصحة ومال، استطاع أن يفعل كل شيء، يعني من الناس من يكون صحيحاً لكنه مشغول بالكسب، ومن الناس من قد يكون متفرغاً ليس عنده شغل، لكنه مريض معلول أليس كذلك؟ لكن الشخص الذي عنده صحة وعنده وقت، يستطيع أن يكسب مالاً ويستطيع أن يعمل أشياء كثيرة جداً، فعنده الآن أهم مسألتين في النعم بعد نعمة الإيمان وهما: الصحة والوقت، الوقت الذي هو الفراغ، لذلك جاء النص عليهما في الحديث الآخر: (نعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس؛ الصحة والفراغ) ولذلك قال العلماء: أهم نعم الله عز وجل على العبد ثلاث: الإيمان والصحة والفراغ. فأن يجد إيماناً وصحةً وفراغاً فهو رأس المال كله، ومعنى مغبون فيهما كثير من الناس، الغبن: أن تشتري سلعة بأكثر من قيمتها الحقيقية، أو تبيع سلعة بأقل من قدرها، هذا غبن أيضاً، وأكثر الناس مفرطون في الصحة والفراغ، ولذلك فهم مغبونون أشد الغبن، وهناك قلة من الناس لم يغبنوا، كما نص عليه الحديث قال: (نعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس) يعني: هناك قليل تلافوا ذلك الغبن، وهؤلاء القليل هم الفائزون. استغلال الوقت مهم جداً لدرجة أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (ليس يتحسر أهل الجنة على شيء إلا على ساعةٍ مرت بهم لم يذكروا الله عز وجل فيها). يتحسرون على ساعة، والساعة لحظة، أي: مدة من الزمن، يقال: للفترة القصيرة من الزمن في لغة العرب ساعة، لا يتحسر أهل الجنة على شيء، إلا على ساعةٍ مرت بهم لم يذكروا الله عز وجل فيها، ويبلغ مقدار أهمية استغلال الوقت في الإسلام مبلغاً عجيباً لدرجة أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا تقوم حتى يغرسها فليفعل). يعني: استغل كل شيء، لو قامت القيامة وتستطيع أن تغرس فسيلة في يدك، فاغرسها ثم مت، وهذا الوقت -أيها الإخوة- من نعم الله عز وجل، وله ميزات عجيبة، فهو سريع التقضي أبي التأتي، يذهب بسرعة ولا يمكن أن يرجع، وهو كالسيف إن لم تقطعه قطعك، بعض الناس يقول: هذا عنده غيرة، وهذا ليس عنده غيرة، هناك غيرة مهمة جداً، وهي الغيرة على الوقت، الواحد قد يغار على عرضه، ويغار على أهله، لكن هناك غيرة مهمة، وهي الغيرة على الوقت الذي يذهب ويهدر، فإذا صارت هناك غيرة على هذه الأوقات المهدرة حصل كمالٌ عظيم للمسلم، قال صاحب صيد الخاطر: ينبغي للإنسان أن يعرف شرف زمانه وقدر وقته، فلا يضيع منه لحظةً في غيره قربة، ويقدم الأفضل فالأفضل من القول والعمل، ولتكن نيته في الخير قائمة، فإذا علم الإنسان وإن بالغ في الجد بأن الموت يقطعه عن العمل، عمل في حياته ما يدوم له أجره بعد موته، فإن كان له شيءٌ من الدنيا -يعني عنده أموال مثلاً- وقف وقفاً وغرس غرساً يأكل منه الطير والحيوان فيكون له أجر- الناس الذين عندهم مزارع وبساتين، وعندهم حدائق في بيوتهم، لو نووا بهذا الغرس أنه لله، فإذا أكل منه طير أو حيوان فإنهم يؤجرون على نيتهم هذه؛ وقف وقفاً أو غرس غرساً وأجرى نهراً، ويسعى في تحصيل ذرية تذكر الله بعده، فيكون الأجر له.

أهمية الناس الذين ينجبون الأولاد

أهمية الناس الذين ينجبون الأولاد الذين يعملون بتحديد النسل ويقولون: نحن لا نريد إنجاب أطفال، ويكفي اثنان أو ثلاثة هؤلاء يفوتهم أجر كبير، لماذا؟ لأن الإنسان لو كان عنده سبعة أولاد أخيار، أو بعضهم، فإنه يؤجر على هؤلاء؛ لأن كل واحد من الأولاد سيصلي ويحج ويصوم ويدعو ويطلب العلم، ويذكر الله، والأب له مثل أجورهم إذا كان هو الدال على الخير وربَّى أولاده على هذا، وبعض الآباء يتركون أولادهم في الشوارع ثم يأتي الدعاة إلى الله فيلتقطونهم من الشوارع ليدخلوهم في معترك الحياة الإسلامية الصحيحة، ثم بعد ذلك نقول: الأب يؤجر لأن ولده أصبح مستقيماً، وهو لم يتعب في تربيته ولم يُجهد نفسه في أن يصبح ابنه كذلك، وهذا أجره ليس لأبيه، وإنما للداعية الذي اهتدى على يديه. عندما يربي الأب ابنه تربية إسلامية؛ مثلاً: لو عندك سبعة أولاد تربوا تربية إسلامية على يديك فلو متّ فإن كل عمل صالح يعملوه فإن لك مثل أجره، من غير أن ينقص من أجورهم شيء. عرفنا الآن نعمة أو أهمية أن يكون للإنسان أولاد، وعملية الإنجاب لها فوائد مثل تكثير نسل المسلمين، وغيرها من الفوائد الكثيرة التي تنشأ من الإنجاب، وهؤلاء الغافلون المتأثرون بدعوات تحديد النسل، يعملون عملهم في أوساط المسلمين، من يصنف كتاباً -إن كان من أهل العلم- فإن تصنيفه هو ولده المخلد، أما من ينجب ولداً يعيش مثلاً ستين سنة ومات، كان هذا العمل الصالح في هذه الستين سنة فقط، ويكون الأب له نصيب منه بحسب جهده، لكن العالم عندما يصنف كتاباً فإنه يستفاد من الكتاب مئات السنين، فإن تصنيف العالم ولده المخلد، ونحن الآن عيال -مثلاً- على كتاب فتح الباري، عيال على كتب علماء السلف، عيال على صحيح البخاري عيال على صحيح مسلم، وعلى مسند أحمد، وعلى كتب أهل الحديث، وعيال على مصنفات شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه، فكل حرفٍ نقرأه في هذه الكتب ونستفيد منه ونحضر فيه موضوعاً ونلقيه إلى الناس فيعود الفضل لأولئك العلماء. فإن تصنيف العالم هو ولده المخلد، فمن نقل إلينا سيرة الإمام أحمد فتأثر الناس بها، والإمام أحمد يصله الأجر في قبره بسبب تأثر الناس بسيرته، لو شخصاً -مثلاً- تعرض لاضطهاد فقرأ فتنة الإمام أحمد وثبت، فإن للإمام أحمد أجر ثبات هذا الرجل، لأن عمل الإمام أحمد قد مات قومٌ وهم في الناس أحياءُ في الجانب المقابل هناك أشخاص هامشيون، بعض الناس وجوده مثل عدمه، بل إن وجوده ضار، أليس ذلك صحيحاً؟ وهناك أناس لو ماتوا لكان أفضل، وهناك أناس لو ماتوا لما حصل أي نوع من التغيير أو النقصان، لا في بيته، ولا في مدرسته، ولا في عمله، ولا في مجتمعه، لكن هناك أناس لو مات أحدهم تأثر البيت من موته؛ لأنه كان يملأ فراغاً عظيماً في ذلك البيت، وكذلك لو مات مدير لتأثرت الدائرة كلها، بسبب موت ذلك المدير الصالح في دائرته التي يعمل فيها، وهناك مدرس لو مات لحزن الطلاب عليه، وأصبح هناك نقص في المدرسة بموت هذا المدرس: قد مات قومٌ وهم في الناس أحياءُ الإسلام يريد من المسلمين أن يكونوا طاقات فعالة، لها أثر في الواقع، أنت إذا لم يكن لك أثر في الواقع، فمعناه أن عندك خطأ كبيراً في منهجك، ويجب أن تراجع نفسك: لماذا ليس لك أثر في الواقع؟

طريقة تعامل بعض الناس مع الزمن

طريقة تعامل بعض الناس مع الزمن يقول ابن الجوزي وهو يتحدث في مدينة بغداد: رأيت عموم الخلائق يدفعون الزمان دفعاً عجيباً، إن طال الليل فبحديثٍ لا ينفع، أو بقراءة كتابٍ في غزاةٍ أو سمر؛ بطولات معارك كلام وأشياء الحروب، أو سمر، ونحن نضيف الآن، أفلام الفيديو، والتلفزيون، والجرائد، والمجلات، والكتب الغثائية التي ترمى يومياً في الأسواق، وتملأ رفوف المكتبات، روايات وقصص مدمرة، سبحان الله! اخترع أهل الباطل كتاباً اسمه كتاب الجيب، لماذا؟ لأنه يدخل في الجيب، قصة أو غيرها، وهناك كتب اسمها مقاس فرنسي صغير بحجم الكف، لماذا؟ لأنه يمكن لأي شخص أن يأخذه معه أينما ذهب. وقد لا تجد مثل هذه الخدمة في الكتاب الإسلامي، لكن قد بدأت تظهر كتيبات صغيرة تحمل في الجيب وأشياء من الأذكار وغيرها، لكن تأمل أن بعض الناس يقتلون وقتهم قتلاً بهذه الأشياء؛ إن طال الليل فبحديثٍ لا ينفع أو بقراءة كتاب في غزاةٍ أو سمر، وإن طال النهار فبالنوم! وهم في أطراف النهار على دجلة أو في الأسواق، نحن الآن نقول: على الكورنيش أو في الأسواق- فشبهتهم بالمتحدثين في سفينة وهي تجري بهم وما عندهم خبر- سفينة العمر تجري وسترسو على شاطئ الموت وما عندهم خبر، شرائع الإسلام متكاملة يعضد بعضها بعضاً، ولذلك إذا أمر الشرع بشيءٍ، أمر بتهيئة أسبابه ونهى عما يخالفه ويضاده، فمثلاً: لماذا نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قيل وقال وكثرة السؤال؟ لأن أقل ما فيها مضيعة الوقت. ولذلك نهى السلف عن السؤال عن الأشياء التي لم يقع، وهؤلاء الناس دائماً يقولون: أرأيت لو كان كذا، أرأيت لو حصل كذا!! وهذا شيء بسيط، هذا من كثرة السؤال والقيل والقال، بجانب انشغال الناس الآن بالزينات والكماليات ومتاع الدنيا وانشغال النساء بالبهارج، المشكلة أن الناس -أقصد الأغنياء- يظنون أن حالتهم ستستمر كما هي! بعض الناس يقول: المهم النظر في الحالة الراهنة فحسب، فهذه حالة الجهلة الحمقى، مثل أن يرى نفسه معافى وينسى المرض فيستبعده، هل يخطر ببالك الآن وأنت صحيح أنك قد تصاب بمرض شديد جداً؟ الواحد الآن وهو غني وراتبه كبير، وعقاراته تدر، هل يتصور الآن في حال الغنى أنه قد يفتقر؟ لا يتصور؛ لأنه لم ير شيئاً بعينيه مثل الإفلاس أو المرض، ولذلك هو يظن أن حاله سيدوم، كلما أصبح وأمسى معافى زاد الاغترار وطال الأمل!

استغلال نعمة الصحة والفراغ

استغلال نعمة الصحة والفراغ الواحد لو ظل معافى خمسة أيام، يمكن أن يخشى المرض، ولو بقي شهراً أو سنة ما أصابه مرض، كل هذا الطول في الزمن هو أيضاً يستبعد بازدياد أن يحدث له مرض، وهذه بالضبط مشكلة الناس عندما يكبرون في السن، فيرى نفسه الآن عاش عشرين سنة، أو أربعين سنة فيقول: إيه باقي! يقول: عشت أربعين، ما دام عاش أربعين بالنظر إلى الماضي يقول: ستين، فأمله يزداد في العيش لأنه عاش وما حدث له شيء، فهو إذاً يأمل يأمل وهذا الذي يقتل الناس فما هو الأمل المحمود والأمل المذموم؟ الأمل المحمود: هو أن يأمل في الخير وهذا جيد، لكن الأمل المذموم هو الذي يدعو إلى التسويف كما سيمر معنا. فالعاقل الذي يأخذ بالاحتياط، فإذا مرض أو افتقر فعنده رصيد والحمد لله، إذا ما مرض أو افتقر لا يتضرر! الناس أنواع: طالب وموظف، وأعزب ومتزوج، وصغير وكبير، هناك بعض الناس الذين يعيشون في نوع من العافية، لا يفكرون في المستقبل وهذه هي المشكلة، فمثلاً: الطالب يظن أنه في المستقبل إذا تخرج من الجامعة فإنه سيكون لديه وقت أطول، وسيتحرر من الدراسة ومن الامتحانات وأن الوقت سيتسع بالنسبة له، لكن في الغالب لا يكون ذلك، وتمر بالموظف أوقات يتمنى أن يكون فيها في حياة الدراسة، دع الآن موظفاً يدخل الجامعة التي درس فيها قبل عشر سنوات، ماذا سيكون شعوره؟ سيقول: أين أيام زمان! أيام كان الواحد ليس عنده مسئوليات، أيام كان الواحد عنده عطلة الربيع وعطلة صيفية، وعطلة خميس، بالنسبة للناس الذين في وظائفهم عطلة خميس، ويقول: الدراسة -تنتهي- مثلاً الساعة الثانية، لكن العمل يستمر حتى الليل أحياناً. لكن عندما تذهب إلى الطالب يقول: الآن عندي خطط في طلب العلم، وعندي خطط في الدعوة، وعندي خطط في صلة الرحم، وعندي خطط، انتظر حتى أتخرج وأتفرغ من همّ الدراسة وهمّ الامتحانات، وأتفرغ إن شاء الله وأفعل هذه الأشياء كلها، وأنفذ المخططات، لكن عندما يتخرج تقع الواقعة، فينشغل بالوظيفة، والوظيفة ليست سهلة، الآن الوظائف مع مرور الزمن تتعقد ويحصل فيها من الصعوبة أكثر من ذي قبل! ولذلك لا تفكر أبداً وأنت طالب أنك إذا دخلت حياة الوظيفة، أنك ستدخل عالماً من الفراغ الذي ستستغله في كثيرٍ من الأعمال الصالحة، بل إنك وأنت طالب عندك من الإمكانيات ما ليس عند الموظف، فلا تغتر واغتنم فراغك قبل شغلك. أنت الآن لم تتزوج بعد، الواحد أحياناً يقول: الآن عزوبية، والأوقات مختلطة، لكن غداً أتزوج وأجلس في بيت وأستقر، وسيصير عندي وقت كبير، لكن فكر الآن في قضية الزواج، الزواج مسئولية وسوف يأتيك أولاد، وتحدث عندك روابط اجتماعية، وستزور أهل الزوجة، وعم الزوجة، وعمتها، وخال الزوجة، وخالتها، وأقرباءك الذين لم تكن تعمل لهم حساباً، ستضطر أن تعمل لهم حساباً بعد الزواج، الإنسان عندما يكون فرداً قد لا يزور بعض أقربائه، لكن عندما يتزوج طبيعة الوضع تفرض عليه، سيأتيه أقرباء له بزوجاتهم ليتعرفوا على زوجته، وهو يضطر لأن يزورهم أيضاً، ويدخل في معمعة من الزيارات العائلية، ويضطر لحضور مناسبات كثيرة، لأنه متزوج، طبعاً، والزواج ليس سيئاً لكن نقول: اغتنم فراغك قبل شغلك، الزواج عبادة، يفتح لك أبواباً من الأجر، لكن هناك أشياء تستطيع أن تفعلها قبل الزواج ولا تستطيع أن تفعلها بعد الزواج، هناك عبادات تستطيع أن تستكثر منها قبل الزواج ما لا تستطيع أن تستكثر منها بعد الزواج. مثلاً السفر في طلب العلم: الآن إذا تزوجت قد يصعب عليك أن تقوم بهذه العبادة، وعندما يكون لك أولاد كثيرون يصعب عليك دائماً أن تأتي بعمرة وراء عمرة، لكن عندما تكون فرداً يسهل عليك أن تخرج كثيراً، قد تبيت في مكان آخر لتواصل عبادة أو طاعة أو طلب علم؛ لأنه ليس لك زوجة، لكن عندما يصبح عندك زوجة يجب أن ترجع إلى العش وتبيت فيه، وسيصعب عليك أن تترك الغداء عند أولادك وعند أهلك، لكن عندما تكون طليقاً من هذه الناحية يمكن أن تفعل أشياء لا تفعلها في حال الزواج، ستنشغل في بناء بيت! وقد تنشغل في مشروع تجاري إضافي، وقد تنشغل في شراء أغراض، فالذين عندهم أولاد لو فكر أحدهم فقط في قضية تطعيم الأولاد، وكل ما مرض ولد تريد أن تأخذه إلى المستشفى، هذه لوحدها بند كبير في الأوقات المصروفة، وكذلك شراء الأغراض من السوق واستئجار بيت، وتأثيثه، وتوفير مال لشراء سيارة ودفع لفواتير الهاتف والكهرباء، وشراء للملابس، وهناك حاجات كثيرة جداً ستستهلك الوقت، لا تحسب أنك في المستقبل ستتفرغ أكثر، الآن استغل الوقت. أيضاً من الأشياء الأخرى: الإنسان عندما تكبر مسئولياته الاجتماعية، ويصبح عدد أفراد أسرته أكثر أو -مثلاً- يكبر أبوه ويصبح غير قادر على العمل، وتزداد الرعية واحداً، سيحتاج إلى أن يصرف على بيت ثانٍ، وهناك أناس كانوا يصرفون على بيت، وأصبحوا الآن يصرفون على بيتين، وقد يصرف على ثلاثة بيوت، فيضطر أن يعمل عملاً إضافياً في المساء، أو يشترك في مشروع تجاري غير الوظيفة من أجل أن يلاحق المسئوليات. لا تظن أنك ستجزم أنك تتفرغ في المستقبل أبداً، الآن قد يكفيك راتب لشراء السلع لكن ما تدري غداً تقل الرواتب أو أن السلع ترتفع أسعارها! مع التضخم الذي يعيشه العالم اليوم، فالشيء الذي ستشتريه الآن بعشرة ريالات في المستقبل قد لا تشتريه إلا بخمسين ريالاً، وستضطر أن تعمل أكثر لتكسب أكثر، لكي تستطيع أن تشتري. هذا الاضطرار قد يكون مذموماً؛ لأنه انشغال بالدنيا عن الآخرة، لكن أحياناً هناك أشياء ملجئة فعلاً وتعتبر عبادة، أنك تصرف على بطون جائعة، وعلى أناس محتاجين، لكن هذه العبادة قد تشغلك عن عبادة أخرى كنت تستطيع أن تعملها في الماضي!

استغلال نعمة الشباب

استغلال نعمة الشباب اغتنم فراغك قبل شغلك! الشخص عندما يكون في مقتبل عمره، يكون ذهنه صافياً، لذلك كان عمر بن الخطاب يجعل في مشورته الشباب بالإضافة إلى الشيوخ، نوعية معينة من الشباب، لماذا؟ لصفاء أذهانهم، كان يبتغي حدة عقول الشباب، فكان ابن عباس في مشورة عمر، وكان عمره ثلاث عشرة سنة، لكن ذهنه حاد، قد ينقدح في ذهنه من الأفكار ما لا يأتي في أذهان الشيوخ؛ لأنه ليس عنده مسئوليات، ما عنده أولاد إذا مرضوا اهتم بهم، ولا عنده أولاد إذا تخرجوا من الجامعة يهتم أين سيذهبون ويتوظفون، ولا عنده أولاد إذا كبروا سيبحث للولد عن زوجة، وإذا كان عنده بنت فسيحمل همَّ زواجها، هذه الهموم وهموم المستقبل والأولاد تكدر صفاء ذهن الشخص، ولذلك بعض الشباب يحفظ قرآناً فيريد من أمه أو من أبيه أن يحفظ معه بنفس المعدل، يقول: يا أمي! لماذا لم تحفظي؟ أنا حفظت كذا بفترة، تقول: لكن ذهنك غير ذهنها، والهم الذي عندك غير الهم الذي عندها، ولذلك تجد كثيراً من كبار السن يقولون: يا ولدي! ذهبت علينا أيام، يا ولدي! الآن لا نستطيع أن نحفظ، لا نستطيع أن نصلي مثلكم صلاة التراويح، لأن الإنسان مع الزمن يستهلك، حواسه تضعف، ولذلك كان من الدعاء النبوي: (اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا أبداً ما أبقيتنا -ليس فقط هذا- واجعله الوارث منا) يعني اجعله زائداً بحيث كأنه يفيض بعد موتنا، أو ورثه لأولادنا. فصفاء الذهن نعمة، ينبغي أن تستغلها الآن في طلب العلم وفي الحفظ والتفكير السليم. الإنسان -أيها الإخوة- لا يدري ماذا تخبئ له الأيام! الآن هو قد يكون صحيحاً، لكن في المستقبل قد يمرض مرضاً مزمناً -نسأل الله العافية- اسأل كثيراً من المرضى، قل للمرضى الذين عندهم أمراض مزمنة، قل لهم: قبل أن تصابوا بهذا المرض كيف كنتم؟ كانوا شباباً وكانوا في صحة، لكن بعد ذلك تجد الواحد منهم مرض مرضاً شديداً؛ الآن إما أنه في المستشفى، أو في الفراش في البيت لا يخرج إلا نادراً، وقد يريد من يحمله لقضاء حوائجه، بعض الناس لا يحسب هذا الحساب، قال الشاعر: يسر الفتى طول السلامة والبقا فكيف ترى طول السلامة يفعلُ يُرد الفتى بعد اعتدالٍ وصحةٍ ينوء إذا رامَ القيام ويحملُ انظر إلى كبيرٍ في السن كيف يقوم! يقوم على مراحل! يمكن على اليد الأولى ثم على الرجل الأولى ثم على اليد الثانية ثم على الرجل الثانية، وربما يحمل حملاً، لكن انظر في شاب تجده يستوفز إذا أراد أن يقوم قام مرةً واحدة. اغتنم فراغك قبل انشغالك بأمراض، وقبل انشغالك بتعب الشيخوخة وأمراضها، وهؤلاء الشباب الذين لم يقدّروا لهذا السن قدره عليهم أن يتمعنوا جيداً: أترجو أن تكون وأنت شيخٌ كما قد كنتَ أيام الشبابِ لقد كذبتك نفسك ليس ثوبٌ دريسٌ كالجديد من الثيابِ ثوب دريس: بال من الاستعمال ليس مثلك؛ الناس مختلفون، بعض الناس عندهم عقارات تدر عليهم أرباحاً -وصاحب العقار جالس في البيت- ليس عنده شيء إلا أنه يحصل في آخر السنة الأجرة، وهناك رجل أبوه غني قد يصرف عليه وعلى بيته، ورجل أبوه فقير يصرف هو على نفسه وعلى أبيه، وهناك أناس عائلتهم غنية، فإخوانه أغنياء، وأعمامه أغنياء، وأخواله أغنياء، لو أراد أن يستلف لوجد من يسلفه، ولو غاب وجد من يصرف على بيته، لكن بعض الناس قد يضطر أن يصرف على عدة عوائل، وبعض الناس أولادهم في صحة وقد لا يذهب إلى الطبيب أو العيادة إلا في السنة مرة، أو ما يذهب إلا نادراً، وهناك أناس عندهم أولاد مرضى قد يضطر للسفر من أجل علاجهم، ويقضي فترات طويلة يتنقل في مستشفيات! وتخيل أن رجلاً عنده ولد مصاب بمرض من الأمراض، كيف يكون وضعه مع الولد؟ تراه دائماً منشغلاً بالولد، فإذا ارتفعت الحرارة ذهب إلى الدكتور في المستشفى، فإذا لم يجد العلاج ذهب للثاني وذهب للثالث، فإذا لم يجد في الظهران ذهب إلى الرياض أو إلى جدة، وقد يضطر للسفر إلى مصر أو إلى أمريكا بحثاً عن العلاج، والسفر يحتاج إلى تذاكر وإلى أموال تنفق فيها، وإلى جهود وأوقات، وهذا كله من أجل العلاج وليس بالسهل.

نعمة العافية

نعمة العافية وردني سؤال يتعلق بأحكام الطهارة -الوضوء- كأن يكون على اليد حائل -مثلاً مرهم- يمنع وصول الماء. القصة: أن عائلة فيها ولدان مرضهما أنه ظهر طفح في الجلد ثم أصبح بثوراً، ثم تحولت إلى أورام سرطانية دقيقة أو صغيرة لها جذور في الجلد إلى الداخل، ولا يمكن لهذا المريض أن يرى النور -يعني: النور يضره جداً- فلذلك لا يمكن أن يجلس تحت أنوار، ولا في أشعة الشمس، ولا حتى أمام نور شاشة التلفزيون، ولابد أن يضع نظارة طوال الوقت ما عدا وقت النوم، ولابد أن يدهن الجلد كله بمرهم عازل للضوء (عازل للأشعة أربعة وعشرين ساعة) والمرض لا يعرف له علاج في العالم، وفي المستقبل قد يزداد حتى يضرب في مناطق الأعصاب فيسبب آلاماً رهيبة. الآن تأمل حال الأم المنشغلة بهؤلاء الأولاد، كيف يكون البيت بلا نور! لابد أن تساعدهم في دهن الجسم بالمرهم دائماً. تصور بيتاً فيه أولاد فيهم عاهات، أو كبار في السن وفيهم عاهات، يحتاج هذا المريض إلى شخص يأخذه، وآخر يطعمه وآخر يسقيه، ويحتاج إلى من يخرج له الفضلات، وينقله من الحمام إلى الغرفة، وغيرها من الأعمال. والله عز وجل له حكمه، ولله في خلقه شئون، لكن نحن بسبب الصحة غافلون، ولو أردت أن تعرف شيئاً من الحقيقة فادخل إلى مستشفى من المستشفيات، وتأمل في حال المرضى في الأقسام المختلفة، سئل الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله هل يجوز زيارات المستشفيات للاعتبار، قال: نعم! يمكن للشخص أن يذهب للمستشفيات ليعتبر، وعندما نعلم هذه الأشياء لا بد أن نتأثر لكي نستغل الصحة التي نحن فيها الآن، لأننا لا نعلم حقيقةً ماذا سيحدث لنا في المستقبل، قد يحدث لنا مرض أو عدة أمراض أو مرض مزمن -نسأل الله العافية- لكن الإنسان عليه أن يتعظ ويأخذ عبرة. فنعود ونقول: الناس أصناف، منهم من دخله كبير، ومنهم من دخله يحتاج إلى عمل شديد، الإنسان الذي عنده شركات، غير العامل الذي يشتغل في الشمس وفي البناء ساعات طويلة، والشخص الذي في بداية الزواج غير الشخص الذي عنده أولاد، والشخص الذي في بداية الوظيفة، ليس مثل الشخص الذي عنده تطور في الوظيفة ودخل فيها وتشعب، وازدادت مسئولياته الوظيفية، ما هو المقصد من وراء ذكر هذه المسألة؟ أن الله عز وجل يؤاخذ الناس على حسب النعم التي أعطاهم إياها. فأنت لا تتخيل -مثلاً- أو لا تظن أن الشخص الذي عنده عقارات تأتيه الإيجارات هكذا في نهاية السنة وهو جالس! لا. وإنما يتعب ويعمل مثل العامل الذي يضطر أن يشتغل ست عشرة ساعة في اليوم في الشمس وفي البرد أحياناً، لا تتخيل أن الرجل الذي عنده وقت سواء كان طالباً أو أعزب أن حسابه عند الله مثل الرجل المتزوج الذي عنده مسئوليات وأولاد، وهكذا. وكذلك المرأة -مثلاً- عندما تكون فتاة في مقتبل العمر ليس عندها مسئولية، أمها هي التي تطبخ وهي التي تنظف البيت، أو أن في البيت خادمات -والعياذ بالله من خادمات السوء- هذه المرأة عندما تكبر وتتزوج، وهي متزوجة قبل الأولاد حسابها يتغير عندما يأتيها أول ولد، وحسابها غير ذلك عندما يصير لها ولدان، وحسابها يختلف عندما يصير عندها خمسة أو سبعة أولاد. ولذلك اغتنم فراغك قبل شغلك، هذه حكم نبوية لها مدلولات عظيمة، لكن أكثر الناس لا يعلمون، وأكثر الناس لا يفقهون، ولا يتفكرون، ولا يتعظون، تستهلكهم الحياة دون أن يخططوا شيئاً للمستقبل ودون أن يحتاط الآن للمستقبل. كذلك يضاف إلى ما سبق قبل أن ننتقل إلى نقطة أخرى: أن الناس بالنسبة للإجازات مختلفون، مثلاً الطالب قد يكون عنده عدة أنواع من الإجازات كما ذكرنا، إجازة صيفية وأحياناً تكون شهرين أو شهرين ونصف أو ثلاثة شهور، إجازة الربيع أسبوعين أو ثلاثة أسابيع، وقد تكون عنده إجازات مختلفة، بخلاف الموظف فإنه قد لا يكون عنده إلا شهر أو شهر ونصف، وعطلة نهاية الأسبوع. إن الشاب يختلف عن رب الأسرة، فالطالب عندما تكون عنده إجازة يستغلها فيما يشاء، لكن رب العائلة عندما تصبح عنده إجازة يشغلها في أشياء مختلفة، كأن تكون عنده حاجة تحتاج إلى تصليح أو يريد أن يسافر، وهكذا تجد أن إجازات بعض الناس هي أشغال في الحقيقة، أكثر من أيام الوظيفة، بينما إجازات بعض الناس هي عبارة عن فراغ في فراغ في فراغ.

الجوانب التي يؤسس الإنسان فيها نفسه في فراغه

الجوانب التي يؤسس الإنسان فيها نفسه في فراغه فالمقصود الآن: أن المسئولية أمام الله والحساب يوم القيامة ليس الناس فيه سواء. عندنا الآن Q ما هي الجوانب التي يحرص الإنسان على أن يؤسس فيها نفسه في فراغه قبل أن ينشغل؟ الآن لو صار عندك فراغ، لو كنت شاباً في مقتبل العمر ما هي الجوانب التي تستغل فيها فراغك، لتؤسس فيها نفسك؟ طبعاً بداية العمر هذه فترة تأسيسية، مثل البناء تضع الأساسات ثم تبني، فترات الشباب هي فترات تأسيس في الحقيقة، للعاقل فترات الشباب فترات تأسيس وبناء، ولذلك ينبغي أن تستغل في عدة أمور، نذكر اثنين منها:

تعويد النفس على الأعمال الصالحة والعبادات المختلفة

تعويد النفس على الأعمال الصالحة والعبادات المختلفة الأول: مجاهدة الشاب المتفرغ لنفسه في تعويدها على الأعمال الصالحة والعبادات المختلفة: وهذه نقطة مهمة جداً، العبادة إذا جاءت في البداية مبكرةً تصادف موقعاً جميلاً، وتدخل فيه وتترسخ وتصبح سجية، يعني: لو أن شاباً تعود على قراءة جزء من القرآن يومياً، وعلى إدراك تكبيرة الإحرام دائماً، وعلى صيام ثلاثة أيام من كل شهر، فإن هذا التأسيس سيصبح سجية فسيستمر فيه طيلة حياته، لكن لو أتيت بشخص كبير في السن وقلت له: أنت غير متعود على قراءة جزء قرآن في اليوم، نريد أن نعودك على قراءة جزء من القرآن في اليوم؟ وأنت كنت لا تصوم النوافل وسنعودك على أن تصوم النوافل دائماً؟ هل تتوقع أنها ستكون مسألة سهلة؟ لا. أبداً، العبادة إذا جاءت على شغل لا ترسخ في النفس، لكن لو جاءت العبادة على فراغ في النفس فإنها تصبح عادة وطبعاً وسجية، ولذلك الآن ندرك خطأ الفكرة التي يظنها كثير من الناس حينما يقول: يا أخي! هذا شاب، دعه يتمتع بعمره وبشبابه، تريدون أن تؤذوا الشباب وتنكدوا عليهم، وتريدون أن تضيعوا عليه أحلى أيام عمره وزهرة شبابه، وهؤلاء الذين يفكرون بهذا التفكير مساكين. إذا أردت الدليل فاستمع معي إلى هذا الحديث: في البخاري ومسلم وغيرهما: عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (بلغني أنك تصوم النهار وتقوم الليل فلا تفعل، فإن لجسدك عليك حقاً، ولعينك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً، أو حظاً -كما في بعض الروايات- صم وأفطر، صم من كل شهرٍ ثلاثة أيام، فذلك صوم الدهر) -الحسنة بعشرة أمثالها، ثلاثة في عشرة بثلاثين كأنه صام الشهر كله، وثلاثة أيام من الشهر الذي بعده، وكأنه صام الشهر الذي بعده، وهكذا حتى كأنه صام الدهر، قلتُ: (يا رسول الله! إن بي قوةً أو إن لي قوةً) وكان عبد الله بن عمرو في فترة شباب؛ فقال: إن لي قوةً، هو أصلاً يستغل شبابه في قيام الليل وصيام النهار، لما أراد الرسول صلى الله عليه وسلم منه أن يعتدل في عبادته قال: إن بي قوةً (قال: فصم صوم داود عليه السلام، صم يوماً وأفطر يوماً- وفي رواية: ذكرتُ للنبي صلى الله عليه وسلم الصوم، فقال: صم من كل عشرة أيامٍ يوماً ولك أجر التسعة، قلت: إني أقوى من ذلك، قال: فصم من كل تسعةٍ أيامٍ يوماً ولك أجر الثمانية، فقلت: إني أقوى من ذلك، قال: فصم من كل ثمانية أيام يوماً ولك أجر السبعة، قلتُ: إني أقوى من ذلك، قال: فلم يزل -يعني يتدرج معه- حتى قال: صم يوماً وأفطر يوماً)، يعني: من كل يومين يصوم يوماً، وفي رواية أن عبد الله قال: (فإني أطيق أفضل من ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا أفضل من ذلك) يعني: أنك تصوم يوماً وتفطر يوماً لا يوجد أفضل من هذا، أفضل الصيام صيام داود، لكن صيام داود -أيها الإخوة- مشروطٌ بأمرٍ ورد في حديث وهذا الأمر مهم. والحديث في تكملته أنه صلى الله عليه وسلم لما وصف صيام داود قال: (ولكنه كان لا يفر إذا لاقى) كان لا يفر إذا لاقى، يعني: لم يكن هذا الصوم ليعجزه ولا ليضعفه عن الجهاد، فإذا كان صيام يوم وإفطار يوم سيجعلك تضعف عن القيام بالوظائف الأساسية، بيتك، وأهلك، وعملك، وصلاتك، وجهادك، وطلبك للعلم، فإنك قد انشغلت بمفضول عما هو أفضل منه، هذا شرط صيام يوم وإفطار يوم. Q كيف تعود الأعمش رحمه الله على إدراك تكبيرة الإحرام بحيث قال الراوي: أن الأعمش لم تفته تكبيرة الإحرام ستين عاماً؟ معناها: أنه كان متعوداً منذُ الصغر على إدراك تكبيرة الإحرام، فلذلك ينبغي أن يتعود الإنسان في أوقات الفراغ على العبادة، وهذا مهم جداً للشاب، تأسيس نفسه على العبادة وأنواع الأذكار، وأنواع العبادات حتى ينطلق: اغتنم في الفراغ فضل ركوعٍ فعسى أن يكون موتك بغته كم صحيحٍ رأيت من غير سقمٍ ذهبت نفسه الصحيحة فلته ماذا تعني كلمة: وقت الفراغ؟ في وقت الفراغ شيء مهم في مفهوم (أيش معنى وقت الفراغ) بعض الناس يظن أن المعنى: اعمل كل شيء، البعض يظن أن وقت الفراغ هو بعد أن يقوم بكل أعماله ويقول: إذا زاد الوقت طلبنا العلم ودعونا إلى الله. هذه من الأشياء الأساسية -طلب العلم والدعوة إلى الله- إذا أردت أن تعرف المعنى الصحيح لهذا، تأمل معي في آخر سورة الشرح: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح:5 - 8]. فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب، ما معنى هذا؟ قال أهل العلم كما في تفسير ابن كثير: فإذا فرغت من أمور الدنيا وأشغالها -يعني: الأمور المهمة، مثل البيت والأكل والأهل والأولاد- فانصب في العبادة وقم إليها نشيطاً، قال بعض المفسرين: إذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل، وقال بعض المفسرين: فانصب في الدعاء، وقال بعضهم: فإذا فرغت من الجهاد فانصب في العبادة. وهذا يدلك على شيء مهم جداً، وهو أن أوقات الفراغ هي غير أوقات العبادات المفروضة في أوقات معينة، منها صلاة الجماعة، ومثل الجهاد إذا حان وقته، وهكذا.

طلب العلم

طلب العلم والأمر الثاني -أيها الأخوة- هو قضية طلب العلم؛ وطلب العلم من الأمور المهمة، التي ينبغي أن يستغل الإنسان وقته فيها، لذلك يقول عمر رضي الله عنه: [تفقهوا قبل أن تسودوا] ما معنى قبل أن تسودوا؟ يعني: قبل أن تصبح إنساناً ذا شأن، وصاحب مسئوليات وصاحب منصب، وقبل أن تصبح سيداً متصدراً للناس، تفقه فإنك غداً عندما تصبح منشغلاً بذلك المنصب أو بتلك السيادة، ربما لا تجد وقتاً كافياً لطلب العلم، وأيضاً، فإن السيادة تحتاج إلى فقه، وإلا فكيف يقود الناس إنسانٌ جاهل، لذلك يقول عمر: [تفقهوا قبل أن تسودوا] ولذلك كان علماؤنا رحمهم الله، لا يضيعون وقتاً بغير فائدة، فترى وقتهم مقسوماً بين القراءة والتصنيف، وبين الإفتاء والقضاء، وبين الحفظ والتدبر والعبادة، وإنكار المنكر، والجهاد في سبيل الله، والتدريس، حتى أن بعضهم كان لهم ثلاثة عشر درساً في اليوم، ويقرأ عليهم أحياناً في الطريق، وهم يمشون ويسألون العلماء في الطريق، وربما إذا دخل بعضهم الخلاء أمر القارئ أن يرفع صوته، حتى يستغل وقته وهو في الخلاء، فيسمع العلم، وربما فكروا بالمسألة وعلموها أو تعلموها وهم في النزع الأخير من حياتهم على فراش الموت، وأكل بعضهم الطعام نيئاً لعدم وجود الوقت للطبخ وكان بعضهم يختصر الوجبات، فيقتصر على وجبة في اليوم، وينتقون الأكلات السهلة التحضير، وسهلة المضغ ليوفروا وقتاً لطلب العلم، وإذا انشغل أحدهم ببري القلم وهو يكتب انطلق لسانه بذكر الله أو مراجعة المسائل حتى لا يتوقف عن عمل مفيد، لكن انظر الآن! إذا كان أحدنا يكتب ويستغل وقته، وأراد أن يبري القلم يتأمل في البراية، ويطالع في المرايا التي خلف المبراة. وكانوا لا ينامون إلا قليلاً؛ حتى ربما خفق رأس بعضهم في كتابه، هكذا كانوا حريصين جداً على طلب العلم، ومن المشاكل الكبرى أن ترى طالب العلم يبرز للناس، ويتصدر قبل أن يتأسس علمياً فينزلق في مزالق، ويقع في مطبات وحفر شيطانية؛ من إفتاء الناس بغير علم -مثلاً- وسيأفل سريعاً ويزوى؛ لأنه تصدر وليس عنده أساس علمي قوي، يعرف كلمتين، فإذا انتهت الكلمتان التي يعرفها انفض الناس من حوله، بعض الخطباء والوعاظ وطلبة العلم يبرز للناس ولم يتأسس بعد، عنده حصيلة قليلة، فإذا ألقى كذا خطبة، أو كذا درساً انتهى الذي عنده، حتى لو كان -مثلاً- مع رفقاء له يعلمهم، فإذا علم فلاناً وفلاناً وفلاناً شهراً أو شهرين أو سنة أو سنتين انتهت الحصيلة، وصاروا مثله في النهاية؛ لأنه لم يستغل وقته في الطلب، والمسلم الجيد هو الذي لا يزال الناس يجدون عنده ما يحتاجون إليه. ولذلك يجب علينا أن ننظر ونعتبر من بعض العلماء الذين بارك الله في أوقاتهم، سبحان الله -مثلاً- أنت إذا نظرت في حال شيخنا عبد العزيز بن باز حفظه الله، تجد من حاله عجباً، طبعاً هذا الرجل أسس نفسه على العلم منذُ الصغر، أسس نفسه على الأصول، يعني: على القرآن ودواوين السنة، عنده أصول أسس نفسه عليها، وهو لا يزال يراجعها، ولذلك ترى حلقات الشيخ أكثرها قراءة وهو يسمع، يعني: يقرأ عليه أكثر مما يعلق، فهو لا يزال يراجع الأصول، ولذلك عندما تأتي النازلة ليفتي فيها الشيخ، فعنده الأصول وهي قد اختمرت في ذهنه بمرور السنين وتواليها، آيات وأحاديث كثيرة جداً اختمرت في ذهنه، تأسست نفسه في العلم، فلو جاءت نازلة أفتى فيها، لكن لو جاء طالب علم، وجاءت نازلة، سيبحث في الكتب والدواوين وأقوال العلماء، والأشباه والنظائر، ويرى الأمور، ثم بعد ذلك قد تكون فتواه صحيحة وقد تكون عوجاء، ولذلك ترى الآن العلماء الحقيقيين وإن كانوا قلة وندرة، إلا أن عندهم القدرة على الكلام في مستجدات العصر بعلم شرعي، وإلا فهناك أناس يفتون بجهل في مستجدات العصر، ولذلك مثل الشيخ حفظه الله الذي لديه خلفية قوية في أصول الإسلام، لا يحتاج إلى أن يفتش وينقب دائماً في الكتب ويبحث مثل طالب العلم، فإنه إذا أراد أن يفتي في مسألة يبحث فيها! وأيضاً -أيها الإخوة- الداعية إلى الله مهم جداً أن يؤسس نفسه، قبل أن تتراكم عليه المسئوليات -وهذه القاعدة مهمة- قبل أن تتراكم عليه المسئوليات الدعوية والتربوية، فإن الإنسان إذا كان يسير في طريق الدعوة والتربية فإن مسئولياته في ازدياد من يومٍ إلى آخر، وإذا كان مخلصاً عاملاً نشيطاً، فإن مسئولياته ستزداد يوماً بعد يوم، وإن رعيته التربوية ستكبر وتتضخم، فإذا لم يكن عنده أساسٌ قوي، فكيف سيقوم بمواجهة هذه المسئوليات والاضطلاع بها؟ ولذلك تجد بعض المشايخ الكبار، قد لا يجد وقتاً للقراءة أحياناً، لأنه يتنقل من مكان إلى مكان، يلقي محاضرة هنا وهناك، ودرساً هنا وهناك، ويتصل الناس به ويستفتونه. الشيخ ابن عثيمين قال كلمة جميلة، أقصد في جمال المدلول عندما كان يدرس في الحرم في رمضان، وكانت له حلقة بعد الفجر وحلقة بعد المغرب، وكان الناس يسألونه بعد الصلوات وبعد العصر، وكانت له غرفة مخصصة يتصل عليه الناس قال: والله إني أحياناً لا أجد وقتاً أقرأ فيه القرآن، فأحياناً يكون الإفتاء أفضل من تلاوة القرآن، وذلك بسبب حاجة الناس، خصوصاً للذي لم يهجره، ومن هنا -أيها الإخوة- كان لابد للدعاة الصادقين من إيجاد خطة لتفريغ الدعاة إلى الله، ويجب على أهل الغنى والثراء أن ينظروا في المشاريع الإسلامية، ويحاولوا أن يشاركوا فيها؛ لتفريغ الدعاة إلى الله لكي يتجولوا في بلاد الكفار، ليلقوا الدروس والمحاضرات، وتفريغهم لهذا المجال ولهذا العمل أفضل من أن يعمل أحدهم في شركة أو في مؤسسة يستهلك وقته فيها، وترتيب الرواتب لهم من أعظم أبواب الأجر؛ لأنه سيستطيع أن يعطي، ولذلك كان العلماء في الماضي لهم رواتب من بيت مال المسلمين، العالم ليس عنده عمل إلا طلب العلم، والتعليم، وهذا التفرغ هو الذي أنتج العلماء في الماضي.

ثلاثة مداخل شيطانية

ثلاثة مداخل شيطانية من الأمور التي نختم بها كلامنا -أيها الإخوة- أن هناك ثلاثة مداخل ربما تكون أحياناً شيطانية. بعض الناس لو لم يهتد إلى الله إلا بعد فترة من الزمن -مثلاً صار عمره ثلاثين سنة، أو أربعين سنة، ثم هداه الله- فماذا يحصل له؟ يقول: لقد فاتني وقت الطلب، وقت تأسيس نفسي على العبادة، وذهب عليَّ الزمن وذهب عليَّ الوقت، وفاتني القطار. وتراه دائماً يشتغل بالندم على الوقت الفائت، فيسبب تضييع الوقت الحاضر، وهذه نقطة شيطانية خطيرة جداً، وهذا خطأ كما قال أهل العلم، ولذلك صارت القاعدة الذهبية، "ما لا يدرك كله لا يترك بعضه" أي: إذا لم تستطع أن تأخذ طريق العلم من بداية عمرك، فلا يترك بعضه، وهناك من العلماء من طلب العلم وهو كبير، فهناك من طلب العلم وهو ابن أربعين أو خمسين، وهناك من العلماء من أصبح نابغة في هذا، وهناك عباد وزهاد لم يتعبدوا لله إلا بعد فترة طويلة من حياتهم، وانظر في حال الصحابة، أليس حالهم عجيباً؟! كثير منهم اهتدوا في الأربعين والخمسين عمرو بن الجموح وطأ بعرجته في الجنة، رجل أدركه الإسلام وهو كهل لكن ما فتر، ولذلك أنت تعجب بعض الأحيان عندما تدخل في حلقة شيخ من المشايخ أو عالم من العلماء -مثلاً- في حلقة الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله قد تجد رجلاً كبيراً في السن، وتراه جالساً في الحلقة وهو يستمع، هذا الرجل عاقل، ما قال أنا فاتني العلم، وعليَّ أن أجلس في البيت، هذا هو الذي يفرح الشيطان فعلاً. إياك ثم إياك أن تفكر من هذا المنطلق، وإذا أخلصت النية فإن الله سيبارك لك في وقتك ولو كان ضيقاً، لو شخصاً قال: أنا أصرف على كذا أسرة، أنا إنسان مشغول فكيف أطلب العلم؟ نقول: أنت إذا أخلصت لله يبارك الله لك في وقتك، يا أخي! تأمل في حياة عمر بن عبد العزيز تجد عجباً: عمر بن عبد العزيز: استلم الخلافة وفيها ترف وابتعاد عن الله، وانشغال بالدنيا، والطرب والغناء والرقص في البيوت، وكانت هناك منكرات كثيرة عمت المجتمع، كم حكم عمر بن عبد العزيز؟ حكم سنتين ونيفاً، لكن سبحان الله العظيم! كيف تغير الوضع لما حكم عمر بن عبد العزيز في سنتين ونيف؟ صار هناك انقلاب في المجتمع وتَغيَّر الناس! وازدهرت حلقات العلم والعلماء بشكل أكبر بكثير مما كان قبل ذلك، حتى أن الناس اكتفوا مادياً، وكانوا يبحثون عن فقراء للزكاة فما يجدون، كيف فعل هذا الرجل في سنتين! كيف حدث هذا؟! أليست هذه شبه معجزة، إنما حدث هذا بإخلاص عمر بن عبد العزيز! رحمه الله، ورضي عنه وأرضاه، كم أدى للإسلام من خدمةً جليلة في هذه الفترة القصيرة التي حكم فيها! وآخر ما نختم به، مرض من أمراض هذه المشكلة -اغتنم فراغك قبل شغلك- مرض التسويف. بعض الناس، كما يقول ابن القيم رحمه الله: كلما جاء طارق الخير صرفه بوَّاب (لعل وعسى). كلما جاء طارق الخير وقال: يا فلان! اطلب العلم، يا فلان اعبد الله، يا فلان ادع إلى الله، يا فلان، صرفه بواب لعل وعسى، وأكثر الناس ضائعون بين السين وسوفَ، والأماني رأس مال المفاليس. هذا ما سنقف عنده في هذا الموضوع.

الأسئلة

الأسئلة وهنا وردنا Q

كيفية استغلال الوقت في العطل

كيفية استغلال الوقت في العطل Q نحن شباب استغللنا الوقت في العطلة الصيفية في المراكز الصيفية، والآن قد انتهت المراكز الصيفية فماذا نفعل؟ A طبعاً هناك أمور كثيرة جداً ينبغي على الشباب أن يتوجهوا إليها في هذه الفترة، الآن كم بقي حتى تأتي الدراسة، عشرون يوماً أو ثمانية عشر يوماً، لا تظن أن هذه فترة سهلة، ثمانية عشر يوماً إذا استغلت استغلالاً جيداً؛ فإنك ستحصل فيها على فوائد كثيرة جداً، لا تحلم بها! إذا استعنت بالله وأخلصت وخططت تخطيطاً جيداً، طبعاً هناك مجالات كثيرة -مثلاً- مكتبات المساجد هذه فرصة للشباب، تبادل الأشرطة والكتب وقراءتها، الزيارات الأخوية في الله، الرحلات العلمية المفيدة، التي يخرج فيها الطالب من أجل أن يغير فيها الجو لكنه يستفيد، وكذلك حلقات العلم، والمواظبة عليها، وحضورها في المساجد، وكذلك زيارة العلماء، وزيارة طلبة العلم والاستفادة منهم، وتبادل الآراء وغيرها، وهناك وسائل كثيرة جداً يمكن أن يستفيد الشباب منها في هذا الوقت. والمسألة كما قلنا -أيها الأخوة- أولاً وأخيراً هي الإخلاص، وصدق النية، وصدق التوجه، زائداً عليها العزيمة والهمة التي ينتجها هذا الإخلاص، زائداً على ذلك التخطيط الجيد واستشارة أهل الخبرة، سيكون لها أثرٌ كبيرٌ إن شاء الله في استغلال هذا الوقت. وأخيراً نقول كما قال عليه الصلاة والسلام: (اغتنم فراغك قبل شغلك). وصلى الله على نبينا محمد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

اقتضاء العلم العمل

اقتضاء العلم العمل أخي: لابد من التعرف على رسائل العلماء وعلى ما احتوته تلك الرسائل من الكنوز والمواعظ والآداب، وهذه رسالة تبين أهمية العمل بالعلم، وقد ترجم الشيخ لمؤلفها، وذكر نشأته ورحلاته في طلب الحديث وتأليفه وإملائه، ثم ذكر سبب تأليف هذه الرسالة، ثم شرع يبين مفاهيمها ومعانيها التي تتحدث عن العلم والغاية من طلبه.

ترجمة الخطيب البغدادي

ترجمة الخطيب البغدادي الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فهذه الرسالة الثانية من سلسلة رسائل أهل العلم التي نتعرف فيها على بعض ما احتوته تلك الرسائل من الكنوز والعلوم والمواعظ والآداب، والرسالة بعنوان اقتضاء العلم العمل للخطيب البغدادي رحمه الله تعالى. واقتضاء العلم للعمل أي: أن العلم يقتضي العمل به، ومؤلفها هو أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي يكنى بـ أبي بكر وقد اشتهر بـ الخطيب البغدادي، وقد ذكر الخطيب رحمه الله تعالى في تاريخ بغداد في ترجمة والده أن أصله من العرب، وأن له عشيرة كانوا يركبون الخيول، وأن مسكنهم بـ الحصّاصة من نواحي الفرات من بلاد العراق، ولم يكن والده من العلماء المشهورين في فنٍ من الفنون، وإنما كان له إلمام بسيط بالعلم، وقد كان يخطب الجمعة والعيدين بقرية قريبة من بغداد اسمها درزيجان. ولذلك لم يصف الخطيب والده بأنه من العلماء، وإنما وصفه بأنه أحد حفاظ القرآن، فقال في ترجمة والده في تاريخ بغداد: كان أحد حفاظ القرآن، ويبدو أن لقب الخطيب قد استمر من الأب إلى ابنه؛ لأن الخطيب نفسه قد تولى الخطابة، كما ذكر ذلك ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية أنه تولى الخطابة وكان خطيباً للجمعة والعيدين في بغداد، ولم ينفرد الخطيب البغدادي بهذا اللفظ (الخطيب) أو بهذا اللقب، وقد لقب به عددٌ من العلماء، منهم: تلميذ الخطيب البغدادي وهو الخطيب التبريزي رحمه الله وآخرون. ولد أبو بكر الحافظ أحمد بن علي بن ثابت يوم الخميس لستة من جمادي الآخر سنة (392هـ) ونشأ في كنف أبيه، وكان في نشأته قد وكل به أحد القراء ليعلمه القرآن، فتعلم القرآن وحفظه منه، ولما بلغ الحادي عشر من عمره بدأ بسماع الحديث، ثم درس الفقه، ولما بلغ العشرين من عمره عزم على الرحلة في طلب العلم والحديث. وكان الذي قد حفظّه القرآن وعلمه الكتابة هو هلال بن عبد الله رحمه الله، وتأدب منه، وهذا ما يفيد أهمية تأديب الأولاد في المرحلة المبكرة.

رحلات الخطيب البغدادي في جمع الحديث

رحلات الخطيب البغدادي في جمع الحديث في سنة (412هـ) بدأت المرحلة الثانية من حياة الخطيب وهي إنشاء رحلات لجمع الحديث، وقد قام بثلاث رحلات، زار فيها ثلاث عشرة ناحية ومدينة من أشهر بلاد المسلمين.

رحلته إلى البصرة

رحلته إلى البصرة كانت رحلته الأولى إلى البصرة في (412هـ) والتقى بكبار محدثيها، ومنهم: أبو عمر القاسم، وأبو جعفر بن عبد الله الهاشمي، وسمع منه سنن أبي داود وغيرها، وعاد إلى بغداد في السنة نفسها، وفي الطريق مر بـ الكوفة والتقى بمحدثيها واستفاد فوائد، وقد ذكر ذلك في كتابه: تاريخ بغداد، ولما رجع من هذه الرحلة لم تطل فرحة أبيه به؛ لأن أباه توفي في هذه السنة، وعاجلته المنية يوم الأحد من نصف شوال في السنة ذاتها التي رجع فيها الولد من رحلته. فتولى ابنه دفنه بنفسه ولم يؤثر ذلك في نيته في الطلب وعزمه عليه، واقتضب الخطيب رحمه الله هذه الحادثة في ترجمة والده، فقال: توفي يوم الأحد النصف من شوال سنة (412هـ) ودفنته من يومه في مقبرة باب حرب، ولم يزد على هذا كلمةً واحدة.

رحلة الخطيب إلى نيسابور

رحلة الخطيب إلى نيسابور بعد وفاة والده تابع جمعه للحديث من أفواه المحدثين، وطاف على محدثي بغداد يأخذ عنهم الحديث، وبعد أن رأى بأنه قد أكمل الأخذ عنهم عزم على الرحلة مرة ثانية، وكان عنده اختياران: إما أن يذهب إلى مصر، وإما أن يذهب إلى نيسابور، فتردد فاستشار شيخه البرقاني رحمه الله وهو من كبار الحفاظ، وقال له: هل أرحل إلى ابن النحاس في مصر أو أخرج إلى نيسابور إلى أصحاب الأصم؟ فأشار عليه شيخه إلى نيسابور، وعلل ذلك قائلاً: إنك إن خرجت إلى مصر إنما تخرج إلى رجلٍ واحد، إن فاتك ضاعت رحلتك، وإن خرجت إلى نيسابور ففيها جماعة، إن فاتك واحدٌ أدركت من بقي، فخرج إلى نيسابور وزوده شيخه البرقاني رحمه الله برسالة لطيفه إلى محدثي أصبهان، وكتب إلى أبي نعيم، رحمه الله الحافظ الكبير يوصيه بتلميذه الخطيب البغدادي، ويقول له فيها: قد نفذ إلى ما عندك عمداً متعمداً أخونا أبو بكرٍ أحمد بن علي بن ثابت أيده الله وسلَّمه، ليقتبس من علومك، ويستفيد من حديثك، وهو بحمد الله من له في هذا الشأن سابقةً حسنة، وقدم ثابت، وفهم حسن، وقد رحل فيه وفي طلبه، وقد حصل له منه ما لم يحصل لكثيرٍ من أمثاله الطالبين له، وسيظهر لك منه عند الاجتماع به، مع التورع -هذه المسألة ليست مسألة فقط حفظ روايات- مع التورع والتحفظ وصحة التحصيل -أي: الدقة- ما يحسّن لديك موقعه، ويجبل عندك منزلته، وأنا أرجو إن صحت منه لديك هذه الصفة أن تبين له جانباً، وأن توفر له وتحتمل منه ما عساه يورده من تثقيل في الاستكثار، أو زيادةٍ في الاصطبار، فقديماً حمل السلف عن الخلف ما ربما ثقل. خرج الخطيب البغدادي رحمه الله مع رفيقٍ له اسمه أبو الحسن علي بن عبد الغالب متوجهاً إلى نيسابور، وفي رحلته كان يحصل له من العبادة الشيء الكثير، وقد رآه رفقاؤه الذين معه، وحصلت له في الرحلة من الروايات والأحاديث ما ألهاه عن النساء والطعام والشراب، بل ربما أنساه حاجته للنوم! فمن العجائب التي حصلت له، ويضرب له المثل في سرعة القراءة، وشهد له الحافظ ابن حجر رحمه الله بذلك، أنه قرأ صحيح البخاري كاملاً على إسماعيل بن أحمد الضرير في ثلاثة أيام قراءة ضبط على شيخ، ولا يعرف أنه حصل لغيره مثل هذا. ورجع بعد ذلك إلى بغداد وسمع وقرأ فيها ذلك، ولما استقر بها عكف على كتابه المشهور تاريخ بغداد، ولما اكتملت فصول الكتاب، واجتمعت مادته، عزم على أداء فريضة الحج شكراً لله عز وجل، ولتتم النعمة، ولتتم رحلاته في أقطار العالم الإسلامي في ذلك الوقت.

رحلة الخطيب إلى دمشق وتوجهه إلى بلد الله الحرام

رحلة الخطيب إلى دمشق وتوجهه إلى بلد الله الحرام بدأت الرحلة الثالثة في سنة (444هـ) فتوجه من بغداد إلى دمشق وسمع من كثيرٍ من محدثيها، ثم توجه إلى مكة ولم يكن يترك طريقه بدون فائدة، بل كان يشغله بتلاوة القرآن الكريم، فيقول أحد مرافقيه وهو أبو الفرج الأسفرائيني: كان الخطيب معنا في طريق الحج يختم كل يومٍ ختمة، قراءة ترتيل، ثم يجتمع عليه الناس وهو راكب يقولون: حدثنا فيحدثهم، وهكذا قضى الطريق متقرباً إلى الله تعالى بتلاوة القرآن، وإسماع الناس الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولما وصل مكة وطاف ببيت الله الحرام، وصلى ركعتين خلف المقام توجه إلى ماء زمزم وشرب منه ثلاث شربات، وسأل الله ثلاث حاجات، آخذاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ماء زمزم لما شرب له) وهذه الثلاث هي: الأولى: أن يحدث بـ تاريخ بغداد في بغداد. الثانية: أن يملي الحديث بجامع المنصور، وكان جامعاً مشهوراً لا يحدث به إلا النوادر ممن يؤذن له من الخليفة. الثالثة: أن يدفن بجانب بشر الحافي، وهو أحد الورعين الزهاد العباد، فتمنى أن يدفن بجانبه، وبلغه أن كريمة المروزية مجاورة بـ مكة المكرمة، وعندها سماعٌ عالٍ لـ صحيح البخاري؛ لأن كريمة عُمِّرت إلى سن المائة رحمها الله تعالى، فذهب إليها وقرأ عليها صحيح البخاري في خمسة أيام. وبعد الانتهاء من فريضة الحج والاجتماع بمحدثي مكة، والمشاهدات النافعة التي حصلت له، كما قال الله عز وجل: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج:28] قفل راجعاً إلى الشام من الحجاز، فمر بـ البيت المقدس أولى القبلتين ومسرى النبي صلى الله عليه وسلم، واجتمع بعلمائها، مثل: أبي محمد عبد العزيز بن أحمد بن عمر المقدسي وسمع منه الحديث، ولعل هذا الدخول لـ بيت المقدس كان في سنة (446هـ). ثم انتقل بعدها إلى صُوْرٍ وسمع فيها من بعض مشايخها، مثل: عبد الوهاب بن حسين العمر الغزال، وانتهى مكثه بمدينة صُوْر فتوجه راجعاً إلى وطنه بغداد حاملاً معه رواياته الجديدة، ومسموعاته التي تزود بها، وبدخوله بغداد، انتهت المرحلة الثانية من حياته.

الخطيب ومرحلة التصنيف والكتابة والإسماع والإملاء

الخطيب ومرحلة التصنيف والكتابة والإسماع والإملاء بدأت المرحلة الثالثة: وهي مرحلة التصنيف والكتابة والإسماع والإملاء، فجعل يجمع المتفرق، ويرتب المتناثر من الفوائد والمسموعات التي حصلها، ويجعل منها مادة دسمة وغنية بتصانيفه التي كانت بحقٍ من أجود التصانيف خصوصاً في علوم الحديث، ويعتبر الخطيب البغدادي رحمه الله مجدداً في علوم الحديث، ويعتبر النقلة التي نقل بها علم الحديث من ناحية التأليف نقلة كبيرة، فكان العلماء في الحديث من بعده كلهم عالة عليه، وكل من أراد أن يؤلف في الحديث لابد أن يرجع إلى كتب الخطيب رحمه الله تعالى. حتى عدّد بعض أهل العلم كتبه بأربع وخمسين مصنفاً إلى عام (453هـ) غير ما صنف بعدها. وأما الحاجة الأولى التي كان سأل الله إياها: وهي التحديث بـ تاريخ بغداد بـ بغداد، فقد حدثت في هذا الاستقرار، فإنه حدث بـ بغداد بكتاب تاريخ بغداد وأملاه على بعض تلاميذه في حجرةٍ كانت له قرب المدرسة النظّامية.

الخطيب والتحديث بجامع المنصور

الخطيب والتحديث بجامع المنصور وأما الحاجة الثانية: وهي إملاء الحديث بجامع المنصور، فلم يكن ذلك أمراً سهلاً ويصعب على الخطيب أن يقدم التماسات للسلطان لكي يسمح له بذلك، ولعل قدر الله يجري، وكان يتمنى أن يجري قدر الله بشيءٍ يجعل السلطان من نفسه يأذن له بالتحديث أو يعرف رغبته فيأذن له بالتحديث، فجرت حادثة سنة (447هـ) وكان لها الأثر الكبير في رفعة مقام الخطيب البغدادي عند السلطان، ومن كان في ذلك الوقت آخذاً بزمام الأمور، وهذا الحادث هو أن بعض اليهود قد أظهر كتاباً بخط اليد، وادّعى أنه من النبي صلى الله عليه وسلم بإسقاط الجزية عن أهل خيبر، وأن فيه شهادات الصحابة وخط علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فرئيس الرؤساء في ذلك الوقت أبو مسلم عرضه على الخطيب، وسمع أن الخطيب محقق من المحققين، ومؤرخ ومحدث؛ فعرض عليه الرسالة، فقال الخطيب لما اطلع على الرسالة فوراً: هذا مزوّر، فقال من أين لك هذا؟ وما هو الدليل؟ قال: في الكتاب شهادة معاوية بن أبي سفيان ومعاوية أسلم يوم الفتح، وخيبر كانت في سنة (7هـ) وفي هذه الرسالة أيضاً شهادة سعد بن معاذ رضي الله عنه، وسعد بن معاذ مات يوم الخندق قبل معركة خيبر، فكيف يشهد سعد بن معاذ الذي مات قبل خيبر على قضية حصلت بـ خيبر، وكيف يوقع معاوية بن أبي سفيان الذي أسلم بعد خيبر على قضية حدثت بـ خيبر! هذه فائدة معرفة التواريخ، وكان ذلك من فطنته وعلمه رحمه الله، فاستحسن السلطان ذلك جداً، واعتمده وأمضاه، ولم يُجز اليهود على ما في الكتاب؛ لظهور التزوير، ولعله عاقبهم. وارتفعت منزلته بهذه القصة عند أبي مسلم وكبر في عينه كثيراً، ووثق به وبدقة علمه؛ فقدمه وصار يذكره، وشاع ذكر الخطيب رحمه الله بعد تلك القصة جداً، وحُمل إلى الخليفة ومعه جزءٌ من سماع الخليفة الآخر القائم بأمر الله، وأراد أن يحدث الخليفة بجزء الخليفة الآخر، فقال الخليفة: هذا رجلٌ كبيرٌ في الحديث ليس له إلى السماع مني حاجة -ذهب إليه ليستمع حديثه منه، وكان الخليفة قد سمعه هو نفسه، فكان الخطيب قد كتبها عنده لما أدخل على الخليفة ومعه جزء الخليفة، وطلب منه أن يسرد عليه الأحاديث التي سمعها، قال الخليفة متعجباً: هذا رجلٌ كبير القدر في الحديث، فليس له إلى السماع مني حاجة، وعنده من الطرق الأخرى ما يستغني عني وعن سماعي- فما حاجته اسألوه؟ قال: حاجتي أن يأذن لي بالإملاء في جامع المنصور. فأذن للخطيب بالإملاء، واجتمع الناس في جامع المنصور، وأملى الحديث وتمت له اثنتين مما دعا الله بها عند زمزم، وهذا المسجد الكبير الذي يؤمه الطلاب لا شك أنه كان نافذة كبيرة للخطيب رحمه الله؛ لكي يملي أحاديثه وينشر علمه من خلال ذلك المنبر.

فتنة البساسير وخروج الخطيب إلى دمشق

فتنة البساسير وخروج الخطيب إلى دمشق بقي الخطيب طيب النفس قرير العين بما بلغت أمانيه التي استجابها الله له يملي بجامع المنصور، ويصنف ويهذب، إلى أن حدثت فتنة البساسير، وهذا انقلاب خطير جداً صارع الخلافة العباسية السنية من قبل هذا البساسير الرافضي الباطني ومعه عددٌ آخر من الباطنية، ومعهم من الرعاع والأشرار وقطاع الطرق والمجرمين، بحيث أنهم سيطروا على مدينة بغداد فعلاً، واستطار شر هذه الفتنة وكاد الخطيب رحمه الله أن يُقتل فيها، لكنه سارع بالخروج من بغداد متخفياً إلى دمشق وهاجر منها وقد صارت موطن كفرٍ بما حكم به ذلك الرافضي الباطني الخبيث، وخلع خليفة المسلمين، وتُتبع أهل العلم والفضل، وقُتل من أهل السنة وعلمائهم خلقٌ كثير في تلك الفتنة بأمورٍ شنيعة، وكيفيات بشعة في القتل جداً، وقد أشار ابن كثير رحمه الله إلى هذه الفتنة في كتاب البداية والنهاية، ووصف البساسير بالخبيث. لقد استتر الخطيب رحمه الله وخرج من بغداد في شهر صفر سنة (451هـ) مصطحباً كتبه وتصانيفه قاصداً دمشق فوصلها سالماً، واتخذ المئذنة الشرقية من الجامع الأموي مسكناً له، وبدأ التدريس في المسجد، وصار له حلقة كبيرة يجتمع الناس فيها ويحدثهم، وكان يخرج أيضاً إلى بساتين ويقرأ كتب الأدب هناك، ولعل كتاب التطفيل وحكاية الطفيليين قد حدث في ذلك الجو والظل الوارف، وبينما كان يقرأ من الكتب في دمشق كتاب فضائل الصحابة الأربعة للإمام أحمد بن حنبل رحمه الله سمع بذلك بعض الروافض، وكان لهم شوكةٌ؛ حصلت لهم بسبب حكم الفاطميين في مصر، فثاروا على الخطيب وأرادوا قتله، فأجاره أحد الأشراف في ذلك المكان، وكان مسكنه قريباً من الجامع، فأجاره على أن يخرج من دمشق، فخرج إلى صور، ونفعته الرحلة الأولى التي دخل فيها صور وأقام فيها علاقات مع بعض أهلها، فكان المكان المناسب أن يخرج إلى تلك البلدة، ومن الأسباب التي جعلت هؤلاء يقومون عليه هو صوته -رحمه الله- فقد قال ابن كثير في البداية، عن الخطيب البغدادي: أنه كان جهوري الصوت، يُسمع صوته من أرجاء الجامع كله، فاتفق أن قرأ على الناس في يومٍ من الأيام فضائل العباس فثار عليه الروافض من أتباع الفاطميين وأرادوا قتله، فحصل ما حصل من خروجه إلى صور، وقد خرج في سنة (459هـ) وكان فيها بعض أهل العلم وهاجر إليها لا ليسمع كما كان من قبل وإنما ليُسمِع هو ويملي ويحدث في تلك البلدة، وقد قيض الله له من يُنفق عليه في تلك البلدة ويُعطيه مالاً كثيراً، فحصل له به اكتفاء.

رجوع الخطيب إلى بغداد بعد الفتنة

رجوع الخطيب إلى بغداد بعد الفتنة لما بلغ الخطيب سبعين سنة وشاخ وشعر بقرب أجله حنّ إلى بغداد، وكانت فتنة البساسير قد زالت، وعاد الأمر إلى أهل السنة، ونُصِبَ الخليفة منهم مرةً أخرى، فرجع الخطيب رحمه الله في سنة (462هـ) سالكاً طريق الساحل ماراً بـ طرابلس ودخل فيها وجلس فيها فترةً يسيرة ناظر في ضمن من ناظره بعض أهل التشيع هناك، وكانت طرابلس تحت حكمهم، وتفوق عليهم، ثم خرج منها قاصداً حلب، وأقام بها أياماً يسيرة يُعلِّم ويحدِّث، وسمع من بعض الشيوخ بـ حلب، ومنهم: أبو الفتح أحمد بن النحاس رحمه الله، ثم توجه إلى بغداد فوصلها في سنة (462هـ) في تلك السنة أيضاً، فاستغرقت الرحلة من صُوْر إلى بغداد أربعة أشهر لم يكن يترك في طريقه الفائدة والعبادة والتقرب إلى الله، فلا زال على طريقته التي عهدوه عليها في رحلة الحج من ختمٍ للقرآن كل يومٍ ختمةً كاملةً. ولما وصل إلى بغداد وسُر بالوصول إليها بعد فراق دام إحدى عشرة سنة، أراد أن يكافئ أحد من صنع إليه معروفاً في بغداد، فلم يجد ما يكافئه به أعظم من كتابه تاريخ بغداد، وقال: لو كان عندي أعز منه لأهديته له. وكانت هذه النسخة من تاريخ بغداد بخط الخطيب نفسه، واستأنف الخطيب رحمه الله دروسه في بغداد في جامع المنصور بعد أن آل الأمر فيها لـ أهل السنة، والخليفة العباسي القائم بأمر الله، واجتمع إليه الناس، ورجع إليه طلاب الحديث بشوقٍ ولهفة وحنين، فحدَّث بـ سنن أبي داود من روايته وبكتبه وتواريخه.

مرض الخطيب البغدادي ووفاته

مرض الخطيب البغدادي ووفاته لقد مرض الخطيب رحمه الله في نصف رمضان من سنة (463هـ) في حجرته، ولما أحس بدنو أجله وكان عنده شيءٌ من المال والثياب أراد أن يوزع ذلك قبل أن يموت، ولم يكن له زوجة ولا أولاد، ولا عقب ولا وارث؛ فلعله أراد أن يختم حياته بالتصدق بما عنده من أموال، ففرقها على أصحاب الحديث، وكانت كل ممتلكاته مائتي دينار، وكّل في توزيعها أبا الفضل بن خيرون، فوزعها في حياة الخطيب، وأوصى بأن يتصدق بجميع ثيابه وما يملكه من أشياء بعد وفاته، وجعل جميع كتبه ومصنفاته وقفاً على المسلمين، واشتد المرض به في أوائل ذي الحجة سنة (463هـ) حتى توفي في ضحى يوم الاثنين السابع من ذي الحجة في تلك السنة، رحمه الله تعالى ورضي عنه وأرضاه، وامتدت فترة مرضه من رمضان إلى سبع ذي الحجة، وكان اشتداد المرض في أوائل ذي الحجة، والوفاة في السابع من هذا الشهر. بوفاته رحمه الله تعالى طويت صفحة عظيمة من صفحات علم الحديث التي ذهب فيها هذا العالم الكبير إلى ربه سبحانه وتعالى، وكان على أخلاقٍ عظيمة وعبادةٍ كبيرة، وعفةٍ متناهية، فإنه لم يتزلف إلى سلطانٍ، ولم يتولَّى منصباً قط، لا قاضياً ولا مفتياً، مع أنه كان أهلاً لذلك، ولم تكن المناصب لتمتنع عليه، لو أنه سعى إليها وأرادها، لكنه اختار أن يبقى بعيداً عن فتنة الوجاهة، ورضي بالكفاف من العيش، ولم يكن له خدمٌ ولا جوارٍ، ولعلّ الرحلة في طلب العلم لم تسعفه في الزواج، فتوفي رحمه الله وخلف أولاداً مخلدين من المصنفات التي ألفها.

بيان عفة الخطيب البغدادي وبعض سجاياه

بيان عفة الخطيب البغدادي وبعض سجاياه لقد ذكر المؤرخون من قصص الخطيب العظيمة في عفته، أنه كان مرةً بـ مرو فحدثت له القصة التالية: أحد أهل مرو حدَّث بالقصة التالية عن الخطيب: عن شخصٍ اسمه عمر النسوي من نسى وهي بلدة معروفة، قال: كنتُ في جامع صور عند الخطيب، فدخل عليه بعض العلوية، وفي كمه دنانير، وقال للخطيب فلانٌ -من بعض الأغنياء- يسلم عليك ويقول: هذا تصرفه في بعض مهماتك، فقال الخطيب: لا حاجة لي فيه، وقطّب وجهه، فقال العلوي: فتصرفه إلى بعض أصحابك؟ قال: قل له يصرفه هو إلى من يريد. قال العلوي: كأنك تستقله، ونفض كمه على سجادة الخطيب وطرح الدنانير عليها، وقال هذه ثلاثمائة دينار -والدينار أربعة غرامات وربع من الذهب- ووضعها على السجادة، فقام الخطيب محمر الوجه، وأخذ السجادة ونفض الدنانير على الأرض وخرج من المسجد. قال: الفضل بن أبي ليلى الذي حضر القصة: لا أنسى عز خروج الخطيب وذل ذلك العلوي وهو قاعدٌ على الأرض يلتقط الدنانير من شقق الحصر ويجمعها، قام وترك له هذه الدنيا، وقام ذلك يجمع الدنانير.

تواضع الخطيب رحمه الله

تواضع الخطيب رحمه الله ومن تواضعه رحمه الله أن أحد المحدثين لقيه، فقال له: أنت الحافظ أبو بكر، قال: انتهى الحفظ إلى الدارقطني، أنا أحمد بن علي بن ثابت الخطيب.

كرم الخطيب البغدادي

كرم الخطيب البغدادي ومن كرمه رحمه الله ما حدّث به تلميذه الخطيب التبريزي قال: دخلتُ دمشق فكنتُ أقرأ على الخطيب بحلقته بالجامع كتب الأدب المسموعة له، وكنت أسكن منارة الجامع، فصعد إليّ وقال: أحببت -الشيخ يقول للتلميذ- أن أزورك في بيتك، فتحدثنا ساعةً، ثم أخرج ورقةً، وقال: الهدية مستحبة، اشتر بهذه أقلاماً، ثم نهض فإذا خمسة دنانير مصرية، ثم إنه صعد مرةً أخرى، ووضع نحواً من ذلك، فهذا من إكرامه لتلاميذه رحمهم الله تعالى. وكان من مميزات الخطيب أنه كان جيد الخط، وتجد أن بعض المخطوطات التي كتبها بعض العلماء قد أتعبت من بعدهم في فك رموزها من سوء خطهم، ولعل بعضهم لم يكن عنده وقت للتدرب على تحسين الخط من ولعهم بالعلم والرحلات، لكن الخطيب رحمه الله من ميزاته أنه كان حسن الخط، كثير الضبط، كثير الشكل، وهو الذي عنون عنواناً في كتابه الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، باب تحسين الخط وتجويده، نصح فيه طلبة العلم بتحسين الخط. ومن ضمن تلك النصائح: أن الواحد لا يقرنط فيتعب ويتعب من بعده، يقرنط: أي يصغر الخط؛ لأنه إذا كبر وصار بصره ضعيفاً لم يعد يقرأ ما كتب في أيام الشباب، ولو مات وأراد واحد أن ينتفع بما كتبَ فسيتعب جداً في فك هذه الرموز، وكذلك فإنه كان فصيحاً للغاية، كان يقرأ قراءةً معربةً صحيحةً. قال ابن الجوزي: كان حسن القراءة، فصيح اللهجة، وكان جهوري الصوت، وكان عجيباً في سرعة القراءة، ضرب به المثل في ذلك، وكان حريصاً على الاستفادة من وقته، كان يمشي في الطريق وفي يده جزءٌ يطالعه، يضرب به المثل في سرعة القراءة، وكان عليه هيبة ووقارٌ من عمله بالعلم الذي اكتسبه رحمه الله تعالى، وقد أثنى عليه العلماء ومدحوه للغاية، مثل تلميذه الحافظ ابن ماكولا، والحافظ أبو بكر ابن نقطة الحنبلي وأبو سعد السمعاني وابن عساكر وابن خلكان وابن النجار والسبكي والسِلَفِي وأبو إسحاق الشيرازي، والتاجي، وابن الأثير، والذهبي وغيرهم. يقول الذهبي رحمه الله: "ختم به إتقان هذا الشأن". وقال صاحب وفيات الأعيان: "سنة كذا مات حافظ الدنيا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب صاحب التصانيف".

مصنفات الخطيب البغدادي رحمه الله

مصنفات الخطيب البغدادي رحمه الله لقد ترك تصانيفاً كثيرةً جداً قريباً من مائة مصنف صارت عمدةً لأهل الحديث، ومن هذه المصنفات: 1 - تاريخ بغداد وهو أشهرها. 2 - الكفاية في علم الرواية، وهو موضح أوهام الجمع والتفريق في باب مصطلح الحديث. 3 - شرف أصحاب الحديث. 4 - الفقيه والمتفقه. 5 - التطفيل. 6 - اقتضاء العلم العمل. 7 - تقييد العلم. 8 - نصيحة أهل الحديث. 9 - الرحلة في طلب الحديث. 10 - الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع. 11 - المتفق والمفترق. 12 - السابق واللاحق. 13 - المزيد في متصل الأسانيد. لا يكاد يوجد باب من أبواب المصطلح إلا وتجد فيه للخطيب تأليفاً وتصنيفاً. 14 - التفصيل لمبهم الأسانيد. 15 - الأسماء المبهمة. 16 - روايات الآباء عن الأبناء. 17 - من حدث ونسي. 18 - غنيمة الملتمس في إيضاح الملتبس. 19 - الأسماء المتواطئة. 20 - المؤتلف والمختلف. هذه كلها أبواب في مصطلح الحديث قد غطاها الخطيب رحمه الله تأليفاً وتصنيفاً، وكل من صنَّف في علم الحديث بعد الخطيب عيالٌ على كتبه، وكتبه ليست في الحديث فقط وإنما يوجد منها أشياء أخرى في أبوابٍ من العلم، ومن هذه المنصفات: رسالة لطيفة للخطيب البغدادي رحمه الله، بعنوان: اقتضاء العلم العمل، وهي التي سنتعرض لها في هذا المقام بمشيئة الله عز وجل.

سبب تأليف رسالة اقتضاء العلم العمل

سبب تأليف رسالة اقتضاء العلم العمل لقد جمع الخطيب البغدادي رحمه الله هذه الرسالة ليبين أهمية العلم بالعمل، وقد جمع علماً كثيراً ومرويات متعددة وفيرة، لكنه علم رحمه الله أن الغاية من طلب العلم هو العمل به، ولعله لاحظ أن هناك تقصيراً في العلم، وأن بعض الناس في عهده من طلاب الحديث قد رحلوا في طلب الحديث، وجمعوا الروايات والطرق والأسانيد وربما اجتمع عند الواحد منهم أسانيد كثيرة لحديثٍ واحد، فلاحظ أن هناك انشغالاً كبيراً بالجمع وتقصيراً في العمل. والعصر الذي عاش فيه الخطيب رحمه الله، كان عصر جمع الأحاديث، وكان انكباب الطلاب على الجمع، والانشغال عن العمل، مما يبين أن هناك سبب وراء تأليف الرسالة يتعلق بالعصر الذي عاش فيه، وهناك السبب العام وهو نصيحة لكل المسلمين بأهمية العمل بالعلم، لأن هذا باب يحتاجه كل مسلم، وهو التركيز على قضية العمل بالعلم.

أهمية التوازن بين العلم والعمل

أهمية التوازن بين العلم والعمل لقد صدّر رسالته هذه بقوله: (نشكر الله سبحانه على ما ألهمنا، ونسأله التوفيق للعمل بما علّمنا، فإنّ الخير لا يدرك إلا بتوفيقه ومعونته، ومن يضلل الله فلا هادي له من خليقته، وصلى الله على سيدنا محمد سيد الأولين والآخرين، وعلى إخوانه من النبيين والمرسلين، وعلى من اتبع النور الذي أنزل معه إلى يوم الدين. ثم إني موصيك يا طالب العلم بإخلاص النية في طلبك، وإجهاد النفس على العمل بموجبه، فإن العلم شجرة والعمل ثمرة، وليس يعد عالماً من لم يكن بعلمه عاملاً، وقيل: العلم والد والعمل مولود، والعلم مع العمل، والرواية مع الدراية) الرواية هي: الأسانيد والمتون، والدراية هي: أن يدري بما يعلم ويفقهه. (ورأس الفقه العمل بالعلم، فلا تأنس بالعمل ما دمتَ مستوحشاً من العلم، ولا تأنس بالعلم ما كنت مقصراً في العمل). هذه نظرية مهمة جداً، وهي قضية التوازن بين العلم والعمل، وتجد بعض الناس عندهم طاقة في العمل لكنه سيقع في البدعة والخطأ، وبعض الناس عنده طاقة في جمع العلم، وليس عنده طاقة في العمل، فيكون علماً نظرياً لا ينفع صاحبه، فلا تأنس بالعمل ما دمت مستوحشاً من العلم، ولا تأنس بالعلم ما دمت مقصراً في العمل (ولكن اجمع بينهما وإن قل نصيبك منهما، وما شيءٌ أضعف من عالمٍ ترك الناس علمه لفساد طريقته، وجاهلٍ أخذ الناس بجهله لنظرهم إلى عبادته) وهذا فعلاً من الأخطاء التي يقع فيها العامة. ينظرون إلى واحد يجدون عنده اجتهاد وعبادة كبيرة فيستفتونه ويسألونه وينصبونه عالماً، وهو ليس بعالم إنما هو عابد، وربما يوجد عالم عنده علم لكن ليس عنده عبادة ولا زكاة للعلم، فالناس سيتركونه؛ لأن أخلاقه ليست أخلاق العلماء، وعبادته ليست عبادة العلماء، وعمله ليس عمل العلماء؛ فيتركونه، فتكون النتيجة ضلال الخلق. والناس يريدون واقعاً عملياً يقتنعون به، فالسيرة والتصرفات، هي التي تقنع الناس. قال: (والقليل مع هذا) أي: من العلم (مع القليل من هذا) من العمل (أنجى في العاقبة إذا تفضل الله بالرحمة، وتمم على عبده النعمة، فأما المدافعة والإهمال) لا علم ولا عمل (وحب الهوينة والاسترسال، وإيثار الخفض والدعة، والميل إلى الراحة والسعة، فإن خواتم هذه الخصال ذميمة، وعُقباها كريهةٌ وخيمة). وكثير من شباب الصحوة ابتلوا في هذه الأيام بقضية الميل إلى الدعة والراحة، والكسل واللهو واللعب، فلم يعد في حياتهم نصيبٌ إلى الجد في طلب العلم، وليس عليهم إلا سيما الالتزام في الظاهر، من لحيةٍ، وتقصيرٍ ثوبٍ، ولكن في باطن الأمر لا تجد علماً جيداً، ولا عملاً مجتهداً فيه.

الغاية من طلب العلم

الغاية من طلب العلم قال: (والعلم يراد للعمل كما العمل يراد للنجاة! فإذا كان العمل قاصراً عن العلم، كان العلم كلاً على العالم، ونعوذ بالله من علمٍ عاد كلاً، وأورث ذلاً، وصار في رقبة صاحبه غلاً، قال بعض العلماء: العلم خادم العمل، والعمل غاية العلم) أي: أنت لماذا تتعلم ما هو السر؟ ما هي الغاية من وراء التعلم؟ إنك تتعلم لتعمل. وتجد بعض الناس عندهم إنخداع وانجذاب لمنهج الغربيين الضلال الكفرة، الذين يقولون: العلم للعلم، والقراءة للقراءة، والثقافة للثقافة، أي: أن العلم لذاته يقصد لذاته، ولذلك تراهم يسلكون سبلاً ليست نافعة في العلم إطلاقاً، ترى الواحد منهم يتخصص وربما يأخذ شهادة الدكتوراه في شيءٍ تافه سخيف جداً، يفني عمره فيه، مثلاً: بعضهم يتخصص في الآثار والتحف الموجودة من الحضارات القديمة، دكتوراه في التحف والآثار، ما هي الفائدة؟ وربما واحد تخصص في اللغة الهيروغلوفية ومعه دكتوراه في اللغة الهيروغلوفية، ما هي الفائدة في لغة انقرضت؟ ويفني عمره فيها، لماذا؟ لأن عند الغربيين مبدأ العلم للعلم. أما المسلمون فعندهم مبدأ العلم للعمل، وهذا الفرق بيننا وبينهم، فرق كبير، ولذلك تجد كثيراً منهم تضيع أعمارهم في أشياء تافهة، وبعض أبناء المسلمين قلدهم، ذهب إلى بلدانهم وتعلم مثلهم وعلى طريقتهم، ورجعوا بتخصصات تافهة سخيفة، أمضى سنواتٍ طويلة وأبحاث، في ماذا؟ يقول: علم هذا لأجل العلم، فليس عند المسلمين شيء اسمه العلم للعلم، وإنما العلم وسيلة لغايةٍ وهي العمل. قال الشيخ: (وهل أدرك من السلف الماضيين الدرجات العلى إلا بإخلاص المعتقد والعمل الصالح، والزهد الغالب في كل ما راق من الدنيا؟! وهل وصل الحكماء إلى السعادة العظمى إلا التشييد بالسعي، والرضا بالميسور، وبذل ما فضل عن الحاجة للسائل والمحروم؟! وهل جامع كتب العلم إلا كجامع الفضة والذهب؟! وهل المنهوم بها إلا كالحريص الجشع عليها؟ وكما لا تنفع الأموال إلا بإنفاقها! كذلك لا تنفع العلوم إلا لمن عمل بها وقام بواجباتها!!) افترض لو أن واحداً يجهد عمره في جمع المال وكسبه ولا يستفيد منه ولا ينفق، ولا يستمتع به شيئاً فهل هذا عاقل؟ وهل استفاد شيئاً مما جمع؟ لا. فكذلك الذي يحرص على جمع العلم دون عمل، (فلينظر المرء لنفسه، وليغتنم وقته، فإن الثوى قليل -أي: البقاء في الدنيا قليل- والرحيل قريب، والطريق مخوف، والاغترار غالب، والخطر عظيم، والناقد بصير، والله تعالى بالمرصاد، وإليه المرجع والمعاد: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:7 - 8]).

الأحاديث والآثار في بيان أهمية العمل بالعلم

الأحاديث والآثار في بيان أهمية العمل بالعلم بعد هذا شرع الخطيب رحمه الله في إيراد الأحاديث والآثار التي جمعها عن النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة والتابعين والسلف في هذه المسألة، وهي قضية العمل بالعلم، فصدَّره بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزولا قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه، وعن علمه ماذا عمل به، وعن ماله من أين أكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه) وهذا حديثٌ صحيح أخرجه المصنفون من أهل العلم في كتبهم، وبعض الأحاديث التي ساقها الخطيب رحمه الله في هذا الكتاب ضعيفة، وبعضها أكثر من ضعيفة، ولكن كما ذكر العلامة الألباني رحمه الله، في تعليقه على هذه الرسالة: لعل عُذر الخطيب رحمه الله في ذلك أن العالم يسوق الإسناد، والمُحدِّث إذا ساق بالإسناد فإنه يكون قد حمّلك أنت أيها القارئ المسئولية، قال لك: هذا إسنادي فلان عن فلان عن فلان، وأنت تتحمل مسئولية البحث في صحة هذا الحديث. وكذلك فإن بعض الطرق التي ساقها الخطيب ضعيفة، لكن الحديث له طرق أخرى صحيحة أو يتحسن بها الحديث بمجموع طرقه، ولعل الخطيب رحمه الله اشتغل بالجمع فترةً طويلة من عمره، ولم يكن عنده نصيبٌ كافٍ من الوقت لتحقيق ما جمع ونخله والتعليق عليه، والخطيب رحمه الله ليس جمّاعاً فقط بل جمّاع ناقد، وأصول النقد عنده واضحة، وتآليفه في المصطلح واضحة، وهي تدل على علو كعبه في علم الحديث، فلا تخفى عليه العلل، لكنه ربما لم يكن عنده الوقت لكي ينخل كل ما جمع ويكتب بجانب كل حديث صحته، أو أن طريقة العلماء أنهم كان يكتبون وطلبة العلم بقراءة الأسانيد يعرفون مدى صحة الحديث لا يحتاج إلى أن يقال له: هذا حسن وهذا ضعيف، أو هذا ضعيف وهذا صحيح، بينما نحن الآن بسبب جهلنا بعلم الحديث ليس عندنا قدرة على التمييز بين الأسانيد إلا من ندر. ولذلك نحتاج بجانب كل حديث أن يعلق لنا عليه صحيح أو ضعيف، لأن هذا أوان وزمانٌ قد اضمحل فيه العلم، وذهب كثيرٌ منه، وتجد أكثر الناس ليس عندهم قدرة على التمييز بين الصحيح والضعيف. ولذلك فإن عدداً من العلماء في الفترات المتأخرة بعد أن انتهت فترة جمع الحديث كانت هناك فترة التحقيق والتمحيص، والتصحيح والتضعيف، والتعليق على الأحاديث، وقد ورد عن علي رضي الله عنه: [يا حملة العلم! اعملوا به، فإنما العالم من عمل، وسيكون قومٌ يحملون العلم يباهي بعضهم بعضاً، حتى إن الرجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره، أولئك لا تصعد أعمالهم إلى السماء] وهذا يتضح كثيراً في مشايخ الصوفية، فالشيخ يريد أن يكون كل الطلاب مريدين عنده، ومنتسبين إليه، ولا يرضى أبداً أن يذهب أحد تلاميذه إلى شيخٍ آخر، ويجلس عند الشيخ الآخر، والحسد والتقاتل على الدنيا، وتكثير الاتباع والطلاب واضحٌ جداً فيهم، وتجد بين طلابهم أحقاد ومنافسات، وبعض المصابين بالأمراض النفسية، حتى من المنتسبين إلى السنة تجد فيهم هذا الداء، فلا يُعصم منه إلا من عصم الله، وينبغي على الإنسان أن يدل الطلاب على الفائدة والخير، وينصحهم بالذهاب إلى المشايخ والعلماء أينما كانت مجالسهم، عنده أو عند غيره؛ لأن المهم هو فائدة الطالب، وليس المهم أن يستفيد منك أو من غيرك، ثم إن من طبيعة العلم أنه لا يُتلقى عن شخصٍ واحد، فالشخص الواحد يخطئ والطالب قد لا يعرف خطأ الشيخ إلا إذا جلس إلى غيره، وإلى هذا وهذا وهذا، ولذلك كان من وسائل السلامة في طلب العلم: الأخذ عن عددٍ من الأشياخ وليس عن شيخٍ واحد؛ خصوصاً في هذا الزمان الذي قلَّ فيه فقه العلم الموسوعي، أي: منذُ زمن كان العالم يعرف الفقه والحديث، والتفسير واللغة، وأصول الفقه والمصطلح وسائر العلوم، أما الآن مع وجود الجامعات والكليات بدأ التخصص، فصار عندنا طالب يفهم في الأصول فقط، ولا يفهم في الحديث، والآخر يفهم في الحديث ولا يفهم في الفقه، وهذا يفهم في الفقه ولا يفهم في اللغة وهكذا، وذلك بسبب انحصار منهج التعليم الموسوعي والدخول في عالم التخصصات، بل إن البعض أحياناً يأخذ مسألة واحدة يبذل فيها جهده وعمره في رسالة ماجستير أو دكتوراه، وبقية مسائل العلم نفسه التي تحمله كليته بالاسم لا يفقهها كثيراً، ثم يتخرج ويتوظف وينتهي علمه عند هذه المسألة التي بحثها في رسالته، أو في بحثه الذي قدَّمه لنيل شهادةٍ علمية. قال ابن مسعود رضي الله عنه: [تعلموا فإذا علمتم فاعملوا]، وقال: [أيها الناس! تعلموا فمن علمَ فليعمل]. وجاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: [مثل علمٍ لا يعمل به، كمثل كنزٍ لا ينفق منه في سبيل الله عز وجل]. وقال الزهري رحمه الله: [لا يرضّين الناس قول عالمٍ لا يعمل، ولا عاملٍ لا يعلم، فالذي يرضيهم العلم والعمل]. فالعمل والإيمان قرينان، ولا يصلح كل واحدٍ منهما إلا مع صاحبه. وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: [إنك لن تكون عالماً حتى تكون متعلماً، ولن تكون متعلماً حتى تكون بما علمت عاملاً]. وقال بعضهم: "الناس كلهم هلكى إلا العالمون، والعالمون كلهم هلكى إلا العاملون، والعاملون كلهم هلكى إلا المخلصون، والمخلصون على خطر عظيم"، لماذا؟ لأنه قد لا يختم له بالإخلاص، فقد ينحرف في آخر عمره، فالدنيا جهلٌ ومواتٌ إلا العلم، والعلم كله حجة على الإنسان إلا العمل به، والعمل كله هباءً إلا الإخلاص، والإخلاص على خطرٍ عظيم حتى يُختم به. وقال الخواص: ليس العلم بكثرة الرواية، وإنما العالم من اتبع العلم واستعمله، واقتدى بالسنن وإن كان قليل العلم". وقال عباس بن أحمد في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69]. قال: من هم هؤلاء الذين قال الله فيهم: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69]؟ قال: "الذين يعملون بما يعلمون نهديهم إلى ما لا يعلمون، فيعلمونه". وقال يوسف بن حسين: [في الدنيا طغيانان: طغيان العلم وطغيان المال، والذي ينجيك من طغيان العلم العبادة، والذي ينجيك من طغيان المال -ما هو؟ - الزهد فيه]. وقال يوسف: [بالأدب تفهم العلم، وبالعلم يصح لك العمل، وبالعمل تنال الحكمة، وبالحكمة تفهم الزهد وتوفق له، وبالزهد تترك الدنيا -الترك الشرعي- وبترك الدنيا ترغب في الآخرة، وبالرغبة في الآخرة تنال رضا الله عز وجل]. العلم والعمل سلسلة تنتهي برضى الله عز وجل متى أردت أن تشرُف بالعلم وتنسب إليه وتكون من أهله، قبل أن تُعطي العلم ماله عليك، احتجب عنك نوره وبقي عليك رسمه وظُهوره، مجرد عنوان، ذلك العلم عليك لا لك، وذلك أن العلم يشير إلى استعماله، فإذا لم تستعمل العلم في مراتبه، رحلت بركاته. قال عوذبادي: من خرج إلى العلم يريد العلمَ لم ينفعه العلم، ومن خرج إلى العلم يريد العمل بالعلم نفعه قليل العلم. وقال: "العلم موقوفٌ على العمل، والعمل موقوفٌ على الإخلاص، والإخلاص لله يُورث الفهم عن الله عز وجل". وقال مالك بن دينار: "إن العبد إذا طلب العلم للعمل كسره علمه -أي: عرف قيمة نفسه وعرف حقيقة أمره وتواضع لله- وإذا طلبه لغير ذلك، ازداد به فجوراً وفخراً" ازداد بالعلم فجوراً وفخراً وطغياناً على عباد الله وتكبراً. الآن بعض الناس من المشايخ الذين أخذوا علمهم في بعض الجامعات وأخذوا الدكتوارة، يغضب إذا لم يُقال له: الدكتور فلان أو الشيخ فلان! فلابد أن يصدّر بلقب، وهذا يدل على عيبٍ فيه، وأن علمه لم يزكِ نفسه فيكون متواضعاً. وورد: "خير العلم ما نفع، وإنما ينفع الله بالعلم من علمه ثم عمل به، ولا ينفع به من علمه ثم تركه" والآن عدد من الشباب الذين انتكسوا وانحرفوا باعوا كتبهم وقد كانوا في أول الأمر مقبلين على العلم والتعلم، والقراءة والبحث، وحضور الدروس، ثم انشغلوا بالدنيا والفتن والأشياء من الشبهات والشهوات ومغريات الدنيا، وفي النهاية باعوا كتبهم؛ للتخلص منها. ولذلك قيل: "تعلموا العلم واعقلوه وانتفعوا به، ولا تعلموه لتجبلوا به، فإنه يوشك إن طال بكم العمر أن يتجمل بالعلم، كما يتجمل الرجل بثوبه" أي: تصبح القضية مجرد حلية وزينه فقط، وليست حقيقة ولا باطن. قال أبو سعيد الخراز: "العلم ما استعملك واليقين ما حملك". وقال أبو قلابة: [إذا أحدث الله لكَ علماً، فأحدث له عبادًة، ولا يكن همك أن تحدث به الناس]. ولذلك قال الحسن البصري رحمه الله: [همة العلماء الرعاية -رعاية حدود الله، رعاية حق الله، رعاية العلم الذي يحملونه وإعطاء العلم حقه بالعمل- وهمة السفهاء الرواية]. وقال علي بن أبي طالب بإسنادٍ عجيبٍ ذكره الخطيب رحمه الله قال: أخبرنا أبو الفرج عبد الوهاب بن عبد العزيز بن الحارث بن أسد بن الليث بن سليمان بن الأسود بن سفيان بن يزيد بن وكينة بن عبد الله التميمي من حفظه قال: سمعتُ أبي يقول: سمعتُ أبي يقول: سمعتُ أبي يقول: سمعتُ أبي يقول: سمعتُ أبي يقول: سمعتُ أبي يقول؛ سمعتُ أبي يقول: سمعتُ أبي يقول: سمعتُ علي بن أبي طالب يقول: [هتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل] قال الخطيب: عدد الآباء تسعة، أي: هذا إسناد من النوادر، وكل واحد من أصحاب هذا السند أخذه عن أبيه عن أبيه، وكان أبوهم الكبير قد سمعه من علي بن أبي طالب رضي الله عنه. قال: [هتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل] فعلم بدون عمل يُذهب العلم.

كيفية المحافظة على العلم وتثبيته

كيفية المحافظة على العلم وتثبيته كيف يثبت العلم؟ تجد بعض الطلاب يقولون: نحن نقرأ ونقرأ ولكننا ننسى، كيف نحافظ على العلم؟ وكيف يستمر معنا في صدورنا؟ أهم وسيلة للحفاظ عليه هو العمل به، لأنك إذا عملت به ترسخ في نفسك، وإذا صار سجيةً عندك كيف تنساه؟ خذ أي حديثٍ في أي ذكرٍ من الأذكار، أو أي صلاة من الصلوات النافلة، أو أي مسألة من المسائل، فعندما تعمل بها وتصبح مقررة عندك في نفسك وسجية لك في طبعك، وعادة من عاداتك لا تنساه، لكن إذا كان مجرد علم نظري لا تعمل به، فنسيانه سهل. قال الفضيل رحمه الله: "لا يزال العالم جاهلاً بما علم حتى يعمل به، فإذا عمل به كان عالماً". وقال عبد الله بن المعتز: "علمٌ بلا عمل، كشجرةٍ بلا ثمرة! " وقال أيضاً: "علم المنافق في قوله، وعلم المؤمن في عمله". وأنشد محمد بن أبي علي الأصبهاني لبعضهم أبياتاً لطيفة يقول فيها: اعمل بعلمك تغنم أيها الرجل لا ينفع العلم إن لم يحسنُ العملُ والعلم زينٌ وتقوى الله زينته والمتقون لهم في علمهم شغلُ وحجة الله يا ذا العلم بالغة لا المكر ينفع فيها لا ولا الحيلُ تعلم العلم واعمل ما استطعت به لا يلهينك عنه اللهو والجدلُ وعلِّم الناس واقصد نفعهم أبداً إياك إياك أن يعتادكَ المللُ وعظ أخاك برفقٍ عند زلته فالعلم يعطف من يعتاده الزللُ وإن تكن بين قومٍ لا خلاق لهم فأمر عليهم بمعروفٍ إذا جهلوا فإن عصوك فراجعهم بلا ضجرٍ واصبر وصابر ولا يحزنك ما فعلوا فكل شاةٍ برجليها معلقة عليك نفسك إن جاروا وإن عدلوا وقال يونس بن ميسرة: "تقول الحكمة: تبتغيني يا بن آدم؟ وأنت واجدني في حرفين: تعمل بخير ما تعلم، وتذر شرُ ما تعلم".

خوف العلماء من عاقبة عدم العمل بالعلم

خوف العلماء من عاقبة عدم العمل بالعلم وعن أبي الدرداء قال: [إنما أخاف أن يكون أول ما يسألني عنه ربي أن يقول: قد علمته، فما عملت فيما علمته]. وقال: [إن أخوف ما أخاف على نفسي يا عويمر -هذا اسم أبي الدرداء، هل علمتَ؟ فأقول: نعم، فيقال لي: فماذا عملتَ فيما علمتَ؟]. وقال الحسن البصري رحمه الله: [ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن الإيمان ما وقر في القلب، وصدقته الأعمال] وبعض الناس يروي هذا الأثر حديثاً مرفوعاً، لكنه لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من كلام الحسن البصري رحمه الله. من قال حسناً وعمل غير صالحٍ؛ رده الله على قوله، ومن قال حسناً وعمل صالحاً رفعه العمل، وذلك لأن الله يقول: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10] فالعلم الصالح يرفع صاحبه، والعمل الصالح يُرفع إلى الله عز وجل. وقالوا في قوله تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء:13] ما هو طائره؟ عمله. وقال حفص بن حميد: [دخلتُ على داود الطائي أسأله عن مسألة وكان كريماً؟ فقال: أرأيت المحارب إذا أراد أن يلقى الحرب أليس يجمّع آلته؟ -يستعد للمعركة والقتال ويجمّع السلاح- أليس يجمّع آلته، فإذا أفنى عمره في جمع الآلة فمتى يحارب؟ إن العلم آلة العمل، فإذا أفنى عمره في جمعه فمتى يعمل؟!] هكذا يكون حال الذي يجمع ولا يعمل. وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: [سمعني عبد الله بن إدريس أتلهف على بعض الشيوخ -أي: الذين فاتوني، مات الشيخ فلم يلحق به- فقال: يا أبا عبيد! مهما يفوتك من العلماء فلا يفوتنك العمل] إذا مات الشيخ فنقول: رحمه الله، لكن علمه باقٍ فلا تتحسر على فواته، واعمل بما تركه من علم تفلح، وهذا هو الخير العظيم والتعويض الكبير. وقال أبو الدرداء رحمه الله ورضي عنه وأرضاه: [ويلٌ للذي لا يعلم، وويلٌ للذي يعلم ولا يعمل سبع مرات] لماذا هذا الكلام؟ لأن بعض الناس يقول: إذا كان العلم حجة فلماذا نتعلم؟ نبقى في جهلنا أحسن! فنقول: وهل إذا بقيت في جهلك ستكون معذوراً عند الله؟ لأن بعضهم سمع عن مسئولية العلم، وماذا على المتعلم من الوزر إذا لم يعمل، قال: أمكث بلا تعليم أحسن، فنقول له: وماذا ستكون في جهلك؟ غير معذورٍ به، تؤاخذ عند الله، وتقع في الحرام، وتقع في البدع، فأي شيءٍ هذا؟ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل العالم الذي يُعلِّم الناس الخير وينسى نفسه كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه)، وفي رواية: (مثل الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه مثل الفتيلة تضيء للناس وتحرق نفسها) فالذي يعلم الناس خير إضاءة، لكن إذا كان لا يعمل فسيكون محرقاً لنفسه، أما الذي هو منطفئٌ خامد لا يضيء للآخرين ولا يضيء لنفسه، فهذا من أشر الناس. وقال عليه الصلاة والسلام: (يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقتابه، فيقال: أليست كنت تأمر بالمعروف وتنهى المنكر، قال: كنتُ آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه) وهذا حديثٌ صحيح أخرجه البخاري ومسلم وأحمد. قال منصور بن زاذان: "نبأت أن بعض من يُلقى في النار ليتأذى أهل النار بريحه، فيقال له: ويلك! ما كنتَ تعمل؟ لا يكفينا ما نحن فيه من الشر حتى ابتلينا بك ونتن ريحك؟ فيقول: إني كنتُ عالماً فلم أنتفع بعلمي". وقال يحيى بن معاذ الرازي: "مسكينٌ من كان علمه حجيجه، ولسانه خصيمه". وقيل: "كل من لم ينظر بالعلم فيما لله عليه، فالعلم حجةٌ عليه ووبال". العلم يستفاد منه أن تعلم حق الله عليك فتقوم به: إذا العلم لم تعمل به كان حجة عليك ولم تُعذر بما أنت حامله. فإن كنت قد أبصرت هذا فإنما يُصدق قول المرء ما هو فاعله وبعض السلف تمنَّى أنه لم يحمل من العلم شيئاً؛ وذلك لعظم مسئولية العلم، وما هو مطالب به من العمل، لكنه لا يمكن أن يكون متمنياً للجهل، وأن يبقى جاهلاً، فينبغي التوازن في معاني عبارات بعض العلماء. كقول الشعبي رحمه الله: [ليتني لم أكن تعلمتُ من هذا العلم شيئاً] قال الكلام معاتبة لنفسه، وشعوره بالذنب والتقصير، وهذا من تواضعه رحمه الله. قال سفيان الثوري وهو من كبار العلماء: [ليتني لم أكتب العلم، وليتني أنجو من علمي كفافاً لا علي ولا لي]. وقال ابن عيينة: "العلم إن لم ينفعك ضرك" ليس في علم ما لا ينفع ولا يضر؛ لأن العلم حجة لك أو عليك، فإما أن تنتفع به وإما أن تتضرر به. وعن مالك بن دينار قال: إني وجدتُ في بعض الحكمة: لا خير لك أن تعلم ما لم تعلم ولم تعمل بما قد علمت، فإن مثل ذلك مثل رجلٍ احتطب حطباً -الآن يريد أن يضرب مثلاً لمن عنده علم فلم يعمل به ويريد أن يتعلم زيادة، فقال: لا خير لك أن تعلم ما لم تعلم، ولم تعمل بما قد علمت فتضيف علوماً إضافية، ولم تعمل بعد بالعلم الأول، فإن مثل ذلك مثل رجل احتطبَ حطباً -فحزم حزمةً وذهب يحملها فعجز عنها، فضمّ إليها أخرى". وقال محمد بن علي الصوري -نسبة إلى صور وهي إحدى البلدان التي دخلها الخطيب رحمه الله-: كم إلى كم أغدو إلى طلب العلم مجداً في جمع ذاك حفياً طالباً منه كل نوعٍ وفنٍ وغريبٍ ولست أعمل شيئاً وإذا كان طالب العلم لا يعمل بالعلم كان عبداً شقياً إنما تنفع العلوم لمن كان بها عاملاً وكان تقياً

انتزاع العلم ورفعه

انتزاع العلم ورفعه جاء في حديث عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى السماء يوماً فقال: هذا أوان رفع العلم، فقال له رجلٌ من الانصار يقال له زياد بن لبيد: يا رسول الله! يرفع العلم وقد أثبت ووعته القلوب؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني كنتُ لأحسبك من أفقه أهل المدينة، ثم ذكر ضلالة اليهود والنصارى على ما في أيديهم من كتاب الله، فلقيت شداد بن أوس فحدثته بحديث عوف بن مالك، فقال: صدق عوف، ألا أخبرك بأول ذلك يرفع؟ قلتُ: بلى، قال: الخشوع، فلا ترى خاشعاً) وواضح أن الكلام على العمل بالعلم، أن أول ما يرفع هو بركة العلم، تزول بقلة العمل، ومن ذلك زوال الخشوع، حتى يؤدي ذلك في النهاية إلى أن يكون الناس فيهم من يقول: لا إله إلا الله، ويُسأل الرجل عن معناها فيقول: سمعتها من جدي وأبي ولا يعرف معناها، وفي آخر الزمن تنتهي المسألة إلى أن تصبح كلمة التوحيد طلسم من الطلاسم، لا يُعرف معناه. وقال بعضهم: خرج رجلٌ يطلب العلم، فاستقبله حجرٌ في الطريق، فإذا فيه خط منقوش "إقلبني ترى العجب وتعتذر" قال: فأقلب الحجر، فإذا فيه مكتوب: أنتَ بما تعلمُ لا تعمل، كيف تطلب ما لا تعلم؟ فرجع الرجل، لعل رجلاً كتبه في طريق طلاب الحديث، وكلما مرَّ عليها واحد قرأها وردها. وقال عطاء: [كان فتىً يختلف إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فيسألها وتحدثه، فجاءها ذات يومٍ يسألها، فقالت: يا بني! هل عملتَ بعدُ بما سمعتَ مني؟ قال: لا والله يا أماه، فقالت: يا بني! فبم تستكثر من حجج الله علينا وعليك؟] إذا أخذت نصيباً وعملت به، فتعال خذ غيره. وقال شعبة: "ما أنا على شيءٍ مقيمٌ أخاف أن يدخلني النار غيره" غير هذا العلم الذي تعلمته، أخشى أن يدخلني النار بعدم عملي به. وقال ابن مسعود: [إني لأحسب العبد ينسى العلم كان يعلمه بالخطيئة يعملها. فالخطايا تنسي العلوم، وإن العالم إذا لم يعمل بعلمه زلت موعظته عن القلوب، كما يزل القطر عن الصفا، أي: إن عدم العمل بالعلم يسبب نفور الناس من العالم، وزوال هيبته من القلوب وبعدهم عنه.

ذم طلب العلم للمباهاة والمراءاة

ذم طلب العلم للمباهاة والمراءاة عقد الخطيب رحمه الله باباً مهماً بعنوان: باب (ذم طلب العلم للمباهاة به والمراءاة فيه ونيل الأغراض وأخذ الأعواض عليه). مثل الذين يطلبون العلم للشهادات، يريد وظيفة، يقول: لم نقبل في القسم العلمي ولا الجامعة، لم نقبل في الطب والهندسة، ندخل شريعة لنأخذ شهادة، أكون قاضياً أو مدرساً وهكذا يريد شهادة فقط!! وأصبحت عملية الدراسة كلها من أولها إلى آخرها في كلية الشريعة لأجل الشهادة. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من طلب العلم ليباهي به العلماء، أو يماري بها السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس إليه فهو في النار) هذا الحديث أخرجه الخطيب البغدادي رحمه الله بإسناد ضعيفٍ جداً في هذا الكتاب، لكن الحديث رواه ابن ماجة وله طرق أخرى، والحديث حسَّنه الألباني في صحيح الجامع. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تعلم علماً يُبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة) حديث صحيح، أخرجه أحمد وغيره، ومعناه: لو أن واحداً جاء إلى العلم الشرعي الذي يبتغى به وجه الله -علم الشريعة- وتعلمه لأجل أن يصيب به عرضاً من الدنيا فقط، فلا يجد عرف الجنة يوم القيامة، وعرفها هو ريحها. وقال الحسن: [من طلب العلم ابتغاء الآخرة أدركها، ومن طلب العلم ابتغاء الدنيا، فهو حظه منها]. وضرب مثل العالم السوء، فقيل: مثل عالم السوء كمثل حجرٍ وقع في ساقية، فلا هو يشرب من الماء ولا هو يخلي عن الماء فيحيا به الشجر. ولو أن علماء السوء نصحوا لله في عباده، فقالوا: يا عباد الله! اسمعوا ما نخبركم به عن نبيكم، وصالح سلفكم فاعملوا به، ولا تنظروا إلى أعمالنا هذه فإنَّا قومٌ مفتونون، كانوا قد نصحوا لله في عباده، ولكنهم يريدون أن يدعوا عباد الله إلى أعمالهم القبيحة فيدخلوا معهم فيها. وجاء في بعض المواعظ القديمة: "يا علماء السوء! جعلتم الدنيا على رءوسكم، والآخرة تحت أقدامكم، قولكم شفاء، وعلمكم داء، مثلكم مثل شجرة الدفل، تعجب من رأها، وتقتل من آكلها"، شجرة الدفل هذه شجر مر أخضر، حسن المنظر، (من الخارج خلاخل والبلاء من الداخل) فهذا مثل الذي عنده كلام وعلم لكنه لا يعمل. ويلكم يا عبيد الدنيا، ماذا يغني عن الأعمى سعة نور الشمس وهو لا يبصرها؟ كذلك لا يغني عن العالم كثرة علمه إذا لم يعمل به، ما أكثر أثمار الشجر، وليس كلها ينفع ولا يؤكل، وما أكثر العلماء وليس كلهم ينتفع بما علم، فاحتفظوا -هذه نصيحة للناس أن يحتفظوا وينتبهوا ويحذروا من العلماء الكذبة الذين عليهم لباس الصوف، منكسين رءوسهم إلى الأرض، قولهم مخالف فعلهم، يشتري من الشوك العنب، ومن الحنظل التين، كذلك لا يثمر قول العالم الكذاب إلا زوراً، وإن البعير إذا لم يوثقه صاحبه في البرية، نزع إلى وطنه وأصله، وإن العلم إذا لم يعمل به صاحبه خرج من صدره وتخلَّى عنه وعطّله، وإن الزرع لا يصلح إلا بالماء والتراب، كذلك لا يصلح الإيمان إلا بالعلم والعمل.

الوعيد الشديد لمن قرأ القرآن للصيت ولم يقرأه للعمل

الوعيد الشديد لمن قرأ القرآن للصيت ولم يقرأه للعمل عقد الخطيب رحمه الله تعالى باباً في هذا الكتاب بعنوان: باب ما جاء من الوعيد والتهديد والتشديد لمن قرأ القرآن للصيت والذكر ولم يقرأه للعمل به واكتساب الأجر، وساق حديث النبي صلى الله عليه وسلم، عن أبي هريرة: (أول الناس يُقضى فيه يوم القيامة رجلٌ أوتي به فعرفه نعمه فعرفها، فقال: ما عملتَ فيها؟) قال: في الحديث: (ورجلٌ تعلم العلم والقرآن فأتى به الله فعرفه نعمه فعرفها، فقال: ما عملتَ فيها؟ قال: تعلمت العلم، وقرأت القرآن وعلمته، فقال: كذبت! إنما أردت أن يقال: فلانٌ عالم، وفلانٌ قارئ، فأمر به فسحب على وجه حتى ألقي في النار). وقال الحسن رحمه الله: [إنه تعلم هذا القرآن عبيدٌ وصبيان لم يأتوه من قبل وجه، ولا يدرون ما تأويله، قال الله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29]-ما تدبر آياته؟ اتباعه بالعمل- وإن أولى الناس بهذا القرآن من اتبعه، وإن لم يكن يقرأه]. يقول بعض القراء والحفظة: تعال نتنافس أنا وإياك في القراءة ومن أحفظ ومن أجود ومن أتقن، ولا ينظرون إلى مسألة العمل قال عمر رضي الله عنه: [لا يغرنكم من قرأ القرآن إنما هو كلامٌ يتكلم به، ولكن انظروا من يعمل بالقرآن]. ولذلك فإن هناك أناساً قد أقاموا حروف القرآن وعطلوا معانيه وحدوده: (وقد حدَّث النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به على قومٍ تقرض شفاههم بمقارض من نار، كلما قرضت وفت ورجعت، فقلتُ: يا جبريل! من هؤلاء؟ قال: خطباء من أمتك يقولون ولا يفعلون، ويقرءون كتاب الله ولا يعملون). ولذلك كانوا يحذرون من القراء الذين لا يعملون بالقرآن، فقال أيوب السختياني: [لا خبيث أخبث من قارئٍ فاجر]. وقال مالك بن دينار: "لأنا للقارئ الفاجر أخوف مني من الفاجر المبرز أو المبرز بفجوره" لماذا؟ لأنه الفاجر المبرز بفجوره تعلم أنه فاجر فتحذر منه، لكن الذي يلبس عليك، يظهر بشكل قارئ وصاحب دين، ولباس أهل العلم، وهو في الحقيقة بخلاف ذلك، فهذا يغتر وينخدع الناس به، فيضلهم.

ذم السلف لظاهرة الجدل

ذم السلف لظاهرة الجدل قال في باب ذم التفقه لغير العبادة: قال الشعبي: "إنا لسنا بالفقهاء، ولكن سمعنا الحديث فرويناه، ولكن الفقهاء من إذا علم عمل". وقال الأوزاعي: "إذا أراد الله بقومٍ شراً فتح عليهم الجدل، ومنعهم العمل". فترى الآن بعض المناظرات في مسائل بسيطة، هذا يتكلم وهذا يرد، وهذا يرد على الرد، وهذا ينتصر لرد فلان، وهذا ينتصر لرد فلان، وترى المجادلات في الجرائد والكتيبات والكتب، كل واحد يرد، ويرد على الرد، وينسون قضية العلم، ويتمارون ويتجادلون في أشياء الحق فيها واضح، لكن الرد على أهل البدع والضلال لابد منه، وكذا المنافحة عن الدين، لكن الكلام في قضية تحويل مسائل العلم إلى مجادلات، فإذا أراد الله بعبدٍ خيراً فتح له باب العمل، وأغلق عنه باب الجدل، وإذا أراد الله بعبدٍِ شراً فتح له باب الجدل، وأغلق عنه باب العمل.

ذم الاستكثار من الطلب وترك العمل

ذم الاستكثار من الطلب وترك العمل قال أبو نعيم: دخلتُ على زفر وقد غرغرت نفسه في صدره -أي: عند الموت- فرفع رأسه إليّ، فقال: يا أبا نعيم: "وددت أن الذي كنا فيه كان تسبيحاً" زفر من الفقهاء ومن تلاميذ أبي حنيفة رحمه الله، يقول: وددنا أن المسائل التي تكلمنا فيها كانت تسبيحاً. وقال عائض الله: الذي يتبع الأحاديث ليحدثَ بها -أي: دون أن يعمل- لا يجد ريح الجنة. ولما بكَّر أصحاب الحديث مرةً على الأوزاعي التفت إليهم، فقال: "كم من حريصٍ جامعٍ جاشعٍ ليس بمنتفعٍ ولا نافعٍ". وقال الفضيل لشخص جاءه: لو طلبت مني الدنانير كان أيسر إليّ من أن تطلب مني الأحاديث، فقلت له: لو حدثتني بأحاديث -فوائد- ليست عندي كان أحب إليَّ من عددها من الدنانير. قال: إنك مفتون، أما والله لو عملت بما قد سمعتَ لكان لك في ذلك شغلاً عما لم تسمع، ثم قال: سمعتُ سليمان بن مهران - الأعمش - قال: إذا كان بين يديك طعامٌ تأكله، فتأخذ اللقمة وترمي بها خلف ظهرك -شخص أمامه طعام يأخذ لقمة ويرمي بها خلف ظهره وهكذا- فمتى يشبع؟!! وهكذا الذي يجمع العلم دون أن يعمل، ويجمع ويجمع ويجمع ولا ينتفع بشيء؟ وقال سفيان بن عيينة من ورعه رحمه الله: "لو قيل لي يوم القيامة: لم طلبت الحديث؟ ما دريت ما أقول". ولذلك كانوا إذا جاءهم الشخص العامي، أو الشخص الذي لا علاقة له بعلم الأسانيد يسأل عن شيءٍ في دقائق الأمور ليست من شأنه ردوه، وقد سأل رجلٌ ابن عيينة عن إسناد حديث، فقال له ابن عيينة: ما تصنع بإسناده؟ أما أنت فقد بلغتك حكمته، ولزمتك موعظته، اعمل به الآن، جئت تسألني عن الأسانيد والعلة، اعمل به أولاً. وقال خلاد بن يزيد، وكان من أجل الناس وأعبدهم: أتيت سفيان بن عيينة، جاء يطلب أحاديث، فقال له سفيان: إنما يأتي بك الجهل لا ابتغاء العلم، لو اقتصر جيرانك على علمك كفاهم، ثم كوّم كومةً من حصى، ثم شقها بأصبعية، ثم قال: هذا العلم أخذت نصفه، ثم جئت تبتغي النصف الباقي، فلو قيل: أرأيت ما أخذته هل استعملته؟ فإذا صدقت قلت: لا، فيقال لك: ما حاجاتك إلى ما تزيد به نفسك وِقْراً على وقر، استعمل ما أخذت أولاً. وسُئل سفيان بن عيينة من العالم؟ قال: "الذي يعطي كل حديثٍ حقه". وما حق الحديث؟ العمل به، ولذلك كانوا يربون طلابهم على العمل بالعلم، ولذلك قال بعضهم لطلابه لما جاءوا يطلب منه سماع حديثٍ قال: حتى تعملوا بما تعلمون تأتوني فأحدثكم. وقال شبابة: دخلت على شعبة في يومه الذي مات فيه وهو يبكي، فقلت له: ما هذا الجزع يا أبا بسطام؟ أبشر فإن لك في الإسلام موضعاً، فقال دعني، فلوددت أني وقادُ حمام، وأني لم أعرف الحديث، أي: من ثقل مسئولية العلم عليه، يقول: أنا لا أدري أن العلم الذي أخذته وجمعته قد يكون حجة عليّ، قد لا أكون عملت به، فألقى الله وعليّ حجة هذا العلم الذي تعلمته، ولذلك كانوا يحاربون تكثير الأسانيد، وطلب التكثيف، وعدم العمل بالنافع، وتعلم الشيء الجديد الذي ينفع، ولذلك وأي رجل في المنام علي بن المديني فقال له: جمعت حديثاً من مائة طريق، فانتظر قليلاً: أخشى أن يكون هذا داخل تحت قوله تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر:1]. فأما الذي يعمل بالحديث فالاستكثار منه جيد، ولذلك وضع الإمام أحمد رحمه الله في كتابه المسند فوق أربعين ألف حديث، لكنه عمل بها كلها، قال: ما تركت حديثاً إلا عملت به، ولما قرأ (أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى أبا طيبة الحجام ديناراً) قال: احتجمت وأعطيت الحجام ديناراً، والدينار أربعة غرامات وربع من الذهب، لكن لأجل تطبيق الحديث بذلها الإمام أحمد رحمه الله تعالى. ولذلك قال العلماء: كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به، وكانوا يحاربون فيما يحاربون مسألة التوغل في بعض العلوم التي تشغل عن علم الكتاب والسنة، مثل: الاستكثار من النحو، حتى قال بعضهم: تلقى الرجل وهؤلاء يلحن حرفاً وعمله لحنٌ كله. وقال بعضهم: رأيت الخليل بن أحمد في النوم، فقلت في منامي: لا يُرى أحد أعقل من الخليل، فقلت: ما صنع الله بك؟ قال: أرأيت ما كنا فيه، فإنه لم يكن شيءٌ أفضل من سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. وقال بعضهم: رأيت الخليل في المنام فقلت له: نجوت؟ قال: بلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، قلت: كيف وجدت علمك؟ -علم العروض والأدب والشعر؟ - قال: وجدته هباءً منثوراً: سيبلى لسانٌ كان يعرب لفظة فيا ليته في وقفة العرض يسلم وما ينفع الإعراب إن لم يكن تقىً وما ضر ذا تقوى لسانٌ معجم على أن هذا الكلام لا يهون من أهمية تعلم اللغة العربية، لأن الإنسان لابد أن يتعلم اللغة العربية؛ ليصحح قراءة القرآن والحديث، لكن التوغل في دقائقها وفروعها التي تجعل الإنسان يتباهى بما عنده من النحو، ويؤدي به الأمر إلى التقعر والتكلف، والاختيال على الآخرين وانتقادهم، هذا هو المذموم. ولذلك لما قيل لبعضهم: يا أبا نصر! أنت رجل قرأت كذا وكذا فلمَ لا تتعلم العربية حتى تصحح لسانك؟ قال: ومن يعلمني يا أبا الفضل؟ قال: أنا يا أبا نصر، قال: فافعل، قال: قل: ضرب زيدٌ عمراً، فقال له: يا أخي! ولمَ ضربه؟ قال يا أبا نصر: ما ضربه، إنما هذا أصلٌ ووضع للتمثيل فقط، قال: هذا أوله كذب لا حاجة لي فيه. فهذا الكلام ينبغي أن يفهم الفهم الصحيح، وهو: أن تعلم اللغة العربية لابد منه، خصوصاً في هذا الزمان الذي عمَّ فيه الجهل باللغة العربية حتى صار الواحد يفتح القرآن ولا يعرف معناه من ضعف اللغة العربية، فلابد من تعلم اللغة العربية بقدر ما نفهم به القرآن والسنة، لكن الخوض في دقائقها وتفاصيلها الذي يصرف عن علم القرآن والسنة وعن الفقه وعن العمل هذا هو المذموم، ولابد أن يكون الإنسان عاملاً يتخذ من علمه زاداً لمعاده ينفعه يوم القيامة. قال الحسن رحمه الله: [يتوسد المؤمن ما قدم من عمله في قبره -أي: رأسك في قبرك موضوع على وسادة؟ ما هي الوسادة؟ العلم- إن خيراً فخيراً، وإن شراً فشراً، فاغتنموا المبادرة رحمكم الله في المهلة] هذه المهلة الدنيا. وقال بعضهم: فما لك يوم الحشر شيءٌ سوى الذي تزودته قبل الممات إلى الحشر إذا أنت لم تزرع وأبصرت حاصداً ندمت على التفريط في زمنِ البذرِ إذا أنت لم ترحل بزادٍ من التقى ولاقيت بعد الموت من قد تزودا ندمت على ألا تكون كمثله وأنك لم ترصد بما كان أرصدا

نعمة الصحة والفراغ

نعمة الصحة والفراغ قد يفتن الناس بنعمة الصحة والفراغ، والنبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحية والفراغ) عنده مال؛ بعض الناس ورث عن أبيه عقارات، يأتيه رزقه بكرةً وعشياً، لا ينقصه شيء، تراه في الصباح في نوم، وفي الليل يلعب البلوت إلى الفجر، وعنده عقارات تدر عليه: (اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح. ونظم الشاعر المعنى فقال: بادر شبابك أن يهرمَ وصحة جسمك أن يسقما وأيام عيشك قبل الممات فما دهر من عاش أن يسلما ووقت فراغك بادر به ليالي شغلك في بعض ما وقدم فكل امرئ قادمٌ على بعض ما كان قد قدما وقال معاوية بن قرة: أكثر الناس حساباً يوم القيامة الصحيح الفارغ، ورأى شريح جيراناً له يجولون مثلما تجد الآن الشباب في الشوارع يتسكعون، فقال: ما لكم؟ قالوا: فرغنا اليوم -أكملنا أشغالنا، والذي عنده حلقة علم أكملها- قال: وبهذا أمر الفارغ؟! أي: هل أمر بأن يتسكع. ولذلك لمّا قال البخاري رحمه الله: اغتنم في الفراغ فضل ركوعٍ فعسى أن يكون موتك بغتة كم صحيحٍ رأيت من غير سقمٍ ذهبت نفسه الصحيحة فلتة وفعلاً مات البخاري رحمه الله فجأةً. ولما دخلوا على أبي بكر النهشلي وهو في الموت يومئ برأسه يصلي، لأنه لا يستطيع أن يقوم، فقالوا له: سبحان الله! على هذه الحال، فقال: أبادر طي الصحيفة، الآن صحيفتي ستطوى، فأنا أنتهز آخر لحظة من عمري في هذه العبادة: اغتنم ركعتين زلفى إلى الله إذا كنت ريحاً مستريحاً وإذا ما هممت بالنطق في البـ ـاطلِ فاجعل مكانه تسبيحاً. ولذلك أهل العلم إذا جاء إليه من يجادل بين يديه، قال: سبح سبح، إذا هممت بالنطق بالباطل فاجعل مكانه تسبيحاً، فينبغي اغتنام الصحة والفراغ والحذر من التأجيل. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

الابتلاء بفتنة النساء

الابتلاء بفتنة النساء أشد الفتن على المسلم فتنة المرأة، ويكمن الخطر في أنها عندما تخرج من البيت يستشرفها الشيطان، أي: يزينها في نظر الرجال، لذلك حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من الدخول على النساء والاختلاط، وأمر بالزواج وتيسير الزواج، كما أمر بغض البصر، كما تحدث عن أوصاف الحور العين في الجنة وما أعده الله للذين لا يعملون الفاحشة ولا يلهثون وراءها.

النساء أشد فتنة على الرجال

النساء أشد فتنة على الرجال إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. عباد الله: إن فتن الحياة الدنيا كثيرة، فمنها: فتنة المال، وفتنة الفقر، وفتنة الغنى، وفتنة الأولاد، وفتنة الحرب، وفتنة الاضطهاد والإيذاء، وغير ذلك من أنواع الفتن، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما تركت بعدي في الناس فتنةً أضر على الرجال من النساء). قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: وفي الحديث أن الفتنة بالنساء أشد من الفتنة بغيرهن، ويشهد له قول الله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ} [آل عمران:14] فجعلهن من حب الشهوات، وبدأ بهن قبل بقية الأنواع قبل الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث، وقبل فتنة الأولاد، ومع أنها ناقصة العقل والدين، فإنها تحمل الرجال على تعاطي ما فيه نقص العقل والدين كشغلهم عن طلب أمور الدين، وحملهم على التهالك على طلب الدنيا، وذلك أشد الفساد. وعن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الدنيا حلوةٌ خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء) رواه مسلم، وفي رواية للإمام أحمد رحمه الله تعالى: (إن الدنيا خضرة حلوة، فاتقوها واتقوا النساء) ثم ذكر نسوة ثلاثاً من بني إسرائيل (امرأتين طويلتين تعرفان، وامرأة قصيرة لا تعرف، فاتخذت رجلين من خشب- من تحت الثياب لتطول- وصاغت خاتماً، فحشته من أطيب الطيب المسك، وجعلت له غلفاً، فإذا مرت بالملأ أو بالمجلس قالت به، ففتحته ففاح ريحه) هكذا تحايلت لتلفت نظر الرجال إليها، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء. قال النووي رحمه الله: ومعناه تجنبوا الافتتان بها وبالنساء، وتدخل في النساء الزوجات وغيرهن، وأكثرهن فتنة الزوجات لدوام فتنتهن وابتلاء أكثر الناس بهن، ولذلك كان السلف -رحمهم الله- يحرصون على عدم الافتتان، فقد أرسل بعض الخلفاء إلى الفقهاء بجوائز، فقبلوها وردها الفضيل، فقالت له امرأته: ترد عشرة آلاف وما عندنا قوت يومنا! فقال: مثلي ومثلكم كقوم لهم بقرة يحرثون عليها، فلما هرمت ذبحوها، وكذا أنتم أردتم ذبحي على كبر سني، موتوا جوعاً قبل أن تذبحوا فضيلاً.

خروج المرأة واستشراف الشيطان لها

خروج المرأة واستشراف الشيطان لها ومن أسباب كون المرأة فتنة، ومن أسباب عظم الفتنة بها أمرٌ مهمٌ جداً تفسير للقضية، ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في قوله في الحديث الصحيح: (المرأة عورة) ولم يستثن وجهاً ولا كفين أمام الرجال (المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان) فما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (استشرفها الشيطان)؟ أيها المسلم: فكر في هذه الكلمة: (استشرفها الشيطان) لتعلم من أين أتينا؟ قال المباركفوري رحمه الله تعالى: أي: زينها في نظر الرجال، وقيل: أي: نظر إليها ليغويها ويغوي بها، والأصل في الاستشراف رفع البصر للنظر إلى الشيء، وبسط الكف فوق الحاجب، هذا هو الاستشراف، والمعنى: أن المرأة يستقبح خروجها وظهورها، فإذا خرجت أمعن النظر إليها؛ ليغويها بغيرها ويغوي غيرها بها؛ ليوقعهما أو أحدهما في الفتنة، أو يريد بالشيطان شيطان الإنس من أهل الفسق وسماه به على التشبيه. إذاً: الشيطان يرفع أنظار الرجال إلى المرأة، والشيطان يزين المرأة في أعين الناظرين، فترى المرأة إذا خرجت إلى الشارع تمشي ارتفعت إليها أبصار الرجال، ذلك لأن الشيطان حريصٌ على تزيينها وعلى رفع الأبصار إليها، فتجد الأبصار تتجه إلى المرأة من حين خروجها إلى الشارع، ومن حين بدوها للرجال، يستشرفها الشيطان، ويجعلها هدفاً منصوباً ملفتاً لينظر إليها الرجال، فهي وسيلته لإغواء الناس، ولذلك كان السلف -رحمهم الله- مع عبادتهم وزهدهم وورعهم، يخافون على أنفسهم من فتنة النساء أكثر مما نخاف نحن على أنفسنا مع ضعفنا، ولا مقارنة بيننا وبينهم. فهذا سعيد بن المسيب وقد أتت عليه ثمانون سنة، منها خمسون سنة يصلي فيها الصبح بوضوء العشاء، وهو قائمٌ على قدمية يصلي، كان يقول: ما شيء أخوف عليَّ من النساء. وهو ابن ثمانين سنة، يعبد الله تعالى، ويقوم الليالي، ومع ذلك يقول هذا.

التحذير من الدخول على النساء والخلوة بهن

التحذير من الدخول على النساء والخلوة بهن ومن أجل فتنة النساء اتخذ الشارع سائر الإجراءات الكفيلة لحماية الرجل من الوقوع في فتنة المرأة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إياكم والدخول على النساء! فقال رجلٌ: يا رسول الله! أرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت) وهو قريب الزوج أخوه وسائر أقاربه، فالدخول على النساء الأجنبيات يشبه الموت في خطره يؤدي إلى موت الدين، وربما أدى إلى الرجم وهو موت إذا زنا بها وهو محصن، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تسافر المرأة إلا ومعها ذو محرم). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما) كل هذه الإجراءات لأجل درء فتنة النساء، والنبي صلى الله عليه وسلم أطهر الناس مع الصحابة، وهو أفضل هذه الأمة، وقد كان عليه الصلاة والسلام يعمل سائر الإجراءات الكفيلة بمنع الاختلاط والنظر، فعن أبي أسيد الأنصاري أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو خارج من المسجد، فاختلط الرجال بالنساء في الطريق، فقال صلى الله عليه وسلم ينهى عما رآه: (استأخرن، فإنه ليس لكن أن تحققن الطريق، عليكن بحافات الطريق) فالمرأة لا تمشي في الوسط، بل تمشي في الجوانب، والرجال يمشون في الوسط هكذا كانت الشوارع في المجتمع الإسلامي الأول، فكانت المرأة تلتصق بالجدار، حتى أن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به، والحديث رواه أبو داود وهو حديث صحيح. وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: [كان النساء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلمن من المكتوبة، قمن مباشرةً، وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن صلى من الرجال فترة كافية لخروج النساء، فإذا قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، قام الرجال]. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وفي الحديث الاحتياط في اجتناب ما قد يفضي إلى المحظور، وفيه اجتناب مواضع التهم، وكراهة مخالطة الرجال للنساء في الطرقات فضلاً عن البيوت. وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو تركنا هذا الباب للنساء) وهو باب في المسجد مخصص للنساء، وإلى الآن اسمه باب النساء، قال نافع: [فلم يدخل ابن عمر منه حتى مات]. هذه الإجراءات وغيرها لأجل درء فتنة النساء. تقول عائشة -رضي الله عنها- بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم بفترة: [لو أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء- أي: ما أحدثن بعده- لمنعهن كما منعت نساء بني إسرائيل] وماذا أحدث النساء في عهد عائشة؟ وهي تقول: لو رأى النبي صلى الله عليه وسلم الوضع، لمنعهن من المساجد والخروج، فلو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم وضعنا اليوم، ماذا تراه يقول؟ وماذا تراه يفعل؟!

الأسباب المؤدية إلى الفتنة بالنساء

الأسباب المؤدية إلى الفتنة بالنساء عباد الله: إن الأمر خطير- والله- وإن الخطب جلل، وإن الفساد في انتشار بسبب فتنة النساء، وفي هذا الزمان الذي لم يمر في العالم زمان مثله؛ زينت فيه المرأة لفتنة الرجال، واجتهد أعداء الله في إبراز المرأة، فترى عوامل الجذب والفتنة في الملابس الضيقة، والمفتوحة، والشفافة، والكعب العالي، والمناكير على الأظفار، ورائحة العطور، والصوت، والأزياء الفاضحة، وحتى النقاب الذي تلبسه بعض النساء أو البرقع اليوم ربما يكون أشد فتنة مما لو كشفت وجهها بالكلية، والأفلام، والقصص الفاسدة، والمجلات، والدعايات، فلا تكاد توجد سلعة إلا ومعها صورة امرأة ولا بد، وعروض الأزياء، وكل ذلك يزين المرأة في نظر الرجال، حتى إذا نزلت إلى الشارع والسوق، رأيت العجب، وهذه المساحيق والمكياجات التي تجعل أشد النساء دمامةً لوحة فنية من الأصباغ، وما تفعله الكوافيرات في وجوه النساء. ثم تحدث الفتنة العظيمة، وتخرج المرأة بهذه الزينة، وتجتمع كل عوامل الإغراء، فلا تدخل دكاناً، ولا سوقاً، أو باب مدرسة، أو مستشفى، أو طائرة، أو غير ذلك من الأماكن إلا ووجدت القضية كلها تدور على الإغراء والإغواء بالمرأة، ولا تكاد تنظر في الصفحة الخارجية لمجلة أو غيرها إلا وتجد القضية نفسها تدور. كل هذا بفعل إخوان القردة والخنازير الذين وصلوا بالمرأة إلى ما وصلوا إليه، وعمت الفتنة، وثارت الشهوات، وصار الوضع محزناً لصاحب القلب الحي. لمثل هذا يذوب القلب من كمدٍ إن كان في القلب إسلامٌ وإيمانُ عباد الله: المسألة كلها مخالفات شرعية في قضية هذه الأشياء والإغراءات التي تحصل، وتأمل ماذا أحدثه هذا الهاتف من الفتنة في بدء العلاقة وتطويرها وتنميتها، والتخطيط للخروج، ثم الخروج! وتأمل كيف يزين الشيطان الحيل بحجة خروجها إلى السوق، أو الدراسة مع صاحبتها، أو زيارة صاحبتها، وأثناء غياب الزوج في العمل، أو الوردية الليلية، وأيام الاختبارات -التي نحن مقبلون عليها- بالذات سيحدث فسادٌ عظيمٌ، وشرٌ مستطيرٌ، وأيام البر وتتخلف الأسرة هناك والشاب هنا لوحده، وهذه أشياء نحن مقبلون عليها كل هذه الأمور التي تؤدي إلى الفتنة والوقوع في الفاحشة، والمسألة فيها غضب من الله وإغضاب لله. وكل القضية تدور على مخالفة الآيات الشرعية، فتأمل في الواقع ثم قارنه بقوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [النور:31]، وبقوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب:53]، وقارنه بقوله تعالى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} [الأحزاب:32] فكيف تستهل البنت الكلام في الهاتف؟ {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} [الأحزاب:32]، وبقوله تعالى: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:33] وبقوله تعالى: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور:31] المسألة كانت على الخلخال، والآن تفتح العباءة وتلبس عدة مرات لتصلح من هندامها -بزعمها- وهي في وسط الرجال، وقارنه بقول النبي صلى الله عليه وسلم (أيما امرأة استعطرت فخرجت فمرت بالمجلس فهي كذا وكذا) يعني: زانية. إن المسألة تحتاج في زماننا هذا إلى صبرٍ عظيمٍ، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم مجانباً للصواب أبداً ولا مبالغاً عندما قال: (إن أخشى ما يخشى على هذه الأمة فتنة النساء) والذي يتتبع الأخبار يعرف، وليس المجال مجال التفصيل، ولا تعميم الحال، فهناك صلاحٌ- والحمد لله- وهناك خيرٌ، ولكن لا بد من أن نضع الضوابط، وأن نلزم أنفسنا بأحكام الشريعة.

وسائل الوقاية من فتنة النساء

وسائل الوقاية من فتنة النساء قد يقول قائل: وما هي الإجراءات التي تحمي الرجل من فتنة النساء؟ فأقول:

غض البصر

غض البصر قد يقول قائل: وما هي الإجراءات التي تحمي الرجل من فتنة النساء؟ فأقول: أولاً: قال عليه الصلاة والسلام: (لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى وليست لك الآخرة)، وعن جرير بن عبد الله قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة، فأمرني أن أصرف بصري) ولما رأى الفضل ينظر إلى امرأة وضيئة صرف وجهه إلى الشق الآخر. فغض البصر هو أساس العلاج؛ لأن المسألة في أولها سببها النظر، وهو أهون شيء في البداية، قال العلاء بن زياد: [لا تتبع بصرك رداء امرأة، فإن النظرة تجعل في القلب شهوة] وقال أحد الصالحين لابنه: "يا بني! امش وراء الأسد والأسود -وراء الأسد والحية والثعبان- ولا تمش وراء امرأة". إن نظر الرجل إلى محاسن المرأة سهمٌ مسمومٌ من سهام إبليس، والسهم المسموم إذا دخل انتشر السم (إياكم والنظرة، فإنها تزرع في القلب الشهوة، وكفى بها لصاحبها فتنة). وكان السلف -رحمهم الله- في غاية الحرص على هذه المسألة، قال سفيان: كان الربيع بن خثيم يغض بصره، فمر به نسوة، فأطرق إطراقاً شديداً، حتى ظن النسوة أنه أعمى، فتعوذن بالله من العمى. وخرج حسان بن أبي سنان إلى العيد، فقيل له لما رجع: يا أبا عبد الله! ما رأينا عيداً أكثر نساءً منه. فقال: ما تلقتني امرأة حتى رجعت. وقالت له امرأته: كم من امرأة حسناء قد نظرت اليوم؟! فلما أكثرت عليه، قال: ويحك ويحك! ما نظرت إلا في إبهامي منذ خرجت من عندكِ حتى رجعت إليكِ. وكانوا يحاربون النظر ويعتبرونه منكراً شديداً، وينهرون فاعله، فعن عبد الله بن أبي الهذيل، قال: دخل عبد الله بن مسعود على مريض يعوده، ومعه قوم، وفي البيت امرأة، فجعل رجل من القوم ينظر إلى المرأة، فقال عبد الله رضي الله عنه وأرضاه: [لو انفقأت عينه، لكان خيراً له] لو انفقأت عينه وكانت مصيبة فاحتسب عند الله لكان خيراً له من النظر واستعمال البصر في المعصية، ثم إنه إذا كرره حصل في القلب زرع الفتنة، وذلك أمرٌ يصعب قلعه، ولذلك لا بد من الحِمية بسد باب النظر، فإنه إذا سُدَّ سهل بعد ذلك انحسار الأمر. عباد الله! هذه القضية لا يكاد يطبقها اليوم إلا من رحم الله، غض البصر عن النساء.

عدم وصف المرأة المرأة لزوجها

عدم وصف المرأة المرأة لزوجها وفي معنى النظر: وصف المرأة المرأة لزوجها حتى كأنه ينظر إليها، ولذلك نهينا عنه، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تباشر المرأة المرأة، فتنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها) وهذا أصلٌ في سد الذرائع، وأن وصف المرأة للرجل الأجنبي عنها يؤدي إلى الافتتان بالموصوفة.

من رأى امرأة فأعجبته فليأت زوجته

من رأى امرأة فأعجبته فليأت زوجته إن الإنسان إذا رأى امرأةً فأعجبته كمن كان له زوجةٌ، أو مملوكةٌ فليأتها مباشرةً، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن المرأة تقبل في صورة شيطان، وتدبر في صورة شيطان، فإذا رأى أحدكم امرأةً فأعجبته فليأت أهله، فإن ذلك يرد ما في نفسه) وأما الأعزب فإنه يستعين بالصبر والصلاة والصيام الذي هو من أسباب تقليل الشهوة، وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا أحدكم أعجبته امرأة، فوقعت في قلبه، فليعمد إلى امرأته فليواقعها، فإن ذلك يرد ما في نفسه، لأن الذي معها مثل الذي معها) فيسكن نفسه، ويدفع شهوته، وفي هذا بيانٌ عظيمٌ، وإرشادٌ كبيرٌ إلى قضية العلاج لمثل ما يقع للرجال في هذه المسألة.

عدم الذهاب إلى مواطن الفتنة

عدم الذهاب إلى مواطن الفتنة ثم إن من الأمور المهمة: أن الإنسان لا يغشى أماكن الفتنة، ولا يغشى أماكن الخلوة، ثم بعد ذلك يقول: لم أستطع أن أصبر؛ بل إنه يتمنى الصبر عند الحرام، ولذلك لما دعت امرأة العزيز يوسف، قال: إني أخاف الله، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ورجلٌ دعته امرأة ذات منصبٍ وجمالٍ، فقال: إني أخاف الله رب العالمين) مع أنها امرأة ذات منصب وجمال، وأنَّى يجتمع هذا؟ ومع ذلك يقول: إني أخاف الله رب العالمين.

عدم الالتفات إلى المرأة أثناء تعرضها

عدم الالتفات إلى المرأة أثناء تعرضها ومن العلاجات أيضاً: أنها إذا تعرضت له- وكثيرٌ من النساء اليوم هي التي تتعرض للرجل، وربما تكون هي التي اتصلت، وهي التي تأتي بالحركات والإشارات الداعية- فماذا يفعل؟ افعل كما فعل جريج رحمه الله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا أنه لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة، ومنهم: صبي تكلم من أجل جريج، قال صلى الله عليه وسلم: (كانت امرأة بغيٌ يتمثل بحسنها، فقالت لبني إسرائيل: إن شئتم لأفتنن هذا العابد الزاهد، فتعرضت له، فلم يلتفت إليها -هذا هو المهم، هذا هو لبُّ الموضوع الآن- فأتت راعياً كان يأوي إلى صومعته، فأمكنته من نفسها، فحملت) الحديث. وفيه كيف خلص الله جريجاً بسبب صبره. الشاهد قوله: فلم يلتفت إليها، ومن الذي لا يلتفت اليوم إلا من رحمه الله وأراد به خيراً.

تذكر بشاعة الفاحشة وعقوبتها

تذكر بشاعة الفاحشة وعقوبتها لا بد من التأمل في مسألة الفاحشة، فإن الشيطان كتابه الوسوسة، وقرآنه الشعر، ورسله الكهنة، وطعامه ما لم يذكر اسم الله عليه، وشرابه كل مسكر، وبيته الحمام، ومصائده النساء، ومؤذنه المزمار، ومسجده السوق، وكل هذه الأشياء مع بعضها البعض تؤدي إلى الفتنة العظيمة، والزنا من أعظم الذنوب والفواحش، وبعضه أشد من بعض، فمن أفحش الزنا الزنا بالمحارم، ومن أفحشه الرجل يزني بزوجة الرجل -أي: المتزوجة- مما يؤدي إلى اختلاط المياه والأنساب، ومن أفحشه أن تكون المرأة المزني بها جارة: قال عليه الصلاة والسلام: (ولأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره) وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن عقوبة الزناة والزواني في البرزخ قبل دخول جهنم، أنهم في تنور -فرن- يأتيهم اللهب من أسفل منهم، فيرتفعون فيصيحون، فإذا خمد اللهب، سقطوا، ثم يأتيهم مرة أخرى فيرتفعوا، حتى يكادوا أن يخرجوا وهكذا إلى قيام الساعة. هذا عقاب الزناة والزواني في البرزخ يا عباد الله. وحكى لنا النبي صلى الله عليه وسلم عن أشخاصٍ كادوا أن يقعوا في الفاحشة، وربما يصل الأمر إلى هذه الدرجة، فماذا يفعل الشخص؟ حينئذٍ (قال الثاني: اللهم إنه كانت لي ابنة عمٍ كنت أحبها كأشد ما يحب الرجال النساء، فطلبت إليها نفسها فأبت، حتى أتيتها بمائة دينار، فسعيت حتى جمعت مائة دينار، فلقيتها بها، فلما قعدت بين رجليها، قالت: يا عبد الله! اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه -والحق هو عقد الزواج الشرعي- فقمت عنها وهي أحب الناس إليَّ) إذاً: يمكن للإنسان المسلم لو ساقته نفسه والشيطان والمرأة إلى الفاحشة أن يذكر الله تعالى في اللحظة الأخيرة فيقوم ويترك المعصية. إذاً: هذه من النظرة إلى اللحظة الأخيرة، إجراءات شرعية لأجل الوقاية من فتنة النساء، وهي المسألة العظيمة في عصرنا. يا عباد الله! والله إنني ما طرقت هذا الموضوع إلا لأجل رؤية ذلك عياناً بياناً، والتمعن في أمراضنا ومشكلاتنا، فإنك إذا تمعنت معي وجدت فعلاً أن من أشنع الأشياء فتنة النساء. وتعلم فعلاً- يا عبد الله- أن القضية بحاجة شديدة إلى مصابرة ومجاهدة، وبعض الناس يقول: لا تلوموا الشباب ولوموا الفتيات، كيف ذلك؟ اللوم على الجميع، اللوم على الفتاة التي تبرجت، وعلى الشاب الذي استجاب، وعلى وليهما الذي لم يرب هذا، ولم يمنع تلك من الخروج، وعلى الذي يضع العراقيل في طريق الزواج بحجج واهية، ويغلي المهور، ويقول: ابنتنا ليست بأقل من ابنة فلان، أو يضع العراقيل الواهية باسم القبلية والموازين التافهة الدنيوية، ويرد هذا، وهذه ابنتنا تريد الدراسة ونحو ذلك، فاللوم على الجميع، وليس أحد بمستثنى. نسأل الله ألا يؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، ونسأله عز وجل أن يقينا كل هذه الشرور، وأن يجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

رحلة إلى الجنة مع الحور العين ووصفهن

رحلة إلى الجنة مع الحور العين ووصفهن الحمد لله، الحمد لله الذي لم يتخذ صاحبةً ولا ولداً، هو الحي القيوم، هو الحي لا يموت والجن والإنس يموتون، وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً رسول الله، وعبده ومصطفاه، وخاتم أنبيائه ورسله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين. عباد الله: تعالوا بنا الآن في رحلةٍ أخرى تختلف عن هذه الدنيا تماماً، تعالوا بنا في رحلة تنسينا بالكلية فتنة نساء هذا الكوكب، فإن من علاج القضية أن يتمعن الإنسان فيما أعد الله لمن يصبر من الأجر. فإن من شرب الخمر في الدنيا ولم يتب لا يشربها يوم القيامة، ومن لبس الحرير من الذكور في الدنيا ولم يتب، لا يلبسه يوم القيامة. فالذي يزني في الدنيا ولم يتب، فماذا سيكون الموقف يوم القيامة؟ ومن أي شيء يحرم؟ وما هي عاقبة الذين يصبرون على هذا العذاب؟ أقول: العذاب -فعلاً- من شدة الفتنة ولأوائها في هذا الزمان، فهل الذي يصبر، ويقول له أصحابه: أنت مجنون أنت معقد أنت تحرم نفسك، هل هذا الذي يصبر سيلاقي شيئاً أم لا؟ وإن سألت عن عرائسها وأزواجهم، فهن الكواعب الأتراب اللاتي جرى في أعضائهن ماء الشباب، تجري الشمس في محاسن وجهها إذا برزت، ويضيء البرق من بين ثناياها إذا ابتسمت، إذا قابلت حِبها، فقل ما تشاء في تقابل النيرين، وإذا حادثته فما ظنك بمحادثة المحبين، وإن ضمها إليه فما ظنك بتعانق الغصنين. لو طلعت على الدنيا، لملأت ما بين الأرض والسماء ريحاً، ولاستنطقت أفواه الخلائق تهليلاً وتكبيراً وتسبيحاً، ولتزخرف لها ما بين الخافقين، ولأغمضت عن غيرها كل عين، ولطمست ضوء الشمس كما تطمس الشمس ضوء النجوم، ولآمن من على ظهرها بالحي القيوم، ونصيفها على رأسها خيرٌ من الدنيا وما فيها، ووصالها أشهى إليه من جميع أمانيها لا تزداد على طول الأحقاب إلا حسناً وجمالاً، ولا يزداد لها طول المدى إلا محبةً ووصالاً مبرأةً من الحبل والولادة والحيض والنفاس، مطهرةً من المخاط والبصاق والبول والغائط وسائر الأدناس لا يفنى شبابها، ولا تبلى ثيابها، ولا يخلق ثوب جمالها، ولا يمل طيب وصالها، قد قصرت طرفها على زوجها، فلا تطمح لأحد سواه، وقصر طرفه عليها فهي غاية أمنيته وهواه. وإن سألت عن السن، فأتراب في أعدل سن الشباب، وإن سألت عن حسن الخلق، فهن الخيرات الحسان اللآتي جمع لهن بين الحسن والإحسان، وإن سألت عن حسن العشرة ولذة ما هنالك فهن العرب المتحببات إلى الأزواج، بلطافة التبعل التي تمتزج بالروح أي امتزاج. فما ظنك بامرأةٍ إذا ضحكت في وجه زوجها، أضاءت الجنة من ضحكها، وإذا حاضرت زوجها، فيا حسن محاضرتها! وإن خاصرته فيا لذة تلك المعانقة والمخاصرة! وإن غنت فيا لذة الأبصار والأسماع! وإن آنست وأمتعت، فيا حبذا تلك المؤانسة والإمتاع! قال الله تعالى: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً * عُرُباً أَتْرَاباً} [الواقعة:35 - 37]. وتفضل المرأة الصالحة في الدنيا تلك المرأة من الحور العين بصلاتها وصيامها، ويجعلها الله تبارك وتعالى من العرب وهي التي جمعت إلى حلاوة الصورة حسن التأني والتبعل والتحبب إلى الزوج، والعروب من النساء المطيعة لزوجها العاشقة له المتحببة إليه، أبكاراً؛ ذلك لفضل وطء البكر على الثيب، فجعلهن الله أبكاراً، ولو كانت في الدنيا ثيبة. وقال الله تعالى عن الحور العين: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:74] فلم يطأهن، ولم يغشهن إنسٌ ولا جانٌ من قبل {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن:58] بالياقوت لصفائه، وبالمرجان لبياضه، فجمعن بين هذا البياض والصفاء. قال أبو هريرة: (ألم يقل أبو القاسم: إن أول زمرةٍ تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والتي تليها على أضوء كوكب دري في السماء، لكل امرئٍ منهم زوجتان اثنتان، يرى مخ سوقهما من وراء اللحم، وما في الجنة أعزب). وقال صلى الله عليه وسلم: (ولو اطلعت امرأة من نساء الجنة إلى الأرض، لملأت ما بينهما ريحاً، وأضاءت ما بينهما، ولنصيفها على رأسها خيرٌ من الدنيا وما فيها) هذا قدر الخمار، فما بالك بقدر اللابسة! أزواجٌ مطهرةٌ، لا حيض، ولا نفاس، ولا سوائل، ولا صفرة، ولا كدرة، ولا عرق، ولا بصاق، ولا مخاط. عباد الله: هذه النساء الحسان يغنين لأزواجهن، قال الله عن المؤمنين {فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} [الروم:15] يحبرون أي: يسمعون الغناء، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن أزواج أهل الجنة ليغنين أزواجهن بأحسن أصواتٍ ما سمعها أحدٌ قط) إن مما يغنين به: نحن الخيرات الحسان أزواج قومٍ كرام ينظرن بقرة أعيان وإن مما يغنين به: نحن الخالدات فلا يمتنه نحن الآمنات فلا يخفنه نحن المقيمات فلا يضعنه ويقلن: نحن الحور الحسان خبئنا لأزواجٍ كرام وهكذا يتقلب المرء من أهل الجنة بين زوجاته وهو في هذه الخيمة من اللؤلؤة المجوفة، طولها سبعون ميلاً، في كل زاوية له أهل لا يراهم الآخرون، (لا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا إلا قالت زوجته من الحور العين: لا تؤذيه قاتلك الله، فإنما هو عندك دخيل يوشك أن يفارقك إلينا) إنها مشتاقة إليه من الآن. وقد أخبر علي رضي الله عنه وأرضاه في الحديث الموقوف الذي له حكم الرفع: (أنه إذا دخل الجنة، خف إليه الغلمان، فتحلقوا حوله، خدمه وحشمه يستقبلونه، يذهب واحدٌ منهم مسرعاً إلى بيته، فيخبر تلك الحورية بأن زوجها على وشك الوصول، فلا تصبر حتى تخرج إلى أسكفة الباب لتستقبله) إنه استقبال عظيمٌ يومئذٍ، ويعطى الرجل قوة مائة رجل في الجماع، ويصل إلى نسائه في الجنة وهي تهب ريح الشمال يوم الجمعة -كما جاء في صحيح مسلم - (فتحثو في وجوههم وثيابهم، فيزدادون حسناً وجمالاً، فيرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حسناً وجمالاً، فيقول لهم أهلوهم: والله لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً، فيقولون: وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً) فأين هذا -يا عبد الله- من لذة ساعة شر إلى قيام الساعة، فإذا قامت الساعة، كان ذلك أشد وأنكى؟ أين هذه الصفات للحور العين من هؤلاء النساء؟ مهما تجملت فغالب زينتها المكياج الزائف، ومهما كانت جميلة فانظر إليها بعد سنين، فإنها تكون في غاية القبح والدمامة، وتصبح عجوزاً شوهاء، ومع ذلك فإن الاستمتاع بها مكدر في حيضها ودمها وطمثها وإفرازاتها، وسائر الأشياء المقرفة التي تخرج منها، أين هذا من هؤلاء الأزواج المطهرة؟ فمن صبر هنا، كان له هذا هناك، ومن لم يصبر هنا، فيا سوء ذلك الحرمان! ونعوذ بالله من الخذلان. اللهم إنا نسألك الفوز بالجنان، والعتق من النيران اللهم هب لنا من زوجاتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً اللهم طهِّر قلوبنا، وحصِّن فروجنا، يا أرحم الراحمين، يا رب العالمين. اللهم باعد بيننا وبين الفتن ما ظهر منها وما بطن، وارزقنا العفة والعفاف , والأمن والإيمان. اللهم انشر الأمن والإيمان في بلدنا هذا وسائر بلاد المسلمين. اللهم آمنا في الأوطان والدور، وأرشد الأئمة وولاة الأمور، واغفر لنا يا عزيز يا غفور، إنك أنت أرحم الراحمين. اللهم انصر المجاهدين، اللهم انصر هذه الأمة، اللهم ردها إلى كتابها وسنة نبيها، وأيقظها من سباتها، واكتب لها النصر على أعدائها يا رب العالمين اللهم اجعلنا في بلدنا آمنين مطمئنين وسائر إخواننا المسلمين يا رب العالمين. اللهم انصر من نصر الدين، اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل المسلمين يا رب العالمين. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

الآثار السيئة للأحاديث الضعيفة والموضوعة [2،1]

الآثار السيئة للأحاديث الضعيفة والموضوعة [2،1] إن حب الناس للنبي صلى الله عليه وسلم دفعهم لقبول ما يروى عنه دون تثبت، لاسيما إذا خاطب ما يروى عليهم عواطفهم ومشاعرهم، ورتب على قليل الفعل جزيل الأجر. وهذه الأحاديث الضعيفة والموضوعة قد تركت آثاراً سيئة على الفرد والمجتمع كالتفرقة بين المسلمين، وإلغاء قواعد في أصول الفقه، وإيقاع المسلمين في الشرك، ورد الحديث الصحيح، وغيرها من الآثار السيئة التي بينتها هذه المادة، والتي بينت كذلك: خطورة التقول على النبي صلى الله عليه وسلم وخطورة انتشار هذه الأحاديث أسباب الوضع فضل العلماء في الذب عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم وتنقيحه وأسباب انتشار هذه الأحاديث بين الناس.

خطورة انتشار الأحاديث الضعيفة والموضوعة بين الناس

خطورة انتشار الأحاديث الضعيفة والموضوعة بين الناس إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. إخواني في الله، أهل هذا البلد الآمن: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فإني والله مسرورٌ ومنشرح الصدر لهذا اللقاء، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل مجلسنا هذا مجلساً يرضاه سبحانه وتعالى، وأن يجعل فيه خيراً كثيراً للسامع والمتكلم. أيها الإخوة: كان في الذهن أكثر من موضوعٍ لإلقائه في هذه الليلة، ورأيت الآن وأنا في مجلسي هذا أن أبدأ معكم بالموضوع المتفق عليه أصلاً وهو: (الآثار السيئة للأحاديث الضعيفة والموضوعة)؛ لأني أخشى لو أنني بدأت بالموضوع الآخر ألا ننتهي منه، وأن يطول الكلام عليكم جداً، ولعلكم تسمعونه في مناسبة أخرى إن شاء الله، وعلى العموم فهذا الموضوع أو الموضوع الآخر مذكورة تفاصيلهما في كتب أهل العلم، ولكن حسبنا في هذه الجلسة أن نتذاكر ونتواصى معاً ونحقق قول الله عز وجل في الذين استثناهم من الخسران: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3] وهذه الآية تبين لنا أن هناك أشياء في الإسلام لا يمكن أن تؤدى بشكلٍ فردي، ولا بد من عباداتٍ جماعية يقوم بها المسلمون، ومنها التواصي على الحق والصبر، ومن التواصي بالحق -أيها الإخوة- التواصي بالمحافظة على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي أرسله الله سبحانه وتعالى ليبين لنا ما أنزل إلينا من ربنا، فكانت سنته صلى الله عليه وسلم شارحة للكتاب العزيز، مفصلة لمجمله، مخصصة لعمومه في بعض الأحكام، ولذلك كان لا بد لحفظ الكتاب من حفظ السنة، والذي نراه -أيها الإخوة- في هذا العصر أن تفريطاً عظيماً حصل من المسلمين بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن هذا التفريط: التساهل في رواية الأحاديث التي تنسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد يكون عليه السلام منا براء، ولا يمكن أن يقول عليه الصلاة والسلام مثل بعض الكلام الذي ينسبه بعض الجهلة إليه صلى الله عليه وسلم. وقد يكون في أذهان البعض أن هذا الموضوع من البديهيات، ولكن -أيها الإخوة- المتأمل في أضرار هذه المسألة وهي انتشار الأحاديث الضعيفة والموضوعة بين الناس لَيُدْرِكُ بجلاء أن المسألة خطيرة، ولعلنا نخلص من عرض هذه المحاضرة إلى شيءٍ من هذه الخطورة التي نريد أن نبينها، حتى يعي المسلم من أين يؤتى، وحتى يعي المسلم ما هو مصدر الأمراض المنتشرة في المجتمع، فإنه أحياناً يكون خارجياً، من أعداء الإسلام في الخارج، وأحياناً يكون من الداخل، وبعض المسلمين يوحون إلى آخرين بأن السبب في تقهقر المسلمين وانهزامهم مؤامرات خارجية، وقد تتخذ هذه النقطة شماعة تعلق عليها الأخطاء الداخلية التي ترتكب في المجتمع الإسلامي.

خطورة التقول على النبي صلى الله عليه وسلم

خطورة التقول على النبي صلى الله عليه وسلم بادئ ذي بدءٍ -أيها الإخوة- لا بد لنا أن نذكر هذا الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنتم تعلمون أن حديث: (من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) حديثٌ متواتر، رواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحواً من سبعين صحابياً وربما مائة صحابي، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الحسن الذي أصله في الصحيحين: (من قال عليَّ ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار) وقد ترجم عليه ابن حبان رحمه الله: فصل ذكر إيجاب دخول النار لمن نسب الشيء إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو غير عالمٍ بصحته. وروى الإمام مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه: (من حدث عني بحديثٍ يرى أنه كذب فهو أحد الكاذِبِيْن -أو الكاذِبَيْن-).

أسباب الوضع

أسباب الوضع لقد كانت حركة الوضع في الحديث من المؤامرات الباطنية التي يقصد منها تشويه الإسلام، والتي يقصد منها إشاعة الفتنة وإبعاد المسلمين عن الصحيح من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان من هؤلاء زنادقة يضعون الحديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم كـ عبد الكريم بن أبي العوجاء وغيره، الذي كان يقول لما قدم ليضرب عنقه: والله لقد وضعت فيكم أربعة آلاف حديثٍ أحرم فيها الحلال وأحلل فيها الحرام. وكان من هؤلاء أصحاب أهواءٍ كما قال ذلك الشيخ الخارجي: كنا إذا اشتهينا أمراً أو هوينا أمراً صيَّرنا له حديثاً. وممن اشترك في وضع الحديث أناسٌ يضعونه صناعة وتسوقاً جراءة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إن أحدهم ليسهر عامة ليلة، في وضع حديث. ومنهم من كان ينسب إلى الزهد والتدين، ولكنه جاهل على الأقل في هذه النقطة، فكان يضع الأحاديث يظن ذلك احتساباً عند الله كـ نوح الجامع، وسمي بالجامع لأنه كان يجمع التفسير والفقه والمغازي وعلوماً كثيرة إلا شيئاً واحداً وهو التورع من الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم فلم يكن عنده، وعندما يجهل المسلم المنطلق الصحيح وتقع له شبهة، ولكنه غير معذورٍ فيها مثل هذا الرجل، لأن الأمر قد بين له ونوقش ولكنه مع ذلك أصر وقال: رأيت الناس يشتغلون بـ مغازي ابن إسحاق، وفقه أبي حنيفة فأردت إرجاعهم إلى القرآن، فقعد يضع الحديث في فضائل السور سورة سورة. ومنهم أناسٌ كانوا يضعون الأحاديث في تمجيد رؤساء مذاهبهم كما وضعت الكرامية هذا الحديث: (يجيء في آخر الزمان رجلٌ يقال له: محمد بن كرام يحيي السنة والجماعة، هجرته من خراسان إلى بيت المقدس كهجرته من مكة إلى المدينة) حديثٌ مكذوب يريدون به رفع شأن هذا المبتدع حتى يتلقف الناس منه العلم، ويزينونه في أعين الناظرين والسامعين، ويُخدع به عباد الله المسلمون. ومنهم أناسٌ كان فيهم حقدٌ على الإسلام وعلى هذا القرآن الذي نزل بلغة العرب، يريدون نسف اللغة العربية، ويريدون إعلاء شأنهم حقداً على هذا الدين، منهم بعض الفرس الذين وضعوا مثل هذا الحديث: (إن كلام الله حول العرش بالفارسية، وإن الله إذا أوحى أمراً فيه لينٌ أوحاه بالفارسية، وإذا أوحى أمراً فيه شدة أوحاه بالعربية) ما هو المقصود؟! ماذا يوحي هذا الحديث؟! ماذا يلقي في أنفس السامعين؟ إنه يلقي كراهية اللغة العربية ومحبة اللغة الفارسية. وهل سكت الجهلة المقابلون لهم من العرب؟ كلا. فإنهم وضعوا أحاديث أيضاً في فضل اللغة العربية وأن كلام أهل الجنة عربي، وفي المقابل وضعوا أحاديث في ذم بلاد خراسان مدينة مدينة. فلا يجوز أن ترد البدعة ببدعة ولا يجوز أن نرد على الخطأ بخطأ آخر! إن الرد على البدعة والخطأ -أيها الإخوة! - يكون بتبيان الصواب أولاً، ثم بنقد الخطأ والبدعة ثانياً. وبعض الوعاظ يظنون أن السبيل إلى تحميس الناس لأمرٍ معين هو أن يضع حديثاً في فضل هذا الأمر، فيأتي واعظ جاهل يرى الناس قد قصروا في زكاة الفطر مثلاً فيضع لهم هذا الحديث: (شهر رمضان معلقٌ بين السماء والأرض لا يرفع إلى الله إلا بزكاة الفطر) لماذا؟! قال: لأن الناس لا يخرجون زكاة الفطر، نريد أن نحمس الناس على إخراج زكاة الفطر. وبعضهم من الفرق الباطنية الذين كان همهم تمجيد بعض الأشخاص كشخص علي بن أبي طالب رضي الله عنه حتى يوصلوه إلى مرتبة الألوهية، انظروا مثلاً إلى هذا الحديث: (ستكون فتنة فإن أدركها أحد منكم فعليه بخصلتين: كتاب الله وعلي بن أبي طالب) علي بن أبي طالب رابع الخلفاء الراشدين، مناقبه مشتهرة متكاثرة لا يماري فيها إنسان مسلم يعرف الله عز وجل، ويعرف حق صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن أن تصل المسألة أن يجاء برجل ولو كان صحابياً فيُعتبر هو المرجع بعد كتاب الله. إذاً: -أيها الإخوة! - المسألة مخططٌ لها، مذاهب قامت في التاريخ يريد كل أصحاب مذهبٍ منهم أن يؤصلوا لمذهبهم بأحاديث يروجونها بين المسلمين، يؤصلون للمذهب ويقعدون له بأحاديث موضوعة ومكذوبة على الرسول صلى الله عليه وسلم. وضعوا حديثاً عن علي: (غسلت النبي صلى الله عليه وسلم فشربت ماء محاجر عينيه فورثت علم الأولين والآخرين) ولم يكتفوا بذلك بل وضعوا حديث: (النظر إلى علي عبادة)، ونحن نعرف أن النظر إلى المصحف عبادة، هل وقف الأمر عند هذا الحد؟ كلا. لتعزيز المذهب وتأصيله أيضاً لا بد من الاختلاق في مجال التفسير فلذلك جاءوا بحديث: (اسمي في القرآن {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس:1]، واسم علي {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا} [الشمس:2]، واسم الحسن والحسين {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا} [الشمس:3]، واسم بني أمية {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} [الشمس:4])، ولما وصل الحقد بهؤلاء الباطنية على صحابيٍ جليل مثل معاوية رضي الله عنه، فقد وضعوا الحديث السابق وأحاديث أخرى مثل حديث: (لكل أمة فرعون وفرعون هذه الأمة معاوية) عندما يسمع الناس -أيها الإخوة! - هذه الأحاديث ماذا يُحدث في قلوبهم على معاوية رضي الله عنه؟ ما هو الأثر السيء لهذا الحديث في قلوب الناس على صحابة أجلاء كرام من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم؟ ولكن المتعصبة للطرف الآخر هل ستتوب؟ كلا. فقد وضعوا أحاديث منها: (أخذ القلم من علي ودفعه إلى معاوية) علي لا يصلح فـ معاوية هو الكاتب الأمين؟! صحيح أنهم أقل شراً من أولئك ولكن المشكلة أن الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم صار أمراً سهلاً لا يُتورعُ عنه، ولا يخاف الإنسان ربه من الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم فيختلقون آلاف الأحاديث الموضوعة المكذوبة في شتى المجالات. ولما حقد هؤلاء الباطنية على أبي بكر وعمر؛ قام بعض الناس يضع الأحاديث في فضل أبي بكر وعمر ومنها حديث لـ عثمان: (لما أسري بي إلى السماء فصرت في السماء الرابعة سقط في حجري تفاحة فأخذتها بيدي فانفلقت فخرج منها حوراء تقهقه فقلت لها: تكلمي لمن أنت؟ قالت: للمقتول شهيداً عثمان) وأما الأحاديث الموضوعة في فضل أبي بكر وعمر فهي كثيرة ولكنها ليست أكثر من الأحاديث الموضوعة في فضل الرجال الذين يريد الباطنية أن يمجدوهم، ومن هذه الأحاديث مثلاً: (من شتم الصديق فإنه زنديق، ومن شتم عمر فمأواه سقر، ومن شتم عثمان فخصمه الرحمن، ومن شتم علياً فخصمه النبي صلى الله عليه وسلم) فهذه الطائفة أرادت أن تقرب بين وجهات النظر المختلفة فقالوا: نضع أحاديث في فضل الأربعة حتى تجتمع الأمة عليهم، والأحاديث في فضل الأربعة موجودة، فلماذا الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وقد يحمل التعصب المذهبي الذميم بعض الناس على اختلاق الأحاديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنه مثلاً الحديث المشهور المعروف: (سراج أمتي أبو حنيفة النعمان) (يكون في أمتي رجلٌ كنيته أبو حنيفة النعمان هو سراج أمتي، ويكون رجلٌ في أمتي اسمه محمد بن إدريس هو أضر على أمتي من إبليس) يقصدون الشافعي رحمه الله تعالى الذي هو مجدد من المجددين في الأمة في أصول الفقه، فهل سكت الطرف الآخر؟ كلا. بل اختلقوا حديث: (عالم قريش يملأ الأرض علماً) يقصدون الشافعي، وتظهر الأشياء المتبادلة في الأخذ والرد، ولكن المشكلة أنها في مجال الأحاديث والسنة النبوية عن الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد يحمل إرضاءٌ لخليفة أو سلطان من السلاطين رجلاً أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرضي ذلك الأمير مثلما وقع لـ غياث بن إبراهيم لما كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم بكلمة: (لا سبق إلا في نصل أو خفٍ أو حافر) فأضاف هذا الرجل: (أو جناح) لكي يرضي المهدي الذي كان يلعب بالحمام، ولكن المهدي رحمه الله كان مشهوراً بتعقب الزنادقة، فلما سمع رجلاً يكذب من أجل إرضائه رجع إلى نفسه فذبح الحمام، فلما تولى غياث بن إبراهيم قال: أشهد أن قفاك قفا كذاب. وقد يكون دافع الانتقام من أشخاصٍ معينين أو هيئاتٍ معينة سبباً لوضع الأحاديث فمثلاً يحنق أحدهم على قاضٍ من القضاة لم يعجبه حكمه فيطلق الحكم على القضاة فيطرده طرداً فيأتي بحديثٍ مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليذم هذه الطائفة طائفة القضاة مثلاً كحديث: (عرج حجرٌ إلى الله فقال: إلهي وسيدي! عبدتك كذا وكذا سنة ثم جعلتني في حش كنيس -مرحاض، الحجر يشتكي- فقال -يعني الله عز وجل، وتعالى الله أن يقول ذلك-: أما ترضى أني عزلت بك عن مجالس القضاة) أي أن المرحاض أحسن من مجالس القضاة. وقد يحنق أحدهم على الشرطة فيضع الأحاديث في ذلك، فمنها مثلاً: (دخلت الجنة فرأيت فيها ذئباً فقلت: أذئبٌ في الجنة؟! فقال إني أكلت ابن شرطي) فلأنه أكل ابن شرطي دخل الجنة. فالمدهش -أيها الإخوة! - أنه قد يكون أحياناً السبب تافهاً، ولكن المقابل لهذا الأ

فضل العلماء في الذب عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم وتنقيحه

فضل العلماء في الذب عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم وتنقيحه ولذلك -أيها الإخوة! - قيض الله لهذه الأمة علماء أفذاذاً نقحوا هذه الأحاديث، وبينوا ما هو الصحيح من الضعيف، ما تركوا حديثاً إلا وتكلموا فيه، وبينوا نسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليسوا محدودين في عصرٍ أو مصرٍ بل هم يتكررون على مر العصور والدهور، ولا يخلي الله منهم عصراً غير أن هذا الضرب من العلماء نادر: وقد كانوا إذا عدوا قليلاً فقد صاروا أعز من القليل كان العالم عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله يقول: "لأن أعرف علة حديثٍ هو عندي أحب إلي من أن أكتب حديثاً ليس عندي"، ما الفائدة من الجمع فقط؟ لا بد أن أعرف هل الذي جمعت يحتج به أم لا؟ هل هو صحيح فيعمل به، أم هو ضعيف فيحذر الناس منه. قال سفيان الثوري رحمه الله: "الملائكة حراس السماء وأصحاب الحديث حراس الأرض" وقال يزيد بن زريع: "لكل دينٍ فرسان وفرسان هذا الدين أصحاب الأسانيد" ولذلك مرة من المرات -كما ذكر الحافظ الذهبي في الميزان - أتى هارون الرشيد رحمه الله بزنديق ليقتله، فقال الزنديق: أين أنت من ألف حديثٍ وضعتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ -يعني: ماذا تستفيد من قتلي وقد وضعت ألف حديث وقد سرت بين الناس؟ - فقال له هارون رحمه الله: وأين أنت من أبي إسحاق الفزاري وعبد الله بن المبارك ينخلانها حرفاً حرفاً، يبينانها للناس. فإذاً: وجد هؤلاء العلماء، ووجد هؤلاء المهتمون بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد مر أحمد بن حنبل رحمه الله على نفرٍ من أصحاب الحديث وهم يعرضون كتاباً لهم فقال: ما أحسب هؤلاء إلا ممن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين حتى تقوم الساعة) قال ابن حبان رحمه الله: ومن أحق بهذا التأويل من قومٍ فارقوا الأهل والأوطان، وقنعوا بالكسر والأطمار في طلب السنن والآثار، يجولون البراري والقفار، ولا يبالون بالبؤس والإقتار، متبعين لآثار السلف الماضين، وسالكين طريق الصالحين. بأي شيء؟ برد الكذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وذب الزور عنه، ولذلك كان للعلماء جهودٌ جبارة في كشف الكذب، وتعيين الأحاديث المكذوبة، وتبيين الضعيف للناس والمكذوب حتى يحذروا منه، ولذلك ألفوا مصنفاتٍ خاصة في تبيان الأحاديث الضعيفة والموضوعة، وفي تبيان الأحاديث المشتهرة على الألسنة، وقعدوا القواعد في روايات أهل البدع، وشددوا في قبول الحديث، ودعوا الناس إلى تلقي الصحيح، والحث على التثبت في الرواية، وألفوا الكتب في أسماء الضعفاء والوضَّاعين، وبينوا الأحاديث المسروقة والمركبة وأحاديث القصاصين، وكانت لهم مواقف من الكذابين: بفضحهم، وترك السلام عليهم، ووعظهم، والتشهير بهم، وتمزيق كتبهم بين أعينهم، والاستعداء عليهم من أهل الخير، ووصفهم بألقابٍ تناسبهم، فكان أحد العلماء يقول: فلان كذاب أكذب من حماري، وقال: فلان مَدْلٌ في جلد خنزير، وقال: فلان أكذب من فرعون إلخ.

أسباب انتشار الأحاديث الضعيفة والموضوعة بين الناس

أسباب انتشار الأحاديث الضعيفة والموضوعة بين الناس ولكن قد يتساءل البعض: ما هي الأسباب في كثرة انتشار هذه الأحاديث؟ فنقول: منها قلة علماء الحديث في هذا العصر، وهذا لا شك فيه، والسبب الثاني: انتشار وسائل النشر والتوزيع التي تطبع الكتب وتغرق الأسواق بآلافٍ من الكتب التي فيها الشيء الكثير من الأحاديث الضعيفة والموضوعة، وقلما تجد واعظاً أو محاوراً أو خطيباً إلا ويسوق في ثنايا كلامه أحاديث موضوعة أو ضعيفة إلا من رحم الله من طلبة العلم الذين يتحرون فيما ينسبونه إلى رسولهم صلى الله عليه وسلم، وبعض الناس -أيها الإخوة! - تعجبهم الأحاديث الضعيفة والموضوعة لأسباب فمنها مثلاً: أنها تلمس عواطفهم، مثال: (من زار قبر والديه كل جمعة فقرأ عندهما يس غفر له بعدد كل آية أو حرف) الناس يحبون آباءهم ويحبون أمهاتهم، ويريد الواحد منهم أن يفعل شيئاً لأمه وأبيه، فيذهب عندما يسمع هذا الحديث ويطبق ليس إلا من باب العاطفة، وبعض الأحاديث الموضوعة تستدر الشفقة، إذا سمعت هذا الحديث: (إذا بكى اليتيم وقعت دموعه في كف الرحمن يقول: من أبكى هذا اليتيم الذي واريت والديه تحت الثرى، من أسكته فله الجنة) هذا الحديث المكذوب الموضوع في رحمة اليتيم قد يؤثر في عواطف الناس، فيندفعون بعواطفهم لتقبل هذه الأحاديث، وتلقفها والعمل بها، لأنه شيء عاطفي، شيء يؤثر في النفس، ولكن ما درى أولئك المساكين أن هذا كلام مكذوب على الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم أحاديث مؤثرة تجيش عواطف النفس وتؤثر في القلب، فلماذا لا يعملون بها؟

آثار انتشار الأحاديث الضعيفة والموضوعة بين الناس

آثار انتشار الأحاديث الضعيفة والموضوعة بين الناس

عدم تقبلهم للأحاديث الصحيحة بعد سماعهم للأحاديث الضعيفة

عدم تقبلهم للأحاديث الصحيحة بعد سماعهم للأحاديث الضعيفة من الآثار السيئة كذلك لهذه الأحاديث الضعيفة والموضوعة: أن في كثيرٍ منها أجوراً خيالية! من فعل كذا فله ألف حسنة وألف قصر في الجنة، وفي كل قصر ألف خيمة، وفي كل خيمة ألف حورية، وعلى كل حورية ألف حلة من ذهب!! وفي المقابل أحاديث العذاب: من فعل كذا وكذا وكذا وضع في تنورٍ من نار فيه ألف فرن، في كل فرن ألف أفعى، في كل أفعى ألف لسان، في كل لسان ألف نوعٍ من أنواع السم يقرصه صباحاً ويلدغه مساءً وهكذا! مع استمرار الكلام في هذه الأشياء وطرق مثل هذه الأحاديث الخيالية يتعود الناس على المبالغة مما يعكس أثراً سيئاً وهو أنهم لا يتقبلون أحاديث صحيحة كحديث -على سبيل المثال-: (ويلٌ لمن فعل كذا) لأن كلمة ويل صارت بالنسبة للأحاديث التي فيها ألف ألف كذا وكذا شيئاً قليلاً، فصاروا لا يتأثرون، فلابد أن تأتي بحديث فيه ألف ألف كذا، وعشرة آلاف كذا، ومائة ألف كذا حتى يتأثر، وهذه من إحدى السلبيات لانتشار الأحاديث الضعيفة والموضوعة.

إيقاع المسلم في الشرك الصريح

إيقاع المسلم في الشرك الصريح من الآثار السيئة لهذه الأحاديث: إيقاع المسلم في الشرك الصريح، والكفر المخرج عن الملة، والردة عن الدين، والعياذ بالله مثل حديث: (من اعتقد أحدكم بحجرٍ لَنفَعه) لو اعتقدت أن هذا حجر يضر وينفع لنفعك، لا يوجد حجر ينفع! إن في هذا إرجاعاً للمسلمين إلى الجاهلية الأولى، إلى عبادة الأحجار، والأوثان، وفيه صرف للناس عن التوسل المشروع إلى التوسل غير المشروع. فبدلاً من أن يقول الواحد مثلاً: يا ألله! إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، المنان، بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام! ويسأل الله، يأتيه هذا الحديث، مثلاً: (توسلوا بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم) ونأتي نقول: نسألك بحق الأنبياء، نسألك بجاه محمد، نسألك بكذا وكذا، وقد بين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم توسلاتٍ مشروعة، ولكن هذه الأحاديث لا تدع الناس يكملون التوسل المشروع بل تصرفهم إلى الشيء غير المشروع، بل إنها قد توقع الناس في الكفر، فمن جهة ترك الصلاة -مثلاً- حديث: (من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له، أو لم يزدد من الله إلا بعداً) بعض الناس يقع في الفواحش؛ قد يشرب الخمر، قد يزني قد يسرق، قد يرتشي، فعندما يسمع هذا الحديث: (من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له) يقول في نفسه أنا لم أستطع أن أتخلص من الزنا إذاً: ليس لي صلاة، فلماذا أصلي؟! أعرف رجلاً قال لي بلسانه وكان رجلاً ضالاً ثم مَنَّ الله عليه فاهتدى: كنت وأنا ضال في البداية أصلي، مع أني أسافر وأفجر وأفسق لكني كنت أصلي، ثم سمعت هذا الحديث: (من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له) فقال: قلت في نفسي: إذاً لماذا أصلي إذا كان ليس لي صلاة وأنا مصمم على المعصية مصرٌّ عليها، إذاً: ليس لي حاجة لأن أصلي، وكلما أردت أن أصلي برز أمام عيني هذا الحديث فتركت الصلاة! لماذا ترك الصلاة؟ لهذا الحديث الموضوع المكذوب المنكر. مثلاً: إيقاع الناس في قضايا تنافي التوحيد مثل: التشاؤم بالأزمان والتطير بها: (لا تسافر والقمر في العقرب) إذا صار القمر في برج العقرب فلا تسافروا فهذا السفر سيء، ولا تسافروا لأن نتائجه سيئة. علي بن أبي طالب لما ذهب لقتال الخوارج، عرض له أحد المنجمين فقال: يا أمير المؤمنين! لا تسافر فإن القمر في العقرب، قال: [بل أسافر ثقة بالله وتوكلاً على الله وتكذيباً لك] وسافر فظفر على الخوارج وانتصر عليهم. أو حديث: (من بشرني بخروج صفر بشرته بالجنة) لأنهم يتشاءمون بشهر صفر، فهي أحاديث مكذوبة توقع الناس، وأحياناً هذه الأحاديث المكذوبة تكون في أمورٍ تنافي الإيمان وتنافي مفهومه الصحيح، بل إنها تركب في أنفسهم مفاهيم للإيمان غير صحيحة، مثل: مفهوم المرجئة للإيمان، كالحديث المكذوب: (من قال الإيمان يزيد وينقص فقد خرج من أمر الله) (ومن قال أنا مؤمن إن شاء الله فليس له في الإيمان نصيب) كما لا ينفع مع الشرك شيء فكذلك لا يضر مع الإيمان شيء، فالناس يعتقدون أن الإيمان في القلب، وأن العمل غير مهم، لماذا؟ لهذه الأحاديث. ولذلك مرة قلت لرجل: يا أخي! اتقِ الله قم صل الصلاة، لماذا لا تصلي؟ فأشار إلى قلبه، وكان هذا هو الجواب، لأنه يعتقد أنه يكفي أن يكون الإيمان في القلب ولا داعي للعمل! وقد تؤدي هذه الأحاديث الموضوعة أو الضعيفة أيضاً إلى إنكار أشياء من العقيدة مثل حديث: (لا مهدي إلا عيسى) فماذا تكون النتيجة؟ إنكار أمر من أمور العقيدة وهو: المهدي الذي أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام، من أنه سيخرج في آخر الزمان عندما تمتلئ الأرض جوراً وظلماً. الغلو بالأنبياء ورفعهم فوق المقام الذي أنزلهم الله عز وجل مثل حديث في تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم ورفعه فوق منزلته التي أنزله الله فيها كحديث: (لولاك ما خلقت الأفلاك) لولاك يا محمد! ما خلقت الأفلاك، حديث مكذوب، وهو يعني أن الله لم يوجد السماوات والأرض ويخلق الناس لعبادته، لولا محمد صلى الله عليه وسلم ما خلقهم، وهذا ينافي القرآن وظاهر القرآن، أو حديث (كنت نبياً وآدم بين الماء والطين) وهكذا. حديث إحياء أبويه، بعض الناس من محبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم عندما يعرف حقيقة تاريخية من أن أبوي الرسول صلى الله عليه وسلم ماتا على الكفر لا يعجبه، يقول: كيف أبو الرسول صلى الله عليه وسلم وأمه على الكفر؟! غير معقول! مستحيل! لا يمكن! إذاً ما هو الحل؟ هذا الحديث: (أحياء أبوي عرض عليهما الإسلام) فماتا بعد ذلك على الإسلام، وغير صحيح هذا، لماذا؟ نوح عليه السلام على ماذا كان ولده؟ وإبراهيم عليه السلام على ماذا كان أبوه؟ هل نفعه شيئاً؟ يؤتى بـ آزر يوم القيامة فيلقى في النار، فيرى إبراهيم عليه السلام أباه كذيخٍ ملتطخ مسخ ضبعاً، ثم يؤخذ بقوائمه فيلقى في النار، وهو أبو الخليل خليل الله إبراهيم، لأن هذا الدين -أيها الإخوة! - لا يحابي أحداً، لا ينفع إلا الإيمان والعمل الصالح.

التشنيع على أهل الحديث

التشنيع على أهل الحديث وكذلك من الآثار السيئة لهذه الأحاديث الضعيفة والموضوعة: التشنيع على أهل الحديث، فاختلق بعض الزنادقة أحاديث ليشوهوا سمعة أهل الحديث، مثل حديث: (إن الله لما أراد أن يخلق نفسه خلق الخيل فأجراها فعرقت فخلق نفسه من هذا العرق) تعالى الله عما يقولون عنه علواً كبيراً، هو الأول فليس قبله شيء، وهو الآخر فليس بعده شيء، وهو الظاهر فليس فوقه شيء، ومثل الأحاديث التي يروونها من أن الله ينزل يوم عرفة إلى الموكب فيصافح الناس المشاة والركبان سبحان الله العظيم! لماذا وضعوها؟! وبعضهم يعرف أن العامة لن تتقبل هذا الكلام لكن ليقولوا: انظر إلى أهل الحديث ماذا يروون!! نسبة ما لا يليق إلى الأنبياء والتشنيع عليهم منتشرة ومبثوثة الآن في كتب السير، أو بعض التفاسير: أن داود عليه السلام أعجب بزوجة أحد جنوده فأراد أن يتزوجها، فلكي يتخلص منه أرسل به في ميدان من ميادين القتال ليموت ويتزوج المرأة، هل يمكن أن نبياً من الأنبياء يعمل هذا العمل؟ ماذا يعتقد الناس عن داود عندما يسمعون بهذا الحديث، ولكي يفتحوا باب العمل بالأحاديث الضعيفة في الفضائل على مصراعيه وضعوا مثل هذا الحديث (من بلَغه عن الله فضلٌ فأخذ بذلك الفضل الذي بلغه؛ أعطاه الله ما بلغه وإن كان الذي حدثه كاذباً) سبحان الله! يعني: لو جاء أحد يقول حديثاً ضعيفاً أو موضوعاً في فضائل الأعمال وأنت أخذت به فلك الفضل حتى لو كان ذلك كذباً، هذا معنى الحديث.

تعليم الناس ما لم يثبت

تعليم الناس ما لم يثبت أيضاً من هذه الآثار السيئة: تعليم الناس أشياء لا تثبت؛ مثلاً في حفظ القرآن الكريم: أكثر الناس يتفلت منهم القرآن ويحتاجون إلى مراجعته دائماً، ومع ذلك فهو يتفلت، فيريد الناس وسيلة سهلة لحبهم السهل، يقول: المراجعة شيء صعب، كل يوم مراجعة! ما هو الحل؟ يأتيك الجواب، والله -يا أخي! - يوجد حديث يجعلك لا تنسى القرآن، ما هو هذا الحديث؟ يقول: يا أخي! يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا جاءت ليلة الجمعة فصل أربع ركعات واقرأ في الأولى الفاتحة ويس، وفي الثانية الفاتحة والدخان، وفي الثالثة الفاتحة والسجدة، وفي الرابعة الفاتحة وتبارك، فإذا فرغت من التشهد فاحمد الله وقل كذا وكذا لا تنسى ما حفظته) فالناس يريدون هذه الأشياء، يريدون شيئاً سهلاً يوفر عليهم تعب المراجعة، فيقوم المسكين فيعمل بهذا الحديث، مثلاً حديث مسح العينين بباطن الأنملة من السبابتين عند قول المؤذن: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، تجد بعض الناس يفعل هذا، ومع ذلك يفعلونها، فهل ثبت هذا الكلام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إذاً كيف نعمله؟! كيف نستبيح لأنفسنا أن نعمل أشياء في العبادات لم تثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أو أن ندعو بما لم يثبت مع الأدعية الواردة والأذكار، إذا قامت الصلاة قالوا: أقامها الله وأدامها، إذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] قالوا: استعنا بالله، إذا توضأ، قالوا: زمزم، إذا صلى ثلاثاً، قالوا: تقبل الله، وإذا قالوا: حرماً، قال: جمعاً، أين وردت هذه؟ وأين هي موجودة؟ ويواظب الناس عليها! ولو جئت الآن تقول: لا. فيقول: كيف؟ أنا أدعو له أن يصلي في الحرم وأن يتوضأ بماء زمزم ما فيها؟! فيها أنك الآن تبتدع في الدين، وأنك تقول أن الدين غير كامل، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم ما عمل الأفضل، وجئنا الآن واكتشفنا الأفضل فنحن نعمل به!! وهذا كثير، يقول: الفاتحة على روح فلان! فتقول له: يا أخي! الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح يقول: (إذا مات واحد) فيقاطعك: الفاتحة على روح فلان؟! إذاً: لماذا نأتي بأشياء من جيوبنا ثم نطبقها في الواقع؟ أدعية على مدى الأيام؛ دعاء يوم السبت، ودعاء يوم الأحد، ودعاء يوم الإثنين، ودعاء يوم الثلاثاء، ودعاء يوم الأربعاء، ودعاء يوم الخميس، ودعاء يوم الجمعة، والصلوات؛ صلاة يوم السبت، وصلاة يوم الأحد! ومن الكتب المشهورة في هذا كتاب: الدعاء المستجاب الذي يقول عنه الشيخ/ عبد العزيز حفظه الله: مؤلفه حاطب ليل، يأتي من كل مكان يجمع ما هب ودب، والكتاب منتشر، والمشكلة أن الاسم ملفت للنظر: الدعاء المستجاب، كل واحد يريد أن يكون دعاؤه مستجاباً، إذاً: اقتن هذا الكتاب وطبق ما فيه!!! بعض الناس يوزعون أيام الأسبوع لمهمات معينة بناءً على أحاديث ضعيفة أيضاً، يأتي مثلاً فيقول: يوم السبت يوم مكرٍ ومكيدة، ويوم الأحد يوم بناءٍ وعرس، ويوم الإثنين يوم سفرٍ وتجارة، ويوم الثلاثاء يوم دم، ويوم الأربعاء يوم نحسٍ مستمر، ويوم الخميس يوم دخول على السلطان وقضاء الحوائج، ويوم الجمعة يوم خطبة ونكاح، انتهت القضية! أي توزيع وأي شيء هذا؟! تجارة ليوم كذا، ونكاح ليوم كذا، توزعت الأعمال وأصبحت جدولاً! لماذا؟ من أين أتى هذا الكلام؟ إنه من حديث موضوع عن الرسول صلى الله عليه وسلم. الأحاديث في فضل الأزمان والأماكن، ومن فعل كذا في رجب حصل له كذا وكذا، وصيام يوم سبعة وعشرين من رجب، وقيام ليلة خمس عشرة من شعبان، ولا بد أن يصام عند العامة ولا يمكن تركه! من أين جاء هذا؟! لا يوجد شيء صحيح، ولا يوجد مستند شرعي لهذا الكلام. حتى شم الورود ما سلم من الأحاديث الموضوعة المكذوبة: (من شم الورد الأحمر ولم يصل علي فقد جفاني) (من أراد أن يشم رائحتي فليشم الورد الأحمر) الآن -بالمناسبة- عند بعض الناس إذا أتيت بالبخور ودرت به على المجلس قال: اللهم صل على النبي! فصارت هذه الآن ذكراً محدداً بوقت معين وهو عند البخور! اخترعنا الآن ذكراً محدداً عند شيء معين، عندما يأتي البخور يقول: اللهم صل على محمد، وقد يكون هذا من هذا. اختراع أصول في الجزاء والحساب ما أنزل الله بها من سلطان، ولا يمكن أن الله يحاسب الناس بناءً عليها: (إن الله تعالى لا يعذب حسان الوجوه) أي أنه: إذا وجد شخص خلقته جميلة فهذا نجاة له من العذاب! (عليكم بالوجوه الملاح فإن الله يستحي أن يعذب وجهاً مليحاً بالنار) قال الشيخ القارئ: فلعنة الله على واضعه الخبيث، فهل هذا المقياس من الممكن أن الشريعة تأتي به؟ شخص ينجو من النار لأن وجهه جميل ولو كان أكفر الناس وأبعدهم عن الشريعة وعن العبادة؟! ومن المعايير الأخرى أيضاً في الحساب: (آليت على نفسي ألا يدخل أحدٌ اسمه محمد أو أحمد النار) فقط لأن اسمه محمد أو أحمد!! لا يدخل النار! أممكن هذا الكلام؟! ألم يوجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين أخطر شخصيتين: عبد الله بن أبي بن سلول وعبد الله بن سبأ، من أخطر الشخصيات في التاريخ الإسلامي وكل واحد اسمه عبد الله، ليست القضية قضية أسماء، لأن من المنافقين من الذين ينتسبون للإسلام ويتكلمون بألسنتنا من اسمه عبد الله وعبد الرحمن ومحمد وأحمد، ولكنهم يمكن أن يكونوا أشد خطراً على الإسلام من جورج وجوزيف إلى آخره، نعم يوجد هذا. في الإمامة أحكام فقهية: (يؤم القوم أفقههم بكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا بالسنة سواء فأحسنهم وجهاً) يعني: إذا تساووا نقدم أحسنهم وجهاً، وماذا بعد إلا أن نحول المسجد إلى مسابقة جمال ووجوه، ثم انتخاب ثم ننتخب، واللجنة، والأصوات حتى نخرج أجملهم ثم يصلي بالناس، قبح الله ذلك فعلاً، وهذا موجود وإن لم تكونوا قد سمعتم به فهناك أناسٌ يعملون به، ويتفقهون على هذه الأشياء المبثوثة في المذاهب من الأحاديث الباطلة. إدخال أمورٍ في الإيمان ليست منه: (حب الوطن من الإيمان) ليس حب الوطن من الإيمان، قد يكون الوطن كافراً، قد يكون الإنسان في بلد كافر، فهل إذا أحب وطنه الذي نشأ فيه ولو كان بلداً كافراً صار هذا من الإيمان؟! هذا غير صحيح.

تأصيل أصول مخالفة للشريعة

تأصيل أصول مخالفة للشريعة أحياناً تأتي الأحاديث الضعيفة والموضوعة بتأصيل أصولٍ مخالفة للشريعة مثل حديث: (اختلاف أمتي رحمة) هذا الحديث من آثاره السيئة: أنه يقضي على كل محاولة للوصول إلى الحق، لأنه مثلاً إذا وقع خلافٌ علمي بين واحد وآخر هذا يرى شيئاً وذلك يرى شيئاً آخر، فإن المفروض في هذه الحالة المباحثة والمناقشة العلمية المؤدبة على طريقة السلف حتى نصل إلى الحق، لكن عندما يأتي حديث: (اختلاف أمتي رحمة) إذاً: ليطمئن كل إنسان فكل الناس بخير، كل الآراء الفقهية الحمد لله صحيحة، أنت على صواب وهو على صواب رحمة من الأصل! قد تكون بعض الآراء ضعيفة متهافتة باطلة لا يمكن أن تكون صحيحة، وكيف يكون الاختلاف رحمة والله عز وجل ذم الاختلاف في القرآن الكريم، فقال: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82]. كذلك من هذه الأصول الباطلة: وضع أصولٍ في قبول الروايات غير الأصول الشرعية المعتمدة كحديث: (أصدق الحديث ما عطس عنده) إذاً: لو جاء حديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولما ذكر هذا الحديث عطس رجل من الحاضرين فهذا دليل على صحة الحديث عجيب! سبحان الله! كيف يكون دليلاً على صحة الحديث، ولو عطس مائة رجل عند حديث مكذوب لا يمكن أن نجزم بنسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكذلك أحاديث تطبع وتنشر وتوزع بين الناس، وتنتشر انتشار النار في الهشيم، الآن هل منكم أحد لم يسمع بالحديث الذي فيه أن تارك الصلاة يعاقب بكذا عقوبة، خمسة في الدنيا، وخمسة في القبر، وخمسة في الآخرة؟ فقد انتشرت بين الناس مع أن هناك أحاديث في الحث على الصلاة، والتحذير من ترك الصلاة صحيحة، فلماذا نلجأ إلى هذا وننشره بين الناس؟ وكذلك هذه أوراق دعاء الخضر وإلياس، وأن زينب رضي الله عنها قالت هذا الكلام، وأن امرأة عميت فقرأت هذا الكلام فرأت زينب في الليل، فقالت لها زينب: اقرئي هذا الذكر أو هذا الدعاء فستشفي، فاستيقظت فقرأت فشفيت، وأن الدعاء الفلاني ويلٌ لمن لم يقرأه ولم يوزعه، وأن فلاناً قرأه فغني من ثاني يوم، وفلان سافر فربح، وفلان لم يعمل به فخسر التجارة وقتل بعد كذا يوم ومن قبيل هذا الكلام، والمشكلة أن بعض الضعفاء لما يأتي مكتوب فيه مثلاً: وزع ثلاث عشرة نسخة، وإن من لم يوزع هذه النسخ فإنه يحصل له كذا وكذا من المصائب، والناس تصدق فتصور وتوزع، وامرأة من المسكينات أتى لي واحد بورق مكتوب بخط اليد، وهو نفس هذا الكلام المنسوب إلى زينب، فهذه المسكينة لم تجد آلة تصوير فنسختها بيدها ثلاث عشرة مرة نسخاً باليد ثم وزعتها! لماذا؟ خوفاً من أن يحصل لها شيء؛ لأن فيه تخويفاً وترعيباً (وإذا ما فعلت سيحدث لك كذا وكذا) وطبعاً الذي ليس عنده ثقة بالله عز وجل ولا معرفة حقيقية بطبيعة هذا الدين سيكتب ويوزع.

إفساد الأخلاق

إفساد الأخلاق التشجيع على أمورٍ من المفاسد، حتى في الأخلاق الأحاديث الضعيفة والموضوعة لها آثار سيئة: (من عشق وكتم فمات مات شهيداً) يشجع الناس على العشق، والعشق باختصار هو: أن تحب إنساناً مع الله أو أكثر من الله عز وجل، شرك بالمحبة بحيث يسيطر ذكر المعشوق على العاشق فيلهيه عن الصلاة وعن ذكر الله عز وجل، وعن كل شيء حتى عن الأكل والشرب، ولكن الحديث يقول: (من عشق وكتم فمات مات شهيداً) المشكلة أيضاً (مات شهيداً) فوضعت هذه الشهادة -المرتبة العظمى- لمن يعشق، إذاً العشق حسن، وهذه الأغاني التي فيها العشق ممتازة. انظروا إلى هذا الحديث المكذوب لكي تتبينوا معي -أيها الإخوة! - كيف أن هذه الأحاديث الضعيفة المكذوبة لها آثار سيئة في نسف الأخلاق والفضيلة، وإحلال الرذيلة في نفوس البشر الذين يستمعون إليها ويطبقونها. في روض الأذكار: (أن امرأة خرجت تسمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم فرآها شابٌ فقال: إلى أين؟ قالت: أسمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أتحبينه؟ قالت: نعم. قال: فبحقه ارفعي نقابك حتى أنظر إلى وجهك، ففعلت ثم أخبرت زوجها بذلك فأوقد تنوراً ثم قال: بحقه عليك -يعني الرسول صلى الله عليه وسلم- ادخلي التنور فألقت نفسها في التنور -كل هذا (بحقه عليه) - وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال للزوج: ارجع واكشف عنها فكشف عنها التنور -فرناً محمى- فرآها سالمة وقد جللها العرق!) أي: لم يصبها شيء! ما هي النتيجة؟ شاب أجنبي رأى أجنبية في الطريق قال: تحبين رسول الله؟ قالت: نعم. قال: بحقه عليك اكشفي النقاب حتى أنظر إلى وجهك، أتكشف النقاب وينظر إلى وجهها؟!! ومن الآثار السيئة أيضاً في الأخلاق: أن بعض الأحاديث الضعيفة والموضوعة لها آثار سيئة في عدم تغيير الخلق السيء وتبديله، كل إنسان فيه أخلاق سيئة وطبائع غير جيدة، والحل أن يجاهد نفسه حتى يبدل الخلق السيء بخلق طيب، لكن عندما يأتي حديث: (الحدة تعتري خيار أمتي) (الحدة تعتري حملة القرآن لعزة القرآن في أجوافهم) لو أن إنساناً حاد الطبع يغضب بسرعة وينفعل فإنه عندما يسمع هذا الحديث: (الحدة تعتري خيار أمتي) (وحملة القرآن لعزة القرآن في أجوافهم) ماذا يعمل الحديث هذا وما هو مفعوله في النفس؟ إنه على الأقل يجعلك حادَّاً.

تغيير سنة النبي صلى الله عليه وسلم

تغيير سنة النبي صلى الله عليه وسلم إن تغيير سنة النبي صلى الله عليه وسلم أثر من آثار الأحاديث الضعيفة والموضوعة مثل حديث: (كان يأخذ من لحيته من عرضها وطولها) لحية الرسول صلى الله عليه وسلم كانت أوفر ما يكون، وأجمل ما يكون، وأمر عليه الصلاة والسلام بإعفاء اللحى، ولكن يأتيك هذا الحديث: (كان يأخذ من لحيته من طولها وعرضها) فيأتي إنسان يقصقص، لماذا تقصقص يا أخي؟ الرسول أمر بإعفاء اللحية! قال: لا. عندي دليل، ما هو؟ قال: (كان يأخذ من لحيته من طولها وعرضها) لا يمكن يا أخي! أن الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر بإعفاء اللحية ثم بعد ذلك هو نفسه عليه الصلاة والسلام يخالف أمره فيذهب يقصقص منها، هذا لا يمكن! قال أحدهم: الناس تستطيع أن تتلمس اتجاهات بعضهم في التفكير ومشاربهم المختلفة في قضية واحدة مثل هذه القضية، الرسول لم يكن يحلق لحيته لأنه لم يكن عنده موس، أي أنه لو كان عنده موس لحلق، وأجابه أحد الحاضرين، قال: يا أخي! الرسول كان عنده سيف طويل ولو أراد أن يحلق لفعل، ما هذا الكلام! والموس كانت موجودة في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، لحديث: (حتى تستحد المغيبة) التي غاب عنها زوجها، وأيضاً أصرح من هذا صلح الحديبية: (فدعا بالحلاق فحلق رأس الرسول صلى الله عليه وسلم بالموسة). وحديث خبيب بن عدي لما دب إليه ولد وهو مأسورٌ بـ مكة وبيده موسة، كان يستحد بها رضي الله عنه وهو مأسور في صدر الإسلام. وكذلك الحديث الآخر الباطل: (من سعادة المؤمن خفة لحيته) فخفيف اللحية يصير منبسطاً، وأما كثيف اللحية فيغتم، مشكلة لست بسعيد بل شقي! لماذا؟ لأن عندي لحية كثيفة! انظروا إلى هذه الآثار السيئة. وكذلك من الآثار السيئة في فضائل تمشيط اللحية أو التمشيط عموماً: (عليكم بالمشط فإنه يذهب الفقر، ومن سرح لحيته حتى يصبح كان له أماناً حتى يمسي) التمشيط هذا شيء طيب؛ لكن ليس الذي يدفعنا إلى هذا التمشيط الأحاديث الضعيفة والموضوعة، وإنما نمشط ونهذب وننظف لحث الشرع على أن يبدو الإنسان بالمظهر الحسن المسلم، ولذلك كانت سنن الفطرة. مثلاً: العصا والاتكاء عليها وضعت لها فضائل (العصا علامة المؤمن وسنة الأنبياء، ومن خرج في سفر ومعه عصاً من لوز -يجب أن تكون من لوز فلو كانت ليست من لوز فلا تنفع- مر -ولابد أن يكون مراً- أمنه الله من كل سبعٍ ضار، ولصٍ عاصٍ، وكل ذات صلَّة حتى يرجع إلى أهله ومنزلة، وكان معه سبعة وسبعون من المعقبات) إلى آخر هذا الكلام الفارغ.

إلغاء قواعد في أصول الفقه

إلغاء قواعد في أصول الفقه من آثار الأحاديث الضعيفة والموضوعة: إلغاء قواعد في أصول الفقه، نحن نعلم أن القرآن والسنة والإجماع من مصادر الأحكام الشرعية، وكذلك إذا كان القياس صحيحاً فيؤخذ منه الحكم الشرعي فيأتي هذا الحديث مثلاً: (من عمل بالمقاييس فقد هلك وأهلك) ما هي النتيجة؟ إلغاء هذا البند من أصول الفقه، وعدم الاستفادة من القياس إطلاقاً.

التفرقة بين المسلمين

التفرقة بين المسلمين ومن الآثار السيئة: التفرقة بين المسلمين، وذم بعض الأجناس أو الألوان، ومخالفة قول الله عز وجل: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13] كحديث: (دعوني من السودان إنما الأسود لبطنه وفرجه) يقول: الأسود فقط همه البطن والفرج، سبحان الله! ألم يكن من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم بلال بن رباح؟ أو ما كان عطاء رضي الله عنه من كبار علماء مكة وكان يخضع له الملوك والخلفاء ويأتونه ويستفتونه؟ إذاً: هذه الأحاديث التي تفرق شمل الأمة، وتفضل أجناساً على أجناس، وعرقاً على عرق إنما هي من مفرزات الجاهلية فصيغت بهذه الأحاديث الموضوعة.

تحريم ما أحل الله وتشويه سمعة الصحابة

تحريم ما أحل الله وتشويه سمعة الصحابة وكذلك تحريم ما أحل الله، مثل أحاديث تحريم لحم البعير مثلاً، ومنها تشويه سمعة صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكثير من الناس الآن يعرفون الحديث الذي فيه أن الصحابي ثعلبة بن حاطب طلب المال وكسب المال وخرج عن المدينة وفوت صلاة الجمعة والجماعة، وأنه بعد ذلك أراد أن يتوب فلم يقبل منه عليه الصلاة والسلام الزكاة، وأن أبا بكر لم يقبل منه الزكاة ولا عمر، وعندما تراجع الحديث تجد أن سنده ضعيف وأن ثعلبة بن حاطب رضي الله عنه بريءٌ من هذا الكلام، وأنه صحابي جليل كانت له مواقف محمودة، وقد يكون الأمر أخطر من ذلك عندما يُدخَل في قضية الصحابة بعض الأشياء المتعلقة بهم مثل بيعة أبي بكر رضي الله عنه يدخل فيها أهل الأهواء، فمثلاً يأتي حديث موضوع: (أن رجلاً قال لـ علي بن أبي طالب: أتعلم من بايع أبا بكر الصديق، فيقول: من هو؟ فيقول: بايعه شيخٌ متوكئٌ على عصا فيقول علي: نعم ذاك إبليس فقد أخبرني صلى الله عليه وسلم أن أول من بايع أبا بكر رجلٍ متوكئٌ على عصاً، شيخ من مكان كذا، وأن هذا إبليس متنكر يكون أول من يبايع أبا بكر رضي الله عنه) فهذا من تشويه سمعة الصحابة رضوان الله عليهم.

إعانة المستهترين على الاجتراء على الله بالمعاصي، والابتداع في العبادة، ومخالفة السنة

إعانة المستهترين على الاجتراء على الله بالمعاصي، والابتداع في العبادة، ومخالفة السنة وكذلك من آثارها السيئة أيضاً: إعانة المستهترين على الاجتراء على الله بالمعاصي مثل حديث: (إنما حر جهنم على أمتي كحر الحمَّام) فإذا كان حر جنهم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم مثل حر الحمام فما الذي يمنع الناس أن يرتكبوا المعاصي، إذا كانت النهاية هي عبارة عن حمام ساخن؟ فإذاً: هل بعد هذا القبح وبعد هذه الآثار السيئة من شناعة، وآثارٍ تدفع الناس إلى الوقوع في المعاصي والجرأة على الله عز وجل؟! الابتداع في العبادة وقد ذكرنا طائفة من الأحاديث، فمثلاً الحديث الضعيف: (ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت في صلاة الغداة حتى فارق الدنيا) ولذلك تجد بعض الناس مواظباً على القنوت في صلاة الفجر، لماذا يا أخي؟ فيها أحاديث، هل بحثت في هذه الأحاديث فعرفت صحتها؟ أبحثت في سندها؟ ومن الذي صححها من العلماء؟ هل تعرف الرأي الآخر في الموضوع؟ هل تعرف أن الصحابي لما سأله ولده عن القنوت وهو طارق بن شهاب قال له: [أي بني إنه محدث]؟، وهل تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يقنت إلا إذا نزلت نازلة بالمسلمين كما قنت لما قتل القراء في بئر معونة فظل يدعو على من قتلهم شهراً، فإذا نزلت النازلة قنتوا وإذا لم يكن هناك نوازل لم يقنتوا، فلا يشرع للإمام أن يقنت. وكذلك إضافات في العبادات مثل: إضافة مسح الرقبة في الوضوء، ألم تروا أناساً يمسحون رقابهم عند الوضوء؟ فهذه الزيادة في الوضوء من أين أتت؟ أصلها من هذا الحديث الموضوع: (من توضأ ومسح عنقه لم يغل بالأغلال يوم القيامة) انتهى الأمر! كل واحد لا يريد أن يغل بالأغلال يوم القيامة فما عليه إلا أن يمسح، مع أن المسح غير وارد، ولم يثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه مسح رقبته. مساواة المسلمين بأهل الذمة مثل حديث: (لهم ما لنا وعليهم ما علينا) وهذا غير صحيح، أنها أحاديث تنافي أحكاماً شرعية. تحريم مس الرجل المرأة الأجنبية، بعض الناس يقول: أنا لا أصافحها مباشرة بل أصافحها من وراء حائل، أي أني أدخل يدي في عمامتي ثم أصافح، أو أمسك طرف العباءة وأصافح، هذا غير صحيح ولا يجوز لا مباشرة ولا من وراء حائل، ويفعلونه لهذا الحديث الضعيف: (كان يصافح النساء وعلى يده ثوب) وهو لم يثبت، بل إن الذي ثبت أنه عليه الصلاة والسلام ما مست يده يد امرأة أجنبية قط. وحديث: (من أشار في صلاته إشارة تفهم عنه فليعد صلاته) ونحن نعلم أن كثرة الحركة في الصلاة مذمومة، لكن أحياناً توجد أسباب معينة يجوز معها الحركة في الصلاة بيَّنها أهل العلم، وأنا أذكر الآن مثالاً فيه فائدة فقهية: الذي لا يقرأ الفاتحة في الركعة ماذا يفعل؟ لو أن واحداً بدلاً من أن يقرأ الفاتحة قرأ التحيات ثم تذكر، ماذا يفعل؟ عليه أن يعيد تلك الركعة إذا كان داخل الصلاة، آخر ما انتبه إلا بعد ما جلس للتشهد ويظن أنه في الركعة الرابعة وهو قرأ نفس الشيء، يحدث أحياناً أليس كذلك؟ بلى. يحدث أن بعض الناس قد يقرأ بدل الفاتحة التحيات، لو أن إماماً في صلاة سرية يؤم الناس قرأ في الركعة الرابعة بدل الفاتحة التحيات، وهو في التشهد الأخير تذكر أنه قرأ التحيات ما المفروض أن يعمله هذا الإمام؟ الواجب أن يزيد ركعة، فإذا ركع بدل هذه فالناس يستغربون ما هي هذه الركعة؟ زائدة! خامسة! هل يجوز أن يقوموا أصلاً؟ لا يجوز أن يقوم في تصورهم، لو قام الإمام إلى ركعة خامسة فلا يجوز للناس أن يقوموا بل يجلسوا ويسبحوا، وإذا أصر يجلسون وينتظرونه حتى يجلس ويسلم فيسلمون معه أو يفارقونه، لكن هذا الإمام ما أخطأ ولا نسي في القيام للخامسة بل قام عامداً لأنه لا بد أن يأتي بركعة فماذا يفعل الإمام لكي ينبه الناس هل يقول إني أنا يا جماعة ما قمت إلى الخامسة نسياناً ولا ذهولاً، وإنما قمت عامداً، وأنا أرجو أن تقوموا معي!! ماذا يفعل؟ يؤشر بيده لمن خلفه: أن قوموا، أنا أؤكد أن هناك سبباً في هذه الخامسة، لست ناسياً. فإذاً: هذه الحركة صارت لها حاجة في الصلاة، فلما يأتي هذا: (من أشار في صلاته إشارة تفهم عنه فليعد صلاته) ماذا يكون الموقف؟ أحياناً تكون لهذه الأحاديث آثار سيئة في التفسير، فتأتي الأحاديث الضعيفة في تفاسير خاطئة للآيات، لو أنه مثلاً قرأ هذه الآية: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} [يوسف:52] قال: لما قالها عليه السلام قال له جبريل: يا يوسف! اذكر همك فقال: وما أبرئ نفسي، يعني: هذه مقولة امرأة العزيز. مشروعية الرقص والتواجد عند الذكر، ويخترعون لذلك أحاديث كحديث: (ليس بكريمٍ من لم يتواجد عند ذكر الحبيب) إذا ذُكر النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقم من سمعه يرقص ويتواجد فليس بكريم. وكذلك اعتقادات خاطئة مثل (من طنت أذنه فليقل: ذكر الله بخير من ذكرني) هذا منتشر بين الناس، لو طنت أذن واحد يقول: أكيد الآن أن واحداً في مشارق الأرض أو مغاربها يذكرني ويأتي بسيرتي؛ ولذلك الآن طنت أذني فيقول: (ذكر الله بخير من ذكرني) ليس بصحيح هذا الحديث، وهذا اعتقاد خاطئ، فطنين أذنك -يا أخي- قد يكون لسبب في الدماغ فجعل الأذن تطن. هذه الخرافات أحياناً لو اطلع عليها بعض الناس الذين يريدون الدخول في الإسلام -والله! - قد تكون عائقاً في دخولهم الإسلام مثل حديث: (هل تدرون ما يقول الأسد في زئيره، قالوا: الله ورسوله أعلم؟ قال: يقول: اللهم لا تسلطني على أحدٍ من أهل المعروف)، وحديث: (إن الله لما خلق الشمس جعل لها تسعين ألف ملك يرمونها بالثلج كل يوم ولولا ذلك لاحترق الناس) الآن يرمونها بالثلج لكي تبرد، أهذا كلام؟! وحديث (خذوا من القرآن ما شئتم لما شئتم) جعل القرآن شذر مذر! تقطيفاً! إذا فيه الأورام قرءوا: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً} [طه:105]، نقرأ لروح الله، وبعض الناس فعلاً عندهم آيات معينة ما وردت في السنة ولا ثبتت بطريق صحيح، أو أنها جربت مثلاً فنفعت، بطريقٍ شرعي؟ لا. قطَّعوها لما يبدوا لهم من أن الظاهر مقارب للآية: (إذا زلزلت الأرض) فيضعها فإذاً: يقطعون القرآن على حسب الأشياء، يقولون: هذه الآية تصلح لكذا وهذه الآية تصلح لكذا. فإذا لم ترد بطريق شرعي فلا يجوز الاعتماد عليها. ومن الأشياء أيضاً: استحباب لبس بعض الثياب وتفضيل بعضها على بعض: (من لبس نعلاً صفراء لم يزل في سرور ما دام لابسها) وذلك لقول الله عز وجل {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} [البقرة:69] سبحان الله العظيم! صفراء فاقع لونها يا أخي! قضية البقرة وموسى وبني إسرائيل، أخذوها وجعلوها على لبس النعل الصفراء. مخالفة السنة: (كان يأكل بكفه كلها) حديثٌ باطل، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يأكل بثلاثة أصابع، الناس يأكلون بكم؟ أبالكف كلها؟ فانظر حديث: (كان يأكل بكفه كلها) فهذا مخالفة لهديه صلى الله عليه وسلم في طريقة الأكل.

إلقاء الشك والريبة بين المسلمين؛ ونشر الخرافة بينهم

إلقاء الشك والريبة بين المسلمين؛ ونشر الخرافة بينهم إلقاء الشك والريبة بين المسلمين: (احترسوا من الناس بسوء الظن) أي أن الزمان قد فسد الآن فلابد أن تسيء الظن في كل واحد، تأخذ احتياطك منه فتفترض في الأصل أنه سيء فتسيء الظن به، فتكون النتيجة أن كل مسلم ينظر لأخيه بمنظار أسود، أكيد أنه يريد أن يؤذيني! أكيد أنه يريد أن يفعل بي كذا! يريد بي شراً! وهكذا. كذلك انظر من الخرافات العجيبة (إن الله أعطاني نهراً يقال له الكوثر في الجنة لا يدخل أحدٌ أصبعه في أذنيه إلا سمع خريره) يعني: إذا أدخلت أصبعك في أذنيك فإنك تسمع خرير نهر الكوثر، ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر، الآن من مجرد ما نضع أصابعنا في آذاننا فإننا نسمع خرير نهر الكوثر! والأحاديث الموضوعة في فضائل الأطعمة ما أكثرها (اجعلوا في موائدكم البقل فإنه يطرد الشياطين) (إن الله تعالى يوكل بآكل الخل ملكين يستغفران له) (عليكم بالقرع فإنه يزيد بالعقل) (عليكم بالعدس فإنه مبارك ويرق القلب، ويكثر الدمع، وقد قدس على لسان سبعين نبياً) (شكا نبيٌ من قلة الولد فأمره أن يأكل البيض والبصل) إلى آخر هذا الهراء، ومنها: (اتخذوا الحمام المقاصيص فإنها تنجي الدين عن صبيانكم) إذاً والله نأخذ هذه الحمام، أو نوعاً من الحمام ونربيها في البيوت! (إذا كتبت فضع القلم في أذنيك فإنه أذكر) يعني أن هذا يقوي الذاكرة إذا وضعت القلم على أذنك، اعتقادات ليس لها أصل ولا دليل بل هوس وهراء. بعض الناس يشيع عندهم إذا كانت المرأة تسقط دائماً الجنين حديث: (يا رسول الله! إني امرأة لا يعيش لي ولد فقال: اجعلي لله عليك أن تسميه محمداً ففعلت فعاش ولدها) فصار بعض الناس الآن إذا صارت امرأته دائماً تسقط يقول: لله علي نذر أن أسميه محمداً لكي يعيش. التضييق على الناس في أمورٍ من المباحات، بعض الناس يرجع من دوامه الساعة الثانية والنصف تعباً مرهقاً يصلي ويتغدى، فلا يجد فرصة للراحة والنوم إلا بعد العصر فيأتيه حديث: (من نام بعد العصر ففقد عقله فلا يلومن إلا نفسه) فماذا يفعل؟ رجل هذه ظروفه الآن متعب، فنقول: لا. لا تنم بعد العصر فإنه يجلب الجنون، فماذا يفعل؟! إنسان لا يمكن أن يعيش مع زوجته أكثر من ذلك لوجود مشكلة بينه وبين زوجته، الطلاق في بعض الأحيان هو الحل الوحيد، لكن ليس في كل الأحيان، فإنه يمكن في كثيرٍ من الأحيان تدارك الوضع وتحسين الأشياء بغير الطلاق، الطلاق أحياناً يكون خطيراً، وأحياناً لا يكون الحل بالطلاق فيأتي حديث: (تزوجوا ولا تطلقوا فإن الطلاق يهتز له العرش) مهما كانت سيئة خلق؟! مهما كان عدم التوافق موجوداً؟! لا يمكن أن يطلق فكيف يعيش الزوج؟! يعيش في جحيم. تحريم أشياء من المباحات فيها بعض الأحاديث الضعيفة والموضوعة، واحد يريد مثلاً أن يتزوج، شاب يحتاج للزواج -وأهل مكة لا مشكلة عندهم في هذا الموضوع- لكن واحد يريد أن يتزوج، محتاج للزواج فأتاه الحج قبل التزوج: (من تزوج قبل أن يحج فقد بدأ بمعصية) سبحان الله! كيف يكون إعفاف الرجل نفسه وإحصانه فرجه سبباً للمعصية؟ هل هذه معصية؟! من قال ذلك؟ يقول: لا. لا يجوز، بعض الناس عندهم اعتقاد (لا يجوز الزواج قبل الحج بل لا بد أن تحج أولاً). الذي ما عق عنه أبوه في الماضي فإنه لا بد من أن يعق قبل أن يعتمر أو يحج وإلا فستصير عمرته أو حجه باطلاً، وبعض الناس عندهم اعتقادات بهذا، وأحياناً يكون أساسه حديثاً ضعيفاً أو موضوعاً. وأحياناً تؤدي الأحاديث الضعيفة والموضوعة إلى احتقار النساء، مثل حديث: (لا تسكنوهن الغرف ولا تعلموهن الكتابة)، أو حديث (شاوروهن وخالفوهن) هناك شخص كان دائماً يستشير زوجته تقول كذا فيفعل هو العكس، في يوم من الأيام تضايقت وقالت: أنت يا فلان! تأخذ بخلاف مشورتي، قال: أنا عندي حديث ((شاوروهن وخالفوهن). (سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن) إذاً: لا بد أن الواحد يمشي رويداً رويداً ويخالف مشية الرسول صلى الله عليه وسلم. (نسخ الأضحى كل ذبح) انتهت القضية فلا عقيقة ولا غيرها من الذبح! (من رفع يديه في الصلاة فلا صلاة له) قضاء على سنة رفع اليدين عند الركوع وعند الرفع منه. حديث جذب الرجل في الصف، إذا أتيت ولم تجد لك مكاناً تجذب رجلاً، غير صحيح والحديث الذي فيه ضعيف والناس يطبقونه. وحديث (من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني) لا بد من الزيارة لكل من أراد أن يحج، ولو ما زار فحجه باطل، أو ناقص إلى آخره. أيها الإخوة الكرام: لقد عرفنا أن الخطورة ليست فقط في نسبة هذه الأحاديث إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنها خطورة في حد ذاتها، أحياناً يكون معنى الحديث صحيحاً، مثلاً: (من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له) هذا الحديث ضعيف لكن معناه صحيح، فالمجاهر بالمعصية ليست له حرمة في الغيبة، ولكن لا يجوز أن ننسب هذا الحديث فنقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له) لا. هذه مسألة خطيرة أن ننسب حديثاً ضعيفاً إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ولو كان معناه صحيحاً، فكيف إذا انضاف أن هذا الحديث الموضوع له أثر سيء على الناس كما بينا في المحاضرة.

الموقف من الأحاديث الضعيفة والموضوعة

الموقف من الأحاديث الضعيفة والموضوعة فإذاً -أيها الإخوة! - ماذا يكون موقفنا من الأحاديث المنتشرة؟ وما هو موقف الرجل العادي من هذه الأحاديث المنتشرة التي يسمعها والتي هي محفوظة في ذاكرته؟ فنقول: أولاً: طالب العلم عنده مراجع يستطيع أن يرجع إليها، هناك إما نقاد كبار مثل الحافظ ابن حجر رحمه الله، والحافظ الذهبي وغيرهما من العلماء الذين صنفوا الكتب وبينوا فيها درجات الأحاديث، وبعض الكتب في الأحاديث المشتهرة على الألسنة تذكر درجات الأحاديث، وهناك مصنفات في الأحاديث الموضوعة مثل الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة للشوكاني رحمه الله. وكذلك من المحدثين مثلاً العلامة الشيخ/ أحمد شاكر في جهوده في التعليقات على الأحاديث التي علق عليها، وكذلك المحدث علامة الشام الشيخ/ محمد ناصر الدين الألباني في تعليقاته وفي كتبه التي ألفها ومن أنفعها سلسلة الأحاديث الصحيحة والضعيفة وضعيف الجامع وصحيح الجامع وغيرها، وما يذكره سماحة الشيخ/ عبد العزيز بن باز علامة الجزيرة في بعض الأحاديث، فإنه من المهتمين بالأسانيد والعلل جزاه الله خيراً. ثانياً: الرجل العامي الذي لا يستطيع أن يبحث ماذا يجب عليه؟ نقول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء:7] {الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} [الفرقان:59] يجب اللجوء إلى الخبراء، إلى العلماء، فإذا لم تجد عالماً فعليك أن تسأل طالب علم موثوق يرجع إلى كتب العلماء فيخبرك ما هي درجة هذا الحديث. كذلك عليك -يا أخي! - أن تواظب على القراءة في الكتب التي تنتقي الأحاديث الصحيحة مثل كتاب رياض الصالحين فهو من أنفع الكتب، خصوصاً مع تعليقات الشيخ/ ناصر حفظه الله وهناك بعض الانتقادات على بعض الأحاديث، لكنه كتاب جيد وممتاز، وبعض الناس يذهب إلى معارض الكتاب ويشتري كتباً لكن ماذا يقرأ منها؟ الله يعلم، لو ما قرأ إلا تفسيراً مبسطاً للقرآن وواظب عليه وكتاب رياض الصالحين، فهو شيء جيد، وشيء عظيم أن يفعل رجل عامي هذا الشيء، ممتاز جداً أن يختم أو يقرأ كتاب رياض الصالحين للإمام النووي رحمه الله. والكتب في الأحاديث الصحيحة كثيرة، كـ الصحيحين وغيرها. كذلك عليه أن يتجنب القراءة في الكتب ذات الأحاديث غير الموثوق بها أو غير المميزة، لأن بعض الكتب تكثر فيها الأحاديث الضعيفة والموضوعة مثل: بستان العارفين، أو مثلاً: إحياء علوم الدين، طبعاً طالب العلم قد يقرأ تخريجات الحافظ العراقي وغيره رحمهم الله لكن العامي يفتح كتاب الإحياء ويقرأ ولا يدري عن قيمة التخريجات التي تحته وهذه مشكلة، ولذلك عليه أن يتجنب القراءة في كتبٍ لا يعرف درجة الأحاديث التي فيها، وهذه كتب كثيرة منتشرة؛ كتب أذكار، وكتب أدعية، وكتب في السيرة، وإلى غير ذلك من الأشياء التي تحوي الكثير من الأحاديث الضعيفة والموضوعة، فإذاً: باختصار يجب أن يجعل قراءته في الكتب الموثوقة، وأن يرجع إلى الموثوقين الذين يبينون له درجة هذه الأحاديث.

الأسئلة

الأسئلة

التصحيح والتضعيف للحديث يخضع للاجتهاد أحيانا

التصحيح والتضعيف للحديث يخضع للاجتهاد أحياناً Q ما رأيك بالشيخ الذي يقول: لا تجادلوني في صحة حديثٍ أضعفه أو حديث ضعيف أصححه لأن المسألة اجتهادية؟ A صحيح أن بعض الأحاديث اجتهادية، والعلماء في تصحيح الحديث يختلفون، وقد يختلفون ويكون الخلاف قوياً وطالب العلم عليه أن يجتهد في معرفة أي الرأيين أقوى في الحكم على هذا الحديث، لكن كثيراً من الأحاديث ليس فيها اجتهاد أبداً، والمسألة واضحة جداً، رجل في سند حديث كذاب، أو رجل سيء الحفظ، لا توجد شواهد ولا متابعة لهذا. ولا اجتهاد في الحديث الموضوع، فلا يمكن أن توجد اجتهادات في هذه المسألة، فهذه قضية واضحة، فإذاً: نرى هل في تصحيح الحديث خلافٌ سائغ، أي: أن هناك فعلاً جماعة من كبار الحفاظ صححوه وأن آخرين ضعفوه، أو أن الخلاف غير صائب، أي: أن الذي ضعفه أئمة العلم غير المتخصصين وما صححه أحد من الذين يعتد برأيهم، فعند ذلك نقول: لا. تعالوا ما تقول أنت، مسألة اجتهادية على هواك! تقول: والله مسألة اجتهادية، لا. المسألة يرجع فيها لأهل العلم الموثوقين.

حكم العمل بالأحاديث الضعيفة

حكم العمل بالأحاديث الضعيفة Q ما حكم العمل بالأحاديث الضعيفة؟ A حكم العمل في الأحاديث الضعيفة في فضائل الأعمال، رأيان مشهوران لأهل العلم: الرأي الأول: أنه لا يجوز العمل بها مطلقاً كما هو مذهب الإمام البخاري رحمه الله أمير المؤمنين في الحديث وغيره، وأنه ليس هناك فرق بين الأحاديث الضعيفة في العقائد أو في الأحكام وفضائل الأعمال، فإذا أثبته هنا وجب أن تثبته هناك، وإذا لم يثبت هنا فلا يثبت هناك، فلا يمكن أن نفرق بينهما؟ والرأي الثاني: أنه يجوز العمل به بشروطٍ أربعة: أولاً: أن يكون في فضائل الأعمال. ثانياً: ألا يكون شديد الضعف. ثالثاً: ألا يكون مندرجاً تحت أصل من أصول الشريعة. رابعاً: ألا يعتقد عند العمل به أنه ثابت وسنة عن الرسول صلى الله عليه وسلم. ولكن إذا دققت -يا أخي! - في هذه الشروط تجد أنها تعود تقريباً إلى رأي الأول لأنه من ذا الذي يستطيع أن يجمع هذه الأشياء، وأن يعرف أنه ليس شديد الضعف إلا أن يكون رجلاً له باع في علم الحديث حتى يعرف أنه شديد الضعف، أم لا، ثم بعد ذلك حتى وحتى، والأرجح، والله أعلم، فهو نفس الرأي الأول، والرأي الثاني -أصلاً- لو جئنا نطبقه عملياً سنجد أن حدود التطبيق ضيقة جداً، ولا يمكن أن نقوله لعامة الناس، نقول: اعملوا بغير شديد الضعف، كيف يعرف أنه غير شديد الضعف؟

أهمية بيان الأحاديث الضعيفة والموضوعة للعامة

أهمية بيان الأحاديث الضعيفة والموضوعة للعامة Q ألا ترون أن هذه المحاضرة تصلح لطلبة العلم المختصين أما الحاضرون فهم من جماعة قد لا يدركون؟ A والله -يا أخي! - أنا لا أدري، وقد كنت سأطرح موضوع (ضوابط في إنكار المنكر) وكان هذا الموضوع في نظري فيه صعوبة كبيرة، وفيه قواعد أصولية، ومتشعب، لكني قلت في نفسي أنه ربما يكون هذا الموضوع أنفع لأن قضية الأحاديث الضعيفة والموضوعة منتشرة عند العامة، فإذا كنت ترى هذا فالحمد لله قد طمأنتني، فلم أكن أعتقد ذلك، فقد كنت والله أرجو ألا أكون قد غمطت إخواني حقهم وأني قلت لهم كلاماً معاداً ويمكن أن يكون كذلك لكن بعد أن سمعت هذا فالحمد لله، وعلى العموم فأنا أرى أن هذه من الأشياء التي ينبغي أن تطرح على العامة؛ لأن طلبة العلم الحمد لله الآن في اتجاه جيد بين الشباب الذين هداهم الله عز وجل إلى تمييز هذه الأمور، لكن عامة الناس مساكين، إذا قيل لهم: قال رسول الله فقد انتهى عندهم الأمر ولو كان الحديث مكذوباً كما مر معنا.

عدم ثبوت حديث: (أخلق ويعبد غيري وأرزق ويشكر سواي) عن النبي صلى الله عليه وسلم

عدم ثبوت حديث: (أخلق ويعبد غيري وأرزق ويشكر سواي) عن النبي صلى الله عليه وسلم Q حديث: (إني والإنس والجن في نبأٍ عظيم؛ أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر سواي، خيري إليهم نازل، وشرهم إلي صاعد) هل هو ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ A الذي أذكره الآن أن هذا الحديث لم يصح رفعه عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد ذكره ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين في الفصل الذي عقده للتوبة، ولكن لم يجزم بنسبته إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلى العموم هو حديث معناه جميل، وكلماته جميلة جداً وهو أطول من هذا، ولكنه لم يثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وبالمناسبة أقول: لو جئنا الآن لأحاديث ضعيفة ومعانيها صحيحة فهنا ينبغي أن ننتبه لمسألة ألا نقول للناس: هذا الحديث ضعيف، ولا نفصل لهم إذا كان الضعف في السند أو في المتن، أحياناً تأتي أحاديث معانيها صحيحة، مثلاً (أدبني ربي فأحسن تأديبي) الحديث كما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أنه لا أصل له، ولكن قال رحمه الله: ومعناه صحيح، فأنا أقول: الأكمل لطالب العلم أن يبين فيقول: يا جماعة! هذا الحديث سنده ضعيف لكن معناه صحيح، حتى لا يعتقد العامة أن الحديث ضعيف، انتهى أمره فليس بصحيح لا سنداً ولا متناً، فالأحسن أن تفصل لهم.

عدم اشتراط التصريح بالحكم في الدليل

عدم اشتراط التصريح بالحكم في الدليل Q هل توجد أحاديث قطعية تنهى عن شرب الدخان والغناء واستعمال المعازف والصلاة مع الجماعة في المساجد؟ حيث أنا نسمع من يقول: لم يرد نص مباشر أو حرفي في التحريم. A أولاً: الناس الذين لا يفهمون عمومات الشريعة وأن هناك قواعد عامة في الشريعة تندرج تحتها أشياء كثيرة من الطبيعي أن يقولوا مثل هذا الكلام، يعني مثلاً: لو جئت إلى قضية الدخان المنتشر، يقول الله عز وجل: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157] ألا تكفي هذه الآية في الدلالة على تحريم الدخان؟ لأن الله قسم الأشياء إلى طيبة وخبيثة، فالدخان من أي شيء؟ هذا الكلام أي عامي يمكن أن يجيب عليه، لا يحتاج إلى قضية علماء: الدخان طيب أم خبيث؟ هل يمكن أن واحداً يقول: الدخان طيِّبٌ؟ لا يمكن، فإذاً الله عز وجل يقول: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157] فإذاً: مادام أنه خبيث فهو حرام من الآية، فالمشكلة أن هذه من مجادلات الذين يتبعون الهوى، يقول: هات لي دليلاً من القرآن أن العود حرام، يعني: قضية تعجيز، ولو أتيت له بدليل فلن يقتنع، فلماذا تتعب نفسك؟ فأنت قل له الحكم وإن أعرض عنك {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [الفرقان:63].

حكم قيام ليلة النصف من شعبان

حكم قيام ليلة النصف من شعبان Q أحاديث الإسراء والمعراج وليلة النصف من شعبان، هل ثبت فيها شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ A أحاديث ليلة النصف من شعبان وليلة الإسراء والمعراج أظن أنه تكلم فيها كثير من المشايخ جزاهم الله خيراً والأمر فيها واضح أنها من المبتدعات، ولم يثبت فيها شيء، ورجح الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح أن الإسراء والمعراج لم يحدث في ليلة سبع وعشرين من رجب هذا فضلاً عن الاحتفال بتلك الليلة.

سبب إيراد بعض العلماء لأحاديث ضعيفة في مصنفاتهم

سبب إيراد بعض العلماء لأحاديث ضعيفة في مصنفاتهم Q بعض العلماء يوردون أحاديث ضعيفة في كتبهم، فما قولكم في ذلك؟ A نعم يحصل هذا ولكن أولاً: قد يكونون لم يعلموا بضعفها، وثانياً: قد يكون هذا العالم صدرها بلفظٍ يشير إلى ضعفها كلفظة (روي) مثلاً التي تستعمل للإشارة إلى الحديث الضعيف، فإذا قال ابن القيم رحمه الله: روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم فهو لم يجزم بصحته، لكن الذي لا يعلم هذا المصطلح يقع في لبس، وثالثاً: كل إنسان يؤخذ من كلامه ويرد إلا صاحب ذلك القبر الرسول صلى الله عليه وسلم. (النظر إلى الكعبة عبادة) حديث لا يصح، (النظر إلى الوالدين عبادة) لا يصح، ويمكن أن تجد مثل هذه الكتب في الأحاديث المشتهرة على الألسنة التي تبين ضعف أو كذب مثل هذه الأحاديث.

حكم الاحتجاج بصحة معنى حديث ضعيف في نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم

حكم الاحتجاج بصحة معنى حديث ضعيف في نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم Q بعض الناس يحتجون أن معنى الحديث صحيح في روايته على الملأ، فما قولكم؟ A نقول هذا كلام باطل، لأن أي واحد الآن فيكم لو قلت له: ضع لي حديثاً معناه صحيح، فهو يستطيع أن يؤلف حديثاً معناه صحيح، فهل هذا يعني وبهذه السهولة أنه لمجرد أن معناه صحيح ننسبه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم؟ وقد بينا في غضون الكلام خطورة أن ينسب الإنسان إلى الرسول صلى الله عليه وسلم حديثاً لا يعلم أنه عليه الصلاة والسلام قد قاله على سبيل الجزم، فكيف يأتي الناس بكل سهولة فيقولون: معناه صحيح وليس هناك حرج! هذا غير ممكن! هذه نفسها قضية، نسبة الحديث إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ولم تثبت نسبته خطيرة جداً، فضلاً عن أن يكون الكلام معناه صحيحاً أو غير صحيح، فمجرد النسبة قضية خطيرة.

حكم تصحيح الحديث لمجرد سماعه من شخص موثوق

حكم تصحيح الحديث لمجرد سماعه من شخص موثوق Q لو سمعت حديثاً من شخصٍ أثق به هل أحدث به غيري؟ A هل هذا الشخص يشترط على نفسه أنه لا يروي إلا حديثاً صحيحاً ولا يذكر إلا حديثاً صحيحاً، هذه نقطة. وثانياً: الإنسان وما سمي الإنسان إلا لنسيه ولا القلب إلا أنه يتقلب كل إنسان ممكن أنه ينسى، أو يسهى، ويمكن أن يخطئ، فإذاً: لا نقدس الأشخاص لدرجة أن نقول: والله هذا الحديث صحيح لماذا؟ ذكره فلان، ليست إلى هذه الدرجة، صحيح أن بعض العلماء هذا منهجهم، ويحتمل أن تكون هذه إشارة إلى أن الحديث صحيح، لكن: إنسان أثق فيه وانتهى، الشيخ هذا -يا أخي! - مشهور، يخطب ويحاضر ويظهر في التلفزيون ويتكلم في الراديو، إذاً: أكيد كلامه وليس معقول أن الإنسان يخطب ويحاضر ثم يأتي بحديث ضعيف، أكيد أنهم ما جعلوه يظهر إلا لأنه يأتي بأحاديث صحيحة ليس هذا الكلام صحيحاً.

كيفية توبة من نشر حديثا موضوعا

كيفية توبة من نشر حديثاً موضوعاً Q من أخذ حديثاً موضوعاً وأرشد به ودل عليه ماذا يجب عليه أن يفعل؟ A يجب عليه أن يبين للناس الذين دلهم عليه، وأرشدهم إليه، وقرأه عليهم درجته ليكون من كمال التوبة {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ} [البقرة:160] فلا بد من التبيين لاكتمال التوبة.

حكم رجوع القارئ إلى سند الحديث

حكم رجوع القارئ إلى سند الحديث Q هل يجب على كل مسلم إذا قرأ حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع إلى إسناده؟ A أظن أنا قد أجبنا على هذا الكلام وقلنا: لا. لو أنه مثلاً يقرأ في صحيح البخاري، أو يقرأ في كتاب قد تعقب على المصنف عالم حديث فبين ووضح فالحمد لله يكفي، ولا يجب على كل واحد أن يرجع إلى السند لأنه ليس كل واحد مؤهلاً لهذا.

حكم صلاة التسابيح

حكم صلاة التسابيح Q بعض الصلاة المختلف فيها مثل صلاة التسابيح ما الحكم فيها وماذا نفعل؟ A قلت في أثناء الكلام أن طالب العلم يقرأ آراء الفريقين ويتمعن فيها ثم يعمل بما ترجح لديه منها، وهو في هذه الحالة مجتهدٌ مأجور، إن أخطأ له أجر، وإن أصاب فله أجران والحمد لله.

عدم ثبوت نسبة حديث: (من رأيتموه يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان) إلى النبي صلى الله عليه وسلم

عدم ثبوت نسبة حديث: (من رأيتموه يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان) إلى النبي صلى الله عليه وسلم Q ما رأيك بحديث (من رأيتموه يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان)؟ A غير صحيح، لم يثبت. مع أنه قد يكون له معنى، وفي معناه شيء وجيه وفيه صحة، ولكن نسبة هذا الحديث إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لم تثبت.

لا ميزة لأحد على أحد إلا بالتقوى

لا ميزة لأحد على أحد إلا بالتقوى Q ما رأيك في الحديث الذي يقول: (سفهاء مكة سكان الجنة)؟ A هذه المسألة قد ذكرنا في الكلام أنه لا يمكن أن تكون مثل هذه الاعتبارات كافية لدخول الناس الجنة، يكون واحد من سكان مكة، أو يكون من أجمل الناس وجهاً، وقد سمعتم كلاماً أن كل بلد فيها صالح وطالح، ولكن أحياناً تسمع كلاماً من بعض الناس، مرة من المرات أحدهم يتفاخر بقوة شخصيته أنه من أهل مكة يقول: نحن الذين أخرجنا الرسول من مكة متفاخراً!! سبحان الله العظيم! يا جماعة! كلمة الكفر تقال هكذا بكل بساطة. نكتفي بهذه الأسئلة، وجزاكم الله خيراً على حضوركم وإنصاتكم، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بهذا المجلس، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الاستشارة في حياة المسلم [1،2]

الاستشارة في حياة المسلم [1،2] الحياة مليئة بالمشكلات التي قد تجبر الإنسان على الاستعانة بغيره، ومن هذه الاستعانة المشورة، ومن جرب المشورة عرف أهميتها وقدرها، وقد تحدث الشيخ عن كثير مما يتعلق بالاستشارة من حيث السبب والأهمية، والكيفية والنتائج، وصفات المستشار والمستشير، والموانع التي تمنع من المشورة، وكيف تعالج هذه الموانع.

أهمية الاستشارة في حياة المسلم

أهمية الاستشارة في حياة المسلم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أيها الإخوة! أحييكم في هذه الليلة وفي هذا المجتمع الطيب، وأقول لكم: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأحمد الله عز وجل أن جمعني وإياكم في هذا المكان، وأحمده على هذه النعمة، وهي نعمة التقاء الأخ بإخوانه في الله للتذاكر والتناصح، ونسأل الله عز وجل أن يجعل مجلسنا هذا مجلس خير، وأن يجعلنا من المقبولين عنده إنه سميعٌ مجيب. حديثي إليكم في هذه الليلة عن موضوع بعنوان: (الاستشارة في حياة المسلم) وأهمية هذا الموضوع في عدة نقاط، منها: أن هذا أدبٌ إسلاميٌ عظيم حصل فيه نوع من التفريط بين المسلمين، وهذا الأدب يعكس جوانب من عظمة هذا الدين في ترابط أفراد المجتمع الإسلامي الواحد، وهو كذلك مهمٌ في ضبط الأمور ومنع الفوضى التي قد تحصل نتيجةً لبعض الآراء التي لا تكون ضمن الطريق الصحيح، وكذلك تمنع حدوث كثيرٍ من الكوارث الفكرية وغيرها؛ نتيجة بعض الآراء الشاذة التي لا يخلو منها بعض أذهان الناس، وسيكون حديثي مركزاً حول نقاط، وهي: ما هي الاستشارة؟ أي: تعريف الاستشارة. لماذا نستشير؟ أي: أهمية الاستشارة. أين نستشير؟ أي: ما هي مجالات الاستشارة؟ من نستشير؟ أي: ما هي صفات المستشار؟ من الذي يستشير؟ كيف نستشير؟ متى نستشير؟ ما هي موانع الاستشارة؟

تعريف الاستشارة

تعريف الاستشارة الاستشارة مأخوذةٌ من قول العرب: شرت الدابة وشورتها إذا علمت خبرها بجريٍ أو غيره، وشرت الدابة إذا امتحنتها فعرفت هيئتها في سيرها، وشرت العسل إذا أخذته من مواضع النحل. وهذا يبين لك الارتباط بين المعنى اللغوي والمعنى الذي نقصده نحن اليوم، فكونك تشور الدابة، أي: تختبرها، وكونك تشور العسل، أي: تبتغي الصفاء والنقاء في العسل بأخذه من مواطنه الأصلية، ومعنى قولهم: شاورت فلاناً، أي: أظهرت ما عندي وما عنده. وزيادة الألف والسين والتاء في بداية الكلمة: (الاستشارة) هي للطلب، أي: طلب المشورة من الآخرين، وأما الأدلة على هذا، فمنها قول الله عز وجل: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران:159]. قال شيخ الإسلام رحمه الله: "لا غنى لولي الأمر عن المشاورة، فإن الله تعالى أمر بها نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران:159] وقد قيل: إن الله أمر بها نبيه لتأليف قلوب أصحابه، وليقتدي به من بعده، وليستخرج بها منهم الرأي فيما لم ينزل فيه وحيٌ من أمر الحروف والأمور الجزئية". وقال النووي رحمه الله: "إذا أمر الله بها النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه أكمل الخلق، فما الظن بغيره؟ ". وقد مدح الله سبحانه وتعالى من عمل بها في جميع أموره، قال تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38] وهذا من الثناء على المؤمنين، وكانت سادات العرب قديماً إذا لم يشاوروا في الأمر شق عليهم، فأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يشاورهم في الأمر؛ فإن ذلك أعطف لهم عليه، وأذهب لأضغانهم، وأطيب لنفوسهم، فإذا شاورهم عرفوا إكرامه لهم. وأما الآيات التي أثنى الله فيها على صفات المؤمنين ومن ضمنها صفة المشورة، قال الله عز وجل: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ * وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الشورى:36 - 38]. وقال ابن القيم رحمه الله في الزاد مبيناً هديه صلى الله عليه وسلم في هذا الجانب: "واستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحد أصحابه أيخرج إليهم -أي: إلى الكفار- أم يمكث في المدينة ". وفي معرض سياقه لغزوة الخندق قال: "فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمسيرهم إليه استشار الصحابة، فأشار عليه سلمان الفارسي بحفر خندق يحول بين العدو والمدينة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم به؛ فبادر إليه المسلمون وعمل بنفسه فيه". وكذلك في غزوة الحديبية كان من ضمن الدروس التي استنبطها ابن القيم رحمه الله في هذه الغزوة" استشارة الإمام لأصحابه". وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عمدوا إلى تطبيق هذه السنة، والالتزام بهذا الأدب الإسلامي العظيم، فتجد أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قد شاور الصحابة في أمور المرتدين، وتسيير البعوث والجيوش وغيرها، وكذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان له مجلس مشورة خاص، وكان في هذا المجلس الشباب والشيوخ كما سنبين ذلك. ومن الأمثلة على استشارة عمر رضي الله عنه: ما ورد في صحيح مسلم لما خرج رضي الله عنه إلى الشام، ثم لقيه أهل الأجناد - أبو عبيدة وأصحابه- فأخبروه أن الطاعون قد وقع في الشام، قال ابن عباس: [فقال عمر: ادع لي المهاجرين الأولين، فدعوتهم، فاستشارهم وأخبرهم أن الوباء قد وقع بـ الشام] إلى آخر الحديث الذي فيه قصة عبد الرحمن بن عوف المعروفة. رواه الإمام مسلم في صحيحه. وإذا أردت أن تستدل أو تعرف مدى أهمية أمرٍ من الأمور عند السلف أو عند علماء المسلمين؛ فإنك تستدل على هذا بـ (هل عقد المصنفون كأهل الحديث في كتبهم أبواباً خاصة لهذا الأمر أم لا؟). فإذا كانوا قد أفردوا هذا الأمر، فهذا دالٌ على أهميته؛ لأنه لو لم يكن مهماً جداً لما أفردوه، ولما جعلوه ضمن شيء من الأبواب، أو يجعلوه شيئاً جزئياً في داخل المصنف، ولكن عندما ترى أن الإمام البخاري خصص أبواباً في كتابه للمشورة، ويقول في أحدها: (وكان الأئمة يستشيرون الأمناء) وترى أبا داود رحمه الله يقول في سننه: (باب في المشورة) وترى الترمذي رحمه الله يقول أيضاً في سننه: (باب ما جاء في المشورة) وغير هؤلاء تراهم قد عقدوا أبواباً خاصة، فإنك لابد أن تستدل بذلك على أن لهذا الأمر أهميته؛ ولذلك أفردوا له هذه الأبواب والكتب في مصنفاتهم.

أهمية الاستشارة وفوائدها

أهمية الاستشارة وفوائدها السؤال الآن: لماذا نستشير؟ وما هي أهمية وفوائد الاستشارة؟ الفائدة الأولى: اتباع الأثر: فنحن المسلمين نتبع ونقتفي آثار من مضى، (عليكم بالأمر العتيق). ونحن أيضاً ننفذ ما أمرنا الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا قال الله لرسوله: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران:159]، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة لنا، فيعني ذلك: أن نقتدي به صلى الله عليه وسلم في المشورة. وإذا كان الله أثنى على المؤمنين بقوله: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38] ونحن من ضمن المؤمنين، فإذاً لابد أن نطبق هذه المسألة، أضف إلى ذلك أن هذا التطبيق فيه أجر التنفيذ لهذا الأمر الوارد، وإذا تشبهنا بالمؤمنين وبخصالهم فسنكون منهم إن شاء الله. الفائدة الثانية: بالإضافة إلى التطبيق والأجر الحاصل: استنباط الصواب، فإن من أعز الأشياء أن تهتدي إلى الأمر الصحيح والحق والصواب. فأنت ماذا تريد وعم تبحث؟ ألست تبحث عن الصواب في الأمر الذي تحتار فيه، وتريد أن تقدم عليه؟ عن الحسن قال: [والله ما استشار قوم قط إلا هدوا لأفضل ما بحضرتهم، ثم تلا: ((وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)) [الشورى:38]]. وينبغي أن تكثر أيها الأخ المسلم من استشارة ذوي الألباب، لاسيما في الأمر الجليل، فقلما يضل عن الجماعة رأي أو يذهب عنهم صواب، لأن إرسال الخواطر الثاقبة، وإجالة الأفكار الصادقة هذا هو الذي يجعلك تصل إلى الصواب، ومن أكثر المشورة لم يعدم الصواب، والخطأ إلى الجماعة أبعد من الخطأ إلى الفرد، لأن احتمال أن يخطئ الفرد أكثر من أن تخطئ جماعة من الناس. الفائدة الثالثة: اكتساب الرأي: إن الإنسان إذا شاور وحاور وتناقش وطلب الأمر وقلَّبه على وجوهه، فإن هذه المناقشة مع الآخرين تكسبه رأياً وتُوسع مداركه، وتجعله يعرف من أين تؤتى الأمور، وما هي طريقة تفكير فلان وفلان، ويعرف أن فكره قد انصرف إلى جانب معين، وأن هناك جوانباً أخرى؛ فتتوسع مداركه، ويكتسب طرق في التفكير لم يكن ليهتدي إليها لولا الاستشارة. وقال بعض الحكماء: "نصف رأيك مع أخيك، فشاوره يكمل لك الرأي". خليلي ليس الرأي في صدر واحدٍ أشيرا عليّ بالذي تريان ومن حق العاقل أن يضيف إلى رأيه آراء العقلاء، ويجمع إلى عقله عقول الحكماء، فرأي الفرد الواحد ربما زلّ، والعقل الفرد ربما ضلّ، ولكن عندما تجتمع العقول تصل إلى المأمول، وروي عن بعض السلف: "الرأي الفرد كالخيط السحيب -الخيط الرقيق الذي سرعان ما ينقطع- والرأيان كالخيطين المبرمين -أقوى قليلاً- والثلاثة مرار -وهو الحبل المفتول لا يكاد ينتقض- والمستشير الحازم يزداد برأي الوزراء الحزمة كما يزداد البحر بمواده من الأنهار". الفائدة الرابعة: أنك تتحصن من الوقوع في الخطأ والزلل باستشارتك، قال حكيم لابنه: "شاور من جرب الأمور، فإنه يعطيك من أمره ما قام عليه بالغلاء وأنت تأخذه مجاناً". الله أكبر! هذه هي الحكمة، الآن الشاب في مقتبل عمره تجاربه محدودة وقليلة، وحتى يكتسب تجارب فإنه يحتاج إلى وقت وجهد، وربما يقع في أخطاء كثيرة حتى يصل في النهاية إلى الرأي الحكيم وإلى الصواب في أمرٍ من الأمور، فعندما يذهب إلى شيخ مجرب وإنسان قد عركته الحياة، فإنه يأخذ منه الخلاصة التي توصل إليها هذا الشيخ؛ فهذا الشيخ يكون قد توصل إلى الحكمة والتجربة والخلاصة والصواب، ودفع كثيراً من الجهد والوقت حتى وصل إليه بالغلاء، وأنت تأتي وتأخذه بالمجان، فانظر إلى عظم هذه الاستشارة وعلو موقعها. الفائدة الخامسة: أنها حرزٌ من الملامة، فلو أن شخصاً فعل أمراً من الأمور، ثم تبين له أن هذا الأمر خطأ، وظهرت النتائج عكسية وسيئة وفشِل، ماذا سيقول له الناس؟ لماذا لم تشاور؟ أنت مخطئ، أنت وأنت وتوجه إليه سهام الانتقاد من كل جانب ويلام، لكن عندما يكون هذا الشخص قد استشار مجموعة من الناس الحكماء والخبراء، ثم يخطئ وتكون النتيجة عكسية، هل سيلومه الناس؟ لن يلوموه لأنه استشار، ولو لاموه لقال لهم: أنا سألت فلاناً وفلاناً وهم الذين أشاروا عليّ بهذا الأمر؛ حينها كلهم يسكتون، لكن لو لم يشاور لظل عرضه للنقد من كل جانب. الفائدة السادسة: أنها نجاة من الندامة، أن الشخص الآن فعل أمراً دون أن يستشير ثم فشل في هذا الأمر، فسيشعر بالندم ولو من توبيخ نفسه له وهي تقول له: لو أنك سألت ما حصل هذا! ولو أنك استشرت ما وصلت إلى هذه النتيجة المخيبة للأمل، فيشعر بالندم. لكن عندما يستشير حتى لو أخطأ، فيقول لنفسه: هذا أمر خارج عن إرادتي، أنا استشرت وأخذت بالأسباب ثم أخطأت، والحمد لله هذا ليس رأيي فقط، فهو ينجو حتى من لوم نفسه، وعندما يستشير الإنسان ويخطئ؛ فإنه يعلم أن هذا الأمر قضاء وقدر، لكن لم يخطئ في الخطوات التي وصلت إلى هذه النتيجة، فيعلم أنه لم يكن بوسعه أن يفعل شيئاً، استشار فحصل خطأ، فلا يلوم نفسه. الفائدة السابعة: ألفة القلوب: فأنت الآن عندما تستشير اثنين وثلاثة، وعندما تذهب إليهم، وتقول: يا أخي! أشر علي في هذه القضية، يا أيها الوالد! أشر عليّ في هذه القضية، يا أيها الأستاذ! أشر عليّ، يا أيها الصديق، فكيف تكون نظرة الناس إليك؟ وما هو الانطباع الذي يكون في نفوسهم تجاهك وأنت تستشيرهم؟ وبماذا سيشعرون؟ سيشرعون لك بتقدير ومحبة، ويقولون: فلان ما استشارنا إلا لأنه يعتقد أننا أصحاب رأي، وأننا أمناء فلان ليس بمنعزل عنا فلان متداخل معنا فلان يثق فينا وإلا لما استشارنا، فهذه تقرب ما بين القلوب، وتربط ما بين الناس، وفيها تقدير للأطراف المستشارة، وأنك تقدره وتضعه في موضع أنك تستشيره، ولذلك يقول عبد الملك بن مروان: لأن أخطئ وقد استشرت، أحب إلي أن أصيب وقد استبددت برأيي. الفائدة الثامنة: أن القائد والمربي والداعية إلى الله والذي يقود الناس يكون تواقاً لمعرفة الحق وما فيه من المصلحة، ويلح بنفسه على جنوده لإظهار ما عندهم من الحجج والأدلة والآراء، ويسمعها ويقلِّب وجهات نظرهم طمعاً إلى الوصول لما فيه الصالح العام، وعندما يحدث الفشل فإنه يكون موزعاً على جميع الجند والناس الذين استشيروا، فلا يشعر الإنسان أنه يتحمل الخطأ لوحده. وكذلك فإنه يصل إلى مدى نضجهم، ويعرف مستوى تفكيرهم وعمق آرائهم، ويميز بالاستشارة كيف يشير فلان، وكيف يفكر فلان، فيعرف النوابغ من الناس الذين يعيش بينهم، ويكتشف الطاقات والمواهب التي فيهم. وهذا الأمر من الأمور المهمة لمن كان يريد أن يسوس الناس بالهدي الصحيح، لأن هناك أناساً يسوسون الناس -بغض النظر عما يكون في أفكارهم من الآراء- ولا يعرفون من هو الناضج من غيره، ومن هو الذكي ممن هو واسع الأفق، ومن هو الشخص صاحب الرأي الصحيح والمشورة الطيبة ممن هو ليس كذلك، فهو بسبب أنه لا يعرف من يستشير، أو قلما يستشير يقع في الخطأ، وأنت لا تكتشف أن فلاناً هذا إنسان يؤخذ برأيه إلا عندما تستشير فيشير عليك برأي، فتعرف رجاحة عقله من خلال رأيه.

مجالات الاستشارة

مجالات الاستشارة قد يقول إنسان: الاستشارة في كل أمر، وهذا صحيح، والرسول صلى الله عليه وسلم لما صعد إلى السماء -كما في حديث المعراج في صحيح البخاري - وفرض الله على رسوله صلى الله عليه وسلم خمسون صلاة في كل يوم وليلة، قال له موسى: (إن أمتك لا تستطيع ذلك، ارجع فليخفف ربك عنهم، فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبريل كأنه يستشيره -هذه رواية البخاري - فأشار إليه جبريل: أن نعم إن شئت، فعلا به إلى الجبار، فقال وهو مكانه: يا رب خفف عنا) إلى آخر الحديث. فأنت ترى هنا أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد استشار جبريل في أمرٍ عظيم، وهو قضية الصلوات التي تفرض على الأمة إلى آخر الزمان.

الاستشارة في أمور يعود تأثيرها على المجتمع كله

الاستشارة في أمور يعود تأثيرها على المجتمع كله كذلك ترى استشارته في مجال المعارك، وهي من المجالات الهامة جداً، والتي يترتب عليها مصائر ومنعطفات تغييريه أحياناً في حياة المجتمع كله. فمثلاً: في مسند أحمد وصحيح مسلم عن أنس بن مالك: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان في معركة بدر، قال: فتكلم أبو بكر فأعرض عنه، ثم تكلم عمر فأعرض عنه، فقال سعد بن عبادة: إيانا يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما رد أبو بكر وعمر وهما بهذه المنزلة إلا أنه يعنينا نحن الأنصار، فقام وقال: والذي نفسي بيده، لو أمرتنا أن نخوض هذه البحار لخضناها معك"، هذا لفظ مسلم. فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يريد أن يستوثق أن الأنصار سوف يحاربون معه خارج المدينة، وأنهم على استعداد للخروج، وأن وعيهم قد بلغ بهم أن يخرجوا ويقاتلوا الكفار خارج المدينة. وكلما عظُم الأمر وكان أهم كلما كانت الاستشارة فيه أبلغ وأعظم وأهم، ومثال ذلك: ما وقع في حادثة مقتل عمر رضي الله عنه وتولية عثمان بن عفان الخلافة، فعهد عمر إلى سته من الصحابة، ثم عهد ثلاثة من الستة إلى الثلاثة الآخرين وتنازلوا لهم عن الأمر، فصار الأمر في النهاية إلى عبد الرحمن بن عوف وعلي بن أبي طالب وعثمان بن عفان رضي الله عنهم أجمعين. فقال عبد الرحمن بن عوف: إذا رضيتما بمن أختاره فأنا أتنازل لواحدٍ منكما، فقالوا: رضينا. فالآن عبد الرحمن بن عوف صار في موقف عظيم وجليل جداً، والقضية من أهم القضايا، وفيها اختيار خليفة للمسلمين. وعبد الرحمن بن عوف لن يتخذ قراراً فردياً، ويقول: فلان أفضل، لا. بل ذهب يشاور المهاجرين والأنصار، ويدخلون عليه ويطلبهم ويستشيرهم في المسجد، وكلما لقي أحداً من أهل الرأي استشاره، حتى يقول عبد الرحمن بن عوف: [مرت علي ثلاث ليال ما اكتحلت فيها بنوم إلا شيئاً يسيراً جداً]. ولذلك قال المسور: [فما رأيت مثل عبد الرحمن، والله ما ترك أحداً من المهاجرين والأنصار ولا غيرهم من ذوي الرأي إلا استشارهم تلك الليلة].

الاستشارة في القضايا العلمية وقضايا الأحكام

الاستشارة في القضايا العلمية وقضايا الأحكام قد تمر بالإنسان أشياء لا يدري ما الحكم فيها ولابد أن يستشير، فعن المغيرة بن شعبة: أن عمر رضي الله عنهما استشاره في إملاص المرأة، فقال المغيرة: (قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالغرة) أي: عبد أو أمة، وهذا في صحيح البخاري، فـ عمر استشار الصحابة في المرأة إذا ضربت على بطنها فسقط الجنين ومات، فما هي الدية؟ فجاء له المغيرة بالحكم الذي سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال عمر: أيكم سمع من النبي صلى الله عليه وسلم فيه شيئاً، فانظر إلى الراوي وهو يقول: إن عمر استشارهم في إملاص المرأة. الناس يحتاجون إلى استشارة أهل العلم، ويحتاجون إلى معرفة الأحكام في الأمور والمسائل، والرسول صلى الله عليه وسلم لما أُمر بتخيير نسائه بين أن يبقين معه على ما عنده، أو يمتعهن ويسرحهن سراحاً جميلاً، عن عائشة قالت: (أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني سأعرض عليك أمراً فلا عليك ألا تعجلي فيه حتى تشاوري أبويك، فقلت: وما هذا الأمر؟ قالت: فتلا علي: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب:28 - 29]، فقالت عائشة: وفي أي شيء تأمرني أن أشاور أبواي؟! بل أريد الله ورسوله والدار الآخرة) هذه رواية البخاري.

الاستشارة في قضايا الزواج

الاستشارة في قضايا الزواج ومن الشواهد على هذه المسألة ما رواه الإمام أحمد رحمه الله في مسنده -وهو حديث صحيح- عن أبي برزة الأسلمي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل من الأنصار: (زوجني ابنتك، فقال: وكرامة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونعم عيني، فقال: إني لست أريدها لنفسي، قال: فلمن يا رسول الله؟ قال: لـ جليبيب، قال: فقال: يا رسول الله، أشاور أمها، فأتى أمها) إلى آخر الحديث وكانت البنت عاقلة، قالت: هل تظنون أنكم ستأتونني بأفضل مما عرض عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأقنعتهم أن يزوجوها لـ جليبيب رضي الله عنه الذي قتل في معركة أحد شهيداً، فأنت ترى أن الأب لم يستبد برأيه، وأنه شاور أم البنت، فهي لها دور في الموضوع ولابد أن تشاور. ومن الأمثلة على الاستشارة في مجال الجهاد الحديث الحسن عن معاوية بن جاهمة: أنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا رسول الله! أردت الغزو وجئت أستشيرك - هذا مسألة مهمة نحتاج إليها الآن جداً، وهذا حديث فيه فقه مهم- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل لك من أم؟ قال: نعم، فقال: الزمها، فإن الجنة عند رجليها) ثم الثانية ثم الثالثة في مقاعد شتى كمثل هذا القول، والرسول صلى الله عليه وسلم يشير عليه بنفس الرأي، وقد أخرج طرق هذا الحديث الشيخ ناصر في إرواء الغليل. ومن الأمور المكملة في موضوع استشارة النساء للزواج استشارة نفس البنت التي تريد أن تتزوج، فمعرفة رأي البنت أمر مهم جداً، وبعض أولياء الأمور في هذه الأيام لا يضربون لها أي حساب، قال ابن عمر لـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا أبت، اخطب لي ابنة صالح، فقال عمر: إن له يتامى ولم يكن ليؤثرنا عليهم، فانطلق عبد الله إلى عمه زيد بن الخطاب ليخطب له، فانطلق زيد إلى صالح، فقال: إن عبد الله بن عمر أرسلني إليك يخطب ابنتك، فقال صالح: لي يتامى، ولم أكن لأترب لحمي وأرفع لحمكم، أشهدكم أني قد أنكحتها فلاناً، اتخذ القرار فجأة في نفس المجلس، وكان هذا رأي أبيها. فأتت أمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا نبي الله! خطب عبد الله بن عمر ابنتي، فأنكحها أبوها يتيماً في حجره، ولم يؤامرها، ما استشارها ولا استأذنها، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صالح، فقال: (أنكحت ابنتك ولم تؤامرها، ثم قال عليه الصلاة والسلام: أشيروا على النساء في أنفسهم- الشاهد أشيروا- فقال: إن البكر تستحي يا رسول الله، قال: الثيب تعرب عن نفسها بلسانها، والبكر رضاها صماتها)، حديث صحيح في السلسلة الصحيحة. وقد وقعت لـ ابن عمر قصة مشابهة ولكن بنتيجة مختلفة، وهي أيضاً قصة حسنة، قال ابن عمر: توفي عثمان بن مظعون وترك ابنة له من خولة بنت حكيم بن أمية، وأوصى إلى أخيه قدامة بن مظعون. قال عبد الله: وهما خالايا، أي: عثمان بن مظعون وقدامة بن مظعون خالا ابن عمر، فخطبت إلى قدامة بن مظعون ابنة عثمان بن مظعون فزوجنيها. ودخل المغيرة بن شعبة الصحابي الآخر إلى أم البنت، ولعله لم يكن يعلم بموضوع خطبة عبد الله بن عمر والله أعلم، فأرغبها في المال، فحطت إليه الأم ورغبت في المغيرة، وولي البنت زوجها لـ عبد الله بن عمر، وحطت الجارية إلى هوى أمها، والبنت غالباً لا تخالف الأم، فصار خلاف، فارتفع أمرهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال قدامة بن مظعون: (يا رسول الله! ابنة أخي أوصى بها إلي، فزوجتها ابن عمتها عبد الله بن عمر، فلم أقصر بها في الصلاح ولا في الكفاءة، ولكنها امرأة وإنما حطت إلى هوى أمها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي يتيمة ولا تنكح إلا بإذنها قال عبد الله بن عمر: فانتزعت والله مني بعد أن ملكتها، فزوجوها المغيرة بن شعبة). أخرجه الإمام أحمد والدارقطني، وهو حديث صحيح. هذه نماذج من السيرة وحياة الصحابة رضي الله عنهم تبين بعض مجالات الاستشارة، ونحن هنا نبين ونضيف أيضاً قضايا أخرى نذكرها بشكلٍ عام.

الاستشارة في طلب العلم والدعوة إلى الله

الاستشارة في طلب العلم والدعوة إلى الله الاستشارة في طلب العلم أمر مهم جداً، ولابد أن يستشير الإنسان ماذا يقرأ؟ وماذا يسمع؟ وكيف يطلب العلم؟ وكيف يبتدئ؟ ومن هم الثقات من العلماء ليجلس إليهم؟ ويستشير هؤلاء العلماء في بداية الطلب، وبعد كل كتاب مثلاً ماذا يقرأ؟ وفي أي فن يبدأ؟ وما هي الفنون المهمة؟ وهكذا، وهذه أشياء أهل العلم يشيرون بها لما عندهم من الخبرة في هذا المجال، بعض الشباب يضع لنفسه برنامجاً في طلب العلم، يقول: أنا أريد أن أقرأ هذا الكتاب، ثم هذا الكتاب، وأريد أن أنهي هذا الكتاب في أسبوع، فيبدأ متحمساً في هذا البرنامج الذي وضع لنفسه، وقد لا يعرف هو طاقات نفسه، ولا الفنون التي يبدأ بها، وقد يبدأ في حفظ متون وغيرها أهم منها ليبدأ بها. وإنني أعتب عتباً خاصاً على بعض الشباب الذين يبدءون بحفظ المتون وهم لا يحفظون إلا نزراً يسيراً من كتاب الله، والواجب أن تسير الأمور مع بعضها البعض، أأحفظ المتون وأترك أهم متن وهو كتاب الله عز وجل لا أحفظ منه شيئاً؟ أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم كـ الأربعين النووية لا أحفظ منها شيئاً، هذه مصيبة، فلا بد أن نحفظ باستشارة أهل العلم بشكل متوازن لنحقق الأهداف التي نحتاج إليها في طلبنا للعلم. أحياناً يخطر لشخص خاطرة في آية أو حديث، فيستنبط بعقله حكماً منها، يقول: سبحان الله! هذه الآية كأنها تومئ إلى الحكم الفلاني، ولكن لا يفعل إجراءً آخر وهو أن يتأكد من صحة استنباطه، ثم بعد فترة ربما سنوات يسأله شخص عن هذه المسألة- هذا يحدث أحياناً- فبماذا سيجيبه في الغالب وهو ليس عنده أقوال العلماء مطلقاً فيها؟ سيجيبه بنفس الاستنباط الذي استنبطه هو شخصياً وعلق بذهنه منذ ذلك الزمن ولم يعرضه على أهل العلم، ولو أنه استشار أهل العلم، وقال: يا أيها العالم! خطر في ذهني أن هذه الآية يؤخذ منها كذا، فهل هذا الاستنباط صحيح؟ وهل له وجه؟ وهل قال به أحد من العلماء؟ السفر في طلب العلم: - يستشير الإنسان في السفر في طلب العلم إلى من يسافر مثلاً؟ ومن المشايخ الذين يحرص على لقياهم؟ وغالباً تجد أن الشيخ أو العالم سيقول لك: إذا ذهبت إلى بلدة كذا وكذا فإن فيها الشيخ فلان، فاذهب إليه زره واستفد منه في الجانب الفلاني فهو ضليع في هذا الجانب وهكذا. وهذه عادة علمائنا منذ زمن بعيد، يشيرون على طلبتهم بالمشايخ إذا أرادوا أن يسافروا في طلب العلم في البلدان المختلفة لما تجمع عندهم من الأخبار، ويقول: اسأل فلاناً، اذهب إلى فلان، فلان من أهل السنة احرص على لقياه وهكذا. - تقديم الأولويات في طلب العلم: نبدأ بأي شيء، ثم بعده بماذا؟ أحياناً تتزاحم الأشياء عند الشخص، ولا يعرف هل يبدأ بالتفسير، أو بالحديث، أو بالفقه، ومن الذي يقرر لك بماذا تبدأ؟ - الاستشارة في تغيير المنكر: كيف نغير المنكر الفلاني؟ ما هي الطريقة السليمة لتغيير هذا المنكر والتي لا تؤدي إلى مضاعفات أو حصول منكر أكبر من هذا المنكر الذي نريد أن نغيره، أو تؤدي إلى فوات معروف أكبر من هذا المنكر الذي نريد أن نغيره؟ الاستشارة في طرائق الدعوة إلى الله: بمن نبدأ من الناس؟ وكيف نبدأ معهم؟ وكيف ندعوهم؟ وكيف نفتح معهم المواضيع المختلفة؟ وما هي المواضيع المناسبة للعامة والشباب والكبار والجيران وأهل الحي وطلبة المدارس والعمال والموظفين وغيرهم؟ وما التوقيت المناسب لطرح المفهوم الفلاني؟ هل يصلح أن نطرحه الآن؟ هل هؤلاء يفهمون ما سنقوله لهم؟ حدث الناس على قدر عقولهم وبما يفهمون هل سيفهمون أم أن هذا المفهوم من السابق لأوانه أن يطرح مثلاً؟ - كيفية الاستفادة من الوقت: أحياناً بعض الناس يقول: يا أخي كيف أستفيد من الوقت الذي من بعد الدراسة إلى الساعة الفلانية لا أدري ماذا أعمل به، هلا تشير عليّ بشيء أفعله لتغطية هذا الوقت؟ - مصادقة الأصحاب والإخوان: بمن تشير عليّ أصاحب؟ أصادق من؟ أشر عليّ من هم الناس الذين أمشي معهم وأصادقهم وأتعاون معهم على الخير والبر والتقوى؟ وهكذا. - تجريح وتعديل الأشخاص: من القضايا المهمة التي ينبغي أن يستشار فيها: ماذا أقول عن فلان؟ ماذا تعرف عن فلان؟ ما مدى ثقة فلان؟ ما مدى ضعف فلان؟ وهكذا. ولذلك- كما سنذكر فيما بعد- يجب أن يكون المستشار ليس بصاحب هوى، لأن بعض الناس قد يستشير صاحباً له أو عظيماً عنده في نفسه، ثم يقبل التجريح الذي يأتي منه أو التعديل الذي يكون نابعاً من هوى في نفس المشير. - قضايا الزواج: لابد أن يستشير الإنسان في قضايا الزواج، مثلاً: أريد أن أتزوج من بنت فلان، ما رأيك يا فلان أنت تعرف هذا البيت؟ اسأل أهل البيت عندكم هل يعرفونها؟ حتى قضايا الفسخ والطلاق أيضاً الإنسان يحتاج أن يسأل فيها لأنها مسألة صعبة، ليس من السهل أن تطلق امرأة، لابد أن تستشير خاصة الناس الذين يعرفون أمورك وعندهم خلفية عن أحوال هذه المرأة أو هذا البيت الذي نشأت فيه. مثلاً: هل هذه المرأة يحصل منها كذا وكذا، وأنا تضايقت جداً، وبلغ الأمر عندي أوجه، هل أطلقها؟ هل أصبر عليها؟ هل أعطيها فرصة؟ إذا طلقتها هل يا ترى سأجد أحسن منها أم أنني لن أجد؟ وبعض الناس يستخدمون الطلاق في لحظة غضب، ويتسرع فيه، كأن يحصل تصرف من المرأة أو أكثر، فتزداد المسألة عنده ثم يقوم بالطلاق مباشرة، وهذا من الأخطاء.

الاستشارة في مشاكل الأسرة

الاستشارة في مشاكل الأسرة أحياناً تحدث في البيت خلافات وانشقاقات في الأسرة مشاكل بين الأب والأم، والأب والأولاد، والأم والأولاد وهكذا، فيحتار الإنسان ماذا يفعل؟ أين يكون موقفه؟ أحياناً يقول: لو وقفت مع أبي ستغضب أمي، ولو وقفت مع أمي سيغضب عمي وهكذا، فيحتار ماذا يفعل، فلابد أن يلجأ إلى أهل الخبرة في الجوانب الاجتماعية، ويسألهم عن الأسلوب الصحيح في التعامل مع هذه المشاكل. - بعض الأوضاع في البيت تغيير منكرات البيوت: ما هي وسائل الإصلاح في البيت؟ كيف نغير وضع البيت، حتى الأشياء الدنيوية منها. كذلك المركب: الإنسان يريد أن يشتري سيارة، قد لا يكون في بداية الأمر عنده خبرة بأنواع السيارات، وما هو النوع المناسب الذي يفي بحاجياته. - التخصص الدراسي: كثير من الطلبة الذين يتخرجون من المرحلة الثانوية قد لا يدركون ما هو التخصص المناسب بالنسبة لهم، وما هو التخصص الذي يمكن أن يبدعوا فيه، وما هو التخصص الذي للمسلمين فيه حاجة، فقد يدخل تخصصاً ويفشل فيه، ثم ينتقل إلى تخصص آخر ويفشل فيه، ويضيع جزءاً طويلاً من عمره هكذا، ولو أنه استشار أهل الخبرة من البداية لما حصل له هذا التشتت. - الوظيفة: إذا وجد عنده أكثر من مجال للعمل، ففي أي مكان يتوظف، هذا أيضاً من الأمور المهمة أن يستشير فيها. حتى في هيئة الإنسان ومنظره أحياناً، إذا كان يخرج إلى العامة ويظهر أمامهم، ويستشير تفادياً للشذوذ الذي قد يحصل في بعض الآراء.

صفات المستشار

صفات المستشار من نستشير؟ وما هي صفات المستشار؟ هذه نقطة حساسة، لأننا قد نتفق على أهمية الاستشارة، وأننا لابد أن نستشير، ولكن عندما نأتي إلى التطبيق هنا تبرز مشكلة: من هم أهل الاستشارة؟ هل أنتقي شخصاً من الشارع أو المسجد أسأله إلى من أتجه؟ هذا سؤال مهم جداً، وتترتب عليه نتيجة مهمة، بعض الناس يسأل بطانته والمقربين إليه ولو كانوا أجهل وأسوأ منه حالاً، ولذلك نقول: أولاً: لابد أن تصلح بطانتك حتى إذا استشرتهم أشاروا عليك بالرأي السديد الذي يرضي الله عز وجل. وثانياً: ما الفائدة من جاهل يستشير جاهلاً آخر؟ فلابد من إحسان الاستشارة. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم له أناساً من أصحابه لهم مميزات معينة؛ لذا كان يستشيرهم ويأخذ بمشورتهم، مثال: حديث عبد الرحمن بن غنم الأشعري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ أبي بكر وعمر رضي الله عنهما: (لو اجتمعتما في مشورةٍ ما خالفتكما) رواه الإمام أحمد. وسألت الشيخ عبد العزيز بن باز عن هذا الحديث؟ فقال: إسناده حسن. فالرسول صلى الله عليه وسلم لو اجتمعت عنده مشورة أبي بكر وعمر على شيء واحد لم يخالفهما فيه. وعمر رضي الله عنه كان لديه مجموعة من المستشارين، وكان فيهم الشباب والشيوخ، ولذلك كان بعض السلف يقول: يا معشر الشباب! لا تحتقروا أنفسكم، فإن مشورة عمر رضي الله عنه كان فيهم شباب حدثاء السن. وهؤلاء أهل المشورة عند عمر رضي الله عنه كانت لهم مواقف جميلة، فمنها مثلاً: أن عم الحر بن قيس ويدعى عيينة بن حصن، قال لابن أخيه: يا بن أخي، هل لك وجه عند هذا الأمير فتستأذن لي عليه؟ قال: سأستأذن لك عليه. قال ابن عباس: فاستأذن لـ عيينة فلما دخل، قال عيينة -وكان فيه شيء من البداوة- يا بن الخطاب! والله ما تعطينا الجزل، وما تحكم بيننا بالعدل. فغضب عمر حتى همَّ أن يقع به، فقال الحر: يا أمير المؤمنين! - الحر هذا من مستشاري عمر - إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) [الأعراف:199]، وإن هذا من الجاهلين، فوالله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافاً عند كتاب الله. فانظر كيف تنفع الاستشارة.

من صفات المستشار: أن يكون صاحب دين وتقى

من صفات المستشار: أن يكون صاحب دين وتقى والمشير دائماً يأمر بالخير والرأي السديد، وينصح بالشيء الصحيح، فمن خصال المشير مثلاً: أن يكون صاحب دين وتقى: فإن صاحب الدين يكون أميناً في إعطاء الرأي مأمون السريرة موفق العزيمة. واستشارة الناس الذين لا خير ولا دين فيهم كثيراً ما تكون آرائهم وبالاً على المستشير. انظر على سبيل المثال النكبات التي أصيبت بها جيوش المسلمين في العصر الحاضر، كل الهزائم التي مني بها المسلمون في هذا الزمان كانت بسبب استشارة الكفرة والمنافقين والناس الذين لا يوثق بهم أبداً من أعداء الله، لأن المنافق عدو الله ما هو الخير من وراء استشارته، وإذا أردت مثلاً من القديم: فما هو السبب في تخريب بغداد ودخولها إلا أن مستشار الخليفة يومئذٍ هو ابن العلقمي الخائن الرافضي؟ ولما كان مثل ابن العلقمي الخائن هو المستشار حل الخراب في بلاد المسلمين، وهكذا في يومنا هذا تحصل النكبات والنكسات بسبب وجود أولئك الخبثاء الذين يشيرون بالخطأ عمداً ونكاية، وتقع النكبات نتيجة أخذ آرائهم. وورد في حديث ضعيف: (لا تستضيئوا بنار المشركين) استنبط منه الحسن البصري استنباطاً يقول فيه: أي: لا تأخذوا بآراء المشركين، ولا تستشيروهم في أموركم، ولا تأخذوا بآرائهم، لأن آراءهم مثل النار، وإن كان المعنى الأقرب للحديث: ابتعدوا عن المشركين ولا تساكنوهم ولا تخالطوهم، والحديث فيه ضعف. ولكن لا مانع أن يستشار الكافر أحياناً إذا كان موثوقاً به، مثلاً: مقاول رأى مهندساً كافراً، لكن تبين له من أمر هذا المهندس أنه ثقة في الرأي لا يخون، وينبغي أن ينتبه؛ لأن هؤلاء الكفرة لا خير فيهم، قد يكون فيهم خبث، وقد يكون في استشارتهم دمار عليه، وعلى العمل الذي يريد إنشاءه، لكن لو وثق به مثل ما وثق الرسول صلى الله عليه وسلم بـ عبد الله بن أريقط المشرك فقد استئجره في الطريق، وكان إنساناً مأموناً، قد يكون كافراً لكن فيه أمانة. لكن ما هو الغالب على الكفار؟ الغالب عليهم أنهم أعداء للدين، وأنهم يريدون الشر بالمسلمين، وأن آراءهم وبال على المسلمين وليست لصالح المسلمين.

من صفات المستشار: أن يكون عاقلا مجربا

من صفات المستشار: أن يكون عاقلاً مجرباً فيكون معروفاً بكثرة التجارب، "استرشدوا العاقل ترشدوا، ولا تعصوه فتندموا"، وقال عبد الله بن الحسن لابنه محمد: احذر مشاورة الجاهل وإن كان ناصحاً، كما تحذر عداوة العاقل إذا كان عدواً، فإنه يوشك أن يورطك بمشاورته. وقبيلة عبس كانوا معروفين بكثرة الصواب، حتى إن رجلاً سأل آخر من قبيلة عبس قال: ما أكثر صوابكم؟ قال: نحن ألف رجل وفينا رجل حازم، ونحن نطيعه فكأننا ألف حازم. وقال بعض الحكماء: التجارب ليس لها غاية، والعاقل منها في زيادة. وقال بعض الحكماء: من استعان بذوي العقول فاز بدرك المأمول. وقال أبو الأسود الدؤلي رحمه الله: وما كل ذي لب بمؤتيك نصحه ولا كل مؤتٍ نصحه بلبيب ولكن إذا ما استجمعا عند صاحب فحق له من طاعة بنصيب

من صفات المستشار: أن يكون عالما بما يستشار فيه

من صفات المستشار: أن يكون عالماً بما يستشار فيه هنا تبرز قضية وهي: هل يوجد إنسان معين يصلح أن نستشيره في جميع الأشياء، أم أن هناك أناساً نستشيرهم في أشياء ولا نستشيرهم في أشياء أخرى؟ الحقيقة أن هذا الأخير هو أقرب إلى الصواب، فإنه ينبغي أن يستشار كل إنسان في مجال تخصصه، فإذا كانت قضية شرعية لا تعرف حكمها؛ فإنك تستشير العلماء إذا كان عندك مشكلة في تخصص دراسي تستشير أهل الخبرة بالتخصصات إذا كان عندك مشكلة وظيفية في الوظائف لا تدري إلى أي وظيفة تذهب، تستشير الخبراء بهذا. إذاً: ليس بالضرورة أن يوجد شخص يفهم في كل الأمور، بعض الناس يظن أنه إذا استشار فلاناً في شيء، ولم يستشره في شيء آخر فإن هذا إزراء عليه، يقول: هذا رجل موثوق، إذا لم أستشره في كل القضايا فكأني أزري به، ولكن ليس الأمر كذلك، فبعض الناس يفهمون في الأدوات الكهربائية، وبعض الناس لا يفهمون في الأدوات الكهربائية، وإن كان هؤلاء الذين لا يفهمون في الأدوات الكهربائية قد يكونون أعلم بعلوم الشريعة من غيرهم، فإذاً نستشير كلاً في مجال تخصصه.

من صفات المستشار: أن يكون عنده علم بالشريعة

من صفات المستشار: أن يكون عنده علم بالشريعة يتضمن العلم بأحوال الناس، وعلم الزمان والمكان والترجيح، كما ذكر المناوي رحمه الله في شرح حديث: (المستشار مؤتمن). فما يصلح لمكان قد لا يصلح لمكان آخر، وما يصلح لزمان قد لا يصلح لزمان آخر، وأحياناً تتزاحم الأمور، فلابد أن يكون المستشار عنده عقل راجح يرجح لك به أي الأمور تقدمها الآن عندما تتزاحم الأشياء. وأن يكون ناصحاً ودوداً، فإن النصح والمودة يصدقان الفكرة ويمحصان الرأي.

من صفات المستشار: أن يكون سليم الفكر من الهموم والغموم

من صفات المستشار: أن يكون سليم الفكر من الهموم والغموم فلو استشرت إنساناً مغموماً وفكره مشغول بأشياء، فهل تتوقع أن يعطيك إشارة واستشارة صحيحة؟ كان كسرى -هذه من الحكم تؤخذ حتى من الكفار- إذا دهمه أمرٌ بعث إلى مرازبته -وهم الأمراء الكبار وأهل الرأي- فاستشارهم، فإن قصروا في الرأي، أي: لم يعطوه الرأي الصحيح، ضرب قهارمته -وهم القائمون على الأموال- لماذا؟ لأنهم لم يعطوهم أرزاقهم، وكان يقول لهم: أبطأتم بأرزاقهم فأخطئوا في آرائهم، ولو أعطيتموهم الأموال التي يحتاجوها لما جلس واحدهم مهموم يفكر من أين يسترزق، فانشغل همه بتحصيل المال والرزق، فصارت آراؤه ليست سديدة. ولذلك يقال: إن حارثة بن زيد مرَّ بـ الأحنف بن قيس، فقال: لولا أنك عجلان لشاورتك في بعض الأمر، فقال: يا حارثة أجلّ. وكانوا لا يشاورون الجائع حتى يشبع، والعطشان حتى ينقع، والأسير حتى يطلق، والمضل حتى يجد، والراغب حتى يمنح. وقيل: لا تشاور صاحب حاجة يريد قضاءها، ولا جائعاً. وقالوا: لا رأي لحاقن ولا لحازق، ومن هو الحازق؟ هو الذي ضغطه حذاؤه فهو يؤلمه، فطالما وهو يمشي ذهنه مشغول بضيق الحذاء، ولذلك هذا لا يصلح لأن يستشار، لأن ذهنه مشغول بالحذاء، والحاقن هو: الذي يجد شيئاً في بطنه، مثل الغازات أو الألم أو شيء من هذا القبيل، فهذا الذي في بطنه هذا الشيء لا يعطيك الرأي الصواب؛ لأن ذهنه مشغول بشيء آخر.

من صفات المستشار: ألا يكون صاحب هوى

من صفات المستشار: ألَّا يكون صاحب هوى لابد أن يكون المستشار ليس بصاحب هوى أو غرض شخصي يتابعه، فإن هذا الشخص لو كان ذكي وخبير لكنه صاحب هوى فإنه سيشير عليك بالرأي الذي يهواه هو، وهذا شيء خطير جداً. فلو أن شخصاً يميل إلى شيء، وجئت واستشرته؛ فإنه سوف يشير عليك بما يهواه لا لأنه صواب ولكن لأنه يهواه. مثلاً: رجل عنده أخت فيها عيوب، لكن همه أن تتزوج بأي وسيلة، وجئت تستشيره، وقلت له: أريدك أن تبحث لي عن فتاة، فماذا سيقول لك؟ سيقول: طلبك عندي، أشيرك على فلانة مع أن فيها عيوباً. لكنه الآن عنده هوى وغرض شخصي، مثل: صاحب الدكان يكون عنده بعض السلع، وعند جاره سلع أفضل منها، وتستشيره تقول: ما رأيك آخذ هذا، أو أبحث عن نوع آخر، هو صاحب غرض الآن، سيقول: لا. هذه نوعية ممتازة خذ منها، فالآن يجب أن يكون المستشار ليس صاحب هوى، ولا صاحب غرض شخصي. وبعض الناس يذهب يستشير صاحب هوى فيشير عليه بما يهواه، ثم يقول: الحمد لله استشرت، نقول: لا. أين استشرت؟! أنت الآن استشرت من لديه ميول معينة، فأشار عليك بما يهواه وبما يميل إليه، فاستشارتك ناقصة في الحقيقة. وبعض الأحيان يكون معرفة حال المستشير مهم للمستشار: فلابد أن تسأل الشخص الذي يعرف حالتك أكثر من غيرك، فبعض الناس أحياناً يتخطون أناساً قريبين منهم، مع أن عندهم عقل راجح، وعندهم بصيرة، وهم أهل للاستشارة، فيتخطون القريب إلى آخر بعيد لا يعرف حال المستشير، ويقول له: أشر عليّ، وماذا تنصحني في حالتي هذه؟ ويعرض له مشكلة خاصة تتعلق بواقعه الشخصي، وقد يخفي شيئاً من خلفيتها، والمستشار لا يدري عن الخلفية، لأنه ليس محتكاً ولا قريباً من المستشير، فيشير عليه برأيه، فيقول هذا: الحمد لله أنا استشرت. فنقول: لا. أنت استشرت مَنْ ليس لديه خبره بحالك، وتخطيت أناساً آخرين لهم معرفة بحالك من الممكن أن تستشيرهم، لكنك تخاف أن يقولوا لك: لا تفعل، أو افعل، وأنت لا تهوى هذا الشيء، وبنفس الوقت تريد أن تستشير، لكن تريد الجواب الذي تهواه؛ لذا ذهبت إلى البعيد، ولو كان شيخاً كبيراً وعظيماً، وتقول له: ما رأيك في المشكلة الفلانية؟ وتخفي عنه أشياء، ولا تعرض له خلفية القضية، وتقول: أشر عليّ، فلما يشير عليك بالذي تهواه. وقد يستشير الشخص مَنْ يرتاح إليهم عاطفياً، لا لأنهم أهل بصيرة، ولا لأنهم أهل تجربة، ولا لأنهم أهل دين، ولكن لأنه يستريح لهم ويتقارب معهم نفسياً، فتجد أنه يستشيره في أموره الخاصة والخطيرة، مع أن هذا المستشار أدنى منه منزلة، لكن لأنه يرتاح إليه عاطفياً ونفسياً، فتجده يستشيره في أشياء كثيرة من أموره التي من الأولى أن يستشير فيها أناساً آخرين. وما هي المنفعة من استشارة شخص تميل إليه عاطفياً وليس عنده خبرة في المشورة؟

من صفات المستشار: أن يشعر بعظم أمانة مشورته

من صفات المستشار: أن يشعر بعظم أمانة مشورته المستشار يجب أن يشعر بالمسئولية، بأنه الآن استؤمن على شيء، ولذلك قيل: المشاورة راحة لك وتعب على غيرك؛ لأن المستشير الآن تحمل مسئولية عظيمة، ولذلك ليتق الله كل مستشار فيما يستشار فيه، ويعلم أنها أمانة، ويعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال: (المستشار مؤتمن) والقضية أمانة: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان} [الأحزاب:72]، {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58]. فمن جعل أخاه مستشاراً واستشاره فقد جعله بمنزلة المؤتمن، فيجب عليه أن يكون أميناً وهو يشير عليه، وألا يفشي بالسر. فإذا كانت لديك قضية خاصة لا تريد خبرها أن يتسرب إلى أحد فتستشير فيها، فمن أمانة المستشار ألا يسرب هذه القضية إلى أناس آخرين، إلا إذا كان هناك مفسدة عظيمة تنشأ، أو مصلحة كبيرة تفوت أكبر من مفسدة هذا، لأنك الآن تستودع عنده سرك، وأحياناً تكون قضية خاصة جداً تستودعها عند هذا المستشار. ومما ورد في هذا: قال البخاري رحمه الله في الأدب المفرد: (باب المستشار مؤتمن) عن أبي هريرة قال: (قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي الهيثم: هل لك من خادم؟ قال: لا. قال: فإذا أتانا سبي فأتنا، فأتي النبي صلى الله عليه وسلم برأسين ليس معهما ثالث، فأتاه أبو الهيثم -حسب الاتفاق- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اختر واحداً من هذين الرجلين، فقال الصحابي وكان فطناً: بل أنت اختر لي يا رسول الله! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: المستشار مؤتمن، خذ هذا فإني رأيته يصلي واستوصي به خيراً). حديث صحيح رواه البخاري في الأدب المفرد والترمذي وغيرهما. انظر من قبل قال: اختار لك فلما حُمل الرسول صلى الله عليه وسلم أمانة الاستشارة صار عنده موقف آخر، قال (المستشار مؤتمن، خذ هذا فإني رأيته يصلي) انظر كيف تغير موقف الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن المسألة أصبحت أمانة. ومن أشار على أخيه المسلم برأي ليس صواباً وهو يعلم أنه ليس بصواب، ورد فيه وعيد في حديث صحيح، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من تقول علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار، ومن استشاره أخوه المسلم فأشار عليه بغير رشد، فقد خانه)، وفي رواية: (وأشار عليه بأمر يعلم أن الرشد في غيره، فقد خانه، ومن أفتى بفتيا غير ثبت فإثمه على من أفتاه). إذاً: الذي يشير على أخيه بشيء وهو يعلم أن الصواب غير هذا فهذه خيانة، وفيها أثم عظيم: (ومن غشنا فليس منا) كما قال عليه الصلاة والسلام. ومن النوادر العجيبة في هذا: أن أحد الحكام استشار شخصاً، قال له: ما رأيك في تولية فلان القضاء؟ قال: فلان هذا شخص موثوق، ورأيي أنك توليه القضاء. ثم جاء هذا الشخص الذي يراد أن يتولى القضاء إلى المستشار الذي استشاره الحاكم، فقال له: يا فلان، عرض عليّ الحاكم أن أتولى القضاء، فما رأيك؟ قال: اللهم لا. لا أشير عليك أن تتولى القضاء، القضاء فيه فتنة، وفيه مسئولية. فالحاكم لما سمع استعجب، قال: أنا عندما أستشيرك، تقول: نعم، وعندما يستشيرك فلان، تقول: لا. ما هذا؟! فقال: أيها الأمير! استشرتني فاجتهدت لك رأيي ونصحتك، واستشارني فاجتهدت له رأيي ونصحته، المسألة بالأمانة، فأنا لا أقول له عندما يستشيرني: نعم؛ لأنك أنت تريده.

من أخطاء المستشار

من أخطاء المستشار بعض الناس يشيرون قبل أن يطلب منهم الرأي، وهذا يعتبر نوع من التدخل، إلا إذا كانت المسألة تتطلب أن يبدي رأيه الآن لتوقعات ستحدث، لكن هناك بعض الناس يدسون أنوفهم في كل شيء، دائماً يبدي رأيه، مع أن التدخل قد لا يكون مناسباً، أو يشير وهو ليس بأهل. إذا جاءك من يستشيرك وأنت ليس عندك خبرة في هذا الشيء، فماذا تفعل؟ تقول له: أرجو المعذرة، أنا ليس عندي خبرة، ولا أستطيع أن أشير عليك، اذهب إلى غيري، وهذا إذا أردت أن تكون أميناً. لكن بعض الناس ما إن يأتيه مَن يستشيره حتى يخرج له الرأي، حتى ولو كان رأياً فاشلاً، أو غير مبني على أي شيء من العلم أو الخبرة، وفي كثير من الأحيان إذا كان المستشار غير أهل للمشورة وجاءه إنسان واستشاره، فإن رأيه يزيد الأمور تعقيداً. في بعض الحالات يأتي من يقول: أنا عندي مشكلة مع أهلي كذا وكذا، فيأتي من يقول: أنا أشير عليك أن تتركهم لمدة أسبوع وتنام خارج البيت حتى تأدبهم. أو يقول: زوجتي كذا وكذا، فيقول: أنا رأيي أنك تطلقها. وفي بعض الحالات عندما تكون الاستشارة خاطئة تؤدي إلى نتائج عكسية، ولذلك لابد من انتقاء المستشار، ولا ينبغي للإنسان أن يتبرع برأييه كما قال الشاعر: فلا تمنحن الرأي من ليس أهله فلا أنت محمود ولا الرأي نافع أحياناً بعض الناس يتدخل ويعطي رأيه، فإذا كان الذين أعطاهم الرأي ليسوا بأهل، فقد يقولون له: لماذا تتدخل في الموضوع؟ فيكون رأيه وبالاً عليه، فلذلك لا يعطي الرأي المناسب إلا في الوقت المناسب، وعندما يسأل الشخص ويعطي الرأي، يكون الرأي أثقل مما إذا أعطاه ابتداءً دون طلب استشارة. بعض الناس يعتقدون أن استشارة النساء من النكبات والمصائب، ويستدلون على ذلك بأحاديث: (شاوروهن وخالفوهن) هذا حديث مشهور عند بعض العوام، مع أن هذا الحديث لا أصل له مرفوعاً، ومعناه خطأ، وكذلك ما يروى عن عمر: [خالفوا النساء فإن في خلافهن البركة] وهذا أيضاً إسناده ضعيف ولا يثبت، والحديث الموضوع الآخر: "طاعة المرأة ندامة"، لأن النساء صحيح أنهن أقل عقلاً، لكن بعض النساء قد تأتي برأي لا يأتي به أكابر الرجال. مثال ذلك: في حادثة الحديبية أمر الرسول صلى الله عليه وسلم الناس أن يحلقوا وينحروا بعد أن عقد الاتفاقية مع قريش، ومن الغم ماذا فعل الصحابة؟ لم ينفذوا الأمر، فمن الذي حل المشكلة؟ أم سلمة رضي الله عنها، دخل الرسول صلى الله عليه وسلم عليها مكروباً، كيف يأمر الصحابة ولا ينفذوا؟!. شيء عظيم، فقالت أم سلمة: [يا رسول الله! احلق رأسك أمامهم وانحر هديك وسوف سيتابعوك]. وفعلاً خرج الرسول صلى الله عليه وسلم وأخذ برأي أم سلمة فحلق الصحابة رءوسهم ونحروا هديهم، وكان الذي أتى بالرأي الذي حل هذا الإشكال العظيم أم سلمة، امرأة لكن ليست كأي امرأة، وهذا يبين لنا أن النساء لسن محتقرات الرأي في الإسلام، ولكن لا يعني الأمر هذا أن الرجل يفلت الزمام للمرأة فتكون هي التي تشير وهو الذي ينفذ، فلا إفراط ولا تفريط، لا احتقار ولا إهانة. ويروى أن رجلاً كان دائماً يشاور زوجته ويخالفها، فتضايقت منه جداً، وفي يوم من الأيام شاورها في شيء ثم خالفها؛ فثارت في وجهه، فقال: إنما أفعل هذا ديانة، لحديث: (شاوروهن وخالفوهن) لماذا تلوميني؟ فعندما ذهب وسأل تبين له أن الحديث ليس بثابت، وأنه لا يثبت مرفوعاً، فهذه قضية اجتماعية -شرخ في البيت- بسبب هذا الحديث الضعيف أو الموضوع.

من الذي يستشير؟

من الذي يستشير؟ العادة أن الصغير هو الذي يستشير من هو أكبر منه، أو الأقل علماً يستشير من هو أعلم منه وهكذا، لكن لا يمنع أحياناً أن الكبير يستشير من هو أصغر منه، عمر رضي الله عنه وهو خليفة يستشير أناساً فيهم ابن عباس وهو صغير السن، وهذا من ذكاء عمر رضي الله عنه وحسن إدارته للأمور، أنه كان يجمع في مجلس مشورته بين شباب في مقتبل العمر، وبين شيوخ كبار في مجلس واحد، فيجمع بين شدة تفكير الشباب، وخبرة وحكمة الشيوخ. أحياناً ذهن الشباب ينقدح فيه ما لا ينقدح في ذهن الكبير، لأن الشاب حاد الذهن متوقد وفيه حيوية ونشاط، ممكن أن يأتي برأي لا يستطيع بعض الشيوخ أن يأتي به، وبنفس الوقت بعض الشباب قد يطرحوا آراء متهورة اندفاعية بسبب الاندفاعية التي توجد في طبيعتهم، فلابد أن يوجد هناك شيوخ يقيدون هذه الاندفاعية، ويوجهون هذا الإقدام الشديد بخبرتهم وحكمتهم، وكذلك إذا كانت هناك مجموعة تريد رأياً معيناً فيكفي أن يأتي اثنين بالخبر اليقين، وليس هناك ضرورة في أن تذهب المجموعة كلها وتستشير. استشارة الوالدين مهمة، لماذا؟ لأن الاستشارة فيها تقدير، فالإنسان دائماً يحرص على استشارة والديه، حتى لو أنه تبين له الأمر وعرف أن مصلحته كذا، لكن من باب تأليف القلوب، إلا إذا علم أن الوالدين قد يأمرانه بأمر ليس مخالف للحق، فقد يكون عدم أخذ رأيهم أحسن، حتى لا تظهر مخالفته بشكل واضح، لكن إذا علم أن والديه لن يشيرا عليه بأمر باطل، فشيء طيب على أن يحرص على أخذ آرائهم دائماً. وكذلك النساء عليهن استشارة الرجال؛ لأن الرجال أكمل عقلاً وأقوم في الأمور، فالنساء أحياناً قد يحتجن إلى أشياء في طلب العلم أو في الدعوة إلى الله، وقد تأتي أحياناً بين النساء أفكار فيها نوع من الخروج عن المألوف، أو الخروج عما يمكن أن يقبله الناس، أحياناً قد يأتي عند النساء أشياء تطرح بقوة في مجالات معينة لا يمكن أن يتقبلها الناس وليست من المألوف، بل قد تسبب مشاكل في المجتمع، فلذلك لابد أن يكون هناك نوع من الرجوع من قبل النساء إلى الرجال.

كيف تستشير؟

كيف تستشير؟ هل أستشير فرداً، أم جماعة، أم أستشير الجماعة كل شخص بمفرده؟ نحن نثق ونعلم ونوقن أن الإسلام سبق الغرب في القيادة الاستشارية، وأن خلفاءنا وعلماءنا من القديم كانوا يطبقون هذا المفهوم، وليس الغرب الآن هو الذي اكتشف هذا ودونت في كتب الإدارة الحديثة، بل هي قضية قديمة. الاستشارة لها منازل، منها: ما يدخل فيه الرهط، ومنها: ما يستعان فيه بقوم، ومنها: ما يستغنى فيه برأي واحد، ليس هناك قاعدة معينة أنك تسأل جمع كثرة أو قلة أو واحد حسب الحالة. بعض علمائنا ناقشوا قضية استشارة الجماعة أم استشارة الفرد؟ فبعضهم قال: الأولى أنك تجمع الناس المستشارين وتستشيرهم؛ لأن هذا فيه إجالة فكر، ومناقشة الأشياء وتنقيحها، وإذا طرح رأي يعارض من قبل الذين عندهم آراء أخرى، ويرى الجميع سلبيات وإيجابيات الرأي، وتقع مناظرة تنتهي بتنقيح المشورة، أي: سيتناقشون ويتناقشون حتى يظهر الرأي الصحيح. وبعضهم قال: الأولى أنك تستشير كل واحد بمفرده، لماذا؟ قال: لأنك لو طرحت على الجماعة، قلت: أستشيركم في كذا، كل شخص سوف يلقي المسئولية على الآخر ويسكت، ويقول: الآن فلان سيأتي بالرأي، فلا يحدث إنقداح قوي للأذهان، لكن لو استشرت كل واحد لوحده، فعندما تسأله يحس بالمسئولية، فيعطيك الرأي بعد تفكير وتمحيص، لكن لو جمعتهم يمكن أن يكون هناك تواكل. والحقيقة أن المسألة ليس لها جواب معين، أي: ليس دائماً استشارة كل واحد لوحده صحيحة، وليس دائماً استشارة المجموعة هو الصواب، بعض الأحيان يكون الاجتماع أبلغ وأحسن، وبعض الأحيان تكون استشارة كل واحد على حدة أفضل.

كيفية استشارة الرسول

كيفية استشارة الرسول نأخذ مثالاً من السيرة: حادثة واحدة وقع فيها نوعين من الاستشارة: استشارة فردية واستشارة جماعية، حادثة الإفك، الرسول صلى الله عليه وسلم عندما تكلم في أهله المنافقون ونشروا الفتنة والبلبلة، ماذا فعل الرسول صلى الله عليه وسلم؟ صعد على المنبر، وخطب الناس، وحمد الله وأثنى عليه، وقال: (أشيروا عليّ في قوم يسبون أهلي، والله ما علمت عليهم من سوء قط) استشارة جماعية؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يريد أن يتخذ موقفاً جماعياً من المنافقين المندسين بين الأنصار، فإذاً لابد من أن يجتمع الناس على رأي؛ لأن المسألة تعم الجميع. لكن لما جاء عليه الصلاة والسلام ليستشير في أمر عائشة، ماذا فعل؟ استشارة شخصين هما: أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن حبه، واستشار علي بن أبي طالب الصهر، وهل من المصلحة أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقف على المنبر يقول: يا أيها الناس، أشيروا علي في براءة زوجتي؟ هذا ليس بمناسب، ولذلك أخذ علياً وسأله، وأخذ أسامة وسأله، لكن عندما صارت المسألة موقف من المنافقين، وشيء يعم الجميع صعد على المنبر واستشار. فإذاً: عندما يكون الأمر متعلقاً بالجميع، فتكون الاستشارة جماعية، وعندما يتعلق الأمر بشيء خاص، أو تكون هناك حساسية معينة، وليس من المعقول أن يجمع الناس ويؤخذ رأيهم في شيء من هذا فتكون فردية، فمن سيتزوج هل يجمع كل أصحابه ويقول: ما رأيكم في زواجي من فلانة؟ لا. وإنما سيذهب إلى واحد بالسر بينه وبينه فيشير عليه، الإنسان إذا عرف الصواب وتوصل إلى نتيجة هل يستشير ويستشير أم ينفذ الاستشارة؟ الجواب موجودٌ في قوله عز وجل: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران:159] وفي البخاري: عندما شاور الرسول صلى الله عليه وسلم الناس في أحد، أشار عليه المتحمسون بالخروج من المدينة، فلبس عليه الصلاة والسلام لأمته، فلما أشار عليه الآخرون بالبقاء، ماذا قال عليه الصلاة والسلام؟ (لا ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن ينزعها) لماذا؟ لأننا استشرنا وأخذنا الرأي هذا إذاً ننفذ. ولم يكن هناك وضوح تام أن البقاء في المدينة (100%) هو الأصلح؛ بدليل أن المسلمين انتصروا في البداية، فلو نفذت الأوامر كما ينبغي لكمل الانتصار.

لا استشارة مع وجود النص

لا استشارة مع وجود النص كذلك إذا تبين للإنسان وجه الحق في شيء فلا يسمع كلام أي شخص بعد ذلك. مثال: أبو بكر الصديق رضي الله عنه لما عزم على قتال المرتدين، قال عمر: (كيف تقاتل قوماً قالوا: لا إله إلا الله، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوا: لا إله إلا الله، عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله تعالى، فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين ما جمع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم). ثم تابعه بعد ذلك عمر على رأيه -هذه رواية البخاري - فلم يلتفت أبو بكر رضي الله عنه إلى مشورة عمر، إذ كان عنده حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذين فرقوا بين الصلاة والزكاة. فإذاً أبو بكر لما عرف الحق لم يقبل مشورة أحد. ونحن الآن يقع بعضنا في إشكال وهو: قد يستشير في أمر، لكن حتى مع الاستشارة لا يتبين له وجه الصواب، ولا يدري ما هو الحق، تضاربت عنده الآراء وكل واحد يشير عليه برأي معين، فماذا يفعل؟ قال شيخ الإسلام رحمه الله في الفتاوي: وإذا استشارهم، فإن بين له بعضهم ما يجب اتباعه من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم أو إجماع المسلمين، فعليه اتباع ذلك ولا طاعة لأحد في خلاف ذلك، وإن كان عظيماً في الدين والدنيا، وإن كان أمراً تنازع فيه المسلمون، فينبغي أن يستخرج من كل منهم رأيه ووجه- أي: الرأي وعلى ماذا اعتمد هذا الرأي؟ - فأي الآراء كان أشبه بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم عمل بها. يقول: أنت يا فلان ما رأيك؟ ما دليلك؟ ثم ينظر هذا الرجل أيها أقرب إلى الكتاب والسنة، وأشبه بنصوص الكتاب والسنة فيعمل به. لو أن إنساناً ليس عنده خبرة أو علم، ولا يستطيع أن يعرف ما هو الأشبه بالكتاب والسنة، فماذا يفعل؟ يقول شيخ الإسلام رحمه الله: ومتى أمكن في الحوادث المشكلة معرفة ما دلّ عليه الكتاب والسنة كان هو الواجب، وإن لم يكن ذلك- هذه مسألتنا الآن- لضيق الوقت. أي: الواحد ليس عنده وقت الآن ينقح الآراء ويقضي وقتاً طويلاً، أو عجز الطالب، عرف أقوال ثلاثة من العلماء متضاربة، وليس عنده قدرة على الترجيح، أو تكافأت الأدلة فلا يستطيع أن يرجحها أو غير ذلك، فماذا يفعل؟ يقلد الأعلم، شخص قرأ ثلاث فتاوى لثلاثة مشايخ فيها آراء مختلفة، وحاول أن يبحث في الأدلة فما استطاع، ماذا يفعل؟ يقلد الأعلم. نرجع فنقول: إذا كانت القضية شرعية فالأعلم فيها هو الأعلم بالشريعة، وإذا كانت قضية تخصص دراسي، فالأعلم بالتخصصات وبواقعك وبشخصيتك تأخذ برأيه، فتقلده إذا تضاربت عندك الآراء. ولذلك نقول: العالم يأخذ بالأعلم، وإذا كانت القضية تتعلق بالواقع يأخذ برأي الأقرب وأوعاهم وأكثرهم وعياً بالواقع، والذي يعرف أصول الإسلام ويثق فيه أكثر، وبعبارة أخرى: يأخذ من تجتمع فيه شروط المستشار أكثر من غيره. أحياناً إذا شعر الواحد أنه إذا استشار عدة أشخاص، فإن هذا يكون سبباً لضياعه وتشتت ذهنه، فإنه لا داعي لأن يفعل هذا، وإنما يستشير من يعتقد أنه الأقرب إلى الصواب. طالب العلم مثلاً لو استعصت عليه مسألة وسأل فيها أكثر من عالم، وشعر أن أخذ آراء خمسة من العلماء سيجعل فيه نوعاً من التشتت، وسيجعله يرجح، إما بالهوى، أو بالأكثرية، وهذا ليس دائماً صحيحاً، أو لأن أحد الأقوال يوافق تفكيراً سابقاً عنده، كمن فكر في مسألة ثم سأل ثلاثة علماء اختلفوا، ومنهم من يوافق الذي في ذهنه، هل يتبع هذا؟ لا. ليس بالضرورة أن الذي يوافق الذي في ذهنك يكون هو الصحيح، ولذلك إذا لم يكن عندك قدرة على الترجيح اسأل الأعلم واتبعه. بعض الناس أحياناً يقعون في مشكلة في الاستشارة، وهي: أخذ الآراء الكثيرة جداً، لماذا؟ لا لأنه يحتاج، لكن بعض الناس يريد أن يضفي أهمية على نفسه، وأهمية على المشكلة، ويكبر المشكلة، فيستشير عشرين شخصاً، لا لأنه يحتاج رأي العشرين، لكن لكي يقول: أنا استشرت فلاناً وفلاناً وويكبر المشكلة، ويبين نفسه أنه مهم، وأن المشكلة هذه خطيرة، وأنها تحتاج إلى عشرين شخصاً، فتكون أحياناً من باب التباهي أمام الناس وأمام نفسه، وهذا النوع من الناس غالباً ما يكون ضعيف الشخصية، ليس عنده قدرة على حبس فكرة في ذهنه، فهو كلما رأى شخصاً طرح القضية عليه. فلا يستطيع أن يسيطر على ما بداخل نفسه، فيشعر أنه لابد أن يحدث جميع الناس، فلا هو الرجل الحازم الذي عنده الرأي وأخذ به، ولا هو أخذ برأي الناس ولا يأتمر، كما يقول أحدهم: "رجلٌ حائر بائر، لا يأتمر رشداً ولا يطيع مرشداً"، وإذا عرف الإنسان الحق، فإن الجواب في الآية {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران:159]. إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة ولا تك بترداد الرأي مفسدا ويقال: فإن فساد الرأي أن تترددا.

متى نستشير؟

متى نستشير؟ الحقيقة أن الاستشارة قد تكون واجبة، وقد تكون مكروهة، وقد تكون محرمة، وقد تكون جائزة. مثال على الاستشارة الواجبة: استشارة الأب ابنته في الزواج قبل أن يزوجها لفلان على قول طائفة من أهل العلم، أو استشارة الفرد في الجيش قبل أن يعمل عملاً، والأمير إذا قال: ائتمروا بأمري فلا يجوز له أن يفعلها، ولابد أن يستشير. أحياناً تكون الاستشارة مستحبة، مثل: مشاورة أهل العلم والخبرة في طرائق الدعوة إلى الله. وأحياناً تكون الاستشارة مباحة، مثل: الاستشارة في شراء السيارة، أو البيت، أو التخصص الدراسي مثلاً. وأحياناً تكون الاستشارة مكروهة، مثل: الاستشارة الزائدة في أمور تافهة من المطعم والمشرب والملبس مما يضيع وقت المستشير والمستشار. وأحياناً تكون الاستشارة محرمة، مثل: الاستشارة في أن يصلي الظهر أم لا؟ هذه الاستشارة لا تجوز، وبالطبع تصلي الظهر سواء أشار عليك أو لم يشر عليك لن يقدم ولن يؤخر.

خطأ التقرير ثم الاستشارة

خطأ التقرير ثم الاستشارة هناك خطأ في الاستشارة يقع وهو خطأ حساس ودقيق، وهو: أن بعض الناس يقرر ثم يستشير، أي: يفكر في المسألة ويبدو له شيء معين ويهواه في نفسه ويقرر هذا الشيء، وبعد ذلك يستشير من باب أن يقول: إني استشرت، لكنه في الحقيقة هو عازم على تنفيذ ما خطر في باله سواء أشاروا عليه بخلافه أو به هو، فهو عازم على أن ينفذ ما في ذهنه، ولذلك استشارة هذا الشخص ليس لها معنى، وما هي الفائدة منها؟ وهذا يفعله بعض الناس ليبرر لنفسه إقدامه على العمل الذي في رأسه، أو ليخدع نفسه. وأحياناً يذهب إلى المستشار ولا يعطيه الصورة الحقيقة عن القضية، أو يجعل له ملابسات بحيث يقول المستشار الرأي الذي يريده المستشير، مثلاً: شخص قرر أن يخرج من البيت، فذهب إلى شخص يستشيره، قال: عندي مشكلة كذا وكذا، وربما إذا دخلت البيت يطردني أبي ويغلق الباب ويسهب له في هذه النقطة، مع أن المسألة ليست كذلك، لكن هذا المستشير أوحى للمستشار بأشياء خطأ حتى يأتي له المستشار بالرأي الذي يوافق هواه والذي يريده هو. وأحياناً يكون هناك تشاور أشبه بالتناجي من تشاور أناس أو مجموعات ليس لها خبرة ولا رأي، فيقررون بين أنفسهم أمراً يخرجون به على الناس فجأة، فيكون وبالاً عليهم وعلى آخرين، ولذلك نقول: يا أيها الناس! لا تتسرعوا في الأمور، وإذا أردت أن تقدم على أمر وهذا الأمر فيه خطورة عليك أن تستشير الثقات الأمناء، وليس مجموعة من الشباب الاندفاعيين الذين يستشيرون أنفسهم، ثم يقدمون على عمل يكون فيه وبال عليهم، وقد يكون على غيرهم أيضاً ويكون الشر متعدياً.

خطأ استشارة الخوارج لأنفسهم

خطأ استشارة الخوارج لأنفسهم هناك خطأ في استشارة الأنفس دون غيرهم مثل الخوارج: اجتمعوا وتشاوروا فيما بينهم ماذا نفعل؟ اجتمع عبد الرحمن بن ملجم وثلاثة أشخاص في الحج، قالوا: ما هي مشكلة المسلمين؟ تداولوا فيما بينهم، قالوا: مشكلة المسلمين تكمن في ثلاثة أشخاص: علي بن أبي طالب، ومعاوية، وعمرو بن العاص، ما هو الحل؟ -الآن هذه مشاورة- قالوا: نقتلهم ونريح المسلمين منهم، فنحن إذا قتلناهم انتهت المشكلة. فقالوا: عبد الرحمن بن ملجم يذهب إلى الكوفة ويقتل علياً، وفلان يذهب إلى مصر ويقتل عمرو بن العاص، وفلان يذهب إلى الشام ويقتل معاوية بن أبي سفيان، تشاوروا وتعاقدوا وعملوا هذا العمل، وأنتم تعرفون القصة، وعبد الرحمن بن ملجم له سيف مكث يسقيه السم شهراً، ثم خرج به على علي بن أبي طالب وهو خارج لصلاة الفجر فضربه على جبهته، فتحقق حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (أشقى الناس عاقر الناقة والذي يضربك على هذه حتى يبل منها هذه) وفعلاً تصبب الدم حتى نزل من لحية علي بن أبي طالب رضي الله عنه فمات. هذا الخارجي عندما علق وصلب ليقتل، وبدءوا ليقطعوا أطرافه لم يصرخ ولا صرخة، فلما جاءوا يقطعون لسانه صرخ، قالوا: ويحك! قطعنا أطرافك وما صرخت، فلما أردنا قطع لسانك صرخت، قال: لساني أذكر به الله! فالآن يا أيها الشباب! بعض الناس أحياناً يستشيرون بعضهم ويتعاقدون على أمرٍ فيه دمارٌ عليهم، لأنهم لم يعرفوا أنهم ليسوا هم الذين من المفترض أن يستشيروا أنفسهم، وإنما هناك أناس من أهل الخبرة هم مَن يستشارون.

خطأ الاعتماد على المشورة دون الله

خطأ الاعتماد على المشورة دون الله من الأخطاء في الاستشارة أيضاً: أن بعض الناس يعتمد اعتماداً كلياً على المشورة دون الله عز وجل، فيظن أنه إذا أخذ المشورة معناها سيكون التوفيق حليفه والصواب معه، وهذا فيه ركون إلى الأسباب الدنيوية، وإلا فمن المفروض أن الإنسان بالإضافة إلى الاستشارة أن يفعل الاستخارة والتوكل على الله عز وجل. أول شيء: الإنسان يستشير حتى يعرف وجه الصواب، فإذا جاء ليقدم عليه وهمَّ بالأمر عليه أن يستخير، حتى يبرأ من حوله وقوته كما في دعاء الاستخارة: (فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب) هذا فيه براءة من الحول والقوة، واعتماد على الله عز وجل، وهذا أمر مهم جداً، هناك حديث: (ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار) ولكن هذا الحديث ضعيف أو موضوع كما ذكر بعض ذلك أهل العلم، وتجدونه في السلسلة الضعيفة برقم [611].

موانع الاستشارة

موانع الاستشارة بعض الناس مع علمهم بأهمية الاستشارة لكنهم لا يستشيرون لماذا؟

الاستهانة بالأشخاص المستشارين

الاستهانة بالأشخاص المستشارين عندما تقول له: يا أخي! استشر في المشكلة، يقول: من أستشير؟ تقول له: استشر فلاناً، يقول: وهل فلان أعلم بمشكلتي مني؟! أي: فلان يفهم أكثر مني في المشكلة، وبماذا سيشير علي؟! أنا أعرف المشكلة أساساً وخلفياتها أعرف تاريخ المشكلة، وفلان إذا أخبرته لن يأتي لي برأي لم يخطر في بالي، فهذا استهانة بالأشخاص. وأحياناً بالإضافة إلى هذا يصل به غرور الذات إلى الإحساس بالكمال، يقول: أنا رأيي أحسن رأي أنا لست بحاجة إلى الاستشارة أنا عقلي كامل، لماذا أذهب وأستشير الناس؟ أنا لست بحاجة، أنا إنسان عاقل وفاهم ومجرب وخبير، لماذا أسأل وأستشير؟ ولذلك يقول أحدهم: من أعجب برأيه لم يشاور، ومن استبد برأيه كان من الصواب بعيداً. ويدخل في هذا مسألة نفسية وهي: أن بعض الناس يظن أنه لو استشار كأنه يقول لآخر: أنا لم أستطع أن أحلها بمفردي، وأنا الآن لجأت إليك لأني ضعيف، بعض الناس يأخذ الاستشارة من هذا المنطلق. يقول: لا أريد أن أظهر أمام الناس أني ضعيف، وأني ما استطعت أن أحل المشكلة بمفردي، وأني بحاجة إليهم وإلى آرائهم، لا، أنا أقرر من نفسي وانتهينا، ولذلك يقول الشاعر: إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن برأي نصيح أو نصيحة حازم ولا تجعل الشورى عليك غضاضةً فإن الخوافي قوة للقوادم الخوافي: هو الريش الذي يختفي إذا ضم الطائر جناحيه، وهو قوة للقوادم، فإذاً أنت عندما تستشير فأنت في الحقيقة تقوي نفسك لأنك ستستعين وتتقوى بآراء الآخرين.

فارق السن والمنزلة

فارق السن والمنزلة فمثلاً: شخص يرى شيخاً كبيراً وعظيماً، فيستحي أن يأتي إليه ويستشيره لفارق السن، أو بعض الطلاب يستحي أن يسأل أستاذه لفارق السن، أو بالأحرى يخجل، وهذه عبارة أدق. أو العكس: أحياناً بعض الآباء يكون عنده ولد متعلم وفاهم، والحقيقة أن الأب يحتاج إلى رأي الولد في أمرٍ من الأمور، لكن يقول: أنا أستشير ولدي وأنا أكبر منه؟! ونحن قد بينا أنه لا عيب ولا غضاضة أبداً أن الإنسان كبير السن يستشير من هو أصغر منه، أو مثلاً شخص يستشير من هو أدنى منه منزلة اجتماعية، أي: مدير يستشير موظفاً، أو شخص غني يستشير شخصاً فقيراً، يقول: لا، هذا أدنى مني في المنزلة.

الخجل وعدم القدرة على التعبير

الخجل وعدم القدرة على التعبير أحياناً يكون الخجل أو عدم القدرة على التعبير هو المانع، فمثلاً: شخص يريد أن يستشير لكن لا يستطيع أن يعبر عن المشكلة، فيكون هذا مانعاً له، أو تكون القضية حساسة. مثلاً: شخص واقع في مشكلة ومخطئ فيها، ولا يدري كيف يخرج من هذه المشكلة، فلو ذهب إلى شخص وقال: أنا حدث لي كذا وكذا، فيستحي، يقول: هذا المستشار سوف يأخذ فكرة سيئة عني، أنا كنت في نظره كبير، الآن لو قلت له: أنا وقعت في المطب الفلاني، ولا أعرف كيف أتصرف، أريد منك الحل، سوف يغير رأيه عني. وأحياناً تكون المشكلة حساسة إلى درجة أنه لا يجرؤ أن يصارح بها، فلنفترض إنساناً واقع في هوى فتاة والعياذ بالله، فالآن هو واقع في مشكلة عظيمة جداً، فقلبه متعلق بها، وصلاته ليس فيها خشوع، وإيمانه ضعيف جداً، لا طلب علم، ولا دعوة إلى الله، وصار عنده انحلال في القوى والتفكير والرأي والذهن، الآن كيف يأتي إلى شخص يقول له: أنا واقع في كذا وكذا، وتعرفت على فلانة أو فلان، وصار لي كذا وكذا من المشاكل، وأنا أريد رأيك في الموضوع، هذه مسألة محرجة، أليس كذلك؟ من العلاجات لهذه المشكلة: طريقة الكتابة، وقد جربت هذه الطريقة، فكانت نافعة، فالشخص مثلاً محرج لكن لابد أن يستشر اكتب المشكلة في ورقة، ثم اكتب أرجو الإجابة على ظهر الورقة، أو في ورقة أخرى، وسوف أمر بك لأخذ الجواب أو أرسل إليك، وليس من الضروري أن تذكر اسمك. مثلاً: نستقبل رسائل من أناس في المسجد أو يحضر شخص رسالة، ويقول: هذه رسالة من امرأة أو رجل، وأحياناً تكون منه هو، لكن لا يقول: هذه مني، يقول: هذه من شخص -وهو لم يكذب- ويريدك أن تجيب عليها، نفتح الرسالة وإذا بها: أنا واقع في مشكلة كذا وكذا وكذا، أريد الحل؟ ليس من الضروري أنك تأتي تعبر عن نفسك، وتقول: أنا فلان الفلاني، وقعت في مشكلة مع فلان الفلاني أو مع فلانة، أعطني الحل، لا. ممكن أن تستشير بدون أن تكشف هويتك الشخصية، ولذلك لا ينبغي أن يمنع الإنسان أي مانع من الاستشارة، وهي خيرٌ إن شاء الله. وأسأل الله عز وجل أن نكون قد أجبنا على بعض التساؤلات، أو كشفنا بعض النقاط التي قد يكون في البعض غفلة عنها أو عدم إحساس بأهميتها، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بهذه الكلمات، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والحمد لله أولاً وآخراً.

الأسئلة

الأسئلة

كيفية إعداد محاضرة

كيفية إعداد محاضرة Q فضيلة الشيخ: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، جزاكم الله خير الجزاء على نوعية المحاضرات التي تلقونها، ولتطبيق عملي لمحاضرة هذه الليلة، فإني أستشيرك في كيفية إعداد موضوع متكامل لجلسة معينة أو محاضرة، وجزاكم الله خير الجزاء، وما هي نوعية الكتب التي رجعت إليها في هذه المحاضرة إن أمكن ذلك؟ A الحمد لله رب العالمين، أما بالنسبة لإعداد الموضوع فهي مسألة مهمة، لأنه يحدث أحياناً ألا يكون الإعداد جيداً، فيكون الكلام ليس له فائدة، نأخذ مثلاً: موضوع الاستشارة، وكيف نعد مثل هذا الموضوع، أحياناً يكون هناك كتاب مؤلف في الموضوع، فيغنيك عن أشياء كثيرة، لكن أحياناً لا يكون هناك كتاب مؤلف في الموضوع، مثلاً هناك كتب عن الشورى وليست عن الاستشارة، لكن تكلم عن الشورى في اختيار الخليفة، وأهل الشورى وأهل الحل والعقد، وصفات أهل الحل والعقد وهكذا. فهي ليست في الموضوع الذي نحن نطرقه الآن من الناحية التربوية، ولا يتكلم عن الناحية التربوية وإنما يتكلم عن أحكام الإمامة والاستشارة فيها وهكذا، فلو لم يوجد كتاب، ماذا تفعل؟ أول خطوة: ما هي الآيات والأحاديث الواردة في الموضوع؟ ما هي القصص الواردة في الموضوع، ثم ما هي أبيات الشعر والحكم الواردة في الموضوع؟ ولكل من هذه الأشياء مراجع، فمثلاً: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن قد يعطيك الآيات الواردة في الموضوع، المعجم المفهرس لألفاظ الحديث يعطيك الأحاديث الواردة في الموضوع، ثم تنتقل في مجالات الأحاديث إلى خطوة أخرى وهي تحقيق الأحاديث؛ لأنه لا يصح أن تأتي للناس بأحاديث ضعيفة، فلابد أن تلجأ إلى كتب التصحيح والتضعيف لتعرف أقوال العلماء، وإذا لم تعرف تسأل. مثلاً: ورد هنا حديث لا أعرف درجته، فاتصلت بالشيخ ابن باز وقرأت عليه السند، قلت له: هذا الحديث في مسند أحمد، فقال الشيخ قال: هذا إسناده حسن. وكذلك من أهم الأشياء بعد ذلك كيف يربط الموضوع في الواقع، لا يكفي أن نتكلم عن الموضوع من وجهة النظر العلمية البحتة النظرية، لابد أن نربطه بالواقع. مثلاً: فقرة ما هي مجالات الاستشارة؟ هذه فقرة عملية، كيف نستشير؟ هذه فقرة عملية، ما هي موانع الاستشارة؟ هذه أشياء مأخوذة من الواقع، قد لا تكون موجودة ولا في الكتاب، إما أن تكون نتيجة تفكير ذهني. ولا يكون التفكير سليماً في هذه الأشياء إلا إذا أخذ من واقع الناس، فالشخص إذا احتك بالناس يعرف ماذا لديهم من إشكالات في هذه القضية، فمثلاً عندما يأتي من يستشير في موضوع، فأقول له: كذا، ومن ثم يأتي شخص يستشير في نفس الموضوع، فألاحظ أن طريقة عرض الأول تختلف عن طريقة عرض الثاني، وأن الثاني أتاني بمعلومات لم يأتني بها الأول، فأعرف أن المسألة فيها لعبة وإخفاء معلومات، فتكتشف أن الشخص الأول يريد جواباً معيناً، فلذلك أتى لك بمعلومات معينة وأخفى الباقي، الشخص الثاني أتى لك بطرف الموضوع الآخر، وهذه كثيراً ما تحدث، يأتي شخص يقول: والله أنا أريد أن أستشيرك في موضوع، يا أخي! أنا علاقتي بفلان سيئة، هذا فلان يفعل كذا وكذا وكذا، فأنت من واقع الأشياء المعروضة تكاد أن تقول له: يا أخي! اجتنبه وابتعد عنه، ليس هناك داعٍ للمشاكل. لكن عندما تسمع من الطرف الآخر، ويأتي يستشيرك الطرف الآخر، تكتشف كما قال أحدهم: إذا جاءك أحد الخصوم مقلوعة عينه، فلا تحكم له على خصمه، فربما قد قلع عينا ذلك الشخص. فإذاً هناك مواضيع لابد من ربطها بالواقع والتفكير من خلال الأحداث الجارية، وهناك أشياء فيها مراجع، مثلاً هذا الموضوع ارجع فيه إلى شروح الأحاديث من مثل: تحفة الأحوذي، وعون المعبود، وفضل الله الصمد شرح الأدب المفرد، وفتح الباري وكتب الأدب، وأنس المجالس فيه كلام أيضاً عن المشورة، وكتاب ابن قتيبة عيون الأخبار مثلاً فيه فصل عن المشورة، وإذا أردت أن تخرج مثلاً معنى كلمة المشورة لابد أن ترجع مثلاً إلى لسان العرب حتى تعرف مادة شور، وماذا قال أهل العلم فيها؟ وهكذا، فتتكامل الخيوط. هناك طريقة أحياناً تصلح في بعض المواضيع وهي: إذا لم تستطع أن تعنصر موضوعاً، هناك أسئلة مهمة لو أدخلتها على أي قضية يمكن أن يصبح عندك عناصر لهذا الموضوع، وهذه الطريقة قد اتبعتها في هذه المحاضرة، وهذه الأسئلة مثلاً: (ما هو، كيف، متى، أين، لماذا، من) هذه الأسئلة أدخلها على أي قضية، مثلاً الحسد، ما هو الحسد؟ لماذا الحسد؟ ما دوافع الحسد؟ أين الحسد؟ في أي مجالات يحدث الحسد؟ وكيف العلاج؟ مثلاً الصدق، ما هو تعريف الصدق؟ من هم الصادقون؟ ما هي المواطن التي يظهر فيها الصدق بجلاء؟ مثلاً أخطأت على شخص أنت المذنب فينبغي أن تعتذر وهكذا، وهناك بعض العناصر لا تقبل بعض هذه الأسئلة، فمثلاً: ليس هناك شيء اسمه متى الصدق؟ لكن أحياناً يمكن أن يكون هناك متى الصدق؟ إذا جاء ظالم يأخذ مال مظلوم عندك في هذه الحالة ما حكم الصدق؟ وقال: أين أموال فلان؟ فيمكن أن تستنبط لك أشياء عن طريق إدخال هذه الأسئلة إلى الموضوع.

الاستشارة من أجل تأليف القلوب

الاستشارة من أجل تأليف القلوب Q قد يستشير إنسان إنساناً آخر ليس بأهلاً للمشورة، وقد لا يعلم بالمشورة، ولكن ليؤلف قلبه ويكسر الحاجز الذي بينهما، فهل هذا صحيح؟ A هذه طريقة جيدة، شخص أحياناً انتهى أمره في مسألة من المسائل، لكن هناك بينه وبين فلان حساسيات أو مشاكل، فهو يريد تأليف قلب صاحبه بأي طريقة من الطرق، فمن الطرق أن يأتي ويستشيره في شيء من خصوصياته، فالشخص الآخر عندما يشعر أنك تستشيره في قضية من خصوصياته، فربما يتغير موقفه منك بالكلية، ويقول: فلان لا يعاديني، ولو كان يعاديني لما استشارني، ولولا أنه يقدرني لما استشارني، فمادام أنه استشارني فهو يقدرني، فقد يذهب كثير مما في نفسه عليك لأنك استشرته.

الفرق بين النصيحة والغيبة

الفرق بين النصيحة والغيبة Q هل قضية الكلام والتجريح على بعض الشباب جائزة؟ ومتى تكون؟ وهل هي دائماً أم في بعض الأحيان المهمة؟ وهل هذا يعتبر من الغيبة والنميمة؟ A هذه من المشاكل التي بلي بها العمل الإسلامي في هذا الزمان، وهي قضية كلام بعض الدعاة في بعضهم البعض، وهي راجعة إلى قلة تقوى الله، وعدم الخوف من الله عز وجل، وعدم احترام حدود الله، وعبادة أوثان وهمية مثل وثن مصلحة الدعوة، فباسم مصلحة الدعوة ترتكب جميع أنواع المنكرات من الغيبة والنميمة والكذب والخيانة وإخلاف الوعد وغير ذلك باسم هذا الوثن الذي هو مصلحة الدعوة. نحن لا ننكر أن هناك مصالح مرسلة، وأن الشريعة مبنية على المصالح، وهذا باب، لكن أن نأتي وندخله في هذه الأشياء بين إخواننا المسلمين وأغشه وأكذب عليه وأغتابه باسم المصلحة، أين المصلحة في هذا الأمر؟! قضية التجريح مثلاً: عندما يسألك شخص عن رجل مبتدع، وإنسان ضال ومشرك وكافر ومنافق من المنافقين، وقد ثبت لديك نفاقه في ذلك الوقت فهذا يمكن من باب النصيحة تقول: احذر من فلان. لكن تأتي إلى إنسان ظاهره الخير وتُسأل عنه، تقول: لا. هذا إنسان مشكوك في أمره، وتبدأ تجرحه، وتلقي ظلال التهمة والريبة على هذا الشخص في نفس سائلك، هذه من الجرائم التي ترتكب من بعض الناس -للأسف- بكل سهولة، ربما لا يتحرج أصلاً ولا يسأل نفسه ما حكم هذه الكلمة التي أقولها الآن في فلان وفلان، وخصوصاً التجريح في بعض أهل العلم، والذي يجرح في العلماء هو إنسان في الغالب صاحب هوى وجهل، وإلا لما جرح في أهل العلم. كونك تذكر ملاحظة في منهج عالم فلاني أو شيء عندما تتعرض له ويصبح فيه حاجة للتبيين، وهذا يقول لك: يا أخي! بعض العلماء يقولون بجواز سفر المرأة بغير محرم، فتقول: يا أخي! مستندهم ضعيف وليس لهم دليل، والحديث واضح وصريح، وأهل العلم قالوا بالحكم الفلاني، هذا ممكن، لكن بعض الناس بدون مناسبة وبدون سؤال وهو في مجلس يقول: العالم الفلاني جزاه الله خيراً -بعض الأشياء تأتي من هذا الباب وهو باب عجيب شيطاني- له جهود كبيرة في خدمة الإسلام، وهو إنسان عنده علم غزير ومؤلفات نافعة، ولكنه، ويأتي بعد ولكنه من المثالب والمعايب ما ينسي السامع كل المدح، فقرات المدح جاءت مقدمة فقط لاقتحام قلب الشخص، وإفراغ هذه الشتائم أو المعايب في ذلك السائل. ولذلك بعض الناس يحتجون، يقول: العلماء يتكلمون في الجرح والتعديل، لكن في أي شيء؟ في قضية أخذ رواية الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم، في تمحيص الأخبار، هذه أحاديث يبنى عليها أحكام، وتبنى عليها عقائد، وأشياء يجب أن نؤمن بها، فاضطروا اضطراراً لذلك، أما أن تكون المسألة ليس فيها حديث ينبني عليه كلام رجال في السند، ولا فيها شيء من هذه الأقاويل، فيقول: علماء الجرح والتعديل تكلموا في فلان. هل الحاجة التي كانت عند علماء الجرح والتعديل فتكلموا في فلان وفلان موجودة الآن في الشخص الذي أنت تتكلم عليه؟ قد يكون هناك حاجة كشخص يريد أن يتزوج أختك، فذهبت وسألت عنه، هناك يكون الكلام واجباً من باب النصيحة في هذا الشخص، فقط في الأشياء المهمة المتعلقة بالزواج، كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم: (أما معاوية فصعلوك وأما أبو جهم فإنه لا يضع العصا عن عاتقه). لكن لو قال لك شخص: ما رأيك يا أخي، فلان تقدم لأختي؟ فتقول: لا. هذا فلان خطه سيئ، وهو إنسان تلاوته للقرآن غير جيدة وصوته ممل، ثم إنه يلبس ثياباً تفصيلها كذا أي: تأتي له بأشياء أو عيوب لا علاقة لها أبداً بالزواج. أو مثلاً جاء شخص قال: ما رأيك في فلان أريد أن أشاركه في مشروع تجاري؟ فتقول له: والله فلان يا أخي يضرب زوجته كثيراً، ولا يسمح لزوجته أن تذهب إلى أهلها، ما علاقة هذا بهذا؟! فهنا يتبين لك بالكلام هذا الفرق بين الشيء الضروري الذي ينبغي أن يذكر، وبين الشيء الذي هو غيبة حقيقة ولا يجوز أن يقال.

الاقتصار على الاستشارة في الأمور الدنيوية

الاقتصار على الاستشارة في الأمور الدنيوية Q ما حكم من كانت استشارته جميعها في أمور الدنيا، فمنها ما هو نافع ومنها ما هو ضار، وهل جائز للمستشير والمستشار؟ A السؤال عندي غير واضح تماماً، لكن أقول: الذي يجعل استشارته فقط في الأمور الدنيوية، فأين يذهب بالأمور الدينية؟ وأين يذهب بقضايا الخير مثل الدعوة إلى الله، وطلب العلم، وتغيير المنكر؟ من العجب أن تقتصر استشارة إنسان على استشارة دنيوية، ولا يستشير فيما هو أهم وهو الأمور الدينية والشرعية، ولذلك ينبغي أن تعظم فيها الاستشارة أكثر، لا أظن أن موقف هذا الشخص صحيح عندما يقصر استشارته على الأمور الدنيوية، والله أعلم.

الاستقامة

الاستقامة الاستقامة هي لزوم طاعة الله ورسوله في كل جوانب الحياة، بل هي الدين كله. فيجب على كل مسلم أن يتعرف على معانيها وجوانبها في الحياة، من الاستقامة على العقيدة الصحيحة، والاتباع ونبذ الابتداع، والتوسط وعدم الغلو، فإن لهذا ثماراً كبيرة في إصلاح الفرد والمجتمع والأمة.

بيان عظم أمر الاستقامة

بيان عظم أمر الاستقامة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. A=6000394> يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. يقول الله عز وجل في محكم تنزيله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30] ويقول عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأحقاف:13]. أيها الإخوة: هاتان الآيتان تبين كل واحدة منهما عظم أمر الاستقامة، وما أعد الله عز وجل للمستقيمين على شرعه. والاستقامة يمكن معرفة عظمها وخطرها إذا تأملت حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (شيبتني هود) رواه الترمذي، وهو حديث صحيح، فسورة هود التي أنزلها الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم، قد سببت له شيباً عظيماً، فظهر الشيب في رأسه من شدة ما لاقى عليه السلام من أوامر هذه السورة العظيمة، وما اشتملت عليه من الأحكام الكبيرة. أيها الإخوة: ذكر بعض المفسرين أن من الأسباب التي شيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم من سورة هود، قول الله عز وجل في هذه السورة: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} [هود:112] الأمر بالاستقامة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا الأمر وهذه الكلمة الموجزة التي هي من دلائل نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجوامع الكلم التي أوتيها عليه الصلاة والسلام. هذه الكلمة كانت وصية لرسول الله عليه السلام، اكتفى بها الصحابي الجليل سفيان بن عبد الله لما قال له: (يا رسول الله! قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك -يا رسول الله! أعطني عطية عظيمة جامعة لا أحتاج بعدها أن أسأل أحداً غيرك من الناس، أعطني خلاصة هذا الأمر، أعطني ما يجب علي في حياتي كلها- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قل آمنت بالله ثم استقم) رواه مسلم.

معنى الاستقامة ومقصودها

معنى الاستقامة ومقصودها أيها الإخوة: لابد أن نعلم ما هي الاستقامة. قال العلماء: الاستقامة هي لزوم طاعة الله عز وجل، وعليها مدار نظام الأمور، فلا تنتظم الأمور إلا بها، والاستقامة كما عرفها بعض السلف هي: "لزوم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم". فالاستقامة إذاً هي الدين كله، (قل آمنت بالله ثم استقم)، لم يكتفِ رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك الرجل أن يقول آمنت بالله بلسانه فقط، وإنما أمره أن يستقيم على هذا الإيمان. أيها الإخوة: إن معرفة الحق ممكنة، يمكن للناس أن يعرفوا الحق في أمور كثيرة، وأن يلتزموا به يوماً من أيامهم، ولكن المشكلة هي الثبات على هذا الحق الذي عرفوه، وهذا الإيمان الذي وصلوا إليه، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [الأحقاف:13] على هذا الإيمان، وعلى هذه المقولة. أيها الإخوة: من الجوانب التربوية التي يحرص الإسلام عليها، أن يجعل المسلم يسير على طريق مستقيم، ويدله عليه بالآيات والدلائل والبينات والأنوار التي تضيئ للمسلم الطريق، ولكن من الناس من يسلك هذا الطريق فيكمله حتى النهاية، ومنهم من يسلك هذا الطريق فيتعثر فيه ثم يعاود النهوض، فيمشي ثم يتعثر فيجلس ويقعد، ثم يقوم ويمشي ويتعثر، ثم يقوم ويمشي وهكذا، خطوات فيها تردد، ومشي فيه تباطؤ. ومن الناس -والعياذ بالله- من يسلك الطريق من أوله ثم ينكص على عقبيه فيرتد إلى طريق الضلالة والعياذ بالله. إذاً: من هنا نستطيع أن نعلم لماذا قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [الأحقاف:13]، ثم استقاموا على هذا الطريق (قل آمنت بالله ثم استقم)، واصل المشوار، دون تلكؤ ولا تباطؤ. وهذا المشكلة داء كثير من المسلمين، لا يعرفون المواصلة ولا الاستمرارية على الطريق الذي سلكوه، وقد يصرف بعضهم جهداً كبيراً حتى يصل إلى الطريق، فإذا ما وصل إليه تقاعس وهبط ولصق بالأرض وطينتها ومادياتها وزينتها وزخرفها. أيها الإخوة: إن الاستقامة هي الدين كله، وهي لزوم طاعة الله، ومن هناك كان لابد أن يحدث شيء من التقصير أثناء استقامة الإنسان، ولذلك أمر الله المستقيمين بالاستغفار، فقال الله عز وجل: {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} [فصلت:6] لماذا قال: (واستغفروه)، بعدما قال: فاستقيموا إليه؟ لأن الاستقامة قد لا تتهيأ كاملة لكثير من الناس، فيجب عليهم أن يستغفروا الله عز وجل إذا استقاموا على الطريق، حتى يُذهب هذا الاستغفار ما حصل منهم ويحصل من التقصير والتفريط.

جوانب الاستقامة

جوانب الاستقامة أيها الإخوة: إذا نظرنا إلى جوانب الاستقامة، نجد أن الاستقامة في جميع جوانب الدين وأموره.

الاستقامة على العقيدة الصحيحة

الاستقامة على العقيدة الصحيحة لابد من الاستقامة على العقيدة الصحيحة، العقيدة التي هي: إيمان بالله عز وجل، وتوحيد له بجميع أنواع التوحيد توحيد الربوبية والألوهية والأسماء والصفات استقامة على العقيدة التي تعني أن الإيمان قول وعمل، وليس هو تلفظ باللسان فقط. العقيدة -أيها الإخوة- التي تدفع الإنسان إلى العمل، ليس ذلك الإسلام البارد، الذي هو مجموعة من الألفاظ التي يتلفظ بها الناس إن هناك مشكلة في سلوك كثير من المسلمين، وهي أن اعتقاداتهم التي يؤمنون بها ليست حافزاً لهم على العمل، ولا دافعاً لهم لمزيد من التقديم في طاعة الله عز وجل.

الاتباع وترك الابتداع

الاتباع وترك الابتداع أيها الإخوة: والاستقامة كذلك في جانب التزام سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والبعد عن البدع، لذلك كانت الاستقامة وسطاً بين التفريط والإفراط، بين الغلو والتقصير الغلو الذي حصل من الخوارج في صدر الإسلام، وهو مضاد للاستقامة التي أمر الله بها مع أن الخوارج كانوا يصلون صلاة أكثر من صلاة الصحابة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم للصحابة رضوان الله عليهم: (تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وصيامكم إلى صيامهم) يقصد الخوارج، أي: أنهم يصلون كثيراً، ويصومون كثيراً، حتى إن الصحابة قد يحتقرون صلواتهم إلى صلوات الخوارج لكثرتها، وصيامهم إلى صيام الخوارج لكثرة صيامهم. لكن القضية -أيها الإخوة- ليست شعائر تؤدى بكثافة فقط، وإنما هو منهج وتصور صحيح، وسنة منضبطة لها قواعد جاء بها الإسلام تحدد الطريق، وإذا زاد الأمر عن حده انقلب إلى ضده. هؤلاء هم الخوارج الذين خرجوا على صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقاتلوا المسلمين المتمسكين بالدين تمسكاً صحيحاً، قاتلوهم بالسيف وذبحوهم وأجروا دماءهم في الأنهار، معتقدين أن عملهم هذا قربة إلى الله عز وجل، هؤلاء هم الغلاة والمتطرفون الحقيقيون. إن التطرف والغلو هو: الخروج عن جادة الاستقامة يمنة أو يسرة، هو مجاوزة الحد الذي أمر الله به ورسوله، أما إذا استقام الإنسان على شريعة الله فيتمسك بدين الله وشرعه، ويتمسك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأقوال والأفعال، والظاهر والباطن، حتى في الشكل والمظهر والملبس، فهذا لا يمكن أن يسمى متطرفاً، ولا يمكن أن يسمى غالياً أو مغالياً. ولذلك نتيجة للجهل بمعنى الاستقامة، وبحدود السنة؛ صار الكثير من الجهلة اليوم يطلقون على المتمسكين بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم متطرفين ومغالين، ومتشددين ومتزمتين، وهكذا لماذا؟ لأنهم جهلوا معنى التطرف والغلو، ولأنهم يجهلون -أصلاً- ما هي الاستقامة. أيها الإخوة: إن هذه الدعوات التي تظهر متهمة عباد الله عز وجل المستقيمين على شرعه، المتمسكين بدينه، بأنهم متطرفون ومتزمتون ومن أهل الغلو، إنما هي من تخطيط أعداء الإسلام لكي ينفروا الناس عن هؤلاء المستقيمين على شريعة الله، لكي ينفروهم ويحذروهم بزعمهم من هذا المسلك. أيها الإخوة: إن الذي يسمي رجلاً من المسلمين التزم بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم في المظهر، فأطلق لحيته، والتزم بثياب الرسول صلى الله عليه وسلم، فجعلها فوق الكعب كما أمر صلى الله عليه وسلم، وكما كان ثوب الرسول صلى الله عليه وسلم، ولبس من الملابس المشروعة التي ليس فيها تشبه بالكفرة، وأصلح باطنه أولاً؛ فأخرج النفاق من قلبه، والكذب من لسانه الذي يسمي هذه التصرفات غلواً، فإنه لا يبعد عن الكفر كثيراً لماذا؟ لأنه في الحقيقة يطلق على الرسول صلى الله عليه وسلم أنه متطرف ومغال، لأن هذه الأفعال من سلوكيات رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تصرفاته، فلو أطلقت على هذا الإنسان أنه متطرف أو مغالي فقد اتهمت الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي هو أعظم البشر، والنبي المرسل من عند الله، وخاتم الأنبياء، وصاحب الشفاعة العظمى، وأول من يدخل الجنة، وسيد الأولين والآخرين اتهمته بأنه من أهل الغلو والتطرف. أيها الإخوة: لابد من الانتباه لهذه المسألة الخطيرة التي زلت فيها أقدام الكثيرين وألسنتهم إلا من عصم الله، أما الذي يخرج على المسلمين بالسيف فيقتل الأبرياء المستقيمين على شرع الله، ويفرق المسلمين، والذي يصوم الدهر كله، ويصلي الليل كله بلا نوم، ويترك الزواج بالكلية، ولا يأكل اللحم مطلقاً، ويعيش نباتياً هذا هو الذي يمكن أن نسميه متطرفاً ومغالياً ومتزمتاً ومتشدداً. أما أن نأتي إلى رجل من عباد الله الصالحين، استقام على شرع الله، يؤدي الصلوات في المساجد، عرف معنى الإيمان، وعرف معاني العقيدة الصحيحة، والتزم بشرع الله باطناً وظاهراً، ثم نسميه متطرفاً أو مغالياً في الدين!! فهذا لعمر الله هو التطرف بحده.

الاستقامة في جانب السلوك

الاستقامة في جانب السلوك والاستقامة أيها الإخوة: تكون كذلك في جانب السلوك، فلابد أن يكون سلوك الإنسان مستقيماً، ولابد أن تكون أخلاقه مستقيمة، فلا يتلبس بشيء من سفاسف الأمور أو الأخلاق السيئة، ولذلك يعتقد بعض الناس أن الاستقامة فقط في قضايا الأخلاق، فترى أحدهم يُسأل عن فلان: ما رأيك في فلان؟ فيقول: هو والله مستقيم، تسأله: كيف هو مستقيم؟ يقول: لا يكذب، ولا يشتم، ولا يسب، وإنسان لطيف، ومعاملته طيبة، وهو مستقيم لا يستعمل الرشوة، لا يخون في معاملته، إنسان مستقيم. لكن قد يكون هذا الرجل الموصوف بهذه الصفات لا يصلي، وقد يكون خرج إلى الفسق بقضايا كثيرة، ومخالفات عديدة، يرتكبها في حق نفسه. فالناس اليوم يعبرون عن الاستقامة، ويقولون: إنسان مستقيم لمجرد الأخلاق الطيبة، والأخلاق الطيبة في حد ذاتها لا تكفي، ولذلك من المضحك جداً أن يأتي أناس قد تقدم لهم شابٌ ليتزوج ابنتهم، فيسألون واحداً ويقولون له: ما رأيك في فلان؟ فيقول: فلان لا يصلي. فيقولون: لا بأس، لكن كيف أخلاقه؟ هذه -أيها الإخوة- من الأشياء الحاصلة اليوم، لا يسألون عن التزامه بالدين وأحكام الدين، وإن ضيع حق الله فالأمر غير مهم، لكن كيف المعاملة مع العباد؟ كيف سيعامل ابنتنا في المستقبل؟ فإن كانت معاملته طيبة وافقنا وهذا الفهم للاستقامة فهم قاصر جداً؛ لأنهم اقتصروا على الاستقامة في جانب واحد من الجوانب.

أنواع الاستقامة

أنواع الاستقامة أيها الإخوة: إن الاستقامة هي أمر فردي وأمر جماعي، فإن هناك جوانب لا تتم الاستقامة بها على المستوى الفردي، ولا تحصل ولا تنتج إلا على المستوى الجماعي، والدليل على ذلك قول الله عز وجل في الآية التي أشرنا إليها: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا} [هود:112]. إذاً: نزل الأمر بالاستقامة للرسول صلى الله عليه وسلم المستقيم أصلاً، لكن ليزداد في الاستقامة ويثبت عليها، ومن تاب معه من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم خير الأمة، الذين تابوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم وسلكوا سبيل الاستقامة. إذاً: هناك أمورٌ لابد من الاستقامة فيها في المجال الجماعي، كالجهاد في سبيل الله، وتوجيه طاقات الأمة، ومعاملة المجتمع الإسلامي كوحدة واحدة مع الكفرة. إذاً: لابد أن تكون استقامتنا استقامة فردية، كل إنسان بنفسه، واستقامة جماعية، استقامة المجتمع كله لله عز وجل. وفقنا الله وإياكم لأن نكون من أهل الإخلاص والاستقامة، وصلى الله على نبينا محمد.

الاستقامة طريق إصلاح المجتمع

الاستقامة طريق إصلاح المجتمع الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله خالق كل شيء، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً. أيها الإخوة: الاستقامة تدخل في مجالات كثيرة، ولو طبقت الاستقامة تطبيقاً صحيحاً لوجدت أنها الحل لجميع المشاكل، فلو أن الأب استقام على شرع الله عز وجل، فربى أولاده تربية إسلامية صحيحة، خالية من المنكرات والانحرافات، وعرف ماذا يطعم أولاده، وتحرى الحلال لهم؛ فإن هذا يساعد في إنشاء البيت المسلم، ويكون هذا البيت لبنة صالحة في المجتمع، ولو أن الأم استقامت على شريعة الله، فحفظت عرضها ومال زوجها، وأولادها، واستقامت على شرع الله، لتطهر البيت من كثير من الأرجاس والأنجاس. ولو أن التاجر استقام على شريعة الله، فتجنب الغش في بيعه وشرائه، وراقب الله عز وجل في تصرفاته، ومشى على حدود الله وأحكامه، وتجنب الحرام كالربا والرشوة وغيرها فتأمل ماذا سيحدث؟! ولو أن المدرس استقام على شرع الله، فاتقى الله تعالى واستقام في طريقة تدريسه، وماذا يدرس، وكيف يدرس، وعرف كيف يستغل مكانه في تربية الطلبة تربية إسلامية، فكيف سيكون الحال؟! ولو أن القاضي استقام على شرع الله عز وجل، فلم يجر في الحكم ولم يحد، وعدل العدل الذي أمر الله به، فكيف سيكون وضع المجتمع؟! وهكذا من أصناف الناس، لو أنهم كلهم استقاموا على شرع الله فكيف سيكون الأمر؟!

الاستقامة تشمل الدين كله

الاستقامة تشمل الدين كله أيها الإخوة: إن الاستقامة باب عظيم يشمل الدين كله، ولذلك قد لا يمكن للناس أن يمسكوا بكل أطرافه، لذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلم: (استقيموا ولن تحصوا) أمرهم بالاستقامة، وأخبرهم بأنهم لن يستطيعوا أن يلموا بكل جوانب الإسلام، وأن يفعلوا كل ما أمر به الله عز وجل، ولذلك قال بعدها: (وسددوا وقاربوا)، أي: اتقوا الله ما استطعتم، قم بكل جهدك وطاقتك، بما تستطيع أن تؤديه من حق الله عز وجل، ولا تقصر ولا تهمل، وبعد ذلك لو فاتك شيء خارج عن إرادتك وطاقتك، فإن الله غفور رحيم.

المداومة على الأعمال الصالحة

المداومة على الأعمال الصالحة أيها الإخوة: وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (قل آمنت بالله ثم استقم)، وقول الله عز وجل قبل ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:30] يفيد فائدة تربوية عظيمة وهي: الاستمرار على عمل الطاعات، وعدم قطعها حتى ولو كانت نوافل. ولذلك كان أحب الأعمال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أدومها وإن قل، فلو لم يصل الإنسان إلا ثلاث ركعات في الليل، لكنه يستمر عليها، فهذا شيء طيب، وهذا أفضل من أن يصلي إحدى عشرة ركعة في الليل لمدة شهر ثم ينقطع فلا يركع ركعة. ولو أن إنساناً يصوم يوماً واحداً في الشهر أو يوماً في الأسبوع، أو ثلاثة أيام في الشهر فقط ويستمر عليها، فإنه أفضل من الذي يصوم يوماً ويفطر يوماًَ لمدة ثلاثة أشهر ثم ينقطع عن الصيام تماماً طيلة عمره. إذاً: المحافظة على الأعمال الصالحة نتيجة الاستقامة، ومن مقتضيات الاستقامة ومستلزماتها، (قل آمنت بالله ثم استقم)، واصل المشوار، وأكمل ما أنت عليه من الطاعات. وإذا تأملت معي الحديث القدسي الذي يقول: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه) كلمة (لا يزال) هذه من معاني الاستقامة. والمعنى: أي هو مستمر، لا يزال يتقرب ويتقرب، ويقوم بالنوافل ويفعل، حتى يصل إلى تلك الدرجة العظيمة، (وإذا أحب الله تعالى عبداً، نادى جبريل: إني أحب فلاناً فأحبه، ثم ينادي جبريل في أهل السماء: أحبوا فلان بن فلان، ثم يوضع له القبول في الأرض). أيها الإخوة: إن من المعاني التربوية العظيمة للاستقامة: الممارسة العملية اليومية المستمرة لهذه النوافل بقدر الطاقة، والاستمرار عليها وعدم قطعها، (يا عبد الله! لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل)، قطع النوافل يقسي القلب، وقطع الأشياء التي اعتادها الإنسان يقسي القلب، ويجعل النفس في وحشة بعيدة عن الله عز وجل. اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك، اللهم واجعلنا من أهل السداد والاستقامة، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا. اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم انصر إخواننا المسلمين في فلسطين، اللهم أمددهم بجيش من عندك، اللهم وأنزل عليهم ملائكة من عندك تثبتهم على الحق يا رب العالمين. اللهم من أراد منهم الله والدار الآخرة فكن معه يا مولانا لا ألله، اللهم من أراد بعمله جهاداً في سبيلك، ومعاداة لأعدائك اليهود اللهم ثبته وانصره وأيده بجند من عندك يا رب العالمين، اللهم أهلك اليهود ومن شايعهم، اللهم إنهم طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد، اللهم إنهم شنقوا أطفالنا فاشنقهم في الدنيا قبل الآخرة يا رب العالمين، اللهم واجعلهم عبرة لكل معتبر اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً اللهم فرق جمعهم وشتت شملهم، واجعل دائرة السوء عليهم يا رب العالمين اللهم إنك العزيز الجبار المتكبر، اللهم أنزل بهم بطشك ونقمتك يا رب العالمين، اللهم لا تجعل لهم قائمة في الأرض، اللهم إنهم أفسدوا وأفسدوا وأفسدوا، اللهم فاجعل دائرة السوء عليهم وابطش بهم ونكل بهم يا رب العالمين. عباد الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90]، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].

الإمام ابن باز الفاجعة

الإمام ابن باز الفاجعة العلماء ورثة الأنبياء، رفعهم الله درجات، وأخبر أنهم أهل خشيته، وأمر الناس بسؤالهم وطاعتهم واتباعهم. والشيخ ابن باز كان واحداً من أولئك العلماء الأعلام، وقد تركت وفاته حيزاً لا يسده فرد بعينه؛ لأن الرجل كان أمة، ولمزيد من فهم وإدراك هذه الحقيقة تأتي هذه المادة حاملة في طياتها نبذة موجزة عن حياة الشيخ من ولادته حتى وفاته رحمه الله.

مكانة العلماء في الأمة الإسلامية

مكانة العلماء في الأمة الإسلامية إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أشهد أن لا إله إلا الله هذه الحقيقة التي أشهد عليها سبحانه وتعالى أهل العلم فعظمهم ورفع قدرهم وقرنهم بنفسه وملائكته، فقال: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18] أشهدهم على أجل مشهود وهو توحيده سبحانه وتعالى، وهذا يدل على فضلهم، ونفى المساواة بينهم وبين غيرهم، فقال: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]، وأخبر أنه رفعهم درجات، فقال: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11]، وأخبر أنهم أهل الفهم عنه، فقال: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43]، وأخبر أنهم أهل خشيته، فقال: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] {جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة:8]. لماذا كانوا أخشى الأمة لله؟ لكمال علمهم بربهم سبحانه وتعالى، وما أعد لأوليائه أو لأعدائه علمهم النافع دلهم على معرفة الرب، والمعرفة بما يحبه ويرضاه وبما يكرهه ويسخطه سبحانه وتعالى، فكل من كان بالله أعلم كان أكثر له خشية وهم أهل العلم، أبصر الناس بالشر ومداخل الشر، قال عز وجل: {قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ} [النحل:27] هؤلاء العلماء الربانيون الذين فهموا أن العذاب يحيق بأهل العذاب. وكذلك قال سبحانه وتعالى عنهم في قصة قارون: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْر} [القصص:80]، وكذلك فإنهم ينهون الناس عن الشر لمعرفتهم به: {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْأِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة:63].

العلماء هم ولاة الأمور

العلماء هم ولاة الأمور هؤلاء العلماء هم ولاة الأمر وولاة الأمر تابعون لهم ولاة الأمر هم العلماء والأمراء، والأمراء يتبعون العلماء؛ لأنهم ينفذون ما يقوله أهل العلم، فقوله سبحانه وتعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] يدخل فيه العلماء أولاً، ثم يدخل فيه المنفذون لكلامهم ثانياً. هؤلاء العلماء طاعتهم طاعة لله عز وجل، فقد أمر سبحانه وتعالى بها، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] قال ابن عباس رضي الله عنه: [يعني أهل الفقه والدين وأهل طاعة الله الذين يعلمون الناس معاني القرآن في دينهم ودنياهم] وكذلك فإنه عز وجل قد أوجب الرجوع إليهم وسؤالهم عمّا أشكل، فقال: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43] (إن العلماء ورثة الأنبياء) (فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب) (إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً؛ ولكنهم ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر). إنهم المبلغون عن الأنبياء الذين ينقلون للناس أحاديث الأنبياء، فهم يعلمونها، ويحفظونها، ويعرفون صحتها، ويميزون أمرها، ويعلمون شرحها، وينقلونها للناس. إنهم الطائفة التي أراد الله بهم الخير العظيم (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين). إن نجاة الناس والعالم والأمة منوطة بوجود العلماء، فإن يقبض العلماء يهلك الناس، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا).

كيفية قبض العلم

كيفية قبض العلم عباد الله: هذا موكب أهل العلم يسير، ويقبض الله سبحانه وتعالى من شاء منهم، ويذهب من العلم طائفة عظيمة بقبض عالم من العلماء، قال ابن عباس [أتدرون ما ذهاب العلم؟ قالوا: لا. قال: ذهاب العلماء]. الناس أحوج إلى العلماء منهم إلى الطعام والشراب؛ لأن الطعام والشراب نحتاج إليه في اليوم مرتين أو ثلاثاً، والعلم يحتاج إليه في كل وقت؛ كما قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: "إن مثل العلماء في الأرض كمثل النجوم في السماء يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، فإذا انطمست النجوم أوشك أن تضل الهداة". هؤلاء العلماء يهتدى بهم في الظلمات، ويبينون الحق من الباطل عند الاشتباه، وهم زينة أهل الأرض كما أن النجوم زينة السماء، وهم رجوم للشياطين الذين يخلطون الحق بالباطل؛ فيرجمون أهل الأهواء والضلالات بالآيات من الكتاب والسنة، ولأن تموت القبيلة بأسرها أيسر من أن يموت عالم واحد، هذا فضلهم قد جاءت به الآيات والأحاديث.

من هم العلماء

من هم العلماء إنهم العارفون بشرع الله، المتفقهون في دينه، الذين يقولون: قال الله وقال رسوله، الذين يعلمون معاني الكتاب والسنة. العلماء هم الذين يعملون بعلمهم. العلماء هم الذين يخشون الله. العلماء هم الذين لا يخافون في الله لومة لائم. العلماء هم أهل السنة، وهم أهل الحديث، وهم أهل الفقه، هؤلاء هم العلماء المقصودون بهذه النصوص الشرعية.

فاجعة وفاة ابن باز وبعض خصاله

فاجعة وفاة ابن باز وبعض خصاله لقد فجعنا وفجع المسلمون في العالم برحيل الشيخ العلامة/ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله تعالى رحمة واسعة، أبو عبد الله عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله من آل باز، المولود في الرياض في الثاني عشر من ذي الحجة في عام [1330هـ] الذي أصابه المرض مبكراً في عينيه، فنتج عن ذلك أنه أصيب بالعمى في سن التاسعة عشرة: عزاء بني الإسلام قد عظم الأمر وليس لنا إلا التجلد والصبر فشيخ المعالي غاب عنا مسافراً إلى ربه إذ ضمه اللحد والقبر لقد كان بدراً ضاء في الكون نوره ألا إنه على أنه الشيخ المبجل والحبر فسمعته في الناس فهي فريدة وسيرته بيضاء ما مسها غدر وإن هو أعمى العين فالقلب مبصر يساعده في علمه العقل والفكر فهاهي تنعاه الجزيرة كلها لقد مسها من فقده الحزن والضر إني لأحسبه والله حسيبه ممن انطبق عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول الله عز وجل: من أذهبت حبيبتيه فصبر واحتسب لم أرض له ثواباً دون الجنة) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح، رزقه الله بصيرة ونوراً في قلبه، وفراسة يميز الصادق من الكاذب، واختيار الناس للمهمات، كان قوياً في أمر الله على ما يستطيع ويقدر.

من خصال ابن باز: رده على أهل الباطل والبدع

من خصال ابن باز: رده على أهل الباطل والبدع هو الذي رد على أهل الباطل باطلهم، ولما قال عظيم من عظماء الدنيا: إن القرآن فيه خرافات كقصة أصحاب الكهف، وعصا موسى! كتب الشيخ مبيناً أن ذلك ردة وكفر، ولما كتب إليه نائب لذلك القائل أن القائل لا يقصد، وأنه متراجع عن قوله، كتب له الشيخ آمراً: إن كان صادقاً فليعلن توبته على الملأ كما أعلن كفره على الملأ. هو الشيخ الذي رد على أهل الباطل باطلهم، وعلى أهل البدع بدعهم، فهذه كتبه ورسائله حافلة بالرد عليهم بين لما أمر الله أهل العلم أن يبينوا، رحمة الله تعالى عليه، وهذه مقالاته في التحذير من البدع كالاحتفالات غير الشرعية البدعية من المولد، وذكرى الإسراء، وليلة النصف من شعبان، وغيرها قائمة عندما يرى المنكرات أمامه يتكلم، وعندما يرى انتشار ألوان الفحش والفساد من الأفلام والأغاني يتكلم عن ذلك، وعندما يرى منكر سفر الناس إلى بلاد الكفار يتكلم عن ذلك، وعندما يرى فشو المنكرات يتكلم عن ذلك، وهذه رسائله في المحرمات المنتشرة، وفي البدع الكثيرة، مع أخذه -رحمه الله- بالحكمة والموعظة الحسنة. نحن لا نبرئه فهو بشر، ولا نرفعه إلى رتبة الأنبياء فليس بمعصوم، الحق ما وافق الكتاب والسنة: كان إماماً بحق لـ أهل السنة والجماعة في عصره، ومجدداً للدين، فكم أحيا الله به من سنة، وأمات من بدعة، وأيقظ من غفلة، وهدى من ضلالة! فهو إمام -إن شاء الله- داخل في قوله تعالى: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74]. كان ساعياً في إزالة المنكرات، وخطاباته الكثيرة لم يطلع عليها الناس؛ لأنه كان يخاطب صاحب المنكر أو صاحب الشأن ولا يريد الفضيحة والتشهير، ويسير على الحكمة في ذلك مع ما في فعله -رحمه الله تعالى- من الاجتهاد، فاجتهد وتصدى للنوازل الكبار والمسائل الصعبة الشائكة التي وجدت في هذا العصر، والمتعلقة بأنواع المكتشفات والمخترعات، بما رزقه الله من العلم والفهم والبصيرة، فترأس مجمع الفقه الإسلامي الذي أصدر عدداً من الفتاوى في النوازل الفقهية المعاصرة التي يحار فيها العلماء ويضطربون.

من خصال ابن باز: جمعة بين الفقه والحديث

من خصال ابن باز: جمعة بين الفقه والحديث كان مجدداً جامعاً بين الفقه والحديث، يعرف الحديث وصحته، ويحفظ من أحاديث دواوين السنة الكثير، يعرف الرجال وضبط الأسماء، وتصحح النسخ والطبعات بين يديه مع كونه ضريراً، كان بحراً في معرفة أقوال العلماء لا يخرج عنها، ولا تكاد تجد له فتوى شاذة، فظهر -رحمه الله- عدلاً وسطاً بين طرفين، مال أحدهما إلى الحديث ولم يشتغل بالفقه كما ينبغي، ومال الآخر إلى الفقه وأقوال الفقهاء ولم يهتم بالحديث كما ينبغي، فكان جامعاً بين الفقه والحديث. من أعظم ميزات منهج الشيخ: الجمع بين الفقه والحديث، هو الرئيس المسكت الذي تجتمع على قوله الآراء، وربما اختلف العلماء بين يديه في النقاشات في لجنة الفتوى، أو في مجلس هيئة كبار العلماء، فإذا قال قولاً فصل بينهم وأذعنوا له، ورضخوا لرأيه، وجعلوا لقوله صوتين في لجنة الفتوى مقابل صوت واحد لكل عضو من أعضاء اللجنة، هاتوا واحداً سيجتمع عليه العلماء بعد رحيل الشيخ فتكون له الكلمة المطاعة على الجميع، ويكون له النفوذ في كثير من أقطار الأرض من الجهة العلمية، ومن الإذعان للفتوى!

من خصال ابن باز: التواضع والأمانة

من خصال ابن باز: التواضع والأمانة كان ينزل إلى مستوى العامة لتفهيمهم، ولم يكن يخاطبهم من علو، بل كان كثيراً ما يجيب باللهجة العامية الدارجة، ليفهموا عنه، كان متواضعاً لله عز وجل، قلما كان يعلق في دروسه مكتفياً بكلام أصحاب الكتب، كأن الدرس له ولمراجعته ومذاكرته وفائدته، وتعليقاته على فتح الباري اليسيرة يعلق على ما لا بد منه، كان يذكر مشايخه ويترحم عليهم. ومن تواضعه: أنه كان يقوم إلى العجائز والضعفة الواقفات ببابه لقضاء حوائجهن من مال أو سؤال أو قضية طلاق وغيرها، وأوقف مرة نقاشاً مع علماء كبار ليجيب امرأة بالهاتف، فلما عاتبه بعضهم قال: هذه صاحبة حاجة. ومن تواضعه: جلوسه على الأرض للطعام، آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد. وبساطة لباسه: يلبس ثوباً فضفاضاً لا رقبة له، ولا يتعدى أنصاف ساقيه، وبشته ليس نفيساً غالي الثمن، ولباسه وحذاؤه وعصاه تدل على زهده في الدنيا، ينفق مرتبه وربما يستدين لقضاء حوائج المسلمين. كان في غاية الديانة والأمانة، يُستأمن على الملايين من صدقات المسلمين وزكواتهم، فيجتهد في إنفاقها في وجوهها.

اهتمام ابن باز بطلابه وبمن حوله من الناس

اهتمام ابن باز بطلابه وبمن حوله من الناس كان يهتم بطلابه، ولما درس في الخرج جعل لهم سكناً، وطلب لهم سكناً إضافياً لما ضاق، ومكافآت، وعقد لهم الدروس والحلق بعد الفجر وبعد الظهر وبعد العصر وبعد المغرب وبعد العشاء، كان يذكر عنه بعض طلابه الذين يقرءون عليه تفسير ابن كثير بين العشائين أنه كان كثيراً ما يتأثر ويبكي، وربما يطول الدرس بسبب تأثره دون أن ينتبه، فإذا انتبه أنهى الدرس وأقيمت صلاة العشاء. وكان يناقش طلابه وخصوصاً في درس المواريث، ويتفقد أحوالهم، ويقضي حاجاتهم، ويخرج معهم إلى البر، ولا ينسى إقامة الرياضات البدنية لهم، كرياضة العدو والمسابقة على الأقدام التي وردت بها السنة، كما جاء في حديث عائشة وسلمة بن الأكوع. كان مشاركاً للناس والأهالي، ولما دهمت السيول بلدة الدلم في سنة (1360هـ) خرج يشجع الأهالي على إقامة السدود، وأخرج من بيته التمر والقهوة إلى مواقع العمل لخدمة الناس، ولما هاجمت أسراب الجراد البلد خرج الشيخ معهم لقتله بالجريد، وكان حريصاً على الأوقاف، وإدارتها، وإقامة المدارس. ولما عين في إدارة الجامعة الإسلامية بـ المدينة النبوية في عام (1381هـ) وما بعدها كان يتفقد الفصول والطلاب، ويعتني بالوافدين من البلدان الأخرى، وقضاء حوائجهم، وتوفير الكتب لهم، والاهتمام بتعليمهم اللغة العربية. ولما عين رئيساً لإدارات البحوث العلمية والإفتاء عام (1395هـ) وغادر المدينة النبوية إلى الرياض للمنصب الجديد حصلت مشاهد من التأثر لدى أصحابه وطلابه، وألقى كلمة اختلط فيها الكلام بالبكاء والنشيج من الجميع حتى قال أحد الحاضرين في نفسه: بكينا وفاءً لامرئ قل أن يرى له في الدعاة العاملين نظير فخلوا ملامي إن ألح بي البكا فإن فراق الصالحين عسير

جوانب من سيرة ابن باز

جوانب من سيرة ابن باز .

المناصب التي تولاها ابن باز وبيان نجاحه في أعماله

المناصب التي تولاها ابن باز وبيان نجاحه في أعماله أيها الإخوة! قليلون أولئك الذين تولوا المناصب فلم يتغيروا، ولم يظلموا ولم يتجبروا، كان الشيخ واحداً من هؤلاء القلة، لم يخربه المنصب، ولم يشغله بالدنيا لم يتجبر ويظلم من تحته كان متواضعاً كان إدارياً ناجحاً، كما تولى إدارة الجامعة الإسلامية، وإدارة اللجنة الدائمة للإفتاء، وهيئة كبار العلماء، كان رجلاً منظماً في وقته وعمله ودروسه وطعامه ومجلسه، يعطي كل ذي حق حقه، كثيرة هي المشاريع الخيرية التي كان ابتداؤها منه، وكثيرة هي المشاريع الخيرية التي كان إنهاؤها على يديه من المساجد ومدارس تحفيظ القرآن ومنشآتها المشاريع الخيرية المتعددة المبثوثة، كان أبو عبد الله هو الذي يدفع بها، وهو الذي يكتب عنها، وهو الذي يطلب المسئولين لإنفاذها، له شفاعات عظيمة، وله تمييز عظيم لأصوات الناس مع كثرتهم، حتى لربما عرف المتكلم ولو لم يسمع صوته منذ سنين، ويحفظ الأشخاص، ويسأل عن أحوالهم، وأحوال بلدهم وأقاربهم، مع كثرتهم البالغة، يترددون على مجلسه بالعشرات، أو بالمئات أحياناً يومياً. هذا الإمام العلم -أيها الإخوة- لسنا نزعم أنه أعلم من الشافعي أو أحمد أو ابن تيمية كلا والله، ولكن أهميته في عصره لا تقل عن أهميتهم في عصورهم إن لم تكن أكثر، وحاجة الناس إليه أكثر لقلة العلماء في هذا الزمان بالنسبة للعلماء في الأزمنة الماضية.

صور من ورع ابن باز وخشيته

صور من ورع ابن باز وخشيته كان يكثر ذكر الله تعالى حتى وهو على الطعام وبين اللقم، كان ورعاً في الفتوى، كثيراً ما يقول: ننظر فيها -تحتاج إلى تأمل- اكتبها للجنة ونبحثها مع الإخوان، ولا يستنكف أن يقول في درسه في صحن الحرم المكي على الملأ من الناس -وسمعته بنفسي-: المسألة مشتبهة علي. ولا يجيب، وكم من مرة سألته فيتوقف عن الإجابة، ولو عُرضت على طالب علم صغير لتسرع فيها! كان صاحب خشية لله سريع الدمعة شديد التأثر يقطع درسه بالبكاء لما يغلبه، لا عجب في ذلك، فقد قال الله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] يقطع الجواب لإجابة المؤذن، ويستدرك ما فاته من الأذان لو سهى وأكمل المكالمة، ولا يفوت الذكر بعد الصلاة بالرغم من كثرة السائلين حوله، ويقطع الكلام مع الشخص عند الخروج من المسجد لأجل أن يقول الذكر. كان عادلاً حتى بين زوجتيه، له زوجتان بلغ من عدله أنه لا يصلي سنة المغرب البعدية إلا في بيت التي هو عندها الليلة، فيبدأ من بداية الليلة من بعد المغرب ومن بعد صلاة الجماعة، فلا يصلي سنة المغرب إلا في بيت التي هو عندها. هذه شفاعاته لا تعد ولا تحصى، أدى زكاة جاهه كما أدى زكاة علمه رغبة في قوله صلى الله عليه وسلم: (اشفعوا تؤجروا) -نحسبه كذلك- شفاعاته للكبار والصغار، كم من طالب قبل في جامعة، وكم من فقير حصل على صدقة، وكم من عامل استقدم زوجة، وغير ذلك كثير كثير من شفاعات أبي عبد الله، نسأل الله أن يجعلها في ميزانه يوم يلقاه. لما كان قاضياً وبعد القضاء يسعى بالصلح بين الأزواج والزوجات، والإصلاح بين المتخاصمين، كان حليماً عفواً سمحاًَ متسامحاً، دخل عليه أيام كان قاضياً بـ الدلم رجل سباب فسب الشيخ وأفحش، والشيخ ساكت لا يجيب، ثم سافر الشيخ للحج فمات ذلك الرجل، فلما قدموه لصلاة الجنازة أبى إمام ذلك المسجد وكان يعرف الواقعة، وقال: لا أصلي على شخص يشتم العالم، صلوا عليه أنتم، ولما عاد الشيخ من الحج وأخبر بموت الرجل الذي سبه والقصة، ترحم عليه وعاتب الإمام، وقال: دلوني على قبره، فصلى عليه ودعا له، وقلت له قبل موته بأيام: أريدك يا شيخ أن تسامحني وتحللني، فلا يخلو الأمر من خطأ في حقك أو تقصير أو إخلال في فهم كلامك والنقل عنك. فقال لي: مسامح، مسامح، سامحك الله هذا هو طبعه: المسامحة، وهذا من أسباب اجتماع القلوب عليه ومحبة الناس له، أنه لم يكن يصادم، ولم يكن يرد بسفاهة، وإنما كان حليماً رحمه الله. كان متأدباً حتى مع كتَّابه، فمرة أطال إلى الساعة الحادية عشرة ليلاً، ثم قال: يبدو أنا قد تعبنا؛ مع أن الشيخ لم يتعب، ولكن قال ذلك مواساة للكاتب الذي كان يكتب معه، فتأخر إلى هذا الوقت، وهو الذي كان من أصحاب العبادات والطاعات. قال أحد الذين رافقوه من الطائف إلى الرياض براً: لما صرنا في منتصف الليل بعد الساعة الثانية عشر ليلاً قال لمرافقيه: يبدو أننا تعبنا، قفوا لننام في الطريق، فتوقفنا، فما لامست أقدامنا الأرض إلا وأخذنا النوم، والجيد منا من صلى ركعة أو ثلاث قبل أن ينام، فشرع الشيخ في الصلاة فاستيقظ الذين كانوا معه قبل الفجر، فإذا بالشيخ يصلي، كذا جاء حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في الثلاثة الذين يضحك الله إليهم.

عالمية ابن باز وبرنامجه اليومي

عالمية ابن باز وبرنامجه اليومي جاءت رسالة من الفلبين إلى الشيخ من امرأة تقول: زوجي مسلم، أخذه النصارى وألقوه في بئر، وأصبحت أرملة وأطفالي يتامى، وليس لي بعد الله جل وعلا أحد، فسألت من يتحمل ومن يساعد؟ فقالوا لي: اكتبي للشيخ عبد العزيز بن باز ليساعد في ذلك، فلما قرأ الشيخ الخطاب وتأثر كتب للإدارة بالمساعدة، فلما جاءه الجواب أنه لا يوجد بند لذلك، قال: اخصموا من راتبي نفقة هذه المرأة، وأرسلوها فوراً. لم يعلن القصة على الملأ، وإنما قالها الخاصة الذين عرفوا بها. إن علمه وصل وانتشر في العالمين شرقاً وغرباً، حتى أن بعض الدعاة لما دخل في بعض بلاد أفريقيا وجد عجوزاً، فقالت: من أين أنتم؟ فقلنا لها عبر المترجم: من بلاد السعودية. فقالت: بلغوا سلامي إلى الشيخ ابن باز، هكذا حصل من نشر صيته في الأرض، والله إذا رضي عن عبد وضع له القبول في الأرض. عباد الله: إن ذلك الشيخ كان أمة في الأعباء التي يقوم بها، يبدأ يومه قبل الفجر بالاستيقاظ في الثلث الأخير من الليل، فيصلي ما كتب الله له أن يصلي، ويستغفر؛ لقوله تعالى: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} [آل عمران:17] وبعد صلاة الفجر يحرص على قراءة الأوراد، ولا يكاد يجيب أحداً حتى يقرأ الأوراد كلها، ثم يبدأ الدرس، فيقرءون عليه حتى ساعة متأخرة من الضحى، ثم يتوجه إلى العمل للإجابة على المعاملات والأسئلة الواردة من الأقطار الأخرى، وقضايا أصحاب الحاجات والشفاعات، ثم بعد ذلك يتوجه إلى بيته فيرتاح قليلاً، ثم يدخل للإجابة على الهاتف، ثم يتغدى مع الضيوف، لم يكن يتغدى وحده رحمه الله تعالى. ثم بعد ذلك راحة إلى صلاة العصر، وبعدها أعمال خاصة له وبمكتبه، ثم بين المغرب والعشاء الإجابات على الأسئلة وهكذا بعد العشاء يلقي الكلمات في المساجد، ويحضر الندوات، ويحضر المحاضرات، كانت أعماله متوالية، وكان حريصاً على صيام يومي الإثنين والخميس، وحضور دروس الفجر، ودعوة زواره، يستقبل الوفود من البلدان المختلفة، وينجز المعاملات، وهو رحمه الله تعالى يدعو غير المسلمين للإسلام، ويأتي بالمترجمين ليقول ما يريد أن يقوله لهم حتى لم يكد يخلو يوم من أناس يسلمون بين يديه لا يقلون عن خمسة. هذا أبو عبد الله أمة بعمله، جماعة بمفرده، رحمه الله تعالى وجعل الجنة مثواه. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

بقاء خصال الشيخ حتى آخر حياته

بقاء خصال الشيخ حتى آخر حياته الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله سيد الأولين والآخرين، وأعلم العلماء بكتاب الله والسنة، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. عباد الله: كان شيخكم -رحمه الله تعالى- كريماً سخياً، يعطي من طلب، ولا يكاد يرد من سأل، ولم يكن يأكل وحده، فكان كثير الضيوف، ولا يأكل إلا ومعه أناس على مائدته، ولما مرض قال لنا مرة ونحن في مجلسه وقد حضر الطعام: تفضلوا أنتم وأنا اسمحوا لي. كان يعطي من طلب، ورأيته أعطى لباسه -بشته- من سأله إياه في مجلسه، متعه الله بعقله، فلم يصبه زوال ولا خرف ولا تغير، وبعض النسيان الذي حصل له لكبر السن لم يؤثر على مقدرته في الإفتاء واستحضار الأدلة، والتركيز والفهم، مع أنه دخل في التسعين، وقد سألته قبل أيام من موته عن امرأة ماتت وعليها سعي لم تأت به هل يقوم به ولدها عنها؟ فقال: الموت ما منه حيلة، ولولدها أن يسعى عنها، كما له أن يحج عنها -ثم وقف، ثم قال:- ولكن يجب أن يكون محرماً بنسك عند سعيه عنها. فقلت له: مثل أن يحرم بعمرة ثم يطوف ويسعى لنفسه وقبل أن يقصر شعره يسعى عن أمه؟ فقال: أو قبل أن يأتي بعمرته وبعد الإحرام هذه الدقة وهذا الانتباه للسؤال، وفي الجواب لازمه ذلك إلى آخر عمره، عمل حتى آخر أنفاسه. وكانت دروسه مستمرة حتى أيام مرضه، ودرس الفجر يوم الخميس يزيد على ثلاث ساعات، عمل (58) سنة ولم يأخذ إجازة واحدة، وكان لا ينام في يومه إلا أربع إلى خمس ساعات، وبقية ذلك في العبادة ومصالح المسلمين. هذا الإنسان كيف يجد وقتاً لمعصية الله؟؟ من استعمله الله في طاعته من هيأ له هذا الأمر من أدخله في هذه العبادات وحوائج الناس والتدريس الفتيا كيف يجد وقتاً للمعصية. وقد كان مستحقاً للتقاعد منذ عشرين عاماً بكامل الراتب، ولكنه استمر لخدمة الإسلام ونصرة الدين، ومعنى ذلك أنه عملها بدون أي مقابل.

آخر أيام ابن باز وحادثة الوفاة

آخر أيام ابن باز وحادثة الوفاة لما مرض الشيخ وكان يشتد عليه الألم إذا أفاق -هذا في آخر أيامه- قال لمن حوله من الكتاب والمساعدين: هاتوا ما عندكم، اقرءوا علي. فيقرءون الرسائل والخطابات وقضايا الطلاق، والشكاوى من المنكرات، وخطابات الشفاعات وغير ذلك مما ينفع به العباد والبلاد. كان لا يشتكي، جلست بجانبه وهو يتأمل فقلت: خيراً. فقال: أشكو بعض الشيء، وكان إذا اشتد به الألم وقد أصابه سرطان المريء والبلعوم في آخر عمره، إذا اشتد عليه الألم تغير لون وجهه، وسكت ووضع يده على موضع الألم، ولم يتأوه، ولم يصيح. والإمام أحمد -رحمه الله- لما مرض قد سمع أن طاوساً كان يقول عن الأنين: إنه شكوى؛ فما أنَّ أحمد حتى مات.

أصناف الفرحين بموت الشيخ

أصناف الفرحين بموت الشيخ سيشمت بموت الشيخ ويفرح أصناف من أعداء الله، وهذه حقيقة نعرفها: أولهما: المنافقون الذين يريدون عزل الإسلام عن حياة الناس، وثانيهما: المبتدعة أهل الزيغ والأهواء هؤلاء الذين سيفرحون بموت الشيخ عبد العزيز، أصحاب الشهوات الذين كانوا يقولون: إن المرأة ستسوق إذا مات ابن باز، وارتحنا من فتاويه المتشددة، ولكن أخزاهم الله تعالى في الفترة الماضية، ومات الشيخ وهم في ذل وخيبة ولم يتحقق مقصودهم، لا رفع الله لهم رأساً، ولا مكنهم مما يريدون. دعاة تحرير المرأة والاختلاط يريدون موت الشيخ بأي طريقة، لأن فتاويه عقبة في طريقهم وهكذا أصحاب الشهوات والمنكرات يريدون وفاته والتخلص منه، ولكن الله لهم بالمرصاد، وسيقيض من هذه الأمة من يقوم ويتصدى، والحمد لله أن الدين لا يقوم على شخص واحد، وأن في هذه الأمة أفذاذاً وأخياراً، وعلماء ودعاة وطلبة علم يقفون بالمرصاد أمام دعاوى هؤلاء أرباب الشهوات، وهؤلاء المنافقين الذين يريدون عزل الدين عن حياة المسلمين.

عزاء الأمة في وفاة الشيخ ابن باز

عزاء الأمة في وفاة الشيخ ابن باز وأما عزاؤنا في وفاة الشيخ فإن على رأس العزاء موت محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، الذي قالت عائشة فيه: (فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم باباً بينه وبين الناس في آخر عمره، فإذا الناس يصلون وراء أبي بكر، فحمد الله على ما رأى من حسن حالهم، رجاء أن يخلفه الله فيهم بالذي رآهم، فقال: يا أيها الناس أيما أحد من المؤمنين أصيب بمصيبة فليتعز بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري، فإن أحداً من أمتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشد عليه من مصيبتي) رواه ابن ماجة وهو حديث صحيح. فعزاؤنا في موت الشيخ، أولاً: نتعزى بالمصاب الذي لقيناه ولقيته الأمة بوفاة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، فكل مصيبة دونه تهون، وعزاؤنا في الطلاب الذين تركهم، والعلماء الذين خرجهم هذا الشيخ الفاضل، وهذه الكتب والرسائل التي سطرت علمه، فهو وإن رحل فإن علمه باقٍ وموجود فينا، ونحن مسئولون عن نشره وتبليغه، ومن حق الشيخ علينا أن نقوم بعد وفاته بنشر علمه وفضله ومناقبه، وأن نترحم عليه، وندعو له، ونتذكر بأسى وحزن أن أرقام الهاتف [4354444] و [4351421] في الرياض، و [5562874] في مكة، [7460223] في الطائف، لن يرفع الشيخ سماعته اليوم ليجيب. كانت أسئلة الناس يفزع بها إلى الشيخ ليجيب، كانت الملمات تعرض على هذا المجتهد، كنا إذا داهمنا الناس بالأسئلة فزعنا إلى الشيخ نتصل به وننقل إجابته، فلن يرد علينا الشيخ بعد اليوم في المستجدات، ولكن العزاء فيما تركه من الفتاوى، وفي العلماء الذين تركهم خلفه، فما من عالم مشهور في البلد إلا وللشيخ عليه فضل ومنة. ونتذكر برؤية جنازته تلك المشاهد العظيمة لجنائز علماء الإسلام، الذين قال السلف فيها: آية ما بيننا وما بين أهل البدع يوم الجنائز. وسيصلي على الشيخ من الجموع الغفيرة من لا يحصى ولا يعد.

وصف الحديث بلغة الشعر

وصف الحديث بلغة الشعر مهج تذوب وأنفس تتحسر ولظى على كل القلوب تسعر الحزن أضرم في الجوانح والأسى يصلى المشاعر باللهيب ويصهر كيف التحدث عن مصابٍ فادح أكبادنا من هوله تتفطر كل امرئ فينا يدوم تعاسة والبؤس في دمه يغور ويزخر لم لا وقد فقدوا أباً ومهذباً ورعاً بأنواع المفاخر يذكر لما بدا للحاضرين كيانه والنعش يزهو بالفقيد ويفخر هلعت لمنظره النفوس كآبة وبدا على كل الوجوه تحسر نظروا إليه فصعدت زفراتهم والدمع غمر في المحاجر يحمر كل يحاول أن يغطي دمعه لكنه يلقي النقاب فيسفر يتزاحمون ليحملوه كأنهم سيل يموج وأبحر لا تجزر يا راحلاً ريع الثقات بفقده وبكى تغيبه الحمى والمنبر لو كنت تفدى بالنفوس عن الردى لفدتك أنفسنا وما نتأخر لكن تلك طريقة مسلوكة وسجية مكتوبة لا تقهر كل امرئ في الكون غايته الردى والموت حتم للأنام مقدر كتب الفناء على الأنام جميعهم سيان فيهم فاجر ومطهر لكن من اتخذ الصلاح شعاره تفنى الخليقة وهو حي يذكر ما مات من نشر الفضيلة والتقى وأقام صرحاً أسه لا يكسر ما مات من غمر الأنام بعلمه الكتب تشهد والصحائف تخبر يا ناصر الإسلام ضد خصومه لك في الجهاد مواقف لا تحصر قد كنت للدين الحنيف معضداً وبشرعة الهادي القويم تعبر كم من فؤاد عام في لجج الهوى أنقذته أيام كنت تذكر بصرته بهدى المشرع فارعوى عن غيه فلك الجزاء الأوفر طوراً تحذره العذاب وتارة برضا الإله وما أعد تبشر ولكم خطبت على الأنام مذكراً أن الحنيف على العباد ميسر يا زاهداً عرف الحياة فما هوى في المغريات ولا سباه المظهر نم في جنان الخلد يا علم التقى وانعم بظل وارف لا يحسر إن شاء الله. اللهم تغمد شيخنا عندك برحمتك يا أرحم الراحمين، وارفع منزلته في أعلى عليين، واخلف في عقبه في الغابرين، واخلف على الإسلام وأهله بخير يا رب العالمين! اللهم اجبر مصابنا، اللهم اجبر كسرنا، وصبرنا على مصابنا، اللهم اجعلنا عاملين بكتابك وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم، واجعلنا رجاعين لأهل العلم، واجعلنا من أهل العلم، واجعلنا أوفياء لأهل العلم، واجعلنا من الذين ينشرون العلم يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن تعلي للشيخ درجته في الجنة، وأن تلحقه بمنازل الأبرار والشهداء والأنبياء، وأن تجعله ممن يلتقي بهم يا رب العالمين. اللهم إننا شهدنا بأنه صاحب فضل وعلم وخير، وإن نبيك محمد صلى الله عليه وسلم قد أخبر أننا شهداؤك في الأرض، وقد شهدنا له بما له من الخير، وأنت تعلم السر وأخفى، وأنت بصير بالعباد، لا نزكي عليك أحداً، أنت حسيبه وحسيبنا وحسيب كل أحد. اللهم فإنا نسألك له المغفرة ورفعة الدرجات، انشر رحمتك عليه وعلى العباد، اللهم ارزقنا الجنة وأعتقنا من النار نحن ووالدينا وأموات المسلمين يا غفار! واعلموا -أيها الإخوة- أن صلاة الغائب قد ذكر فيها العلماء أقوالاً، فمنهم من قال: لا يصلى عليه إذا صلي عليه كما اختار ذلك ابن القيم وغيره من المحققين، ومنهم من قال: يصلى على أئمة الهدى صلاة الغائب، ومنهم من قال: لكل أحد، وقد صدر التوجيه بصلاة الغائب عليه، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم ممن رحمهم ورفع درجاتهم ومنزلتهم في الجنة إنه سميع مجيب قريب. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام [1،2]

الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام [1،2] لقد حفظ التاريخ في سجله الإمام أبا عبيد القاسم بن سلام ضمن العلماء المجتهدين، فقد حفظ القرآن وهو في الصغر، ثم رحل في طلب العلم وتنقل بين البصرة وبغداد والكوفة وغيرها من البقاع، وتولى القضاء في طرسوس، ولقد اشتهر بالتصنيف حتى أقبل على كتبه عامة الناس، وتتلمذ على يديه تلاميذ من شتى البقاع، وقد كان رحمه الله ذا أخلاق عالية في طلب العلم، والحرص على الفوائد، وتعظيم العلم وأهل العلم. وقد توفي رحمه الله في مكة بعد أن قدم إليها حاجاً ثم بقي فيها إلى أن توفي سنة (224هـ) ودفن في مقبرة المعلاة. فرحمه الله رحمة واسعة.

أبو عبيد وبداية طلبه العلم

أبو عبيد وبداية طلبه العلم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فإن أخبار الأخيار دواءٌ للقلوب، وجلاءٌ للألباب من الدنس والعيوب، وإن النفس تستروح إلى مطالعة أخبار من تقدم، والمطلع على أخبار من درج، ووقائع من غاب في غابر الموت وما خرج، ومآثر من رقى إلى سماء السيادة وعرج، يعود وكأنه عاصر أولئك وجلس معهم على نمارق الأسرة، واتكأ بينهم على وسائد الأرائك، وأفاد ذلك حزماً وعزماً وموعظةً وعلماً، وهمةً تذهب هماً وبياناً يزيل وهناً ووهماًَ، وعوناً للاقتداء بهم في جميل الخصال ونبيل المآثر والفعال. جمال ذي الأرض كانوا في الحياة وهم بعد المماتِ جمال الكتب والسيرِ هذا شيءٌ من فوائد دراسة أخبار المتقدمين، وشخصيات السلف والعلماء رحمهم الله أجمعين، وهي الإفادة من تلك السير في أمورٍ نقتدي بهم فيها. ويعلم الإنسان المسلم عظمة التاريخ الإسلامي، وعظمة هذه الأمة التي أنجبت هؤلاء الشخصيات، ويحس وهو يقرأ في أخبارهم أنه يعيش معهم، وربما كان في ذلك جلاءٌ لهمومه، وذهابٌ لأحزانه، وحملاً له على التخلق بأخلاق الكرام، وهذا هو المهم -فعلاً- عند الاطلاع على أخبار العلماء والأئمة المتقدمين. وسنعرض -إن شاء الله تعالى- لحياة الإمام أبي عبيد القاسم بن سلَّام رحمه الله تعالى عن أخلاقه، وحياته، وعلمه، وفضله، وكلام أهل العلم حوله، وشيءٍ من كتبه وآثاره وأخباره. عاش الإمام أبو عبيد -رحمه الله تعالى- في العصر العباسي الأول، حيث ولد سنة: (151هـ)، وتوفي سنة: (224هـ)، ويكون بهذا قد عاصر سبعةً من خلفاء بني العباس، من المنصور المتوفى سنة: (158هـ) إلى المعتصم المتوفى سنة: (227هـ)، وبذلك يكون قد عاصر المهدي محمد بن عبد الله، والهادي موسى بن محمد، والرشيد هارون بن محمد، الذي حكم ثلاثاً وعشرين سنة، والأمين وَلَد هارون، واسمه محمد بن هارون، وتولى خمس سنين، ويكون أبو عبيد -رحمه الله- قد عاصر -أيضاً- أخا الأمين، المأمون عبد الله بن هارون الذي حكم عشر سنين، وآخر من عاصره من خلفاء بني العباس هو: المعتصم محمد بن هارون، الذي حكم تسع سنين أيضاً. وهذه الفترة التي سبق أن وصفناها بأنها كانت أيام عز الدولة العباسية وازدهارها، وكانت فيها الحالة الاقتصادية من أحسن ما يكون، حتى أن هارون الرشيد -رحمه الله تعالى- طلب من أبي يوسف صاحب أبي حنيفة، وقاضي الناس في ذلك الوقت أن يؤلف كتاباً في السياسة الاقتصادية للدولة، فألف له كتاب الخراج، لتنظيم بيت مال المسلمين واقتصاد الدولة الإسلامية في ذلك الوقت. وفي هذه الحقبة -أيضاً- حصلت فتنة خلق القرآن، ومر بالمسلمين محنة شديدة -جداً- طالت علماء أفذاذاً، فمنهم مَن قُتل، ومنهم مَن أُخذ فحُبس، ومنهم مَن جُلد وضُرب، ومنهم مَن قُطعت عنه النفقة ونحو ذلك من أنواع الأذى، ومنهم مَن مُنع مِن التدريس، ثم تنسموا الرحمة بعدما لبثوا في العذاب المهين خمسة عشر عاماً، وذلك عندما جاء الخليفة المتوكل سنة: [232هـ] الذي أعاد السنة ورفع المحنة. أبو عبيد القاسم بن سلاَّم اسمه: القاسم، وأبوه سلاَّم بن عبد الله، ويُكنى الإمام القاسم بن سلاَّم بـ أبي عبيد، وهو بغدادي، خراساني الأصل، من مدينة هرات، وهي مدينة عظيمة مشهورة من مدن خراسان، وهي المعروفة اليوم في بلاد أفغانستان، وهو تركي مولى الأزد، ومولى الأنصار الخزاعي، والمولى كما سبق أن ذكرنا هو: المعتَق إذا انتسب بنسبك إذا أعتقتَ شخصاً فانتسب إليك، فيقال عنه: فلان الفلاني بنسبتك أنت مولاهم، وأبوه سلاَّم كان عبداً رومياً لرجلٍ من هرات. ويُحكى أن سلاَّماً خرج يوماً وأبو عبيد في الكُتَّاب، وكان أول ما يبدأ به الصبيان في ذلك الوقت هو حفظ كلام الله تعالى عند الكتاب، فلما سلاَّم مر بالكتَّاب قال للمعلم: "علمي القاسم فإنها كيِّسة" وهذا يدل على أن الرجل صاحب لُكْنة أعجمية لا يحسن العربية؛ فهو يؤنث المذكر، وهذا موجود إلى اليوم، تجد الأعاجم إذا بدءوا في الكلام بالعربية يؤنثون المذكر، ويذكرون المؤنث، فهذا من طبيعة من أراد أن يبدأ يتكلم من الأعاجم العربية أن يقع منه هذا الخلط، ولكن هذا الرجل العامي أكرمه الله تعالى بولدٍ صار من كبار علماء العربية، ومرجعاً في هذا الشأن. أبو عبيد القاسم بن سلاَّم بمدينة هرات من مملكة خراسان، وكان مولده على الأرجح في سنة: (157هـ)، وقيل: غير ذلك، وكانت سنة وفاته في: (224هـ) على الأصح، وهذا الذي نقله أخص تلاميذه وهو علي بن عبد العزيز البغوي، وبناءً على ذلك يكون قد عُمِّرَ (73) سنة. وضعه أبوه عند الكتَّاب مع ابن مولاه، ثم لما انتهى من تلقي القرآن عند الكُتَّاب رحل في طلب العلم إلى بغداد، والكوفة، والبصرة، وتنقل في البلدان، وطلب العلم، وسمع الحديث، ودرس الأدب، ونظر في الفقه. دخل بغداد في سنة: (176هـ) تقريباً، وسمع فيها من سعيد بن عبد الرحمن الجمحي، وكذلك سمع من فرج بن فضالة. ودخل الكوفة في سنة: (177هـ)، وسمع فيها من شريك بن عبد الله النخعي. ودخل أبو عبيد البصرة في سنة: (179هـ) أيضاً وأراد أن يسمع فيها من حماد بن زيد، ولكن لم يدركه، فإنه لما دخل البصرة علم أنه قد توفي رحمه الله تعالى. حماد بن زيد، شيخ أهل البصرة، مات في نفس السنة، (179هـ)، فـ أبو عبيد ارتحل إلى البصرة ليسمع من حماد، ففاته ولم يدركه، وتأسف على ذلك أسفاً بالغاً كما سيأتي. ودخل أيضاً الرقة، وسمع من محدثيها، فيقول أبو عبيد -رحمه الله- عن نفسه: جلست إلى معمر بن سليمان بـ الرقة وكان من خير من رأيت، والرقة: مدينة على الفرات وهي معروفة -الآن- من بلاد سورية، سمع فيها من مُعمَّر بن سليمان، بتشديد الميم، وهذا غير معمر الأزدي - معمر بن راشد اليمني رحمه الله، أو معمر بن راشد الأزدي - الذي سكن في اليمن فترة من حياته.

تولي الإمام أبي عبيد للقضاء

تولي الإمام أبي عبيد للقضاء بعد هذا التجوال رجع أبو عبيد -رحمه الله- إلى خراسان موطنه الأصلي، وعمل هنالك مؤدباً لآل هرثمة، والمؤدب: الذي يربي الأولاد ويعتني بهم، ويخلقهم بالأخلاق الحسنة، ويحملهم على الأدب الجم ويعلمهم الصلاة والطهارة، والأمور الأساسية التي ينبغي أن يتعلمها كل ولدٍ من الأولاد، كان هذا الشيء منتشراً في أولاد الكبار في ذلك الوقت أنهم يحرصون على الاتيان بمؤدبٍ لأولادهم. فـ هرثمة بن أعين من كبار قواد هارون الرشيد، وأبو عبيد في أول حياته تولى تأديب أولاد آل هرثمة، ثم اتصل بـ ثابت بن نصر بن مالك الخزاعي يؤدب ولده، وكان ثابت قد تولى طرسوس، وهي: مدينة بثغور الشام، بين أنطاكية وحلب وبلاد الروم، وتُعرف أيضاً بـ طرطوس، ولما تولى ثابت على طرسوس وحكمها ثماني عشرة سنة، ولَّى أبا عبيد القاسم بن سلاَّم قضاء طرسوس، فتولاها له ثماني عشرة سنة، وأصبح قاضياً لـ طرسوس، وعلى ذلك يكون أبو عبيد رحمه الله قد تولى القضاء فيها سنة: (192هـ)، إلى سنة: (210هـ).

أبو عبيد وبداية التعليم والتأليف

أبو عبيد وبداية التعليم والتأليف بعد هذه المدة الطويلة في القضاء عاد أبو عبيد من طرسوس إلى بغداد، وهناك اتصل بـ عبد الله بن طاهر والي خراسان وكان ابن طاهر يُجري عليه في الشهر ألفي درهم. قال أبو العباس أحمد بن يحيى: قدِم طاهر بن عبد الله بن طاهر من خراسان وهو حدثٌ في حياة أبيه يريد الحج، فنزل في دار إسحاق بن إبراهيم، فوجَّه إسحاق إلى العلماء، فأحضرهم ليراهم طاهر، فقال طاهر: اجمع العلماء وأتِ بهم إلي لأراهم، وليَعْلَم ما عندهم من العلم، فحضر أصحاب الحديث والفقه، وأُحْضِر ابن الأعرابي، وأبو نصر صاحب الأصمعي، ووجِّه إلى أبي عبيد القاسم بن سلاَّم في الحضور، فأبى أن يحضر، وقال: العلم يُقْصَد -العلم يؤتى ولا يأتي، إذا أراد أن يتعلم أو يسمع فيأتي هو، أما أن نأتي إليه فلا- ورفض الاتيان، وكان عبد الله بن طاهر يُجري له في الشهر ألفي درهم، وكان من عادة العلماء في ذلك الوقت أنهم يُفرَّغون للعلم ويُجرى عليهم من بيت المال مرتب يكفيهم في حياتهم لمعيشتهم , ويتفرغون للعلم، فكان يُجرَى لـ أبي عبيد -رحمه الله- في الشهر ألفي درهم، وهو مبلغ كبير. فلما قال: (العلم يُقْصَد) ورفض أن يأتي، قطع إسحاق عنه الرزق -أي: المرتب- وكتب إلى عبد الله بن طاهر بالخبر أن أبا عبيد امتنع، لكن هذا الامتناع أثر في نفس عبد الله بن طاهر، فكتب رسالة يقول فيها: صَدَقَ أبو عبيد في قوله، وقد ضاعفتُ له الرزق من أجل فعله هذا، فأعطه فائته، أي: كلما خصمت عليه ومنعته فأعطه وأدر عليه بعد ذلك ما يستحقه، وكان لهذه المعاملة أثر في العلاقة الطيبة بين أبي عبيد -رحمه الله- وبين الأمير عبد الله بن طاهر، فكان أبو عبيد إذا ألف كتاباً أهداه إلى عبد الله بن طاهر، وكان الآخر يقدر ذلك ويكافئه عليه. ويروى أن أبا عبيد -رحمه الله- لما ألف كتاب غريب الحديث وعرضه على عبد الله بن طاهر، وكان الأمراء في ذلك الوقت -بطبيعة الحال- لهم اهتمام بالعلم والأدب، فيعرفون أهمية الكتب، فلما نظر فيه قال: "إن عقلاً بعث صاحبَه على عمل مثلِ هذا الكتاب لحقيقٌ ألا يُحْوَجَ إلى طلب المعاش" فأجرى له عشرة آلاف درهم كل شهر، فعاش أبو عبيد مكرماً، وهيأ الله له من يكفيه هموم المعاش، ويتفرغ لطلب العلم، ولم يكن صاحب تزلف ولا وقوف على الأبواب، ولذلك عمل -كما قلنا في بداية أمره- في تأديب أولاد الكبار، وعمل قاضياً مدة طويلة، ثم بعد ذلك صار متفرغاً للتعليم وللتأليف، وكان يُجرى عليه رزقه.

رحلة أبي عبيد إلى مكة ووفاته فيها

رحلة أبي عبيد إلى مكة ووفاته فيها بعد عودة أبي عبيد إلى بغداد واتصاله بـ عبد الله بن طاهر لم تطُل إقامته هناك، فرحل من بغداد إلى مصر والشام بصحبة الإمام العلم المشهور يحيى بن معين -رحمه الله تعالى- وقدم دمشق طالب علم، مع أنه كان قاضياً (18) سنة، وكان علماً وعالماً؛ لكن رحل إلى دمشق وسمع من هشام بن عمار، وسليمان بن عبد الرحمن، وحدَّث عنهما، وكانت رحلته في سنة: (214هـ) تقريباً، وفي سنة: (219هـ) خرج إلى مكة حاجاً، وأكرمه الله بأداء المناسك ودخل المدينة النبوية، ويدل على ذلك أنه لما شرح حديث (أن النبي صلى الله عليه وسلم حرَّم ما بين عير وثور) وهذا الحديث فيه كلمة (عير وثور) وهي من الكلمات الغريبة التي يُتَوَقَّع أن توجد، وهذا الحديث يوجد في كتاب غريب الحديث لـ أبي عبيد، لأن هذا الكتاب يشرح فيه أبو عبيد -رحمه الله- الألفاظ الصعبة والغريبة في الأحاديث، وهذا أشهر كتاب لـ أبي عبيد، وعُرف واشتُهر به. فطبيعة الحال لما مر بكلمتي (عَير وثور) شرحهما، وأنهما اسم جبلين، فقال: عير بـ المدينة معروف وقد رأيته، وهذا يدل على أنه دخل المدينة. ثم إنه -رحمه الله- ذهب إلى مكة، وتوفي فيها في المحرم من سنة: (224هـ)، ودُفن في المعلاة، مقبرة أهل مكة. وقيل: إنه رأى رؤيا قبل أن يموت في مكة، وكان قد عزم على الخروج من مكة إلى العراق في صباح اليوم التالي، فرأى رؤيا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان جالساً وعلى رأسه قومٌ يحجبونه، والناس يدخلون عليه ويسلمون عليه ويصافحونه، قال: فلما دنوتُ أدخل مع الناس مُنِعْتُ، فقلت لهم: لِمَ لا تخلوا بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا لي: لا والله لا تدخل ولا تسلم عليه، وأنت غداً ذاهب إلى العراق. كيف تخرج العراق غداً ثم تريد أن تسلم عليه؟! فقال: فقلت لهم -وهذا كله في المنام-: إني لا أخرج إذاً، فأخذوا علي العهد ألا أخرج، ثم خلوا بيني وبين النبي صلى الله عليه وسلم، فدخلت وسلمت عليه وصافحته، فلما أصبح أبو عبيد -رحمه الله- بعد هذه الرؤيا، فاسخ كَرِيَّه -أي: الشخص الذي اتفق معه على الكِراء إجارة القافلة أو الدابة من مكة إلى العراق، فسخ معه عقد الإجارة- وجلس في مكة إلى أن توفي بها، ودُفن فيها رحمه الله تعالى.

شيوخ الإمام أبي عبيد القاسم بن سلام

شيوخ الإمام أبي عبيد القاسم بن سلام لا شك أن مثل هذا الإمام العلم -كما تعودنا سابقاً في الأعلام الذين سمعنا سيرتهم- لا يمكن أن يكونوا قد خرجوا من فراغ، فإنه لا بد أن يكون هذا نتاج اعتناء وتربية علماء تخرج على أيديهم، لا بد أن يكون هناك وسط علمي وعلماء كبار تخرج أبو عبيد على أيديهم، فمن هم شيوخه؟ - عبد الملك بن قريب الأصمعي المشهور، الأصمعي البصري اللغوي أبو سعيد. - علي بن حمزة الكسائي الكوفي أحد القراء السبعة. - أبو عبيدة معمر بن المثنى. - يحيى بن زياد الفراء. - هشام بن عمار مقرئ أهل الشام. - إسماعيل بن عياش عالم الشام ومحدثها. - سفيان بن عيينة العالم الجليل المشهور الثقة الكوفي ثم المكي محدث الحرم، الذي يعد من أشهر شيوخ أبي عبيد. - عبد الرحمن بن مهدي العالم الكبير الذي تقدمت سيرته رحمه الله. - عبد الله بن المبارك أمير المؤمنين في الحديث. - هشيم بن بشير الواسطي. - يحيى بن سعيد القطان. - كذلك من الذين تخرج عليهم أبو عبيد في الفقه وهو الذي فتَّق له المسائل واعتنى به ووجهه إلى الفقه هو: محمد بن الحسن الشيباني، تلميذ أبي حنيفة، والذي تعلم منه أبو عبيد أشياء كثيرة، ومن ذلك ما رواه فقال: كنا مع محمد بن الحسن إذ أقبل الرشيد الخليفة، فقام إليه الناس كلهم إلا محمد بن الحسن فإنه لم يقُم، ومعلوم ما حكم القيام للداخل، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار) وأن الصحابة لم يكونوا يقومون للنبي صلى الله عليه وسلم لِمَا يعلمون من كراهيته لذلك، وأن القيام للشخص الداخل دون سببٍ منهيٌّ عنه، وأن القيام إليه لإدخاله أو إجلاسه أو معانقته بعد سفر أمرٌ لا بأس به، وأن القيام عليه أمرٌ محرم أيضاً، وأن النبي صلى الله عليه وسلم عاتب الصحابة على وقوفهم وهو جالسٌ في الصلاة، وقال: (كدتم تفعلون فعل فارس والروم آنفاً) يعني: أنهم يقفون على رءوس ملوكهم وهم جلوس، إلا ما يكون من أمر تعظيم الخليفة أمام الأعداء مثلما وقف المغيرة وغيره على رأس النبي عليه الصلاة والسلام في صلح الحديبية أمام الكفار ليروا الكفار منزلة النبي صلى الله عليه وسلم. وكان لـ محمد بن الحسن الشيباني -رحمه الله- أثرٌ بالغ في فقه أبي عبيد. ولَمَّا رتب الذهبي -رحمه الله- في ترجمة حماد بن أبي سليمان فقيه العراق المتوفى سنة: (120هـ) رتب أجيال الفقهاء، قال: فأفقه أهل الكوفة: علي وابن مسعود، أول ما تأسست هذه البلدة الإسلامية أفقه من نزل بها: علي بن أبي طالب؛ لأنه قُتل في الكوفة، وابن مسعود الصحابي الجليل أفقه من نزل الكوفة، وأفقه أصحابهما -من تلقى عنهما العلم-: علقمة، وأفقه أصحاب علقمة: إبراهيم النخعي، وأفقه أصحاب إبراهيم: حماد بن أبي سليمان، وأفقه أصحاب حماد: أبو حنيفة، وأفقه أصحابه: أبو يوسف، وانتشر أصحاب أبو يوسف في الآفاق، وأفقههم: محمد بن الحسن المذكور، وأفقه أصحابه: الشافعي رحمه الله. ومعنى ذلك أن أبا عبيد قد عاصر الشافعي؛ لأنه إذا كان شيخه محمد بن الحسن الشيباني، ومحمد بن الحسن الشيباني أفقه من درس على يديه الشافعي، فمعنى ذلك أن أبا عبيد قرين للشافعي، وقد جلس معه عند محمد بن الحسن، وتفقه كلٌ منهما على محمد بن الحسن، وله مناظرات مع الشافعي رحمه الله. وأبو عبيد كان لا يأنف أن يستفيد من أقرانه، فأخذ كتب الشافعي فنسخها، أي: كتبها ليطلع عليها ويستفيد منها، ولذلك تجد أبا عبيد في كتبه، ينقل عن أقوال الصحابة والتابعين وشيوخه إلى المعاصرين، فينقل من أقوالهم، كما فعل ذلك في كتاب الأموال، وهو كتاب مشهور، فنقل من أقوال الصحابة والتابعين ومن شيوخه ومعاصريه. وروى الحديث عن القاضي أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم، وتفقه على يديه أيضاً، وقال: جالستُ أبا يوسف ومحمد بن الحسن، ويحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، فما هِبْتُ أحداً في مسألة ما هبتُ أحمد بن حنبل.

تلاميذ أبي عبيد القاسم بن سلام

تلاميذ أبي عبيد القاسم بن سلام أما تلاميذ أبي عبيد رحمه الله، فإنه لما طار صيته في الآفاق، وسارت بتصانيفه الركبان، قصده الطلاب والحفاظ للأخذ منه والدراسة على يديه، وممن درس عليه بعضُ شيوخه وأقرانه، فسمعوا منه، وقال: كنت في تصنيف هذا الكتاب - غريب الحديث - أربعين سنة، وهذا مما يدل على عظمة هذا الكتاب، وهو كتاب مطبوع. وكان لـ أبي عبيد -رحمه الله تعالى- منزلة عظيمة عند الكبار من أئمة عصره، قال حمدان بن سهل: سألت يحيى بن معين عن الكتابة عن أبي عبيد والسماع منه؟ فتبسم، وقال: مثلي يُسأل عن أبي عبيد؟! أبو عبيد يُسأل عن الناس. ومِن شيوخه وأقرانه الذين حدثوا عنه: أحمد بن حنبل رحمه الله، شيخ الإسلام، الإمام المشهور. سعيد بن الحكم المصري، الثقة الثبت الفقيه. علي بن عبد الله المديني، أعلم أهل عصره بالحديث والعلل، المتوفى سنة: (234هـ) بـ سامراء. أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، فإنه ممن درس أيضاً على أبي عبيد. وكيع بن الجراح، الإمام الحافظ. يحيى بن معين، سيد الحفاظ، وإمام أهل الجرح والتعديل. ومن أشهر تلاميذ أبي عبيد القاسم بن سلاَّم: إبراهيم بن إسحاق الحربي. أحمد بن يحيى البلاذري، الكاتب صاحب فتوح البلدان. عباس بن محمد الدوري. عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي السمرقندي، الإمام، شيخ الإسلام، صاحب سنن الدارمي. عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا، الحافظ الإمام صاحب التصانيف الكثيرة جداً والمشهورة. علي بن عبد العزيز البغوي، وهو أشهر تلاميذه من جهة الملازمة، وأشدهم له ملازمة، وأثبتهم فيه، وهو راوي كتب أبي عبيد، حتى عُرِف بوراق أبي عبيد، لزم أبا عبيد حتى مات.

مكارم الأخلاق عند الإمام أبي عبيد القاسم بن سلام

مكارم الأخلاق عند الإمام أبي عبيد القاسم بن سلام أبو عبيد القاسم بن سلاَّم رحمه الله صاحب شمائل وخصال عالية وفريدة.

أخلاق أبي عبيد في طلب العلم

أخلاق أبي عبيد في طلب العلم فمن جهة الأخلاق العلمية فإنه كان حريصاً على العلم، وهذا من أهم سمات طالب العلم أن يكون حريصاً على العلم، له نهمة وحرص على العلم يدون الفائدة ويركض وراءها حتى يحصلها، ولا يكون هذا إلا إذا كان نهماً صاحب نَهْم، كما قال البخاري رحمه الله في سبب حفظه: (النهم والمطالعة) كثرة المطالعة وأن يكون الإنسان نهماً، أي: عنده همة في الحرص على الفوائد والعلوم. قال أبو عبيد: دخلت البصرة؛ لأسمع من حماد بن زيد، فقدمت فإذا هو قد مات، فشكوت ذلك إلى عبد الرحمن بن مهدي، فقال: مهما سُبِقْتَ به فلا تُسْبَقَنَّ بتقوى الله عز وجل، يعني: مهما فاتك فلا يفوتنك تقوى الله عز وجل. وقال أيضاً: سمعني عبد الله بن إدريس أتلهف على بعض الشيوخ: وا أسفاه على فلان الذي ما أدركته، مات قبل أن آخذ عنه، فقال لي: يا أبا عبيد! مهما فاتك من العلم فلا يفوتنك العمل؛ لأن العمل هو القصد، أول العلم التقوى والعمل، فلو قال أحد الآن: لماذا نتعلم؟! ولماذا يتعلم طالب العلم؟! نقول: من تعلم العلم ليباهي به العلماء، أو يماري به السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس إليه، أدخله الله جهنم، فلا بد من القصد أن يكون حسناً. فما هي نية طالب العلم في تعلمه؟ لا بد من تحديد الأهداف: أولاً: لينال خشية الله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]. ثانياً: ليعمل به، فإذا صار هدفُ طالب العلم الخشية والعمل، صح توجهه، وطابت نفسه، وزكى. وكثيرٌ من الناس ربما يطلبون العلم لجمع العلم يطلبون العلم شهوةً في العلم يطلبون العلم للشهادة للمال ليكون صاحب قضاء ونحو ذلك، ومثل هذا لا يبارك له في علمه، ولا يستفيد ولا يُستفاد منه، لكن إذا طلبه لخشية الله، وليعمل به ويؤجر على العمل ويرفعه الله درجات، فهذا الذي يستفيد ويُستفاد منه. وكان أبو عبيد -رحمه الله- متأدباً غاية الأدب مع العلماء، يقول عن نفسه: "ما أتيت عالماً قط فاستأذنت عليه، ولكن صبرت حتى يخرج إليَّ، وتأولت قول الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} [الحجرات:5] ". وقال أيضاً: "ما دققت على مُحدِّثٍ بابه قط وإنما أنتظر حتى يخرج ثم أفاتحه برغبتي" وهذا يدل على أدبه رحمه الله مع الشيوخ، ما كان يزعج أحداً، ولا يطرق الباب وإنما ينتظر، وهذا ما فعله ابن عباس -رضي الله عنه- كما قال: [كنت آتي بيت الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأريد أن أسمع منه الحديث، فأجلس على بابه في القيلولة حتى أنام، أتوسد العتبة، فتُسْفِي الريح على وجهي التراب؛ لكن أتحمل حتى يخرج إلي، ويعاتبني لماذا لم أطرق عليه].

أخلاق أبي عبيد في الحرص على الفوائد

أخلاق أبي عبيد في الحرص على الفوائد كان أبو عبيد -رحمه الله تعالى- يفرح فرحاً شديداً لتحصيل العلم والفائدة، حتى ربما حرمه الفرح من النوم، فقال عن نفسه::كنت في تصنيف هذا الكتاب غريب الحديث أربعين سنة، وربما كنت أستفيد الفائدة من أفواه الرجال، فأضعها في موضعها من الكتاب -أفواه الرجال أي: العلماء- فأبيت ساهراً فَرِحَاً فَرَحَاً مني بتلك الفائدة- مِن الفَرَح بالفائدة التي حصَّلها ودوَّنها في كتابه غريب الحديث ربما ما جاءه النوم. ومِن حرصه على الفائدة: القصة المشهورة التي حدثت له في زيارته للإمام أحمد -رحمه الله- وهي قصة جميلة، قال: زرت أحمد بن حنبل، فلما دخلت عليه في بيته قام فاعتنقني وأجلسني في صدر المجلس -وهذا يدل على محبة أحمد لـ أبي عبيد القاسم بن سلاَّم - فقلت: يا أبا عبد الله! أليس يقال: -أي: في الأثر- (صاحب البيت أو المجلس أحق بصدر دابته أو مجلسه) أي: صاحب البيت أحق بصدر البيت من الضيف أو من أي شخص آخر، وكذلك الدابة أولى بصدر الدابة من الشخص الآخر، لأنه صاحب الحق، فلا يجوز للضيف أن يعتدي ويجلس في صدر المجلس بدون إذن صاحب البيت. قال الإمام أحمد: نعم، يَقْعُدُ ويُقْعِدُ مَن يريد، أي: ما دام أنه صاحب الحق فلو أقعد مَن يريد فلا حرج على هذا الضيف من أن يجلس في صدر المجلس، فقلت في نفسي: خذ إليك أبا عبيد فائدة. ثم قلت: "يا أبا عبد الله! لو كنتُ آتيك على حق ما تستحق لأتيتك كل يوم" أي: لو كانت زيارتي لك بقدر حقك علينا وعلى قدر ما يليق بك من منزلة لرابطنا كل يوم عندك وأتيناك، فقال: لا تقل ذاك! فإن لي إخواناً ما ألقاهم في كل سنةٍ إلا مرة، أنا أوثق في مودتهم ممن ألقى كل يوم. قال: قلت: هذه فائدة أخرى يا أبا عبيد. فلما أردت القيام قام معي، قلت: لا تفعل يا أبا عبد الله أي: اجلس مكانك وارتاح ولا داعي أن تقوم معي، فقال الإمام أحمد: قال الشعبي: من تمام زيارة الزائر أن يُمشى معه إلى باب الدار ويؤخذ بركابه. قال: قلت: يا أبا عبد الله مَن عَن الشعبي؟ أي: من حدثكم عن الشعبي هذه العبارة- قال: ابن أبي زائدة، عن مجالد عن الشعبي. قال: قلت: يا أبا عبيد هذه ثالثة، ثلاث فوائد. فكان يفرح بالفوائد ويجمعها ويراجعها، ويعدد الفوائد واحدة واثنتين وثلاث حتى لا ينساها. وقد أمسك ابن عباس بركاب زيد بن ثابت رضي الله عنهما، وكان يطلب عليه العلم، فقال زيدٌ متواضعاً: [أتُمْسِكُ بي -يعني: بركاب دابتي- وأنت ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم -أنتم آل البيت لكم حق- فقال عبد الله بن عباس رضي الله عنه: إنا هكذا نصنع بالعلماء].

أخلاق أبي عبيد في تعظيم العلم واحترام أهله

أخلاق أبي عبيد في تعظيم العلم واحترام أهله وأما في تعظيمه للعلم وإكرامه لطلبة العلم فما كان يهين العلم كما يفعل بعض الناس الذين يهينون العلم ويضعونه في غير موضعه، ويأتون به الأبواب، لا بد أن يكرم العلم مثلما فعل أبو عبيد رحمه الله. وهذه قصة أخرى له: كان طاهر بن عبد الله بـ بغداد، هذا الأمير كان يود أن يأتي إليه أبو عبيد؛ ليسمع منه كتاب غريب الحديث في منزله، ويُقال: إن فلاناً أتى عنده أبو عبيد (المؤلف) إلى البيت، وحدَّثه بالكتاب، فرفض أبو عبيد القاسم بن سلاَّم، إجلالاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: تريد أن تسمع؟ ولما قدِم علي بن المديني، وعباس العنبري، إلى أبي عبيد طلباً لسماع كتابه غريب الحديث كان يحمل كل يومٍ كتابه ويأتيهما في منزلهما فيحدثهما به، مع أنهما جاءا إليه يطلبانه، فكان يذهب إليهما، هؤلاء أهل العلم وطلبة العلم يُؤتَون ويكرَمون، ووضع العلم عندهم وضع في مكان ومحل مناسب، هذه حكمة، إجلالاًَ لعلم علي بن المديني وعباس العنبري، كان أبو عبيد يأتي إليهما ليحدثهما في بيتهما، ويصون العلم ويُكرمه من أن يُؤتى به إلى الأبواب.

أخلاق أبي عبيد في نسبة الفضل لأهل الفضل

أخلاق أبي عبيد في نسبة الفضل لأهل الفضل كان أبو عبيد -رحمه الله- حريصاً على الأمانة العلمية وعزو العلم لأهله، ونسبة الفضل إلى أهل الفضل، فكان يقول: مِن شُكْر العلم أن تستفيد الشيء -إذا حصلت على فائدة- فإذا ذُكِر لك قلتَ خفي عليَّ كذا وكذا ولم يكن لي به علمٌ حتى أفادني به فلان كذا وكذا، فهذا شُكْر العلم. فمثلاً: إذا حصلتَ على فائدة مِن شُكْر هذه الفائدة أن تذكر مَن الذي علمك إياها، وتعزوها لصاحبها الذي استفدتها منه، فكأنك تقول: إنها ليست من كدي ولا من عقلي ولا من استنتاجي واستنباطي وإنما علمني إياها فلان، فذِكْر اسم الشيخ الذي علمك الفائدة في المجلس، أو أن تقول: كنت أجهل الأمر الفلاني حتى شرحه لي فلان، وكان يخفى عليَّ معنى الكلمة الفلانية حتى سمعتُه من فلان، هذا من التواضع ومن الأدب ومن معرفة الفضل لأهل الفضل. وقال أبو محمد عبد الغني بن سعيد المصري: علقت حكاية أبي عبيد مستفيداً لها ومستحسناً، وجعلتها حيث أراها في كل وقت -كأنه كتبها وعلقها على الجدار- لأقتدي بـ أبي عبيد، وأتأدب بآدابه، {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282]، وهذا مِن الشُّكْر: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7]. وكان أبو عبيد يقول عن نفسه: "ما كان عليَّ من حفظ خمسين حديثاً مئونة" أي: ما يشق عليه حفظ خمسين حديثاً سنداً ومتناً في مجلس واحد، وهذا مما يسر الله له الحفظ خمسون حديثاً في مجلس واحد ليس فيه مشقة عليه سنداً ومتناً.

أخلاق أبي عبيد في صدقه مع الآخرين

أخلاق أبي عبيد في صدقه مع الآخرين روى الخطيب -رحمه الله- حكاية عن أبي عبيد القاسم بن سلاَّم أنه جاءه الحسن بن حربوية، فقال: أريد أن أسألك عن سؤالين قال: ما هما؟ قلت: {دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ} [ص:17] ما معنى الأيد؟ قال أبو عبيد: القوة. قلت: فما معنى: {أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} [ص:45]؟ قال: القوة، والأبصار: العقول. قلت: ما بال إحداهما لم تثبت فيها الياء {دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ} [ص:17] إنما بالكسرة بدون ياء؟ وهذه {أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} [ص:45] ثبتت فيها الياء مع أن كلاهما بمعنى: القوة؟! قال: عمل الكاتب الذي كتب. قال: فاندفعتُ أسأل عن مسألة أخرى ثالثة، فقال أبو عبيد مذكراً للسائل: أنت قلتَ: مسألتين يرحمك الله؟ قال: قلت: ما أحسب حضر المجلس أحدٌ أبعد مني منزلاً، فقال أبو عبيد معلماً إياهُ: الصدق وإن كان يرحمك الله، فأنت إن قلت مسألتين فعليك أن تلتزم بمسألتين، فإن أردت أكثر فاستأذن، لكن أن تقول: أريد أن أسألك سؤالين، ثم تسأل سبعة أو خمسة أو ثلاثة. لا، أين الصدق؟ انظر: كيف كان يتعامل بالصدق حتى في هذه الأشياء الدقيقة.

طرائف حصلت لأبي عبيد القاسم بن سلام

طرائف حصلت لأبي عبيد القاسم بن سلام ومن طرائف ما حصل لـ أبي عبيد مع بعض السائلين: نقول: قد يُبتلى العالم بسؤال من جهلة العوام، كأن يأتيه سائل يسأله فيظن العالم أن هذا يريد منه الفائدة العظيمة والحقيقية، فإذا به يكتشف أن هذا السائل من أتفه ما يمكن. حصلت له قصة طريفة: وذلك أنه جاءه رجل قد يكون السائل ذا لحية كبيرة، مثلما جاء لـ أبي حنيفة رجل مهيب، عليه سمت، فجلس في المجلس فاحشتم أبو حنيفة وقبض رجليه، وكان قد مد رجليه وتكلموا ودار النقاش في المجلس، فإذا هذا السائل يقول: متى يفطر الصائم؟ قال: إذا غربت الشمس. قال: وإذا لم تغرب؟! فمد أبو حنيفة رجليه، وقال: قد آن لـ أبي حنيفة أن يمد رجليه، يقول: احتشمت منك طيلة هذا الوقت، وظننتك شيئاً، فإذا بك تسأل هذا السؤال الدال على سخف العقل. فحصلت قصة مشابهة لـ أبي عبيد رحمه الله، جاءه شخصٌ فسأله عن الرباب أبو عبيد من كبار علماء اللغة والغريب، كان يعرف الألفاظ الغريبة مدخلها ومخرجها، هذا تخصص أبي عبيد، فجاءه رجل فسأله عن الرباب؟ فقال أبو عبيد مجيباً بدقته وعلمه العميق: هو الذي يتدلى دُوَين السحاب -أي: قريب السحاب- وأنشده بيتاً لـ عبد الرحمن بن حسان، وأتى بالشاهد الذي يدل على هذا المعنى: كأن الرباب دُوَين السحاب نعامٌ تُعلق بالأرجلِ فقال: لم أُرِد هذا، قال أبو عبيد: إذا كنت تريد إطلاقاً آخر؛ فالرباب يطلق على اسم امرأة، وأنشد أبو عبيد بيتاً فيه الدلالة على أن الرباب اسم امرأة قائلاً: إن الذي قسم الملاحة بيننا وكسا وجوه الغانيات جمالا وهب الملاحة للرباب وزادها في الوجه من بعد الملاحة خالا فقال: لم أُرِدْ هذا -أيضاً- فقال أبو عبيد: عساك أردتَ قول الشاعر: ربابٌ ربةُ البيتِ تصب الخل في الزيتِ لها سبعُ دجاجاتٍ وديكٌ حسن الصوتِ قال: هذا أردت، هذه ربما هي نشيدة كانت عند الأطفال ينشدونها في ذلك الوقت: ربابٌ ربةُ البيتِ تصب الخل في الزيتِ لها سبعُ دجاجاتٍ وديكٌ حسن الصوتِ نشيد أطفال، فقال: هذا أردت، فقال: مِن أين أنت؟ قال: مِن البصرة. قال: على أي شيءٍ جئت؟ على الظهر -أي: الدابة- أم على الماء -أي: في سفينة أو قارب؟ قال: في الماء. قال: كم أعطيت الملاح؟ قال: أربعة دراهم. قال: اذهب استرجع منه ما أعطيته، وقل: لم تحمل شيئاً، فعلام تأخذ مني الأجرة؟ وهذا يشبه -أحياناً- من يعتني ببعض القصائد والأناشيد يُتْرك العلم والشيء المهم، كما وقع لبعض الشباب حفظوا قصيدة (صوت صفير البلبلِ) بالنص، وأما البيقونية أو تحفة الأطفال في التجويد أو الرحبية في المواريث لا تحفظ الطرائف ويترك العلم الأساسي من عدم الجدية، ومن تدني المستوى العلمي؛ أن ينشغل الشاب بالأناشيد وتترك القصائد أو أشعار أهل العلم التي نظموها في المصطلح في الأصول في المواريث في الحديث في غيره، تترك وتحفظ بدلها الأشعار التي إن جاءت أو راحت فهي أشياء يمكن أن تكون من المباحات، قد يكون لبعضها فوائد؛ لكن لا ترقى إلى فوائد العلم، فهذا الذي جاء إلى أبي عبيد ويسأله عن الرباب إذا به يريد: ربابٌ ربةُ البيتِ تصب الخل في الزيتِ لها سبعُ دجاجاتٍ وديكٌ حسن الصوتِ وأبو عبيد -رحمه الله تعالى- كانت له أخلاق كثيرة أخرى، وعبادة، وأدبٌ جم، وعلومٌ، وآثار، فسنتحدث عن ذلك -إن شاء الله- تكملة في الدرس القادم، وهو آخر درس في هذه المدة من الإجازة.

مناقب الإمام أبي عبيد القاسم بن سلام

مناقب الإمام أبي عبيد القاسم بن سلام ومن طرائف ما حصل لـ أبي عبيد مع بعض السائلين: نقول: قد يُبتلى العالم بسؤال من جهلة العوام، كأن يأتيه سائل يسأله فيظن العالم أن هذا يريد منه الفائدة العظيمة والحقيقية، فإذا به يكتشف أن هذا السائل من أتفه ما يمكن. حصلت له قصة طريفة: وذلك أنه جاءه رجل قد يكون السائل ذا لحية كبيرة، مثلما جاء لـ أبي حنيفة رجل مهيب، عليه سمت، فجلس في المجلس فاحشتم أبو حنيفة وقبض رجليه، وكان قد مد رجليه وتكلموا ودار النقاش في المجلس، فإذا هذا السائل يقول: متى يفطر الصائم؟ قال: إذا غربت الشمس. قال: وإذا لم تغرب؟! فمد أبو حنيفة رجليه، وقال: قد آن لـ أبي حنيفة أن يمد رجليه، يقول: احتشمت منك طيلة هذا الوقت، وظننتك شيئاً، فإذا بك تسأل هذا السؤال الدال على سخف العقل. فحصلت قصة مشابهة لـ أبي عبيد رحمه الله، جاءه شخصٌ فسأله عن الرباب أبو عبيد من كبار علماء اللغة والغريب، كان يعرف الألفاظ الغريبة مدخلها ومخرجها، هذا تخصص أبي عبيد، فجاءه رجل فسأله عن الرباب؟ فقال أبو عبيد مجيباً بدقته وعلمه العميق: هو الذي يتدلى دُوَين السحاب -أي: قريب السحاب- وأنشده بيتاً لـ عبد الرحمن بن حسان، وأتى بالشاهد الذي يدل على هذا المعنى: كأن الرباب دُوَين السحاب نعامٌ تُعلق بالأرجلِ فقال: لم أُرِد هذا، قال أبو عبيد: إذا كنت تريد إطلاقاً آخر؛ فالرباب يطلق على اسم امرأة، وأنشد أبو عبيد بيتاً فيه الدلالة على أن الرباب اسم امرأة قائلاً: إن الذي قسم الملاحة بيننا وكسا وجوه الغانيات جمالا وهب الملاحة للرباب وزادها في الوجه من بعد الملاحة خالا فقال: لم أُرِدْ هذا -أيضاً- فقال أبو عبيد: عساك أردتَ قول الشاعر: ربابٌ ربةُ البيتِ تصب الخل في الزيتِ لها سبعُ دجاجاتٍ وديكٌ حسن الصوتِ قال: هذا أردت، هذه ربما هي نشيدة كانت عند الأطفال ينشدونها في ذلك الوقت: ربابٌ ربةُ البيتِ تصب الخل في الزيتِ لها سبعُ دجاجاتٍ وديكٌ حسن الصوتِ نشيد أطفال، فقال: هذا أردت، فقال: مِن أين أنت؟ قال: مِن البصرة. قال: على أي شيءٍ جئت؟ على الظهر -أي: الدابة- أم على الماء -أي: في سفينة أو قارب؟ قال: في الماء. قال: كم أعطيت الملاح؟ قال: أربعة دراهم. قال: اذهب استرجع منه ما أعطيته، وقل: لم تحمل شيئاً، فعلام تأخذ مني الأجرة؟ وهذا يشبه -أحياناً- من يعتني ببعض القصائد والأناشيد يُتْرك العلم والشيء المهم، كما وقع لبعض الشباب حفظوا قصيدة (صوت صفير البلبلِ) بالنص، وأما البيقونية أو تحفة الأطفال في التجويد أو الرحبية في المواريث لا تحفظ الطرائف ويترك العلم الأساسي من عدم الجدية، ومن تدني المستوى العلمي؛ أن ينشغل الشاب بالأناشيد وتترك القصائد أو أشعار أهل العلم التي نظموها في المصطلح في الأصول في المواريث في الحديث في غيره، تترك وتحفظ بدلها الأشعار التي إن جاءت أو راحت فهي أشياء يمكن أن تكون من المباحات، قد يكون لبعضها فوائد؛ لكن لا ترقى إلى فوائد العلم، فهذا الذي جاء إلى أبي عبيد ويسأله عن الرباب إذا به يريد: ربابٌ ربةُ البيتِ تصب الخل في الزيتِ لها سبعُ دجاجاتٍ وديكٌ حسن الصوتِ وأبو عبيد -رحمه الله تعالى- كانت له أخلاق كثيرة أخرى، وعبادة، وأدبٌ جم، وعلومٌ، وآثار، فسنتحدث عن ذلك -إن شاء الله- تكملة في الدرس القادم، وهو آخر درس في هذه المدة من الإجازة.

عبادة وزهد الإمام أبي عبيد

عبادة وزهد الإمام أبي عبيد كانت لهذا الإمام عبادة جيدة، وهكذا كان دأب العلماء رحمهم الله تعالى، وخصوصاً في قيام الليل، والإمام أحمد -رحمه الله- لما استضاف رجلاً من أهل الحديث جاءه في بيته، فوضع له الإمام أحمد -رحمه الله- ماءً بالليل، وفي الصباح نظر في الماء فوجده ما نقص ولا تغير، فعاتبه الإمام أحمد رحمه الله، وقال: صاحب حديثٍ لا يقوم الليل! كيف يكون هذا؟ فلم تكن القضية عندهم حفظ المعلومات -كما ذكرنا- وإنما هي أيضاً عبادة. وكان أبو عبيد -رحمه الله تعالى- يُقَسِّم الليل أثلاثاً:- فيصلي ثلثه، وينام ثلثه، ويصنف الكتب في ثلثه. فثلث لقيام الليل، وفيه تأنس القلوب بربها، وترتاح بمناجاة مليكها عز وجل، وثلثٌ ينام فيه، وثلثٌ يصنِّف فيه الكتب، وكان مقتدياً في ذلك بالإمام العلم محمد بن الحسن الشيباني رحمه الله، وكان شيخه. وأما بالنسبة للزهد والجود:- فإن الرجل كان زاهداً، مترفعاً عن النقائص، ومع كثرة الأعطيات التي تأتيه إلا أنه لم يكن طماعاً أبداً، فإن أبا دُلَف العِجلي أحد قواد المأمون أرسل إلى عبد الله بن طاهر يستهديه أبا عبيد مدة شهرين، يقول: أهدني أبا عبيد شهرين، وذلك لما سمع بـ أبي عبيد ووَصَلَه صيته العلمي، فطلب عبد الله بن طاهر الأمير من أبي عبيد أن يسير إلى أبي دُلَف لشهرين، فأقام عنده شهرين مشتغلاً بالتعليم، فلما أراد الانصراف وصله أبو دُلَف بثلاثين ألف درهم، فلم يقبلها، وقال: أنا في جنبة رجلٍ لا يحوجني إلى صلة غيره، ولا آخذ ما فيه عليَّ نقصٌ، فلما عاد إلى عبد الله بن طاهر وَصَلَه بثلاثين ألف دينار، لِمَا رأى من تعففه عن قبول ثلاثين ألف درهم من أبي دُلَف، فهل يا ترى أخذ هذا المال، وصار مكافأة عن تعففه الأول؟ كلا، بل إنه قال له: أيها الأمير! قد قبلتها، ولكن قد أغنيتني بمعروفك وبرك وكفايتك عنها، وقد رأيتُ أن أشتري بها سلاحاً وخيلاً، وأوجه به إلى الثغر، فيكون الثواب متوفراً على الأمير، ففعل، ووضعها ثمن سلاحٍ في سبيل الله، وأقنع الأمير بحجة أن هذا سيكون فيه ثواب وافر محفوظ لهذا الأمير.

ورع أبي عبيد

ورع أبي عبيد كان أبو عبيد -رحمه الله تعالى- متصفاً بالورع أيضاً:- ومِن ورعه: أنه كان وهو رأسٌ في اللغة يستشهد بأبيات الشعر القديمة، كما يفعل أهل اللغة في بيان معاني الألفاظ، ويبينون أن الشاعر أراد بهذا اللفظ المعنى الفلاني، وأن العرب استخدموه في أشعارهم على هذا المعنى، فكانت الشواهد الشعرية تبين المعاني لهذه الألفاظ، ولكن هذه الشواهد الشعرية -وبعضها جاهلي- لم تكن تخلو من هجاءٍ، أو بعض المنكرات، وكان يذكر في بعض الشعر اسم الذي هُجِيَ به. فمن ورع أبي عبيد -رحمه الله تعالى- أنه كان يحذف اسم الشخص الذي هُجِيَ ويستبدله بميزانه الصرفي، فمثلاً اكتشف بعض العلماء أن أبا عبيد في بعض الأشعار التي فيها هجاء لرجلٍ اسمه عتبة؛ قد حذف عتبة وجعل بدله فُعْلَة (وزن الاسم) حتى لا ينكسر البيت من جهة، وحتى يصون ذلك الشخص، ولا يَقَعَ في الأعراض بالتعيين، وكان يتحفظ من المشاركة في ذم أحدٍ أو هجائه، أو نشر ذلك، أو إشاعته.

من حلم أبي عبيد وأدبه

من حلم أبي عبيد وأدبه كان أبو عبيد -رحمه الله- أيضاً متصفاً بالحلم، وله في ذلك قصص: فمن ذلك: أن أبا عمرو الطوسي قال: قال لي أبي: غدوتُ إلى أبي عبيد ذات يوم فاستقبلني يعقوب بن السكيت، فقال: إلى أين؟ فقلتُ: إلى أبي عبيد، فقال: أنتَ أعلم منه -كأنه يزهده في لقاء أبي عبيد - قال: فمضيت إلى أبي عبيد فحدثته أن فلاناً قال لي: إني أعلم منك، فقال لي أبو عبيد: الرجل غضبان، قال: قلت: مِن أي شيء؟ قال: جاءني منذ أيام فقال لي: اقرأ علي غريب الحديث، فقلت: لا. ولكن تجيء مع عامة الناس في الدرس، أما أن أخصص لك درساً فلا أطيق ذلك، فغضب ودخل ذلك في نفسه، وقال لك من جراء ذلك هذا الكلام. فلم يرد عليه ويقول: هذا جاهل، أو هذا سفيه ونحو ذلك؛ وإنما قال: الرجل غضبان، والغضبان يخرج منه كلام ليس بموزون. وكان صاحب أدبٍ أيضاً:- قال إسحاق بن راهويه -رحمه الله- وهو من كبار العلماء، ومن قرناء الإمام أحمد رحمه الله، حتى قال بعضهم: ما عَبَر الجسر أحدٌ أحفظ من رجلين -أي: جسر بغداد المنصوب على النهر الذي عبره الكثير من العلماء الأجلاء- مثل أبي زرعة الرازي وإسحاق بن راهويه، أي: على رأي من قال هذه العبارة. قال إسحاق بن راهويه: أبو عبيد أوسعنا علماً، وأكثرنا أدباً.

غيرة أبي عبيد للحق وصفته وسمته

غيرة أبي عبيد للحق وصفته وسمته وكان أبو عبيد متحرقاً لنصرة الحق:- ولما حدثت محنة الإمام أحمد رحمه الله؛ يقول عبد الغني المقدسي عن أبي شعيب الحراني: لما أُخذ أحمد بن حنبل فضُرب، جعل أبو عبيد القاسم بن سلَّام يذهب ويجيء، ويقول: أيُضرب سيدُنا؟! لا أصبر، أيُضرب سيدُنا؟! فهو من التحرق لما حصل للإمام أحمد -رحمه الله- ما استطاع أن يجلس في مكان واحد، بل يذهب ويجيء، ويقوم ويقعد، لا يستطيع أن يمسك نفسه، ويقول: أيُضرب سيدُنا، أيُضرب سيدُنا؟ لا أصبر. وأما بالنسبة لحِلْيته وسمته:- فقد جاء في وصفه كما ذكر الذهبي -رحمه الله- في سير أعلام النبلاء: أنه كان يخضب بالحناء، وكان أحمر الرأس واللحية، ذا وقارٍ وهيبة. وقال ثعلب وهو يصف أبا عبيد: كان عاقلاً، لو حضره الناس يتعلمون من سمته وهديه لانتفعوا، وكان عددٌ من أهل العلم يُرحل إليهم لا لأجل العلم؛ لكن ليتعلم من أدبهم وسمتهم وهديهم. وكان أصحاب عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- يرحلون إليه فينظرون إلى سمته وهديه ودَلِّه فيتشبهون به. والنظر إلى بعض العلماء يجلو صدأ القلب، كما قال مالك رحمه الله: "كنت كلما أجد في قلبي قسوةً آتي محمد بن المنكدر، فأنظر إليه نظرة، فأتعظ في نفسي أياماً" نظرة واحدة إلى محمد بن المنكدر موعظة تكفي الشخص مدة أيام، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أولياء الله الذين إذا رُؤوا ذُكِرَ الله عز وجل). فهناك أناس من كثرة العبادة والتقوى يظهر على وجوههم ما يجعل النظر إليهم يجلب الخشوع، ويزيد الإيمان، من صلاحهم وتقواهم وعبادتهم.

مكانة أبي عبيد بين العلماء

مكانة أبي عبيد بين العلماء

العلوم التي برع فيها أبو عبيد

العلوم التي برع فيها أبو عبيد وأما بالنسبة للعلوم التي برع فيها أبو عبيد رحمه الله تعالى، فإنه كان موسوعة، لم يشغله علمٌ عن علمٍ، فلم يشتغل بالحديث عن الفقه، ولا باللغة عن التاريخ، فبعض الناس يمكن أن يقال عنه: محدث غير فقيه، وبعض الناس يمكن أن يقال عنه: فقيه غير محدث، لا يميز الصحيح من الضعيف في الأحاديث، لكن أبا عبيد -رحمه الله- وُصف بأنه الإمام، الحافظ، المحدث، المفسر، المقرئ، الفقيه القاضي المجتهد، اللغوي النحوي، الأخباري النسَّابة، أي: يعلم الأنساب، والأخباري من يعلم التاريخ، هكذا أقر له كبار الأئمة من معاصريه ومَن بعده، وبهذا وصفوه. وهذا قد عبر به عن نفسه، فقال مرة: ما ناظرني رجلٌ قط وكان مفَنَّناً في العلوم إلا غلبته، ولا ناظرني ذو فنٍ واحد إلا غلبني في فنه ذلك، يعني: إذا كان الرجل متخصصاً في فنٍ واحد فيمكنه أن يغلبني، أما إذا كان في كثير من العلوم فإذا ناظرته غلبته، هذا دليل على سعة اطلاعه رحمه الله وشمولية معرفته. ومما ميز الرجل أنه صنَّف في وقتٍ كانت المصنفات فيه قليلة، ولما انتشرت المصنفات صار بعضهم ينقل من بعض، فكانت مصنفاته أكثرها مبتكَرة، أي: أن بعض مصنفاته ربما لم يُسبق إليها، وبعض التراتيب التي فيها لم يُسبق إليها. فالرجل مبارك في التصنيف والتأليف، ومصنفاته تنبئ عن أنه لم يكن متخصصاً في فنٍ واحد، فمثلاً: له في القرآن وعلومه مؤلفات، وفي اختيار القراءة الصحيحة الموافقة للعربية والأثر؛ لأن من شروط القراءة الصحيحة أن تكون موافقة للأثر، وموافِقةً لرسم مصحف عثمان، وموافقة لوجهٍ من أوجه اللغة المعتمدة، فـ أبو عبيد -رحمه الله- صنَّف في القراءة المختارة الموافقة للغة والأثر. وكذلك صنف في الناسخ والمنسوخ. وصنف في إعراب القرآن، وهذه كلها من علوم القرآن. وصنف في الحديث وعلله، وكُتُبُه تشهد بذلك، وله كتاب مشهور اسمه: غريب الحديث. وأما في الفقه؛ فإنه كان إماماً مجتهداً، يُذْكَر في طبقة الشافعي وأحمد، وله أقوال في الفقه، نثرها في كتابه غريب الحديث وغيره، وسنذكر بعضها إن شاء الله. وله في الأخلاق والآداب مؤلفات؛ وفي اللغة العربية من نحو، وشعر، وأدب أيضاً مؤلفات، وفي التاريخ والأنساب مؤلفات. فالرجل بالجملة واسع العلم. وهذا ما ذكرناه من أن التخصصات الجامعية قد قضت على الموسوعية في العلم، ولم يكن من العلماء من يفهم في الأصول، أو يتخصص في اللغة، أو في المصطلح فقط، وإنما كان علم الواحد منهم شاملاً لأبواب العلم وأنواعه. وقال أحمد بن كامل القاضي: كان أبو عبيد القاسم بن سلَّام فاضلاً في دينه وفي علمه، ربانياً، متفنناً في أصناف علوم الإسلام؛ من القرآن والفقه والعربية والأخبار، حسن الرواية، صحيح النقل، لا أعلم أحداً من الناس طعن عليه في شيء من أمره ودينه. وهذه تزكية ممن يعرفه؛ بأنه لم يوجد عليه مطعن في شيء من أمره ودينه. وقال عبد بن جعفر بن درستويه أو درَسْتَوَيه كلها بالفتح أو كلها بالضم، دُرُسْتُوَيْه أو دَرَسْتَوَيْه، وهو يصف أبا عبيد: كان من علماء بغداد المحدثين، النحويين على مذهب الكوفيين، ورواة اللغة والغريب عن البصريين والكوفيين، ومن العلماء بالقراءات، جمع صنوفاً من العلم، وصنف في كل فنٍ من العلوم والآداب فأكثر واشتهر. وكذلك فإنه قد جاء في ترجمته: أن كتبه مستحسنة مطلوبة في كل بلد، والرواة عنه مشهورون ثقات ذوو ذكرٍ ونبلٍ. ومعنى ذلك أن العلماء قد عرفوا قيمتها، ونصحوا بها، وطلبة العلم أقبلوا عليها فصارت مطلوبة مرغوبة، وهذا يبين دقة الرجل -رحمه الله- وعمقه. وصنف كتباً وقد خرجت للناس واستُفيد منها علمٌ كثير، ولا شك أن التأليف في ساعات الأسحار حيث تصفو الأذهان، وتنشط القرائح والأفهام، فيه بركة، ويمكن أن يكون هذا أحد الأسباب التي جعلت مصنفات هذا الرجل مباركة.

ثناء العلماء على أبي عبيد

ثناء العلماء على أبي عبيد أما ثناء العلماء عليه فكثير، ويكفينا شهادة الإمام أحمد رحمه الله، فإن محمد بن أبي بشر قال: أتيتُ أحمد بن حنبل في مسألة، فقال: ائتِ أبا عبيد فإن له بياناً لا تسمعه من غيره، فأتيت أبا عبيد فسألته فشفاني جوابُه، وأخبرته بقول أحمد فقال: يا بن أخي! ذاك -يعني الإمام أحمد - رجلٌ من عمال الله، نشر الله رداء عمله في الدنيا، وذخر له عنده الزلفى. وتقدم أن حمدان بن سهل قال لـ يحيى بن معين وسأله عن الكتابة عن أبي عبيد: نكتب عن أبي عبيد أم لا؟ ونسمع منه؟ فتبسم، وقال: مثلي يُسأل عن أبي عبيد! أبو عبيد يُسأل عن الناس، لقد كنت عند الأصمعي يوماً إذ أقبل أبو عبيد فشق إليه بصرُه -بصرُ الأصمعي شقَّ إلى أبي عبيد - حتى اقترب منه، فقال: أترون هذا المقبل؟ قالوا: نعم، قال: لن يضيع الناس ما حيي هذا المقبل. وقال إسحاق بن إبراهيم الحنظلي: أبو عبيد أوسعنا علماً، وأكثرنا أدباً، وأجمعنا علماً، إنا نحتاج إلى أبي عبيد وأبو عبيد لا يحتاج إلينا. وقال أيضاً: الأئمة في زماننا: الشافعي، والحُمَيْدي، وأبو عبيد. وقال إبراهيم بن أبي طالب: سألتُ أبا قدامة عبد الله بن سعيد اليشكري -أحد أئمة الحديث، مجمعٌ على ثقته- عن الشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق، وأبي عبيد، فقال: أما أفهمهم فـ الشافعي، إلا أنه قليل الحديث، وأما أورعهم فـ أحمد بن حنبل، وأما أحفظهم فـ إسحاق، وأما أعلمهم بلغات العرب فـ أبو عبيد. ولما جاء نعي أبي عبيد لـ عبد الله بن طاهر، وكان قد قال: كان للناس أربعة: ابن عباس في زمانه، والشعبي في زمانه، وقاسم بن معن في زمانه، وأبو عبيد القاسم بن سلَّام في زمانه، لما جاءه نعي أبي عبيد قال: يا طالب العلم قد مات ابن سلَّام وكان فارس علمٍ غير محجامِ مات الذي كان فيكم رُبع أربعةٍ لَمْ يلقَ مثله أستاذ أحكامِ خير البرية عبد الله أولهم وعامرٌ ولنعم الثنا يا عامِ هما اللذان أنافا فوق غيرهما والقاسمان: ابن مَعْنٍ وابن سلَّام فازا بقِدحٍ متينٍ لا كفاء له وخلفاكم صفوفاً فوق أقدامِ وقال الهلال بن علاء الرِّقِّي: مَنَّ الله على هذه الأمة بأربعة في زمانهم: بـ الشافعي: تفقه بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبـ أحمد بن حنبل: ثبت في المحنة ولولا ذلك لكفر الناس. وبـ يحيى بن معين: نفى الكذب عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبـ أبي عبيد القاسم بن سلَّام: فسر الغريب من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. لولا ذلك لاقتحم الناس في الخطأ، ولم يفهموا الأحاديث على وجهها، ولا فهموا معناها. وقال إبراهيم الحربي -رحمه الله- وهو من تلاميذ أبي عبيد: أدركتُ ثلاثةً لن يُرى مثلهم أبداً، تعجز النساء أن يلدن مثلهم: رأيت أبا عبيد القاسم بن سلَّام ما مثَّلْتُه إلا بجبلٍ نُفِخ فيه روح. وقال أحمد بن يحيى الملقب بـ ثعلب: لو كان أبو عبيد في بني إسرائيل لكان عجباً، مع أن القوم أصحاب عجائب كثيرة، ولعلها لتعويض نقص إيمان القوم لأجل أن تحملهم على الإيمان، لأنهم كان عندهم ضعف، قال: لو كان أبو عبيد في بني إسرائيل لكان عجباً. وقال الأزهري: كان أبو عبيد ديِّناً فاضلاً، عالماً أديباً فقيهاً صاحب سنة. وعَدَّ ابن تيمية -رحمه الله- أبا عبيد من الأئمة الذين لهم في الأمة لسان صدقٍ، كما ذكره فيمن يعرف كل أحدٍ زكاءهم وذكاءهم. ما هو الفرق بين الذكاء والزكاء إذا قيل: كان ذكياً زكياً؟ الزكاء: في النفس، فالزكي المزكَّى أي: العدل، الثقة، الطاهر، والأمين، التقي. والذكي يعني: في ذهنه، وعقله؛ لكنه قد يكون شريراً، ولذلك يقال عن بعض الناس: أوتي ذكاءً ولم يؤت زكاءً، وهذا ذكاؤه يكون وبالاً عليه، لأنه يستخدمه في الشر، فإذا أوتي المرء ذكاءً ولم يؤتَ زكاءً فهذه مصيبة، وعدد من الملاحدة وأصحاب المذاهب الضالة أوتوا ذكاءً ولم يؤتوا زكاءً. وقال ابن القيم -رحمه الله- عن أبي عبيد: وكان من أعيان المفتين -يعني: بـ بغداد، وكان جبلاً نُفِخ فيه الروح علماً وجلالة ونُبلاً وأدباً.

منهج أبي عبيد في العقيدة

منهج أبي عبيد في العقيدة

منهج أبي عبيد في مسائل الصفات والإيمان والقرآن

منهج أبي عبيد في مسائل الصفات والإيمان والقرآن أما مصنفاته رحمه الله فقد قلنا: إنها كانت منوعة في أبواب العلم المختلفة. فمثلاً: في التوحيد: له كتاب في الإيمان ومعالمه، وبيان أنه يزيد وينقص. وفي صفات الله تعالى أيضاً كان يرى إثبات الصفات، وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء: قال أبو عبيد: هذه الأحاديث صحاح -يعني: أحاديث الصفات- حملها أصحاب الحديث والفقهاء بعضهم عن بعض، وهي عندنا حقٌ لا شك فيها، ولكن إذا قيل: كيف يضحك؟ وكيف وضع قدمه؟ قلنا: لا نفسر هذا، ولا سمعنا أن أحداً يفسره. ما معنى العبارة؟ معناها: أننا نؤمن أن الرب يضع قدمه في النار، ونؤمن أن الرب يضحك؛ لكن لا نستطيع أن نخبر بالكيفية، فنحن نثبت المعنى على حسب كلام العرب ولغتهم؛ لكننا لا يمكن أن نشبه أو نكيف أو نقول: كيفية قدمه كذا، وكيفية يده كذا، وأصابعه كذا، هذه أشياء لا يمكن أن نخوض فيها، وعقولنا لا تحتمل ذلك أبداً، {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [طه:110]. أما إثبات الصفة، وإثبات معناها، وإثبات حقيقة الصفة: أن له يداً حقيقية، وله قدماً حقيقية، وله قبضةً حقيقية، وأنه يحثو بيده، فلا شك، وأما الأشاعرة فيقولون: لا قبض ولا يد ولا حثو. فإثبات الصفات من عقيدة أهل السنة والجماعة، ومعنى نفي التفسير: نفي الإخبار بالكيفية، أما المعنى على حسب كلام العرب فيثبته أبو عبيد وغيره من أئمة المسلمين من أهل السنة والجماعة. أما القرآن: فلا شك أنه يقول: القرآن كلام الله، منزل غير مخلوق. وقال عبد الملك السمسار: اتفقت أنا وعلي بن المديني وأبو عبيد القاسم بن سلَّام، فقال علي أو غيره: يا أبا عبيد! ما تقول فيمن قال: القرآن مخلوق؟ فقال أبو عبيد: هذا رجلٌ يُعَلَّمْ، ويقال له: إن هذا كفرٌ فإن رجع وإلا ضربت عنقه.

مذهب أبي عبيد في الصحابة

مذهب أبي عبيد في الصحابة وأما مذهبه في تفضيل الصحابة: فيرى أبو عبيد -رحمه الله- أن أفضل الصحابة أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، وهذا الذي عليه جمهور الأئمة، وأن ترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة؛ لكن القلة من أهل السنة يقدمون علياً على عثمان في الفضل؛ لأشياء عندهم في مناقب علي، رجَّحوا بها أن علياً أفضل من عثمان؛ لكن جمهور أهل السنة على أن عثمان في الفضل بعد الصديق وعمر. وقال أبو عبيد: فعلت في البصرة فعلتين أرجو بهما الجنة: أتيت يحيى القطان وهو يقول: أبو بكر وعمر وعلي -أي: في الترتيب- فقلت: معي شاهدان من أهل بدرٍ يشهدان أن عثمان أفضل من علي، قال: من؟ فقلت: أنت حدثتنا، عن شعبة، عن عبد الملك بن ميسرة، عن النَّزَّال بن سبرة قال: [خطبنا عبد الله بن مسعود فقال: أمَّرْنا خير من بقي ولَمْ نأْلُ] فالصحابة كونهم اجتمعوا وعلي موجود وعثمان موجود وانتخبوا، واستشار عبد الرحمن بن عوف الناس، حتى استشار العجائز في البيوت، فاتفقت كلمتهم على عثمان، ولذلك ما أجْمَعَت الأمة على خليفة من الراشدين مثلما أجمعت على عثمان، فبيعة أبي بكر حصل فيها شيء كما في حادثة السقيفة، وعمر كانت بِوَصِية من الصديق، وعلي -رضي الله عنه- حصل ما حصل في توليته، لكن الأمة ما اجتمعت على خليفة في توليته وتعيينه مثلما اجتمعت على عثمان، فاستشار عبد الرحمن بن عوف الناس ثلاث ليالٍ لم يكتحل فيها بنوم، فاجتمعت كلمتهم على عثمان، وما اختلفوا في شأن تقديم عثمان، فقال ابن مسعود: [أَمَّرْنا خير من بقي -أي: أنه أفضل من علي رضي الله عنه- ولَمْ نأْلُ]. فقال يحيى بن سعيد القطان: ومَن الآخر؟ -الشاهد الثاني- قال: قلت: الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن، عن المسور بن مخرمة، قال: [سمعت عبد الرحمن بن عوف يقول: شاورت المهاجرين الأولين، وأمراء الأجناد، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم أرَ أحداً يعدل بـ عثمان] قال: فترك قوله -أي يحيى بن سعيد القطان - من نتيجة المناقشة مع أبي عبيد، ترك قوله في تقديم علي على عثمان - وقال: أبو بكر، وعمر، وعثمان، إلى آخره.

موقف أبي عبيد من أهل البدع

موقف أبي عبيد من أهل البدع وأما بالنسبة لموقفه من أهل البدع، فإن أبا عبيد -رحمه الله- كان شديداً على أهل البدع كعادة السلف في ذلك الوقت، وكان صاحب خبرة ومراس، واحتكاك بأصحاب الفرق الضالة، ونقل أخبارهم، وسبر غَوْرَهم، فقال: عاشرت الناس، وكلمت أهل الكلام، فما رأيت أوسخ وسخاً ولا قذراً، ولا أضعف حجةً، ولا أحمق من الرافضة، ولقد وُلِّيت قضاء الثغور -تولى القضاء ثمانية عشر عاماً- فنفيت منهم ثلاثة رجال؛ رافِضِيَّيْن وجهمياً، وقلت: مثلكم لا يساكن أهل الثغور وأخرجتهم، أي: أنهم وبال على المسلمين، فإن الثغور تحتاج إلى جهاد، والثغور هي: رباط في الجهاد، والجهاد يحتاج إلى أناس من أهل التقى والصلاح والسنة، ينتصر بهم المسلمون، أما مثلكم أنتم فأنتم سبب هزيمة فأخرجهم ونفاهم.

مصنفات أبي عبيد في غير العقيدة

مصنفات أبي عبيد في غير العقيدة

مؤلفات أبي عبيد في علوم القرآن

مؤلفات أبي عبيد في علوم القرآن وأما بالنسبة لعلوم القرآن، فإن أبا عبيد -رحمه الله- قد صنف كتابه شواهد القرآن، وعندما روى حديث: (الله أكبر! خربت خيبر؛ إنا إذا نزلنا بساحة قومٍ فساء صباح المنذَرين) قال السيوطي: هذا الحديث أصلٌ في جواز التمثل والاستشهاد بالقرآن والاقتباس، أي: أن يقتبس المرء من القرآن كلمات أو جزءاً من آية فيجعلها في كلامه وتعبيره إذا كان حقاً، وإذا لم يكن على وجه التنقص أو الاستهزاء، فالنبي عليه الصلاة والسلام عبر عن نزوله ليهود خيبر، فقال: (الله أكبر! خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قومٍ فساء صباح المنذَرين)، وقوله: (فساء صباح المنذرين) جزء من آية، يقول السيوطي: وألف قديماً في جواز الاقتباس من القرآن والاستشهاد ببعض الفقرات الإمام أبو عبيد القاسم بن سلَّام كتاباً ذكر فيه جميع ما وقع للصحابة والتابعين من ذلك، أورده بالأسانيد المتصلة إليهم، أي: استشهادات الصحابة في خلال كلامهم بأشياء من القرآن، وأن ذلك ليس بحرام ولا ببدعة ما دام أنه كلام حق ليس فيه تنقص ولا استهزاء أو مزاح في شيء من الدين، فإنه لا بأس أن يستشهد. وبعض الاستشهادات يكون فيها تكلف، كما ذكر ابن الجوزي -رحمه الله- في صيد الخاطر، قال: إن أبا علي ابن عقيل -رحمه الله- من الفقهاء والعلماء الكبار، لما مات ولده وكان يحبه كثيراً، وكان شاباً قد علمه وتعب عليه، فحزن الأب جداً، وخرج الناس معه وعليهم الحزن، فمشوا معه في الجنازة إلى المقبرة، ولما اجتمعوا حول القبر وأرادوا إنزاله فيه؛ صاح أحد الناس: {يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ} [يوسف:78] قال: فضج الناس بالبكاء، فعلق عليها قائلاً: إن القرآن لم ينزل لإثارة الأحزان، وتجديد الآلام، وإنما نزل لتسكينها، فنَعَى على ذلك الرجل أن يقتبس هذا الاقتباس الذي كان غير مناسب ألبتة، وصحيحٌ أن العزيز من أسماء الله؛ لكن ليس من المناسب أن يقول في هذا الموضع: {يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ} [يوسف:78]. وكذلك ما روى الخطيب في كتابه التطفل، أي: المتطفلون على الولائم الذين يأتون بغير دعوة، روى قصة رجل رأى أحد أصحاب البيوت يدخل بيته بطعام، وأعرض عنه ولم يلتفت إليه ولا دعاه، قال: فتسَّور عليه السطح، وأشرف عليه في حوش بيته في الدار، والرجل حوله بناته قد وضع الطعام، فانتبه له صاحب البيت فصاح به وعنَّفه وقال: اتقِ الله! كيف تطَّلع على حرماتي وبناتي؟! فقال الطفيلي: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} [هود:79]. فبعض الاستشهادات في غير موضعها، فمثل هذا الاقتباس والاستشهاد ليس صحيحاً، وإذا كان فيه شيء من الاستهزاء بالدين فهذه أطم وأسوأ وأخبث، لكن إذا كان في كلامِ جِدٍّ كأن يصف رجل حال الأمة، وما وقع فيه من الأهواء، وحال الناظر والمفكر في هذا الحال، فقال: فأينما توجهت تجد هذا الفساد، وهذا الركام: {مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} [إبراهيم:21] يعني: ما لنا مخرج ولا مهرب من هذا الذي وضعنا فيه الأعداء. فقد يستشهد البعض بأشياء من القرآن لا بأس بالاستشهاد بها في مقامِ جِد مناسب، الشاهد الذي وضعه في السياق مناسب، مثل قول النبي عليه الصلاة والسلام: (إنا إذا نزلنا بساحة قومٍ فساء صباح المنذَرين). أما أن يُستشهد بالقرآن في أي مناسبة فهذا غير صحيح، ويجب أن يجلَّ كلام الله عن هذه المناسبات التافهة، أو الاستخدامات التي يستخدم بها بعض الناس آيات من القرآن، أو أجزاء من القرآن في أشياء من التوافه، أو مقام لعب ولهو، أو كلام باطل مثلاً، وهذا واقع في كلام الناس كثيراً مع الأسف! ألف أبو عبيد -رحمه الله- أيضاً كتاباً في عدد آي القرآن، وعدد آيات المكي والمدني. وألف رحمه الله كتاباً في غريب القرآن. وألف كتاباً في فضائل القرآن ومعالمه وآدابه. وألف كتاباً في القراءات كما تقدم.

مؤلفات أبي عبيد في الناسخ والمنسوخ وفي الحديث

مؤلفات أبي عبيد في الناسخ والمنسوخ وفي الحديث ألف أبي عبيد في الناسخ والمنسوخ في القرآن، وهذا الكتاب في ترتيبه لم يسبق إليه، فإنه رتب الكتاب على الأبواب الفقهية، فذكر تحت كل بابٍ الآيات التي تتعلق بموضوعه التي جاء فيها ناسخ ومنسوخ. فأولاً: بدأ الكتاب بباب فضل العلم، ناسخ القرآن ومنسوخه، باب ذكر الصلاة وما فيها من الناسخ والمنسوخ، الزكاة، الصيام، النكاح، الطلاق، الشهادات، المناسك، الجهاد، الأسارى، المغانم، الاستئذان، المواريث، الوصية، ناسخ الطعام ومنسوخه، الشراب، إلى آخره، فسلك في ترتيب الآيات سبيل الأبواب الفقهية، حتى أصبح كتاباً في أحكام القرآن مرتباً على الأبواب الفقهية، وهذا ابتكار جميل، وسار على نهجه الإمام الطحاوي رحمه الله في كتابه أحكام القرآن. وكان منهج أبي عبيد في هذا الكتاب أن يعرض الآيات ويبين غريبها، وما قيل في ناسخها ومنسوخها، ثم الأحكام المستنبطة مع ذكر أقوال الفقهاء من الصحابة ومن بعدهم مع أدلتهم، مع المناقشة وذكر الرأي الراجح وبيان وجه رجحانه، هذه طريقته في كتاب ناسخ القرآن ومنسوخه. أما في الحديث: فله جزءٌ في حديثه الذي رواه هو حديث القاسم بن سلَّام، وله كتابه المشهور جداً، وأبرز كتاب وأشهر كتاب لـ أبي عبيد هو: غريب الحديث، وهذا الكتاب جعله لبيان الألفاظ الغريبة، الصعبة الغامضة، البعيدة عن الفهم التي تحتاج إلى دقة، أو أنها قليلة الاستعمال، والتي جاءت في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وآثار الصحابة والتابعين ومعانيها. تتبع أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام وآثار الصحابة والتابعين على تفرقها وتعددها، حتى جمع الأشياء الصعبة التي تحتاج إلى شرح وبيان، فساقها بأسانيده، وكان قد جمع معاني هذه الألفاظ من علومه، وما سمعه من أهل العلم؛ مستعيناً بشعر وأمثال العرب، ومأثور كلامهم، فيذكر ذلك في كتابه، ويذكر أيضاً فوائد فقهية مأخوذة من هذا الحديث الذي فيه كلمة غريبة، وما يُستنبط منه من الفقه بشكلٍ مختصر. رَتب الكتاب على أربعة أقسام: أول قسم: يتضمن أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم المرفوعة بسنده المتصل، والتي بلغت (540) حديثاً. القسم الثاني: أحاديث الصحابة رضوان الله عليهم:- يذكر أحاديث كل صحابي على حده، ويبين الكلمات الصعبة الغريبة في كلام كل صحابي أو رواية كل صحابي. القسم الثالث: أحاديث التابعين:- يذكر أحاديث كل تابعي على حدة مما يوجد فيه كلام غريب أو كلمة صعبة مع شرحها. والرابع: أحاديث لا يعرف أصحابها:- فهي آثار بدون عزو لقائل معين، وشرح ما فيها من الألفاظ الغريبة. هذا الكتاب يقول أبو عبيد فيه: بقيت في تصنيف هذا الكتاب (40) سنة، لأنه لا يأتي بأي حديث، بل يأتي بالحديث الذي فيه كلمة غريبة تحتاج إلى شرح، ويكون بسنده لا بسند غيره، ويكون فيه أيضاً فوائد فقهية، وتشرحه شواهد شعرية ومن أمثال العرب ونحو ذلك، وهذا الكتاب قد صار له مكانة مرموقة جداً، ونسخه الإمام أحمد رحمه الله واستحسنه. وكان ابن الباجي أحمد بن عبد الله الإشبيلي يحفظه غيباً. وكذلك عبد الملك بن إبراهيم الهمداني المقدسي، وغيرهم من العلماء يحفظونه غيباً، تأثراً بطريقة هذا الكتاب. وأبو إسحاق الحربي ألف على نمطه، وغيره من أهل العلم ألَّفوا على نمط أبي عبيد في الغريب، وقامت لهذا الكتاب شروح ومختصرات، وتعليقات، وتعقيبات، فكان محط اهتمام وانتباه من العلماء، ونقل عنه عددٌ من المصنفين في مؤلفاتهم.

منهج أبي عبيد في الفقه

منهج أبي عبيد في الفقه أما بالنسبة للفقه:- فإن أبا عبيد -رحمه الله- كان إماماً مجتهداً، غير مقلدٍ ولا متبعٍ لمذهب معين؛ لأنه قد توافرت فيه صفات الاجتهاد؛ فمثلاً الخبرة بحديث النبي عليه الصلاة والسلام موجودة، وعلم الناسخ والمنسوخ، والمحكم والمتشابه الخبرة باللغة معرفة اختلاف العلماء فقه النفس، كله كان متوفراً عنده رحمه الله. وهو صاحب مناظرات فقهية مع كبار العلماء، وحصلت له مناظرة مع الشافعي، هذه المناظرة تُكتب وتروى في موضوع أدب الخلاف والمناظرة، والإخلاص وطلب الحق. والقصة: تناظر الشافعي وأبو عبيد في القرء الذي تعتد به المطلقة، فكان الشافعي يقول: إنه الحيض، فثلاثة قروء تعني: ثلاث حيضات، أي أنه إذا طلقها في طهرٍ لم يجامعها فيه فإنها تحيض ثم تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم تحيض، فإذا انتهت الحيضة الثالثة خرجت من العدة، وملكت نفسها، وتزوجت مَن أرادت بالمعروف. وكان أبو عبيد يقول: إن معنى القرء: الطهر، وكان لكل واحد منهما حجج، وأنت إذا فتحت أضواء البيان للشنقيطي في هذه المسألة ترى عجباً، واستدلالات لطيفة من اللغة؛ لأن مما استدل به على أنه الطهر أن الله قال: {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228] الثلاثة إلى العشرة إذا كان المعدود مذكراً فيكون العدد مؤنثاً، وإذا كان المعدود مؤنثاً يكون العدد مذكراً، فإذا كان حيضة ستكون ثلاثُ حيضات، وإذا كان الطهر فإننا نقول: ثلاثة أطهار، فهي ثلاثة، لكن للقائلين بأن المقصود هو الحيض أن يقولوا: إن العدد هذا جاء على المعدود وهو أن القرء مذكر، والعدد مؤنث بطبيعة الحال على القاعدة. المهم: كان الشافعي يقول: إنه الحيض، وأبو عبيد يقول: إنه الطهر، فلم يزل كلٌ منهما يقرر قوله، ويحتج لقوله بالأدلة والشواهد حتى تفرقا وقد انتحل كل واحدٍ مذهب صاحبه وانتقل إلى رأيه. وتأثر بما أورده من الحجج والشواهد، وهذه القصة نموذج على اتباع السلف -رحمهم الله- للحق وطلبه في النقاشات العلمية، ولم يكن هَمُّ الواحد منهم أن يظهر ويعلو، ويغلب وينتصر لنفسه، ولكن يبحث عن الحق، فإذا كان الحق مع الطرف الآخر تبعه، وإذا تبين للطرف الآخر أن كلامه ليس براجح فالحمد لله. يقول السبكي الشافعي عن القصة: إن صحت هذه الحكاية ففيها دلالة على عظمة أبي عبيد، فلم يبلغنا عن أحدٍ أنه ناظر الشافعي ثم رجع الشافعي إلى مذهبه، وأن الشافعي لأول مرة يرجع إلى مذهب شخصٍِ آخر. وأما بالنسبة لـ ابن تيمية -رحمه الله- فإنه لما تكلم عن أهل العلم الذين يبحثون الليل والنهار عن العلم بدون تعصب لشخص، ولا ميل لطائفة ولا مذهب، بل يرجحون قول هذا الصحابي تارة، وقول هذا الصحابي تارة، بحسب ما يرونه من أدلة الشرع ذكر من هذا الصنف أبا عبيد. كذلك الذهبي -رحمه الله- لما تكلم عن الاجتهاد، ومن يصلح له، ومن يصلح أن يقلَّد من الأئمة، فذكر ممن يصلح للتقليد أبا عبيد. قال ابن حجر رحمه الله: إن البخاري في جميع ما يورده من تفسير الغريب إنما ينقله عن أهل ذلك الفن؛ كـ أبي عبيد، والنضر بن شميل، والفراء وغيره، أما المباحث الفقهية فغالبها مستمدة له من الشافعي، وأبي عبيد، وأمثالهما. فـ البخاري استفاد من أبي عبيد في غريب الحديث والفقه.

مؤلفات أبي عبيد في الفقه واللغة والأنساب وغيرها

مؤلفات أبي عبيد في الفقه واللغة والأنساب وغيرها وأما بالنسبة للفقه:- فإنه قد ألف فيه مصنفات، وألف أدب القاضي. ومن أهم مؤلفات أبي عبيد في الفقه: الأموال الشرعية وبيان جهاتها ومصارفها، وهذا الكتاب كتابٌ عظيم ذكر فيه أن مصارف الأموال ثلاثة: - الفيء. - والخُمُس. - والصدقة. وتحت كل واحد من هذه الثلاثة أنواعٌ وأقسام، عرض فيه هذه المصارف الثلاثة، وآراء الصحابة والتابعين وفقهاء زمانه، ودلل لكل رأي وناقشه حتى يتوصل إلى الرأي المختار. وكذلك فإنه قد جعل في هذا الكتاب فوائد وفرائد مثل: دفع شُبَه وتوهمات، وقد أثنى العلماء على الكتاب، وقال أحمد بن مهدي: "أردت أن أكتب كتاب الأموال لـ أبي عبيد فخرجت لأشتري ماء الذهب -يعني: من نفاسة الكتاب يريد أن يكتبه بماء الذهب- فلقيت أبا عبيد فقلت: يا أبا عبيد! رحمك الله، أريد أن أكتب كتاب الأموال بماء الذهب، قال: اكتبه بالحبر فإنه أبقى، أي: ماء الذهب مع الوقت ينمحي". وقال ابن حجر: "وعن بعضٍ: كتابه في الأموال من أحسن ما صنف في الفقه وأجوده". وهذا الكتاب أيضاً تُنُوْوِل بالشرح والاختصار، ومَن جاء بعده، مثل: ابن زنجويه في كتاب الأموال قد أكثر النقل عن أبي عبيد رحمه الله تعالى. أيضاً له مصنفات أخرى في الفقه: ففقه أبي عبيد -رحمه الله- مما نُثِر في الكتب ونَقَله العلماء، فإذا نقلوا أقوال الشافعي وأحمد وغيرهما، فإنهم ينقلون: وقال أبو عبيد، فهو من أصحاب الأقوال المنقولة. والآداب:- فـ أبو عبيد -رحمه الله- قد ألف كتاب آداب الإسلام، وألَّف في الخطب والمواعظ أيضاً، وهذا مما يدل على سعة تصنيفه. في علوم اللغة:- لا شك أن له فيه مؤلفات. وألف أيضاً في أمثال العرب، فقد ألف كتاب الأمثال السائرة. وكذلك ألف رحمه الله في النحو. وفي التاريخ والأنساب، حتى ألف في أنساب الخيل. وكذلك فإن هناك أقوالاً في فقهه يمكن أن نذكر منها بعض الأمثلة، ما دام الرجل -رحمه الله- لم يتبع مذهباً معيناً كما قلنا، كان مستقلاً باجتهاده، وكان يراجع نفسه في المسائل، ويغير رأيه بناءً على ما يتبين له، وهذا يدل على التجرد، فلا يقول: أنا قلت كلمة ولا أغيرها. يقول عباس بن محمد الدوري: سمعت أبا عبيد يقول: وسئل عن الفُقَّاع -وهو نوع من الشراب يُتَخَّذ من الشعير- هل هو مسكر محرم أم لا؟ فقال: كان لي فيه قولٌ، أي: كنت أرى -مثلاً- بالمنع، فإذا هو يفسد بعد ساعة أو ساعتين، فعلمتُ أنه ليس به بأس؛ لأن الخمر لا يفسد؛ الخمر يبقى خمراً؛ لكن إذا كان يفسد، فمعناه: أنه ليس بمسكر وليس خمراً، فرأيه في هذا الشراب تحول وانتقل. ومن اللطائف التي حصلت له في تغيير رأي فقهي قصة: قال: كنت أفتي أن من نام جالساً لا وضوء عليه، حتى خرج إلى جنبي يوم الجمعة رجلٌ فنام فخرجت منه ريح، فقلت: قم فتوضأ، فقال: لَمْ أنَمْ، فقلت: بلى، وقد خرجت منك ريحٌ تنقض الوضوء، فجعل يحلف أنه ما كان ذلك منه، وقال لي: بل منك خروج ذلك فتركتُ ما كنتُ أعتقد في نوم الجالس، وراعيت غلبة النوم ومخالطته للقلب. أي: أن النوم جالساً يمكن أن ينقض الوضوء، وأن الإنسان إذا غاب عنه الوعي تماماً؛ فإن وضوءه ينتقض حتى لو نام جالساً.

من آراء أبي عبيد الفقهية

من آراء أبي عبيد الفقهية من آرائه الفقهية: طهارة بول ما يؤكل لحمه من الحيوانات وجواز شربه:- وبهذا قال المالكية والحنابلة ومحمد بن الحسن من الحنفية، وذهب الحنفية والشافعية إلى نجاستها، وقد استدل أولئك بحديث شرب بول الإبل الذي أمر النبي عليه الصلاة والسلام من نزلوا بـ المدينة وأصابتهم الحمى أن يشربوه. أيضاً من آرائه: أنه يكفي النضح في تطهير بول الصبي الذي لم يطعم:- وهذا قول الشافعية والحنابلة، وذهب الحنفية والمالكية إلى وجوب غسله. ومن أراء أبي عبيد رحمه الله: جواز الاغتسال ورفع الحدث بماء زمزم:- وهذا قول الأئمة الأربعة. ومن أقواله رحمه الله تعالى أيضاً: كراهة قراءة القرآن بالألحان:- وأن التغني بالقرآن هو تحزين القراءة بالتخويف والتشويق المؤدي إلى خشية الله تعالى، وليس التطريب. كذلك من آرائه الفقهية: كراهة قراءة القرآن منكوساً، أي بتغيير ترتيب السور، وأنه ينبغي أن يقرأ على حسب ترتيب المصحف- وأنه رُخِّص للصبي والعجمي للقراءة، من آخر القرآن من المعوذتين وحتى يرتفع إلى البقرة لصعوبة السور الطوال عليهما. وذهب كذلك -رحمه الله- إلى أنَّ مَن كان له دَينٌ لا يرجوه أنه ليس فيه زكاة، فإذا قبضه زكَّاه مرة واحدة لما مضى من السنين، وهذا قول الشافعية والحنابلة. وكذلك من أقواله الفقهية: أن حكم اللقطة في مكة ليس كحكمها في سائر البلاد:- فلا يجوز أخذ اللقطة في مكة للتملك، وإنما تؤخذ للحفظ والتعريف والإنشاد، ولا يحل الانتفاع بها ولا تملكها ولو عرَّفها سنة، بخلاف لقطة بقية البلدان والأماكن؛ فإنه إذا عرَّفها سنة فلم يجد صاحبها يأخذها وينتفع بها ويتملكها، وهذا قول الشافعية، وذهب الحنفية والمالكية والحنابلة إلى أنه لا فرق بين الحل والحرم في اللقطة. وأقواله كما قلنا منتشرة في كتب الفقه، والذي يطَّلع -مثلاً- على كتب الفقه المقارَن كـ المغني والمجموع وغيرهما يجد كلاماً لـ أبي عبيد منقولاً في المسائل الفقهية المختلفة. ورحل أبو عبيد رحمه الله تعالى إلى ربه -كما قلنا- في سنة: (224هـ)، وقد بلغ من العمر ثلاثاً وسبعين عاماً. رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه في أعلى عليين مع الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً. والله أعلم. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الإمام الحسن البصري [1، 2]

الإمام الحسن البصري [1، 2] دعا له عمر، ورضع من ثدي منسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فجلت به الحكمة والعلوم، حسن الخلقة والخلق، قوي الجسد، فصيح بليغ، صادع بالحق آمر بالمعروف ناه عن المنكر، واعظ مؤثر وعالم متبحر، شجاع مقدام، حسن الثياب والزينة، جيد الطعام واللباس، زاهد عابد، خائف متقشف، أثنى عليه العلماء بالغ الثناء. مرب حكيم، صاحب أخبار ومناقشات، مهتم بالعربية، حاكٍ لأشياء من التاريخ قاوم الشرك بأنواعه، توفي سنة (110) للهجرة، هذه العناوين وفي المادة التفصيل.

الحسن البصري اسمه وكنيته ونشأته

الحسن البصري اسمه وكنيته ونشأته الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد: فالحمد لله الذي قيض لهذه الأمة رجالاً ينيرون لها الطريق، ويحيون السنة، ويميتون البدعة، ويجددون الدين، ويتخلقون بأخلاق الأنبياء، فيكونون قدوة للناس، ومصلحين لأحوالهم، ومعلمين لهم، ومذكرين لهم بربهم. ولا شك أن التعرف على سير هؤلاء العلماء الأجلاء من الأمور المطلوبة للإنسان المسلم ليقتدي، وتنوُّع القدوات مهمٌّ؛ لأن كل قدوة قد يكون له جانب من التفوق ليس عند الآخر، فإذا حرص الإنسان على تتبع أحوالهم، اجتمع فيه الخير. وحديثنا في هذه الليلة -إن شاء الله تعالى- عن الإمام العلم الحسن البصري رحمه الله تعالى. واسمه: الحسن بن يسار، يلقب بـ البصري، ويُدعى تارة: بـ ابن أبي الحسن. وكنيته رحمه الله: أبو سعيد. وأبوه اسمه: يسار، كان مولىً لـ زيد بن ثابت في أحد الأقوال. وأمه: خَيْرَة، كانت مولاة لـ أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها. يسار تزوج بـ خَيْرَة في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فولدت له الحسن لسنتين بقِيَتا من خلافة عمر رحمه الله. وقال يونس عن الحسن: [قال لي الحجاج: ما أمدك يا حسن؟ قلت: سنتان من خلافة عمر]. وكانت أم سلمة تبعث أم الحسن في الحاجة، فعندما تحتاج أم سلمة إلى شيء تبعث إليه أم الحسن، ويبقى الولد عند أم سلمة رضي الله عنها، فيبكي وهو طفل، فتسكته أم سلمة بثدييها، وتخرجه إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صغير، وكانت أمه منقطعة لخدمة أم سلمة، فكان الصحابة إذا أُخرج إليهم الحسن رضي الله عنهم يدعون له، فقيل: إنه أُخرج لـ عمر رضي الله عنه، فدعا له، وقال: [اللهم فقهه في الدين، وحببه إلى الناس]. قال ابن كثير رحمه الله: وأمُّه خَيْرَة مولاة لـ أم سلمة، كانت تخدمها، وربما أرسلتها في حاجة فتشتغل عن ولدها الحسن وهو رضيع، فتشاغله أم سلمة بثدييها، فيدران عليه. وهذه مسألة تحصل في الواقع، من أن المرأة الكبيرة حتى لو انقطعت عن الزوج وعن الولادة بسبب الحنان قد يدر لبنها، ولذلك تكلم العلماء في حكم هذا اللبن، واختلفوا هل له حكم أم لا؟ وهل تكون أماً له من الرضاع؟ وهل تثبت به المحرمية؟ وكانوا يرون أن تلك الحكمة والعلوم التي أوتيها الحسن من بركة رضاعته من أم سلمة رضي الله عنها، من الثدي المنسوب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ونلاحظ كذلك أثر بركة دعاء الصحابة رضي الله عنهم لهذا المولود، وكيف نشأ وصار بعد ذلك. ولذلك يجب أن يكثر الإنسان من الدعاء لذريته، فقد يكون صلاحهم بدعائه، ودعوة منه قد تكون سبباً لصلاح الولد، ولذلك ندعو لهم ولا ندعو عليهم. وفي كلام كثير من الصالحين دعاء للذرية: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان:74].

وصف خلقة الحسن البصري

وصف خلقة الحسن البصري كان الحسن رحمه الله في خلقته رجلاً جميلاً وسيماً، قال محمد بن سعد يصفه: كان الحسن رحمه الله جامعاً، عالماً، رفيعاً، فقيهاً، ثقةً، حجةً، مأموناً، عابداً، ناسكاً، كثيرَ العلم، فصيحاً، جميلاً، وسيماً. وقال الذهبي: قلت: كان رجلاً تامَّ الشكل، مليحَ الصورة، بهياً، وكان من الشجعان الموصوفين. وقال أبو عمرو بن العلاء: نشأ الحسن بـ وادي القرى، وكان من أجمل أهل البصرة، حتى سقط عن دابته فحدث بأنفه ما حدث. وقال الشعبي لرجل يريد قدوم البصرة: إذا نظرت إلى رجل أجمل أهل البصرة، وأهيبهم، فهو الحسن، فأقرئه مني السلام. وقال الأصمعي عن أبيه: "ما رأيت زنداً أعرض من زند الحسن البصري، كان عرضه شبراً" وهذا يدل على اكتمال خلقته وقوته وجسمه رضي الله عنه ورحمه.

شجاعة الحسن البصري وجهاده

شجاعة الحسن البصري وجهاده كان يرافق بعض المشهورين بالشجاعة، كـ قَطَرِي بن الفجاءة، والمهلب بن أبي صُفْرة؛ ولذلك تعلم الشجاعة وتربى عليها. قال هشام بن حسان: كان الحسن أشجع أهل زمانه. وقال جعفر بن سليمان: كان الحسن من أشد الناس، وكان المهلب إذا قاتل المشركين يقَدِّمُه. فهذه ميزة في الحسن رحمه الله، وهو معروف برقة القلب وبالوعظ، ولو سألت إنساناً وقلت له: ما هو انطباعك عن الحسن؟ فسيقول لك: هو زاهد وواعظ. وهذا صحيح؛ لكنه قلَّما يُعرف بأن الحسن كان رجلاً شجاعاً مقداماً مقاتلاً، وكان يُقَدَّم في القتال، كان قوي البنية، شديد البأس، وهذا يدل على أن الإنسان الزاهد الواعظ ليس من طبعه الضعف، ولا تلازم بين ضعف البدن والزهد وأن يكون واعظاً، فقد يكون الإنسان واعظاً رقيق القلب، وهو من أشجع الشجعان، ولا تعني الشجاعة وقوة الجسد غلظة القلب بالضرورة أبداً. كما أن رقة القلب وكثرة البكاء من خشية الله تعالى والوعظ لا تعني أن الواعظ يجب أن يكون ضعيف البدن، لا. فهذا الحسن رحمه الله قوي البنية، ومع ذلك فهو رقيق القلب للغاية. وأما من جهة الجهاد، فإنه رحمه الله كان كثير الجهاد ويخرج للقتال، ولذلك لا انفصام بين العالم والمجاهد، لا انفصام بين الوعظ والجهاد، كلها أمور تجتمع في شخصيات السلف رحمهم الله.

فصاحة الحسن البصري

فصاحة الحسن البصري أما فصاحته وبلاغته، فإنه رحمه الله تعالى كان فصيحاً بليغاً. قال حماد بن زيد: سمعت أيوب يقول: كان الحسن يتكلم بكلام كأنه الدر، فتكلم قوم من بعده بكلام يخرج من أفواههم كأنه القيء. وهذا الفرق بين من يخرج كلامه من القلب بنور الكتاب والسنة، وبين من يخرجه بتكلف كأنه يقيء قيئاً. وقال أبو عمرو بن العلاء: ما رأيت أفصح من الحسن البصري، ومن الحجاج بن يوسف الثقفي، فقيل له: فأيهما كان أفصح؟ قال: الحسن. وقال له رجل: أنا أزهد منك وأفصح، قال: أما أفصح فلا -الزهد لا أزكي نفسي به؛ أما الفصاحة فنعم- قال: فخذ عليَّ كلمة واحدة، قال: هذه. أي: التي أنت قلتها الآن. وقيل للحجاج: من أخطب الناس؟ قال: صاحب العمامة السوداء بين أخصاص البصرة. يعني: الحسن رحمه الله تعالى.

لباس الحسن البصري وزينته وطعامه

لباس الحسن البصري وزينته وطعامه ومن جهة لباسه وزينته وطعامه ربما يظن بعض الناس أن الحسن عندما كان واعظاً، أنه يلبس أسمالاً بالية وثياباً مرقعة؛ ولكن الرجل كان جيد اللباس، ليس عنده تعارض بين الزهد وبين جودة اللباس وجماله، فقال ابن عُلَي عن يونس: كان الحسن يلبس في الشتاء قباءً حِبَرَة، وطيلساناً كردياً، وعمامة سوداء، وفي الصيف إزارَ كتَّانٍ، وقميصاً، وبرداً حِبَرَة. وقال أيوب: ما وجدتُ ريح مرقة طُبِخَت أطيب مِن ريح قِدر الحسن. وقال أبو هلال: قلَّما دخلنا على الحسن، إلا وقد رأينا قِدراً يفوح منه ريح طيبة. وكان يأكل الفاكهة، فلم يكن الحسن صوفياً مثل هؤلاء الصوفية الذين يتعمدون أن يُرى عليهم اللباس البالي والمرقع، ولا يأكلون اللحم ولا الفاكهة، بل كان يعتني بأمر حاله، ويتجمل لإخوانه، كيف وهو يُغْشَى؟! فالواحد إذا كان لوحده ربما يلبس ما شاء، لكن إذا كان يتصدى للناس، ويأتونه ويسألونه، ويقتربون منه، ويجلسون حوله، فلا بد أن يكون طيب الرائحة، حسن الثياب، يتجمل للناس، حتى يحبوه. ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم في الأعياد والجُمع يتزين. أرْسِلَت إليه جُبَّة، فعرض عليه عمر رضي الله عنه أن يلبسها ويتزين بها للوفود؛ لأن الناس يهتمون بالمظاهر، ولا يناسب أن يكون العالم مظهره رث، وهيئته بالية، ورائحته غير طيبة، وثيابه غير نظيفة، بل إنه يكون نظيف الثياب، طيب الرائحة؛ لأنه يُغْشَى ويُخْتَلَط به، وهكذا يجب أن يكون الدعاة إلى الله الذين يأتون إلى الناس ويخالطونهم، فيجب أن يكون أحدهم كالشامة بين الناس، لا بأس أن يكون ثوب أحدهم حسناً، ونعله حسنة، ورائحته طيبة، وثيابه مرتبة، لكن الإنكار على مَن أسرف، (كُلْ ما شئت، والبس ما شئت، ما أخطأتك خصلتان: سَرَفٌ، ومخيلة) المشكلة في السَّرَف والخُيَلاء، وإضاعة الأموال في التوافه، ووضع المال في شيء لا يستحق؛ كالمبالغة في الزينة، والزخرفة. قال قتادة: دخلنا على الحسن وهو نائم، وعند رأسه سَلَّة، فجذبناها؛ فإذا فيها خبز وفاكهة، فجعلنا نأكل، فانتبه -أي: من النوم- فرآنا، فتبسم- ارتاح جداً أن يرى إخوانه يأكلون من طعامه؛ لأنه يؤجر- وهو يقرأ: {أَوْ صَدِيقِكُمْ} [النور:61] إشارة إلى الآية التي فيها: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ} [النور:61] إلى أن قال: {أَوْ صَدِيقِكُمْ} [النور:61] فإذا علمت أن صديقك يرضى إذا أكلتَ من بيته، ولو كان غير موجود، أو بدون إذن، فلا يحتاج الأمر إلى إذن، لا يشترط إذن الصديق إذا أذن لك في بيته أن تأكل منه، فلو أعطاك مفتاح البيت وأذن لك بدخوله، وأنت تعلم أنه يرضى أن تأكل من طعامه، فلا حرج عليك أن تفتح الثلاجة وتأكل من طعامه مما هو موجود في البيت دون إفساد، وهذا الحسن رحمه الله لما رأى إخوانه يأكلون من فاكهته وهو نائم سره ذلك، وقرأ الآية: {أَوْ صَدِيقِكُمْ} [النور:61]. وعن جرثومة قال: رأيت الحسن يُصفِّر لحيته في كل جمعة. وقال أبو هلال رأيت الحسن يغير بالصفرة. فمن السنة تغيير الشيب بالحناء بالكتم، والصفرة شيء إلى الحمرة، أو اللون البني لا بأس بذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (غيِّر الشيب وجنبوه السواد) و (نهى عن الخضاب بالسواد) و (ليأتين أقوام في آخر الزمان يخضبون بالسواد لهم حواصل كحواصل الحمام لا يدخلون الجنة ولا يريحون ريحها) وحوصلة الحمامة: مثلما يكون من هذا الشكل الهلالي، الذي يجعلونه في اللحى من العبث بها، بحيث يكون هيئتها كحوصلة الحمامة، ويصبغونها بالسواد، فيكون سوءاً على سوء. فهذا الحسن رحمه الله كان يغير الشيب، ونحن نُهينا عن نتف الشيب؛ لأن كل شعرة بيضاء تكون لصاحبها نوراً يوم القيامة إذا شاب في طاعة الله، فإذا ظهر له الشيب فإنه يفرح؛ لأنه يكون له نوراً يوم القيامة إذا شاب في طاعة الله، وهذا من مراعاة النفس؛ لأن النفس تكره الشيب، فلما نهينا عن نتفه رُخِّص لنا بصبغه وتغييره بغير الأسود.

الحسن البصري عبادته وخشيته وحسن خلقه

الحسن البصري عبادته وخشيته وحسن خلقه أما بالنسبة لعبادته رحمه الله، وخشيته لله، وتقشفه، فإنه مع كونه جيد الملبس والمطعم، لكنه كان زاهداً، كان يصوم أيام البيض، والإثنين والخميس، وأشهر الحرم. وحكى ابن شوذب عن مطر قال: "دخلنا على الحسن نعوده فما كان في البيت شيء -لا فراش، ولا بساط، ولا وسادة، ولا حصير- إلا سريراً مرمولاً هو عليه، حَشْوُهُ الرمل" والسرير المرمول: الذي نسج وجهه بالسعف، ولم يكن على السرير وطاء سوى الحصير، فيسمى مرمولاً. وقال حمزة الأعمى: ذهبت بي أمي إلى الحسن، فقالت: يا أبا سعيد! ابني هذا قد أحببت أن يلزمك، فلعل الله أن ينفعه بك، قال: فكنتُ أختلف إليه، فقال لي يوماً: [يا بني! أدم الحزن على خير الآخرة لعله أن يوصلك إليه، وابكِ في ساعات الليل والنهار في الخلوة لعل مولاك أن يطَّلع عليك فيرحم عبرتك فتكون من الفائزين] هذه الوصية بالبكاء من خشية الله، ودمع العين من هيبة الله تعالى وخوفه، وكنت أدخل على الحسن منزله وهو يبكي -لم يكن يأمر الناس بالشيء وهو لا يفعل، بل كان يقول ويفعل، ويفعل قبل أن يقول- وربما جئت إليه وهو يصلي، فأسمع بكاءه ونحيبه، فقلت له يوماً: إنك كثير البكاء -دائماً تبكي- فقال: [يا بني! ماذا يصنع المؤمن إذا لم يبكِ، يا بني! إن البكاء داع إلى الرحمة، فإن استطعت أن تكون عمرك باكياً فافعل، لعله تعالى أن يرحمك، فإذا أنت نجوت من النار إذا رحمك ستجد نفسك قد نجوت من النار]. قال إبراهيم اليشكري: "ما رأيت أحداً أطول حزناً من الحسن، ما رأيته إلا حسبته حديث عهد بمصيبة". كأنه الآن قبل قليل جرت عليه مصيبة. وقال أحد مَن رآه: "لو رأيتَ الحسن، لقلتَ: قد بُث عليه حزن الخلائق". أي: جُمِعَتْ عليه. وقال يزيد بن حوشب: "ما رأيت أحزن من الحسن وعمر بن عبد العزيز، كأن النار لم تخلق إلا لهما، وكانا قليلاً الضحك والمزاح. لأنه إذا كان كثير البكاء من خشية الله فإن ذلك ولا شك سيؤثر في مزاحه وضحكه، فمن كان كثير البكاء كان قليل الضحك، ومن كان كثير الخشية والهيبة كان قليل المزاح. ومن حسن خلقه: أنه كان سمحاً في بيعه وشرائه، فكان إذا اشترى شيئاً وكان في ثمنه كسر جبره لصاحبه، كان يشتري بريال إلا ربع فيترك الربع للبائع، أو بريال ونصف فيترك النصف للبائع، وما ذاك إلا من طيب خلقه، لا يدقق ويفتش ويأخذ الكسور، وإذا اشترى السلعة بدرهم ينقص دانقاً -لأن الدرهم يقسم إلى دوانق، والدانق بعض الدرهم- كمَّله درهماً، يقول: خذ الدرهم كاملاً، أو بتسعة ونصف كمله عشرةً مروءةً وكرماً. والآن بعض الناس يقولون: هناك صناديق للهيئات الخيرية في البقالات، الهيئة الخيرية أولى من صاحب البقالة، وهذا جيد وطيب، يأخذ هذه القروش ويضعها في هذا الصندوق من صناديق التبرعات، وهذا جيد أنه يجود بهذه الكسور لله تعالى. رأيت مرة منظراً غريباً في أحد البقالات الكبيرة: أجنبي كافر أعطى البائع الريالات وأخذ الفكة ووضعها في الصندوق الخيري، مع أنه كافر! لكن صحيحٌ هو لا ينتفع بها عند الله يوم القيامة؛ لأن الله تعالى لا يجزي الكافر بحسناته يوم القيامة: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23] لكن يعطونها في الدنيا، إنما يؤثر فيك أن ترى كافراً يتبرع لصندوق الإغاثة، أو لصندوق الفقراء وهو كافر!! وباع الحسن -رحمه الله- بغلة، فقال المشتري: أما تحط لي شيئاً يا أبا سعيد؟ -اتفقوا على الثمن ورضوا، فقال المشتري: أما تحط لي شيئاً يا أبا سعيد؟ - قال: لك خمسون درهماً، أزيدك؟ -أي: هل تحتاج إلى زيادة؟ - قال: لا. رضيت، قال: بارك الله لك. وهذا عين ما أخبر به صلى الله عليه وسلم في الحديث ودعا: (رحم الله عبداً سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا قضى، سمحاً إذا اقتضى).

ثناء العلماء على الحسن البصري

ثناء العلماء على الحسن البصري وقد أثنى العلماء -رحمهم الله تعالى- على الحسن بالغ الثناء:- ولما استهل أبو نعيم في الحلية ترجمة الحسن البصري رحمه الله، قال: "ومنهم حليف الخوف والحزن، أليف الهم والشجن، عديم النوم والوسن، أبو سعيد الحسن بن أبي الحسن، الفقيه الزاهد، المشمر العابد، كان لفضول الدنيا وزينتها نابذاًَ، ولشهوة النفس ونخوتها واقذاً". والوقيذ أو الوقذ: أن يُضرب الشيء حتى يسترخي ويموت، أو يشرف على الموت، فكان لشهوته كابتاً. وعن علقمة بن مرثد قال: "انتهى الزهد إلى ثمانية من التابعين، فمنهم: الحسن بن أبي الحسن، فما رأينا أحداً من الناس كان أطول حزناً منه، ما كنا نراه إلا أنه حديث عهد بمصيبة". قال الحسن: [نضحك ولا ندري لعل الله قد اطلع على بعض أعمالنا، فقال: لا أقبل منكم شيئاً]. كان مشهوراً جداً بالمواعظ، وكانت مواعظه مؤثرة، لأن العبارات رقيقة تخرج من القلب، وعلى رسم الكتاب والسنة، [ويحك يابن آدم! هل لك بمحاربة الله طاقه، إنه من عصى الله فقد حاربه، واللهِ لقد أدركت سبعين بدرياً، أكثرُ لباسهم الصوف -أي: من زهدهم في الدنيا لا يجدون ولا يحرصون على التنعم- ولو رأيتموهم لقلتم: مجانين، ولو رأوا خياركم لقالوا: ما لهؤلاء من خلاق، ولو رأوا شراركم لقالوا: ما يؤمن هؤلاء بيوم الحساب، ولقد رأيتُ أقواماً كانت الدنيا أهون على أحدهم من التراب تحت قدميه، ولقد رأيت أقواماً يمسي أحدهم ما يجد عنده إلا قوته، فيقول: لا أجعل هذا كله في بطني، لأجعلن بعضه لله عز وجل، فيتصدق ببعضٍ وإن كان هو أحوج ممن يتصدق به عليه]. يعني: هذا المتصدِّق محتاج أكثر من المتصدَّق عليه؛ لكن يجودون لله تعالى. وعن خالد بن صفوان، قال: لما لقيت مسلمة بن عبد الملك بـ الحيرة، قال: يا خالد! أخبرني عن حسن أهل البصرة، قلت: أصلح الله الأمير، أخبرك عنه بعلم، أنا جاره إلى جنبه، وجليسه في مجلسه، وأعلم مَن قِبَلي به: أشبه الناس سريرةً بعلانية هذا أولاً، السريرة تطابق العلانية؛ لا رياء، ولا نفاق، ولا كذب، ولا تصنع، ولا مجاملات. - وأشبه قولاً بفعل. قوله يشبه فعله، لا يأمر الناس بالبر وينسى نفسه، قوله وفعله مستويان متطابقان. - إن قعد على أمر قام عليه، وإن قام على أمر قعد عليه. - وإن أمر بأمر كان أعْمَلَ الناس به، وإن نهى عن شيء كان أَتْرَكَ الناس له. - رأيته مستغنياً عن الناس، ورأيت الناس محتاجين إليه. قال: حسبك يا خالد! كيف يضل قومٌ هذا فيهم؟! فإذاً: الصالحون والعلماء والعباد والزهاد هم سراج وهاج يستضيء بهم الناس، والناس لا يهلكون وفيهم مثل هؤلاء، متى يهلك الناس؟ إذا انطفأت السرج، وإذا لم يوجد أحد ينير كيف يبصر العميان؟ ولذلك فإن وجود الدعاة في المجتمع رحمة لهذا المجتمع من عدة جهات: أولاً: أنهم من أسباب رفع العذاب عنهم: إذا وجد الصالحون والمصلحون في مجتمع فهم من أسباب رفع العذاب عن المجتمع. ثانياً: بهم يرزقون، وبهم يمطرون. ثالثاً: هم مصدر العلم، ومنهم يتعلم الجهَّال. رابعاً: هم مصدر الوعظ الذين يعظون الغافلين. خامساً: هم مصدر القدوة. سادساً: تنصلح أحوال الناس بمخالطتهم. ولذلك كلما كثروا في المجتمع كان دليلاً على صلاح المجتمع وصحته، وإذا قلوا أو انعدموا فهذا دليل على مرض هذا المجتمع أو موته. ولذلك يجب أن نحرص على تكثير الدعاة في المجتمع، ونفرح إذا رأينا عدد الصالحين في المجتمع يزيد؛ لأن هذا من أسباب سعادة المجتمع، أما إذا رأيت الصالحين ينقرضون ويقلون ويذهبون، ولا يأتي غيرهم، فهذا نذير شؤم وبلاء خطير. وبعض الناس لا يقدرون قيمة الصالحين في المجتمع، ولذلك ينابذونهم العداء يجهلون قدرهم يذلونهم يسخرون منهم يستهزئون بهم، لا يعطونهم ما يجب لهم من الحق، ولا يقدمونهم في المجالس ويسمعون لكلامهم، فلذلك ترى أمر هؤلاء الصالحين في ضعف؛ لأن الناس لم يعرفوا قيمتهم، ولم يعرفوا قدرهم. وأما إذا عرف المجتمع قدر الصالحين رأيتهم يُقَدَّمون في المجالس يقدمون في الحديث يُسْمَع لكلامهم يُنْزَل عند رأيهم، ويُبَتُّ حسب مشورتهم وأمرهم، ولذلك قال مسلمة لـ خالد بن صفوان: كيف يضل قوم هذا فيهم؟! وفي سير أعلام النبلاء يقول الذهبي: "كان الحسن سيد أهل زمانه علماً وعملاً". وقال ابن كثير في البداية والنهاية: "الإمام الفقيه المشهور، أحد التابعين الكبار الأجلاء علماً وعملاً وإخلاصاً". وقال العوام بن حوشب: "ما أشبه الحسن إلا بنبي". وعن أبي قتادة، قال: "الزموا هذا الشيخ -أي: الحسن - فما رأيت أحداً أشبه رأياً بـ عمر منه". يعني: من رجاحة عقل الحسن شبه رأيه برأي عمر. ويقال: إن أنس بن مالك، قال: [سلوا الحسن فإنه حَفِظَ ونسينا]. وهو الصحابي! وقال مطر الوراق: "لما ظهر فينا الحسن جاء كأنما كان في الآخرة". فهو يخبر عما عايَن. كأنه واحد كان في الآخرة، كان في القبر ورأى البرزخ ورأى الموت والجنة والنار، والبعث والميزان والصراط، فكأنه واحد جاء من الدار الآخرة، فهو يخبر الناس عما رآه هناك. فهذا يكون من شدة تمثله لما أخبر الله به عن الدار الآخرة، كأنه جاء من الآخرة، وهذا يدل على تأثره. وقال قتادة: [ما جمعت علم الحسن إلى أحد من العلماء إلا وجدت له فضلاً عليه -يعني: علم الحسن زائد- غير أنه إذا أُشْكِل عليه شيء كَتَبَ فيه إلى سعيد بن المسيب -وسعيد بن المسيب سيد التابعين- وما جالست فقيهاً قط إلا رأيت فضل الحسن]. وقال أبو هلال: [كنت عند قتادة، فجاء الخبر بموت الحسن، فقلت: لقد كان غُمِسَ في العلم غَمْساً، قال قتادة: بل نَبَتَ فيه، وتحقَّبه، وتشرَّبه، والله لا يبغضه إلا حروري]. والحروريون هم: الخوارج، نسبة إلى بلدة حروراء، التي كان أول أمرهم بها، خرجوا منها وفيها، ولذلك لا يبغض الحسن إلا رجل من الخوارج. وقال: [ما كان أحد أكمل مروءة من الحسن]. فالرجل كان بالإضافة إلى أدبه صاحب مروءة. وعن حجاج بن أرطأة عن عطاء: قال: [عليك بذاك -أي: الحسن - ذاك إمام ضخم يُقتدى به]. وقال قتادة: كان الحسن من أعلم الناس بالحلال والحرام. وقال بكر المُزَنِي: "مَن سره أن ينظر إلى أفقه ممن رأينا، فلينظر إلى الحسن ". كان في حلقة الحسن البصري التي في المسجد حديث، وفقه، وعلم القرآن، واللغة، والوعظ، فبعض الناس صحبه للحديث ليسمع منه المرويات، وبعض الناس صحبه للقرآن ليسمع منه التفسير، وبعض الناس صحبه للبلاغة ليتعلم منه اللغة والفصاحة والبيان، وبعض الناس صحبوه للوعظ ليتعلم منه الإخلاص والعبادة. وقال أيوب السختياني: "لو رأيت الحسن، لقلت: إنك لم تجالس فقيهاً قط". لنسيتَ كلام الفقهاء بجانب كلامه. وقال الأعمش: "ما زال الحسن يعي الحكمة حتى نطق بها". لأن الكلام الذي فيه حكمة لا يخرج إلا من رجل ارتضعها ووعاها فنطق بها. وقال رجل لـ يونس بن عبيد: "أتعلم أحداً يعمل بعمل الحسن؟ قال: والله ما أعرف أحداً يقول بقوله، فكيف يعمل بمثل عمله؟! قال: صفه لنا، أنت رأيته هذا فائدة تربوية: الأجيال كانت تسأل عمن فات، فالذي لم ير الحسن يسأل من رأى الحسن، يقول: صفه لنا، كيف هو؟ كيف شكله؟ كيف سَمْته؟ كيف عبادته؟ كيف وعظه؟ هات من كلامه شيئاً، هات من علمه من فقهه ماذا سمعت منه؟ الآن ربما يموت العالم ويخرج رجل من جيل جديد لم يرَ هذا العالم هل يسأل عنه؟ هل تراه يهتم بالجيل الذي مضى؟! يقول لواحد من الذين عاصروا العالم أو عايشوه: صفه لنا، كيف سَمْته؟ كيف كلامه؟ هات لنا مسائل مما سمعته منه، نادراً! وهذه مشكلة؛ أن الأجيال لا تحرص على الارتباط بمن سبق، والسؤال عمن سبق، كان الواحد من السلف إذا ما رأى رجلاً فاضلاً صالحاً عالماً، فاته، مات قبل أن يولد هذا مثلاً، يسأل عنه: صفه لنا مهتم. قال: كان إذا أقبل -إذا رأيته آتٍ- فكأنه أقبل من دفن حميمه -كأنه الآن دفن أحب الناس إليه، كيف يكون وجه المصاب بالمصيبة؟ هكذا كان وجهه من الخشوع- وكان إذا جلس فكأنه أسير قد أمر بضرب عنقه -لو أتي بالأسير ليضرب عنقه، كيف يكون جلوسه؟ متخشعاً، هكذا كان جلوسه، لم يكن جلوسه جلوس أشر ولا بطر- وكان إذا ذُكِرَت النار عنده، فكأنها لم تخلق إلا له. بينما بعض الناس الآن لو تليت عليهم الآيات التي فيها ذكر جهنم، يقول: هذه للكفار، الحمد لله نحن مسلمون، ولا نحتاج، ولسنا معنيين بالأمر، مع أن الإنسان ينبغي أن يخاف على نفسه لأنه لا يدري ماذا يختم له، فقد يُختم له والعياذ بالله بخاتمة أهل النار، فإذاً: لا بد أن يخاف على نفسه. وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطأة: [أما بعد: فإنك لن تزال تعنِّي إليَّ رجلاًَ من المسلمين في الحر والبلاد، تسألني عن السنة كأنك إنما تعظمني بذلك، وأيْمُ الله لحسبك بـ

جرأة الحسن البصري وصدعه بالحق، وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر

جرأة الحسن البصري وصدعه بالحق، وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر أما ما كان عليه من الجرأة والصدع بالحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فله مواقف، منها:

موقف الحسن مع عمر بن هبيرة

موقف الحسن مع عمر بن هبيرة جاء عن علقمة بن مرثد أنه قال: لما وَلِي عمر بن هبيرة العراق، أرسل إلى الحسن وإلى الشعبي، فأمر لهما ببيت، وكانا فيه شهراً، ثم إن الخصيَّ -وكان عند الأمراء هذا النوع من الناس- غدا عليهما ذات يوم، فقال لهما: إن الأمير داخل عليكما، فجاء عمر بن هبيرة -الأمير- يتوكأ على عصاً له، فسلم ثم جلس معظماً لهما، فقال: إن أمير المؤمنين يزيد بن عبد الملك يُنْفِذُ كُتُباً، أعرف أن في إنفاذها الهلكة -يعني: يعطيني أوامر في الكتب لو أنفذتها ففي إنفاذها الهلكة- فإن أطعته عصيت الله، وإن عصيته أطعت الله، فهل تريان لي في متابعتي له فرجاً؟ أي: هل أنا مكره؟ فقال الحسن: يا أبا عمرو! -وهو الشعبي، أجب الأمير، فتكلم الشعبي، فانحط في حِيَل ابن هبيرة، -يعني: كأنه يلتمس له أعذاراً وأشياء- فقال: ما تقول أنت يا أبا سعيد؟! قال: أيها الأمير! قد قال الشعبي ما قد سمعتَ. قال: ما تقول أنت يا أبا سعيد؟ فقال: يا عمر بن هبيرة! يوشك أن يتنزل بك ملك من ملائكة الله تعالى، فظ غليظ، لا يعصي الله ما أمره، فيخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك. يا عمر بن هبيرة! إن تتقِ الله يعصمك من يزيد بن عبد الملك، ولا يعصمك يزيد بن عبد الملك من الله عز وجل. يا عمر بن هبيرة! لا تأمن أن ينظر الله إليك على أقبح ما تعمل في طاعة يزيد بن عبد الملك نظرة مقت، فيغلق بها باب المغفرة دونك. يا عمر بن هبيرة! لقد أدركتُ أناساً من صدر هذه الأمة كانوا والله على الدنيا وهي مقبلة أشد إدباراً من إقبالكم عليها وهي مدبرة. يا عمر بن هبيرة! إني أُخوِّفك مقاماً خوَّفَكَهُ الله تعالى، فقال: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم:14]. يا عمر بن هبيرة! إن تكُ مع الله تعالى في طاعته كفاك بائقة يزيد بن عبد الملك، وإن تكُ مع يزيد بن عبد الملك على معاصي الله وكََلَكَ الله إليه. قال: فبكى عمر بن هبيرة، وقام بعبرته. أي: أن البكاء متواصل -متأثر- وقام من المجلس ولا تزال عبرته فيه. هذا ما كان من موعظة الحسن لهذا الأمير، وهذا كلام نادر حتى في لفظه، وفي طريقته وأسلوبه. ولذلك من المهم أن نتعلم الأسلوب، ومثل هؤلاء العظماء ينبغي أن نتشبه بهم في أساليبهم. وقد رُوِيَت هذه القصة بسياق آخر: أن عمر بن هبيرة الفزاري والي العراق لما دخل في أيام يزيد بن عبد الملك، استدعى الحسن البصري ومحمد بن سيرين والشعبي في سنة [103هـ] وقال: إن يزيد خليفة الله استخلفه على عباده، وأخذ عليه الميثاق بطاعته، وأخذ عهدنا بالسمع والطاعة، وقد ولاني ما ترون، فيكتب إليَّ بالأمر من أمره، فأقلده ما تقلد من ذلك الأمر، فما ترون؟! -إذا أمرني بشيء فيه معصية مثلاً؟ -. فقال ابن سيرين والشعبي قولاً فيه تَقِيَّة. فقال ابن هبيرة: ما تقول يا حسن؟ فقال: يـ ابن هبيرة! خَفِ الله في يزيد، ولا تخَفْ يزيد في الله. إن الله يمنعك من يزيد، وإن يزيد لا يمنعك من الله. وأُوْشِكَ أن يُبعث إليك ملَك فيزيلك عن سريرك، ويخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك، ثم لا ينجيك إلا عملك. يـ ابن هبيرة! إن تعص الله فإنما جعل الله هذا السلطان ناصراً لدين الله وعباده، فلا تركبن دين الله وعباده بسلطان الله، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. فأجازهم ابن هبيرة، وأضعف جائزة الحسن. فقال الشعبي لـ ابن سيرين: سَفْسَفْنا له، فسَفْسَفَ لنا.

موقف الحسن مع الحجاج

موقف الحسن مع الحجاج الموقف من الحجاج لا شك أنه موقف صعب جداً؛ لأن الحجاج كان يقتل على أتفه وأدنى سبب، واخترع أساليب في التعذيب، وبدأ بأشياء من الظلم فتح بها أبواباً شنيعة، وكانوا أحياناً يفعلون بالناس أفعالاً لا تخطر بالبال، مثل: السلخ، يأتون بإنسان يسلخونه، يسلخون جلده عن سائر جسده سلخاً، وربما ولَّوا ذلك لبعض الكفرة، كما أن بعض أهل السنة أتى به أحد هؤلاء الظلمة، فوَلَّى سلخه ليهودي، قال لليهودي: اسلخه، فبدأ بسلخه من الرأس، حتى أن اليهودي رحمه، فضربه بالسكين في قلبه فمات، رحمه من إكمال السلخ. فكان يحصل ظلم عظيم، وخصوصاً ممن يبطش من أمثال الحجاج! بعث الحجاج بن يوسف الظالم إلى الحسن وقد هَمَّ به -نوى له نية سوء- فلما دخل عليه، وقام بين يديه الحسن، قال: يا حجاج! كم بينك وبين آدم من أب؟ قال: كثير. قال: فأين هم؟ قال: ماتوا. فنكس الحجاج رأسه وخرج الحسن. موعظة بكلمات يسيرة جداً، مثل هؤلاء ربما لا يمكن الكلام معهم، فسؤالان لخص بهما المسألة كلها، انتهت المهمة، وهي بهذه البساطة، والرجل إذا كان صاحب عبادة ودين؛ فإن الله سبحانه وتعالى يلقي في قلوب الأعداء رهبته فلا يجرءون عليه.

مواعظ الحسن البصري

مواعظ الحسن البصري وله رحمه الله تعالى مواعظ بالغة: منها ما وعظ بها عمر بن عبد العزيز، من باب النصح لذلك الإمام الخليفة العظيم، ووعظه بمواعظ: فمنها -من الأشياء التي نُقِلَت-: [اعلم أن التفكير يدعو إلى الخير والعمل به، والندم على الشر يدعو إلى تركه، وليس ما يفنى وإن كان كثيراً يعدل ما يبقى وإن كان طلبه عزيزاً، فاحذر هذه الدار الصارعة الخادعة الخاتلة، التي قد تزينت بخدعها، وغرت بغرورها، وقتلت أهلها بأملها، وتشوفت لخُطَّابها، فأصبحت كالعروس المجلوة، العيون إليها ناظرة، والنفوس لها عاشقة، والقلوب إليها والهة، وهي لأزواجها كلهم قاتلة، فلا الباقي بالماضي معتبر، ولا الآخر بما رأى من الأول مزدجر، ولا اللبيب بكثرة التجارب منتفع، ولا العارف بالله والمصدق حين أخبر عنها مُدَّكر، فأبت القلوب لها إلا حباً، وأبت النفوس بها إلا ظناً، وما هذا منا لها إلا عشقاً، ومن عشق شيئاً لم يعقل غيره، ومات في طلبه أو يظفر به ثم قال له: فاحذرها الحذر كله، فإنها مثل الحية؛ لين مسها، وسمها يقتل، فأعرض عما يعجبك فيها لقلة ما يصحبك منها]. وأتى له بكلام في ذم الدنيا ووجوب الحذر منها، وعدم الانغماس في نعيمها، وأنها قد عرضت على من هو خيرٌ منا النبي عليه الصلاة والسلام فرفضها، ورفض أن يكون ملِكاً، واكتفى بأن يكون عبداً رسولاً. وأمره أن يقتدي بالأنبياء ومن مضى من الصالحين. وكان تذكيره لـ عمر بن عبد العزيز بالدنيا؛ لأن عمر بن عبد العزيز تحته الخزائن وبيت المال، والأموال تجري بين يديه، ولذلك ركز على قضية الدنيا، ومكانتها، وحقيقتها، لأنه يحتاج أشد ما يحتاج إلى مثل هذا الكلام. وهكذا الإنسان الداعية الحكيم ينصح كل إنسان بحسب حاله. فأنت إذا وعظت تاجراً يحتاج أن تكلمه في فتنة المال. وإذا وعظت طالب علم يحتاج أن تكلمه -مثلاً- في مزالق طلب العلم، ومسألة المراءاة وخطورتها، والعمل بالعلم، والحذر من أن يعلِّم الناسَ شيئاًَ ولا يعمل به. وإذا أردت أن تعظ بائعاً في السوق تحتاج أن تكلمه عن فتنة النساء. وإذا وعظت شاباً يحتاج أن تكلمه عن الشهوات واتقائها. وإذا وعظت رجلاً كبيراً حذرتَه من طول الأمل، ووجوب حسن العمل، وأن الإنسان إذا بلغ الستين أعذر الله إليه، وينبغي أن يتفرغ للعبادة. فيؤخذ من كلام الحسن رحمه الله: أن الإنسان يعظ الشخص بحسب حاله؛ فإذا كان صاحب سلطان ذكره بقدرة الله وقوته، وبطشه، وانتقامه وهكذا، فتكون النصيحة بحسب المنصوح له وبحسب حاله.

الفنون التي برع الحسن البصري فيها

الفنون التي برع الحسن البصري فيها كان الإمام الحسن البصري -رحمه الله- إماماً في عددٍ من فنون العلم، وكان إماماً في العلم حقاً.

فن التفسير وبعض آرائه

فن التفسير وبعض آرائه من الفنون التي برز فيها رحمه الله: فن التفسير، ولذلك نقل عنه المفسرون في تفاسيرهم كثيراً من الأقوال في آيات عديدة من كتاب الله تعالى. 1/ فمما ذكره -رحمه الله- في قوله عز وجل: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} [البقرة:124] [إي والله! ابتلاه بأمر فصبر عليه؛ ابتلاه بالكوكب، والشمس، والقمر، فأحسن في ذلك، وعرف أن ربه دائمٌ لا يزول، فوجَّه وجهه للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما كان من المشركين، ثم ابتلاه بالهجرة فخرج من بلاده وقومه حتى لحق بـ الشام مهاجراً إلى الله، ثم ابتلاه بالنار قبل الهجرة، فصبر على ذلك، فابتلاه الله بذبح ابنه وبالختان فصبر على ذلك]. وذكر المفسرون -رحمهم الله- أيضاً: أن مما ابتلاه الله سبحانه وتعالى به: سنن الفطرة؛ خمس في الرأس، وخمس في الجسد (فأتمهن). 2 - ومما ذكره رحمه الله في قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} [آل عمران:152] في سورة آل عمران، في قصة غزوة أحد، قال وقد ضرب بيديه: وكيف عفا عنهم وقد قُتِل منهم سبعون، وقُتِل عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكُسِرت رباعيته، وشُجَّ وجهه؟ ثم يقول: قال الله عز وجل: قد عفوتُ عنكم إذ عصيتموني، ألا أكون استأصلتكم -فبيَّن أن عفو الله تعالى عنهم، أنه لم يستأصلهم، مع عظم المصائب التي نزلت بهم- ثم يقول: هؤلاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي سبيل الله، غضابٌ لله، يقاتلون أعداء الله، نُهُوا عن شيء فصنعوه، فوالله ما تركوا حتى غموا بهذا الغم- وهو قتل سبعين منهم، وما حصل للنبي عليه الصلاة والسلام من الجراحات- وما أشيع من قتله، قال الحسن رحمه الله: فأفسق الفاسقين اليوم يتجرأ على كل كبيرة، ويركب كل داهية، ويسحب عليها ثيابه، ويزعم ألا بأس عليه، فسوف يعلم!! ومعنى قوله: إن هؤلاء الصحابة أكرم خلق الله، وصحبوا نبي الله، خرجوا للجهاد في سبيل الله، قاتلوا أعداء الله؛ لأن بعضهم ارتكب عصياناً، لما ترك الرماة الجبل ونزلوا؛ ابتلاهم الله بهذا الشيء، وهذا الغم العظيم في قتل سبعين منهم، واليوم أفسق الفاسقين يتجرأ على كل كبيرة، ويظن أنه لا بأس عليه، فكأنه يقول: خافوا الله! هؤلاء الصحابة على عِظَمِهِم هكذا ابتلاهم الله أو غمهم بهذا الغم، فكيف بالفسقة! 3 - وكذلك مما نُقِل عنه -رحمه الله تعالى- في التفسير، في ذكر آيات من كتاب الله عز وجل أشياء كثيرة جداً أوردها المفسرون، حتى أنه لا تخلو سورة من سور القرآن في التفسير إلا وتجد للحسن رحمه الله تعالى فيها قولاً أو أقوالاً، وهذا يدل على ضلوعه رحمه الله في التفسير، وكان ينتهز الفرصة ليذكر من خلال تفسيره بعض الآيات بعض العظات التي يرسلها.

فن الحديث عند الحسن البصري

فن الحديث عند الحسن البصري أما بالنسبة للحديث، فإن الحسن البصري رحمه الله ولاشك كان قد نشأ في الفترة التي كان النقل فيها من غير كتابة وتدوين، وهي مرحلة الحفظ في الصدور، لأنه توفي في سنة [110هـ]، وهذا الوقت الذي بدأ فيه التدوين، ولذلك ليس للحسن كتاب صنفه في الحديث، لأن عصر التدوين لم يكن قد بدأ بعد. ولكن الحسن رحمه الله تعالى له مرويات كثيرة جداً، وبعضُ الأسانيدِ التي فيها ذِكْرُ الحسنِ متصلٌ، وبعضُها مرسلٌ، والحديث المرسل كما نعلم: ما أضافه التابعي إلى النبي عليه الصلاة والسلام دون ذكر الصحابي، ولاشك أن المرسل عند العلماء من أقسام الحديث الضعيف، ما عدا استثناءات يسيرة ذُكِرت في كتبهم. فلو قال الحسن: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإننا نعلم أن هذا حديث مرسل، وأنه حديث ضعيف، لكنه لو ذكره بالإسناد المتصل بذكر الصحابي الذي حدثه، أو التابعي عن الصحابي الذي حدثه فيكون الحديث عندئذٍ متصلاً صحيحاً، ما دام أن الحسن رحمه الله قد صرح بالتحديث. وقد سمع الحسن رحمه الله من بعض الصحابة، مثل: أنس وسمرة رضي الله عنهما، وهناك قاعدة في المراسيل، يقول الإمام أحمد رحمه الله: "مرسلات إبراهيم النخعي لا بأس بها، وليس في المرسلات شيء أَضعف من مرسلات الحسن وعطاء بن أبي رباح، فإنهما يأخذان عن كل أحد". والمقصود أنه إذا قال: قال رسول الله، فلا نستطيع بطبيعة الحال أن نحكم بصحته، بل إنه نوع من الحديث الضعيف، حيث أنه منقطع فيما بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم. وكذلك الحسن روى عن أبي هريرة ولم يسمع منه، وكان قد جاء هذا إلى الحجاز وهذا خرج إلى العراق فلم يتقابلا، والتمس العلماء للحسن في قوله: أخبرنا أبو هريرة، التمسوا له أنه يقصد أن أبا هريرة حدث أهلَ البصرة وهو منهم، ولكن لم يكن معهم عندما حدثهم أبو هريرة. وبعض المصطلحات: (حدَّثنا) و (أخبرنا) و (عن) ونحو ذلك لم تستقر من جهة معنىً مخصوص أو استعمال مخصوص إلا بعد الحسن رحمه الله تعالى.

فن الفقه وبعض آراء الحسن الفقهية

فن الفقه وبعض آراء الحسن الفقهية كان الحسن البصري فقيهٌ، -ولا شك- له باع عظيم في الفقه، ونُقِلَت عنه آراؤه، فكلُّ مَن صنف في الفقه لا بد أن يذكر من أقوال الحسن شيئاً، ولم يصل إلينا فقهه مجموعاً كما نقل مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، ولكنه نُقِل منثوراً في بطون كتب الحديث والفقه، لكن الذهبي رحمه الله في سير أعلام النبلاء ذكر عن الحميدي أن القاضي محمد بن مفرج ألف كتاب فقه الحسن البصري في سبعة مجلدات، جمع فقهه فيها رحمه الله تعالى. ولا بأس من ذكر بعض المسائل التي تعرِّف ببعض آراء الحسن رحمه الله: فمثلاً: 1/ ذهب رحمه الله إلى أنه لا يجب الترتيب في أعضاء الوضوء، مع أن المذهب الراجح في هذا وجوب الترتيب. 2/ يرى رحمه الله أن لمس المرأة لا ينقض الوضوء بحال، وهذا هو الراجح إن شاء الله، ما لم يخرج منه شيء، فمجرد لمس المرأة لا ينقض الوضوء. 3/ كان يرى وجوب نقض المرأة شعرها عند الغسل من الحيض، وهو قول الحنابلة. 4/ كان -رحمه الله- يرى أن المتيمم يصلي ما شاء من الفرائض والنوافل، ويمس المصحف، ويقرأ القرآن، ما دام أنه لم ينقض هذه الطهارة التي عملها بالتيمم، فما دام أنه لم يحدث فإن تيممه باقٍ صحيح يصلي فيه ما شاء من الفرائض والنوافل، ويمس المصحف، ويطوف بالبيت حتى يُحْدِث، ولا يلزمه التيمم لكل صلاة كما قال به بعض أهل العلم. 5/ ذهب إلى أنه يجوز التيمم للصلاة على الجنازة لمن خاف فواتها، فإذا خاف فوات الجنازة ورفعها وذهابها وهو على غير طهارة بالماء جاز له أن يتيمم حتى مع وجود الماء. 6/ ذهب إلى أنه يُرَش من بول الغلام ويُغْسل من بول الجارية، وهذا مقتضى الحديث الذي صح عن النبي صلى الله عليه وسلم. 7/ كان يرى أن للرجل السفر قبل دخول وقت الجمعة، فما دام وقت الجمعة لم يدخل بعد فيجوز لك أن تسافر من البلد حتى لو كان اليوم يوم جمعة، وأن الجمعة لا تمنع من السفر كما قال عمر رضي الله عنه. وذهب إلى كراهة دفن الميت ليلاً، واحتج بالحديث الصحيح الوارد في هذا، وهذا الحديث قد ذكره الإمام مسلم رحمه الله: (أن النبي صلى الله عليه وسلم زجر أن يقبر الرجل بالليل حتى يصلى عليه، إلا أن يضطر إنسان إلى ذلك). 9/ جواز إخراج القيمة في زكاة الفطر، والراجح في هذه المسألة: وجوب إخراج زكاة الفطر من الطعام، وعدم جواز إخراجها بالقيمة. 10/ ذهب إلى أن المرضع إذا أفطرت في رمضان خوفاً على ولدها، والحامل إذا أفطرت خوفاً على جنينها فليس عليهما كفارة بل عليهما القضاء فقط، وهذا مذهب جماعة من أهل العلم؛ من أن المرضع والحامل ليس عليهما إلا القضاء، أما الكفارة فليس عليهما كفارة ما دامتا قد أفطرتا لهذا العذر فهما أشبه بالمريض. 11) عدم جواز بيع العُربون، والراجح: جواز بيع العُربون، وهو: أن يدفع إلى البائع جزءاً من الثمن إذا اشترى، ويُحْتَسَب من الثمن، وإذا ألغى البيع وغيَّر ما عَقَدَه فإن العربون يذهب عليه، والحديث الوارد في النهي عن بيع العُربون حديث ضعيف، فلذلك المسألة باقية على الأصل في جواز هذا البيع. 12/ وذهب الحسن رحمه الله إلى جواز مشاركة المسلم لليهودي والنصراني، والمعنى جواز أن يدخل معهم في شركة أو في تجارة بشرط: ألا يخلو اليهودي أو النصراني بالمال دونه -أي: دون المسلم- ويكون المسلم هو الذي يلي المال؛ خشية العمل بالربا، لأنه لو تركت إدارة الشركة أو التجارة لليهودي أو النصراني يمكن أن يعمل بالحرام وأن يأخذ الربا، أما إذا كانت الإدارة للمسلم أو له الإشراف عليها فإنه لا بأس أن يشارك الكافر في التجارة. وهناك مسألة: إذا قال خذ المال مضاربةً ولم يسمِّ للعامل شيئاً من الربح فما نصيب العامل؟ واحد أعطى شخصاً مالاً، قال: اتَّجِر به، هذه شركة مضاربة: المال من شخص والجهد والعمل من شخص آخر، ولم يحدد له نسبة، فذهب رحمه الله إلى أن الربح بينهما مناصفة إذا لم يحدد نسبة وحصلت التجارة وحصلت أرباح فالربح بينهما مناصفة. 13/ ذهب رحمه الله إلى جواز تأجير المستأجر للعين بأكثر مما استأجر به، فإذا استأجر شيئاً جاز أن يؤجره، وذكر أهل العلم أنه يجوز أن يؤجره ما دامت مدة الإجارة سارية المفعول، وما دام أنه قد ملك المنفعة فيجوز أن يعطيها لغيره ويؤجرها أيضاً، لكن بشرط ألا يكون استعمال الثاني أكثر من الأول، فلو كان -مثلاً- عنده خمسة أولاد، فلا يجوز أن يؤجر البيت الذي استأجره على إنسان له عشرة، أو استأجره سكنى فلا يجوز له أن يؤجره على عمال أو على ورشة بحيث يستعملون الشيء المستأجَر أكثر مما كان سيستعمله لو كان سكن فيه. هذا الشرط عند بعض أهل العلم في جواز تأجير الشيء المستأجر. 14/ كان يرى بأن الخُلْع يُعَدُّ طلقة، وذهب عدد من أهل العلم إلى أنه يعتبر فسخاً ولا يعتبر طلاقاً. 15/ ذهب رحمه الله إلى وقوع طلاق السكران، وأن السكران يتحمل الطلاق، وهذا رأي جمهور أهل العلم، وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية وكذا ابن القيم وغيرهما إلى أن طلاق السكران لا يقع، ويوجد طرف بريء في الموضوع ألا وهي الزوجة، وهو لا يدري عن تصرفاته، والمسألة فيها كلام طويل، وهذا رأيه رحمه الله. 16/ ثم رأى أيضاً في مسألة صيام شهرين متتابعين أنه إذا كان على الإنسان كفارة الظهار -مثلاًَ- فإن السفر المبيح للفطر لا يقطع التتابع، فلو شرع في صيام شهرين ثم سافر سفراً طبيعياً لم يقصد منه تحايلاً -سافر سفراً مشروعاً- فإنه يفطر في هذا السفر، وإفطاره لا يقطع التتابع. 17/ أفتى رحمه الله بأن الزوج إذا أعسر بالنفقة كان للزوجة الخيار في أن تصبر عليه أو تطلب من الحاكم التفريق بينها وبين زوجها. 18/ ذهب إلى أنه لا فرق بين الرجال والنساء في وجوب القتل بالردة، فإذا ارتدت المرأة تقتل مثلما يقتل الرجل. وأن الاستتابة مستحبة وليست بواجبة. 19/ وفي باب الأطعمة: ذهب رحمه الله إلى تحريم أكل لحم القرد وتحريم بيعه، قال ابن عبد البر: لا أعلم بين علماء المسلمين خلافاً أن القرد لا يؤكل ولا يجوز بيعه. وهو مسخ، فيكون من الخبائث المحرمة، وبعض العلماء ذهبوا إلى جواز بيع القرد، قالوا: لأنه يُنْتَفَع منه فيُمْسِك الشمعة ويحفظ الأمتعة، ولأنه يقبل التعليم، أي أنه يمكن تدريبه على حراسة وحفظ الأمتعة. 20/ وفي العقيقة: ذهب الحسن رحمه الله إلى وجوبها، وهو الذي روى حديث العقيقة عن سمرة رضي الله عنه، وذهب جمهور أهل العلم إلى استحباب العقيقة وعدم وجوبها. 21/ ذهب الحسن رحمه الله إلى عدم وجوب الكفارة في اليمين الغموس إذا حلف يميناً كاذبةً غموساً، وسميت غموساً لأنها تغمس صاحبها في النار، فإنه ليس عليه كفارة لأنها أعظم من أن تكفر، وليس لها إلا التوبة، وذهب بعض أهل العلم كـ الشافعي رحمه الله إلى أنه تجري الكفارة حتى في اليمين الغموس إذا حلف كاذباً. 22/ رأى جواز إخراج الكفارة قبل الحلف باليمين، يعني: إذا أراد أن يحنث في يمينه، حلف على شيء وأراد أن يخالفه فإنه يجوز له أن يكفر قبل أن يحنث، وفعله صحيح. 23/ كان يرى أن المريض الذي عنده الماء ولا يجد من يناوله الماء أنه يتيمم. 24/ ومن فتاويه أيضاً في صلاة الجماعة: قوله: [إن منعته أمه عن العشاء في الجماعة شفقة عليه فلا يُطِعْها]، فإذا منعته أمه من الذهاب إلى المسجد لصلاة العشاء في جماعة شفقة عليه لم يُطِعْها. 25/ وقال الحسن فيمن مات وعليه صوم: [إن صام عنه ثلاثون رجلاً يوماً واحداً جاز]، كل واحد من الثلاثين رجلاً يصوم يوماً واحداً عن شخص عليه قضاء من رمضان ومات ولم يقضه، أنه يجوز ذلك. 26/ وأيضاً من فتاويه، قال: [من تكفَّل عن ميتٍ دَيناً فليس له أن يرجع]، فإذا مات شخص وعليه دين، فقال رجل من الناس الأحياء: أنا عليَّ دينه، أو أنا أتكفل بدينه؛ فليس له أن يتراجع بعد ذلك ويُلْزَم بوفاء الدَّين.

درر من كلام الحسن البصري

درر من كلام الحسن البصري اشتهر الحسن رحمه الله بالحكم والمواعظ. والمجتمع في ذلك الوقت بدأت تنتشر فيه الحياة المادية؛ بدأ ينتشر فيه الترف، وينتشر فيه الاستغراق في الملذات والشهوات، ثم كثرت الفتوحات، وجاءت الأموال، وكثير من الناس انشغل بهذه الأموال التي جاءت من الفتوحات، وصاروا يعمِّرون العمائر، ويزرعون، ويشتغلون بالإماء والنساء ونحو ذلك، فبدأ دخول الترف في المجتمع الإسلامي؛ فكان لا بد من قيام من يغسل القلوب، ويقوم بالوعظ، ويذكر الناس حتى لا ينشغلوا بهذه الملذات عن العمل للآخرة. فكانت كلمات الحسن البصري رحمه الله غاية في التأثير، وتقدمت طائفة من مواعظه، ونضيف إليها طائفة أخرى: 1/ كان يقول رحمه الله: [بئس الرفيقان: الدينار، والدرهم؛ لا ينفعانك حين يفارقانك] فالصديق وقت الضيق، وهذان الرفيقان؛ الدينار والدرهم بئس الرفيقان هما لا ينفعانك حين يفارقانك، وكذلك إذا فارق مالَه لم ينفعه، ولكن الذي تصدق به يبقى له نفعه. 2/ وقال الحسن: [يحق لمن يعلم أن الموت موردُه، وأن الساعة موعدُه، وأن القيام بين يدي الله مشهدُه أن يطول حزنه]. 3/ وقال رحمه الله تعالى: [يابن آدم! عملك عملك، فإنما هو لحمُك ودمُك، فانظر على أي شيء تلقى عملَك، إن لأهل التقوى علامات يُعرَفون بها: صدق الحديث، والوفاء بالعهد، وصلة الرحم، ورحمة الضعفاء، وقلة الفخر والخيلاء، وبذل المعروف، وقلة المباهاة للناس، وحسن الخلق، وسعة الخَلْق مما يقرب إلى الله عز وجل]. 4/ وقال رحمه الله: [يابن آدم! دينك دينك فإنما هو لحمُك ودمُك، إن يسْلَم لك دينُك يسْلَم لك لحمُك ودمُك، وإن تكن الأخرى فنعوذ بالله، فإنها نار لا تطوى، وجرح لا يبرأ، وعذاب لا ينفد أبداً، ونفس لا تموت]. 5/ وقال هشام: سمعت الحسن يقول: [والله لقد أدركتُ أقواماً ما طُوِي لأحدهم في بيته ثوب قط، ولا أَمَر في أهله بصنعة طعام قط، وما جعل بينه وبين الأرض شيئاً قط، وإن كان أحدهم ليقول: لوددت أني أكلت أكلة في جوفي مثل الآجُرَّة]. 6/ ويقول: [بلغنا أن الآجُرَّة تبقى في الماء ثلاثمائة سنة، ولقد أدركتُ أقواماً إن كان أحدهم ليرث المال العظيم وإنه لمجهود -شديد الجهد- فيقول لأخيه: يا أخي! إني قد علمت أنَّا ذو ميراث -وهو حلال- ولكن أخاف أن يفْسِد عليَّ قلبي وعملي فهو لك لا حاجة لي فيه، فلا يرزأ منه شيئاً أبداً، وإنه مجهود] شديد الجهد شديد الجوع شديد الحاجة يرث مالاً عظيماً ويعطيه لغيره! 7/ وقال أيضاً: [يابن آدم! جمعاً جمعاً في وعاء، وشداً شداً في وكاء، رَكوب الذلول، ولَبوس اللين، ثم قيل مات فأفضى والله إلى الآخرة!! إن المؤمن عَمِل لله أياماً يسيرة فوالله ما ندم أن يكون أصاب من نعيمها ورخائها، ولكن راقت الدنيا له فاستهانها وهضمها لآخرته]. 8/ وقال رحمه الله تعالى: [إن أفسق الفاسقين الذي يركب كل كبيرة، ويسحب عليها ثيابه، ويقول: ليس علي بأس، سيعلم أن الله تعالى ربما عجل العقوبة في الدنيا وربما أخرها ليوم الحساب]. 9/ وقال الحسن: [رحم الله رجلاً لَبِس خَلِقاً، وأكل كسرة، ولصق بالأرض، وبكى على الخطيئة، ودأب في العبادة]. 10/ وقال: [يابن آدم! السِّكِّين تُحَدُّ، والكبش يعتلف، والتَّنُّور يُسْجَر]. هذا في الدنيا، إذا أراد الإنسان أن يشوي خروفاً، فإنه يسَنُّ السِّكِّين، ويعلف الكبش حتى يسمن، ويسجر التَّنُّور ليُنْضِج اللحم؛ ولكنه أيضاً يصلح مثالاً وتذكيراً للعبد في الدنيا: السِّكِّين تُحَدُّ: يعني: الموت قادم. والكبش يعتلف: الإنسان يأكل ويرتع في شهواته. والتَّنُّور يُسْجَر: يعني: جهنم. 11/ وقال مرة لشاب مر به وعليه بردة: [إِيْهٍ يابن آدم! مُعْجَبٌ بشبابه مُعْجَبٌ بجماله مُعْجَبٌ بثيابه، كأن القبر قد وارى بدنك، وكأنك لاقيت عملك، فداوِ قلبك؛ فإن حاجة الله إلى عباده صلاح قلوبهم]. 12/ وسمع الحسن رجلاً يشكو إلى آخر، فقال: [أما إنك تشكو من يرحمك إلى من لا يرحمك]، كأنه يشتكي القضاء أو يشتكي القدر، فيقول له: أنت تشكو من يرحمك إلى من لا يرحمك! تشتكي القَدَر إلى المخلوق! 13/ ووصف السلف ممن سبقه، فقال: [أدركتُ من صدر هذه الأمة قوماً كانوا إذا أجَنَّهم الليل فقيامٌ على أطرافهم، يفترشون وجوههم، تجري دموعهم على خدودهم، يناجون مولاهم في فكاك رقابهم، إذا عملوا الحسنة سرَّتهم، وسألوا الله أن يقبلها منهم، وإذا عملوا سيئة ساءتهم، وسألوا الله أن يغفرها لهم]. 14/ وكان يقول: [رحم الله امرءاً خلا بكتاب الله فعرض عليه نفسه -عرض نفسه على القرآن- وقارَن، فإن وافقه حَمِد ربه وسأله الزيادة من فضله، وإن خالفه اعتقب وأناب ورجع من قريب، رحم الله رجلاً وعظ أخاه وأهله، فقال: يا أهلي! صلاتكم صلاتكم! زكاتكم زكاتكم! جيرانكم جيرانكم! إخوانكم إخوانكم! مساكنكم مساكنكم! لعل الله يرحمكم؛ فإن الله تبارك وتعالى أثنى على عبدٍ من عباده، فقال: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً} [مريم:55]. يابن آدم! كيف تكون مسلماً ولم يسلم منك جارك؟! وكيف تكون مؤمناً ولم يأمنك الناس؟!]. 15/ وقال الحسن رحمه الله حاكياً إخلاص السلف /: كان الرجل يتعبد عشرين سنة لا يشعر به جاره، وأحدهم يصلي ليلة أو بعض ليلة فيصبح وقد استطال على جاره، يعقد مقارنة ويقول: من مضى كان الواحد منهم يصلي ويعبد الله عشرين سنة وجاره لا يحس أنه قام ليلة أو أنه كان يتعبد، واليوم الواحد منا يصلي ليلة أو بعض ليلة وتراه وقد استطال على جاره، وإن كان القوم ليجتمعون فيتذاكرون -مجموعة يجلسون يذكرون الله تعالى ويقرءون كتاب الله- فتجيء الرجلَ عبرتُه -الدمع يسبقه- فيردها ما استطاع -أي: حتى لا يظهر أمام الناس أنه خاشع ومتأثر- فإن غُلب قام عنهم، حتى لا يكون مظهراً للتأثر أمامهم. 16/ وعاد الحسن رحمه الله عليلاً قد شفي من علته، فأراد أن يعظه، فقال: [أيها الرجل! إن الله قد ذكرك فاذكره، وقد أقالك فاشكره، ثم قال: إنما المرض ضربة سوط من ملَك كريم، فإما أن يكون العليل بعد المرض فرساً جواداً، وإما أن يكون حماراً عثوراً عقوراً] فالمرض هذا كضربة سوط على الدابة، فإما أن تنفع في الدبة فتجعلها تجري وتعدو، وإما ألا تكون الدابة مِمَّا ينتفع بالضرب فتكون عثورة عقورة؛ ولذلك شبَّهه بهذا، والعبد إذا أصابه المرض إما أنه يتعظ ويجعل سيره إلى الله حثيثاً بعد المرض، يحمد الله أن شفاه منه، وإلا فإن المرض لن ينفعه ولن يزيده إلا غفلة. 17/ وقال: [المؤمن في الدنيا كالغريب، لا ينافس غيره فيها ولا يجزع من ذلها، للناس حال وله حال، الناس منه في راحة ونفسه منه في شغل]. وقال أيضاً في الإنفاق في سبيل الله: [من أيقن بالخُلْف جاد بالعطية] إذا أيقنت أن كلَّ ما ستنفقه فإنه معوَّضٌ ومخلوف عليك به فإنك ستجود، [من أيقن بالخُلْف جاد بالعطية]. 19/ وقال الحسن للمغيرة التميمي: [إن مَن خوَّفك حتى تلقى الأمن خيرٌ لك مِِمَّن أمَّنك حتى تلقى الخوف] فإذا جاء واحد وخوفك بالله وباليوم الآخر فلا تتضايق منه، هذا الذي يخوفك الآن في الدنيا حتى تلقى الأمن يوم القيامة أفضل من الذي يأتي ويعطيك من أنواع الأمل والفسحة، ويحدثك عن أشياء تأمنك حتى تلقى خوفاً، صحيحٌ أنك في الدنيا تسر به وبكلامه والجلوس إليه، ولكن ما الخير إذا كنت في الآخرة ستلقى الخوف؟! 20/ وقال: [كان فيمَن كان قبلكم أرق منكم قلوباً، وأصفق ثياباً -ثيابهم أسمك، ليس عندهم ثياب ناعمة، ثياب سميكة، ولكن قلوب رقيقة- وأنتم أرق ثياباً وأصفق منهم قلوباً]، وأنتم -يقول لجيله ومن معه- بالعكس: ثيابكم رقيقة لينة؛ ولكن القلوب صفيقة. 21/ وقال الحسن أيضاً وهو من كلامه في الأدب: في الطعام اثنتا عشرة خصلة: أربع فريضة، وأربع سنة، وأربع أدب: أما الفريضة (الواجبة): 1 - التسمية. 2 - استطابة الأكل، فلا بد أن يكون الطعام حلالاً. 3 - الرضا بالموجود. 4 - الشكر على النعمة. وأما السنة: 1 - الجلوس على الرجل اليمنى. 2 - الأكل من بين يدي الآكل. أي: يأكل مما يليه ولا يتعدى إلى ما يلي غيره. 3 - تناول الطعام بثلاثة أصابع باليد اليمنى. هذا إذا كان مِمَّا يؤكل كالثريد، أما المرق فيشرب شرباً. 4 - لعق الأصابع. وأما الأدب: 1 - غسل اليد قبل الطعام وبعده. 2 - تصغير اللقم. 3 - إجادة المضغ. 4 - صرف البصر عن وجوه الآكلين؛ فليس من الأدب أن ينظر إلى وجوه الآكلين وهم يأكلون أثناء الطعام.

من أخبار الحسن البصري ومناقشاته

من أخبار الحسن البصري ومناقشاته الحسن البصري رحمه الله له أخبار ومناقشات ولقاءات حصلت مع بعض الناس، ومواعظ وجهها إلى بعض الأشخاص، منهم الخلفاء، كما فعل مع عمر بن عبد العزيز رحمه الله، وكان بعض الناس يأتيه ليعظه مما اشتُهر عنه من الوعظ، فكان الواحد إذا أحس غفلة أو قسوة أو أراد أن يزيد إيمانه جاء إلى الحسن. يقول عمرو بن ميمون بن مهران: خرجت بأبي أقوده في بعض سكك البصرة، فمررت بجدول فلم يستطع الشيخ أن يتخطاه، فاضطجعت له فمر على ظهري، ثم قمت فأخذت بيده، ثم اندفعنا إلى منزل الحسن فطرقت الباب، فخرجت إلينا جارية، فقالت: من هذا؟ قلت: هذا ميمون بن مهران أراد لقاء الحسن، فسمع الحسن فخرج إليه فاعتنقه ثم دخلا، فقال ميمون: يا أبا سعيد! قد أنست من قلبي غلظة فاستَلِّنَّ لي منه. أي: ليِّن لي قلبي. فقرأ الحسن: بسم الله الرحمن الرحيم، {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء:105 - 207]. قال: فسقط الشيخ فرأيته يفحص برجله كما تفحص الشاة المذبوحة، فأقام طويلاً ثم أفاق، فجاءت الجارية، فقالت: قد أتعبتم الشيخ، قوموا تفرقوا. فأخذت بيد أبي فخرجت به، ثم قلت: يا أبتاه! هذا الحسن! قد كنت أحسب أنه أكبر من هذا! قال: فوكزني في صدري وكزة، ثم قال: يا بني! لقد قرأ علينا آية لو فهمتَها بقلبك لبقي لها فيك كُلُوم، والكلم هو: الجرح، لبقي فيه جروح من تأثير هذه الآية. وكان يعرف الظَّلَمَة من غيرهم وبالذات الحجاج، وتقدم موعظته للحجاج وموقفه منه. ومن القصص التي حدثت في هذا: أن رجلاً أتى الحسن فقال: يا أبا سعيد! إن حلفت بالطلاق أن الحجاج في النار، فما تقول؟ أقيم مع امرأتي أم أعزلها؟ حلف بالطلاق أن الحجاج في النار، فإذا كان الحجاج في النار يبقى مع زوجته، وإذا لم يكن في النار فيجب أن يفارقها، ولكن مصير الناس لا يعلم بعد الموت، وأهل التوحيد يدخلون تحت المشيئة، وإذا كان كافراً فهو في النار بلا شك. فقال له الحسن: قد كان الحجاج فاجراً فاسقاً، وما أدري ما أقول لك، إن رحمة الله وسعت كل شيء. وإن الرجل أتى محمد بن سيرين فأخبره بما حلف، فرد عليه شبيهاً بما قاله الحسن. وإنه أتى عمرو بن عبيد، فقال له: أقم مع زوجتك، فإن الله تعالى إن غفر للحجاج لم يضرك الزنا. وبطبيعة الحال فإن عقد الزواج إذا كان صحيحاً فهو باق، فلو أن أحداً طلق طلاقاً مشكوكاً في وقوعه، قال عبارة فيها شك، والنكاح صحيح، فما هو الحكم؟ الحكم أن النكاح يبقى على أصله حتى نتأكد من وقوع الطلاق. وكان الحسن يشجع الناس على تعلم اللغة العربية، فعن أبي حمزة، قال: قيل للحسن في قوم يتعلمون العربية، قال: [أحْسَنوا، يتعلمون لغة نبيهم صلى الله عليه وسلم]. وقال الحسن لـ فرقد بن يعقوب: [بلغني أنك لا تأكل الفالوذج -والفالوذج نوع من الحلوى نفيس، كان يوجد في ذلك الزمان- فقال: يا أبا سعيد! أخاف ألَّا أؤدي شكره -يعني: ناقش هذا الرجل، ذلك الرجل كان لا يأكل هذا النوع من الطعام النفيس، فـ الحسن سأله: سمعت أنك لا تأكل الفالوذج! لماذا؟ قال: يا أبا سعيد! أخاف ألا أؤدي شكره- قال الحسن: يا لُكَع! هل تقدر أن تؤدي شكر الماء البارد الذي تشربه؟] يعني: إذا كانت المسألة تتوقف على أننا لا نأكل أي شيء خوفاً من ألا نؤدي شكره فلن نأكل شيئاً؛ قال: حتى الماء البارد لا نؤدي شكره، فلذلك ليس إلا شكر النعمة، والاستغفار. ومن المواقف العظيمة التي دوِّنت في سيرته -رحمه الله- في معاملة أعدائه، قيل له: [إن فلاناً اغتابك، فبعث إليه طبق حلوى، وقال: بلغني أنك أهديت إليَّ حسناتك فكافأتك]. وهذا موقف مؤثر ولا شك، يحمل الخصم على الرجوع وترك ما هو عليه.

موقف الحسن البصري من المبتدعة

موقف الحسن البصري من المبتدعة كان الحسن رحمه الله مقاوماً للبدعة، ومعلوم أن واصل بن عطاء رأس المعتزلة كان من تلاميذ الحسن إلى أن حدثت حادثة جعلت واصل بن عطاء يخرج بفكرة الاعتزال، ويعتزل مجلس الحسن البصري، وبدأت تلك البدعة. كان واصل بن عطاء في أول أمره يجلس إلى الحسن البصري، فلما ظهر الاختلاف وقالت الخوارج بتكفير مرتكبي الكبائر، وقال أهل السنة والجماعة بإيمانهم، أي أن معهم أصل الإيمان فهم مسلمون، ولكن مرتكبها فاسق فاجر، فلا يُحكم بكفر شخص إذا كان معه أصل الإيمان، وكان ما فعله كبيرة لا تصل إلى الكفر والشرك الأكبر؛ فلمَّا حصل هذا خرج واصل عن الفريقين، وقال بالمنزلة بين المنزلتين. فـ أهل السنة والجماعة يقولون: حكم مرتكب الكبيرة فاسق، لكنه باقٍ على إسلامه، لأن معه أصل الإيمان. وقالت الخوارج: مرتكب الكبيرة كافر مخلد في النار. فلم يفرقوا بينه وبين الكافر. والمعتزلة خرجوا بعد ذلك، وقالوا: مرتكب الكبيرة في منزلة بين المنزلتين: لا هو مؤمن ولا كافر، وهذه بدعة، ما هو هذا الشيء؟! لا يوجد شيء لا مسلم ولا كافر! لا في الجنة ولا في النار! لما قال واصل بن عطاء هذه البدعة طََرَدَه الحسن من مجلسه، فاعتزل عنه. ثم تبعه عمرو بن عبيد، وعمرو بن عبيد كان مشهوراً بالزهد، وكان وكان حتى قال الخليفة: كلكم يطلب الصيد إلا عمرو بن عبيد. لكن عمرو بن عبيد ذهب مع المعتزلة، فُقِدَ؛ فصار في هذه البدعة الخبيثةن وعليه تأسس مذهب المعتزلة من هذه البذور الفاسدة. سُمُّوا هم وجماعتُهم بـ المعتزلة، وأطلق عليهم أهل السنة هذا اللقب لأنهم اعتزلوا أولاً مجلس الحسن البصري رحمه الله، وهو إمام من أئمة أهل السنة. والحسن رحمه الله تعالى لا شك أنه من أهل السنة والجماعة، وأقواله في هذا موافقة لأقوال أهل السنة والجماعة في الأبواب المختلفة؛ في الأسماء والصفات، وأن الإيمان قول وعمل، والموقف من الصحابة وغير ذلك؛ لكن لعل الحسن رحمه الله صدرت منه كلمة في وقت من الأوقات حُسِبَت على مذهب القَدَرِية؛ لكنه بعد ذلك بيَّن الأمر وتراجع عن ذلك، ولا يمكن أن يقال أبداً: إنه من القَدَرِية، ويمكن إذا وجد أثناء القراءة في الموضوع كلاماً يعرف الإنسان خلفية الموضوع؛ فلعل عبارة صدرت من الحسن رحمه الله فُهِمَ منها أن الشر ليس بقَدَر وأن الخير هو الذي بقَدَر فقط. إن أهل السنة والجماعة يقولون: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16] وخالق الخير وخالق الشر، والخير والشر كله من خلق الله تعالى وتقديره، وإذا قلت: الله خالق للخير وليس خالقاً للشر، فقد جعلت للشر خالقاً آخر، فيكون الكلام مؤدياً إلى مصيبة عظمى، ولو زعم قائله أنه يريد تنزيه الله عن الشر وأنه لم يخلق الشر لينزهه عن الشر أو عن الرضا بالشر فهذا هراء؛ لأنه جعل للشر خالقاً غير الله، وصارت القضية في تعدد الخالق في مسألة عظيمة، فالله خالق الخير وخالق الشر، لكن إذا قلنا: إن الله خلق الشر فإنه راضٍ به سبحانه وتعالى؟ أبداً، خلقه وخلق الشيطان فتنة، ابتلاء يبتلي به العباد. فليس في المسألة إشكال؛ بل هي واضحة. لكن حصل أن نُقِلت عبارة عن الحسن رحمه الله في هذه المسألة، وحصل نقاش بينه وبين بعض السلف ورجع عن ذلك. وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء: عن حماد بن زيد، عن أيوب، قال: كذب على الحسن سربان من الناس: قومٌ من القَدَرِية؛ لِيُنَفِّقُوه في الناس بـ الحسن هم مبتدعة لو قالوا للناس: مذهبنا كذا وكذا فلا أحد سيقبل منهم؛ لأنهم مبتدعة؛ فكذبوا على الحسن؛ لأن الحسن ثقة عند الناس، فإذا قيل للناس: إن الحسن يقول: كذا، فإن الناس يأخذون بقوله، فكذبوا على الحسن بأنه قال أشياء؛ لكي يُنَفِّقُوا بدعتهم بين الناس ويروجوها. وقومٌ في صدورهم شنَآن وبغض للحسن؛ فالذي افترى عليه طائفتان: طائفة تريد ترويج البدعة، وطائفة تبغض الحسن وتكرهه، وأنا نازلته غير مرة في القدر حتى خوَّفته بالسلطان، فقال: لا أعود فيه بعد اليوم، فلا أعلم أحداً يستطيع أن يعيب الحسن إلا به، وقد أدركتُ الحسن والله وما يقول -ما يقول بذلك القول- فهو قال: لا أعود بعد النقاش، ولا يمكن أن يعاب الحسن بشيء من ذلك ألبتة، وقد رجع عنه. وذكر الذهبي رحمه الله كلاماً أيضاً في الموضوع، قال: الحسن بن يسار مولى الأنصار وسيد التابعين في زمانه بـ البصرة، كان ثقة في نفسه، حجة، رأساً في العلم والعمل، عظيم القدر، وقد بدت منه هفوة في القَدَر لم يقصدها لذاتها، فتكلموا فيه، فما التُفِت إلى كلامهم، لأنه لَمَّا حوقق عليها تبرأ منها. ويكفي فخراً أن الإنسان إذا تبين له خطأ كلامه أن يرجع. وقال الذهبي رحمه الله تعالى أيضاً كلاماً في مسألة تدليس الحسن رحمه الله، وذكرنا هذا. وكذلك فإن ابن حجر رحمه الله في تهذيب التهذيب أيضاً قد أشار إلى المسألة، وأمْر الحسن رحمه الله في هذا، وأن ما نُسب إليه من القدر هو أمر قد تراجع عنه، وبعض الناس زادوا عليه أشياء، فيقول في تهذيب التهذيب: كان من أفصح أهل البصرة وأجملهم وأعبدهم وأفقههم. وروى معمر عن قتادة عن الحسن تلك الكلمة المتعلقة، قال أيوب: فناظرته في هذه الكلمة، فقال: لا أعود. وقال ابن عون: سمعت الحسن يقول: [من كذَّب بالقدر فقد كفر]، والحسن كغيره من التابعين يؤمن بالقدر خيره وشره، ولئن نُقِل عنه خلاف ذلك فقد برأه العلماء من هذه التهمة سيما وقد نقل عن بعضهم أنه رجع عن ذلك. فالحمد لله صفحته بيضاء، ولو كان قال شيئاً من هذا أخطأ فيه فقد رجع.

اهتمام الحسن البصري باللغة العربية

اهتمام الحسن البصري باللغة العربية كان رحمه الله يهتم باللغة العربية كما أسلفنا، ويقاوم اللحن، واللحن: هو الخطأ في الكلام: جاء رجل إلى الحسن البصري فقال: يا أبا سعيد! ما تقول في رجل مات وترك أبيه وأخيه؟ والصحيح أن يقول: وترك أباه وأخاه- فقال الحسن: ترك أباه وأخاه -يصحح له اللغة في السؤال- فقال له -هذا السائل وكان فيه غفلة-: فما لأباه وأخاه؟ -الآن السائل جاء بحرف الجر وأخطأ ثانية والصحيح أن يقول: فما لأبيه وأخيه! - فقال له الحسن: إنما هو فما لأبيه وأخيه؟ قال الرجل: يا أبا سعيد! ما أشد خلافك علي! -لا بد أن تخالفني، مرة أقول لك: أباك وتقول لي: أبيك، ومرة أقول وأرجع إلى قولك، فتعيب عليَّ أيضاً- قال: أنت أشد خلافاً عليَّ، أدعوك إلى الصواب وتدعوني إلى الخطأ! كان في ذلك الوقت أناس قد دخلوا من الأعاجم في الإسلام وأولاد الإماء، فصار هناك لحن في اللغة؛ لأن هناك أناساً أمهاتهم فارسيات ومن الأعاجم فحصل لحن، واللحن كثير في الكلام، تغيرت اللغة في ألسنة كثير من الناس، فكان الحسن يقاوم ذلك. قال رجل للحسن: يا أبي سعيد! فقال الحسن: أكَسَبْ الدوانيق شغلك عن أن تقول: يا أبا سعيد؟! يقول: هل البيع والشراء أشغلك عن تعلم اللغة، صرت لا تعرف أن تقول للمنادى المنصوب: يا أبا سعيد؟! وقرع رجل على الحسن البصري الباب، وقال: يا أبو سعيد! فلم يجبه، فقال: يا أبي سعيد، فقال الحسن: قل الثالثة وادخل ما دام قال: يا أبو، ويا أبي، بقيت واحدة وهي الصحيحة، فقال الحسن: قل الثالثة وادخل.

حكاية الحسن البصري لأشياء تاريخية

حكاية الحسن البصري لأشياء تاريخية حَكَى عن نفسه رحمه الله بعض الأشياء التاريخية: قال: كنت أدخل بيوت رسول الله صلى الله عليه وسم في خلافة عثمان أتناول سقفها بيدي -يعني: سقوف حُجَر النبي عليه الصلاة والسلام كانت منخفضة، ما كان عليه الصلاة والسلام يسكن في قصور وسقوف مرتفعة- وأنا غلام محتلم يومئذٍ. وحدَّث مرة عن أنس بن مالك بحديث حنين الجذع، لما النبي عليه الصلاة والسلام كان يخطب إلى جنب جذع يسند ظهره إليه، فلما كثر الناس بنوا له المنبر وصار يصعد المنبر ويخطب عليه، ولما خطب على المنبر أول مرة عليه الصلاة والسلام، قال أنس: (فسمعت الخشبة تحن حنين الواله -الخشبة التي كان يخطب عليها النبي عليه الصلاة والسلام لما فقدت الذِّكر، فقدت مكان النبي عليه الصلاة والسلام، عندها حنت حنين الولهان- فما زالت تحن وترتجف -مثل: الذي يبكي فإنه يرتعد- فما زالت تحن حتى نزل إليها صلى الله عليه وسلم فاحتضنها فسكنت) وهذا حديث في البخاري معروف، وهو من معجزات النبي عليه الصلاة والسلام. يقول الحسن معلقاً، كان إذا حدث بهذا الحديث بكى، ثم قال: [يا عباد الله! الخشبة تحن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شوقاً إليه، فأنتم أحق أن تشتاقوا إلى لقائه].

حكاية الحسن مع أنس

حكاية الحسن مع أنس وحدَّث مرة عن أنس بن مالك بحديث حنين الجذع، عندما كان النبي عليه الصلاة والسلام يخطب إلى جنب جذع يسند ظهره إليه، فلما كثر الناس بنوا له المنبر، وصار يصعد المنبر ويخطب عليه، ولما خطب على المنبر عليه الصلاة والسلام، قال أنس: (فسمعت الخشبة تحن حنين الواله -الخشبة التي كان يخطب عليها النبي عليه الصلاة والسلام لما فقدت الذِّكر، فقدت مكان النبي عليه الصلاة والسلام، عندها حنت حنين الولهان- فما زالت تحن وترتجف -مثل: الذي يبكي فإنه يرتعد- فما زالت تحن حتى نزل إليها صلى الله عليه وسلم فاحتضنها فسكنت) وهذا حديث في البخاري معروف، وهو من معجزات النبي عليه الصلاة والسلام. يقول الحسن معلقاً، كان إذا حدث بهذا الحديث بكى، ثم قال: [يا عباد الله! الخشبة تحن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شوقاً إليه، فأنتم أحق أن تشتاقوا إلى لقائه].

الحسن مع الفرزدق الشاعر

الحسن مع الفرزدق الشاعر حصلت للحسن -رحمه الله- مع الفرزدق الشاعر قصة: فإنه قد اجتمع معه في جنازة أبي رجاء العطاردي، فقال الفرزدق: يا أبا سعيد! يقول الناس: اجتمع في هذه الجنازة خير الناس وشرهم -يقصد أن الحسن خير الناس وأنه شر الناس- فقال الحسن: لستُ بخير الناس ولستَ بشرهم؛ لكن ما أعددت لهذا اليوم يا أبا فراس؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ثم انصرف. وقال الأصمعي: لما ماتت النوَّار بنت أعين بن ضبيعة المجاشعي -امرأة الفرزدق - وكانت قد أوصت أن يصلِّي عليها الحسن البصري، فشهد أعيان أهل البصرة مع الحسن، والحسن على بغلته، والفرزدق على بعيره، فسار، فقال الحسن للفرزدق: ماذا يقول الناس؟ قال: يقولون: شهد هذه الجنازة اليوم خير الناس؛ يعنونك، وشر الناس؛ يعنوني. فقال له: يا أبا فراس! لستُ بخير الناس ولستَ أنت بشر الناس، ثم قال الحسن: ما أعددتَ لهذا اليوم؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله منذ ثمانين سنة. فلما أن صلى عليها الحسن مالوا إلى قبرها، فأنشأ الفرزدق يقول: أخاف وراء القبر إن لم يعافني أشد من القبر التهاباً وأضيقا إذا جاءني يوم القيامة قائدٌ عنيفٌ وسواقٌ يسوق الفرزدقا لقد خاب من أولاد دار مَن مشى إلى النار مغلول القلادة أزرقا يساق إلى نار الجحيم مسربلاً سرابيل قطران لباساً مخرَّقا إذا شربوا فيها الصديد رأيتَهم يذوبون من حر الصديد تمزقاً فلما سمع الحسن بكى حتى بلَّ الثرى، ثم التزمه، وقال له: لقد كنت من أبغض الناس إلي وإنك اليوم من أحب الناس إلي. لما رأى شعره، ما صار في الهجاء والكلام المُقذع، وإنما صار في الترقيق وهذا الكلام الذي فيه وصف النار، التزمه رحمه الله وعانقه. ومن كلامه في الغيبة والمغتاب، قال أصلة بن طريف: قلت للحسن: الرجل الفاجر المعلِن بفجوره هل له غيبة -أي: يحرم أن يُغتاب؟ - قال: لا. ولا كرامة، إذا ظهر فجوره فلا غيبة له. وقال: ثلاثة لا تحرم عليك غيبتهم: 1 - المجاهر بالفسق. 2 - والإمام الجائر. 3 - والمبتدع.

استغلال الحسن البصري للمواقف في التربية والوعظ

استغلال الحسن البصري للمواقف في التربية والوعظ قال فرقد: دخلنا على الحسن فقلنا: يا أبا سعيد! ألا يعجبك من محمد بن الأهتم؟! -أي: أما تستغرب من خبر محمد بن الأهتم؟! - قال: ما له؟ فقلنا: دخلنا عليه آنفاً وهو يجود بنفسه -يحتضر- فقال لنا: انظروا إلى ذاك الصندوق فيه ثمانون ألف دينار، أو قال: درهم، لم أؤد منها زكاةً، ولم أصل منها رحماً، ولم يأكل منها محتاج. فقلنا: يا أبا عبد الله! فلمن كنت تجمعها؟! قال: لروعة الزمان، ومكاثرة الأقران، وجفوة السلطان -أخاف أن السلطان يغضب عليَّ، فلا يعطيني المقسوم، والأقران أكاثرهم بالمال، وأستعد لروعة الزمان، هذه القصة التي قيلت للحسن، فقال الحسن -معلقاً على ذلك، ولا يمكن أن يفوت مثله-: انظروا من أين أتاه شيطانه؛ خوَّفه روعة زمانه، ومكاثرة أقرانه، وجفوة سلطانه، ثم قال: أيها الوارث! لا تُخْدَعَنَّ -يقول الآن للوارث الذي ورث الثمانين ألفاً هذه من ذلك الرجل الشحيح البخيل المقصر- كما خُدِع صُوَيْحِبُك بالأمس، جاءك هذا المال، لم تتعب لك فيه يمين، ولم يعرق لك فيه جبين، جاءك ممن كان له جموعاً منوعاً، من باطل جمعه، من حق منعه، ثم قال الحسن: إن يوم القيامة لذو حسرات، الرجل يجمع المال، ثم يموت ويدعه لغيره، فيرزقه الله فيه -أي: في الوارث- الصلاح والإنفاق -في وجوه البر- فيجد -البخيل، المانع الحقوق- ماله في ميزان غيره فيتحسر -أي: يوم القيامة. وقال الحسن: [قدم علينا بشر بن مروان، أخو الخليفة، وأمير المصريين، وأشب الناس، وأقام عندنا أربعين يوماً، ثم طعن في قدميه فمات، فأخرجناه إلى قبره -يقول الآن قصة فيها موعظة، انطباعه عن هذا المشهد ينقله إلينا- يقول: فلما صرنا إلى الجبَّان -المقبرة- إذ نحن بأربعة سودان يحملون صاحباً لهم إلى قبره -هذا جمع عظيم مع هذا الرجل المشهور، وذاك واحد مسكين معه أربعة سودان يحملونه إلى قبره، فوضعنا السرير عن الجنازة فصلينا عليه، ووضعوا صاحبهم فصلوا عليه -نحن في مكان وهم في مكان آخر في المقبرة- ثم حملنا بشر بن مروان إلى قبره، وحملوا صاحبهم إلى قبره، ودَفَنَّا بشراً، ودفنوا صاحبهم، ثم انصرفوا وانصرفنا، ثم التفتُ التفاتة فلم أعرف قبر بشر من قبر الحبشي، فلم أر شيئاً قط كان أعجب منه. أي: بعدما تولينا كلنا من المقبرة نظرتُ ورائي فما عرفت أياً من القبرين الذي قبر فيه بشر بن مروان، فاعتبرها موعظة، أي: هذه مظاهر، لكن في النهاية صاروا في القبرين سواء، قبران متشابهان، كلاهما في القبر. وقال رجل للحسن: إني أكره الموت، قال الحسن: [ذاك أنك ادخرت مالك، ولو قدَّمْتَه لسَرَّك أن تلحق به] لو أنفقتَه في سبيل الله لسَرَّك أن تلحق به. ومن تعليمه لرجل في المباركة بالمولود: عن عوف قال: قال رجل في مجلس الحسن: لِيَهْنكَ الفارس، قال له الحسن: فلعله حامِر -ما يدريك أنه فارس! ربما يكون حَمَّاراً، يعني: في البلادة والغباء وعدم التدبير- إذا وهب الله لرجل ولداً فقل: شكرتَ الواهب، وبورك لك في الموهوب، وبلغ أشده، ورُزقت بره].

مقاومة الحسن البصري للشرك بأنواعه

مقاومة الحسن البصري للشرك بأنواعه كان ممن يقاوم الشرك الأصغر والأكبر بأنواعه، حتى قال رجل من بني مجاشع: جاء الحسن في دم كان فينا، فخطبهم فأجابه رجل، فقال: قد تركتُ ذلك لله ولوجوهكم. هناك قضية دماء، الحسن أراد أن يصلح فيها، فيجعل أهل المقتول يتنازلون، فجاء رجل من أهل المقتول، قال: قد تركت ذلك لله ولوجوهكم -يعني: من أجل الله ومن أجلكم- فقال الحسن: لا تقل هكذا، بل قل: لله ثم لوجوهكم، وآجرك الله. أثابك الله على تنازلك، ولكن لا تسوِّنا بالله، تقول: تركتها لله ولكم، لا يصلح أن تسوي بيننا وبين الله، قل: لله، ثم لكم. وهذا نظائره كثيرة، مثل أن تقول: لولا الله ثم فلان، لا تقول: لولا الله وفلان، فهي شرك، بل لولا الله ثم فلان، لا تجعل الخالق والمخلوق بمنزلة واحدة، وتعطف هذا على هذا.

وفاة الحسن البصري رحمه الله

وفاة الحسن البصري رحمه الله وبالنسبة لوفاته رحمه الله تعالى، فإنه لما حضرته الوفاة جعل يسترجع -يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون- فقام إليه ابنه، وقال: يا أبتي! قد غممتنا، فهل رأيت شيئاً؟! قال: [هي نفسي، لَمْ أُصَبْ بمثلها]. ويُروى أنه أغمي عليه ثم أفاق إفاقة فقال: [لقد نبَّهتموني من جنات وعيون، ومقام كريم]. وقال رجل قبل موت الحسن لـ ابن سيرين -وابن سيرين كان مشهوراً بتعبير الرؤى والأحلام-: رأيتُ كأن طائراً أخذ أحسن حصاة بالمسجد؟ فقال ابن سيرين: إن صدقت رؤياك مات الحسن. أي: هو أحسن من عندنا في المسجد، فلم يكن إلا قليلاً حتى مات الحسن، ووقع تفسير وتأويل الرؤيا. وكانت وفاة الحسن رضي الله عنه ليلة الجمعة، في أول رجب سنة (110هـ). وقد عاش -كما قال ابنه- نحواً من 088) سنة، عمراً مباركاً في طاعة الله، وكانت جنازته مشهودة، وصُلِّي عليه عُقيب صلاة الجمعة بـ البصرة، فشيَّعه الخلق وازدحموا عليه. قال حُميد الطويل: توفي الحسن عشية الخميس، وأصبحنا يوم الجمعة، ففرغنا من أمره -أي: جهزناه- وحملناه بعد صلاة الجمعة ودفناه. وهذه نهاية هذه السلسلة في هذا الوقت، ولعلنا نعود إليها مجدداً إن شاء الله تعالى. ونسأل الله التوفيق والإخلاص. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

الإمام الوزير ابن هبيرة [1، 2]

الإمام الوزير ابن هبيرة [1، 2] ابن هبيرة عالم عامل بعلمه، تولى الوزارة فلم تشغله عن طلب العلم والتأليف والتدريس، فهو قدوة لكل من اشتغل بمنصب أو اعتلى كرسياً في الدولة. ابن هبيرة تاريخ حافل بالآراء السديدة، والاستنباطات العجيبة من الكتاب والسنة. ابن هبيرة بلغ درجة عظيمة من الإحسان لمن أساء إليه أو ظلمه، عقيدته سلفية، له كلام عجيب حيث قال: والله لا نترك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مع الرافضة، بل نحن أحق به منهم، ولا نترك الشافعي مع الأشعرية بل نحن أحق بالشافعي منهم، ما معنى ذلك؟ في الدرس ستجد الإجابة. ابن هبيرة مات مسموماً، وجنازته خرج فيها ما لم ير في جنازة غيره في عصره كما قال ابن الجوزي رحمه الله.

ابن هبيرة وطلبه للعلم وبعض مؤلفاته

ابن هبيرة وطلبه للعلم وبعض مؤلفاته الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه. وبعد: ففي سلسلة (أضواء على سير العلماء) نتحدث في هذه الليلة -إن شاء الله تعالى- عن سيرة العالم الوزير الكامل الإمام العادل عون الدين أبي المظفر يحيى بن محمد بن هبيرة بن سعيد بن الحسن بن جهم الشيباني الدوسي العراقي الحنبلي، صاحب المصنفات رحمه الله تعالى، وهذا الإمام عربيٌ شيبانيٌ. كان مولده في سنة بـ قرية بني أوقر من الدور إحد بلدان العراق، ولذلك يقال في نسبه: الدوري. ودخل بغداد في صباه، وطلب العلم، وقرأ القرآن بالراوية على جماعة. وسمع الحديث من جماعة، منهم: القاضي أبو الحسين بن الفراء، وابن الزاغوني، وعبد الوهاب الأنماطي، وغيرهم. وقرأ القرآن بالقراءات السبع. وشارك في علوم الإسلام، ومهر في اللغة، وكان يعرف مذهب الإمام أحمد رحمه الله، والعربية، والعروض. يقول الذهبي عنه كما في السير: "كان سلفياً أثرياً". وهذه صفة مهمة للعلماء. سلفياً: يتبع السلف في المعتقد. أثرياً: يعتمد الأثر والحديث والدليل في أقواله الفكرية وغيرها. وقرأ الفقه على أبي بكر الدينوري. وقرأ الأدب على أبي منصور الجواليقي. وصَحِبَ أبا عبد الله محمد بن يحيى الزبيدي الواعظ الزاهد من حداثته، وأخذ عنه التألُّه والعبادة، وانتفع بصحبته حتى إن الزبيدي كان يركب جملاً ويعتم بإزار ويلويها تحت حنكه وعليه جبة وهو مخضوب بالحناء، فيطوف بأسواق بغداد ويعظ الناس، وزمام جمله بيد أبي المظفر ابن هبيرة، فكان ابن هبيرة رحمه الله يمسك بجمل هذا الواعظ يمشي به وهو يطوف على الناس يعظهم، وكلما وصل الزبيدي موضعاً، أشار أبو المظفر بمسبحته ونادى برفيع صوته: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير) وهذا الذكر يقال عند دخول السوق. وكان رحمه الله تعالى متشدداً في اتباع السنة وسيرة السلف الصالح، ولما طلب العلم حصل أنه رحمه الله أمضه الفقر، وأعيته الحاجة، واحتاج إلى موردٍ للكسب، فتعرض للكتابة فصار كاتباً -حصل على وظيفة كاتب- وتقدم وترقى في الكتابة لدى الخليفة، وصار على مشارف الخزانة، ثم ولي ديوان الزمام، أي: ديوان يُعْنَى بالشئون المالية المدنية والعسكرية، وفيه تُحفظ السجلات، وهو من التراتيب الإدارية في الدولة الإسلامية في ذلك الوقت، فلوحظ عليه الأمانة وجودة العمل وإتقانه، فكان قوياً أميناًَ، فتولى ديوان الزمام للخليفة المقتفي لأمر الله، وفي سنة: (544 هـ) عينه وزيراً، واستمر في الوزارة لابنه المستنجد بالله بعد الخليفة المقتفي. وكان -رحمه الله تعالى- ديِّناً، خيِّراً، متعبداً، عاقلاً، وقوراً، متواضعاً، باراً بالعلماء، مكباً -مع أعباء الوزارة- على العلم وتدوينه، كبير الشأن، وكان حسنة الزمان في ذلك الوقت.

مؤلفات ابن هبيرة

مؤلفات ابن هبيرة شرح الوزير ابن هبيرة الصحيحين، وسماه: الإفصاح عن معاني الصحاح، في عشرة مجلدات كما يقول الذهبي رحمه الله تعالى. ولما وصل إلى حديث: (من يرد الله به خيراً، يفقهه في الدين) شرح الحديث، وتكلم على معاني الفقه، وآل به الكلام إلى أن ذكر مسائل الفقه المتفق عليها والمختلف فيها بين الأئمة الأربعة المشهورين: أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، فكان هذا كتاب فقه فيه أقوال العلماء في المسائل المختلفة الفقهية داخلٌ ضمن شرحه لـ صحيح البخاري وصحيح مسلم؛ ولكن الناس أفردوه عن الكتاب الأصلي، وطُبِع باسم الإفصاح عن معاني الصحاح، وهو كتاب مهم، ولكنه في الحقيقة قطعة من الكتاب الأصلي في شرح الصحيحين. هذا الكتاب صنفه في ولايته للوزارة، واعتنى به، وجمع عليه أئمة المذاهب، فكان يعرف آراء المذاهب من أصحابها، وأوفدهم من البلدان لأجل هذا الكتاب، وحضروا عنده، وأنفق على تأليف ذلك الكتاب مائة ألف دينار يدخل فيها نفقات العلماء الذين رحلوا واجتمعوا وتباحثوا في هذا الكتاب. وحدَّث بهذا الكتاب، واجتمع خلق عظيم لسماعه، وبُعِث به إلى العظماء في أطراف المملكة الإسلامية، واستُنْسخت منه نسخٌ كثيرة، وبلغ ذلك الكتاب إلى السلطان نور الدين الشهيد رحمه الله، واشتغل الفقهاء في ذلك الزمان بكتاب الإفصاح عن معاني الصحاح يدرسونه في المساجد، ويعيده المعيدون، ويحفظ منه الفقهاء. وكذلك صنف في النحو كتاباً اسمه المقتصد، وعرضه على أئمة الأدب في عصره، وشرحه ابن الخشاب في أربعة مجلدات. وكذلك صنف كتاب العبادات الخمس على مذهب الإمام أحمد رحمه الله، وحدَّث به بحضرة العلماء من أئمة المذهب. وله أرجوزة في المقصور والممدود، وأرجوزة في علم الخط. هذا الرجل من عَظَمَته أنه اشتغل بالعلم وألف وهو وزير.

ابن هبيرة يتولى الوزارة

ابن هبيرة يتولى الوزارة استدعي ابن هبيرة من قبل الخليفة المقتفي لأمر الله سنة: (544 هـ) إلى داره وقلده الوزارة، ومشى أرباب الدولة وأصحاب المناصب كلهم بين يديه وهو راكبٌ إلى الإيوان في الديوان، وكان يوماً مشهوداً، وكان ذلك تقليداً عظيماً لمن يتولى الوزارة. ولكن الرجل لما بلغ ذلك المنصب لم يفسد، ولم ينشغل بأمور الدنيا، ولم يترك طلب العلم، وهذا درسٌ عظيمٌ جداً يؤخذ من حياة هذا الإمام، بل إن أخلاقه قد ازدادت بعد توليه الوزارة، وكان يقول بعد توليه الوزارة: لا تقولوا في ألقابي: سيد الوزراء. لماذا نهاهم عن تسميته بسيد الوزراء؟ قال: لأن الله تعالى سمى هارون وزيراً. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أن وزيريه من أهل السماء: جبريل، وميكائيل، ومن أهل الأرض: أبو بكر، وعمر. فإذا قيل: سيد الوزراء، قد يُتَوَهَّم دخول هارون، وأبي بكر، وعمر في هؤلاء الوزراء، ولا يمكن أن يكون سيداً لهم، ولا يجوز أن يكون كذلك، فكان يتنبه حتى لهذه المسائل. وكان متواضعاً رحمه الله تعالى، لم يشغله أو يطغه المنصب، بل كان ملتزماً لجانب التواضع، وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله اختارني، واختار لي أصحاباً، فجعلهم وزراء وأنصاراً) يقول الوزير ابن هبيرة رحمه الله: "ولا يصلح أن يقال عني: إني سيد هؤلاء السادة".

أعمال ابن هبيرة عندما تولى الخلافة

أعمال ابن هبيرة عندما تولى الخلافة لما تولى الوزير ابن هبيرة الوزارة عمل إصلاحات كثيرة، منها: 1 - قام بالعدل. 2 - جاد على الناس. 3 - أصلح ما فسد من قبل. 4 - شجع الناس على طلب العلم، ورفع منزلة العلماء وقدرهم عنده، وكان صاحب عبادة بالإضافة إلى ذلك. من الذين ترجموا للوزير ابن هبيرة: ابن الجوزي رحمه الله. لما ولي الوزير أبو المظفر الوزارة، بالغ في تقريب خيار الناس من الفقهاء والمحدِّثين والصالحين، واجتهد في إكرامهم وإيصال النفع إليهم، وارتفع به أهل السنة غاية الارتفاع. فالرجل عمل خطوة مهمة جداً وهي تقريب خيار الناس من الفقهاء والمحدِّثين والصالحين، فجعلهم عنده في مجلسه يستشيرهم ويأخذ بعلمهم. وكذلك جعلهم في الوظائف المختلفة؛ وظف العلماء، وعندما يوظف العلماء لا شك أنه يحصل خير عظيم جداً، وارتفع أهل السنة في عصره، لأنه كان سلفياً، ومن النادر أن يصل إلى هذا المنصب في ذلك الوقت سلفيٌ عالِمٌ، يتبوأ مكان الوزارة بعد الخليفة مباشرة، هذا شيء نادر للغاية، وهذه من مآثر ابن هبيرة رحمه الله. قال مرة في وزارته: "والله لقد كنت أسأل الله تعالى الدنيا لأخدم بما يرزقنيه الله منها العلم وأهله". فإذاً كان قصده من طلب الدنيا خدمة العلم وأهل العلم، وليس أن يحصل على منصب شخصي، أو منفعة مادية، لم يكن لأجل مصلحته، وإنما لمصلحة العلم وأهله. ومن هذا! ينبغي أن يتعلم كل من وصل إلى منصب مهما كان؛ مديراً، أو وزيراً، أو وكيلاً، أو غير ذلك، ماذا يفعل إذا وصل إلى منصب الوزارة؟ القيام بالعدل. تقريب الأخيار، ووضعهم في الوظائف والمناصب المختلفة، واستشارتهم. تقريب العلماء، والعمل بكلامهم وأحكامهم التي يقولونها. إصلاح ما فسد من قبل. عدم الانشغال عن العلم. رفع منزلة العلماء. إقامة الدروس وحضورها، وإقامة المناقشات العلمية والمباحثات تكون بين يديه. إكرام أهل العلم، وإجراء الرواتب لهم، وتفريغهم للعلم، بجعل الأعطيات لهم ليتفرغوا لطلب العلم. إقامة السنة ونصر السنة وأهلها، وفي المقابل طمس البدعة، وإبعاد أهل البدعة، وكبتهم. التواضع، لأن المنصب يُطْغِي، ومن حوله ينفخون فيه، ولكن إذا كان ممن وفقه الله، فإنه لا يتأثر بهذا النفخ، بل يكون على جانب العدل.

قصة ابن هبيرة مع أبي محمد الأشيري

قصة ابن هبيرة مع أبي محمد الأشيري هذا الرجل له مناقب عجيبة، منها: لما تولى الوزارة، مع هذه الولاية التي تولاها، التي كان يمكنه أن يخفض ويرفع بإشارة إصبع، يعاقب، أو يكرم، ونحو ذلك في أمور الدنيا، الرجل كان حسَّاساً، طالباً للعدل، متحرياً لبراءة ذمته. وقد حصلت له قصص، منها هذه القصة: ذكر مرة في مجلسه مسألة تفرد بها الإمام أحمد عن الثلاثة: أبي حنيفة، والشافعي، ومالك. فادَّعى أبو محمد الأشيري المالكي أنها رواية عن مالك، قال: هذا القول الذي تقول: إنه تفرد به أحمد، لم يتفرد به أحمد فقط، وهو رواية عن مالك، ولكن لم يوافق الأشيري على ذلك أحد من العلماء الحاضرين من المالكية وغير المالكية، وأحضر الوزير للإثبات كتب مفردات أحمد التي فيها بيان المسائل التي انفرد بها أحمد عن الأئمة الثلاثة، وهذه المسألة كانت منها، كما قال الوزير ابن هبيرة رحمه الله. ولكن الأشيري المالكي أصر على دعواه أن هذه رواية عن مالك. فصار عند ابن هبيرة -رحمه الله- غضب من هذا الرجل الذي يصر على غير الحق، هذه الكتب، وهذه الإثباتات، وهؤلاء العلماء، وهذا يقول: ليست من مفردات أحمد، فاحتدَّ ابن هبيرة رحمه الله، وقال له: بهيمةٌ أنت؟ أما تسمع هؤلاء الأئمة يشهدون بانفراد أحمد بها، والكتب المصنفة وأنت تنازع؟! وتفرق المجلس. فلما كان المجلس الثاني، مجلس علم، يحضره الوزير ابن هبيرة رحمه الله ومعه العلماء، واجتمع الخلق للسماع، أخذ ابن شافع في القراءة، فقام ابن هبيرة ومنع الدرس من الابتداء، وقال: قد كان الفقيه أبو محمد جرى في مسألة أمس على ما لا يليق به من العدول عن الأدب والانحراف عن نهج النظر حتى قلت تلك الكلمة -أي: هذا الأشيري المالكي انحرف عن نهج النظر، وفعلاً هو مخطئ، وهذه الإثباتات، لكن يقول: أنا قلت له كلمة عظيمة وهأنذا، فليقل لي كما قلت له أمام الحاضرين جميعاً -الآن القصاص- فلست بخيرٍ منكم، ولا أنا إلا كأحدكم، فضج المجلس بالبكاء -تأثر الناس جداً من هذا الموقف- وارتفعت الأصوات بالدعاء والثناء، وأخذ الأشيري يعتذر، ويقول: أنا المذنب والأولى بالاعتذار من مولانا الوزير. وهو يقول - ابن هبيرة -: القصاص القصاص يطلب ويصر على القصاص، اقتص مني وقل لي مثلما قلت لك. فقال يوسف الدمشقي مدرس النظامية: يا مولانا! إذا أبى القصاص، فالفداء، الآن الأشيري يرفض أن يقول لك تلك الكلمة كما قلت له، وهو راضٍ، فنعدل من القصاص إلى الفدية. فقال الوزير: له حكمه. فقال الأشيري: نعمك عليَّ كثيرة، فأي حكم بقي لي؟! فقال: قد جعل الله لك الحكم علينا بما ألجأتنا به إلى الاعتداء عليك، فلا بد من تعويض، ما دمت أنك ترفض القصاص. فقال الأشيري: عليَّ بقية دين منذ كنتُ بـ الشام. فقال الوزير: يعطى مائة دينار لإبراء ذمته وذمتي، فأُحضر له مائة دينار. فقال له الوزير: عفا الله عنك وعني، وغفر لك ولي. وذكر ابن الجوزي أنه قال: يعطى مائة دينار لإبراء ذمته -أي: من الدَّين- ومائة دينار لإبراء ذمتي -من الكلمة التي قلتها له- فأعطاه مائتي دينار. والأشيري من علماء المالكية، كان قد طلبه الوزير ابن هبيرة، فأينما وجد عالم مجيد عالم جيد يطلبه، ولو كان في آخر الدنيا. وكان الأشيري عند نور الدين الشهيد محمود بن زنكي رحمه الله، فسمع به الوزير ابن هبيرة، واستقدمه وطلبه من نور الدين، فأعطاه وأرسله إليه وأكرمه، وصار عنده في المجلس وفي المباحثات التي تكون.

تواضع ابن هبيرة واعترافه بأهل الفضل عليه

تواضع ابن هبيرة واعترافه بأهل الفضل عليه كان من تواضع ابن هبيرة رحمه الله أنه إذا استفاد شيئاً، قال: أفادنيه فلان، وهذا من أدب طالب العلم، أنه إذا استفاد فائدة من شخص يذكر الذي أفاده هذه الفائدة، فعَرَض له يوماً حديث: (من فاته حزبٌ من الليل، فصلاه قبل الزوال كان كأنه صلى بالليل) فقال: لا أدري معنى هذا، لم أفهم وجه الحديث. فقال ابن الجوزي: هذا ظاهرٌ في اللغة والفقه. أما اللغة: فإن العرب تقول: كيف كنت الليلة؟ إلى وقت الزوال. وأما الفقه: فإن أبا حنيفة يصحح الصوم بنية قبل الزوال، فقد جعل ذلك الوقت في حكم الليل. فأعجبه هذا القول، وكان يقول بين الجمع الكثير: ما كنت أدري معنى هذا الحديث حتى عرَّفنيه ابن الجوزي، فكنت أستحي من الجماعة، يقول: إذا جاء للوزير يقول العالم الوزير: أفادنيه ابن الجوزي بين الجماعة، فأستحي من هذه الكلمة. ورتب الوزير ابن هبيرة لـ ابن الجوزي درساً في داره كل يوم جمعة. ومن تواضعه أيضاً: أنه سمع مرة أحد الفقراء يقرأ القرآن في داره، فأعجبته قراءته، فقال لزوجته: أريد أن أزوجه ابنتي -أي: الوزير ابن هبيرة يزوج ابنته لذلك الفقير، فغضبت زوجته. وكان يُقرأ الحديث عنده كل يوم بعد العصر. وكان يكثر مجالس العلماء والفقراء وكانت أمواله مبذولةً لهم. وكانت السنة تدور وعليه ديون، ولذلك قال: ما وجبت عليَّ زكاةٌ قط، لأن كل الدخل الذي كان يأتيه -مع أنه كان دخلاً كبيراً في هذا المنصب- كله يذهب لأعمال البر وصلة العلماء، وبذله لأهل العلم، ولذلك كان لا تدور عليه السنة إلا وهو مدين، ولذلك قال بعض الشعراء فيه: يقولون: يحيى لا زكاة لماله وكيف يزكي المال من هو باذلُه إذا دار حولٌ لا يُرى في بيوته من المال إلا ذكره وفضائلُه ومن تواضعه: أنه كان يتحدث بنعم الله تعالى عليه، ويذكر في منصبه شدة فقره القديم، وكان يقول: نزلت يوماً إلى دجلة، وليس معي رغيفٌ أعبر به -يقول: جاءتني أيام ما عندي رغيف. يقول هذا في حال الوزارة بعد أن صار في ذلك المنصب، وإذا رأيت رجلاً صار ذا مال أو ذا منصب يذكر فقره أو حاله الأول من الضعف وهو في حال القوة والغنى، فهذا في معدنه خيرٌ عظيمٌ. ودخل عليه يوماً تركياً -وكان الأتراك قد أتي بهم وجُلِبوا إلى المملكة الإسلامية في ذلك الوقت، وكانوا جنوداً حتى صاروا عماد جيش الدولة- فقال لحاجبه: أما قلتُ لك: اعط هذا عشرين ديناراً ووِقْراً من طعام، وقل له: لا تحضر هاهنا؟ فقال: قد أعطيناه. فقال: عد وأعطه، وقل له: لا تحضر، ثم التفت إلى الجماعة، وقال: لا شك أنكم تريبون بسبب هذا. أي: عندكم ريبة الآن مني؛ لأني أقول له: اعطه، وقل له: لا يعود. قالوا: نعم. قال: هذا كان في القرى، فقُتِل قتيل قريباً من قريتنا، فأخذ مشايخ القرى، وأخذني مع الجماعة -يبدو أنه كان شرطياً، فلما قُتل القتيل هذا التركي، جمع مشايخ القرى، وكان ابن هبيرة مع المحشورين قبل أن يتولى الوزارة- قال: وأمشاني مع الفرس، وبالغ في أذاي وأوثقني، ثم أخذ من كل واحد شيئاً وأطلقه -أي: رشوة- ثم قال لي: أي شيء معك؟ قلت: ما معي شيء، فانتهرني، وقال: اذهب، فأنا لا أريد اليوم أذاه، وأبغض رؤيته. وفي رواية لهذه القصة أنه قال: إنني سألت هذا التركي في الطريق أن يمهلني لأصلي الفرض، فما أجابني وضربني على رأسي، وكان رأسي مكشوفاً، فكنتُ أنقم عليه حين رأيته لأجل الصلاة لا لكونه قبض عليَّ، فإنه كان مأموراً. ولذلك لما جاءه التركي، قال: أعطوه مالاً، وأعطوه كذا، وقولوا له: لا يأتي، فكان يقول: إنني لم أنقم عليه لأنه أمسك بي، لكنني نقمت عليه لأنه لم يمهلني حتى أصلي فرض الصلاة. وكان بعض الأعاجم قد شاركه في زراعة، وآل الأمر إلى أن هذا الأعجمي ضرب الوزير -قبل أن يتولى الوزارة- وبالغ في ضربه. ولما وَلِي ابن هبيرة الوزارة، أتى بالأعجمي وأكرمه ووهب له وأعطاه، مع أنه كان قد أساء إليه، الآن هذه فرصة للانتقام؛ لأنه صار صاحب قدرة وقوة.

ابن هبيرة يعفو عمن ظلمه

ابن هبيرة يعفو عمن ظلمه ومن مناقبه كما يقول ابن الجوزي رحمه الله: كنا نجلس إلى الوزير ابن هبيرة، فيملي علينا كتابه الإفصاح، فبينا نحن كذلك إذ قدم رجل ومعه رجلٌ ادعى عليه أنه قتل أخاه. فقال له عون الدين ابن هبيرة أقتلته؟ قال: نعم. جرى بيني وبينه كلام، فقتلته. فقال الخصم بعد هذا الاعتراف: سلمه إليَّ حتى نقتله، فقد أقر بالقتل. فقال عون الدين: تبيعونيه؟ كأنه يريد أن يفدي هذا القاتل، فاشتراه منهم بستمائة دينار، وسلَّم الذهب إليهم، ورضي أهل القتيل بالفدية. فقال للقاتل: اقعد عندنا لا تبرح، فجلس عنده، وأعطاه الوزير خمسين ديناراً. فقلنا للوزير: لقد أحسنت إلى هذا وعملت له أمراً عظيماً، وبالغت في الإحسان إليه، ما هو السبب؟ قال الوزير: أمنكم أحدٌ يعرف أن عيني اليمنى لا أبصر بها شيئاً؟ فقلنا: معاذ الله، لا ندري أنك لا ترى بعينك اليمنى، كأن العين كان ظاهرها أنها سليمة؛ لكنها في الحقيقة معطوبة. فقال: بلى والله -أي: أنها معطوبة- أتدرون ما سبب ذلك؟ قلنا: لا. قال: هذا الذي خلَّصته من القتل جاء إليَّ وأنا في الدور ومعي كتاب من الفقه أقرأ فيه، ومعه سلة من الفاكهة -أيام طلب العلم- فقال: احمل هذه السلة، فقلت له: ليس هذا شُغْلي، فاطلب غيري، فثاكَلَني ولكَمَني على عيني فعطبها، ومضى، ولم أره بعد ذلك إلى يومي هذا، فلما رأيته الآن تذكرت ما صنع بي، فأردت أن أقابل إساءته إليَّ بالإحسان مع القدرة. هذا شيء من عدل هذا الرجل وتواضعه رحمه الله تعالى، ولا شك أن هذا شيء لا يبلغه إلا نادر من الناس، القليل والقليل جداً، ولا شك أنه أمر صعب، وهذا داخل في قوله تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134]. {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} [آل عمران:134] أي: الذين يمتنعون عن الانتقام ممن أساء إليهم، يكظمون الغيظ. {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاس ِ} [آل عمران:134] أي: إذهاب ما في الصدر على الشخص. والأول قد يكون واجباً؛ لكن الثاني لا يكون واجباً. أي: أنه يجب عليك شرعاً أن تُخرج من صدرك أي ضغينة على مَن ظلمك، لكن لا يجب عليك العفو عنه؛ لكن لو فعلته فلا شك أن هذا من مقامات الإحسان. {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134] أي: من مقامات الإحسان ألَّا تجد في نفسك شيئاً عليه. فالرجل بحقٍ قد وصل إلى هذه المقامات العالية.

تورع ابن هبيرة عن الحرام ومدح المستنجد بالله له

تورع ابن هبيرة عن الحرام ومدح المستنجد بالله له لا شك أن الذي يدخل في الوزارات والمناصب يتعرض لأمور من المحرمات، مثلاً: لبس الذهب والحرير، لأنه كان من عادتهم في ذلك الوقت في الخلافة والوزارة أَلْبِسَة يلبسونها تناسب مناصبهم يوجَد في كثير منها محرمات، مثل: لبس الذهب والحرير. قال ابن الجوزي: كان الوزير ابن هبيرة رحمه الله يجتهد في اتباع الصواب، ويحذَر من الظلم، ولا يلبس الحرير. قال لي لما رجعت من مكان، وكان قد ذهب لقتال بعض أهل البغي وإخماد فتنتهم: دخلت على المقتفي -أي: الخليفة- فقال لي: ادخل هذا البيت وغيَّر ثيابك، فدخلتُ، فإذا خادمٌ وفرَّاشٌ معهما خِلَع الحرير، فقلت: والله ما ألبسها، فخرج الخادم وأخبر الخليفة، فسمعتُ صوته يقول: قد والله قلتُ: إنه لا يلبسها - المقتفي كأنه أراد اختبار الوزير - فأعطى الفراش حلل الحرير، وكان المقتفي معجباً به. ولما استخلف المستنجد بعد أبيه المقتفي، دخل ابن هبيرة عليه، فقال: يكفي في إخلاصي أني ما حابيتك في زمن أبيك، قال: صدقت. ولذلك فإن المستنجد قد مدح وزيره ابن هبيرة بأبيات منها: ضَفَت نعمتان خصتاك وعمَّتا فذكرهما حتى القيامة يُذْكَرُ وُجُودُك والدنيا إليك فقيرةٌ وَجُودُك والمعروف في الناس يُنْكَرُ فلو رام يا يحيى مكانك جعفر ويحيى لكفَّا عنه يحيى وجعفر يقصد يحيى البرمكي وابنه جعفر بن يحيى اللذَّين وَزَرا لـ هارون الرشيد، ثم قضى الرشيد على فتنة البرامكة، لكنهما كانا وزيرين مشهورين جداً. ولو أرى من ينوي لك السوء يا أبـ ـا المظفر إلا كنت أنت المظفر وكان أيضاً يتأسف على ما دخل فيه من أعمال السلطنة، ويخشى أن يكون قد ظَلَم، أو أكل شيئاً بغير حق، ولذلك فإنه كان يتأسف على الدخول فيها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وإنها يوم القيامة خزيٌ وندامةٌ) ولكن نسأل الله عز وجل أن يكون هذا الرجل ممن أخذها بحقها. يقول ابن الجوزي: قال ابن هبيرة: كان عندنا في القرية مسجدٌ فيه نخلة تحمل ألف رطل، فحدَّثتُ نفسي أن أقيم في ذلك المسجد، وقلت لأخي مجد الدين: اقعد أنا وأنت وحاصلها يكفينا، ثم انظر إلى ما صرتُ إليه من أمر الوزارة، ثم صار يسأل الله الشهادة، ويتعرض لأسبابها -أي: من الخروج للجهاد ونحو ذلك- وفي ليلة ثالث عشر جمادى الأولى سنة: (560هـ) استيقظ وقت السحر، فقاء، -أخذه القيء في وقت السحر- فحضر طبيبه ابن رشادة، فسقاه شيئاً -يعني: كعلاج- فقيل: إنه سَمَّه!! وهكذا المخلصون في هذه الأماكن لا يطول بهم المقام؛ لأن أصحاب الأهواء يُعادونهم ويعملون على رحيلهم حتى يفرغ لهم المكان. خلا لك الجو فبيضي واصفري ونقري ما شئت أن تنقري فقيل: إنه سقاه سماً، فمات - ابن هبيرة رحمه الله تعالى- فيكون قد مات مظلوماً شهيداً. ومن قدر الله تعالى أن هذا الطبيب سُقي بعده بنصف سنة سُمَّاً، فكان يقول: سَقَيْتُ فسُقِيْتُ -الجزاء من جنس العمل- ومات الطبيب الذي سمه. فالرجل نسأل الله سبحانه وتعالى أن يكون ممن قد ذهب إلى ربه شهيداً. وكان من أصحاب التألُّه، واكتسب ذلك من أشياخه كما قلنا، وكانت فائدة في أن طالب العلم يتعلم العلوم المختلفة، لا يقتصر على علمٍ معين، يتعلم القرآن وعلومه، والحديث وعلومه، والفقه، وغير ذلك، ويضيف إليه أمراً مهماً جداً وهو جانب التألُّه والتعبُّد، كما تأثر ابن هبيرة رحمه الله بشيخه في التألُّه والتعبُّد، وتعلم منه قضية إنكار المنكر ووعظ الناس ونصح الناس.

بعض آراء ابن هبيرة السديدة

بعض آراء ابن هبيرة السديدة من الأشياء التي تروى عن كرامات هذا الرجل:

رأيه في كيفية القضاء على أحد البغاة

رأيه في كيفية القضاء على أحد البغاة كان هناك أحد الظلمة الذين استطالوا في ناحية من النواحي في تلك البلدان كان يلقَّب بـ مسعود، وكان له أصحاب أفسدوا في الأرض، فعزم الوزير ابن هبيرة رحمه الله والخليفة المقتفي على قتال هذا الباغي، ولكنه فكر ابن هبيرة كثيراً في الأمر، فوجد أنه ليس بصواب، لأن الرجل قوي الشوكة، وربما يقتل من المسلمين أعداداً بسبب محاولة إطفاء فتنة هذا الرجل وربما لا تنطفئ، فدخل ابن هبيرة على المقتفي، وقال له: إني رأيت أن لا وجه في هذا الأمر إلا الالتجاء إلى الله تعالى وصدق الاعتماد عليه، فبادر إلى تصديقه في ذلك -أي: أنك أصبت الرأي- وقال: ليس إلا هذا، ثم كتبتُ إليه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا على رعل وذَكْوَان شهراً -قبائل من المشركين- وينبغي أن ندعو نحن شهراً، فأجابني بالأمر بذلك -فصار أمراً بالقنوت والدعاء على المفسد. قال الوزير رحمه الله: ثم لازمت الدعاء في كل ليلة وقت السحر، أجلس فأدعو الله سبحانه، فمات مسعود بتمام الشهر، وأجاب الله الدعاء وأزال يد مسعود وأتباعه عن العراق، وأورثنا أرضهم وديارهم. وهذه القصة تذكر في كرامات الوزير ابن هبيرة رحمه الله تعالى.

رأي ابن هبيرة في القضاء على الدولة العبيدية (الفاطمية)

رأي ابن هبيرة في القضاء على الدولة العبيدية (الفاطمية) من آرائه العظيمة والعظيمة جداً: أنه كتب إلى نور الدين زنكي يحثه على إخراج العُبَيْديين من مصر، لأن هذه الجرثومة الفاسدة، وهذا المذهب الضال -مذهب العُبَيْديين الفاطميين الذي أقاموه في مصر - وحَمَلوا الناس عليه، وقتلوا أئمة أهل السنة، وعلماء أهل السنة، ونشروا القبور والأضرحة، وشجَّعوا على الموالد، وإحياء الطرق الصوفية؛ لأنها تخدم مذهبهم، ونحو ذلك من البدع والضلالات التي ملئوا بِها مصر وغيرها شركاً، شجع ابن هبيرة -وهو الرجل السلفي الأثري السني- نور الدين زنكي رحمه الله، وكان صاحب بأس وشجاعة وقوة أن يذهب لإخراج العُبَيْديين من مصر، وقد أخذ نور الدين محمود بن زنكي رحمه الله بهذا الرأي، وسيَّر أسد الدين شيراكوه مرتين، إلى مصر، وفعلاً حصل ما حصل، وكان معه صلاح الدين الأيوبي، وتَم إسقاط الدولة الفاطمية، وخُطِبَ بـ مصر للخليفة المستنجد العباسي على المنبر، وجاء الخبر إلى بغداد بهذا الأمر في سنة: (559هـ). وكُتِبَ إلى ابن هبيرة بقصيدة يُهَنَّأ بها، وأن ذلك كان بسبب سعيه ورأيه، وعظُمَت حرمة الدولة العباسية في ذلك الوقت، وكان ذلك برأي الوزير، وبتنفيذ وسعي نور الدين رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً.

شدة ورع ابن هبيرة

شدة ورع ابن هبيرة وكذلك فإن من ورعه، أنه لم يكن يلبس ثوباً فيه الإِبْرِيْسِم على القطن -والإِبْرِيْسِم هو: الحرير- فإن شك في ماهية الشيء المصنوع منه هذا القميص سل طاقاته ونظر، هل القطن أكثر أم الإِبْرِيْسْم؟ هل الحرير أكثر أم القطن؟ فإن استوت أعداد الخيوط في نسج هذا القميص لم يلبسه. وفي بعض مجالسه قال له بعض الفقهاء الحنابلة: يا مولانا! إذا استويا، جاز لبسه في أحد الوجهين عن أصحابنا، فقال: أنا لا آخذ إلا بالأحوط، أتبحث لي على قول عند أصحابكم، أو عند أصحابنا؟! وكذلك فإنه كان رحمه الله تعالى عاملاً على تقرير قواعد الدين والنظر في مصالح الإسلام والمسلمين. كان فاضلاً ذا رأي صائب وسريرة صالحة حتى شكره الخاص والعام. - كان عفيفاً عن أموال المسلمين وأموال الدولة وبيت المال. - كان كثير البر والمعروف، وقراءة القرآن، والصلاة، والصيام. - كان جميل المظهر، شديد التظاهر بالسنة، ومن كثرة ميله إلى السنة أنه اجتاز في سوق بغداد وهو الوزير، فقال: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت بيده الخير وهو على كل شيء قدير). فكان يجهر بالسنة، ويجهر بالأذكار في الأماكن المختلفة. وكذلك يضاف إلى تحريه في الأمور وشدة الورع: أنه في ذات مرة أُحْضِر له كتاب من وقف المدرسة النظامية التي أسسها النظام، وهي مدرسة خيرية كان يُجْعَل لها أوقاف من الأوقاف يُنْفق على الطلبة والمدرسين في هذه المدرسة، وتدرس فيها العلوم المختلفة، وكان هذا النظام المعمول به في أنحاء العالم الإسلامي، تُخَرِّج طلاباً أقوى من طلاب الجامعات، أحضر للوزير ابن هبيرة كتاب أوقف على المدرسة النظامية ليُقرأ فيه، فقال: قد بلغني أن الواقف شَرَط في الكتاب الوقف بأن لا يُخْرَج شيء من كتب الوقف عن المدرسة، ثم أمر برده. فقيل له: إن هذا شيء ما تحققناه، أي: لم نتأكد منه. قال: أليس قد قيل؟ بَلَغَنا ذلك يكفي، مثل ما قال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل عندما سأله في موضوع الرضاعة: (أليس قد قيل؟) وهذا يبين أهمية التحري، والأخذ بالأحوط، والابتعاد عن الشبهات، فقال: أليس قد قيل؟ ولم يمكنهم من قراءته، وحثهم على إعادته. وحصل كذلك من تواضعه وإيثاره للفقراء أشياء كثيرة: حتى أنه كان كثيراً ما يقول لبعض الفقراء وهو يخاطبهم في المجلس أمام الناس، يقول: أنت أخي.

بعض استنباطات ابن هبيرة في القرآن الكريم

بعض استنباطات ابن هبيرة في القرآن الكريم وكذلك: فإنه رحمه الله كان له استنباطات كثيرة في الأمور الفقهية فمن أمثلتها:

استنباطات ابن هبيرة في سورة الأنعام

استنباطات ابن هبيرة في سورة الأنعام كان يقول في الآيات اللواتي في الأنعام: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام:151]: إنها محكمات، وقد اتفقت عليها الشرائع. قال في الآية الأولى: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام:151] أي: في آخرها. وفي الثانية: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأنعام:152] في آخرها. وفي الثالثة: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153] لأن كل آية يليق بها ذلك، لأن هذه الآيات التي هي آيات الوصايا العشر في سورة الأنعام: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [الأنعام:151] ختم الآية التي فيها النهي عن الشرك بقوله: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام:151] قال: لأن العقل يشهد بأن الخالق لا شريك له، والعقل يدعو إلى بر الوالدين، وينهى عن قتل الولد، وإتيان الفحشاء، لأن الإنسان يغار من الفاحشة على ابنته وأخته، فينبغي عليه أن يجتنبها، فلما لاقت هذه الأمور بالعقل، قال: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام:151] يعني: الفطرة السليمة والعقل السليم يهتدي إليها، وهي: - تحريم الشرك. - الأمر ببر الوالدين. - النهي عن قتل الولد. - النهي عن إتيان الفاحشة. - النهي عن قتل النفس. في الآية الثانية قال: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ} [الأنعام:152] بماذا ختمها؟ ختمها بقوله: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأنعام:152] فقال: أي: اذكر لو هلكتَ، فصار ولدك يتيماً. واذكر عند وزنك لو كنتَ الموزون له. واذكر كيف تحب العدل لك في القول، فاعدل في حق غيرك. وكما لا تؤثر أن يخان عهدك، فلا تخن. فلاقى بهذه الأشياء التذكُّر. فقال: افرض أن أولادك أنت هم اليتامى، تذكر أنك أنت الموزون له، فماذا تفعل؟ تعدل في اليتامى، وفي الوزن، ولذلك ختمها بقوله: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأنعام:152]. وقال في الثالثة: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام:153] فلاقى بذلك اتقاء الزلل، فلذلك قال: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153] اتقاء الزلل، {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام:153] فاتقاء الزلل ختمها بقوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153].

استنباط ابن هبيرة في قوله تعالى: (فإنك من المنظرين)

استنباط ابن هبيرة في قوله تعالى: (فإنك من المنظرين) وأيضاً من فهمه واستنباطه في قوله تعالى: {فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ} [الحجر:37] أي: أن إبليس لما طلب من الله أن يؤخره إلى آخر الزمان قال الله تعالى: {فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ} [الحجر:37] يقول ابن هبيرة: هذا ليس بإجابة سؤال، ولا إجابة دعوة، لأن إبليس ليس صاحب كرامة عند الله حتى يجيب الله دعوته، لا. وإنما قوله: {فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ} [الحجر:37] إخبارٌ عن قَدَرِ الله، يعني: أن الله أخبر إبليس أنه من المُنْظَرِين، لما سأله الإنظار، فكأنه يقول: كذلك قُدِّر، لا أنه جواب سؤاله، لكن إبليس لم يفهم هذا.

استنباط ابن هبيرة في قوله تعالى: (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا)

استنباط ابن هبيرة في قوله تعالى: (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا) وفي قوله: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة:51] قال: لم يقل ما كُتِب علينا، أو كَتَب علينا؛ لأنه أمرٌ يتعلق بالمؤمن، أي: الآن المصيبة تُكْتَب على الشخص مثلاً، لماذا قال: {مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة:51] ولم يقل: ما كتب الله علينا، يقول: لأن المصيبة للمؤمن دائماً تكون له، أي: في حسناته؛ لأنه يصبر، فلا يصيب المؤمن شيء إلا وهو خيرٌ له، ولذلك قال في الآية: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة:51] ولم يقل: علينا.

استنباط ابن هبيرة في قوله تعالى: (حجابا مستورا)

استنباط ابن هبيرة في قوله تعالى: (حجاباً مستوراً) وكذلك في قوله تعالى: {جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَاباً مَسْتُوراً} [الإسراء:45] يقول: قال أهل التفسير: مستوراً بمعنى: ساتراً، والصواب: حمله على ظاهره وهو أن الحجاب مستور، الحجاب نفسه مخفي ومستور على العيون، فلا يُرى، وهذا أبلغ، أن تقول: الحجاب مستور أبلغ من كون الحجاب ساتر؛ لأنه إذا كان نفس الحجاب مستور، فهو حجاب وهو مستور، فهذا أبلغ في عدم انتفاعهم بالقرآن: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَاباً مَسْتُوراً} [الإسراء:45] لا ينتفعون ولا يصل إليهم شيء من أثر القرآن الذي تقرؤه.

استنباط ابن هبيرة في قوله تعالى: (قلت ما شاء الله)

استنباط ابن هبيرة في قوله تعالى: (قلت ما شاء الله) وكذلك قال في قوله تعالى: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ} [الكهف:39]: ما شاء الله ماذا؟ الأصل أن يقال: ما شاء الله كان، أو ما شاء الله يكون، أو ما شاء الله سيكون، لكن قال: {مَا شَاءَ اللَّهُ} [الكهف:39] فقط، لم يقل: ما شاء الله كان، أو ما شاء الله يكون، أو ما شاء الله سيكون، قال: أطلق اللفظ ليعم الماضي والحاضر والمستقبل. فهذا من فقهه رحمه الله في هذه الآية، {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ} [الكهف:39] ماذا يعني ما شاء الله؟ أي: ما شاء الله كان، أو ما شاء الله يكون، أو ما شاء الله سيكون. قال: وتدبرتُ قوله تعالى: {لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} [الكهف:39] تكملة لقوله تعالى: {مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} [الكهف:39] فرأيت لها ثلاثة أوجه: أحدها: أن قائلها يتبرأ من حوله وقوته ويسلِّم الأمر إلى مالكه. والثاني: أنه يعلم أنه لا قوة للمخلوقين إلا بالله، فلا يخاف منهم إذ قواهم لا تكون إلا بالله، وذلك يوجب الخوف من الله وحده. فإذا علمتَ أنتَ أن هذا المخلوق مهما بلغ من السلطان والقوة والهيمنة والبطش لا قوة له إلا من الله، فإذا خفت من الله، كفاك هذا المخلوق، ولا تحتاج أن تخاف من المخلوق. والثالث: أنه ردٌ على الفلاسفة والطبائعيين الذين يدَّعون القوى في الأشياء بطبعها، فإن هذه الكلمة بيَّنت أن القوة لا تكون إلا بالله، وأن القوة ليست شيئاً موجوداً في هذا الشخص القوي، أو الحيوان القوي، أو الحديد القوي بذاته، وأنه أوجدها فيه بنفسه، إنما هو شيء موجود من الله، هو الذي خلق القوة في هذا الشيء، فهذا الشخص ليس قوياً بذاته، ولا هو الذي اكتسب القوة وأودعها عنده، وإنما لولا الله ما كان هذا الشيء قوياً، فمصدر قوة الحديد وقوة الأسد وقوة الرجل صاحب البطش وصاحب البسطة في الجسد من الله، لولا الله ما كان هذا. أما الفلاسفة والطبائعيون، فإنهم يقولون: إن هذه الأشياء قوية بطبعها بأصلها بوجودها هكذا قوية، ولا ينسبون القوة التي فيها إلى الله.

استنباط ابن هبيرة في قوله تعالى: (قال هم أولاء على أثري)

استنباط ابن هبيرة في قوله تعالى: (قال هم أولاء على أثري) ومن الأمور التي نُقلت عنه -رحمه الله- في التفسير، قال: قرأ عندي قارئ قوله تعالى: {قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي} [طه:84] ففكرت في معنى إسقاط الهاء، (هؤلاء) فلماذا أسقطت هاء التنبيه فأصبحت (أولاء)؟ فنظرت فإذا وضعُها للتنبيه، لا يجوز أن يُخاطَب الله بهذا؛ لأن الذي يخاطِب ربَّه عز وجل بهذا هو موسى عليه السلام، ولم أرَ أحداً خاطب الله عز وجل بحرف التنبيه إلا الكفار، كما قال عز وجل: {قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ} [النحل:86]، وقال سبحانه: {رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا} [الأعراف:38] وما رأيت أحداً من الأنبياء خاطب ربه بحرف التنبيه والله أعلم. فـ (الهاء) في قول (هؤلاء): هاء التنبيه، وموسى يخاطِب ربَّه، فلا يليق أن يستخدم هاء التنبيه في الخطاب. ولما خاطب اللهُ عز وجل المنافقين قال: {هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [النساء:109]. ولما خاطب المؤمنين، كرمهم بإسقاط الهاء، فقال: {هَاأَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ} [آل عمران:119]. فالتنبيه للمؤمنين أخف.

استنباط ابن هبيرة في قوله تعالى: (إنه يعلم الجهر من القول)

استنباط ابن هبيرة في قوله تعالى: (إنه يعلم الجهر من القول) في قوله تعالى: {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ} [الأنبياء:110] بطبيعة الحال الجهر يُعْلَم، لكن مما قاله ابن هبيرة رحمه الله: {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ} [الأنبياء:110] المعنى: أنه إذا اشتدت الأصوات وتغالبت، فإنها حالةٌ لا يَسمع فيها الإنسان، والله عز وجل يسمع كلام كل شخص بعينه، ولا يشغله سمعٌ عن سمع. فيمكن في بعض الأحيان أن ترتفع الأصوات ويكون الكلام جهرياً، ومع ذلك الإنسان لا يفقه ولا يفهم من كثرة الاختلاط واشتباك الأصوات، والله سبحانه وتعالى يعلم ضجيج هؤلاء الملبِّين والداعين في الحج وفي غيره، ولو قاموا جماعةً كثيرةً جداً، فهم ربما يجهرون كلهم، ولكن لا يمكن أن يَعلم ماذا يقولون إلا الله سبحانه وتعالى.

استنباط ابن هبيرة فائدة في إرسال رسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق

استنباط ابن هبيرة فائدة في إرسال رسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق وكذلك في قوله سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان:20] ذكر لفتة مهمة للداعية إلى الله سبحانه وتعالى، قال: فهذا يدل على فضل هداية الخلق بالعلم، ويبين شرف العالم على الزاهد المنقطع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كالطبيب، والطبيب يكون عند المرضى، فلو انقطع عنهم هلكوا. هذا وصف جميل للداعية، وهو أن الداعية مثل: الطبيب، والطبيب يكون موقعه عند المرضى، فلو أن الطبيب اعتزل المرضى ولَمْ يُخالطهم هلكوا، ولذلك قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان:20] أي: يخالطون الناس، قال: ويبين شرف العالم على الزاهد المنقطع؛ لأن بعض الناس قد يكون عندهم زهد؛ لكنهم ينقطعون عن الناس، ويشتغلون في الخلوات بذكر الله ونحوه، لكن لا يخالطون الناس، فهؤلاء لا ينفعون الناس. فتأمل كلام ابن هبيرة -رحمه الله- الدقيق في هذه المسألة عندما شبه المعلم والداعية بالطبيب، وأن الداعية يجب أن يخالط الناس، لأنه إذا لم يخاطبهم ما استفادوا منه ولا تعلموا ولا انتفعوا ولا عدَّلوا من أخطائهم وهكذا كانت وظيفة الرسل؛ الدعوة والتعليم. ولو أن كل إنسان قال: أنا ملتزم بديني في نفسي وأعتزل الناس ولا أخالطهم، فإن هذا سيؤدي إلى استشراء الشر وعدم وجود من يعلِّم الخلق.

استنباط ابن هبيرة فائدة أن الولد يقوم بالشكر نيابة عن الوالدين

استنباط ابن هبيرة فائدة أن الولد يقوم بالشكر نيابة عن الوالدين وكذلك في قوله تعالى: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ} [النمل:19] هنا قد يظهر سؤال وهو: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} [النمل:19] أي: اللهم ألهمني شكر النعمة التي أنعمتها عليَّ، لكن ما علاقة الوالدين بالموضوع؟ {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ} [النمل:19] هل سيشكر النعمة بالنيابة عن والديه، لأن الأصل أن الوالدين هما اللذان يشكران النعمة، فلماذا قال: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ} [النمل:19]؟ قال رحمه الله تعالى: هذا من تمام بر الوالدين، كأن هذا الولد خاف أن يكون والداه قصَّرا في شكر الرب عز وجل، فسأل الله أن يلهمه الشكر على ما أنعم به عليه وعليهما، ليقوم بما وجب عليهما من الشكر إن كانا قصَّرا. فالابن إذاً يمكن أن يستدرك شيئاً مما فات والديه، ويكون عملُه مما ينفع والديه، وفي الحديث: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: منها: وولد صالح يدعو له).

الفرق بين العالم والجاهل عند ابن هبيرة

الفرق بين العالم والجاهل عند ابن هبيرة قال ابن الجوزي: سمعته يقول في قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ} [القصص:80] قال: إيثار ثواب الآجل على العاجل حالة العلماء، فمن كان هكذا فهو عالم، ومن آثر العاجل فليس بعالم، يعني: أن العلماء من فقههم يقدمون الثواب الآجل على الشيء العاجل، ما دام الآجل أنفس وأحسن وأفضل وأعلى وأكثر، فإنهم بفقههم وبصيرتهم يريدون الثواب الأكثر ولو كان آجلاً يقدمونه على الشيء العاجل. فهذا قارون عندما خرج على قومه في زينته، قال كثير من الناس: {يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص:79] {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ} [القصص:80] يعني: في الآخرة، {لِمَنْ آمَنَ} [القصص:80] فلا تلهينكم أموال قارون، ولا تعجبنكم هذه الأموال الطائلة، فإن ما عند الله في الآجل خيرٌ وأبقى من هذه الدنيا الفانية. فمن كان نظره إلى الثواب الآجل فهو عالم، ومن كان نظره مقتصراً على الثواب العاجل دون الآجل فليس بعالم.

استنباط ابن هبيرة علاقة السمع بالليل والبصر بالنهار في سورة القصص

استنباط ابن هبيرة علاقة السمع بالليل والبصر بالنهار في سورة القصص قال ابن الجوزي: وسمعته يقول في قوله تعالى: {مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ} [القصص:71] تكملة: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ} [القصص:71] أي: نور، نهار تستضيئون بنوره، وفي الآية الأخرى قال: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [القصص:72] فلماذا قال عند ذكر النهار: {تُبْصِرُونَ} [القصص:72] وعند ذكر الليل {تَسْمَعُونَ} [القصص:71]؟ قال: إنما ذكر السماع عند ذكر الليل، والإبصار عند ذكر النهار؛ لأن الإنسان يدرك بسمعه في الليل أكثر من إدراكه في النهار، ويرى في النهار أكثر مما يرى في الليل، ولذلك سلطان السمع في الليل، وسلطان البصر في النهار. فـ الوزير يحيى رحمه الله صاحب تدبر في كتاب الله، وهذا من تأملاته وتدبره في كتاب الله؛ لأن الله قال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [النساء:82] {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} [المؤمنون:68].

استنباط ابن هبيرة في الآية: (اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله))

استنباط ابن هبيرة في الآية: (اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله)) قال ابن الجوزي: وسمعته يقول في قوله تعالى: {اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} [فاطر:3] قال: فظللت أتفكر في المناسبة بين ذكر النعمة، وبين قوله: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} [فاطر:3] ما هي العلاقة بين ذكر النعمة في قوله تعالى: {اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [فاطر:3] وبين قوله تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} [فاطر:3]؟ فرأيت أن كل نعمة ينالها العبد فالله خالقها، فقد أنعم بخلقه لتلك النعمة وبسَوْقها إلى المنعَم عليه. فإذا قال قائل: ما هو الرابط بين ذكر النعمة وذكر الخالق في هذه الآية {اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} [فاطر:3]؟ A أن الله هو الذي خلق النعمة، وهو الذي ساقها إلى المنعَم عليه، وهذا وجه الارتباط بين ذكر الخالق وبين ذكر النعمة في هذه الآية.

استنباط ابن هبيرة الفرق بين قوله تعالى: (وجاء من أقصى المدينة رجل) وقوله: (وجاء رجل من أقصى المدينة)

استنباط ابن هبيرة الفرق بين قوله تعالى: (وجاء من أقصى المدينة رجل) وقوله: (وجاء رجل من أقصى المدينة) قال ابن الجوزي: وسمعته يقول -من اللفتات الممتازة التي تدل على ذكائه وفطنته- في قوله تعالى: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} [يس:20] هذه في قصة المؤمن في سورة يس. وفي الآية الأخرى قال: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى} [القصص:20] وهذه في قصة موسى. فنلاحظ هنا أن في آية تقديم الرجل، وفي الآية الأخرى تأخير ذكر الرجل. الرجل صفة مدح: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً} [يوسف:109] {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} [الزخرف:59] {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى} [القصص:20] الرجل في القرآن ورد في سياق المدح، ولذلك لما تمنى أصحاب عمر كل واحد أمنية، قال عمر: [ولكني أتمنى ملء هذه الحجرة رجالاً أمثال أبي عبيدة] فالرجولة صفة مدح، والله سبحانه وتعالى يطلقها في القرآن على الممدوحين، أو في مقام مدح الرجل. إذاً: قوله تعالى: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} [يس:20]، وفي آية أخرى: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى} [القصص:20] فما هي الفائدة في التقديم والتأخير؟ يقول رحمه الله: فرأيت الفائدة في تقديم ذكر الرجل وتأخيره أن ذكر الأوصاف قبل ذكر الموصوف أبلغ في المدح من تقديم ذكره على وصفه، فإن الناس يقولون: الرئيس الأجل فلان، فيأتي اسمه بعد وصفه، فمثلاً نقول: العالم العلامة الحبر الفهامة فلان، ثم نأتي باسمه، فتتقدم الصفة على الموصوف، هذه رتبة أعلى من تقدم الاسم على الصفة. فنظرتُ -الآن هذه من ناحية المعنى واللغة والبيان- فإذا الذي زِيْدَ في مدحه هو صاحب سورة يس؛ أَمَرَ بالمعروف، وأعان الرسل، وصبر على القتل، والآخر إنما حذّر موسى من القتل، والرجل الآخر كان فقط ناصحاً جاء وحذَّر موسى من القتل، نعم. لقد عمل شيئاً عظيماً، وجاء من أقصى المدينة ليقدم لموسى النصيحة ويخبره بالخبر المهم الذي سينبني عليه نجاة موسى وسلامته، ولكن أي الرجلين أعظم؟ الذي في قصة سورة يس أم الذي في قصة موسى؟ الذي في سورة يس أعظم؛ لأنه جاء من أقصى المدينة يسعى، ويقول: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس:20 - 22] وناقش قومه، ونصر الرسل، وأمر بالمعروف، ونهى عن الشرك، وصبر على القتل، هذا أعظم ممن جاء فقط ليبلغ موسى بأن فرعون وجنوده يقتفون أثر موسى ويبحثون عنه. قال رحمه الله: والآخر إنما حذَّر موسى من القتل، فسلم موسى بقبول مشورته، موسى عليه الصلاة والسلام كان حكيماً، هذا قبل أن يؤتى النبوة، كان عاقلاً لبيباً، لما جاءه يقول: ((إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً} [القصص:20 - 21] لم يقل: أذهب أودع أهلي، وأسلم عليهم، ثم أذهب! لا. المسألة الآن مسألة هرب بالنفس، الهرب بالنفس يحتاج إلى سرعة، ولذلك قال الله عنه: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ} [القصص:21]. فالأول: هو الآمر بالمعروف -الذي في سورة يس- والناهي عن المنكر. والثاني: هو ناصح الآمرِ بالمعروف، هو ناصح لموسى، فاستحق الأول الزيادة، الذي في سورة يس، الذي فيه ذكر الوصف قبل ذكر الموصوف. قال: ثم تأملت ذكر أقصى المدينة، فإذا الرجلان جاءا من بُعد في الأمر بالمعروف، ولم يتقاعدا لبعد الطريق، وهذه فائدة أيضاً. فإن بعد المسافة قد يكون مثبطاً للشخص عن الإتيان للدعوة والنصح والتعليم، ونحو ذلك، فكونه يأتي من بعيد ويقطع الطريق فهذا يدل على قوة همته في الحق، وعلى عزيمته في البلاغ، وعلى شفقته وحرصه، ولذلك جاء من أقصى المدينة، ما رآه مصادفةً في الطريق، أو أنه جارٌ له، بل جاء من أقصى المدينة، وقوله: (يسعى) يدل على الاشتداد في الإتيان، أنه ما جاء يتباطأ، جاء مسرعاً للبلاغ، ليلحق بالأمر قبل انفراطه وقبل فوات الأوان.

استنباط ابن هبيرة الفرق بين قوله تعالى: (لو نشاء لجعلناه حطاما) وقوله: (لو نشاء جعلناه أجاجا)

استنباط ابن هبيرة الفرق بين قوله تعالى: (لو نشاء لجعلناه حطاما) وقوله: (لو نشاء جعلناه أجاجا) كذلك من استنباطاته رحمه الله في كتاب الله وتدبره له، في قوله تعالى: {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً} [الواقعة:65]، و {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً} [الواقعة:70]. فهذه في سورة الواقعة. فقوله تعالى: {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً} [الواقعة:65] أي: الزرع. وقوله تعالى: {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً} [الواقعة:70]؟ أي: الماء. وما معنى أجاجاً؟ مالحاً لا يستفاد منه. ما هو الفرق بينهما في الحروف؟ اللام. في الزرع قال: {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً} [الواقعة:65]. وفي الماء قال: {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً} [الواقعة:70] بدون لام. فلماذا اللام ذكرت في الزرع ولم تذكر في الماء؟ قال: تأملتُ دخول اللام وخروجها، فرأيت المعنى أن اللام تقع للاستقبال، يعني: اللام تدل على المستقبل، تقول: لأضربنك، أي: فيما بعد، لا في الحال، إذا أردت أن تضربه الآن، فلا تقل: لأضربنك، وإنما اللام هذه تدل على المستقبل. والمعنى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً} [الواقعة:63 - 65] أي: في مستقبل الزمان، فيقول: انظروا إلى هذا الشيء الذي أنتم الآن تبذرونه وتزرعونه {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ} [الواقعة:65] بعد أن ينمو ويكبر ويثمر وتتعبون عليه، نجعله حطاماً، فيكون العذاب بذلك والأسى والحسرة والتأسف عليه أكبر مما لو جعله حطاماً في أول أمره، ولذلك قال: {لَجَعَلْنَاهُ} [الواقعة:65] بعدما يكبر وينضج ويثمر أمامكم تتعلق نفوسكم به، {لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً}، لأنه قال: أي: في مستقبل الزمان إذا تم فاستُحْصِد، وذلك أشد العذاب؛ لأنها حالة انتهاء تعب الزرَّاع، واجتماع الدين عليهم، لأن الزرَّاع والمزارعون يقترضون لأجل نفقات الزرع، وثمن البذور، والسقي، وما يتبع ذلك من السماد وغيره، حتى إذا أثمر وحصدوا، باعوا وسددوا الدين وأخذوا الربح، قال: لأنها حالة انتهاء تعب الزراع واجتماع الدين عليهم لرجاء القضاء بعد الحصاد مع فراغ البيوت من الأقوات؛ لأن قبيل الحصاد يكون المزارع مفلساً إلى آخر درجة، حتى البيت ليس فيه قوت، لأنه سيدخر الآن من هذا الثمر، فإذا قضي عليه في ليلة، قضي على الزرع هذا، والحصاد كله صار حطاماً، فكيف يكون وقع المصيبة؟ عظيماً. وأما في الماء، فقال: {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً} [الواقعة:70] أي: الآن، هذا الماء الذي عندكم، أما أن نجعله في المستقبل بعد أن تشربون وتخزنون وتدخرون، ويذهب عطشكم، فلا يكون هناك نقمة قوية مثلما يُجعل الآن وأنتم محتاجون إليه قبل أن تشربوا وقبل أن تدخروا، ولذلك قال في الزرع: {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ} [الواقعة:65] وقال في الماء: {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ} [الواقعة:70].

تأملاته في قوله تعالى: (قال هي عصاي)

تأملاته في قوله تعالى: (قال هي عصاي) من تأملاته -رحمه الله- في قوله تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ} [طه:17 - 18] قال: في حمل العصا عظة؛ لأنها من شيء قد كان نامياً، فقُطِع، فكلما رآها حاملُها، ذكر الموت، العصا مأخوذة من شجر قد قطع منه، فيكون في حملها، والتوكؤ عليها، والمشي بها عظة، لأنها من شيء كان نامياً فقطع، ولذلك رؤيتها تذكر بالموت. قال: ومن هذا قيل لـ ابن سيرين رحمه الله: رجل رأى في المنام أنه يضرِب بطبل، فقال: هذه موعظة، لأن الطبل من خشب قد كان نامياً فقطع، ومن أغشية جلود حيوان فذبح. وقال ابن الجوزي أيضاً عن شيخه ابن هبيرة رحمه الله، ويا ليته اقتفى أثره في الأسماء والصفات؛ لأن ابن هبيرة كان سلفياً. وسمعته يقول في قوله تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [البقرة:10] الآية، قال: المريض كما يحصل له اختلاط في الطعوم -لأن من صفات المريض أن يجد الطعوم على خلاف ما هي عليه، فيذوق الحامض حلواً، والحلو مراً، المرض يؤثر على الحواس حاسة التذوق، وحاسة الشم، فيصبح عنده نوع من الاختلاط فيها- وكذلك هؤلاء المنافقون في قلوبهم مرض، يرون الحق باطلاً، والباطل حقاً، فهذا يعني من بديع وصف المنافقين بأن في قلوبهم مرضاً، أن المريض كما يحصل له اختلاط في الطعوم، فهؤلاء كذلك يحصل عندهم اختلاط وخلط، يرون الحق باطلاً، والباطل حقاً.

استنباطات ابن هبيرة في الحديث

استنباطات ابن هبيرة في الحديث ومن تأملاته رحمه الله تعالى في الأحاديث النبوية:

استنباط ابن هبيرة فائدة من إكثار الصيام في شعبان

استنباط ابن هبيرة فائدة من إكثار الصيام في شعبان قال في حديث عائشة: (كان أكثر صوم رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعبان) قال في هذا الحديث: ما أرى هذا إلا على وجه الرياضة -أي: التمرين والتدريب والتهيؤ للشيء، والتعود عليه- لأن الإنسان إذا هجم بنفسه على أمر لم يتعوده صَعُبَ عليه، فدرَّج نفسه بالصوم في شعبان لأجل رمضان. هذه من فوائد أن يكون الصيام في شعبان كثيراً تدريباً وتمريناً، استعداداً لرمضان.

استنباط ابن هبيرة في حديث: (الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه)

استنباط ابن هبيرة في حديث: (الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه) وكذلك قال: وقد قرئ عنده أن رجلاً قال عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الحمد لله حمداً كثيراً طيِّباً مباركاً فيه) أي: في مجلس الوزير ابن هبيرة قرئ حديث أن رجلاً من الصحابة رضي الله عنه قال عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الحمد لله حمداً كثيراً طيِّباً -بالتشديد- مباركاً فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيُّكم قال ذلك؟ فقال الرجل: أنا -الذي قلت- يا رسول الله، ولم أُرِدْ بذلك إلا الخير، فقال صلى الله عليه وسلم: رأيتُ بضعةً وثلاثين ملكاً يبتدرونها). قال ابن هبيرة رحمه الله: فطفقت والجماعة عندي أفكر في معنى تخصيص هذا العدد من الملائكة. فنظرتُ فإذا حروف هذه الكلمات بضعٌ وثلاثون حرفاً، إذا فُكَّ المشدد، وعدَّينا الحروف في هذه العبارة، وجدناها بضعةً وثلاثين حرفاً. ورأيت أنه من عظم ما قد ازدحمت الملائكة عليها لم يحصل لكل ملك سوى حرف واحد، فصعد به يتقرب بحَمْله.

ابن هبيرة والتمذهب

ابن هبيرة والتمذهب ومن كلامه -رحمه الله- في مسألة السنة التي هي ضد البدعة، والسنة التي أمرنا بالسير عليها والتمسك بها، هي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك مباحثها توجد عادة في كتب العقيدة، قال مصنف سيرته -مصنف سيرة ابن هبيرة رحمه الله-: كثيراً ما سمعته يقول: ليس مذهب أحمد إلا الاتباع فقط، فما قال السلف قاله، وما سكتوا عنه سكت عنه، فإنه كان ينكر أن يقال: لفظي بالقرآن مخلوق، لأنه لم يُقَل. فـ ابن هبيرة رحمه الله حنبلي المذهب، متبع لـ أحمد رحمه الله، لكن ننبه على مسألة مهمة جداً تتعلق بقضية اتباع الأئمة في الفقه، يقول: إن مذهب أحمد ليس إلا الاتباع فقط، أي أن أحمد ما جاء بشيء من عنده، أحمد نظر في كلام السلف -في الآيات والأحاديث أولاً وكلام الصحابة والتابعين- فما قال السلف قاله أحمد، أي: أن مذهب أحمد هو كلام السلف، ولذلك أحياناً يأتي عن أحمد ثلاث روايات في مسألة، مرة يجوز، ومرة يكره، ومرة كذا؛ لأن أحمد رحمه الله كل رواية تأتي عنه إنما يكون قد بناها على نقلٍ عن أحد من السلف، عندما اختلفت النقول عن السلف اختلفت روايات أحمد رحمه الله، وأيضاً هذه طريقة الشيخ/ عبد العزيز بن باز -نفع الله به- المسألة إذا كان هناك أكثر من رأي قوي لأهل العلم، فأحياناً يفتي بهذا وأحياناً يفتي بهذا. فـ أحمد رحمه الله نظر في كلام أهل العلم، فما أثر عن السلف أفتى به ونقله. ففهم هذا الشيء في قضية التمذهب شيء في غاية الأهمية؛ لأن بعض الناس يظنون أن منتهى العلم إلى الإمام، والإمام أتى به من عنده، وبالتالي تنقطع الصلة فيما بين هذا المتمذهب وبين النبي عليه الصلاة والسلام وبين الصحابة، لأن منتهى علم الرجل هذا وتقليده واتباعه إنما هو للإمام، لكن إذا عرف أن الإمام مجرد ناقل، وأن الإمام متبع للسلف، معنى ذلك أنني عندما أتبع أحمد أنا في الحقيقة متبع للسلف، وأنا منتمٍ إلى السلف قبل أن أنتمي إلى أحمد، وهذه مسألة في غاية الأهمية، لأن القضية: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال:20] وليست أطيعوا فلاناً وفلاناً. فينبغي أن تُشرح المسألة للمتمذهبين، وأن يكون الارتباط بالمنهج أن يكون الارتباط برجال العلم وبأهل العلم، وليس بفلان معين.

مقتطفات من كلام ابن هبيرة رحمه الله

مقتطفات من كلام ابن هبيرة رحمه الله كان يقول ابن هبيرة رحمه الله في آيات الصفات: "تُمَرُّ كما جاءت". وهذه عبارة وجدناها كثيراً ما تنقل عن السلف رحمهم الله. فما معنى: تُمَرُّ كما جاءت؟ يعني: لا نتعرض لها بتحريف، ولا تعطيل، ولا تشبيه، ولا تمثيل، نثبت المعنى، ولا نتعرض له بتحريف، ولا تكييف، ولا تعطيل، ولا تشبيه، ولا تمثيل، لو سألت أحدهم -مثلاً- عن معنى قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ} [المائدة:64] قال: لا أدري، تثبت اليد؟ يقول: أتوقف، لا أثبت ولا أنفي، ولا أقول شيئاً. ليس معنى (تُمَرُّ كما جاءت) أنه مذهب أهل التفويض، لا. تُمَرُّ كما جاءت النقول عن السلف، نثبت المعنى نثبت الآية نثبت الحديث بما تضمنه من المعنى الذي جرى على لسان العرب، ولا نتعرض لهذا المعنى، ولا نتعرض لهذه الآية، ولا نتعرض لهذا النص بأي وجه من وجوه التحريف والتعطيل والتمثيل إلى آخره. فـ ابن هبيرة سلفي، يقول في آيات الصفات: تُمَرُّ كما جاءت. قال: تفكرت في أخبار الصفات، فرأيت الصحابة والتابعين سكتوا عن تفسيرها مع قوة علمهم. وهذا -فعلاً- شيء ملاحَظ. كثير من آيات الصفات لا تجد للصحابة فيها ذكراً لمعنى الصفة، ولم يتعرضوا لذلك إلا نادراً، فلماذا؟ لأن أهل البدعة لما تكلموا صار العلماء الذين يتبعون طريقة السلف يفسرون آيات الصفات تفسيراً يثبت معناها، ويقولون: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] استوى أي: علا وارتفع وصعد، فيأتون بالكلمات المرادفة التي تدل على المعنى، ويقولون: يَدٌ حقيقية تليق بجلاله وعظمته، بينما لا تجد في كلام الصحابة مثلاً: يَدٌ حقيقة تليق بجلاله وعظمته، ما تعرضوا لتفسير آيات الصفات إلا قليلاً، فلماذا؟ قال: فنظرتُ السبب في سكوتهم، فإذا هو قوة الهيبة للموصوف -يهابون الله تعالى- ولأن تفسيرها لا يتأتى إلا بضرب الأمثال لله، وقد قال عز وجل: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} [النحل:74]. ولا شك أن القوم عرب، وإذا كان الواحد عربياً ولغته سليمة فإنه لا يحتاج إلى تفسير، لأن النص أمامه ظاهر ومعروف.

مقولة الوزير ابن هبيرة: [نحن أحق بعلي بن أبي طالب من الرافضة]

مقولة الوزير ابن هبيرة: [نحن أحق بعلي بن أبي طالب من الرافضة] ومن أقواله رحمه الله: "والله لا نترك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مع الرافضة، نحن أحق به، لأنه منا ونحن منه، ولا نترك الشافعي مع الأشعرية، فإنا أحق به منهم". بعض الناس من الخطباء والدعاة وطلبة العلم ربما يقعون في شيء من التقصير في ذكر الحسن والحسين وآل البيت مثلاً، ولا يكادون يتعرضون لهذا الموضوع، وصار عندهم شيء من الحذر بسبب ما وقع فيه أهل البدع من الغلو في آل البيت وفي الحسين رضي الله عنه، فترانا نادراً ما نتكلم في مناقب الحسين؛ لأننا كأننا لو تكلمنا في مناقب الحسين صرنا مثل القوم هؤلاء في الكلام في مدحه والغلو به، لكن هذا يؤدي إلى شيء كبير وهو ترك هذه الشخصيات حِكراً على أهل البدعة، بينما نحن أولى وأحق بهؤلاء منهم؛ لأن هؤلاء من أهل السنة، مثل: جعفر الصادق رحمه الله فإنه من أئمة أهل السنة، لكن نادراً ما تجد أحداً يستشهد بأقواله؛ كأنه لو استشهد بأقوال جعفر الصادق يظن نفسه أنه صار مشتركاً مع أهل الرفض وغيرهم، مع أنه من أهل البيت ومن أئمة أهل السنة. فإذاً لا نترك هؤلاء الشخصيات لأهل البدعة، دائماً هم يذكرونهم ويمدحونهم ويستشهدون بأقوالهم حتى يكون كأنه محسوبٌ عليهم، ونحن لا نذكرهم ولا نتعرض لهم كأننا لا علاقة لنا بهم وليسوا منا، بينما نحن أحق بهم منهم، ولذلك لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ورأى اليهود يصومون عاشوراء، سألهم عن سبب صيامهم، فقالوا: هذا يوم نجى الله فيه موسى، فقال عليه الصلاة والسلام: (نحن أحق بموسى منكم)، فصامه، وأمر بصيامه، وأمر بمخالفتهم بصيام يومٍ قبله. فإذاً: لا نترك فضيلة لأهل الشر والرذيلة، لا نترك لهم شيئاً يتعلقون به، ولذلك يقول: (والله لا نترك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مع الرافضة، نحن أحق به منهم؛ لأنه منا ونحن منه، ولا نترك الشافعي مع الأشعرية، فنحن أحق به منهم) فهذا شيء من أقواله رحمه الله في العقيدة.

من مكائد الشيطان التي يحذر منها ابن هبيرة

من مكائد الشيطان التي يحذر منها ابن هبيرة ومن أقواله أيضاً: يقول: من مكائد الشيطان تنفيره عباد الله عن تدبر القرآن لعلمه أن الهدى واقعٌ عند التدبر. كيف يصدهم؟ يقول: هذه مخاطرة، حتى يقول الإنسان: أنا لا أتكلم في القرآن تورُّعاً. يقول: من طرق صد إبليس الناس عن القرآن: أن يقول القائل إذا أراد أن يتدبر: ربما تفهم خطأً، هذه مخاطرة، فالشيطان يأتي من باب الورع حتى يتوقف الشخص عن التفكير والتدبر؛ خشية أن يقع في هذا، فما هو المسلك الصحيح في هذا؟ أن الإنسان يقرأ التفسير ويتدبر، أما من غير قراءة التفسير، كيف يتدبر الجاهل؟ لا يمكن أن يتدبر. كما نظر أحدهم إلى عبارة مكتوبة: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ} [هود:88] فخشع، وكاد يبكي، قال له آخر: ما لك؟! ما لك؟! قال: فيها موعظة بالغة، قال: وما هي؟ قال: انظر مكتوب: وماتوا الآباء بالله فيقي! استيقظي قد لا يفهم العبارة، فيظن نفسه الآن يتدبر، وهو يتخبط. قال: ومنها -ومن وسائل ومكائد الشيطان في تنفير عباد الله-: أن يقيم أوثاناً في المعنى تعبد من دون الله، مثل: أن يلين الحق، فيقول: ليس هذا مذهبنا، تقليد الشيخ المعظم عنده قد قدمه على الحق. هنا يشير ابن هبيرة إلى لفتة مهمة جداً وهي أن الأوثان والأصنام ليست فقط أشجاراً وأحجاراً وتماثيل على هيئة شخص، لا. ليست دائماً الأشياء محسوسة، يمكن أن تكون الأوثان التي تُجعل طواغيت تصد الناس عن الحق وتعبد من دون الله يمكن أن تكون أشياء معنوية، مثل: صد الشخص عن الحق بأن هذا القول الذي هو الحق ليس قول الإمام، هذا ليس هو المذهب، فلا نأخذ به، مع أن الإنسان ينبغي عليه أن يقدم الحق ولو لم يقل به فلان أو علان من الأئمة المتبوعين، أو المعظَّمين. فإذاً: هناك أشخاص لا يقبلون الحق مع أنه حق، لأنه لم يقل به الشيخ المعظم، أو الإمام المقدم عندهم، فهم لا يقولونه، فهؤلاء قد جعلوا هذا المبدأ وثناً.

كلام ابن هبيرة في الفنون

كلام ابن هبيرة في الفنون ومن كلامه -رحمه الله- في الفنون، قال: العلم يحصل بثلاثة أشياء: أحدها: العمل به: فإن من كلف نفسه التكلم بالعربية، دعاه ذلك إلى حفظ النحو، ومن سأل عن المشكلات ليعمل فيها بمقتضى الشرع، تعلم. فيقول: إن العلم لا يحصل إلا بالعمل به، فإن الإنسان -مثلاً- إذا أراد أن يتعلم اللغة العربية ما هي أحسن طريقة لتعلم اللغة العربية؟ بعض الناس يظن حفظ القواعد، فيحفظ القواعد، ويقرأ في بعض كتب اللغة، مثلاً: الأمثلة، الشرح، القاعدة ليحفظ، ولكنه لا يجيدها، لكنه لو طبَّق، فتكلم بالعربية الفصحى، وينتبه للفاعل فيرفعه، وللمفعول فينصبه، وللمجرور فيجره، فيحصل إتقاناًَ للعربية. فإذاً: الطريقة المثلى لإتقان العلم هي: العمل به. ثانياً: التعليم: فإنه إذا علم الناس، كان أدعى إلى تعلمه؛ لأن الذي يعلم الناس يحتاج إلى مراجعة، ويحتاج إلى انتباه لما سيسأله عنه الناس، ويحتاج إلى وعي وفهم حتى يفهِّم غيره، فكيف يوضح ويفهم من لا يفهم؟ ولذلك التعليم يقود إلى جودة التعلم. ثالثاً: التصنيف: فإنه يخرج إلى البحث، والتصنيف لا يكون إلا لشخص عنده حد أدنى على الأقل من العلم، قطع مشواراًَ حتى يبدأ بالتصنيف، وإلا صار هراءً، لماذا التصنيف يجر إلى التمكن في العلم؟ لأنه يخرج إلى البحث، يحوج صاحبه إلى بحث المسائل، فإنه إذا أراد أن يكتب وعَرَضَت مسألة وما علم بها كيف تكتب؟ أو كيف تصاغ؟ أو ما هي أحوال هذه المسألة؟ أراد أن يصنف -مثلاًَ- في قضية لها فروع، يحتاج إلى بحث حتى يعرف الفروع، فإنه يُخْرِج إلى البحث، ولا يتمكن من التصنيف من لم يُدْرِك غور ذلك العلم الذي صنف فيه.

قول ابن هبيرة في الحكمة من اختصاص المرأة بالحيض

قول ابن هبيرة في الحكمة من اختصاص المرأة بالحيض وقال أيضاً: الحكمة في اختصاص المرأة بالحيض، أنها تحمل الولد، والولد مفتقرٌ إلى الغذاء، فلو شاركها في غذائها، لضعَّف قواها، ولكن جُعلت له فضلةٌ من فضلاتها إن حملت، فهي قوته، وإن لم تحمل اندفعت الفضلة وخرجت. ما هي الفضلة؟ وهو دم الحيض، شيء زائد عن حاجة المرأة، فضلة من فضلاتها. إن حملت الجنين، والجنين لا يأخذ من غذائها إنما هي التي تحتاج إليه وإلا ربما تضعف وتموت، لكن يأخذ من هذه الفضلة الزائدة التي هي دم الحيض. فإن ولدت، ماذا يحصل للفضلة الزائدة؟ تتحول إلى لبن يرتضع منه المولود، ولذلك العادة أن المرضع لا تحيض، لأن الدم -الفضلة- الذي كان يخرج في الحالة العادية يتحول إلى لبن، يخرج {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصاً} [النحل:66].

تحذير ابن هبيرة من العجب بالعمل

تحذير ابن هبيرة من العجب بالعمل وقال رحمه الله: "نَظَرُ العاملِ إلى عمله بعين الثقة به في باب النجاة أضرُّ على العُبَّاد من تفريطهم". لو أن أحداً وثق بعمله واعتمد واتكل عليه، فإن هذا أضر مما لو قصر وفرط؛ لأن التفريط والتقصير يوجب ندماً وتوبة، لكن لو أن أحداً أُعْجِب بعمله الصالح الذي فعله مما فعل من الأعمال الصالحة -مثلاً- اتكل عليه، واطمأن إليه، وركن إليه، ماذا يحصل لديه؟ عُجْب، والعُجْب يخرِّب العمل، ولا يشعر الشخص أنه مقصر؛ لأنه عنده عمل، ولذلك يقول: الثقة بالعمل أضر على الشخص من التفريط.

قول ابن هبيرة في الحكمة من وجود الظلمة والكفار

قول ابن هبيرة في الحكمة من وجود الظلمة والكفار ومن تأملاته يقول: لولا الظلم الجائر ما حصلت الشهادة للشهيد، ولولا أهل المعاصي ما بلغت بلوى الصابر في الأمر بالمعروف، ولو كان المجرمون ضعفاء لقُهروا، فلم يحصل ذلك المعنى. فلو قال أحد: الله سبحانه وتعالى يمكِّن لليهود والنصارى والكفار ويجعلهم أقوياء، وعندهم أسلحة، وعندهم وعندهم لماذا؟ نقول: لو لم يكن هذا، لما كان هناك شهداء؛ ولا كان هناك زيادة أجر ورفع درجة للمبتلين من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر؛ لأنه مَن الذي سيمتحنهم ويبتليهم؟ مَن الذي سيؤذيهم؟ من الذي سيحبسهم ويعذبهم؟ الفجار والكفار. فإذاً لو كان الكفار دائماً ضعفاء، فاتت هذه المزايا، فلله في خلقه شئون وحكم! وكان يقول في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا} [الأنعام:123] إنه على التقديم والتأخير، أي: جعلنا مجرميها أكابر. ومن وصاياه لمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، قال: اجتهد أن تستر العصاة، فإن ظهور معاصيهم عيبٌ في أهل الإسلام، وأولى الأمور ستر العيوب.

كلام ابن هبيرة في ليلة القدر

كلام ابن هبيرة في ليلة القدر من كلامه في ليلة القدر، قال: الصحيح عندي أن ليلة القدر تنتقل في أفراد العشر -العشر الأواخر- فإنه حدثني من أثق به أنه رآها في ليلة سبعٍ وعشرين، وأما أنا فإني كنت في ليلة إحدى وعشرين وكانت ليلة جمعة، فواصلتُ انتظارها بذكر الله عز وجل، ولم أنم تلك الليلة، فلما كان وقت السحر وأنا قائمٌ على قدمَيَّ رأيت في السماء باباً مفتوحاً مُرَبَّعاً عن يمين القبلة، قدَّرتُ أنه على حجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبَقِي على حاله وأنا أنظر إليه نحو قراءتي مائة آية -أي: في الطول والمدة- ولم يزل حتى التفتُّ عن يساري إلى المشرق لأنظر هل طلع الفجر، فرأيت أول الفجر، فالتفت إلى ذلك الباب فرأيته قد ذهب، فكان ذلك مما صدَّق عندي ما رأيت. فالظاهر من ذلك: تنقلها في ليالي الأفراد في العشر، فإذا اتفقت ليالي الجمع في الأفراد، فأجدر وأخلق بكونها فيها. وعائشة ماذا قالت للنبي صلى الله عليه وسلم لما علمها الدعاء في ليلة القدر: (اللهم إنك عفوٌّ تحب العفو، فاعفُ عني) ماذا قالت؟ (أرأيتَ إن أُرِيْتُها؟ -أُرِيْتُ ليلة القدر، فماذا أقول؟ - قال: قولي: اللهم إنك عفوٌّ تحب العفو، فاعفُ عني). فقد يرى بعض الناس أشياء من آياتِها وعلاماتِها كنورٍ مثلاً، أو مثل ما ذكر رحِمه الله.

تأمل ابن هبيرة في سورة الضحى

تأمل ابن هبيرة في سورة الضحى قال ابن هبيرة في سورة الضحى: لقد توالى فيها قسَمان، وجوابان مثبَتان، وجوابان نافيان، وقرر ذلك بنِعَمٍ ثلاث، وأتبعهن بوصايا ثلاث. فقال: القسمان: الأول: {وَالضُّحَى} [الضحى:1]. والثاني: {وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى:2]. والجوابان النافيان: الأول: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ} [الضحى:3]. الثاني: {وَمَا قَلَى} [الضحى:3]. والجوابان المثبَتان: الأول: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} [الضحى:4]. والثاني: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:5]. والنعم الثلاث المتبوعة بوصايا ثلاث؟ الأولى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى} [الضحى:6]. وجوابها الوصية: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ} [الضحى:9]. والنعمة الثانية: {وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى} [الضحى:7]. قابَلَها بوصية: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} [الضحى:10] لأن السائل ضال يبتغي الهدى، إذا كان سائلاً عن علم. والنعمة الثالثة: {وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} [الضحى:8]. قابلها بقوله: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11]. لاحظ! هذه لا تأتي لأي أحد، التأملات لا تأتي تكون إلا لمن تدبر وكان عنده فَهم، وعلم. وقلنا: إن الوزير رحمه الله قد صنف كتابه الإفصاح عن معاني الصحاح في شرح أحاديث الصحيحين في عشرة مجلدات، ولما وصل إلى حديث: (من يرد الله به خيراً، يفقهه في الدين) ذكر فيه أقوال العلماء، واختلافهم، والمسائل التي اختلفوا فيها وأقوالهم، وأقوال كل مذهب في كل مسألة، شَمِل كل أبواب الفقه في هذا الحديث، ثم رجع إلى إكمال الأحاديث، وأفردوا هذا في كتاب لمفرده.

ابن هبيرة وبعض أبياته الشعرية

ابن هبيرة وبعض أبياته الشعرية كان -رحمه الله- تعالى شاعراً مجيداً، وناصحاً ملهَماً، وفصيحاً مفوَّهاً، وأديباً بارعاً، وكانت له أشعار، فمن ذلك قوله: يا أيها الناس إني ناصحٌ لكمو فعُوا كلامي فإني ذو تجاريبِ لا تلهينكم الدنيا بزهرتها فما تدوم على حُسْنٍ ولا طيبِ وكان يقول أيضاً: يلذُّ بهذا العيش من ليس يعقلُ ويزهد فيه الألمعي المحصِّلُ وما عجبُ نفسٍ أن ترى الرأيَ إنما الـ ـعجيبة نفسٌ مقتضى الرأي تفعلُ إلى الله أشكو همةً دنيويةً ترى النصَّ إلا أنها تتأولُ ينهنهها موت النبي فترعوِي وتخدعها روح الحياة فتغفُل وفي كل جزء ينقضي من زمانها من الجسم جزءٌ مثله يتحللُ كل جزء ينقضي من زمان هذه النفس معه جزء من الجسم يتحلل وتضعف القوى. فنفسُ الفتى في سهوها وهي تنقضي وجسمُ الفتى في شغله وهو يعملُ وهو صاحب البيت المشهور: والوقتُ أنفسُ ما عُنيت بحفظه وأُراه أسهل ما عليك يضيعُ وأنشد أيضاً: الحمد لله هذا العين لا الأثرُ فما الذي باتباع الحق تنتظرُ قتٌ يفوت وأشغالٌ معوقةٌ وضعف عزمٍ ودارٌ شأنها الغِيَرُ والناس رَكَضاً إلى مهوى مصارعهم وليس عندهمُ مِن ركضهم خبرُ إلى آخره. فـ ابن هبيرة يحث على العلم واغتنام الأوقات. وكانت له أيضاً حكم وأقوال مأثورة عنه رحمه الله تعالى.

كرم ابن هبيرة وعطاؤه

كرم ابن هبيرة وعطاؤه كان ابن هبيرة صاحب كرم، فحُكي عنه أنه كان إذا مد السماط، فأكثر ما يحضره الفقراء والعُمْيان مع أنه وزير؛ لكنه يُدخل عليه الضعفاء والعميان والفقراء، ولا يأنف من ذلك، مجلسه لأهل العلم رحمه الله، وداره مفتوحة للفقراء، قال: فلما كان ذات يوم -هذا من حسن خلقه وتعامله حتى مع الفقراء- وأكل الناس وخرجوا، بقي رجلٌ ضريرٌ يبكي ويقول: سرقوا مداسي وما لي غيره، والله لا أقدر على ثمن مداسي، وما بي إلا أن أمشي حافياً وأَصْلَى -بفتح الهمزة: الحر، فقام الوزير من مجلسه ولبس مداسه - الوزير ابن هبيرة لبس مداسه- وجاء إلى الضرير، فوقف عنده وخلع مداسه والضرير لا يعرف أن هذا الوزير، فقال: البس هذا، وأبْصِرْه على قدر رجلك؟! فلَبِسَه، وقال: نعم. لا إله إلا الله! كأنه مداسي، ومضى الضرير، ورجع الوزير إلى مجلسه وهو يقول: سلمتُ منه أن يقول: أنت سرقته. مع أنه معروف أن الأعمى لن يقول: إن الوزير سرقه، لكن من حسن خلقه رحمه الله، وأعطاه لذلك الفقير، وقال هذا الكلام.

ابن هبيرة موته ومشهد جنازته

ابن هبيرة موته ومشهد جنازته قلنا سابقاً: إن الرجل رحمه الله قد سُقِي السم، وقلنا: لعل بعض أهل الشر الذين ما راق لهم وجود هذا الرجل العادل في هذا المكان، وكيف كانت سيرته، وأنه ربما نغَّص عليهم وحرمهم من أشياء بسبب أنه كان لا يبعثر الأموال، ولا يرشي، ولا يرتشي، ولا يعطي من لا يستحق، فمثل هذا الرجل لا يطول به المقام، عمر بن عبد العزيز حكم سنتين، وسُقِي السم، فمات مسموماً رحمه الله، عمر بن عبد العزيز لم يصبر عليه بنو عمه بنو أمية، كيف يفعل هذا العدل ويحرمهم من الأشياء والمزايا. ويبدو أن الوزير رحمه الله كان له من يترصد له، وكان يتأسف على دخوله الوزارة، ويرجو السلامة، والنجاة مما دخل فيه، وأنها ندامة يوم القيامة، وكان يخشى الله تعالى، فكان يكثر التأسف على دخوله فيها، ثم صار يسأل الله الشهادة ويتعرض لأسبابها، فحصل له في الثاني عشر من جمادى الأولى سنة: (560هـ) نام ليلة الأحد في عافية، فلما كان وقت السحر قاء -حصل له قيء- فحضر طبيب، فسقاه شيئاً، فقيل: إنه سَمَّه، سقاه سُمَّاً على أنه دواء، وسُقِي الطبيب بعده بنحو ستة أشهر سُمَّاً أيضاً، فكان يقول: سُقِيْتُ كما سَقَيْتُ، فمات الطبيب أيضاً. وحُمِلت جنازة ابن هبيرة يوم الأحد إلى جامع القصر، وصُلِّيَ عليه، ثم حُمِل إلى مدرسته التي أنشأها بباب البصرة، فدُفِن بها، وغلِّقَت يومئذٍ أسواق بغداد، وخَرَجَ جمعٌ لم ير لمخلوق قط، في الأسواق وعلى السطوح، وشاطئ دجلة، وكثر البكاء عليه لِمَا كان يفعله من البر ويظهره من العدل. ورُثي رحمه الله بأبياتٍ كثيرة ومنها: مات يحيى ولَمْ نَجِد بعد يحيى ملكاً ماجداً به يُستعانُ وإذا مات من زمانٍ كريمٌ مثل يحيى به يموت الزمانُ وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الإمام عبد الرحمن بن مهدي [2،1]

الإمام عبد الرحمن بن مهدي [2،1] في هذا الدرس يعرج بنا الشيخ في رحلة طويلة مع علم من أعلام أهل السنة والجماعة في الحديث؛ هو عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله، فيذكر عنه الكثير من حياته مبتدئاً بولادته وطلبه للعلم وذكر شيوخه وأقوال أهل العلم فيه، مع ذكر شيء من سيرته وتربيته لتلاميذه، مع بعض القصص التي تدل على ذكائه وشدة حفظه، ولم ينس الشيخ أن يوضح منهج ابن مهدي في العقيدة والفقه، ورأيه في أهل الرأي وأهل الغلو. إضافةً إلى جوانب أخرى من حياته رحمه الله.

عبد الرحمن بن مهدي اسمه ومولده

عبد الرحمن بن مهدي اسمه ومولده إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فحديثنا -أيها الإخوة- عن علمٍ عظيمٍ من أعلام المسلمين، وشيخٍ مبجل، ومحدِّثٍ كبيرٍ، وهو من كبار الحفاظ الذي وصفه الإمام الذهبي رحمه الله تعالى بقوله: "الإمام الناقد المجوِّد، سيد الحفاظ"، وهذا الشيخ الجليل هو: عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله تعالى. أما نسبه: فهو: عبد الرحمن بن مهدي بن حسان بن عبد الرحمن العنبري -وقيل: الأزدي مولاهم- البصري اللؤلؤي، ويُكَنَّى بـ أبي سعيد رحمه الله تعالى. ولد سنة: [135هـ] كما قال الإمام أحمد رحمه الله. ونشأ في بيت متواضع، فلم يكن أبوه مهدي من العلماء إطلاقاً، بل ربما لم يكن شخصاً صاحب عقل، وسنأتي على قصةٍ له تبين ذلك، بل كان رجلاً عامياً بمعنى الكلمة، ولكنه خرج من صلبه -والله يصطفي من خلقه من يشاء، ويخرج من يشاء ممن يشاء- هذا الرجل العامي إمامٌ عظيمٌ من أئمة المسلمين، وهو عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله. وكَوْن بيت هذا الرجل ليس ببيت علم، ثم يخرج منه هذا العالم؛ فإنه يدل على نبوغه وعصاميته في طلب العلم.

ابن مهدي وطلبه للعلم

ابن مهدي وطلبه للعلم توجه عبد الرحمن بن مهدي إلى طلب علم الحديث وهو ابن بضع عشرة سنة، وكان مبرزاً فيه منذ صغره، وكان أول طلبه سنة: نيِّفٍ وخمسين ومائة. قال أبو عامر العقدي: "كنت سبباً في طلب عبد الرحمن بن مهدي للحديث، فقد كان يتبع القُصَّاص، فقلت له: لا يحصل في يدك من هؤلاء شيء". أي: لن يفيدك القُصَّاص؛ لأنه لا هم لهم إلا تحديث الناس بما هب ودب من غير تأكد ولا تثبت، والمهم عندهم أن يُغْرِبوا على العامة، ويأتون لهم بالطرف، وأن تشدَّ إليهم الأبصار، وتُفتح لهم الأسماع ولو أتوا بالأعاجيب، فكان يعجبه شأنهم منذ الصغر، ولكن لما نصحه أبو عامر رحمه الله، وقال له: لا يحصل في يدك من هؤلاء شيء، التفت إلى الحديث، وتمييز صحيحه من سقيمه، وطلبه على أصوله، فصار علماً مبرزاً. وسمع عبد الرحمن بن مهدي من سفيان الثوري، وهو من أجِلَّة شيوخه، سمع منه سنة: (152هـ)، و (153هـ)، و (154هـ)، و (155هـ)، و (156هـ).

قصة تدل على نبوغه في العلم

قصة تدل على نبوغه في العلم ومن القصص التي تدل على نبوغه في العلم منذ صغره، أنه أخبر عن نفسه، قال: كنا في جنازة فيها عبيد الله بن الحسن العنبري وهو يومئذٍ قاضي البصرة، وله موضعه في قومه وقدره عند الناس، فتكلم في شيء، فأخطأ، فقلت وأنا يومئذٍ حدث: ليس هكذا، عليك بالأثر، فتزايد عليَّ الناس، لأنه وهو حدث (صغير) ينتقد العنبري قاضي البصرة وهو رجل معظم عندهم، وقدره كبير، فالناس وقعوا في ابن مهدي، هذا الحدث الصغير كيف يخطئ أو ينتقد هذا الشيخ الكبير. فقال عبيد الله العنبري: دعوه، وكيف هو؟ يستفهم من هذا الحدث -الغلام- يقول: ما هو الصحيح؟ فأخبرته. فقال: صدقت يا غلام، إذاً أرجع إلى قولك وأنا صاغر. وهذا الرجوع إلى الحق من تواضع العلماء رحمهم الله، ولو جاء من غلام صغير، ولو كان أمام الناس، وهذه وإن كان ظاهرها الحط من شأن هذا الكبير، لكنها في الحقيقة ذِكْرٌ وشَرَفٌ، فإن الإنسان يعظم في نفوس الناس؛ إذا رجع إلى الحق، وإن كانت المسألة في ظاهرها جهلٌ منه في هذه المسألة، أو نقص، لكن يطغى على هذا النقص رجوعه إلى الحق. وصحب عبد الرحمن بن مهدي شيخه سفيان وحج معه سنة: (159هـ) ثم رجع إلى البصرة (160هـ)، فمات سفيان الثوري في دار عبد الرحمن بن مهدي، أي: مات الشيخ في دار التلميذ.

ولع ابن مهدي بالحفظ

ولع ابن مهدي بالحفظ وقد ولع ابن مهدي بالحفظ ولعاً شديداً، حتى أنه من باب المبالغة عندما قال له رجلٌ: أيُّما أحب إليك: أن يغفر الله لك ذنباً، أو تحفظ حديثاً؟ فقال: أحفظ حديثاً. وهذا سِيْقَ مساق المبالغة، وإن لم تُرَد الحقيقة، فإنه لا شيء أعظم من أن يغفر الله الذنب، ولكن حفظ الحديث أيضاً -إذا صحت النية فيه- من الأسباب العظيمة لمغفرة الذنوب، ورفع القدر والدرجة عند الله تعالى.

اعتناء ابن مهدي بمعرفة معاني الأحاديث

اعتناء ابن مهدي بمعرفة معاني الأحاديث ومن اعتنائه -رحمه الله- بمعرفة معاني الأحاديث، وضبطه لما تعلمه، يقول بندار محمد بن بشار: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: "لو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ، لكتبت تفسير كل حديث إلى جنبه، ولأتيت المدينة حتى أنظر في كتب قومٍ قد سمعت منهم". لعله ليقيِّد تفسير كل حديث إلى جنبه، أو أنه ينظر هل ضَبَطَ فهمه وكتابته، وهل كذلك شيوخه الذين كتب عنهم ضبطوا الحديث، أو تغير عندهم شيء، فكان فهم الحديث عنده أمرٌ مهم، وليس فقط جمع الحديث. قال علي بن المديني رحمه الله: ستةٌ كادت تذهب عقولهم عند المذاكرة - أي: من شدة شهوتهم للحديث- وهم: 1 - يحيى. 2 - وعبد الرحمن بن مهدي. 3 - ووكيع بن الجراح. 4 - وابن عيينة -أي: سفيان -. 5 - وأبو داود. 6 - وعبد الرزاق.

ابن مهدي وصبره ومذاكرته للعلم

ابن مهدي وصبره ومذاكرته للعلم ومن صبره ولعه بالعلم، قال علي بن المديني: تذاكر وكيع وعبد الرحمن ليلةً في المسجد الحرام، فلم يزالا حتى أذَّن المؤذن أذان الصبح، من بعد صلاة العشاء انفتحت بينهما مذاكرة الأحاديث، كل واحد منهما يأتي بحديث ويذاكر به الآخر، فلا زالا هكذا إلى أن طلع الفجر وهما على حالهما في المذاكرة، من بعد العشاء إلى الفجر.

شيوخ عبد الرحمن بن مهدي وطلابه

شيوخ عبد الرحمن بن مهدي وطلابه لقد حدَّث عبد الرحمن بن مهدي عن عدد من الأئمة، وسمع منهم، وأدرك من التابعين عدداً، مثل: 1 - المثنى. 2 - سعيد. 3 - أبو خلدة. 4 - يزيد بن أبي صالح. 5 - داود بن قيس. 6 - جرير بن حازم، وغيرهم رحمهم الله. وسمع من: 1 - عمر بن أبي زائدة. 2 - هشام بن أبي عبد الله التستوائي. 3 - إسماعيل بن مسلم العبدي، قاضي جزيرة قيس. 4 - سفيان، وهو من أجِلَّة شيوخه. 5 - شعبة، وهو كذلك أيضاًَ. 6 - عكرمة بن عمار. 7 - عمران القطان. 8 - يونس بن أبي إسحاق. 9 - عمار بن سلمة. 10 - مالك بن أنس. 11 - عبد العزيز بن الماجشون. 12 - وغيرهم من الأئمة الأعلام. وحدَّث عن عبد الرحمن بن مهدي عدد من الأَجِلاَّء، ومنهم: 1 - ابن المبارك. 2 - ابن وهب. وهما من شيوخه لكنهما حدثا عنه. وحدَّث عنه كذلك: 3 - علي بن المديني. 4 - يحيى بن سعيد القطان. 5 - أحمد بن حنبل. 6 - إسحاق بن راهويه. 7 - ابن أبي شيبة. 8 - بندار. 9 - أبو خيثمة. 10 - القواريري. - وعدد من العلماء. حتى قالوا: وخلفٌ يتعذر حصرهم، الذين حدثوا عن عبد الرحمن بن مهدي.

أقوال العلماء في عبد الرحمن بن مهدي

أقوال العلماء في عبد الرحمن بن مهدي قال الإمام أحمد: "كأن عبد الرحمن بن مهدي خُلِق للحديث". وسئل الإمام أحمد عن يحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي -وكانا قرينين، شيخا أهل البصرة - ووكيع، مَن الأعلَم منهم؟ قال: كان عبد الرحمن أكثرهم حديثاًَ. وقال الإمام أحمد: "هو أفقه من يحيى القطان، وهو أثبت من وكيع؛ لأنه أقرب عهداً بالكتاب، اختلفا في نحوٍ من خمسين حديثاً للثوري، فنظرنا، فإذا عامة الصواب مع عبد الرحمن.

قوة ضبطه للحديث

قوة ضبطه للحديث من القصص التي ذُكِرَت ما ذكره الإمام العلم أبو محمد عبد الرحمن الرازي ابن أبي حاتم في كتابه الجرح والتعديل حيث جعل الجزء الأول من كتابه المقدمة ترجمةً لعدد من أشهر مشاهير المحدثين، مثل: شعبة، وسفيان، وابن المبارك، ومنهم بلا شك: عبد الرحمن بن مهدي. فقال في قصة في ضبطه: حدثنا عبد الرحمن، أخبرنا أبو زرعة، قال: سمعت نوح بن حبيب يقول: حضرنا عبد الرحمن بن مهدي، فحدَّثَنا عن سفيان، عن منصور، عن أبي الضحى في قوله عز وجل: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد:7] حديث في هذه الآية. إذاً عبد الرحمن بن مهدي يقول: عن سفيان، عن منصور، عن أبي الضحى، وساق الحديث، مَن شيخ عبد الرحمن بن مهدي؟ سفيان، ومن شيخ سفيان؟ منصور، ومن هو شيخ منصور؟ أبو الضحى. فقال رجلٌ حضر معنا: يا أبا سعيد -أي: عبد الرحمن بن مهدي - حدثنا يحيى بن سعيد -أي: القطان - عن سفيان، عن أبيه، عن أبي الضحى. يعني: يحيى بن سعيد القطان روى لنا الحديث وخالفك، أنت تقول: عن سفيان، عن منصور، عن أبي الضحى، ويحيى بن سعيد القطان يقول: عن سفيان، عن أبيه، عن أبي الضحى، فجعل بدلاً مِن منصور أبا سفيان في السند. فسكت عبد الرحمن بن مهدي إجلالاً وتواضعاً، فهو لا يريد أن يخطئ يحيى بن سعيد القطان. وقال له آخر في المجلس نفسه: يا أبا سعيد! حدثنا وكيع، عن سفيان، عن أبيه، عن أبي الضحى، فـ وكيع أيضاً خالفك، وروى السند مثلما رواه يحيى بن سعيد. قال: فسكت، وقال: حافظان. أي: يحيى بن سعيد القطان، ووكيع، ثم قال: دعوه، يعني: دعوا هذا الأثر، دعوا هذا الحديث. قال الراوي: ثم أتوا يحيى بن سعيد هؤلاء الطلبة خرجوا من مجلس عبد الرحمن بن مهدي وذهبوا إلى يحيى بن سعيد، فأخبروه أن عبد الرحمن بن مهدي حدَّث بهذا الحديث، عن الثوري، عن منصور، عن أبي الضحى، فأُخْبِر أنك تخالفه، ويخالفه وكيع. فأمسك عنه، وقال: حافظان. قال: فدخل يحيى بن سعيد، ففتش كتبه وخرج، وقال: هو كما قال عبد الرحمن عن سفيان، عن منصور، فالذي ضبط هو ابن مهدي. قال الراوي: فأُخْبِر وكيع بقصة عبد الرحمن، والحديث، وقوله: حافظان. فقال وكيع: عافى الله أبا سعيد، لا ينبغي أن يُقْبَلَ الكذب علينا، ثم نظر وكيع وراجع كتبه، فقال: هو كما قال عبد الرحمن، اجعلوه عن منصور، وعدِّلوه.

تزكية أهل العلم له

تزكية أهل العلم له يقول الإمام أحمد رحمه الله: "ما رأيت بعيني مثل يحيى بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهدي إماماً". وقال: عبد الرحمن ثقة، خيار، صالح، مسلم، من معادن الصدق. وقال جرير الرازي: "ما رأيت مثل عبد الرحمن بن مهدي، ووصف عنه بصراً بالحديث وحفظاً". وقال علي بن المديني: "كان عبد الرحمن بن مهدي أعلم الناس"، قالها مراراً. وقال مرةً: "أعلم الناس بالحديث ابن مهدي "، والذي يشهد له: علي بن المديني، وهو من كبار العلماء والنقاد. وقال أيضاً: "لو حلفت بين الركن والمقام أني لم أر أعلم من ابن مهدي، لصدقتُ". وقال أيضاً: "كان يحيى بن سعيد أعلم بالرجال، وكان عبد الرحمن أعلم بالحديث، وما شبَّهتُ علم عبد الرحمن بالحديث إلا بالسحر". وقال أيضاً: كان علم عبد الرحمن في الحديث كالسحر. وقال الشافعي: "لا أعرف له نظيراً في هذا الشأن". وقيل لـ أبي نعيم: "أيُّما أحب إليك: عبد الرحمن بن مهدي عن مالك؟ أم روح بن عبادة عن مالك؟ فقال: عبد الرحمن إمام وهو أحب إلي من كل أحد". فقيل له: إن عبد الرحمن عَرَض على مالك، وروح بن عبادة سمعه لفظاً. وهذه المسألة تعود إلى طرق الرواية: - أعلى طريقة للرواية طريقة السماع: أن يسمع الطالب من فم الشيخ، فيحفظه، أو يكتبه، ويقول: سمعت، وحدثنا، وحدثني، هذه أعلى مرتبة وهي مرتبة السماع. - المرتبة الثانية: العَرْض: أن الشيخ يُعْرَض عليه الحديث من قبل أحد الطلبة، ويُقرأ عليه والشيخ يقر، فيقول الطالب: أخبرنا، ولا يقول سمعتُ، لأن الشيخ ما تكلم، الذي قرأ -الآن- هو الطالب والشيخ يُقِر، فالطالب يقول: أخبركم فلان، أو حدثكم فلان، ويذكر أحاديث الشيخ، والشيخ يسمع ويُقِر، هذه الطريقة اسمها: طريقة العرض، أدنى من مرتبة السماع عند كثير من المحدِّثين. فلما سئل أبو نعيم: حديث عبد الرحمن بن مهدي، عن مالك عندك أحسن، أو روح بن عبادة عن مالك؟ فقال: عبد الرحمن إمام، وهو أحب إلي من كل أحد. فقيل له: إن عبد الرحمن عَرَض على مالك، أي: عبد الرحمن أخذ حديث مالك بطريقة العَرْض، وروح بن عبادة سمعه لفظاً بطريقة السماع، والسماع أعلى من العرض. فقال أبو نعيم: عَرْض عبد الرحمن أجل وأحب إلينا من سماع غيره، مع أن السماع مرتبة أعلى من العَرْض. وقال محمد بن أبي بكر المقدمي: "ما رأيت أتقن لما سَمِعَ ولما لم يَسْمَع لحديث الناس من عبد الرحمن بن مهدي، إمام ثبتٌ، أثبتُ الناس في يحيى بن سعيد، وأتقن من وكيع، كان قد عَرَضَ حديثه على سفيان ". وقال ابن حبان: "كان في الحفَّاظ المتقنين، وأهل الورع في الدين، ممن حفظ وجمع وتفقَّه وصنَّف وحدَّث". وقال يزيد بن هارون: "وقعت بين أسدين: عبد الرحمن بن مهدي، ويحيى القطان " كأنه يقول: لا أستطيع أن أفضل أحدهما على الآخر، وأنهما متقاربان ومتساويان وقرينان، ولا أرجح أحداً على الآخر. وقال الخطيب البغدادي عن عبد الرحمن بن مهدي: "كان من الربانيين في العلم، وأحد المذكورين بالحفظ، وممن برع في معرفة الأثر، وطُرق الروايات، وأحوال الشيوخ". وقال الذهبي فيه: "الحافظ الكبير، والإمام العَلَم الشهير". وقال أبو نعيم في الحلية: "الإمام الرضي، والزمام القوي، ناقد الآثار، وحافظ الأخبار". وقال ابن ناصر الدين: عبد الرحمن بن مهدي أبو سعيد الحافظ المشهور، والإمام المنشور، كان فقيهاً مفتياً، عظيم الشأن، وهو فيما ذكره أحمد: أفقه من يحيى القطان، وأثبت من وكيع في الأبواب". ولا شك أن مما ساعده على تبوء هذه المكانة أن شيخه سفيان الثوري، فحديثه عن سفيان نفعه جداً، لأنه لازم سفياناً، ولازم مالكاً كذلك.

ابن مهدي وتمييزه للحديث الصحيح عن غيره بالخبرة

ابن مهدي وتمييزه للحديث الصحيح عن غيره بالخبرة مما تميز به عبد الرحمن بن مهدي: تمييز الحديث الصحيح من غيره بالخبرة. قال نعيم بن حماد: "قلت لـ عبد الرحمن بن مهدي: كيف تعرف صحيح الحديث من غيره؟ قال: كما يعرف الطبيبُ المجنونَ". كأنه يقول: كما أن المجنون لا يخفى على العادي فضلاً عن الطبيب، فكذلك الحديث الصحيح لا يخفى عليَّ من غيره، فأنا أميزه تمييزاً واضحاً، كما أن الطبيب يميز المجنون من غيره، أو ربما من المحتمل أنه إذا قصد بالمجنون المصروع، فإن الطبيب يعرف من حركات المصروع أنه مصروع، وقد يخفى على غيره، فكأنه يقول أنا أميز الأشياء الخفية كما يميز الطبيبُ المصروعَ، وربما لا يعرف شأنه إلا الطبيب. ولذلك يقول عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله: "معرفة الحديث إلهام". قال ابن نمير: صَدَقَ، لو قلتَ: من أين؟ لم يكن له جواب، يعني: أحياناً الحديث المعلول لا يستطيع أن يقول لك الناقد إن سبب الضعف، أو العلة كذا، لكن يتكون عنده مع مرور الزمن، وطول الوقت حس وشعور خفي يدرك به أن هذا صحيح، وأن هذا معلول بحيث لو قلت له: ما هو سبب الضعف؟ لا يوجد راوي معين ضعيف يقول لك فيه مثلاً: فلان ضعيف، أو فلان كذاب، أو ما فيه انقطاع واضح حتى يقول لك: هذا الحديث الحسن عن عمر فيه انقطاع، ما هناك شيء مميز وواضح حتى يقوله لك عن سبب الضعف، لكن يوجد علة خفية، فالحافظ أو الناقد يعرف بحسه هذه العلةَ حتى من خفائها أنه لا يستطيع أن يشرحها لغيره بالخبرة، ومثلوا له بمثال، وهذا المثال ورد في قصة لـ عبد الرحمن بن مهدي. قال علي بن المديني: أخذ عبد الرحمن بن مهدي على رجل من أهل البصرة حديثاً لا أسميه حديثاً، قال: فغضب له جماعة؛ لأن عبد الرحمن بن مهدي انتقده على هذا الحديث كيف يأتي به، فجاء هؤلاء البصريون أصحاب الرجل الذي حدَّث بالحديث والذي لا يثبت عند عبد الرحمن بن مهدي، وقالوا له: يا أبا سعيد! من أين قلت هذا في صاحبنا؟ بيِّن سبب ضعف الحديث الذي تدَّعي أن صاحبنا أخطأ. قال: فغضب عبد الرحمن بن مهدي، وقال: أرأيتم لو أن رجلاً أتى بدينار إلى صيرفي، فقال: انتقد لي هذا، فقال: هو بَهْرَج، يقول له: من أين قلت لي: إنه بهرج؟! طبعاً الدنانير كانت تصنع من الذهب في الماضي والدراهم من الفضة، وكان هناك في سوق الذهب نُقَّاد أو صيارفة خبراء في الذهب، لو أعطيته دينار الذهب يقول لك: هذا صافٍ، أو مغشوش، أو مزيف بدون فحص كيميائي، ولا مختبري، ولا مكبرات، إنما بالخبرة، فهم عائلةٌ صاغَةٌ، أخذ هذا العلم في الصياغة عن أبيه عن جده، عائلة فيها هذا من كثرة الممارسة للصياغة والنظر في الدنانير، والوزن باليد، والصوت ونحو ذلك، فبالخبرة والنظر يعرف الصائغ المحترف أن هذا مزيَّف أو نقي، فشبهوا ذلك بعلم العلل الخفية، وبعض المحدثين يعلمون العلل بدون أسباب واضحة، لكن بالخبرة والحس التي تكون مع الزمن، والاشتغال وطول الممارسة، هؤلاء الصاغة يعرفون الدنانير الصحيحة من المزيفة بمجرد النظر أحياناً، فقال لهم لَمَّا قالوا: هات، بيِّن لنا سبب ضعف حديث صاحبنا البصري، فغضب عبد الرحمن بن مهدي، وقال: أرأيتم لو أن رجلاً أتى بدينار إلى صيرفي، فقال: انتقد لي هذا، فقال: هو بَهْرَج -مزيف- يقول له: من أين قلت لي: إنه بهرج؟! الزم عملي هذا عشرين سنة حتى تعلم منه ما أعلم، تعال اشتغل في الحديث عشرين سنة مثلما أنا اشتغلت، ثم تميز مثلي. وهذا بطبيعة الحال شيءٌ يستقر في نفوس كبار الحفاظ والنقاد والمحدثين، فيعرفون بعض الأحاديث بالخبرة. ولذلك قال عبد الرحمن بن مهدي: "معرفة الحديث إلهام"، أي: شيء يقذفه الله في نفس الشخص، ومع الخبرة والممارسة يكون له بصيرة فيه. ونقد الدراهم والدنانير التي يعرفها هؤلاء الصاغة من غير فحصٍ، بل يعرفونها بالمعاينة، وكذلك يميز أهل الحديث وبعض النقاد وبعض العلماء من المحدثين بعلم يخلقه الله في قلوبهم بعد طول الممارسة للحديث والاعتناء به. وعبد الرحمن بن مهدي واحد من هؤلاء قطعاً.

سعة علم عبد الرحمن بن مهدي وتربيته لتلاميذه

سعة علم عبد الرحمن بن مهدي وتربيته لتلاميذه

قصة ابن مهدي مع تلميذه ابن المديني

قصة ابن مهدي مع تلميذه ابن المديني ومن سعة علم عبد الرحمن بن مهدي -رحمه الله- القصة العجيبة التي جاءت لتلميذه علي بن المديني، وقد ذكرنا طرفاً منها في ترجمة علي بن المديني. قال علي بن المديني: قدمتُ الكوفة، فعُنِيْتُ بحديث الأعمش -أي: جعلت أتتبع حديث الأعمش حديثاً حديثاً، أيُّ واحدٍ عنده حديث عن الأعمش، أذهب إليه وأسمعه منه- فجمعتها -أي: جمعت أحاديث الأعمش - حتى ظننت أني قد استكملت أحاديث الأعمش، فلما قدمتُ البصرة، لقيتُ عبد الرحمن -أي: ابن مهدي، شيخه- فسلمت عليه، فقال: هات يا علي ما عندك. فقلت: لا أحد يفيدني عن الأعمش شيئاً، يقول لشيخه عبد الرحمن بن مهدي بكل ثقة من كثرة جمعه لأحاديث الأعمش: أنا وصلت إلى مرتبة لا أحد يفيدني في أحاديث الأعمش شيئاً، أي شيء ستقوله لي قد سمعته، جمعته وانتهيت، لا جديد يؤتى إليَّ من أحاديث الأعمش. قال: فغضب عبد الرحمن بن مهدي -وهذه تربية الشيخ للتلميذ- وقال: أهذا كلام أهل العلم؟! أن يقول الرجل: انتهى العلم، وختمتُ العلم الفلاني، ولا أحد يستطيع أن يفيديني شيئاً؟! ومَن يضبط العلم، ومَن يحيط به؟! مثلك يتكلم بهذا؟ قلت: نعم. قال: اكتب. قلت: ذاكرني فلعله عندي، أي: أعطني طرف الحديث شفوياً، فربما يكون عندي فلا أحتاج إلى أن أكتب وأخرج الكرَّاس والأقلام. قال: اكتب، لستُ أملي عليك إلا ما ليس عندك. قال: فأملى عليَّ ثلاثين حديثاً من أحاديث الأعمش لم أسمع منها حديثاً. ولذلك ورد في الرواية الأخرى، قال: فجعلتُ أتعجب من معرفته بما ليس عندي، مع أنه لم يسرد عليه أحاديث الأعمش التي عنده، فأملى عليَّ ثلاثين حديثاً لم أسمع منها حديثاً. ثم قال: لا تعد. قلت: لا أعود. وهذا تربية من عبد الرحمن بن مهدي لـ علي بن المديني.

قصة ابن مهدي مع الأعمش

قصة ابن مهدي مع الأعمش قال علي بن المديني: فلما كان بعد سنة، جاء سليمان إلى الباب، وكان سليمان زميلٌ لـ علي بن المديني، وكان يجمع الآثار في الفقه، وبالذات في مسائل الحج والمناسك، فقال ممازحاً لـ علي بن المديني، وبكلام فيه شيء من التحدي، قال: امض بنا إلى عبد الرحمن حتى أفضحه اليوم في المناسك. قال علي بن المديني: وكان سليمان من أعلم أصحابنا بالحج، فشهد له فعلاً بعلمه التام بالمناسك. قال: فذهبنا فدخلنا عليه، وسلَّمنا وجلسنا بين يديه. فقال: هاتا ما عندكما، أظنك يا سليمان صاحب الخطة، والمؤامرة، وأنك حِكْتَ شيئاً قبل الإتيان إلى المجلس، يعني: من فراسة عبد الرحمن بن المهدي رحمه الله أنه عرف من عيني سليمان أنه جاء لتِحَدٍّ لشيء ما. قال سليمان معترفاً: نعم، لا أحد يفيدنا في الحج شيئاً، ما يمكن أن تجد لي حديثاً أو أثراً لا أعرفه في مسألة من مسائل الحج. قال علي بن المديني: فأقبل عليه بمثل ما أقبل عليَّ، أي: تعنيفاً وتوبيخاً. ثم قال: يا سليمان! ما تقول في رجل قضى المناسك كلها إلا الطواف بالبيت فوقع على أهله؟ أي: جامع زوجته قبل الطواف. فاندفع سليمان، فروى حديث (يتفرقان حيث اجتمعا، ويجتمعان حيث تفرقا) هذه المسألة لم يثبت فيها حديث صحيح مرفوع إلى النبي عليه الصلاة والسلام، لكن ورد حديث ضعيف، وهناك فتاوى عن الصحابة، وجاءت آثار عن عبد الله بن عمرو، وعن عمر، وعن غيرهما في أن الرجل إذا جامع زوجته في الحج، يفرَّق بينه وبين زوجته، وتذهب مع رفقة مأمونة إلى حيث ينتهي الحج، ثم يأخذ زوجته. إذا جامع قبل عرفة، يفسد الحج، ويفرَّق بينهما، ويكملان الحجة الفاسدة، ثم يأتيان بحجة بدلاً منها صحيحة من العام القادم مع ذبح بدنة، وإذا جاء في العام القادم ليحج الحجة الجديدة، حصل خلاف بين أهل العلم هل يفرَّق بينهما، أو لا، وإذا فُرِّق بينهما من أين؟ ومتى؟ حتى لا يحدث ما حدث في العام الذي قبله، هل يفرَّق بينهما من حين الإحرام؟ أو يفرَّق بينهما عند الموضع الذي جامعها فيه في الحجة الماضية؟ فلو كان مثلاً جامعها بعد فجر يوم عيد الأضحى، هل نقول لهما: أنتما معاً إلى أن تصلا إلى منى يوم العاشر فنفرقكما عن بعضكما، وتجتمعا بعد ذلك إذا انتهيتما؟ وهل تكون التفرقة في المكان الذي جامعها فيه. مثلاً: وصل إلى منى، نقول: أنت جامعتها الحجة الماضية في منى، الآن وصلت إلى منى، فانفصل عنها؟ هل يكون التفريق في المكان، أو في الوقت؟ إذا جاء إلى نفس الوقت الذي كان قد أتى به في تلك الحَجَّة، يفرق بينهما؟ المسألة فيها كلام طويل. قال: فاندفع سليمان فروى (يتفرقان حيث اجتمعا، ويجتمعان حيث تفرقا). فقال عبد الرحمن بن مهدي لـ سليمان: اروِ، هات نص الآثر، ومتى يجتمعان؟ ومتى يتفرقان؟ قال: أنت تقول الآن: (يتفرقان حيث اجتمعا، ويجتمعان حيث تفرقا) وحيث ممكن للمكان وممكن للزمان، يقول: فصِّل، هات التفريق في الزمان، وهات التفريق في المكان، وهات من روى بهذا من الصحابة ومن التابعين، ومَن الذي رُوِيَت عنه آثار التفريق في المكان والزمان والخلاف في الروايات. قال: فسكت سليمان. فقال: اكتب. وأقبل يُلقي عليه المسائل ويملي عليه حتى كتبنا ثلاثين مسألة، في كل مسألة يروي الحديث والحديثَين، ويقول: سألت مالكاً، وسألت سفيان، وعبيد الله بن الحسن. قال: فلما قمتُ، قال: لا تَعُد ثانياً تقول مثلما قلتَ. فقمنا وخرجنا، قال علي بن المديني: فأقبل عليَّ سليمان، وقال: لماذا خرج علينا من صلب مهدي هذا؟ ومهدي هو أبو عبد الرحمن، قال: لماذا أنجب هذا؟ لماذا طلع علينا من الأب هذا؟ كأنه كان قاعداً معهم، سمعتُ مالكاً وسفيان وعبيد الله، يتعجبون من حفظه.

حسن اختيار ابن مهدي لمشايخه

حسن اختيار ابن مهدي لمشايخه كان عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله ينتقي شيوخه انتقاءً بالغاً، ولذلك قال بندار: ضرب عبد الرحمن بن مهدي على نيِّف وثمانين شيخاً يحدث عنهم سفيان الثوري، ضرب عليهم، أي: شطب على أحاديثهم، لأنه لم يرتض تلك الروايات. أقول تعليقاً على القصة الماضية: عندما يكون عند الطالب شيخ مربٍّ، وليس فقط يلقي معلومات تخرج نماذج جيدة، ولذلك عبد الرحمن بن مهدي يُخرج علي بن المديني، مثل: علي بن المديني يخرج البخاري، ولم يكن أولئك العلماء مجرد مثقِّفين ومحفِّظين، ويلقوا المعلومات، كانت هناك تربية، يعني: قضية الوعظ والتعنيف والتوبيخ على ما يبدر من الطالب من اعتداد بالنفس، أو ثقة زائدة فيما عنده، أو يظن أنه حصَّل العلم وختمه ولم يعد هناك شيء زائد، ويُلام ويقرَّع، ويُثبَت له بالدليل من الشيخ أن عنده نقصاً، وأنه ما استكمل، هذا يربي عند الطالب ويؤسس في نفسه التواضع للعلم ولأهل العلم، وأنه لا يمكن أن يظن يوماً واحداً أنه ختم العلم، فمن ظن أنه قد علم، فقد جهل، ولذلك يقولون: "كلما ازددنا علماً، ازددنا جهلاً" فكلما اكتشفنا أن هناك أشياء وأشياء ما اطلعنا عليها، وهناك أشياء ستأتي بالتأكيد لم نطلع عليها، فنكتشف جهلنا بأنفسنا بمزيد من الاطلاع على العلم. ولذلك ذو العقل يشقى بعقله، ولكن أخا الجهالة مُكَيِّف، يظن أنه على شيء. ولذلك -الآن- تعرض مسائل في مَجالس العامة، بعضهم بأدنى سبب وبأدنى مناسبة يتكلم ويفتي، وهو لم يطلع على فتاوى أهل العلم، ولا على خلاف العلماء، ولا على الأدلة، ولا على ما صح، ولا على ما ضعف، يتكلمون ويهيمون ويسرحون، وطالب العلم تأتي إليه المشكلات والأشياء العويصة، ويتوقف عندها، ويحار فيها، ويسلِّم بعجزه وتقصيره أحياناً، وتخفى عليه أشياء، فيَعرف هذا الشخص قيمته. وثانياً: أن الشيخ الذي يربي لا بد أن يكون عنده ما يربي، ويكون عنده تفوق:- لأن القضية ليست أنه فقط يقول: لا تظن نفسك علمت، ثم لا يستطيع أن يقنعه بأنه جاهل وعنده نقص، أو أن عنده ما ليس عنده، فعند ذلك عندما يكون هذا العالم عنده ما يميزه عن الطالب عنده محفوظات كثيرة يستطيع أن يقنع الطالب بعد ذلك أنه يحتاج لمزيد من التعلم، وأنه لا زال في الطريق أو في أوله.

قوة حفظ عبد الرحمن بن مهدي

قوة حفظ عبد الرحمن بن مهدي كان عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله حافظاً: يقول القواريري: أملى عليَّ ابن مهدي عشرين ألف حديث حفظاً. وقد بلغ من تبجيل العلماء له أن حدَّث عنه ابن المبارك، وابن وهب، وهما من شيوخه. وأخذ عنه سفيان حديثاً، قال عبد الرحمن بن مهدي: سمع سفيان الثوري مني حديثاً، فكتبه، فكون عبد الرحمن بن مهدي يكون عنده حديثاً ليس عند الثوري هذه لمفردها منقبة عظيمة. وقال ابن مهدي: ربما كنت أماشي عبد الله بن المبارك، فأذاكره بالحديث، فيقول: لا تبرح -قف! انتظر- حتى أكتبه، ويكتب الشيخ عن التلميذ -يكتب عبد الله بن المبارك عن عبد الرحمن بن مهدي - فهذه منقبة لـ عبد الرحمن بن مهدي، وتواضع من ابن المبارك، وتواضع يتعلمه الطالب من الشيخ. وقال خالد بن خداش: كنت عند حماد أنا وخويل، فجاء عبد الرحمن بن مهدي، فجلس، ثم قام وانصرف، فقال حماد: هذا من الذين لو أدركهم أيوب لأكرمهم، وأيوب من كبار العلماء والمحدثين. وقال حماد بن زيد: لئن عاش عبد الرحمن بن مهدي ليخرجن رجل أهل البصرة، فكأنه قال: سيخرج عالماً بصرياً نفتخر به على سائر البلدان، ونقول: هذا عين أهل البصرة، رجل أهل البصرة خرج منها، نستغني به عن غيره، أو أنه يقول: إنه سيكون له شأن عظيم، والبلد ستكون قد أخرجت عالِمَها إذا استمر الأمر بـ عبد الرحمن بن مهدي على ما هو عليه، وفعلاً كان ذلك. قال زياد بن أيوب: كنا في مجلس هشيم، فلما قام هشيم أخذ أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وخلف بن سالم، بيد فتىً أمَّنَ، فأدخلوه مسجداً، وكتبوا عنه وكتبنا، فإذا هو عبد الرحمن بن مهدي. وعبد الرحمن بن مهدي أكبر من الإمام أحمد، ويحيى بن معين، وهو شيخ الجميع، لكن معنى ذلك أنهم كتبوا عنه وهو لا يزال شاباً، ولم يكتبوا عنه لما صار شيخاً كبيراً فقط، بل كتبوا عنه قبل ذلك. وقال ابن المديني: إذا اجتمع يحيى بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهدي على ترك رجل، لم أحدث عنه. فإذا اختلفا -قال بعضهم مثلاً: هذا يُحْتَجُّ به، وقال الآخر: هذا لا يُحْتَجُّ به- أخذت بقول عبد الرحمن؛ لأنه أقصدهما، وكان في يحيى تشدداً، وكما قال العلماء: يقسَّم أهل الجرح والتعديل إلى ثلاثة أقسام: 1 - قسم متشدد ومتعنت، وربما يضعف الراوي الثقة أحياناً، أو يقدح فيه لسبب ليس بقادح. 2 - قسم متوسط. 3 - قسم متساهل، ربما يوثق الضعفاء. عبد الرحمن بن مهدي وأحمد بن حنبل معدودان في الطبقة المتوسطة المعتدلة من علماء الجرح والتعديل. وكان يحيى بن سعيد القطان رحمه الله فيه شيء من التشدد، لا يقبل الروايات إلا من أناس بلغوا الغاية. وقال أحمد بن حنبل: اختلف عبد الرحمن بن مهدي ووكيع بن الجراح في نحو من خمسين حديثاً من حديث الثوري، فنظرنا فإذا عامة الصواب في يد عبد الرحمن. وسأله ابنه صالح بن أحمد بن حنبل: أيُّما أثبت عندك: عبد الرحمن بن مهدي، أو وكيع؟ فقال الإمام أحمد: عبد الرحمن أقل سَقْطاً من وكيع في سفيان، قد خالفه وكيع في ستين حديثاً من حديث سفيان، وكان عبد الرحمن يجيء بها على ألفاظها، وهو أكثر عدداً لشيوخ سفيان من وكيع، وروى وكيع عن نحو من خمسين شيخاً لم يروِ عنهم عبد الرحمن، ولقد كان لـ عبد الرحمن تَوَقٍّ حسنٍ، أي: ينتقي. وقال أبو حاتم: "عبد الرحمن بن مهدي أثبت أصحاب حماد بن زيد، وهو إمام ثقة، أثبت من يحيى بن سعيد، وأتقن من وكيع، وكان قد عَرَض حديثه على سفيان الثوري ". وقال علي بن المديني: "نظرت! فإذا الإسناد يدور على ستة، ثم صار علم هؤلاء الستة إلى اثني عشر، ثم انتهى علم الاثني عشر إلى ستة -مرة أخرى- فنظر في أكثر الأسانيد فوجدها تدور على ستة من كبار العلماء، مَن بعدَهم تلاميذهم أشهر وأكثر من روى عن الستة اثني عشر شخصاً، الطبقة الثانية، ثم لوحظ أن هؤلاء الاثني عشر الذين رووا عنهم، اجتمع علم الاثني عشر عند ستة، الطبقة الثالثة، الستة هؤلاء هم: 1 - يحيى بن سعيد القطان. 2 - عبد الرحمن بن مهدي. 3 - يحيى بن زكريا بن أبي زائدة. 4 - وكيع بن الجراح. 5 - عبد الله بن المبارك. 6 - يحيى بن آدم. وهؤلاء هم شيوخ: علي بن المديني، والإمام أحمد، ويحيى بن معين. الطبقة التي بعدهم هي: 1 - علي. 2 - يحيى. 3 - أحمد. 4 - ابن أبي شيبة، وغيرهم. الطبقة التي بعدها: البخاري وغيره.

تبجيل العلماء لابن مهدي واحترامهم له

تبجيل العلماء لابن مهدي واحترامهم له لقد أكثر العلماء من تبجيل عبد الرحمن بن مهدي حتى أن شيخه سفيان الثوري قال له: لو أن كتبي عندي، لأفدتك علماً. قال ابن أبي حاتم: فقد بان بذلك جلالة عبد الرحمن عند الثوري، إذا بدأه بهذا القول. فالمعروف أن الطالب هو الذي يطلب من الشيخ، لكن هنا الشيخ يقول: لو أن كتبي عندي لحدثتك، أو كأن سفيان يقول له: إنني أفيدك الآن من حفظي، لكن لو كانت كتبي عندي لحدَّثتك منها، فـ سفيان رحمه الله تعرض للمحنة، واضطر للهروب، واختفى فترة من الزمن، ما كان له فيها مجالس، وربما خشي على كتبه التي كتب فيها الأحاديث من التغيير، فدفنها، وقد تلف كثيرٌ منها حتى أنه جاء بعد مدة يستخرجها مع بعض تلاميذه من حفرة، فقال له أحد تلاميذه ممازحاً: وفي الركاز الخُمُس أعطنا خُمُس الكتب هذه. فكأن سفيان يقول لـ عبد الرحمن إجلالاً له: أنا أعطيتك مما أحفظ، لكن لو كان كتبي عندي لأعطيتك منها أحاديث ربما ليست عندي في حفظي. وقال حماد بن زيد: "إن كان يؤتى لهذا الشأن، فهو هذا الشاب". أي: عبد الرحمن بن مهدي الذي يؤتى إليه. فقال هذا الكلام بعدما قام عبد الرحمن من عنده. وقال عبد الرحمن: "كُتِبَ عني الحديث في حلقة مالك بن أنس ". وكان حماد بن زيد إذا نظر إلى عبد الرحمن بن مهدي في مجلسه، تهلل وجهه. وبلغ من اعتناء سفيان بتلميذه عبد الرحمن بن مهدي كما قال مهدي بن حسان والد عبد الرحمن: كان عبد الرحمن يكون عند سفيان عشرة أيام إلى خمسة عشرة يوماً بالليل والنهار متواصلة، فإذا جاءنا ساعةً -أي: يزور أباه وأمه وأهله- جاء رسول سفيان في أثره، فيقول: سفيان يدعوك، فيَدَعنا ويذهب إليه. فكأن سفيان لا يريد أن يغيب عنه تلميذه عبد الرحمن. أولئك أناس كانوا مخلصين في تعليم الناس، إذا رأى طالباً حافظاً، فهذه فرصة أن يُوْدِعَه علمه، إن وجده مخلصاً، حافظاً، ذكياً، ألمعياً، فاهماً، فهي فرصة أن يُعْتَنَى به، ولذلك من أسباب النبوغ عند السلف: أن الشيوخ يعتنون بالتلاميذ؛ ولو غاب التلميذ أرسل الشيخ في طلبه، لا يجلس الشيخ في برج عالٍ، يقول: الذي يأتيني أحدثه، والذي لا يأتيني لا أسأل عنه! وكان للشيخ خواص من الطلاب معه في سفره وحضره، في بيته ومجلسه ومسجده، ومعه في جميع الأماكن، كما كان سفيان يرسل رسولاً وراء عبد الرحمن بن مهدي إلى بيته. ومن تقدير سفيان لـ عبد الرحمن بن مهدي: قال عبد الرحمن بن مهدي: أفتى سفيان الثوري في مسألة، فرآني كأني أنكرت فتياه بالنظر، أي: سئل سفيان عن مسألة، فأفتى فيها، فلاحظ سفيان في المجلس أن وجه عبد الرحمن بن مهدي فيه تغيُّرٌ ما، كأنه لَمْ تَرُقْ له هذه الفتوى، فقال سفيان لـ عبد الرحمن التلميذ: أنتَ ماذا تقول؟ قلت: كذا وكذا، خلاف ما يقول. قال: فسكت ولم يقل شيئاً، وسكوت سفيان هذا معناه: إجلال لـ عبد الرحمن التلميذ، ولم يعترض على جوابه، ولم يرد عليه، فكأنه سلَّم له بالجواب، أو أقر بصحة جوابه.

زهد عبد الرحمن بن مهدي وعبادته

زهد عبد الرحمن بن مهدي وعبادته كان عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله رأساً في العبادة، وكان له عادة في قيام الليل، وحدث مرةً أنه فاتته صلاة الفجر بسببٍ من هذا، فعاقب نفسه كما في القصة التالية: قال يحيى بن عبد الرحمن بن مهدي: إن أباه قام ليلةً، وكان يحيي أكثر الليل، فلما طلع الفجر، رمى بنفسه على الفراش فنام عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس، فقال عندما استيقظ مؤنباً نفسه: هذا مما جنى عليَّ الفراش، فجعل على نفسه ألا يجعل بينه وبين الأرض فراشاً شهرين فتقرحت فخذاه. وهذه القصة حصلت مرة وبدون قصدٍ منه رحمه الله، ومع ذلك فإنه قد امتنع عن أن يرقد على فراش؛ لأن الفراش كان سبباً في استغراقه في النوم، وبطبيعة الحال فإن الإنسان لا يجوز له أن يتعمد فعل نافلة تؤدي إلى تفويت فريضة، لكن الذي يحدث بغير قصد لا يأثم به الإنسان ولا يؤاخذ. وقال عبد الرحمن بن عمر عن يحيى بن عبد الرحمن بن مهدي: ودخلت يوماً دار عبد الرحمن، فإذا هو قد خرج عليَّ وقد اغتسل وهو يبكي، فقلت: ما لك يا أبا سعيد؟ قال: كنت من أشد الناس في النفور من القراءة، ومن مثل هذه الأشياء، أي: أكره أن أفعل الرُّقْيَة، فاضطرني البلاء حتى قرأتُ على ماء شيئاً، فاغتسلتُ به. وكان ورد عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله في كل ليلة نصف القرآن، كما قال علي بن المديني، فإنه كان يحب أن يختم القرآن في كل ليلتين، وهذا يدل على أن الرجل لم يكن صاحب حديث فقط، وإنما صاحب عبادة، وصاحب قرآن، وبعض الناس إذا اشتغلوا بطلب العلم؛ أهملوا جانب العبادة، فصار عندهم شيء من القسوة في القلب، وكذلك بعض الذين يشتغلون بالحديث بالأسانيد والرجال والطرق والتصحيح والتضعيف، ولا يكون عندهم اهتمام بالعبادة، كقراءة القرآن، وقيام الليل، لا شك أن ذلك يُحدث عندهم نوعاً من القسوة، ولم يكن عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله من هؤلاء مطلقاً، مع أنه كان من أئمة الجرح والتعديل وعلم الرجال والأسانيد، ولكن مع ذلك ها هو يقوم أكثر الليل، ويختم القرآن في كل ليلتَين مرة. وقال أيوب المتوكل: كنا إذا أردنا أن ننظر إلى الدين والدنيا، ذهبنا إلى دار عبد الرحمن بن مهدي. أما بالنسبة للدين: فواضح ماذا يعني الذهاب لـ عبد الرحمن بن مهدي؟ وأما بالنسبة للدنيا: فلعل الراوي - أيوب المتوكل - يقصد أنهم إذا أرادوا الإكرام بالطعام والتوسيع عليهم، يذهبون إلى دار عبد الرحمن بن مهدي، فإنه كان يكرم طلابه ويكرم ضيوفه، ويعطيهم ويوسِّع عليهم، فيقولون: إذا أردنا الدين الأسانيد، وأردنا الأحاديث وأردنا العلم، جئنا عبد الرحمن بن مهدي، وإذا أردنا الدنيا من الإطعام والإكرام والتوسعة؛ جئنا دار عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله. وهكذا ينبغي أن يكون أهل العلم، عندهم خلقٌ حسنٌ، وتعاملٌ جيدٌ مع الناس، ومن ذلك: الإكرام فإنه -لا شك- يأخذ بمجامع القلوب. وأما بالنسبة لحجه؛ فقد قال رسته رحمه الله، وهذا لقب لـ عبد الرحمن بن عمر، وهو أحد المحدثين: كان عبد الرحمن يحج كل عام، فهو صاحب عبادة في الحج أيضاً.

وفاء علي بن المديني لشيخه ابن مهدي بعد وفاته

وفاء علي بن المديني لشيخه ابن مهدي بعد وفاته قال علي بن المديني: دخلتُ على امرأة عبد الرحمن بن مهدي بعد وفاته، وكان من إخلاص علي بن المديني لشيخه عبد الرحمن أنه كان يزور أهله بعد وفاة الشيخ، يزور تلك المرأة الكبيرة زوجة شيخه ويتفقدهم، وهذا ولا شك أن من الوفاء للشيخ أن يُزار أهلُه بعد رحيله، ويُتَفَقَّد أولاده، وماذا يحتاجون، وهذا من حسن العهد، والنبي عليه الصلاة والسلام كان حسن العهد، من كان له به ارتباط سابق؛ فإنه لا يزال يكرمه أو يكرم أصحابه وأهله ونحو ذلك. قال ابن المديني: دخلت على امرأة عبد الرحمن بن مهدي، وكنت أزورها بعد موته، فرأيت سواداً في القبلة، فقلت: ما هذا؟ قالت: موضع استراحة عبد الرحمن، كان يصلي بالليل، فإذا غلبه النوم، وضع جبهته عليها، أي: إذا غلبه النوم، اتكأ بجبهته على هذا الموضع من الجدار، فلذلك تراه أسوداً مما يعلق بالجدار من ذلك الاتكاء. وهذا يعني أنه -رحمه الله- ما كان ينام ويستغرق في النوم، بل إنه يأخذ إغفاءة وهو متكئ، ويضع جبهته على الجدار، حتى إذا ارتاح قليلاً، عاد للقيام رحمه الله تعالى. وهكذا يُبْنَى الإيمان وقواعد الأدب في نفس الطالب بحسب ما يرى من حياة شيخه القدوة.

مهابة العلم عند عبد الرحمن بن مهدي

مهابة العلم عند عبد الرحمن بن مهدي كان عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله تعالى له درسٌ، وكان مهيباً في درسه، ولذلك كان -كما يقول أحمد بن سنان - لا يتحدث في مجلسه أحد، ولا يُبْرَى قلمٌ -الطلبة يجب أن يكونوا متجهزين للدرس قبل أن يبدأ الدرس- ولا يتبسم أحد، ولا يقوم لأحد قائمة، كأن على رءوسهم الطير، يعني: من خشوع شيخهم ومن هيبته، يجلسون كأن على رءوسهم الطير، لا أحد يتحرك، ولا يتبسم، كأن على رءوسهم الطير، أو كأنهم في صلاة، فإذا رأى أحداً منهم تبسم أو تحدث؛ لبس نعله وخرج، وهذا يعني أنه سيفُوتُ الجميعَ ما يفُوتُ بسبب حركة واحد، الجميع مسئولون عن الجميع. وهذا توقير منه للعلم رحمه الله لا استكباراً؛ لأن مجلس حديث النبي صلى الله عليه وسلم ينبغي أن يُتأدب معه، فإنه عليه الصلاة والسلام لو مات، فلا ترفع الأصوات فوق حديثه ولو بعد وفاته، فإذا قُرئ حديثُه، خُفِضت عند حديثه صلى الله عليه وسلم الأصوات، ولذلك فإنه رحمه الله تعالى كان عنده هذا المبدأ في دروسه. وكذلك فإنه قد حصل مرة من المرات أن أحد الطلاب ضحك في المجلس، فيقول عبد الرحمن بن محمد بن سلام: حدثنا عبد الرحمن بن عمر، قال: ضحك رجلٌ في مجلسه وسمعه. ولا شك أن من قلة الأدب في مجلس العلم، أو مجلس الحديث أن تقرأ أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام، ثم يضحك شخصٌ! فضحك رجلٌ في مَجلسه وسَمعه، فقال: من هذا الذي يضحك؟ فأعاد مراراً، يقول لهم: من هذا الذي يضحك؟! فأشاروا إلى رجل، فأقبل عليه، وهو يقول: تطلب العلم وأنت تضحك؟! تطلب العلم وأنت تضحك؟! مرتين، لا حدثتكم شهرين، فقام الناس فانصرف. وكان رحمه الله في ذاته مقتدياً بالنبي عليه الصلاة والسلام في عدم الإغراق في الضحك، فقال الراوي: ولا أعلم أني رأيت عبد الرحمن ضاحكاً شديداً بقهقهة إلا التبسم؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان أكثر ضحكه تبسماً، فإن خشي عليه أن يغلبه الضحك لشدة الموقف؛ أمسك على فمه رحمه الله تعالى. وكذلك فإن عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله كان في مسألة الورع والاحتياط في الكلام في غاية الدقة والانتباه. قال عبد الرحمن بن عمر: وسمعت عبد الرحمن قال لرجل: لا أفعل. ثم سأله الرجل. فقال: إني قد قلت: لا أفعل. قال: إنك لم تحلف، فماذا يمنعك أن تفعل؟ قال: هذا أشد، لو حلفتُ، لكفَّرت. فهذا من احتياطه رحمه الله؛ (لو حلفتُ، لكفَّرت).

مذاكرة ابن مهدي للعلم وصبره

مذاكرة ابن مهدي للعلم وصبره ومن جهة مذاكرته للعلم وصبره تقدَّمت أشياء، وتقدمت قصته مع وكيع وهي قصة عجيبة في مصابرته ومحبته للعلم، وهي التي رواها أبو داود السختياني، قال: "التقى وكيع وعبد الرحمن في الحرم بعد العشاء، فتواقفا -تذاكرا الحديث- حتى سمعا أذان الصبح، من بعد العشاء إلى الصبح!!

منهج ابن مهدي في الاعتقاد

منهج ابن مهدي في الاعتقاد كان الإمام عبد الرحمن بن مهدي على مذهب السلف الصالح رحمهم الله، معتقداً بمذهب أهل السنة والجماعة، شديداً على أهل البدع؛ من الجهمية، والقدرية، والمتأولة. قال رسته: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: الجهمية يريدون أن ينفوا الكلام عن الله، وأن يكون القرآن كلامه -أي: يريدون أن ينفوا أن يكون القرآن كلام الله، وأن الله كلم موسى- وقد أكَّده الله، فقال: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء:164] فقد أكَّد الله أنه كلم موسى بقوله: {تَكْلِيماً} [النساء:164] {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء:164]. فأما الجهمية القُدامى، فإنهم قد حاولوا أن تكتب هذه اللفظة في القرآن: (وَكَلَّمَ اللهَ مُوسى)، بدل {وَكَلَّمَ اللَّهُ} [النساء:164] لكي ينسبوا الكلام إلى موسى، وينفوا عن الله الكلام، فقال كاتب المصحف وكان سُنِّيَّاً: يا أحمق، إذا غيرنا هذه، فماذا أفعل بقول الله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:143]؟! كيف بها في هذه؟! أما الذين تأثروا بمذهب الجهمية من المتأخرين، مثل: الأشاعرة، فإنهم إذا أتوا إلى هذه الآية: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء:164] ولا يستطيعون أن يحرفوها، يقولون: كَلَّمَهُ يعني: جرَّحه بأظافر الحكمة، وهذا من أفسد الكلام والتفسير، وما الحاجة إلى تجريح موسى بأظافر الحكمة؟! فإن الله يقذها في قلب موسى بدون تجريح، وهل يحتمل كلام العرب كل هذا التعسف لكي يُصْرَف اللفظ عن ظاهره من أجل مذهب فاسد، أو قواعد من علم الكلام الفاسد التي أخذوها عن الكفار! وقال إبراهيم بن زياد الملقب بـ سبلان: قال لي ابن مهدي: "لو كان لي سلطان، لألقيت من يقول: إن القرآن مخلوق في دجلة بعد أن أضرب عنقه". وفي رواية قال: "لو كان لي سلطان، لقمت على الجسر -الذي يعبر منه جسر النهر- فلا يمر بي أحدٌ إلا سألته عن القرآن، فإذا قال مخلوق؛ ضربتُ عنقه وألقيته في الماء". وقال عبد الرحمن بن مهدي أيضاً: "إن الجهمية أرادوا أن ينفوا أن يكون اللهُ كلَّم موسى، وأن يكون استوى على العرش، أرى أن يُستتابوا، فإن تابوا وإلا ضربت أعناقهم". وهذه الشدة على أهل البدعة واجبة لكي تحاصَر البدعة، لأن أهل البدع لو تُرك لهم المجال؛ فإن أمرهم سيتفشى، فكان السلف في أشد ما يكون على أهل البدع بمحاصرتهم. قال ابن مهدي بحضرة يحيى القطان وقد جاء ذكر الجهمية، ما كنت لأناكحهم، ولا أصلي خلفهم، ولو أن رجلاً منهم خطب إلى أَمَة لي ما زوجتُه.

موقف ابن مهدي من أهل الهوى والرأي

موقف ابن مهدي من أهل الهوى والرأي وكان يكره الجلوس إلى ذي هوى، أو ذي رأي، قال محمد بن مثنى: رأيت في حِجْر عبد الرحمن بن مهدي كتاباً فيه حديث رجل قد ضرب عليه -شطب على حديثه، كان عبد الرحمن بن مهدي قد كتب له، ثم شطب عليه- فقلت: يا أبا سعيد! لماذا ضربت على حديثه؟ قال: أخبرني يحيى -يعني: يحيى بن سعيد القطان صاحبه- أنه يرى برأي جهم فضربتُ على حديثه. وقال عبد الرحمن بن مهدي: "من قال: القرآنُ مخلوقٌ، فلا تصلِّ خلفه، ولا تمشِ معه في طريق، ولا تناكِحْه". وقال: "من زعم أن القرآن مخلوق استتبته، فإن تاب وإلا ضُرِبَت عنقه؛ لأنه كافرٌ بالقرآن، قال الله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء:164] ". وقال عبد الرحمن بن عمر: سمعت عبد الرحمن بن مهدي قد سئل عن الصلاة خلف أصحاب الأهواء؟ فقال: يُصَلَّى خلفهم ما لم يكن داعيةً إلى بدعةٍ، مجادلاً بها، إلا هذين الصنفين لا يُصَلَّى خلفهم، الجهمية، والرافضة، فإن الجهمية كفارٌ بكتاب الله عز وجل، والرافضة ينتقصون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذكرت عند عبد الرحمن بن مهدي قصة أحد الجهمية أنهم ذكروا عنده أن الله تبارك وتعالى خلق آدم بيده، وهذا حديثٌ صحيحٌ، والله قال في القرآن: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] وأخبر أنه خلق آدم بيده. وعندما سمع هذا الجهمي الكلام؛ قال مستهزئاً: عَجَنَه بيده وحَرَّك بيدَيه العجين. فقال عبد الرحمن لما سمع قصة هذا الجهمي: لو استشارني هذا السلطان في الجهمية لأشرت عليه أن يستتيبهم، فإن تابوا، وإلا ضُرِبَت أعناقهم. وقال له رجل: ما رأيك بمن مشى إليهم يتعلم منهم بعض ما يجيدون من أساليب الكلام؟ قال: لا، مشيك إليهم توقير، وقد جاء في الآثار أن من وقر صاحب بدعة؛ فله كذا وكذا من العذاب، وكذا من الذم الذي جاء في حقه. فهذه الشدة على أهل البدع كانت مطلوبة، ولا شك، لأننا لو نظرنا بعد عبد الرحمن بن مهدي لمَّا قامت المعتزلة ورفعوا رءوسهم، وتولوا الأمور، كانت فتنة الإمام أحمد رحمه الله، وفتنة أهل الحديث التي حصلت في زمن ابن أبي دؤاد لما زين للمأمون القول بخلق القرآن، فحمل المأمون كل القضاة والعلماء وأهل الحديث والأئمة والخطباء بالقوة عليه، حتى وصل الأمر إلى قتل بعضهم وسجنهم وضربهم كما كان المعتصم يفعل، والإمام أحمد رحمه الله مُلْقَىً لصف الجلادين، كل جلاد يضربه سوطين بأقوى ما عنده، ويقول المعتصم للجلاد: شد يدك، قطع الله يدك. فيعتزل، ويأتي الثاني، ويعتزل، ويأتي الثالث وهكذا حتى كان كل جلاد يضرب بأقوى ما عنده. فلا عجب بعد ذلك أن نرى بأن السلف كانوا يعرفون ما يمكن أن تؤدي إليه البدعة إذا استحكمت، ولذلك كانوا شديدين على أهل البدع كما فعل عبد الرحمن رحمه الله وجزاه عن الإسلام خيراً. ذكر له رجل أن المبتدعة عندهم صلاة وصيام أي زيادة على العبادة المشروعة. فقال: لا يقبل الله إلا ما كان على الكتاب والسنة، ثم قرأ قوله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد:27] فلم يقبل ذلك منهم، ووبخهم عليه، يقول ابن مهدي شارحاً الآية: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد:27] قال: فلم يقبل ذلك منهم، مع أنها زيادة عبادة، فذلك غلو، فلم يقبل الله ذلك منهم، ووبخهم عليه، ثم قال: الزم طريق السنة.

مناقشة ابن مهدي لأهل البدع

مناقشة ابن مهدي لأهل البدع وقد حصل لـ عبد الرحمن بن مهدي -رحمه الله- قصة عجيبة تدل على ذكائه وحسن مناقشته وإقناعه، فكان ينظر من المتأثر بالمبتدعة؛ فيكلمه وينصحه في الله، ويقنعه. وهذه القصة يرويها عبد الرحمن بن عمر الملقب بـ رسته، قال: سمعت ابن مهدي يقول لفتىً من ولد الأمير جعفر بن سليمان الهاشمي: مكانك انتظر، لا تذهب، فقعد حتى تفرق الناس. انظر الحكمة! لا يريد أن يوبخه أمام الناس، قال: انتظر، كأنه يقول: أريدك على انفراد. ثم قال له: يا بني! تعرف ما في هذه الكورة من الأهواء والاختلاف؟ والكورة معناها: البلد. فيقول: أتعرف ما يوجد في هذه البلدة من الأهواء والاختلاف والبدع التي خرجت؟ ومن البدع التي كانت موجودة بدعة الجهمية، وبدعة المجسمة الذين يشبهون الله بخلقه؛ كما يُرْوَى عن مقاتل بن سليمان البلخي، قال: هاتوا أي شيء من الإنسان أشبهه لكم بالله -تعالى الله عما يقول علواً كبيراً- ولا أتحرج إلا في اثنتين: اللحية والفرج -تعالى الله عن قوله- هذه بدعة المجسمة الذين يشبهون الله بخلقه، والجهمية ينفون عن الله الصفات، وأهل السنة يثبتون لله الأسماء والصفات، لكن ليست كما للمخلوقين، وإنما على الوجه اللائق به جل وعلا. قال له: يا بني! أتعرف ما في هذه الكورة من الأهواء والاختلاف؟ وكل ذلك يجري منك رضاً إلا أمرك، وما بلغني فإن الأمر لا يزال هيناً ما لم يصل إليكم -يعني: السلطان- فإذا صار إليكم، جل وعظُم. يعني: يقول له: أنت سمعت بالأهواء والبدع التي حصلت في هذه الجهة من البلدان التي أنتم مسئولون عنها وأنت راضٍ ولم تغير، ولم تنكر، والأمر سهل إذا ما وصل إليكم، لكن إذا وصل إليكم، جل وعظُم؛ لأنه إذا وصل إليهم واعتقدوه حملوا الناس عليه كما فعل المأمون والمعتصم والواثق عندما حملوا الناس عليه بالقوة، أو على الأقل إذا ما أنكروه، ولا ردعوا من اعتقده؛ فإن المبتدعة سيتشجعون، وليس هناك سلطان يردعهم، ولذلك قال: فإن الأمر لا يزال هيناً ما لم يصل إليكم، فإذا صار إليكم، جلَّ وعظُم؛ لأنه سيجري تحت علمكم ومعرفتكم، فلا تنكرون، فينتشر، أو تعتقدون، فتحملون الناس عليه. قال: يا أبا سعيد! وما ذاك؟! قال: بلغني أنك تتكلم في الرب وتصفه وتشبِّهُه، وهذا يدل على أن عبد الرحمن بن مهدي -رحمه الله- لم يكن مغفلاً ولا يدري ماذا يحدث حوله، بل كان يعرف البدع ومدى انتشارها، ومن الذي يعتقدوها، فتصل إليه الأخبار، وينصح، ويكلم. قال: بلغني أنك تعتقد مذهب المجسمة المشبِّهة الذين يشبهون الله بخلقه. قال الغلام: نعم يا أبا سعيد، نظرْنا، فلم نر من خلق الله شيئاً أحسن ولا أولى من الإنسان، فأخذ يتكلم في الصفة والقامة. وقولهم: انظرنا! حجة تافهة للمجسِّمة، بأي شيء نشبه الله من مخلوقاته؟ فوجدنا أن أحسن المخلوقات هو الإنسان، فقلنا: إذاً هو يشبه الإنسان. قال له عبد الرحمن: رويدك يا بني حتى نتكلم أولاً في المخلوق، دعنا الآن من الكلام في الخالق، لنتكلم في المخلوق، فإن عجزنا عن المخلوق، فنحن عن الخالق أعجز، تصوَّر الآن وشبِّه هذا الكلام الذي سأقوله لك وجسِّمه وهو في مخلوق، وفسِّر لي كيف يكون، أخبرني عن حديث حدثنيه شعبة، عن الشيباني، عن سعيد بن جبير، عن عبد الله في قوله تعالى: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم:18] أن النبي عليه الصلاة والسلام رأى في الإسراء والمعراج من آيات ربه الكبرى، قال عبد الله بن مسعود يفسر الآية: [رأى جبريلَ له ستمائة جناح] قال: شبِّه هذا؟ جبريل له ستمائة جناح، تتخيل ستمائة جناح كيف هي مركبة؟! أتستطيع أن تشبِّه هذا وتجسِّمه وتتخيَّله؟ فبقي الغلام ينظر محتاراً -فعلاً- كيف يشبِّه ستمائة جناح بشيء من المخلوقين، أو يتخيَّله، أو يأتي بمثال. فقال له عبد الرحمن: يا بني! فإني أهوِّن عليك المسألة، وأضع عنك خمسمائة وسبعاً وتسعين جناحاً، أتنازل لك عنها، هذه لا أريدها منك، وأتنازل لك عنها، صف لي خلقاً بثلاثة أجنحة، وركِّب الجناح الثالث منه موضعاً حتى أعلم، أي: خلق له جناحين كيف يكون؟ مثلِّ وهات مثالاً على خلق له بثلاثة أجنحة، أين يكون الجناح الثالث؟ فبقي الغلام محتاراً بطبيعة الحال، وعلم أنه ضال مخطئ، قال: يا أبا سعيد! قد عجزنا عن صفة المخلوق -فعلاً- ونحن عن صفة الخالق أعجز، فأشهدك أني قد رجعت عن ذلك، وأستغفر الله. وهذا مثال رائع للغاية، كيف كان عبد الرحمن بن مهدي يناقش ويقنع. وكلامه -رحمه الله- في مسائل الاعتقاد كثير: وهذه طائفة منه.

فقه الإمام عبد الرحمن بن مهدي

فقه الإمام عبد الرحمن بن مهدي وأما بالنسبة لفقهه رحمه الله، فإنه بطبيعة الحال لم يكن له مذهب معين، ولكنه كان يذهب مذهب تابعي أهل المدينة، ويقتدي بطريقتهم. يقول الإمام أحمد بن حنبل عن عبد الرحمن بن مهدي: كان يتوسع في الفقه، كان أوسع فيه من يحيى -أي: يحيى بن سعيد القطان - وكان يحيى يميل إلى قول الكوفيين، وكان عبد الرحمن يذهب إلى بعض مذاهب الحديث، وإلى رأي المدنيين. وطريقتهم في ذلك الوقت هي الأخذ بآثار القرآن والسنة، فهم أناس عندهم فهم وعلم باللغة، يأخذون بالقرآن والسنة، ويجمعون الأحاديث، وآثار الصحابة، يفتون بها ويتبعونها، هذا هو المذهب.

دقة عبد الرحمن بن مهدي وإتقانه

دقة عبد الرحمن بن مهدي وإتقانه وكان رحمه الله تعالى متقناً لما يسمع:- قال محمد بن أبي بكر المقدمي: "ما رأيت أحداً أتقن لما سمع، ولما لم يسمع، ولحديث الناس من عبد الرحمن بن مهدي ". وقد بلغ في الإتقان مبلغاً عظيماً جعل يحيى بن سعيد يقول كلمة فيها تواضع، وفيها أيضاً تزكية بالغة لـ عبد الرحمن بن مهدي، يقول يحيى بن سعيد رحمه الله: ما سمع عبد الرحمن من سفيان عن الأعمش أحب إليَّ مما سمعتُ أنا عن الأعمش، أي: عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن الأعمش، أحب إليَّ وأوثق عندي مما سمعتُ أنا عن الأعمش، لشدة ضبط عبد الرحمن، ولشدة ضبط سفيان. وقال علي بن المديني رحمه الله عن عبد الرحمن بن مهدي: كان يعرف حديثه وحديث غيره، وكان يُذكر له الحديث عن الرجل، فيقول: خطأ، ليس هكذا الحديث، ثم يقول: ينبغي أن يكون هذا الشيخ من حديث كذا من وجه كذا، قال: فنجده كما قال، أي: إنه لا يقول فقط: إنه خطأ، لكن يقول: أظن أن الصواب كذا، كما تقدم في قصة عبد الرحمن بن مهدي مع وكيع ويحيى بن سعيد. حيث جعلا حديث سفيان عن أبيه، وعبد الرحمن روى الحديث عن سفيان عن منصور، مع أن يحيى بن سعيد ووكيع كلاهما قد رواه عن سفيان عن أبيه، لكن عبد الرحمن بن مهدي رواه عن سفيان عن منصور، ورجعا إلى قوله. ومن دقته: أنه كان لا يحدث بالمعنى، بل يحدث باللفظة، وهذه المسألة عند المحدثين: هل تجوز الرواية بالمعنى أم لا؟ والذين أجازوها اشترطوا فيها شروطاً؛ منها: 1 - أن يكون عالماً باللفظ. 2 - أن يكون عالماً بما يوحي به المعنى. إلى آخره. وبعضهم قال: لا تجوز الرواية بالمعنى، إنما يرويه كما سمع، إما أن يحفظه فيرويه، أو لا يروي شيئاً. فكان عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله ممن لا يحدث إلا باللفظ، ولا يجيز التحديث بالمعنى.

معرفة ابن مهدي بعلل الحديث

معرفة ابن مهدي بعلل الحديث كان رحمه الله بصيراً في علم العلل؛ حتى قال عنه علي بن المديني: علم عبد الرحمن بن مهدي في الحديث كالسحر. وهو يقول عن نفسه: لئن أعرف علة حديث أحبُّ إليََّ من أن أستفيد عشرة أحاديث. وكذلك قال علي بن المديني: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: خالفني ابن المبارك في حياة سفيان في حديث عن إبراهيم في عدة أم الولد، قال: ليس هو حديث ابن أبي ثابت، ابن المبارك رحمه الله رأى هذا، وقد كان من كبار الحفَّاظ، قال عبد الرحمن: فسألت سفيان عنه، فقال: هو حديث ابن أبي ثابت، فـ سفيان الثوري أكَّد ما حفظه عبد الرحمن.

روايه ابن مهدي عن الثقات

روايه ابن مهدي عن الثقات كان عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله لا يروي إلا عن الثقات، وهو المشهور بالتفتيش عن الضعفاء. وقال عمرو بن علي: سألت عبد الرحمن بن مهدي عن حديث لـ عبد الكريم المعلم؟ فقال: هو عن عبد الكريم. فلما قام سألته فيما بيني وبينه. قال: فأين التقوى؟ يعني: أنه سأل عبد الرحمن بن مهدي عن حديث لـ عبد الكريم المعلم يريد نص الحديث، وعبد الرحمن بن مهدي لم يعطه نص الحديث، قال له: هو عن عبد الكريم، أي: يكفيك أن الحديث الذي تسأل عنه يرويه عبد الكريم هذا، وعبد الرحمن بن مهدي لا يرى أن عبد الكريم المعلم ثقة، وبالتالي لا يروي حديثه. فالطالب جاء في المجلس وسأله عن حديث عبد الكريم المعلم، قال: هو عن عبد الكريم، ولما قام الطالب من الدرس، اختلى بالشيخ، وقال له: حدثني حديث هذا الرجل. قال: فأين التقوى؟ يقول: إذا كانت التقوى قد حجزتني عن الرواية عمن ليس بثقة عندي في العلانية، فلا بد أن تحجزني في السر، كيف أنا ما أجبت عنه علانية، ولا أعطيتك حديثه، ثم في السر أعطي حديثه! لا أعطي حديثه؛ لأن عبد الكريم هذا كان عند عبد الرحمن بن مهدي غير قوي، ولذلك يقول الإمام أحمد رحمه الله: إذا حدَّث عبد الرحمن عن رجل، فهو حجة، يعني: شيوخ عبد الرحمن بن مهدي ثقات، لأنه لا يحدث إلا عن ثقة، وقد سمع من الثقة ومن غير الثقة، ولذلك يطرحون أحاديث كثيرة جداً مع أنهم سمعوها، ويحدثون بأحاديث معينة فقط، ومثل: عبد الرحمن بن مهدي -رحمه الله- لا يحدِّث إلا عن ثقة، وهذه فائدة في المصطلح. وقال علي بن المديني: أعلم الناس بقول فقهاء أهل المدينة السبعة: 1 - الزهري. 2 - ثم بعده مالك. 3 - ثم بعده ابن مهدي.

أقوال مأثورة عن عبد الرحمن بن مهدي

أقوال مأثورة عن عبد الرحمن بن مهدي كان لـ عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله تعالى أقوال قد أُثِرت عنه فيها حكم: فمن أقواله التي أثرت عنه والتي تصلح أن تكون قواعد في العلم والأدب: 1 - قال: معرفة الحديث إلهام. 2 - وقال أيضاً: فتنة الحديث أشد من فتنة المال والولد، كم من رجل يُظَنُّ به الخير قد حَمَلَه الحديث على الكذب شهوة أن يجتمع عليه الناس، وأن يأخذوا عنه، وأن يقال: فلان عن فلان، وأن يدخل في الأسانيد، فإذا لم يكن صاحب حديث، ويريد أن يدخل نفسه في هذه الصنعة بسبب شهوة الحديث ربما يكذب. 3 - ومن أقواله كذلك: يحرم على الرجل أن يفتي إلا في شيء سمعه من ثقة. وهذا فيه تعليم لبعض الناس الذين يتفاءلون بالفتيا، فيقول لك: هذا كذا، فتقول: مَن الذي حدثك به؟ فيقول: لا أدري، سمعته مرة في مجلس لا أدري من الذي قال، ومرة سمعت كذا في ذهني؛ لكن يقول: مُحَرَّمٌ على الرجل أن يفتي إلا في شيء سمعه من ثقة. 4 - وقال عن الولع بالحديث: إن الحديث إذا تمكن من الإنسان، صار مسيطراً عليه، يقول: الغرام في طلب الحديث مثل: لعب الحمام، ونطاح الكباش؛ لأن أهل الحمام يولعون باللعب بها جداً، وتصبح هذه قضيتهم وشغلهم الشاغل، وكذلك الذين يهوون مصارعة ومناطحة الكباش ويجتمعون لها، تكون لهم لذة يعني: الغرام بالحديث، بل هو أشد. 5 - وقال رسته: سألت ابن مهدي عن الرجل يتمنى الموت مخافة الفتنة على دينه. قال: ما أرى بذلك بأساً، لكن لا يتمناه من ضُرٍّ به أو فاقة، تمنى الموتَ أبو بكر وعمر ومن دونهم، فإذا كان يتمنى الموت حتى لا يفتن في دينه، فلا بأس، أما أن يتمنى الموت في ضر نزل به، فلا، لأجل الحديث. 6 - ومن تواضع عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله كما يروي رسته: قام ابن مهدي من المجلس، وتبعه الناس يمشون خلفه فالتفت إليهم يقول لهم: يا قوم، لا تَطَأُنَّ عقِبي، أي: لا تمشوا ورائي، ولا تَمُشُنَّ خلفي، حدثنا أبو الأشهل، عن الحسن، قال عمران: [خفق النعال خلف الأحمق قلَّما يُبقي من دينه] قال: لا تمشوا ورائي، لأن المشي ورائي فتنة لي، وإن خفق النعال خلق الأحمق قلَّما يبقي من دينه، مع أن الرجل من أعقل العقلاء. 7 - ومن أقواله العظيمة التي تنبئ عن التواضع وحب العلم وحب طلبة العلم، يقول: "إذا لقي الرجلُ الرجلَ فوقه في العلم؛ فهو يوم غنيمة" إذا التقيت مع أحد أعلم منك في مجلس فهذا يوم غنيمة لما ستستفيد منه. و"إذا لقي الرجل من هو مثله: دارسه، أي: مدارسة ومذاكرة، كما فعل هو مع وكيع في الحرم من العشاء إلى الفجر، دارسه وتعلم منه. وإذا لقي من هو دونه: تواضع له وعلَّمه". ولا يكون إماماً في العلم من حدَّث بكل ما سمع، وإنما يجب أن ينتقي، ولا يكون إماماً من حدَّث عن كل أحد، ولا مَن يحدث بالشاذ. 8 - ومن أقواله المأثورة: إنما مثل صاحب الحديث بمنزلة السمسار، إذا غاب عن السوق خمسة أيام تغير بصره. يقول: السمسار الذي يتابع الأسعار والأشياء، إذا غاب عن السوق خمسة أيام تغيرت عليه الأسعار والبضائع والأشياء، وإذا دخل يأتي كأنه لا يعرف ولا يدري ماذا يفعل، وخبرته تغيرت. قال: صاحب الحديث بمنزلة السمسار، إذا غاب عن السوق خمسة أيام تغير بصره، فكأنه يقول: لا إجازة ولا عطلة من طلب العلم، لا بد كل يوم أن يطلب العلم، إذا غاب صاحب الحديث عن الحديث خمسة أيام، تغير، فكما أن السمسار يحتاج إلى متابعة الأسعار باستمرار؛ كذلك صاحب الحديث يحتاج إلى متابعة الحديث باستمرار. 9 - وقال ابن مهدي: لا ينبغي لمصنفٍ أن يصنف شيئاً من أبواب العلم إلا ويلتجئ بحديث: (إنما الأعمال بالنيات). 10 - وقال: يحرم على الرجل أن يروي حديثاً في أمر الدين حتى يتقنه ويحفظه كالآية من القرآن، أو كاسم الرجل، أو كما يحفظ اسمه، يحفظ الحديث ويرويه، وإلا لا يرويه. 11 - وقال: "الرجل إلى العلم أحوج منه إلى الأكل والشرب". 12 - وقال: لا نعرف كتاباً في الإسلام بعد كتاب الله أصح من موطأ مالك، ولم يقل: صحيح البخاري مع أن البخاري أنفع من موطأ مالك وأصح؛ لأن البخاري ما جاء إلا بعد ابن مهدي، فـ البخاري تلميذ علي بن المديني، وعلي بن المديني تلميذ عبد الرحمن بن مهدي، فـ عبد الرحمن بن مهدي لم يرَ البخاري. 13 - وقال أيضاً: لا يجوز أن يكون الرجل إماماً حتى يعلم ما يصح مما لم يصح، وحتى يعلم بمخارج العلم، وحتى لا يحتج بكل شيء، بل يحتج بأشياء معينة. فإذاً الذي ليس عنده تمييز الصحيح من السقيم، هذا لا يصلح أن يكون عالماً. 14 - وقال: أئمة الناس في زمانهم: 1 - سفيان بـ الكوفة. 2 - حماد بن زيد بـ البصرة. 3 - مالك بـ الحجاز. 4 - الأوزاعي بـ الشام. 15 - وقال: ما خصلة تكون في المؤمن بعد الكفر بالله أشد من الكذب وهو أشد النفاق. 16 - وقال: لولا أني أكره أن يُعصى الله تعالى؛ لتمنيت ألَّا يبقى أحد في المصر إلا اغتابني، أي شيء أحسن من أنك تأتي يوم القيامة تجد حسنات في صحيفتك مأخوذة من الذي اغتابك وأنت لم تتعب عليها، ولا عملتها؟! ومما قالو عن حفظه أيضاً: ما قاله محمد بن يحيى الذهلي: ما رأيت في يد عبد الرحمن بن مهدي كتاباً قط، كله من حفظه.

تربية ابن مهدي لأهله وأولاده

تربية ابن مهدي لأهله وأولاده أما متابعته لأهله وأولاده في صلاة الجماعة، وهذه قضية مهمة، لأن بعض الناس ربما يهملون أهاليهم وأولادهم بحجة طلب العلم، أو بحجة الشغل، أو بحجة بعض الطاعات. قال رسته: سألت ابن مهدي عن الرجل يبني بأهله؛ فيترك الجماعة أياماً، هل العرس عذر في ترك صلاة الجماعة؟ مثلاً: بعض الناس إذا كان عرسه الليلة؛ لا تراه يصلي الفجر في المسجد، هذه مفروغ منها، فشاع عند بعض الناس أن الذي أعْرَس -الذي يبني بامرأة- يُعذر عن صلاة الجماعة، أسبوع، أو ثلاثة أيام. قال رسته: سألت ابن مهدي عن رجل يبني بأهله يترك الجماعة أياماً. قال: لا. ولا صلاةً واحدةً. وهاك قصة تبين حرص الرجل على أولاده ومتابعته لهم: قال رسته: وحضرتُ ابن مهدي صبيحة بَنَى على ابنيه -يعني: زوج ابنيه- فخرج فأذن الفجر، ثم مشى إلى بابهما -باب بيت كل واحد- والجواري والخدم موجودون، قال للجارية: قولي لهما يخرجان إلى الصلاة. فخرجن النساء والجواري من البيت، فقلن: سبحان الله! أيُّ شيء هذا؟! كأنهن يقلن: ما هذا التشديد؟! فقال: لا أبرح حتى يخرجا إلى الصلاة، أنا جالس. فخرجا بعدما صلى، تأخرا في الخروج، فبعث بهما إلى مسجد خارج من الدير، أي: بعيداً عن البيت. قال: اذهبا إلى ذلك المسجد. وقال رسته: وكان عبد الرحمن يحج كل عام، فمات أبوه وأوصى إليه، فأقام على أيتامه، فسمعتُه يقول: ابتليت بهؤلاء الأيتام، فاستقرضت من يحيى بن سعيد أربعمائة دينار احتجت إليها في مصلحة أرضهم. فكان الرجل حريص على أولاده، وحريص على الأيتام الذين هم عنده، ما كان مضيعاً كما يفعل بعض الناس إذا طلب شيئاً من العلم، ضيع الأهل والأولاد، وضيع مَن عنده، علماً بأنهم كانوا -ولا شك- ليسوا مع أولادهم كل الوقت؛ لأنهم احتاجوا إلى أشياء من الوقت كثيرة. قال ابن مهدي: لزمت مالكاً حتى ملَّني، فقلت يوماً: قد غبتُ عن أهلي هذه الغيبة الطويلة، ولا أعلم ما حدث لهم بعدي. قال: يا بني! وأنا بالقرب من أهلي ولا أدري ما حدث بهم منذ خرجت. فمع تضحيتهم بالأسفار والتغيب، لكنهم ما كانوا مهملين في المتابعة، فإذا حضر عند أهله تابعهم، وأمرهم بالصلاة، {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه:132]. وكانوا عند حماد بن زيد، فسئل عن مسألة، فقال: أين ابن مهدي؟ مَن لهذا إلا ابن مهدي؟ قال: فأقبل عبد الرحمن، فسأله عن ذلك، فأجاب، فلما قام من عنده، قال: هذا سيد البصرة منذ ثلاثين سنة. هذا من ثناء حماد رحمه الله وهو شيخه عليه.

محاربة ابن مهدي للغلو

محاربة ابن مهدي للغلو ومن محاربته للغلو أنه كان هناك قوم من الخوارج يقال لهم: الشمرية، أتباع أحد رءوس الخوارج يكنَّى: بـ أبي شمر، فسئل عبد الرحمن بن مهدي عن الشمرية، فقال: ما أخبث قولهم، يزعمون لو أن رجلاً اشترى ثوباً وفيه درهم من حرام؛ لا تقبل له صلاة، ولو أن رجلاً تزوج امرأةً في مهرها درهمٌ من حرام؛ لا تحل له، وكان وطؤها حراماً. ويقولون: لو أن رجلاً ذبح شاةً بسكين لرجل لم يأمر به، أو كان ثمنه من حرام؛ كانت ميتة، وما رأيت قولاً أخبث من قولهم، فنسأل الله تعالى السلامة والعافية. وكان عبد الرحمن بن مهدي ضد أهل الرأي، لأنه من أهل الأثر، وأهل الرأي كانوا لا يعتمدون على الآثار، والآثار مهمة جداً؛ فهي أقوال الصحابة، والتابعين؛ وهم أفقه الأمة، فكانوا يُعْمِلون القياس، أهل الأثر كـ عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله يرون كيف يُعْمَل القياس الآن وعندنا نصوص، لكن أولئك قوم أعجبوا بعقلياتهم، فانتهوا بذلك عن الأثر، وجلسوا يفرعون المسائل ويقيسون، وأهملوا الأخذ بالآثار، ولا شك أن الناس تفاوتوا في هذا، فمنهم من كان يأخذ بقليل من الرأي مع كثير من الأثر، ومنهم من كان يأخذ بكثير من الرأي مع قليل من الأثر، ومن الذين كان اهتمامهم بالرأي أكثر من اهتمامهم بالأثر: أبو حنيفة رحمه الله، وليس هذا نقيصة في الرجل؛ لكن هذا هو الواقع، لأن أبا حنيفة رحمه الله لم يكن جَمَّاعاً للأحاديث مشتغلاً بالرحلة والجمع، لكنه كان صاحب ذهن وقاد، وكان أحمد رحمه الله صاحب حديث، والأصوب هو الاعتماد على أقوال الصحابة. ولذلك كان عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله لا يعجبه اتجاه أبي حنيفة مطلقاً في قضية اتباع الرأي؛ لأن الآثار موجودة، وكان يخشى أن تفتح باباً لا يُسَد في تقديم الرأي على الأثر في النهاية، أو إهمال الآثار، والأخذ بهذه الأَقْيِسَة والأشياء العقلية، ولذلك قال عبد الرحمن بن عمر: شهدت عبد الرحمن بن مهدي وقد أراد أن يشتري وصيفةً له من رجل من أهل بغداد، فلما قام عنه، أُخْبِر أنه وضع كتباً من الرأي وابتدع ذلك، فجعل يقول: نعوذ بالله من شره، وكان من قبل إذا أتاه قربه وأدناه، ولكنه لما سمع عنه أنه يكتب في الرأي، ويبتعد عن الأثر، فلما جاءه، رأيته دخل وعبد الرحمن مريض، فسلم، فلم يرد عليه فقعد، فقال له عبد الرحمن: يا هذا، ما شيء بلغني عنك؟ إنك ابتدعت كتباً، أو وضعت كتباً من الرأي، فأراد الرجل الآخر أن يتقرب إليه بسوء رأيه في أبي حنيفة. فقال: يا أبا سعيد! إنَّما وضعت كتباً رداً على أبي حنيفة، أي: الرجل الذي لا يعجبك منهجه أنت، أنا وضعت كتباً في الرد عليه. فقال له: ترد على أبي حنيفة بآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم وآثار الصالحين؟! فقال: لا، أرد الرأي بالرأي. فقال: إنما ترد على أبي حنيفة بآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم وآثار الصالحين، فأما ما قلتَ فرد الباطل بالباطل، اخرج من داري. فالرجل أراد أن يدافع عن نفسه، فقال له: مُحَرَّمٌ عليك أن تتكلم أو تتمكن في داري. فقام وخرج. تنبيه: قال الكوثري، مجنون أبي حنيفة عن عبد الرحمن بن مهدي: كان زلق اللسان، ليس عنده اتزان، لا يعرف أبا حنيفة، سيء الصلاة، فبعد ذلك كونهم يقرءون بعض الكتب، ينتبهون من التعليقات؛ لأن بعض التعليقات ربما تكون سُمَّاً، كما علق الكوثري على هذا، واتهم عبد الرحمن بن مهدي بأنه يسيء الصلاة. وقيل لـ عبد الرحمن بن مهدي: إن فلاناً قد صنف كتاباً في السنة رداً على فلان. فقال عبد الرحمن: رداً بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؟ قيل: لا، بكلام. قال: رد باطلاً بباطل، ما فعل شيئاً.

وفاة عبد الرحمن بن مهدي

وفاة عبد الرحمن بن مهدي توفي عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله بعد حياة حافلة بالعلم والعبادة في جمادى الآخرة، سنة (198هـ)، وكان له من العمر (63) سنة. رحمه الله رحمة واسعة، وأثابه خيراً جزيلاً وأجراً عظيماً على ما نافح عن دينه، وأبان من الحق، ونقل من السنة. فالله يرفع درجته، ويغفر ذنبه، ويلحقه بالرفيق الأعلى. ونسأله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بعلم ذلك الرجل وما روى. والله أعلم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

الانهيار الأسري [1]

الانهيار الأُسري [1] من المعلوم أن المجتمع يقوم على الأسرة؛ لذا اهتم الإسلام بالأسرة من جميع الجوانب؛ لكي ينشئ مجتمعاً سليماً، وحذر أيضاً من انهيار هذه الأسرة التي بها ينهار المجتمع، فالأسرة أمانة في عنق كل من استرعاه الله رعية، ولو لم نعد عودة صادقة إلى الاعتناء بالأسر والبيوت؛ فإنه يخشى أن نصل إلى ما وصل إليه الغرب الكافر في مجتمعه من تفكك وتناحر بين أفراد أسرته فضلاً عن مجتمعه.

اهتمام الإسلام بالبناء الأسري

اهتمام الإسلام بالبناء الأسري إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له وليً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار. أيها المسلمون: لقد امتن الله سبحانه وتعالى على عباده بنعمٍ كثيرةٍ لا تحصى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [النحل:18] والله يعلم أن حياة المجتمع لا تقوم إلا بالأسر التي تتكون على طاعة الله وتنشأ كما أمر الله، فامتنَّ الله علينا بمقومات الأسرة، وأنشأها لنا وجعلها قائمة، وأمرنا بسياستها حسب الشريعة، وقال الله سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21]. انظر كيف يجعل الله الأسرة قائمة، وكيف يُكون الله الأسرة بأن جعل للرجال من أنفسهم أزواجاً، كما خلق حواء من ضلع آدم: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21] هذا هو السكن النفسي، ولكن الأسرة تحتاج إلى سكنٍ ماديٍ كذلك، فقال الله عز وجل: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً} [النحل:80] هذه نعمة الزوجة: السكن النفسي. ثم أعطانا البيوت: السكن الجسدي والمادي، فأنشئت الأسر وقامت. ثم أمرنا الله أن نسوس الأسر بالشريعة، وجعل لنا في شرائعه وأحكامه ما يسعد الأسرة، ويسبب تماسكها وقيامها على المبنى الشرعي الذي أراده الله؛ ليكون المجتمع في النهاية مجتمعاً صالحاً مجاهداً في سبيل الله، فيعم الإسلام في الأرض، ولما ضيعنا الأسر، فسدت المجتمعات فتخلف المسلمون، ولما فقدنا مقومات الأسرة المسلمة؛ عمَّ الشقاء والنكد؛ وأصبحت الحياة جحيماً لا يطاق.

مثال لأسرة تحيا حياة إسلامية

مثال لأسرة تحيا حياة إسلامية الأسرة محضن تربية، ومشاعر حبٍ وحنانٍ، وهي رحمة وتكافل، ولكننا أيها الإخوة: إذا نظرنا اليوم إلى حال الأسر، لوجدنا كثيراً من الأسر تعيش في تعاسةٍ وشقاء؛ للابتعاد عن الشريعة وتضييع الأحكام، وسنضرب الأمثلة على ذلك مع ذكر بعض الأسباب التي تؤدي وأدت إلى تفكك الأسر وتمزقها، ولكننا لابد أن نضرب مثالاً في البداية من حال الأسر الإسلامية السعيدة، التي قامت على المنهج الإلهي، قال الله سبحانه: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [الأنبياء:89] التجأ إلى الله بالدعاء، كما قال الله في مطلع سورة مريم: {كهيعص * ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} [مريم:1 - 2] هذا ذكر الله لرحمة عبده زكريا، وهذه هي القصة: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً} [مريم:3] للإخلاص الذي عنده ناداه نداءً خفياً، فقال: {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً} [مريم:4]. رق عظمي، والعظم هو المكون الأساسي للجسد، فإذا وهن العظم وضعف، فمعنى ذلك أن الجسد كله يضعف {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً} [مريم:4] أي: انتشر الشيب في شعر الرأس: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً} [مريم:4] لقد عوضتني يا رب عن الإجابة، فما كنتُ شقياً في دعوتك، أسألك بهذا: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي} [مريم:5] أي: ومن سأتركهم من روائي بعد موتي لا يصلحون لإقامة الدين ولا للدعوة {وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً} [مريم:5] أي: لا تلد، فإذاً يطلب: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} [مريم:5 - 6] ليس وراثة المال، لكن وراثة النبوة {وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً} [مريم:6] أي: ترضى عنه، فبشره الله ثم بشرتهم الملائكة بولدٍ سماه الله -ولم يسمه لا أبوه ولا أمه- باسمٍ لم يسم به أحدٍ من الناس قبل، سماه: يحيى {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:89 - 90]. هذه الأسرة المسلمة، التقية النقية، الطائعة لله، هذا الأب النبي، وهذا الولد النبي، وهذه الزوجة الصالحة -أصلحنا له زوجه- كيف كانوا يفعلون؟ {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [الأنبياء:90] الأسرة كلها تتجه إلى العبادة، وإلى المسارعة في مرضات الله: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً} [الأنبياء:90] في حال الشدة والرخاء يتوجهون إلينا بالعبادة: {وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90] فلم يكونوا منصرفين عن العبادة إلى هذه الدنيا فقط، وإنما كانوا يعبدون الله سبحانه وتعالى، هكذا كانت الأسر، وتخيل أسرة فيها داود الأب وسليمان الابن عليهما السلام، كيف يكون حالها؟

أسباب الانهيار الأسري

أسباب الانهيار الأسري أخي المسلم: تعال معي لننظر في حال هذه الأسر التعيسة والشقية المبثوثة في مجتمعات المسلمين اليوم، هناك خطرٌ داهم يتهدد مجتمعنا ألا وهو: التمزق الأسري، فتفكك الأسرة صار علامةً بارزة من علامات المجتمع، وسمة من سماته، وهذه نتيجة طبيعية للابتعاد عن الشريعة وترك الدين. كثيرٌ من الأسر متفككة من الداخل، وإن بدا لك من الخارج أن بيتاً يضمهم، لكن كل واحدٍ منهم يعيش في عالمه الخاص، كل واحدٍ منهم له همومه الخاصة، ومشاغله ومشكلاته التي لا يشارك فيها أحداً، لا يشعر بالتزام نحو الآخرين، ولا أنه ملزمٌ بشيء تجاه أحد، هذا لا يكلم هذا وهما في بيتٍ واحد، والأب ينام في غرفة والأم تنام في غرفة، هذا مثال بسيط، لكن الأمثلة على تحطم الأسر وانهيارها في المجتمع كثيرة، ولهذا أسباب:

السبب الأول: تضييع من يعول

السبب الأول: تضييع من يعول من أسباب تفكك الأسر: ما قاله صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت). كثيرٌ من الأولياء مضيعون لأولادهم، مضيعون لبيوتهم، لا يقومون بالحق الذي عليهم؛ تراه إذا تزوج بأخرى، وكان عنده أولاد من الأولى، أدخلت الثانية في ذهنه أن أولاده يريدون التفريق بينه وبينها -سوء ظن- وأنهم سيضعون له سحراً، ثم اتهمهم هو بأنهم يريدون أن يضعوا له السم، ثم طلق الأولى، وطرد الأولاد الذكور. ثم قالت له الثانية: إما أنا أو ابنتك في هذا البيت، أخرج البنت؟ فإذا به أخرجها ورماها في بيت أختها المتزوجة، فإذا بالأخت الأخرى تجد حرجاً عظيماً، كيف تعيش في بيتٍ وهي غريبة وزوج أختها موجود؟! لكن لا مأوى لها في الواقع، وهكذا يعيش سائر أولاد هذا الأب الذي طردهم من البيت ولم يلتفت إليهم، منهم من يعيش عند جدته، ومنهم من يعيش عند أخواله، وهذه ابنته تعيش عند أختها المتزوجة، والأم تسأل البنت: أين إخوتك الذكور؟ فتقول: لا أدري طردهم أبي منذُ زمنٍ بعيد، ولا أدري أين همُ الآن، لسان حال الأم: أسأل مَنْ وأنا امرأةٌ ضعيفة؟! وهذا أخذه أهل السوء وقرناء أهل السوء فأشغلوه بالملذات، وينفق راتبه على السفريات والمحرمات. ورجل رمى المرأة وأولادها ولا يأتي إلى البيت إلا نادراً، والأولاد فيهم معوقون وضعفة، والمدارس ستفتح، والبنات يحتجن إلى مصاريف وهو متغيب، والإيجار طاف عليه تسعة أشهر وصاحب البيت يشتكي، والمرأة ضعيفة لوحدها في البيت، وهو يطرق الباب يريد الإيجار، وأهل الخير يعطون الزوجة المساعدات، والزوج المجرم يأتي كل شهر مرة يفتح فيها حقيبة زوجته ويأخذ ما بها من التبرعات ثم يذهب ولا يدخل البيت إلا دقائق في الشهر ولا يسأل عن أولاده: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول).

السبب الثاني: كثرة الطلاق

السبب الثاني: كثرة الطلاق من أسباب انهيار الأسر: التسرع في الطلاق، وكثرة الطلاق. ولو قلنا: إن الطلاق اليوم من الأمور المنتشرة لما كنا كاذبين، واسأل المحاكم وسجلاتها عن حالات الطلاق التي تحدث لأتفه الأسباب. إن هذه الماديات هي التي فرقت بين الزوجين، وهذه المشكلات التافهة، والشجار البغيض سببه أن الأب لم يتربَّ على الإسلام، ولا الأم نشأت على الإسلام كما ينبغي، ولذلك نجد الشجار، والطلاق لأتفه الأسباب، والنتيجة: انهيار الأسر وتشرد الأولاد، فهم إما مع الأب أو مع الأم، فلا يرون أباهم أو لا يرون أمهم، أو هم متوزعون بينهما، وهذا يؤجج البعض على البعض الآخر وهكذا!! طلق أمها وعمرها شهرين، والآن البنت عمرها ثمانية وعشرين سنة لم ترهُ إلا مرةً واحدة في زيارةٍ عابرة، لا سأل عنها ولا أنفق عليها، ثم يتقدم الخطاب وهو يتعنت في رفضهم!! وآخر طلق زوجته ومعها ولد، مكث أربع سنوات لا يسأل عن الولد ولا يراه، وأصيبت الأم بمرض وماتت ولم يأت حتى للعزاء، ولا جاء حتى يسأل عن الولد إلى هذه الساعة، وماذا نملك له إذا نزع الله الرحمة من قلبه. قبل أن تطلق فكر بالأولاد، ماذا ستفعل معهم غداً؟ هل ستزورهم لتطمئن عليهم، أم ستنشغل بترتيب وضعك الجديد، وبعد ذلك لن تر الأولاد وسيضيعون، وإذا جئت تسأل عنهم يطالبك طفلك الصغير أن تدخل على أمه ويقول: لماذا تقاطع أمي؟!

السبب الثالث: فشو المخدرات في المجتمع

السبب الثالث: فشو المخدرات في المجتمع من أسباب التمزق الأسري وتحطم الأسر: فشو المخدرات في المجتمع، هذا الداء الوبيل والمرض الخطير الذي يلتهم شبابنا كل يوم، ويحطم الأجساد، هذه المخدرات التي روجها الأعداء، وعندنا شبابٌ لم يتربوا على الإسلام، ولا نشأوا على الإسلام، فماذا تتوقع أن يفعلوا إذا أعطوا هذه الحبوب وهذه المخدرات؟ ثم البطالة الموجودة عندهم التي تدفعهم إلى الاتجار بالمخدرات للحصول على الأموال، ثم هذه النشوة واللذة الموهومة التي يحسون بها، ويريدون أن يغيبوا عن الواقع، من كثرة المشاكل الأسرية والظلم الموجودان في الواقع. ثم أن الآباء لا ينتبهون من يمشي مع أولادهم من قرناء السوء الذين يغشون البيت يومياً -وهم مصدر المخدرات- لكن الذي لا يخاف الله على أولاده هل سينتبه لمثل هذا؟! فتفتك المخدرات بهؤلاء الشباب، ثم تصل إلى الصغار، وقد وصلت إلى الكبار قبل ذلك، ومنهم أناسٌ متزوجون وعندهم أولاد ويتعاطون المخدرات، وينفقون الرواتب على المخدرات، وتبقى الأسرة بلا نفقة؛ لأن الأموال قد أنفقت على المخدرات! ومن ثَمَّ يفقد وظيفته وكل شيء. ويا إخواني! لا يوجد حلٌ لمشكلة المخدرات أبداً إلا الدين، فهؤلاء الكفرة حاولوا قبلنا كثيراً جداً، سنوا الأنظمة، ووضعوا القوانين، وخوفوا وهددوا، وطاردوا وفعلوا، وعندهم أجهزةٌ أمنية رهيبة، وأشياء متخصصة لمكافحة المخدرات، لكن لا فائدة، فلا يحل قضية المخدرات إلا العودة إلى الدين، وجربوا ما شئتم! هذا بيتٌ فيه بناتٌ مستضعفات، وأولادٌ سكارى يتعاطون المخدرات، والبنات يغلقن على أنفسهن بالليل الغرف ولا يخرجن إلا بعد النظر من ثقب الباب، أو من أسفل الباب؛ ذلك لأنهن يخشين خشيةً حقيقية مدعومة بالشواهد والسوابق من هذا العربيد الذي لا شعور له، وهذا الذي يتحول وحشاً كاسراً بعد تعاطيه لهذه المخدرات! رجل عنده بنتان وولد، عمره ثلاثون عاماً، يستعمل المخدرات من خمس سنين، ضاعت الوظيفة، وضاعت النفقة، وتهدمت الأسرة، وصبرت الأم واحتسبت حتى مات الزوج، ثم قامت توفي ديونه مما تجمعه من أقربائها، حتى جمعت مبلغاً من المال وحجت عنه، هل يستحق هذا الزوج كل هذا الوفاء؟!

السبب الرابع: فقدان العاطفة في المنزل

السبب الرابع: فقدان العاطفة في المنزل من أسباب انهيار الأسر: فقدان العاطفة، فلا يوجد حنان ولا مشاعر صادقة في البيت، لا عطف من الأب ولا حياء من الأم، الأب يأتي من الوظيفة يأكل ويشرب وينام، وعنده (شلة) السهرة، والأم موضات ومواعيد وأزياء وسهرات، ولا وقت لديها لإلقاء النظرة على أطفالها؛ لأنها وكلتهم إلى الخادمة، أما اللاتي يشتغلن ويعملن فالعمل يرهقها، والمرأة ضعيفة، ومشاكل العمل تؤثر في تلك النفسية العاطفية المرهفة الحساسة، فهي منشغلة في مشكلات العمل ولا تجد وقتاً حتى لإلقاء نظرة على الطفل قبل أن تغادر البيت، بل صرحت بعض الأمهات أنهن قد مللن من الأولاد، ومللن من الأبناء، ولا قدرة لها على أن تنظر في حالهم، والأب يقول: الأولاد لا ينقصهم شيء: أكلهم أحسن أكل، وشرابهم أحسن الشراب، ونشتري لهم أحسن الملابس، وأفخر أدوات المدرسة، وأحدث ألعاب الكمبيوتر. لكن يا أيها المسكين! يا أيها الأب المغفل! ينقصهم شيء واحد: حنان عاطفة صلة أبوية تربية، هذا الذي ينقصهم، أنت تنفق على الجسد، أنت تغذيه بالطعام وتكسوه بالثياب وتعطيهم الألعاب، لكنك ما أعطيتهم شيئاً مهماً يحتاجون إليه، ما أعطيتهم عطفاً ولا حناناً، ولا جلست معهم ولا قعدت بينهم، ليس المهم أن تشتري الألعاب وترميها إليهم، لكن لاعبهم أنت، ليشعروا أن هناك أباً موجوداً في البيت، تابعهم أنتَ ليلمسوا شخصيتك بينهم، قال الله عن يحيى: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً} [مريم:12] النبوة والعلم، وماذا آتيناه أيضاً: {وَحَنَاناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيّاً} [مريم:13]. إذاً: من منة الله على يحيى أنه آتاه حناناً، بل وحناناً من لدنا، وحنانا: أي عطفاً وشفقة ورحمة في قلبه، وكان تقياً، هذا الحنان الذي جعله كما قال الله: {وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيّاً} [مريم:14].

السبب الخامس: انتشار السحر

السبب الخامس: انتشار السحر ومن أسباب التفكك الأسري: انتشار السحر والتعامل به حتى راج وعمَّ، وكثر السحرة في البلد، وكثر السفر إلى خارج البلد لجلب السحر، وهذا ينتقم من هذا، وهذا يحسد هذا فيريد أن يعمل له سحراً وهكذا، وإذا انحصر التوحيد فشا الشرك. وأنواعه وهو مضاد للتوحيد، والسحر له حقيقة ومفعول، قال الله: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:102] ولا يضر والله الذي لا إله إلا هو! وليس له مفعول إلا إذا أذن الله: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ} [البقرة:102] وتعاطاه وعمل به {مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة:102]. ولو ضبط الساحر متلبساً بالسحر يقتل حداً، بل الساحر كافر: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة:102] والناس في السحر حيارى مساكين، يظنون أن السحر قاتلهم؛ لعدم وجود عقيدة صحيحة تجلب التوكل على الله: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3] والتوكل يمنع مفعول السحر، أما إذا وجدت نفوس ضعيفة خاوية على عروشها، لا إيمان ولا طاعة ولا عبادة، وإنما ملذات وشهوات، فهؤلاء سيتضررون بالسحر. وما الذي يمنع من السحر، ومن الذي يعطل مفعول السحر إذا لم يوجد إيمان ولا دين، ولا توكل على الله، ولا صحة عقيدة، ولا يوجد محافظة على الأذكار الشرعية؛ مثل أذكار الصباح والمساء، وقبل النوم وبعد الصلوات: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1] و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ثلاث مرات؛ لكنها مهجورة، لا تقال بعد الصلوات ولا قبل النوم، ولا في الصباح والمساء والمعوذات لا يوجد أفضل منها مطلقاً لعلاج السحر ولا لمنعه. وكذلك لا يوجد حذر من إدخال المشبوهين إلى المنزل، بل يدخل أهل السوء والشر البيت -في الضيوف أو في الداخلين- فيدخل من يضع سحراً ونحو ذلك. أخي المسلم: أدخل أهل الدين، واترك أهل الفسق، وراقب بيتك. ثم بعد ذلك يقولون: نريد الذهاب للساحر لفك السحر، والذهاب إلى الساحر لا يجوز، ولو قال لك: جربنا ونفعنا، فنقول: سلامة العقيدة والدين أهم من سلامة الأبدان، توكل على الله، وارقِ نفسك بالأذكار الشرعية والمعوذات، ثم بعد ذلك تجد الحل إن شاء الله. سحر الرسول عليه الصلاة والسلام يهودي، ففك أسره بالمعوذات، والذي فك سحره وحي من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، ففك السحر بإذن الله، وببركة هذا القرآن العظيم الذي تقرأه النفوس الصادقة فيقع في الموقع الصحيح فيؤثر وينفع. اللهم إنا نسألك أن تجعلنا ممن يقيمون حدودك في بيوتهم، اللهم اجعلنا ممن يؤسسون أنفسهم على الإسلام، ويربون أبناءهم على الإسلام، ويقيمون بيوتهم على الإسلام، نستغفرك ونتوب إليك، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

السبب السادس: وجود الفيديو والتلفزيون

السبب السادس: وجود الفيديو والتلفزيون الحمد لله الواحد القهار، مالك الملك الكبير المتعال، لا إله إلا هو يفعل ما يشاء وهو الجبار، خلق فسوى، وقدر فهدى، وصلى الله وسلم على نبينا محمد البشير النذير، والرحمة المهداة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين. أيها المسلمون: من أسباب التفكك الأسري: وجود الفيديو والتلفزيون في البيوت بما يعرضه من السموم والأفلام والخلاعة والمجون، والأمثلة الحية لتعليم الفسق لأبناء العائلة من الذكور والإناث، والآباء والأمهات، ويتصور بعض الناس أن اجتماع العائلة على التلفزيون يقرب العائلة، ويجعل بعضها مجتمعٌ إلى بعض، ولعلهم أخذوا هذا التصور من بداية دخول التلفزيون بأعداد قليلة، وكان البيت الذي كان عنده تلفزيون في القرية يأتي الأقرباء والأصدقاء والجيران ويجتمعون عليه، ويسلم بعضهم على بعض عند الدخول والمغادرة، فيتوهمون أن التلفزيون قد جمعهم، لكن الآن زال هذا الكلام، في بعض البيوت كل غرفة يوجد فيها تلفزيون، وعدّ لي بالله عليك عدد الهوائيات الموجودة فوق المنازل، وأنا فقط أريد إلقاء نظرة على الهوائيات الموجودة فوق المنازل، فأنا أعدد وأغلط في العد، واعدد ما شئت من قرون الشياطين الموجودة. لقد تبين بالدراسة أن التلفزيون والفيديو يمنعان الإنسان من الاستمتاع بما حوله من العلاقات الاجتماعية والقراءة والتثقيف، بل يساعدان على العزلة، ويقللان من غرس التفاهم بين الأزواج، كما يشغلان الطلاب عن المذاكرة، فالفيديو والتلفزيون لا يساعدان على تقوية الأواصر في الأسرة الواحدة، ولا يوجد تفاعل بين أعضاء الأسرة المجتمعين حول هذا الجهاز، لأنهم قد يشاهدون كأجساد متجاورة، لكن الحقيقة أن أذهانهم منفصلة تماماً ونفوسهم منعزلة، والجلوس أمام الجهاز لا يشجع على المحادثات الجماعية المتبادلة بين أفراد الأسرة كما ينبغي أن تكون، ولو قام الواحد بتعليق لأسكته الآخرون لمتابعة الفيلم. وقد وجد بالدراسة أن الأطفال لا يقضون وقتاً طويلاً مع بعضهم البعض بعد دخول جهاز التلفزيون إلى البيت. هذا بالإضافة إلى ما ذكرنا مما يتسرب منه من ألوان الفساد إلى الأسرة، وهذا موضوع طويل يحتاج إلى بصر، لكنني أرشد إلى مرجعٍ مهمٍ جداً في هذا وهو كتاب الأسرة المسلمة أمام الفيديو والتلفزيون للمؤلف مروان كجك، هذا الكتاب في غاية الأهمية، يجب على كل واحدٍ أن يقرأه حتى يعلم أضرار هذا الجهاز.

مشكلة سوء تربية الأبناء

مشكلة سوء تربية الأبناء ثم ننتقل معكم إلى قضيةٍ أخرى في مسألة انفكاك الأسر وانفراط عقدها وانهيار بنيانها، ألا وهو: سوء تربية الأولاد، وانعدام التربية بالكلية، أو قلتها قلة شديدة جداً. بنت لوحدها في البيت ليس عندها أخوات تجلس عند الهاتف، وأبوها وأمها من الكبار، يتصل بها الثعبان والذئب اللئيم؛ لينساب كلامه عذباً عبر الأسلاك ليدخل إلى ذلك الذهن الخالي من الإيمان، والقلب المريض؛ لكي تصبح الشبكة قوية، وترجع من المدرسة لا تخلع (مريولها) لتجلس عند الهاتف لتنتظر المكالمة، والطائش يمدحها بألفاظ ويطيرها في السماء -وهي تنخدع بهم- ويعدها بالزواج وأنه سيفعل ويفعل وفي النهاية يقول: أعطني نسخة من مفتاح البيت، وإذا غادر أهلك خارج البيت أبلغيني، وبعد ذلك تقع الفاحشة، ويحدث المكروه، وتقوم المصيبة، وتفقد البنت أشرف ما تملك، وأعز ما لديها في نفسها وجسدها، ثم يطرق الخطاب الباب، فماذا تقول لهم؟! ويتصل الخاطب مرةً أخرى ليطالب ويطالب، ولو تابت تبقى الحسرة في نفسها، والسبب: انعدام الرقابة، وغياب التربية، وضياع الأولاد، لأنه لا يوجد متابعة من الآباء والأمهات. بنتٌ عمرها سبعة عشر عاماً وقعت في حب الموسيقى والأغاني الغربية والأجنبية، ثم استدلت بواسطة المجلات التي تصل إلى البيت على جهةٍ أجنبية لها عنوان بريد، ثم أصبحت تراسل الجهة وتتصل، وتقول: أتمنى أن أهرب من البلد وأن ألتحق بديانتكم، وأعيش معكم، وعندي بعض العوائق المادية، لكن سآخذ من ذهب أمي وأدبر المبلغ وأهرب من البيت، سئمت أهلي وأبي وأمي، أرجو أن تساعدوني في الهروب وتستقبلوني مئات المكالمات وتأتي الفاتورة. مراهق عمره ثلاثة عشر عاماً فقط، يسرق من محلات (السوبر ماركت) -ولا صلاة بطبيعة الحال- ونسي ما كان قد حفظه في حلقة التحفيظ التي دخلها، ويستخدم الألفاظ البذيئة والفاحشة أمام أخواته، ويضرب أمه، ويساعد في ترويج المخدرات، ويحتك بالشباب الذين ينقل إليهم ومنهم الحبوب، ويختلط بأصحاب الفواحش، وربما فعل الفواحش على سطح البيت أو سلم العمارة، وأطفأ كواية الملابس بيد أخته. إن هذه البيوت التي نعيش فيها أمانة، ونحن قد ضيعنا كثيراً جداً والمصائب تتوالى، ووالله ليتفككن المجتمع لو لم نعد عودة صادقة إلى الاعتناء بالأسر والبيوت، وسنصل إلى ما وصل إليه الكفرة في مجتمعاتهم من التمزق والانحلال، وسيوضع كبار السن في ملاجئ العجزة في النهاية، وسينفرط عقد الأسرة، وتتمرد البنات، ويخرجن في الشوارع، وسنسير على ركب الكفرة، بل إن كثيراً من المتفرجين، من أبناء المسلمين قد ساروا على الركب فعلاً، والبوادر قد ظهرت، فهل من عقلاء يعودون عودة صادقة إلى الله لكي ينظروا إلى هذا الشتات الذي وصلوا إليه وأوصلوا إليه أولادهم وأسرهم؟ ولتسألُن يومئذٍ عما استودعتموه من هذه الأمانات التي وضعها الله بين أيديكم؛ في يومٍ لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون، يقول كل إنسانٍ: نفسي نفسي لا أب ولا أم ولا أخ ولا أخت، تقطعت بينهم الأواصر والعلاقات، وهذا الحضور بين يدي الله في مشهد الجزاء والحساب في ذلك اليوم العظيم الذي مقداره خمسين ألف سنة نحتاج فيه فعلاً أن تكون ذكراه حية في أذهاننا؛ حتى نبدأ في تصحيح الأوضاع. اللهم أصلح أحوالنا، اللهم أصلح أحوالنا، اللهم أصلح أحوالنا، اللهم اجعلنا بالإسلام قائمين، وأحينا بالإسلام قاعدين، وأحينا بالإسلام راقدين، ولا تشمت بنا الأعداء ولا الحاسدين، اللهم طهر بيوتنا من المنكرات، اللهم واجعل أسرنا مستقيمةً على شرعك يا رب العالمين. اللهم اغفر لنا ولآبائنا وأمهاتنا، اللهم إن نسألك مغفرةً لا تدع لنا ذنباً، اللهم نسألك أن تجعلنا ممن يخافك ويتقيك، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.

الانهيار الأسري [2]

الانهيار الأُسري [2] لقد ذكر الشيخ حفظه الله في هذا الدرس عدداً من عوامل التمزق الأسري، ثم ذكر المفاسد المترتبة على استخدام الخدم والسائقين في المنازل، وأرجع أصل هذه المفاسد إلى عدم التمسك بالكتاب والسنة، والسير على منهج الله عز وجل.

أهمية معرفة أحوال الأسرة وأسباب انهيارها

أهمية معرفة أحوال الأسرة وأسباب انهيارها إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: إخواني: لقد سبق أن تكلمنا في موضوع التمزق الأسري، وفتح ملف خراب البيوت وأسبابه وما ينتج عنه، وهذا الموضوع في غاية الأهمية، لأنه موضوعٌ يتعلق بمجتمعنا الذي نعيش فيه، فهو موضوعٌ واقعي حياتي يومي، إذا لم يكتوِ الإنسانُ بناره ويكون طرفاً من أطرافه، فإنه ربما سيسمع عنه من جيرانه، أو أقربائه أو أصدقائه، ولذلك فإن التصدي لهذا الموضوع من الأمور المهمة. إن معرفة أحوال الأسر وانهيارها والتمزق الأسري وصوره موضوعٌ مهمٌ للدعاة إلى الله سبحانه وتعالى، لأنهم إذا عرفوا حجم المشكلة، وجهوا إليها الجهود وصرفوا إليها أنواعاً من الأعمال والأوقات لاستدراك ما فات، وإصلاح ما هو موجود، وإلا فإن نهاية المجتمع ستكون أليمة، ولا نريد أن نخطو خطى الكفار فيما وصلوا إليه في مجتمعاتهم المنحلَّة. وهو مهمٌ أيضاً لمن كان ضالعاً في سببٍ من أسباب التفكك الأسري، حتى يكف عن ظلمه، ويعود إلى الله، ويصلح من أسرته ما أفسد. وهو مهمٌ لكل ناصحٍ وقريبٍ وذي رحمٍ يريد أن يمد يد العون والمساعدة إلى أقربائه أو جيرانه أو أصحابه الذين تهدمت بيوتهم، وتشتت أسرهم، إنه مهمٌ لكل مصلح وإلا فإن إغماض العينين عن الحقائق الواقعة لا يزيدها إلا انتشاراً

أسباب التمزق الأسري

أسباب التمزق الأسري

تضييع الأولاد بعدم النفقة عليهم

تضييع الأولاد بعدم النفقة عليهم أيها المسلمون: إن من أسباب التمزق: تضييع الأهل والأولاد، وعدم الإنفاق عليهم مما يضطرهم للخروج خارج البيت، وخروج النسوة بالذات خارج البيت يفضي إلى أنواعٍ من المفاسد لا يعلمها إلا الله، وبعض هذا يكون بسبب بخل القائم على أمر البيت، وكم حدثتنا القصص الواقعية عن فتياتٍ ارتكبن الفواحش لتحصيل الأموال، وربما لا يكون الغرض هو الوقوع في الفاحشة، لكنها تريد مالاً، وقل مثل ذلك في أنواع الخيانات الأخرى. عن عائشة رضي الله عنها: (أن هند بنت عتبة قالت يا رسول الله: إن أبا سفيان رجلٌ شحيح، وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذتُ منه وهو لا يعلم، فقال صلى الله عليه وسلم: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف). إن الشارع حكيم، يعلمُ إذا ما قطعت النفقة عن الأسرة ماذا يمكن أن يحدث، ولذلك شرع للمرأة أن تأخذ سراً بغير إذن زوجها من ماله إذا كان بخيلاً لا يعطيها ما يكفيها وأولادها، لكن الشارع لا يظلم الزوج، ولذلك شرط أن يكون الأخذ بالمعروف، وألا تأخذ على هواها وكما تشاء.

نشر الأسرار الزوجية

نشر الأسرار الزوجية ومن الأسباب أيضاً في تفكك عرى الأسرة: نشر الأسرار الزوجية، وهتك أسرار البيوت، ولذلك فإن كثيراً من الذين لا يخافون الله يحدثون بما في داخل بيوتهم من أنواع الأسرار التي لا يجوز أن تخرج، ولا أن تفشى؛ من قلة الحياء وانعدام الغيرة، وغير ذلك من التساهل، قال عليه الصلاة والسلام: (هل منكم رجلٌ إذا أتى أهله فأغلق عليه بابه، وألقى عليه ستره، واستتر بستر الله؟ قالوا: نعم، قال: ثم يجلس بعد ذلك، فيقول: فعلتُ كذا، فعلتُ كذا؟ فسكتوا، ثم إنه صلى الله عليه وسلم أقبل على النساء، فقال: منكن من تحدث؟ فسكتن، فجثت فتاةٌ كعابٌ على إحدى ركبتيها، وتطاولت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليراها ويسمع كلامها، فقالت يا رسول الله: إنهم ليحدثون وإنهن ليحدثن، فقال صلى الله عليه وسلم: أولا تدرون ما مثل ذلك؟ إنما مثل ذلك مثل شيطان لقيت شيطانةٍ في السكة، فقضى حاجته والناس ينظرون إليه).

عقوق الوالدين

عقوق الوالدين ومن أسباب انهيار الأسرة عقوق الوالدين: فإن عقوق الوالدين، يسببُ إما طرد الولد من البيت، وفيه فصمٌ لعرى الأسرة، أو أن يتعدى الولد على أبيه، فيعيش الوالد أو الوالدة مقهورين في البيت ذليلين لا يستطيعان مواجهة الناس، ولا ممارسة الحياة بشكلٍ صحيحٍ من الظلم الذي يقع عليهما من الولد، وهذا كثير. شقاء في الأسر، ونكد وتعاسة بسبب عقوق الوالدين، الذي يؤدي إما إلى طرد الولد وأحياناً يؤدي إلى طرد الوالدين. هذه قصةٌ واقعية عن ولدٍ طرد أمهُ وأباه من البيت الذي يملكانه، ولكن الله يمهل ولا يهمل، فأرسل إليه بناتٍ على كبره وابتلاه بشرب الخمر فصرن يضربنه وهو مخذولٌ مما يريد التعرض به لهنّ. وهذه بنتُ تمردت على أمها وتقذرت من خدمتها وتكبرت بشبابها وجمالها، رغم أن جلد الأم قد تجعد من القيام على البنت، وأفنت شبابها فيها، فابتلى الله هذه البنت بولدٍ في المستقبل فعل بها -بأمه العاقة- أكثر مما فعلت هي بأمها، وزاد عليها أن ضربها. هذا قصاصٌ طبيعيٌ يحدث في المجتمع مما يكون من آثار العقوق!

سوء الخلق

سوء الخلق ومن أسباب انهيار الأسر: سوء الخلق: سوء الخلق الذي يولد الفحش والبذاءة، والاعتداء والضرب والتوحش. فهذا رجلٌ يضرب زوجته وأمه، ويدعو على ابنته بالسرطان والشلل، ولا يصلي ولا يصوم، يدخل البيت في سباب وشتائم، ويخرج من البيت في سباب وشتائم، ويقول لزوجته التي أنجبت بنتاً: ليس لك قيمةٌ في المجتمع، لأنك أنجبت بنتاً وهكذا. والتوحش المتولد من سوء الخلق يؤدي إلى أمورٍ عجيبة في العمر؛ حتى ربما كان هذا الفاجر يعري سلك الكهرباء ويضرب به ابنته وهو مشبوكٌ طرفه بالتيار الكهربائي. هذه قصصٌ واقعية، لم نختلقها ولم نكذب فيها، وإنما هي مما أفرزه المجتمع عند ابتعاده عن شريعة الله، وآثار الضرب لا زالت في ظهر البنت ما بعد الزواج، والبنت الأخرى قد أصيبت بنوبة صرعٍ مع آثار ٍواضحة في الرأس من أثر الضرب، وتلك أخذ مهرها، ولا ينفق على بناته، وهذه نتيجةٌ طبيعية للابتعاد عن شرع الله، والتجاوز لحدود الله، وعدم التخلق بأخلاق الإسلام، إن النفس إذا نزع منها الدين، تحولت إلى وحشٍ كاسر، لأن الدين يهذب النفوس، ويخلِّقها بالأخلاق الحسنة.

المعاصي بأنواعها

المعاصي بأنواعها ومن أسباب انهيار الأسر وتمزقها: ارتكاب المعاصي والفسوق بأنواعها، والجرائم التي حرمتها الشريعة؛ فهذا إنسانٌ يلعب القمار، ويسافر ليلعب القمار، وإذا أخذ راتبه في آخر الشهر، فلا يمضي عليه عشرة أيام إلا وينتهي الراتب بسبب اللعب بالقمار، وزوجته وأولاده ليس عندهم ما يحتاجون إليه. ثم إن هذه المعاصي تفشت، ومنها السكر والمخدرات، وقد بينا طرفاً من ذلك، لكن بتتبع كثيرٍ من المشكلات البيتية، وجد أن سببها الخمر والمخدرات، والعربدة، والإدمان والمخدرات من الأشياء التي أطاشت العقول، وخربت البيوت. هذا ولدٌ عاطلٌ عن العمل: يتعاطى المخدرات، كل يوم في سجن، أو مستشفى، أو عيادةٌ نفسية، وكذلك الفسق والدياثة الذي يتضمن أموراً كثيرةً من إقرار الخبث والسوء في الزوجة والأولاد، وهذه صورة بسيطة جداً لما يمكن أن يقع من ذلك. هذا رجلٌ زار صاحباً له، رب أسرة، فأراد صاحب البيت أن يكرمه ويقدم له هدية، فماذا قدم له، صورته مع زوجته، صورة الزوج مع زوجته قدمها هدية لهذا الرجل الذي جاء إلى بيته زائراً، لتكون هدية تذكارية لا يغار عليها أن يراها الأجنبي، وهكذا من أنواع فقدان الغيرة الموجودة عند بعض الناس. ثم إننا نتعرض لهزاتٍ قوية في الأسر بسبب الاختلاف على القضايا المادية، واللهث وراء المادة والتعلق بالفلوس؛ ذلك التعلق المشين الذي يفضي إلى الطمع وحرمان الآخرين، والأنانية ولا ندري هل سيأتي علينا يومٌ يكون الطمع فيه بالمال مؤدياً لنا بما أدى إليه أحوال الكفرة في عالمهم؟ نشرت إحدى الصحف: أن زوجة وزوجها في بلاد الغرب قد اختارا، أو اضطرا للاختيار بين طفلتيهما المولودة حديثاً، وبين السيارة التي يدفعان أقساطها، لأنهما لا يستطيعان الجمع بين نفقة البنت وأقساط السيارة، فكان لا بد من الاختيار، فاختارا السيارة، وسلما البنت لملجأ من الملاجئ، وذكر الأب أنه ترك ابنته في المستشفى للتبني، وقال: الطفلة قد تجد عند من يتبناها أحسن مما تجد عندنا، وأكدت الأم أن ما حصل هو الصواب، ويقوم عددٌ من الناس في بلاد الغرب، ببيع أطفالهم بآلاف الجنيهات، فأي رابطةٍ هي موجودة؟ وأي عطفٍ وأي رحمة؟ وأي حنانٍ في ذلك المكان؟

الاقتتال على المادة

الاقتتال على المادة أيها الإخوة: إن الاقتتال على المادة، وطمع الناس في المادة يؤثر على الأسرة، ولذلك تجد هذا الرجل يريد أخذ راتب زوجته بالقوة ولا يترك شيئاً، وهذا الأب يحرم ابنته من الزواج، لأنها موظفة ويريد استمرارية المصدر والاستيلاء على راتب البنت، وهؤلاء أخوة يتحايلون على أختهم ويستلفون منها الأموال، وهم لا يريدون ردها وقد ذكر صلى الله عليه وسلم أن من الكبائر استدانة الرجل وهو لا يريد الوفاء، وهكذا تكون المادة نهب الطامعين، وهي مدار العمل واتجاه النيات؛ فتفسد النفوس وتأسن ويكون فيها خراب البيوت. اللهم إنّ نسألك أن تطهر بيوتنا، اللهم إنّ نسألك تطهر قلوبنا، اللهم إن نسألك أن تجعلنا ممن يقيمون حدودك في بيوتهم، اللهم إنا نسألك العفو والعافية والستر، اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا، واحفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا، وعن أيماننا وعن شمائلنا، ومن فوقنا، ونعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

السائقون والخادمات سبب رئيس في الانهيار الأسري

السائقون والخادمات سبب رئيس في الانهيار الأسري الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد؛ الأمين على وحي الله، والمبلغ لرسالة الله، والمجاهد في سبيل الله؛ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، صلى الله عليه ورزقه الشفاعة يوم الدين، اللهم احشرنا في زمرته، وأوردنا حوضه، وارزقنا شفاعته، واجعلنا تحت لوائه، يا أرحم الراحمين! أيها الإخوة: لا شك أن من أكبر أسباب تمزق الأسر وخراب البيوت في هذه الأيام: الآثار السيئة للخادمات والسائقين، الخدم الذين هم بلية من البلايا التي نزلت فأحاطت، وطمت وعمت، واستقرت وانتشرت في بيوت المسلمين، وخصوصاً عندما تكون الخادمة كافرةً، وجزيرة العرب لها خصوصية قد ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدم جواز إقامة الكفار فيها، فقال: (أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب). فهؤلاء يجلبون اليوم النصارى والبوذيين وغيرهم من الوثنيين؛ من الخادمات والسائقين ما يحرم عليهم، ويأثم والله الذي لا إله إلا هو! وهو واضع إياهم في بيته يعطيهم المرتبات، ويسلمهم السيارات، وأغلى من ذلك يسلمهم البيت والأولاد. هؤلاء الكافرون والكافرات، الذين يعيشون في البيوت، لا يقيم أصحاب البيوت لهم وزناً، والخطر منهم كبير، والمصيبة بهم عظيمة، لكن أين المعتبرون الذي يعتبرون بما أصاب غيرهم؟! إن الخادمة يمكن أن تهدم بيته، نعم والله يمكن أن تهدم بيته، لأنها تكون في كثيرٍ من الأحيان فتنةً لصاحب البيت وأولاده الشباب، لأنهن يخرجن متزيناتٍ وغير محتشماتٍ ولا متحجبات، وكذلك السائق الأجنبي كم خرب بيوتاً، وكان له أثرٌ سيئ عليها. النساء في البيت دون تربيةٍ ولا مراقبة، وتخرج مع السائق لوحدها بغية أن تتمشى في الشوارع، ورب البيت يتسكع لاهٍ بالتجارة وشلة السهرة، ألم يأتكم أنباء الخادمات اللاتي تسببن أو أقدمن على قتل صاحب البيت أو صاحبة البيت، أو خنق أحد الأطفال؟ هذا كثيرٌ ولا تمضي فترة وإلا ونسمع خبراً من ذلك. هذه خادمةٌ نصرانيةٌ كانت تدخل رجالاً أجانب من أصحابها أثناء غياب الأبوين، وهم يلبسون أقنعةً مخيفة، حتى إذا رأوهم الأطفال خافوا ودخلوا وهي تخوفهم، وتقول: لو تكلمتم سآتي بالوحوش لافتراسكم، وهم أطفالٌ يريدون اللعب، وهي لا تريد أن تتعب في القيام عليهم، فكلما حصل شيء، خوفتهم بالوحوش، كيف تنشأ العقد النفسية، وينشأ الخوف والرعب وشخصية الولد الجبان وهكذا، ثم تقوم الفواحش، وتتحول عددٌ من البيوت الطيبة إلى أوكارٍ للفساد. ألم تكن هذه الخادمات مصدر فتنة للرجل وللشباب في البيت، خصوصاً عندما لا يكون هناك خوفٌ من الله، ولا تربيةٌ ولا احتشام، ومهما أخذوا من الاحتياطات، فلا بد أن يغيب الرجل عن بيته، أو المرأة عن بيتها، فيقع ما يقع.

قصص واقعية لمفاسد الخادمات

قصص واقعية لمفاسد الخادمات هذه الخادمة تَعلق بيها أحد الأولاد في البيت، فصارت تهين أم الولد وهو ساكت، وتعطيها الحليب الفاسد، والخبز المتعفن وهو ساكت، ماتت أمه، فصارت الخادمة مع السائق في الصباح، ومع هذا الرجل في الليل، ولا حول ولا قوة إلا بالله، والله المستعان وإليه المشتكى مما أصاب البيوت. هذه خادمةٌ: سحرت الولد، وهنّ يتعلمن السحر في بلادهن التي ينتشر فيها السحرُ والكهانة، ثم يأتين بالسحرِ عياناً بياناً وهذا أمرٌ غير خافٍ، بل هو منتشر معلوم، متواطئٍ على ذكره الكبير والصغير، سحرت هذه، أو سحرت هذا، أو سحرت الأب، أو فرقت بين الأب والأم، وهكذا يفعلن، هذه الخادمة سحرت الولد وأخذت نقوده من الإرث، غرفة الشغالة فيها تلفزيون وفيديو وأشرطة، واشترطت طقم بثلاثة آلاف، والولد لا زال يعطيها هدايا، بأي شيء؟ بهذا السحر الذي أتت به، وهو يرفض تسفيرها، ويقول لأخواته: عندكم خادمة وعندي خادمة، هل أنا ضايقتكم في خادمتكم حتى تضايقوني في خادمتي؟ وقد وصل الأمر بالفواحش لدرجة أن دارت بين خادمتين في بلدهما قبل أن تأتيان، أن أعطت إحداهما للأخرى -تودعها قبل أن تأتيان- صندوقاً من حبوب منع الحمل، قالت: لماذا؟ قالت: ستحتاجينه. وهكذا سمعتنا نحن المسلمين عند الكفار في بلادهم، وكم سمعنا من الحالات التي كانت الخادمة تريد فيها الإسلام مما سمعت عن الإسلام! ولكن لا تسلم مما تلاقي وتعاني من الانحراف في البيوت، فأي إسلامٍ تريد أن ترغب فيه وهي ترى بعينيها هذه الاعتداءات على الخادمات. في المقابل ظلم الخادمات وفسادهن جانب، واعتداء أصحاب الأسر على الخادمات جانبٌ آخر، حتى لقد هربت خادمةٌ فلبينية مسلمة إلى بيت عمال مسلمين من آل الفلبين لتحتمي بهم، مما أصابها في بيت مستخدميها، فهل هذه الحالات المزرية التي وصلنا إليها يمكن السكوت عليها يا أيها المصلحون؟! يا أيها الناس الذين يريدون الخير لمجتمعهم! هل نسكت وهل تسكتون ولا تريدون أن تقوموا لله بالواجب من النصح والتذكير والدعوة إلى الله والعمل والإصلاح؟ أم أن الفساد سيترك لينتشر في البيوت وهي معاقل الأسر المسلمة، واللبنات التي يتكون منها المجتمع المسلم؟

تحذير من عاقبة الانهيار الأسري

تحذير من عاقبة الانهيار الأسري إن هذه الحالات الواقعية التي نشهدها ونسمعها دائماً، والذي يتصل بجيرانه وأقربائه وأصحابه يعرف العجب العجاب من أنواع تمزق الأسر وفشو المخدرات، وأخذ المرتبات ظلماً، وتطليق النساء. هذا افترق عن زوجته بسبب الخمر وحكم الشيخ لها بالثلاثة الأولاد، ولكنه جاء وراقب خروجها مع أولادها، فأتى بسيارته وخطف الأولاد منها، وبقيت هي ورضيعها من غير مصروف، وهكذا من الحالات التي ينتشر فيها الظلم، في المجتمع. في المجتمع الولد الكبير مروج، والصغير مات منتحراً بحقن الهروين، وذلك أفلس من شراء المخدرات، والأب والأم في نزاعٍ دائم، وربما رفعت الأم (الساطور) أو (العصا) أثناء النزاع، والاتهامات متبادلة بين الأب والأم، والنزاع قائم بين الأولاد، والطرد والصراخ متواصل. أيها المسلمون: بيوتكم بيوتكم! وأسركم أسركم! اتقوا الله فيها، واحذروا غضب الله، فإن الله سبحانه وتعالى لا يهمل الظالم، وإذا أخذه لم يفلته، فيأخذه أخذ عزيزٍ مقتدر، ولست مسئولاً عن بيتك فقط نعم أيها الإخوة: يوجد عددٌ كبيرٌ من البيوت -والحمد لله- مستقيمة تحكم الشريعة، بيوت نظيفة طيبة، لكن الطيب مختلط بالخبيث، والمجتمع واحد والعمارات متجاورة، والبيوت متلاصقة، والشوارع والمدارس واحدة، أولادي وأولادك فيها، إننا نتعامل مع بعضنا يومياً، والموظفون يختلطون ببعضهم، الناس لا يعيشون في فرقة، وإنما يعيشون مع بعضهم، وإنما الفرقة في القلوب، فلذلك يمكن أن يكتوي الإنسان بنار فتنة جاره، فعليكم إذاً يا أيها المصلحون يا أيها الغيورون أن تقوموا لله بالواجب، وإذا ترك الأمر على ما هو عليه؛ والله الذي لا إله إلا هو! لينتهين كما انتهت إليه بيوت الغرب وأسره، ولذلك فإننا ندعو الله من قلوبنا أن يصلح أحوالنا وأن يتوب علينا. اللهم طهر بيوتنا من المنكرات، اللهم ارزقنا الوقوف عند حدودك، اللهم جنبنا الحرام، اللهم ارزقنا حسن الخلق، وحسن تربية الأولاد، اللهم ارزقنا البر بآبائنا وأمهاتنا، اللهم إن نسألك أن تجنبنا الفواحش والفتن ما ظهر منا وما بطن، اللهم حرم علينا الفواحش وما ظهر من الآثام وما بطن، واجعلنا من عبادك المتقين الأخيار. إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، فاذكروه لعله يذكركم سبحانه وتعالى، وتوبوا إليه، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.

البركة

البركة لقد جاءت الشريعة الإسلامية لتحقيق التوحيد وتكميله، فسدَّت طرق الشرك المؤدية إليه؛ ومن الطرق التي يمكن أن تخل بالتوحيد ما ينشأ عن المفهوم الخاطئ للبركة؛ وما وقعت الأمة في الشرك إلا من اختلال هذا المفهوم، فبعضهم تبرك بأحجار مكة، وبعضهم بغار حراء أو بغار ثور، وبعضهم يشد الرحال إلى قبور الأنبياء والصالحين، وبعضهم يحتفل بالمولد زاعماً البركة فيه، ومن الناس من يتمسح بالأشخاص والمغارات والجدران، وبهذا حصل الشرك في الأمة وانتشر.

تعريف البركة وبيان أنها من الله

تعريف البركة وبيان أنها من الله إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. عباد الله: لقد جاءت هذه الشريعة لتحقيق التوحيد وتكميله وتحصيله، جاءت بأعظم معروف وهو التوحيد، ونهت عن أعظم منكر وهو الشرك، فسدَّت طرق الشرك والأسباب المؤدية إليه، وقَطَعَتْها قطعاً، وكذلك فإنها حمت التوحيد بجميع الوسائل ووفَّرتها وكثَّرتها. عباد الله: لابد أن نعتني بتوحيدنا وعقيدتنا، وأن نجعل هذا التوحيد خالصاً لله تعالى، وألا نواقع شركاً، فـ {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48] وقد ذهب جمع من العلماء، ومنهم: شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- إلى أن الشرك الأصغر والخفي لا يغفره الله تعالى إلا بتوبة، فلا يكفَّر ولا يدخل في المشيئة إلا إذا تاب منه صاحبه، فإن الله يتوب عليه، ولذلك لابد أن نكثر كثيراً من التوبة والاستغفار من جميع أنواع الشرك، وأن نقول: اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئاً نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلمه. ومن الموضوعات التي يقع فيها الشرك في الناس مسألة التبرك، وهذه القضية تحتاج إلى شيء من التوضيح، ولعلنا نلقي عليها بعض الضوء في هذه الخطبة. أما البركة فإنها دوام الخير وزيادته وكثرته وثبوته أيضاً. والبركة من الله تعالى، فهو مصدرها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وبارك لي فيما أعطيت) فإنها تُطلَب من الله تعالى فهو مصدر البركة عز وجل، ونحن نقول: (تبارك وتعالى) أي: كَمُلَت بركته، وعَظُمَت بركته، كَثُر خيره وإحسانه إلى خلقه، وخيره هو الذي يدوم، وإذا شاء أن يُكْثِر خيراً فلا رادَّ لفضله، فهو سبحانه وتعالى المبارك حقاً، لا يبارك أحدٌ من الناس، وإنما الله هو الذي يبارك، ولهذا كان كتابه مباركاً، ورسوله مباركاً، وبيته مباركاً، والأزمنة والأمكنة التي شرفها واختصها عن غيرها مباركة. وإذا طَلَب أحد البركة من غير الله فإنه كَمَن يطلب الرزق من غير الله، فطلب البركة من غير الله تعالى شرك، ومن اعتقد أن شخصاً هو الذي يبارك فقد أشرك بالله تعالى، والأشياء المباركة من الأعيان والأقوال والأفعال والأشخاص ونحو ذلك إنما كانت مباركة لأن الله جعل فيها بركة، وهي سبب للبركة، وليست واهبة للبركة، كما أن العبد يستخدم الأدوية والرُّقَى وهي سبب للشفاء، وليس الدواء واهب الشفاء، وإنما الله هو الذي يشفي، وما ذكر الشرع أن فيه بركة يُستعمل استعمال السبب، قد يتخلف وقد يحصل. لقد كانت جويرية بنت الحارث رضي الله تعالى عنها بركةً على قومها، فقالت عائشة رضي الله عنها: [فما أعلم امرأةً كانت أعظم بركةً على قومها منها] والسبب أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أغار على بني المصطلق على حين غرةٍ منهم وأُخِذَ مَن أُخِذَ من السبي، تزوج النبي صلى الله عليه وسلم جويرية رضي الله عنها، ولما رأى الناس أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم عندهم عبيداً وإماءً أعتقوهم لهذا السبب فأُعْتِقَ مائة أهل بيت من قومها، فهي ليست مصدر البركة، وإنما كانت سبباً للخير والنماء والزيادة. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (البركة من الله).

بركة النبي صلى الله عليه وسلم

بركة النبي صلى الله عليه وسلم ومن أعظم الذوات المباركة: ذات النبي صلى الله عليه وسلم؛ فذاته ذات مباركة، جعل الله فيها بركةً خاصة، ولذلك كان الصحابة رضي الله عنهم يأخذون مِن عَرَقه وبُصاقه فيتمسحون به، وكذلك لما حلق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه، أطاف به أصحابه، فما تقع شعرة إلا في يد رجل منهم. وقال أنس: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يدخل بيت أم سليم، فينام في بيتها وهي من محارم النبي صلى الله عليه وسلم -فجاء ذات يوم فنام على فراشها، فأُتِيَت، فقيل لها: هذا النبي صلى الله عليه وسلم نام في بيتك على فراشك، قال: فجاءت وقد عرق عليه الصلاة والسلام، واستنقع عرقه -تجمع العرق- على قطعة أديم على الفراش، ففتحت عتيدتها رضي الله عنها، والعتيدة هي الصندوق الصغير الذي تجعل فيه المرأة ما يعز عليها من المتاع، فجعلت تنشف ذلك العرق وتعصره في قوارير، ففزع النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ما تصنعين يا أم سليم؟! فقالت: يا رسول الله! نرجو بركته لصبياننا، قال: أصبتِ) وفي رواية: (قالت: أدوف به طيبي) أي: أخلط طيبي بعرقك- حتى يزداد طيباً، فأقرها النبي صلى الله عليه وسلم. وعبد الرحمن بن عوف -وقصته في الحديث الصحيح- لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم قد اكتسى شملةً استوهبه إياها، وطلبها منه، فلامه الصحابة، فقال: رجوت بركتها حين لبسها النبي صلى الله عليه وسلم لعلي أُكَفَّن فيها. وهكذا كانوا يلتمسون بقية شرابه صلى الله عليه وسلم ليشربوا منه. وهذه الأحاديث الصحيحة تدل على أن ذاته صلى الله عليه وسلم وما انفصل من جسده من شعر وعرق، وما استعمله من لباس وآنية قد جعل الله فيه من البركة ما يُسْتَشفى به، ويرجى بسببه الفائدة في الدنيا والآخرة. من الذي جعل فيه البركة؟ الله عز وجل. من جعله سبباً للشفاء؟ الله عز وجل. كان الصحابة يأخذون من أثره، فيضعونه عليهم عند إصابتهم بعين أو مرض أو حمى، فيشفيهم الله تعالى، فذاته صلى الله عليه وسلم ذاتٌ مباركة لِمَا وضع الله فيها من البركة. وبعد وفاته عليه الصلاة والسلام وتطاول الزمن ذهبت آثاره، وذهب شعره ولباسه وآنيته وسلاحه، ولم يعد لدينا إثبات الآن بأن هناك بقية من ذاته قد بقيت، وليس كل متحف وضع شعرةً في علبة أو وضع سيفاً في خزانة كان فعله دليلاً على أن ذلك للرسول صلى الله عليه وسلم، فنحن لا نملك إثباتاً الآن على بقاء شيء من ذاته، فلذلك لا يجوز ادعاء ذلك ولا استعماله.

بركة القرآن والمأثورات

بركة القرآن والمأثورات وكلام الله تعالى القرآن الكريم لاشك أنه مبارك؛ لأنه كلام ربنا، وكلامه صفة من صفاته تعالى، ولذلك كان هذا القرآن مباركاً، وفيه شفاء للناس، وبسبب قراءته يحصل الخير العظيم للعبد، ألَمْ ترَ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن البقرة وآل عمران: (إنهما تأتيان يوم القيامة تحاجان عن صاحبهما)؟! وقال عليه الصلاة والسلام: (اقرءوا سورة البقرة، -اقرءوها واحفظوها- فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البَطَلَة) والبطلة هم: السحرة، وهذا حديث صحيح. فهي بركة ومضادة للسحر.

الاستشفاء بالقرآن وبالمأثورات

الاستشفاء بالقرآن وبالمأثورات ومن بركات كتاب ربنا أنه يُسْتَشْفَى به، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ على نفسه بالمعوذات، وأقر الصحابي لما رقى اللديغ بسورة الفاتحة، وكان بعض أهله صلى الله عليه وسلم يمسح بيده الشريفة اليمنى ويقول: (اللهم رب الناس، أذهب البأس، واشفِ أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاءً لا يغادر سقماً) ولا يغادر سقماً: أي لا يترك سقماًَ. والأدعية المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها بركة، وهي التي ينبغي الحرص عليها بالإضافة إلى كلام ربنا.

هيئات مباركة (الاجتماع على الطعام، كيل الطعام،)

هيئات مباركة (الاجتماع على الطعام، كيل الطعام،) ومن الهيئات المباركة الاجتماع على الطعام، والأكل من جوانب القصعة، ولعق الأصابع بعد الطعام، وكيل الطعام لِمَا جاء في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اجتمعوا على طعامكم، واذكروا اسم الله، يبارَكْ لكم فيه). وقال صلى الله عليه وسلم: (البركة تنزل في وسط الطعام، فكلوا من حافتيه، ولا تأكلوا من وسطه). وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا أكل أحدكم فلْيَلْعَقَنَّ أصابعه، فإنه لا يدري في أيتهن البركة). وقال صلى الله عليه وسلم: (كيلوا طعامكم يبارَك لكم) حديث صحيح، رواه الإمام البخاري رحمه الله تعالى.

الأماكن المباركة

الأماكن المباركة وأما الأماكن المباركة فقد ثبت أن المساجد بقاعٌ مباركة، وأن أحب البلاد إلى الله تعالى مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله تعالى أسواقها، وعلى رأس المساجد المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم، والمسجد الأقصى. وقد قال عليه الصلاة والسلام: (لا تُشَدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى). وكذلك مسجد قباء، قال صلى الله عليه وسلم: (مَن تطهر في بيته، ثم أتى مسجد قباء، وصلى فيه صلاةً كان له كأجر عمرة) حديث صحيح، رواه أحمد رحمه الله تعالى. إذا كان في المدينة يأتي قباء، وإذا جاءه يوم السبت ففيه أجر وفضل، وأما المساجد الثلاثة فيجوز السفر إليها، وقصد السفر لأجلها، وأما غيرها فلا يجوز شد الرحال إليه. يا عباد الله: إن التبرك بالمساجد لا يكون بالتمسح بترابها، ولا بجدرانها، ونحو ذلك؛ لأن التبرك عبادة، ويشترط في العبادة المتابعة، والتماس البركة في المساجد إنما يكون بالاعتكاف فيها، وانتظار الصلوات، وصلاة الجماعة، وحضور مجالس الذكر، ونحو ذلك: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ} [النور:36 - 37].

بركة مكة والمدينة والشام

بركة مكة والمدينة والشام ومن البقاع المباركة العظيمة مكة: التي دعا الخليل ربه أن يجعل فيها البركة، فجعل فيها البركة، وفيها بيت الله المبارك، بيت الله العتيق. وكذلك المدينة مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، التي قال فيها عليه الصلاة والسلام: (إني أُحَرِّم ما بين لابَتَي المدينة أن يُقْطَع عضاها، أو يُقْتَل صيدها) وقال: (المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، لا يدعها أحد رغبةً عنها إلا أبدل الله فيها من هو خير منه، ولا يثبت أحد على لأوائها وجهدها إلا كنتُ له شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة) رواه مسلم رحمه الله. وقال: (على أنقاب المدينة ملائكة، لا يدخلها الطاعون ولا الدجال) وقال: (ومن أراد أهل المدينة بسوء أذابه الله كما يذوب الملح في الماء). وكذلك من البقاع المباركة الشام التي قال الله تعالى فيها: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء:1] وما حوله هو الشام، التي قال النبي صلى الله عليه وسلم فيها: (طوبى للشام! فقلنا: لأي شيء ذاك؟ فقال: لأن ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها عليه) حديث صحيح، رواه الإمام أحمد رحمه الله تعالى. فمن سكن في مكة أو المدينة أو الشام ملتمساً لبركات الله عز وجل في تلك البقاع سواءً من زيادة أرزاقها أو دفع الفتن عنها، فقد وُفِّق إلى خير كثير. أما لو تعدى وغلا وطلب التبرك بالتمسح بترابها وأحجارها وأشجارها، أو اعتقد أن غبارها شفاء أو يضع تربتها في الماء للاستسقاء، فإنه مأزور غير مأجور. ومن المشاعر المباركة: عرفة ومزدلفة ومنى؛ لكثرة الخير الذي ينزل على الناس فيها في موسم العبادة، ولذلك كان إتيانها في غير موسم العبادة رجاء البركة بدعةً من البدع، فمن وقف في عرفة يرجو بركةً في غير يوم عرفة، فإنه مبتدع وصاحب غُلُو.

الأزمنة المباركة

الأزمنة المباركة وهناك أزمنة جعلها الشارع مباركة، هي مثل غيرها من الزمان، لكن لما خصها الله بشيء من عنده صارت مباركة. فمثلاً: شهر رمضان شهرٌ مبارك، كما جاء في الحديث الحسن لشواهده: (قد جاءكم رمضان شهر مبارك). وليلة القدر وصفها الله تعالى بأنها ليلة مباركة: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان:3] {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:3]. وكذلك يوم الجمعة، فإنه يوم مبارك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة) وهو كذلك يوم مبارك في الأسبوع. واليوم المبارك في السنة يوم عرفة الذي يباهِي الله فيه الملائكة بعباده. وأيام عشر ذي الحجة أيام مباركة. وثلث الليل الأخير وقت النزول الإلهي وقت مبارك. والإثنين والخميس تُفتَح فيهما أبواب الجنة، فيُغْفَر لكل عبد لا يُشرك بالله شيئاً، إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقول الله لملائكته: (أنْظِروا هذين حتى يصطلحا).

بم تتحقق البركة في الأزمان المفضلة؟

بم تتحقق البركة في الأزمان المفضلة؟ ما هي بركة هذه الأزمنة؟ بأي شيء تتحقق، وتصل إلى العبد، ويحصل عليها العبد؟ بعبادة الله فيها، وكل مَن عيَّن وقتاً يلتمس فيه بركة لم يرد به الشرع عيَّنه، واعتقد أن فيه بركة إضافية تختلف عن بقية الأوقات، فهو مبتدع من المبتدعة، كما يفعل كثير من الناس في السابع والعشرين من رجب، ونحو ذلك من الأيام التي عينوها.

الأطعمة المباركة

الأطعمة المباركة وقد جعل الله تعالى في بعض المطعومات بركة، ومثل ذلك زيت الزيتون لقوله تعالى: {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ} [النور:35]. وقال: {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ} [النور:35]. وقال عليه الصلاة والسلام: (كلوا الزيت وادهنوا به، فإنه من شجرةٍ مباركة). () ائتدموا بالزيت وادهنوا به، فإنه من شجرةٍ مباركة). وكذلك اللبن فهو مبارك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أطعمه الله طعاماً فليقل: اللهم بارك لنا فيه، وارزقنا خيراً منه، ومَن سقاه الله لبنا فليقل: اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه، فإني لا أعلم ما يجزئ من الطعام والشراب إلا اللبن). وكذلك من الأطعمة التي جعل الله فيها بركةً كبيرةً في الدواء: الحبة السوداء، والعجوة، والكمأة؛ لما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن في الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا السام وهو الموت) حديث صحيح. وقال عليه الصلاة والسلام (الكمأة من المَنِّ، وماؤها شفاء للعي). والعجوة من الجنة، وهي شفاء كذلك. وقال صلى الله عليه وسلم: (من تصبح بسبع تمرات عجوة لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر). وكذلك العسل الذي قال الله فيه: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل:69]. وكذلك ماء زمزم فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنها مباركة، إنها طعام طُعْم). وكذلك ماء المطر ماء مبارك، فإن الله قال: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً} [ق:9]. وجاء عن أنس رضي الله عنه قال: (أصابنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مطر، فحسر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوبه حتى أصابه من المطر، فقلنا: يا رسول الله! لم صنعت هذا؟ قال: لأنه حديث عهد بربه) رواه الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه. وكذلك الخيل، جعل الله فيها بركة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة: الأجر، والمغنم). وكذلك الغنم فيها بركة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (صلوا فيها -أي: في مرابض الغنم- فإنها بركة). وقال لـ أم هانئ (اتخذي غنماً، فإن فيها بركة). والنخل مبارك، جعل الله فيه بركة، زيادة على بقية الثمار والزروع، فقال عليه الصلاة والسلام: (إن من الشجر لَمَا بركته كبركة المسلم؛ هي النخلة) رواه البخاري رحمه الله. فالله يجعل البركة في من شاء من عباده، وفيما شاء من البقاع، وفيما شاء من الأمكنة والأزمنة. نسأل الله تعالى أن يبارك لنا في أهلينا وأموالنا وأولادنا. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو البر الرءوف الرحيم.

التبرك الممنوع

التبرك الممنوع الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، خلق فسوى، وقدر فهدى، وهو رب الأولين والآخرين، الحي القيوم لا يموت، والجن والإنس يموتون. وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. عباد الله: إن ما وقعت فيه هذه الأمة من الشرك في مسألة التبرك أمر خطير جداً، وهو منتشر في بلاد المسلمين في طولها وعرضها، لا يكاد يَسْلم منه أحدٌ إلا الموحِّدين، الذين عرفوا الله تعالى ووحدوه، الذين تعلموا هذه الشريعة، وعرفوا معنى الاتباع ومعنى الابتداع، وعرفوا النهي عن الغلو، فاجتنبوا الغلو. كان أهل الجاهلية قبل البعثة يطلبون البركة من أصنامهم، وكان لهم دار في مكة فيها صنم يعبدونه، فإذا أراد أحدهم السفر كان آخر ما يصنع قبل أن يخرج من منزله أن يتمسح بذلك الصنم، وإذا قدِم من سفر تمسح به كذلك، يرجو البركة بانتقال البركة من هذا الصنم إلى اليد، ويزعمون أن أول ما كانت عبادة الحجارة في بني إسماعيل، أنه كان لا يظعن من مكة ظاعن ولا يرحل راحل إلا حمل معه حجراً من حجارة الحرم، فحيثما نزلوا وضعوها، فطافوا حولها.

التبرك بأحجار مكة

التبرك بأحجار مكة وبهذا يتبين أن التبرك بأحجار مكة وتعظيمها أمر غير مشروع أبداً، إلا الحجر الأسود، الذي استلمه النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك الركن اليماني، قال عمر: [إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك]. ولذلك كان استلام أعمدة الحرم وجدران الحرم وغير ذلك والتمسح بها، وحلقات الأبواب من فعل المشركين الذين يقعون في هذا الشرك بالتبرك بالأشياء التي لم يشرع التبرك بها. وتنتقل البدعة من واحد إلى آخر؛ حدثني رجل قال: كنت في المسعى أسعى بين الصفا والمروة، فرأيت رجلاً يمسك حلقةً من حلقات أحد الأبواب، يتفرج عليها، قال: فوقف بعده واحدٌ آخر، وصار بدلاً من أن يمسكها للفرجة يمسحها، قال: وبعد عدة أشواط وجدت نفراً كثيرين متجمعين ليمسحوا بتلك الحلقة، فكل جاهل يرى مَن قبله يَمسح فيَمْسح، وهكذا يفعلون. لقد كان أهل الجاهلية كما قلنا يلتمسون البركة من أصنامهم، وكان لهم صنم يقال له سعدٌ، وهو عبارة عن صخرة في فلاة من الأرض، فأقبل رجل من بني ملكان بإبل له ليقفها عليه التماس بركته، فلما رأته الإبل، وكانت مَرْعِيَّة لا تُرْكَب، وكان هذا الصنم يُراقُ عليه الدم، وتُنْحَر عنده الذبائح، فلما رأت الإبلُ ذلك نَفرَت منه، فذهبت في كل وجه، فغضب الأعرابي، فأخذ حجراً فرمى الصنم، وقال: لا بارك الله فيك، نَفَّرْتَ عليَّ إبِلِي، ثم خرج في طلبها، وعاد فقال: أتينا إلى سعدٍ ليجمع شملنا فشتتنا سعدٌ فلا نحن مَن سَعْدِ وهل سعدٌ الا صخرةٌ بتَنُوفةٍ مِن الأرض لا يُدعى لِغَيٍّ ولا رُشْدِ وهكذا فعل الجاهليون بأصنامهم. ولذلك لما بُعث النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إلى كل صنم من يهدمه، ويحرقه ويزيل أثره، وعلى رأسهم سيف الله وسيف رسوله خالد بن الوليد، وجرير بن عبد الله البجلي وغيرهما، حتى إنه يُروى أن المغيرة بن شعبة لما خرج مع خالد بن الوليد لهدم اللات، وكانت عند أهل الطائف في ثقيف، انكفأ الرجال والنساء والصبيان، وخرجت العواتق ليرون هذا الذي سيَهْدِم صنمهم ماذا سيحل به؟ فأخذ المغيرة بن شعبة فأساً كبيرة، وقال لأصحابه: ألا أضحكنكم من ثقيف؟ قالوا: بلى، فضرب بالمعول ضربةًَ على اللات، ثم صاح وخَرَّ مغشياً على وجهه، فارتجت الطائف بالصياح سروراً بأن اللات قد صَرَعت المغيرة، وأقبلوا يقولون: يا مغيرة! كيف رأيتها؟! دُونَكَها إن استطعت! ألم تعلم أنها تهلك من عاداها، فوثب المغيرة يضحك منهم، وكان قد أتقن تمثيل دوره، ويقول: والله يا معشر ثقيف ما قصدتُ إلا الهُزْء بكم، إنما هي لَكاعِ؛ حجارة ومدر، ثم ضرب الباب فكسره، ثم علوا سورها، فما زالوا يهدمونها حتى ساووها بالأرض، وأخذوا كنوزها وحليها وثيابها، فجاءوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولما رأى الأعرابيُّ ثعلباً يبول على صنم لبني سليم استهزأ به وعرف أنه ليس بإله. وهكذا فعل الصحابي الذي هداه الله لما رأى صنمه مربوطاً بجيفة كلب مُدَّلى في بئر. كانت تلك حال أهل الجاهلية. فماذا فعل أهل جاهليتنا؟ لقد جعلوا بدل الأصنام قبوراً، وبدل بيت الصنم شباك القبر، وجعلوا ذلك الحديد الذي حول القبر مكان المَسْح، وأعتاب القبر تُقَبَّل، ويُحج إليه، ويذبح عنده، ويطاف به، وهكذا.

التبرك بغار حراء وغار ثور

التبرك بغار حراء وغار ثور وكذلك غلا الناس في بعض الآثار النبوية، كـ غار حراء، وغار ثور، ويريدون إحياء مكان خيمة أم معبد، ونحو ذلك. وقد قطع عمر رضي الله عنه شجرة الرضوان التي قالوا: إنها هي الشجرة التي بويع عندها النبي صلى الله عليه وسلم، لما رأى الناس يأتونها، وقال: [[إنما هلك مَن كان قبلكم بمثل هذا، يتبعون آثار أنبيائهم فيتخذونها كنائس وبيعا]. ولذلك لما رأى أحد الصحابة أخاً له قادماً من جبل الطور، قال: أما لو أدركتك قبل أن ترحل إليه ما رحلتَ، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تُشَد الرحال) الحديث. وكان مالك بن أنس، وغيره من علماء المدينة يكرهون إتيان المساجد الأخرى غير المسجد النبوي ومسجد قباء أو الآثار النبوية ونحو ذلك، ولا يأتون أماكن الآثار للفرجة ولا لغيرها. وقال شيخ الإسلام رحمه الله: إذا قصد الرجل الصلاة عند بعض قبور الأنبياء أو بعض الصالحين تبركاً بتلك البقعة فهذا عين المحادة لله ورسوله. وقال: مِثْل مَن يذهب إلى حراء ليصلي فيه ويدعو، أو يسافر إلى غار ثور ليصلي فيه ويدعو، أو يذهب إلى الطور ليصلي فيه ويدعو، أو يسافر إلى غير هذه من الأمكنة أو الجبال التي يقال عنها: إنها مقامات الأنبياء، فلا شك أن هذا الرجل قد وقع فيما نهى الله ورسوله عنه. وقد تصدى علماؤنا حفظهم الله لمن يريد إحياء الآثار النبوية بزعمهم، كطريق الهجرة، ومكان خيمة أم معبد، وأن يحولوها إلى مزارات يأتي إليها الناس، ولا شك أن هذا من الأسباب التي توصل إلى الشرك، وكثير من الناس فيهم جهل.

بدعة الاحتفال بالمولد

بدعة الاحتفال بالمولد ويحتفلون أيضاً بأزمنةٍ يقولون فيها بركة، مثل وقت المولد، وغير خافٍ عليكم ما حصل قبل فترة بسيطة من الاحتفال به عند كثير من المسلمين. فمن الذي أحيا المولد؟ ومن الذي بعث المولد في البلاد؟ إنهم بنو ميمون القداح، الذين تسموا بالفاطميين، وهم غير قرشيين، بل إن جدهم مجوسي. قال أبو بكر الباقلاني رحمه الله: القداح جد عبيد الله الذي يسمى بـ المهدي، كان مجوسياً، لا تنعقد لهم بيعة ولا تصح لهم إمامة، كان المهدي عبيد الله باطنياً خبيثاً حريصاً على إزالة ملة الإسلام، أعدم العلماء والفقهاء، وأباح الخمر والفروج، وكان زنديقاً ملعونا، ً أظهر سب الأنبياء. والفاطميون هم الذين أحيوا المولد، ونشروا الاحتفال به، ويتابعهم الجهلة من بني عصرنا وغيرهم إلى هذا الوقت على الاحتفال بيوم المولد، وأنه يوم مبارك بزعمهم، ويتبركون بذوات الصالحين، ويقولون: الشيخ فلان، وإذا دخل تمسحوا به ثم مسحوا أنفسهم، أو مسحوا وجوه أطفالهم، وهكذا يفعلون بمشايخهم، بل وصل الحد إلى أنهم كانوا يتبركون بـ الحلاج، وهو من زعماء البدع المكفِّرة، حتى كانوا يتمسحون ببوله، ويتبخرون بروثه. وفي أمم الأرض اليوم، وفي كثير من البلدان من يتمسحون بالأشخاص، والمغارات، والجدران، ومغارة الخضر، ونحوها، ويزعمون أنها أماكن مباركة، وهكذا حصل الشرك وانتشر في الأمة. ويقول بعض الناس لبعض: تفضل! بارك لنا البيت، أو تبارَكْتَ علينا يا فلان، وإنما البركة من الله، الله هو الذي يبارك، لا يبارك فلان ولا فلان، الله الذي يبارك فقط سبحانه وتعالى. نسأل الله أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يجنبنا البدع والشرك بأنواعه، والفتن ما ظهر منها وما بطن.

التعلق بالدين لا بالأشخاص

التعلق بالدين لا بالأشخاص لقد كان لغزوة أحد الأثر الكبير في تهيئة النفوس لاستقبال الأخبار التي قد تؤثر على نفوسهم، من هذه الأخبار: خبر وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم الذي جاء في القرآن، وقد أوضح أن رسولنا صلى الله عليه وسلم إنما هو رسول من سائر الرسل مبيناً أن التعلق لا يكون بالأشخاص وإنما بالدين.

إعداد النفوس في أحد لتلقي نبأ الوفاة

إعداد النفوس في أحد لتلقي نبأ الوفاة إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار. يقول الله سبحانه وتعالى في القرآن المجيد: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144]. هذه الآية العظيمة من كتاب ربنا سبحانه وتعالى فيها بيان كافٍ لقواعد من أسس التربية الإسلامية، ووضع صحيحٍ في محله للموازين التي ينبغي أن يكون المرء المسلم متزوداً بها وهو ينظر في واقعه ومن حوله، كان لهذه الآية فعلٌ عظيمٌ في مناسبتين خطيرتين من مناسبات الإسلام: أما الأولى: فهي وقعة أحد؛ التي انهزم المسلمون فيها بعد أن نصرهم الله في بادئ الأمر، ثم انهزموا فيها لأسبابٍ أربعة جاء ذكرها في القرآن الكريم: أولاً: {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ} [آل عمران:152]. ثانياً: {وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران:152]. ثالثاً: {وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} [آل عمران:152]. رابعاً: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا} [آل عمران:152]. فلأن التفرق قد حل بينهم في تلك اللحظات، والتنازع، ومعصية أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم، والطمع في الدنيا للجري وراء الغنائم؛ حلت بهم الهزيمة، وأشيع بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل، وادعى ذلك بعض كفار قريش. وفي هذه اللحظات العصيبة التي أشيع فيها مقتل القائد؛ الذي يتجمع الجنود حوله ويصدرون عنه في أمره ونهيه، وهو الذي يعد لهم ويرتب، وهو الذي عليه المدار، ومنه تنبثق الأمور؛ حلت النكبة العظيمة في جيش المسلمين، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ليس كأي قائد من القواد، بل إنه قدوة عظيمة، وهو مصدر الوحي من عند الله عز وجل، ولذلك كان وقع خبر مقتله صلى الله عليه وسلم على صحابته وقعاً في غاية السوء. وقد أيد ذلك أن شخصه صلى الله عليه وسلم قد غاب عن ساحة المعركة في وقت من الأوقات، وكان عليه الصلاة والسلام مختبئاً محصوراً في زاوية من الجبل هو ونفرٌ قليلٌ من أصحابه، فلما جاء وقع ذلك الخبر كالصاعقة على المسلمين، انقسموا إلى ثلاثة أقسام: فمنهم: من أمعن في الفرار. وقسم ثانٍ: ألقوا السلاح وجلسوا يائسين: لماذا يقاتلون؟ وكيف يقاتلون؟ وعلام يقاتلون وقد مات صلى الله عليه وسلم؟ وقسم ثالث: فقهوا الدين وعاشوا لحظات المصيبة بكامل عتادهم الإيماني، ونظرتهم الشاملة لنصرة دين الله، والاستمرارية التامة لإعلاء كلمة الله حتى آخر لحظة، فكانوا يبثون الحماس في نفوس اليائسين ويقولون: [إذا كان رسولكم قد مات فقوموا فموتوا على ما مات عليه]. وفي لحظات المصيبة والنكبة التي تقع؛ فإن الناس لا بد أن يتقسموا إلى أقسام بحسب الفقه والإيمان الذي وقر في قلوبهم. ويتخذ القرآن من حادثة فرار المسلمين في أحد مادة للتوجيه وتقرير حقيقة إسلامية عظيمة في التصور الإسلامي، إن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سبقته الرسل، وقد مات الرسل من قبله، فهو إذاً سيموت لا محالة كما مات من قبله، هذه حقيقةٌ أوليةٌ بسيطةٌ، فما بالكم -أيها المسلمون- قد غفلتم عنها حين واجهتكم تلك الحقيقة في ساعات المعركة، إذا مات المبلغ، فإن البلاغ باقٍ، والبشر إلى فناء والعقيدة إلى بقاء.

توضيح وظيفة رسول الله في قوله تعالى: (وما محمد إلا رسول)

توضيح وظيفة رسول الله في قوله تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ) إنه عليه الصلاة والسلام قد جاء ليأخذ بأيدي المسلمين إلى العروة الوثقى، ليعقد بها أيدي البشر، ثم يدعهم عليها ويمضي وهم به مستمسكون، هذا هو المفروض أن يكون: (تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك). مات عليه السلام وذهب بشخصه وبقيت دعوته حية، من الذي يستمسك بها؟ ومن الذي يعضُّ عليها بالنواجذ؟ أنتم -أيها المسلمون- تأملوا في أنفسكم: لقد ذهب رسولكم صلى الله عليه وسلم إلى ربه، فمن الذي بقي بعده مستمسكاً بحبل الله عز وجل، وبالعروة الوثقى؟ إن الدعوة إلى الله أقدم من الداعية: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران:144] خلوا من قبله يحملون الدعوة الضاربة في جذور الزمن، وهي أكبر من الداعية، الدعاة يجيئون ويذهبون، وتبقى الدعوة إلى الله على مر الأزمان والقرون. إذاً لابد من توضيح دور الشخصيات بالضبط في هذا الدين، أن تعمل للدين هذا فرضٌ واجبٌ، أن تكون الشخصيات قدوةً حيةً تحرك نفوس المسلمين، هذا أمرٌ مهمٌ، وأن تكون مشعلاً ينير للناس ظلمات الجاهلية؛ هذا أمرٌ مطلوب، ولكن أن يكونوا هم الدين، كلا. إن هذا أمرٌ لن يتم مطلقاً؛ لأنهم سيذهبون. مشكلة كثيرٍ من المسلمين اليوم (عقدة الشخصانية) أنهم يتعلقون بالأشخاص على حساب المنهج، وهذا التعلق مذمومٌ لأسباب كثيرة: فمنها: لو أن هذا الشخص ضل، أو انحرف، أو ارتد عن دين الله، أو أخطأ كما هو متوقعٌ -لأن البشر غير معصومين- فإذاً ما الذي سيحصل لو كان التقليد الأعمى هو الذي قد استقر في النفوس؟ فإن (عقدة الشخصانية) -التعلق بالأشخاص- قد يصل إلى درجة عبادتهم من دون الله، فيتابعون على تحليل الحرام وتحريم الحلال، إن تمجيد الأشخاص في النفوس عقدةٌ مذهلةٌ تصرف كثيراً من المسلمين عن الحق، ولو أن هذا القدوة، أو هذا الشخص قد ابتعد في سفرٍ، أو موتٍ، أو ابتعد عنه، ما هي النتيجة؟ إذاً أيها الإخوة: لا بد أن نقدر الأمور بقدرها الشرعي، ونضبطها بالميزان الإلهي؛ ألا نغلو في الأشخاص كما نحفظ لهم حقوقهم، إن الذين استقاموا على الشريعة لهم مكانة عظيمة في نفوسنا، ولكن تلك المكانة لا تحملنا على ترك هجر الحق وتركه لأجلهم، إن الحق عندنا أغلى من الرجال، إن الحق أحق أن يتبع. لقد استغلت حادثة معركة أحد لإعداد الجماعة المسلمة لتلقي الصدمة الكبرى حين تقع، والصدمة الكبرى هي وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله يعلم أنها ستقع وبأي وقت ستكون، فبين القرآن أن الصلة بالله لا بغيره، وأن هؤلاء محاسبون أمام الله لا أمام غيره. قال الإمام ابن القيم رحمه الله في الزاد " ومنها -أي: من الغايات في هذه الغزوة- أن وقعة أحد كانت مقدمةً وإرهاصاً بين يدي موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنبأهم ووبخهم على انقلابهم على أعقابهم إن مات رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قتل، بل الواجب عليهم أن يثبتوا على دينه وتوحيده، ويموتوا عليه ويقتلوا، فإنهم إنما يعبدون رب محمد وهو حيٌ لا يموت، فلو مات محمد أو قتل لا ينبغي لهم أن يصرفهم ذلك عن دينه وما جاء به، فكل نفس ذائقة الموت، وما بعث محمد صلى الله عليه وسلم إليهم ليخلد ولا هم، بل ليموتوا على الإسلام والتوحيد ". ا. هـ ولذلك لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبضت روحه، يقول الراوي: فتشهد أبو بكر فمال إليه الناس، فقال: [أما بعد: فمن كان منكم يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله، فإن الله حيٌ لا يموت، قال الله عز وجل: ((وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)) [آل عمران:144] قال: والله لكأن الناس لم يكونوا يعلمون أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقاها منه الناس، فما أسمعُ بشراً من الناس إلا يتلوها] رواه البخاري.

أهمية التربية في إعطاء الناس المبادئ النظرية

أهمية التربية في إعطاء الناس المبادئ النظرية أيها الإخوة: إن التربية مهمة في إعطاء الناس المبادئ النظرية التي يستعملونها في الواقع العملي، ولكن عندما تأتي الحاجة إلى استغلال هذه المبادئ، وإلى هذه الآيات والأحاديث، فإن ضغط الواقع وحجم المصيبة قد ينسي في تلك اللحظة تلك المبادئ النظرية التي تلقيت وحاول المربي أن تستقر في النفوس. فإذاً لا بد من إنسان يعيد إلى الذاكرة تلك المبادئ وهذه الأسس التي سبق أن أخذت مكاناً لها في الذاكرة، لماذا؟ لأن الواقع العملي يحتاج في لحظات الشدة إلى قواعد يتكئ عليها المصاب التي حدثت به المصيبة، فتذكر هذه الأشياء وإعادتها إلى الأذهان من صفات عباد الله الشاكرين الذين ثبتوا ويقومون بتثبيت الناس، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: [[والله ما هو إلا أن تلاها أبو بكر -يعني: قوله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ} [آل عمران:144] حتى عقرت- دهشت وبلغ بي الروع كل مأخذ- وأنا قائم، حتى خررت إلى الأرض، وأيقنت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات]. عمر رضي الله عنه وأرضاه بعظمته وسعة علمه وفقهه ما كان يصدق أنه صلى الله عليه وسلم قد مات حتى سمع الآية التي ذكره بها أبو بكر، وفي رواية: [[والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها، فعرفت أنه الحق، فعقرت حتى ما تقلني رجلاي، وحتى هويت إلى الأرض، وعرفت حين سمعته تلاها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات]. قالت عائشة: [[لقد بصَّر أبو بكر الناس في الله، وعرفهم الحق الذي عليهم، وخرجوا به يتلون: ((وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ)) [آل عمران:144]]. في المواقف الصعبة يظهر دور الشخصيات القيادية في المجتمع التي تقود الناس بالوحي يظهر أثرها في تثبيت الناس. عظم أبو بكر الصديق حتى صار ملجأً للناس يلجئون إليه، والحادثة كشفت عن قدرة هذا الرجل وإيمانه وعمله، لم يقم بدوره عمر، ولا عثمان، ولا علي، ولا بقية الصحابة، ولذلك كان جديراً أن يكون أفضل الأمة بعد نبيها، وخليفة المسلمين بعد رحيل نبيهم صلى الله عليه وسلم. إذاً: الحادثة تعلم كيفية التعامل مع الواقع السيء، كيفية التعامل مع الناس في أجواء الشدة وأجواء المحنة، إن الناس قد جاءوا إلى أبي بكر والتفوا حوله لما وقعت المصيبة، وذهلتهم الصدمة في الرواية الصحيحة التي رواها الترمذي وغيره، قال الراوي: [جاء أبو بكر والناس قد دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا أيها الناس! افرجوا لي، فأفرجوا له، فجاء حتى أكب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسه، فقال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30] ثم قال الناس: يا صاحب رسول الله! أقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: نعم. فعلموا أن قد صدق، قالوا: يا صاحب رسول الله! أيصلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. قالوا: وكيف؟ قال: يدخل قومٌ فيكبرون ويصلون ويدعون، ثم يخرجون، ثم يدخل قومٌ فيكبرون ويصلون ويدعون، ثم يخرجون حتى يدخل الناس، قالوا: يا صاحب رسول الله! أيدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. قالوا: أين؟ قال: في المكان الذي قبضه الله فيه، فإن الله لم يقبض روحه إلا في مكان طيب، فعلموا أن قد صدق]. كبار الصحابة والمجتمع المدني وجميع الناس يسألون رجلاً واحداً يصدرون عن رأيه وفتواه المستندة إلى العلم الشرعي، واحد ثبت الناس كلهم، واحد رجع إليه الناس وفاءوا، واحد أنقذ الناس من هول الصدمة، وعرفهم كيف يعملون، وماذا يصنعون، واحدٌ هو الذي قادهم حتى صار بعد ذلك أمر المسلمين إليه فأنقذهم، واحدٌ هو الذي قاوم الردة بأسرها، واحدٌ هو الذي كان رأيه أن يقاتل المرتدين بمللهم حتى اجتمع أمر الصحابة على ذلك. إذاً -أيها الإخوة- المواقف هي التي تبرز الرجال، فلو شاهدت ميتاً مات في دار بعض الناس، تجد الإنسان الذي أنعم الله بالثبات، يثبت نساء الميت وأولاده وأقرباءه، ويكون هو الشعلة التي تتحرك في هول تلك الصدمة هو الذي يبصر الناس بالواجب الشرعي عليهم. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا ثابتين على الحق مثبتين لغيرنا عليه، وصلى الله على نبينا الأمي، وأستغفر الله لي ولكم.

أثر وفاة الرسول على الصحابة

أثر وفاة الرسول على الصحابة الحمد لله الذي لا إله إلا هو لم يتخذ صاحبةً ولا ولداً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وجاهد في الله حق جهاده حتى لقي ربه وقد أعذر وأنذر، وبلغ الناس ما أنزل إليهم من ربهم. أيها الإخوة: إن الجو الذي عاشه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي مات فيه كان جواً حالكاً جداً يعبر عنه الراوي في الحديث الصحيح وهو أنس فيقول: (لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء، وما نفضنا أيدينا من التراب، وإنا لفي دفنه حتى أنكرنا قلوبنا). أظلم منها كل شيء، هول الصدمة أراهم الواقع مظلماً لا يرون شيئاً، اسودت الدنيا في أعينهم، وكانوا كما جاء في وصفهم: كالغنم المتفرقة في الليلة الشاتية المطيرة، كيف يفعل الليل والشتاء والمطر والبرد بقطيع من الغنم؟ كيف يبعثرها؟ ولذلك فالثبات في لحظات الفتنة، وفي لحظات المحنة، والصدمة أمرٌ مهمٌ جداً، ولذلك يقول الله في آخر هذه الآية: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً} [آل عمران:144] سيأتي الله بقومٍ يحبهم ويحبونه، ليست المسألة في الأشخاص، دين الله باقٍ ولو ارتد الناس، سيأتي الله بقوم يقومون بهذا الدين: {وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً} [آل عمران:144] لن يضر إلا نفسه، ثم قال: {وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144] قال ابن الجوزي رحمه الله في زاد المسير: وفي هذه اللفظة (الشاكرين) أقوالٌ: أحدها: أنهم الثابتون على دينهم قاله علي، وقال: كان أبو بكر أمير الشاكرين. وقال ابن القيم رحمه الله: والشاكرون هم الذين عرفوا قدر النعمة، فثبتوا عليها حتى ماتوا وقتلوا، فظهر أثر هذا العتاب، وحكم هذا الخطاب يوم موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وارتد من ارتد على عقبيه من كفار العرب، وثبت الشاكرون على دينهم، فنصرهم الله وأعزهم وأظفرهم على أعدائهم، وجعل العاقبة لهم. فإذاً: تحمل المسئولية في نصرة هذا الدين هي للشاكرين الذين ثبتوا، والقيام بتثبيت الناس وظيفة مهمة ينبغي أن يقوم بها أولئك الشاكرون. ومن عجائب الأمور التي تذكر بها هذه المناسبة: أن الله عز وجل يقول عن هذا القرآن: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) [البقرة:26] هذه الآية في المجتمع المدني ثبتت الصحابة رضوان الله عليهم لما مات عليه السلام، فخرجوا يتلونها، أما طائفة من المستشرقين من أبناء هذا الزمن، فإنهم قالوا في هذا الحديث: إن هذه الآية من بنات أفكار أبي بكر، وأنه اخترعها لحظة حصول الصدمة ليمتص بها الصدمة، وهذه الآية قديمة جداً، هذه الآية نزلت في آيات تعقب على غزوة أحد، فتباً لتلك العقول! وفعلاً إن الله يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً؛ آية من كتاب الله اهتدى بها أقوام وثبتوا، وضل بها أقوام وزاغوا، هذا القرآن إذاً يثبت الله به المؤمنين، وليس كل الناس يكون هذا القرآن ذا أثر إيجابيٍ على أنفسهم. اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم اجعلنا من الشاكرين في النعماء، الصابرين في البأساء والضراء وحين البأس، اللهم ثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمةً إنك أنت الوهاب، اللهم وطهر بلادنا من الشرك والبدع، اللهم واحمها من كل عدو للإسلام والمسلمين، اللهم من أراد بنا وببلدنا سوءاً فاجعل كيده في نحره، اللهم من أراد بلاد المسلمين بسوء اللهم فطهر الأرض من رجسه. والحمد لله رب العالمين.

التوفيق بين عمل الدنيا وعمل الآخرة

التوفيق بين عمل الدنيا وعمل الآخرة إن الله سبحانه وتعالى دعا عباده إلى العمل والتكسب لأجل المعيشة، ومع ذلك دعا إلى المسارعة والمسابقة إلى طاعته، مما يدل على أن الإنسان لابد أن يوفق بين عمل الدنيا وعمل الآخرة، وأن يسعى في هذه الدنيا بضوابط شرعية فرضها الله سبحانه وتعالى عليه.

أحوال الناس تجاه عمل الدنيا والآخرة

أحوال الناس تجاه عمل الدنيا والآخرة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد. فمع عودة كثيرٍ من الناس إلى أعماهم ودراساتهم، أنبه وأعرض في هذه الخطبة -أيها المسلمون- إلى مفهومٍ إسلامي أصيل، وتصورٍ جاء به هذا الدين العظيم، وهو: أن طريق الدنيا والآخرة طريق واحد، وأن طريق العبد في هذه الحياة حتى ولو كان يعمل للدنيا فإنما هو ينظر إلى الآخرة؛ إذ أن التعارض بين الدنيا والآخرة والفصل بينهما صار عند كثيرٍ من الناس بأسبابٍ متعددة، إذا نظروا في أمر الإسلام والدين، ثم التفتوا إلى أمر دنياهم وأعمالهم ووظائفهم وتجارتهم ودراستهم؛ وجدوا تناقضاً وأحسوا بالإثم، ورأوا تعارضاً بين ما هم فيه من أمور الدنيا وبين القرآن والسنة، وهذا الشعور له مصادر متعددة، فقد يكون نتيجةً لتصور خاطئ، وقد يكون نتيجةً لممارسةٍ خاطئةٍ وعملٍ محرم، فالذين يعملون في المحرمات وظيفةً وتجارة ودراسة شعورهم بالتعارض بين دنياهم وآخرتهم شعور حقيقي وصحيح، ويجب أن يشعروا أن ما هم فيه من عمل الدنيا يتعارض مع الآخرة تعارضاً واضحاً لماذا؟ لأنهم يعملون في مجالاتٍ محرمة منافيةٍ للدين، وتصير أمور دنياهم في هذه الحالة مخالفةً لأحكام دينهم، فيجب على هؤلاء ترك المحرمات التي هم فيها واقعون. ومن المسلمين طائفة ثانية تشعر بالتعارض؛ لأنه غلَّب جانب الدنيا على جانب الآخرة في الاهتمام والعمل، فشعوره -أيضاً- شعورٌ صحيح؛ لأنه غبن نفسه وفوت عليها حسناتٍ كثيرة لو حصلها لارتفع عند الله في الآخرة، ولأنه انشغل بالفاني، عن العمل للباقي، وركز جهده في هذه الحياة التي تنتهي؛ ركز فيها جهده وعمله، وجعل الفتات والفضلة من وقته لأمر الآخرة التي لا تنتهي، والتي حياتها في خلودٍ دائم فهذا مغبونٌ ومسكين؛ لأنه انشغل بما ينتهي عما لا ينتهي، وبالفاني عن الباقي، فينبغي أن يعود، ويعدل الميزان، وأن يجعل عمله للآخرة هو الأكثر. ومن المسلمين من يرى تعارضاً بين الدنيا والآخرة لخطأ في تصور القضية طريق الدنيا وطريق الدين، فهؤلاء ينبغي أن يبصروا ويفقهوا ليزول اللبس فلا يتعذبون، وليعملوا وهم في راحة. يصر البعض على زعم أن العبادة تتعارض مع الكسب والعمل في الصناعة والتجارة والزراعة وغيرها، وأن من أراد الآخرة فلا بد أن يطلَّق الدنيا طلاقاً باتاً حتى يصلح قلبه.

شبهة الصوفية والرد عليها

شبهة الصوفية والرد عليها يقول بعض هؤلاء من الصوفية وغيرهم: إن الصحابة لم يفتحوا البلدان، ولم يصلوا إلى المنزلة العالية من الدين، إلا بعد أن تركوا الدنيا وتفرغوا تفرغاً تاماً للعبادة والجهاد فما صحة هذا الكلام؟ A إن هذا الكلام فيه تعسفٌ ومنافاة لمصلحة الإنسان وفطرته التي فطره الله عليها، وبعيدٌ عن الحكمة والعقل السليم والواقع، وهو مغاير قبل ذلك كله لحال الصحابة رضوان الله عليهم، وللرد على تلك المزاعم نريد إلقاء الضوء على النظرة الشرعية للعمل الدنيوي والكسب أولاً، وكيف طبق الصحابة ذلك في حياتهم ثانياً؟ أما المسألة الأولى: فقد قال الله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77]، قال ابن كثير رحمه الله: "أي: استعمل ما وهبك الله من هذا المال الجزيل، والنعمة الطائلة، في طاعة ربك والتقرب إليه بأنواع القربات، التي يحصل لك بها الثواب في الدنيا والآخرة". قوله تعالى: {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77] هذه الآية فيها تفسيران: الثاني: أي: لا تنس ما أباح الله فيها من المآكل والمشارب والملابس والمساكن والمناكح، فإن لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، ولزورك -أي: ضيوفك وزائريك- عليك حقاً، فأعطِ كل ذي حقٍ حقه. وقال الحسن وقتادة: [أي: لا تضيع حظك من دنياك في تمتعك بالحلال وطلبك إياه]. وهذا مثل قول ابن عمر رضي الله عنه: [احرث لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً] وقال الحسن: [قدم الفضل وأمسك ما يبلغ] وقال مالك: "هو الأكل والشرب بلا سرف". هذا معنى: لا تنس نصيبك من الدنيا لا تنس الحلال فهو نصيبك من الدنيا.

الكسب والفرق فيه بين المؤمنين والكفار

الكسب والفرق فيه بين المؤمنين والكفار مسألة الكسب -أيها الإخوة- مسألة شرعية تحصيل المال لإنفاقه على النفس، وسد الحاجة مطلبٌ شرعي، وليست قضيةً دنيويةً بحتة يرتبط بتحصيل الكسب للإنفاق على النفس وسد الحاجة، أجرٌ وثوابٌ في الآخرة، فهي ليست قضية دنيوية مجردة، وهذا من الفروق بين المسلمين والكفار؛ فالكفار لا يحتسبون -في عملهم للدنيا في وظائفهم ودراساتهم وأبحاثهم- أجراً عند الله، وإن كانوا يقولون: إن ذهابهم إلى الكنيسة من أجل أن يجدوا فائدة ذلك بعد الموت، لكنهم لا يحتسبون في أعمالهم الدنيوية أي نوعٍ من أنواع الأجر. وأما المسلمون: فانظر في هذا الحديث الصحيح: قال صلى الله عليه وسلم في الخارج من بيته: (إن كان خرج يسعى على ولده صغاراً فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياءً ومفاخرةً فهو في سبيل الشيطان). مسألة الغرس التي يغرسها الإنسان في الأرض، مع أن ظاهرها قضية دنيوية، ولكن لها في الآخرة اتصال وثيق؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يغرس غرساً، أو يزرع زرعاً، فيأكل منه طير، أو إنسان، أو بهيمة، إلا كان له به صدقة) رواه البخاري. قال ابن حجر رحمه الله: وفي الحديث فضل الغرس والزرع، والحض على عمارة الأرض. ويستنبط منه: اتخاذ الضيعة -وهي التي يسميها الأولون بهذا الاسم- كالمزرعة وغيرها، والقيام عليها. وفيه فساد قول من أنكر ذلك من المتزهدة من الصوفية وغيرهم. فأما ما ورد من النهي عن ذلك فإنه يحمل على من استكثر بها واشتغل عن أمر الدين، وقوله: "إلا كان له صدقة إلى يوم القيامة"، مقتضاه أن أجر ذلك الغرس يستمر حتى لو مات الزارع والغارس وانتقل ملكية الزرع إلى غيره.

كيفية دخول الدنيا في الآخرة

كيفية دخول الدنيا في الآخرة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بينما رجلٌ بفلاةٍ من الأرض، فسمع صوتاً في سحابة: اسق حديقة فلان، فتنحى ذلك السحاب، فأفرغ ماءه في حرة، فإذا شرجة من تلك الشراج قد استوعبت ذلك الماء كله) والحرة: الأرض الملبسة حجارة سوداء. والشرجة: مفرد شراج، وهي مسالك الماء الطرق التي يسيل فيها الماء وينحدر. (فإذا شرجة من تلك الشراج قد استوعبت ذلك الماء كله -الذي نزل من السماء- فتتبع الماء) هذا الرجل الذي سمع الصوت من السحابة يتتبع الماء إلى أين ينتهي (فإذا رجلٌ قائمٌ في حديقته يحول الماء بمسحاته، فقال له: يا عبد الله! ما اسمك؟ قال: فلان، للاسم الذي سمع في السحاب) طابق الاسم الذي قاله له الرجل الاسم الذي سمعه في السحابة قبل قليل: اسق حديقة فلان (قال: فما تصنع فيها؟ -ما شأنك في هذه الحديقة والمزرعة- قال: أما إذا قلت هذا فإني أنظر إلى ما يخرج منها فأتصدق بثلثه، وآكل أنا وعيالي ثلثاً، وأرد فيها ثلثه)، وفي رواية: (وأجعل ثلثه في المساكين والسائلين وابن السبيل) رواه مسلم. إذاً هذا الحديث يدل على الاشتغال بالزرع لحاجة الإنسان وأهله، وحاجة الأرض والمشروع الأساسي، ثلثان لهذا الذي يتصور الناس أنه من الدنيا، ولكن ذلك الرجل بصلاح نيته وصدقته الثلث من الدخل صدقة، قد بلغ به هذا الحال عند الله أن أكرمه بهذه الكرامة العظيمة. وحتى يكون لدينا مثال آخر في قضية دخول الدنيا في الآخرة: لنتأمل في مسألة التجارة في الحج؛ هذا الركن العظيم من أركان الإسلام، أباح الشارع الحكيم التجارة فيه لعلمه بحاجات الناس وما يصلحهم؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: [كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقاً في الجاهلية، فلما كان الإسلام تأثموا من التجارة فيها -في مواسم الحج- فأنزل الله: ((لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ)) [البقرة: 198]] رواه البخاري. فكيف إذاً سمح لنا بالتجارة في موسم الحج؟! إن أعمال الحج ماشية، والحاج يسير في نسكه، ويجوز له أن يتاجر! نعم لو تفرغ للعبادة لكان أفضل، ولكن لا يمنع ذلك أن يتاجر في ذلك الموسم، وأن يبيع ويشتري ماذا يعني هذا؟ مراعاة الشريعة لحال الناس، وأن هذا دين يلبي طلبات الناس، وأن من ابتغى بعمله الله عز وجل ولو كان عمله دنيوياً أنه يؤجر على ذلك.

الصحابة وجمعهم بين كسب الدنيا والعلم والعمل

الصحابة وجمعهم بين كسب الدنيا والعلم والعمل كيف طبق الصحابة مسائل الكسب وهم يعيشون في طلب العلم والجهاد والعبادة بأنواعها؟ يشتكي الآن عدد من المخلصين ويقولون: لا نستطيع أن نوفق بين الدنيا وطلب العلم، وبين الدنيا والعبادة فكيف نفعل؟ صحيح أن المجتمع قد تعقد كثيراً، وأنه قد صارت هناك متطلبات لا توجد في العصر الأول، لكن هناك شيءٌ أساسي مشترك، وهو: الحاجة الشخصية إلى المال والكسب. قال عمر -رضي الله عنه- لـ ابن عباس يعلمه قصة المرأتين، قال: [كنت أنا وجارٌ لي من الأنصار في بني أمية بن زيد، وهم من عوالي المدينة، وكنا نتناوب النزول على النبي صلى الله عليه وسلم، فينزل يوماً وأنزل يوماً؛ فإذا نزلت جئته بما حدث من خبر ذلك اليوم من الوحي أو غيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك] رواه البخاري. عمر يحتاج إلى العمل يحتاج لكسب قوته الصحابة لم يكونوا يمدون أيديهم للناس وهم يستطيعون كسب أقواتهم، كان عندهم عزة؛ فهم يعملون لأجل كسبهم كان بين عمر وشخص آخر صداقة أدت إلى عمل مشترك في زراعة؛ فكان عمر يعمل يوماً وينزل ذلك الرجل لطلب العلم، والرجل يعمل في اليوم الثاني وعمر ينزل في ذلك اليوم لطلب العلم، ثم يخبر كل واحدٍ منهما الآخر بما حصل في ذلك اليوم من خبر الوحي أو غيره، كما قال عمر: لا يسمع شيئاً إلا حدثه به، ولا يسمع عمر شيئاً إلا حدثه به، وفي رواية: [يحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غبت، وأحضره إذا غاب، ويخبرني وأخبره]. قال ابن حجر رحمه الله: وفيه أن طالب العلم يجعل لنفسه وقتاً يتفرغ فيه لأمر معاشه وحال أهله. أيها الإخوة: العظمة كيف استطاع ذلك الجيل أن يجمع بين تحصيل الكسب الدنيوي وبين تحصيل العلم؛ إنه لم يطلب العلم يوماً ويتفرغ للدنيا يوماً ثم يفوت العلم الذي كان في اليوم الذي عمل فيه للدنيا، كلا! إنه كان يحصل العلم لنفسه يوماً، ثم يسمعه من غيره عن اليوم الآخر من ناحية الفائدة والمعلومات لا يفوته شيء، ولكن لا بد من عمل قد يفوت شيئاً من الفضل والأجر؛ كحضور مجلس العلم، والجلوس عند العلماء، ولكن هكذا فعلوا، وهكذا وفقوا بين طلبات الدنيا والطلبات الدينية؛ بين الحاجات الدينية، والحاجات الدنيوية، فلم يكن الصحابة ممتنعين عن الكسب، فهذا أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه خدم النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين، يقول أبو العالية: [وكان له -أي: لـ أنس - بستان يحمل في السنة الفاكهة مرتين، وكان فيه ريحانٌ كان يجيء منه ريح المسك]. رواه الترمذي وحسنه. وكذلك رعوا الغنم مع أن رعي الغنم عمل دنيوي، وهكذا حصل لـ سعد رضي الله عنه في غنمٍ له؛ فقد فر من الفتن إلى خارج المدينة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (يعجب ربك من راعي غنم، في رأس شظية الجبل، يؤذن بالصلاة ويصلي، فيقول الله عز وجل: انظروا إلى عبدي هذا، يؤذن ويقيم الصلاة، يخاف مني، قد غفرت لعبدي وأدخلته الجنة) رواه النسائي. إذاً العمل الدنيوي مستمر؛ لكن إذا جاء وقت الصلاة فأذان وصلاة ولو كان وحيداً في فلاةٍ من الأرض، وكذلك المؤمن يرعى حق الله وهو في الوظيفة والدراسة، لكن عندما يقول: الحصة أهم من الصلاة ولو ضاع وقتها، والتجارة والوظيفة لا تنقطع لأجل العمل ولا تنقطع لأجل الصلاة؛ فهذا هو المسكين. أيها الإخوة: إن التوفيق ممكن، والطريقان واحد، إذا ابتغى الإنسان وجه الله عز وجل، فقد أحلَّ الله تعالى البيع، وقال عن التجارة العالمية والنقل البحري: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ} [البقرة:164] {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [النحل:14] {رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ} [الإسراء:66] ومعنى يزجي: أي يُجري ويُيسر، وأكثر البضائع في العالم الآن تنقل عبر الشحن البحري، وهذه منة من الله {وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ} [فاطر:12] أي: السفينة العظيمة تجري في البحار بما ينفع الناس من البضائع والتجارة؛ لتبتغوا من فضله، فأشار إلى التجارة والابتغاء، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أفضل الكسب: (بيع مبرور، وعمل الرجل بيده) رواه الإمام أحمد. وقال عبد الرحمن بن عوف: [دلوني على السوق]. قالها حينما جاء المهاجرون فقراء إلى المدينة، فقال سعد بن الربيع الأنصاري -من أخوته ودينه- لـ عبد الرحمن بن عوف: انظر شطر مالي فخذه -أعطيك شطر المال- قال عبد الرحمن بن عوف: [بارك الله في مالك دلوني على السوق]. فدلوه على السوق، فذهب واشترى وباع وربح، فجاء بشيءٍ من أقطٍ وسمن، وفي رواية البخاري: ثم تابع الغدو -أي: داوم الذهاب للتجارة- ثم تزود وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، إذاً: فقد تاجروا وعملوا. وقال أبو هريرة: [إن المهاجرين كانوا يذهبون إلى الأسواق، والأنصار يعملون في النخل] إنها حركةٌ عجيبة حركة المجتمع المدني في عهد النبوة! الجهاد قائم، وطلب العلم قائم، والعبادة قائمة، والتجارة قائمة، ورعي الغنم قائم، والزراعة قائمة، فالمجتمع يعمل للدنيا والآخرة. لقد قدَّم لنا الصحابة -رضي الله عنهم- نموذجاً عملياً لقضية الجمع بين الدنيا والآخرة؛ كانوا في قمة الدين، وكانوا يحصلون الدنيا أيضاً. وقال صخر الغامدي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم بارك لأمتي في بكورها) وكان صخرٌ رجلاً تاجراً، صحابياً فاضلاً، وكان إذا بعث تجارة بعثهم من أول النهار فأثرى وكثر ماله. رواه الترمذي وحسنه. أيها الإخوة: إن هذه القضية تدل بجلاء على أن الطريقين واحد، وأنه ينبغي لنا أن نبتغي بأعمالنا الحلال وجه الله عز وجل، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لأرشد أمرنا، وأن يهيئ لنا من أمرنا رشداً، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم ارزقنا من فضلك واعف عنا واغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

ضوابط التجارة والكسب

ضوابط التجارة والكسب الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأسبغ عليهم رضوانه، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين آمين. عباد الله: لقد حثت الشريعة على العمل، وذمت البطالة والكسل، وكثيرٌ من المسلمين اليوم ما بين انغماسٍ في الدنيا بالكلية أو بطالة عمياء، يقع شبابهم البطالون في المعاصي وهم في الغي سادرون، وقليلٌ من المسلمين من توسط في الأمر وعرف كيف ينتهج النهج الصحيح في هذه الحياة. لقد باشر الصحابة -رضي الله عنهم- الأعمال وتاجروا، حتى ألصق الناس بالنبي عليه الصلاة والسلام وهو أبو بكر الصديق، ما منعه حبه للنبي صلى الله عليه وسلم من الكسب والتجارة والسفر، وقد سافر إلى بصرى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولا منع النبي صلى الله عليه وسلم حبه لقرب أبي بكرٍ من التجارة مع حبه له لقد عملوا في الكسب مع أنه قد عرضت عليهم هبات، لكن الكسب من التجارة أولى من الكسب من الهبة، وهذه المسألة دل عليها حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لأن يحتطب أحدكم حزمةً عل ظهره خيرٌ له من أن يسأل أحداً فيعطيه أو يمنع) رواه البخاري، فهو يدل على أن قضية الشحاذة والسؤال والطلب مذمومة ما دام الإنسان قادراً على العمل، ولم توصد في وجهه الأبواب، ولم تسد السبل؛ فإنه ينبغي أن يعمل وأن ينوي بعمله هذا وجه الله عز وجل. ولكن حتى لا يتصور البعض أن القضية إمضاء الوقت في الكسب والتجارة والوظائف والدراسة؛ لا بد أن نعلم أن الشريعة قد جعلت ضوابط حتى لا يحصل طغيان ولا اختلالٌ في الميزان فما هي هذه الضوابط؟

من ضوابط التجارة: أن يكون العمل مباحا

من ضوابط التجارة: أن يكون العمل مباحاً أولاً: لا بد أن يعمل الإنسان أو يدرس في مجالٍ مباح؛ فإذا عمل في مجالٍ محرم، أو دراسةٍ محرمة، أو إجازة محرمة، أو وظيفةٍ محرمة، أو تجارةٍ محرمة؛ فهو خارجٌ عن هذه المسألة التي ذكرناها خروجاً كلياً، وطريق دنياه توصله إلى جهنم، والأمر واضح وجلي، فإن المكاسب المحرمة والأعمال المحرمة طريق دنيوي لا يتحد مع طريق الآخرة، بل يؤدي إلى جهنم وبئس المصير.

من ضوابط التجارة: التزام أحكام الشريعة

من ضوابط التجارة: التزام أحكام الشريعة ثانياً: لا بد من تطبيق أحكام الشريعة في الأمور الدنيوية، وهذه مسألة ملفتة للنظر حقاً في هذه الشريعة؛ أن الشريعة ما جاءت بأحكامٍ في الصلاة والصيام والحج والذكر والدعاء وتلاوة القرآن فقط، وإنما جاءت بأحكام متعددة في النكاح والطلاق والحضانة والرضاع والبيع والشراء والوكالة والكفالة والرهن والإجارة والحوالة والبناء وأحكام البناء والطرقات وغير ذلك؛ فهذه أمور دنيوية ولكن جاءت فيها أحكام شرعية؛ لأن الله أعلم بما يصلح الخلق ليس في آخرتهم فقط، وإنما في دنياهم أيضاً، ولأن الخلق يظلمون والإنسان ظلومٌ جهول، فإذا أوكل إلى الإنسان أمر دنياه يشرِّع فيه ما يشاء من القوانين ظلم وبغى، ولذلك جاءت الشريعة بأمورٍ محددة وتدخلت الشريعة في الأمور الدنيوية، وصار البيع والشراء والاقتصاد والعلاقات منضبطة بالشريعة في الإسلام، فمن عمل في الدنيا فلا يجوز له أن يعمل في محرمٍ، ولا يبيع محرماً كخمرٍ وخنزيرٍ، ولا يغش ولا يحتكر.

من ضوابط التجارة: الإيمان بحقارة الدنيا مع العمل فيها

من ضوابط التجارة: الإيمان بحقارة الدنيا مع العمل فيها وكذلك من الشروط والضوابط: أن يؤمن الإنسان بحقارة الدنيا وتفاهتها مع عمله فيها وسعيه فيها (ألا إن الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه، وعالم أو متعلم) رواه الترمذي وحسنه. ملعونة أي: مبغوضة من الله، واستثنى: (إلا ذكر الله وما والاه) وما كان في معناه من أعمال البر والخير، ويدخل في ذلك التكسب للإنفاق على النفس والأولاد والصدقة من المال المكتسب، فكأنه قيل: الدنيا مذمومة لا يحمد فيها إلا ذكر الله وعالم أو متعلم، وما كان يخدم قضية الآخرة مما جاءت الشريعة بالأمر به؛ من وجوب النفقة على النفس والأهل، وأداء الحقوق الشرعية، وتدخلت الشريعة في أمور اللباس مع أنه أمر دنيوي؛ فلبس الحرير والذهب محرم على الرجال، والنفقة أوجبتها حتى على البهائم؛ فإذا كان عند الإنسان بهائم فيجب عليه شرعاً أن ينفق عليها، وإذا كان لا يريد، أو قصرت النفقة، فليُطْلِقْها ولا يتركها عنده، فكل إنسانٍ مسئول عن نفقة البهائم التي عنده حتى العصافير في أقفاصها. أيها الإخوة: لقد سئل الإمام أحمد رحمه الله: أيكون الرجل زاهداً في الدنيا وعنده مائة ألف؟ قال: نعم. إذا لم يفرح إذا زادت ولا يحزن إذا نقصت. إذاً يمكن أن يكون زاهداً ولو كان عنده الملايين، وإذا وصل الإنسان وهو يتعامل بالأموال في الدنيا والوظائف لدرجة أن يكون المال عنده بمثابة الحمار الذي يركبه في تنقله، والكنيف الذي يدخل فيه لقضاء حاجته؛ فليس على هذا خوف من التعلق بالدنيا؛ فهو يحصل المال للحاجة، مثل: اتخاذ المرحاض للحاجة فلا بد منه، ولكن القلب ليس متعلقٌ بالمرحاض، ولا بد من اتخاذ وسيلة نقل كانت عند الأولين وكثيرٍ من الآخرين الدواب الحمير، ولكن القلب ليس متعلقاً بالحمار، ولا محباً له وغالياً فيه، وينام على ذكره، ويصحو عليه، ويراه في منامه، كلا! فإذا كان الإنسان يعمل في الدنيا وقلبه ليس متعلقاً بها، وإنما يعمل لأنه لا بد من تحصيلها لنفقاته وعياله؛ فعند ذلك لا خوف عليه.

من ضوابط التجارة: عدم الانشغال بالدنيا عن الآخرة

من ضوابط التجارة: عدم الانشغال بالدنيا عن الآخرة ومن الشروط والضوابط: عدم الانشغال بالدنيا عن الآخرة قال الله تعالى: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور:37]، لم يحرم التجارة ولم يحرم البيع؛ بل قال: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة:275] لكنه ذم الإلهاء ولم يذم التجارة وأثنى على عباده الذين: {لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ} [النور: 37] ليس أن يغلق الدكان للصلاة فقط! لا {عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ} [النور:37] وذكر الله أشياء كثيرة، وطلب العلم من ذكر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9] فهؤلاء لا تشغلهم الدنيا وزخرفها وزينتها وملاذ بيعها وربحها عن ذكر ربهم؛ الذي هو خالقهم ورازقهم. عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه رأى قوماً من أهل السوق أقيمت الصلاة فأغلقوا حوانيتهم ودخلوا المسجد، تركوا بياعاتهم ونهضوا إلى الصلاة، فقال ابن مسعود: [هؤلاء من الذين ذكر الله في كتابه: {رِجَالٌ لا تُلْهِهم تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور:37]]، وكذلك قال ابن عمر رضي الله عنه: [فيهم نزلت: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ} [النور:37]]. قال مطر الوراق: [كانوا يبيعون ويشترون، ولكن كان أحدهم إذا سمع النداء وميزانه في يده خفضه وأقبل إلى الصلاة، وإذا رفع أحدهم المطرقة فأذن ألقاها خلف ظهره ولم يطرق بها] فهذا ضابطٌ مهم جداً في الانشغال بالدنيا، وقد قيل في قوله تعالى: {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77]، قيل: المراد بالنصيب الكفن؛ كأنه قال: لا تنس أن تترك جميع مالك إلا نصيبك الذي هو الكفن، قال الشاعر: نصيبك مما تجمع الدهر كله رداءان تلوى فيهما وحنوط وقال آخر: هي القناعة لا تبغي بها بدلاً فيها النعيم وفيها راحة البدن وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير القطن والكفن إذاً القناعة من الضوابط المهمة في الموضوع.

من ضوابط التجارة: إخراج الزكاة والصدقات

من ضوابط التجارة: إخراج الزكاة والصدقات كذلك من الضوابط في الانشغال في الدنيا: إخراج حقوق الله من ممتلكاتها؛ كتسليم الزكاة من المال، قال الله: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام:141] وإخراج النفقات الواجبة على الزوجة والأولاد والوالدين المحتاجين، والصدقة: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} [البقرة:245]. ثم الالتزام بالأحكام الشرعية في العمل الدنيوي على النحو المتقدم بيانه، وحسن القصد: أن يقصد بتجارته أو عمله وجه الله لا الأشر ولا البطر ولا التفاخر ولا التكاثر، وأن يقصد إعفاف نفسه عن سؤال الناس، والاستغناء عن الخلق، والانفاق على الأهل، وصلة الرحم، وابتغاء الأجر من الله عز وجل. أيها الإخوة: إذا نوى التاجر بهذا هذا، ونوى الطالب بدراسته قوة المسلمين ونفعهم، وأردنا بأعمالنا الدنيوية وجه الله، والتزمنا بالضوابط؛ استطعنا التوفيق ولم نظلم طرفاً من الأطرف. هذه القضية الحساسة والمهمة: التوفيق بين العمل الدنيوي والعمل الأخروي، هذه المسألة الكبيرة من فقهها والتزم بها وسعد في الدنيا سعد في الآخرة. اللهم اجعلنا ممن يخافك ويتقيك، اللهم اجعلنا نخشاك كأنا نراك، وأسعدنا بتقواك، ولا تذلنا بمعصيتك إنك سميع مجيب، اللهم انصر المجاهدين، وانصر من نصر الدين، وأيدهم بملائكة من عندك يا رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الحمد لله يرحمك الله

الحمد لله يرحمك الله في هذه المادة تحدث الشيخ عن أدب من الآداب الشرعية العظيمة التي جاءت بها الشريعة الإسلامية، وهو أدب العطاس، ففي البداية ذكر مجمل الأحاديث الواردة في كتب الحديث عن العطاس، ثم بيّن الأحاديث الموضوعة والضعيفة التي وردت فيه، وعرج في الأخير على الكثير من الأحكام والآداب والفوائد المتعلقة بالعطاس.

أحاديث العطاس عند البخاري

أحاديث العطاس عند البخاري الحمد لله رب العالمين، وصلى وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد نتحدث أيها الإخوة! في هذا الدرس إن شاء الله تعالى عن أدب من الآداب الشرعية العظيمة التي جاءت بها هذه الشريعة، ألا وهو أدب العطاس والتثاؤب، وكذلك أدب يدخل فيه أيضاً وهو التجشؤ والتنخم، وقد وردت عدد من الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم في موضوع العطاس، وذكر الأئمة رحمهم الله هذا الموضوع في كتاب الأدب من كتبهم المصنفة، كما ذكر ذلك البخاري رحمه الله تعالى في كتاب الأدب فقال: باب الحمد للعاطس، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: (عطس رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فشمت أحدهما ولم يشمت الآخر فقال الذي لم يشمته: عطس فلان فشمته، وعطست فلم تشمتني! فقال: هذا حمد الله، وإنك لم تحمد الله) وقال رحمه الله باب تشميت العاطس إذا حمد الله، فيه أبو هريرة وذكر ابن حجر رحمه الله أنه يريد بذلك التنبيه على حديث أبي هريرة خلافاً لما ذكره بعض أهل العلم أن هذا ما اخترمت المنية البخاري قبل أن يتمه ويضع فيه هذا الحديث. عن البراء بن عازب رضي الله عنه، قال: (أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بسبع ونهانا عن سبع، أمرنا بعيادة المريض واتباع الجنازة، وتشميت العاطس، وإجابة الداعي، ورد السلام، ونصر المظلوم، وإبرار المقسم، ونهانا عن سبع: عن خواتيم الذهب، وعن آنية الفضة، وعن المياثر، والعسيِّه، والاستبرق، والديباج، والحرير). ثم قال رحمه الله: باب ما يستحب من العطاس وما يكره من التثاؤب، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يُحب العطاس ويكره التثاؤب، فإذا عطس فحمد الله؛ فحق على كل مسلم سمعه أن يشمته، وأما التثاؤب فإنما هو من الشيطان فليرده ما استطاع فإذا قال: هاه! ضحك منه الشيطان) وقال رحمه الله تعالى: باب إذا عطس كيف يشمت، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله، وليقل أخوه أو صاحبه: يرحمك الله، فإذا قال له: يرحمك الله، فليقل: يهديكم الله ويصلح بالكم) وقال رحمه الله: باب لا يشمت العاطس إذا لم يحمد الله، وذكر فيه حديث سليمان التيمي، قال: سمعت أنساً رضي الله عنه يقول: (عطس رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فشمت أحدهما ولم يشمت الآخر، فقال الرجل: يا رسول الله شمَّتَّ هذا ولم تشمتني، قال: إن هذا حمد الله وأنت لم تحمد الله).

أحاديث العطاس عند مسلم

أحاديث العطاس عند مسلم وذكر مسلم رحمه الله في صحيحه في كتاب المساجد ومواضع الصلاة حديث معاوية بن الحكم السلمي الذي يتعلق أيضاً بموضوع العطاس في الصلاة، قال: (بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أمِِياه! ما شأنكم تنظرون إلي؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم فلما رأيتهم يُصمتونني. لكني سكت -أي: كدت أن أرد عليهم؛ لكني كظمت غيظي وسكت- فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبأبي وأمي! ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فوالله ما كهرني ولا ضربني) الحديث. وستأتي رواية في السنن تشرح هذا النص أيضاً فيها زيادة موضحة، وكذلك من الأحاديث التي ساقها الإمام مسلم في صحيحه في كتاب الزهد والرقائق حديث أبي بردة، قال: (دخلت على أبي موسى -وهو في بيت بنت الفضل بن عباس - فعطست فلم يشمتني، وعطست فشمتها، فرجعت إلى أمي فأخبرتها فلما جاءها، قالت: عطس عندك ابني فلم تشمته وعطست فشمتها، فقال: إن ابنك عطس فلم يحمد الله فلم أشمته، وعطست فحمدت الله فشمتها، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا عطس أحدكم فحمد الله؛ فشمتوه، فإن لم يحمد الله؛ فلا تشمتوه). وكذلك ذكر حديث إياس بن سلمة بن الأكوع أن أباه حدثه: (أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم عطس رجلاً عنده فقال له: يرحمك الله ثم عطس أخرى فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: الرجل مزكوم) ظاهر رواية مسلم أنه قالها في المرة الثانية وسيأتي في السنن أنه قالها بعد ثلاث.

أحاديث العطاس عند أبي داود

أحاديث العطاس عند أبي داود أما في سنن أبي داود فقد روى في كتاب الصلاة مما يتعلق بالعطاس في الصلاة حديث معاذ بن رفاعة بن رافع عن أبيه، قال: (صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فعطس رفاعة فقلت: الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف فقال: من المتكلم في الصلاة) ثم ذكر الحديث. وفي رواية عند أبي داود أيضاً: (عطس شاب من الأنصار خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة فقال: الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه حتى يرضى ربنا، وبِعدِّما يرضى من أمر الدنيا والآخرة، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: من القائل الكلمة؟ فسكت الشاب، ثم قال: من القائل الكلمة فإنه لم يقل بأساً؟ فقال: يا رسول الله! أنا قلتها لم أرد بها إلا خيراً، قال: ما تناهت دون عرش الرحمن تبارك وتعالى). وروى أبو داود رحمه الله تعالى كذلك حديث معاوية بن الحكم السلمي الذي رواه مسلم أيضاً، قال: لما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم علمت أموراً من أمور الإسلام، فكان فيما علمت أنه قال لي: (إذا عطست فاحمد الله، وإذا عطس العاطس فحمد الله؛ فقل: يرحمك الله). وفي رواية أبي داود توضيح لرواية مسلم، فـ معاوية بن الحكم السلمي كان رجلاً يسكن البادية، فجاء إلى المدينة وأسلم وتعلم من النبي صلى الله عليه وسلم أشياء، ومن هذه الأشياء أن العاطس إذا حمد الله يشمت، ثم أنه لما تعلم هذا الأمر، قال: (فبينما أنا قائم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة إذ عطس رجلاً فحمد الله، فقلت: يرحمك الله رافعاً بها صوتي، فرماني الناس بأبصارهم حتى احتملني ذلك، -أي: وجد في نفسه من هذا النظر والعبوس- فقلت: مالكم تنظرون إلي بأعين شُزر؟ قال: فسبحوا -لأنه من نابه شيء في الصلاة سبح أي: يسكتوه بالتسبيح- فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: من المتكلم؟ قيل: هذا الأعرابي). وقد عنون عليه أبو داود رحمه الله باب تشميت العاطس في الصلاة. وأيضاً مما رواه أبو داود في سننه وهو حديث صحيح، عن أبي هريرة قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عطس وضع يده أو ثوبه على فيه وخفض -أو غضَّ- بها صوته) أو بأي شيء يغطي فمه ويغض من صوته. ومن الصيغ التي تقال في العطاس بخلاف ما ورد من قوله: (الحمد الله يرحمك الله) ما رواه أبو داود أيضاً في كتاب الأدب من سننه وهو حديث صحيح، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (إذا عطس أحدكم فليقل الحمد لله على كل حال، وليقل أخوه أو صاحبه: يرحمك الله، ويقول هو: يهديكم الله ويصلح بالكم). فيقال إذاً (الحمد لله) وفي رواية (والحمد لله على كل حال) وروى كذلك أبو داود في سننه في باب كم مرة يشمت العاطس، من حديث عبيدة بنت عبيد بن رفاعة الزرقي عن أبيها عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (تشمت العاطس ثلاثاً، فإن شئت أن تشمته فشمته، وإن شئت فكف) ولكن هذا الحديث حديث ضعيف. وروى كذلك رحمه الله تعالى في ماذا يقال لأهل الكتاب أو للكفار إذا عطسوا، من حديث أبي بردة عن أبيه، قال: (كانت اليهود تعاطس عند النبي صلى الله عليه وسلم رجاء أن يقول لهم: يرحمكم الله -فيدعو لهم بالرحمة- فكان يقول: يهديكم الله ويصلح بالكم) فإذا عطس الكافر فلا يترحم عليه، ولا يقال له: يرحمك الله، ولا يدعى له بالرحمة، وإنما يقال: يهديكم الله ويصلح بالكم. وهذا ما يتعلق بالعطاس من سنن أبي داود.

أحاديث العطاس عند الترمذي

أحاديث العطاس عند الترمذي وأما الترمذي رحمه الله فإنه قد ذكر في العطاس أحاديث، ومما ذكره حديث الرجل الذي عطس في الصلاة فقال: الحمد لله حمداً كثيراً إلى آخره، قال الترمذي رحمه الله: حديث رفاعة حديث حسن، وكأن هذا الحديث عند بعض أهل العلم أنه في التطوع؛ لأن غير واحد من التابعين قالوا: إذا عطس الرجل في الصلاة المكتوبة إنما يحمد الله في نفسه ولم يوسعوا في أكثر من ذلك، هذا رأي الترمذي رحمه الله الذي نقله عن بعض التابعين أنه قال هذا الكلام، والرواية وهي رواية معاذ بن رفاعة بن رافع عن أبيه التي رواها الترمذي رحمه الله، قال: (صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم فعطست فقلت: الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه مباركاً عليه كما يحب ربنا ويرضى فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف فقال: من المتكلم في الصلاة؟ فلم يكلمه أحد ثم قالها ثانية: من المتكلم في الصلاة؟ فقال رفاعة بن رافع بن عفراء: أنا يا رسول الله، قال: كيف قلت؟ قال، قلت: الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه مباركاً عليه كما يحب ربنا ويرضى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لقد ابتدرها بضعة وثلاثون ملكاً أيهم يصعد بها) وهذا الحديث رواه النسائي في كتاب الافتتاح وعنون عليه: قول المأموم إذا عطس خلف الإمام. كذلك ذكر الترمذي رحمه الله فوائد في سننه في هذا الموضوع، قال: كرهوا -أي: أهل العلم- للرجل أن يتكلم والإمام يخطب وقالوا: إن تكلم غيره فلا يُنكر عليه إلا بالإشارة في أثناء خطبة الجمعة كما كان يفعل عمر؛ كان يضع إصبعه على شفتيه يسكته لا يقول له: أنصت حتى لا يخطئ مثله، واختلفوا في رد السلام وتشميت العاطس والإمام يخطب، فرخص بعض أهل العلم في رد السلام وتشميت العاطس والإمام يخطب وهو قول أحمد وإسحاق، وكره بعض أهل العلم من التابعين وغيرهم ذلك وهو قول الشافعي رحمه الله. وروى أبو داود رحمه الله في كتاب الأدب من حديث هلال بن يساف، قال: (كنا مع سالم بن عبيد فعطس رجل من القوم، فقال: السلام عليكم، فقال سالم: وعليك وعلى أمك، ثم قال: لعلك وجدت مما قُلت لك أي: وجدت في نفسك مما قلت لك، قال: لوددت أنك لم تذكر أمي بخير ولا شر -وددت لو أنك ما أتيت بسيرة أمي لا بالخير ولا بالشر- قال: إنما قلت لك كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنا بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجلٌ من القوم فقال: السلام عليكم؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وعليك وعلى أمك ثم قال: إذا عطس أحدكم فليحمد الله قال: فذكر بعض المحامد وليقل له من عنده: يرحمك الله وليرد -أي: عليهم- يغفر الله لنا ولكم). وكذلك فإن الترمذي رحمه الله روى في كتاب الأدب من سننه عن نافع: (أن رجلاً عطس إلى جنب ابن عمر فقال: الحمد لله والسلام على رسول الله، قال ابن عمر: وأنا أقول الحمد لله والسلام على رسول الله وليس هكذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، علمنا أن نقول: الحمد لله على كل حال) قال أبو عيسى: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث زياد بن الربيع.

أحاديث العطاس عند ابن ماجة

أحاديث العطاس عند ابن ماجة وأما ابن ماجة رحمه الله تعالى فإنه قد ذكر في سننه حديثاً يتعلق بالعطاس لكن في باب آخر في كتاب الفرائض، ذكر حديث جابر بن عبد الله والمسور بن مخرمة، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يرث الصبي حتى يستهل صارخاً، قال: واستهلاله أن يبكي ويصيح أو يعطس) فإذاً الصبي إذا ولد، يرث إذا أصدر صوتاً يدل على حياته مثل العطاس أو الصياح والبكاء.

أحاديث أخرى في العطاس

أحاديث أخرى في العطاس وأيضاً مما يُذكر في موضع العطاس من الأحاديث حديث خلق آدم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح الذي رواه ابن حبان والحاكم: (لما نُفخ في آدم الروح مارت وطارت فصارت في رأسه، فعطست فقال: الحمد لله رب العالمين، فقال الله: يرحمك الله) فهذا ما يتعلق إذاً بخلق آدم عليه السلام وأنه قد قال: الحمد لله رب العالمين وقد رواه الترمذي في السنن في كتاب تفسير القرآن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما خلق الله آدم ونفخ فيه الروح عطس فقال: الحمد لله، فحمد الله بإذنه عز وجل فقال له ربه: يرحمك الله، يا آدم اذهب إلى أولئك الملائكة إلى ملأ منهم جلوس فقل: السلام عليكم، قالوا: وعليك السلام ورحمة الله، ثم رجع إلى ربه فقال: إن هذه تحيتك وتحية بنيك بينهم) إلى آخر الحديث.

الأحاديث الضعيفة الواردة في العطاس

الأحاديث الضعيفة الواردة في العطاس ومن الأحاديث الضعيفة التي وردت في العطاس: (العطاس والنعاس والتثاؤب في الصلاة، والحيض والقيء والرعاف من الشيطان) هذا الحديث رواه الترمذي في السنن لكنه حديث ضعيف. وكذلك: (العطسة الشديدة والتثاؤب الرفيع من الشيطان) وهو أيضاً حديث ضعيف، ومن الأحاديث الموضوعة التي وردت: (العطاس عند الدعاء شاهد صدق) وكذلك: (من حدث بحديث فعُطس عنده؛ فهو حق) وكذلك: (أصدق الحديث ما عطس عنده) وكل هذه الأحاديث أحاديث موضوعة ولذلك قال العلماء: فلو أن حديثاً من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ذكر وعطس عنده مائة رجل لم يعد هذا دليلاً على صحته، فإذاً ليس هناك ارتباط بين العطاس وبين صحة الحديث.

شرح أحاديث العطاس

شرح أحاديث العطاس ونشرع الآن في بيان وشرح هذه الأحاديث، وما يتعلق بآداب العطاس وبعض المسائل التفصيلية في الموضع:

حكم قول العاطس: الحمد لله

حكم قول العاطس: الحمد لله أما قوله صلى الله عليه وسلم: (فليحمد الله العاطس) فهذا يدل على وجوب ذلك، أي: ما حكم أن يقول العاطس الحمد لله، ظاهر الحديث يدل على وجوبه، ومعنى ذلك أنه يأثم إن لم يقل، لكن النووي نقل الاتفاق على الاستحباب، ولكن يبقى أن الأحوط للإنسان المسلم ألا يترك ذلك أبداً.

ماذا يقول العاطس؟

ماذا يقول العاطس؟ وأما المسألة الأخرى وهي: ماذا يقول العاطس؟ يقول: الحمد لله، وورد في رواية أخرى: (الحمد لله على كل حال) وورد في رواية أخرى: (الحمد لله رب العالمين) وكل هذه الأحاديث صحيحة وقد روى البخاري في الأدب المفرد: (من قال عند عطسة سمعها: الحمد لله رب العالمين على كل حال ما كان، لم يجد وجع الضرس ولا الأذن أبداً) قال ابن حجر رحمه الله: هذا موقوف على علي ورجاله ثقات، قال: ومثله لا يقال من قبل الرأي فله حكم الرفع، فإذاً هنا صيغة جديدة وهي الجمع بين الحمد لله رب العالمين وعلى كل حال ونص الحديث: (الحمد لله رب العالمين على كل حال ما كان، وأن من قال ذلك لم يجد وجع الضرس ولا الأذن أبداً) وهذا رأي الحافظ رحمه الله في هذا الحديث. كما روى الطبراني بسند لا بأس به عن ابن عباس قال: (إذا عطس الرجل فقال: الحمد لله، قال الملك: رب العالمين، فإذا قال: رب العالمين؛ قال الملك: يرحمك الله) إذاً العاطس مخير في أن يقول: الحمد لله فقط، أو الحمد لله رب العالمين، أو الحمد لله على كل حال، ووردت رواية عن علي موقوفة في الجمع، وأما أفضل هذه الصيغ، فقد قال بعضهم: إن الحمد لله رب العالمين أفضل، وقال بعضهم: الحمد لله على كل حال أفضل لأنها أعم، وقال بعضهم: إن الصيغة الواردة في الصلاة التي وردت للرجل الذي عطس في الصلاة، قال: [الحمد لله حمداً طيباً مباركاً فيه مباركاً عليه كما يحب ربنا ويرضى] قالوا: هذه دالة على أفضلية هذه العبارة، وعلى كل حال نقول: هو مخير بين العبارات الثابتة المرفوعة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن قال هذا تارة وهذا تارة، فلعله يكون قد أصاب السنة إن شاء الله، فهو ينوع فتارة يقول: الحمد لله، وتارة يقول: الحمد لله رب العالمين وتارة يقول: الحمد لله على كل حال. وإذا عطس فقال في الصلاة كما قال الصحابي والنبي صلى الله عليه وسلم أقره على ذلك؛ فهذا أيضاً أمر محمود، لكن هناك أشياء غير مقبولة مثل أن يقول: الحمد لله والصلاة على رسول الله؛ لأن هذا ليس موضعها؛ لأن هذا ذكر من الأذكار، والأذكار توقيفية فإذا أضاف إليها الإنسان أشياء من عنده، وتركيبات لم ترد في الشريعة، فيكون مبتدعاً إذا أتى بهذه الأشياء وواظب عليها، أو اعتقد فضلها. ولذلك نلتزم بالسنة ونأتي بما ورد في السنة، وقد جاء أيضاً عند البخاري في الأدب المفرد بسند صحيح عن مجاهد أن ابن عمر سمع ابنه عطس فقال: آب فقال: وما آب؟ إن (آب) اسم شيطان من الشياطين، جعلها بين العطسة والحمد. فهذه يمكن أن تصدر من بعض الناس، وفي رواية ابن أبي شيبة: آش (بدل الباء شين) فليحرص المسلم على ألا يصدر حروفاً بعد العطاس إلا الحمد لله رب العالمين. وكذلك بعضهم يقول عبارات أخرى أو أدعية أخرى، فإذاً علينا التقيد بالسنة، وقد ذكر أهل العلم أنه يتحرر أن كل العبارات الواردة ثلاث: الحمد لله رب العالمين أو الحمد لله على كل حال، وذكر النووي رحمه الله أن الحمد لله رب العالمين أحسن من الحمد لله، والحمد لله على كل حال أفضل، قال: يقول عقب عطاسه الحمد لله ولو قال: الحمد لله رب العالمين لكان أحسن فلو قال: الحمد لله على كل حال كان أفضل، وهذه الأحاديث تقتضي التخيير.

التشميت والتسميت

التشميت والتسميت بالنسبة لتشميت العاطس ورد بلفظ فشمَّت أو سمَّت، بالشين والسين، ومعناهما متقارب، والمقصود به التنبيه على هذه؛ حتى لا يظنها البعض خطأ مطبعياً، فيضيف نقاطاً على السين إذا رآها في بعض الكتب فالسمت: هو القصد والطريق القويم، والتشميت: التبريك، والعرب عندهم معنى شمته: أي: دعا له بالبركة، وشمت عليه: إذا برك عليه، وجاء في حديث علي وفاطمة شمت عليهما، إذا دعا لهما بالبركة، وقيل: إن التسميت أفصح، وعلى أية حال كلاهما بمعنى واحد.

سبب قول: يرحمك الله للعاطس

سبب قول: يرحمك الله للعاطس ما هو وجه قولنا للعاطس إذا عطس: يرحمك الله؟ قال أهل العلم: إن العاطس إذا عطس ربما ينحل كل عضو في رأسه وما يتصل به من العنق يعني: أن هيئة العطاس وحركته فيها خطورة حتى أن بعضهم قالوا: لا تبقى عضلة في الإنسان إذا عطس إلا وتحركت، فإذا قلنا له: يرحمك الله كان هذا معناه: أن الله أعطاه رحمة يرجع بها كل عضو من الأعضاء التي تحركت إلى موضعها، ويبقى على حاله من غير تغيير، فرحمة الله لصونه لهذا العبد العاطس في رجوعه إلى حال الاعتدال. وكذلك فإنه في اللغة الشوامت معناها: القوائم، فكأن التشميت أن يعود إلى قوامه الذي كان عليه، وأما بالنسبة لحال الشخص إذا لم يحمد الله سبحانه وتعالى؛ فإنه لا يُشمت، وقد جاء في حديث: (إن هذا ذكر الله فذكرته، وأنت نسيت الله فنسيتك) والنسيان في اللغة يطلق على الترك، نسيتك أي: ترك الحمد للعاطس مناسبته واضحة فيحمد الله أن دفع عنه الأذى، وأذهب عنه الضرر وأعاده إلى حاله، وهذه نعمة والنعم تقابل بالحمد، وخروج الضرر نعمة، وعودته إلى حاله نعمة، ولذلك يقول: الحمد لله أنه ردني إلى صحتي وعافيتي.

خفض الصوت عند العطاس

خفض الصوت عند العطاس ومن آداب العاطس أنه يخفض صوته بالعطاس ويرفع صوته بالحمد، وأن يغطي وجهه كما ورد في الحديث الصحيح السابق ذكره حتى لا يخرج من فمه أو أنفه ما يؤذي الناس من جلسائه. وقال بعض العلماء: إنه لا يلتفت يميناً ولا شمالاً؛ لأنه إذا لوى عنقه وعطس تضرر وهذا مجرب، فإنه إذا عطس مع لي العنق تضرر.

حصول المودة والتآلف بين المسلمين

حصول المودة والتآلف بين المسلمين ومن فوائد تشميت العاطس وقول: يرحمك الله، حصول المودة والتآلف بين المسلمين، وعندما نقول له: يرحمك الله؛ ففيها تأديب له بكسر نفسه عن الكبر، وحمله على التواضع؛ لأن ذكر الرحمة يقترن بالذنب الذي لا يعرى عنه هذا العاطس ولا غيره، فعندما نقول: يرحمك الله نذكره بأنه مذنب وأن عليه أن يتواضع لله سبحانه وتعالى، ونكسر كبرياءه بإشعاره بالحاجة إلى رحمة ربه، وفيه نفع له بالدعاء له بالرحمة، وهذه من محاسن دين الإسلام؛ أنه حتى الحركات الطبيعية النفسية الجسدية التي تصدر من الشخص لها آداب وسنن وأذكار. ولننظر إلى محاسن هذه الشريعة وجمالها عندما تأتي بهذا التكامل، وبهذا الترابط بين المسلمين، إذا عطس رجل بجانبك تقول له: يرحمك الله، ولو لم يكن بينك وبينه معرفة، فتدعو لشخص ليس بينك وبينه معرفة.

حكم تشميت العاطس

حكم تشميت العاطس وبالنسبة لحكم التشميت: ما حكم التشميت وأن نقول للرجل: يرحمك الله؟ الحديث (إذا عطس فحمد الله فشمته) هذا في حق المسلم على المسلم وفي رواية: (خمس تجب للمسلم على المسلم) فنستفيد من لفظة تجب للمسلم على المسلم أن تشميت العاطس واجب، وقولنا له: يرحمك الله واجب، وممن نصر ذلك ابن القيم رحمه الله وقال: الوجوب لا مدافع له، ذكر ذلك في الزاد وأما في حواشيه على سنن أبي داود، فقال: جاء بلفظ الوجوب الصريح وبلفظ (الحق) أي: حق المسلم، وبلفظ (على) على المسلم، كل هذه تفيد الوجوب، وجاء بصيغة الأمر يشمته، فليقل له صاحبه: يرحمك الله. هذه أوامر تفيد الوجوب، وقال بعض العلماء: إنها فرض على الكفاية إذا شمت واحد أغنى عن الجماعة، لكن النص: (حق على كل مسلم سمعه أن يقول له: يرحمك الله) يدفع هذا، أي: لا يمكن أن يتوافق. إذاً هناك فرق بين رد السلام ورد العطاس، فرد السلام يكفي فيه عن الجماعة واحد، لكن رد العطاس بتشميت العاطس واجب على كل من سمع وأن يقول له: يرحمك الله كما في هذا الحديث. فإذاً الراجح وجوب تشميت العاطس، لكن وجوب التشميت مقيد بما إذا حمد الله، فإذا لم يحمد الله لم يجب التشميت، بل لم يُشرع أصلاً، بل إن المشروع خلافه، وهو عدم التشميت، وهذا الذي فعله صلى الله عليه وسلم.

حكم تشميت الكفار إذا عطسوا

حكم تشميت الكفار إذا عطسوا بالنسبة للكفار إذا عطسوا لا نشمتهم وإن قالوا: (الحمد لله) لا أهل الذمة ولا غيرهم، وإنما نقول لهم: يهديكم الله ويصلح بالكم، وهذا يمكن أن يعتبر تشميتاً مخصوصاً بالكفرة، والبال هو الشأن، فأنت تدعو الله له أن يصلح شأنه، وأي شيء أعظم من إصلاح شأنه بدخوله في الإسلام وهدايته، لكن المسلمين أهل للدعاء بالرحمة بخلاف الكفرة.

استثناءات في عدم التشميت

استثناءات في عدم التشميت مسألة: هل هناك استثناءات من التشميت؟ أناس لا نشمتهم أو أحوال لا نشمت فيها: أولاً: إذا ما حمد الله لا نشمته. ثانياً: إذا كان كافراً لا نشمته. ثالثاً: المزكوم إذا تكرر منه العطاس فزاد عن الثلاث، قال بعض العلماء: المزكوم إذا زاد عطاسه عن الثلاث لا نشمته بعد الثالثة لأجل الحديث، وقد جاء عن أبي هريرة أنه قال: [شمته واحدة واثنتين وثلاثاً، وما كان بعد ذلك فهو زكام]، وجاء كذلك في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (شمت أخاك ثلاثاً فما زاد فإنما هي نزلة أو زكام) وقال: (يُشمت العاطس ثلاثاً فما زاد فهو مزكوم) فإذاً بعد الثالثة لا نشمته، وبعض العلماء قالوا: ما دام يحمد الله نشمته حتى لو عطس مرات كثيرة، وممن يرى بهذا من المعاصرين الشيخ عبد العزيز بن باز، يقول: إنه لم ينه عن تشميته بعد الثالثة، ولكن وردت رواية عند ابن السني وصححها الشيخ ناصر فيها: (لا يشمت بعد الثالثة) وهذه الرواية تحتاج إلى نظر في إسنادها ففيها علة تحتاج إلى مراجعة ونظر. فعلى أية حال يمكن أن نقول: إن المزكوم، أو الذي فيه حساسية -بعد العطسة الثالثة- من العلماء من يقول: يشمته إذا حمد الله، وهناك من يقول: إننا لا نشمته، لكن على أية حال لو شمته لا تكون قد ارتكبت أمراً محرماً، فالمسألة واسعة وسهلة إن شاء الله. إذاً الذي دل عليه حديث مسلم وأبي داود والترمذي عن سلمة بن الأكوع: (أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وعطس رجل عنده فقال له رجل: يرحمك الله، ثم عطس أخرى فقال: الرجل مزكوم) هذه رواية مسلم والرواية عند أبي داود والترمذي من حديث سلمة أيضاً: (عطس رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم وأنا شاهد، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يرحمك الله، ثم عطس الثانية أو الثالثة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يرحمك الله! هذا رجل مزكوم).

حكم من عطس والإمام يخطب

حكم من عطس والإمام يخطب ذكروا أيضاً من الحالات إذا عطس والإمام يخطب أنه لا يُشمت، وتقدم أن هذا الرأي هو قول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى. إذا عطس الخطيب فقال: الحمد لله! فإن سكت بعدما قال الحمد لله شمتناه، وإن واصل الكلام شمتناه في أنفسنا، حتى لا نتكلم وهو يخطب؛ لكن السامع في المسجد إذا عطس يحمد الله في نفسه ولا يشمته أحد من الحاضرين والإمام يخطب، فإن شمته بين الخطبتين حين يسكت الإمام أو بعد إقامة الصلاة أو بعد نزوله من المنبر فلا بأس بذلك.

حكم من عطس وهو يصلي

حكم من عطس وهو يصلي وكذلك إذا كان المصلي يصلي فعطس، فلا نقول له: يرحمك الله، ولو سمعته بجانبك يحمد الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى معاوية بن الحكم عن ذلك، فإنه قال: (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس) وعندما تقول له: يرحمك الله فهي مخاطبة، والمفروض أنه في الصلاة، والخطاب والكلام بينه وبين الله عز وجل، فلا تكلم رجلاً أثناء الصلاة، ولا تقل له إلا فيما ورد فيه النص مثل الفتح على الإمام مثلاً. فإذاً وأنت في الصلاة لا تشمت رجلاً عطس سواء كان في صلاته أو كان في خارج الصلاة، فأنت في الصلاة لا تتكلم.

حكم قول: الحمد لله للمصلي إذا عطس

حكم قول: الحمد لله للمصلي إذا عطس وبالنسبة لحمد الله للمصلي إذا عطس، ورد أنه يحمد الله كما دل عليه حديث الشاب، لكن قال بعض العلماء: يشترط أن يكون ذلك في النافلة. وقال بعضهم: عام في الفرائض والنوافل، لكن لا يكون في الفاتحة حتى لا يقطع الفاتحة بالحمد، ولكي تتسلسل الآيات فيها لفرضيتها ووجوبها هكذا.

حكم من عطس في الخلاء

حكم من عطس في الخلاء وأما إذا عطس وهو في بيت الخلاء، قالوا: لو قال: الحمد لله لا نشمته؛ لأن قولته (الحمد لله) خطأ، فنحن لا نتابعه على خطئه ولا نشمته، وهو مخطئ في حمده وذكره لله في بيت الخلاء.

حكم تتابع العطاس

حكم تتابع العطاس أما بالنسبة إذا تتابع العُطاس، عطس الواحد مرة واثنتين وثلاثاً وأكثر، ثم قال: الحمد لله مرة واحدة، نقول له: يرحمك الله، وإذا عطس ثلاث مرات ثم قال: الحمد لله الحمد لله الحمد لله، ذكر ابن حجر رحمه الله، قال: في فوائد بعض الأحاديث في صحيح البخاري: ويُستفاد منه مشروعية تشميت العاطس ما لم يزد على ثلاث إذا حمد الله، سواءً تتابع عطاسه أم لا، فلو تابع ولم يحمد لغلبة العطاس عليه ثم كرر الحمد بعدد العطاس، فهل يشمت بعدد الحمد؟ فيه نظر، وظاهر الخبر أنك تقول له: يرحمك الله يرحمك الله يرحمك الله إذا قال هو: الحمد لله الحمد لله الحمد لله، وإذا تتابع عطاسه، فإن عطس مثلاً خمس مرات وقال مرة واحدة: الحمد لله تقول له: يرحمك الله.

حكم التشميت بعد الثالثة أو الرابعة أو الخامسة

حكم التشميت بعد الثالثة أو الرابعة أو الخامسة ورواية (ولا تشمته بعد ثلاث) قال النووي: فيه رجل لم أتحقق حاله وباقي الإسناد صحيح، وقال ابن حجر: الرجل المذكور هو سليمان بن أبي داود الحراني وهذا الرجل ضعيف وقال النسائي: هذا الرجل ليس بثقة ولا مأمون. هذا إشارة لما سبق من النهي عن التشميت بعد الثالثة. أما إذا عطس الرابعة والخامسة فهل هناك نهي أم لا؟ فهذه المسألة تحتاج إلى تدقيق في معرفة صحة هذا الحديث، وكذلك بعد الثالثة، إذا عطس نقول له: (أنت مزكوم) وهذه اللفظة وردت إذا تتابع عطاسه، ونقولها بعد الثالثة، فمعناه أننا نخبره أنك لست أنت ممن يشمت بعد الثالثة لأجل العلة. فالعطاس المحمود هو الذي يكون ناشئاً عن خفة البدن، فلما صار هذا من أهل العلة، ولما زاد على العطسة الثالثة ففي هذه الحالة لا يشمت، لكن هناك إرشاد بالدعاء له بالعافية، يعني: ليس القضية فقط أن نفرح بأنه مزكوم أو نبشره بأنه مزكوم، والمقصود الإرشاد هنا إلى شيء يحتاج إليه وهو الدعاء له بالعافية. ولذلك نقل ابن دقيق العيد عن بعض الشافعية أنه قال: يُكرر التشميت إذا تكرر العطاس إلا أن يُعرف أنه مزكوم فيدعى له بالشفاء.

العطاس نعمة من الله

العطاس نعمة من الله ومن المهمات أن يعرف العطاس نعمة من الله كما سبق، وأنه يُفيد الجسم، ويطرد الداء؛ بخلاف التثاؤب الذي هو دليل على امتلاء البدن والكسل، ولذلك فإن العطاس يحبه الله وهو نعمة منه.

حكم من عطس عنده شخص وهو لا يدري

حكم من عطس عنده شخص وهو لا يدري ومن مسائل العطاس: لو أن العاطس عطس وأنت لا تدري هل حمد الله أو ما حمد الله؟ فعندنا ثلاث حالات: أن تدري أنه حمد الله فتشمته. أن تدري أنه لم يحمد الله فلا تشمته، لكن هل تذكره؟ A نعم تذكره بذلك، فقد جاء عن الأوزاعي عن ابن المبارك أنه عطس رجل عنده فلم يقل: الحمد لله فقال له: ماذا يقول الرجل إذا عطس، قال: الحمد لله، قال: يرحمك الله، وهذا من بالغ الأدب والتأديب والتعليم. الثالث: أنك لا تدري هل حمد الله أم لا؛ وفي هذه الحالة إذا وجدت قرينة تدل على أنه حمد الله، مثل أن قال له بعض الحاضرين: يرحمك الله وكان هؤلاء الحاضرون من طلبة العلم، ليسوا من الجهلة؛ لأن الجاهل يمكن أن يقول له: يرحمك الله؛ حمد أو لم يحمد، فالجهلة لا يستدل بحالهم؛ لكن لو كان هناك من طلبة العلم أو الناس الذين يعرفون السنة، فشمتوه كان ذلك دليلاً على أنه حمد الله، ففي هذه الحالة تشمت، وهناك حلٌ آخر وهو ما رواه البخاري في الأدب المفرد عن مكحول: كنت إلى جنب ابن عمر فعطس رجل من ناحية المسجد فقال ابن عمر: يرحمك الله إن كنت حمدت الله، أي: إن كنت حمدت الله فيرحمك الله، فإذاًَ الأصل أننا نشمت إذا سمعنا.

ما الذي يقوله العاطس للمشمت؟

ما الذي يقوله العاطس للمشمت؟ وكذلك من الأشياء أن الرد الذي يقوله العاطس للمشمت: يهديكم الله ويصلح بالكم ولكن هل وردت ألفاظ أخرى؟ جاء في الأدب المفرد بسند صحيح عن أبي جمرة سمعت ابن عباس إذا شُمت يقول: [عافانا الله وإياكم من النار يرحمكم الله]. وفي الموطأ عن نافع عن ابن عمر أنه كان إذا عطس فقيل له: يرحمك الله، يقول: [يرحمنا الله وإياكم، ويغفر الله لنا ولكم] فإذاً السنة أن تقول: يهديكم الله ويصلح بالكم، ولو دعوت له بالمغفرة ودعوت له بالرحمة أيضاً فقد ورد ذلك عن الصحابة. وجاء حديث في الموطأ عن نافع عن ابن عمر: [أنه كان إذا عطس يقول له: يرحمك الله، قال: يرحمنا الله وإياكم، ويغفر الله لنا ولكم] فجمع في الدعاء بين الرحمة والمغفرة. وعلى كل حال فهذه الآداب تبين محاسن دين الإسلام، ونعمة الله على العاطس، وقد رتب عليه من الخير أنه شرع له الدعاء، وعلمه إياه، والذكر، وهو أن يحمد الله، ثم شرع الدعاء له بالخير وهو الرحمة، ثم شرع الدعاء منه للذي شمته بالخير أيضاً، وهذه نعم متواليات في زمن يسير، تصور أن رجلاً عطس فخرج منه الداء، ثم حمد الله فأجر، ثم دعي له بالرحمة، ثم دعا هو لمن دعا له، وهكذا في زمن يسير، فما أعظم هذه النعمة وهذه الشريعة! ومن تأمل هذه النعم المتوالية في شيء واحد من الأشياء التي تعرض كثيراً للناس أحب الله تعالى حباً يحدث في نفسه أكثر مما لو عبده أياماً. وكذلك فيه تنبيه للعاطس على طلب الرحمة والتوبة من الذنب، ولذلك يقول: يغفر الله لنا ولكم.

فائدة في موضوع العطاس

فائدة في موضوع العطاس وكذلك من الأشياء التي تقال في موضوع العطاس، وهي نكتة (بمعنى فائدة) حصلت لـ أبي داود رحمه الله تعالى في مسألة إذا عطس وحمد ولم يشمته أحد؛ فسمعه من بعد عنه وليس عند ذلك العاطس شخص يشمته، أخرج ابن عبد البر بسند جيد عن أبي داود صاحب السنن: أنه كان في سفينة فسمع عاطساً على الشط - أبو داود في البحر في السفينة أو في النهر- فسمع عاطساً على الشط حمد الله ولم يكن عنده أحد يشمته، فاستأجر قارباً بدرهم حتى جاء إلى العاطس فشمته، قال: يرحمك الله ثم رجع، فسئل أبو داود عن ذلك: ما الذي حملك على ما صنعت، وتكلفت، واستأجرت قارباً وذهبت؟ فقال: لعله يكون مجاب الدعوة فيقول لي: يغفر الله لنا ولكم، أو يهديكم الله ويصلح بالكم، فأستفيد، فلما رقدوا سمعوا قائلاً يقول: يا أهل السفينة إن أبا داود اشترى الجنة من الله بدرهم، وجَوَّد إسناده ابن حجر رحمه الله تعالى.

حكم تشميت المرأة الأجنبية

حكم تشميت المرأة الأجنبية وبالنسبة لتشميت المرأة الأجنبية قال ابن مفلح رحمه الله في كتاب الآداب الشرعية: قال ابن تميم لا يشمت الرجل الشابة ولا تشمته. وقال في الرعاية الكبرى: للرجل أن يشمت امرأة أجنبية -وقيل: عجوزاً- ولا تشمته هي وقيل: لا يشمتها، وذكروا قصة عن أحمد أنه كان عنده رجل من العباد، فعطست امرأة أحمد فقال لها العابد: يرحمك الله، فقال أحمد رحمه الله: عابد جاهل، وقال حرب: قلت لـ أحمد: الرجل يشمت المرأة إذا عطست؟ فقال: إن أراد أن يسمع كلامها فلا؛ لأن الكلام فتنة، وإن لم يرد ذلك؛ فلا بأس. فإذاً هناك من فرق بين الشابة والعجوز، قال: العجوز تشمتها، لأنها سترد عليك وتدعو لك، فالعجوز لا تُشتهى ولا يطمع فيها، وأما الشابة فلا. وبعضهم قال: إذا قصد المشمت سماع كلامها -وهذه مسألة تتعلق بالنيات- فلا يجوز له أن يشمتها، وإذا لم يقصد فلا بأس، وهي عليها أن تنتبه إلى أنه إذا شمتها رجل أجنبي ألا ترفع صوتها إذا كانت امرأة شابة أو تخشى أن يفتن بصوتها. وهذه بعض المسائل المتعلقة بالعطاس، ونكمل الكلام عن موضوع العطاس، والتثاؤب، والتجشؤ، والتنخم إن شاء الله هذا والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

الرجوع إلى الحق

الرجوع إلى الحق الحق هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلهما المكانة والشرف فوق كل الأديان والملل، وقد بين الله لنا حقارة الباطل ودناءته، ووضح لنا شرف الحق وعلو قدره ومكانته. والله جل وعلا قد وضح لنا حقيقة الدنيا، فبين أنها ظل زائل. وأنها مجبولة على الابتلاء والمتاعب. فلا بد من الصبر والالتجاء إلى الله والرجوع إلى الحق وترك المعاصي والحجج الواهية في فعلها مثل قول بعضهم: المعصية مكتوبة عليَّ إلخ. وكذلك تطرق الشيخ إلى بعض أمثلة اتباع الهوى.

الحق ومكانته وشرفه

الحق ومكانته وشرفه الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم علي نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فينبغي على كل مسلم أن يتفكر في نفسه، وأن يرى مواقع الخلل ليصلح من عيبه؛ ليسلم قلبه حتى يلاقي ربه بقلبٍ سليم؛ لأنه لا ينفع يوم القيامة إلا من أتى الله بقلبٍ سليم، ويجب على المسلم أن يفكر في اتباع الحق، وينظر: هل هو يتبع الحق أم لا؟ إن هذه المسألة خطيرة أيها الإخوة وينبغي أن نفكر في أنفسنا، وأن نقوم لله تعالى متفكرين في اتباعنا للحق، هل نحن نتبع الحق أم نتبع الهوى. ينبغي أن نفكر في شرف الحق، وضعة الباطل، وأن نتفكر في عظمة الله عزَّ وجلَّ، وأنه سبحانه اسمه الحق، وأنه يحب الحق ويكره الباطل، وأنه من يتبع الحق ينل رضوان الله، فكان الله وليه في الدنيا والآخرة، يختار له الخير، والأفضل والأنفع، والأشرف والأرفع، حتى يتوفاه راضياً مرضياً، فيرفعه إليه ويقربه لديه، ويحله في جواره مكرماً منعماً في النعيم المقيم والشرف الخالد، ومن أخلد إلى الباطل استحق سخط الله وغضبه وعقابه، فإذا جاء هذا المقيم على الباطل شيءٌ من نعيم الدنيا، فإنما ذلك لهوانه على الله ليزيده بعداً عنه، وليضاعف له عذاب الآخرة الذي لا تبلغ مداه العقول، ولا تستطيع أن تخيله ولا أن تتخيله.

حقيقة الدنيا

حقيقة الدنيا عباد الله: كثيرٌ منا يتبع الباطل ويترك الحق، وذلك لعدم معرفته بمنزلة الحق وحال الباطل؛ ولأنه لا يتفكر فيمن يخالف الحق ويتبع الباطل. إننا كثيراً ما نغرق في أوحال نعيم الدنيا، ولو فكرنا في نعيم الدنيا بالنسبة إلى رضوان الله ونعيم الآخرة، ولو فكرنا في بؤس الدنيا بالنسبة إلى سخط الله وعذاب الآخرة، قال الله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ * وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:31 - 35]. لولا أن يكون الناس أمةً واحدة لابتلى الله المؤمنين بأمورٍ لم تجر بها العادة؛ من الشدة والفقر، والضر والخوف والحزن، ولأعطى كل كافر كل نعيم، ولجعل كل مسلمٍ مؤمنٍ في عذابٍ وشدة؛ لكن الله يعلم برحمته وعلمه وحكمته أن الناس لا يطيقون ذلك، ولربما كفروا، ولذلك جرت العادة بنعيمٍ في الدنيا وعذابٍ هنا وهنا، ولكن الله سبحانه وتعالى يبتلي الصالحين على قدر دينهم، ولذلك ضاعف البلاء على الأنبياء، فالذي يطيق ضاعف عليه البلاء؛ ليجتبيه ويخلصه مما أصابه من آثام وأوزارٍ، وليرفع درجته، وليجعله عنده في المقام العالي.

ابتلاء المرء على قدر دينه

ابتلاء المرء على قدر دينه ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (يتبلى المرء على قدر دينه؛ إن كان في دينه رقة خفف له في البلاء، وإن كان في دينه قوة ضوعف عليه البلاء) وقد جاء في الصحيحين من حديث كعب بن مالك قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع، تفيئها الريح تصرعها مرة وتعدلها مرةً حتى يأتي أجله، ومثل المنافق كمثل الأرزة المجذية التي لا يصيبها شيءٌ حتى يكون انجعافها مرة واحدة) أي كالشجرة الصلبة القوية؛ شجرة الأرز التي لا تنكفئ ولا تنثني حتى يكون انقلابها مرة واحدة. ولكن لا يعني ذلك أنه يغفل عن الكفار، ولا أنه لا ينعم على المؤمنين، بل ينعم هؤلاء ويبتلي أولئك، ولكن البلاء في أهل الدين أكثر، كما أن النعيم في أهل الشقاء والكفر أكثر، يهذب المسلم فيأنس بالمتاعب والمصاعب، ويتلقاها بالرضا والصبر والاحتساب؛ راجياً أن تكون له خيراً عند ربه، ولا يتمنى ما للآخرين فيحسدهم، ولا يسكن إلى السلامة والنعم، بل لو جاءته يتلقاها في خوفٍ وحذر ويخشى أن تكون استدراجاً من الله، فترغب نفسه في تصريفها في سبيل الله، فلا يبخل ولا يركن إلى الراحة، ولا يعجب بما أوتي، ولا يستكبر ولا يغتر.

ابتلاء الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه

ابتلاء الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه لما سئل صلى الله عليه وسلم: أي الناس أشد بلاءً؟ قال: (الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل). وقد ابتلى الله أيوباً بما هو مشهور معروف، وابتلى يعقوب بفقد ولديه، وشدد أثر ذلك على قلبه فكان كما قصه الله في كتابه: {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف:84]. وابتلى محمداً صلى الله عليه وسلم فكلفه أن يدعو قومه إلى ترك ما نشئوا عليه تبعاً لآبائهم، ويصارحهم بذلك سراً وجهاراً، وليلاً ونهاراً، ويدور على نواديهم ومجتمعاتهم، استمر على ذلك ثلاث عشرة سنة وهم يؤذونه أشد الأذى، مع أنه كان قد عاش فيهم من قبل أربعين سنة لم يرد أنه أوذي فيها. لقد كان من قبيلة شريفة، ونسبٍ محترمٍ موقر، في بيتٍ شريفٍ، نشأ على أخلاقٍ احترمه لأجلها الناس، ووقروه، ولقبوه بالصادق الأمين، وكان في غاية الحياء وعزة النفس، الذي يكون هذا حاله، واشتد عليه أن يؤذى ولو بكلمة، وأن يقال عنه: ساحر، أو كذاب، أو مجنون، أو به جنة، أو شاعر معلَّم علَّمه غيره. يشتد عليه غاية الشدة أن يؤذى ويشق عليه غاية المشقة الإقدام على ما يعرضه إلى الأذى، لكنه مع ذلك أقدم مع ما لقيه من الأذى، هذا يسخر منه، وهذا يسبه، وذاك يبصق في وجهه، وهذا يضع رجليه على عنقه إذا سجد لربه، وهذا يضع سلى الجزور وأمعاءه على ظهره وهو ساجد، وهذا يأخذ بمجامع ثوبه ويخنقه، وهذا ينخس دابته حتى تلقيه، وأبو لهب عمه يتبعه يؤذيه ويحذر الناس منه في المجالس، وهو ذاهب يدعو في مواسم الحج يقول: كذاب مجنون لا تصدقوه، وهؤلاء يغرون به السفهاء فيرجمونه حتى تسيل رجلاه دماً، وهؤلاء يحاصرونه وعشيرته مدةً طويلةٍ في شعبٍ ليموتوا، وهؤلاء أيضاً يعذبون أتباعه، فيضجعونهم على الرمال في شدة الرمضاء، ويمنعونهم الماء. منهم: من ألقي على أسياخ الحديد لم يطفئها إلا شحم ظهره لما سال عليها، ومنهم: امرأة عذبوها لترجع عن دينها، فلما يئسوا منها طعنها أحدهم بالحربة في مكان عفتها فقتلها، كل ذلك لا لشيءٍ إلا أنهم يدعون إلى الله سبحانه وتعالى؛ ليخرجوا هؤلاء الذين يعذبونهم من الظلمات إلى النور، ومن الفساد إلى الصلاح، ومن سخط الله إلى رضوانه، ومن الباطل إلى الحق، ومن عذاب الله إلى نعيمه، ومع ذلك كان هذا هو ما لاقوه. ابتلى الله عزَّ وجلَّ نبيه صلى الله عليه وسلم بأن قبض أبويه صغيراً، ثم جده، ثم عمه الذي كان يحامي عنه، ثم امرأته التي كانت تؤنسه وتخفف عنه، ولم يزل البلاء يتعاهده صلى الله عليه وسلم، فتدبر -يا عبد الله- كل هذا وانظر بم تخرج، وأي شيءٍ تستنتج؟ نخرج في أن ما نتنافس عليه من نعيم الدنيا، ونتهالك فيه ليس بشيءٍ إذا ما قورن برضوان الله والنعيم الدائم في جواره؛ لأن معنى ذلك أنه لما حرم الله أناساً من الدنيا وابتلاهم فيها وهم أولياؤه وأصفياؤه، يعني: أن هذا الابتلاء ليس بشيء بجانب ما أعد لهم في الآخرة. ونخرج أيضاً أن ما نفر منه من بؤس الدنيا ومكارهها ليس بشيء بجانب سخط الله وعذابه في الآخرة، وأن الفقر والدَّين والمرض والوجع والألم، وابتلاء الناس وإيذاءهم ليس بشيء بجانب عذاب الله في الآخرة، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيصبغ في النار صبغة واحدةً، ثم يقال له: يابن آدم! هل رأيت خيراً قط؟ هل مر بك نعيمٌ قط؟ فيقول: لا والله يا رب) غمسة واحدة في النار أنسته كل نعيمٍ في الدنيا مر عليه، وكل حلاوة ذاقها (ويؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة، فيصبغ صبغة في الجنة، فيقال له: يابن آدم! هل رأيت بؤساً قط؟ هل مر بك بؤس قط؟ فيقول: لا والله يا ربي ما مر بي بؤس قط ولا رأيتُ شدةً قط) إن غمسة واحدة في النعيم قد أنسته كل ما مر به في سنين حياته في الدنيا من أنواع البلاء.

حال المؤمن مع الطاعات

حال المؤمن مع الطاعات على العبد أن يفكر في أعماله من الطاعة والمعصية، فالمؤمن يأتي إلى الطاعة راغباً نشيطاً لا يريد إلا وجه الله والدار الآخرة، فإذا عرضت له رغبة في الدنيا فعلى الله تعالى فيما يرجو عونه على السعي إلى الآخرة، فإن كان ولابد أن يأخذ بشيءٍ من الدنيا كان ذلك بما لا يشغله عن الدار الآخرة، يباشر الطاعة خاشعاً خاضعاً، مستحضراً أن الله يراه، ولذلك فهو يأتي بها على الوجه الذي شرعه، وقد قال الله عز وجل: {يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60]. فإذا تصدق صدقةً خاف على نفسه من الرياء، وإذا قام الليل خاف على نفسه من العجب، وإذا فعل الطاعات كأن تعلم ودعا خاف على نفسه من الرياء، وأن يكون ذلك لأجل الخلق، فينقي نيته ويصحح قصده باستمرار. هذا هو حال المؤمن، لا يزال ينقي نيته لأنه يعلم أن الله لا يقبل العمل بلا نية صالحة، وإذا أخذ من نعيم الدنيا شيئاً فإنما هو لكسر شهوةٍ لابد من كسرها، كشهوة الجوع والنكاح، وكذلك من أجل أن تتقوى نفسه على العبادة، يصحح النية في العبادة لكي لا تكون لأجل الناس، ولا يأخذ من الدنيا إلا بقدر ما يعينه على استمراره للدار الآخرة، يجاهد نفسه ضد الشبهات والوساوس مستعيناً بطاعة الله، واقفاً عند حدوده، مبتهلاً إلى الله أن يثبت قلبه ويقول: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك.

الحذر من جعل العبادة عادة

الحذر من جعل العبادة عادة والعبد يحذر أن تكون عبادته عادة، وبعض الناس يصوم ليصح، ويصلي التراويح لينهضم طعامه، ويصلي عادةً وليس عبادةً، فيكون كالذي اعتاد العبث بلحيته يجد نفسه تنازعه إلى ذلك حتى لو كف عن ذلك ومنع منه شق عليه. يقوم للصلاة عادة لا احتساباً للأجر ولا زيادة في الخشوع، كالذي يأتي الجمعة ليتفرج على الناس ويلقى أصحابه، ويقف على أخبارهم؛ دون أن يكون له حظٌ في زيادة إيمانٍ، أو احتسابٍ للأجر فيمن خرج ومشى، وبكر، وابتكر واقترب ولم يؤذِ.

الحذر من الرياء في الطاعات

الحذر من الرياء في الطاعات وبعض الناس يفعلون العبادات مراءاةً لينالوا المدح والثناء، وليعظم جاههم عند الخلق، وبعضهن ربما خرجت للصلاة لتلفت أنظار الرجال، كمن تخرج متزينة متعطرةً، وكبعض الذين يدعون صلاحاً ليعظّمهم الخلق، ويشتهر ذكرهم، وكالرئيس الذي يريد أن يتطاول الناس إلى رؤيته، وترتفع أصواتهم بمدحه وغير ذلك، والمؤمن وإن خلصت نيته في نفس الأمر لا يستطيع إلا أن يكمل المشوار عامداً إلى طاعة الله عزَّ وجلَّ، ثم يخاف ألا تقبل الطاعة: {يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون:60] يخشى أن الله لا يقبل منه، ويجتهد في تصحيح العمل، فيعلم أن للصلاة شروطاً وأركاناً وواجبات، فيراعي أن يأتي بها على الوجه المطلوب، ويعلم أن روح الصلاة في الخشوع فيحذر نفسه، ويكون حاضر القلب والذهن وهو يقرأ آيات الله في الصلاة، ويتلو الأذكار التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي بها. هذه حال المؤمن في الطاعات، فما عسى أن تكون حاله في المعاصي؟ قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ} [الأعراف:201 - 202] فالمؤمن يتصارع إيمانه وهواه، قد يطوف به الشيطان فيغفله عن قوة إيمانه، فلا تصفو له لذة، ثم لا يكاد جنبه أن يقع على الأرض حتى يتذكر فيستعيد قوة إيمانه، فيعض أنامله أسفاً وحزناً على غفلته التي أعان بها عدوه على نفسه، وكيف سمح للشيطان أن يجري ولو بفكره وراء وساوس الشيطان.

احتجاجات باطلة لأجل فعل المعصية

احتجاجات باطلة لأجل فعل المعصية أما إخوان الشياطين فتمدهم الشياطين في الغي، فيمتدون منه، ويمنون أنفسهم الأماني من الغرور الذي غرهم، فتجد العاصي يقول: الله كتب المعصية علينا ولو شاء ما فعلتها، يتهم الله بأنه هو الذي أوقعه في المعصية راضياً عنه، والله قد كتب الطاعات والمعاصي ولا شك، ولكن الله سبحانه وتعالى لا يرضى لعباده الكفر، وأعطاهم الإرادة، وأعذر وأنذر، وأنزل الكتب وأرسل الرسل، وبعض العصاة يقول: هذه مسألة اختلف فيها العلماء، هناك من يحللها وقد يكون كلامه هو الصحيح، وبعض العصاة يقول: قد اختلف في كونها كبيرة لعلها صغيرة، والصغيرة أمرها هين، والجمعة إلى الجمعة كفارة ورمضان إلى رمضان كفارة وسنحج في آخر الأمر، أو يقول العاصي: لي حسنات كثيرة تغمر هذا الذنب، ألست أصلي؟ وأزكي؟ وأصوم؟ وأتصدق؟ ألست أبر والديَّ؟ وهكذا. أو يقول أيضاً: لعل الله يغفر لي، أليس الله واسع المغفرة؟ أليس رحيماً بعباده؟ لعلها تنالني شفاعة، أليس يقولون: إن شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم عظيمة؟ أو يقول: غداً أتوب، وإذا تقدم بي العمر سأحج تلك الحجة التي تمحو جميع الذنوب، ثم أقبل على حالي ونفسي وأصلح ما أفسدت، وهذه فترة شهوة وقوة وغلبة نفس! وأحسنهم من يقول: أستغفر الله، أستغفر الله، ويرى أنه قد تاب وقبلت توبته ومحي ذنبه، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً * يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً * لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} [النساء:119 - 123]. قال عدد من العلماء والسلف: إن هذه أخوف آية في كتاب الله: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً} [النساء:123 - 124]. قال ابن مسعود رضي الله عنه: [إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذبابٍ مر على أنفه فقال به هكذا] أي: كذبابة وقعت على أنفه فحرك يده وهش الذباب فطار، وانتهى كل شيء، هذا الفرق بين الإحساس بالمعصية من جهة المؤمن ومن جهة الفاسق. نسأل الله تعالى أن يعيننا على أنفسنا، وأن يقينا شر أنفسنا، وأن يلهمنا رشدنا، وأن يعيذنا من الشيطان وشركه وشرّه. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.

محاكمة للنفس في اتباع الهوى واتباع الحق

محاكمة للنفس في اتباع الهوى واتباع الحق الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي المتقين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الصادق الأمين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأتباعه إلى يوم الدين. عباد الله: ينبغي أن نفكر في حال أنفسنا مع الهوى، إلى أي شيءٍ نميل، هل صار ميلنا إلى طاعة الله أم إلى معصية الله؟ إذا كان الميل إلى المعاصي، فمعناه: أن النفس بحاجة إلى إصلاح. لنفكر في حال أنفسنا مع الهوى من جهة الميل عندما نتدخل لفض نزاعٍ، أو حكمٍ بين اثنين، لو جاء إليك اثنان يختصمان أحدهما قريب والآخر بعيد فإلى من تميل؛ إلى القريب أم إلى صاحب الحق؟ لو جاءك اثنان أحدهما تحبه والآخر لا تعرفه، أو بينك وبينه نفرة بسبب دنيوي، فهل تميل مع من تحب؛ أو تميل مع من معه الحق؟ لو أن شخصاً سب النبي صلى الله عليه وسلم، وآخر سب داود، وآخر سب عمر رضي الله عنه وآخر سبك وسب أباك، فمن الذي تعادي أكثر؟ وكيف ترتبهم في العداوة؟ بعض الناس يثور إذا سبه أحد، ولو سمع أن أحداً سب النبي صلى الله عليه وسلم، أو أن كاتباً قد اتهم أو سب الدين، أو سب الرب، أو سب أولياء الله الصالحين، ربما لم يتحرك أبداً، لكن لو سبه شخصاً لثارت ثورته. لو سمعت قول عالمين في مسألة أحدهما يقول: هي حلال، والآخر يقول: هي حرام، هل تميل نفسك إلى من يحللها، أو تميل نفسك إلى اتباع الحق والدليل مع أي واحد منهما كان؟ إذا سألت عالماً أو اطلعت على فتوى بتحريم شيءٍ، فهل ترضخ أم أنك تقول: لابد أن أسأل شخصاً آخر، وتظل تتبع المفتين لتصل إلى شخصٍ يقول: إنها حلال، ما هو الموقف؟ لو وقفنا مع أنفسنا حقاً ما هو الموقف؟ هنا يتبين -أيها الإخوة- من الذي يتبع الحق ممن يتبع الهوى، وهل يرضى عاقل لنفسه أن يشتري لذة اتباع هواه بفوات رضا رب العالمين، والحرمان من الزلفى عنده، والقرب منه، والنعيم العظيم في جواره؟ إذا كان كل منا يتجرد لله تبارك فلا يتبع الهوى فليبشر برضوان الله، وإن كان يميل إلى المعاصي والهوى؛ فليصحح نفسه قبل أن يبغته الموت فيقول: {رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} [المنافقون:10] أريد ساعة لأتصدق وأكن من الصالحين، ولكن هيهات هيهات إذا نزل الموت: {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ} [نوح:4] وكما قال الرجل الصالح لنفسه: تصوري أن الموت نزل بكِ الآن، فماذا كنتِ تتمنين؟ فقالت: كنت أتمنى أن أؤخر وأن أمهل، قال: إنك الآن في المهلة فاعملي. اللهم إنا نسألك أن تعيننا على أنفسنا، وأن تقينا شر أنفسنا، اللهم اجعلنا ممن يخافك ويتقيك يا رب العالمين! اللهم وفقنا لهداك واجعل عملنا في رضاك. اللهم انصر الإسلام وأهله يا رب العالمين، اللهم انصر الإسلام والمسلمين، اللهم انصر المجاهدين! اللهم ارفع الضر عن المسلمين، اللهم إن في إخواننا المسلمين من البلاء ما لا يعلمه إلا أنت فاكشف عنهم الضر يا رب العالمين، اللهم إنهم جياع فأطعمهم، وإنهم عراة فاكسهم، وإنهم حفاة فاحملهم.

وقفة مع كوسوفا

وقفة مع كوسوفا أنتم تسمعون -أيها الإخوة- ما يحل بإخواننا في كوسوفا، وتأتي الأخبار بما يلاقي إخواننا هناك، عشرات الآلاف قد شردوا من بلدانهم، وزرعت الحدود مع ألبانيا بالألغام حتى تنفجر بالنساء والأطفال وهم هاربون شاردون لا يلوون على شيء، يؤخذ الرجال إلى القتل، والنساء للاغتصاب، والأطفال ليمثل بهم. أورخاتسا آخر الضحايا في الأيام الأربعة القادمة تلك البلدة المسلمة، سكانها عشرون ألفاً، (80%) من بيوتها قد هدمت دكاً بالمدافع الصربية، ومئات القتلى في الشوارع، ورائحة النتن تنبعث من الجثث، ويقول شهود العيان: إنها رفعت بالجرافات، جثث المسلمين ترفع بالجرافات! وهاجر عشرون ألفاً إلى قرية مجاورة تبعد عشرة أميال لينبطحوا هناك على الأرض؛ لا طعام ولا شراب، مياه للشرب غير متوفرة، رعاية صحية لا توجد، ضمادات الجروح غير موجودة، لا منازل ولا مأوى ولا مسكن. الآن هؤلاء على الأرض مشردون في هذه اللحظات، ونحن نقف هنا في المكيفات نقعد تحت الظل، وأولئك يقعدون في العراء، أخذ الرجال من البيوت وقتلوا في الشوارع إعداماً ورمياً بالرصاص، وخطفت حافلتان من حافلات اللاجئين قبل ساعاتٍ وأُعدم كل من فيها، وآخرون أخذوا إلى جهات مجهولة، واشتركت عصابة النمور الصربية التي كانت تعمل المذابح في البوسنة في إخواننا الآن في كوسوفا مصممين على إنهاء الوجود الإسلامي، وإذا لم يكن أخذوا نصف ديارهم فضموها إلى صربيا وتركوهم محاصرين في النصف الثاني. اللهم إنا نسألك أن تنجي المستضعفين من المؤمنين، اللهم إنهم جياع فأطعمهم، اللهم إنهم عراة فاكسهم، اللهم إنهم طريدون فآوهم، اللهم إنهم حفاة فاحملهم، اللهم إنهم مظلومون فانصرهم، اللهم إنهم مقهورون فأعزهم إنك أنت العزيز الحكيم. اللهم أنت الجبار ملك السموات والأرض، أنت على كل شيء قدير أنزل بالصرب والنصارى واليهود بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين. اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، اللهم فرق شملهم وشتت جمعهم، واجعل بأسهم بينهم، واجعل دائرة السوء عليهم، وأنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين. اللهم تضرعنا إليك، واستغثنا بك، ورجوناك ودعوناك، اللهم فلا تخيب رجاءنا، وانصر في هذا الموقف إخواننا، ورد في هذا المقام كيد أعدائنا. اللهم رد المسلمين إلى الإسلام رداً جميلاً، واجمع كلمتهم على التوحيد والتقوى، اللهم ألف بين قلوبهم واهدهم سبل السلام، وأخرجهم من الظلمات إلى النور، اللهم أيقظ في قلوب المسلمين الحمية في قتال اليهود والنصارى، واجعل في قلوبهم الحمية لإخراج أولئك مما أخرجونا يا رب العالمين. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

الرجوع للحق

الرجوع للحق من الكبر بطر الحق، وذلك مذموم شرعاً، لكن من يهده الله يفتح في قلبه باب التواضع، ولا تستثقل نفسه التراجع إلى الحق، وفي السلف الصالح من الصحابة وأئمة الفقه والحديث خير مثال على ذلك، وقد بين الشيخ هذا الأمر في هذه المحاضرة بما يكفي لطالب الهداية.

معنى الكبر وفضيلة التواضع

معنى الكبر وفضيلة التواضع .

ليس من الكبر التجمل

ليس من الكبر التجمل إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. روى الإمام مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً، ونعله حسنة، قال: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس) وفي رواية الترمذي: (ولكن الكبر من بطر الحق وغمص الناس) ورواه الإمام أحمد رحمه الله عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل النار من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان، ولا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من كبر، فقال رجل: يا رسول الله! إني ليعجبني أن يكون ثوبي غسيلاً، ورأسي دهيناً، وشراك نعلي جديداً -وذكر أشياء حتى ذكر علاقة سوطه- أفمن الكبر ذاك يا رسول الله؟ قال: لا. ذاك الجمال، إن الله جميل يحب الجمال، ولكن الكبر من سفه الحق، وازدرى الناس). هذا الرجل مالك بن مرارة الرهاوي رضي الله عنه؛ لما سمع أنه لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر خشي أن يكون التجمل بالمباحات وإن كان دون إسراف، وفي حدود الشرع، خشي أن يكون التجمل في المظهر من الكبر، فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أنه ليس كذلك، وأن الله جميل؛ جميل في ذاته سبحانه، جميل في صفاته، جميل في أفعاله عز وجل، أجمل شيء في الوجود رب العزة سبحانه، ولذلك إذا نظر أهل الجنة إلى ربهم نسوا كل نعيم في الجنة يوم القيامة. إذاً فما هو الكبر الذي من كان في قلبه مثقال ذرة منه لا يدخل الجنة؟ قال: بطر الحق، أي: دفعه وإنكاره ترفعاً وتجبراً، التجبر على الحق فلا يراه حقاً، التكبر عن الحق فلا يقبله، هذا هو بطر الحق. وغمط الناس أي: احتقارهم. وعند هذه المسألة في قوله: (بطر الحق) نقف. أيها الإخوة! إذا راجعنا أنفسنا يتبين لنا أن مما ابتلينا به أننا ندفع الحق في كثير من الأحيان ولا نقبله، ونجادل بالباطل ونحن نعلم أن ما عرض علينا هو الحق، ونترفع عن قبوله ونصد عنه، هذه ظاهرة خطيرة، وهي أساس كل بلاء، وهي عدم قبول الحق والإذعان له، وقد قال الله سبحانه وتعالى عن أخلاق المسلمين: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر:18] فإذا عرض عليك الكلام وكان فيه حق فاستمع واقبل، وقبول الحق من العدل الذي أمر الله به بقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء:135] قبول الحق من علامات التواضع. سئل الفضيل بن عياض رحمه الله عن التواضع فقال: يخضع للحق وينقاد له ويقبله ممن قاله، وقال ابن القيم رحمه الله: إن من أعظم التواضع أن يتواضع العبد لصولة الحق، فيتلقى سلطان الحق بالخضوع له والذل والانقياد، والدخول تحت رقه؛ بحيث يكون الحق متصرفاً فيه تصرف المالك في مملوكه، فبهذا يحصل للعبد خلق التواضع. خضوع العبد لصولة الحق وانقياده له هو التواضع، بل قمة التواضع أن تخضع للحق، فهذا معنى عظيم من معاني التواضع غفل عنه الناس.

تواضع السلف ورجوعهم إلى الحق

تواضع السلف ورجوعهم إلى الحق وقال عمر رضي الله عنه في كتابه لـ أبي موسى الأشعري: [ولا يمنعك قضاء قضيت به اليوم فراجعت فيه نفسك، وهديت فيه لرشدك أن تراجع فيه الحق، فإن الحق قديم، ولا يبطل الحق شيء، وإن مراجعة الحق خير من التمادي في الباطل] ولذلك أقر موسى عليه السلام بخطئه لما ذكره به أعدى أعدائه فرعون لعنه الله، قال فرعون لموسى: {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ * وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الشعراء:18 - 19] أي: عندما قتلت ذلك القبطي، قال موسى عليه السلام: {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء:20] فاعترف أنه فعلها على ضلالة، ليس كفراناً بنعمة فرعون، ولكن فعلها على ضلال: {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء:20] يعني: قبل أن يوحى إلي وأرسل وأنبأ، فعلتها إذاًَ وأنا من الجاهلين، ولما قال الخضر لموسى عندما تسرع موسى، ولم يفِ بعهده للخضر في الصبر على ما يجري قال الخضر: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً} [الكهف:72 - 73] فجمع بين الإقرار والاعتذار، وهذا من خلق موسى عليه السلام. كلنا يفتقر إلى الحق، خلق الإنسان ظلوماً جهولاً، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم الليل فيفتتح صلاته بقوله: (اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة؛ أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم) فيجب أن يكون عندنا افتقار إلى الحق، وأن نشعر أننا محتاجون إليه، وأننا لا غنى لنا عن الحق وإلا صرنا في نار جهنم. وكان الخلفاء الراشدون يلتمسون الحق ويريدون معرفة أخطائهم، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه عبارته الذهبية: [رحم الله من أهدى إلي عيوبي] وقال عمر بن عبد العزيز لمولاه مزاحم: [يا مزاحم! إن الولاة جعلوا العيون على العوام، وإني جاعلك عيني على نفسي -جعلتك جاسوساً عليَّ- فإن سمعت مني كلمة تربأ بها عني، أو فعلاً لا تحبه، فعظني عنده، وانهني عنه] وقال عمر بن عبد العزيز لـ عمر بن مهاجر: [إذا رأيتني قد ملت عن الحق، فضع يدك في تلبابي، ثم هزني ثم قل: يا عمر ما تصنع؟] وهذا من حرصهم على الحق ومعرفة أخطائهم، والرغبة في تقويمهم، كل واحد يريد أن يقوم، وأن ينبه، وأن يبين له خطؤه حتى لا يستمر على الضلال. الرغبة في التقويم: إذا لم تكن عند كل واحد منا الرغبة في التقويم؛ فلن يتعلم ولن يتقدم ولن يهتدي، وكلام الأئمة في تواضعهم، كلام أئمة الفقه والعلم معروف مشهور، قال الشافعي رحمه الله: كل مسألة تكلمت فيها بخلاف الكتاب والسنة، فإني راجع عن كلامي في حياتي وبعد مماتي، وكذلك قال مالك رحمه الله، والنبي صلى الله عليه وسلم علمنا أن نقبل الحق ولو من الكافر، ولو من اليهودي، عن قتيلة الجهنية قالت: (إن يهودياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنكم تشركون، تقولون: ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة، وأن يقولوا: ما شاء الله ثم شئت) أخرجه الإمام أحمد والنسائي. إذاً: لم يجد النبي صلى الله عليه وسلم أي غضاضة من قبول تنبيه اليهودي لأنه حق، وأخذ به، وأمر أصحابه به واعتمده، وهكذا يقبل الحق من أي مكان جاء، ومن أي شخص مهما كان كبيراً أو صغيراً، وعلى هذا جرى الأئمة.

تواضع المحدثين

تواضع المحدثين وقال البخاري رحمه الله: خرجت على الكتاب بعد العشر -بعد أن حفظ القرآن- فجعلت أختلف إلى الداخلي وغيره من المحدثين، فقال يوماً فيما كان يقرأ للناس: سفيان عن أبي الزبير عن إبراهيم، في أحد الأسانيد التي يحدث بها الشيخ في المجلس وحوله الطلاب، فقلت له: إن أبا الزبير لم يرو عن إبراهيم، فانتهرني، فقلت أرجع إلى الأصل، فدخل فنظر فيه، دخل فنظر في مكتوبه في البيت، وكان يحدث من حفظه في الحلقة ثم خرج، فقال لي: كيف هو يا غلام؟ -أمام الناس- كيف هو يا غلام؟ قلت: الزبير بن عدي عن إبراهيم، هكذا أظهر صواب الغلام أمام الناس وهو الشيخ، فقيل للبخاري: ابن كم كنت حين رددت عليه؟ قال: ابن إحدى عشرة سنة. وقال محمد بن عمار الموصلي: رددت على المعافى بن عمران حرفاً في الحديث، فسكت، فلما كان الغد جلست في مجلسه من قبل أن يحدث، وقال: إن الحديث كما قال الغلام، قال ابن عمار: وكنت حينئذٍ غلاماً أمرد ما في لحيتي أي شعرة. وسأل رجل علياً عن مسألة فقال فيها، فقال الرجل: ليس كذلك يا أمير المؤمنين، ولكن كذا وكذا، فقال علي رضي الله عنه: أصبتَ وأخطأتُ، وفوق كل ذي علم عليم. وقال عبد الله بن وهب المصري: كنا عند مالك، فسئل عن تخليل أصابع الرجلين في الوضوء وكذلك اليدين، فلم يرَ ذلك، فتركت حتى خف المجلس، فقلت: إن عندنا في ذلك سنة، فذكر حديث: (إذا توضأت خلل أصابع رجليك) فرأيته بعد ذلك يسأل عنه فيأمر بتخليل الأصابع، ويقول: ما سمعت هذا الحديث قط إلا الآن، لكنه رجع إليه وأفتى به رضي الله عنه. وهكذا كانت سنة الأئمة وأهل العلم في قبول الخطأ عند التنبيه عليه، يعترفون به ويرجعون إليه، ويعلنون ذلك كما قال أحدهم: أرجع وأنا صاغر، ولما صنف الإمام عبد الغني كتاباً في أوهام الحاكم، المحدث المشهور، لما وقف الحاكم على هذا الكتاب جعل يقرأه على الناس، ويعترف لـ عبد الغني بالفضل والشكر، ويرجع إلى ما أصاب فيه من الرد عليه رحمة الله عليهما. هكذا كانوا إذاًَ في تقبلهم للحق، بل وإكرامهم، حتى قام الكسائي وعانق وأجلس إلى جنبه من نبهه على خطأ في المجلس، وقال إسماعيل بن أبي أويس للبخاري: انظر في كتبي وما أملكه لك، وأنا شاكر لك ما دمت حياً أنك نبهتني.

الأسباب المعينة على قبول الحق

الأسباب المعينة على قبول الحق ما هي الأسباب المعينة على قبول الحق؟ إذا لم يكن عند المرء تقوى فلن يقبل الحق: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً} [الأنفال:29] فرقاناً: تفرقون به بين الحق والباطل، وتعرفون به الحق، وتنقادون إليه، فلا بد من التقوى، وأن يعرف الإنسان مقدار علمه، وأنه عرضة للخطأ، وقال عليه الصلاة والسلام: (كل بني آدم خطاء) قال عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله: من يبرئ نفسه من الخطأ فهو مجنون، الذي يقول: أنا لا أخطئ كذاب: (كل بني آدم خطاء) من الذي لا يخطئ إلا من عصمهم الله سبحانه وتعالى. وأن يعلم الإنسان منا أن الرجوع إلى الحق فيه أجر وثواب، لما حلف أبو بكر الصديق ألا ينفق على مسطح ولا يعطيه شيئاً؛ لأنه ظلم ابنته عائشة، أنزل الله تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:22] ولا يأتل: أي: لا يمتنع، وكان مسطح قريباً للصديق وقال: والله لا أنفق على مسطح شيئاً بعد الذي قال لـ عائشة، فلما نزلت الآية قال أبو بكر رضي الله عنه: [بلى والله، إني لأحب أن يغفر الله لي] فرجع إلى النفقة التي كان ينفق عليه وقال: [والله لا أنزعها منه أبداً] وكفر عن يمينه، هكذا فعل. فإذاً ثواب الرجوع إلى الحق هو الذي يدفع المؤمن إلى الرجوع، وهي خصلة عظيمة، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، اللهم اجعلنا من أهل الحق، وأقمنا على ملة الحق، وأمتنا على الحق إنك أنت الحق المبين. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الرجوع إلى الحق قوة لا ضعف

الرجوع إلى الحق قوة لا ضعف الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، أشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. عباد الله: إن بعض الناس يتصور أن الرجوع إلى الحق ضعف، وأن العودة عن قوله أو فعله الخاطئ اهتزاز في شخصيته، ويأتي الشيطان لينفخ فيه فيقول له: إذا تراجعت فأنت ضعيف شخصية، بينما الحقيقة بخلاف ذلك تماماً، فإن الإنسان ولو توهم أن تراجعه ضعف أمام الآخرين، فإنه في الحقيقة رفعة في نظرهم، ويكبر في أعينهم، ولكن المسألة تحتاج إلى شيء من المصابرة والمجاهدة، لقد تلكأ علي رضي الله عنه عن بيعة الصديق لأنه كان يعتقد في زمن أن له في ذلك حقاً؛ كما روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها، ثم لما تبين الحق لـ علي رضي الله عنه رجع، وقال لـ أبي بكر: موعدك العشية للبيعة، فلما صلى أبو بكر على المنبر، رقى على المنبر، فتشهد وذكر شأن علي، أي: فضله ومنزلته، وعذره بالعذر الذي اعتذر إليه، ثم استغفر له، وتشهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه فعظَّم حق أبي بكر، وأنه لم يحمله على الذي صنعه -أي من التأخر عن بيعته- نفاسة على أبي بكر -ليس حقداً ولا حسداً- ولا تقديماً لنفسه على نفس الصديق، ولا إنكاراً للذي فضله الله به، قال: [ولكنا كنا نرى لنا في الأمر نصيباً ونحن آل محمد صلى الله عليه وسلم] ثم عرف أن الحق فيما أجمع عليه الصحابة من بيعة الصديق، فبايع علناً أمام الناس، قال الراوي: فسر المسلمون بذلك وقالوا: أصبت، فكان المسلمون إلى علي قريباً حين راجع المعروف، قال ابن حجر رحمه الله: أي كان ودهم له قريباً، إذاً ازدادت المودة لـ علي رضي الله عنه لما راجع، لم تهتز شخصيته في أعينهم، لم يصبح ضعيفاً في أعينهم، وإنما ازدادت مودتهم له لما رجع إلى الحق. وقال عبد الغني الأزدي: لما رددت على أبي عبد الله الحاكم الأوهام التي في المدخل إلى الصحيح في كتابه، بعث إلي يشكرني ويدعو لي، فعلمت أنه رجل عاقل، فإذاً الراجع إلى الحق يزداد في أعين الناس، وإن أوهمه إبليس في البداية أنها ضعف شخصية وأنها إهانة. والذي لا يراجع الحق كبراً فإن الله يحرمه من معرفة الحق، كما قال الله عز وجل: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف:146] قال ابن جريج رحمه الله: أي سأصرفهم عن أن يتفكروا فيها ويعتبروا بها، قال المفسرون: سأرفع فهم القرآن عن قلوبهم، وهكذا يكون مصير الذي يتكبر على الحق أن يحرم عن معرفته وتبينه، وهذه لا شك كارثة كبيرة ومصيبة عظيمة فادحة تنزل بالإنسان، غضباً من الله، وعقوبة له على تكبره عن الحق، أنه لا يعود ليميزه ولا يعرفه ولا يهتدي إليه.

بعض العوائق عن قبول الحق

بعض العوائق عن قبول الحق وبعض الناس ربما يسهل عليه أن يرجع إلى الحق إذا اكتشف هو بنفسه الخطأ، لكن إذا بين له من الآخرين لا يسهل عليه الرجوع، ويشق عليه أن يبين له من قبل الآخرين. وبعض الناس ربما يقبل الحق ممن هو أكبر منه، لكن إذا كان من أقرانه أو ممن هو أصغر منه لا يقبل، وهذه مصيبة أيضاً، وقد تقدم حال السلف رحمهم الله في قبول الحق من الأطفال؛ لأجل منزلة الحق وعظم الحق في قلوبهم. ومن الناس من يكون في نفسه عجب يمنعه من قبول الحق. إذا نصحت لذي عجب لترشده فلم يطعك فلا تنصح له أبداً فإن ذا العجب لا يعطيك طاعته ولا يجيب إلى إرشاده أحداً صاحب العجب (المعجب بنفسه) كيف ينقاد للحق؟! وبعض الناس لا يرجعون إلى الحق لجهلهم، وأكثر النفوس على جهل ما لم تعلمه: وضد كل امرئٍ ما كان يجهله والجاهلون لأهل العلم أعداءُ وبعض الناس يرد الحق لأنه يخالف ما ألفه ونشأ عليه: وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوده أبوه وهكذا تتوارث الأجيال كثيراً من العادات والسلوكيات الخاطئة، وتتناقلها جيلاً بعد جيل، حتى تتحول إلى مُسِلَّمة من المُسلَّمات التي لا تقبل النظر والمراجعة، فضلاً عن تركها والبعد عنها، وحينئذٍ يجبن الكثيرون عن التصويب، وهكذا ما ترى من عادات بعض القبائل من الأمور المحرمة التي لا يرجعون عنها، ويعتبرونها قانوناً لا يسعهم التخلف عنه، وحجتهم هي حجة أهل الجاهلية: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} [النساء:61] ماذا يقول هؤلاء وغيرهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23] وجدنا آبائنا هكذا، فنحن على ما وجدنا عليه آبائنا، تقول: هذا الحق، وهذا الكتاب، وهذه السنة، فيقولون: نحن على ما نشأنا عليه، وما ألفناه وما عرفناه، ويرفضون الحق. فيا عبد الله! أيهما ينجيك عند الله: تقليد الآباء والأجداد، أم تقليد الكتاب والسنة؟ وما الذي سيقبله الله منك؛ أن تقول: وجدت أبي وجدي، والمجتمع من حولي، أو أن تعترف بما في الكتاب والسنة، وتراجع ذلك؟ وبعض الناس عندهم كبر تجاه الدعاة إلى الله والناصحين، لا يقبلون منهم نصيحةً، قال ابن مسعود رضي الله عنه: [إن من أكبر الذنب، أن يقول الرجل لأخيه اتق الله، فيقول: عليك نفسك أنت تأمرني؟!] وهكذا ازدراء الخلق، وإذا كان هؤلاء الخلق دعاة وفضلاء فإن ازدراءهم أعظم إثماً ولا شك، وهذه مسألة خطيرة -أيها الإخوة- ومبدأ مهم في حياتنا يجب اعتماده، والذي يخالف ذلك سيكون عرضة للهلاك بلا شك، وتأمل في أكثر مصائبنا وسبب انحرافاتنا تجد السبب أننا لا نرجع إلى الحق، وكثير من المشكلات بين الأب وأبنائه، والزوج وزوجته، والأخ وإخوانه، والجار وجاره، وهكذا، وبين المدعو والداعية، تجد أن السبب في المشكلة عدم الرجوع للحق، وعدم قبول الحق، ينبغي أن تقدر القضية حق قدرها، وأن تعطى شأنها، وأن نكون متواضعين للحق. اللهم إنا نسألك أن تجعلنا ممن يخافك في الغيب والشهادة، وممن يقول كلمة الحق في الغضب والرضا، اللهم إنا نسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، اللهم إنا نشهدك أنك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، وأنك تبعث من في القبور. ونسألك في مقامنا هذا في هذه الساعة أن تعتق رقابنا من النار، وأن تجعلنا من أهل الجنة الأبرار، اللهم إنك أنت الرحيم فارحم عبادك إنك على كل شيء قدير، اللهم ارفع البأس عن المسلمين، اللهم ارفع البأس عن المسلمين، اللهم ارفع البأس عن المسلمين. هذه المؤامرات تحاك في بلاد المسلمين أيها الإخوة، وهذه الدوائر تدور عليهم من أعداء الإسلام والمسلمين، وهؤلاء الصرب يهددون أهل كوسوفو عند حصول أي شيء لهم بمذابح رهيبة، وآلاف مؤلفة من عصابات المذابح التي كانت في البوسنة التي يسمونها عصابات أراكان وعصابات النمور تتربص بالمسلمين المزيد من المذابح، بعد أن أنهوا عدداً كبيراً منها في المدة الماضية، والعالم مشغول كما يقولون، وهكذا تحاك حول المسلمين في فلسطين وما حولها في بلاد الشام وغيرها، تحاك الدوائر حولهم، ولكن الله سبحانه وتعالى لن يرفع الذل عن الأمة إلا إذا رجعت إليه، وأنابت إليه، والله يخوف الأمة وينذرها بهذه الأحداث والكوارث والقوارع، فمن الذي ينزجر: {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ} [الرعد:31] {وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَاناً كَبِيراً} [الإسراء:60] والواجب علينا الاعتبار والاتعاظ ومراجعة الحق والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى. اللهم اجعلنا في بلادنا آمنين مطمئنين، اللهم إنا نسألك الأمن في البلاد، والرحمة للعباد، اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين. وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.

السفر وآدابه [1]

السفر وآدابه [1] السفر كلمة قليلة الحروف، غزيرة المعنى والمدلول، وفي الشرع الحنيف ذكر لأنواع السفر وأحكامها؛ مع توضيح المعنى الحقيقي للسياحة في الإسلام، والذي حرفه الواقع المخالف لذلك. تلك موضوعات متنوعة تناولها الشيخ في خطبته، إضافة إلى ذكر بعض الحقائق المتعلقة بالسفر إلى الخارج.

أنواع سفر النبي صلى الله عليه وسلم

أنواع سفر النبي صلى الله عليه وسلم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. لما كان هذا الوقت بداية الإجازة، ناسب أن يكون كلامنا أيها الإخوة! عن موضوع السفر؛ حيث أن كثيراً من الناس ينوون ويخططون للسفر في هذا الوقت. والسفر أيها الإخوة! إنما سُمي سفراً لأنه يُسفر عن أخلاق الرجال ويكشف عنها، ولذلك فإن المسافر يتبين من طبعه وأخلاقه وشمائله ما لا يتبين في حضره؛ لأنه إذا ابتعد عن المألوفات وابتعد عن الأهل والأوطان؛ فإنه يظهر على حقيقته، وتظهر أشياء كثيرة كانت خافية من قبل. ورسولنا صلى الله عليه وسلم كان يسافر، ما كان مقيماً في مكانٍ واحدٍ طيلة عمره، ولكن: إلى أين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسافر؟ وما هي أنواع سفره عليه الصلاة والسلام؟ إن سفره صلى الله عليه وسلم كان دائراً بين أربعة أنواع من السفر: النوع الأول: سفر الجهاد. النوع الثاني: سفر الهجرة. النوع الثالث: سفر الحج. النوع الرابع: سفر العمرة. هكذا كانت أسفاره صلى الله عليه وسلم، فإنه خرج من موطنه من مكة مهاجراً إلى الله بعد أن لحق الأذى به وبأصحابه، وأصبح من الصعب جداً الإقامة وسط أولئك الكفار المعاندين، الذين كان آخر ما خططوا له اغتياله عليه الصلاة والسلام، ولكن الله نجاه منهم لأمرٍ يريده عز وجل. وسافر صلى الله عليه وسلم سفرات كثيرة في الجهاد في سبيل الله، وكان هذا النوع من السفر أكثر الأنواع التي سافر فيها صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يلبث أن يأتي من غزوة حتى يُجهز غيرها، ولا يلبث أن تأتي سرية حتى يخرج في غيرها، وهكذا. كانت أسفاره لخدمة الدين، كانت أسفاره لحماية هذا الإسلام الذي شرعه الله، وللذود عن حياضه، ولإنقاذ المستضعفين من المسلمين، الذين كانوا يرزحون تحت نير استعمار الكفار واضطهادهم وعذابهم. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع مرات للعمرة، وخرج في حجة الوداع؛ لأنه لم يتمكن من الخروج قبل ذلك للحج، وإلا فإنه عليه الصلاة والسلام كان أول المبادرين إلى الطاعة، ولو كان يُمكن أن يخرج للحج في أول الدعوة لخرج، ولو كان يُمكن أن يخرج للحج قبل العام العاشر لخرج، ولكن الكفار لم يمكنوه من ذلك حتى حج عليه الصلاة والسلام في آخر سنة من حياته.

أنواع السفر

أنواع السفر والسفر قد يكون سفر طلب وقد يكون سفر هرب، وبناء على نوع الطلب ونوع الهرب يكون السفر إما سفر طاعة أو سفر معصية.

سفر طلب وطاعة

سفر طلب وطاعة قد يكون سفر طلب مثل طلب العدو، كالجهاد في سبيل الله، أو طلب العلم، أو طلب زيارة العلماء، أو طلب الحج والعمرة، وواأسفا على أناس من المسلمين يعيشون في هذه الأيام في بلاد قريبة من البيت العتيق، ومدن ليست بعيدة من الكعبة لم يروا كعبة الله حتى هذه اللحظة، وليسوا بمعذورين لا في مال، ولا في صحة، ولا في أعذار قاهرة، فأنى لهم العذر عند الله وقد تخلفوا عن الإتيان إلى بيته، إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عدَّ الذي ينقطع عن البيت خمس سنين: (إن عبداً أصححت له جسمه؛ لا يفد عليَّ خمس سنين لمحروم) إذا انقطع عن البيت العتيق أكثر من خمس سنين فهو محروم كما بين عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح، فكيف بمن انقطع عن البيت العتيق طيلة حياته، ويستصعبون الحج ويضعون الأعذار الواهية، وقد حج الناس والحمد لله ورجعوا في أمان وسلام. فعلام تشويشات الشيطان، وعلام الأعذار التافهة التي يُقيمها في أنفس المسوفين العصاة الذين يقولون: العام القادم، العام القادم، وما يدريهم ماذا سيحصل في العام القادم!

سفر طلب ومعصية

سفر طلب ومعصية وقد يكون سفر طلب، ولكن طلب معصية كالسفر في طلب الزنا والخمور والرقص ومشاهدة المحرمات، والسفر في طلب الربا، والسفر في تتبع أولياء الله وهو من أعظم المحرمات.

سفر هرب وطاعة

سفر هرب وطاعة وقد يكون سفر هرب وطاعة كمن يهرب من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام، ويهاجر إلى بلاد المسلمين، أو أن يهرب من الأذى، أو ممن يريد قتله، أو غصب أمواله، أو إيذاء أهله، وفي هذا العصر والزمان من غربة الإسلام خرج كثير من المسلمين من بلادهم، أو أُخرجوا من بلادهم لأنهم قالوا: ربنا الله، وفي الأرض جماعات متناثرة من المسلمين من أهل السنة أُخرجوا من ديارهم لأنهم أهل السنة، أخرجهم الكفرة، وأهل البدعة والضلالة، وأهل الإلحاد والزيغ، ولا تزال تطّلع على أخبارهم بين فترة وأخرى، وبين حين وآخر من الزمن تسمع أنباء إخوانك الذين أُخرجوا ظلماً وعدواناً من أراضيهم وبلادهم لا يلوون على شيء إلا الفِرار بأنفسهم، وسلامة أهليهم، ليس معهم إلا حقيبة يدوية. والعتب على متبلدي الإحساس من المسلمين الذين لم يشعروا حتى هذه اللحظة أن لهم إخواناً من اللاجئين، ومن المهَجّرين، ومن الذين أُخرجوا من ديارهم ظلماً وعدواناً، ليت هؤلاء من متبلدي الإحساس بدلاً أن يسافروا إلى بلاد الكفار ليتمرغوا في أوحال المعاصي، يسافروا إلى بعض المناطق المنكوبة من أراضي إخوانهم المسلمين حتى يشهدوها. وكذلك فإن السفر إلى المساجد الثلاثة للصلاة فيها وعبادة الله من أعظم القربات، وينبغي أن يكون في نفس المسلم في هذا الزمن حنينٌ إلى بيت المقدس المسجد الثالث من هذه المساجد الثلاثة، الذي منع اليهودُ المسلمينَ من خارج ذلك المكان الصلاة فيه إلا بصعوبة بالغة.

السفر لزيارة الإخوان في الله

السفر لزيارة الإخوان في الله والسفر لمجرد زيارة أخ في الله من أعظم القُربات عند الله، وقد ورد بذلك أحاديث صحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

السفر لطلب الرزق

السفر لطلب الرزق ومن سفر الطلب الدنيوي المباح: السفر لطلب الرزق، وستر الأهل والنفس عن ذل الحاجة والسؤال، وكثير من المسلمين الذين قدموا إلى هذه البلاد وغيرها للعمل فيها، إن أخلصوا النية في إتيانهم لأجل ستر أنفسهم وأهليهم؛ فإنهم إن شاء الله مأجورون على هذا العمل، ومن خرج من بلده يسعى على صبية صغار له؛ فهو في سبيل الله حتى يرجع، ولكن العتب على من خرج ليجمع الأموال ويُفاخر فيها ثم يعود ليفجر بها في بلده. هناك الكثيرون -أيها الإخوة- يقترون على أنفسهم فترة من الزمن، ليجمعوا الأموال فإذا ما جمعوا عاثوا في الأرض فساداً.

السفر لطلب العلم

السفر لطلب العلم والسفر لطلب العلم من أعظم القربات: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التوبة:122]. الناس الآن يذهبون إلى الخارج ليتحللوا من الدين، والأصل: ((لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ)) وهم يذهبون إلى الخارج لكي ينسوا الدين، والأصل: {وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122] فصار طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، والمقصود في الآية طبعاً علم الشريعة، وعلم الدين الذي يحتاج إليه المسلمون. أيها الإخوة: المسلمون اليوم يحتاجون اليوم إلى علماء في الشريعة أكثر من حاجتهم إلى الأطباء والمهندسين والله، ولكن من يفقه هذا؟ ولسنا نغض من قدر تحصيل العلم الدنيوي لرفع شأن المسلمين، ولكن علم الشريعة يحتاج إليه المسلمون في هذه الأوقات التي عم فيها الجهل حاجةً عظيمة (من خرج من بيته في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع) حديث صحيح. وقد رحل الصحابة والسلف في طلب الحديث الواحد أياماً وشهوراً، ورحل جابر رضي الله عنه شهراً كاملاً في طلب حديث، وقال سعيد بن المسيب رحمه الله: إن كنت لأرحل الأيام والليالي في طلب الحديث الواحد. وخرج الحميدي رحمه الله، وهو من أجلة المحدثين يريد أن يلقى شيخاً في مكان على ثلاثة أميال من مكة، فلما خرج إليه وسافر ذلك السفر لقي في الطريق رجلاً، فقال له: أين تريد؟ قال: أردنا أبا العباس من الرواة. قال: يرحم الله أبا العباس مات أمس، فقال الحميدي: هذه حسرة، ثم قال: أنا أسمعه منك هذا الحديث.

شد الرحال لزيارة القبور والمشاهد والأضرحة

شد الرحال لزيارة القبور والمشاهد والأضرحة ومن السفر المذموم: السفر وشد الرحال لزيارة القبور والمشاهد والأضرحة، وكثير من المسلمين الذين يظنون بجهلهم أن الشرك قد انتهى، وأن عبادة الأضرحة قد انتهت، وأن عبادة القبور كانت من زمان؛ على أولئك الذين يسمعون الأنباء الآن في عبادة الأضرحة والقبور أن يعلموا أن هذا الشرك لم ينته بعد، وأن الجهاد في سبيل إزالته من أعظم أنواع الجهاد. إذا كان قد حج إلى قبر البدوي في الستينيات ثلاثة مليون إنسان في سنة واحدة وهم أكثر من الذين حجوا إلى البيت العتيق في تلك السنة. أيها الإخوة: الأمر خطير، من الناس من يعبد من دون الله أشخاصاً وأوثاناً وأحجاراً وقبوراً وأضرحة، ويزعمون أن العلم والتكنولوجيا قد قضت على الشرك والخرافة. التكنولوجيا والعلم لا تقضي على الشرك والخرافة، الذي يقضي على الشرك والخرافة هو التوحيد والعلم الشرعي، أليس هناك كبار الدكاترة في جامعات العالم لا زالوا يعبدون أصناماً وأحجاراً وقبوراً، ويأتي الدكتور الكبير بشهادته العلمية الكبيرة إلى القبر ليعبده من دون الله؟! إذن ليست التكنولوجيا هي التي تقضي على الشرك، وإنما تعلم التوحيد ونشر السنة بين الناس هو الذي يقضي على الشرك. صحيح أن العلم الدنيوي قد يقضي على بعض الخرافات، مثل بعض الاكتشافات الطبية؛ لكن الاكتشافات الطبية والتقدم العلمي الدنيوي لا يقضي على الشرك ولا ينشر التوحيد؛ وهو وإن قضى على بعض الخرافات فإنه لا ينشر السنة، نحن نحتاج إلى رجال يقومون بين الناس لنشر العلم، لنشر السنة، لتجريد التوحيد مما علق به من الشركيات. وإنني أتعجب من أولئك الذين يأخذون بأيدي أطفالهم في السفريات ليروهم المقابر التي أقامها الأولون، والأبنية التي أقامها الأولون، والأضرحة التي أقامها الأولون على قبور ملوكهم وعظمائهم، ويدخلون بأطفالهم إلى المتاحف لكي يرى الأطفال الأصنام التي كانت تُعبد من دون الله، ثم يُزعم بأن هذه الأصنام تُحف ينبغي أن تُقام ويقام لها أماكن مخصصة لحفظها والعناية بها، وتُوضع بهالة من التقدير والحفظ والرعاية على أنها من مخلفات الأقوام السابقة. وهذه موروثات حضارية عن حضارات سابقة، تُكرم وتوضع في متاحف؛ هذه أصنام كانت تعبد من دون الله توضع في المتاحف، لأي شيء؟! ويؤخذ أطفالنا ويدار بهم في المتاحف ليُرى ما كان يعبد الرومان، وما هي مقابر الفراعنة وغير ذلك، وهذا شرك. أليست هذه وثنية؟!! إذاًَ لماذا نريها أولادنا؟ فضلاً عمن يدخل من المسلمين إلى كنائس النصارى ومعابد الكفرة يزعمون أنهم يتفرجون على الدنيا.

السفر إلى بلاد الكفار لغير ضرورة

السفر إلى بلاد الكفار لغير ضرورة لقد بينّا بعض أنواع السفر المحرمة ومنها السفر إلى بلاد الكفار لغير ضرورة، يقيم في بلاد الكفار، وسط الكفار، ينسى دينه، ويتعلم تقاليدهم، ويتشبه بهم، ويُنفق الأموال التي ينبغي أن تبقى في بلاد المسلمين في بلاد الكفار؛ لتعين الكفار، وتدعم اقتصاد الكفار وبلدان المسلمين في أشد الحاجة إليها. أليست هذه الأموال التي ينفقونها في سياحاتهم -كما يزعمون- سيسألون عنها يوم القيامة؟! (وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه).

أحكام سفر المعصية

أحكام سفر المعصية وسفر المعصية له أحكام في الشريعة، وكثير من العلماء يرون أن المسافر في سفر المعصية لا يجوز له أن يترخص؛ لا يقصر الصلاة، ولا يجمعها، ولا يُفطر في السفر، ولا يمسح على الجوربين ثلاثة ليالي وأيام؛ لأنه خرج في معصية الله فكيف يترخص برخصة الله.

رد المظالم وقضاء الديون

رد المظالم وقضاء الديون على المسافر أن يبدأ إذا احتاج إلى السفر برد المظالم، وقضاء الديون؛ نسمع بأناس عليهم ديون متراكمة لكن مع ذلك يسافرون، وينفقون الأموال التي من المفترض أن يسددوا بها ديونهم، والدين غلٌ في عنق صاحبه، والرسول صلى الله عليه وسلم رفض أن يُصلي على الجنازة التي على صاحبها دين، وهؤلاء يبعثرون الأموال. خرج ابن المبارك رحمه الله إلى ثغر من ثغور المسلمين للجهاد، وكان إذا وصل إلى تلك البلدة القريبة من الثغر يأتي إليه شاب من شباب المسلمين، ويقوم بحوائج ابن المبارك يخدمه ويسمع منه الحديث، فقدم عبد الله بن المبارك مرة إلى تلك المدينة، فجاء النفير بالجهاد فخرج مستعجلاً؛ ولكنه لم ير صاحبه الشاب الذي كان يأتي في العادة ليخدمه، فلما رجع سأل عنه، فقالوا: إنه محبوس على عشرة آلاف درهم من الدين، فاستدل على الغريم، وسأل: من هو صاحب الدين؟ وأعطاه عشرة آلاف، وحلفه ألا يخبر أحداً طيلة حياته؛ فأُخرج الرجل المدين من السجن، وذهب ابن المبارك وسافر، فلحقه الفتى على مرحلتين من الرقة فقال ابن المبارك: يا فتى أين كنت؟ ما رأيتك. فقال: يا أبا عبد الرحمن كنت محبوساً بدين. قال: وكيف خلصت؟ قال: جاء رجل فقضى ديني ولم أدر. هذا عبد الله بن المبارك يتظاهر أنه لا يعرف عن الأمر شيئاً، قال عبد الله للفتى: فاحمد الله، ولم يعلم الرجل إلا بعد موت عبد الله، لكي تنقطع كل شوائب الرياء من الموضوع.

حسن اختيار الصحبة الصالحة

حسن اختيار الصحبة الصالحة وعلى أولئك الذين يُسافرون أن يختاروا الصحبة الصالحة، بدلاً من أن يختاروا الصحبة التي تعينهم على المنكر وعلى إتيان أماكن الفساد، وبعض الناس يذهبون معهم بخبراء في الفساد وأنواعه وأماكن الفساد؛ مرشد سياحي لكي يذهب بهم إلى الحانات والخمارات والمراقص وأماكن الدعارة؛ هذه وظيفة المرشد السياحي. عن مبارك بن سعيد قال: أردت سفراً، فقال لي الأعمش رحمه الله: سل ربك أن يرزقك صحابة صالحين؛ فإن مجاهد حدثني فقال: [خرجت من واسط فسألت ربي أن يرزقني صحابةً -صحبة في الطريق لكي لا أكون وحدي- ولم أشترط -ما قلت في الدعاء صحابة صالحين- فاستويت أنا وهم في السفينة فإذا هم أصحاب طنابير -أصحاب معازف وآلات موسيقية-]. والصاحب يعين على الطاعة، ويعين صاحبه حتى على أمور الدنيا ومشاق السفر ومصاعبه، قال محمد بن مناذر: كنت أمشي مع الخليل بن أحمد فانقطع شسعي -أي: صار النعل لا يصلح للسير- فخلع نعليه هو أيضاً فقلت: ما تصنع؟ قال: أواسيك في الحفاء. أي: لماذا تمشي لوحدك حافياً؟ أنا أخلع نعلي وأمشي معك أيضاً حتى أواسيك في الحفاء.

السياحة في الإسلام وفي الواقع

السياحة في الإسلام وفي الواقع والسياحة من المفاهيم التي صارت منحرفة في هذا العصر، فمعنى السياحة: أي: الذهاب لتضييع الأموال وارتكاب المحرمات؛ هذا في الغالب. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود: (إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله) هذه سياحة. والناس الآن يسافرون لإضاعة وقتهم هدراً، والرسول صلى الله عليه وسلم ما كان يسافر للفرجة، وقت المسلم ثمين، لكن إذا خرج في عمرة، أو في حج، أو في جهاد، أو في سفر إلى الخارج لعلة شرعية كالدعوة إلى الله، أو إلقاء المحاضرات الإسلامية، أو كان تاجراً من تجار المسلمين يذهب لدعم إخوانه في أماكن أخرى من العالم، ووجد في الطريق آيات الله في الأرض؛ فإنه يتفكر فيها: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ} [الرعد:4]. لكن أن يخرج أساساً للفرجة؛ فهذا يقول ابن القيم رحمه الله في شأنه: أما الذين يسافرون لمجرد الفرجة فهم كالبهائم الهائمة في الصحاري؛ تذهب تتفرج لا هدف لها. أيها الإخوة: بعضكم يستغرب هذا الكلام، أنا لا أقول إنه حرام، ولكن أقول فيه هدر للوقت؛ تذهب شهراً أو شهرين لمجرد الفرجة، لمجرد الاستمتاع هكذا بدون هدف، لماذا لا تضع في حسبانك مثلاً: زيارة قريب في ذلك المكان؟ طلب علم في ذلك المكان؟ دعم مسلمين في ذلك المكان؟! لا بأس أن يغير الإنسان الجو، ولكن لا بد أن يكون معتمداً وعازماً في ذلك السفر على أن يقوم بطاعات، أما مجرد الفرجة وخصوصاً الذين يذهبون إلى أماكن للتفرج يضيعون كثيراً من شعائر الدين؛ وهم يعلمون هذا تماماً. أسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقني وإياكم لأن نحُل حلاله ونحرم حرامه، وأن يرزقنا متابعة نبيه صلى الله عليه وسلم وظاهراً وباطناً. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

واقع السفر إلى بلاد الكفر

واقع السفر إلى بلاد الكفر الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، لا إله إلا هو رب الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي الكريم، الذي سافر أسفار التقوى، وجاهد في الله حق جهاده فصلوات الله وسلامه عليه وعلى أصحابه والتابعين. أيها الإخوة: الذهاب للنزهة في بلاد المسلمين إذا لم يُعرض الإنسان نفسه فيه لشيء من المحرمات، فهو إن شاء الله سفر مباح، حتى ولو كان لتغيير الجو ما لم يتعرض للمحرمات، ولكن السفر للفرجة في بلاد الكفار ما الخير الذي يُرجى من ورائه؟ وينبغي أن نكون في أسفارنا ممن يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويسارعون لمنع المنكر وعدم وقوعه أو تخفيفه على الأقل ونصح فاعله. نُعلّم الناس الذين نذهب إليهم، قد تدخل مسجداً من المساجد، أو تلقى رجلاً من الناس، قد تركب معه في الطائرة، لماذا لا تدعوه إلى الله؟ بعض الناس يسافرون إلى أماكن بعضها في بلاد المسلمين لكن فيها بدع، يقول أحدهم: دخلنا مسجداً من مساجد المسلمين فوجدنا الإمام في المسجد في ذلك المكان بعد أن انتهت الصلاة أتى بالكتاب ليُحدث عليهم، ثم أدخلت طفايات السجائر فوزعت على المصلين وعلى الإمام، ثم جلسوا يدخنون، ثم بعد ذلك شرعوا في التحديث. هناك بدع وضلالات كثيرة جداً منتشرة في أقطار العالم الإسلامي، أفلا يكون من الواجب على أهل التوحيد، وعلى الناس الذين لديهم علم بحسب قدرتهم واستطاعتهم أن ينبهوا الغافل، ويعلموا الجاهل، وينصحوا المبتدع، وكثيراً من أولئك يظنون أن بعض ما يعملونه من البدع قربة إلى الله، أليس من بعضكم الجالسين في هذا المسجد من سيرجع في هذه العطلة إلى أهله لأنه مقيم هنا في منطقة عمل، أليس لأهله حق في صلة الرحم؟! أليس لأهله المقيمين في ديارهم الأصلية حق في التعليم والنصيحة؟!! بعض المقيمين في خارج البلاد في جهل كبير، والرجل هنا في هذا البلد يكون قد تعلم أشياء كثيرة من الدين، أليس من حق أولئك أن ينقل إليهم هذا العلم؟ وأن ينبهوا على تلك الأخطاء؟ أنتم تعلمون أن كثيراً من الأهالي في بلاد أخرى قد استفادوا من بعض أقربائهم المقيمين في هذه البلاد، الذين رجعوا إليهم بالكتب الطيبة، والأشرطة الطيبة، والعلم الطيب الذي نشروه فيما بينهم، أليس من المفروض أن نكون دعاة إلى الله أينما حللنا وارتحلنا؟!!

تضييع الأهل والمال

تضييع الأهل والمال بعض الناس -أيها الإخوة- يجمعون ما أمامهم وما وراءهم ليسافروا به، ويرجع بعد السفر (على الحديدة) إن لم يرجع مديوناً، لماذا يفعلون هذا؟! وبعض العوائل يواعد بعضهم بعضاً في الخارج؛ في أماكن المحرمات، وبلاد الكفار، وبلاد الفتنة، يذهبون إلى هناك، ويذهب الرجال من طريق والنساء من طريق آخر، والذي يُقر الخبث في نفسه؛ فإنه لا بد أن يحدث في أهله. إذا كان السفر سيضيع الأولاد، فلماذا نسافر؟ بعض الرجال يسافرون ويتركون بيوتهم هملاًَ لا راعي لها، وليس هناك من يقوم بشئون أهليهم، تقول الزوجة: زوجي يسافر سفراً طيباً، سفر طاعة إن شاء الله، لكنه يتركني في البيت لوحدي، أخاف أي صوت في الليل، وأنا أسمع عن كثرة السرقات المتعددة، أحياناً لا يكون عندي ماء للشرب، وقد يمرض طفلي الصغير فأضطر في الليل أن أذهب مع سيارة الأجرة لوحدي بهذا الطفل إلى المستشفى؛ لأنه ليس عندي من يأخذه إلى المستشفى. الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (كفى بالمرء إثماً أن يُضيع من يقوت) كفى بالمرء إثماً أن يضيع عياله وأهله. يقول شيخ الإسلام رحمه الله عن سفر صاحب العيال: إن كان السفر يُضر بعياله لم يسافر، وسواءً كان تضررهم لقلة النفقة، أو لضعفهم، فسفر مثل هذا حرام، وإن كانوا لا يتضررون مادياً بل يتألمون وتنقص أحوالهم؛ الولد ليس عنده أب في البيت يعطف عليه، والزوجة ليس عندها أنيس، فإن لم يكن في السفر فائدة جسيمة تربو على ثواب مقامه عندهم؛ لأن جلوسه عندهم فيه ثواب، كعلم يخاف فواته، أو شيخ يتعين الاجتماع به، وإلا فمقامه عندهم أفضل.

أسباب دنيوية لقلة السفر إلى الخارج

أسباب دنيوية لقلة السفر إلى الخارج قد يقول قائل: لقد قلّت أسفارهم إلى الخارج. صحيح الناس قلت أسفارهم إلى الخارج، لكن عندما تأتيك الأسباب بعد ذلك تجد الأحوال المادية ليست كما كانت سابقاً، جرائم الاختطاف والسرقات كثيرة أرعبت البعض فهم لا يسافرون. إذن لماذا لم يسافروا؟ لماذا تركوا السفر إلى الخارج؟ لم يتركوه لله، وهذا هو لب الموضوع، لم يتركوه لله ولا لأنه يضر بالدين، ولا لأنه يضر بالعرض، ولا لأنه يفتن ويغري ويغوي، ومضيعة للأموال التي سوف يسأل عنها العبد يوم القيامة، لكن لأنها تضر به دنيوياً. هل تظن أن امتناع هؤلاء بالسفر إلى الخارج مما يثابون عليه؟ ثم إن الذي يريد الفساد سيحصل عليه؛ فلذلك ترى بعض الناس الذين لم يستطيعوا الذهاب إلى بلدان أوروبا للفساد؛ صاروا يذهبون إلى بلدان شرق آسيا لأن نفقات الحرام أقل، والذين لم يذهبوا إلى تلك البلاد يذهبون مما هو قريب منهم جداً من البلدان التي تنتشر فيها مواخير الفساد؛ ليقضوا وطرهم المحرم هناك، فالذي يريد الفساد لا يمنعه شيء، وسيفعله وهو في بلده.

واقع الحجاب الشرعي في الخارج

واقع الحجاب الشرعي في الخارج ما معنى: قيام بعض الناس بمنع بناتهم وزوجاتهم من ارتداء الحجاب الشرعي في الخارج؟ تقول: زوجي يمنعني من ارتداء الحجاب، وستر وجهي في الخارج، ويقول: تريدين من الأجانب أن يضحكوا علينا. أيها الإخوة: من الذي تسبب أن الأجانب يضحكون عليه؟ أليس هو الذي ذهب إليهم طائعاً مختاراً حراً؟ أم أن أحداً أجبره وقيده ووثقه ورماه في بلاد الكفار؟ يذهب إلى هناك يقول لزوجته: لا نريد الناس يضحكوا علينا، اكشفي الوجه وإلا نزعته منك بالقوة. وهكذا يفعلون! والمشكلة أن بعض النساء تضطر إلى السفر مع زوجها، وبناته يضطررن لذلك، تقول الزوجة: أنا لا أضمن زوجي ماذا يفعل في الخارج، على الأقل أرافقه، ثم هو بعد ذلك يجلب الأذى على نفسه وعليها. لماذا؟ ولد صغير يقول: راتب أبي ينتهي أول عشرة أيام من الشهر؛ لأنه يسافر السفرات المحرمة، وفي النهاية ليس عندنا مصروف البيت، لا نجد الطعام الكافي، يقول هذا الطفل ببراءة الأطفال: كم مرة قلت لأبي: اشترِ لي ألعاب، ويعدني، ثم لا يشتري لي ألعاب، يقول: ليس عندي مال. ويقول الطفل حزيناً: لماذا ليس عندي ألعاب كبقية الأطفال؟ لأن هذا الأب المجرم يُنفق أمواله في السفرات المحرمة، وأنتم تعلمون وبعضكم يعلم أكثر مني عن بعض العوائل وبعض الحالات التي تُوجد فيها مثل هذه النكبات، أطفالنا في محنة من جرائم الآباء في الأسفار المحرمة. وإنني أظن -أيها الإخوة- أن بعض المسلمين أو المنتسبين إلى الإسلام يعملون في أهليهم من المنكرات ما لا يعمله اليهود في أهليهم، بل إنني أجزم بهذا من بعض الأحداث التي نسمعها، واحدة من الفتيات المراهقات في مقتبل عمرها تقول: أبي يذهب بنا إلى الخارج ويجبرنا على نزع الحجاب، ثم يدخل بنا في بلاد الكفار إلى المراقص والملاهي الليلية، ويسلمني إلى أي شاب يريد أن يرقص معي، ويدفعني إلى هذا، ولا يبالي أن يذهب بي ذلك الشاب أينما شاء، ويدفعني دفعاً، ويتفرج عليَّ مكتوف اليدين وهو مبسوط من الحضارة والمستوى الراقي الذي وصلت إليه ابنته؛ لأنها تراقص الفتيان الكفار على أنغام الموسيقى الصاخبة. هل تتصورون أن يهودياً قد يفعل في أهله مثل هذا؟!! أولئك الفجرة. لكن واحداً عنده بنت مستقيمة يذهب بها ليعمل بها هذا العمل. ماذا نقول أيها الإخوة؟! وبماذا نشتكي؟! وكيف نعلل الأمور؟! ثم نقول بعد ذلك: نعاني من كثرة المشاكل، إن لم يكن منكم جميعاً وقفة صادقة مع أنفسكم، ومع أهليكم، ومع أقربائكم، ومع جيرانكم، ومع أصدقائكم، فلن يتغير شيء في الموضوع.

الطفل الإسلامي والطفل الغربي [1]

الطفل الإسلامي والطفل الغربي [1] لقد اعتنت الشريعة الإسلامية بالطفل أيما اعتناء؛ فكرمته وأعطته حقوقاً قبل مئات الأعوام عجز الغرب بمنظماته عن الإتيان بها. ولأجل ذلك جاءت هذه المادة مبينة لجزء كبير من حقوقه، بدءاً من حقوقه قبل الزواج ثم مروراً بحقوقه في طور الحمل والولادة، وانتهاءً بذكر حقوقه حال حياته ذكراً كان أو أنثى، ولا سيما في مسألة النسب والتربية الدينية.

تكريم الشريعة الإسلامية للطفل

تكريم الشريعة الإسلامية للطفل إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. عباد الله: لقد جاءت هذه الشرعية بكل ما يصلح حالنا وما يصلح لنا، وما تركت جزئيةً إلا وأتت فيها بحكم وتوجيه، لقد جاءت هذه الشريعة لإسعاد المجتمع، والأطفال من ضمن المجتمع، وشريحة من شرائحه، أولادنا وأطفالنا لقد اهتمت الشرعية بهم غاية الاهتمام، وانصبت الأحكام والآداب والتوجيهات الشرعية للاهتمام بحال الأولاد والأطفال، ونحن في زمن مع الأسف غابت فيه شمس الشريعة، واندثر فيه العلم وانتشر الجهل، وفشا التقليد الأعمى للغرب، إلا من رحم الله تعالى من خلقه، فصار كثير من الناس يعجبون بالغربيين، ويتكلمون عن طريقتهم في الاهتمام بالأطفال، وعما فعلوه لإسعاد الأولاد، ونسوا ما في شرعيتنا مما جاء بهذا الخصوص. فتعالوا بنا نعقد المقارنة، ونبين ما في الشريعة مما يتعلق بالأطفال والأولاد، وما عليه الغربيون في هذا المجال، ونبدأ بالشريعة ولابد.

اختيار الزوجة الصالحة

اختيار الزوجة الصالحة إن رحلة الطفل في الإسلام تبدأ من قبل وجوده، تبدأ من حين البحث عن أم وزوجة صالحة، قال صلى الله عليه وسلم: (فاظفر بذات الدين تربت يداك) وعن أم ودود ولود، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم: (تزوجوا الودود الولود). ويدعو الإنسان قبل وجود الطفل بقوله: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران:38] كما كان نبي الله يدعو. وعند إتيان الزوجة يلاحظ أن الطفل يمكن أن ينتج من الجماع، فهو يقول قبل الوقوع على زوجته: باسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا. فإذا وجد الولد، وتخلق في بطن أمه، فلا يجوز إسقاطه ولا قتله، وإذا ولد فهو أشد وأعظم، قال الله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} [الإسراء:31]. فإذا ولد فلا يجوز قتله بحالٍ أبداً، وإذا خاف العيلة والفقر فالله يرزقه، ولما كان يقتله خشية الفقر قدم ذكر رزق الولد أولاً على رزق الأب، فقال: {نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} [الإسراء:31] وفي سورة الأنعام قال: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ} [الإسراء:31] أي: من الفقر الواقع، فقدم رزق الآباء هنا أولاً، فقال: {نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام:151] وقال الله تعالى: {إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً} [الإسراء:31] أي: ذنباً عظيماً من أكبر الكبائر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك) رواه مسلم.

تحريم وأد البنات

تحريم وأد البنات ولما كان يلحق البعض من العار بالبنات، وكان وأد البنات سنة جاهلية جاءت الشريعة بالتأكيد على تحريمه، وهو من الكبائر قال تعالى: {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ} [التكوير:8] سؤال توبيخ لمن وأدها {بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:9] لا يوجد في الإسلام شيء: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} [النحل:58 - 59]. كانت المرأة عند الولادة تأتي إلى الحفرة ومعها القابلة، فإن كانت أنثى استخرجتها فرمت بها في الحفرة مباشرة، وأهيل عليها التراب، وإن كان ذكراً نجا. ولما كانت البنات فيهن ضعف، وهنَّ عالة على الأب، ولسن مثل الذكور في القوة والإعانة؛ عوضت الشريعة أبا البنات بأجر عظيم، قال صلى الله عليه وسلم: (من كان له ثلاث بنات، فصبر عليهن، وأطعمهن، وسقاهن، وكساهن من جدَتهِ -من ماله وغناه- كنَّ له حجاباً من النار يوم القيامة) حديث صحيح. ولما شقَّت امرأة فقيرة تمرة تصدقت عائشة بها عليها فأطعمتها ابنتيها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد أوجب لها بها الجنة، أو أعتقها بها من النار) رواه مسلم.

حقوق الطفل في الإسلام

حقوق الطفل في الإسلام

حق الطفل جنينا

حق الطفل جنيناً لماذا جاءت الشريعة بالسماح بالإفطار للحبلى والمرضع؟ لماذا أجازت الإفطار وجعلت الحبلى والمرضع من أهل الأعذار؟ إن ذلك من أجل مصلحة الولد الجنين الذي في البطن، والولد الذي يرتضع، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تجني أم على ولد) فلا يجوز أن تتعاطى شيئاً يضعفه أو يشوهه، وينبغي أن تتقوى الحامل لتغذيته في بطنها، وهذا من مسئوليتها. وتأمل حفظ الشريعة للجنين! تأمل حقوق الجنين في الشريعة بتأجيل إقامة الحد على المرأة الحامل من الزنى حتى تضع حملها. ولما جاءت المرأة الغامدية فاعترفت عند النبي صلى الله عليه وسلم: (يا نبي الله! أصبت حداً فأقمه عليَّ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم وليها، فقال: أحسن إليها، فإذا وضعت فائتني بها، فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة، قالت: ها قد ولدته، قال: اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه، فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز) الحديث. وفي رواية: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: قد وضعت الغامدية، فقال: إذن لا نرجمها وندع ولدها صغيراً ليس له من يرضعه، فقام رجلٌ من الأنصار وقال: إليَّ رضاعه يا نبي الله! قال: فرجمها) قال العلماء: ولو كان حدها الجلد وهي حامل، لم تجلد بالإجماع حتى تضع. ومن تعدى على الجنين في بطن أمه فأسقطه، فالحديث في ديته واضح، كما رواه البخاري في المرأتين من هذيل التين اقتتلتا، فرمت إحداهما الأخرى بحجر، فأصابت بطنها وهي حامل، فقتلت ولدها الذي في بطنها، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم (فقضى أن دية ما في بطنها غرة عبد أو أمة، فقال ولي المرأة التي غرمت: كيف أغرم يا رسول الله! من لا شرب ولا أكل، ولا نطق ولا استهل، فمثل ذلك يُطل! -أي: يهدر ولا يضمن- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن هذا من إخوان الكهان) الكهان الذين يسجعون بمثل هذا السجع. فإذاً: الجنين إذا اعتدي عليه فسقط فله دية (قيمة عبد) تدفع، قال ابن قدامة رحمه الله: الحامل إذا شربت دواءً فألقت الجنين، فعليها الغرة والكفارة، تدفع الغرة أو قيمة العبد إلى ورثة الجنين، والكفارة عليها أيضاً، قال العلماء: إذا ماتت الحامل وفي بطنها جنين -يا عباد الله! انظروا إلى حقوق الجنين في الشريعة، ولو ماتت امرأة حامل والولد حيٌ يتحرك- قد تجاوز ستة أشهر، يشق بطنها طولاً ويخرج الولد، لقوله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} [المائدة:32] ومن تركه عمداً حتى يموت فهو قاتل نفس. إذاً: يستعمل الأطباء من الوسائل الأسهل لاستخراج ما في بطنها، فإذا كانت امرأة كتابية كافرة، وفيها حمل من زوج مسلم فماتت، فأين تدفن وفي بطنها جنين مسلم؟ تدفن في طرف مقبرة المسلمين، فلا تدفن مع المسلمين؛ لئلا يتأذوا بعذابها، ولا تدفن مع الكفار لئلا يتأذى ولدها المسلم بعذابهم، هذا كلام الإمام أحمد رحمه الله تعالى. ومن حفظ الشريعة لحقوق الجنين: أنه إذا مات أبوه مثلاً وهو في بطن أمه لا يدرى ذكر أو أنثى، توأم أو واحد، فإن الورثة يقتسمون بحيث يجعل له النصيب الأوفر ويأخذون هم الأقل احتياطاً، يبنون على أنه أنثى -مثلاً- ويقتسمون، حتى إذا كان ذكراً يكون ماله محفوظاً، الاحتياط من أجل الجنين. وأما السِقْطُ فإن له أحكاماً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والسقط يصلَّى عليه، ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة) رواه أبو داود، وهو حديث صحيح الإسناد. قال العلماء: إذا نفخ فيه الروح يُغسل ويصلَّى عليه احتراماً للسقط، جاءت به الشريعة، فإذا ولد المولود فإنه يجرى له إجراءات كثيرة في الشريعة. تأملوا تكريم الشريعة للطفل الذي يولد، جاءت بأشياء تدل على أنه قد حدث أمر مهم، وليس مجرد أرحام تدفع، ولا مجرد ولد خرج، وإنما يحتفى به غاية الاحتفاء، ويكرم غاية التكريم، الشريعة تكرم الطفل من مبدأ أمره، فيحنك؛ بأن تلين التمرة حتى تصير مائعة بحيث تبتلع، ويفتح فم المولود وتوضع فيه، ويدعى له بالبركة، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم

حقه في النسب

حقه في النسب ويجب إثبات نسبه لأبيه، فالشريعة تعتني غاية الاعتناء بقضية النسب لما يترتب عليها من الأحكام في المحرمية والميراث والحضانة وأشياء كثيرة تترتب على قضية النسب، فأنساب أولادنا ليست ضائعة في الشريعة، بخلاف أنساب أولادهم من أولاد الزنا وأدعيائه، ومن ينسب إلى غير أبيه بكل سهولة، ومن ينتقل عن أبيه الحقيقي قانونياً في المحكمة لديهم. أما أولادنا فأنسابهم محفوظة: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب:5]. ولإثبات النسب جاءت الشريعة بحديث: (الولد للفراش وللعاهر الحجر) فمن ولد على فراشه فهو ولده، وهذا أقوى شيء في الموضوع لا يلتفت إلى غيره، وإذا أقر بالنسب ألحق به، وإذا قامت البينة على النسب فكذلك، بل يستعمل القافة الذين يعرفون آثار الأقدام، وتخطيطات الأرجل، والملامح والشبه، لإثبات النسب في حالة تعذر معرفته، ويلحق الولد بأبيه، ولو عرَّض بنفيه فإنه يلحق به، ولو خالف لونه لون أبيه، لحديث الرجل الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (ولد لي غلام أسود -يعرض بنفي الولد ولم يصرح- الحديث، وفيه قال النبي عليه الصلاة والسلام: فلعل ابنك هذا نزعه عرق، فخرج لجد قديم من أجداده). والانتفاء من الولد الشرعي كفر كما نص عليه الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (كفى كفراً بامرئ ادعى نسباً لا يعرفه، أو جحده وإن دق) رواه أحمد، وهو حديث حسن. فإذا جحد إنسان ولده الشرعي اتهمته الشريعة بالكفر تغليظاً لهذه الجريمة. ولو زنت المرأة وهي على فراش زوجها، فالولد ولده لحديث: (الولد للفراش) ما لم ينفه ويتبرأ منه، ولا يجوز له نفيه إلا ببينة وحجة شرعية، فإذا نفى الولد فإنه يلحق بأمه كما جاء في الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لاعن بين الرجل وامرأته، فانتفى من ولدها، ففرق بينهما، وألحق الولد بالمرأة) رواه البخاري ومسلم. ولا ينتفي إلا إذا نص على نفيه، كما ذكر ذلك الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، فإن لاعن المرأة من غير أن ينفي الولد، فالولد ولده؛ كل ذلك حفظاً لنسب الولد، وحفظاً لحياته في المستقبل، وحفظاً لمكانته في المجتمع.

حقه في الرضاع

حقه في الرضاع وحق الولد في الرضاع محفوظ، قال الله عز وجل: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} [البقرة:233] قال بعض أهل العلم: هذا أمر في صورة الخبر (يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ) أي: فليرضعن أولادهن، فيجب عليها خصوصاً إذا لم يقبل غير ثديها، وتأثم لو لم ترضعه في هذه الحالة، ولا يفطم قبل السنتين إلا بالتراضي والتشاور بين الأبوين، لقوله تعالى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ} [البقرة:233] فلا يحق لأحد الأبوين أن يتفرد بقرار فطم الولد، تصوروا وتأملوا قضية فطم الولد المتعلقة بتغذيته، ليس الأب حراً فيها ولا الأم، لا بد من قرارٍ مشترك مبني على مصلحة الولد {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ} [البقرة:233] وربما يحتاجان إلى مشاورة الطبيب، كل هذا احتياطاً لسلامة الطفل، وتغذيته ومصلحته جاءت به الشريعة، أسمى شريعة.

حقه في التسمي والتكني

حقه في التسمي والتكني ويسميه أبوه، ويختار له اسماً حسناً، وورد تسميته في اليوم الأول، أو السابع، ويجوز قبل السابع وبينهما وبعد ذلك، وفي الحديث: (كل غلام مرتهن بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه، ويحلق ويسمى)، ولا يسمه باسم قبيح، (وقد غير النبي صلى الله عليه وسلم اسم (عاصية) إلى (جميلة) وغيَّر اسم (أصرم) إلى (زرعة)) حديث حسن. ولإشعار الولد والطفل بالمسئولية وبأنه كبير، ولتزداد ثقته بنفسه، شرعة تكنيته، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أبا عمير ما فعل النغير) طائر كان الولد يلعب به، وهو أخ صغير لـ أنس بن مالك، وقال: (هذا سنا يا أم خالد) وكانت فتاة صغيرة، تصوروا وتأملوا وتفكروا يا عباد الله! كيف تزرع الشريعة المسئولية في نفس الطفل، وكيف يشعر الطفل بأنه كبير، وكيف يحس بثقله، يا أم خالد! يا أبا عمير! يا أبا فلان، وهم صغار. ولتكريم الولد تذبح عقيقته، ينفق من أجل ذلك المال، وينهر الدم في يوم سابعه، تذبح ولا يتصدق بثمنها، ومن فائدتها فك المولود من أسر الشيطان، للحديث: (كل غلام مرتهن بعقيقته) فلفك تسلط الشيطان عليه تذبح العقيقة، قال الإمام أحمد رحمه الله فيمن اقترض للعقيقة -استلف واستدان-: رجوت أن يخلف الله عليه، أحيا سنة، شاتان مكافئتان عن الغلام، وتجوز واحدة لحديث (عق عن الحسن والحسين كبشاً كبشاً، وعن الجارية -البنت- شاة واحدة لا يمس رأسه بشيء من دمها) وهذه عادة جاهلية قد أبدلتها الشريعة، وجاءت بدهن رأس الولد بالزعفران، وهو ذلك الماء طيب الرائحة، ويحلق رأسه إماطة للأذى عن رأسه، ويتصدق بوزنه ذهباً أو فضة، أو ما يقابلهما من المال. ويختن الذكر وجوباً؛ وهو قطع الجلدة التي تغطي الحشفة، بحيث تنكشف كلها مراعاة للولد، ولذكر الولد، ولطهارة الولد، ولجماع الولد في المستقبل، حماية من تراكم الإفرازات ما بين الحشفة والجلد، وكذلك الوقاية من آثار البول، ولا بأس بختان المرأة، لحديث: (إذا مس الختان الختان -فهناك ختان في الرجل وختان في المرأة- فقد وجب الغسل) فإذا دعت الحاجة إلى ختانها، كأن تكون القطعة الزائدة كبيرة فتختن لكن بغير استئصال ولا إنهاك، كما جاء في الحديث الذي حسنه بعضهم من طرقه: (إذا خفتي فأشمي ولا تنهكي -أي: لا تستأصلي- لأنه أحظى للبعل في المستقبل) فإذاً: تختن إذا دعت الحاجة رغم أنف المؤتمر العالمي الأول والثاني للمرأة.

حقه في الحضانة

حقه في الحضانة فماذا عن حق الحضانة للولد، الولد يحتاج إلى حنان وعطف ورعاية، والشريعة قد كفلت ذلك، حضانته حق حتى يستقل بأمره، يحفظ ويوقى من جميع الأضرار والشرور، وجعلت للأم الحضانة في حال انفصال الزوجين؛ لأنها أعرف بتربيته وأقدر على ذلك، وأصبر وأرأف من الأب، ولذلك جاء ذلك منصوصاً عليه في الشريعة، واجبة على الحاضنة ليس لها الحق في التخلي من هذا الواجب، خاصة إذا لم يوجد له حاضنة أخرى من المحارم. وليس للكافر على المسلم حضانة، فلا تحضن الكافرة مسلماً؛ لأجل أن الإسلام يعلو ولا يعلى، وبالتالي لا يذهب أولاد المسلمين إلى الكنائس يوم الأحد، ولا تختطفهم أمهاتهم، ويعيشوا في بلاد الكفار فيشبوا نصارى أو يهوداً. وفي حال السفر ينظر في الأصلح للطفل الإقامة أو النقلة، فإذا أراد الحاضن السفر فينظر في مصلحة الولد، وقد بحث العلماء ذلك وبينوه. وللحضانة ترتيب وليست فوضى، الأم ثم أمهاتها، ثم الأب ثم أمهاته، ثم الجد ثم أمهاته، ثم الأخت من الأبوين، فالأخت لأب، فالأخت لأم، ثم الخالة، ثم العمة، ثم الأقرب فالأقرب، كل ذلك لأجل رعاية الولد وحضانته، وأن يبقى الولد عند أقرب الناس إليه، يرعاه ويحنو عليه. أطفالنا ليسوا مشردين، أطفال الإسلام في حفظٍ وحماية ورعاية، وحضانة وكفالة، فإذا تزوجت أمه التي انفصلت عن أبيه -زوجها الأول- واشتغلت بحق الزوج الثاني، انتقلت الحضانة عن الأم، لحديث: (أنت أحق به ما لم تنكحي) فتنتقل إلى أمها، وهكذا. فإذا صار الولد مميزاً كابن سبع سنين، وعقل واستغنى عن الحضانة يُخيَّر بين أبيه وأمه. يراعى حاجة الولد النفسية، وميله النفسي ورغبته، ويستشار القاضي، فيحضره في المجلس، ويعقد مجلس القضاء، ويشغل القاضي والناس بالحضور، ويسأله: يقول: من تريد؟ اختر، مراعاة لشعور الولد، هذا ابن سبع سنين يخير بين أبيه وأمه، لحديث أبي هريرة: (أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا جالس عنده، فقالت: يا رسول الله! إن زوجي يريد أن يذهب بابني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: استهما عليه، فقال زوجها: من يحاقني في ولدي؟ -أي: من ينازعني فيه- فقال النبي صلى الله عليه وسلم للولد: هذا أبوك وهذه أمك، فخذ بيد أيهما شئت، فأخذ بيد أمه، فانطلقت به) حديث صحيح، رواه أبو داود. وهذا التخيير أو القرعة لا يكونان إلا بما يحصل مصلحة للولد، وكان الذي اختاره الولد أصلح له، فإن كانت الأم أصون من الأب وأغير منه؛ جعل الولد عندها، والعكس كذلك. ولا اختيار للصبي في الحالة التي يختار فيها الأقل مصلحة أو لا مصلحة له، قال ابن القيم رحمه الله: سمعت شيخنا -أي: ابن تيمية - يقول: تنازع أبوان صبياً عند أحد القضاة فخيره بينهما، فاختار أباه، فقالت أمه للقاضي: سله لأي شيء اختار أباه، فسأله، فقال الولد: أمي تبعثني كل يوم للكتاب -مدرسة تحفيظ القرآن- والفقيه -أي: الذي يحفظني ويعلمني- يضربني، وأبي يتركني ألعب مع الصبيان، فقضى به للأم، وقال: أنت أحق به، هي تذهب به للكتاب، وذاك يضيعه ويتركه يلعب في الشارع مع الصبيان، فالأحق هو الأنفع للولد، فتراعى مصلحة الولد.

حق اللقيط واليتيم

حق اللقيط واليتيم وإذا أسلم أحد الأبوين فالولد مع المسلم منهما. واللقيط إذا وجد ولا يدرى من أبوه، بل وجد ملقى في الشارع أو في مكان ما، فللشريعة فيه أحكام، وللشريعة فيه صيانة، التقاطه فرض على الكفاية، وهو تخليص لآدمي من الهلاك، قال الله: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} [المائدة:32] {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2] ولا إثم أعظم من إثم من أضاع نسمة مولودة، فيجب التقاطه على الكفاية، فلو تركه المسلمون حتى يموت أثموا كلهم، لا ذنب لنفس أن تموت جوعاً أو تأكلها الكلاب، ومن ترك الولد كذلك في برية يموت جوعاً وبرداً أو تأكله الذئاب، فهو قاتل نفس ولا شك. حدثني بعض الإخوان عن رجل وضع ولداً في أحد الحمامات العامة وذهب، قال: فرآه بعد ذلك بمدة يقول له في المنام: ضيعك الله كما ضيعتني! وكل ما يوجد مع اللقيط من مال، أو كساء، أو سرير، أو غطاء فهو ملكه، وكل مال له ينفق عليه منه، فإن لم يوجد مال فنفقته على بيت مال المسلمين، ونسب الولد محفوظ لأبيه، ولا يجوز التبني في الإسلام: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} [الأحزاب:4] ولذلك لا يجوز لملتقط اللقيط أن ينسبه إلى نفسه، وإنما يجعل له اسماً يسمى به، فيسميه زيداً أو عمراً أو سعيد بن عبد الله بن عبد الرحمن ونحو ذلك. واليتيم: الولد الصغير الذي فقد أباه دون البلوغ، ماذا جاءت الشرعية بشأنه؟ ما أعظم ما جاءت به: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام:152] (أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين، وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى) يقوم بأموره من النفقة والكسوة، والتأديب والتربية، وليست قضية إنفاق وكسوة فقط، وإنما تأديب وتربية للذي يريد أجر كفالة اليتيم: (أدنِ اليتيم وامسح برأسه، وأطعمه من طعامك؛ يلن قلبك وتدرك حاجتك) حديث حسن لغيره. فإذا تولى أموال اليتامى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً} [النساء:2] {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} [النساء:10] اختلاس، تفويت، إهمال، تضييع، ومن السبع الموبقات أكل مال اليتيم.

حق النفقة عليه

حق النفقة عليه من حقوق الأطفال: النفقة عليهم، الشريعة أوجبت على الأب: أن يبدأ بمن يعول، ينفق عليهم حتى يبلغ الذكر، وتتزوج الأنثى (أفضل دينار ينفقه الرجل دينار ينفقه على عياله) حديث صحيح رواه مسلم. قال أبو قلابة: وبدأ بالعيال، وأي رجل أعظم أجراً من رجل ينفق على عياله الصغار؟! يعفهم، أو ينفعهم الله به ويغنيهم (وكفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت). نفقة الصغار لا تسقط بالإعسار عند العلماء، ويفرض على الأب القادر أن ينفق على أولاده، وأن يعمل ليكتسب مالاً، ويحبس إذا امتنع، ويرغم على العمل قال تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق:7] فإن كان عاجزاً فنفقته على بيت المال، لا يوجد شيء في الشريعة (أولاد من غير نفقة) أو (أطفال من غير مصروف) لابد أن يُوجد لهم مصروف ونفقة. ومن تكريم الشريعة للطفل: أنها شرعت صدقة الفطرة عنه، فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر على الصغير والكبير، وتستحب عن الجنين في بطن أمه. الإسلام يهتم بمشاعر الطفل، العدل بين الأولاد واجب، في الهدايا والألعاب، والعيديات والأعطيات، إلا ما اقتضت المصلحة التفاوت فيه، وما وجد سببه: (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم).

حقه في التربية

حقه في التربية وتربية الولد مسئولية واجبة: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) (مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع) قال ابن القيم رحمه الله: فمن أهمل تعليم ولده ما ينفعه فقد أساء إليه غاية الإساءة، وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء، من جراء ترك تعليمهم فرائض الدين وسننه، فأضاعوهم صغاراً، فلم ينتفعوا بأنفسهم ولم ينفعوا آباءهم كباراً. عاتب بعض الآباء ولده في العقوق، فقال الولد: يا أبت! إنك عققتني صغيراً، فعققتك كبيراً، وأضعتني وليداً فأضعتك شيخاً، والجزاء من جنس العمل. النبي عليه الصلاة والسلام كان يغتنم كل فرصة تربوية لأجل الولد، أردف مرة ابن عباس وراءه، قال: (يا غلام! إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك الحديث) ولما رأى يد عمر بن أبي سلمة تطيش في الصحفة -إناء الطعام- قال: (يا غلام! سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك).

حقه في الملاطفة والملاعبة

حقه في الملاطفة والملاعبة من حقوق الأطفال في الإسلام معانقتهم، وشمهم، وتقبيلهم، وملاعبتهم، وممازحتهم (قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس التميمي فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحداً، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: من لا يرحم لا يرحم) رواه البخاري. وفيه أيضاً عن عائشة رضي الله عنها قالت: (جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: تقبلون الصبيان فما نقبلهم! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أو أملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة؟) (وكان عليه الصلاة والسلام ينطلق من مسجده إلى العوالي، إلى ظئر إبراهيم مرضعة ولده ليقبله ثم يرجع) والحديث في صحيح مسلم. وكان يأخذ الحسن بن علي والحسين فيقعدهما على فخذه يلاعبهما ويحملهما. وحمل أمامة بنت زينب في الصلاة، فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها. ومرة أطال السجود حتى خشي الصحابة شراً، فرفع واحد رأسه، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم ساجداً والولد على ظهره، فلما انتهت الصلاة سألوه وأخبرهم، قال: (إن ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله). حق الولد في اللعب، حتى والنبي عليه الصلاة والسلام في الصلاة لا يعجله عن حاجته؛ اللعب واللهو البريء، من حق الطفل أن يلعب وأن يلهو، وأن يشبع رغبته في ذلك، وكان عليه الصلاة والسلام يقول: يا زوينب! يا زوينب! ومج مجة في وجه محمود بن الربيع وهو صغير.

حقه في الحفاظ عليه وعدم لعنه وسبه والدعاء عليه

حقه في الحفاظ عليه وعدم لعنه وسبه والدعاء عليه ولا يجوز الدعاء على الولد، ولا لعنه، ولا سبه، قال عليه الصلاة والسلام: (لا تدعوا على أنفسكم ولا تدعوا على أولادكم، وإذا استجنح الليل فكفوا صبيانكم، فإن الشياطين تنتشر حينئذٍ، فإذا ذهب ساعة من العشاء فخلوهم) رواه البخاري. من غياب الشمس إلى اشتداد الليل يحجز الأطفال في البيت؛ لأن للجن انتشاراً وخطفة، الشريعة تحافظ على الأولاد وتحفظهم من الشياطين ومن الجن. ورقية الصبيان في الحديث الصحيح: (مال صبيكم هذا يبكي؟ فهلا استرقيتم له من العين) الرقي بالقرآن والأدعية المشروعة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين. وكان عليه الصلاة والسلام يشعر الصبيان بأهميتهم، فإذا مر بالصبيان سلم عليهم كما في الحديث الصحيح، لا يقال: ولد، بزر، جاهل، والناس يسمونه جاهل، لكنه كان يسلم عليهم، ومرة شرب وكان عن يمينه غلام، وعن يساره الأشياخ، فقال: (يا غلام! أتأذن لي أن أعطيه الأشياخ؟ -الرسول صلى الله عليه وسلم يقول للغلام- فقال: ما كنت لأوثر بفضلي منك أحداً يا رسول الله! فأعطاه إياه) إذا أتي بأول الثمر، دعا بالبركة وأعطاه لأصغر الأولاد عنده. لُعَبُ عائشة كانت موجودة في البيت، وكان يسألها عليه الصلاة والسلام (لما كشف الستر عن بنات عائشة -اللعب- قال: ما هذا يا عائشة؟ قالت: بناتي، ورأى بينها فرساً لها جناحان من رقاع، فقال: ما هذا الذي أرى وسطهن؟ قالت: فرس، قال: وما هذا الذي عليها؟ قالت: جناحان، قال: فرس لها جناحان؟! قالت: أما سمعت أن لسليمان خيولاً لها أجنحة، فضحك الرسول صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه).

حقه في العلاج

حقه في العلاج وعلاج الأطفال واجب على أوليائهم إذا احتاجوا، قال عليه الصلاة والسلام: (لا تعذبوا صبيانكم بالغمز من العذرة، وعليكم بالقسط) التهاب وقرحة تخرج في حلق الولد، كانوا يدخلون شيئاً ليفقئوها، فنهاهم عليه الصلاة والسلام عن تعذيبهم بالغمز، وقال: (عليكم بالعود الهندي والقسط البحري) وهو شيء يعرفه العطارون، ويمكن سؤالهم عنه، يحك بالماء، ويجعل سعوطاً في أنف الولد، فإذا استنشقه برىء من هذه القرحة بإذن الله. والصبي المميز يصح أذانه، ويكون إماماً في الصلاة، ويكون صفاً مع رجل آخر (ورفعت امرأة صبياً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: ألهذا حج؟ قال: نعم. ولك أجر). هذه بعض حقوق الأطفال في الإسلام، هذا بعض ما جاءت به الشريعة في شأن الأطفال، فهل يوجد أسمى من هذا الدين وأعظم من هذه الشريعة؟! فكفانا انخداعاً بالغرب والشرق، ولنعد إلى هذه الشريعة! نسأل الله أن يحفظنا وأهلينا وأولادنا من كل سوء، ونسأله عز وجل أن يرزقنا تربيتهم وحسن القيام بشئونهم؛ إنه سميع مجيب قريب. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الاهتمام بالأولاد مسئولية الأبوين

الاهتمام بالأولاد مسئولية الأبوين الحمد لله على إحسانه، الحمد لله على شرعه ودينه، الحمد لله الذي أنزل علينا الكتاب ولم يجعله عوجاً، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. عباد الله: أيها المسلمون! إن تربية الأولاد أمانة ومسئولية، لا بد من القيام بها، فانظروا كم ضيع الأمانة اليوم من المسلمين!! كم من أولياء أمور ضيعوا الأمانات!! ضيعوا الأولاد! ضيعوا فلذات أكبادهم! أهملوا! تركوهم في الشوارع يتعلمون الألفاظ القبيحة، والعادات السيئة كالتدخين وغيره، ويتدرجون شيئاً فشيئاً إلى أن يتعاطوا المخدرات، ويقعوا في الفاحشة واللواط، وهكذا تكون النتائج متوقعة، ولا شك أنها نتيجة لهذا التضييع. وهذا الإهمال الحاصل، فضلاً عن الإهمال في الحقوق الشرعية. التساهل بالطلاق، وتشتيت الأسرة، مآسٍ تحدث في بعض البيوت، ويحرم الأولاد من حنان الأبوين ومن عطفهما، كل خلاف زوجي، وكل مهاترة ومشاتمة ومضاربة بين الزوجين يكون انعكاسها مباشرة على الولد، فاتقوا الله في أولادكم، وارعوا حقوقهم. والجزء الثاني من هذا الموضوع: الولد في الغرب، وعقد المقارنة بين الطفل في الإسلام والطفل عند الغربيين، وبما أن الوقت قد ضاق -أيها الإخوة- فلعلنا نرجئ الحديث عن هذا الموضوع إلى الخطبة القادمة، لنتعلم فعلاً. كيف ضاع الولد، وضاع الأطفال في حياة تلكم الأمم، بعدما تبين لنا بالدليل القاطع والبرهان الساطع كيف حفظت الشريعة أولاد المسلمين. فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يهب لنا ذرية طيبة إنه سميع الدعاء، ونسأله عز وجل أن يصلح بيوتنا وأولادنا وذرارينا إنه سميع مجيب قريب، ونسأله عز وجل أن يعيننا على حمل الأمانة. اللهم أعنا على ما حمَّلتنا، ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به يا رب العالمين، ولا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، وانشر رحمتك علينا، وارزقنا الأمن والأمان في ديارنا وبلداننا وبلدان المسلمين، يا أرحم الراحمين؛ ويا رب العالمين! انشر علينا الأمن والإيمان، واحفظنا بحفظك إنك أنت خير حافظ وأنت أرحم الراحمين. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

وبضدها تتبين الأشياء

وبضدها تتبين الأشياء كيف ضاع الولد، وضاع الأطفال في حياة تلكم الأمم، بعدما تبين لنا بالدليل القاطع والبرهان الساطع كيف حفظت الشريعة أولاد المسلمين. فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يهب لنا ذرية طيبة إنه سميع الدعاء، ونسأله عز وجل أن يصلح بيوتنا وأولادنا وذرارينا إنه سميع مجيب قريب، ونسأله عز وجل أن يعيننا على حمل الأمانة. اللهم أعنا على ما حمَّلتنا، ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به يا رب العالمين، ولا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، وانشر رحمتك علينا، وارزقنا الأمن والأمان في ديارنا وبلداننا وبلدان المسلمين، يا أرحم الراحمين؛ ويا رب العالمين! انشر علينا الأمن والإيمان، واحفظنا بحفظك إنك أنت خير حافظ وأنت أرحم الراحمين. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

الطفل الإسلامي والطفل الغربي [2]

الطفل الإسلامي والطفل الغربي [2] الغرب يدعي أنه المهتم الوحيد بالطفل، وأن الطفل الغربي مكرم وله حقوقه، ومع هذا الإدعاء إلا أنه قد ظهرت الحقيقة جلية لتبين كذب دعواهم بتكذيب الواقع لهم في جملة من أخبار أطفال الغرب ختمت بها هذه المادة، والتي بدئت ببيان اهتمام الشريعة الإسلامية بالطفل، وذكر واقع أطفال السلف، وذكر معالم في تربية الطفل المسلم من كلام ابن القيم الذي أكد عليه علماء الغرب في هذا العصر؛ ولذلك جاءت هذه المادة مكملة لمادة قبلها بينت حقوق الطفل في الإسلام.

بيان اهتمام الشريعة بالطفل

بيان اهتمام الشريعة بالطفل إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فقد تحدثنا -أيها الإخوة- في الخطبة الماضية عن حق الطفل في الإسلام، وعما جاءت به الشريعة من الحكم والأحكام بشأنه؛ رفعت من قدره، وجعلت له مكانة وحقوقاً، وذكرنا بأن هذه الشريعة الكاملة لا يعدلها نظام ولا قانون، ولا يصل إلى مستواها تدبير؛ لأنها من تدبير العليم الخبير، الذي خلق النفس ويعلم ما تحتاج إليه وما يصلحها. ونريد أن نبين أن الطفل في الإسلام حقوقه أعلى من الطفل في الغرب، للذين يتبجحون بأن عندهم للأطفال حقوقاً ليست عند المسلمين، وأن وضع الطفل الغربي أفضل وضع على الإطلاق، لقد قلنا -أيها الإخوة! - وذكرنا بعض الآيات والأحاديث، ومن السنة المطهرة ذكرنا أموراً كثيرة جداً مما جاءت به الشريعة بشأن الطفل، لا يوجد له مثيل مطلقاً في قوانين الغرب والشرق، وقد حملت الشريعة الأبوين مسئولية تربية الولد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6] قال علي رضي الله عنه: [علموهم وأدبوهم]. الأبوان عندنا يندفعان لتربية الطفل خوفاً من الله عز وجل، وخشية نار وقودها الناس والحجارة، ولذلك يكون الباعث خشية الله تعالى، إذا فرط الوالد أو الوالدة فإن العذاب والعقاب لهما بالمرصاد يوم الدين، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع) ففي هذا الحديث ثلاثة آداب أمرهم بها: أولاً: أمر الأولاد بالصلاة، وثانياً: ضربهم عليها، وثالثاً: التفريق بينهم في المضاجع، وما نحل والد ولداً أفضل من أدب حسن، ولأن يؤدب الوالد ولده خيرٌ له من الصدقة بكذا وكذا. ذلك أن هذه التربية هي خيرٌ دائم، ونبع مستمر، وعطاء متجدد يكون في نفس الولد، ولذلك يكون من حق الولد على أبيه أن يحسن تسميته ويحسن أدبه، قال سفيان الثوري رحمه الله: ينبغي للرجل أن يُكره ولده على طلب الحديث، فإنه مسئول عنه، أي: يحمله على ذلك، ولذلك اهتم السلف جداً بالأطفال، فنبغ أطفال كثير من المسلمين، حفظوا القرآن منذ سن مبكرة، وحفظوا أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وحملت لنا أخبار حلق العلم نبأ طفل يبلغ من العمر أربع سنين يجلس في مجلس الحديث يحفظ، غير أنه إذا جاع يبكي. وحملت الأخبار نبأ النووي رحمه الله وهو ابن عشر سنين، والأطفال يريدونه للعب معهم، وهو يأبى ويبكي ويقرأ القرآن. وحملت الأخبار نبأ طفولة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، الذي كان أطول الأولاد لوحاً، فكتب له الشيخ عشرين حديثاً، ثم قرأها مرة واحدة فسردها عن ظهر قلب، فكتب له عشرين أخرى، فقرأها مرة واحدة، وحفظها عن ظهر قلب، ثم سردها على الشيخ. وبذلك تفوق ذلك الجيل والأجيال الذي بعده من هذه الأمة في عصر عزها وازدهار أمرها، ولكن لما ضعفت التربية الدينية، والتعليم الشرعي للأولاد في هذا الزمان؛ لم نعد نسمع عن مثل أولئك العلماء الفطاحل، الذين خرجوا يجددون للأمة أمر دينها، وينشرون العلم في الأرض، وذلك بسبب واضح وهو عدم الاهتمام بتعليم الطفل منذ سن مبكرة، فنحن نتركهم للهو وآلاته، ونتركهم للفساد وأجهزته، ولا نحملهم أو نهتم بهم في طلب العلم والتأديب الشرعي منذ نعومة أظفارهم. عباد الله: أليس من نعيم الدنيا أن يكون للإنسان قرة عين من ذريته، لقد سأل كثير بن زياد الحسن البصري رحمه الله عن قوله تعالى: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان:74] فقال: يا أبا سعيد! ما هذه القرة أفي الدنيا أم في الآخرة؟ قال: لا. بل والله في الدنيا، قال: وما هي؟ قال: أن يري الله العبد من زوجته أو من أخيه أو من حميمه طاعة الله، لا والله! ما شيء أحب إلى المرء المسلم من أن يرى ولداً أو والداً، أو حميماً أو أخاً مطيعاً لله عز وجل. فهذه قرة عين أن ترى ولدك يمشي على الشريعة بحسب ما جاءت به ملتزماً بآدابها، أن ترى ولدك متفقهاً في الدين، هذه من أعظم قرة العين في الدنيا (وكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، وامرأة الرجل راعية في بيت بعلها وولده وهي مسئولة عنهم، والرجل راع على أهل بيته) أو كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد راعت الشرعية العدل بين الأولاد، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اعدلوا بين أبنائكم) ولما نحل والد ولده غلاماً -أي: عبداً- وأراد إشهاد النبي صلى الله عليه وسلم بناء على طلب أمه، قال له عليه الصلاة والسلام: (أله أخوة؟ قال: نعم، قال: أكلهم أعطيت ما أعطيته، قال: لا، قال: فليس يصلح هذا، وإني لا أشهد إلا على حق) رواه مسلم، وفي رواية: (لا تشهدني على جور) وفي رواية: (فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم). إذاً: العدل بين الأولاد منذ الصغر يكون حاديهم إلى البر بآبائهم، حتى في القبلات كان السلف يعدلون، ولما رئي رجل وقد جاء ولدٌ ذكرٌ له فقبله وأجلسه في حجره، ثم جاءت بنته فأخذها فأجلسها إلى جنبه من غير تقبيل، فقيل له في ذلك المجلس: ما عدلت بينهما. عباد الله: ربما يسأل الوالد عن ولده يوم القيامة قبل أن يسأل الولد عن والده، ولذلك ينبغي الاهتمام بهم أشد الاهتمام. عباد الله: لما فشا فينا حب الغرب، وذهب من ذهب إلى بلاد الغرب، وتفتح من تفتح على حضارة الغرب، وصار النظر إلى كتاباتهم وإنتاجاتهم وصناعاتهم؛ غر المغرورين منا ذلك التقدم الظاهري: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7] وقالوا: الطفل في مجتمعات الغرب يحيا أجمل سنوات عمره، وهو أرقى طفل في الكون، مستوى معيشة الطفل الغربي يفوق آلاف المرات مستوى معيشة الطفل في البلاد العربية والإسلامية، الغرب يوفر للطفل كل شيء. هذه العبارات وغيرها إذا جئت بها عند التحقيق، ونظرت إليها تحت المجهر وجدت أن المسألة ليست كذلك، ومن باب الإنصاف والعدل لا بد أن نقول: إنهم قد حققوا تقدماً كبيراً في بعض الجوانب بالنسبة للأطفال، فترى الحرص على الفحص الطبي، وصحة الولد، وبرامج التطعيمات، ومعالجة العيوب الخلقية، وتعهد الأطفال المعاقين، وعلاج الأمراض النفسية من الانطواء والانكماش؛ والخوف والتردد، وعمل برامج لتقوية النبوغ في الأطفال، والاهتمام بمدارس الأطفال أكبر من الاهتمام بالمدارس المتوسطة والثانوية، وحرية إبداء الرأي عند الطفل، والحديث والسؤال، والجلوس مع الكبار، والتشجيع على القراءة، وعلاج عسرها وبطئها، والبرامج التعليمية والتثقيفية، وزيارة المدرسين للأولاد في البيت، لا شك أن ذلك موجود عندهم، وقد تقدموا في ذلك تقدماً عظيماً، والإمكانات متوفرة لديهم بشكل كامل في هذا المجال. ولكن ما هي ميزتهم علينا في الحق والحقيقة؟ من جهة الاستعداد والإمكان يمكن للمسلم أن يأخذ كل تلك الحكم، والحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أحق بها يمكننا أن نأخذ كل تلك الإيجابيات ونجعلها عندنا، لأن ذلك أمر متوفر إذا صدقت العزيمة. أما نظريات تربية الأطفال فإنها قد كثرت، ولعلنا من خلال عرض بعض الأقوال لبعض علماء الإسلام نخرج وإياكم -أيها الإخوة! - بنتيجة واضحة من أن هذه الشريعة وهذا الدين، وعلماء هذا الدين قد بينوا كل ما يحتاج إليه الطفل بحيث لا نحتاج بعدهم إلى أحد، ولن ننقل كلاماً من عالم مسلم معاصر، أو من رجل مسلم في العصر الحديث، حتى لا يقولوا: إنما أخذوا ما أخذوا من الغربيين.

معالم في تربية الطفل المسلم

معالم في تربية الطفل المسلم فلنطف وإياكم في جولة سريعة في معالم تربية الطفل المسلم مع رجل من أفذاذ هذه الأمة، وقادتها العلميين الفكريين، لنعلم إلى أي مرحلة كان يوجد عند المسلمين اهتمام بالطفل في كل جانب من الجوانب، لنطف مع ابن القيم رحمه الله، وهو يعقد لنا فصلاً عظيماً بعنوان: (فصول نافعة في تربية الأطفال تحمد عواقبها عند الكبر) ولن يكون الأمر مقتصراً على التربية الدينية والعلمية والشرعية، وإنما سيكون كلامه رحمه الله عاماً شاملاً لجميع النواحي في تربية الطفل، لنعلم أنه يوجد عندنا في شرعنا، وفي كلام علمائنا نظريات تربوية عجيبة واهتمام بالغ. قال رحمه الله تعالى: ينبغي أن يكون رضاع المولود من أمه، وأن يحرص على ذلك، وإذا أريد إرضاعه من غير أمه فإنه يؤخر حتى يأخذ ذلك اللبِّأ، وتلك المواد المحصنة الموجودة في لبن الأم، وينبغي أن يمنع من حملهم والتطواف بهم حتى يأتي عليهم ثلاثة أشهر فصاعداً، لقرب عهدهم ببطون الأمهات وضعف أبدانهم، وينبغي أن يقتصر بهم على اللبن وحده إلى نبات أسنانهم؛ لضعف معدتهم وقوتهم الهاضمة للطعام، فإذا نبتت أسنانه قويت معدته، وتغذى بالطعام، فإن الله سبحانه أخر إنباتها إلى وقت حاجته إلى الطعام لحكمته ولطفه، ورحمة منه بالأم وحلمة ثدييها، فلا يعضها الولد بأسنانه. وينبغي تدريجهم في الغذاء، فأول ما يطعمونه من الغذاء اللبن، ثم يطعمونهم الخبز المنقوع في الماء، واللبن والحليب، ثم بعد ذلك الطبيخ والأمراق الخالية من اللحم، ثم بعد ذلك ما لطف جداً من اللحم، بعد إحكام مضغه أو رضه رضاً ناعماً، فإذا قربوا من وقت التكلم، وأريد تسهيل الكلام عليهم، فليدلك ألسنتهم بالعسل، فإذا كان وقت نطقهم فليلقنوا لا إله إلا الله محمداً رسول الله، وليكن أول ما يقرع مسامعهم معرفة الله سبحانه وتوحيده، وأنه عز وجل فوق عرشه ينظر إليهم، ويسمع كلامهم، وهو معهم أينما كانوا. فإذا حضر وقت نبات الأسنان فينبغي أن تدلك اللثة كل يوم بالزبد والسمن، وأن يحذر عليهم كل الحذر وقت نباتها إلى حين تكاملها وقوتها من الأشياء الصلبة، ويُمنعون منها كل المنع، حتى لا تتعرض الأسنان للفساد والتعويج والخلل. ولا ينبغي أن يشق على الأبوين بكاء الطفل وصراخه، ولاسيما لشربة اللبن إذا جاع، فإنه ينتفع بذلك البكاء انتفاعاً عظيماً، فهو يوسع أمعاءه، ويفسح صدره، ويحمي مزاجه، ويثير حرارته، ويحرك الطبيعة لدفع ما فيه من الفضول. وينبغي ألا يهمل أمر قماطه ورباطه ولو شق عليه، إلى أن يصلب بدنه، وتقوى أعضاؤه، ويجلس على الأرض، فحينئذ يمرن ويدرب على الحركة والقيام قليلاً قليلاً. وينبغي أن يوقى الطفل كل أمر يفزعه من الأصوات الشديدة الشنيعة، والمناظر الفظيعة، والحركات المزعجة، فإن ذلك ربما أدى إلى فساد قوته العاقلة لضعفها، فلا ينتفع بها بعد كبره، فإذا عرض له عارض من أمر مفزع أو مخيف فينبغي المبادرة إلى تلافيه بضده من إيناسه وإنسائه إياه، وأن يلقم الثدي في الحال، ويسارع إلى رضاعه حتى تزول تلك الرهبة وذلك الخوف. وكذلك ينبغي التلطف في تدبير أمره عند نبات أسنانه، وألا يملأ بطنه بالطعام، وإذا انطلق بطنه خير من أن يمسك، وكذلك فإنه يلين بالعسل المطبوخ، ويعمل منه معجون يطعمه الولد. وأما وقت الفطام فقال الله عز وجل: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة:233] الآية، فبين أن تمام الرضاع الحولين، وأن الفطام لا بد أن يكون عن تراضٍ وتشاور بين الأبوين، وأنه يجوز للأم أن ترضع بعد الحولين لا بأس بذلك، ولكن يكتمل الرضاع في الحولين، وينبغي للمرضع إذا أرادت فطامه أن تفطمه على التدريج، ولا تفاجئه بالفطام وهلة واحدة بل تعوده إياه. ومن سوء التدبير للأطفال أن يمكنوا من الامتلاء من الطعام، وكثرة الأكل والشرب، فإن ذلك يؤذيهم، وإن الصبي إذا شبع وامتلأ يكثر نومه ويسترخي، ويعرض له نفخة في بطنه ورياح غليظة. ومما ينبغي أن يحذر: أن يحمل الطفل على المشي قبل وقته؛ لما يعرض في أرجلهم بسبب ذلك من الانتقال والاعوجاج بسبب ضعفها، وعدم استعدادها للمشي منذ هذه السن المبكرة. ويجوز وطء الأم عند الرضاع، فإذا حملت فالأفضل أن تترك الرضاع؛ لأنها في حملها لا يكون لبنها مثل الأول في فائدته، وربما كان فيه شيء من الضرر، فأرشدهم الشارع استحباباً وليس إيجاباً إلى ترك إرضاعه في ذلك الوقت. كل هذه الفوائد الطبية التي ذكرها رحمه الله تعالى مما ينصح به الأطباء في هذا الزمان، قال ذلك قبل مئات السنين مما يدل على أن العناية الطبية كانت موجودة عند علمائنا، وكانت موجودة في المجتمعات الإسلامية، وكانوا يحرصون عليها، ولكن الأهم من ذلك كله الحرص على تأديبه وتربيته. يقول ابن القيم رحمه الله: فينبغي أن يعوده المربي في صغره على حسن الخلق، وتجنب الغضب واللجاج، والعجلة والخفة، والطيش والحدة والجشع؛ لأنه إذا تعود ذلك صار عادة لا يستطيع الخلاص منها إذا كبر. وينبغي أن يجنب الصبي مجالس اللهو الباطل والغناء، وسماع الفحش والبدع، ومنطق السوء؛ لأنه إذا علق بسمعه صعب عليه أن يتخلص منه ويفارقه عند الكبر. وينبغي لوليه أن يجنبه الأخذ من غيره -لا يعود ولده على الأخذ من أيدي الناس- غاية التجنب، فإنه متى اعتاد ذلك صار طبيعة، ونشأ على أن يأخذ ولا يعطي، ويعود البذل والعطاء والإعطاء، فإذا أراد أن يعطي شيئاً أعطاه على يده ليذوق حلاوة الإعطاء، ويجنبه الكذب والخيانة أكثر مما يجنبه السم، ويجنبه الكسل والبطالة والدعة والراحة، بل يحمله على العمل والشغل والجد والتعب، ويجنبه فضول الطعام والكلام والمنام، ومخالطة الأنام؛ لأن ذلك مما يفسد عليه حياته وخلقه. وكذلك فإنه يجنبه تناول ما يزيل عقله من مسكر وغيره، أو عِشْرة من يخشى فساده أو كلامه له ونحو ذلك من رفقاء السوء، ويجنبه لبس الحرير فإنه مفسد له، ومخالف لطبيعته، كما يخلفه اللواط وشرب الخمر والسرقة والكذب، ولذلك حرم على ذكور هذه الأمة والصبيان داخلون فيهم، فإنه ولو كان غير مكلف فإنه مستعد للتكليف، ولو أنه تعود لبس الذهب والحرير في أول أمره فإن ذلك مما يفسده منذ نعومة أظفاره. قال: ولهذا لا يُمَكَّن من الصلاة بغير وضوء، ولا من الصلاة عرياناً ونجساًً، ولا من شرب الخمر والقمار واللواط، مع أنه غير مكلف، لكنه لا يمكن من ذلك. وعند الغربيين شيء هو: مراعاة ميول الأطفال، فماذا يقول ابن القيم رحمه الله؟ يقول: فإذا صار له حسن فهم صحيح، وإدراك جيد، وحفظ واع، فينبغي تهيئته للعلم لينقشه في لوحة قلبه مادام خالياً، فإنه يستقر ويستمر ويزكو، فإذا رآه -أي: رأى ميول الولد- خلاف القراءة والحفظ والمنهج العلمي، والجلوس في الحِلَق، والإقبال على الحفظ -فماذا يفعل؟ -. فإذا رآه بخلاف ذلك من كل وجه، وهو مستعد للفروسية وأسبابها؛ من الركوب والرمي واللعب بالرمح، مكَّنه من أسباب الفروسية والتمرن عليها، فإنه أنفع له وللمسلمين، وإن رآه بخلاف ذلك -لا علم ولا فروسية- وأنه لم يخلق لذلك ورأى عينه منفتحة إلى صنعة من الصنائع مستعداً لها قابلاً لها، وهي صناعة مباحة نافعة للناس فليمكنه منها. هذا كله بعد تعليمه ما يحتاج إليه في دينه، فقضية مراعاة الميول والمواهب ليست خاصة بالغربيين، ولا اكتشفوها هم، فهي موجودة عندنا، والكلام في تحفة المودود المكتوب منذ أكثر من ستمائة سنة. فإذاً يوجد عندنا، وفي شرعنا، وكلام علمائنا ما نحتاج إليه، ولو فرضنا أن الغربيين عندهم إيجابيات فنحن أولى بها نأخذها منهم، وتبقى لهم الرذائل، نجنب ذلك أولادنا وصبياننا. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من القائمين بالمسئوليات، الحريصين على الأمانات، ونسأله تعالى أن يخفف حسابنا، وأن يسدد خطواتنا، وأن يعيننا على تربية أولادنا. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

وجوب الحذر مما يبثه الغرب إلينا

وجوب الحذر مما يبثه الغرب إلينا الحمد لله رب العالمين، العلي الأعلى، الذي خلق فسوى، هو الواحد الأحد، والفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وذريته الطيبين الطاهرين، وعلى من تبعه بإحسان إلى يوم الدين. عباد الله: لقد قدم لنا الغربيون أشياء عجيبة من أجل الأطفال، فقدموا لنا الألعاب المختلفة، فمنها ما هو حلال نجلبه لأولادنا، ومنها ما هو حرام؛ من الألعاب المشتملة على الصلبان، أو الموسيقى، أو الأفكار القمارية الميسرية، مما يدخل في النرج وغيره، وغير ذلك من الألعاب التي تشتمل على محرمات. وقذفوا إلينا أيضاً بأفلام الكرتون التي تخاطب الأطفال، وتناسب أسنانهم وتجذبهم، وفي بعضها فوائد وتعليم لأشياء نافعة، ولكننا إذا تأملنا -يا عباد الله! - فيما قذفوه إلينا من هذه الأفلام الكرتونية لأولادنا وأطفالنا، وما جلبناه نحن لهم من هذه الأفلام، وعرضناها عليهم، لوجدنا أمراً شنيعاً والله! يندى له الجبين، فترى في بعض الأفلام عملاقين يتصارعان على امرأة، وفي بعض الأفلام تعويد للولد بشكل غير مباشر على الخدع والكمائن والإيقاع بالآخرين، وتجد في بعض هذه الأفلام أيضاً مخالفة في قضايا العقيدة؛ من عرض السحر والساحرة، أو أن يشير إلى شخص ميت بشيء فيقوم حياً، ونحو ذلك، وبعض هذه الأفلام تفسد خيالات أولادنا ولا شك، حتى يتصور الشيء الخيالي موجوداً في الواقع، بل ويطالب به ويبكي إذا لم يُحضر له. فإذاً: ينبغي الانتباه من هذه السلبيات الموجودة في الأفلام التي عملوها، وبعدما عرضت بعضها مدبلجة باللغة العربية تكتشف في بعضها من الحملات التنصيرية، والدعوة لعقد الصداقات مع الجنس الآخر، والخروج في الرحلات المختلطة، وممارسة الرقص والتقبيل، كل ذلك موجود في أفلام الكرتون التي تعرضها أنت، وتشتريها لهم بالفيديو وغيره، ويرونها هم في القنوات المختلفة، يرونها عياناً بياناً، بل أولادنا -يا جماعة! - ينظرون الآن إلى بعض الأفلام المدبلجة العجيبة تبلغ سبعين حلقة أو مائة حلقة، ما سمعنا عنه يندى له الجبين، مما يسمى بفلم (دالس) أو (رهينة الماضي) الذي يعرض فيه الزنا على أنه شيء عادي وربما لا ترى لقطته، لكن يرى ويسمع عنه في ذات الفيلم ما يجعله عادياً، وأولاد الحرام في الفيلم شيء عادي، كثيرون مبثوثون، وأن القضية طبيعية، وإقامة العلاقة المنفتحة مع الجنس الآخر أمر عادي، والخيانة الزوجية أمر عادي. وهذه الأفلام تنص على ذلك، وفيها ذلك، وهذا أمر تيقنا من سماعه من أكثر من شخص أنه موجود، ويجلس عندها الأطفال والكبار يتعلمون إقامة العلاقات، وسهولة قضية أولاد الحرام. يا عباد الله: مما نادى به مؤتمر بكين للمرأة والأسرة: مبدأ الحرية الجنسية للأطفال، فإذاً جَنِّبْ قضية (فرقوا بينهم في المضاجع) وخذ بقضية (الحرية الجنسية للأطفال) هذا ما يريدونه وكل أب والله مسئول عما يرى أولاده في البيت على الشاشة!! وهؤلاء الذين جلبوا الدش ثم أهملوا أمره وفتحوه للكبير والصغير، ولا تصدق أن عليه رقابة في البيت أو إحكاماً من الأبوين، فإن كثيراً من الأولاد يتفرجون وليس الأب والأم موجودين في البيت طيلة الوقت، فكثيراً ما يخرجون في السهرات والمواعيد، وبعد ذلك يرى أطفالنا وأولادنا الصغار والكبار هذه الأشياء. وأقسم بالله العظيم أن الحساب يوم القيامة عسير غير يسير، وهؤلاء يعرض لهم ما يفسد أخلاقهم منذ نعومة أظفارهم. لقد جاءني شخص فسألني سؤالاً في الأحلام، قال: مات عندنا ميت، وكان قد ركب دشاً قبل موته بأسبوعين، فرأته أحد نساء العائلة في قبره وهو يُخنق بحديدة، والله، وقلت له: إنني لا أعرف في تفسير الأحلام، ولا أجيد ذلك، ولكن أعرض لكم هذا المنام من قصة واقعية سمعتها بنفسي، ركب دشاً قبل موته بأسبوعين، ثم رئي بعد ذلك يُخنق بحديدة، ولاحظ التطابق بين الدش والحديدة في قبره، فما معنى ذلك؟ الله أعلم به، ولكن أقول لا شك أن القضية عسيرة وخطيرة، والانفلات الحاصل موجود وكثير، ولذلك تجد انتشار الجرائم ووقوع الفواحش موجوداًً عند الأحداث الصغار، من أي مكان يتعلمونه؟

نظرات في واقع الطفل الغربي

نظرات في واقع الطفل الغربي ثم ماذا يوجد عند الغربيين الذين أعجبنا بهم؟ فتى بريطاني يرفع دعوة على أمه ليتلقى منها وقتاً كافياً، توجه إلى المحكمة، يرفع قضية على أمه؛ لأنها لا تجلس معه وقتاً كافياً، تذهب خارج البيت وتتركه، وأقر القاضي فعلاً أن الحق معه، وألزم الأم بالبقاء مع الطفل، حتى الأساسيات غير موجودة عندهم، فليس هناك حضانة ولا حق في الرضاعة يعطى للطفل، ولا حنان يرتضعه، يترك ويرمى ويهمل. وصبي آخر في أوريلندا وفي فلوريدا رفع قضية على والديه، بأنه يريد أن يغير أبويه، وأن ينتقل إلى أسرة أخرى، وفعلاً أقر القاضي له بذلك، وغير اسمه إلى اسم العائلة الجديدة، واختار الأسرة الأخرى ليبقى عندهم، وحمل الاسم الجديد، وقال إن أمه مدمنة المروانة، ولها علاقات جنسية شاذة، وأنها تأخذ أجرها في آخر الأسبوع لتشتري الخمر، وأخبر أنها تتعاطى الكحول، وأنها تنسى علبة المروانة في المطبخ، ثم أخبر أنها وضعته في دار للأيتام فترة من الزمن، ثم إنها على علاقة بعشيق لها. أيها الإخوة! إن الغرب يقرون قضية انتساب الولد إلى غير أبويه، والله يقول: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب:5] ونحن المتغربون منا والبعيدون عن الدين لا تظنوا أننا بعيدون عنهم، ولذلك تسمع الآن عن بعض أفراد العوائل يقولون: أبي تزوج على أمي وتركنا وأهملنا بلا نفقة ولا رعاية ولا تفقد، نحن لا نعرفه منذ سنين، كيف تطالبني الآن ببر أبي وأنا لا أريد التعرف عليه؟! أطفال يحملون الأسلحة في المدارس، وإحصائيات عن قتلى، وخوف ورعب نتيجة لذلك، هذا هو المجتمع الغربي، ثم نقلت لنا قصة مدهشة في الصحف والمجلات عن امرأة ادعت لدى البوليس بأن هناك رجلاً أسود خطف ولديها، ثم ألقى بها خارج السيارة ومضى بالصغيرين، وخيم الحزن على البلدة، وعملت الإعلانات، وتحمس السكان للبحث، وبحثوا في كل مكان ولم يجدوا شيئاً، وبعد ذلك عثر على السيارة غارقة في بحيرة وفيها الولدان، طفلان صغيران!! ثم اعترفت الأم أنها هي التي فعلت ذلك؛ لأن عشيقها يريدها من غير أولاد، والأولاد عبء عليها، فماذا تفعل بهم؟ وبينت الإحصائيات ستمائة واثنين وستين طفلاً لم يتجاوزوا الخامسة سقطوا ضحايا جرائم قتل خلال عام (1992م) ارتكب ثلثيها والدا الضحية أو أحدهما، وكذلك يفعل من يمشي على هذه الخطة الوحشية ممن هم عندنا، فتراه يربط يد الولد بأسلاك ربما تؤدي إلى بتر الأعضاء في المستقبل، ويرجع أب قد استشاط غضباً يركل ابنته (اثنتا عشرة سنة) يضربها بالحذاء بكل قوته، فتتكسر عظام الصدر حتى تصل إلى القلب، ويحدث نزيف داخلي ثم تموت، هذا هو عين ما هو موجود عند الغرب. الطفلة ثلاث سنوات هيدي كوسدة ماتت من الجوع بعد أن تركت أياماً في غرفة مظلمة وراء باب موصد دون طعام، وذنبها أنها أخذت قطعة حلوى من غير أن تستأذن من زوج أمها، حتى وجدتها الشرطة البريطانية متحللة، وملقاة على ظهرها في غرفة رطبة. الطفلة تيره هنري عمرها واحد وعشرون شهراً فقط توفيت على يد أبيها الذي أشبعها ضرباً وعضاً في حي دريكستون في لندن. الطفل كريستوفر استوك أربع سنوات توفي بنزيف في المخ من جراء الضرب المبرح الذي كالته له صديقة أبيه. الطفلة هان يومان عمرها ستة أسابيع فقط، واتهم زوج أمها بضربها ضرباً مبرحاً أدى إلى تكسر عظام الجمجمة، وتوفت الطفلة البريئة في المستشفى متأثرة بجراحها. وأم في مقاطعة هام شاير البريطانية عمرها عشرون عاماً تعتدي على طفل رضيع لها من أجل أن تسكته عن البكاء، ولما لم يكن ليسكت كسرت جمجمته؛ لأنه كان يزعج عشيقها. وقام جون الين اثنين وثلاثين سنة بقتل صغيرته آن سبع سنوات، ثم ابنه الأكبر كول عشر سنوات، ثم استدار إلى زوجته فطعنها طعنات كثيرة، ثم أطلق الرصاص على نفسه، وكانت آلة التسجيل تشتغل في المنزل، والصوت ينطلق بعد ذلك عند المحققين على هذه المأساة المروعة، عندما تقدم الوالد مصوباً مسدسه في يده إلى ابنته وهي تتوسل إليه وتقول: أحبك يا بابا! ولكن ذهب التوسل أدراج الرياح. هذه هي الحظيرة الغربية، الآباء يعتدون على أبنائهم جنسياً! من يتخيل أن يعتدي الأب على ابنه جنسياً؟! أثبتت الدراسات في عام (1987م) في بريطانيا أن (90%) من حالة الاعتداء الجنسي على الأطفال تتم في نطاق الأسرة الواحدة، الأطفال في جميع الأعمار معرضون للخطر، ثلث ضحايا الانتهاكات الجنسية دون الخامسة من أعمارهم تتم على أيدي الأب، وزوج الأم والأم. قضت إحدى محاكم لوسن في بريطانيا بالسجن خمسة أعوام على رجل في الخمسين من عمره قام بالزنا بابنته طوال اثني عشر عاماً، وقد اعترف الرجل بالتهمة، وأنجبت ابنته منه ستة أولاد توفي أحدهم والباقون في وضع سيء في المستشفى. كل أسبوع ثلاثمائة مكالمة هاتفية من ضحايا تعرضوا لاعتداء من قبل آبائهم، ولذلك في الغرب الآن رقم هاتف مخصص لشكاوى الأطفال، يعرضونه على شاشات التلفزيون ليحفظه الولد، حتى لو أراد الاستنجاد بالشرطة من أبويه -من أقرب الناس إليه- يتصل. المواليد غير الشرعيين في ازدياد (أولاد الحرام في ازدياد) ومع زيادة الحملة على المخدرات وجد من عمره ثلاثة أعوام يشم الكوكايين. أيها المسلمون: هذه حياة الأطفال في الغرب؛ أم تقتل طفلها في ماء الحمام المغلي، وأب يهشم رأس صغيره الوليد بحذائه. امرأة ولدت فألقت بالطفل في سلة المهملات، ويعثر على الأولاد في المراحيض العامة، هذا هو واقع الطفل الغربي!! ثلث عدد الأطفال المصابين بالإيدز يموتون بعد عامين من الإصابة، أمراض جنسية خطيرة تنتقل إلى الأولاد، وأطفال مشردون، وعصابات لقتل الأولاد، لأنهم يشوهون البلد، ورهنت امرأة طفلها لقاء جرعة كوكايين، ويحصلون الآن على المخدرات بسهولة. الذي نريد أن نقوله: إن هذه الشريعة رحمة ونعمة، وإننا عندما نتمسك بالشريعة يكون أولادنا سادة العالم وقادته، وينشئون أحسن نشأة، ونعطيهم أحسن حنان وأحسن عطف، وعندما نأتي لهم بالألعاب ومن حقهم أن يلعبوا، وقد أشرنا إلى ذلك في الخطبة الماضية، حق الولد في الملاطفة والملاعبة، وأن يكنى ويسلم عليه، ويوجد له شأن في المجتمع ومكان، ويجلس في مجالس الكبار، ويعطى الإناء عن اليمين مع أنه يوجد عن اليسار كبار. شريعة كاملة، فإلى أي شيء نسعى؟ وماذا نريد من وراء التقليد واتباع الغربيين؟ حتى ألعاب الكمبيوتر اكتشفوا فيها الآن أنها أسباب مرض الصرع، وأنها تجلب النوبات العصبية، حتى ألزمت كبار الشركات كشركة (نان تندل للألعاب) وغيرها بكتابة تحذير على الألعاب: (إن هذه الألعاب من أسباب الصرع والنوبات العصبية للأطفال). فإذاً: ليس كل ما يأتينا منهم مفيد، بل كثير منه ضار، وأولادنا يسيرون على خطى أولادهم، وإذا لم يتق الآباء الله تعالى فسترون نتائج فضيعة في المجتمع. فهل حان الوقت لمزيد من الاهتمام بالأطفال على ضوء الشريعة؟ هل حان الوقت للتربية والاعتناء بها لمقاومة مظاهر انتشار الفاحشة واللواط والجرائم التي تتفشى عند أولادنا؟ اللهم أصلح شأننا وبيوتنا، وأصلح نياتنا وذرياتنا يا رب العالمين. اللهم هب لنا من ذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً. اللهم جنبنا الشرور والفتن ما ظهر منها وما بطن، اجعلنا في بلدنا هذا آمنين مطمئنين بشريعتك وسائر بلاد المسلمين. اللهم آمنا في الأوطان والدور، وأرشد الأئمة وولاة الأمور، وارحمنا برحمتك يا عزيز يا غفور. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

الغيظ المكتوم بين الظالم والمظلوم [1]

الغيظ المكتوم بين الظالم والمظلوم [1] الظلم من شيم النفوس، وهو فساد في الأرض، وتعدٍ لحدود الله، وله صور ومجالات، وأشكال شتى تزل فيها الأقدام، ولذا يجب على كل مسلم أن يعرف الظلم ليتجنبه، وفي هذه المادة ذكر للظلم مع ذكر صور له مشهورة، فاقرأ لتعرف وتلزم.

تحريم الظلم وعاقبته الوخيمة

تحريم الظلم وعاقبته الوخيمة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن الظلم حرامٌ؛ حرمه الله تعالى على نفسه، وحرمه بين الخلق، فقال عز وجل في الحديث القدسي: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته محرماً بينكم، فلا تظالموا) وفي رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: (إني حرمت على نفسي الظلم وعلى عبادي؛ ألا فلا تظالموا). والظلم من طبيعة الإنسان، قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72] وقال تعالى: {إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:34]، فمن طبيعة الإنسان الظلم؛ يظلم في المجالات المختلفة، يظلم دائماً إلا من عصمه الله تعالى: والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفةٍ فلعلة لا يظلمُ

عاقبة الظالم في الدنيا والآخرة

عاقبة الظالم في الدنيا والآخرة وعاقبة الظالم أليمة في الدنيا وفي الآخرة، فأما في الدنيا فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله عز وجل يملي للظالم، فإذا أخذه لم يفلته؛ ثم قرأ: ((وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ)) [هود:102]). فيملي له تعالى ليزداد إثماً، ثم يأخذه أخذ عزيزٍ مقتدر، ولذلك فإن مصير الظالم في الدنيا الهوان والعذاب قبل الآخرة، ومن تعذيب الظالمين ما ذكره ربنا عز وجل: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام:129]، أي: نسلط بعضهم على بعض، ونهلك بعضهم ببعض، وننتقم ببعضهم من بعض، جزاءً على ظلمهم وبغيهم؛ كما قال ابن كثيرٍ رحمه الله في تفسير هذه الآية، فيسلط الله على الظالم ظالماً آخر، فيظلمه ويقهره جزاء ظلمه، والجزاء من جنس العمل. أما في الآخرة فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الظلم ظلماتٌ يوم القيامة) وقال تعالى: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} [طه:111] أي: خضعت لجبارها الحي الذي لا يموت، وحصلت الخيبة لأهل الظلم يوم القيامة: {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} [طه:111] وقال تعالى: {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18] فيكون القصاص ويكون الجزاء في الآخرة بعد الدنيا.

نصرة الله سبحانه وتعالى للمظلوم

نصرة الله سبحانه وتعالى للمظلوم وأما المظلوم فإن الله عز وجل قد جعل له في الدنيا دعوةً مستجابة ترفع على الغمام إلى الله عز وجل، تفتح لها أبواب السماء ويقول الله: (لأنصرنك ولو بعد حين) لأن الله لا يحب الظلم، ولذلك يستجيب دعوة المظلوم ولو بعد حين، فقد يقف المظلوم أمام الظالم يدعو عليه، ولا يحدث للظالم شيء في الموقف نفسه، ولكن الاستجابة آتية. وربما يكون أحياناً من التخفيف على الظالم أن يُستجاب للمظلوم في الحال، كما حدث في الذي ذهب يشهد زوراً فلم يرجع من المحكمة إلى بيته إلا وقد أصيب بالشلل، نقمة عاجلة من الله تعالى، وقد يُعَجِّلُ سبحانه العقوبة وقد يؤخرها لحكمةٍ يعلمها في خلقه. وكذلك فإن الله يجعل لولي المظلوم سلطاناً وقوة؛ كما قال تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} [الإسراء:33] أي: جعلنا له قوة واقتداراً، وجعلنا له خياراً، وجعلنا الأمر إليه في العفو أو أخذ الدية أو طلب القصاص: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} [الإسراء:33] فلا يمثل ويشوهْ الجثة، ولا يقتل غير القاتل، ولا يتعد على أقرباء القاتل، كما فعل بعض الناس: {فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً} [الإسراء:33].

النبي صلى الله عليه وسلم والصالحون من أمته يتجنبون ما يمكن أن يؤدي إلى الظلم

النبي صلى الله عليه وسلم والصالحون من أمته يتجنبون ما يمكن أن يؤدي إلى الظلم ولأجل خطورة الظلم كان الصالحون يخشونه على أنفسهم، ويبتعد الكثير منهم عن القضاء؛ فرفض كثيرٌ من العلماء تولي القضاء خشية أن يظلم أحد الخصمين، فيبوء بالإثم والانتقام من الله تعالى، مع أنه ربما يكون مجتهداً مخطئاً، ولكن حتى لا يحيف أو يداخله الهوى. أعرض كثيرٌ من الصالحين والعلماء عن تولي القضاء لأجل خشية الظلم؛ لأنه يخاف أن يظلم، ويعلم ما هي عقوبة الظالم في الدنيا والآخرة. وعن أنسٍ قال: غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم -ارتفعت الأسعار- فقالوا: يا رسول الله! سَعِّرْ لنا -افرض تسعيرةً للبضائع- فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله هو المسعر القابض الباسط الرازق، وإني لأرجو أن ألقى ربي وليس أحدٌ منكم يطلبني بمظلمة في دمٍ ولا مال) رواه الترمذي وقال: هذا حديثٌ حسنٌ صحيح. هذا النبي عليه الصلاة والسلام يرفض التسعير خشية أن يكون قد ظلم البائع الذي يجوز له أصلاً أن يبيع كيف يشاء وبالسعر الذي يريد، ولذلك رفض التسعير خشية أن يظلم الباعة، وقال لأصحابه وهو النبي عليه الصلاة والسلام: (وإني لأرجو أن ألقى ربي وليس أحدٌ منكم يطلبني بمظلمة في دمٍ ولا مال). وأما التسعير فقد ذكر العلماء رحمهم الله أنه إذا حصل احتكارٌ وظلمٌ، واجتمع الباعة على رفع الأسعار في الأشياء التي يحتاج إليها الناس كالأقوات، جاز التسعير عليهم لمنع ظلمهم، وأما في الأحوال العادية فلا تسعير؛ لأنه في الأصل منعٌ للبائع من حقه، فالنبي عليه الصلاة والسلام يرفض ذلك خوفاً من أن يلقى الله وفي عنقه مظلمة لأحد.

أنواع الظلم: بحسب من يقع عليه

أنواع الظلم: بحسب من يقع عليه والظلم -أيها المسلمون- على أنواعٍ ثلاثة: الأول: ظلم العبد لربه؛ كما قال تعالى: {إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] يرزقهم ويعافيهم ثم يشركون به، ويجعلون له صاحبةً وولداً، أو يحلفون بغيره، أو يشركون الشرك الخفي، فيقولون: لولا الله وفلان فالشرك هو أعظم الظلم على الإطلاق. الثاني: ظلم العبد لنفسه؛ ويكون بسائر المعاصي، قال عز وجل: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق:1]. وثالثاً: ظلم العبد لغيره، والله تعالى قد يسامح ويغفر، ولكن في ظلم العبد للعبد لا بد من القصاص، لأن الله سبحانه وتعالى لا يظلم أحداً.

منع الناس من العبادة من أقبح الظلم

منع الناس من العبادة من أقبح الظلم ومن الظلم العظيم منع الناس من العبادة والحيلولة بينهم وبين أماكنها، كما قال عز وجل: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة:114]. وقد عَدَّ الله عز وجل الذين يبقون في دار الشرك ولا يهاجرون إلى بلاد الإسلام ظَلَمةً، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} [النساء:97] هذه الحجة التي قالوها عند قبض أرواحهم. لماذا أنتم في بلاد الكفر؟ {قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء:97] أي: ما دام لكم مجالٌ وفسحة في الذهاب إلى بلاد الإسلام، فلماذا لم تهاجروا إليها؟ فسر هذه الآية ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه فقال: (إن ناساً من المسلمين كانوا مع المشركين، يكثرون سواد المشركين، وتكثير سواد المشركين حرام، ونفعهم وتقويتهم وهبة عصارة الأذهان إليهم حرام، يكثرون سواد المشركين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأتي السهم فيُصيب أحدهم فيقتله أو يُضرب فيقتل، فأنزل الله: ((إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ)) [النساء:97]) رواه البخاري رحمه الله. فالذي يختار الذهاب إلى بلاد الكفر دون حاجةٍ ولا إلجاء، يختار الذهاب إلى بلاد الكفر لمزيدٍ من زينة الحياة الدنيا، للمال وليعيش بين الكفار، فينشأ أولاده بينهم دون إلجاءٍ أو خوفٍ أو ضرورة أو تضييق، يذهب إلى بلاد الكفار مختاراً، فلا شك أنه ظالمٌ لنفسه، وكثيرٌ من الناس يتوسعون هذه الأيام في الهجرة إلى بلاد الكفر، مع ما في ذلك من المخاطر العظيمة عليهم وعلى أولادهم. ولو كان أحدهم ملجأً مضطراً فالله سبحانه وتعالى يعلم ظرفه، بخلاف ما لو كان مختاراً فإنه ظالمٌ لنفسه.

الوسوسة في الطهارة ظلم وتعد

الوسوسة في الطهارة ظلم وتعدٍّ وقد وصف الشارع صاحب الوسوسة بأنه ظالم، وعددٌ من الناس يقعون في هذا المرض العظيم يُهلكون أنفسهم، ألا ترى أنه قد وصفهم بالظلم كما جاء في حديث الأعرابي الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن الوضوء، فأراه عليه الصلاة والسلام الوضوء ثلاثاً ثلاثاً، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (هكذا الوضوء؛ فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدى وظلم) الذي يزيد على الثلاث مسيءٌ ومتعدٍ وظالم، وبعضهم يمكث في دورة المياه ساعات يعيد الوضوء ويزيد، لا ينفك عن هذه الفعلة وهو ظالم، فلو تأمل الموسوسون هذا الحديث لكفاهم.

من صور الظلم

من صور الظلم فإذا جئنا -أيها الإخوة- إلى ظلم العباد بعضهم لبعض، فلنعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حرم ظلم المسلم لأخيه المسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه) الحديث رواه البخاري. وظلم العباد لبعضهم في هذا الزمان منتشرٌ وشائعٌ للغاية، حتى صارت الجلطات وأمراض الضغط وما يحصل من الأزمات النفسية والقلبية شعاراً في هذا العصر ودليلاً على كثرة الظلم وانتشاره، وانعكس الظلم في شكل أمراضٍ خطيرة تصيب الناس لما يقع عليهم من حرمانهم حقوقهم ومن ظلمهم.

الظلم بأخذ أرض الغير

الظلم بأخذ أرض الغير ومن أوجه الظلم: الظلم بأخذ أرض الغير: عن سعيد بن زيد رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من ظلم من الأرض قيد شبر طُوقه من سبع أرضين) رواه البخاري رحمه الله. وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن -وكانت وبينه وبين أناسٍ خصومة في أرضٍ- فدخل على عائشة فذكر لها ذلك، فقالت: يا أبا سلمة! اجتنب الأرض؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من ظلم قيد شبرٍ طوقه من سبع أرضين) رواه البخاري. وعن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل أنه خاصمته أروى في حقٍ لها زعمت أنه انتقصه، فخاصمته إلى مروان، فقال سعيد: أنا أنتقص من حقها شيئاً؟! أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أخذ شبراً من الأرض ظلماً فإنه يطوقه يوم القيامة من سبع أرضين). وعن يعلى بن مرة قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أيما رجلٍ ظلم شبراً من الأرض كلفه الله عز وجل أن يحفره حتى يبلغ آخر سبع أرضين ثم يطوقه يوم القيامة حتى يُقضى بين الناس) رواه الإمام أحمد وهو حديثٌ صحيح. فيحفره إلى أعمق سبع أرضين ثم يجعل حول رقبته بثقله العظيم طيلة خمسين ألف سنة -يوم القيامة- ولو كان شبراً واحداً. وترى الواحد اليوم إذا أراد أن يبني على أرضه أخذ شبراً سوراً للبيت من أرض جاره؛ يأخذ جدار بيته من أرض جاره، ليعلم إذاً أن من يأخذ شبراً فهذا مصيره؛ يطوق به يوم القيامة، فكيف إذا استولى على الأرض كلها؟!

أكل أموال اليتامى ظلم عظيم

أكل أموال اليتامى ظلم عظيم ومن الظلم أكل مال اليتيم، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} [النساء:10]. لقد بلغ الظلم والانحراف عن الشريعة حداً جعل أقرب الأقربين يأكلون أموال اليتامى، فهذا يأخذ أموالَه عمُّه، وآخر يستولي على مخصصاته خالُه، فأقرب الأقرباء لم يمتنعوا من ظلم اليتامى إلا من رحم الله، يأكلون أموال اليتامى ظلماً. الإرث الذي تركه لهم أبوهم يأكلونه، أو يتولى أحدهم عليه فيأكل منه، أو يأخذ مخصصات الدولة التي جُعلت لهؤلاء اليتامى فيأكلها، أو يأكل الضمان الاجتماعي ونحو ذلك، وهذا ظلمٌ حرامٌ وشنيع، كيف لو أن أولاده صاروا هم اليتامى؟! هل يرضى بأن تُؤكل أموالهم وحقوقهم ويبقون يتكففون الناس، أو يُعطى لهم الفتات ويأخذ الناس الباقي؟! فليرع حق الله في اليتامى. ولذلك ترى بعض المنصفين، ينفقون من جيوبهم على اليتامى، ويبقون أموال اليتامى سليمة، يسلمونهم إياها إذا كبروا، ألا فليبشروا بأجر من الله تعالى.

مطل الغني ظلم

مطل الغني ظلم ومن جوانب ظلم العباد تأخير رد الدين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مطل الغني ظلم) رواه البخاري كالمقتدر الذي عنده ما يؤدي به، ومع ذلك لا يؤدي حقوق الناس، وهذا كثيرٌ اليوم في عالم التجارة والاقتراض، يأخذون البضائع بالدين، ولا يسددون وعندهم مال، يقول أحدهم: سأتوسع! أتتوسع من مال الغير؟! يقترض ليتاجر ثم يقول للشخص: ليس عندي مال، ويقول: دعه ينتظر وأنا أنتظر الأرباح، مع أن أجل الدين قد حل، لكنهم ظلمة، يؤخر أحدهم ويماطل وعنده ما يسدد به الدين، والأموال موجودة، ولكن يقول: هكذا درجت العادة في السوق. وقريبٌ من هذا ظلم التاجر للأُجراء والموظفين والعُمال بتأخير الرواتب وعنده مالٌ يدفعه إليهم. عن أنس رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يحتجم ولم يكن يظلم أحداً أجره) حديثٌ صحيح. حتى الحجام يعطيه أجره كاملاً، يعطيه ديناراً، ومعلوم أن الدينار أربعة غرامات وربع من الذهب، فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يظلم أحداً أجره حتى الحجام. وهؤلاء يؤخر أحدهم الرواتب بالأشهر عن العمال والموظفين، وعنده ما يدفع، فإذا نوقش قال: كل الشركات هكذا، كل السوق هكذا، أنا أحسن من غيري، هل تريد إذا ظلم الناس أن تظلم مثلهم؟ لماذا نمشي على العادة السيئة الموجودة بين بعض الناس ونقول: نظلم مثلما ظلم الآخرون؟! ثم يقول: سأعطيهم قبل السفر، يمنع الخادمة ويقول: سأعطيها قبل السفر، وهل المستحق عليك قبل السفر أم المستحق عليك في آخر الشهر؟ هذا ظلم {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران:140] {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18].

تحريف الوصية ظلم

تحريف الوصية ظلم ومن أنواع الظلم: الظلم بتحريف الوصية، كأن يُدخل فيها من لم يكتب ولم يشأ الموصي، ويخرج منها من أدخله الموصي، أو يجحد بالكلية، وتغير وتحرف؛ ولذلك قال الله: {وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:107] في آخر آية الوصية التي يشهد عليها.

اليمين الكاذبة لاقتطاع مال امرئ مسلم ظلم عظيم

اليمين الكاذبة لاقتطاع مال امرئ مسلم ظلم عظيم ومن الظلم العظيم أن يحلف كذباً لأخذ مال أخيه المسلم، عن علقمة بن وائل عن أبيه قال: (جاء رجلٌ من حضرموت ورجل من كندة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال الحضرمي: يا رسول الله إن هذا قد غلبني على أرضٍ لي كانت لأبي، فقال الكندي: هي أرضي في يدي أزرعها ليس له فيها حق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للحضرمي: ألك بينة؟ قال: لا. قال: فلك يمينه -يحلف- قال: يا رسول الله إن الرجل فاجرٌ لا يبالي على ما حلف عليه، وليس يتورع من شيء، فقال: ليس لك منه إلا ذلك -لا بينة إذاً يحلف المدعى عليه- فانطلق المدعى عليه ليحلف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أدبر: أما لئن حلف على على مال صحابه ليأكله ظلماً ليلقين الله وهو عنه معرض) رواه الإمام مسلم رحمه الله. وفي رواية لـ مسلم في شأن هذه القصة: (من اقتطع أرضاً ظالماً لقي الله وهو عليه غضبان) أي يلقى الله سبحانه وتعالى وهو معرض عنه. كم الذين يحلفون في المحاكم ظلماً؟ كم الذين يجحدون أموال الغير؟ كم الذين يتركون العامل يعمل ويمنونه بالمشاركة ويمنونه بالأرباح، فإذا كبرت المؤسسة وقام العمل على سوقه، وبدأت الأرباح تدر، قالوا: اذهب فليس لك شيء، ويخرجونه بثيابه. أين يكون من يفعل ذلك يوم الدين؟ وما هو حاله يوم الدين؟ ولكن الناس لا يفكرون بيوم الدين، مثل هؤلاء البشر لا يقيمون ليوم القيامة وزناً، فلا وزن لهم عند الله يوم القيامة.

ظلم الشريك لشريكه

ظلم الشريك لشريكه ومن أنواع الظلم: أن يظلم الشريك شريكه، كما قال داود عليه السلام: {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص:24]. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يباعد بيننا وبين الظلم، وأن يجعلنا برآء من الظلم، اللهم إنا نعوذ بك أن نظلم أو نُظلم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم، وأوسعوا لإخوانكم يوسع الله لكم.

ظلم الرجل لزوجته

ظلم الرجل لزوجته الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين. أشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، الحكمُ العدْلُ: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49]. وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين. عباد الله! إن من الظلم العظيم أن يظلم الرجل زوجته التي هي عانية عنده وأسيرة وضعيفةٌ، ومحتاجةٌ إلى نفقته وحمايته، فيعمد كثيرٌ من الأزواج إلى ظلم زوجاتهم، فيمنع النفقة عن زوجته أو يضربها ضرباً مبرحاً غير الذي أمر به الشارع، أو يضربها مع أنه هو الظالم وهي المظلومة. ويُرى آثار الضرب في جلدها اخضراراً وازرقاقاً، وربما أسال الدم، وهكذا يفعل بعض الظلمة من الأزواج الذين لا يخافون الله؛ يضرب الرجل بكل قوته على جنب المرأة وجسدها في ضعفها؛ بكل قوته على ضعف جسدها ينهال عليها ضرباً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يجلدها جلد العبد) وهذا من الظلم، وستأخذ من حسناته يوم القيامة. ومن الظلم لها أن يمنع عنها النفقة، أو يأخذ أموالها إذا كانت موظفة، ثم يقول لها: إذا أردت أن تقترضي مني فاقترضي وسددي، والمال مالها، وقد أخذ أحدهم من أموال زوجته فوق مائتي ألف لينفقها على نفسه وقرناء السوء في الخمر والحرام، فلما قالت له: اختر أنا أو قرين السوء صاحبك، قال: أختار صاحبي وأنتِ اخرجي من البيت، هكذا يتبجح بعضهم، وهذا من ضمن المآسي الاجتماعية التي تعيشها بُيوتنا. الزوجة لا تُحس بالأمان لأنها معرضة للطرد في أي لحظة، ولو في جوف الليل، ربما يضربها وهي حامل، تقي جنينها من الضرب، وهو لا يرحم الولد ولا أمه، فهذا ظلم والله لا يحب الظالمين، فكيف يلقى الله تعالى؟! من الظلم الذي وصفه الله من ظلم النساء أن يمسكها بعد طلاقها ليزيد عليها العدة، كما قال الله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا} [البقرة:231] فهذا ظلم، يمسكها ضراراً إلى آخر العدة وقبيل أن تنتهي يردها بعد الطلقة الأولى، ثم يطلق ويمسكها إلى قبيل انتهاء العدة في الطلاق الثاني، ويردها لتطول عليه العدة ولا تذهب إلى غيره، وليس له فيها حاجة. ولذلك لما لاعن عويمر زوجته في قصة الملاعنة المشهورة قال بعدما تمت الملاعنة: يا رسول الله إن حبستها فقد ظلمتها، فهو يقول: بعدما رأيتها في الفجور والزنا وتمت الملاعنة، فقد كذبتها، وإن أبقيتها عندي -ولا يمكن أن أطيقها- فقد ظلمتها، فهي طالقٌ طالقٌ طالق، فأقره النبي صلى الله عليه وسلم، فكانت سنةً لمن كان بعدهما من المتلاعنين الانفصال التام والنهائي إلى آخر العمر، لا يردها ولو بعد زوج، وتلك هي التفرقة الكبرى؛ بين الملاعن والملاعنة، فالزوجة تخرج إلى الأبد ولا تبقى عنده وهو لا يريدها.

قطع الشجرة التي يستظل بها الناس ظلم

قطع الشجرة التي يستظل بها الناس ظلم وبعض الناس يتصور أن الظلم مع الأحياء أو مع أهل الحياة، ولكن الظلم حتى مع الجمادات، وحتى مع البهائم، ومن قطع شجرة ليضر بالناس فلا يستظلون بها عبثاً ظلماً صوب الله رأسه في النار، كما حمل عليه أبو داود حديث النبي صلى الله عليه وسلم الصحيح: (من قطع سدرة صوب الله رأسه في النار).

من ظلم المسلم لأخيه سوء ظنه به

من ظلم المسلم لأخيه سوء ظنه به وصور ظلم الأخ لأخيه المسلم كثيرة، ومن ذلك ظلمه في تفسير مواقفه، وبناء ذلك على سوء الظن، وهذا مثالٌ من السنة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالزكاة، فقيل: منع ابن جميل وخالد بن الوليد وعباس بن عبد المطلب -أي: منعوا زكاة أموالهم فلم يؤدوها- فقال صلى الله عليه وسلم: ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيراً فأغناه الله ورسوله -وهذا ذمٌ له وتأكيدٌ للتهمة عليه- وأما خالد فإنكم تظلمون خالداً، قد احتبس أدراعه وأعتده في سبيل الله - خالد كيف يمنع الفرض وقد تطوع بتحبيس سلاحه وخيله ثم لا زكاة في الوقف وقد جعل خيله وسلاحه وقفاً على المجاهدين في سبيل الله، فأنتم تظلمون خالداً، لأنه جعل أمواله التي عنده وقفاً على المجاهدين في سبيل الله- وأما العباس بن عبد المطلب فعم رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي عليه صدقه ومثلها معها) رواه البخاري. وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد استعجل من العباس زكاة سنتين أخذها مقدماً للحاجة مقدماً، فلما جاء وقت الزكاة ولم يعط العباسُ زكاتَه، لأنه كان قد أعطاها من قبل، ولما ظلمه بعض الناس، أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد أداها من قبل، وأنه لو كان عليه فرقٌ فإنه سيتحمله هو من جيبه صلى الله عليه وسلم، لأنه عمه، وعم الرجل صنو أبيه. والشاهد من هذه القصة التي رواها البخاري رحمه الله أن بعض الإخوان يظلمون أخاهم المسلم بتفسير مواقفه بناءً على سوء الظن تفسيراً غير صحيح، إذاً فليتقوا الله في أخيهم، وليحملوا أمره على أحسنه، نسأل الله السلامة والعافية. اللهم لا تجعلنا من الظالمين، ونجنا من القوم الظالمين، اللهم إنا نعوذ بك من الظلم وأهله، اللهم لا تجعلنا من الذين يظلمون الناس يا رب العالمين. اللهم إنا نسألك أن تنصر الإسلام والمسلمين، وأن تُذل الشرك والمشركين، وتهزم أعداء الدين، اللهم إنا نسألك الأمن والرخاء لبلادنا وبلاد المسلمين يا رب العالمين. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.

المجاهرون

المجاهرون ما أعظم لباس الستر حين يستتر به المؤمن إذا وقع في ذنب! فهو لباس أسبغه الله على عباده المؤمنين؛ لكن بعض الناس يهتكون هذا اللباس ويمزقونه بعد أن سترهم الله عز وجل فحرموا العافية التي حلَّت بأهل الستر. وتتعدد أنواع المجاهرة بالمعاصي في عصرنا الحاضر حيث وسائل الاتصال بكل أنواعها، مع اتساع دائرة المعاصي والذنوب، ألا فليحذر العاقل من نقض عرى الستر، فإن أبى إلا نقضها فلا يستغرب إن وجد ردة فعل إزاء ما يجاهر به من كثير من الخلق، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.

كل أمتي معافى إلا المجاهرين

كل أمتي معافى إلا المجاهرين الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن من سنة النبي صلى الله عليه وسلم ومن حديثه ننطلق ونأخذ النور، ومما وجهنا به عليه الصلاة والسلام في هذه المسألة العظيمة، التي هي من الأمور المهمة في حفظ مجتمع المسلمين، وصيانة دينهم وعفافهم، روى الإمام البخاري رحمه الله تعالى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً ثم يصبح وقد ستره الله فيقول: يا فلان! عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عليه). (كل أمتي معافى) من العافية، وأن الله سبحانه وتعالى يغفر الذنب ويقبل التوبة منه. (كل أمتي معافى إلا المجاهرين) فالمجاهرون بالمعاصي لا يعافون، الأمة يُعفى عن ذنوبها، لكن الفاسق المعلن لا يعافيه الله عز وجل، وقال بعض العلماء: إن المقصود بالحديث كل أمتي يُترَكون في الغيبة إلا المجاهرون، والعفو بمعنى الترك، والمجاهر: هو الذي أظهر معصيته وكشف ما ستر الله عليه فيحدث به. قال الإمام النووي رحمه الله: من جاهر بفسقه، أو بدعته، جاز ذكره بما جاهر به. هذه المجاهرة التي هي التحدث بالمعاصي، يجلس الرجل في مجلس كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: عملت البارحة -أقرب ليلة مضت- كذا وكذا، يتحدث بما فعل، ويكشف ما ستر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله عنها، فمن ألمَّ بشيء منها فليستتر بستر الله) رواه الحاكم، وهو حديث صحيح. لماذا -أيها الإخوة- كل الأمة معافى إلا أهل المجاهرة؟! أولاً: لأن في الجهر بالمعصية استخفاف بمن عُصِي وهو الله عز وجل، واستخفاف بحق رسوله صلى الله عليه وسلم، واستخفاف بصالحي المؤمنين، وإظهار العناد لأهل الطاعة ولمبدأ الطاعة، والمعاصي تذل أهلها، وهذا يذل نفسه ويفضحها في الدنيا قبل الآخرة.

المجاهرة لمصلحة راجحة

المجاهرة لمصلحة راجحة عباد الله: إن المجاهرة بالمعصية والتبجح بها، بل والمفاخرة، قد صارت سمة من سمات بعض الناس في هذا الزمن، يفاخرون بالمعاصي، ويتباهون بها، وينبغي على الإنسان أن يتوب ويستتر، ولكن هؤلاء يجاهرون، قال النووي رحمه الله: يكره لمن ابتلي بمعصية أن يخبر غيره بها -يعني: ولو شخصاً واحداً- بل يقلع عنها ويندم، ويعزم ألا يعود، فإن أخبر بها شيخه الذي يعلمه، أو الذي يفتيه، أو نحوه من صديق عاقل صاحب دين مثلاً، يرجو بإخباره أن يعلمه مخرجاً منها، لقد أصيب الرجل بذنب أو وقع في ذنب، ويريد أن يسأل شخصاً ليعلمه كيف يتوب، وما هو المخرج من المعصية، ما هو الطريق لتركها، وكيفية التوبة، وما يجب عليه من جهة الأطراف الأخرى إن كان هناك أطراف أخرى في المعصية، ففي مثل هذه الحالة ما حكم الإخبار بالمعصية؟ فإذا أخبر بها شيخة أو نحوه ممن يرجو بإخباره أن يعلمه مخرجاً منها، أو ما يسلم به من الوقوع في مثلها، أو يعرفه السبب الذي أوقعه فيها فهو حسن، وإنما يحرم الجهر حيث لا مصلحة؛ لأن المفسدة حينئذٍ ستكون واقعة، فالكشف المذموم هو الذي يقع على وجه المجاهرة والاستهزاء لا على وجه السؤال والاستفتاء، بدليل خبر الذي واقع امرأته في رمضان، فجاء فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم لكي يعلمه المخرج، ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم في إخباره.

إمامة المجاهر بالذنب وعيادته

إمامة المجاهر بالذنب وعيادته عباد الله: إن المجاهرة بالمعاصي وإشاعتها والتباهي بها يحمل الناس الآخرين على التقليد والوقوع فيها، إن الشريعة لما شددت على المجاهرة بالمعصية كان ذلك لحكمة، والشارع يعلم أن المجاهر يدعو غيره، ويجذبه، ويزين له ويغريه، ولذلك كانت المجاهرة بالمعصية أمر خطير جداً، وقد ذكر العلماء إجراءات متعددة في الفتاوى والأحكام بشأن المجاهر، فنصوا على كراهية الصلاة خلف الفاسق عموماً ما دام فسقه لا يكفر، فالصلاة صحيحة لكنه لا ينال ثواب من صلى خلف الإمام التقي، وقال بعضهم: بإعادة الصلاة خلف من جاهر بالمعصية. وسُئل ابن أبي زيد رحمه الله: عمن يعمل المعاصي هل يكون إماماً؟ فأجاب: أما المصر المجاهر فلا يمكن أن يكون إماماً، ولا يجعل إماماً، ولا يُمَكّن من ذلك، ويطالب بتغييره، ويُرفع أمره؛ لأنه منصبٌ قيادي يؤم فيه المسلمين، فكيف يؤمهم ويتقدمهم ثم يكون مجاهراً بمعصية؟! وسئل عمن يعرف منه الكذب العظيم، أو القتَّات النمام الذي ينقل الأخبار للإفساد بين الناس، هل تجوز إمامته؟ فأجاب: لا يصلى خلف المشهور بالكذب، والقتات، والمعلن بالكبائر، مع صحة الصلاة أي: أنها لا تعاد، ولكن يكره الصلاة وراء هذا الرجل، أما من تكون منه الهفوة والزلة فلا تُتبع عورات المسلمين. وقال مالك رحمه الله: من هذا الذي ليس فيه شيء، كل إنسان يعصي، وقال مالك مردفاً: وليس المصر والمجاهر كغيره، المصيبة في المصر والمجاهر، هذا في مسألة إمامته. وماذا عن عيادته إذا مرض؟ وعيادة المريض المسلم أجرها عظيم، ومن حق المسلم على المسلم، لكن العلماء قالوا: لا يعاد المجاهر بالمعصية إذا مرض؛ لأجل أن يرتدع ويتوب ويرتدع غيره ممن يمكن أن يقع في المعصية، وإذا عاده من يدعوه إلى الله وينصحه فهو حسن لأجل دعوته، أما إذا لم تكن هناك مصلحة شرعية فلا يعاد زجراً له ولأمثاله.

الصلاة على المجاهر وحكم إجابة دعوة الوليمة

الصلاة على المجاهر وحكم إجابة دعوة الوليمة وماذا عن الصلاة عليه؟ لقد ذكر أهل العلم رحمهم الله في هذه المسألة المجاهر بالمعصية إذا مات، فإنه لا يصلي عليه الإمام ولا أهل الفضل؛ زجراً له ولأمثاله، وردعاً لمن يقع في هذا، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ينبغي لأهل الخير أن يهجروا المظهر للمنكر ميتاً إذا كان فيه كف لأمثاله، فيتركون تشييع جنازته. فمن جاهر بشيء فمات مصراً مجاهراً، يترك أهل الفضل والخير الصلاة عليه، ويصلي عليه عامة الناس ما دام مسلماً لم يخرج من الإسلام. وماذا بالنسبة للستر عليه؟ وما حكم غيبته؟ يندب الستر على المسلم عموماً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة) فإذا علمت عن مسلم ذنباً فاستره، وخصوصاً إذا كان ممن ينسب لأهل الدين، والطعن فيه طعن في الإسلام، والعيب عليه عيب في أهل الإسلام، لكن المجاهر بالمعصية له شأن آخر، قال العلماء: وأما المجاهر والمتهتك فيستحب أن لا يستر عليه، بل يظهر حاله إلى الناس حتى يجتنبوه، وينبغي رفع أمره للقاضي حتى يقيم عليه ما يستحقه؛ لأن ستر مثل هذا الرجل أو المرأة يطمعه في مزيد من الأذى والمعصية، وإذا كانت غيبة المسلمين حراماً فإن هذا الرجل قد أباح للناس أن يتكلموا في شأنه بمجاهرته، فأجاز العلماء غيبة المجاهر بفسقه أو بدعته؛ كالمجاهر بشرب الخمر وغيره، كما قال الإمام أحمد رحمه الله: إذا كان الرجل معلناً بفسقه فليس له غيبة، لكنَّ النووي رحمه الله أشار إلى أن غيبته فيما جاهر فيه فقط، ويهتك فيما جاهر فيه، ويحذر الناس من شأنه. وأما هجره فإذا كان يرتدع به فيجب الهجر، وذلك بالمقاطعة وعدم الكلام، وعدم الزيارة، وعدم السلام عليه، قال الإمام أحمد رحمه الله: ليس لمن يسكر ويقارف شيئاً من الفواحش حرمة ولا صلة إذا كان معلناً مكاشفاً. إن قضية المجاهرة حساسة جداً في الشريعة أيها الإخوة! وماذا عن وليمته؟ ودعوته للعرس والنكاح؟ إن إجابة الوليمة واجبة بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله) هذا في العموم، أما المجاهر فلا تجاب دعوته للعرس والنكاح، ولا تؤتى وليمته ما دام مجاهراً.

من ابتلي بمعصية فليستتر

من ابتلي بمعصية فليستتر أيها المسلمون: (إن الله حيي ستير يحب الحياء والستر) إنه سبحانه وتعالى يحب الستر، فيجب على من ابتلي بمعصية أن يستتر، ويجب عدم فضحه، فإذا جاهر فقد هتك الستر الذي ستره به الستير وهو الله عز وجل، وأحل للناس عرضه، وقد أجمع العلماء على أن من اطلع على عيب أو ذنب لمؤمن ممن لم يعرف بالشر والأذى، ولم يشتهر بالفساد، ولم يكن داعياً إليه، وإنما يعمله متخوفاً متخفياً؛ أنه لا يجوز فضحه، ولا كشفه للعامة ولا للخاصة، ولا يرفع أمره إلى القاضي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حثَّ على ستر عورة المسلم وحذَّر من تتبع زلاته: (من ستر عورة أخيه المسلم ستر الله عورته يوم القيامة، ومن كشف عورة أخيه المسلم كشف الله عورته، حتى يفضحه الله بها في بيته) رواه ابن ماجة وصححه في صحيح الجامع. ولأن كشف هذه العورات والعيوب، والتحدث بما وقع من هذا المؤمن أو المسلم قد يؤدي إلى غيبة محرمة، وإشاعةٍ للفاحشة وترويج لها، المؤمن يُستر ويُنصح، والفاجر يُهتك ويُعيرَّ، كما قال الفضيل رحمه الله. أما من عُرِف بالأذى والفساد، والمجاهرة بالفسق، وعدم المبالاة بما يرتكب، ولا يكترث بما يقال عنه، فيندب كشف حاله للناس، وإشاعة أمره بينهم؛ ليحذروا منه، ويرفع أمره إلى القاضي ما لم يخش مفسدة أكبر؛ لأن الستر على هذا يطمعه في الإيذاء، ومزيدٍ من الفساد، وانتهاك الحرمات، والتجاسر على المعصية، هذا في المعاصي التي وقعت في الماضي، أما من رأى إنساناً يرتكب معصية فيجب عليه أن يُنكِر عليه ولا يقول: أستره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) واستثنى العلماء مسألة جرح الرواة؛ لأجل سنة النبي عليه الصلاة والسلام، ويجرح الشهود عند القاضي إذا كانوا من المجروحين لحفظ الحقوق، وكذلك من أراد أن يتولى صدقات أو أوقافاً، أو أموال أيتام، أو نحو ذلك، لا يحل الستر عليهم عندئذٍ، وإنما يخبر بأمرهم القاضي؛ لأن المسألة تتعلق بها حقوق لمسلمين، أو لعامة المسلمين. وينبغي على الإنسان المسلم إذا وقعت منه هفوة أو زلة أن يستر على نفسه، ويتوب بينه وبين الله عز وجل، ولا يستحب له رفع أمره إلى القاضي، ولا يكشف شأنه لأحد كائناً من كان إلا في مثل الأمثلة التي تقدمت في الاستفتاء والاستنصاح. الستر لأجل ألا تشيع الفاحشة، ولأجل ألا يعم ذكرها في المجتمع، ولأجل أن تكبت أخبارها؛ لأن نشر أخبارها يجذب إليها، ولذلك فإن من الآثمين إثماً عظيماً الذين ينشرون أخبار الخنا، والفجور، والخلاعة، والمجون، والحفلات المختلطة، والغناء ونحو ذلك على الملأ؛ لأنهم يريدون إشاعة الفاحشة في المجتمع المسلم: (اجتنبوا هذه القاذورات، فمن ألمَّ فليستتر بستر الله، وليتب إلى الله، فإن من يبدي لنا صفحته نقم عليه كتاب الله) حديث صحيح رواه الحاكم وصححه، ووافقه الذهبي وغيره. أيها المسلمون: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه رجلٌ يقول: أصبتُ حداً فأقمه عليَّ -والمعصية حصلت خفيةً- أعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن فيه إرشاداً إلى عدم استحباب طلب إقامة الحد، وأن من وقع في شيءٍ تكفيه التوبة فيما بينه وبين الله عز وجل. اللهم إنا نسألك أن تتوب علينا، وأن ترحمنا، وأن تغفر لنا، وأن تسترنا بسترك الجميل في الدنيا والآخرة، وأن تصفح عنا الصفح الجزيل. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

الأصل الستر وإنما الجهر لمصلحة

الأصل الستر وإنما الجهر لمصلحة الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، أشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً رسول الله البشير النذير والسراج المنير، والنبي الأمين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى أزواجه وذريته الطيبين الطاهرين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. عباد الله: إن مما ينبغي حفظه ما يحصل بين الزوجين، وتفاصيل ما يقع حال الجماع وقبله من مقدماته، إلى غير ذلك من الأسرار البيتية، قال صلى الله عليه وسلم: (إن من شر الناس عند الله منزلةً يوم القيامة: الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها) أخرجه مسلم، وقال صلى الله عليه وسلم وقد أقبل على صف الرجال بعد الصلاة: (هل منكم إذا أتى على أهله أغلق بابه وأرخى ستره، ثم يخرج فيحدث فيقول: فعلت بأهلي كذا وكذا، فسكتوا، فأقبل على النساء فقال: هل فيكن من تحدث؟ فقالت فتاة منهنَّ: والله إنهم ليحدثون وإنهنَّ ليحدثن، فقال: هل تدرون ما مثل من فعل ذلك؟ إنَّ مثل من فعل ذلك مثل شيطان وشيطانة لقي أحدهما صاحبه بالسكة -أي في وسط الطريق- فقضى حاجته منها والناس ينظرون) أخرجه أحمد، وهو حديث حسن. عباد الله: إن الله يحب الستر ويكره التحدث بالكلام الفاحش، وإن مما يقع بين الرجل وامرأته مع أنه بالحلال لكن لأنه خنا فإنه لا يتحدث به، لا يتحدث بأي شيءٍ يثير الشهوات، حتى مجرد ذكر الوقاع أنه قد حصل دون تفصيلٍ، إذا لم يكن له حاجة كرهه العلماء وعدوه من خوارم المروءة، حتى مجرد أن يخبر أنه قد حصل بينه وبين أهله شيء لغير مصلحة شرعية فهو مكروهٍ؛ لأنه من خوارم المروءة. عباد الله: إنَّ الطبيب وغيره ممن يطلعون على بعض أسرار الناس لا يحل له أن يفشي ذلك، إلا إذا كانت هناك مَضرَّةٌ على المسلمين، فإنه يُبلَّغ بها حتى لا تقع المضرَّةُ على المسلمين، وقال العلماء: إن الإنسان إذا اطلع على شيءٍ فيه ضررٌ على أحد بلَّغه بالتحذير العام، ولا يتكلم عن الشخص إذا كان ذلك كافياً، فيقول له: انتبه واحذر! وهناك من يريد إيقاع الشر بك، ونحو ذلك، فإذا لم يكن كفُّ الشر ممكناً إلا بالإبلاغ عن هذا الشخص وجب الإبلاغ عنه، ويجب الإبلاغ عن كل من يحدث شيئاً فيه ضررٌ على المسلمين، كالذين يعملون أوكار الفجور والدعارة، وتوزيع المخدرات ونحو ذلك، يجب الإبلاغ عن هؤلاء وعدم الستر عليهم؛ لأن في ذلك مصلحة المجتمع المسلم.

صور من المجاهرة

صور من المجاهرة عباد الله: انظروا إلى من حولكم من الناس كيف صارت المجاهرة بالمعاصي عندهم شيئاً عادياً، كل من يعلق صورةً محرمةً تعليقاً يظهر للناس، أو يلصق على سيارته عبارةً بذيئة وهو يعلم معناها، أو يشرب شيئاً من المحرمات شفطاً، وأخذاً لدخانه وسحباً، أو من السوائل التي يدخلها إلى جوفه أمام الناس فهو مجاهر بالمعصية، فلا تستغرب إذا رأيت من أهل الخير من مر بمدخنٍ فلم يسلم عليه، ثم مر به وهو لا يدخن فسلم عليه؛ لأن ذلك من فقه معاملة من يجاهر. كيف جاهر الناس برفع أطباق استقبال موجات الشر وبثها في بيوت المسلمين، حتى صارت كالأعلام ترفرف فوق البيوت؟! كيف يجاهر بعض الناس برفع أصوات الغناء عند الإشارات وزجاج باب السيارة منخفض فينشر الفسق؟! كيف بمن يجلس على الشاطئ، أو الرصيف، أو غيره فيعزف، وبعضهم يرقصون أمام الغادي والآتي؟! وهذه المرأة المتهتكة التي تنزل إلى السوق والشارع متبرجةً متعطرةً كاشفةً عن الأقدام والسيقان، وعن الشعر وغيره؛ تمشي أمام الناس مجاهرةً بالفسق والمعصية. كيف صار حال بعض الناس في المجاهرة بالفسق والمعاصي في الدعايات التي ينشرونها على الملأ وفيها فجورٌ، أو دعوةٌ لفجورٍ، أو دعوة لحفلة غناء، أو اختلاط، أو قمار، أو ميسر في معاملات تجارية يُجهر بها على الملأ؟! لقد صارت مسألة المجاهرة من المسائل العظيمة أيها الإخوة، ولذلك تجب النصيحة، ويجب القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لماذا النهي عن المنكر واجب؟ ومحاربة المنكر لمكافحة المجاهرة، وبالدرجة الأولى الذي يجهر بالمعصية أمام الناس. كم وكم من الناس قد وقعوا في المجاهرة، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم خطير: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين) أي: فلا معافاة لهم، نفى المعافاة عنهم، ومن نفيت عنه المعافاة فكيف سيكون حاله؟! نسأل الله السلامة والعافية. اللهم إنا نسألك أن تطهر مجتمعاتنا من المنكرات، وأن تطهر بيوتنا من المعاصي والآثام. اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك الأتقياء الأخفياء، الذين يخشون في السر والعلن، ويخافون أن تطلع على حال هم فيه على معصية. اللهم طهر قلوبنا من الشرك، والرياء؛ والكبر، والغرور. اللهم تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.

المزيد من المنهجية في طلب العلم

المزيد من المنهجية في طلب العلم لقد وجدت العشوائية وعدم الثبات والاضطراب والتذبذب وعدم الاستمرار لدى الكثير من طالبي العلم الشرعي؛ فحدث الخلل، وما حدث ذاك إلا عند غياب المنهجية السليمة لطلب العلم. فلابد من تلافي الخلل ورسم الطريق الصحيح لمنهجية رائدة في طلب العلم، فلابد من التدرج في التعليم والصعود المتأني في سلم العلم. ولقد أجاد بعض الأفذاذ في السير على المنهجية الصحيحة فاستوى على سوقه فكان الرسوخ، وأخطأ بعض السذج فليس معهم إلا نتف من هنا وهناك.

الحث على الجدية في طلب العلم

الحث على الجدية في طلب العلم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علّمتنا، وزدنا علماً إنك أنت العليم الحكيم. أيها الأخوة: أحييكم في هذه الليلة وأقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فإننا في هذه الليلة، سنكمل -إن شاء الله- ما بدأناه في ليلة الخميس الماضي، عندما شرعنا في الكلام على موضوع (طالب العلم والمنهج). وبعد المحاضرة الماضية كان هناك عدد من الأسئلة، وهذه الأسئلة تضمنت ردود فعل مختلفة من عدد من الإخوان؛ لسماعهم المحاضرة الماضية. فبعضهم رأى أن فيها حَثَّاً على الجدية في الطلب، واستثمار الأوقات، لكي يكون طالبُ العلم طالبَ علم حقيقي فعلاً. وبعضهم رأى في العرض السابق تثبيطاً وشعر بالإحباط في نفسه؛ لأنه لما قارن ما هو عليه بالمنهج الذي ينبغي أن يسير عليه طالب العلم، رأى أنَّ بين هذا وذاك بوناًَ شاسعاًَ. وبعضهم من أصحاب التخصصات العلمية والوظائف قالوا: إن معنى الكلام أنه ليس لنا موقعاً في طلب العلم، وأننا لا بد أن نتجه لقراءة كتيبات، ونترك العلم لأهل العلم. وبعضهم قال مازحاً: نريد أن نبيع الكتب الكبيرة التي اشتريناها من معارض الكتاب، فما فائدة وجود كتاب مثل: كتاب (المغني) لدينا.

المقصود من طالب العلم والمنهج

المقصود من طالب العلم والمنهج وحرصاً على إيصال الفكرة الصحيحة المُرادة، ونفي الخواطر غير الصحيحة المتَوَّهَمَة، أذكر ما يلي في نقاط سريعة: كانت المحاضرة الماضية هزة للذين يخادعون أنفسهم بأنهم طلبة علم وليس عندهم من العلم إلا النزر اليسير. وكانت المحاضرة الماضية تنبيهاً بأن طلب العلم مسألة شاقة وعسيرة، وأنها تحتاج إلى مجاهدة ومجالدة، وأنها تحتاج إلى صرف الأوقات والأعمار، وأن العلم غزير وكثير، إذا أعطيته كلك أعطاك بعضه. وهذا كان مقصد من المقاصد الأساسية في المحاضرة وهو: الحث على الجدية، واستثمار الأوقات، وأن طلب العلم ليس شيئاً سهلاً يناله كل أحد، وأن من قرأ كتاباً أو كتابين أو حضر درساً أو درسين أصبح طالب علم. وكانت المحاضرة تنبيهاً قوياً إلى بعض أصحاب الدراسات الدنيوية من أصحاب الشهادات العليا في العلوم الدنيوية- المتسلطين على العلم الشرعي بأهوائهم، والمتحكمين في أقوال العلماء بعقولهم القاصرة، التي لم تتشكل بالعلم الشرعي، وإنما غرور الشهادة الدنيوية جعلتهم يظنون أنهم يفهمون كل شيء، حتى الفتاوى والأحكام الشرعية. فهؤلاء لا بد أن يعرفوا حدودهم، ويعرفوا ما هو المنهج الصحيح في الطلب، وما هو موقعه بالنسبة للطلب، وبالنسبة لأهل العلم، ومَن تكلم في غير فنه أتى بالعجائب. ومن المقاصد في عرض الموضوع: الحث على تلقي العلم الشرعي عن أهله المختصين ما أمكن ذلك إن وجدوا. وتلقي باقي التصورات الإسلامية عمَّن يجيدها أيضاً. وتلقي الأدب عمَّن هو مشتهر به ومعروف وهكذا. وإن اجتمعت في شخص واحد فهذه النعمة، وإذا لم يوجد من أهل العلم المتخصصين مَن يمكن الوصول إليه والتتلمذ على يديه فلا بد من التعاون على دراسة الموضوعات الشرعية المختلفة، مع الأمثل فالأمثل. وقد تقدم أن المذاكرة الجماعية تقي الفرد كثيراً من الانحرافات في التلقي والخطأ في الفهم.

تنبيهات لأصحاب التخصصات

تنبيهات لأصحاب التخصصات كذلك لا بد أن يوقن أصحاب التخصصات غير الشرعية بعِظَم المهمة التي يضطلعون بها، وحجم الثغرة التي يقومون بسدها، وكثافة المسئوليات الملقاة على عواتقهم، وأن المجتمع يحتاج إلى الأطباء المتدينين الملتزمين بالدين، والمهندسين الملتزمين بالدين، والإداريين الملتزمين بالدين، والعسكريين الملتزمين بالدين وهكذا. فالذي يظن أن الإسلام لا يُخدَم إلا بطلاب العلم الشرعي المتخصصين، فنظرته قاصرة، وفي تفكيره خلل. فالمسئوليات الدينية كبيرة ينبغي القيام بها، كالتربية، والدعوة، وإنكار المنكر، وسائر فروض الكفايات. وتنبيه آخر لأصحاب التخصصات الشرعية لا بد من ذكره، وهو: أن الذين يظنون أن الجامعات الشرعية تُخَرِّج طلاب علم أقوياء إذا نجح الطالب في المقرارت فهم أناس مخطئون، فإن كثيراً من هؤلاء الطلاب يذاكرون للشهادة والنجاح، ولا يطلبون العلم حقيقة، وما الكليات الشرعية إلا مفتاح للبدء في الدراسة الجادة، وتأهيلاً للطلب، وليس هي نهاية الطلب، والمتخرج من الكلية الشرعية لم يُنْهِ علوم الشريعة، وإنما لا بد من التركيز والمواصلة، خصوصاً وأن كثيراً من الكليات الشرعية في العالم الإسلامي تعرضت إلى مؤامرات تحجيم وإزالة مقررات، وقد سمعتُ بنفسي مَن أخبرني من الذين درسوا في بعضها أن الجيد بخمسة جنيهات والجيد جداً بعشرة جنيهات! وكذلك فهناك اختلال في توجه أصحاب الطاقات العقلية لا يتناسب مع شرف العلم الشرعي بالمقارنة مع غيره، فبينما تجد كثيراً من النابهين يتجهون لدراسة العلوم الدنيوية، ترى في المقابل كثيراً من أصحاب الطاقات المحدودة والمستويات المنخفضة يتجهون للدراسات الشرعية. وفي بعض بلدان العالم الإسلامي توضَع المجاميع العالية للطب والهندسة والمجاميع المنخفضة للشريعة والآداب، في خطة تهدف إلى صرف الناس عن دراسة دين الله والإجادة فيه. ثم إن هؤلاء المتخرجين من الحقول الشرعية هم الذين يتولَّون المناصب الدينية؛ من الإمامة، والخطابة، والتدريس، والقضاء، والإفتاء، فتحدث الكارثة، وتعم المصيبة، وينعكس هذا سلباً بالطبع على تقبل الناس للدين وأهله. ولا بد بعد هذا من تسجيل حسنة عظيمة في حق بعض المتفوقين الذين آثروا دراسة دين الله، والمواصلة فيه، على دراسة علوم الدنيا، رغم كثرة الإغراءات الدنيوية والضغوط الاجتماعية. ومِن ثَمَّ فإن مَن آنسَ في نفسه قدرة على طلب العلم الشرعي والحفظ والفطنة، فإن عليه أن يتجه لهذه للدارسة منذ مرحلة مبكرة، فيتجه بعد دراسة الثانوية مباشرة مثلاً للعلم الشرعي والكليات الشرعية؛ لأن كثيراً من الطلاب بعد أن يقطع مشواراً في علم من العلوم الدنيوية يريد أن يغير تخصصه، فيضيِّع على نفسه سنين، ويحصل عنده شيء من عدم الاستقرار، ولذلك فإن هذا التخطيط ينبغي أن يكون من مرحلة مبكرة.

أمور يجب ملاحظتها على خريجي الثانوية

أمور يجب ملاحظتها على خريجي الثانوية كما أن هؤلاء المتخرجين من المدارس الثانوية، ينبغي عليهم أن يلاحظوا أموراً، منها: أن هناك مصالح شرعية عظيمة، كأمور تتعلق بالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وتربية الناس، قد يكون الإنسان مجيداً فيها، وقد يرى من المصلحة أن يدخل في هذه المجالات ويخدم فيها، ويتأخر معه التركيز الشرعي العلمي إلى مرحلة تالية، ربما تكون بعد تخرجه من هذه الكلية غير الشرعية التي يدرس فيها، وذلك من أجل تحصيل المصالح الأخرى. فالمسألة إذاً دراسة ومشاورة، وتفكُّر واستخارة، وليست القضية خبط عشواء. وليس المقصود من عرض منهج طلب العلم إحداث الخلخلة في الأوساط التربوية واحتقار ما فيها والانسحاب منها، بحجة افتقارها إلى الجودة العلمية، وإنما المقصود: إثراء هذه الأوساط وتقويتها، ونشر العلم فيها، ودعمها بالبرامج العلمية الشرعية الجادة، فلا خير في تربية ودعوة بلا علم شرعي، ولا خير في طلب علم لا يرافقه تربية ولا تأديب ولا اشتغال بالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى. وليس المقصود من عرض صفة طالب العلم إحداث التمرد والمشاغبة على كل مُرَبٍّ وقدوة، بحجة أن عنده شيئاً من النقص في طلب العلم؛ لأن كثيراً من هؤلاء تشغلهم طاعة أخرى عن التفرغ للطلب، وهناك فروض كفايات لا بد أن يقوم بها بعض أفراد الأمة، وإلا أثمت الأمة. والمقصود أن يتجه الشاب إلى الطلب الجاد مع استمراره في التربية والتلقي في التصورات والمفاهيم الإسلامية، وصقل شخصيته من خلال التقائه بالقدوات، خصوصاً وأن بعض هؤلاء قد لا يكونون متركزين إلا في بعض الجامعات غير الشرعية تركزاً كبيراً يساعد على صقل الشخصية واستمرارية التربية.

التخصصات التجريبية

التخصصات التجريبية لا يمكن أن يكون المقصود من العرض السابق: إخراج أصحاب التخصصات الدنيوية من دائرة العلم الشرعي، فالعلم الشرعي مراتب، وما لا يدرك كله لا يترك بعضه، ولا شك أن كثيراً من أصحاب هذه التخصصات الدنيوية يتميزون بعقليات جيدة يستوعبون بها كثيراً من العلم، وإنما كان المقصود: أن تحصيل العلم وطلبه يحتاج إلى تفرغ لا يتأتى مع انشغال أصحاب هذه التخصصات بتخصصاتهم، ولكن لا بد من الإعداد العلمي قدر المستطاع، إذ هلْ نترك هؤلاء الطلاب جهالاً؟ أو يقال لهم: استمروا على قراءة الطب، وكتب الهندسة، واتركوا العلم الشرعي بالكلية، ولا تتفقهوا في دين الله! إن الذي يقول هذا لا شك أنه مخطئ، فكيف ندعو الناس إلى ترك العلم الشرعي بالكلية بحجة أنهم في تخصصات دنيوية. ولعل الفرصة تتاح لهؤلاء لمزيد من التركيز بعد تخرجهم من هذه التخصصات، حيث ينطلقون إلى شيء من التفرغ الذي يتيح له التأسيس مع وجود بعض الحلق العلمية في البلد، وفي بعض الأماكن. فإذا تخرج وعنده خلفية، وقراءة واطلاع سابق في العلم الشرعي، فإنه يجد نفسه عنده من الحصيلة ما يساعده على الاتجاه المؤسَّس القوي في المستقبل، بخلاف ما لو أهمل ما يستطيعه من الطلب الشرعي أثناء الدراسة الدنيوية، فإنه سيجد نفسه لو أراد التأسيس فيما بعد غريباً كل الغرابة عن مجال العلم الشرعي، والطالب الجامعي الذكي قد يحصّل في الصيف، واستثمار الأوقات أثناء العام، أكثر مما يحصل طالب في كلية شرعية، أقل منه ذكاء وتوقداً. وإننا نقول للمهندس الذي يتخرج مثلاً ثم يعمل دواماً حكومياً إلى الساعة الثانية والنصف، ويخرج بعد ذلك متحرراً من ربقة الدوام: إنك تستطيع أن تكون طالب علم جيد ولا شك، وقل مثل ذلك وأسهل بالنسبة للمدرس الذي هو أقل دواماً وأكثر إجازات. لكننا نقول: إن أخذ الأمور بواقعية مهم، وإن الجمع بين نوعين من الدراسة الشرعية وغير الشرعية فيه صعوبة كبيرة، هذا الذي نريد أن نقرره، ونلفت النظر إليه. ويوجد نوادر تستطيع الجمع بين الأمرين، وكذلك فإن كثيراً من هؤلاء الطلاب في المجالات الدنيوية يستطيعون خلال العُطَل والإجازات عمل شيء كثير لو أحسنوا استغلال أوقاتهم. ثم إنك تجد في الواقع أن كثيراً من هؤلاء الشباب لا يتجهون اتجاهاً دينياً واضحاً يؤدي في النهاية إلى الاهتمام بالعلم الشرعي؛ إلا في مراحل من الدراسات الجامعية غير الشرعية، فمتى كانت هدايته لدين الله والالتزام بالإسلام إلا في هذه الجامعة! وبعد ذلك سيحس بأهمية العلم الشرعي، ويُقْبِل على طلبه، فيجد صعوبة في الجمع بين الأمرين، فماذا يفعل وقد قطع مشواراً في هذه الكلية؟! هل نقول لهؤلاء: ما دمتم قد اهتديتم في هذه الكليات الدنيوية آخرجوا بعد سنة أو سنتين أو ثلاث، وانطلقوا إلى الكليات الشرعية، واتركوا ما بدأتموه ولم يبقَ على إتمامه إلا شيء قليل؟ لا شك أن ذلك لا يكون من الحكمة في كثيرٍ من الأحيان.

نبوغ أصحاب التخصصات

نبوغ أصحاب التخصصات تكلمنا أيضاً أنه قد يوجد من الندرة، ندرة من الناس تستطيع الجمع بين الأمرين، ورغم قلة هؤلاء إلا أنهم أثبتوا أن هذا شيء عملي يمكن أن يقع إثباتاً يمنع اليأس من المحاولة. ثم إن كثيراً من هؤلاء الطلاب الذين يدرسون في الجامعات غير الشرعية عندما أقبلوا على التعلم وأحبوا دين الله كانوا سبباً لتنشيط العلماء والشيوخ ودفعهم إلى التدريس، بل إن لهؤلاء أثراًَ بارزاً في إبراز دور الشيوخ والعلماء وتسليط الأضواء عليهم، لدرجة أن بعض الشيوخ والعلماء إذا سمعوا أسئلة هؤلاء ومناقشاتهم لا يخطر ببالهم مطلقاً أنهم ليسوا أصحاب تخصصات شرعية، بل لقد علق بعض الأكابر من العلماء على هؤلاء مستغربين؛ لأن كلياتهم ليست كليات طب وهندسة، وإنما هي كليات شريعة ودعوة، بل ربما نصحوا بعض هذه النوعيات بالإتجاه إلى الكليات الشرعية للتخصص. وإنني أقول: إن وجود هذه الندرة ممن تستطيع الجمع بين الأمرين في الكليات غير الشرعية، وجودهم فيها أمر في غاية الأهمية؛ لأن وجودهم يساعد في ضبط المنهج، والوقاية من الانحراف، والإجابة على الأسئلة والاستفتاءات. فمن العيب الكبير أن توجد كلية طب أو كلية هندسة مثلاً فيها طلاب مسلمون كثيرون، لا يوجد واحد منهم يجيبهم على سؤال يتعلق بصلاة كسوف، أو خسوف، أو يجيبهم على سؤال يتعلق بأمرٍ من الأمور التي تواجههم في حياتهم، على الأقل يوجد من يحفظ فتاوى العلماء لينقلها إليهم وهذا بحد ذاته نوع من التحصيل للعلم.

الجمع بين العلوم الشرعية والدنيوية

الجمع بين العلوم الشرعية والدنيوية إذاً: المحاضرة السابقة كانت مكاشَفة ومصارَحة، وليست تأييساً ولا إحباطاً للمعنويات، علماً أنني وجدت من خلال الأسئلة والتعليقات أن تلك المحاضرة السابقة وافقت هوى في بعض نفوس الكسالى والجهال، وقالوا: ما دام ليس لنا أمل في طلب العلم الشرعي ونحن أصحاب تخصصات غير شرعية، فلنركز على دراساتنا الدنيوية إذاً؛ لنخرج بأحد الأمرين على الأقل، وقالوا: لا يصلح أن نتجه لدراسة شيء من العلم الشرعي، فإن المفهوم أنه ينبغي علينا أن نتخصص ونركز ونتقن هذا التخصص الدنيوي، ونترك طلب العلم الشرعي بالكلية، ولا شك أن هذا من الغلو، ومن الانحراف في الفهم. وكثير من ضوابط المنهج التي ذكرناها في المحاضرة الماضية تنفع لغير المتفرغ. فلا بد أن ندرك أن طلب العلم الشرعي ليس مقيداً بالتخصص، وإن كنا نعرف أن طالب العلم غير الشرعي قد لا يستطيع أن يكون طالب علم شرعي قوي ويجمع بين الأمرين، مع صعوبة دراسته وكثافتها؛ لكننا نؤكد على الحقيقة، ونقول مرة أخرى: إن المطلوب منك يا أيها الدارس في الكلية غير الشرعية، أمر يحتاج إلى تصميم ومجاهدة لأن فيه صعوبة بالغة؛ لأنك تحتاج أن تجمع بين أمرين لا يتيسر الجمع بينهما بسهولة. ولا شك أن مما يميز الدعوة الصحيحة: اقترانها بطلب العلم الشرعي على قدر المستطاع، فلا بد من حضور الدروس والحلق الممكن حضورها، والقراءة في كتب العلماء، وإنما نقول: إن طالب علم الشريعة المتخصص في كليته الشرعية عنده فرصة أكبر وأمره أسهل، وفرصة طالب العلم الدنيوي في طلب العلم الشرعي أقل بالنسبة لطالب الكلية الشرعية، ولا يعني هذا أن طالب الشريعة سيكون طالب علم بتخصصه بالضرورة، ولا يعني أن طالب العلم الدنيوي لا يمكن أن يكون طالب علم شرعي بحالٍ من الأحوال. وطالب العلم الدنيوي إذا طلب العلم الشرعي فإنه يحتاج إلى جهد أكبر، لأنه يعاني من ازدواجية، لكنه مطالَب بتخصص ينفع به المسلمين أو يبر فيه والديه، ومطالب كذلك بتعلُّم دين الله.

المنهج السوي لطلب العلم

المنهج السويّ لطلب العلم ننتقل الآن لإكمال ما تبقى من الضوابط المتعلقة بالمنهج والإرشادات والنصائح في طلب العلم، وقد ذكرنا في المرة الماضية أموراً تتعلق بالتدرج والأولويات:- ونضيف إلى ذلك: أن أصل العلوم النقلية هي: الشرعيات من الكتاب والسنة التي شرعها الله ورسوله. ثم يستتبع ذلك علوم اللسان العربي الذي هو لسان الملة، وبه نزل القرآن.

أصناف العلوم النقلية

أصناف العلوم النقلية أصناف العلوم النقلية كثيرة؛ لأن المكلف يجب عليه أن يعرف أحكام الله تعالى المفروضة عليه، وهي مفروضة من الكتاب والسنة؛ بالنص، أو بالإجماع، أو بالإلحاق. فلا بد من النظر في الكتاب ببيان ألفاظه أولاً. ما هو الكتاب؟ القرآن الكريم. وهذا هو: علم التفسير. ثم بإسناد نقلته وروايته إلى النبي صلى الله عليه وسلم الذي جاء به من عند الله، واختلاف روايات القراء في قراءته، وهذا هو: علم القراءات. ثم بإسناد السنة إلى صاحبها، والكلام في الرواة الناقلين لها، ومعرفة أحوالهم وعدالتهم؛ ليقع الوثوق بأخبارهم، بعلم ما يجب العمل بمقتضاه من ذلك، وهذا هو: علوم الحديث. ثم لا بد في استنباط هذه الأحكام من أصولها من وجه قانوني يفيد العلم بكيفية هذا الاستنباط، وهذا هو: أصول الفقه. وبعد هذا تحصلُ الثمرة بمعرفة أحكام الله تعالى في أفعال المكلفين، وهذا هو الفقه. فإذاً: القرآن، والحديث، والفقه. وهناك علوم آله، ذكرناها أيضاً، مثل: أصول الفقه، والمصطلح، واللغة. قال ابن خلدون رحمه الله: ثم النظر في القرآن والحديث لا بد أن تتقدمه العلوم اللسانية؛ لأنه متوقف عليها، وهي أصناف، فمنها: 1 - علم اللغة. 2 - وعلم النحو. 3 - وعلم البيان. 4 - وعلم الأدب.

كيف تتدرج في دراسة فن؟

كيف تتدرج في دراسة فن؟ ذكرنا في موضوع التدرج أموراً، ونضيف إليها كذلك: تلقي مسائل كل باب من أبواب الفن أولاً:- فإذا أراد الإنسان أن يدرس فنّاً من الفنون، فكيف يتدرج في دراسته؟ أولاً: يتلقى مسائله الأصلية -أصول الفن- ويقرأ شرحها ويَسْمعه من الشيخ على سبيل الإجمال، ويراعي في ذلك استعداداته وعقليته حتى يُنهِي الفن بشكل مُيَسَّر مبسَّط شامل في البداية، فيتهيأ لفهم الفن وتحصيل مسائله بعدما أخذ فكرة إجمالية عنه. ثم يرجع إليه مرة ثانية بمرحلة أعلى من الأولى فيها رتبة أعلى، فيستوفي الشرح والبيان، ويخرج عن الإجمال، وتُذْكَر له أوجه الخلاف إلى أن يتمه مرة أخرى. ثم يرجع ثالثة وقد اشتد فلا يترك عويصاً ولا مغلقاً إلا فتح مُقْفَله، فيخلص من الفن وقد استولى على ملكته وحصل له بذلك نفع كبير. فإذاً هذا التدرج وهو في الغالب يأتي على ثلاث مراحل. كما ذلك ذكر بعض أهل العلم، هذا أمر مهم؛ لأن بعض الطلاب إذا أراد أن يدرس فناً، فإنه يريد أن يأتي من أوله على دقائقه، وتفصيلاته، ومسائله، وتعقيداته، وعُمقه، وهذا خطأ، فلا بد أن يأخذ ما يلي: أولاً: فكرة إجمالية عبر متن مبسَّط سهل في شرح عام من دون الغوص في التفاصيل، ثم بعد ذلك المرحلة الثانية: يعرف الخلافات، ثم المرحلة الثالثة: يغوص في دقائقه ومصاعبه. لأن المتعلم إذا حصَّل مَلََكة في علمٍ من العلوم استعدَّ بها لقبول ما بقي، وحصل له نشاط في طلب المزيد، أما إذا غاص من البداية في عمقه فإنه يعجز عن الفهم، ويحصل له يأس من التحصيل. وتكلمنا كذلك على مسألة البدء بصغار العلم قبل كباره، وهذه تتبع التدرج، وقال الله عز وجل: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} [آل عمران:79] والرباني هو: الذي يبدأ بصغار العلم قبل كباره، ويعلم الناس صغار العلم قبل كباره. وقد قال بعض العلماء وهو علي بن المديني -رحمه الله- معلقاً على هذه المسألة في قضية طلب الحديث؛ لأن طلاب الحديث كانوا يكتبون الحديث في البداية يكتبون الحديث البسيط الذي له طرق بسيطة، ثم يبدءون يكتبون الحديث الذي له طرق أكثر وهكذا يتدرجون. فقال ابن المديني ضارباً المثل على هذا المفهوم: إذا رأيت الحَدَث أول ما يكتب الحديث يجمع حديث الغُسْل وحديث مَن كذب، فاكتب على قفاه: لا يفلح؛ لأن حديث الغسل وحديث مَن كذب هذه أحاديث أطرافها واسعة، وطرقها كثيرة جداً، فإذا بدأ بها بدأ معناها بالمقلوب بدأ بالواسع بدأ بالكثير ولم يبدأ بالسلم من بدايته. وقال ابن الصلاح -رحمه الله تعالى- فيما ينبغي على طالب العلم أن يجمع: ينبغي عليه أن يتدرج، فيأخذ المبسط، ثم بعد ذلك يضيف إليه ما اجتنى من الثمرات، ويقتنص الفوائد.

من أسباب القصور في تحصيل الفقه

من أسباب القصور في تحصيل الفقه اعلم رحمك الله تعالى -أيها الأخ المسلم- أن الذين يبدءون بطلب العلم في الفقه مثلاً، فيبدءون في العبادات مثلاً بالطهارة، والصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، فتقصر هِمَمُهم ويتوقفون ولا يدخلون في المعاملات بعد ذلك، فلا يعرف البيع، والنكاح، والإجارة، وغير ذلك من أنواع الفقه. ولعل السبب في هذا أمور، فمنها: 1 - عدم التوجيه. 2 - أو البدء بكتاب صعب. 3 - أو الدخول في حلقة متقدمة جداً. 4 - أن يأخذ الفقه في دروس متباعدة، كأن يقتصر على الإجازات فقط في كل سنة، فلا ينتهي من الصلاة ولا من الزكاة إلا بعد فترة طويلة جداً يفتر فيها حماسه. فلا بد إذاً أن تكون الدروس متقاربة قدر الإمكان، خصوصاً في العلوم التي تحتاج إلى فترة في التحصيل لأنها طويلة، مثل: التفسير، والحديث، والفقه.

طرق التحصيل لكل فن

طرق التحصيل لكل فن لا بد أن نعرف أن طرق التحصيل لكل فن يتلخص فيما يلي: أولاً: حفظ مختصر فيه. ثانياً: ضبطه على شيخ متقِن. ثالثا: عدم الاشتغال بالمطولات والتفاريع قبل ضبط الأصل وإتقانه. رابعاً: عدم الانتقال من مختصر إلى آخر دون سبب وجيه. يتم الضبط بالقراءة على شيخ، أو بالرجوع إلى معاجم اللغة، وكذلك كتب الضبط التي كتبها العلماء، اصطلاحات العلماء، أو التأمل في العبارة، والقاعدة تقول: (إنما يُشْكَّل ما يُشْكِل) ما الذي يُشْكَّل بالضمة والفتحة والكسرة والسكون؟ هو الذي يُشْكِل، كما أن الدابة تُضْبَط بالشِّكال فتُقَيَّد. إذاً: العبارة التي تُضْبَط تقيد بالضبط حتى لا يحدث التباس في إعرابها, ومما قالوه في هذه المسألة: أولى الأشياء بالضبط: أسماء الناس؛ لأنه شيء لا يدخله القياس، ولا قَبْله شيء يدل عليه، ولا بعده شيء يدل عليه، أسماء الرواة مثلاً.

التصرف مع المتون الصعبة

التصرف مع المتون الصعبة كذلك من الأمور والمصاعب التي تواجه طالب العلم: أنه يقع على متن من المتون الصعبة، وهذه المتون الصعبة بعض العلماء أراد أن يختصر العلم الكثير في مقطوعة قصيرة، أو في منظومة قليلة الأبيات للتيسير، فالذي حصل مع هؤلاء أنهم صعَّبوا الأمور وعقدوها؛ لأنهم يريدون أن يجعلوا المعاني الكثيرة في ألفاظٍ قليلة، فيأتي الطالب المبتدئ فيجد المتن أمامه صعباً لا يستطيع أن يحل رموزه. ولذلك لا بد أن ينتقي متناً سهلاً يدرسه على شيخ قدر الاستطاعة، أو يأخذ لهذا المتن شرحاً يفك إشكالاته، فإذا كان الأصل فيه بساطة فكذلك الشرح سيكون متيسراً بطبيعة الحال.

المواصلة والاستمرارية

المواصلة والاستمرارية ومن الأمور المهمة: المواصلة والمواظبة والاستمرارية، وهذا الأمر قد أشرنا إليه في السابق، ونزيد عليه بأن بعض الطلاب الذين يعتريهم الفتور ينبغي أن يكون الحماس متولداً، وينبغي أن يكون هناك في الوسط مَن يحمِّس ويشعل الحماس مرة أخرى، وينبغي إذا غابت الدروس فترة في الامتحانات أن تعود للظهور مرة أخرى، حتى تحصل العودة. ولا شك أن من ضعف الحماس أن يوجه الإنسان فترات مثل فترات الامتحانات والاختبارات، ولكن يجب أن يبدأ بعدها بانطلاقة كبيرة؛ لأنه من المفترض أن يكون متشوقاً متلهفاً لإكمال المشوار. كان رجل يطلب العلم فلا يقدر عليه، فعزم على تركه، فمر بماء ينحدر من رأس جبل على صخرة قد أثَّر فيها، فقال الرجل: الماء على لطافته قد أثَّر في صخرة على كثافتها! والله لأطلبن، فطلب، فأدرك. ولذلك فإن المسألة تحتاج إلى مواصلة ومتابعة، وبالتدرج وبمرور الوقت يحصِّل الإنسان أشياء كثيرة.

استعجال النتيجة

استعجال النتيجة ومن أسباب ترك المنهجية في الطلب: استعجال النتيجة، فبعض الناس يتصورون أنه لا بد أن يحصل المسائل ويجمع الأشياء في مدة قليلة، وأنه يستطيع أن يفعل ذلك، وخصوصاً إذا بدأ طالب العلم بدراسة علوم الآلة، ودراسة علوم الآلة لا تُشْعِر الدارس أنه قد حصَّل علماً كثيراً؛ لأنه يدرس أشياء في المصطلح والأصول والنحو، لا يحس أنه قد جمع وحفظ ووعى مسائل، ويحس أن دائرة معلوماته قليلة، وفي الجانب المقابل ينظر إلى الفوضوي الذي لا يدرس على أصول، ولا على منهج، ولا يدرس مثلاً علوم الآلة إنما يفتح الكتب فقط ويقرأ، ويجمع من هنا ومن هنا، فتحدث في خلال النقاشات أشياء تُشْعِر الشخص الدارس على منهج والذي يبدأ بدراسة علوم الآلة أن الشخص الفوضوي الآخر أحسن منه، وأنه جمع ما لم يجمع، وحصَّل ما لم يحصِّل، فيتأسف ويقول: لا فائدة إذاً من هذا المنهج الذي لم يزِدْني شيئاً؛ لكن ليعلم أنه بعد سنوات عندما يقارن نفسه وقد أسَّس نفسه بالآخر الفوضوي الذي يقرأ مما هبَّ ودبَّ أنه يكون أحسن وأوعى وأحفظ وأضبط، وأكثر جمعاً للمسائل في النهاية، وقد تشابكت عنده أطراف العلم، وتشابكت عنده الخطوط وتقاطعت، فترسخت هذه الأمور في نفسه. ولا يصلح أن تشعرك النقاشات مع بعض الفوضويين وتحس أن عندهم أشياء وأطراف بحيث ينبغي عليك أن تترك المنهج؛ لأنه لم يفِد ولم يؤدِّ إلى تحصيل أشياء كثيرة في وقت قليل، وأصحاب التجميعات هؤلاء ما عندهم أسس ولا قواعد، ولذلك يصعب النقاش معهم، وكثير من الشباب يتركون المنهجية من أجل القفز، والعجلة من الشيطان، من أجل القفز، يقولون: إذن نحصل العلم بسرعة، ونأخذ ونقرأ الكتب الطويلة، وهم ما بدءوا بالكتب الأساسية، والعلم لا يأتي بسنة ولا بإتمام منهج (البكالوريوس) في العلوم الشرعية، وإنما لا بد أن يصبر الإنسان حتى يحصِّل، ومن صبر ظفر.

إفناء العمر في علوم الآلة

إفناء العمر في علوم الآلة من الأخطاء التي يقع فيها البعض في المقابل: إفناء العمر في علوم الآلة، فيتبحر في النحو، أو في الأصول، أو في المصطلح، ويترك معاني القرآن والسنَّة، مع أنك تدرس علوم الآلة لغرض فهم معاني القرآن والسنة، فهل تتبحر فيها تاركاً علوم معاني القرآن والسنة؟ هذا خطأ. فإذاً علوم الآلة ليست مقصودة لذاتها، وإنما تراد لغيرها، وهي مرقاة للوصول إلى فهم الكتاب والسنة، فلا يصح إفناء العمر فيها.

تقييد العلم بالكتابة

تقييد العلم بالكتابة ومن الأمور المهمة أيضاً في طريق طلب العلم: تقييد العلم وخصوصاً الفوائد، والشوارد، واستعمال هوامش الكتب، وبعض الشباب إذا اشترى كتاباً فوجد فيه صفحة بيضاء من أوله وصفحتين في آخره، قال: ما بال هؤلاء الأغبياء يضيعون الأوراق! مع أنه ما عرف أن لهذه الأوراق البيضاء فوائد كثيرة في كتابة اللطائف والشوارد والأشياء التي قد لا تكون موجودة في محل يسهل الوصول إليه، فيقيدها في أول الكتاب أو في آخره، أو كتابة بعض التحقيقات، أو الإضافات، وكذلك ترتيب الهوامش والجوانب في كل صفحة؛ لأنك إذا أردت أن تكتب شرحاً على متن مثلاً فتحتاج أن تجعل الشرح أمام العبارة؛ لأن بعضهم لا يحسن الحساب، فيبدأ يكتب بخط طويل أو بخط كبير من أوله، فلا يجد نفسه إلا وقد أتى في شرح العبارة الأولى إلى موضع العبارة الخامسة، فلم يرتب الصفحة، ولم يحسب الحساب، وهذا فن بحد ذاته، وهو قضية إعداد الهوامش وإعداد الجوانب وترقيمها، ووضع أرقام في كلا الجانبين في الأصل وفي الشرح وفي الحاشية، حتى تعرف أن هذا الشرح لهذه العبارة وهكذا، وحسن تنظيمها وترتيبها يساعدك على استذكارها واستعادتها مرة أخرى. وأما تقييد العلم فقد جاء فيه أحاديث، ومن ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: (قيدوا العلم بالكتاب). وكان لـ علي صحيفة كَتَب فيها أحاديث. ولـ عبد الله بن عمرو بن العاص صحيفة يقال لها: الصادقة. وقال الشعبي: لا تدع من العلم شيئاً إلا كتبته. وقالوا: الحِبْر عِطْر الحَبْر. مَن هو الحَبْر؟ العالِم. والِحبْر؟ حِبْر المحبرة، المداد. قالوا: الحِبْر عِطْر الحَبْر، الناس الآن يضعون (كالونيات) وأشياء وعطورات، والعالِم عِطْره حِبْر قلمه. العلم صيدٌ والكتابة قيده قيد صيودك بالحبال الموثقة فمن الحماقة أن تصيد غزالة ثم تدعها في البراري مطلقة

الانشغال بالكتابة عن الحفظ والتدبر

الانشغال بالكتابة عن الحفظ والتدبر وفي المقابل من الأشياء المهمة: الحذر أن تشغلك الكتابة عن الحفظ والتدبر، قال ابن الجوزي رحمه الله: تأملت حالة تدخل على طلاب العلم توجب الغفلة عن المقصود، وهو: حرصهم على الكتابة خصوصاً المحدِّثين، فيستغرق ذلك زمانهم عن أن يحفظوا أو يفهموا، فيذهب العمر وقد عرُوا عن العلم إلا اليسير، فمن وُفِّق جعل معظم الزمان مصروفاً في الإعادة والحفظ، وجعل وقت التعب من التكرار للنسخ فيحصل له المراد. وهذه مسألة مهمة. العلم الأساس، ما هو العلم؟ هو المحفوظ في الصدور، فإذا صرف الإنسان وقته للكتابة، هناك بعض الشباب مثلاً يجيدون كتابة الأبحاث، فيكتبون أبحاثاً وأشياء كثيرة وتحقيقات؛ لكنهم لا يصرفون وقتاً في الإعادة والتكرار والحفظ، مع أن هذا هو العلم في الأصل، أصل العلم هو: ما وقر في النفس. فهؤلاء عندهم أبحاث كثيرة جداً؛ لكنك لو جئت سألته عن مسألة؟ يقول: لحظة أبحث على أوراقي الأوراق غير موجودة أوراقي ليست مفهرسة ضاعت أوراقي، وإن سألته في الشارع أو في مكان ليس عنده أوراقه فيقف أمامك مبهوتاً مفلساً، ليس عنده شيء. ولذلك لا بد أن يكون أكثر الوقت للحفظ والتكرار، ووقت آخر لتقييد الفوائد والشوارد، وكتابة الشروح؛ لأنك إذا لم تكتبها ربما تضيع منك فما هو الحل؟ أن تكتبها، وكذلك لو قلنا لك: اكتب دائماً، اعمل بحوثاً، واكتب حواشٍ، وما قرأت هذه الحواشي، ولا قرأت المتن ولا شرحه ولا الأصل ولا التعليق عليه، فكيف يكون هذا طلب علم؟! لا يكون طلباً. وقال ابن الجوزي رحمه الله: ولما كانت القوة تَمَل فتحتاج إلى تجديد، وكان النسخ والمطالعة والتصنيف لا بد منه، مع أن المهم الحفظ، وجب تقسيم الزمان على الأمرين، فيكون الحفظ في طرفي النهار وطرفي الليل، ويوزع الباقي بين عمل النسخ والمطالعة، وبين راحة البدن وأخذ لَحْظة، ولا ينبغي أن يقع الغبن بين الشركاء. قال: والنفس تهرب إلى النسخ والمطالعة والتصنيف عن الإعادة والتكرار؛ لأن ذلك أشهى وأخفَ عليها، فلو سألتكم سؤالاً، فقلت: هل الأصعب على النفس التكرار والحفظ أو الكتابة والتدوين؟ A التكرار والحفظ؛ لأنه يحتاج إلى مجهود أكبر، ولأنه يحصل فيه ملل، أما الكتابة فأنت تنتقل من شيء إلى شيء، ومن مسألة إلى أخرى، وتدوِّن، وكذا الحفظ فأنت تحتاج أن تقرأ العبارة عشر أو عشرين مرة حتى تحفظها، وهذا يوجِد مللاًَ، ولذلك يجب على الإنسان أن يقاوم نفسه، ولا ينجرف معها فيما تتجه إليه. وقال أيضاً رحمه الله: ما رأيت أصعب على النفس من الحفظ للعلم والتكرار، وخصوصاً تكرار ما ليس له نفس في تكراره وحفظه، وكذلك حفظ مسائل الفقه بخلاف الشعر والسجع، فإن للنفس لذة في إعادته. لكن ينبغي للعاقل أن يجعل جُلَّ زمانه للإعادة، خصوصاً الصبي والشاب، فإنه يستقر المحفوظ عندهم استقراراً لا يزول، وسيندم من لم يحفظ وقت الحاجة إلى النظر والفتوى، وينبغي أن يُحْكِم الحفظ، ويكثر التكرار ليثبت قاعدة الحفظ. إذاً: صرف الوقت الأكثر للحفظ، وحفظ بعض الأشعار والأدبيات جيدة من باب الترويح على النفس؛ لكن لا تصبح هي المقصود وهي الهم الأكبر.

تأجيل علم لم يفهم في الحال

تأجيل علم لم يُفهم في الحال ومن القواعد كذلك في الطلب أنه إذا استغلق عليك فهم علم، أجِّله حتى تتهيأ لك فرصة أخرى للفهم، فبعض الشباب مثلاً يريد أن يدرس النحو، فيبدأ بكتاب ويقرأ في شرحه، فيجد أنه لا يفهم في النحو ولا يجيده، ولم يفقه فيه، ما زال عنده التباس بين الفاعل والمفعول، وبين الحال والتمييز وهكذا من أنواع الأشياء وأقسامها. فإذا ما وجد انطلاقة في البداية فإنه في هذه الحالة يؤجل دراسة هذا العلم فترة من الزمن لعله أن يلاقي أو يصادف انفراجاً في نفسه، وفرصة للإتيان عليه، كما يُحكى عن الخليل فيما ذكر الأصمعي أنه اجتمع بـ الخليل بن أحمد -رحمهما الله- وحرص على فهم علم العَروض من الخليل فأعياه ذلك، حاول وحاول، فما وجد فائدة، فقال له الخليل يوماً: قطِّع لي هذا البيت: إذا لم تستطع شيئاً فدعه وجاوزه إلى ما تستطيعُ لم يكن مقصود الخليل أن يقطِّع الطالب هذا البيت، لكن كان مقصوده هو المعنى الذي انطوى عليه البيت: وقد حصلت مثل هذه القصة مع العلامة محمد بن الأمين الشنقيطي -رحمه الله تعالى- فإنه كان يدرس عليه بعض الطلاب علم النحو، وكان أحد هؤلاء الطلاب يدرس عليه النحو، ويحاول أن يفهم مع الشيخ لكن دون فائدة، فقال له الشيخ محمد الأمين -رحمه الله- أعرب هذا البيت: إذا لم تستطع شيئاً فدعه وجاوزه إلى ما تستطيعُ والفرق أنَّ الأصمعي فهم المقصود والطالب لم يفهم المقصود، فجلس يُعرب، ويحاول أن يُعرب، لكنه لم يفهم المقصود.

استقبال العلم بالتفكير والإبداع السوي

استقبال العلم بالتفكير والإبداع السوي كذلك من الأمور المهمة في طلب العلم: الإقبال على العلم بالتفكير الطبيعي والعقل السوي، فالفهم العادي السوي مهم جداً، والتفكير الفطري الخالص عن التعقيدات والشذوذات والأغلوطات والشبهات اترك المداخلات جانباً، أقبل على العلم بنفسية طبيعية، وتفكير عادي، واترك قضية الشبهات، لا تثير على الشيخ وأنت في البداية الشبهات، تقول: وإن كان كذا، وإن كان كذا، حسناً يمكن المقصود كذا، دع التعقيدات، والأغلوطات جانباً، ودع الشذوذات؛ لأن بعض الناس من كثرة مقاطعاتهم عقولهم قد لا تستقيم وتفهم العلم بشكل طبيعي، وإنما يحاولون الإتيان بالغرائب والعجائب، وأن يأخذ المسألة من بابٍ غير اعتيادي، والنتيجة تتعقد عليه الأمور ولا يفهم، اترك الجدال في البداية، وفرِّغ بالك للتعلم بالطريقة الطبيعية، وهذه مسألة في غاية الأهمية. أما بالنسبة لقضية المطولات، وجرد المطولات، وقراءة المطولات، مثلاً: جامع الأصول، والبداية والنهاية، ودرء تعارض العقل والنقل، وتاريخ بغداد، وما شابه ذلك من الكتب الطويلة، فهذه ليس موقعها في البداية، ولا في الوسط، وإنما تكون في مراحل متأخرة، وقد يفعل هذا من يريد جمع فوائد، أو تحضير محاضرة أو درس، لكن ليس لمن يريد أن يؤصل نفسه تأصيلاً علمياً قوياً، وهذا يشغل عن التأسيس أن تقول: يكفي أن أقرأ البداية والنهاية، وأقرأ جامع الأصول وأقرأ وأنت لم تبدأ بعد بـ الأربعين النووية في شيء مبسَّط، ولا في كتاب في الفقه مبسّط، أو في كتاب في السيرة مبسّط، تريد أن تقرأ هذه المطولات من البداية؟! كلا! هذه ليس محلها البداية. وهناك نظرية بدأت تنتشر عند بعضهم وهي مُوْضَة هذه الأيام، بعض الذين يريدون طلب العلم اعتقاداً أنهم إذا قرءوا المطولات على بعض المشايخ فإنهم يكونون قد حصلوا العلم، فيقولون: يا شيخ، نريد أن نقرأ عليك زاد المعاد من أوله إلى آخره، نتفرغ أسبوعين ثلاثة شهر، ننهي عليك زاد المعاد والبداية والنهاية، وجامع الأصول وننهي عليك، هذه العملية بهذه الطريقة ليست طلب علم بطريقة منهجية صحيحة، لا يتسنى للشيخ أن يعلِّق، ولا ليشرح، وقُصارى ما يحدث أن يقول هذا الطالب: ختمت الكتاب على الشيخ الفلاني، ليس المقصود أن تختم خمسة مجلدات أو عشرة، المقصود أن تدخل من باب التأسيس، ولذلك كان العلماء يجعلون لهم كتباً مثل: درء تعارض العقل والنقل واقتضاء الصراط المستقيم، وزاد المعاد ونحو ذلك في أوقات ليست أوقات طلب أساسية، مثلاً: بعد الظهر أحياناً، وكذلك كثير من الكتب لم تكن توضع في الفترات الأساسية للطلبة، إذا كانت عندك الأشياء الأساسية في الأوقات المحددة فلا مانع أن تأخذ مثل كتاب غذاء الألباب أو الآداب الشرعية، أو إغاثة اللهفان، في غير أوقات الطلب الأساسية. وكذلك بعضهم يفكر في قراءة كتب السنن، من أول ما يطلب يقول: نريد أن نقرأها ونأتي عليها وعلى مجملها، فنقول: تمهل رويدك، فليست القضية الآن جرد السنن والنصوص، وإنما المسالة مسألة تجرد.

عقد قران بين الأثر والنظر

عقد قران بين الأثر والنظر ومن أساسيات المنهج في الطلب وخصوصاً التفقه في الدين: الجمع بين الأثر والنظر، وقد قامت عداوة مفتعلة بين أهل الفقه وأهل الحديث، وطار بعض شررها، وتأثر منه كثير من الناس، ولكن العاقل الذي ينظر إلى العلماء المحققين ماذا قالوا في المسألة في قضية أهل الحديث وأهل الفقه، أو أهل النظر وأهل الأثر أو أهل الرأي وأهل الحديث؟ قيل: إن في الحجاز اشتهر مذهب أهل الحديث، لكثرة مذهب أهل الحديث؛ لأن الأحاديث كثيرة، والنصوص متوافرة، والعلماء موجودون، الذين سمعوا هذه النصوص ودرَّسوها، بينما كانت في العراق مثلاً: تشتهر مدرسة أهل الرأي؛ لأن الحديث فيها قليل، وطلاب الحديث فيها قليل، هذا مر في فترة من الفترات، كان هكذا. فالآن بالنسبة للاتجاه في الحديث والفقه، أو قضية التفقه كيف تكون؟! الصواب: أن تكون جمعاً بين الأثر والنظر، قال الخطابي -رحمه الله- في كلام عظيم متين في مقدمة كتابه معالم السنن شرح سنن أبي داود، قال: رأيت أهل العلم في زماننا قد صاروا حزبين وانقسموا إلى فرقتين: أصحاب حديث وأثر. وأصحاب فقه ونظر. وكل واحدة منهما لا تتميز عن أختها في الحاجة، ولا تستغني عنها في درك ما تنحوه من البنية والإرادة، لأن الحديث بمنزلة الأساس الذي هو الأصل، والفقه بمنزلة البناء الذي هو له كالفرع، وكل بناء لم يوضع على قاعدة وأساس فهو منهار، وكل أساس خلا عن بناء وعمارة فهو قفر وخَرَاب. ووجدنا هذين الفريقين -على ما بينهما من التداني في المحلين، والتقارب في المنزلتين، وعموم الحاجة من بعضهما إلى بعض، وشمول الفاقة اللازمة لكل منهما إلى صاحبة- إخواناً متهاجرين، وعلى سبيل الحق في لزوم التناصر والتعاون غير متظاهرين. فأما هذه الطبقة الذين هم أهل الأثر والحديث: فإن الأكثرين منهم إنما وَكْدُهم الروايات وجمع الطرق، وطلب الغريب والشاذ من الحديث الذي أكثره موضوع أو مكذوب، لا يراعون المتون ولا يفهمون المعاني. وربما عابوا الفقهاء، وتناولوهم بالطعن، وادعوا عليهم مخالفة السنن، ولا يعلمون أنهم عن مبلغ ما أتوه من العلم قاصرون، وبسوء القول فيهم آثمون. -وفي الجانب المقابل، الذين يقولون: يزيد فقهاً فقط ولا يزيد نصوصاً وأدلة، وإنما ننظر ونرى في الأمر، قال: وأما أهل الطبقة الأخرى وهم أهل الفقه والنظر: فإن أكثرهم لا يعرجون من الحديث إلا على أقله، ولا يكادون يميزون صحيحه من سقيمه، ولا يعرفون جيده من رديئة، ولا يعبئون بما بلغهم منه أن يحتجوا به على خصومهم إذا وافق مذاهبهم التي ينتحلونها، ووافق آراءهم التي يعتقدونها، وقد اصطلحوا على مواضعة بينهم في قبول الخبر الضعيف، والحديث المنقطع إذا كان ذلك قد اشتُهر عندهم وتعاورته الألسن فيما بينهم -يقولون: هذا حديث مشهور في كتبنا، في كتب الفقهاء، حسناً: انظر، قد يكون ضعيفاً لا يصح الاحتجاج به- من غير ثبت فيه، أو يقين علم به، فكان ذلك ضِلَّة من الرأي، وغبناً فيه. ثم قال: وهؤلاء لا يقبلون من أقوال الأئمة أبي حنيفة إلا من طريق أبي يوسف ومحمد بن الحسن، ولا يقبلون قول مالك إلا من طريق ابن القاسم والأشهل، ولا يقبلون قول الشافعي إلا من طريق المزني والربيع. حسناً: إذا كنتم لا تقبلون كلام أئمتكم إلا من خلال التلاميذ الموثوقين، فالأحرى ألا تقبلوا الكلام الذي ينسب إلى النبي عليه الصلاة والسلام إلا من طريق الثقات المعروفين. فهذا خلاصة الجمع بين الأثر والنظر بين الفقه والحديث، الفقه يجب أن يكون مختلطاً بالحديث. قال الترمذي: سمعت أبا عبد الله يقول: إذا كان يعرف الحديث ويكون معه فقه أحب إلي من حفظ الحديث لا يكون معه فقه. وقال سفيان بن عيينة: "يا أصحاب الحديث! تعلموا معاني الحديث، فإني تعلمت معاني الحديث ثلاثين سنة. وهؤلاء الذين يعتمدون على الأحاديث دون الفقه، ويجمعون الطرق ويُضرِبُون عن معرفة الواجبات، حتى أن أحدهم يشتغل عن أركان الصلاة، فلا يدري ما هي؟ وقد يستحيي من رد الفتوى، يجمِّع أحاديث ويحفظ دون فقه، فيفتي بما لا يحسن ذكره. حتى أن امرأة سألت أحد هؤلاء الذين يجمعون الحديث فقط دون الفقه وهو في مجلس مع أناس كثيرين، قالت: إني حلفتُ بصدقة إزاري فماذا أفعل؟ فقال: بكم اشتريتيه؟ قالت: باثنين وعشرين درهماً، فقال: صومي اثنين وعشرين يوماً، فلما ذهبت جعل يقول: آه! غلطنا والله، أمرناها بكفارة الظهار، وكفارة الظهار صيام كم يوم؟ ستين يوماً وهذا أول ما قال: بكم اشتريتيه؟ قالت: باثنين وعشرين درهماً، قال: الحل بدل كفارة الحلف هذا: صومي اثنين وعشرين يوماً، ثم قال: آه! غلطنا، أعطيناها كفارة الظهار. إذاً: مثل هذا كيف يصلح أن يعلِّم الناس؟! الاشتغال بالنصوص فقط من غير معرفة المعاني خطأ، ولذلك قلنا: إن بعض الشباب يخطئون عندما يتفقهون بـ صحيح الجامع، ويكون علمهم من كتاب، مثل صحيح الجامع كتاب أحاديث، صحيح أنها أحاديث مخدومة ومخرجة، لكن هل موجود فيها الشروح، قد يكون الحديث منسوخاً، قد يكون مخصوصاً، فإذاً هذه الطريقة لا تصلح، والانشغال فقط بالنسخ ومعرفة الصحيح من الضعيف، والجرح والتعديل، واتصال السند، وجمع الطرق، ثم لا تعرف معنى الحديث، هذا عيب كبير. زوامل الأخبار لا علم عندهم بمُثقلها إلا كعلم الأباعدِ لعَمْرُك ما يدري البعير إذا غدا بأوساقه أو راح في الغرائر

الفقه عمدة العلوم

الفقه عمدة العلوم ثم ننتقل إلى قضية تعلم الفقه وأهمية القفه: قال ابن الجوزي رحمه الله: إن الفقه عليه مدار العلوم، فإن اتسع الزمان للتزود من العلم فليكن من الفقه فإنه الأنفع. وقال الشافعي لـ يونس بن عبد الأعلى: عليك بالفقه، فإنه كالتفاح الشامي، يحمل من عامه. وقال ابن الجوزي: الفقه عمدة العلوم. وقال محمد بن الحسن: كان أبو حنيفة يحثنا على الفقه وينهانا عن الكلام، وكان يقول: لعن الله عمرو بن عبيد، لقد فتح للناس الطريق إلى الكلام فيما لا يعنيهم. وقال بعض العلماء: أفضل العلوم بعد علم التوحيد معرفة الفقه والأحكام الفاصلة بين الحلال والحرام. فلا شك أن علم التوحيد أشرف العلوم العلم بالله، وأسمائه، وصفاته، وربوبيته، وألوهيته، هذا أشرف العلوم ليس هناك شك، وبعده يكون الفقه، وكل ذلك خاضع الكتاب والسنة، ليس هناك شك، والاعتناء بالدليل، وصحة الدليل كيف تعتقد شيئاً لم يصح؟! وكيف تعمل بشيء في الحلال والحرام لم يصح؟! وقال كذلك: أعظم دليل على فضيلة الشيء النظر إلى ثمرته، ومن تأمل ثمرة الفقه عرف أنه أفضل العلوم، واعتبر هذا بأهل زماننا، فإنك ترى الشاب يعرف مسائل الخلاف الظاهرة فيستغني، وكم رأينا مبرزاً في علم القرآن، أو في الحديث، أو في التفسير، أو في اللغة، لا يعرف مع الشيخوخة معظم أحكام الشرع، وربما جهل علم ما ينويه في صلاته. على أنه ينبغي للفقيه ألا يكون أجنبياً عن باقي العلوم، فإنه لا يكون فقيهاً، بل يأخذ من كل علم بحظ، ثم يتوفر على الفقه، فإنه عِزٌّ الدنيا والآخرة. فإن سألت عن منهج دراسة الفقه وكيف ندرس الفقه؟ فالجواب باختصار في ابتداء دراسة الفقه: أن تجمع بين متن فقهي ميسر يُشرح على شيخ ثقة، ومتن حديثي يُطعِّم الفقه بأحاديث الأحكام. وإذا أردت أن تدرس متناً خالياً من الأدلة فلتدرسه على شيخ يبين لك الراجح بالأدلة. وإذا وجدت الشيخ لا يهتم كثيراً بالأدلة، فاختر كتاباً فيه أدلة، فمثلاً: تُقدّم منار السبيل على زاد المستقنع؛ لأن منار السبيل أكثر أدلة، أما إذا وجدت الشيخ مبيناً الأدلة فلا بأس أن تدرس عليه متناً في الفقه، لا تكثر فيه أو تندر فيه الأدلة؛ لأنه سيبين الأدلة من خلال الشرح. إذاً: لا بأس بقراءة كتاب من كتب المذهب -مثلاً- على شيخ أو طالب علم يذكر فيه الراجح بالدليل، فيؤصِّل للمسائل من خلال الشرح. أما الكتاب بمجرده فقد لا يعطي لك شيئاً كثيراً في الغالب، ودراسة الفقه من غير نصوص تورث أخذ الأقوال بلا أدلة، والتقليد مذموم، والمُتَعَصِّبَة يدرسون الفقه دون حديث، وبعض السطحيين في المقابل يدرسون الحديث دون فقه، فلو جمعتَ بين كتاب في كل جهة منهما لكن ذلك جيداً، فلو درستَ العمدتين، عمدة الفقه لـ ابن قدامة، وعمدة الأحكام لـ عبد الغني -رحمهما الله- لكان هذا الجمع جيداً جداً، أو أخذتَ مثلاً زاد المستقنع مثلاً مع كتاب بلوغ المرام تجمع بين المتن الفقهي وبين المتن الحديثي فإن ذلك خير عظيم. ثم بعد ذلك تتدرج في الفقه، تأخذ كتاباً واحداً ليس فيه إلا قول واحد حتى لا تتشتت، القول موجود مع الدليل، ثم بعد ذلك تنتقل إلى معرفة القولين أو الخلاف في المسألة ونحو ذلك، أو ما يوجد في المذاهب الأخرى، وتأمل ابن قدامة -رحمه الله- كيف رتب المنهج، فإنه أولاً جعل عمدة الفقه قولاً واحداً، ثم المقنع قولين، ثم الكافي فيه تفصيل أكثر، ثم المغني فيه فقه مقارن. فالذي يريد أن يدرس المسائل من المغني مباشرة من أولها، وهو لم يُجِدْ على الأقل قولاً في المسالة بدليلٍ يعرفه، فهذا يُضيّع كثيراً، ولو ذهبت إلى بلد في المغرب لوجدت أنهم يدرسون متناً في الفقه المالكي أو في بلد آخر يدرسون متناً في الفقه الشافعي أو الحنفي ونحو ذلك، أو قد يدرس متناً ليس على مذهب معين، كـ الدرر البهية للشوكاني مثلاً. فالشاهد: أن تجمع بين متن فقهي مع متن آخر فيه أدلة. وحتى متون الأحاديث أحاديث الأحكام فيها تدرج، فمثلاً: إذا بدأت بـ عمدة الأحكام، ثم بلوغ المرام، ثم منتقى الأخبار، هذه متون فيها ابتداء وتوسط وتوسع.

أمور يجب على دارس الفقه مراعاتها

أمور يجب على دارس الفقه مراعاتها لا بد للقارئ في كتب الفقه أن ينتبه إلى أمورٍ، منها: أولاً: ما يكون في بعضها من المخالفة للنصوص الثابتة في الكتاب والسنة ومتابعة للمذهب فقط، وتأييد للرأي المَحض على النص. كما يذكر مثلاً في بعض كتب المذاهب: أن الإمام يقوم في صلاة الجنازة عند صدر الرجل والمرأة. لماذا؟ قال: لأن الصدر فيه القلب، والقلب هو مستقر الإيمان، فإذاً نقوم عند الرجل والمرأة في صلاة الجنازة عند الصدر في كليهما، مع أن السنة قد جاءت بأن يقف الإمام عند رأس الرجل ووسط المرأة. أو مثلاً ما يوجد في بعض الكتب من أن حضور النساء للجماعات متروك بإجماع المتأخرين حسناً: هذا تحكيمٌ للعقل تحكيمٌ للرأي في النص، وماذا أفادنا إجماع المتأخرين إذا كان خالف الكتاب والسنة؟! ثانياً: الحذر من الأحاديث الضعيفة والموضوعة أو الاحتجاج بها واستنباط الأحكام منها، فتجد مثلاً في بعض كتب الفقه: وضع اليدين تحت السرة، مع أن أحاديث وضع اليدين حتى السرة في الصلاة، أو مثلاً دفن الشعر والأظفار، أو عدم استقبال الشمس والقمر أثناء قضاء الحاجة، أو إعادة الوضوء من القهقهة، هذه الأحاديث كلها ضعيفة، لا يصح الاحتجاج بها، ولا الاعتماد عليها، فلا بد من الحذر أثناء القراءة في كتب الفقه من هذا الأمر. ثالثاً: الحذر من تقديم أقوال العلماء المتأخرين على أقوال الأئمة المتقدمين. رابعاً: عدم انحباس طالب العلم المتقدم في مذهب واحد ويترك الاستفادة من علوم المذاهب الأخرى. ومن أمثلة ما تقدم في اعتماد أقوال العلماء المتأخرين وترك أقوال المتقدمين، أن بعضهم قال مثلاً: لا يجوز للشافعي أن يقتدي بإمامٍ حنفي، وبعضهم قال: لا يجوز للحنفي أن يقتدي بإمامٍ شافعي، مع أن الأئمة كانوا يصلون وراء بعضهم البعض، والاختلافات التي بينهم لا تمنع اقتداء بعضهم ببعض في الصلاة، فيقولون قول المتأخرين: لا يقتدي الشافعي بالحنفي، أو الحنفي بالشافعي، ولذلك وُجِدَت أربعة محاريب في المساجد، كل جماعة تصلي لوحدها الأحناف لوحدهم، والمالكية لوحدهم، والشافعية لوحدهم، والحنابلة لوحدهم؛ لأن المتأخرين عندهم أن الشافعي لا يقتدي بالحنفي وهكذا، مع أنه في عصر أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد كان يصلي بعضهم وراء بعض، أحمد يصلي وراء الشافعي، ولا يقول: هذا يُخالفني في فروع، فأنا لا أصلي وراءه، فترك أخذ كلام بعض المتأخرين الْمُخالف للمتقدمين مشكلة! خامساً: الانحباس على أقوال مذهب معين، وعدم أخذ الاستفادة من أقوال المذاهب الأخرى، هذا أيضاً فيه تضييق وفيه فوات فوائد كثيرة، بل إن التعصب وصل عند بعضهم أنه قال: كتب المذهب الفلاني مثل أحاديث أهل الكتاب لا تصدق ولا تكذب، بل نتوقف فيها. سادساً: الحذر من خلو كثير من الكتب المذهبية من الأدلة الشرعية، بحيث صارت المتون الفقهية هي المرجع الأول والأخير، وهذا خطأ. سابعاً: في بعض الكتب الفقهية تجد الخوض في مسائل خيالية، وافتراضات سخيفة، وأحياناً تكون المسائل الخلافية هي هذه، والمسائل الخيالية هذه تكون نتيجة اعتقادات صوفية باطلة، لأن بعض الاعتقادات الصوفية الباطلة تسربت إلى بعض كتب الفقه. فمثلاً: تجد في بعض هذه الكتب بحثاً في (الصلاة إلى أرض الكعبة)، إذا خرجت الكعبة)، وأين خرجت الكعبة؟ قالوا: لزيارة الأولياء، إذا ذهبت الكعبة لزيارة الأولياء وبقيت أرضها فارغة ماذا نفعل؟ كيف نصلي في الحرم؟ A اتفقوا على أنه يصلي إلى الأرض الفراغ إلى فراغ أرض الكعبة. كما قالوا: لو دخل رجل في فرج امرأة لوجب عليه الغسل؛ لأنه بطبيعة الحال قد غيب الحشفة، هل هذا كلام يعقل؟! وهناك أمثلة أخرى كثيرة في هذا؛ لكن يعف اللسان عن ذكرها. ثامناً: فتح باب الحيل المحرمة، فهذا يُنْتَبَه منه. تاسعاً: مخالفة الفروع للأصول. عاشراً: التعقيد في أسلوب بعض المتون، وسبق أن ذكر بعض العلماء، قالوا: ليس العالم الذي يحفظ متناً من المتون فيصبح عالماً، ليس العالم الذي يحفظ مختصر خليل في فقه المالكية، أو مراقي الفلاح والكنز في فقه الحنفية، أو الغاية والتقريب في فقه الشافعية أو زاد المستقنع عند الحنابلة، إذا حفظ متن كفى! من حفظ الزاد حكم بين العباد! لا، المسألة تحتاج إلى فهم في المتن وأدلة، ولا يصح قطع الطالب عن الكتاب والسنة.

أمور لابد أن تراعى لطالب الحديث

أمور لابد أن تراعى لطالب الحديث في طلب الحديث هناك تدرج، وكيف يبدأ الإنسان؟ مثلاً: إذا بدأ يبدأ بـ الأربعين النووية، ثم ينتقل إلى كتاب أوسع مثل عمدة الأحكام وهكذا، ويجعل العلل آخر ما يدرس في الحديث؛ لأن أصعب شيء في علم الحديث هو علم العلل. وكذلك ينتبه دارس الحديث إلى جمع الطرق، لأن جمع الطرق تتبين فيه أشياء كثيرة، كما قال الإمام أحمد -رحمه الله-: إذا لم يجمع طرق الحديث لم يفهم، والحديث يفسر بعضُه بعضاً، أي: الطرق تجد زيادة في الحديث تفسر لك الحديث الآخر، وهكذا. وكذلك أن يعلم صحيحه من سقيمه، هذا من الأشياء المهمة جداً في علم الحديث. ومن هنا نعلم أن الذين يدرسون المصطلح ثم يغوصون في الأسانيد والرجال، وهذه قضية لها لذة، لا شك أن دراسة المصطلح والأسانيد والرجال لها لذة، وتعلمها سهل، والنتائج سريعة، وكثير من هؤلاء يصدرون المؤلفات، حققه فلان وخرجه فلان، وعلق عليه فلان، يجب أن نعلم أن هؤلاء القاصرين المقتصرين على المصطلح والجرح والتعديل، ليسوا طلبة علم حقيقيين، نعم قد تفيد مجهوداتهم في أشياء، قد يسهِّلِون لطالب العلم المبتدئ الذي يريد أن يؤصل نفسه إذا قرأ في كتب العلم أن يعرف الصحيح من الضعيف، لكنَّ هؤلاء المخرجين والمحققين كثير منهم ليسوا بأهل علم، لكن الآن أصحاب دور النشر الكتب الرائجة في السوق الكتب المخرجة والمحققة، تريد أن تشتغل، تريد أن تؤلف؟ ألِّف في التخريج والتحقيق، فهم إذاًَ يتجهون لهذا من باب التكسب والمتاجرة لا لطلب العلم، وقد لا يبتغون فيها وجه الله، وتجد الواحد منهم يعارض أقوال فحول العلماء لمجرد أنه عرف كيف يخرج رجالاً من كتب، ويتكلم في إسناد، فهؤلاء ليس لهم في طلب العلم المؤسَّس نصيب وافر ولا طريقة صحيحة. وينبغي على من يشتغل في التخريج أن ينقل كلام العلماء المتقدمين في التصحيح والتضعيف، وألا يحكم هو بنفسه في البداية، لأن الحكم يحتاج إلى تعمق وخبرة، وهذا له سنوات معدودة يشتغل في هذا، ثم يخالف كلام العلماء الكبار، فينبغي على طالب العلم ألا يأبه بقول هؤلاء إذا خالفوا الراسخين.

الحذر من إهمال التفسير والقرآن

الحذر من إهمال التفسير والقرآن ننتقل إلى مسألة مهمة جداً وهي: الحذر من إهمال التفسير، وإهمال كتاب الله سبحانه وتعالى، ومع الأسف فإنه في هذا الزمان التفسير لا يكاد يوجد له طالب، وهذا من كيد الشيطان، فتجد الطلاب يتجهون إلى الأصول والمصطلح والنحو ويتركون أصل الأصول وهو تفسير القرآن، لا يعرفون حتى تفسيراً مبسطاً للقرآن أو متوسطاً، مع أن التفسير المسند بالآثار المنقولة عن السلف ومعرفة الناسخ والمنسوخ، وأسباب النزول، ومقاصد الآيات لا يعرف إلا بالنقل عن الصحابة والتابعين. ولذلك ينبغي الاهتمام بتفاسير القرآن التي تبنى على الأثر كتفسير القرآن بالقرآن، وتفسير القرآن بالسنة، وتفسير القرآن بأقوال الصحابة والتابعين، وكلام أهل العلم. وينبغي على الإنسان أن يدرس في التفسير تفسيراً مبسطاً، مثل: تفسير العلامة الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله، فإذا انتقل بعد ذلك إلى تفسير ابن كثير يكون عنده فكرة مجملة عن تفسير القرآن، فإذا أراد أن يدرس التفسير المفصل ويبتدئ بالمفصل يحفظه ويدرس تفسيره. فيبدأ بالتفسير المبسط حتى يتعود على الأسلوب وعلى المنهج، ثم بعد ذلك يأخذ ما بعده، أما أنه يبدأ من البداية فيحضر السورة من تفاسير كثيرة، فهذا لم يسلك السبيل الطبيعي الذي فيه التدرج.

أهمية دراسة علم النحو

أهمية دراسة علم النحو ومن العلوم المهمة التي ينبغي تحصيلها لارتباطها بفهم الكتاب والسنة: دراسة علم النحو، قال أهل العلم: من العلوم التي تلزم صاحب الحديث معرفتها: معرفة النحو، لئلا يلحن، ولكي يورد الحديث على الوجه الصحيح، ويعرف أصل الكلمة واشتقاقها ومعناها، وهل هي مصدر أو فعل. وكان ابن عمر يضرب ولده على اللحن، رواه ابن أبي شيبة بإسنادٍ جيد، أي: من الصغر يربون أولادهم على اللسان الفصيح. وقال شعبة: مثل الذي يتعلم الحديث ولا يتعلم النحو مثل البرُنس لا رأس له. وقال بعض العلماء: اللحن في الكلام أقبح من آثار الجدري في الوجه. وينبغي أن يصحح النطق، ويعرف الإنسان اللغة لكي يفهم الكتاب والسنة كما كان يفهمها العرب الأُوّل، كانوا لا يحتاجون إلى تفاسير لأن لغتهم صحيحة، فلما خاطبهم القرآن والسنة وقعا في قلوبهم موقعاً. وكذلك مما ينبغي أن ينتبه إليه عدم خلط كلام العلماء المتقدم أو الألفاظ الشرعية بالمصطلحات المستحدَثة الجديدة التي حدثت بعد ذلك، افترض أن إنساناً مثلاً قال: الواجب: ما يثاب فاعله ويعاقب تاركه، والمكروه مثلاً: ما يثاب تاركه ولا يعاقب فاعله، ثم قرأ قول الله عز وجل في الزنا والقتل وأكل مال اليتيم وفي آخر الآية: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} [الإسراء:38] فماذا يقول؟ هذا مكروه، هذا يعني: لا يعاقَب فاعله، قال: مادام أنه مكروه. إذاً: معرفة التفاصيل مهمة، وفهم القرآن والسنة ينبغي أن يُفهم مع الأخذ بعين الاعتبار إلى المصطلحات المتأخرة، وأنها قد لا تدخل في هذا الفهم فيخطئ الإنسان. وكذلك فإن تعلم اللغة مهم، كما قال الحسن رحمه الله لما سئل: أرأيت الرجل يتعلم العربية ليقيم بها لسانه ويقيم بها منطقه؟ قال: نعم فليتعلمها، فإن الرجل يقرأ بالآية فيعياه توجيهها فيَهلِك، وقال الشاعر: اللحن يُصلح مِن لسان الألكن والمرء تُعْظِمُه إذا لم يلحنِ لحن الشريف محطة من قدره فتراه يسقط من لحان الأعينِ وترى الدنِيَّ إذا تكلم معرباً حاز النهاية باللسان المعلِنِ وإذا طلبتَ من العلوم أجلَّها فأجلُّها منها مقيمُ الألسُنِ قال ابن عبد البر -رحمه الله- معقباً: لو كان مهتدياً هذا الشاعر لقال: وإذا طلبتَ من العلوم أجلَّها فأجلُّها منها مقيمُ الأدين والعلم بالنحو يسدد الفهم، فيعلم الضميرَ على أي شيء يعود؟ وأنه قد لا يُشترط أن يعود على أقرب مذكور مثلاً. وكذلك يعلم اشتقاق الكلمة فإنه مهم، ألم يأتِك خبر الذي لَمَّا جاء على تفسير قول الله عز وجل: {رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ} [آل عمران:117] قال: الصِرُّ: الصراصير، ريحٌ فيها صراصير الليل. ومن العجائب كذلك: أن بعض هؤلاء إذا قرأ نصاً يستغرب، مع أنه لو عنده شيء من الفهم الصحيح لما استغرب. وإذا تعلَّم الضمائر علم أن المسألة ليست هكذا، كما حدث لبعض الشباب قرأ: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتِي بصبي، فوضعه في حجره، فبال عليه) انظر إلى فهم هذا الشاب، يقول: كيف النبي صلى الله عليه وسلم يبول على الصبي؟! فهمني هذه! فهذا عليه أن يتقي الله، ويستغفر الله، هل النبي عليه الصلاة والسلام يفعل هذا؟! كيف يتبادر هذا الفهم إلى الذهن؟! وقد حصل مثل ذلك أيضاً، أن أحدهم جزم أن حديث أبي هريرة في النزول على اليدين قبل الركبتين مقلوب، قال: قال الحاكم: إنه مقلوب، فقال له شخص: كيف تقول: إنه قال: مقلوباً، قال: أنا آتي لك بكلام الحاكم، ففتح المستدرك وأتى على كلام الحاكم بعد هذا الحديث، ولمّا أورد الحاكم هذا قال: والقلب إلى هذا أمْيَل، يقصد بالقلب، فهمه أو فقهه في قلبه، أنه إلى حديث أبي هريرة أمْيَل، قال: لا، القلب أي: أنه مقلوب. وكما ظن بعضهم أن الحَلْق لا يجوز قبل صلاة الجمعة، لحديث: (نهى عن الحِلَق قبل الجمعة) مع أن الحديث نهى عن الحِلَق قبل الجمعة، أي: عن التَّحَلُّق. وهكذا الأخطاء الكثيرة التي تقع في الفهم نتيجة عدم معرفة النحو واشتقاق الكلمات ومن أين جاءت وهكذا، ولا بد للإنسان أن يضبط، والكتاب لا يضيء إلا إذا أظلم، أي: بالتعليقات والضبط والحواشي.

أمور يجب الانتباه إليها عند القراءة

أمور يجب الانتباه إليها عند القراءة ومما ينبغي أيضاً أن يُنْتَبَه إليه في القراءة عدم الجمود الشديد بدون ضابط، وهذه حادثة حصلت: أن بعض الشباب عندما اتجه إلى القراءة في كتاب المحلى لـ ابن حزم من وقت مبكر، أول ما ابتدأ يقرأ، حصلت عنده ظاهرية مفْرِطة، وابن حزم نفسه لما ألف الكتاب ألفه بعد أن قطع مشواراً في الطلب، ثم هذا يريد أن يقرأ، يقول: أسلوب ابن حزم أسلوب ممتاز، فأورثه ذلك جمود ابن حزم ليس عنده قواعد ابن حزم، فكيف تتوقع أن تكون النتيجة في النهاية؟ ومن الأمور المهمة كذلك في طلب العلم ترقيق القلوب، وليس فقط الجمع؛ لأن كثرة الحفظ والجمع قد تقسِّي القلب، فلا بد من التطعيم بالمرققات، وتلذيع النفس بأسباب المرققات تلذيعاً لا يقدح في كمال التشاغل بالعلم، وإلا فإن الانشغال فقط بالتحصيل والحفظ وعلوم الآلات ونحوها قد يقسِّي القلب، فإذا لم تجعل لك نصيباً من العبادة والقراءة في كتب الوعظ والزهديات والرقائق تأسن النفس، ولذلك فإن القراءة مثلاً في ذكر الموت، وزيارة المقابر، وأخبار المحتضرين، وحسن الخاتمة، وسوء الخاتمة، هذا أمر لا بد منه، وإلا فقد يقسو قلب طالب العلم من حيث لا يشعر.

منهج مختصر لطالب العلم

منهج مختصر لطالب العلم إن معرفة منهج يسير عليه الإنسان في طلب العلم لابد منه في البداية، سواءً الذي عنده استعدادات أو الذي ليس عنده استعدادات، لا بد أن يكون للجميع برنامج؛ لكن في المرحلة الأولى منه يشتركون فيها، ولا يشترط أن يتنقل الجميع للمرحلة الثانية أوالثالثة وهكذا. فإذا أخذت مثلاً في التفسير: الحفظ المفصل مع معرفة معانيه، من تفسير ابن كثير مثلاً، فهذا شيء جيد. وفي الحديث: الأربعين النووية، ثم رياض الصالحين، أو أبواب منتقاة من صحيح البخاري مع شرح كل ذلك فهذا أمر مهم. في العقيدة مثلاً: لو أخذت مثلاً أعلام السنة المنشورة، والعقيدة الواسطية وفتح المجيد، فهذا خير كبير. وفي الفقه: تأخذ مثلاً كتاباً في العبادات على أحد الكتب الفقهية المعتمدة، وتجمع بينه وبين معرفة الأدلة، مع قراءة فتاوى العلماء المعاصرين فيكون هذا برنامجاً جيداً في طلب الفقه. وبعد ذلك تأتي أشياء أخرى، مثل: السيرة، والفكر الإسلامي، والأخلاق، والسلوك، والآداب، والرقائق، والدعوة ونحو ذلك، فهذه أشياء أيضاً ينبغي أن يكون لك فيها سهم. فالمقصود أن هذا برنامج مبسط يشير إلى بعض الأشياء التي لا بد أن يكون الطلب فيها. ونعود ونقول فيما بدأنا في البداية: إن الإنسان لا بد أن يطلب العلم، ولا يقول: أنا تخصصي غير شرعي، وأنا موظف، وأنا إنسان مشغول، وعندي مناوبات، لست معذوراً في ترك تعلم دين الله، ولا يصلح أن يبقى الإنسان جاهلاً، ينبغي أن يحرص على كل فرصة تسمح له بالتعلُّم، لا بد أن نحسِّن أوضاعنا، أما أن نبقى على هذا الجهل فهذا غير صحيح، وهذا خطأ كبير جداً أن نستمر على جهلنا، وقد تواجهك أشياء في ظروف لا تجد فيها عالماً تسأله، فماذا تفعل وليس عندك علم عن المسألة؟! على الأقل تحفظ فتاوى العلماء، لأن حفظ فتاوى العلماء فيها خير عظيم، إذا لم تستطع أن تسلك سبيل التفقه على أصوله، على الأقل احفظ فتاوى العلماء فلستَ معذوراً في ترك الطلب، ولا بد أن تستمر في الطلب. ومن أساسيات المنهج الصحيح: طلب العلم: من الأشياء التي تميزنا عن الصوفية وسائر المبتدعة هو طلب العلم. أما ترك الطلب، ويقال: للعلم أهله، ونحن ما لنا؟ فهذا انحراف لا شك في ذلك. هذا ما تيسر جمعه وذكره من بعض الأشياء التي تتعلق بالمنهج في طلب العلم.

الأسئلة

الأسئلة

أخذ العلم عن الثقات

أخذ العلم عن الثقات Q هل من مانع أن أدرس العلم عن شيخ عنده أخطاء في المنهج بحيث آخذ منه العلم وأترك الأخطاء؟ A لا يصلح للمبتدئ في طلب العلم أن يأخذ العلم عن شيخ عنده أخطاء وانحرافات، والسبب أنه إذا كان مبتدعاً فقد يدس لك البدعة في أمثلة النحو والأصول، وإذا كان الشيخ قاصراً وقد ذَكَرْنا لهذا مثالاً، قلنا: بعض العلماء عندما كانوا يجمعون الحديث من أين كانوا يجمعونه: من أهل السنة أم من أهل البدعة؟ من أهل السنة أولاً، ثم إذا تقدموا وعرفوا وجمعوا أشياءً وكانوا متمكنين ربما يذهب إلى إنسان ليختبره، ليرى ماذا يحدِّث؟ ماذا عنده من الأشياء؟ لكن هذا لا يفعله الشخص المبتدئ، كما وقع لأهل العلم لما زار أحد المُغالين في التشيُّع ليأخذ عنه، فكان هذا المتشيِّع يختبر الطلاب الذين يأتون عنده، فلما جاءه الرجل وجد عنده سيفاً معلقاً، قال: ما هذا وأنت ضرير، قال: أقاتل به مع المهدي إذا ظهر، فقال هذا الشيخ المبتدع للطالب: من الذي حفر البحر؟ قال: الله عز وجل، قال: أدري، ولكن من حفره؟ قال: الله الذي خلق البحر، قال: أدري ولكن من حفره؟ قال: يخبرني الشيخ، قال: حفره علي بن أبي طالب، ثم قال له: من أجرى البحر؟ قلت: الله أجرى البحر، قال أدري، لكن من الذي أجراه؟ قلت: يقول الشيخ، قال: أجراه الحسن بن علي، قال: فلما سمعتُ ما أريد سماعه منه من الأشياء التي عنده جئته في النهاية في آخر يوم مودعاً، فقال: من الذي حفر البحر؟ من الذي أجرى البحر؟ قلت: الذي حفره معاوية، والذي أجراه عمرو بن العاص، فقال: خذوا الكافر، خذوا الكافر. فالطالب المبتدئ لا يأتي إلى مبتدع يأخذ عنه؛ لأنه قد تختلط عليه الأشياء فيضله، إما إذا كان الشيخ مجيداً في فن وليس عنده جودة في غيره، قد يكون مجيداً في الفقه مثلاً، واستنباط الأصول، لكن ليس عنده إتقان في الحديث ومعرفة الصحيح من الضعيف، فيأخذ عنه ما هو مجيد فيه. نعيد ونقول وننبه ونؤكد: أنه ربما يكون طالب علم قريب منك، متفرغ لك، أفضل في جانب معين من عالم قد لا يكون عنده اشتغال هذا الطالب بفن من الفنون، فقد يوجد طالب مثلاً مشتغلاً بفن الحديث، وعالم مشتغلاً بالفقه، وهذا الطالب قد يعطيك في هذا أكثر مما يعطيك ذلك العالم، فلا بد أن ينتبه إلى هذا.

الجمع بين علوم الدنيا والدين

الجمع بين علوم الدنيا والدين Q ألا ترى أن بعض القواعد المذكورة لا سيما لغير المتفرغ ليست بإطلاق، بل تختلف باختلاف الأشخاص والمواهب؟ A لا شك في ذلك وقد ذكرناه هذا وقلنا: إن هذا يختلف باختلاف الطاقات والمواهب. السؤال: أرغب وأميل إلى دراسة علوم الإدارة والاقتصاد والسياسة، وأجيد في هذا الجانب، ويعتب عليّ زملائي بقولهم: اطلب العلم أفضل لك، مع أنه قد لا تتوفر لدي من القدرات والميل إلى طلب العلم، مع الحرص على معرفة ما لا بد من معرفته من أمور ديني؟ الجواب: إذا كان العلم الذي تدرسه يحتاج إليه المسلمون من العلوم الدنيوية، فإن تخصصك فيه ينفع المسلمين، وإجادتك فيه تنفع المسلمين، وبروزك فيه ينفع المسلمين، مع الحرص على أن تطلب من العلم ما لا بد لك من معرفته، ما تصحح به عباداتك مثلاً، أقول: هذا اتجاه جيد، مادام أن عندك استعداداً له، وليس عندك استعداد للتعمق في طلب العلم، لكن لا بد أن تحرص على حِلَق العلم تحرص على دروس تستمر فيها لكي تتعلم، وإلا تتخرج وتُبْتَعَث لتدرس في الخارج وترجع وأنت ليس عندك شيء من دين الله. السؤال: أقوم من حين لآخر بوعظ الناس في أحد المساجد حسب ما ييسر الله لي، رغم أني لم أدرس الشريعة، ولكن درست الهندسة، فهل هذا فيه تعدٍّ وتنافٍِ مع المنهج؟ الجواب: كلا والله، بل هو من صميم الدين، أنت تعظ الناس وتذكرهم بالله، خصوصاً الوعظ لا يحتاج إلى علم عميق، إذا أنت عرفت أن هذه الأحاديث التي تعظهم بها صحيحة، ومعاني الآيات التي تذكرها صحيحة، فيجب عليك أن تعظ، والناس يحتاجون إلى الوعظ.

القراءة المتميزة

القراءة المتميزة Q إن الله قد منَّ عليّ بحب القراءة والشغف فيها، وأقرأ أشياء كثيرة، لكن قد تُطرح مسألة فيما سبق قراءته فلا أستطيع تذكرها مما يؤلمني؟! A لا بد من تفريغ وقت للحفظ والترداد، وهذه المسائل التي جمعتها إذا ما عدت إليها وقرأتها مرات فإنها تنسى، والكتاب الذي أنهيتَه، لا تقول: هذا الكتاب أنهيتُه كفى وآخذ كتاباً آخر بل تعود إليه بعد فترة، لتتذكر ما سبق أن قرأته. السؤال: ما رأيك في شاب مجتهد محب للخير أراد أن ينفع الناس ويدعوهم إلى الله، فأخذ يشرح كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب في أحد المساجد لعوام الناس، وقد سبق أن درس كتاب التوحيد على أحد الشيوخ، فهل تحث هذا الشاب على المتابعة أم على التوقف؟ الجواب: لا والله، أحثه على المتابعة، ونفع المسلمين، وبالمناسبة، سألت الشيخ عبد العزيز بن باز -حفظه الله- عن مسألة: هل يصح للشخص الذي لم يدرس علوم الآلة أن يقرأ في كتب العلماء الكبار كـ المغني مثلاً وغيره، وفتح الباري أم أنه لا يصح أن يقرأ في هذا أبداً؟ فقال الشيخ ما مُلَخَّصُه: إذا كان صاحب عقل سليم يقرأ لنفسه فلا بأس بذلك ولا يمكن منعه من هذا، وهذا لا يقرأ لغيره، يقرأ من المغني ليعلم الناس ويشرح لهم، ليس عنده قدره، لكن أن تقول: لا تمدن عينيك إلى كتب العلماء الكبار مطلقاً، ولا في حال من الأحوال، فهذا ليس بصحيح، لا بأس أن يقرأ ويطلع ويبحث إذا كان عنده عقل سليم يستفيد ويفهم كلام العلماء، لكن الحرص على التدرج وعلى المنهجية أيضاً، وإلا لو جاءت له مسألة فقهية، فما وجد بغيته في منار السبيل؟! نقول: ينتقل إلى كتاب آخر ليرى ماذا فيه، يتوسع عند الحاجة، هنا في حاجة، ما وجد بغيته في كتاب مختصر، فيدرس كتاباً مختصراً، عرضت له مسألة، يقول: أنا أسير على منهجية، أي: أقرأ كتاباً مختصراً أولاً، ولا يمكن أن أمد عيني إلى غيره، هذا خطأ، يتوسع ويدرس ويقرأ في غيره، صحيح أنه لا يجعله منهجاً بحيث يحوِّل كل الأشياء إلى أبحاث، من أربعة، وخمسة، أو عشرة كتب، تمثل المذاهب المختلفة، لكن عند الحاجة يتوسع، ولو كان في البداية ما المانع؟! هل من الأفضل للأمة أن كل فرد فيها يتعلم العلم الشرعي، وإذا كان هذا صحيح هل تستطيع الأمة المنافسة والتحدي مع الأمم الأخرى بدون العلوم التجريبية؟ الجواب واضح من السؤال، لا تستطيع الأمة أن تتبحر على أن تتحدى وتصل وتنافس إلا إذا كان فيها من يدخل الصناعات، كيف استعْمَرَنا الغرب؟ لما أدخلوا الصناعة والزراعة والإدارة، وركزوا عليها، فسادوا العالم، لا بد أن يكون من المسلمين من يقوم بهذه الأشياء.

التسديد والمقاربة وفهم الأولويات

التسديد والمقاربة وفهم الأولويات Q أنا طالب في كلية الهندسة سمعت عن درس في الفقه والحديث، فهل أحضر فيه أم لا؟ A لماذا لا تحضر فيه؟! هل وجودك في كلية الهندسة يحرم عليك حضور الدرس العلمي؟! السؤال: ما هي الطريقة التي من الممكن انتهاجها لحفظ القرآن الكريم؟ الجواب: هذا تكلم عليه بعض أهل العلم في الكتب، مثلاً: التكرار الذي هو الأصل، وقراءته في الصلوات، والحفظ من طبعة واحدة، ومعرفة التفسير والمعنى، فذلك يساعد على ثبات الحفظ. السؤال: أنا مهندس أعمل يومياً من الساعة السابعة صباحاً إلى الساعة الرابعة مساءً، كيف أوفق بين مطالب الحياة، ومسئولية البيت، والأطفال، وطلب العلم، والزيارة؟ الجواب: لا شك أن الحياة التي نعيشها الآن معقدة، ليست مثل حياة الأولين فيها بساطة، ويكفيك ساعات لطلب الرزق، والحمد لله ليس هناك أحد يموت من الجوع، والناس في خير واستكفاء. الآن تحتاج أنت بسبب الظلم الموجود بسبب الانحرافات الموجودة، الإنسان يحتاج أن يكدح ويعمل، والتضييق الموجود، والربا الذي جعل طبقات غنية مترفة وجعل طبقات فقيرة مدقعة في الفقر، هذا كله أوجد لنا أشياءً من الأوضاع الاجتماعية المعقدة، ومع ذلك التكاليف كثيرة، الناس في جهل الناس يحتاجون إلى دعوة هناك انحرافات أولادك يحتاجون إلى التربية وزوجتك لها حقوق، إخوانك لهم زيارات، وطلب علم، فلا بد إذاً عندك حديث سلمان وأبي الدرداء، أقول: حديث سلمان وأبي الدرداء مهم جداً في قضية توزيع الأوقات ومعرفة الأولويات.

الشعر الحسن والشعر القبيح

الشعر الحسن والشعر القبيح Q أنا شاب أعطاني الله موهبة في الشعر، وقد توجهت إلى الطريق الصحيح، فسؤالي ما حكم الشعر؟ وهل هناك طريق أستطيع بواسطته إخراج الشعر بدون حرج؟ A القاعدة في الشعر كما قال العلماء: أن حسنه حسن وقبيحه قبيح، فإذا كتبته في نصرة دين الله، والحث على الفضيلة، والدعوة إلى الله، فهذا شيء حسن جداً. ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم الإخلاص، والاستقامة، والفقه في دينه، والفوز بجنات النعيم. والله أعلم، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد. سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

المساجد آداب وأحكام

المساجد آداب وأحكام للمسجد أثره العظيم في الإسلام، وقد حث الله على عمارة المساجد بالبناء والذكر، ورتب على ذلك عظيم الأجر. والمسلمون حين يعمرون المساجد حساً أو معنى قد يقع منهم أخطاء ومنكرات، وقد ينزلقون في بدع محدثة، وفي هذه المادة تجد طائفة من هذه المنكرات لتحذر منها وتحذر غيرك، كما تجد بعض آداب المساجد لترشد نفسك ومن تحب.

فضل بناء المساجد

فضل بناء المساجد إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار. إخواني: إن الله سبحانه وتعالى قد أمر بإقامة المساجد ليعبد فيها ويذكر اسمه سبحانه وتعالى، أمر ببناء المساجد لأسباب وأهداف، وجاء الحث على بناء المساجد في الإسلام، وقال أهل العلم: يجب بناء المساجد في الأمصار والقرى بحسب الحاجة، وهي من فروض الكفاية، وقال صلى الله عليه وسلم: (من بنى لله مسجداً يبتغي به وجه الله، يذكر الله فيه ولو كمفحص قطاةٍ لبيضها، أو أصغر، بنى له الله بيتاً مثله في الجنة) هذا مجموع روايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوضح فيها عليه الصلاة والسلام الشروط التي إذا توفرت في باني المسجد، فإنه يبنى له بيت مثله في الجنة: أن يبتغي به وجه الله، وأن يبنيه ليذكر الله فيه.

وجوب الإخلاص في بناء المساجد

وجوب الإخلاص في بناء المساجد وقوله صلى الله عليه وسلم: (من بنى لله مسجداً) لفظة (لله) تعني أنه ليس لباني المسجد فيه شيء، ولذا قال بعض أهل العلم: من كتب اسمه على مسجد بناه فهو بعيدٌ عن الإخلاص، وينبغي أن يكون المال الذي يبنى منه حلالاً ليتقرب به إلى الله عز وجل، وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته: علماً نشره، وولداً صالحاً تركه، ومصحفاً ورثه، أو مسجداً بناه، أو بيتاً لابن السبيل بناه، أو نهراً أجراه، أو صدقةً أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته).

النهي عن تشييد المساجد وزخرفتها

النهي عن تشييد المساجد وزخرفتها وأما النهي عن زخرفة المساجد وتزيينها، وكثرة الإنفاق عليها وتضخيمها، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (ما أمرت بتشييد المساجد) والفرق بين التشييد والبناء كبير: فإن التشييد: هو رفع المبنى ليجعل ذلك ذريعة إلى الزخرفة والتزيين الذي هو من صفات أهل الكتاب في كنائسهم وبيعهم، وفي الحديث نوع توبيخ وتأنيب، قال البغوي رحمه الله: التشييد: رفع البناء وتطويله، وإنما زخرفت اليهود والنصارى معابدها حين حرفوا كتبهم، وقال ابن بطال رحمه الله: فيه دلالة على أن السنة في بنيان المساجد القصد وترك الغلو في تحسينه، وقد كان عمر مع كثرة الفتوح في أيامه وسعة المال عنده لم يغير المسجد. وأول من زخرف المساجد الوليد، وسكت عنه بعض أهل العلم خوف الفتنة، وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الحسن: (إذا زخرفتم مساجدكم، وحليتم مصاحفكم، فالدمار عليكم) يعني: إذا حسنتموها بالنقش والتزويق والزخرفة، ولو بكتابة الآيات، لأنها تشغل المصلي وتلهيه عن الخشوع والتدبر والحضور مع الله عز وجل، قال بعض أهل العلم: إن تزويق المسجد ولو الكعبة بذهب أو فضة حرام مطلقاً، وروى البخاري أن عمر رضي الله عنه وأرضاه أمر ببناء المسجد وقال: [أكِنَّ الناس من المطر، وإياك أن تحمر أو تصفر]. وقال عليه الصلاة والسلام: (من أشراط الساعة، وفي رواية: لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد) يعني: يتفاخرون بتشييدها، ويراءون بتزيينها، كما فعل أهل الكتاب. ولقد كان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم مبنياً من لبن وسقفه الجريد، وعمده جذوع النخل، ونهى عليه السلام في الحديث الصحيح أن يتباهى الناس في المساجد، يعني: أن يتفاخروا بها بأن يقول الرجل: مسجدي أحسن، ويقول الآخر: مسجدي.

بعض سنن المساجد وآداب دخولها

بعض سنن المساجد وآداب دخولها وعند بنائه يسن أن يترك باباً خاصاً بالنساء لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (لو تركنا هذا الباب للنساء حتى لا يحدث الاختلاط). وعلى المسلم الاجتهاد في الصلاة في المسجد الخالي من البدع، المعمول فيه بالسنة، فإن لم يجد، فليبحث عن أبعدها عن البدع فليصلِّ فيه، وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (من أتى المسجد لشيء، فهو حظه) يعني: من قصده لشيء، فهذا القصد هو نصيبه، فإذا أتاه لصلاة حصل له أجرها مثلاً، أو لزيارة بيت الله حصلا له معاً، ومن أتاه لهما مع تعلم علم أو إرشاد جاهل حصل له ما أتى لأجله، أو أتاه للتفرج أو إنشاد الضالة فهذا حظه من إتيان المساجد.

دعاء دخول المسجد

دعاء دخول المسجد وإذا دخل المسجد، فيقدم رجله اليمنى عند الدخول، وعند الخروج يقدم اليسرى، ويقول وهو داخل كما أخبر عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم -وفي رواية: فليصلِّ على النبي صلى الله عليه وسلم- وليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك) وفي رواية صحيحة: (إذا دخل المسجد، فليقل: اللهم صلِّ على محمد وأزواج محمد، وإذا خرج فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، وليقل: اللهم إني أسألك من فضلك، اللهم اعصمني من الشيطان) وكذلك ورد في الحديث الصحيح أنه كان إذا دخل المسجد، قال: (أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم، وقال عليه السلام: إذا قال ذلك -يعني: المسلم الداخل- حفظ من الشيطان سائر اليوم).

الصلاة في المسجد لمن دخله

الصلاة في المسجد لمن دخله وإذا دخل فيه، فإنه ينبغي عليه أن يصلي ركعتين لحديثه عليه السلام: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين) وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (من أشراط الساعة أن يمر الرجل بالمسجد لا يصلي فيه ركعتين، وألا يسلم الرجل إلا على من يعرف) يصبح السلام للمعرفة، وأما من لا يعرفه فلا يسلم عليه، هذا من أشراط الساعة المذمومة، وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إذا أذن المؤذن فلا يخرج أحد حتى يصلي) ولما رأى أبو هريرة رجلاً خرج من المسجد بعد الأذان لغير حاجة، فقال: [أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم] وأما الخروج للحاجة وللمصلحة الراجحة، فلا بأس به.

النهي عن تشبيك الأصابع

النهي عن تشبيك الأصابع وقال عليه السلام: (إذا توضأ أحدكم فأحسن وضوءه، ثم خرج عامداً إلى المسجد، فلا يشبكن بين يديه فإنه في صلاة) وقال في الحديث الصحيح الآخر: (إذا توضأ أحدكم في بيته، ثم أتى المسجد، كان في صلاة حتى يرجع لا يقل هكذا، وشبك بين أصابعه) ولعل النهي عن التشبيك بين الأصابع لما فيه من إيماء إلى ملابسة الخصومات والخوض فيها، أو دلالة على تشبك الأحوال وتعسيرها وهو ينافي الفأل الحسن، ولا يدخل في هذا النهي التشبيك بقصد التمثيل وتصوير المعنى كما وقع له عليه الصلاة والسلام، وفي هذا الحديث أيضاً: كراهة تشبيك الأصابع لمن خرج إلى المسجد للصلاة سواءً كان في الطريق، أو في المسجد، أو في الصلاة، وأما تشبيكه بيد صاحبه لنحو مودة أو ألفة فإنه لا يكره.

أخطاء أخرى يقع فيها المصلون

أخطاء أخرى يقع فيها المصلون ومن الأخطاء التي تقع من بعض أهل المساجد: أنهم يحافظون على مكان معين في المسجد لا يغيرونه، وقد نهى صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أن يوطن الرجل في المكان بالمسجد كما يوطن البعير، يعني: يألف مكاناً معلوماً مخصوصاً به يصلي فيه لا يغيره. ومن الآداب أيضاً: (إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد، فقولوا: لا أربح الله تجارتك! وإذا رأيتم من ينشد فيه ضالةً، فقولوا: لا رد الله عليك ضالتك!) زاد مسلم رحمه الله: (فإن المساجد لم تبن لهذا) ونهى عليه السلام في الحديث الحسن عن الشراء والبيع في المسجد، وأن تنشد فيه ضالة، وأن ينشد فيه الشعر، ونهى عن التحلق قبل الصلاة يوم الجمعة؛ وأما إنشاد الشعر، فإن المقصود به الشعر المذموم جمعاً بين النصوص، والنهي عن التحلق يوم الجمعة قبل الصلاة لعللٍ: منها: عدم قطع الصفوف، لأن الناس قد أمروا بالتبكير والتراص فيها. وقيل: حتى لا تذهب هيئة الخطبة إذا اشتغل الناس في هذه الحلق بالحديث.

الجلوس لحديث الدنيا مخالفة لأدب المسجد

الجلوس لحديث الدنيا مخالفة لأدب المسجد ومما يخالف أدب المسجد: جلوس الناس فيه للحديث في أمر الدنيا لحديث أنس مرفوعاً وابن مسعود كذلك: (يأتي على الناس زمانٌ يحلقون في مساجدهم، وليس همهم إلا الدنيا، وليس لله فيهم حاجة، فلا تجالسوهم) وفي لفظ آخر: (سيكون في آخر الزمان قومٌ يجلسون في المساجد حلقاً حلقاً، أمامهم الدنيا فلا تجالسوهم، فإنه ليس لله فيهم حاجة) وهذه الأحاديث حسنة بمجموع طرقها. قال شيخ الإسلام رحمه الله: وأما الكلام الذي يحبه الله ورسوله في المسجد فحسن، وأما المحرم فهو في المسجد أشد تحريماً. ومما يقع من المنكرات في المساجد: إعراض بعض الناس عن حلق العلم للكلام في أمور الدنيا، والحديث يقول: (وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه) وبعضهم يعرض عن سماع خطبة العيد بحجة أنها ليست واجبة.

من الآداب عدم إزعاج المصلين

من الآداب عدم إزعاج المصلين ومن آداب المسجد: ألا ترفع فيه الأصوات إلا في المواضع التي جاء رفع الصوت فيها مثل: رفع الإمام صوته لإعلام المأمومين بالقراءة والتكبير، ومثل الجهر بالذكر عقيب المكتوبة دون صياح كما ورد في صحيح البخاري. ولا يجهر المصلون بعضهم على بعض بقراءة القرآن، وقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه وهم يصلون ويجهرون بالقراءة، فقال: (أيها الناس! كلكم يناجي ربه، فلا يجهر بعضكم على بعض) قال الإمام مالك رحمه الله: ويخرج من المسجد من يفعل ذلك. وسئل شيخ الإسلام عن مسجد يقرأ فيه القرآن بكرة وعشياً، ثم على باب المسجد شهودٌ يكثرون الكلام، ويقع التشويش على القراء، فهل يجوز ذلك؟ فأجاب: الحمد لله، ليس لأحدٍ أن يؤذي أهل المسجد؛ أهل الصلاة، أو القراءة، أو الذكر، أو الدعاء ونحو ذلك مما بنيت المساجد له، فليس لأحد أن يفعل في المسجد، ولا على باب المسجد، ولا قريباً منه ما يشوش على هؤلاء، فإذا كان عليه السلام نهى المصلي أن يجهر على المصلي، فكيف بغيره، ومن فعل ما يشوش به على أهل المسجد، أو فعل ما يفضي إلى ذلك منع من ذلك. والله أعلم. تعليقٌ: وعلى أرباب الأعمال من المقاولين وغيرهم لمن كانت لهم أعمال بجانب المسجد الانتباه إلى إيقاف الآلات والعمال وآلات الحفر عند إقامة الصلاة على الأقل؛ لعدم التشويش على المصلين، وكذلك لا ترش المبيدات الحشرية أثناء الصلاة لما فيها من إيذاء للمصلين، قال شيخ الإسلام رحمه الله: يصان المسجد عما يؤذيه ويؤذي المصلين، حتى رفع الصبيان أصواتهم فيه، وكذلك توسيخهم لحصره ونحو ذلك، لا سيما إن كان وقت الصلاة، فهذا من عظيم المنكرات.

آداب أخرى تراعى في المسجد

آداب أخرى تراعى في المسجد .

ما يفعله من نعس في المسجد

ما يفعله من نعس في المسجد وقال عليه الصلاة والسلام مرشداً وموجهاً: (إذا نعس أحدكم وهو في المسجد، فليتحول من مجلسه ذلك إلى غيره) وهذا الأمر للندب؛ لأن الحركة تذهب الفتور الذي يؤدي إلى النوم، فإن لم يكن في الصف مكان يتحول له، فإنه يقوم ويجلس ليأتي ببعض الحركة التي تذهب النوم، قال الشافعي رحمه الله في الأم: ولو ثبت في مجلسه، وتحفظ من النعاس وقاومه، لم أكرهه.

استحباب التجمل للصلاة وتنظيف المساجد

استحباب التجمل للصلاة وتنظيف المساجد وقال الله عز وجل: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف:31] قال المفسرون: ولهذه الآية يستحب التجمل عند الصلاة، ولا سيما يوم العيد ويوم الجمعة، ومن ذلك الغسل، والطيب، والسواك، ولبس الثياب الحسنة، وخصوصاً الثياب البيضاء للحث الوارد فيه: (البسوا من ثيابكم البياض، فإنها من خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم) قال ابن كثير: إسناده جيد. وقال عليه الصلاة والسلام حاثاً الأمة على تنظيف المساجد وإبعاد الأوساخ عنها: (إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من القذر والبول والخلاء، إنما هي لقراءة القرآن وذكر الله والصلاة) حديث صحيح. ويستحب تنظيفها وتطييبها خصوصاً يوم الجمعة، وأن تصان عن كل وسخ، وقذر، ومخاط، وتقليم أظفار، وشعر، ورائحة كريهة، وتجب إزالة الزخرفة والنقوش والكتابة وكل ما يلهي المصلي.

كراهة دخول المسجد بالروائح الكريهة

كراهة دخول المسجد بالروائح الكريهة وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (من أكل من هذه البقلة -الثوم والبصل والكراث- فلا يقربن مساجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم) وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (من أكل من هذه الشجرة الخبيثة شيئاًَ، فلا يقربن المسجد، وفي رواية: حتى يذهب ريحها) (يا أيها الناس إنه ليس لي تحريم ما أحل الله، ولكنها شجرةٌ أكره ريحها) وقال عليه الصلاة والسلام: (من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزلنا، وليعتزل مسجدنا، وليقعد في بيته) والمقصود: الثوم والبصل أو الكراث النيئ، وأما إذا أميتت طبخاً بحيث ذهبت رائحتها فلا حرج. ويدخل في ذلك كل ما يؤذي الناس من روائح العرق والوخم ونحوها، وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن إتيان المسجد لآكل الثوم أو البصل، والثوم والبصل حلالٌ، فكيف بشارب الدخان والدخان محرم؟!

مخالفة النخامة والبصاق لآداب المسجد

مخالفة النخامة والبصاق لآداب المسجد وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (تبعث النخامة في القبلة يوم القيامة وهي في وجه صاحبها) والنخامة هي ما يكون مثل البلغم الذي يلفظه الإنسان من حلقه، وقال عليه الصلاة والسلام: (من تفل تجاه القبلة جاء يوم القيامة تفله بين عينيه) وقال عليه السلام في الحديث الصحيح الآخر: (ما بال أحدكم يكون مستقبل ربه فيتنخع أمامه، أيحب أن يستقبل فيتنخع في وجهه؟ فإن تنخع أحدكم فليتنخع عن يساره، فإن لم يجد فليفعل هكذا، يعني في ثوبه إذا ما وجد) وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (عرضت عليَّ أمتي بأعمالها حسنها وسيئها، فرأيت في محاسن أعمالها إماطة الأذى عن الطريق، ورأيت في سيئ أعمالها النخاعة في المسجد لم تدفن) والنخاعة مثل النخامة، وقال بعضهم: المقصود به البصاق، قال النووي رحمه الله: وظاهر هذا الحديث أن الذم لا يختص بصاحب النخامة الذي تنخمها فقط، بل يدخل فيه كل من رآها ولم يزلها، وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (البصاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها) هذا في المساجد التي أرضها ترابٌ أو رملٌ كفارتها أن تدفن، ومعنى تدفن: تدخل في باطن الأرض، فلا يكفي تغطيتها؛ لأنه قد يقعد عليها من تؤذيه، وأما المساجد المبلطة، أو المفروشة، فإنه لا يصلح فيها التفل ولا التنخم نهائياً، وبعض الناس يتفل ويتنخم، ثم يمسح النخامة على البلاط بحذائه أو برجله، فيزيدها انتشاراً، فيزداد تقذر المسجد وتوسخه.

عدم اتخاذ المساجد طرقا أو حجز الأماكن فيها

عدم اتخاذ المساجد طرقاً أو حجز الأماكن فيها ومن الآداب كذلك: ما ورد في الحديث الحسن: (لا تتخذوا المساجد طرقاً إلا لذكر أو صلاة) قال شيخ الإسلام رحمه الله: ليس للمسلم أن يتخذ المسجد طريقاً يعبر منه، فكيف إذا اتخذه الكافر طريقاً، فإن هذا يمنع بلا ريب، وخصص بعض العلماء منه الحاجة مثل: المشقة عليه في طول المسافة جداً. وأما بالنسبة لحجز الأماكن في المسجد، فقال شيخ الإسلام رحمه الله: ليس لأحدٍ أن يتحجر من المسجد شيئاً، لا سجادة يفرشها قبل حضوره ولا بساطاً ولا غير ذلك -كما يقع لبعض الجهال في الحرم- وليس لغيره أن يصلي عليها بغير إذنه، ولكن يرفعها ويصلي مكانها في أصح قولي العلماء، وقال: ومن المنكرات وضع السجاجيد في المساجد لحجز الأمكنة، ويأتي أصحابها يتخطون رقاب الناس، وكذلك ما يقع من البعض ممن اشتروا الضلالة بالهدى أن يجلس فيحجز المكان حتى إذا جاء أحد الأثرياء يتنازل له عن المكان في الصف الأول مقابل مبلغٍ من المال، وهذا حادثٌ مع الأسف في أطهر بقاع الله. ومن البدع كذلك: تخصيص أناس لحفظ النعال يدفع إليهم الأجرة لا يحضرون الصلاة مع الجماعة.

حكم النوم في المسجد أو دخوله بالنعال أو بالسلاح

حكم النوم في المسجد أو دخوله بالنعال أو بالسلاح وأما النوم في المسجد: فإن كان لمحتاج كالغريب الذي لا أهل له، أو الفقير الذي لا بيت له كما ورد أن ابن عمر لما كان أعزب، كان يبيت في المسجد لأنه لم يكن له بيت، فلما تزوج وصار له بيت لم يعد إلى ذلك، ويبيت فيه بقدر الحاجة ثم ينتقل. وأما اتخاذ المسجد مبيتاً ومقيلاً، فلا يجوز ذلك كما قال شيخ الإسلام، وقال في موضع آخر: ويجوز النوم في المسجد للحاجة كما وقع لأهل الصفة، ومثل المسكينة التي كانت تأوي إلى المسجد وكانت تقمه، يعني: تنظفه، قال رحمه الله: فيجب التفريق بين الأمر اليسير وذوي الحاجات، وبين ما يصير عادةً، وما يكون لغير ذوي الحاجات، وأما اتخاذ المساجد للسكنى والمبيت وحفظ القماش والمتاع، فما علمت مسلماً ترخص في ذلك، فإن هذا يجعل المسجد بمنزلة الفنادق التي فيها مساكن محجرة، والمسجد لا بد أن يكون مشتركاً بين المسلمين، فمن سبق إلى مكان لذكر، أو قراءة، أو صلاة، أو اعتكاف، فهو أحق به حتى يقضي ذلك العمل، فإذا قضى العمل، زال حقه عن ذلك المكان. ومن الأمور المكروهة المنهي عنها: رفع الصوت لغير حاجة كما يكره لمن يبلغ خلف الإمام بغير حاجة، كما ذكر بعض أهل العلم أن ذلك بدعة منكرة، وأما سؤال الناس كما يفعل الشحاذون في المساجد، فقد سئل شيخ الإسلام رحمه الله عن ذلك، فقال: الحمد لله، أصل السؤال محرمٌ في المسجد وخارج المسجد إلا لضرورة، فإن كان به ضرورة وسأل في المسجد ولم يؤذ أحداً بتخطيه رقاب الناس ولا بغير تخطيه، ولم يكذب فيما يرويه، ويذكر عن حاله -كما يقع من الكثيرين- ولم يجهر جهراً يضر بالناس -كما يفعله أكثر الشحاذين- جاز والله أعلم بهذه الشروط. وأما المشي بالنعال في المسجد فهو جائزٌ إذا كانت النعال نظيفة، والصلاة في النعال من سنن النبيين مخالفة لأهل الكتاب. أما الآن عند فرش المساجد، فلا يدخل إنسان بحذائه نهائياً إلا إذا كان نظيفاً جداً، لأن في دخوله بحذائه الذي يمشي به في الشارع توسيخ للسجاد الذي يصلي عليه المصلون. وإذا اضطر إنسان للدخول إلى المسجد بالسلاح كما يقع لبعض رجال الأمن، فإنه ينبغي أن يكون السلاح مغمداً، يقول عليه الصلاة والسلام: (إذا مر أحدكم في مسجدنا، أو في سوقنا ومعه نبل، فليمسك على نصالها بكفه حتى لا يعقر مسلماً) فيجوز عند الحاجة مع كونه مغمداً حتى لا يحصل الأذى. ويجوز لمن به عذرٌ دائمٌ كسلس البول المكث في المسجد إذا أمن تلويث المسجد. ويسن الإذن للنساء إلى المساجد على ألا تمس طيباً، وإن كان بها فلتغتسل منه. هذه أيها الإخوة طائفةٌ من الأحكام المتعلقة بالمساجد التي يخالفها كثيرٌ من المصلين. وفقنا الله وإياكم لأن نحل حلاله وأن نحرم حرامه، وأن نعمل بآداب الإسلام، وصلى الله على نبينا محمد.

بعض البدع والمنكرات التي تقع في المساجد

بعض البدع والمنكرات التي تقع في المساجد الحمد لله رب العالمين، أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين المتقين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن من المنكرات أيضاً أيها الإخوة: تخطي رقاب الناس وإيذاؤهم.

دخول الكافر إلى المسجد

دخول الكافر إلى المسجد وإن سأل سائل عن مسألة: هل يجوز للكافر دخول المسجد؟ فنقول: إذا ترتب على ذلك مصلحة شرعية، مثل أن يرى المصلين، فيتأثر بهم فيعجب بالإسلام فيكون سبباً لدخوله فيه، فإن ذلك جائز كما ورد في حديث ربط ثمامة المشرك في المسجد، فكانت رؤيته لواقع المسلمين سبباً في إسلامه، بشرط ألا يؤذي المسلمين، أو يوسخ المسجد، أما دخول الكفار لتصوير المساجد، أو الفرجة بالملابس السياحية فمن أكبر المنكرات.

بناء المساجد على القبور

بناء المساجد على القبور ومن أشنع البدع على الإطلاق بناء المساجد على القبور، وأسوؤها ما يجعل في جهة القبلة حتى يضطر المصلي لاستقباله، وقد ورد النهي عن الصلاة في المساجد المبنية على القبور، والحكم فيها: أنه إذا كان القبر سابقاً على المسجد وبني المسجد على القبر، يهدم المسجد، وأما إذا كان المسجد أولاً وكان القبر بعد ذلك، فينبش القبر وتنقل الرفات إلى مكان آخر، وإن أمكن عزله عن المسجد وفصله بجدار أو بشارع، فلا بأس بذلك. ومن البدع: وضع أغطية للرأس عند باب المسجد ليلبسها كل داخل لتغطية رأسه.

أخذ الكتب الموقوفة من المساجد

أخذ الكتب الموقوفة من المساجد وكذلك من المنكرات: استعارة الكتب الموقوفة من بعض المساجد وعدم إرجاعها، أو ما يفعله بعض الطلاب السفهاء من أخذ المصاحف من المساجد وعدم إرجاعها، أو حجزها فترةً طويلة ليوفروا على أنفسهم ثمن الشراء كما يزعمون. ومن البدع: زيادة إنارتها في المناسبات كرمضان ورجب، أو ضحى يوم العيد.

بناء المقاصير للخاصة والضرب بالدفوف

بناء المقاصير للخاصة والضرب بالدفوف وكذلك من البدع: إعداد أمكنة مرتفعة عن أرض المسجد للخاصة من الناس تسمى بالمقاصير، تقطع الصفوف وتفرق المسلمين إلى طبقات، أو كما يقع في بعض المساجد في البلدان الأخرى من وضع كرسي خاص يقرأ عليه القارئ قبل صلاة الجمعة وغيرها. ورقص الصوفية في المساجد وما قد يصحبه من آلات الطرب وتلحين القصائد والمدائح، أو قراءة المولد النبوي. كذلك من البدع المنكرة: اتخاذ التكايا أو الزوايا لـ أهل التصوف كما يقع في بعض البلدان، وأنا أذكر هذا أيها الإخوة، وإن كنتم لا ترونه الآن في واقعكم، فإن بعض الحاضرين من أهل تلك البلاد يهمهم هذا الأمر. وكذلك فإن كثيراً من المسلمين يسافر، فيدخل تلك المساجد فيهمه أن يعرف ما هو المنكر وما هو المعروف. ومن المنكرات: قيام بعض القصاص والمذكرين بتذكير الناس بأحاديث مكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتوسل بالمخلوقين. وبعض الناس يحتجون بواقع معين على صحة هذه المنكرات، قال العلامة القاسمي رحمه الله في إصلاح المساجد من البدع والعوائد: يحتج بعض الناس في دمشق على جواز هذه البدع واستحسانها بكونها موجودة في جامع بني أمية وهو شيخ الجوامع في الشام، وبكون مدرسيه الماضين سكتوا عليها، وهذه حجة فاشية في كثير من الأمور التي تساهل بها أهل النفوذ الماضون، فترى العامي إذا ليم على بدعة وأرشد إلى الصواب فيها، يستدل بفعل شيخه، أو العالم الفلاني، أو المكان الفلاني، أو البلدة الفلانية، ويزعم أنها مشروعة أو حسنة بسبب ذلك، وكل ذلك غرور، فإن فعل الناس ليس بحجة، إلا الكتاب والسنة هي الحجة ولو خالف الجميع.

بدع الحجز في المسجد ومنكراته

بدع الحجز في المسجد ومنكراته وفي بعض المساجد أيها الإخوة جماعة يلازمون من الأمكنة ما كان وراء الإمام قبالة المحراب، وما يسميه بعض العامة بالروضة، فيأتي هؤلاء للمسجد قبل الصلاة، ويأخذون أمكنتهم المعينة، وإذا خصصوا هذه الأمكنة، لم يتراجعوا عنها، فقد يدخل ذلك في النهي عن التوطين كتوطين البعير، ولكن المصيبة أن بعض هؤلاء يرى أن ذلك المكان خاصٌ به ولو جاء متأخراً، وإذا رأى أحداً من الغرباء ونحوهم، فإنه لا يتورع أن يبعده من مجلسه، ويبلغ الجهل ببعضهم أنه إذا رأى أحداً في مكانه الذي اعتاد أن يجلس فيه، فإنه يحرج ويذهب إلى آخر الصف وهو ممتلئ غيظاً، فيجلس فيه ويظل يرمق ذلك الرجل الجالس في مكانه المعتاد على حد زعمه، وبعضهم إذا كان جالساً في ذلك المكان، وكان هناك فرجة، ورأى رجلاً غريباً عن هذا المكان يريد أن يجلس فيه، جلس متربعاً حتى يحجز المكان ليطرد ذلك، فإذا جاء صاحبه ليجلس أفسح له، صارت الأمكنة في المساجد بالواسطة عند بعض الناس، ولا حول ولا قوة إلا بالله! كذلك قد يجهل بعضهم، فإذا رأى واحداً جالساً في مكانه الذي اعتاد أن يجلس فيه من قبل، قال: يا فلان أتظننا أولاد البارحة أو اليوم في هذا الجامع، نحن من أربعين سنة نصلي في هذا المكان، فأين الذوق؟ ونحن نقول له: ذوقك أنت؟ إن من سبق إلى مباح فهو أحق به.

بعض ما يباح في المسجد

بعض ما يباح في المسجد وتجوز المناظرة في مسائل العلم دون المراء والجدل العقيم، ويباح عقد النكاح في المسجد، والقضاء والحكم، ويباح قتل البراغيث والقمل وكل ما هو مؤذٍ على أن يلقى خارج المسجد، ويباح الاستلقاء في المسجد لمن أمن انكشاف عورته. هذه طائفة من الآداب والأحكام، أو المنكرات الموجودة في المساجد. والأهم من هذا الكلام كله: لماذا بني المسجد؟ وما هي وظيفته في الإسلام؟ وكيف أسس رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد؟ وما هو الفرق بين مساجد الضرار والمساجد التي بنيت على تقوى من الله ورضوان؟ وما هو الأثر الإسلامي والاجتماعي الشرعي من وجود المسجد؟ ما هي الفائدة منه؟ لعل الفرصة تتاح للكلام عن هذا الموضوع المهم في خطبة قادمة إن شاء الله. ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجنبنا وإياكم الفتن والهوى، وأن يجنبنا وإياكم الزيغ والبدع والضلال والمنكرات، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.

المشابهة بين أطباع بني آدم والحيوانات

المشابهة بين أطباع بني آدم والحيوانات يختلف بنو آدم في الظاهر عن الحيوانات اختلافاً كلياً، ولكن هناك أمور في الباطن تتشابه فيها طبائع بني آدم مع بعض طبائع الحيوان. فانظر إلى الكلب والخنزير، فالكلب همه أن يشبع بطنه من أي جيفة كانت، وبعض الناس لا يبالي ماذا يأكل حلالاً أم حراماً، والخنزير لا يقع إلا على الخبائث، وبعض الناس لا يرى منك إلا السيئ. وكذلك توجد مشابهة مع الطاوس والجمل والخيل والغنم، وكذلك العقرب والحمار والفأر والنحلة والنملة والحمام.

مقارنة بين الحيوانات ومماثلة الإنسان لها

مقارنة بين الحيوانات ومماثلة الإنسان لها إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. A=6000394> يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. A=6000493> يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. A=6003602> يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أيها الإخوة! إن موضوعنا الذي سنتحدث عنه في هذا اليوم إن شاء الله موضوع يُرينا كيف كان السلف رحمهم الله تعالى يستنبطون الأمور في التفسير، وهو موضوع يجمع بين حدة الذهن، وجودة الاستنباط واللطافة، وهو تعليق على آية من كتاب الله سبحانه وتعالى، هذه الآية التي نمر بها ولكننا قد لا ندري عن بعض ما تحتويه من الحكم واللطائف، يقول الله عز وجل: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام:38]. وأنت إذا سمعت -يا أخي المسلم- قول الله عز وجل: {إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام:38] فإنك ستندهش وتتعجب كيف صارت هذه الحيوانات أمماً أمثالنا؟ وما هو وجه المشابهة بين بني آدم وبين الحيوانات؟ وما هو وجه المثلية الذي ذكره الله عز وجل في الآية؟

معنى قوله تعالى: (أمم أمثالكم)

معنى قوله تعالى: (أمم أمثالكم) من المفسرين من يقول: إن الحيوانات والدواب والطيور أمم، كما أن البشر أمم. ومنهم من قال: إن لها أسماء كما أن للبشر أسماءً. ومنهم من قال: إنها تسبح الله كما يسبح المؤمنون الله. ومنهم من قال: إنها تحشر كما أن البشر يحشرون، وحشر الدواب ثابت بنص القرآن والسنة، وهنا قول الله عز وجل: {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام:38] وفي السنة أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إن الحيوانات تحشر ثم يقتص لبعضها من بعض). وللأوجه المثلية -أيضاً- أنها تطلب الغذاء، وتبتغي الرزق، وتتوقى المهالك، كما يفعل ذلك البشر، ولما طلب الله سبحانه وتعالى من العباد التدبر في مخلوقاته؛ فإن السلف رحمهم الله عز وجل، ما زال أمرهم في تدبر القرآن، حتى بلغ شأناً عظيماً.

وجه المثلية

وجه المثلية ولما تدبر بعض السلف هذه الآية ومنهم سفيان بن عيينة قال لما سمع قول الله عز وجل: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام:38] قال رحمه الله: ما في الأرض آدمي، إلا وفيه شبه من البهائم، فمنهم من ينتصر انتصار الأسد، ومنهم من يعدو عدوَ الذئب، ومنهم من ينبح نباح الكلاب، ومنهم من يتقوس كفعل الطاوس. وقال الخطابي رحمه الله معلقاً: ما أحسن ما تأول سفيان من هذه الآية، واستنبط منها هذه الحكمة، وذلك أن الكلام إذا لم يكن حكمه مطاوعاً لظاهره وجب المصير إلى باطنه، فنحن نعلم بأن الحيوانات ليست مثل بني آدم، لأن بني آدم في الظاهر يختلفون عن الحيوانات اختلافاً كلياً. فإذاً: هناك أمور في الباطن تتشابه فيها طبائع الآدميين مع بعض طبائع الحيوانات، وهذا من إعمال الفكر، والتدبر في مخلوقات الله عز وجل. ولذلك -أيها الإخوة- نجد الله تعالى قد ضرب لبعض بني آدم أمثلة شبههم بها بالحيوانات، فقال الله سبحانه عن نفر من الناس: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف:176] وشبه أناساً آخرين بأنهم مثل الحمار يحمل أسفاراً، ولذلك سنسوق لكم هذه الأمثلة التي تبين كيف يفكر علماؤنا في الآيات، وكيف يربطونها بالواقع، وما سيأتي من الكلام مختصر من كلام ابن القيم رحمه الله في مواضع متعددة من كتبه. قال رحمه الله تعالى: ومن الناس نفوسهم نفوس حيوانية، وذلك مثل الجهال بالشريعة، الذين لا فرق بينهم وبين سائر الحيوانات إلا في اعتدال القامة ونطق اللسان -هذا هو الفرق الوحيد وإلا فإنهم يشبهون الحيوانات- ليس همهم إلا نيل الشهوة بأي طريق أتت.

وجه المماثلة مع الكلب والخنزير

وجه المماثلة مع الكلب والخنزير ومن الناس نفوسهم نفوس كلبية، فلو صادف جيفة تشبع ألف كلب لوقع عليها، وحماها من سائر الكلاب ونبح في وجه كل من يدنو منها، وهمه شبع بطنه من أي طعام اتفق ميتةً أو مذكاة -بعض الناس لا يبالي ماذا يأكل حلالاً أو حراماً، طيباً أو خبيثاً مثل الكلب يقع على أي شيء- ولا يستحي من قبيح، فإن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث، إن أطعمته بصبص بذنبه ودار حولك، وإن منعته هرك ونبحك. ومن النفوس البشرية طبعها طبع الخنازير، يمر بالطيبات فلا يلوي عليها، فإذا قام الإنسان عن رجيع قمه، وهكذا كثير من الناس؛ الخنزير لا يبالي بالطيبات، ولا يقع إلا على الخبائث والنجاسات والنتن، وبعض الناس يشبهون الخنزير في هذه الطبيعة، كيف يكون ذلك؟ إذا رأى منك إحساناً أو معروفاً، أو خلقاً طيباً، أو شمائل حسنة؛ فإنه يهملها بالكلية، ولا يذكرها ألبتة، بل يعرض عنها، وإذا رأى منك عيباً واحداً، أو تصرفاً خاطئاً، فإنه يقف عنده، ويظل يذكره ويجلس عليه طيلة دهره، ولو سمع منك خمسين حكمة ما حفظ منها حكمة واحدة، ولكن لو وقع على خطأ عندك فإنه لا يزال يدور حول هذا الخطأ ولا يذكر غيره، فهؤلاء طبعهم طبع الخنازير؛ فإذا رأى سقطة أو كلمة عوراء وجد بغيته، فجعلها فاكهته ونقله وشغله الشاغل.

وجه المماثلة مع الطاوس

وجه المماثلة مع الطاوس ومن الناس من طبيعتهم طبيعة الطاووس؛ يختالون ويتفاخرون ويتكبرون على عباد الله، فكل تصرفاتهم تنبئ عن الاختيال كما يختال الطاووس، أو قل: إنهم يتزينون بالريش في الظاهر وينتفخون وينتفشون، ولكنهم في الباطن ليس عندهم مضامين طيبة ولا محتويات حسنة، ولم تمتلئ قلوبهم بالإيمان، وتعمر به، ولذلك فقد بلغ الكبر بهم كل مبلغ، فيتكبرون على عباد الله، ويحتقرون خلق الله، وتجد بعض هؤلاء يمشون أمام الناس مختالين كما يمشي الطاووس.

وجه المماثلة مع الجمل

وجه المماثلة مع الجمل ومن الناس من انطوت قلوبهم على حقد عظيم، فهم يشابهون الجمل، فهو من ناحية الحقد أحقد الحيوانات وأغلظها كبداً، فهؤلاء لا ينسون الأحقاد، فيظلون يتذكرونها، ولكن من الحيوانات ما هو أليف، ينسى الإساءة إذا أسيء إليه، وكذلك بعض البشر فإنهم يتسامحون في الأخطاء وينسونها بسرعة.

وجه المماثلة مع الخيل والغنم

وجه المماثلة مع الخيل والغنم ومن أحمد الطبائع: طبائع الخيل التي هي أشرف الحيوانات نفوساً، وأكرمها طبعاً، وكذلك الغنم، ولذلك أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن السكينة والوقار في أهل الغنم؛ لأنهم بمعاشرتهم لها قد اكتسبوا شيئاً من صفاتها، وهذا شيء تستغربه بعض العقول، ولكن الواقع يؤكده، وكما يصف عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: بأن الخيلاء والفخر في أهل الإبل، فإنهم لا يزال الفخر طبيعتهم ولا تزال الكبرياء من سجاياهم.

وجه المماثلة مع العقرب

وجه المماثلة مع العقرب ومن الناس من نفوسهم نفوس سامة من ذوات الحمات، وهذه السموم الموجودة تثير في النفوس حرارة تدفعها إلى اللدغ بحيث تجد الراحة في إلقاء السم في أجساد الآخرين، وبعض الناس نفوسهم مثل نفوس العقارب قد اشتملت على السم الزعاف، ولا تستريح حتى تلقي سمها في أجساد الناس. مثل ذلك -أيها الإخوة- مثل الحاسد الذي تعتريه حرارة الحسد، فلا يستريح إلا بعد أن يصيب بسمية عينه إنساناً ذا نعمة؛ فيصيبه بالعين حتى تزول النعمة عنه، والعين حق كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فتأمل المشابهة بين الحاسد الذي يصيب بالعين، وبين العقرب التي تحتوي على ذلك السم، وهذا الحاسد العائل يشعر بحرارة في جسده إذا رأى صاحب النعمة، ولا يرتاح حتى يصيبه بعينه فتسكن نفسه.

وجه المماثلة مع الحمار

وجه المماثلة مع الحمار ومن الناس من نفوسهم نفوس حمارية لم تخلق إلا للكد والعلف، كلما زيد في علفه زيد في كده. أبكم الحيوان وأقله بصيرة هذا الحمار، ولذلك جعله الله سبحانه وتعالى مثلاً للعالم الذي يعلم العلم ولا يعمل به ولا يفقهه، وإنما يحمله حملاً بغير تدبر ولا عمل، هذا مثل عالم السوء الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها. ومن الناس من نفوسهم نفوس سبعية غرضية، هِمَتُهُم العدوان على الناس، كما تجد السباع همها العدوان على الناس، وافتراس الفرائس، وبعض الناس هكذا يتوثبون الانقضاض على الآخرين، ويقهرونهم بكل ما وصلت إليه قدرتهم وقوتهم؛ فتصير طبيعتهم مثل طبيعة السبع.

وجه المماثلة مع الفأر

وجه المماثلة مع الفأر ومن الناس من نفوسهم نفوس فأرية، والفأر معروف بأنه مفسد لما جاوره؛ فيفسد الطعام ويقع فيه، حتى لا يستمتع به صاحبه، ولذلك فإن بعض الناس تشبه نفسياتهم نفسية الفأر يحبون الفساد والإفساد، لسانهم يسبح كأنه يقول: (سبحان من خلقه للفساد).

وجه المماثلة مع النحلة

وجه المماثلة مع النحلة وإذا تأملت في بعض المجتمعات الحيوانية، لوجدت أن بعض المجتمعات الإنسانية فيها شبه من تلك المجتمعات الحيوانية، فأنت إذا أخذت النحلة، فإن مجتمع النحل مجتمع عجيب، وذلك أن لها أميراً ومدبراً وهو اليعسوب، وهو أكبر النحل جسماً، وأحسنها لوناً وشكلاً، وتجمع الإناث فراخها عند الملك فيخرج بها إلى المرعى من المروج والبساتين والمواقع، في أقصر الطرق وأقربها، فتجتني منها كفايتها، فيرجع بها الملك، فإذا انتهوا إلى الخلايا وقف عند بابها ولم يدع نحلة غريبة تدخلها. فإذا تكامل دخولها، دخل بعدها وتواجدت النحل في مقاعدها وأماكنها؛ فيبتدئ الملك العمل كأنه يعلمها إياه، فيأخذ النحل في العمل ويتسارع إليه، ويترك الملك العمل ويجلس في ناحية يشاهد النحل كيف تعمل ويراقبها في عملها، فيأخذ النحل في إيجاد الشمع من لزوجات الأوراق، ثم تنقسم النحل فرقاً، فمنها فرقة تلزم الملك لا تفارقه، ومنها فرقة تهيئ الشمع وتصفيه، ومنها فرقة تبني البيوت، وفرقة تسقي الماء، وفرقة تحمل على متونها، وفرقة تكنس الخلايا وتنظفها من الأوساخ. وكذلك أيها الإخوة! من عجيب أمر النحل أنها تقتل الملوك الظلمة المفسدة، لا تدين لطاعتها، وتقتل النحل الكسلان، حتى لا يعديها بطبعه، وهكذا بعض المجتمعات البشرية قد أوجدها الله سبحانه وتعالى وهيأها، لتسير خلف قائد ومربٍ تتعلم منه، وهو يراقب الأفراد ويعتني بهم، ويكفلهم ويرعاهم، وكذلك يقسمون العمل فيما بينهم حتى يعمل كلٌ منهم فيما يجيد فيه من العمل، مجتمع دءوب مثل مجتمع النحل، مجتمع منظم مثل مجتمع النحل، مجتمع يرفض الكسل ويعمل بدون توانٍ، يخطط وينظم في هندسة جيدة، كما أوجد الله ذلك في النحل، فيكون نتاج هؤلاء الناس عسلاً مصفى من وحي التربية القرآنية، والتربية المحمدية التي هي تطبيق للقرآن، كما خرج نتيجة العمل من ذلك النحل ذلك الشراب المصفى الذي فيه شفاء للناس، ولكن النتاج الذي يكون فيه شفاء القلوب أفضل وأعلى من النتاج الذي يكون فيه شفاء الأبدان.

وجه المماثلة مع النمل

وجه المماثلة مع النمل وتأمل في هداية الله للنمل، وما حكاه الله في القرآن عن النملة التي سمع سليمان كلامها وخطابها لأصحابها بقولها: {يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل:18] فاستفتحت خطابها بالنداء الذي يسمعه من خاطبته، ثم أمرتهم بأن يدخلوا مساكنهم، ويتحصنوا بها من العسكر، ثم أخبرتهم عن سبب هذا الدخول وهو خشية أن تصيبهم مضرة الجيش فيحطمهم سليمان وجنوده، ثم اعتذرت عن نبي الله سليمان وعن جنوده باعتذار حسن، اعتذرت عنهم بحسن الظن بهم، وأخبرت بأنهم لا يشعرون، أي: ولو شعروا لما مروا فأهلكوا النمل من تحتهم، ولذلك تبسم نبي الله سليمان من حسن قولها وجودة منطقها، وما نتج عنها من الكلام الحسن الذي ينم عن جودة في التفكير والأسلوب. ولقد نهى صلى الله عليه وسلم عن قتل أنواع من الحيوانات، مثل ما ثبت عنه أنه نهى عن قتل النمل والنحل والهدهد والصرد، وهو نوع من أنواع الطيور، وفي الصحيح عن أبي هريرة قال: (نزل نبي من الأنبياء تحت شجرة فقرصته نملة، فأمر بجهازه فأخرج، وأمر بقرية النمل فأحرقت جزاءً لتلك القرصة، فأوحى الله إليه أمن أجل أن قرصتك نملة أحرقت أمة من الأمم تسبح، فهلا نملة واحدة!) فالعدل مكانه في كل شيء، أمن أجل أن قرصتك نملة أحرقت أمة من الأمم تسبح لله فهلا قتلت نملة واحدة؟ وتأمل لتلك المخلوقة الضعيفة كيف تدرك بالشم ما يدرك غيرها بالبصر، وتحمل من الطعام ما هو أكبر من حجمها، ومثل ذلك مثل بعض الناس الذين هيأهم الله لحمل الأثقال التي تنوء بحملها الجبال، إنها المسئوليات العظيمة في نصرة هذا الدين. وتأمل النملة عندما تعجز عن حمل شيء من الطعام؛ فإنها تذهب وتجيء بمجموعة في صف طويل، حتى تتعاون تلك الفصيلة من النمل في حمل هذا الشيء، وكذلك المشكلات العويصة التي إذا حلت بالمجتمع المسلم لا يستطيع أن يحلها رجل واحد، بل لا بد من تكاتف الجهود واجتماع الناس، وأن يتنادى بعضهم بعضاً، وأن ينتدب بعضهم بعضاً لهذه المهمات الشاقة، فيأتون في صف كالبنيان المرصوص، يحملون تلك التبعات ويجاهدون في الله حق جهاده. وتأمل كيف تجتهد النملة في صلاح العامة منها، غير مختلسة من الحب شيئاً لنفسها، لا توجد نملة في مجتمع النمل تأخذ هذا الطعام لوحدها؛ فتأكله وتعتزل به جانباً، وإنما تجره إلى جحرها حتى يتشارك الجميع في أكله، إن ذلك هو التعاون بعينه الذي يوجد في بعض مجتمعات البشر الذين حباهم الله بتلك النعم.

وجه المماثلة مع الحمام

وجه المماثلة مع الحمام وأخيراً: من أمثلة المجتمعات الحيوانية التي فيها انطباق ومشابهة كبيرة في حياة الناس: مجتمع الحمام، وهو من أعجب الحيوانات حتى قال الإمام الشافعي رحمه الله: الحمام أألف الحيوانات وأعقلها، أما أنه أعقل الطير فلأنه يحمل الرسائل والكتب، وربما زاد قيمة الطير منه على قيمة العبد والمملوك؛ لأنه يفعل في بعض الأحيان ما لا يفعله العبد والمملوك، فإنه يذهب ويرجع إلى مكانه من مسيرة ألف فرسخ فما دونها، وتنهي الأخبار والأغراض والمقاصد التي تتعلق بها مهمات الملوك والدول عن طريق هذا النوع من الحمام، ولهم قيمون عليها يعتنون بأنسابها اعتناءً عظيماً، فيفرقون بين ذكورها وإناثها وتنقل الذكور عن الإناث، والإناث عن الذكور، يخافون من فساد أنسابها؛ لأنه لا بد أن تكون أصيلة حتى تستطيع أن تؤدي المهمات. وقال ابن القيم رحمه الله في تعليق لطيف في هذا الموضع: والقيمون -الموظفون الذين يقومون برعي هذا الحمام- يحفظون الذكور عن الإناث، حتى لا تختلط أنساب الحمام، ويحفظون أرحام حمامهم ويحتاطون عليها، ولا حول ولا قوة إلا بالله! والحمام موصوف باليمن والألف للناس، وهكذا بعض الناس تجده أليفاً، يحبه الآخرون، ولكن أناساً آخرين فيهم الفصائل الوحشية والنفور، لا يألفهم أحد؛ فهكذا الحيوانات على قسمين: قسم أليف يعيش مع الغير. وقسم وحشي ينفر من الجميع. هذا الحمام يألف المكان، ويثبت على العهد والوفاء لصاحبه، وإن أساء إليه، ويعود إليه من مسافات بعيدة، وربما صُدَّ عن الرجوع فترك وطنه عشر سنين وهو ثابت على الوفاء، حتى إذا استطاع العودة عاد إلى موطنه ذلك، وكذلك البشر منهم من يحفظ لك الوفاء والعهد، ولو أسأت إليه مرة فإنه يرجع إليك ويفيء؛ لأن عنده من تلك الطباع الأليفة ما يجعله يحتمل منك ذلك الخطأ في سبيل ذلك المعروف العظيم الذي أسديته إليه، كما أسدى صاحب الحمام إليها الطعام والمسكن، وهيأ لها وسائل المعيشة، فهي تحبه وترجع إلى المسكن وتألفه؛ ولذلك فإن الوصية كل الوصية لمن كان في ذلك المجتمع المسلم، فحصل له خير عظيم اقتبسه وتعلمه؛ أنه إذا أسيء إليه مرة أو أخطئ عليه أخرى أن يتناسى ذلك الخطأ، وأن يعود ويفيء إلى محضنه التربوي حتى يقتبس منه وينهل ويكتمل. وأسأل الله لي ولكم السداد، وأستغفر الله لي ولكم. الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا هو ولي الصالحين والمتقين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى سبيله ومنهجه القويم. وإذا تأملتم أيها الإخوة! في الواقع الاجتماعي للناس، وموقف الذكور والإناث من بعضهم، فإنكم تجدون بعد البحث والمقارنة مشابهة عجيبة لبعض طباع الحيوانات في ذكورها وإناثها، فإن الحمام كما يقول ابن القيم رحمه الله: مُشاكل للناس في أكثر طباعه ومذاهبه، فإن من إناثه من لا تريد إلا زوجها -هذا في الحمام- ومنها من لا ترد يد لامس، وأخرى لا تنال إلا بعد طلب حثيث، وأخرى لها ذكر معروف بها ولكن إذا غاب زوجها تخونه في ذكر آخر، ثم تأمل انطباق ذلك في حياة الناس اليوم تجد العجب العجاب، ونسأل الله أن يحصن فروجنا، وأن يجعلنا من الذين لا يخونون، ويحفظون الأمانات. ومن الحمام من إذا باضت بيضة وهي لا تبيض في العادة أفسدت البيض، وتجد كذلك عند بعض الإناث الذين يجهضون ما في أرحامهن من الجنين الذي خلقه الله فيها؛ لأنها لا تريد المسئولية بزعمها، كما أن ذلك النوع من الحمام يفسد بيضه؛ لأنه لا يريد المسئولية. وفي الحمام كذلك طبيعة أن ذكوره وإناثه يتقاسمون المهمات، فتقوم الأنثى بالحمل والوضع ورعاية الفراخ، ويقوم الذكر بالبحث عن الرزق وجلبه إلى العش. والله سبحانه قد جعل بعض الدواب كسوباً محتالاً، وبعضها متوكلاً غير محتال، وكذلك البشر.

استعراض لبعض طباع بني آدم

استعراض لبعض طباع بني آدم وبعض الحشرات يدخر لنفسه قوت سنة، وبعضهم يتكل على الله ثقة به مثل الطيور، وكذلك البشر بعضهم يدخرون لسنوات طويلة، وبعضهم إذا كسبوا أنفقوا على أنفسهم بالمعروف، وتصدقوا وعلموا أن الله سيرزقهم في الغد، وهو يرزقهم فعلاً لما صدقوا الله من التوكل. ومن الحيوانات من يعول ولده، وبعضهم لا يعرف ولده، بل يلده ويذهب عنه، وبعض الإناث تكفل ولدها لا تعدوه، وبعضها تضع ولدها وتكفل ولد غيرها، وبعضها لا تعرف ولدها إذا استغنى عنها، وبعضها لا تزال تعرفه وتعطف عليه، وبعض الحيوانات يعرف الإحسان ويشكره، وبعضها لا يعرف الإحسان ولا يشكره، وبعضها يؤثر على نفسه، وبعضها إذا ظفر بما يكفي أمة من جنسه لم يدع أحداً يدنو منه. وبعضها لا يأكل إلا الطيب، وبعض الحيوانات يأكل الطيب والخبيث. بعض الحيوانات يأكل الطيب فقط، وبعض الحيوانات يأكل الخبيث فقط مثل الخنزير، وكذلك الناس في معايشهم اليوم، من وفقه الله لكسب الحلال لا يأكل إلا طيباً، ومن أغواه الشيطان فولغ في الحرام فكل نفقته حرام في حرام، يضعون نقودهم في البنوك الربوية في الخارج، ويتقاضون من روائها الفوائد الربوية، منها يعيشون، وعليها يتقوتون، ومنها يغذون أطفالهم وأولادهم: (وكل لحم نبت من سحت فالنار أولى به). وبعض الحيوانات لا يؤذي إلا من آذاه، وبعضها يؤذي من لا يؤذيه وهكذا البشر، وبعضهم حقود لا ينسى الإساءة، وبعضهم يستقبح القبيح وينفر منه، وبعضهم لا يستقبح القبيح ولا يعرف الحسن، وبعض الحيوانات تتعلم بسرعة، وبعضها تتعلم ببطء، ولذلك فإن الذي يعاشر هذه الأصناف من الحيوانات فإنه يتأثر بها ولا بد. وبعض الحيوانات يخدع بسهولة، وبعضها لا يخدع بسهولة، كذلك البشر منهم فطن ينتبه، ومنهم من لا ينتبه ويقع في أول فخ ينصب له، قال بعض الصيادين: ربما رأيت العصفور على الحائط فأومئ بيدي كأني أرميه فلا يطير، أتظاهر بأني أرميه وليس في يدي شيء فلا يطير، وربما أهويت إلى الأرض كأني أتناول شيئاً ولكن لا أتناول شيئاً فلا يتحرك، فإن مسست بيدي أدنى حصاة أو حجر أو نواة طار قبل أن تتمكن منها يدك، وهذا مشاهد في من عرف طبيعة الطيور. وكذلك أيها الإخوة! ينبغي للإنسان المسلم أن لا يكون خبّاً، وأن لا يخدعه الخبّ فلا يكون لئيماً ماكراً، ولكن لا يدع الماكرين الخبثاء ينالون منه في شيء، وهذا باب واسع جداً، ولو ظللنا نسرد ما فيه لطال بنا الوقت، ولكن تأمل -يا أخي- في النهاية إلى تدبر السلف لهذه الآية: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام:38] الطباع تتشابه: {إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38]. اللهم عالم الغيب والشهادة، فاطر السماوات والأرض، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لم اختلف فيه من الحق بإذنك. اللهم حسّن أخلاقنا، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت. اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح ذات بيننا، واجعل بلدنا رخاءً سخاءً وسائر بلاد المسلمين، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.

المشي كيف وإلى أين؟

المشي كيف وإلى أين؟ الإسلام دين شامل يتناول مظاهر الحياة كلها؛ والمشي نشاط إنساني ومظهر من مظاهر تحرك الإنسان على الأرض لعمارتها، وتنظيم علاقات الجنس البشري فيها، ولذلك لم تغفله النصوص الشرعية؛ فقد جاءت آيات كثيرة في القرآن الكريم والسنة النبوية لتبين آدابه، ولترشد المسلم إلى غايات ينبغي أن يسعى إليها، وتحذره من السعي الذي يبغضه الله ولا يرضاه.

آداب المشي في القرآن الكريم

آداب المشي في القرآن الكريم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: انتهينا -أيها الإخوة- من الكلام عن آداب تلاوة القرآن الكريم، نتحدث اليوم -إن شاء الله- عن أدب إسلامي آخر وهو المشي، وربما يستغرب الإنسان ويقول: ماذا يمكن أن يوجد على المشي في هذه الشريعة؟! والحقيقة أن هناك كلاماً كثيراً في هذه الشريعة ورد في النصوص الشرعية يتعلق بالمشي، فلعلنا نذكر بعضه إن شاء الله في هذا الموضع. أولاً: بالنسبة للقرآن الكريم، فإنه قد جاء ذكر آداب المشي في القرآن الكريم في عددٍ من السور مثل سورة لقمان وسورة الفرقان، قال الله سبحانه وتعالى عن وصية لقمان لولده: {وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان:18 - 19]. ومعنى قول الله سبحانه وتعالى: {وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً} [الإسراء:37] أي: لا تمش مشية الخيلاء متكبراً جباراً عنيداً؛ فإن فعلت ذلك أبغضك الله، ولهذا قال: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان:18] والمختال: المعجب في نفسه، والفخور: أي على غيره. وأوصى ولده بقوله: (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) أي: امشِ مقتصداً ليس بالبطيء المتثبط، ولا بالسريع المفرط، بل عدلاً وسطاً بين بين، هذا ما ذكره الحافظ ابن كثير رحمه الله، وقال العلامة الألوسي رحمه الله تعالى في تفسيره روح المعاني قال: (ولا تمش في الأرض) التي هي أحط الأماكن منزلةً (مرحاً) أي: فرحاً وبطراً {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان:18] هذا هو التعليل للنهي، والمختال من الخيلاء، وهي التبختر في المشي كبراً، ولذلك قيل: إن اشتقاق اسم الخيل من الخيلاء، لأنه ما ركبها أحدٌ إلا وجد في نفسه خيلاء، فسميت الخيل خيلاً من هذا. وقوله تعالى: (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) قال رحمه الله: بعد اجتناب المرح فيه، توسط فيه بين الدبيب والإسراع، من القصد وهو الاعتدال، وقال ابن مسعود: [كانوا ينهون عن خبب اليهود ودبيب النصارى، ولكن مشياً بين ذلك]. وفي البداية والنهاية أن عائشة نظرت إلى رجلٍ كان يتماوت في مشيته فقالت: ما لهذا؟ فقيل: إنه من القراء، فقالت: [كان عمر رضي الله عنه سيد القراء وكان إذا مشى أسرع، وإذا قال أسمع، وإذا ضرب أوجع] فالمراد إذاً بالإسراع فيه ما فوق دبيب التماوت، وعلق في الحاشية بقوله: ورأى عمر رضي الله عنه رجلاً متماوتاً فقال: [لا تمت علينا ديننا أماتك الله تعالى] ورأى رجلاً مطأطئاً رأسه فقال: [ارفع رأسك إن الإسلام ليس بمريض]. فيكره مشي التماوت الذي يخفى فيه الصوت وتقل الحركات ويتزيا صاحبه بزي العباد كأنه يتكلف في صفاته بما يقربه من صفات الأموات، ليُوهم أنه ضعف من كثرة العبادة، وكأن هذا الذي يمشي مشية التماوت يريد أن يقول للناس: من كثرة عبادتي وصيامي أنني متعب في المشي، وهذا من أنواع الرياء، لأن المسلم مطالب بإخفاء عمله، والسلف رحمهم الله كان بعضهم من كثرة الصيام يصفر لونه، فكانوا يدَّهنون حتى لا يظهر جفاف الشفاه ولصوق الجلد من كثرة الصيام، وكانوا يدهنون في نهار اليوم الذي يصومون فيه، حتى لا يظهر أثر العبادة وأثر الصيام؛ فيكون خفياً، فهو أقرب إلى الله عز وجل. فمشية التماوت التي يظهر صاحبها أنه عنده تعبٌ شديدٌ من العبادة هي أمرٌ مذموم، وورد في صفته صلى الله عليه وسلم إذا مشى كأنما ينحط من صبب، وقال تعالى: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} [لقمان:19] وكونه عليه الصلاة والسلام كأنه ينحط من صبب لا يتنافى مع قوله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} [الفرقان:63] لأن بعض الناس إذا علم أن مشية النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث كأنه ينحط من صبب، وأنه يسير بشيءٍ من الإسراع، وأنه يتقلع تقلعاً: (كان إذا مشى يتقلع) -كما سيأتي معنا بعد قليل- ظن أن هناك تعارضاً بين هذا وبين قوله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} [الفرقان:63] فيظن أن الهون في المشي يتنافى مع كونه أنه ينحط من صبب -كأنه ينحط من مكان مرتفع- وأنه يتقلع تقلعاً. فقال الألوسي رحمه الله: إذ ليس الهون فيه المشي كدبيب النمل، وذكر بعض الأفاضل أن المذموم اعتياد الإسراع بالإفراط فيه، وقال السخاوي: محل ذم الإسراع ما لم يخش من بطء السير تفويت أمرٍ ديني، لكن أنت تعلم أن الإسراع المذهب للخشوع لإدراك الركعة مع الإمام مما لا ينبغي. وعن مجاهد أن القصد في المشي التواضع فيه، وقيل: جعل البصر موضع القدم، فإن من عيوب الإنسان أن يتلفت وهو يمشي يميناً وشمالاً يتفرج، وربما وقعت عيناه على امرأة ونحو ذلك، وقد ذكروا -في مسألة غض البصر- أن رجلاً كان يمشي وينظر إلى امرأة في جانب الطريق فارتطم بعمودٍ فسال دمه من هذه الصدمة؛ فالالتفات يميناً وشمالاً لا إلى الأمام لا شك أنه من عيوب المشي. قال: وقيل جعل البصر موضع القدم، هذا بالنسبة لما ذكره في هذا الموضع. وقال: (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) من أَقْصَدَ الرامي إذا سدد سهمه نحو الرمية ووجهه إليها ليصيبها، أي: سدد في مشيك، والمراد: امش مشياً حسناً، وكأنه أُريد التوسط به بين المشيين السريع والبطيء، هذا بالنسبة لما ذكره في هذا الموضع. وذكر الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان في تفسير سورة الإسراء عند قوله تعالى: {وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً} [الإسراء:37]: نهى الله جل وعلا الناس في هذه الآية الكريمة عن التجبر والتبختر في المشية، (وقُرئ مرَحاً ومرِحاً) إذا قرأنا: (ولا تمش في الأرض مَرِحاً) أي لا تمش في الأرض في حال كونك متبختراً متمايلاً مشي الجبارين، قال: وأصل المرح في اللغة شدة الفرح والنشاط، وأطلق على مشي الإنسان متبختراً لأن ذلك من لوازم شدة الفرح والنشاط عادةً. ولا شك أن الذي يمشي مشية الخيلاء متبختراً متفاخراً عُرضة لعذاب الله، والدليل على ذلك ما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وغيره عن مسلم بن جحاشن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله تعالى: يا بن آدم أنى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذا، حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين بردين وللأرض منك وئيد -وهذا مشي الجبارين المتغطرسين- فجمعت ومنعت -جمعت الأموال ومنعت الفقراء- حتى إذا بلغت التراقي قلت: أتصدق، وأنّى أوان الصدقة)؛ لأنه إذا بلغت الروح التراقي فلا توبة ولا تنفع التصرفات المالية، أو لا تنفذ التصرفات المالية في تلك اللحظة. وكذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الرجل الذي كان يمشي متبختراً فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة، فهناك عقوبة للمتجبرين في مشيتهم، فالذي يمشي مشية الخيلاء متغطرساً مهدد بعقوبة من الله، ويوم القيامة يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يحشر المتكبرون كأمثال الذر على صور الرجال يطؤهم الناس بأقدامهم). انتبهوا يا أيها الإخوة! قضية المشي هذه قضية مهمة ورد ذكرها في القرآن في هذه السور الثلاث في لقمان والفرقان والإسراء، فالمسألة مهمة. يقول الله تعالى في سورة الفرقان: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} [الفرقان:63] أول صفة لعباد الرحمن ذكرها أنهم يمشون على الأرض هوناً قال ابن كثير رحمه الله: هوناً أي بسكينةٍ ووقار من غير جبرية -أي بدون تجبر ولا استكبار- كما قال الله تعالى: {وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً} [الإسراء:37]. فأما هؤلاء -أي: المؤمنون عباد الله- فإنهم يمشون من غير استكبارٍ ولا مرح ولا أشرٍ ولابطر، وليس المراد أنهم يمشون كالمرضى تصنعاً ورياءً -يمثلون تمثيلاً ويتظاهرون تظاهراً ويتماوتون تماوتاً- فقد كان سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم إذا مشى كأنما ينحط من صبب، هذا في قوة مشيته وسرعته عليه الصلاة والسلام، فلا تفهم من قوله تعالى: {يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} [الفرقان:63] أن تلك مشية المتماوت البطيء المتثاقل في الحركة؛ بل لا تبختر ولا تماوت، وامش بين بين، وكأنما الأرض تطوى له، وقد كره بعض السلف المشي بتضعفٍ وتصنع، حتى روي عن عمر أنه رأى شاباً يمشي رويداً فقال: ما بالك أأنت مريض؟! قال: لا يا أمير المؤمنين، فعلاه بالدرة وأمره أن يمشي بقوة، وإنما المراد بالهون هاهنا السكينة والوقار كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون -ركضاً وهرولةً وإسراعاً مفرطاً مبالغاً فيه- وائتوها وعليكم السكينة والوقار -والسكينة والوقار ليس معناها أن نسحب أرجلنا سحباً على الطريق- فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا) هذا بالنسبة لما ذكره رحمه الله في سورة الفرقان.

آداب المشي في السنة النبوية

آداب المشي في السنة النبوية لنشرع الآن في ذكر بعض الأحاديث التي وردت في صفة مشي النبي صلى الله عليه وسلم، ورد في الصحيح -والصحيح من الأحاديث إما أن يكون في البخاري أو في مسلم أو في كليهما أو ما ورد مستكملاً لشرط الحديث الصحيح- ففي الصحيح -أي في البخاري ومسلم - من حديث أنس رضي الله عنه وهذا اللفظ لفظ مسلم: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أزهر اللون كأن عرقه اللؤلؤ إذا مشى تكفأ). وكان صلى الله عليه وسلم أيضاً: (إذا مشى لم يتلفت) رواه الحاكم رحمه الله تعالى وهو حديثٌ صحيح، صححه الألباني في صحيح الجامع، وقال المناوي في شرح الحديث: لم يلتفت لأنه كان يواصل السير ويترك التواني والتوقف. والالتفات للحاجة لا بأس به، الإنسان يحتاج للالتفات إذا مشى من سيارةٍ أتت ونحو ذلك أو ليرى شيئاً؛ لكن ليس تلفت المتفرجين الذي يحصل من الناس اليوم وهم يسيرون في الشوارع وتقع أعينهم على ما لا يرضي الله، وكذلك التلفت يبطئ السير، والنبي صلى الله عليه وسلم كان إذا مشى لحاجة مشى ومضى وعزم؛ ولم يكن يتباطأ في مشيته ولم يلتفت؛ لأنه كان يواصل السير ويترك التواني والتوقف، والتلفت في المشي يسبب التواني والتوقف والتلكؤ في المشي، فإذا لم تكن حاجة للتلفت فمن الأدب ألا يتلفت الإنسان في مشيته وهو يمشي: (وكان صلى الله عليه وسلم إذا مشى مشى أصحابه أمامه وترك ظهره للملائكة) والملائكة كانوا يحرسونه من أعدائه، والله سبحانه وتعالى حسبه. (وكان صلى الله عليه وسلم إذا مشى أسرع) وهذا الحديث قد جاء مرسلاً فهو حديث ضعيف، وكذلك مما ورد مما لم يصح وهو مشهور عند الناس حديث الترمذي: (ما رأيت شيئاً أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن الشمس تجري في وجهه، ولا رأيت أحداً أسرع في مشيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما الأرض تُطوى له، إنا لنجهد أنفسنا وإنه لغير مكترث) هذا جاء في الترمذي عن أبي هريرة وفيه ابن لهيعة وهو ضعيف، لكن معناه موجود، أنه عليه الصلاة والسلام: (كان إذا مشى أقلع) وصححه في صحيح الجامع ومعنى أقلع: مشى بقوة، كأنه يرفع رجليه من الأرض رفعاً قوياً، أقلع: يتقلع في المشي، لا كمن يمشي على طريقة النساء، وجاء في الحديث الصحيح أيضاً: (كان صلى الله عليه وسلم إذا مشى كأنه يتوكأ) فهو إذا مشى صلى الله عليه وسلم كانت خطواته جادة، كأنما ينحدر من صبب. وجاء عند ابن عساكر عن ابن عباس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمشي مشياً يُعرف فيه أنه ليس بعاجزٍ ولا كسلان) حديث صحيح. وكان أشبه الناس بمشية النبي صلى الله عليه وسلم ابنته فاطمة؛ فقد جاء في صحيحي البخاري ومسلم أيضاً عن عائشة قالت: (كنا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عنده لم يغادر منهن واحدة، فأقبلت فاطمة تمشي ما تخطئ مشيتها من مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً) فكان أشبه الناس مشياً بمشية النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة عليها رضوان الله.

مشية النساء

مشية النساء ومشية النساء في الشارع تختلف عن مشية الرجال، فلابد أن تمشي المرأة على جانب الطريق والرجال في الوسط، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إن المرأة إذا جاءت إلى رجل أجنبي للحاجة تكون مشيتها ما أخبر الله تعالى به في كتابه في سورة القصص عن بنت الرجل الصالح لما جاءت إلى موسى عليه السلام، لأن أباها لا يستطيع أن يأتيه بنفسه، قال الله: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} [القصص:25] ليست بسلفع خراجة ولاجة، بل تمشي على استحياء، ما جاءت إليه جريئة سليطة، لأن مخاطبة المرأة لرجل أجنبي صعبة على العفيفة، أما الآن فصارت أسهل عندهن من شرب الماء من كثرة المكالمات الهاتفية والاختلاط في العمل، وكثير من الأماكن صار كلام المرأة مع الرجل الأجنبي عادياً جداً، فأصبحت المرأة تأتي الرجل الأجنبي بكل ثقة وجرأة ولم تعد تمشي على استحياء كما يقتضي الأدب الإسلامي في مشية المرأة المسلمة.

ابن القيم يصف مشية الرسول صلى الله عليه وسلم

ابن القيم يصف مشية الرسول صلى الله عليه وسلم وقد وصف ابن القيم رحمه الله مشية النبي صلى الله عليه وسلم في كتابه زاد المعاد فقال رحمه الله: كان إذا مشى تكفأ تكفؤاً، وكان أسرع الناس مشيةً وأحسنها وأسكنها، قال أبو هريرة: (ما رأيت شيئاً أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن الشمس تجري في وجهه) وذكر حديث الترمذي الذي تقدم ذكر ضعفه، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مشى تكفأ تكفؤاً كأنما ينحط من صبب) وقال مرةً: (إذا مشى تقلع) قلت: والكلام لـ ابن القيم رحمه الله، والتقلع الارتفاع من الأرض بجملته. فلا يسحب رجليه سحباً كما يفعل بعض الناس، بل كان صلى الله عليه وسلم يرفعها رفعاً ويضعها وضعاً. فإذاً كان يرتفع من الأرض بجملته كحال المنحط من صبب، وهي مشية أولي العزم والهمة والشجاعة، وهي أعدل المشيات وأروحها للأعضاء، وأبعدها من مشية الهوج والمهانة والتماوت، فإن الماشي إما أن يتماوت في مشيه ويمشي قطعة ًواحدة كأنه خشبةٌ محمولة، وهي مشيةٌ مذمومةٌ قبيحة، وإما أن يمشي بانزعاج واضطراب كمشي الجمل الأهوج وهي مشيةٌ مذمومة أيضاً، تجد أن كل شيء يتحرك فيه وهو يمشي، فهذه مشية الأهوج، وهي دالةٌ على خفة عقل صاحبها، أي إذا رأيت من يمشي مشي الأهوج في الشارع، وكل شيء يتحرك فيه، فاعلم أن في عقله خفة، وليس من اللازم أن يكون مجنوناً، لكن في عقله خفة، ولا سيما إذا كان يكثر الالتفات حال مشيه يميناً وشمالاً. وإما هذا الاحتمال الآخر: أن يمشي هوناً، وهي مشية عباد الرحمن كما وصفهم بها في كتابه فقال: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} [الفرقان:63] قال غير واحد من السلف: بسكينة ووقار من غير تكبرٍ ولا تماوت، وهي مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه مع هذه المشية كان كأنما ينحط من صبب، وكأنما الأرض تطوى له، حتى كان الماشي معه يجهد نفسه ورسول الله صلى الله عليه وسلم غير مكترث، وهذا يدل على أمرين، أن مشيته لم تكن بتماوت ولا بمهانة، بل كانت أعدل المشيات.

أنواع المشيات

أنواع المشيات ثم قال رحمه الله: والمشيات عشرة أنواع: منها: هذه الثلاثة التي مضت، وهي: التماوت، والهوجاء، والهون. الرابعة: السعي. الخامسة: الرمل؛ والرمل أسرع من السعي، وهو إسراع المشي مع تقارب الخطى، ويسمى الخبب أيضاً، وفي الصحيح من حديث ابن عمر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خب في طوافه ثلاثاً ومشى أربعاً). السادسة: النسلان، والنسلان هو العدو الخفيف الذي لا يزعج الماشي ولا يكرثه، ولا يسبب الإجهاد الكثير، الهرولة اليسيرة، وفي بعض المسانيد أن المشاة شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشي في حجة الوداع -أي: من عرفة إلى مزدلفة، ومن مزدلفة إلى منى - شكوا إليه تعب المشي فأوصاهم عليه الصلاة والسلام بوصية فيها تخفيف عليهم، تتعلق بسرعة المشي، قال: (استعينوا بالنسلان) وهذا الحديث صحيح، رواه الحاكم وصححه الذهبي، فإذا كنت تمشي مسافة طويلة وأردت أن تستعين بشيءٍ يخفف عنك المشي الطويل فعليك بالنسلان، وهو الهرولة الخفيفة، فعند ذلك ستجد أنك قطعت مسافة أكثر براحة أكثر. السابعة: الخوزلة: وهي مشية التمايل وهي مشيةٌ يقال: إن فيها تكسراً وتخنثاً. الثامنة: القهقرى: وهي المشي إلى الوراء، وسيأتي حديث يتعلق بها. التاسع: الجمزى: وهي مشيةٌ يثب فيها الماشي وثباً، ويقفز قفزاً. العاشر: التبختر، وهي مشية أولي العجب والتكبر، وهي التي خسف الله سبحانه بصاحبها لما نظر في عطفيه وأعجبته نفسه فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة، قيل: إنه قارون. وأعدل هذه المشيات مشية الهون والتكفؤ، أما مشيه مع أصحابه فكانوا يمشون بين يديه وهو خلفهم، ويقول: دعوا ظهري للملائكة ولهذا جاء في الحديث: (وكان يسوق أصحابه) ومعنى (يسوق أصحابه) أنهم يمشون أمامه ويمشي وراءهم، وكان يمشي حافياً ومنتعلاً. ومما يتعلق بآداب المشي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة أن يحتفوا أحياناً لأجل أن يتعود الإنسان على الخشونة -يخشوشن- كما قال: (تمعددوا) انتسبوا إلى معد بن عدنان يعني في هيئته وشمائله، (واخشوشنوا) وفي رواية: (واخشوشبوا). إذاً: اعتادوا الخشونة، لأن الإنسان تتعاوره الظروف؛ فلن يكون دائماً في أماكن الترف والأماكن المهيأة، قد يضطر أن ينام أحياناً على الحجارة، وأن يمشي بدون نعال، فإذا كان هذا الإنسان مرفهاً مترفاً فلن يستطيع أن يتحمل، ولذلك تجد أصحاب الترف والميوعة لا يكادون يطيقون الحج، ويقولون: تعبنا وجهدنا ونحو ذلك، لأنه ليس متعوداً على المشقة، وأول ما يقع في شيء من المشقة في الطواف من زحام أو نحو ذلك يتأفف تأففاً عظيماً، وربما قال: ليتني ما حججت، وهذه عبارة سمعناها من بعضهم، قال: لو أدري أن الحج هكذا ما جئت. وكان صلى الله عليه وسلم يماشي أصحابه فرادى وجماعات، وكان في السفر ساقة أصحابه؛ أي: يمشي وراءهم: (يزجي الضعيف ويردفه ويدعو له) وهذا الحديث رواه أبو داود وهو حديثٌ صحيح. وقد ذكر العلامة السفاريني رحمه الله في غذاء الألباب شرح منظومة الآداب بعنوان المشيات عشرة أنواع، ونقل كلام ابن القيم رحمه الله، وأضاف إليه بعض الإضافات، فمن الإضافات التي أضافها السفاريني على كلام ابن القيم، لما عرض أحاديث مشية النبي صلى الله عليه وسلم وأنه إذا مشى كأنه ينحدر من صبب وأنه يمشي بنشاط وقوة، قال: فدلت هذه الأحاديث وأمثالها مما لم نذكر أن مشيته صلى الله عليه وسلم لم تكن بمماتةً ولا مهانة، والصبب الموضع المنحدر من الأرض، وذلك دليلٌ على سرعة مشيه، لأن المنحدر لا يكاد يثبت في مشيه، والتقطع الانحدار من الصبب، والتقطع من الأرض قريب لبعضه من بعض، وأراد به قوة المشي وأنه يرفع رجليه من الأرض رفعاً قوياً لا كمن يمشي اختيالاً يقارب خطوه، فإن ذلك من مشي النساء. لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء؛ أن يمشي الرجل مشية المرأة. ثم قال متعقباً في قضية المشي إلى الصلاة ومستدركاً: نعم. ينبغي للإنسان أن يقارب خطاه إذا كان ذاهباً إلى المسجد لأجل الصلاة، لأن كل خطوة تكتب حسنة وتمحو سيئة وترفع درجة، فمن أجل هذا استحب بعض العلماء تكثير الخطى بتقاربها حتى تكون أكثر.

آداب المشي مع الغير

آداب المشي مع الغير وقال رحمه الله مضيفاً مطلباً وهو حكم المشي مع الغير: قال الإمام ابن عقيل: من مشى مع إنسانٍ فإن كان أكبر منه وأعلم فعن يمينه، يقيمه مقام الإمام في الصلاة، فهو قد قاس موضعه في المشي على موضع الإمام في الصلاة، وإذا كانا سواءً استحب له أن يُخلي له يساره حتى لا يضيق عليه جهة البصاق والامتخاط فإذا أراد الآخر أن يمتخط ويبصق فلا يكون هو عن يساره. ومقتضى كلامه استحباب مشي الجماعة خلف الكبير، وإن مشوا على جانبيه فلا بأس كالإمام في الصلاة، يعني يكتنفونه وفي صحيح مسلم في حديث يحيى بن يَعْمُر أنه هو وحميد بن عبد الرحمن مشيا عن جانبي ابن عمر رضي الله عنهما؛ فإذا جاء اثنان إلى عالم اكتنفاه عن يمينه وشماله، وهذا من الأدب معه. وإذا لم يكن له حاجة بكلام معه فتقديمه من الأدب، لكن عليه أن يحذر من أن يصيبه كبر، فإن ابن مسعود لما خرج أصحابه يمشون وراءه قال: [ارجعوا فإنها ذلةٌ للتابع وفتنةٌ للمتبوع] ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يتواضع ويمشي وراء أصحابه. وقال عبد القادر رحمه الله تعالى: وإن كان دونه في المنزلة يجعله عن يمينه ويمشي عن يساره وقد قيل: المستحب عن اليمين في الجملة، لتخلى اليسار للبصاق وغيره، وقال مالك بن معوذ: كنتُ أمشي مع طلحة بن مصرف، فصرنا إلى مضيق فتقدمني، ثم قال: لو كنتُ أعلم أنك أكبر مني بيومٍ ما تقدمتك، هذا بعض ما يتعلق بمشي النبي صلى الله عليه وسلم وأدبه.

مقاصد المشي بين الطاعة والمعصية

مقاصد المشي بين الطاعة والمعصية أما بالنسبة للمشي فإن المشي لابد أن يكون في طاعة الله تعالى، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود عن أبي هريرة: (والرِّجلان يزنيان فزناهما المشي) أي: المشي إلى ما حرم الله. وقال ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين في عبوديات الجوارح: وأما المشي الواجب فالمشي للجُمعات والجماعات -فهناك مشي واجب ومكروه وجائز ومحرم ومستحب، المشي الواجب هو المشي إلى الجُمعات والجماعات، والمشي حول البيت للطواف الواجب مثل العمرة الواجبة والحج الواجب سواء كان فرضاً أو كان نذراً- والمشي بين الصفا والمروة بنفسه أو بمركوبه، والمشي إلى حكم الله ورسوله إذا دعي إليه -إذا قيل له: تعال إلى القاضي فقد دعي إلى حكم الله ورسوله فلابد أن يجيب- والمشي إلى صلة رحمه وبر والديه، والمشي إلى مجالس العلم الواجب طلبه وتعلمه، والمشي إلى الحج إذا قربت المسافة ولم يكن عليه فيه ضرر لما استحبه بعضهم من حج الماشي، لكن بدون أن يكون من مسافاتٍ بعيدة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ركب. والمشي الحرام: المشي إلى معصية الله، والماشي إلى المعصية من رَجْل الشيطان، ما هو الدليل؟ الدليل: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} [الإسراء:64] قال مقاتل: استعن عليهم بركبان جندك ومشاتهم، فكل راكبٍ وماشٍ في معصية الله فهو من جند إبليس.

من أحكام المشي

من أحكام المشي وأما بالنسبة لبعض ما يتعلق بالمشي من أبواب الفقه والأدب وغيرها، فمما يتعلق بالطهارة مشي المرأة إذا كانت تمشي فمرت بموضعٍ فيه قذر، وقد رخص لها بأن ترخي جلبابها شبراً أو ذراعاً؛ لأجل ألا تنكشف قدماها إذا هبت ريحٌ ونحو ذلك، ولا شك أن ارتخاء الجلباب أمر مستحب، لكنه صار شيئاً غير موجود في هذه الأيام تقريباً، فلا توجد الآن امرأة تسحب عباءتها شبراً أو ذراعاً بخلاف نساء العهد القريب، ربما بعض الناس إذا دقق في عباءة جدته رأى أنها تسحب وراءها شبراً أو شبرين، حتى إذا هبت الريح لا تنكشف قدماها، أما الآن فقد قصرت العباءات وظهرت الأقدام وأطراف السيقان وغيرها، وظهرت أشياء كثيرة، ليست فقط الأقدام أو الأصابع. ولو أنها مشت في مكانٍ قذر، فما هو الحكم بالنسبة لهذا؟ جاء في النسائي وغيره عن محمد بن إبراهيم عن أم ولدٍ لـ إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف أنها سألت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: (إني امرأة أطيل ذيلي وأمشي في المكان القذر، فقالت أم سلمة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يطهره ما بعده) الحديث بهذا السند ضعيف، لأن فيه جهالة أم ولد لـ إبراهيم بن عبد الرحمن. وجاء عند أبي داود بإسنادٍ صحيح: (عن امرأة من بني عبد الأشهل قالت: قلتُ: يا رسول الله إن لنا طريقاً إلى المسجد منتنة فكيف نفعل إذا مطرنا؟ فقال: أليس بعدها طريقٌ هي أطيبٌ منها، قلتُ: بلى، قال: فهذه بهذه) رواه أبو داود، وصححه في المشكاة. فإذا كان بعده طاهر طهره، لأن التراب مطهر للنجاسة العالقة بالثياب، فهذا حكم فقهي.

استحباب المشي لصلاة الجمعة

استحباب المشي لصلاة الجمعة كذلك مما يتعلق بالمشي استحباب المشي إلى صلاة الجمعة، فهو أفضل من الركوب، لقوله صلى الله عليه وسلم كما ورد في الصحيح: (من اغتسل يوم الجمعة وغسل -وفي رواية: غسل واغتسل- وغدا وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام، وأنصت ولم يلغُ، كان له بكل خطوةٍ عمل سنة). إذاً: المشي إلى صلاة الجمعة وإلى العيدين أفضل، فإن كانت المسافة بعيدة جداً ركب إلى الموضع الذي لا يشق عليه المشي منه وأكمل الباقي مشياً، وفي صلاة العيدين إذا ذهب ماشياً من طريق يرجع من طريقٍ آخر. وأيضاً فإن المشي للصلاة من العبادات العظيمة، فقد جاء في الصحيح عن يزيد بن أبي مريم قال: لحقني عباية بن رافع وأنا ماشٍ إلى الجمعة، فقال: أبشر فإن خطاك هذه في سبيل الله، سمعت أبا عبس يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من اغبرت قدماه في سبيل الله فهو حرامٌ على النار) فالمشي إلى صلاة الجمعة من سبيل الله، فإذا اغبرت القدمان حرمهم الله على النار.

الوضوء يكفر سيئات المشي المحرم

الوضوء يكفر سيئات المشي المحرم وكذلك فإن الوضوء مما يزيل آثار المعصية التي حدثت في الرجلين، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئةٍ نظر إليه بعينيه مع الماء أو مع آخر قطر الماء) وقال في آخره: (فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئةٍ مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء حتى يخرج نقياً من الذنوب). إذاً: الاهتمام بالوضوء أمرٌ مطلوب؛ ذلك لأن الوضوء المسبغ على السنة من الأسباب التي تكفر سيئات المشي المحرم الذي مشاه الإنسان برجليه، وكذلك فإن المشي إلى الصلاة من مكفرات الذنوب، كما جاء في عددٍ من الأحاديث كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم كان مشيه إلى المسجد وصلاته نافلة) أي: بعد خروجه من خطاياه بالوضوء الكامل المسبغ يكون مشيه إلى المسجد وصلاته نافلة.

المجيء إلى المسجد بسكينه ووقار

المجيء إلى المسجد بسكينه ووقار وكذلك من الآداب ما تقدم أن الإنسان إذا مشى إلى الصلاة فإنه يمشي وعليه السكينة والوقار، ولا يهرول هرولة ويجري جرياً كما يفعل كثير من الناس إذا سمع الإقامة جاء يجري، يدخل في الصلاة وهو لاهث مضطرب الأنفاس، يضيق صدره ويعلو وينخفض من شدة جريه وسعيه، على أنه قد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مواضع أنه لا بأس أن يسرع أكثر من المعتاد لأجل اللحوق بالركعة، خصوصاً إذا كانت في هذه الركعة إذا فاتت فاتت الصلاة، كما لو جاء قبيل الركوع من الركعة الثانية من صلاة الجمعة، لو فاتته فاتته الجمعة، قال: فلو أنه اشتد لأجل هذه المصلحة الأعلى فإنه لا بأس بذلك. لكن الناس الآن يجرون بكل حال على ركوع الركعة الأولى أو الثانية، وخصوصاً إذا صار المسجد عريض الصف يركضون ويجرون جرياً حتى يشوشوا على الناس وعلى الإمام في الصلاة. وينهى عن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (فلا تأتوها وأنتم تسعون وائتوها وأنتم تمشون، وعليكم السكينة) كما جاء في الصحيح. أما بالنسبة لقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس:12] ففسر مجاهد آثارهم بالخطوات والمشي إلى الجمعة والجماعات والصلوات، وكل هذا يكتب عند الله، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما ورد في الصحيح: (إن أعظم الناس أجراً في الصلاة أبعدهم إليها ممشى فأبعدهم، والذي ينتظر الصلاة حتى يصلي مع الإمام أعظم أجراً من الذي يصليها ثم ينام). فكلما كان بيتك أبعد كان أجرك أعظم، ولذلك لما أراد بنو سلمة أن ينتقلوا من موضعهم إلى قرب المسجد نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال: (بني سلمة! دياركم تكتب آثاركم) أي: الزموا دياركم تكتب آثاركم. وكذلك من الآداب المتعلقة بالمشي أن الإنسان إذا كان مريضاً فأتى الجماعة وهو يحتسب هذه الخطوات فإن أجره عظيم عند الله، قال عبد الله بن مسعود كما في صحيح مسلم: (لقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة -صلاة الجماعة- إلا منافقٌ قد علم نفاقه؛ إن كان المريض ليمشي بين رجلين حتى يأتي الصلاة) يمشي وهو مريض حتى يأتي إلى الصلاة. وكذلك فإن من الأحكام والآداب أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من تطهر في بيته ثم مشى إلى بيتٍ من بيوت الله ليقضي فريضةً من فرائض الله، كانت خطواته إحداهما تحط خطيئة، والأخرى ترفع درجة) ولذلك يقول أبي بن كعب: كان رجلٌ لا أعلم رجلاً أبعد من المسجد منه، وكان لا تخطئه صلاةٌ قال: فقلت له: لو اشتريت حماراً تركبه في الظلماء وفي الرمضاء، قال: ما يسرني أن منزلي إلى جنب المسجد، إني أريد أن يكتب لي ممشاي إلى المسجد ورجوعي إذا رجعت إلى أهلي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قد جمع لك الله ذلك كله) رواه مسلم. فإذاً في المشي إلى الصلاة أجرٌ ليس فقط في الذهاب بل حتى العودة.

فضل المشي إلى عيادة المريض

فضل المشي إلى عيادة المريض وعيادة المريض أيضاً مما يمشى فيه في طاعة الله، فإنه قد جاء في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا أخا الأنصار كيف أخي سعد بن عبادة؟ فقال: صالح -أي: مريض، لكنهم يقولون ذلك تفاؤلاً- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يعوده منكم؟ فقام وقمنا معه ونحن بضعة عشر، ما علينا نعالٌ ولا خفافٌ ولا قلانس ولا قمصٌ نمشي في تلك السباخ حتى جئناه الحديث). إذاً هؤلاء مشوا لزيارة المريض ما كان عندهم نعال، مشوا في السباخ والأراضي السبخة يكون المشي فيها صعباً- كل ذلك لأجل الأجر، فليحتسب الإنسان المسلم مشيه لعيادة أخيه المسلم.

الجمع بين الصلاتين في المطر

الجمع بين الصلاتين في المطر من أحكام المشي أن الصلاة في المطر تُجمع لأجل عدم إرهاق الناس بالمشي في الوحل والطين، ولذلك جاء في الصحيح أن ابن عباس أمر المؤذن في يومٍ مطير، قال: (إذا قلت: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، فلا تقل: حي على الصلاة، قل: صلوا في بيوتكم، قال: فكأن الناس استنكروا ذاك، فقال: أتعجبون من ذا؟! قد فعل هذا من هو خيرٌ مني، إن الجمعة عزمة، وإني كرهت أن أحرجكم، فتمشوا في الطين والدحض). فإذا وجد الطين والزلق حتى لو لم يكن هناك مطر فهذا مسوغ لجمع الصلاتين، فإذا نزل المطر فمن باب أولى.

جواز المشي اليسير أثناء الصلاة لحاجة

جواز المشي اليسير أثناء الصلاة لحاجة من أحكام المشي أيضاً مشي المصلي أثناء الصلاة، وهذا قد يكون لسد فرجة، وإذا مشى الإنسان منا مشية فينبغي له أن يحتسبها، والمشي لسد فرجة في الصف هي خطوات أجرها عظيم عند الله كما ورد في الحديث، وإذا كان أمامه صف فيه فرجة أو انكشفت فرجة، فمشى من صفه الخلفي إلى الإمام لسدها فهذه خطوة عظيمة، ومشي المصلي خطوات يسيرة لفتح بابٍ ونحوه أيضاً مما يجوز، فقد بوب النسائي رحمه الله في كتابه السنن: باب المشي أمام القبلة خطى يسيرة، أي: بدون أن ينحرف عن القبلة ويتغير اتجاهه، ثم جاء بحديث عائشة قالت: (استفتحت الباب ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي تطوعاً والباب على القبلة -أي: الباب في جهة القبلة- فمشى عن يمينه أو عن يساره، ففتح الباب ثم رجع إلى مصلاه) المشي كان عن يمينه أو عن شماله لأجل فتح الباب الذي على القبلة حسنه الألباني في صحيح سنن النسائي.

من أحكام المشي في الحج

من أحكام المشي في الحج وأما بالنسبة للمشي في الحج فمن أحكامه ما تقدم أن المشي يكون في الأشواط الأربعة الأخيرة، والثلاثة الأشواط الأولى يرمل فيها الطائف رملاً، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يرملوا ثلاثة أشواط لأجل أن يروا المشركين جلدهم، فقال المشركون: هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم، هؤلاء أجلد من كذا وكذا؛ كما جاء في الحديث الصحيح. هل انتهت السنة هذه بفتح مكة وانتهاء الشرك من مكة؟ A لا. بقيت سنة كل طواف قدوم، فالسنة فيه أنك ترمل في الأشواط الثلاثة الأولى وتمشي في الأربعة الباقية، جاء أيضاً في الحديث لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة أتى الحجر فاستلمه ثم مشى على يمينه فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً. وكذلك فإن المشي في السعي من المشي في طاعة الله، كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل من الصفا مشى، حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي، والعلم الأخضر الموجود الآن بداية الوادي، هذا الوادي كان موجوداً، والآن بعد أعمال التوسعة انتهى فصار المسعى كله علىمستوى واحدٍ لكن العلم الأخضر الأول ينبئك عن بداية الوادي، والعلم الأخضر الثاني ينبئك عن نهاية الوادي، فجاء في سنن النسائي وهو حديثٌ صحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل من الصفا مشى حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى حتى يخرج منه) وفي روايةٍ له: (حتى إذا صعدت قدماه مشى حتى أتى المروة). حتى كان مئزره عليه الصلاة والسلام يدور من شدة السعي، وبالنسبة لمرمي الجمار فقد جاء في الحديث الصحيح عند الترمذي: (كان صلى الله عليه وسلم إذا رمى الجمار مشى إليها ذاهباً وراجعاً) فالسنة إذاً المشي إلى الجمار ذاهباً وراجعاً.

المشي إلى مسجد قباء

المشي إلى مسجد قباء وكذلك فإن من الأحكام المتعلقة بالمشي المشي إلى مسجد قباء، فقد جاء في الصحيح عن ابن عمر: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يزور قباء راكباً وماشياً) وإذا كان ذلك يوم السبت فهو أفضل، فالذهاب إليه مشياً أو الذهاب إليه راكباً كله ورد في السنة.

تشييع الجنازة وآدابه

تشييع الجنازة وآدابه أما بالنسبة للجنازة والمشي فيها فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الراكب يسير خلف الجنازة، والماشي يمشي خلفها وأمامها وعن يمينها وعن يسارها قريباً منها) رواه الإمام أحمد وأبو داود. إذاً المشيع للجنازة يمشي في أي مكان قريباً منها، والراكب لابد أن يكون خلفها، وقال عليه الصلاة والسلام: (الراكب خلف الجنازة، والماشي حيث شاء منها) حديثٌ صحيح. أما المشي بالجنازة فلابد أن يكون إسراعاً، وقد جاء عند النسائي وهو حديثٌ صحيح عن عيينة بن عبد الرحمن بن يونس قال: حدثني أبي قال: (شهدت جنازة عبد الرحمن بن سمرة، وخرج زياد يمشي بين يدي السرير -أي: سرير الجنازة- فجعل رجالٌ من أهل عبد الرحمن ومواليهم يستقبلون السرير ويمشون على أعقابهم، ويقولون: رويداً رويداً بارك الله فيكم -يريدون أن تمشي الجنازة ببطء- فكانوا يدبون دبيباً حتى إذا كنا ببعض طريق المربد، لحقنا أبو بكرة على بغلة، فلما رأى الذي يصنعون من التباطؤ في المشي حمل عليهم ببلغته وأهوى إليهم بالسوط وقال: خلوا فوالذي أكرم وجه أبي القاسم صلى الله عليه وسلم لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنا لنكاد نرمل بها رملاً، فانبسط القوم). فقد قال: نكاد نرمل بها رملاً، فهذه هي السنة في الجنازة، لا شك أن المشي أيضاً في الجنازة فيه أجرٌ عظيم، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من مشى مع الجنازة حتى تدفن كان له من الأجر قيراطان، والقيراط مثل الجبل العظيم).

النهي عن المشي بالنعال بين القبور

النهي عن المشي بالنعال بين القبور ومن أحكام المشي أيضاً: عدم جواز المشي بين القبور بالنعال، لأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يمشي بين القبور في نعليه فقال: (يا صاحب السبتيتين ألقهما) والسبتية: نوع معين من النعال. وقد أغرب من زعم أن النهي مختص بالنعال السبتية، والصحيح أن النهي عامٌ في كل نعل، لا يجوز المشي به بين القبور، هناك طرقات عريضة في المقبرة واسعة غير القبور، طرقات رئيسية لا بأس بالمشي فيها بالنعال، لكن إذا دخلت في مكان القبور في هذه المربعات أو في هذه الأماكن التي فيها القبور لا يجوز أن تمشي بين القبور بالنعال، ونعني القبور المقبور فيها الناس، أما القبور الفارغة فلا نعنيها. فكثير من الناس وحتى بعض الشباب المتدينين إذا نظرت إليه في المقبرة عند دفن الجنازة تراه يطأ القبر بنعليه ويمشي بين القبور بنعليه، ووطؤه أشد ولا شك.

اغتنام المشي مع الصالحين وأهل العلم

اغتنام المشي مع الصالحين وأهل العلم وكذلك فإن السنة المشي مع الصالحين وأهل العلم، لأن المشي معهم مكسب عظيم، فإن الإنسان يكسب علماً وأدباً وفائدة، وقد جاء في الصحيح عن أبي ذر قال: (خرجت ليلةً من الليالي، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي وحده ليس معه إنسان، قال: فظننت أنه يكره أن يمشي معه أحد، قال: فجعلت أمشي في ظل القمر، فالتفت فرآني فقال: من هذا؟ فقلتُ: أبو ذر، جعلني الله فداءك، قال: يا أبا ذر تعال، قال: فمشيتُ معه ساعة، فقال: إن المكثرين هم المقلون يوم القيامة إلى أن قال: فمشيتُ معه ساعة، قال: أجلس هاهنا فأجلسني في قاعٍ حوله حجارة) إلى آخر الحديث الذي فيه (رغم أنف أبي ذر) وفي الحديث فضيلة المشي مع أهل العلم والصلاح، وأشار إلى ذلك العلماء.

المشي مع الضعفاء وأصحاب الحاجات

المشي مع الضعفاء وأصحاب الحاجات وكذلك فإن من آداب المشي أن يمشي الإنسان مع الضعفاء، فقد جاء في الحديث الصحيح: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر الذكر ويقل اللغو ويطيل الصلاة ويقصر الخطبة ولا يأنف -أي لا يستكبر- أن يمشي مع الأرملة والمسكين، فيقضي له الحاجة). وكذلك جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أحب الناس إلى الله أنفعهم، وأحب الأعمال إلى الله سرورٌ تدخله على مسلم، ولأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إليّ من أن أعتكف في المسجد شهراً) وهذا حديث حسن رواه ابن أبي الدنيا في قضاء الحوائج. والمشي في حاجة أخيك المسلم حتى تثبتها له أجرها أعظم، ولذلك قال: (ومن مشى مع أخيه المسلم حتى يثبتها له أثبت الله تعالى قدمه يوم تزل الأقدام) لأن الناس يمشون على الصراط، وهناك من يسقطون في النار، ومن يسرعون مثل البرق، ومثل الريح المرسلة، ومثل أجاويد الخيل. فإذاً المشي مع أهل الحاجات ولو لم تنقض الحاجة أحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم من الاعتكاف في المسجد شهراً، أما إذا انقضت فيثبت الله تعالى قدمه يوم تزل الأقدام.

حكم الحج ماشيا

حكم الحج ماشياً ومن أحكام المشي أيضاً: أن الإنسان إذا نذر أن يمشي إلى بيت الله لا يلزمه النذر، فقد جاء في الصحيح عن عقبة بن عامر أنه قال: (نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله حافية، فأمرتني أن أستفتي لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيته فقال لي: لا تمش ولتركب) لأن المشي إلى الحج حافياً ليس عبادة وقربة في ذاته، فنذره لا يكون نذر طاعة ولا نذر عبادة. ولذلك لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم شيخاً يهادى بين ابنيه، قال: ما بال هذا؟ قالوا: نذر أن يمشي، قال: (إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني) وأمره أن يركب، وقال: اركب أيها الشيخ فإن الله غنيٌ عنك وعن نذرك.

إماطة الأذى عن الطريق

إماطة الأذى عن الطريق ومن آداب المشي أن الإنسان إذا كان ماشياً فرأى في الطريق عظماً أو حجراً يؤذي الناس فإنه يميطه وله أجرٌ عظيم، فقد جاء عن أبي هريرة في الحديث الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بينما رجل يمشي بطريقٍ إذ وجد غصن شوكٍ على الطريق فأخره، فشكر الله له فغفر له).

كراهة المشي بنعل واحدة

كراهة المشي بنعل واحدة وكذلك فإن من الأشياء المتعلقة بالمشي أن الإنسان إذا فقد إحدى نعليه أو انقطعت فإنه لا يمشي في نعلٍ واحدة، فقد جاء في البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يمش أحدكم في نعلٍ واحدة، لينعلهما جميعاً أو ليخلعهما جميعاً) وهذا يمكن أن يدخل في آداب الانتعال الذي سيأتي معنا إن شاء الله تعالى.

أحكام سلام الماشي والراكب

أحكام سلام الماشي والراكب وكذلك من الآداب المتعلقة بالموضوع قوله عليه الصلاة والسلام: (يسلم الراكب على الماشي، والماشي على القاعد، والقليل على الكثير) فالراكب يسلم على الماشي لأنه أقل منزلة منه، فيبدأ هو بالسلام تواضعاً له، الماشي أرفع منزلة من القاعد، إذاً يسلم الماشي على القاعد، هذا أيضاً من التواضع.

السلام على الصبيان

السلام على الصبيان وكذلك من الآداب أن الإنسان إذا كان يمشي فمر بصبيان أن يسلم عليهم تواضعاً، فقد قال ثابت: (كنت أمشي مع أنس فمر بصبيانٍ فسلم عليهم، وحدّث أنس أنه كان يمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمر بصبيانٍ فسلم عليهم).

الاعتبار بمشي يوم القيامة

الاعتبار بمشي يوم القيامة وينبغي أيضاً أن نعتبر بما يحدث في يوم القيامة من خروج الناس من قبورهم على الهيئة التي وصفها النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكم ملاقو الله مشاةً حفاةً عراةً غرلاً) فلا يمش إلا إلى ما يرضي الله، فكذلك يكون العباد يوم القيامة ثم يكسون، وأول من يكسى من الخلائق إبراهيم عليه السلام. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هناك أناساً يحشرون على وجوههم فاستغرب بعض الصحابة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أليس الذي أمشاه على رجليه في الدنيا قادراً على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة).

جواز مماشاة الجنب للناس

جواز مماشاة الجنب للناس وكذلك فإن مما يتعلق بالمشي أن الجنب يجوز له أن يماشي الناس، لذلك قال البخاري: باب الجنب يخرج ويمشي في السوق وغيره، وقال عطاء: يحتجم الجنب ويقلم أظفاره ويحلق رأسه وإن لم يتوضأ.

احتساب الأجر فيما يصيب الماشي من أذى

احتساب الأجر فيما يصيب الماشي من أذى وكذلك فإن الإنسان إذا كان ماشياً فجرحت قدمه فقد يتعرض لهذا فإنه يحتسب ذلك، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يمشي إذ أصابه حجرٌ فعثر فدميت أصبعه فقال: (هل أنتِ إلا أصبعٌ دميت وفي سبيل الله ما لقيت).

جواز الإسراع في المشي لحاجة

جواز الإسراع في المشي لحاجة وفي البخاري كتاب الاستئذان عنون البخاري رحمه الله بعنوان فقال: باب من أسرع في مشيه لحاجةٍ أو لقصد، ثم ذكر حديث عقبة بن الحارث قال: (صلى النبي صلى الله عليه وسلم العصر فأسرع ثم دخل البيت) فإذا أسرع الإنسان في المشي لحاجة فلا بأس في ذلك، فهذا لا ينافي ما تقدم من صفة المشي. وهذا آخر الكلام عن موضوع المشي، وما يتعلق به من الآداب والأحكام التي تيسر جمعها، هذا والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

النذير الأخير

النذير الأخير الموت هو المصير الذي سيناله كل من وطئ هذه البسيطة، فهو حتمي لا شك فيه؛ فعلينا بالإكثار من ذكره، وعدم الغفلة عنه وعن فجأته. وفي هذه المادة يتحدث الشيخ حول هذا الأمر موضحاً هذه الحقيقة بقصص من حياة السلف الصالح رضي الله عنهم.

الاستعداد للموت

الاستعداد للموت إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. A=6000394> يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. عباد الله: إن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار. إخواني: لقد ألهتنا هذه الدنيا عن الله عز وجل، لقد ألهانا ما في هذه الدنيا عن الاستعداد للدار الآخرة. إن هذا البهرج، والزينة، وهذه الألوان والسلع، وهذه التسالي والألعاب، وهذه الأفلام والمسلسلات، وهذه الأسفار والسياحات، وهذه الملابس والصناعات قد ألهتنا عن الله تعالى، وعن الاستعداد للدار الآخرة، ولا يزال أهل الدنيا في غفلة حتى يأتيهم الموت، فإذا ماتوا انتبهوا. عباد الله: الموت الذي حثنا النبي صلى الله عليه وسلم على تذكره، وأمرنا بذلك، فقال: (أكثروا من ذكر هاذم اللذات) وامتثالاً لأمره صلى الله عليه وسلم تعالوا بنا نتذكر شيئاً من الأمر الذي أمرنا به صلى الله عليه وسلم وهو تذكر الموت؛ لعل الله تعالى أن ينعش قلوبنا بذكره، وأن يزيل الغفلة عن القلوب الصادئة، وأن يعود من انحراف عن الجادة، وأن يزداد الذي سلك الجادة عبادة. قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجمعة:8] نَفرُّ من الحوادث، ونفرُّ من الأمراض إلى الأطباء والمستشفيات نفرُّ من الموت والموت ملاقينا: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق:19] إنه مجيء أكيد ولا بد، قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} [الأنعام:93]. إن هذا الموت -يا عباد الله- آتٍ لا محالة، فكيف بأمر إذا نزل قطَّع الأوصال؟! أمر يقطع أوصالك، ويفرق أعضاءك، ويهدم أركانك إنه -حقاً- أمرٌ عظيمٌ، وخطبٌ جسيمٌ، وإن يومه لهو اليوم العظيم. قال ابن مسعود رضي الله عنه: [ليس للمؤمن راحة دون لقاء الله]، وهذا الأمر قد نسيناه، دهانا مجرد ذكر الموت والحديث فيه، والكثير يغضب إذا ذكر الموت، ويقول: تنغص علينا حياتنا وعيشتنا تنغص علينا أكلنا ومعيشتنا، وذكر الموت ليس لتكدير حياة الناس وإفساد مجالسهم، ونزع السعادة منهم، وإنما هو لإصلاح حالهم، وتنوير قلوبهم، وجعلهم مستعدين للقاء الله والقدوم عليه. قيل للحسن رحمه الله: [يا أبا سعيد! كيف نصنع؟ نجالس أقواماً يخوفونا حتى تكاد قلوبنا تطير، فقال: والله إن تخالط أقواماً يخوفونك حتى يدركك أمن خيرٌ من أن تصحب أقواماً يؤمنونك حتى يدركك الخوف]، وقال رحمه الله: [كان من كان قبلكم يقربون هذا الأمر كان أحدهم يأخذ ماءً لوضوئه، ثم يتنحى لحاجته مخافة أن يأتيه أمر الله وهو على غير طهارة، فإذا فرغ من حاجته توضأ].

الموت وفجأته

الموت وفجأته يا عبد الله: إن ملك الموت إذا جاء لم يمنعه منك ثروة مالك، ولا كثرة احتشادك، أما علمت أن ساعة الموت ذات كرب شديد، وغصص وندامة على تفريط؟! رحم الله عبداً عمل لساعة الموت، وما نراه في المقابر أعظم عظةٍ وأكبر معتبر. أيها الإخوة: تمر بنا الأيام وتتابع علينا أخبار الوفيات، والجنازات هذا صديق، وهذا قريب، وهذا جار، قد اختطفهم الموت بأمر الله تعالى، فحامل الجنازة اليوم محمول غداً، ومن يرجع من المقبرة إلى بيته اليوم سيرجع عنه غداً، ويترك وحيداً فريداً، مرتهناً بعمله، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر. يا أيها الشاب: لا تغرنك الصحة والقوة والعافية، ولا يغرنك الشباب وكلام الأصحاب لا يغرنك عشاءٌ ساكنٌ قد يوافي بالمنيات السحر قد يأخذك على حين غفلة، وأنت لا ترى أن الموت يصل إليك، بل تراه بعيداً.

نذير الشيب يحض على الاستعداد للموت

نذير الشيب يحض على الاستعداد للموت أيها المسلمون أيها الإخوان يا عباد الله! هذه ذكرى للشاب، أما وخطه الشيب، وأمد الله في عمره، وتخطاه الموت في سن الشباب، فإن شيبه نذير الموت. تقول النفس غير لون هذا عساك تطيب في عمرٍ يسيرِ فقلت لها المشيب نذير عمري ولست مسوداً وجه النذيرِ قال صلى الله عليه وسلم: (من شاب شيبةً في الإسلام، كانت له نوراً يوم القيامة). إذا جاءنا هذا الأمر من الله، فهل إلى الطبيب من سبيل فيدعى الأطباء؟ أو إلى الشفاء من طريق فيرجى الشفاء؟ ما يقال إلا فلانٌ أوصى، وماله أحصى، قد ثقل لسانه، فلا يكلم إخوانه، ولا يعرف جيرانه، قد عَرِقَ الجبين، وتتابع الأنين، وثبت اليقين، وصدقت الظنون، وتلجلجت اللسان، وبكى الإخوان، هذا ابنك فلان، وهذا أخوك فلان، قد منعت من الكلام فلا تنطق، وختم على لسانك فلا ينطق، ثم حل بك القضاء، وانتزعت النفس من الأعضاء، ثم عرج بها إلى السماء، فاجتمع عند ذلك إخوانك، وأحضرت أكفانك، فغسلوك وكفنوك، فانقطع عُوادك، واستراح حُسَّادك، وانصرف أهلك إلى مالك، وبقيت مرتهناً بأعمالك. قال سفيان الثوري -رحمه الله- مبيناً حال شيخ كبير في استعداده للموت: رأيت شيخاً في مسجد الكوفة يقول: أنا في هذا المسجد منذ ثلاثين سنة، أنتظر الموت أن ينزل بي لو أتاني، ما أمرته بشيء، ولا نهيته عن شيء، ولا لي على أحد شيء، ولا لأحد عندي شيء، أنتظر الموت، أنتظر أمر الله على عبادة وطاعة. أما نحن فلو أتانا الموت فقرع بابنا، واستأذن للولوج -ولن يستأذن- لاحتجنا إلى سنوات طويلة نرتب أمورنا، ونسدد حقوقنا، ولكن السلف كانوا على استعداد دائم. انظر -يا أخي- في غدك، ودنو أجلك، وقلة عملك، فقد كتب بعض أهل الحكمة إلى رجل من إخوانه: يا أخي! احذر الموت في هذه الدار قبل أن تصير إلى دار تتمنى الموت فيها فلا تجده، يتمنى الموت في ذلك اليوم: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77] فلنحذر في هذه الدار قبل أن نصير إلى دار يتمنى فيه الموت فلا يحصل. قال يحيى بن معاذ رحمه الله: مصيبتان لم يسمع الأولون والآخرون بمثلهما للعبد في ماله عند الموت، قيل: وما هما؟ قال: يؤخذ منه كله، ويسأل عنه كله. فأي مصيبة في المال أعظم من هذه؟ لو احترق، أو ذهب في الدنيا، فسيأتي البديل، لكن عند الموت يؤخذ منه كله، ولا يأتي البديل، ويسأل عن كل درهم من أين اكتسبه وفيم أنفقه.

حال السلف عند سكرات الموت

حال السلف عند سكرات الموت قيل لـ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: [توفي فلان الأنصاري، فقال: رحمه الله، قالوا: ترك مائة ألف، قال: لكن هي لم تتركه وكيف تتركه وهنالك كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها؟]

صور من مواقف السلف عند الموت

صور من مواقف السلف عند الموت إن للموت لشكرات، قالها النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدخل يديه في ركوة ماء، ويمسح بها وجهه الشريف وهو يحتضر يقول: (لا إله إلا الله إن للموت لسكرات)، ولما رأت فاطمة -رضي الله عنها- ما برسول الله صلى الله عليه وسلم من الكرب الشديد الذي يتغشاه، قالت: (واكرب أباه! فقال لها: ليس على أبيك كربٌ بعد اليوم). ولما احتضر أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه، تمثلت عائشة ببيت من الشعر: لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدرُ فقال أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه: [ليس كذلك يا بنية، ولكن قولي: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19]، ثم قال: امضروا ثوبي هذين فاغسلوهما، ثم كفنوني فيهما، فإن الحي أحوج إلى الجديد من الميت]. وهذا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ورحمه لما كان في مرضه الذي مات فيه، قال: أجلسوني، فأجلسوه، ثم قال: [أنا الذي أمرتني فقصرت، ونهيتني فعصيت، ولكن لا إله إلا الله!] ثم رفع رأسه وأحدّ النظر. وقال معاذ بن جبل عند موته: هل أصبحنا؟ ثم قال: [أعوذ بالله من ليلة صبيحتها إلى النار، مرحباً بالموت زائرٌ مغيبٌ، وحبيبٌ جاء على فاقة، اللهم إني كنت أخافك، وأنا اليوم أرجوك، اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب الدنيا وطول البقاء فيها لكري الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولكن لطول ظمأ الهواجر، وقيام ليل الشتاء، ومكابدة الساعات، ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر] فكانوا ثابتين عند الموت لما كانوا ثابتين في الحياة؛ فإن الطاعة في الحياة تثمر ثباتاًَ عند الموت، والمعصية في الحياة تثمر الجلجة، والحشرجة، وعدم التوبة، وقلة الثبات عند الموت، ولذلك كان السلف -رحمهم الله- أثبت ما يكونون في تلك الساعة، وهي أحوج ما يكون فيها الإنسان إلى الإيمان، وإلى سلامة العقيدة. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم ممن ثبتهم بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، اللهم هون علينا سكرات الموت، وارزقنا الثبات عند الممات، اللهم إنا نسألك المغفرة والرحمة والعتق من النار. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

صور أخرى تبين إشفاق السلف عند الموت

صور أخرى تبين إشفاق السلف عند الموت الحمد لله الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً، وأشهد أن لا إله إلا الله الحي القيوم، لا إله إلا هو يحيي ويميت وهو حيٌ لا يموت والجن والإنس يموتون، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. عباد الله! بكى أبو هريرة في مرضه، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: [أما إني لا أبكي على دنياكم هذه، ولكني أبكي على بعد سفري، وقلة زادي، وأنا أصبحت في صعود مهبطٍ على جنة ونار، ولا أدري إلى أيتهما يؤخذ بي]. وهذا عمر رضي الله عنه وأرضاه لما حضره ابن عباس، فقال له: [أبشر يا أمير المؤمنين! أسلمت مع رسول الله حين كفر الناس، وقاتلت مع رسول الله حين خذله الناس، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنك راضٍ، ولم يختلف في خلافتك رجلان، فقال عمر: أعد؟ فأعاد، فقال عمر: المغرور من غررتموه، لو أن لي ما على ظهرها من بيضاء وصفراء من الذهب والفضة، لافتديت به من هول المطلع]. ولما حضرت سلمان الفارسي الوفاة بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: [ما أبكي جزعاً على الدنيا، ولكن عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تكون بلغة أحدنا من الدنيا كزاد الراكب] فلما مات سلمان نُظر في جميع ما ترك، فإذا قيمته بضعة عشر درهماً، خاف من بضعة عشر درهماً أن يكون خالف فيها وصية النبي صلى الله عليه وسلم. وقد ذكَّر عمر بن عبد العزيز من حوله، فقال: ألا ترون أنكم تجهزون كل يوم غادياً أو رائحاً إلى الله عز وجل، وتضعونه في صدع من الأرض، قد توسد التراب، وخلف الأحباب، وقطع الأسباب؟! سفري بعيدٌ وزادي لن يبلغني وقوتي ضعفت والموت يطلبني ولي بقايا ذنوبٍ لست أعلمها الله يعلمها في السر والعلنِ نظر عمر بن عبد العزيز وهو في جنازة إلى قوم قد تلثموا من الغبار والشمس، وانحازوا إلى الظل، فبكى وقال: من كان حين تصيبُ الشمس جبهتهُ أو الغبار يخاف الشين والشعثا ويألف الظل كي تبقى بشاشتهُ فسوف يسكن يوماً راغماً جدثاً في قعر مظلمةٍ غبراء موحشةٍ يطيل في قعرها تحت الثرى اللبثا تجهزي بجهاز تبلغين به يا نفس قبل الردى لم تخلقي عبثا هانحن نمر في الجنائز ونمشي فيها ونحملها، ولا تدمع العيون، ولا تتحرك القلوب، ولا تُرى على الوجوه آثار الخشية من هذا المصير، والله إنها غفلة، وإلا فمن لا يعتبر بميت محمول إلى حفرة ضيقة. قال الأعمش: كنا نشهد الجنازة، ولا ندري من المعزَّى فيها لكثرة الباكين. ليس أهل الميت فقط هم الذين يبكون؛ بل كل الناس يبكون فيها، وإنما كان بكاؤهم على أنفسهم لا على الميت. وقال ثابت البناني: كنا نشهد الجنازة، فلا نرى إلا باكياً. وقال إبراهيم النخعي: كانوا يشهدون الجنازة فيرى فيهم ذلك أياماً. وقال أسيد بن حضير: [ما شهدت جنازة وحدثت نفسي بشيء سوى ما يفعل بالميت، وما هو صائرٌ إليه]. وقال إبراهيم النخعي رحمه الله: كنا إذا حضرنا الجنازة أو سمعنا بميت، عرف فينا أياماً، لأنا قد عرفنا أنه قد نزل به أمرٌ صيره إلى الجنة أو إلى النار، وإنكم في جنازتكم تتحدثون في أمور الدنيا. إنه ليرى في الجنازة من يضحك، ويُرى في المقبرة من يضحك، ويُرون خارجين من المقابر وبأيديهم السجائر يدخنون، ضحك وتدخين في أعظم مكان يمكن أن يتذكر فيه الإنسان في المقبرة غاية الغفلة، فإذا كانت الغفلة في المقبرة، فماذا نتوقع خارج المقبرة؟ ولذلك لا عجب إذاً أن يقعوا في المعاصي المتواليات، ويسهروا الليالي من أجل المعاصي.

تحذير من السفر إلى بلاد الكفار

تحذير من السفر إلى بلاد الكفار من الناس اليوم وفي هذا الشهر -شهر الحر- من يريد السفر بأي طريقة إلى بلاد الكفر والمعصية، وهؤلاء بائعو السياحة يتفننون في إغراء المسلمين في قضاء إجازاتهم في بلاد الكفر التي غابت عنها شمس الدين والفضيلة، وهي محاولات للسطو على أماناتنا الأموال والأولاد، لأن الله قال: {لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [الأنفال:27 - 28] وهذا وليٌ لا يحفظ ولده، وهذا صاحب مالٍ لا يحفظ ماله. عباد الله: إنهم يقترضون من البنوك للسفر إلى الخارج، وتقول المرأة للأخرى: لماذا لا تسافرون؟ ما عندكم مال؟ اتجهوا إلى البنك يقرضكم، فيقترضون المال بالحرام بالربا؛ لأجل سفر الحرام، والمسألة حرام في حرام، وبعد ذلك يسددون الفواتير، وهناك عوائل تقتر على أنفسها طيلة السنة لكي يجمعوا المال للسفر إلى الخارج، حتى إذا عادوا قالوا لمن حولهم: لماذا ما رأيناكم في لندن ما رأيناكم في باريس ما رأيناكم في كذا هذه أمنيتهم، وهذا غاية ما يتمنونه؛ أن يقولوا: كنا في مكان كذا، ويروا في مكان كذا. أين هؤلاء من الموت؟ أين هؤلاء من القبر؟ أين هؤلاء من الآخرة؟ أقسام الجوازات تعمل ليلاً نهاراً، والناس في غاية الاندفاع إلى السفر إلى بلاد الكفار جاء شهر الحر {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [التوبة:81] لو كانوا يعملون! لو كانوا يبصرون! لكن ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم، وعلى أبصارهم غشاوة فلا يرون الحق، ولا يرون الدين، والتقى، وإنما يرون المعاصي والآثام والفجور. هذه المظاهر الاجتماعية السيئة إلى متى ستستمر؟ قالوا: نقصت أموال الناس! فإذا هم يزدادون في السفر، وعوضوا بدلاً من بعض بلاد الكفر الأغلى بلاداً أرخص، وهذه المتع المحرمة التي يسافرون إليها وتضيع فيها الأموال ثلاثة مليون سائح في عشرة أيام، في معدل إنفاق خمسمائة إلى ستمائة ريال، هذا من أدنى المستويات، النتيجة ستكون: مليار وستمائة مليون تصب في جيوب الكفار من أموال المسلمين، والناس في بلاد المسلمين الأخرى يموتون من الجوع، ويبحثون عن حبة طعام تركها بعض موظفي الإغاثة بين التراب ليأكلوها، وهؤلاء يبعثرون أموالهم، ويقترون على أنفسهم، ويستدينون من البنوك، ويسافرون بالأقساط!!! هل تظنون أن الله سيغفل عن هؤلاء أو يتركهم وقد فعلوا ما فعلوا؟! اللهم أصلح أحوال المسلمين، اللهم ردنا إلى الحق رداً جميلاً يا رب العالمين. اللهم بصرنا بعيوبنا، اللهم قوِّ إيماننا في قلوبنا، اللهم ارزقنا الغلبة على فتنة النساء والأولاد، اللهم ارزقنا الصمود أمام هذه الفتن يا رب العالمين. اللهم اجعلنا من القائمين بأمرك في أسرنا وبيوتنا، وفي أولادنا ونسائنا يا رب العالمين. اللهم ارزق المجاهدين نصراً قريباً، اللهم عجل فرجهم يا رب العالمين، اللهم إن لنا إخواناً مستضعفين في الأرض يسامون سوء العذاب، وأنت الحي القوي، وأنت على كل شيء قدير، اللهم ارحم قتلاهم، واشف جرحاهم، اللهم أطعم جائعهم، واكس عاريهم، واحمل حافيهم، اللهم عجل بنصرهم، وعجل بفرجهم، وردهم إلى الإيمان والتوحيد يا أرحم الراحمين. اللهم دمر أعداءنا، اللهم أهلك عدونا، اللهم اجعل الفرقة بينهم، وأفشل خططهم، واجعل تدبيرهم تدميراً عليهم اللهم خالف بين قلوبهم، وألق فيها الرعب يا رب العالمين، اللهم اضرب بعضهم ببعض، اللهم خيب رميتهم، واجعل دائرة السوء عليهم. اللهم إنك على كل شيء قدير، فارحم إخواننا، واكبت أعداءنا. اللهم اقض ديوننا، واستر عيوبنا، وارحم ميتنا، اللهم إذا وضعنا في قبورنا، فليس لنا إلا رحمتك، اللهم ثبتنا عند السؤال، وباعد بيننا وبين سوء المآل يا رب العالمين، اللهم أحسن وقوفنا بين يديك، ولا تخزنا يوم العرض عليك وأنت الرحمن الرحيم، ونحن عبادك ليس لنا إلا رحمتك، فإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

أنوار الاستغفار

أنوار الاستغفار إن الاستغفار عبادة جليلة مرتبطة بالتوحيد، ويجدر بكل مسلم أن يتعرف عليها، وعلى أهميتها، وكيفيتها، وصيغتها، ومناسباتها، وثمارها، وأجرها في الدنيا والآخرة هذا ما تحتويه طيات هذه المادة.

أهمية الاستغفار

أهمية الاستغفار الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله وخير خلقه ومصطفاه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه. أيها الإخوة: درسنا بعنوان" أنوار الاستغفار" وهذه العبادة العظيمة في غاية الأهمية، ويجدر بكل مسلم أن يتعرف عليها، وعلى أهميتها، وعلى كيفيتها، وعلى مناسباتها، وعلى أجرها وثوابها، وعلى ما قال العلماء فيها، وعلى علاقتها بالتوحيد. أما الاستغفار فإنه طلب المغفرة بالمقال والفعال، وسؤال المغفرة التي هي في الأصل الستر، فغفر أي: ستر. والمراد بها عندما يطلبها العبد من ربه التجاوز عن الذنب وعدم المؤاخذة به، وستره وعدم العقوبة عليه، وعدم الفضيحة به، وعدم التوبيخ. إن الاستغفار عبادة جليلة مرتبطة أشد الارتباط بالتوحيد، وقد كثر في القرآن ذكر الاستغفار، فتارة بصيغة الأمر به كقوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:199] وقوله: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} [هود:3] وتارةً بمدح أهله كقوله تعالى: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} [آل عمران:17] وقوله: {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:18] وقوله: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:135] وتارةً يذكر أنه يغفر لمن استغفره كقوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً} [النساء:110]. وكثيراً ما يقرن الاستغفار بذكر التوبة، فيكون الاستغفار طلب المغفرة باللسان، والتوبة هي الإقلاع عن الذنوب بالقلب والجوارح، وتارةً يفرد الاستغفار ويرتب عليه المغفرة كما في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (يا بن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني، غفرت لك) فهذا الاستغفار الذي وعد الله به من استغفره ولم يصر على المعصية، وعندما يقول العبد: اللهم اغفر لي، فإنه يطلب من الله المغفرة، ويدعو بها، ولا سيما إذا صادف قلباً منكسراً، وساعة إجابة، واعترافاً من العبد، فإنه حريٌ أن يجاب صاحبه. قال الحسن رحمه الله: [أكثروا من الاستغفار في بيوتكم، وعلى موائدكم، وفي طرقكم وأسواقكم، وفي مجالسكم أينما كنتم، فإنكم لا تدرون متى تنزل المغفرة]. وقال بعض الصالحين لولده موصياً: "يا بني عود لسانك: اللهم اغفر لي، فإن لله ساعات لا يرد فيها سائلاً" وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه عن النبي صلى الله عليه وسلم (أن عبداً أذنب ذنباً، فقال: ربِّ أذنبت ذنباً، فاغفر لي، فقال الله عز وجل: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، غفرت لعبدي، ثم مكث ما شاء الله، ثم أذنب ذنباً آخر، فاستغفر، وقال مثلما قال في الأولى، فقال الله سبحانه وتعالى: قد غفرت لعبدي، فليعمل ما شاء) لأنه كلما عمل معصية، استغفر منها استغفاراً صحيحاً، وتاب بشروط التوبة الصحيحة، ولذلك فإن الاستغفار المقرون بعدم الإصرار يقبله الله سبحانه وتعالى، وما أصر من استغفر، وأما استغفار اللسان مع إصرار القلب على الذنب، فهو دعاء مجرد إن شاء الله أجابه وإن شاء رده، وربما يكون الإصرار مانعاً من الإجابة، ولذلك قال بعض السلف: إن المستغفر من الذنب وهو مقيمٌ مصرٌ عليه كالمستهزئ بربه. فما معنى أن يستغفر بلسانه وهو مقيم بحاله على الذنب؟!! فالاستغفار التام ينبغي ألا يرافقه إصرار على المعصية، حينئذٍ تكون توبةً نصوحاً، وحينئذٍ يكون المستغفر مقلعاً عن الذنب، أما من قال: اللهم اغفر لي وهو مقيم على المعصية، فإنها تسمى توبة الكاذبين، لأن التوبة الصحيحة لا تكون مع الإصرار، فإذا قال العبد أستغفر الله وأتوب إليه، فله حالتان: أن يكون مصراً بقلبه على ذنبه، فهذا كاذب في قوله: وأتوب إليك، لأنه غير تائب، لأن كلمة (أتوب) تقتضي الإقلاع، وهذا غير مقلع وليس بتائب. وكذلك من يعاهد ربه على الإقلاع عن المعصية، ثم هو يصر عليها، أما من أقلع فإنه حريٌ أن يقبل الله توبته. وقد استحب جماعة من السلف أن يقول: أستغفر الله وأتوب إليه، لأنه قد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فقد ثبت عن عائشة رضي الله عنها كما روى أحمد والبخاري ومسلم أنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول قبل موته: سبحان الله وبحمده، وأستغفر الله وأتوب إليه، قالت: فقلت يا رسول الله أراك تكثر من قول سبحان الله وبحمده، فقال: أخبرني ربي أني سأرى علامةً في أمتي، فإذا رأيتها، أكثرت من قول سبحان الله وبحمده؛ أستغفر الله وأتوب إليه، وقد رأيتها، وتلا قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجا * {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:1 - 3]).

صيغ الاستغفار

صيغ الاستغفار وصيغ الاستغفار الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم كثيرة، منها: "أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه". والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (أستغفر الله) كلمة بمفردها. وكذلك فإن من قال: "سبحانك اللهم وبحمدك، عملت سوءاً وظلمت نفسي فتب عليَّ إنك أنت التواب الرحيم". فإن هذه من صيغ الاستغفار أيضاً. وإذا قال: "اللهم اغفر لي وارحمني وتب علي إنك أنت التواب الرحيم" فهذه صيغة للاستغفار أيضاً. وقد جاء في السنن الأربع عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: (كنا نعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد مائة مرة قول: رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم) وجاء في صحيح مسلم قوله عليه الصلاة والسلام في الدعاء يبن التشهد والتسليم: (اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت). وكان عليه الصلاة والسلام ينوع في طلب المغفرة، ويعدد الذنوب بأنواعها، فيقول: (اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي جدي وهزلي، وخطأي وعمدي، وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيء قدير). وهناك دعاء إذا قاله العبد موقناً به فمات من يومه قبل أن يمسي كان من أهل الجنة، وإذا قاله في الليل حين يمسي موقناً به، فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة، ما هو هذا الدعاء؟ إنه سيد الاستغفار، ولقب بسيد الاستغفار لأنه أفضل الصيغ التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو: (اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني، وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبو بذنبي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت) هذه رأس الصيغ، وأفضل صيغ الاستغفار.

فضل الاستمرار على الاستغفار

فضل الاستمرار على الاستغفار لا شك أن الاستغفار مأمور به لقول الله: {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ} [البقرة:199] ولا يلزم أن يكون من معصية، فقد يستغفر الإنسان عن أشياء فعلها قديماً، ثم إن الإنسان قد يخطئ وهو غير منتبه أنه قد أخطأ، وقد يذنب وهو غير منتبه أنه أذنب، ولا بد لكل واحد أن يقع في المعصية، لأن الإنسان ظلوم جهول، ومن طبعه العصيان والخطأ، كل بني آدم خطاء، فلماذا إذاً يترك الاستغفار؟ فإذاً: الاستغفار عبادة طيبة تفعل دائماً وباستمرار، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (طوبى لمن وجد في صحيفته استغفاراً كثيراً) رواه ابن ماجة وهو حديث صحيح، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عائشة رضي الله عنها في قصة الإفك لما دخل عليها، قال: (يا عائشة! إن كنت ألممت بذنبٍ فاستغفري الله، فإن التوبة من الذنب الندم والاستغفار) فإذا فعل الإنسان معصية استغفر، ويستغفر عموماً ولو لم يقترف معصية، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يستغفر دائماً، وقد روى الإمام أحمد بسند رجاله ثقات أن حذيفة رضي الله عنه وأرضاه قال: (يا رسول الله! إني ذرب اللسان، وإن عامة ذلك على أهلي -لساني فيه سلاطة وإيذاء، وعامة هذا يقع منصباً على أهلي، يعني: فماذا أفعل؟ - فقال صلى الله عليه وسلم: أين أنت من الاستغفار؟ إني لأستغفر الله في اليوم والليلة مائة مرة). قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فالعبد دائماً بين نعمة من الله يحتاج فيها إلى شكر، وذنبٍ منه يحتاج فيه إلى استغفار" ولا يوجد حالة تخرج بها عن هذين الحالين، العبد دائماً بين نعمة من الله يحتاج فيها إلى شكر، وذنبٍ منه يحتاج فيه إلى الاستغفار، وهذان من الأمور اللازمة للعبد دائماً، فإنه لا يزال يتقلب في نعم الله وآلائه، ولا يزال محتاجاً إلى التوبة والاستغفار، والتوبة من التقصير في شكر النعمة لا بد منه، فكيف إذا أضيف إلى ذلك ذنب؟ ولذلك يحتاج العبد إلى الاستغفار دائماً حتى في الأعمال الصالحة؛ حتى لا يكون العجب بنفسه، وكلنا ذو تقصير، فمن الذي لا يقصر في صلاته، ولا يقصر في صيامه، ولا يقصر في حجه؟ ولذلك كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في التحفة العراقية، قال: "ولهذا شرع الاستغفار في خواتيم الأعمال، قال تعالى: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} [آل عمران:17] " يعني: بعد قيام الليل، وقت الفجر، في وقت السحر، قبيل الفجر يستغفر مع أنه يوجد قيام ليل. قال بعضهم: أحيوا الليل بالصلاة، فلما كان وقت السحر أمروا بالاستغفار. وفي الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا انصرف من صلاته، استغفر ثلاثاً، وقال: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام) وهو منصرف من صلاة وليس منصرفاً من معصية أو من ذنب، ولذلك يقال بعد السلام مباشرة: أستغفر ثلاثاً، أستغفر الله من التقصير في الصلاة، أستغفر الله من العجب، أستغفر الله من الرياء، أستغفر الله، من كل تقصير، ومن كل عيب ومن كل شيء يدخل علي. وقال تعالى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة:198] إلى أن قال: {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:199] هذا في الحج بعد عرفة مطلوب من الحاج، فلا مجال للعجب بالعمل، ولا ليرى الإنسان أنه في حجه قد عمل شيئاً عظيماً وكفر به سيئاته، وقد ضمن به الجنة، بل إن عليه أن يستغفر ليشعر العبد نفسه أنه لا زال يحتاج إلى رحمة ربه ومغفرته، وبالرغم من عبادته أنه لا زال في تقصير، فهل أدى شكر نعمة البصر بهذا الحج؟ وهل أدى شكر نعمة السمع بهذه الصلاة؟ وهل أدى شكر نعمة اليد بهذا الصيام؟ وقد أمر الله نبيه بعد أن بلغ الرسالة وجاهد في الله حق جهاده، بعد هذا العمر الطويل، والحياة المباركة من النبي عليه الصلاة والسلام في الدعوة والتعليم والجهاد وإقامة الدين، وبعد العبادات، وبعد التربية التي قام بها الناس يقول له: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:1 - 3] فقد أتى صلى الله عليه وسلم بما أمره الله تعالى به مما لم يصل إليه أحد غيره، ولا يستطيع أحد أن يفعل مثلما فعل النبي عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك قال له: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر:3].

ملازمة التوحيد للاستغفار

ملازمة التوحيد للاستغفار إن قوام الدين بالتوحيد والاستغفار، وتأمل التلازم بين هذين الأمرين في الآيات كما قال الله تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ * أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} [هود:1 - 2] هذه الآيات عن ماذا تتكلم؟ عن التوحيد، قال بعدها: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً} [هود:3] وقال تعالى: {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} [فصلت:6] وقال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19]. فلا بد للإنسان من ملازمة الاستغفار، وأن يجتهد فيه، ومن لازم الاستغفار واجتهد فيه واستعان بالله تعالى؛ فلا بد أن يأتيه الله من فضله ما لم يخطر ببال. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وإذا رأى العبد أنه لا ينشرح صدره، ولا يحصل له حلاوة في الإيمان، ونور في الهداية، فليكثر التوبة والاستغفار، ويلازم الاجتهاد -يعني: بالعمل الصالح- قدر الإمكان، فإن الله قال: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] ". وكذلك فإن الله تعالى قد أمر بالاستغفار مع الصبر، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يا أيها الناس توبوا إلى ربكم، فوالذي نفسي بيده إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة) وقال: (إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مائة مرة).

مناسبات الاستغفار

مناسبات الاستغفار إذاً أيها الإخوة: هذا الاستغفار من النبي عليه الصلاة والسلام وهو الذي قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، يحصل في اليوم أكثر من سبعين مرة، فما بالنا نحن؟ والله قد أمره بذلك, وقال له: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19] مع أنه قد غفر له ذنبه، ليعلمنا نحن من باب أولى. والشريعة قد جاءت بمناسبات كثيرة يكون فيها الاستغفار، والله تعالى غفور ورحيم وعفو وتواب، وإذا تاب العبد إليه، فإن الله سبحانه وتعالى يقبل منه توبته، ولا يجوز لإنسان أن يقنط من رحمة الله، ولا أن يقنط الناس من رحمة الله، وكذلك فإننا لو نظرنا في هذه المناسبات التي جاءت فيها الشريعة بالاستغفار، لعلمنا أن العبد لا يخلو من الاستغفار في أحوال كثيرة، فمنها:

عقب الخروج من الخلاء

عقب الخروج من الخلاء الاستغفار عقب الخروج من الخلاء، كما جاء في جامع الترمذي: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج من الخلاء، قال: غفرانك). ما هي العلاقة بين الاستغفار وبين الخروج من الخلاء؟ قال ابن العربي رحمه الله: العجز عن شكر نعمة تيسير الغذاء، وإيصال منفعته، وإخراج فضلته. فالآن أنت أكلت ودخلت الخلاء، ويسر لك إخراج فضلة هذه النعم، والعجز عن شكرها حاصل، فكان الاستغفار بعد الخروج من أسباب ذلك.

بعد الوضوء

بعد الوضوء كذلك أيضاً الاستغفار بعد الوضوء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من توضأ فقال: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، كتب في رَقٍّ -أي: كتاب- ثم جعل له طابع يختم عليه، فلا يكسر إلا يوم القيامة) حديث رواته رواة الصحيح. يبين أن هذا الكلام يبقى ذخراً لصاحبه ليجازى عليه يوم القيامة، ويذكر هذا الفقهاء في سنن الوضوء.

عند دخول المسجد والخروج منه

عند دخول المسجد والخروج منه الاستغفار عند دخول المسجد والخروج منه، لما جاء في حديث فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد، صلى على محمد وسلم، وقال: رب اغفر لي ذنوبي وافتح أبواب رحمتك، وإذا خرج، صلى على محمد وسلم، وقال: رب اغفر لي وافتح لي أبواب فضلك) وهذا الحديث قد رواه الترمذي وحسنه لكثرة طرقه.

عند افتتاح الصلاة

عند افتتاح الصلاة وكذلك الاستغفار في افتتاح الصلاة فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت التواب الرحيم) وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق أن يقول: (اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت التواب الرحيم) وقد جاء عن بعض أهل العلم أنه يُجعل في ختام الصلاة قبل السلام. وكذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتأول القرآن في ركوعه وسجوده، يقول: (سبحانك اللهم وبحمدك، اللهم اغفر لي) ويقول بين السجدتين: (اللهم اغفر لي) وكذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستغفر ثلاثاً بعد الصلاة، وكذلك في الاستسقاء علمنا الاستغفار، ونوح قد قالها لقومه من قبل: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً} [نوح:10 - 11]. وعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء أن نفزع إلى دعاء الله تعالى واستغفاره.

الاستغفار للأموات

الاستغفار للأموات ثبت في السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دفن رجلاً، وقف على قبره، وقال لأصحابه: (استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل) حديث صحيح رواه أبو داود رحمه الله تعالى، وإذا زار الإنسان قبراً، أو مقبرةً، يستغفر للأموات، وأما الاستغفار للمؤمنين والمؤمنات عموماً، فإنه قد ذكره الله سبحانه وتعالى عن أنبيائه مثل: نوح عليه السلام الذي قال في دعائه: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح:28] فبدأ بنفسه، وهذه هي السنة، فإذا دعا الإنسان يبدأ بنفسه: {رَبِّ اغْفِرْ لي} [نوح:28] ثم بأقرب الناس إليه وأعظمهم حقاً عليه وهما والداه: {وَلِوَالِدَيَّ} [نوح:28] ثم لإخوانه في الدين، والمؤمنين، وأصحابه وخاصتهم الذين يدخلون بيته: {وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً} [نوح:28] ثم لعموم إخوانه المؤمنين والمؤمنات في العالم، السابقين واللاحقين، قال: {وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح:28] وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من استغفر للمؤمنين والمؤمنات؛ غفر الله له بعددهم.

الاستغفار في كل حين

الاستغفار في كل حين لا شك أن الاستغفار بالأسحار من المواطن التي يكون الاستغفار فيها عظيم الأثر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم علمنا أن الله ينزل إلى الدنيا في ثلث الليل الآخر، فيقول: من يستغفرني فأغفر له، والمجالس تختم بالاستغفار كالذكر الوارد بعد الوضوء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا أراد أن يقوم من المجلس: (سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك) هذا يكون كفارة لجميع ما مضى في المجلس، وكذلك فإن الإنسان يشرع له الاستغفار بعد كل ذنب، وقد ذكر الله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران:135]. وعند التقلب في الفراش ليلاً يسن للإنسان الاستغفار أيضاً كما جاء في البخاري عنه صلى الله عليه وسلم قال: (من تعار من الليل، فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، الحمد لله وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: اللهم اغفر لي، أو دعا يستجاب له فإن توضأ وصلى، قبلت صلاته). وعند القيام في الليل للتهجد فإن الإنسان يقول أيضاً دعاءً قد ورد فيه الاستغفار: (فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت)، هذا الدعاء المألوف لقوله الصلاة والسلام: (اللهم لك الحمد أنت قيوم السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن) وهكذا. الاستغفار عموماً في كل وقت في الليل أو النهار، والله عز وجل يبسط يده في الليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده في النهار ليتوب مسيء الليل، وهذا الاستغفار لا شك أنه يغسل الذنوب، والإنسان إذا كان ثوبه متسخاً يضع عليه الطيب أولاً، أم يغسله؟ يغسله أولاً، فالاستغفار هو بمثابة غسل الثوب، ولذلك إذا أذنب فعليه أن يستغفر قبل أن يقول أي ذكر آخر، فلو قال أحدهم: أقول: أستغفر الله وأقول أذكاراً أخرى، فأقول: الثوب الوسخ يحتاج إلى غسيل قبل أن يطيب، ولذلك فالاستغفار أولاً. وهناك أعمال تحصل بها المغفرة بالإضافة إلى الأقوال مثل: موافقة الملائكة في التأمين، والصدقة تكفر الذنب، وصيام عرفة، وصيام عاشوراء، والحج والعمرة، والأذكار، وشهود مجالس الذكر، وسائر الأعمال الصالحة، وأنواع الابتلاءات والمصائب … وهكذا، ولذلك فإن الإنسان لا بد إذا استغفر أن يلح، ولا يقول اللهم اغفر لي إن شئت، وإنما يعزم في المسألة كما جاء في الحديث الصحيح: (لا يقولن أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت ولكن ليعزم المسألة، فإن الله لا مستكره له). هل هناك موانع تمنع المغفرة؟ نعم. هناك موانع وعلى رأسها الشرك: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48]. وكذلك فإن الشحناء بين المسلمين من أسباب تأخير المغفرة عن المستغفر: (تفتح أبواب الجنة يوم الإثنين ويوم الخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئاً إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا). رواه مسلم رحمه الله تعالى.

ثمار الاستغفار

ثمار الاستغفار الاستغفار يفيد في تكفير السيئات ورفع الدرجات قال تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً} [النساء:110] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [التحريم:8] (هل من مستغفر فأغفر له) كما جاء في الحديث.

سعة الرزق

سعة الرزق الاستغفار يسبب سعة الرزق: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} [نوح:10 - 12] {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود:3].

قوة البدن

قوة البدن كذلك يقوي البدن: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} [هود:52] فمن فوائده تقوية البدن.

دفع للعذاب

دفع للعذاب كذلك فإن الاستغفار سبب في دفع العذاب قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33]. كذلك فإنه سبب للنجاة عند الورطات، والورطة هي النازلة التي لا مخرج منها، وكان عبد الله يونس عليه السلام يسبح ربه وينادي في الظلمات {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87]. من أساسيات الاستغفار اعتراف العبد بالذنب، سيد الاستغفار من أسباب سيادته على بقية الأذكار أن فيه اعترافاً من العبد بالذنب، فإن العبد يقول: "أبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي"، فيعترف بالنعمة، ويعترف بالذنب، وذلك هو سيد الاستغفار، فاعتراف العبد بذنبه مهم في الاستغفار.

جلو القلب

جلو القلب إن الاستغفار أيها الإخوة: يجلو القلب ويزيل عنه الران، يزيل سواده وغباره وقترته، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن المؤمن إذا أذنب، نكت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب ونزع واستغفر، صقل قلبه -يرجع القلب إلى حاله الأولى- وإن زاد زادت حتى يعلو قلبه وذاك الرين الذي ذكر الله عز وجل في القرآن ((كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)) [المطففين:14]) ولذلك فإن الذي يستغفر ربه، يجلو قلبه وهذا معنى حديث: (وإنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة). إذاً يغان على القلب، ويرين عليه ما يرين ويصبح عليه غشاوة، فالاستغفار يجلو ذلك كله، يجلو سحائب المعاصي وغبارها، ولا شك أن وقت الاستغفار مفتوح في كل حين، ولكن هناك بعض الأوقات التي يستحب فيها ويتأكد أكثر من أوقات أخرى كما مر معنا.

الاستغفار للكافر

الاستغفار للكافر هل يجوز الاستغفار للكافر؟ بطبيعة الحال لا. لماذا؟ لأن الله سبحانه وتعالى لا يغفر للكفار، فأنت تطلب شيئاً حكم الله أنه لن يحصل: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة:114] لما مات أبوه على الكفر، انتهى، وكذلك: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:113] إذاً: من استغفر لكافر -ولو كان من أقرب الناس إليه- فهو عاص، لأنه لا يغفر للكافر، قال تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:113] فلا يجوز الاستغفار للكافر، والاستغفار للكافر ذنب بحد ذاته.

طلب الاستغفار من الغير

طلب الاستغفار من الغير هل يجوز للإنسان أن يطلب من شخص آخر يظن فيه الصلاح أن يستغفر له؟ ذكر ابن تيمية رحمه الله في كلام له ما يفيد ترك هذا من باب عدم اللجوء إلى المخلوقين، وأن الإنسان لا يلجأ إلى المخلوق ويقول له: ادع لي، ويطلب منه الاستغفار والدعاء، ووجّه بعض ما ورد في ذلك من الأدلة توجيهات خاصة، وأن ما ورد من أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب من الأمة أن يدعوا له، فلأجل منفعة الأمة ومصلحتهم، لا لأجل حاجته إليهم، وأن كل ما ورد من هذا ففيه مصلحة للمطلوب منه، وليس لمصلحة للطالب. وهناك من أهل العلم من ذهب إلى أنه لا حرج في طلب الاستغفار من الرجل الصالح، واستدلوا على ذلك بأدلة، فمنها قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} [النساء:64]. وقد يقال إن هذا خاص بالنبي عليه الصلاة والسلام، لأن دعوته واجبة، وليس اللجوء إليه كاللجوء إلى شخص آخر، واستدل المجيزون أيضاً بحديث أويس القرني أن عمر رضي الله عنه وأرضاه قد كان يسأل عن القرنيين، ومنهم رجل اسمه أويس حتى استدل عليه، فأخبره بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن رجلاً يأتيكم مع أمداد أهل اليمن) الذين جاءوا بطلب من عمر كمدد من المسلمين ليوافوا جيوش المسلمين في الشام والعراق، فكان من أعظم الناس نجدة أهل اليمن، خرجوا للجهاد في الشام والعراق، وكثير من ديار الشام والعراق فتحت وأكثر جيوش الفتح من اليمن، (وكان في أهل اليمن رجلٌ من قرن يقال له أويس له أم هو برٌ بها، وقد كان به بياض، فدعا الله فأذهبه عنه إلا موضع الدرهم، فمن لقيه منكم، فليستغفر لكم) وفي رواية في صحيح مسلم: (إن خير التابعين رجل يقال له أويس، وكان به بياض، فمروه فليستغفر لكم، فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن، سألهم: أفيكم أويس بن عامر؟ أفيكم أويس بن عامر؟ حتى أتى على أويس، فقال: أأنت أويس بن عامر؟ قال: نعم، قال: من مرادٍ، ثم من قرنٍ؟ قال: نعم، قال: فكان بك برصٌ فبرأت منه إلا موضع درهم؟ قال: نعم -وجاء في رواية أن هذا الموضع في السرة، يذكر مرضه ونعمة ربه، وفي نفس الوقت لا يشوهه في أعين الناس- قال: لك والدة؟ قال: نعم -فلما استوفيت الشروط والمعلومات- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مرادٍ، ثم من قرنٍ، كان به برص، فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدةٌ هو بها برٌ -هذا من أسباب رفع منزلة هذا الرجل- لو أقسم على الله لأبره 0لو حلف على الله أن يحدث شيء، أو لا يحدث شيء، لحدث الذي يريد، ولم يحدث الذي لا يريد- فإن استطعت أن يستغفر لك، فافعل) فاستغفر لي، فاستغفر له. فقال له عمر: أين تريد؟ قال: الكوفة، قال: ألا أكتب لك إلى عاملها؟ قال: أكون في غبراء الناس أحب إلي. فلما كان من العام المقبل، حج رجلٌ من أشرافهم، فوافق عمر في الحج، فسأله عمر عن أويس، قال: تركته رث البيت، قليل المتاع، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مرادٍ، ثم من قرنٍ، كان به برص، فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدةٌ هو بها برٌ، لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك، فافعل) الكلام هذا سمعه رجل من عمر، ذهب مباشرة إلى أويس. فأتى أويساً، فقال: استغفر لي، قال أويس: أنت أحدث عهد بسفر صالح، فاستغفر لي، أي: أنت آتٍ من الحج، فأولى أن تستغفر لي، ثم انتبه أويس، قال: لقيت عمر؟ قال: نعم، فعرف المسألة، فاستغفر له، ففطن له الناس، وجعل الناس يأتون إلى أويس يقولون: استغفر لنا، فانطلق على وجهه، فلم يُعلم أين ذهب. أيضاً استدلوا بقول إخوة يوسف لأبيهم: {قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} [يوسف:97] وفي صحيح مسلم أن أم الدرداء قالت لـ صفوان بن عبد الله: أتريد الحج هذا العام؟ فقال صفوان: نعم، قالت: فادع الله لنا بخير، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (دعوة المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة، عند رأسه ملكٌ موكل، كلما دعا لأخيه بخير، قال الملك الموكل به: آمين، ولك بمثل) وابن تيمية رحمه الله كان يوجه كل هذا، ويدور على معنى أن الإنسان لا يطلب من الآخر دعاء، وإنما يطلب من الله مباشرةً، ولو كان الطلب جائزاً، لكن الأفضل تركه، لأن فيه نوع لجوء إلى المخلوق. يعني: لا يكون الدعاء من أشخاص، بل يطلب من الله مباشرة، مع أن طلب الدعاء المباح جائز، لكن يقول: لأن فيه لجوء للمخلوق، والأحسن والأفضل أن يترك، ويسأل الله مباشرةً.

الاستغفار للوالدين

الاستغفار للوالدين طلب النبي صلى الله عليه وسلم حاول أن يطلب المغفرة من الله لأمه، لكن لم يقبل منه وقد حدث ذلك في القصة التي رواها مسلم وأحمد عن بريدة رضي الله عنه وأرضاه، قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فنزل بنا، ونحن معه قريب من ألف راكب، فصلى ركعتين، ثم أقبل علينا بوجهه وعيناه تذرفان، فقام إليه عمر بن الخطاب ففداه بالأب والأم، يقول: يا رسول الله! ما لك؟ قال: إني سألت الله عز وجل في الاستغفار لأمي، فلم يأذن لي، فدمعت عيناي رحمةً لها من النار) حديث صحيح. وهذا يدل على أن وشيجة العقيدة هي المقدمة، وأنها إذا انقطعت انقطعت معها باقي الوشائج، وأن ما بقي بعد ذلك فإنما هو إحسانٌ بالمعروف، قال تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15] ولكن لا يجوز مجاوزة الحد الشرعي. نعيد التذكير بقصة إبراهيم الخليل لما قال: {وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء:86] {قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} [مريم:47] وبين الله عز وجل الأمر بعد ذلك: {إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة:4]. هذا كان قبل أن يعلم أنه عدوٌ لله، فلما تبين له أنه عدوٌ لله تبرأ منه، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (إني سألت الله عز وجل في الاستغفار لأمي، فلم يأذن لي) لأنها ماتت على الشرك، وهذا يبين بطلان الحديث الذي ادعى بعضهم فيه أن الله أحيا أبوي النبي عليه الصلاة والسلام له، فآمنا به ثم ماتا، فهذا كذب باطل موضوع، وأن من مات على الشرك دخل النار، ولو كان ولد نوح، ولو كان أبا إبراهيم، ولو كانت أم النبي عليه الصلاة والسلام، إذا لم يوجد توحيد فلا أمل في المغفرة، ليس هناك مجاملات على حساب التوحيد. لكن إذا كان الأب والأم مسلمين، فإن استغفار الولد لهما ينفعهما، كما جاء في الحديث الحسن عند الإمام أحمد رحمه الله، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة، فيقول: يا ربي أنى لي هذه؟! فيقول: باستغفار ولدك لك). إذاً هناك أناس يرفعون في الجنة، ليس بأعمال عملوها هم؛ لكن باستغفار أولادهم لهم، ومن هنا كان الاستغفار للأبوين أمراً في غاية الأهمية، والله يقيض من ولدك من يستغفر لك، واعلم إنك إذا استغفرت لأبويك، فإن الملك يقول ولك بمثله، ولك بمثله، قال تعالى عن نوح: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً} [نوح:28]. وأيضاً يدعو الله عز وجل أن يرحمهما كما ربياه صغيراً، فهذا بالنسبة لاستغفار الولد لأبويه المسلمين.

أهمية الاستغفار في حق النساء

أهمية الاستغفار في حق النساء نذكر النساء بأهمية الاستغفار في حقهن، وتأكده، لأن النبي عليه الصلاة والسلام لما جاء النساء، قال: (يا معشر النساء! تصدقن، وأكثرن الاستغفار، فإني رأيتكن أكثر أهل النار، فقالت امرأة منهن جزلة: وما لنا يا رسول الله أكثر أهل النار! قال: تكثرن اللعن، وتكفرن العشير) رواه مسلم. فكثرة اللعن، وجحد حق الزوج، والتمرد عليه، وفي رواية: (وتكثرن الشكاة) فكثرة الشكاية من أسباب دخول النساء النار، فأوصى النبي عليه الصلاة والسلام النساء في المقابل بكثرة الاستغفار، قال: (يا معشر النساء! تصدقن، وأكثرن الاستغفار، فإني رأيتكن أكثر أهل النار) وبعض العلماء يرى أن التوبة من الغيبة أن تستغفر لمن اغتبته، جاء ذلك في حديث ضعيف، لكن قالوا: لعل الشخص إذا اغتبته، ولا تستطيع أن تتحلل منه، إما لأنه مات، أو لأنه ذهب وسافر ولا تدري أين مكانه، أو لأنك إذا أخبرته يغضب، أو يزداد عليك حنقاً، وإن كان صدره سليماً يصير صدره مليئاً عليك، لو أنك قلت: أنا اغتبتك، أنا قلت فيك كذا وكذا، فحللني وسامحني، يمكن أن توغر صدره فما هو الحل؟ ذكروا حلولاً منها: أن تنفي كلامك الذي تكلمت به عنه، وأن تدافع عنه في غيبته، وأن تذكره بالحسنى في المجالس التي اغتبته فيها، وأن تستغفر له، قالوا: لعل هذا الشخص يوم القيامة -وهو صاحب حق سيأخذ من حسناتك- إذا رأى في صحيفته نتائج استغفار له، أن يتنازل عن حقه ويسامح حين رأى في صحيفته استغفاراً من قبلك يا من اغتبته، فعند ذلك يتنازل، فقالوا: إن من كفارة الغيبة الاستغفار للذي اغتبته. أخيراً أيها الإخوة: فإن الاستغفار هو أحد الأشياء التي تُكفَر بها الذنوب، وليس هو كل شيء، فليس كل التكفير بسببه، فإن هناك أموراً يغفر الله سبحانه وتعالى بسببها، فمن الأشياء التي يغفر الله سبحانه وتعالى بسببها: التوبة، والاستغفار، ودعاء المؤمنين، ودعاء الملائكة، والمصائب، وفتنة القبر، وما يحصل في المحشر من الأهوال، وشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وشفاعة الملائكة، وشفاعة المؤمنين، وفي النهاية أرحم الراحمين، بعد أن يشفع الملائكة، والنبيون، والصالحون، يبقي أرحم الراحمين، لم تمح الذنوب، ولا زالت السيئات أكثر، فإنه لا بد من تطهيرٍ بالنار والعياذ بالله. إذاً: فليبدأ الإنسان من البداية ويستغفر من الآن؛ بدلاً من أن يترك المسألة لفتنة القبر، وأهوال المحشر، والصراط، ولفحات جهنم، من الآن يستغفر الله عز وجل ويتوب إليه، ويكثر من قول: أستغفر الله (طوبى لمن وجد في صحيفته استغفاراً كثيراً) وتذكر هذه الوصية من النبي عليه الصلاة والسلام: (طوبى لمن وجد في صحيفته استغفاراً كثيراً). هذا ما تيسر ذكره فيما يتعلق في هذا الموضوع. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يغفر لنا ذنوبنا أجمعين، وأن يتوب علينا إنه هو الغفور الرحيم.

الأسئلة

الأسئلة .

الأكل وقت أذان الفجر في رمضان

الأكل وقت أذان الفجر في رمضان Q ماذا يجب على من أكل وشرب وقت أذان الفجر في رمضان؟ A لو كان المؤذن يؤذن وقت طلوع الفجر الحقيقي، فلا يجوز الأكل أو الشرب وبمجرد قول (الله أكبر) تمتنع عن الطعام والشراب، ولا يجوز لك، لكن لو كان على التقويم الظني، فإنني أقول: الأحوط له أن يمسك، لأنه لا شيء يمكن أن يعتمد عليه الآن إلا التقويم، فليمسك، ومن أكل أثناء الأذان، فلا إعادة عليه إن شاء الله، ولكنه لا يعود إلى ذلك.

سجدة التلاوة

سجدة التلاوة Q رجل في أثناء عمله في المكتب يقرأ القرآن، فإذا قرأ سجدة في المكتب، هل يجب عليه أن يسجد؟ A سجود التلاوة عند جمهور العلماء سنة مستحبة، وليس بواجب كما جاء في حديث عمر رضي الله عنه وأرضاه لما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم السجدة، وكان لا يريد أن يسجد، لكن رأى الناس تهيئوا للسجود، فسجد، فأخبرهم بأن السجود ليس بواجب، وذكر في الكلام أنه يفيد أنه مستحب، وهذا لو تهيأ له السجود، فإنه يسجد، والحمد لله، فإن الشيطان إذا سجد ابن آدم اعتزل يبكي ويقول: أمرت بالسجود فعصيت، وأمر ابن آدم بالسجود، فسجد.

حكم قراءة الفاتحة للمأموم

حكم قراءة الفاتحة للمأموم Q إذا لم يترك الإمام للمأموم وقتاً للفاتحة فماذا يفعل؟ A اختيار مالك رحمه الله، وشيخ الإسلام ابن تيمية وكثيرٌ من أهل العلم أن المأموم ينصت للإمام ولا يقرأ.

الفارق بين الحيض والاستحاضة

الفارق بين الحيض والاستحاضة Q ما الفرق بين لون الحيض البني، أو المائل للأصفر أو الأحمر؟ A لون دم الحيض أحمر ضارب إلى سواد، أما دم الاستحاضة، فهو أحمر مشرق. ودم الحيض رائحته منتنة، ودم الاستحاضة دم عادي. دم الحيض يكون مصحوباً غالباً بأوجاع في البطن والظهر في العادة الشهرية، ولا يكون ذلك مع دم الاستحاضة. إذاً: فالحيض له علامات في الوقت الذي يأتي فيه، والمدة التي يمكثها، واللون، والرائحة، والأوجاع المصاحبة علامات تتميز بها المرأة عادةً. الكدرة والصفرة مثل: غسيل اللحم، أو ما كان فيه لون بني، أو أصفر، مثل نقاعة الحناء، أو غسيل اللحم، فإذا كان متصلاً بدم الحيض من أوله أو من آخره فهو من الحيض، وأما إذا نزل الطهر بعد الحيض، وبعد الطهر نزل دم، فهذا الدم دم استحاضة لحديث أم عطية رضي الله عنها: [كنا لا نعد الكدرة، أو الصفرة بعد الطهر شيئاً].

الدعوة للوالدين

الدعوة للوالدين Q هل أدعو لوالدي بالصلاح والهداية، أم بالمغفرة؟ A بكليهما؛ لأنهما يحتاجان لها.

الجهر في قيام الليل

الجهر في قيام الليل Q صلاة الليل في غير رمضان هل يجهر بها؟ A نعم يجهر بها جهراً لا يزعج النائمين، ولا يصيح، لكن يسمع نفسه.

حكم من لا يحفظ الفاتحة

حكم من لا يحفظ الفاتحة Q الذي لا يحفظ القرآن هل يقرأ الفاتحة، أو يحمل القرآن ويقرأ منه؟ A لا بأس بهذا وبهذا، فقد جاء عند أبي داود في كتاب المصاحف عن مولى عائشة [أنه كان يؤمها من صحف في يده] وإسناده صحيح، فهذا يدل على جواز إمساك مصحف أثناء الصلاة بالنسبة للقارئ، أما السامع فلا يشرع له إمساك المصحف، وفي إمساكه للمصحف تفويت أشياء، منها: النظر إلى موضع السجود، ومنها: وضع اليدين على الصدر، والانشغال بمتابعة الحروف، وكثرة الحركة بغلق المصحف وفتحه، ورفعه ووضعه، وإدخاله وإخراجه، ولذلك لا يحمل المصحف إلا الإمام، أما المأموم فينصت، ولا يشرع للمأموم مسك المصحف.

كيفية الاستغفار بتحريك الشفتين

كيفية الاستغفار بتحريك الشفتين Q التسبيح والاستغفار بتحريك الشفتين؟ A يكون الذكر بالشفتين واللسان وليس إمراراً على الذهن، أو العقل، أو القلب، فهو ليس شيئاً قلبياً، وإنما هو ذكرٌ لسانيٌ يواطئ القلب.

المرات التي حج فيها النبي صلى الله عليه وسلم أو اعتمر

المرات التي حج فيها النبي صلى الله عليه وسلم أو اعتمر Q كم حج النبي صلى الله عليه وسلم، وفي أي عام، وكم عدد العُمَر التي اعتمرها؟ A حج عليه الصلاة والسلام حجة واحدة، في العام العاشر الهجري، وودع فيه الناس، وسميت حجة الوداع، وأما العمر فقد اعتمر أربع مرات عليه الصلاة والسلام، كلهن في ذي القعدة.

زكاة الأراضي

زكاة الأراضي Q عندي أرض منحة وأرض اشتريتها، فعلى أي أرض أزكي؟ A على التي نويت بيعها، فإذا لم تنو بيعها، ونويت عمارة بيت، أو بناء عمارة للتأجير، أو أن تعمل بها مشروع مخصص، أو أن تزرعها، فليس فيها زكاة، فالزكاة في الغلة وفيما أعد للتجارة إذا حال الحول على الغلة، فمن بنا عمارة وأجرها، فالزكاة على الإيجار إذا بلغ النصاب وحال عليه الحول.

أين ذهبت الغيرة؟

أين ذهبت الغيرة؟ الديوث: هو الإنسان الذي انعدمت فيه الغيرة على أهله، وقد كان عند العرب غيرة شديدة على أعراضهم، وجاء الإسلام فنمى هذه الغيرة وضبطها بضوابط شرعية حتى لا تكون الأمور فوضى. وقد ضرب الشيخ أمثلة من غيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغيرة أصحابه رضوان الله عليهم مثل: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب. كما تعرض الشيخ لأولئك الذين يدسون السم في العسل، وهم العلمانيون الذي يشجبون ويكتبون في الصحف عن جرائم الشرف، وهي كلمات حق يراد بها باطل. وقد ذكر الشيخ أنواع الغيرة، ومنها: الغيرة على توحيد الله، والغيرة على حرمات الله وفي هذا ذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

مفهوم الغيرة وأهميتها

مفهوم الغيرة وأهميتها إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن الغيرة من الغرائز البشرية التي أودعها الله في الإنسان، وهي مشتقةٌ من تغير القلب وهيجان الغضب بسبب المشاركة فيما به الاختصاص، وهي الحمية وكره شركة الغير في حق الإنسان، وهذه الغيرة شرعت لحفظ الأنساب، وهي مقصد من مقاصد الشريعة، ولو تسامح الناس بذلك لاختلطت الأنساب؛ ولذا قيل: كل أمة وضعت الغيرة في رجالها، وضعت الصيانة في نسائها. لقد اعتبر الشارع من قتل في سبيل الدفاع عن عرضه شهيداً، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من قتل دون أهله فهو شهيد). ومن لا يغار على أهله ولا محارمه يسمى ديوثاً، والدياثة من الرذائل التي ورد فيها وعيد شديد، وهي من الكبائر عند العلماء، كما دل على ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاثةٌ لا ينظر الله عزَّ وجلَّ إليهم يوم القيامة وذكر منهم: الديوث) وهو الذي يقر الخبث في أهله.

الغيرة صفة من صفات الله

الغيرة صفة من صفات الله والله عزَّ وجلَّ غيور، والله سبحانه وتعالى يغار، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا أحد أغير من الله، ولذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن)، ولما قال سعد بن عبادة رضي الله عنه: [لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غَير مُصْفِحٍ] فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أتعجبون من غيرة سعد! والله لأنا أغير منه، والله أغير مني، ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن) متفق عليه. وفي الصحيحين أنه عليه الصلاة والسلام قال: (إن الله يغار، وإن المؤمن يغار، وغيرة الله أن يأتي العبد ما حرم عليه). وفي الصحيحين في خطبته صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف أنه قال: (يا أمة محمد! والله إنه لا أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته. يا أمة محمد! لو تعلمون ما أعلم، لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً. ثم رفع يديه، فقال: اللهم هل بلغت؟) وفي ذكر هذه الكبيرة بخصوصها عقيب صلاة الكسوف سرٌ بديع لمن تأمله، فظهور الزنا من أمارات خراب العالم، وهو من أشراط الساعة كما أخبر عليه الصلاة والسلام بقوله في أشراطها: (ويظهر الزنا)، وقد جرت سنة الله سبحانه في خلقه، أنه عند ظهور الزنا يغضب الله سبحانه وتعالى ويشتد غضبه، فلا بد أن يؤثر غضبه في الأرض عقوبةً؛ كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: [ما ظهر الربا والزنا في قريةٍ إلا أذن الله بهلاكها]. وغيرة الله صفة من صفاته سبحانه وتعالى، نثبتها له كما يليق بجلاله وعظمته، والمؤمن يستفيد من أسماء الرب وصفاته، ويتخلق بما يناسب ذلك منها في حق المخلوق وبما يليق، فإذا كان الله يغار والغيرة تناسب المخلوق؛ فإن المخلوق يغار أيضاً، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن المؤمن يغار.

الغيرة قبل الإسلام وبعده

الغيرة قبل الإسلام وبعده كان عند العرب غيرة شديدة على نسائهم، حتى كان لا يجرؤ أحدٌ أن يتزوج امرأة رئيس القبيلة بعد طلاقها أو بعد موته ونحو ذلك، وجاءت الشريعة فضبطت الغيرة، ولم تبقها فوضى يغار كل إنسان كما يشاء، وإنما جعلت الغيرة على الحرمات على المحارم وعلى كل محمود. وإذا تأملت كلام السلف في حفظ النساء، وجدته نابعاً من غيرتهم؛ قال عبد الله عن قرار النساء في البيوت: [فإن النساء عورة، وإن المرأة إذا خرجت من بيتها استشرفها الشيطان، وقال لها: إنك لا تمرين بأحدٍ إلا أُعجب بك] وفي كلام بعض السلف الاستعانة على حفظ النساء في البيوت، وعدم الإكثار من ثيابهن وزينتهن؛ لأنها إذا كثرت ثيابها وحسنت زينتها أعجبها الخروج. وعن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال: [كل شيء من المرأة عورة حتى ظفرها].

غيرة رسول الله على أهله

غيرة رسول الله على أهله ما من امرئ لا يغار إلا منكوس القلب، والنبي صلى الله عليه وسلم لما رأى في بعض غير أولي الإربة وصفاً للنساء منعهم من الدخول، كما جاء ذلك في أقوال المفسرين في قوله تعالى: {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ} [النور:31] وهم الذين ليس لهم شأن في النساء، إما لعدم وجود آلة كالمجبوب، وإما لأن الآلة لا أثر لها كالعنين، وكذلك المخنث الذي ليس بذكر خالصٍ، ولا أنثى خالصة، قد لا يكون له ميلٌ إلى النساء، وكان هناك واحدٌ من هؤلاء يدخل على نساء النبي صلى الله عليه وسلم، فقال ذات مرةٍ لأخي أم سلمة: يا عبد الله! إن فتح الله عليكم الطائف غداً، فإني أدلك على بادنة بنت غيلان فإنها تقبل بأربعٍ وتدبر بثمان، مع ثغر كأنه كالأقحوان، إن جلست تبنت، وإن قامت تفنت، وإن تكلمت تغنت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا أرى هذا يعرف ما هاهنا، لا يدخل عليكن) فحجبه صلى الله عليه وسلم، مع أنه ليس من أولي الإربة، ولكن لأنه يصف النساء، فغار على زوجاته، وخشي أن يصفهن في المجالس فحجبه، مع أن الأصل حسب الآية عدم الوجوب، ولكن الغيرة الشرعية حملت النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.

عمر بن الخطاب وغيرته

عمر بن الخطاب وغيرته إن عمر -رضي الله تعالى عنه- كان يغار غيرة عظيمة، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبره أنه رأى له قصراً في الجنة، وعنده جاريةٌ له، فلم يدخله مما عرف من غيرته، هذا الأمير للمؤمنين، وهذا الصاحب العظيم، غار من أجل زوجات النبي صلى الله عليه وسلم قبل نزول آية الحجاب، وكان يريد أن تنزل بأي طريقة، وقال لـ عائشة: [لو أُطاعُ فيكن ما رأتكن عين] فنزل الحجاب. وكذلك كانت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يخرجن بالليل إلى المناصع يتبرزن فيه وهو صعيد أفيح، فكان عمر يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: [احجب نساءك] فلم يكن يفعل؛ لأن الوجوب لم ينزل بذلك، فخرجت سودة ليلةً من الليالي، وكانت امرأة طويلةً رضي الله عنها وهي أم المؤمنين، فناداها عمر: قد عرفناك يا سودة. حرصاً على أن ينزل الحجاب، قالت عائشة: [فأنزل الحجاب]. وقال للنبي عليه الصلاة والسلام: [إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر -الضيوف عندك كثر الأعراب وزعماء القبائل والناس يأتون إليك يا رسول الله- فلو أمرتهن أن يحتجبن، فنزلت آية الحجاب]. أيها الإخوة: إن غيرة عمر رضي الله تعالى عنه لو رأى بها ما أحدث الناس في هذا الزمان لكان له شأن آخر.

غيرة علي بن أبي طالب وغيره من السلف

غيرة علي بن أبي طالب وغيره من السلف وعن علي رضي الله عنه قال: [بلغني أن نساءكم ليزاحمن العلوج في الأسواق، أما تغارون؟! إنه لا خير فيمن لا يغار]. وقال محمد بن علي بن الحسين: [وما من امرئ لا يغار إلا منكوس القلب]. وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: فيمن طلع إلى بيته فوجد عند امرأته رجلاً أجنبياً، فوفاها حقها وطلقها، ثم رجع وصالحها، وسمع أنها وجدت بجنب أجنبي مرةً أخرى؟ فأجاب رحمه الله: في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: (أن الله سبحانه وتعالى لما خلق الجنة قال: وعزتي وجلالي لا يدخلكِ بخيل ولا كذابٌ ولا ديوث) والديوث: الذي لا غيرة له، وفي الصحيح، وذكر حديث: (إن المؤمن يغار وإن الله يغار) وقد قال تعالى: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً الآية)) [النور:3] ولهذا كان الصحيح من قولي العلماء: أن الزانية لا يجوز تزوجها إلا بعد التوبة، وكذلك إذا كانت المرأة تزني لم يكن له أن يمسكها على تلك الحال؛ بل يفارقها وإلا كان ديوثاً. وقد ذكر العلماء في اشتراط المحرم للمرأة في سفر الحج والعمرة -فما بالك بالأسفار الأخرى- أنه إذا كان المحرم قليل الحمية لا يغار عليها، فإنه لا يكتفى به في السفر، وأما إذا كان يغار ولو كان فاسقاً في نفسه جاز أن يكون محرماً؛ لأن بعض الناس قد يكون فاسقاً لكن له غيرة على محارمه لا يرضى لهن مواضع الريبة، والنساء من طبعهن التبرج والتبهرج، والتبهرج: هو لبس أفخر الثياب والتجمل والتحسن عند إرادة الخروج، وهذه لو سلمت لم يسلم الناس منها، ولذلك كان لا بد للأزواج وللآباء وللإخوان -بل حتى للأولاد- أن يغاروا على نسائهم من زوجاتٍ وبناتٍ وأخواتٍ وأمهات، وأن تفهم المرأة أنها ما التمست وجه الله بمثل أن تقعد في بيتها، وتعبد ربها، وتطيع بعلها. وقال علي رضي الله تعالى عنه لزوجته فاطمة: [ما خيرٌ للمرأة؟ قالت: ألاَّ ترى الرجال ولا يروها]، وكان علي رضي الله عنه يقول: [ألا تستحون؟! ألا تغارون؟! يترك أحدكم امرأته تخرج بين الرجال تنظر إليهم وينظرون إليها] ولذلك كان ينبغي على المرأة أن تغض طرفها حتى هي عن الرجال؛ اتقاء الفتنة، وإذا اضطرت للخروج لزيارة والدٍ أو غيره خرجت بإذن زوجها غير متبهرجةٍ، وتغض طرفها في مشيتها، ولا تنظر يميناً ولا شمالاً، كما ذكر العلماء في آداب خروج المرأة من بيتها. عباد الله: إن الزوج الشهم العظيم الحسن الخلق الذي يخاف الله تعالى ويغار على زوجته أن يرى أجنبيٌ شيئاً من جسدها، إنه لا يخرج بها كاشفةً وجهها ولا مقدم شعرها، لا في سيارةٍ ينظر إليها الغادي والرائح عند إشارات المرور، ولا في الأسواق يمشي بجانبها قد أشهد العالمين على دياثته في رضاه بتبرجها، وإنه يغار عليها أن ينفرد بها أجنبيٌ في سيارةٍ أو غيرها، ويغار عليها أن يسترسل معها أجنبيٌ بحديث في محلٍ أو غيره، ويغار عليها أن تختلط بالرجال في أماكن العمل وهكذا تحفظ المرأة إذا كان الرجل صاحب غيرة. أما إذا لم يكن فالشكوى لله، ولا شك أن من أسباب الفساد في هذا الزمان: فسق النساء، ودياثة الرجال، ولا حول ولا قوة إلا بالله!

وقفة مع ما يسمى (جرائم الشرف)

وقفة مع ما يسمى (جرائم الشرف) أيها المسلمون: إن الغيرة المحمودة على الحرمات، والتي تكون في مواضع الريبة، فعند ذلك يغار الرجل، وليس الموسوس الذي يغار دون سبب، ويضيق على زوجته العفيفة، ويتهمها في شرفها وهي بريئة، ويظن أن كل أحدٍ ينظر إليها ولو لم يتقصد ليس هذا هو المطلوب، وإنما المطلوب الغيرة الواقفة عند حدود الشريعة، والغيرة على حرمات الله. وإذا قال قائل: ما هو الرأي فيما يسمى بـ (جرائم الشرف) التي تتحدث عنها بعض الصحف، ويثيرون هذه القضية فيمن يقتل ابنته أو أخته أو زوجته إذا رآها مع رجل؟ ف A أن حدود الله معلومة معروفة، ولا يجوز لإنسان إذا رأى ابنته أو أخته أن يقتلها في مثل هذه الحال إذا لم يكن الحد الشرعي هو القتل، كأن تكون غير متزوجة، فإن الشارع لم يقل بقتلها حتى لو زنت، وكذلك فإنها تعطى الفرصة لتتوب، وقتلها يفوت الفرصة، ثم هو اعتداء، ثم إن إقامة الحدود مناطة بالحاكم الشرعي وحكم القاضي العدل وليس إلى أهواء الناس. ولكنني أنبه -أيها الأخوة- إلى أن بعض هؤلاء الكتاب الذين يتناولون قضية (جرائم الشرف) ويهولون في الأمر ويعظمونه، لا يريدون من وراء ذلك إظهار حكم الشريعة، ولا أن ينهوا عن الاعتداء الذي حرمه الله كما تبين لكم، وإنما يريدون انهيار الحدود، وتدمير الأخلاق، وشيوع الفاحشة؛ فينتهزون فرصة تعدي بعض الناس فيما يسمى بـ (جرائم الشرف) ليصلوا من وراء ذلك إلى ترك الأخوات والبنات في غاية الحرية يفعلن ما يشأن. إذاً: يريدون من وراء تناول قضايا (جرائم الشرف) -من منظورهم- إعطاء البنت والأخت الحرية لتفعل ما تشاء ولو بالحرام، ويدسون في كلامهم من أجل الوصول إلى هذه الغاية الخبيثة، والمسلم نبيه فطن لا تروج عليه مثل هذه الكتابات الفاسدة. نسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن يغار على حرماته. اللهم إنا نسألك الغيرة الشرعية، وأن تجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، إنك سميع مجيب قريب. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

أنواع الغيرة

أنواع الغيرة الحمد لله الواحد القهار، وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له الكبير المتعال، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه والآل صلى الله عليه بما علمنا وهدانا وأرشدنا، وهو البشير النذير والسراج المنير. عباد الله: إن الغيرة أنواع، وإنها بحسب ما يغار عليه في الأحكام، وإن الغيرة على شريعة الله ودينه عبادة واجبة يتقرب بها إلى الله، وقد ضيعها اليوم كثيرٌ من المسلمين، فترى دين الله ينتهك في المجالس، وآياته يكفر بها ويستهزأ بها، ولا تجد في المجلس من يغار لله فيرد ويدافع عن شريعته، ويغضب لله عزَّ وجلَّ فيقوم بالواجب في إنكار المنكر.

الغيرة على التوحيد

الغيرة على التوحيد إن على رأس الغيرة على الشريعة: الغيرة على التوحيد، وهذا مثالٌ من كلام واحد من العلماء يبين ذلك: قال العلامة الشوكاني رحمه الله في شرح حديث سفيان التمار: (أنه رأى قبر النبي صلى الله عليه وسلم مسنماً) رواه البخاري. قال: كم قد سرى في تشييد أبنية القبور وتحسينها من مفاسد يبكي لها الإسلام، منها: اعتقاد الجهلة لها كاعتقاد الكفار للأصنام، وعظم ذلك فظنوا أنها قادرةٌ على جلب النفع ودفع الضرر، فجعلوها مقصداً لطلب قضاء الحوائج، وملجأ لنجاح المطالب، وسألوا منها ما يسأله العباد من ربهم، وشدوا إليها الرحال، وتمسحوا بها واستغاثوا. وبالجملة: إنهم لم يدعوا شيئاً مما كانت الجاهلية تفعله بالأصنام إلا فعلوه، فإنا لله وإنا إليه راجعون! ومع هذا المنكر الشنيع، والكفر الفضيع، لا تجد من يغضب لله ويغار حمية للدين الحنيف؛ لا عالماً ولا متعلماً ولا أميراً ولا وزيراً، وقد توارد إلينا من الأخبار ما لا يشك معه أن كثيراً من هؤلاء المقبورين أو أكثرهم إذا توجهت عليه يمين من جهة خصمه حلف بالله فاجراً، فإذا قيل له بعد ذلك: احلف بشيخك ومعتقدك الولي الفلاني، تلعثم وتلكأ وأبى واعترف بالحق، وهذا من أبين الأدلة الدالة على أن شركهم قد بلغ فوق شرك من قال: إنه تعالى ثاني اثنين أو ثالث ثلاثة!! فيا علماء الدين! أي رزءٍ للإسلام أشد من الكفر؟! وأي بلاء لهذا الدين أضر عليه من عبادة غير الله؟! وأي مصيبةٍ يصاب بها المسلمون تعدل هذه المصيبة؟! وأي منكرٍ يجب إنكاره إن لم يكن إنكار هذا الشرك البين واجباً؟! لقد أسمعت لو ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تنادي ولو ناراً نفخت بها أضاءت ولكن أنت تنفخ في رماد هذا كلامه -رحمه الله- عن بعض ما شاهده في بلاد اليمن التي كان فيها، وهو من علماء القرون المتأخرة رحمه الله.

الغيرة على محارم الله

الغيرة على محارم الله كذلك فإن من الغيرة الشرعية: الغيرة إذا هتكت حرمات الله تعالى، إذا انتهكت الحرمات أياً كانت، وليست فقط الزنا ولا الخنا، أي حرمة من الحرمات يجب أن يغار عليها إذا انتهكت، والمؤمنون مأمورون بإنكار المنكر، فما هو الدافع لتطبيق حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده) إن الدافع هو الغيرة يا عباد الله. إن الغيرة هي التي تدفع لإنكار المنكر، وقالت عائشة رضي الله عنها: [ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها] غيرة لله، وغيرة على دينه.

أنواع متفرقة من الغيرة

أنواع متفرقة من الغيرة كذلك فإن من الغيرة المحمودة أن يغار العبد على المحبة، فلا يصرفها إلا لله، ويغار أن يصرفها لغيره. وإن من الغيرة أن يغار في الإخلاص؛ فيغار العبد أن يكون لغير الله في عمله نصيب، ولا يرضى أن يشوب عمله رياء ولا إعجاب ولا استشراف لمدح الخلق وثنائهم غيرةً على عمله أن يفسد ويحبط. وكذلك فإن المسلم يغار على أوقاته أن تذهب سدى في غير رضا محبوبه وهو الله عزَّ وجلَّ. والغيرة على حقوق الآدميين مطلوبة الحقوق التي أقرها الشرع وجاء باحترامها وصيانتها، ومنها: أموال المسلمين وأعراضهم، فلو رأيت مالاً لمسلمٍ ينتهك، ورأيت عرضه ينتهك؛ فعليك بالغيرة عليه والدفاع عنه؛ تغار لأن حرمات المسلمين قد انتهكت، وحرمات المسلمين في المسجد الأقصى منتهكة، فأين غيرة المسلمين لله ضد هؤلاء اليهود الخونة الآثمين الفجرة العابثين في مقدساتنا؟! عباد الله: إن غيرة الزوجة من الأمور الفطرية الموجودة عندها في غريزتها، ولذلك كان لابد للزوج أن يتحمل غيرة زوجته التي قد تطغى فتتجاوز الحد، وأن يعذرها لأجل ما ركب فيها من هذا الطبع، وقد تحمل النبي صلى الله عليه وسلم من غيرة نسائه ما تحمل. نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجعلنا بدينه مستمسكين، وأن يجعلنا ممن يغار على حرماته إنه سميعٌ مجيب. اللهم إنا نسألك أن تصلح شأننا، وترفع قدرنا، وتستر عيوبنا، وتحسن أخلاقنا يا رب العالمين. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

تصرف المسلم وقت الحرب

تصرف المسلم وقت الحرب الإنسان مطالب أيام الفتن والمحن والخوف أن يحقق مفهوم العبودية لله سبحانه وتعالى، كما هو مطالب أن يكون عبداً لله في أوقات الرخاء أيضاً، وهو أيضاً مطالب بإحسان العبادة لله سبحانه وتعالى، كما يجدر التنبيه إلى أن هناك أموراً مستفادة من الأحداث يجب التنبه لها، منها: الأخذ بالأسباب والاعتراف بحقيقة الموت.

فضل العبادة في الهرج

فضل العبادة في الهرج إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالة في النار. أيها الإخوة: لا يخفى عليكم ما نتعرض له في هذه الأيام من المحن والخوف والفتنة، التي تتطلب منا اليوم وقفةً جيدةً أكثر من أي وقتٍ مضى، والمسلم مطالبٌ بأن يحقق مفهوم العبودية لله سبحانه وتعالى في جميع المواقف، والمسلم مطالبٌ أن يكون عبداً لله في أوقات الرخاء وفي أوقات الشدة، والمسلم مطالبٌ بأن يحسن عبادة ربه سبحانه وتعالى كما ورد في الحديث: (عبادة في الهرج كهجرةٍ إليَّ) العبادة في وقت المحنة ووقت القتل، أو وقت الحروب ووقت الفتن مثل الهجرة في فضلها، مثل الهجرة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة، وهذا يدل على أن المسلم يؤجر في عبادته لله أكثر عندما يكون في أوقات المحنة والشدة، فإنه يؤجر أكثر من عبادته في وقت الرخاء إذا استوت العبادتان؛ لأنه الآن قد أحسن التوجه إلى الله وعبادته عز وجل، فيؤجر على ذلك أجراً إضافياً.

الدروس التي تستفاد من الأحداث

الدروس التي تستفاد من الأحداث أيها الإخوة: إن هذه الأحداث، وهذه المواقف لنا فيها دروسٌ كثيرة، وفيها عبرٌ عظيمة، فمن ذلك:

الإيمان بالقضاء والقدر

الإيمان بالقضاء والقدر الإيمان بالقضاء والقدر، والإيمان بقوله عليه الصلاة والسلام: (وأن تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك) وإذا لم تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، فلست على ملة الإسلام كما ورد في الحديث الصحيح.

الموت

الموت ثانياً الموت: ولا بد منه لكل حي، قال الله عز وجل: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [الأنبياء:35] وقال سبحانه وتعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:78] ولو كنت لابساً جميع أنواع الأقنعة والكمامات والألبسة، وتسكن في عاشر أدوار تحت الأرض يدركك الموت لو شاء الله سبحانه وتعالى، فينزل فيقبض ملك الموت روحك، لأن الله أراد ذلك: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:78].

لا ينفع الهروب من الموت

لا ينفع الهروب من الموت ثالثاً: إن هذا المعنى يؤكده -أيها الإخوة- وهو نفس المسألة السابقة قول الله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا} [البقرة:243] فما أغناهم خروجهم من بيوتهم، ما أغناهم شيئاً أمام الموت، ولما قدر الله عليهم الموت ماتوا، فقال الله لهم: {موتوا} [البقرة:243] ليدلل لهم على أن خروجهم من بيوتهم لا يقيهم الموت ولا يبعده عنهم.

الأخذ بالأسباب

الأخذ بالأسباب رابعاً: لابد للمسلم من الأخذ بالأسباب، ولا تعني النقطة السابقة أنك ترى الحِمام أمامك، وترى مواقع القتل أمامك فتدخل فيها، فليس ذلك من معاني دين الإسلام ولا من أوامره، بل إذا لقيت شراً فانأ عنه وادرأ بنفسك عنه ما استطعت، إذا كان نأيك عنه مشروعاً، واتخاذ الأسباب المشروعة في الوقاية من الهلاك أمرٌ مشروع، فوضع مكان آمنٍ في البيت، أو هذه الملصقات على الزجاج حتى لو طار طيارٌ على مستوىً منخفضٍ بأسرع من سرعة الصوت مثلاً لا يتهشم الزجاج ولا يتناثر فهذا أمرٌ مشروع ولا بأس به، وسد المنافذ حتى لا يدخل غازٌ لو حصل أن جاء -ونسأل الله أن لا يأتي- أمرٌ لا بأس به، ووضع بعض الأطعمة في البيت حتى إذا غلقت الأسواق ولم تجد مكاناً تشتري منه أمرٌ لا بأس به، ووضع مصدر للإنارة في البيت حتى إذا قطعت الكهرباء يكون عندك مصدرٌ آخر، أمرٌ لا بأس به، وهو أمرٌ مشروع، فإذاً اتخاذ الأسباب المشروعة لوقاية النفس من الأخطار، والتي هي من عين الحكمة، ومن عين العقل أن تتخذها.

زيادة الهلع ينقلب إلى الضد

زيادة الهلع ينقلب إلى الضد خامساً: إذا زاد الشيء عن حده انقلب إلى ضده، فمثلاً: لما يقع الهلع من الناس فيشترون كل شيء أكثر مما يحتاجون، وتفرغ الأسواق من سلعٍ معينةٍ -مثلاً- بدون حاجةٍ إلى هذا الاندفاع الكبير لشراء هذه الكميات الكبيرة، فهذا أمرٌ منافٍ للتعقل، ثم شراء الأشياء التي قد لا يحصل منها نفعٌ وليست أسباباً واضحة ينتفع بها هو أيضاً دليلٌ على عدم التعقل. مثال: أقدم كثيرٌ من الناس على شراء الفوانيس على هذا الكاز، كان الفانوس بخمسة أو ستة ريالات لا أحد يشتريه، فقفز سعره إلى ستين وسبعين وثمانين ومائة، واشترى الناس الفوانيس، وصرف بعض الناس بضاعةً كانت عندهم، والله هو الرزاق سبحانه وتعالى ساقَ إليهم رزقهم عبر هذا الهلع أو بعض التصرف من بعض الناس، فلما قيل لهم: إن الفوانيس لا تصلح في مثل هذه الأوضاع، عليكم بالأشياء الكهربائية ذهب الناس إلى البطاريات وألقيت الفوانيس جانباً. مثالٌ آخر: مراوح يدوية، هل تصدقون أن بعض الناس قد اشتروا مراوح يدوية في فصل الشتاء، فهذا تصرفٌ دالٌ على عدم التعقل أيضاً، وهكذا. مثالٌ آخر: اتصل بي بعض الناس يقول: في وقت حدوث أو انطلاق صفارة الإنذار دخل الناس إلى هذه الملاجئ ولا ملجأ من الله إلا إليه سبحانه وتعالى، ولا يقي من الشرور إلا هو سبحانه وتعالى، وصار بعضهم يتصل على بعض، ادخل الغرفة فوراً والبس الأقنعة، اعمل اعمل، وليس هناك ما يدعو إلى لبس الأقنعة داخل البيوت محكمة الإغلاق مثلاً، وربما حصل بسبب إساءة استعمالها أضرار على الأطفال، فإنه قد بلغني أن بعضهم قد مات اختناقاً من وضع هذا الكمام عليه بالطريقة بالخطأ. فصار الشيء الذي أخذ سبباً للحياة سبباً للوفاة، ثم قال هؤلاء السائلون: كيف نتوضأ؟ يا أخي توضأ بالماء، قال: لكن نحن الآن متكممون في الغرفة ولا نستطيع أن نتوضأ وقد دخل وقت الصلاة، قلت: يا أخي اخرج إلى الحمام وتوضأ فهي خطوات، قال: أنا لا أستطيع أن أخرج من الملجأ، سبحان الله! وأنتم ترون من الواقع أنه ليس هناك داعٍ لحصر النفس بالغرفة دون خروجه إلى الحمام، فلو أراد أن يقضي حاجته، ماذا يفعل؟ لو انحصر فأراد الذهاب إلى الحمام، ماذا يفعل؟ فكان هذا التصرف بعدم الذهاب إلى الحمام للوضوء لأجل الصلاة شيئاً عجيباً، لكن الناس -فعلاً- كثيرٌ منهم ليس عندهم القدرة على التصرف الصحيح في أوقات الأزمة، ولذلك من الأدعية التي يدعو بها المسلم: (اللهم ألهمنا رشدنا، وقنا شر أنفسنا) فليس هناك غاز، وليس هناك خطر، وليس هناك أشياء متسربة، فما المانع أن تذهب إلى الحمام للوضوء؟!

أحكام العبادة في أيام الفتن

أحكام العبادة في أيام الفتن سادساً: بالنسبة للعبادة -أيها الإخوة- العبادة لابد من إحكامها، وقدمنا أن الإحسان في العبادة يضاعف الله به مزيداً من الحسنات، ولذلك فإن الوضوء ينبغي أن يكون سابغاً تاماً، والصلاة تؤدى في وقتها ولا نؤخر الصلوات، وإذا لم يكن هناك خطرٌ داهم يأتي الرجال إلى المسجد للصلاة فيه، وتمشي الأمور بشكلٍ طبيعي تماماً، ونأتي لصلاة الجمعة، والأمر طبيعي تماماً، لكن لو حصل وقدر الله أن يكون هناك قذائف تنزل أو أخطارٌ متحققة، أو صفارة الإنذار على شيءٍ من الإطلاقات أو الغارات لا سمح الله، فهنا لا نكلف الناس أن يأتوا إلى المساجد لأداء صلاة الجماعة، بل إنهم يعذرون بما هو أدنى من ذلك، كالجمع في المطر في المسجد، ويعذرون كذلك عند البرد الشديد والريح الشديد، وفي الخوف، هناك صلاة اسمها: صلاة الخوف، فإذاً لا نكلف الناس بأن يأتوا إلى المسجد، فلو صار خطرٌ حقيقيٌ داهمٌ أشارت الإشارات إليه، وليس هو من اختلاق بنات الأفكار كما يقولون، ولا نتيجة أوهام، بل أشياء محققة فيها إشارات تدل على وقوعها، فنصلي في البيوت ولا حرج، نصلي الصلاة كاملةً في البيت، كل صلاةٍ في وقتها، ولو -لا سمح الله- صارت أشياء لا نستطيع أن نأتي لصلاة الجمعة، فنصلي في البيت ظهراً، هذا دينكم دين يسرٍ، وهذا من معاني أن الدين يسر، هذا من المعاني الصحيحة ليسر الدين، والشريعة هذه لم تأت بحرجٍ أبداً، بل جاءت لرفع الحرج أيها الإخوة. ومن الأمور المتصلة في ذلك أيضاً: مسألة الأقنعة، عمد كثيرٌ من الناس -هداهم الله، ولا أقول كثير، لا أدري، ولم أعمل إحصائية ولا استبياناً، وأرجو أن يكونوا قلةً أو ندرة- إلى حلق لحاهم -والعياذ بالله- قالوا: لا يمكن للأقنعة أن تركب على اللحية وأن تتسرب غازات وأشياء، ولذلك لابد أن نحلق اللحية، يا أخي: اللحية أمرٌ واجبٌ شرعاً، فقد أصدر الرسول صلى الله عليه وسلم فيها خمسة أوامر إلى الأمة: (أرخوا اللحى) (أرجوا اللحى) (وفروا اللحى) (أعفوا اللحى) أوامر إلى الأمة بإعفاء اللحية تدل على الوجوب، فليس هناك فيها عذر. إذاًَ: فمتى تحلق اللحية؟ يجوز ذلك عند الضرورة، عند خوف القتل يمكن للإنسان أن يحلق لحيته خوف القتل المحقق، فقد صارت المسألة ضرورة، فيقولون لك: إن هذه الغازات تتسرب، نقول: يا أخي أين تعيش أنت؟! ألست في البيت! فأين الخطر المحقق لنفاذ الغاز إليكَ أو هذه الكيماويات أو الأشياء المستنشقة إليك في غرفتك، فعلام تحلق لحيتك؟! طبعاً هناك أنواع من هذه الأقنعة فيها طولٌ في تصميمها بحيث أنه لا يضر، لكن قد لا تكون متوفرة، فماذا يفعل الإنسان؟ أقول لكم ماذا قالوا في الصحافة عن اليهود؟ حاخامات اليهود لحاهم طويلة -مع الأسف طبعاً مقارنة بالمسلمين- فماذا يفعل حاخامات اليهود؟ قالوا: يحملون مقصاتٍ في جيوبهم، فإذا صار الخطر قصوا لحاهم ولبسوا القناع، هل تريدون أن يكون اليهود أحسن منا؟! اليهود يحتاطون على لحاهم ولا يحلقونها إلا عند نزول الخطر، فهل هم أحسن منا؟ معاذ الله، فإذاً هذا أمرٌ لا يجوز فعله إلا وقت الضرورة القصوى المحققة، لكن هؤلاء الذين حلقوا لحاهم، أين الضرورة التي حصلت في هذه الفترة الزمنية الماضية، حتى نقول لهم: إن ما فعلتموه صحيح. أمرٌ آخر -أيها الإخوة- نحن مسلمون، ومما يميزنا عن الكفار إيماننا بالله سبحانه وتعالى، فنحنُ في هذه الأوقات يجب علينا أشياء، منها: إحسان الظن بالله عز وجل، وإذا أحسنت الظن بالله كفاك الله الشرور قال الله تعالى: (أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي عبدي ما شاء). فينبغي أن نحسن الظن بالله، وأن نوقن في أنفسنا أن الله سيحفظنا، وأن الله سيكفينا، وأن الله سيدرأ عنا، وأن الله سيحول بين هذه الشرور والوصول إلينا، فإذا اشتد ظنك بالله حسناً كانت كفاية الله لك أكثر وأعظم، فأحسنوا الظن بالله، لا تيئس من روح الله، لا تقنط من رحمة الله أبداً {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87] ولا يقنط من رحمة ربه إلا الضالون، فأحسن الظن بالله أن الله سيكفيك همك، وأن الله سيحفظك من كل سوء، ولكن بعض الناس عندما يسمع انفجاراً أو صفارة إنذار، أو شيئاً من الأشياء الخطيرة يسقط في يده، وينسى الله تماماً، وهذا من أعظم المصائب. ففي لحظات الشدة يجب أن نذكر الله أكثر من أي شيءٍ مضى، ولذلك ما معنى الحديث: (كان إذا حزبه أمرٌ صلّى) كان إذا حصل أمرٌ فزع إلى الصلاة، إذا نزلت مصيبة فزع إلى الصلاة، يطبق قول الله: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153]. وكان ابن عباس لما كان مسافراً في الطريق، فبلغه موت أخيه، ترجل عن راحلته وتنحى جانباً، فصلى ركعتين ثم قال: قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:153] هذا الكلام نقوله لأننا وجدنا بعض الناس لما صارت الأخطار وهذه الصفارات عمدوا إلى محطات التلفزيون والإذاعات ينظرون ويستمعون إليها بكل إنصات، ساعاتٍ طويلة، ولا يلهج أحدهم بذكر الله أبداً. وهذا خطأ -يا جماعة- هذه مواقف وستسجل علينا يوم القيامة، ونحنُ بإمكاننا أن نتخذ القرار الصحيح في الوقت الصحيح، القرار الصحيح وقت الأزمة أن تلجأ إلى الله، ليس هناك مانع أن تسمع الأخبار، لكن أن تتسمر أمام الأجهزة طيلة الوقت بإنصاتٍ شديد، ولا تذكر الله أبداً هذا ليس من صفات المسلمين. كان عليه الصلاة والسلام إذا كربه أمرٌ قال: (الله الله ربي لا أشرك به شيئاً) وقال: (يا حي يا قيوم برحمتك استغيث) هذه أدعية الكرب وأذكار الهم، لابد أن نذكرها وأن تكون على ألسنتنا. (اللهم إني عبدك وابن عبدك ناصيتي بيدك، ماضٍ في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي) فإذاً نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل القرآن ربيع قلوبنا، وذهاب همومنا وغمومنا، وجلاء أحزاننا وكربنا، اللهم آمين، اللهم آمين، اللهم استجب لنا أجمعين. وقبل أن يفوتني تنبيهٌ على مسألة قد يسأل عنها بعض الإخوة العسكريين، عند لبس هذا الكمام، أو هذا القناع كيف يفعل بالوضوء والسجود؟ طبعاً الإنسان إذا لم يستطع أن يمسح على جزءٍ من جسده تيمم عنه، فإذا كان محكماً على الرأس مثلاً، يعامل مثل العمامة، فيمسح عليه، فإذا لم يستطع فإنه يتيمم عنه، هناك الآن مخارج شرعية يسأل عنها العلماء، ويفتي بها أهل العلم، فإذا حدثت أشياء مثل هذه هناك أحكام في الشريعة، أحكام الاضطرار، أحكام الضرورة، تسأل عنها العلماء، وأما بالنسبة للسجود، فلو اضطر للبس القناع وهو يصلي، فيسجد على حسب حاله، ويلامس من الأرض ما يستطيع أن يلامسه بهذا القناع الموجود على وجهه، ولا حرج في الشريعة، وهذا معنى أن الدين يسر، هذا مثال صحيح، والحمد لله رب العالمين.

تخويف الله لعباده

تخويف الله لعباده أيها الإخوة: إن هذه الأحداث التي تمر بنا الآن مدرسةٌ فعلاً، والسعيد من تعلم بها وفيها ومنها وأخذ العبر. أيها المسلمون: إن الله سبحانه وتعالى يقول -ونعوذ بالله أن نكون من المقصودين بهذه الآية-: {وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَاناً كَبِيراً} [الإسراء:60]. فإذا خوفنا الله بهذه الأحداث، فما المفروض أن يحدث لدينا؟ إن المفروض علينا اللجوء إلى الله، الدعاء، الصلاة، الذكر، قراءة القرآن، الإقبال عليه، التوكل عليه، صدق اللجوء إليه، ونقول من قلوبنا في قنوتنا: واحفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا، وعن أيماننا وعن شمائلنا، ومن فوقنا، ونعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا، هذا أوان التعلم بالأحداث -أيها الإخوة- كم مرت علينا فترات رخاء، فترات ليس فيها خوف، ولا فزع، ولا اضطراب، ولا جوع، ولا فقر، والآن يبلونا الله في هذه الأيام بأشياء من الخوف، يبلونا بها، فما هو موقفكم؟ وما هو موقفنا جميعاً؟ كونوا كما أمركم الله عباداً له في جميع الحالات والأوضاع والظروف، قوموا بحق العبودية. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

قوة الله

قوة الله الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً رسول الله؛ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. ألا إن القوة لله جميعاً، ومهما ملك البشر، فلا يملكون إلا أشياء بسيطة لا تقارن أبداً بقوة الله، تأمل قوله عز وجل: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْأِنْسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة:1 - 5] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:1 - 2]. فهذا لو قارنته بأكبر انفجار في الأرض يحدثه العباد بقنابلهم وصواريخهم؛ فماذا يعد؟ لا شيء أبداً {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا} [الحج:1 - 2]. ونحن مع الأسف في مثل هذه الأوقات قد ننسى قوة الله عز وجل، بمعنى أننا لا نقدر قوة الله قدرها، ولا نعرف ما أمرنا الله به بقوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67] (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً) جميعاً تأملوا -يا جماعة- تأملوا هذه: كل الأرض والبلاد والعباد، والصواريخ والأسلحة، والأشجار، والأنهار والبحار، والحيوانات كلها: (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ) السماوات: التي ما وصلوا إليها حتى الآن ولا لمسوها بمخترعاتهم (وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى). {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن:26] بكل مساعيهم وأسلحتهم وعتادهم كل من عليها فان، ومنشآتهم وبيوتهم وعماراتهم {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:27]. فينبغي ألا تغيب عن أذهاننا -ونحن نسمع الأخبار- قوة الله عز وجل أبداً، من فوق؟ الله فوق الجميع سبحانه وتعالى، له علو الذات، وعلو الصفات، وعلو القهر والغلبة على خلقه أجمعين: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} [طه:5 - 6].

اللجوء إلى الله أيام الفتن

اللجوء إلى الله أيام الفتن أيها الإخوة: في الفتن نلجأ إلى الله، نعتصم بحبل الله، لا نغفل عن ربنا ولا عن ذكره، ولا عن مراقبته سبحانه وتعالى، ونذكره ولا نجعل ألسنتنا تلهج بذكر الأخبار فقط، وننسى ذكر ربنا، انتبهوا -يا إخواني- ويسألونك يقولون: ما حكم الخروج من المنطقة أو من البلد، فلقد قلنا عدة مرات، وأنقل الفتوى عن علمائنا وأكابر علمائنا: لا حرج لمن أراد أن يخرج ولم يكن لديه شيءٌ يوجب البقاء أن يخرج، فالإنسان الذي ليس رجل أمن مكلف بالبقاء ولا عنده شيء يجب أن يبقى من أجله، لو أخرج أهله إلى منطقةٍ أخرى فلا بأس، وليس هناك حرج شرعي، ولو أني فعلتُ ذلك مثلاً وذهبت بأهلي، وقد يذهب الإنسان أحياناً إرضاءً لوالديه، ما عنده سبب معين في البقاء، فتقول له أمه: تعال إلينا مثلاً، فيذهب إليهم فلا حرج شرعاً في ذلك، لا هو فرار من قضاء الله واعتقاد أنك لو هربت فأنت تهرب من قضاء الله، لا: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا} [البقرة:243] ممكن تلقاك المنية في الطريق، وكذلك ليس فراراً من الزحف، لأنك لم تحضر صف المعركة بين المسلمين والكفار وأنت تجاهد بسلاحك، وإنما أنت رجلٌ من عامة الناس (مدني) فلك الخيار إذا أردت أن تذهبَ أن تذهب، ولو كانت مصلحتك في البقاء، وعندك أعمال، وعندك وظيفة، وعندك عمال ترعاهم، عندك شيء، فإنك إذا جلست فلا بأس بذلك، فإذا صار الخطر محققاً، وهناك أمورٌ تنزل عليك فيها تدمير، فيمكن لك أن تخرج في تلك الحالة وجوباً فراراً من القتل، أو فراراً من الأخطار المحدقة مثلاً. وكذلك -أيها الإخوة- فلابد أن يكون عندنا اهتمام بأذكار الصباح والمساء (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق) ثلاثاً في الصباح والمساء، وتأمل: (من شر ما خلق) وهذه تشمل الآدميين، وتشمل الأسلحة، وتشمل نفسك وتشمل كل شيء، من الدواب والعقارب والثعابين والنحل وكل شيءٍ يؤذي، فأنت تستعين بالله من شره، أعوذ بأي شيء؟ بشيء عظيم، أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً، لا مبدل لكلماته سبحانه وتعالى، فأنت تستعيذ بكلماته عز وجل من شر ما خلق، وتقول: (باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيءٌ في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم). ومن المشروع الآن القنوت في الصلوات بعد الركوع من الركعة الأخيرة من جميع الصلوات سواءً قنت في الفجر والمغرب والعشاء، أو الفجر والظهر والعصر والمغرب والعشاء، فلا حرج في ذلك، كلها صلواتٌ قنت فيها عليه الصلاة والسلام، وثبت كما في الصحيحين ومسند أحمد، قنتَ عليه الصلاة والسلام للنوازل، وهذه من النوازل، وتدعو بالأدعية المناسبة، ويدعو الإمام بهم، فيدعو الله أن ينصر الإسلام، وينصر المسلمين، ويحفظ المسلمين وبلاد المسلمين، وأن يقمع الشرك والمشركين والكافرين، وأن يحفظ العباد والبلاد، والأهل والأنفس والأموال، وأن يقينا شرور النفس، وأن يمتع بالأسماع والأبصار. يدعو الله سبحانه وتعالى في القنوت بما ورد عنه صلى الله عليه وسلم من الأدعية، وغيرها من الأدعية المشروعة الطيبة. ثم -أيها الإخوة- إذا حصل أن سافر الإنسان، فلينو -فعلاً- أن يعمل هذا السفر طاعة، لأن بعض الناس قد يعمل السفر سفر هرب، وينسى أن ينوي السفر في طاعة، ولذلك ليس أجر الذي ذهب للعمرة طائعاً مختاراً مثل الذي ذهب للعمرة رغماً عنه، هناك أناس ذهبوا للعمرة رغماً عنهم، وأناس ذهبوا لصلة الرحم رغماً عنهم، لكن اجعل النية لله في هذا السفر لا هروباً فقط لو حصل، وإنما هو فعل الأمور من الطاعات الأخرى، وكذلك أنبه على مسألة الإيثار، الآن يوجد ناس فقراء، يوجد ناس مقطوعون، قد يتعذر عليهم شراء الأشياء من الأسواق، تفقد جيرانك، تفقد من حولك، إذا كان هناك ناس يحتاجون إلى مساعدة، هناك ناس عندهم نقص فيما يحتاجونه في البيت، وأنت عندك منها فأعطهم منها، قد تكون أشياء نفدت من السوق مثلاً، وعندك ما يزيد عن حاجتك، فاهدها إليهم، أو تصدق بها عليهم، هذا أوانٌ يظهر فيه هذا الخلق العظيم من أخلاق الإسلام، وهو الإيثار، فآثر وأعط وقدم وضحّ، وتصدق لله سبحانه وتعالى، فإن الصدقة في أوقات الشدة ليست كالصدقة في أوقات الرخاء، ولا تنسوا الصلاة على نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم في هذا اليوم العظيم يوم الجمعة، ولا تنسوا أن من صلى على النبي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فله بكل صلاةٍ يصليها عليه من الله عشراً.

جدية الالتزام بالإسلام [1، 2]

جدية الالتزام بالإسلام [1، 2] مع انتشار الصحوة الإسلامية بدأ يتسرب إليها أنواع من الضعف الوهن، فبدأ المعيار يشير إلى تقلص الالتزام بدين الله، ولذلك يكتسب الحديث عن جدية الالتزام والعمل أهمية خاصة. وفي بداية هذه المادة إشارة إلى تعريف الملتزم، وإلى النصوص الدالة على ضرورة الجدية في الالتزام. أما الجوانب التي فقدت فيها الجدية في حياتنا وواقعنا، فهي لب هذه المحاضرة، وموضوعها الأساس، فقد أورد المحاضر ما يزيد عن عشرة جوانب فقدت فيها الجدية أو كادت. كما تضمنت فقرة الأسئلة بعض الفوائد في مواضيع: الإيمان الرياء آداب طلب العلم وكيفية القراءة المفيدة وغير ذلك.

ما يلزم من جدية الالتزام

ما يلزم من جدية الالتزام الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين. إخواني أعضاء هذا المركز وضيوف هذا المركز، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. فهذه- والله- فرصةٌ طيبة أن نلتقي معاً في هذه الأمسية وهذا المجلس الذي نسأل الله سبحانه وتعالى أن يكون من مجالس الخير والذكر، وأن يكتبنا وإياكم في عليين (سجل أهل الجنة)، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه. هذا الموضوع الذي سنتحدث عنه الليلة أيها الأخوة موضوعٌ مهم، والموضوع كما ذكر الأخ الذي قدم بعنوان: (جدية الالتزام بالإسلام) وأهمية هذا الموضوع أيها الإخوة تكمن في أنه مع انتشار الصحوة الإسلامية المباركة التي بدأت تؤتي ثمارها وأكلها بإذن ربها، فإننا لنلحظ في خضم هذه الثمار وهذه العطاءات أن الكثرة بدأ يتسرب إليها أنواع من الضعف والوهن، وبدأ معيار الالتزام بدين الله تعالى يخف ويتقلص ذلك المفهوم الواسع للالتزام بدين الله، وبدأت بعض التصرفات المخالفة لشريعة الله عز وجل تظهر بين الكثيرين ممن ظاهرهم الالتزام بهذا الدين، ولهذا الظهور سلبياتٌ كثيرة منها: أن الناس سيأخذون صورة عن الدين من خلال هذه المناظر أو الأمثلة التي يرونها أمامهم، لأن كثيراً من الناس يعرفون الدين برجاله، كثيرٌ من الناس لم يستقر في أذهانهم أن الحق لا يعرف بالرجال، هذه الحقيقة أن الرجال ليسوا مقياساً، ليسوا هم الدين، ليسوا هم الإسلام؛ ولذلك فإنهم لن يغتفروا لهؤلاء أخطاءهم، وقد لا يكون عندهم الوعي الكافي حتى يتصورون بأن هذه التصرفات التي تصدر من بعض من ظاهره الالتزام بدين الله لا علاقة للإسلام بها، ولأن علينا مسئوليةً كبيرة تقع على عواتقنا من جراء أخذ الناس للتصور عن الدين من واقع الملتزمين به، فإن هذا يفرض علينا واجباً ثقيلاً في المحافظة على معنى الالتزام بالإسلام وكيفية التمسك به، كيف نقدم إلى الناس هذا الدين؟ ما هي الأطر، وما هي الاطروحات التي نطرحها على الناس؟ كيف نظهر أمامهم؟ وقبل ذلك كيف نظهر بيننا وبين الله عز وجل الذي لا تخفى عليه خافية؟

من هو الملتزم

من هو الملتزم وإذا أردنا في البداية أن نعرف الالتزام بالدين، فماذا تعني هذه اللفظة وما يحوم حولها من الألفاظ؟ هذه اللفظة لم تلق عناية كافية في تمريرها إلى أذهان الناس، ولذلك فقد اضطربت التعريفات وتحير الناس في من هو الملتزم؟ وما معنى الالتزام؟ ونحن إذا أردنا أن نرجع إلى مفهومٍ سلفيٍ أصيلٍ عن الالتزام بدين الله، فإننا لا بد أن نأخذ ذلك من أقاويل العلماء الثقات الذين فسروا كتاب الله تعالى وشرحوا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا جئت مثلاً إلى قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208] ما معنى السلم؟ السلم هو: الإسلام، كما ذكر ذلك أهل العلم بالتفسير، هذه الكلمة كلمة (كافة) قد تعني معنيان: المعنى الأول: يعني: ادخلوا أنتم في الإسلام كافةً، يعني: في جميع شعب الدين، وكافة فروع الإسلام. والمعنى الثاني هو الذي رجحه العلامة ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره لهذه الآية، وليس يبعد أن يراد المعنيان جميعاً في قول الله عز وجل: {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208]: يجب أن ندخل جميعاً في جميع فروع الدين، أن نأخذ بجميع شعب الإيمان، لكن على قدر استطاعتنا، لأننا لو حاولنا أن نلم بجميع أطراف الدين وشعبه وأركانه، أو نلم بجميع درجاته وشعائره، فإننا لن نطيق ذلك، ولذلك: (اكلفوا من العمل ما تطيقون) ولذلك {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] ولذلك (إن هذا الدين متين، فأوغلوا فيه برفق) ونحن الآن في هذا المقام لا نعتب على الذي لم يستطع أن يأخذ أموراً من الدين لعجزه عن القيام بها، ولكننا في مجال محاسبة أنفسنا عن الأشياء التي كان باستطاعتنا والتي باستطاعتنا الآن أن نقوم بها ولكننا من القاعدين.

أدلة مفهوم الجدية في الالتزام

أدلة مفهوم الجدية في الالتزام ولهذا المفهوم (الجدية في الالتزام بالإسلام) أدلة منها: الأول: {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208]. الثاني: قول الله عز وجل: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة:63] هذا الدين متين، هذا الدين عظيم لا يوجد له مثيلٌ في الأديان التشريعات عميقة جذورها قوية التكليفات ثقيلة المهمات صعبة؛ ولذلك كان لابد من القوة بأخذ الدين {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة:63] وهذه القوة تنافي الميوعة، وتنافي التساهل، وتنافي الانخذال والترك والإهمال لأشياء من الدين {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة:63] قوة تناسب عظم هذا الدين، يجب أن يكون عندنا في عملية الأخذ قوة نشعر من خلالها بأن الأمر جد. الثالث: قول الله عز وجل: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق:13 - 14] فصل بين الحق والباطل، صار من شدة فصله بين الحق والباطل ومن الوضوح في الفصل أنه هو نفسه -هذا القرآن- صار ًفيصلاً يفصل بين الحق والباطل {وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق:14] الإسلام أيها الإخوة ليس ثوباً جميلاً نلبسه، أو عملية نتفاخر بها ونتباهى على الناس ونحن نخلو من هذه المضامين العظيمة التي تضمنتها شرائع الدين، لا يكفي أن نقول: هؤلاء نصارى ونحن مسلمون، هؤلاء يهود ونحن مسلمون، انظر إلى أولئك يعبدون البقر، نحن مسلمون، انظر إلى أولئك يعبدون الكواكب، نحن مسلمون!! ماذا نقصد بمسلمين؟ ما هو الإسلام؟ ما هي الجدية التي نبرهن لأنفسنا بها أننا فعلاً نمثل هذا الدين؟ الرابع: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ} [الزخرف:43 - 44] ومن القواعد عند العلماء أن الزيادة في المبنى تفيد الزيادة في المعنى، وكتاب الله ليس فيه عبث ولا إضافات لا داعي لها، كل حرف إضافته تعني معاني. " فاستمسك" تعبير فيه من القوة والجدية والمحافظة والعض بالنواجذ على تعاليم الدين أعلى من كلمة أمسك، هذه الزيادة: (الألف والسين والتاء) تفيد أن أناساً يسحبونه منك وأنت متمسك به وتستمسك به وتحاول ألا تتراجع، ولا يجذبوك إلى صفهم، استمسك به {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة:63]. الخامس: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} [الأعراف:170] قال القرطبي رحمه الله: وفي هذا التشديد -يعني: (السين الزائدة في يمسّكون) فيه معنى التكبير والتكثير للتمسك. ما هو الفرق بين يمسكون ويمسّكون؟ فيمسّكون فيها معنى: التكبير والتكثير للتمسك، ولذلك لعن الله أناسا ًوذمهم، لأنهم يريدون أن يتخذوا سبيلاً بين الحق والباطل، يريدون أن يضيعوا قضايا الإسلام، ويقولون: {نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} [النساء:150] هؤلاء الذين لعنهم الله، وهذا هو حال كثيرٍ من المسلمين اليوم؛ يريدون أن يأخذوا ببعض الدين، ولكنهم ليسوا على استعداد لأخذ البعض الباقي، يريدون أن يتخذوا سبيلاً بين الحق الالتزام الكامل وبين التفلت الكامل، ثم يقولون: نحن نمثل الوسطية! يأتي من يقول: أنا لا أريد أن أكون منحرفاً وأن أمارس الفواحش الكبيرة وأن أكفر بالله وأستهزئ، ولكني في نفس الوقت لا أريد أن أحجر على نفسي وأن أثقل عليها بالتكاليف وأن ألزم نفسي بهذه الأشياء التي يلزم بها هؤلاء الناس الذين يسمون بالمطاوعة أو المتدينين، أنا وسط لا أريد التعقيد ولا أريد التفلت، فيأخذ من الدين ما يعجبه وما يوافق هواه، ويترك الأشياء التي فيها صعوبة وثقل على النفس، يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً؛ بين الكفر والإيمان، ودين الله عز وجل أغلى وأثمن وأعلى من أن تناله هذه المفاهيم الخاطئة للوسطية.

خطأ الناس في تعريف الوسطية

خطأ الناس في تعريف الوسطية إن الناس -أيها الإخوة- في هذه الأيام يصطلحون على بعض المصطلحات التي قد تكون في الحقيقة يمكن أن يعبر بها عن أشياء من الحق، ولكنهم يفرغونها من مضامينها الصحيحة فتعريف الوسطية عندهم يختلف عن تعريف القرآن والسنة، الوسط في القرآن والسنة: أن تستمسك بالذي أوحي إليك، جاء إليك في القرآن وجاء على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم، إذا زدت عن هذا، فتوضأت أربع مرات، أو تركت أكل اللحم والزواج تقرباً إلى الله، فإنك غالٍ مغالٍ متشدد متنطع، هذه أمثلة صحيحة، لكن أن آتي وأقول لشخص تمسك بالدين، أقول: إن صلاة الفجر في المسجد تزمت وتنطع. أقول: إن تقصير الثوب وجعله فوق الكعبين تزمتاً وتنطعاً. أقول: إن إطلاق اللحية بهذا الطول يعتبر تزمت وتنطع. أقول: إن قيام الليل تزمت وتنطع. في هذه الحال نعرف ماذا يرمي إليه أولئك أهل الباطل الذين يحرصون دائماً على انتزاع المسميات الصحيحة ليلصقوها بهم ليقولوا للآخرين: نحن الوسط وأولئك أهل غلو، إنهم حريصون على هذا العمل، ولذلك يدندنون حوله كثيراً، وتراهم وتعرف هذا منهم في لحن القول.

علامات يعرف بها المنافقون

علامات يعرف بها المنافقون المنافقون لما مات الرسول صلى الله عليه وسلم، انقطع السبيل الذي نستطيع أن نحكم به عليهم حكماً كاملاً صحيحاً، ذهب الوحي، ماذا بقي لنا نحن؟ كيف نعرف المنافقين؟ الله عز وجل من رحمته ما تركنا نحن وهؤلاء المنافقون يعيثون فساداً، لا، أعطانا علامات وبيَّن لنا في القرآن دلائل وأدلة ندينهم بها كثيرة، منها: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد:30] يعني: في فلتات لسانه، ترى أحدهم مثلاً يحاذر في كلامه ويتكلم باسم الدين، ولكنه فجأة في إحدى المناسبات يزل، فينكشف لك ما في داخل قلبه من معاني الكفر والضلال والنفاق التي أخفاها. فإذاً: نقول: إنهم يريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً، يريدون أن يُفصِّلوا من الإسلام ثياباً تناسب أهواءهم وشهواتهم، ولكن لتعرفنهم في لحن القول؛ ولأجل هذا أيها الإخوة! يرينا الله عز وجل في القرآن مفاهيم شاملة ترد على أولئك الناس، وترد على هذا الخطأ والضلال، وهو أخذ بعض الدين وترك البعض الآخر حتى في العبادات، حتى لا يفهم الناس أن الصلاة تكفي والصيام يكفي والحج يكفي، وشهادة أن لا إله إلا الله قولاً تكفي، حتى لا يفهم الناس هذا المفهوم الخاطئ؛ جاءت آيات في القرآن لكي تنير السبيل للمؤمنين وتوضح القضية: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [البقرة:177] كونك تولي جهة المشرق أو المغرب أو الشمال أو الجنوب ليس في تلك الجهة تفضيلاً معيناً إلا عندما يأتي في القرآن والسنة تخصيصٌ لها، فتصبح جهة الكعبة مفضلة، نستقبل الكعبة في صلاتنا، الجهات أصلاً ليس مفضل واحد عن آخر، ليست القضية مشرقاً ومغرباً، القضية أن الله أمرنا أن نتوجه إلى تلك الجهة، ولذلك الناس في أنحاء العالم يتوجهون إلى الجهات الأربعة وما بينها حتى يصلوا إلى الكعبة، ليست القضية في جهةٍ معينة {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا} [البقرة:177] هذا هو مفهوم الشمولية، هذه هي الجوانب التي تميز الصادق من الكاذب، والتي تبين لك وتبرهن هل أنت صادق في التزامك بالإسلام أم لا؟

ضرورة تحمل المشاق

ضرورة تحمل المشاق فالمسألة أيها الإخوة عميقة، المسألة صعبة، الأشياء عظيمة، التكاليف شاقة، ولكن يوفق الله تعالى من أخلص النية أن يأخذ من هذا الدين بما يطيق. {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات:15] لا توجد ريبة ولا شك {وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات:15]. ولما أتى بشير بن الخصاصية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطلب منه الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبايعه على شهادة أن لا إله إلا الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان والجهاد والصدقة، قال: يا رسول الله! أبايعك على هؤلاء إلا الجهاد والصدقة، يعني: فأنا ليس لي طاقة بالجهاد والصدقة، فروي أنه عليه السلام قال: (لا جهاد ولا صدقة، فبم تدخل الجنة إذاً؟!) ومع أن في إسناد هذا الحديث راوياً لم يسمَّ، ولذلك فهو ضعيف عند المحدثين، لكنه يصلح شاهداً للمعنى الذي نتكلم حوله الآن؛ بلا جهاد وبلا صدقة، ما هذا الإسلام الذي لا جهاد فيه ولا صدقة؟ ما هذا الالتزام الذي لا جهاد فيه ولا صدقة؟

جوانب فقدت فيها الجدية

جوانب فقدت فيها الجدية ودعونا الآن نتجول معكم في بعض الجوانب التي ينتشر بين الناس تركها إهمالها التقصير فيها. مثلاً: بعض الناس يقولون: أنا التزم بالإسلام، ومستعد أن التزم معك بالإسلام لكن إلى حدٍ معين، وبعد هذا الحد أنا أتوقف لا طاقة لي لا أستطيع، يعني: ترى رجلاً يعجبك مظهره، وتعتقد بأنه من الملتزمين بالإسلام الذين يعملون للدين، فإذا جئت معه مثلاً إلى جانب من جوانب التضحية، إذا جئت تقول له: يا أخي إن الدين يحتاج إلى من ينصره ولا بد أن تدعو لهذا الدين وتعمل لهذا الدين، قال لك: لا. هنا أقف، ليس عندي استعداد لأن أقضي وقتاً طويلاً للعمل في الدين، ورائي دراسة، ورائي تجارة، ورائي أعمال كثيرة أؤديها، فيقول: ليس عندي استعداد لأن أعمل للدين، ما عندي وقت أقضيه، ما عندي، يكفي والآن أقف هنا!! أي نوعٍ من أنوع الالتزام هذا الالتزام؟ وآخر يلتزم بالعبادات، لكن غير مستعد أن يعمل للدين، يقول لك: أما قضية الدعوة إلى الله فما عندي استعداد لأن أضحي بوقتي، وإذا احتاجت الدعوة إلى لله إلى الجهاد في سبيل الله وإلى مالٍ، تجد هذا الشخص يقول: أنا أعطيك كل شيء لكن جيبي لا، لا أخرج منه شيئاً، إنفاق ما أنفاق، أموال ما أموال، لا، فأي نوعٍ من أنواع الالتزام هذا الذي يريدون أن يتمسكوا به أو يسيروا عليه؟ الإسلام يطلب منك أيها المسلم أن تعمل للإسلام، أن تقوم وتمشي في سبيل نصرة الإسلام، أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، أن تتعلم العلم الشرعي، أن تبلغ التصورات الإسلامية إلى الناس، أن تربي نفسك على الدين، وتربي إخوانك من حولك وتتربى معهم على هذا الدين، أن تدعو إلى الدين بكل وسيلة، أن تبذل في الدين نفسك ووقتك وجهدك ومالك وإمكانياتك وتفكيرك، وإشغال ذهنك بما يعود بالمصلحة والرفعة لهذا الدين، لكن كثيراً من الناس اليوم التزامهم بارد، لا حرارة فيه، مهما تشحن فيه وتبث فيه من الشحنات الإيمانية لا يتحرك مطلقاً، مهما أعطيته من الاشتراكات هذه لا يتحرك، لأن الخراب أساساً في الداخل، في المحرك، ليس في شيء ثان مثل البطارية، الخراب في المحرك، فإذاً التصورات فيها خلل، ولذلك تجده يرفض عندما يأتي إلى جانب من الجوانب التي تحتاج إلى بذل. يقول لك: هنا أقف، مكانك سر، ما تقدم، هذا أقصى ما يمكنني أن أقدمه، وقد يستدل بعضهم بأشياء من القرآن أو السنة لكي يبرروا لأنفسهم -قبل أن يبرروا- للناس مواقفهم الذليلة، فيقول لك أحدهم: يا أخي إنني أحتاج إلى المال، يا أخي! إني أحتاج إلى الوقت، أولادي: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول) يأخذون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، ويستدلون بأدلة يريدون منها أن يسكتوك لأنك تحاول إقناعهم وتحاول دفعهم من أجل العمل لهذا الدين، فمهما أوردت عليهم النصوص التي تفيد الحركة من أجل الدين فلا قناعة يقول: أنا هنا، حدي هنا لا أتحرك.

فقدان الجدية عند من يلتزم فقط بالأشياء التي لا شهوة فيها

فقدان الجدية عند من يلتزم فقط بالأشياء التي لا شهوة فيها جانب آخر من الجوانب: بعض الناس مستعد أن يلتزم بالأشياء التي لا شهوات فيها، فيقول: أنا مثلاً مظهري إسلامي، أنا أطلقت لحيتي، وقصرت ثوبي، لكن ليس عندي استعداد أن اترك النظر إلى المرأة الأجنبية، لماذا؟ يقول: يعني: ليس هناك مقاومة للشهوة في النفس أن أقصر الثوب، أو أطلق لحيتي، لكنك تقول لي: لا تنظر إلى المرأة الأجنبية، لا. هذا شيء في نفسي لا أستطيع أن أتحرر منه، ولذلك تراهم يصبرون على الطاعات لكن لا يصبرون عن المعصية، والصبر أنواع لا بد من العمل بها كلها: صبر على طاعة الله. وصبر عن معصية الله. وصبر على أقدار الله. فترى بعض الناس يصبر على بعض الطاعات ويصبر على أقدار الله، لكن لا يصبر عن المعاصي، لا يصبر عن الأشياء التي فيها شهوات، ولا يستطيع أن يقاوم شهواته، فأي التزام هذا الذي يزعمه ذلك الشخص؟

فقدان الجدية في الالتزام بالأخلاق

فقدان الجدية في الالتزام بالأخلاق إذا أتيت مثلاً إلى جانب الأخلاق تجد طائفة في ظاهرها التمسك بالدين، وقد يدعو إلى الله عز وجل، لكن أخلاقه في غاية السوء، أخلاق سوقية، فيعامل إخوانه بشراسة وضيق نَفَس، ويتمثل العناد والأنانية في تصرفاته، بل إنك إذا أتيت لكي تقربه منك في الصلاة وتجذبه قليلاً، قال بيده هكذا، لأنه لا يريد أحداً، الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (ولينوا بأيدي إخوانكم) هذا لا يرضى أنك تسحبه في الصف، عنده من العنجهية والعناد والكبر ما يرفض معه أن ينقاد إلى معروفٍ مثل هذا المعروف، وقد تكون علاقته بإخوانه حسنة، لكنه إذا انقلب إلى أهله أذاقهم الويل والثبور وعظائم الأمور في تعامله وسلوكياته مع أبيه وأمه وإخوانه وربما الزوجة والأولاد، كيف ترضى أن تكون ملتزماً في ظاهرك داعياً إلى الله وتطلب العلم وبعد ذلك تأتي في قضية الأخلاق والتصرفات، فتكون أخلاقك في غاية السوء؟ يعني: كيف يسمى هذا التزاماً؟! ومن أجل هذا يأخذ الآخذون علينا، ويقول السفهاء من الناس: هذا فلان الديَّن الملتزم كما أنتم تريدوننا أن نكون انظر كيف يعامل زوجته، وهذه الزوجة، أو الأولاد، أو الأقارب إذا نقلوا شكواهم إلى من يحيطون بهم وتسربت الأخبار الدقيقة عن حال هذا الشخص في بيته كيف يعامل أباه وأمه وإخوانه وجيرانه وأرحامه، ماذا يقول الناس؟ هذا هو الدين؟ هؤلاء هم الناس الذين تريدونا أن نصبح مثلهم؟ من السبب في إعطائهم الصورة المشوهة؟ نحن الذين لم نحسن التخلق بأخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم. ولذلك بعض الناس قد لا يبعدون عندما يقولون: يا أخي هذا الرجل صحيح أنه غير ملتزم بالدين في ظاهره، لكن يا أخي أخلاقه طيبة، تعامله ممتاز، يا أخي هذا أحسن من ستين واحد من هؤلاء، لماذا يقولون هذا الكلام؟ لأنهم فقدوا جانباً عظيماً من جوانب الإسلام في شخصياتنا، وهو جانب التعامل والسلوك والأخلاق، وأنا عندما أتكلم بالجميع فأنا منكم، وعندما أقول هذا الكلام فهو من باب التواصي بالحق والصبر. وقضية الأخلاق والسلوك من الأشياء التي يتأثر بها الناس جداً، الناس يتأثرون بأخلاقك وسلوكك أحياناً أكثر مما يتأثرون بتصوراتك أو مظهرك، أحياناً ما عندهم موازين من يقولون: لا إله إلا الله ما هي هذه التصورات الممتازة؟ ما هي هذه الأفكار الجيدة؟ ما هذا السمت النبوي؟ قد لا يقولون هذا، لكنهم يقولون: ما هذا التعامل الجيد؟! ما هذه الأخلاق العظيمة؟! يتأثرون بهذا الجانب أكثر مما يتأثرون بتلك الجوانب، مع أن الأخلاق قد تكون أهم جانب، لكن الناس ما عندهم هذا التمييز، ما عندهم القدرة على أن يميزوا الأهميات والأولويات، فلذلك الذي يرونه من التعامل هو الذي يحكمون به عليك، ولذلك ترى الآن أهل الباطل زينوا باطلهم بأسلوبهم الحسن من أمثال المنصرين والمبشرين بالنار، زينوه لبعض الناس حتى رأوه حقاً، ونحن أو بعضنا بتعامله والخطأ في تقديم الأفكار الصحيحة للناس يرونه باطلاً، مع أنه يقدم لهم الحق، لماذا يحصل هذا؟ للتعامل السيئ والأسلوب الفظ والغليظ في عرض الإسلام عليهم، دعوتهم كأنك ترغمهم بالقوة، كأنك تغصبهم، قد يقدم الكلام للبعض العاملين للإسلام من موقع الأستاذية، فيفرضه على الناس فرضاً، يقدمه لهم بأسلوب جاف وغليظ، ولذلك لا يطيعونه ولا يتابعونه في أفكار دعوته، هو الذي أساء إلى دعوته، لأنه أساء عرضها، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يهتم بالأسلوب كما كان يهتم بالمضمون، كان يهتم بالجوهر وأيضاً يهتم بالقالب الذي تقدم فيه هذه الأفكار للناس: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً} [طه:44] هذا أسلوب {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44]. وهذه المسألة الأخيرة هي التي تفقد وتعدم القدوات بين الناس، لأن الناس لا يرون القدوة الصحيحة التي يقتدون بها، ويعتبرون هذا النوع من الدين كما يسمونه مرفوضاً، بسبب عدم قناعتهم بالشخصيات التي تعرض الحق، هذه مسألة مهمة، عدم قناعة الناس بالشخصيات التي تعرض عليهم الدعوة إلى الله، عدم قناعتهم بالشخصيات التي تعلمهم، هذا من أسباب رفض الحق.

فقدان الجدية في طلب العلم

فقدان الجدية في طلب العلم الجدية مفقودة في جوانب كثيرة أيضاً مثلاً: الجدية في طلب العلم: تجد بعض الشباب مثلاً ما عنده نَفَس في القراءة، ولا عنده صبر في الجلوس في حلق الذكر والعلم. يعني: لا يقرأ، لو أن أحداً ممن يدعوهم إلى الإسلام قال له: ما هو الدليل على حرمة سماع الأغاني؟ قد لا يستطيع أن يأتي بدليلٍ صحيح، لو أن امرأة سألته ما هو الدليل على وجوب ستر الوجه وتغطيه الوجه؟ قد لا يأتي بهذا الدليل، ربما لو سئل ما هو الدليل لوجوب الصلاة في الجماعة في المسجد؟ قد لا يستطيع أن يقدم الدليل. وقضية حفظ الأدلة قد تكون ناقصة جداً، فتراه يقول: ورد في آية أو جاء في حديث أو كما قال أو فيما معناه، ليس هناك اهتمام بحفظ العلم والنصوص، وترى هؤلاء الأقوام يشتغلون بأشياء يملئون بها فراغهم، لكنها لا تدر عليهم مردوداً جيداً، مثلاً يغرقون في سماع الأناشيد أو التمثيلات مثلاً، هذه أشياء طيبة لا ننكر أن لها تأثيراً جيداً، لكن أن أذهب إلى سيارة أحد الشباب وأستعرض الأشرطة الموجودة، أجد أنها كلها أشرطة أناشيد وأشرطة حفلات وأشياء من هذا القبيل، ولا أجد شريطاً واحداً في تفسير آيات أو فيه شرح متن فقهي، بل إنهم يحفظون أبيات هذه الأناشيد حفظاً يفوق حفظ الآيات والأحاديث، لو قلت له أكمل هذه الآية، أو أكمل هذا الحديث ربما لا يستطيع! لكن لو أعطيته أول النشيد سرده حتى النهاية! وأيضاً مع أنهم يشغلون أنفسهم بهذا، فإنهم يذهبون مع اللحن، فتجد أحدهم يطرب ويترنم وهو يقود السيارة، أو وهو جالس في البيت يترنم بالألحان، ولو أنك أيقظته على معنى من المعاني ربما قال: هذه أول مرة أفكر في هذا، مع أن بعض هذه الأشعار تحتوي على معانٍ جميلة ومعانٍ قوية ومهمة، لكنهم في إغراقهم في هذه القضايا لا يتذكرون حتى معاني الأشياء التي يرددونها. هل يفكرون مثلاً في قول الشاعر: إخوانكم لا شيء أغلى منهم لا شيء يعدلهم من الأشياء لا تتركوهم للضياع فريسة ترك الشباب أساس كل الداء وغيرها كثير، أم أنه يشغلهم اللحن عن التفكر في هذه الأشياء، وتشغلهم هذه الأشياء بعمومها عن طلب العلم، يغرقون فيها، أنا لست ضد الاستفادة من هذه الأناشيد والجيد منها الذي كلماته طيبة، وليس فيه مشابهة لألحان الفساق والأغاني الماجنة كما يحلو للبعض أن يفعل في تلحين الأناشيد، لست ضد هذه الفكرة والاستفادة منها وبالذات فيمن يترك الآن تدريجياً الأغاني، فقد تكون بديلاً، لكن ليس من المعقول أن رجلاً قد درج في طريق الالتزام سنوات وهو لا يزال الوقت الأكبر من حياته يقضيه في سماع هذه الأشرطة، فقليلاً من الجدية في الالتفاف إلى العلم الشرعي إلى التعلم، والعلم -أيها الإخوة- سلاح المؤمن، وهؤلاء العلماء الكبار -نسأل الله أن يحفظهم- كم أعمارهم الآن؟ أليسوا في الستين والسبعين والثمانين، فإذا ذهبوا إلى ربهم فمن يبقى ليعلم الأمة، لا تحتقر نفسك، لا تقل أنا لا أستطيع أن أفعل، وكيف أصل إلى ذلك المستوى، وأنى لي؟ لا، ليس المطلوب أن تصل إلى ذلك المستوى؟ ليس المطلوب أن نكون كلنا من أمثال المشايخ المعروفين، لكن يا أخي على الأقل بعض الدرجات في هذا السلم، وما لا يدرك كله لا يترك جله، لكن بعض الشباب قد يحتقر نفسه، قد يقول: أنا ماذا أفعل؟ حتى في باب الدعوة إلى الله يقول: أنا لست صاحب سلطة في البيت، ولا أنا الذي أصرف عليهم فيسمعون كلامي من باب الضغط المادي، ولا أن سني كبير فيحترموني، فأنا ماذا أقدم؟ لا، لا تقل هذا فإن في الأمثلة الواقعية ما يرد هذه المزاعم، وقد وجد ولله الحمد من صغار هؤلاء سناً من أثَّر في أهله، فالتزم إخوانه بالدين وتحجبت الأخت والأم، وامتنعت عن الخروج مع السائق بدون محرم، والأب كان لا يصلي وصار يصلي، وبعضهم يؤثر في أهل الحي والجماعة في المسجد. فإذاً من كان داوود عليه السلام قبل أن يقتل جالوت كان غير معروف، صغير السن في مقتبل العمر {وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} [البقرة:251]. فإذاً: لا يحتقر الإنسان نفسه، وهذا مدخل شيطاني ليحطم به معنويات المؤمنين ويردهم عن الاشتغال بالدين والدعوة إليه يقول: ماذا أستطيع أن أفعل وأنا ذاكرتي ليست كذاكرة الشيخ الفلاني، كيف تريدني أن أطلب العلم؟ صحيح أن الله عز وجل فضل بعضنا على بعض درجات، ورفع بعضنا فوق بعضٍ درجات في الذاكرة، في الذكاء، وفي المال، وفي كل الأشياء، وفي القوة الجسدية، لكن كل واحد يعمل بحسب استطاعته، أنت تعمل بحسب استطاعتك، وأنا أعمل حسب استطاعتي، والأخ يعمل بحسب استطاعته تكاتفت الجهود وظهرت النتائج.

الإغراق في المزاح والضحك

الإغراق في المزاح والضحك ومن مظاهر عدم الجدية في الدين كذلك: الإغراق في المزاح والضحك، وتضييع الأوقات في النكت أو القصص والطرائف، وهذه طبعاً مشكلة كبيرة، وهذه نتيجة عدم الإحساس بالمسئولية، الواحد الذي لا يحس بخطورة الوضع وأن الإسلام يحتاج إلى جهد وإلى عمل، فلذلك يضيع الوقت منه بسهولة، لأنه لا يستشعر المسئولية، واستشعار المسئولية يحتاج إلى وعي، ويحتاج إلى تفتيح ذهن، ويحتاج إلى تفكير في الواقع، وتأمل واستغراقٌ عميق في تصور مشاكل المسلمين، وماذا يحتاج إليه الإسلام؟ وما هو حجم التكليفات التي كلفنا بها؟ ولذلك لا نريد أن نكون يقال لنا: والله هذا مسكين، يعني: ما عنده خلفية، وعنده بلادة في ذهنه، وهو سطحيٌ بنظره إلى الأمور، ولذلك ينبغي أن يكون المسلم واعياً.

فقدان الجدية في المجالس

فقدان الجدية في المجالس ومن مظاهر عدم الجدية كذلك: واقع مجالسنا اليوم، ما هي الأشياء التي تثار اليوم في مجالسنا؟ ما هي القضايا التي تطرح الآن؟ إذا جلس مجموعة من الناس مع بعضهم ما هي القضايا التي تناقش وتطرح في هذه المجالس؟ هل يتناقشون في مسألة في كتاب الله، أو في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ مسألة في الفقه؟ أو يناقشون بعض أحوال المسلمين؟ أو يناقشون أوضاع إخوانهم المسلمين، ويفكرون في حلول مشكلات المجتمع، ويتداولون الخبرات فيما بينهم مثلاً؟ أو القصص المفيدة التي يكون فيها تعليقات جيدة؟ أو مثلاً حال الناس الآن من قطيعة الرحم، هل هذا الذي يناقش، أو ما الذي يطرح في مجالسنا؟ وقد سمعت أن بعض الشباب العزاب جلسوا مرة من المرات إلى الساعة الثانية والنصف ليلاً، يتناقشون في كيفية دخول الرجل بزوجته ليلة الزفاف، هم طلبة صغار، ما هذه التفاهة؟! وكيف نرضى أن تمضي أوقاتنا بهذه السهولة في هذه المواضيع العجيبة؟! ثم تضيع صلاة الفجر طبعاً هذه نتيجة طبيعية؛ فنظرة تلقيحية إلى واقع المجالس، نخشى أن تكون هذه المجالس فيها من المحرمات أشياء كثيرة وخصوصاً أنه لو جلس خمسة أشخاص لمدة ساعة كم ضاع من وقت المسلمين؟ خمس ساعات؛ لأن كل واحد ضيع ساعة فضيع الجميع خمس ساعات من وقت المسلمين، خمس ساعات في الصباح، وخمس ساعات في الليل ومثلها يومياً واضرب في ثلاثين شهرياً في اثني عشر سنوياً حتى تعرف كم يضيع من أوقات المسلمين، التي من المفترض أن المسلمين يحتاجون إليها بشدة، والتي من المفترض أن تنفق في سبيل الله.

تمييع مفهوم الأخوة الإسلامية

تمييع مفهوم الأخوة الإسلامية من مظاهر عدم الجدية كذلك: تمييع مفهوم الأخوة الإسلامية، وهو فريضة عظيمة، ما هي الأخوة عند كثيرٍ من الناس؟ هي عبارة عن استئناسات وترويحات وتبادل الكلام والارتياحات التي لا معنى لها، وكثيراً ما تؤدي هذه الخلطة الزائدة إلى أضرار سلبية تدمر الأوساط الأخوية، ويتزين بعضهم لبعض، ويثني بعضهم على بعض، ويجتمعون على غير ذكر الله، وصارت الأخوة في الله مجرد شعارات ترفع لا حقائق يعمل بها، فهذا التفريغ لمضمون الأخوة في الله الذي نعاني منه اليوم في أوساط كثيرٍ من الشباب هو مظهر من مظاهر عدم الجدية، أنا لا أجلس الآن مع فلان لأنه يفيدني ولأنه أعلم منى ولأنه ينصحني، لا، أجلس مع فلان لأنني أرتاح إليه ويرتاح إلي، أجلس مع فلان لأن عندي توافق نفسي معه فقط، هذا هو الذي يجمعني معه. هذه مشكلة واقعية، الآن لو جئت تقول لفلان: من الذي تجلس معه؟ من هو أقرب صديق لك؟ يقول: فلان، لماذا؟ يقول: أنا ارتاح له، فذهب ارتياحك بالفائدة العظيمة التي قد تأتي إليك عندما تبحث عمن هو أفضل منه وأعلم منه، لكن القضية استرسال مع الهوى. والتعامل بالعواطف لا بالعقل، ولذلك إذا نقحت الجمل التي ينطلق بها هؤلاء لا تكاد تجد فيها كلمة واحدة مفيدة، وإنما هي عبارة عن استرسالات وعواطف وكلام وشجون وأشياء تنطلق وتبث عبر الهواء مباشرةً، يعني: بغير ضبط وبغير تنقيح وبغير نظر في عواقبها وما مدى جديتها.

فقدان الجدية عند المتهاونين بالسنن

فقدان الجدية عند المتهاونين بالسنن كذلك من مظاهر عدم الجدية في الالتزام بالإسلام: التهاون بالسنن، لأن الناس يقولون: نحن نطبق الفرائض، ما لنا وللسنن، لست بآثم لو لم أقم بها، لكن أقول: ألم يخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (أن الرجل يوم القيامة يؤتى به فينظر في صلوات الفرائض التي قام بها، فإذا وجد فيها خلل فينظر إلى السنن والنوافل، فيجبر بها ذلك النقص الذي حصل) وصيام، لو واحد أنه مثلاً: صار عنده رفث وفسوق مثلاً في صيامه أو جدال في حجه ما الذي يجبر هذا النقص الحاصل فيها؟ أليست في السنن والنوافل من أنواع هذه العبادات التي تؤدى؟ ألست الفريضة أعلى عند الله عندما تكون مكتملة السنن من الفريضة تؤدى بمجرد الواجبات، تقول: أنا أقول سبحان ربي العظيم مرة، سبحان ربي الأعلى مرة، رب اغفر لي مرة، لماذا أقولها ثلاث مرات؟ لماذا أحرك الإصبع؟ لماذا أضع اليدين على الصدر؟ وكذلك قضية فروض الكفاية لماذا أصلي الاستسقاء؟ لماذا أصلي كذا؟ هذه فروض كفاية، وهناك مسلمون كثيرون يقومون بهذه الأشياء والحمد لله، لماذا أقوم بفروض الكفاية؟ أتركها لغيري هو الذي يقوم بها، هذا التهاون الدال على الاستخفاف بهذه القضايا من مظاهر عدم الجدية في الالتزام بالإسلام.

البحث عن الأعذار والحيل لمجابهة المرشدين

البحث عن الأعذار والحيل لمجابهة المرشدين كذلك -أيها الإخوة- إيجاد الأعذار والحيل التي يجابه بها كثيرٌ من الناس من ينصح لهم ومن يعلمهم ويرشدهم، كأنَّ همه هو عدم التطبيق، هو ألا يرضخ للنصيحة بأي سبب وبأي شكل وبأي وسيلة، ونفعل مثل ما فعل بنو إسرائيل مع موسى، فقد أتاهم موسى برسالة من ربهم {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67] كيف استقبلوا هذه الرسالة، وهذا التكليف، وهذا الأمر؟ كيف استقبلوه؟ المفروض أنهم يبادرون إلى التنفيذ، لكن استقبلوه بأن قالوا: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً} [البقرة:67] أنت الآن تستهزئ بنا نذبح بقرة؟! عجيب! وحي من عند الله ونبي جاد في كلامه يستقبلونه بالاستهزاء كما يستقبل اليوم كثيرٌ من المسلمين الأشياء التي تنصحهم وتحثهم عليها وتبينها لهم، يقول لك: ما هذا يا شيخ؟ لماذا تستهزئ بعقلي؟ هذا من الدين؟ هذا دين الإسلام لا يأمر بهذا وهذا ليس من الدين أصلاً، كما ذكر كثيرٌ منهم في مجالس تسمع هذه الكلمات، يقول: هذا ليس من الدين وأنت أتيت بدين جديد، من أين جئت بهذه الأشياء؟ أنتم الآن جالسون تعلمونا الدين وهذا الكلام، كل ما رأينا عليه آبائنا وأجدادنا غلط؟ لأن هذه أصلاً حجة الكفار: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23] سهل أن نغير إلى المحرمات ونقع فيها، لكن صعب أنت نغير إلى الواقع الذي يرضاه الله عز وجل. فلما جزم لهم موسى عليه السلام أنه غير مستهزئ بهم وأنه جاد، قال: أعوذ بالله من هذا الكلام {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة:67] وفيه إشارة إلى أنكم أنتم الجاهلون، وهل ذبحوا البقرة لما أكد عليهم هذا الأمر؟ لا. ماذا قالوا؟ بين لنا ما هي، ما أعطيتنا الأوصاف، والله أمرهم ببقرة، اذبحوا أي بقرة، لو ذبحوا أي بقرة لكفتهم. وموسى عليه السلام يذهب إلى ربه يسأل ربه، ويأتيه الجواب {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة:68] لا صغيرة ولا كبيرة هرمة إنها بقرة فتية {فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} [البقرة:68] هذه أوصاف هذه البقرة، ذبحوها؟ لا: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا} [البقرة:69] أي شيء، المهم تأخير التنفيذ بأي عذر، أي سؤال، أي استفسار، أي تأخير، المهم ألا ننفذ. {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} [البقرة:69] ذبحوها؟ لا {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} [البقرة:70] بقر كثير وما زالت هذه الأوصاف غير كافية {وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} [البقرة:70] بعض المفسرين قالوا: إنهم استثنوا أخيراً، ولولا أنهم استثنوا بالمشيئة، لكانوا حرموا من الخير كله، وبعضهم قالوا: أن احتجاجهم بالمشيئة هنا مذموم، يعني: مثل احتجاج الناس تقول: يا أخي صل صل، يقول: إن شاء الله {وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا} [البقرة:70 - 71] انتهت الأسئلة، ماذا يسألون بعد هذا؟ {قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} [البقرة:71] الآن ذلك الكلام الذي ذهب كله ما هو؟ كان باطلاً، الآن جئت بالحق، ومع ذلك مع هذا الاعتراف {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة:71] يعني: كادوا ألا يفعلوا، وما ذبحوها إلا بزهق النفس وما كادوا يفعلون. وفرق أيها الإخوة بين من ينفذ أمر الله عن حبٍ لله وطواعية نفسٍ منه، وبين من ينفذه من وراء أنفه كأنك تأخذه منه، إذا نفذ هذا الذي تقول له كأنك تسلب منه ملكاً عزيزاً على نفسه، هذه المعاذير والأشياء التي يتعذر بها كثيرٌ من الناس تدل على أنهم المتلاعبين، أين الجدية؟ لو كان عندهم جدية، لكانوا نفذوا لأول وهلة وما جلسوا يعتذرون بالمعاذير والكلام الفارغ.

فقدان الجدية عند من يطلق لسانه في أعراض المسلمين

فقدان الجدية عند من يطلق لسانه في أعراض المسلمين كذلك من مظاهر عدم الجدية: التساهل في إطلاق اللسان في أعراض المسلمين، فتجد بعضهم يكيل ألفاظ الشتيمة والسباب للبعض الآخر، ويقعون في الغيبة وهي: ذكرك أخاك بما يكره، والإفك وهو: أن تقول في أخيك ما بلغك عنه، فيجتمع النميمة وسوء الظن، والبهتان وهي أن تقول في أخيك ما ليس فيه، وكل هذه الأشياء ذكرت في القرآن الغيبة والإفك والبهتان، فأين الجدية في التزام هؤلاء؟ لو أنهم كانوا جادين لأمسكوا ألسنتهم عن الانطلاق في سب إخوانهم المسلمين، وأنت عندما تنقد واحداً فإنك تنقد الفكرة ولا تنقد الشخصية، هذا هو الموقف الذي ينبغي أن يكون، عندك ملاحظة تنقد فكرة، تبين خطأ الفكرة، لا تعب شخصه ولا تجرحه.

فقدان الجدية في الحماس للأعمال الصالحة

فقدان الجدية في الحماس للأعمال الصالحة من مظاهر عدم الجدية في الالتزام بالإسلام كذلك: الحماس بغير أساس، لو أنك كلمت نفراً أو طائفة من شباب اليوم، فتكلمت عن أهمية طلب العلم، وفضل طلب العمل، وذم والجهل، وخطورة الجهل، يتحمس بعد الكلام ويأتي إليك يقول: أرجوك أنا أريد أن أتعلم، دلني، اعمل لي جدولاً، وهات تفاصيل. فتعطيه تفاصيل، وتكتب وتتعب نفسك، وتجدول له أشياء، وتقول: اقرأ هذا الكتاب وبعده الكتاب الفلاني والثالث، وتسمع هذه المجموعة من الأشرطة، وبعد هذا التعب وبعد شهر عندما تراجع وتحاسب وتنظر فيما أتعبت نفسك فيه، تجد أن الأعذار تنطلق: أنا نسيت، أنا قرأت أول صفحة ثم مللت، أنا انشغلت وكانت عندي ظروف، وهذه كلمة (ظروف) كلمة عجيبة اليوم وإذا دققت في هذه الظروف، فالحماس هذا ما هو سبب ذهابه؟ سبب ذهابه أنه كان غير مؤسس على تقوى من الله ورضوان، وغير مؤسس على صدق وإخلاص وعزيمة في العمل، وإنما هو مجرد أن الواحد تحركت أحاسيسه وتحمس في لحظة من اللحظات وبعد ذلك انطفأت. لذلك نبي بني إسرائيل في قصة طالوت لما قالوا له متحمسين في حال الهزيمة: {ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة:246]، ماذا قال لهم؟ قال لهم: غداً نأتي لكم بملك، انتهينا نأتي لكم بقائد تقاتلون وراءه، هو خبير، أنبياء بني إسرائيل عانوا الويلات من بني إسرائيل، قال لهم: لحظة قفوا {هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا} [البقرة:246] عسى أن يفرض عليكم القتال غداً، أو يأتي لكم قائد يملك عليكم وبعد ذلك لا تقاتلوا، انطلقت الحماسة {وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا} [البقرة:246] هذا الكلام الآن، لكن حين تأتي إلى الجد {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ} [البقرة:246]. فإذاً قضية الحماس يرتفع فيها الكلام ثم بعد ذلك ينطفئ لأنه غير مؤسس، وكيف يأتي الأساس أيها الإخوة؟ لا يأتي الأساس من الهواء، إنما يأتي من التربية الإسلامية التي يتلقاها ويتربى عليها الشاب المسلم في وسط إخوانه على منهاج كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، تلك التربية الإيمانية التي تأخذ بما يحيي القلب، العلمية القائمة على الدليل من الكتاب والسنة، الواعية التي تحيط بالواقع علماً، المتدرجة التي تنتقل بالإنسان من حال إلى حال إلى كماله الخاص به من غير قفزاتٍ محطمة. فإذاً: ينبغي إذا أردنا أن نكون جادين، أن نتعرض لنفحات التربية الإيمانية الإسلامية التي تصقل نفوسنا وتهذبها، أن ننظر إلى إخواننا ممن سبقونا بالإيمان وممن هم أعلى منا شأناً في العلم وفي الفهم، فنقتدي بهم ونتأسى بهم، وقد يقول قائل: عندنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة، ما حاجتنا إلى قدوات أخرى؟ وحديث الوفد الذين جاءوا مجتابي النمار، فقراء عالة، حفاة، الرسول صلى الله عليه وسلم تأسف لهم وأسف عليهم، وحث الناس- الآن الرسول صلى الله عليه وسلم قدوة- على التبرع والتصدق لكن الناس لم يتحركوا إلا حين جاء واحد منهم فعلاً بصرة كادت كفه أن تعجز عن حملها، فتصدق فتتابع الناس وراءه، مع وجود الرسول صلى الله عليه وسلم القدوة العظيم أعظم قدوة، كان وجود القدوات الأخرى ممن هو أقل شأناً مهماً في عملية تربيتهم على الإنفاق، ولذلك لا بد من القدوات الحية بالإضافة للتأسي والاقتداء بمن سلف من عباد الله الصالحين.

خجل الملتزم ينافي الجدية

خجل الملتزم ينافي الجدية كذلك من عدم مظاهر الجدية في الالتزام: أن يخجل الإنسان في مواجهة الناس بالتزامه، فتجد واحداً مثلاً ممن هداهم الله عز وجل والتزموا بالإسلام ومظهرهم إسلامي، عندما تلاحقهم أعين السفهاء من الناس، وينظرون إليه ويتتبعونه ويغمزونه تجد أنه يمشي على خجل ويريد أن يتوارى من القوم من سوء نظراتهم، والإسلام يوجد في المسلم قضية العزة الإسلامية التي تحتم عليه أن يظهر أمام أهل الباطل فارضاً شخصيته وتصوراته عليهم، ليس بالقوة لكن بمفهوم العزة الإسلامية، أن يصبح عزيزاً، لا ذليلاً يلاحقونه بنظراتهم وهو يحاول أن يهرب ويجد له شيئاً يتوارى خلفه، لماذا يا أخي والله عز وجل أعزك بالإسلام ورفع رأسك به، وأنت تطأطئ رأسك وتمشي هكذا، كأنك مجرم، وهم مجرمون في الحقيقة، تمشي كأنك مذنب، وعينك منكسرة في الأرض، تخشى وتحاول أن تندس من هنا وهناك، لو رفعت عينك إليهم فواجهتهم، وقلت لهم: مالكم تنظرون إلي؟ وما الذي تستغربون من شأني؟ وما الذي فعلته من الخطأ الذي يستنكر علي؟ ثم بدأت تذكر لهم أخطاءهم لما وقعت في هذا المأزق، لكن المشكلة أحياناً ضعف القلوب وضعف الشخصيات، وانحصار مفهوم العزة الإسلامية في النفس يؤدي إلى هذه الأشياء.

عدم التفاعل مع قضايا المسلمين

عدم التفاعل مع قضايا المسلمين عدم التفاعل مع قضايا المسلمين من مظاهر عدم الجدية: يسمع الإنسان نكبات تحل بإخوانه في أصقاع الأرض؛ أناسٌ يشردون، أناسٌ يقتلون، أناسٌ يسجنون، أناسٌ يعذبون، أناسٌ تستحل أموالهم ودماؤهم بغير حق، السبب أنهم قالوا: ربنا الله، فتحل النكبات والكوارث بهم، ويأتي هذا الأخ يقرأ الأخبار ويسمع وهو متبلد الإحساس تماماً كأن الأمر لا يعنيه، يقول: الحمد لله هذا ليس في ديارنا، الحمد لله هذا بعيد، الحمد لله دعهم، الحمد لله، أين الارتباط؟ أين الأخوة في الله؟ (المسلمون كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) فهذا البرود وعدم تقديم شيء حتى في دعاء السجود أو دعاء في ظهر الغيب لا تقدم، أي تجمدٍ في مشاعرك هذا الذي يحل بك حين تسمع ما يحل بإخوانك المسلمين في العالم وأنت تجلس على أريكتك متكئاً وتقول: الحمد لله هذا ليس عندنا؟!

أشياء تنافي كمال الالتزام

أشياء تنافي كمال الالتزام وقبل أن أنهي كلامي، هناك أشياء تنافي كمال الالتزام مثل: قضايا التخلي عن الزهد، فتجد الواحد مثلاً يلبس أحسن أطقم الأزر ويشتري أحسن الأقلام، وبيته مزخرف، لو أنه اشترى أقل منها بنصف الثمن ربما أدت الغرض نفسه، لكن الناس عندهم عقدة التزين والاهتمام بالمظاهر بحيث إنها في بعض الأحيان عند بعض هؤلاء ينفقون أموالاً بما يشبه الإسراف أو ربما التبذير، وهذا أيضاً دال على عدم استشعارهم لحاجة إخوانهم المسلمين لهذه الأشياء الزائدة، على الأقل يا أخي احتفظ بها ربما في المستقبل تتزوج وتحتاج إليها في زواج أو في بناء بيت، ولكن لا يوجد تأصيل، أو لا يوجد انتباه إلى هذه الأشياء. وأختم كلامي بأنه لا يفهم من هذا الكلام -قضية الجدية- أن الجاد لا يضحك مطلقاً ولا يتبسم، وإنما يمشي بين الناس وهو مقطب الجبين، مشيةً عسكرية لا يلتفت يميناً ولا يساراً، كلامه مقتضب وقليل جداً، ولا يعرض عن أي شيء، هذا ما نقول عنه هذا جاد، نقول هذا: مسرفٌ في تشدده وشدته على إخوانه، الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (وتبسمك في وجه أخيك صدقة) والرسول صلى الله عليه وسلم كان يمازحهم، وكان يأتي أحدهم من خلفه مثلاً، فيغمض عينيه، وكان يمزح حتى مع النساء كبيرات السن كما هو معروف في الشواهد، وكان صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم يتبادحون بقشر البطيخ، فإذا جاءت الحرب كانوا هم الرجال، فلا بأس بالترويح واللعب البريء، ولا بأس ببعض الفكاهات بعد عناء أو طول تلق للعلم أو طول مكثٍ في مجلس ذكرٍ بما يناسب المقام وبما لا يتعارض مع الشريعة، لكن طبعاً لا تتعدى مثل بعض الإخوان الذي يتبادحون بقشر البطيخ فصاروا يتبادحون بالبطيخ نفسه، ويقول بعضهم: يا أخي هؤلاء أوجعونا بالبرتقال. فالمهم نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يرزقنا وإياكم الإخلاص والمتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيد المرسلين. سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

الأسئلة

الأسئلة

الجدية لا تعني التجرد من جميع الشهوات

الجدية لا تعني التجرد من جميع الشهوات Q فضيلة الشيخ: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: ما رأيك فيمن يعتقد أن الجدية في الالتزام هي التجرد من جميع الشهوات؟ A الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما التجرد من جميع الشهوات، فهذا يعني أن يتحول الإنسان إلى ملك، لأن الخلق الذين ليس عندهم شهوات هم الملائكة، وهذا مستحيل أن يصبح الإنسان ملكاً، كيف يريد الإنسان أن يصبح ملكاً؟ ولذلك حتى في المجتمع القدوة مجتمع الرسول صلى الله عليه وسلم حدثت هناك بعض الأخطاء الناتجة عن شهوات، مثلاً من الصحابة من وقع في الزنا، من الصحابة من قبل امرأة في طرف المدينة ثم جاء تائباً، فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] فقال الرجل للرسول صلى الله عليه وسلم فرحاً هذا لي يا رسول الله وحدي؟ فبين الرسول صلى الله عليه وسلم أن هذا للأمة كلها، وهذا حديث صحيح، فإذاً ليس المطلوب هو إلغاء الشهوات بالكلية، لأن من الشهوة ما يكون مفيداً مثل: إتيان الرجل لزوجته من أجل النسل والذرية، لو لم يكن هناك شهوة عندهما لما حصل الإنجاب ولما حصلت الذرية. فالله عز وجل جعل هذه الأشياء لحكم فيها مصالح للعباد، فلذلك إلغاءها بالكلية أمر مستحيل أصلاً، لا نفكر في إلغائها بالكلية، ولكن المطلوب هو توجيه هذه الأشياء وجهةً سليمة؛ وهذا لا يتم إلا بالتربية، الإنسان لوحده مهما عمل لنفسه قد لا يستطيع أن يصل إلى كماله إلا إذا كان بين إخوانه. ولذلك الرجل لما قال للرسول صلى الله عليه وسلم: ائذن لي أن أجلس في عين الماء هذه -يعني: هنا آكل وأشرب وأنا مستريح- رفض الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك؛ لأن الدين الإسلامي دين جماعي، ليس ديناً فردياً، وهناك أشياء في الدين لا يمكن تحقيقها على النطاق الفردي كالجهاد في سبيل الله وصلاة الجماعة وصلاة الجمعة، ولذلك لا يوجد خطاب في القرآن يا أيها المسلم يا أيها المؤمن، كل الخطابات" يا أيها الذين آمنوا" وهكذا، ليس المطلوب إلغاء الشهوات أو الغرائز، ولكن التربية هي التي تساعدك في تهذيبها وتوجيهها الوجهة السليمة.

ضوابط في الرياء

ضوابط في الرياء Q فضيلة الشيخ: بعض الشباب يأتي إليه الشيطان ويقول له: أنت منافق، فأنت تقول غير ما تفعل، فمثلاً تفعل في المخيم غير ما تفعل في البيت، إذا ذهبت إلى البيت لا تعمل ربع ما تعمله في هذا المخيم. A أما كون الإنسان يرتقي بإيمانه إلى مرتبة عليا، ثم ينخفض هذا الإيمان مرة أخرى هذا شيء طبيعي، وهذا من أدلة أهل السنة والجماعة أن الإيمان يزيد وينقص، يعني: هذا دليل محسوس يجده كل واحد؛ أنه يجلس في مجلسٍ من مجالس الذكر فيرتفع مستواه الإيماني ويحس بأنه قد أصبح قريباً من الله جداً، وأنه في حالة من الخشوع عظيمة، ثم بعد ذلك إذا هو ترك هذا المجلس وفارقه أو ذهب إلى بيته ورأى الناس العاديين، وترك هذا المخيم، وترك إخوانه، وذهب إلى المجتمع العادي الذي يعيش فيه، فلا يمكن أن نتصور أنه سيحافظ على نفس المستوى الإيماني، لا بد أن يتأثر ولا بد أن ينخفض هذا المستوى، لأن الإيمان يزيد وينقص بحسب الظروف والأحوال والحالات التي يمر بها الإنسان، لكن إذا كان الشيء طبيعياً فما هو الشيء غير الطبيعي والشيء الخطر؟ يوضح هذا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيح الذي يقول فيه: (لكل عملٍ شرة، ولكل شرةٍ فترة، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى) كل عمل له نهاية عظمى (قمة) وله نهاية صغرى (قاع)، لكل عملٍ شرة (قمة) ولكل شرة يقابلها ماذا؟ فترة فتور (قاع) (فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى) فإذاً من الطبيعي وجود القمة والقاع وزيادة الإيمان ونقصه، لكن إذا كنت في حالة فتورك وانخفاض إيمانك موافقاً لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم لا ترتكب المنكرات، فأنت بخير (فمن كانت فترته إلى سنتي) إذا كنت في حالة فتورك وضعفك وهذا الانحدار أو النزول في مستوى الإيمان الانخفاض في مستوى الإيمان، إذا كنت وأنت في هذه النقطة موافقاً لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد اهتديت. لكن إذا كنا نغادر المخيم ونفارق إخواننا، فإذا رجعنا إلى بيوتنا قارفنا المنكرات ووقعنا في المعاصي وارتكبنا الآثام، فعند ذلك يجب أن نخشى على أنفسنا، فهنا لا بد أن تنظر لماذا وقعت؟ وما هو العلاج؟ وتلجأ إلى إخوانك في الله، لتستمد منهم النصيحة والعون على مواجهة هذه الأمور، هذا هو التفصيل المختصر لهذه القضية، وطبعاً حديث حنظلة أنتم تعرفونه إن شاء الله جميعاً أخبر عن شيء طبيعي يقع له ووقع لـ أبي بكر وغيره، والرسول صلى الله عليه وسلم نبه على هذا لو كانوا كلهم مثل ما عند الرسول في جميع الأوقات لصافحتهم الملائكة، ولكن هذا القلب ساعة وساعة مرة، يرتفع الإيمان ومرة ينخفض.

صور من ضعف الإيمان والرياء

صور من ضعف الإيمان والرياء Q شاب نشأ في طاعة الله يصلي ويصوم، ولكن إيمانه ضعيف يريد أن يقوم الليل فلا يستطيع، ولا يخشع في الصلاة، وإذا عمل عملاً أحس أنه يرائي وينافق، وأنه يعمل لغير وجه الله، وإذا أصابته مصيبة لا يستطيع الصبر، فماذا يفعل أثابكم الله؟ A الحمد لله رب العالمين؛ يمكن هذا المدخل مبني على شيء فاسد أو لعدم وجود التصور الصحيح، والتصور الصحيح أنك دائماً تكون بين قاعدتين: العمل لأجل الناس رياء، هذه القاعدة المعروفة عند الناس، وإذا صارت كل الأعمال رياء، صارت شركاً أكبر مخرجاً عن الملة، لأنه كأنه لا صلى ولا زكى ولا حج، وإذا وقع العمل رياءً من بدايته، فهو فاسد يجب إعادته خصوصاً الصلاة، أما إذا طرأ عليك أثناء العمل، فتجاهد نفسك وتستغفر الله عز وجل. ولكن القاعدة الأخرى التي قد لا تخطر في بال بعض الناس: أن ترك العمل من أجل الناس رياء، يعني: كما أن فعل العمل من أجل الناس شرك، فكذلك ترك العمل من أجل الناس هو رياء، من ترك العمل من أجل الناس فقد وقع في الرياء، لماذا؟ لأنه ما الذي دفعه إلى ترك العمل؟ الناس وليست مراقبة الله التي دفعته إلى ترك العمل، ليس عملاً سيئاً راقب الله فتركه، وإنما الذي حمله على ترك العمل هم الناس، فإذاً أصبح الناس هم القضية عنده يترك من أجلهم، كما أن ذلك الشخص النوع الآخر في الجانب الآخر يفعل من أجل الناس، فكون ذاك يفعل من الناس، فهو مراءٍ، وكون هذا يترك من أجل الناس فهو أيضاً مراءٍ، فلذلك ينبغي أن نكون بين الأمرين، وكما أنك تضع أمام ناظريك أن فعل العمل من أجل الناس رياء، كذلك ضع أمامك أيضاً نصب عينك أن ترك العمل من أجل الناس أيضاً رياء، وهما نفس البلاء. إذا طرأ عليك خاطر أن الناس الآن يرونك، وأنك إذا فعلت هذا العمل فسيحمدك الناس، فتعوذ بالله من الشيطان، وأقدم عليه صدقاً مع الله وإرغاماً للشيطان، لو جاءك شيطان وقال: أنت لو أنك قمت تصلي السنة الآن والناس ينظرون إليك فقد وقعت في الرياء، فأخر السنة، لكن ربما تفوت السنة، عندك احتمال أن يدخل وقت الصلاة الأخرى وتفوت عليك السنة، فماذا تفعل؟ تتعوذ بالله من الشيطان وتصلي السنة، صحيح أن إخفاء العمل من منهج السلف، يعني: أن يحرص الإنسان على إخفاء عمله، والسلف حالهم في هذا عجيب. ففي سيرة البخاري رحمه الله قال: كان أبو عبد الله في المجلس، يعني: محمد بن إسماعيل البخاري، فأخذ رجلٌ من الناس شيئاً من لحيته فألقاه في الأرض (في المسجد) فرأيت أبا عبد الله رمقه بعينه، ونظر إلى تلك الحاجة التي سقطت، ولكنه تابع كأنه لم يحصل شيء، فلما انتهى الدرس وقام الناس رأيت أبا عبد الله ينظر حوله، فلما رأى الناس قد انفضوا تناولها من الأرض فدسها في كمه وانصرف وألقاها خارج المسجد. فـ السلف كانوا يحرصون على إخفاء الأعمال وهذا هو المطلوب، لكن هناك أعمال لا يمكن تخفى مثل الإمامة، فلو قال رجل: أنا سأترك الإمامة لأني أخاف من الرياء، فهذا إذا ترك من أجل الناس، فقد وقع في رياء فعلاً، هذا قسم من الأعمال لا يمكن إخفاؤه، وهناك قسم من الأعمال إظهاره فيه مصلحة، مثل الرجل الذي أظهر الصرة فاقتدى به الناس، فإذا استيقن أنه لن يدخل في نفسه شيء، وسيجاهد نفسه ويتغلب فيظهر العمل ليقتدي الناس ويتأسون به. وطبعاً النوع الثالث من العمل الذي إظهاره فيه مفسدة في الدين، فهذا طبعاً لا يجوز أن يظهره الإنسان، فلعل في هذا التفصيل نوعاً من الإجابة على التساؤل الذي طرحه الأخ، لكن الحذر الحذر من أن تترك العمل من أجل الناس، جاهد نفسك ولا تترك العمل من أجل الناس.

كيف يبتعد الملتزم عن الزلل والزيغ

كيف يبتعد الملتزم عن الزلل والزيغ Q كيف تكون النية خالصة؟ من المعلوم أن الشباب الملتزم تحت المجهر (أي مراقب) فكيف يكون بعيداً عن الزلل والزيغ؟ A الحمد لله رب العالمين، لعل الأخ يقصد أن الناس الآن أعينهم على الملتزمين، خصوصاً بعض هؤلاء الناس من سيئي النية يترصدون أخطاءهم حتى يقولوا: هذا هو الإسلام الذي تدعون إليه هذا هو كذا، فمن أخطأ من أهل الخير فإن الناس لا يرحمونه، وأخباره تنتشر في المجالس، لكن الذي يخطئ من أهل الشر أخطاءً أعظم من أخطاء هذا بكثير جداً لا يكترثون بها ولا ينكرون عليه في المجالس، فنعم أنت تحت المجهر، لأن الناس ينظرون إليك، يعني: أنت الذي تمثل الإسلام في نظرهم، فهم يلتقطون أخطاءك، ويراقبونك هل ستقع؟ وكيف ستقع؟ وينشرون هذا الخبر، فلذلك صارت المسئولية كبيرة. الناس يقولون: غلطة الشاطر بعشرة، هو من جهة صحيح، يعني: من هذه الناحية أن خطأ الملتزم بدينه أعظم من خطأ الإنسان العادي في نظر الناس طبعاً، ولذلك من هنا تنبع المسئولية، من هنا يشعر الإنسان بمسئولية أنه يجب ألا يخطئ أولاً. أولاً: لأن الخطأ فيه إثم وسيئات. وثانياً: حتى لا يؤدي هذا الخطأ منه إلى تشويه صورة الإسلام وصورة الدين في أعين الناس، فقد يكون من الذين يضلون عن سبيل الله أو يصدون عن سبيل الله، ولولا هذا الخطأ لكان الناس دخلوا في الدين، لكن لما رأوك قد أخطأت وزللت، قالوا: إذا كان هذا هو الدين فنحن بخير، فكيف يكون بعيداً عن الزلل والزيغ؟ إذا استشعر المسئولية، وأخلص النية لله. بعض الناس الآن إذا ما حصل منه فعل المنكر، يقول: مادمت لست في موقع الاقتداء فلا بأس. فيتساهل، الواحد أمام الناس لا ينظر مثلاً إلى المسلسلات أو الأشياء المحرمة، لكن إذا أصبح بعيداً عن الناس يمكن لوحده قد يفتح هذا البلاء وينظر فيه، يقول: لا أحد الآن ينظر إلي! صحيح أنك حاولت أن تبقى بعيداً عن أعين الناس، لكن أين تذهب من عين الله عز وجل السميع البصير؟ فإذاً لا يعني هذا الكلام أن نظهر أمام الناس ممتازين بأحسن صورة، فإذا اختلى الواحد بنفسه فعل المنكرات وقال: الحمد لله الناس لن يتأثروا، فأين ذهبت علاقتك مع الله عز وجل؟

ضرورة الالتزام بالدين كاملا

ضرورة الالتزام بالدين كاملاً Q كثيرٌ من الناس يقول: يكفي أن أصوم وأصلي وأتصدق، أما أن أطلق لحيتي وأقصر ثوبي فلن أفعل حتى لا أتهم بالنفاق كما نشاهد من الشباب من سوء معاملتهم مع الناس ومع أهلهم؟ A نفس القضية ترك العمل من أجل الناس رياء، هذا ترك العمل من أجل الناس، فقد وقع في الرياء، وهذا ضابط قوي يضبط تصرفات الفرد. أحياناً تأتي مداخل شيطانية، لكن يضع هذا الضابط ترك العمل من أجل الناس رياء فلا يستطيع أن يذهب يميناً أو شمالاً؛ لا بد أن يسلك الطريق المستقيم، ثم إن قضية ألا أتمسك بالدين لكي لا أعطي صورة سيئة، فأنت تريد أن تتقي بجانب وتخرق جانباً آخر، صحيح أنك قد تترك هذا العمل لكيلا تعطي صورة سيئة، لكنك في الجانب الآخر ارتكبت معاصي، وهي ترك المظهر الإسلامي، والمظهر بعض الناس يهونون من شأنه يقولون: المهم القلب، المهم الباطن، هذا المظهر غير مهم، لكن شيخ الإسلام رحمه الله له كلام جيد في اقتضاء الصراط المستقيم، يقول: لو أن إنساناً -يعني: رجلاً عادياً- لبس ملابس الجند؛ أي: أخذ بدلة عسكرية ولبسها مشى، كيف تتوقعون أن تصبح مشيته؟ يمشي ثابت الخطى جاد، لأنه الآن يلبس بدلة عسكرية جاد التصرفات خطوات متساوية، ماذا حصل عليه ما الذي زاد فيه؟ لباس. لكن هذا المظهر له تأثير على المخبر وعلى الباطن وعلى الداخل، هذا غيَّر بدلته فقط، وكذلك بقية الأشياء التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم، الناس يقولون: هذه توافه الأمور، يقولون: هذه قشور، ولو كانت هذه قشور فلماذا أنفق الرسول صلى الله عليه وسلم من عمره ومن وقته أشياء يعلمها الأمة لو كانت غير مهمة؟ ولماذا تأتي في بعض الأشياء ألفاظ دالة على أن الرسول صلى الله عليه وسلم طرح القضية في مجالس كثيرة (اعفوا اللحى) (وفروا اللحى) (أرخوا اللحى). فإذاً: القضية مرتبطة بالعقيدة، ليست مسألة فرعية ولا جزئية لا تستحق أن يدعى إليها، وشهد شاهدٌ من أهلها، ذلك الرجل الذي جاء قال: ما ترك نبيكم- صلى الله عليه وسلم- شيئاً إلا علمكم إياه، يعني: حتى الخراءة؛ كيف يقضي الإنسان حاجته، فهاهم شهدوا بهذا، وهذا يبين عظمة الدين وكمال الدين وأنه لا توجد فيه ثغرة ولا شيء من الأمور إلا وتجده، موجود فيه آداب السنة في الإسلام موجود فيه أشياء مثل: نهى أن يمشي الرجل في نعل واحدة، سبحان الله! حتى المشي في النعل الواحدة، نهى أن يجلس الرجل بين الشمس والظل حتى الجلوس بين الشمس والظل، وطريقة الشرب، وطريقة الأكل، والدخول وتقديم اليمنى، يعني: أشياء تحكم المسلم، حتى تصبح الأعمال العادية موافقة لما جاء به الدين، هذا جانب من جوانب يظهر عظمة الدين ويعطيك تفصيلاً في كل الأمور.

كيف نستفيد من القراءة

كيف نستفيد من القراءة Q يا شيخ: إني أقرأ كثيراً، وقد قرأت في اليوم الواحد أكثر من ثلاث ساعات، ولكني لا أخرج بفائدة! A هذا الأخ يقول: إنه يقرأ ثلاث ساعات، لكن لا يخرج بفائدة، أنا لا أتصور أن يقرأ ثلاث ساعات ولا يخرج بفائدة، يعني: لو ما حصل على فائدة إلا الصبر على هذه الساعات وتعويد النفس فهذا حسن، لكن طبعاً هذا لا يكفي، فربما لا تخرج بفائدة؛ لأن طريقتك في القراءة ليست صحيحة، هناك أناس يمسك الواحد منهم الكتاب ويستعرض استعراضاً وتصفحاً ولا يستغرق هذا إلا فتح الصفحة التي بعدها وفتح الصفحة التي بعدها، وأنا أنهيت زاد المعاد في كذا يوم، وأنا أنهيت كذا، وهذه المجلدات، معناها الخلل في طريقة القراءة، كيف تقرأ؟ وبعد ذلك هناك طرق لكي تخرج بأشياء، فمثلاً: استخدام القلم، الآن في علم النفس كلما استخدمت عدداً أكبر من الحواس، كلما كان انتفاعك أكثر، لو قرأت بعينيك فقط فهذا ليس كقرائتك بعينيك ولسانك، فيشترك اللسان والسمع والعين، وهذا ليس كقرائتك مع استخدام القلم، فإذاً يمكن أن يزيد الانتفاع من القراءة باستخدام حواس أكثر وأشياء أخرى مثلاً: هل تقرأ أكثر من مرة أم تقرأ مرة واحدة. سئل البخاري رحمه الله تعالى عن سبب حفظه، يعني: كيف حفظت هذه الأشياء؟ قال: لم أجد أنفع من مداومة النظر والقراءة. فليست القضية أن البخاري حافظته قوية جداً، فاعتمد على حافظته فقط، لا طبعاً، لم أجد أنفع من مداومة النظر والقراءة. فأولاً: هل تقرأ الموضوع مرة أو أكثر من مرة؟ هل إذا قرأت موضوعاً تحاول أن تلقيه على الناس وتقدمه في المجالس؟ فهذا شيء مهم، لو أن كل واحد يلقي في المجالس ما يقرأه ويقول: أنا قرأت كذا وسمعت كذا و (تداول العلم). كان بعض السلف إذا ما وجد طلبة علم يقرءون عليه يحضر بعض صبيان الكتاب يجلسهم ويقرأ عليهم الحديث، وبعضهم كان عنده طلاب نهمين بطلب العلم، كان يقول: يرحمك الله كم من حديث أحييته في صدري بسبب كثرة النقاش والسؤال وإعادة السؤال عدة مرات، لذلك تجد العالم الذي عنده طلبة كثيرون ويسأل دائماً تجد أن علمه حياً، لكن العالم الذي لا أحد عنده ولا يسأله أحد تجد علمه يتقلص، لأن الذي يسأل العالم يضطره إلى المراجعة، أو يضطره إلى إعادة الإجابة عدة مرات، فترسخ القضية في ذهنه، لو يجد بعض الناس يقول: وقد ورد عن رسول الله في مسند كذا أن من حديث فلان فهذا الكلام قد لا يأتي من أول مرة بل لأن هذا الرجل يتكلم بهذا الحديث عدة مرات في أكثر من مجلس، فحفظه. فإذاً كيف تقرأ؟ ما هي سرعتك في القراءة؟ هل تشرك أكثر من حاسة في القراءة؟ هل تعيد ما قرأته وتذكره وتشيع العلم هذا الذي تعلمته؟ هل تطبق العلم؟ ورد عن الإمام أحمد أنه قال: ما من حديثٍ صح إلا وعملت به حتى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم أنه احتجم وأعطى أبا محذور - يعني الحجام- ديناراً، فاحتجمت وأعطيت الحجام ديناراً. فإذاً هل تطبق العلم؟ ثم قضية استخدام القلم مثلاً؟ هل تحرص على تلخيص كل مقطع بجملة بسيطة؟ هل تحرص على وضع خطوط بقلم الرصاص بشكل نظيف على الأشياء المهمة؟ هل تحرص على ترقيم الفقرات المبعثرة؟ فإذاً: السبب أن طريقتك في القراءة فيها خلل يحتاج أن تراجع، وهناك كتب للغربيين وضعوا أشياء عجيبة في هذا، والحكمة ضالة المؤمن، كتب في كيفية القراءة وكيفية الحصول على أكبر قدر من المعلومات وأكبر نسبة مئوية مما تقرأ.

نصائح في موضوع طلب العلم

نصائح في موضوع طلب العلم Q كثيراً ما تطرح الأسئلة حول كيفية طلب العلم، والأولويات فيه، وما يقدم فيه وما يؤخر، ولكن غالباً الإجابات تكون خالية عن الواقعية ويتضح هذا بالتطبيق، ما هي الوسيلة المثلى لطلب العلم في عصرنا الحاضر مع الأخذ بعين الاعتبار الوسائل الحديثة كالأشرطة وقلة العلماء مع التوفيق بين الطلب والدعوة؟ A الحمد لله، تزاحم الواجبات يضيق الأوقات لكل منها، لو أنا الآن نعيش في عصر السلف لما وجدنا هذه الظروف النفسية، وهذه المشاكل من الناس التي تستغرق نشاطنا الذهني وتفكيرنا وإشغال الذهن بإيجاد حلول للمشاكل، ما كان عندهم المشاكل الموجودة الآن، والتعقيدات العصرية الحالية، الآن الذهن منشغل بآلاف المخترعات كلها حفظناها الملعقة والشوكة والسكينة وغسالة الأواني، من أول حتى هذه الأشياء في الحياة كانت بسيطة، لم تكن هناك مشاكل نفسية ومشاكل أسرية، كان يوجد صفاء، كان هناك عوامل الآن نفتقدها في حياتنا، هذا من جهة. ومن جهة ثانية حاجة الإسلام لأشياء كثيرة تجعل طالب العلم ليس عنده متسع من الوقت ليتفرغ بالكلية للعلم مثلما كان يتفرغ السلف رحمهم الله، لأن الإسلام في ضيق والمسلمين في حالة يرثى لها، والوضع يتطلب أن تبذل في أشياء كثيرة والوقت محدود والبركة في الزمان قلت، ابن حجر رحمه الله كان مرة يتكلم عن بركة الوقت وعن الأقدمين وكيف كان هذا، يقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بأن البركة من الوقت ستقل وتقل، فلعل وقتنا هذا هو الذي قصده عليه السلام، هذا ابن حجر مئات المؤلفات يقول: لعل الوقت المقصود هو الذي نعيشه الآن (يقصد في عصره)، فكيف لو أن ابن حجر وجد في هذا العصر، ماذا كان سيقول؟ فإذاً: تزاحم الواجبات مشكلة وخطأ أن الواحد يعتكف، ويقول: أنا أريد أن أطلب العلم فقط، أنا ليس عندي وقت لكي أدعو، هذه طبعاً مخالفة للشمولية، والإنسان عندما يعمل يرى ما هو الأحوج للناس ليبذل فيه أكثر، فإذا رأى أن عنده ذاكرة قوية فعليه أن يركز في العلم أكثر من أي شيء آخر لأنه ربما أفاد، فهذا الأفضل له أن يركز في العلم أكثر، لكن ليس هناك شيء اسمه: لا أدعو ولا أطلب علم، ولو أن إنساناً يجيد الوعظ ويجيد التذكير ويجيد تحريك القلوب مثلاً، ولكن ليست عنده تلك الذاكرة القوية وذلك الفهم الكبير يتوجه إلى وعظ الناس أكثر، لكن لا يوجد شيء اسمه أعظ الناس وأدعوهم ولا أطلب العلم، لكن يؤخذ بعين الاعتبار طاقة الإنسان، كل واحد يعرف نفسه، والذي لا يعرف نفسه ربما يجد له أخاً يعرف عنه أكثر مما يعرف هو عن نفسه. فإذاً: هذه أشياء يجب أن توضع بعين الاعتبار، لماذا توضع بعين الاعتبار؟ حتى لا يقرأ الإنسان سير العلماء الأقدمين وبعد ذلك ينظر في حاله، فيكتب: يا شيخ وصولنا مستحيل وكيف نصل؟! صحيح هذا قد يكون مستحيلاً، لكن الآن لا نجد أمثال الشافعي وأحمد ومالك، لماذا؟ لهذه الأشياء، لكنّ في أمة محمد صلى الله عليه وسلم خيراً موجوداً ولن يخلو الزمان من طائفة قائمة بالحق، ولن يخلو الوقت من قائم لله بحجة، لا يمكن أن يخفى الحق في زمن من الأزمان على كل الناس، يجب أن يكون هناك أناس يعلمون الحق؛ الطائفة المنصورة والفرقة الناجية أهل السنة والجماعة. أما كيف تطلب العلم؟ فهذا بسطه يطول وقد لا أفيدكم فيه مثل ما قد يفيده غيري ممن هم من أهل العلم، لكن الأخ ذكر نقطة مهمة، قال: بعض الناس يذكرون أشياء غير واقعية مثلاً يقول: تبدأ بحفظ المتون والشروحات وتبدأ بكذا وكذا، وهذا الشخص نضجه العقلي ضعيف فكيف يقرأ المتون ويحفظها؟ يذكر لنا أحد أهل العلم يقول: أول ما ذهبت أطلب العلم جلست إلى الشيخ فقرأت جزءاً من الفرائض، لما انتهى قال: قسم رجلٌ توفي عن كذا وكذا، قال: يا شيخ أنا الآن ما فهمت المتن كيف تريد مني أن أقسم؟! فصحيح أن هناك أناساً يطلبون أشياء غير معقولة، وفي نفس الوقت بعض الشباب ينتهجون مسلكاً لا يؤدي إلى تحصيل العلم مثل: الاعتماد على الكتيبات، تجد أن هذا الشاب ما عنده إلا الكتيبات، والكثير من الكتيبات الحديثة خالية ليس فيها شيء، تتصفح من أول كتاب لآخره لا تخرج إلا بمجموعة من العناوين، وإذا كان العلماء من قبلنا قالوا: مؤلفات الأولين قليلةٌ كثيرة البركة، ومؤلفات المتأخرين كثيرة قليلة البركة، يعني: فماذا نقول اليوم أمام هذا الغثاء الذي تدفع به المطابع يومياً، والناس الذين عندهم إسهال فكري، والكتب التي يخرجونها كل حين مكررة معادة وأشياء عامة، وأشياء ليس فيها أصول، المفروض أن يقرأ الإنسان عن أصول أهل السنة والجماعة، أما أنه يقرأ قصص وأشياء متفرقة وطرائف وبعض الكتب هكذا، طرائف من هنا ونوادر من هنا وقصص من هنا، لكن لا يوجد فيها علم، ولذلك ترى بعض الناس يقرءون المختصرات ويحرصون عليها، بدلاً من أن يقرأ مثلاً تفسير ابن كثير يأخذ المختصر، أو في القرآن معاني المفردات معاني المفردات هذه الكلمة معناها كذا ومعناها كذا ومعناها وما يستفاد ويأتي بهذه الكتب. فأقول: على الشخص أن يحرص على الأصول، إذا كان يستطيع أن يفهم يقرأ في الأصول يعني: أمهات الكتب، ويسأل أهل العلم عما أشكل عليه، ربما أقول: أهل العلم قلة، مشغولون، وأين أجدهم؟ وهذا صحيح لكن أنتم الآن في هذا المكان حباكم الله بنعمة وهي وجود عدد من أهل العلم قد لا يوجدون في منطقة أخرى، وشكر النعمة يقتضي أنك تستفيد منهم، وأنك لا تضيع هذه النعمة، لأن هناك إخواناً لك في مناطق أخرى ليس عندهم شيء اسمه مشايخ ولا شيء اسمه أهل العلم، كل الذي يعتمدون عليه بعض الكتب وعلى ما يؤتيهم الله من فهم في أشياء واتصال من بعيد قد لا يتوفر، فإذاً هذه من علامات الساعة، فإذاً اهتم يا أخي بالعلماء الموجودين عندك في المنطقة التي أنت فيها، وتسأل لو بالهاتف، وتسمع دروس المشايخ، لأن الدروس كأنك موجود، ولو صار عليك إشكال في شيء اتصل بالهاتف، طبعاً الهمة مهمة لأن الذي ليس عنده مهمة ستهبط عزيمته ويقلع عن كل شيء، وأنا لا أرى أن الوقت متسع لأن نبسط هذه القضية، ويمكن أن ترجعوا إلى من هم أقدر مني على توضيح كيفية طلب العلم وما هو المنهج الذي يبدأ به المتعلم ويسير عليه، والله أعلم.

ضوابط في صلة الرحم

ضوابط في صلة الرحم Q فضيلة الشيخ: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: ما هو التصرف الحكيم لمقابلة الأقارب وخاصة ممن هم غير ملتزمين؟ A الحمد لله رب العالمين، مسألة صلة الرحم من الفرائض المهمة التي أوصى الله تعالى بها ومشكلة كثير من الشباب اليوم أنهم يهملون في صلة أرحامهم، لأسباب منها مثلاً: أنهم يعتقدون أنهم منشغلون بأشياء من الدين أهم، فيقول: أنا مشغول بطلب العلم وأريد أن أدعوا إلى الله وأربي نفسي مع إخواني، فأين الوقت الذي أزور فيه أرحامي؟ فيترك. هذا غير صحيح يجب أن توازن، اتقوا الله ما استطعتم، وليس من المعقول ألا تجد وقتاً للقراءة، ولو أنك ضغطت نفسك، أو استفدت من أوقات الفراغ التي عندك لوصلت أرحامك، ولكن بعض الناس يتعذرون بأشياء، يقول هذه أهم، والدعوة إلى الله، وطلب العلم، التربية، فلا يصل رحمه! فيقع في جريمة عظيمة (قطع الرحم)، وعموماً والتعامل مع الأقرباء مشكلة لأن فيهم كثيراً من الفجرة والفسقة، وقد تجلس في مجلس فيدخن، تجلس في مجلس فيشغل الملاهي والأغاني، وتجلس في مجلس فتأتي زوجة عمك متكشفة متبرجة، فماذا تفعل؟ في هذا درس تم في المنطقة عندنا عن صلة الرحم وهو مسجل في شريطين، لعل فيه علاج لكثيرٍ من الجوانب التي تتعلق بصلة الرحم، خصوصاً إلقاء الضوء على ما يتصل بالشباب من هذه المسألة، ولا أعرف بماذا أتكلم الآن في هذه العجالة، ولكن أقول: إن صلة الرحم تتم بعدة أشياء: فإن كان دخولك لبعض أرحامك يسبب وقوعك في منكر شرعي، فإنك تصلهم بالرسائل، تصلهم بأن ترسل لهم سلامك مع بعض الناس، لو كان يدخن ولابد، فتزوره في نهار رمضان، لو كان مثلاً في البيت يشغل أشياء، زره في المكتب، إذا حضر المنكر عندك أنكر المنكر، فإذا ما أنكر المنكر، فامش، ولو حدثت مفسدة عظيمة من تركك للمكان كأن يترتب على ذلك طلاق زوجة أو مفسدة أخرى، فيمكن أن تطرق في الأرض مثلاً، لكن إذا لم يكن هذا حاصلاً، فلا يصح لك بعد أن تنبههم وتنصحهم أن تجلس، فإذاً أنت تذهب وتجلس، فإذا حصل المنكر فانْه عنه أو فارق المكان مثلاً إلى غرفة ليس فيها منكر، وتجلس فيها، المهم أنك تحاول أن تجد لك طريقاً، تدعوهم تزورهم بالهدايا، أخي أرسل هدايا فهذه لها تأثير عظيم، أرسل سلامك فله تأثير عظيم، اتصل بالهاتف هم بينهم وبين بعض لا يتصلون بالهاتف ولا يسأل بعضهم عن بعض، فأنت حين تبادر وتتصل، فهذه لها أثر عظيم. وأسأل الله سبحانه وتعالى لي ولكم الرشاد، وأن يحبب إلينا الإيمان ويزينه في قلوبنا، وأن يكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، وأن يجعلنا وإياكم من الراشدين، والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد.

جهاد الحجة والبيان

جهاد الحجة والبيان إن جهاد الحجة والبيان من أنواع الجهاد المشروع، فبه ننافح عن ديننا الذي يتعرض للأخطار من قبل المشركين والمبتدعين، وإن حماية العقيدة وكف العدوان والمعتدين من أعظم مهمات أهل العلم والإيمان وأشرفها، فإن لهم في ذلك القدح المعلى والحظ الأوفى، وفي هذا الدرس نبذة من سيرهم في مناظراتهم ومنافحاتهم عن دين الإسلام، وقد ذيلها الشيخ بذكر قواعد المناظرة وآدابها.

العقيدة وأهمية الدفاع عنها

العقيدة وأهمية الدفاع عنها إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فالحمد لله الذي جمعنا في هذا البيت من بيوته، ونسأله عز وجل أن يجمعنا في جنات النعيم، وأن نكون إخواناً على سرر متقابلين، وفي الغرفات من الآمنين. حديثنا عن العقيدة؛ هذه العقيدة التي أنزل الله بها كتابه وعلمنا إياها نبيه صلى الله عليه وسلم، هذه العقيدة التي تصوغ شخصية المسلم لتجعله خلقاً آخر، فقد كان يرجو ويرهب الدنيا، وأهل الدنيا وأصبح لا يرجو إلا الله ولا يخاف إلا الله. إنها عقيدةٌ أيها الإخوة تجعل الإنسان يستمد من أسماء ربه وصفاته ما يتعامل به مع سائر الناس من حوله، فهو يطلب المغفرة من الله إذا أذنب، لأنه يعلم أن ربه غفورٌ رحيم تواب، وهو يطلب العفو من الله، لأنه عفوٌ كريم يتجاوز، وهذا من شأن الكريم، والمؤمن كذلك بعقيدته يسأل الله الرزق ولا يسأله غير الله: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} [العنكبوت:17] فهو الذي يرزق، فلا يخشى هذا المسلم أن يقطع رزقه أحد، وهؤلاء الناس أسباب قد يأتي الرزق عن طريقهم، ولا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، فالذي ينفع هو الله، ولئن اجتمع الإنس والجن على أن يضروا إنساناً لم يكتب الله الضرر عليه ما استطاعوا. فهذه العقيدة تصوغ شخصية المسلم، تجعله سلماً لأولياء الله، حرباً على أعداء الله، موالياً لأولياء الله، معادياً لأعداء الله، وهكذا تتميز فيه هذه العقيدة بمظهر الولاء والبراء من خلال هذا الكتاب العزيز وهذه السنة النبوية. أيها الإخوة: هذه العقيدة التي تشتمل على العلاقة بالله والإيمان به: بربوبيته، بألوهيته، بأسمائه وصفاته، بقضائه وقدره، بأنبيائه وكتبه ورسله وباليوم الآخر الذي يحاسبنا فيه، هذه العقيدة المشتملة على أبواب الإيمان: قولٌ وعمل، وعلى الموقف من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى غير ذلك من أمور؛ تحتاج إلى صيانة، وتحتاج إلى حفاظ عليها. فمن أنواع الجهاد المهم جهاد الحجة والبيان، نكافح فيه عن عقيدتنا التي تتعرض لأخطار من قبل المشركين ومن قبل المبتدعين ومن قبل الغلاة ومن قبل المرجئة. واليوم هناك أعداء كثر ومنحرفون ومبتدعة يشنون الغارات على العقيدة، ويشككون الناس فيها، ويدعون الناس إلى عقيدة غير العقيدة الصحيحة، ويهاجمون العقيدة الصحيحة، ويهاجمون الناس حتى في مصادر التلقي، ويجعلون لهم مصادر تلقٍّ غير المصادر الشرعية، غير الكتاب والسنة وإجماع الأمة، ويريدون أن ينسفوا ثوابت هذه العقيدة، وأن يجعلوا مكانها أسساً مبتدعة من عندهم. العقيدة تتعرض لأخطار كثيرة، وواجبنا هو الدفاع والمنابذة والجهاد بالحجة والبيان، كما أن الجهاد يكون بالسيف والسنان أيضاً.

العلماء هم حراس العقيدة

العلماء هم حراس العقيدة فحماية هذه العقيدة من العاديات؛ وكف العدوان والمعتدين من أعظم وأخطر مهمات أهل العلم والإيمان وأشرفها، ولهم في ذلك القدح المعلى والحظ الأوفى، وسيرهم مملوءة بالعبر التي كثرت فيها مصارع أهل البدعة والزندقة والكفر على أيديهم، أي: أيدي أهل العقيدة وعلمائها، حتى حصحص الحق وزهق الباطل، فلا أقوى من سلطان الحجة، ولا أسطع من نور الدليل والبرهان، وهذا من أعظم ما يمتاز به دين الله الحق، إذ هو حجة وبينة ودليل وآية وبرهان ونور وشفاء لما في الصدور، وقد تهزم العساكر الكبار، والحجة الصحيحة لا تغلب أبداً، فهي أدعى إلى الحق وأنصر للدين من السلاح الشاكي والأعداد الجمة، لأن السيف مرة لنا ومرة علينا، وليس كذلك البرهان، بل هو لنا أبداً ودامغٌ لقول مخالفينا ومزهقٌ لهم أبداً، وربَّ قوةٍ باليد قد دمغت بالباطل حقاً كثيراً فأزهقته، وقد قتل أنبياء كثر وما غلبت حجتهم قط. قال أحد الخلفاء وعنده السيف والسلطان: غلبة الحجة أحب إلي من غلبة القدرة؛ لأن غلبة القدرة تزول بزوالها، وغلبة الحجة لا يزيلها شيء. ولذلك لو قيل: المسلمون اليوم في هزائم، لقلنا: نعم، لكن أهل التوحيد منهم في علو شأن بالحجة، لا يمكن أن يهزم الموحد المسلم صاحب العقيدة الصحيحة أحد، بل إن العامي من الموحدين يمكن أن يهزم ألفاً من علماء المشركين. قال لنا أحد الأفاضل: إن طفلاً سمع آية من كتاب الله تتلى عن اليهود: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:181] والطفل عمره خمس سنوات، فلما سمع الآية قال: فمن أغناهم؟! واليهود يقولون: (يد الله مغلولة) ويقول أحدهم وهو عوفادا يوسف الحاخام الأكبر لليهود الآن: إن الله ندم على خلق الفلسطينيين، يسبون الله والرب، يسبون الإله عز وجل. لكن لا يمكن أن يأتي منهم أو من أهل العقائد الزائفة المنحرفة وأهل البدع ويغلب موحداً صاحب عقيدة صحيحة، فالغلبة دائماً لـ أهل السنة بالحجة والبيان، دائماً على مر العصور وتوالي الدهور الغلبة لـ أهل السنة. لقد قام أهل السنة بالصدع بالحق والرد على أهل البدعة من قديم، وأهل الباطل من كفار قريش قالوا: لو شاء الله ما أشركنا، وجلسوا يجادلون في قضية المشيئة، فغلبتهم حجة أهل الإيمان، وعبد الله بن سبأ وأذنابه من اليهود الذين جاءوا بعقائد البداء والإمامة والرجعة وغير ذلك والقدرية والجبرية والمعطلة والمشبهة والجهمية أصولهم ترجع إلى اليهود فهم الذين أثاروا الفتن بين المسلمين، وهؤلاء النصارى يثيرون الشبه، وبعضهم وضع كتباً بعنوان: كيف تناقش مسلماً، والاختلاط بالأمم الأعجمية سبب إثارة شبهات، وشيوع العجمة كذلك سبب أشياء كثيرة، وكذلك ظهور علم الكلام والفلسفة من خزائن من الكتب التي كانت عند الكفار؛ فكتب المأمون إليهم لما وجد الترف، وقال: أرسلوا لنا ما عندكم من الخزائن، فامتنع ملك الكفار عن إرسالها في البداية حتى قال له واحد عنده: يا أيها الملك إن أجدادنا وقعت بينهم مقتلة عظيمة بسبب هذه الكتب ثم دفنوها وحفظوها في الخزائن، وأقفلوا عليها بالمفاتيح، فإذا أردت أن تثير على هؤلاء المسلمين شراً وتنتقم منهم فأرسل لهم خزائن كتب علم الكلام والفلسفة. ثم قام المأمون بحركة ترجمة واسعة لهذه الكتب، وكان يعطي على الكتاب وزنه ذهباً، وانتشرت جدليات وبدع جديدة. تصوروا أن نصير الشرك الطوسي الذي يسمى: بـ نصير الدين الطوسي -وهو بريء من اسمه واسمه منه بريء- بنى داراً تسمى دار الحكمة تدرس فيها الفلسفة وعلم الكلام؛ التي يجيد أهلها الشبهات والشكوك، وجعل للطالب في هذه المدرسة ثلاثة دراهم في اليوم، بينما صرف لأهل الحديث لكل محدث -لا كل طالب- نصف درهم. عُربت الكتب اليونانية في حدود المائة الثانية كما قال شيخ الإسلام رحمه الله، ودخل على المسلمين بسببها شرٌ كبير؛ ظهرت الفرق، وظهرت البدع في أوائل هذه الأمة، الشيطان يثير وساوس وشبهاً، كل ذلك كان مدعاةً لظهور مواجهات وفتح جبهات على المسلمين قاموا بالتصدي لها.

عصر الشيخين وخلوه من البدع

عصر الشيخين وخلوه من البدع في عهد الصديق والفاروق ما كان أحد يتجرأ أن يتلفظ ببدعة، لأن اليد الحديدية كانت تضربه وتقمعه، كذلك كان عمر رضي الله تعالى عنه لما بلغه أن صبيغ بن عسل يجلس في المجالس ويثير الشبهات ويسأل عن متشابه القرآن، والقرآن فيه آيات قد تخفى معانيها على العامة؛ فهناك آيات تتحدث أن الكفار يوم القيامة لا ينطقون، وهناك آيات تدل أنهم يتكلمون، فيأتي يقول: هذه تقول كذا وهذه تقول كذا فكيف؟! وما هي النازعات؟ وما هي العاديات؟ ويوم القيامة يوم طويل فهو خمسون ألف سنة، في وقت يتكلم فيه الكفار، ووقت يختم على أفواههم فلا يتكلمون، وهكذا تنزل مثل هذه الآيات على حالٍ دون حال. أول ما سمع عمر رضي الله عنه بهذا الرجل، استدعاه وقد أعد له عمر عراجين النخل، قال: من أنت؟ قال: أنا عبد الله صبيغ، قال: وأنا عبد الله عمر، ثم أخذ العراجين، وأخذ يضرب بها على رأس صبيغ ضرباً متوالياً شديداً مبرحاً حتى سال الدم على وجهه ورأسه، فقال: حسبك يا أمير المؤمنين، فوالله لقد ذهب الذي كنت أجد في رأسي؛ كل الشبهات تبخرت مع هذه العقوبة وهذا الضرب، ولم يكتف بذلك بل نفاه ومنع المسلمين أن يكلموه في المنفى حتى مرض الرجل نفسياً وتأزم، وكتب إلى عمر خطاب استرحام فأذن عمر للناس أن يكلموه ويكلمهم، من كان إذاً يتجرأ أن يرفع رأسه ببدعة في عهد عمر رضي الله تعالى عنه؟ ولما دخل الضعف على المسلمين بدأت بدع القدرية وبدع الخوارج، هذه العوامل أدت إلى ظهور مناقشات ومناظرات، وقام أهل الحق يردون على أهل الباطل، وألفت الكتب وعقدت المجالس، فنريد أن نعرف كيف ندافع عن عقيدتنا، خصوصاً الآن، إذ يوجد -كما قلت لكم- أناس يريدون اللعب بثوابت الأمة ومصادر تلقي الأمة، يريدوننا أن نتحاكم إلى العقل ونترك النص، والنص إذا لم يجئ على مزاجهم نسفوه، ولو كان في صحيح البخاري، ويقومون بليِّ أعناق النصوص لتوافق ما عند الغربيين، ويضعفون أشياء صحيحة، ويصححون أشياء ضعيفة، وربما لم يأخذوا بالحديث أصلاً، وهكذا قام من يشكك بأحكام ثابتة في الشرع كالربا والحجاب وتعدد الزوجات، ويثيرون الشبهات على المسلمين، نريد أن نعرف كيف ندافع، فما هو وضع المنهج؟ وما هي الأصول؟ ما هي الآداب في المناظرة؟ وما هي الأحوال التي يمكن أن تقع فيها؟ ما هي طرق المناظرة؟ فالجهاد بالحجة والبيان قضية في غاية الأهمية، خصوصاً في هذا العصر الذي كثر فيه الرماة على العقيدة والدين وعلى المسلمين، مقالات تكتب، وأشياء تقال في الهواء والفضائيات، وأمور تثير الشبهات، ونحن لا يصح أن نسكت إطلاقاً، بل يجب أن نقوم لله بالواجب، وأن نرد، وأن نعرف كيف نرد، وأن نكون أصحاب علم وحجة وبيان وبلاغة، ويتكلم منا القادر بعلمه وبيانه، فيسكت أهل الباطل ويقمعهم، وسنعرف أمثلة كثيرة لهذا إن شاء الله من خلال هذا الدرس.

المجادلة وورودها في القرآن الكريم

المجادلة وورودها في القرآن الكريم ذكرت مسألة المجادلة والمناظرة في قول الله سبحانه وتعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] يوجد جهاد لكن بالتي هي أحسن، قال تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:46] الرسل من وظيفتهم محاجة الكفار، قال تعالى: {قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [هود:32] قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة:258]. وهكذا قام الأنبياء بواجب المجادلة بالحسنى والدفاع عن العقيدة، هذا إبراهيم يدافع عن عقيدته في الله وأنه يحيي ويميت، ويرغم أنف النمرود ويسكته، وينتقل من موضوع إلى موضوع إفحاماً له.

نقاش منكري البعث

نقاش منكري البعث الله عز وجل علمنا في القرآن كيف نناقش، وضرب لنا أمثلة في نقاش منكري البعث فقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً} [يس:77 - 78] أخذ عظمة ففتتها، وقال: أيستطيع ربك أن يحيي هذا؟ {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ} [يس:78] لما خلقناه من العدم، ما هو الأصعب: الخلق من العدم أو الإحياء بعد الموت؟ الخلق من العدم هو الأصعب، ولكن الله عز وجل لا يصعب عليه هذا ولا هذا، وإذا كان قادراً على الإيجاد من العدم، فهو من باب أولى -عز وجل- يحيى العظام وهي رميم، قال تعالى: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:79]. وضرب مثلاً آخر في نقاش منكري البعث فقال: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنْ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس:80 - 83].

ادعاءات اليهود والنصارى حول ديانة إبراهيم والرد عليهم

ادعاءات اليهود والنصارى حول ديانة إبراهيم والرد عليهم وذكر لنا نقاشات لأهل الكتاب كان اليهود يقولون: إبراهيم يهودي، وكانت النصارى تقول: إبراهيم نصراني، فقال الله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران:65] ولما كل فريق يدعيه لنفسه، انظر الحجة الدامغة: {وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْأِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران:65] فما كان هناك يهودية ويهود وتوراة إلا بعد إبراهيم، والإنجيل كذلك بعد إبراهيم. انظر الحجة بالتاريخ، جادلهم بالتاريخ {وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْأِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} كيف تدَّعون أن إبراهيم لكم؟ كيف يصير إبراهيم يهودياً أو نصرانياً والتوراة والإنجيل ما أنزلا إلا من بعده؟ واليهودية والنصرانية ما ظهرت إلا من بعده؟!! {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:67 - 68].

تقول المشركين حول مصدرية القرآن والرد عليهم

تقول المشركين حول مصدرية القرآن والرد عليهم لما قال المشركون بـ مكة: لقد عرفنا من أين أتى محمد صلى الله عليه وسلم بالقرآن، إنما يعلمه بشر، رأيناه يذهب إلى نجار رومي بـ مكة، فهذا النصراني هو الذي يعلمه ويلقنه، فالله دمغهم بالحجة وقال في كتابه: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل:103] النجار النصراني الرومي الذي لا يحسن العربية يعلم محمداً صلى الله عليه وسلم قرآناً عربياً فصيحاً بليغاً في منتهى البلاغة؟! كيف؟! فدمغهم بالحجة.

الرد على الذين حرموا ما رزقهم الله من الأنعام

الرد على الذين حرموا ما رزقهم الله من الأنعام وكذلك فإنه سبحانه وتعالى أخبر مثلاً في مناقشة المشركين الذين ابتدعوا البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، أول مولود للناقة لا نأكله ولا نذبحه ولا نشرب من لبنه ولا نركب ظهره ولا نستعمله، فهو محرم، قال وهو سبحانه وتعالى يدمغهم بالحجة: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الأنعام:143] نحن نعرف أن الضأن اثنان والماعز اثنان، والبقر اثنان والإبل اثنان، كل واحد من الأصناف الأربعة فيه ذكر وأنثى، فيكون المجموع من الأزواج ثمانية سبحان الله! انظروا إلى الحجة البالغة، فلله الحجة البالغة، وهذا ليس كلام بشر يناقش المشركين، هذا كلام الله، كيف يقيم ربنا سبحانه وتعالى الحجة على المشركين؟ لما حرموا هذه الأشياء على غير دليل ولا برهان، قال: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَمِنَ الْأِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ} [الأنعام:143 - 144] هذا الاحتمال الثالث: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:144]. هذه طريقة السبر والتقسيم كما يسميها العلماء، فالله عز وجل خلق من كل زوجٍ ذكراً وأنثى، فلم حرمتم يا أيها العرب ويا كفار الجاهلية هذا المولود المعين؟! لماذا حرمتوه؟! ألأنه ذكر أم لأنه أنثى أم لأنه ذكر وأنثى؟! أنت تقول يا أيها المشرك العربي: إن أول بطن للناقة لا نستعمله إطلاقا، ً فلماذا؟ ألأنه ذكر أم لأنه أنثى أم لأن في بطن الناقة ذكراً وأنثى أم أن لديك دليلاً من رب العالمين على التحريم؟! {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا} [الأنعام:144] إذا كانت العلة في التحريم عندكم هي الذكورية، فحرموا كل الذكور، لماذا تحرمون أول نتاج فقط؟! وإذا كانت العلة هي الأنوثة، فحرموا كل الإناث، وإذا كانت العلة أنهما جميعاً، فحرموا الزوجين كليهما، وإذا كان عندكم من الله دليل على التحريم فهاتوه: ((أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا} [الأنعام:144] فماذا يملكون إلا الاستسلام أمام الحجج الدامغة!

الرد على اليهود في مسألة القربان

الرد على اليهود في مسألة القربان يبين لنا سبحانه وتعالى في كتابه العزيز تناقض هؤلاء، مثل نقاش اليهود الذي قالوا: {إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ} [آل عمران:83] لماذا يا يهود المدينة لا تؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: ما جاء بقربان تأكله النار، ونحن عندنا في كتابنا المقدس أن النبي يأتي بقربان فتنزل نار من السماء تأكله فنعرف أنه نبي، وهو لم يأت بذلك، فما هو الرد؟ قال الله عز وجل: {قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ} [آل عمران:183] جاءت نار وأكلت القرابين {فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران:183] هناك أنبياء من قبلي جاءوا بالذي تقولون وتصفون وتشترطون، لكنكم قتلتموهم: {فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران:183] هذا يدل على أنكم لا تريدون الإيمان، وأن الحجة التي أتيتم بها حجة تافهة، فقد قتلتم من جاء بهذا الوصف الذي ذكرتموه.

الرد على الدهرية الذين ينكرون الخالق

الرد على الدهرية الذين ينكرون الخالق وانظر إلى نقاش القرآن للمنحرفين عن العقيدة، الزائغين الظالمين المشركين الذين ينكرون الخالق، وانظر كيف يحاصرهم بأسلوب عجيب: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمْ الْمُسَيْطِرُونَ * أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الطور:35 - 43] أنت يا أيها المنكر لله كيف وجدت؟ خلقت نفسك؟! جئت من العدم هكذا من غير أي موجد؟! {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} [الطور:35] أم أنت الذي خلقت نفسك؟! فما بال السماوات والأرض أأنت خلقتها أيضاً؟! يحاصر الملحد فعلاً فلا يستطيع أن يجيب، إذ ليس عنده حجة، فيستسلم رغم أنفه. وكان من حكمة النبي عليه الصلاة والسلام في الدعوة أنه حبس أسرى بدر بقرب المسجد يستمعون القرآن، فلما سمع جبير بن مطعم هذه الآيات: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمْ الْمُسَيْطِرُونَ} [الطور:35 - 37] فلما سمع سورة الطور بجمال صوت النبي عليه الصلاة والسلام، قال: (كاد قلبي أن يطير) رواه البخاري.

محاجة المشركين

محاجة المشركين قال تعالى محاجاً من يشركون به: {أَمْ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنْ الأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ * لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ * لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:21 - 23]. لو كان هناك أكثر من إله في العالم مثلما يقول الآن المجوس وغيرهم -عندهم عدة آلهة- فماذا كان سيحدث في السماوات والأرض؟ ستفسد وتضطرب، هذا يقول: أنا أحرك الساكن، وهذا يقول: أنا أسكن المتحرك، وهذا يقول: أنزلوا المطر هنا، وهذا يقول: لا بل أنزلوه هنا، وهكذا ستفسد السماوات والأرض. {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [المؤمنون:91] وصارت حروب بينهم ومنافسات عظيمة: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون:91 - 92] فلو فرض وجود صانعين متكافئين لفسد العالم، ولو كان واحد أقوى من غيره، فهو الرب والبقية ليست آلهة: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً * سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً} [الإسراء:42 - 43] فلو كان يوجد آلهة أخرى، لكانت لجأت إليهم {إِذاً لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً} [الإسراء:42] وهذا من طرق المناظرة، يقول: لنفرض أن كذا وكذا قد تحقق فماذا كان سيحدث؟ سيحدث كذا وكذا، فيظل الشرك ممتنعاً. وكذلك فإنه سبحانه وتعالى قرر المشركين بتوحيد الألوهية عن طريق توحيد الربوبية: {قُلْ لِمَنْ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّا تُسْحَرُونَ} [المؤمنون:84 - 89]. تعبدون اللات والعزى وهبل ومناة، تعبدون الأصنام والأحجار والأشجار، وربكم خالق السماوات والأرض؟! بالربوبية يستدل على الألوهية ويفرضها عليهم ويلزمهم بها: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25] {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87] {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الأنعام:101 - 102] لماذا تشركون به؟

الرد على اليهود في زعمهم أنهم أبناء الله وأحباؤه

الرد على اليهود في زعمهم أنهم أبناء الله وأحباؤه هناك تحد عجيب في القرآن لليهود على قضية أفحموا منها إفحاماً عجيباً، ماذا قال اليهود؟ قالوا: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ؛ وإذا متنا فسيدخلنا الله الجنة، هذا زعم اليهود، يقولون: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُه، والجنة لنا وأنتم في النار، والذين يدخلون الجنة هم اليهود فقط، فقال تعالى رداً عليهم: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:94] يا يهود تمنوا الموت إن كنتم صادقين. ثم أخبر الله عنهم بقوله: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [البقرة:95] فهم ظلمة كفرة فجرة فسقة، كيف يتمنون الموت والحياة كل همهم وكل أملهم، وهم يعرفون أنهم بعد الموت سينتقلون إلى عذاب النار؟! وقال عنهم في سورة الجمعة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الجمعة:6] ثم قال الله: {وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [الجمعة:7] ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنه: [لو تمنى يهود الموت لماتوا] كما جاء في الحديث الصحيح عنه رضي الله عنه، قال: لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا، لكنهم لا يتمنونه أبداً، وإلى الآن يزعمون أنهم أحباب الله، ولا يمكن أن يتمنوا الموت إطلاقاً. وقال الله عنهم: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} [البقرة:111] أماني كاذبة {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111]. وهكذا استمرت الآيات في جدال هؤلاء وإفحامهم ودمغهم بالحجج البينات والرد عليهم، وفي ادعائهم أن لله ولداً وأن له صاحبة، وقام أنبياء الله يجادلون الكفار. فهذا موسى يجادل فرعون قال تعالى: {وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:104] فماذا كان رد فرعون؟ {قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} [الأعراف:106 - 108]. وكان المفترض في فرعون أن يستسلم، ويقول: إني اقتنعت لأني رأيت أشياء ما يقدر عليها البشر، فهي آيات من رب العالمين، لكنه ظل يجادل في الله {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} [طه:49] أعاده موسى إلى حلبة الصراع {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50] لماذا لم يقل موسى: ربنا الله؟ بل قال: ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى؛ أي: يا فرعون أنت لا تخلق ولا تهدي المخلوقات، والله يخلق وأنت لا تخلق فكيف تكون إلهاً؟ وفرعون مرة ثانية يحول الموجة ويريد أن يخرج من المأزق، يقول: {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى} [طه:51] فما دخل القرون الأولى، نحن نناقشك حول ادعائك للألوهية أنت تقول: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] وتقول: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء:29] وتقول: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24] فنقاشنا معك في هذه القضية فلماذا تزوغ وتروغ، وتقول: فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى؟! أعاده موسى إلى الحلبة مرة أخرى، انظر سبحان الله! كيف يكون استخدام الحجج؛ الأنبياء مؤيدون من الله، فلا تضييع وقت ولا لف ولا دوران، مرة ثانية بقوة يقول موسى: {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} [طه:52] يقول له: أنت يا فرعون لا تعرف لكن الرب الإله يعرف من خلق ويعرف الأول والآخر والمتقدم والمتأخر كما قال تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ} [الحجر:24] كلهم علمهم في كتابٍ لا يضل ربي ولا ينسى. هكذا أفحمه ودمغه، وجحد فرعون ولم يذعن وهو مستيقن بالحق، قال تعالى حاكياً لنا ذلك عن موسى: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} [الإسراء:102] في البداية كان الكلام ليناً كما أمره الله هو وهارون: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً} [طه:44] لكن بعد ذلك لما تولى فرعون قال له موسى: {وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً} [الإسراء:102] أي: هالكاً، وهدده بعذاب الله عز وجل. وحكى الله لنا كيف يحيد فرعون عن النقاش: {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} [الشعراء:18] ما دخل هذا في النقاش؟ النقاش الآن في الربوبية، وفرعون يعدد صنائعه مع موسى: {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ * وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الشعراء:18 - 19] وعملت لك جريمة وقتلت وهربت. فرد موسى: {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء:20] قبل أن يهديني ربي فعلتها، تلومني على شيء قبل الهداية، ثم تقول: أعطيناك ملابس وتمراً وأعطيناك أكلاً وشرباً وأعطيناك: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائيلَ} [الشعراء:22] يعني: تمنُّ علي لأنك أطعمت واحداً وكسوته، وشربت واحداً، وأذللت أمةً بأسرها؛ تقتل أبناءهم وتستحيي نساءهم وتجعلهم عبيداً وتذلهم، وتمنُّ على واحد، فهل هذه نعمة تمنها علي أن عبدت قومي كلهم وأذللتهم، أهذه مِنَّة يا فرعون؟! وهكذا لم يجد عدو الله مهرباً، والمغلوب ماله إلا استعمال البطش، وتلك حيلة العاجز، فهزم فرعون هزيمة شنيعة في المناظرة.

خيار الأمة يسيرون على منهج الأنبياء

خيار الأمة يسيرون على منهج الأنبياء سار أنبياء الله على هذا المنهج، قوة في الطرح والكلام والنقاش وردود وبراهين مفحمة، وهكذا كان النبي عليه الصلاة والسلام مع الكفار، والصحابة واجهوا هكذا، واستمر مسلسل المواجهة مع الزائغين عن العقيدة.

ابن عباس ومحاجته الشهيرة للخوارج

ابن عباس ومحاجته الشهيرة للخوارج هذا ابن عباس يناقش الخوارج: لما خرجت الحرورية على علي، جعل يأتيه الرجل، فيقول: يا أمير المؤمنين! القوم خارجون عليك، قال: دعوهم حتى يخرجوا، لما يتبين ذنبهم للناس يكون هناك مبرر واضح للقتال وسفك الدماء، قال: دعوهم حتى يخرجوا. يقول ابن عباس: قلت: يا أمير المؤمنين! أبرد بالصلاة فلا تفتني حتى آتي القوم، ثم لبس أحسن ثيابه، ودخل على الخوارج وهم في القيلولة، فإذا هم مسهمة وجوههم من السهر، متغيرة من كثرة قيام الليل وصيام النهار، الرسول عليه الصلاة والسلام قال للصحابة: (تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم) والخوارج لهم عمل عظيم كثير، لكن على أساس باطل، ما فائدة العبادات إذا كانت العقيدة زائغة؟! وبعض الصوفية يمكن أن يعبد الله الساعات الطويلة جداً جداً، وهو على منهج شركي، ما هي الفائدة من قيامه بالليل وصيامه بالنهار وهو مشرك بربه؛ يصرف أنواع العبادة للولي المقبور؟! ما الفائدة؟ {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23] هؤلاء الخوارج. فرأى ابن عباس وجوههم مسهمة من السهر، قد أثَّر السجود في جباههم، كأن أيديهم ثفنات الإبل -خشنة من كثرة السجود- عليهم قمصٌ مرحضة مغسولة، قالوا: ما جاء بك يا بن عباس؟ وما هذه الحلة عليك؟ انظر إلى ابن عباس فقد تعمد لبس الحلة، وهو زاهد في الدنيا، لكن النقاش مع الخوارج له عدة، لبس أحسن الثياب وجاء، قال: ما تعيبون مني، فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه أحسن ما يكون من الثياب اليمانية؟! لماذا تحرمون الطيبات؟! هذه واحدة انبخعوا فيها، ثم قرأ هذه الآية: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف:32]. قالوا: ما جاء بك؟ فقال: جئتكم من عند أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أعلم بالقرآن وأبلغ. فقال بعضهم: لا تخاصموا هذا فإنه من قريش والله قال فيهم: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف:58] وقال بعضهم: فلنكلمنه ونسمع ما عنده. قال ابن عباس: فكلمني منهم رجلان أو ثلاثة، قلت: ماذا نقمتم عليه؟ -تريدون الخروج على علي، ماذا نقمتم عليه؟ - قالوا: ثلاثاً، قلت: وما هن؟ قالوا: حكم الرجال في أمر الله ورضي بكلامهم والله يقول: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام:57] قلت: هذه واحدة. وهذه اسمها عملية استفراغ ما عند الخصم من الشبه، تسمع كل حجج الخصم، ثم ترد عليها واحدة واحدة، قالوا: فإنه قاتل ولم يسب ولم يغنم؛ قاتل وحضر موقعة الجمل، ومن قاتله من المسلمين ما سبى نساءهم ولا أخذ أموالهم غنائم، فلئن كانوا مؤمنين فلا يحل قتالهم، وإن كانوا كافرين فلقد حل قتالهم وسبيهم، قال: وماذا أيضاً؟ قالوا: ومحا عن نفسه صفة أمير المؤمنين في الكتاب الذي كتبه مع معاوية، فإن لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين، انظر منطق الخوارج الأعوج! فقال ابن عباس: أرأيتكم إن أتيتكم من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ما ينقض قولكم هذا أترجعون؟ قالوا: ومالنا لا نرجع؟! فقال: أما أنه حكم الرجال في أمر الله، فإن الله قال في كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة:95] وقال في المرأة وزوجها: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} [النساء:35] فقد رضي الله بالتحكيم في الخصومة الزوجية وفي جزاء الصيد، فصير الله ذلك إلى حكم الرجال، فنشدتكم الله أتعلمون حكم الرجال في دماء المسلمين وإصلاح ذات بينهم أفضل أو في حكم أرنب ثمنها ربع درهم صادها رجل محرم جاء يسأل ويقول: ما علي من الجزاء؟ قالوا: نعم. قال: فأما قولكم قاتل فلم يسب ولم يغنم، أفتسبون أمكم عائشة؟! لأن عائشة كانت في الجيش المقابل فإن قلتم: نستبيح منها، فقد كفرتم، وإن قلتم: ليست بأمنا فقد كفرتم، فأنتم تتردون بين ضلالتين، أخرجتم من هذه؟ قالوا: بلى. وأما قولكم: محا نفسه من إمرة المؤمنين، فإني آتيكم بمن ترضون، إن نبي الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية حين صالح أبا سفيان وسهيل بن عمرو، قال: اكتب يا علي هذا ما صالح عليه محمد رسول الله، فقال أبو سفيان وسهيل بن عمرو: لو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك، قال: اللهم إنك تعلم أني رسولك، امح يا علي، واكتب: هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله. ونتيجة للنقاش والرد المفحم من ابن عباس رجع منهم أكثر من النصف وبقي بقيتهم، فخرجوا على علي رضي الله عنه فقاتلهم فقتلهم، وهكذا كان ذلك النقاش العظيم.

أبو حنيفة ومحاجته للدهرية المنكرين للخالق

أبو حنيفة ومحاجته للدهرية المنكرين للخالق وهكذا قام علماء الإسلام من بعد الصحابة يناظرون أيضاً الكفار والمرتدين وكذلك الزائغين والذين خرجوا عن هذه العقيدة، واتخذوا لهم مناهج ضالة حاربوا فيها هذا المعتقد الصحيح. ووجد الدهرية الذين يقولون: ما يهلكنا إلا الدهر، وليس هناك بعث ولا خالق. فقام أبو حنيفة رحمه الله يقول لبعضهم: أخبروني عن سفينةٍ في دجلة تذهب فتمتلئ من الطعام والمتاع وغيره بنفسها وتعود بنفسها فترسي بنفسها وتفرغ وترجع كل ذلك من غير أن يدبرها أحد، سفينة تحمل وتسير وتفرغ وترجع بدون ربان ولا قبطان ولا عمال. فقالوا: هذا محال لا يمكن أبداً!! فقال أبو حنيفة: إذا كان هذا محالاً في سفينة، فكيف بهذا العالم كله علويه وسفليه؟ فبهتوا لما قال لهم: أنتم ما قبلتم هذا في سفينة كيف تقبلون العالم بغير مدبر؟!

أبو العباس السفاح يجادل مجوسيا

أبو العباس السفاح يجادل مجوسياً من عجائب أبي العباس السفاح -مع أنه كان غير مشهور بالعلم- أنه دخل في مناظرة مرة مع مجوسي وأتى فيها بعجب، قال للمجوسي: ما تعبد؟ قال: إلهين، قال: ما هما؟ قال: إله الخير وإله الشر -والمجوس عندهم إلهان إله الخير وإله الشر- قال: فأخبرني هل يستطيع إله الخير أن يخلق شراً؟! قال: لا يستطيع، قال: هل يستطيع إله الشر أن يخلق خيراً؟! قال: لا يستطيع، قال: أتعبد إلهين عاجزين، فانبخع وسكت وعجز.

مناظرة لأحد العلماء مع زعيم شيوعي

مناظرة لأحد العلماء مع زعيم شيوعي كذلك قريب من هذا مناظرة للشيوعيين في هذا العصر في عهد لينين نشرت في الجرائد: في طشقند سيعقد مجلس مناظرة في إثبات وجود الله، قام أبو عبد الكريم المعصومي رحمه الله ركب القطار واجتمع جمعٌ عظيم من المسلمين والنصارى والشيوعيين الدهريين وأكثر من عشرة آلاف نفس، وقام زعيم الشيوعين يتكلم وقال: إن الناس يقولون: إن الله موجود وهذا غير صحيح، فإن عندنا آلات رصد وعندنا ميكروسكوبات وعندنا تلسكوبات وآلات مقربة ومكبرة ودققنا ونظرنا وما وجدنا شيئاً. فقام أبو عبد الكريم المعصومي بعدما انتهى ذاك، فحمد الله على المنبر وأثنى عليه، وصلى على رسوله صلى الله عليه وسلم، وذكر الأدلة على وجود الله من خلقه، ثم قال: أنا أسأل هذا الشيوعي المتكلم هل له روحٌ في جسده أو عقل في مخه أم لا؟ فإن قال: نعم، فنقول: روحك هل لمستها؟ هل رأيتها؟ هل شممتها؟ فهي غير موجودة على مذهبك يا جاهل، فانبخع وكبر المسلمون وسبحوا واستبشروا، وخجل الضالون الشيوعيون، وما كانت الحجة؟ قالوا: إن لنا أستاذاً بـ موسكو يستطيع أن يجيب عليك، وهذه دائماً حجتهم.

حوار مع نصراني

حوار مع نصراني تكلمت مع قبطي، وقلت له: أنتم تقولون إن عيسى جاء لكي يطهر البشرية من الآثام التي علقت بها من جراء خطيئة آدم، فصلب المسيح على كلامكم فداءً للبشرية، فمن آمن به تخلص من الإثم، فما حال من كانوا قبل عيسى وما سمعوا عن عيسى، وما آمنوا بعيسى تحديداً ولا بصلب عيسى، لأنهم لا يعرفون أنه سيوجد عيسى ويصلب على زعمكم، فما حكم هؤلاء الذين بين آدم وبين عيسى الذين ما عرفوا عن عيسى ولا سمعوا به، أليس فيهم مذنبون؟ ما موقفهم من الصلب؟ وقلت له: لا زلتم تعيرون أباكم آدم في قضية الخطيئة، وقد تاب الله عليه، وأنتم إلى الآن تقولون: إن عيسى صلب من أجل خطيئة آدم، والبشر أخذوا خطيئة آدم وصاروا ملوثين، ولا بد من الصلب. وقلت له: ألا يمكن أن يغفر الله لعباده بطريقة أخرى غير هذه الطريقة، وكيف يرضى الله أن يكون ولده -حسب زعمكم- مغلوباً مصلوباً يبصق عليه اليهود ويجرونه على الشوك ويربطونه ويقتلونه والله ينظر إليه وما منعهم، ألا توجد طريقة ثانية أسهل عند الله لمغفرة الذنوب من هذه الطريقة الشنيعة في قتل ولده -حسب زعمكم- لكي يغفر ذنوب البشرية؟!

موقف أهل السنة من فتنة القول بخلق القرآن

موقف أهل السنة من فتنة القول بخلق القرآن أيضاً من النقاشات العظيمة والجدالات ما وقع في قضية خلق القرآن: فقد خرج أحمد بن أبي دؤاد وتقرب إلى السلطان، والمبتدعة سلكوا مسلكاً خطيراً جداً لما رأوا أن بضاعتهم لا تروج، وأهل السنة يردون عليهم وعلماء المسلمين يردون عليهم، عرفوا أنه لا قيامة لهم، فقالوا: نتزلف للسلاطين ونقنع السلطان بالبدعة ونستخدم قوة السلطان في حمل الناس على البدع، فهكذا تسلل ابن أبي دؤاد إلى المأمون، وصار وزيراً عنده وأقنعه بالبدعة، واضطهد المأمون الناس على خلق القرآن، استمر مسلسل الاضطهاد في عهد المأمون ومن بعده ومن بعده، والإمام أحمد رحمه الله ثابت ثبات الجبال، والأمة تقتدي به وتعرف شيخها وإمامها وقدوتها، وتنتظر ماذا يقول أحمد ليكتب. واستمر مسلسل المحنة، وكان الإمام أحمد رحمه الله معذباً مضيقاً عليه، لا يؤذن له بحضور صلاة الجمعة، حتى مات المأمون، وتولى بعده المعتصم ومات، وتولى بعده الواثق، وفي آخر أيام الواثق حدثت حادثة سببت تغيراً في منهج الواثق تجاه هذه البدعة؛ وذلك أن رجلاً قد أتي به مقيداً بالأصفاد يرفض القول بخلق القرآن، وهو شيخ جليل مهيب في القيود دخل فسلم فما رد عليه، قال: يا أمير المؤمنين! ما استعملت معي أدب الله عز وجل ولا أدب رسوله، قال الله عز وجل: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء:86] فقال: وعليك السلام، مُر بقيودي تحل أنا محبوس مقيد، أصلي في الحبس بتيمم فقد منعت من الماء، فحلوا قيوده. وبعد أن صلى أقبل على ابن أبي دؤاد يسأله، ويقول له: خبرني عن هذا الأمر الذي تدعو الناس إليه، أشيءٌ دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي، الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة دعوا إلى القول بخلق القرآن؛ ابن أبي دؤاد لا يمكن أن يكذب فيها، لأنه لو قال: دعا، فسيقال له: هات الحديث الذي يدل على أنهم دعوا فيه إلى القول بخلق القرآن، قال: لا -اضطر أن يقول: لا- قال: أعلمه أم جهله؟ لو قال: علمه، لكانت مشكلة، ولو قال: جهله، فذاك أشد إشكالاً، فسكت. فقال: شيء لم يدع إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي، وأنت تدعو الناس إليه وتحملهم عليه بالقوة؟ إذا لم يكن علمه رسول الله وعلمته أنت، فهذه مصيبة، فهل أنت أعلم بأمر الدين من النبي عليه الصلاة والسلام، لأنك تقول يا بن أبي دؤاد: إن خلق القرآن مسألة دينية، فمعناها أن هناك شيئاً من الدين ما علمه رسول الله، وإذا قلت لي: علمه فكيف علمه وسكت عن تبليغه، والله أخذ العهد على نبيه أن يبين للناس، فمعنى ذلك أنك تتهم نبيك أنه ما بلغ وكتم الوحي. وبعد ذلك النقاش اهتزت ثقة الواثق بتلك العقيدة، وجعل يردد: لا خير في شيء ما دعا الناس إليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وخفت المحنة في آخر زمن الواثق حتى جاء المتوكل وأزال هذه الفتنة.

الرد على سفسطة فرقة الحسبانية بسلاحهم

الرد على سفسطة فرقة الحسبانية بسلاحهم هناك طائفة اسمها الحسبانية وهؤلاء فرقة صوفية يقولون: كل الذي في الدنيا أوهام، أنت متوهم أنك موجود،، وأنا متوهم أنني موجود، أنت متوهم أنه توجد طاولة هنا، أنت متوهم أن يوجد سقف وجدار، الصحيح أنه لا يوجد شيء أبداً، وكل الأشياء التي في هذه الدنيا وهم في وهم، وما لها حقيقة، يقولون: (ليس إلا الله والكثرة وهم) الرب واحد، والعبد واحد، والعبد رب، والرب عبد، فتقول لهم: وهذه الأشياء المتعددة؟ قالوا: هذه أوهام وليست حقائق، أنت تتوهم أنك موجود، والحقيقة أنك غير موجود وأنا غير موجود، والناس هؤلاء تتوهم أنه يوجد مئات هنا، لكن كل هؤلاء غير موجودين. فكان أحد هؤلاء في مجلس أحد الخلفاء، فقام ثمامة بن أشرس رحمه الله إليه فلطمه لطمةً سودت وجهه، فقال هذا الرجل: يا أمير المؤمنين! يفعل بي هذا في مجلسك؟! فقال ثمامة: وما فعلت بك؟ قال: لطمتني، قال: لعلي إنما دهنتك البان! والبان شجر معروف شديد الخضرة يستخرج منه دهن البان، قال: أنت متوهم ما ضربتك، وأنما دهنتك بالبان، ثم جعل يقول: ولعل آدم أمنا والأب حوا في الحساب ولعل ما أبصرت من بيض الطيور هو الغراب وعساك حين قعدت قمت وحين جئت هو الذهاب وعسى البنفسج زنبقاً وعسى البهار هو الشذاب وعساك تأكل من قفاك وأنت تحسبه الخضاب

شبهة نصراني حول طبيعة المسيح والرد عليها

شبهة نصراني حول طبيعة المسيح والرد عليها حضر نصراني في مجلس هارون الرشيد، قال له هارون: ما يمنعك من الإسلام؟ قال: آية في كتابكم، قال: ما هي؟ قال: إن الله قال عن عيسى: {وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء:171] وهذا يعني أنه جزء من الله، ونحن نقول: ابن الله، فلماذا أغير عقيدتي، وقرآنكم يقول هذا؟! فقال العلماء في مجلس هارون الرشيد: يا أمير المؤمنين إن الله يعلم أن هذا سيقول هذا الكلام ويحتج بهذه الآية، فأنزل في كتابه رداً عليه، قال: وما هو؟ قال: يقول الله عز وجل: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} [الجاثية:13] الهاء تعود على الله عز وجل، فهل السماوات والأرض هذه جزء منه؟ هل (مِن) لا تفيد إلا التبعيض، أو لها وظائف أخرى في اللغة غير التبعيض؟ إذا قلت: جئت من المدرسة هل يعني ذلك أنني جزء من المدرسة وبعض من كل؟ لا، وهكذا، فقال: هذا عيسى من الله، أي: هو الذي خلقه، مصدر خلق عيسى من الله، فعيسى روحٌ منه وليس من العدم ولم يخلقه غير الله، إنه من الله عز وجل.

الباقلاني يناظر النصارى في بساط ملك الروم

الباقلاني يناظر النصارى في بساط ملك الروم وكذلك من المناظرات الظريفة التي حصلت مع النصارى: أن الباقلاني -وهو من أذكياء المسلمين- أرسل إلى ملك الروم، فانتهز الفرصة يدعوه، فدخل على المجلس والمجلس فيه بطارقة الروم وفيه رهبانهم وكبراؤهم، فـ الباقلاني ذهب إلى أكبر راهب في المجلس -البابا- وقال له الباقلاني: كيف حالك؟ وكيف حال أولادك وزوجتك؟ وهذا جعل النصارى يثورون، وقالوا: وقر كبيرنا، كيف تقول له ذلك؟ وذلك لأن الرهبان لا يتزوجون ولا لهم أولاد، لأن الزواج عليهم حرام، ولا يتلاءم مع مكانتهم ولا يليق بهم، فقالوا: وقر كبيرنا، أما علمت أننا ننزه هذا عن الأهل والأولاد. قال أبو بكر الباقلاني رحمه الله: فأنتم تنزهون هذا المخلوق عن الزوجة والولد وتعتبرون ذلك عيباً في حقه ولا تنزهون خالقكم وربكم عن الزوجة والولد فانبخعوا.

مناظرات أهل السنة للمبتدعة في الأسماء والصفات

مناظرات أهل السنة للمبتدعة في الأسماء والصفات

ابن مهدي يرد على المشبهة

ابن مهدي يرد على المشبهة وهكذا في أبواب الأسماء والصفات قام أهل السنة يردون ويناقشون، أحد علماء المسلمين وهو محدث مشهور اسمه عبد الرحمن بن مهدي سمع أن ولداً لأحد الكبراء يقول بعقيدة التجسيم والتشبيه، وأن الله يشبه المخلوقات- تعالى الله عن قولهم- فذهب وصلى معه، ثم ناداه بعدما تفرق الناس وخلا به، قال: يا بني هذه البلدة فيها أهواء وفيها اختلافات، وقد بلغني عنك أمرٌ، والأمر لا يزال هيناً ما لم يصل إليكم، فإذا وصل إليكم -أنتم أهل السلطان- فسوف تحملون الناس عليه بالقوة. قال: وما ذاك يا أبا سعيد؟ قال: بلغني أنك تتكلم في الرب عز وجل وتصفه وتشبهه؛ تقول: يد الله مثل يد المخلوقين، ووجه الله مثل وجه المخلوقين. قال: نعم. قال: ولم؟ قال: لأننا نظرنا في المخلوقين فما وجدنا مخلوقاً أجمل ولا أحسن ولا أزكى من الإنسان، فقلنا: هو يشبه الإنسان. قال: رويدك يا بني حتى نتكلم في المخلوق قبل أن نتكلم في الخالق، اجعلنا نتكلم في المخلوق، أخبرني عن حديثٍ حدثنيه شعبة عن الشيباني، قال: سمعت زراً قال: قال عبد الله بن مسعود في قوله تعالى: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم:18] قال: رأى جبريل له ستمائة جناح -والحديث في صحيح البخاري - قال عبد الرحمن بن مهدي: يا بني صف لي خلقاً له ستمائة جناح حتى نشبه جبريل عليه! فكر وفكر فما وجد مثله، فما تكلم. قال: يا بني إني أهون عليك الأمر وأضع عنك خمسمائة وسبعة وتسعين جناح، فأخبرني عن مخلوق له ثلاثة أجنحة، وقل لي: أين يركب الجناح الثالث؟ فسكت وقال: يا أبا سعيد نحن قد عجزنا عن صفة المخلوق ونحن عن صفة الخالق أعجز وأعجز، أشهدك أني رجعت وأستغفر الله. فانظر كيف تقام الحجة وكيف يكون البيان، وهكذا حصل النقاش بين أهل السنة والجهمية والأشاعرة الذين اقتبسوا من المعتزلة قضية نفي علو الله على خلقه.

مناظرة الهمداني والجويني في قضية العلو

مناظرة الهمداني والجويني في قضية العلو قام أبو المعالي يتبنى عقيدة نفي العلو وسئل عن: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] وبدأ يتخبط في الكلام وينفي الاستواء وينفي علو الله على الخلق، ويقولون: الله في كل مكان مع أن الله في السماء في العلو، واستوى على العرش، والعرش فوق العالم وفوق السماوات، والله فوق العرش لحديث الجارية: (أين الله؟ قالت: في السماء قال: إنها مؤمنة). فهذا الرجل بدأ يتخبط في الكلام أمام الناس، فقام له رجل من أتباع عقيدة السلف يقال له: أبو جعفر بن أبي علي الهمداني، قال: يا إمام رويدك، الآن عندي شيء أريد أن تجيبني عنه: ما ضرورةٌ يجدها الواحد منا في نفسه إذا رفع يديه يقول: يا رب، أن يتجه بنفسه إلى العلو؟ لماذا الواحد لا يضع الكفينعلى اليمين، أو على اليسار ويقول: يا رب؟ لماذا الناس ترفع أكفها وتقول: يا رب، ونفس الداعي والمصلي والطفل والمرأة والكبير والصغير والعالم وغيره كلهم إذا دعوا الله بالاضطرار يرفعون إليه أيديهم، نبئنا نتخلص من الفوق والتحت. فضرب الأستاذ بكمه على السرير وصاح: نجلس نجلس الكرسي، وقال: يا للحيرة، خرت الأوراق وقامت القيامة في المسجد ونزل ولم يجبني، وقال: الحيرة الحيرة الدهشة الدهشة. بعد ذلك قال: حيرني الهمداني، لأن الاتجاه إلى الله من جهة العلو بالفطرة، ماذا نجيب عن هذا؟ شيء فطري في نفوس الناس حتى الكفار، وهذا فرعون لما جاء يزعم أنه إله، ما قال لهامان: احفر لي نفقاً، إنما قال: ابن لي سلماً {لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} [غافر:36 - 37] حتى فرعون لما ذهب يبحث عن الله بزعمه اتجه إلى جهة العلو.

مناظرة سحنون لأحد المعتزلة

مناظرة سحنون لأحد المعتزلة وهكذا قام أئمة الإسلام ينافحون عن القرآن وأنه كلام الله، وقام واحد من المعتزلة الذين يقولون: القرآن مخلوق، فقام له سحنون المالكي رحمه الله، قال: ما تقول في القرآن؟ قال المعتزلي: مخلوق، قال: أليس كل مخلوق يذل لخالقه؟ فسكت وما استطاع أن يجيب وأطرق، قال: كم عمرك؟ قال: ثمانون سنة، فلما انتهى المجلس قالوا لـ سحنون: لماذا ما استطاع أن يجيب؟ قال: لأنه لو قال: إن القرآن ذليل، فقد كفر لأن الله قال: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} [فصلت:41].

الرد على المعتزلة في مسألة خلق القرآن وفي إثبات رؤية الله

الرد على المعتزلة في مسألة خلق القرآن وفي إثبات رؤية الله وهناك مناقشة مشابهة جرت بين أبي الهذيل العلاف المعتزلي البصري الذي يقول بخلق القرآن، وقام له واحد من أهل السنة، قال له: ماذا تقول في القرآن؟ قال: مخلوق، قال: كل مخلوق فان، فهل يموت القرآن؟ قال: نعم، قال: ومتى يموت القرآن؟ قال: إذا مات من يتلوه، انظر اللف والدوران، قال: حسناً أخبرني إذا قبض الله الخلق وقامت الساعة وفني الخلائق كلهم، ونادى الله في السماوات مثلما جاء في الحديث الصحيح: لمن الملك اليوم؟ فلا يجيبه أحد فيجيب نفسه بنفسه قائلاً عز وجل: لله الواحد القهار؛ وهذا قرآن: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16]؟ لماذا لم يمت هذا القرآن والخلائق كلهم ماتوا وفنوا؟ فانبخع وسكت وأفحم، وهكذا أيها الإخوة تتوالى ردود أهل السنة على هؤلاء المبتدعة. وعن الذين ينكرون رؤية الله في الآخرة قال الشافعي: فلما أن حجب هؤلاء في السخط كان في ذلك دليلٌ على أنه يرى في الرضا، فإنه تعالى يقول: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] ما هي ميزة المؤمنين إذاً إذا كانوا يحجبون أيضا؟! لا بد لهم من ميزة، ولما علمنا أن الكفار محجوبون عرفنا أن المؤمنين غير محجوبين، وأنهم ينظرون إلى الله عز وجل في الجنة، وهم على الأرائك وعلى السرر.

مناظرات مع أهل الكتاب

مناظرات مع أهل الكتاب

مناظرة مع يهودي

مناظرة مع يهودي من المناظرات بين اليهود والمسلمين: جاء يهودي إلى أحد المسلمين وقال له: بما أننا نتفق على موسى لماذا لا تتبعه؟ فنحن نختلف في محمد صلى الله عليه وسلم، لكننا لا نختلف في موسى، فقال له: أي موسى تقصد؟ إذا كانت تقصد موسى الذي بشر بمحمد صلى الله عليه وسلم فأنا معك نتبع موسى، وإذا كان موسى الذي لم يبشر بمحمد صلى الله عليه وسلم، فليس موسى الذي نؤمن به هذا موسى آخر. ولذلك قال نصراني لمسلم يسأله: ما تقول في عيسى؟ فالمسلم فطن قال: أتقصد عيسى الذي بشر بمحمد صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. قال: هو رسول الله نعرفه ونؤمن به، فسكت.

شاعر يرد على النصارى

شاعر يرد على النصارى وحصل أيضاً في مناقشة النصارى أن بعض عقلاء الشعراء يقول في إفحام هؤلاء النصارى مناظراً لهم: عجبي للمسيح بين النصارى وإلى أي والدٍ نسبوه أسلموه إلى اليهود وقالوا إنهم بعد قتله صلبوه النصارى تقول عن اليهود: إنهم قتلوا عيسى. فإذا كان ما تقولون حقاً وصحيحاً فأين كان أبوه ينظر إليهم وهم يذبحون ولده وما يفعل شيئاً، ما هذا الأب الذي ما فيه رحمة، قلبه قاسٍ، ولا يغير ساكناً ولا يمنعهم. حين حل ابنه رهين الأعادي أتراهم أرضوه أم أغضبوه يقول: هل اليهود لما صلبوا ولده أرضوه أم أغضبوه؟ فلئن كان راضياً بأذاهم فاحمدوهم لأنهم عذبوه يا نصارى قوموا قبلوا رءوس اليهود، لأنهم فعلوا شيئاً يرضي إلهكم. وإذا كان ساخطاً فاتركوه واعبدوهم لأنهم غلبوه وإذا كان ساخطاً على قتل الولد، فاعبدوا اليهود لأنهم غلبوا الأب حسب زعمكم.

المناظرات مع الملاحدة والعلمانيين

المناظرات مع الملاحدة والعلمانيين وهكذا أيها الإخوة يستمر هذا المسلسل من الحجج والبراهين في القديم والحديث. قام أحد الدكاترة ممن تخرج من بلاد الغرب يتكلم أمام الطلاب المسلمين، وقال: إلى متى تبقى هذه الخيمة وهذا الحجاب وهذه التقاليد البالية، متى تخلع وترمى وتطلع المرأة للنوادي وتعمل ما تشاء أمام الناس كما تقتضي الحضارة؟ فوقف أحد الطلاب موقفاً عظيماً والله، وقال له: يا دكتور، قال: نعم، قال: أنا عندي سؤال، قال: {أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة:140]؟ وهذا السؤال جزء من آية، ما استطاع الدكتور أن يقول: أنا أعلم، لأنه لو قالها لضرب بالنعال، قال: الله أعلم مني، فقال له: لقد قال الله الأعلم: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59] وقال الله عز وجل: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:33] وهو الأعلم نسمع كلامه أو نسمع كلامك؟! فبهت الذي كفر. أقول: نحن في عصر كثر فيه العدوان على العقيدة والدين والأحكام الشرعية، وما أنزله الله، فوجب علينا أن نقوم ونرد ونحاج وندمغ الباطل بالحق، فإننا بالعلم الشرعي وبالحجة وبالقوة والجرأة نسكت هؤلاء الأعادي وهؤلاء المنافقين الذين يريدون أن يحرفوا الدين وأن يقصقصوه، وأن يجعلوه شيئاً مشوهاً لا علاقة له بالشريعة التي أنزلها رب العالمين، لا ينبغي لك أن تقرأ أو تسمع باطلاً وتسكت، وخصوصاً في المجالس، والعتب الشديد واللوم العميق على بعض الناس، ممن يكون في مجلس يهاجم فيه الدين ويهاجم حكم شرعي، وهو ساكت لا يرد شيئاً. والقصد من هذا الموضوع إيقاظ الحمية للدفاع عن العقيدة والأحكام الشرعية في نفوس المسلمين، وأن يكون عندهم جرأة وقوة وعندهم علم وعندهم أسلوب. جاءني واحد قال: أنا أشتغل في شركة مع النصارى، وهم يثيرون الشبهات، وأنا لغتي الإنجليزية ضعيفة، وهم يتكلمون ويتكلموا وأنا لا أعرف إلا كلمتين، فقلت: يا أخي لا يصلح أن تناقشهم إطلاقاً، إذا لم يكن عندك لغة فكيف تناقش؟ لو جئت تناقش فسيغلبونك بالصوت وباللغة، ولذلك امتنع عن النقاش وائت بغيرك ممن يعلم لسان القوم ليفحمهم، لا يصلح لواحد أن يدخل في معركة وليس معه سلاح يقاتل به. ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا هداة مهتدين ومن الذين قضوا بالحق وبه يعدلون، وأن يرزقنا الحجة والغلبة على أعداء الدين.

قواعد المناظرة

قواعد المناظرة نشرع في ختام هذا الدرس بذكر قواعد المناظرة والمجادلة بالتي هي أحسن وآداب ذلك. وأما بالنسبة للقواعد فهي كثيرة فمنها: أولاً: إذا كنت مدعياً فهات الدليل لأن الله قال: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} [النمل:64]. ثانياً: أثبت صحة ما تنقل: لأن بعض الناس قد يأتون بأدلة لكنها غير صحيحة. ثالثاً: لا تبتر الدليل وائت به كاملاً: هذه قواعد يلتزم بها كل الأطراف في المناقشة والمناظرة؛ لا يجوز أن تقول: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون:4] وتقف أو تقول: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ} [النساء:43] وتقف، بل ائت بالدليل كاملاً، ولذلك غيلان الدمشقي الضال لما جاء عند عمر بن عبد العزيز يحتج عليه بآية: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:3] في قضية القدر، قال له عمر بن عبد العزيز: اقرأ آخر السورة ففيها إثبات المشيئة للعبد مع مشيئة الرب، قال: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30] إذن للعبد مشيئة: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً * يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [الإنسان:30 - 31]. رابعاً: الحق لا يعرف بالرجال: اعرف الحق تعرف أهله، بعض الناس يقولون: هذا الكلام صحيح، لأن فلاناً قاله، ودليلهم أنه قال. خامساً: الحق واحدٌ لا يختلف: من عهد النبي عليه الصلاة والسلام إلى الآن الحق في المسائل واحد لا يختلف إلى أن تقوم الساعة. سادساً: وجوب عرض أقوال الناس على الشرع؛ هذا يقول وأنت تقول وأنا أقول، لكن في النهاية نعرف صحة الأقوال من عرضها على الشرع. سابعاً: السكوت عما سكت الله عنه ورسوله؛ مثلما تقدم في قضية المحاجة في مسألة القرآن. ثامناً: الباطل لا يرد بالباطل؛ القدرية قالوا: العبد يخلق فعل نفسه، فجاءت الجبرية وقالت لهم: العبد ليس له مشيئة أصلاً مجبور ضلال بضلال. جاء أهل الرفض سبوا الصحابة وألهوا آل البيت، فجاء الناصبة وسبوا أهل البيت بالمقابل، فردوا بدعة ببدعة، كقول القائلين: سبوا أئمتهم كما سبوا أئمتكم، ويمكن أن تكون أئمتهم أئمة لنا أهل السنة، فلا يجوز رد البدعة بالبدعة ولا رد الباطل بالباطل. تاسعاً: عدم العلم بالدليل لا يعني عدم وجود الدليل: فأثناء النقاش يأتي أحدهم ويقول: لا يوجد هذا الكلام، ولم أسمعه، فيقال له: لم تسمعه لكنه موجود فكونك لم تعرفه لا يعني أنه غير موجود. عاشراً: الاستدلال على المسألة المختلف فيها إنما يكون بالدليل المتفق عليه: ولذلك لو بدأت مع يهودي أو مع نصراني أو مع ملحد أو مع مبتدع في نقاش فلابد أن تأتي بدليل متفق عليه أولاً، قل: أليس أنا وأنت نتفق على هذا الشيء، ثم تتوصل من هذا الاتفاق إلى إثبات الأشياء التي يختلف معك فيها. الحادي عشر: الحجة الصحيحة لا يقدح فيها عجز صاحبها عن تقريرها: الحجة الصحيحة لا يقدح في صحتها أن صحابها عاجز عن التعبير، ولذلك بعض الناس يستغل أن صاحب الحق ما عنده لسان مضبوط، ويقول: أنت مهزوم وأنت ضعيف، مع أن هذا فقط عسرٌ في اللسان، وإلا فحجته صحيحة، فيجب أن يكون عند الإنسان تجرد وعدم اتباع للهوى.

آداب المناظرة

آداب المناظرة أما بالنسبة لآداب المناظرة والمناقشة، ونحن -كما قلنا يا إخوان- نتعرض لهذا في المجالس وفي الفصول الدراسية ويمكن أن يسافر بعضنا إلى الخارج ويلتقي بمن يثيرون الشبهات، وقد يفتح أحدنا موقع إنترنت فيجد فيها شبهات وهجوماً على الإسلام وأهل الإسلام، وتريد أن ترد، فيجب أن نعرف آداب المناظرة، فمن آدابها ما يلي: أولاً: الإخلاص لله تعالى: وهذا أصل الأصول؛ وعند الله لا يبقى إلا ما أريد به وجهه. ثانياً: البدء بذكر الله والثناء عليه. ثالثاً: التأدب في الجلوس. رابعاً: اجتناب الهوى: قال الشافعي: ما ناظرت أحداً فأحببت أن يخطئ؛ سبحان الله! تجرد عن الهوى. خامساً: الرجوع إلى الحق إذا تبين: ذكر علي رضي الله عنه في مسألة من المسائل جواباً، فقام رجلٌ ورد عليه بالدليل، فقال علي: [أصبتَ وأخطأتُ وفوق كل ذي علم عليم، أرجع إلى الحق صاغراً] اعتراف كامل وصريح وواضح، وما وجد أن الاعتراف سينقص من قدره، بالعكس كبر علي رضي الله عنه في أعيننا لما نقلت القصة أكثر وارتفع شأنه أكثر بهذا. سادساً: التحلي بالحلم والصبر. سابعاً: التريث: فقد يتراجع المجادل أو ينتقل إلى دليل آخر ويترك هذا، لأنه تبين له فساد الاستدلال به، أو يخطر أنت ببالك دليل آخر أو تكتشف خللاً فيما كنت تريد أن تقوله. ثامناً: التزام الصدق: فلا نكذب، وهناك من يقول: في الكتاب الفلاني، وهو ليس موجوداً في الكتاب الفلاني، لماذا الكذب؟ تاسعاً: الترفق بالخصم: لأن المقصود إقناعه وهدايته، وليس فقط تحطيمه، فبعض الناس يحرص على كسب الموقف، والأهم من هذا كسب الرجل نفسه، كسب الرجل الآخر أهم من أنك تكسب الموقف وتظهره في مظهر العاجز، هذا يكون مع المعاندين الرافضين للحق تماماً فهذا يفحم أمام الناس حتى لا يغتروا به، لكن ابتداءً عندما نناقش من يخالفنا في شيء فينبغي أن نكسبه إلينا ولا نحطم رأسه أو نذله. وعاشراً: حسن الاستماع لكلام الخصم، وأن تمهله حتى يفضي إليك بحديثه. الحادي عشر: الإنصاف: شيخ الإسلام ابن تيمية عندما تكلم في بعض الأشخاص مثل: الجويني والباقلاني والمتكلمين قال: ثم ما من هؤلاء إلا من له في الإسلام مساعٍ مشكورة وحسنات مبرورة، ولهم في الرد على كثير من أهل الإلحاد والبدع والانتصار لكثير من أهل السنة والدين ما لا يخفى على من عرف أحوالهم وتكلم فيهم بعلمٍ وصدقٍ وعدلٍ وإنصاف، فهو رحمه الله ينصف المخالفين. فإذا كان عند المخالفين مواقف مشكورة، نقول: عندهم أعمال مشكورة، أو كان لهم مواقف مبرورة، نقول: عندهم مواقف مبرورة، نقول عن أحدهم مثلاً: عنده أخطاء مثلاً في الصفات فهو مؤول، لكن عنده ردود جيدة على النصارى والملاحدة مثلاً، الإنصاف مهم، الإنصاف هو الذي يجعل الخصم يتبعك، وأتباع الخصم يسلمون لك، لكن عندما يرونك تتهجم على شيخهم بدون أدب، وتخطئه في كل ما يقول، لا يقبلون قولك. الثاني عشر: إصلاح المنطق: أقصد بالمنطق الألفاظ والكلام والأسلوب والبيان والبلاغة، وهناك علم مهم جداً اسمه علم البيان، يعلمك كيف تعبر عن المعنى التي في نفسك بعبارة صحيحة، وهناك كتب له، وهو من علوم الآلة المهمة وبه ترى أشياء كثيرة من عظمة كتاب الله تعالى وإعجاز هذا الكلام الذي تكلم به سبحانه وتعالى: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي} [القصص:34]. والجواب في الأسد لا في الأشد، بعض الناس يظنون أن رفع الصوت هو الذي يفحم، والذي يفحم هو العبارة القوية الصحيحة المتينة في مكانها المناسب، الجواب في الأسد لا في الأشد. الثالث عشر: تجنب المماراة وهذه لها منزلة في الجنة. الرابع عشر: أن اختلاف الرأي لا يوجب فساد الود بين الإخوان، نحن الآن نتناقش في مسألة فقهية ليس فقط في مسائل عقيدة مع الضالين، حتى مع إخواننا في الله نتناقش في مسائل فقهية؛ قراءة الفاتحة للمأموم خلف الإمام في الصلاة الجهرية هل تشرع أو لا تشرع، الزكاة في ذهب الحلي هل هي واجبة أو غير واجبة، مسائل خلافية كثيرة ومناقشات، ينبغي أن تكون مناقشتنا العلمية بأسلوب مؤدب ولا تفسد ما بيننا من العلاقات، ولذلك يقول يونس الصدفي: ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يوماً في مسألة، ثم افترقنا ولقيني، فأخذ بيدي، ثم قال: يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في المسألة؟! وكذلك يقول العباس العنبري: كنت عند أحمد بن حنبل وجاء علي بن المديني وهو على دابة، فتناظرا في مسألة وارتفعت الأصوات حتى خفت أن يقع بينها جفاء، فلما أراد علي الانصراف قام أحمد فأخذ بركابه؛ أخذ بركاب الدابة وكرمه وعززه وهو ينصرف، الاختلاف الفقهي ليس معناه فساد العلاقة الأخوية، يبقى الأدب والاحترام والحشمة للأخ المسلم وإن اختلفنا معه في مسائل فقهية علمية. وهذا من أدب السلف المفقود بين كثيرٍ من الذين يعيشون من الخلف. السادس عشر: تجنب ما يشوش الفكر أثناء النقاش: ألا يكون مثلاً محصوراً، أو فيه جوع، أو فيه تخمة. السابع عشر: نصب حكم يحكم بينكما: لأن بعض الأطراف قد تنكر ما تقول، يقول أحدهم: ما قلت هذا القول وأنت تقولت علي، تقول له: قبل قليل قلت، والآن تراجعت، يقول: أنا ما قلت أصلاً، إذاً ضع مسجلة، أو من يكتب. الثامن عشر: لا بأس باستعمال الأمثال: خصوصاً عندما تناقش بعض المبتدعة تقول في النهاية إذا انقطع: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} [الإسراء:81] {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ} [الأنبياء:18] يأتي لك بحجة ضعيفة متهافتة تقول له: {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ} [العنكبوت:41] وحجتك مثل بيت العنكبوت وكسراب بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً، فلا بأس باستعمال الأمثال من القرآن والسنة وكلام العرب. والتاسع عشر: تجنب مناظرة السفيه والجاهل، لأنه لا توجد فائدة من مناظرة السفهاء. العشرون: ملخص لهذه الآداب أسوقها إليكم من نونية الشيخ/ أبي محمد عبد الله بن محمد الأندلسي القحطاني، النونية معروفة بـ نونية القحطاني من أحلى وأعذب ما قيل: لا تفن عمرك في الجدال مخاصماً إن الجدال يخل بالأديان واحذر مجادلة الرجال فإنها تدعو إلى الشحناء والشنآن وإذا اضطررت إلى الجدال ولم تجد لك مهرباً وتلاقت الصفان فاجعل كتاب الله درعاً سابغاً والشرع سيفك وابد في الميدان والسنة البيضاء دونك جنةً واركب جواد العزم في الجولان واثبت بصبرك تحت ألوية الهدى فالصبر أوثق عدة الإنسان واطعن برمح الحق كل معاندٍ لله در الفارس الطعان واحمل بسيف الصدق حملة مخلصٍ متجردٍ لله غير جبان واحذر بجهدك مكر خصمك إنه كالثعلب البري في الروغان أصل الجدال من السؤال وفرعه حسن الجواب بأحسن التبيان أحياناً تبدأ النقاش فتوجه إلى الخصم سؤالاً. لا تلتفت عند السؤال ولا تعد لفظ السؤال كلاهما عيبان وإذا غلبت الخصم لا تهزأ به فالعجب يخمد جمرة الإحسان فلربما انهزم المحارب عامداً ثم انثنى قصداً على الفرسان واسكت إذا وقع الخصوم وقعقعوا فلربما ألقوك في بحران ولربما ضحك الخصوم لدهشة فاثبت ولا تنكل عن البرهان فإذا أطالوا في الكلام فقل لهم إن البلاغة لجمت ببيان لا تغضبن إذا سئلت ولا تصح فكلاهما خلقان مذمومان واحذر مناظرة بمجلس خيفةٍ حتى تبدل خيفةً بأمان ناظر أديباً منصفاً لك عاقلاً وانصفه أنت بحسب ما تريان ويكون بينكما حكيمٌ حاكماً عدلاً إذا جئتاه تحتكمان

المباهلة

المباهلة أحياناً يا إخوان في المناظرة والمجادلة قد تصل القضية إلى المباهلة، والمباهلة أن يدعو الخصمان كل واحدٍ منهما على نفسه باللعنة إن كان على الباطل وكان خصمه على الحق، مثلما قال الله عز وجل في كتابه العزيز عن مباهلة النصارى في سورة آل عمران؛ إذ أنه لما جاء وفد نجران إلى النبي صلى الله عليه وسلم ناظرهم النبي صلى الله عليه وسلم ورد عليهم، ثم هددهم بالمباهلة كما أمره ربه: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران:61] فأبى النصارى المباهلة وخافوا. في صحيح البخاري عن حذيفة قال: جاء العاقب والسيد صاحبا نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدان أن يلاعناه، فقال أحدهما لصحابه: لا تفعل فوالله لئن كان نبياً فلاعناه، فلن نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا، والنبي عليه الصلاة والسلام خرج مع الحسن والحسين وفاطمة كما أمر الله: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ} [آل عمران:61] فما استطاعوا أن يباهلوه.

حديث الشفاعة المقام المحمود

حديث الشفاعة المقام المحمود لقد قص الله علينا في كتابه وعلى لسان أنبيائه ما يكون في اليوم الآخر؛ ليعتبر ويتعظ من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وفي هذا الدرس وقفات مع حديث الشفاعة، وكيف يشفع النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، مع ذكر أنواع الشفاعة، وعرض صور من يوم المحشر، وقد تعرض الشيخ لبعض صفات الصراط، وحال الناس عند عبور الصراط، وكذلك ما يحدث بعد عبور الصراط من المقاصة بين الناس، ودخول أهل الجنة الجنة وأهل النار النار

نص حديث الشفاعة

نص حديث الشفاعة الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى قد قص علينا في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ما يكون في اليوم الآخر من التفاصيل الكثيرة التي تكون للمؤمنين واعظاً، فيعلمون منها ما أعد الله سبحانه وتعالى في ذلك اليوم من الأهوال، وإذا كان الواحد يعيش في الدنيا سبعين سنة، فإن يوم القيامة طوله خمسون ألف سنة، أي: أن طول يوم القيامة أضعاف أضعاف ما يكون من عمر الإنسان في الدنيا، ويوم القيامة يبدأ من النفخ في الصور وينتهي بدخول أهل الجنة الجنة ودخول أهل النار النار. فهذه الخمسون ألف سنة يكون الناس واقفين فيها قياماً على أرجلهم كما قال الله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6]، فليس فيها متكأ ولا مكان للراحة، ولكنه يمر على المؤمنين مروراً طيباً سهلا، ً يسهله الله عليهم بأعمالهم، وقد روى أنس رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم حدثاً من أحداث ذلك اليوم فقال: (يجمع الله الناس يوم القيامة فيقولون: لو استشفعنا على ربنا حتى يريحنا من مكاننا، فيأتون آدم فيقولون: أنت الذي خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأمر الملائكة فسجدوا لك، فاشفع لنا عند ربنا، فيقول: لست هناكم ويذكر خطيئته ويقول: ائتوا نوحاً أول رسول بعثه الله، فيأتونه فيقول: لست هناكم ويذكر خطيئته، ائتوا إبراهيم الذي اتخذه الله خليلاً، فيأتونه فيقول: لست هناكم ويذكر خطيئته، ائتوا موسى الذي كلمه الله، فيأتونه فيقول: لست هناكم فيذكر خطيئته، ائتوا عيسى، فيأتونه فيقول: لست هناكم ائتوا محمداً صلى الله عليه وسلم فقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيأتوني فأستأذن على ربي فإذا رأيته وقعت له ساجداً فيدعني ما شاء الله ثم يقال لي: ارفع رأسك، وسل تعطَ، وقل يسمع، واشفع تشفع، فأرفع رأسي فأحمد ربي بتحميد يعلمني، ثم أشفع فيحد لي حداً، ثم أخرجهم من النار وأدخلهم الجنة، ثم أعود فأقع ساجداً مثله في الثالثة أو الرابعة حتى ما يبقى في النار إلا من حبسه القرآن، وكان قتادة يقول عند هذا أي: وجب عليه الخلود).

صور من الحشر

صور من الحشر يقول النبي صلى الله عليه وسلم:) يجمع الله الناس يوم القيامة) وفي رواية: (إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم في بعض) وقضية الاختلاط والتداخل بعضهم في بعض، أو أن يموجوا فيدخل بعضهم في بعض هو من الأهوال التي تكون في ذلك الموقف. يجمع الله الناس الأولين والآخرين في صعيد واحد من آدم إلى راعٍ من مزينة وهو آخر واحد يموت ويحشر، من آدم إلى رجل من مزينة، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر.

مصادر الحر يوم القيامة

مصادر الحَرَّ يوم القيامة وتدنو الشمس فيبلغ الناس من الغم والكرب مالا يطيقون ولا يحتملون، وفي رواية: (وتدنو الشمس من رءوسهم فيشتد عليهم حرها ويشق عليهم دنوها، فينطلقون -من الضجر والجزع مما هم فيه- يبحثون عن مخرج الناس يوم القيامة) يبحثون عن حل لهذا الكرب العظيم الذي أصابهم؛ لأن الحر يوم القيامة له ثلاثة مصادر: أولاً: الشمس التي تدنو من رءوس الخلائق. ثانياً: التزاحم والتلاصق بالأجساد وحرارة الأنفاس. ثالثاً: جهنم؛ لأنه يؤتى بها إلى أرض المحشر تجر لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك، ولها زفير وشهيق يرى من بعيد، فيجتمع على الناس الحر من ثلاث جهات: دنو الشمس من فوق الرءوس، وتقريب جهنم، وتلاصق الأجساد وطلاقة الأنفاس، وهذه مسألة الأنفاس معروفة، لو أننا وضعنا أشخاصاً وملأنا غرفة بهم سيصابون بحر نتيجة الاختناق من الأنفاس وحرارة الأجساد، كل واحد من هذه الأسباب كافٍ بأن الناس يصابون بكرب عظيم، فكيف إذا اجتمعت كل الثلاثة مع بعض؟ ولذلك قال: (فيبلغ الناس من الغم والكرب مالا يطيقون ولا يحتملون -فليس الحر هنا يطاق ويحتمل بل فوق التحمل، ولذلك يموج بعضهم في بعض ويدخل بعضهم في بعض- ويبحثون عن مخرج ويشق عليهم دنوها فينطلقون من الضجر والجزع مما هم فيها) فإذاً حر وضجر وجزع وفي رواية: (فيفظع الناس لذلك والعرق كاد يلجمهم) العرق يرتفع مستواه عند بعضهم حتى يلجمهم كاللجام على الفرس فيغطي الفم.

الحبس يوم القيامة

الحبس يوم القيامة في رواية: (يلبثون ما شاء الله من الحبس) إذاً الناس في هذا الصعيد محبوسون، كأنهم في سجن؛ لأن الملائكة تنزل صفوفاً من كل سماء وتحيط بالناس في أرض المحشر، وهكذا السماء الثانية طوق والثالثة والرابعة وهذا معنى قول الله عز وجل: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا} [الرحمن:33] لأن الملائكة محيطة بهم من جميع الجهات سبعة أطواق من الملائكة فهذا حبس، ولذلك قال هنا في هذه الرواية: (يلبثون ما شاء الله من الحبس) وفي سورة الرحمن: {إِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا} [الرحمن:33] وكيف ينفذون وهم في حبس والملائكة محيطة بهم لا مخرج، مالنا من محيص. قال في الحديث: (تدنو الشمس حتى تصير من الناس على قدر ميل، ويتفاوت الناس في العرق على قدر أعمالهم) وفي رواية سلمان: (تعطى الشمس يوم القيامة حر عشر سنين) فليست شمساً عادية وإنما تعطى حر عشر سنين، يعني: الشمس الموجودة الآن إذا اصطلينا بحرها في الصيف، بحر هذا اليوم الذي طلعت فيه الشمس نقول: هذا اليوم حر شديد! يوم القيامة تعطى الشمس حر عشر سنين، ثم تدنو من جماجم الناس فهي قريبة من الرءوس، فيعرقون حتى يرشح العرق في الأرض قامة، فالآن العرق ليس على سطح الأرض فقط وإنما داخل الأرض، ينزل العرق فيدخل في الأرض فتتشربه ثم يطفح؛ لأن التشرب قد انتهى حده، فيطفح إلى أعلى الأرض قامة -يعني: على قامة الرجل- ثم يرتفع حتى يقول الرجل: عق عق، يعني: من العرق، الإنسان إذا صار في الماء وألجمه الماء ليس هناك متنفس فقال: عق عق وهو صوت الغرق. قال في رواية: (لغم ما هم فيه والخلق ملجمون بالعرق -فالعرق يكون مثل اللجام- قال: وإن معي لواء الحمد) وهذا لواء حقيقي مع النبي عليه الصلاة والسلام يرفعه بيده وهو لواء الحمد، ومكانه معروف واضح.

محاولة استشفاع الناس بالأنبياء

محاولة استشفاع الناس بالأنبياء الناس في هذا الغم والكرب يوم القيامة يريدون حلاً، ويتمنى الكافر الفرج ولو إلى النار، فيتكلم الناس ويتبادلون الآراء في أرض المحشر، يتكلمون مع بعض يريدون رأياً، مثل الناس لو وضعوا في أزمة يبدءون يتحدثون في نقاش، ما هو السبيل إلى الخروج؟ {فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} [غافر:11]. في يوم المحشر يصدر عن بعض الناس رأياً يقولون: لو استشفعنا، يلهمون ذلك من الله كما جاء في رواية مسلم: (فيلهمون الذهاب إلى الأنبياء) يريدون مخرجاً، فيقولون: لو نذهب إلى الأنبياء (فيهتمون بذلك -يصيبهم الهم- لو استشفعنا على ربنا) يعني: نطلب شفاعة أحد عند الله نستعين به على الكرب.

الاستشفاع بآدم عليه السلام

الاستشفاع بآدم عليه السلام يأتي الناس آدم -الآن المؤمنون يريدون الذهاب منه إلى الجنة والكفار يريدون الفكاك ولو إلى النار من الكرب- فيفزع الناس ثلاث فزعات فيأتون آدم، فيقولون: ألا تشفع لنا عند ربك حتى يريحنا؟ يقول بعضهم لبعض: انطلقوا بنا إلى آدم أبي البشر فليشفع لنا إلى ربنا فليقض بيننا -أول ما ينصرفون إلى آدم يقولون: هذا آدم أبو البشر أبونا لعله يرحم حالنا ويشفع لنا عند الله- فيقولون: يا أبانا! استفتح لنا الجنة -هؤلاء المؤمنون- والناس يقولون: استشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا فليقض بيننا، فنريد الفكاك ونريد القضاء، الآن يطالبون بأن يبدأ الحساب، فالآن كل الطلب الذي يطلبونه أن يبدأ الحساب حتى ينتهي وتنفك الأزمة، يا آدم أنت أبو البشر أنت أبونا، يا أبانا، ويذكرون مناقبه لأنهم يطلبون منه طلباً يقولون: لك مكانة عند الله، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه وفي رواية: وأسكنك جنته، وعلمك أسماء كل شيء، أنت أبو البشر، وأنت اصطفاك الله، فاشفع لنا عند ربك، قال آدم: لست هناكم يقول: منزلتي دون المستوى المطلوب، أنا لا أستطيع أشفع، منزلتي دون مستوى الشفاعة، لست هناكم. فيريد أن يحولهم على غيره، لماذا لست هناكم؟ من باب التواضع يذكر خطيئته، مع أن الله غفر له لكن يذكر خطيئته التي أصاب وأنه أكل من الشجرة، ويذكر ذنبه فيستحيي ويقول: (إني أذنبت ذنباً فأهبطت به إلى الأرض، ويقول: هل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم آدم؟ ويقول: إني أخطأت وأنا في الفردوس فإن يغفر لي اليوم حسبي) ويقول: (إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإنه نهاني عن الشجرة فعصيت، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، ائتوا نوحاً).

طلب الناس من نوح أن يشفع لهم

طلب الناس من نوح أن يشفع لهم الناس يأتون نوحاً بعد آدم، فما هي مواصفات نوح؟ أول رسول بعثه الله إلى هذه الأرض، فيأتون نوحاً أبو البشرية الثاني فلا يوجد واحد بعد نوح إلا ونسبه ينتهي إلى نوح لماذا؟ لأن الله لما أهلك قوم نوح وهم البشرية في ذلك الوقت، هلكوا كلهم والطوفان عم الأرض كلها، نوح والذين آمنوا معه أنجاهم الله من الطوفان، الذين آمنوا معه ما كان لهم ذرية؛ لأن الله قال عن نوح: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ} [الصافات:77]، فإذاً نوح أبونا بعد أبينا الأول آدم، يعني: كل واحد من البشرية الذين جاءوا بعد نوح لابد أن يكون نسبه يرجع إلى نوح، ولذلك إذا نسبنا إبراهيم عليه السلام أو محمد عليه السلام فلابد أن نمر بنوح إلى آدم، أول رسول بعثه الله إلى هذه الأرض. (ائتوا عبداً شاكراً) الله سماه شاكراً فيأتون نوحاً، فيقولون: يا نوح! أنت أول الرسل إلى أهل الأرض وقد سماك الله عبداً شكوراً، يا نوح! اشفع لنا عند ربك، فإن الله اصطفاك واستجاب لك في دعائك، ولم يدع على الأرض من الكافرين دياراً، فهذا الذي يقوله أهل الموقف لنوح. الآن نوح هل هو رسول أم نبي؟ الجواب أنه رسول، بعثه إلى أهل الأرض بعدما وقع فيهم الشرك، آدم كان نبياً، ونوح كان رسولاً إلى قوم وقع فيهم الشرك، لما يذهبوا إلى نوح يقولون هذا الكلام فيقول: لست هناكم، ويذكر خطيئته التي أصاب، فيستحيي من ربه منها، ماذا يذكر نوح؟! يذكر سؤال ربه ما ليس له به علم لما قال بعدما غرق ولده، قال: {فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} [هود:45]، كأنه يقول: أنت وعدتني أن تنجي أهلي وابني من أهلي فلماذا لم ينجُ؟ وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين، قال: {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [هود:46]، فيذكر هذا الموقف يقول: هذا أنا سألت الله ما ليس لي به علم وفي رواية: (إني دعوت بدعوة أغرقت أهل الأرض) فكأنه يقول: أنا أخطأت بسؤال الله ما ليس لي به علم، وثانياً: الدعوة الآن التي دعوت بها واستجيبت أخشى الآن أن ليس لي دعوة تستجاب لأن الدعوة التي تستجاب استنفذت لما دعوت على أهل الأرض أن يغرقهم الله وأغرقهم، فأخشى الآن أن أدعو فلا أجاب، ما هي الخطوة التي تليها؟

طلب الناس من إبراهيم الشفاعة لهم

طلب الناس من إبراهيم الشفاعة لهم يقول موسى عليه السلام: (ائتوا إبراهيم الذي اتخذه الله خليلا -خليل الله- فيأتون إبراهيم ويقولون: يا إبراهيم! أنت نبي الله، وخليله من أهل الأرض، قم اشفع لنا إلى ربك، فيقول: لست هناكم ويذكر خطيئته التي أصاب فيستحيي من ربه منها، ليس ذاكم عندي، إني كنت قد كذبت ثلاث كذبات - قوله: إني سقيم، وقوله: بل فعله كبيرهم هذا، وقوله لامرأته: أخبريهم أني أخوك، ما منها كذبة إلا أنه يجادل عن دين الله وما قصد الكذب لأجل الكذب، وإنما أشياء قالها لينافح بها عن دين الله، يعني: كذب في سبيل الله وفي ذات الله، فيتواضع إبراهيم عليه السلام ويقول:- إنما كنت خليلاً من وراء وراء). فكأنه يقول: لست على منزلة الخليل الذي هو النبي صلى الله عليه وسلم، تواضع وقال: كنت خليلاً من وراء وراء وكأنه يقول: أنا أعطيت الوحي بواسطة جبريل، يحولهم على واحد آخر موسى، لماذا؟ يقول: كلمه الله بلا واسطة، أنا خليل من وراء وراء، أنا مكلم من وراء جبريل بواسطة موسى بدون واسطة اذهبوا إلى موسى. طبعاً الكلمات التي كذب بها إبراهيم عليه السلام كانت من المعاريض، لأنه لما قال: إني سقيم، يحتمل السقم الذي هو مرض، ويحتمل مرض البدن ويحتمل مرض النفس، مريض من كفركم وشرككم، شرككم سبب لي مرض النفس. ولما قال: بل فعله كبيرهم هذا هل هو أشار إلى إصبعه تورية، أو أنه أراد أن يسألوا هذا الصنم ويكون ذلك توبيخاً لهم عندما يرجعون إلى أنفسهم ويعلمون أن هذا الصنم لا يتكلم، كيف يسألونه؟ والملك الكافر لما أراد أن يأخذ زوجة إبراهيم، ولو أخبرتهم أنها زوجة إبراهيم يعلم أنه لا سبيل لأخذها إلا بقتل إبراهيم فيقتل إبراهيم، لكن إذا قالت: أخته قد يبقي على إبراهيم حياً ويخطبها منه، ولذلك قال: إذا سألك فقولي له إنك أختي، وهذه لها تأويل أنها أخته في الإسلام. فالثلاثة هذه من معاريض الكلام، لكن لما كانت صورتها صورة الكذب؛ لأن التورية الآن صورتها صورة كذب، لكنها في الحقيقة ليست بكذب، لكن الصورة صورة كذب، فلأن هذه الثالثة صورتها صورة كذب أشفق منها استصغاراً لنفسه عن الشفاعة، وخشي منها مع أنها توريات وليست كذبات. وتواضع إبراهيم عليه السلام وقال: أنما كنت خليلاً من وراء وراء، اذهبوا إلى واحد ليس من وراء وراء، موسى كلمه الله وأعطاه التوراة، كليم الله وكلمه تكليماً وقربه نجياً.

ذهاب الناس إلى موسى ليشفع لهم

ذهاب الناس إلى موسى ليشفع لهم بعد رفض آدم لطلب الناس بالاعتذار لهم، يأتون إلى موسى فيقولون: (يا موسى! أنت رسول الله فضلك الله برسالته وكلامه على الناس اشفع لنا، فذكر مثل آدم قولاً وجواباً) لكنه قال: (إني قتلت نفساً لم أؤمر بقتلها) يتذكر الكلام الذي صار، مع أن هذا قبل أن يكون نبياً، والذي قتله كافر قبطي من قوم فرعون ومع ذلك قال: إني قتلت نفساً لم أؤمر بقتلها لست هناكم، ويذكر خطيئته التي أصاب وهي قتل النفس فيستحيي ربه منها ويقول: (حسبي أن يغفر لي اليوم، حسبي، ائتوا عيسى روح الله وكلمته وفي رواية: عبد الله ورسوله وكلمته وروحه فإنه كان يبرأ الأكمة والأبرص ويحيي الموتى).

عيسى يدل الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم

عيسى يدل الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم موسى يخبر الناس بأنه قد قتل نفساً، ولا يريد من الله إلا أن يغفر له، ولا يستطيع أن يشفع للناس في بدء الحساب ويدلهم على عيسى عليه السلام فيأتون عيسى فيقول: لست هناكم، يقولون: يا عيسى! أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم ورح منه، وكلم الناس في المهد صبياً، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه، فيذكر مثل آدم قولاً وجواباً: لست هناكم لكن لم يذكر ذنباً. عيسى ما ذكر ذنباً لكن يقول: أنا لست على مستوى طلب الشفاعة لست بهذا المقام، لست هناكم، ويقول في رواية: (إني عُبِدت من دون الله، إني اتُخِذت إلهاً من دون الله) مع أنه ليس ذنباً منه ولا قصد ولا أراد ولا رضي، لكن يقول ذلك تواضعاً. الآن هؤلاء الأنبياء يقولون اليوم: إذا غفر لنا يكفينا، فما بال بقية الناس؟ ثم يقول عيسى عليه السلام: (ائتوا محمد صلى الله عليه وسلم فقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، انطلقوا إلى من جاء اليوم مغفوراً له وليس عليه ذنب وخاتم النبيين، أرأيتم لو كان هناك متاع في وعاء وقد ختم عليه، أكان يقدر على ما في الوعاء حتى يفض الخاتم؟) هل تستطيع أن تأخذ شيئاً من الوعاء من غير فض الخاتم، فيرجعون إلى هذا الذي قيل لهم أول من تنشق عنه الأرض، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وعندما يأتون إلى النبي عليه الصلاة والسلام يقول كما جاء في رواية: (إني لقائم انتظر أمتي يعبرون الصراط إذ جاء عيسى فقال: يا محمد! هذه الأنبياء قد جاءتك يسألون لتدعو الله أن يفرق جمع الأمم إلى حيث يشاء لغم ما هم فيه) فأين يكون النبي عليه الصلاة والسلام؟ عند الصراط ومعه لواء الحمد، بعدما تلف القضية على الأنبياء واحداً واحداً، عيسى مع الناس مع الأنبياء كلهم يتوجهون إلى الصراط، والنبي عليه الصلاة والسلام قائم ينتظر عند الصراط، فيطلب عيسى والأنبياء معه والناس جميعهم من النبي عليه الصلاة والسلام ويخاطبونه حتى أبوه إبراهيم، كما جاء في رواية (وأخرت الثالثة -يعني: دعوة النبي عليه الصلاة والسلام- ليوم يرغب إلي فيه الخلق حتى إبراهيم عليه السلام).

المقام المحمود للنبي صلى الله عليه وسلم

المقام المحمود للنبي صلى الله عليه وسلم كل الناس يذهبون إلى محمد عليه الصلاة والسلام ويطلبون منه طلباً واحداً؛ هذه هي مكانة النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا هو المقام المحمود، يوم تتطلع أنظار الخلائق وأنفسهم إلى النبي عليه الصلاة والسلام يريدون منه أن يشفع عند الله، حتى إبراهيم الخليل فيأتوني، فيقول: (أنا لها أنا لها) لا يقول: لست هناكم يقول: أنا لها أنا صاحبها وأنا الجدير بها، الله سبحانه وتعالى أذن لي بها، وأعطيت لي أنا، فأشفع حتى يكون الفرج بسببي وبطلبي وبدعائي لربي. فهذا المقام المحمود؛ لأن كل الناس يريدون الفرج، فكل الناس سيمدحون النبي عليه الصلاة والسلام على هذا الموقف، ويحمدونه على أنه كان السبب في تفريج كربتهم، فيحمده كل الخلائق عليه فهذا هو المقام المحمود، فالحمد لله الذي جعلنا من أمته، وهو أفضل نبي وهو الذي سيشفع. فيقولون: (يا نبي الله! أنت الذي فتح الله بك وختم وغفر لك ما تقدم وما تأخر وجئت في هذا اليوم آمناً وترى ما نحن فيه فقم فاشفع لنا إلى ربنا) وفي رواية عند ابن المبارك: (فيأذن الله لي فأقوم فيثور من مجلسي أطيب ريح شمها أحد، يقولون: قم فاشفع لنا إلى ربنا فيقول: أنا صاحبكم فيجوش الناس -النبي عليه الصلاة والسلام ماذا يفعل؟ يستأذن على ربه- قال: فأستأذن على ربي) وفي رواية: (في داره وهو على العرش سبحانه وتعالى أو الكرسي فيؤذن لي في الشفاعة) وقيل في داره يعني: الجنة دار كرامته وهي الجنة فيستأذن، قيل: أنه يستأذن أولاً في دخول الدار وهي الجنة، والله يدعو إلى دار السلام، وينتقل عليه الصلاة والسلام من مكانه في أرض المحشر في أرض الموقف إلى مكان آخر، ويتقدم ليسجد تحت العرش، فيدعو في مكان شريف ليس في موقف إشفاق وخوف والشمس والحر، يدعو في مكان شريف تحت العرش كما أن الدعاء في الأماكن المباركة من أسباب الإجابة، فالنبي صلى الله عليه وسلم يأخذ حلقة باب الجنة فيقعقعها فيقال: (من هذا، فأقول: محمد فيفتحون) وفي رواية: (فيقول الخازن: من؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت ألا أفتح لأحد قبلك فيفتحون لي ويرحبون). يقف بين يدي الله فيستأذن في السجود فيؤذن له فيخر ساجداً، وفي رواية: (أن جبريل يخرج إليه والله يقول لجبريل: ائذن له -ائذن لمحمد عليه الصلاة والسلام فيدخل- قال: فإذا رأيته وقعت له ساجداً) وفي رواية: (فيتجلى له الرب ولا يتجلى لشيء قبله) أول واحد يرى الله عز وجل عليه الصلاة والسلام، وفي رواية: (يعرفني الله نفسه ويتجلى لنبيه فأسجد له سجدة يرضى بها عني، ثم أمتدحه بمدحة يرضى بها عني). فإذاً يستأذن ويؤذن له، ويذهب إليه، ويتجلى له الرب فيراه فيخر ساجداً ويبدأ المدح والثناء على الله، وهذه السجدة كم طولها؟ الله أعلم، لكن لها مدة لأنه قال في الرواية: (فيدعني ما شاء الله ساجداً شاكراً له أمتدحه) وفي رواية: (فأقوم بين يديه فيلهمني محامد لا أقدر عليها الآن)، يعني: النبي صلى الله عليه وسلم لما حدثهم الحديث يقول: المحامد تلك لا أعرفها ولا أقدر عليها لكن في ذلك الوقت سيفتح علي ويعلمني ماذا أقول، فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجداً، وفي رواية: (فينطلق إليه جبريل فيخر ساجداً قدر جمعة). النبي عليه الصلاة والسلام إذا سجد وفتح الله عليه بمحامد يقال له بعد مدة: (يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعط، وقل يسمع، واشفع تشفع) فيرفع رأسه صلى الله عليه وسلم، قال: (فأرفع رأسي فأحمد ربي بتحميد يعلمنيه) وفي رواية: (بمحامد لم يحمده بها أحد قبلي ولا يحمده بها أحد بعدي) وفي رواية: (فيفتح الله له من الثناء والتحميد والتمجيد ما لم يفتحه لأحد من الخلائق) يعني: الآن نحن نعرف بعض الألفاظ التي فيها تحميد وتمجيد لله عز وجل مثل: سبحان الله والحمد لله، والله أكبر إلخ. هذه أشياء ما سبق أن أحداً قد دعا بها، أذكار جديدة وألفاظ جديدة، ما يفتح بها إلا على النبي صلى الله عليه وسلم، وطبعاً في أسماء الله سبحانه وتعالى لا نعرفها نحن نعرف: الفتاح، العليم، الرزاق، الكبير، المتعال، القدوس، السلام، في أسماء اختص الله بها نفسه لا أحد يعرفها، فماذا يحصل؟ الله يعلم رسوله أشياء، قد يكون منها أسماء الله تفرد بعلمها، وما نزلت في كتاب ولا على رسول، فإذاً الكلام سيكون في السجود وبعد السجود في محامد، في السجود يخر له ساجداً يمدحه ويثني عليه، وإذا رفع أتى بمحامد جديدة أخرى. ففي أشياء في السجود وأشياء بعد الرفع من السجود، فيقال: (يا محمد! فأقول: لبيك وسعديك والخير في يديك، والمهدي من هديت، وعبدك بين يديك، وبك وإليك، تباركت وتعاليت، سبحانك لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، سبحانك رب البيت، ثم أشفع -فأول محامد قبل الطلب، ثم يأتي الطلب- فأقول: رب! أمتي، أمتي، أمتي، فيحد لي حداً لا أتعداه). مثلاً: شفعتك فيمن أخل بصلاة الجماعة فيشفع فيهم ثم يقال: شفعتك فيمن أخل بالفرض الفلاني أو الواجب الفلاني، أو شفعتك فيمن ارتكب المحرم الفلاني، يقول: أقبل شفاعتك في هؤلاء ويحد لي حداً، وعلى هذا الأسلوب، هكذا يشفع النبي عليه الصلاة والسلام لأناس يخرجهم من النار فيدخلهم الجنة، فيقال: (أخرج من في قلبه مثقال شعيرة وبعد ذلك مثقال ذرة، ومثقال حبة من خردل، ولا أزال أتردد على ربي لا أقوم منه مقاماً إلا شفعت، فيشفع في كل من كان في قلبه مثقال حبة من حنطة، ثم شعيرة ثم حبة من خردل، فذلك المقام المحمود، ثم أخرجهم من النار).

وقفة مع شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة

وقفة مع شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة الشفاعة في الإخراج من النار متى تكون؟ تكون بعد التحول عن الموقف والمرور على الصراط وسقوط من يسقط في النار، ثم تأتي هذه الشفاعة، فالآن هناك شفاعة في انفضاض الموقف للحساب، وشفاعة للنبي عليه الصلاة والسلام لإخراج من دخل النار من أمته، هذه الشفاعة الثانية تكون بعد الأولى، فالثانية تكون بعد الصراط، الناس يتجهون إلى الصراط يسلكون عليه وينطلقون عليه ويسقط من يسقط، أناس دخلوا النار وهم من الموحدين تحصل هذه الشفاعة، وترسل الأمانة والرحم لعظمهما، الأمانة والرحم، على جنبتي الصراط يميناً وشمالاً (فيمر أولكم كالبرق) إلى آخره. فإذاً عندنا شفاعتان: شفاعة الإراحة من الموقف وينصرف الناس للحساب، ثم يمرون على الصراط ثم يسقط ويهوي من يهوي في النار، ثم يكمل من يكمل إلى الجنة، فتأتي بعد ذلك الشفاعة الثانية: وهي شفاعة الإخراج، وقد جاء في رواية: (ثم أمتدحه بمدحة يرضى بها عني ثم يؤذن لي بالكلام، ثم تمر أمتي على الصراط وهو منصوب بين ظهراني جهنم) وفي رواية: (يقول ربي عز جل: يا محمد! ما تريد أن أصنع في أمتك، فأقول: يا ربي عجل حسابهم) وفي رواية: (فأقول: أنا لها حتى يأذن الله لمن يشاء ويرضى، فإذا أراد الله أن يفرغ من خلقه، نادى مناد أين محمد وأمته فيتبعوه) وفي رواية: أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما يقول: (يا رب! أمتي أمتي، يقال: أدخل من أمتك من الباب الأيمن من أبواب الجنة من لا حساب عليه ولا عذاب وهم شركاء في بقية الأبواب). يا رب! وعدتني الشفاعة فشفعني في أهل الجنة يدخلون الجنة، فهذه شفاعة ثالثة، وعدتني الشفاعة فشفعني في أهل الجنة لكي يدخلون الجنة فيقول الله: (فقد شفعتك فيهم وأذنت لهم في دخول الجنة). فإذاً لا ينصرف الناس من الموقف للحساب إلا بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يدخل أحد الجنة إلا بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يخرج أحد من الموحدين من النار من أمة محمد عليه الصلاة والسلام إلا بشفاعته عليه الصلاة والسلام، فيما سبق إشعار بأن العرض والميزان وتطاير الصحف يقع في هذا الموطن. ينادي المنادي لتتبع كل أمة من كانت تعبد، فيسقط الكفار في النار، ثم يميز بين المؤمنين والمنافقين بالامتحان بالسجود عند كشف الساق، ثم يؤذن في نصب الصراط والمرور عليه فيطفأ نور المنافقين فيسقطون في النار أيضا، ً ويمر المؤمنون عليه إلى الجنة فمن العصاة من يسقط ويوقف بعض من نجي عند القنطرة للمقاصصة بينهم ثم يدخلون الجنة. فهذا الترتيب ذكره ابن حجر رحمه الله استخلاصاً من الأحاديث وهو ترتيب مهم، هذا الترتيب يفهم كيف ستكون الأمور يوم القيامة، فنعيده: يقول بعد الرواية الأخيرة: وفيه إشعار بأن العرض يعني: يعرضون على الله: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18] هناك عرض على الله تعرض فيه البشرية كلها، كل واحد هو وذنوبه وأعماله وكل شيء مكشوف، على صفحة مفتوحة {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18]، هذا العرض على الله، ثم يؤتى بالميزان وينصب وتوزن أعمال العباد: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان:28] ولا حسابكم أيضاً، في نفس الوقت يعني الله لا يعجزه شيء يحاسب الخلق كلهم كأنه يحاسب واحداً، ويقضي بينهم كلهم كأنه يقضي بين شخص وشخص، والميزان والوزن كل شيء يوضع.

ماذا بعد العرض والميزان وتطاير الصحف؟

ماذا بعد العرض والميزان وتطاير الصحف؟ فإذاً بعد العرض والميزان ماذا يحدث للصحف؟ تتطاير، فآخذ كتابه بيمينه وآخذ كتابه بشماله، بعد هذا يقال: لتتبع كل أمة ما كانت تعبد، فعباد الصليب يتبعون الصليب، واليهود يتبعون معبوداتهم، والوثنيون: من يعبد الشمس، ومن يعبد القمر، ومن يعبد الأشجار، ومن يعبد هبل، إلخ فكل واحد يتبع ما كان يعبد، وكل أمة تتبع ما كانت تعبد، هم والمعبودات في النار فإن كانت المعبودات ليست براضية، مثل: عيسى وعزير، عيسى عُبِدَ من دون الله وهو ليس معهم وإنما يتبرأ منهم يوم القيامة: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ} [المائدة:117] أما من عُبِدَ من دون الله وهو راض فيكون معه في جهنم أول واحد، طيب الجمادات الشمس والقمر في النار ما وجه إدخالها في النار؟ لتكون عذاباً على عابديها وتكون مما يسعر به النار فيزداد العذاب، ثم تبكيت وخزي للعابدين عندما يرون إلههم الذي كانوا يعبدونه في الدنيا صار معهم في جهنم. فإذاً العرض الميزان تطاير الصحف ثم ينادي المنادي في الموقف: لتتبع كل أمة ما كانت تعبد فيذهب كل كافر وكل مشرك إلى النار ويقعون فيها مباشرة، يسحبون إليها ويقعون فيها، من يبقى؟ يبقى الموحدون والمنافقون، المنافق -نفاقاً أكبر- مع أنه كافر فلا يذهب مع المشركين إلى النار في الدفعة الأولى، بل يبقى مع المؤمنين؛ لأن صورتهم كانت في الدنيا أنهم مع المؤمنين يتظاهرون بالإيمان، فيقال للبقية الموحدين: اذهبوا إلى الصراط ومعهم المنافقون.

الصراط ينصب على متن جهنم

الصراط ينصب على متن جهنم ينصب الصراط على متن جهنم يحطم بعضها بعضا، ويأمر الناس بالمرور عليها، ولا يوجد حل إلا المرور لا مخرج ولا مهرب ولا احتمال إلا المرور، فيمرون على الصراط. الصراط مظلم مدحضة مزلة فيه كلاليب وخطاطيف، أحدُّ من السيف، وأدق من الشعرة، المرور عليه يحتاج إلى نور حتى لا يسقط أحد، المنافقون يتبعون المؤمنين، والمؤمنون معهم أنوار فيظنون أنهم سوف يستفيدون من ضوئهم، فيضرب بسور بينهم وبين المنافقين فتحدث الظلمة على المنافقين، فلابد أن يسقطوا في النار، فيسقطون في النار، انتهى المنافقون، ألحقوا بالمشركين، تأخروا عن دخول النار عن المشركين لكن إذا دخلوا يذهبون إلى الدرك الأسفل من النار. فيبقى الموحدون عصاتهم ومتقوهم، فالعصاة والمتقون كلهم يعبرون الصراط واحد كالبرق، وآخر كالريح المرسلة، وبعضهم كأجاويد الخيل والركاب، والبعض يعدو عدواً، وفيهم من يمشي مشياً، ومنهم من يزحف زحفاً ويقوم ويقع ويقوم ويقع، وأناس يسقطون في جهنم، فناج مسلم، وناجٍ مخدوش، ومكردس في نار جهنم، فالناس الذي على الصراط ثلاثة أنواع: ناجٍ مسلَّم لا يصيبه شيء، أولياء الله والمتقون والطائعون وأهل الطاعة والدين لا يصيبهم شيء. وناجٍ مخدوش، الكلاليب والخطاطيف تخدشه على بعض أعماله ومعاصيه. ومكردس في نار جهنم، هذا النوع الثالث يسقطون في جهنم، يعذبون وتشملهم شفاعة النبي عليه الصلاة والسلام بعد حين، يعذب في جهنم إلى ما شاء الله فتدركهم شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعة المؤمنين وشفاعة الملائكة وشفاعة رب العالمين في النهاية فيخرجون، آخر واحد يخرج الذي يعطى بعد ذلك في الجنة عشرة أمثال أعظم ملك من ملوك الدنيا. الذين نجوا من الصراط عندما يعدون إلى الطرف الثاني لا يدخلون الجنة مباشرة، هناك قنطرة بين الجنة والنار يحبسون على الجسر، لأن بعضهم بينهم مظالم، صحيح أنهم نجوا لكن هناك من سيأخذ من حسنات الآخر، هناك مظالم ومقاصة، وهذه الحسنات سيستفيد منها الذي سيدخل وترفع درجته، هذا يكون أقل وهذا يكون أكثر، يحبسون على قنطرة بين الجنة والنار للمقاصاة، وهؤلاء هم الناجون، لكن الذي أخذ من سيئاتهم فطرحت عليهم ثم طرح في النار هذا أمره انتهى قبل هذا وسقط في النار، الآن أناس عبروا الصراط إلى الجنة يحبسون للمقاصصة بينهم، ثم يدخلون الجنة بعد ذلك.

دخول أهل الجنة الجنة وأهل النار النار وأحداث أخرى

دخول أهل الجنة الجنة وأهل النار النار وأحداث أخرى إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار فعند ذلك يذبح الموت بين الجنة والنار، والله عز وجل يضع قدمه في النار فينزوي بعضها على بعض ويزداد عذاباً على أهلها، والموحدون في النار قد احترقوا وماتوا، فيخرجون منها وهي الدفعة الأخيرة، يلقون في نهر بباب الجنة فيحيون ويدخلون الجنة على الصورة الحسنة. ويبقى أماكن في الجنة بعد دخول أهل الجنة الجنة ليس لها أصحاب، شاغرة! فيخلق الله أقواماً لم يعملوا شيئاً قط فيدخلهم الجنة من فضله ورحمته، أعني: يا ليتنا كنا منهم لكن جرى قدر الله ونحن في عالم التكليف الآن، فالأماكن التي نتجت عن خروج أناس من النار من الموحدين لا يستفيد منها أهل النار توسعة، لا. وإنما يضع الجبار قدمه فهذه الأماكن تفنى والنار تنزوي على المخلدين وتضيق عليهم زيادة ويزداد العذاب، والجنة بعد دخول آخر واحد يبقى فيها أماكن فالله يخلق أقواماً يدخلهم الجنة بفضله ومنته وكرمه. فهذا هو حديث الشفاعة الطويل وقوله في آخر الحديث: (لا يبقى إلا من حبسه القرآن) يعني: وجب عليه الخلود في النار؛ لأن الله قال: {فَحَقَّ وَعِيدِ} [ق:14] وأنه أخبر عن المشركين والكفار أنهم لا يخرجون منها فقال: {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر:48] هذا الذي حبسهم القرآن وقال تعالى: {فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} [الجن:23].

فوائد من حديث الشفاعة

فوائد من حديث الشفاعة في حديث الشفاعة المذكور والمشروح آنفاً فوائد كثيرة ومتعددة منها: أن الله سبحانه وتعالى يغضب، وأن ذلك من صفاته سبحانه، وفيه تفضيل للنبي صلى الله عليه وسلم على جميع الخلق؛ لأن الرسل والأنبياء والملائكة كلهم لا يستطيعون أن يقوموا هذا المقام إلا النبي عليه الصلاة والسلام فهو أفضل من كل الملائكة، وكل النبيين، وكل الخلق، محمد عليه الصلاة والسلام. في هذا الحديث أن السائل ينبغي أن يقدم بين يدي المسئول ثناءً حتى يجيبه، فإذا أراد الإنسان أن يسأل ربه يثني على ربه أولاً ولا يعجل يقول: أعطني مباشرة. يثني على الله سبحانه وتعالى أولاً ثم يسأل، يتحرى الزمان الفاضل والمكان الفاضل والأسلوب الحسن ثم يسأل. في هذا الحديث استشارة الناس بعضهم بعضاً يوم القيامة في الحل الذي سيكون من الكرب الذي هم فيه. وكذلك في هذا الحديث أن الناس في الآخرة لا يستحضرون كل المعلومات التي كانوا يعرفونها في الدنيا، مثلا: ً نحن نعرف أنها ستئول إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فهل يستطيع أحد بهذه المعلومة أن يذهب مباشرة إلى النبي عليه الصلاة والسلام، لا. ولذلك قالوا: إن الناس يغطى عنهم بعض ما علموه في الدنيا، ولو كانوا مستحضرين في الآخرة أن النبي عليه الصلاة والسلام هو الذي يبدأ منه الفرج والطلب كان ذهبوا إليه مباشرة، فإذاً بعض المعلومات التي نعرفها الآن لن تكون في الذهن يوم القيامة أو سنذهل عنها وستغيب عن البال، لأن الله ينسيهم إياها وذلك لإظهار فضل النبي عليه الصلاة والسلام. هذا من فوائد هذا الحديث العظيم، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا شفاعة النبي عليه الصلاة والسلام وأن يجعلنا ممن تبعه واقتفى أثره. وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

خصال مطلوبة في المرأة المسلمة [1، 2]

خصال مطلوبة في المرأة المسلمة [1، 2] المرأة تشكل نصف المجتمع وأكثر، وإهمال هذا الكم بغير توجيه وإرشاد أقرب إلى القصور والإفساد، وقد وقع هذا الإهمال فتأثر الكثير من بناتنا بثقافات الفتنة، ودعاة الدجال، فصارت بعضهن تجادل في المسلَّمات، ونتيجة لذلك قام الشيخ بهذه المحاضرة مذكراً بصفات المرأة المسلمة، ضارباً الأمثلة ومورداً الأدلة؛ لعل مستمعاً ينتفع، فاسمع تستفد

إهمال المرأة وأثره السيئ في المجتمع

إهمال المرأة وأثره السيئ في المجتمع الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أيها الإخوة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، نشكر لله الذي جمعنا وإياكم في هذا المكان، ونسأله سبحانه وتعالى أن نكون وإياكم ممن يتواصون بالحق ويتواصون بالصبر. الحقيقة أن موضوع المرأة موضوع مهم، ويكفي أن نقول في خطورة هذا الموضوع: إن أعداء الإسلام يهتمون بالمرأة أكثر من دعاة الإسلام، وأظن هذه الجملة كافية في توضيح الحال التي وصلت إليها المرأة في هذا العصر. إن المرأة المسلمة حتى تواجه هذه التحديات وحتى تحيا الحياة الكريمة الصحيحة على منهج كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم تحتاج إلى توعية وتذكير وتعليم وتفقيه ومتابعة وتربية إسلامية.

مدى اهتمام الإسلام بالمرأة

مدى اهتمام الإسلام بالمرأة الموضوع الذي سنتحدث عنه هو مجموعة من الصفات، أو مجموعة من الخصال المهم تواجدها في المرأة المسلمة، ولا بد أن نعلم أن المرأة قسيمة الرجل، وشقيقته في الشريعة، وهذا الدين نزل للمسلمين رجالاً ونساء، يقول الله عز وجل مبيناً مشاركة المرأة للرجل: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97]، وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب:35] فانظر ماذا بقي من أبواب الخير لم تشارك المرأة فيه الرجل؟ هم يقولون: المرأة نصف المجتمع، ومع قربنا من قيام الساعة فقد صرن أكثر من الرجال عدداً في المجتمع، والغريب أن يكون هناك قطاعٌ في المجتمع أكثر عدداً من الرجال ولا يهتم به مثل الاهتمام بالرجال، ولذلك لن نستغرب في ظل هذا الإهمال الحاصل لواقع المرأة أن تنشأ تيارات غريبة عن الدين غريبة عن المجتمع في واقعنا، وأن نجد أفكاراً منحرفة تتسرب إلى أذهان بعض النساء، وأن نجد بعض النساء بدأن المشاركة في أندية مشبوهة، أو تجمعات لأعداء الإسلام يراد من ورائها هدم الدين، وهدم الفضيلة والأخلاق، وهدم المجتمع المسلم، هناك أفكار بدأت تتسرب إلى عقول النساء، وبدأ التشكيك في أساسيات من الدين عند الكثيرات، وبدأت المناقشة فيها، يعني: التسليم لأوامر الله سبحانه وتعالى، وأنه لا يجوز للمسلم مطلقاً أن يناقش في أشياء في الدين من المسلمات، ولكن عندما يصل الغزو إلى مرحلة معينة تبدأ الأمور تتغير، وتبدأ المناقشات في قضايا مسلمة لم يكن أحد يتجرأ أن يناقش فيها، فمثلاً: قضية الحجاب من الأشياء المسلمة في الدين ولا يمكن أن يتكلم فيها، لكن صرنا الآن نسمع كلاماً عجيباً، ونقاشات غريبة حتى عند بعض فتيات الأسر الطيبة المعروفة بالعراقة في المجتمع، وتجد للكلام اتجاهات بعيدة عن الدين، حتى عادت مسألة الحجاب قضية يمكن أن يؤخذ فيها ويرد، وأن تطرح للمناقشة، وتخضع لرأي فلان وفلانة، وتسأل عنها الندوة الفلانية وتطرح على الصحف والمجلات؛ مع أنها قضية لا مجال فيها للرأي مطلقاً، لأن المسلم لا يمكن أن يكون له رأي في أحكام الله عز وجل، فلا يمكن أن يقول: أنا أرى كذا، ولا أرى كذا، وأنا أؤيد ولا أؤيد، فالقضية ليس فيها مجال للتأييد وعدم التأييد، ولكن البعد عن الله عز وجل وعدم الفقه في الدين صار يفتح الباب لمثل هذه الأشياء، فالمرأة هي نصف المجتمع وتلد لنا النصف الآخر؛ فهي أمة بأسرها.

جوانب في حياة المرأة تحتاج إلى دراسة

جوانب في حياة المرأة تحتاج إلى دراسة في نظري أن الاهتمام بالمرأة يجب أن ينصب على جهات متعددة، مثل: واقع المرأة والتعليم، المرأة والعمل، المرأة والحقوق الزوجية، المرأة والاختلاط، المرأة والحجاب، المرأة ودعاة التحرر، المرأة والعبادة، المرأة وتربية الطفل، المرأة وطلب العلم الشرعي، المرأة والزواج، المرأة والطلاق، المرأة الداعية إلى الله هذه بعض المواضيع التي لابد أن تطرح، ولا بد أن تفرد في مؤلفات، وتقام لها ندوات، وتفرد في بحوث، حتى يكون للمخلصات الواعيات، وللأزواج والآباء، وللإخوان المخلصين؛ يكون لهم منهج يستطيعون أن يؤدوه إلى بناتهم وأزواجهم وإخوانهم وأخواتهم، فالمسألة تحتاج إلى جهود مكثفة -وليست جهوداً فردية- تبذل من هنا وهناك. لابد للمرأة المسلمة أن تدرس الشخصيات النسائية المعروضة في القرآن والسنة، لابد أن تدرس مثلاً شخصية مريم، خديجة وآسية وفاطمة، وبنتا الرجل الصالح الذي زوج إحداهما لموسى، لا بد أن تدرس شخصية أم موسى، وبلقيس مع سليمان، وصحابيات مثل: أسماء أم أنس، خولة بنت ثعلبة، أم عمارة لابد أن تدرس قصة الإفك، بل حتى الشخصيات الكافرة، مثل: شخصية امرأة نوح، وامرأة لوط، أو التي حصل منهن فسق كامرأة العزيز. ولابد أن يركز على دور المرأة المسلمة في المجتمع، وأن يبرز لها أشياء: المرأة المعلمة المرأة كزوجة المرأة طبيبة المرأة أم المرأة خادمة لابد أن يبحث في هذه الأشياء.

خصال ينبغي أن تفهمها المرأة وتتصف بها

خصال ينبغي أن تفهمها المرأة وتتصف بها

القدوة وأهميتها للمرأة

القدوة وأهميتها للمرأة إن موضوع القدوة من الأمور المهمة للمرأة المسلمة، ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (خير نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية امرأة فرعون، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام). المرأة المسلمة لها صفات ذاتية، ولها خصال شخصية يعبر لنا عن هذه الصفات وهذه الخصال كلام عائشة رضي الله عنها في الصحيح، قالت: [ولم أر امرأة قط خيراً في الدين من زينب] هذه عائشة تقول مع أنها كانت ضرة لـ زينب -وسميت الضرة ضرة؛ لأنها تضر بمكانة الزوجة الأخرى- وكان بينهما منافسة؛ إلا أن هذه المنافسة لم تمنع عائشة رضي الله عنها من العدل في القول: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} [الأنعام:152]، فتقول عائشة رضي الله عنها: [ولم أر امرأة قط خيراً في الدين من زينب، وأتقى لله وأصدق حديثاً، وأوصل للرحم، وأعظم صدقة، وأشد ابتذالاً لنفسها في العمل الذي تصدق به، وتقرب به إلى الله؛ كانت تعمل بيدها لتتقرب إلى الله بهذا العمل، ما عدا ثورة من حدة كانت تسرع في الفيئة منها] فالتقوى إذاً من صفات المرأة المسلمة، وصدق الحديث، وصلة الرحم، والصدقة، وعمل اليد والتصدق منه، وإن كان فيها خصال غير حميدة مثل الحدة، فإن الرجوع منها يكون سريعاً. فهذه صفات عامة ذكرتها عائشة أم المؤمنين لنساء المسلمين، حتى يكون هناك وضوح، فهاهي عائشة رضي الله عنها تهدي لنا الخصال المهمة التي ينبغي أن تتوافر في المرأة المسلمة؛ لأن المرأة المسلمة إذا جهلت وظيفتها، وجهلت حدودها وما يجب عليها، وجهلت مكانتها في المجتمع حصل الخبط والخروج عن شرع الله عز وجل، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحصنت فرجها، وأطاعت بعلها، قيل لها: ادخلي من أي أبواب الجنة شئتِ) حديث صحيح رواه ابن حبان عن أبي هريرة. إذاً: فمجالات المرأة تختلف عن مجالات الرجل؛ الرجل قد لا يستطيع أن يدخل الجنة إلا بتحقيق صفات كثيرة، فإذا دعا داعي الجهاد فلابد أن يجاهد في سبيل الله، وعليه تحصيل النفقة لأسرته، وعليه أشياء كثيرة بل حتى في الدعوة إلى الله وإنكار المنكر يختلف مجال الرجل عن مجال المرأة؛ صحيح أن كليهما مخاطب بهذه الأمور، لكن طريقة الرجل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة تختلف عن النساء، فلو أن مجموعة من الرجال ذهبوا في رحلة أو في عمرة أو في أي مجال من المجالات، يستطيعون أن يمارسوا فيه حياة إسلامية قد لا تستطيع المرأة أن تعمل هذا العمل، الرجل يستطيع أن ينكر المنكر، ويذهب إلى الرجال في مكاتبهم، ويدخل عليهم، ويتكلم ويرفع السماعة ليخاطب فلاناً بالهاتف أياً كان من الناس؛ لكن المرأة لا تستطيع أن تذهب إلى الرجال في مكاتبهم لتنكر المنكر، أو أن ترفع الهاتف وتكلم من تشاء من المحررين مثلاً، أو أي شخصية تمارس سلوكاً منحرفاً وتنكر عليهم بهذا الانفتاح؛ فهناك إذاً حدود إذا جُهِلت حدثت تجاوزات غريبة وقد نسمع عنها في هذه الأيام!!

القرب من الله بالعبادة خصلة شريفة للمرأة

القرب من الله بالعبادة خصلة شريفة للمرأة من صفات المرأة المسلمة: تقوى الله عز وجل، والقرب من الله سبحانه وتعالى؛ فإن كثيراً من النساء يحصل عندهن تضايق من فترة الحيض والنفاس، وتشعر المرأة بأنها قد انقطعت عن عبادات عظيمة، فلا تستطيع أن تصلي ولا تصوم، والذي يكون قريباً من النساء، مثل: الأب من بناته، أو الأخ من أخواته، أو الزوج من زوجته يلمس تضايق المرأة عندما تأتيها العادة الشهرية، تتضايق لأنها انقطعت عن عبادات تريد أن تؤديها قد منعها من القيام بها الحيض أو النفاس الذي أتاها، ولذلك النفسيات الحساسة في النساء تجدها عندما تكون في فترة الطهر تشتد في العبادة، وتكثر من قراءة القرآن، وتكثر من صلاة النوافل، وتزداد في قضاء ما عليها من أيام الصيام الماضية، وصيام أيام أخرى نافلة استغلالاً للوقت، حتى إذا جاءت أيام العادة فإنها تكون قد صار عندها رصيد من الأعمال الصالحة التي لا تستطيع أن تؤديها في فترة الحيض والنفاس، وهذه الإحساسات مهمة عند المرأة، فلا تضيع الأوقات التي تستطيع فيها الصلاة والأوقات التي لا تستطيع فيها الصلاة، والحمد لله أن رخص بذكره تعالى على كل حال.

أهمية التقوى للمرأة المسلمة

أهمية التقوى للمرأة المسلمة إن التقوى مهمة للمرأة في كل المجالات في معرفة حقوق الزوج، وتربية الأولاد، وفي الإخلاص في العمل، تقوى الله عز وجل ينبغي أن تكون هيئة راسخة في نفس المرأة، فعن عائشة رضي الله عنها: (أنها اشترت نمرقة فيها تصاوير، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على الباب ولم يدخل، فعرفت في وجهه الكراهية، فقالت عائشة: يا رسول الله! أتوب إلى الله وإلى رسوله فماذا أذنبت؟) لاحظ حساسية المرأة المسلمة عندما تحس أن هناك خطأ قد حصل، فهي تبادر مباشرة إلى التغيير، تقول: (يا رسول الله! أتوب إلى الله وإلى رسوله فماذا أذنبت؟) فتسأل مباشرة عما أذنبت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما بال هذه النمرقة؟ فقالت: اشتريتها لك تقعد عليها وتوسدها) أي: اشتريتها لراحتك، ولاحظ أنها اشترت شيئاً لزوجها ليرتاح، هذه الدرجة عالية، فالعادة أن الرجال يشترون للنساء أشياء توفر أسباب الراحة لهن، لكن أن تشتري المرأة أغراضاً لزوجها لكي تريحه فهذا أمر عجيب لا تفعله كل النساء، فقد يكون عند المرأة مال، وقد تنزل إلى السوق في بعض حاجياتها، فيكون من الإحساس الطيب أن تشتري لزوجها في طريقها لذلك السوق وفي أثناء تجوالها شيئاً يفيده أو يحتاجه، وهذه من الأشياء التي تقرب بين الزوج وزوجته، وهناك علاقات كثيرة متفككة بين الرجال والنساء تمحو آثارها السيئة مثل هذه التصرفات؛ كهدية الزوجة لزوجها، أو أن تشتري له حاجة تريحه في البيت. قالت عائشة: (اشتريتها لك تقعد عليها وتوسدها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أصحاب هذه الصور يعذبون، ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم، ثم قال: إن البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة) إن حرص الرجل على إخراج المنكرات في البيت هذا الحرص مفتقد في كثير من البيوت اليوم؛ الرسول صلى الله عليه وسلم وقف على الباب، وما رضي أن يدخل حتى يزول المنكر من البيت، هذه المفاصلة المبنية على سلامة العقيدة وعمقها في النفس، ولما دخل بعض الرجال أول مرة، وقالوا: نزيله تدريجياً، ورفضوا المفاصلة من البداية؛ رضوا بالمنكر غصباً عنهم، قال: (أزيلي هذا) والمرأة المسلمة الطائعة التي تعرف حق الله تبادر إلى إزالة المنكر فوراً من البيت، والآن تجد منكرات كثيرة في البيوت والمرأة تتفرج عليها، وتستمتع بها وتتلهى، ولو أراد زوجها أن يزيلها لقلبت حياة زوجها شقاءً ونكداً؛ لأنها تريد هذه المنكرات في البيت، تقول: أنت تذهب وتدخل وتخرج، ويحصل لك عزائم وولائم، وأنا بماذا أتسلى، فاجعل لي هذه الأفلام موجودة في البيت، اشتر لي مجلات وضعها في البيت؟! فهذه ليست من أخلاقيات المرأة المسلمة. فأخذته عائشة فشقته مرفقين، فكان يرتفق بهما في البيت. المرأة المسلمة تسارع أيضاً إلى جعل الأشياء المحرمة أشياء مفيدة، تحاول أن تستفيد منها في حدود المباح، أخذت هذه النمرقة فشقتها وعملت منها مرفقاً يرتفق به. وحسن التصرف داخل البيت من الأمور المهمة للمرأة المسلمة. والورع والتقوى أيضاً مهم جداً في جوانب أخرى، منها مثلاً: مواجهة قضية الغيرة التي تحدث بين النساء، لو أن رجلاً تزوج بأكثر من واحدة فإن الغالب أن يكون بين زوجاته أو زوجتيه خصام ونكد، وخصام طويل، واتهامات متبادلة، وكلام من كل منهما في عرض الأخرى، ومحاولة جذب الرجل إلى جانبها، وإبعاد الزوج عن الزوجة الأخرى، كل واحدة تفعل هذا الفعل، لكن عندما يكون هناك تقوى لله عز وجل تختفي هذه التصرفات أو تخف جداً، ولذلك قالت أسماء رضي الله عنها في الصحيح: (جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن لي ضرة، فهل علي جناح أن أتشبع من مال زوجي بما لم يعطني؟) أي: أنا لي ضرة؛ فهل يجوز أن أقول للزوجة الأخرى: زوجي اشترى لي، زوجي أعطاني، زوجي أهداني، وَهَب لي زوجي، وكله كذب لكن تتفاخر بذلك، وهذا شيء يقع بين النساء، فالضرة تسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن حكم هذا العمل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور) أي: لو أن إنساناً تباهى أو تفاخر أو تظاهر أمام الناس بأشياء ليست فيه ولا يملكها ولا حصلت له؛ فإنه عند الله كلابس ثوبي زور، وليس ثوباً واحداً. والذي دفع المرأة لسؤال النبي صلى الله عليه وسلم هو التقوى، لو لم تكن عندها تقوى لتباهت وتفاخرت، لكنها جاءت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لتسأل تقول: ما هو الحكم في هذا الأمر الذي يقع كثيراً في أوساط النساء؟ التقوى مهمة في عدم تبذير مال الزوج، أو عدم أكل المال الحرام، أو عدم السرقة من أموال الزوج، وعدم أكل حقوق الآخرين. ذكر ابن الجوزي رحمه الله: أن امرأة من الصالحات كانت تعجن عجيناً، فبلغها وهي تعجن موت زوجها فرفعت يدها عنه، وقالت: هذا طعام قد صار لنا فيه شركاء، أي: أنه قد صار للورثة فيه حق. فإذاً: هذه الحساسية التي تجعل المرأة تفكر في أشياء دقيقة من الأمور؛ عن الحل والحرمة وعن الشبهة ناتجة عن واعظ الله في قلبها، وكلما قوي واعظ الله كلما ابتعدت عن الحرام وكانت أخشى لله عز وجل. تقوى الله عز وجل تدفع المرأة المسلمة إلى الاجتهاد في العبادة؛ والاجتهاد في العبادة كان من ديدن نساء الصحابة رضوان الله على الجميع، ولقد كانت إحدى أمهات المؤمنين تقف الساعات الطويلة في قيام الليل، وكانت زينب رضي الله عنها تجلس الساعات الطويلة بعد صلاة الفجر تذكر الله عز وجل، وحال النساء المسلمات الأوائل في عبادة الله عز وجل أمر مشهور لا يخفى على من كان له اطلاعٌ على حال الأولين. وعن زينب امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تصدقن يا معشر النساء ولو من حليكن، قالت: فرجعت إلى عبد الله فقلت: إنك رجل خفيف ذات اليد، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمرنا بالصدقة، فائته فاسأله، فإن كان ذلك يجزي عني وإلا صرفتها إلى غيركم، قالت: فقال لي عبد الله -زوجها-: بل ائتيه أنتِ) أي: أنا استحي أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، هل يجوز لزوجتي أن تتصدق علي أم لا؟ قالت: (فانطلقت فإذا امرأة من الأنصار بدار رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجتي حاجتها، قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ألقيت عليه المهابة، فخرج علينا بلال فقلنا له: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره أن امرأتين في الباب تسألانك: أتجزئ الصدقة عنهما إلى أزواجهما وعلى أيتام في حجورهما، ولا تخبره من نحن، فدخل بلال على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من هما؟ قال: امرأة من الأنصار وزينب) يعني: كلام غير معين، والرسول صلى الله عليه وسلم احتاج يعرف ما هو الواقع؛ لأن المفتي لا بد أن يعرف حال السائل حتى يفتي فيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أي الزيانب؟ فلم يجد بلال مناصاً، فقال: امرأة عبد الله بن مسعود، فقال له رسول صلى الله عليه وسلم: لهما أجران؛ أجر القرابة وأجر الصدقة) فقد تكون المرأة موظفة، أو قد يكون عندها مال من إرث ورثته، وقد يكون زوجها خفيف ذات اليد، بعض النساء تقول: أتبرع لـ أفغانستان، أتبرع لـ أفريقيا، أتبرع إلى كذا، وزوجي لا داعي أن أتبرع له لأنه لا أجر لي في ذلك، فتغفل بعض النساء عن هذا الأمر مع أن الزوج محتاج، أو عنده ما يكفيه لكنه مثلاً يحتاج إلى سيارة يتنقل بها، والسيارة ضرورية في هذا المجتمع، فإذاً يمكن أن تعطيه من عندها مالاً ولها أجران؛ أجر الصدقة، وأجر أنه زوجها وأقرب الناس إليها، فإن الزوج من زوجته أقرب إليها من أبيها وأمها، ولذلك فطاعة الزوج مقدمة على طاعة الأم والأب.

الصبر خصلة مهمة للمرأة المسلمة

الصبر خصلة مهمة للمرأة المسلمة من الصفات المهمة في المرأة المسلمة: الصبر؛ فبعض النساء قد لا يكون عندها صبر على زوجها، قد يكون زوجها، لا يستطيع أن يشتري لها الملابس التي تريدها، ويوفر لها الأثاث المنزلي الذي تريده، وقد تطالبه أن ينتقل بها إلى شقة أوسع أو بيت أكبر وهو لا يستطيع، فتتضايق وتتضايق حتى يصل الأمر بها إلى طلب الطلاق، وتقول: أنا غير مستعدة أن أعيش في هذا الجو، بنت عمي -مثلاً- عندها كذا، وبنت خالي أهدي لها كذا، وأختي زوجها أعطاها كذا، وأمي مصروفها من أبي كذا وكذا وأنت ما عندك، فإما أن تعطيني أو تطلقني، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (أيما امرأة سألت زوجها الطلاق في غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة)، وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (المختلعات هن المنافقات) أي: التي تريد أن تخالع زوجها بغير سبب، أما إن كان هناك سبب، كأن يكون الرجل سيئ الدين يضربها ضرباً مبرحاً فعند ذلك لا بأس عليها أن تطلب الطلاق؛ لأنها لا تستطيع أن تعيش في هذا الجو، ولو كان مسلماً فصبرها عليه ربما يكون خيراً لها، وخصوصاً إذا كان لها منه أولاد، فالصبر مهم جداً للمرأة. والصبر ثلاثة أنواع كما ذكر العلماء: 1 - صبر على طاعة الله. 2 - صبر عن معصية الله. 3 - صبر على أقدار الله.

صبر المرأة على الطاعة

صبر المرأة على الطاعة صبر المرأة على طاعة الله وعلى العبادات أمر مهم، وكذا صبرها على طلب العلم، وكان نساء الأنصار خير النساء لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين، وكذلك صبرها على المحرمات الكثيرة عن طريق الوسائل المنتشرة، فالمرأة عندما تخرج هذه الوسائل من بيتها، وتصبر على العيش في البيت بعيدة عن الناس إلى حد ما، وكثيراًَ ما تختلي بنفسها، وقد تخاف المرأة من الانفراد في كثير من الأحيان فتصبر، فصبرها على هذه الحالة فيه أجر عظيم صبرها على أذى زوجها فيه أجر عظيم صبرها على تربية الأولاد فيه أجر عظيم وصبرها على شقاوة الأولاد فيه أجر عظيم. الزوجة يقول لها زوجها: أنا تعبان؛ خذي الولد واخرجي من الغرفة أريد أن أنام، فتأخذ الولد وتخرج، أليس في ذلك مشقة على نفسها؟ بلى. فيه مشقة على نفسها، ولكن فيه أجر عظيم. الأولاد يتنازعوها من شتى الجهات، هذا يقول: أعطيني، وهذا يصرخ، وهذا يضرب الآخر، وهذا يريد من هنا وهذا يريد من هناك، وهذا يخرج، وهذا يمسك زر الكهرباء، وهذا يمسك السكين، وهذا يمسك المقص، وهذا يصعد فوق الكرسي وربما رمى نفسه، وهي تريد أن تلاحق هؤلاء كلهم، هذا الصبر على شقاوة الأطفال فيه أجر عظيم، إذاً فالصبر صفة مهمة للمرأة المسلمة تحتاج إليها في كثير من الأحيان. الصبر على سلبيات الزوج؛ قد يكون الزوج بخيلاً، قد يفتعل المشاكل في البيت لأتفه الأسباب أو بدون سبب، قد يكون الزوج ديكتاتورياً في البيت لا يسمح بالمناقشة، ويريد أن يفرض رأيه على زوجته بكل وسيلة، ولا يسمح لها بأي خيار من الخيارات المباحة، ويفاجئها بقرارات بين يوم وليلة، وقد يسبها ويشتمها ويرميها بألفاظ شنيعة، وقد لا يحسن عشرتها، يدخل من باب البيت ثم الحمام، ثم يغير ملابسه، ثم يذهب ليأكل، يأكل وربما أكل لوحده ولا يرضى أن يأكل معها، ويذهب إلى غرفة النوم وينام ولا يسأل عنها مطلقاً، ثم يخرج إلى أصحابه فيعاشرهم ويذهب معهم ويأتي، ليرجع آخر الليل إلى البيت وهي قلقة عليه لتأخره عنها دون أن يشعرها، وربما سافر دون علمها، بعض الأزواج عندهم هذه الصفات، فالصبر على سلبيات الزوج صفة لا ينبغي للمرأة أن تستهين بها؛ لأن فيها أجراً عظيماً لا يضيع عند الله عز وجل. كانت بعض نساء الصحابة تصبر على عدم الزواج بعد زوجها وفاءً له وإخلاصاً، لما مات أبو الدرداء خطب معاوية رضي الله عنه زوجته أم الدرداء، فامتنعت، فسأل عن السبب، فقالت: لأنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (المرأة لآخر أزواجها في الجنة) حديث صحيح، والحديث الآخر: (أنه إذا تزوج المرأة أكثر من زوج فإنها تكون في الجنة مع أحسنهم خلقاً) حديث ضعيف، فالحديث الصحيح إذاً: (أن المرأة لآخر أزواجها في الجنة) فلو تزوجت ثلاثة في الدنيا فهي في الجنة مع الثالث، ولو تزوجت أربعة في الدنيا فهي في الجنة مع الرابع، فـ أم الدرداء من محبتها لزوجها وإخلاصها له بعد موته صبرت عن الزواج مع تقدم الخطاب لها ومنهم الخليفة معاوية رضي الله عنه، لكنها رفضته وعنده من النعيم والملك شيء عظيم، وما ذكر ليس واجباً على المرأة إذا مات زوجها، بل يجوز لها أن تتزوج وخصوصاً إذا خشيت على نفسها، أو كانت شابة، أو كان عندها متسع من الجهد والإمكانيات، وربما يكون زواجها خيراً لها من بقائها لوحدها.

صبر المرأة عن المعاصي

صبر المرأة عن المعاصي المرأة قد يكون زوجها فاسقاً، يدخل عليها في البيت آلات اللهو، وآلات الطرب، والأفلام المحرمة، والمجلات الخليعة، وقد يأتي بأصحاب فساق، وقد يطلب منها أن تقدم لهم الضيافة، وأن تخرج إليهم، وقد يقاومها في الحجاب، وقد يشد حجابها عن رأسها، وقد يشتمها في الشارع ويعيرها؛ لأنها متحجبة أمام الناس نكاية بها وبحجابها، وقد يشرب الخمر، وإذا سكر قام بتصرفات مشينة. فالمجتمع فيه آفات، والشر انتشر فيه إلى درجة أن البيوت صار فيها من كثرة المشاكل ما الله به عليم، تقول بعض النساء: والله لا أريده، وما بقائي معه إلا من أجل أولادي فقط، أخاف إن انفصلت عنه أن يضيع الأولاد، ربما أخذ البنات ورباهن تربية سيئة ليخرجن فاسقات مثله، أنا لا آمن على البنات، لأنه ربما ضيعهن. والصبر مهم للمرأة أيضاً في طلب العلم، فالمرأة تحتاج إلى أن تتفقه في الدين، وأن تعرف أحكام الطهارة، وأحكام الحيض والنفاس، والمسائل المتعلقة بحجاب المرأة في الصلاة، وسجود التلاوة وأشياء كثيرة. المرأة الآن عندها مهمات الزوج والأولاد كلٌ من جهة، والطبخ في البيت، وغسل الملابس، وتنظيف الفرش والحائط وغير ذلك، فكيف تطلب العلم؟ كيف تفتح نفسها لطلب العلم؟ هذه مشكلة تحتاج إلى صبر حقيقة.

صبر المرأة على أقدار الله

صبر المرأة على أقدار الله المرأة قد تبتلى بزوجٍ يعتبر بلاء من الله، وقد تقع مصيبة كأن يموت زوجها وهي تحبه جداً، قد يموت ولدها وقد تكون متعلقة به جداً. عن أنس رضي الله عنه قال: [مات ابن لـ أبي طلحة من أم سليم] تأمل معي في كيفية التصرف وكيف عالجت الأمور؟ [فقالت لأهلها: لا تحدثوا أبا طلحة بابنه حتى أكون أنا أحدثه] أي: سأخبره بطريقتي الخاصة، قال: [فجاء ولا يدري عن الولد شيئاً، فقربت إليه عشاءً، فأكل وشرب، قال: ثم تصنعت له أحسن ما كانت تصنع قبل ذلك؛ فوقع بها] السؤال الآن: كيف يطيب للمرأة أن تتصنع وتتزين، وتدع المجال لزوجها ليقع عليها وعندها ولد ميت؟! هذا الفرق بين نساء الصحابة ونساء اليوم [فلما رأت أنه قد شبع وأصاب منها، قالت: يا أبا طلحة، أرأيت لو أن قوماً أعاروا عاريتهم أهل بيتٍ ثم قالوا: ردوا علينا عاريتنا التي أعطيناكم، ألهم أن يمنعوهم؟ قال: لا. قالت: فاحتسب ابنك] فانظر كيف دخلت عليه، أما اليوم فيعرف الرجال أن الولد قد مات من صراخ المرأة، بل بعضهن تنوح إذا جرح الولد وتصيح كأنه قد مات ثلاثة. فيا معشر النساء! انظرن الآن ودققن في تصرف أم سليم! فغضب أبو طلحة، فقال: تركتني حتى إذا تلطخت ثم أخبرتني بابني؟ فانطلق حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما كان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بارك الله لكما في غابر ليلتكما) يعني: بما حدث، قال: فحملت أم سليم من تلك الليلة، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر وهي معه، فلما عادوا إلى المدينة وقبل أن يصلوها ضربها المخاض فاحتبس معها أبو طلحة، وانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: يقول أبو طلحة: إنك لتعلم يا رب أنه يعجبني أن أخرج مع رسولك إذا خرج، وأدخل معه إذا دخل -وذلك من شدة محبة الصحابة للرسول صلى الله عليه وسلم، ويريد أن يكون ملتصقاً به- وقد احتبست بما ترى يا رب، تقول أم سليم بعد الدعاء مباشرة: يا أبا طلحة، لا أجد الذي كنت أجد فانطلق بنا فانطلقنا، ولما قدم المدينة رجع المخاض فولد غلاماً، قال أنس: فقالت لي أمي: يا أنس! لا يرضعه أحد حتى تغدو به على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أصبح احتملته فانطلقت به إلى رسول الله، قال: فصادفته ومعه ميسم، فلما رآني قال: لعل أم سليم ولدت؟ قلت: نعم، قال: فوضع الميسم، وجئت به فوضعته في حجره ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بتمرة فلاكها حتى ذابت ثم قذفها في فيِّ الصبي، لذلك أن من السنة أن يحنك المولود بالتمر عند ولادته يأخذ أبوه قطعة من التمر فيمضغها أو يعجنها حتى تذوب تقريباً ثم يضعها في فم المولود ويمررها على حنكه من الداخل فجعل الصبي يتلمظها، قال: فقال رسول الله: (انظروا إلى حب الأنصار التمر) أي: على الفطرة! خرج من بطن أمه وهو يحب التمر، قال: فمسح وجهه وسماه عبد الله. مهم للمرأة أيضاً أن تصبر على ما يصيبها من الأذى في سبيل الله، قد تضطر لأن تُخرج من بلدها، قد تفصل من مكان دراستها ظلماً وعدواناً، أو يحصل لها اضطهاد فيطردها زوجها من البيت، فتخرج من المكان الذي ألفته صابرة محتسبة. عن أبي موسى رضي الله عنه قال: [بلغنا مخرج رسول الله ونحن بـ اليمن، فخرجنا مهاجرين إليه] وكانت معهم أسماء بنت عميس، وذلك أنهم ذهبوا إلى الحبشة مع المسلمين الذين هاجروا من مكة إلى الحبشة حيث التقوا بهم، فقال لهم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه: [أنتم خرجتم إلى رسول الله، ونحن أرسلنا رسول الله إلى الحبشة أقيموا معنا] حتى قدموا جميعهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة سنة سبع للهجرة، وسمع عمر أن أسماء بنت عميس قالت كلاماً بعدما جاءوا من الحبشة إلى المدينة، فقال: [من هذه؟ قالت: أسماء بنت عميس، قال عمر رضي الله عنه: ألحبشية؟ أو قال: ألبحرية هذه؟] يعني: أتت عن طريق البحر، فقالت أسماء: نعم. فقال عمر: سبقناكم في الهجرة، فنحن أحق برسول الله منكم، فغضبت أسماء وقالت كلمة: قالت: كذبت يا عمر! كلا. لقد كنتم مع رسول الله يطعم جائعكم ويعظ جاهلكم وكنا في دار أو في أرض البعداء والبغضاء؛ في الحبشة، وذلك في الله وفي رسوله، وأيم الله لا أطعم طعاماً ولا أشرب شراباً حتى أذكر ما قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أن النجاشي تعرض لمحاولات عزله عن ملكه بعد أن أجار المسلمين، وانقسمت الحبشة على نفسها، وكان الصحابة يخافون؛ لأنه لو غُلِب النجاشي فلا أحد يحميهم؟ والقصة ذكرها الذهبي في السير، لكن ما أقوله هنا هو حديث في الصحيح، وعندما نقول: في الصحيح، فإما أن نعني البخاري ومسلم، أو أحدهما، أو أنه على شرط الحديث الصحيح، وإن لم يرد في البخاري ومسلم. قالت أسماء: وسأذكر ذلك لرسول الله وأسأله، ووالله لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد على ذلك. تأمل أمانة المرأة المسلمة، ودقتها في النقل، مع أن النساء تجمح بهن العاطفة والمبالغة والتهويل، فينقلن الخبر أكثر مما كان عليه، كما قال المحدث عن أهل الكوفة: يأتي إليهم الحديث شبراً فيخرج من عندهم ذراعاً. أو أنهن يهولن القصة ويعظمن الحدث حتى يظن السامع أن الدنيا قد قامت ولم تقعد، وهذا من طبع النساء، لكن المرأة المسلمة دقيقة في نقل الأخبار لا تزيد عليها، ولا تتسرع في استنتاجاتها الخاصة، فتقول: حصل كذا، ولا تهول الموضوع، بل تنقله بدقة. تقول أسماء: ووالله لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد على ذلك، قال: فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: يا نبي الله! إن عمر قال: كذا وكذا، فقال رسول الله: (ليس أحق بي منكم، وله ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أهل السفينة هجرتان) من اليمن إلى الحبشة، ومن الحبشة إلى المدينة، قالت: [فلقد رأيت أبا موسى -وهو من أصحاب الهجرتين وأصحاب السفينة- يأتوني أرسالاً يسألونني عن هذا الحديث ما من الدنيا شيء هم به أفرح ولا أعظم في أنفسهم مما قال لهم رسول الله] قال أبو بردة: قالت أسماء: [ولقد رأيت أبا موسى وإنه ليستعيد هذا الحديث مني] أي: يقول: أعيدي علي أعيدي علي؛ لأن فيه: إنكم أصحاب السفينة لكم هجرتان.

التضحية من صفات المرأة المسلمة

التضحية من صفات المرأة المسلمة من صفات المرأة المسلمة كذلك: التضحية، فالمرأة المسلمة قد تضحي بنومها من أجل أولادها قد تضحي براحتها من أجل زوجها قد تضحي بشيء من نفقتها المستحقة لها على زوجها المرأة المسلمة تراعي زوجها إذا كان قليل المال فلا تطلب منه أشياء لا يستطيعها، قد يجمع مالاً لشراء سيارة، لا تقول له: عندك مال اشتر لي ثياباً، رأيت فستاناً في محل كذا أريد أن أشتريه، وأدوات الزينة والتجميل. المرأة المسلمة تراعي زوجها فتضحي بشيء من حقها، وتضحي بمالها على زوجها، وتضحي براحتها وتضحي ببدنها ووقتها من أجل زوجها. كثير من الزوجات اللاتي منَّ الله عليهن بالهداية وتزوجن من رجال مستقيمين، الرجل المستقيم له متطلبات كثيرة إذا كان داعية إلى الله أو طالب علم، عليه مسئوليات كثيرة متعددة، دعوته إلى الله ستجعله يبذل من وقته وماله كثيراً، لا بد أن يذهب هنا وهناك، ويحضر جلسات وحلقات علم، ويعلم غيره ويخرج مع غيره. وهو إذا كان طالب علم قد يدخل مكتبته الخاصة ويقفل عليه الباب ويجلس يقرأ بعيداً عن ضجة الأولاد، وبعيداً عن المؤثرات. وقد يكون رجلاً يستغل الكرم في الدعوة إلى الله، فيدعو الناس ويدعو أصحابه وزملاءه على ولائم وعلى غداء وعلى عشاء، وهذا كله فوق رأس من؟ المرأة هي التي ستطبخ لهم، وتلحق العزيمة وراء العزيمة، وزوجها يرجع متأخراً في الليل تعبان وقد لا يكلمها وينام مباشرة، ماله قد ينفق في أشياء أخرى من الطاعات غير النفقة على الزوجة، أو التوسيع على الزوجة. إذا جلس في البيت قد ينشغل بقراءته الخاصة، أو بأبحاثه، ويدخل إلى البيت متعباً ينام قليلاً يطلب الغداء، وبعد العصر مثلاً قد يذهب إلى مشوار، وبعد المغرب يأتي إلى هناك، وبعد العشاء يكون عنده عمل إلخ. أيها الإخوة: المشكلة أن العصر الذي نعيش فيه عصر بعد عنِ الله، وعصر البعد عن الله يطلب من المسلمين مضاعفة الطاقات والجهود، ولا شك أن الرجل في أيام السلف كان عنده وقت لأهله أكثر من الرجل في هذا العصر، لماذا؟ لأن المنكرات كانت في الأول قليلة، والطيبون كثر، والمجتمع الإسلامي نظيف، وليست هناك هذه الثغرات الكثيرة الموجودة الآن التي تتطلب السد المرأة إذا لم يكن عندها تضحية ستتضايق من زوجها حتى ولو كان زوجها مستقيماً. تقول: إنما تزوجتك لتقعد معي أريدك أن تخرج بي أريدك أن تأخذنا في جولة أنا والأولاد أريدك أن تذهب بنا مثلاً إلى منتزه فلان وإلى البر وإلى كذا أريد منك أن توصلني إلى أهلي كل يوم كذا أريد منك أن توصلني إلى صويحباتي وصديقاتي أريد أن أزورهم، وأنت مشغول عني لا تجلس معي ولا تكلمني تأتي متعباً وتنام مباشرة، وما عندك وقت أن تذهب بي في زيارات، وتفاجئني بالولائم والعزائم رن التلفون استعدي خمسة أنفار استعدي عشرين نفراً، وهي قد تتضايق وما عندها الحاجيات الكافية، وهو يقول: عجلي بسرعة الضيوف وصلوا، وهو لم يأتِ بالمصاريف، وهذه الحياة المعروفة فلا يخفى عليكم. فالمرأة لا بد أن تكون صاحبة تضحية، بعض النساء الحقيقة الله يجزيهن الخير على صبرهن، فعلاً هي في تضحية ليست سهلة، هي الآن تعبت وشقيت ووضعت الطعام، يأتي وبسرعة افتحي الباب ويأخذ الباب ويمشي ولا يكلمها كلمة شكر واحدة، والمرأة تتأثر هو الآن فاجأها، أو بدون اتصال، جاء ودخل البيت وعندي الآن أناس، وتشتغل وتعمل ثم يأخذ الأكل وفي الأخير يتكلم مع الناس ويمكن يذهب معهم، ويقول: اجمعي السفرة، أو يدخل لها السفرة على البيت بقضها وقضيضها وأحياناً لا يقول: جزاكم الله خيراً، وأحسن الله إليكم، وأنت اليوم بيضت وجهي عند الضيوف، المفروض أن نقولها، وهي كلمة لطيفة ملاطفة مكافأة لزوجته، اذهب بها وروح عنها عند أهلها أو عند إحدى صديقاتها. أحياناً من الأخطاء: يضع الإنسان زوجته عند عائلة ويذهب مشواراً ويرجع الساعة الحادية عشرة ونصف في الليل أو الثانية عشرة في الليل، والزوجة محرجة من أصحاب البيت، والزوج تأخر. التصرفات مثل هذه كثيرة جداً ولكن المرأة المسلمة التي تضحي في ذات الله وفي سبيل الله مأجورة أجراً عظيماً، والغربيون يقولون: الجندي المجهول، والمرأة في كثير من الأحيان لا نقول: الجندي المجهول، إنما نقول: (إن الله يحب العبد التقي النقي الخفي، إذا غابوا لم يفتقدوا) (طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع). بعض النساء في بعض البيوت مع بعض الرجال حالهم مثل هذا الحال، نسأل الله أن يأجرهن أجراً مضاعفاً. والمرأة تقول أحياناً للرجل: أنت تعلم غيرك، وأنت تنصح غيرك يا زوجي انصحني أنا، علمني أنا ولو كلمة واحدة من هذه الأشياء التي قرأتها، أنت تسمع الآن أعطنا ما نسمعه، وهو قد يهمل في هذا الجانب، وهو شيء موجود عند الرجال مع الأسف. فالمرأة عندما تصبر على هذا وهي ستقرأ وستسمع بنفسها، وأحياناً زوجها يقرأ وهي سألته سؤالاً أخري عني لا تقطعي حبل أفكاري، فمثلما أنك تعلم غيرك علم زوجتك، فعندما تصبر الزوجة على هذا الصدود من زوجها لم يضع هذا الأجر والعمل عند الله إن شاء الله.

احتساب المرأة المسلمة

احتساب المرأة المسلمة الاحتساب: هو أن تحتسب المرأة المسلمة كل الأشياء التي تفعلها عند الله عز وجل، أن تطلب الأجر من الله وحده، إخلاصها لله سيدفعها إلى أن تحتسب هذه الأمور، والشعور بعظم الأجر وفضل الاحتساب، وما لها عند الله لو صبرت هذا سيدفعها إلى عدم التذمر وعدم التضايق ممن كان هذا حاله مما وصفنا قبل قليل. وأذكر الآن حديثاً صحيحاً أيضاً يبين لنا بجلاء كيف كن نساء الصحابة رضوان الله عليهن يتحملن المشاق في الصبر على الشدائد، ومساعدة الزوج، والوقوف بجانبه، وألفاظ الحديث كافية في التعبير بدون زيادة. في الصحيح عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: (تزوجني الزبير وما له في الأرض من مال ولا مملوك ولا شيء، غير ناضح -الجمل الذي يسقى عليه الماء- وغير فرسه، فكنت أعلف فرسه وأستقي الماء وأخرج به غربه -والغرب هو الدلو الذي يصنع من جلد الثور- وأعلف -تصور الآن تعلف الفرس وتسقي الماء وتخرز الدلو- وتعجن -كل هذه الأشياء وهي تتطلب جهداً كبيراً جداً- ولم أكن أحسن الخبز وكان يخبز جارات لي من الأنصار وكن نسوة صدق وكنت أنقل النوى من أرض الزبير الذي أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسي -تنقل النوى على رأسها- وهي مني على ثلثي فرسخ، فجئت يوماً والنوى على رأسي، فلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نفر من الأنصار، فدعاني ثم قال: إخ إخ -وهي الكلمة التي تقال للبعير- حتى نزل ليحملني، فاستحييت أن أسير مع الرجال وذكرت الزبير وغيرته، وكان أغير الناس، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أني قد استحييت فمضى، فجئت الزبير فقلت: لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى رأسي النوى ومعه نفر من أصحابه، فأناخ لي أركب فاستحييت منه وعرفت غيرتك، فقال الزبير: والله لحملك النوى كان أشد علي من ركوبك معه -يعني كلمة ملاطفة صحيح أنه شيء شاق- قالت: حتى أرسل إلي أبو بكر -أي: لا زالت على هذه الحال- حتى أرسل إلي أبو بكر بخادم يكفيني سياسة الفرس فكأنما أعتقني). فانظر إلى هذه المرأة التي تعمل كل هذه الأعمال وتتعب كل هذا التعب خدمة لزوجها، هذا من الذي يعمله، لو قلنا لرجل يعمله والله لا يعمله، لا يقوى عليه رجل تعمله هذه المرأة، ثم انظروا رحمكم الله إلى هذا التعاون بين النساء، تقول أسماء رضي الله عنها: (ما كنت أعرف أخبز فكن نساء الأنصار يخبزن لي، وكن نسوة صدق) وهذا مهم جداً أن يوجد هذا المجتمع النسائي، تعاون على طلب العلم، ومن أجمل الأمثلة التي نسمعها أحياناً عن بعض النساء اللاتي يطلبن العلم كل واحدة معها أطفال، والأطفال إذا صرخوا لا تسمع ولا واحدة من النساء شيء في حلقة العلم، فيتعاونَّ فيوم تمسك الأولاد فلانة، ويوم آخر فلانة، والحلقة التي بعدها تمسك الأولاد فلانة، واحدة تضحي والباقيات يستمعن وينصتن ويتعلمن، ويأتيها الدور وهكذا تعاون. وواحدة من الأمثلة الجميلة: جارات مثلاً سمعن أن فلانة عندها اليوم وليمة كبيرة، فذهبن مباشرة، هذه تطبخ لها في بيتها صنفاً وتأتي به، وتلك تساعدها في بيتها، هذه تفعل وهذه تضع، وهذه تصب، ببساطة توزع العمل، وكل واحدة من النساء زوجها عنده وليمة، فهذه مجموعة تساعد بعضهن بعضاً في هذه الأشياء، فإذاً حياة التعاون مهمة، وبعض الرجال يعزلون نساءهم عن النساء الأخريات، حتى إن المسكينة قد لا تجد من يعينها ومن يشد من أزرها ويساعدها، المفروض أن المرأة لها جارات طيبات، أخوات طيبات، زميلات طيبات، إذا احتاجت لا يكلفها الأمر سوى اتصال: عندي كذا، فتأتي المساعدة مباشرة، هذه الحياة لا بد أن تكون هكذا.

الهمة العالية

الهمة العالية كذلك المرأة المسلمة تحتاج إلى صفة الهمة، لماذا الهمة؟ لأنه مع مشاكل الزوج والبيت والأولاد وأحياناً الحمل والرضاع هذا يأخذ الكثير من الجهد والمشقة، إذا ما كان عندها همة مع هذه الأشياء قد تكثر، وقد يضيع أكثر وقتها في النوم، وهذا ما يحصل عند الكثيرات، أكثر الوقت هو وقت النوم، والراحة والتمدد والاسترخاء، إذا لم تكن عند المرأة همة فلن تستفيد المرأة من وقتها، فلا بد من الهمة. أيضاً بالنسبة للاحتساب: بعض النساء لا يفكرن في احتساب الأجر على الحمل والرضاع، تقول: والله هذا كتب الله علي، وتصبر على مضض وهذا حتى يأتي الولد، وقد يكون زوجها ممن يحب الأولاد الواحد تلو الآخر، والمرأة تتعب جداً، فإذا احتسبت كل أنة من أنات الولد، وكل رضعة ترضعه إياه، وكل قومة يوقظها في منتصف الليل وهو يصرخ، فلا يضيع عند الله ولا يذهب هباءً منثوراً، لكن ما الذي يجعل الأجر يثبت؟ الاحتساب والنية الصالحة.

القناعة بالقليل

القناعة بالقليل وكذلك القناعة من الصفات المهمة: أن تقنع المرأة بما رزقها الله، وبما يجلبه الرجل من الأشياء إلى البيت، وبأثاث البيت، ولا تطالب بالمزيد، فالقناعة كنز فعلاً، والذي عنده امرأة قنوعة فإن عنده كنزاً قد لا يقدر بقيمة، ولن يحس بعظم المرأة التي عنده حتى يذهب إلى زوجة أخرى، إذا فقدها جاءه الويل من غيرها، قال: والله تلك زوجتي كانت فعلاً امرأة قنوعة، هذه تتطلب وتتطلب وتتطلب وتلك ما فتحت فمها بشيء، الذي آتي به إلى البيت تعمله، وإذا عرضت عليها شيئاً لأشتريه لها توافق. والحديث الصحيح عن جابر بن عبد الله قال: دخل أبو بكر رضي الله عنه ليستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد الناس جلوساً ببابه، لم يأذن لأحد منهم، قال: فأذن لـ أبي بكر رضي الله عنه فدخل، ثم أقبل عمر رضي الله عنه فاستأذن فأذن له، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم جالساً حوله نساءه واجماً ساكتاً، قال: فقال لأقولن شيئاً أضحك النبي صلى الله عليه وسلم -الواحد إذا دخل على واحد مغموم لا يزيده غماً، وإنما يحاول أن يبسط أساريره، وأن يروح عن نفسه ما هو فيه، فقال عمر: (يا رسول الله! لو رأيت بنت خارجة -يعني زوجته- سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: هن حولي يسألنني النفقة، فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها، وقام عمر إلى حفصة بنته يجأ عنقها، كلاهما يقول: تسألن رسول الله ما ليس عنده؟ قلن: والله ما نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً أبداً ليس عنده). الزوج أحياناً يحتاج إلى تأييد أقارب الزوجة، هذه من أهم الأشياء على أقارب الزوجة أن يراعوا الرجل، لو رأوا أن ابنتهم تطلب الكثير عليهم أن ينصحوها، يا فلانة، هذا ليس في مصلحتك، هذا الكلام قد يغضب الرجل ويأتي بتصرف لا تحمد عقباه، قد لا يستطيع غداً أن يعيش معك. وبالذات من النساء مثل كلام الأم مع ابنتها في هذا الموضوع أشد تأثيراً من كلام الرجل مع ابنته المتزوجة، وكلام الأخت لأختها كذلك، فعلى النساء أن ينظرن إلى هذه المسألة بعين الاعتبار.

الحنان والشفقة على الزوج والأولاد

الحنان والشفقة على الزوج والأولاد من الأمور المهمة والصفات: صفة الحنان والشفقة: المرأة القاسية القلب الفضة الغليظة يمقتها ربها سبحانه وتعالى كما يمقتها البشر أيضاً، وحدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً في الصحيح قال: (ودنت مني النار حتى قلت: أي رب! فإذا امرأة تخدشها هرة) -النبي صلى الله عليه وسلم أراه الله النار فيها امرأة تخدشها هرة في وجهها- (قلت: ما شأن هذه؟ قالوا: حبستها حتى ماتت جوعاً، لا أطعمتها ولا أرسلتها تأكل من الخشاش) فإذاً المرأة إذا كانت فضة وغليظة تقسو على الرجل، وتقسو على الأولاد، وعلى الحيوانات والجارات والأخوات، فإن الجميع سينفر منها ويكرهونها، ومن الصفات المهمة وجود الحنان، والحنان صفة المرأة لأنها مجبولة عليه، لا يزول إلا إذا طبع الله على القلب. ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (خير نساء ركبن الإبل صالح نساء قريش؛ أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده) ليس هناك أشد منهن حناناً على الولد في الصغر، ولا أشد رعاية لمال الزوج ولممتلكات الزوج. وهذا الحديث رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم عن أبي هريرة، وله قصة: أنه عليه الصلاة والسلام خطب أم هانئ فاعتذرت بكبر سنها وأنها أم عيال، فرفقت بالنبي صلى الله عليه وسلم ألا يتأذى بمسنة، قالت: أنا مسنة لا أدع الرسول يتأذى بمسنة، ولا بمخالطة أولادها، لأن الرجل لو أتاه أولاد من امرأة أخرى ليس مثل أولاده مهما كان، صحيح أنهم ليسوا أولاده لكن لا يعني هذا أن يعاملهم بالفضاضة والغلظة، يعني بعض النساء مسكينة عندها أولاد من زوج آخر، ثم تزوجها رجل وضم الأولاد إليه لكن لا يعطف على الأولاد، ولا يعامل أولادها من الزوج الآخر بمثل أولاده، وربما يشتري لأولاده هدايا، وألعاباً، وأشياء ويترك أولادها، يا أخي هؤلاء أيتام، وهؤلاء قد يكون أبوهم طلق المرأة ظلماً، أنت ضمهم إلى أولادك يأجرك الله عز وجل. والحنان من الأشياء التي فقدها النساء خصوصاً في المجتمع الغربي، وأنا أنقل لكم هذا الكلام من امرأة والفضل ما شهدت به الأعداء، أو قل: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا، هذه مريم كوربي وهي سيدة هولندية وأم لثلاثة أطفال تقول: زوجي يعمل من الثامنة صباحاً وحتى السادسة مساءً، وأنا أعمل من الثامنة صباحاً حتى الواحدة ظهراً، أعتقد أننا في حالة مادية معقولة، ونسكن في شقة جيدة، ويبدو أن هذا لا يكفي، فثمة تشققات هائلة داخل العائلة، لكأننا من عالم غريب مختلف عن عالم أطفالنا، أنا وزوجي نجتر بعض الحنين السابق، وبعض التفاعل السابق، الأمر لأطفالنا مغايرٌ تماماً، قد أكون مخطئة لكنني أشعر بحدس الأم أن أطفالي ملوثون بيأس خاص أعتقد أنه استوطن بقوة في اللاوعي، إنني لا أفهم الدافع لذلك، فهم يتابعون دروسهم في المدرسة، كما أنهم يشاهدون التلفزيون كل مساء، ولقد سألت أحد الأصدقاء وهو أستاذ في علم النفس عن هذه الحالة، فأجاب أن ملاحظتي هذه مجرد خيال، وأن الأطفال في صحة حضارية جيدة -انظر الكلام الفاضي؛ الأطفال في الغرب بهذه النظرة، ما دام عنده مدرسة وبيت ومال وحاجيات، وعنده وسائل اللهو واللعب، فهو لا يحتاج أكثر من ذلك- كلمة حضارية هذه هي التي أفزعتني، فأنا أعتقد أن أولادي ككل الأولاد الآخرين، يعانون حصاراً ما، إنني لا أفهم، كل ما أستطيع أن أقوله هو أن الحنان الذي أقدمه لأطفالي لا يكفيهم على ما يبدو، لا يمكنني أن أقدم أكثر من ذلك، وأعتقد أننا نبني جيلاً يكرهنا بالضرورة. فعلاً الحنان هو السر، السر في كل الكلام، هذه الجملة الأخيرة التي قالتها: كل ما أستطيع أن أقوله هو أن الحنان الذي أقدمه لأطفالي لا يكفي. ولذلك فإن خروج المرأة من بيتها دمار، وعملها خارج البيت دمارٌ على دمار، وانشغالها عن بيتها وعن أطفالها مصيبة، والآن مع وجود مشكلة الخادمات هذه صار الطفل يتعلق بالخادمة أكثر من أمه، الأم الآن صارت تقرف أنها تغير لولدها -أعزكم الله- اذهبي يا خادمة غيري له، الرضاعة يرضع من النيدو، وصار الجيل جيل النيدو محروماً من إرضاع الأم، وحنان الأم، فالخادمة هي التي توقظه، وهي التي تلبسه للمدرسة، وهي تستقبله من المدرسة، وهي التي تصنع له طعامه، وهي التي وفي النهاية وصلنا إلى مستوى عجيب. واحد من إخواني يقول: ذهبت العائلة إلى المطار الأم والأب والولد والأولاد لأن الخادمة تريد أن تسافر، يقول فلما ذهبت الخادمة إلى صالة السفر ودخلت الأطفال بدأوا يبكون بشكل عجيب في صالة المطار، والذي يخلع يده من أمه، والذي يصيح، والذي متأثر جداً؛ لأن الخادمة تريد أن تسافر، والله لو أمه تريد أن تسافر ما سأل عنها، لأن الخادمة كل شيء، ومهما كانت الخادمة لن تعطي الحنان للطفل مثل الأم، فالآن هذه مشكلة اجتماعية خطيرة، صحيح أن الخادمة قد تنظف البيت، وتغسل الصحون، وتعتني بكي الملابس، لكن الأشياء المتعلقة بذات الطفل والزوج ينبغي على الأم أن تشتغل بنفسها في هذا الجانب، كل شيء تصنعه الخادمة، وفي النهاية الأم تقول: مع السلامة، قبلة باردة تطبعها على الوجه ويكفي، من أين له أن يحس بالحنان؟

الحياء المطلوب من المرأة المسلمة

الحياء المطلوب من المرأة المسلمة كذلك من الصفات المهمة للمرأة: الحياء؛ الحياء صفة مهمة، والرسول صلى الله عليه وسلم وُصِفَ أنه كان أشد حياءً من العذراء في خدرها، إذاً المرأة بطبيعة الحال تستحي، وينبغي لها أن تستحي لأن هذا خلقها، ولما خرجت من البيت وصارت الحفلات، والذهاب إلى الأسواق وصار التبرج والتهتك ذهب الحياء وهذا شيء طبيعي جداً، ماذا ننتظر بالله؟ تخرج نساؤنا إلى الشوارع، والأسواق، والحفلات، والزينات، والتبرج، والخلوة بالسائق وو ثم بعد ذلك نريد منهن حياءً، لن يحدث هذا، الله جعل لكل شيء سبباً. أيضاً من ضمن هذه الملاحظات: قضية كلام المرأة مع الرجل الأجنبي، صار الآن شيئاً طبيعياً جداً، وصارت تكلمه بالهاتف، وتستقبله في البيت وقد تتحدث معه، وقد تتحدث مع السائق بكلام طويل، وتتحدث مع ابن عمها بكلام طويل، ومع ابن خالها وهو رجل أجنبي عنها، فإذاً ذهب الحياء، وفي المدرسة أيضاً يحدث أو في الخروج من المدرسة هذا التهتك في الأسواق. بالنسبة لبعض الأصناف من النساء يعني مثلاً: الطبيبات، إذا لم تنتبه إلى نفسها قد يذهب حياؤها، ولا شك بتجربة المجربين أن الطبيبات في المستشفيات أقل حياءً من باقي الأصناف من النساء؛ لأنها تخالط الرجال، والأطباء والمرضى، وتذهب وتأتي في المستشفى رائحة غادية، ففقدت الحياء، وشيء طيب أن بعض النساء عندما تذهب إلى الطبيب ولا توجد طبيبة نسائية لا ترضى أن تكشف بسهولة هذا شيء مهم جداً، وهذه ظاهرة طيبة، ينبغي أن نبقي هذه الأشياء ولا نزيلها من نفسية المرأة، وأحياناً الأمر في بعض البيئات التي فيها رجال ونساء نجد التضاحك والنكت مع بعض الأجانب وكأنه أخوها.

الشجاعة من الصفات المهمة للمرأة المسلمة

الشجاعة من الصفات المهمة للمرأة المسلمة من صفات المرأة المسلمة الشجاعة في مواجهة اللحظات الطارئة في مواجهة اللحظات الحرجة، قد يحصل حادث، قد يجرح الولد، قد ينزل منه الدم أنت عندما تحلل المشكلة النفسية لماذا يخاف بعض الأولاد ويصيح لو رأى الدم خرج منه؟ لماذا خاف الطفل من الدم؟ يمكن ألا يخاف، لكن بسبب التربية، لأن الأم إذا جرح الولد وشاهدت الدم فزعت وصاحت وخافت، الولد المسكين يعرف أن الأم كلما نزل الدم فإذاً هي تصيح، إذاً هذه مصيبة، فصار الطفل أيضاً يجزع، فانتقلت المسألة والخوف والفزع من الأم إلى الطفل. إذاً: التربية مهمة لا بد أن تكون الحركة متماسكة، فإذا جرح يده أو مرض لا تلطم وتندب وتصيح وتفزع فيخاف الولد ويتربى على الجبن، لماذا أطفالنا الآن في حالة سيئة؟ من هذه الأشياء. ومن الأمثلة على الشجاعة التي وردت في السيرة: ما ورد في صحيح البخاري أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان ساجداً عند الكعبة فبعض الكفار تواصوا، وقالوا: من يأتي بسلى جزور بني فلان ويطرحه على ظهر النبي عليه الصلاة والسلام، فأتى رجل بسلى الجزور وكرشة البعير المملوءة بهذه البقايا والمخلفات على كراهة رائحتها ووضعها على ظهره وهو ساجد صلى الله عليه وسلم، ثم أقبلوا يتضاحكون -لعنهم الله- حتى مال بعضهم على بعض من الضحك كما في صحيح البخاري، فبقي صلى الله عليه وسلم لا يرفع من السجود، فانطلق منطلق إلى فاطمة وهي جويرية، يعني بنت صغيرة فأقبلت تسعى قال: أبوك وضعوا عليه كذا، فجاءت تركض، فطرحت عن ظهره الأذى، وأقبلت عليهم تسبهم ودعت على من صنع ذلك، وهي بنت صغيرة، ما خافت من صناديد قريش، ولا من كفار قريش. إذاًَ: الشجاعة في مواقف كثيرة قد تواجهها المرأة، لا بد أن تكون هذه صفة ملازمة.

الانقياد وخصوصا للزوج وموافقته على آرائه

الانقياد وخصوصاً للزوج وموافقته على آرائه قال عليه الصلاة والسلام: (خير نسائكم الودود الولود -الودود أي: المتحببة إلى زوجها- المواتية -الموافقة لزوجها- المواسية -التي تواسيه لو صار فيه خطب أو حزن- إذا اتقين الله -إذا خفنه وأطعنه- وشر نسائكم المتبرجات المتخيلات -أي: المعجبات المتكبرات- وهن المنافقات لا يدخل الجنة منهن إلا مثل الغراب الأعصم) حديث صحيح في صحيح الجامع رواه البيهقي عن أبي أذينة. ما هو الغراب الأعصم؟ هو الذي منقاره ورجلاه لونها أحمر، هل رأيتم غراباً أحمر المنقار والرجلين؟! نادر جداً، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم على هذه الندرة، وأقل ساكنين الجنة النساء، وأكثر أهل النار النساء، النساء الآن أكثر من الرجال، لكن بسبب غلبة النفس الأمارة بالسوء، وكثرة انقياد المرأة إلى مزالق الشيطان، والمرأة من انقيادها أنها تأخذ برأي الرجل الحكيم، قد ينصحها أبوها: هذا الرجل لا يصلح لك، هذا إنسان فاسق، هذا سألنا عنه كذا وكذا، أحياناً البنت تركب رأسها وتقول لأبيها: إني أريده، ولا بد، ولا تكلم أباها، وتقاطعه، وتقلب وجهها، وتتغير ملامحها أمام أهلها، وأمام أمها، وتدخل من الخارج إذا كانت موظفة أو مدرسة وتغلق على نفسها الباب ولا تأكل، ويصيبها المرض، ويذهبون بها إلى المستشفى، كل هذا عناداً لهم، لماذا؟! فإذا كانوا هم غير محقين، قد يكون عندك مبرر تفعلين هذا، لكن أحياناً يكون الأب طيباً حريصاً على مصلحة البنت. وهذه القصة عن الصحابية فاطمة بنت قيس تبين لنا عاقبة الأخذ بالرأي الحميد فعن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها أن زوجها طلقها ثلاثاً فلم يجعل لها رسول الله سكناً ولا نفقة، قالت: قال لي رسول الله: (إذا حللت فآذنيني) أخبريني إذا انتهت العدة، فآذنته فخطبها معاوية وأبو جهم وأسامة بن زيد، تقدم ثلاثة لخطبة فاطمة بنت قيس، فقال رسول الله: (أما معاوية فرجل ترب -فقير مسكين وقد لا يناسبك- وأما أبو جهم فرجل ضراب للنساء -لا يضع عصاه عن عاتقه كناية عن كثرة ضربه للنساء- ولكن أسامة بن زيد) فقالت بيدها هكذا: أسامة أسامة إشارة للاستغراب! لماذا قالت بيدها هكذا؟ لأن أسامة كان مولى، وكان أيضاً أسود اللون؛ وليس من نفس طبقتها، وكان أبوه زيد بن حارثة أبيض حتى إن بعض الناس شككوا في نسب أسامة من زيد، قالوا: كيف يكون أسود من أبيض؟ فكان الرسول صلى الله عليه وسلم لحبه لهما يتأذى من هذه الأشياء، وثبت في الحديث الصحيح أن رجلاً من الأعراب عنده خبرة بالقافة، من أثر الأرجل يعرف العلاقات، فلما دخل كان أسامة وأبوه نائمين قد تغطيا بشيء فلم يبدُ إلا أقدامهما، فدخل الأعرابي الرجل الخبير فنظر في القدمين، فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض، فالرسول صلى الله عليه وسلم سر جداً بهذا الكلام، لأنه قطع الكلام، وهؤلاء القافة لهم عجب في هذا، أنه قد يخبر من هي؟ وهل هي حامل أو لا؟ وهل هي شابة أو عجوز؟ فقالت بيدها هكذا فقال لها رسول الله: (طاعة الله وطاعة رسوله خير لك، قالت: فتزوجته فاغتبطت) أي: تزوجته فسُرَّت وارتاحت وعاشت معه عيشة سعيدة.

الوعي العلمي للمرأة المسلمة

الوعي العلمي للمرأة المسلمة ختاماً: نختم كلامنا بصفة مهمة من صفات المرأة أو لازمة للمرأة المسلمة: وهي صفة الوعي: إن صفة الوعي صفة مهمة، فالمرأة المسلمة تدار حولها المؤامرات، وتنسج لها شباك التحرر والرذيلة حتى تقع فيها، فإذا لم تكن المرأة على مستوى من الوعي، ومطلعة، وتقرأ، وكانت امرأة فاهمة، بل كانت مغفلة وسطحية ولا تستطيع أن تواجه المخطط، ولا أن ترد كيد الأعداء في نحرهم؛ قد تقع بسهولة في أشياء مثل مساجد الضرار، ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، ومساجد الضرار التي أنشئت لتحتوي المرأة ولتوقعها في الرذيلة، ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، وقد تكون من الجمعيات التي لها ارتباطٌ بأعداء الله تخرب المرأة، والمرأة مسكينة تجد أشياء خيرية ثم تذهب فتجد رفيقات السوء وتجد المجتمع السيئ وتذهب وتضيع وتنحل، إذا لم يوجد هناك وعي فإن المرأة تبتلع بسهولة وتسقط في حبائل شياطين الإنس والجن. فنحن لا نريد أن يكون حال المرأة كما قال الشاعر الأول: علموهن الغزل والنسج والردن وخلوا كتابة وقراءة علموهن هذه الأشياء واتركها لا تقرأ ولا تكتب فصلاة الفتاة بالحمد والإخلاص تُجزئ عن يونس وبراءة هكذا يدعي، وقال آخر: ما للنساء والكتابة والعمالة والخطابة هذا لنا ولهن منا أن يبتن على جنابة سبحان الله! انظر إلى عقلية الرجل، فقط المرأة وظيفتها أن يعاشرها ويجامعها. لا يا أخي! هذه امرأة عندها طاقات، لكن المشكلة ما هي الحدود والضوابط الشرعية ماذا تقرأ المرأة؟ ما هي المجالات المناسبة لدراسة المرأة؟ سئل الشيخ عبد العزيز بن باز عن هذا الموضوع، فقال: ما فائدة دراسة المرأة مثلاً لأشياء من الهندسات التي لا فائدة فيها، لكن تدرس مثلاً: العلم الشرعي اللغة العربية الطب أو أي شيء مثل: التمريض في الحدود الشرعية في البيئات الشرعية والأماكن الشرعية بالإشراف الشرعي، فعند ذلك تخرج النوعيات المنتجة في المجتمع، وكذلك يدخل في مسألة الوعي غير إحباط المخططات الهدامة: قضية وعي المرأة عند الزواج، بعض النساء لا تعرف من سذاجتها وقلة وعيها كيف تسأل عن زوجها، وتقدم لها واحد فسألت قالوا: يصلي وفيه خير وأخلاقه جيدة جداً. واحدة سألت تقول: إني تزوجت رجلاً فقالوا عنه: إنه ذو أخلاق وجيد وملتزم بالسنة وإنسان دين مستقيم، فلما دخل بي وجدت أنه لا يصلي ويستعمل المخدرات، قلت: سبحان الله العظيم! ألا يوجد تمييز أبداً؟! كيف؟! أنت عندما ترى المسألة أنه صالح ومستقيم وداعية إلى الله ودين وخير وملتزم بالسنة، ثم يكون في حقيقة الأمر أنه لا يصلي ويستعمل مخدرات، يعني هناك خلل وهناك شيء غريب في الموضوع، ليس هناك وعي في السؤال عن الزوج ولا عن تقصي الأخبار، يقابله في النوع الآخر غلو. امرأة تقول: أنا سألت عن زوجي، مديره وأصحابه في العمل، وسألت ولد عمه، وسألت رجالاً، وأجريت اتصالات تقول: أريد أن أتوثق، فهذا كلام لا داعي له، فإذاً لا بد من قنوات اتصال مع أن المرأة تستطيع أن تسأل النساء لكن الوعي يكمن في تحليل الأخبار، وتبين مدى ثقة هذا الخبر من ذاك الخبر، واستبيان مدى ثقة هذا المصدر من ذلك المصدر، واستبيان هل هذا الخبر فيه عاطفة وتهويل، أو فعلاً من جهة موثوقة؟ هنا تكمن قضية الوعي أيضاً. وأذكر هنا حادثة طريفة في نهاية الكلام: امرأة تورطت مع رجل وسألت عنه فقالوا لها: هذا زوج صالح فعقد عليها، فقبل الدخول قال لها: لماذا لا نذهب نتفسح أو نأخذ جولة على محلات الأثاث أو كذا من هذا النوع؟ فذهبت معه وهذا شيء جائز لأنه زوجها حتى لو لم تكن هناك وليمة، ففي الطريق تقول هذه المرأة: لاحظت أن الرجل هاوٍ، تارة يفتح الراديو وتارة الموسيقى رافعاً الصوت، فتقول: انفجعت وقلت: هذا ليس الرجل ولكن تريد أن تتبين الأمر، فقالت له وكان فيها ذكاء وحنكة: ما رأيك بـ عبد الحليم حافظ الفنان الفلاني؟ فالرجل أبدى الاستغراب، وقال: لا يجوز، الغناء حرام وكيف قالت له: أنا سمعت له كذا وكذا وأعرف قصة يعني عادية، فقال: هاه، وسردت له أشياء كانت تعرفها من جاهليتها السابقة، فبعد ما سردت له قال: الحمد لله، والله أنا كنت أظنك معقدة ومتزمتة ورجعية ومتخلفة وأنا تعبت وأنا أظهر كذا، الحمد لله أنك وفرت علي المشوار، ولن أتكلف بالتظاهر بهذا، الحمد لله الآن أصبحنا أنا وإياك متفاهمين وعلى خط واحد وهذا الشريط نسمع فيه، فلما وصلت إلى البيت طلبت منه فسخ العقد، وقالت: ضحكت علي وأنت كذا. لكن ليس كل النساء يتهيأ لهن هذه الفرصة في الاختبار، يمكن أن تتورط فعلاً، فالشاهد من الكلام أن مسألة الوعي بهذه الأمور وعدم الاستعجال من المرأة في انتقاء الزوج وإحسان العلاقة معه والعشرة هذا شيء لابد منه. وهذه آخر نصيحة أوجهها وهي إحسان العشرة والمعاملة الطيبة من كلا الجانبين للآخر، وألا تغتر المرأة وتكره زوجها، قد تقول: هذا قبيح وأنا جميلة، هذا مستواه الاجتماعي منخفض وأنا عالي، أو تقول: أنا ذكية وهو بطيء الفهم، أو أنا أعلم منه، على المرأة هذه أن تتقي الله عز وجل، وأن ترعى حق الله في نفسها وفي زوجها. وختاماً: أيها الإخوة! أسأل الله لي ولكم الهداية في كل الأمور، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرزقنا وإياكم حسن التصرف في الأمور كلها، والله أعلم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

خطورة عيد الحب/ ألعاب البوكيمون

خطورة عيد الحب/ ألعاب البوكيمون إن ظاهرة التشبه بالكافرين ظاهرة قد انتشرت وتفشت، ومن أوجه التشبه التي عمت وطمت في الأمة التشبه بأعياد الكافرين، ومنها ما يسمى (بعيد الحب) أو (عيد العشاق). وفي هذا الدرس قد بين الشيخ خطر هذا العيد وأصله والهدف من نشره بين المسلمين، كما ذكر كلام أهل العلم في حكم التشبه بالكافرين ومشاركتهم أعيادهم. ثم نبه على خطر آخر يحاك ضد أطفال المسلمين، وذلك من خلال عرض لعبة البوكيمون، فقد وضح خطر هذه اللعبة على عقيدة الأطفال، وذكر قصصاً تبين ذلك، وأشار الشيخ إلى دور المسلم تجاه هذه المؤامرات.

التحذير من تقليد الكفار بأعيادهم

التحذير من تقليد الكفار بأعيادهم الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. الحمد لله الذي ميَّز أهل الإسلام على أهل الأوثان والشرك والكفر، وجعل أهل الإسلام كالشامة بين الناس، يعرفون بعقيدتهم ودينهم، وسمتهم وخلقهم: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة:48] فحذرنا عز وجل عن اتباع الملل الأخرى وطرقها، ونهى نبيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وأمره بالحذر من أن يتبع الكفار في شيء من دينهم: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} [آل عمران:19] {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85] (والذي نفس محمد بيده! لا يسمع بي يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار) فهذه الأديان الموجودة في هذا العصر -سوى دين الإسلام- أديان باطلة لا تزيد متبعها من ربه إلا بعداً.

التحذير من اتباع الكافرين

التحذير من اتباع الكافرين عباد الله: لقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن أمر سيقع في الأمة ليس حتى نستسلم له ولكن حتى نحذر منه. أيها الإخوة: عندما قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب، لدخلتموه، قال الصحابة: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟) أي: من غير اليهود والنصارى أعني؟ وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل مثلاً بمثلٍ، حذو النعل بالنعل، حتى لو كان فيهم من نكح أمه علانية، كان في أمتي مثله) أخرجه الحاكم. وقد وقع ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وانتشر ذلك في الأزمنة المتأخرة، من اتباع كثير من المسلمين لأعداء الله تعالى في عاداتهم وتقاليدهم وسلوكياتهم وقدواتهم، قلدوهم في الشعائر، قلدوهم في الأعياد، وكان ذلك نتيجة لغلبة الكفار، والمغلوب مولع بتقليد الغالب، وكانت المتابعة للنصارى في كثير من الأحيان.

عيد الحب أصله والهدف منه

عيد الحب أصله والهدف منه أيها الإخوة: إننا نجد ظاهرة في انتشار التقليد للكفرة بين شباب المسلمين ذكوراً وإناثاً ظاهرة لا تبشر بخير، ومن ذلك ما يقدم عليه الكفرة من الاحتفال بعيد لهم، يسمونه: بعيد الحب. وهو عيد وثني من عهد الرومان، عيد من الأساطير والخرافات دخل على النصارى من الوثنية، وكذلك قيل: اسم قديس لهم يسمى فلنتايم، اضطهده الرومان قبل دخولهم في النصرانية، وكان وقت مقتله عيداً لهم؛ لأنه يدعو إلى الحب، والتقارب بين الجنسين، وهذا سواء كان وثنياً كما يدل عليه رسم كيوبيد الممثل بطفل له جناحان ومعه سهم وقوس -هذا إله الحب عند الرومان، وهو من الآلهة التي يعبدونها من دون الله- أو سواء كان احتفالاً بإحياء ذكرى ذلك القسيس النصراني، فإن كلا الأمرين خطير جداً أن يحتفل مسلم أو مسلمة بإله يعبد من دون الله من دين الوثنية الرومانية، أو بإحياء ذكرى قسيس من قساوسة النصارى، كلاهما مصيبة عظيمة. هذا التقليد النصراني الذي كان وراء إفساد كثير من الشباب والشابات حتى أبطلته النصرانية في وقت من الأوقات، ثم رجعوا إليه مرة أخرى، واليوم يقوم أناس من المسلمين بالاحتفال به وكتابة الكلمات الغرامية، وإرسال بطاقات التهنئة مصحوبة بهذه الأشياء العاطفية، هذه الأمور الخطيرة والخطيرة جداً على عقيدتنا وديننا. هذه المظاهر من البهجة والسرور التي تظهر في الأعياد، وتبادل الورود الحمراء؛ تعبيراً عن الحب الذي كان عند الرومان وثنياً لعبادات من دون الله، أو عند النصارى عشقاً بين الحبيب ومحبوبته، ولذلك سمي بعيد العشاق، وتوزيعاً لبطاقات التهنئة المرسوم عليها صورة الإله الذي يعبد من دون الله، أو تبادل تلك الكلمات من العشق والغرام، شعراً ونثراً، أو معها صور ضاحكة وأقوال هزلية، حتى كتب على البطاقات: كن فلنتينياً، هذا المفهوم النصراني أو الوثني، عندما يتسلل إلى بناتنا وأبنائنا ويدخل عقول المسلمين فيحتفلون به، ماذا يعني ذلك؟ إنه شعار الكفر ورب الكعبة! وتقليد النصارى والكفرة فيما هو مصادم لدين الإسلام تمام المصادمة.

نتيجة اهتمام الشباب بعيد الحب

نتيجة اهتمام الشباب بعيد الحب ثم يا عباد الله! تأملوا فيما ينبني على ذلك من شيوع الفاحشة في الذين آمنوا، وحفلات نهارية، وسهرات ليلية، ومناسبات مختلطة راقصة، وورود، وصناديق شكولاتة ترسل إلى الزوجات والصديقات والعشيقات أيضاً، إن هذه القضية عندما تكون في عقل مسلم أنه يحتفل تقليداً للأمة الضالة، وخلطاً بين الشرك والتوحيد، بين العقل والخرافة، وبين الآلة والأسطورة، عندما يقع ذلك -أيها المسلمون- فإننا لا بد أن نعي أن الخطر جسيم، وأن القضية تمثل تهديداً جاداً لإسلامنا وعقيدتنا، قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِين} [الزمر:65 - 66] بما أن المسألة لها جذور وثنية شركية، والله قال في كتابه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} [النساء:48]. وقال الله عز وجل على لسان عيسى عليه السلام: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة:72] فلا يقل: إنني لا أقصد شركاً ولا أقصد عبادة من دون الله، فهذه جذور القضية، وهذا أصلها: (ومن تشبه بقوم فهو منهم). ثم ماذا يقصد؟ يقصد إحياء المشاعر والعواطف تجاه من؟ إن قال: تجاه الصديقة والعشيقة، فهذه مصبية عظمية وطامة كبيرة، وإشاعة للفاحشة بين المسلمين، وإن قال: أقصدها مواعدات وغراميات، وحفلات راقصة، فنقول: ألم يقل الله تعالى: (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً) [النساء:27]؟ إذاً هؤلاء يريدون إثارة الشهوات، وأن يميل الإنسان الضعيف بقلبه إلى المحرمات، فلماذا إذاً يحدث ذلك فيما بيننا؟

العيد الإسلامي من شعائر الإسلام

العيد الإسلامي من شعائر الإسلام أيها المسلمون: يجب ألا ننسى أن الأعياد في الإسلام هي عبادات تقرب إلى الله تعالى، وهي من الشعائر الدينية التي تقرب إلى الله، ما هي الأعياد الشرعية؟ عيد الفطر، وعيد الأضحى ولا يوجد غيرهما في السنة، وعيد الجمعة الذي نحضره اليوم، هذه عبادات توقيفية، أعيادنا إذاً من صميم ديننا، أعيادنا لها أدلة، أعيادنا ليست اختراعات، أعيادنا ليست عادات، أعيادنا ليست تقاليد، أعيادنا ليست قابلة للتطوير، أعيادنا غير قابلة للزيادة، وغير قابلة للنقصان، فأعيادنا -أيها المسلمون- من يتأمل النصوص الشرعية فيها يجدها أعياداً محددة مؤقتة، حتى تقديمها أو تأخيرها لا يجوز.

التشبه بالكافرين ومشاركتهم في أعيادهم

التشبه بالكافرين ومشاركتهم في أعيادهم أيها المسلمون: إن مسألة الأعياد مسألة دينية، ثم قل لي: أليس في مشاركة هؤلاء النصارى أو الوثنيين في مثل هذه الأعياد تشبهاً بهم؟ وقد قال الله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105] والكاف في قوله: (ولا تكونوا كالذين) للتشبيه. إن الواجب على المؤمنين أن يكونوا ممن تخشع قلوبهم لذكر الله، ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم، هؤلاء اليهود والنصارى طال عليهم العهد والزمن والوقت، فغيروا دينهم، حرفوا كتبهم، ابتدعوا ما لم يشرع لهم، وتركوا ما أمرهم الله به، ثم إن نبينا عليه الصلاة والسلام قد قال: (من تشبه بقوم فهو منهم). قال شيخ الإسلام في هذا الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وأبو داود: هذا الحديث أقل أحواله أنه يقتضي تحريم التشبه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم؛ لأن معنى قوله:) فهو منهم) ظاهره كفر المتشبه بهم، كما في قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51]. قال الصنعاني رحمه الله: فإذا تشبه بالكافر في زيٍ واعتقد أنه يكون بذلك مثله كفر، فإن لم يعتقد ففيه خلاف بين الفقهاء، منهم من قال: يكفر وهو ظاهر الحديث، فهو منهم، ومنهم من قال: لا يكفر ولكن يؤدب. وقد نقل شيخ الإسلام الإجماع على حرمة التشبه بالكفار في أعيادهم في وقت الصحابة رضوان الله عليهم.

التشبه بأعياد الكفار أخطر من التشبه بزيهم

التشبه بأعياد الكفار أخطر من التشبه بزيهم والتشبه بالكفار فيما هو من شأنهم، كعيد الحب، أخطر من التشبه بهم في أزيائهم أو ملابسهم وسلوكياتهم؛ لأن دينهم إما مخترع أو محرف، وما لم يحرف منه فهو منسوخ، فكيف إذا كانت القضية احتفالاً بعيد الحب، وتشبهاً بعبادة الأوثان كما كان عند الرومان، وبأهل الكتاب في هذا القديس الذي قيل: إنه شخصية خرافية، وقيل: إنه شخصية حقيقية لكنهم غلو فيه، فالأمران أحلاهما مر. والمقصود مما تدندن حوله القنوات الفضائية، والاحتفالات التي تكون فيها، والبرامج المخصصة في هذه القنوات وغيرها هو: إشاعة الفاحشة في المؤمنين، إنه مخطط كبير، لكي يقبل الشباب والشابات من أبناء المسلمين على هذه الثورات الشهوانية البهيمية الحيوانية التي يريدون من ورائها تحطيم الأمة. قل لي يا أيها المسلم: لو وضعت نفسك مكان مخطط يهودي يخشى أن تجتمع طاقات الأمة والشباب فيها على غزو اليهود أو الانتقام من النصارى، فما هي الطرق التي تذيب بها هذه الإرادات للجهاد؟ كيف تحطم أمة تخشى منها؟ كيف تلهي أمة عن الواجب الذي يخشى منه هؤلاء اليهود والنصارى؟ A بإلهائهم بشتى أنواع الإلهاء، وإثارة الشهوات فيهم، وهكذا يقوم عيد الحب بدوره وإحيائه في هذه القنوات وفي غيرها؛ لأجل تحطيم إرادة الجهاد، وتحطيم النقاء والطهر الموجود في أبناء المسلمين وبناتهم، إن المسألة إذاً خطة والذي قد دخل فيها دون أن يعلم أنها مخطط فهو مغفل مسكين إن إنساق وصار أداة من الأدوات. والله تعالى لا يرضى لعباده الكفر، والله عز وجل نهانا عن الذين قاتلونا في الدين أن نبرهم ونقسط إليهم، وقال: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22]. فما معنى إذاً الترويج للنصرانيات الفاجرات وغيرهن في تعليق شباب المسلمين بتلك الشخصيات؟ قل لي يا عبد الله: إن ظهور مثل أولئك على الشاشات، وهذه الدعايات العظمية التي تقوم لأولئك النصرانيات الفاجرات وغيرهن من أبناء المسلمين المتأثرين بهن، عندما تعرض على الملأ، وعندما يحب هؤلاء المشاهدون ويقلدون تلك الشخصيات التي تروج لمثل عيد الحب وغيره، وتنتهي الورود الحمراء من المحلات، وتدخل داعية مسلمة إلى قاعة في مدرسة، لتلقي على الطالبات في هذا اليوم، فإذا بها تفاجأ بما يحطم المعنويات ويحبط الآمال، فترى كل بنت تقريباً في هذه الصالة إن لم يكن معها وردة حمراء فمعها شال أحمر، أو منديل أحمر، أو شنطة حمراء، أو جورب أحمر، أو معطف أحمر، أو نوع زينة حمراء على الشعر، ونحو ذلك، المهم الاقتباس ولو بشيء يسير من أولئك الكفرة، أي شيء أحمر في ذلك اليوم

الواجب علينا أمام أعياد الكفار

الواجب علينا أمام أعياد الكفار عباد الله: إنه لا بد أن يعي المسلمون حجم المخطط ليدركوا المؤامرة، فلا ينساقوا وراءها، لا بد من تفتيح الأذهان والعقول، ولابد من التنبيه على الكوارث الخطيرة التي تحيط بنا، وكيف يجوز أن يجعل هذا العيد الوثني النصراني وسيلة لانتشار الزنا والفواحش؟ مصبية من جميع الأبعاد! وكارثة بجميع المقاسات! أيها الإخوة: إن شتى المقاييس لو وزنا بها الأمر لتبين لنا بأن الخطر المحدق على شبابنا وشاباتنا من رواء ذلك كبير، والواجب علينا الآتي:

عدم الاحتفال بها أو إعانة الكفار فيها

عدم الاحتفال بها أو إعانة الكفار فيها أولاً: عدم الاحتفال بهذا أو مشاركة المحتفلين به في احتفالهم أو الحضور معهم؛ لما سبق من الأدلة الدالة على تحريم الاحتفال بأعياد الكفار، قال الحافظ الذهبي رحمه الله: فإذا كان للنصارى عيد ولليهود عيد وكانوا مختصين به، فلا يجوز لمسلم أن يحتفل بهذه الأعياد، كما لا يشاركهم في شرعتهم ولا قبلتهم، كما نبه عليه في كتابه تشبه الخسيس بأهل الخميس. كذلك عدم إعانة الكفار على احتفالهم به، لا بإهداء شيء لهم بمناسبته، ولا بطبع شعارات وأوراق لهم وبطاقات تهنئة به؛ لأنه ترويج لشعائر الكفر، والإعانة عليه حرام، وقد قال الله تعالى: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2]. قال شيخ الإسلام: لا يحل للمسلمين أن يتشبهوا بهم في شيء مما يختص بأعيادهم، لا من طعام، ولا لباس، ولا اغتسال، ولا إيقاد نيران، ولا تبطيل عادة -أي: إقفال الدكاكين وإيقاف الأعمال- من معيشة أو عبادة أو غير ذلك، ولا يحل فعل وليمة، ولا الإهداء ولا البيع بما يستعان به على ذلك لأجل ذلك، ولا تمكين الصبيان ونحوهم من اللعب الذي في الأعياد ولا إظهار الزينة، وبالجملة ليس لهم أن يخصوا أعيادهم بشيء من شعائرهم، بل يكون يوم عيدهم عند المسلمين كسائر الأيام. وقال ابن التركماني رحمه الله: فيأثم المسلم بمجالسته لهم وبإعانته لهم بذبح وطبخ وإعارة دابة يركبونها لمواسمهم وأعيادهم.

عدم إعانة المسلمين للاحتفال بها

عدم إعانة المسلمين للاحتفال بها عدم إعانة من احتفل به من المسلمين وهذا هو الغالب، بل الواجب الإنكار عليهم؛ لأن احتفال المسلمين بأعياد الكفار منكر يجب إنكاره، قال شيخ الإسلام رحمه الله: وكما لا نتشبه بهم في الأعياد، فلا يعان المسلم في ذلك، بل ينهى عن ذلك، فمن صنع دعوة مخالفة للعادة في أعيادهم لم تجب دعوته، وانتبهوا معي لما يحدث في المجمعات السكنية (الكنفاونس) من اختلاط شبابنا وبناتنا بهؤلاء الكفرة، أو ببعضهم البعض من الفسقة والفاسقات، وحفلات الرقص والديسكو والليزر والديجي وغير ذلك من أنواع الفسق والفجور الذي يبارزون الله به، والذي يدعون إليه بعضهم بعضاً، يدعون إليه علانية، ثم يذهبون فيقيمونه في تلك الصالات. يقول شيخ الإسلام: ومن أهدى من المسلمين هدية في هذه الأعياد، مخالفة للعادة في سائر الأوقات غير هذا العيد لم تقبل هديته، خصوصاً إن كانت الهدية مما يستعان بها على التشبه بهم كما ذكرنا. والآن ترسل بطاقات تهنئة إلكترونية في البريد الإلكتروني لإشاعة القضية بزيادة، ولتكون المسألة شعاراً مطبقاً وعنواناً؛ لكي يغرقونا في القضية، والمشكلة -أيها المسلمون- أن أبناءنا وبناتنا هم الذين يوقدون القضية أكثر مما يوقدها الكفار فيما بيننا، ومعنى ذلك: أن المسألة قد تغلغلت إلى درجة أننا لم نعد بحاجة إلى أيدٍ خارجية لممارسة مثل هذا النشر والتسويق لهذا العيد الشركي والكفري المحرم، وأن ما فينا يكفينا. وبناءً على ما قرره شيخ الإسلام رحمه الله عندما قال: "ولا يبيع المسلم ما يستعين به المسلمون على مشابهة الكفار في أعيادهم، وهذا من الإعانة على المنكر"، فإنه لا يجوز للتجار المسلمين أن يتاجروا بهدايا عيد الحب من لباس أو ورود حمراء أو بطاقات تهنئة أو غير ذلك، وأن مكسبهم على هذا سحت وحرام، لا يرضاه الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، كما لا يحل لمن أهديت له هدية أن يقبلها بل يقطعها ويمزقها ويقول لمن أتى بها إليه نصيحة تدل على ولائه للدين، وأنه مسلم، وأنه مستقل بشخصيته ولو هنأه، يرد التهنئة ويقول: اتق الله.

حكم التهنئة بشعائر الكفار

حكم التهنئة بشعائر الكفار قال ابن القيم رحمه الله: وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرام بالاتفاق، مثل: أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم، ويقول: تهنأ بهذا العيد ونحوه، فهذا إن سلم قائله من الكفر فهو من المحرمات، وهو بمنزلة أن يهنئه بسجوده للصليب بل ذلك أعظم عند الله وأشده مقتاً من التهنئة بشرب الخمر، وقتل النفس، وارتكاب الفرج الحرام، ونحو ذلك، وعند الشباب والشابات من الحركات الخفية والكلمات المقصودة ما يجب علينا أن نحاربه يا عباد الله! اللهم إنا نسألك السلامة والعافية، اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، اللهم سلمنا من الشرور والآثام، والبدع والشرك يا رب العالمين، واجعل مجتمعنا هذا طاهراً نقياً وسائر مجتمعات المسلمين، ورد المسلمين إلى الإسلام رداً جميلاً، إنك سميع مجيب. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

لعبة البوكيمون وخطرها على أطفال المسلمين

لعبة البوكيمون وخطرها على أطفال المسلمين الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، عباد الله: إننا نشهد أن لا إله إلا الله فمعنى ذلك أنه: لا نعبد إلا الله، ونشهد أن محمداً رسول الله، ومعنى ذلك أننا: لا نتبع غير رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من الدين. أيها الإخوة: أيها المسلمون! الحديث موصول والشيء بالشيء يذكر، لقد انتشرت بين طلاب المدارس من أبنائنا وبناتنا في هذه الآونة الأخيرة لعبة وثنية أخرى انتشرت انتشار النار في الهشيم، ما يعرف بـ (البوكيمون) التي استحوذت على شريحة كبيرة من الطلاب والطالبات، فأسرت قلوبهم وأصبحت شغلهم الشاغل، ينفقون ما لديهم من نقود في شراء بطاقاتها التي تتراوح من عشرة ريالات إلى ستمائة ريال، وبعضها يصل إلى ألفين وثلاثة للكرت الواحد، يقضون به معظم أوقاتهم في متابعات تطوراتها، والبحث عن جديدها في كل مكان، ولرواجها وشدة الإقبال عليها، حتى وصل الأمر لإقامة مباريات لهذه البطاقات، يتنافس فيها عدد كبير من الطلاب لكسب المزيد منها. والأدهى من ذلك أن عدداً ليس بالقليل من الآباء والأمهات أصبح مهتماً بتطورات هذه اللعبة، ولا يبخل على أبنائه بتقديم الدعم والمساندة، بل أصبحت هذه الكروت مجالاً للثواب والعقاب للأطفال، فربما أعطوها تشجيعاً وتحفيزاً على شيء يريده الأبوان، أو منعوا منها عقوبة على شيء لا يريده الأبوان، وهكذا. وهذه القضية قضية خطيرة، والسبب في ذلك -يا عباد الله- أننا يجب ألا نكون مغفلين، وأن نرجع إلى أصول الأشياء، ونعرف ما رواء الأكمة. وما هو الأصل في القضية؟ شيء خرافي وثني لأحد اليابانيين المهتمين بجمع أنواع الحشرات، لما تخيل فكرة أن العالم سيغزوه عدد هائل من الحشرات والحيوانات الغريبة القادمة من الفضاء، ثم تتطور ودخل في نظرية النشوء والارتقاء والتطور للكافر الهالك حول هذه المسألة، وركب منها ذلك الشكل والصورة في حيوان في رأس واحد، قد يتطور ويصبح له ثلاثة رءوس وقد يخرج يداً أو رجلاً وأيدٍ وأرجل. ثم في مرحلة من المراحل تتلقف هذه الفكرة شركة عالمية مشهورة جداً في قضية الألعاب وما يسمى بالترفيه، عملاقة من تندو لتتبنى الفكرة وتطورها وتستقطب لها عدداً كبيراً من المصممين والرسامين، ليقوموا برسم نماذج هذه اللعبة وتطوير هذه القضية، وقد فرضوا جواً من التعتم في البداية حتى أخرجوها بحملة إعلانية رهيبة انتشرت في العالم انتشار النار في الهشيم، وحقق أولئك البوذيون من ورائها أرباحاً خيالية، بملايين الدولارات، وأصبح للعبة مطويات ومطبوعات ودوريات وأشرطة فيديو تبثها محطات عالمية، وتستقبلها شبكات الإنترنت وغيرها.

فيما يكمن خطر لعبة البوكيمون

فيما يكمن خطر لعبة البوكيمون هكذا جعلوها لعبة بين اثنين، يستخدم فيها الزهر والأوسمة، ولها طاولة معينة، والقضية خطيرة من عدة جهات: أولاً: شيء يقدح في العقيدة تمام القدح، ويصادمها كل المصادمة، عندما تسوق فكرة مخلوق له قدرات خارقة، لا تكون إلا لله عز وجل من سياق الريح، وإحراق الأشياء بالمساحات الواسعة، وإحياء الموتى، ونحو ذلك من القدرات التي ينطوي عليها هذا المخلوق العجيب والغريب، وهكذا يتصور بعض الأطفال أنها حقيقة، وأنهم يستمدون قوة من هذا المخلوق أو من هذا الشكل، حتى إن مدِّرسة مرت بطالبة وهي تكتب جواباً في الاختبار فأثنت على إجاباتها تشجيعاً لها، فقالت الطالبة: طبعاً لأن معي بوكيمون. وهكذا صار الأطفال يتصورن بأن بإمكانهم حيازة قدرات كبيرة حتى في الإجابة في الامتحانات من رواء ذلك المصدر، وهو هذه الشخصية التي صارت موجودة يميل إليها الأطفال، إنه غزو في الصميم واستنزاف لأموال الآباء والأمهات. ثانياً: بعض بطاقاتها النادرة تصل قيمها إلى مبالغ ضخمة جداً، وبعد ذلك خطر القمار والميسر الذي ذكره الله تعالى بقوله: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة:90] ولا تجد صعوبة ليعترف لك الأطفال وهم يلعبون بها أنهم يلعبون قماراً، بل قد وجد أحد الدعاة إلى الله أطفالاً عند مدخل أحد المساجد يلعبون بها، فقال: ما هذا؟ فقالوا: نلعب قماراً، هكذا بالصراحة المتناهية، ويأخذ بعضهم بطاقات بعض إذا كسب اللعبة، وصارت المسألة فيها محلات وإقبال على هذه القضية، وفكرة الحظ الموجودة في القمار والميسر موجودة في هذه اللعبة بلا شك. ثالثاً: أن هذه الكلمة والصورة والكتابة التي هي شعائر لرموز دينية خطر آخر موجود في هذه اللعبة، التي فيها رسمة النجمة السداسية، وأنتم تعلمون رمز من، وكذلك فيها صلبان، ومثلثات وزوايا، وهي رموز لها مدلولات في الحركات الباطنية السرية العالمية، وهكذا رموز من المعتقد الشنتوي، عقيدة اليابان البوذيين. أيها المسمون: إنها مشكلة أخرى في غمرة لهو الآباء والأمهات وانشغالهم عن تتبع الخطر الذي يدخل على الأولاد وعدم وجود أو قلة البدائل الشرعية -أيضاً- التي تعطى للأطفال، وهذه القلة في البدائل الشرعية التي لم يطور هؤلاء المسلمون أشياء للأطفال تنافس تلك، لكن بدون محذورات شرعية. رابعاً: أيضاً مما زاد المسألة خطورة وزاد هذه الأشياء انتشاراً، ثم إن لهذه اللعبة دعايات عالمية ضخمة ومنتشرة في مجلات وقنوات وشبكات، بحيث صارت هذه اللعبة فعلاً محط اهتمام أطفال المسلمين ذكوراً وإناثاً.

دور المسلم نحو لعبة البوكيمون

دور المسلم نحو لعبة البوكيمون أيها الإخوة: إن مثل هذه اللعبة بسرعة تخرج وتختفي، لتظهر قضية أخرى، وثالثة، ورابعة، والمشكلة في اللب، والقضية أن المحور في هذه الأمور المصادمة للعقيدة، والمصادمة للأحكام الشرعية التي تنتشر حتى بين الأطفال من الذكور والإناث. ما هو دورنا إذاً؟ التوعية والدعوة، تجريد التوحيد، محاربة الشرك وأشكال الوثنية، والدعوة إلى نبذ هذه المقامرات وفكرة القمار والميسر الموجودة في ألعابٍ كثيرة، وبعض الأولاد يلعبون اللعبة المذكورة بالنقود، وهكذا. إذاً: يجب أن يكون لدينا وعي كاف وإدراك بشأن هذه المخاطر، وأن نربي أولادنا فعلاً على دين مستقيم، وعلى توحيد وعقيدة صحيحة، وأن نحارب كل هذه المحرمات، ولست أعني هذا الاسم فقط، هناك أشياء كثيرة في الألعاب الإلكترونية وغيرها، والمقصود: أين رقابة الآباء والأمهات، على الأولاد؟ أين التربية؟ أين التوجيه؟ أين المتابعة؟ أيها الإخوة: إننا في عصر فتن ولا شك، والقابض على دينه، كالقابض على الجمر. فاتقوا الله في أولادكم الذين قال الله لكم في شأنهم: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]. يا عباد الله: اتقوا الله، واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله، واتقوا عذاب الله، واعلموا أنكم ملاقوه، وأنه محاسبكم عما عملتم، فاجعلوا أعمالكم في رضاه، واجتنبوا أسباب سخطه، واحذروا معصيته. اللهم إن نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم ارزقنا إيماناً قويماً نتبع به دينك يا رب العالمين، اللهم ارزقنا الطريق القويم الذي نتبع فيه دنيك يا رب العالمين، اللهم إن نسألك أن تجنبنا المحرمات، والمنكرات والفتن، ما ظهر منها وما بطن، اللهم إن نسألك النصر للمجاهدين، والخذلان لليهود وأعداء الدين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك يا رب العالمين. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

دروس من فتنة المسيح الدجال [1، 2]

دروس من فتنة المسيح الدجال [1، 2] فتنة المسيح الدجال أعظم فتنة على وجه الأرض، وما من نبي إلا وقد حذر أمته من فتنته، وقد وردت في السنة النبوية أحاديث كثيرة تتحدث عن هذه الفتنة وعن صفات المسيح الدجال، وما الذي يجب على المسلمين أن يعملوه لئلا يقعوا فيها.

وقفات قبل الشروع في أحاديث الفتن

وقفات قبل الشروع في أحاديث الفتن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أيها الإخوة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: موضوعنا بعنوان: (دروس من فتنة المسيح الدجال)، ولا بد من التقديم بمقدمة قبل الشروع في هذا الدرس؛ لتجلية بعض الأمور التي قد تسبب إشكالات في الأذهان.

الإيمان بالغيب

الإيمان بالغيب أولاً: نحن مؤمنون، ومعنى ذلك: أننا نسلم بكل ما جاء في القرآن والسنة من الأمور التي ذكرت والتفاصيل التي وضحت، والله قد امتدح المؤمنين بصفة مهمة في أول سورة البقرة، وهي قوله عز وجل: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:3] ولذلك فإن كثيراً من الناس الذين لديهم نوع من الشك أو الريبة عندما يمرون بالأحاديث والآيات التي تذكر أموراً مستقبلية ستقع؛ فإنهم يشكون في ذلك وبعضهم قد يعترض على ذلك، أو يتجه بسهام التأويل والتحريف لبعض الأشياء المذكورة في القرآن والسنة، وهذا أمر مناف للإيمان، وليس من منهج المؤمن أبداً أنه يعمد إلى هذه التفاصيل الموجودة في القرآن والسنة فيغير فيها بزعمه، أو يكذبها وينفيها مثلاً؛ لأنها تخالف عقله، أو لأنه يراها غير واقعية بزعمه. ولذلك فإنه لا بد من الإيمان الكامل والجازم بكل ما ثبت لدينا مما ورد من كلام ربنا سبحانه وتعالى، وفي سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.

فوائد الابتلاءات

فوائد الابتلاءات اعلموا رحمكم الله أن الله عز وجل جعل من سنته أن يبتلي الناس ليظهر المؤمن من الكافر، ويتبين المسلم الحق من المرتاب الشاك، ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى ينزل بالعباد فتناً ليتميز أهل الجنة من أهل النار، بل حتى يتميز المسلمون في مدى إسلامهم، ويتميز المؤمنون في مدى إيمانهم، ولذلك فإن هناك آيات عظيمة وفتن كثيرة، وهذه الابتلاءات التي ستنزل بالعباد لها فوائد كثيرة وهي: تمحيص الناس وتبيين من هو على الطريقة السوية، ممن يسير على هوى أو يحذو حذو سبل الشيطان.

الإنزال على الواقع وأحاديث الفتن

الإنزال على الواقع وأحاديث الفتن ليس من الصحيح أن يعمد بعض الناس إلى أحاديث الفتن فينظرون إلى الواقع، ثم يفسرون هذه الأحاديث بحسب الواقع، وهذا يحدث كثيراً بين الناس! فإذا رأى حديثاً من أحاديث الفتن، يقول: هذا الحادث الذي وقع الآن وهذه المشكلة الموجودة الآن هي المقصودة بهذه الفتنة، وهي معنى هذه الفتنة، وهو لم يدرس التاريخ الإسلامي، ولم يقرأ أقوال أهل العلم، وربما أن المقصود بهذا الحديث قد وقع وانتهى أصلاً، وربما أن هذا الحديث لما يأتي تأويله بعد، وأن هذا الحديث يُعنى به شيء من الأشياء التي تقع في آخر الزمن، أو شيء من الأشياء التي تقع على أعتاب الساعة، وعند قيام القيامة مثلاً، ولذلك فإن مصدر الحيرة في كثير من التفاسير التي ترد في بعض النصوص من بعض الناس إنما مصدرها: الجهل بكلام أهل العلم، وعدم تنزيل هذه الأحداث منازلها الصحيحة التي بينها أهل العلم بالقرآن والسنة.

فائدة دراسة أحاديث الفتن

فائدة دراسة أحاديث الفتن إن الكلام عن بعض أحاديث الفتن قد يقول بعض الناس: ما هي فائدته؟ ولم ندرس أشياء قد لا تقع في عصرنا؟ ولم نتعرض لتفاصيل بعض الأمور التي لم تحدث في هذا العمر وهذا الزمن الذي نعيش فيه؟ فنقول: إن لهذه الأشياء فوائد، فمن ذلك أولاً: أن الإيمان بالغيب من صفات المسلم، وهذه من أمور الغيب. ثانياً: افرض أننا مثلاً سنتعرض الآن لحديث الدجال، هب أن إنساناً قال: إنني أكاد أجزم بأن الدجال لن يقوم، ولن يظهر في هذا الزمن، فنقول: إن في ذكر حديث الدجال تعليم هام للأمة، وفي بيان مواقف الناس من الدجال عندما يظهر فيها أسوة لنا، وفيها عبرة لنا نحن، ونحن نعيش في هذا العصر، كيف نواجه الفتن، لأن الفتن كثيرة، منها فتنة الدجال، وفتنة دجاجلة آخرين قد يظهرون في هذا الزمن، صحيح أنهم ليسوا هم الدجال الأكبر، لكن في بيان الموقف من الدجال الأكبر درس لنا في كيفية الموقف الصحيح أمام الدجاجلة الذين يظهرون، ثم كيف ستتعلم الأجيال القادمة التي سيظهر فيها الدجال الموقف الصحيح إذا لم تنقل روايات مثل الدجال عبر جيلنا نحن؟ وكيف ستتربى الأجيال على الثبات أمام الدجال إذا لم نعلم نحن الجيل الذي نعيش فيه والجيل الذي سيلينا، بحيث تنقل هذه المواقف لذاك الجيل الذي سيظهر فيه الدجال مثلاً؟ هذا مع العلم بأننا لا نستطيع أن نجزم (100%) أن الدجال لن يظهر في عصرنا، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فإن حساسية المؤمن ودقة شعوره وخوفه من الله عز وجل، تجعله ينظر فعلاً برهبة لمثل هذه الأحاديث التي فيها ذكر الدجال وما في معناه، أو ذكر الدجال وما حول الدجال من الفتن الأخرى، ونضرب على ذلك مثالاً: الرسول صلى الله عليه وسلم خرج مرة، فرأى غيماً في السماء، فدخل وخرج فزعاً وهو يقول: (يا عائشة! ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب) مثلما حصل لقوم عاد مثلاً، مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الناس، ولكن مع ذلك يدخل ويخرج خوفاً من أن يكون فيه عذاب. مثلاً الرسول صلى الله عليه وسلم خرج مرة فزعاً يخشى أن تكون الساعة قد قامت، وقد يقول قائل: بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين الساعة قرون متطاولة، وأحداث كثيرة وما حصلت بعد! فلماذا فزع؟ A لأن الفزع من مثل هذه الفتن من صفات المؤمنين والتي تدلل على خوفهم من الله عز وجل فعلاً وعلى قوة إيمانهم. كما إن دراسة موضوع الدجال -مثلاً- يعطينا طعماً خاصاً في الدعاء الذي ندعو به في آخر صلاتنا قبل السلام، وهو التعوذ من فتنة المسيح الدجال، وإنني أقول لكم بالتأكيد: إن شعور كل واحد منا، وهو يدعو بهذا الدعاء بعد أن يمر باستعراض فتنة الدجال، لا يختلف تماماً عن شعوره وهو يتلو هذا الدعاء قبل أن يتعرف على فتنة الدجال، وذلك لأن الإنسان كلما عاين وتبصر أكثر، كلما تعلم أكثر، وكلما طعم هذه لنصوص أكثر وأكثر، كلما تبين له عظم الخطر، ودائماً الأشياء التي لم تظهر مؤشراتها بعد تكون عند الناس غريبة ومستبعدة، ويقولون لك: هذه مستحيلة، ولا يمكن أن تحصل؛ لأن مؤشراتها لم تقع، ولذلك لو أنك قلت لواحد من الناس الآن: ما هو إحساسك بالموت؟ فإذا لم يكن عنده مثلاً مرض قاتل أو كان مصاباً بحادث يشرف على الموت، أو محكوم عليه بالإعدام، أو سيدخل حرباً من الحروب، فإنه سيقول لك: لا أشعر برهبة الموت؛ لأنه ليس عنده مؤشرات، بخلاف الشخص الذي يكون على أعتاب الموت مثلاً، فإنه من إحساسه بالموت سيكون مختلف، ولذلك فإن المؤمن -الإيمان فعلاً- هو الذي يستشعر أن المسألة قريبة رغم أن مؤشراتها لم تظهر، وهو الذي يشعر أن الموت قريب مع أنه ليس لديه أي مؤشرات تنبئه بالموت.

فائدة التحذير من الفتن على فترات

فائدة التحذير من الفتن على فترات إن مما نحتاجه أيضاً في بيان هذه الأمور أو بيان أمر الدجال: أن نعلم أن التحذير من الدجال كان على فترات، فمثلا: ً حذر الأنبياء أممهم من الدجال، حتى نوح حذر أمته من الدجال، ولم يكن يعلم نوح أن المسيح سيقتل الدجال، مع أن المسيح ظهر بعد نوح، فلم يعلم نوح بظهوره. فلذلك كان تحذيره لأمته من الدجال أمراً نافعاً وصحيحاً، وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكتمل عنده العلم بالدجال في أول الأمر؛ ولذلك كان يظن الدجال هو ابن صياد، ولكن ابن صياد هو دجال من الدجاجلة، وليس هو الدجال الأكبر. ثم إن العلم بتفاصيل الدجال لم تكتمل حتى عند الرسول صلى الله عليه وسلم في أول الأمر، فلذلك أخبر الصحابة بأخبار الدجال على مراحل، ولذلك فإن استقبال الصحابة للأمر سيختلف عن استقبالنا نحن الذين نستعرض أحاديث الدجال واحد وراء الآخر، هكذا تباعاً بحيث أن الأمر يبدو لدينا رهيباً، وقد يبدو لبعضنا مسألة مستبعدة، وقد يبدو لبعض الشاكين شيئاً غير معقول ولا يمكن حصوله. ولذلك كان الصحابة يتلقون نصوص الشريعة على فترات، وكانوا يأخذون الإيمان قبل أن يأخذوا العلم، ولذلك نزل العلم في قلوبهم موقعاً حسناً، بخلاف بعضنا الآن فإنه قد تأتي عليه النصوص الشرعية وليس عنده إيمان قوي، فقد يرفض هذه النصوص، وهذا ما سيتبين لبعضكم من خلال استعراض تفاصيل هذه المحنة العظيمة، وهذه البلية الكبيرة، التي ستنزل ولا شك. ولا بد أن نقول: إن الفتن تعلم المسلم كيف سيتصرف، وإن هذه الفتنة الكبيرة التي قد لا تحدث لنا، تعلمنا كيف نتصرف في مواقع الفتن الأخرى، وأحاديث الفتن لها فائدة، مثلاً: بعض الصحابة كان قاعداً لا يقاتل في الفتنة التي حدثت بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، لكن لما قتلت إحدى الطائفتين عماراً، وكان هناك صحابي يعلم أن عماراً تقتله الفئة الباغية بعلمه بأحاديث الفتنة المتعلق بـ عمار، اتخذ الصحابي موقفه بأن انتقل إلى الفئة الأخرى التي لم تقتل عماراً، لأنه ظهر له الحق. ولذلك العلم بأحاديث الفتن فيها فوائد كثيرة، أما موضوع الدجال فإن الكلام سيتعرض لبيان أصل هذا الرجل، وهل كان موجوداً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أم لا؟ ومتى يخرج؟ وما سبب خروجه؟ ومن أين يخرج؟ وما هي صفته؟ وما الذي يدعيه؟ وماذا سيظهر عند خروجه من الفتن والتي بسببها يكثر أتباعه؟ ومتى يهلك؟ ومن الذي يقتله؟ إلى غير ذلك من الأحداث التي ستتبين إن شاء الله خلال هذا الموضوع.

خروج الدجال من علامات الساعة الكبرى

خروج الدجال من علامات الساعة الكبرى أما المسيح الدجال، فإنه سمي بالمسيح لأنه ممسوح العين، وهذه التسمية مشتقة من اسم المفعول أي الممسوح، بخلاف المسيح بن مريم الذي اشتق اسمه من اسم الفاعل الماسح، لأنه كان يمسح على المريض فيبرأ، أما الدجال فهو مشتق من اسم المفعول، لأنه ممسوح العين، وقيل لأن دجل معناها: غطى وموه، ولذلك يقول: دجل الإناء بالذهب أي: غطاه، وذلك لأن هذا الدجال سيغطي الأرض بكفره، وقيل لأنه سيشمل الأرض ويغطيها برحلته الطويلة التي سيقطعها في زمن قصير، وأما عن الدجال كشرط من أشراط الساعة فإنه واقع ولا بد، وقد أخبر صلى لله عليه وسلم في الحديث الصحيح أن الساعة لا تقوم حتى تكون عشر آيات: (الدخان والدجال والدابة وطلوع الشمس وثلاثة خسوف) إلى آخر الحديث. فالدجال إذاً ظهوره من أشراط الساعة، وأشراط الساعة منها كبرى ومنها صغرى، وأشراط الساعة ابتدأت بموت الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن أول أشراط الساعة الصغرى هو وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم. وهناك علامات كبرى عشرة، ومنها الدجال، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفس إيمانها إن لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً، طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض) فإذا لم يكن الناس في ذاك الزمن مؤمنين ومستعدين لخروجه؛ فإنه لا ينفع إيمانهم إذا خرج ذاك الدجال من الفتن التي تقع منه، وهذا الحديث يشير إلى آية موجودة في كتاب الله وهي قوله عز وجل: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً} [الأنعام:158] فالمقصود بقوله تعالى: {بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} منها: الدجال، وهذا الذي يجاب به عن بعض الناس الذين يقولون: لماذا لم يذكر الدجال في القرآن؟ فنقول: إنه قد ذكر ضمناً وهناك آيات أخرى. وكذلك حذر الرسول صلى الله عليه سلم الأمة وقال: (بادروا بالأعمال ست، وذكر منها: الدجال) أي: انتهزوا الفرصة في الأعمال الصالحة قبل أن يظهر الدجال، فقد لا تستطيعون عمل أي شيء إذا ظهر.

الدجال أكبر فتنة في الأرض

الدجال أكبر فتنة في الأرض واعلموا -أيها الإخوة- أن الدجال هو أكبر فتنة موجودة على ظهر الأرض على الإطلاق، وقد روى أحاديث الدجال عدد من العلماء، ومن أوسع من روى له الإمام مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه، والإمام أحمد رحمه الله تعالى في مسنده، وكثير من الأحاديث التي وردت في الدجال صحيحة وثابتة، وهذا هو ما سنعتمد عليه إن شاء الله في خلال هذا البحث: (ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة خلق أكبر من الدجال) وفي رواية: (أمر أكبر من الدجال) من خلق آدم إلى قيام الساعة لا توجد فتنة أكبر من الدجال على الإطلاق. وقد روى البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم ذكر الدجال، فقال: إني لأنذركموه، وما من نبي إلا أنذر قومه، ولكني سأقول لكم فيه قولاً لم يقله نبي لقومه: إنه أعور وإن الله ليس بأعور) وقال عليه الصلاة والسلام: (إني لأنذركموه، وما من نبي إلا أنذره قومه، ولقد أنذره نوح قومه، ولكني سأقول فيه قولاً لم يقله نبي لقومه: تعملون أنه أعور وأن الله ليس بأعور). وقال عليه الصلاة والسلام: (غير الدجال أخوفني عليكم، إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم) معناه: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتوقع أنه سيخرج وهو فيهم، وإذا خرج الدجال والرسول صلى الله عليه وسلم موجود؛ كان الرسول عليه الصلاة والسلام سيتولى محاجة الدجال وإفحامه، وإقامة الحجة عليه، وتبيين باطله من دون الأمة. ثم يقول عليه الصلاة والسلام: (وإن يخرج ولست فيكم فامرؤ حجيج نفسه) معناه كل واحد سيتولى المدافعة وإقامة الحجة بنفسه، ودفع شر الدجال عن نفسه بنفسه، وذلك بأن يكذب الدجال، وأن يلقي نفسه في النار التي مع الدجال، كما سيرد في شأن هذا الدجال. ثم قال عليه الصلاة والسلام: (وإن يخرج ولست فيكم، فامرؤ حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم) أي: أن الله سبحانه ولي كل مسلم، وحافظ كل مسلم، ومعين كل مسلم على هذه الفتنة. ثم قال عليه الصلاة والسلام أيضاً: (أما فتنة الدجال فإنه لم يكن نبي إلا قد حذر، وسأحذركموه بحديث لم يحذره نبي أمته) فإذاً درس لنا، أن الدعاة إلى الله عز وجل ينبغي أن يحذروا الناس من الفتن، وينبغي أن يصفوا للناس الفتن، وينبغي أن يعلموا الناس كيف يكون موقفهم من الفتن. فإذاً مهمة الدعاة إلى الله عز وجل، أن يحذروا الناس من الشر، وأن يبينوا لهم ما هو الشر، وكيف يكون الموقف، وكيف يحذر من هذا الشر؟

أحداث ما قبل الدجال

أحداث ما قبل الدجال أما عن الأحداث التي ستكون قبل خروج الدجال فإنها كثيرة، قال عليه الصلاة والسلام: (تغزون جزيرة العرب، فيفتحها الله، ثم تغزون فارس فيفتحها الله، ثم تغزون الروم فيفتحها الله، ثم تغزون الدجال فيفتحها الله) أي المكان الذي فيه الدجال، أو القوم الذين معه، وقال صلى الله عليه وسلم: (عمران بيت المقدس خراب يثرب، وخراب يثرب خروج الملحمة، وخروج الملحة فتح القسطنطينية، وفتح القسطنطينية خروج الدجال) هذه أزواج من الأشياء فكل واحد مرتبط بالثاني، لكن يحتمل أن يكون بين كل زوج والزوج الذي بعده فترة زمنية طويلة. فإذا عُمِّر بيت المقدس بالمال والرجال والعقار واتسع بناؤه وزاد عن الحد المعروف، فإن ذلك سيكون سبباً في خراب يثرب، ومعنى ذلك أن الكفار سيستولون على يثرب ويكون لهم صولة بحيث يحدث خراب فيها. وإذا حدث عمران بيت المقدس وخراب يثرب؛ فإنه سيكون بعد ذلك خروج الملحمة، وهي الحرب العظيمة التي ستكون بين المسلمين والنصارى، وهي الموقعة التي ستكون بين أهل الشام والروم، كما ذكر شراح الحديث. وخروج الملحمة فتح القسطنطينية، وسيعقب ذلك فتح القسطنطينية التي هي من مدن الكفار، وسيعقب ذلك خروج الدجال، وكل واحد من هذه الأمور أمارة لما يقع بعده.

وقوع فتن الأحلاس والسراء الدهمياء

وقوع فتن الأحلاس والسراء الدهمياء وقال عليه الصلاة والسلام: (فتنة الأحلاس هرب وحرب) هرب: لأن الناس سيهربون منها من القتل والعداوة، والحَرَبْ: هو نهب الأموال، وقتل الأهل بحيث لا يبقى لأحد مال ولا أهل. (ثم فتنة السراء دخنها) السراء أي: النعمة والرخاء والصحة والعافية، وهي: المعاصي التي تقع بسبب الصحة والعافية. (دخنها من تحت قدم من أهل بيتي يزعم أنه مني وليس مني، وإنما أوليائي المتقون، ثم يصطلح الناس على رجل كورك على ضلع) والورك هو: أعلى الفخذ، والضلع معروف والمقصود: أن الناس سيصطلحون على رجل يبايعونه ويملكونه عليهم، ولا يصلح لأن يكون ملكاً؛ لأنه جاهل ولم تستقم له الأمور، ولكن هذا الذي سيحدث. (كورك على ضلع) يعني: كما أن هذا الورك كبير لا يثبت على الضلع؛ لأن الضلع دقيق، فكذلك لن يثبت أمر هذا الرجل ولن يكون مناسباً نظراً لجهله. (ثم فتنة الدهيماء) الدهيماء أي: العظيمة الكبيرة. (لا تدع أحداً من هذه الأمة إلا لطمته لطمة، فإذا قيل انقضت تمادت وزادت، يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً، حتى يصير الناس إلى فسطاطين، فسطاط إيمان لا نفاق فيه، وفسطاط نفاق لا إيمان فيه) فيكون نتيجة التدافع بين الحق والباطل، ونتيجة معترك الأمور وقيام الأحداث بين أهل الحق وأهل الباطل؛ أن يتميز أهل الحق عن أهل الباطل، وهذه من فوائد التدافع الذي ذكره الله عز وجل في كتابه: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} [الحج:40]. (فإذا كان ذاكم) إذا حصل تميز الناس إلى الفسطاطين، فانتظروا الدجال من يومه أو من غده، وهذه فتن تقع قبل الدجال. ومرة أخرى نقول: لا يصلح لأحد الآن أن يقول: أن ما يقع الآن من الأحداث والأشياء التي وقعت وهذه حرب وهروب الناس ونهب الأموال، هذه هي فتنة الأحلاس، ويفسر الحديث بهواه وجهله، لا يجوز ذلك، وإنما نأخذ من الفتن كيف نواجهها، ونتعلم منها دروساً، وقد يمر بنا بعض هذه الفتن، فنعرف الموقف منها، وقد تمر بنا فتن أصغر من الفتن المذكورة بالأحاديث فنعرف كيف نواجهها. وهذا الحديث يبين لنا أن الصحة والرخاء قد تقع فيها فتن عظمية، ويبين لنا أهمية تميز أهل الإيمان عن أهل النفاق.

وقوع الملحمة بين المسلمين والنصارى

وقوع الملحمة بين المسلمين والنصارى ثم صلى الله عليه وسلم حال المسلمين التي سيكونون فيها عند ظهور الدجال، وهذه الحال ستكون عبارة عن حروب بين المسلمين وبين النصارى، وسيكون فيها النصر في النهاية لأهل الإسلام، ثم يظهر الدجال، فقال عليه الصلاة والسلام: (ستصالحون الروم صلحاً آمناً، فتغزون أنتم وهم عدواً من ورائكم، فتنصرون وتغنمون وتسلمون، ثم ترجعون حتى تنزلوا بـ مرج ذي تلول -موضع معين- فيرفع رجل من أهل النصرانية الصليب فيقول: غلب الصليب، فيغضب رجل من المسلمين فيدقه -أي: يكسر الصليب- فعند ذلك تغدر الروم، وتجمع للملحمة) وزاد بعضهم: (فيثور المسلمون إلى أسلحتهم، فيقتتلون، فيكرم الله تلك العصابة بالشهادة). أي أنه في آخر الزمان قبيل الدجال سيحصل هناك صلح آمن، ولكن الروم وهم النصارى سيغدرون، وسيقوم رجل يتحدى المسلمين بالصليب، فيقوم أحد المسلمين فيكسره، فتقع بعد ذلك معركة، يكون المسلمين في أول الأمر قلة، فيكرم الله القلة من المسلمين التي تواجه النصارى بالشهادة، ثم بعد ذلك يستعد الفريقان لمعركة كبيرة وملحمة عظمية، يكون فيها النصر للمسلمين. وقد جاء في صحيح الإمام مسلم رحمه الله تفصيل لهذه الموقعة، (لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بـ الأعماق أو بـ دابق) وهذا موضع قرب حلب في بلاد الشام، أي يكون هناك موضع الملحمة (فيخرج لهم جيش من المدينة المنورة -من المسلمين- من خيار أهل الأرض يومئذ، فإذا تصافوا أمام بعض، قالت الروم: خلوا بيننا وبين الذين سبوا منها نقاتلهم) معنى ذلك: أن المسلمين في السابق قد أخذوا سبياً من الروم، وأن هؤلاء الروم قد أسلموا وانضموا للمسلمين، وأن الروم الآن يقولون: هاتوا أصحابنا وأقرباءنا من الروم الذين أسلموا معكم: (فيقول المسلمون: لا ولله لا نخلي بينكم وبين إخواننا، فيقاتلونهم، فيهزم ثلث -من جيش المسلمين- لا يتوب الله عليهم أبداً) لأنهم لم يتوبوا من الفرار من الزحف (ويقتل ثلث) أي من المسلمين (أفضل الشهداء عند الله، ويفتتح الثلث الأخير البلاد ويغنم ولا يفتنون أبداً، فيفتتحون قسطنطينية، فبينما هم يقتسمون الغنائم قد علقوا سيوفهم بالزيتون، إذ صاح فيهم الشيطان إن المسيح -أي الدجال- قد خلفكم في أهليكم، يريد إفزاعهم وتخوفيهم، فيخرجون -المسلمين يخرجون إلى جهة خروج الدجال- وذلك باطل -أي: كلام الشيطان هذا باطل- فإذا جاءوا الشام، خرج المسيح الدجال فعلاً، فبينما هم يعدون للقتال -لقتال الدجال بعد أن كانوا قد قاتلوا الروم، وما استطاعوا أن يقتسموا الغنائم- يسوون الصفوف، إذ أقيمت الصلاة، فينزل عيسى ابن مريم، فأمهم) إلى آخر الحديث. ثم إنه قد ورد لهذه الغزوة تفاصيل أخرى، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن الساعة لا تقوم حتى لا يقسم ميراث ولا يفرح بغنيمة، ثم قال بيده هكذا، ونحاها نحو الشام، فقال: عدو يجمعون لأهل الإسلام، ويجمع له أهل الإسلام -يقول الراوي عن ابن مسعود الروم تعن؟ ي قال: نعم- وتكون عند ذاكم القتال ردة شديدة، فيشترط المسلمون شرطة للموت لا ترجع إلا غالبة، فيقتتلون حتى يحجز بينهم الليل). ثم ملخص الحديث أن هؤلاء الفدائيون من المسلمين الذين يخرجون من جيش المسلمين يقتلون شهداء، ومرة ثانية وثالثة، لأنهم قلة، ثم بعد ذلك ينهد لهم أهل الإسلام، أي: يجتمع أهل الإسلام من الأماكن المختلفة: (فيجعل الله الدائرة على الكفار فيُقتلون) المسلمين يقتلون من الكفار مقتلة لا يرى مثلها (حتى إن الطائر لا يمر بجنباتهم فما يخلفهم حتى يخر ميتاً) بعض السذج من الناس لما قرأ الحديث، قال: هذه إشارة إلى الأسلحة الكيمائية، وهذا من الضلال الذي قلته قبل قليل، وهي تفسير النصوص الشرعية بأشياء من الواقع، وعلى حسب الهوى، وليس بالرجوع إلى كلام أهل العلم (فيتعادوا بنو الأب كانوا مائة، فلا يجد منه -بقي- إلا الرجل الواحد، فبأي غنيمة يفرح، أو أي ميراث يقاسم فبينما هم كذلك، إذ سمعوا ببأس هو أكبر من ذلك، فجاءهم الصريخ إن الدجال قد خلفهم في ذراريهم). فإذاً يكون خروج الدجال بعد معركة كبيرة جداً تحصل بين المسلمين والنصارى (إن الدجال قد خلفهم في ذراريهم، فيرفضون ما في أيديهم من الغنائم، ويقبلون فيبعثون عشرة فوارس طليعة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -طليعة استكشاف عن هذا الدجال-: إني لأعرف أسماءهم وأسماء آبائهم، وألوان خيولهم، هم خير فوارس على ظهر الأرض يومئذ، أو من خير الفوارس على ظهر الأرض يومئذ). هذا هو ما سيحدث قبيل خروج الدجال، وهذا يبين أن المسلمين في ذلك الوقت في حركة مدافعة ضد الكفار، وحركة جهادية مستمرة، وأن العداوة بيننا وبين النصارى باقية إلى ذاك الزمان، وأن النصارى سيصالحون المسلمين ثم ينقضون الصلح، ويغدرون بالمسلمين، وأن المسلمين في ذاك الوقت الخلص لن يكتفوا بهزيمة النصارى، وإنما سيواصلون المشوار، وهذا درس في أن جهاد هذه الأمة مستمر إلى قيام الساعة، وأن جهاد هذه الأمة متتابع، وأن المخلصين من المسلمين لا يقفون عند حدٍ معين، ولا يكتفون بتحقيق هدف معين، وإنما لا بد من إكمال المشوار، لاقتلاع الشرك من الأرض {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة:193]. هم ما اكتفوا بالقضاء على شوكة النصارى، ولما سمعوا بالدجال اتجهوا نحو الدجال ولم يشتغلوا بتقسيم الغنائم، وهذا درس في عدم الانشغال بالدنيا.

ثلاث سنوات شداد

ثلاث سنوات شداد ثم إن من الأشياء الأخرى التي ستحدث قبل الدجال قوله صلى الله عليه وسلم: (إن قبل خروج الدجال ثلاث سنوات شداد يصيب الناس فيها جوع شديد، يأمر الله السماء في السنة الأولى أن تحبس ثلث مطرها، ويأمر الأرض أن تحسب ثلث نباتها، ثم يأمر السماء في السنة الثانية فتحبس ثلثي مطرها، ويأمر الأرض فتحبس ثلثي نباتها، ثم يأمر السماء في السنة الثالثة، فتحبس مطرها كله، فلا تقطر قطرة، ويأمر الأرض فتحبس نباتها كله فلا تنبت خضراء، فلا يبقى ذات ظلف إلا هلكت، إلا ما شاء الله، قيل: يا رسول الله فما يعيش الناس في ذلك الزمان؟ قال: التهليل والتكبير والتحميد ويجزء ذلك عليهم مجزءة الطعام) كرامة من الله للمسلمين في ذلك الوقت أن يعيشوا على ذكر الله فقط، وهذا يثبت أن للأذكار قوة في البدن ويدل عليه حديث علي وفاطمة لما اشتكت فاطمة تريد خادماً، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ألا أدلكما على أمر هو خير لكما من خادم؟ إذا أويتما إلى فراشكما تسبحان الله ثلاثاً وثلاثين، وتحمدان ثلاثاً وثلاثين، وتكبران ثلاثاً وثلاثين) فبين أن هذا الذكر فيه فائدة في تقوية البدن، حتى المرأة المسلمة التي تريد خادمة فعليها بالإكثار من ذكر الله عز وجل، ولذلك دل الرسول الله صلى الله عليه وسلم بنته فاطمة على الإكثار من الذكر، وأخبر أن فيه قوة للبدن.

صفات الدجال

صفات الدجال أما عن صفات الدجال فإن له صفات عامة، فيقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إني حدثتكم عن الدجال حتى خشيت ألا تعقلوا) أي حدثتكم كثيراً عن الدجال حتى خشيت أن ينسي حديثي بعضه بعضاً، أو أنه مع اشتباك الأحداث في أمور الدجال، تلتبس عليكم الأمور فلا تفهموه (فاعقلوا الحديث، وتبصروا فيه) يعني لا يفوتكم فهمه (إن المسيح الدجال رجل قصير) هذه أول صفة. (أفحج) يعني يمشي مشية معيبة، فيه عرج بسبب تباعد ما بين ساقيه، مثل الرجل الذي بين ساقيه مرض، فهو يسير بهذه المشية المتعرجة. (جعد) أي أن شعره ليس سبطاً وأملساً وإنما أجعد الشعر. (مطموس العين، ليست بناتئة لا ظاهرة ولا حجراء -وفي رواية- جحراء -ليست داخلة للداخل وإنما هي مسطحة مع سطح والوجه، لا بارزة ولا داخلة، وهذا لا ينافي أنها ممسوحة كما سيرد- فإن ألبس عليكم -لو ألتبس الأمر عليكم في الدجال- فاعلموا أن ربكم ليس بأعور، وأنكم لن تروا ربكم) يعني سيظهر الدجال ويقول: أنا ربكم ونحن نعلم أننا لن نرى الله في الدنيا فإذاً لو طلع الدجال وقال: أنا ربكم، لا يلتبس عليكم الأمر أيها الناس، فأول شيء أن الله ليس بأعور، وثاني شيء أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا. فإذاً إذا قال في الدنيا: أنا ربكم فلن تروه لأنكم لم تروا الله حقيقة في الدنيا، فإذاًَ هذا الذي يزعم أنه رب دجال. ثم قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الآخر: (الدجال أعور هجان -أي أبيض- أزهر) وفي رواية (أقمر) أي أبيض أيضاً (كأن رأسه أصل) أي مثل الحية العظيمة، (أشبه الناس بـ عبد العزى بن قطن) وهذا رجل من خزاعة كان في الجاهلية، مات كافراً فشبه لهم الرسول الدجال بـ عبد العزى بن قطن (فإما هلك الهلك) أي إذا هلك الناس الذين سيرونه، فإن ربكم ليس بأعور، ثم قال: (ألا إن المسيح الدجال أعور العين اليمنى كأن عينه عنبة طافية، وأُراني الليلة عند الكعبة في المنام) أُراني أي: أنه رآه في المنام، وكذلك قال: (أما مسيح الضلالة -عكس مسيح الهداية الذي هو المسيح عيسى ابن مريم- فإنه أعور العين، أجلى الجبهة -أي واسع الجبهة شعره منحسر، جبهته عريضة- عريض النحر -مكان الرقبة عريض- فيه دفء أي فيه انحناء). وقال: (الدجال أعور العين اليسرى، جُفال الشعر) أي شعره أجعد كثيف فليس بالقليل وإنما كثير، وكذلك أخبر عن العلامة المهمة جداً في الدجال وهي العور، فإحدى عينيه ممسوحة تماماً، والعين الأخرى فيها علة يشبهها كأنها (نخاعة في حائط مجصص) (وكأنها عنبة طافية)، كيف تكون العنبة بارزة بين حبات العنب الأخرى، أو كيف تكون العنبة إذا راح ماؤها، كما أن لها لون أخضر كما قال: (كالزجاجة الخضراء) وكذلك فإن على هذه العين لحمة تنبت عليها ظفرة، والظفرة لحمة تنبت من جهة المآقي، من طرف العين الذي من جهة الأنف حتى تغطي جزءاً من عينه. يريد عليه الصلاة والسلام بهذا الوصف الدقيق ألا تضل الأمة، وأن تعرف الأمة صفة المسيح الدجال، بالإضافة إلى ذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (وإن بين عينيه مكتوب كافر، يقرأه كل مؤمن) يقرأ هذا، وفي رواية أخرى: (يقرأه كل مؤمن كاتب وغير كاتب) أي سواء كان يعرف القراءة والكتابة أو كان أمياً فإن كل المؤمنين يستطيعون أن يقرءوا هذه الحروف التي بين عيني الدجال (ك ف ر) -الألف كانوا في الماضي لا يكتبونها في الخط، ولكن تنطق مثل داود- والكفار يحجبهم الله عنها بحوله وقوته سبحانه وتعالى.

مكان خروج الدجال

مكان خروج الدجال وأما المكان الذي يخرج منه الدجال، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الدجال يخرج من أرض بالشرق أو بالمشرق، يقال لها خراسان، يتبعه أقوام كأن وجوههم المجان المطرّقة، أو المطرقة) فهو جزماً سيخرج من جهة المشرق، ثم ورد تحديد آخر: (إنه خارج خلة بين الشام والعراق -موضع بين الشام والعراق - فعاث يميناً، وعاث شمالاً، يا عباد الله فاثبتوا) ثم ورد أيضاً تحديد آخر: (إن الدجال يخرج من قبل المشرق، من مدينة يقال لها خراسان، يتبعه أقوام كأن وجوهم المجان المطرّقة). وقال أيضاً: (يخرج الدجال من يهودية أصبهان، معه سبعون ألفاً من اليهود) قال بعض المؤرخين مثل ياقوت الحموي وغيره: إن هذه المدينة مدينة أصبهان، فيها جزء بناه أصلاً بختنصر لما سبى اليهود وقتلهم ونفى منهم ووضعهم في أصبهان، وبنوا مكاناً لهم يعرف بحارة اليهود، أو حلة اليهود، وهذا الجزء من المدينة في مدينة أصبهان في قطاع خراسان في جهة المشرق، سيخرج منه المسيح الدجال، وهذا فيه تأكيد على ما ذكره عليه الصلاة والسلام أن الفتن ستكون من وجهة المشرق، وجهة المشرق هي جهة العراق وإيران وما وراءهما، فالفتن العظمية ستكون من هذه الجهة. لذلك أنت لو نظرت إلى فتنة الرافضة وفتنة الخوارج، وما حصل من قدوم التتار من جهة المشرق، وما حصل من الحروب حتى في العصر الحاضر في هذه الجهة، لوجدت أن هذه الجهة بؤرة فتن فعلاً، وأن سكان هذه الجهة يتميزون بحب العنف والدم والثورة والحروب، فلا تزال المشاكل موجودة فيها. لو تتبعت التاريخ الإسلامي لوجدت أن منطقة خراسان مليئة بالفتن والحروب والمشاكل، وحتى الآن نحن نرى بأعيننا ونسمع مصداق قوله عليه الصلاة والسلام: (الفتن من جهة المشرق) وسيخرج المسيح الدجال من ذلك المكان.

كيفية خروج الدجال

كيفية خروج الدجال وأما كيف يخرج؟ فإن المسيح الدجال، كما في حديث تميم الداري الذي ورد في صحيح الإمام مسلم أنه محبوس إلى الآن في جزيرة من جزر البحر! وأنه كان حياً على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه رجل عظيم الخلقة رآه تميم الداري ومعه ثلاثون رجلاً وحدثوا الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن سفينتهم قد لعب بها الموج وتعرضت لحادث وألجأهم الموج إلى جزيرة، ولما نزلوا الجزيرة رأوا الجساسة وهي دابة كثيرة الشعر فخاطبتهم وقادتهم إلى الرجل العظيم الموثق بالسلاسل داخل كهف، فدخلوا، فرأوه رجلاً عظيماً موثقاً بالسلال، وصارت هناك محاورة بينه وبينهم، وأخبرهم أنه الدجال وأنه سيخرج من غضبة يغضبها، فتتحطم السلاسل، ويخرج يعيث فساداً في الأرض، ويخرج من جهة المشرق. وهنا أقول قضية مهمة جداً: بعض ضعاف الإيمان سيقولون: إن الأقمار ما تركت مكاناً في الأرض إلا ومسحته بهذه الأجهزة المعقدة والدقيقة جداً، وأنه لا يمكن أن يوجد دجال وهذا كلام فراغ وكله خرافات، وأنه لو كان موجوداً؛ كان ظهر بالأقمار الصناعية ونحو ذلك. أقول: إن هؤلاء المساكين المفتونين بالتقدم العلمي ضعاف الإيمان فعلاً، بحيث إنهم جعلوه صنماً، هل فعلاً الآن الحضارة الغربية قد كشفت كل شيء، وكل شبر في الأرض؟ ألا يزال هناك أماكن في اليابسة ما وطئتها قدم حتى الآن؟ أليس هناك مغارات وكهوف لا يدرى ما فيها حتى الآن، أليس هناك أشياء في قاع المحيطات لا يدرى ما هي حتى الآن؟ فلماذا إذاً تقديس وتعظيم التقدم العلمي أو التكنولوجي، لدرجة أن ننسف أحاديث الدجال كما يفعل بعض الناس فعلاً، قالوا: لا موثق ولا موجود، وهذا كلام فارغ، لو كان موجوداً كان ظهر في الأجهزة وعلى الشاشات وفي الرادارات. وإن هؤلاء الناس مفتونين فعلاً، فيكذبون النصوص الشرعية، والبحث في الأرض ما انتهى، والعلماء لا زالوا يبحثون ويكتشفون أشياء على ظهر الأرض إلى الآن، فالقضية ما انتهت، ثم إن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يعمي عليهم -بأقمار صناعية وغيره- وجود الدجال في جزيرة من جزر البحر وهم ما اكتشفوا كل الجزر ومسحوها. (فيقول للناس: أنا ربكم) يدعي الربوبية، وهنا فإن المؤمنين يعلمون أن ربهم ليس بأعور، وأن هذا الدجال لو كان رباً لعالج نفسه، ولأذهب العور عن نفسه، ومن المحال أن تقع هذه العيوب ولا يقدر على إزالتها وهو رب.

خوارق الدجال وفتنته للناس

خوارق الدجال وفتنته للناس إن الله جعل لهذا الدجال إمكانات كثيرة وبسببها تحصل الفتنة ومنها: أنه كما سئل صلى الله عليه وسلم عن إسراع الدجال في الأرض، فقال: (كالغيث استدبرته الريح) هل رأيت غيماً وريحاً تدفعها من الخلف، كيف تكون سرعتها، كذلك تكون سرعة الدجال، ولذلك سيتجول في أقطار الأرض كلها، وقال صلى الله عليه وسلم ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة، وقال: (وإنه لا يبقى شيء من الأرض إلا وطئه وظهر عليه، إلا مكة والمدينة) ومن فتنة الدجال: قوله صلى الله عليه وسلم: (معه جنة ونار، فناره جنة، وجنته نار) وقال: (إن معه ماء وناراً، فناره ماء بارد، وماؤه نار) وقال: (لأنا بما مع الدجال أعلم منه، معه نهران يجريان أحدهما رأي العين، ماء أبيض، والآخر رأي العين نار تأجج، فإما أدركن أحد فليأت النهر الذي يراه ناراً) المسلم لو رأى هذا المشهد ماذا يفعل، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (فليأت النهر الذي يراه ناراً وليُغمِّض ثم ليطأطئ رأسه -في النار هذه- فيشرب منه، فإنه ماء بارد) لكن من الذي سيفعل؟! (إنه أعور وإنه يجئ معه تمثال الجنة والنار، فالتي يقول إنها الجنة، هي: النار) وقال صلى الله عليه وسلم: (فأما الذي يراه الناس ماء فنار تحرق، وأما الذي يراه الناس ناراً فماء بارد عذب، فمن أدرك ذلك منكم، فليقع في الذي يراه ناراً؛ فإنه ماء عذب طيب) ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (يخرج الدجال ومعه نهر ونار، فمن دخل نهره؛ وجب وزره وحط أجره -ضاع الأجر- ومن دخل ناره؛ وجب أجره وحط وزره، ثم إنما هي قيام الساعة). وكذلك ورد أن معه جبل من خبز وطعام، وأن الدنيا فيها مجاعة وأن الناس سيتبعونه من المجاعة لكي يحصلوا على هذا الطعام الذي عنده، وأن هذه الفتنة لن تضر المؤمنين بإذن الله، وكذلك أخبر أن الجمادات والحيوانات ستستجيب له، قال عليه الصلاة والسلام: (فيأتي على القوم فيدعوهم، فيؤمنون به -أنه هو الله- ويستجيبون له، فيأمر السماء فتمطر -بإذن الله طبعاً- والأرض فتنبت -فتخرج الكلأ- فتروح عليهم سارحتهم -ماشيتهم على هؤلاء الناس الذين آمنوا بالدجال- أطول ما كانت ذُراً -قامة وارتفاعاً- وأسبغه ضروعاً -ممتلئة بالحليب- وأمده خواصر -من السمن- ثم يأتي القوم فيدعوهم، فيردون عليه قوله -أي يكفرون به- فينصرف عنهم، فيصبحون ممحلين -قحط- ليس بأيديهم شيء من أموالهم، كله فتنة ليرى من الذي يصبر ويصدق ويؤمن بالله، ومن الذي يكفر ويضل ويفتن- ويمر بالخربة فيقول لها أخرجي كنوزك، فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل- وراء الدجال- وإن من فتنته، أن يقول -هذا الدجال يستعين بالشياطين- للأعرابي: أريت إن بعثت لك أباك وأمك- أحييت لك أباك وأمك- أتشهد أني ربك؟ فيقول: نعم. فيتمثل له شيطان في صورة أبيه وأمه لهذا الأعرابي يقول: يا بني اتبعه فإنه ربك). المشكلة في عوام الناس أنهم سيتابعوه بسبب أن ما عندهم بصيرة وعلم، واحد يحيي له أباه وأمه ويخرجهم، ثم يقولان له: يا بني اتبعه فإنه ربك، العاطفة سوف تأخذه ويتبع الدجال. وإن من فتنته أيضاً أن يسلط على نفس واحدة (فيقتلها فينشرها بالمنشار حتى تلقى شقين، ثم يقول الدجال للناس: انظروا إلى عبدي هذا، فإني أبعثه ثم يزعم أن له رباً غيري) هذا مسلم مؤمن كما سيمر معنا، فيبعثه الله وليس الدجال، لكن الدجال يري الناس أنه بعثه، وفعلاً يلتئم الشقان: (فيقول الخبيث: من ربك؟ فيقول: ربي الله -لأن هذا مسلم- وأنت عدو الله أنت الدجال) وهنا نأخذ درساً: أن الدجال إذا كان يتعاون مع الشياطين في ذلك الوقت في إضلال الناس، أفلا يكون حري بالدعاة إلى الله عز وجل أن يتعاونوا مع بعضهم لهداية الناس، إذا كان الدجال والشياطين يسخرون قدراتهم وإمكاناتهم مجتمعة، لكي يضلوا الناس، أفلا يكون حري بنا معشر الدعاة إلى الله أن نتعاون معاً وأن نتكاتف معاً وتتعاضد جهودنا معاً لتصب في مصبٍ واحد وهو: هداية الناس إلى الله عز وجل وإلى الطريق المستقيم، يجب أن نتعظ فعلاً، إذا كان هؤلاء الدجاجلة يفعلون هذا، فلماذا نحن لا نسرع للاتحاد والانسجام والتوافق حتى يحدث ذلك؟!

أتباع الدجال

أتباع الدجال أما أتباع الدجال، فإنهم أصناف، قال عليه الصلاة والسلام: (أكثر أتباع الدجال اليهود والنساء) وقال: (ينزل الدجال في هذه السَّبِخة بمر القناة -وادي قرب المدينة - فيكون أكثر من يخرج إليه النساء، حتى إن الرجل ليرجع إلى حميمه وإلى أمه وابنته وأخته وعمته فيوثقها رباطاً مخافة أن تخرج إليه) أي: الرجل العاقل المسلم يذهب إلى نساء أهل بيته يربطهم؛ مخافة أن يخرجن النساء للدجال فيؤمنون به، يقعون في فتنته. وقال صلى الله عليه وسلم: (يتبع الدجال من يهود أصبهان سبعون ألفاً عليهم الطيالسة) نوع من اللباس على الكتف يجلل البدن كله، إذاً: الدجال يتبعه يهود ويتبعه رجال ونساء لكن النساء أكثر. ويتبعه كذلك من العجم أقوام كثيرون ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (يتبعه أقوام كأن وجوههم المجان المطرّقة) المجان: جمع مجن، والمجن: هو الترس، والمطرقة أو المطرّقة هي: صفة لهذه التروس، يعني كأن وجوه الناس الذين يتبعون الدجال عريضة وأنها مكتنزة لحماً، شبهها بهذه التروس، وهؤلاء منهم عجم ومنهم ترك، ولكن منهم من العرب من يفتن ويتبع الدجال. وهنا -أيها الإخوة- نلاحظ أمراً وهو تواطئ اليهود مع الدجال، الذي جاء على أنه يهودي أيضاً، وهذا يبين أن دور اليهود لا ينتهي إلى قيام الساعة، وأنهم يريدون أن يهيمنوا على العالم ويسيطرون عليه، ولذلك اليهود في عقيدتهم أن الدجال اسمه المسيح بن داود، وأنه يخرج في آخر الزمان، وأنه يرد إليهم الملك. فينبغي أن نحذر من اليهود في كل عصر ووقت، وأن نعلم أن اليهود هم أعداؤنا دائماً وأبداً، وأن اليهود مثلما وضعوا السم للرسول صلى الله عليه وسلم فمات مسموماً في ذراع الشاة التي قدمها اليهود له؛ فإنه مؤامرتهم على الإسلام لا تنتهي، وأنه سيكون من أواخر مؤامراتهم أنه يخرج منهم فقط سبعون ألفاً يتبعون الدجال، ويقاتلون مع الدجال وهذا شأنهم؛ لأنهم أعداء الله عز وجل، الذين أعرضوا عن دين الله فأضلهم الله سبحانه وتعالى. وأما من يتبع الدجال فهم الأعراب، وهم عوام الناس، وجهلة الناس، ويدل عليه حديث الأعرابي الذي ذكرنا في إحياء الدجال لأبيه وأمه بقدرة الله عز وجل، وهنا نقف وقفات، فنقول: أولاً: إن النساء لا بد أن يكون لهن نصيب عظيم من الاهتمام بالتربية والتعليم، وأنه نتيجة فشو الجهل في النساء، وغلبة العاطفة عليهن؛ فإنه يحدث منهن انجرافات وانحرافات كثيرة، ولذلك على المرأة المسلمة أن تتقي الله عز وجل، وأن تحرص على تعليم وتربية نفسها على الإسلام، ونحن علينا أن نحرص على نسائنا من أخوات وأمهات وعمات وخالات وجدات إلى آخره من القريبات فنربيهن؛ لأنه بسبب عدم تربية النساء تحصل شرور كثيرة. ومنها على سبيل المثال: أن تعيش في جهل وغفلة، ولذلك تفتن به، فأول ما يأتي تتابعه، ولكن لا شك أنه سيصمد من النساء كثيرات، وكذلك فإننا نعلم درساً عظيماً من هذه القصة، وهي أن عوام الناس الذين يغلب عليهم الجهل، ويغلب عليهم الغفلة يسهل خداعهم بشكل كبير ولذلك لاحظ الآن أي فتنة تثور وأي واحد يقول: يا أيها الناس هلموا إلي، ويعرض أشياء يضل بها الناس، كثير من العوام يتابعونه، لأن العوام مشكلتهم أنهم لم يتربوا على الإسلام، ولذلك أي فتنة تكون من أكبر أسبابها قيام العوام، ولذلك ينبغي أن يكون للدعاة إلى الله عز وجل تركيز وتوجيه كثيفين نحو العوام؛ لأن العوام إذا لم يضبطوا يحصل بسببهم فتن كثيرة، لاحظ الآن لما حصلت هذه المشكلة الأخيرة، العوام ما هو موقفهم، خوف ذعر، نشر أخبار، وبلبلة وهروب، وتصرفات عشوائية من تحويل العملة وو، فإذاً هذه مشكلة العوام في كل بلد وفي كل زمان، ولذلك يحصل بسبب ثورانهم فتن وقتل وأمور كثيرة من التهاويل، ولذلك لا بد أن يقوم العلماء بواجب الدعوة ليلتف العوام حولهم، ولا بد أن يقوم طلبة العلم والخطباء وأئمة المساجد، والناس الأخيار وأهل الدين والدعاة والمربون والقدوات، ولا بد أن يظهروا بين الناس. ولكي نضبط العوام لا بد أن يكون هناك قدوات تلتف حولها العوام، ثم لا بد أن يكون هناك تركيز إعلامي إسلامي لتوجيه العوام؛ وضبط العوام، لأن العوام أكثرهم مغفلين فعلاً، ولذلك لا بد من وضع خطط إسلامية لاحتواء العوام وتوجيههم، وتوضيح القدوات للعوام، وتربية العوام على الإسلام، وكلما تربى الشعب أكثر؛ كلما حصل الهدوء والطمأنينة في البلد أكثر.

حماية مكة والمدينة من المسيح الدجال

حماية مكة والمدينة من المسيح الدجال ومن الأمور أن الدجال لن يسمح له بدخول مكة والمدينة، قال صلى الله عليه وسلم: (على أنقاب المدينة ملائكة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال). وقال: (لا يدخل المدينة رعب المسيح الدجال، لها يومئذٍ سبعة أبواب على كل باب ملكان) وقال: (وإنه يمكث في الأرض ولا يقرب أربعة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد المدينة، والمسجد الأقصى، ومسجد الطور). هناك مدينتان لا يدخلهما: المدينة ومكة، وهناك أربعة مساجد لا يقترب منها الدجال: مسجد مكة أي: الكعبة، ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، والمسجد الأقصى، ومسجد الطور. وقال عليه الصلاة والسلام: (يأتي المسيح من قبل المشرق، وهمته المدينة، حتى إذا جاء دبر أحد) يعني: خلف جبل أحد وفي رواية -أنه يصعد أحد ويرى من بعيد يقول لمن حوله: أترون القصر الأبيض- يقصد مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم: (حتى إذا جاء دبر أحد تلقته الملائكة فضرب وجهه قبل الشام هناك يهلك -يعني: في الشام -) مرتين قالها صلى الله عليه وسلم. وقال: (ليس من بلد إلا سيطأه الدجال، إلا مكة والمدينة، وليس نقب من أنقابها إلا عليه الملائكة حافين -محيطين- تحرسها، فينزل بـ السبخة) وفي رواية: (فيأتي سبخة الجرف فيضرب رواقه) أي: ينزل ويعسكر هناك مع من معه. وفي رواية: (حتى ينزل عند الضريب الأحمر -موقع قرب المدينة - عند منقطع السبخة -وهي: الأرض المالحة التي لا تنبت نباتاً- فترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات، يخرج إليه منها -إلى الدجال- كل كافر ومنافق) أي: المدينة ومكة فيها كفرة وملحدين وتاركين للصلاة ومستهزئين بالدين، والآن مكة والمدينة فيها تراك صلاة بالكلية، وفيها أناس يسبون الدين، وفيها ملاحدة، فإذاً لما يأتي الدجال صح أنه لا يدخل مكة والمدينة، لكن المنافقين والكفار في مكة والمدينة ترجف بهم الأرض فيخرجون إلى الدجال، ولا بد أن يفتنوا؛ لأنهم كفار ومنافقون، ويبقى صلحاء الناس في المدينة ومكة، وهي كالحصن الحصين لا يستطيع الدجال أن يدخلها. ولذلك جاء في حديث تميم الداري لما وجدوا الدجال موثقاً وحدثوه وحدثهم، قال لهم: (وإني يوشك أن يؤذن لي في الخروج فأخرج، فأسير في الأرض فلا أدع قرية إلا هبطتها في أربعين ليلة، غير مكة وطيبة، فهما محرمتان علي كلتاهما، كلما أردت أن أدخل واحدة منهما استقبلني ملك بيده السيف صلتاً، ممدوداً يصدني عنها، وإن على كل نقب منها ملائكة يحرسونه) وهذا يعتبر من فضائل مكة والمدينة. وهذا يقودنا إلى درس مهم، وهو أهمية الأماكن المقدسة في صد أعداء الإسلام، الرسول صلى الله عليه وسلم وضح أن لـ مكة والمدينة مناقب، وأن لها أدوار في صد أعداء الإسلام، ولذلك لا بد من العناية بالأماكن المقدسة وحمايتها وصيانتها عن كل كافر وباغ وعدوٍ وعن كل شر وفتنة، وعن كل شيء مخالف للدين؛ لأن هذه الأماكن المقدسة تلعب أدواراً عظيمة في صد أعداء الله، وإن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها، وإن الإيمان يتردد بين المدينتين بين مكة والمدينة، وإن الحجاز أرض مباركة، بارك الله فيها وجعل الإيمان يأوي إليها، ولذلك فإن الإجرام في مكة والمدينة، ليس كالإجرام في غيرهما من البلدان.

مدة مكوث المسيح الدجال في الأرض

مدة مكوث المسيح الدجال في الأرض أما عن مدة مكوث المسيح الدجال فإنها أربعين يوماً، قال الرسول صلى الله عليه وسلم، لما سئل: ما لبثه في الأرض؟ قال: (أربعون يوماً، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم). فإذاً عندنا أول يوم يمر كالسنة، وثاني يوم يمر كالشهر، وثالث يوم يمر كالأسبوع، والأيام الباقية وهي سبعة وثلاثين يوماً مثل أيامنا هذه أربع وعشرين ساعة، كما نحس بها. أما معنى اليوم كالسنة: أي نحن نمكث في السنة ثلاثمائة وخمسة وستين يوماً، نمكث فترة معينة نحس بها، فذلك اليوم الأول من الأربعين من طلوع الشمس إلى غروبها أو انقضاء اليوم كله يمر مثل السنة في الطول، يعني: يمر بطيء جداً، كمرور السنة. وهنا انتبه الصحابة إلى مسألة مهمة، وقد كانوا أتقياء يهتمون بأمور العبادات وتصحيح العبادات (قالوا: يا رسول الله! فذلك اليوم الذي كسنة، أتكفينا فيه صلاة يوم؟) يعني هذا اليوم الطويل جداً جداً، مثل السنة يكفي أن نصلي فيه خمس فروض فقط؟ يعني يصلي الفجر ثم نجلس حتى تعتدل الشمس وسط النهار، أي: نجلس مائة يوم حتى تعتدل، ثم نصلي الظهر، يعني خمسة فروض تكفي، قال صلى الله عليه وسلم: (لا ولكن اقدروا له قدره) أي: انظروا كم بين الفجر والظهر في الأيام العادية، وهذه نقربها لتوضيح المقصود بالحديث، مثلاً: بين الفجر والظهر سبع ساعات مثلاً، إذاً: إذا جاء الفجر، وطلع اليوم الذي ظهر فيه المسيح الدجال، أول يوم الذي هو من الأربعين، اقدروا له قدره، يعني: اجلس بعد الفجر مثلاً سبع ساعات، ثم صلي الظهر، وإن كانت الشمس ما زالت تطلع لأن اليوم طويل جداً مثل السنة، ثم مثلاً بين الظهر والعصر ثلاث ساعات، تجلس ثلاث ساعات وتصلي العصر، وإن كان قرص الشمس ما طلع وهكذا تقدر بين العصر والمغرب، وبين المغرب والعشاء، ويبن العشاء هذا والفجر الذي بعده، ويصلي المسلمون الصلوات بالتقدير في ذلك اليوم الذي يمر في بطئه كالسنة حقيقة لا مجازاً، فالشمس تجري فيه ببطء شديد جداً، انظر نصوص الشريعة في تكاملها عندما نقول: الشريعة تصلح لكل زمان. استفاد العلماء من هذا الحديث في القطب الشمالي والقطب الجنوبي، مثلاً القطب الشمالي يكون فيه النهار ستة أشهر، والصيف ستة أشهر مثلاً والليل ستة أشهر، افرض أن مسلماً وصل إلى هناك وعاش هناك، أو أسلم أناس في ذلك المكان، كيف يصلي المسلمون في ذلك المكان، وعندهم ستة أشهر نهار وستة أشهر ليل؟ وليس عندهم غروب الشمس وزوال الشمس حتى يعرفون أوقات الصلوات، فكيف يصلي المسلم الذي يعيش في القطب الشمالي؟ لقد أفادنا حديث الدجال كيف نصلي، وذلك بالتقدير، يصلي الفجر أول ما تشرق الشمس، بعدها يصلي الظهر، بعدها يصلي العصر مع أن الشمس ما زالت، ثم يصلي المغرب والعشاء والشمس ما زالت موجودة، فأي واحد في القطب الشمالي يصلي بهذه الطريقة، بأخذ الحكم الشرعي من حديث الدجال، إذاً حديث الدجال أفادنا، فلا يقول أحد: ما لنا وهذه الأحاديث وما لنا علاقة فيها، كلا. وهنا يظهر -أيها الإخوة- حرص الصحابة على السؤال عن العبادة وتصحيحها، وهو أمر يفوت أكثر الناس الآن، فهل يسأل عن صحة العبادة، وما هي شروطها؟ هل هي صحيحة؟ كيف تصح؟ هذا أمر ينبغي أن نتعلمه نحن.

طريق النجاة من الدجال

طريق النجاة من الدجال نأتي بعد ذلك إلى طريق النجاة من الدجال، ما هي طريقة النجاة من الدجال وهو يطلع بهذه الفتن العظيمة. أول شيء ما هو موقف الناس من الدجال إذا ظهر؟ أولاً: إعداد العدة لحربه كما سيفعل المسلمون في ذلك الزمان. ثانياً: أن الناس سيتفاوتون، فمنهم من يستطيع الوقوف أمام الدجال ومنهم من لا يستطيع، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (من سمع بالدجال فلينأ عنه -فليبتعد عنه- فو الله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن، فيتبعه مما يبعث فيه من الشبهات) أي يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: إذا سمع واحد بالدجال فليهرب منه، يقول: إن الرجل يأتيه ويظن أنه مؤمن، وأنه لا يمكن أن يفتن بالدجال، وأنه يعلم أنه دجال، ولكن من كثرة ما يرى منه من الأشياء يفتن به ويتبعه، وهذا الفرار موجه للناس الذين يعلمون من أنفسهم أنهم لن يصمدوا أما الدجال. أما إذا هجم الدجال على المسلمين وحاصرهم وهاجمهم وباغتهم، فلا بد أن يصمدوا، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (فامرؤ حجيج نفسه) كل واحد مسئول عن نفسه. ثالثاً: الاستغاثة بالله عز وجل، يقول عليه الصلاة والسلام: (فمن ابتلي بناره، فليستغث بالله). رابعاً: وليقرأ العشر الآيات الأولى من سورة الكهف، فلا بد من حفظها الآن، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام، قال: (من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف، عصم من فتنة الدجال) وأما إذا علم بأنه لن يستطيع الصمود، فإن عليه أن يهرب منه، كما قال عليه الصلاة والسلام: (ليفرن الناس من الدجال في الجبال). وهنا يوجد درس مهم في قوله عليه الصلاة والسلام: (من سمع بالدجال فلينأ عنه، فو الله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه، مما يبعث فيه من الشبهات) هذا الدرس هو: إذا حصلت شبهات أو شهوات؛ فإن على الإنسان أن يبتعد عن الشبهات والشهوات؛ لأن هناك بعض الناس يقولون: لا نريد أن نتحدث، أعطني الآن أسوء مكان أنا مستعد أذهب إليه، بعض الناس عندهم غرور، فتجده يقول: أنا لا أتأثر بأفسق موسيقى موجودة، هات أنا مستعد أسمعها من أولها إلى آخرها وما أتأثر، فبعض الناس عندهم هذه النفسية، أو يقول: أرني أجمل امرأة موجودة وأنا لن أفتن، أنا أعرف نفسي أنني قوي الإيمان، ولا تؤثر فيني هذه المرأة، أو يقول: هات أسوء فلم موجود، أنا مستعد أراه وإيماني لا يتزلزل، وأنا قوي، ولذلك هذا الحديث يعلمنا حقيقة، أن الإنسان المسلم ينبغي أن يبتعد عن مواطن الشبهات والشهوات، وألا يقول: أنا أذهب وأصمد، لا. لا تذهب أصلاً، ولذلك بعض الناس يقول: ما فيها بلاد الكفار، أنا مستعد أذهب إلى هناك وأدخل أكبر خمارة، وأكبر بيت دعارة، وأنا مستعد أرجع وأبقى مسلماً، فنقول له: يا مسكين، تضمن نفسك، تظن أنك ملكت هداية نفسك وأنه لا يمكن لأحد أن يضلك، ولذلك الله عز وجل أمرنا بالابتعاد عن أسباب الفتن، وما قال يا أيها الناس امتحنوا أنفسكم وادخلوا في الفتن، هذا ما هو مأمور به أبداً، ما قال يا أيها المسلم: اخلُ بأجمل امرأة في الدنيا واختبر نفسك، هذا منطق شيطاني أعوج لا يمكن للمسلم الحق أن يقبل بهذا أبداً. وأما إن كان مع المسلمين الذين سيكون لهم إمام وهو المهدي الخليفة العادل، الذي سيظهر؛ فإن على المسلمين في ذاك الزمان أن يكونوا معه، وأن يلوذوا به، وهكذا. ثم إنه ينبغي أن نعلم أولادنا العشر الآيات الأولى من سورة الكهف التي تعصم من الدجال، وقيل السبب أن هذه الطليعة من السورة فيها ذكر أن الله أمن فتية أهل الكهف من الطاغية الجبار الذي أراد أن يبطش بهم، فأنقذهم منه، فبقيام الإنسان المسلم بحفظه لهذه الآيات، ومعرفة معناها، سيستطيع أن ينجو من الطاغية، وهو الدجال؛ وقيل لأن في هذه العشر الآيات من العجائب والآيات التي إذا وقرت في قلب المؤمن جعلته لا يفتن بالدجال ولا يستغرب منه، لأنه عندما يرى قصة أهل الكهف وكيف نجو؛ فإنه يتذكرها عند مقابلته للدجال. خامساً: من وسائل العصمة من الدجال: اللجوء إلى أحد الحرمين الشريفين والاعتصام بهما؛ لأن الدجال لا يمكن أن يدخل مكة والمدينة. سادساً: من الوسائل كذلك وهذا مهم لنا أيضاً: الاستعاذة بالله من فتنة الدجال في الصلاة، فنحن نقول نحن في التشهد قبل السلام: اللهم إنا نعوذ بك من عذاب النار، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال. أمرنا بالاستعاذة من فتنة الدجال ولا ندري متى سيظهر. وقد كان طاوس رحمه الله -وهو من علماء السلف - يأمر ولده بإعادة الصلاة إذا ما استعاذ من هذه الأربع ومنها فتنة المسيح الدجال؛ حرصاً من السلف على تربية أولادهم، وتعليمهم على الاستعاذة من فتنة الدجال. سابعاً: معرفة أسماء الله وصفاته؛ لأن الدجال أعور والله ليس بأعور، إن الله سميع بصير، ليس كمثله شيء، والله سبحانه وتعالى جميل ليس فيه عيب، قدوس منزه عن العيوب والنقائص، من يدرك هذا الأمر الذي وقر في نفسه توحيد الأسماء والصفات نجا، ولذلك سيحرم المعتزلة والجهمية من النجاة من الدجال، وغيرهم من الناس المنحرفين في الأسماء والصفات. ثامناً: وكذلك تبيين أمر الدجال للناس من أسباب الوقاية منه، وهذا ما ينبغي أن يقوم به العلماء وطلبة العلم والخطباء وغيرهم، والرسول صلى الله عليه وسلم ما قال: الدجال لم يأت للناس الآن في عهدي، فلا أذكر به، وإنما قام وذكر به في عدة مجالات. وكذلك تربية الأولاد والنساء والرجال عموماً، وتوعيتهم بهذا، فإنه قد ورد في حديث صححه الهيثمي في مجمع الزوائد: (لا يخرج الدجال حتى يذهل الناس عن ذكره) أي لا تجد أحداً يذكره ولا يتعرض له، ويترك الأئمة ذكره على المنابر. إذاً: يظهر الدجال في وقت عم فيه الجهل، حتى إذا صار لا يذكر بفتنة الدجال أصلاً، ولا يطرأ ذكره على المنابر، فعند ذلك يظهر الدجال.

شاب مؤمن يقف أمام الدجال

شاب مؤمن يقف أمام الدجال وهناك مقابلة عظيمة جداً ينبغي الوقوف عندها طويلاً، وهي مقابلة شاب من أهل المدينة للدجال وحدوث مواجهة عنيفة جداً، وقيمة جداً وجميلة جداً نقلها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يأتي الدجال وهو محرم عليه من أن يدخل المدينة، فينزل بعض السباخ التي تلي المدينة، فيخرج إليه يومئذٍ رجل هو من خير الناس، فيقول: أشهد أنك الدجال الذي حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثه، فيقول الدجال للناس الذين معه: أرأيتم إن قتلت هذا ثم أحييته، هل تشكون في الأمر؟ فيقولون: لا. فيقتله، ثم يحييه، وفي رواية: فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض -بين الشقين مسافة رمية السهم- ثم يدعوه فيقبل يتهلل وجهه -يضحك هذا الشاب، يعني: يحييه الله- فيقول الشاب للدجال: والله ما كنت فيك قط أشد بصيرة مني اليوم) لأن الشاب هذا يعلم بأن الدجال سيشقه نصفين، فلما وقع وشقه نصفين وأعاده، علم الشاب أن هذا هو الدجال، بينما الذين مع الدجال حصل لهم زيادة فتنة، قالوا: هذا هو ربنا، يحي الموتى. وروى مسلم في صحيحه أيضاً: (يخرج الدجال، فيتوجه قبله رجل من المؤمنين، فتلقاه مسالح الدجال -أي: خفراء وحراس وأعوان الدجال فيمسكونه- فيقولون له أين تعمد؟ فيقول: أعمد إلى هذا الذي خرج، قال فيقولون له هؤلاء المسالح: أو ما تؤمن بربنا؟ فيقول: ما بربنا خفاء، فيقولون: اقتلوه، فيقول بعضهم لبعض: أليس قد نهاكم ربكم أن تقتلوا أحداً دونه؟ -أليس الدجال نهاكم أن تقتلوا أحداً إلا بعد الرجوع والاستشارة- قال: فينطلقون به إلى الدجال. فإذا رآه المؤمن، قال: يا أيها الناس! -للذين مع الدجال- هذا المسيح الدجال الذي ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فيأمر به الدجال فَيُشبَّحُ -أي: يمد ليضرب هذا الشاب- فيقولوا: خذوه وشجوه، فيوسع ظهره وبطنه ضرباً. قال: فيقول: أو ما تؤمن بي؟ قال: فيقول: أنت المسيح الكذاب، قال: فيؤمر به فينشر بالمنشار من مفرقه حتى يُفرَّق بين رجليه، قال: ثم يمشي الدجال بين القطعتين. ثم يقول له: قم، فيستوي قائماً. ثم يقول له: أتؤمن بي؟ فيقول: ما ازددت فيك إلا بصيرة. قال: ثم يقول: يا أيها الناس! إنه لا يفعل بأحد بعدي من الناس -لا يسلط- قال: فيأخذه الدجال ليذبحه، فيُجعل ما بين رقبته إلى ترقوته نُحاساً فلا يستطيع -أن يذبحه- إليه سبيلاً. قال: فيأخذ برجليه ويديه فيقذف به إلى النار التي معه، فيحسب الناس أنما قذفه إلى النار، وإنما ألقي به في الجنة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا أعظم الناس شهادة عند رب العالمين) لأنه شهد أنه الدجال أمام الناس ورغم كل ما تعرض له.

أهمية العلم الشرعي في الفتن

أهمية العلم الشرعي في الفتن أيها الإخوة: الدرس العظيم هو: أهمية العلم الشرعي في الفتن، الناس الآن مساكين إذا حصلت فتنة قالوا: ما هو الحق؟ فيذهبون يميناً وشمالاً، ويؤيد أناس هؤلاء ويؤيد أناس آخرون أولئك وأناس تختلط عليهم الأمور، وأناس يتحيرون ويضطربون، فما هو العلاج الفعال في الفتن؟ A التعلم، ولذلك أوصيكم ونفسي بتعلم العلم الشرعي، فإن هذا الشاب لولا لم يكن عنده علم مسبق بصفة الدجال، ما كان سيكتشف الدجال فالآن هذه الأحاديث معروفة لدى هذا الشاب وهو من أهل المدينة، ولذلك كشف أمر الدجال للناس.

الوقوف ضد الظلمة

الوقوف ضد الظلمة وكذلك من الفوائد: القيام في وجه الظلمة والإنكار عليهم للمستطيع القادر، وليس أن يذهب واحد جبان فيتشجع في بداية الأمر، وإذا وصل إلى الجبار والطاغية تزلزل واعترف بالباطل وساخت رجلاه في الأرض وسبح بحمد هذا الطاغية، لا يخرج للمجابهة إلا المستعد، وهذا درس آخر، ينبغي على الذين يخرجون لمواجهة أهل الباطل أن يكونوا مستعدين، ولذلك حصل أن بعض المتحمسين لما ذهب لمناقشة بعض الحداثيين أخفق بسبب عدم وجود خلفية في الأدب وأنواع الأدب، ولذلك جاء له هذا الحداثي وأفحمه وأسكته، ولا يجوز أن يناقش أهل البدعة إلا المتمكن. ولذلك بعض الناس يقول: أنا مستعد أناقش أكبر رافضي، وأكبر خارجي، وأكبر معتزلي، وأكبر جهمي، وأكبر نصراني، ثم يأتيه القس النصراني، وهو عنده علم وسعة اطلاع، فيقول له مثلاً: إن مريم كذا والمسيح وعيسى، ويثبت له أنه ابن الله، وصاحبنا مكتوف اليدين لا يستطيع أن يخرج جواباً، ولذلك لا يجوز أن يخرج لمناقشة أهل البدع وأهل الباطل أو أهل الجبروت والطغيان إلا المتمكنون، أما الضعفاء فيعتزلونهم؛ لأنه على الأقل إذا ما استطاع أن يقنعه؛ فإنه سيقتنع من شبهات ذاك الرجل.

هلاك الدجال والقضاء على فتنته

هلاك الدجال والقضاء على فتنته قال عليه الصلاة والسلام: (فبينما هم) يعني المسلمين يعدون العدة لمواجهة الدجال (يعدون للقتال ويسوون الصفوف إذا أقيمت الصلاة، فينزل عيسى ابن مريم، وفي رواية: فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق) وهي إلى الآن مكان معروف، لو تذهب إلى واحد من أهل دمشق، وتقول: أين المنارة البيضاء؟ فيدلك عليها، وعيسى ابن مريم ما مات بل رفعه الله حياً بجسده وروحه، وسينزل للقضاء على الدجال وتطبيق شرع الله في الأرض. (فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين -أي: ثوبين مصبوغين- واضعاً كفيه على أجنحة ملكين، إذا طأطأ رأسه يقطر ماءً وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ، فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات، ونفسه -عيسى ابن مريم- ينتهي حيث ينتهي طرفه) أي: في دائرة نصف قطرها مد بصر عيسى عليه السلام، كل الكفار في تلك الدائرة يموتون. (فإذا نزل عيسى ابن مريم ويكون المسلمون قد استعدوا للصلاة، وإمامهم المهدي وقائدهم المهدي الذي سيظهر في ذلك الوقت، فبينما إمامهم قد تقدم يصلي بهم الصبح، إذا نزل عليهم عيسى، فيرجع ذاك الإمام؛ لأنه عيسى أفضل منه، فيريد أن يتقدم الفاضل للإمامة، فيمشي القهقرى ليتقدم عيسى، فيضع عيسى يده يبن كتفيه، ثم يقول له: تقدم فصلي، فإنها لك أقيمت) وهذه تكرمة من الله لهذه الأمة أن يؤم عيسى رجل من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فيصلي بهم إمامهم. فإذا انصرفوا من الصلاة، وذهبوا إلى بيت المقدس لمواجهة الدجال، الذي سيكون قد توجه باليهود إلى هناك، قال عيسى: افتحوا الباب، فيفتحونه، ووراءه الدجال معه سبعون ألف يهودي، كلهم ذو سيف محلى وساد، فإذا نظر إليه الدجال ذاب كما يذوب الملح في الماء، فينطلق هارباً، فيدركه عيسى عليه السلام بباب لد، وهو المكان المعروف الآن في فلسطين، الذي بنى فيه اليهود مطاراً معروفاً أو قاعدة عسكرية. فعيسى سيدرك المسيح الدجال في بلدة اللد فيقتله، فينماع الخبيث، كما ينماع الملح في الماء ولكن عيسى يدركه فيضربه بحربة في يده، فيريهم أثر الدم على هذه الحربة، فيقتل مسيح الهداية مسيح الضلالة الدجال بهذه الحربة. ثم يهزم الله اليهود، فلا يبقى شيء مما خلق الله عز وجل يتواقى به يهودي إلا أنطق الله ذلك الشيء لا حجر ولا شجر ولا دابة، ولا حائط، إلا شجر الغرقد الذي يزرعه اليهود الآن في فلسطين، فإنها من شجرهم لا تنطق، كل شيء ينطق، يقول: يا عبد الله يا مسلم، هذا يهودي خلفي، فتعال فاقتله، وبذلك يكون المسيح الدجال قد انتهى وتزول الفتنة، ثم تقع بعد ذلك أحداث أخرى، ويموت المهدي ويمكث سبع سنين ثم تحل البركة في الأرض، ويعم الإسلام، ولا يبقى شرك ولا كفر، ويخرج يأجوج ومأجوج، وتحدث بعد ذلك أشياء أخرى ثم تخرج الأرض بركاتها، إلى آخر القصص المعروفة في ملاحم آخر الزمان. وهنا ينبغي أن نعتقد اعتقاد جازماً بخروج الدجال، وإنني أخبركم أن الفتنة بالدجال موجودة قبل أن يظهر، فيوجد من هذه الأمة طوائف من الجهمية والخوارج وأبو علي الجبائي من المعتزلة ومن تابعه أنكروا خروج الدجال، ومن المحدثين محمد عبده الذي ظهر في مصر في أول هذا القرن أنكر الدجال وقال: الدجال هذا كناية عن ظهور الشر والفساد وما في شيء حقيقي اسمه الدجال، وتابعه أيضاً محمد فهيم أبو عبية في تعليقه على الملاحم لـ ابن كثير فقال: لا يوجد دجال ولا شيء وإنما هو الشر والفساد، وكذلك فإن بعض الناس قالوا: إن الدجال سيظهر لكن ليس معه فتن، ما في جنة ولا معه نار، ولا يحي ولا يميت، ولا يفعل أشياء، وقالوا: لن تظهر على يديه خوارق، ومع الأسف كان منهم العلامة محمد رشيد رضا رحمة الله عليه، مع أنه صاحب علم وفضل لكن أخطأ في هذه المسألة، ونحن نعتقد ما اعتقده صلى الله عليه وسلم من خروج الدجال ومن وقوع كل هذه الأشياء فيه.

فوائد جلية من أحاديث الفتن

فوائد جلية من أحاديث الفتن ونختم كلامنا هذا بالتذكير ببعض الأمور، ألا وهي: أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال: الشرك الخفي، أن يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته؛ لما يرى من نظر الرجل) انظر خاف علينا أكثر من المسيح الدجال من الشرك الخفي؛ نظراً لانتشاره وشيوعه وحصوله في كل الأزمان، أما الدجال فهو محصور في وقت معين. وقال أيضاً: (أخوف على أمتي من الدجال الأئمة المضلون) يظهر أناس يدعون العلم أو علماء منحرفون ويفتون الأمة بفتاوي غلط، ويضللون الناس، ويقولون: اتبعوا القائد الفلاني ويمشي الناس وراء القائد الفلاني اعتماداً على فتواهم، وهكذا، هذا كله من الأشياء التي خشيها صلى الله عليه وسلم علينا، فينبغي الانتباه من الشرك الخفي، والانتباه من الأئمة المضلين، والاعتصام بالعلماء الحقيقيين المخلصين لله عز وجل، واتباع الدليل. وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق، ظاهرين على من ناوءهم، حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال) فظهر أن حركة الجهاد في هذه الأمة هي حركة متتابعة، وأن أولها وآخرها متصل مع بعضها، ولا ينقطع الجهاد حتى تقاتل آخر الأمة الدجال، فأثبت أن الجهاد باقي إلى قيام الساعة. وكذلك فإنه مما ينبغي أن نتعلمه الثبات في الفتن، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (يا عباد الله فاثبتوا، إني سأصف لكم وصفاً) إلى آخر الحديث. وكذلك فإنه ينبغي ألا نشعر بالتشاؤم وفقدان الثقة من أحاديث الفتن، لأن بعض الشباب عندما يقرأ أحاديث الفتن يقول: فقدنا الأمل وما في مجال للعمل وهكذا. وكذلك هناك نقطة مهمة أخرى، نلحظ من حديث الدجال وغيره أن القتال في آخر الزمان في ذلك الوقت سيكون بالسلاح الأبيض، الآن موجود قنابل ورشاشات وأسلحة ومدافع وطائرات وبوارج وصواريخ فما هي مصير هذه الأشياء؟ نقول: إنه صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:4] ومادام أخبر أن القتال سيكون بالسلاح الأبيض على هذه الخيول، فلا بد أن يحدث، كيف سيحدث؟ هل ستنتهي هذه الحضارة والتكنولوجيا؟ وتقوم حرب مدمرة، وتفنى كل هذه الأشياء من المنشآت العسكرية والأسلحة إلى آخره، ويرجع الناس إلى حياتهم البدائية؟ الله أعلم كيف سيحدث. لكن لا بد أن يحدث ذلك لأننا نحن المؤمنين نصدق أن عيسى سيقتل المسيح الدجال بالحربة، الدجال معه سيوف، وأسلحة المسلمين هي السيوف، وهم يقاتلون على خيول ولا بد أن يحدث ذلك، أما كيف ستتطور الأمور الله أعلم، ثم إن علماء الكفار يقولون: إن الحياة على وجه الأرض يمكن أن تنتهي بثلاث دقائق باستخدام هذه الأسلحة المدمرة، فإذاً عقلاً لا يستبعد انتهاء الحضارة باستخدام الأسلحة، ممكن يحصل أي شيء وتنتهي هذه الحضارة، ويرجع الناس إلى عصور بدائية، يفنى خلق كثير جداً والباقون يرجعون الحياة البدائية، وهذا ممكن عقلاً وليس هناك أي إشكال، لكن متى؟ كيف؟ هل سيحدث بهذه الطريقة أم بغيرها؟ الله أعلم. ولذلك بعض الناس عندما يقرءون هذه الأحاديث يقولون: والله مادام القتال بالسيوف ما في داعي نعد العدة، ولا شيء، إن هؤلاء يخالفون السنن الربانية، ويخالفون مفهوم الإعداد الجهادي الذي أمر الله به، قال الله: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] صواريخ طائرات دبابات قنابل {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] فنحن الآن في هذا العصر، عندنا جهاد وقتال وعندنا كفار، فلا بد أن نقاتلهم بما معنا من الأسلحة، ونعد لهم ما استطعنا، فإذا جاء الوقت الذي سيكون فيه القتال بالسلاح الأبيض، سنضطر إلى استعمال السلاح الأبيض، فلا يقول قائل: ليس هناك أمل الآن في القتال مادام المسألة ستنتهي على السيوف، كلا. لا بد من إعداد الجهاد، وهذا دين واقعي ينتشر في الأرض بطريقة واقعية، ولا بد أن ينتشر الجهاد بالسلاح الموجود، ولذلك لا بد من أخذ العدة، والتوكل على الله عز وجل. كذلك لا بد من عدم تضخيم أحاديث الفتن، بعض الناس يضخمون أحاديث الفتن جداً يقول: خلاص ما في أمل الآن شغلتنا نجلس وننتظر المهدي والمسيح ابن مريم، فلا يوجد أمل أبداً في أن يظهر المسلمون على الكفار، والكفار أقوى منا، كلا وألف كلا، إن المسلمين إذا أعدوا العدة؛ فإن الله سينصرهم، وقد تكفل الله بنصرهم ولا بد ولا يوجد مانع أبداً أن نظهر على الكفار وأنتم ترون ما حدث على أرض أفغانستان، فلو أن هذا النموذج توسع وتوسع وشمل بلاد المسلمين، وقامت حركة الجهاد في سبيل الله؛ لطهرت الأرض من الكفار ببساطة، ولكن المسألة لا بد أن تكون شاقة، ولا يمكن أن ينصر الله الكسالى والقاعدين، ولا يمكن أن الدين ينتشر هكذا سلمياً، أي: أن المسلمين ينتصرون وهم قاعدون في بيوتهم، فلا بد من إعداد العدة، وعدم تضخيم هذه الأشياء بحيث إننا نرهب ونخاف، كلا. بل إننا سنجري على هذه السنن الربانية والكونية، ونأخذ بالأسباب، ونعد أنفسنا، ونعد العدة لتلك الأيام التي سيكون فيها هذا الجهاد المبارك، الذي سيكون انطلاقة بإذن الله عز وجل لإقامة الخلافة في الأرض وتحكيم منهج الله سبحانه وتعالى فيها. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من المؤمنين بالغيب، وأن يجعلنا صدقاً عند اللقاء، وأن يجعلنا من الشاكرين في البأساء والضراء وحين البأس، وأن يجعلنا من الصابرين إذا قامت المحن، ومن الثابتين إذا نزلت الفتن، وإذا أراد بعباده فتنة أن يقبضنا إليه غير مفتونين، أقول قولي هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

ذم الدين وعاقبة الاستدانة

ذم الدين وعاقبة الاستدانة تكلم الشيخ في هذه الخطبة عن أمر عظيم وهو الدَّين؛ محذراً من الإفراط فيه، فذكر أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الترهيب من أن يموت المرء وعليه دين. وموضحاً أنه من استدان للضرورة يريد أداء حقوق الناس فهذا قد استثناه العلماء مستدلين بأحاديث تنبئ عن هذا القول، ثم ختم خطبته بذكر العلاج النافع لمرض الدَّين والاستدانة.

ذم الدين والترهيب من عدم قضائه

ذم الدَّيْن والترهيب من عدم قضائه إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58] والدواوين ثلاثة، فمنها ديوان لا يتجاوز الله عنه يوم القيامة، وهو ديوان حقوق العباد. وهاهنا مسألة أيها الإخوة! نريد أن نفرد لها عدة خطب لنتكلم عنها، لما حصل فيها من التقصير العظيم من المسلمين، وهي مسألة ذات شجون خصوصاً لمن ذاق طعمها، وهي من مسائل حقوق العباد التي وقع فيها التفريط، وهذه المسألة أيها الإخوة! مسألة الدَّين. الناس اليوم يتساهلون في الاستدانة تساهلاً عجيباً، وكثيرٌ منهم لا يدرون عن أحكامها شيئاً، ونحن نتكلم في هذه الخطبة عن ذم الدَين، وعاقبة الاستدانة، وسوف نتكلم إن شاء الله عن الطرف الآخر وهو الدائن المقرض، وسنتكلم أيضاً إن شاء الله عن بعض أحكام الاستدانة. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو كان لي مثل أحد ذهباً ما يسرني ألا يمر علي ثلاثة أيام وعندي منه شيء إلا شيء أرصده لدَين) فصلى الله عليه وسلم ما كان أحرصه على قضاء دينه، ويقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إن قتلت في سبيل الله صابراً محتسباً، مقبلاً غير مدبر، كفر الله عنك خطاياك إلا الدَين كذلك قال لي جبريل آنفاً) وقال عليه السلام: (سبحان الله ماذا أنزل من التشديد في الدَّين، والذي نفسي بيده، لو أن رجلاً قتل في سبيل الله ثم أحيي، ثم قتل ثم أحيي ثم قتل، وعليه دين ما دخل الجنة حتى يقضى عنه دينه) رواه الإمام أحمد وهو حديث صحيح. وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الآخر: (نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه) وروى الإمام أحمد وابن ماجة، عن سعد بن الأطول رضي الله عنه، أن أخاه مات وترك ثلاثمائة درهم، وترك عيالاً، قال: (فأردت أن أنفقها على عياله قال: فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أخاك محبوس بدينه، فاقض عنه دينه) حتى مع أنه له عيال، يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أخا الميت أن يقضي عنه دينه، وفي الحديث الصحيح الآخر: (أنه صلى الله عليه وسلم صلى على جنازة، فلما انصرف قال: أهاهنا من آل فلان أحد؟ -الميت- فسكت القوم، فقال ذلك مراراً، وهم يسكتون، حتى أشار رجل من الصحابة إلى رجل في آخر القوم، قال: هاهو ذا رجل من أقرباء الميت، فجاء الرجل يجر إزاره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له عليه السلام: إن صاحبكم مأسور بدينه عن الجنة، فإن شئتم فاسدوه، وإن شئتم فأسلموه إلى عذاب الله) حديث صحيح. وعن جابر رضي الله عنه قال: (مات رجل فغسلناه وكفناه وحنطناه، ووضعناه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث توضع الجنائز عند مقام جبريل، ثم آذنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة عليه، فجاء معنا، فتخطى خطىً ثم قال: لعل على صاحبكم دين؟ قالوا: نعم، ديناران، فتخلف قال: صلوا على صاحبكم -ورفض عليه الصلاة والسلام أن يصلي عليه؛ إشعاراً للأمة بخطورة الدين، وأهمية قضائه- قال: صلوا على صاحبكم وصلاة الرسول صلى الله عليه وسلم على المؤمنين فيها رحمة عظيمة لهم، قال: صلوا على صاحبكم، فقال له رجل منا يقال له أبو قتادة: يا رسول الله! هما علي أي: أنا أقضي دين هذا الرجل، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على الميت ثم لقيه عليه السلام من الغد فقال: ما صنعت الديناران؟ قال يا رسول الله! إنما مات أمس -ما صار له وقت طويل- فقال: ما صنعت الديناران؟ ثم لقيه من الغد فقال: ما فعل الديناران؟ قال: قد قضيتهما يا رسول الله، قال: الآن حين بردت عليه جلده).

مذلة الدين

مذلة الدَّين والدين مذلة أيها الإخوة من عدة جهات: فإنه يضطر المستدين كثيراً للوقع في آفات عظيمة ومنها: الكذب إذا حدث، ومنها: خلف الوعد إذا وعد، ومنها: الحلف إذا اقسم للدائن على أن يرد إليه الدين في أجل معين، ثم أخلف وعده، فحنث في يمينه، وأقسم فعليه الكفارة، وقد يضطره إلى دخول السجن، فتسوء سمعته وسمعة أولاده وأهله بين الناس، ويحرج فيضطر إلى الكذب وربما علم أولاده الكذب، فإذا جاء الدائن إلى بيت المدين فطرق الباب أو اتصل بالهاتف، فيلجأ بعض المستدينين إلى الكذب فيقول: لولده، قل له إنه غير موجود، ثم يضطر للتخفي، ويتحرج من مواجهة الناس الذين يطالبونه، فيتوارى عن الأنظار والمجالس، ويحرم المعيشة الطبيعية، ومعاشرة الخلق، ولذلك يقول عليه السلام، في الحديث الصحيح: (لا تخيفوا أنفسكم بالدين). ثم انظر إلى تلك الصفة الشنيعة من صفات النفاق العملي: وإذا وعد أخلف كما تتكرر اليوم من المستدينين؟ كم مرة يخلفون؟ وما لإثم النفاق العملي العظيم وآثاره على قلوبهم، وقد يضطر المستدين للوقوع في الربا، فيقترض من مرابٍ ليسدد لمن يطالبه، أو يطلب محاكمته، وربما استدان من مرابٍ ليوفي مرابياً آخر، والدين يزداد، والحرام يعظم حتى يهلكه في الدنيا والآخرة. وإياكم ثم إياكم يا معشر المستدينين! أن تلجئوا إلى البنوك الربوية للاقتراض منها، فإن من فعل منكم ذلك، فقد وقع في لعنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مهما كانت الحاجة لا تلجأ إلى البنك الحرام المحرم، لكي تقترض منه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لعن في الحديث الصحيح آكل الربا وموكله، لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم معطي الربا ولعن آخذ الربا، وهذه الآفات العظيمة في الدين، تجعل بعض المستدينين قد يخرج من دينه بسبب الدين، ولهذا يقول بعض السلف: لأن تلقى الله وعليك دَيْن ولك دِين، خيرٌ لك من أن تلقاه وقد قضيت دينك وذهب دِينُك. وهو مذلة؛ لأن فيه شغل القلب والبال والتذلل للغريم عند لقائه، وتحمل منته بالتأخير إلى حين أوانه وربما مات فصار مرتهناً بدينه (نسمة المؤمن معلقة بدينه) وقد يجعل المستدين ذليلاً من جهة أنه يحس في قرارة نفسه أنه صاحب حاجة، وأنه محتاج إلى غيره، وقد يجر على نفسه تسلط غيره عليه إذا كان الدائن لا يراعي حقوق الأخوة، فيبدأ الدائن بالتدخل في شئون المدين الداخلية الخاصة، فيتكلم من منطلق الدين الذي له عند صاحبه، مما يؤذي المدين في أهله وشخصه، وقد يتدخل الدائن في تجارة المدين، ويقول له: بع كذا، ولا تشتر كذا، والمدين المسكين يحرج ولا يستطيع أن يخالف حتى وجهة نظر الدائن. وهو مذلة أيضاً؛ لأنه سيسمع من الدائن كلاماً قاسياً بشعاً في حقه لا يليق، ولكنه يضطر إلى السكوت على مضض ولا يجد ولا جواباً ولا يستطيع رداً.

أقوال السلف في الدين

أقوال السلف في الدَّين روى عبد الرزاق عن ابن جريج قال: [رآني عمر وأنا متقنع، -أخفي وجهي بالقناع- فقال: يا أبا خالد إن لقمان كان يقول: القناع بالليل ريبة وبالنهار مذلة، فقلت: إن لقمان لم يكن عليه دين] فهذا الرجل كان عليه دين، فلذلك كان يخفي وجهه. وقال عياض بن عبد الله: الدَّين راية الله في أرضه، فإذا أراد أن يذل عبداً جعلها طوقاً في عنقه. ومن أمثال العرب: لا هم إلا هم الدَّين، ولا وجع إلا وجع العين، ويروى عن عمر أنه قال: [إياكم والدَّين، فإن أوله هم وآخره حرب]. وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: [الدين وكر طالما حمله الكرام]. ومن أمثال العرب مما كان يقال: الدَّين رق استعباد، فلينظر أحدكم أين يضع رقه، ولمن يسلم نفسه، وساير بعض الوجهاء رجلاً وهو يحادثه، ففجأة قطع حديثه واصفر لونه، فقال الرجل لهذا الوجيه: ما هذا الذي رأيت منك؟ قال: رأيت غريماً لي، فهذا من أثر الدَّين، ونفس بعض المدينين عن نفسه في هذين البيتين. ألا ليت النهار يعود ليلاً فإن الصبح يأتي بالهموم حوائج ما نطيق لها قضاءً ولا دفعاً وروعات الغريم الغريم: صاحب الدين يروع، يخيف، وقال بعضهم نثراً: الدين هم بالليل وذل بالنهار، يتمنى هذا القائل الشاعر أن يعود الزمن إلى الوراء حتى لا يأتي غداً؛ لأنه إذا جاء الغد فإنه سيضطر إلى مواجهة الغريم.

التساهل في الدين

التساهل في الدَّين عادة الناس اليوم ذميمة فهم يتساهلون في الدين، وخصوصاً عندما تكون إرادتهم شراء الكماليات، لا يملكون قيمتها، أو بعض قيمتها، فيظنون أن الاقتراض أسهل الأمور، وهو سهل حلو عند أخذه، مر حنظل عند حلول وقت دفعه. والتبذير عادة قبيحة في مجتمعاتنا اليوم، التي تعودت على صرف الأموال وإنفاقها يميناً وشمالاً، بدافع بحاجة وبغير حاجة، فهم الناس اليوم يصلون لحافهم بلحاف غيرهم، لكي يمدوا أرجلهم أقصى ما يستطيعون، لو أنهم تعقلوا فأنفقوا على قدر طاقتهم واستطاعتهم، لما حصل لهم الخزي الذي حصل، والعجيب أنك ترى بعض هؤلاء من غير المتعقلين، يسكن بيتاً فخماً ويركب سيارة فارهة، وربما ركب فيها هاتفاً سياراً، كل ذلك بالدين، ولعل بعض من استدان منهم بيوتهم وسيارتهم أقل من هذا المستدين لتعقلهم. ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو الله عز وجل بأدعية عظيمة منها: (اللهم استر عوراتي، وآمن روعاتي، واقض عني ديني) وقال عليه الصلاة والسلام: (اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والجبن والبخل، وضلع الدين وغلبة الرجال) وضلع الدين هو: ثقله، وهو أن لا يجد الدائن من حيث يؤدي، وفي رواية: (من غلبة الدين وقهر الرجال). وعن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو في الصلاة ويقول: (اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم). المغرم: ما يغرمه الإنسان بسبب الدين مثلاً، فقال له قائل: ما أكثر ما تستعيذ يا رسول الله من المأثم والمغرم؟ قال: (إن الرجل إذا غرم حدث فكذب ووعد فأخلف) رواه البخاري.

أصناف الناس في الدين

أصناف الناس في الدَّين وليس المستدينون سواسية، فإنهم أنواع وأصناف، فمن الناس من يستدين وهو يعلم من حاله ودخله أنه سيسدد، ومنهم من يستدين ويعلم من حاله ودخله أنه من المستحيل أن يسدد، ومنهم من يستدين وهو لا يدري هل يستطيع إيفاءه أم لا، وبينهم مراتب متفاوتة، وأشدهم الرجل الذي يستدين وهو يعلم أنه لن يوفِ. وكذلك يتفاوت الناس بحسب حاجتهم، فمنهم من يستدين للكماليات ومنهم يستدين للضروريات، ولذلك يتفاوتون في الذم في الشرع من جهة حاجتهم الحقيقة للاستدانة، ومن جهة معرفتهم هل سيستطيعون إيفاء الدين أم لا؟ ما مدى الحاجة؟ أولاً: عندما تستدين يا أخي اسأل نفسك سؤالين، السؤال الأول: ما مدى حاجتك لهذا الدين؟ السؤال الثاني: هل تستطيع وفاءه ورده أم لا؟ ثم بعد ذلك قرر هل ستستدين أم لا؟ والإمام أحمد رحمه الله سئل عن أخذ الأجرة على تعليم القرآن، فقال: خذ الأجرة -وأخذ الأجرة معروف الخلاف فيها عند السلف هل تجوز أو لا تجوز- فقال: هو أهون عندي -أخذ الأجرة- من أن يأخذ رجل مالاً آخر ليتاجر به، فربما خسر التجارة ولم يستطع إيفاء الدين الذي أخذه منه. ولذلك وقع النزاع عند العلماء، متى يكون المستدين معذرواً عند الله ومتى لا يكون؟ هذا ما سنبينه بعد قليل إن شاء الله وأستغفر الله لي ولكم.

حكم من أخذ أموال الناس يريد أداءها

حكم من أخذ أموال الناس يريد أداءها الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى سبيله ورضوانه. أما بعد: فيقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (الدين دينان: فمن مات وهو ينوي قضاءه فأنا وليه، ومن مات وهو لا ينوي قضاءه فذاك الذي يؤخذ من حسناته يوم القيامة، ليس يومئذ دينار ولا درهم) وهو حديث صحيح بالحديث الآتي بعده، وهو: (من مات وعليه دين، فليس ثم دينار ولا درهم، ولكنها الحسنات والسيئات) وقال عليه السلام: (ما من أحد يدان ديناً يعلم الله منه أنه يريد قضاءه، إلا أداه الله عنه في الدنيا) وقال عليه السلام: (ما من عبد كانت له نية في أداء دينه، إلا كان له من الله عون) وقال عليه السلام: (من أخذ ديناً وهو يريد أن يؤديه أعانه الله) أحاديث صحيحة. وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى مع الدائن حتى يقضي دينه، ما لم يكن دينه فيما يكره الله) ومما يكره الله ويبغضه هذا التبذير الذي يلجئ الكثيرين من ضعاف العقول اليوم إلى الاستدانة، وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الآخر: (أيما رجل تدَّين ديناً وهو مجمع -أي عازم- ألا يوفيه لقي الله سارقاً) بعض الناس يستدينون وهو يعلم أنه لن يوفي الدين، فهذا سيلقى الله سارقاً. وروى البخاري رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو أعظم حديث في هذا الباب: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها، أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله) رواه البخاري. ورجح ابن حجر رحمه الله في تعليقه على هذا الحديث أن المدين إذا مات قبل الوفاء بغير تقصير منه، كأن يعسر مثلاً، أو يفاجئه الموت وله مال مخبوء وكانت نيته أن يؤدي الدين من هذا المال فإنه لا يعتبر مؤاخذاً عند الله يوم القيامة، ولا تبعة عليه في الآخرة، بحيث يؤخذ من حسناته لصاحب الدين، بل يتكفل الله عنه لصاحب الدين، والله عز وجل يوم القيامة يأتي الخصوم أمامه وكل واحد له عند أخيه مظلمة، فهذا عند أخيه أمانة، وهذا عنده دين ما أداه، فإن كان هذا المستدين معذرواً ورجل ملجأ استدان في مرضاة الله وتحرى الوفاء فما استطاع ومات، فهذا إذا شاء الله وتفضل فإن الله يتحمل عن صاحب الدَّيْن الدَّيْن، ويعطي ذلك الرجل المقرض حسنات من عنده عز وجل، دون أن ينقص من حسنات هذا شيئاً. أما لو جاء مفرطاً مضيعاً لحقوق عباد الله، مبذراً للمال، لم ينو أداءه، فإنه يؤخذ من حسناته فتعطى لأخيه صاحب الدين، ولا تضيع حقوق الله عز وجل.

علاج الاندفاع إلى الدين

علاج الاندفاع إلى الدَّين ومن علاج الاندافع في الدين يا إخواني! أمور منها:

القناعة

القناعة أولاً: القناعة؛ فإن المسلم لو قنع بحاله ومستوى معيشته، وعيشة الكفاف لا له ولا عليه، حتى لو كانت بسيطة جداً لم يتطلب أكثر من ذلك، ولحلت له هذه القناعة مشكلة الاستدانة، ولما لجأ إلى الدين، لكن الناس لا يقنعون، فينظرون إلى من فوقهم في المعيشة، والرسول صلى الله عليه وسلم يطلب من المسلم أن ينظر إلى من دونه في المعيشة، وإنما ينظر إلى من هو أعلى منه في الدين والورع والعبادة والتقوى، إذا أردت أن تنظر إلى الأعلى فانظر إلى صاحب الدين، وفي المعيشة تنظر إلى من هو أسفل منك حتى تحصل عندك القناعة، فلا تغتم وتهتم، وتلجأ إلى الدين، ويدخل في هذا إشاعة القناعة في نفوس أهل البيت، فإن كثيراً من النساء في الحقيقة، يلجئن أزواجهن إلى الاستدانة، ويجب على المسلم العاقل أن يتعقل في هذه الحالة، وألا يستجيب للدواعي وكثرة الصرخات، وكثرة الإلحاح على رأسه أن يستدين من قبل زوجته وأولاده، وإنما يذكرهم بالله، وهذا يبين لنا أهمية التربية الإسلامية، لو تربت الزوجة أو الأولاد التربية الإسلامية لما حصل منهم دفع الرجل صاحب البيت إلى الاستدانة.

الزهد في الدنيا

الزهد في الدنيا وكذلك من الأمور المهمة: مفهوم الزهد في الدنيا، فلو زهد الإنسان في الدنيا ومتاعها، وزينتها، لما شعر بالدافع إلى التزود فيستدين، ولكن قد تقع الاستدانة لضرورة في مثل علاج ضروري لا يملك قيمته، أو مسكن وأثاث لطالب زواج يريد أن يعف نفسه، وهو يخشى على نفسه العنت والوقوع في الحرام، فلا يستطيع الزواج من المهر والتأثيث إلا بالاستدانة، هنا تكون استدانته وجيهة، ومع ذلك لا ينسى الوفاء، والبحث عن تجارات طيبة، أو صفقات فورية حلال يسدّد بها دينه والله قد تكفل لمن يريد الوفاء بصدق أن يعينه. هذا كلامنا أيها الإخوة في ذم الدين، والترهيب من عدم قضائه، وعدم اللجوء إليه إلا في الضروريات، وكيف يعالج المسلم حاجة الاستدانة في نفسه، وسنكمل معكم بقية الموضوع وهو موضع خطير حتى يكاد يكون اليوم موضوع الساعة في مجالس الناس وأحاديثهم، والقصص كثيرة مؤلمة، سببها التهور والتفريط والاستعجال، وهو من الشيطان وعدم تقوى الله عز وجل. اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم أنت الغني ونحن الفقراء، اللهم اقض عنا ديوننا، اللهم إنا نعوذ بك من الغنى المطغي، ومن الفقر المنسي، اللهم أعنا على قضاء ديوننا ووفائها لمستحقيها، واجعلنا ممن يوفون بالخير، واجعلنا ممن يكونون أحسن الناس قضاءً، وصلوا على نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم، فإن الصلاة عليه في هذا اليوم العظيم فيها أجر عظيم: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56]. اللهم وارض عن صحابة نبيك أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وارض اللهم عنا معهم برحمتك ومنِّك وإحسانك يا أرحم الراحمين! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.

رءوس أقلام في الرؤى والأحلام

رءوس أقلام في الرؤى والأحلام لقد تكلم الشيخ في هذا الدرس عن تعريف الرؤيا والحلم والفرق بينهما، مبيناً أهمية الرؤيا ومنزلتها في الإسلام، ومعنى كون الرؤيا جزءاً من النبوة كما جاءت الأحاديث دالة على ذلك، ثم ذكر أنواع الرؤى، موضحاً صدق رؤيا المؤمن في آخر الزمان، مذكراً بعقوبة الكاذب في المنام، وقد تطرق إلى مسألة مهمة وهي: هل يترتب على الرؤيا حكم شرعي؟ ثم ختم الموضوع بذكر آداب الرؤيا وبعض الرؤى التي رآها النبي صلى الله عليه وسلم.

تعريف الرؤيا والحلم والفرق بينهما

تعريف الرؤيا والحلم والفرق بينهما الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصبحه أجمعين. وبعد: ففي هذه الليلة وهي أول ليالي العشر من هذا الشهر الكريم، والذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد تواطأت رؤى الصحابة على أن ليلة القدر في ليالي العشر، قال: (أني أرى رؤياكم قد تواطأت على هذه العشر) ففيها ليلة القدر كما أخبر عليه الصلاة والسلام. وبهذه المناسبة، نريد أن نتحدث قليلاً -أيها الإخوة- عن موضوع الرؤى والأحلام، وما جاء في الشريعة بشأن هذا الموضوع. الرؤيا هي: ما يراه الإنسان في منامه حسناً. والحلم: ما يتحلم به وما يراه في المنام، فالرؤى والأحلام من المترادفات، وعرف ابن القيم رحمه الله الرؤى بأنها: أمثال مضروبة يضربها الملك الذي قد وكله الله بالرؤيا ليستدل الرائي مما ضرب له من المثل على نظيره ويعبر منه إلى شبهه. والفرق بين الرؤيا والحلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: () الرؤيا الصادقة من الله، والحلم من الشيطان) فالرؤيا التي تضاف إلى الله تعالى لا يقال لها: حلم، والتي تضاف إلى الشيطان لا يقال لها: رؤيا وهذا فرق عظيم دل عليه كلام الشارع، من أن هذه من الله، وهذه من الشيطان.

أهمية الرؤيا ومنزلتها في الإسلام

أهمية الرؤيا ومنزلتها في الإسلام أما أهمية الرؤى ومنزلتها في الإسلام، فقد كان للأنبياء معها مواقف ومن ذلك موقف الخليل إبراهيم عليه السلام لما عزم على ذبح ابنه من أجل رؤيا رآها {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات:102 - 105]. وكذلك الرؤيا شغلت جزءاً كبيراً من قصة يوسف عليه السلام وما فيها من رؤيا الملك، وكيف عبرها يوسف عليه السلام، وكذلك رؤيا صاحبي السجن. وفي سورة الأنفال كانت رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر، حينما رأى الكافرين قلة ليشجع الله المؤمنين على قتالهم، وفي سورة الفتح كذلك نجد رؤياه صلى الله عليه وسلم في دخوله مكة مع أصحابه معتمرين، وتتحقق تلك الرؤيا في عام الفتح: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ} [الفتح:27]. وقد امتن الله تعالى على نبيه يوسف عليه السلام، بأنه يعلمه تأويل الرؤى {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} [يوسف:6] وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم مبيناً رؤيا مهمة، كانت من دلائل النبوة، وهي قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث: (إني عبد الله وخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته) يعني: مضطجع وملقى على الأرض في طينته، قبل أن ينفخ فيه الروح، والنبي عليه الصلاة والسلام مكتوب عند الله أنه خاتم النبيين، وسأخبركم عن ذلك وهي دعوة أبي إبراهيم: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ} [البقرة:129] واستجاب الله تعالى بعد آلاف السنين، وبعث الله عز وجل بنبينا عليه الصلاة والسلام: (دعوة أبي إبراهيم وبشارة عيسى بي، ورؤيا أمي التي رأت -وكذلك أمهات النبيين يرينه ترى مناماً على أن ما في بطنها له شأن- وإن أم رسول الله صلى الله عليه وسلم رأت حين وضعته نوراً أضاءت له قصور الشام) رواه الإمام أحمد وهو حديث حسن، وقال الهيثمي: وأحد أسانيد أحمد رجاله رجال الصحيح، غير سعيد بن سويد وهو ثقة. وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة، فالرؤيا لها قدر عظيم، وفيها من المنافع ما الله به عليم، وإذا تأملنا في غزوة بدر كم حصل لرؤيا النبي صلى الله عليه وسلم من المنافع، وكم اندفع من المضار، ورؤيا ملك مصر، ورؤيا يوسف وما حصل بها من الخيرات الكثيرة، ورفعه الله تعالى درجات، ورؤيا عبد الله بن زيد، وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما في الأذان والإقامة، ترتب عليها مشروعية الأذان والإقامة، لما وافق الوحي على ذلك وأقره، وصار ذلك سبباً لشرع هذه الشعيرة العظيمة، وفي العشر الأواخر تواطأت رؤى الصحابة، على أن ليلة القدر في أحد ليالي هذه العشر. فرؤيا الأنبياء والصالحين فيها منافع مهمة، وثمرات طيبة، وهذا من بديع خلق الله سبحانه وتعالى ولطفه، مما يزيد المؤمنين إيماناً، قال ابن عبد البر رحمه الله: وعلم تأويل الرؤيا من علوم الأنبياء، وأهل الإيمان، وحسبك بما أخبر الله من ذلك عن يوسف عليه السلام وما جاء في الآثار الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأجمع أهل الهدى من أئمة الهدى، من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء المسلمين، أهل السنة والجماعة على الإيمان بها، وأنها حكمة بالغة ونعمة يمن الله بها على من يشاء، وهي المبشرات الباقية بعد النبي عليه الصلاة والسلام. أيها الإخوة: إن كثيراً من الناس في عصرنا تخبطوا في مسألة الرؤى والأحلام، فاقتنى بعضهم قواميس وكتب يقولون أنها تفسر الرؤى والأحلام، وأن من رأى ماء معناها كذا، ومن رأى حية معناها كذا، ونحو ذلك من الأشياء، ولنعلم بأن قضايا الرؤى ليس لها قانون، ليس لها شيء يضبطها، وإنما يكون معناه بالنسبة لشخص يراه يختلف عن معناه بالنسبة لشخص آخر قد يرى الشيء نفسه، وقد حصل على عهد ابن سيرين رحمه الله وهو من مشاهير من كان يفسر الأحلام في هذه الأمة، أنه أتاه رجلان، كل واحد منها يذكر أنه رأى في المنام أنه يؤذن، فقال للأول: أنت تحج، وقال للآخر: أنت تسرق فتقتطع يدك، فقيل له كيف ذلك؟ قال: رأيت على الأول علامات الصلاح فتأولت قول الله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج:27] ورأيت على الثاني علامات الخبث والفجور، فأولت قوله تعالى: {ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف:70] مع أن الرؤيا نفسها هنا وهنا، لكن قال للأول: أنت تحج وقال للآخر: أنت تسرق فتقطع يدك. فإذاً -أيها الإخوة- ليس هناك قانون يضبط الرؤى، وليس هناك شيء موحد لجميع الرؤى، وليس كل من رأى في المنام نهراً أو بحراً، معناه شيء معين، وليس كل من رأى في المنام أنه يقلع منه ضرس، أنه سيفقد واحداً من أولاده، هذا قانون مضطرب وليست قاعدة في كل من يرى هذا الشيء. المسألة تختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، والله عز وجل يلقي في قلوب الذين يعلمون تفسير هذه الرؤيا إلهاماً فلا تستطيع أن تقول: إن لها قاعدة. وقد نسبت كتب كثيرة لأناس من أهل العلم على أنهم ألفوها في هذا، منهم الكتاب المنسوب لـ ابن سيرين، ولعل الغالب على الظن أنه مما جمعه طلابه من بعده، وليس مما كتبه هو. وكذلك لا يمكن الاعتماد على معاجم تفاسير الأحلام. التي ظهرت، بحيث أنها تكون قاعدة مطردة.

معنى كون الرؤيا جزءا من النبوة

معنى كون الرؤيا جزءاً من النبوة بالنسبة لكون الرؤيا جزء من النبوة، فما معناه؟ أولاً: الأحاديث الواردة فيه إذا ألقينا عليها نظرة نجد تفاوتاً في الأرقام، فمثلاً بعض الروايات فيها، (الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة) وفي رواية أخرى: (الرؤيا الصالحة جزء من سبعين جزءاً من النبوة) الحديث الأول في الصحيح، والثاني أيضاً رواه مسلم، والثالث: (رؤيا المسلم جزء من خمس وأربعين جزءاً من النبوة) كذلك في مسلم. فـ ابن حجر رحمه الله لما علق على هذه الروايات قال: تصل إلى خمسة عشر لفظاً، وأنها تتفاوت، من ست وعشرين إلى سبعين، وأشهر الروايات: (جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة) فما معنى هذا الاختلاف؟ وما مدلوله؟ ولعل من أمثل ما ذكر في الجمع بين هذه الروايات أن ذلك يختلف باختلاف أحوال الرائين، فبعض الناس أحوالهم صادقة جداً ورؤياهم صادقة جداً فتكون رؤياهم جزء من -مثلاً- ست وأربعين، وبعض الناس في الصدق والتقوى والإيمان أقل، فتكون رؤياه جزء من سبعين، ولكن ما المقصود أن الرؤيا جزء من النبوة؟ النبوة فيها أشياء كثيرة، فيها تشريع وأحكام، وفيها أخبار عما سبق وعما سيأتي من الغيب، وغيرها من الأشياء الكثيرة من إنذار وبشارات، والنبوة تحتمل معجزات؛ لأن فيها إخباراً بالغيب، والرؤيا الصالحة يمكن أن تدل على شيء يحدث في المستقبل، سواء كان بشارة أو نذارة، سواء كان شيئاً حسناً أو شيئاً سيئاً، أو شيئاً من الشر سيقع، فيمهد للمؤمن نفسياً بهذه الرؤيا لكي يستعد لمواجهة الحدث الذي سيكون. إذاً الرؤيا ممكن أن يكون فيها إخبار عن شيء سيحدث في المستقبل، وبما أن النبوة جزء منها إخبار بالغيب فتلتقي الرؤيا مع النبوة في هذه النقطة، وفي هذه الجزئية. وكذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبر أنه لم يبق من النبوة إلا المبشرات، مثل بشائر نصر الإسلام، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه قد أعطي الكنزين الأحمر والأبيض، وأن الكنز الأبيض والأحمر: الفضة والذهب، وهما كنزا كسرى وقيصر. وكما أن في النبوة مبشرات، كذلك الرؤى فيها مبشرات، فالنبي عليه الصلاة والسلام صح عنه أنه قال () لم يبق من النبوة إلا المبشرات) والبشر: هو الذي يظهر على الإنسان من طلاقة الوجه وفرحه ونحو ذلك، قال عليه الصلاة والسلام: (إن الرسالة والنبوة قد انقطعت فلا نبوة بعدي، فشق ذلك على الناس، فقال: لكن المبشرات، قالوا: يا رسول الله! وما المبشرات؟ قال: رؤيا المسلم وهي جزء من أجزاء النبوة) رواه الترمذي وهو حديث حسن، وفي رواية لـ أحمد: (لا يبقى بعدي من النبوة شيء إلا المبشرات، قالوا: يا رسول الله! ما المبشرات؟ قال: الرؤيا الصالحة يراها العبد أو ترى له) رواه الإمام أحمد ورجاله رجال الصحيح، وقد قال بعض المفسرين في قوله تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [يونس:64] قالوا: الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له. ففي هذه الأحاديث بشارة من الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم للمؤمنين لبقاء ما يتحفهم وما يأنسهم من أجزاء النبوة مما فيه إشارة للرائي، والمرئي له، وقد جاءت أحاديث كثيرة في هذا الشأن، إذاً هذه بشائر من الله عز وجل، ومن لطائف ما روي في هذا أن الإمام الشافعي رحمه الله رأى وهو بـ مصر أن الإمام أحمد رحمه الله سيبتلى فكتب له بذلك؛ ليستعد للمحنة، وهكذا حدث فعلاً، وامتحن الإمام أحمد رحمه الله. فإذاً: يمكن أن يرى الإنسان لنفسه أو يُرى له شيء يقع في المستقبل ويكون من شخص صالح، فهذا إما يفرحه أو يجعله يستعد لحدث في المستقبل، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (أصدق الناس رؤيا أصدقهم حديثاً) وهذا يدل على أن هناك علاقة بين صحة الرؤيا وبين صدق الشخص الذي يرى، قال عليه الصلاة والسلام: (إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب، وأصدقهم رؤيا، أصدقهم حديثاً).

أنواع الرؤيا

أنواع الرؤيا والرؤيا ثلاثة أنواع: (بشرى من الله عز وجل، ورؤيا مما يحدث الإنسان به نفسه، ورؤيا من تحزين الشيطان، فإذا رأى أحدكم ما يكره، فلا يحدث به، وليقم وليصل، والقيد في المنام ثبات في الدين -إذا رأى نفسه مقيداً في المنام فهذا دليل أو علامة على ثباته في الدين- والغل أكرهه) جمع اليدين إلى العنق بالأغلال يكرهه، يكره رؤيته عليه الصلاة والسلام، هذا الحديث رواه الإمام البخاري رحمه الله تعالى. ولذلك لا يوثق إلا برؤيا الرجل الذي عرف صدقه، أما من عرف كذبه لا يمكن الوثوق برؤياه إطلاقاً، وقد يدعي أنه رأى رؤيا وهو كذاب، وقد يكون رأى أشياء لكن فساده ومعاصيه أظلمت قلبه، فكان ما يراه بقلبه في المنام لا قيمة له، ولذلك لا يمكن الاعتماد عليه، فالحديث (أصدقهم رؤيا أصدقهم حديثاً) فيه إشارة إلى أن طهارة الباطن من أسباب نقاء الرؤيا ووضوحها ومجيئها كفلق الصبح في الصدق، تقع في الواقع كما رآها، وكلما كان أصدق في الحديث كانت رؤياه أصدق في الحدوث والبيان والوضوح والوقوع أيضاً، وقد يندر أن يرى إنسان كافر أو كذاب رؤية صحيحة في المنام، لكن ممكن أن يقع ذلك على ندرته، مثلما رأى فرعون الكفار رؤيا صحيحة، لكن الحقيقة أن الله ما أراه كرامة له، ومثل ملك مصر، ما أراه الله الرؤيا إلا لأجل يوسف، كي يخرج يوسف من السجن، ويبحث الملك عن تعبيرها، ولا يرى أحداً يعبر، ولا ينبري لذلك إلا يوسف فيكون سبب الإفراج عنه، وأن يتبوأ المنزلة العالية ويكون على خزائن الأرض. فيندر أن يكون من الفاسد أو الكذاب أو الكافر رؤية صحيحة.

صدق رؤيا المؤمن في آخر الزمان

صدق رؤيا المؤمن في آخر الزمان وأما معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا اقترب الزمان لا تكاد رؤيا المؤمن تكذب) فما معنى اقتراب الزمان؟ بعض العلماء فسره بتقارب الليل والنهار، أي اعتدال الزمنين، وهذا يكون في وقت الربيع، وأن الرؤى عند ذلك تكون أصدق وهذا في العموم، ولكن الراجح والله أعلم ليس هذا، وإنما المراد باقتراب الزمان قرب قيام الساعة، وانتهاء مدة الدنيا، كلما اقتربنا من نهاية الدنيا وقيام الساعة، تكون رؤى المؤمنين لا تكاد تكذب، كأنه لما صار الكذب في آخر الزمان متفشياً، وكذلك الكفر والظلم والجهل، عوض الله المؤمنين في آخر الزمان بأمور من المبشرات والمثبتات، وهي الرؤى التي يرونها صادقة صحيحة وتقع كما رأوها، فهذا تعويض للمؤمنين.

الكذب في المنام

الكذب في المنام والوعيد قد جاء لمن يكذب في المنام، الذي يقول: رأيت كذا، وهو لم ير، بعض الناس يكذبون في المنام، وبعضهم يكذب لأغراض دنيوية، ربما يأتي ويقول: رأيت كذا، لكي تعطيه شيئاً، أو يتقرب منك، ونحو ذلك، وهذا حرام، لو قال بعض الناس: نستخدمه في الدعوة إلى الله، أو لكي نقنع شخصاً عاصياً ونحذره، نخترع له رؤيا نقول: رأيناك في قبر أو رأيناك في سواد، أو رأيناك تضرب، أو رأينا حولك ثعباناً وغير ذلك. فنقول: لا يجوز، فالغاية لا تبرر الوسيلة، لا بد أن تكون الغاية شرعية والوسيلة شرعية، إذا أردنا أن ندعو إلى الله عز وجل، لا بد أن تكون الوسائل شرعية، أما أن نكذب في المنام لكي نهدي الناس، فهذا أسلوب خاطئ ولا يمكن القبول به، والحديث يقول: (من تحلم بحلم لم يره كلف أن يعقد بين شعيرتين ولن يفعل) والحديث رواه البخاري وفي حديث آخر (من أفرى الفرى أن يري الرجل عينه ما لم تر) إدعاء وكذب، وما معنى يعقد بين شعيرتين، يعني: يفتل إحداهما بالأخرى، وهذا حيث أنه محال فالتكليف فيه نوع من التعذيب، مثل المصورين يكلفون يوم القيامة أن ينفخوا الروح في كل صورة صوروها، فإذا قام أحدهم بعمل تمثالاً من ذوات الأرواح، أو صور صورة من ذوات الأرواح ليست للضرورة ولا للحاجة، وإنما للزينة ولكسب المال، فما هو عذابه يوم القيامة؟ يكلف أن ينفخ فيها الروح، يقال: (أحيوا ما خلقتم) كما جاء في الحديث الصحيح، كيف يحيي ما خلق والروح لا يملكها إلا الله عز وجل، وهي من شأنه سبحانه وتعالى؟ فيقال لهم: (أحيوا ما خلقتم) فيكلفون بالمحال وهذا نوع من التعذيب، وكذلك هنا، ولعل هناك ارتباطاً بين هذا وهذا، فالرؤيا خلق من الله، وهي صورة معنوية فما بالك إذا كان المصور يصور صورة حسية، وهذا الذي يتكلف رؤيا ما رآها، إذاً يختلق صورة معنوية لم تقع، إذاً هناك مناسبة بين تعذيب المصور وتعذيب الكذاب في المنام، فيه تشابه لهذه المناسبة، كلاهما يعذب بالتكليف بالمحال، هذا يقال له: (أحيوا ما خلقتم) والآخر يقال له: (اعقد بين شعيرتين) وهيهات الإنسان يعقد بين شعيرتين، وربما تجر الرؤيا الكاذبة على الإنسان مصيبة لم تكن في الحسبان بسبب كذبه في المنام، فقد جاء أن رجلاً قص على ابن سيرين رحمه الله فقال: رأيت كأن بيدي قدحاً من زجاج فيه ماء، فانكسر القدح وبقي الماء، فقال: اتق الله فإنك لم تر شيئاً، يعني أنه اكتشف كذبه، فقال: سبحان الله كيف تكذبني؟ هذا كلامي، قال ابن سيرين: فمن كذب فما عليّ ستلد امرأتك وتموت ويبقى ولدها، فلما خرج الرجل، قال: والله ما رأيت شيئاً، فما لبث إلا أن ولد له وماتت امرأته، فينبغي على المؤمن أن يحذر أشد الحذر في مسألة الكذب في المنام، وكذلك الكذب في التأويل؛ لأن بعض الناس يؤولون الرؤى بغير علم، وهذا حرام، وتأويل الرؤى بغير علم مثل الفتوى بغير علم، وهي باب واحد، يأتي بعض الناس يفسر بالظن يقول: لعل ولعل إما أن يعلم بما يلقيه الله في نفسه مما عنده من علم في تأويل الرؤى وإلا فلا يتكلم إطلاقاً، ويقول: الله أعلم.

تقسيم الرؤيا إلى نوعين

تقسيم الرؤيا إلى نوعين أما أنواع الرؤى فإنه قد مر معنا أنها ثلاثة، بشرى من الله، وما يحدث الإنسان بها نفسه، وتحزين من الشيطان. قال النبي صلى الله عليه وسلم عنها: (إن الرؤيا ثلاث: منها أهاويل من الشيطان ليحزن بها ابن آدم، ومنها ما يهم به الرجل في يقظته فيراه في منامه، ومنها جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة) قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكر حديث أبي هريرة، وقيل: إن ذلك من كلام ابن سيرين، لكن تقسيم الرؤيا إلى نوعين، نوع من الله، ونوع من الشيطان وهذا صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم بلا ريب، فيمكن أن نقول أن الرؤى نوعان أساسيان: من الله وهي الرؤيا الصالحة، وهي البشرى وجزء من النبوة، وهي كثيرة في الأنبياء والصالحين، قليلة فيمن سواهم. ثانياً: الأضغاث ويدخل تحت الأضغاث أنواع كثيرة منها: أهاويل وتلاعب الشيطان ليحزن بها ابن آدم، مثل الذي ورد في الحديث: (أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: رأيت فيما يرى النائم البارحة كأن عنقي ضربت فسقط رأسي فأتبعته، فأخذته ثم أعدته مكانه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا لعب الشيطان بأحدكم في منامه، فلا يحدثن به الناس). رأيت رأسي قطع وتدحرج ولحقته وأعدته مكانه، هذا من الشيطان فلا يحدث به إطلاقاً، فالشيطان يتلاعب بابن آدم في المنام، فيريه مثل هذه الأشياء، وكذلك من رؤى الضلال المبين أن يرى الإنسان -مثلاً- صورة الله أو النبي صلى الله عليه وسلم أو الملائكة، يقول له: افعل حراماً. الشيطان يصوره له يقول على أنه الله، أو أنه النبي، أو أنه الملك يقول له: افعل الشيء المحرم، فهذا أيضاً من تلاعب الشيطان لأن الله لا يأمر بالفحشاء، فهذا من الشيطان، كذلك لو أن الشيطان أرى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام مثلاًُ أنه قال: هذا النبي صلى الله عليه وسلم، أسود اللون أو قصير أو سمين أو أعرج أو فيه عاهة أو أعور ونحو ذلك، هذا ليس هو النبي عليه الصلاة والسلام، هذا من تلاعب الشيطان بابن آدم في المنام. النوع الثالث: نوع لا بشارة ولا من الشيطان، وإنما هو شيء كان الإنسان مهموم به في حياته، كالطالب الذي يذاكر في الامتحان ويقلب الأوراق، ويتخيل الاختبار وما سيأتي من الأسئلة ونحو ذلك فينام، فيرى نفسه في قاعة الاختبار في المنام وتوزع الأوراق، وأنه يحل وأنه سلم الورقة وأنه، شيء كان مهموماً به في يومه فرآه في ليلته، معاملة واحد يتابع فيها، فيرى في المنام المعاملة، ونحو ذلك. فإذاً هذا النوع لا تقول أنه رؤى من الله بشارة أو لا تقول أنه تلاعب من الشيطان، بل هو هم كان الإنسان مهموماً به في نهاره، فانطبع في شعوره، فرآه في ليله في المنام.

أقسام الناس بالنسبة للرؤيا

أقسام الناس بالنسبة للرؤيا أقسام الناس بالنسبة للرؤيا، فإن الناس فيها أقسام: فأما الأول فهم: الأنبياء، ورؤياهم كلها صدق ووحي. الصالحون: والغالب على رؤاهم الصدق، وقد يقع فيها ما يحتاج إلى تعبير، فهي نوعان: نوع لا يحتاج إلى تعبير، يرى أنه سيحدث في اليوم الفلاني كذا وكذا مثلاً، فيقع فعلاً كما رأى مباشرة، ونوع فيه غموض يحتاج إلى تفسير، فهذا النوع الذي قد يقع لأناس من الصالحين. وأما من عداهم فتقع لهم أشياء قد تكون صادقة وقد تكون غير صادقة، ولكن الفسقة يغلب على رؤاهم الأضغاث ويقل فيها الصدق، وأما الكفار فيندر جداً أن يقع منام صادق بالنسبة لهم.

هل يترتب على الرؤيا حكم شرعي؟

هل يترتب على الرؤيا حكم شرعي؟ مسألة مهمة: هل يترتب على الرؤيا حكم شرعي؟ إن غلاة الصوفية -أيها الإخوة- كما تقدم في الدرس الماضي، جعلوا من مصادر التلقي المنامات. كل أهل السنة والجماعة مصادر التلقي عندهم الكتاب والسنة وإجماع الأمة، والقياس؛ أعني قياس عير المنصوص عليه على المنصوص عليه في الكتاب والسنة. الصوفية عندهم كما ذكرنا (الكشف) يقولون: انكشفت لنا الأستار، ورأى القطب (الولي الأعظم) اللوح المحفوظ ورأى ما هو مكتوب فيه، الذوق والوجد والمنامات، ورأى الخضر، وطلع المقبور فحدثه بأشياء، ويعتبرون ذلك تشريعاً ويقول: أنا أخذت الورد الفلاني والصلاة النارية على فلان الفلاني، خرج من قبره وحدثني به، هذا مصدر عندهم للتشريع والتلقي، وينبني عليه أحكام وفيها فضائل. بالنسبة لـ أهل السنة، ليست الرؤى عندهم مصادر التلقي، والمنامات والرؤى على فضلها لا تؤخذ منها أحكاماً شرعية، ولا يمكن أن يقول عالم من علماء أهل السنة: إن الشيء الفلاني حرام، والدليل رؤيا رأيتها وفيها كذا كذا، أو يقول: الشيء الفلاني مباح، والدليل رؤيا رأيتها وهي كذا كذا، هذا ليس في دين الإسلام فإذاً غير رؤى الأنبياء لا يمكن أن يؤخذ منها أحكام، رؤى الأنبياء حق ووحي يؤخذ منها أحكام، أما رؤى الناس بشارات، وأخبار عن أشياء تقع في المستقبل، وهكذا. وليست مجالاً ولا مأخذاً للأحكام، فقد يقول قائل: أليس الأذان شرع بالمنام؟ وأليس عبد الله بن زيد وعمر بن الخطاب رأيا الأذان؟ نقول: نعم. لكن متى صار الأذان من الدين لما رآه عبد الله بن زيد ورآه عمر أو لما أقره النبي عليه الصلاة والسلام؟ لما أقره عليه الصلاة والسلام، ولذلك ما كانت رؤيا عبد الله بن زيد بمفردها تشريعاً، وإنما بإقرار النبي عليه الصلاة والسلام على ذلك، وحتى لا يقطع بها في مسائل كمثل رؤية الهلال، قال النووي رحمه الله: لو كانت ليلة الثلاثين من شعبان، ولم ير الناس الهلال، فرأى إنسان النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقال له: الليلة أول رمضان، أي: ليلة ثلاثين شعبان، لم يصح الصوم بهذا المنام، لا لصاحب المنام ولا لغيره، فإذاً المنامات لا يؤخذ منها الأحكام الشرعية.

آداب المنام

آداب المنام أما بالنسبة للمنام فله آداب تتعلق به: قال ابن القيم رحمه الله: ومن أراد أن تصدق رؤياه، فليتحر الصدق، وأكل الحلال، والمحافظة على الأوامر والنواهي، ولينم على طهارة كاملة، مستقبل القبلة، ويذكر الله حتى تغلبه عيناه، فإن رؤياه لا تكذب البتة. وأصدق الرؤيا ما كان في الأسحار، فإنه وقت النزول الإلهي، واقتراب الرحمة والمغفرة، وسكون الشياطين، وعكسه رؤيا العتمة، التي هي وقت العشاء، عند انتشار الشياطين والأرواح الشيطانية، فكون الرؤيا تصدق بالأسحار فهذا غالباً، غالب الرؤيا الصادقة تكون في الأسحار.

آداب الرؤيا الصالحة

آداب الرؤيا الصالحة ما هي آداب الرؤيا الصالحة؟ لو أن إنساناً رأى رؤيا يحبها فيها بشارة، ماذا يفعل؟ قال صلى الله عليه وسلم: (إذا رأى أحدكم رؤيا يحبها فإنما هي من الله، فليحمد الله عليها، وليحدث بها، وإذا رأى غير ذلك مما يكره، فإنما هي من الشيطان، فليستعذ من شرها، ولا يذكرها لأحد فإنها لا تضره) وقال صلى الله عليه وسلم: (فإن رأى أحدكم حسنة فليبشر، ولا يخبر إلا من يحب). فإذاً الآداب المتعلقة بالرؤيا الصالحة، في السنة عدة: أولاً: أن يحمد الله تعالى. ثانياً: أن يسأله تحقيقها. ثالثاً: يحدث بها من يحب. رابعاً: أنه لا يخبر حاسداً ولا يخبر جاهلاً، يحدث بها من يحب. وأما الرؤيا المكروهة، فجاء في السنة أنه إذا رأى ما يكره فليتعوذ بالله من شرها، ومن شر الشيطان، وليتفل ثلاثاً، ولا يحدث بها أحداً، فإنها لا تضره، وفي رواية: (وليبصق عن يساره ثلاثاً، ويستعذ بالله من الشيطان ثلاثاً، وليتحول عن جنبه الذي كان عليه) وفي رواية: (فإن رأى أحدكم ما يكره فليقم، وليصل ولا يحدث بها الناس) فإذا رأى الإنسان رؤيا سيئة أو مكربة أو مفزغة فماذا يجب عليه أن يعمل؟ أولاً: يستعيذ بالله من شرها. ثانياً: يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم. ثالثاً: يتفل عن يساره ثلاثاً طرداً للشيطان وتحقيراً له، وجهة الشمال معروفة في الشريعة للأشياء المستقذرة، والشيطان ممكن أنه يكبت من جراء هذا البصق، وهذا التفل الذي يكون عن الشمال ثلاث مرات، ويحقر ويخنس. رابعاً: لا يذكرها لأحد؛ حتى لا يتعجل أحد بتعبيرها بأشياء مكروهة، فيتضرر الرائي. خامساً: أن يصلي عندما يستيقظ من نومه، والصلاة مطردة للشيطان. سادساً: يتحول عن جنبه الذي كان عليه، تفاؤلاً بتغير الحال، فإذا كان نائماً على اليمين ينام على ظهره، فهذه بالنسبة لمسألة الرؤى السيئة، أما إذا انفجع من الرؤيا وقام من النوم مفزوعاً يقول: أعوذ بكلمات الله التامة، من غضبه ومن شر عبادته، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون، {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون:97 - 98].

تأويل الرؤى وتعبيرها

تأويل الرؤى وتعبيرها أما تأويل الرؤى وتعبيرها فمعناها: الأخبار بما تئول إليه الرؤيا، فما هو تفسير الرؤيا؟ هو كما عبر يوسف {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ} [يوسف:41]. الأولى تعبيرها شبه مباشر: {أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً} [يوسف:41]، وأما الآخر، فيصلب ويموت ويقتل وتأكل الطير من رأسه، تأتي وتقف عليه وهو مصلوب وتأكل من رأسه وتنقر في رأسه، هذا تأويله. الرؤى إذاً قسمان: قسم جلي، كمن رأى في المنام أنه يعطى تمراً فقام في النهار فأعطي تمراً. أو رأى في المنام أن فلاناً سيموت، فقام من المنام وأخُبر أن فلاناً مات، أو بعد مدة حصل ما رآه منه. وقسم مرموز له، بعيد المرامز لا يعبره إلا حاذق؛ لأن فيه ضرب مثل، فهذا لا يقص إلا على معبر، والمعبر له صفات: منها أن يكون عالماً، ذكياً، تقياً، نقياً من الفواحش، يعرف حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولغة العرب، فهذا الذي تقص عليه الرؤى لتعبيرها وتفسيرها، وأيضاً يقول عمر رضي الله عنه لما كتب لـ أبي موسى كما في شرح السنة للبغوي: [أما بعد: فإني آمركم بما يأمركم به القرآن، وأنهاكم عما نهاكم عنه محمد صلى الله عليه وسلم، وآمركم باتباع الفقه والسنة والتفهم في العربية، وإذا رأى أحدكم رؤيا فقص على أخيه فليقل خيراً لنا وشراً لأعدائنا] أي يتفاءل بها لنفسه وللمسلمين، وأيضاً ويتفاءل بأنها شر على الكفار والأعداء. وقد سئل الإمام مالك رحمه الله: أيعبر الرؤيا كل أحد؟ قال: [أبالنبوة يلعب!] ثم قال: [الرؤيا جزء من النبوة فلا يعلب بالنبوة] وقال النبي صلى الله عليه وسلم (إذا رأى أحدكم رؤيا حسنة فليفسرها وليخبر بها، وإذا رأى رؤيا قبيحة، فلا يفسرها، ولا يخبر بها) وإذا كان يستطيع أن يفسرها فسرها، وإذا لم يستطع أن يفسرها فإنه يقصها على من يعرف التفسير، ممن تقدمت صفته.

السؤال عن الرؤيا

السؤال عن الرؤيا والسؤال عن الرؤيا لا بأس به، فإن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان إذا صلى الصبح أقبل على أصحابه، ويقول: هل رأى أحد منكم البارحة رؤيا؟ من رأى منكم رؤيا فليقصها أعبرها له) كان يقول لأصحابه هذا الكلام بعد الفجر خاصة؛ لأن الرائي يكون صافي الذهن، والعابر يكون حاضر الذهن، ورؤى الأسحار -كما تقدم- من أصدق الرؤى، ومرة ما قص عليه أحد شيء، فأخبر عن رؤيا رآها، وأخبر عما حصل فيها. تقص الرؤيا على صاحب مودة وعلى ذي علم، كما جاء في الحديث، ولا تقص على حاسد، ولذلك كان يعقوب حكيماً لما قال ليوسف: {لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلَى إِخْوَتِكَ} [يوسف:5] لأن إخوتك حسدة، حسدوك على النعمة التي أعطاك الله إياها، فلا تقصصها على حاسد: {فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً} [يوسف:5]. هل يمكن للإنسان إذا أخبر جاهلاً برؤيا ففسرها وعبرها أنها تقع فعلاً على هذا النحو الذي عبرها به؟ ممكن، وقد جاء حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، تكلم العلماء في صحته، بعضهم صححه وبعضهم لم يصححه أنه عليه الصلاة والسلام قال: (إن الرؤيا تقع على ما تعبر به، ومثل ذلك كمثل رجل رفع رجله فهو ينتظر متى يضعها) إذا رأى أحدكم رؤيا فلا يحدث بها إلا ناصحاً أو عالماً، الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر، فإذا عبرت وقعت. وقد يقال: ممكن الآن واحد يقص الرؤيا على كذا شخص وكل واحد يفسرها له تفسيراً مختلفاً، فعلى أي تفسير تقع؟ قال بعضهم: تقع على أول معبر، واشترط بعضهم أن يكون أول عابر يصيب وجه التعبير الصحيح، وإذا أول عابر ما أصاب وجه التعبير الصحيح، وقال كلاماً من عنده خلطاً وما أصاب، فأول واحد يصيب بعده، يقع تعبير الرؤيا بناءً على كلامه، فإذاً على أول معبر يعبرها بشكل صحيح. هناك قصة حسنه رواها الدارمي، حسن الحافظ ابن حجر رحمه الله إسنادها في الفتح: عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كانت امرأة من أهل المدينة لها زوج تاجر، يختلف في التجارة، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن زوجي غائب وتركني حاملاً فرأيت في المنام أن سارية بيتي انكسرت، وأني ولدت غلاماً أعور، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: خيرٌ، يرجع زوجك إن شاء الله صالحاً تلدين غلاماً براً، فذكرت ذلك له، فجاءت ورسول الله صلى الله عليه وسلم غائب، ذكرت ذلك ثلاثاً) الآن المرأة جاءت وسألت ثلاث مرات وهي تجاب بنفسه، جاءت مرة أخرى والنبي عليه الصلاة والسلام غائب، وعائشة موجودة، فسألت عائشة عن المنام، يعني: الآن ليس هناك داعي أن تسأل عائشة؛ لأنها سألت النبي عليه الصلاة والسلام وهو أصدق الناس، وأعرف الناس بالتأويل، فلماذا تسأل بعده؟ فربما أصبحت في عقوبة. فـ عائشة ما كانت تدري عما قبل، فلما جاءت هذه المرأة وقالت: رأيت كذا وكذا، قالت عائشة: [لئن صدقت رؤياك، ليموتن زوجك، وتلدين غلاماً فاجراً] فقال: انكسرت سارية البيت، يعني: موت عمود البيت وهو الرجل، والغلام الأعور يعني: غلام فاجر، فقعدت تبكي المرأة هذه، فجاء رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (مه يا عائشة! إذا عبرتم للمسلم الرؤيا فعبروها على خير؛ فإن الرؤيا تكون على ما يعبرها صاحبها، قالت عائشة: فمات والله زوجها، ولا أراها إلا ولدت غلاماً فاجراً) فقال بعضهم: لعله عقوبة لهذه المرأة حيث سألت بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فقد سألت ثلاثاً وما اكتفت؟! فإذاً الرؤيا لا تقص على أي أحد، تقص على ناصح وواد، ليس على حاسد ولا على جاهل، وإنما صاحب علم، هذه الصفات التي ذكرناها لمن تقص عليه الرؤيا.

رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام

رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام تقدم الكلام فيها وشرحها، وأن الشيطان لا يتمثل بصورة النبي عليه الصلاة والسلام، وإذا رأيته عليه الصلاة والسلام ورأيت شعره أسود، ورأيت شيباً بسيطاً في مفارق الرأس والعنفقة (عشرون شعرة بيضاء) ولحيته تملأ ما بين منكبيه، ووجهه أبيض مشرب بالحمرة، وعيناه واسعتان، وشديدتا السواد في شدة البياض، ورموشه قد طالت وانثنت، وأنه صلى الله عليه وسلم عريض ما بين المنكبين، وأنه عظيم المشاش أي: مفاصل الأصابع، وأنه صلى الله عليه وسلم كان شعره يصل إلى أذنيه أو يصل أحياناً إلى عاتقيه، وأحياناً تكون له ظفائر، وكل هذا ورد في صفة شعر النبي صلى الله عليه وسلم إلى آخر ما ورد في صفاته؛ إذا رأيته على صفاته التي وردت في كتب السيرة، فهو هو عليه الصلاة والسلام، والشيطان لا يمكن أن يتمثل به، فرؤيته قد تكون بشارة تثبيت، لصاحب المنام -مثلاً- يثبته الله عز وجل بأن يريه النبي عليه الصلاة والسلام وهو يقول له كلمات فيها تثبيت، وقد يراه من غير أن يقول له كلمة. وأما إذا رئي على صفة المغايرة، فليس هو النبي عليه الصلاة والسلام قطعاً، وقد يقول: رأيت نوراً ما رأيت وجهه ولا رأيت شكله، فنقول: لا نستطيع أن نقطع أنه هو عليه الصلاة والسلام. ابن سيرين قال له رجل: إني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم، قال: صف الذي رأيته، فإن وصف له صفة لا يعرفها، قال له: لم تره، ومرة رآه رجل، فوصفه لـ ابن عباس: قال: لم تعدل، لو رأيته في الحقيقة ما استطعت أن تصفه بأكثر وأوضح من هذا، والرجل ما كان رأى النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه من التابعين.

رؤى النبي صلى الله عليه وسلم

رؤى النبي صلى الله عليه وسلم النبي عليه الصلاة والسلام رأى رؤيا فقصها على أصحابه، رأى أنه على حوض يسقي الناس، وأتى أبو بكر فأخذ الدلو ليريح النبي عليه الصلاة والسلام، فنزع ذنوبين، وفي نزعه ضعف والله يغفر له، فأتى عمر بن الخطاب فأخذ منه، فلم يزل ينزع حتى تولى الناس والحوض يتفجر، ففسروه على أن الفتوحات في عهد عمر بن الخطاب تكون شاملة وكبيرة، وعهد الصديق كان سنتين وأشهر، انشغل فيه بقتال المرتدين، وإرساء دعائم الإسلام، وما كان عمر يستطيع أن يفتح لولا أن أبا بكر قد مهد الأمر بوضع القواعد والأسس، وأن الإسلام قد استتب في الجزيرة بمحاربة المرتدين. خلافة عمر استمرت فوق عشر سنوات، ولذلك فتح الله الأمصار في عهده، والنبي صلى الله عليه وسلم رأى أن عمر بن الخطاب عليه قميص يجتره فأوَّله بالدين، يعني: أن دين عمر كامل وسابغ، وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم أنه يشرب لبناً وأنه خرج من أظفاره الري وأنه أعطى الفضل لـ عمر، وأول اللبن هنا بالعلم، ورأى النبي صلى الله عليه وسلم قصراً وامرأة تتوضأ بجانب القصر، فقال: (لمن القصر؟ فقيل: لـ عمر؟ فذكرت غيرتك فوليت مدبراً، فبكى عمر رضي الله تعالى عنه). رأى النبي صلى الله عليه وسلم أنه هاجر إلى أرض ذات نخل، ذهب وأهله إلى أرض اليمامة أو هجر، فإذا المدينة هي يثرب، ورأى رؤيا أنه انثلم سيفه، فانقطع صدره، فإذا هو ما وقع بالمؤمنين يوم أحد من مصيبة، ثم هزه مرة أخرى فإذا هو راجع كما كان، فأوله ما جاء الله به من فتح واجتماع المؤمنين، ورأى في المنام بقراً تذبح، وكان تأويلها النفر من المؤمنين -السبعين- الذين أصيبوا في أحد وقتلوا، ورأى النبي صلى الله عليه وسلم أناساً من أمته، غزاة في سبيل الله يركبون ثبج البحر كالملوك على الأسرة، فأخبر أصحابه بذلك واستيقظ يضحك، فسألت أم حرام بنت ملحان، أن يجعلها الله منهم، فدعا لها، فهكذا حصل وركبت البحر زمن معاوية وغزت، وخرجت من الساحل وركبت الدابة فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر، فهلكت وذهبت شهيدة إلى الله سبحانه وتعالى. وكذلك رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة أنه في دار عقبة بن رافع، وأنه أوتي برطب من رطب مرطاب فأولها بالرفعة لنا في الدين، والعاقبة في الآخرة، وأن ديننا قد طاب، وكذلك رأى النبي صلى الله عليه وسلم زوجته عائشة يحملها الملك جبريل في سرقة من حرير، ويقول هذه امرأتك، فيكشفها فإذا هي عائشة، هذا الكلام قبل أن يتزوج عائشة بمدة، ويقول: إن يكن من عند الله يمضه، وفعلاً تزوج النبي صلى الله عائشة، ورأى النبي عليه الصلاة والسلام امرأة سوداء ثائرة الرأس، خرجت من المدينة حتى نزلت الجحفة، فأولها: بأن وباء المدينة خرج من المدينة ونقل إلى الجحفة، وهذا الحديث في البخاري. والصحابة رأوا رؤى؛ منها ما تقدم أن رجالاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أرى رؤاكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحريها فليتحرها) ورؤيا الأذان كذلك من رؤيا الصحابة رضوان الله تعالى عنهم، وغير هذه من الرؤى التي رآها الأنبياء والصالحون من بعدهم، وربما الرؤيا أحياناً تذكر الإنسان بشيء، كأن يكون مجتهداً يفكر في أمر من الأمور، كمن عرضوا عليه قضية صلاة الجنازة على شخص مشكوك فيه، ما يدري هل هو مسلم أم كافر؟ فماذا يقول في صلاة الجنازة؟ فقيل: أن أحد أهل العلم وهو شيخ الإسلام رحمه الله عرضت المسألة عليه ونام، فرأى رؤيا وكأن أحداً يقول له: الشرط يا أحمد! الشرط يا أحمد! ففهم من ذلك أن يشرط في الدعاء، يعني أنه يقول في الدعاء: اللهم إن كان صاحب هذه الجنازة مؤمناً فاغفر له وارحمه وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، وهكذا، فيقول الشرط، إن كان صاحب هذه الجنازة مؤمناً فيدعو له بالمغفرة والرحمة، وكذلك إذا اشتبه في كونه مؤمناً أو كافراً أو ما يدرى عن حاله، وكذلك يمكن أن تحصل رؤيا تدل شخصاً على شيء مفقود، كما حصل لبعض القضاة وكان قد وضع عنده صك قرض لبعض من جاء يستفتيه في مسألة العقار، فقال القاضي: انظر فيها وضعها في مكان وتفي، وجاء أصحاب الصك يريدونه فما عثر عليه الورثة، وصارت المسألة في حرج على أولئك وعلى هؤلاء، فرأى ولد القاضي في المنام أن الشيخ يقول له: أنظرها في المكان كذا من الدرجة، في مكان وضعتها فيه، فقام من النوم، وذهب فعلاً فوجدها في نفس المكان الذي قيل له في المنام أن أباه قد وضعها فيه، وجاء وأعطاها لأصحابها وقال: إنه رحمه الله دلني على المكان في المنام، وقد تقع عجائب من هذا القبيل، وهذا لا حرج في ثبوته وتصديقه، وممكن أن يكون حقاً، وأخبار الرؤى كثيرة جداً وتكفي القواعد التي تقدم ذكرها. ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يقر أعيننا بدينه ونصرة دينه، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يجعلنا من أهل الصلاح والتقوى، والمتمسكين بالعروة الوثقى، وأن يجعلنا من أهل الصدق، وصلى الله وسلم على نبيا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

رأس المنافقين

رأس المنافقين إن عبد الله بن أبي بن سلول رأس النفاق قد أثر تأثيراً بالغاً في زرع الفتن، وإثارة الأحقاد بين المسلمين، بل لقد بلغ به الحد أن نال من النبي صلى الله عليه وسلم ومن عرضه، لكنه لما مات صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم رحمة بأمته، وتأليفاً للناس؛ كما أنه لم يقتله عندما أثار الفتن.

عبد الله بن أبي وبعض تربصه بالنبي والمسلمين

عبد الله بن أبي وبعض تربصه بالنبي والمسلمين إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أيها الأخوة: شخصية عجيبة تلك التي سنتناولها في هذه الخطبة إن شاء الله، كان لها أثر كبير في وقتها، وقد جاءت بشأنها آيات من الكتاب العزيز، وأحاديث في سنة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته.

أول مقابلة يتربص بها ابن أبي بالنبي صلى الله عليه وسلم

أول مقابلة يتربص بها ابن أبيّ بالنبي صلى الله عليه وسلم كانت أول مقابلة لهذه الشخصية مع النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه عن أسامة بن زيد؛ أن نبي الله صلى الله عليه وسلم ركب على حمار على قطيفة فدكية، وأردف أسامة بن زيد وراءه يعود سعد بن عبادة في بني الحارث من الخزرج، قبل وقعة بدر، حتى مر بمجلسٍ فيه عبد الله بن أبي، قبل أن يسلم عبد الله بن أبي، أي: يتظاهر بالإسلام، فإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان، واليهود والمسلمين، وفي المجلس عبد الله بن رواحة، فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة، خمر عبد الله بن أبي أنفه بردائه، ثم قال: لا تغبروا علينا، فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم، ثم وقف، فنزل فدعاهم إلى الله، وقرأ عليهم القرآن، فقال عبد الله بن أبي ابن سلول: أيها المرء! إنه لا أحسن مما تقول، إن كان حقاً فلا تؤذنا به في مجلسنا، ارجع إلى رحلك، فمن جاءك فاقصص عليه، فقال: عبد الله بن رواحة: بلى يا رسول الله فاغشنا به في مجالسنا، فإنا نحب ذلك، فاستب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتثاورون، فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكنوا، ثم ركب النبي صلى الله عليه وسلم دابته، حتى دخل على سعد بن عبادة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (يا سعد ألم تسمع ما قال أبو حباب؟ يريد عبد الله بن أبي، قال كذا وكذا، قال سعد بن عبادة: يا رسول الله! اعف عنه واصفح، فوالذي أنزل عليك الكتاب، لقد جاء الله بالحق الذي أنزل عليك، وقد اصطلح أهل هذه البحيرة -أي: البلدة، وهي يثرب التي صارت المدينة وطيبة - على أن يتوجوه فيعصبوه بالعصابة، أي: يتوجوا عبد الله بن أبي ملكاً عليهم -فلما أبى الله ذلك، فاتت الفرصة على عبد الله بن أبي وفاته الملك للإسلام الذي جاء- فلما أبى الله ذلك بالحق الذي أعطاك الله، شرق بذلك -أي: غص به وكرهه- فذلك فعل به ما رأيت، فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم). وكان النبي صلى الله وعليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب -كما أمرهم الله- ويصبرون على الأذى، أي: في تلك المرحلة التي جاءت بعدها مرحلة أخرى، كما قال الله عز وجل: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً} [آل عمران:186] إلى آخر الآية. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتأول العفو ما أمره الله به حتى أذن الله فيهم، ونزلت الآيات بالأمر بجهاد الكفار والمنافقين، والغلظة عليهم، وتغيَّر الحال، فلما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدراً، فقتل الله به صناديد كفار قريش، قال ابن أبي ابن سلول ومن معه من المشركين وعبدة الأوثان: هذا أمر قد توجه -أي: ظهر وبان، وقوي الإسلام وقام عموده- فبايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم على الإسلام، فأسلموا، أي: في الظاهر. لقد اضطر ابن أبي أن ينتقل من العداوة الجهرية للدين إلى العداوة السرية، والكيد للإسلام وأهله، لقد فوت عليه هذا الدين الملك، فشرق من أجل ملكه، ونافق، وصار يعادي الإسلام والمسلمين، ويدبر المؤامرات ويحبكها هو وأعوانه كيداً للدين وأهله، وكان مما يخفي به أمره أنه كان يقوم بعد خطبة الجمعة، بعد أن كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطبها، يدعو قومه إلى الإسلام متظاهراً أنه ينصر الله ورسوله، وهكذا كان يتظاهر بالحرص على مصلحة المسلمين. وفي الجهاد كان لا يريد المسلمين أن يخرجوا من المدينة إلى أحد، حتى لا ينكشف هو وأصحابه، ولكن الله عز وجل أراد أمراً آخر، فاضطر للخروج، ثم انسحب، وهكذا صار أمرهم في بقية الغزوات أنهم لا يخرجون، ويتخلفون بالأعذار الواهية، وإذا خروا خرجوا ليرجعوا، أو ليثيروا الفتنة في جيش المسلمين. إن ذلك الرجل يكره الدين وأهله، وتجرأ أن يقول للنبي صلى الله عليه وسلم وقد خمر أنفه بردائه: لا تغبروا علينا، وفي رواية أخرى للبخاري أنه قال للنبي عليه الصلاة والسلام: إليك عني، والله لقد آذاني نتن حمارك، فقال رجل من الأنصار: والله لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحاً منك، فغضب لـ عبد الله رجل من قومه فشتمه، فغضب لكل واحد منهم أصحابه، فكان بينهما ضرب بالجريد والأيدي والنعال.

مكائده في غزوة بني المصطلق

مكائده في غزوة بني المصطلق فإذاً كان مؤامرات عبد الله بن أبي تسبب الوقيعة في المسلمين والفتنة بينهم، فلقد كاد النبي عليه والصلاة والسلام وآذاه في أقرب الناس إليه زوجته عائشة، واتهم صفوان بن المعطل وإياها بفعل الفاحشة، وأنزل الله براءتها من فوق سبع سموات، وبراءة صفوان رضي الله عنهما، فقد بلغ أذاه إلى أهل النبي صلى الله عليه وسلم، وكان لا يتوانى في انتهاز الفرص للوقيعة بين المسلمين، ولذلك فإن غزوة المريسيع (غزوة بني المصطلق) قد شهدت مواقف دنيئة من هذا الرجل في غاية العجب، ومن ذلك ما حصل بين رجلين مزح أحدهما مع الآخر، فحصل بينهما رفع لشعار الجاهلية، فلما أنكره النبي صلى الله عليه وسلم، قال عبد الله بن أبي لما سمع القصة أوقد فعلوها؟ أي: المهاجرون، والله لقد كاثرونا في بلدنا، وصاروا يأكلون من خيراتنا، ونافسونا، ثم يريدون أن يطغوا علينا، فأراد أن يحيي العصبية، ويعيدها جاهلية، فقال: لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وقال أيضاً: لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا، أي: امنعوا الأموال عنه وعن أصحابه، لا تعطوه زكاة ولا غيرها، فيضطر الناس للانفضاض عنه، والأعراب الذين لا يأتون للمال لا يأتون، فلما سمع بذلك عمر رضي الله عنه، قال: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (دعه لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه). سلك النبي صلى الله عليه وسلم ذلك المسلك إيثاراً لسلامة الدين والدعوة، وحتى لا يتحدث العرب الذين لا يعرفون القصة، وهم البعيدون عن المدينة وظروفها والأحوال والملابسات، حتى لا يقال إن محمداً قتل ابن أبي وهو قد تابعه وأظهر الإسلام، فترك النبي صلى الله عليه وسلم قتله، فانبرى ابنه عبد الله، وكان رجلاً مسلماً صادقاً - عبد الله بن عبد الله بن أبي، والله يخرج الحي من الميت- فقال لأبيه: والله لا تنقلب حتى تقر أنك الذليل ورسول الله صلى الله عليه وسلم العزيز، ففعل رغماً عنه، حبسه على باب المدينة، الحديث رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح. لقد فعل ابن أبي من المؤامرات عجيباً، ومن ذلك أنه خان الله ورسوله؛ وهذا من أشنع الأمور، والله سبحانه وتعالى قال لنبيه: {وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} [النساء:107] أي: يخونونها بالمعصية {} [النساء:107] وخان الخيانات جميعاً الصغرى إلى العظمى، إلى خيانة دولة المسلمين، وإلى التجسس لحساب العدو مع إخوانه المنافقين، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ} [المائدة:41]. هل تعرفون -يا أيها الأخوة- هذه الآية: {سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ} [المائدة:41] قال أهل التفسير، وذكره ابن كثير رحمه الله: هذه الآية في المنافقين، وقال في شرحها: سماعون من أجل قوم آخرين، فكانوا يأتون مجالس النبي صلى الله عليه وسلم، وينقلون أخباره إلى قوم وصفهم الله بقوله: لم يأتوك قال تعالى: {سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ} [المائدة:41] فكان هناك كفار صرحاء لا يستطيعون الإتيان، وكان هؤلاء المنافقون يجلسون عند النبي صلى الله عليه وسلم يسمعون الأخبار، وينقلونها إلى قوم لم يأتوه: {سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} [المائدة:41].

ما هي صفات المنافقين؟

ما هي صفات المنافقين؟ ما هي صفات عبد الله بن أبي وأصحابه؟ قال تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:14] لقد كان أمراً عجيباً ذلك الذي فعله ابن أبي في الطعن وكشف عورات المسلمين، وإفشاء أسرارهم، والتجسس للمشركين على المسلمين، ونقل أخبار المسلمين والتآمر عليهم، كانوا طابوراً خامساً وصفاً خلفياً، يريدون أن يظهر في المسلمين عورة تنقل إلى الكفار، وثغرة يخبر بها الكفار، واتخذوا مسجد الضرار كفراً وتفريقاً بين المؤمنين، وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله، وتستروا بالمسجد، وهو في الحقيقة ضرار للإسلام وأهله، هكذا كانوا يتسترون بالإسلام وهم على الكفر الأكبر، وهكذا فعلوا عندما نصبوا ذلك الصرح ليجعلوه وكراً لمؤامراتهم، حتى لا تنتبه إليهم عيون المسلمين، وكانوا يحرضون الكفار على المسلمين قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ} [الحشر:11] وهكذا صنع أعداء الله، وهكذا جاملوهم وكانوا في صفهم، قال الله تعالى عنهم: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} [النساء:138 - 139] فكانوا يصانعون اليهود في المدينة ليبتغوا عزة، وإذا كانت الدائرة على المسلمين قالوا: لقد دخلنا في الصف الأقوى قال تعالى: {أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} [النساء:139] وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} [المائدة:51 - 52] إنها مسارعة وهرولة، إنها ركض وسعي، يسارعون فيهم، يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} [المائدة:52 - 53]. لقد كان أولئك المنافقون بقيادة عبد الله بن أبي يتخلفون عن الجهاد الحقيقي، ويصانعون أعداء الله، وكانوا من تخلفهم لا يعدون عدة، ولقد كشف الله أستارهم وأسرارهم وقال: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} [التوبة:46] فلو كانوا يريدون الجهاد حقيقةً لأعدوا عدة الجهاد، ولكنهم لم يعدوها، ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة، كانوا يتخلفون عن النبي صلى الله عليه وسلم بالأعذار القبيحة، وكذلك فعل عبد الله بن أبي، وكان المسلمون يكتشفون المنافق من وجهه ونصيحته لمن هي، ولذلك قال بعضهم في رجل اتهمه بالنفاق: إنا لنرى وجهه ونصيحته إلى المنافقين، وهكذا كانت سور القرآن تنزل، كالتوبة والمنافقين، والنساء والنور؛ كاشفة لأستار هؤلاء، فإن الله تعالى لم يكن ليترك نبيه دون كشف حالهم، وسميت سورة من القرآن بالفاضحة، لأنها كانت تفضحهم، والعجب كيف كان شعور ابن أبي وغيره من المنافقين والسور تنزل في فضحهم، والله يقول: يقولون، يقولون، وهو كلامهم بالنص، وهكذا كان القرآن ينزل بكلامهم بالنص الذي قالوه سراً، فاطلع الله عليه، فأطلع المؤمنين عليه. اللهم إنا نسألك البراءة من النفاق، اللهم إنا نسألك البراءة من النفاق، اللهم طهر قلوبنا من النفاق، وأعمالنا من الرياء، وألستنا من الكذب، إنك حي قيوم سميع مجيب، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

موت ابن أبي والصلاة عليه

موت ابن أبي والصلاة عليه الحمد لله، أشهد أن لا إله إلا الله، وسبحان الله! ولا حول ولا وقوة إلا بالله، وأشهد أن محمداً رسول الله، الرحمة المهداة، وحامل لواء الحمد، وصاحب المقام المحمود، الشفيع المشفع يوم الدين، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. عباد الله! وبعد حياة حافلة بالمؤامرات على الإسلام مات عبد الله بن أبي ابن سلول، وذهب منافقاً إلى ربه، فماذا كان موقف النبي صلى الله عليه وسلم؟ وماذا حصل في نهاية قصة ذلك الرجل؟ روى الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (لما توفي عبد الله بن أبي جاء ابنه عبد الله بن عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه، فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فقام عمر، فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما خيرني الله، فقال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} [التوبة:80] وسأزيده على السبعين، قال: إنه منافق، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة:84]) الحديث رواه البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه، قال ابن حجر أحمد بن علي العسقلاني صاحب كتاب فتح الباري بشرح صحيح البخاري رحمه الله تعالى في قول البخاري: جاء ابنه عبد الله بن عبد الله القصة: لما احتضر عبد الله، أي: ابن أبي جاء ابنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا نبي الله إن أبي قد احتضر فأحب أن تشهده وتصلي عليه، قال: ما اسمك؟ قال: الحباب، قال: بل أنت عبد الله). وكان عبد الله بن عبد الله بن أبي من فضلاء الصحابة، وشهد بدراً وما بعدها، واستشهد يوم اليمامة في خلافة أبي بكر الصديق، ومن مناقبه: أنه بلغه بعض مقالات أبيه، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في قتله، خشي إن قتله أحد المسلمين ألا يتحمل الموقف، فقال: أقتله بيدي، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بل أحسن صحبته) أخرجه ابن مندة من حديث أبي هريرة بإسناد حسن، وكأنه كان يحمل أمر أبيه على ظاهر الإسلام، فلذلك التمس من النبي صلى الله عليه وسلم أن يحضر عنده ويصلي عليه، ولا سيما وقد ورد ما يدل على أنه فعل ذلك بعهد أبيه، ويؤيد ذلك ما أخرجه عبد الرزاق عن معمر والطبري من طريق سعيد كلاهما عن قتادة، قال: أرسل عبد الله بن أبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما دخل عليه أي: على المنافق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أهلكك حب يهود) فقال: يا رسول الله! إنما أرسلت إليك لتستغفر لي، ولم أرسل إليك لتوبخني، ثم سأله أن يعطيه قميصه ليكفن فيه، فأجابه، وهذا مرسل مع ثقة رجاله، ويعضده ما أخرجه الطبراني عن ابن عباس قال: لما مرض عبد الله بن أبي، جاءه النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر الحديث، قال ابن حجر: وكأن عبد الله أراد بذلك دفع العار عن ولده وعشيرته بعد موته، فأظهر الرغبة في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، ووقعت إجابته إلى سؤاله بحسب ما ظهر من حاله، إلى أن كشف الله الغطاء عن ذلك، وهذا من أحسن الأجوبة، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فقام عمر فأخذ بثوب النبي صلى الله عليه وسلم، وفي رواية: [فقام إليه، فلما وقف عليه يريد الصلاة، وثبتُ إليه فقلت: يا رسول الله! أتصلي على ابن أبي وقد قال يوم كذا كذا وكذا؟ أعدد عليه قوله] يشير بذلك إلى مثل قوله: لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ، وإلى مثل قوله: لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ، وقال عمر يا رسول الله: أتصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه؟ وكأن عمر رضي الله عنه فهم من قوله تعالى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة:80] أن النبي صلى الله عليه وسلم حتى لو زاد على السبعين لن يغفر الله لـ عبد الله بن أبي مادام قد مات على النفاق، وهذا مقتضى كلام العرب، وكان النبي صلى الله عليه وسلم، يريد أن يتألف قوم عبد الله بن أبي وولده المسلم أيضاً، وكذلك فإنه كان رحيماً بأمته، فمشى على فهم كان قد تراءى له، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أعلم أني لو زدت على السبعين غفر له لزدت) وهكذا أراد أن يزيد، فطول القيام تطويلاً طويلاً، كما جاء في بعض الطرق لهذا الحديث، وقال: (تأخر عني يا عمر) فلما تأخر عنه، وحصلت الصلاة، نزلت الآيات، والله سبحانه وتعالى يبين للمؤمنين: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة:84] قال في رواية: فذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: (وما يغني عنه قميصي من الله، وإني لأرجو أن يسلم بذلك ألف من قومه) وأنزل الله تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة:84]. وفي حديث ابن عباس، فلم يمكث إلا يسيراً، حتى نزلت، أي الآية، قال: فما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على منافق بعده حتى قبضه الله، وهكذا حصل في هذه السيرة لهذا الرجل، وانتهت بإعلان واضح وصريح من رب العزة سبحانه وتعالى بأنه لا مجاملات على حساب العقيدة، وأنه لا يمكن أن يستغفر المؤمنون لرجل من المشركين: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:113] كان النبي صلى الله عليه وسلم يعمل بالظاهر حتى يعلم الحق والحقيقة بالأدلة التي يراها في الواقع، أو بما يوحيه الله إليه، وبين الله تعالى لنا صفات المنافقين، في سور كثيرة من القرآن، وآيات معددة لنحذر منهم، وليس بعجيب ولا غريب أن تكون عدد الآيات في صدر سورة البقرة التي تتكلم عن المنافقين أضعاف عدد الآيات التي تتكلم عن المؤمنين، وكذلك التي تتكلم عن الكافرين الصرحاء، لأن الناس ثلاثة أقسام: مسلم، وكافر صريح، ومنافق يخفي الكفر ويظهر الإسلام، ونظراً لخفاء حال هؤلاء فقد اعتنى الله عز وجل عناية بالغة بذكر صفاتهم، ليحذرهم المؤمنون، وهكذا كان جهادهم أمراً واجباً، بنص قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} [التحريم:9]. اللهم إن نسألك أن تحيي الإيمان في قلوبنا، اللهم اجعل قلوبنا معمورة بالإيمان واليقين.

رواسب الجاهلية

رواسب الجاهلية الطبع يغلب التطبع كما قيل، وربما اهتدى المرء لكن مع بقاء أمور في طبعه كان قد اعتادها في جاهليته، فتبدو على حين غفلة، أو في موقف ما، وهذا قد حدث للصحابة على رفعتهم وفضلهم، ونحن بذلك أحرى، ولكن النصح مطلوب، وتقبُّله وإن كان مراً واجب

موقف الإسلام من آثار الجاهلية

موقف الإسلام من آثار الجاهلية

حث الإسلام على التخلص من آثار الجاهلية

حث الإسلام على التخلص من آثار الجاهلية إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فيا عباد الله! يكون المرء مسلماً، ويولد في الإسلام، ويعيش بين المسلمين، وربما يكون ضالاً فيهديه الله عز وجل، فيغشى دور العبادة، ويصحب الأخيار، ويأتي الطاعات، وينتهي عن كثير من المحرمات، وربما شرع في طلب العلم، ولكن يبقى في نفسه من آثار الجاهلية ما يبقى، يدخل في الإسلام لكن دخولاً ليس بالكلي، فتبقى معه آثار من آثار الجاهلية، وبعضهم تظهر في نفسه بعد حين من الزمن من تلك المورثات الأولى التي كان عليها أيام ضلاله، ويدخل بعضهم في الهداية، ولكن يبقى فيه من لوثات المجتمع الفاسد الذي كان فيه، أو مما ورثه عن بعض أهله وعادات آبائه وأجداده مما يخالف شريعة الإسلام، وهذا عيب كبير أن نكون مسلمين ولكن فينا من لوثات الجاهلية، وأن تظهر علينا علامات الهداية وسمت الإسلام والتمسك بالسنة، ولكن فيها رذاذ يصيبنا من الجاهلية. لقد جاء الله بالإسلام، فمحا الجاهلية، وتتبعت الشريعة كل أمر من أمور الجاهلية القبيحة لتنسفه وتحرمه، وتعظ الناس به، قال الله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:33] يذكّر النساء المسلمات بالبقاء في البيوت فلا يخرجن لغير حاجة شرعية، كالصلاة في المسجد بشرطها، أو حاجة دنيوية لا أن يخرجن من غير حاجة. وقال تعالى: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:33] قال مجاهد: كانت المرأة تخرج تمشي بين يدي الرجال، فذلك تبرج الجاهلية، وقال قتادة: إذا خرجن من بيوتهن كانت لهن مشية وتكسر وتغنج، فنهى الله تعالى عن ذلك، وقال مقاتل في تبرج الجاهلية: أن تلقي الخمار على رأسها، ولا تشده فيواري قلائدها وقرطها وعنقها ويبدو ذلك كله، وربما كشف النحر وما على النحر من الحلي نتيجة عدم شد الخمار، هذا من تبرج الجاهلية، فذكر الله النساء المسلمات بترك ذلك فقال: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:33] لا يريد الشارع أن تبقى عند المرأة المسلمة خصلة من تلك الخصال الذميمة من العهد السابق، وعن البراء قال: كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيت من ظهره، فأنزل الله: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة:189]. لقد كانوا -أيها الإخوة- يدعون الإنسان لمن تبناه، فيأتي إنسان يتبنى شخصاً له أب معروف، فيلغي اسم أبيه، وينسبه إلى نفسه، أو له أب غير معروف فيعطيه اسماً يضيفه إليه، وينسبه إلى نفسه؛ عن عائشة رضي الله عنها أن أبا حذيفة، وكان ممن شهد بدراً مع النبي صلى الله عليه وسلم تبنى سالماً، وأنكحه بنت أخيه هند بنت الوليد، وهو مولى لامرأة من الأنصار، كما تبنى رسول الله صلى الله عليه وسلم زيداً، وكان من تبنى رجلاً في الجاهلية دعاه الناس إليه، وورث من ميراثه، حتى أنزل الله تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب:5]. لكن لا تجوز النسبة لغير أبيه الحقيقي، وإن لم يعرف فلا ينسب إلى شخص ليس بولده فيرث ظلماً مع أولاده من تركته، وربما كشف كذلك على بنات هذا الرجل، بحجة أنه ولد من أولاده وليس كذلك، فجاءت الشريعة بتحطيم هذه العادة الجاهلية، وأنزل الله في كتابه آية يبين فيها تحريم ذلك، وتغير اسم زيد بن محمد إلى زيد بن حارثة، ورجع إلى اسمه الأصلي، وتزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب زوجة زيد، وكان من أكبر العيوب في الجاهلية، أن يتزوج الإنسان زوجة ابنه بالتبني، فكان تحطيمها بتزويج زينب للنبي عليه الصلاة والسلام، لإزالة تلك العادة الجاهلية، ونسخ ذلك، وعندما كان يدخل الشخص في الإسلام كان يمحو من نفسه عادات الجاهلية، ويقاوم نفسه التي تريد العودة إلى الطبع الأول، وربما غلب شيء أو جهل الإنسان شيئاً -والجاهلية من الجهل- فخرج منه أمر يكرهه الشارع، فيعاتب عليه وينبه إليه، كما حصل لـ أبي ذر رضي الله عنه، فروى المعرور بن سويد، عن أبي ذر قال: رأيت عليه برداً وعلى غلامه برداً، فقلت -أي: لـ أبي ذر:- لو أخذت هذا فلبسته كانت حلة، وأعطيته ثوباً آخر، فيوافق ما عليك ويكتمل الطقم، فقال: كان بيني وبين رجل كلام، وكانت أمه أعجمية، فنلت منها، فذكرني إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي: (أساببت فلاناً؟ قلت: نعم، قال: أفنلت من أمه؟ قلت: نعم، قال: إنك امرؤٌ فيك جاهلية، قلت: على حين ساعتي هذه من كبر السن، قال: نعم) رواه البخاري وفي رواية مسلم: (نعم على حال ساعتك من الكبر). فـ أبو ذر رضي الله عنه لعله كان يجهل ذلك، واستغرب كيف فاتت عليه مع كبر سنه، فأكد له عليه الصلاة والسلام أنها من الجاهلية وإن غفل عنها، ثم أوصاه فقال: (هم إخوانكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن جعل الله أخاه تحت يده، فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولايكلفه من العمل ما يغلبه، فإن كلفه ما يغلبه، فليعنه عليه) رواه البخاري، وفي رواية: (إنه كان بيني وبين رجل من إخواني كلام، وكانت أمه أعجمية، فعيرته بأمه، فشكاني إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلقيت النبي صلى الله وعليه وسلم، فقال: يا أبا ذر! إنك امرؤٌ فيك جاهلية، قلت: يا رسول الله! من سب الرجال سبوا أباه وأمه، قال: يا أبا ذر! إنك امرؤٌ فيك جاهلية، هم إخوانكم) الحديث رواه مسلم. حصل بينه وبين إنسان سوء تفاهم، فعيره بأمه، وفي رواية أنه قال له: يا بن السوداء، وقوله عليه الصلاة والسلام: (إنك امرؤٌ فيك جاهلي) أي: خصلة من خصال الجاهلية، وهكذا قالها عليه الصلاة والسلام صريحة، وأبو ذر من هو؟ من أصدق الناس لهجة، وأتقاهم لله تعالى، لكن ظهر منه في لحظة من ضعف مكنونٌ من مكنونات الجاهلية، التي كانت قد ترسبت في الباطن عبر السنوات الطويلة التي عاشها في الجاهلية، ظهرت على حين غفلة وغضب، فعاتبه عليه الصلاة والسلام، وبيَّن له ذلك، لأن الإسلام لا يريد أن ترجع أمور الجاهلية، ولا أن تبرز أمور الجاهلية، بل يريدها نقية، يريد شخصية إسلامية سوية طاهرة ليس فيها من الأمر الأول شيء. وقال عليه الصلاة والسلام ذلك في القصة المشهورة التي رواها جابر رضي الله عنه قال: (غزونا من النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ساب معه ناس من المهاجرين حتى كثروا، وكان من المهاجرين لعاب فكسع أنصارياً، أي: ضربه على القفا يمزح، وكان ذلك عيب عند أولئك، فغضب الأنصاري غضباً شديداً حتى تداعوا، وقال الأنصاري: يا للأنصار! وقال المهاجري: يا للمهاجرين! فخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ما بال دعوى الجاهلية؟ ثم قال: ما شأنهم؟ فأخبر بكسعة المهاجري الأنصاري، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعوها فإنها خبيثة) رواه البخاري. (ما بال دعوى الجاهلية) أي: كيف ظهرت بينكم؟ كيف رجعتم إلى الاستنصار بالقبيلة والجماعة، وتتعادون، ويتحزب لكل إنسان جماعته وفرقته، ويتفرقون ويقتتلون؟ هذه دعوى الجاهلية، كيف ظهرت بينكم؟ ما بال دعوى الجاهلية، ترجعون إليها بعد أن هداكم الله؟! مع أنهم رفعوا شعارات إسلامية، فقال هذا: يا للمهاجرين! وقال هذا: يا للأنصار! والمهاجرون والأنصار اسمان إسلاميان، هؤلاء هاجروا إلى الله ورسوله، وهؤلاء نصروا الله ورسوله، ولكن مع ذلك لم يرض بها عليه الصلاة والسلام، لأنها على طريقة الجاهلية في التحزب والتعصب والتقاتل، وقال عليه الصلاة والسلام: (ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية) وقال: (أربع من الجاهلية لا يترك) وستبقى الأمة مبتلاة بهن، ستبقى هذه الأربع موجودة وحية في هذه الأمة مع أن هذه الأربع من أمور الجاهلية (الفخر بالأحساب) يفتخرون تعالياً وتكبراً كل إنسان بأصله وقبيلته (والطعن في الأنساب) فيذم ويطعن ويشتم في نسب الشخص الآخر (والاستقاء بالنجوم، والنياحة) قال (والنائحة إذا لم تتب قبل موتها، تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران أو درع من جرب). فهذه أمور الجاهلية، حذرنا منها النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبر أنها لا تزال تسري في الأمة، لكي ننتبه لها، ولا نقع فيها، بالرغم من أننا مسلمون، ولكن قد يرجع شخص إلى الطبع الأول، وإلى هذه السيئة التي تسري في الأمة.

الصحابة يسألون عن أمور جاهلية تحريا لدينهم

الصحابة يسألون عن أمور جاهلية تحرياً لدينهم لقد كان الصحابة رضوان الله عليهم، يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن أمور الجاهلية التي بقيت، كما قال معاوية بن الحكم السلمي ((أرأيت أشياء كنا نفعلها في الجاهلية، كنا نتطير، قال: ذلك شيء تجده في نفسك، فلا يصدنك، قال: كنا نأتي الكهان، قال: فلا تأت الكهان) هكذا قال له: إنني حديث عهد بجاهلية، كنا نفعل كذا وكذا فبيِّن لي، فبيَّن له صلى الله عليه وسلم أن التشاؤم من الشيطان، ولا يردنك عن قصدك ولا يصدنك عن حاجتك، امض لمصلحتك، ولا تتشاءم، ولا تأت الكهان. وقال عليه الصلاة والسلام في قوم من العرب، والعرب كانوا مشهورين بالفخر بالآباء، وكانوا يتطاولون على بعضهم في ذلك، وينشدون الأشعار في الفخر، ويؤدي ما يؤدي إليه من احتقار الخلق والبغي والحرب بينهم، قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله عز وجل قد أذهب عنكم عبية الجاهلية، وفخرها بالآباء، مؤمن تقي، وفاجر شقي، الناس قسمان؛ أنتم بنو آدم وآدم من تراب، ليدعن رجال فخرهم بأقوام إنما هم فحم من جنهم، أو ليكونُنَّ أهون على الله من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن). عُبِّية الجاهلية: فخرها، ونخوتها، وتكبرها، أذهبه الله محاه الله حرمه الله، ولم يبق الناس يتفاضلون إلا بالإيمان والتقوى، ليدعن هذا الفخر بالآباء مع أن الآباء جاهليون كفرة؛ من فحم جهنم، لكن كان لا يزال هناك من يفتخر بآبائه وأجداده، وإذا لم يترك هذا سيكون عند الله أهون من الجعلان، وهي تلك الدويبة السوداء التي تدير الخراءة بأنفها، صوَّر عليه الصلاة والسلام هذا الفخر بأقبح صورة لحشرة تدفع بأنفها العذرة، هكذا قال عليه الصلاة والسلام محارباً هذه الرذيلة التي ربما تظهر في الأمة. ولما جاءه رجل ممثلاً عن امرأة ضربت بطن الأخرى فأسقطت جنينها، فالنبي عليه الصلاة والسلام قضى بالدية على عصبة القاتلة، فقال الرجل: تغرمني من لا نطق وأكل، ولا شرب واستهل، فمثل ذلك يطل، أي: يبطل دمه وليس له حق، فقال صلى الله عليه وسلم (سجع كسجع الأعراب؟!) أي: رجعتم إلى الكهان، وإلى منطقهم، وشابهتموهم في السجع، وكان الكهان يسجعون، وقضى بالغرة عبد أو أمة مقابل الجنين الذي سقط، وهي عشر الدية، ورفض منطق الجاهلية، بل إنه عليه الصلاة والسلام، كان يغير الأسماء الجاهلية، ليمحو آثار الجاهلية، وقال أحد أولاد الصحابة: كان اسم أبي في الجاهلية عزيزٌ، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن، العزيز الصلب، ولعله كره له هذه الصفة لأن المؤمن هين لين، فسماه عبد الرحمن، وكذلك قال بشير ابن الخصاصية رضي الله عنه: أنه كان يماشي النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر قصته وفيها تغير اسمه إلى بشير، وكان الصحابة يقاومون الأسماء الجاهلية، فهذا ابن عباس رضي عنه، قال: (من طاف بالبيت فليطف من وراء الحجر، ولا تقولوا الحطيم، فإن الرجل في الجاهلية كان يحلف، فيلقي سوطه أو نعله أو قوسه) رواه البخاري. هذا الحجر: المنطقة غير المبنية من الكعبة، كان أهل الجاهلية يسمونه الحطيم، وكانت أصنامهم فيه، وكان الشخص إذا أراد أن يحلف مد عصاً إلى هذه الأصنام الموجودة في الحطيم ليحلف ويسمونه ب الحطيم، فنهى ابن عباس عن تسميته ب الحطيم وسماه الحجر، وهو الاسم الإسلامي المتعارف عليه هكذا، بل إن الصحابة رضوان الله عليهم تحرجوا من أشياء كانت في الجاهلية، فتحرجوا من الطواف بين الصفا والمروة؛ لأن أصنام الجاهلية كانت عليها، وأهل الجاهلية كانوا يطوفون بها، حتى أنزل الله تعالى قوله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة:158] وأزيلت الأصنام، ورجعنا إلى طريقة أمنا هاجر، وتلك الذكرى العطرة. وكان الصحابة قد تحرجوا أيضاً من التجارة في الحج، لأنها كانت من عادات الجاهلية، فكيف يخلطون الدنيا بالآخرة، وقال ابن عباس رضي الله عنه: [كان ذو المجاز وعكاظ متجر الناس في الجاهلية، فلما جاء الإسلام كأنهم كرهوا ذلك، حتى نزلت: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:198] في مواسم الحج] رواه البخاري. هكذا إذاً أيها الأخوة، هكذا كانت تسير الأمور، وهكذا المحو لعادات الجاهلية، والإنكار والإباء أن تبرز صفة جاهلية بين المسلمين، فكانوا يريدونها نقية، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يحيينا على الإسلام، ويميتنا على الإيمان، ويجنبنا الجاهلية أقوالاً وأفعالاً، إنه سميع مجيب قريب. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

ظهور الجاهلية بين أهل الدين بالتعصب

ظهور الجاهلية بين أهل الدين بالتعصب الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، أشهد ألا إله إلا هو وحده لا شريك له رب الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً رسول الله الصادق الوعد الأمين، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصبحه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. عباد الله! كيف يكون ظهور الجاهلية بين أقوام من أهل الدين؟ يكون ذلك بمثل هذه العصبيات التي حذر منها النبي صلى الله وعليه وسلم، فيتعصب الناس لأقوال ولمذاهب مثلاً كما كان أهل الجاهلية يتعصبون لقبائلهم ويتعصبون لأنسابهم، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في أمور من السنة المتنوعة، قال: ومنها أنواع تكبيرات العيدين، يجوز وكلٌ مأثور، ومنها التكبير على الجنائز يجوز على المشهور التربيع والتخميس والتسبيع، وإن اختار، أي: من اختار التكبير أربعاً، ثم تكلم عن التعصب للمذاهب، والأخذ بقول ومحاربة الأقوال الأخرى وبعضها صحيح، قال: حتى صار الأمر بأتباعهم، أي: أتباع المذاهب، إلى نوع جاهلية، فصاروا يقتتلون في بعض بلاد المشرق على ذلك حمية جاهلية، مع أن الجميع حسن، قد أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر بلالاً بإفراد الإقامة، وأمر أبا محذورة بشفعها، فلو أذن مؤذن على أذان أبي محذورة، فلا ينكر عليه لثبوت ذلك، ومن تعصب لقول واحد مع أن القول الآخر صحيح، وعادى ووالى من أجل ذلك؛ فهو من أهل الجاهلية. وكذلك لما تلكم -رحمه الله- في مسألة البسملة في الصلاة، وذكر عن أقوال أهل العلم في إثبات كونها آية من القرآن، وفي قراءتها أقوال ذكرها، ثم ذكر أن بعض الناس من هذه الأمة، قد تفرقوا في ذلك، ورفعوا الألوية إظهاراً لشعار الفرقة، مع أن المسألة سهلة وواسعة، ولا تحتاج إلى هذه العصبية مطلقاً. إذاً فيمكن أن يحصل تعصب لأقوال من أناس يزعمون التدين، مع أن الكل صحيح مادام أنه قد ثبت بالأدلة. إننا أيها الإخوة! قد تظهر فيها أشياء من هذه الجاهلية، فنتعصب للقريب على البعيد، ويرجع الواحد إلى شعار الجاهلية فمثل: (أنا وأخي على ابن عمي وأنا وابن عمي على البعيد) أليس شعاراً جاهلياً؟ ومع هذا فإنهم يفعلونه، ألسنا نحتقر أحياناً أشخاصاً من جنسيات أو بلدان مع أنهم من المسلمين، فنستهزئ بهم، ونذكر ما يسمى بالنكات أو الطرائف عنهم، احتقاراً لهم؟ أو نقول لشخص فيه شيء من السذاجة: (عقليته عقلية كذا) ونحو ذلك؟ أليس فينا مفاخرة؟ أليس فينا مباهاة؟ ألسنا قد ندخل في الدين ونظهر سمات الاهتداء، ثم ننكشف في معاملة من المعاملات المالية، مع أن الشريعة حرمتها فنفعلها؟ وقد نشهد لشخص زوراً في محكمة؟ ألسنا قد نعتدي على المال العام، فنأخذ منه، بحجج مزيفة؟ ونعتدي على حقوق النشر والطبع المحفوظة للآخرين، وربما قال بعضنا: هذا للكفار، وهل كل أموال الكفار مباحة، أم أموال الكفار الحربيين هي المستباحة؟ فنعتدي بحجج واهية، أليس الواحد منا إذا صار في مكان أو وظيفة مهمة، ربما استكبر ومدح فاسقاً، وتعالى على الخلق وظلم، وربما هو يظهر شيئاً من علامات الدين؟ أليس يوجد فينا إسراف، وتبذير وبذخ في تصميم بيوتنا وتزويقها وجمع التحف فيها، ثم نحن نظهر التدين، والدين يقضي ألا إسراف وأن الله لا يحب المسرفين، وأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تزويق البيوت؟ أليس أيها الأخوة ربما ظهر بذاءة في كلامنا؟ بل ربما ظهرت في كلامنا منكر كحلف بغير الله، مع أننا نقول: إننا من أهل التوحيد، وهذا مثال قد حدث على عهد الصحابة رضوان الله عليهم، فكيف كانوا يتتبعون هذا الأمر؟ عن سعد رضي الله عنه قال: كنا نذكر بعض الأمر وأنا حديث عهد بجاهلية، فحلفت باللات والعزى، فقال لي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: بئس ما قلت؛ كلهم قاموا عليَّ في المجلس -لأنه قال كلمة باطلة مع أنه ما قصد ذلك، ولكن مما كان تعود عليه في السابق سنين طويلة يتلفظ بها في الجاهلية، فخرجت الآن- وقالوا: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأتيته فأخبرته، فقال لي: (قل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له ثلاث مرات، وتعوذ بالله من الشيطان ثلاث مرات، واتفل عن يسارك ثلاث مرات، ولا تعد له) رواه النسائي رحمه الله، فهكذا إذاً على أخيهم يعاونون وينبهون، وهكذا يجب أن يكون حالنا أيها الإخوة. أليس فينا أحياناً خصال من عدم التنازل، وعدم العفو، وعدم المسامحة مع أن الدين يقتضي المسامحة؟ ونصرُّ ونركب في رءوسنا جاهلية جهلاء في ألا نكسر كلمتنا، ولا نتنازل لإخواننا المسلمين، ويظن الواحد بالجاهلية أنه إذا تنازل لن يعود رجلاً، وأن رجولته قد نقصت، أليس كذلك يحدث بيننا أيها الإخوة؟ وهكذا وهكذا من الأشياء الكثيرة مما نرثه أحياناً من عادات أهلينا السيئة، بل إن النساء أيضاً حتى لو احتجبت وسلكت سبيلاً كثيراً طيباً من الدين، فإنه يظهر عليها أحياناً من ذلك، فتقول: هذه لم تزرني فلا أزورها، وهذه دعوتها فلم تجبني والآن دعتني فلا أجيبها، هكذا نتعامل مع أننا ينبغي علينا أن نرجع إلى الدين الحنيف، وأن نتخلص من سائر هذه العصبيات، وهذه الترهات من أمور الجاهلية. فهذه تذكرة والذكرى تنفع المؤمنين، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيدنا إلى صوابنا، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً يرزقنا اجتنابه، وأن يقيمنا على الملة السمحاء، وأن يرزقنا التمسك بالعروة الوثقى، وأن يخرج من أنفسنا أمور الجاهلية، إنه سميع مجيب قريب. اللهم انصر الإسلام والمسلمين، واعل كلمة الدين، وانصر أهل السنة يا رب العالمين.

زواج المسيار [1]

زواج المسيار [1] عاش الناس في الجاهلية حياة فوضى، وخاصة من حيث حفظ الأنساب، وعندما أتى الإسلام جاء معه بهذا المطلب العظيم، فحفظ الأنساب وصان الأعراض؛ بتحريمه لكل نكاح من شأنه إفساد الأسرة التي هي منشأ المجتمع ونواته، وهذا أمر عظيم يحمل في طياته الحفاظ على الرجل والمرأة وبناء الأسرة.

أنواع من النكاح الجاهلي

أنواع من النكاح الجاهلي إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. فالحمد لله الذي جعل لنا من أنفسنا أزواجاً لنسكن إليها، وجعل بيننا مودة ورحمة. والحمد لله الذي لما أغلق سبيل الحرام إلى الزنا، فتح سبيل النكاح بهذا المباح فأحله سبحانه وتعالى، تطهيراً للنفوس وتصريفاً لهذه الشهوة في طريقها الشرعي. والحمد لله الذي أبدلنا بنكاح أهل الجاهلية نكاح أهل الإسلام، ويعرف المسلم حقيقة هذه الشريعة وعظمتها إذا ما قارن نكاح أهل الجاهلية بنكاح أهل الإسلام: روى البخاري رحمه الله في صحيحه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: [أن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء، فنكاح منها نكاح الناس اليوم، يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته، فيصدقها ثم ينكحها. ونكاح آخر: كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها: أرسلي إلى فلان، فاستبضعي منه -تطلب المباضعة وهو: الجماع من رجل شريف عندهم، أو شجاع أو كريم أو فيه خصال حميدة- ويعتزلها زوجها، ولا يمسها أبداً حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه، فإذا تبين حملها، أصابها زوجها إذا أحب، وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد، فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع. ونكاح آخر: يجتمع الرهط ما دون العشرة، فيدخلون على المرأة، كلهم يصيبها، فإذا حملت ووضعت، ومر عليها ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم، فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع، حتى يجتمعوا عندها، تقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم، وقد ولدت، فهو ابنك يا فلان، وتسمي من أحبت باسمه، فيلحق به ولا يستطيع أن يمتنع به الرجل. ونكاح رابع: يجتمع الناس الكثير، فيدخلون على المرأة، لا تمتنع ممن جاءها، وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن رايات، تكون علماً فمن أرادهن، دخل عليهن، فإذا حملت إحداهن، ووضعت حملها، جُمعوا لها ودعوا لهم القافة -أي: الذي يعرفون من الأرجل والخطوط والعلامات والقسمات، يعرفون هذا ولد من، وهذا أثر من ونحو ذلك، وهذه خبرة وإلهام- ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون، فالتاط به، أي: التحق به، وانتسب، ودعي ابنه لا يمتنع من ذلك، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم بالحق، هدم نكاح الجاهلية كله إلا نكاح الناس اليوم] رواه البخاري رحمه الله تعالى في كتاب النكاح من صحيحه. وبهذا يتبين أنه كان يوجد عدة أنواع من الأنكحة، فمنها: النكاح الذي أقره الإسلام، ومنها: نكاح الاستبضاع المخزي؛ الذي يرضى به شخص أن تذهب امرأته إلى رجل شريف عندهم تجتمع معه ليولد ولد نجيب بزعمهم فيه صفات من ذلك الرجل، ويطؤها زوجها إذا تبين حملها، ويختلط الماء بالماء، ونكاح المشاركة المقرف الآخر الذي يجتمع الرهط ما دون العشرة، يدخلون على المرأة، فتختلط المياه والأنساب، ثم هي التي تعين الأب، ولا يمكن له أن ينتفي منه، ونكاح البغاء الذي يجتمع الناس الكثير على صاحبات الرايات، يدخلون عليهن بالزنا، ثم بعد ذلك يأتي القافة يلزمون من يرون بأن المولود له، فيلتزم به، وكانت العرب في الجملة تكره هذا النوع، وتسميهن المظلمات، والمهينات، وكان لا يليق بالحرائر عندهم، وإنما يمتهن هذا النوع الإماء والرقيق. وكان هناك نكاح الخدم، وهو ما يتخذ سراً، وكان العرب يقولون بزعمهم: ما استتر فلا بأس، وما ظهر فهو لوم، وهو الذي قال الله فيه: {وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} [النساء:25] فاتخاذ الخدن حرام كما أن اتخاذ العشيقة حرام. ونكاح البدل كان في أهل الجاهلية أيضاً: يقول الرجل للرجل: اترك لي -أي: تنازل لي عن امرأتك- وأنزل لك عن امرأتي وأزيدك، ونحو ذلك مما يتفقان عليه. ونكاح المتعة من نكاح أهل الجاهلية: أن ينكح الرجل المرأة بشيء من المال مدة معينة، ينتهي النكاح بانتهاء المدة، وكان الزواج بالأسر يطلق على السبية اسم النزيعة، وعلى ولدها النزيع، ويتزوج الآسر من سبيته، كان ذلك في الجاهلية، والزواج بالشراء أن يشتري الفتاة من أبيها كالسلعة تماماً، والنكاح بالوراثة. كان الرجل في الجاهلية إذا مات وتحته امرأة، استبق إليها ورثته، فأيهم وضع عليها ثوبه قبل صاحبه كان الحق له فيها، يتصرف فيها كيف يشاء، وهذا الذي قال الله فيه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً} [النساء:19] لأن إكراه المرأة حرام لا يجوز، وقال: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:22] فإن الولد كان في الجاهلية يرث امرأة أبيه كبقية المتاع.

النكاح في الإسلام

النكاح في الإسلام هذه الصور المحرمة التي كانت شائعة في الجاهلية، جاءت هذه الشريعة المباركة، الشريعة الحنيفية، الشريعة السمحة، شريعة الفطرة، الشريعة المطهرة من عند رب العالمين، فنسخت ذلك الحرام كله، وأباحت الزواج الحلال، ووضعت له شروطاً، ولذلك فإن النكاح في الإسلام شيء مقدس، وهذه الرابطة بين الزوجين رابطة مطهرة، لسيت برابطة بغاء ولا نجس، ليست برابطة قضاء وطر فقط، ولذلك جُعِلَ للنكاح في الشريعة أحكام تدل على أهميته، وسعت الشريعة لحماية جوانبه، وعدم الاعتداء عليها.

أركان النكاح في الإسلام

أركان النكاح في الإسلام أركان النكاح في الشريعة ثلاثة: أولها: وجود الزوجين الخاليين من الموانع التي تمنع صحة النكاح: بألا تكون المرأة مثلاً من اللواتي يحرم على الرجل أن يتزوج بهن لنسب أو رضاع أو عدة أو غير ذلك، وألا يكون الرجل كافراً فتتزوجه امرأة مسلمة، أو المرأة كافرة يتزوجها رجل مسلم إلا المحصنة من أهل الكتاب، إلى غير ذلك من الموانع، فإذا خلا الزوجان من هذه الموانع، فإنه يجوز عند ذلك النكاح. الركن الثاني للزواج في الشريعة: حصول الإيجاب: وهو اللفظ الصادر من الولي، أو من يقوم مقامه، بأن يقول للزوج زوجتك فلانة، أو أنكحتك فلانة. الركن الثالث: حصول القبول: وهو اللفظ الصادر من الزوج، بأن يقول: قبلت هذا النكاح، أو هذا التزويج. واختار شيخ الإسلام رحمه الله وتلميذه: أن النكاح ينعقد بكل لفظ يدل عليه، ولا يقتصر على لفظ الإنكاح والتزويج، فإذا قال الرجل أبو البنت: زوجتك ابنتي فلانة، فقال الرجل الآخر: قبلت، فإنه حينئذٍ تنعقد عقدة النكاح، فإذا حصل الإيجاب والقبول انعقد النكاح، ولو كان المتلفظ به هازلاً لم يقصد معناه، وهذا من احترام الشريعة لهذا العقد أن جعلت الهازل ملزماً به، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث هزلهن جد وجدهن جد: الطلاق والنكاح والرجعة) رواه الترمذي وهو حديث صحيح. فمنعاً للتلاعب، وبياناً لمكانة النكاح، وهذا العقد الخطير في الشريعة جعلت الشريعة الهزل في النكاح جداً، فإذا هزل معه، ومزح معه، وقال: زوجتك ابنتي، فقال: قبلت أيضاً هازلاً، ينعقد النكاح رغماً عنهما. هذه أركان النكاح، فما هي شروطه؟

شروط صحة النكاح في الإسلام

شروط صحة النكاح في الإسلام شروط صحته أربعة: الشرط الأول: تعيين كل من الزوجين، فلا يكفي أن يقول زوجتك بنتي، وعنده عدة بنات دون أن يسمي من هي التي زوجه إياها. الشرط الثاني: رضا كل من الزوجين بالآخر، فلا يصح النكاح إذا أكره أحدهما عليه، لحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (لا تنكح الأيم حتى تستأمر ولا البكر حتى تستأذن) متفق عليه، إلا ما كان من نكاح الصغيرة والمعتوه على الشروط التي بينها الفقهاء. الشرط الثالث: أن يعقد على المرأة وليها، لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا نكاح إلا بولي) رواه الأئمة الخمسة إلا النسائي، فلو زوجت المرأة نفسها بدون وليها، فنكاحها باطل باطل باطل، لأن ذلك ذريعة إلى الزنا، ولأن المرأة في الغالب قاصرة النظر عن اختيار الأصلح لها، ولذلك خاطب الله الأولياء بالنكاح، فقال تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور:32]. إذاً يزوج الولي بنته، أو موليته، أو أخته من الكفء، ويحرم عليه عضلها، وإذا عضلها -أي حبسها عن الزواج- كان للقاضي تصرف معه. وللأولياء ترتيب جاءت به الشريعة: أبوها، ثم وكيله ووصيه، ثم جدها لأب وإن علا، ثم ابنها، ثم بنوه -أحفاد المرأة- ثم أخوها لأبوين، ثم أخوها لأب، ثم بنوهما، ثم عمها لأبوين، ثم عمها لأب، ثم بنوهما، ثم أقرب عصبتها نسباً، فإن لم يوجد للمرأة ولي، زوجها الحاكم أي: القاضي ومن يقوم مقامه من الكفء. الشرط الرابع لصحة النكاح: الشهادة على عقد النكاح، لحديث جابر مرفوعاً: (لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل) فلا يصح إلا بشاهدين عدلين، قال الترمذي رحمه الله: العمل عليه عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من التابعين وغيرهم، قالوا: لا نكاح إلا بشهود.

ما يحرم من النكاح في الإسلام

ما يحرم من النكاح في الإسلام فيحرم على الرجل أن يتزوج إحدى محارمه من النسب الذين ذكرهم الله تعالى في كتابه بقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ} [النساء:23]. ويحرم على الرجل من النساء ما يكون سببه الجمع، فيحرم الجمع بين الأختين، كما يحرم الجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة خالتها، فقد راعت الشريعة قضية صلة الرحم، وأن اتخاذ الضرائر من الأخوات، والمرأة وعمتها، والمرأة خالتها يفضي إلى قطع الرحم والعداوة بين أقرب الناس إلى بعض، ولا يحوز أن يجمع عنده أكثر من أربع نسوة، والآية في ذلك معروفة. ومن النكاح ما يحرم لعارض يزول، فإذا زال العارض جاز النكاح، فيحرم تزوج المعتدة من الغير، لأنه لا يؤمن أن تكون حاملاً، فيفضي النكاح الثاني إلى اختلاط المياه والأنساب، فإذا انقضت العدة جاز الزواج، وكذلك يحرم تزوج الزانية إذا علم زناها حتى تتوب، وتأتي الأخبار بأن سيرتها قد صارت سيرة حسنة، وأنها أقلعت عما كانت فيه، وأنها لم تر في موضع ريبة ولا شبهة، ولا خلوة، فإذا تابت جاز الزواج بها لقوله تعالى: {وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور:3]. كما لا يجوز تزويج الزاني أيضاً إلا بنفس الشروط السابقة. ويحرم على الرجل أن يتزوج من طلقها ثلاثاً، إلا إذا تزوجها بعده رجل آخر مريد للنكاح، يحصل بنكاحه وطء حقيقي، ثم إذا طلقها بعد ذلك حلت للأول. ويحرم تزوج المحرمة حتى تحل من إحرامها، ولا يحل أن يتزوج كافر امرأة مسلمة، ولا المسلمة أن تتزوج رجلاً كفاراً. ويحرم على الحر أن يتزوج أمة مسلمة إلا إذا خاف على نفسه من الزنا، ولم يقدر على مهر الحرة، أو ثمن الأمة، ويحرم على العبد أن يتزوج سيدته بالإجماع، وكذلك يحرم على السيد أن يتزوج مملوكته؛ لأن عقد الملك أقوى من عقد النكاح، فإذا أعتقها جاز له أن يتزوجها، وإذا جعل عتقها هو مهرها جاز ذلك أيضاً.

حكم نكاح الشغار في الإسلام

حكم نكاح الشغار في الإسلام ومن الأنكحة التي حرمتها الشريعة: ما يكون لوجود شرط فاسد في النكاح، ومن ذلك نكاح الشغار، ونكاح الشغار سمي من الشغور وهو: الخلو من العوض، وقيل: إنما سمي نكاح الشغار شغاراً من شغر الكلب إذا رفع رجله ليبول، بهذه الهيئة القبيحة شبهه النبي صلى الله عليه وسلم تنفيراً منه، وحتى يبتعد الناس عنه، لأنه تجعل فيه المرأة بدل المرأة، وقد أجمع العلماء على تحريمه، وأنه باطل، ويفرق بينهما إذا حصل هذا النكاح، سواء صرحوا بنفي المهر أو سكتوا عن ذلك، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الشغار، وجاء في الحديث: (والشغار أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته، وليس بينهما صداق) متفق عليه. قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وفصل الخطاب أن الله حرم نكاح الشغار، لأن الولي يجب عليه أن يزوج موليته إذا خطبها كفء، ونظره لها نظر مصلحة لا نظر شهوة، والصداق حق لها لا له، وليس للولي ولا للأب أن يزوجها إلا لمصلحتها، فإذا زوجها لمصلحته غير مراعٍ مصلحتها فهو فاسق، خائن للأمانة ". وبعض الناس يزوجون بناتهم لمصالحهم الشخصية، ولا يكون في النكاح مصلحة للبنت، وبعض الناس يحبسون بناتهم عن الزواج، لأنه يريد أن ينتفع بمرتبها، لأنها موظفة، وكلاهما من الظلمة الذين سيحاسبهم الله يوم القيامة، قال شيخ الإسلام: "وليس له أن يزوجها لغرضه لا مصلحتها، وبمثل هذا تسقط ولايته، ومتى كان غرضه أن يعاوض فرجها بفرج الأخرى فهو نكاح الشغار". لم ينظر في مصلحتها، وصار كمن زوجها على مال له لا لها، وكلاهما لا يجوز، وعلى هذا لو سمى صداقاً حيلة -هو يريد بنت الرجل الآخر، أو أخت الرجل الآخر، فأعطاه ابنته أو أخته من أجل تلك المرأة، وسمى مهراً تغطية لنكاح الشغار- لم يجز ذلك كما نص عليه أحمد رحمه الله، لأن مقصوده أن يتزوج المرأة الأخرى ويزوج ابنته أو أخته لمصلحته هو، فهذا حرام لا يجوز. ونكاح الشغار، عرفه بعض العلماء: أن يزوج الرجل وليته لرجل آخر على أن يزوجه الآخر موليته وليس بينهما صداقاً، فإن سميا صداق حيلة فهو شغار أيضاً، وبهذا قال أحمد والشافعي، فإذا سميا صداقاً ولم يكن حيلة، جاز عند أحمد والشافعي وغيرهما. ورأى بعض أهل العلم أن حقيقة الشغار هي: أن يزوج رجل وليته لرجل آخر على أن يزوجه موليته؛ سميا مهراً أو لم يسميا مهراً، كل ذلك شغارٌ عندهم. وذهب شيخ الإسلام رحمه الله إلى أن حقيقة الشغار هي: أن يقول الرجل لرجل آخر: زوجني موليتك على أن أزوجك موليتي، ويشترطان أن كل واحدة تكون مهراً للأخرى. فإذا كانت كل واحدة مهراً للأخرى، فسواء أضافا مبلغاً مالياً أو لا فما دام في القضية شرط، ألا نزوجك هذه حتى تزوجنا هذه فهو شغار عند بعض العلماء، وعند البعض الآخر إذا لم يقصدوا الحيلة وسميا مهر كل واحدة ودفع جاز ذلك. ونكاح التحليل أن يتزوج الرجل المرأة ليحللها لزوجها الذي طلقها ثلاثاً، سواء شرط ذلك عليه، أو لم يشرط عليه، فإنه حرام في جميع الأحوال، قال عليه الصلاة والسلام: (ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: هو المحلل) وقال: (لعلن الله المحلل والمحلل له) رواه ابن ماجة والحاكم وغيرهما. فلا يجوز نكاح التحليل، فإذا تزوجها الثاني راغباً فيها، وليست نيته أن يحللها للأول، وكذلك إذا وطئها في هذا العقد الذي عقده عليها، ثم طلقها، فإذا انقضت العدة، جازت أن ترجع إلى زوجها الأول. فهذه بعض الأنكحة الفاسدة في الشريعة؛ لأجل فساد الشرط الذي حصل فيها، وهناك أنكحة أخرى فاسدة سنأتي عليها. ومن أسباب طرح الموضوع ولا أكتمكم أيها الإخوة: ما حصل فيه اللغط والكلام مؤخراً عن زواج يعرفونه بزواج (المسيار)، واختلط ذلك على بعض العامة بالهاتف السيار، فصاروا يقولون: الزواج السيار، وهذا الموضوع يرتبط بمسألة الشروط في النكاح، وسنبحث ذلك في الخطبة القادمة إن شاء الله مع مسألة أخرى وهي: ما حكم الزواج بنية الطلاق الذي يفعله بعض المغتربين وغيرهم؟ ولكننا نحتاج إلى معرفة ما هو زوج المسيار؟ وما هي شروطه؟ وهل هو منضبط، لأن بعض الناس يطلقون ألفاظاً على شيء، ثم لا تجدهم يتفقون على حقيقته. وقد سبق أن ذكرنا الزواج العرفي، وقلنا: مهما كان تعريفه، فإذا توافرت شروط النكاح كان النكاح حلالاً، وزدنا ذلك بياناً في هذه الخطبة، ولكن إذا سألتم ما هو الزواج العرفي؟ منهم من يقول لك: هو الزواج السري؛ أي أن يتزوج سراً، ومنهم من يقول لك: هو زواج المتعة، ومنهم من يقول لك: هو الزواج الذي لا يسجل رسمياً، ولذلك نحن لسنا مع الأسماء، وإنما العبرة في المسمى وليس في الاسم، فهاتوا لنا ما وصل إلى أسماعكم من زواج المسيار هذا لنبحث ذلك إن شاء الله في الخطبة القادمة. نسأل الله وتعالى أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

حرمة نكاح المتعة في الإسلام

حرمة نكاح المتعة في الإسلام الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، الذي خلق فسوى وقدر فهدى لا إله إلا هو، أشهد أنه هو الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصبحه أجمعين، هو الرحمة المهداة، والسراج المنير، والبشير النذير، صلى الله عليه وعلى آله وذريته الطيبين الطاهرين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. عباد الله! إن نكاح المتعة من الأنكحة المحرمة في شريعتنا هذه، وقد كان هذا الزواج، مباحاً في فترتين من عهد النبي صلى الله عليه وسلم، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن نكاح المتعة) متفق عليه. وفي رواية: (نهى عن متعة النساء يوم خيبر) متفق عليه، وأخرج الإمام مسلم في صحيحه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى يوم الفتح -فتح مكة - عن متعة النساء) وفي رواية لـ مسلم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا أيها الناس إني قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع بالنساء، وإنه قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيءٌ فليخل سبيله، ولا تأخذوا مما أتيتموهن شيئاً). فإذاً النص صريح جداً في تحريم نكاح المتعة، وبعض الناس يستدلون بقوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء:24] على إباحة نكاح المتعة، وبعض العلماء يقول: إنه ليس المقصود بها نكاح المتعة، وإنما الاستمتاع الذي يكون في النكاح العادي، فلا بد من المهر {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء:24]. ولو فرضنا أن المقصود بالآية نكاح المتعة فإنه قد نسخ بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أمر نبيه عليه الصلاة والسلام أن يبين للناس ما نُزِّل إليهم من ربهم، فالسنة الصحيحة تنسخ آيات من القرآن أو تخصصها ونحو ذلك، كما أن السنة قد جاءت بتحريم كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير، وتحريم لحم الحمار الأهلي، ولم يرد ذلك في القرآن، فالسنة تكمل القرآن وتشرحه وتبينه، وهذه وظيفة النبي صلى الله عليه وسلم. وقد أجمع العلماء واتفق أهل السنة والجماعة على تحريم نكاح المتعة، وهو نكاح لقضاء شهوة لا يوافق مقاصد الشريعة، قال الشافعي رحمه الله: "وجماع نكاح المتعة المنهي عنه كل نكاح كان إلى أجل من الآجال قرب أو بعد، وذلك مثل أن يقول الرجل للمرأة نكحتك يوماً أو عشراً أو شهراً، أو نكحتك حتى أخرج من هذا البلد، وما أشبه ذلك". وقال ابن قدامة رحمه الله: "معنى نكاح المتعة: أن يتزوج المرأة مدة مثل أن يقول: زوجتك ابنتي شهراً أو سنة أو إلى انقضاء الموسم، أو إلى قدوم الحج". سواء كانت المدة معلومة أو مجهولة، كزوجتك ابنتي شهراً (مدة معلومة) أو زوجتك ابنتي حتى يأتي فلان من سفره (مدة مجهولة) وكلاهما حرام ونكاح متعة. فهذا نكاح باطل نص عليه أحمد، فقال: "نكاح المتعة حرام، وقد نقل عن بعض الصحابة شيء يفيد إباحته، فما نقل عنهم يحمل على عدم بلوغ النسخ لهم"، ولذلك فلما بلغ بعضهم النسخ -وهم قلة قليلة- رجع عن القول بنكاح المتعة، وقال بتحريمه والحمد لله، ولذلك فلا شبهة ولا إشكال عند أهل السنة والجماعة في أن نكاح المتعة حرام، ولكنه كان قد أبيح في فترتين قبل خيبر وفتح مكة يسيرتين لأجل سفر في غزو، ثم حرم بعد ذلك، وكان التحريم إلى يوم القيامة. ولا يمكن أن يتوافق هذا النكاح مع مقصد الشريعة في إقامة أسرة وإنجاب أولاد، وسكن بين الزوجين ونحو ذلك، والذين يقولون من أهل البدع: إن في نكاح المتعة حلاً لمشاكل الشباب الجنسية، فنقول: ائتوا بالحلول من الكتاب والسنة، وأما أن تأتوا بحلول محرمة فإنها ليست بحلول، ثم إنكم تريدون أن تحلوا مشكلة الشباب الذكور الجنسية، وتهملوا مشكلة النساء اللاتي يتزوجن يوماً أو شهراً أو سنة ثم بعد ذلك تترك، وتكون القضية مجرد قضاء وطر، وينتج ولد ولا يدرى لمن، وتستعجل فتعقد على غير نكاح متعة مما يجر إلى آخر ذلك من الفساد الذي يجر إليه هذا النوع من النكاح، نسأل الله السلامة والعافية. اللهم إن نسألك أن تطهر فروجنا وتحصنها يا رب العالمين بالحلال، اجعل بيننا وبين الحرام برزخاً وحجراً محجوراً، اللهم أغننا بحلالك عن حرامك، واكفنا بفضلك عمن سواك، اللهم اجعلنا في بلادنا آمنين مطمئنين وسائر بلاد المسلمين وانصر المجاهدين، واحم حوزة الدين، واقمع أهل البدعة والمبتدعين، اللهم أظهر السنة في البلاد، اللهم اجعلها عامرة بذكرك يا رب العالمين، ووفقنا لكل ما فيه خير وصلاح للإسلام والمسلمين. {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90] فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.

زواج المسيار [2]

زواج المسيار [2] تعرض الشيخ حفظه الله في هذه الخطبة إلى مسألة الشروط الجائزة وغير الجائزة في الزواج، وما هي الشروط التي يصح أو يفسد بها الزواج، وضرب لهذه الشروط عشرة أمثلة توضحها، ثم ختم خطبته بالتنبيه على التثبت في أخذ الفتاوى من أهلها، وعدم التأثر بما يفتي به مشايخ الفضائيات وأضرابهم.

كثرة الفتن تؤدي إلى التحايل على الشرع

كثرة الفتن تؤدي إلى التحايل على الشرع إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فالحمد لله الذي خلق لنا من أنفسنا أزواجاً لنسكن إليها، وجعل بيننا وبينهن مودة ورحمة. جُعل هذا النكاح، وهذا العقد عقداً مقدساً في الشريعة له شروطه، وله واجباته وأركانه وقد تقدم الكلام على ذلك في الخطبة الماضية، ويُعلم من كلام العلماء في شروط النكاح وأركانه مدى أهمية هذا العقد ومكانته في الشريعة. ولما استعرت الشهوات في هذا الزمن، وكثرت المغريات والفتن، وعم الشر، وظهر التبرج والسفور، ولم يغض كثير من الرجال أبصارهم، وعمت المغريات التي فيها إثارة الفتن، سواء كان ذلك في صورة تمشي، أو صورة تتحرك، أو صورة مطبوعة، بحيث أن ما يقع من العيون على هذه الصور أمر كثيرٌ جداً قد أثار الشهوات من واقع النساء في التبرج، ومن هذه الأفلام وخاصة منها الخليعة التي تثير الشهوات، لجأ كثير من الناس إلى طرق يريدون بها قضاء الوطر والشهوة، ومن هؤلاء من وفقهم الله تعالى لتحصين أنفسهم بالزواج الشرعي والنكاح الإسلامي المبني على هذه الشريعة المباركة، ومنهم من وقع في المحرمات والكبائر، ووقع في الفواحش والزنا وانتهاك حرمات الله وحدوده، فويل لهم من عذاب يوم أليم! ومن الناس من ركب الصعب والذلول لأجل الحصول على عقد بأي طريقة كانت ليتوصل به إلى وطء المرأة، فدخل بعضهم في بعض الأنكحة المحرمة كنكاح المتعة وغيره، وركب بعضهم طريق بني إسرائيل في التحايل على شريعة الله تعالى، ويزعم بعضهم أنه اشترى امرأة من الخارج، وآخرون يقولون بأن الخادمة مثل ملك اليمين يطؤها متى شاء، وبعضهم يذهب إلى أماكن معينة فيها بنات وكاتب أنكحة وشهود، يتزوج ثم يطلق، وبعضهم يقول: وهبت نفسها لي، فتزوجتها بموافقتها بلا ولي ولا شهود ولا مهر، إلى آخر ذلك من الاختراعات والحيل التي يريدون بها التوصل إلى تحليل ما حرم الله، فما هو حكم هذه العقود؟! ثم أطلوا علينا بزواج سموه بزواج المسيار، قالوا فيه: إن الرجل يتزوج المرأة، فيقيم عندها أو عند أهلها، ويشترط عليها ألا مبيت ولا نفقة، أو أنه يأتيها بالنهار دون الليل ونحو ذلك، فنريد أن نعرف ما حكم هذا النكاح وغيره من الصور المتقدمة؟ وما حكم الزواج بنية الطلاق الذي يفعله بعضهم إذا ذهب إلى بلاد الغربة، أو إذا سافر سفراً؟ وما حكم إخفاء النكاح، لأنه لا يريد مشكلة مع الزوجة الأولى، فهو يسر به؟

قضية الشرط في الزواج

قضية الشرط في الزواج لا بد قبل معرفة حكم بعض هذه الأنكحة أيها الإخوة من الاطلاع على قضية الشرط في الزواج، ما هو؟ ما أنواعه؟ ما هو الملزم منه من غير الملزم؟ ما هو الذي يفسد العقد، والذي لا يفسد العقد؟ وما الشرط المباح الصحيح؟ وما هو الشرط المحرم؟ فهلم بنا إلى جولة مما ذكره أهل العلم في هذه المسألة، لأن كثيراً من الأنكحة الموجودة معلقة بشروط، فما حكم هذه الشروط؟ وبناءً عليه يعرف حكم هذه الأنكحة.

أقسام الشرط

أقسام الشرط أما الشرط في اللغة فهو: الإلزام والالتزام. وينقسم الشرط إلى قسمين: أولاً: شرط شرعي. ثانياً: شرط جعلي. فالشروط التي اشترطها الشارع في العقود والتصرفات والعبادات وإقامة الحدود ونحو ذلك، هذه شروط شرعية كاشتراط الولي في النكاح: (لا نكاح إلا بولي). والشروط الجعلية لم ترد في الشريعة، ولكن يشترطها المكلف بإرادته، كما يشترط الواقف شروطاً معينة للوقف، أن يكون الوقف مثلاً على طلبة العلم الفقراء، فلا يصرف إلى غيرهم، وشروط الموصي أن يُجعل جزء من التركة لذبح أضاحي مثلاً، فلا يصرف في غيرها، أو الشروط التي يكون فيها منفعة لأحد طرفي العقد. وهذه الشروط الجعلية المعتبرة مقيدة بقيود شرعية معينة، فليس للشخص أن يشترط أي شرط يريده، بل لا بد أن يكون الشرط غير مناف للشريعة، لقد ثبت اعتبار الشرط في الإسلام ما لم يخالف حكم الله وحكم رسوله، وأوجب الوفاء به، قال الله تعالى: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} [البقرة:177] عن عقبة بن عامر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أحق الشروط أن توفوا بها ما استحللتم به الفروج) رواه البخاري. فأحق الشروط بالوفاء الشروط التي تكون موجودةً في النكاح، ومعنى هذا: أن الشارع يقر الشروط إذا كانت شرعية، وقد ورد بذلك الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (المسلمون على شروطهم، إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً) رواه البخاري (المسلمون على شروطهم، إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً، وكل شرط ليس في كتاب الله، فهو باطل وإن كان مائة شرط). وموضوع النكاح له ما يتعلق به من الشروط، ومعلوم أنها إذا كانت شروط شرعية أو جعلية لا تتعارض مع الشريعة فإن الشريعة تقرها: (وأحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج) لأن هذه الشروط وقعت في مقابل استحلال فرج كان محرماً، فاستحل ذلك الفرج بهذا الشرط، فإذا كان الشرط شرعياً لا يخرج عن نطاق الشريعة فهو من أحق الشروط بالوفاء، وقد يرد الشرط صريحاً في العقد منصوصاً عليه، فيجب اعتباره والعمل به، كأن تشترط المرأة في عقد النكاح مثلاً ألا يخرجها من بلدها، ونحو ذلك.

الشروط العرفية

الشروط العرفية وقد لا يكون الشرط مذكوراً في العقد، لكنه مما تضمنه العقد، أو دل عليه العرف، والعرف سمي عرفاً لتعارف الناس عليه، ومن ذلك زف العروسة إلى المتزوج، هل يكون في بيت أبيها أو في بيته، فإن الأعراف تختلف في هذا، فإن أهمل ذكر الزفاف عند العقد، رجع فيه إلى العرف. والأعراف التي يعمل بها والتي ينطبق عليها قول العلماء: (المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً) هي الأعراف الموافقة للشريعة، أما إذا خالف العرف الشرع فلا يلتفت إليه ولا يعمل به، ولو أطبقت عليه الأمة جميعها، وهذا لا يكون إن شاء الله، وكانوا في الجاهلية -كما قلنا- متعارفين على أن نكاح الشغار والمتعة والاستبضاع أمور سارية ومنتشرة متعارف عليها بينهم، فليس كل ما انتشر بين الناس من الأعراف توافق عليه الشريعة، وإنما يشترط أن يكون مما توافقه الشريعة وتقره. وإذا كان الشرط مقارناً للعقد عند كتابة العقد فلا بد من الوفاء. وإذا كان الشرط متقدماً على العقد -قبل العقد بيوم أو يومين أو غير ذلك- ثم جاء العقد بالإيجاب والقبول، فهذه الشروط المتقدمة على العقد الصحيح يجب الوفاء بها. قال شيخ الإسلام رحمه الله: هو الظاهر من المذهب وهو المفهوم من كلام أحمد، لأن الوفاء بشروط العهود والعقود يتناول ذلك، ولأن اتفاقهم على الشرط قبل العقد لا يزيله العقد، فلو اتفقوا على هذا الشرط، وبعد يوم أو يومين عقدوا العقد بإيجاب وقبول وولي وشاهدين، فإن الشروط المتفق عليها قبل هذا العقد داخلة فيه، فإذا كانت الشروط متأخرة عن العقد، فلا يلزم الوفاء بها، لأن العقد قد انقضى وتم على ما مضى.

أقسام الشروط في النكاح

أقسام الشروط في النكاح وهذه الشروط أيها الإخوة التي في النكاح تنقسم إلى قسمين: صحيح وفاسد.

الشرط الصحيح في النكاح

الشرط الصحيح في النكاح الصحيح نوعان: النوع الأول: شرط يقتضيه العقد؛ كتسليم المرأة إلى الزوج، وتمكينه من الاستمتاع بها، فهذا الأمر من مقتضيات عقد النكاح، ولا يمكن أن يكون نكاحاً إلا بذلك، فلا يحتاج إلى شرطه، لأن الشريعة قد شرطته أصلاً، ولأن العقد يقتضي ذلك ضمناً فلا يحتاجه الإنسان إلى شرطه في العقد، وإذا ترافعا إلى القاضي سيجبرها على تسليم نفسها إذا امتنعت لأن هذا من مقتضيات العقد. والنوع الثاني من الشروط الصحيحة: شرط نفع معين في العقد لا يلزم إلا باشتراطه، كأن تشترط المرأة ألا يتزوج عليها، أو لا يخرجها من دارها، أو لا يفرق بينها وبين أولادها، أو أن ترضع ولدها الصغير من غيره، أو أن تكمل دراستها، أو أن تستمر في وظيفتها، ونحو ذلك من الشروط، فهذه الشروط إذا لم تتعارض مع الشريعة، فهي شروط مباحة إذا شرطوها عليه في العقد وقبل بها لزمه الوفاء بها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] فإذا امتنع الزوج من الوفاء بها، ورفض الوفاء بها بعد العقد وبعد الزواج، فإن للزوجة حق المطالبة بفسخ العقد، لأن الزوج لم يفِ ودخلت معه على هذا الشرط الصحيح، وإذا تنازلت الزوجة أو سكتت عن ذلك، فإن العقد باق على حاله. صحيح مستمر. وبهذه المناسبة نقول: لا ينبغي لأولياء الزوجة أن يحرجوا الزوجة باشتراط أشياء عليه، خصوصاً إذا كان من أهل الديانة، لأن كثرة الشروط تعقد الموقف، وتفي بأنهم لا يثقون به مثلاً ونحو ذلك، وهذا ربما يؤدي إلى شيء من النفور بينهما، لكن إذا خافوا أو حصلت خشية، فاشترطوا ذلك فلا بأس عليهم.

الشرط الفاسد في النكاح

الشرط الفاسد في النكاح وانتبهوا معي للقضية لأننا نتحدث عن مسألة ستوصلنا إلى حكم زواج المسيار وغير المسيار، والزواج السيار السائر والواقف، وسيتبين حكم هذه الأنكحة من خلال فقه قضية الشروط. النوع الثاني: الشروط الفاسدة، وهي على نوعين أيضاً: النوع الأول: ما يفسد بنفسه مع بقاء العقد على صحته؛ العقد صحيح باق، والشرط فاسد لاغ، مثل أن يشترط عليها ألا مهر لها، أو أن يرجع عليها بالمهر بعد ذلك فيأخذه منها، أو يشترط عليها أنه لا نفقة لها، أو أن نفقته عليها، أو ألا يطأها، ونحو ذلك من الشروط، فهذه الشروط ذكر عدد من أهل العلم أنها شروط فاسدة، لكنها لا تفسد العقد، فالعقد صحيح، ولكن الشرط فاسد للزوجة أن تطالب بحقها. النوع الثاني من الشروط الفاسدة: ما يفسد النكاح من أصله مع فساده في ذاته، فهو فاسد مفسد لا يصح معه النكاح، مثل نكاح المتعة، فإذا قال: زوجتك بنتي شهراً أو أسبوعاً أو ساعة ونحوه، فهذا شرط فاسد مفسد للعقد، والعقد باطل من أساسه، والمعاشرة زنا وحرام. أو نكاح الشغار، أو نكاح التحليل، هذه شروط فاسدة مفسدة للعقد، مثل أن يقول: أزوجكها على أن تطلقها لتحل لزوجها الأول ونحو ذلك، هذه شروط فاسدة مفسدة للعقد.

الشروط الصحيحة

الشروط الصحيحة الأول: ما يتضمنه العقد وإن لم يذكر في صلبه، فلا حاجة لذكره إذاًَ، لأنه لازم باللزوم كما ذكرنا في قضية اشتراط تسليم المرأة لزوجها، والاستمتاع بها، واشتراط النفقة والسكن على الزوج لا حاجة لاشتراطه، لأن الشريعة شرطته، ولأن الشريعة جاءت به {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34] فالنفقة عليه لزوجته رغماً عنه، تؤخذ منه بالقوة، وإذا أعسر صارت ديناً عليه، وإذا امتنع ألزمه القاضي بدفع النفقة الواجبة على الزوجة، هذا من مضمون العقد، الشريعة دلت عليه والعرف دل عليه، والعادة وعقد النكاح يتضمنه حتى لو لم ينصوا عليه. وما يتضمنه العقد، نوعان: أحدهما: ما يتضمنه العقد بدلالة الشرع، كما تقدم. الثاني: ما يتضمنه العقد بدلالة العرف، كالأمور التي تعارف عليها الناس من غير مخالفة للشرع، أو أضرار بحق أحد الزوجين، مثل: تحديد النفقة، والكسوة، والمسكن، وزيارة أهلها ونحو ذلك، فهذا يتضمنه العقد تلقائياً، لكن لم تحد الشريعة فيه حداً محدوداً، ولم تقل يا أيها الزوج أنفق خمسمائة، أنفق ألفاً ونحو ذلك، هذه مسألة متروكة للعرف، ومتروكة لإعسار الزوج وإيساره، وقدرته واستطاعته، وما تحتاجه الزوجة ونحو ذلك. إذا قيل يجب على الزوج أن يسكنها شرعاً، أي: سكن يلائم مثلها بالمعروف، بما تعارف عليه الناس، فلو أسكنها سكناً ليس فيه دورة مياه ولا مطبخ مثلاً، فلا يقوم لها استمتاع بحياتها الزوجية بدون ذلك، والعرف يقتضي سكناً بمثل هذه المرافق الأساسية، فهذه اشتراطها عرفي داخل مع العقد. أما الشروط الصحيحة التي لا تخالف مقتضى العقد، كأن لا يسافر بها، أو لا يخرجها عن بلدها، أو أن تشترط رضاع ولدها من غيره، أو أن تكمل دراستها، أو تستمر في وظيفتها ونحو ذلك، فهذه شروط مباحة، إذا التزم بها ووافق عليها، لزمه الوفاء بها، فإن امتنع كان للزوجة طلب الفسخ كما تقدم. والشروط التي لا تخالف الشريعة هي من إنشاء العاقد لا من إنشاء الشارع، فاشتراط الرجل على امرأته في عقد الزواج مثلاً: تقسيط المهر أو تأجيله، أو أن يُجعل جزء مقدم، وجزء مؤخر، أو أن تشرط عليه أن لا ينقلها من بلدها مثلاً ونحو ذلك، فهم الذين اشترطوها، وليست مشروطة في الشرع، فهي من إنشائهم لا من إنشاء الشارع. وإذا اشتُرط على الزوج شروطاً مثل هذه الشروط فإنه يلزمه الوفاء بها، وإذا امتنع جاز للمرأة طلب الفسخ، فإن قال الزوج: أنا لا أطيق أن تبقى موظفة، فماذا نفعل؟ لا نجبره على الوفاء، ولكن نقول: لها الحق في طلب الفسخ، إن شاءت أن تتنازل عن الشرط أو تسكت، فالعقد باق، وإن شاءت طلبت الفسخ، ولبى مطلبها، لأن شرطها لم ينفذ. ومثل ذلك أن تختار ألا يتزوج عليها، فهذا الشرط مما اختلف فيه أهل العلم، فقال بعضهم إنه شرط فاسد، لأنها أرادت أن تمنعه مما أحله الله له، وقال بعضهم: إنه دخل عن بصيرة ورضاً بذلك فيلزمه الوفاء، فإذا تزوج عليها، كان لها طلب الفسخ، وبهذا أفتى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، فإن الرجل إذا أقدم على العقد وقبِل الشرط، فإنه عند ذلك لا بد أن يفي به، فإذا امتنع تكون النتائج على ما تقدم، وإذا حصل عيب بأحد الزوجين ولم يرض صاحبه، وهذا العيب يفوت الاستمتاع، كأن كانت المرأة بها جنون أو برص ونحو ذلك، أو كان الرجل مجبوباً أو عنيناً -مقطوع المذاكير- أو لا قدرة له على الوقاع، فهذا العيب ينطبق عليه خيار الفسخ من الطرف الآخر.

أمثلة للشروط الفاسدة في عقد النكاح

أمثلة للشروط الفاسدة في عقد النكاح ولنا أن نلقي الآن نظرة أيها الإخوة على الشروط الفاسدة وأمثلتها. المثال الأول: إذا اشترط الرجل على امرأته ألا مهر لها، فإن العقد صحيح والشرط باطل، لأن المهر من حقوق المرأة التي تستحقها، فلا يسقط بنفيه لهذا المهر، قال الله: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء:4] وقال قتادة: فريضة من الله واجبة، والآية تدل على وجوب المهر، وقد أجمع العلماء على ذلك فلا يصح التواطؤ على تركه، فإذا اشترط الرجل على زوجته ألا مهر لها، كما يقولون الآن في زواج المسيار: لا مهر فيه، يتزوجها ولا يعطيها شيئاً. ولنعلم أيها الإخوة أن بعض هذه الأسماء مختلف عليها بين الناس، فإذا جئت لإنسان تقول: عرف لي زواج المسيار؟ أعطاك رأياً، وإذا قلت لثان: عرف لي زواج المسيار؟ أعطاك رأياً آخر، وهكذا، فنحن نتكلم بغض النظر عن الأسماء، لو شرط عليها ألا مهر لها ووافقت وانعقد العقد، فالعقد صحيح بالشروط الشرعية: الولي، وشاهدين والإيجاب والقبول إلى آخر ذلك، ولكن الشرط باطل، فإذا طالبته بعد ذلك بمهرها وجب عليه أن يعطيها المهر، وإذا سكتت، أو تنازلت له عنه، فإن العقد صحيح، وهي على ما أرادت وعلى ما تنازلت. مثال ثان: إذا اشترط الزوج عند العقد على امرأته ألا ينفق عليها، وهذا أيضاً داخل في زواج المسيار الذي يسمونه في بعض الأحيان، فهذا الشرط باطل، ولكن العقد صحيح، ويلزم الزوج أن ينفق على زوجته: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق:7]. وأذن النبي صلى الله عليه وسلم لـ هند بنت عتبة أن تأخذ من مال زوجها من غير علمه بما يكفيها بالمعروف، ثم إن المرأة قبل العقد لم تستحق النفقة، فكيف تتنازل عنها، تستحق النفقة بعد العقد، فإذا انعقد العقد وسلمت نفسها، استحقت النفقة، فلها المطالبة بها، ولا يعتبر إلغاؤها من قبلها قبل العقد مسقطاً للنفقة عن الزوج، فإذاً يحق لها أن تطالب بالنفقة بعد ذلك، ولكن ما حكم العقد؟ العقد صحيح، إذا توافرت فيه الشروط. مثال ثالث: وكذلك فإن من الشروط الفاسدة نفي التوارث بينهما، وهذا كلام سمعناه في زواج المسيار أو في غيره، أن يقول لها: أشترط عليك ألا ترثي شيئاً بعد وفاتي، فهذا الشرط فاسد باطل لا يجوز العمل به، قال الله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ} [النساء:12] إلى قوله: {فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء:12]. فالإرث أثر من آثار عقد النكاح ولا بد من إعطائه لصاحبه، والتنازل عنه قبل العقد تنازل عن لا شيء، لأنها لم تستحق الإرث ولا هو استحقه حتى يتنازل، فإذا انعقد العقد فالعقد صحيح والشرط باطل، وترث منه رغماً عن كل أوليائه، ويرث منها رغماً عن كل ورثتها، فهذه بعض الأمثلة، ونتابع الكلام إن شاء الله. ونسأل الله تعالى أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم. الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى وآله وصبحه وأزواجه وذريته الطيبين الطاهرين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. عباد الله! مثال رابع على الشروط الفاسدة: أن يشترط أحد الزوجين على صاحبه عدم الوطء، فهذا شرط فاسد؛ لمخالفته مقصود النكاح الذي شرع من أجله، ويصح النكاح والشرط فاسد. واختار شيخ الإسلام رحمه الله أن الزوج إذا اشترط على الزوجة ألا يطأها فالشرط باطل، لأنها لا يمكن أن تعف إلا بذلك، فلا يمكن أن تتزوج زوجاً آخر وهي في عصمته، فليس لها طريق إلى العفة إلا من طريقه هو، فالشرط فاسد، وأما إذا اشترطت هي عليه أن لا يطأها، فرأى شيخ الإسلام رحمه الله أنه لا بأس بذلك، لأنه يمكن أن يعف نفسه من غيرها، ويتزوج غيرها أو يتسرى. مثال خامس على الشروط الفاسدة: إذا اشترط الزوج على امرأته ألا قسم لها، هو متزوج بزوجة فتزوج امرأة أخرى ثانية، وقال: أنا لا أريد مشكلات مع زوجتي الأولى، فأنت على الاحتياط، عندما أريد أسير عليك، وهذا الذي أخذوا منه زواج المسيار بزعمهم، ولا يوجد مثل هذا الاسم في كتب الفقهاء، وإنما هو من اختراعات الناس، عندما أريد أسير عليك في الوقت الذي أريده، فقال: شرطي ألا قسم لك، فهذا الشرط لاغ والعقد صحيح، وبعد العقد يجوز لها أن تطالب بليلتها، فإذا سكتت وسارت الأمور على ما هي عليه، وقالت في نفسها: أخشى إذا طالبته أن يطلقني، فالعقد صحيح باق على حاله، وكذلك لو اشترطت هي أن يفضلها على ضرتها، فقالت: أشترط عليك أن لي ليلتين ولها ليلة، فالشرط باطل لاغ، والعقد صحيح. وإذا طالبت ضرتها بليلة وليلة، فيجب عليه الوفاء بذلك، والزوج لا يملك أن يفضل بين نسائه شرعاً، ويجب عليه العدل بينهن: (اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما لا أملك) أي: ميل القلب. وجمهور العلماء يقولون بوجوب العدل بين النساء في كل ما يملكه الزوج ويقدر عليه، ومنه ما يقع في زواج المسيار، أن يشترط عليها ألا يبيت عندها، أو يأتيها في النهار إذا أراد. وحيث قلنا: إن العدل بين النساء واجب، وليس من حق الزوج اشتراط عدم العدل عند العقد، لأن ذلك من حقوق المرأة، فإنها بعد العقد صار حقاً لها أن تتنازل عنه، أو تلزمه به، فتقول له: أنا أسامحك في ألا تأتيني إلا نهاراً بعد العقد، أو تسكت عن المطالبة بحقها في الليل، والعقد صحيح باق، لكن إذا طالبت يلزمه أن يفي به، ولا يستطيع أن يجبرها على البقاء عنده، وتنازل الزوجة عن ليلتها لزوجة أخرى بعد الزواج قد جاء في السنة، فلما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يطلق سودة بنت زمعة قالت: يا رسول الله! امسكني وأهب يومي لـ عائشة، وأرادت أن تحوز على الفضل في بقائها زوجته في الدنيا والآخرة، فوافقت على أن تهب يومها لـ عائشة، فصار النبي صلى الله وسلم يقسم لـ عائشة يومها ويوم سودة. مثال سادس على الشروط الفاسدة: إذا اشترط الرجل على امرأته ألا تزور أهلها ولا ترى أقاربها، ولا تدخل بيتهم، فإن الشرط باطل، لأن في ذلك قطيعة للرحم، وهذا لا تقره الشريعة، وللمرأة الحق في المطالبة بأن يأذن لها في زيارة أهلها، لأن صلة الرحم عليها واجبة، وهذا شيء تقتضيه الطبيعة والجبلة الفطرية، إلا إذا ثبت للزوج أنهم يفسدونها عليه، وترجع من أهلها منقلبة على زوجها، تذيقه ألوان العذاب، فإن له الحق في منعها، لأنه إذا كان قد ثبت الفساد من رواء ذهابها إليهم، وإذا ذهب معها وجلس معها لينظر ويسمع، فهو أحسن وأفضل. مثال ثامن: إذا اتفق الزوج مع المرأة أو مع وليها على مهر سري ومهر علني، والمهر العلني يقولون: نتباهى به أمام الناس، ونقول: زوجناها بمائتي ألف، وهم كذابون أشرون بطرون، فإنه لم يدفع لهم إلا أربعين ألفاً مثلاً، فما هو الحكم في ذلك؟ يصح العقد على ما وقع عليه، ما حصل عند العقد هو اللازم، ولا عبرة بما يعلن للناس طلباً للسمعة، وأحياناً في بعض البلدان هرباً من الضريبة، فيعلنون مهراً ويتفقون على آخر، فالمهر الذي انعقد عليه العقد هو اللازم، وهو الذي يجب عليه أن يدفعه، وإذا عقدوا عقدين، فالثاني تأكيد للأول، والعقد الأول بمهره هو اللازم على الزوج أن يفي به. مثال تاسع: إذا اشترطت المرأة طلاق ضرتها، أجاب النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الشرط بقوله: (لا تسأل المرأة طلاق أختها، لتكفأ ما في صحفتها) كأن يكون عند أختها إناء فيه طعام، فجاءت الثانية التي طالبت بتطليق الأولى، فأخذت إناء طعامها فقلبته، فأبقتها بغير طعام، فهذا حرام، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم، أن تسأل المرأة طلاق ضرتها، فلا يجوز أن تقول له: شرطي عليك إذا تزوجتك أن تطلق الأولى، أو تقول: طلقها ثم تزوجني، فهذا حرام لا يجوز لما فيه من الضرر، ولما فيه من السعي لقطع نصيب الأولى. مثال عاشر: جعل الطلاق حقاً للمرأة لا يصح اشتراط جعل الطلاق حقاً للمرأة كالرجل على الصحيح من أقوال أهل العلم: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق:1] أنتم يا معشر الرجال إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن، فأنتم الذين تطلقون، فإذا اشترطت عليه أن يكون مصيرها بيدها والطلاق بيدها، فالعقد صحيح والشرط باطل لاغٍ لا عبرة به على الصحيح من أقوال أهل العلم. وبناءً على ما تقدم أيها الإخوة، يتبين حكم زواج المسيار بالتفصيل، وحكم غيره من الأنكحة، وبقيت عندنا أمور تحتاج إلى تغطية. الزواج بنية الطلاق دون أن ينص عليه في العقد حكم وطء الخادمة على أنها ملك يمين حكم شراء امرأة من الخارج النكاح السري: كأن يأتي يعقد على امرأة في بلدها ويأتي بها على أنها خادمة، أو أن يتزوج امرأة طرف البلد أو في بلد آخر سراً، فما حكم النكاح السري؟ ولعلنا نغطي ذلك في خطبة بمشيئة الله بعد ثلاثة أسابيع بحول الله وقوته.

تنبيهات

تنبيهات والذي أريد أن أنبه عليه قبل ختام الكلام النقطة الأولى: أن بعض الناس -أيها الإخوة- يأخذون الأحكام الشرعية من المجالس ومن القنوات الفضائية، فيأتي واحد إلى الثاني في المجلس، يقول: سمعت عن النكاح الفلاني حللوه، من الذين حللوه؟ من الذين أفتوا بتحليله؟ لا ترى لذلك جواباً، لكن يتناقلون الأحكام بينهم بكل سهولة قال تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النحل:116] حرام أن تفتي بغير علم، وأن تنقل فتوى بغير علم، وأن تنقل فتوى بغير تثبت، وأنت آثم في ذلك. النقطة الثانية: أن بعض الناس يتأثرون بما يشاهدون في بعض القنوات، وقد أخبرني بعض الإخوان بعد الخطبة الماضية عن شيء من ذلك، يؤتى بطبيب ورجل يمثل دور شيخ، ولا أقول شيخاً، وربما يكون عليه لحية أو لا يكون، ومذيعة فاجرة، واختلاط من عدد من النساء والرجال في ذلك (الأستديو) وبعض الآخرين من المشاهدين، أو من الذين يدلون بآرائهم، ثم يتناولون القضية بالبحث، ويخرجون منها بحكم. ولدي قاعدة أريد أن أقولها لكم: إذا رأيت من يدعي أنه شيخ يجلس في مقابلة مع امرأة متبرجة، أو يشترك معها في الحديث في برنامج ونحوه، فاعلم أن الشيخ مزيف، وأن اللحية مزورة، وخصوصاً عندما يجلسونه بجانب امرأة متبرجة ويتعمدون ذلك إساءة لسمعة أهل الدين، وتحطيماً لمكانة العلماء في النفوس، وتتبع معي هذه القضية: لا تجد أحداً يقابل امرأة متبرجة أو يشترك معها في برنامج خصوصاً في هذه القنوات الخارجية، إلا وتجده متساهلاً في دينه، متساهلاً في فتاويه، لا تجده ممسكاً بحبل الله المتين، ويمشي على الصراط المستقيم، وهل خلت المسألة من الرجال حتى يكون هذا الشيخ مع المرأة المتبرجة؟ ألا يوجد رجال يسألونه ويجيب، لا توجد إلا امرأة؟ واعجبا! بعد ذلك يتبين لك ما حكم الأحكام المتلقفة من أفواه هؤلاء الذين يزعمون أنهم شيوخ، الأحكام باطلة، سخيفة مثل سخفهم وسخف البرنامج الذي اشتركوا فيه، ويجب أن نحذر أيها الإخوة من الأخطار الوافدة على بلدنا من الخارج مما فيه إشاعة للفاحشة، وإشاعة للفساد؛ مثل أنهم يتكلمون عن الجنس على المكشوف، أي: تحطيم كل الروابط الإسلامية والإيمانية والقواعد الشرعية في نفوس الناس، وهذا الغزو إن لم ننتبه له، فلا شك أنه سيكون من أسباب فساد المجتمع. نسأل الله أن يقي بلادنا هذه وبلاد المسلمين كافة الشرور، اللهم اجعلنا في بلادنا آمنين مطمئنين، واحمها واحفظها بحفظك يا رحمن يا رحيم! اللهم ارحمنا برحمتك يا عزيز يا غفور، ووفق الأئمة وولاة الأمور لكل ما تحب وترضى يا رب العالمين! سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، ودعاء لإخواننا في بلاد الشيشان الذين حقوقوا نتائج باهرة في هذه الأيام، اللهم انصرهم نصراً عزيزاً يا رب العالمين! اللهم قيض لهم جنداً من عندك يدكون معاقل الكفرة إنك على كل شيء قدير، وأقر أعيننا بنصرة الإسلام والمسلمين في ربوع العالمين يا رب العالمين! وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.

سمات رجل العقيدة [1، 2]

سمات رجل العقيدة [1، 2] إن الإسلام اليوم في حاجة ماسة إلى رجال يذودون عنه، ويردون على أصحاب الشبهات الذين يريدون تشويه صورة الإسلام الحقيقية، وهؤلاء الرجال ليسوا كغيرهم من الرجال، وإنما لهم سمات خاصة يتميزون بها عن غيرهم طالعها في هذه المادة.

حاجة الإسلام إلى الرجال

حاجة الإسلام إلى الرجال إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. بمثل هذه الكلمات -أيها الإخوة- أسلم صحابيٌ من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قادماً من اليمن، فأوحى إليه كفار قريش أن محمداً صلى الله عليه وسلم رجلٌ مؤذٍ لكي يتجنبه، ولكنه خطر بباله أن يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسمع منه، فأتاه وعرض عليه أن يساعده إن كان به مرض أو كان به رئي من الجن، فتلا عليه صلى الله عليه وسلم هذه الكلمات من أوائل خطبة الحاجة، فكان هذا سبباً في إسلامه رضي الله عنه. إخواني! يُسرني أن ألتقي بكم في هذا المكان، ولعل الله سبحانه وتعالى أن يكتب لنا الأجر العظيم في هذا اللقاء، وأن يجعل حضورنا للقاء بعضنا لقاء الإخوة في الله عز وجل. والموضوع الذي أريد أن أتحدث به إليكم هو (سمات رجل العقيدة) ونعلم جميعاً -أيها الإخوة- بأن الدين الذي ندين الله به يتعرض في هذا الزمان إلى هجمات شرسة، وأن المسلمين في هذا العصر في غاية الضعف والهوان، وليس العيب من الإسلام، ولكن العيب من المسلمين أنفسهم، فإن هذا الدين دين كامل، ليست المشكلة في هذا الدين، ولكن المشكلة في الناس الذين من المفترض أن يحملوا هذا الدين على أكتافهم، ولذلك لما فكر أحد المستشرقين في هذا الدين فتجلت له بعض جوانب عظمة الإسلام قال: يا له من دينٍ لو كان له رجال. فهذا المستشرق أدرك عظمة هذا الإسلام، فقال: يا له من دين عظيم لكنه يحتاج إلى رجال يحملونه، إن هذا الدين يحمل في طياته عوامل استمراريته وهيمنته على سائر الأديان، ونحن في عصر الذل الذي يعيش فيه المسلمون، لا بد أن نضع أمام أعيننا عدة اعتبارات: الاعتبار الأول: عدم اليأس واستمرارية العمل لنشر هذا الدين. الاعتبار الثاني: أن التركيز لا بد أن يتم ويستمر في بناء الشخصيات التي تحمل هذا الدين. المشكلة هي مشكلة عدم وجود الرجال، لو كان هناك رجال لانتهت المشكلة، وعندما تمنى بعض الصحابة أماني، قال عمر: [أتمنى أن يكون لي ملء هذه الحجرة رجالاً أمثال أبي عبيدة]. نتعرّف في هذا المقام على بعض السمات التي تتكون منها الخطوط العريضة في نفس صاحب العقيدة ورجل العقيدة:

الإيمان بهذه العقيدة

الإيمان بهذه العقيدة فأما أولها: فهو الإيمان بهذه العقيدة التي نزلت من عند رب العالمين؛ الإيمان بما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والتحاكم إلى الكتاب والسنة عند التنازع، والاستغناء بهما عما جاء في سواهما، واعتقاد كمال هذا الدين، ووجوب تقديم النقل على العقل في حالة التعارض المتوهم، وإلا ففي الحقيقة فإن النقل الصحيح لا يعارض العقل الصريح. والأدب مع نصوص الكتاب والسنة من حيث مراعاة الألفاظ في بيان العقيدة، وعدم الدخول إلى القرآن والسنة بمقررات عقلية سابقة، وترك الخوض في علم الكلام والفلسفة من حيث أنه علم لا ينفع، وكما ورد في الدعاء: (اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع) وأن نؤمن إيماناً تاماً بأنه لا يُوجد شيء اسمه فلسفة إسلامية، ورجل العقيدة كما أنه يعتقد بهذه العقيدة، فإنه يُربي الناس عليها، ويبينها بالوحي حتى تمتلئ قلوب الناس بعظمة الله وبعظمة نصوص القرآن والسنة، ويحرص رجل العقيدة على أن يربي نفسه ويربي الشباب بالذات على هذه العقيدة وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عمرو بن حبيش رضي الله عنه: [إذا رأيت الشاب أول ما ينشأ مع أهل السنة والجماعة فارجه -توقع منه الخير- وإذا رأيته مع أهل البدع فايئس منه، فإن الشاب على أول نشوئه]. ولذلك الآن لو وُجدت هناك الأوعية التربوية الصحيحة المستمدة من عقيدة أهل السنة والجماعة فانضوى وانضم إليها شباب الأمة، لخرجت نوعية عظيمة من الرجال، ولكن المشكلة أن شباب الأمة الإسلامية تتخطفهم الشهوات والشبهات وطرق الزيغ والضلال، والطرق التي يُخلط فيها الحق بالباطل في كثيرٍ من الأحيان، ولذلك لا تجد النوعيات التي تحمل هذا الدين، وإنما تجد عقليات مشوشة ومضطربة لا يمكن أن تفهم نصوص الكتاب والسنة فهماً صحيحاً وتنطلق بها لتطبقها تطبيقاً صحيحاً، فأنى لهؤلاء أن يحملوا هذا الدين. وقال عبد الله بن شوذب رحمه الله: "إن من نعمة الله على الشاب إذا نسك -إذا اهتدى وسلك الطريق المستقيم- أن يوافي صاحب سنة يحمله عليها"، وهذا الكلام يشمل النساء أيضاً، ولذلك يجب أن تنتبه المرأة المسلمة إلى دعاة الضلال الذين يريدون أن يؤثروا عليها بالبدعة مثل دعاة التصوف. والعقيدة الصحيحة إذا استقرت في نفس رجل العقيدة فإن لها أثراً عظيماً في حياته، بل وحتى على فراش الموت يكون لها أثر، مثال: عن أنس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على شابٍ وهو يحتضر، فقال: كيف تجدك؟ فقال: والله يا رسول الله إني أرجو الله وإني أخاف ذنوبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يجتمعان في قلب عبدٍ في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وأمَّنه مما يخاف).

الدفاع عن هذه العقيدة

الدفاع عن هذه العقيدة وكذلك من سمات رجل العقيدة: أنه يدافع عن هذه العقيدة ويرد عنها سهام المبطلين وكيد المنحرفين وأصحاب الأهواء، وذلك بمنهج متميز واضح، ويعتمد في منهجه على حجية السنة في العقيدة، ومنها أحاديث الآحاد الصحيحة، ويعتقد أن القول بأن أحاديث الآحاد لا تفيد قطعية الثبوت، فهذه بدعة كبيرة جاءت إلينا من كتب أهل البدع، ويعتقد بتقديم أقوال الصحابة في تفسير النصوص الشرعية؛ لأنهم أعلم من غيرهم من أفراد الأمة، ولا ينبز الصحابة بمثل الكلام الذي يتشدق به بعض المنحرفين في كتبهم، وخصوصاً من المعاصرين الذين يقولون: إن الصحابة لم يعلموا علم الكلام؛ لأنهم كانوا منشغلين عن ذلك بالجهاد!! سبحان الله ما أعظم فريتهم! رموا صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم بأنهم جهلوا علم الكلام؛ لأنهم كانوا منشغلين بالجهاد، وهل يفوت الصحابة رضوان الله عليهم علم نافع، لأنهم كانوا منشغلين بالجهاد؟!! كل الصحابة غاب عليهم هذا العلم التافه، والحمد لله أنه غاب عنهم. وكذلك يأخذ بطريقة جمع النصوص في المسألة الواحدة وعدم الاقتصار على بعضها دون بعض كفعل أهل البدعة، نأخذ مثالاً -أيها الإخوة- لو أن شخصاً أخذ بحديث: (من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة) ولم يأخذ بغيره، هذا النص قد يُوهم عند البعض بأن مجرد التلفظ باللسان يكفي في دخول الجنة، ولكنه عندما يأخذ بالنصوص الأخرى، ومنها -مثلاً- قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه) وقوله عليه الصلاة والسلام: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة) إلى آخر الحديث. إذاً: تتكامل النصوص وتجتمع لتكون العقيدة الصحيحة من جميع جوانبها، أما أن نأخذ بعض النصوص ونترك بعضها، فإننا سوف نقع في بدعة وضلال ولا نفهم العقيدة الصحيحة. والاقتصار على الكتاب والسنة في مقارعة المبتدعة أمر مهم يدل على فقه صاحبه، وإليكم هذا المثال: قال صالح بن الإمام أحمد رحمه الله: جعل ابن أبي دؤاد ينظر إلى أبي كالمغضب، قال أبي: وكان يتكلم هذا فأرد عليه، ويتكلم هذا فأرد عليه، فإذا انقطع الرجل منهم اعترض ابن أبي دؤاد فيقول: يا أمير المؤمنين! هو والله ضال مضل مبتدع، فيقول الخليفة: كلموه ناظروه، فيكلمني هذا فأرد عليه، ويكلمني هذا فأرد عليه، فإذا انقطعوا يقول المعتصم: ويحك يا أحمد ما تقول، فأقول: يا أمير المؤمنين! أعطوني شيئاً من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم حتى أقول به، لا زال الإمام أحمد على هذه الحالة حتى قال أحمد بن أبي دؤاد وقد نفذ صبره: أنت لا تقول إلا ما في الكتاب والسنة! وهذا الكلام اعتراض صريح يُدين ذلك المبتدع إدانة كاملة. ورجل العقيدة يقف أمام محاولات تهوين العقيدة؛ الذين يهونون من شأن العقيدة ويقولون: هذه أمور جانبية، هذه أمور تافهة، هذه أمور لا تقدم ولا تؤخر، وماذا يعني: إذا اعتقدنا أن لله يداً أو وجهاً؟! تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً، لم يعرفوا ربهم ثم يريدون أن يدعوا إليه وإلى سبيله. بعض الناس يتبجحون، فيقولون: أين الذين يقولون بعلو الله من الغزو الفكري؟ أين الذين يقولون بعلو الله من التيارات العلمانية؟ أين الذين يقولون بعلو الله من قضايا الجهاد؟ {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} [الكهف:5]. أي: لا يمكن أن يجتمع الإيمان بعلو الله والجهاد في سبيل الله؟! لا يمكن أن يجتمع الإيمان بعلو الله ومقاومة الغزو الفكري؟! لا يمكن أن يجتمع الإيمان بعلو الله والرد وفضح التيارات العلمانية؟! أين التكامل؟! لماذا نقتصر على جانب من الدين ونترك الجوانب الأخرى؟!

عدم الاعتداء على نصوص القرآن والسنة

عدم الاعتداء على نصوص القرآن والسنة رجل العقيدة لا يعتدي على نصوص القرآن والسنة، ولا يُغير عليها بسهام التأويل والرد والتفنيد ويُحكم عقله فيها، بل إنه يستسلم لها، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن دية جنينها غرة عبد أو وليدة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها وورثها ولدها ومن معهم، فقال حمل بن النابغة الهذلي -أحد الذين غرموا في الدية-: يا رسول الله! كيف أغرم من لا شرب ولا أكل، ولا نطق ولا استهل، فمثل ذلك يُطل؟!). هذا الرجل لما علم أنه سيدفع دية الجنين اعترض على الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال: كيف تريدوني أن أدفع دية جنين؛ والجنين لا أكل، ولا شرب، ولا نطق ولا صرخ ولا استهل؟! فمثل هذا الكلام يسقط عني لا شأن لي به. فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الكلام قال عبارة نقضت كلام الرجل من أصله، وبينت عيبه وزيفه، فقال: (إنما هذا من إخوان الكهان). هذا الرجل من إخوان الكهان، هذا المنطق تقديم العقل على النقل والاعتراض على نصوص الشريعة؛ لأنها لا توافق عقل الشخص من الكهانة (إنما هذا من إخوان الكهان). وبعض نصوص العقيدة يكذبها بعض الناس؛ لأنها لا توافق عقولهم، فمثلاً: لما سئل الإمام عبد الله بن المبارك رحمه الله لما روى حديث نزول الله عزوجل إلى السماء الدنيا في ثلث الليل الآخر، سأله إنسان في المجلس، قال: كيف ينزل؟ فأجاب عبد الله بن المبارك: "ينزل كيف يشاء سبحانه وتعالى". وفي رواية: "إذا جاءك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخضع له". كان هارون الرشيد رحمه الله مرة من المرات في مجلس، وكان يحدثه بالأحاديث رجل من الصالحين يسمى أبو معاوية الضرير، فحدثه بحديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن الرسول الله صلى الله عليه وسلم: (احتج آدم وموسى) إلى آخر الحديث، فقال عيسى بن جعفر -أحد الحاضرين-: كيف هذا وبين آدم وموسى ما بينهما؟!! -أي: من القرون- ما هو خطأ الرجل؟ أنه قدم عقله على النص، الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (احتج آدم وموسى) وهذا يقول: كيف التقوا؟ وأين التقوا وبينهما سنين طويلة؟ هذه جريمة يا إخوان!! هذا العقل المحصور الضيق نحكمه في النصوص الشرعية وننفي النصوص، فوثب هارون الرشيد رحمه الله تعالى، وقال: يحدثك عن الرسول صلى الله عليه وسلم وتعارضه بكيف؟! وفي رواية: أن هارون الرشيد رحمه الله -وكان شديداً على المبتدعة- قال: النطع -السيف- زنديق يطعن في الحديث. فما زال أبو معاوية يسكنه ويقول: بادرة منه يا أمير المؤمنين! بادرة منه يا أمير المؤمنين! حتى سكت. وفي رواية: أنه حبسه ولم يُطلقه حتى حلف بالأيمان المغلظة أنه ما سمعه من أحد؛ أي: ما تلقى الشبهة هذه من أحد.

الاهتمام بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم

الاهتمام بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم ورجل العقيدة: يهتم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم اهتماماً عظيماً في تعلمها وجمعها وتطبيقها وتمييز صحيحها من سقيمها، فهو يميز الأحاديث الضعيفة من الأحاديث الصحيحة، ولا يأخذ بأي حديث سمعه، وإنما يبحث عن صحته لكي يعمل به ويرويه للناس. لا يجوز أن نروي حديثاً عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولسنا متأكدين من صحته، فضلاً عن أن نكون متأكدين من ضعفه أو كذبه: (من حدَّث عني بحديث يُرى أنه كذب فهو أحد الكاذبِين، أو الكاذبَين) لا يجوز لك أن تحدث بحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم وأنت لم تتأكد من صحته، هذا فضلاً عن أن تحدث به وأنت تعلم أنه ضعيف أو موضوع؛ هذه جريمة أكبر من الأولى. والآن لا يخلو واعظ أو خطيب أو محاضر إلا وتجد في ثنايا كلامه أحاديث ضعيفة أو مكذوبة، يقولون: ترقق قلوب الناس تؤثر في الناس نستغلها لصالح الرسول الله صلى الله وسلم! كذبوا والله، وافتروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كذباً، نحن لسنا يهوداً، والغاية عندنا لا تبرر الوسيلة، وإنما الوسائل لها حكم المقاصد، إذا كان مقصدك صحيح لا بد أن تكون وسيلتك صحيحة. بعض الناس يأخذ أحاديث مثل: (إذا دمعت عيني اليتيم، وقعت دموعه في كف الرحمن فيأخذها، ويقول: من أبكى هذا اليتيم؟ أعطيت الجنة من أسكته) كلام مؤثر، لكن الحديث لم يثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يجوز لنا أن نأخذ به؟!! ولذلك قام رجال الأمة الذين قيضهم الله لأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم فما تركوا شيئاً إلا بينوه، فجردوا أسماء الضعفاء، وأسماء الثقات، وبينوا درجات الأحاديث، وبينوا ثقة الرجال من ضعفهم، وجردوا الأحاديث المكذوبة والمصنوعة في الكتب حتى تبين للناس ما هو الحق، ولا زالت الأمور في تنقيح واجتهاد يتوالى عليه الناس المجتهدون منهم في هذا الأمر جيلاً بعد جيل، دلالةً على أن الله يحفظ هذا الدين بحفظ القرآن والسنة. وكذلك من حق سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل العقيدة: أنه يقدم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم على كلام كل أحد، وإذا تعارض كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كلام البشر يقدم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ويترك كلام ذلك الشخص. عن وبرة قال: كنت جالساً عند ابن عمر، فجاء رجل، فقال: أيصلح لي أن أطوف بالبيت قبل أن آتي الموقف؟ فقال: نعم. فقال: فإن ابن عباس يقول: لا تطف بالبيت حتى تأتي الموقف، فقال ابن عمر: (فقد حج رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت قبل أن يأتي الموقف، فبقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن تأخذ أو بقول ابن عباس إن كنت صادقاً؟!) رواه مسلم. والاهتمام بالسنة من مقتضيات شهادة أن محمداً رسول الله، بعض الناس يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، وهو يُهمل السنن ولا يطبقها، وإذا جاءت سنة يقول: هذه أشياء تافهة، وهذه قشور، وهذه أمور جانبية، اتركنا من اللحية، واتركنا من إسبال الثوب، ودعنا من تحريك الإصبع في الصلاة ووضع اليدين على الصدر؛ هذه قشور، لا ينبغي أن نشتغل بها، سبحان الله العظيم! ماذا كان يفعل الرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إذا كان كلام هؤلاء المجرمين صحيحاً فمعناه: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كوم السنن الصغيرة حتى إذا كانت آخر دقائق من حياته قال: يا مسلمون! إني كنت أشغلكم بالجهاد وبالأمور الكبيرة، وأنا الآن سوف أذكر لكم السنن الصغيرة في آخر عمري؛ لأني ما أردت أن أشغلكم بها من البداية، ثم مات. هذا معنى كلامه. لكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعلم الناس الأمور الصغيرة والكبيرة بالتوازن. لو كان عندك كافر تطبق عليه حديث معاذ: (فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله -هذا أول شيء- فإن هم أطاعوك لذلك فأعلموهم بأن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم) الحديث. فلو أسلم الكافر فيجب أن نعلمه جميع الدين، يجب أن نكون أمناء في تقديم الدين، لا نقول: نقدم بعضه للناس ونترك بعضه، وبعد عشرين سنة نبدأ نعلمهم هذه الأشياء الصغيرة، سبحان الله! هذه طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم؟! ومن المسائل الخطيرة التي تحدث في هذا العصر وتخرج بها كتب جديدة إلى الأسواق، هذه المسألة من مذهب المعتزلة في تقديم العقل على النقل، وربما تظنون أن هذا الكلام نظري وصعب، لكن لو أخبرتكم أن رجلاً من المسلمين قد أخرج كتاباً في هذه السنة (1409هـ) يقول فيه: إن حديث موسى أنه لطم عين ملك الموت ففقأها، مع أنه صحيح وثابت لكنه غير معقول؛ لأن موسى لا يلطم عين ملك الموت فيفقأها، فالحديث لا نقبله، وببساطة شطَّب الحديث. حديث: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) رواه البخاري. يقولون: هذه أشياء وعادات وتقاليد، ونحن لسنا مكلفين أن ننقل تقاليد عبس وذبيان إلى أمريكا واستراليا. قالوا: والرسول صلى الله عليه وسلم قال هذا الحديث لما سمع أن بنت كسرى تولت زمام الملك، لكن لو رأى جولدا مائير لقال غير هذا الكلام! سبحان الله! كبرت كلمة تخرج من فمه، اللهم لا تسلطه على أحد من المسلمين، وامحقه وأفكاره التي يريد أن يسمم بها عقول المسلمين. اللهم قاتل معتزلة القرن العشرين، وامحقهم يا رب العالمين، ولا تجعل لهم سناناً ولا لساناً مسلطاً على المسلمين. أيها الإخوة! نحن نعيش في أخطار الكتب والأشرطة تُقذف إلينا سموم من هذا المنهج الرديء تقديم العقل على النصوص الشرعية كقولهم: صحيح البخاري لا نأخذ به، وإذا كان هناك حديث ثابت لم يعجبهم يقولون: هذا لا يُوافق طبيعة العصر الذي نعيش فيه أين الإسلام؟! أين الاستسلام لله بالطاعة والانقياد له؟! اللهم اهد من كان ضالاً من المسلمين.

الانتساب إلى الله ورسوله

الانتساب إلى الله ورسوله رجل العقيدة لا يُنتسب إلى أحد غير الله ورسوله، كما قال ابن القيم رحمه الله: وأهل هذه الغربة هم أهل الله حقاً، فإنهم لم يأووا إلى غير الله، ولم ينتسبوا إلى غير رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يدعوا إلى غير ما جاء به، ومن صفات هؤلاء الغرباء: ترك الانتساب إلى أحد غير الله ورسوله لا شيخ، ولا طريقة، ولا مذهب، ولا طائفة، بل هؤلاء الغرباء منتسبون إلى الله بالعبودية وحده، وإلى رسوله بالاتباع لما جاء به وحده، وأكثر الناس لاهم لهم. إذاً: المسلمون يجمعهم طريقٌ واحد ليس له ثانٍ؛ طريق أهل السنة والجماعة وهو طريق أهل الحديث سماهم أئمة السلف هكذا، سموهم أهل السنة والجماعة تمييزاً لهم عن أهل البدعة، وسموهم بأهل الحديث تمييزاً لهم عن الذين يحكمون عقولهم وآراءهم في النصوص. قال الإمام أحمد عن الطائفة المنصورة: إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم. كل تسمية مخترعة مهما كان الذي اخترعها، ومهما كان عدد الذين ساروا عليها، فكلها تسميات مبتدعة، يُقصد منها تفريق صفوف المسلمين؛ المسلمون ليس لهم جماعة إلا جماعة واحدة وهم أهل السنة والجماعة؛ عقيدتهم معروفة لم تختلف على مرَّ العصور، وأعمالهم وأخلاقهم معروفة، وطريقتهم في الدعوة معروفة، ومفاصلتهم للكفار معروفة، وكل شيء واضح في القرآن والسنة، وعلماء المسلمين يوضحون هذا الطريق لمن يسير إليه فقط، ليست هناك تسميات وأحزاب وطوائف، وإلا فقل لي: ما الذي أخر مسيرة الدعوة الإسلامية الآن إلا هذه التحزبات والتفرقات؟! هذا من الطائفة الفلانية، وهذا من الطائفة الفلانية. يا أخي! أين أنت من جماعة الرسول صلى الله عليه وسلم؟! ماذا كانوا يسمون أنفسهم؟! ليس لهم إلا أوصاف: الطائفة المنصورة، الفرقة الناجية، لكنهم هم أهل السنة والجماعة الذين اجتمعوا على هذه السنة فقط، ولذلك فإن من المدهش أحياناً أنك تجد اثنين من المسلمين ليس بينهم فرق في التصورات، لكن هذا يطلق على نفسه اسم كذا، وهذا يطلق على نفسه اسم كذا، وهذا موجود -فقط الاسم- هذا رافع لشعار، وهذا رافع شعار لماذا يا أخي؟ ألسنا أمة واحدة؟!! أليس إبراهيم سمَّانا المسلمين؟!! لماذا نتفرق؟!! ما هي المشكلة؟ أن كل أحد ينتسب إلى طائفة يسميها بأسماء ليست شرعية، فيوالي لها، ويعادي عليها، ويتعصب لها، ويدافع عنها بالحق والباطل.

الدعوة إلى مذهب أهل السنة والجماعة

الدعوة إلى مذهب أهل السنة والجماعة ورجل العقيدة يدعو إلى مذهب أهل السنة والجماعة؛ وهم الوسط بين الأطراف، والحجة عند الخلاف، المتفقون على العقيدة عبر الأزمان، ورجل العقيدة يُصحح معتقدات العامة، فإن كثيراً من العامة عندهم خرافات وشعوذات ومعتقدات باطلة، وهذه قصة تُبين لنا كيف كان العلماء يصححون معتقدات العامة الخاطئة؟ كان نعمان بن محمود الآلوسي رحمه الله جوزي زمانه في الوعظ والتذكير، فكان في كل سنة يجلس في شهر رمضان للوعظ في أحد المساجد الواسعة، فيُقصد من أطراف الأماكن حتى يغص المكان بالمستمعين، فاتفق له في رمضان سنة (1305هـ) أن استطرد في مجلسٍ من مجالسه بحث سماع الموتى، فذكر ما قاله أهل العلم في كتبهم الفقهية من عدم سماع الموتى كلام الأحياء، فقام حشوية بغداد وأنكروا عليه هذا العزو، وأثاروا أفراد جهلة العوام كما هي عادتهم في كل زمان ومكان، وكادت تقع فتنة تسود وجه التاريخ، ولكنه بدهائه وحلمه سكن ثائرتهم، فجمع في اليوم الثاني كل ما لديه من كتب المذاهب الأربعة وارتقى كرسي الوعظ، وقد احتشدت الجموع، فأعاد البحث وصدع بالبيان، ثم أخذ يتناول كتاباً كتاباً فيتلو نصوص العلماء ثم يرمي بها إلى المستمعين ويصرخ: هؤلاء علماؤكم، فإن كنتم في ريبٍ فدونكموهم وناقشوهم الحساب. حتى إذا فرغ نهض واخترق الجموع الثائرة غير وجلٍ ولا هياب، فأقبلوا عليه يقبلون يديه ويعتذرون إليه من قيامهم بتحريك المرجفين وفريق المقلدة الجامدين، فكان ذلك سبب تأليف رسالته المشهورة: الآيات البينات في حكم سماع الأموات.

رجل العقيدة والعصبية

رجل العقيدة والعصبية رجل العقيدة لا يتعصب لأحدٍ، ويضع نصب عينيه القاعدة الذهبية التي ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "من نصب شخصاً كائناً من كان فوالى وعادى على موافقته في القول والفعل فهو من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً، ولا تجوز الطاعة المطلقة لإمام من الأئمة مهما علا شأنه، وشاع بين الناس ذكره، ولكن من يجهل حكماً من الأحكام عليه أن يستفتي الأتقياء العلماء؛ الذين يعتمدون في فتاويهم على القرآن والسنة، وينبغي أن يتحرى الدليل ما أمكن، والناس منهم من يجتهد، ومنهم طالب علم يُمحص ويقرأ ويعرف الأدلة، ويتابع القول الذي عليه الدليل الصحيح، ومنهم عامة لا يعرفون ولا يميزون، هؤلاء عليهم أن يسألوا الثقات من العلماء في بلادهم الذين يعتمدون على القرآن والسنة. هذه المسألة ببساطة. وفي الوقت الذي ندعو فيه إلى عدم التعصب لأحدٍ أياً كان، فإننا في ذات الوقت ننكر على أولئك النفر الذين وضعوا أنفسهم في رتبة الاجتهاد ولما يحصّلوا العلم الشرعي بعد أو قواعده الأساسية، كيف يطيرون ولم ينبت لهم الريش في أجنحتهم؟ كيف يحلقون في سماء العلم؟ هؤلاء الناس الذين يظنون أنه بمقدورهم وهم العاجزون القُصر أن يستنبطوا الأحكام الشرعية لوحدهم، وبعضهم يزعم أن علماء الحديث عنده كعمال الخدمات يقدمون له الحديث الصحيح وهو الذي يتولى فهمه وشرحه؛ هؤلاء أساءوا العلم والأدب وهم من المغرورين. وفي ذات الوقت عليكم أن تنتبهوا من خلال قراءتكم وسماعكم لهذه الأشياء المسجلة المنتشرة إلى ألفاظ الغمز واللمز في أهل السنة الذين تجردوا عن التعصب، وهناك من يلمزهم وينبزهم ويغتابهم ويستهزئ بهم، فترى أحدهم يقول: هذه سلفية مزعومة، والآخر يقول: هذا فقه بدوي، وثالث يقول: فتيان سوء يتطاولون على أئمة العلم؛ ومقصودهم تنفير الناس من اتباع الدليل، يريدون التعصب والتقوقع.

طلب العلم والعمل به

طلب العلم والعمل به يجب أن يكون منهاج رجل العقيدة طلب العلم الصحيح، وأن يكون طلبه مبدوءاً بتعلم خشية الله أولاً، فإن رأس العلم خشية الله، وليس مجرد تعلم التعريفات والمتون والمصطلحات والاختلافات والأقوال، وعلم بغير زكاةٍ يكون وبالاً على صاحبه. وبعض طلبة العلم يقولون: لا نريد دليلاً إلا من القرآن أو من السنة، وغير ذلك نرمي به عرض الحائط، فكيف إذا كان إجماعاً صحيحاً، أو إذا كان قياساً صحيحاً مستنبطاً من القرآن والسنة، وهل متابعتهم للعلماء أولى أم متابعتهم لآرائهم الشخصية؟!! ويجب على رجل العقيدة: أن يعمل الدروس النافعة للعامة والخاصة، للبسطاء والمثقفين، لمن له تعمق في الفهم ومن هو بسيط في الفهم. قال ابن حجر رحمه الله في ترجمة أحد العلماء في كتابه إنباء الغُمر: "وكان يعمل المواعيد النافعة للعامة والخاصة، حتى إن كثيراً من العوام انتفعوا به، وصارت لديهم فضيلة مما استفادوا منه". وقال ابن حجر رحمه الله: " أحمد بن محمد الصفدي كانت له عناية بالعلم، وكان يعرف بشيخ الوضوء". لماذا كان يعرف بشيخ الوضوء؟ لأنه كان يعلم الناس الوضوء، كان يتعاهد المطاهر فيعلم العوام الوضوء، فلذلك سمي شيخ الوضوء. إذاً: علينا أن نعلم العامة والخاصة، بعض الناس يقصرون جهودهم التعليمية على فئة معينة من الناس؛ على الشباب دون الشيوخ، أو على الرجال دون النساء، أو على الكبار دون الصغار؛ هؤلاء ما عندهم تكامل في خطتهم التربوية التعليمية، ويجب أن يكون التعليم عاماً شائعاً في الناس؛ في الصغار والكبار، والرجال والنساء، والشباب والشيوخ، حاول ألا تخص أحداً دون أحد. بعضهم تقول له زوجته: علمني شيئاً، وهو مُنشغل مع إخوانه أو يُعلم نفسه، ويتعلم مع إخوانه، زوجته التي في البيت لا تعرف أشياء كثيرة من الأحكام؛ هذا غير صحيح. أيها الإخوة: يجب أن تكون لدينا نظرة شمولية في قضية الدعوة والتعليم، لو رأيت منكراً في الشارع أنكر عليه، ولو كنت بجانب شخص في الطائرة علمه شيئاً فإنك لن تخسر شيئاً، اصرف جهودك في الأماكن العامة لتعليم الناس، أئمة المساجد يقيمون الدروس لتعليم الناس، المدرسون في المدارس يعلمون الطلاب، ويبذلون العلم للجميع وينصحون الكل، وبهذه الطريقة نصل إلى منع المنكرات بأقصر وقت ما أمكن، أما الانزواء والتقوقع في بيئات معينة منغلقة ونمنع الخير عن الناس فهذا غير صحيح.

الاهتمام بالقرآن

الاهتمام بالقرآن رجل العقيدة يهتم بالقرآن الكريم في التربية، فإن بعض الناس يركزون على المواضيع الفكرية، أو الفقهية، أو العلمية البحتة وغيرها، وينسون كتاب الله عزوجل، ويقرءون كلام الأشخاص أكثر مما يقرءون كلام الله، ولذلك يصير اتصالهم بالأشخاص والمؤلفات أكثر من الاتصال بالقرآن الكريم؛ وهذا فيه نوع من الخطورة. الرسول صلى الله عليه وسلم لماذا منع في بادئ الأمر كتابة شيء غير القرآن؟ لأنه يريد أن ينصب اهتمام الناس على القرآن، ينطلقون منه ويسيرون عليه، وبعض الناس يتصورون أن القرآن لا يوفي جميع الأشياء، وهذا غير صحيح، فالقرآن كتاب أحكام، وكتاب تربية، وكتاب أخلاق، والقرآن يجمع أشياء كثيرة، وإذا أردت التربية فستجد هناك التربية بأنواعها بالقصة، وبالموعظة، وبالقدوة، وبالعقوبة إلى آخره. ينبغي أن تكون دراسة رجل العقيدة للقرآن الكريم دراسة وافية عامة يدرس قصص القرآن وأمثاله، والعلاقة بينه وبين أسباب نزوله، وتسلسل الأحداث بالمكي والمدني؛ ليعرف مسيرة القرآن في تربية المسلمين، وما هي الأولويات؟ وبماذا يبدأ؟ وبماذا يتوسط؟ وبماذا انتهى؟ وأساليب الجدل والمناظرة في القرآن لمعرفة كيفية إفحام الخصوم وإقامة الحجة عليهم. وكذلك دراسة نواحي الإعجاز في القرآن حتى يعظم في النفس، وكل علم قد يتندم الإنسان على الاشتغال به إلا دراسة القرآن والسنة. كل العلوم سوى القرآن مشغلة إلا الحديث وإلا الفقه في الدين وكذلك فإن تدبر القرآن الكريم مهم. يزيدك وجهه حسناً إذا ما زدته نظراً فعليك بالنظر في هذا القرآن الكريم، والقراءة للكتّاب الذين يأخذون من القرآن ويستشهدون بالقرآن كثيراً، مثل: كتابات ابن القيم رحمه الله، فإنك تُحس أن العبارات حية، كثير الاستشهاد بالآيات والأحاديث، هذا الإمام العالم الرباني الذي يربط الناس بالقرآن والسنة، وليس أن تقرأ كتاباً فيه عشر صفحات ليس فيها آية ولا حديث. ورجل العقيدة يُقارع الكفار والمبتدعة والفجار بالقرآن الكريم وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم كما حدث لـ ابن عباس رضي الله عنه مع الخوارج، فإنه أول ما أتاهم أثنى على عبادتهم وعلى حسناتهم، ثم استفرغ ما لديهم من الحجج حجة حجة، وبعد أن قال: أفرغتم، وتأكد أنه ما بقي لديهم شيء بدأ يجيب عليهم ويرد على كل شبهة بدليل؛ يأخذ شبهتهم ويردها بدليل آية بآية حديثاً بحديث، وسيرة بسيرة وهكذا، ولم يَسْتَسِر ولم ينفعل لما انتقدوا شخصيته، بعض الخوارج لما رأوا ابن عباس قالوا: لا تناظروه فإنه من قريش، الذين قال الله فيهم: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف:58]، فلم يغضب ابن عباس ويتركهم ويذهب، وإنما تحمل حتى أبلغهم الحق كاملاً. قال الشافعي رحمه الله: قال رجل من الخوارج لـ علي رضي الله عنه وهو في الصلاة: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65] فقرأ علي: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} [الروم:60]. وهذا الإمام أحمد رحمه الله لما سأله المبتدع: ما تقول في القرآن؟ قال الإمام أحمد: ما تقول أنت في علم الله؟ فسكت المبتدع؛ لأنه يعلم ما وراء السؤال. قال الإمام أحمد: فقال لي بعضهم: أليس الله تعالى يقول: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16] والقرآن شيء، قال الإمام أحمد: قال الله تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} [الأحقاف:25] ألم تبق أشياء لم تدمر. قال المبتدع: أليس قد قال الله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} [الزخرف:3] أفيكون مجعولاً إلا مخلوقاً؟ فقال الإمام أحمد: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:5] أي: خلقهم؟! وأنت تعلم أن من معاني كلمة جعل: صَيَّرَ.

إيقاف الناس عند حدهم

إيقاف الناس عند حدهم من سمات رجل العقيدة: أنه يُوقف الناس عند حدهم ويفاصلهم عندما يعصون رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن سعيد بن جبير: (أن قريباً لـ عبد الله بن مغفل رضي الله عنه خَذَفَ، فنهاه وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الخذف -يضع الإنسان الحجر بين إصبعيه ويرمي به- وقال: إنها لا تصيد صيداً، ولا تنكأ عدوا؛ ولكنها تكسر السن وتفقأ العين قال: فعاد وأصر وخذف، فلما رآه قال: أحدثك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه ثم تخذف، لا أكلمك أبداً). ورجل العقيدة صاحب عبادة، إيمانياته قوية، متصل بربه عزوجل، نأخذ مثالاً واحداً فقط: عثمان رضي الله عنه؛ لأن حياة عثمان رضي الله عنه لا يُهتم بها كثيراً مثلما يُهتم بغيرها من الخلفاء، مع أنه رجل عظيم رحمه الله، قال عثمان رضي الله عنه: [لو طهُرت قلوبنا ما شبعنا من كلام ربنا، وإني لأكره أن يأتي عليَّ يومٌ لا أنظر فيه في المصحف، وما مات عثمان رضي الله عنه حتى تخرق مصحفه من كثرة ما يدم النظر فيه]. وعن محمد بن سيرين قال: قال أنس: [قالت امرأة عثمان يوم الدار: اقتلوه أو دعوه فوالله لقد كان يحيي الليل بالقرآن]. وكان رضي الله عنه لا يُوقظ أحداً من أهله إذا قام من الليل يُعينه على وضوئه إلا أن يجده يقظاناً، وكان كثير الصوم، وكان يُعاتب، فيقال له: لو أيقظت بعض الخدم يساعدوك في الوضوء في قيام الليل، فيقول: [لا. الليل لهم يستريحون فيه]. وكان إذا اغتسل لا يرفع المئزر عنه، وهو في بيت مغلق عليه من شدة حيائه رضي الله عنه. وتأمل في كلام ابن القيم رحمه الله وهو يُعبر لك عن نفسية شيخ الإسلام ابن تيمية، وعن اتصال ذلك الرجل بالله عزوجل، قال ابن القيم رحمه الله: وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: إن في الدنيا جنةً من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة. وقال لي مرةً: ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، أينما ذهبت فهي معي لا تفارقني، إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة. وكان يقول في محبسه في القلعة: لو بذلت لهم ملء هذه القلعة ذهباً ما عدل عندي شُكر هذه النعمة أو قال: ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير ونحو هذا. وكان يقول في سجوده وهو محبوس: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك. وقال لي مرة: المحبوس من حُبس قلبه عن ربه تعالى، والمأسور من أسره هواه. ولما دخل إلى القلعة وصار إلى سورها نظر إليه، وقال: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13]. وعلم الله ما رأيت أحداً أطيب عيشاً منه قط، مع ما كان فيه من ضيق العيش، وخلاف الرفاهية والنعيم، ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاق، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشاً، وأشرحهم صدراً، وأقواهم قلباً، وأسرهم نفساً، تلوح نظرة النعيم على وجهه.

التوازن في التلقي

التوازن في التلقي رجل العقيدة يُوازن في تلقيه وتربيته بين نواحي التربية المختلفة، فتربيته ليست علمية فقط، فإنها قد تقسي القلب، وليست إيمانية فقط فإنها قد تقود إلى جهل يُورد المهالك، وليست دعوية فقط، فكيف يدعو الناس ويهديهم من علمه وإيمانه ضعيف؟! إن جوانب تربيته لنفسه كاملة، وإنه يعلم أن التربية الإيمانية في غاية الأهمية، وأنه مهما بلغ من الشأن والعلو فإنه لا بد أن يهتم بقلبه، وهذا خلاف ما يعتقده بعض المتكبرين الذين يرون أن التربية الإيمانية مهمة للناشئة فقط، مع أنها مهمة للمتقدمين والمتأخرين، وأنه مهما قطع الإنسان مشواراً طويلاً في التربية، فإنه لا يزال يحتاج إلى تقوية قلبه. ورجل العقيدة يُركز على بناء الأوساط الإيمانية التي من خلالها يتربى الناس، وعلى تنشئة القدوات التي من خلالها يتأثر الناس، وقته مملوء بطاعة الله عزوجل (من أصبح منكم اليوم صائماً؟ قال أبو بكر: أنا. من عاد منكم اليوم مريضاً؟ قال أبو بكر: أنا. من تبع منكم جنازة؟ قال أبو بكر: أنا). من ذا الذي يستطيع أن يجمع عيادة مريض وشهود جنازةٍ وصيام يومٍ في يوم واحد؟! أليس يدل ذلك على أن رجال العقيدة في ذلك الوقت كان يومهم مليئاً بأصنافٍ من الطاعات؟! لو قيل لـ حماد بن سلمة: إنك تموت غداً؟ ما قدر أن يزيد في العمل شيئاً؛ لأنه مُشَبّع بالأعمال الصالحة، لا يستطيع أن يزيد؛ لأنه عد نفسه أنه سيموت غداً.

إنكار المنكر

إنكار المنكر رجل العقيدة يعمل على إنكار المنكر؛ وهذه نقطة مهمة جداً، وما وصل المسلمون إلى ما وصلوا إليه إلا بسبب قيام البعض بفعل المنكر، وقيام آخرين بالسكوت عنهم، وقيام فريق ثالث بإنكاره إنكاراً خاطئاً، فحدث الشر والفساد. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يبدأ بالأهم فالأقل أهمية في الإنكار، ويُقدم الأمر بفعل الواجبات على النهي عن المحرمات إذا استوى الواجب والمحرم، وإلا فإنه يبدأ بالأعلى رتبة، والأكثر خطراً، والأعلى شراً وأشد انتشاراً بين الناس، وهو كذلك يتدرج في الإنكار يداً ولساناً، وإنكاره بقلبه لا يفارق جميع الحالات. يجب على الإنسان أن يفارق المجلس إن لم يستطع الإنكار، ولا يأمر بمعروف إذا علم أنه سيؤدي إلى منكر أكبر منه، ولا يأمر بمعروف إذا كان سيؤدي إلى فوات معروف أكبر منه، ولا ينهى عن منكر إذا كان سيؤدي إلى منكر أكبر منه، ولا ينهى عن منكر إذا كان سيؤدي إلى فوات معروف أكبر منه، وتفصيل هذه الحالات وغيرها في محاضرة بعنوان: (ضوابط في إنكار المنكر). وهو صاحب هيبة بين أهل المنكر، ولو رأوه لهابوه، عن سعيد بن جبير قال: مرَّ ابن عمر رضي الله عنه بفتيان من قريش قد نصبوا طيراً وهم يرمونه بالنبل، وقد جعلوا لصاحب الطير كل خاطئة من نبلهم، فلما رأوا ابن عمر تفرقوا، فقال ابن عمر: (من فعل هذا؟ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من اتخذ شيئاً فيه الروح غرضه). ورجل العقيدة يهتم بإنكار المنكر حتى آخر لحظة من حياته، ألم تر أن عمر رضي الله عنه نهى ذلك الشاب المسبل عن الإسبال وهو على فراش الموت، فقال: [يا بن أخي! ارفع ثوبك؛ فإنه أتقى لربك وأنقى لثوبك]. وأوصى أبو موسى رضي الله عنه حين حضره الموت، فقال: [إذا انطلقتم بجنازتي فأسرعوا بي المشي، ولا تجعلون على لحدي شيئاً يحول بيني وبين التراب، ولا تجعلون على قبري بناءً، وأشهدكم أني بريءٌ من كل حالقة، أو سالقة، أو خارقة، قالوا: سمعت فيها شيئاً؟ قال: نعم. من رسول الله صلى الله عليه وسلم]. ورجل العقيدة يُضحي بنفسه في سبيل الدين؛ لأن هذا الدين لا يقوم بغير تضحيات، وبعض القاعدين الكسالى، يظنون أن الدين سيقوم بمجرد التعلم النظري لهذا الدين، حتى لو لم يؤدوا إليه أي خدمة أو لم يضحوا في سبيل الدين بأي شيء؛ وهذا خطأ.

الدعوة إلى عقيدة أهل السنة والجماعة

الدعوة إلى عقيدة أهل السنة والجماعة أريد أن أنبه -أيها الإخوة- بهذه المناسبة على مسألة مهمة: بعض الإخوان الصالحين الطيبين الذين يعتقدون عقيدة أهل السنة والجماعة، ويدينون الله بها يظنون أن مجرد الاعتقاد بعقيدة أهل السنة كافٍ في نُصرة الإسلام؛ لأن الله سينصر الطائفة المنصورة وينجيها، ولكن مجرد الاعتقاد بعقيدة أهل السنة والجماعة من غير محاولة لنشر العقيدة ومقارعة أهل البدع والإجرام بها، والتضحية في سبيل الله بالنفس والمال والوقت والجهد لن يؤد إلى النصر؛ لأن لله سنناً في الكون لا تتخلف، ورسول الله صلى الله عليه وسلم طريقته معروفة: آمن واعتقد، وعلَّم أصحابه العقيدة، ثم دعا إليها، وجاهد في سبيلها، وصبر في سبيل ذلك، وظل يبحث عن مواطن جديدة للدعوة، وأخرج أصحاباً له إلى الحبشة وخرج هو إلى الطائف، ثم ذهب إلى المدينة وفُتحت المدينة بالقرآن ولم تُفتح بالسيف. والقرآن مليء بالآيات الدالة على العمل، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة:25]. إذاً: فمجرد الاعتقاد لا يكفي، وإنما يجب العمل. عن أبي برزة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان في مغزىً له، فأفاء الله عليه -غَنِمْ- فقال لأصحابه: هل تفقدون من أحد؟ قالوا: نعم. فلان وفلان وفلان، ثم قال: هل تفقدون من أحد؟ قالوا: لا. قال: لكني أفقد جليبيباً فاطلبوه، فطُلب في القتلى، فوجدوه إلى جنب سبعة قتلهم ثم قتلوه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فوقف عليه، فقال: قتل سبعة ثم قتلوه، هذا مني وأنا منه، هذا مني وأنا منه، قالها مرتين أو ثلاثاً، ثم قال بذراعيه هكذا فبسطهما، قال: فوضعه على ساعديه ليس له سرير إلا ذراعي أو ساعدي النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فحفر له ووضعه في قبره ولم يذكر غسله). حديث صحيح. جليبيب قتل سبعة في سبيل ماذا؟ ثم قتل في سبيل ماذا؟ عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: [هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل الله نبتغي وجه الله فوجب أجرنا على الله، فمنا من مضى ولم يأحذ من أجره شيئاً، منهم: مصعب بن عمير]. مصعب بن عمير ماذا حصل له؟ مصعب بن عمير أسلم مع الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة، وجاهد والديه، وجاهد المجتمع، وأوذي في سبيل الله وناله من الأذى شيئاً كثيراً، ثم يُهاجر مصعب إلى المدينة بسبب اختيار الرسول صلى الله عليه وسلم له، وذلك لميزات في شخصيته، فكان سفره من أقوى الأسباب التي أدت إلى انتشار الإسلام في المدينة، وقد أسلم على يديه سادات الأنصار، ثم يخرج في معركة بدر ويقاتل، ويخرج في معركة أحد ويحمل اللواء، فيُقتل رضي الله عنه. ماذا جاءه من نعيم الدنيا؟ لما مات ياسر وقتلت زوجته أم عمار ماذا نالت من الدنيا؟ ماذا نالت من المغانم؟ لا شيء، مات هؤلاء في مقتبل الأمر مات هؤلاء والمسلمون في مرحلة استضعاف، ضحوا ولم يروا نتائج التضحية، بعض المسلمين يستعجلون يريدون أن يروا نتائج العمل في أقرب وقت. يا أخي! ربما لا ترى النتيجة إلا بعد أجيال وربما لا تراها أنت أصلاً، ربما لا يراها إلا حفيدك أو حفيد حفيدك، وماذا يُضِيرك لو تعمل للإسلام؟ ولو رأى غيرك النتيجة؛ لأنك لست مكلفاً إلا بالعمل (قتل مصعب يوم أحد فلم يُوجد له شيء إلا نمرة، فكنا إذا وضعناها على رأسه خرجت رجلاه، وإذا وضعناها على رجليه خرج رأسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ضعوها على رأسه واجعلوا على رجليه الإذخر، ومنا من أينعت ثمرته فهو يهدبها). لكن الصحابة حتى بعد أن فُتح عليهم وجاءتهم الأموال، يجلس الواحد منهم يحاسب نفسه ويبكي ويقوم ويترك طعام الإفطار، يقول: ومنا من أينعت ثمرته، هو الآن يتنعم، يحاسب نفسه فيبكي ويقوم ويترك طعام الإفطار.

التضحية في سبيل هذه العقيدة

التضحية في سبيل هذه العقيدة رجل العقيدة إذا عمل في سبيل نصرة الدين وضحى بنفسه لا يريد بذلك متاعاً دنيوياً، ويُصّر على ألا يأخذ متاعاً دنيوياً، عن شداد بن الهاد قال: (أن رجلاً من الأعراب جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه، ثم قال: أهاجر معك، فأوصى به النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه ليعينوه ويكفلوه ويربوه ويعلموه -أعرابي- فلما كانت غزوة خيبر غنم النبي صلى الله عليه وسلم فيها شيئاً فقسمه، وقسم له -لهذا الأعرابي، ولم يكن موجوداً وقت القسمة؛ لأنه كان يرعى ظهور المسلمين- فأعطى الرسول صلى الله عليه وسلم نصيب الأعرابي لأصحابه، فلما جاءهم دفعوه إليه، فقال: ما هذا المال؟ فقالوا: قَسَمَ لك النبي صلى الله عليه وسلم فأخذه فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ما هذا؟ فقال: قسمته لك، قال: ما على هذا تبعتك؟ ولكن تبعتك على أن أُرمى هاهنا -وأشار إلى حلقه بسهم- فأموت فأدخل الجنة، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: إن تصدق الله يصدقك، فلبثوا قليلاً ثم نهضوا في قتال العدو، فأُتي به النبي صلى الله عليه وسلم وهو محمول وقد أصابه سهم حيث أشار -بعد المعركة- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أهو هو؟ قالوا: نعم. قال: صدق الله فصدقه، ثم كفنه النبي صلى الله عليه وسلم في جبته، ثم قدمه فصلى عليه، فكان فيما ظهر من صلاته: اللهم هذا عبدك، خرج مهاجراً في سبيلك، فقتل شهيداً وأنا شهيدٌ على ذلك) والأحاديث الماضية صحيحة.

معرفة الواقع

معرفة الواقع ومن سمات رجل العقيدة كذلك: أنه يعي الواقع جيداً، ويُلم به، وأنه رجل يعيش عصره لا يعيش متقوقعاً لا يعلم ماذا يحدث في بلاد المسلمين، وما هي التيارات التي تخترق مجتمعات المسلمين؟ إن لديه إلماماً بالتيارات التي تواجه المسلمين بأخطارها، مثل: التيارات الإلحادية الصريحة كـ الشيوعية والقومية وغيرها، وكذلك تيارات الباطنيين كـ القاديانية والبهائية وغيرها، وتيارات القوميين والعلمانيين الذين قال بعض قادتهم: سلام على كفر يوحد بيننا وأهلاً وسهلاً بعده بجهنم هؤلاء الذين لا يرفض بعضهم الإسلام صراحة، ولكنهم يجعلونه ضمن دوائر خاصة يجعلونه جزءاً من التراث بحيث يشمل كل الفلسفات والأفكار والتقاليد والنظم مما قبل الإسلام أو بعده، سواء كان موافقاً للإسلام أو مخالفاً له، يريدون أن يحصروا الدين في الشعائر التعبدية والأحوال الشخصية، والتزام الفرد بالأخلاق والآداب فقط. وكذلك يدركون تيارات التبشير النصراني، وعبادة الفرد من دون الله، ويدركون جيداً تيارات أهل البدع من أهل الاعتزال والكلام، وأخطر من يواجه المسلمين في هذا العصر من أهل البدع من جهة العقيدة غير النصارى والعلمانيين والناس الذين ذكرناهم فيما سبق، الصوفية بفرقها، والأشاعرة من ناحية الامتداد والتمركز، وذلك من خلال جامعاتهم في العالم الإسلامي، ودروس مشايخهم وطبع كتبهم وتقريرها وتوفيرها والترابط بين مذاهبهم. ورجل العقيدة علمه بالواقع يُؤدي إلى عِظم شعوره بالمسئولية تجاه الواقع. ما فائدة المعرفة بالواقع؟ إنه يؤدي إلى الشعور بالمسئولية للتغيير، ويعلم بأن هناك أكثر من ألفي مليون من البشر يعبدون آلهة وثنية من دون الله، ويعلم بأن هناك أكثر من ستمائة مليون إنسان في الهند يُقدسون البقر، ويقولون: نموت فداءً للبقر، ويعلم بـ الشيوعية وأهدافها وأحزابها ودولها وهيئاتها التي تعمل ليكون العالم كله شيوعياً، ويعلمون عن اليهود وعقائدهم الذين أخبر القرآن عنهم أنهم سبوا الله، فقالوا: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة:64]. وهم الذين قالوا: إن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استراح يوم السبت. وهم الذين يقولون: إذا احتدم الخلاف بين الله والحاخاميين فإن الحق مع الحاخاميين. وهم الذين يقولون: إن الأديان بغير اليهود كلاب، يحل غشهم والمنافقة معهم عند اللزوم. ويعلم رجل العقيدة بمؤامرات اليهود في العالم، وكيف تنطلق أنشطتهم من البنوك والمصارف والاحتكار والمسارح والسينما والمطابع، ودور النشر التي تُصدر كتبهم وصحفهم ومجلاتهم، ويعلم بأن الغرب مشتغل بعبادة المال وتجارة الرقيق الأبيض والمخدرات والتمييز العنصري، وأن الغرب تنتشر فيه تيارات الهيدية والسادية واللواط وعبادة الشيطان، وأن أولئك الكفار لا يعلمون شيئاً اسمه الخوف من الله، وأن الحضارة الغربية والتقدم العلمي ما هو إلا من قول الله عزوجل: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7] وصدق من قال: لقد تعلم الإنسان كيف يطير في الهواء ولكنه لا يدري كيف يمشي على الأرض. ورجل العقيدة: يعلم بوعيه أن هناك مؤامرات تُدبر في بلاد المسلمين ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، ويعلم مثالاً جيداً من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أولئك المنافقين الذين بنوا مسجداً ليكون ظاهر الأمر أمام المسلمين أنه شيء طيب، ولكنه في الحقيقة يخفي وراءه عذاباً ونكالاً ومؤامرة على المسلمين. ولذلك يقول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ * أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:107 - 110]. ولذلك أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بهدمه وحرقه مع أنه مسجد حتى قال بعض السلف: "فهو الآن مزبلة"؛ لأن هذه المؤامرات وهذه الدسائس لا تنطلي على الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وليس كل شيء ظاهره الطيبة أنه خير للمسلمين، بل إنه قد يكون وراءه شر مستطير، والمسلم ينفذ بعين بصيرته ما وراء تلك الجدران فيعلم ماذا يدور؟ وماذا يخبأ للمسلمين؟ وقازان الذي انتحل شخصية رجل الدين، وجاء معه بإمام وقاضٍ ومؤذن، لم ينطل أمره على شيخ الإسلام ابن تيمية لأنه وعى الأمر على حقيقته، وفتوى شيخ الإسلام في قتال التتر معروفة، وفي العصر الحديث جاء نابليون إلى مصر، فلبس الجبة، وحضر مجالس العلماء، وصلى في الأزهر، وأفطروا على مائدته، وانطلى أمره على كثير من المسلمين.

تقدير الأمور ومعرفة أنها مسئولية

تقدير الأمور ومعرفة أنها مسئولية ورجل العقيدة يُقدر الأمور ويُقدر أنها مسئولية، ويعرف ثِقل التبعات، ويقف عندما يحس بأن المسألة تحتاج للاستعداد، عن أنس رضي الله عنه قال: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ سيفاً يوم أحد فقال: من يأخذ مني هذا؟ فبسطوا أيديهم وكل إنسان منهم يقول: أنا أنا، قال: فمن يأخذه بحقه؟ فأحجم القوم، فقال سماك بن خرش أبو دجانة: أنا آخذه بحقه، قال: فأخذه ففلق به هام المشركين) رواه مسلم. وفي المواقف الصعبة يظهر دور رجل العقيدة في تثبيت الناس، ويظهر دور تلك الشخصيات العظيمة في إشاعة أجواء الإيمان والطمأنينة في جنبات تلك النفوس المزلزلة، وهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه صار ملجأ الناس لما تزلزلوا عند موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكشفت تلك الحادثة عن قدرة الرجل وإيمانه وعلمه، قام بدور لم يقم به بقية الصحابة، فتشهد أبو بكر فمال إليه الناس وتركوا عمر، فقال: [أما بعد من كان منكم يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال الله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144]، قال: والله لكأن الناس لم يكونوا يعلمون أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقاها منه الناس، فما أسمع بشراً من الناس إلا يتلوها] في طرق المدينة وهم خارجون كأنهم لم يشعروا أن الآية نزلت إلا في ذلك الوقت، مع أنها نزلت من قبل، وهكذا كان دور الإمام أحمد رحمه الله في تثبيت الناس يوم المحنة.

تثبيت النفس والغير

تثبيت النفس والغير رجل العقيدة يثبت نفسه، ويثبت غيره حتى اللحظات الأخيرة من حياته، لما حُمل الإمام أحمد ومحمد بن نوح رحمهما الله، قال الإمام أحمد بعد ذلك يحدث عن الموقف: ما رأيت أحداً على حداثة سنه وقدر علمه أقوم بأمر الله من محمد بن نوح، وإني لأرجو أنه قد خُتم له بخير، قال لي ذات يوم: يا أبا عبد الله! الله الله إنك لست مثلي، أنت رجل يُقتدى بك، قد مد الخلق أعناقهم إليك لما يكون منك، فاتق الله واثبت لأمر الله، فمات وفُك قيده وغسله الإمام أحمد، وصلى عليه ودفنه يرحمه الله. إذاً: هذا دور طالب العلم مع العالم، محمد بن نوح ماذا كان بالنسبة للإمام أحمد؟ علمه قليل، وسنه صغير، أين دور طلبة اليوم مع العلماء في تثبيتهم وتوعيتهم، وإمدادهم بالمعلومات عن الواقع، إن طلبة العلم قد يكونون في تقصير عظيم تجاه العلماء. فالله الله يا طلبة العلم بالقيام بأدواركم مع علمائكم، وانظروا إلى دور الرجل الذي يثبت الآخرين في كلام ابن القيم رحمه الله عن شيخه: وكنا إذا اشتد بنا الخوف، وساءت بنا الظنون، وضاقت بنا الأرض، أتيناه فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه، فيذهب ذلك كله عنا، وينقلب انشراحاً وقوةً ويقيناً وطمأنينة، فسبحان الله من أشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل فأتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها. إذا ضاق الأمر بتلاميذ شيخ الإسلام ابن تيمية وكاد لهم أهل البدعة ضاقت عليهم الأمور، فكانوا يأتون شيخهم، ما أن يسمعوا كلامه حتى يزول الهم والغم وينقلب انشراحاً وطمأنينة.

الدعوة إلى الله عز وجل

الدعوة إلى الله عز وجل رجل العقيدة داعية إلى الله عزوجل أينما حل وارتحل، في كل مكان ينشر العقيدة، وهؤلاء رجال العقيدة الذين يدعون إلى الله، يدعون الناس سراً وجهاراً وليلاً ونهاراً، بشتى الأساليب وشتى الأزمان، إن أحدهم كان يقطع البلاد من بلد إلى بلد ومن قرية إلى قرية في عشرين يوماً، وفي بعض الأحيان يُصبح في بلد ويتغدى في آخر، ويمسي في ثالث وينام في رابع؛ وينام ساعة أو بعض ساعة في اليوم الواحد، وأصحابه يتحدثون حوله. إن رجل العقيدة يدعو إلى الله في كل وقت حتى لو كان في السجن انظروا إلى يوسف عليه السلام: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف:39]. وانظر إلى دور الإمام أحمد في السجن وكذلك ابن تيمية وغيرهم، حتى أن بعض المساجين ممن قد انتهت مدتهم كانوا يختارون البقاء في السجن مع أولئك العلماء القدوات من رجال العقيدة ليواصلوا تعلمهم. ورجل العقيدة: يكون حيث تكون المصلحة لا يتطلع إلى أشياء من الدنيا، ويقول: ضعوني هنا ولا يُعجبني هذا المكان، إنه يكون حيث تكون مصلحة الإسلام (طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة). قال ابن كثير رحمه الله في البداية: "كتب الصديق إلى عمرو بن العاص يستنفره إلى الشام، فقال له: إني كنت قد رددتك على العمل الذي ولاك رسول الله صلى الله عليه وسلم وسماه لك مرة، وقد أحببت يا أبا عبد الله أن أفرغك لما هو خير لك في حياتك ومعادك، إلا أن يكون ما أنت فيه هو أحب إليك". انظر الأسلوب التربوي في تحويل الأشخاص من مكان إلى آخر، فماذا قال عمرو بن العاص؟ "كتب إلى أبي بكر: إني سهم من سهام الإسلام، وأنت عبد الله الرامي بها والجامع لها، فانظر أشدها وأخشاها فارم بي فيها". أي: ضعني حيث تريد فأنا مستعد أن أعمل، وبعض الناس كونه يوجد في هذا المكان ويسد هذه الثغرة يعترض ويقول: لا أريد أن أكون فيها، لأن هذه الثغرة ما فيها إلا قلة، ولا يوجد أحد يعرفني فيها ولا يحترمني، فأنا أريد أن أكون هناك حيث تشرأب إليَّ الأعناق، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

استغلال الطاقات والمواهب في خدمة الدين

استغلال الطاقات والمواهب في خدمة الدين ورجل العقيدة يستغل طاقاته ومواهبه في خدمة الدين. أيها الإخوة! إن الله يحاسب الناس على قدر طاقاتهم، فالله لا يحاسب الذكي مثل البليد، ولا يحاسب القوي مثل الضعيف، ولا يحاسب الشاب مثل الكهل الكبير، ولا يحاسب صاحب النفوذ والسلطان مثل الرجل المسلوب السلطان الذي ليس له قوة، ولا يحاسب الرجل الذي عنده قدرة على التداخل في نفوس الناس وإيصال الإيمان والدعوة إليهم، مثل الرجل الذي ليست عنده تلك القدرة انظر إلى مصعب بن عمير كيف استغل ذلك؟! ورجل العقيدة يستغل منصبه ونفوذه وسلطانه في دعم الدين انظر إلى عمر بن عبد العزيز، وحتى إذا آتاه الله موهبة قرض الشعر فإنه يكتب الشعر لينافح عن دين الله عزوجل، ويهتك أستار أهل الباطل انظر إلى حسان رحمه الله. وإليك -يا أخي- هذا المثال العظيم الذي سطَّره التاريخ الإسلامي لرجلٍ من رجال العقيدة استغل موهبته في خدمة الدين، قال القاضي ابن شداد رحمه الله في سيرة صلاح الدين الأيوبي في إحدى الوقعات يقول: ومن نوادر هذه الوقعة ومحاسنها أن عَوّاماً مسلماً يقال له: عيسى كان يدخل إلى البلد بالكتب والنفقات على وسطه ليلاً على غرة من العدو، وكانت بلاد المسلمين محاصرة، فكان يغوص ويخرج من الجانب الآخر من مراكب العدو رجل من المسلمين ليست عنده موهبة إلا القدرة على الغطس والعوم، فكان يستغل قدرته على الغطس والعوم في أن ينزل قبل مراكب العدو بمسافة ومعه هذه الأحمال إلى البلد المحاصرة، وكان ذات ليلة قد شد على وسطه ثلاثة أكياس فيها ألف دينار، وكتب للعسكر، وعام في البحر، فجرى عليه من أهلكه ومات هذا العوّام، وأبطأ خبره، فاستشعر الناس هلاكه، وبينما الناس على طرف البحر في البلد وإذا البحر قد قذف إليهم ميتاً غريقاً، فرأوه فإذا هو عيسى العوام، ووجدوا على وسطه الذهب وشمع الكتب، وكان الذهب نفقة للمجاهدين، فما رُؤي من أدى الأمانة في حال حياته -وقد أداها بعد وفاته- مثل هذا الرجل، وكان ذلك في العشرة الأيام الأخيرة من شهر رجب. رجل العقيدة يعمل ولو كان غير معروف، ولو كان يجهله الناس، ولكنه يعمل لا يبتغي الشهرة أو المعرفة أو يُشار إليه بالبنان، قال ابن كثير في البداية: ولما أُخبر عمر بمقتل النعمان بكى، وسأل عمن قتل من المسلمين؟ فقال: فلان وفلان وفلان، ثم قال: وآخرون من أصناف الناس ممن لا يعرفهم أمير المؤمنين من البلاد المتفرقة والقبائل المتفرقة، فجعل عمر رضي الله عنه يبكي، ويقول: [ما ضرهم ألا يعرفهم أمير المؤمنين، لكن الله يعرفهم وقد أكرمهم الله بالشهادة وما يصنعون بمعرفة عمر]. رجل العقيدة إذا تعرض لاستمالة من قبل أهل الضلال، فإنه يأبى أن يترك الصف الإسلامي وينحاز إلى صفوف أهل الفجور والبدعة والمعاصي الذين يريدون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وأنت تسمع قصة كعب بن مالك وترى عظمة ذلك الصحابي رضي الله عنه، لما فاضت عيناه؛ لأن الناس ما كلموه بناءً على أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول كعب: [فبينا أنا أمشي في سوق المدينة، فإذا بنبطي من نبطي أهل الشام يقول: من يدل على كعب بن مالك؟ قال: فطفق الناس يشيرون إليّ حتى جاءني، فدفع إليَّ كتاباً من ملك غسان، وكنت كاتباً، فقرأته فإذا فيه: أما بعد! فإنا قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسيك قال: فقلت حين قرأتها -النفوس لا تظهر إلا عند مواضع الاحتكاك والفتنة؛ وهنا تظهر المعادن- وهذا أيضاً من البلاء، فتيممت بها التنور وسجرته بها]. رجل العقيدة صاحب نفس طويل في متابعة المهمات انظر إلى سلمة بن الأكوع رحمه الله ورضي الله عنه وأرضاه، بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الحديبية ثلاث مرات، ولما نادى منادي المسلمين: يا للمهاجرين في الغزوة بعد الصلح قفز فجأة، لأن الحال خطير، فوجد أربعة من المشركين فألقى القبض عليهم وأخذ أسلحتهم وجاء يقودهم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم رجل واحد يأسر أربعة فجأة وفي طريق الرجوع أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يصعد أحد الصحابة إلى الجبل المرتفع ليكون الطليعة فينظر هل وراء الجبل أحد من المشركين، فصعده سلمة رضي الله عنه مرتين. ولما قدموا المدينة أغار أناس على إبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلوا الراعي وأخذوا الإبل، واستُنفر الناس، فكان أول رجل نفر هو سلمة بن الأكوع فجرى سلمة وراءهم وانتزع إبل رسول الله صلى الله عليه وسلم واحداً واحداً وانتزع منهم كذلك متاعاً لهم، وظل يطاردهم بالنبل وجرحهم وأجلاهم عن الماء وتركهم عطاشى حتى وصل فرسان الرسول صلى الله عليه وسلم، فأخذوا المال كله، وهو في الرجوع جاء رجل وقال: من يسابق إلى المدينة؟ فسابقه سلمة رضي الله عنه إلى المدينة فسبقه. كل هذا فعله في فترة واحدة، أشياء متتابعة تأخذ مجهوداً، لكن رجل العقيدة لا يعرف الكلل والملل، بل إنه لا يعرف إلا المتابعة والاستمرارية في العمل.

الاهتمام بضعفاء المسلمين ومساكينهم

الاهتمام بضعفاء المسلمين ومساكينهم رجل العقيدة يهتم بضعفاء المسلمين وعوامهم، عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعود مرضى مساكين المسلمين وضعفائهم، ويتبع جنائزهم، ولا يُصلي عليهم غيره، وإن امرأة مسكينة من أهل العوالي طال سقمها، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل من حضرها من جيرانها، وأمرهم إذا ماتت ألا يدفنوها إن حدث بها حدث حتى يأتي ويصلي عليها، فتوفيت تلك المرأة ليلاً فاحتملوها وأتوا بها إلى مكان الجنائز، فأخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليها فوجدوه نائماً، فما أحبوا أن يزعجوه من الليل، فصلوا عليها ودفنوها، ولما علم عليه الصلاة والسلام صباح اليوم الثاني، قال: لم فعلتم؟ انطلقوا، فانطلقوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قاموا على قبرها، فصفوا وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يصف لصلاة الجنازة، فصلى عليها صلى الله عليه وسلم. إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم اهتم بامرأة عجوز من المسلمين، وبعض الناس الآن لا يهتمون بالعجائز، يموت العجوز وقد لا يُدرى عنه، وقد تتغير جثته في بيته ولا أحد يعلم بموته. أحدهم يقول لجاره: هؤلاء أولادك الآن تركوك في البيت وذهبوا واشتغلوا، وبينما هو باقٍ في البيت ومن البيت إلى المسجد، افتقده أهل المسجد فبحثوا عنه، وفي الأخير ذهبوا إلى البيت فوجدوه مغلقاً فحطموا الباب ودخلوا، فوجدوا رائحة الرجل متغيرة ثلاثة أيام لم يسأل عنه أحد لماذا؟ أين الاهتمام بعامة المسلمين؟! أين الاهتمام بالضعفاء؟! أين الاهتمام بمن لا أهل لهم، ولا أناس يسألون عنهم؟! وفي جنازة المساكين لا تجد إلا أناساً قليلين جداً، لكن لو مات رجل عظيم لوجدت الناس كلهم قد اجتمعوا هل هذا عدل؟!

مخالفة الكفار ومفاصلتهم

مخالفة الكفار ومفاصلتهم كذلك رجل العقيدة له موقف من الكفار؛ وهو أنه يفاصلهم ويتميز عنهم في عبادته لماذا لا نصلي في وقت شروق الشمس وغروبها؟ تميزاً عن الكفار في العبادة، وهو كذلك يتميز عنهم في العقيدة، ويتميز عنهم في اللباس، ويتميز عنهم في المظهر، ويتميز عنهم في كل ما اختصوا به من عادات، ولا يُقدم وشيجة القربى على العقيدة. انظر إلى هذه الحادثة العجيبة في الحديث الصحيح في وفاة أبي طالب يقول: (لما توفي أبو طالب أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت -من المتكلم؟ علي بن أبي طالب انظر ماذا قال علي الغلام الصغير للرسول صلى الله عليه وسلم، من الذي مات؟ أبوه الذي مات. ماذا قال علي؟ يقول مخاطباً الرسول صلى الله عليه وسلم-: إن عمك الشيخ الضال قد مات فمن يواريه؟ فقال عليه الصلاة والسلام: اذهب فواريه ثم لا تحدث شيئاً حتى تأتيني، فقال علي رضي الله عنه: إنه مات مشركاً، فيعود عليه السلام ويقول: اذهب فواريه. قال: فواريته ثم أتيته، قال: اذهب فاغتسل ثم لا تحدث شيئاً حتى تأتيني، قال: فاغتسلت ثم أتيته، قال: فدعا لي بدعوات ما يسر أن لي بها حمر النعم) حديث صحيح رواه الإمام أحمد. ورجل العقيدة له موقف من الكفار في الصدع بالدين وإعلان الإسلام، وأنتم تعرفون قصة أبي ذر في الصحيحين، تعرفون أنه لما قال له النبي عليه الصلاة والسلام بعدما أسلم: ارجع إلى قومك، قال: لا. سأذهب إلى كفار قريش ولأصرخن بها بين ظهرانيهم، فخرج حتى أتى المسجد، فنادى بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، فثار إليه القوم فضربوه حتى أضجعوه على الأرض، فأتى العباس فأنقذه، وفي اليوم التالي يرجع أبو ذر ويعاود نفس العملية؛ لأنه يريد أن يُعلن العقيدة على ملأ الكفار. رجل العقيدة ليس بخب ولا يخدعه الخب، ليس غادر لئيم مكّار وفي نفس الوقت لا يسمح لمخادع مكّار لئيم خبيث أن يلعب عليه ويخدعه. ورجل العقيدة رجل نبيه، لما سار عمرو بن العاص رضي الله عنه بجيشه إلى الرملة وجد الروم عليهم الأرطبون، وكان أدهى الروم، وقد وضع بالرملة جنداً عظيماً، فأقام عمرو رضي الله عنه مع الجيش بأجناده، لا يقدر من الأرطبون على سقطة ولا تشفيه الرسل؛ يُرسل الرسل لكي يأتون له بالأخبار عن ملك الروم، لكن الأخبار التي يأتون بها غير كافية، فقرر عمرو بن العاص رضي الله عنه أن يذهب بنفسه وهو أمير الجيش على أنه رسول إلى ملك الروم يدخل في عسكرهم ويرى، فدخل على أنه رسول وبلغ الرسالة لملك الروم، وسمع كلامه وتأمل حضرته، وعرف ماذا يدور، فقال الأرطبون في نفسه وكان داهية: والله إن هذا لـ عمرو، أو أنه الذي يأخذ عمرو برأيه، وما كنت لأصيب القوم بأمر هو أعظم من قتل هذا الرجل، لأن بعض الكفار عندهم خبرة، فنادى هذا القائد حرسياً قال: تعال، وهمس في أذنه قال: إذا مر بك هذا الرجل -رسول المسلمين- فاذهب واختبئ في الموضع الفلاني، فإذا مرَّ بك فاقتله، فعلم عمرو رضي الله عنه أن المسألة فيها خديعة، فماذا قال للأرطبون؟ قال: أيها الأمير! إني قد سمعت كلامك -أي: المراسلة التي كلمتك عنها وسمعت كلامي- وإني واحد من عشرة بعثنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه لنكون مع هذا الوالي -أي: عمرو بن العاص - لنشهد أمورهم، وقد أحببت أن آتيك بهم ليسمعوا كلامك ويروا ما رأيت أنا، فقال الأرطبون: نعم. فاذهب فأتني بهم، ودعا رجلاً، وقال: قل للحرسي لا يقتل هذا الرجل. فخرج عمرو بن العاص وسرى من الجيش، ولما وصل إلى جيشه دخل فيه، ثم تحقق الأرطبون أن هذا هو عمرو بن العاص، فقال: خدعني هذا الرجل، والله إنه أدهى العرب. وبالنسبة لإرهاب الكفار والكذب عليهم في الحرب، فيقول ابن كثير رحمه الله في البداية: قال خالد لـ ماهان؛ في مقابلة جرت بينهما: إنه لم يخرجنا من بلادنا ما ذكرت، غير أنا قومٌ نشرب الدماء، وأنه بلغنا أنه لا دم أطيب من دم الروم، فجئنا لذلك، فقال أصحاب ماهان: هذا والله ما كنا نُحدث به عن العرب.

اليقين بأن المستقبل للإسلام

اليقين بأن المستقبل للإسلام وختاماً: فإن رجل العقيدة يعلم بأن المستقبل للإسلام، ويعلم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر بأحاديث كثيرة على أن المستقبل للإسلام، ومنها: (بشر هذه الأمة بالسناء والتمكين في البلاد، والنصر والرفعة في الدين، ومن عمل منهم بعمل الآخرة للدنيا فليس له في الآخرة نصيب). هذا الكلام مهم جداً أن نعلم أن المستقبل للإسلام، لماذا؟ لأن الناس يقولون: مستحيل أن يخرج اليهود من فلسطين؛ لأن عندهم القنابل والطائرات وعندهم السلاح وعندهم وعندهم، لكن أريد أن أسألكم سؤالاً، كم مكث النصارى -الروم- في القدس في الماضي؟ قرابة تسعين عاماً، ثم أخرجهم المسلمون في النهاية، واليهود كم مدة احتلالهم لـ فلسطين؟ قرابة أربعين سنة. وكان المسلمون أيام الاحتلال الصليبي في ضعف، ثم قيض الله للأمة صلاح الدين فأخرجهم وليس بعزيزٍ على الله أن يُخرج رجلاً في الأمة يجتمع عليه المسلمون، فيخرجون اليهود، وكذلك مر في التاريخ الإسلامي أحداث سوداء جداً، المسلمون في غاية الضعف، كيف كان التتر والمغول يفعلون بالمسلمين في البداية قبل أن يدخل فيهم الإسلام؛ كان الجندي من التتر يدخل الحي من أحياء المسلمين، ولا يتكلم أحد من المسلمين؛ لأنهم في ذل، فيقول: اجتمعوا يا أهل الحي، فيجتمعون كلهم ولا يتخلف منهم رجل واحد، فيقول لأحدهم: ضع رأسك على الصخرة، فيضع رأسه على الصخرة، ويقول لرجل آخر من المسلمين: خذ هذه الصخرة ورض بها رأس صاحبك، فلا يملك ذلك المسكين إلا أن يأخذ الصخرة ويرض بها رأس صاحبه وهكذا يفعل بهم واحداً واحداً حتى يفنيهم وهو واحد؛ لأن الذل عم المسلمين، ولكن مع ذلك صد المسلمون بعد مدة حملات التتر. إذاً أيها الإخوة: مهما كاد الكائدون فالمستقبل للإسلام، ومهما حاول أهل الشر والبغي، ومهما خطط المخططون فإن المستقبل للإسلام. انظر إلى التاريخ الإسلامي المعاصر، كم ضربة وجهت للإسلام والمسلمين؟ كم خطة أعدت؟ كم محاولة جرت؟ ومع ذلك الصحوة الإسلامية في ازدياد، وهذا دليل على أن ديننا دين عظيم؛ فهو يحمل في طياته عناصر استمراريته وهيمنته: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:32]. وصلى الله على نبينا محمد.

صبر الرسول على الأذى

صبر الرسول على الأذى لم تقم دعوة الإسلام، ولم تبلغ ما بلغت إلا بعد تضحيات جسيمة، وتحمل صنوف من الأذى، وأول من واجه ذلك وصبر عليه هو إمام هذه الدعوة صلى الله عليه وآله وسلم، وفي ذلك للمسلم أسوة في مواجهة المشاكل والأذى الذي يعترضه خلال الدعوة إلى دينه.

أهمية دراسة شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم

أهمية دراسة شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. عباد الله: إن دراسة شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمور المهمة للمسلم الذي يريد أن يطبق قول الله عز وجل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108] ويريد أن يسير على تأثرٍ من نور هذه الآية: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]. وشخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها جوانب كثيرة من العظمة؛ تلك الجوانب التي لا بد للداعية إلى الله، ومن يريد أن يتربى على طريق الإسلام أن يدرسها دراسة متأنية.

عظمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصبره على الاستهزاء

عظمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصبره على الاستهزاء ونحن نستعرض في هذا المقام جانباً من جوانب عظمة شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله على نورٍ من ربه، ويصبر على الأذى في سبيل هذه الدعوة، وصبره صلى الله عليه وسلم على الأذى يتمثل في أحداث كثيرة تمَّت في حياته صلى الله عليه وسلم؛ من مواجهته للكفار والمشركين والمنافقين، وفي عامٍ واحد وهو العام العاشر من البعثة يتوفى الله تعالى خديجة رضي الله عنها ويموت أبو طالب، فيطمع كفار قريش في أذية رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يكونوا يطمعون قبل ذلك، وأذية الكفار لرسول الله صلى الله عليه وسلم تتمثل في جوانب كثيرة: أولاً: الاستهزاء برسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول الله عز وجل: {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ} [الأنبياء:36] أن يهزأ المبطل بالمحق، وأن يسخر السفيه بالعاقل، تلك والله أذية كبيرة تقع كالصخر على صدر الذي يتعرض لهذا النوع من الأذى، رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أنه على الحق وهم يستهزئون به: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً} [الفرقان:41] يستهزئون بشخصيته صلى الله عليه وسلم، ولكنه يصبر على هذا الأذى وهو يتفكر في قول الله تعالى يسري عن شخصه صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأنعام:10]. لقد دارت دائرة السوء عليهم، وهذا الاستهزاء الذي استهزءوا به قد أصبح وبالاً عليهم.

للدعاة في النبي صلى الله عليه وسلم أسوة في الصبر على الاستهزاء

للدعاة في النبي صلى الله عليه وسلم أسوة في الصبر على الاستهزاء واليوم يقف الداعية إلى الله سبحانه وتعالى، الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر موقفاً حرجاً أمام السهام التي توجه إليه من المستهزئين وهم يستهزئون بشخصيته، أو يستهزئون بمظهره، أو يستهزئون بالأفكار التي يحملها، إنه يتأسى بموقف رسول الله صلى الله عليه وسلم، الصبر على هذا الاستهزاء. ولقد صبر رسول الله صلى الله عليه وسلم على شتى الاتهامات؛ فقد اتهموه بأنه يقول الشعر، وأن هذا القرآن إنما هو شعر، وأنهم أيضاً شعراء ولو شاءوا أن يأتوا بمثل شعره لأتوا، يريدون أن يحولوا هذا القرآن عن المجرى العظيم والقالب الذي نزل به؛ لكي يقولوا للناس: نحن نستطيع أن نصنع مثله قال تعالى: {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} [الأنبياء:5] وقالوا: {أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [الصافات:36] وقال الله عنهم: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور:30] إنهم ينتظرون نهايته، وينتظرون موته حتى تدفن دعوته في مهدها، ولا تقوم لها قائمة، ولكن الله سبحانه وتعالى تولى الرد عليهم، وتثبيت نبيه صلى الله عليه وسلم: {فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لا تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ} [الحاقة:38 - 41]، وقال عز وجل: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس:69]. وكل عارف باللغة العربية؛ بنثرها وشعرها يعرف أن هذا القرآن ليس على وزن الشعر، وليس شعراً كالذي يقوله الشعراء. واليوم يقف الدعاة إلى الله عزوجل أمام المستهزئين وهم يرمونهم بتهم مثل هذه، فليس لهم والله إلا الصبر عليها، والرد على هذه الشبهات التي تطلق على الشريعة وأفكار الدين، منتهجين نهج القرآن في الرد عليها. وأوذي عليه السلام باتهامه بالسحر، قال تعالى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ} [يونس:2] {وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} [ص:4] {وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً} [الفرقان:8] ولكن الله رد عليهم فقال: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [الذاريات:52] لماذا يريد الجاهليون أن يصموا شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسحر؟ لأنهم رأوا أن لهذا القرآن الذي يتلوه صلى الله عليه وسلم أثراً عظيماً على نفوس الناس؛ إنه يجذب الأنظار، ويأخذ بمجاميع القلوب (إن عليه لطلاوة، وإن له لحلاوة) فهم يريدون أن يصرفوا أذهان الناس عن سبب هذا التأثير؛ وسبب هذا التأثير أن القرآن كلام الله، سبب هذا التأثير أنه نزل من عند الله الذي خلق النفس، ويعلم ما يؤثر بهذه النفس، وما تتأثر به هذه النفس، إنهم يريدون أن يصرفوا سبب التأثير إلى السحر الذي يؤثر -كذلك- في الناس؛ إنها والله دعاية إعلامية يريدون أن يلبسوا بها على الناس الذين يتأثرون بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويقف الدعاة إلى الله عزوجل اليوم أمام أولئك الشاتمين الذين يريدون أن يلبسوا الحق بالباطل، ويريدون أن يصرفوا الناس عن تأثير القرآن والسنة، إنهم يستخدمون وسائل شتى من التهويس والتهويل، وصرف أنظار الناس عن هذا القرآن، وعن الوحي، وعن التأثر بالشريعة، فيستخدمون لذلك وسائل شتى. إن على دعاة الإسلام أن يجابهوا هذه المواقف، وأن يُجَلُّوا للناس أثر القرآن والسنة، وأن يُروا الناس بأبصار قلوبهم قبل أبصار عيونهم أن هذا القرآن وهذه السنة ذات أثر على الناس، مخاطبة الناس بالقرآن والسنة، وربطهم بها مباشرة من الواجبات اليوم، حتى يحصل ذلك التأثير. وصبر صلى الله عليه وسلم على اتهامه بالجنون: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر:6] وقالوا: {أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [الصافات:36] {ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ} [الدخان:14]. ليس أصعب على صاحب الإيمان، والعقل الراجح، والرأي السديد، والفكر الصائب، من أن يتهم في عقله، وأن يوصف بالجنون. وتولى الله الرد على هذه الفرية مثبتاً رسوله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ:46] وقال عز وجل: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} [التكوير:22]، وقال سبحانه وتعالى: {نْ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم:1 - 2]. واليوم عندما يحاول الداعية إلى الله أن يبين للناس الحق، ويرجعهم إليه، وأن يبين لهم الميزان الصحيح، ويزيل عنهم الغشاوة التي رانت على قلوبهم، والحجاب الذي غطى أبصارهم، ويريد أن يرجعهم إلى الشريعة وإلى الدين، يقولون له: أأنت مجنون؟!! كيف تريدنا أن نرجع إلى ذلك الواقع وأنت ترى الغرب والشرق، وترى القوى العظمى، والواقع المستحكم، ثم تريد أن تنقلنا إلى عصر يطبق فيه الإسلام (100%)؟ هذا مستحيل! كن واقعياً، دع هذه الخيالات جانباً، إنك تحلم! وعند ذلك يجب أن يجابه الداعية إلى الله هذه السهام بواقعية الإسلام، وأن يثبت للناس أنه يمكن أن يطبق الإسلام، وأن أفكار الإسلام ليست جنوناً ولا هوساً، رغم تلك الاتهامات الباطلة التي يتهم بها أعداء الإسلام المتمسكين بشرع الله، إنهم يرمونهم كما رمى الكفار رسول الله صلى الله عليه وسلم -قدوة هذا الداعية- رموه أول مرة بالجنون والهوس واختلال العقل، إنهم كذلك اليوم يرمون من تمسك بالدين بالسفه، والجنون، والهوس، والوسوسة إلى آخر تلك التهم، إنهم يتصورون أن تحكيم الله في الشرع والواقع يؤدي إلى جنوح الإنسان عن طريقة التفكير الصحيحة، وعن الواقعية، إن واقعهم فاسد، ولذلك يتصورون أنه واقع صحيح من شدة ضغطه عليهم، ومن تشبعهم بأفكار هذا الواقع، ويتصورون أن تحكيم الإسلام في القوانين والمظاهر، والعبادات والعقائد؛ أنه جنون وهوس؛ لأنهم لا يعقلون، فعقولهم لا تتحمل عظمة تلك التكاليف، ولا يتصورون كيف يمكن أن تطبق هذه التكاليف في ظل الظلمات الجاهلية التي يرزحون اليوم تحت نيرها؛ ولأنهم لا يستطيعون أن يتصوروا الواقع كيف يكون إسلامياً؛ يتهمون من ينادي بالعودة إلى الواقع الإسلامي الصحيح بالجنون، ولا يمكن أن تتصور عقولهم كيف يمكن أن يطبق الإسلام (100%)؟ وهذه نقطة خطيرة أيها الأخوة.

صبر النبي صلى الله عليه وسلم على أذى الكفار

صبر النبي صلى الله عليه وسلم على أذى الكفار

صبره على أنواع التهم في عقله وعرضه

صبره على أنواع التهم في عقله وعرضه وقد صبر رسول الله صلى الله عليه وسلم على اتهام كفار قريش له بالتكذيب: {وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} [ص:4] {إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} [الفرقان:4] {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} [الشورى:24] يقولون هذا من جهة في مناسبات كثيرة، ومواقف متعددة، وهم في مناسبة أخرى وفي موقف آخر يعلمون ويعترفون بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بكذاب. وفي صحيح البخاري لما سأل هرقل أبا سفيان في بداية مقابلته له، قال: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فهذا هرقل جاءته لحظات من التجرد والإنصاف، ولقد هم أن يدخل هذا الدين لولا جشع الملك وحب الرئاسة، وخوفه من زوال سلطانه، فرجع إلى الكفر، ولكنه قد رأى الحق بأم عينيه. قال أبو سفيان: لا. ثم قال له في آخر مقابلته: وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال، فذكرت أن لا، وأعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله؛ أي: أنت تقول أن محمداً صلى الله عليه وسلم ما عهدت منه الكذب على الناس قبل البعثة، فعلمتُ أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ثم يكذب على الله، والكذب على الله أصعب وأشد من الكذب على الناس، فعلم أنه صادق. ولقد تولى القرآن الرد على هذه المزاعم فقال: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود:13] أي: إذا زعمتم أنه كذاب فهاتوا عشر سور مثل سور القرآن: {وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [هود:13] لكي تألفوا هذه السور؛ من سائر عظماء الشعراء وأهل النثر والبلاغة: {وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [هود:13]. ثم تنزل القرآن في الرد عليهم إلى ما هو أدنى من ذلك، فقال الله عزوجل: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} [يونس:38] عظم التحدي ونقص المقدار، فظهر التحدي أعظم: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِه} [يونس:38] فعجزوا، ولما حاول الكذابون أن يأتوا بسورة واحدة مثل سور القرآن؛ أتوا بأشياء مضحكة ليس هذا مجال سردها: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ} [هود:35]، {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ} [السجدة:3]. ويسري القرآن عن نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويثبت الله به قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ} [الأنعام:34]. واليوم عندما يقف الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أمام الناس، ويدعوهم إلى الله، ويبين لهم أحكام الدين؛ ويبين لهم الحلال والحرام، يقولون له: أنت كذاب، لا يمكن أن يكون في القرآن كذا، لا يمكن أن يكون في السنة كذا، لا يمكن أن يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بكذا، هذا الذي تدعون إليه ليس بدين، أنت تكذب على الدين، أنت جئت بدين جديد، ليس هذا الدين الذي نعرفه، لقد رأينا الدين من آبائنا وأجدادنا، ولقد رأينا الدين سنين عديدة ما رأينا فيه مثل هذا الذي تدعو إليه، فيتهمونه بالكذب على الشريعة، وهم قد أتوا من قبل جهلهم؛ فلجهلهم رموه بالكذب، وأتوا من قبل تقليدهم لآبائهم وأجدادهم، وعدم اتباع الحق، وأتوا من اتباع أهوائهم؛ لأنك عندما تخبرهم بالحق الذي يخالف أهوائهم؛ إذا كان الحق واضحاً يقولون: أنت كذاب فعليك أن تصبر كما صبر رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم.

صبر النبي صلى الله عليه وسلم على تلقي الأذى في جسده

صبر النبي صلى الله عليه وسلم على تلقي الأذى في جسده ولقد صبر عليه الصلاة والسلام على أذى المشركين في جسده صبراً عظيماً، روى البخاري رحمه الله عن عروة بن الزبير قال: قلت لـ عبد الله بن عمرو بن العاص: أخبرني بأشد شيءٍ صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: (بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بفناء الكعبة؛ إذ أقبل عقبة بن أبي معيط وهو من الكفار، فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقاً شديداً). عقبة بن أبي معيط يلوي الثوب حول رقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم يصلي: (ولوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقاً شديداً، فأقبل أبو بكر رضي الله عنه، فأخذ بمنكبه ودفع عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} [غافر:28]). آذوه في بدنه صلى الله عليه وسلم، ولهذا أمثلة سنذكرها إن شاء الله. في معركة أحد ماذا حصل للنبي صلى الله عليه وسلم؟ الذي حصل له أيها الأخوة: أنه أُدمي حتى سال الدم من وجهه، وقد أخرج البخاري رحمه الله في صحيحه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أصيب في أحد فسال الدم على وجهه، رجع إلى المدينة ولا زال النزف في وجهه عليه الصلاة والسلام، فقام علي رضي الله عنه على رأسه، وفاطمة تأخذ من الإناء في يد علي فتغسل وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالماء، ولكن الجرح لم يرق، فأخذت حصيراً فأحرقته ووضعت رماده على جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتماسك الجرح قليلاً حتى وقف الدم).

للدعاة في رسول الله أسوة في الصبر على الأذى

للدعاة في رسول الله أسوة في الصبر على الأذى فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذى في جسده، واليوم يعاني المتمسكون بشرع الله عز وجل أصناف العذاب، وألوان الأذى في سبيل الله، فيضربون بالسياط، ويسحلون بالشوارع، ويجرون على جلودهم فوق الحجارة والشوك، كما وقع بالنفر الأول من الصابرين الصادقين، وأدنى من ذلك تقع صور من العذاب في داخل البيوت، هل رأيتم أباً تصل به الدناءة والخسة أن يضرب ولده؛ لأنه امتنع عن المنكرات؟! هل رأيتم أباً تصل به الخسة والدناءة أن يقفل الباب على ابنه حتى لا يذهب لصلاة الفجر؟! يقفل باب البيت بالمفتاح ويأخذ معه المفاتيح حتى لا يخرج الولد إلى صلاة الفجر. هل رأيتم خسة ودناءةً مثل أن يأتي أحد الآباء بمزيل للشعر فيضعه على لحية ولده وهو نائم حتى تسقط لحيته عداءً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! إن ألوان الإيذاء أيها الأخوة تتعاقب، ويتفنن أعداء الله في إذاقة عباد الله العذاب أصنافاً وألواناً، فليس الحل في ذلك إلا الصبر على هذا الأذى في سبيل الله، ولقد سعى أعداء الله لإخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بلده، فقال الله عزوجل: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلاً} [الإسراء:76] تآمروا على إخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بلده، وخططوا لذلك حتى اضطر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخروج، فتهددهم الله بهذه الآية: {وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلاً} وفعلاً ما لبثوا في مكة بعد إخراج الرسول صلى الله عليه وسلم منها إلا قليلاً، فأذاقهم الله العذاب في معركة بدر وغيرها من المواقع حتى فتح الله مكة، ودخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم منصوراً. اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم واجعلنا من الصابرين في البأساء والضراء وحين البأس، اللهم ثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

صور أخرى من صبر النبي على الأذى يقتدى به فيها

صور أخرى من صبر النبي على الأذى يقتدى به فيها الحمد لله الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، خاتم الرسل، وأحب خلق الله إلى الله، وخليل الله الذي اصطفاه الله على العالمين، أدى الرسالة، وبلغ الأمانة، ونصح الأمة، وصبر على الأذى في سبيل الله حتى كان مثالاً حياً بسيرته بين أظهرنا اليوم؛ كأنا نرى تلك السيرة، وتلك الأحداث التي عاشها رسول الله صلى الله عليه وسلم. عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: (هل أتى عليك يوم أشد من يوم أحد، قال: لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة؛ إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت) الرسول صلى الله عليه وسلم ما وجد ولياً ولا نصيراً، يريد من كفار قريش أن يجيبوه وينصروه فلا يجد. (فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي). هذه الألفاظ أيها الأخوة تصور محنة الداعية التي يعيشها حينما يعرض الناس عنه، محنة الداعية التي يعيشها حينما يرفضه كل الناس، حين يطرده جميع الناس، عندما يوصدون الأبواب في وجهه، ولا يرضون بالحق الذي يقول به، ويعرضون عنه. (فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بـ قرن الثعالب) وهو موضع قريب من مكة. الرسول صلى الله عليه وسلم هام على وجهه من الغم، وما أفاق إلى نفسه ليعرف إلى أين يسير إلا في قرن الثعالب، وليس ذلك لأجل إفلاس، ولا لذهاب تجارة، ولا لخسارة في صفقة، ولا لفقد وظيفة، كلا. (فلم أستفق إلا وأنا بـ قرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال فسلم عليَّ، ثم قال: يا محمد! إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين -أي: الجبلين العظيمين اللذين تقع بينهما مكة - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً). وعندما يكون الظلم من الأقرباء يكون وقعه شديداً على النفس وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا فجعل ينادي بطون قريش: (يا بني عدي حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر في الأمر، فجاء أبو لهب وقريش فاجتمعوا -ورسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا - فقال عليه السلام: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً ببطن الوادي تريد أن تغير عليكم -جيش قريب من مكة يريد أن يغير عليكم- أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم. ما جربنا عليك كذباً، قال: إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تباً لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا). وأبو لهب عم الرسول صلى الله عليه وسلم، داعية إلى الله يقوم يجمع الناس يأتون إليه، يهددهم بعذاب الله عز وجل ويدعوهم إلى الله، فيقوم له واحد من الحاضرين فيقول له: تباً لك سائر اليوم! ألهذا جمعتنا؟ واليوم تعقد مجتمعات للدعوة إلى الله، وقد يجمع داعية إلى الله الناس في بيته، أو يذهب إليهم في بيوتهم فينصحهم وينذرهم عذاب الله، فتنطلق ألسنة المستهزئين به، إنه يتذكر والموقف هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولقد وصل الأمر إلى أن ادعوا أنهم أحق من رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحق وصلة الرحم، فهذا أبو جهل لعنه الله وقف يوم بدر يبتهل إلى الله ويقول: اللهم أقطعنا للرحم -يعني الرسول صلى الله عليه وسلم- وأتانا بما لم نعرف فأحنه الغداة. يوم بدر يقف أبو جهل لعنه الله يدعو الله أن يهزم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه قطع الرحم، وأتاهم بما لم يعرفوا، فأنزل الله عز وجل: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} [الأنفال:19] كما في الصحيح المسند من أسباب النزول. ولقد اتهموا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى في إنجابه، فعن ابن عباس قال: (لما قدم كعب بن الأشرف مكة -وكان كعب بن الأشرف يهودياً- قالت له قريش: أنت خير أهل المدينة وسيدهم -وكان هذا قبل الهجرة- قال: نعم. قالوا ألا ترى إلى هذا الصنبور). يقصدون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستخدام الألفاظ المشينة؛ ألفاظ السب، وانتقائها من قاموس السباب والشتائم لإلصاقها بالدعاة إلى الله قضية قديمة؛ ليست حديثةً ولا وليدة هذا العصر. والصنبور في لغة العرب: هو الرجل الفرد الضعيف الذليل الذي لا أهل له ولا عقب، ولا ناصر ينصره، قالوا: (ألا ترى إلى هذا الصنبور المنبتر من قومه، يزعم أنه خير منا، ونحن أهل الحجيج، وأهل السدانة، وأهل السقاية، قال: أنتم خير منه. فأنزل الله عز وجل: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} [الكوثر:3]) أي: إن شانئك وسابك يا محمد هو الأبتر الذي لا عقب له. وأخيراً هذا الموقف الذي تحكيه لنا آية الأنفال: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} [الأنفال:30] إن عقد المؤتمرات لإجهاض الدعوة، والمؤامرات على دعاة الإسلام، وإلحاق الأذى بهم قضية قديمة. {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنفال:30] لقد اجتمعوا في حجر إسماعيل بجانب الكعبة في مكة؛ يدبرون ويخططون لثلاثة أشياء: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ} ومعنى: يثبتوك: يقيدوك ويحبسوك حتى لا تقوم بالدعوة. {أَوْ يَقْتُلُوكَ} ويضيع دمك بين القبائل. {أَوْ يُخْرِجُوكَ} من مكة ويطردوك حتى لا تكون بينهم. روى ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه من حديث عبد الله بن عثمان بن خيثم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: (دخلت فاطمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تبكي، فقال: ما يبكيك يا بنيه؟ قالت: يا أبت! ما لي لا أبكي وهؤلاء الملأ من قريش في الحجر يتعاقدون باللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى، لو قد رأوك لقاموا إليك ليقتلوك، وليس منهم إلا من قد عرف نصيبه من دمك، فقال: يا بنيه! ائتيني بوضوئي، فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خرج إلى المسجد، فلما رأوه قالوا: إنما هو ذا، فطأطئوا رءوسهم، وسقطت أذقانهم من بين أيديهم فلم يرفعوا أبصارهم -أعماهم الله- فتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من تراب فحصبهم بها وقال: شاهت الوجوه، فما أصاب رجلاً منهم حصاة من حصياته إلا قتل يوم بدر كافراً). قال ابن كثير رحمه الله: قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ولا أعرف له علة. ولو استطردنا أيها الأخوة في ذكر ألوان الأذى التي صبر عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم لطالت بنا المجالس والأوقات، ولكن إنما هي تذكرة نذكر بها أنفسنا ونسليها ونحن نواجه اليوم أعداء الله، ونواجه مخططاتهم، واتهاماتهم، وسبابهم، وفسوقهم، وأذاهم، وحملاتهم علينا. إن الإنسان ليزداد محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإكباراً له عليه الصلاة والسلام وإجلالاً؛ حين يرى في سيرته صلى الله عليه وسلم من صبره على الأذى، ومن تحمله ذلك في سبيل الله لأجل شيء واحد: أن يبلغ رسالة الله إلى الناس، أن يبلغ الناس دين الإسلام؛ هذا هو الهدف، هذا هو الغرض من الحياة، وإلا فإن الحياة بغير هذا الغرض حياة بهيمية. اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك وطاعتك، اللهم واجعلنا من دعاتك وجندك، اللهم وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم وآتنا الحجة على من عادانا، اللهم وانصرنا على من بغى علينا، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه. اللهم وصلِّ على نبيك محمد صلى الله عليه وسلم صلاةً تامَّة ما بدا الليل والنهار، اللهم صلَّ عليه صلاة تامة ما غربت شمس وما شرقت. اللهم اجعلنا من أهل شفاعته، اللهم أوردنا حوضه، اللهم وارزقنا مرافقته في الجنة.

صفة الرجولة في القرآن

صفة الرجولة في القرآن الرجولة صفة يمتن الله بها على من يشاء من عباده، ونحن اليوم نعاني انعدام صفة الرجولة في كثير من المسلمين. دين الله والدعوة إليه والصبر على الأذى في سبيل الله وإعانة الرسل ونصرتهم الثبات في مواطن الفتن تثبيت الناس على الإسلام كل هذا يحتاج إلى رجولة.

صفة الرجولة في القرآن الكريم

صفة الرجولة في القرآن الكريم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أيها الإخوة: حديثنا عن مشكلة من المشاكل التي تواجه العالم الإسلامي اليوم. إن من الأمور التي خُذِل فيها الإسلام أيما خذلان، هذه القضية -أيها الإخوة- وهي انعدام صفة الرجولة في كثير من المسلمين اليوم. والرجولة صفة يمتن بها الله عز وجل بها على من يشاء من عبادة، كما قال ذلك الرجل المؤمن الذي يعلِّم صاحبَه الكافر، يقول له موبخاً ومقرعاً، ومذكراً له بنعم الله عز وجل عليه: {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً} [الكهف:37]. هذا الرجولة التي يمتن الله عز وجل وينعم بها، لها صفات ولها خصائص، لا تكتمل إلا بها، ولا تقوم إلا عليها، ولا تشتد إلا بهذه الأركان. والرسل الذين بعثوا إلى أقوامهم ما كانوا إلا رجالاً، قال الله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ} [النحل:43] فلم يرسل الله عز وجل إلى الناس إلا رجالاً. هذه الرجولة -أيها الإخوة- التي ضاعت مضامينها اليوم، وفقدت أركانها عند الكثيرين، فصاروا أشباه الرجال ولا رجال. هذه الرجولة نحتاج لنتعرف على صفاتها من القرآن الكريم، وسنذكر في هذه الخطبة -إن شاء الله- شيئاً من صفات الرجولة، حتى يعلم الرجل اليوم هل هو رجل بالمعنى الحقيقي أم هو هيكل خارجي لا يدل على مضمون الرجولة مطلقاً؟!

التعلق بالمساجد وحب الطهارة

التعلق بالمساجد وحب الطهارة يقول الله تعالى واصفاً المسجد الذي ينبغي أن يكون حاله الصحيح، ومَن هو بداخلِه؛ يقول الله تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} [التوبة:108] أسس على التقوى، أسس على التوحيد، أسس على العقيدة الصحيحة {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى} [التوبة:108] أنشئ على التقوى لوجه الله عز وجل {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} [التوبة:108] أحق أن تقوم فيه يا محمد -صلى الله عليه وسلم- من مسجد الضرار الذي بناه المنافقون. ما هي صفاته الأخرى؟ ما هي أهم صفة من صفاته؟ {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108] أين مكان أولئك الرجال؟! أين مكانهم؟! هل هم في الأندية أو في الحفلات؟! هل هم في الأسواق يمرحون ويسرحون؟! هل هم في المجتمعات الفارغة التي تُفْرِغ الرجولة من معانيها؟! كلا -أيها الإخوة- {فِيهِ رِجَالٌ} [التوبة:108] في هذا المسجد رجال. {رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة:108] يأتون إلى المسجد على طهارة، والله يحب هؤلاء الرجال الذين من صفتهم الطهارة {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108]. هذه صفة من صفات الرجال.

ذكر الله تعالى وإقام الصلاة وترك ما يلهي عنها

ذكر الله تعالى وإقام الصلاة وترك ما يلهي عنها وانظر معي إلى مشهد مقابل في سورة النور، مماثل لتلك الآية في سورة التوبة يقول الله عز وجل: {فِي بُيُوتٍ} [النور:36] أي: مساجد. {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور:36] شاء الله أن ترفع. {وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36] اسمه عز وجل وحده لا شريك له. {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [النور:36] أين الفاعل؟! مَن الذي يسبح؟! {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [النور:36] غُدوةً وأصيلاً، مَن الذي يسبح؟! مَن في هذه المساجد يسبح الله عز وجل؟! {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور:36 - 37]: مَن في هذا المسجد؟! إنهم رجالٌ، ثم جاءت بقية الصفات. قال ابن كثير رحمه الله: قوله: {رِجَالٌ} [النور:37]: فيه إشعار بِهِمَمِهِم السامية، ونياتهم وعزائمهم العالية، التي بها صاروا عمَّاراً للمساجد التي هي بيوت الله في أرضه. {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ} [النور:36 - 37] يسبحون الله في المساجد، وما هي صفاتهم الأخرى؟ قال الله: {لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور:37]. أيها الإخوة: هؤلاء هم الرجال الذين لم تلههم تجارة ولا بيع عن أي شيء؟ عن ذكر الله، وإقام الصلاة. قال بعض السلف رحمه الله: يبيعون ويشترون -هؤلاء الرجال- يبيعون ويشترون؛ ولكن كان أحدهم إذا سمع النداء وميزانه في يده خفضه، وأقبل إلى الصلاة. ومر عمرو بن دينار رحمه الله ومعه سالم بن عبد الله، قال: [كنت مع سالم بن عبد الله ونحن نريد المسجد، فمررنا بسوق المدينة، وقد قاموا إلى الصلاة، وخَمَّروا متاعهم، فنظر سالم إلى أمتعتهم ليس معها أحد] لم يجلسوا أمامها ليحرسوها، أو لينظروا فيها، أو أغلقوا الدكاكين وقعدوا على الرصيف في الطريق ينتظرون متى تنتهي الصلاة حتى يكون كل واحد منهم أول من يفتح الدكان، تركوا أمتعتهم في الشارع، وغطوها في السوق، وذهبوا إلى المسجد [فنظر سالم إلى أمتعتهم ليس معها أحد، فتلا هذا الآية: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور:37]، ثم قال: هم هؤلاء] هؤلاء الذين عنى الله بقوله في هذه الآية، هؤلاء الذين قدموا مراد الله على مراد أنفسهم، وآثروا طاعة الله على المتاع الدنيوي الزائل، آثروا الاستجابة لهذا النداء العلوي الرباني: حي على الصلاة، حي على الفلاح، على نداء الجشع والطمع الذي يثيره الشيطان، والنفس الأمارة بالسوء. أيها الإخوة: كم من الرجال اليوم يقعدون في محلاتهم ودكاكينهم، أو يدخُلون داخلها في حجر مخفية، فيقعد أحدهم في مكتبه وراء الطاولة يجيب على هذا الهاتف وهذا الرجل، ويكلِّم ويفاوض ويخفض ويرفع، ويماكس ويشاكس، ويترك نداء الله، يترك المسجد، لا يجيب داعي الله إليه، لماذا أيها الإخوة؟! هل يُسَمَّى هؤلاء رجالاً؟! كلا. إنهم أشباه الرجال ولا رجال.

الثبات على المنهج الرباني

الثبات على المنهج الرباني ومن صفات الرجال: أنهم يثبتون على المنهج الرباني الذي أنزله الله عز وجل أيها الإخوة: إنه المنهاج الذي وضعه رب العزة تبارك وتعالى، ليستقيم عليه الناس هذا المنهاج الذي لا يصح أن ينحرف الإنسان عنه يَمنة ولا يَسرة، لابد أن يرقبه ويجاهد نفسه للسير عليه هذا المنهاج المتضمن لقواعد أصولية، ومسائل تصورية، لا يمكن أن يتخلى عنها المسلم بأي حال من الأحوال هذا المنهاج الذي عليه صور ومنارات تضيء للمسلم الطريق هذا المنهاج الرباني منهاج أهل السنة والجماعة، الطائفة المنصورة لابد من الثبات عليه. قال الله عز وجل مادحاً صنفاً من أصناف الرجال: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:23] عاهدوا الله ثم صدقوا في الوعد، صدقوا ما عاهدوا الله على هذا المنهج، استمروا عليه، تشبثوا به، وساروا غير مضطربين ولا متحيرين، لا تعيقهم العوائق، ولا تقف أمامهم الصعوبات ولا الشهوات، ولا الشبهات التي يثيرها أعداء الإسلام. {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} [الأحزاب:23] ومات على هذا المنهج شهيداً عاملاً لمنهج الله عز وجل. {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} [الأحزاب:23] ينتظر أن يتوفاه الله على حسن الختام؛ ليموت على هذا المنهاج غير مغيّر ولا مبدل. قال الله عز وجل: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب:23] ما بدلوا ولا غيروا ولا انحرفوا، بل هم مستقيمون على هذا المنهاج، ينتظرون أمر الله تعالى أن يتوفاهم وهم سائرون على هذا الدرب مستقيمون عليه، لا يلوُون على شيء إلا مرضاة ربهم عز وجل. إنه الثبات على المنهج الذي افتقده كثيرٌ من المسلمين اليوم، حتى ممن شغلوا بالعمل للإسلام، قامت عندهم انحرافات في التصور والسلوك، فانحرفوا عن منهج الله. أيها الإخوة: ليست القضية أن نمسك الطريق فقط، ولا أن نعرفه فقط، ولا أن نصل إليه فقط، إن المسألة أن نستمر عليه بغير تبديل ولا تحريف {وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب:23].

تأييد الرسل ومناصرتهم

تأييد الرسل ومناصرتهم هذه الرجولة التي يصفها الله تعالى في القرآن، أن مِن أهلها مَن يؤيد الرسل في دعوتهم ويناصرهم، ويبين للناس أن ما جاءت به الرسل هو الحق، ويعين الرسل ويساعدهم. قال تعالى: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ} [يس:20] مَن الذي جاء؟ هل جاء جيش جرار، أو فئامٌ كثيرة من الناس؟ {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ} [يس:20] جاء من آخر المدينة {رَجُلٌ يَسْعَى} [يس:20] يشتد، ولماذا جاء؟! ألأن هناك سوقاً أو حراجاً لا يريد أن يفوته منه شيء؟! ألأن هناك أسهماً تباع لا يريد أن يفوت منها شيء؟! كلا -أيها الإخوة- {قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [يس:20 - 21] اتبعوهم، اتبعوهم هؤلاء الرسل {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس:22]. ثم يبين عرض حقائق العقيدة، التصورات النقية الصافية الخالية من شوائب الشرك، حتى توفاه الله عز وجل فقال: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس:26 - 27]. فمن صفات الرجولة -أيها الإخوة- أن نكون نحن الذين نسمي أنفسنا رجالاً، أن نكون أعواناً للرسل، حرباً على أعداء الرسل، وليس حرباً على الرسل، أن نكون مؤيدين لدعوة الرسل، لا مثبطين عن دعوة الرسل، أن نكون مستجيبين لدعوة الرسل، متبعين لا عاصين ولا مبتدعين ولا معاندين. هذه الصفة -أيها الإخوة- كم من الرجال من يمتلكها اليوم؟! كم من الرجال من يؤيد دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم؟! إنهم قليل. وفي حال الخوف يتقدم الرجال بالنصح لله عز وجل، رغم الخوف الذي يكتنفهم، وأجواء الإرهاب التي تحيط بهم، فيقومون بواجب النصيحة رجل واحد يفعل أفعالاً لا تفعلها أمة بأسرها، رجل واحد يعدل غثاءً، بل إنه يرجح على هذا الغثاء المترامي الأطراف، الذي لا يجمعه تصور واحد، ولا منهج واحد، ولا عقيدة واحدة، يقوم هؤلاء الرجال بواجب النصح لله عز وجل، ويحذرون أولياء الله من المخاطر التي تحدق بهم.

تقديم النصيحة في حال الخوف

تقديم النصيحة في حال الخوف قال الله تعالى: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى} [القصص:20] يشتد من أقصى المدينة، لم يقعد به طول المسافة، ولا بُعد الطريق، جاء يسعى ويشتد، لقد كان هذا الرجل مؤمناً. {قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ} [القصص:20] يتشاورون في أمرك، {لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} [القصص:20] إني أكشف لك مخططاتهم، وأعرِّي لك دسائسهم ونياتهم الخبيثة، فاخرج من هذه المدينة، {فَاخْرُجْ إِنِّي لَِكَ مِنَ النِّاصِحِينَ} [القصص:20]. قال ابن كثير رحمه الله: وُصِف بالرجولة؛ لأنه خالف الطريق، يعني بالطرق الجادة التي تُسلك في الشارع، فسلك طريقاً أقرب من طريق الذين بُعثوا وراءه، فسبق إلى موسى وحذره، قال: إن الناس آتون ورائي ليقبضوا عليك ويقتلوك، أعوان فرعون الطاغية: {فَاخْرُجْ إِنِّي لَِكَ مِنَ النِّاصِحِينَ} [القصص:20]. يأتي هذا الرجل يسعى، يختصر الطريق ليحذر ولي الله ونبيه موسى عليه السلام إن تقديم النصيحة حتى في حالة الخوف من صفات الرجولة.

حاجة الأمة إلى الرجال

حاجة الأمة إلى الرجال وعند الأزمات تشتد الحاجة لوجود الرجال الحقيقيين، الذين يثبتون الناس على شرع الله. أيها الإخوة: قد تمر بالإسلام أزمات، قد تمر بالمسلمين شدائد وضائقات، قد يمر بالمسلمين عسر شديد، تنقطع بهم السبل، فيتحير الناس ويضطربون، ويميدون ويحيدون عن شرع الله، فترى الناس متفرقين شذر مذر، لا يرى أحدهم الحق ولا يتبعه، حيَّرتهم فتن الحياة الدنيا، فاضطربوا اضطراباً شديداً، وتبعثروا وتفرقوا، فمَن الذي يثبِّت في هذه الحالة؟ ومَن الذي يقوم بواجب التثبيت؟ في هذه الحالة التي تقع فيها الفتن بالمسلمين نحتاج إلى عناصر مثبته تثبت المسلمين على المنهج الرباني، مَن الذي يثبت؟ في حالة الأزمات تكتشف أنت معادن الرجال، يفضي كل رجل إلى معدنه الخالص؛ ليستبين أمام الناس هل هو من أهل العقيدة أم لا؟ هل هو رجل عقيدة أم لا؟ في حالة الأزمات يتبين الرجال الذين يقفون على منهج الله بأقدام راسخة. أيها الإخوة: يقول الله تعالى: {قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:313]. موسى عليه السلام يأتي ببني إسرائيل لدخول الأرض المقدسة، ويعدهم بنصر الله تعالى، ويبشرهم ويقول: إن الله معكم، فقاتلوا هؤلاء الكفرة الذين احتلوا تلك الأرض المقدسة بنو إسرائيل الذين ما عُرِف عن طبعهم إلا الغدر والخيانة، وإلا النكوص عن شرع الله وطريقه، ماذا قالوا؟ قالوا كلمة قبيحة جداً، قالوا: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24] أنت وربك يا موسى قاتلا، نحن ننتظر النتيجة، فإن انتصرتم جئنا ودخلنا المدينة {إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24] بكل وقاحة، موسى نبي الله ليس معه أحد، كل القوم نكصوا. {قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي} [المائدة:25] موقف صعب، موقف شديد، تخلَّى القوم عن نبيهم، تركوه وحيداً أمام الأعداء، إن هذه أزمة! أليس كذلك؟ فمن الذي يقوم الآن في هذا الأزمة، ويثبت الناس ويقول لهم: يا أيها الناس اثبتوا على شرع الله، اثبتوا على الطريق، لا تنهزموا أمام الأعداء، النصر قادم بإذن الله، تمسكوا بشرع الله، والله ينصركم: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} [محمد:7]. قام هذان الرجلان: {قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمَا} [المائدة:23] بنعمة الإيمان والإسلام والثبات. {قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ} [المائدة:23] اقتحموا إنهم جبناء، {فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:23]. أيها الإخوة: هذه النوعية التي نحتاجها حقيقة اليوم في وسط الأزمات التي تعصف بالمسلمين، الأزمات والفتن التي تجعل الحليم حيراناً، نحتاج إلى رجال يبصرون الناس بالدين، إلى رجال يكونون قدوة للناس، إلى رجال يثبتون الناس على شرع الله. وفقنا الله وإياكم لأن نكون رجالاً نقاتل في سبيل الله، ونجاهد في سبيل الله بأموالنا وأنفسنا، وأن نكون من الذين اجتباهم الله تعالى فأقامهم على الصراط المستقيم. وأستغفر الله لي ولكم.

أمور ليست من الرجولة

أمور ليست من الرجولة الحمد لله رب العالمين، الذي لا إله إلا هو، لم يتخذ صاحبة ولا ولداً. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراً. أيها الإخوة: لقد فقدت الرجولة اليوم كثيراً من معانيها الحقيقية، فترى الناس اليوم يزعمون أنهم رجال، يقوم كل واحد منهم فيقول: أنا رجل، ولكن في الحقيقة: ماذا تنطوي عليه هذه الرجولة؟ ما هو مضمونها؟ أيها الإخوة: مِن الناس اليوم مَن يظن أن الرجولة عبارة عن فتل الشوارب، وتربية هذه الشنبات وإطالتها، يظن أن هذه هي الرجولة، وهو مخالف لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً. مِن الناس -أيها الإخوة- مَن يظن الرجولة اليوم هي الأخذ بالثارات وقتل الأبرياء، وتراه يقول: هؤلاء ليسوا رجالاً، ما أخذوا بثأرهم، وهؤلاء رجال أخذوا بثأرهم فقتلوا فلاناً، ولو كان ليس له ذنب. مِن الناس مَن يظن اليوم أن ارتكاب المحرمات هي الرجولة، فترى بعض الأحداث اليوم لكي يبرهنوا لأنفسهم وللناس أنهم رجال، يقعد أحدهم ويدخن -مثلاً- ويزعم أن التدخين رجولة، ويسافر لوحده إلى الخارج، ويعبث بالمحرمات، وينتهك حدود الله عز وجل، ويزعم أن هذه هي الرجولة. مِن الناس مَن يظن أن الرجولة رفع الصوت أو الصياح في البيت، وفرض الرأي بقوة العضلات والبطش وغير ذلك؛ يظنون أن هذه هي الرجولة. يظن أحدهم أن الرجولة أن ينفخ على الخدم والموظفين، ويطرد من يشاء، ويُبقي من يشاء؛ يظن أن هذه هي الرجولة. كلا أيها الإخوة! ليست الرجولة ارتكاباً للمحرمات، ولم تكن الرجولة يوماً من الأيام في تاريخ الإسلام البطش والاعتداء على الأبرياء، كلا. أيها الإخوة: إن الرجولة لها معانٍ سامية، وحقائق علوية، تأخذ هذا الصنف من الناس فترفعهم. إن حاجة الإسلام اليوم إلى الرجال عظيمة، الإسلام اليوم تنتهك حرماته في شتى أقطار الأرض، لم تعد تقم للإسلام قائمة في وسط هذه الدياجير المظلمة من الشرك والجاهلية، إلا من رحم الله عز وجل من أفراد تلك الطائفة المنصورة، التي استقامت على شرع الله عز وجل. أيها الإخوة: يقال: أنه اجتمع مرة نفر من الصحابة، فقال لهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [تمنوا، فتمنى كل واحد منهم شيئاً من أعمال البر، فلما انتهوا قال عمر: أنتم تمنيتم، ولكني أتمنى ملء هذه الحجرة رجالاً أمثال أبي عبيدة]؛ لأن الرجال -أيها الإخوة- يصنعون كل شيء بإذن الله، الرجال يصنعون ويسيرون على منهج الله يطبقونه في الواقع، وإذا وجد عندك الرجال لم تعد تحتاج بعدها إلى شيء. ولكن أي نوع من أنواع الرجال؟ هل هم أصحاب الشوارب والشنبات؟ كلا أيها الإخوة! الرجال بهذه الصفات التي ذكرناها آنفاً: - عبادة. - عمل. - استقامة. - دعوة إلى الله. - صبر على الأذى في سبيل الله. - إعانة الرسل ودعوتهم ونصرتُهم. - والقيام في مواطن الفتن. - وتثبيت الناس على الإسلام. الرجولة ليست سناً، بقدر ما هي صفات وشمائل وسجايا ذكرها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. ماذا نفعت الرجولة أولئك الناس الذين قال الله عنهم في القرآن: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} [الجن:6]؟! ماذا نفعتهم رجولتهم وقد وقعوا في الشرك؟! لا شيء أيها الإخوة. الإسلام اليوم ينادي أصحابه وأتباعه، يقول لهم ويهتف بهم كما هتف لوط بقومه: {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود:78] الإسلام اليوم يهتف بالناس: أليس منكم رجل رشيد؟! رجلٌ رشيدٌ، رشده يقيم شرع الله عز وجل في نفسه وبيته ومجتمعه، يدعو إلى الله، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، أليس منكم رجل رشيد؟! اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك، اللهم يا مصرف القلوب صرف قلوبنا على دينك. اللهم واجعلنا رجالاً من أهل الحق وأعوانه، اللهم واجعلنا من جندك وأتباع نبيك محمد صلى الله عليه وسلم. رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ. اللهم يا سامع الصوت! أجب دعاءنا، واحفظنا في أنفسنا وأهلينا، اللهم واحفظ بلادنا من كل سوء. اللهم أقم علم الجهاد، واقمع أهل الشر والشرك والزيغ والبدعة والفساد والعناد، وانشر رحمتك على العباد. اللهم إنك تعلم ما نخفي وما نعلن، ولا يخفى عليك خافية في الأرض ولا في السماء، اللهم أصلح ظواهرنا وبواطننا، اللهم واجعل نياتنا خالصة لك يا رب العالمين! اللهم وصلِّ على نبيك محمد، سيد الأولين والآخرين، وسلِّم تسليماً كثيراً. وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.

ظاهرة ضعف الإيمان وأسبابها

ظاهرة ضعف الإيمان وأسبابها لقد انشغل الناس بمغريات الدنيا وفتن الحضارة عن دينهم، حتى قست القلوب، وذبلت فيها شجرة الإيمان، وهذه ظاهرة خطيرة لابد من الكشف عن أسبابها والوقوف على أعراضها؛ ليتسنى علاجها، فهذه المحاضرة تخدم ما ذكر، فلينظر فيها من يريد حفظ إيمانه وتجديده

حاجة القلب إلى التربية الإيمانية

حاجة القلب إلى التربية الإيمانية الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد فنحمد الله -سبحانه وتعالى- أن أعادنا وإياكم إلى هذه المجالس التي نسأله سبحانه أن يجعلها من مجالس الذكر، وأن يجعلنا وإياكم من المقبولين عنده، ومن الذين تحفهم الملائكة، وتغشاهم الرحمة، ويذكرهم الله فيمن عنده، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا في أحوالنا كلها من المستقيمين على شرعه، المتمسكين بسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وموضوعنا هنا يتعلق بالقلوب. وموضوع القلوب موضوع حساس وهام، والقلب يتقلب بشدة؛ كما وصفه عليه الصلاة والسلام: (كالقدر إذا استجمعت غلياناً) بل هو أشد من القدر إذا اشتد غليانها، وهو يتقلب -أيضاً- كما يصفه عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الآخر (كالريشة في الأرض الخلاء تقلبها الرياح ظهراً لبطنٍ، وبطناً لظهرٍ). هذا القلب يحتاج إلى نوع خاص من التربية، وهي التربية الإيمانية، فالجسد يحتاج إلى ما يغذيه، وكذلك القلب يحتاج إلى ما يغذيه، الجسد حتى يكون سليماً يجب أن تمنع عنه الأشياء الضارة؛ مثل: السموم والآلات الحادة وغيرها، كذلك القلب يجب أن تمنع عنه الأشياء الضارة. الجسم أحياناً يحتاج إلى نوع من الحمية حتى من الأشياء المباحة لكي يسلم، وكذلك القلب يحتاج إلى حمية، والتربية الإيمانية أهم نوع من أنواع التربية، ويمكن أن نعرف التربية الإيمانية: بأنها تنقية القلب والارتقاء به حتى يكون سليماً، قال تعالى: {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:89] وأن توصل هذه التربية الإنسان إلى مرحلة الإحسان، وهي التي وصفها عليه الصلاة والسلام بقوله: (أن تعبد الله كأنك تراه) ومجال هذه التربية في القلب. والأشياء الموجودة في القلب من الإيمان: قول القلب وعمله؛ قول القلب التصديق واليقين الجازم الذي لا شك معه، وعمل القلب في أشياء كثيرة، منها: الرجاء والخوف والخشوع والحياء والمحبة إلى آخره.

واعظ الإيمان في قلب المسلم

واعظ الإيمان في قلب المسلم الإيمانيات هي أكبر الطاقات في نفس المسلم، فالطاقة الإيمانية هي المحرك لجميع الأعمال، ويمكن أن نقول أيضاً: إن الهدف من التربية الإيمانية هو إحياء واعظ الله في قلب المسلم. كل واحدٍ فينا فيه واعظ من الله عز وجل، والدليل على ذلك الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: (ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً، وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبوابٌ مفتحةً، وعلى الأبواب ستورٌ مرخاةٌ) أي: مثل الستائر (وعلى باب الصراط داعٍ يقول: يا أيها الناس! ادخلوا الصراط جميعاً، ولا تتعودوا، وداعٍ يدعو من فوق الصراط، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئاً من تلك الأبواب -يعني: المحرمات- قال الداعي من فوق الصراط: ويحك لا تفتحه، فإنك إن تفتحه تلجه) لو كشفت الستار؛ ستلج. فالصراط الإسلام، والسوران حدود الله تعالى، والأبواب المفتحة محارم الله تعالى، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله، والداعي من فوق الصراط الذي يقول: (ويحك لا تفتحه، فإنك إن تفتحه تلجه) واعظ الله في قلب كل مسلم. أي مسلم يريد أن يقدم على معصية وكان من الذين في قلوبهم خوفٌ من الله، لا بد أن يكون هناك شيء في قلبه وضميره يعظه ويقول له: لا تفعل حتى لو وقع في المعصية؛ لأن النفس الأمارة بالسوء غلبت واعظ الله في قلبه، وإلا فواعظ الله موجود. فالتربية الإيمانية تهدف إلى تقوية واعظ الله؛ حتى يتغلب واعظ الله على النفس الأمارة بالسوء.

انتشار ظاهرة ضعف الإيمان

انتشار ظاهرة ضعف الإيمان ومن الظواهر الخطيرة أيها الإخوة: أن نجد نفراً كثيراً من المسلمين اليوم، وحتى من الذين يعملون للإسلام؛ من يتأمل في أحوالهم، ويخالط أشخاصهم، ويحدق في وجوههم؛ يرى ظاهرةً خطيرةً وهي هُزال الإيمان في القلوب، وذبول الناحية العبادية، وضعف الصلة بالله التي أكد عليها القرآن والسنة، وهذه الظاهرة الخطيرة لا بد أن تعالج. نحن الآن لا نتكلم عن البعداء عن الإسلام بالكلية والخارجين عن ملة الإسلام، لا. إنما نتكلم عن أناس فيهم خير، لكن اعتراهم ضعفٌ في إيمانهم، وهذا الضعف في الإيمان قد يكون من البداية، مثل: إنسان كانت بداية دخوله في الدين -أصلاً- فيها أخطاء، وبدايته غير صحيحة تماماً، ولذلك إيمانه بقي ضعيفاً مع سيره في طريق الإسلام، لأن البداية فيها أخطاء. هناك أناس دخلوا في الدين بحماس، والتزموا بشرع الله عز وجل أقبلوا على الله، لكن مع طول الوقت واستمرار الزمن حصل عندهم ضعف في الإيمان، إلى هؤلاء سنتكلم ونوجه هذا الحديث. الحقيقة -أيها الإخوة- أن الكلام في قضايا الإيمانيات يحتاج إلى أشخاص متخصصين، يتميزون بالشفافية، وقوة الصلة بالله عز وجل، والمداومة على العبادة؛ لأن الحديث الذي يخرج من قلوب هؤلاء يدخل في القلوب، وأحياناً الواحد قد يتعب في موضوع مثل هذا ويحضر نقاطه، ولكن لا يدخل في قلوب السامعين دخولاً قوياً، بينما تجد إنساناً مجتهداً في العبادة، متصلاً بالله عز وجل صلة قوية، يتكلم كلمات بسيطة في مثل هذه القضايا، فيبدع إبداعاً كبيراً ويدخل كلامه في النفوس. وأحياناً تجد الواحد قد ينتقي موضوعاً من هذه الموضوعات في حالة يكون فيها في وضع إيماني طيب، فإذا جاء يتكلم حصل لإيمانه نوع من الانخفاض، فلا يتأثر السامعون كثيراً بكلامه. وعلى أية حال أقول: أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه عندما خطب في المسلمين، قال: [إني وليت عليكم ولست بخيركم] وهو خيرهم، ولكنه قال هذا تواضعاً. والواعظ الذي يتكلم في موضوعات إيمانية لا يشترط أن يكون هو أحسن الموجودين؛ لأني أجزم -الآن- أن منكم من يستطيع أن يؤثر في السامعين أكثر مني، ولكني أستعين بالله عز وجل ما دمنا قد انتقينا الموضوع وتورطنا فيه، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يكتب النفع.

أهمية التربية الإيمانية

أهمية التربية الإيمانية أيها الإخوة! التربية الإيمانية مهمة للآتي: 1 - أنها كفيلة بتصحيح النيات، وترسيخ الإخلاص، وإيجاد الضمانات لعدم حصول الانحرافات والأمراض القلبية، مثل: الرياء، وحب الرئاسة، وغيرها. 2 - التربية الإيمانية مهمة للفرد المسلم حتى تحميه من هذه الانحرافات والأمراض. 3 - وهي كذلك مهمة حتى يذوق المسلم حلاوة الإيمان؛ وحتى لا يكون هذا الإيمان بارداً جافاً ليس فيه حرارة في قلبه وضميره، وحتى يعمر الإيمان قلب المسلم بحيث يصبح هذا الإيمان في القلب مصدر الدفع، والمحرك الدائم لكل الأعمال الصالحة. 4 - وكذلك التربية الإيمانية مهمة لإيجاد إيجاد الأوساط الإيمانية التي من خلالها يتربى الناس ويتحولون إلى لبنات صالحة في بناء المجتمع المسلم الكبير. 5 - كذلك التربية الإيمانية مهمة لضمان نجاح العمل الإسلامي الذي يختلف عن بقية الأعمال، ويتميز عنها أكثر ما يتميز بهذه النقطة وهي الأشياء الإيمانية، لأن أي عمل تجاري يكون فيه دقة وقوة وحركة دائبة، وفيه تنسيق وتخطيط، وكفاءة عالية، كذلك العمل الإسلامي ينبغي أن يكون كذلك، لكن ليست هذه الأشياء هي التي تفرق بين العمل الإسلامي وغيره بقدر ما تفرق القضايا الإيمانية بين العمل الإسلامي وغيره، وبدون الأشياء الإيمانية تتحول الدعوة إلى الله إلى شبه أعمال روتينية مثل القضايا التجارية فيها تخطيط وتنسيق وكفاءة عالية، فالذي يميز هذه عن هذه قضية الأعمال الإيمانية أعمال القلب وأمور الإيمان. 6 - وأخيراً فإن التربية الإيمانية مهمة؛ لأنها جالبةٌ لتوفيق الله الموصل إلى النصر، وإلا فإن الإخفاق والإحباط مصير كل عمل لا يلتزم بهذه الإيمانيات.

مظاهر ضعف الإيمان

مظاهر ضعف الإيمان الموضوع بعنوان "ظاهرة ضعف الإيمان الأسباب والمظاهر والعلاج"، وحتى لا نطيل فسنتكلم عن المظاهر والأسباب، وإن شاء الله سنتكلم عن العلاج في درس مستقل.

الوقوع في المعاصي والتدرج فيها

الوقوع في المعاصي والتدرج فيها أيها الإخوة! من مظاهر ضعف الإيمان: أنه يؤدي إلى الوقوع في المعاصي والتدرج فيها من أسفل إلى أسفل سافلين، والوقوع في المنكرات بأنواعها، وهناك أناس كثيرون كانوا في يوم من الأيام من أقوياء الإيمان، فأصبحوا اليوم ينظرون إلى المحرمات: النساء الأجنبيات، ويشاركون في منكرات الأسواق وغيرها، وهذه المعاصي لها أضرار مدمرة ذكرها العلماء منهم: ابن القيم رحمه الله في كتابه الداء والدواء، ولا بد من معرفة أن هذه الآثار والأضرار للمعاصي أشياء محسوسة، بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا بخبر عجيب يبين لنا وضوح هذه الآثار للمعاصي، فيقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي عن ابن عباس، قال عليه الصلاة والسلام: (نزل الحجر الأسود من الجنة) هذا الحجر الأسود الذي في الكعبة نزل من الجنة (وهو أشد بياضاً من اللبن، فسودته خطايا بني آدم) فلاحظ كيف أن هذه الخطايا آثارها مادية محسوسة، قلبت البياض سواداً، ويذكر أحد علماء المسلمين في القرن السابع الهجري أنه ذهب إلى الكعبة، فوجد الحجر الأسود وفيه نقطة بيضاء، وبعد ذلك بمدة ذهب فوجد النقطة قد اختفت تماماً.

عدم التأثر بآيات القرآن

عدم التأثر بآيات القرآن ومن مظاهر ضعف الإيمان: عدم التأثر بآيات القرآن، ولا بوعده، ولا وعيده، ولا طلبه، ولا أمره، ولا نهيه، ولا في وصفه للقيامة، فهو يسمع القرآن كأي كلام آخر، لا يستطيع أن يتلوه إلا لدقائق معدودة، نفسه لا تتحمل كثرة تلاوة القرآن، وهذا مشاهد؛ فحينما يفتح أحدنا القرآن يحاول أن يقرأ، فلا يستطيع أن يواصل أكثر من دقائق معدودة، ثم يجد نفسه مضطراً لإغلاق المصحف وإعادته إلى مكانه.

ضيق الصدر وانحباس الطبع

ضيق الصدر وانحباس الطبع كذلك من مظاهر ضعف الإيمان: ضيق الصدر، وانحباس الطبع حتى كأن على الإنسان ثقلاً كبيراً ينوء به ويلهث تعباً منه، فيصبح سريع التضجر والتأفف من أدنى شيء، ويشعر بالضيق من تصرفات الناس حوله بسبب ضعف الإيمان، وتنعدم السماحة في نفسه، والرسول صلى الله عليه وسلم يصف الإيمان بقوله: (الإيمان الصبر والسماحة) فتزول السماحة من نفسه وتضعف نتيجةً لضعف الإيمان، ويعقبها هذا التأفف والتضجر وضيق الصدر، وعدم تحمل تصرفات الآخرين.

الشعور بقسوة القلب

الشعور بقسوة القلب ومن مظاهر ضعف الإيمان كذلك: الشعور بقسوة القلب، وخشونته، حتى يحس الإنسان أن قلبه قد انقلب حجراً صلداً لا يترشح منه شيء، ولا يتأثر بشيء، وهذا ليس مبالغاً؛ لأن الله تعالى يقول: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة:74].

عدم إتقان العبادات

عدم إتقان العبادات ومن مظاهر ضعف الإيمان: عدم إتقان العبادات، وهذه تتمثل في شرود الذهن أثناء الصلاة، أو أثناء قراءة القرآن، أو أثناء الأذكار بعد الصلوات، أو دعاء الله عز وجل، فيحدث عدم التفكر في معاني الأذكار كثيراً فيقرأ الإنسان الأذكار كعملية دورية رتيبة يداوم عليها، لكنه لا يفكر في معاني الأذكار وهو يقرؤها، ولو اعتاد أن يدعو بدعاء معين في وقت معين، جاءت به السنة فإنه لا يفكر في معاني الدعاء.

التكاسل في أعمال الطاعات والعبادات

التكاسل في أعمال الطاعات والعبادات ومن مظاهر ضعف الإيمان: التكاسل في أعمال الطاعات والعبادات والتفريط فيها، وإذا أداها فهي حركات جوفاء لا معنى لها، والله عز وجل وصف المنافقين، فقال: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى} [النساء:142]، فالتكاسل والإهمال في السنن الرواتب والنوافل وقيام الليل، والأعمال الصالحة، مثل: التبكير إلى المسجد أحياناً يحصل فيه فتور وضعف.

الغفلة عن الذكر والدعاء

الغفلة عن الذكر والدعاء ومن مظاهر ضعف الإيمان: غفلةٌ عن الله عز وجل في ذكره ودعائه سبحانه وتعالى، فيثقل الذكر على الذاكر، وإذا رفع يديه بالدعاء، فسرعان ما يقبضهما ويمضي، والله وصف المنافقين، فقال: {وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:142].

عدم التأثر بالموت والتعلق بالدنيا

عدم التأثر بالموت والتعلق بالدنيا ومن مظاهر ضعف الإيمان: أن صاحبه لا تؤثر فيه موعظة الموت، ولا رؤية الأموات، ولا الجنائز، وربما حمل الجنازة بنفسه وواراها التراب، ولكنه يسير بين القبور كما يسير بين الأحجار. ومن مظاهر ضعف الإيمان: التعلق بالدنيا والشغف بها، وتهيج شهوات الجسد المحرمة، والاسترواح إليها، ويتعلق القلب بالدنيا، لدرجة أن يحس صاحبه بالألم إذا فاته شيءٌ من حظوظ الدنيا؛ كالمال والجاه والمنصب والمسكن، ويعتبر نفسه مغبوناً سيئ الحظ؛ لأنه لم ينل ما نال غيره، ويحس بألم أكثر وانقباض إذا رأى أخاه المسلم قد نال بعض ما فاته هو من حظوظ الدنيا، وقد يحسده، ويتمنى زوال النعمة عن أخيه المسلم.

عدم استشعار المسئولية في العمل لهذا الدين

عدم استشعار المسئولية في العمل لهذا الدين ومن مظاهر ضعف الإيمان: عدم استشعار المسئولية في العمل لهذا الدين، فصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا إذا دخلوا في الدين، استشعروا المسئولية فوراً، الطفيل بن عمرو رضي الله عنه وأرضاه لم يكن بين إسلامه وبين ذهابه لدعوة قومه إلى الله عز وجل زمن، بل بمجرد أن دخل في الدين أحس أن عليه مسئولية كبيرة، فطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يرجع إلى قومه ليدعوهم إلى الإسلام، فما الذي دفعه إلى الدعوة إلى الله؟ الناس اليوم يجلسون فترات طويلة ما بين التزامهم بالدين حتى يصل إلى مرحلة يدعو فيها إلى الله، لا يتحرك مباشرة، والصحابة رضوان الله عليهم كانوا يتحركون مباشرة، حتى إرهاب الكفار ومفاصلتهم كان يتمثل مباشرة في نفس المسلم بعد إسلامه. ثمامة رضي الله عنه وأرضاه رئيس ومقدم أهل اليمامة لما أسر وجيء به وربط في المسجد، وعرض الرسول صلى الله عليه وسلم عليه الإسلام، ثم قذف الله النور في قلبه فأسلم، وكان يريد أن يعتمر في الجاهلية، فذهب إلى العمرة في الإسلام، قال للكفار: لا يصلكم حبة حنطة من اليمامة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه قضايا مفاصلة الكفار، ومحاصرتهم اقتصادياً، وتقديم الفاعليات، والإمكانيات في سبيل الله، حصلت مباشرة؛ لأن الإيمان في قلب ثمامة استوجب هذا العمل، والمسلمين الآن لم يصلوا إلى مرحلة يتميزون فيها عن الكفار ويفاصلونهم إلا بعد فترة من دخوله في الدين.

عدم الغضب لانتهاك محارم الله

عدم الغضب لانتهاك محارم الله ومن مظاهر ضعف الإيمان: عدم الغضب إذا انتهكت محارم الله، مثل: قضية إنكار المنكر، والأمر بالمعروف ضعيفة جداً، والرسول صلى الله عليه وسلم يصف هذا القلب المصاب بالضعف في قوله في الحديث الصحيح: (تعرض الفتن على القلوب عرض الحصير عوداً عوداً، فأي قلب أشربها، نكتت فيه نكتة سوداء) حتى يصل الأمر به إلى أن يصبح كما أخبر عليه الصلاة والسلام في آخر الحديث: (مربداً كالكوز مجخياً) مقلوباً لا يعرف شيئاً من الإيمان (لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه) فهو لا يعرف المعروف، ولا ينكر المنكر، ويقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إذا عملت الخطيئة في الأرض، كان من شهدها فكرهها، كمن غاب عنها) كأنه ما حضرها؛ لأنه أنكرها (ومن غاب عنها فرضيها كمن شهدها) والذي يغيب عن المعصية التي تفعل في الأرض وهو يعلم عنها، فيرضاها، كان كأنه شهدها وأخذ الإثم في شهودها بغير إنكار؛ لأن القلب قد زالت منه حساسية إنكار المنكر، والصد عن سبيل المجرمين.

الخطأ في النظر إلى الأمور

الخطأ في النظر إلى الأمور ومن مظاهر ضعف الإيمان: النظر إلى الأمور من جهة هل فيها إثم أم لا؟ بعض الناس عندما يريد أن يعمل عملاً، يسأل هل هذا العمل فيه إثم، أم لا؟ ولا يسأل عن أعمال فيها أجر، أم لا؟! وهذه النفسية تؤدي إلى الوقوع في أشياء من الشبهات والمكروهات، أي أن: صاحب هذه النفسية لا يوجد عنده مانع أن يرتكب أمراً مكروهاً، أو يقع في أي شبهة ما دام أنها ليست محرمة. وهذه أسئلة واقعية جاءت من بعض الناس، يقول: ما حكم الشيء الفلاني؟ A حرام لا يجوز، والدليل كذا، فيقول: حرام قليل، أو كثير؟ لأن ما عنده اهتمام بالابتعاد عن المنكر والسيئات ولو كانت سيئة واحدة، ولو كان العمل في أول مراتب الحرام، فهذه النفسية من أين أتت؟ من ضعف الإيمان، وينتج عن ذلك الجرأة على محارم الله، وعدم الشعور بأي حاجز بين الإنسان وبين المعصية، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم عن أناس كما في الحديث الصحيح: (أنهم يأتون يوم القيامة بحسنات كأمثال الجبال، فيجعلها الله هباءً منثوراً)، يقول عليه الصلاة والسلام: (لأنهم كانوا إذا خلوا بمحارم الله، انتهكوها) بكل سهولة ينتهك المحرم، ليس هناك تردد بعض الناس يقع في المحرم، لكن يتردد قبلها كثيراً قبل أن يقع في المحرم، وبعض الناس يقع في المحرم بكل سهولة، مثل: شرب الماء! وكلا الشخصين على خطر، لكن أحدهما أخطر من الثاني، أي: كون الواحد يقع بعد تردد وتحرج هذا أهون قليلاً من الذي يقع في الحرام مباشرة بكل سهولة يأكل الحرام -يقع في الحرام- ينظر إلى الحرام، يستمع إلى الحرام دون أدنى تحرج، وهذه نوعية من الناس أيضاً نتيجة ضعف الإيمان يستسهل الذنوب، ولا يرى أنه عمل شيئاً منكراً، ولذلك يصف ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه في صحيح البخاري حال المؤمن وحال المنافق، يقول: [المؤمن يرى ذنوبه كجبل يوشك أن يقع عليه، والمنافق يرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه، فقال به هكذا، فطار] هذا الشعور نتيجة استسهال المحرمات، واستسهال الوقوع فيها.

انفصام عرى الأخوة الإسلامية

انفصام عرى الأخوة الإسلامية ومن مظاهر ضعف الإيمان وعواقبه: انفصام عرى الأخوة الإسلامية، يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري في الأدب المفرد عن أنس وهو في صحيح الجامع: (ما تواد اثنان في الله، فيفرق بينهما إلا بذنب يحدثه أحدهما) اثنان متآخيان في الله، بينهما رابطة إسلامية، انفصلت الرابطة، وكره كل واحد منهما الآخر، انفصلا عن بعضهما، فما هو السبب؟ يقول عليه الصلاة والسلام: (ما تواد اثنان في الله، فيفرق بينهما إلا بذنب يحدثه أحدهما) هناك ذنب حدث، ولذلك انفصلت عرى الأخوة، سواءً كان هذا خلافاً وغضباً شيطانياً، أو ذنباً آخر من المعاصي التي تفرق بين المسلمين، وهذه من شؤم المعصية، ومن شؤم ضعف الإيمان.

كثرة الجدال والمراء المقسي للقلب

كثرة الجدال والمراء المقسي للقلب كذلك من علامات ضعف الإيمان ومظاهره: كثرة الجدال والمراء المقسي للقلب، قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (ما ضل قومٌ بعد هدىً كانوا عليه إلا أوتوا الجدل) الجدال بغير دليل، ولا نظر صحيح، ولا أثر، فهذا الجدال يؤدي إلى الابتعاد عن الصراط المستقيم، والآن هناك أناس كثيرون يجادلون بالباطل {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [الحج:8]، ويقول عليه الصلاة والسلام: (أنا زعيمٌ ببيتٍ في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً) حديثٌ حسن، وما دمت أنك قد أقمت عليه الحجة فيكفي.

احتقار المعروف

احتقار المعروف ومن علامات ضعف الإيمان: احتقار المعروف، فلو أرشدت أحد الناس إلى شيء من المعروف، قال: هذه ما فيها إلا شيء يسير من الحسنات، وهذا شيء بسيط أنا مستغنٍ عنه، أعطني أشياء كبيرة في الأجر، يقول عليه الصلاة والسلام: (اتق الله، ولا تحقرن من المعروف شيئاً، ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي) لو أتى أحد يريد أن يستسقي من بئر وأنت قد رفعت دلوك، فلما وجدت هذا الشخص بيده الدلو، أفرغت دلوك في دلوه، ثم رفعت دلواً آخر لنفسك، فهذه العملية بسيطة، لكن لا تحتقرها، وأن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسطٌ ماذا تكلفك الابتسامة في وجه أخيك؟ لا شيء عمل سهل جداً، لا تحتقر هذا المعروف، لا تقل: هذه قضية ثانوية وجزئية، وما فيها إلا حسنات قليلة، لا؛ لأن هذا العمل البسيط قد يكون سبباً في مغفرة الذنوب كلها، يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي رواه مالك وأحمد والبخاري ومسلم وغيرهم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (بينما رجلٌ يمشي في طريق، وجد غصن شوكٍ على الطريق، فأخره) أزاله جانباً حتى لا يؤذي المسلمين (فشكر الله له، فغفر له) بسبب إزالة غصن من الشوك عن طريق المسلمين. فإذاً من ضعف الإيمان أن تحتقر الحسنات البسيطة، لو رأيت سجادة المسجد وسخة، ولا تحتقر إزالتها، وفي إزالة أوساخ المسجد وردت الأحاديث الصحيحة؛ كحديث المرأة السوداء التي كانت تقم المسجد على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، فماتت في الليل، فدفنوها دون أن يؤذنوا رسول الله حتى لا يزعجوه، فلما أصبح عليه الصلاة والسلام وافتقدها، قال: (أين هي؟ قالوا: ماتت ودفناها، قال: دلوني على قبرها) فذهب عليه الصلاة والسلام إلى قبرها بنفسه وصلى عليها؛ لأنها كانت تقم المسجد. أي: تنظف المسجد.

السرور والغبطة بما يصيب المسلمين

السرور والغبطة بما يصيب المسلمين ومن مظاهر ضعف الإيمان: السرور والغبطة بما يصيب إخوانه المسلمين من فشل، أو خسارة، أو مصيبة، أو زوال نعمة، فيشعر بالسرور أن النعمة عن فلان قد زالت، أو أن الشيء الذي كان فلان متميزاً به عني قد ذهب، وأن تجارته قد بارت، وأنه قد فقد وظيفته، أو قد أصابه عين، فذهب حسن صوته، فيشعر بسرور. وهذه نفسية سيئة تشعر بهذا نتيجة ضعف الإيمان.

الفراغ والخوف عند نزول أي مصيبة

الفراغ والخوف عند نزول أي مصيبة ومن مظاهر ضعف الإيمان كذلك: الفزع والخوف عند نزول أي مصيبة، أو حدوث أي مشكلة، فتراه ترتعد فرائصه يرتجف يفقد اتزانه يتضايق جداً لا يستطيع التفكير يضطرب لنزول مشكلة؛ لأن القلب ضعيف، ولذلك تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى، فتجده لأدنى مشكلة محتاراً لا يستطيع مواجهة الواقع، فقد غلب على أمره، وركبته الهموم، ولم يجد مخرجاً؛ لأن إيمانه ضعيف، ولو كان إيمانه قوياً لكان ثابتاً، ولواجه المشكلة بقوة، مندفعاً في المواجهة من قوة إيمانه في قلبه.

علامات أخرى لضعف الإيمان

علامات أخرى لضعف الإيمان ومن علامات ضعف الإيمان: فشو الأمراض القلبية، مثل: حب الظهور، وإرادة أن تكون الكلمة له، وأن يأخذ الجميع بآرائه وأقواله. ومن علامات ضعف الإيمان: عدم الاكتراث لفوات مواسم الخيرات، يعني: لو جئت لأحد الناس، وقلت له: هل صمت أمس؟ لأن أمس كان يوم عرفة، أو عاشوراء، قال: والله نسيت ما تذكرت، والأمر عادي، خيرها في غيرها! فعدم الاكتراث لفوات مواسم الخيرات يدل على عدم اهتمام الشخص بتحصيل الخير والحسنات نتيجة ضعف الإيمان في نفسه. وكذلك من علامات ضعف الإيمان: أن يقول الإنسان ما لا يفعل، والله يقول: {كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:3]. ومن علامات ضعف الإيمان: أن يأخذ كلام الإنسان وأسلوبه الطابع العقلاني البحت، ويفقد السمة الإيمانية حتى لا تكاد تجد في كلام هذا الشخص أثراً فيه نص من القرآن، أو السنة، ولا للتسليم بشرع الله، يعني: تجد كلاماً عقلانياً، وحججاً عقلية، ليس فيها قرآن ولا أحاديث، بل طبيعة الجدال والنقاش فقط، ولذلك الكلام غير مؤثر حتى لو أتى بأدلة كثيرة عقلية، لا يؤثر في نفوس الآخرين. ومن أعراضه: الشح والبخل. ومن مظاهر ضعف الإيمان: المغالاة في الاهتمام بالنفس؛ أكلاً ولبساً أناقة مسكناً مركباً، تجد الإنسان هذا ضعيف الإيمان يهتم بالكماليات جداً، يهتم بلباسه جداً، ويشتري أغلى الأقلام، ويهتم بسيارته جداً، في مسكنه يزوقه ويحسنه، وينفق الأموال والأوقات في هذه التحسينات، وليس لها ضرورة، وليست حتى مما يسهل الحياة العملية، وإنما مجرد إنفاق أموال تضيع في أشياء لا فائدة منها، ويقدم اهتمامه بنفسه على الآخرين، وينفق أمواله والمسلمون يحتاجون إليها حتى يقع في التنعم أي: الترفه الزائد عن الحد، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عن معاذ بن جبل رضي الله عنه وأرضاه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث به إلى اليمن، قال: إياك والتنعم، فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين). إذن! الإغراق في الأناقات، والإنفاق على النفس في الكماليات، والتزويق والتحسين، هذه الأمور دليل على أن الإنسان مستعد أن ينفق أموالاً وأوقاتاً غير مكترث لإنفاق هذه الأموال والأوقات في أشياء أهم منها.

أسباب ضعف الإيمان

أسباب ضعف الإيمان نأتي الآن إلى القسم الأخير في حديثنا وهو (الأسباب) فقد ذكرنا بعض الأعراض والمظاهر لضعف الإيمان، ونريد أن نتكلم عن أسباب ضعف الإيمان، فما هي أسبابه؟

طول الأمد والوقت

طول الأمد والوقت يقول الله عز وجل في القرآن: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16]. إذاً طول الأمد والوقت. أحد الناس ابتعد عن الأجواء الإيمانية فترة طويلة فكان هذا مدعاة لضعف الإيمان في نفسه، فمثلاً -أيها الإخوة-: أحد الناس ابتعد عن إخوانه في الله فترة طويلة لسفر أو لوظيفة أو لأي شيء، صار عنده انشغال، فابتعد عن إخوانه، والأخوة كما يقول الحسن البصري: [إخواننا أغلى عندنا من أهلينا، فأهلونا يذكروننا بالدنيا، وإخواننا يذكرونا بالآخرة]. عندما يبتعد الإنسان عن إخوانه، فإنه يفقد الجو الإيماني الذي كان يتنعم في ظلاله، ويستمد منه قوة قلبه، والمؤمن قليلٌ بنفسه كثيرٌ بإخوانه، والجو الذي يعيش فيه الأخ بين إخوانه في الله جو مهم جداً، فعندما يبتعد الإنسان عنه لفترة ويطول عليه الأمد يقسو قلبه. الابتعاد عن القدوة، مثلاً: إنسان يتعرض لنفحات تربوية من أخ له في الله هو أعلى منه علماً وإيماناً، فيتربى تحت يديه، فإذا ابتعد عن هذا القدوة فترة من الزمن يقسو قلبه. إذاً الابتعاد عن أهل التقوى، وعن القدوات الصالحة، والانشغال عنهم لسفر، أو وظيفة، أو أي شيء يسبب ضعف الإيمان. صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم لما توفي عليه الصلاة والسلام، واروه من هنا، وقالوا: فأنكرنا قلوبنا، يعني: بعدما واروا جثمان الرسول صلى الله عليه وسلم، قالوا: أنكرنا قلوبنا، أحسوا بوحشة في قلوبهم؛ لأن المصدر -المعلم المربي- مات عليه الصلاة والسلام، وكما ورد في وصفهم في بعض الآثار: فكانوا كالغنم في الليلة الشاتية المطيرة، كذلك الصحابة -رضوان الله عليهم- أحسوا في وحشة في قلوبهم، مع أنهم من المحافظين على إيمانهم، أحسوا بوحشة مع أن فيهم: أبا بكر الصديق، وعمر وعثمان وعلي وقدوات كثيرة من الصحابة، لكنهم أحسوا بوحشة؛ لأن قلوبهم حساسة جداً. الآن بعض الناس يبتعد عن إخوانه في الله، ويبتعد عن الأجواء الإيمانية، يحس بوحشة، لكن لا يتدارك الأمر، حتى تصير الوحشة شيئاً طبيعياً، ثم تحدث نفرة في قلبه من تلك الأجواء الإيمانية، يقسو القلب، ويضعف الإيمان فعلاً. الابتعاد عن طلب العلم الشرعي، والاتصال لكتب السلف الإيمانية: كتب تحريك القلوب، فهناك أنواع من الكتب تحس وأنت تقرأ فيها بأنها تحرك قلبك بأنها تستثير الإيمان الكامن بأنها تحرك الدوافع الإيمانية في القلب. من أفضل الأمثلة على هذه الكتب: كتب ابن القيم رحمه الله، تجد أنه يتطرق بشكل أو بآخر، ويعرض القضية بأسلوب إيماني. بعض كتب الفقه فيها نوع من الجمود الإيماني في عرض الأحكام، بعض العلماء يتميزون بأسلوب إيماني حتى في عرض الأحكام، فكيف بالأشياء الأخرى؟! لذلك الانقطاع عن هذه الكتب، والإغراق في قراءة الكتب الفكرية فقط، أو كتب الأحكام المجردة عن الإيمانيات فقط، أو كتب اللغة والأصول -مثلاً- فقط من الأشياء التي تورث قسوة القلب أحياناً؛ لأنه انشغل بقرائتها عن قراءة الكتب الإيمانية الأخرى. نحن لا نذم الناس الذين يطلعون في اللغة والنحو والأصول وغيرها، لا. لكننا ننبه إلى أولئك الناس الذين أعرضوا عن كتب التفسير والحديث مثلاً، فلا تكاد تجده يقرأ في التفسير، ولا في الحديث، مع أن التفسير وأحاديث الصحيحين وغيرها من أهم الأشياء التي تصل القلب بالله عز وجل. يا أخي! عندما تقرأ في الصحيحين -مثلاً- تحسن بأنك تعيش في أجواء العصر الأول، تحس كأنك تعيش مع الرسول صلى الله عليه وسلم ومع الصحابة، تتعرض لنفحات إيمانية، هذه سيرتهم وطريقتهم، هذه الأحداث التي جرت في عصرهم، تحس أنك تعيش فيها، تحس أنك فرد منهم. فالوصية -أيها الإخوة- بقراءة كتب الأحاديث كتب السيرة، ومن الذين يتعرضون لهذا بشدة الذين يقرءون ويدرسون دراسات لا علاقة لها بالإسلام، مثل: الذين يدرسون الكتب التجارية، وفيها كلام عن الربا والبنوك، أو كتب علم الاجتماع والفلسفة، وككتب علم النفس البعيدة عن الإسلام التي فيها نظريات كثيرة تقسي القلب وكلام يقسي القلب، وأحياناً يأتي لك بأمثلة فلان وفلانة، وسكرتيرة وكذا وكذا، هذا لا بد أن ينتبه له. الذين يدرسون في تخصصات الجامعات غير الشرعية، نعم هي تفيد المسلمين، لا نقول: لا تدرس، لكن انتبه وأنت تدرس في هذه الأشياء، فكثرة القراءة فيها تقسي القلب، لذلك الواحد لو أنه يذاكر للامتحان، ويقرأ في هذه الكتب، لا بد أن يتبع ذلك قراءة قرآن، أو قراءة في كتب أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وغيرها، حتى يطري تلك القسوة التي عرضت له نتيجة القراءة في هذه الكتب، طبعاً قراءة القصص الخيالية، وقراءة قصص الحب والغرام، والمجلات، بعض الناس يغرقون في قراءة المجلات والجرائد، ويتتبع الأخبار من هنا وهناك، ومحطات تلفزيون، ويقول: أريد وعياً، لكن في حقيقة الأمر يقسو قلبه نتيجة لقراءة الأخبار، وقراءة هذه الأشياء، لأن بعض الجرائد والمجلات والأخبار ليس فيها شيء يربطك بالله، كلها أشياء تقسي القلب، ليس هناك شيء تجد فيه رقة لقلبك، ولذلك إذا داومت على سماع هذه الأشياء، وقراءتها أورثتك قسوة القلب فعلاً.

وجود المسلم في وسط يعج بالمعاصي

وجود المسلم في وسط يعج بالمعاصي ومن الأسباب المهمة في ضعف الإيمان: وجود الإنسان المسلم ولو كانت خامته طيبة في وسط يعج بالمعاصي، وسط يذكر بالدنيا، أحاديث دنيوية، مثل: عموم المجالس والمكاتب وبيوت الناس اليوم، أحاديث التجارة الوظيفة الأموال الاستثمارات الفرص التجارية بيوت فيها اختلاط تعج بالمنكرات تسمع الأغاني تشاهد المتبرجات أفلام ملهيات حكايات، ومجالس فيها قصص العيش في وسط هذه الأجواء يقسي القلب. بعض الناس لا يملكون شيئاً، فهذا حال أبيه وأمه، وحال إخوانه، وأخواته، وحال أخواله وأعمامه وزواره، فهو لا يملك أن يغير شيئاً أحياناً، ولا يستطيع أن يقول: أنا سأخرج من البيت وأسكن في الشارع، أو أجلس عند صديقي أثقل عليه، لكن هناك إجراءات لا بد من اتخاذها، والقصد أن هذا سبب من أسباب ضعف الإيمان، ولا شك. بعض الناس أذهانهم مملوءة بهذه القصص التي تقسي القلب والأحاديث، وأذكر مثالاً حصل لي مرة من المرات، كنت ذاهباً مع صاحب سيارة أجرة من مكة إلى جدة في الليل، وفي الليل ينتهز الواحد الفرصة للكلام مع السائق، فقلت له: أنا أخبرك بقصة، وأنت تخبرني بقصة حتى نصل وحتى لا ننام في الطريق، فأخبرته بقصة في صحيح البخاري، وجاء دوره ليقص عليَّ قصة، فأتى الرجل بقصة طويلة، ملخصها أن رجلاً شجاعاً في قبيلة ذهب في الحج، ورأى امرأة وأعجب بها، وكانت ساكنة في اليمن، ثم ذهب إلى اليمن، وتحايل في الدخول إلى بيتها، واتضح أنها زوجة أمير في اليمن، ثم عاش معها شهراً داخل القصر في غياب زوجها، وعاشرها بالحرام، ثم هرب بها، وقتل زوجها. أشياء كلها بالحرام والزنا والقتل، وفي الأخير قتل، ثم لما علمت بمقتله ماتت بسبب الأشواق التي كانت بينهم، فاستمعت إلى القصة حتى أكمل الرجل، وكان هذا الرجل يتجنب الأشياء الفاحشة، أي: تفاصيل الأشياء، لكن هذا الشيء هو الذي في ذهنه، ويتكلم في القصة وهو معجب بها، وعنده قصص كثيرة مثلها، ويقول: نحن أهل البادية هذه قصصنا وحكاياتنا، وما نمضي به الوقت من هذا القبيل، وهذا مشكلة. طبعاً هناك أناس مثل سائقي الشاحنات هؤلاء يقطعون على الطريق أوقات طويلة جداً، يظل عشر ساعات وعشرين ساعة وأكثر أيامهم على الطريق، هؤلاء يمضون أوقاتهم في أي شيء؟ وطبعاً هناك سائق ومساعد السائق يمضون أوقاتهم في أشعار فارغة، وقصص كقصص الحب والغرام، أو أشرطة أغاني، والمشكلة أنه طول الوقت في السيارة يمشي ويسمع هذه الأشياء، لذلك لا بد من إيجاد حلول، وتقديم أشياء لهؤلاء الناس لعلهم ينتفعون بها، وهذا قطاع ربما الآن مهمل في الدعوة إلى الله، قطاع سائقي الشاحنات، ليس هناك من ينتبه لهم إلى الدعوة إلى الله، وإعطاءهم الأشياء النافعة والمفيدة.

الإغراق في الانشغال بالدنيا

الإغراق في الانشغال بالدنيا كذلك من أسباب ضعف الإيمان: الإغراق في الانشغال بالدنيا حتى ينشغل القلب، نحن لا نقول: لا تشتغل في الدنيا ولا تعمل، ولا تتكسب، ولا تتوظف، لا. لكن لدرجة أن ينشغل القلب ويصبح عبداً لهذه الأشياء , فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم) سماه عبد الدينار وعبد الدرهم، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (إنما يكفي أحدكم ما كان في الدنيا مثل زاد الراكب) أي: الشيء اليسير الذي يبلغه إلى المقصود، طبعاً سواءً كان كثيراً، أو قليلاً في الحجم، كأن يسدد ديونه، فربما يحتاج أشياء كثيرة يتكسب. ومن الأسباب الأخرى: الانشغال بالمال، وبالزوجة، وبالأموال، والله عز وجل يقول: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [الأنفال:28]، وقال: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران:14] زين للناس، فيتعلقون بها، ويقول عليه الصلاة والسلام: (إن في مال الرجل فتنة، وفي زوجته فتنة، وولده) طبعاً هذه ليست دعوة إلى ترك تربية الزوجة والأولاد، لا. هذا من الخير ومن الشيء المطلوب شرعاً، لكن الانسياق وراء الزوجة في المحرمات، والانسياق وراء الأولاد في الشغل عن طاعة الله، والرسول صلى الله عليه وسلم، قال: (الولد مجبنة) إذا جاء المرء يجاهد في سبيل الله قال: ولدي. (مبخلة) إذا جاء ينفق في سبيل الله، قال: ولدي أحق. (محزنة) يركبه الهم والغم إذا أصابه مرض أو غيره؛ فينشغل عن أشياء كثيرة. فإذاً ليس المقصود ترك التربية، وإنما المقصود الانشغال معهم بالمحرمات، والزوجة منعطف خطير في حياة زوجها أحياناً، والزوج كذلك منعطفٌ خطير في حياة زوجته الملتزمة بدين الله، وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إن لكل أمةٍ فتنة، وإن فتنة أمتي المال) في صحيح الجامع.

الإفراط في كثير من الأمور

الإفراط في كثير من الأمور ومن أسباب قسوة القلب: الإفراط في الأكل والنوم والسهر والكلام والخلطة، وكل واحدة تحتاج إلى شرح، لكنا الآن في مجال التذكير. الإفراط في الأكل يقسي القلب، والإفراط في النوم يقسي القلب، والإفراط في السهر يقسي القلب، والإفراط في الكلام يقسي القلب. والإفراط في مخالطة الناس تقسي القلب، تجد الواحد لا يتفرغ ليحاسب نفسه قليلاً. كثرة الضحك تقسي القلب، يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (وأقِل الضحك، فإن كثرة الضحك تميت القلب) والفراغ الذي لا يملأ بطاعة الله حتى لو جلس الإنسان فقط في هواجس بينه وبين نفسه يتخيل أشياء؛ يقسي القلب، فأسباب ضعف الإيمان كثيرة هذا ما نقتصر على ذكره منها في هذا الدرس، وسيكون إن شاء الله موعدنا معكم في الدرس القادم؛ لنتكلم عن موضوع بعنوان "كيف نجدد الإيمان في قلوبنا" وسنتطرق في الدرس القادم بإذن الله إلى علاج هذه المشكلة، لأن ما من إنسان إلا ويعاني من ضعف في قلبه، فسنتكلم إن شاء الله عن حلول وعلاجات لهذه المشكلة. نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم ممن يسمعون القول فيتبعون أحسنه، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على النبي الأمي محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

عبر بين موازين الله وموازين البشر [1]

عبر بين موازين الله وموازين البشر [1] التقوى هي ميزان الشرع الذي به يزن البشر، أما موازين البشر فغير كاملة لنقصانهم، وضيق نظرتهم، وفي هذه الخطبة يوضح الشيخ ذلك بأمثلة من الواقع وأدلة من الشرع، فاقرأ تستفد.

مقارنة بين ميزان الشرع وميزان البشر

مقارنة بين ميزان الشرع وميزان البشر إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: إخواني الأحبة! إن من الأمور التي ينبغي أن نتفكر فيها جيداً ونمعن النظر، ونأخذ العبر، الفروق بين موازين الله وموازين البشر، ذلك أننا في كثير من الأحيان، نحكم على الأشخاص والأحوال من منظار الدنيا، ونقوم الناس والمواقف من المناظير الدنيوية التي ننظر إلى هؤلاء الأشخاص والأحوال من خلالها، بينما يكون الأمر عند الله تعالى مختلفاً تمام الاختلاف. ومن هنا كان لابد لنا أن نعدل النظرة، وأن نقوم الميزان، حتى ننظر إلى الأمور من خلال منظار الشرع، لا من خلال منظار الهوى والعادات والتقاليد، وما استحدثه الناس من أنواع الموازين الدنيوية. وسنتحدث -إن شاء الله- عن بعض الأحوال والمواقف، وأنواع الناس الذين يُنظر إليهم من خلال ميزان الدنيا، ونقارن ذلك بما عند الله تعالى.

العاهات البدنية ومنظار الشرع إليها

العاهات البدنية ومنظار الشرع إليها أيها الإخوة: ما هو رأينا في رجل مشوه الخلقة، ربما يكون دقيق الساقين، أو أسود البشرة، أو أعور أفحج، أو أنه مشلول، أو مجدوع الأنف والأطراف ونحو ذلك؟! كثير من الناس ينظر إليه بازدراء؛ لأن خلقته مشوهة، ينظرون إليه من منظار النقص، ولكن المسألة ليست بالشكل ولا بالصورة، وإنما هي بالتقوى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]. وكان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على إيضاح هذا المفهوم، فروى الإمام أحمد رحمه الله في الحديث الحسن عن ابن مسعود: (أنه كان يجتني سواكاً من الأراك، وكان دقيق الساقين، فجعلت الريح تكفؤه، فضحك القوم منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مم تضحكون؟! قالوا: يا نبي الله! من دقة ساقيه، فقال: والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من أحد) ساقا ابن مسعود الدقيقتان النحيلتان أثقل عند الله في الميزان من جبل أحد. وفي رواية لـ أحمد أيضاً، عن أم موسى قالت: (سمعت علياً رضي الله عنه يقول: أمر النبي صلى الله عليه وسلم ابن مسعود، أن يصعد شجرة فيأتيه منها بشيء، فنظر أصحابه إلى ساق عبد الله بن مسعود حين صعد الشجرة، فضحكوا من حمشوة ساقيه -أي: دقة أقدامه وصغرها- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مِمَّ تضحكون؟ لرجل عبد الله أثقل في الميزان يوم القيامة من أحد). وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يعرفون له هذا الفضل، فقال حذيفة رضي الله عنه: [إن أشبه الناس هدياً ودلاً برسول الله صلى الله عليه وسلم من حين يخرج من بيته حتى يرجع -فلا أدري ما يصنع في أهله- كـ عبد الله بن مسعود، والله لقد علم المحفوظون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن عبد الله من أقربهم عند الله وسيلة يوم القيامة]. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يلفت نظر الناس إلى هذا الأمر، وأن القضية ليست بجمال الصورة، وإنما هو بالإيمان الذي وقر في القلب، فروى أحمد رحمه الله في الحديث الصحيح عن أنس: (أن رجلاً من أهل البادية كان اسمه زاهراً، كان يهدي للنبي صلى الله عليه وسلم الهدية من البادية، فيجهزه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن زاهراً باديتنا، ونحن حاضروه). قال في مرقاة المصابيح في شرح الحديث: أي نستفيد منه ما يستفيد الرجل من باديته من أنواع النباتات، يجلب إلينا أشياء لا تكون إلا في البادية ليست عندنا، ونحن نعد له ما يحتاج إليه من البلد. (وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه وكان رجلاً دميماً، قبيح المنظر والخلقة ليس فيه جمال، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يوماً، وهو يبيع متاعه فاحتضنه من خلفه وهو لا يبصره، فقال الرجل: أرسلني من هذا؟ فالتفت فعرف النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل لا يألو ما ألصق ظهره بصدر النبي صلى الله عليه وسلم حين عرفه، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول -ممازحاً لـ زاهر -: من يشتري العبد؟! فقال: يا رسول الله! إذاً والله تجدني كاسداً -من يرغب فيّ؟ ومن يطمع في شكلي؟ - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لكنك عند الله لست بكاسد) أو قال: (لكنك عند الله غالٍ) فتأمل كيف لفت النظر إلى هذا الشيء.

ذم الشرع للسمن

ذم الشرع للسمن وفي المقابل نجد أن الرجل العظيم السمين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة) هذه رواية البخاري، وفي رواية لـ ابن مردويه: (الطويل العظيم الأكول الشروب) عند الناس الطويل العظيم، خلقة محترمة, خلقة جيدة، وشيء يُتطلع إليه، مثل المنافقين: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} [المنافقون:4]. (إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة) هذا في ميزان الرب، عندنا نعجب بالصورة والخلقة، والعضلات المفتولة، والجسم الفارع الطول: (إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة، وقال: اقرءوا: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} [الكهف:105]). وهذا لأنه رجل فاجرٌ أو كافرٌ لا يزن عند الله جناح بعوضة، ولا يعني ذلك التعميم، فقد كان من الصحابة الأجلاء من هو طويل مربوع، وكان في الكفار من هو دقيق نحيل. ولكن المقصود لفت النظر إلى عدم التعلق بجمال الصورة، وأن نُقوم الناس أو نُعجب بهم، أو نحبهم بناءً على جمال صورتهم، فإن الجمال لا يغني عنهم من الله شيئاً، وربما يكون من أجمل الناس وهو عند الله من أحقر خلقه، وربما يكون الرجل أكثر الناس تشويهاً، وهو من أعظم الناس عند الله يوم القيامة. وقد كان عطاء بن أبي رباح رحمه الله تعالى مفتي مكة وقاضيها؛ عبداً أسود، مجدوع الأنف، أعور، مشوه الخلقة، رأسه داخل في جسده، -لا يكاد يوجد له رقبة- ومع ذلك كان مقدم الناس، لا يفتي في الحج إلا عطاء، ولا يجسر في الحج أن يفتي أحد إلا عطاء، قاضي مكة بأسرها، يأتي إليه الناس، حتى الخليفة قال لولديه: يا بني! اطلبوا العلم، فإنني لا أنسى ذُلنا بين يدي هذا العبد الأسود. لأن المجتمع كان ينظر إلى الناس من خلال العلم والإيمان، ومن خلال العقيدة، لا من خلال الشكل والصورة كما يفعله كثير من الناس، فإذا أراد مثلاً أن يتزوج نظروا إلى صورته وشكله قبل دينه وخلقه، لا مانع من الاهتمام بالصورة والشكل، لكن المشكلة في تقديم ذلك على الدين والخلق، والإيمان والتقوى، والعلم والفضل. لما استقر هذا المفهوم في أذهان الصحابة رضي الله عنهم، بان ذلك من خلال كلامهم، فلما قام عتبة بن غزوان الصحابي الجليل رضي الله عنه يخطب في الناس بعد ما فتحوا البلاد بعد النبي عليه الصلاة والسلام، وحمد الله وأثنى عليه، ماذا قال في كلمته؟ قال: [ولقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مالنا طعام إلا ورق الشجر، حتى قرحت أشداقنا، فالتقطت بردة، فشققتها بيني وبين سعد بن مالك، فاتزرت بنصفها واتزر سعد بنصفها، فما أصبح اليوم منا أحد، إلا أصبح أميراً على مِصر من الأمصار] لأن الخلفاء الراشدين كانوا يولون الصحابة على الأمصار، يكونون أمراء وقضاة وأئمة، الأمير والقاضي والإمام واحد، والمفتي لهم والمعلم وناقل الأحاديث والمربي واحد. قال: [فما أصبح اليوم منا أحد إلا أصبح أميراً على مصر من الأمصار، وإني أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيماً- نتيجة هذه المنزلة وهذه الإمرة- وعند الله صغيراً، وإنها لم تكن نبوة قط إلا تناسخت حتى يكون آخر عاقبتها ملكاً، فستخبرون وتجربون الأمراء بعدنا] رواه مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه. إذاً: ما هو الميزان عند الله؟ ما هو الميزان الذي يجب علينا أن ننظر إلى الناس من خلاله؟ إنه حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) -هذا هو الميزان- رواه مسلم رحمه الله وغيره.

مقارنة بين منظار الشرع والبشر إلى الفقر

مقارنة بين منظار الشرع والبشر إلى الفقر ما هو رأينا؟ وماذا نقول؟ وما هي وجهة نظرنا، إذا رأينا شخصاً فقيراً عليه أسمال بالية، وثيابه رثة، وهيئته محقورة، وهو ضعيف، وليس له منزلة، ولا أحد يعطيه وجهاً كما يقول العامة، ما هو رأينا فيه؟ ما هي نظرتنا له؟ روى البخاري رحمه الله عن حارثة بن وهب الخزاعي، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعف) الناس يتضعفونه لضعفه، كل يظلمه ويحقره ولا يبالي به ولا يعطيه وزناً ولا قيمة، هؤلاء أهل الجنة: (ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره) من عظمه عند الله ومنزلته ومكانته، لو قال: أقسمت عليك يا رب أن تفعل كذا، لبر الله بقسمه وفعل. (ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتل -أي: جافٍ شديد الخصومة بالباطل- جواظ) أي: فظ غليظ متكبر في مشيته، ومستكبر كما دلت عليه الصفتان السابقتان. وفي رواية أحمد: (ألا أخبركم بأهل النار وأهل الجنة؟ أما أهل الجنة فكل ضعيف متضعف أشعث ذي طمرين -ثوبين باليين- لو أقسم على الله لأبره، وأما أهل النار فكل جعضري -وهو الغليظ المتكبر- جواظ -المختال في مشيته وقيل: كثير اللحم- جمّاع -يجمع الأموال- منّاع -يمنع حق الله فيها- ذي تبع -أي: له أتباع وعشيرة ويتبعه كثير من الناس) هذه صفة من صفات أهل النار. وفي رواية ابن ماجة عن معاذ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبرك عن ملوك الجنة؟ قلت: بلى، قال: رجل ضعيف مستضعف ذو طمرين، لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبره). وكان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على تجلية هذا الموقف لأصحابه، فقد روى البخاري رحمه الله عن سهل بن سعد الساعدي أنه قال: (مر رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي عليه الصلاة والسلام لرجل عنده جالس: ما رأيك في هذا؟) والنبي عليه الصلاة والسلام يُوحى إليه، فكان يعلم حال هذا الرجل أنه منافق أو كافر أو فاجر، فقال: (ما رأيك في هذا؟ فقال: رجل من أشراف الناس، هذا والله حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع إن يُشفع -إذا توسط لأحد أن يقبل كلامه قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مر رجل آخر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأيك في هذا؟ قال: يا رسول الله! هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا حري إن خطب ألا ينكح وإن شفع ألا يشفع، وإن قال ألا يسمع لقوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا خير من ملء الأرض مثل هذا) أي: الذي ولى أولاً. وفي رواية ابن ماجة: (مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلٌ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما تقولون في هذا الرجل؟ قالوا: رأينا في هذا نقوله: هذا من أشرف الناس، هذا حري إن خطب أن يُخطب، وإن شفع أن يُشفع، وإن قال إن يُسمع لقوله، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، ومر رجلٌ آخر فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما تقولون في هذا؟ قالوا: نقول: والله يا رسول الله! هذا من فقراء المسلمين، هذا حري إن خطب لم ينكح، وإن شفع لا يشفع، وإن قال لا يسمع لقوله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لهذا خير من ملء الأرض من مثل هذا). ونحن ننظر إلى الناس غالباً من مناظير دنيوية، نقول: هذا رجل صاحب منصب، هذا رجل غني، هذا رجل قوي، هذا رجل جميل الخلقة، هذا ذو مرة، وهو عند الله قد يكون من أحقر الناس، وإذا نظرنا إلى شخص فقير ضعيف لا مكانة له ولا وظيفة، أو كما يقول العامة: لا وجه ولا جاه، ماذا نعتقد فيه؟ وبأي عين ننظر إليه؟ وكيف نعامله، ونستقبله في مجالسنا؟ وكيف نسلم عليه، وكيف نكلمه؟ بناءً على موازيننا نتعامل، فهذا العظيم الغني صاحب المنصب، نقوم له، ونجله، ونرحب به، ونسمع كلامه، ونلبي طلبه، وهذا الضعيف المستضعف الفقير، إذا دخل المجلس لا أحد يلتفت إليه، ولا يأبه به، ولو طلب طلباً قاطعنا كلامه، ولا نلبيه، وربما طردناه، لماذا؟ لأن نظرتنا دنيوية أيها الإخوة! نظرتنا ليست بميزان الشرع. هذا الذي نريد أن نعدله، النبي عليه الصلاة والسلام كان حريصاً أن يربي هذا المفهوم في نفوس أصحابه، فقد روى أحمد، قال الهيثمي بأسانيد ورجالها رجال الصحيح: عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا ذر! ارفع بصرك فانظر أرفع رجل تراه في المسجد -أعلى رجل منزلة- قال: فنظرت -استعرضت الناس في المسجد- فإذا رجل جالس عليه حلة -أي: ثوب من قطعتين نفيس -فقلت: هذا أرفع رجل، فقال: يا أبا ذر! ارفع بصرك فانظر أوضع رجل تراه في المسجد، فنظرت، فإذا رجل ضعيف عليه أخلاق -أي ثياب قديمة بالية- قال: فقلت: هذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده، لهذا أفضل عند الله يوم القيامة من قراب الأرض - أي: ملئها وقدرها- مثل هذا).

الفصاحة والعي بين ميزان الشرع وميزان البشر

الفصاحة والعي بين ميزان الشرع وميزان البشر الفصاحة عندنا ماذا تعني؟ القدرة على الكلام والخطاب، والمحاماة والمرافعة، وتصدر المجالس، وفي الوقت نفسه يعني عندنا العيّ: عدم القدرة على التعبير عما في النفس، والضعف في المنطق، وعدم البلاغة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يبغض البليغ من الرجال، الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة) التخلل في الكلام: أي التشدق وتفخيم اللسان به، كما تأكل البقرة وتخرج لسانها، هذا يتشدق بالكلام مخرجاً لسانه يميناً وشمالاً، رافعاً له، كما تتخلل البقرة، قال أبو عيسى -أي: الترمذي - هذا حديث حسن غريب. وفي رواية أبي داود: (إن الله عز وجل يبغض البليغ من الرجال، الذي يتخلل بلسانه تخلل البقرة بلسانها) قال في الشرح: أي المبالغ في الحديث استهزاءً بالناس، يتخلل في الكلام، أي: يفخم ويتشدق في قوله كما تلف البقرة لسانها على الكلأ، وفي صفات المنافقين: {وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المنافقون:4] من حلاوته والطلاوة التي عليه والفصاحة التي هم عليها: (وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) من حلاوة منطقهم، وجودته وجماله، وفصاحتهم، لكن إذا كان الفصيح منافقاً، فأي شيء تنفعه فصاحته؟ وماذا ينبغي أن تكون نظرتنا إليه؟ وفي الوقت نفسه جاء في الحديث: (العيّ من الإيمان) العي هو: عدم القدرة على توضيح المقصود، وعدم البلاغة، والضعف في المنطق، وطبعاً هذه ليست قواعد، فقد كان من الصحابة فصحاء، ومن الكفار من يكون عيياً، لكن المقصود ألا نقيس الناس على الفصاحة والعي، فنقول صاحب المنطق البليغ المتشدق: هذا مؤمن، هذا إنسان عظيم، هذا إنسان له منزلة، وإذا جاء واحد لا يعرف أن يتكلم بكلمتين يضعهما فوق بعضهما احتقرناه لضعف لسانه ومنطقه.

المرض في الشرع ليس شرا محضا

المرض في الشرع ليس شراً محضاً المرض ماذا يعني بالنسبة إلينا؟ المرض شر، ونحن نكره المرض، ولا غرابة في ذلك، لكن ينبغي أن ننظر إلى المسألة بالمنظار الشرعي، وأن المرض فيه إيجابيات وفيه خير، فالخطأ في نظرتنا إلى المرض أن ننظر إليه أنه شر كله. دخل النبي صلى الله عليه وسلم على أم المسيب أو أم السائب، فقال: (مالك يا أم السائب أو يا أم المسيب تزفزفين -أي: تضطربين وترتجفين- قالت: الحمى لا بارك الله فيها، فقال: لا تسبي الحمى، فإنها تذهب خطايا بني آدم، كما يذهب الكير خبث الحديد) إذاً لها فائدة، تُكفر السيئات، وورد أنها من فيح جهنم. ولذلك قال: (أمرنا أن نبردها بالماء) وورد في بعض الأحاديث: [أن بعض الصحابة لما علموا أنها لو مكثت عندهم كفرت خطيئتهم اختاروا مكثها] لا تظن أن الذي لا يمرض -قوي الجسم الصحيح - أنها علامة خير، بل ربما لا تكون كذلك، روى أحمد رحمه الله عن أبي هريرة قال: (دخل أعرابي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل أخذتك أم ملدم قط، قال: وما أم ملدم؟ قال: حرٌ يكون بين الجلد واللحم، قال: ما وجدت هذا قط، قال: فهل أخذك هذا الصداع قط، قال: وما هذا الصداع؟ قال: عرق يضرب على الإنسان في رأسه، قال: ما وجدت هذا قط، فلما ولى، قال عليه الصلاة والسلام: من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى هذا). وفي رواية لـ أحمد: (مر برسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي أعجبه صحته وجَلَدُه، قال: فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: متى أحسست أم ملدم؟ قال: وأي شيء أم ملدم؟ قال: الحمى، قال: وأي شيء الحمى؟ قال: سخنة تكون بين الجلد والعظام، قال: ما لي بذلك عهد، قال: فمتى أحسست بالصداع؟ قال: وأي شيء الصداع؟ قال: ضربان يكون في الصدعين والرأس، قال: ما لي بذلك عهد؟ فلما ولى الأعرابي، قال: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إليه). لعل الرواية التالية توضحه: (دخل رجل على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: متى عهدك بأم ملدم، وهو حر بين الجلد واللحم؟ قال: إن ذلك لوجع ما أصابني قط، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مثل المؤمن مثل الخامة تحمر مرة وتصفر أخرى) أي: المؤمن مثل النبات اللين الطري يحمر ويصفر، كناية عن الصحة والمرض، المؤمن تأتيه أمراض، حمى، وصداع: (والكافر مثل الأرز، قوي يكون انجعافه مرة واحدة). مرة أخرى هذه من العلامات، لكنها ليست قاعدة مطردة في كل من يصيبه حمى أنه مؤمن، وفي كل من لا يصيبه أنه كافر، لكن النبي عليه الصلاة والسلام يلفت النظر إلى هذه القضية، لا تظنوا -يا أيها الناس- إذا رأيتم شخصاً فأعجبتكم صحته وجلده أنه مؤمن، والذي لا عهد له بالأمراض معناها أن الله لا يبتليه، ولا يريد أن يكفر عنه، والذي لا يريد الله أن يكفر عنه فما هي نهايته؟ يكون انجعافه مرة واحدة، المؤمن مبتلى مثل الشجرة الطرية والنبت اللين؛ تفيؤها الريح مرة يمنة ومرة يسرة، حتى يلقى الله وليس عليه خطيئة. نسأل الله أن يجعلنا بمنظار الشرع ناظرين، وبقواعده عاملين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

النظر بمنظار الشرع واجب يقي المرء الحيف

النظر بمنظار الشرع واجب يقي المرء الحيف الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الأمين بعثه رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه وذريته والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. عباد الله! لا نتمنى المرض ولا الفقر، ونسأل الله العافية والغنى عن الناس، لكن لو أصابنا شيء من ذلك هل هو دليل على أن الله يكرهنا ويبغضنا؟ لا. بل هو دليل على: (إذا أحب الله عبداً ابتلاه). إذاً ننظر بمنظار الشرع، والفقر مع أنه مكروه لنا، لكن فيه إيجابيات عظيمة إذا حصل، ونحن لا نتمناه، ففي الترمذي وهو حديث صحيح عن فضالة بن عبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (كان إذا صلى بالناس يخر رجال من قامتهم في الصلاة من الخصاصة -من الجوع والفقر يُغشى على الواحد ويسقط في الصف وهو أثناء الصلاة- وهم أهل الصفة رضي الله عنهم؛ حتى يقول الأعراب الذين لا فقه لهم: هؤلاء مجانين، فإذا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف إليهم مواسياً -على هذا الوضع كان المجتمع وكان هناك جوع عظيم، لكن صبروا رضي الله عنهم وحصلّوا- انصرف إليهم فقال: لو تعلمون مالكم عند الله لأحببتم أن تزدادوا فاقة وحاجة). ريح فم الصائم عندنا مكروهة، ننفر منها ولاشك في ذلك، لكن عند الله ماذا تعني؟ وما منزلته؟ وما قيمتها؟ قال عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده، لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك) نتيجة تغير رائحة الفم بخلو الجوف من الطعام تخرج الرائحة الكريهة، لكن هذه الرائحة الكريهة عندنا، هي عند الله أطيب من ريح المسك، فهذا يفيدنا لو رأيناها أو شممناها وأحسسنا بها؛ ألا نحتقر ذلك، لأنها عند الله أطيب من ريح المسك. الرجل المقام عليه الحد كثير من الناس ينظر إليه باحتقار واشمئزاز؛ لأنه فعل هذه الجريمة، لكن هو إذا تاب وأقيم عليه الحد، فله عند الله شأن عظيم، لكن ربما بعض الناس يشمئز من هذا المحدود الذي أقيم عليه الحد، ولذلك لما رُجم ماعز كان ممن رماه خالد بلحي جمل فتنضح الدم على وجه خالد فسبه، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (مه يا خالد -نهره- لقد تاب توبة لو وزعت على أهل المدينة لوسعتهم) توبة عظيمة، فنظرتنا إلى التائب المحدود يجب أن تكون من خلال الشريعة. وفي رواية لـ أبي داود وأحمد حسنها بعض أهل العلم، (قال خالد بن اللجلاج: إن أباه حدثه قال: بينما نحن في السوق، إذ مرت امرأة تحمل صبياً، فثار الناس وثُرت معهم، فانتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: من أبو هذا؟ -هذه المرأة متهمة بالفاحشة، وقد ولدت من الفاحشة، في التحقيق النبي عليه الصلاة والسلام يسأل: من أبو هذا؟ - فسكتت، فقال شاب: بحذائها يا رسول الله! إنها حديثة السن، حديثة عهد بجزية، وليس عندها فقه وربما لا تستطيع الكلام، وإنها لم تخبرك، وأنا أبوه يا رسول الله، فالتفت إلى من عنده كأنه يسألهم عنه، فقالوا: ما علمنا إلا خيراً عن هذا الشاب، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحصنت؟ -سبق لك الزواج- قال: نعم، فأمر برجمه) مادام أنه اعترف فأمر برجمه: (فذهبنا فحفرنا له حتى أمكنا ورميناه بالحجارة حتى هدأ -مات- ثم رجعنا إلى مجالسنا، فبينما نحن كذلك، إذ أنا بشيخ يسأل عن الفتى، أين الفتى؟ فقمنا إليه، فأخذنا بتلابيبه فجئنا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلنا: يا رسول الله! إن هذا جاء يسأل عن الخبيث؟ فقال: مه! كفوا -كلمة سيئة أن تصفوه بالخبيث!! - لهو أطيب عند الله ريحاً من المسك) تاب وكُفر عن ذنبه في الدنيا بإقامة الحد، قال: (فذهبنا فأعناه على غسله وحنوطه وتكفينه، وحفرنا له) ولا أدري أذكر الصلاة أم لا، ولكن يصلى على الذي يقام عليه الحد. هذا إذاً بالنسبة لهذا التائب، بعض الناس يشمئز من المحدود الذي أقيم عليه الحد، وربما يصفه بالخبيث. اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من أوليائك وحزبك المفلحين، اللهم اجعلنا في بلادنا آمنين مطمئنين، وانصر المجاهدين يا رب العالمين، اللهم اجعلنا من أوليائك ولا تجعلنا من أعدائك، اللهم اجعلنا فيمن أحببتهم ولا تجعلنا فيمن أبغضتهم يا سميع الدعاء. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

عبر بين موازين الله وموازين البشر [2]

عبر بين موازين الله وموازين البشر [2] إن الله تعالى حكم عدل، عزيز عليم، فخير الموازين ميزانه، وهو قد جعل البشر ناقصين وابتلاهم في الدنيا بعد أن بيّن لهم الصراط المستقيم، ولكن لا يزال منهم ظالم لنفسه إلا من عصمه الله، واقرأ هذه المادة تجد مصداق ذلك.

أمثلة تساعد على تيقن أفضلية ميزان الشرع

أمثلة تساعد على تيقن أفضلية ميزان الشرع إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أيها الإخوة: لازال حديثنا متصلاً عن (عبر في موازين الله وموازين البشر) وقد سبق الكلام عن أمور ينظر لها الناس بمنظار، وهي عند الله شيء آخر، وكانت العبرة المستخلصة، أنه ينبغي علينا أن ننظر بمنظار الشارع، أن ننظر إلى الأمور كما هي عند الله تعالى، وأن نقيس الأمور بمقياس الشرع، ونزنها بميزانه لا بميزان الدنيا وميزان الناس، ولنضرب أمثلة أخرى، نستعيد فيها هذا التصور، ونربي أنفسنا بها على التطلع إلى الأمور وتحليلها وتقويمها بحسب ما هي عند الله لا بحسب ما هي عند الناس.

الهزيمة في أحد وحادثة الإفك

الهزيمة في أحد وحادثة الإفك لقد كانت وقعة أحد هزيمة عظيمة، وألماً وجرحاً دامياً، ومرارة تجرع غصتها المسلمون في سبعين قتيلاً من خيارهم، علماء وقادة وشجعان فقدهم المسلمون، وحصل من وراء ذلك أرامل وأيتام صاروا عبئاً إضافياً على المسلمين؛ لفقد الكاسب والمعيل، هذه مات زوجها، وهذه مات أبوها، وهذه مات أخوها، وهذه مات أبوها وزوجها وأخوها. ولكن كان ذلك عند الله سبحانه وتعالى بميزان آخر، قال الله عز وجل: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:140 - 141] {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران:179] {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران:154] {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لَاتَّبَعْنَاكُمْ} [آل عمران:166 - 167]. إذاً: الله سبحانه وتعالى أراد من وراء هذه الهزيمة أموراً، أراد كشف المؤمنين وتبيان حالهم، وإظهار أمرهم في الواقع ليطابق الواقع علم الله الأزلي بشأنهم، وأراد الله كشف أستار المنافقين وتعرية موقفهم، وإظهارهم للمؤمنين ليحذروهم، وأراد الله أن يميز الخبيث من الطيب، فالله سبحانه وتعالى لا يرضى بأن يكون الأمر مختلطاً، وتتلبس الأمور، يريد اللهُ أن يهلك من هلك عن بينه، وأن يحيا من حيَّ عن بينه. يريد الله تمييز الصفوف، يريد الله كشف الحقائق وإظهار البواطن، فأظهر المؤمنين الصادقين الثابتين المطيعين، وأظهر المنافقين المنسحبين، وكذلك أراد الله بهذه المعركة أن يتخذ شهداء لم يكونوا ليصلوا إلى مرتبة الشهادة بغير هزيمة أحد، هذا العدد الكم الكبير سبعون قتيلاً من المسلمين، شهداء عند الله، أراد الله حكماً، أراد الله أموراً مع أن الهزيمة بالنسبة للمسلمين في الظاهر شر كبير. حادثة الإفك اعتبرها الناس شراً؛ لأن فيها إيذاءً للنبي صلى الله عليه وسلم، وبلبلة عظيمة حصلت في المجتمع المسلم، قال الله: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور:11] فيها تمحيص وثبات المؤمنين، وكف ألسنتهم، وفيها انزلاق ألسنة المنافقين ومن ضعفت نفسه، وتعليمه درساً عظيماً لئلا يتابعهم فيما يُستقبل، ورفع منزلة النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر عائشة وتبرئتها في القرآن، وأمور أخرى عظيمة كانت في تلك الواقعة.

فضل الشهداء ومنزلة الفقراء

فضل الشهداء ومنزلة الفقراء الشهداء بالنسبة إلينا ما هم؟ إنهم أموات، ماتوا وذهبوا، وفارقت أرواحهم أجسادهم، لكن يقول الله سبحانه وتعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} [البقرة:154] الشهداء عند الله أحياء، وعندنا أموات: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:169 - 171]. انظروا إذاً -أيها الإخوة- للاختلاف بين ميزان الله وميزان البشر، الشهداء أحياء عند الله، وعندنا أموات، نحزن لفراقهم، وهم عند الله تعالى أحياء فرحون جداً بما وجدوا من كرم الله تعالى، وهم يفضلون ما عند الله على ما عندنا بالتأكيد، لكننا نحن نحزن لأجلهم، ولفراقهم. من الموازين التي يظهر فيها الاختلاف أيضاً، ميزان العطية والمنحة، والحرمان والقلة، قال الله تعالى: {فَأَمَّا الْأِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} [الفجر:15 - 16] قدر عليه رزقه: أي: ضيق. ماذا قال الله عن هذا الميزان البشري الدنيوي؟ قال: {كَلَّا} [الفجر:17] أي: ليس الأمر كذلك، لأنه إذا أعطى عبداً وأكرمه ونعمه فإن ذلك لا يقتضي أنه راض عن هذا العبد، بل إنه يعطي الكفار والفساق والفجرة والعصاة أعطيات عظيمة، لماذا؟ هم عند الناس: رب أكرمن، يقولون: الله أكرمهم، ولكن عند الله استدراج: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً} [آل عمران:178]. لا حظ الفرق يا أخي! لاحظ الفرق لتعتبر، فالمسألة تحتاج إلى نظر وفقه، عند الناس يقولون: هذا أكرمه الله عز وجل ونعمه بهذه الملايين، وهذه النعم، لكن يقول الله تعالى: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً} [آل عمران:178] هل هذه كرامة ونعمة؟ لا. بل هذه نقمة وشر، واستدراج، إذا رأيت العبد مقيماً على معصية الله والله يعطيه، فاعلم أنما هو استدراج، وفي المقابل إذا حُرم شخص من نعمة مال ومن دنيا، فإن هذا ليس دليلاً على أن الله يريد أن يهينه، كما يظنه بعض الناس بميزانهم الدنيوي البشري، كما قال تعالى عنهم: {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا} [الفجر:16 - 17] لأن الله إذا أحب عبداً ابتلاه، والقلة له خير من الكثرة، والكثرة يشتغل بها عن الطاعة وعن دينه فيهلك.

الأنساب وأشرفها في الإسلام

الأنساب وأشرفها في الإسلام مسألة الأنساب ودرجات القبائل، ماذا تعني عند الناس؟ وماذا تعني عند الله؟ روى البخاري رحمه الله تعالى عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الناس أكرم؟) -كانت قضية القبلية والنعرات والتفاخر بالأنساب مسألة لها ثِقَلٌ كبير ووزن عظيم عند العرب، (قالوا: أي الناس أكرم؟ قال: أكرمهم عند الله أتقاهم) فأجابهم بميزان الشرع، (قالوا: ليس عن هذا نسألك) يريدون شيئاً معيناً، الأنساب والقبائل، أي: أيُّ القبائل أعظم والأنساب أعظم وأعلى؟ قال: (فأكرم الناس يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله) يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليه السلام. (قالوا: ليس عن هذا نسألك؟ قال: فعن معادن العرب تسألوني؟ قالوا: نعم، قال: فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا) إذاً الذي هو شريف في الجاهلية، إذا أسلم وتفقه -شرطان- إذا أسلم وتفقه فهم خياركم في الإسلام. وروى أحمد رحمه الله حديثاً حول هذا المعنى، عن عمر بن عبسة السلمي، قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض يوماً خيلاً، وعنده عيينة بن حصن بن بدر الفزاري، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا أفرس بالخيل منك، فقال عيينة وكان من أهل نجد: وأنا أفرس بالرجال منك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: وكيف ذاك؟ -هذا رجل من الأعراب جاء حديث عهد بإسلام- قال هذا الأعرابي: خير الرجال رجال يحملون سيوفهم على عواتقهم، جاعلين رماحهم على مناسد خيولهم -لاحظ الوصف- لابسوا البرود -البرد الكساء المخطط- من أهل نجد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذبت) لأن قبائل الحجاز مع النبي صلى الله عليه وسلم أسلموا قبل غيرهم، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينبه إلى هذا المعنى فقال: (كذبت، بل خير الرجال رجال أهل اليمن، والإيمان يمان إلى لخم وجذامة وعاملة، ومأكولُ حمير خير من آكلها، وحضرموت خير من بني الحارث، وقبيلة خير من قبيلة، وقبيلة شر من قبيلة، والله ما أبالي أن يهلك الحارثان كلاهما، لعن الله الملوك الأربعة جمداء ومخوساء ومشرخاء وأبضعة وأختهم العمردة -وكانوا كفرة- ثم قال: أمرني ربي عز وجل أن ألعن قريشاً مرتين فلعنتهم -مثلما دعا عليهم بالقحط والسنين، والدعاء عليهم من اللعنة- وأمرني أن أصلي عليهم فصليت عليهم مرتين، ثم قال: عصية عصت الله ورسوله، غير قيس وجعدة، ثم قال: لأسلم وغفار ومزينة وأخلاطهم من جهينة خير من بني أسد وتميم وغطفان وهوازن عند الله عز وجل يوم القيامة) إلى آخر الحديث. قال الهيثمي رحمه الله: رواه أحمد متصلاً ومرسلاً، ورواه الطبراني ورجال الجميع ثقات. أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يبين لهذا الرجل الأعرابي، أن خير القبائل الذين سبقوا إلى الإسلام، هؤلاء خير القبائل في ذلك الوقت -وقت النبوة- من الذي سبق إلى الإسلام؟ مزينة وبعض جهينة، مزينة: قبائل أسلم وأهل اليمن الذين جاءوا مسرعين يريدون العلم، الذي رفضه غيرهم من كبار القبائل؛ هؤلاء أفضل، لماذا؟ في التصنيف القبلي عند بعض أهل الجزيرة هم أدنى، لكن عند الله وعند النبي صلى الله عليه وسلم بين له أنهم خير من كثير من القبائل، لأنهم أسلموا قبل غيرهم. وكذلك من بني تميم من هو أشد هذه الأمة على الدجال كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (سيكونون في آخر الزمان خير الناس؛ لأنهم أشد الناس على الدجال) ولما تابعوا دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وغيرهم من أهل نجد كانوا خيراً من غيرهم من المشركين، وغيرهم من الذين رفضوا الدعوة في وقتهم، إذاً -أيها الإخوة- معيار القبائل والأنساب الذين سبقوا إلى الدين وآمنوا به، هذا هو المعيار.

الأعمال بالخواتيم

الأعمال بالخواتيم العمل في الظاهر قد يكون بالنسبة إلينا عظيماً، لكن عند الله شيئاً آخر باعتبار النهاية، باعتبار الشيء الخفي الذي يكون في قلب صاحبه ونحن لا ندركه في الظاهر، والله يعلمه، روى البخاري رحمه الله تعالى (عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم التقى هو والمشركون فاقتتلوا، فلما مال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عسكره، ومال الآخرون إلى عسكرهم، وفي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل لا يدع لهم شاذة ولا فاذة إلا أتبعها يضربها بسيفه فقال الناس: ما أجزى منا اليوم أحد كما أجزى فلان -ما أحد عمل مثل هذا الرجل منا معشر المسلمين- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إنه من أهل النار). شيء عجيب! شخص يقاتل مع المسلمين ويبلي بلاء حسناً، وهو شجاع للغاية، ولا يدع للكفار شيئاً إلا ضربه، ومع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أما إنه من أهل النار فقال رجل من القوم: أنا صاحبه) أي: واحد من المسلمين تبرع أن يلازم هذا الرجل؛ ليعرف الحقيقة ويأتيهم بخبره- فخرج معه، كلما وقف وقف معه، وإذا أسرع أسرع معه، قال: (فجرح الرجل جرحاً شديداً، فاستعجل الموت، فوضع نصل سيفه بالأرض، وذبابه -أي: رأس السيف وطرفه الحاد- بين ثدييه، ثم تحامل على سيفه فقتل نفسه). ما هي النهاية؟ انتحار! فخرج الرجل هذا الملاصق المراقب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أشهد أنك رسول الله، قال: (وما ذاك؟) قال: الرجل الذي ذكرت آنفاً أنه من أهل النار، فأعظم الناس ذلك، فقلت: أنا لكم به، فخرجت في طلبه، ثم جرح جرحاً شديداً، فاستعجل الموت، فوضع نصل سيفه في الأرض وذبابه بين ثدييه، ثم تحامل عليه فقتل نفسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: (إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس، وهو من أهل الجنة). وذلك لأن الأعمال بالخواتيم، فنحن قد نحكم على شخص بأنه من أهل الجنة ونظن ذلك، وعن آخر أنه من أهل النار، وننسى قضية الخاتمة، فلننتظر إذاً. ولذلك من القواعد عند أهل السنة والجماعة: ألا نحكم لمعين بجنة ولا بنار إلا من حكم عليه أو حكم له الشارع، وهذا الرجل الذي وردت قصته في هذا الحديث، الذي قتل نفسه وانتحر مثال على قضية الاعتبار بالخواتيم. مسألة الدنيا عندنا -أيها الإخوة- الدنيا عندنا هي الأموال والعمارات، والقصور والبساتين، والزروع والثمار، والذهب والفضة، والمراكب، وهي تعني عندنا أشياء عظيمة ولهذا تثقل في نفوسنا، وهذا معروف ومشاهد في الواقع، ولا يحتاج إلى شرح: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [آل عمران:14]. لكن الميزان عند الله في هذا قوله عليه الصلاة والسلام: (لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء) لو كانت تساوي عند الله شيئاً، ما أعطى الكافر منها شيئاً، قال أبو عيسى: هذا حديث صحيح غريب من هذا الوجه. حديث صحيح رواه الترمذي رحمه الله تعالى وغيره، يبين لنا الميزان الحقيقي عند الله تعالى لهذه الدنيا، كل هذه الدنيا بما فيها من ألوان النعيم؛ من ناطحات سحابها إلى ما تحت التراب من المعادن والثمار لا تساوي عند الله جناح بعوضة، وعندنا كم تساوي؟! انظروا إلى الفرق بين الميزان الإلهي والميزان البشري. الغنى ما الغنى؟ الغنى: كثرة المال والمراكب والبيوت، هذا هو الغنى، الغنى: المادة، روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس) رواه البخاري ومسلم، ليس الغنى الزيادة في المادة، ولكن الغنى غنى النفس، لو جئت بأغنى أهل الأرض لو كان له واديان من ذهب فإنه يريد الثالث، ما شبع ولن يشبع أبداً. فهو ليس مطمئن النفس، والغني حقيقة هو المستغني عن الناس والذي لا يتطلع إلى شيء، والذي نفسه راضية مطمئنة: (ولكن الغنى غنى النفس) الذي لا يأسف على الدنيا إذا فاتت، ولا يفرح إذا جاءت، هذا هو الغني حقيقة، المتنعم بحياته، وصاحب راحة البال والمطمئن: (ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس). الناس إذا رأوا ما عند الأغنياء تطلعوا ومدوا أعينهم: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص:79] ماذا قال الذين أوتوا العلم والذين يُعملون الميزان الإلهي، ولا ينخدعون بالمنظُور البشري؟ {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ * فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} [القصص:80 - 81]. كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً أن يبين للناس أن قضية الكثرة ليست اعتباراً شرعياً، فكان يقول لهم: (الأكثرون هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال: هكذا وهكذا وهكذا) أي: الغني الذي ينفق ماله من اليمين والشمال في جميع الاتجاهات وجميع سبل الخير، وكلما عرضت فرصة أنفق، لا يبالي بما ينفق، وينفق بلا حساب، ولا تعلم يمينه ما تنفق شماله: (الأكثرون -أي: في الدنيا- هم الأقلون يوم القيامة).

بين حقيقة الربح وصورته

بين حقيقة الربح وصورته الربح في المنظور الدنيوي يعني أن تحصل الزيادة على رأس المال، وكلما كانت الزيادة أكثر كنت في المنظور البشري رابحاً أكثر، قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} [البقرة:207] ولهذا سبب نزول، قال ابن عباس وأنس وسعيد بن المسيب وأبو عثمان النهدي وعكرمة وجماعة: [نزلت في صهيب بن سنان الرومي، وذلك أنه لما أسلم بـ مكة وأراد الهجرة منعه الناس أن يهاجر بماله، وإن أحب أن يتجرد منه ويهاجر فعل، فتخلص منهم وأعطاهم ماله، فأنزل الله فيه هذه الآية، وذهب إلى المدينة، فتلقاه عمر بن الخطاب وجماعة إلى طرف المدينة في الحرة، فقالوا: ربح البيع، فقال: وأنتم، فلا أخسر الله تجارتكم، وما ذاك؟ فأخبروه أن الله أنزل فيه هذه الآية]. وروى ابن مردويه كما ذكر ابن كثير رحمه الله تعالى عن أبي عثمان النهدي (عن صهيب قال: لما أردت الهجرة من مكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قالت لي قريش: يا صهيب! قدمت إلينا ولا مال لك، وتخرج أنت ومالك؟!!) -مستحيل لا يمكن، جئتنا فقيراً صعلوكاً، فاشتغلت عندنا بـ مكة وحصلت أموالك، ثم تريد أن تخرج الآن إلى المدينة أنت ومالك، (والله لا يكون ذلك أبداً، فقال لهم: أرأيتم إن دفعت إليكم مالي، تخلون عني، قالوا: نعم) -إنهم أناس دنيويون يأخذون المال ويتركون الشخص- (فدفعت إليهم مالي، فخلوا عني، فخرجت حتى قدمت المدينة، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ربح صهيب ربح صهيب!) وفي رواية: (ربح البيع ربح البيع). ترك كل الممتلكات والأموال وما بقي له شيء، خرج بثيابه فهذا يعتبر عندنا خسراناً، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ربح البيع، ربح صهيب) والله ينزل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة:207]. إذاً عند الشارع كونه يهاجر ويترك بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام، وينصر دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، ويذهب ليقيم في المدينة، ويتعلم العلم ويجاهد مع الصحابة، ولو خسر كل ماله، فإن ذلك هو الربح الحقيقي، فانظروا -رحمكم الله- إلى الفرق بين الميزان الإلهي والميزان البشري، ونحن يجب علينا أن نتحرر من هذه الموازين الأرضية، وأن نسلك سبيل الموازين الشرعية. لما استقرت هذه الحقيقة في نفوس الصحابة تصدقوا بأموالهم، فهل عرفتهم أحداً يذهب اليوم إلى رصيد ماله في البنك، وينظر ماذا في الرصيد، مائة ألف مثلاً يأخذ خمسين ألفاً ويتصدق بها (نصف المال)؟ لا نقول: مستحيل، لكن ليس أمراً معروفاً على الإطلاق. الصحابة لما استقرت في نفوسهم قضية الموازين الإلهية، والنظرة الشرعية إلى الأمور؛ أبو بكر تصدق بماله كله، وعمر تصدق بنصف ماله، وأبو طلحة كان أكثر الأنصار بـ المدينة مالاً من نخل، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد (موقع استراتيجي) وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها، ويشرب من ماء فيها، وبها ثمار يانعة وماء طيب وموقع مهم، قال أنس: فلما أنزلت هذه الآية: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا رسول الله! إن الله تبارك وتعالى يقول: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] وإن أحب أموالي إلي بيرحاء، -أنفس مال عندي- وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله). ذهب إلى العالم ليتصرف له بالمال، لأن العالم يعرف أكثر من الغني أي المجالات أكثر أجراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بخ، ذاك مال رابح، ذاك مال رابح!) رجل ذهب أنفس ما عنده من المال أين الربح؟! وهذه القصة في البخاري. وروى أحمد وهو حديث صحيح أن أبا الدحداح باع حائطه كله بنخلة، لأنه سمع أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لرجل: (أعطها إياه بنخلة في الجنة) أي: ليتيم كان ينازعه فيها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لصاحب النخلة: (أعطه النخلة ولك نخلة في الجنة فرفض، فسمع أبو الدحداح فقال: أعطيك بستاني كله بهذه النخلة، فوافق -صفقة ممتازة ورابحة- فأعطاه وبادله، وجاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام قال: يا رسول الله! قد ابتعت النخلة بحائطي، قال: اجعلها له). إذاً: لا الثمن ولا السلعة، ما بقي عنده شيء، فقال عليه الصلاة والسلام: (كم من عذق رداح لـ أبي الدحداح في الجنة قالها مراراً) قال: فأتى امرأته فقال: (يا أم الدحداح! اخرجي من الحائط -من البستان- فإني قد بعته بنخلة في الجنة، فقالت: ربح البيع، أو كلمة تشبهها). إذاً الرجل والمرأة البيت المسلم تأسس على هذا الأساس، على أساس الأخذ بالميزان الشرعي، وبما عند الله لا بما عند الناس، فالمرأة قالت: صفقة رابحة، اعتبرتها رابحة ووافقت زوجها. أنت إذا ذبحت شاة وتصدقت بجزء منها وبقي لك جزء ما هو معيارك في النظر إلى الشيء الباقي والشيء الذاهب؟ الشيء الذي تصدقت به ذهب، والذي بقي هو ما عندك حقيقة، لكن عند الله تعالى المسألة تختلف، روى الترمذي عن عائشة: (أنهم ذبحوا شاة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عائشة: ما بقي منها؟ فقالت: ما بقي منها إلا كتفها -تصدقنا بكل الشاة المذبوحة ما أبقينا إلا الكتف، لأنها تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم يحب الكتف- فقال عليه الصلاة والسلام -العبارة العظيمة-: بقي كلها غير كتفها) وذلك لأن الكتف سيؤكل بعد قليل ويذهب، إذاً ما الذي بقي حقيقة؟ الذي تصدقوا به هو الذي بقي. إذاً: هو هذا المعيار الشرعي، قال عليه الصلاة والسلام لأصحابه: (أتدرون ما المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع فقال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار) عند الله هذا هو المفلس. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا بدينه فقهاء، وأن يجعلنا بأحكامه عالمين، وعلى سنة نبيه سائرين، وبحبله مستمسكين، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

حقيقة الربا خسارة

حقيقة الربا خسارة الحمد لله وحده، وأشهد أن لا إله إلا هو لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم، أنزل الميزان، وأنزل الكتاب ليحكُم الناس بالقسط، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. عباد الله: لازلنا نقول: إن معيار الكثرة والقلة يجب أن يضبط بميزان الشرع، يظن الناس أن الأكثرية على صواب، وبناءً على هذا قام مذهب الديمقراطية الأرضي، ولكن الله يقول: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116] {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103]. إذاً مبدأ الأكثرية لا يعني دائماً أن الحق معه، بل في الغالب أن الناس إذا تركوا إلى شهواتهم، فإن أكثرهم يختار الباطل، كما ذكر الله في كتابه، فليست الأكثرية دليلاً على الحق ولا على الصواب، لأن الناس في الغالب عبيد لأهوائهم وشهواتهم. مسألة الربا في المنظار الدنيوي زيادة وكثرة، وفي المنظار الشرعي قال عليه الصلاة والسلام: (الربا وإن كثر فإن عاقبته تصير إلى قل) حديث صحيح. أي بما يفتح على المرابي من المغارم والمهالك، وإن كان الربا زيادة في المال عاجلاً، فإنه يئول إلى نقص ومحق آجل. وروى هذا الحديث ابن ماجة بلفظ: (ما أحد أكثر من الربا، إلا كان عاقبة أمره إلى قلة) ينقص مال المرابي ويذهب ببركته. عندنا في الميزان الدنيوي وفي المنظور البشري المليون (70%) فيها زيادة سبعين ألفاً، قلت لرجل: أين فلان؟ قال: مقيم في الخارج، أينفق عليه أبوك؟ قال: لا. قلت: من ينفق عليه؟ قال: عنده ملايين الريالات يضعها في الخارج في البنوك، ويعيش من فوائدها، ينقلها بين المصارف أيهم يعطيه أكثر، وهو مرتاح البال، المال مضمون والفوائد تأتي، ويعيش في الخارج، يضع (7. 000. 000) ملايين مثلاً في البنك، يأتيه في السنة نصف مليون، ينفق في كل شهر (40. 000) ألف ريال ما يحتاج أكثر من هذا. {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة:275] والنبي صلى الله عليه وسلم بين عذابهم في البرزخ: (رجل يسبح في نهر الدم يأتيه شخص يلقمه حجراً، فيسبح ويعود ويلتقم الأحجار واحداً وراء واحد) وفي الآخرة يحارب الله تعالى ولا قدرة له بمحاربته، والله تعالى سيحربه ويغلبه وإلى جهنم وبئس المهاد، مع أنها في الدنيا وفي المنظور البشري زيادة مضمونة، ورأس المال مضمون وكل شيء مريح. مسألة العلم الشرعي، كلمة العلم عند الناس، إذا قلت: هذا قسم علمي، وهذه جامعة علمية، إلى أي شيء تنصرف أذهانهم؟ إلى العلم الدنيوي، أي: عالم ذرة، أو عالم فلك، أو عالم فيزياء، جامعة علمية، أي: هندسة أو طب، قسم علمي، أي: فيزياء وكيمياء ورياضيات، لكن هذه العلوم عند الله ظاهرية، قال الله: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7]. العلم الحقيقي إذاً هو العلم بالله وبالآخرة، وهذا الذي يُصلح السلوك، لكن علم الذرة والفلك لا يصلح السلوك، ولا يجعل صاحبه يعمل لليوم الآخر. هؤلاء المخترعون الغربيون كم منهم أسلم؟ قلة نادرة، الباقون اخترعوا وإلى جهنم وماتوا على الكفر، مع الأخذ ببقية الضوابط الشرعية من بلوغ الدعوة إلى آخره. إذاً العلم الحقيقي، والمستوى العالي من العلم، والعلم النفيس، هو العلم بالله وآياته وسنة نبيه واليوم الآخر، هذا هو العلم، الفقه في دين الله تعالى هو العلم، مع أنك لا ترى الناس عندهم هذا المفهوم بشكل واضح وصريح.

من هو الرقوب الحقيقي؟

من هو الرقوب الحقيقي؟ مثال أخير: نختم به كلامنا والموضوع لازال، ولازال فيه أشياء: الذي فقد ولده في الميزان الدنيوي والبشري، ماذا يعتبر؟ حلت به كارثة أو مصيبة، لكن الذي فقد ولده عند الله شيء آخر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما تعدون الرقوب فيكم؟ قلنا: الذي لا يولد له -الرقوب في اللغة: الرجل والمرأة الذي لم يعش لهما ولد، لأنه يرقب موته ويرصده خوفاً عليه- قال: ليس ذاك بالرقوب، ولكنه الرجل الذي لم يقدم من ولده شيئاً، قال: فما تعدون الصرعة فيكم؟ قلنا: الذي لا يصرعه الرجال، قال: ليس بذلك، ولكنه الذي يملك نفسه عند الغضب) رواه مسلم. نعود إلى قضية الرقوب، ولفظ أحمد: (شهد رجل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب، فقال: تدرون ما الرقوب؟ قالوا: الذي لا ولد له، فقال: الرقوب كل الرقوب ثلاثاً، الذي له ولد فمات -الأب- ولم يقدم منهم شيئاً) هذا هو الرقوب. وعن بريدة بن الحصيب، قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعهد الأنصار ويعودهم ويسأل عنهم، فبلغه عن امرأة من الأنصار مات ابنها وليس لها غيره، وأنها جزعت عليه جزعاً شديداً، فأتاها النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه، فلما بلغ باب المرأة، قيل للمرأة: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يدخل يعزيها، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أما إنه بلغني أنك جزعت على ابنك، فأمرها بتقوى الله وبالصبر، فقالت: يا رسول الله! ومالي لا أجزع، وإني امرأة رقوب لا ألد، ولم يكن لي غيره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الرقوب الذي يبقى ولدها، ثم قال: ما من امرئ أو امرأة مسلمة يموت لها ثلاثة أولاد يحتسبهم إلا أدخله الله بهم الجنة، فقال عمر وهو عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم: بأبي أنت وأمي واثنين، قال: واثنين) رواه الحاكم وهو صحيح الإسناد، وأخرجه البزار وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. فإذاً النبي عليه الصلاة والسلام يريد أن ينقل مفهوم كلمة الرقوب إلى شيء آخر غير الذي في الأذهان، أن الذي قدم شيئاً من الولد واحتسبه عند الله تعالى هو الرابح، والذي لم يقدم شيئاً من الولد في حياته فيفوته ثواب الصبر والتسليم عند فقد الولد، فنحن لا نتمنى فقد الأولاد ولا ندعو الله بأخذهم أبداً، وقد نهينا عن ذلك، ولكن إذا حصل نصبر، وماذا تكون نظرتنا لمن مات أولاده؟ أنه كاسب رابح إذا صبر وسلم لقضاء الله. أحد الإخوان حصل له حادث، وضربت سيارته من الخلف، فمات أولاده الثلاثة في المقعد الخلفي في حادث واحد مريع، حتى نزلوا يجمعون الجثث، وهذا مخ الرأس، وهذه الأشلاء والجثث، مصيبة واقعة وكارثة كبيرة جداً، كل الذكور ماتوا في حادث واحد وضربة واحدة، بالنسبة لنا كارثة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، لكن عند الله يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ذراري المؤمنين عند إبراهيم وسارة يكفلانهما لآبائهما) يوم القيامة إبراهيم يرجع كل واحد مات وهو صغير لأبيه وأمه، كما جاء في الحديث الصحيح أو كما قال صلى الله عليه وسلم. فكفالة إبراهيم وسارة -أو سارّة لأنها كانت تسر إبراهيم بجمالها من عظمه- أحسن من كفالتك. إذاً: القضية الفرق بين الميزان البشري وما عند الله، فلو أننا آمنا بهذه الأشياء ستتغير سلوكياتنا وأعمالنا وأحوالنا تغيراً جذرياً، وهذا هو المهم -أيها الإخوة- وهو الذي أردنا لفت النظر إليه. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من أصحاب البصيرة، اللهم اجعلنا من أصحاب البصيرة يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك الأمن والأمان لنا ولجميع المسلمين، اللهم احفظنا واحفظ أموالنا وأهلينا من كل سوء يا رب العالمين!

عبر وعظات من حياة الإمام الشافعي

عبر وعظات من حياة الإمام الشافعي لوجود القدوة في المجتمع أهمية بالغة، ودراسة حياة العظماء تيسر للجيل الاقتداء بهم، وسلوك سبيلهم. وللإمام الشافعي شخصية فذة، يجد المطالع لحياته كثيراً من شمائله وخصاله الحسنة، وهذه المادة تسلط الضوء على ولادة الشافعي ونشأته، وطلبه للعلم ونبوغه، وأخلاقه وثناء العلماء عليه، وغير ذلك من الجوانب المتعلقة به.

الشافعي وبعض ميزاته

الشافعي وبعض ميزاته الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. إخواني: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأحييكم في هذه الليلة، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيننا على عبادته وذكره وشكره، وأن يعفو عنا فيما قصرنا وأذنبنا في حقه سبحانه وتعالى. الحمد لله الذي جعل نجوم السماء هداية للحيارى في البر والبحر من الظلماء، وجعل نجوم الأرض -وهم العلماء- هداية من ظلمات الجهل والعمى، وفضل بعضهم على بعض في الفهم والذكاء، كما فضَّل بعض النجوم على بعض في الزينة والضياء، والصلاة والسلام على محمد خاتم الأنبياء، وعلى آله وصحبه الأتقياء، صلاةً وسلاماً دائمين إلى يوم الدين. وبعد أيها الإخوة! فإن موضوعنا في هذه الليلة عن شيء من العبر والعظات من حياة الإمام محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله تعالى، ومن حق سلفنا علينا أن نتعرف على سيرهم، وأن نقف مع أحداث حياتهم، وخصوصاً إذا كنا نريد طلب العلم، فإن القراءة في حياة أهل العلم لاشك أنها من الأمور التي تكسب طالب العلم أدباً وفقهاً وخشوعاً وإعجاباً بهؤلاء، والخير في هذه الأمة لا ينقطع ولله الحمد، ولكنه كان كثيراً في أولها. إن هذه الأمة جعلت عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء وفتنة، والمطلوب منا هو الصبر على طريقة النبي صلى الله عليه وسلم حتى نلقاه، والتفقه في هذا الدين؛ لأن التفقه في الدين من الواجبات. إن حياة هذا الإمام -رحمه الله تعالى- حياة حافلة، ولاشك أنه من المجددين، وهو من الأئمة الذين كانوا يهدون بأمر الله وصبروا على ذلك، ولاشك أنه كان للمتقين إماماً ولا يزال، وقد عدَّه كثير من أهل العلم من المجددين، ولاشك أنه أول من كتب في أصول الفقه في كتابه الرسالة، وكانت حياته -رحمه الله تعالى- مليئة بالعبر والعظات. وأما حياته، فإنه رحمه الله تعالى- كما هو معلوم لكثير من الإخوان- كان قد توفي في مصر، كما ذكر أهل العلم عنه في مسألة نسبه ومولده، فإنه قد ولد بـ غزة في سنة (150هـ) وحمل إلى مكة وهو ابن سنتين، وكان في أول عمره في عسقلان وبها ولد، وغزة وعسقلان شيء واحد، ولما بلغ سنتين حولته أمه إلى الحجاز، ودخلت به إلى قومها وهم من أهل اليمن؛ لأن أمه كانت أزدية من الأزد، فنزلت عندهم، فلما بلغ عشراً خافت على نسبه الشريف أن ينسى ويضيع، فحولته إلى مكة. وقد اتفق أهل العلم على أن الشافعي رحمه الله ولد سنة (150هـ) وهي السنة التي توفي فيها الإمام أبو حنيفة النعمان رحمه الله تعالى، وقال الشافعي عن نفسه: قدمت مكة وأنا ابن عشر أو شبهها، فصرت إلى نسيب لي إلى آخر القصة.

الشافعي قرشي مطلبي

الشافعي قرشي مطلبي لاشك أن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى من جهة النسب، كان عربياً قرشياً، ولاشك أن هذه ميزة، وهو يلتقي مع النبي صلى الله عليه وسلم في عبد مناف، فإن اسم الشافعي هو: محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف بن قصي إلى آخر النسب المعروف، فهو يجتمع مع الرسول صلى الله عليه وسلم في عبد مناف. إذاً: الشافعي قرشي، وهو ينسب إلى جده شافع بن السائب، وهو لاشك أنه مطلبي، وبما أنه قرشي فنحن نعلم ميزة قريش التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم (أن الله قد اصطفاهم من قبائل العرب) ونحن نعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال أيضاً: (تعلموا من قريش ولا تعلموها، وقدموا قريشاً ولا تؤخروها، فإن للقرشي قوة الرجلين من غير قريش) أي: في الرأي، وهذا من الأشياء التي تدل على نباهة هذا الإمام القرشي الشافعي، وأن عقله كان فيه من الكمال أمر عظيم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تعلموا من قريش ولا تعلموها). ولأن القرشي فيه من رجاحة العقل أكثر من غيره ولذلك كان الأئمة من قريش، فالشرط في الخليفة شرعاً أن يكون قرشياً، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قدموا قريشاً ولا تؤخروها، وتعلموا من قريش ولا تعلموها، ولولا أن تبطر قريش لأخبرتها مال لخيارها عند الله تعالى) وقد رواه الطبراني رحمه الله، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع، وقال النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً: (من أهان قريشاً، أهانه الله). وقريش أول الناس من العرب موتاً، وأسرعهم فناءً وزوالاً، فـ الشافعي رحمه الله إذاً هو إمام قرشي، وأمه من الأزد، والأزد من اليمن وهم أصل العرب، ولاشك أن أهل اليمن كثير منهم قد أقام في بلاد الشام وفي أرض فلسطين وغيرها. ومن طريف ما يحكى عن أم الشافعي من الحذاقة: أنها شهدت عند قاضي مكة هي وامرأة أخرى، فأراد القاضي أن يفرق بين المرأتين ليختبر صدق كل واحدة -يفرق بينهما فيسمع من هذه على حدة ومن الأخرى على حدة- فقالت له أم الشافعي: ليس لك ذلك؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة:282] إذاً لا يكون لك أن تفرق بيننا، قال ابن حجر رحمه الله: "وهذا فرع غريب واستنباط قوي". وبالنسبة لكنيته فإن الشافعي رحمه الله تعالى يكنى بـ أبي عبد الله، وقد تزوج، وله أولاد، واستدل عدد من أهل العلم بقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها) بأن الشافعي هو المجدد في المائة الثانية، وعمر بن عبد العزيز هو المجدد في رأس المائة الأولى. والبحث في موضوع التجديد طويل، والتجديد الصحيح أنه يتجزأ، فمن الناس من يبعثهم الله ليجددوا للأمة في الحديث، ومنهم من يجدد في الفقه، ومنهم من يجدد في أصوله، ومنهم من يجدد في الجهاد وهكذا، وقد تجتمع نواحي التجديد كلها في شخص واحد كما حصل في عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه. ومن الرؤى التي رؤيت ما جاء عن ابن عبد الحكم، وهو من مشاهير تلاميذه، قال: لما حملت أم الشافعي رأت كأن المشتري خرج منها حتى انقض بـ مصر، ثم وقع في كل بلد منه شظية، وهذا فيه إشارة إلى انتشار علم الشافعي رحمه الله تعالى في أرجاء المعمورة، وأن علمه سيدخل البلدان.

ولادة الشافعي في عسقلان وتربيته في الصحراء

ولادة الشافعي في عسقلان وتربيته في الصحراء وولادته بـ عسقلان أيضاً ميزة؛ لأنها من الأرض المقدسة التي بارك الله فيها، وذكرنا أنه حمل إلى مكة وهو ابن سنتين، وتوفي بـ مصر سنة (204هـ) وهو ابن (54) سنة في آخر يوم من شهر رجب سنة (204هـ). وكان من أمر الشافعي رحمه الله تعالى في بداية أمره أنه دخل في الصحراء وجلس إلى العرب يستمع منهم ومن أخبارهم، حتى بلغ عشرين سنة، وهذا كان من الأسباب التي جعلت لغته قوية جداً، وحفظ من الشواهد المهمة في تفسير النصوص ومعرفة التنزيل شيئاً كثيراً، حتى أنه كان يحفظ نحواً من عشرين ألفاً من الشواهد، ولاشك أن هذا قد ساعده كثيراً في مسألة فهم الكتاب والسنة. ولاشك أن طفولة الشخص من الأشياء التي تؤدي إلى نبوغه وبراعته، فنحن نأخذ من هنا درساً وفائدة، وهي أن الإنسان المسلم إذا أراد أن يعد ولده لأن يكون طالب علم، فلابد أن يعتني بنشأته، وأن يبذل من الأسباب ما يجعل هذا الولد من المتفوقين في هذا الجانب، ولاشك فإن طلب العلم الشرعي من أعظم الأمور. وكان الشافعي رحمه الله تعالى قد رزق فطنة كبيرة، وقد رزق أيضاً ذكاءً وحفظاً، حتى أنه قال عن نفسه: كنت أنا في الكُتاب أسمع المعلم يلقن الصبي الآية فأحفظها، ولقد كنت أسمع وهم يكتبون، فما أن يفرغ المعلم من الإملاء عليهم إلا وقد حفظت جميع ما أملى، فقال لي ذات يوم: ما يحل لي أن آخذ منك شيئاً- لا أخذ منك أجرة، وأنت بهذا النبوغ والحفظ- ثم لما خرجت من الكُتاب كنت أتلقط الخزف -وهو الآجر؛ الطين المشوي الذي يشوى لكي يكون صلباً- والدفوف وكرب النخل -أصول السعف الغلاظ من النخل -وأكتاف الجمال- وهي: العظام العريضة خلف المنكب وكانت تستعمل للكتابة- أكتب فيها الحديث، وأجيء إلى الدواوين فأستوهب منها الظهور -وهي الأوراق- وأكتب فيها، حتى كانت لأمي حباب فملأتها أكتافاً -والحباب: الجرار جمع جرة، كان عندها جرار فملأها من هذه الأشياء المكتوبة- ثم إني خرجت عن مكة، فلزمت هذيلاً في البادية أتعلم كلامها وآخذ طبعها، وكانت أفصح العرب، فبقيت فيهم سبع عشرة سنة، مع السنتين التي قضاها في مكة قارب العشرين، فرجع إلى مكة وقد حفظ شيئاً عظيماً.

تحول الإمام الشافعي من الشعر إلى الفقه

تحول الإمام الشافعي من الشعر إلى الفقه كان اهتمام الشافعي في بداية أمره بالأشعار، وهذا نجده موجوداً عند بعض الشباب، أنهم يستغلون حافظتهم في حفظ الأشعار، ويكون لهم اتجاهات أدبية، ولكن قد يقدر الله سبحانه وتعالى شيئاً يجعل اتجاه الشخص يتغير، وقد حدث للشافعي رحمه الله في هذه الفترة من حياته قصة كانت عبارة عن كلمة غيرت اتجاه هذا الرجل. كان السبب في اتجاه الشافعي من الشعر والأدب إلى الفقه أنه كان ذات مرة يسير على دابة، فتمثل ببيتٍ من الشعر، فقال له كاتب كان لوالد مصعب بن عبد الله الزبيري: مثلك يذهب بمروءته في هذا! أين أنت من الفقه؟ -قال له: إن هذا يذهب بمروءتك، تعلم الفقه -فهزته هذه الكلمات- وبعدها قصد الشافعي رحمه الله مسلم بن خالد الزنجي مفتي مكة فلازمه، ثم قدم المدينة على الإمام مالك رحمه الله تعالى، ودرس الموطأ عنده. إذاً توفيق الله عز وجل يكون من الأشياء التي تؤدي بطالب العلم إلى الاتجاه في طلب العلم، وقد يكون له اتجاهات أخرى. بعض الناس لهم اشتغال بعلوم دنيوية، أو بأدب وشعر، أو بتجارة وأمور من الوظائف ونحوها، فيقدر الله سبحانه وتعالى حادثة تجعل الشخص يتجه إلى الاهتمام بطلب العلم، ولذلك لابد أن يطلب الإنسان من الله عز وجل التوفيق دائماً.

رحلة الشافعي إلى مالك في المدينة

رحلة الشافعي إلى مالك في المدينة ولما قصد الشافعي رحمه الله مالكاً في المدينة، أخذ كتاباً معه من والي مكة إلى والي المدينة توصية، وجاء والي المدينة معه إلى مالك وهو متهيب، وهو يقول له: مالنا ولـ مالك، الشافعي يريد من الوالي أن يذهب معه إلى مالك ليكون هذا من نوع التوصية، فلما قصدوا مالكاً، تقدم رجلٌ فقرع الباب، فخرجت جارية سوداء، فقال لها الوالي: قولي لمولاك إني بالباب، قال: فدخلت فأبطأت ثم خرجت، فقالت: إن مولاي يقرئك السلام، ويقول: إن كانت مسألة فارفعها في رقعة يخرج إليك الجواب- هذا من عزة العلماء في ذلك الزمان- وإن كان للحديث- إن جئت لتسمع الحديث- فقد عرفت يوم المجلس فانصرف. " اليوم المخصص للحديث أنت تعرفه. فقال لها: قولي له: إن معي كتاب والي مكة إليه في حاجة مهمة، قال: فدخلت وخرجت وفي يدها كرسي، فوضعته، ثم إذا أنا بـ مالك قد خرج وعليه المهابة والوقار، وهو شيخ طويل مسنون اللحية -أي: طويل اللحية- فجلس وهو متطلس -لابس الطيلسان: كساء مدور لا أسفل له- فرفع إليه الوالي كتاباً، فبلغ إلى هذا: إن هذا رجلٌ من أمره وحاله، فتُحدثه وتفعل وتصنع، توصية للشافعي مكتوبة، فرمى مالك الكتاب من يده، ثم قال: سبحان الله! أو صار علم رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤخذ بالوسائل؟! -أي: الوساطات- قال: فرأيت الوالي وقد تهيبه أن يكلمه، فتقدمت إليه وقلت: أصلحك الله، إني رجل مطلبي، ومن حالي وقصتي، وأخبره، فلما سمع كلامي نظر إليّ ساعة، وكان عند مالك فراسة، فقال لي: ما اسمك؟ قلت: محمد، قال لي: يا محمد! اتق الله واجتنب المعاصي، فإنه سيكون لك شأن من الشأن، هذه من فراسة مالك رحمه الله تعالى، وفي رواية أنه قال له: إن الله عز وجل قد ألقى على قلبك نوراً فلا تطفئه بالمعاصي. وطلب الشافعي من مالك أن يقرأ عليه، قال له: لابد لك من مقرئ، لا تقرأ مباشرة على الشيخ، تقرأ على تلميذ الشيخ الذي ضبط كتاب الشيخ، فقال الشافعي -التمس من مالك - قال: اسمع مني ولو صفحة، فإن أعجبتك أواصل، وإلا فلا، فأمره أن يقرأ، قال: فبدأت أقرأ كتاب مالك رحمة الله عليه، فكلما تهيبت مالكاً وأردت أن أقطع القراءة وأقف، أعجبه حسن قراءتي وإعرابي، فيقول: يا فتى! زد، حتى قرأته في أيام يسيره، ثم أقمت بـ المدينة حتى توفي مالك بن أنس. ثم ذهب الإمام الشافعي رحمه الله تعالى إلى اليمن. إذاً: جلس الإمام الشافعي إلى الإمام مالك، وسمع منه الموطأ، وهذا فيه فائدة وهي: 1 - الحرص على التلقي من الأكابر، طلب ما أمكن من أهل العلم الكبار، فإن لم يكن، فطلبة العلم الآخذين عن العلماء، وهذا أمر مهم جداً. 2 - عدم إذلال العلم، وإنما يعز: ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ولكن للأسف! فإن كثيراً من حملته لا يقدرون العلم حق قدره، فيضعونه عند الأسافل، ويكونون مطية لغيرهم من الفسقة والفجرة. 3 - أن من الأمور المهمة لطالب العلم الاعتناء بالإعراب، فإنه إذا قرأ على الشيخ ونحوه، وكان يلحن في قراءته، يرفع المنصوب، ويخفض المرفوع ونحو ذلك، كان ذلك منفراً للشيخ، حتى لا يريد أن يسمع منه شيئاً. ثم انظروا -أيها الإخوة- إلى قدر الله سبحانه وتعالى الذي جعل الإمام الشافعي ينصرف من الشعر إلى الفقه، من جراء تلك الكلمة التي سمعها، فرضي من دينه ودنياه أن يكون معلماً، وأن تكون القضية قضية شعر، فوقر في قلبه ذلك الكلام، فالإنسان إذا وجد من يعظه ويوجهه فعليه أن يتوجه، ولاشك أن من صفات المسلم أن يقبل النصيحة.

تصدر الإمام الشافعي للفتيا

تصدر الإمام الشافعي للفتيا كان الإمام الشافعي رحمه الله تعالى منذ صغره معروفاً بالنباهة، حتى قال مالك: "ما يأتيني قرشي أفهم من هذا الفتى". وكان مسلم بن خالد الزنجي يقول للشافعي: "أفتي يا أبا عبد الله، فقد آن لك والله أن تفتي"، وهو ابن خمس عشرة سنة، وكان قد لقي مالكاً وعمره ثلاث عشرة سنة. وقال إبراهيم بن محمد بن عباس: كنت في مجلس ابن عيينة والشافعي حاضر، فحدث ابن عيينة عن الزهري بحديث صفية والرجلين، وفيه: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم) فقال ابن عيينة للشافعي: ما فقه هذا الحديث يا أبا عبد الله؟ وكان إذا جاءه شيء من التفسير أو الفتوى يسأل عنها التفت إلى الشافعي، فقال: سلوا هذا. وقد أثنى العلماء عليه ثناءً عظيماً، وأثنى عليه من الأئمة الكبار يحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، حتى قال يحيى بن سعيد القطان: "إني لأدعو الله للشافعي في كل صلاة، لما فتح الله عليه في العلم ووفقه للسداد فيه".

سبب تأليف الشافعي لكتاب الرسالة

سبب تأليف الشافعي لكتاب الرسالة وأما بالنسبة لـ عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله تعالى فإنه قد كتب إلى الشافعي وهو شاب أن يصنع له كتاباً في معاني القرآن يجمع فيه قبول الأخبار، وحجية الإجماع، وبيان الناسخ من المنسوخ في القرآن والسنة، فكانت رسالة عبد الرحمن بن مهدي للشافعي هي السبب في تأليف الشافعي كتاب الرسالة المعروف والمشهور، وهو أول كتاب في أصول الفقه. ويعتبر الشافعي رحمه الله هو أول من كتب في هذا العلم، فكان جواب الشافعي لـ عبد الرحمن بن مهدي هو كتاب الرسالة المجلد المعروف المطبوع الموجود، فلما وصل الكتاب إلى عبد الرحمن بن مهدي -وكان من كبار الأئمة- قال: "ما أصلي صلاة إلا وأنا أدعو للشافعي فيها". وقال: "لما نظرت الرسالة للشافعي أذهلتني؛ لأنني رأيت كلام رجل عاقل فصيح ناصح، فإني لأكثر الدعاء له".

مكانة الشافعي عند أهل البدع

مكانة الشافعي عند أهل البدع أيضاً كان المبتدعة يهابون الإمام الشافعي ويعرفون مكانته، فهذا بشر المريسي -وكان في بداية أمره على السنة ثم انحرف، نسأل الله الهداية والثبات- وكان بشر يرافق الشافعي، كان زميلاً له وكان يعرفه، ولكنه انحرف وصار من أهل البدعة، ولذلك لما جاء بشر المريسي وكان عنده أشياء من علم الكلام، قال بعضهم: كنا لا نقدر على مناظرته، فقدم الشافعي فأعطانا كتاب الشاهد واليمين، الحكم والقضاء بالشاهد ويمينه، فدرسته في ليلتين، ثم تقدمت إلى حلقة بشر، فناظرته فيه فقطعته- أي: أسكته وأفحمته- فقال بشر: "ليس هذا من كيسك، هذا من كلام رجل رأيته بـ مكة، معه نصف عقل أهل الدنيا"، يقصد الشافعي.

وصف بعض العلماء للشافعي

وصف بعض العلماء للشافعي

وصف يحيى بن أكثم للشافعي

وصف يحيى بن أكثم للشافعي وصفه يحيى بن أكثم فقال: كنا معاً عند محمد بن الحسن في المناظرة، فكان الشافعي رجلاً قرشي العقل والفهم والذهن، صافي العقل والفهم والدماغ، سريع الإصابة، ولو كان أمعن في الحديث لاستغنت به أمة محمد صلى الله عليه وسلم عن غيره من العلماء، ومعروف أن الشافعي رحمه الله لم يكن من المكثرين في جمع الحديث، وإن كان جمع في أشياء وله المسند، ولكنه لم يكن مثل الإمام أحمد رحمه الله الذي كان من المكثرين من جمع الحديث.

وصف أحمد بن حنبل للشافعي

وصف أحمد بن حنبل للشافعي قال أحمد رحمه الله يصف الشافعي: قدم الشافعي فوضعنا على المحجة البيضاء. يقول عبد الله بن أحمد: جاء الشافعي إلى أبي زائراً وهو عليل يعوده - الشافعي يعود أحمد مع أن أحمد من تلاميذ الشافعي، لكن الشافعي رحمه الله كان يعود تلاميذه- فوثب أبي إليه، فقبل ما بين عينيه، وأجلسه في مكانه وجلس بين يديه، مع أن أحمد كان مريضاً، فلما قام ليركب، راح أبي فأخذ بركابه ومشى معه. وكان أحمد رحمه الله حريصاً على مجلس الشافعي كثيراً، وعلى الجلوس إليه، وكان ربما يفوت مجالس علماء ومحدثين كبار كـ ابن عيينة من أجل أن يجلس عند الشافعي، حتى قال بعض أهل العلم: حججت مع أحمد بن حنبل فنزلت في مكان واحد معه، فخرج باكراً وخرجت بعده، فدرت المسجد فلم أجده في مجلس ابن عيينة ولا غيره، حتى وجدته جالساً مع أعرابي، فقلت: يا أبا عبد الله! تركت ابن عيينة وجئت إلى هذا؟ فقال لي: اسكت، إنك إن فاتك حديث بعلو وجدته بنزول، لو فاتك ابن عيينة -تأخذ حديث ابن عيينة من تلاميذ ابن عيينة - وإن فاتك عقل هذا -أي: الشافعي - أخافك ألا تجده، ما رأيت أحداً أفقه في كتاب الله من هذا الفتى، قلت: من هذا؟ قال: محمد بن إدريس الشافعي. وقال أحمد رحمه الله: كان الفقه قفلاً على أهله، حتى فتحه الله بـ الشافعي، وقال أحمد أيضاً: ما أحدٌ مس محبرة ولا قلماً إلا وللشافعي في عنقه منة، وقال أحمد أيضاً: لولا الشافعي ما عرفنا فقه الحديث، فـ الشافعي له فضل على أهل الحديث بتبيان معاني الحديث، والناسخ والمنسوخ، والجمع بين الأحاديث المتعارضة، وكان بعض العلماء مثل يحيى بن معين يستغربون من إقبال أحمد على الشافعي، حتى أن يحيى بن معين -مرةً- بلغه أن الإمام أحمد مشى مع بغلة الشافعي فأرسل إليه يعاتبه، فأرسل أحمد رداً يقول لـ يحيى: لو مشيت من الجانب الآخر كان أنفع لك. أي: لو مشيت أنت من الجانب الآخر من البغلة كان أنفع لك. فـ الشافعي رحمه الله رزق منهجاً سليماً، وفكراً ثاقباً، وحصافة وفطنة، وكانت أصوله في غاية الجودة، فسهَّل على أهل الحديث كثيراً فهم الأحاديث، صحيح أنه ما كان واسعاً جداً في طلب الحديث وجمعه، ولكن إذا بلغه يعرف وجهه، وكثيراً ما كان يقول: إذا صح الحديث هذا فأنا أمشي عليه؛ لأنه لم يكن يعرف صحته في بعض الأحيان، ولكن من تجرده وإنصافه- كما سيأتي- أنه كان يتبع الحديث.

وصف الربيع بن سليمان للشافعي

وصف الربيع بن سليمان للشافعي قال الربيع بن سليمان: "لو وزن عقل الشافعي بنصف عقل أهل الأرض لرجحهم، ولو كان من بني إسرائيل لاحتاجوا إليه". وكان الشافعي رحمه الله سبباً في توجيه بعض طلبة العلم المشتغلين بعلم الكلام إلى اتباع السنة، منهم الأئمة الكبار، مثل: أبي ثور رحمه الله تعالى، والحسين بن علي الكرابيسي، أبو ثور من كبار الفقهاء، وكذلك الحسين بن علي الكرابيسي كان أول ما اشتغل هؤلاء بعلم الكلام، وكانوا ينبزون بأهل الحديث. ولما جاء الشافعي إلى العراق، قال أبو ثور للحسين بن علي الكرابيسي -وكانا من أهل الرأي، وربما تهكما بأهل الحديث، واعتبرا أن الرأي الذي عندهما هو القوي، وهو العلم- قال أبو ثور للكرابيسي: ورد رجلٌ من أهل الحديث يتفقه، فقم بنا نسخر منه -لأنهم يقولون: هؤلاء حملة آثار لا يفهمون شيئاً، فقط يحملون النصوص لكن لا يفهمونها- فذهبنا إليه، فسأله الحسين عن مسألة، فلم يزل يقل: قال الله، قال رسول الله، حتى أظلم عليهم البيت، فتركا ما كانا عليه واتبعاه. تركا قضية الرأي واشتغلا بالنصوص والآثار، فكان له فضل على مثل هؤلاء. وكان بليغاً جداً في المناظرة، حتى قال بعضهم: لو أن الشافعي ناظر على هذا العمود الذي من حجارة بأنه من ذهب لأقنعه بأنه من ذهب، وستأتي بعض قصص مناظراته.

وصف يونس بن عبد الأعلى للشافعي

وصف يونس بن عبد الأعلى للشافعي ومن الأمور المهمة التي حصلت للشافعي الجمع بين الفقه والحديث، وكان عذب المنطق جداً، حتى قال يونس بن عبد الأعلى: كانت ألفاظ الشافعي كأنها سكر، وقال: كنا إذا قعدنا حوله لا ندري كيف يتكلم، كأنه سحرٌ، وكان اطلاعه في الأنساب واسعاً جداً، حتى أن ابن هشام النحوي صاحب المغازي جاء فجلس إلى الشافعي، فذاكره أنساب الرجال، هذا يذكر نسب رجل، وهذا يذكر آخراً، فقال له الشافعي بعد أن تذاكرا: دع عنك أنساب الرجال فإنها لا تذهب عني وعنك، وخذ بنا في أنساب النساء، قال: ندخل في أنساب النساء، فلانة بنت من؟ قال: فلما أخذ فيها قعد هشام، أي: بقي هشام ساكتاً والشافعي مستمر في سرد أنساب النساء.

وعظ الشافعي وعبادته

وعظ الشافعي وعبادته كان رحمه الله أيضاً واعظاً جيداً، وهذه من الأمور المهمة لطالب العلم، أن يكون بالإضافة لاشتغاله بالعلم مجيداً للوعظ؛ لأن الناس قد لا تتحرك قلوبهم بالمسائل العلمية، فلابد أن تُحرَّك بالوعظ، فقال بحر بن نصير: كنا إذا أردنا أن نبكي قلنا: اذهبوا إلى هذا المطلبي نقرأ القرآن، فإذا أتيناه استفتح القرآن، فتساقط الناس بين يديه، يكثر عجيجهم بالبكاء من حسن صوته، فإذا رآهم كذلك أمسك عن القراءة، وهذه كانت طريقة السلف حتى لا يصاب بالعجب، الواحد منهم إذا أجاد في الشيء، فرأى إعجاب الناس توقف وأمسك عنه. وكان عابداً، وكان يختم القرآن ختمات كثيرة، وكان يقسم الليل ثلاثة أقسام: الثلث الأول للاشتغال بالعلم، والثلث الثاني للصلاة، والثلث الثالث للنوم، ويقوم إلى صلاة الفجر نشيطاً. ومسألة أن يكون طالب العلم مشتغلاً بالعبادة مسألة مهمة جداً، وهذا درس عظيم وفائدة بليغة، فإن بعض الناس إذا اشتغلوا بطلب العلم نسوا العبادة، فصارت عبادتهم عادية جداً، كعبادة العوام أو أقل، بل إن بعض العوام في العبادة أحسن من بعض الذين يشتغلون بالقراءة أو تحصيل العلم، وهذا راجع إلى خلل في المنهج، ولذلك لابد أن يكون طالب العلم له حظ كبير من العبادة. والشافعي رحمه الله وفقه الله لأمورٍ كثيرة، حتى قال بعض أهل العلم: اجتمع للشافعي من الفضائل ما لم يجتمع لغيره، فأول ذلك: 1 - شرف نسبه، وأنه من رهط النبي صلى الله عليه وسلم. 2 - صحة دينه وسلامة معتقده من الأهواء، وسخاوة نفسه. 3 - معرفته بصحيح الحديث من سقيمه، وبالناسخ والمنسوخ. 4 - حفظه لكتاب الله تعالى ولأخبار النبي صلى الله عليه وسلم، ومعرفته لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء، وتأليف الكتب. 5 - وأنه اتفق له من الأصحاب ما لم يحصل لغيره.

بعض تلاميذ الشافعي

بعض تلاميذ الشافعي من فضل الرجل أن يكون تلاميذه أجلاء، فإذا كان تلاميذه أجلاء دل ذلك على جلالته، فمن هم تلاميذ الشافعي؟ 1 - أحمد بن حنبل رحمه الله. 2 - سليمان بن داود الهاشمي. قال الإمام أحمد فيه: "يصلح للخلافة"، أي: في العلم والتقوى والورع والنسب يصلح للخلافة. 3 - الحميدي. 4 - الكرابيسي. 5 - البويطي. 6 - حرملة. 7 - ابن عبد الحكم وكان من مشاهير تلاميذه، فيوفق الله بإخلاص صاحب العلم بتلاميذ أقوياء يحفظون علمه وينشرونه، فيزداد أجره.

موسوعية الشافعي في جميع الفنون

موسوعية الشافعي في جميع الفنون والشافعي رحمه الله -وهذه فائدة لطالب العلم مهمة- لم يكن مقتصراً على فن واحد من فنون العلم، وإنما كان متوسعاً في جميع الفنون، ولذلك كان يجلس في حلقته إذا صلى الصبح، فيجيء أهل القرآن فيسألونه، فإذا طلعت الشمس قاموا، وجاء أهل الحديث فيسألونه عن معانيه وتفسيره، فإذا ارتفعت الشمس قاموا، واستوت الحلقة للمناظرة والمذاكرة، فإذا ارتفع النهار تفرقوا، وجاء أهل العربية والعروض والشعر والنحو، حتى ينتصف النهار فيذهب إلى منزله. قارنوا -الآن- بين طريقة السلف في طلب العلم، وبين الطريقة الحديثة التي تجعل الواحد يتخصص في فرع دقيق ولا يدري عن الأشياء الأخرى، فترى الواحد يتخصص في (الطب) مثلاً، ثم إنه لا يدري عن بقية العلوم حتى الدنيوية، وأكثرها عيباً أن يكون جاهلاً بالأمور الشرعية، وإذا تخصص تخصصاً دقيقاً في شيء نسي الأشياء الأخرى، فالطريقة الحديثة في التخصص من سلبياتها أنها تمنع الشخص عن الإسهام والقراءة في المجالات الأخرى، ويقول: هذا تخصصي ليس لي علاقة بغيره، الهمم ضعفت؛ ولذلك صار الاتجاه العام أن يكون الإنسان موسوعياً في الطلب صعباً، إلا على من وفقه الله عز وجل، فقد تجد الشخص مبرزاً في الحديث لكنه جاهل في التفسير والفقه، وقد تجد آخر عنده علم بالفقه ومتوسع فيه، ولكن عنده جهل عجيب بالحديث، وقد يستشهد بالأحاديث الضعيفة والموضوعة. لكن طريقة السلف في طلب العلم كانت طريقة موسوعية، فلم يكن عندهم تخصص ينسيهم بقية مجالات العلم وفروعه، حتى أن بعض أهل العلم كانوا يرون بعض اللغويين في مجلس الشافعي، يقولون لهم: أنتم لستم بطلبة علم ولا بأهل علم فلماذا تأتون؟ يقولون: نتعلم منه اللغة؛ لأن الشافعي رحمه الله كان يجلس المجالس الطويلة جداً، لا يسمع منه لحن واحد أو خطأ.

شغف الشافعي بطلب العلم

شغف الشافعي بطلب العلم كذلك من الأمور المهمة أن يكون عند طالب العلم شغف بطلب العلم، إذا لم يكن عنده شغف بالطلب فلن يحصِّل، والشغف هو الذي يجعل الإنسان منهمكاً بالشيء ومشتغلاً به. قال الشافعي عن نفسه: أسمع بالحرف مما لم أسمعه -أي: تعلمت فائدة جديدة أو شيئاً جديداً ما هو وقع الفائدة عليك إذا سمعت شيئاً جديداً، وتعلمت مسألة ما كنت تعلمها من قبل؟ كيف تشتاق لهذه الفائدة؟ - قال الشافعي: فتود أعضائي -اليد والرجل وغيرها- أن لها أسماعاً تتنعم به مثلما تنعمت به الأذنان، فقيل له: كيف حرصك عليه؟ قال: حرص الجموع المنوع. مثل الذي يهتم بالمال يجمع ويمنع، إذا دخل الشيء لا يخرج ودائماً يدخل، لا يذهب منه شيء، فكان الشافعي في العلم جموعاً منوعاً، يجمع ولا يخرج منه شيئاً، بمعنى: لا ينساه ويذهب عنه. فقيل له: كيف طلبك للعلم؟ قال: كطلب المرأة المضلة ولدها ليس لها غيره. أي: كيف تبحث عنه؟

الشافعي وانقياده لنصوص الكتاب والسنة

الشافعي وانقياده لنصوص الكتاب والسنة هل كان الشافعي رحمه الله متعالياً؟ هل العلم الكثير الذي جمعه أدى به إلى الكبر كما يحدث عند البعض إذا اجتمع له شيء من أطراف العلم، أحس بأنه قد وصل، ويتعالى على الناس ويريد أن ينسب إليه العلم، ويقال: هذا كلام فلان، أما الشافعي رحمه الله، فإنه سُمع وهو مريض، وقد ذكر ما جمع من الكتب، فقال: وددت لو أن الخلق تعلموه ولا ينسب إليّ منه شيء، وقال: وددت أن كل علم أعلمه يعلمه الناس أؤجر عليه ولا يحمدونني. لم يكن علمه الواسع سبباً في غروره بمؤلفاته وكتبه؛ بل كان يقول: لقد ألفت هذه الكتب، ولم آلو فيها، أي: اعتنيت واجتهدت، ولابد أن يوجد فيها الخطأ؛ لأن الله تعالى يقول: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82] يقول: لابد أن هناك أخطاء، فما وجدتم في كتبي هذه مما يخالف الكتاب والسنة، فقد رجعت عنه. وقال: إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول صلى الله عليه وسلم فقولوا بها ودعوا ما قلته. وكان يقول: كل ما قلت فكان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف قولي مما يصح، فحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى. انظروا الآن -أيها الإخوة- إلى متعصبة المذاهب، يقول أحدهم للآخر: إلى أين؟ قال: أسافر. قال: ما هو مذهبك؟ قال: أبي حنفي وأمي شافعية، قال: سلم لي على أمك فقط، أصبح تعصب الناس للمذاهب شيئاً عجيباً، أين كلام الشافعي رحمه الله ومبادئه ومنهجه من المتعصبة الذين كانوا يقولون: نزوج فلاناً؛ لأنه على مذهبنا ولا نزوج فلاناً؟ لا يمكن أن تكون ابنتنا من مذهبنا تحت رجل آخر مذهبه مختلف، لا يمكن أن نعطي حنفية لشافعي، لكن العكس، يقولون: يمكن تنزيلاً لهم منزلة أهل الكتاب، نأخذ من نسائهم؟ لكن لا نعطيهم من نسائنا، أين هذا التعصب من كلام الأئمة الذين كانوا يربطون الناس بالكتاب والسنة؟ وهذه من الفوائد العظيمة: أن طالب العلم يربط الناس بالكتاب والسنة، لا بقول فلان وعلان، وإنما بالأدلة الشرعية. يقول: إذا وجدتم سنة صحيحة فاتبعوها ولا تلتفتوا إلى قول أحد. وكان يقول: كل مسألة تكلمت فيها، وصح الخبر فيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أهل النقل بخلاف ما قلت، فأنا راجع عنها في حياتي وبعد موتي. وسأل رجل الشافعي عن مسألة فأفتاه، وقال الشافعي: قال النبي صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، فقال الرجل: أتقول بهذا؟ قال: يا هذا! أرأيت في وسطي زناراً -والزنار كان من لباس أهل الذمة، مشروط عليهم لبس الزنار، ولا يلبسوا عمائم المسلمين- أرأيتني خارجاً من كنيسة؟ أقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم، وتقول لي: أتقول بهذا؟ أي: واعجباً لك! هل أسأل أنا آخذ بالحديث أو لا، الحديث حجة بنفسه. وكان يقول: أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني، إذا رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثاً ولم أقل به. وكان يقول هذا الإمام المطلبي: إذا صح الحديث فهو مذهبي. وكان يقول: إذا صح الحديث فقل لي أذهب إليه. يقول الشافعي لـ أحمد؛ لأن الشافعي يعرف أن أحمد أكثر اشتغالاً منه بجمع الحديث: "إذا صح الحديث فقل لي أذهب إليه حجازياً كان أو عراقياً أو شامياً أو مصرياً؛ لأن الصحابة تفرقوا في الأمصار، فصار بعضهم في العراق، وبعضهم في الشام، وبعضهم في مصر، وبعضهم في اليمن، وبعضهم في الحجاز، وصارت الأحاديث موجودة. يقول لـ أحمد: الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرني عنه وأنا أتبعه، أياً كان مصدره، سواءً مصدره الصحابة الذين في الحجاز، أو الشام، أو غيرهم. وكان رحمه الله تعالى يعلق القول في كثير من الأحيان على ثبوت الحديث، فكان يقول مثلاً: إن صح الحديث في الغسل من غسل الميت قلت به. وكان يقول: إن صح حديث ضباعة في الاشتراط في الحج، قلت به، ضباعة رضي الله عنها خافت أن تحتبس، فاستأذنت النبي صلى الله عليه وسلم أن تشترط، فأذن لها النبي صلى الله عليه وسلم بالاشتراط، أي: إذا وصل الإنسان إلى الميقات ينوي الإحرام، ويقول: فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني، وإذا حبسه الحابس هذا، فإنه يجوز له أن يحل دون أن يكون عليه دم، ولا يلزمه شيء، فكان الشافعي رحمه الله لم يثبت عنده حديث ضباعة هذا، ولكن لإنصافه قال: إن صح حديث ضباعة في الاشتراط قلت به. حتى أن بعض العلماء ألف كتاباً سماه: المنحة فيما علق الشافعي القول فيه على الصحة، والمؤلف هو ابن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى. كان الشافعي يوصي بالحديث وبأصحاب الحديث، يقول: "عليكم بأصحاب الحديث، فإنهم أكثر صواباً من غيرهم".

عقيدة الشافعي وموقفه من أهل الكلام

عقيدة الشافعي وموقفه من أهل الكلام وكان حسن المعتقد، سواءً كان في الإيمان أو في الأسماء والصفات أو في القضاء والقدر، كان يقول: (الإيمان قول وعمل يزيد وينقص)، وكان شديداً على أهل البدعة، بعض الناس -الآن- يطلبون الفقه، لكن ليس عندهم مواقف مفاصلة لأهل البدعة، قال الشافعي في حكمه في أهل الكلام: "أن يضربوا بالجريد والنعال، ويحملوا على الإبل، ويطاف بهم في العشائر والقبائل، وينادى عليهم هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام".

الشافعي وبعض مناظراته وأخلاقه فيها

الشافعي وبعض مناظراته وأخلاقه فيها وبالنسبة للأخلاق: فإن الشافعي رحمه الله كانت أخلاقه عالية جداً، وقال عنه ولده: ما سمعت أبي يناظر أحداً قط فيرفع صوته، وكان من خلقه أنه يحب أن تكون الغلبة لخصمه، وكان يقول: "ما عرضت الحجة على أحد فقبلها إلا عظم في عيني، ولا عرضتها على أحد فردها إلا سقط من عيني". ويقول: "ما ناظرت أحداً قط على الغلبة -ما دخلت في مناظرة مع أحد لكي أتغلب عليه- وإنما لكي يتبين الحق". وكان يقول: "ما ناظرت أحداً فأحببت أن يخطئ". وهذه مرتبة لا يصل إليها الإنسان بالسهولة مطلقاً. وقال: "ما ناظرت أحداً قط إلا على النصيحة". كثير من الشباب -الآن- الذين يدخلون في نقاشات فقهية، يكون قصد الواحد منهم أن يتغلب على الآخر، وأن يظهر خطأ الآخر، وأن يظهر صوابه وفضله، فأين هؤلاء من أخلاق الشافعي رحمه الله؟ يجب علينا أننا إذا دخلنا في مناقشات علمية أن يكون قصد الواحد منا ظهور الحق، ولا فرق أن يكون ظهر الحق منه أو من الآخر، هذا ما ينبغي أن تكون عليه أخلاق طلبة العلم، يقول الشافعي رحمه الله: "ما ناظرت أحداً قط إلا أحببت أن يوفق ويسدد، وما ناظرت أحداً إلا ولم أبالِ بيَّن الله الحق على لساني أو لسانه.

مناظرته مع من يقول بعدم جواز الدعاء في الصلاة بغير القرآن

مناظرته مع من يقول بعدم جواز الدعاء في الصلاة بغير القرآن كان الشافعي رحمه الله كان له مناظرات، فكان من مناظراته لمن كان يمنع الدعاء بشيء من خارج القرآن في الصلاة، كان بعض أهل العلم يرون أن الدعاء في الصلاة لابد أن يكون من القرآن: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201] وأنك إذا دعوت بشيء من خارج القرآن لا يجوز لك ذلك، فناظر الشافعي واحداً من هؤلاء، وقال له: ماذا تقول في الصلاة بغير ما في القرآن؟ قال: تفسد صلاته، وإن دعا بما في القرآن لا تفسد. قال: فقلت له: أرأيت إن قال: أطعمنا بقلاً وقثاءً وفوماً وعدساً وبصلاً، ما هو الحكم؟ قال: تفسد صلاته، قال: أنت تقول بفسادها، وأنت تقول: يجوز أن تدعو بما في القرآن، قال الآخر: فماذا تقول أنت؟ قال الشافعي: ما يجوز أن يدعو به المرء في غير الصلاة جاز أن يدعو به في الصلاة؛ لأن المخاطب في ذلك ليست إلى الآدميين- المصلي إذا دعا لا يتكلم مع الآدميين وإنما يدعو ربه- وإنما الخبر أنه لا يصلح في الصلاة شيء من كلام الناس، هذا الذي يفسدها؛ أن يكلم الناس بعضهم بعضاً، وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم لقوم وسماهم بأسمائهم. النبي صلى الله عليه وسلم قنت ودعا على أناس وسماهم بأسمائهم، وعلى عصية ورعل وذكوان، ودعا وقال: اللهم أنجي الوليد بن الوليد وغيره ممن دعا لهم النبي صلى الله عليه وسلم، فسماهم بأسمائهم، ونسبهم إلى قبائلهم. وهذا كله يدل على أن المحرم من الكلام إنما هو كلام الناس بعضهم بعضاً في حوائجهم، فأما ما دعا به المرء ربه تبارك وتعالى وسأله إياه، فهذا لا أعلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من اختلف فيه. والصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (وأما السجود فاجتهدوا فيه من الدعاء، فإنه قمن- أي: حري- أن يستجاب لكم) ولم يخص النبي صلى الله عليه وسلم دعاء دون دعاء، وكلما كان يجوز أن يسأل الرجل ربه في غير الصلاة، فهو جائز في الصلاة.

مناظرة الشافعي مع الرشيد

مناظرة الشافعي مع الرشيد وكذلك من الأشياء التي حصلت له رحمه الله تعالى، لما دخل هو ورجل آخر على الرشيد، فلما استويا بين يديه، قال: يا أبا عبد الله! تسأل أو أسأل؟ قال: قلت: ذاك إليك، قال: فأخبرني عن صلاة الخوف أواجبة هي؟ قلت: نعم. قال ولم؟ فقلت: لقول الله عز وجل: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} [النساء:102] فلتقم: هذا فعل أمر، فدل على أنها واجبة. قال: وما تنكر من قائل قال لك: إنما أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم وهو فيهم، فلما زال عنهم النبي صلى الله عليه وسلم زالت تلك الصلاة: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ} قال: فقلت: وكذلك قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103] فلما أن زال عنهم النبي صلى الله عليه وسلم زالت عنهم الصدقة؟ - لما ذهب النبي صلى الله عليه وسلم تذهب الزكاة- فقال: لا. قلت: وما الفرق بينهما، والنبي صلى الله عليه وسلم هو المأمور بهما جميعاً؟ قال: فسكت. أي: الرشيد.

مناظرة بين الشافعي وإسحاق بن راهويه

مناظرة بين الشافعي وإسحاق بن راهويه حصلت مناظرة بين الإمام الشافعي رحمه الله وإسحاق بن راهويه والإمام أحمد موجود يسمع في مسجد الخيف بـ منى، مناظرة مشهورة جداً، وذلك أن الموضوع الذي أثير هو: ما حكم شراء بيوت مكة وبيعها وإجارتها؟ فكانت فتوى الشافعي الجواز، إسحاق بن راهويه يسأله، الشافعي يفتي بالجواز، فقلت: إي يرحمك الله، وجعلت أذكر له الحديث عن عائشة وعبد الرحمن وعمر وأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ومن كري بيوت مكة، وهو ساكت يسمع وأنا أسرد عليه، فلما فرغت سكت ساعة، وقال: يرحمك الله -الآن إسحاق يحتج بكلام بعض الصحابة على عدم جواز ذلك في مكة وهذه مسألة خلافية عند أهل العلم على أية حال- فقال الشافعي: يرحمك الله، أما علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (هل ترك لنا عقيل من رباع أو دار)؟ لأنه تصرف فيها قبل فتح مكة وباعها- قال: فوالله ما فهمت عنه ما أراد بها، قال إسحاق: أتأذن لي في الكلام؟ فقال: نعم. فقلت: حدثنا يزيد بن هارون، عن هشام، عن الحسن أنه لم يكن يرى ذلك، وأخبرنا أبو نعيم، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم أنه لم يكن يرى ذلك. فقال الشافعي رحمه الله: أقول لك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت تقول: عطاء وطاوس وإبراهيم والحسن، هل لأحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة؟ ثم قال الشافعي مناظراً إسحاق: يقول الله عز وجل: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} [الحشر:8] المهاجرون من أين أخرجوا؟ من مكة، نسب الدار إلى المالكين أو إلى غير المالكين؟ قال إسحاق: إلى المالكين، قال الشافعي: فقوله عز وجل أصدق الأقاويل، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من دخل دار أبي سفيان فهو آمن) فنسب رسول الله صلى الله عليه وسلم الدار إلى مالك أم إلى غير مالك؟ قال إسحاق: نسبها إلى مالكها. فقال الشافعي: وقد اشترى عمر بن الخطاب دار الحجامين فأسكنها، وأيضاً عمر بن الخطاب اشترى دار صفوان ليجعلها سجناً بـ مكة فكونه اشترى دار صفوان فهذا يعني أن شراء بيوت مكة جائز، وذكر له جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم اشتروا دوراً في مكة وجماعة باعوها. فقال إسحاق: يقول الله عز وجل: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} أي: أنهم كلهم لهم حق العاكف والباد، فقال الشافعي: اقرأ أول الآية: {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج:25] قال الشافعي: والعكوف يكون في المسجد، ألا ترى إلى قوله: {طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ} [البقرة:125]؟ والعاكفون يكونون في المساجد، ألا ترى إلى قوله: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187]؟ فدل ذلك أن قوله عز وجل: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} في المسجد خاص، فأما من ملك شيئاً فله أن يكري وأن يبيع. هذه المسألة اختلف فيها أهل العلم، فبعضهم رأى جواز بيع بيوت مكة وشرائها وإجارتها، وبعضهم رأى منع ذلك كله، وتوسط الإمام أحمد فقال بجواز شراء وبيع البيوت في مكة، وعدم جواز الإجارة. والمسألة من المسائل التي فيها مبررات من قال بالمنع، مثل: إن مكة يفد إليها الناس من جميع الأنحاء، فالأصل أن الذي يسبق إلى مكان هو أحق به، لا نجيز التملك فيها؛ لأننا إذا أجزنا التملك ضيق الناس على الحجاج والعمار، فإذاً الذي يسبق إلى مكان هو أحق به، وليس هناك أجرة ولا تأجير، فإذا انتهت حاجته من مكة ذهب، وجاء غيره فخلفه فيه، وبالنسبة لـ منى ليس هناك خلاف، منى مناخ من سبق، فـ منى الذي يأتي أولاً يأخذ المكان لا شك في ذلك، لكنهم اختلفوا في مكة، هل يجوز البيع والشراء والتأجير فيها أم لا؟ هذه مسألة طويلة، وذكر ابن كثير رحمه الله في كتابه في ترجمة الشافعي توسط أحمد رحمه الله بين الشافعي وإسحاق. وأيضاً مما يدل على فقهه رحمه الله، ما قال له عبد الله بن محمد بن هارون الفريالي، قال: وقفت بـ مكة على حلقة عظيمة وفيها رجل، فسألت عنه، فقيل: هذا محمد بن إدريس الشافعي، فسمعته يقول: سلوني عما شئتم، أخبركم بآية من كتاب الله، وسنةٍ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقول صحابي، فقلت في نفسي: إن هذا الرجل جريء، ثم قلت له: ما تقول في المحرم يقتل الزنبور؟ -الزنبور الذي يلسع، من أين تأتي للزنبور بآية وحديث؟ - فقال الشافعي رحمه الله تعالى: قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] وحدثنا سفيان بن عيينة، عن عبد الملك بن عمير، عن ربعي، عن حذيفة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر) وحدثنا سفيان بن عيينة عن مسعر عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب أن عمر رضي الله عنه [أمر المحرم بقتل الزنبور]. فأولاً أتى بالآية {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ}. ما هو الذي أتى من الرسول؟ (اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر) وعمر أمر بقتل الزنبور، فهكذا أجاب رحمه الله تعالى.

تأديب الشافعي لطلابه

تأديب الشافعي لطلابه وكذلك فإن من الأشياء التي كان الشافعي رحمه الله متحلياً بها ومجيداً لها: تأديب الطلاب، فمن الأشياء التي ورد فيها تأديب لطلابه أشياء كثيرة.

تأديب الشافعي لطالب في نفسه وسوسة في أمر التوحيد

تأديب الشافعي لطالب في نفسه وسوسة في أمر التوحيد كان أحد طلاب الشافعي قد وجد في نفسه أشياء من الوسوسة المتعلقة بأمرٍ من أمور التوحيد، مثل ما يجد بعض الناس أشياء يلقيها الشيطان عن الله عز وجل أو عن ذات الله من الشكوك والأوهام والوساوس ونحو ذلك، فقال أحد تلاميذه: صرت إليه في مسجد مصر، وقد هجس في ضميري مسألة في التوحيد، فأخبره عن هذا الشيء الذي في نفسه، فغضب الشافعي رحمه الله، وقال: أتدري أين أنت؟ قلت: نعم. قال: هذا الموضع الذي أغرق الله فيه فرعون -أي: في بلاد مصر - أبلغك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالسؤال عن ذلك؟ هذه بعض الأشياء التي بعض الناس يتناقش فيها في أمور تتعلق بالتوحيد مما ليس عندنا دليل عليه، أمور من أمور الغيب، لأن قضايا الغيب يجب أن نمسك فيها، حتى أن الشافعي رحمه الله من الحكم التي قالها: "إن للعقل حداً ينتهي إليه". أبلغك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالسؤال عن ذلك؟ قلت: لا. قال: هل تكلم فيه أحد من الصحابة؟ قلت: لا. قال: تدري كم نجماً في السماء؟ قلت: لا. قال: فكوكب منها تعرف جنسه طلوعه أفوله مم خلق؟ قلت: لا. قال: فشيء تراه بعينك من الخلق لست تعرفه تتكلم في علم خالقه! أي: الآن بعض المخلوقات العقل عاجز عن إدراكها، تتكلم في أمور تتعلق بالخالق مما لم يأت في الكتاب والسنة، ثم سألني عن مسألة في الوضوء، فأخطأت فيها، ففرعها على أربعة أوجه، فلم أصب في شيء منها، فقال لي: شيء تحتاج إليه في اليوم خمس مرات، تدع علمه، وتتكلف علم الخالق، إذا هجس في ضميرك ذلك فارجع إلى الله، وإلى قوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الآية)) [البقرة:163 - 164].

تأديب الشافعي لطلابه بآداب المناظرة

تأديب الشافعي لطلابه بآداب المناظرة ومن تأديب الشافعي لطلابه: أنه كان إذا ناظره إنسان في مسألة وتعداها إلى غيرها ولم يفرغ من المسألة الأولى، قال له: ننتهي من هذه المسألة ثم ننتقل إلى ما تريد، دعنا ننتهي من المسألة الأولى، ثم ندخل في الثانية؛ لأن هذا من الآداب، تجد بعض الناس إذا ناقشوا تنقلوا في المسائل من هذه إلى هذه، لم يفرغ من الأولى حتى يدخل في الثانية والثالثة والرابعة، ويخلط الأمور، وتتعقد النقاشات، ولا ينتهي الناس إلى نتيجة، بسبب أنهم يفتحون أكثر من موضوع في نفس الوقت، ولا ينتهون لا من هذا ولا من هذا ولا من هذا، فكان الشافعي رحمه الله إذا ناظرة إنسان في مسألة وتعداها إلى غيرها قبل أن تنتهي، قال: نفرغ من هذه المسألة ثم نصير إلى ما تريد، فإذا أكثر علي وأصر وألح الدخول في مسألة جديدة ولم تنته الأولى، قال: مثلك مثل معلم كان بـ المدينة يعلم الصبيان القرآن من كراس، فأملى على صبي بسؤال نعجتك، يريد أن يملي عليه الآية التي فيها قول الله عز وجل: {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ} [ص:24] فقال بسؤال ولم يدرِ ما بعده، المعلم في غفلة، فأراد أن يملي عليه بسؤال نعجتك، فقرأ الكلمة الأولى ولم يدرِ بالثانية، فمر رجل فقام إليه، فقال: أصلحك الله، بسؤال نعجتك أو بعجتك؟ -هو لا يدري نعجتك أو بعجتك- فقال له رجل: يا أبا عبد الله! أفرغ من سؤال ثم سل عما بعده، إنما هو -ويحك- بسؤال نعجتك. وكذلك من الأشياء التي حصلت للشافعي رحمه الله تعالى أنه كان يوصي طلابه بالفقه، ويقول لـ يونس بن عبد الأعلى: يا أبا موسى! عليك بالفقه فإنه كالتفاح الشامي يحمل من عامه. بعض النباتات إذا زرعت -الآن- لا تثمر إلا بعد أعوام، قال: عليك بالفقه فإنه كالتفاح الشامي يحمل من عامه، أي: أنه من النباتات التي ثمرتها عجلة تخرج بسرعة وهكذا الفقه، وكان يقول: "طلب العلم أفضل من صلاة النافلة".

الشافعي وتأديبه لأبي ثور

الشافعي وتأديبه لأبي ثور وكذلك فإنه -رحمه الله تعالى- كان من تأديبه لطلابه ما حصل ذات مرة أنه دخل بغداد، فنزل في مكان فانصب الناس إليه، فاستووا في مجالسهم، حتى جاء أبو ثور بمسألة -قبل أن يرحب بالشيخ ويعطيه قدره ويؤنسه بالكلام، مباشرة دخل في السؤال، فهذا ليس فيه الأدب المطلوب مع العالم، مجرد أن ينزل يبادر بسؤال قبل شيء من الاستئناس معه والانبساط وشيء من السؤال عن الحال أو المودة- فلما بادره بالسؤال، قال: يا أبا ثور! (الإيناس قبل الإسناس) -الإسناس ليست شركة الـ ( D-H-L) هذه- فلم يدرِ ما قلت له، فقال: ما هو يا أبا عبد الله؟! فقلت: الإيناس مسح الناقة بيدك حول ضرعها، والإسناس حلب ضرعها بيدك، قبل أن تحلب الناقة تمسح على الضرع وتؤنس الناقة ثم تحلب، فكأنه يقول: قبل أن تسأل العالم وتستخرج منه؛ آنسه أولاً ثم اسأله (الإيناس قبل الإسناس) وهذا من علمه رحمه الله باللغة. وكان من تأديبه للناس أيضاً ما حصل مرة، قال محمد بن عبد الله بن الحكم: دخل رجل من الحرس يوماً على الشافعي وأنا آكل معه خبزاً فدخل وجلس يأكل معنا- بدون استئذان- فلما فرغ، قال الحارس: يا أبا عبد الله! ما تقول في طعام الفجاءة؟ - يسأل الشيخ الآن عن حكم إذا دخل على أناس أن يأكل معهم بدون استئذان- فقال الشافعي سراً: هلاّ كان هذا منه قبل الأكل.

ملاطفة الشافعي لأصحابه وحسن خلقه معهم

ملاطفة الشافعي لأصحابه وحسن خلقه معهم ومن ملاطفته لأصحابه وحسن خلقه وإحسان الظن بهم، قال ربيع بين سليمان: دخلت يوماً على الشافعي، فقلت: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت ضعيفاً، فقلت: قوى الله ضعفك، فقال لي: يا ربيع! أجاب الله قلبك ولا أجاب لفظك -أي: أجاب الله نيتك، لكن لا أسأله أين يجيب ما تلفظت به- إن قوى ضعفي علي قتلني -إن قوى الضعف صار الضعف قوياً- ولكن قل: قواك الله على ضعفك، فقال الربيع: والله ما أردت إلا خيراً، قال الشافعي: أجل والله يا بني! لو تشتمني صراحاً لعلمت أنك لم ترد، أي: أعلم أن نيتك طيبة، لكنه قصد أن يعلم رحمه الله تعالى. وكذلك فإنه رحمه الله كان ذكياً فطناً، وكان ذكاؤه ينعكس على فقهه وفتاويه. سئل الشافعي في رجل قال لامرأته وفي فيها تمرة: إن أكلتيها فأنتِ طالق، وإن طرحتيها فأنتِ طالق؟ يقول: ربما هذا إنسان يريد أن يطلق زوجته بأسلوب ابتكاري، ويمكن أنه ضاق بها ذرعاً وانتهز فرصة أنها وضعت التمرة في فمها، فسئل الشافعي رحمه الله عن هذا ماذا يفعل؟ فأجاب مباشرة، تأكل نصفها إذا طرحت النصف الآخر؛ لأنه إذا أكلت نصفها ما أكلتها، وتطرح النصف الثاني فما تكون قد طرحتها. وكذلك فإنه من حسن خلقه -أيضاً- ما روى المزني، قال: كنت عند الشافعي يوماً ودخل عليه جار له خياط، فأمره الشافعي بإصلاح أزراره فأصلحها، فأعطاه الشافعي ديناراً ذهباً، فنظر إليه الخياط وضحك، فقال له الشافعي: خذه، فلو أحضرنا أكثر منه ما رضينا لك به، فقال له: إنما دخلت عليك لأسلِّم عليك، لم أدخل لأعمل عملاً، قال الشافعي: فأنت إذاً ضيف زائر، وليس من المروءة استخدام بالضيف الزائر، فإذاً لابد من إعطائك الأجرة.

فراسة الإمام الشافعي

فراسة الإمام الشافعي كان -رحمه الله- صاحب فراسة، إذا ظن شيئاً يكون على ظنه، قال الحميدي: خرجت أنا والشافعي من مكة، فلقينا رجلاً بـ الأبطح، فقلت للشافعي: أزكن ما الرجل؟ -أي: خمن ما عمل هذا الرجل؟ - فقال الشافعي عندما نظر إلى الرجل: نجار أو خياط، قال: فلحقته فسألته عن مهنته، فقال: كنت نجاراً، وأنا الآن أشتغل بالخياطة. وكذلك وردت قصة أخرى حملها ابن حجر رحمه الله، والقصتان على التعدد؛ لأن هذه شبيهة بتلك، عن محمد بن الحسن والشافعي أنهما كانا قاعدين بفناء الكعبة، فمر رجل فقال أحدهما لصاحبه: تعال حتى نزكن على هذا الرجل الآتي أي حرفة معه، فقال أحدهما: خياط، وقال الآخر: نجار، فبعثنا إليه فسألاه، فقال: كنت خياطاً وأنا اليوم نجار، فتحمل على أنها قصة أخرى. وكذلك قال الربيع: مر أخي في صحن الجامع، فدعاني الشافعي، فقال: يا ربيع! هذا المار الذي يمشي أخوك؟ قلت: نعم. ولم يكن رآه قبل ذلك. وقال المزني: كنت مع الشافعي في الجامع، إذ دخل رجل يدور على النيام الذين ينامون في المسجد، فقال الشافعي للربيع: قم فقل له: ذهب لك عبد أسود مصاب بإحدى عينيه؟ قال الربيع: فقمت إليه فقلت له، فقال: نعم. فقلت: تعال، فجاء إلى الشافعي، فقال: أين عبدي؟ فقال الشافعي: تجده في الحبس، فذهب الرجل فوجده في الحبس. قال المزني: فقلت للشافعي: أخبرنا فقد حيرتنا، قال: نعم. رأيت رجلاً دخل من باب المسجد يدور بين النيام، فقلت: يطلب هارباً، ورأيته يجيء إلى السود دون البيض، فقلت: هرب له عبد أسود، ورأيته يجيء ليرى العين اليسرى، فقلت: مصاب بإحدى عينيه، قلنا: فما يدريك أنه في الحبس، فقال: هذا هو الغالب، أي: أنهم إذا جاعوا سرقوا، وإذا شبعوا أفسدوا، فتأولت أنه قد فعل شيئاً في ذلك، مادام أنه هارب يبحث عن شيء، فقد سرق وأنه في السجن.

اهتمام الشافعي بالواقع

اهتمام الشافعي بالواقع كان الشافعي مشهوراً بالطب وحريصاً عليه، وله قولة عظيمة جداً تبين بعد نظر الرجل في الواقع، كان الشافعي رضي الله عنه يتلهف فيما ضيع المسلمون من الطب، ويقول: "ضيعوا ثلث العلم ووكلوه إلى اليهود والنصارى". لم يكن الشافعي رحمه الله يعجبه أبداً أن يكون اليهود والنصارى متفوقين في الطب؛ لأن مجال الطب مجال مهم جداً، وكان اليهود والنصارى بارعين فيه، والمسلمون عندهم شيء من القصور فيه، فكان الشافعي رحمه الله متحسساً جداً من هذه النقطة، وهذا يدل على أنه يدرك خطورة أن يكون بعض غير المسلمين عندهم احتكار أو شبه تفوق في هذا الجانب بحيث يحتاج إليهم المسلمون، ولاشك أن مهنة الطب فيها اطلاع على الأسرار، ولذلك قال الشافعي: "ضيعوا ثلث العلم ووكلوه إلى اليهود والنصارى" وله أقوال في الطب لعلنا نأتي على بعضها.

كرم الشافعي وعزة نفسه

كرم الشافعي وعزة نفسه كان للشافعي -رحمه الله- كرم وعزة نفس، ما كان يأخذ من الناس ويسأل، أفلست ثلاث مرات، فكنت أبيع قليلي وكثيري، حتى حلي ابنتي وزوجتي، ولم أستدن قط، ما مد يده إلى الناس ولا طلب شيئاً، وقال الربيع: رأيت الشافعي ركب حماراً، فمر على سوق الحذائين، فسقط سوطه من يده، فوثب غلام من الحذائين فمسح السوط بكمه وناوله إياه، فقال الشافعي لغلامه: ادفع تلك الدنانير التي معك لهذا الفتى، قال: لا أدري إن كانت تسعة أو سبعة، أي: أنه حتى لو أن واحداً ناوله شيئاً لابد أن يكافئه، حتى لا يكون لأحد عليه منّة. ومن مهارات الشافعي رحمه الله: إحسان الرمي، قال: كان همتي في شيئين: العلم والرمي، فنلت من الرمي حتى كنت أصيب من عشرة عشرة، ومر برجل يرمي، فقال له: أحسنت، وبرك عليه -دعا له بالبركة- ثم قال لغلامه: ما معك؟ قال: ثلاثة دنانير، قال: أعطها إياه، لهذا الرامي تشجيعاً على الرمي. كان الشافعي كريماً ينفق أمواله، فمرة قدم من اليمن ومعه عشرون ألف دينار إلى مكة، فضربت له خيمة خارج مكة، فما دخل مكة حتى كان قد فرق كل الدنانير على من حضره وعلى أصحابه، وعندما يكون العالم وطالب العلم عنده سخاوة نفس، وعنده كرم يحبه الناس ويحترمونه، وهذه من الأشياء المهمة، ليست القضية قضية علم، وإنما لابد أن يكون مع العلم أخلاق.

حسن الاستماع والتثبت في السؤال والجواب عند الشافعي

حسن الاستماع والتثبت في السؤال والجواب عند الشافعي تميزت شخصية الشافعي رحمه الله بأشياء مهمة لطالب العلم، كما قال محمد بن الحسن: إن كان أحد يخالفنا فيثبت خلافه علينا فـ الشافعي، فقيل له: فلِمَ؟ قال: لبيانه وتثبته في السؤال والجواب والاستماع، وهذه خصلات تفوت كثيراً من الطلاب، قد لا يحسنون الاستماع ولا الجواب، ولا يفهمون السؤال، ولا يتثبتون في النقل، فتحدث لأجل ذلك طامات. وكان للشافعي رحمه الله أقوال من الحكم المأثورة، فمن الأقوال التي تنسب إليه: 1 - يقول: "ليس العاقل الذي يميز بين الشر والخير فيختار الخير، لا. إنما العاقل الذي يقع بين الشرين فيختار أيسرهما. فمعرفة أدنى المفسدتين هي فعلاً الدليل على قوة العقل. 2 - وقال محمد بن عبد الله بن الحكم: رآني الشافعي، وأنا أستمد من دواة على اليسار، الدواة على اليسار المحبرة، فقال لي: أشعرت أنه يقال: إن من الحماقة أن يضع الرجل دواته على يساره. 3 - وكان يقول: لا ينبغي لأحد أن يسكن بلدة ليس فيها عالم ولا طبيب. 4 - وقال: عجبت لمن يحتجم ثم يأكل من ساعته، كيف يعيش؟! أي: أنه لا ينصح بالأكل بعد الحجامة. 5 - وقال أيضاً في الأشياء التي فيها دواء: العنب ولبن اللقاح وقصب السكر. 6 - وكان يقول: عجباً لمن تعشى البيض المسلوق ثم نام كيف لا يموت؟! ففعلاً فإن من النصيحة ألا يتعشى أحد على البيض المسلوق.

بعض أبيات الشافعي الشعرية

بعض أبيات الشافعي الشعرية وأما بالنسبة لأشعاره، فقد كان للشافعي رحمه الله تعالى أشعار كثيرة وكثيرة جداً، وله ديوان عظيم، وأشعاره في غاية الجمال والجودة، فمن أشعاره: إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما تخفي عنه يغيب غفلنا لعمر الله حتى تداركت علينا ذنوب بعدهن ذنوب فيا ليت أن الله يغفر ما مضى ويأذن في توباتنا فنتوب ومن أشعاره أيضاً: لا خير في حشو الكلا م إذا اهتديت إلى عيونه والصمت أجمل للفتى من منطق في غير حلمه وعلى الفتى لطباعه سمـ ـة تلوح على جبينه ومما قاله أيضاً رحمه الله تعالى: المرء إن عاقلاً ورعاً يشغله عن عيوبه الورع كما العليل السقيم يشغله عن وجع الناس كلهم وجع وقال: ومنزلة السفيه من الفقيه كمنزلة الفقيه من السفيه فهذا زاهد في قرب هذا وهذا فيه أزهد منه فيه إذا غلب الشقاء على سفيه تنطع في مخالفة الفقيه وهو الذي قال: شكوت إلى وكيعٍ سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي وأخبرني بأن العلم نورٌ ونور الله لا يهدى لعاصي وهو القائل أيضاً: تعصي الإله وأنت تزعم حبه هذا محال في القياس بديع لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع في كل يوم يبتديك بنعمة منه وأنت لشكر ذاك مضيع وهو الذي قال: نعيب زماننا والعيب فينا وليس لزماننا عيب سوانا ونهجو ذا الزمان بغير ذنبٍ ولو نطق الزمان لنا هجانا وليس الذئب يأكل لحم ذئبٍ ويأكل بعضنا بعضاً عيانا وهو الذي قال: إن لله عباداً فطنا طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا ونظروا فيها فلما علموا أنها ليست لحي وطنا جعلوها لجة واتخذوا صالح الأعمال فيها سفنا وهو الذي قال: دع الأيام تفعل ما تشاء وطب نفساً إذا حكم القضاء ولا تجزع لحادثة الليالي فما لحوادث الدنيا بقاء وكن رجلاً على الأهوال جلداً وشيمتك السماحة والوفاء ورزقك ليس ينقصه التأني وليس يزيد في الرزق العناء وقال: وأرض الله واسعة ولكن إذا نزل القضاء ضاق الفضاء

صفات الشافعي الخلقية وموته

صفات الشافعي الخلقية وموته وكان الشافعي رحمه الله عز وجل من جهة صفة خلقته طويلاً سائل الخدين، قليل لحمة الوجه، طويل العنق، أسمر، خفيف العارضين -جانبتي اللحية- يخضب لحيته بالحناء، حسن الصوت والسمت، مهيباً فصيحاً، وكان طويل أرنبة الأنف، وكان مفلج الأسنان -أي: بين كل سن وسن فرجة- وكان رقيق البشرة، واضح الشبهة، معتدل القامة، لونه يميل إلى السمرة. ولما مات الشافعي رحمه الله نعاه كثيرٌ من أهل العلم، وفقدت الأمة بوفاته علماً رائعاً، ولكن نعيمه المدون والمنقول من طريق تلاميذه الذين وفقهم الله له لاشك أنه من الأشياء الكثيرة التي نحسب أن الرجل قد كسب بها طرقاً للخير توصل الثواب إليه وهو في قبره. فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يرحمه، وأن يجزيه خير الجزاء، عما قدم للإسلام وأهل الإسلام، ونسأله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بعلمه وما ترك وخلف. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

عوائق في طريق الالتزام [1، 2]

عوائق في طريق الالتزام [1، 2] العوائق التي تعيق كثيراً من الناس عن الالتزام بالإسلام كثيرة جداً، ويمكن تقسيمها إلى قسمين هما: عائق الشبهات وعائق الشهوات. وفي طيّات هذه المادة تجد الشيخ قد شرح هذه العوائق بالتفصيل، مبيناً أثرها، مع بعض الردود والمناقشات لمن وقع في شراك تلك العوائق.

معوقات الالتزام بالإسلام

معوقات الالتزام بالإسلام إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. A=6000394> يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. A=6000493> يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. A=6003602> يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. إخواني في الله! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فإنه من نعم الله علينا أن التقينا معاً في هذا المكان في حلقة نسأل الله سبحانه وتعالى أن تكون من حلق الذكر، وأن يكتبنا وإياكم في ديوان السعداء من أهل الجنة، ويكفر عنا سيئاتنا، ويعلي درجاتنا بحوله وقوته، إنه على ذلك قدير، وبالإجابة جدير. والحقيقة أيها الإخوة! أن التقاء الأخ بإخوانه بعد فترة من الزمن؛ يجدد النشاط للنفس للسلوك في سبيل الله عز وجل في سبيل الدعوة إلى الله في سبيل تعلم العلم في سبيل الالتقاء على الخير، وعلى طريق المحبة في الله. أما بالنسبة لموضوعنا فسنتكلم الليلة -إن شاء الله- عن عوائق في طريق الالتزام بالإسلام. نحن أيها الإخوة! سبق أن بينا في درسٍ ماضٍ بعنوان: (جدية الالتزام بالإسلام) حيث بينا تعريف الالتزام، وذكرنا أنه ممثلٌ بقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208] والسلم: هو الإسلام {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208] أي: تمسكوا بجميع شعب الدين، وخذوا بجميع عُرى الدين، لا تتركوا منها شيئاً على قدر استطاعتكم، هذا هو الالتزام بالإسلام، ويمكن أن نضع له تعريفات كثيرة، ولكن يكفينا قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208] أي: لا تتركوا منه شيئاً. وإذا نظرنا -أيها الإخوة- إلى واقع الناس اليوم نجدهم في بُعدٍ كبيرٍ عن تعاليم الإسلام، والتمسك بهذا الدين، والالتزام بأحكامه، فإذا سألنا أنفسنا سؤالاً: لماذا يترك الناس الالتزام بالإسلام، وأحكامه مع أنهم يعرفون بأن هذا التمسك واجبٌ عليهم؟ ولماذا يعيشون حياة التفلت التي نراها اليوم في واقع المسلمين وحياتهم؟! أيها الإخوة! للإجابة على هذا التساؤل لا بد أن نفكر في المعوقات التي أدت إلى هذا التفلت والترك للالتزام بالإسلام، وبالنظر إلى هذه المعوقات وجدناها تنقسم إلى قسمين: 1 - قسمٌ يتعلق بالشهوات. 2 - قسمٌ يتعلق بالشبهات. واعلموا أيها الإخوة! أن الله أشار إلى كلٍّ من هذين الأمرين في محكم التنزيل، وفي الكتاب العزيز، فقال عز وجل عن المنافقين: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً} [البقرة:10]، وقال جل وعلا: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [الحج:53]، وقال عز وجل: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32]. والآن لو سألنا سؤالاً: هاتين الآيتين: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً} [البقرة:10]، والآية الثانية: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32] أي الآيتين التي فيها ذكر مرض الشهوات، وأي الآيتين التي فيها مرض الشبهات؟ الآية الأولى: فيها مرض الشبهات: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً} [البقرة:10] هؤلاء المنافقون في قلوبهم مرض، هذا المرض هو الذي سبب هذا النفاق، وهو مرض الشبهات التي تترسب في الأذهان والقلوب، فتسبب هذا النفاق بجميع أنواعه وصوره ومراحله. أما الآية الثانية: يوصي الله عز وجل نساء النبي صلى الله عليه وسلم ألَّا يخضعن بالقول، أي: أمام الرجل الأجنبي يجب على المرأة ألَّا تلين بالقول، وتتكسر في صوتها، وتتغنج به؛ حتى يطمع الذي في قلبه مرض، وهذا القلب هو الذي يتأثر بالتغير في صوت المرأة، فبسبب مرض الشهوة تستثار الشهوة عندما يسمع الصوت المتكسر المتخلع الرقيق من المرأة. فلذلك يجب على المرأة أمام الرجال الأجانب أن تخشن من صوتها، وألَّا تجعل فيه ذلك الطبع الأنثوي الذي يثير الغريزة في نفس الرجل. عندما أشار الله تعالى في القرآن إلى هذين المرضين، لم يترك الخلق وفيهم هذه الأمراض تنتشر وتستفحل! لا. ولكنه أخبر في القرآن بأن فيه علاجٌ لكل مرضٍ، ولكل نوعٍ من هذه الأمراض، فقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس:57]، وقال الله عز وجل: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً} [الإسراء:82]. إذاً أيها الإخوة! هذين المرضين من الأمراض المستفحلة العظيمة المهلكة التي تصيب قلوب العباد، وفي موضوعنا هذا تلعب أمراض الشهوات والشبهات أدواراً أساسية في إعاقة التزام الناس بالإسلام، وتحول بينهم وبين الالتزام بأحكام الدين.

مصطلحات متداولة بين الناس في الميزان

مصطلحات متداولة بين الناس في الميزان أيها الإخوة! في هذا العصر الذي نعيش فيه عمَّ الجهل وقلَّ العلم، واختلطت الحقائق وخفيت، واندرس العلم، واندرست الحقائق الإيمانية -اندرست أي: اندثرت- وكادت أن تزول، فخفيت معالم الهدى واختلط الحق بالباطل، فلذلك تجد كثيراً من التعريفات والمصطلحات المتداولة بين الناس يعرفونها بتعريفاتٍ غير شرعية، وهي غير مقصود منها في الدين هكذا كما يعرفونها، لذلك كان لا بد من إلقاء الضوء على هذه المصطلحات التي تدور على ألسنة الناس اليوم قبل الخوض في الموضوع. فمثلاً: ما هو تعريف الوسط؟ ما هو تعريف الغلو؟ ما هو تعريف التطرف؟ ما هو تعريف الإسلام؟ ما هو تعريف التقوى؟ ما هو تعريف الإيمان؟ ما هو تعريف العبادة؟ ما هو تعريف الالتزام؟ لماذا هذه التعريفات مهمة؟ لأنك إذا سألت أي أحدٍ من هؤلاء المذنبين العصاة المبتعدين عن الدين، وقلت له: أأنت تعبد الله؟ سيقول لك: نعم، أنا أعبد الله، فتقول له: لماذا أنت الآن مبتعد عن أحكام الدين ومقصر في كذا وكذا وكذا، ولا تكن مثل هؤلاء الفتية الذين آمنوا بربهم والتزموا بأحكام الإسلام؟ فيقول لك: هؤلاء أناسٌ مغالون ومتطرفون ومتشددون. أنا أحب الوسط أنا أريد أن أكون وسطاً لا أريد أن أكون مزوداً ولا منقصاً في الموضوع، أنا أريد أن أكون وسطاً. إذاً ما هو تعريف الوسط؟ إذا طرحت هذا الموضوع: (تعريف الوسط) وما هي (الوسطية)؟ تبين لك الحق وانهزم الباطل. نحن نعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان على الوسط، وهذه الأمة هي الأمة الوسط، فالوسط هو الذي بين الإفراط والتفريط، هذا الوسط هو الذي يحتج به كثيرٌ من العصاة اليوم بأنهم يمثلونه، هذا الوسط هو طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم في الأمور كلها في أبواب العقيدة، وفي أبواب المعاملات، وفي أبوابٍ كثيرةٍ جداً، والرسول صلى الله عليه وسلم كان عيشه وسطاً. إذاً: الناس اليوم يخطئون في تعريف الوسط، ولا يدرون ما هو الوسط؛ نظراً لاضطراب المفاهيم والمفهومات في عقولهم. ما هو الاعتدال؟ بعض الناس يقول: أنا أريد أن أكون معتدلاً، لا أريد أن أزيد، ولا أنقص! الاعتدال: هو أن تعرف الأوامر وتمتثلها، وأن تعرف النواهي وتجتنبها، وبهذا تصبح إنساناً معتدلاً وسطاً. ولما قال الله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر:32] الظالم لنفسه: الذي يترك أداء الزكاة، ويترك الصلاة، ويفرط فيها، ويفرط في النهي عن المنكر، والأمر بالمعروف، وبر الوالدين. ومنهم النوع الثاني: مقتصد يمتثل الأوامر ويترك النواهي، لكن لا يزيد في أبواب الخير والبر والإحسان على هذه الأشياء، فقط يفعل الأوامر من الصلاة، والزكاة، والصيام، وبر الوالدين إلخ، ويترك النواهي؛ لا يزني ولا يسرق، ولا يغش، ولا يكذب، ولا يظلم وهكذا، لكنه قد لا يزيد في أعمال البر؛ فلا يخرج الصدقات، ولا يقوم الليل كثيراً، ولا يكثر من الاستغفار وذكر الله عز وجل فهذا مقتصد. والنوع الثالث: سابقٌ بالخيرات، وهو الذي يفعل الأوامر وينتهي عن النواهي والمنكرات، ويزيد على ذلك في أبواب الخير والبر والإحسان أشياء عظيمة، فلذلك قال بعض أهل العلم: إن هذه الآية تمثل أنواع المسلمين، وليس في أحدهم، فالظالم لنفسه هو الذي يرتكب المنكرات وهو لا يزال مسلماً قائماً بالأمور التي تجعله مسلماً، لكنه مفرط مقصر مثل أغلب الناس اليوم. فإذاً مفهوم الالتزام عند الناس تغير مفهوم العبادة تغير مفهوم الاستقامة تغير، قال سبحانه وتتعلا لرسوله عليه الصلاة السلام: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} [هود:112] والرسول صلى الله عليه وسلم قال لأحد أصحابه، لما سأله أن يوصيه: (قل آمنت ثم استقم). قال النووي رحمه الله: قال العلماء معنى الاستقامة لزوم طاعة الله تعالى، هذه هي الاستقامة. والعبادة: اسمٌ جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال. الإيمان تصديقٌ بالجنان، ونطقٌ باللسان، وعملٌ بالجوارح والأركان، يزيد بالطاعة، وينقص بالعصيان. وهذه العبادة على أربع مراتب: قول القلب: وهو التصديق، وقول اللسان: وهو النطق بالشهادتين وذكر الله عز وجل، وعمل القلب: وهو التوكل والإنابة والمراقبة والحياء والخوف والرجاء، وعمل الجوارح: مثل الجهاد في سبيل الله، والصلاة، والحج إلخ. ما هو تعريف العبادة؟ كثيرٌُ من الناس لا يعرفون تعريف العبادة. ما هو تعريف الإيمان؟ كثير من الناس لا يعرفون تعريف الإيمان. لماذا نقول هذا الكلام؟ لأن الناس عندما نقول لهم: يجب أن تكونوا مؤمنين، والله أمرنا أن نكون مؤمنين وأن نعبده: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} [مريم:65] {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، والله أمرنا أن نستقيم: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} [هود:112]. والله أمرنا أن نكون مسلمين؛ فما هو تعريف الإسلام؟ ما هو تعريف الشهادتين؟ الشهادة: كلمة (أشهد) تتضمن التصديق بالقلب، والنطق باللسان، والعمل والصبر على ما تلاقي في سبيلها، وإذا لم تفعل هذه الأشياء؛ لا تسمى شاهداً ما شهدت أن لا إله إلا الله، ولا شهدت أن محمداً رسول الله. إذاً: أيها الإخوة! هذه المصطلحات، وهذه الكلمات وتوضحها في عقول الناس أمرٌ مهمٌ جداً، حتى ندخل بعد ذلك في قضية الالتزام، فكثيرٌ من الناس اليوم لا يرون حال الملتزمين بالدين والمتمسكين وسطاً؛ بل يرونه تطرفاً وغلواً، ويرون أنفسهم هم الوسط والمعتدلون، وعلى أحسن الأحوال يرون أنفسهم مقتصدين، ويرون غيرهم سابقين بالخيرات من الملتزمين، لكنه لا يمكن أن يفكر أبداً أنه ليس متوسطاً وليس ملتزماً.

كيفية تسيير الجدال مع الناس بخصوص الالتزام

كيفية تسيير الجدال مع الناس بخصوص الالتزام الناس الآن في جدالنا معهم يقولون: نحن الوسط وأنت مغالٍ ومتطرفٌ متشدد، ونحن الوسط، ونحن المعتدلين؛ لأنهم لو اعترفوا بأنهم ليسوا هم الوسط، وأنك أنت -يا أخي- الملتزم بالدين معناه: أنهم اعترفوا بذنوبهم، وأقاموا الحجة على أنفسهم. لذلك تجد دائماً في الكلام وفي النقاشات يقولون: نحن نحب الوسط، والمعتدل، كن يا أخي معتدلاً كن وسطاً، لا تزيد ولا تنقص!! نعم! أقول لهذا الذي يناقشني: أنا معك أنا أحب الوسط، والإسلام دين الوسط، ودين الاعتدال، لكن ما هو الوسط؟ وما هو الاعتدال؟ أليست هي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وطريقته، وفعله أوامر ونواهي؟ أليس هذا هو الوسط، أم لا؟ لكن المشكلة إذا قلنا: إن الوسط هو الذي يرتكب بعض المنكرات، لو قلنا: إن هذا هو الوسط لضاع الدين، وفتحنا أبواب المعاصي والمنكرات على الناس. إذاً أيها الإخوة! كلمة (ملتزم) الآن التي ندندن حولها اليوم، تساوي كلمة (مسلم حقيقي) في أيام السلف، أي: في زمان السلف عندما كان يقول أحدهم: إنه مسلم، ويأمر الناس أن يكونوا مسلمين، أي: ملتزمين بالإسلام، لا يأمر الناس أن يكونوا مسلمين متهاونين ومفرطين بالإسلام. فلذلك أنت -الآن- تحتاج إلى مصطلحات أخرى للشاب، لأنك لو قلت له: يا أخي! لا بد أن تكون مسلماً. يقول: أنا مسلم، وأنا أشهد بالشهادتين، وأنا كذا، فلا بد أن تزيد الأمر إيضاحاً. ولذلك وردت قصة: أن أحدهم خرج فلقي إنساناً ملتزماً، فقال له: يا مطوع! تعال. فلما أتى المطوع قال له: يا أخي! أنت ناديتني يا مطوع! فأنا أريد أن أعرف ماذا تكون أنت؟ أي: إذا أنا صرت مطوعاً فأنت عرف لي نفسك منافق فاسق فاجر، ما هي الكلمة التي تريد أن أقولها؟ وهذا قد يقول: قل لي: يا مسلم، لأن الناس لا يفهمون الإسلام والالتزام بالأحكام، هذه هي المشكلة، ولذلك يقولون عن الناس الملتزمين: يا مطوع! وهو ليس بمطوع، فلا بد أن نعرف ما هو تعريفه؟ وما هو المصطلح الذي يريدنا أن نطلقه عليه، نقول: يا مفرط يا مضيع يا عاصي يا مؤمن يا ملتزم!! ماذا يريدنا أن نقول عنه؟ هذه المسألة مهمة بالنسبة للذين يجادلون؛ لأنه يريد الواحد منهم أن يقول: أنا الوسط، وأنت يا فلان الملتزم بالدين الذي لا تفعل المنكرات أنت المتطرف. فلذلك يقولون بعد ذلك مثلاً: يا أخي! هذه اللحية الأمر بها تشدد، وعلى نطاق النساء مثلاً: يعتبر الأمر بالحجاب والتزام المرأة بالحجاب الكامل الساتر، يعتبره تشدداً. لماذا اعتبروا هذا؟ لأنهم بنوه على أصلٍ فاسد، الذي هو (الوسط) المرأة -الآن- عندما تقول لها: التزمي بالحجاب غطي نفسك وغطي العورة، تقول: أنا امرأة وسط، أنا معتدلة تريدني أكون امرأة لا يظهر مني شيء، لا يمكن، هذا تطرف وعندما تأمر المرأة بالحجاب أو أن تتحجب ابنتها تقول الأم: اتركها الآن بدون حجاب دعها تتمتع دعها تخرج وتذهب هذه صغيرة، وغداً -إن شاء الله- عندما تكبر سوق تتحجب. أي: تكبر ويصبح عمرها خمسين سنة، وتكون من القواعد من النساء اللاتي يكون الحجاب في حقهن ليس بواجب، فعند ذلك تتحجب. انظر إلى الناس! وهذا هو الحاصل الآن وهو الذي يسري في المجتمع، فإن عامة النساء -إلا من رحم ربي- في قضية الحجاب متفلتات، فإذا جئت تأمر بالحجاب تجدها تقول: أنا وسط ومعتدلة، أنا لست كاللواتي يلبسن القفازات ويضعن على الوجه الحجاب، وتلبس الساتر ويصير فضفاضاً، هذه المتطرفة. انظر -الآن- كيف انعكس الفهم الخاطئ للوسطية والاعتدال، وانعكس على تقييم الناس للأوضاع. أليس الذي يلتحي ويؤدي الصلوات في المسجد هذا هو الوسط، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي فعل هذا، ألم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم له لحية كثة وكان يصلي مع الناس في المسجد؟ نعم! إذاً الرسول هو الوسط، وأي إنسان يخالف سنة الرسول صلى الله عليه وسلم يصبح مفرطاً، ومقصراً، ومضيعاً، أو فاسقاً بحسب الأشياء التي يرتكبها.

الشهوات عوائق في سبيل التزام الناس بالإسلام

الشهوات عوائق في سبيل التزام الناس بالإسلام الحقيقة أيها الأخوة! أن الناس الذين يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم، ويُطالبون بالالتزام بأحكام الدين، تقف شهواتهم حجر عثرةٍ أمام التزامهم بالإسلام. فمثلاً: تجد الواحد منهم لسان حاله يقول: أنا شهواتي تصدني عن الالتزام بالإسلام، أنا لا أستطيع أن أقاوم شهواتي، فلذلك أقع في كثيرٍ من المحرمات، ولذلك هذه الشهوات تمنعني من الالتزام بالإسلام.

الالتزام وفقدان اللذة والشهوة

الالتزام وفقدان اللذة والشهوة بعضهم يخافون إذا التزموا بالإسلام أن يفقدوا اللذات والشهوات التي يعتبرون أنهم يتنعمون ويتلذذون بها، مثلاً: إنسان غارق في الشهوات، فعندما تعرض عليه الالتزام بالإسلام؛ يخشى في نفسه أن يفقد هذه اللذائذ والشهوات، فيرفض الالتزام؛ لأنه يخشى أن يفقدها. أولاً: لتوضيح حال هؤلاء الناس أضرب الآن مثالاً واقعياً من الحياة. شُوهد إنسانٌ ما وهو يمسك الهاتف ويغازل به النساء، فقال له إنسان بعدما انتهى: يا أخي! لماذا لا تصلي؟ فقال هذا الرجل: كيف أصلي وأنا عندي موعد مع فتاة بعد ساعتين؟ الآن من الذي منع هذا الرجل من الصلاة، هو الآن رجل صاحب شهوة، وجالس يركض وراء تلبية شهواته. فلذلك تجد في عقله تناقضاً، كيف أصلي وبعد ذلك أذهب إلى شهواتي! فلذلك تصعب عليه القضية فماذا يترك؟ للأسف! لا يترك الشهوة بل يترك الصلاة، لأنه يعتقد أن هذه الشهوة حائلٌ بينه وبين الالتزام بالإسلام، ولا يجتمع في عقله ولا في نفسه صلاة مع اتباع الشهوات. هذا الإنسان علاجه كما قال الله تعالى في القرآن: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء:82] القرآن فيه أنواع كثيرة من الشفاء للشهوات، منها -مثلاً- قصة يوسف عليه السلام، كيف صبر على شهوته. هذه القضية عندما تعرض على هذا الرجل، وعندما يقرأ هذه القصة يتعظ منها، وتكون نوعاً من الشفاء للمرض الذي في نفسه، فهذا الإنسان يذكَّر بالله عز وجل: كيف يبيع العاقل الجنة بشهوة ساعة؟! فنقول: أنت -يا أخي- الآن عندما تقول: أنا لا يمكن أن أصلي، وأنا -الآن- على موعد من هذه المواعيد المحرمة، لماذا لا تصلي؟ الآن إذا لم تصل بالكلية تصبح كافراً، وتخلد في النار، فهل الأحسن لك أن تصلي حتى لو ارتكبت هذا المنكر أم لا؟ بعض الناس واقعين في منكرات؛ فيريدون أن يتحللوا من سبب أنواع الطاعات، بحجة أنه واقع في هذه الشهوات، وأنه لا يستطيع أن يقاوم نفسه، وما دام أنه واقع فيها كيف يؤدي الطاعات؟ فيترك الطاعات. فهذا الرجل يقال له: أنت يا أخي صلِّ، ولعل الله أن يهديك بهذه الصلاة، فتنهاك صلاتك عن الفحشاء والمنكر، وكم من أناسٍ كانت بدايتهم مع الصلاة بداية لهجر المعاصي والمنكرات، إذا هم أخلصوا فيها وعرفوا معنى الخشوع، ومعنى إقامة الصلاة على حقيقتها، في فروضها، وشروطها، وواجباتها، وسننها، وما يترتب عليها، وحال العبد فيها مع الله عز وجل، والإنسان إذا صلى صلاةً صحيحة؛ فإنه لا بد أن صلاته ستنهاه عن الفحشاء والمنكر، والذي يرتكب هذه الشهوات، لا يعتبر إنساناً كافراً، أي: الذي يزني ليس بكافر. فالذي يزني أو الذي يرتكب شيئاً من الشهوات، هذا لا يعني أنه كفر ولا ينفع معه عمل صالح. انظر إلى هذا الحديث الصحيح عن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا زنا العبد؛ خرج منه الإيمان، فكان على رأسه كالظلة، فإذا أقلع رجع إليه) فإذا أقلع عن الذنب رجع إليه إيمانه. فلذلك يجب أن يفهم الناس جميعاً، أنهم لو وقعوا في بعض المنكرات، فهذا لا يعني أنه لن تقبل أعمالهم الصالحة الأخرى. فيا أخي! لا بد أن تصلي، ولكن لا نفعل كما فعل رجل من الناس، فقد كان هناك اثنين من الفسقة جاء وقت الصلاة فقال الأول: أريد أن أصلي. فقال الثاني: أنا لا أريد أن أصلي، وكل واحد منهما يعلم حال الثاني من الجرائم التي كانوا يقعون فيها، فسمعهما ثالث يقول أحدهم للآخر: ازنِ وصلِ، نحن لا نقول مقالة هذا الرجل، نقول له: يا أخي! صلِ الصلاة كما يريدها الله عز وجل، وإن صلاتك لا بد أن تنهاك عن الفحشاء والمنكر؛ لأن الله يقول: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45] ولا بد أن تجاهد نفسك. والرسول صلى الله عليه وسلم عندما جاءه الشاب وقال: أنا أبايعك على كل شيء، لكن اسمح لي بالزنا، فلم يرض الرسول صلى الله عليه وسلم منه هذا، لكن لا بد أن يجاهد الإنسان نفسه، والله عز وجل من سلك سبيله يهديه وييسر له الأمر، قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل:5 - 7] فالله عز وجل ييسر للعباد الذين انتهجوا سبيله، ييسرهم لليسرى وللحق، ويسهل عليهم التمسك بالحق. فإذاً: الذي يقول: أنا كيف أشرب الخمر وأصلي هذا تناقض وأنا لا أحب التناقض! نقول له: صحيح أن التناقض شيء مزعج ومؤذي، لكن هل الحل أنك تختار شرب الخمر وتترك الصلاة؟! أي: هل هذا علاج التناقض عندك؟ أم أنك تصلي وتلتزم بأحكام الدين، وتحاول أن تتخلص من هذه المنكرات، كما أمر الله عز وجل، جاهد ولا تقل: أنا حاولت لكني فشلت، وهو لم يحاول ألبتة. أيها الإخوة! بعض الناس مستعد أن يلتزم بالأحكام التي لا شهوة فيها مستعد أن يطلق لحيته، ويقصر ثوبه، ويصلي في المسجد؛ لكنه لا يستطيع أن يترك النظر إلى المرأة الأجنبية؛ لأنها مسألة متعلقة بالشعور، يشق عليه أن يترك ويعتزل الشهوات، ولكنه مستعد أن يلتزم بأحكام كثيرة من أحكام الدين. أيضاً: هذا نفس الكلام الذي ذكرناه {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران:101]، فهذا الإنسان يعتصم بالله عز وجل، ومادام أن الباب مفتوح ويجاهد نفسه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] كذلك على مستوى النساء، تجد المرأة مستعدة أن تصلي وتزكي وتصوم وتفعل أشياء كثيرة، لكنه إذا أتيت إلى قضية الخروج بين الرجال، ووضع الزينة والمكياج وهذه الأدوات والمنكرات للفت أنظار الرجل إليها لا تستطيع أن تترك هذه الشهوة. وقد رأينا أناساً من هذا القبيل، ترى المرأة تصلي وربما تبكي وهي تقرأ القرآن، وفي رمضان وو وإلخ، ولكن إذا أتيت إلى ترك الزينة، والتبرج، وعدم لفت أنظار الرجال إليها لا تقوى على هذا؛ لأن القضية شهوة، هذه المسائل علاجها بمجاهدة النفس، ليس هناك علاج سحري، لكننا نقول: لا تُترك الطاعات الأخرى من أجل هذه المنكرات، ولا بد من مجاهدة النفس بالتخلص من هذه المنكرات.

شهوة المنصب

شهوة المنصب كذلك من الشهوات مثلاً: شهوة المنصب، بعض الناس لا يلتزمون بأحكام الإسلام، ليس لأنهم لا يحبون الالتزام، ولكن لأنهم يخافون أن يفقدوا مناصبهم الإدارية وما شابه ذلك؛ لأنه يخشى أن يغضب عليه رؤساؤه عند الالتزام، فيعزلونه من منصب الإدارة أو من المنصب الفلاني؛ لأن رؤساءه لا يحبون التدين ولا الالتزام بالإسلام؛ فهو يخشى أنه إذا التزم أن يفقد منصبه، ولن يعطي العلاوات الفلانية، ولا الزيادات، ولن يترقى من مرتبة إلى مرتبة، وسيجمد في مكانه وهكذا. هذه المسألة -مثلاً- نفس قضية الزعامة أو الرئاسة، قد يكون الإنسان في مجموعة من الناس الشاردين، ويكون هو الذي يُسيطر عليهم ويأتمرون بأمره، هو القائد فيخشى إذا التزم أن يفقد سيطرته على هؤلاء الناس، ويفقد هذه الزعامة التي يتمتع بها الآن يفقد شهوة حب الرئاسة، لا يتمتع بذلك، هو الآن عنده مجموعة وهو القائم عليها، وهو الذي يطيعون أمره، وإذا قال شيئاً نفذوه وهكذا. هذا يخشى إذا التزم ألَّا يلتزموا معه، أو يخشى إذا التزم أن الالتزام سيذهب هذه الشهوة وسيقضي على إشباع الغريزة غريزة حب الرئاسة بنفس هذا الرجل. أيها الإخوة! إذا خُير الإنسان المسلم بين أمرٍ فيه طاعةٌ لله وبين أمرٍ فيه إرضاءٌ لنزواته وشهواته، فماذا يختار؟ هنا يظهر الالتزام بالإسلام، وهنا يظهر الإيمان حقيقةً، لأنك -الآن- مخير بين أمرين شديدين على نفسك، فما الذي تقدم؟ هل تقدم ما يحبه الله عز وجل ويرضاه، أم تقدم ما ترضي به نفسك وما يُرضي شيطانك؟

الشبهات عوائق في سبيل التزام الناس بالإسلام

الشبهات عوائق في سبيل التزام الناس بالإسلام أما إذا أتيت إلى جانب الشُبهات؛ فإن أمرها كبير وواسع جداً، وما يسمعه الدعاة إلى الله عز وجل يومياً من الناس وهم يأمرونهم بالمعروف، وينهونهم عن المنكر، ويدعونهم إلى الطيبات، وإلى سلوك الصراط المستقيم، أي: هذا الكلام الذي يسمع يُوضح بجلاء لماذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ولكنكم غثاءٌ كغثاء السيل) هذه الشبهات التي تُعرض وتُطرح ويُصدم بها كل داعية، وتُلقى عليه في وجهه، ولسان حال قائلها يقول: أنا لا يعجبني الالتزام، وأنا لا أريد أن ألتزم بالإسلام.

شبهة: الالتزام بالإسلام يقيد الحرية

شبهة: الالتزام بالإسلام يقيد الحرية هذه الشبهات -أيها الإخوة- كثيرة، ونحن نتطرق إلى شيءٍ منها، فمثلاً: يقول بعض الناس أنا أشعر بأن الالتزام بالإسلام فيه تقييدٌ للحرية، وأنا أحب التحرر والانطلاق، لا أحب الكبت والتصفيد بالأغلال، فبعض الناس ينظرون أن الالتزام بالإسلام هو تقييد للحريات، وكبت للحرية الشخصية، لكن ما هو حظ هذا الكلام من الصواب؟ نقول: نعم -يا أخي- نحن نعترف معك -ولا بد أن نعترف بهذا- بأن الإسلام فيه تقييد لشهوات النفس، ولنزواتها، وإلا فأخبرني كيف تكون عبداً لله. إذا سألت أي إنسان تقول له: هل أنت معترف بأنك عبد لله؟ يقول: نعم. لا يقول في العادة: أنا لست عبداً لله. أليس العبد مكلفاً بأن يطيع أوامر سيده؟ نعم. والعبيد على مستوى البشر تجد أنه إذا أمره سيده بأمر فيه مخالفة لراحته، أو لنومه أو لوقت الطعام عنده -مثلاً- لا بد أن يطيعه وإلا كان عاصياً. أيها الإخوة! بما أننا عبيدٌ لله، فلا بد أن نتقيد بأوامر الله عز وجل، حتى نكون عبيداً لله حقاً، أما الذي يرفض أن يكون عبداً لله فهذا أمره شيء آخر، أي: هذا إنسان قد ذهب عن الدين بعيداً، ووقع في الكفر والضلال والعياذ بالله. ماذا تعني هذه المسألة -في الحقيقة- عند هؤلاء الناس؟ يشعر أنه إذا التزم بالإسلام أنه سيقيد بقيود كثيرة، لن يسمع الأغاني، ولن يصافح ابنة عمه، ولن يستطيع أن يفعل ما يحلو له عند وقت الصلوات إلخ. ومن جانبٍ آخر: بعض الضائعين إذا فكروا الالتزام بالإسلام يتخيل نفسه بعد أن يلتزم، وينظر في أحوال الملتزمين، فيقول لنفسه: هؤلاء الملتزمين مساكين يتمنون أن يفعلوا أشياء كثيرة من الحرية، ولكنهم مقيدون لا يستطيعون. يتخيل واقع الملتزمين أنه واقع كبت وقهر وضغط وصراع نفسي. يتخيل أن هذا الملتزم يريد أن يزني لكنه ليس قادراً على ذلك، يريد أن يسمع الأغاني لكن لا يستطيع، يريد أن يصافح المرأة الأجنبية وينظر إليها، يريد أن ينظر إلى الأفلام وإلى التمثيليات ولكنه حرم نفسه، فيتخيل هذا الرجل أن هذا الإنسان الملتزم يعيش في صراع نفسي، هو يريد ولكنه لا يستطيع. إذاً: يقول في نفسه: لماذا أضع نفسي في هذا الأتون من الصراعات التي قد تفضي بي إلى أمراضٍ نفسية وعُقد وأمراض عصبية، وقد يؤدي بي الأمر إلى الجنون، فهل هذا الكلام صحيح؟ هل الآن كل ملتزمٍ بأوامر الله عز وجل يعيش في صراع نفسي وفي شقاء؟ هل هذا حادث أم أن الأمر على النقيض من هذا تماماً؟ أي: أن الملتزم بأوامر الله يشعر بسعادة وبطمأنينة بالغة، وهو يحس بلذة وطعم العبادة والطاعة. ألم يقل الله عز وجل: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97] فكيف أن هذا الرجل يعمل صالحاً، وبعد ذلك يعطيه الله عز وجل حياة كلها نغص وتنغيص! وصراعات نفسية! وشقاء ونكد وكبت! كلا، بل أيها الإخوة! إن تعذيب النفس لله، وإلزامها بأوامر الله هي الحرية الحقيقية، لذلك تجد أصحاب الشهوات عبيداً لشهواتهم تجد أنه يدفع من جيبه كذا وكذا من الدراهم؛ لكي يحصل ويُرضي نزوةً من النزوات التي ألقاها في قلبه الشيطان، ويسافر من هنا إلى هناك لكي يرضي هذه النزوة والشهوة، ويتمرغ على أوحال أعتاب من يظن أنهم سيمنحونه أو سيحفظ عن طريقهم السعادة، سواءً كن من النساء الفاجرات أو غيرهن، لكي يصل هذه القضية ويروي شهوته. أليس هذا عبداً في الحقيقة؟ نعم، إنه عبد لا يكاد يصبر على الشهوات، فهو العبد حقيقةً بالمعنى الخاطئ، أي: الذي عبد الشهوات، وليس عبداً لله، وإلا فثقوا أن كل من عبد الله تعالى فهو يعيش في غاية الارتياح والحرية؛ لأن عبادته لله قد حولته من أسر شهواته، وأسر هذه النفس الأمارة بالسوء، والجري وراء الشهوات ليلاً ونهاراً، ووراء جمع المال من الحلال والحرام، ووراء إرضاء الشهوات الجنسية إلخ. وكذلك يصف القرآن حال من أعرض عن ذكر الله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124] معيشة ضنكا، أي: شديدة قاسية مؤلمة.

شبهة: التصرفات السيئة لواقع بعض الملتزمين ظاهرا

شبهة: التصرفات السيئة لواقع بعض الملتزمين ظاهراً من العوائق التي تعيق بعض الناس عن الالتزام بالإسلام: أنهم يستدلون بواقع بعض الملتزمين الذين هم في الحقيقة غير ملتزمين بالإسلام. مثلاً: رجل ظاهره الالتزام بالإسلام، لكن عنده تصرفات سيئة، فيأتي هؤلاء الناس الذين لا يريدون أن يلتزموا بالدين وأحكامه، فيقول لك وأنت تناقشه وتجادله بالتي هي أحسن: كيف تريدني أن ألتزم؟ انظر إلى حال فلان الفلاني! طويل اللحية قصير الثياب، لكن انظر كيف يأخذ سيارة العمل وسيارته الخاصة إلى الورشة، ويقول لصاحب الورشة: فك كفرات سيارة العمل وغيرها لسيارتي، لأن كفرات سيارة العمل جديدة. أو رجل ظاهره الالتزام، يعمل بالتجارة في العقارات، فيأتي رجل ليشتري منه، فيلاحظ أنه يتعامل بالربا أو يغش، أو يدلس ويكذب إلخ. أو مثلاً على أقل الأحوال: أحياناً يرى إنساناً أنه ملتزم؛ ولكنه لا يحافظ على نظافته الشخصية. فيقول: انظر -يا أخي- الالتزام كيف هو وسخ، هذا الذي تريدني أصبح مثلهم؟ انظر كيف شكل فلان؟! هذا الرجل كلامه بعيد تماماً عن الحجة، ولا يُعتبر حجة أبداً، لأنه يحتج الآن بإنسان غير ملتزم، لأنه للأسف كثيرٌ من الناس المجادلين عندما تتناقش معهم، يفتري على أناس من عباد الله الصالحين، ويقول: يفعل كذا ويفعل كذا، وتريد أن أكون مثله، وعندما تتحقق من الموضوع تجد أن ذلك الشخص الملتزم لا يفعل أياً من هذه الأمور، وأنما اختلق قصة لذلك الرجل وألصقها به، وضخم الأمر، أو أن لها أصلاً، فرآه مرة في حالة لا تعجبه، أو لا ترضيه، فعمم عليه وعلى غيره، فأولاً قد يكون افتراءً، ولو كان صحيحاً؛ فإن هذا الشخص الذي يحتج به ليس ملتزماً، فلا يكون هذا حجة أبداً. فنقول له: أنا لا أريد أن تكون مثل فلان، أنا أريدك أن تقتدي بالرسول صلى الله عليه وسلم، دع فلاناً وفلاناً، أنت قال الله لك: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21] أنا أخطئ وغيري يخطئ، لذلك أرسل الله لنا قدوة من البشر كاملاً في صفاته وخصاله لكي نقتدي به، وهذا رحمة من الله لهذه الأمة، أن أرسل إلينا رسولاً قدوةً، فلا نحتاج لأن نقول: انظر يا فلان! لا تنظر إلى فلان، لكن نقول لأي أحد: اقتدِ بالشيخ الفلاني اقتدِ بالرجل الفلاني، لكي تقرب له واقع القدوة، وتنتقي له قدوة يعايشها ويراها، لكن ما هي القدوة الأساسية التي نرتبط بها؟ إنه الرسول صلى الله عليه وسلم. ثم يقول لك: يا أخي! انظر فلاناً هذا حج ولكنه يشرب الخمر، فتقول له: ماذا تريد؟ أي: نترك الحج لأن فلاناً يحج ويسكر. يقول لك: هذا فلان الملتحي يفعل كذا وكذا من الغش والتزوير! تقول له: نترك اللحية سنة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن فلاناً يزور، ما علاقة التزوير بهذا الحكم الإسلامي؟! حكم اللحية ما علاقته بالموضوع؟! فهذا الربط والتلازم الذي يزعمه كثيرٌ من الناس في نقاشاتهم، لا حقيقة له؛ ولكنه يريد أن يجادل ويماري -بالأحرى- حتى يخرج من المأزق الذي يحس أنه قد تورط فيه عندما تقام عليه الحجة، ويشعر بأنه مخطئ، ألم يقل الله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]. ألم يقل الله عز وجل: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء:13] كل إنسان محاسب على عمله، وأنت لماذا تنتظر خطأه، خطأه سيحاسبه الله عز وجل عليه، ولماذا تحتج بخطئه على الإسلام؟ ولماذا تجعل الإسلام هو هذا الشخص؟ فما إن وقع هذا الشخص في خلل؛ فأنا لا أريد أن ألتزم بالإسلام ما علاقة هذا الرجل بالإسلام الذي أنت المفترض أنك تتبع وتلتزم به، فلماذا تحتج به؟! أيها الإخوة! الناس ليسوا حجة على الشريعة، ولكن الشريعة هي الحجة على الناس، ومثل هذا بالنسبة لأخواتنا النساء، فلا شك أنهن يسمعن كثيراً من بنات جنسهن، يقلن: أنا لا أريد أن أتحجب؛ لأن فلانة المتحجبة تفعل أشياء ومصائب من تحت الحجاب من خلف الحجاب! أي: كون فلانة ترتكب هذه المنكرات وهي متحجبة أن نترك الحجاب لأجل أنها ترتكب المعاصي، ما علاقة المعصية بالحجاب؟ هل المعصية هي الحجة على شريعة الله في أمر المرأة بالحجاب؟ ولأن هذه المرأة كان فيها نقص ولو أنها متحجبة أخطأت أو عصت أصبحت معصيتها حجة على الشريعة الإسلامية بأمر الحجاب، فانظر كيف يصرفون ويفكرون: {وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} [الكهف:56] وأي أحد من أهل الباطل إذا تفكرت في كلامه لا تجد عنده مستنداً شرعياً مطلقاً.

شبهة: تكرار الوقوع في المعصية مع التوبة

شبهة: تكرار الوقوع في المعصية مع التوبة كذلك أيها الإخوة! بعضهم يقول: أنا إنسان يتكرر مني وقوع المعصية، مثلاً: أشرب الخمر ثم أتوب وأبتعد عن شربه، ثم أشربه مرة ثانية، وأترك الشرب ثم أشربه مرة ثالثة أنا رجل التحيت فترة من الزمن، ثم حلقت لحيتي، ثم تركتها، ثم حلقتها، ثم تركتها، ثم حلقتها أنا امرأة تحجبت ثم تركت الحجاب، ثم تحجبت ثم تركت الحجاب، ثم تحجبت فيأتيه الشيطان يقول له: جعلت الدين لعبة!! لا. أول شيء أن تكون على ما أنت عليه من المعصية، وبعد ذلك إذا تأكدت أنك قد وصلت إلى مستوى أنك إذا التزمت بهذا الحكم لا تتركه؛ فبعد ذلك التزم بالإسلام حتى لا يصبح الدين لعبة. وكذلك يقول بعضهم: إنسان التزم بالإسلام فترة من الزمن، ثم انتكس وارتد على عقيبيه، ثم خالف أوامر الله عز وجل، فيقول في نفسه: بدل ما أرتقي ثم أهبط من هذا المستوى، فأجلس في الوسط لأني أخاف أن أتردى بعد ذلك إلى أسفل سافلين، دعني على قليل من المعاصي التي عندي وقليل من الطاعات، فهذه بركة وكفاية! فهذا الرجل الذي يقول: أنا أتأكد من نفسي أولاً ثم ألتزم. لا بد أن نعلم أننا نحن البشر مخطئون، وأن من طبيعتنا أن نخطئ، والله خلقنا وفينا قابلية للخطأ والمعصية: وما سمي الإنسان إلا لنسيه ولا القلب إلا لأنه يتقلبُ نحن ننسى ونخطئ ونذنب، ولما علم الله هذا الطبع في نفوسنا أخبر على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بالحديث الصحيح الذي يقول فيه عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده! لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقومٍ يذنبون، فيستغفرون الله تعالى؛ فيغفر لهم) رواه مسلم، وهذا حديث جميل جداً ويريح النفس كثيراً. الله عز وجل لم يخلقنا إلا وهو يعلم بأننا نذنب ونخطئ، ولكن الخطأ الحقيقي هو الاستمرار على الذنب وعدم التوبة والرجوع إلى الله عز وجل، ولذلك فتح الله باباً بين المشرق والمغرب لا يُغلق إلا عند قيام الساعة لا يُغلق إلا عند طلوع الشمس من مغربها، هذا الباب هو باب التوبة. فعندما يأتي إنسان، ويقول: أنا أذنب وأتوب، وأذنب وأتوب، فأنا أريد أن أبقى على هذا الذنب؛ لأني لا أريد أن أجعل الدين لعبة، فنقول له: يا أخي! لقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح المتفق عليه فيما يحكي عن ربه تبارك وتعالى قال: (أذنب عبدٌ ذنباً، فقال: اللهم اغفر لي ذنبي، وقال الله تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب! اغفر لي ذنبي، فقال الله تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب مرة ثالثة، فقال: أي رب! اغفر لي ذنبي، فقال الله تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، قد غفرت لعبدي فليفعل ما يشاء). إذاً: هل لك بعد أن سمعت هذا الحديث أن تقول: أنا لا أريد أن أجعل من الدين لعبة، ألتزم ثم أنتكس، ثم ألتزم ثم أنتكس، فإذاً أنا أريد أن أكون منتكساً هكذا حتى يأذن الله، وحتى أتمكن نفسياً، وحتى أقوى وحتى وحتى لقد فتح الله باب التوبة؛ لكي يرجع العاصي، ويئوب هذا المفسد الذي حصل منه الخطأ. أيها الإخوة! وقوع الذنب منا ليس مسالةً مستغربة، وإنما هو حقيقة من حقائق البشر، لكن يجب أن ننتبه إلى أن باب الذنب مفتوح على مصراعيه، كل إنسان يذنب ويستغفر، ويذنب ويستغفر، ويذنب ويستغفر، هذا فعلاً يكون لعبة، لكن في الحديث أمرٌ لا بد من الانتباه إليه، يقول الله عز وجل في الحديث: (قال الله تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنباً، فعلم أن له رباً يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب). الناس لا ينتبهون لمعنى كلمة (ويأخذ بالذنب) أي: يعاقب عليه، فهذا العبد المؤمن في هذا الحديث يفقه أن الله غفورٌ رحيم، كما يفقه أن الله شديد العقاب، وهذه هي الحقيقة المهمة. وأيضاً من عقيدة أهل السنة والجماعة أنه لا تلازم في التوبة بين الماضي والمستقبل، أي: لو أن إنساناً أذنب ثم تاب إلى الله عز وجل توبة صحيحة، ثم أغواه الشيطان والنفس الأمارة بالسوء ووقع في الذنب مرة ثانية، هذا لا يعني أن توبته الماضية فاسدة، وأن الذنب الأول ما زال مكتوباً عليه حتى الآن، لا. الذنب الأول قد مسح بالتوبة الأولى الصحيحة بشروطها، ولاحظ شروط التوبة عند السلف، وهي: 1 - الإقلاع عن الذنب. 2 - الندم على ما فات. 3 - العزم على عدم العودة إليه. لم يقولوا في التعريف: وعدم العودة إليه، وإنما قالوا: والعزم على عدم العودة. أي: العودة شيء، والعزم على عدم العودة شيءٌ آخر، فإذا أذنبت وتبت توبةً صحيحة، ليس توبة المستهزئ واللاعب؛ فإن الله يغفر لك ذنبك حتى لو عدت إلى الذنب مرة أخرى. إذاً: لا تلازم بين الماضي والمستقبل في قضية التوبة إذا كانت صحيحة، ليس أن يذنب الإنسان وبعد ذلك يستغفر استغفار اللاهي من أجل أن يعود بعد قليل، وهو يعرف أنه بعد قليل سيجعل هذا الاستغفار من باب إكمال الإجراءات. كذلك نقول لهذا الإنسان: هب أنك ستذنب وتتوب، وتذنب وتتوب، أليس من الأفضل لك أن تصبح (50%) من أفعالك صالحة و (50%) غير صالحة بدلاً من أن تصبح كلها غير صالحة وشقية. أي: يقول هذا: ما دام أني أذنب وأستغفر، وأذنب وأستغفر، إذاً لا أريد أن ألتزم نهائياً، نقول له: أنت الآن إذا لم تلتزم نهائياً وقعت في مصيبة أعظم من الأولى، على الأقل أن نصف عملك صالح ونصفه فاسد، لكن الآن أصبح كله فاسداً؛ لأنك لست ملتزماً نهائياً. إذاً الكلام الشائع بين العوام: الذنب بعد توبة أشد من سبعين ذنباً، كلام غير صحيح. ثم إنه أيها الإخوة! هناك مسألة مهمة وهي: أننا لا نطلب من الناس أن يلتزموا من أجل إرضاء الملتزمين، وحتى لا يتكلم عليهم الملتزمون، وإنما نطلب منهم أن يلتزموا لأجل الله عز وجل، فأنت -يا أخي- المذنب المقصر لم يضرك الناس لو قالوا عنك: أنت تبت ورجعت، وتبت ورجعت، أنت لعّاب، ما عليك منهم، ما دام أنك إنسان صادق في توبتك لله عز وجل ما عليك منهم، دعهم يقولون ما يقولون، أنت لم تلتزم من أجل ألا يتكلم عليك، لا الطيب ولا التعبان، أنت التزمت لله عز وجل، وقمت بهذا العمل لله عز وجل.

شبهة: الاضطهاد الذي يراه على الملتزمين

شبهة: الاضطهاد الذي يراه على الملتزمين من العوائق أيضاً: إنسان يشاهد رجلاً ملتزماً قد عظ على الدين بالنواجذ، فسبب هذا اضطهاد من حوله له، فيقول في نفسه: أف! كل هذه الاضطهادات والاستهزاءات والسخريات، فما دام أن المسألة كذا فأنا ليس عندي استعداد أن ألتزم؛ لأنه يرى أحد الملتزمين الآخرين بالدين يُسخر منه، ويُؤذى في الله عز وجل، فيقول في نفسه: أنا إذا التزمت سيحصل لي مثل هذا، أنا لا أستطيع أن أثبت، فإن قلت له: كيف يثبت فلان هذا؟ يقول لك: هذا فلان شخصيته قوية، وأنا والله لا أظلم نفسي، فنقول له: لماذا تفترض أنك لن تستطيع أن تثبت؟ انظر إلى الخطأ الشنيع عندما يقيس الناس أحوال الملتزمين بما يفهمونه هم وهم خارج الالتزام. أي: أن الإنسان عندما يلتزم؛ يُعطيه الله عز وجل قوة ويُثبته، وتصير عنده شحنة إضافية من الصبر على الأذى لم تكن عنده قبل الالتزام، وهذه مسألة لا يفقهها غير الملتزم بالدين. تجد الملتزم يقول في نفسه: سأضطهد، وأنا ليس عندي استعداد أن أصبر، وأنا ضعيف الشخصية، لماذا يتصور هذا وهو يعيش خارج الالتزام؟ وما يدريك -يا أخي- عندما تلتزم بأحكام الدين أن الله يثبتك ويؤيدك بقوةٍ وتأييدٍ من عنده، فتصبر أضعاف مضاعفة على البلاء وهذا هو الذي يحصل: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:51]، وقال تعالى: {وَاللَّهُ مَعَكُمْ} [محمد:35]. الله مع المؤمنين مع المتقين ولي الذين آمنوا الله لا يتخلى عن أوليائه، قال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38]. ثق يا أخي أنك إذا التزمت بالدين رغم كل الاضطهادات التي ستلقاها، فإن الله لن ينساك، وسيثبتك ويؤيدك، وستصبح شخصيتك قوية أمام المستهزئين، وأمام الذين يؤذونك، فتثبت إن شاء الله تعالى. بعض الناس يريد التزاماً من غير أذى، فإذا حصل شيء في الالتزام سيؤذيه تركه، فيكون مثل الذي يعبد الله على حرف: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ} [الحج:11]. هنا قاعدة من المفيد أن تُذكر وهي مذكورة في بعض كتب السلف -ربما في كتاب الورع لـ أحمد بن حنبل رحمه الله ورضي عنه وأرضاه- تقول القاعدة: "على الإنسان -أي: المسلم- ألا يُعرض نفسه لبلاءٍ لا يطيقه"، ليس ألا يعرض نفسه للبلاء، لا. فهو لا بد أن يتعرض للبلاء؛ لأن سنة الله جرت بأن من يتمسك بالدين يحصل له الأذى والاضطهاد، لكن على الإنسان ألَّا يعرض نفسه لبلاءٍ لا يطيقه؛ فيجعله يرتد على عقبيه. مثلاً: رجل متفلت، وبعيد عن طريق الله عز وجل، وعن منهج الله، فهداه الله تعالى ودخل الإيمان في قلبه، فتمسك بأحكام الدين، وهو -مثلاً- شابٌ يعيش في أسرة، ومن أحكام الدين وشرائعه: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتغييره باليد، ثم باللسان، ثم بالقلب، حسب الاستطاعة، إذا كان هذا الشخص حديث عهد بالالتزام، ولا يضمن أنه إذا قام على أهله في البيت وغيّّر المنكرات التي عندهم أنهم سيقومون عليه قومةً تفتنه عن دينه، وترجعه إلى ما كان عليه في الماضي؛ فعند ذلك لا يقوم هذه القومة، وإنما يؤجلها إلى حين، أو يتدرج بها بالحكمة والموعظة الحسنة. مثلاً: رجل هداه الله عز وجل، فليس من المصلحة أن يأتي ويكسر التلفزيون, وبعد ذلك يأتي أبوه ويطرده من البيت، ويقطع عنه المصاريف ويقطع عنه ويقطع عنه ويجلس هذا الرجل من غير مأوى ولا مال، ثم تصبح عنده ضغوط بسبب أنه لا يمتلك المال، فماذا يفعل؟ يعود إلى البيت كئيباً ذليلاً صاغراً، وقد رجع إلى ما يريده أبوه. إذاً: على الإنسان ألا يُعرض نفسه لبلاء لا يطيقه، إذا قدَّرت أن هذه العملية التي ستفعلها ستعرضك لبلاء لا تطيقه، وقد تفتنك عن دينك، وقد ترجع وتنكس على عقبيك فلا تفعلها، بل تدرج تدرجاً مناسباً. بعض الناس يعتقد أن الالتزام وسوسة!! ويقول عن الملتزم: إنه موسوس، مثلاً: الإنسان المسلم الملتزم الأصل أن يكثر من ذكر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الأحزاب:41 - 42] فيأتي إنسان من هؤلاء المتشردين البعيدين عن منهج الله ويرى إنساناً ملتزماً يمشي في الطريق وهو يحرك شفتيه بدعاء الذهاب إلى المسجد دعاء السوق وهذا المتفلت لا يعرف مثلاً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً} ولا يعرف أن السوق له ذكر، ولا يعرف أن الذهاب إلى المسجد له ذكر؛ فيقول عن هذا الإنسان الذي يحرك شفتيه ويتمتم: موسوس! يقول: الله المستعان! إذا كان هذه هي حالتهم فهذه مشكلة، ثم يتكلم في المجالس بما يرى، يقول: أنا يا جماعة رأيت فلاناً يمشي، ويفعل كذا وكذا، وكأنه راكبه جني يكلم نفسه في الطريق، ما معه أحد. وهذا كله بسبب الجهل، وإلا فالمفترض أن الإنسان المسلم عليه أن يَذكر الله تعالى في كل أحيانه؛ كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر ربه عز وجل.

شبهة: حب الملتزمين مع الرضا بالواقع المعاش

شبهة: حب الملتزمين مع الرضا بالواقع المعاش من العوائق التي توجد عند بعض الناس: أنهم يرضون بالواقع السيئ الذي يعيشون فيه، لكنهم يمتدحون الملتزمين بالدين، فإذا رأى مثلاً الناس ملتزمين يقول: جزاكم الله خيراً، وكثّر الله من أمثالكم، يُغدق عليهم ألفاظاً ولا يعاديهم. لكن يعتقد أن الالتزام فرض كفاية، وأن الدعوة إلى الله فرض كفاية، والحمد لله فهؤلاء الناس قد كفونا العملية، فجزاهم الله خيراً، وكثَّر الله من أمثالهم، فهم لم يقصروا، ونحن دعنا في حالنا الذي نحن عليه، وتمشي الأمور. الواقع أن هؤلاء الناس يظنون أنهم من أهون المتفلتين شراً، وإذا كان قد كف عن غيره، فهذا لا يعني أنه قد كف شره عن نفسه؛ لأن النفس أمارة بالسوء، والله عز وجل عندما أهلك قريةً من القرى قال: {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} [الأعراف:165]. هذا يعني أن الله ينجي الذين ينهون عن السوء؛ لكن هذا المتفلت الذي رضي بواقعه إذا نزل العذاب؛ فإنه لن ينجو، لأن الله عز وجل لا ينجي إلا الذين ينهون عن السوء، وكذلك حديث السفينة -الذي تعرفونه- فكان فيها طابقين، أناس تحت وأناس فوق، فكان الذين في الأسفل إذا أرادوا أن يشربوا الماء مروا على من فوقهم وأخذوا من فوق، فقالوا: بدل أن نؤذي من فوقنا، لو خرقنا نحن في جانبنا خرقاً ونأخذ الماء مباشرة، ولا داعي أن نؤذي الناس الذين فوقنا (فإذا أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً، وإن تركوهم هلكوا وهلكوا جميعاً) فهذا لا يعني أن المجتمع يجب أن يكون فيه قسمين: 1 - قسم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. 2 - وقسم يسير حسب سير المجتمع. وهنا نقطة مهمة: وهي أن أكثر أصحاب هذا القول هم من كبار السن في العادة، فهنا قد يسأل الإنسان: لماذا يكون الالتزام في الشباب أسرع وأفضل من الالتزام عند كبار السن؟ A أن الشباب بطبيعتهم عندهم روح التجديد والتجدد والسرعة في التَغَيُر والتَغْيِير، وتقبل الأفكار أكثر من كبار السن، لأن الكبير في السن قد مشى على حالة معينة، ونمط معين، واستمر عليه، فمن الصعب جداً أن نغير فكره، أما هذا الشاب الناشئ، فمن السهل أن يقبل الأفكار، ويؤمن بها، ويغير ويتغير ويدعو إليها وهكذا. ولذلك كان أكثر المستجيبين لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم شباباً، فكان أكبر رجل منهم في مكة، تقريباً عمره تسعة وثلاثين سنة تقريباً وهو أبو بكر الصديق. بعض الناس يقول: الالتزام كلمة كبيرة، فيأتي مثلاً على قضية اللحية، ويقول: أنا عندي منكرات، وعندي مصائب، وعندي فأنا عندما أترك هذه الأشياء أربي اللحية؛ لأني لا أحب أن أضع شيئاً ليس على مستواي، وإذا وضعت اللحية يمكن أصد عن سبيل الله، ويمكن أن يرى واقعي ويختلف مظهري، فيكون هذا من باب صرفهم عن الحق وصدهم عنه، هذا كلامٌ نسمعه من الكثيرين، هنا نتساءل: لو قال الناس كلهم هذه الكلمة، أنا ليس عندي استعداد، ولست على مستوى هذه المسألة، ماذا يحدث؟ سؤال آخر: هذا الرجل قد يؤدي الصلاة، نقول له: هل حق الصلاة في الإسلام أكبر أم حق اللحية؟ والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر أكثر أم اللحية؟ إذاً فالمفروض على كلامك أنك لا تصلي؛ لأنك لست على مستوى الصلاة! انظر كيف أن الشيطان يمكن أن يتدرج مع هذا الإنسان الظالم لنفسه، فيجعله يتفلت من عرى الإسلام عروة عروة وهكذا، ثم نقول له: أما قولك بأنك إذا ربيت اللحية، وفعلت بعض الآثام سوف تصد الناس عن دين الله، فهذا غير صحيح، لأنك عندما أطلقت لحيتك والتزمت بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، هل أطلقتها من أجل أن تغرر بالناس أم من أجل امتثال الشرع؟ نعم! من أجل الامتثال بالشرع، فأنت هذه نيتك، فستأجر على هذه النية. وكذلك نقول أيها الأخوة: هذه قضايا يظن كثير من الناس أنها قضايا شكلية وهامشية، وقشور، وليست من الأمور المهمة في الدين! وهذا كلام خاطئ، ابن تيمية رحمه الله تعالى في كتاب اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم، عقد فصلاً جيداً ومهماً عن موضوع أثر الظاهر على الباطن، وقال في معرض كلامه: إن الإنسان إذا تلبس بشيء في ظاهره لا بد أن يؤثر على تصرفاته كيف؟ نضرب مثالاً: الآن نفترض رجلاً لبس لباس العسكرية -لباس الشرطي- كيف تكون تصرفاته وهو يمشي ويقعد، أي: يكون شديداً، ويمشي بشدة وقوة، وعنده حزم ولا يلعب؛ لأنه وهو يلبس ملابس العسكرية يتخيل نفسه عسكرياً، لا بد أن يكون على مستوى هذا اللباس، فيتحمس أن تكون في نفسه صفات تطابق الظاهر الذي هو عليه. لذلك نجد كثيراً من الذين يدخلون في السلك العسكري تتغير شخصياتهم، أي: قد يكون فيه نوع من اللعب والفوضى؛ فإذا به يتحسن في هذا الجانب، يصبح عنده جدية أكثر. إذاً: الذي يتشبه بأهل الصلاح ويتصف بصفاتهم -مثلاً- فيعفي لحيته، ويجعل ثوبه على السنة؛ هذا الرجل اتخذ هذه الصفات على ظاهره، فلا بد أن يؤثر على باطنه، ويكفيه فخراً أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من تشبه بقومٍ فهو منهم) فعندما يتشبه بسيماء أهل الصلاح وصفاتهم، ويعفي هذه السنة من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم ويلتزم غيرها من السنن والآداب والمظاهر الإسلامية، فإن هذا يؤثر على قلبه وباطنه. وبعض الناس عندما تدعوه إلى الالتزام يقول: أنا مستعد أن ألتزم ولكن ليس الآن! أي: على فترات، سوف أعمل خطة خمسية وألتزم عليها، بناءً على هذه السنة القادمة لا أسمع الأغاني، والتي بعدها لا أنظر إلى المرأة الأجنبية، والتي بعدها لا أشاهد تمثيليات، والتي بعدها وهكذا، إلى أن أصل إلى الالتزام، وفي الأخير لا أدري هل يصل بعد الموت أو قبل الموت أو لا يصل نهائياً. مسألة أني ألتزم على مراحل، أو ألتزم شيئاً فشيئاً وسوف أؤجل الالتزام بعد فترة من الزمن كل هذا من نزغات الشيطان ومداخله، وذلك لأمور: أولاً: ما يدريك أنك ستعيش إلى الوقت الذي ستصبح فيه ملتزماً؟ هل تضمن نفسك؟ ثانياً: هل تضمن أن تهدي نفسك بنفسك؟ أي: أنت حكمت بأنك بعد فترة خمس سنوات ستهتدي، هل فعلاً بعد خمس سنوات سوف تهتدي؟ أو ربما أن الله عز وجل يكتب عليك ألا تهتدي، فهل هداية نفسك بيدك، أنت يجب عليك أن تسلك السبيل المستقيم، فيهديك الله عز وجل بهذه الصفات، وبهذه الأعمال الصالحة. ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (بادروا بالأعمال الصالحة) بادر الآن لأنك لا تعلم متى تموت! {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا} [المؤمنون:99 - 100] هذا لن يحصل. ولذلك قال العلماء في قول الله عز وجل: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} [الحديد:13 - 14] هؤلاء المنافقون الكفرة ينادون المؤمنين: ألم نكن معكم؟ أعطونا من النور الذي معكم؟ فيقول لهم المؤمنون: {بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ} [الحديد:14] بالشهوات والمعاصي واللذات {وَتَرَبَّصْتُمْ} [الحديد:14]، فقال المفسرون: {وَتَرَبَّصْتُمْ} [الحديد:14] أي: الانتظار. ولذلك جاء في آياتٍ عدة: {تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة:226] تربص أربعة أشهر أي: التأخير أربعة أشهر، وتربصتم أي: أخرتم التوبة، قال بعض السلف: أخرتم التوبة من وقتٍ إلى آخر، وأنتم جالسون تسوفون وتأخرون التوبة: {وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [الجاثية:35] {وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [الحديد:14]. ولذلك يقول ابن القيم رحمه الله: "كلما جاء طارق الخير صرفه بواب لعل وعسى". وهناك مثل جميل يضربه ابن القيم لهؤلاء الناس يقول: الذي يترك الشبهات والشهوات تسري في جسمه ويقول: أنا سأؤخر التوبة، هذا مثله مثل رجلٍ نبتت في داره شجرة مؤذية، وهو شاب قوي، والشجرة صغيرة، فكلما جاء يقطعها، قال: سوف أقطع في القريب، ويؤخر القطع إلى بعد ذلك، حتى مضت فترةٌ طويلة جداً، كبرت فيها الشجرة واشتدت وصارت قوية، وجذورها عميقة، وقد صار شيخاً كبيراً عاجزاً، فلما أتى ليقطعها إذا قواه تخور وتنهار، فالعملية عكسية، فكلما زادت الشهوات والشبهات بالنفس كلما ضعفت قوة التغيير إلى الصلاح وهكذا، فعلى الإنسان أن يبادر بالتوبة والتغيير والالتزام ولا يقول: سوف التزم بعد فترة ومن الذي يضمن لك أن تعيش حتى تأتي تلك الفترة. هذه مقولة يقولها البعض: أنا لست شريراً إلى تلك الدرجة أني من جماعة كذا، أي: أنا إنسان طيب، ونيتي صادقة، والله يفرض عليّ أن أكون مطوعاً وو الخ. أي: أنا إنسان طيب، ونيتي طيبة، لماذا تقول لي: التزم بهذه وهذه وهذه، أي: أنا لست شريراً إلى هذه الدرجة، فهذا الإنسان يجهل قضية العبادة، ويجهل: {إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162] يجهل أن يكون كل شيء لله، يعتقد أن هناك شيء لله، وشيء لنفسه، شيء للشهوات، ولإرضاء حظوظ النفس.

عوائق ضغط المجتمع على الفرد

عوائق ضغط المجتمع على الفرد كنا قد تكلمنا فيما سبق عن بعض العوائق التي تواجه الناس الذين يريدون أن يلتزموا بأحكام الإسلام وشرائع الدين، ويريدون أن يختاروا لأنفسهم طريقاً صحيحاً يكون على منهاج الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء السائرون تواجههم مصاعب عديدة، وتحديات كبيرة تحتاج إلى صبر وعلم، وتحتاج إلى أخوة في الله، وإلى أسلحة كثيرة جداً؛ لكي يصمد الإنسان أمام هذه التحديات، ويجتاز هذه العقبات، ويتغلب على تلك المصاعب التي تحيط به في ذلك الطريق المحفوف بالمخاطر، الذي سار فيه الأنبياء من قبل والتابعون لهم بإحسانٍ. ولعله من أكبر العوائق التي تواجه الذين يحاولون الالتزام بالإسلام، ويلتزمون به: هو ضغط المجتمع الذي يعيشون فيه، فإنه ما من شكٍ أن مجتمعات المسلمين اليوم أصبحت مجتمعاتٍ بعيدة جداً عن الإسلام وعن تعليمات الدين. ولذلك أصبح المجتمع الذي نعيش فيه كله مجموعة من العوائق، فأنت ترى الزوج أحياناً قد يكون عائقاً أمام زوجته التي تريد أن تلتزم بالإسلام، والزوجة قد تكون عائقاً أمام زوجها الذي يريد أن يتمسك بأحكام الدين، والأولاد قد يكونون عوائق أمام الأب والأم، والأسرة بأجمعها قد تكون عائقاً أمام شاب فيها يريد أن يتمسك بالإسلام، والحي والمدرسة والشارع والسوق والمجتمع بأسره قد يكون عائقاً كبيراً من العوائق التي تواجه اليوم الذين يريدون أن يتمسكوا بأحكام الدين، ويلتزموا بشرائع الله عز وجل.

الزوجة عائق أمام الزوج

الزوجة عائق أمام الزوج أيها الإخوة! هناك رجلٌ قذف الله الإيمان في قلبه، وهو متزوج، فعندما يريد أن يلتزم ويطبق أحكام الله عز وجل، فإن من أوليات التطبيق أن يطبق أحكام الله في بيته، فإذا أراد أن يطبق أحكام الله في البيت ويجعل هذا البيت ملتزماً بالإسلام، ويُخرج آلات اللهو والمنكرات من البيت، سوف يكون أول الواقفين أمامه زوجته، هذه التي لم يُقدر الله لها أن تلتزم بأحكام الإسلام، وأن يدخل الإيمان في قلبها. وهنا يحصل التصادم بين الزوج وزوجته، فهي تريد أن تخرج متبرجة إلى السوق، وربما تخرج مع السائق، أو تخرج إلى تلك الحفلات والمجتمعات الساهرة الغارقة في الملهيات وفي كل ما يغضب الله عز وجل، وهو يريد أن يمنع زوجته من هذا الخروج المحرم. وهي تريد أن تستمع إلى الأغاني وتشاهد الأشياء المحرمة، وهو يريد أن يمنع وقوع هذا الشيء. وهي تريد أن تربي الأولاد على أشياء لا ترضي الله عز وجل، وهو يريد أن يمنع هذه الآثار السلبية ويحول دون هذه التربية السيئة التي تخرج الولد ولداً عاصياً، فيحصل التصادم وتحصل المشاكل، فإذا كان الرجل صاحب شخصية ضعيفة، ولم يكن الإيمان متمكناً في قلبه؛ فإن زوجته سترغمه على أن يسير في طريقها، وإن لم ترغمه على الرجوع إلى الواقع السيئ الذي كان يعيش فيه، فإنها على الأقل ستضطره إلى أن يكف عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهذا لعمر الله وحده من الأدواء الخطيرة، ومن العوائق، أو من سبل الشيطان، وهو فخ عظيم من فخاخ الشيطان يقع فيه الزوج؛ إذا سكت عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والله يقول: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه:132] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] والطريق والعلاج هو قول الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحسنة} [النحل:125] وهذه المسألة التفصيل فيها طويل، وهذا يعني أن نتكلم عن طريقة الدعوة، وهذا الكلام له مجالٌ آخر.

الزوج عائق أمام الزوجة

الزوج عائق أمام الزوجة هناك زوجةٌ قذف الله الإيمان في قلبها، ودخل نور الهدى ونور القرآن إلى قلب هذه المؤمنة، فهي تريد أن تتمسك بشعائر الله وشرائعه. فتاة آمنت بالله عز وجل، وتأثرت بفتياتٍ مؤمناتٍ صاحبتهن وصحبنها فأثرن فيها، فسلكت سبيل الالتزام بشرع الله عز وجل، فتريد أن تلتزم بالحجاب كاملاً، وتريد أن تمتنع من مصافحة أقارب زوجها، ومن الاختلاط بهم، والجلوس معهم، وتقديم الضيافة لهم، وهو إذا كان عاصياً لله فاسقاً ديوثاً يُقر الخبث في أهله يُريد منها أن تخرج إلى الضيوف، وأن تقدم إليهم الضيافة، وأن تجلس معهم، وأن تصافحهم، ويمنعها من الحجاب، ويمنعها من الذهاب إلى الفتيات المسلمات التي تتأثر بهن، أو اللاتي هن مشكاة نور ومصباح هداية هداية الدلالة والإرشاد التي تتأثر بها، ومنها هذه الفتاة. فهو يحجبها ويمنعها من مخالطة الرفيقات الصالحات، فتصطدم معه، وستتعارض الرغبات، ولا يمكن التوفيق، فهي تريد أن تربي ولدها الصغير؛ لكي ينشأ شاباً في طاعة الله، وهو يريد من هذا الولد أن يكون معه في الشر، وأن يعلمه ويقتبس منه جميع أنواع الشرور والمعاصي، هو يريد أن يربي ولده على الخنوع والذل والأغاني والمنكرات والترف والميوعة بسائر أنواعها. هنا أيها الإخوة! يحدث التضارب، ويحدث الصدام الذي لا بد منه بين كل حقٍ وباطل، والطريق هو: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران:101] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200] لا بد لهذه المرأة من الصبر على هذه اللأواء والشدة والضنك التي تواجهها من زوجها، ولن نفصل كما ذكرت آنفاً في طريقة المواجهة والعلاج؛ لأن هذا هو شرحٌ لمعنى الدعوة وكيفية مواجهة المصاعب، ولكن هذه الحقائق من الأشياء التي تحدث في البيوت، وتتكرر دائماً.

الأولاد عائق أمام الأب

الأولاد عائق أمام الأب إذا نظرت إلى الأولاد فإنهم يجرون الأب والأم إلى كل شيءٍ فيه إسرافٌ أو معصية لله عز وجل، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال في الحديث الصحيح: (الولد مجبنة مبخلة محزنة) فإنك إذا جئت لكي تجاهد في سبيل الله وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؛ تذكرت ولدك وقلت في نفسك: أين يضيع هذا الولد؟ وأين يذهب؟ فإذا قمت بدوري في الجهاد في سبيل الله، وقمت صادعاً بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيثبطك هذا الولد عن هذا الدور؛ فتكون جباناً أمام هذه الشهوة وهذه الزينة من زينة الحياة الدنيا. وإذا جئت لتنفق في سبيل الله، وتخرج من جيبك هذه الدريهمات التي تتصدق بها في سبيل الله عز وجل؛ نازعتك نفسك، وتذكرت ولدك، وقلت في نفسك: أليس من الأجدر والأحسن أن أبُقي هذا المال من أجل ولدي، وعند ذلك يكون الولد مبخلة كما قال صلى الله عليه وسلم. وهو أيضاً محزنة؛ فإذا مرض، أو حصل له شيء؛ فإنه يحزنك ويقع في نفسك هذا الألم وهذا الحزن لما وقع في هذا الولد.

عائق الأسرة والمجتمع

عائق الأسرة والمجتمع إذا جئتم إلى الأسرة بطبيعة تركيبها؛ فإنكم تجدون أغلب الأسر اليوم -إلا من عصم الله عز وجل- قائمة على أمورٍ كثيرة من المنكرات والمعاصي التي لا يرضاها الله عز وجل. فإذاً تشعر بأن كل ما يحيط بك هم أعداء لك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن:14] فقد سماهم الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} وإذا نظرت إلى تلك الرفقة السيئة التي تحيط بك في مجتمعك من الأصدقاء والأقارب والإخوان والخلان، فإنك تجد واقعهم أيضاً بعيداً عن الدين كل البعد، وهم يثبطونك في كل حركة، وفي كل مشروعٍ خير تريد فيه أن تربي نفسك على الإسلام، تجدهم يجرونك إلى الواقع السيئ، ويأتونك بالليل والنهار يحاولون أن يثنونك عن الطاعة التي تريد أن تؤديها، إن هذا بحد ذاته تحدٍّ كبير. وإذا نظرت إلى السوق والمدرسة والشارع والمجتمع وجدته بأسره يحول بينك وبين الالتزام بالإسلام، هل هذا الشيء غريب؟ وهل هذا الشيء حديث؟ كلا؛ فإن الله قد قال في القرآن: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116] هذه هي الحقيقة التي قررها الله عز وجل في كتابه، وقال سبحانه: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103].

حوار مع من جرفه تيار المجتمع

حوار مع من جرفه تيار المجتمع أيها الإخوة! هذا المجتمع يشدنا إلى الأثقال وإلى الوحل الدنيوي والطين المادي، الذي يحجبنا عن نور الهدى والتمسك بشعائر الله وشرائعه، وفي هذا المجتمع تسود عاداتٌ وتقاليد بعيدة عن الحق كل البعد عادات وتقاليد منافية للإسلام، ومنافية للدين، وأعراف سائدة مخالفة لشرع الله عز وجل، أنت محكومٌ بها ومسيطرٌ عليك بها، ماذا تفعل لمواجهة هذه الأشياء؟ كثيرٌ من الناس من أصحاب النفوس الضعيفة، تأسن نفوسهم، وتضعف مقاومتهم أمام هذه الأشياء السائدة المخالفة لشرع الله عز وجل، ولذلك فإنهم يسيرون مع التيار، يسبحون معه، وهم إمعات!! كل واحد منهم يقلد تقليد الأعمى، هنا نقف موقف نقاشٍ ومسائلة مع هذا الرجل الذي جرفه تيار المجتمع عموماً من الأشياء التي ذكرناها، ونقول له: أنت إذا رأيت طريق الشر مليئاً بالناس، وطريق الخير ليس فيه إلا القلة، فهل تكون القلة والكثرة هي الميزان والمعيار الذي تقيس به الأمور والذي تسير وراءها، هل القلة والكثرة هي الأشياء المؤثرة في اختيار الطريق الصواب؟ لا يغرنك كثرة الهالكين، ولا قلة السالكين؛ فإنه يجب عليك -يا أخي المسلم- أن تتبع الحق، كما قال ابن مسعود رحمه الله: [الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك] الجماعة ما وافقت طاعة الله، لا تقل لي: إن أبي يفعل كذا، والأسرة تفعل كذا، والمجتمع يفعل كذا، وهذه هي الأعراف وهذا هو السائد، وهذا هو المتعارف عليه، هل تريدني أن أخالف هؤلاء كلهم؟ أي: إن هذه الحجة لا يقبلها الله عز وجل يوم القيامة، بل إنه سيسألك أنت كفردٍ ولن يسأل المجتمع {وَيَأْتِينَا فَرْداً} [مريم:80] ويحاسب الإنسان أمام الله عز وجل محاسبة فردية. فإذاً: أسألك سؤالاً يتعلق بالدنيا: لو أنك رأيت مشروعاً فدرسته فوجدته خاسراً، مثل: شركة استثمار، فدرست حالها ووضعها؛ فوجدت المشروع خاسراً، ولكن أغلب الناس منكبين على هذه الشركة يشترون أسهمها، ويشاركون فيها، وهي تعطي أرباحاً، ولكن لما درست الأحوال وجدت أن هذه الأرباح مؤقتة، وأن هذه الشركة بعد فترة قصيرة ستذوب وتنهار وتصبح الأمور خسائر في خسائر، هل تسير مع الناس وتشتري أسهم هذه الشركة وتشارك فيها بحجة أن أكثر الناس مشتركون ومشاركون في هذه الشركة! إن العاقل سيقول: كلا. إنني لن أقدم على هذا العمل؛ لأن أكثر الناس فعلوا ذلك؛ فإذا كان هذا موقفك -يا أخي المسلم- في تجارة دنيوية، فكيف يكون موقفك وأنت في هذه المسألة العويصة الشائكة الدقيقة العصيبة التي هي من أمور الآخرة والتي ينبني عليها دخولك في الجنة أو النار. إذاً ليس بالضرورة أن ما يفعله الناس هو الصحيح، كلا. بل إن أكثر ما يفعله الناس خطأ، ومخالف لشرع الله ومنهجه، فلا تحتج بالكثرة أبداً، ولا يحملنك التعصب للعادات والتقاليد والأعراف السائدة على متابعة هذه الأشياء، بل إنك يجب أن تفكر بروية، تفكر وأنت تواجه هذه المشاكل! كيف التزم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والأخطار تحدق بهم من كل جانب؟ كيف التزم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإسلام والمغريات من حولهم كثيرة؟ كيف التزم صحابة رسول صلى الله عليه وسلم والشهوات والشبهات والشرك يحيط بهم من كل جانب؟! بل إن ضغط المجتمع على الصحابة في العهد المكي كان ضغطاً قوياً جداً بحيث أنه قد يخرج الإنسان عن دينه. كيف صمد صحابة رسول صلى الله عليه وسلم أمام هذا الضغط؟! كيف أصبحوا قمماً وقادة؟! كيف أصبحوا علماء وأئمة يهتدي بهم من بعدهم بالرغم من هذه الصعوبات والمخاطر والمخاوف والضغوط؟ إن ذلك المجتمع هو قدوتنا الذي يجب أن نقتدي به، وأن نتابع الحق أينما وجد، وألَّا نخشى في الله لومة لائم. كذلك أيها الإخوة! ينبغي أن نتنبه إلى مسألة تتعلق بكون الزوجة عائقاً، أقول: الزوج معرض لأن يسير كثيراً في طريق الهدى، فالرجل يستطيع أن يحتك بأجواء كثيرة طيبة، فهو يذهب إلى المسجد، ويستمع إلى خطب الجمعة، وإلى الدروس، ويخالط أناساً كثيرين قد يكون فيهم من أهل الصلاح والتقوى عددٌ لا بأس به، لكن المرأة التي تكون غالباً موجودة في البيت، تكون الأجواء التأثيرية التي تتعرض لها قليلة، لذلك يجب على كل رجلٍ أن يحسب حساباً لهذه القضية، وألا يستعجل من زوجته الثمرة قبل النضوج، ولا يطالبها بمستوى إيماني مثل الذي وصل إليه، والمؤثرات ليست حولها كما صارت حوله. بل إنه يجب عليه أن يقوي نقاط الضعف فيها، وأن يحرص على تكثير المؤثرات الإيجابية التي تحيط بها حتى تسلك زوجته نفس الطريق، فالرجل من السهل أن يستمع إلى الخير، أو يجد الخير، لكن المرأة قد تكون عندها صعوبة في هذا الجانب، فلا بد أن يهتم الزوج بهذه النقطة ولا يطالب زوجته أن تصل إلى ذلك المستوى الذي وصل إليه في وقتٍ قصير وهو قد وصل إليه بسبب مؤثرات كثيرة لا تملكها زوجته. فيجب عليه يحيطها بأكبر عدد من المؤثرات حتى تلتزم هذه الزوجة، أما بالنسبة للزوجة المسكينة التي ابتليت برجلٍ شرير، فإنه إن كان كافراً مصراً على كفره؛ فإنه يجب عليها أن تفارقه، وأما إن كان رجلاً فاسقاً لابد لها من الصبر على هذا الرجل والمحاولة معه، ومع العلم بأن قوة التأثير في جانب المرأة أقل، إلا أنه لا بد لهذه الأخت المسلمة من بذل الجهد علَّ الله أن يهدي زوجها على يدها، فتكون قد أدت خدمةً عظيمة جليلة لبيتها ولدينها.

عائق الخوف من الالتزام بالإسلام

عائق الخوف من الالتزام بالإسلام وإذا جئتُ معكم إلى عائقٍ آخر من المعوقات الموجودة، فإن هذا العائق هو عائق الخوف، فكثيراً ما يمنع الخوف والرهبة أناساً كثيرين من الالتزام بأحكام الإسلام، فهم يخافون من الالتزام بالإسلام، ويحسبون أن التزامهم بالإسلام سيجر عليهم مشاكل كبيرة لا يستطيعوا أن يتحملوها، ويظنون بأن الذي يلتزم بالإسلام سيعيش في حالة رعب وقلق وخوف دائم؛ فلذلك يحجمون عن الالتزام بأحكام الدين لخوفٍ جاء في نفوسهم.

الشائعات ودورها في بذر الخوف

الشائعات ودورها في بذر الخوف مصادر الخوف كثيرة، منها مثلاً: الشائعات التي تروج في المجتمع بكافة الوسائل المرئية والمسموعة والمكتوبة هذا الخوف يؤدي إلى الإحجام عن الالتزام بالإسلام، وكثيرٌ من الأخبار الشائعة التي بين الناس لا أساس لها من الصحة في غالب الأحيان، وفي أحيانٍ أخرى تكون مضخمة جداً، وهي التي تخيف الناس وترعبهم وتمنعهم من الالتزام بالإسلام، لأنهم يظنون بأن الجو الذي سيصبحون فيه جو رعب دائم، ولكن الذي يتذكر قول الله عز وجل {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:81 - 82] إن الذين لهم الأمن هم كما قال الله عز وجل: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ}. بل إن الذي يبتعد عن شرع الله عز وجل هو الذي يعيش في رعبٍ وخوفٍ دائم من الشرور والآثام التي يقترفها يومياً إنه يخاف لأنه جبانٌ رعديد، فقد جعلت المعصية منه فأراً جباناً لا يستطيع أن يثبت. أيها الإخوة! إن الذي يتمسك بشرع الله يثبت الله قدمه في مواقف تزل فيها الأقدام، ويربط الله على قلبه فتجده شديداً قوياً وهو يواجه مشاكل الحياة. مثلاً: هناك رجلٌ معرض لأن يفصل من وظيفته، إذا كان مؤمناً بالله وبمن كتب الرزق؛ فإنه لا يخاف مطلقاً؛ لأن الله سيرزقه. أما الرجل غير الملتزم بالإسلام ما إن تلوح في وجهه شبح الطرد أو الفصل من وظيفته، إلا وتجده قلقاً في الليل والنهار، لا يستطيع أن ينام، تهزه كل كلمة تأتيه من رئيسه؛ لأنه ليس متمسكاً بالدين ولا بأحكام الإسلام، فمن أين له الجرأة ومن أين له الثبات؟! ومن أين له الطمأنينة التي يقذفها الله في قلوب المؤمنين؟! إذا حصل لولده أو له مرض؛ وجدته جزعاً قلقاً مضطرباً، بل إنه قد يموت من رعبه، وتزداد حالته سوءاً؛ بخلاف المتمسك بأحكام الدين الذي يعلم بأن هذا ابتلاء، وأن له فيه الأجر من الله عز وجل. كثيرٌ من الناس ماتوا عندما سمعوا بأقارب لهم قد ماتوا، وبعضهم حصل له شلل، وبعضهم حصل له جزعٌ شديد، والسبب هو الخوف، الخوف ليس معنا نحن الملتزمين بأحكام الإسلام، الخوف يؤرق ويقلق كل إنسانٍ بعيد عن منهج الله؛ لأن الله تعالى أنزل هذا الدين موافقاً لفطرة البشر، فالذي يبتعد عن الفطرة وعن أحكام الدين لا بد أن يعيش في قلق وخوف دائم.

كتب تشوه صورة الملتزمين بالإسلام

كتب تشوه صورة الملتزمين بالإسلام هناك من المصادر أيضاً: الكتب التي يقرؤها بعض الناس، والتي تصور الملتزمين بالإسلام تصويراً سيئاً؛ يُلقي في قلب القارئ لهذه الكتب بأنهم يعيشون في رعبٍ دائم، بسبب التهويلات والتضخيمات الموجودة في طريقة العرض والأسلوب الذي كتبت به هذه الكتب، ولو أن بعض هذه الكتب فيها أشياء كثيرة صحيحة من التعذيب، والأشياء التي تعرض لها كثيرٌ من أولياء الصالحين، إلا أنه لا يجدر بإنسانٍ قد خطت قدماه في الطريق مبكراً أن يقرأ هذه الكتب ولا أن يُرشد إليها؛ لأن الإسلام لم يتمكن بعد من قلبه، فقد تكون هذه الأشياء التي يقرأها مانعاً وحاجزاً له ومسبباً للتراجع. لذلك أيها الإخوة! لا بد أن يستشير الإنسان من يثق به عند قراءة أي كتابٍ يريد أن يقرأه، ولا بد أن يأخذ من أهل الخبرة خبراتهم في هذا الموضوع، وليس من الصحيح أن يمد يده إلى أي كتابٍ في رفٍ من رفوف المكتبة وينتزعه ليقرأه، إن هذا قد يكون فيه تثبيط لهذا الرجل، لذلك -يا أخي- انتبه إلى الكتب التي تقرأها.

دور المرجفين في إثارة الإشاعات والخوف بين الناس

دور المرجفين في إثارة الإشاعات والخوف بين الناس ومن المصادر الأخرى للخوف: المرجفون الذين يثيرون الإشاعات والبلابل بين الناس، وتثبيطهم عن أحكام الدين، ويقولون في إشاعاتهم: انظر إلى فلان عندما التزم بالإسلام ماذا حل به؟! وفلان ماذا حصل له؟! فيثبطون كثيراً من الملتزمين بالإسلام. أيها الإخوة! إذا نظرنا إلى واقع الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة، والخوف الذي تعرضوا له، وقارناه بالخوف الذي نتعرض له نحن، لوجدنا أشياء عجيبة، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، وأخفت في الله وما يُخاف أحد، ولقد أتت علي ثلاثون ما بين يومٍ وليلة، وما لي وما لـ بلال طعام يأكله ذو كبد إلا شيءٌ يواريه إبط بلال). الرسول صلى الله عليه وسلم أخيف وأرهب بجميع وسائل الإرهاب والخوف، وليس هناك مثل الخوف الذي تعرض له الرسول صلى الله عليه وسلم أي خوفٍ آخر مطلقاً، لدرجة أنه في وقتٍ من الأوقات لا يجد شيئاً يأكله إلا شيئاً يسيراً يخفى تحت إبط بلال: (وما لي وما لـ بلال شيءٌ يأكله ذو كبدٍ -طعامٌ يأكله ذو كبدٍ- إلا شيءٌ يواريه إبط بلال) ويدلك على ذلك واقع الرسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث أنه جلس ثلاثة عشر عاماً في مكة، يتعرض لجميع وسائل الإخافة والأذى والإرهاب حتى يرجع عن دينه، هذا يسخر منه، وهذا يسبه، وهذا يبصق في وجهه صلى الله عليه وسلم، وهذا يحاول أن يضع رجليه على عنقه إذا سجد، وهذا يضع أمعاء البعير على ظهره وهو ساجد، وهذا يأخذ بمجامع ثوبه ويحاول أن يخنقه خنقاً شديداً، وهذا عمه يتبعه في المجامع أنى ذهب يؤذيه ويقول للناس: هذا كذاب هذا مجنون، ويحذرهم منه، وهؤلاء يغرون السفهاء فيرجمونه حتى تسيل رجلاه دماً، وهؤلاء يحاصرون أهله وعشيرته فترة طويلة في الشعب ليموتوا جوعاً، وهؤلاء يعذبون من اتبعه بأنواع العذاب، فمنهم من يضجعونه على الرمل في شدة الرمضاء ويمنعونه الماء، ومنهم -من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم- من ألقي على شيءٍ محمى وما أطفأ هذه النار إلا شحم ظهر هذا الرجل الذي سال على النار من شدة الحر فأطفأها. ومنهم امرأة عذبوها لترجع عن دينها، فلما يأسوا منها؛ طعنها أحدهم بحربةٍ في فرجها فقتلها، كل ذلك لا لشيءٍ إلا لشيءٍ واحد؛ لأنه يدعوهم ليخرجهم من الظلمات إلى النور فقط. أما الناس الذين كانوا من قبلنا من أتباع الأنبياء، فمنهم من نشر بالمنشار، ومنهم من أحرق بالنار، هذا هو الابتلاء الذي تعرضوا له. نحن الآن في واقعنا ما هي نسبة هذه الأشياء التي نتعرض لها؟! لا شيء، فما بال كثير من الناس اليوم يرجعون عن التمسك بالإسلام لكلمةٍ سمعها أحدهم من صاحبٍ أو قريبٍ له وهو يستهزئ به، والنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون الأوائل لم يتراجعوا عن الدين بالرغم من هذه المصائب التي ابتلوا بها. نحن اليوم نرجع عن الدين وعن التمسك بأحكامه لأدنى كلمة، وأدنى شهوة تعرض لنا في طريقنا، أليس هذا من العجائب، ومن الدلائل على ضعف الإيمان ومقوماته في نفوسنا؟ بلى.

عائق الاستهزاء

عائق الاستهزاء ومن العوائق التي تمنع الناس من الالتزام بالإسلام في هذا العصر وفي كل العصور، ويرتبط بما ذكرنا آنفاً، فإنك تجد أن هذا العائق هو الاستهزاء. أيها الإخوة! يتعرض اليوم كثيرٌ من الملتزمين بأحكام الإسلام إلى الاستهزاء من أقاربهم وأصدقائهم وزملائهم في العمل إلى غير ذلك من طبقات المجتمع، يتعرضون للاستهزاء سواءً كان استهزاءً بمظهرهم الإسلامي الذي يطلبه الإسلام، أو استهزاءً بأحكامٍ من أحكام الدين تمسكوا بها، أو استهزاءً بشعائر من شعائر الإسلام يعبدون الله عز وجل ويتعبدونه بها. هذا الاستهزاء إذا صادف قلوباً ضعيفة، ونفوساً في الإيمان هزيلة؛ فإنه لا شك يكون من أسباب النكوص والرجوع القهقرى في طريق الالتزام بالإسلام. هؤلاء الذين يستهزئون أمرهم عجيبٌ جداً، فإنهم يستهزئون بأحكام الله عز وجل الذي يؤدي إلى الكفر في كثير من الأحيان. فإذا وجد أحد هؤلاء رجلاً من الملتزمين بالدين، قد جعل ثوبه موافقاً لما أخبر وأمر به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ تتداعى كلمات الاستهزاء على لسانه في كل وقتٍ وحين، ويلمز هذا الرجل الملتزم بشتى النعوت الدالة على السطحية والسذاجة أو الجنون أو التشدد أو التزمت المقيت.

خطورة الاستهزاء بالدين

خطورة الاستهزاء بالدين لا بد أن يعلم المستهزئ بسنن الرسول صلى الله عليه وسلم بخطورة استهزائه، ويبين له الحكم في هذا الاستهزاء، ولا بد أن يعلم المستهزأ به بالموقف الصحيح الذي يجب أن يقفه، وكيف وقف المسلمون من قبل أمام الاستهزاء الذي حصل بهم، كيف كان نوح عليه السلام يبني السفينة هو وأتباعه، وعندما كان يمر عليه أولئك الملأ فيسخرون منهم؛ كان نوحٌ يجيبهم بذلك الجواب القوي: {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود:38]. وقد جرت سنة الله تعالى بأن يكون الاستهزاء والسخرية من صفات المبتعدين عن الإسلام وأعداء الإسلام، الذين يرفضون الخير لكل إنسانٍ يريد الحق، ويريد التمسك بالدين، ولذلك يقول الله عز وجل في سورة البقرة: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:212] هذه طبيعتهم، وهذه صفاتهم، وأنا أعجب -أيها الإخوة- لأمرٍ من الأمور، في قضية الثوب مثلاً، أحد الناس المستهزئين يرى إنساناً لابساً ثوباً، جعل طوله كما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، فيقول له مستهزئاً: أنت لابس (شانيل) مثل القميص النسائي الذي تلبسه النساء، أي: أنت تشبه النساء. أما إذا ذهب هذا الرجل المستهزئ إلى بلدٍ جرت عادات الناس وتقاليدهم في تلك البلاد أن يجعلوا ثيابهم قصيرة، مثل إخواننا من أهل اليمن عاداتهم في لبسهم للثياب وفي لبس الإزار أن تكون قصيرة. نفس هذا الرجل المستهزئ إذا رأى هذا الأخ وعادته في بلده كذا لا يستهزئ به، فإذا ذهب إلى اليمن وشاهد الناس لا يستهزئ بهم، يقول: هذه عادة الناس. أما إذا جاء إلى الحكم الشرعي في الموضوع المستهزئ كحكم، وهو لا يستهزئ به كعادة وتقليد، فهذا من الأمور العجيبة ومن المفارقات التي تدل على مدى نجاح المستشرقين وأعداء الإسلام في غزوهم الفكري وفي إبعاد المسلمين عن التصورات، وسلخهم كليةً من تعليمات الدين. وإذا جلست مع أحد هؤلاء المستهزئين فإنه يطرح عليك سؤالاً بطريقة الاستهزاء، فعندما تأتي -مثلاً- إلى الغناء أو الموسيقى إلخ يقول لك: ما حكم هذه المسألة؟ أو أن فيها قولان. أي: استهزاء بهذا الحكم واستهزاء بما ستقوله له، هؤلاء الناس بيَّن الله عز وجل علاجهم في القرآن، وبيَّن مصيرهم، وثبتنا نحن المؤمنين -والحمد لله- بآياتٍ عظيمة في سورة المطففين: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} [المطففين:29 - 30] يغمزونهم ويلمزونهم ويشيرون إليهم بإشارات الاستهزاء والانتقاص والسخرية: {وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} ما اكتفوا بهذا الغمز {وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ} [المطففين:31] أي: منتشين، في حالة نشوة من هذه الجريمة التي ارتكبوها، مبسوطين؛ لأنهم استهزءوا بالمؤمنين، ولم يكتفوا بهذا بل إنهم: {وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ} [المطففين:32]. إذا راوا المستهزئين المؤمنين {قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ} [المطففين:32]، وا عجبي من قلب المفاهيم، كيف صار الهدى ضلالاً، مستهزئ يقول لمؤمن: إنك لضال، كما قال الله عز وجل: {وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ} هذا ضال، هذا متزمت، هذا رجعي، قُلبت المفهومات. وأصبح المؤمنون يُلصق بهم ما يجب أن يُوصف به هؤلاء المبتعدين عن شرع الله عز وجل: {وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ} قال الله تعالى مبكتاً لهم، وراداً عليهم: {وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} [المطففين:33] من الذي وكلكم على هؤلاء المؤمنين تحسبون عليهم، من الذي كلفكم بأن تكونوا أنتم الكتبة لما يفعلون: {وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} ما جعلنا هؤلاء الكفرة على المؤمنين يحصون أعمالهم ويُقيِّمون أعمالهم. ثم ينتقل السياق إلى اليوم الآخر، والوقت الذي تدوم فيه الأشياء، وتدوم فيه الجنة والنار والعذاب والعقاب والنعيم كلها دائمة: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} [المطففين:34] انظر إلى رحمة الله تعالى، وتسليته عن قلوب المؤمنين وعن نفوسهم، كيف أنه يوم القيامة عكس الوضع الذي كان في الدنيا على أولئك المستهزئين: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المطففين:34 - 36].

قوة المواجهة ضد المستهزئين بالدين

قوة المواجهة ضد المستهزئين بالدين أيها الإخوة! هذا الاستهزاء يجب أن نصبر أمامه، فإن كثيراً من الملتزمين بالإسلام شخصياتهم ضعيفة جداً في مواجهة الاستهزاء، فكثيرٌ منهم لا يقوون على أن يتلفظوا بحرفٍ واحد يقابل فيه استهزاء المستهزئين، وهذه مسألة خطيرة؛ لأنها تسبب نظرة الضعف للإسلام، فالمستهزئ عندما يستهزئ بك وأنت تسكت وتطأطئ برأسك أمام تلك الكلمات الجارحة التي يتلفظ بها ثم تستدير وتذهب، أو تجلس وعليك علامات الخزي، يقوي من شأن ذلك المستهزئ، ويُضعف هيبة الإسلام في قلب المستهزئ، ويثبته أكثر على باطله الذي هو عليه. يجب أن تكون نفوسنا قوية في مواجهة المستهزئين، نرد عليهم باطلهم، ونبين الحق ونعلنه ونصدع به، أما الشعور أو الظهور بمظهر الاستحذاء والخزي والعار والذلة أمام الفسقة والعصاة والكفرة، فهذا ليس من شيم المسلمين ولا من صفاتهم أبداً، ولا يريد الإسلام منا أن نكون بهذه الصورة، وانظر إلى موقف نوح: {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود:38] هذه هي النتيجة، فلا بد من الصمود والمواجهة، وعدم الاستكانة أو الظهور بمظهر الضعف؛ فهذا يؤثر سلبياً على انتشار الإسلام، وعلى وهيبته في نفوس الناس.

عائق تعريض النفس للبيئات المؤثرة سلبا

عائق تعريض النفس للبيئات المؤثرة سلباً كذلك من العوائق التي تكون حائلاً بين كثيرٍ من الناس وبين الالتزام بالإسلام: قضية تعريض النفس للبيئات التي تؤثر فيها سلبياً، أي: كثيرٌ من الناس يتأثرون بأشياء كثيرة مما يسمعونه ويرونه في حياتهم.

كتب الانحلال والمجون

كتب الانحلال والمجون هناك كتبٌ كثيرة تدعو إلى الانحلال والمجون والخلاعة والتحلل من أحكام الإسلام، وهناك أفلام كثيرة وتمثيليات تدعو إلى نفس ما تدعو إليه هذه الكتب، وهذه الأشياء لا يمكن منعها؛ لأن العالم -الآن- مفتوح على مصراعية، فلا تستطيع أن تمنع نفسك من التأثر، فلا بد من بناء النفس المسلمة بناءً صحيحاً بحيث تستطيع فيه أن تواجه هذه المؤثرات. ونقول: إن من العوائق حقيقة هذه الأشياء التي تُقرأ وتُرى وتُسمع، والتي تدعو الناس إلى الانحلال، هذه الأشياء من أكبر العوائق أمام ضعف المؤثرات الطيبة التي يتعرض لها الناس، فإنك إذا قارنت الكلام السيئ الذي يسمعه الناس، والتصرفات السيئة التي يرونها، أمام الكلام الطيب الذي يسمعونه، والتصرفات الطيبة التي يرونها؛ فإنك تجدها لا شيء. إن المؤثرات التي توجد حولهم أكثرها سلبية، وتضعف الإيمان وتجعل مكانه مظاهر الفسق والانحلال والابتعاد عن شرع الله عز وجل، وكثير من الكتب المؤلفة في الحلال والحرام منهجها العلمي والشرعي غير صحيح، هذه الكتب تؤثر على الناس تأثيراً سلبياً؛ لأنه إذا كان منهج الكاتب أنه لا يرى شيئاً في الأغاني مثلاً، أو يستهزئ بالمتمسكين ببعض السنن، كما في كتب بعض المحدثين، نسأل الله لنا ولهم الهداية، هذه الكتب تؤثر على الناس تأثيراً سلبياً؛ لأن الناس يتعلمون منها أحكام الدين، فإذا قرءوا هذا الحكم خطأ، فإنه سيستقر في أذهانهم الحكم خطأ، وبالتالي حكم وراء حكم، فتكون النتيجة تحلل الكثير من أحكام الدين. لذلك -يا أخي المسلم- يجب أن يكون عندك منهج صحيح في تلقي الأحكام، يجب ألا تقرأ إلا لمن يُوثق بدينه وعلمه، ولا تسأل ولا تستفتي إلا من يوثق بدينه وعلمه؛ لأن كثيراً من شيوخ الباطل وأئمة الضلال هم من الذين خاف الرسول صلى الله عليه وسلم منهم على أمته أشد الخوف: (إن أخوف ما أخاف على أمتي الأئمة المضلين) هؤلاء الناس هم الذين يضلون الناس ويكونون عائقاً كبيراً بينهم وبين الالتزام بالإسلام؛ لأنهم يفتونهم بفتاوى خاطئة، ويقرأ الناس كلامهم مكتوباً. لذلك لا بد أن ننعى كثيراً على أولئك الذين يستقون الأحكام والفتاوى من كثيرٍ من المجلات غير الموثوقة، التي تنشر الفجور والمجون والخلاعة، فتجده يفتح على صفحة الفتاوى ويقرأ، والله أعلم من الذي يكتب، أهو إنسان بعيد عن الإسلام وعن أحكامه، أم في قلبه هوى، أم عنده علم ولكن في قلبه هوى. فتجد مِنْ الناس مَنْ يتأثرون بها، فلذلك لا بد أن نحرص على أن نستقي الأحكام من الناس الموثوقين، والحمد لله يوجد في هذا البلد كثيرٌ من العلماء الطيبين الموثوق بهم، الذين يُرجع إليهم إذا نزلت بالناس المعضلات، وحلت بهم الملمات، التي تستلزم البحث عن الأحكام، ونحمد الله أن هذه من النعم الكبيرة التي تفتقدها كثيرٌ من بلاد المسلمين؛ إما خطيباً أو عالماً أو داعية. فيجب أن نقدر هذه النعمة الموجودة بيننا، ولا نجعل هؤلاء العلماء نسياً منسياً، لا نلجأ إليهم ولا نسألهم كما هي حالٌ كثيرٌ من الناس اليوم، فلا بد من استغلال هذه النعمة والتوجه بالسؤال لأولئك الفضلاء الموجودين بين ظهرانينا.

الأفلام والتمثيليات

الأفلام والتمثيليات هناك أفلامٌ وتمثيليات في بلاد الغرب تكتب حواراتها، وتمثل وتشيع بين المسلمين واقع خاطئ وسيئ لأجيال من السلف الصالح والعلماء الأجلاء، فتجد بعضها عن صلاح الدين، وبعضها عن ابن تيمية، وبعضها عن كذا، وليس الغرض منها إلا تشويه صورة هذا العالم، وهذا القائد المسلم في أنظار الناس. فلمٌ كامل مختصره أن رجلاً يحب امرأة، هذه المختصرات الغير مفيدة هي التي تعرض للناس هذه الشخصيات الإسلامية، فتُضل الناس، وتكون هذه عائقاً كبير بين الناس وبين التزامهم بالإسلام؛ لأنهم يظنون أن هذا هو الإسلام، أن الإسلام رقص وحب ومجون، فتشوه القدوات التي من الممكن أن تكون هي المؤثرة والدافعة للناس، فتعرض بشكل مزري جداً، بحيث يفقد الناس ثقتهم به. أيها الإخوة! كثيرٌ من هذه الأفلام فيها أشياء خطيرة تعرض لأدوار لما يُزعم أنه تمثيل عن صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، فيظهر الصحابي أمام امرأة متبرجة وهو ينظر إليها ويكلمها ويحاورها، أي: الذي يزعم بأنه صحابي، أو الذي يمثل دور الصحابي. ولذلك أفتت هيئة كبار العلماء بـ المملكة فتوى مهمة في عدم جواز تمثيل أدوار الصحابة مطلقاً؛ لما تفضي إليه من المفاسد، والكلام أيضاً في هذه الفتوى عن التمثيل في مجلة البحوث الإسلامية التي تصدرها إدارة البحوث العلمية والدعوة والإرشاد، فينبغي الرجوع إليها لمعرفة تفصيل هذا الأمر. وبلغ من تأثير هذه الأشياء! أن إحدى النساء كانت تنتقد وتهاجم بشدة فتاةً ملتزمة متحجبة بالإسلام، وتهاجم الفتيات المتحجبات عموماً، وتقول لهن: أنتن متشددات، أنتن اخترعتن في الدين حجاباً ما أنزله الله، أي: تريدون أن تكونوا أحسن من الصحابيات اللائي نراهن في الأفلام، نحن نرى الصحابية الآن، كيف تكشف عن وجهها وشعرها لماذا التَزَمُتْ؟ انظر إلى فعل هذه الأشياء في عقول الناس في كونها عائقاً أمام الالتزام بالإسلام!

عائق نشر الخلافات بين علماء المسلمين

عائق نشر الخلافات بين علماء المسلمين كذلك يعمد كثيرٌ من أعداء الإسلام إلى نشر الخلافات بين علماء المسلمين، ومذاهب المسلمين، حتى يتوصلوا بذلك إلى تفريق المسلمين، ويحتار الإنسان المسلم الجديد ماذا يختار! وتُنشر الفتاوي وتُتبع السقطات لبعض الأجلاء من العلماء، فتروج بين الناس، فتكون عائقاً لهم أمام التمسك بالدين، أي: عندما يرون العالم الفلاني قال كذا، وهو مخطئ، اجتهد فأخطأ له أجر، فتروج فتواه؛ فتكون عائقاً بين الناس وبين الالتزام بالإسلام، وقد حدث من هذا شيء كثير. إن بعض أهل البلاد الكافرة عندما أرادوا أن يدخلوا في الإسلام، كانت قضية المذهبية عائقاً بينهم وبين الدخول في الدين؛ لأنهم احتاروا ماذا يختارون! ومن الذي قال: إنه يجب عليهم أن يختاروا شيئاً، وهذا يعود إلى موضوع التعصب الذي ذكرناه آنفاً، وهو أن الإنسان المسلم يجب عليه أن يعرف الحق بدليله من العلماء الثقات أياً كانوا، فإذا عرفت عالماً تثق بعلمه فتسأله عن المسألة وعن الحكم والدليل، ولا بأس أن تتفقه على مذهبٍ معين بشرط أن ترجع إلى الحق إذا وجدت المذهب بخلاف الحق. وكذلك أيها الإخوة! لا بد أن نفهم أن قضية اختلاف العلماء ليست حائلاً بيننا وبين الالتزام بأحكام الإسلام، فالاختلاف من طبيعة البشر، فالبشر يختلفون دائماً في الحق والباطل، والآراء تتباين، والافهام تختلف، فلذلك تجد الآراء مختلفة، فيجب عليك أن تبحث عن الحق بدليله، فإن عجزت لقصورٍ فيك وفي قدراتك؛ فاسأل أي عالمٍ من أهل الذكر عن الحكم، ثم اتبعه على ما قال لك.

عائق الحيرة بسبب تعدد طرق الدعوة إلى الله

عائق الحيرة بسبب تعدد طرق الدعوة إلى الله كذلك من الأسباب: أن الإنسان يجد طرائق متعددة أمامه في الدعوة إلى الله وطلب العلم، فيحتار أيها يختار! وهذه المسألة هي بحد ذاتها إحدى العوائق التي تمنع كثيراً من الناس والشباب من الالتزام بأحكام الدين، لأنه يحتار ماذا يختار، لذلك كان لا بد من معرفة أصول أهل السنة والجماعة في العلم والعمل؛ حتى تعرف ماذا تختار من الأقوال والأفعال، هذه نقطة مهمة يا إخواني! ليس التعصب لشخصٍ ولا لجماعة من البشر، يجب على الناس أن يتعصبوا للحق فقط للدليل للقرآن والسنة لكلام العلماء الموثوق بهم، الذين يبينون الأحكام بالأدلة، ويبينون أقوالهم بهدي من كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم. أيها الإخوة: إذا رجعنا إلى هذه الأشياء فإنه لن يكون هذا العائق موجوداً أبداً -بإذن الله تعالى- فلا بد من معرفة أركان المنهج الصحيح حتى تكون دليلاً وهادياً ومرشداً لنا أمام الاختلافات التي نراها في هذا العصر.

عائق مفاهيم خاطئة عن الدين عند الناس

عائق مفاهيم خاطئة عن الدين عند الناس من العوائق -أيضاً- أن كثيراً من الناس اليوم عندهم مفاهيم خاطئة عن الدين:

الالتزام بقدر الاستطاعة

الالتزام بقدر الاستطاعة مثلاً: يأتي إلى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) احتج أحدهم على أحد من الفضلاء بهذا الحديث، وقال: يا أخي! أنت لماذا تريدنا أن نتمسك بكل شيء ونتبع كل شيء؟ الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) ففهم ما استطعتم، أي: ما استطعتم على التيسير والتسهيل، أي: إن تيسر لك الالتزام التزمت، وإن لم يتيسر لك الالتزام لا تلتزم هكذا فهم. (فأتوا منه ما استطعتم) أي: على قدر الفراغ، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقصد هذا الفهم مطلقاً. أيها الإخوة! الرسول صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نتمسك بالدين بجميع ما أوتينا من قوة، لكن قد لا يستطيع الإنسان أحياناً، فعند ذلك إذا لم يستطع وعجز تماماً؛ فله أن يدع ذلك الأمر لعجزه. أما أن نأخذ الإسلام على التساهيل، إذا وجدنا فرصة التزمنا، وإذا لم نجد الفرصة لم نلتزم وهكذا، هذه مشكلة.

الدين يسر

الدين يسر كذلك يقول كثيرٌ من الناس عندما تواجههم بأمور وحقائق وأحكام يقول: يا أخي! (الدين يُسر) يفهم هذا فهماً خاطئاً. أقول: نعم الدين يسر ولا شك في هذا، والرسول صلى الله عليه وسلم بعث بالحنيفية السمحة، ولكن إذا دققت في كلام أولئك الناس تجد أنهم يقولون: بلا دين هو اليسر، هو يحتج بأن (الدين يسر) ويريد من هذا التخلص والهروب من كثير من الأحكام، فإذا جئت تحقق في دعواه؛ وجدت أنه يقصد "بلا دين هو اليسر" هذه حقيقة ما يدعو إليه وما يقوله، أي: لا يريد الالتزام بالأحكام، لأن الدين يسر. هل معنى أن الدين يسر أنك لا تلتزم بأحكام الإسلام؟! هذا مفهوم عجيب جداً، مثلاً: أنت الآن في أرض منقطعة وليس عندك ماء، فإذا حان وقت الصلاة تيممت، هل فرض الله عليك أن تحفر بئراً حتى تتوضأ؟ لا. وإنما أباح لك التيمم رخصة من الله عز وجل، كذلك قصر الصلاة، والمسح على الجوربين، وجمع الصلاتين، هذه الأشياء المشروعة هي معنى "الدين يُسر". هل معنى الدين يُسر أن نتفلت من الأحكام ونأخذ ما نشاء وندع ما نشاء؟ لا. هذا أصبح الدين لعباً، وهذه من صفات بني إسرائيل أنهم اتخذوا دينهم لهواً ولعباً، الذي يعجبه يفعله والذي لا يعجبه لا يفعله، والذي يدخل عقله يفعله والذي لا يدخل عقله لا يفعله، والذي يطاوع هواه يفعله والذي لا يطاوع هواه لا يفعله وهكذا.

أولئك هم الصحابة

أولئك هم الصحابة بعض الناس -مثلاً- إذا جئت تكلمه وتقول له: يا أخي! الحكم كذا، والرسول كان يفعل كذا. يقول لك: إيه ذاك الرسول، الصحابة كانوا يفعلون كذا: إيه أولئك الصحابة، هذا كلام نسمعه كثيراً. أي: سبحان الله! الرسول أرسل لكي يعمل بمفرده، وليعمل لنفسه، لا لأجل أن نستفيد من هذا العمل مطلقاً، هذا معنى كلامه، لأننا كلما أتينا بشيء قال: ذاك رسول، أي: لا نتبع شيئاً من أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم، والله يقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال:20]. وهؤلاء الصحابة قدوتنا، وإذا لم نقتدِ بالصحابة ولا بالرسل صلى الله عليه وسلم فبمن نقتدي إذاً؟ وما هي فائدة القدوة؟ ولماذا صار ذلك الجيل الذي اجتمعت فيه تلك الصفات أمام الأمة وفي بدايتها، وما هي الحكمة أن نقتدي بهذا الجيل، وأن نسير على نهجه وعلى طريقه؟

المقصود منه كذا وكذا

المقصود منه كذا وكذا وإذا جئت إلى أحكام كثيرة، تنهى الإنسان عن إسبال الثوب، يقول لك: المقصود الخيلاء وأنا لم أسبل خيلاء، ومن الذي قال لك: إن النهي عن إسبال الثوب المقصود منه الخيلاء؟ ومن أين استقيته؟ فكثير من الناس ليس عنده علم، يقول هكذا، فإذا رجعت إلى الأحاديث وجدت أن الإسبال منهي عنه مطلقاً لا للخيلاء ولا لغير الخيلاء: (ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار) (من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه) فصار عندنا عملين مختلفين كل واحد له جزاء مختلف عن الآخر: (ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار) مطلقاً و (من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه) فالذي يسبل ثوبه إلى تحت الكعب له جزاء وهو أن يحترق ذلك الجزء من جسمه في النار، ومن جره خيلاء له جزاء أعظم وهو ألا ينظر الله إليه. انظر كيف تبين الأحاديث، وهذا الرجل يقول: المقصود أنها خيلاء، ثم كما يقول ابن العربي رحمه الله في فتح الباري في التعليق على هذا الحديث الذي رواه ابن عمر في الصحيح: (ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار) قال: وأي إنسان يقول: أنا لا يوجد في نفسي خيلاء، لا نقبل كلامه، لأن معناه أننا فتحنا الباب أمام كل أحد أن يقول: أنا لا أقصد الخيلاء: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [النجم:32] ما يدريك أن ما في نفسك خيلاء، أي: لو لم يكن هذا الحكم إلا من باب سد الذرائع لكفى.

هذه سنة

هذه سنة وإذا جئت إلى إناس في قضايا كثيرة من الأحكام قال: يا أخي! هذه سنة، أي: إذا فعلتها أُثاب وإذا لم أفعلها لا أعاقب، ومن قال لك: إن هذا هو تعريف السنة، هل هذا هو التعريف فقط للسنة، أليس عندنا سنن واجبة، وسنن مستحبة، صلاة الظهر أربع ركعات ليست موجودة في القرآن، وموجودة في السنة، فصلاة الظهر أربع ركعات سنة لكنها واجبة. هل يستطيع أحد أن ما يريد، كثير من الأحكام وردت في السنة واجبة ملزمة لا يمكن أن يتخلى عنها الإنسان مطلقاً، فالذي يقول: إن أي سنة يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها هذا كلام خطأ، ليس هذا هو التعريف فقط للسنة، هذا إحدى التعريفات؛ ولكن هناك سنن واجبة وسنن مستحبة، فيجب عليك أن تنظر هل هي من السنن الواجبة أم من السنن المستحبة.

إنما الأعمال بالنيات

إنما الأعمال بالنيات كذلك يوجد عند الناس قضية (إنما الأعمال بالنيات) أي إنسان تريد أن تتكلم معه في أحكام يقول: والله إنما الأعمال بالنيات، وأنا نيتي طيبة، طيب! الحديث يقول: (إنما الأعمال بالنيات) وهذا الرجل مشكلته أنه لا يوجد عنده أعمال في الأصل حتى تكون بالنيات! الحديث يقول: (إنما الأعمال بالنيات) وهذا الرجل لا يعمل أي عمل، ثم يقول: (إنما الأعمال بالنيات) أين الأعمال؟ أرنا الأعمال أولاً؟

إن الله غفور رحيم

إن الله غفور رحيم تجدهم يفهمون (إن الله غفورٌ رحيم) كما يشاءون، وينسون أن الله عز وجل شديد العقاب، وإذا ناقشت أحدهم يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] والحمد لله أنا لست مشركاً؛ فإذاً -إن شاء الله- الله يغفر لي، والحمد لله أنا في خير، وأنا أملي في الله كبير، وأن واثق بالله، وأنا ولكن الآية تقول: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]. ما يدريك أنك من الناس الذين شاء الله أن يغفر لهم؟ هل عرفت مشيئة الله وعرفت أنت في أي نوع من الأنواع إن شاء الله أن يعذبك أو يغفر لك؟! نحن نقول: نعم كل الأعمال سوى الشرك تحت المشيئة، يمكن أن الله يعذبه، وقد يغفر له ولا يعذبه، لكن ما يدريك يا مرتكب المنكر يا مرتكب الحرام يا من وقع في المعصية بأنك دخلت في مشيئة المغفرة وأن الله قد غفر لك؟ ثم تأتي وتحتج بالآية! أيها الإخوة! هناك مفاهيم كثيرة خاطئة عند الناس يفهمونها عن الإسلام، فمفهوم الشهادتين خطأ، ومفهوم العبادة خطأ، ومفهوم الإيمان خطأ، ومفهوم إن الله غفور رحيم خطأ، ومفهوم القضاء والقدر خطأ، فلذلك هناك عوائق كثيرة أمام الناس، ونحن الدعاة إلى الله عز وجل يجب علينا أن نبين للناس وأن نعلمهم، وأن نزيل هذا الغبش من أذهانهم.

عائق انتشار الأحاديث الضعيفة والموضوعة

عائق انتشار الأحاديث الضعيفة والموضوعة كذلك من العوائق: انتشار الأحاديث الضعيفة والموضوعة التي تكون بين الناس وبين الالتزام بالإسلام، مثلاً: يأتي إنسان إليك ويقول لك: (نية المؤمن خيرٌ من عمله) فإذاً النية أحسن من العمل، إذاً العمل شيء ثانوي والنية هي الأساس، فأنا يمكن أن تكون نيتي طيبة ولا أعمل، والدليل على ما أقول: هذا الحديث. فإذا نظرت إليه وجدته حديثاً منكراً باطلاً لا يصح عن الرسول صلى الله عليه وسلم. ويأتي آخر يقول: (من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له) رجل فيه فسق لكنه يريد أن يصلي؛ لكن المشكلة الآن أنه فاسق؛ فينظر إلى هذا الحديث: (من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له) أو (لم يزدد من الله إلا بعداً) فيقول: لا أصلي، فأحد الإخوان قال لي: أنا ضللت ستة وعشرين عاماً لا أصلي بسبب هذا الحديث، كنت واقعاً في بعض المنكرات ولكني أريد أن أصلي مع أني واقع فيها، وكلما جئت أصلي أتى هذا الحديث أمامي: (من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له) فيقول: لماذا أصلي؟ وهذا الحديث منكر باطل، ولا يثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم. أحدهم يأتي يشيع على ألسنة الناس حديث: (السارق من السارق كالوارث من أبيه) هذا سمعته في أحد المجالس، أي: المسألة معناها أن كل أحد يبحث له عن سارق ويسرق منه؛ لأنه كالوارث من أبيه، أي: أصبحت القضية لها مستنداً شرعياً، صارت هذه أحد الأوجه التي يتملك فيها الإنسان المال من طريق شرعي، لأن السارق من السارق كالوارث من أبيه، وهذا حديث غير معروف ولا مشهور وليس له أصل، بل وضعه بعض العامة، فاشتهر بينهم على أنه حديث، وقس على ذلك أحاديث كثيرة من الأحاديث الضعيفة والموضوعة المنتشرة التي تثبط الناس وتخذلهم، وإذا وبحثت عنها وجدتها ضعيفة أو موضوعة أو مكذوبة على الرسول صلى الله عليه وسلم، والعلاج أن نبين، والواجب على الناس أن يسألوا ما حكم هذا الحديث؟ وما درجة صحته؟

عائق مواصفات بعض الشخصيات

عائق مواصفات بعض الشخصيات ختاماً: هناك بعض المواصفات في بعض الشخصيات يعوق التزامه بالإسلام، فمثلاً: إنسان شخصيته هزلية، يحب الهزل كثيراً، لا يريد أن يلتزم بالإسلام لماذا؟ يقول: أخشى إن التزمت أني لا أبتسم أبداًَ، ولا أضحك مطلقاً، ولا يمكن أن أفرح ولا أمرح وهذه هي طبيعتي، وسأضيق وأكتم نفسي!! يا أخي! من قال لك: إن الإسلام يحرم الضحك؟! ومن قال لك: إن الإسلام يحرم المزاح؟! ألم يكن صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم يترامون بقشر البطيخ، كما ثبت في الحديث الصحيح، كانوا إذا أكل بعضهم بطيخاً؛ أخذوا القشر فتراموا -مزاح- فإذا جاء الجد كانوا هم الرجال. لكن نحن الآن في الجد وفي غير الجد هزليين، بل إن كثيراً من الملتزمين وغير ملتزمين، يضحكون على أنفسهم؛ لأنه هزلي، فلا يقدر أبداً أهمية هذا الدين وهذه المبادئ التي يحملها، هزلي في جميع التصرفات، ولا يمكن أن يكون قدوة بأي حال من الأحوال، ولا يمكن أن نتلقى منه علماً، ولا يمكن أي يتأثر منه أحد، والسبب أن شخصيته هزلية جداً، لا تمثل أبداً ذلك الوقار والسمت الحسن الذي أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم لدرجة أنك ترى أناساً ظاهرهم الالتزام لكن يأخذ السيارة ويفحط، أحدهم قال: أعرف شخصاً يفحط وهو يسمع القرآن. يا أخي! نحن فعلاً في آخر الزمان! كذلك بعض الشخصيات إنطوائية لا تحب المعاشرة، ولا الكلفة، فهذا يحول بينه وبين التأثر بالشخصيات الطيبة، لكن هذا العائق قد لا يكون لهذا الإنسان ذنب فيه، وإنما هذه قضية يتحملها دعاة الإسلام، الذين يجب عليهم أن يتغلغلوا ويحاولون أن يتداخلوا مع هذا الرجل، ويبينوا له الحق ويعرضوا عليه النور الذي أنزله الله عز وجل. بعض الشخصيات عندها ضعف إرادة في اتخاذ القرارات، ليس عنده مقدرة على اتخاذ القرار أبداً، هذه الشخصية التي فيها الضعف الناتج عن قلة الإيمان لا يمكن أن يتمسك بحكمٍ ما، لا يمكن أن يقرر أن يواجه المجتمع بشيءٍ ما، ليست عنده إرادة وقدرة على اتخاذ القرار، وقد سمعت أشياء عجيبة عن بعض الرجال، أحدهم يقول: لا أستطيع أن أعمل كذا؛ لأن زوجتي ستطلقني إذا فعلت، سبحان الله! النساء قوامات على الرجال، انقلبت الآية. قال: زوجتي ستطلقني، وهو يتكلم ليس هزالاً، قال: والله ستطلقني ستطلقني. سبحان الله العظيم! إذاً هؤلاء أشباه الرجال ولا رجال، وفعلاً هذه حال كثير من الناس في بيوتهم، أمام الناس شخصية من أحسن ما يكون، وفارض نفسه على غيره، فإذا رجع إلى البيت صار مثل الدجاجة. بعض الشخصيات -مثلاً- عندها اللامبالاة، وتبلد في الإحساس، ويمشي من غير هدف، وقد يقلد الملتزمين في الشكل، لكن لا يحس بأي قيمة لأحكام الإسلام، ولا يحس أن وراءه هدف، ولا أن عليه مسئولية، ولو أن أحداً كلمه لا يبالي، فهذا الرجل لا يمكن أن يتحرك مطلقاً في الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نهائياً أبداً. فلذلك بعض الناس عندهم صفة الكبر، هذه الصفة الذميمة الأثيمة التي تمنع تقبل الحق، والكبر هو بطر الحق وغمط الناس، فهو لا يقبل الحق لهذه الصفة. وبعض الناس في شخصياتهم المراوغة واللف والدوران، بحيث أنك إذا جئته بأي شيء لا بد أن يروغ منك. إذا أعطيته حكماً لابد أن يدبر لك حلاً أو مخرجاً، يقول: يا أخي! اللحية! تشوه زوجتي إذا اقتربت منها، وتتأذى منها، ويقول مثلاً: عندي حساسية وحبوب، المهم أنه لا يطبق الحكم، وهذا مثل، وأنا لا أقصد هذا الحكم لذاته، وإنما أقصد المثل عموماً، وأن هذه البلايا الموجودة في بعض الشخصيات تمنع كثيراً من الناس من الالتزام بالإسلام. ما هو الحل؟ علاج هذه العيوب بالإيمان والعمل الصالح، ويجب على الدعاة إلى الله عز وجل أن يتفطنوا لنقاط الضعف في شخصيات أولئك الناس الذين يدعونهم إلى الإسلام، حتى يعرفوا كيف يتسللون إلى نفوسهم، وما هو مكمن الضعف عند هذا الرجل حتى يُعالج ويُدفع ويُقوى، وحتى يستقيم على شرع الله عز وجل. نكتفي بهذه النقاط التي ذكرناها في هذا الموضوع، وهو موضوع طويل، ويحتاج إلى تفصيل، وبعض النقاط سردناها هكذا، ولكن لعل في هذا يكون ذكرى لنا جميعاً.

الأسئلة

الأسئلة

حكم الصلاة ببطاقة العمل

حكم الصلاة ببطاقة العمل Q ما حكم صلاة رجل يعلق بطاقة العمل وعليها صورته بارزة كما في بعض المستشفيات؟ وهل إذا نسي وصلى صلاته صحيحة؟ A لقد أجاب الشيخ ابن باز على هذا السؤال، وقال: هذا لا يجوز مطلقاً، أي: لا يجوز أن يصلي الإنسان وهو يعلق البطاقة التي فيها صورته على جيبه، إما أن يقلب البطاقة، أو يدخل الصورة في جيبه، لكن لا يعلق الصورة على جيبه. أما بالنسبة لو صلى هل صلاته صحيحة؟ فقد أجاب عن هذا الشيخ ابن عثيمين فقال: نعم صلاته صحيحة ولا شيء عليه.

أكل الفاكهة قبل الطعام

أكل الفاكهة قبل الطعام Q هل أكل الفاكهة قبل الطعام سنة من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم؟ A يمكن أن هذا الأخ يقصد أن قول الله عز وجل: {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة:20 - 21] أنه قدم الفاكهة على لحم الطير -هذا في الجنة لكن لا يؤخذ منه- كما يقول الشيخ ابن عثيمين - أن هذا سنة، وأما أنه بدأ بالفاكهة، أو بدأ بالطعام، أو بدأ بالماء فليس هناك حرج في هذا كله.

حكم أكل شجرة رمان نبتت في بلاعة

حكم أكل شجرة رمان نبتت في بلاعة Q شجرة رمان تنبت في بلاعة هل يجوز أكل ثمرها؟ A يقول الشيخ ابن عثيمين: إذا لم يتغير طعم ولون هذه الثمرة بنجاسة؛ فيجوز أكلها، أما إذا تغير الطعم بالنجاسة؛ فلا يجوز أكلها.

حكم إغماض العينين في الصلاة بسبب الزخرفة

حكم إغماض العينين في الصلاة بسبب الزخرفة Q هل الزخرفة الموجودة في سجاجيد المساجد اليوم مبرر شرعي لإغماض العينين في الصلاة؟ A يقول الشيخ ابن عثيمين: ليست مبرراً شرعياً لإغماض العين إذا تعود عليها، أي: إذا تعود عليها يفتح عينيه ويصلي، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يصلي وهو مفتوح العينين ينظر إلى موضع السجود، وينظر إلى السبابة وهو يحركها في الصلاة، لأنه إذا غمض عينيه فسوف تفوته مثل هذه السنن، أما إذا كان ينشغل ذهنه -فعلاً- ويتشوش وهو ينظر إلى هذه السجاجيد المزخرفة؛ فلا حرج عليه في إغماض عينيه.

شرط شفاعة البقرة وآل عمران

شرط شفاعة البقرة وآل عمران Q قال الرسول صلى الله عليه وسلم فيما معنى الحديث: (تأتي سورة البقرة وآل عمران شفيعتان لأصحابهما) هل يشترط الحفظ حتى يحصل هذا الأجر، أو هذا الجزاء؟ A يقول الشيخ ابن عثيمين: ليس الحفظ شرطاً، وإنما يحصل هذا الشيء -إن شاء الله- بالقراءة، والحفظ أفضل، ولكن لا يعني أنه لا يحصل هذا الأجر إلا بالحفظ، وإنما يحصل أيضاً بالقراءة.

الدعاء بالنجاح أو بالأفضل

الدعاء بالنجاح أو بالأفضل Q ما هو الصحيح: أن أدعو الله أن ينجحني في الامتحان، أم أدعو الله أن يختار لي الأفضل سواءً النجاح أو الرسوب؟ A الشيخ ابن عثيمين لما عَرضت عليه السؤال ضحك وقال: تدعو الله أن ينجحك في الامتحان. قال: وإلا جالس يذاكر طوال السنة من أجل أن يرسب في الأخير، فأنت تدعو الله بما تريد، تقول: اللهم أعطني كذا، وهب لي كذا وتعمل الأسباب وتتوكل على الله عز وجل، وكذلك لا مانع أن تدعو بالدعاء العام أن الله عز وجل ييسر لك الخير حيثما كان، ولذلك شرعت لهذه الأشياء صلاة الاستخارة.

اختلاف الزوج والزوجة في بعض الأحكام

اختلاف الزوج والزوجة في بعض الأحكام Q كثيراً ما يرى الزوج حرمة شيء، وترى زوجته خلاف هذا الأمر، وكلاهما يستند إلى دليل شرعي، فما هو الحل هل يقدم رأي الزوج أو رأي الزوجة؟ A فصّل الشيخ ابن عثيمين في هذا السؤال تفصيلاً طيباً، فقال: إذا كان الشيء خاصاً بالزوج، وهذا مفروغ منه، فلابد أن تقدم قناعة الزوج الشرعية، أما لو كان الشيء متعلقاً بالزوجة فقط؛ فتقدم قناعة الزوجة الشرعية. مثلاً: زكاة الحلي: نفترض أن رجلاً يعتقد وجوب الزكاة في الحلي، والمرأة تعتقد عدم وجوب الزكاة في الحلي، وكل واحدٍ عنده أدلة ومقتنع برأي بعض العلماء الموثوق بهم، فهنا المسألة متعلقة بالمرأة لا بالرجل. فلذلك لا يجوز للرجل أن يجبر زوجته على تطبيق الرأي الذي توصل إليه؛ لأن هذه المسألة متعلقة بالزوجة وهي المتعبدة به والمسئولة عنه أمام الله عز وجل، أما إذا كان الشيء مشتركاً، مثل: آنية المطبخ -مثلاً- الزوجة ترى في هذا الإناء شيئاً وزوجها لا يرى فيه شيئاً، أو مثلاً: أكل اللحم المستورد: الزوجة ترى فيه كذا والزوج يرى كذا. فهذه الأشياء المشتركة يقول الشيخ ابن عثيمين: يقدم فيها رأي الزوج؛ لأنه هو ولي الأمر الذي تجب طاعته، فصارت عندنا الأشياء ثلاثة أقسام: 1 - شيء متعلق بالزوج وهذا مفروغ منه. 2 - شيء متعلق بالزوجة: فإذا كانت الزوجة عندها أدلة فعلاً، وسألت أناساً موثوق بهم فعلاً، وهي لا تعلم، أو أن الحق ليس عندها مطلقاً، فإذا كان عندها قناعة شرعية، لا يجوز لزوجها أن يجبرها على الرأي الذي توصل إليه هو. 3 - أما لو كان الشيء مشتركاً، فعند ذلك يقدم قول الزوج.

حكم الصدقة ببقية الطعام الزائد دون إذن الزوج

حكم الصدقة ببقية الطعام الزائد دون إذن الزوج Q امرأة تتصدق ببقية الطعام الزائد عندها، والزوج لا يسمح لها بهذا، فماذا تفعل؟ A يقول الشيخ ابن عثيمين: لا يجوز لها أن تتصدق بهذا الطعام؛ لأنه ملكٌ لزوجها، ولكن إذا كان عندها من المال ما تضمن به هذا الشيء الذي تصدقت به لو طالبها به الزوج؛ فيجوز لها أن تفعل هذا.

أخي الأكبر لا يصلي وهو ولي الأمر في البيت

أخي الأكبر لا يصلي وهو ولي الأمر في البيت س Q أخي الأكبر هو ولي الأمر في البيت؛ لأن والدي قد توفى وهو يصرف علينا، فهل يجوز أن آكل وأسكن في البيت وهذا الأخ لا يصلي مطلقاً، أي: خارج عن ملة الإسلام؟ A يقول الشيخ ابن عثيمين: نعم يسكن ويجلس في البيت ويأكل معه من الطعام، وينصحه ويواظب على نصحه، فإن استجاب وإلا فإنه يهجره ولا يسلم عليه.

حكم الصلاة بين الأعمدة والسواري

حكم الصلاة بين الأعمدة والسواري Q هل هناك حديث ينهي في الصف بين الأعمدة والسواري في المسجد، فلو أن الناس يصلون في الزحام في الحر فهل يصلون بين السواري؟ أي: يصفون وتكون الأعمدة متخللة الصف أم يتركون هذا حتى لو اضطروا إلى الصف خارج المسجد في الحر؟ A يقول الشيخ ابن عثيمين: لا بأس بهذه الحالة أن يصف الإنسان بين السواري، ويجب عليهم أن يملئوا الصف ويكملوه.

حكم اتلاف الصور

حكم اتلاف الصور Q أنا شابٌ ملتزم، وزوجتي عندها صور، فبعد أن التزمت هذه الصور التي عند زوجتي هل يجب عليّ أن آخذها من زوجتي إن رفضت؟ A كان جواب الشيخ ابن عثيمين: نعم يجب عليك ذلك، وأجاب الشيخ ابن جبرين كذلك: يجب عليك.

حكم الصور المدفونة

حكم الصور المدفونة Q أنا شابٌ ملتزم عندي صور قديمة، فأخفيتها في محل لا يعلم به إلا الله وهو كذلك يعلم به -دفنها مثلاً- يقول: فما هو الحكم؟ A قال الشيخ ابن عثيمين مجيباً على هذا السؤال: يجب عليه أن يتلفها. فما هي المصلحة في إبقائها إذاً في مكان أنت لا تستفيد منها.

معاملتي لرفقة أبي السيئة

معاملتي لرفقة أبي السيئة Q أنا والدي فاسق، ويأتي إليه أصحاب يشربون معه الخمر، ويطرقون الباب ويكون أحياناً غير موجود، فهل يجوز لي أن أدخلهم إلى البيت وأرحب بهم علماً بأنني إذا لم أفعل ذلك سيغضب والدي؟ A كان جواب الشيخ عبد الله بن جبرين على هذا السؤال: لا يجوز لك أن تدخلهم، ولا أن ترحب بهم، بل تطردهم من البيت أو تردهم على الأقل حتى لو غضب والدك.

حكم تزيين اللوحات بأجنحة الفراشة الطبيعية

حكم تزيين اللوحات بأجنحة الفراشة الطبيعية Q امرأة تقول: ما حكم تزيين بعض اللوحات بأجنحة الفراشة الطبيعية، أي: تصيد فراش وتأخذ الأجنحة وتضعها زينة في لوحاتها في المعارض الفنية إلخ؟ A يقول الشيخ عبد الله بن جبرين: لا بأس بذلك، ومن الأسباب أن ما قطع من حيٌ فهو ميت لا ينطبق على هذا، لأن هذه الحيوانات لا نفس لها سائلة، وليس لها دم، فلذلك إذا ماتت فليست نجسة، أما البعوض ففيه دم لكنه غير نجس؛ لأن الدم الذي فيه دم امتصه من إنسان أو كائن حي وليس دم البعوض نفسه، أي: أن البعوض ليس لديه جهاز دموي ودم يسري فيه، وإنما الدم الذي يوجد بعد قتله إنما هو دم امتصه من مصدرٍ آخر، ولذلك تبقى هذه الميتات التي لا نفس لها سائلة طاهرة، فيقول الشيخ: فلا بأس من استعمالها. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد. وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

فضيحة المشعوذين [1]

فضيحة المشعوذين [1] الجن خلق من خلق الله خلقهم من نار، فالإيمان بهم واجب، وهم أصناف: فمنهم المؤمن ومنهم الكافر، وقد عمد كفارهم إلى إغواء المسلمين، بما لديهم من قدرات وإمكانات خارقة. فضيحة المشعوذين هو عنوان هذه الخطبة التي تتضمن كلاماً عن خلق الجن وأصنافهم وقدراتهم؛ لأن الجن هم السلاح الأقوى لدى المشعوذين، الذي يتمكنون به من الإغواء والتزيين. فهذه الخطبة هي الجزء الأول من هذا الموضوع، ويغلب عليها تفصيل قدرات الجن في شتى المجالات.

حقيقة خلق الجن وقدراتهم

حقيقة خلق الجن وقدراتهم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فحديثنا اليوم -أيها الإخوة- عن خلقٍ من خلق الله تعالى، منهم المؤمن ومنهم الكافر، عمد كفارهم إلى إغواء المسلمين وحرفهم إلى الشرك، واستعملوا من أجل ذلك أنواع القدرات التي عندهم لإضلال الإنس، فاستجاب لهم كثيرٌ من الإنس، واستعانوا من أجل تحقيق غرضهم بأمر الشيطان كبيرهم بوسائل متعددة، ومن ذلك: هؤلاء الكهان والعرافون المنتشرون، والمشعوذون وغير ذلك. ومن أسباب طرح الموضوع ما سمعته من عدد من الإخوان الذين سألوا عن أشخاص يذهبون إليهم لمعرفة مكان السحر فيدلونهم عليه، ومكان المسروقات والمفقودات فيدلونهم عليها، ويجرون عملياتٍ بدون جراحة، ويستأصلون الأورام، ويزيلون العاهات، ويقرءون البطاقات الشخصية، ويعدون النقود في الجيب، ويخبرون الإنسان بأحواله الخاصة التي لا يعرفها إلا هو، ويكون كلامهم صحيحاً، وبدأت تجد الناس يصطفون طوابير على هؤلاء المشعوذين المتصلين بالشياطين رجاء شفاءٍ، أو معرفة مفقودٍ، وبعضهم عن فضول وحب استطلاع، فنريد أن نتعرف في هذه الخطبة على طرق هؤلاء الشياطين ووسائلهم وما هي ألاعيبهم، وما هي القدرات التي عندهم؟ لكي يبين بعد ذلك ويستبين للمسلم حقيقة هؤلاء، ولكي يكون الإنسان على بصيرة من أمره، خصوصاً وأن القضية قد دخلت حتى عالم الألعاب، فيحدثونك عن لعبة أو ألعاب تباع في السوق، رقعة تبسط عليها أشياء ثم يشير السهم أو القطعة إلى جوابٍ محدد، وتتحرك هذه القطعة على الرقعة بمفردها بدون أن يمسها الشخص ونحو ذلك. فما هو حكم الشرع في هذه الأشياء؟

تقدم خلق الجن وبيان أصنافهم

تقدم خلق الجن وبيان أصنافهم أولاً: لا بد أن نعود إلى الجذور، لا بد أن نعود للكلام عن الجن، ذلك العالم الذي خلقه الله تعالى كما خلق عالم الإنس وعالم الملائكة، والحمد لله رب العالمين، والعالمين جمع عالم، أخبرنا الله تبارك وتعالى أنهم خلقوا من النار، فقال عز وجل: {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} [الحجر:27] {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} [الرحمن:15] ومارج النار: طرف اللهب، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (خلق الملائكة من نور، وخلق الجان من نار، وخلق آدم مما وصف لكم) رواه مسلم رحمه الله تعالى. وخلق الجن متقدمٌ على خلق الإنس، فكانوا قبلهم في الأرض بدليل قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ * وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} [الحجر:26 - 27] وقيل في سبب قول الله تعالى في كلام الملائكة لما قالوا لربهم في خلق آدم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة:30] قالوا: إن الملائكة توقعت أن يكون هذا شأن المخلوق الجديد لما رأوا من المخاليق الذين قبله من الجن الذين أفسدوا فيها وسفكوا الدماء، وسمي الجن جناً لاستتارهم قال تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ} [الأنعام:76] واستجن بالشيء أي: اتقى به واختفى وراءه، وأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عليه وسلم عن أصنافهم وعن شيءٍ من قدراتهم، فقال في الحديث الصحيح: (الجن ثلاثة أصناف: فصنفٌ يطيرون في الهواء، وصنفٌ حياتٌ وكلاب، وصنفٌ يحلون ويظعنون) فأخبرنا بقدرتهم على الطيران وأخبرنا بقدرتهم على التشكل في هيئة حياتٍ وكلاب، ولا مجال للتكذيب بعالم الجن ألبتة، ومن أنكر وجود الجن فهو كافر، لأنه كذب الله تعالى الذي قال في محكم تنزيله: {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ} [الحجر:27] {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً} [الجن:1] {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} [الأحقاف:29] فالمكذب بوجود الجن كافر، ولم يكذب به إلا طائفة من الفلاسفة والعقلانيين، وبعضهم زعموا أن الجن نوازع الشر في النفس الإنسانية، وأنهم ليسوا خلقاً مستقلاً وأنكروا وجودهم، وهؤلاء ولا شك ضلال، فإن المعرض عن كلام الله ورسوله لا يكون إلا ضالاً.

الهداية والضلال في عالم الجن

الهداية والضلال في عالم الجن وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أنه التقى بهم ودعاهم إلى الله تعالى وقال: (إنه أتاني وفد نصيبين -وهي بلدة- ونعم الجن! فسألوني الزاد فدعوت الله لهم ألا يمروا بعظمٍ ولا روثة إلا وجدوا عليها طعاما) فكان منهم المؤمنون الذين انطلقوا في الأرض يستمعون لأي شيء يدل على سبب منع استراق الخبر من السماء {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأحقاف:29 - 30] ودعوا قومهم إلى الله تعالى، وكان منهم الفقهاء لما قرأ عليهم النبي صلى الله عليه وسلم سورة الرحمن فكان إذا مر بقوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:13] قالوا: ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد! ولكن كثيراً منهم كفار وضلال وفسقة، هؤلاء الجن. ولذلك فإنهم شياطين، الشيطان اسمٌ للكافر من الجن، وهم كثيرون جداً، وكانوا يسترقون الخبر من السماء، يركب بعضهم فوق بعض ليستمع الخبر من السماء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله كالسلسلة على صفوان) يعني: كصوت جر السلسلة على صخرة، وهو صوتٌ عظيم {إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:23] فيسمعها مسترقو السمع الجن الذين يركب بعضهم فوق بعضٍ إلى السماء يستمعون شيئاً من كلام الملائكة عن أوامر الرب في مرض فلان، أو شفاء فلان أو موت فلان أو زلزالٍ في مكان كذا، ونحو ذلك من الأحداث الأرضية، فيسمعها مسترقو السمع واحداً فوق الآخر، وصف سفيان راوي الحديث بعضهم فوق بعض وفرج أصابع يده اليمنى نصب بعضها فوق بعض (هكذا يركب بعضهم فوق بعض) يستمعون هذه الأوامر بصوت الملائكة الذين نقلوها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: فربما أدرك الشهاب المستمع قبل أن يرمي بها إلى صاحبه -أي: الذي تحته- فيحرقه ولا تصل الكلمة إلى الأرض، وربما لم يدركه -الشهاب- حتى يرمي بها إلى الذي يليه، حتى يلقوها إلى الأرض، فإذا وصلت الكلمة إلى الأرض من خبر غيبي سيحدث فتلقى على فم الساحر -الجن هؤلاء الشياطين المتعاونون مع الساحر يأتون بالخبر إلى هذا الكاهن- فيكذب معها مائة كذبة فيصدق من قبل المغفلين في الأرض من الإنس الذين يأتون طوابير فيقولون: ألم يخبرنا يوم كذا وكذا بكذا وكذا فوجدناه حقاً؟ للتي سمعت من السماء، رواه البخاري في صحيحه، فالناس لا يذكرون من كلام الكاهن إلا الشيء الذي حصل، ويقولون: أخبرنا بوقوع كذا ووقع، ولا يذكرون الكذبات الكثيرة التي يخبرهم بها من عالم الغيب من التي لا تقع، وبعض هؤلاء الكهان أذكياء يستخدمون ذكاءهم في الشر، فربما يخبرهم عن أشياء متوقعة الحصول، وأشياء لا يبعد وقوعها تعرف بالاستنتاج مثلاً فلا يكتشفون أمره، إذاً لو فرضنا أن كاهنا أو عرافاً أو ساحراً أخبر شخصاً بأنه سيقع حدثاً، وهذا الحدث لا يمكن استنتاجه ولا معرفته أو توقعه ووقع كما قال، فربما يكون مما زوده به شيطانه من الأخبار التي يسترقها الجن من السماء، ولكن نسبة الصدق في كلامهم (1%) ونسبة الكذب في كلام الكهان (99%)، لكن المغفلين لا ينتبهون إلا لهذا الخبر الواحد الذي تحقق ويقولون: يعلم الغيب، ولا يعلم الغيب إلا الله.

ظهور القدرات الخارقة للجن في خدمتهم لسليمان

ظهور القدرات الخارقة للجن في خدمتهم لسليمان وقد أخبرنا الله تعالى أنهم أصحاب قدرات عجيبة، وسخر الجن لنبيه سليمان فكانوا يقومون له بالأعمال الكثيرة، قال الله عز وجل: {وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ * يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سبأ:12 - 13] فيعملون له ما شاء بتسخير الله له، سلطه عليهم، لا يستطيعون أن يخالفوا أمر سليمان ومن خالف أذاقه الله من عذاب السعير، وهو الحريق فيحرق، والمحاريب هي: المساجد والأبنية الكبيرة، والتماثيل قيل: من غير ذوات الأرواح، ولو كانت من ذوات الأرواح فيحمل على أنه لم يكن حراماً في شريعة سليمان مثلاً، وجفانٍ ك A أي أنهم يعملون له أحواض كبيرة جداً للماء، وقدورٍ راسيات: يعني ثابتات في أماكنها لا تتحرك من عظمها واتساعها، قدور يطبخ فيها طعام جيش سليمان الذي كانت تحمله الريح، غدوها شهر ورواحها شهر، ملك لا ينبغي لأحدٍ من بعده، ولا يكون عند الكفار المتقدمين ولا المتأخرين، مهما بلغوا أسباب القوة لا ينالون أبداً ما نال سيلمان عليه السلام من أسباب القوة. إذاً لهم قدرات عجيبة، ومن قدرتهم: استطاعتهم لنقل الأشياء عبر الجدران، والطيران بها في المسافات الشاسعة وإحضارها، وإدخالها عبر الجدران مرة أخرى إلى مكان ما، ولذلك قال سليمان وهو يفكر في طريقة لدعوة ملكة سبأ إلى الله وكيف يقنعها؟ قال يستشير من حوله من أولياء الله الصالحين ومن الجن الذين سخرهم الله له: {قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ} [النمل:39 - 39] فهذا الجني الشديد كان يستطيع -ولم يكن يكذب في دعواه- أن يأتي بعرش ملكة سبأ من داخل قصرها في اليمن ويضعه داخل قصر سليمان في الشام قبل أن يقوم سليمان من مقامه! إذاً قضية استطاعتهم لنقل الأشياء عبر الجدران والأجسام الصلبة والطيران بها تلك المسافة الشاسعة في وقتٍ قصيرٍ جداً للغاية أمرٌ مقدورٌ لهم، أخبرنا الله عنه لا مجال للتكذيب به، فاستخدمت الشياطين هذه القدرات في إضلال الناس {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} [الجن:6] وهذا المنطلق الذي ننطلق به في استكشاف كل القصص التي يأتي بها الناس ويتداولونها عن أشياء خرقت العادة التي يعرفونها، ونقول: انتبهوا يا عباد الله! فليست كل خارقة كرامة من الله، ليست كل خارقة تدل على صلاح صاحبها، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يمتحن الدجالين وذهب إلى عبد الله بن صياد، وكان قد ظن أنه الدجال، وكان النبي عليه الصلاة والسلام حريصاً على كشف أمره فقال له: (قد خبأت لك خبئاً -يقول النبي عليه الصلاة والسلام مختبراً له- قال عبد الله بن صياد: الدخ الدخ) والنبي عليه الصلاة والسلام كان قد خبأ له سورة الدخان فقيل: إن شيطان عبد الله بن صياد قد أوصل إليه الخبر من السماء، ولكن الخبر وصلَ ناقصاً، وما وصلت كلمة الدخان كاملة لـ عبد الله بن صياد، ولذلك قال له عليه الصلاة والسلام: (اخسأ فلن تعدو قدرك) يعني: إنما أنت من إخوان الكهان والشياطين، يأتونك بهذا الخبر ويخلطون فيه، فلذلك أتوك به ناقصاً، وعرف بعد ذلك أن عبد الله بن صياد ليس هو الدجال المنتظر، وإنما هو دجالٌ من الدجاجلة يعينه الشياطين. وهكذا أعانت الشياطين مدعيي النبوة بعد النبي صلى الله عليه وسلم من أجل فتنة الناس فهذا الأسود العنسي الذي ادعى النبوة كان له من الشياطين -كما ثبت في التاريخ- من يخبره ببعض الأمور المغيبة، وكذلك مسيلمة الكذاب كان معه من الشياطين من يخبره بالمغيبات، ويعينه على بعض الأمور قال شيخ الإسلام رحمه الله كاشفاً زيف هؤلاء، ومن كلامه ننقل هذه الدرر النفيسة والتجارب العظيمة له رحمه الله مع هؤلاء في كشف أحوالهم، ينقل تاريخياً ومن واقعه، قال: وأمثال هؤلاء كثيرون مثل الحارث الدمشقي الذي خرج بـ الشام زمن عبد الملك بن مروان وادعى النبوة وكانت الشياطين يخرجون رجليه من القيد -هو مقيد ويخرج من القيد- وتمنع السلاح أن ينفذ فيه -الشياطين تمنع السيوف والرماح من النفوذ في جسد هذا الدجال. وهذا يذكرنا بما يفعله بعض أصحاب الطريقة الرفاعية الصوفية الضُلَّال من ضرب أجسادهم بالشيش، وما يفعله بعض الذين يستعينون بالشياطين في بعض السيركات أو الحفلات التي يعملونها من ضرب أنفسهم بسكاكين، أو بسيوف، ولا يخرج منه قطرة دم واحدة، وليس خداع نظر، بل شيء حقيقي، ما هو التعليل؟ عندما يعرف المسلم الحقيقة لا تنطلي عليه الأباطيل، الاستعانة بالشياطين، إذا كان الشيطان يستطيع أن يستخرج عرش ملكة سبأ وهو جسمٌ كبير عبر الجدار، فكذلك يستطيع أن يمنع اختراق السيف لجسم شخصٍ، أو أن يخترقه دون إيذاء كما يخترق عرش ملكة سبأ جدران قصرها، وتمنع السلاح أن ينفذ فيه، وتسبِّح الرخامة إذا مسحها بيده، هذا الدجال كان إذا مسح رخامة سبَّحت، وصوت التسبيح صادر من الشياطين الذين يعينونه لإضلال الناس -وكان يرى الناس رجالاً وركباناً على خيل في الهواء ويقول: هي الملائكة وإنما كانت جنا- فالجن تتشكل بأشكالٍ يراها هذا الدجال ويظنها ملائكة تنزل عليه بالوحي، وفعلاً يلقون في سمعه كلمات وهكذا مسيلمة كان يسمع شيئاً في أذنه فعلاً، وهو مما تنزلت به الشياطين، ولذلك لا يمكن أن تجعل الأحوال الشيطانية هذه دليلاً على أن هذا الرجل ولي من أولياء الله، ولا يمكن أن تُجعل أي خارقة من خوارق العادات دليلاً على أن هذا الرجل صالح أبداً، فإنه قد يكون مشركاً عظيماً من المشركين تساعده هؤلاء الشياطين.

من قدراتهم: الكلام بألسنة مختلفة والنقل السريع

من قدراتهم: الكلام بألسنة مختلفة والنقل السريع ومن طرقهم كذلك: أنهم ربما تكلموا بألسنة مختلفة على لسان هذا الدجال كما يتكلم الجني على لسان المصروع، ولذلك يحدثك بعض الأشخاص الذين ذهبوا إلى بعض العرافين أنهم سمعوا منه مرة صوت طفل، ومرة صوت امرأة، ومرة صوت رجل، ومرة صوتاً نحيفاً، ومرة غليظاً، وأنه دخل في غيبوبة وأغمض عينيه، وصار يتكلم وهو نائم ونحو ذلك، وكل ذلك من فعل الشياطين، تتكلم على لسانه، وربما لا يدري بما يخرج منه، ومن هؤلاء الدجالين يقول شيخ الإسلام رحمه الله في المجلد التاسع عشر من فتاويه: من يأتيه الشيطان بأطعمةٍ وفاكهة وحلوى، وغير ذلك مما لا يكون في ذلك الموضع من فاكهة بلاد بعيدة، يأتيه بها في هذا البلد، ومنهم من يطير به الجني إلى مكة أو بيت المقدس أو غيرهما، ومنهم من يحمله عشية عرفة ثم يعيده من ليلته، وهذا الذي ادعاه من يسموهم بأهل الخطوة من الصوفية، الذين كانوا يذهبون في ليلة ويعودون في نفس الليلة، ويخبرون الناس بأشياء في عرفة ممن لقوا من فلان وفلان، وعندما يعود الحجاج يتبينُ أن كلامهم صحيح! كيف؟ حملته الجن، وليس بغريب يا إخوان ما دام أنهم يستطيعون حمل عرش سبأ من اليمن إلى الشام قبل أن يقوم سليمان من مقامه، فلا تستغرب أن يحملوا شخصاً إلى عرفة ويعودوا به، ليس ذلك بغريبٍ ولا مستحيل! وهو بالنسبة إلينا غريب، ولكن هؤلاء الذين يذهبون بهم إلى الحج قال شيخ الإسلام رحمه الله: فلا يحج حجاً شرعياً، بل يذهب بثيابه ولا يحرم إذا حاذى الميقات، فهو يتكلم عن مسألة لها علاقة بإحرامنا بالطائرة اليوم من فوق إذا حاذينا الميقات، ولا يلبي ولا يقف بـ مزدلفة ولا يطوف بالبيت، ولا يسعى بين الصفا والمروة ولا يرمي الجمار بل يقف بـ عرفة بثيابه ثم يرجع من ليلته وهذا ليس بحج، إذاً إذا سمعتم مرة بأهل الخطوة فكثيرٌ منهم دجالون كذابون لا يستطيعون إلا الاستعانة بالجن، ومنهم نفرٌ قليل تعينه الشياطين فعلاً.

من قدراتهم: التصور بصور الموتى

من قدراتهم: التصور بصور الموتى ومن طرق الشياطين أن المخلوق قد يستغيث بشخصٍ حيٍ أو ميت؛ سواءً كان هذا المستغيث مسلماً أو نصرانياً أو مشركاً، فيتصور له الشيطان بصورة ذلك المستغاث، فيظن الشخص أنه هو، فإذا نادى مستغيثاً يا فلان أغثني ظهر الشيطان بصورة البدوي، وظهر بصورة أبي العباس المرسي، أو العيدروس أو أي ولي من الأولياء المزعومين، النبي عليه الصلاة والسلام أخبرنا أن الجن يتشكلون بحيات وكلاب، إذاً يمكن أن يتشكلوا بصورة شخصٍ أيضاً، وهنا يلبس على هذا الإنسي المسكين ويظن أن الاستغاثة صحيحة فعلاً، وأن الشيخ أغاثه، وأن الميت حضر وأنجده، قال شيخ الإسلام: ومن هؤلاء من يتصور له الشيطان ويقول له: أنا الخضر، وربما أخبره ببعض الأمور، وأعانه على بعض مطالبه، فيقول له: ماذا تشتهي؟ فيقول: عنباً من المكان الفلاني، فيأتيه به، كما قد جرى ذلك لغير واحدٍ من المسلمين واليهود والنصارى، وكثير من الكفار بأرض المشرق والمغرب، يموت لهم الميت فيأتي الشيطان بعد موته على صورته وهم يعتقدون أنه ذلك الميت، وهذا هو التفسير الحقيقي لعملية تحضير الأرواح، وسيأتي عليها كلامٌ بعد قليل إن شاء الله. فيأتي هذا الشيطان بصورة الميت ويكلم الشخص بأمورٍ دقيقة تتعلق بالميت، وقد أخبرني أشخاصٌ عن أمورٍ حدثت لهم من هذا القبيل، فعلاً يأتيه بصورة أبيه، أو يأتيه بصورة لا يراها ويقول له: أنا روح أبيك، وبصوت أبيه؛ لأن القرين الشيطان الذي مع الأب يعرف صوت الأب، ويقلد صوت الأب، وإذا كانوا ينقلون الأشياء ويتشكلون، فهم يقلدون الأصوات أيضاً، ويصف له أشياء دقيقة في البيت لا يعرفها إلا الولد والأب الذي مات، وفعلاً يخرج الواحد من عند المشعوذ والعراف مذهولاً بسبب أنه لا يعرف حقيقة القضية، ونظراً لانتشار قضية العرافين والدجالين والمشعوذين جداً، فإننا نؤكد ونركز على هذه المسألة، تدخل الشياطين لإغواء الإنس، ويصدق الإنسان فعلاً بالعراف ليوقعه في الشرك. قال شيخ الإسلام رحمه الله: وربما يكونون قد أحرقوا ميتهم بالنار كما تصنع كفار الهند فيظنون أنه عاش بعد موته، ومن هؤلاء شيخٌ كان بـ مصر أوصى خادمه فقال: إذا أنا مت فلا تدع أحداً يغسلني، فأنا أجيء وأغسل نفسي، فلما مات رأى شخصاً في صورته فاعتقد أنه هو دخل وغسل نفسه، فلما قضى ذلك الداخل غسله غاب، وكان ذلك شيطانه، فإذاً لا تستغرب إذا سمعت ببعض الأخبار، فإن القضية واضحة لأهل الحق وضوح الشمس، دجالون ومشعوذون، كهنة وسحرة، وعرافون يتعاونون مع الشياطين لإضلال الناس، وهؤلاء المساكين الذين لم يستقر التوحيد في قلوبهم ينخدعون. نسأل الله تعالى أن ينور بصائرنا، ونسأله سبحانه وتعالى أن يجعلنا على الحق مستقيمين، وبالتوحيد عاملين إنه سميعٌ قريبٌ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

بعض أفعال الجن المحسوسة

بعض أفعال الجن المحسوسة الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والعاقبة للمتقين، أشهد أن الله ولي الصالحين، ورب الأولين والآخرين، وخالق الإنس والجن والناس أجمعين، سبحانه وتعالى يخلق ما يشاء كما يشاء على ما يشاء سبحانه وتعالى، لا معقب لحكمه، ولا يُسْأَلُ عما يفعل وهو الحكيم الخبير. ومما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله: أنه ربما يرى شخص في المنام أن شعره قد قص، أو أنه لبس طاقية، فيصبح وقد قص شعره فعلاً وأُلبس تلك الطاقية، ويكون ذلك بفعل الشياطين، قصوا شعره في المنام، وبعد ذلك يصدق ببقية المنام ويكون فيه من الشرك والكفر ما الله به عليم. وكذلك فإن من هذه الطرق أيضاً مناداة عباد القبور من داخل القبر، وهو شيءٌ تفعله الشياطين، فلا تُكذّب من قال لك: سمعت الشيخ من قبره يتكلم، فربما يكون صحيحاً لكن الذي تكلم هو الشيطان. قال شيخ الإسلام رحمه الله: وقد يضعون مصروعاً عند القبر فيغادره الشيطان ويقوم بعافية، ليتوهم الناس أن الولي الذي في القبر عالجه، وإنما فعلت ذلك الشياطين، وغادرت المصروع ليستقر عند الناس أن الميت الذي في القبر هو البركة التي عالجت هذا المصروع، وإذا قُرئت هناك آية الكرسي بصدق بطل هذا، فإن التوحيد يطرد الشيطان، ولهذا حمل بعضهم في الهواء فقال: لا إله إلا الله فسقط على الأرض، ومثل أن يرى أحدهم أن القبر قد انشق، وخرج منه إنسان، فيظنه الميت وهو شيطان، ومثل المناداة من المغارات والجبال والكهوف؛ يأخذون إليها الشخص أو يذهب إليها بعض الناس، ويسمعون أصواتاً من داخل المغارات والكهوف، وما هي إلا شياطين، قال شيخ الإسلام رحمه الله: ومن أعظم ما يقوي الأحوال الشيطانية سماع الغناء والملاهي، وهو سماع المشركين، وهذا هو الذي يُفعل في حفلات الزار لمن سمع بها، وهي الحفلات التي يجتمع بها أناسٌ يضربون بالدف بالطبول العظيمة بأصواتٍ عالية جداً، ويرقصون رقصات جنونية حتى يؤدي بهم الأمر إلى الوقوع في حالة إغماء ونحو ذلك، ثم تتكلم الشياطين على ألسنتهم، وتحضر حفلات الزار؛ لأن الغناء والطبل يجر الشياطين، كما أن القرآن يطردهم، وربما خاطبه من عصفورٍ، أو من ثمرةٍ، أو من حجرٍ ونحو ذلك، وربما جاءه بصورة جميلة وزعم أنه ملكٌ يريد أن يزوره، وبعد ذلك تأتي الشركيات، والأمر بالسجود له، والصلاة له، وذبح شيءٍ له، ولذلك بعض الدجالين يقول: من شرط العلاج أن تذبح ديكاً أسود لكن لا تقل: باسم الله، لو قلت: باسم الله، فلن ينفع العلاج، وبعض الشياطين يأمرون الكهان الذين يتعاملون معهم أن يخنقوا لهم دابة بدون ذكر اسم الله عليها، وهكذا.

من قدراتهم: إمكان رؤية الأماكن البعيدة

من قدراتهم: إمكان رؤية الأماكن البعيدة قال شيخ الإسلام: أخبر بعض الشيوخ الذين كان قد جرى لهم قال: يُرونني الجن شيئاً براقاً مثل الماء والزجاج، ويمثلون له فيه ما يطرد من الأخبار، وهذا شيءٌ قد حدثني عنه شخصٌ ذهب إلى عمان قال ذهبنا إلى ساحر، فوضع لنا طستاً فيه زئبق -سطح عاكس لماع- فقال له الرجل: أريد أن أرى أهلي في البلد التي جاء منها في الخبر في الدمام قال: فجعل يتمتم بأشياء ثم صفا ذلك السطح وظهرت صورة البلد ثم ظهرت صورة الحي ثم ظهرت صورة الحارة ثم ظهرت صورة العمارة ثم ظهرت صورة الشقة قال: فرأيت أولادي يلعبون، لا شيء في هذا مستنكر من جهة الوقوع، إذا كان الإنس قد نقلوا الأشياء بالبث المباشر حياً على الهواء، ترى في بيتك ما يحدث في أمريكا، أفلا يستطيع الجن أن ينقلوا على هذا السطح صورة أولاده؟ بلى يستطيعون، ولكن القضية فيما بعد ذلك، فيما يأمره به هذا الدجال والساحر من الكفر والحرام، وبعضهم يقول: لا يأخذون نقوداً؛ ليضلوا الناس، أو لا يأخذون نقوداً في البداية، ويقولون: ما فعلناها إلا خدمة وواجباً علينا، وعبادة، لا يأخذون نقوداً ويظهرون العفة وهم يتعاملون مع الشياطين قطعاً وبلا شك، والذي يسمع الأخبار لا يمكن أن يقول إلا هذا. أيها الإخوة: إن إدراك هذه الأشياء يفسر لك شيئاً من الحركات، وبعض الألعاب يقولون: وضعناها وتحركت أمامنا، وأشارت إلى السهم المعين، ومن الذي يحركها؟ هو الشيطان، الشياطين الذين يضلون الناس. ومن ذلك أن يشترطوا على الساحر بكتابة العزائم والطلاسم لكي يساعدوه أن يكتب القرآن بدم الحيض والنجاسات، وهذا مستخدم عندهم، ويعكسون السور من آخرها إلى أولها، وبعض هذه الأوراق لو فتحتها وجدت فيها استغاثات واضحة بجني أو شيطان، ومن شروط الرقية أن تكون بالقرآن، وبالكلام العربي مما يعرف، وليست مشتملة على شرك، ولا يعتقد أنها تنفع بذاتها، وكثيرٌ يأخذون هذه العزائم والتمائم وهذه الأشياء المربوطة، وبالجملة فإن الشياطين هم الذي يفعلون كثيراً من هذه الأشياء بالتعاون مع شياطين الإنس؛ لإضلال هؤلاء المساكين، وكثيرٌ منهم لا يفهمون ولا يدركون ولا يعقلون ويرجعون مخدوعين.

من قدرات الجن في العلاج وحكم ذلك

من قدرات الجن في العلاج وحكم ذلك قال لي شخصٌ بالأمس: شاب صغير في الأردن يذهبون إليه طوابير يقول للشخص: أنت تحتاج إلى عملية ولا يدخل معه إلا لوحده في الغرفة، ويقول له: مهما سمعت من أصوات فلا تكترث، ويجري العملية دون أي جراحة، ويخرج من عنده، فيمكن أن يقع ذلك من الشياطين التي تعينه، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أم المؤمنين التي كانت تذهب إلى يهودي لرقيتها ونهاها، قالت: هذا إذا رقاني سكن الألم قال: (إن الشيطان ينخس العرق فيسكن). إذاً: الشيطان يستطيع أن يعمل عمل البنج، وأن ينخس عرقاً فيسكنه، فلماذا إذاً لا يُعمل شيءٌ مثل هذا؟! وهنا قد يقول قائل: فما حكم الاستعانة بالجن في الأمور المباحة؟ ولماذا تحرمون الذهاب إلى هؤلاء وهم يعملون أشياء مباحة؟ والوقت قد ضاق -أيها الإخوة- فلعلنا إن شاء الله نأتي على ذكر هذا الموضوع وأمورٍ أخرى متعلقة به في خطبة قادمة بحول الله وقوته، ونقول هذا الكلام إحقاقاً للحق وإبطالاً للباطل، وردعاً لكل من تسول له نفسه الذهاب إلى هؤلاء المشعوذين، أو الانخداع بهم، مع أن كثيراً منهم كذابون لا عندهم جنٌ ولا شياطين ولا عفاريت، لكنهم يضحكون على الناس ويشوشون عليهم. ولذلك فالمسلم على بصيرة من أمره والحمد لله، والموحد يعرف ربه، ويعرف أن الله خلق هذه الأشياء سبحانه وتعالى، وأنهم لا يخرجون عن إرادته ولا عن مشيئته قيد أنملة، فكلهم تحت قهره وأمره سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء. وأشهد أن محمداً رسول الله النبي الأمي، الذي أرسله رحمة للعالمين، فكشف أخبار الدجالين، وبين لنا صفات الدجالين، ونهانا عن الذهاب إلى العرافين والكهنة والمشعوذين، وأخبرنا أنه من ذهب إلى عرافٍ لم تُقبل له صلاة أربعين يوماً، وأن من صدق كاهناً بما أخبره فقد كفر بما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم. اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، اللهم إنا نسألك أن تجنبنا كيد الشياطين ودجل الدجالين، اللهم أرنا التوحيد وبصرنا به، وارزقنا التمسك به يا رب العالمين، وباعد بيننا وبين الشرك وأهله؛ إنك على كل شيءٍ قدير.

فضيحة المشعوذين [2]

فضيحة المشعوذين [2] بعد أن مهد الشيخ لهذا الموضوع في خطبة ماضية بكلام مفصل عن خلق الجن وقدراتهم، استهل هذه الخطبة ببيان علاقة رجال الإنس بالجن، ومنها استغاثة أهل الجاهلية برجال الجن. كما أورد في هذه الخطبة بعض حيل المشعوذين، وكذبهم في ادعاء تحضير الأرواح، وتفصيل صور كثيرة من عجزهم وضعفهم، وبيان الفرق بين حيلهم وبين كرامات الأولياء. وفي ختام هذه المادة ذكر حيل بعض المشعوذين الذي لا يتصلون بالجن، بل يضحكون على الناس بغية المال أو استهداف الدِّين.

علاقة رجال الإنس برجال الجن

علاقة رجال الإنس برجال الجن إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فقد تحدثنا في الخطبة الماضية -أيها الإخوة- عن أمرٍ من مظاهرة شياطين الجن لشياطين الإنس، وشيءٍ من ماهية العلاقة بين شياطين الجن وشياطين الإنس، وأن هذه المؤامرة لا تزال مستمرة لحرف الناس عن التوحيد، وإيقاعهم في الشرك، ولا تزال تسمع بين الفينة والأخرى عن قصصٍ عجيبة غريبة تدل على كثرة وقوع الناس في زماننا في حبال الشعوذة والدجل، وكثرة إتيانهم وغشيانهم للسحرة والعرافين والكهان، وهذا أمرٌ يصادم التوحيد بالكلية، وهو أمرٌ خطيرٌ ينبغي أن يتصدى له دعاة التوحيد، وهذا شأنهم دائماً وأبداً أن يبينوا للناس أن أعظم معروفٍ جاءت به الرسل هو التوحيد، وأعظم منكرٍ نهت عنه الرسل هو الشرك. لقد بين الله سبحانه وتعالى هذه العلاقة بين شياطين الإنس والجن الذين يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً، ويبن الله لنا كيف استهوت بعض شياطين الجن المشركين فعبدوهم: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} [الجن:6] قال المفسرون: كان الرجل في الجاهلية إذا نزل بالوادي في طريق سفره قال: أعوذ بعظيم هذا الوادي من شر سفهاء قومه، فلما استغاثت الإنس بالجن، ازدادت الجن طغياناً وكفراً، كما قال سبحانه تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} [الجن:6] ولذلك فإن المسلم لا ينخدع أبداً بما يراه ويسمعه من أفعال هؤلاء الشياطين، مهما كانت الحيل، ومهما كانت الخوارق التي يظهرونها على أنها خوارق، ومهما كان التعاون بين شياطين الإنس والجن من هؤلاء الكهنة والعرافين والمشعوذين، مهما ظهر من الأشياء الغريبة والعجيبة، فإن المؤمن يبقى على الثوابت التي جاءت بها شريعته، ولا يستجرينه الشيطان، ولا تخدعه هذه التصرفات، فإنه ولله الحمد على إيمانٍ ودينٍ وتوحيد.

كلام شيخ الإسلام عما يفعله الجن للمشعوذين

كلام شيخ الإسلام عما يفعله الجن للمشعوذين ولما كان من واجب أهل العلم كشف هذه الأشياء سطر ذلك العلماء في كتبهم، وذكرنا شيئاً مما بسطه شيخ الإسلام رحمه الله عن هذا التعاون، وعن الأشياء التي ظهرت في عهده، وهي في عهدنا موجودة بدرجة كبيرة إن لم تكن أكثر، ذكر رحمه الله فعل هؤلاء الشياطين الذين كانوا يطيرون بأوليائهم في الهواء وينقلونهم من مكان إلى مكان، ويأتون لهم بأشياء يطلبونها، ولكنهم لا يفعلون لهم ذلك إلا إذا كفروا معهم بالله رب الأرض والسماوات، وفعلوا المنكرات والموبقات، وإن تظاهروا بالصلاح والتقوى، ولذلك لما تكلم رحمه الله تعالى عن الحلاج الذي يقدسه اليوم بعض مفكري القرن العشرين، ويكتبون عنه على أنه شهيد الثورة والإصلاح، وإنما كان دجالاً من الدجاجلة، وكان مشركاً بالله تعالى، قال: كان له شياطين تخدمه أحياناً، وكان بعض أتباعه معه على جبل أبي قبيس فطلبوا منه حلاوة، فذهب إلى مكانٍ قريبٍ فجاء بصحن حلوى، فكشفوا الأمر بعد ذلك فوجدوه قد سُرق من دكان حلوى بـ اليمن، حمله شيطان تلك البقعة. قال رحمه الله: ونحن نعرف كثيراً من هؤلاء في زماننا وغير زماننا، مثل شخصٍ هو الآن بـ دمشق كان الشيطان يحمله من جبل الصالحية إلى قرية حول دمشق، فيجيء من الهواء إلى نافذة البيت الذي فيه الناس، فيدخل وهم يرونه، ويجيء بالليل إلى باب الصغير فيعبر منه هو ورفيقه وهو من أفجر الناس، وكذلك كان بـ الشوبك وهي قلعة من أطراف الشام يأتي من قرية يُقال لها: الشاهدة، يطير في الهواء إلى رأس الجبل والناس يرونه، يحمله ذلك الشيطان يقطع به الطريق، ثم إن هؤلاء الشياطين يسألونهم أموراً كبقرٍ وخيلٍ يخنقونها خنقاً لا يذكرون اسم الله تعالى عليها، وهؤلاء الذين يتعاونون مع الشياطين منهم من يطير في الهواء والشيطان طائرٌ به، ومنهم من يصرع الحاضرين وشياطينه تصرعهم يقول: أنا أصرع أمامكم شخصاً فيسقط شخصاً بالفعل، ويكون الشيطان الذي مع هذا الرجل هو الذي صرع ذلك الرجل، فيحسب الجاهلون أنها كراماتٌ من كرامات أولياء الله المتقين. قال رحمه الله تعالى: فإني أعرف من تخاطبه النباتات بما فيها من المنافع، وإنما يخاطبه الشيطان الذي دخل فيها، وأعرف من يخاطبهم الحجر والشجر ويقول له: هنيئاً لك يا ولي الله والشياطين هي التي تخاطبه، فإذا قرأ آية الكرسي ذهب ذلك، وأعرف من يقصد صيد الطير فتخاطبه العصافير وتقول: خذني حتى يأكلني الفقراء، ويكون الشيطان قد دخل فيها فخاطبه، ومنهم من يكون في البيت وهو مغلق فيرى نفسه خارجه وهو لم يفتح، ومنهم من تأتيه الشياطين بمن يهواه من امرأة أو صبيٍ لفعل الفاحشة من زناً ولواط، وبعض هؤلاء إما أن يؤتى بهم إليه مدفوعاً ملجئاً مكرها أو مختاراً. إلى هذه الدرجة يصل التعامل بينهم إلى قيادة هؤلاء لعمل الفاحشة، وكذلك فإنه رحمه الله قد بين أن بعض هؤلاء الشياطين يتنزلون بأشياء من المكاشفات والتأثيرات على هؤلاء، فيُسمعونهم كلاماً كما كانت الشياطين تدخل في الأصنام وتكلم عابديها في الجاهلية، وفي غير الجاهلية بعد الإسلام، فيتخيل هؤلاء أن الأصنام تتكلم، ثم بين رحمه الله تعالى أن هؤلاء يجتمعون في أماكن الخبث، والأماكن المقفلة المهجورة، وأماكن القمامة والأوساخ، نظراً لأن الشياطين تغشى تلك الأماكن. قال رحمه الله: ولما كان الانقطاع إلى المغارات والبوادي من البدع التي لم يشرعها الله ولا رسوله؛ صارت الشياطين كثيراً ما تأوي إلى المغارات والجبال مثل: مغارة الدم التي بـ جبل قاسيون وجبل لبنان الذي بساحل الشام، وجبل الفتح بـ أسوان مصر، وجبالٍ بالروم وخراسان والجزيرة وجبل اللكامي والأحيس وجبل سولانا قرب أردبيل، وغير ذلك من الجبال التي يظن بعض الناس أن بها رجالاً من الصالحين يعتقدون أن فيها أولياء، ويسمونهم رجال الغيب، وإنما هم رجالٌ من الجن؛ فالجن رجال كما أن الإنس رجال، قال الله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} [الجن:6] قال رحمه الله: ومن هؤلاء من يظهر بصورة رجلٍ شعرانيٍ جلده يشبه جلد الماعز، فيظن من لا يعرفه أنه إنسيٌ وإنما هو جني، فهذا من التلبيسات أيضاً، وكذلك التحول إلى الصور والأشكال يساعدهم على ذلك.

قصة من الواقع: فضيحة مشعوذ

قصة من الواقع: فضيحة مشعوذ بعد الخطبة الماضية -أيها الإخوة- حضر لدي أحد الإخوان فقال: بمناسبة هذه الخطبة أخبرك عما وقع لي: سمعت أن شيخاً في القرية عندنا وليٌ من أولياء الله وعنده كراماتٌ وخوراق، فذهبت إليه، قال: فمن يوم أن لقيته قال: أهلاً بفلان، وسماني باسمي، ولم أكن رأيته من قبل، واستغربت ودهشت كيف عرف اسمي!! ثم بعد ذلك لزمته وصرت معه أخدمه على أني أخدم الشيخ، وأتقرب إلى الله بتلك الخدمة، وكنت أرى منه عجائب قال وهو يحدثني هذا الشخص: وكنت معه مرة في الغرفة، فالتفتُّ فجأة إليه فإذا شكله قد تغير وصار أقرب ما يكون إلى الشبح، فقلت له: شبهه لي بأي صورة؟ قال: أقرب ما يكون إلى شكل الخنزير، ثم عاد إلى شكله مرة أخرى، إلى هيئته الإنسية التي أعرفها، قال: وأتيته مرة بفتاة أوصتني أمها بالذهاب بها إلى هذا الشيخ، لأن الخطاب ينفرون منها، ولم يكتب لها نصيبٌ في الزواج، فخشيت عليها من العنوسة، قال: فذهبت بها إليه فجلس كأنه يقرأ عليها فذهبت لشيءٍ ثم جئت على حين غفلة، فرأيته يقبلها، ففوجئ لما رآني، وجعل يتمتم كأنه يأخذ عليها العهد بالانتساب إلى الطريقة، وذكر أشياء أخرى. والمهم -أيها الإخوة- أن هؤلاء الناس موجودون إلى الآن، وأن الناس يُفتنون بهم، وأنهم أصحاب فواحش، وهذا الذي يزعم أنه شيخ قال له في آخر الجلسة: اذهب إلى أهلك وأنا أوصلها إلى بيتها، فماذا وراء ذلك إلا فعل الحرام؟ وماذا وراء التعامل مع الشياطين إلا التلبيس على السذج والمساكين، ولذلك إذا قال لك أحد هؤلاء الذين يدعون أنهم يقرءون على المصروعين، ويخرجون السحر ويفكونه إذا قال: لا تدخل مع زوجتك أو لا بد أن أقرأ عليها لوحدها، فاعلم أنه دجالٌ كذاب أشر، وأنه أفاكٌ أثيم: (ما اختلى رجلٌ بامرأةٍ إلا كان الشيطان ثالثهما).

بعض حيل المشعوذين

بعض حيل المشعوذين واعلموا -عباد الله- أن هذا شيءٌ موجودٌ واقعٌ عند هؤلاء الدجالين، يطلب الخلوة بالمرأة لكي يُخرج منها الشيطان بزعمه، وهو يريد من وراء ذلك فعل الحرام، وقضاء شهوته ووطره، ولذلك فإن الموحد يعلم علم اليقين أن مثل هذا مخالفٌ لدين الله، مخالفٌ لشريعة الإسلام. ومن حيل هؤلاء يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ويحكى عن شيخٍ آخر كان له شياطين يرسلهم يصرعون بعض الناس، فيأتي أهل ذلك المصروع إلى الشيخ يطلبون إبرائه، فيرسل إلى أتباعه من الشياطين فيفارقون المصروع ويقوم ليس به بأس، فيعطون ذلك الشيخ دراهم كثيرة، إذاً العملية عملية ابتزاز، هذا يعمل السحر وهذا يفكه، وهذا يصرعه، وهذا يخرج منه الجن، ويقوم المصروع سواءً كان بالتعاون بينهم أو كان نفس هذا الدجال الذي يرسل شيطانه ليصرع الإنس ثم يخرجه هو، ويأخذ الأشياء ويسرقها ذلك الشيطان ثم يخبرهم بمكانها، فالعملية صارت عملية تجارة، هذا يدخل الجني ثم يخرجه، وهذا يعمل لهم سحراً ثم يفكه، وهؤلاء يدفعون، ولو كانوا يتحصنون بكتاب الله ما جعلوا للشياطين عليهم سبيلاً. أقول لكم بصدقٍ وإخلاصٍ أيها الإخوة: إن هذه العملية نصبٌ واحتيال، ومع ذلك فالناس لا يزالون يذهبون إلى السحرة والمشعوذين الذين يعقدون السحر ويفكونه، أو يتعاونون فيما بينهم على ذلك، ويدعون المغيبات، وقد حصلت قصص ذكرها العلماء، ذكروا أن رجلاً عند أميرٍ في مجلس فيما مضى من الزمان تحدى الناس أن يعلم عدد الحصى في يد كل شخصٍ، فكان الناس يأخذون كفاً من الحصى فيعدونها ثم يخبرهم بعددها ويكون كلامه صحيح، حتى جاء رجلٌ من الموحدين ممن يعرف تلك الحيل فقال: أنا أقبض كفاً من حصى وأتحداك أن تعرف عددها فأخذ كفاً من حصى وقال: بسم الله ولم يعد، ثم قال: كم في كفي؟ قال: عدها حتى إذا قلت لك يكون الجواب مطابقاً، قال: لا أعدها إلا بعد أن تخبرني، فأخبره بعددٍ فلما عد ما في يده كان الذي أخبره به خطأً، ثم أخبرهم بأن القرين من الجن الذي يكون مع هذا العاد يعد معه ويعرف العدد، فيخبر قرين ذلك الدجال أو الذي يدعي معرفة المخبئات بالعدد، فيخبره لصاحبه ثم يخبر الناس، إذاً فهذا النوع من التعاون لا يمكن أن يخفى على الموحدين ولا أن يذهبوا بعد ذلك إلى الدجالين والمشعوذين، ثم إن بعض هؤلاء يأخذون أموال الناس ظلماً إما بالسرقة، وإما بغيرها من النصب والاحتيال. واحد يُتصل به بالهاتف (مكالمات خارجية) يقول: لا أخبركم بمكان السحر ولا بعلة صاحبكم حتى تحولوا لي مبلغ خمسمائة ريال، أو ألف وخمسمائة أو أكثر، وتحول المبالغ إلى ذلك الدجال، ليخبرهم عبر الهاتف أين يوجد السحر، وما هي علة هذا الرجل، ومن الذي سحر صاحبهم، ونحو ذلك من الكلام، هذا ما يحدث حقاً وحقيقةً من النصب والاحتيال على هؤلاء المساكين، والسبب ضعف الإيمان لم يتحصنوا بـ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1] {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] وآية الكرسي، وباسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم، وأعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق؛ فصاروا نهباً للشياطين.

كذب المشعوذين في عملية تحضير الأرواح

كذب المشعوذين في عملية تحضير الأرواح وذكرنا كذلك أن ما قام من سوق تحضير الأرواح، وأن بعض الناس يستطيع أن يحضر روح القريب من أبٍ أو أمٍ ونحو ذلك وأنه كله دجل، وأن بعضه من التعاون مع الشياطين الذين يستطيعون التشكل فيأتون الإنسان بصورة أبيه الميت، أو أمه، ونحو ذلك، وقد حكى بعضهم تجربته عن ذلك فقال: ذهبت إلى هذا الذي يقول: إنه تعلم تحضير الأرواح بأذكارٍ وأمورٍ يقرأها، وتلاواتٍ ورياضاتٍ وممارسات، فأكون معه على الطعام فتأخذه الإغفاءة المعهودة فيميل رأسه إلى الأمام وتلتصق ذقنه بصدره ثم يحثني الزائر الذي يزعم أنه ملك أو أبو هريرة أو أبو الحسن الشاذلي أو نحو هؤلاء بأمور، ثم وعدوني وبشروني بقرب زيارة والدي الميت لي في وقتٍ عينوه، وانتظرت الموعد بلهف، وطلبوا مني أن أقرأ سورة الواقعة، إذاً يمكن من طرق التلبيس أن يطلبوا من الشخص أن يقرأ سورة من القرآن، ثم قالوا: سيحضر والدك بعد لحظات، ولكن بشرط لا تسأله عن شيء، وبعد دقائق جاء شخصٌ، ودخل فزعم أنه أبي في شكله، وسلم علي وأظهر سروره بلقائي، وأوصاني أن أعتني بهذا الشيخ وأهله، وأنه فقير محتاج إلى المال، وهذا هو لب القضية (الاحتيال المالي) وبعض الدجالين لكي يخفي أمره بزيادة لا يطلب مالاً في البداية، كنا نقول للناس: إنهم لا يستعملون القرآن، وبعض الدجالين يستعملونه تلبيساً، وقلنا لهم: يحتالون لأخذ المال، وبعض الدجالين يقولون لمن يأتيهم في البداية: لا نريد منكم مالاً، لا نريد إلا وجه الله: {لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً} [الإنسان:9] ولكن بعد ذلك يبدءون بأخذ الأموال. فإذاً لا بد من معرفة الواقع ولماذا قالوا له: لا تسأله عن شيء؟ أو يأتي شكلٌ يخاطبه بالخفاء يقول: أنا روح أبيك ويخبره عن أشياء لا يعرفها إلا هذا الولد فعلاً، ولكن يعرفه القرين ويعرفه الجن المحيطون به، ويخبرون ذلك الشخص فيظنه حقاً وهو دجل وتلبيس، ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الدجال: (وإن من فتنته أن يقول للأعرابي: أرأيت إن بعثت لك أباك وأمك أتشهد أني ربك؟ فيقول: نعم، فيتمثل له شيطانانِ في صورة أبيه وأمه فيقولان له: يا بني اتبعه فإنه ربك) الحديث في سنن ابن ماجة عن النبي صلى الله عليه وسلم، يخبر أن من فتنة الدجال يبعث له شيطانان في صورة أبيه وأمه الميتين. ثم إن مما يدل على كذبهم في عملية تحضير الأرواح أن الله يقول: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} [الزمر:42] ويستيقظ الإنسان من نومه، أما الذي يموت في المنام وهو نائم وعددٌ من الناس ماتوا في نومهم، يمسك الله أرواحهم فإذا كان الله يمسكها، فهل تستطيع الروح أن تأتي لهذا الولد؟! وإذا وكل الله بالأرواح ملائكة يعذبونها إن كانت شقية كافرة، وينعمونها إن كانت صالحة، فهل يستطيع أحدٌ أن يخرج روح الميت من قبضة الملائكة الموكلين بها؟! فإذا كانت الأرواح ممسكة عند ربها بحسب الآية وموكلٌ بها حفظة أقوياء مهرة، فهل يمكن أن تتفلت لتأتي إلى رجلٍ يقول إنه حضر روح فلان وفلان؟! وإذا كان هذا الشخص الميت صالحاً ينعم في قبره، أو من الشهداء الذين أخبرنا الله عنهم وأخبرنا رسوله صلى الله عليه وسلم عنهم: (إن أرواح الشهداء في حواصل طيرٍ خضر تسرح بهم في رياض الجنة) فهل هذه الروح مستعدة أن تترك النعيم لتأتي إلى هذا الرجل، أو إلى الشيطان، أو إلى الجني، أو إلى الدجال، أو إلى الذي يحضر الأرواح ليلتقي بولده وهو منعمٌ أصلاً في ذلك المكان؟! إذاً: المسألة واضحة ولله الحمد والمنة.

صور من عجز الشياطين

صور من عجز الشياطين ثم إنه بعد هذا العرض لبعض قدرات الجن والعلاقة بينهم وبين شياطين الإنس؛ لتنكشف الألاعيب لعامة الناس ويكون الناس على بينة لا بد أن نعلم -أيها الإخوة- أن الله لم يتركنا نهباً للشياطين، وأن الجن بالرغم من قدراتهم الهائلة من الطيران والتشكل ونحو ذلك، فإنهم لا يستطيعون أن يلعبوا بنا كيف شاءوا، وبالرغم من كل ما سبق من القصص، فإن ذلك لا يعني بأنهم يحركون من شاءوا كيف شاءوا، ويخطفون من شاءوا، ويصرعون من شاءوا، وينهبون أموال من شاءوا، ويتلاعبون بأضواء البيوت والكهرباء كيف شاءوا أبداً، فإن لهم قدراً مقدوراً وحداً محدوداً لا يتعدونه، فإن الله أخبرنا عن عجزهم.

من عجزهم: أنهم لا يعلمون الغيب

من عجزهم: أنهم لا يعلمون الغيب قال الله تعالى في قصة سليمان: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [سبأ:14] وما استمروا على العمل الذي أمرهم به سليمان، وهم لا يعلمون بموته وهم مستمرون في العمل الذي سخرهم الله له، لا يعلمون أن سليمان قد مات {تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [سبأ:14]. إذاً: لا يعلمون الغيب، وإذا حصل شيء من استراق السمع من السماء عن مسألة غيبية كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام فإن ذلك شيءٌ قليلٌ وليس كثيراً، ولذلك يضطر الكاهن أن يكذب معها تسعة وتسعين كذبة، ولذلك فإنهم كما قال الله تعالى لا يستطيعون استراق الخبر إلا شيئاً يسيرا فبين الله تعالى في كتابه: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَأِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُوراً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ * إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات:6 - 10]. وانظر إلى السماء في ليلة صافية في الليل فإنه لا يخلو الأمر أن ترى بعض الشهب النازلة بهذه السرعة والتي نهينا عن تتبعها بأبصارنا خشية على الأبصار، إذاً {إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات:10] فهو شيءٌ نادر.

من عجزهم: أنهم لا يستطيعون التمثل بصورة النبي صلى الله عليه وسلم

من عجزهم: أنهم لا يستطيعون التمثل بصورة النبي صلى الله عليه وسلم ومن عجز الجن أنهم لا يستطيعون التمثل بصورة النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، ولذلك قال في الحديث الصحيح: (من رآني فإني أنا هو فإنه ليس للشيطان أن يتمثل بي) (من رآني فقد رأى الحق فإن الشيطان لا يتزيا بي) فإذا رأى إنسانٌ في المنام وهو صادق صورة النبي صلى الله عليه وسلم بالأوصاف المذكورة في الكتب شعره غير جعدٍ ولا سبطٍ، في عينيه شدة سواد في شدة بياض، لا بالطويل ولا بالقصير، ربعة، بعيد ما بين المنكبين، عظيم المشاش، أبيض مشرب بالحمرة فهو هو، هو النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن الشيطان لا يستطيع أن يتزيا بصورته عليه الصلاة والسلام في المنام، لكن يمكن أن يخرج له رجلٌ أسود أو شيءٌ غامض يقول: أنا رسول الله افعل كذا، لكن لا يستطيع الشيطان يتمثل بالصورة النبوية الحقيقية في المنام.

من عجزهم: أنهم لا يستطيعون فتح باب مغلق ذكر اسم الله عليه

من عجزهم: أنهم لا يستطيعون فتح باب مغلق ذكر اسم الله عليه ومن عجزهم، أنهم لا يستطيعون فتح بابٍ مغلقٍ ذكر عليه اسم الله، ولا فتح إناءٍ أُغلق وذكر عليه اسم الله، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (أجيفوا الأبواب، واذكروا اسم الله، فإن الشيطان لا يفتح باباً أجيف عليه، وأوكئوا قربكم واذكروا اسم الله، وخمروا آنيتكم واذكروا اسم الله) متفقٌ عليه، ورواية أحمد: (فإن الشيطان لا يفتح باباً مغلقاً، ولا يكشف غطاءً، ولا يحل وكاءً). فإذاً: لا يستطيعون فتح بابٍ ذكر اسم الله عليه، ولذلك إذا دخل العبد بيته وذكر اسم الله قال الشيطان: فاتكم المبيت، فإذا ذكر اسم الله على عشائه قال: فاتكم المبيت والعشاء، فمن رحمته تعالى أنه لم يسلط علينا الجن يفعلون بنا ما يشاءون ويقلبون المعارك، ويقضون مضاجع أهل البيوت كلهم ويلعبون بالعالم، بل إن لهم آثاراً محدودة، وأشياء معينة ينجحون فيها من صرعٍ ونحوه، ولكن ليس نصف الناس مصروعين، ولا ثلاثة أرباعهم، المصروعون عدد قليل، وكذلك المسحورون، وكذلك الذين يصابون بعين، ونحو ذلك من الأشياء، فليس للجن القدرة على التلاعب بكل الناس، فإذا ذكر العبد ربه لم يستطع الشيطان أن يفعل به شيئاً.

من عجزهم: تمكن بعض الإنس منهم

من عجزهم: تمكن بعض الإنس منهم بل ذكر بعض أهل العلم أنه ربما حاول شيطانٌ أن يمس إنساناً مؤمناً ذاكراً لله فيصرع الشيطان، فتجتمع عليه الشياطين، يقولون: ما بال صاحبنا؟ فيقول بعضهم لبعض: صرعه الإنسي. وأبو هريرة ألقى القبض على الشيطان، قبض عليه في القصة المشهورة في الصحيحين الذي جاء يسرق، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه صارع شيطاناً فصرعه، والقصة في سنن الدارمي صحيحة عن عبد الله بن مسعود قال: لقي رجلٌ من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم رجلاً من الجن فصارعه فصرعه الإنسي، فهو عمر رضي الله عنه، فقال له الإنسي: إني لأراك ضئيلاً شخيتاً كأن ذريعتيك ذريعتا كلب، فكذلك أنتم معشر الجن أم أنت من بينهم؟ قال لا والله إني منهم لضليع _أنا من أقواهم- ولكن عاودني الثانية فإن صرعتني علمتك شيئاً ينفعك، قال: نعم قال: تقرأ: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] قال: نعم، قال: فإنك لا تقرأها في بيتٍ إلا خرج منه الشيطان له خبجٌ كخبج الحمار، ثم لا يدخلها حتى يصبحْ. والضئيل: الدقيق، والشخيت: المهزول، والضليع: جيد الأضلاع، والخبج: الريح، يخرج الشيطان من البيت له ريحٌ كريح الحمار لا يستطيع أن يعود بعد ذلك.

الفرق بين خوارق الدجالين وكرامات الأولياء

الفرق بين خوارق الدجالين وكرامات الأولياء فإن قال قائل: فرقوا لنا بين خوارق هؤلاء الدجالين الذين يتعاونون مع الجن والمشعوذين والشياطين وبين كرامات أولياء الله المتقين، ف A قال أهل العلم: إن كرامات الأولياء سببها الإيمان والتقوى، والأحوال الشيطانية سببها ما نهى الله عنه ورسوله، ولذلك لا بد من التحري في حال المدعي هذا الخارق أو صاحب الكرامة، فمثلاً هل يصلي الفجر في جماعة؟ هل يغض بصره عن الحرام؟ هل هو ملتزم بأحكام الدين أم لا؟ فإذا تبين لك أنه فاسق فلا يمكن أن يكون الذي يجري على يده كرامة! وإنما هو من فعل الشياطين، ولذلك لا بد من التأكد من صحة معتقد هؤلاء الأشخاص وعبادتهم قبل أن نقول: هذه كرامة، أو هذا من فعل الشياطين. وكذلك فإن ولي الله لو أجرى الله على يده كرامة لا يخبر بها ولا ينشرها في العالمين؛ لأن من إخلاصه أن يكتم أمره، ولكن قد يكشفها الله لبعض الناس، قال تعالى عن مريم: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً} [آل عمران:37] كرامة من الله، لكن هؤلاء يقول: تعال أريك أشياء عجيبة، ثم يريه خوارق يفعلون ذلك تباهياً، وهذا لا يمكن أن يعمله ولي الله.

لماذا لا نستفيد من قدرات الجن؟

لماذا لا نستفيد من قدرات الجن؟ فإن قال قائل: ما دام الجن عندهم قدرات، فلماذا لا نستعملهم في فك السحر، وعلاج المصروع، والبحث عن المفقودات، والسيارة المسروقة ونحو ذلك، فنقول: لا يجوز الذهاب إلى هؤلاء الكهنة أو المشعوذين أو الدجالين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حرم علينا الذهاب إليهم: (من أتى عرافاً فسأله فصدقه لم تقبل له صلاة أربعين يوماً) و (من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم) فنحن ممنوعون من الذهاب إليهم، حتى لا يستحوذوا علينا ولا يوقعونا في الشرك، والشارع أعلم فلما نهانا عن الذهاب يجب علينا أن ننتهي. ثانياً: ما يدريك بأن العلاقة بين هذا الإنسي والجني علاقة شرعية أليس في الغالب أنها علاقة شركية؟ وأنه يأمره بالشرك؟ ذكر شيخ الإسلام رحمه الله قال: كان أحد هؤلاء الذين يتعاونون مع الشياطين على فراش الموت فقال لولده: إن شيطاناً كان يطير بي إلى كذا وكذا، فإذا متُّ سيأتيك على هيئة جمل فاركب عليه، فلما مات أبوه جاءه على هيئة جمل فركب عليه فلما صار في منتصف الطريق قال: إن أباك كان يسجد لي، فرفض الولد أن يسجد له فألقاه في الصحراء، فإذاً يأمرونهم بالشرك، وبينا صوراً من ذلك في الخطبة الماضية. ثالثاً: ما يدريك أن هذا الجني المطلوب الاستعانة به مشرك وكافر والله قال عنهم: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ} [الجن:14] وكذلك قال: {كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً} [الجن:11] قال المفسرون فمنهم المسلم واليهودي والنصراني والسني والبدعي، وأهل الأهواء موجودون عندهم، فما أدرانا أن هذا الجني صالح مستقيم الدين والعقيدة حتى يجوز لنا أن نتعامل معه، خصوصاً وأن القضية من عالم الغيب؟! إذاً إثبات أن هذا الإنسي صالح وأن الجني الذي يتعامل معه صالح، وأن التعامل مباح، والوسيلة مباحة أمرٌ صعبٌ جداً لا يكاد يثبت، فكيف بعد ذلك يفتح الباب على مصراعيه ونقول: عنده جن يستعملها في المباحات، ولو فرضنا وجد شيء فهو نادر جداً جداً، ولا يجوز التوسع فيه على الإطلاق. قال شيخ الإسلام: والشيطان وإن أعان إنساناً على مقاصده فإنه يضره أضعاف ما ينفعه. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن يعيذنا من شر شياطين الإنس والجن أجمعين، وأن يحفظنا وأهلينا من كل سوء إنه هو خيرٌ حافظاً وهو أرحم الراحمين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

صور أخرى من الشعوذة (بدون الاستعانة بالجن)

صور أخرى من الشعوذة (بدون الاستعانة بالجن) الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا هو ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً رسوله الأمين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. عباد الله! إن كثيراً من هؤلاء المشعوذين حيلتهم الدجل والكذب وربما لا يكون عندهم جنٌ أصلاً، ولا يقدرون على تحضير جنٍ ولا على استدعائهم، ولكن يخادعون الناس فيوهمونهم بأشياء، وهذا حال كثيرٍ من الناس، وربما كان بعضهم عاطلاً عن العمل لا يجد عملاً ولا وظيفة فاشتغل مشعوذاً يضحك على الناس يهمه أنه يقرأ ويحصل الأموال الطائلة ويبيع الزيت والماء بأسعار عالية، وما به إلا الفاقة، ثم بعد ذلك ادعى أنه صاحب قدرات وأنه يتعامل مع الجن وهؤلاء كثيرون في المجتمع، وهم يزدادون بشكل مريع، ويجب أن يقف أهل الإيمان والتوحيد لمحاربتهم.

مناظرات مع أهل الشعوذة

مناظرات مع أهل الشعوذة وبعضهم ادعى هذه الأشياء فيما مضى فتصدى لهم أهل العلم، فإذا نظرنا في مناظرة شيخ الإسلام رحمه الله للفرقة البطائحية الذين كانوا في عهده ينتسبون إلى الرفاعي ونحو ذلك، كيف ناظرهم وكشف زيف حالهم؟ هؤلاء من حيلهم، قال رحمه الله: كانوا يرسلون بعض النساء إلى بعض البيوت يستخذلون عن أحوال أهلها الباطنة، ثم يكاشفون صاحب البيت بما علموه زاعمين أن هذه الأمور من الأمور التي اختصوا بالاطلاع عليها، فإذاً حيلة إرسال نساء للبيوت يطلعون على أحوال البيت فإذا جاءهم من هذا البيت إنسانٌ مسحورٌ مصروعٌ أو فيه ما فيه قالوا: أنت في بيتك كذا، فهل هذا صحيح أم لا؟ أنت عندكم كذا -من الأشياء الباطنة- وهذا المغفل يقول: صحيح كيف عرفوا، لا بد أن عندهم قدرات، فبين رحمه الله تعالى الطرق التي كانوا يتسترون بها، ومن ألاعيبهم أيضاً: قال: ودلسوا على آخر كان يدعى قبجق إذ أدخلوا رجلاً في القبر يتكلم، وأتوا به في الليل يقولون: هذا القبر سيخبرك بأشياء وأخبار، وأوهموه أن الموتى تتكلم، وما هو إلا صاحبهم يتكلم من داخل قبرٍ وهذا المسكين يظن أن هذا من أنباء الغيب، يوحون بها إليه، ولذلك ناظرهم رحمه الله لما جاءوا بأطواق الحديد بقضهم وقضيضهم وجموعهم أمام الناس والملأ والأمراء في عهده وقال لهم: هذه بدع وصرخ فيهم، قالوا: نحن نريد الأربعة القضاة والفقهاء ونحن قومٌ شافعية، قال شيخ الإسلام فقلت: هذا غير مستحبٍ ولا مشروعٍ عند أحدٍ من علماء المسلمين، وهذا الشيخ كمال الدين بن الزملكاني مفتي الشافعية ودعوته وقلت له: يا كمال الدين! ما تقول في هذا؟ قال: هذا بدعة غير مستحبة بل مكروهة، وقال: ليس لأحدٍ الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ولا الخروج عن كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال شيخهم عبد الله الكذاب: نحن لنا أحوال وأمور باطنة لا يُوقف عليها وقال: الباطن لنا والظاهر لغيرنا، وأنتم أهل الظاهر ونحن أصحاب الباطن، فقلت له ورفعت صوتي وغضبت: الباطن والظاهر، والمدارس والمجالس، والشريعة والحقائق كل هذا مردود إلى الكتاب والسنة، ليس لأحدٍ الخروج عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لا من المشايخ والفقراء، ولا من الملوك والأمراء، ولا من العلماء والقضاة وغيرهم، بل جميع الخلق عليهم طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فرفع صوته وقال: نحن لنا أحوال ولنا خوارق وكرامات، ونحن ندخل في النار ولا تحرقنا، فقلت ورفعت صوتي وغضبت: أنا أخاطب كل أحمديٍ -المنتسبين إلى أحمد الرفاعي - من مشرق الأرض إلى مغربها أي شيءٍ فعلوه في النار فأنا أصنع مثلما تصنعون ومن احترق فهو مغلوب، وربما قلت: فعليه لعنة الله، ولكن بعد أن نغسل جسومنا بالخل والماء الحار، فسألني الأمراء والناس عن ذلك، فقلت: لأن لهم حيلاً في الاتصال بالنار يصنعونها من دهن الضفادع، وقشر النارنج، وحجر الطلق، فضج الناس بذلك، فأخذ ذلك الشيخ عبد الله الكذاب يظهر القدرة ويقول: أنا وأنت ندخل في النار وتحدى، فقلت: قم فلم يقم فأخذت أكرر عليه القيام فمد يظهر -خلع القميص- وأنه سيتحدى فقلت: لا حتى تغتسل أولاً بالماء الحار والخل فقال متظاهراً: من كان يحب الأمير فليحضر خشباً أو حزمة حطب فقلت: هذا تطويل وتفريق للجمع ولا يحصل به المقصود، هات قنديلاً لا حزمة من حطب وأدخل إصبعي وإصبعك فيه بعد الغسل ومن احترقت إصبعه فعليه لعنة الله أو قلت: فهو مغلوب، فلما قلت ذلك تغير وذل وذكر لي أنه اصفر وجهه، ثم قلت لهم: ومع هذا فلو دخلتم النار وخرجتم منها سالمين، ولو طرتم في الهواء ومشيتم على الماء، ولو فعلتم ما فعلتم لم يكن في ذلك دليلٌ على صحة ما تدعونه من مخالفة الشرع، ولا على إبطال الشرع، فإن الدجال الأكبر يقول للسماء: أمطري فتمطر، وللأرض: أنبتي فتنبت، وللخرب: أخرجي كنوزك، فتخرج كنوزها تتبعه، ويقتل رجلاً ثم يمشي بين شقيه ثم يقول له قم فيقوم ومع هذا فهو دجالٌ كذاب ملعون لعنه الله، ورفعت صوتي بذلك، فكان لذلك وقعٌ عظيم، وذكر بعض الحاضرين أن الناس قالوا: {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ} [الأعراف:118 - 119] فعندما يكون في الناس من أهل العلم من يكشف الزيف والحيل، وأن بعض الناس مشعوذون لا عندهم جن ولا شيء، وإنما مجرد أكاذيب وألاعيب، فإن الناس لا يذهبون إلى هؤلاء، ولكن إذا سكت أهل الحق والناس في جهل، تراكم الناس على أبواب المشعوذين زرافاتٍ ووحداناً، وأتوهم من كل فجٍ عميق.

بعض علامات المشعوذين

بعض علامات المشعوذين فإذا قلت أعطنا علامات للمشعوذ، فإن لذلك علامات كما قلنا، أولاً: أنه ليس بصاحب دين ولا عبادة. ثانياً: أنه ربما يطلب أشياء من المحرمات كخنق ديكٍ أو ذبح شيء، ويشترط أن لا يذكر عليه اسم الله. ثالثاً: يعطي أوراق فيها مربعات ورسومات عجيبة وغريبة، أو يعطي أشياء فيها طلاسم وكلمات غير مفهومة، ويقول: الزمها وضعها تحت المخدة، وعلقها على جنبك، ونحو ذلك، وكذلك يطلب اسمك واسم أمك، هذا من علامات المشعوذ أيضاً، ونحو ذلك من الأشياء والعلامات التي يعرفها بعض من جرب وذهب إلى هؤلاء. نسأل الله السلامة والعافية، اللهم إنا نسألك أن تنصر السنة وتعلي شأن أهليها، اللهم انصر عبادك الموحدين، اللهم اكبت شأن المشعوذين والدجالين، اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل المسلمين، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك، واكبت اليهود والنصارى والمنافقين، وأظهرنا عليهم يا رب العالمين!

قوة الإرادة وعلو الهمة

قوة الإرادة وعلو الهمة إن قوة الإرادة وعلو الهمة شيئان متماثلان، لابد من وجودهما عند كل مسلم؛ لكي يستطيع التغلب على نفسه وشيطانه الذي يثبطه عن العمل ويجعله يعتاد على النوم والكسل والخمول والميل إلى الدنيا. وعلو الهمة يحتاج إليها في العبادة، والدعوة إلى الله، والجهاد في سبيله، وطلب العلم وغيرها من المواضع التي يحتاج فيها إلى همة عالية، فما هي الوسائل التي تؤدي إلى تقوية الإرادة وعلو الهمة؟

أهمية قوة الإرادة وعلو الهمة

أهمية قوة الإرادة وعلو الهمة الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فيطيب لي في هذه الليلة أن أتحدث إليكم في هذا المجلس الذي أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعله مجلساً خالصاً لوجهه، وأن يجعلنا فيه من عتقائه من النار، الذين تجالسوا في الله، وتذاكروا في الله، وتحابوا في الله، واجتمعوا على طلب العلم. أيها الإخوة: موضوعنا في هذه الليلة بعنوان: قوة الإرادة وعلو الهمة. قوة الإرادة وعلو الهمة موضوعان مترابطان؛ وهذان الموضوعان في غاية الأهمية من جهة الحاجة إليهما؛ لأنه لا يقوم بدين الله إلا من كانت له إرادة قوية وهمة عالية، فإن هذا الدين دين قويم ودين عظيم، والله سبحانه وتعالى أنزله وامتحن به الناس؛ ليرى من الذي يقوم به ممن لا يقوم، من الذي يتحرك لنصرته وامتثال أوامره واجتناب نواهيه ومن الذي يتخاذل عن ذلك ويركن إلى الدنيا وإلى الدعة والكسل. وهذان الموضوعان أيضاً في غاية الأهمية من جهة علاج الواقع الذي نعيش فيه، فإننا في حال هزيمة على المستوى الفردي والمستوى الجماعي، وإن العودة بالنفس والمجتمع من حال الهزيمة إلى حال الانتصار تحتاج إلى إرادة قوية وهمة عالية. وحال الأفراد الذين يقولون: عندنا معاصٍ لا نستطيع أن نفارقها، وشهوات واقعون فيها لا نستطيع أن نبارحها، ومن مشاكلنا ضياع الأوقات والدخول في مشاريع دون تكملتها، وتنقطع بنا السبل، ونعيش في فوضى، وحياتنا ليست مرتبة على حسب الشريعة. لا شك أن علاج كل هذه المشكلات وعلاج قضية عدم الجدية في الالتزام بالإسلام وهذه الأوقات الضائعة، والالتزام الناقص، ومظاهر نقص الاستقامة؛ لا شك أنها لا تعالج إلا بإرادة قوية وهمة عالية. ونحن نلتفت لعلاج أنفسنا إلى الأنبياء والصحابة والتابعين والعلماء والشهداء الذين قضوا نحبهم وهم مقيمون على طاعة الله، أولئك الذين وصفهم الله تعالى بأنهم {صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب:23]. أولئك أصحاب الهمم العالية، والعزائم القوية، والإرادات التي جعلت أصحابها في ذلك المستوى الإيماني المرتفع. أيضاً: فإن هذا الموضوع مهم في العبادة، والجهاد، وطلب العلم، والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأن هذه الأمور الشرعية المطلوبة لا يمكن تحقيقها إلا بذلك.

قوة الإرادة

قوة الإرادة ولنشرع بالشطر الأول من هذا الموضوع وهو قوة الإرادة. أما الإرادة: فإن الإرادة الكاملة التامة هي لله سبحانه وتعالى، الذي وصف نفسه بأنه {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج:16] لا تحدث حركة ولا سكنة في الأرض ولا في السماء إلا بإرادته ومشيئته، ولو شاء عدم وقوعها لم تقع، فهذه هي إرادته الكونية القدرية التي لا بد من وقوعها، كما قال الله عز وجل: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} [الكهف:82]، وقال: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} [الإسراء:16] {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} [المائدة:41] {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ} [الرعد:11] فمشيئته سبحانه وتعالى نافذة، إرادته نافذة؛ هذه الإرادة الكونية القدرية. والإرادة الثانية: هي الإرادة الدينية الشرعية كما قال الله تعالى فيها: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء:27] ثم إن بعض الناس قد يسلكون سبيل التوبة فيتوب الله عليهم، وبعض الناس لا يسلكونها فلا يتوب الله عليهم، وقال الله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185] وهذه أيضاً من الإرادة الدينية الشرعية، فلو كانت الإرادة هذه كونية لما حصل لواحد منا عسر أبداً، والخلط بين الإرادتين هو الذي يورد المهالك. وقد ضل أناس في هذين النوعين فجعلوهما شيئاً واحداً، فصار بعض الناس يقولون: إننا مجبورون على الأفعال لا إرادة لنا، وبعض الناس يقولون: إن كل شيء نفعله فالله يريده، يعني: يحبه، فضلوا واستمروا على المعاصي والضلال، قالوا: إن الله يحب هذا واحتجوا بأنه وقع وأن الله أراده، وبعض الناس: ضلوا في الناحية الأخرى فقالوا: إن العباد يخلقون أفعالهم بأنفسهم، وهؤلاء الضُّلاَّل هم الذين انحرفوا في مفهوم إرادة الله سبحانه وتعالى فخلطوا بين الإرادة الشرعية وبين الإرادة الكونية، والذي يخلط بينهما -ولا شك- يضل. فهؤلاء الذين قالوا: إن العباد يخلقون أفعالهم بأنفسهم جعلوا هناك أكثر من خالق، بل إن عدد الخالقين صار بعدد الناس الذين يفعلون الأفعال، ولا شك أن الله خلقنا وخلق أفعالنا: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96] وأما الذين قالوا: إن العباد ليس لهم إرادة وإنهم مقصورون ومجبورون على أفعالهم سلبوا العباد القدرة والإرادة التي أعطاهم الله إياها، بل إنهم بهذا الكلام الباطل جعلوا تعذيب الله للعاصي مثل تعذيب الطويل؛ لماذا لم يكن قصيراً، والقصير؛ لماذا لم يكن طويلاً، بل إنهم عذروا إبليس وقدموا العذر لفرعون وهامان وقارون؛ لأنهم معذورون بما فعلوه لأنهم مجبورون، وقال قائلهم في البيت المشهور: ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء هذا بيت من عقيدة الجبرية، والذي قاله جبري، يقول: إن الإنسان مجبور، وأن الله سبحانه وتعالى امتحنه مع أن المخلوق لا إرادة له، بل إن بعض هؤلاء القدرية الضُّلال اجتمع نفر منهم فتذاكروا في القدر فجرى ذكر الهدهد وقوله: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} [النمل:24] فقال أحدهم: كان الهدهد قدرياً، أضاف العمل إليهم والتزيين إلى الشيطان، وكل ذلك من فعل الله. ونحن نعتقد أن الله سبحانه وتعالى أعطانا القدرة وأعطانا الإرادة، ولكن لا يقع إلا ما يريده الله، لم يسلبنا الله الإرادة والقدرة، بل إن العبد إذا أراد أن يفعل شيئاً فإن له الحرية في الفعل إذا أراد الله وقدر وقوع ذلك، ولا يشعر العاصي بقوة تدفعه إلى عمل الشيء وهو لا يريد ذلك أبداً، وليس العبد مجبوراً على أفعاله مطلقاً، وكم كانت هذه العقيدة الضالة سبباً في صد بعض الناس عن دين الله سبحانه وتعالى، وهذا مثال على ذلك: قال بعض السلف: خرجنا في سفينة وصحِبَنَا فيها قدريٌ ومجوسي، فقال القدري للمجوسي: أسلم، قال المجوسي: حتى يريد الله -هذا عين ما يقع اليوم من بعض الناس الفسقة إذا قلت لهم: التزموا بدين الله عودوا إلى الله اتركوا المعاصي قالوا: حتى يريد الله- قال المجوسي: حتى يريد الله، فقال القدري: إن الله يريد، ولكن الشيطان لا يريد، فقال المجوسي: أراد الله وأراد الشيطان فكان ما أراد الشيطان، هذا شيطان قوي، وفي رواية قال: فأنا مع الأقوى منهما. وهذا الضلال بسبب الخلط بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية، فإن الله سبحانه وتعالى أعطانا الإرادة وأراد منا أن نعبده سبحانه وهو لا يقع في ملكه إلا ما يريد: {إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:47] ومن الأدلة على أن الإنسان له إرادة ما أخبر الله سبحانه وتعالى به في عدد من المواضع في كتابه، كقوله عز وجل: {فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا} [القصص:19] {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف:79] {وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} [هود:79] {إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً} [القصص:19] فنحن لنا إرادة ضمن إرادة الله، ولا يمكن أن نخرج عن إرادة الله، ولكن لنا إرادة، لسنا مجبورين على أفعالنا. وبالمناسبة فإن عدداً من الذين يتكلمون عن موضوع الإرادة من أصحاب الكتابات في علم النفس المأخوذ من النظريات الغربية والمبني على عقائد القوم المنحرفين والكفرة عندهم هذه المسألة، وهي أنهم يقولون في كلامهم: إن الشخص يستطيع أن يفعل ما يريد، وأن الإنسان إذا صمم على شيء فلا بد أن يفعله، فهذا من نتيجة إلحادهم وعدم إيمانهم بالله سبحانه وتعالى وبمشيئته وإرادته، وأننا تحت قهره وسلطانه ونفوذه عز وجل. فالله سبحانه وتعالى خلق فينا الإرادة وجعل فينا غرائز وأهواء وشهوات، فالإرادة الحازمة تلبي المطالب الشرعية وترفض الإذعان لما يخالف الشريعة، وعلى مقدار إيمان الإنسان تكون قوة إرادته، وبمقدار انحرافه واتباعه لأهوائه وشهواته ونزواته وغرائزه تكون ضعف إرادته؛ لأن الشهوة تجعل ضعيف الإرادة مسوقاً إلى تحقيق مطالب النفس الأمارة بالسوء بدون أن يقاوم، وإرادة الإنسان المسلم تكبح جماح الأهواء والشهوات الثائرة وتسكنها بالكبح والصبر. وإذا كانت الإرادة قوية محكومة بالعلم الشرعي مع العقل والحكمة التي اقتضتهما الشريعة وجاءت بهما، فإن أفعال المسلم تكون حكيمة ونافعة، وإذا كانت الإرادة ضعيفة أو غير مقرونة بالعلم والعقل والحكمة فإن التصرفات لا تكون حكيمة ولا نافعة، وضعيف الإرادة يتخاذل أمام ميل نفسه إلى الكسل والتباطؤ في العمل، ويجعل غالب وقته في الهزل، ويتعطل عن العمل عند شعوره بأدنى تعب في جسمه، أو علة في نفسه، أو عند شعوره أن العمل لا يوافق هواه وهكذا. وهؤلاء ضعفاء الإرادة متبعون لأهوائهم، ولذلك تراهم يخلدون إلى النوم الطويل القاتل للقوة والمتلف للجسم، وهؤلاء الذين لم يلتزموا بدين الله ولم يأخذوا بهذه الشريعة فقصروا وجعلوا للشيطان عليهم سبيلاً. وبعض الناس يكون عندهم قوة إرادة لكن لا يحكمونها بحكمة الشريعة، قد تكون إرادتهم قوية جداً، لكن لسبب فقدانهم للعلم والحكمة تكون قوة إرادتهم نكبة على أنفسهم، فقد يضغط بعضهم على نفسه فيركب مركب الغلو، فيصل إلى تعذيب النفس والجسد فينهار ويتحطم، وبعضهم قد يستخدم إرادته القوية فيفرض سيطرته على مجموعة من الناس ويقودهم للإجرام، وبعضهم من قوة إرادته يغامر بنفسه وبغيره مغامرات تقودهم إلى الهلكة، وهذا من الغلو في هذا الموضوع. وإن الإرادة التي نتكلم عنها هي إرادة وجه الله، ما نريده إرادة وجه الله سبحانه وتعالى، فإن بعض الناس في هذه الدنيا عندهم قوة إرادة لكنهم وجهوها لطلب الحياة الدنيا، فأرادوها وسعوا من أجلها، فمن أجل الدنيا يعيشون ومن أجلها يكافحون ومن أجلها يعملون في الصباح والمساء حتى يصل إلى غنى، أو شهرة، أو منصب، أو شهادة، ونحو ذلك. وهذا حال كثير من الناس اليوم، فإن بعضهم عنده إرادة قوية لكن في أي شيء سخرها؟ لجمع الأموال، وفتح الشركات، ومتابعة الأعمال أو الدراسة، وكله في الدنيا، تجده يهلك نفسه في الدراسة الدنيوية وهو مفرِّط في أمور الشريعة وفي أمور الدين، وجَاعلٌ إرادته كلها منصبة في قضايا الدنيا، فهذا الذي قال الله عز وجل فيه: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء:18]، يعني: قد تحصل له وقد لا تحصل، فإن بعضهم يكدحون ويكدحون وعندهم إرادات لكن لا يوفقهم الله حتى في الدنيا {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً * {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً} [الإسراء:18 - 19]. فالذين لا يريدون وجه الله وليس عندهم إرادة لوجه الله، هؤلاء يكون من عقوبتهم التثبيط عن الأعمال الصالحة؛ لأنهم ما أرادوا وجهه، ولا فعلوا موجبات الإرادة، فإذا كان إنسان يريد الدين فعلاً، ويريد نصرة دين الله، والعمل له لكان قام بالأعمال، ولصار عنده من أعمال الجوارح وغيرها والتخطيط والتدبير لنصرة هذا الدين والسعي إليه، لكن لما فرط وتخلى ثبطه الله، كما قال الله سبحانه وتعالى في الذين في قلوبهم مرض: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} [التوبة:46] لقاموا بالعمل وجهزوا أنفسهم بما يستطيعون {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة:46].

وسائل تقوية الإرادة

وسائل تقوية الإرادة ما هي وسائل تقوية الإرادة؟

الإيمان بالله عز وجل وأسمائه وصفاته يقوي الإرادة

الإيمان بالله عز وجل وأسمائه وصفاته يقوي الإرادة أولاً: الإيمان بالله عز وجل وأسمائه وصفاته، وقضائه وقدره، والتوكل عليه، وحسن الظن به، والثقة بالله سبحانه. لاحظ الفرق بيننا وبين طرح مفهوم الإرادة عند الكفار وفي بعض كتب النفس، يقولون: أنت تستطيع أن تفعل أي شيء، تستطيع أن تفعل كل شيء، رددت وقلت: أريد وأريد وأريد وستفعل ذلك مهما كان، ونحن نقول: لا بد أن يوجد عندنا تصميم وعزم كما دعتنا الشريعة إلى ذلك، لكن لا بد أن نتوكل على الله، ونفوض أمرنا إلى الله مع العمل: (اعقلها وتوكل) أما الكفار يعقلون ولا يتوكلون، هذا هو الفرق بيننا وبينهم. ولذلك إذا فشل الواحد منهم تحطم وانهار وانتهى وربما انتحر أو أصيب بالجنون أو الأمراض العصبية، لكن المسلم يعمل وهو متوكل على الله فلو لم يستطع الوصول إلى مرامه ولا نجح فإنها فيصبر على قضاء الله سبحانه وتعالى.

بالتربية تنمو الإرادة

بالتربية تنمو الإرادة ثانياً: التربية هي التي تدرب الشخص على مقاومة الأهواء والشهوات، وتربية الإرادة في نفسه هي التي تكبح جماح هذه الأهواء والشهوات، فالإنسان قد يفشل في المرة الأولى فينهار من أول مواجهة، لكنه بالتربية يصمد في المرة التي بعدها، نعم قد لا يستطيع الصمود إلى النهاية أو لا يصمد إلى النهاية ويسقط، لكن مع النصيحة والمتابعة والتوجيه وشد الأزر ومع الجو الطيب تتكون عنده الإرادة وتنمو الإرادة القوية التي تساعده في الوقوف أمام جيوش المعاصي والشهوات.

تحديث النفس بالطاعة والانتهاء عن المعصية

تحديث النفس بالطاعة والانتهاء عن المعصية ثم من وسائل تقوية الإرادة: تحديث النفس بالشيء من طاعة الله، أو الانتهاء عن معصية الله، تحدث نفسك به باستمرار، وتتذكره بينك وبين نفسك، تأمل في حديث: (من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من نفاق) هذا الذي يموت على شعبة من النفاق، لو أنه كان يحدث نفسه بالغزو دائماً وقام قائم الجهاد ونادى المنادي للنفير فإنه سيكون مع الخارجين في سبيل الله؛ لأنه دائماً يحدث نفسه في هذا الشيء، ويذكر نفسه بهذا الشيء، ويردد على نفسه تلك الآيات والأحاديث المرغبة في هذا العمل. وكذلك لو أنه يريد أن تكون عنده إرادة في مقاومة شهوة من الشهوات، يردد على نفسه ويتذكر دائماً وباستمرار هاجسه الذي يقلقه والشيء الذي يتردد في نفسه حرمة هذه المعصية وعقوبة العاصي عند الله والعزم على عدم العودة، والندم على الفعل، هذا في النهاية سيوصله إلى إرادة قوية تمنعه من الوقوع في هذه المعصية.

ممارسة العبادات من عوامل تقوية الإرادة

ممارسة العبادات من عوامل تقوية الإرادة ومن عوامل تقوية الإرادة: ممارسة العبادات، ويجب أن يكون على رأسها ذكر الله عز وجل، وقد ثبت بالدليل الصحيح أن ذكر الله تعالى يقوي القلب ويقوي البدن، وتأمل أبدان فارس والروم كيف خانتهم أحوج ما كانوا إليها وانتصر عليهم أولئك النفر من المؤمنين الذين لم يكونوا مثلهم في قوة الأجساد ولا في العدة والعتاد. إذاً: من المزايا التي أعطاها الله للذاكرين الله كثيراً والذاكرات قوة الإرادة والإيمان والقوة في القلب والبدن. ثم من العبادات التي تقوي الإرادة: الصيام: فلا شك أن الصيام يقوي الإرادة؛ إرادة الصبر على الجوع والعطش والشهوة لأجل الله سبحانه وتعالى، فهناك عبادات واضح أثرها في تقوية الإرادة.

عدم التردد والتحير

عدم التردد والتحير من الأمور المهمة أيضاً: عدم التردد والتحير والتلكؤ إذا ظهر لك رجحان الأمر شرعاً وأنه من طاعة الله، بل ينبغي عليك الإقدام والإسراع، الذين {يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [الأنبياء:90]. ينبغي عليك أن تأخذ بجانب الحزم والعزم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل) وهذا في غزوة أحد حيث استشار القوم فأشار بعضهم بالخروج وأشار الآخرون بعدم الخروج فمال النبي صلى الله عليه وسلم إلى قول الذين قالوا بالخروج من المدينة لملاقاة العدو ولبس لأمته، وكأن بعضهم ندم، قالوا: ربما أكرهنا النبي صلى الله عليه وسلم فراجعوه إذا كان يريد أن يقعد، يعني: ما عندهم مانع في ذلك، وهم يؤيدونه لكن النبي صلى الله عليه وسلم ما دام اتخذ القرار ورأى فيه المصلحة الشرعية بعدما شاور {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران: 159] فقال: (ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل). وهذا درس في مسألة رد التحير والاضطراب والتردد ونبذ هذا الكلام والإقدام على الأمر بالحزم والعزم. ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم قد علمنا هذا المفهوم في حديث مهم، فقال عليه الصلاة والسلام: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف) طبعاً القوي في كل شيء؛ في إرادته، وفي دينه وإيمانه وبدنه ومهاراته وقدراته. (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز) يعني: أقدم ولا تتردد لا تتحير لا تتخاذل لا تتكاسل، احرص على ما ينفعك؛ ما دام رأيت فيه المصلحة الشرعية. (واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء -بعد كل هذه الإجراءات- إن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان). إذاً: الإرادة القوية تقتضي الحزم والإقدام والجرأة والشروع في العمل، ولا للتردد والحيرة والاضطراب. وهذا الحديث رواه أحمد ومسلم. وهذه اللفتة أيضاً موجودة في حديث مسلم لما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم الراية، وجاء في الحديث قوله عليه الصلاة والسلام: (لأعطين هذه الراية رجلاً يحب الله ورسوله يفتح الله على يديه. قال عمر رضي الله عنه، أنه ما أحببت الإمارة إلا يومئذٍ). بأي سبب؟ بسبب هذا الوصف يحب الله ورسوله، وهذا من ورع عمر رضي الله عنه ما كان يتطلع للإمارة إلا في هذا الموقف. (فتساورت لها رجاء أن أدعى إليها. قال أبو هريرة: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأعطاه إياها، وقال: امش ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك، فسار علي شيئاً ثم وقف ولم يلتفت فصرخ: يا رسول الله! على ماذا أقاتل الناس؟ قال: قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) الحديث. ومن صفات القائد المسلم الذي يقود في معركة، أو في أي مجال آخر من المجالات أنه لا يتردد ولا يتباطأ لأن عامل الحسم عامل مهم في القيادة، إذا كان الكفار يتكلمون عنه في كثير من الأمور العسكرية والإدارية وغيرها نحن أولى وأحرى بهذا، بل هو من ديننا وعرفناه قبلهم من هذا الدين. وإن عدم التكاسل والتردد يكون حتى في العبادة، في الصلاة، في السهو إذا غلب على ظنه، يفعل ما ترجح لديه، وإذا لم يغلب على ظنه شيء وشك يبني على اليقين ولا ينصرف عن صلاته وهو شاك فيها، إما أن ينصرف عن يقين أو غلبة ظن ويسجد للسهو. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: (يا بن آدم لا تعجز عن أربع ركعات في أول النهار أكفك آخره) هذه مثل: صلاة الضحى أربع ركعات في أول النهار تسبب الوقاية من الأحداث السيئة والأعراض والأمراض ونحو ذلك من الحوادث والأعراض السيئة. (لا تعجز عن أربع ركعات في أول النهار أكفك آخره) ويحتاج الإنسان في هذا إلى الصبر، وأن يكون جاداً، وأن يعقد قلبه على الشيء ويعزم؛ والعزم من مرادفات قوة الإرادة، قال الله عزوجل: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران:186]. فهناك أفعال تحتاج إلى عزيمة وقوة: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى:43] ليس كل الناس يستطيعون أن يصبروا ويسامحوا الآخرين. {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان:17] فليس كل الناس يستطيعون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على ما يترتب على ذلك مع إقام الصلاة. وتأمل في حال أولي العزم من الرسل، لماذا سموا بأولي العزم؟ هؤلاء الخمسة المقدمون عند الله عز وجل، كانت لهم إرادات تنفيذية على مستوى رفيع، {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ} [الأحقاف:35]. ولذلك نحن نعزم ونتوكل على الله وننفذ ولا نكن كالعاجز الذي يتبع نفسه هواها ويتمنى على الله الأماني. والإنسان المتعرض للشهوات ينبغي عليه أن يتدبر قول الله عزوجل: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:37 - 41]. فقوة الإرادة عند الشهوة أن تحضر قلبك وتحضر علمك وعزيمتك للوقوف أمام الشهوة {وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف:23] (ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال إلى نفسها، فقال: إني أخاف الله رب العالمين) فهذا الرجل الذي قال: إني أخاف الله رب العالمين أمام هذا الإغراء ذات منصب وجمال مغرٍ؛ وربما ترغمه وتسجنه وتذيقه الأذى إذا لم يستجب، فاجتمعت المسألة من جوانبها ترغيباً وترهيباً، وهو يقول: إني أخاف الله رب العالمين، هذا صاحب إرادة قوية.

المبادرة بالأعمال والمداومة عليها

المبادرة بالأعمال والمداومة عليها ومن عوامل تقوية الإرادة أيها الإخوة: المبادرة بالأعمال قبل الأعراض، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بادروا بالأعمال) قد يأتيك فقر ينسي، وقد يأتيك غنىً يطغي، وقد يأتيك مرض يقعدك، وقد يأتيك الموت، فبادر بالأعمال الآن واشرع بها قبل فوات الأوان، قبل أن تجتمع عليك الحوادث، أو يأتي ما لا تظن وما لا تفكر فيه. وكذلك من عوامل تقوية الإرادة: أن يحافظ الإنسان على العمل وإن قل، فتشرع فيه ثم تحافظ عليه وإن قلت الأعمال (فإن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل). وكذلك: إذا فرغت من عمل فابدأ في عمل آخر وراءه مباشرة؛ هذا من الأمور المهمة في متابعة قوة الإرادة، والدليل على ذلك قول الله عزوجل: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح:7 - 8]، إذا فرغت من الصلاة فانصب للذكر، فليس إذا انتهى الإنسان من عمل يذهب ويلعب، إذا انتهى من الصلاة يذهب ويطلق هوى النفس يقول: الحمد لله صلينا الصلوات وأدينا الفروض فيمكننا بعد ذلك أن نذهب لمشاهدة الأفلام والمسلسلات ونلعب الورق، {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} [الشرح:7] ليس موجوداً عند هؤلاء، ولذلك تكون إراداتهم ضعيفة، وصحيح أنه يحافظ على بعض الأعمال الدينية كالصلاة مثلاً، أو الزكاة أو الصيام لكن في بقية أعمال الخير كسول متردد مسوف.

التفاؤل يؤثر في الإرادة

التفاؤل يؤثر في الإرادة وكذلك من الأمور التي تؤثر في الإرادة: التفاؤل وعدم التشاؤم، فإن بعض الناس الذين عندهم نفسيات متشائمة ليست عندهم إرادات قوية؛ لأنه بمجرد ما يرى شيئاً يجلب لنفسه التشاؤم فيترك العمل، وتنتهي الإرادة، وتفتر وتتلاشى، كما أن بعضهم إذا ذهب يفتح الدكان فرأى رجلاً أعور تشاءم وقال: هذا يوم سوء سنخسر ثم أقفل الدكان ورجع، وإذا خرج له رقم مقعد (13) قال: هذا رقم سوء وشؤم، أكيد سيحصل لي حادث فيلغي السفر ويرجع، وهكذا بعض الناس يتشاءمون، ربما لو طنت أذنه اليسرى قال: هذا العمل لا بد من عدم الإقدام عليه، وهكذا. والنبي صلى الله عليه وسلم كان يحب التفاؤل، كان يتفاءل ويحب التفاؤل، وقال: (الطيرة شرك) لا يجوز التشاؤم؛ والتشاؤم يبطئ الهمة ويشتت القلب ويميت روح الإقدام.

الصبر والتحمل يقوي الإرادة

الصبر والتحمل يقوي الإرادة وعلى المسلم أن يتحامل على نفسه رغم الصعاب؛ وهذه من الأشياء التي تقوي الإرادة، كما قال الله عزوجل: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ} [النساء:104] ففي غزوة أحد أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يلحق بالمشركين وفي المسلمين جراحات، وتعب شديد من المعركة {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ} [النساء:104] مثلكم لكن الفرق أنكم {وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:104] وهذا فرق أساسي ومهم جداً {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ} [النساء:104] تحملوا وتجلدوا وتصبروا إن تكونوا تألمون فهم يألمون أيضاً لكنكم أنتم أيها المؤمنون {وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} [النساء:104]. ثم على المسلم أن يتلقى الأحداث بالصبر وعدم الجزع عند المصيبة، أو الحزن على ما فات، وهذا -ولا شك- نابع من الإيمان بالقضاء والقدر، والله سبحانه قال: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:22] من قبل أن نخلقها ونوجدها في الواقع هي مكتوبة في كتاب {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج:70] فائدة الإيمان بهذا المفهوم ذكرها الله تعالى فقال: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد:23]. وبعد هذا العرض في موضوع قوة الإرادة لننتقل الآن إلى الشق الثاني من موضوع هذه الليلة وهو علو الهمة.

علو الهمة

علو الهمة علو الهمة -أيها الإخوة- شيء لا يحسنه ولا يتوفر إلا عند أكابر الناس الذين جعل الله التوفيق حليفهم. وعلو الهمة: التطلع إلى الأعلى وهو رضا الله سبحانه وتعالى وابتغاء وجه الله، ما هي همتنا؟ وما الذي ينبغي أن تكون موجهة إليه؟ إنه ابتغاء وجه الله والجنة وإنا لنبتغي فوق ذلك مظهراً هذه الهمة العالية ليست إلا لمن وفقه الله تعالى.

مركبات علو الهمة

مركبات علو الهمة علو الهمة مركب من عدة عناصر: منها: الجد في الأمر والإباء والترفع عن الصغائر والدنايا والطموح إلى المعالي الشرعية، لأن بعض الناس يطمحون إلى وظائف ومناصب ومستويات مادية وشرف دنيوي ومدح وثناء، فهذا ليس علواً في الهمة بل هو دنو في الهمة؛ لأنه صار ينظر إلى الدنيا، لماذا سميت بالدنيا؟ لأنها دنية سافلة. فالذي يتطلع إلى منصب أو وظيفة لا يوصف بأنه ذو علو في همته، بل هذا همه في الدنيا، وذكرنا أنه قد يكون عنده من قوة الإرادة والشخصية ما يحقق له الغرض الذي يريده، لكن ليس له عند الله من خلاق، فإن قصد بها وجه الله صارت قضية شرعية، كمن قصد أن يحصل على الشهادة لكي يوظف ذلك في طاعة الله، أو قصد التجارة لينفق على نفسه وأهله بالمعروف وأن يتصدق وأن يدعم القضايا الإسلامية، ونحو ذلك، فهذا ممن يبتغي وجه الله، همته إرادة وجه الله، وما تاجر إلا لوجه الله، ما اكتسب إلا لوجه الله، ما درس إلا لوجه الله، فهذا عنده علو همة. فعلو الهمة هو الجد في الأمر والإباء والترفع عن الصغائر والدنايا والطموح إلى المعالي الشرعية، وكلما عظم الهدف وسمت النفس إليه ارتفعت الهمة ووصف صاحبها بأنه عالي الهمة، وكلما هبط الهدف ودنا نزلت الهمة وحصلت الدناءة ورضي المرء بالصغائر والتوافه. علو الهمة يقتضي أمورا: منها: الجدية في العمل وعدم التواني والكسل، إذا دعا الداعي من الله عز وجل إلى عمل تسابقوا إليه مثل حي على الصلاة فإن من علو الهمة إن كانت مطرقته رفعها ألقاها خلف ظهره ولا يطرق بها وإنما يذهب إلى الصلاة مباشرة، إذا أراد أن يبيع فأذن المؤذن لم يبع ولم يكمل التفاوض ولا المساومة وترك ذلك للصلاة، هذا من علو الهمة، عندما يستطيع الحج يحج هذا علو همة، لا يسوف ولا يؤخر، إذا قال الله: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} [التوبة:41] طاروا إليه رجالاً وركباناً، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ} [النساء:71] يعني: جماعات، {أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً} [النساء:71] نفير عام، الجيش كله: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ} [النساء:72] ما عندهم علو همة بل عندهم ضعف إرادة فهم يثبطون. وقلنا: إن علو الهمة وقوة الإرادة أمران مترابطان غاية الترابط وبينهما علاقة وثيقة جداً. أصحاب الهمة الدنيئة لا يقومون إلى ما يرضي الله، وإذا دعا الداعي إلى شيء من الطاعات أحجموا وسوفوا وتكاسلوا، كما وصف الله المنافقين بقوله: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى} [النساء:142] {وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة:54]. فالتكاسل والتقاعس هذا مما ينافي علو الهمة، وعكسه الجد وعدم التواني، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ بالله من العجز والكسل، فيقول: (اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل). كما جاء في الحديث الصحيح، وهذا دعاء مهم جداً. والإسلام يدفع المسلم إلى ابتغاء الكمالات، من التطلع للآخرة، والتطلع إلى المعالي، وإلى الأشياء العظيمة، والإسلام يصرف المسلم عن أن ينزل ببصره إلى الدنايا والتوافه والصغائر والأمور الحقيرة، خذ مثلاً على ذلك: يريد الله عز وجل من المسلم أن يرتفع بنفسه عن هذه الأرض وجواذبها ودناياها ليتطلع إلى الأمر العظيم وإلى الهمة العالية وهي طاعة الله عزوجل -العبادة- {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9]. فهو يريد أن تكون همة العباد إلى هذا الشيء وهو قيام الليل {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]، وقال الله عزوجل: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء:95] لا يستوون هؤلاء، {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [النساء:95]، ثم قال: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً * دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [النساء:95 - 96]. هذا المنادي من الله يدعو العباد إلى التطلع إلى هذه المعالي، ويقارن بينهم وبين الشيء العادي والشيء الدنيء، وكذلك حتى الأشياء العالية متفاوتة، فيقول: التمسوا الأعلى {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} [الحديد:10]. والإسلام كما أنه يحث على الارتفاع والتطلع إلى معالي الأمور مثل طاعة الله من قِبل عباده، من الجهاد، والصدقة، والصلاة، وقيام الليل، فإنه يصرف المسلم عن أن ينظر ببصره أو يتطلع ويهفو قلبه أن يركن إلى سفاسف الأمور والدنايا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب معالي الأمور وأشرافها ويكره سفسافها) وجاء الحديث بألفاظ أخرى. والسفساف: هو الأمر الحقير والرديء من كل شيء، ومن الأمثلة على ذلك: ذم السؤال في الإسلام -الشحاذة وطلب الناس- يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اليد العليا خير من اليد السفلى) فسرها في الحديث الآخر: (اليد العليا هي المنفقة والسفلى هي السائلة). ما يريد الإسلام من المسلمين أن يكونوا شحاذين وسُؤًّالاً يمدون أيديهم، وإنما أن يكونوا عاملين يأكلون من عمل أيديهم، وأشرف طعام يدخل جوفك ما صنعته بيدك؛ هذه سنة داود عليه السلام، وذم النبي صلى الله عليه وسلم السؤال من غير حاجة، والمكثرين من السؤال، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم عنهم: (لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله تعالى وليس في وجهه مزعة لحم)، وقال: (من سأل الناس وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش -أو خدوش، أو كدوح- قيل: وما الغنى يا رسول الله؟ قال: خمسون درهماً أو قيمتها من الذهب). فإذا كان له ما يغنيه وسأل جاءت المسألة يوم القيامة في وجهه نُدَباً وآثاراً. وقد لفت النبي صلى الله عليه وسلم نظر أصحابه إلى قضية ترك سؤال الناس بالكلية، وقال: (من يتكفل لي ألا يسأل الناس شيئاً وأتكفل له بالجنة؟ فقال ثوبان: أنا، فكان بعد ذلك لا يسأل أحداً من الناس شيئاً) وصار الصحابة رضوان الله عليهم إذا سقط السوط من يد أحدهم لا يسأل أحداً من الناس أن يناوله إياه. وقضية علو الهمة تكون بالتطلع إلى الآخرة، والتطلع إلى طاعة الله، حتى في الدعاء، فإن الإنسان تكون همته عالية في الدعاء (إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أعلى الجنة) وقد يقول قائل: أنا مقصر ومذنب وأعرف نفسي لا أستحق الفردوس، نقول: لكن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أعلى الجنة). إن الله كريم، ولا يعجزه شيء، سبحانه وتعالى وهو المنان فاسأله، وماذا يضرك؟ إن علو الهمة يكون حتى في الدعاء فيتطلع إلى الفردوس، على أن المسلم يسأل الله الفردوس، وربما بعض الناس يقول في نفسه: دعني فسوف أسأل أن أكون عند باب الجنة فقط، نقول: لا. يقول: عندي معاصٍ، نقول: لا. فاسأل الله الفردوس، حتى في الجنة اسأل المراتب العليا، ادع الله فربما يجيبك فتكون من الفائزين بهذه الدرجات العلى والنعيم المقيم.

الدافع إلى علو الهمة

الدافع إلى علو الهمة والذي يدفع المسلم إلى علو الهمة هو الزهد في الدنيا؛ لأنه لو عرف حقيقة الدنيا أنها فانية زائلة ملعونة، وأنها كالعصف المأكول، وأنها تكون كهذا الذي تذروه الرياح، فإذا عرف قيمة الدنيا وتفاهتها وحقارتها وزوالها وفناءها فإنه في هذه الحالة يزهد فيها، وتتطلع همته إلى الأمور العليا إلى الآخرة وإلى الجنان وما أعد الله فيها. ومن الأمور المعينة على أن تكون الهمة عالية: اشتغال الإنسان بما يعنيه وانصرافه عما لا يعنيه، فإنه إذا انشغل بما يعنيه؛ ومعنى: يعنيه، أي: يعنيه شرعاً، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعني: الدعوة إلى الله، كسبك لأجل أولادك وزوجتك والإنفاق على زوجتك يعنيك، كل هذا يعنيك، معرفة أوقات الصلوات تعنيك، وما لا يعنيك هو: كل ما يضرك وما لا مصلحة لك فيه شرعاً. انظر إلى هؤلاء الناس الذين عندهم هوايات عجيبة: التصوير، وجمع الطوابع، والرياضات البحرية وتقضى فيها ساعات، وصيد الجرابيع، وأن يصعد بسيارته على تل من رمل؛ هذا همهم في هذه الأشياء، وآخر يجلس عند الألعاب التي في الكمبيوتر عشر ساعات واللعبة تأخذ كل يوم مراحل وساعات طويلة: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) فينبغي ترك هذه الأشياء، لا نقول: لا تروح عن نفسك، ولا تتريض الرياضة المباحة، لا. هذا مما يعنيك، لكن الإغراق في هذه الأشياء، وإضاعة الساعات الطويلة فيها، هذا لا شك أنه منافٍ لعلو الهمة. وترك فضول الكلام، ومجالس إضاعة الوقت، والناس الثرثارين؛ هذا مهم لكي يحفظ الإنسان وقته، فالشخص الذي عنده علو همة ينصرف لمراعاة وقته، وكل ما هو من مدعاة الكسل والخمول، فالإنسان يترفع عنه، حتى التثاؤب انظر كيف أمرنا برد التثاؤب وتغطية الفم في الصلاة إذا تثاءبنا حتى لا يدخل الشيطان؛ لأن التثاؤب من الشيطان والتثاؤب عنوان الكسل والخمول، حتى التثاؤب الذي هو عملية طبعية تكون في الجسم ومع ذلك نرده ونكظمه حيث أمرنا بذلك شرعاً.

صور من علو الهمة عند السلف

صور من علو الهمة عند السلف وبعد هذه النقاط في مقتضيات علو الهمة وبعض الأسباب التي تؤدي إلى علو الهمة لننتقل إلى تطبيقات عملية في واقع السلف في بعض الجوانب فيما يتعلق بعلو الهمة، ومن ذلك: الهمة في العبادة، والهمة في البحث عن الحق، والهمة في الدعوة إلى الله، وفي الجهاد، وفي طلب العلم. وتحت كل فرع من هذه الفروع نضرب أمثلة ونستلهم المعاني من قصص أولائكم النفر الكرام من الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين.

الهمة في العبادة

الهمة في العبادة أما الهمة في العبادة: فإن الله سبحانه وتعالى قد رغبنا في ذلك، وذكر لنا حال أصحاب الهمم العالية في العبادة؛ مثل: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة:16 - 17] وهذا النبي صلى الله عليه وسلم أعلى الأمة قاطبة في همته، فهو أعلى الناس همة في العبادة كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه. قال ابن مسعود: [صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فأطال القيام حتى هممت بأمر سوء، قيل: وما هممت به؟ قال: هممت أن أجلس وأدعه] يعني: يكمل الصلاة قاعداً. وروى مسلم عن حذيفة قال: (صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة فقلت: يركع عند المائة، ثم مضى، فقلت: يصلي بها ركعة، فمضى، فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مترسلاً إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ، ثم ركع، فجعل يقول: سبحان ربي العظيم، فكان ركوعه نحواً من قيامه، ثم قال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، ثم قام قياماً طويلاً قريباً مما ركع، ثم سجد فقال: سبحان ربي الأعلى فكان سجوده قريباً من قيامه). والأمثلة كثيرة في الصحابة والتابعين وذكرنا طرفاً صالحاً من هذا في محاضرة بعنوان: "اجتهاد السلف في العبادة"، فلا نطيل في ذلك. ولكن لنعلم -أيها الأخوة- أن الشيطان يثبط الإنسان أن تكون له همة في العبادة، والشيطان يعقد على قافية رأس أحدنا بثلاث عقد حتى لا يقوم الليل، فإذا قام وذكر الله انحلت عقدة، فإذا توضأ انحلت، وإذا صلى انحلت كل العقد، ولما ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم رجلاً نام حتى أصبح، قال: (ذلك رجل بال الشيطان في أذنه). أما بالنسبة للهمة في البحث عن الحق، فإن النبي صلى الله عليه وسلم -وهو النبي صلى الله عليه وسلم- كان يسأل الله أن يوفقه للحق ويدعو ربه ويناجيه في الليل وهو يصلي ويقوم الليل: (اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك). الإنسان مطالب بالوصول إلى الحق، وأن يحاول ذلك، سواء كان في مسائل الاعتقاد، أو العبادات ومعرفة الصواب والحق فيها، ينبغي أن يبذل جهده في ذلك.

الهمة في طلب الحق

الهمة في طلب الحق ولنأخذ مثلاً واحداً يبين لنا الهمة العالية في البحث عن الحق، إنه سلمان الفارسي رضي الله عنه، فقد كان أبوه من عباد النار من المجوس، وكان مع أبيه يحش النار، فحصلت له حادثة حيث أرسله أبوه في أمر فمر على ديرٍ للرهبان فتعرف على دين النصرانية فأعجب بهم فأخبر أباه فسجنه وقيده بالسلاسل، فأرسل إلى أولئك النصارى يسألهم عن أصل هذا الدين، قالوا: هو بـ الشام، فأرسل إليهم يقول: إذا كان هناك أناس يريدون السفر إلى الشام فأعلموني فلما علم حلَّ القيد وهرب وخرج إلى الشام، وذهب إلى أسقف في كنيسة يخدمه ويتعلم منه ويبحث عن الحق، فإن عبادة النار هذه لا تجدي، ولا تنفع، ولا تصلح. ولما أوشك الرجل على الموت عَلِم سلمان أنه كان رجل سوء، وأنه كان يأخذ من صدقات الناس ويخزنها، فدل الناس عليه فرجموه وصلبوه ولم يدفنوه، وجعلوا واحداً بدلاً منه وكان رجلاً صالحاً على دين التوحيد، يعني: ملة عيسى عليه السلام، فلازمه سلمان رضي الله عنه يخدم ويتعلم منه فلما أوشك الرجل الصالح على الموت قال: لمن توصي بي من بعدك، فأوصاه إلى رجل بـ الموصل، فذهب إليه يتعلم منه، فلما نزل به الموت أوصاه إلى رجل بـ نصيبين، فلما حضرته الوفاة أوصاه برجل بـ عمورية، وسلمان ينتقل ويسافر من بلد إلى بلد. فلما نزل الموت بصاحب عمورية، سأله سلمان فقال: تدلني على من؟ قال: أي بني، والله ما أعلم أنه بقي أحد على مثل ما كنا عليه، ولكن قد أظلك زمان يبعث فيه نبي من الحرم، مهاجره بين حرتين إلى أرض سبخة ذات نخل، وإن فيه علامات لا تخفى: بين كتفيه خاتم النبوة، يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة. فلما واراه ودفنه أعطى كل ما يملك إلى رجال من تجار من العرب ليحملوه إلى أرض العرب، لكنهم ظلموه وباعوه عبداً لرجلٍ من وادي القرى فباعه على رجل من بني قريظة، فجيء به إلى المدينة وهو عبد، فأقام في الرق. وبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم في مكة وسلمان لا يدري عنه شيئاً، يعمل في النخل، حتى قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، فجاء ابن عم اليهودي يخبره بقدوم النبي صلى الله عليه وسلم، وسلمان فوق النخلة فلما سمع الخبر قال: فأخذتني العرواء -يعني: الرعدة- حتى ظننت أني سأسقط على صاحبي، ونزلت أقول: ما هذا الخبر؟ فرفع مولاي يده فلكمني لكمة شديدة، وقال: مالك ولهذا؟ ولكن سلمان عند المساء أتى النبي صلى الله عليه وسلم بطعام قال: هو صدقة، فلم يأكل منه النبي صلى الله عليه وسلم، فجاءه مرة أخرى بطعام قال: هو هدية، فأكل منه النبي صلى الله عليه وسلم، وسلمان يقول: هذه واحدة، والثانية: فدار سلمان حول ظهر النبي صلى الله عليه وسلم فعرف النبي صلى الله عليه وسلم أنه يريد أن يتثبت من شيء فأرخى له الرداء فقال سلمان: فنظرت إلى الخاتم فعرفته فانكببت عليه أقبله وأبكي. يعني: بعد هذه السنوات الطويلة جداً وصل سلمان إلى هدفه، وعرف الحق، ترك أباه وأهله وفارق الأوطان وتغرب وأنفق كل ما عنده من البقرات والمال لأجل أن يسافر إلى المكان الذي فيه ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وظُلِمَ وبِيْعَ عبداً فاشتغل في الرق سنوات طويلة جداً حتى وصل إلى الحق وعرفه. وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام

الهمة في الدعوة إلى الله

الهمة في الدعوة إلى الله وأما الهمة في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى؛ فهذه قضية ينبغي أن تكون مغروسة في أنفسنا؛ لأننا -أيها الإخوة- مطالبون بأمر إلهي {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ} [النحل:125] يجب علينا أن ندعو لننقذ الأمة من الهلكة، الأمة الآن تعيش في أحط أوضاعها، وأسفل ما مر بها في تاريخها، ولو تأمل الداعية صعوبة المهمة لعرف أنه لا بد أن يكون صاحب إرادة قوية وهمة عالية؛ لأن هناك جهداً كبيراً يجب أن يبذل، فتصحيح الانحرافات الموجودة ليس أمراً سهلاً، والأمر أعظم مما قال عمر بن عبد العزيز لما قال: [إني أعالج أمراً لا يعين عليه إلا الله، قد فني عليه الكبير، وكبر عليه الصغير، وفصح عليه الأعجمي، وهاجر عليه الأعرابي، حتى حسبوه ديناً لا يرون الحق غيره]. هذه الأمة الآن غارقة في المصائب والمعاصي، والكفر والشرك على رأس ذلك، إنها المحاربة من قبل الأعداء؛ يحاربون المساجد بالمراقص، والزوجات بالمومسات، والعقيدة بالفكر المنحرف والفلسفة، والقوة باللذة، يحاربوننا بأن يجعلوا همتنا دنية في اللقمة والجنس. والداعية إلى الله إذا رأى أهل الباطل وعملهم في دعواتهم الباطلة وسعيهم لنشرها حتى لربما كانت عجوزاً شمطاء في المجاهل والأدغال مع ضعفها وقلة حيلتها تعمل لأجل الصليب، أو غير ذلك من الأفكار المنحرفة، ويسهرون الليل، وينفقون الأموال، فالعيب الكبير في الشخص أن يتقاعس عن الدعوة وهو ينظر إلى أولئك القوم. والداعية إلى الله يعلم أنه منصور، وإن لم يكن منصوراً بالسنان فهو منصور بالحجة والبيان (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله). وتأمل في قوة إرادة النبي صلى الله عليه وسلم وعلو همته في الدعوة لما بعث ولم يكن في الأرض في ذلك الوقت إلا هذه البشرية المنحرفة، تأمل حال رجل واحد مطلوب منه التبليغ وحمل الناس على الدين، وإقامة الإسلام في الأرض، وهو واحد أمام هذا الكم الهائل من ركام البشرية المنحرفة التائهة الغارقة في الشرك والوثنية، كم تكون المهمة صعبة والحمل ثقيل؟ رجع يقول: (زملوني زملوني) من هول ما ألقي عليه من هذه التبعات العظيمة، لا يقام بهذه المسئولية إلا من قبل رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين، أصحاب همم عالية وإرادات قوية، والدعوة إلى الله طبيعتها الابتلاء والفتن والمحن، ولا بد من صبر. الدعوة تحتاج إلى بذل أوقات، وهذا نوح ظل يدعو قومه {أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً} [العنكبوت:14]. الدعوة إلى الله تحتاج لصاحب همة عالية يدعو إلى الله سراً وجهاراً، ليلاً ونهاراً، في جميع الأحوال والظروف، وينوع الوسائل. والداعية إلى الله يرحل ويتجول في أي مكان سافر وإلى أي مكان ارتحل فهو يدعو، تأمل حال الأعرابي الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك). لاحظ: أتانا رسولك؛ هؤلاء رسل النبي صلى الله عليه وسلم يجوبون القفار والصحاري وينتقلون بين القبائل لتبليغ الدعوة، أسفار ومشاق وصرف أموال وتعب، لكن هذه حال الدعوة. والداعية وقف لله تعالى لا يصلح أن يترك هذه المهمة، أو يقول: أدعو سنة وأنام سنة، كلا. وقد تكلمنا في بعض المحاضرات الماضية عن أساليب الدعوة، ووسائل الدعوة، وبعض صفات الداعية، فلا نطيل بهذا ولكن القضية تذكير بأن المهمة في عصرنا صعبة ولكنها واجبة، ولا بد أن نكون أصحاب إرادات كبيرة وهمم عليا لنقوم بهذه الدعوة.

الهمة في الجهاد في سبيل الله

الهمة في الجهاد في سبيل الله أما الجهاد في سبيل الله: فإن رسول الله عليه الصلاة والسلام حكى لنا حال رجل مَثَّلهَ بألفاظ عجيبة تبين همة هذا الرجل العالية في الجهاد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من خير معاشر الناس رجل ممسك عنان فرسه في سبيل الله، يطير على متنه، كلما سمع هيعةً أو فزعةً طار عليه يبتغي القتل والموت مظانه). هذا رجل على أهبة الاستعداد، دائماً مستعد ممسك بعنان فرسه، أي وقت سمع منادي الجهاد طار ولم يمش مشياً، بل طار على الفرس يبتغي مظان الموت، وأين يوجد القتل فيدخل في المعترك. حديث صحيح رواه مسلم. (وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقاتل ويحتمي به أصحابه). وتمنى ألا يتخلف عن سرية قط، لكن لأجل بعض المصالح، ومع ذلك قاد عدداً كبيراً من الجيوش والسرايا، وأصحابه ساروا على منهاجه، وانظر إلى همة أنس بن النضر العالية في قتاله حتى ما بقي منه إلا ما عرفته أخته به وهي بنانه، سبعون موضعاً في جسمه ما بين ضربة بسيف وطعنة برمح، وحمزة في أحد قال الراوي: مثل الجمل الأورق يهد الناس بسيفه هداً ما يقوم له شيء، يقول: يا بن أم أنمار! يا مقطعة البظور! أتحاد الله ورسوله؟! فيضربه فكان كأمسٍ الذاهب. ولعل من أعجب الأمثلة وأروع الأمثلة في تاريخنا الإسلامي لصاحب همة عالية في الجهاد، الرجل الذي مع شهرة اسمه لكن لا يعرف من أفعاله إلا القليل، إنه خالد بن الوليد رضي الله عنه؛ هذا الرجل عجيب فعلاً فيما قدم لهذا الدين في الجهاد والقتال، أسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم بعد حينٍ، ولكن سخر قوته ومواهبه لله ورسوله، وقاد جيشاً من المسلمين في فتح مكة، ولما مات النبي صلى الله عليه وسلم بعدما أرسله وبعثه بعوثاً ارتدت العرب، وكانت مهمة عظيمة ملقاة على أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فعرف كيف ينتقي سيفاً من سيوف الله، فوجهه إلى أشد الخصوم مسيلمة الكذاب وقاتلوا في ليالي اليمامة وأيامها مقاتلة شديدة حتى أظفرهم الله على المرتدين. وبرغم قساوة وشراسة معارك الردة -التي مع الأسف ليست معروفة لكثير من الأجيال المسلمة التي ينبغي أن تدرس بعناية؛ لأن فيها أموراً كثيرة مما ينطبق في زماننا- لم يقعد خالد وإنما وجهه أبو بكر لغزو فارس، بادئاً بثغر أهل الهند والسند، وأرسل معه أناساً، فقام خالد رضي الله عنه فقسم الجيش إلى ثلاث فرق، وأعدهم عند الحفير، وراسل هرمز يدعوه إلى الإسلام، أو الجزية، أو القتال، وجاء هرمز بجيشه، ونزل على الماء ونزل المسلمون على غير ماء، وكلموا خالداً فقال: حطوا أثقالكم، ثم جالدوهم على الماء، فلعمري ليصيرن الماء لأصبر الفريقين وأكرم الجندين، وربط الفرس بعضهم بالسلاسل، ودعا هرمز خالداً للمبارزة يريد الخديعة، حتى إنه جعل خطة بحيث إن هناك أناساً من الفرس ينقضون على خالد من الخلف أثناء المبارزة، ولكن القعقاع وهو قائد إسلامي آخر كان منتبهاً فحمل عليهم فقتل خالد هرمز، وانهزم الفرس وأرسلت الغنائم إلى أبي بكر. ثم دخل في واقعة المذار وكان هرمز قد كتب لـ أردشير يستمده، فأمده بقائد منهم، فالتقى الجيشان مع فلول جيش هرمز في ذلك المكان، فنهض خالد لقتالهم على التعبئة، وخرج إليهم فاقتتل الجيشان وانهزم الفرس وكانت مقتلة عظيمة. ثم وقعة الولجة التي أرسل فيها الفرس جيشاً كثيف العدد ونهض لهم خالد وخلفه من يحمي ظهره وقسم الجيش وأعد الكمائن واقتتل الجيشان واستعرت الحرب وصار الظفر للمسلمين وولى الفرس ومات قائدهم من العطش. ثم انتقل إلى وقعة أليس -وهم جماعة من عرب الضاحية نصارى من بكر ووائل- الذين عبئوا أنفسهم للثأر وراسلوا الفرس فأمدوهم، وعلم خالد باجتماعهم فذهب إليهم وعاجلهم واقتتل الجيشان مقتلة عظيمة, ونذر خالد لئن أظفره الله بهم ليجرين نهرهم بدمائهم، وهزم الله الفرس وأسر المسلمون الكثير منهم، ثم قتلوهم حتى جرى النهر بدمهم، فسمي نهر الدم، وكان خالد يقول: ما لقيت من أهل فارس قوماً كأهل أليس، وقسم الغنائم وأرسل الخمس إلى الخليفة. ثم واقعة أنغيسيا التي أكمل خالد بجنده إليها وقاتل أهلها وولوا تاركين كل شيء، ما إن اقترب خالد حتى هربوا وتركوا كل شيء غنيمة. ثم توجه إلى الحيرة وخرج المرزبان بجنده وجعل خالد الجيش على سفنٍ في الفرات، ولكن الفرس عملوا مكيدة، بأن فجروا أنهاراً فرعية لتقف سفن المسلمين بأحمالهم، وفعلاً وقفت سفن المسلمين بأحمالها، لكن خالداً لم يكن ليحتار ويضطرب ولا يدري ماذا يفعل، وإنما انفلت بكتيبة من المسلمين وقاتل المرزبان على حين غفلة من جيشه حتى هزمهم وهم القائمون على الأنهار الفرعية، وأجرى الماء في الفرات فرجع الماء وحملت سفن المسلمين، ودخل الحيرة وفتحها وأعمل القتل فيها، وخير قساوستها فاختاروا الجزية، فأرسل إلى أبي بكر الصديق. ثم انتقل إلى الأنباط، وهكذا من معركة إلى أخرى، ثم إلى عين التمر وهي واقعة عجيبة، ثم إلى دومة الجندل ثم إلى الخنافس والحصيب وهي وقعة أخرى. ثم ينتقل خالد بن الوليد من مكان إلى مكان ومن واقعة إلى واقعة الفراض التي تحالف فيها الفرس والروم ونصارى العرب في جيش واحد ضد خالد بن الوليد وجيش المسلمين، وفتحها الله. ثم معركة اليرموك المشهورة وأنتم تعلمون ما حصل فيها، وظهرت العبقرية العجيبة لـ خالد بن الوليد حينما أراد أن يفاجئ الروم من مكان لا يحسبون له حساباً، فاختار أن ينطلق من العراق إلى الشام عبر بادية الشام الصحراء -التي تقطع الآن بسيارات بعشرين ساعة مع الراحات- أتى خالد بدليل يدل الطريق، وأمر بحمل الماء وأمر بعشرين جزوراً سماناً عظاماً فأظمأها حتى اشتد عطشها ثم أوردها الماء، حتى رويت فقطع مشافرها وعكمها حتى لا تجتر، وكان كل يوم له منزل يعمد إلى أربع من الإبل فيقطع أسنمتها ويأخذ ما في كروشها ويسقيه الخيل حتى كان المنزل الأخير، فوفقهم الله حتى عبروا ذلك المكان، وفاجأ الروم من المكان الذي لا يحتسبونه. ولما حوصرت دمشق من أبوابها المختلفة كانت الفرقة التي فيها خالد هي التي دخلت دمشق وهو الذي قال لهم: انتظرونا فإذا سمعتمونا كبرنا فاقتحموا، فصعد هو ومن معه على الأسوار ونزلوا على الروم الحراس وقتلوهم وفتحوا الأبواب وكبروا، فدخلت جيوش المسلمين إلى دمشق، وكان بعض أهلها قد صالحوا المسلمين في الجهة الأخرى، فبعض دمشق فتح عنوة وبعضها فتح صلحاً. وهكذا يستمر خالد بن الوليد، وفي معركة من المعارك تواجه جيش خالد مع جيش عقة بن أبي عقة النصراني العربي الذي كان يجهز الجيش، فلمح خالد ثغرةً فترك جيشه وانطلق إلى القائد المشرك الكافر فأخذه واحتضنه ورجع به أسيراً فانهزم جيشه. وفي معركة من المعارك حاصر المسلمون حصناً، فقال بعض المسلمين لـ خالد: إن هؤلاء إذا رأوا وجهك لا يخرجون خارج الحصن، مع أننا نريد أن يخرجوا لكي نقاتلهم، فخرج خالد نهاراً وهم يرونه مبتعداً، ثم دخل ليلاً في الجيش مرة أخرى، وفي الصباح خرجوا لأنهم علموا أن خالداً خرج، فخرجوا من الحصن ليقاتلوا فصبحهم خالد بوجهه فهزموا، رضي الله تعالى عنه. ويستمر حتى يطيع أمر الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد حين برجوعه إلى المدينة، ويكون عنده حتى وافاه الأجل رضي الله عنه. وفي إحدى الغزوات بعدما فتح مدينة أخذ فرساناً وذهب إلى الحج -قطع مسافة إلى عرفة - مباشرة فحج ورجع فلما رآه أصحابه حليق الرأس عرفوا أنه قد حج.

الهمة في طلب العلم

الهمة في طلب العلم وأخيراً من الهمم العالية في طلب العلم، وهي كثيرة جداً وننتقي بعض المقاطع: عن ابن عباس رضي الله عنه قال: [لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لرجل من الأنصار: هلم نسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم اليوم كثير، قال: واعجباً لك يا بن عباس! أتظن أن الناس يحتاجون إليك وفيهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من ترى؟! فتركت ذلك وأقبلت على المسألة، فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتيه وهو نائم القيلولة، فأتوسد ردائي على بابه فتسفو الريح عليَّ التراب فيخرج فيراني فيقول: يا بن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم! ألا أرسلت إليَّ فآتيك، فأقول: أنا أحق أن آتيك فأسألك، قال: فبقي الرجل حتى رآني وقد اجتمع الناس عليّ، فقال: هذا الفتى أعقل مني]. الهمة العالية تجعله يتوسد عند الباب في الظهيرة، هذا الرجل نائم وابن عباس عند الباب، والريح تأتي بالتراب ينتظر للمسألة العلمية. وهذا عروة بن الزبير، فعن هشام عن أبيه أنه كان يقول لنا ونحن شباب: [مالكم لا تتعلمون؟ إن تكونوا صغاراً فيوشك أن تكونوا كباراً، وما خير الشيخ أن يكون شيخاً وهو جاهل، لقد رأيتني قبل موت عائشة بأربع حجج وأنا أقول: لو ماتت اليوم ما ندمت على حديث عندها إلا وقد وعيته، ولقد كان يبلغني عن الصحابي الحديث فآتيه وأجده قد قال، فأجلس على بابه ثم أسأله عنه]. وكان عامر بن قيس التميمي مقرئاً يقرئ الناس القرآن فيأتيه ناس فيقرئهم القرآن، ثم يقوم فيصلي إلى الظهر، ثم يصلي العصر، ثم يقرئ الناس إلى المغرب، ثم يصلي ما بين العشاءين فينصرف إلى منزله، ثم يأكل رغيفاً وينام نومة خفيفة ثم يقوم إلى صلاته، ثم يتسحر رغيفاً ويخرج. قيام وصيام وقراءة قرآن من الصباح إلى الليل. أما سعيد بن عبد العزيز التنوخي قال: كنت أجلس بالغدوات لـ ابن أبي مالك وأجالس بعد الظهر إسماعيل بن عبيد الله وبعد العصر مكحولاً. وأما القعنبي فقال أبو حاتم: ثقة حجة لم أر أخشع منه؛ كان إذا مر بمجلس القوم قالوا: لا إله إلا الله، ذكروا الله عز وجل، سألناه أن يقرأ علينا الموطأ، فقال: تعالوا بالغداة، فقلنا: لنا مجلس عند الحجاج بن منهال، قال: فإذا فرغتم منه؟ قلنا: فنأتي حينئذٍ مسلم بن إبراهيم، قال: فإذا فرغتم؟ قلنا: نأتي أبا حذيفة النهدي، قال: فبعد العصر؟ قلنا: نأتي عارماً أبا النعمان، قال: فبعد المغرب؟ فكان يأتينا بالليل، فيخرج علينا وعليه كبلٌ ما تحته شيء في الصيف، فكان يقرأ علينا في الحر الشديد حينئذٍ. هذا يدل على أن أبا حاتم وأقرانه كانوا يطلبون العلم ويجلسون المجالس المتواصلة في ذلك. وحدث بعض أهل العلم وهو ابن حبان عن بعض العلماء - ابن حبان يحدث عن نفسه- قال: لعلنا قد كتبنا عن أكثر من ألفي شيخ، قال الذهبي: كذا فلتكن الهمم، هذا مع ما كان عليه من الفقه والعربية والفضائل الباهرة وكثرة التصانيف رحمه الله. وقال محمد بن علي السلمي: قمت ليلة سحراً لآخذ النوبة على ابن الأخرم فوجدته قد سبقني ثلاثون قارئاً ولم تدركني النوبة إلى العصر. وابن الأخرم كان له حلقة عظيمة بجامع دمشق يقرءون عليه من بعد الفجر إلى الظهر. والطبري قال لأصحابه: هل تنشطون لتاريخ العالم من آدم إلى وقتنا، قالوا: كم قدره؟ قال: نحو ثلاثين ألف ورقة، فقالوا: هذا مما تفنى الأعمار قبل تمامه، قال: إنا لله! قد ماتت الهمم. فاختصر ذلك في قرابة ثلاثة آلاف ورقة. وأما السمعاني رحمه الله فإنه طوف البلاد وأخذ عن مشايخ لا يعدون، وذهب إلى أبي ورد وإسفرائين والأنبار وبخارى وبسطام والبصرة وبلخ وترمذ وجورجان وحماه وحمص وحلب وخسرو وجرج والري وسرخس وسمرقند وهمذان وهرات والحرمين والكوفة وواسط والموصل ونهاوند والمدائن ولم تكن هناك طائرات ولا سيارات ولا قطارات، وإنما المشي على الأرجل والدواب حتى دخل بيت المقدس والخليل وهما بأيدي الفرنج، حيث استخدم الحيلة وخاطر ودخل رغم أنها تحت احتلال النصارى. السلفي الذي ذهب يطلب العلم وله أقل من عشرين سنة، ونسخ من الأجزاء ما لا يحصى، وكان ينسخ الجزء الضخم في ليلة، وبقي في الرحلة ثمانية عشر عاماً. وأبو طاهر قال: بلت الدم في طلب الحديث مرتين؛ مرة بـ بغداد وأخرى بـ مكة، وقال: كنت أمشي حافياً في الحر فلحقني ذلك، وكنت أحمل كتبي على ظهري، وما سألت في الطلب أحداً -يعني: ما سأل أحداً مالاً- قيل: أنه كان يمشي في اليوم والليلة عشرين فرسخاً؛ والفرسخ تقريباً خمسه كيلو مترات. وروي عن سليم الرازي قال: كان أبو حامد الإسفراييني في أول أمره يحرس في درب -لكن له همة عالية ولو كان يحرس في درب- وكان يطالع على زيت الحرس -يقرأ على مشاعل الحرس- وأفتى وهو ابن سبع عشرة سنة. عطاء بن أبي رباح كان فراشه المسجد عشرين سنة. الزهري جلس يتذاكر الحديث من بعد العشاء حتى أصبح، وعدد من السلف فعلوا ذلك. الإمام مالك قَلَّ أن يصلي الصبح بوضوء جديد وإنما كان يصلي بوضوء العشاء تسعاً وأربعين سنة. وكيع بن الجراح والإمام أحمد تذاكرا الحديث من العشاء إلى آخر الليل. كان أسد بن الفرات يجلس عند محمد بن حسن الشيباني يتلقى منه الحديث، وكان ينثر في وجهه الماء -ينضح- لكي يصحو ويبقى منتبهاً في الدرس. أحمد بن حنبل كان يذهب من قبل الفجر إلى مجلس الشيخ ليتبوأ مكانه، وكان يقول: من المحبرة إلى المقبرة. كان البخاري يستيقظ عشرين مرة في الليل ليسجل ما يخطر له، يشعل السراج في كل مرة ويطفئه. هذه هي الهمم العالية، هذا الحفظ، والعلم، والرحلة، والتأليف والتصنيف، وهذه المجالس، وهذا الحرص على الحضور. هذه -أيها الإخوة- نماذج مما كان عليه سلفنا رحمهم الله في طلب العلم والهمم العالية فيه. فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يلهمنا رشدنا، وأن يقينا شر أنفسنا، وأن يقوي إراداتنا في طاعته، وأن يجعلنا من أصحاب الهمم العالية في سبيله مجاهدين وعلماء عاملين، والله تعالى أعلم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

كيف نتعامل مع أخطاء الناس؟

كيف نتعامل مع أخطاء الناس؟ إن الله سبحانه وتعالى خلق البشر وجعل من طبيعتهم الخطأ، وجعل من مهمتنا نحن المسلمين أن نعلم الناس ونبين لهم الخطأ من الصواب، وقد رغبنا الله عز وجل في أكثر من موضع في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم في تعليم الناس الخير، وفي هذا الدرس يتعرض الشيخ لبعض الأساليب في تصحيح الخطأ والتعامل مع المخطئين.

الخطأ من طبيعة البشر

الخطأ من طبيعة البشر إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها؛ وكل محدثةٍ بدعة؛ وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار. إخواني: سوف نتحدث عن موضوعٍ لا بد منه للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وهو موضوعٌ نافعٌ للدعاة إلى الله تعالى، ومهمٌ لكل من تحت يديه رعية من أبٍ، أو مدرسٍ، أو مديرٍ وما شابه ذلك. إن الله سبحانه وتعالى خلقنا خطائين، فمن طبيعة البشر أنهم يخطئون (وخير الخطائين التوابون) وإن الله عز وجل جعل من مهماتنا نحن المسلمين أن نُعلِّم الناس، ورغبنا في ذلك، وقال نبيه صلى الله عليه وسلم: (إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرضين حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير) والناس يخطئون، وتعليم المخطئين من وظيفة الأنبياء، والقرآن كان يتنزل بتصحيح الأخطاء، حتى مما وقع من النبي صلى الله عليه وسلم في مثل قوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى} [عبس:1]، ومما وقع من الصحابة في مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ} [الممتحنة:1]، ولما خاض بعض الناس في الإفك متجرئين على أعراض إخوانهم المسلمين، قال الله عز وجل: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ * وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ * يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [النور:14 - 17]. والنبي صلى الله عليه وسلم سار على نورٍ من ربه، ينكر المنكر ويصحح الخطأ، وقد سبق الحديث عن جزءٍ من هذا الموضوع، سوف نتكلم عن شيء منه -إن شاء الله- في هذه الخطبة؛ لنتعرف على المزيد مما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله مع المخطئ، ليكون في ذلك درساً وعبرةً لنا في التعامل مع المخطئين، إذ لا بد من وجودهم في المجتمع.

كيفية التعامل مع المخطئين

كيفية التعامل مع المخطئين .

أولا: إظهار الرحمة

أولاً: إظهار الرحمة إن من الأمور المهمة أيها الإخوة: إظهار الرحمة للمخطئ، كما جاء عن ابن عباس: (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم قد ظاهر من امرأته فوقع عليها، فقال: يا رسول الله! إني قد ظاهرت من زوجتي، فوقعت عليها قبل أن أكفر) والله سبحانه وتعالى أمر بالكفارة قبل الوطء للمظاهر الذي يقول لزوجته: أنت عليَّ كظهر أمي، أو مثل أمي ونحو ذلك، فلا بد إذا أراد العودة إلى الزوجة لإتيانها أن يُكفِّر قبل إتيانها، والظهار خلقٌ ذميمٌ من أخلاق أهل الجاهلية، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (وما حملك على ذلك يرحمك الله؟ قال: رأيت خلخالها في ضوء القمر، قال: فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله به) رواه الترمذي، وهو حديث حسن صحيح. وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا رسول الله! هلكت، قال: ما لك؟ قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تجد رقبةً تعتقها؟ قال: لا. قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا. قال: فهل تجد إطعام ستين مسكيناً؟ قال: لا. قال: فمكث النبي صلى الله عليه وسلم، فبينا نحن على ذلك أُتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرقٍ -أي: زنبيل- فيه تمرٌ، قال: أين السائل؟ فقال: أنا. قال: خذ هذا فتصدق به -هذا من رحمته وإعانته- فقال الرجل: أعلى أفقر مني يا رسول الله؟! فوالله ما بين لابتيها أهل بيتٍ أفقر من أهل بيتي، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه، ثم قال: أطعمه أهلك) إن هذا المستفتي لم يكن هازلاً، ولا مستخفاً بالأمر، بل إن تأنيبه وشعوره بخطئه واضحٌ من قوله: (هلكت) ولذلك استحق الرحمة. وجاء في رواية أحمد مزيد توضيحٍ لحاله، فعن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن أعرابياً جاء يلطم وجهه وينتف شعره، ويقول: ما أراني إلا قد هلكت، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: وما أهلكك؟ قال: أصبت أهلي في رمضان) وفي الحديث أنه ذكر الكفارة له، وأعطاه إياها في آخر الحديث.

ثانيا: المطالبة بالكف عن الخطأ

ثانياً: المطالبة بالكف عن الخطأ كذلك فإن من الأمور التي نتعامل بها مع المخطئ: أن نطالبه بالكف عن الخطأ فوراً وعدم الاستمرار فيه، والنبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع أو رأى خطأً طلب من المخطئ الكف عن الخطأ فوراً، فعن عمر رضي الله عنه أنه قال مرةً والنبي صلى الله عليه وسلم يسمع: (لا وأبي -حلف بأبيه وكان ذلك من حلف أهل الجاهلية- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مه -أي: اكفف اسكت عن هذه الكلمة- إنه من حلف بشيء دون الله فقد أشرك) رواه الإمام أحمد، وإسناده صحيح. وعن عبد الله بن بشر، قال: (جاء رجل يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة)، وما أكثر ما يفعلونه في المساجد في خطب الجمعة! يأتي متأخراً ويريد أن يشق الصفوف (جاء رجل يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة، والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اجلس، فقد آذيت) آذيت الناس آذيت عباد الله آذيت المصلين آذيت المبكرين إلى الصلاة. ولما تجشأ رجلٌ عند النبي صلى الله عليه وسلم، قال عليه الصلاة والسلام: (كف عنا جشاءك، فإن أكثرهم شبعاً في الدنيا، أطولهم جوعاً يوم القيامة) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن غريب من هذا الوجه. إذاً عندما أساء الأدب بحضرة الناس، أمره عليه الصلاة والسلام أن يكف عن هذا الفعل المشين.

ثالثا: الإرشاد إلى تصحيح الخطأ

ثالثاً: الإرشاد إلى تصحيح الخطأ كذلك لا بد أن نرشد المخطئ إلى تصحيح خطئه، كمحاولة لفت نظره إلى خطئه ليقوم بتصحيحه؛ كما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، وكان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى رجلاً جالساً وسط المسجد، مشبكاً بين أصابعه يحدث نفسه، فأومأ إليه النبي صلى الله عليه وسلم -أي: لينزع أصابعه- فلم يفطن، قال: فالتفت إلى أبي سعيد، فقال: إذا صلى أحدكم، فلا يشبكن بين أصابعه، فإن التشبيك من الشيطان، فإن أحدكم لا يزال في صلاةٍ ما دام في المسجد حتى يخرج منه) رواه أحمد، وقال الهيثمي: إسناده حسن، فإذا خرجت من بيتك عامداً إلى المسجد، وجلست في المسجد تنتظر الصلاة، فلا تشبكن في هذه الفترة. وكذلك طالب النبي صلى الله عليه وسلم المسيء صلاته أن يعيد الصلاة؛ لأنه لم يأت بها على الوجه الشرعي. إذاً من الحكمة في التعليم: طلب إعادة الفعل من المخطئ؛ لعله ينتبه إلى خطئه، فيصححه بنفسه، وإذا لم ينتبه وجب البيان والتفصيل، ووجب التوضيح عند ذلك. وكذلك فإنه عليه الصلاة والسلام (لما رأى رجلاً توضأ، فترك موضع ظفرٍ على قدمه لم يمسه الماء، قال له عليه الصلاة والسلام: ارجع فأحسن وضوءك، فرجع ثم صلى). ولما جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فدخل عليه مقتحماً ولم يسلم ولم يستأذن، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ارجع فقل: السلام عليكم، أأدخل؟) يعلمه الإتيان بالفعل على وجهه الشرعي، ثم إنه إذا كان في الإمكان استدراك الخطأ، فلا بد من ذلك؛ فعن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يخلون رجلٌ بامرأة إلا مع ذي محرم، فقام رجلٌ؛ فقال: يا رسول الله! امرأتي خرجت حاجةً وأنا اكتتبت في غزوة كذا وكذا، قال: ارجع فحج مع امرأتك) هذا الحديث رواه البخاري، وهو ردٌ على من قال: إنه يجوز للمرأة أن تسافر مع جماعة؛ لأن امرأة هذا الرجل لما خرجت حاجة، وبالتأكيد أنها لم تخرج لوحدها، بل خرجت مع جماعة الحجاج، والنبي عليه الصلاة والسلام نبه إلى أنه لا بد من وجود المحرم، ولذلك الرجل كان مسجلاً اسمه في المجاهدين، فقام ليستوضح الحكم، قال: أرسلتها للحج وأنا ذاهبٌ للجهاد، قال: (ارجع فحج مع امرأتك).

رابعا: مطالبة المخطئ إدراك ما أفسده

رابعاً: مطالبة المخطئ إدراك ما أفسده كذلك فإننا نطالب المخطئ بإصلاح ما أفسده لتدارك آثار خطئه، كما: (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إني جئت أبايعك على الهجرة، ولقد تركت أبوي يبكيان -يبكيان من ألم فراق الولد- فقال عليه الصلاة والسلام: ارجع إليهما، فأضحكهما كما أبكيتهما) ارجع وأصلح الخطأ، رواه النسائي وهو حديث صحيح، وكل الكفارات التي جاءت في الشريعة إنما هي لإصلاح آثار أخطاء يقع فيها هذا المخطئ المستوجب للكفارة.

خامسا: العدل والإنصاف في الحكم على الخطأ

خامساً: العدل والإنصاف في الحكم على الخطأ ثم إنه ينبغي على الداعية إلى الله، الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر إذا أصلح خطئاً في قولٍ أو فعلٍ في بقيته صحة، ألَّا يسارع إلى تخطئة كل القول وكل الفعل من باب العدل والإنصاف، وإنما ينكر موضع الخطأ فقط، ليكون موضوعياً عادلاً في إنكاره، ولذلك عندما جاء النبي صلى الله عليه وسلم فدخل بيتاً وفيه جويريات -أي: بنات صغيراتٌ- ينشدن ويقلن أبياتاً في رثاء من قتل من المسلمين يوم بدر، إذ قالت إحداهن: وفينا نبيٌ يعلم ما في غدِ، فقال: (دعي هذه، وقولي بالذي كنت تقولين) رواه البخاري (دعي هذه) لا يعلم الغيب إلا الله، لا النبي ولا غيره (وقولي بالذي كنت تقولين) فأقرها على ما كانت تقول، وأنكر عيها موضع الخطأ فقط. إن هذا الفعل يجعل المدعو يتقبل من الداعية؛ لأنه يراه منصفاً، لم يخطئه في كل شيء، وإنما يخطئه في موضع الخطأ فقط.

سادسا: تقديم البديل

سادساً: تقديم البديل ثم إنه لا بد للدعاة إلى الله الآمرين الناهين أن يقدموا البديل الصحيح للناس ما دام ذلك ممكناً، فإن مجرد أن تقول: هذا حرام هذا خطأ، دون أن تبين البديل نقصٌ في الدعوة، ونقصٌ في الإنكار، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، فلما سمع بعض الناس يقولون في التشهد في الصلاة: السلام على الله من عباده، السلام على فلان وفلان، وفي رواية: السلام على جبريل، السلام على ميكائيل، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقولوا: السلام على الله، فإن الله هو السلام، ولكن قولوا: التحيات لله، والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فإنكم إذا قلتم، أصاب كل عبدٍ صالح في السماء والأرض) فلا حاجة لئن تخص جبريل وميكائيل، فبمجرد أن تقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، تصيب بسلامك ذلك جبريل وميكائيل، وسائر الملائكة، وكل عبد صالح في السماء والأرض. ولما جاء بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمرٍ برني -تمر جيدٍ- قال: (من أين هذا؟ قال بلال: كان عندنا تمرٌ رديٌ، فبعت منه صاعين بصاعٍ) هذا ربا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يباع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والتمر بالتمر، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والملح بالملح إلخ، مثلاً بمثلٍ، فمن زاد او استزاد فقد أربا، فلما أخبره بلال أنه باع صاعين بصاع، قال: لنطعم النبي صلى الله عليه وسلم، ما قصدت إلا الخير، بعت صاعين من تمرٍ رديٍ بصاعٍ من تمرٍ جيدٍ، فقال عليه الصلاة والسلام: (أوه عين الربا، لا تفعل، ولكن إذا أردت أن تشتري -هذا البديل- فبع التمر ببيعٍ آخر، ثم اشتره). وكذلك إذا أراد إنسانٌ أن يستبدل ذهب زوجته، بعض الناس يعطي الذهب القديم، ويأخذ الذهب الجديد، ويدفع الفارق، (أوه) كلمة توجع (عين الربا لا تفعل) ولكن بع الذهب القديم واقبض النقود، ثم اشتر ذهباً جديداً من عنده، أو من عند غيره بنفس المال الذي معك، أو بأكثر، أو بأقل وهكذا يكون البيع الشرعي، وهناك فرق. بعض الناس يقولون: هذا إجراء لا معنى له؟! لا. بل له معاني، ولذلك إذا أردت أن تفعله، واختلف السعر عليك، فجربه وسترى ماذا سيقول البائع؟ أما إذا كان المبيع من غير الأصناف الربوية، كسيارة بسيارة مع دفع الفارق، وأرض بأرض مع دفع الفارق، فلا بأس بذلك، لأن الأراضي والسيارات ليست من الأصناف التي يجري فيها الربا، ولا يشترط فيها المماثلة ولا التقابض في مجلس العقد. إن الإنكار دون تعليم البديل وتقديمه عيبٌ لا بد من تلافيه ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً.

سابعا: تجنيب المخطئ معونة الشيطان

سابعاً: تجنيب المخطئ معونة الشيطان كذلك فإننا لا بد أن نجنب المخطئ معونة الشيطان، فلا نعين الشيطان عليه، ولذلك لا ندعو عليه، وإنما ندعو له: (فلما جيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم برجل قد شرب الخمر، أمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه -وفي رواية قال له رجل: أخزاه الله- فقال عليه الصلاة والسلام: لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم) إذا لعنته ودعوت عليه بالخزي، ماذا فعلت؟ أعنت الشيطان عليه، وفي رواية: قال: (لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان) وإنما ندعو له بالهداية، نقول: اللهم اهده مثلاً، وهكذا يكون الأمر عندما نجد مخطئاً مذنباً، فإننا ندعو له، اللهم إلا إذا كان مخطئاً معانداً مجافياً للحق، مصراً بعد البيان، فإن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على هذا المخطئ المعاند، كما جاء في صحيح مسلم في رجل أكل عند النبي صلى الله عليه وسلم بشماله، فقال: (كل بيمينك. قال: لا أستطيع -يستطيع لكن تكبراً- فقال: لا استطعت -دعا عليه بأن لا يستطيع- قال: فما رفعها إلى فيه)، وفي رواية: (فما وصلت يمينه إلى فمه بعد) أي: أصيبت يمينه بالشلل، فما استطاع أن يرفعها مطلقاً بعد ذلك، هذا المخطئ المعاند يدعى عليه بما يكف شره، ويعلمه درساً، ولعل تلك الآية التي رآها تكون سبباً في عودته إلى الحق وتوبته واستغفاره.

ثامنا: بيان الخطأ المشترك

ثامناً: بيان الخطأ المشترك كذلك فإننا نواجه في الحياة أناساً يخطئون على أناس، يظلمونهم فلا بد أن يكون هناك موقفٌ جيدٌ من مثل هذا، وخصوصاً عندما يكون الخطأ مشتركاً، فلا بد أن نبين لهذا ولهذا، ولذلك روى عبد الله بن أبي أوفى، قال: شكا عبد الرحمن بن عوف خالد بن الوليد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا خالد! لا تؤذ رجلاً من أهل بدر، فلو أنفقت مثل أحدٍ ذهباً، لم تدرك عملهم، فقال خالد رضي الله عنه: يقعون عليَّ، فأرد عليهم، فقال: لا تؤذوا خالداً، فإنه سيف من سيوف الله عز وجل صبه الله على الكفار) رواه الطبراني، وقال الهيثمي: رجاله ثقات. إذاً يبين حق هذا، ثم يبين حق الآخر، وعندما يخطئ إنسان على أخيه المسلم، فإننا نسعى إلى معاتبته وبيان حقوق الأخوة، ونعاتبه على خطئه. عن أبي الطفيل عامر بن واثلة: (أن رجلاً مرَّ على قومه، فسلم عليهم، فردوا عليه السلام، فلما جاوزهم، قال رجل منهم: والله إني لأبغض هذا في الله، فقال أهل المجلس: بئس والله ما قلته، أما والله لننبأنه، قم يا فلان -لرجل منهم- فاخبره، فأدركه رسولهم، فأخبرهم بما قال، فانصرف الرجل الذي قيل فيه ما قيل، حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! مررت بمجلسٍ من المسلمين فيهم فلان، فسلمت عليهم، فردوا السلام، فلما جاوزتهم، أدركني رجلٌ منهم، فأخبرني أن فلاناً قال: والله إني لأبغض هذا الرجل في الله، فادعه فسله علام يبغضني؟ فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله عما أخبره الرجل، فاعترف بذلك، وقال: قد قلت ذلك يا رسول الله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلم تبغضه؟ قال: أنا جاره وأنا به خابر، والله ما رأيته يصلي صلاةً قط إلا هذه الصلاة المكتوبة التي يصليها البر والفاجر، فقال الرجل: سله يا رسول الله! هل رآني قط أخرتها عن وقتها، أو أسأت الوضوء لها، أو أسأت الركوع والسجود فيها، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: لا. ما رأيته ينقص منها شيء، ثم قال: والله ما رأيته يصوم قط إلا هذا الشهر الذي يصومه البر والفاجر، فقال: يا رسول الله! هل رآني قط أفطرت فيه، أو انتقصت من حقه شيئاً؟ فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لا. ثم قال: والله ما رأيته يعطي سائلاً قط، ولا رأيته ينفق من ماله شيء في سبيل الله بخير إلا هذه الصدقة، -أي: الزكاة- التي يؤديها البر والفاجر، قال: فسله يا رسول الله! هل كتمت من الزكاة شيئاً قط، أو ماكست فيها طالبها؟ قال: فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: لا. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: قم إن أدري لعله خيرٌ منك). إذاً: إصلاح ذات البين ومعاتبة المخطئ على أخيه، ومناقشة ذلك لمعرفة السبب في البغض، ونحن كثيراً ما نخطئ على إخواننا، ونخطئ على الخدم المسلمين عندنا، ونغتابهم كثيراً وكثيراً، والقضية خطيرة، فإن رجلاً كان يخدم أبا بكر وعمر في السفر، فناما فاستيقظا ولم يهيئ لهما طعاماً، فقال أحدهما لصاحبه: (إن هذا لنئوم -فقط هذه العبارة، فأيقظاه، فقالا: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: إن أبا بكر وعمر يقرئانك السلام، وهما يستأدمانك -يطلبان الإدام- فقال عليه الصلاة والسلام لهذا الخادم: أقرئهما السلام، وأخبرهما أنهما قد ائتدما، ففزعا، فجاءا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالا: يا رسول الله! بعثنا إليك نستأدمك، فقلت: قد ائتدما، فبأي شيء ائتدمنا؟ قال: بلحم أخيكما، والذي نفسي بيده إني لأرى لحمه بين أنيابكما، قالا: فاستغفر لنا: قال: هو فليستغفر لكما) وهذا حديث صحيح. كم نغتاب الخدم؟ كم نغتاب الذين نتعامل معهم؟ ماذا قال هذان الشيخان الكريمان؟ قالا: إن هذا لنئوم -كثير النوم- واعتبرها عليه الصلاة والسلام غيبة، وطلب منهما أن يذهبا إليه ليستغفر لهما. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا هداةً مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، وأن يغفر لنا ذنوبنا أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

تاسعا: إظهار الضرر من الخطأ

تاسعاً: إظهار الضرر من الخطأ الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، وعلى من تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين. إخواني: إن مما ينبغي علينا أن نبين للناس مضرة الخطأ إذا نصحناهم، والنبي صلى الله عليه وسلم لما رأى تفرق بعض أصحابه لما نزلوا منزلاً، قال: (إن تفرقكم في هذه الشعاب والأودية إنما ذلكم من الشيطان) فلم ينزلوا بعد ذلك منزلاً إلا انضم بعضهم إلى بعض، حتى يقال: لو بسط عليهم ثوبٌ لعمهم، وذلك حتى لا ينزل بهم خوف من المشركين، أو يستدرج العدو بعضهم، ولا يكون في هذا التفرق إغراءٌ للعدو بهم، وانظروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى الصف في الصلاة غير مستوٍ، قال عليه الصلاة والسلام: (لتسوون صفوفكم، أو ليخالفن الله بين وجوهكم، فتقع بينكم العداوة والبغضاء) فينبغي إذاً أن نحرص على تسوية الصفوف، وأن نتراص كما تتراص الملائكة عند ربها، وأن يكون المنكب بالمنكب ليس هناك فرجات، دون إغلاظٍ على جارك في الصف من اليمين والشمال، فهذه المسألة مما وقع فيها الإفراط والتفريط، فبعض الناس يلتصق بصاحبه التصاقاً مؤذياً له، ويحشر نفسه في فرجةٍ ضيقةٍ في الصف، مؤذياً عباد الله، وهذا لا يجوز له أن يدخل فيها إذا كان ذلك يؤذي المصلين، ولا تتهيأ الفرصة، ولا يتحمل الوضع أن يدخل في هذه الفرجة، وبعض الناس يترك الفراغات، ولا يحب أحداً أن يلتصق به أبداً، ولا بد أن يبين للناس أن هذا لا يرضاه الله، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (إني لأرى الشياطين تدخل من خلل الصف) الفراغات التي في الصف. وقد يبتلى الإنسان برجلٍ في المسجد بلغ من الكبر عتياً، سيء الخلق جداً، فيأتي بحركات غريبة، قد يدفع هذا، أو يتكلم عليه بعد الصلاة بألفاظ نابية مع أن هذا مصلح يريد سد الفرجة، فيعامل بالحسنى، كبير السن الذي تغير خلقه لا بد أن نتحمله. قيل لأحدهم: يا فلان! لماذا تنفر؟ لماذا تريد أن يكون بينك وبين الذي بجانبك شبرٌ؟ إن الشياطين تدخل من خلل الصف، قال: الشياطين أرحم منكم، ثم قال: الشيطان مات في فتح مكة، فإذا وجد هناك مثل هذا المسكين الذي يعتقد أن الشيطان مات في فتح مكة، وأن الشياطين أرحم من المؤمنين، فلا بد أن يكون هناك شيء من الرحمة واللين بمثل هذا الرجل، يعلم على قدر الاستطاعة، وإذا فقدنا الأمل في تعليمه، راعينا المفاسد حتى لا تتطور الأمور إلى الأسوأ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أحياناً يظهر على وجهه الغضب إذا رأى خطأً، كما خرج على أصحابه وهم يختصمون في القدر، فكأنما تفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب؛ لأن القدر لا يجوز المماراة فيه. وكذلك لما رأى في يد عمر بن الخطاب صحفاً من صحف أهل الكتاب، غضب عليه الصلاة والسلام، وقال: (أمتهوكون فيها يـ ابن الخطاب، والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به، أو بباطل، فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني) حديثٌ صحيحٌ بطرقه، وله طرق كثيرة. أيها الإخوة: إن تصحيح الأخطاء مسئولية عظيمة، ووراثة نبوية، وإن في هذه المناسبات المختلفة التي قيلت فيها وفعلت أساليب مختلفة من النبي عليه الصلاة والسلام تدلنا على أنه لا بد أن ننتقي الوسيلة المناسبة في كل مناسبة لإصلاح الخطأ فيها، ومن قاس النظير بالنظير والشبيه بالشبيه ممن عنده فقهٌ ووفقه الله اقتبس من أساليب النبي صلى الله عليه وسلم ما يعينه في دعوته إلى الله. نسأل الله تعالى أن يرحمنا برحمته، وأن يتوب علينا أجمعين، اللهم اعف عنا يا عفو، واغفر لنا يا غفور، وتب علينا يا تواب، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، اللهم آمنا في الأوطان والدور، وأرشد الأئمة وولاة الأمور، واغفر لنا يا عزيز يا غفور.

كيف تكون عبدا شكورا؟

كيف تكون عبدا شكورا؟ الله يوفق عباده للخير، ويثني عليهم في الملأ الأعلى، ويجازي الكافر في الدنيا على فعله الخير ويخرج من أدخله النار بأدنى مثقال ذرة من إيمان، وهذا من شكر الله لعباده ولكن كيف يشكر العباد ربهم؟ وكيف يكونون من عباد الله الشاكرين؟ وما هي معاني الشكر؟ وما الفرق بين الشكر والحمد؟ ومن أبرز من تكلم في هذا الموضوع؟ أسئلة جاءت إجاباتها في ثنايا هذه المادة. وفي الأخير يجب أن يعلم أن الشكر نصف الدين، وأنه الغاية من خلق الخلائق.

معاني شكر العبد لربه

معاني شكر العبد لربه إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فأحمد الله حمد الشاكرين، وأصلي وأسلم على نبيه صلى الله عليه وسلم سيد المرسلين، وقائد الغر المحجلين، وشفيعنا يوم الدين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. إخواني: إن الاهتمام بالقلوب أمر مطلوب، كيف لا والقلب هو الملك الذي يملك الأعضاء، فبه تسير وبه تأتمر، والقلب له أعمال كثيرة، وتقوم به عبادات عظيمة، والمؤمن الذي يريد أن يسير إلى الله ينبغي أن يعتني بقلبه لكي يكون سيره حسناً. ودرسنا في هذه الليلة: (كيف تكون عبداً شكوراً؟) كيف نكون جميعاً من عباد الله الشاكرين؟ ما هي الوسائل التي بها نكون شاكرين لله سبحانه وتعالى؟ أما الشكر فإنه في اللغة: ظهور أثر الغذاء في أبدان الحيوان، كما تقول العرب: شكرت الدابة إذا: سمنت وظهر عليها أثر العلف، وقد جاء في صحيح مسلم في حديث يأجوج ومأجوج أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حتى إن الدواب لتشكر من لحومهم). فالله تعالى يرسل عليهم ديداناً تقتلهم -يأجوج ومأجوج- وأن الدواب تأكل لحومهم حتى تسمن سمناً عظيماً، والشكر: هو الثناء على المحسن بما أعطاك وأولاك، فتقول: شكرته وشكرت له، والثاني أفصح، وقال الله سبحانه وتعالى: {لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً} [الإنسان:9]. والشكران ضد الكفران، والشكور من الدواب: ما يكفيه العلف القليل، ويقال: اشتكرت السماء إذا اشتد مطرها، واشتكر الضرع إذا امتلأ لبناً، فهذه معاني الشكر، وهي تدل على النماء والزيادة. وشكر العبد لربه له عدة من المعاني: فعرفه بعض الناس: بأنه الاعتراف للمنعم بالنعمة على وجه الخضوع. وقال بعضهم: هو الثناء على المحسن بذكر إحسانه. وقال بعضهم: الشكر استفراغ الطاقة في الطاعة. وقيل: الشاكر: الذي يشكر على الموجود، والشكور: الذي يشكر على المفقود. وقيل: الشاكر: الذي يشكر على النفع، والشكور: الذي يشكر على المنع. وقيل في الفرق بين الشاكر والشكور: أن الشاكر: الذي يشكر على العطاء، والشكور: الذي يشكر على البلاء. والشكر من العبد لربه يدور على ثلاثة أشياء: أولاً: اعتراف العبد بنعمة الله عليه. ثانياً: الثناء عليه سبحانه وتعالى بهذه النعم. ثالثاً: الاستعانة بهذه النعم على مرضاة الله، فمدار شكر العبد لربه على هذه الثلاثة: الاعتراف، والثناء، والعمل بها في طاعته سبحانه وتعالى. والشكر أيضاً: خشوع الشاكر للمشكور مع حبه له، واعترافه بنعمته، والثناء عليه بها، وألا يستعمل هذه النعم فيما يسخط الله، وإنما يستعملها فيما يرضي الله سبحانه وتعالى. والشكر يتعلق بالقلب واللسان والجوارح، ومن الأدلة على تعلق الشكر بالقلب الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ليتخذ أحدكم قلباً شاكراً، ولساناً ذاكراً، وزوجة مؤمنة تعينه على أمر الآخرة). فالشكر إذاً: هو الاعتراف بإنعام الله سبحانه عليك على وجه الخضوع له والذل والمحبة. فمن لم يعرف النعمة بل كان جاهلاً بها لم يشكرها، وكثير من الناس لا يعرفون نعم الله عليهم، ومن عرف النعمة ولم يعرف المنعم فكيف يشكره؟!! ومن عرف النعمة والمنعم لكن جحدها كما يجحد المنكر لنعمة المنعم عليه فقد كفرها، ومن عرف النعمة والمنعم وأقر بها ولم يجحدها لكن ما خضع قلبه، ولا أحب المنعم، ولا رضي بالله المنعم فلا يعتبر شاكراً للنعمة، ومن عرف النعمة وعرف المنعم وخضع للمنعم، وأحبه ورضي به، واستعمل النعمة في محابه وطاعته فهذا هو الشاكر حقاً وهذا هو التعريف لشكر الله سبحانه وتعالى.

الفرق بين الحمد والشكر

الفرق بين الحمد والشكر وقد يقول بعض الناس: ما هو الفرق بين الحمد والشكر؟! A إن الشكر يتعلق بالقلب واللسان والجوارح، تشكر الله بقلبك ولسانك وجوارحك، أما الحمد فإنه يتعلق بالقلب واللسان، فلا يقال: حمد الله بيده مثلاً، أو برجليه، أو بأي شيء من الجسد، إلا اللسان مع القلب فالحمد بهما، والشكر يكون بالقلب واللسان والجوارح، فللقلب معرفة الله المنعم وحبه، وللسان الثناء عليه وحمده سبحانه وتعالى، والجوارح استعمال هذه النعم فيما يرضي الرب عز وجل، فالشكر أعم من هذه، لكن الشكر يكون على النعم، والحمد يكون على النعم وعلى غيرها، فمثلاً: الله سبحانه وتعالى يحمد على أسمائه وصفاته وأفعاله ونعمه، لكنه يشكر على نعمه، فلا يقال: إنه يشكر على أسمائه وصفاته وإنما يحمد على أسمائه وصفاته، ومن هذه الجهة فالحمد أعم، فهذا هو الفرق بين الحمد والشكر.

أنواع شكر الله لعباده

أنواع شكر الله لعباده وأما الله سبحانه وتعالى فإن من أسمائه الشكور، وقد سمى نفسه شاكراً كذلك، فقال الله سبحانه وتعالى: {وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً} [النساء:147]، وقال: {وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} [التغابن:17]. فالله عز وجل من أسمائه الشكور فهو يشكر عباده، فكيف يشكر عباده سبحانه وتعالى؟!

توفيقهم للخير

توفيقهم للخير إنه يشكرهم بأن يوفقهم للخير، ثم يعطيهم ويثيبهم على العمل به، والله عز وجل يشكر القليل من العمل ويعطي عليه ثواباً جزيلاً أكثر من العمل، والحسنة بعشر أمثالها وهكذا، فالله سبحانه وتعالى شكور حليم.

ثناؤه عليهم في الملأ الأعلى

ثناؤه عليهم في الملأ الأعلى ويشكر عبده بأن يثني عليه في الملأ الأعلى، ويذكره عند الملائكة، ويجعل ذكره بين العباد في الأرض حسناً؛ كل هذا من شكر الله للعبد، فإذا ترك العبد شيئاً لله أعطاه الله أفضل منه، وإذا بذل العبد شيئاً لله رده الله عليه أضعافاً مضاعفة، ولما عقر نبي الله سليمان الخيل غضباً لله لما أشغلته الخيل عن ذكره، عوضه الله عز وجل بالريح؛ على متن الريح يكون سفره، وتحمل جنوده من الجن والإنس والطير، ولما ترك الصحابة ديارهم وخرجوا من الديار في مرضاة الله عوضهم الله ملك الدنيا، وفتح عليهم ملك فارس والروم، ولما تحمل يوسف الصديق ضيق السجن شكر الله له ذلك ومكن له في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء، ولما بذل الشهداء دماءهم وأموالهم في سبيل الله حتى مزق الأعداء أجسادهم شكر الله ذلك لهم، وجعل أرواحهم في حواصل طير خضر تسرح في الجنة، وترد أنهارها، وتأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش.

مجازاة الكافر عاجلا على ما يفعل من الخير والمعروف

مجازاة الكافر عاجلاً على ما يفعل من الخير والمعروف فالله شكور، ومن شكره سبحانه أنه يجازي العدو على ما يفعل من الخير والمعروف، فلو أن كافراً عمل في الدنيا حسنات؛ فكفل يتيماً، أو أغاث ملهوفاً فالله لا يضيع عمل الكافر فيجزيه بها في الدنيا من الصحة والغنى والأولاد ونحو ذلك من متاع الدنيا، حتى عمل الكافر من أعمال الخير لا يضيعها له، بل إنه يثيبه عليها في الدنيا، وقد جاء في الحديث الصحيح ما يثبت أن الله يشكر، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (نزع رجلٌ لم يعمل خيراً قط غصن شوك عن الطريق -إما أنه كان في شجرة مقطعة فألقاه، وإما أنه كان موضوعاً فأماطه- فشكر الله له بها فأدخله الجنة). حديث حسن. وجاء في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (بينا رجل يمشي فاشتد عليه العطش فنزل بئراً فشرب منها، ثم خرج فإذا هو بكلبٍ يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال: لقد بلغ بهذا مثل ما بلغ بي، فملأ خفه ثم أمسكه بفيه، ثم رقى فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له، فقالوا: يا رسول الله! وإن لنا في البهائم لأجراً، قال: في كل كبد رطبة أجر). والله عز وجل يشكر عبده ويعطيه الأضعاف المضاعفة فهو المحسن إلى العبيد، والله سبحانه وتعالى قال: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً} [النساء:147]. تأمل يا أيها المسلم! كيف أن شكر الله أنه يأبى أن يعذب عباده بغير جرم، ويأبى أن يجعل سعيهم باطلاً، قال الله عز وجل: {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً} [الإنسان:22] فشكرهم على سعيهم، ولم يضع سعيهم، وجازاهم الجنة، وأعطاهم من أصناف الثواب ما أعطاهم سبحانه وتعالى.

إخراج الله لمن دخل النار وفي قلبه أدنى مثقال ذرة من خير

إخراج الله لمن دخل النار وفي قلبه أدنى مثقال ذرة من خير ومن شكر الله للعبيد: أنه يخرج العبد من النار بأدنى مثقال ذرة من خير، ولا يضيع عليه هذا القدر، فلو تعذب العبد في النار ما تعذب وكان مؤمناً من أهل التوحيد ليس بكافر فإن الله يخرجه يوماً من الدهر من النار فيدخله الجنة، ولو كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، والله عز وجل شكر لمؤمن آل فرعون مقامه، الذي قام لله فجاهد وقال كلمة الحق عند سلطان جائر؛ فأثنى الله عليه بالقرآن ونوه بذكره بين عباده، وكذلك المسلم الذي أعان الثلاثة الأنبياء من أصحاب القرية لما جاءوا أصحاب القرية في سورة يس، فالله سبحانه وتعالى ذكره وشكر له مقامه، وشكر له دعوته في سبيله فجعل له من الثواب الجزيل على ذلك الموقف ما لا يعلمه إلا هو سبحانه، فهو الشكور على الحقيقة، وهو المتصف بصفة الشكر سبحانه وتعالى، والله عز وجل يرغب من عباده أن يتصفوا بموجب الصفات الحسنة التي وصف نفسه بها، والله عز وجل جميل يحب الجمال، عليم يحب العلماء، رحيم يحب الراحمين، محسن يحب المحسنين، شكور يحب الشاكرين، صبور يحب الصابرين، جواد يحب أهل الجود، ستير يحب أهل الستر، عفو يحب العفو، وتر يحب الوتر، وكذلك فهو سبحانه يكره البخل، والظلم، والجهل، وقسوة القلب، والجبن، واللؤم، وهو سبحانه وتعالى يحب من عباده أن يتصفوا بالصفات الحميدة الحسنة.

الشكر نصف الدين وهو المراد من خلق العباد

الشكر نصف الدين وهو المراد من خلق العباد أما الشكر فإنه نصف الإيمان، ونصفه الثاني هو الصبر، والله عز وجل جمع بينهما في كتابه، فقال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [إبراهيم:5]. فالصبر والشكر هما الإيمان، تأمل قوله صلى الله عليه وسلم: (عجبت للمسلم إذا أصابته مصيبة احتسب وصبر، وإذا أصابه خير حمد الله وشكر، إن المسلم يؤجر في كل شيء حتى في اللقمة يرفعها إلى فيه). وهذا هو مقتضى الحديث الصحيح الآخر: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير؛ وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكانت خيراً له). فالإيمان إذاً نصفه صبر ونصفه شكر، فكيف يكون ذلك؟ إن الصبر عن المعاصي، وعما يغضب الله، وكف النفس عن ذلك هذا نصف الدين، والشكر وهو القيام بفعل المأمورات وهو نصفه الآخر، وهل الدين إلا أمر ونهي! وبلغ من منزلة الشكر، ومن عظمة هذه العبادة الجليلة أن الله سبحانه وتعالى جعل المراد من خلق الخلق أن يشكروه، فقال الله عز وجل: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} [البقرة:152] فجعل ذكره وشكره هما الوسيلة والعون على الوصول إلى رضاه سبحانه وتعالى، وقسم الناس إلى شكور وكفور، وأبغض الأشياء إليه سبحانه أهل الكفر، وأحب الأشياء إليه سبحانه الشكر وأهله، قال الله تعالى عن الإنسان: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:3]، وقال نبي الله سليمان: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل:40]، وقد تعهد الله ووعد بالسيادة لمن شكر، فقال الله عز وجل: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7]، والله سبحانه وتعالى يقابل بين الشكر والكفر في أكثر من موضع، فيقول: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144]، والله عز وجل علق كثيراً من الجزاء على مشيئته، فقال مثلاً: {فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ} [التوبة:28]، وقال: {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ} [الأنعام:41]، وفي الرزق قال: {يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:212]، وفي المغفرة قال: {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ} [آل عمران:129]، وقال في التوبة: {ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [التوبة:27]. أما جزاء الشكر فقد أطلقه إطلاقاً ولم يعلقه بمشيئته، فقال سبحانه وتعالى: {وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:145]، وقال: {وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144]، لذلك لما عرف عدو الله إبليس قيمة وعظم الشكر تعهد أن يعمل ليحرف البشرية فيجعلهم غير شاكرين، فقال الله عن إبليس: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:17] ولذلك وصف الله سبحانه عباده الصالحين الشاكرين بأنهم الأقلون، وقال الله عز وجل: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13]، [ولذلك ذكر أن عمر سمع رجلاً يقول: اللهم اجعلني من الأقلين، فقال: ما هذا؟ فقال: يا أمير المؤمنين! قال الله عز وجل: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:40]، وقال الله عز وجل: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13]، وقال الله عز وجل: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص:24]. فقال عمر: صدقت]. وقد مدح الله سبحانه أبا البشرية الثاني -وهو نوح- بأنه شكور، فقال: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً} [الإسراء:3]. والدليل على أنه أبوهم الثاني قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} [الصافات:77]، بعدما أغرق قوم نوح جعل ذرية نوح هم الباقين، فهو أبو البشرية الثاني. وأمر موسى بأن يكون من الشاكرين، فقال: {يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف:144]. وأول وصية وصى الله بها الإنسان، قال: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان:14]. ولذلك لما جاء لقمان يوصي ابنه قال له: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [لقمان:12] الحكمة التي آتاها الله للقمان أن يشكر الله، فعلم لقمان ولده من هذه الحكمة. والله يرضى إذا شكره العباد، فقال: {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر:7]. ومدح إبراهيم الخليل؛ لأنه شكر نعم الله، فقال الله عز وجل: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً} [النحل:120] أمة جماعة في واحد، أمة يأتم به: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * {شَاكِراً لَأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل:120 - 121]. فالشكر كما ذكرنا قبل قليل هو الغاية من خلق العباد، قال الله عز وجل: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل:78]. فلأي شيء خلقكم؟ ولأي شيء أخرجكم من بطون أمهاتكم؟: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل:78]. ونبينا صلى الله عليه وسلم سيد الشاكرين وإمامهم صلى الله عليه وسلم، إنه عليه الصلاة والسلام كان يعبد ربه لكي يكون شكوراً لربه، ولذلك جاء في صحيح البخاري عن المغيرة قال: (قام النبي صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه، فقيل له: أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، قال: أفلا أكون عبداً شكوراً) شكوراً لهذه النعمة، وهي أنه غفر لي ما تقدم من ذنبي، وجاء مثله أيضاً في صحيح البخاري عن عائشة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم الليل حتى تتفطر -تتورم وتتشقق- قدماه، فقالت عائشة: لم تصنع هذا يا رسول الله! وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أحب أن أكون عبداً شكوراً. فلما كثر لحمه صلى الله عليه وسلم صلى جالساً، فإذا أراد أن يركع قام فقرأ ثم ركع). ولكن كيف نكون من عباد الله الشاكرين؟ كيف نصل إلى منزلة العبد الشكور؟

كيفية الوصول إلى منزلة العبد الشكور

كيفية الوصول إلى منزلة العبد الشكور نصل إلى منزلة العبد الشكور بأمور:

العبادة

العبادة منها: هذه العبادة التي دلنا عليها صلى الله عليه وسلم.

الدعاء

الدعاء وكذلك: الدعاء. وهذه الوسيلة الثانية. أيها الإخوة: إن من وسائل الوصول إلى منزلة العبد الشكور: الدعاء، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يقول: (رب أعني ولا تعن علي، وانصرني ولا تنصر علي، وامكر لي ولا تمكر علي، واهدني ويسر هداي إلي، وانصرني على من بغى علي، اللهم اجعلني لك شاكراً -وفي رواية: شكاراً- لك ذاكراً، لك راهباً، لك مطواعاً، إليك مخبتاً، إليك أواهاً منيباً، رب تقبل توبتي، واغسل حوبتي، وأجب دعوتي، وثبت حجتي، واهدِ قلبي، وسدد لساني، واسلل سخيمة قلبي) حديث صحيح. وعلم معاذاً دعاءً عظيماً، فقال: (يا معاذ! والله إني لأحبك، أوصيك يا معاذ! لا تدع في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك). فالوصول إلى منزلة العبد الشكور لا بد فيها من الاستعانة بالله والدعاء والالتجاء، وإلا فهي منزلة صعبة، وسليمان قال: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ الآية} [النمل:19] فبدون المعونة من الله لا يمكن أن يصل الإنسان إلى منزلة العبد الشكور. ومن الأمور التي ينبغي معرفتها: أن الشكر يحفظ النعم، قال الله سبحانه وتعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7] فهو ليس فقط يحفظ النعمة وإنما يزيدها، ولذلك كانوا يسمون الشكر: الحافظ، يعني: الحافظ للنعم الموجودة والجالب للنعم المفقودة. وقال عمر بن عبد العزيز: [قيدوا نعم الله بشكر الله]. وقال أيضاً: [الشكر قيد النعم]. وقال مطرف بن عبد الله: [لأن أعافى فأشكر أحب إلي من أن أبتلى فأصبر]. ومن الأشياء التي يبلغ بها العبد درجة الشكور: أن يحدث بنعم الله عليه، قال الله عز وجل: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11]. وتحديث العبد بنعمة الله عليه له عدة معانٍ: منها: أن يرى أثر النعمة عليك، كما جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل من الصحابة: (إذا أنعم الله على عبدٍ نعمة فإنه يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، كلوا واشربوا وتصدقوا في غير مخيلة ولا سرف، فإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده). وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو قشف الهيئة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (هل لك من مال؟ قال: نعم، قال: من أي المال؟ قال: من كل المال؛ قد آتاني الله من الإبل والخيل، والرقيق والغنم، قال: فإذا آتاك الله مالاً فليُر عليك). وقد جاء في الحديث الصحيح قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا آتاك الله مالاً فلير أثر نعمة الله عليك وكرامته). وقال في الحديث الصحيح الآخر: (إن الله تعالى إذا أنعم على عبد نعمة يحب أن يرى أثر النعمة عليه من غير سرف ولا مخيلة) لا اختيال ولا إسراف، أظِهر النعمة ولا تكتمها، لكن من غير إسراف ولا اختيال، لا تظهرها إلا بهذين الشرطين، (إن الله إذا أنعم على عبدٍ نعمة يحب أن يرى أثر نعمته على عبده). ولذلك قال بعض السلف: [لا تضركم دنياً شكرتموها]. فلو أظهرت النعمة وأنت شاكر لها فإنها لا تضرك بإذن الله. وقد ذم الله الكنود من العباد فقال: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً * فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً * إِنَّ الْإنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} [العاديات:1 - 6]. قال بعض المفسرين: الكنود: الذي لا يشكر نعم الله، وقال الحسن رحمه الله عن الكنود: [الذي يعد المصائب وينسى النعم] إذا جلست معه قال لك: صار لي مصيبة كذا وكذا وكذا، ولا يحدث ولا يذكر شيئاً من نعم الله، كاتم لنعم الله، لا يحدث إلا بالمصائب والمعايب، ولا يقول: إن الله أعطاني كذا وأعطاني كذا، ومَنَّ علي بكذا، وآتاني كذا، كما جاء في وصف النساء التي جاء من أسباب دخولهن النار قوله صلى الله عليه وسلم: (لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئاً، قالت: ما رأيت منك خيراً قط) فلماذا دخلت النار؟ بترك شكر نعمة الزوج، فشكر نعمة الله أولى وأحق، فهذه التي تدخل النار بسبب كفران نعمة الزوج، فلأن يدخل العبد النار بكفران نعمة الله أولى، هذه المرأة من أسباب دخولها النار كفران نعمة الزوج؛ لأنها تنسى كل حسناته، وتقول: ما رأيت منك خيراً قط، ولا تذكر له إلا عيوبه، فالعبد إذا كتم نعم الله ولم يذكر إلا المصائب فهو أحرى بأن يدخل النار من المرأة التي تكفر نعمة زوجها؛ لأن الله هو المنعم الحقيقي، ولذلك جاء في الحديث: (التحدث بالنعمة شكر وتركها كفر). ورأى بكر بن عبد الله المزني حمالاً عليه حمله وهو يقول: الحمد لله أستغفر الله، الحمد لله أستغفر الله، الحمد لله أستغفر الله، وهكذا، قال: فانتظرته حتى وضع ما على ظهره، وقلت له: أما تحسن غير هذا؟ -غير الحمد لله أستغفر الله- قال: بلى. أحسن خيراً كثيراً أقرأ كتاب الله، غير أن العبد بين نعمة وذم، فأحمد الله على نعمه وأستغفره لذنوبي، فقال بكر: الحمال أفقه مني. ولما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم على الجن سورة الرحمن وقرأها على الصحابة، فسكت الصحابة، فقال عليه الصلاة والسلام: (قرأتها على الجن ليلة الجن فكانوا أحسن رداً منكم، كنت كلما أتيت على قوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:13] قالوا: لا بشيء من نعمك ربنا نكذب فَلَكَ الحمد). فقهاء الجن قالوا: لا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد، يذكر لهم في سورة الرحمن كل شيء؛ أنه خلقهم، وأنزل لهم الميزان، وجعل لهم الأنهار والبحار، وجعل لهم السفن، وجعل لهم أشياء كثيرة جداً، وبعد ذكر كل نعمة يقول: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:13]. والنعم كثيرة جداً، وشكرها ينساه كثير من الناس، وبعض المغفلين من الصوفية عندهم مبادئ عجيبة في هذا، حيث قال أحدهم: أنا لا آكل الخبيص؛ والخبيص: نوع من أنواع الحلوى، فقيل له: لماذا؟ قال: إني لا أقوم بشكره، فقال الحسن: "هذا أحمق، وهل يقوم بشكر الماء البارد؟! " ولذلك جاء في الحديث الصحيح: (إن أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة من النعيم أن يقال له: ألم نصح لك جسمك، ونروك من الماء البارد؟!) رواه الترمذي والحاكم عن أبي هريرة مرفوعاً، وهو حديث صحيح. حتى الماء البارد الذي نشربه نعمة سنسأل عنها يوم القيامة، فكيف ننجو من تبعة السؤال؟ بأن نشكر نعم الله كلها ظاهراً وباطناً. وكان أبو المغيرة -رجل من السلف - إذا قيل له: كيف أصبحت يا أبا محمد؟ قال: "أصبحنا مغرقين في النعم، عاجزين عن الشكر، تحبب إلينا ربنا وهو غني عنا، ونتمقت إليه ونحن إليه محتاجون " هو أحسن إلينا وهو غني عنا، ونحن نعصيه ونحن محتاجون إليه!. وقال يونس بن عبيد: قال رجل لـ أبي تميمة: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت بين نعمتين لا أدري أيتهما أفضل: ذنوب سترها الله علي فلا يستطيع أن يعيرني بها أحد، ومودة قذفها الله في قلوب العباد لا يبلغه عملي -أنا دون ذلك-. (ودعا رجل من الأنصار من أهل قباء النبي صلى الله عليه وسلم، قال بعض الصحابة: فانطلقنا معه، فلما طعم وغسل يديه قال: الحمد لله الذي يُطعِم ولا يُطعَم، منَّ علينا فهدانا، وأطعمنا وسقانا، وكل بلاءٍ حسنٍ أبلانا، الحمد لله غير مودع، ولا مكافأ، ولا مكفور، ولا مستغنىً عنه، الحمد لله الذي أطعم من الطعام، وسقى من الشراب، وكسا من الثياب، وهدى من الضلالة، وبصر من العمى، وفضل على كثير من خلقه تفضيلاً، الحمد لله رب العالمين) حسنه بعض أهل العلم. هذه قضية مهمة؛ وهي قضية شكر النعم والتحدث بها دائماً، قال بعض الناس: نحن إذا تحدثنا بالنعم أصابنا الحسد والعين، فماذا نفعل؟ نقول: أولاً: إذا كان الذي أمامك معروف بالحسد فهذا لا يعني أنك تقول النعم التي جاءتك، وتستجلب حسده وإصابته لك بالعين؛ هذا إذا كان حسوداً، أما في الأحوال العادية الطبيعية فأنت تذكر نعم الله عليك. ثانياً: إن الحسود والعائن إذا رآك تحمد الله على النعم العامة، تقول: الحمد لله على ما أنعم به عليَّ من جميع النعم؛ فإن هذا الشيء العام لا يستجلب العين والحسد. ثالثاً: هناك أدعية تقي من العين والحسد؛ كقراءة المعوذات بعد الصلوات، وقبل النوم، وفي الصباح والمساء. وكذلك فإن هناك بعض الأمور، مثل أن تكتم: (استعينوا على إنجاح حوائجكم بالكتمان، فإن كل ذي نعمة محسود) فيجب ألا نخلط بين شكر الله وحمده على النعم، وبين ذكر بعض الأشياء التي تستجلب الحسد عند العائنين أو الحساد إذا كانوا موجودين، فهل يلزم أن نشكر أمام الناس؟ أم أنه يمكن أن يكون الشكر سراً بينك وبين الله، لا يوجد حاسد ولا عائن؟ يمكن أن يكون بينك وبين الله، فإذا خلوت بنفسك فاحمد الله على نعمه، ولا يشترط أن تأتي بين الناس فتقول: عندي كذا مال، وعندي كذا شركة، وعندي كذا وكذا وفي المجلس من الحساد، لكن بين إخوانك وأصحابك فأنت تذكر نعم الله عليك، ثم إن هناك من النعم كما قلنا ما يستجلب الحسد في العادة والعين، فالله عز وجل لما قال لنبيه: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} [الضحى:6 - 8] قال له في آخر السورة: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ ف

معرفة أن الموفق للشكر هو الله

معرفة أن الموفِّق للشكر هو الله ومن أعظم الأشياء التي يكون بها العبد عبداً شكوراً: أن يراعي هذا المشهد كلما حمد الله وشكره، فالحمد والشكر نعمة من الله تستحق وتستوجب شكراً آخر وحمداً آخر، قال الشاعر: إذا كان شكري نعمة الله نعمة عليَّ له في مثلها يجب الشكر فكيف وقوع الشكر إلا بفضله وإن طالت الأيام واتصل العمر إذا مس بالسراء عمَّ سرورها وإن مس بالضراء أعقبها الأجر وما منهما إلا له فيه منةٌ تضيق بها الأوهام والبر والبحر ودخل رجل على عمر رضي الله عنه فسلم فرد عليه السلام، فقال عمر للرجل: [كيف أنت؟ قال الرجل: أحمد إليك الله، قال: هذا أردتُ منك]. وعن ابن عمر قال: [لعلنا نلتقي في اليوم مراراً يسأل بعضنا عن بعض] ولم يرد بذلك إلا ليحمد الله عز وجل، أقول: كيف حالك؟ فتقول: الحمد لله، وتقول لي: كيف حالك؟ فأقول: الحمد لله، فيكون غرض السؤال أن كل واحد منا يستجلب لنفسه أو يدفع الآخر لحمد الله سبحانه وتعالى. هناك بعض الناس عنده قناعة فعلاً فيحمد الله عز وجل، لو سألته: كيف الأحوال؟ قال: الحمد لله، لو كان خيراً قال: الحمد لله، ولو كان شراً قال: الحمد لله على كل حال، فهو دائماً يحمد الله، وبعض الناس إذا سألته كيف حالك؟ قال: بِشَرٍّ، ومصائب، وأمراض، وصار لي كذا، وصار لي كذا، ويعدد لك المصائب، ولا يذكر ولا شيء من نعم الله عليه؛ هذه النفسيات المشئومة المتشائمة!! هذه كيف تكون من الشاكرين؟! لا يمكن أن تكون من الشاكرين ولا أن تعد منهم. ونذكر قصة زوجة إسماعيل التي أمره أبوه إبراهيم بطلاقها، لما جاء إبراهيم لدار ولده إسماعيل طرق الباب فخرجت له زوجة ابنه، قال: كيف عيشكم؟ قالت: نحن بشر، ونحن في ضيق، ونحن بكذا، والمرأة الثانية حمدت الله قال: أين إسماعيل؟ قالت: خرج يصيد لنا. فإذاً: لما يُسأل الإنسان حتى لو كان مريضاً: كيف حالك؟ عليه أن يقول: الحمد لله، يحمد الله أن المرض ما كان أشد من هذا. قال ابن عيينة: "ما أنعم الله على العباد نعمة أفضل من أن عرفهم لا إله إلا الله، وقال: وإن لا إله إلا الله في الآخرة كالماء في الدنيا". وقال مجاهد في قول الله تعالى: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان:20] قال: "لا إله إلا الله". وقال بعض السلف في خطبة العيد: أصبحتم زهراً وأصبح الناس غبراً؛ أصبح الناس ينسجون وأنتم تلبسون، وأصبح الناس يعطون وأنتم تأخذون -أهل الذمة والكفار يرهبون المسلمين، ويعطون الجزية، والخراج- وأصبح الناس ينتجون وأنتم تركبون، وأصبح الناس يزرعون وأنتم تأكلون، فبكى وأبكاهم. وقال عبد الله بن قرف الأزدي على المنبر يوم الأضحى ورأى على الناس ألوان الثياب الجميلة: يا لها من نعمة ما أشبعها، ومن كرامة ما أظهرها، ما زال عن قوم أشد من نعمة لا يستطيعون ردها، وإنما تثبت النعمة بشكر الله المنعم، فإذا شكرنا ثبتت النعمة. وجاء رجل إلى يونس بن عبيد يشكو ضيق حاله، فقال له يونس: أَيَسُرُّكَ ببصرك هذا مائة ألف درهم؟ -هل يسرك أنك تفقد بصرك وتعطى مائة ألف درهم؟ - قال: لا. قال: فبيديك مائة ألف؟ قال: لا. قال: فبرجليك مائة ألف؟ قال: لا. ثم ذكر له نعماً كثيرة، ثم قال له في النهاية: أرى عندك مئين الألوف وأنت تشكو الحاجة. روي أن ملكاً من الملوك كان به داء لا يستطيع به أن يشرب الماء إلا بشق النفس، فكان إذا رأى عبداً من عبيده يشرب الماء يتجرعه تجرعاً -بسرعة- تحسر في نفسه. وبعض الناس يبتليهم الله بأشياء، تمد أمامهم أنواع المطعومات فيقول أحدهم لك: لا آكل إلا هذا لأن هذا يأتيني بالسكر وهذا بأنواع الآفات التي تصيبه، وهذا ممنوع منه، وهذا محروم منه، وهكذا، فالإنسان أحياناً من ضيق العيش وقلة المال يحزن ويسخط، لكن لو فكر كما قال أبو الدرداء: [الصحة الملك]. فتأمل الناس بالمستشفيات وغيرهم من أصحاب البلاء وأنواع الأمراض -ونحن في عافية- فترى أن نعمة الله عظيمة، فلذلك ينبغي دائماً حمد الله وأن يجعل الحمد كله لله. قال جعفر بن محمد: فقد أبي بغلة له، فقال: "إن ردها الله عليَّ لأحمدنه بمحامد يرضاها، فما لبث أن أوتي بسرجها ولجامها، فركبها، فلما استوى عليها وضم إليه ثيابه رفع رأسه إلى السماء، فقال: الحمد لله، ولم يزد على ذلك، فقيل له: أنت قلت كذا وكذا، قال: هل تركتُ وأبقيتُ شيئاً، جعلت الحمد كله لله: الحمد لله".

نسبة النعمة إلى المنعم

نسبة النعمة إلى المنعم ومن الأشياء التي توصل العبد إلى أن يكون عبداً شكوراً: نسبة النعمة إلى المنعم، لأن كثيراً من الناس إذا سئل عن هذا، قال: هذا باجتهادي، فإذا سئل عن ماله؟ قال: هذا بذكائي، وإذا سئل عن براعته؟ قال: هذا بحذقي، هذا بتجربتي، هذا بخبرتي، ولا ينسب النعمة إلى الله، فإذا أردنا أن نكون من عباده الشاكرين يجب أن ننسب النعمة إلى الله، ونرد الأمر كله إليه. قال محمد بن المنكدر لـ أبي حازم: يا أبا حازم! ما أكثر من يلقاني فيدعو لي بالخير، ما أعرفهم، وما صنعت إليهم خيراً قط، قال أبو حازم: لا تظن أن ذلك من قبلك ولكن انظر إلى الذي من قبله جاءت النعمة هذه -أن وضع لك المحبة في قلوب الناس- فاشكره، ثم قرأ عليه قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} [مريم:96]. ومن هذا القبيل ما يقع إذا نزل المطر، قالوا: هذا بسبب النوء الفلاني، هذا بسبب النجم الفلاني، هذا بسبب الفصل الفلاني، فلم يذكروا الله، ولم ينسبوها إلى الله، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح: (ألم تروا ما قال ربكم؟ قال: ما أنعمت على عبادي من نعمةٍ إلا أصبح فريق منهم بها كافرين، يقولون: الكواكب وبالكواكب). رواه أحمد ومسلم وغيرهما. فإذاً من الأشياء التي توصلنا لأن نكون عباداً شاكرين أن ننسب النعمة إلى المنعم، فإذا جاء ذكرها قلنا: هذه من الله، قال الله عز وجل: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل:53]. وحمد الله على النعم له فضلٌ عظيم، وتأمل معي هذه الأحاديث: (ما أنعم الله على عبد نعمة فحمد الله عليها إلا كان ذلك الحمد أفضل من تلك النعمة) (ما أنعم الله على عبد من نعمة -زوجة، ولد، مال- فحمد الله عليها إلا كان ذلك الحمد أفضل من النعمة) حديث حسن. وفي لفظ آخر: (ما أنعم الله تعالى على عبد نعمة فقال: الحمد لله إلا كان الذي أعطي أفضل مما أخذ). ونعمة الله من الأموال والجاه الولد والزوجة والمناصب ونحو ذلك كلها نعم تستوجب الشكر والحمد. وبعض الناس يقولون: نحن محرومون من النعم، مثلاً: شخص ليس عنده وظيفة جيدة، ليس عنده دخل جيد، محروم من أشياء من الدنيا، هل يحمد الله على هذا؟ A نعم. يحمد الله على هذا. قال بعض السلف: لنعم الله علينا فيما زوى عنا من الدنيا أفضل من نعمه علينا فيما بسط لنا منها. أي: كوننا حرمنا من النعم؛ من التوسعات الدنيوية، هذه بحد ذاتها نعمة، وذلك أن الله لم يرض لنبيه الدنيا، كان يتكئ على رمل، سريره من الرمل، ما رضي من عمر لما ذكر له كسرى وقيصر وما هم فيه من النعيم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على الرمل وقد تأثر جنبه، قال: (ألا ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟!). فقال هذا الرجل من السلف: الأشياء التي حرمنا منها من الدنيا هذه نعمة لأن الله لم يرض لنبيه الدنيا، فأن أكون فيما رضي الله لنبيه- من قلة ذات اليد، وضيق العيش، وقلة المال- أحب إلي من أن أكون فيما كره له. وقال ابن أبي الدنيا: بلغني عن بعض العلماء أنه قال: ينبغي للعالم أن يحمد الله على ما زوى عنه من شهوات الدنيا، كما يحمده على ما أعطاه، وأين يقع ما أعطاه الله والحساب يأتي عليه إلى ما عافاه الله ولم يبتله، يعني: لو أن الله عز وجل أعطانا أموالاً كثيرة فإنه سيحاسبنا عليها، ويصبح حسابنا عسيراً، لأن الأموال كثيرة فننشغل بها عن طلب العلم وعن العبادة، نجمع الأموال ونحزن إذا نقصت، هذا الحرمان لبعض الأشياء من الدنيا هو بحد ذاته نعمة؛ لأنه ربما لو أعطانا إياها لانشغلنا عن عبادته وذكره، وانشغلنا عن طلب العلم، والدعوة إلى سبيله سبحانه وتعالى. وجلس ابن عيينة مرة مع سفيان يتذاكران نعم الله عليهما من الليل إلى الصباح، كل واحد يقول: أنعم الله علينا بكذا، وأنعم الله علينا بكذا، وأنعم الله علينا بكذا، وهكذا. ولذلك فنحن دائماً ينبغي أن نتحدث بالنعم ونكرر ذكرها، ونشكر الله عليها، والأشياء التي حرمنا منها نشكر الله أن كان هذا قدرنا، ونسأل الله المزيد من فضله، ونسأل الله العفو والعافية الدائمة، ونحذر أشد الحذر من أن نكون من الذين استدرجهم الله، فإن الله عز وجل قال: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:182] ومعناها: أنه كلما أحدثوا ذنباً أحدث لهم نعمة، وهذا هو الاستدراج، فيستدرجهم من حيث لا يعلمون، فيظنون أنهم على خير وعلى طريق سوي وهكذا.

شكر الله على النعم بالنعم نفسها

شكر الله على النعم بالنعم نفسها وكذلك من الأسباب التي توصل العبد إلى مرتبة العبد الشكور: أن يشكر الله بالنعم التي أعطاه الله إياها، أعطاك مالاً فاشكره بالمال، وتصدق منه، أعطاك جوارح فاشكره بالجوارح، قال رجل لـ أبي حازم: ما شكر العينين يا أبا حازم؟ قال: "إن رأيت بهما خيراً أعلنته، وإن رأيت بهما شراً سترته، قال: فما شكر الأذنين؟ قال: إن سمعت بهما خيراً وعيته، وإن سمعت بهما شراً دفعته، قال: فما شكر اليدين؟ قال: لا تأخذ بهما ما ليس لهما، ولا تمنع حقاً لله هو فيهما، قال: فما شكر البطن؟ قال: أن يكون أسفله طعاماً وأعلاه علماً، قال: فما شكر الفرج؟ قال: قال الله: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:5 - 7] ". فبعض الناس يتصور أن الشكر فقط في اللسان، أن يقول: الحمد لله الحمد لله وينسى أن الأعضاء عليها واجبات من الشكر؛ لأننا ذكرنا في أول الحديث أن الشكر يكون بالقلب واللسان والجوارح، فبعض الناس يتصور أن الشكر فقط أن يقول: الحمد لله بلسانه، ثم لا يشكر الله بيديه، ولا بعينيه، ولا بأذنيه، ولا برجليه، فيمشي إلى الطاعات، إلى حلق العلم، يغيث ذا الحاجة الملهوف.

سجود العبد لله شكرا عند تجدد النعمة

سجود العبد لله شكراً عند تجدد النعمة ومن الأسباب التي توصل العبد إلى منزلة العبد الشكور: أن يسجد العبد لله شكراً عند تجدد النعم، فقد جاء في الحديث الصحيح: (أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا جاءه أمر يسره خر لله ساجداً شكراً له عز وجل). إذاً هناك شيء مهم جداً في الموضوع ألا وهو سجود الشكر، فهو عبادة عظيمة تشترك فيها الأعضاء السبعة، ولما جاء إلى أبي بكر خبر قتل مسيلمة سجد لله شكراً، ولما عرف علي رضي الله عنه أن ذا الثدية في جيش الخوارج قد وُجد مقتولاً دلالة على أن هؤلاء هم فعلاً الخوارج الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم سجد لله شكراً. وكذلك فإن سجود الشكر فيه تعبير عن حمد العبد لربه، فلو قال واحد: نحن دائماً نعيش في نعم؛ نحن لنا أعين وأبصار وآذان وأيدٍ وأرجل، نحن نتنفس، نحن لنا أصوات، وهناك من عنده سرطان في الحنجرة، هذا حباله الصوتية مشلولة، ونحن نتكلم، وهناك أناس لا يتكلمون، نحن نرفع أيدينا وهناك أناس لا يرفعون أيديهم، نحن نحرك الأصابع وهناك أناس أصابهم حادث فصاروا غير قادرين على تحريك بعض الأصابع؛ هذه كلها نعم، فهل يشرع أن نسجد دائماً؟ A لا. لماذا؟ لأننا نتبع السنة؛ فالسنة السجود عند حدوث النعمة، تَجدد نِعمةٍ هذه التي نسجد لها لله، هذه هي السنة، فإن قال قائل: لماذا يشرع السجود عند النعمة المتجددة ولا يشرع السجود عند النعمة المستدامة؟ الجواب: لأن النعمة المتجددة تذكر بالنعمة المستدامة. ثانياً: أن النعمة المتجددة تستدعي عبادة متجددة فلذلك كان سجود الشكر. ثالثاً: إن وقوع النعمة وحدوثها يسبب للشخص نوعاً من فرح النفس وانبساطها فيجر إلى الأشرَ والبطر، افرض أن إنساناً جاءك، قال: لقد ربحتَ مائة ألف، ماذا يحصل في النفس؟ يحصل الفرح والانبساط، وهو ربما يجر إلى الأشر والبطر، فيأتي سجود الشكر لكي يطامن هذه النفس، ويظهر الذل والخضوع لرب العالمين، لأن السجود عبودية وذل وخضوع، فإذا جاءك خبر: ولد لك ولد فسجدت لله عز وجل انقلب الأشر والبطر الذي يمكن أن يحدث إلى ذل وخضوع وعبودية، وهنا تظهر فائدة من فوائد سجود الشكر. وأهل الجهل والبطر إذا جاءهم نعمة يصيحون صياحاً من الفرح، وكذلك فإنهم يقعون في أنواع من المعاصي، لكن المسلم إذا تجددت له نعمة سجد شاكراً لله رب العالمين، والإنسان المسلم لو وقعت به مصيبة فإن تذكره أن هذه المصيبة -وهذه نقطة ذكرناها قبل قليل- هي أخف من الأعظم منها يدفعه إلى حمد الله وشكره، حتى المريض والمبتلى، ولذلك دخل أحد السلف على مريض يعوده فإذا هو يئن، فقال له: اذكر المطروحين على الطريق، اذكر الذين لا مأوى لهم، ولا لهم من يخدمهم، وهكذا. وقال عبد العزيز بن أبي رواد: رأيت في يد محمد بن واسع قرحة فكأنه رأى ما شق عليَّ منها - محمد بن واسع صاحب القرحة رأى أني تأثرت من منظر القرحة- فقال لي: أتدري ماذا لله عليَّ من هذه القرحة من نعمة؟ قال: لم يجعلها في حدقتي وعيني، ولم يجعلها في طرف لساني -أهون أنها صارت في يدي-. ولذلك لا يوجد صاحب مصيبة تفكر في مصيبته إلا وجد أن فيها نوعاً من النعمة؛ أن الله ما قدر عليه مصيبة أكبر منها؛ فيحمد المؤمن الله على كل حال وعند تجدد الأحوال؛ ولذلك كان من الأدعية التي يقولها المسافر كما ورد في الحديث الصحيح: (سمع سامع بحمد الله ونعمه وحسن بلائه علينا، اللهم صاحبنا وأفضل علينا، عائذاً بالله من النار) هذا كان من قوله صلى الله عليه وسلم في السفر، إذا أصبح يقول: (سمع سامع بحمد الله ونعمه وحسن بلائه علينا، اللهم صاحبنا) يعني: كن صاحباً لنا في السفر، وحامياً، وحافظاً: (اللهم صاحبنا وأفضل علينا -يعني: زدنا من فضلك أقول هذا حال كوني- عائذاً بالله من النار). وكذلك قال بعض السلف: يا بن آدم! إن أردت أن تعرف قدر نعم الله عليك فأغمض عينيك لترى كيف يكون وضع الأعمى. ونعم الله سبحانه وتعالى لا تعد ولا تحصى، قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [النحل:18] {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان:20] فقال السلف: النعم الظاهرة: الإسلام، والنعم الباطنة: أنه سترنا على المعاصي. فنقارف المعاصي والله سبحانه وتعالى يسترنا وهذه من النعم. وكان بعض السلف يقول: أنا الصغير الذي ربيتَه فلك الحمد، وأنا الضعيف الذي قويتَه فلك الحمد، وأنا الفقير الذي أغنيته فلك الحمد، وأنا الصعلوك الذي مولته فلك الحمد، وأنا العزب الذي زوجته فلك الحمد، وأنا الساغب الذي أشبعته فلك الحمد، وأنا العاري الذي كسوته فلك الحمد، وأنا المسافر الذي صاحبته فلك الحمد، وأنا الغائب الذي رددته فلك الحمد، وأنا الراجل الذي حملته -جعلت له دابة تحمله- فلك الحمد، وأنا المريض الذي شفيته فلك الحمد، وأنا الداعي الذي أجبته فلك الحمد، ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً. وحقوق الله سبحانه وتعالى على عباده كثيرة جداً، وكلما زاد فقه العبد زاد شكره لله، وزاد استشعاره بتقصير نفسه، يتفكر في النعم فيجدها كثيرة، ويتفكر في عمله فيجد نفسه مقصراً جداً فيزداد طاعة لرب العالمين. ومن أنواع شكر النعم ما ذكر العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى، قال: إن لله سبحانه وتعالى حقوقاً على العباد ينبغي القيام بشكره، فمنها: الأمر والنهي، والحلال والحرام. فإذاأمر العبد بشيء فعليه أن يتبعه، وإذا نهاه عن شيء فعليه أن يجتنبه. وبعض الناس يشكر الله باللسان فقط وينسى الجهاد، يقول ابن القيم: أما الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصيحة لله ولرسوله ولعباده، ونصرة الله ورسوله ودينه وكتابه؛ فهذه الواجبات لا تخطر ببالهم -يعني: ببال المقصرين- فضلاً عن أن يريدوا فعلها، وقلَّ أن ترى منهم من يَحْمَرُّ وجهه ويمعره لله إذا انتهكت حرماته، ويبذل عرضه في نصرة دينه. أي: أن بعض الناس يظنون فقط أننا نجتنب المحرمات؛ لا نزني، لا نسكر، لا نغتاب، لا نسرق، لا نقتل، لكن هؤلاء لا يحسبون حساب أن الله أمرهم بالجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله، مع أن هذه الأشياء من أعظم الأمور المطلوبة من العبد.

دعاء العبد بالمأثور عند رؤية مبتلى

دعاء العبد بالمأثور عند رؤية مبتلى كذلك من الأمور التي تدل على أن العبد عبد شكور: أنه إذا رأى مبتلى أن يحمد الله على العافية من هذا البلاء، قال صلى الله عليه وسلم: (إذا رأى أحدكم مبتلىً فليقل: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به وفضلني عليك وعلى كثير ممن خلق تفضيلاً) وهذا الكلام يقوله سراً لا يجهر به حتى لا يؤذي الشخص إلا إذا كان بلاء الشخص فسقاً في دينه، فقال النووي رحمه الله: يجهر به؛ لعله يرتدع، أما إذا كان إنساناً مشلولاً أعمى كسيحاً به عاهة فليعمل بالحديث. (إذا رأى أحدكم مبتلىً فليقل: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به وفضلني عليك وعلى كثير من عباده تفضيلاً) كان هذا الكلام شكر تلك النعمة التي أعطاك الله إياه وحرمها الرجل المبتلى، وهذا من وسائل شكر النعمة. وكذلك من الوسائل التي يصل بها العبد إلى مرتبة العبد الشكور: العبادة؛ إذا نجاك الله من مكروه، أو دفع عنك شراً، وشاهِدنا على هذا حديث ابن عباس في البخاري: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وجدهم يصومون يوماً -وهو يوم عاشوراء- فسألهم: فقالوا: هذا يوم عظيم نجى فيه الله موسى وأغرق آل فرعون فصام موسى شكراً لله، فقال: أنا أولى بموسى منهم فصامه وأمر بصيامه). فإذا حدث لك أن نجاك الله من سوء ودفع عنك مكروباً، فمن شكر النعمة أن تعبده بصيامٍ، أو صلاة أو صدقة مقابل هذا الإنجاء الذي حصل.

نظر العبد إلى من دونه في أمور الدنيا

نظر العبد إلى من دونه في أمور الدنيا من الأشياء التي يكون بها العبد عبداً شكوراً: أن ينظر إلى من دونه في الدنيا ولا ينظر إلى من فوقه فيها، قال صلى الله عليه وسلم: (انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم). أنت عندك بيت ضيق؛ حجرتان وصالة صغيرة ومطبخ صغير تأمل في حال الناس الذين أصاب بيوتهم زلزال فصاروا دون بيت بالكلية وأصبحوا في الشارع، كيف تجد نفسك؟ أنت عندك راتب يكفيك إلى آخر الشهر لا تستطيع أن توفر منه شيئاً، عليك أن تفكر في أهل المجاعة الذين ليس عندهم شيء أبداً فهم يموتون من الجوع. يقولون: خرج أبٌ وزوجته وأولاده الستة من قرية في الصومال إلى قرية أخرى فوصل الأب وحده ومات الباقون في الطريق، كيف يكون إذاً؟ يا إخوة! نحن إذا رأينا الأحداث وسمعنا الأخبار ينبغي أن يتولد عندنا حمد لله، هذه نعم ليست سهلة.

اعتناء العبد بالنعمة وحفاظه عليها

اعتناء العبد بالنعمة وحفاظه عليها كذلك من كون العبد عبداً شكوراً: أن يعتني بالنعمة ويحافظ عليها، خصوصاً الأشياء التي فيها رفعة للدين، كما قال عليه الصلاة والسلام: (من أحسن الرمي ثم تركه فقد ترك نعمة من النعم) حديث صحيح، وفي رواية: (من ترك الرمي بعدما علمه رغبة عنه فإنها نعمة كَفَرَهَا). فالذي يتعلم الرمي وهذا شيء يعين على الجهاد، وتعلم الرمي نعمة، إذا كان ترك التعلم والتدرب بين الآونة والأخرى رغبة عن هذا الشيء وليس بسبب ظروف قاهرة وإنما رغبة عن هذا الشيء فهي نعمة كفرها. ومن الأمور المهمة جداً: عدم معصية الله عند حدوث النعمة، لأن كثيراً من الناس إذا جاءتهم النعمة عصوا الله، بعض الناس إذ جاءه نعمة صفق وصاح، وشعر بالنشوة والخيلاء، مع أنه من المفروض أن يتواضع ويسجد، ينزل إلى الأرض لله رب العالمين، قال صلى الله عليه وسلم: (صوتان ملعونان في الدنيا والآخرة: مزمارٌ عند نعمة، ورنة عند مصيبة) والرنة: صياح النائحة، وهذا الحديث حسن، وهذا من أدلة تحريم المعازف الذي يقول: ما حكم المزمار؟ المزمار حرام هذا منه، فيقول: (صوتان ملعونان في الدنيا والآخرة: مزمار عند نعمة) شخص أنعم الله عليه بالزواج ويسره له؛ وجد مهراً، ورضي أهل الزوجة، وعمل زفافاً، بعد ذلك في هذا الزفاف بدلاً من أن يشكر نعمة الله ويحمده ويطيعه يأتي بفرقة موسيقية!! يأتي براقصات!! يأتي بمغنين!! يفجرون إلى الفجر ويضيعون الصلاة!! ويضيع العرس بلعب الورق، ويبذرون الأموال، ويلقون بالطعام في المزبلة، أهذا شكر نعمة أم كفر نعمة؟!! فما أكثر الكافرين بنعم الله في هذه الأيام!!!

شكر الناس على إحسانهم

شكر الناس على إحسانهم ومن الأشياء التي يكون بها العبد عبداً شكوراً: أن يشكر الناس على إحسانهم إليه، وشكر الناس على إحسانهم إليك من شكر الله، ومن وسائل شكر الله أن تشكر الناس المحسنين إليك، قال صلى الله عليه وسلم: (من لا يشكر الناس لا يشكر الله)، وفي لفظ آخر صحيح أيضاً: (أشكر الناس لله أشكرهم للناس). وقال عليه الصلاة والسلام: (من أعطي شيئاً فوجد عنده ما يقابل -الإحسان بالإحسان- فليجز به، ومن لم يجد فليثنِ به؛ فإن أثنى به فقد شكره، وإن كتمه فقد كفره، ومن تحلى بما لم يعط فهو كلابس ثوبي زور). ما معنى: (لا يشكر الله من لا يشكر الناس)؟ يعني: أن الله عز وجل لا يقبل شكراً لعبدٍ على إحسانه إليه إذا كان العبد لا يشكر الناس بل يكفر إحسانهم إليه؛ لأن كلا الأمرين متصل بالآخر. وقال بعض العلماء في شرح الحديث: (لا يشكر الله من لا يشكر الناس): أن مَنْ عادته وطبعه كفران إحسان الناس إليه، فإن من عادته وطبعه كفران نعمة الله عليه؛ وهذا مبني على رفع اسم الجلالة أو نصبه (لا يشكر اللهَ من لا يشكر الناس)، أو (لا يشكر اللهَُ من لا يشكر الناس)؟ كلاهما صحيح. فأشكر الناس لله أشكرهم للناس، ولذلك جاء في الحديث: (من صنع إليه معروفٌ فقال لفاعله: جزاك الله خيراً فقد أبلغ في الثناء). فإذا أحسن إلينا الخلق نشكرهم، وشكرنا لهم هو من شكرنا لله وداخل فيه، ولذلك قيل لـ سعيد بن جبير: "المجوسي يوليني خيراً أشكره؟ قال: نعم". ولو كان كافراً، لكن لا يعني هذا أن تدعو له بالرحمة والمغفرة فإنه لا يغفر لهم ما داموا على الشرك، لكن تقول على الأقل: شكراً وإذا كان مسلماً تقول: جزاك الله خيراً، وإذا كان عندك ما تجزيه به فأعطه، مثلما أحسن إليك أحسن إليه، وإذا لم يكن عند شيء فأقل شيء أن تقول له: جزاك الله خيراً، وبعض الناس كما قلنا نفوسهم سيئة؛ فلا يشكرون الله ولا يشكرون الخلق، وبعض الناس يشكرون الخلق ولا يشكرون الله، والمسلم يشكر الله ثم يشكر الناس على إحسانهم إليه، لا تنس شكر الناس، كن صاحب فضل، عليك أن تشكره فإن شكرك له من شكرك لله: (لا يشكر الله من لا يشكر الناس) فتذكر هذا الحديث جيداً. ومما يدل على فضل هذا: أن المهاجرين قالوا: (يا رسول الله! ذهبت الأنصار بالأجر كله، قال: لا. ما دعوتم الله عز وجل لهم وأثنيتم عليهم). فإذا دعوتم الله لهم وأثنيتم عليهم فإنكم قد لحقتم بهم. فهذه أيها الإخوة! عدد من الوسائل التي يكون بها العبد عبداً شكوراً. ومقام الشكر مقام عظيم ينبغي دائماً أن نتذكره وأن نعيه جيداً، وأن يكون لسان الإنسان لاهجاً بذكر الله، وحمده، والثناء عليه بالقلب واللسان والجوارح.

أبرز من تكلم في الشكر

أبرز من تكلم في الشكر ومن أبرز من تكلم في هذا الموضوع ابن القيم رحمه الله في كتابه: عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين، وهو كتاب مهم في الموضوع، وابن أبي الدنيا له كتاب في الشكر مستقل، وابن القيم أخذ أكثر كلام ابن أبي الدنيا فأودعه في كتابه مع حذف الأسانيد، وتكلم ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين عن مقام الشكر، وفي الفوائد له كلام، وفي طريق الهجرتين، وابن مفلح له كلام في الآداب الشرعية، وصاحب غذاء الألباب بشرح منظومة ابن عبد القوي، فالعلماء اعتنوا بهذه القضية وقد تتبعت عدد الألفاظ التي ورد فيها ذكر الشكر في القرآن فبلغت (واحداً وسبعين) موضعاً دلالة على أن قضية شكر الله من العبادات العظيمة التي لا يصح التفريط فيها. فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من الذاكرين الله كثيراً والشاكرين له سبحانه شكراً كثيراً، والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد.

الأسئلة

الأسئلة وفيما يلي سنجيب عن بعض الأسئلة الواردة في اللقاء الماضي.

حكم اللعب بالجوكر

حكم اللعب بالجوكر Q والدي يتزاور مع كبار في السن مثله، ولكنه يلعب معهم (الجوكر) وعندما أخبرته أن هذا لا يجوز وأن فيه مضيعة للوقت، قال: نحن لا نغتاب أحداً، ولا نتكلم في أحد، ونؤدي الصلاة، فما رأيكم في ذلك؟ A إن هذا كله لا ينفي أن يكون هذا الفعل فعلاً محرماً، وقد نص أهل العلم في فتاويهم على تحريم اللعب بالورقة.

حكم زيارة أهل البدع

حكم زيارة أهل البدع Q لي زميل ليس من أهل السنة يدعوني لزيارته، فهل أزوره؟ A لا. زيارته فيها خطورة فابتعد عنه، وقد نهى السلف عن زيارة أهل البدع.

حكم إفراد الإخوان في الله بزيارة مع وجود إخوان النسب بجوارهم وعدم زيارتهم

حكم إفراد الإخوان في الله بزيارة مع وجود إخوان النسب بجوارهم وعدم زيارتهم Q لي بعض الإخوان من النسب وإخوان في الله بمدينة أبها، وأجد إخواني من النسب كل سنة مرة وأريد أن أزور إخواني في الله زيارة خاصة، فماذا أعقد النية؟ A إنك تزورهم لله وفي الله وتستحضر حالة الرجل الذي زار إخواناً له في الله.

حكم الإعلام قبل الزيارة

حكم الإعلام قبل الزيارة Q هل يجب في الزيارة إعلام الشخص مسبقاً بالهاتف؟ A هذا أحسن لكي يأخذ الأهبة والاستعداد.

حكم زيارة العاصي بغرض إصلاحه

حكم زيارة العاصي بغرض إصلاحه Q إذا كان المزار لا يصلي ويشرب الخمر، فهل يجوز أن أزوره لكي أصلح حاله؟ A إذا كان لا يترتب على زيارته منكر فنعم زره لعلها تكون دعوة إلى الله سبحانه وتعالى.

حكم اقتحام بيت العاصي للإنكار عليه

حكم اقتحام بيت العاصي للإنكار عليه Q لو رأيت منكراً في جاري وأردت إنكاره فطرقت عليه الباب فلم يرض بدخولي، فهل لي الدخول أم الانصراف؟ A لا تدخل إلا بإذنه حتى لو كان يرتكب منكراً في الداخل، إلا أهل الحسبة فإنهم إذا وجدوا وكراً لأهل الشر ومأوى فإن لهم أن ينكروا المنكر عليه.

حكم إشراك نية أخرى مع نية الزيارة

حكم إشراك نية أخرى مع نية الزيارة Q أردت السفر لزيارة أحد إخواني في الله في مدينة الرياض، وقلت: أقضي بعض الأعمال بجانب هذه الزيارة، فهل أنا مأجور بنيتي هذه؟ A أنت مأجور، ولا يمنع أجرك أن تشترك النية، يحصل اشتراك في النية مثل الذي يحج ويتاجر. فنقول: إذا كان سفرك خالصاً للزيارة في الله فأجرك أكبر، لكن لو ذهبت زيارة ولقضاء عمل دنيوي فلك أجر لكنه دون الأجر الأول الذي كانت نيتك فقط لزيارة إخوانك في الله.

حكم الجلوس في وسط الحلقة

حكم الجلوس في وسط الحلقة Q ( لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الجلوس في وسط الحلقة) فإذا حصل ضيق فما العمل؟ A هذا الحديث ضعفه بعض أهل العلم، فلو حصل ضيق وجلسوا دوائر داخل بعض فلا بأس بذلك.

حكم تكرير صلاة الاستخارة

حكم تكرير صلاة الاستخارة Q كم مرة تصلى صلاة الاستخارة؟ A عدة مرات، حتى يشرع أن تصلى حتى تطمئن نفسك إلى شيء معين، ثم إذا عزمت فاستخر وتوكل على الله وافعل الشيء ما دمت ترى فيه المصلحة بالنسبة لك.

حكم البيع والشراء بعد الأذان الثاني يوم الجمعة بأشكاله

حكم البيع والشراء بعد الأذان الثاني يوم الجمعة بأشكاله Q بعد الأذان الثاني يوم الجمعة يحرم البيع والشراء، لكن آلة البيبسي التي يوضع فيها ريال ويخرج لك فيها بيبسي، هل يعد هذا من قبيل البيع؟ A هذا داخل في البيع والشراء، فكونك تشتري من آلة أو من آدمي نفس النتيجة.

حكم من صلى وفي فمه بقايا من أكل أو سواك

حكم من صلى وفي فمه بقايا من أكل أو سواك Q ما حكم ما لو كان في فم المصلي بقايا من الأكل أو من السواك؟ A إذا أخرجه من فمه فهذا لا بأس به.

حكم الإتيان في الدبر

حكم الإتيان في الدبر Q ما حكم الذي يجامع زوجته في دبرها؟ A ( ملعون من أتى امرأته في دبرها). يعني: عليه لعنة الله فهو ملعون، وقد شاع عند العوام أن من أتى زوجته في دبرها تطلق وهذا غير صحيح، لا تطلق لكنه ملعون.

الاختلاف في تصنيف ابن المبارك

الاختلاف في تصنيف ابن المبارك Q ابن المبارك هل هو من الصحابة أو من التابعين؟ A في هذا كلام طويل، فممن أفرد ابن المبارك وتكلم عن سيرته الذهبي رحمه الله في سير أعلام النبلاء أفرد له ترجمة طويلة فارجع إليها.

جنس البدع أعظم من جنس الكبائر

جنس البدع أعظم من جنس الكبائر Q هل البدعة أعظم أو شرب الدخان والكذب وإيذاء المسلمين؟ A البدعة أعظم.

موقف المزور الذي يعلم عشق الزائر

موقف المزور الذي يعلم عشق الزائر Q ذكرت من أنواع الزيارات المحرمة: الزيارة التي يكون الدافع لها العشق والعاطفة المذمومة، فما هو الموقف المناسب من المزور إذا علم أن الذي زاره من أجل هذا الشيء؟ A عليه أن يستثمر الوقت في طاعة الله، وكلما حاول الزائر أن يدخل في عواطف وكلام فارغ فعليه أن يقطع عليه الطريق، وأن يذكره بالله عز وجل، ثم يقصر وقت الزيارة، ثم إذا وجد أن لا فائدة من هذا فإنه يقاطعه حفاظاً عليه وعلى دينه وإيمانه.

حكم فعل الصالحات بنية الشفاء

حكم فعل الصالحات بنية الشفاء Q ما حكم الشرع في رجل اعتمر من أجل أن يشفيه الله من مرض معين؟ A لا حرج من ذلك مثل: (داووا مرضاكم بالصدقة) فلو أنه فعل صالحات من أجل أن يشفيه الله لا بأس، لكن بعض العلماء يقول: ليس له أجر، صحيح أن فعله ليس بحرام لكن ليس له أجر إذا كان ابتغى بعمله هذا شيئاً دنيوياً، ولا يأثم لأن عمله لله.

حكم التسمية في دورات المياه

حكم التسمية في دورات المياه Q هل يجوز التسمية للوضوء في دورات المياه إذا كان صنبور الماء داخل الحمام؟ A إذا كان داخل قضاء الحاجة فإنه يسمي في نفسه ولا يجهر.

(صحة حديث: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه

(صحة حديث: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه Q ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه) هل هذا حديث؟ A نعم هذا حديث صحيح.

حكم الطلاق والمرأة حامل

حكم الطلاق والمرأة حامل Q لو أن رجلاً طلق زوجته وهي حامل وهذه الطلقة الثالثة والأخيرة هل يقع الطلاق؟ A نعم يقع الطلاق إذا كانت المرأة حاملاً.

حكم الزيارة لقصد دنيوي

حكم الزيارة لقصد دنيوي Q هل يجوز الزيارة لقصد دنيوي؟ A إذا كان القصد دنيوياً مباحاً فتكون الزيارة مباحة.

الله المستعان على الشحناء والبغضاء

الله المستعان على الشحناء والبغضاء Q بماذا ترشد إخوة بينهم شحناء وبغضاء تمر عشرات السنين دون أن يسلم الأخ على أخيه؟ A لا حول ولا قوة إلا بالله، الله المستعان على هذه القطيعة التي توجد بين المسلمين!

حكم استئذان الزائر للانصراف وقت الصلاة

حكم استئذان الزائر للانصراف وقت الصلاة Q زائر لا ينصرف إلا بعد الاستئذان حتى لو كان الوقت حضر وقت الصلاة فإنه يستأذن وينصرف، فما الحكم في هذا؟ A يجمع لا مانع، وإذا لم يؤذن له ينصرف، لأنه الآن صار في المسألة طاعة لله.

حكم رد الزائر

حكم رد الزائر Q نحن طلاب الجامعة لو التزمنا بالزيارة واستقبال الزوار والإخوان لضاعت الأوقات، ولما بقي وقت للتحصيل الدراسي، فماذا نفعل؟ A نحن لم نقل: إنه يجب عليك أن تفتح بيتك للزوار دائماً بحيث تضيع مصالحك الأخرى، لكن نقول: وازن بين هذا وبين هذا، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (وإن لزورك عليك حقاً فأعط كل ذي حق)، وأعط بقية الأشياء حقها.

حكم تكرير آيات الحجاب والربا والولاء والبراء في الصلاة لكي يحفظها الناس

حكم تكرير آيات الحجاب والربا والولاء والبراء في الصلاة لكي يحفظها الناس Q ألا ترى أنه ينبغي على أئمة المساجد إكثار ترديد بعض الآيات في صلواتهم لكي يحفظها المأمومون كما حفظوا كثيراً من السور والآيات، مثل قصار السور، من هذه الآيات: آيات الحجاب، والربا، والولاء والبراء؟ A نعم هذا شيء جيد وفكرة حسنة أن تطرق هذه الآيات لكي يحفظها العامة من الناس، خصوصاً آية الحجاب والربا، وموالاة المسلمين، والبراءة من المشركين.

حكم زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم

حكم زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم Q ما حكم زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم؟ A لا يجوز شد الرحال لزيارة القبر، وإنما يكون الغرض زيارة المسجد النبوي للصلاة فيه؛ لأن الصلاة فيه بألف صلاة، لكن إذا وجد هناك يمر بالقبر ويسلم على النبي صلى الله عليه وسلم.

حكم إدخال المال البنك لحفظه للضرورة

حكم إدخال المال البنك لحفظه للضرورة Q أنا طالب جامعة معي أموال لا أستطيع أن أحتفظ بها، هل أدخلها البنك؟ A إذا ما وُجد مكان حلال تستثمرها فيه أو تضعها في أمانة فلا بأس أن تدخلها في البنك للضرورة.

حكم الطلاق مزاحا وإثبات النية فيه

حكم الطلاق مزاحاً وإثبات النية فيه Q بينما كنت أداعب وأمزح مع زوجتي قلت لها ضحكاً: يا دنيا غري غيري فقد طلقتك، فهل هذا يعتبر طلاقاً؟ A أنت تقصد الدنيا أو الزوجة، فإذا قصدت الدنيا: يا دنيا غري غيري فقد طلقتك فلا يقع الطلاق، أما إذا كنت تقصد الزوجة فهذه مصيبة، لأن النبي عليه الصلاة والسلام أخبر بأن: (ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: ومنها: الطلاق).

حكم تقدم المسبل الحليق الذي لا يقرأ قراءة سليمة للصلاة

حكم تقدم المسبل الحليق الذي لا يقرأ قراءة سليمة للصلاة Q إذا كان صاحب البيت مسبلاً حليقاً، مقصراً في الصلاة، ولا يقرأ قراءة سليمة، فكيف يتقدم للصلاة؟ A هذه صارت موانع، وفي هذه الحالة لا يتقدم وهو لا يحسن القراءة.

حكم الوسوسة في الصلاة

حكم الوسوسة في الصلاة Q أتخيل في الصلاة أشياء ويصل الأمر إلى أن أفكر في العورات، فماذا أفعل؟ A الرسول صلى الله عليه وسلم علمنا أن نستعيذ بالله من الشيطان في الصلاة، فإذا أتى إليك بمثل هذه الأشياء فقل: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم؛ من نفخه، وهمزه، ونفثه، وأنت في الصلاة وتتفل عن يسارك ثلاثاً.

حكم تقديم بعض العادات على الشرع

حكم تقديم بعض العادات على الشرع Q عندنا في بلدنا عادة وهي أن الرجل إذا حضر عرساً يُحضر معه ذبيحة وتسمى معونة، وإذا لم يحضر شيئاً ينتقده الناس، فما حكم ذلك؟ A لا يجوز للناس أن ينتقدوه ويلزموه بشيء لم يلزم به الشرع، ولا يجوز أن يجعل العرف شرعاً يحتكم إليه، أما كونه يحضر هدية لصاحب العرس فهذا شيء طيب: (تهادوا تحابوا).

تحويل الذكورة إلى أنوثة من حرف الشيطان للناس

تحويل الذكورة إلى أنوثة من حرف الشيطان للناس Q قرأت في إحدى المجلات تحول رجل إلى امرأة، فما رأيكم؟ A قال الشيطان متعهداً بحرف الناس عن الدين: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء:119]. وهذا من هذا.

حكم السؤال في الهاتف في اعتباره زيارة أم لا

حكم السؤال في الهاتف في اعتباره زيارة أم لا Q هل السؤال عن الشخص وصحته في الهاتف يعتبر زيارة؟ A لا يعتبر زيارة لكنه أحسن من القطيعة.

تبعات سقوط الكلفة كلية

تبعات سقوط الكلفة كلية Q سقطت الكلفة بيننا فأخذ بالمعاتبة والزعل اليومي، فإذا أخبرته يقول: أنت تجعل الأخطاء لي ولا يعترف بخطئه أبداً ويحاسبني على كل فعل، فما العمل؟ A سقوط الكلفة بالكلية ليس أمراً محموداً؛ لأنه يؤدي إلى وقوع شحناء وبغضاء، فلا بد أن يبقى قدر من الاحترام المتبادل، وحفظ الحقوق، ونوع من الحشمة والوقار.

ليست الاستفادة من الوقت من الإثقال على الضيف

ليست الاستفادة من الوقت من الإثقال على الضيف Q هناك مفهوم لدى بعض الشباب من أنه إذا زاره بعض إخوانه فإنه لا يستفيد من الوقت في القراءة في كتاب نافع، وذلك بحجة عدم الإثقال عليهم، أو خوف من الرياء؟ A كلها مداخل شيطانية، لماذا لا تفتح كتاباً ويقرأ منه واحد يستفيد منه الجميع!!

أساليب في صرف كثيري الزيارة

أساليب في صرف كثيري الزيارة Q ما هو الأسلوب المناسب لطرد الزوار الذين يكثرون الزيارة؟ A يعني: لماذا طرد الزوار؟ لتقل مثلاً: لصرف الزائر بالحسنى، أو جعله يحس بالخروج مثلاً، فهناك من الإشارات العابرة التي ليس فيها تصريح يمكن أن يفهم منه، وإذا كان لم يفهم بالتلميح فبالتصريح، لكن لا يكون طرداً، بل يكون أمراً لهم بالانصراف، مثل الاعتذار: يا أخي! أنا عندي موعد بعد قليل أو عندي شغل أرجو المعذرة، لو حصل زيارة أخرى في وقت أنسب وهكذا.

عدم جواز منع العامل من الزيارة

عدم جواز منع العامل من الزيارة Q أريد أن أزور إخواني في الله لكن أمسك كثيراً بسبب أني أعمل في عمل عسكري وإنه يتعذر عليَّ الخروج فما العمل؟ A تستطيع أن تخرج الخميس والجمعة أو في الشهر مثلاً، فزر ولا تخف في الله لومة لائم، إذا خرجت في وقت الخروج من المعهد مثلاً أو من غيره من الأماكن التي يكون فيها العسكري في وقت الإجازة فزر إخوانك في الله. ونكتفي بهذا القدر، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد. سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.

كيف نتعامل مع الناس [1]؟

كيف نتعامل مع الناس [1]؟ في هذا الدرس بيَّن الشيخ أموراً كثيرة متعلقة بمعاملات الناس فيما بينهم، فنبه على البيع الحلال واجتناب الربا، وركَّز على موضوع أداء الأمانة بمفهومها الشامل، ثم عرَّج على قضية المسلمين في الشيشان وأحوال الجهاد فيها.

الصدق مع الخالق والمخلوق

الصدق مع الخالق والمخلوق الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن المسلم يصدق مع الله سبحانه وتعالى، ويصدق مع عباده، فهو صادق في عبادته وصادق في معاملاته، والله سبحانه وتعالى قد طلب من العباد أموراً كثيرة، فيقوم العبد بالإخلاص لله عز وجل في علاقته فيما بينه وبين الله، وأما علاقته بينه وبين الخلق، فإنها تقوم على الصدق وعلى الفقه، فالفقه والعلم مع الصدق أساسان في التعامل بين العباد.

التعامل بالبيع واجتناب الربا

التعامل بالبيع واجتناب الربا إن المسلم الذي يعلم أن الله أحل البيع وحرم الربا، لا يغشى الربا أبداً، ويفعل البيع عن تراضٍ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يبيع محرماً ولا يبيع بيع جهالة وغرر، وإذا نادى المنادي لصلاة الجمعة امتثل أمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9] ولا يتشاغل إذا أقيمت صلاة الجماعة، ولا يتشاغل بأي أمر إلا في الخروج إلى الصلاة، فإذا أقيمت الصلاة فلا يحلُ لأي مسلم أن يفعل أي شيء غير الخروج لصلاة الجماعة، وقد قال الله تعالى: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:37 - 38]. والمسلم لا يبيع أمراً محرماً ولا شيئاً يستعان به على معصية الله، كآلات اللهو وغيره؛ لأن ربه نهاه عن ذلك بقوله: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] وكذلك فإن المسلم لا يبيع بيع عينة، فلا يبيع سيارة بخمسين ألفاً مؤجلة مثلاً، ثم يشتريها نقداً من المشتري بأربعين مثلاً، فتكون القضية أنه أعطاه أربعين ألفاً ليردها إليه خمسين ألفاً وهذه خدعة، فإذا انطلت على الأطفال؛ فإنها لا تنطلي على رب العباد. وكذلك فإن المسلم لا يذهب إلى جهة يقول: أريد أن أشتري سيارة من معرض أو وكالة فيعطونه شيكاً يسلمه للمعرض، ويأخذ السيارة ثم يقسط قيمتها بزيادة على من أعطاه الثمن، لا يفعل ذلك؛ لأنه يعلم أنه عملٌ محرم، أقرضوه الثمن بهذا الشيك، ثم سدده إليهم بزيادة، وهو يعلم أنه لا بد أن تكون السلعة عند البائع، وأن تكون في حوزته فلا يقبل مثل هذه التحويلات المبنية على الخداع، وهكذا لا يسحب ببطاقات الائتمان على المكشوف بزيادة؛ لأنه يخاف الحرب من الله الذي قال في كتابه العزيز: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279]. فالمسلم يفقه الشروط الشرعية في البيوع، ولا يبيع بيعتين في بيعة، ولا يقول لشخص: أبيعك على أن تأجرني، ولا أؤجرك على أن تشركني في العمل الفلاني، ولا يأخذ فائدة مقابل قرض أبداً، ولا يقول: أقرضك على أن تزوجني، وكذلك فإنه لا يبخس الناس حقوقهم، ولا يغش ولا يدلس ولا يحلف على الكذب، فلا يخفي عيوب سيارة إذا أراد بيعها، بل يبين كل ما فيها، والمسلم إذا أقرض فإنما يبتغي بعمله وجه الله والدار الآخرة والثواب والأجر من الله عز وجل، لا يريد زيادة ولا منفعة، وإذا أراد فلسان حاله كما قال المؤمنون عند الإطعام: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً} [الإنسان:9] إنه يريد بقرضه الحديث الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلمٍ يُقرض مسلماً قرضاً مرتين إلا كان كصدقة مرة) فلو أقرضت عشرة آلاف لشخص ثم استرددتها منه؛ فإنك تكون قد تصدقت بخمسة آلاف. وهكذا فإن المسلم يبتغي بإقراض المحتاج الأجر الذي في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من نفَّس عن مسلم كربة من كرب الدنيا؛ نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة) وكذلك إذا اقترض من شخص اجتهد في رد المال في الوقت إذا حدد له وقتاً.

أداء الأمانة

أداء الأمانة المسلم يؤدي الأمانة ولا يأخذ أموال الناس يريد إتلافها؛ لأنه يعلم العقوبة أن الله سيتلفه، ولا ليبدد الأموال في الأسفار المحرمات ثم يقول: ليس عندي ما أرده إليك وإنما يقترض للحاجة وينوي الرد ولا يماطل ولا يكذب ولا يتهرب من المواعيد ويسعى لأجل إخلاص الرد على الوجه المطلوب، وهو يتذكر أن رجلاً ممن كان قبله اقترض وعبر البحر وسعى في عمل، فلما جاء وقت السداد وهو في الساحل الآخر لم يجد سفينة يأتي عليها ليسدد حسب الموعد، فأخذ خشبة فنقرها ووضع فيها المال ورماها وهو يدعو الله عز وجل أن يُبلغها لصاحبه، فلما علم الله ما في قلبه من الصدق والحرص على أداء الأمانة، لم يُقدر عز وجل للجذع أن يغرق، ولا للمال أن يتفرق ولا للخشبة أن تضيع في الأمواج ولا أن تذهب إلى ساحل آخر ولا أن يلتقطها رجل آخر؛ بل قدر الله عز وجل أن تتهدى تلك الخشبة على سطح الماء، لتصل إلى صاحب المال الذي خرج في وقت وصولها إلى الساحل بقدر من الله عز وجل، فيأخذها حطباً لأهله ثم ينشرها ليجد المال فيها، وهكذا صدق المسلم في التعامل هو الذي يؤدي إلى بلوغ النتيجة وحصول الأمنية وبراءة الذمة. إن المسلم لا يبيع بيتاً مرهوناً إلا بموافقة المرتهن، ولا يأخذ مقابلاً على كفالة؛ لأن الكفالة عقد إحسان يبتغي به وجه الله، فإذا أراد أن يأخذ شيئاً من مكفوله؛ فإنه يأخذه أجرة لشيء يؤجره إياه حقيقة، أو يشاركه فيه حقيقة، وكذلك فإن المسلم لا يتوكل في أمر لا في محاماة ولا في غير ذلك من أنواع الوكالات إلا وهو يعلم أن القضية التي يوكل فيها مباحة وأن التوكيل ليس من ظالم يريد أن ينتزع به حق امرئ مسلم، وكذلك فإن المسلم يسعى في الصلح بين المسلمين، يرجو ثواب الله الوارد في كتاب الله: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:114]. والمسلم إذا عُرض عليه صلح يقبله ولا يتعنت ولا يعاند ولا يكابر، بل يتنازل كل طرف عن شيء من الحق ليحصل الصلح؛ لأن الله ندب إليه وأراده وقال لعباده المؤمنين: (وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ) [الأنفال:1] فهو يتنازل عن شيء من الدين أو شيء من الدية، أو شيء من حقوق الشراكة لتصلح الأمور ويفعل ذلك ابتغاء وجه الله. وكذلك فإن المسلم إذا استعار شيئاً، وقد انتهت المدة أو انتهت حاجته إليه حافظ عليه وحفظه ورده؛ لأن الله قال في كتابه: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون:1 - 7] فيمنعون الماعون الذي استعاروه، والأدوات التي اقترضوها، إنهم بمنعهم هذه العارية من إعادتها لأهلها، استحقوا الويل الذي هدد الله به فقال في أول السورة: (فويل). أيها المسلمون: ألا فليتق الله الناس الذين يستعيرون سيارات إخوانهم، ثم لا يرقبون فيها حق العارية ويستعير الشيء فيرده تالفاً أو يرده ناقصاً، أو يرده وهو لا يشتغل، كيف يعمل هذا والله يقول: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ} [الرحمن:60] فإذا أتلف المسلم شيئاً أو أحد أولاده؛ فإنه يلزمه أن يرد ثمنه إلى صاحب المال يرد مثله أو يرد قيمته أو يطلب المسامحة ولا يترك الأمور ليوم القيامة ليوم لا دينار فيه ولا درهم. إن المسلم يا عباد الله! إذا استودع شيئاً حفظه، إن الأمانة إذا أودعت عندك فإنك تقوم بحقها يا عبد الله! ابتغاء الأجر من الله وتؤديها امتثالاً لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58]. إذا أعطي المسلم زكاة أو صدقة أو تبرعات ليُوصلها إلى جهة معينة؛ فإنه مؤتمن عليها، يوصلها ولا يجوز له أن يتصرف فيها، فلا يجوز لمسلم أبداً أن يقترض من أموال الزكاة أو الصدقات أو التبرعات المودعة عنده، فلو أودع شخص عندك أمانة، فلا يجوز لك أن تقترض منها، ولو قلت أوفيها في آخر الشهر، والراتب مضمون، ف A لا يمكن أبداً أن تتصرف في الأمانة التي عندك، لا تقترض منها ولا تقرض منها أبداً إلا بموافقة صاحب الأمانة الذي استودعها عندك؛ لأن الأمانات والأموال المعطاة لصرفها لجهة معينة لا يجوز استعمالها، وإنما تُصرف إلى من وكل الإنسانُ بصرفه إليه. إن أمانة المسلم تفرض عليه أنه إذا لقي شيئاً ذا قيمة فالتقطه بأن يقوم بتعريفه والإعلان عنه بكل وسيلة ممكنة في حدود المستطاع، فإذا لم يقو على التعريف فلا يلتقط شيئاً أصلاً، وهو لا يستطيع أن يقوم بأمانة التعريف والإعلان. عباد الله! إن هذه الأمور تميز المسلم في تعاملاته وفي معاملاته وفيما يعمل به خلق الله عز وجل، كما أنه أمين ومخلص في طهارته وصلاته وإخراج زكاته وحفظ صيامه وحجه وذكره ودعائه وتسبيحه وتلاوته؛ فإنه كذلك يفقه ويخلص ويصدق في معاملاته فيما بينه وبين الخلق. وللموضوع تتمة. ونسأل الله عز وجل أن يبارك لنا فيما آتانا وأن يغنينا بحلاله عن حرامه، وأن يكفينا بفضله عمن سواه إنه سميع مجيب قريب. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الشيشان آيات وعبر

الشيشان آيات وعبر الحمد لله وسبحان الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله البشير والنذير والسراج المنير، والرحمة المهداة صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اقتفى هداه. عباد الله: أيها المسلمون! إن قلوبنا مع إخواننا المسلمين في كل مكان، وإن المسلم من خلال عقيدة الولاء للمؤمنين مرتبط قلبياً بإخوانه في الأرض يعيش آلامهم وآمالهم وأحزانهم وأفراحهم، (المسلمون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى). إن مما تُؤجر عليه يا عبد الله! أن تفرح لنصر المسلمين وأن تحزن لما أصاب المسلمين، هذه مشاعر نؤجر عليها وهي من أدلة الإيمان في القلب. عباد الله: أيها المسلمون! إن الأخبار العجيبة التي تأتي من بلاد الشيشان فيها آيات وعبر مما أقامه الله تعالى لنا من الأدلة والبراهين في هذا الوقت الذي ضعف فيه المسلمون واستذلهم الكفرة، ولكن الله يُجري في أرضه أقداراً تعيد إلى المسلم أموراً كثيرةً طالما غابت عن المشهد وعن المشاعر، وآخر أخبار الساعات الماضية أن القوات الروسية التي حاولت دخول جروزني قد ردت على أعقابها بالرغم من تقدم أرتال الدبابات وقصف المروحيات على المباني التي يتحصن فيها المجاهدون الشيشان، وكان الجنود الروس يتساقطون كالذباب برصاص القناصة المسلمين، وقد سقط في أسر المجاهدين الكافر المشرك الجنرال ميخائيل ملوفيف قائد القوات الروسية المهاجمة لـ جروزني، فيما اعتبر نكسة خطيرة للروس وهزيمة معنوية كبيرة؛ أن قائد قواتهم المهاجم للبلدة يسقط أسيراً بأيدي المسلمين. والله عز وجل يذل من يشاء ويعز من يشاء، أليس عجيباً جداً أيها الإخوة! صمود المجاهدين المسلمين الذين لا يتعدى عددهم ألوفاً قليلة أمام نحو مائة وخمسين ألف جندي روسي؟! أليس عجيباً جداً بسالة المجاهدين المسلمين في الشيشان ومقاومتهم وهم يمطرون صباح مساء بقنابل متعددة! بعضها وزنها طن وبأسلحة كيميائية ممنوعة دولياً، وكذلك براجمات الصواريخ وحتى صواريخ أسكود وقصف المروحيات الوحشي وقصف مدافع الدبابات والآلة العسكرية الروسية ومع ذلك يصمد المسلمون، أليس عجيباً أن يتحدث المحللون والخبراء العسكريون الغربيون بإعجاب عن التكتيكات العسكرية الناجحة للمجاهدين المسلمين وابتكاراتهم في استدراج المدرعات الروسية إلى الشوارع الضيقة ثم مهاجمتها من فرق ثلاثية تضم قناصاً وحامل (آربيجي) ومقاتلاً بمدفع رشاش! وكذلك تكتيك الكر والفر ومهاجمة المدن التي يحتلها الروس وإيقاع أفدح الخسائر بهم ومن ثم الانسحاب! وكذلك تغيير مواقع الوحدات المدافعة عن جروزني تحسباً للقصف الروسي! أليس عجيباً جداً أن تصمد عاصمة المسلمين طوال هذه المدة مكذبة كل المواعيد التي حددها كبار الساسة والعسكريين الروس، هذا مع أن المدنيين المسلمين في العاصمة لا يستطيعون الخروج من الملاجئ لدفن أي قتيل من غزارة القصف الروسي والغارات الجوية المستمرة على مدار الساعة، وقد أخبر بعض الفارين من المدينة أن بعض الناس قد صاروا هياكل، أي: جلداً على عظم من الهزال والمجاعة من جراء الحصار وحتى لو انسحب المجاهدون من جروزني؛ فسيجد الروس من العمليات في المناطق الجبلية وغيرها ما سيعانون منه معاناة عظيمة، إلى أن يخرجوا مطرودين إن شاء الله شر طردة من بلاد الشيشان، لقد أيد الله المجاهدين في الشيشان بصدقهم وبلائهم ودعاء ملايين المسلمين لهم في أنحاء العالم، وقد ظهرت آثار أدعية قنوت رمضان بهذا الصمود العجيب الذي نراه، وهذه الخسائر الفادحة التي نزلت بالروس الشيوعيين والنصارى، فبعض الروس قد اعترفوا بثلاثة آلاف قتيل، ولكن بعض الأنباء تفيد بأن قتلاهم لا يقلون عن عشرة آلاف، هؤلاء الذين اصطبغ الثلج بلون دمائهم بينما قدم المسلمون مئات من المقاتلين وآلافاً من المدنيين العزل، فيمن نسأل الله أن يجعلهم شهداء يوم القيامة. لقد أرسل الله جنوده: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} [المدثر:31] أرسل على الروس صقيعاً، وتعاني عدد من وحداتهم جوعاً، حتى باعوا أسلحتهم للمجاهدين، ومن يصدق أن الله يأتي بضباب يلف مدينة آرجن المحتلة حتى تدخل إليها وحدات المجاهدين، فتضرب الروس ضربات موجعة وخسائر فادحة، ثم تنسحب ومن يصدق في غمرة هذا الضباب، أن بعض الوحدات الروسية من المشاة الذين انسحبوا في هذا الضباب قد سقطوا في هاوية سحيقة، وهم ينسحبون وأهلكهم الله عز وجل، وألقى الله الرعب في قلوب أعدائه، وتنازع ساستهم وعسكريوهم، ولعن بعضهم بعضاً، وأُقيل من أقيل وتضاربت مصالحهم، وأرسل الله عليهم الارتباك فقصفت بعض الوحدات الروسية بعضها في عدد من المرات، وحلّ في بعضهم أمراض معدية، وأصاب بعض صواريخهم بعضاً وانفجرت دباباتهم بنيرانهم هم. أيها المسلمون: لو صدق المسلمون الله عز وجل فهل يقف في طريقهم أحد؟! هل يمكن ليهود أو نصارى أو غيرهم من أعداء الإسلام أن يقفوا ولو كانت أعداد المسلمين أقل، أو عدتهم أقل، هذا مثال عملي يضربه الله تعالى لنا في بلاد الشيشان قليلة العدد والعدة وسلاح المجاهدين من غنائم العدو. إذاً أيها الإخوة: الصدق مع الله والثبات على الدين هو السبب الأول للنصر والجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة، وهذه أمثلة على مُضي الجهاد واستمراره، دالة على صدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخبر، ومما ينبغي له سجدة شكر والشيء بالشيء يُذكر مقتل أركان قائد وحدات النمور الصربية الذي عاث هو ومقاتلوه في أرض المسلمين فساداً في البوسنة وكوسوفا، وأرداه الله في عز ثروته من الشركات التجارية وفي الفندق الفخم الذي كان يسهر فيه، وترملت المغنية المشهورة والممثلة التي تزوجها، ونسأل الله له أشد العذاب. اللهم إنا نسألك أن تنصر المجاهدين وأن تُعلي كلمة الدين، اللهم عجل فرج المسلمين، اللهم انصر الإسلام وأهله.

كيف نتعامل مع الناس [2]؟

كيف نتعامل مع الناس [2]؟ في هذه الخطبة تكلم الشيخ عن كثير من الأحكام المتعلقة بمعاملات الناس فيما بينهم، فتحدث عن الأعطية وما ينبغي فيها، والوصية وأحكامها، والنكاح وآدابه، ثم عرج على الأسرة وحال الآباء مع الأبناء، ثم معاملة الرجل لزوجته وحال الآباء مع البنات، ثم ذكر كثيراً من الأحكام الأخرى في الشرع، وفي الأخير وضح بعض المعالم المستفادة من واقع الجهاد في الشيشان.

مظاهر صدق معاملتنا مع الآخرين

مظاهر صدق معاملتنا مع الآخرين الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. عباد الله: إن المؤمن يخاف ربه في علاقته معه، وكذلك يخاف ربه في علاقته مع الناس، وقد سبق الحديث عن شيء من الأمثلة في خوف المسلم من ربه في تعامله مع الخلق، والله سبحانه وتعالى يحاسبنا على علاقتنا فيما بيننا، بناءً على هذه الحقوق التي أوجبها لبعضنا على بعض وجعلها أحكاماً بين المسلمين.

أحكام الأعطية

أحكام الأعطية ومن ذلك أن المسلم إذا أعطى أحداً عطية ليس فيها معصية، فلا يرجع في عطيته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم شبه ذلك بأشنع الصور وأقبحها فقال (العائد في هبته كالكلب يقيئ ثم يعود في قيئه). وقال عليه الصلاة والسلام مستثنياً واحداً من هذا، قال: (لا يحل للرجل أن يُعطي العطية فيرجع فيها، إلا الوالد فيما يعطي ولده) رواه الخمسة وصححه الترمذي. وعلى الوالد أن يعدل في العطية بين أولاده كما ذكر كثير من العلماء: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11] على قاعدة الشريعة في الميراث والعقيقة والشهادة وغير ذلك، فلا يُعطي أحداً من أولاده عطية دون الآخرين بدون مبرر وسبب شرعي، فأما إذا قامت بواحد من الأولاد حاجة ليست عند الآخرين، كمرض أو فقر أو دين أعطاه لسد حاجته.

أحكام الوصية

أحكام الوصية والمسلم كذلك لا يضر في وصيته، فلا يزيد على الثلث ولا يُوصي لوارث؛ لأنه لا وصية لوارث أبدًا، فإن الله قد أعطاهم حقوقهم وبيّن أنصبتهم وحظوظهم، فلا يجوز لأحد أن يُوصي لوارثه، وكذلك لا يجوز حرمان وارث؛ لأن الله تعالى قال في كتابه: {غَيْرَ مُضَارٍّ} [النساء:12]، وقال ابن عباس رضي الله عنه: الإضرار في الوصية من الكبائر، وإذا قام المسلم على وصية مسلم أنفذها وقام بالأمانة فيها، فيُخرج حقوق الله أولاً من زكاة أو كفارات أو نذور لم يُخرجها الميت، ثم يخرج حقوق الآدميين من الديون وغيرها، وينفذ ما أوصى به الميت إن كان قد أوصى بشيء، وعلى الإخوان الكبار ألا يبخسوا إخوانهم الصغار حقوقهم، وألا يتعدى الذكر على الأنثى، فيأخذ حقها كما يفعل عدد من الأبناء إذا مات أحد الأبوين مثلاً، وبعضهم يقسم قسمة جاهلية، كما يفعلونه بتركة الأمهات فيكون المال والسيولة للذكور والذهب للإناث: {تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى} [النجم:22] وإنما يقسم الجميع كما أمر الله سبحانه وتعالى. عباد الله: ما الذي يحمل المسلم على إنفاذ الوصية؟ ما الذي يحمله على أن يأتي بها على الوجه الذي أرادها الموصي دون زيادة ولا نقصان؟ إنه الخوف من عذاب الله: (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ) [البقرة:181] وانظر إلى الوعيد الذي ذكره الله عز وجل بعد أن بيَّن قسمة المواريث فقال عز وجل: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء:13 - 14].

أحكام النكاح

أحكام النكاح أيها المسلمون: إن المسلم يخاف الله فيسعى للنكاح إذا خشي على نفسه الحرام، ويجتهد لذلك بكل سبيل وطريقة مبتغياً العفة وتنفيذ ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم، فليتزوج ولا يُخفي أي من الطرفين ما يجب أخبار الطرف الآخر به من العيوب، والمكر والخديعة في النار. ولا يُمنع المسلم الخاطب الجاد من حقه في رؤية المخطوبة؛ لأجل عادات جاهلية، وأعراف لم ينزل الله بها من سلطان، وإنما يُعطي المسلم الحق لأهله، ويُمَكن الطرفين من رؤية بعضهما بالحلال، والعجب كل العجب ممن يسمح لابنته أن تخرج سافرة في الأسواق والشوارع وبين الرجال، ويتغاضى عن هذا العمل المحرم، ثم إذا أراد الخاطب رؤيتها بما شرع الله تمنع من ذلك وتشدد فيه. والمسلم كذلك يفي بشروط النكاح؛ لأن نبيه صلى الله عليه وسلم قال: (المسلمون على شروطهم) وقال: (إن أحق ما وفيتم به من الشروط ما استحللتم به الفروج) والمسلم لا يُغلي مهراً؛ ليرهق الزوج ولا يأخذ من البنت ما تحتاج من الصداق، لأن الله قال: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ} [النساء:4]. وكذلك فإن المسلم يُعاشر زوجته بالمعروف؛ امتثالاً لأمر الله وعاشروهن بالمعروف، فيؤدي حقها في النفقة والسكنى والمبيت وعدم المضارة وعدم الإيذاء فلا يسبها ولا يشتم أهلها، بل يُحسن عشرتها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث العطف في نفسه عندما قال له (فإنهن عوانٍ عندكم) أي: أسيرات فإذا كانت أسيرة في بيتك لا يكاد يوجد لها حول ولا قوة. ولا تخرج إلا بإذنك، فإن من حقها عليك أن تُحسن عشرتها ما دام الشارع قد جعلها تحت سلطانك، هذا الكلام رغم أنف الذين يريدون اليوم أن يصدروا قوانين يزعمون أنها لتحرير المرأة أو لمصلحة المرأة فتسافر بغير إذن زوجها، هكذا يريدون الانحلال، وأن تكون القضية انفلات الأسرة، وأن تخرج المرأة متى ما تريد، وأن تسافر متى ما تريد، وأن تُطلق نفسها متى ما تريد. ولذلك فإن المسلمين الصادقين تنبعث في نفوسهم المقاومة لهذه التيارات التي تريد اليوم أن تحطم مجتمعات المسلمين باسم تحرير المرأة، وإعطاء المرأة حقوقها، فهم يريدون أن يسنوا القوانين لإعطاء المرأة حقوقها وكأن الله لم يعطها حقوقها، ولم يُنزل قوانين من السماء! فلماذا سنوا القوانين إذا كانت هذه الشريعة موجودة وقوانينها موجودة؟! ألم يكن الأجدر بهم أن يقولوا: هذه الشريعة نحكمها، وهذه قوانين الرب نرجع إليها بدلاً من سن القوانين الجاهلية التي تريد كسر قوامة الرجل على زوجته؟! انتبهوا أيها المسلمون: كسر القوامة ذلك الوتر الذي يريد أن يلعب عليه هؤلاء؛ لأن قوامة الرجل إذا انكسرت عم الفساد وطم وهكذا تتنقل القضية، ولكن بحمد الله يوجد دائماً في الأمة من يقوم لله بالحجة ومن يُنكر ويعترض ويبين، ولذلك فإن مقاومة الفساد والانحلال واجب على المسلمين جميعاً، وإعلان الإنكار لأي محاولة من أولئك العابثين بشرف المسلمين وعفتهم وطهرهم، يجب أن تتوالى هذه المحاولات وهذه الإنكارات لإبقاء مجتمع الإسلام موافقاً لشريعة الله عز وجل، سواء الذي شرعه في العبادات أو في المعاملات بين الزوجين، أو بين المبتاعين وبين غير ذلك من أحوال المجتمع كافة. عباد الله! إن المسلم لا يكره زوجته إلا لأمر شرعي ولو كرهها لشيء من خُلقها فليصبر؛ لأن الله ندب إلى ذلك فقال: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء:19] وربما رزق منها بولد فجعل الله فيه خيراً كثيراً، كما ذكر ابن عباس رضي الله تعالى عنه، والمسلم يحافظ على زوجته ويصونها في حجابها وخروجها، ولا يسافر بها إلى أماكن المعصية، ولا يُرغمها على رؤية ما حرم الله، ويحفظها من أماكن المنكرات ومن التشبه بالكافرات.

حال الآباء مع الأبناء

حال الآباء مع الأبناء عباد الله: إن المصيبة فادحة برجال قد جلبوا هذا الدش أو هذه الصحون الفضائية وهذه الأطباق إلى بيوتهم، ثم تتوالى علينا القنوات الجنسية، والذي كان لا يأتي إلا بأجهزة خاصة أو بالتشفير صار يأتي الآن بغير تشفير، وإذا كانت قناة صارت أربعاً ثم صارت عشراً وهكذا تتوالى هذه القنوات الإباحية بالمجان، وقد اكتشف بعض الآباء والأمهات أولادهم في أثناء غيابهم قد فتحوا على هذه المحطات، إلى متى ننتظر إذاً ونحن نترك وسيلة الفساد العظمى في البيوت تعمل عملها في أبنائنا وبناتنا وأنفسنا؟! يا عباد الله! إن اليهود يريدون انحلالاً كاملاً وعرضاً للعورات المكشوفة على الملأ، يريدون أن يعم الانحلال في العالم ليركبوا الحمير عند ذلك بزعمهم، فإن الناس إذا كانوا بغير دين وخلق؛ صاروا كالبهائم أو أحط من البهائم، فعند ذلك يركبهم اليهود. فهل يتفطن المسلمون الذين يجلبون هذه الأطباق الفضائية إلى بيوتهم إلى الخطر الداهم الذي يتهدد أبناءهم، وبناتهم وزوجاتهم وأنفسهم بهذه الشرور. وإذا كان أول ما جاء لم يكن فيه هذه القنوات الجنسية، فقد صارت الآن فما هو موقفك يا عبد الله؟! هل تقبل مسلسل الإفساد بالتدريج، هل تنطلي عليك القضية؟ هل يتبلد الحس أمام المنكر؟ هل تُبقي هذا المفسد في بيتك وأنت تعلم أن الله عز وجل سائلك عما استرعاك وأي تضييع أعظم من أن يذر المسلم في بيته وسيلة الإفساد تبث سمومها وشرورها بتلك الألوان والجاذبيات وأنواع المناظر على مرأى من بناته وأبنائه من هؤلاء الشباب والمراهقين، بل حتى الصغار الذين صاروا يطلعون على مناظر أرعبت بعضهم، فصاروا يرتجفون من هول ما رأوا وربما أفسدت البعض الآخر الذين انطلقوا يبحثون عن هذه الماهيات ويدققون فيما رأوا. عباد الله! قليلاً من العودة، قليلاً من التفكير، إننا نحتاج إلى تدبر في الحال، إننا نحتاج إلى وقفة نقف بها أمام هذا التيار الهادر وأمام هذا الإعصار الذي يعصف بديننا وأخلاقنا وعفتنا.

معاملة الرجل لزوجته

معاملة الرجل لزوجته عباد الله: كيف برجل يفتح هذا الجهاز ثم ينادي زوجته لكي تجلس معه، فإذا تأبت ورفضت تلك المرأة التي فيها دين وعفة، قال: إما أن تجلسي وإما أن تذهبي، فإذا أرادت أن تجلس مع زوجها بعدما عاد من العمل، لم يكن إلا هذا الخيار الذي هو من المرارة بمكان، ثم الخيار الآخر فتنصرف كسيفة البال حزينة، فإما أن تجلس وزوجها يرى المنكر وهي تحترق، وإما أن تنصرف فلا جلوس ولا حديث مع الزوج الذي وضع أمامها هذا الخيار. عباد الله! أين تقوى لله؟! عباد الله! أين الخوف من الله؟! عباد الله! أين الذين يخافون اليوم الآخر؟! يا أيها المسلم! يا عبد الله! اتق الله في نفسك وأهلك وزوجك وبيتك وأولادك! والزوج المسلم يرعى حق زوجته حتى في الفراش فلا يطأها في حيضها ولا يأتيها في دبرها. ويأمرها بالصلاة امتثالاً لأمر الله: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه:132] ويأمرها بغسل الجنابة لأجل إدراك الصلاة وخصوصاً صلاة الفجر، ولا يظلمها حقها في المبيت ويراعي العدل بين الزوجات إن كان لديه أكثر من زوجة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن من لم يراعِ ذلك، يأتي يوم القيامة وشقه مائلة وقد قال الله: {فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء:129]. وكذلك فإن الزوج المسلم لا يمنع زوجته من صلة رحمها، وهو ينفق عليها وعلى أولاده، ولا يلعب المسلم بطلاق، ولا يهزل فيه أبداً؛ فإنه أمر عظيم، ألا فليتق الله من يطلق بالثلاث دفعة واحدة، أو من يطلق في حيض أو يُطلق في طهر أتاها فيه، وأعظم من ذلك الذي يسكر ويطلق، ويشرب الخمر ويشرب الحرام الذي حرمه الله من فوق سبع سماوات، ألا فليتقِ الله الرجل الذي كلما أراد أن يلزم شخصاً بشيء حلف عليه بالطلاق، لا تلعبوا بكتاب الله، لا تلعبوا بأحكام الله، فارعوها حق رعايتها، ثم هذا يقول لزوجته: أنت عليّ مثل أمي أنت كأمي إن لم تفعلي كذا ونحو ذلك، ألا إنه منكر من القول وزور كما قال الله عز وجل: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنْ الْقَوْلِ وَزُوراً} [المجادلة:2].

حال الأبناء مع البنات

حال الأبناء مع البنات وكذلك فإن الأب المسلم لا يمنع ابنته من الرجوع إلى زوجها إذا طلقها وصارت في عدة الطلاق الرجعي؛ لأن الله قال: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة:228]. والأب المسلم لا ينزع الولد من حضانة أمه ولا يمنعها من رضاعه؛ لأن الله قال: لا تضار والدة بولدها، وهو يُنفق على أولاده امتثالاً لأمر الله الذي قال: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق:7] آلمتني قصة سمعتها من رجل لما طُلقت ابنته وردت إلى بيته قال لها: لا تحسبي أنكِ تجلسي معنا في البيت مجاناً، عليك أن تواصلي العمل وأن تدفعي لي شهراً ألفاً وخمسمائة، وبعضهم يجبر ابنته على العمل لأخذ راتبها وربما رفض زواجها أصلاً؛ ليجعلها مصدر دخل له، أين الشهامة؟! أين الرجولة؟! أين المروءة؟! أين الإنفاق الذي أمر الله به الرجال؟!

المسلم لا يأكل إلا الطيبات

المسلم لا يأكل إلا الطيبات والمسلم لا يأكل إلا الطيبات ويرعى ما يدخل في بطنه؛ لأن أول ما ينتن من الإنسان في قبره بطنه، ويراعي قول الله: {كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً} [البقرة:169] فلا يشرب خمراً ولا يتعاطى حشيشة ولادخاناً خبيثاً، وينتبه لمكر الكفار في الطعام والحلويات وغيرها في جعل الخنزير والميتة والخمر.

المسلم يحفظ اليمين ولا يحلف إلا بالله

المسلم يحفظ اليمين ولا يحلف إلا بالله عباد الله: إن المسلم يحفظ يمينه فلا يكثر الحلف؛ لأن الله ذم ذلك، فقال: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ} [القلم:10] فليتق الله رجالٌ الحلف على طرف ألسنتهم، كلما رفعوا شيئاً أو وضعوه أو حركوا ساكناً سبق اليمين إلى لسانه، أين توقير الله عز وجل؟ {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} [نوح:13]. وليتق الله الذين يحلفون بغير الله: (ليس منا من حلف بالأمانة) فلا يحلف المسلم بأي معظم، لا بالكعبة ولا برأس أبيه، ولا حياة أولاده، وإنما يحلف بالله العظيم؛ إذا أراد أن يحلف على الأمر المهم الذي يحتاج إلى القسم واليمين.

مراقبة الله في الشهادة

مراقبة الله في الشهادة وكذلك فإن المسلم يراقب الله في الشهادة التي يشهدها، فهو لا يشهد إلا بعلمٍ فيقول كما يقول الله: {وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا} [يوسف:81] ويقيم الشهادة لله عز وجل خالصة، لا يريد من وراء الشهادة جزاء ولا شكوراً ولا مطمعاً دنيوياً فضلاً عن أن يشهد على زور؛ لأن ربه قال في الكتاب العزيز: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق:2] وإذا دُعي حضر كما قال الله: {وَلا يَأْبَى الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة:282]. ولذلك قال العلماء: الشهادة فرض كفاية ولا يكتم الشهادة إذا تعينت عليه: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة:283] ويشترط للوجوب عليه انتفاء الضرر؛ لأن الله قال: (وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ) [البقرة:282] فلنحذر من الذين يتسرعون في الشهادة، فلا تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته.

توقير القضاء وأهله

توقير القضاء وأهله عباد الله: إن المسلم يُوقر مجالس القضاء، فلا يزدري القاضي ولا يتهجم عليه، بل إنه يحترم ذلك المجلس؛ لأنه سيحكم فيه بشريعة الله عز وجل، فهذا أوان حضور الخصوم بين الذي سيقضي فيهم بالشريعة ولذلك كان توقير القاضي الذي يحكم بالشريعة من توقير الشريعة، ومن توقير الدين الذي هو من توقير الله عز وجل. اللهم إنا نسألك أن تجعلنا ممن استقاموا على شريعتك، اللهم اجعلنا ممن تمسكوا بدينك، اللهم اجعلنا ممن أقاموا الدين في حياتهم، ولا تجعلنا ممن تعدوا حدودك، ولا انتهكوا حرماتك إنك أنت الرحمن الرحيم. أقول قولي هذا وأستغفر الله، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

معالم في الجهاد على أرض الشيشان

معالم في الجهاد على أرض الشيشان

تعري الكفر وأهله

تعري الكفر وأهله عباد الله: ولا يزال لواء الجهاد قائماً في أرض الشيشان، ولا شك أن في ذلك رفعة لأهل الإسلام، ولا شك أن انتصار أولئك المسلمين وصمودهم انتصار في حد ذاته ورفع لرءوس أهل الإسلام في الأرض قاطبة، وتتبين من هذه المعارك أمور كثيرة للإنسان المسلم، فيتعرى الكفر وأهله، هؤلاء الكفار الذين لبسوا على المسلمين طويلا، وادعوا بأنهم أهل العدل وبأنهم يقيمونه وبأنهم يحاكمون المجرمين في محاكم العدل الدولية وغيرها، هؤلاء الذين يدعون إلى المواثيق الأممية التي تحفظ حق الشعوب، قد انكشفوا في هذا المسلسل الذي يحدث في بلاد الشيشان وغيرها، نرى اجتماع الكفار على حرب الإسلام سواء مباشرة بالسلاح واليد كما يفعل الروس، أو بالمال كما يمدهم اليهود صراحة ويآزرونهم معنوياً، فاليهود يقفون مع الروس في حرب الشيشان، وأولئك الكفار الذين يبذلون لهم الغِطاء المعنوي، والذين يعطونهم المهلة تلو المهلة والتأجيل تلو التأجيل في العقوبات وتعليق العضوية وغيرها، إنه انكشاف حقيقي للوجه القبيح، وليس للكفار وجه حسن، وكل وجوههم قبيحة، هذه الوجوه التي أسفرت عن حرب المسلمين في هذه المعركة التي نشهدها.

كذب الروس

كذب الروس عباد الله: وقد انكشف فيما انكشف أمام الملأ كذب أعداء الله الروس، فهم الذين قالوا: سنسحقهم في أيام وليالٍ، فإذا بالحرب تمتد شهوراً وهم الذين قالوا: إن في جروزني بضع مئات من الصبيان والمتعصبين، فإذا بهم يقولون الآن: إن فيها ثلاثة آلاف من خيرة المقاتلين المدربين وأصحاب الخبرات، إن هذه الحرب تكشف عن تفاهة أولئك القوم الذين يتحدثون عن الصبي الكوبي الذي يملئون به وسائل أعلامهم، وصبيان المسلمين تحت القصف والنيران في الشيشان وتحت المجاعة والأوبئة كالسل الرئوي وغيره في أنجوشيا، فأين عقول أولئك القوم وأين الموازين التي يدعون إليها؟! إن القضية قد كشفت حقيقةً على أن في العالم فراغاً في القيادة لا يحله ولا يملؤه إلا أهل الإسلام.

النصر من عند الله

النصر من عند الله عباد الله: إن القضية قد كشفت فيما كشفت أيضاً أموراً من النصر وقواعده التي جاءت في كتاب الله عز وجل، لقد تبين بجلاء قول الله تعالى: {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران:126] تبين في حال أولئك الشيشانيين الذين يقاتلون شبه منفردين بإمكاناتهم الذاتية خصوصاً وهم في قلب الحصار في عاصمتهم وفي غيرها، من الذي يمدهم الآن وهم في حصارهم إلا الله عز وجل: {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران:126] لقد تبين أن من نصر الله نصره الله: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد:7] وهم على ما فيهم من قصور؛ فإن الله عز وجل قد أنزل عليهم تثبيتاً من عنده، فكيف إذا عاد المسلمون إلى الدين حقيقة، ونفوا أنواع القصور وبدلوا ذلك بأنواع من الأسباب الشرعية إذاً لاكتسحنا العالم.

النصر مع الصبر

النصر مع الصبر عباد الله: لقد تبين أيضاً القاعدة التي وضعها النبي صلى الله عليه وسلم: (إن النصر مع الصبر) وهكذا صبروا فنصرهم الله في مواطن ومواقع كثيرة، وقد سبق أن صمود أولئك القلة في العدد والعُدد أمام أولئك الكثرة الكاثرة في العدد والعُدد هو نصر بحد ذاته، وكل يوم يمر على المسلمين في جروزني وهي تحت سيطرتهم، وهم يقاومون هو نصر بحد ذاته، نعم إن أولئك الروس الكفرة يريدون أن يزجوا بقوىً بشرية كثيرة حتى يئول الأمر إلى احتلال تدريجي؛ لأنهم يراهنون على أنه مهما قتّل الشيشان من البشر الذين يدفعونهم، فإن الكثرة في النهاية تغلب الشجاعة، ولكن الله عز وجل قادر على إفشال خططهم وأن يردهم خائبين ونسأل الله أن يفعل ذلك. عباد الله! ليس النصر على العدو بكثرة العدد ولا العُدد ولا إحكام الخطط ولا الترتيبات التي يضعها القادة، وإنما على ما ذكر الله بقوله: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:251] فإذن الله إذا جاء؛ لم يقف أمامه شيء البتة، ومن أخذ بأسباب النصر وتوكل على الله وصدق وأخلص؛ فإن الله عز وجل ينصره، وقد رأينا ذلك فعلاً في الواقع الذي يعيشه إخواننا في تلك البلاد، فهم الذين استردوا أربول وجديرمس ورفعوا رايتهم في وسط مدينة شالي بعد أن حاصروا مئات الوحدات الخاصة الروسية في ثلاثة من المباني وردوا الروس مرة أخرى إلى أطراف جروزني الآن في هذه اللحظات، والحمد لله رب العالمين. إن استمرار الانتصارات سيكون باعثاً للأمل في الأمة، وسيحرك في المسلم مناطق أخرى في العالم للجهاد والاستقلال عن الكفار ما دام النصر ممكناً وهذا ما يرعب الكفرة أشد الرعب، فلذلك يجتمعون بقضهم وقضيضهم على حرب الإسلام وأهله.

كشف المنافقين من الأمة

كشف المنافقين من الأمة وقد كشفت المعركة فيما كشفت المنافقين من هذه الأمة والصامتين والمكتوفين الذين لا يحركون شيئاً، فهذه الفضيحة قد حلت، ولذلك ربما تمنى بعض أولئك المنافقين أن ينتصر الروس فعلاً؛ لتنتهي تلك المقاومة فيستريحوا من ذلك الحصار النفسي. عباد الله: لا ننسى أن لدعاء المسلمين أثراً، وأن لإنفاقهم ومددهم لإخوانهم أثراً، والله عز وجل جعل المسلمين جسداً واحداً في شرعه هكذا: (إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر) ورغم تباعد ما بيننا وبينهم من البلدان والمسافات لكننا نواليهم: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71]. وكذلك ننبذ الكفرة ولو كانوا قريبين ونكرههم على قاعدة البراءة من الكفار، إن قضية الولاء والبراء تتضح أكثر فأكثر من خلال هذه الحروب، وهذه الأولوية للجهاد التي ينصبها الله في أماكن مختلفة من الأرض، وكلما غط المسلمون في سبات، أيقظهم الله بأمر جديد، ألا ترون أن المسلسل يتداعى، وأن القضية لا تتوقف فبعد البوسنة كوسوفا وكشمير وغير ذلك ثم الشيشان، وكلما نامت الأمة؛ أيقظها الله عز وجل بقضية جديدة، تبعث الأمل وتوقظ روح الجهاد وتحرك النفوس للبذل والعطاء والدعاء. إن المسلسل ينبئ أن القضية مقبلة على أمر عظيم وشيء كبير، والله يفعل ما يشاء: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة:253]. اللهم إنا نسألك النصر العاجل لإخواننا في الشيشان وفي غيرها من البلدان، اللهم أعزهم، اللهم وحد كلمتهم واجمع صفوفهم على التوحيد، وسدد رميتهم، اللهم قوِّهم وأنزل عليهم تثبيتاً من عندك.

لغتنا الجميلة هل نعود إليها [1]؟

لغتنا الجميلة هل نعود إليها [1]؟ لقد نزل القرآن الكريم باللغة العربية، وهي اللغة التي اختارها الله تعالى لنا أهل الإسلام، فلابد من الاهتمام بها والحرص على تعلمها وتعليمها للأجيال، إلا أن هناك ظاهرة تفشت في المجتمعات العربية، وهي ظاهرة الخلط بين العربية وغيرها، والتباهي المشين بحفظ غيرها من اللغات عند أبناء الإسلام.

اللغة العربية هي لغة القرآن

اللغة العربية هي لغة القرآن إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى أنزل علينا الكتاب باللغة العربية، فقال عز وجل: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت:3] أي: بُينّت معانيه وأحكمت أحكامه، قرآناً عربياً بيناً واضحاً، فمعانيه مفصلة، وألفاظه واضحةٌ غير مشكلة، أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير، فهو معجز في لفظه ومعناه {قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الزمر:28] نزل بلسان عربي مبين، لا اعوجاج فيه ولا انحراف ولا لبس، بل هو بيانٌ ووضوحٌ وبرهانٌ {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً} [طه:113]، {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:195] أنزل الله القرآن بلسان عربي فصيح لا لبس فيه ولا عيب {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً} [الرعد:37] محكماً معرباً، واضحاً جلياً مبيناً {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف:2].

سبب نزول القرآن باللغة العربية

سبب نزول القرآن باللغة العربية وذلك لأن لغة العرب أفصح اللغات وأبينها وأوسعها، وأكثرها تأديةً للمعاني التي تقوم بالنفوس، لا يضيق صدر العربي الفصيح أن يعبر عما فيه، فلهذا أنزل أشرف الكتب بأشرف اللغات على أشرف الرسل بسفارة أشرف الملائكة، وكان ذلك في أشرف بقاع الأرض، وابتدأ إنزاله في أشرف شهور السنة وهو رمضان، في أشرف ليالي العام في ليلة القدر، فكمل الكتاب من كل الوجوه {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:192 - 195] تكلم الله بالقرآن بالعربية حرفاً وصوتاً، وأنزله سبحانه وتعالى باللغة العربية، وتكلم به إلى جبريل، وأسمعه جبريل محمداً صلى الله عليه وسلم باللغة العربية، ولما اتهم الكفار محمداً صلى الله عليه وسلم بأنه أتى بالقرآن من نجار رومي بـ مكة نصراني تعلم منه القرآن، فقال الله رداً على هذه الفرية: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل:103] ذلك النصراني رومي لسانه أعجمي، وهذا لسانٌ عربيٌ مبينٌ، فكيف يخرج العربي المبين من فم رجل نصراني رومي؟!

نشأة اللغة العربية

نشأة اللغة العربية اللغة العربية كانت هي لغة الأقوام العرب الأولى، من العرب البائدة من عاد وثمود، والعرب الباقية من جرهم وقحطان وحمير، حتى ظهر إسماعيل عليه السلام، فصارت نقلة عظيمة في عالم اللغة العربية، فقد جاء في الحديث الصحيح في قصة إسماعيل لمّا ضرب جبريل الأرض، فنبع ماء زمزم، وجاءت قبيلة جرهم، ونزلوا عند أم إسماعيل، قال عليه الصلاة والسلام: (وشب الغلام) وفي رواية: (ونشأ إسماعيل بين ولدانهم، وتعلم العربية منهم) تعلم العربية من جرهم، ثم حدثت النقلة، فجاء في الحديث: (أول من فتق لسانه بالعربية المبينة إسماعيل عليه السلام) وجاء في حديث ابن عباس: (أول من نطق بالعربية إسماعيل عليه السلام) قال ابن حجر رحمه الله تعالى: وروى الزبير بن بكار في النسب من حديث علي بإسناد حسن: (أول من فتق الله لسانه بالعربية المبينة إسماعيل) وبهذا القيد يجمع بين الخبرين، فيكون بعد تعلمه أصل اللغة من جرهم ألهمه الله العربية الفصحى فنطق بها، ومن هنا قال بعض العلماء: إن اللغة العربية وحي. فإذاًَ تعلم إسماعيل أصل اللغة من جرهم، ثم ألهمه الله النطق بالعربية الفصحى، قال أهل السير: إن عربية إسماعيل أفصح من عربية يعرب وقحطان وجرهم، فصارت العربية على لسان إسماعيل العربية الفصحى بإلهام من الله تعالى، ثم حدثت النقلة العظيمة بنزول القرآن باللغة العربية، فبلغت اللغة أوجَّ مجدها وقمة عزها؛ حينما صارت لغة الإسلام ونزل بها القرآن، وتحدى الله فصحاء العرب أن يأتوا بمثله فعجزوا، وبسورة فعجزوا، وبآية فعجزوا، فنادى عليهم بالعجز إلى يوم الدين {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء:88]. ووجد العرب في القرآن ألفاظاً ووجوهاً من لغة لم يسمعوا بها من قبل، ولم تعرف إلا من القرآن. تكلم الله بالعربية، وأنزل القرآن بالعربية، وصارت هذه اللغة مقوماً أساسياً من مقومات وجود الأمة، صارت علامةً فارقة، وتمييزاً للأمة.

تعلم اللغة العربية

تعلُّم اللغة العربية قال شيخ الإسلام رحمه الله: اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرضٌ واجبٌ، فإن فهم الكتاب والسنة فرضٌ، ولا يفهمان إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ثم منها ما هو واجب على الأعيان؛ على كل واحد بعينه، ومنها ما هو واجب على الكفاية؛ على بعض الأمة دون الآخرين. وجاءت الآثار عن السلف بتعلم اللغة العربية وإعراب القرآن وأمرنا بتعلم اللغة العربية. وأجمع العلماء على أن معرفة النحو من شروط الاجتهاد، وحثُّوا على تعلمها، وقال بعض أهل العلم: من شروط المفتي أن يعرف من اللغة والنحو ما يعرف به مراد الله تعالى ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم في خطابهما، وقال بعض السلف: تعلموا النحو كما تتعلمون الفرائض والسنن. وقال النووي رحمه الله: وعلى طالب الحديث أن يتعلم من النحو واللغة ما يسلم به من اللحن والتصحيف، واللحن هو الخطأ، كنصب المرفوع ورفع المجرور ونحو ذلك. وقال الشعبي رحمه الله: النحو في العلم كالملح في الطعام لا يستغنى عنه. وكره الإمام أحمد -رحمه الله- أشد الكراهية تسمية الشهور بالفارسية، وهذا له وجهان كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: الوجه الأول: إذا لم يُعرف المعنى جاز أن يكون محرماً، واليوم يعرف الكثيرون أن أسماء بعض الشهور بلغة الأعاجم التي نستعملها في جميع الشركات، وبعض الشهور لها علاقة بأسماء الآلهة التي يعبدها الكفار، ومن هذا الباب منع العلماء الرقية بالأعجمية خوفاً أن يكون فيها شركٌ وما لا يجوز. الوجه الثاني: نهى الإمام أحمد -رحمه الله- عن تسمية الشهور بغير العربية، واستعمال الأسماء الأعجمية؛ كراهة أن يتعود الرجل النطق بغير العربية، فإن اللسان العربي شعار الإسلام وأهله، واللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميزون، وأمة الإسلام تتميز باللغة العربية، فإنها لغتها، ولغة كتابها، وشرح الكتاب والسنة بها. وقد تكلم الفقهاء في حكم الأذكار والأدعية في الصلاة بغير العربية، وفرقوا بين القادر والعاجز، قال شيخ الإسلام رحمه الله: وأما الخطاب بالأعجمية من غير حاجة في أسماء الناس والشهور، فهو منهيٌ عنه مع الجهل بالمعنى بلا ريب وكره الشافعي رحمه الله لمن يعرف العربية أن يسمي بغيرها وأن يتكلم بها خالطاً لها بغيرها وهذا الذي قاله الأئمة مأثورٌ عن الصحابة والتابعين، وقال عمر رضي الله عنه وأرضاه: [إياكم ورطانة الأعاجم، وأن تدخلوا على المشركين يوم عيدهم في كنائسهم] وسمع محمد بن سعد بن أبي وقاص قوماً يتكلمون بالفارسية، فقال: [ما بال المجوسية بعد الحنيفية؟ ٍ] جاء الله بالحنيفية وباللغة العربية، فما بالكم تستعملون اللغة المجوسية الفارسية بدلاً من الحنفية ولغتها اللغة العربية؟! وإسناده صحيح.

الخلط بين العربية وغيرها

الخلط بين العربية وغيرها هذا بيانٌ لما يقع فيه كثيرٌ من الناس اليوم من الكلام في مدارسهم ومكاتبهم وبيوتهم من لغة الأعاجم، والذين يتباهون بها، والذين يظنون أنهم يكونون في تقدم وحضارة إذا تكلموا بها، ثم إن المؤسف أن تجد هؤلاء يخلطون اللغة العربية باللغة الأعجمية خلطاً مقرفاً مقززاً مشوهاً للغة العربية، وقد يقول بعض الناس: إنها تصدر بغير قصد بعض الكلمات، قال شيخ الإسلام رحمه الله: جاء عن بعض السلف أنهم كانوا يتكلمون بالكلمة بعد الكلمة -أي: كلمات قليلة قد تدخل في عرض الكلام- من الأعجمية. فالكلمة بعد الكلمة من الأعجمية، ليس المقصود بها كلمة عربية وكلمة أعجمية، كلا! إنما المقصود: كلمات نادرة تأتي في عرض الحديث، قال شيخ الإسلام: فالكلمة بعد الكلمة من الأعجمية أمرها قريب، وأكثر ما يفعلون ذلك إما لكون المخاطب أعجمياً، فيضطرون للإتيان ببعض الكلمات ليفهم، أو قد اعتاد الأعجمية فيريدون تقريب الأفهام إليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أم خالد بنت خالد بن سعيد بن العاص، وكانت صغيرة قد ولدت بأرض الحبشة لما هاجر بها أبوها، فكساها النبي صلى الله عليه وسلم خميصةً -أي: فستاناً قصيراً- وقال: (يا أم خالد هذا سنا). وسنا بلغة الحبشة: الحسن الجميل. ثم قال رحمه الله: وأما اعتياد الخطاب بغير اللغة العربية التي هي شعار الإسلام، ولغة القرآن؛ حتى يصير ذلك عادةً للمصر وأهله، أو لأهل الدار، أو للرجل مع صاحبه، أو لأهل السوق، أو لأهل الديوان، أو لأهل الفقه، فلا ريب أن هذا مكروهٌ؛ فإنه من التشبه بالأعاجم، وقد نهينا عن التشبه بالكفرة (ومن تشبه بقومٍ فهو منهم). قال رحمه الله: ولهذا كان المسلمون المتقدمون لما سكنوا أرض الشام ومصر ولغة أهلها رومية، وأرض العراق وخراسان ولغة أهلها فارسية، والمغرب ولغة أهلها بربرية؛ عودوا أهل هذه البلاد العربية حتى غلبت على أهل هذه الأمصار مسلمهم وكافرهم -حتى الكافر- في البلاد التي فتحها المسلمون عودوهم العربية لتكون معبراً وقناةً تدخل من خلالها الدعوة، ومنفذاً إلى القرآن والسنة، وبدون لغة لا يوجد فهم. وانظر الآن إلى حال المسلمين، فإنهم يفتحون الكتاب العزيز وكثيراً من الكلمات لا يفهمونها فضلاً عن الأحاديث، ولا مراد الله بها، ولا المقصود منها، ولا الأحكام التي تضمنتها، ما هو السبب؟ عدم فقه اللغة، وعدم معرفة معانيها، فإن ضعف اللغة العربية أثرّ تأثيراً مباشراً وواضحاً في فهم الكتاب والسنة. ثم يقول شيخ الإسلام رحمه الله: إنهم -أي: المسلمون المتأخرون الذين جاءوا من بعد- تساهلوا في أمر اللغة، واعتادوا الخطاب بالفارسية حتى غلبت عليهم، وصارت العربية مهجورةً عند كثيرٍ منهم، ولا ريب أن هذا مكروهٌ، وإنما الطريق الحسن اعتياد الخطاب بالعربية. كيف نعالج هذه القضية؟ كيف نوجد الحل؟ قال: اعتياد الخطاب بالعربية حتى يتلقنها الصغار في المكاتب -أي: مدارس الصبيان- في المكاتب، وفي الدور، فيظهر شعار الإسلام وأهله. الآن بالعكس تماماً، تدريس اللغة الإنجليزية للأطفال في الروضة، ومخاصمة القائمين على المدارس: لماذا لا تزيدون حصص اللغة الإنجليزية؟ وبعض الآباء يتعمدون اليوم الخطاب مع أبنائهم بلغة الكفرة داخل بيوتهم، وفي السيارة، وفي الطريق، يقولون: ليتعلم الولد اللغة مبكراً، ويضرون لغته الأصلية، ويضرون فهمه وعقله بازدواجية في اللغة، وقد أكد علماء التربية حتى من غير المسلمين على أنها ضارة، ونصوا في دول الكفر على عدم السماح بتعلم الولد في المرحلة المبكرة في سن الطفولة لغةً أخرى غير اللغة القومية، ولا يمكن أن تجد في فرنسا مثلاً روضة أطفال يتعلم مع الفرنسية اللغة العربية، أو لغة أجنبية؛ لأن قانون حماية الثقافة الفرنسية والإنجليزية وغيرها لا يمكن أن يسمح بتعلم لغةٍ أخرى، ونحن نرحب ونسهل ونهلل بأولادنا إذا نطقوا باللغة الإنجليزية، وترى كلمات التشجيع تنطلق مادحةً للولد إذا رطن بالأعجمية، وبعض أولاد المبتعثين إلى الخارج رجعوا الآن ولا يفقهون اللغة العربية، وصرت تحتاج أن تترجم لولد عربي ابن عربي اللغة العربية. وهذا من فتح الطريق لاقتباس ثقافات القوم الكفرة، وعادات القوم الكفرة، وفهم أغاني الكفرة، وغير ذلك من أفلام الكفرة، ومجلات الكفرة، وكتب الكفرة؛ لأن الأولاد صاروا يحسنون اللغة الإنجليزية، فلم نستفد الفائدة الصحيحة، ولم نعلم الأولاد اللغة الإنجليزية في السن الصحيح، ولا بالكيفية الصحيحة، ولا ليستفيدوا المعارف التي يحتاجها المسلمون، وإنما فتحنا الباب على مصراعيه، فصرنا نتباهى بأن الطفل يتكلم الإنجليزية بطلاقة، ثم يتعتع في اللغة العربية ولا يحسنها ولا يحسن الكلام بها. قال رحمه الله في علاج المشكلة العظيمة: وإنما الطريق الحسن اعتياد الخطاب بالعربية حتى يتلقنها الصغار في المكاتب وفي الدور، فيظهر شعار الإسلام وأهله، ويكون ذلك أسهل على أهل الإسلام في فقه معاني الكتاب والسنة، وكلام السلف، بخلاف من اعتاد لغة، ثم أراد أن ينتقل إلى أخرى، فإنه يصعب. ثم قال -رحمه الله- مبيناً أثر اللغة على الدين والخلق والعقل: واعلم أن اعتياد اللغة يؤثر في العقل والخلق والدين تأثيراً قوياً بيناً، ويؤثر أيضاً في مشابهة صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين، إذا كانوا يتعلمون العربية يتشبهون بالصحابة والتابعين، ومشابهتهم تزيد العقل والدين والخلق، ولذلك ترى كثيراً من الذين يجيدون الإنجليزية يتكلمون بها دائماً قد أثرت في عقولهم، وقد أثرت في أخلاقهم، بل إنك ترى بعض العرب الذين يدرسون في الخارج إذا أرادوا أن يتحدثوا عن موضوعٍ خسيس، أو كلامٍ فاحشٍ، قلبوا إلى اللغة الإنجليزية. أيها الإخوة: والعلاج أنه لا بد من اعتياد الكلام باللغة العربية الفصحى. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا أوفياء للإسلام، وأن يجعلنا ممن قاموا بحدود الله تعالى. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

اهتمام السلف بالعربية

اهتمام السلف بالعربية الحمد لله الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، أشهد أنه الله الحي القيوم ذو الجلال والإكرام، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. عباد الله: لقد كانت تربية السلف لأولادهم على النطق باللغة العربية وإتقانها أمراً عجيباً، وذلك لأنهم كانوا يعرفون تمام المعرفة أن الولد لن يفهم كتاب ربه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم إلا إذا أجاد اللغة العربية، وكانوا يحاربون اللحن والخطأ في اللغة جداً، وكان أمرهم شديداً في هذه المسألة، فقد قرأ بعضهم يوماً قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] العلماءُ فاعل، فهم الذين يخشون الله، فقرأها: إنما يخشى اللهُ من عباده العلماءَ، فقال له قائل: كفرت، أتنطق بالكفر؟ جعلت الله يخشى العلماء! وسمع أعرابي -وكانوا من أهل اللغة- قارئاً يقرأ: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة:3] قال: ورسولِه، فقال: معاذ الله أن يتبرأ الله من رسوله وذلك لأنه جرَّ كلمة "ورسوله" فصارت معطوفة على المشركين، ومعاذ الله أن يتبرأ من رسوله. ومرَّ أحدهم على قارئٍ يقرأ قوله تعالى: {وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ} [البقرة:221] لا تُنكح أي: لا تزوج مشركاً حتى يسلم، فلا يجوز أن تجعل مسلمة تحت يهودي، أو نصراني، أو كافر، فمن جهل القارئ قرأ: ولا تَنكحوا المشركين بفتح التاء، فقال: والله لن نَنْكِحَهم حتى ولو آمنوا، كيف ينكح الذكرُ الذكرَ؟ فانظر إلى شناعة التغيُّر الذي يحدث بتغيُّر ضمة، أو فتحة، أو كسرة. وكان الوليد يخطب العيد، فقرأ: {يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} [الحاقة:27] وهذه جملة تامة، كان واسمها وخبرها، فقرأها كانت القاضيةُ، فصارت جملة ناقصة، لأن القاضيةُ اسم كان، وماذا بعدها؟ على من القاضية؟ فقال عمر بن عبد العزيز: عليك فتريحنا منك. وقال شيخ الإسلام رحمه الله: وكان السلف يؤدبون أولادهم على اللحن، فنحن مأمورون أمر إيجاب أو أمر استحبابٍ أن نحفظ القانون العربي ونصلح الألسنة المائلة عنه، فيحفظ لنا طريقة فهم الكتاب والسنة، والاقتداء بالعرب في خطابها، فلو ترك الناس على لحنهم، لكان نقصاً وعيباً. ويعجبني زيُّ الفتى وجمالهُ ويسقط من عيني ساعة يلحن ورأى أبو الأسود الدؤلي رحمه الله أحمال بضائع التجار مكتوب عليها: لأبو فلان، واللام حرف جر، والصحيح: لأبي فلان، فقال: سبحان الله! يلحنون ويربحون. أيها الإخوة: كان الأمر عندهم مهماً، أما الأمر عندنا اليوم فغير مهم، لو قال أحد في مجلس ( I is ) لنظر إليه شزراً من الحاضرين كيف يخطئ في الكلمة؟ يا متخلف، يا جاهل، لكن لو أخطأ في آية أو حديث، ونصب مرفوعاً، وجر منصوباً، وغيَّر المعاني، فمن ذا الذي ينكر عليه في المجلس؟ ولا زالت قضية اللغة العربية مفتوحة، والكلام فيها آتٍ إن شاء الله؛ لأن القضية خطيرة -أيها الإخوة- أن تفقد الأمة مميزاً وخصيصةً من خصائصها تحت مطارق الهزيمة النفسية، والتخلف الذي نعيش فيه، ولعلنا نتم الكلام على هذا الموضوع بإذن الله تعالى. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم من المتفقهين في الدين، العاملين بسنة سيد المرسلين، وأن يرزقنا النصر على الأعداء، اللهم إنا نسألك أن ترفع شأن هذه الأمة وأن تنصرها على أعدائها، وأن تحرر ما سلب من أراضيها، وأن تعيدها إلى كتاب ربها وتحكيم شريعتها يا أرحم الراحمين. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين. وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.

اللغة العربية هي السبيل إلى فهم الكتاب

اللغة العربية هي السبيل إلى فهم الكتاب إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فالحمد لله الذي اختار العرب ليصطفي منهم رسوله الخاتم صلى الله عليه وسلم، وينزل بلسانهم كتابه المعجز المتعبد بتلاوته إلى قيام الساعة، هذه اللغة التي صفيت منذ القدم من نفوس مختارة بريئة من العرب الأقحاح الذين لم يخالطوا غيرهم، فسلمت ألسنتهم من الخسائس المزرية والعلل الغالبة، حتى إذا جاء إسماعيل نبي الله بن إبراهيم خليل الله أخذها وزادها نصاعةً وبراعةً، وأسلمها إلى أبنائها العرب وهم على الحنيفية السمحة ملة إبراهيم عليه السلام، فظلت تتحدر على ألسنتهم مختارةً مقفاةً حتى أظل زمان نبي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله بها كتابه بلسان عربي مبين، ثم تحدى العرب ملوك الفصاحة وأمراء البيان أن يأتوا بسورة من مثله، فعجزوا في الحال، وأخبر أنهم عاجزون في المآل أيضاً {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} [البقرة:23 - 24]، {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء:88]. نزل القرآن الكريم باللغة العربية فخراً للعرب ولقريش، وحق لهم أن يفخروا به، والله قال: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف:43 - 44] شرفٌ لك ولقومك، شرفٌ لهم أنا أنزلناه بلغتهم {وَسَوْفَ تُسْأَلونَ} [الزخرف:44] ستسألون عن هذا الشرف. ولا يمكن أن نعرف الدين إلا باللغة العربية، وتعلم الدين واجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، قال العلماء: لا يتهيأ لمن كان لسانه غير العربية من العجم والترك وغيرهم أن يعرفوا إعجاز القرآن، قال صلى الله عليه وسلم: (ما من الأنبياء من نبي إلا أعطي من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحياً أوحى الله إليَّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيام). قد ذهبت عصا موسى، وناقة صالح، ومعجزة عيسى بشفاء المرضى، وكتب الأنبياء جميعاً ذهبت، أصابها التحريف، وبقيت هذه المعجزة نزول القرآن بالعربية، فكيف يستمر عمله في الواقع ويؤمن عليه الناس؟ كيف إلا إذا تعلموا لغته، وعرفوا إعجازه، وكيف يعرفون إعجازه بغير اللغة العربية؟ وكيف يتذوقونه؟ وكيف تعرف بلاغة القرآن في قوله: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً} [مريم:4]؟ وبلاغته في الأمثال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ} [النور:39] {كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ} [الرعد:14] يقول للماء: ارتفع، وهل يرتفع إلا إذا رفعه؟ ضرب الأمثلة للمنافق المتحير المضطرب: {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} [البقرة:20] ووقفوا، لا نور، ولا سير، ولا حركة، كيف تعرف أن تقديم ما من شأنه التأخير يفيد الحصر؟ وهذا الفرق بين قولك: نعبد إياك، وإياك نعبد. إياك نعبد، أي: لا نعبد إلا أنت كيف نعرف سائر أنواع الإعجاز في الكتاب العزيز إلا باللغة العربية؟ وحتى السنة والحديث، قال صلى الله عليه وسلم: (أُعطيت جوامع الكلم) وهي المعاني الكثيرة في الألفاظ القليلة، كيف سنعرف جوامع الكلم، ومعاني الأحاديث إلا باللغة العربية، وفهم ألفاظها وتراكيبها.

لابد من لغة مشتركة توحد الأمة

لابد من لغة مشتركة توحد الأمة قال العلماء: ولسان العرب أوسع الألسنة مذهباً، وأكثرها ألفاظاً، ولا نعلم أحداً يحيط بجميع ألفاظه غير نبيٍ، وهو موجود في الأمة متفرقاً لا يضيع منه شيء، ولما أنزل الله الكتاب ووحد الناس، أمر بأن يوحد الناس ربهم، وأن تكون الأمة متحدةً لا متفرقة، علم أنه لا بد من لغة توحدها. قال الشافعي رحمه الله: فإذا كانت الألسنة مختلفةً بما لا يفهم بعضهم بعضاً، فلا بد أن يكون بعضهم تبعاً لبعض، وأن يكون الفضل في اللسان المتبع على التابع، وأولى الناس بالفضل في اللسان من لسانه لسان النبي صلى الله عليه وسلم. فلا بد من لغة مشتركة لتوحيد الأمة، وهذا مطلب شرعي. ثم قال الشافعي رحمه الله: فعلى كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما بلغه جهده حتى يشهد به أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، ويتلو به كتاب الله، وينطق بالذكر فيما افترض عليه. وقال شيخ الإسلام رحمه الله: فمعرفة العربية التي خوطبنا بها مما يعين على أن نفقه مراد الله ورسوله بكلامه، وكذلك معرفة دلالة الألفاظ على المعاني، لماذا ضل أهل البدع؟ لأنهم لم يعرفوا دلالة الألفاظ على المعاني. وقال الماوردي رحمه الله: ومعرفة لسان العرب فرضٌ على كل مسلم من مجتهد وغيره. لما اكتسح الإسلام بلاد العالم، نشر الصحابة اللغة العربية، وتلك منقبةٌ عظيمةٌ من مناقبهم، فتغلغلت في جميع نواحي الأرض من المغرب إلى الهند، واكتسحت اللغة العربية سائر اللغات المستعملة في تلك البلدان؛ كالسريانية واليونانية والقبطية والبربرية، وأثرت في اللغات الأخرى كالأردية والفارسية تأثيراً عظيماً، واكتسحت اللغة العربية اللغة اللاتينية في أسبانيا في العصور الوسطى، حتى أن أهل الذوق من الأسبان بهرتهم نصاعة هذه اللغة، واحتقروا لاتينيتهم، وأقبلوا على تعلم هذه اللغة، وإحصائية القاموس الأسباني والبرتغالي تشهد بأن ربع كلمات الأسبانية والبرتغالية مشتقةٌ وأصولها عربية، بل أثرنا في لغات الأقوام الأوربيين الآخرين.

لماذا نحب الرسول؟ [1]

لماذا نحب الرسول؟ [1] إن محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم محبة لله عز وجل، فلا يكتمل إيمان العبد إلا بحبه لله ورسوله بدلالة اقتران محبة الله مع محبة رسوله في كثير من الآيات والأحاديث، ولا تقبل المحبة إلا إذا كانت محبة قلبية حقيقية، ولمحب رسول الله صلى الله عليه وسلم علامات كثيرة، منها: احترامه حال حياته وبعد موته، وتوقيره، واتباع سنته وهديه وغير ذلك.

تمام محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم

تمام محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، أرسله الله عز وجل بالهدى ودين الحق، فأقام به الملة العوجاء بأن يقولوا: لا إله إلا الله، ففتح الله تعالى به قلوباً غلفا، وأعيناً عميا، وآذاناً صما، فصلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين. أيها الإخوة! حديثنا في هذه الليلة عن موضوع عظيم من موضوعات العقيدة والإيمان، التي ينبغي أن يهتز له شعور كل مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر؛ لأن الكلام في أساسيات العقيدة من المواضيع الهامة جداً بالنسبة للإنسان المسلم؛ لأنها تبين الطريق، وترسم الأهداف، وتحيط المسلم علماً بأشياء هامة يحتاج إليها لكي يصحح العقيدة والعمل، وفي هذا الموضوع الذي سنتكلم عنه الليلة: كيف نحب النبي صلى الله عليه وسلم؟ محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم: الطريق إليها، معناها، وأهميتها، واجباتها، ومستلزماتها، وما ينبغي أن يكون موقف المسلم تجاه نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم. هذا الموضوع -أيها الإخوة- على درجة عظيمة من الحساسية، لما وقع الناس فيه من أهل الإسلام أهل القبلة، بين الإفراط والتفريط، هذا الموضوع ينبغي أن يفتح كل مسلم قلبه وسمعه لتفاصيله، ويتذكر حتى ولو لم يتعلم شيئاً جديداً، ويستعيد إلى نفسه وقلبه ذكريات هذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، ويتذكر حقوق رسول الله وواجباته.

اقتران محبة الله ورسوله في الآيات والأحاديث

اقتران محبة الله ورسوله في الآيات والأحاديث أيها الإخوة! لقد قرن الله تعالى بين محبته ومحبة رسوله في آيات وأحاديث، والملاحظ أن محبة رسول الله لم تفرد بذكر في القرآن إلا وقد قرنت بمحبة الله تعالى، ومن أعظم الآيات التي نبدأ بها الكلام عن هذا الموضوع، قول الله تعالى في سورة التوبة: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة:24] نداء خطير إلى جميع المسلمين بوجوب تقديم محبة الله ورسوله على هذه الأشياء جميعاً، تقديم محبة الله ومحبة الرسول على محبة الأب والابن والزوجة، وعلى محبة الأهل جميعاً، وعلى محبة التجارة، والأموال، والمساكن، يجب أن تقدم محبة الله ورسوله على هذه الأشياء جميعها؛ لأنه -أيها الإخوة- لا تستقيم حياة المسلم ولا يستقيم دينه ولا تستقيم عبادته، إلا بهذا التقديم المتضمن كمال الحب والخضوع لأوامر الله ورسوله. ولذلك وضع الشرع معياراً يعرف فيه المسلم كيف يتذوق حلاوة الإيمان، هذا المعيار وهذا المدار الذي تدور عليه حلاوة الإيمان والإحساس بها، هو محبة الله ورسوله، ولذلك يقول أنس رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما) رواه البخاري. وهذا تأكيد لما جاء في الآية. ومحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أركان العقيدة الأساسية، ويقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: إن حلاوة الإيمان لا توجد إلا بتكميل هذه المحبة بثلاثة أمور، حتى يجد المسلم حلاوة الإيمان، فإيمان بعض المسلمين بارد، ولذلك لا يستشعرون له طعماً ولا مذاقاً، ولا يحسون به وجوداً مطلقا، وذلك لأنهم فقدوا حلاوة هذا الإيمان وطلاوته، يقول رحمه الله: تكميل هذه المحبة أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ليس المقصود أصل الحب فقط، ليس المقصود فقط أن نحب، لا، وإنما موافقة ما يحبه المحبوب، وكره ما يكرهه المحبوب؛ لأن بعض المسلمين يحبون الله ورسوله، لكن لا يحبون الله ورسوله أكثر من باقي الأشياء، فعندهم أصل المحبة، لكنها محبة ناقصة غير كاملة، ولذلك تحدث المعاصي والآثام والانحرافات عن شرع الله تعالى. أولاً: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وثانياً: تفريع هذه المحبة وهو: أن يحب المرء لا يحبه إلا لله؛ لأن محبة محبوب المحبوب من تمام محبة المحبوب، إذا كنت تحب إنساناً فلابد أن تحب من يحبه هذا الإنسان، إذا كنت صادقاً في محبته، فإذا كنت تحب الله ورسوله، فلابد أن تحب ما يحبه الله ورسوله، وهذا من تفريع المحبة، والثالث: دفع ضد هذه المحبة، وهي: أن يكره المسلم ضد الإيمان، وهو الكفر كما يكره أن يقذف في النار.

محبة النبي صلى الله عليه وسلم قلبية خلافا للجهمية

محبة النبي صلى الله عليه وسلم قلبية خلافاً للجهمية كذلك -أيها الإخوة- فإن محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم محبة قلبية، ليس كما قال بعض أهل الكلام والفلسفة: هو تقديم ما يقتضي العقل السليم رجحانه، فإن هذه المحبة محبة عقلية باردة، المحبة الصحيحة أن يشترك القلب في محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، محبة فيها ميل القلب الفعلي، محبة يشتعل معها الوجدان والفؤاد اشتعالاً وتحرقاً واشتياقاً لرسول الله عليه الصلاة والسلام، فهي إذاً: ميلٌ قلبي حقيقي، وليس المراد تقديم ما يقتضيه العقل السليم كما فسره بعض من وافق قواعد الجهمية. وكذلك قال القرطبي رحمه الله: كل من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم إيماناً صحيحاً، لا يخلو عن وجدان شيء من تلك المحبة، غير أن الناس متفاوتون، فمنهم من أخذ من تلك المرتبة بالحظ الأوفى، ومنهم من أخذ منها بالحظ الأدنى، كان مستغرقاً في الشهوات، محجوباً في الغفلات في أكثر الأوقات، هؤلاء الناس يتفاوتون، ليس كل الناس يحبون الرسول صلى الله عليه وسلم على مرتبة واحدة، ومحبته صلى الله عليه وسلم كما ذكره الحافظ رحمه الله في الفتح على قسمين: فرض، وندب، فالفرض هو: المحبة التي تبعث على امتثال أوامره صلى الله عليه وسلم والانتهاء عن المعاصي التي انتهى عنها، والندب: أن يواظب المسلم على النوافل، ويجتنب الوقوع في الشبهات، بعض الناس قد يفعل الواجبات وينتهي عن المحرمات، هل هذا هو الكمال؟ لا. هناك مراتب أعلى منها: أن يحافظ أيضاً على النوافل والمستحبات، وأن يبتعد عن الشبهات، والمتصف بذلك عموماً نادر.

الصحابة وشدة حبهم لرسول الله

الصحابة وشدة حبهم لرسول الله ولذلك -أيها الإخوة- كان لمحبته صلى الله عليه وسلم أهمية عظيمة جداً، تستطيع يا أخي المسلم أن تتلمس هذه الأهمية في هذا الحديث الصحيح المخرج في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه: (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: متى الساعة يا رسول الله!) -أعطني خبر، ما هو الموعد التي تقوم عنده الساعة- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم -بأسلوب المعلم المدقق في تعليمه، الذي يريد لفت نظر المتعلم عن غير المهم إلى الأهم، فأجابه عن سؤاله بسؤال مقابل، أراد منه لفت نظره إلي المهم في الموضوع، ليس هذا مهماً بالنسبة للمسلم أن يعرف موعد قيام الساعة بالضبط، لو كان مهماً لأخبر به عز وجل- (فقال عليه الصلاة السلام لهذا الرجل: ما أعددت لها؟) -الرجل يقول: متى الساعة يا رسول الله؟ ماذا أجاب عليه السلام؟ - (ما أعددت لها؟) -سؤال مقابل- (قال: ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صيام ولا صدقة) -أي: يا رسول الله! أنا أؤدي الواجبات، نعم، أصلي الصلاة الواجبة، والصيام الواجب، والزكاة الواجبة أأُديها، لكن ليس عندي نوافل كثيرة، ليس عندي صلاة كثيرة نافلة، وقيام ليل كثير، وصدقة نافلة كثيرة، ولا صيام تطوع كثير- (ولكني أحب الله ورسوله) -وهذا الصحابي لا يكذب على رسوله عليه الصلاة والسلام إنه يخبر بالحقيقة- يقول: (ولكني أحب الله ورسوله، قال: فأنت مع من أحببت. قال أنس: ففرحنا يومئذ فرحاً شديداً)؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (أنت مع من أحببت). قال شراح الحديث: في هذا الحديث إيماء إلى أن دعوى المحبة مع مجرد الطاعة الواجبة كافية في دخول الإنسان الجنة، وأما دعوى المحبة مع ارتكاب المعصية فمذمومة، فهذا الصحابي ما قال: يا رسول الله! أنا أعصي الله ورسوله وعندي معاصٍ كثيرة، وأنا أحب الله -مع ذلك- ورسوله، لا، ما قال الرسول: أنت مع من أحببت، وإنما قال له: أنت مع من أحببت، لما أخبره الرجل بأنه يطيع الطاعة الواجبة يؤديها، وعنده نوافل لكن ليست كثيرة، لكن قلب هذا الرجل ممتلئ بمحبة الله ورسوله، عند ذلك قال له عليه الصلاة والسلام: (أنت مع من أحببت). وكذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم، حتى أكون أحب إليه من والده وولده، والناس أجمعين) حديث صحيح. لا يكتمل إيمان أحدكم حتى أكون أحب إليه، أي: أشد حباً من حب هذا الرجل لولده ووالده والناس أجمعين. قال عمر بن الخطاب: (يا رسول الله! لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي) -قال: بصراحة يا رسول الله أنا أحبك أكثر من أي شيء إلا من نفسي، أنا أحب نفسي أكثر منك- (فقال صلى الله عليه وسلم: لا، والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك -لا يكتمل إيمانك يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك- فقال له عمر: فإنك الآن أحب إليّ من نفسي، فقال: الآن يا عمر) حديث صحيح. عمر بن الخطاب في حقيقة الأمر يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من نفسه، لو أن عمر والرسول صلى الله عليه وسلم كانا في موقف، بحيث أنه لابد أن يقتل أحدهما لينجو الآخر، فالظن بـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سيقدم نفسه فداءً له عليه الصلاة والسلام، وهذا ما كان يحصل منه في المعارك، لكن عمر كان في تلك اللحظة غافلاً عن هذه المسألة وغير منتبه، أو كان يجهل هذه المسألة، فلما علمه الرسول صلى الله عليه وسلم الصواب، بادر فوراً إلى الإذعان وإلى تقرير الحقيقة التي رسخت في نفسه، أو أنه قد ذهب عنه ذهوله عن هذه الحقيقة فأظهرها، فقال: أنت يا رسول الله أحب إلي من نفسي. قال ابن حجر رحمه الله معلقاً على هذا الحديث: وفيه فضيلة التفكر؛ لأن الإنسان قد يكون في حقيقة الأمر يحب الله ورسوله أكثر من أي شيء، لكن في الواقع الذي يمارس فيه الأشياء قد يكون يحب أشياء أكثر من الله ورسوله، فعندما يفكر هذا الرجل هل أنا أحب الله ورسوله أكثر أم الوظيفة أم الزوجة أم الولد؟ حينما يفكر يصل إلى نتيجة، هذا يدل على أهمية التفكر في هذه القضايا، عندما يواجه الإنسان المسلم أمراً يحبه جداً، فليسأل نفسه هذا Q هل أنا أحب الله ورسوله أكثر أم أحب هذه القضية؟ هذا التفكير يقوده للإيمان بهذه المسألة.

محبة النبي صلى الله عليه وسلم دليلها الاتباع

محبة النبي صلى الله عليه وسلم دليلها الاتباع وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم -أيها الإخوة- نحن نحبه حباً جماً لأشياء كثيرة: فالرسول عليه الصلاة والسلام بالمؤمنين رءوف رحيم، جاءنا رسول من أنفسنا -منا نحن البشر- عزيز عليه ما هو شديد علينا، الرسول صلى الله عليه وسلم ظل يناقش ربه في قضية الصلوات وتخفيض الصلوات مرات كثيرة، حتى هبطت الصلاة من خمسين إلى خمس، لماذا؟ لحبه صلى الله عليه وسلم لأمته، لا يريد أن يحرجهم: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] هذا الرسول صلى الله عليه وسلم ما ترك أمراً إلا علمنا إياه، لحبه لنا يعلمنا الخير ويحذرنا من الشر، لذلك كانت محبته واجبة، ونابعة من القلب صلى الله عليه وسلم. قال ابن القيم رحمه الله: فلما كثر المدعون للمحبة طولبوا بإقامة البينة. كل واحد يقول: أنا أحب الرسول صلى الله عليه وسلم، هات الدليل على صدق ما تدعي من المحبة، ما هو الدليل؟ يقول ابن القيم رحمه الله: فجاءت هذه الآية {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31] قل: إن كنتم تحبون الله فعلاً فاتبعوني، الرسول صلى الله عليه وسلم يخاطب الناس (فاتبعوني) اتبعوا الرسول صلى الله عليه وسلم يحببكم الله. إذاً ما هو الدليل أيها الإخوة؟ ما هي البينة التي تقدم شاهد عدل على محبة الإنسان لله ورسوله؟ إنها الاتباع، اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً: {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} ولذلك كان من أحب شيئاً آثره على نفسه، وآثر موافقة المحبوب على شهوات وتطلعات ورغبات النفس، وإلا لو لم تحصل هذه الحالة لم يكن صادقاً في حبه، لذلك يقول ابن القيم في النونية: أتحب أعداء الحبيب وتدعي حباً له ما ذاك في إمكان إن الرسول صلى الله عليه وسلم عادى الشيطان وأهل الشر والبدعة والفساد، والفواحش بجميع أنواعها، ثم أنت أيها المسلم الذي تدعي محبة الرسول صلى الله عليه وسلم تقدم وتصادق وتواد من حاد رسول الله وعاداه، وتدعي حباً له ما ذاك في إمكانِ، مستحيل أن يحصل.

علامات محبة النبي صلى الله عليه وسلم

علامات محبة النبي صلى الله عليه وسلم

الاقتداء به واتباعه في الأمر والنهي

الاقتداء به واتباعه في الأمر والنهي واعلموا أن محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لها علامات منها: الاقتداء به، واستعمال سنته، واتباع أقواله وأفعاله وجوباً وندباً، واجتناب نواهيه حرمة أو كراهة، والتأدب بآدابه في جميع ما جاء به من المكارم والمحاسن والفضائل، في العسر واليسر، في وقت القبض والبسط، ووقت الضر والشكر، وعلى صعوبة الأمر وسهولته، ومحنته ونعمته، وعلى جوعنا وشبعنا، وبلائنا ورخائنا، ومنشطنا ومكرهنا، وحال سعتنا وضيقنا، أو حال غضبنا ورضانا، أو حال رقتنا وحزننا وفرحنا، أو زمن انشراح صدورنا أو انقباض أمورنا، يجب أن نقدم محبة الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع هذه المواقف أيها الإخوة. لذلك كان تحقيق المحبة مسألة صعبة المنال، لكنها ليست مستحيلة، يمكن تحقيقها لمن صدق ما عاهد الله عليه: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80] فالبداية أيها الإخوة موضوع الطاعة، طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم أكبر الأدلة على محبته، اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وإيثاره على أهواء النفس علامة كبيرة من العلامات الدالة على صدق المحبة، الرضا بحكم الرسول صلى الله عليه وسلم، وتحكيم شرع الرسول صلى الله عليه وسلم فيما شجر بين الناس من أنواع الخلافات، وترك الاعتراض عليه صلى الله عليه وسلم فيما حكم لنا أو علينا، هذه من قواعد الطاعة الأساسية، وامتثال أوامره واجتناب زواجره، وقبول نصحه صلى الله عليه وسلم. كان صحابة رسول الله أمرهم عجيب جداً في تحقيق هذا الجانب، كان انقيادهم له صلى الله عليه وسلم عجباً من العجب، ومضرب الأمثال، لذلك يقول أحد الصحابة، لما قدم من البادية، دخل المدينة ولم يكن يعرف من هو الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول هذا جابر بن سليم رضي الله عنه: دخلت المدينة فرأيت رجلاً -انظروا للوصف أيها الإخوة في الحديث الصحيح- يصدر الناس عن رأيه، لا يقول شيئاً إلا صدروا عنه، قلت: من هذا؟! -تعجب الرجل هذا لحال الجالس، من هذا الرجل الذي كلما قال أمراً تبعه الناس، قال لهم: اذهبوا ذهبوا، تعالوا جاءوا، لا تفعلوا لم يفعلوا، من هذا الرجل الذي يصدر الناس عن رأيه؟ قالوا: رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا الأعرابي الصحابي قدم لنا هذه الصورة الحية لمجتمع الصحابة كيف كانوا ينقادون لأوامر نبيهم عليه الصلاة والسلام.

اتباع الواجب والمستحب من سنته صلى الله عليه وسلم

اتباع الواجب والمستحب من سنته صلى الله عليه وسلم أيها الإخوة! وإن من علامات طاعته واتباع سنته صلى الله عليه وسلم، أن ننتبه إلى مسألة يقع فيها كثير من المسلمين، يأتون إلى سنته عليه الصلاة والسلام فيقسمونها إلى واجب ومستحب، فيأخذون هذه الأقسام، ويقولون: أما الواجب من السنة فنفعله، وأما المستحب فنتركه، هذا التقسيم الذي وضعه علماؤنا وضعوه كتقسيم علمي، ما أراد العلماء رحمهم الله عندما بينوا الأحكام فقالوا: هذا واجب وهذا سنة، أي: ما قصدوا تخذيل الناس عن اتباع السنة، وتثبيط الهمم والعزائم عن الأخذ بالسنن، كلا والله وحاشاهم أن يكون مقصدهم هذا، إنما كان تقسيماً علمياً تتضح فيه الأمور. ولذلك كما يقول ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين: كان السلف إذا عرفوا أن الرسول نهى عن أمر، لا يقولون: هل هذا نهي تحريم أو نهي كراهة. لا يسألونه يقولون: هذا محرم أو مكروه، الآن كثير من الناس الذين يسألون عندما يأتي ويسألك فتقول له: إن رسول الله نهى عن هذا، أو إن هذا الأمر لا ينبغي فعله، فيقول لك: وضح لي، حرام أو مكروه، فإذا قلت له: حرام ربما يستجيب، وإذا قلت له: مكروه، يقول: إذاً الحمد لله، في سعة نفعل هذا الشيء. ما كان حال السلف إذا أخبروا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بأمر يقولون: هل هذا الأمر واجب أو مستحب؟ ويحرصون على المعرفة لكي يخرجوا بعد ذلك بفعل الواجب وترك المستحب، ما كانت هذه حالة السلف، متى علموا أن الرسول أمر بأمر بادروا بالتنفيذ، سواء كان أمر وجوب أو أمر استحباب، إذا علموا أن الرسول نهى عن أمر كانوا يبادرون للانتهاء عنه، ولا يفرقون بين محرم ومكروه، لا يفرقون في العمل. هذه التفرقة هي التي دفعت بالناس إلى هذا الواقع المخزي؛ لأن الذي يتنازل عن السنن -أيها الإخوة- سيأتي عليه اليوم الذي يتنازل فيه عن الواجبات، والذي يفعل المكروهات سيأتي عليه اليوم الذي يفعل فيه المحرمات، إن للدين سياجاً يحوطه ويحميه، المستحبات تحمي الواجبات، والمكروهات تحمي المحرمات، سياج وسور، حمى يحمي هذا الدين. وبالإضافة -أيها الإخوة- لهذه المسألة فإن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم تظهر بجلاء إذا اتبعت المستحب من سنته، أكثر مما تظهر المحبة عندما تتبع الواجب من سنته فقط؛ لأن أكثر الناس قد يتبعون الواجب، لكن القلة هم الذين يتبعون المستحب، ولذلك كثير من الناس عندما تأتي وتناقشه في أمر من الأمور، فتقول له: إن هذا الأمر واجب، فيقول: لا يا أخي ليس واجباً هذا سنة، اللحية مثلاً: النبي صلى الله عليه وسلم أوجبها، فيقول لك: لا. هذه سنة، على فرض أنها كانت سنة، افرض جدلاً أنها سنة، لماذا لا تطبق؟ يا إخواني! أهل السوء الآن عندما يقتدون بالفجار والكفرة، هؤلاء المغنين والممثلين لهم قدوات في قطاعات كبيرة في مجتمعات المسلمين، فترى الناس يقلدون المغني أو الممثل في أدق الجزئيات، فيجعل تسريحة شعره مثل تسريحة شعر المغني، ووضع الجيوب في القميص والبنطلون، كوضع جيوب هذا المغني والممثل، وشكل الثوب والنعال ولون القميص، وكيفية الياقة وما شابه ذلك مثل المغني بالضبط يقلدونه، أليس كذلك؟ لنكن واقعيين أليست هذه هي الحالة؟ لو ظهرت موضة بين النساء، مجلة نشرت صور أزياء، ترى نساء المسلمين يتهافتن على التقيد الشديد بها، حتى أن إحداهن تعيب الأخرى لأنها خالفت جزئية من جزئيات تصميم الثوب، أليس كذلك؟ تقول لها: لا. هذا ليس مثل الموضة، هذا فيه اختلاف في الكم والأزرار. يا إخواني! إذا كان هذا حال التعساء والمغرورين، الذين غرهم الشيطان، إذا كان هذا حالهم مع الفجرة والقدوات السيئة، أفلا يكون حالنا نحن مع رسولنا صلى الله عليه وسلم القدوة المثلى والعليا التي أمرنا الله بالاقتداء به، أفلا يكون حالنا معه أن نتأسى ونقتدي بسنته في كل صغيرة وكبيرة، أليس كذلك؟ ألا يجب هذا؟ نعم. ولكنهم في غفلة، ولكن الناس يظلمون أنفسهم، يقلد الكفرة في أدق الأشياء، عندما تقول له: هذا من فعل الرسول، يقول لك: هذه سنة وأنا لست ملزماً بها، عجباً لأحوال المسلمين، ولهذا الابتعاد والإعراض: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21]. الله أرسل إلينا الرسول أيها الإخوة لكي نقول: نأخذ منه هذا وندع هذا، وهذه جزئية وقشور وأمور تافهة وجانبية، هل هذا ينم عن محبة صادقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ينبغي أن نتنبه لمثل هذا يا إخواني، وعلى الدعاة إلى الله بالشكل الأخص أن يقتدوا برسول الله في الكبيرة والصغيرة، والواجب والمستحب، حتى تظهر محبتهم له عليه الصلاة والسلام، وإلا فقل لي بربك ما الفرق بينهم وبين عامة الناس؟ والاقتداء به عليه الصلاة والسلام عامٌ، سواء كان في الأمور الشاقة أو في الأمور البسيطة، لو فعل رسول الله أمراً شاقاً على النفس كالقيام إلى صلاة الفجر مثلاً، فيجب علينا أن نقوم لصلاة الفجر ونتوضأ، حتى ولو كان الجو بارداً والماء بارداً، ينبغي أن نقوم ونسبغ الوضوء على المكاره، ونقوم إلى المساجد لصلاة الفجر، إذا كنا نحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما هو الحال في هذا الجانب، فإن اتباع رخصه عليه الصلاة والسلام، والأخذ بالرخص التي ترخص بها صلى الله عليه وسلم هو أيضاً من الأمور الواجبة، فالذي يقول مثلاً: أنا ما أقصر في صلاة السفر، لا آخذ بالرخصة، فنقول له: أنت مخطئ، وأنت على شفا هلكة وعلى ضلالة، إذا نبذت الرخصة، لاعتقادك بأنك أنت لا تفعلها، وإنما هي خاصة بالرسول. وانظروا إلى هذا الحديث الذي روته عائشة رضي الله عنها عند الشيخين: (صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً ترخص فيه، فتنزه عنه قوم -قالوا: لا. نحن لسنا كالرسول لا نترخص- فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه -قام يخطب في الناس- ثم قال: ما بال قوم يتنزهون عن الشيء أصنعه، فوالله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية) أنا أخشى الناس لله، يقول عليه الصلاة والسلام، لو كان هذا الأمر من خشية الله لفعلته، ولو كان واجباً لما تركته، فنقتدي أيها الإخوة بالرسول صلى الله عليه وسلم في جميع الأشياء، سواء كانت عزيمة أو كانت رخصة، سواء كان أمراً شاقاً أم صعباً، سهلاً أم عسيراً، نقتدي به عليه السلام، لا نفرق، لا نقول: نأخذ بالأصعب، ولا نقول: نأخذ بالأسهل، لا، نأخذ بما فعل الرسول، سواء كان سهلاً أو صعباً. وكثيرٌ من المسلمين لا يدركون هذه القاعدة، ولذلك ترى الضلال، إما مذهب متشددين من الخوارج، وإما متساهلون متميعون من عامة المسلمين اليوم، الزم السنة سواء كان أمراً عسيراً أم يسيراً، الحج عسير فيه جهاد وإنفاق أموال وتعب، تذهب وتجاهد بنفسك، وقصر الصلاة في السفر، وجمع الصلاتين مع بعضهما، والمسح على الخفين والجوربين من الأمور السهلة والرخص التي أتى بها عليه السلام، تتبع السنة، الزم غرزه عليه الصلاة والسلام، ولذلك قال بعض العلماء: من ترك القصر في صلاة السفر، فقد أساء وتعدى وظلم نفسه.

كثرة ذكره صلى الله عليه وسلم بالصلاة عليه والاطلاع في سيرته

كثرة ذكره صلى الله عليه وسلم بالصلاة عليه والاطلاع في سيرته ومن علامات محبة رسول الله: كثرة ذكره، أولاً: بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، ولعلنا نتكلم في خطبة الجمعة عن هذه المسألة؛ لأن إفرادها مهم، ولا مكان الآن للتفصيل فيها، وفيها جزئيات مهمة جداً، الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم: (من ترك الصلاة عليّ خطئ طريق الجنة) حديث صحيح، الإكثار من الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم في الصباح والمساء، ولهذا كان من أذكار الصباح والمساء الصلاة عليه عشراً في الصباح وعشراً في المساء، وبعد ذلك زد كما تشاء، فمن صلى عليه صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً. وكذلك يشمل الإكثار لذكره، الإكثار من الاطلاع وقراءة وتلاوة سيرته عليه الصلاة والسلام، وأخباره وصفته ومعيشته وأحواله وأخلاقه. أيها الإخوة! الناس اليوم عندما يحبون ممثلاً من الممثلين، أو مغنياً من المغنين، أو سافلاً أو سافلة من السافلات والساقطات، يشترون الكتب والأفلام التي تتكلم عن حياة هؤلاء الناس مهما عظمت قيمتها، أليس كذلك؟ يأخذون شريطاً يتكلم عن حياة اللاعب الفلاني وأهم الأهداف التي سجلها، وكتاباً عن حياة المغني والممثل الفلاني من ميلاده إلى وفاته، ويقرءونها بإعجاب عجيب، وأخلاق رسول الله، وشمائله، وسيرته، وأخباره، وفضائله، مهجورة لا يكاد يطلع عليه إلا النزر اليسير من المسلمين، هل هذه محبة؟ وهل هذا صدق؟ وهل هذا إخلاص؟ هل نحن صادقون فعلاً؟

الشوق إلى لقائه صلى الله عليه وسلم

الشوق إلى لقائه صلى الله عليه وسلم ومن علامات محبة الرسول صلى الله عليه وسلم: الشوق إلى لقائه صلى الله عليه وسلم، فكل حبيب يحب لقاء حبيبه، ولهذا ورد في حديث الأشعريين الذين قدموا من اليمن، أبو موسى الأشعري وأصحابه، أنهم كانوا عند قدومهم إلى المدينة يرتجزون، فماذا يقولون في رجزهم في الطريق؟ يقولون: غداً نلقى الأحبة، محمداً وصحبه، كانوا يمنون أنفسهم بلقاء الرسول صلى الله عليه وسلم عندما يقدمون إلى المدينة، نحن نحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ونتمنى لقاءه في الجنة، نسأل الله أن يجمعنا به في الجنة، نحن مشتاقون إليه عليه الصلاة والسلام اشتياقاً عظيماً نسأل الله من وراء هذا الاشتياق أن يرزقنا مرافقته في الجنة. وكان صحابة رسول الله إذا ذكروه خشعوا واقشعرت جلودهم وانقبضت أنفسهم حسرة عليه، وكانوا إذا تذكروه بكوا من شدة الفراق، وكذلك كان حال كثير من التابعين كما سيمر معنا.

محبة من يحبه صلى الله عليه وسلم من الصحابة

محبة من يحبه صلى الله عليه وسلم من الصحابة ومن محبته صلى الله عليه وسلم: محبة من يحب -كما ذكرنا- ولذلك قال عليه الصلاة والسلام في حديث البخاري في الحسن والحسين: (اللهم إني أحبهما) وقال في حديث مسلم عن فاطمة بنت قيس، قال عليه الصلاة والسلام: (من أحبني فليحب أسامة) فنحن نحب أسامة بن زيد محبة خاصة؛ لأن رسول الله كان يحبه، وقال عليه السلام في الحديث الصحيح: (من أحب علياً فقد أحبني، ومن أبغض علياً فقد أبغضني) في صحيح الجامع، فنحن نحب علياً محبة خاصة؛ لأن رسول الله كان يحبه، وعن أبي هريرة قال: (خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى خباء فاطمة -بيت فاطمة - رضي الله عنها، فقال: أثم لكع؟ أثم لكع؟ -أي: الحسن رضي الله عنه، فالرسول كان يحب الحسن، فكان يقول: الحسن موجود، الحسن موجود- فلم يلبث أن جاء يسعى، حتى اعتنق كل واحد منهما صاحبه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم إني أحبه، فأحبه وأحب كل من يحبه)، فنحن نحب الحسن رضي الله عنه؛ لأن رسول الله أحبه. وقد أحب الصحابة رضوان الله عليهم نبيهم إلى درجة عجيبة، حتى أنهم كانوا يحبون الأشياء المباحة التي كان عليه الصلاة والسلام يحبها، حتى ولو لم يأمر الشرع بالاقتداء به عليه الصلاة والسلام فيها، أي: الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحب بعض الأكلات مثلاً، ليس من السنة أن نحب الأكلات التي يحبها الرسول؛ لأن هذه قضايا تعتمد على المحبة الطبيعية، كل واحد له ذوقه في الطعام، لكن مع ذلك بعض الصحابة كانوا يدققون في محبته، لدرجة أنهم كانوا يحبون الأشياء، أو الأكل الذي كان يحبه الرسول صلى الله عليه وسلم. فهذا أنس بن مالك رضي الله عنه يقول في الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي وغيره (أن خياطاً دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لطعام، قال أنس: فذهبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك الطعام، فقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خبزاً من شعير ومرقاً، وفي رواية: ثريداً عليه دباء -الدباء: القرع المعروف- قال أنس: فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتتبع الدباء حوالي القصعة -الرسول صلى الله عليه وسلم يبحث عن الدباء ويأكلها؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحب الدباء- وكان يحب الدباء، فلم أزل أحب الدباء من يومئذ). سبحان الله العظيم! هذه قضية الأكل، قضية أذواق خاصة بالناس كل واحد يتذوق، العجيب أن أنساً رضي الله عنه نزل في نفسه محبة القرع لما شاهد الرسول صلى الله عليه وسلم يحب القرع، انظر إلى ما وصلت إليه المحبة.

بغض من يبغضه صلى الله عليه وسلم

بغض من يبغضه صلى الله عليه وسلم كذلك أيها الإخوة: من محبة الرسول صلى الله عليه وسلم بغض من أبغضه عليه السلام، سواء كان الرسول صلى الله عليه وسلم أبغض شخصاً، فنحن نبغض هذا الشخص؛ لأن الرسول أبغضه، أو أن رجلاً من الناس أبغض الرسول صلى الله عليه وسلم، فنحن نبغض هذا الرجل؛ لأنه يكره الرسول، بل إن كره الرسول صلى الله عليه وسلم كفرٌ. ولذلك أيها الإخوة! من الردة عن الإسلام سب الرسول صلى الله عليه وسلم، والحد هو القتل، تصور لو أن إنساناً سب رسول الله صلى الله عليه وسلم حكمه في الشرع أن يقتل، أن يجز عنقه، وابن تيمية رحمه الله له كتاب عظيم القدر، جليل الشأن، في هذه المسألة: الصارم المسلول على شاتم الرسول، يوضح فيه بالأدلة القاطعة أن من سب الرسول صلى الله عليه وسلم يقتل مباشرة، لابد أن يقتل. وانظر معي إلى هذا الرجل من الصحابة عبد الله بن عبد الله بن أبي، عبد الله بن أبي هذا كان رأس النفاق، كان له ولد اسمه عبد الله أيضاً، كان من فضلاء الصحابة، عبد الله بن أبي الأب المنافق كان يكره الرسول ويبغضه بغضاً شديداً ويعاديه، ماذا قال الولد للرسول صلى الله عليه وسلم، قال: يا رسول الله! لو شئت لأتيتك برأسه -أقطع رأس أبي وآتي به إليك- من الذي يفعل هذا ويقدم على هذا العمل؟ إنها المحبة التي وقرت في نفس هذا الصحابي. كذلك من الأشياء التي أحبها رسول الله صلى الله عليه وسلم أعمال ينبغي أن نحبها نحن ونواظب عليها، فمثلاً يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الحسن: (من سره أن يحب الله ورسوله فليقرأ في المصحف) في صحيح الجامع.

توقيره واحترامه وتعظيمه بعد وفاته

توقيره واحترامه وتعظيمه بعد وفاته كذلك محبة الرسول صلى الله عليه وسلم تقتضي توقيره عليه الصلاة والسلام واحترامه، وتعظيمه حتى بعد وفاته، ولذلك قال العلماء: واعلم أن حرمة النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، وتوقيره وتعظيمه لازم على كل مسلم، كما كان ذلك واجباً حال حياته، وذلك عند ذكره عليه الصلاة والسلام، وعند سماع اسمه وسيرته. ولذلك كره العلماء رفع الصوت في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك عند قراءة حديثه وسيرته، وعند سماع القرآن وتفسير الفرقان؛ لأن القرآن الذي أتى به عليه السلام، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم كان من سنة السلف أنهم كانوا يخفضون أصواتهم وينصتون عندما تقرأ عليهم الأحاديث؛ لأن من احترام الرجل احترام حديثه، ومن احترام الرسول صلى الله عليه وسلم احترام حديثه، وعدم مقاطعة الحديث، وخفض الصوت، والإنصات للمحدث الذي يقرأ الحديث، قال تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} [النور:63]. ومرة من المرات ناظر أبو جعفر الخليفة مالكاً الفقيه العلامة الثقة المحدث، ناظره في المسجد النبوي، أي: مناقشة، فقال مالك للخليفة: لا ترفع صوتك يا أمير المؤمنين في هذا المسجد، فإن الله تعالى أدب قوماً، فقال: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات:2] ومدح قوماً فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} [الحجرات:3] وذم قوماً فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [الحجرات:4] وإن حرمته ميتاً كحرمته حياً، فاستكان لها أبو جعفر، نزل عند نصح الإمام مالك. ولذلك الصحابة كانوا يحترمون الرسول أيما احترام، فكان باب بيته صلى الله عليه وسلم يقرع بالأظافير كما ورد في الحديث الصحيح، حتى باب بيت الرسول ما كانوا يطرقونه طرقاً، كانوا يضربون عليه بالأظافير، انظروا إلى الحساسية المرهفة التي تعامل فيها الصحابة مع نبيهم صلى الله عليه وسلم.

الإحسان إلى أهل بيته وذريته

الإحسان إلى أهل بيته وذريته ومن حبه عليه السلام كذلك، الإحسان إلى أهل بيته، وذريته، وأمهات المؤمنين وأزواجه صلى الله عليه وسلم، فلو ثبت لك أن فلاناً من الناس من نسل الرسول عليه الصلاة والسلام ومن ذريته، وكان هذا الرجل تقياً ملتزماً بأحكام الإسلام، لا فاسقاً مضيعاً، فيجب عليك أن تحبه محبة زائدة عن محبة باقي الناس لماذا؟ لأنه من نسل الرسول صلى الله عليه وسلم، ولذلك أوصانا الرسول صلى الله عليه وسلم بالعترة، وأوصانا بأهل البيت، وذريته ونسله، وبأهل بيته خيراً، فيجب احترامهم، إذا كانوا يتقون الله تعالى، أما إذا كانوا لا يتقون الله فليس لهم عندنا محبة ولا تقدير ولا احترام، مثلهم مثل باقي الفساق، ماذا أفاد ولد نوح كون أبيه مسلماً؟ لا شيء، ماذا أفاد أبو الرسول صلى الله عليه وسلم أن ابنه كان رسولاً؟ لا شيء؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي: (أبي وأبوك في النار) ليس هناك فرق. فإذاً: هذه المحبة الزائدة عن محبة بقية المسلمين، إذا كان الرجل تقياً معظماً لحرمات الله.

نماذج من حب الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم

نماذج من حب الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وانظروا معي إلى هذه الأحاديث العجيبة التي تصف محبة الرسول عليه الصلاة والسلام وكيف كان الصحابة يحبونه، قصص عجيبة تجعلك تذهل عندما تسمع هذه الأوصاف.

إسلام ثمامة وحبه لرسول الله وبلده

إسلام ثمامة وحبه لرسول الله وبلده لما أسرت خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمامة سيد اليمامة، أسروه وأتوا به مقيداً إلى المسجد، وربط في السارية، بعد أيام أسلم هذا الرجل وكان كافراً، هذا الرجل ثمامة رضي الله عنه ماذا كان يقول؟ يقول: (أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، يا محمد! والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي، والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك، فأصبح دينك أحب الدين إليّ، والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك، فأصبح بلدك أحب البلاد إليّ). في لحظات غرست هذه المحبة في قلب الصحابي، عندما فتح قلبه للنور الذي أنزله الله، في لحظات أحب رسول الله ووجهه وبلده.

عمرو بن العاص وحبه للرسول صلى الله عليه وسلم

عمرو بن العاص وحبه للرسول صلى الله عليه وسلم وفي صحيح مسلم عن ابن شماسة قال: حضرنا عمرو بن العاص، وهو في سياقة الموت فذكر حديثاً طويلاً، فكان في الحديث، فحول عمرو بن العاص وجهه إلى الجدار، وهو على فراش الموت، يقول: [ما كان أحد أحب إلى من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أجل في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالاً له]-ما كان عمرو بن العاص مع محبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان ينظر إليه، وإنما كان يخفض بصره أمامه في الأرض احتراماً له عليه السلام-[ولو سئلت أن أصفه ما أطقت] لدرجة أن عمرو بن العاص الصحابي الذي رأى الرسول لو سئل أن يصف الرسول ما استطاع-[لأني لم أكن أملأ عيني منه] عجيب! ما كان يستطيع أن يصف الرسول؛ لأنه ما كان ينظر إليه، احتراماً وتوقيراً له.

أم سليم وبلال وحبهم للنبي صلى الله عليه وسلم

أم سليم وبلال وحبهم للنبي صلى الله عليه وسلم وعن أنس قال: (دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقال عندنا -أي: نام عند الظهر نوم القيلولة- فعرق عليه الصلاة والسلام في نومه، فجاءت أمي -صحابية تحب الرسول صلى الله عليه وسلم- فجاءت أمي بقارورة فجعلت تسلت العرق فيها -تأخذ من عرق جبين الرسول وتضعه في القارورة- فاستيقظ الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: يا أم سليم ما هذا الذي تصنعين؟ قالت: هذا عرقك، نجعله في طيبنا، وإنه أطيب الطيب) لأن عرق الرسول صلى الله عليه وسلم كان أطيب من جميع أنواع الطيب، كان له رائحة مثل رائحة المسك وأشد من رائحة المسك. هذا الحديث في الصحيحين. ولما احتضر بلال رضي الله عنه ونزل به الموت، لما نادته امرأته وا حزناه! ماذا كان يقول بلال؟ يقول: [وا طرباه! غداً ألقى الأحبة محمداً وصحبه] كان الصحابة عند فراش الموت يشتاقون، فالمرأة حزينة والصحابي فرح؛ لأنه بعد قليل سيذهب ليلقى الرسول صلى الله عليه وسلم إن شاء الله، صححه الربعي في كتابه وصايا العلماء.

شهادة كفار قريش على حب الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم

شهادة كفار قريش على حب الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولما أخرج زيد بن الدثنة، هذا الصحابي لما أسره الكفار وخرجوا به إلى خارج الحرم ليقتلوه وربطوه، قال له أبو سفيان: أنشدك الله تعالى، يقول أبو سفيان -وكان كافراًً- لـ زيد المسلم وهو مربوط: أنشدك الله تعالى يا زيد أتحب أن محمداً الآن مكانك يضرب عنقه وأنك في أهلك؟ -إنه كافر لا يعرف مدى محبة الصحابة- قال: [والله ما أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة وأنا جالس في أهلي]. أي: ليس فقط هكذا، لا، لو أن الرسول تشاكه شوكة، هذا عندي أعظم من أن أقتل أنا، يقول الصحابي: لو خيرت بين قطع عنقي، وبين شوكة تصيب الرسول، لاخترت قطع عنقي أنا على أن الشوكة تصيب الرسول صلى الله عليه وسلم. فقال أبو سفيان: ما رأيت أحداً من الناس يحب أحداً، كحب أصحاب محمد محمداً. وكذلك روى البخاري رحمه الله في حديث الحديبية هذه الغزوة المشهورة والفتح المبين كلاماً نعرفه جميعاً، لكن عندما تفكر في الكلام هذا تجد المسألة في غاية العجب، عروة بن مسعود قبل أن يسلم بعثه أهل مكة ليتفاوض مع الرسول صلى الله عليه وسلم ويصالحه، فجعل عروة يرمق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعينيه، قال عروة يصف كيف كان وضع الصحابة مع الرسول: فوالله ما تنخم محمد نخامة -النخامة ما يخرج من أقصى الحلق من البصاق- إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه -كل واحد يريد أن يأخذ الزائد من وضوء الرسول صلى الله عليه وسلم من الماء الذي توضأ به- وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده -تكلم الرسول سكت الجميع، كل الجيش ألف وأربعمائة صحابي، إذا تكلم الرسول خطيباً فيهم سكت الجميع فوراً لا يحتاجون إلى تسكيت، ولا إلى نداءات بالسكوت يسكتون فوراً- ولا يحدون إليه النظر تعظيماً له، لا ينظر الواحد في الرسول صلى الله عليه وسلم مدة طويلة، لا يحد النظر إليه. فرجع عروة إلى أصحابه فقال: أي قوم! والله لقد وفدت على كل الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله ما رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه كما يعظم أصحاب محمد محمداً، والله ما إن يتنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، ولا يحدون النظر إليه تعظيماً له. نسأل أنفسنا سؤالاً، لو كنا عند الرسول -أيها الإخوة- وتفل رسول الله صلى الله عليه وسلم وبصق، هل كنا سنتقاتل على هذا البصاق الذي يخرج منه لنأخذه وندلك به جلودنا؟ فكر معي يا أخي هذه المنزلة ليست بسيطة، لكن محبة أصحاب الرسول لرسولهم صلى الله عليه وسلم.

حكم التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم وشروطه

حكم التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم وشروطه وعن أنس رضي الله عنه -وروى هذا الحديث مسلم - قال: (لقد رأيت رسول الله والحلاق يحلقه، وأطاف به أصحابه -أي: داروا حول الرسول والحلاق يحلق الرأس- فما يريدون أن تقع شعرة إلا في يد رجل). ما تقع شعرة من الحلق إلا وجاءت في يد رجل، لا يتركونها تقع على الأرض. أيها الإخوة! آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهبت، هذه الآثار كانت عندما كان الرسول صلى الله عليه وسلم حياً، أو ما بقي منها مع الصحابة بعد موته، لكن الآن آثاره صلى الله عليه وسلم فقدت، ويصعب نسبتها إليه عليه السلام، أي: بعض الناس يقولون: في تركيا هناك شعرة وسيف، لكن ليس بمؤكد نسبتها له صلى الله عليه وسلم، فلذلك لا يجوز التبرك بشيء منها بعد موته، مادمنا غير متأكدين من أنها له عليه الصلاة والسلام. شرط التبرك، التبرك هذا خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم فقط، لا يجوز التبرك بأي أثر من الآثار إلا أثر الرسول صلى الله عليه وسلم إذا كانت نسبته إلى الرسول صحيحة، فلابد أن تكون نسبة الأثر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم صحيحة، حتى يجوز التبرك به.

حال الصحابة بعد فراق محبوبهم

حال الصحابة بعد فراق محبوبهم ولما مات عليه السلام، واختاره الله إليه، كيف كان وضع الصحابة؟ روى الترمذي، وهو في صحيح الشمائل المحمدية عن أنس قال: لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء، وما نفضنا أيدينا من التراب، وإنا لفي دفنه حتى أنكرنا قلوبنا. الصحابة رأوا الدنيا مظلمة في أعينهم لما مات الرسول صلى الله عليه وسلم، وجاء في بعض الروايات: أنهم كانوا كالشياه في الليلة الظلماء المطيرة، تفرقوا لا يلوي أحدٌ على أحد، من عظم المصيبة التي وقعت عليهم بفراق محبوبهم. ولذلك كانت المصيبة في الرسول صلى الله عليه وسلم أعظم المصائب، أعظم مصيبة في الدنيا ممكن أن تقع لإنسان هي المصيبة التي حصلت بوفاة النبي عليه الصلاة والسلام، لذلك يقول عليه الصلاة والسلام موجهاً الأمة: (إذا أصابت أحدكم مصيبة، فليذكر مصيبته بي، فإنها من أعظم المصائب) أي: إذا مات لك عزيز وقريب، وصاحب عزيز عليك، حتى تخفف من وقع المصيبة ماذا تفعل؟ تتذكر المصيبة بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم فتهون عليك مصيبتك، أيهما أكثر مصيبة وفاة المعلم الذي كان يعلم الناس ويرشدهم أم وفاة هذا الرجل؟ فلذلك هذا إرشاد نبوي لكل إنسان وقعت له مصيبة أن يتذكر مصيبته كمسلم هو به صلى الله عليه وسلم.

حال السلف بعد انقضاء عصر الصحابة

حال السلف بعد انقضاء عصر الصحابة ولما انقضى عصر الصحابة وجاء بعدهم السلف رحمهم الله، كيف كان حالهم؟ اسمعوا معي، قال مالك رحمه الله لما سئل عن أيوب السختياني، من كبار علماء السلف قال: ما حدثتكم عن أحد إلا وأيوب أفضل منه، وحج حجتين وكنت أرمقه ولا أسمع منه -أي أن مالكاً في البداية ما كان يسمع من أيوب، حتى حصل موقف، ما هو الموقف؟ - أنه كان إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بكى حتى أرحمه، يبكي أيوب حتى أن مالكاً رحمه الله يرحم أيوب من شدة البكاء، فلما رأيت منه ما رأيت، وإجلاله النبي صلى الله عليه وسلم كتبت عنه، أخذ الحديث عنه. وجاء في بعض الكتب أن الزهري رحمه الله كان من أهنأ الناس، أي: من ألطف الناس في العشرة وأقربهم في المودة، فإذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم فكأنه لا يعرفك ولا تعرفه، مع أنه كان من أشد الناس مودة وحسن تعامل. وكان عبد الرحمن بن مهدي إذا قرأ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الناس الموجودين في المجلس بالسكوت، وقال: لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي، ويتأول أنه يجب له من الإنصات عند قراءة حديثه ما يجب له عند سماع قوله حياً. وقال مصعب بن عبد الله: كان مالك إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ينحني ويتغير لونه، أي: هو يجلس فلما يذكره صلى الله عليه وسلم ينحني في جلوسه ويتغير لونه. ولقد كنت أرى جعفر بن محمد، وكان كثير الدعابة والتبسم، فإذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم اصفر لونه، وما رأيته يحدث عن رسول الله إلا على طهارة. وقال مالك: جاء رجل إلى ابن المسيب فسأله عن حديث وهو مضطجع، فجلس وحدثه، فقال الرجل: وددت أنك لم تتعنى -أي: لا تتعب نفسك- فقال: إني كرهت أن أحدثك عن رسول الله وأنا مضطجع. وكان مالك إذا حدث عن رسول الله فعل أشياء عجيبة، واسمع معي إلى هذه القصة: كان طلبة العلم إذا جاءوا لـ مالك رحمه لله يطرقون الباب، خرجت إليهم الجارية التي عند مالك، فتقول لهم: يقول لكم الشيخ: تريدون الحديث أو المسائل؟ -تريدون الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أم تريدون مسائل فقهية، إذا صار كذا ما هو الحكم، وإذا صار كذا ما هو الحكم- فإذا قالوا: المسائل، خرج إليهم مالك مباشرة بثيابه العادية وأفتاهم، وإن قالوا: نريد الحديث، دخل مغتسله فاغتسل، وتطيب، ولبس ثياباً جدداً، وتعمم، ووضع رداءه على رأسه، وتبخر، فيخرج إليهم وعليه الخشوع، ولا يزال حتى يفرغ من حديث رسول الله، فقيل لـ مالك في ذلك، فقال: أحب أن أعظم حديث رسول الله، ولا أحدث به إلا على طهارة. هؤلاء علماؤنا -أيها الإخوة- هكذا كانت محبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه المحبة تدفعهم إلى تعظيم حديثه، ومن خالف سنته عليه السلام فهو ناقص المحبة، ولكن لا يجوز لنا أن نقول لإنسان عاصٍ -هذه نقطة مهمة- أنت لا تحب الرسول مطلقاً، وليس في قلبك أي ذرة من ذرات محبة الرسول، لا، بدليل أن الرجل الذي جاء وقد شرب الخمر وهو النعيمان، وكان يضحك رسول الله، كان هذا الرجل يلف على الأسواق، فينظر الشيء الظريف والذي فيه ظرافة، فيأخذه من البائع ويأتي به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فيقول: يا رسول الله! أنا أحببت أن أهديك هذا الشيء الظريف، فالرسول صلى الله عليه وسلم يسر، فبعد قليل يأتي البائع للرسول، فيقول: يا رسول الله! أعطني ثمن هذا، فيقول النعيمان: أنا أخذته وأهديتك إياه، لكني حولته عليك أنت تدفع له. هذا الرجل حصل معه في مرة من المرات ضعف نفس، فشرب الخمر، فأوتي به ليجلد، فسبه بعض الصحابة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للصحابي الذي لعنه: (لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله) أي: إذا كان الرجل مسلماً لكن عنده معصية، فاسق، لا نقول له: أنت لا تحب الرسول بالكلية، وليس عندك ذرة من المحبة للرسول، لا، ولكن نترفق بهذا الرجل، وننصحه، ونغلظ عليه إذا احتاج الإغلاظ، لكن لا ننفي عنه المحبة نهائياً؛ لأنه إذا كان الرجل لا يحب الرسول نهائياً، فمعناه أنه قد خرج عن الإسلام إلى الكفر والعياذ بالله. ومحبة رسول الله -أيها الإخوة- عبادة من العبادات، وما هو الشرط في كل عبادة؟ أولاً: أن تكون خالصة لوجه الله، ثانياً: أن تكون على طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم، أي عبادة لابد أن يكون فيها هذا، فإذا خرجت العبادة عن أحد هذين الحدين، فقد صارت مردودة على صاحبها.

غلو الصوفية وإفراطهم في محبة النبي صلى الله عليه وسلم

غلو الصوفية وإفراطهم في محبة النبي صلى الله عليه وسلم فالآن أيها الإخوة! كثيرٌ من الناس في باب محبة الرسول صلى الله عليه وسلم بين إفراط وتفريط، فمنهم من يغالون فيه عليه السلام -كما سنضرب أمثلة بعد قليل- يغالون فيه مغالاة شديدة حتى تخرجهم عن الإسلام بالكلية والعياذ بالله، هذا الرسول صلى الله عليه وسلم مع أن الصحابة كانوا يحبونه جداً، لكن هل كان يرضى أن الصحابة يفعلون أمراً محرماً من أجله هو عليه السلام؟ كلا، فقد ورد في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري في الأدب المفرد عن أنس قال: (ما كان في الدنيا شخص أحب إليهم رؤية من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له، لما كانوا يعلمون من كراهيته لذلك)، القيام للداخل من الأمور المذمومة شرعاً، كلما دخل واحد تقوم له، الصحابة كانوا يحبون الرسول جداً، هل كانوا يرتكبون المحظور، فكل ما دخل عليهم الرسول يقومون مثلما تقوم الأعاجم الكفار لملوكهم؟ لا، فانظر يا أخي كيف اقترنت المحبة بطاعة الله، محبة الرسول داخلة ضمن طاعة الله، فإذا كان الأمر محرماً فلا يفعل. ولذلك أنكر الرسول صلى الله عليه وسلم على رجل أشد النكير، عندما جاءه فراجعه في بعض الكلام فقال: ما شاء الله وشئت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أجعلتني مع الله عدلاً، لا، بل ما شاء الله وحده) أو: (أجعلتني لله نداً) حتى وإن كان يحب الرسول، لا يجوز أن يقول: ما شاء الله وشئت، للرسول، هذا من الشرك الأصغر، والرسول صلى الله عليه وسلم حذر الأمة أن يرفعوه فوق منزلته التي أنزله الله إياها، فقال: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبدٌ، فقولوا: عبد الله ورسوله). انظر إلى هذا النهي عن الإطراء، لا نرفع الرسول مع محبتنا له عليه الصلاة والسلام فوق المنزلة التي أنزله الله إياها، وعندما تأتي إلى المشركين ممن يدعون الإسلام، تجد لهم أقوالاً عجيبة، ومن أمثلتها أيها الإخوة: هذه القصيدة المعروفة بنهج البردة، الذي يقول قائلها وناظمها، يقول فيها: يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به سواك عند حدوث الحادث العمم ولن يضيق رسول الله جاهك بي إذا الكريم تجلى باسم منتقم إن لم يكن في معادي آخذاً بيدي فضلاً وإلا فقل: يا زلة القدم ما رأيكم بهذا الشعر؟ هذا الشعر الذي يقول فيه الشاعر: يا رسول الله! أنا عند نزول المصيبة عليّ مالي غيرك ألوذ به، ولا غيرك أستغيث به، ويوم القيامة إذا عرق الناس وصاروا في الأهوال، إذا ما أخذت بيدي يا رسول الله! فقل: يا زلة القدم. ثم يقول: فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم ما هي ضرة الدنيا؟ الآخرة، يقول: يا رسول الله! الدنيا والآخرة كلها من جودك بالذي فيها، ومن علومك يا رسول الله علم اللوح والقلم، فماذا بقي لعلم الله إذا كان من علم الرسول علم اللوح والقلم؟ هذه القصيدة التي تقرأ اليوم في الموالد التي يزعم أصحابها أنهم يحبون رسول الله، هذا الضلال والشرك الذي يرفضه رسول الله رفضاً شديداً، وحذر الأمة منه تحذيراً شديداً، ووقع فيه بعض أفراد أمته، وتكلف بعض الناس تكلفات باردة في تأويل مقاصد صاحب القصيدة، فقالوا: ومن علومك، أي: يقصد الله عز وجل، وليس فيها إشارة واحدة إلى أنه يقصد الله، لأن السياق كله يأتي في مدح الرسول، وقس على ذلك أيضاً من التكلفات في التأويل التي لم يقصدها صاحبها أصلاً. وهذا الرجل الآخر الذي يقول في منظومته: يا سيدي يا رسول الله يا أملي يا موئلي يا ملاذي يوم يلقاني هبني بجاهك ما قدمت من زلل جوداً ورجح بفضل منك ميزاني يطلب من الرسول أن يرجح ميزانه، وأن يغفر له خطاياه جوداً منه، ثم يقول: واسمع دعائي واكشف ما يساورني من الخطوب ونفس كل أحزاني إني دعوتك من نيابتي برع وأنت أسمع من يدعوه ذو شان فامنع جنابي وأكرمني وصل نسبي برحمة وكرامات وغفران وصل به الحد إلى أنه يطلب من الرسول الكرامات والغفران ومنع الجناب، وهذه الأشياء التي ليست إلا لله عز وجل، ويقول أيضاً: وحل عقدة كربي يا محمد من همٍ على خطرات القلب مطرد أرجوك في سكرات الموت تشهدني كي ما يهون إذ الأنفاس في صعد يقول: يا رسول الله! تعال أشهدني عند الموت حتى تتسهل أحوالي، وحتى تخرج روحي بسهولة وإن نزلت ضريحاً لا أنيس به فكن أنيس وحيد فيه منفرد فكن يا رسول الله أنيسي في قبري. وارحم مؤلفها عبد الرحيم ومن يليه من أجله وانعشه وافتقد وإن دعا فأجبه واحم جانبه من حاسد شامت أو ظالم نكد ماذا أبقى هذا الرجل لله عز وجل؟ إذا كان الرسول هو الذي يؤنس الوحشة في القبر، ويثقل الميزان، ويغفر الخطايا، ويحمي من الشرور، فإذاً فما الذي لله عز وجل؟ أيها الإخوة! نحن نحب الرسول صلى الله عليه وسلم، لكننا نرفض بشدة أي محاولة للغلو فيه، ورفعه فوق منزلته، بل إن من الإزراء به رفعه فوق منزلته، الرسول يقول: إنه لا يملك ضراً ولا نفعاً، ويطلب من الناس أن يلوذوا بالله عند حلول المصائب، فمن الإزراء به عليه السلام أن تلجأ إليه أو كما يفعل الجهلة الآن من يطوف بقبره، ومن يمسح الحديد الذي على قبره، ومن يدعوه من دون الله، ومن يقيم الموالد التي تتلى فيها مثل هذه القصائد الشركية، وحتى إذا ما تليت فإن إقامتها في هذا اليوم الذي يزعمون أن إقامة المولد في هذا اليوم من القربات، إنما هو بدعة من البدع، ما فعلها أحب الناس إليه عليه الصلاة والسلام، لا فاطمة ولا علي ولا الحسن ولا الحسين ولا الصحابة ما فعلوا هذا، هل نحن نحب الرسول أكثر من الصحابة؟ إذاً فلم الابتداع في الدين؟ وهؤلاء الجهلة من غلاة الصوفية الذين يقول عنهم المناوي -وفيه شيء من التصوف- يقول في كتابه: قال العارف المرسي: والله لو حجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفة عين ما عددت نفسي من المسلمين. يقول هذا الصوفي: أنا أشاهد الرسول حياً بجسده دائماً، ولو حجب الرسول عني لحظة واحدة ما عددت نفسي من المسلمين، ثم يقول أيضاً: والله ما صافحت بهذه اليد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. هؤلاء ربما فعلاً رأوا أحداً وصافحوه، ولكن من يكون؟ شيطان تمثل لهم فضحك عليهم وأغواهم، وصافحهم على أنه الرسول، وهؤلاء الجهلة صدقوه، وزادوا في ضلالهم وطغيانهم، ومنهم من يزعم أنه تلقى الحكم الفلاني من الرسول، وأنه شاهد الرسول بعينه وجلس معه، وناقش معه أحوال الناس ومشاكلهم، وأنه أخذ أحاديث من الرسول ما أخذها الصحابة، وأشياء عجيبة جداً، سببها الغلو في رسول الله صلى الله عليه وسلم.

منهج أهل السنة في محبة النبي صلى الله عليه وسلم

منهج أهل السنة في محبة النبي صلى الله عليه وسلم فنحن -أيها الإخوة- أهل السنة والجماعة في باب محبة الرسول صلى الله عليه وسلم حق بين باطلين، الباطل الأول: الغلو فيه، والباطل الثاني: الجفاء، لا نريد نحن أن تقسو قلوبنا على الرسول صلى الله عليه وسلم، ونشعر بالجفاء، لا، نريد أن نحيي قلوبنا بمحبته عليه الصلاة السلام، لكن في الطرف الآخر لا نغلو به ونرفعه فوق منزلته. والحقيقة -أيها الإخوة- أن هنا مسألة يجب الانتباه إليها، أنه في غمرة ردودنا على أهل التصوف وأهل البدع، قد يصل بنا الحال إلى نوع من الجفاء؛ لأننا غالباً عندما نخاطب هؤلاء الناس نقول لهم: لا تطروني، والأحاديث التي تنهى عن الغلو، وو إلى آخره، لكننا ننسى أن نذكر أنفسنا بمثل هذه الأحاديث التي توضح محبة الصحابة للرسول صلى الله عليه وسلم، مثل هذا الحديث يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفس محمد بيده، ليأتين على أحدكم يوم لأن يراني ثم لأن يراني أحب إليه من أهله وماله معهم) منزلة عظيمة، يقول في الحديث الصحيح أيضاً: (أشد أمتي لي حباً قوم يكونون بعدي، يود أحدهم أنه فقد أهله وماله وأنه رآني) يقول النبي صلى الله عليه وسلم في ناس هذه صفتهم: يود أحدهم لو فقد أهله وماله وأنه رآني. فإذاً أيها الإخوة: حق بين باطلين، محبة قلبيه حارة، وفي نفس الوقت لا غلو ولا جفاء، هذه من الأمور المهمة، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من الذين يحبون رسول الله حق المحبة، وأن يرزقنا شفاعته، وأن يرزقنا الالتقاء به في جنة الفردوس، وأن يرزقنا الأخذ بسنته صغيرها وكبيرها، ونسأله سبحانه وتعالى أن ينعم علينا وعليكم باتباع طريقة رسول الله ظاهراً وباطناً.

الأسئلة

الأسئلة وفي الختام -أيها الإخوة- أسئلة سريعة توجه بها بعض الإخوة وتوجهت بها إلى الشيخ: عبد العزيز بن باز حفظه الله تعالى فأجاب عنها.

حكم استعمال التقاويم التي تحمل دعاية البنوك

حكم استعمال التقاويم التي تحمل دعاية البنوك Q ما حكم استعمال الدعايات من هذه التقاويم التي تطبعها بعض البنوك الربوية؟ A يقول الشيخ ابن باز: لو كانت هذا التقاويم هي عبارة عن تقاويم فقط، أي: ما عليها دعاية ولا صورة للبنك مثلاً فاستعمالها لا حرج فيه، حتى ولو طبعوها بأموال الربا؛ لأنها تعتبر من المال الضائع الذي لا صاحب له، فلا بأس من الاستفادة منها، أما إذا كانت تحمل شعار البنك وصورة لمبناه، ودعاية للأشياء التي فيه، فعند ذلك لا تستعمل وتجتنب.

قول: (سيدي) للكافر والفاجر

قول: (سيدي) للكافر والفاجر Q هل يجوز أن أكتب لرئيسي الكافر السيد فلان الفلاني المحترم، أو المكرم فلان الفلاني الموقر، أو رجل مسلم اسمه اسم مسلم لكنه تارك للصلاة أو يسب الدين، أي: خارج عن الإسلام؟ A هذا السؤال عرض على الشيخ ابن عثيمين والشيخ ابن باز، فكان جواب الشيخ ابن عثيمين: أما قول: سيد، هذه لا تجوز مطلقاً أن تكتب له السيد، على الظرف أو على الرسالة، وخصوصاً الذين يطبعون فواتير وأشياء من هذا القبيل، ينتبهون لهذا الأمر؛ لأن فيه حديثاً صحيحاً (لا تقولوا: للمنافق سيد) ويلحق به الكفار والفجار، لا نقول: السيد، هؤلاء الذين يطبعون ويكتبون الرسائل لا يجوز لهم بأي حال من الأحوال، أن يخاطب الرجل الكافر فيكتب إليه: السيد فلان؛ لأنه يسخط الله عز وجل إن فعل هذا. توقير أهل الكفر أصلاً غير وارد في شريعة الإسلام، إلا إن كان من باب الدعوة إلى الله، فنجعل له من الاحترام ما يرغبه ويجذبه، فيقول الشيخ: ابن باز: فأما إذا صار حاجة إلى هذا، فلا بأس من كتابة: المكرم فلان الفلاني المحترم، ويقصد الكاتب بقلبه المكرم عند قومه الكفرة، المحترم عند قومه الكفرة، لا المكرم عندي كمسلم أو عند المسلمين، ولا المكرم عندي أو عند المسلمين، وإنما أكتب إذا اضطررت إلى هذا المكرم أو المحترم عند الكفرة من بني جنسه، أما لفظة السيد فلا يلجأ إليها مطلقاً، يقول الشيخ: ابن عثيمين: ولا حتى للمسلم، لا يقال عنه السيد، ربما لأن هناك حديثاً صحيحاً يقول صلى الله عليه وسلم: (السيد الله) أي: السيد الذي له السيادة الحقيقية الكاملة هو الله عز وجل، فالله عز وجل هو السيد.

حكم صلاة المرأة عند تغير العادة بسبب الحبوب

حكم صلاة المرأة عند تغير العادة بسبب الحبوب Q امرأة استعملت حبوباً للعادة، أو تضع لولباً فيحصل اختلال في العادة فينزل دم قبل موعده، ويكون أحياناً لون الدم مختلف، أو يحصل اختلال فماذا تفعل المرأة، هل تصلي أو لا تصلي؟ A يقول الشيخ: ابن باز حفظه الله مجيباً على هذا السؤال: إذا صار هذا التغير المتصل بالعادة، ليس المنفصل عنها بأيام أو يوم، ليس متصلاً بها، أي: أن الدماء تنزل وراء بعض، إذا كان هذا التغير الذي طرأ قد أصبح عادة لها دائماً يأتيها بهذا الشكل بعد أخذ الحبوب أو وضع هذه الأشياء صار التغير هذا دائماً، وصار جزءاً من عادتها، صارت متوعدة أن العادة قد صارت يومين، فصارت بعدما أخذت الحبوب دائماً تزيد يومين، فعند ذلك صارت ملحقة بالعادة فصارت من العادة، أما إن كان اختلافاً عن دم الحيض وما كان عادة لها، في شهر يأتي وفي شهر لا يأتي، فعند ذلك لا يعتبر من دم العادة، وتصلي وتعتبر هذا الدم من الاستحاضة.

حكم الصلاة في مسجد بني من الربا

حكم الصلاة في مسجد بني من الربا Q ما حكم الصلاة في المسجد المبني بأموال الربا؟ A فيقول الشيخ: ابن باز مجيباً على هذا السؤال: لا حرج إن شاء الله، وإن كان ليس هو الأفضل، لكن لا حرج في الصلاة في هذا المسجد.

قطع صلاة السنة لأجل الجنازة

قطع صلاة السنة لأجل الجنازة Q سألني أحد الإخوة، وسألت عنه الشيخ ابن باز، هل تقطع صلاة السنة لأجل صلاة الجنازة؟ أي: واحد يصلي السنة، فجاءت جنازة، فكبر الإمام بعد ما شرع صاحبنا في صلاة السنة، فماذا يفعل؟ لو كمل السنة تفوته صلاة الجنازة، فهل يقطع صلاة السنة أم لا؟ A يقول الشيخ: ابن باز: الظاهر أنه يقطعها؛ لأن صلاة الجنازة تفوت، أما صلاة السنة فلا تفوت، فلذلك لا حرج في قطعها.

مؤامرة تمييع الدين [1]

مؤامرة تمييع الدين [1] معاول الهدم في العقيدة الإسلامية كثيرة، ومنها التمييع لكثير من القضايا الخاصة بهذا الدين، ومن هذا التمييع: إنكار الأمور الغيبية والمعجزات الخاصة بالرسل تمييع قضية الحكم على المرتدين تمييع أحكام الفقه وأصول الإسلام تمييع الحواجز بين المسلم والكافر

خطر تمييع الدين وثوابته

خطر تمييع الدين وثوابته إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإننا معشر المسلمين مطالبون شرعاً بالدفاع عن حياض الإسلام، والذود عن هذه الشريعة المطهرة، ولأن ديننا أعز شيء لدينا، وجُبل الإنسان على الدفاع عن أغلى شيء عنده، وعن النفيس مما لديه، فلابد للمسلم أن يضع نُصب عينيه الدفاع عن شريعة الإسلام، وأن يجعل له ذلك وظيفةً، وألا يقصر في القيام في هذا الأمر، يسعى لله بالحجة والبيان، وينافح عن الإسلام، وعندما يكون المسلمون في ضعف يتكاثر الطاعنون، ويرفع أهل الضلال رءوسهم، يريدون النيل من هذا الدين القويم. ونحن لا ننكر أيها الإخوة! في مرحلة الاستضعاف التي نعيشها أننا نتعرض لحملة شرسة من أعداء الدين، وأن هناك كثيراً من الخراب في الفكر والعقيدة الذي تسلل إلى نفوس بعض المسلمين ممن حملوا معاول الهدم، يشعرون أو لا يشعرون، ولكنك لا يمكن أن تغمض عين البصيرة عن الروابط التي تربط أعداء الدين في الخارج مع أعداء الدين داخلنا وبيننا؛ لأن الإغماض عن ذلك نوع من الغفلة، لا يمكن أن يليق بمسلم صاحب بصيرة. ومعاول الهدم كثيرة في هذه العقيدة التي هي صامدة في نفوس أبنائها مهما حصل، ومن ذلك أيها الإخوة موضوع خطير جداً يدندن حوله، ويراد تقريره، وهو موضوع التمييع، تمييع عدد من أحكام الدين، وشعائر الدين، وعدد من المسلمات والثوابت في هذه الشريعة المطهرة. لقد تولى إفك التمييع وهذا المهمة عدد من المنتسبين إلى أهل الإسلام، الذين يتسمون بأسماء المسلمين، ولكنهم في الحقيقة يريدون أن يقلعوا الشريعة حجراً حجراً، وبعضهم يظن أن ما يفعله هو أمر طيب في صالح الشريعة، وبعضهم يفعل ما يفعل عن تعمد واستمداد من أهل الباطل والكفر وصناديده. وهذا التمييع أيها الإخوة! أمرٌ جد خطير؛ لأنه قد حصل بسببه التباس عند كثير من المسلمين الذين تأثروا بهذه الأفكار المطروحة، وهذا التمييع صار في جوانب متعددة، ولنأخذ بعض الأمثلة تحت بعض العنوانين لنبين ما هو المقصود بقضية التمييع.

إنكار الأمور الغيبية

إنكار الأمور الغيبية إن هؤلاء الطاعنين في شريعتنا، يميعون على سبيل المثال كثيراً من أمور الغيب والعقيدة؛ ولأن عقولهم لا تقبل وجود أشياء غيبية كالملائكة والجن مثلاً؛ لأنهم لا يحسون بها ولا يرونها، فيريدون إنكارها. ولذلك فإنهم يدندنون حول قضية إمكانية أن يعيش المسلم بسلوك الإسلام دون أن يعتقد ببعض الأمور الغيبية، ويقولون: إن المهم هو فقه الشريعة، وأما فقه العقيدة فإنه مسألة فيها حرية وسعة، وأن المسلم يمكن أن يعيش بسلوك الإسلام، حتى ولو أنكر بعض الرموز والخيالات الموجودة في هذا الدين، يقول محمد أركول من ضُلال هذا العصر: لابد من أن نقر أن الذي حرك القبائل أيام النبي محمد -ونحن نقول: صلى الله عليه وسلم- وهو لم يقل: صلى الله عليه وسلم، هو الإيمان كما ورد في القرآن، والتصورات الأخروية من وعد ووعيد، التي دخلت عقول الناس وجعلتهم يؤمنون بها كحقائق واقعية، وليس كخيال ورموز، ونحن ننظر إليها في هذا العصر كخيال ورموز. وكذلك يقول حسن حنفي: ألفاظ الجن والملائكة والشياطين ألفاظ تتجاوز الحس والمشاهدة، ولا يمكن استعمالها؛ لأنها لا تشير إلى واقع، ولا يقبلها كل الناس. وكذلك يرى زكي نجيب محمود: إن الغيب والإيمان به خرافة. ويقول واحد آخر ممن يحسب على المشيخة والمشايخ، يقول عن إحدى صفات الله تعالى: إن العقائد لا تُخترع ولا تُفتعل على هذا النحو المضحك، عقيدة أن لله رجلاً ما هذا؟! فيريد إنكار القدم أو الساق أو اليد أو الوجه من صفات الرب عز وجل التي أثبتها لنفسه في كتابه سبحانه وتعالى، وقال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:27]. وكذلك أثبت صفة القبضة له سبحانه وتعالى، وأثبت صفة اليد له عز وجل، أثبتها له سبحانه، وهو المتصف بها، ونحن لا نعرف إلا ما أخبرنا به في كتابه، وما حدثنا به عنه رسوله صلى الله عليه وسلم: {وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر:67] {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة:64]. وهذا يقول: هذا سخف، لله كذا، هذا شيء مضحك! استهزاء بصفات الله، والذي قبله يقول: العوالم الغيبية رموز وخيالات، والذي بعده يقول: الشياطين والملائكة ليس لها وجود، لا يقبلها كل عقل، ثم يقولون: فكيف إذاً يلتقي المسلمون الذين يؤمنون بهذه والذين لا يؤمنون، يمكن أن يلتقوا على السلوك الإسلامي، وعلى الأخلاق الإسلامية، أما هذه العقائد والأمور الغيبية فلا يلزم الجميع أن يؤمنوا بها. سبحان الله! ما هي أول صفة وصف الله بها المؤمنين في سورة البقرة؟ {الم * {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ * {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:1 - 3] بل إقامة الصلاة: {وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ) [البقرة:3 - 4] أعادها وكررها: {بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ} [البقرة:4] وما فيها من المشاهد الغيبية، من الحوض والصراط والميزان والجنة والنار، وعرش الرحمن وكرسي الرحمن، والمنابر من نور عن يمين الرحمن، وظل العرش: {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة:4] أولئك المؤمنون حقاً أيها الإخوة: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:5] فإذا لم يؤمنوا ببعض هذه الأشياء، فليسوا على هدىً من ربهم، وليسوا بالمفلحين، وليسوا هم المؤمنون حقاً. فهل رأيتم إذاً وتراً من الأوتار الذي يعزف عليها هؤلاء في قضية تمييع هذه الأمور؟

إنكار معجزات الأنبياء

إنكار معجزات الأنبياء ومن الأشياء التي يريدون التخلص منها معجزات الأنبياء، لماذا أيها الإخوة؟ لأنها غيب، وعقولهم لا تتحمل الغيبيات، عقل فاسد وضيق، لا تتحمل عقولهم الغيبيات، فهذا أحدهم يقول: الذي ادعى أنه يحمل الجمع في الفقه بين القرآن والسنة، وألف كتاباً خطيراً جداً في السنة النبوية، يريد أن يزلزلها وينسف ثوابتاً فيها، يقول: على أنه لا صلة للعقيدة بأن الرسول عليه الصلاة والسلام أظلته غمامة أو كلمه جماد، والرجل الصالح لا يُغمز مكانته إنكاره لهذه الخوارق. لاحظ معي يقول: إذاً لا صلة للعقيدة بقضية أن الرسول عليه الصلاة والسلام أظلته الغمامة أو كلمه جماد، والرجل الصالح لا يغمز مكانته إنكاره لهذه الخوارق، إذاً يمكن أن يكون الرجل صاحب مكانة في الدين، وهو ينكر هذه الخوارق، والله تعالى هو الذي أيد نبينا صلى الله عليه وسلم بالمعجزات، وهو الذي أعطاها له ردءاً وتأييداً منه سبحانه؛ ليتبين قومه أنه نبي فعلاً ولا يقولوا: كذاب، لقد انشق القمر وأراهم القمر شقين، ورأوا أموراً عجيبة، ورأى أتباع النبي محمد صلى الله عليه وسلم من الخوارق ما زاد إيمانهم، ومن المعجزات ما أكد يقينهم وثبتهم: {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260]. فرأوا تكثير الطعام بين يديه، ونبع الماء من بين أصابعه، وتسبيح الأكل وهو يؤكل، وسلم عليه الحجر بـ مكة، فكانت المعجزات تأييداً له ولأصحابه وبرهاناً على نبوته أمام الكفار، ومات صلى الله عليه وسلم وأبقى لنا هذه المعجزة الخالدة، وهي القرآن الكريم. أيها المسلمون! إن الله عز وجل لا يعجزه أن يؤيد رسولاً من رسله بأن تمشي إليه شجرة أو يحيي له ميتاً، أو يخرج له ناقة من صخرة، أو ينبع الماء من بين أصابعه، أو يرزقه فاكهة الشتاء في الصيف، أو يحا له طائراً قد ذبح وقطّع، فالله يؤيد أنبياءه بالمعجزات، ويعطي الكرامات لأوليائه، وليس ذلك على الله بعزيز، والله على كل شيء قدير، ولما رأى إبراهيم الخليل هذه الطيور التي قطّعت وذبحّت ووزعت على الجبال، ثم دعاها فجاء عنق هذا إلى جسده، ورجلا هذا إلى بقية الجسد وتركبت وطارت إليه، وقال: {أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:259] وأن الله عزيز حكم، كما قال ذلك عزير وقالها إبراهيم. إذاً أيها الإخوة! هؤلاء الذين ينكرون الجن اليوم، ويقولون: إنهم غير موجودين، وإن الصرع لا يمكن أن يحدث، وإن الشياطين ليس لها تسلط على البشر، والله سبحانه وتعالى قد ذكر ذلك بقوله عز وجل: {إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة:275] وأن الشياطين تمس الناس، نعم لم يجعل الله لهم سلطاناً عاماً على الإنس يصرعون من يشاءون ويلتقون كيف شاءوا، كلا، إن ذلك يحدث على نطاق ضيق وعدد قليل، ولكنه يحدث، ونقر أنه يحدث، ولا نقول: عقولنا لا تقبل ذلك.

تمييع قضية الحكم على المرتدين

تمييع قضية الحكم على المرتدين ومن التمييع الذي يمارسه هؤلاء: تمييعٌ في قضية الحكم على المرتدين الذين نطقوا بالكفر، فهذا أحدهم وهو فهمي هويدي يعتذر عن نزار قباني الشاعر الملحد الضال، الذي نطق شعره بالكفر صراحة، فينقل عنه عبارة كفرية واضحة، يقول فيها نزار: لا تسافر مرة أخرى لأن الله منذ رحلت دخل في نوبة بكاء عصبية وأضرب عن الطعام! ثم قال: وبعت الله! هذا الذي قاله الأفاك الأثيم الذي ذهب إلى الله، والله سيتولاه، فماذا قال صاحبنا في الدفاع عنه، يقول: فالكلام الذي صدر عن نزار لا يدخل في إطار إنكار الله بطبيعة الحال، وإن تمنينا أن يتسم حديثه عن الله بالقدر الواجب من الإجلال، إلا أننا نقول: إنه غلب على نزار اعتبار صنعة الشعر، والأوزان والقوافي وكذلك هذه الموهبة، وأطلق العنان للتعبير، فجاء كلامه على ذلك النحو غير المستحب. غير المستحب!! واحد يقول: بعت، ويقول: نحو غير المستحب!! واحد يقول: إنه سبحانه أضرب عن الطعام! ودخل في نوبة بكاء عصبية! ثم تقول أنت عنه: صنعة الشعر غلبته فجاء الأسلوب غير المستحب! سبحان الله! هذا هو التمييع أيها الإخوة! أن نأتي إلى واحد قد صرح بالكفر الذي لا يوجد أشد منه، ثم نعتذر إليه بأن صنعة الشعر جاءت في كلامه على الأسلوب غير المستحب، وكنا تمنينا أن يأتي بالأسلوب الآخر، وكنا تمنينا أن يحاكم مرتداً وتقطع رقبته، وتمنينا نحن المسلمين، هذا الذي نتمناه في أي واحد يهاجم الله عز وجل أن يحاكم شرعاً بالردة، فإذا أقر ولم يرجع أن تضرب رقبته بالسيف انتصاراً لله تعالى، هذا الذي تمنينا. نتمنى هدايته ولكن لو لم يهتد، فإذاً ماذا نتمنى؟ أن يقام عليه حد الردة: {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ} [الرعد:13] هذا هو الله عز وجل: {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} [الرعد:13] سبحانه وتعالى! هذا رعده وبرقه: {وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} [الرعد:13].

تمييع أحكام الفقه وأصول الإسلام

تمييع أحكام الفقه وأصول الإسلام من التمييع كذلك: تمييع أحكام الفقه وأصول الإسلام التي جاءت بها الأحكام، فيقول أحدهم وهو محمد عبده في موضوع الوضوء بالكولونيا: ومن أين جاء أن ماء الزهر والورد لا يصح الوضوء به، وماء الكولونيا أحسن شيء للوضوء، فإنه يمنع آثار المرض، قاله في كتاب تاريخ الأستاذ الإمام، والذي يدافع فيه عن أحد كبار المنافقين في هذا العصر وهو جمال الدين الأفغاني، وقد ذهبا إلى الله، وليس عندنا علم هل تابا أم لا، فالله يتولاهما، ولا نحكم على مصيرهما في الدار الآخرة، أمرهما إلى الله. لكن نحن نأخذ العبرة، ونريد أن نعرف ما هي الأساليب التي يمشي بها هؤلاء بين المسلمين، من الذي قال: إن الوضوء بالكولونيا لا يجزئ، فماء الكولونيا أحسن شيء للوضوء. نقول: الذي قال هم أئمة الدين من فقهاء المسلمين سلفاً وخلفاً، أنه لا يجزئ الوضوء إلا بالماء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حدد الطهارة بالماء، وفي حالة فقده يتيمم بالتراب، هذا الذي جاءت به الأحاديث، الماء طهور وبه يتوضأ ويرفع الحدث الأكبر والأصغر، وإذا عدم {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [النساء:43] ولم يقل: كولونيا {مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء:43]. والعاقل والبليغ والمثقف والعامي والفلاح والدكتور كلهم يعرفون معنى لفظة الماء: ((فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً)) وأي عاقل يفرق بين الماء والعصير، والماء والشاي، والماء والكولونيا، والماء والزعفران، وماء الورد وماء الزهر، كل ذلك بينه فرق بيّن.

موقفهم من الربا

موقفهم من الربا أما الموقف من حكم الربا، فماذا يقولون؟ يقول ذلك الرجل: والفقهاء مسئولون في التشديد على الأغنياء في الربا، فاضطروا الفقراء للاستدانة من الأجنبي، بأرباح فاحشة استنزفت الثروات، ويجّوز بعضهم كما جّوز ذلك جمال الدين الأفغاني الذي قال بجواز الربا المعقول الذي لا يثقل كاهل المديون، ولا يتجاوز في برهة من الزمن رأس المال. فإذاً جرى على ذلك أذنابهم بعد ذلك بعشرات السنين، ووضحوا قولهم وأصلوه، وقالوا: الربا المعقول، يقول ربنا عز وجل الذي نحن نؤمن بشرعه وقدره، وبما أراده واصطفاه لنا من الشريعة والدين، يقول في القرآن الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا} [البقرة:27] ما بقي ½%، {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:278 - 279] وأنت تقول: ربا معقول! ما هو الربا المعقول؟ الذي نعقله ما جاء في هذه الشريعة، وكل شيء يخالف الشريعة غير معقول وسخيف، وتافه وترهات وباطل، لا يوجد شيء اسمه ربا معقول، هناك في هذه الشريعة شيء قطعي وهو تحريم الربا.

موقفهم من الحدود

موقفهم من الحدود ثم انصب كلامهم في تميع الحدود الشرعية بعد الأحكام الفقهية، على قضية حد الردة، وإبطال حد الردة، وأن الإنسان حر إذا غير دينه، يا أخي! إذا غير دينه هو حر، لماذا يقتل؟! كيف يكون حراً في اختياره، ولا حرج عليه ولا تبعة، ونبينا صلى الله عليه وسلم الذي نؤمن به وبشرعه الذي جاء به من عند ربه يقول: (من بدل دينه فاقتلوه) من بدل دينه: أي: الإسلام، وليس من ترك النصرانية واليهودية إلى الإسلام، المقصود واضح من بدل دينه، أي: الشرع الحكيم الصحيح الإسلام والتوحيد (من بدل دينه فاقتلوه) نص في المسألة. كيف يقال: إن عقوبة الإعدام لا تتناسب مع القرن العشرين، ونحن على مشارف القرن الواحد والعشرين، فيجب إلغاء عقوبة الإعدام. ولذلك يدندنون في الفضائيات والبرامج التي تبث، في مسألة رجم الزاني المحصن أنها غير صحيحة، ويقولون: لم تُذكر في القرآن، سبحان الله! فقد ثبتت في السنة، ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده كما يقول عمر، وحتى لا يقول قائل، فقد قالها عمر رضي الله عنه قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة قال: أن يأتي أناس يقولون: ما وجدناها في كتاب الله. وجاءوا فعلاً في كثير من الأوقات، وفي هذا الوقت بالذات وقالوا: ما وجدناها في كتاب الله. فقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ماعز والغامدية، ورجمُت شراحة الهمدانية، ورجم عمر رضي الله عنه وعلي، ورجم أبو بكر، ورجم الصحابة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، دلالة على أن ذلك الحكم ليس منسوخاً ولا باطلاً. الزاني المحصن الذي وطأ وذاق حلاوة الحلال في عقد صحيح إذا زنا وثبت عليه باعترافه أو بأربعة شهود؛ يرجم حداً من الله تعالى. ثم يقولون: لا يناسب العصر الحاضر، لأنه ليس موجوداً في كتاب الله. فإذا قلنا لهم: حد السرقة موجود في كتاب الله، قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ} [المائدة:38] يقول قائلهم: إن الشريعة لا تريد أن يتحول المجتمع إلى أناس مشوهين، هذا مجلود، وهذا مقطوع اليد، وهذا مفقوء العين، وهذا مكسور السن بقضية القصاص، اسجنه وامش، أو أي عقوبة مالية، فنقول: هذا موجود في كتاب الله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38] موجود، قالوا: هذه همجية لا تصلح في هذا القرن. وهكذا ترون أيها الإخوة! قضية صب الكلام على تمييع الحدود الشرعية التي أنزلها الله؛ من حد الردة وحد الزنا للمحصن، وحد السرقة، أنهم يريدون إبطال ذلك، وإقناع المسلمين أن ذلك كان في عهدٍ مضى ولا يناسب هذا الزمان. هذه قليل جداً جداً مما يقولونه في بعض هذه المسائل، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من المتمسكين بالحق والدين، ومن الحريصين على تنفيذ شرعه المبين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

إلغاء الحواجز الدينية بين المسلم والكافر

إلغاء الحواجز الدينية بين المسلم والكافر الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي أنزل الكتاب، والحمد لله الذي نصر نبيه صلى الله عليه وسلم والأصحاب، وهزم الأحزاب، والحمد لله مجري السحاب، أشهد أن لا إله إلا هو الملك العزيز الوهاب، وأشهد أن نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم سيد البشر وأولي الألباب، جاءنا بالحق والصواب، وأشهد أن من تبعه بإحسان إلى يوم الدين هم أولوا النهى والألباب، صلى الله عليه وعلى من تبعه. عباد الله: من أخطر أنواع التمييع الذي يقوم به هؤلاء ممن يسمون بالعقلانيين وأصحاب الفكر المستنير -يسمون أنفسهم بالتنويريين- من أخطر ما يقومون به تمييع الحواجز الدينية بين المسلم والكافر، المسلم الذي يشهد أن لا إله إلا الله، والذي هو من خير أمة أُخرجت للناس، الموحد لربه، المطيع لنبيه الذي يعتمد الشرع، ويُوفي له، المسلم الذي لا يتحايل على الدين، المسلم الذي يطبق الإسلام، يريدون التمييع في الحد بينه وبين أرباب الديانات الأخرى من اليهود والنصارى وغيرهم من أنواع المشركين. التمييع بين المسلم الحنيفي وبين اليهودي الذي هو من الأمة الغضبية، أهل الكذب والبهت، والغدر والمكر والحيل، وقتل الأنبياء، وأكل السحت والربا، أخبث الأمم طوية وأرداهم سجية، وأبعدهم من الرحمة، وأقربهم إلى النقمة، عاداتهم البغضاء، وديدنهم العداوة والشحناء، أهل السحر والكذب والحيل، هؤلاء الذين سبوا ربهم، فقالوا: تعب يوم السبت وارتاح، وقالوا: إنه بخيل: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} [المائدة:64] والذين عادوا نبينا صلى الله عليه وسلم بعدما تبين لهم أنه نبي الله، وقامت الأدلة عندهم، وطابق الوصف المذكور في كتبهم، عادوه وناصبوه إلى أن دسوا له السم في الشاة. التمييع بين المسلم وبين النصراني الذي هو من الأمة المثلثة، أمة الضلال وعبّاد الصليب، الذين سبوا الله مسبة لم يسبها أحد، وقالوا كلاماً تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً. قالوا: إن الله ثالث ثلاثة، وإن مريم صاحبته، والمسيح ابنه، وأنه نزل عن كرسي عظمته والتحم ببطن الصاحبة وجرى ما جرى، وأن هؤلاء عبّاد الصلبان وعبّاد الصور المنقوشة بالألوان في الحيطان، الذين يقولون في دعائهم: يا والدة الإله ارزقينا، واغفري لنا وارحمينا، دينهم شرب الخمور، وأكل الخنزير، وترك الختان، والتعبد بالنجاسات، واستحلال الخبائث، كيف يمكن أن تميع الحدود بين المسلم وبين مثل هؤلاء؟ واليهود والنصارى أهل الكتاب أحسن حالاً من الهندوس والبوذيين وبقية مشركي الأرض، فما بالك بالبقية أيضاً. إن الدعوة إلى تمييع الحواجز الدينية بين هذه الديانات الثلاث، قد جرت على خطة مرسومة من هؤلاء باسم وحدة الأديان تارة، أو الملة الإبراهيمية تارة، أو وحدة الدين الإلهي وأرباب الكتب السماوية تارة أخرى، وكلمة العالمية ووحدة الأديان، يريدون صهر الأديان الثلاثة في بوتقة واحدة، كيف يجتمع الذي يقول: لا إله إلا الله، هو الله أحد صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، مع من يقول: إن عيسى هو الله أو عيسى ابن الله، أو عزير ابن الله؟! كيف يجتمع قتلة الأنبياء، والذين مسخهم الله قردة وخنازير تحت مظلة واحدة مع من هم خير أمة أخرجت للناس؟! كيف يجتمعون؟! كيف يجتمع الذين قال الله عنهم: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73] مع من يقول: لا إله إلا الله لم يتخذ صاحبة ولا ولداً؟ كيف يجتمع هذا مع هذا في قضية الملة الإبراهيمية أو وحدة الأديان؟! إن الجمع بين هؤلاء ردة ظاهرة وكفر صريح ولاشك، ثم هؤلاء من جلدتنا وبألسنتنا يقولون: إن اجتماع هؤلاء من أجل أن يكون السلام عاماً في العالم هو هدفنا الذي نسعى إليه، وأن تزول العداوات بين أهل الأديان، فهل الإسلام جاء لإزالة العداوات بين أهل الأديان؟ هل جاء الإسلام ليعيش أهل الأديان كلهم متآلفين؟ سؤال خطير جداً أيها الإخوة! لأن عدداً من الناس يظن A نعم، هل جاء الإسلام لكي يتصافى المسلمون، واليهود، والنصارى، والمجوس، والهندوس، والبوذيون، يتصافون ويكونون على قلب رجل واحد. أم جاء الإسلام بقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39] أليس الإسلام قد جاء لأجل هذا، إذا كنا نحن لا نستطيع أن نطبقه الآن، ولا نستطيع أن نجاهدهم؛ لأنه ليس عندنا قوة، فإن المبدأ يجب أن يبقى سليماً، وهي عداوتهم ما بقينا، وكرههم لأجل الله ما حيينا، أن نكرههم وأن نبغضهم، حتى لو لم نستطع أن نقاتلهم، يجب أن تكون العقيدة في هذه المسألة واضحة. ثم انظر إلى ما يقوله صاحب كتاب: السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث، يقول: ولا ريب أن هؤلاء النصارى عرب أنقياء، والعربي الصحيح -وإن لم يكن مسلماً وضع هذه الجملة الاعتراضية في الاعتراض- وإن لم يكن مسلماً فله موقف كريم من إخوانه المسلمين. سبحان الله! معروف أن النصارى العرب من ألعن أنواع النصارى، إن لم يكونوا هم ألعن أنواع النصارى على الإطلاق، وما ابتليت الأمة في هذا الزمان بمثلهم، والتاريخ معروف. ثم كيف يقال: له موقف كريم من إخوته المسلمين؟! ما هي الأخوة أيها الإخوة؟! أي نوع من الأخوة هذه؟ كيف نشأت رابطة أخوة بيننا وبينهم؟ قال: وإن وقف -أي: هذا النصراني- إيمانه بالنبوة إلى عيسى بن مريم، فلن يبخس محمد بن عبد الله حقه. قل لي: كيف لن يبخسه حقه إذا لم يؤمن به رسولاً خاتم الأنبياء؟! كيف لم يبخسه حقه إذا كان يقول: لا أؤمن بنوبته، أو يقول: نبي مثل غيره، لا ميزة لشريعته، ولا ينسخ نبوة من قبله، وليس دينه خاتم الأديان ولا نبوته خاتم النبوات، أليس هذا من البخس العظيم؟! أما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أنه لا يسمع بي يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار)؟ ثم يقول هذا: فلن يبخس محمد بن عبد الله حقه بوصفه سيد رجالات العروبة، ومؤسس نهضتها الكبرى. هل النبي عليه الصلاة والسلام بعث ليكون سيد العروبة أم سيد الناس والعالم؟ هل كانت المشكلة بين محمد عليه الصلاة والسلام وكفار قريش العروبة؟! هل كانت القضية أنهم إذا اجتمعوا معه على العروبة انتهت القضية، أو كانت المشكلة والقضية هي: لا إله إلا الله التي رفضوا أن يقولوها؟ أليس هذا هو محور الصراع والحرب التي قامت بينه وبين قريش؛ العرب الأنقياء من جهة العروبة، الحرب قامت بينه وبينهم في بدر وأحد والخندق وفتح مكة وغيرها، قامت حرب أريقت فيها الدماء، أمن أجل أن يكون سيد العروبة؟ إذاً فلماذا امتدت فتوحاته إلى خارج الجزيرة؟ ولماذا ذهب إلى تبوك بلاد النصارى؟

نشر الوعي بين المسلمين تجاه هذه القضايا

نشر الوعي بين المسلمين تجاه هذه القضايا هذا التمييع أيها الإخوة! هذا الذي يقرأه كثير من الناس في الوسائل السيارة، ويسمعونه في هذه الوسائل المسموعة والمنظورة، هذا الكلام الذي نقوله هو ما يُدس للمسلمين، فهل نعقل ونميز؟ وهل نكون على مستوى الوعي؟ إن هذه مسألة خطيرة أيها الإخوة؛ لأن الله قال: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال:42] فلا بد أن تكون هناك بينة؛ لتبين للناس ما نزّل إليهم، البينة والبيان، والله لا يرضى أن يختلط الحق بالباطل: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران:179] لا بد أن يميز الخبيث من الطيب، هذا التمييز الذي نريده أن يكون موجوداً في حس المسلم وعقله، وأن يكون عنده علم يدفع به الشُبهات، العلم يا إخوان هو الذي تعرف به، هل ما يعرض عليك حق أم باطل؟ نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا الفقه في دينه، والتمسك بسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم اجعلنا من أهل الهدى والتقوى، ومن المتمسكين بالعروة الوثقى، اللهم أحينا مسلمين، وتوفنا مؤمنين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، اللهم اجمع شملنا على التوحيد يا رب العالمين، اللهم ألف بين قلوبنا وأصلح ذات بيننا، وأخرجنا من الظلمات إلى النور، واهدنا سبل السلام، واجعلنا سلماً لأوليائك، حرباً على أعدائك، نحب بحبك من أحببت، ونبغض من أبغضت إنك سميع الدعاء. اللهم إنا نسألك الأمن والإيمان في بلادنا وسائر بلاد المسلمين، ومن أراد بلدنا هذا بسوء؛ فاجعل كيده في نحره، ثَبِّتْ علينا الأمن والإيمان، إنك أنت سميع الدعاء يا رحمن. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

مؤامرة تمييع الدين [2]

مؤامرة تمييع الدين [2] ختم الله الأديان بالإسلام، وجعله صالحاً لكل زمان ومكان، وعليه فنحن في غنى عن غيره من الأفكار البشرية والأديان، ولا يجوز الخروج عن أحكامه مجاراة للحضارة، ولا تمييعها استجابة لضغط الواقع المتوهم.

العصرانيون وانهزاميتهم

العصرانيون وانهزاميتهم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: عباد الله: فقد تحدثنا في الخطبة الماضية عن ظاهرة تمييع الدين، التي يسعى إليها بعض المنتسبين إلى المسلمين، ويقودون فيها حرباً على التمسك بالدين، بكل صغيرة وكبيرة فيه، كما أمرنا الله تعالى بأن نستمسك بجميع العرى، وأن نأخذ بجميع الشرائع والأحكام، كما قال عز وجل: {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208] أي: تمسكوا بجميع شعب الإسلام والإيمان، وهؤلاء يريدون أن يميعوا هذه الأحكام، وأن يحذفوا أشياء مما لا يروق لهم، وأن يجعلوا هذا الدين ثوباً فضفاضاً يفصّلونه كيف يشاءون، ويتسع عندهم لكل شيء يلبسونه به، سواء كان حقاً أم باطلاً.

ضغط الواقع هل هو مصدر من مصادر التشريع؟

ضغط الواقع هل هو مصدر من مصادر التشريع؟ إن مما دفع إلى اتخاذ هذا التمييع -أيها الإخوة- قضية خطيرة نادراً ما ينجو منها الواحد منا، ألا وهي الانهزامية وضغط الواقع على الإنسان المسلم، وعندما نظر بعض هؤلاء إلى الواقع وما فيه، وتسلط الكفار على المسلمين وهيمنتهم وسيادتهم في العالم بزعمهم، فإنهم تحت هذا الضغط صاروا يقدمون التنازل تلو التنازل، والفتاوى الشاذة باسم الواقع وظروفه، ويفصلون من الإسلام فستاناً يناسب الذوق الغربي. وكأن الواقع صار عندهم مصدراً من المصادر التشريعية، فكأنهم قالوا: مصادر التشريع القرآن والسنة والقياس والإجماع والواقع، ولا تخلو هذه الانهزامية من نظرة انبهار للغرب ولما عندهم، ولا تخلو هذه الانهزامية وهذا المنهج في التمييع، من التأثر بقادة الانحلال الفكري في المسلمين.

من أقوال الانهزاميين في التأثر بالغرب

من أقوال الانهزاميين في التأثر بالغرب إنه تأثر بمنهج المنحرفين أمثال: سلامة موسى وطه حسين، حيث يقول الأول: كلما ازددت خبرة وتجربة توضحت أمامي أنه يجب علينا أن نخرج من آسيا، وأن نلتحق بـ أوروبا، فإني كلما زادت معرفتي بالشرق زادت كراهيتي له، وشعوري بأنه غريب عني، وكلما زادت معرفتي بـ أوروبا، زاد حبي لها وتعلقي بها، وشعوري بأنها مني وأنا منها، هذا هو مذهبي الذي أعمل له طول حياتي سراً وجهراً، فأنا كافرٌ بالشرق مؤمن بالغرب. ثم يقول: الرابطة الشرقية سخافة، فما لنا ولهذه الرابطة الشرقية، وأي مصلحة تربطنا بأهل جاوه، وماذا ننتفع بهم؟ وماذا ينتفعون بنا؟ إننا في حاجة إلى رابطة غربية، ثم يقول: وما الفائدة من تأليف رابطة مع الهندي أو الجاوي؟ فما هو المقصود -أيها الإخوة- بهذه العبارات؟ قطع الصلات بين المسلمين، وتدمير القاعدة الإسلامية في أن المؤمنين إخوة، وإن الإسلام يوحد بين الأجناس على هدي الدين، فإذا أسلموا صاروا سواء، أليس هذا مما نعرفه قطعاً من دين الإسلام؟ أيها الإخوة: إن هؤلاء يريدون أن يجعلوا نسباً بين المسلم والكافر، ويقطعوا نسب المسلم بأخيه المسلم، هذه الحقيقة، لأجل الهزيمة التي يحسون بها، يريدون الانبتات والانقطاع عن الإسلام وأهله، والارتباط بالغرب وأهله. ويقول طه حسين في السبيل للخروج من الهزيمة التي نعيشها، يقول: السبيل إلى ذلك واحدة، وهي: أن نسير سير الأوربيين ونسلك طريقهم، لنكون لهم أنداداً، ولنكون لهم شركاء في الحضارة خيرها وشرها، حلوها ومرها، ما يحب منها وما يُعاب. إذاً لابد أن نسير سير الغربيين ونأخذ بكل شيء، بما يُحب وما يُعاب، هذه هي الفلسفة التي يقولون بها، فتأثر بها هؤلاء حتى جعل واحد منهم -أيها الإخوة- قاعدة أصولية عجيبة يقول فيها: شرع المتقدمين علينا حضارياً شرع لنا، عند المسلمين قاعدة يناقشها علماء الأصول، هل شرع من قبلنا شرع لنا أم لا؟ هل شرع موسى أو شرع عيسى شرع لنا أم لا؟ وقالوا: بأن شرع من قبلنا شرع لنا إذا لم يرد له ناسخ في شرعنا، أو لم يتعارض مع شرعنا، قال به بعض علماء الأصول؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له في القرآن: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِه} [الأنعام:90] فقالوا: شرع من قبلنا من الأنبياء إذا لم ينسخ في شرعنا، ولم يتعارض معه شرع لنا. فماذا قال هذا الأصولي الحديث؟ شرع المتقدمين علينا حضارياً شرع لنا، إذاً شرع الكفار هو شرع لنا، أرأيتم خطورة هذه العبارة أيها الإخوة! وما يدندن حوله هؤلاء؟! أن تصير طريقة الكفار هي طريقتنا، وأن نهتدي بهديهم، ونسير على منوالهم، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة) حذرنا من ذلك وقال: حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، وهذا عين ما قاله طه حسين، حلوها ومرها، ما يُحب وما يُعاب، أن نسير على طريقتهم، والنبي صلى الله عليه وسلم حذر وقال: (حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه). إن الله تعالى قد حذر نبيه صلى الله عليه وسلم من التأثر بضغوط الكفار: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً} [الإسراء:73]. كادوا أن يفتنوك لتفتري علينا غيره تحت ضغطهم وضغط واقعهم، ولكن الله ثبته: ((وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً)) [الإسراء:74] ثم قال تعالى: {إِذاً لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} [الإسراء:75] لجاءك العذاب مضاعفاً.

الجهاد وإقامة الحدود همجية عند العصرانيين

الجهاد وإقامة الحدود همجية عند العصرانيين أيها الإخوة: طريقة الدين واضحة متميزة، ليس لنا نسب مع أولئك القوم، بل إن الله لا يرضى لعباده الكفر، بل إن الله أمرنا بمقاتلتهم عند القدرة والاستطاعة ولابد من ذلك، ثم قام هؤلاء يجارون الغربيين، انظر في الأطروحات التي تسمعها صباح مساء؛ ما هي السيرة عند هؤلاء المستنيرين -العقلانيين- بزعمهم، وليس لهم من العقل نصيب؛ لأن العقل الصحيح الصريح لا يعارض ما جاء عن الله ورسوله، لكن عقول مريضة، ثم ينتسبون إلى العقل بزعمهم. هزيمة تلو هزيمة، تراجعات تحت ضغوط الكفار، لما اعترض الغربيون على أحكام الجهاد، ماذا قال هؤلاء المنهزمون: مالنا وللجهاد يا سادة؛ نعوذ بالله من الهمجية، ولما اعترض الغربيون على الرق، قال هؤلاء: إنما هو حرام عندنا أصلاً، فيحرمون ما أحل الله، والله حكيم حيث سنه وشرعه، ولا يستطيع أحد أن يلغي شرع الله تعالى.

موقف العصرانيين من تعدد الزوجات

موقف العصرانيين من تعدد الزوجات ولما أطال هؤلاء الغربيون وأذنابهم لسان القدح في تعدد الزوجات، جاء هؤلاء المنهزمون ينسخون بضلالهم وجهلهم آيات القرآن ويحرفون الكلم عن مواضعه. ويقولون: لا تعدد في الدين، وإنه لا يمكن العدل، وإذاً لا يجوز التعدد، وخلطوا الأمور: {لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورُ} [التوبة:48] خلطوها ببعضها، لا يمكن العدل في المحبة القلبية، لكن يمكن العدل في المبيت والنفقة، وليس الإنسان المسلم مطالباً بأن يعدل في المحبة القلبية، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يحب عائشة أكثر من بقية نسائه، ومع ذلك تزوج أكثر من واحدة، ولم يكن ظالماً عليه الصلاة والسلام إطلاقاً. إذاً لن تعدلوا في المحبة القلبية، ولكن إذا عدلتم في المبيت والنفقة، فتزوجوا مثنى وثلاث ورباع، ولمَّا قال الغربيون: لابد من مساواة الرجل بالمرأة في جميع نواحي الحياة، وافقهم هؤلاء المنهزمون، وقالوا: هذا هو الذي ينادي به ديننا ويدعو إليه، ولذلك رفضوا مبدأ أن تكون المرأة غير متولية للولايات العامة؛ كما قال بذلك أهل الإسلام استناداً على حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يفلح قومٌ ولوا أمرهم امرأة). ولذلك لا تتولى المرأة ولاية عامة في المجتمع الإسلامي، لا خلافة ولا وزارة ولا قضاء؛ لأنها لا يمكن أن تقوم بحجابها المفروض عليها، وتحريم الخلوة المفروض، والحيض والنفاس الذي هو من طبيعتها، وضعف عقلها مقابل قوة عاطفتها، لا يمكن أن تقوم بولاية عامة. ولو وُجد لذلك حالات شاذة، فإن الدين لا يُبنى على الشواذ، وليست الحالات الشاذة قاعدة أصلاً، ولما قام هؤلاء بالهجوم على الحدود الشرعية، وقالوا: إنها همجية في رجم الزاني المحصن، وقطع يد السارق ونحو ذلك، قام هؤلاء يوافقون الغرب ويقولون: لا رجم في الإسلام، ويقولون: إن إنزال الحد لا يتفق مع روح القرآن، وإن تحويل المجتمع إلى مجموعة من المشوهين لا تريده الشريعة. وهذا في الحقيقة استهزاء بحدود الله تعالى، ولذلك فإن هؤلاء أذناب الغرب المنهزمين من أبنائنا، يقولون: بعدم معاقبة المرتد، وينكرون حد الردة، وينكرون رجم الزاني المحصن، وليس على شارب الخمر حد معين عندهم، ويجوز للمرأة المسلمة أن تتزوج باليهودي والنصراني؛ لأن هناك ضغطاً من الخارج، يقول: لماذا تفرقون؟ لماذا ليس عندكم مساواة؟ أين العدل؟ لماذا لا تتزوج المسلمة يهودياً أو نصرانياً؟ فلتتزوج، فقال هؤلاء بجواز الزواج وقرروه، والله تعالى قال في كتابه العزيز: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة:10] {وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} [البقرة:221] لا تزوج ابنتك ولا أختك إلى مشرك: (وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا) فقال هؤلاء: بلى يجوز أن تنكح. عاندوا الشريعة، وخرجوا عن أحكام الدين، وكذبوا بشرع الله تعالى، وعاندوا أحكامه، كل ذلك تحت مطرقة الضغط، وتحت الضغوط تأتي الانهزامية، وتقدم التراجعات، ويقال: الإسلام دين سماحة، وليس دين جهاد ولا دين حدود، تُنسف الأشياء هكذا، يريدون إلغاءها بجرة قلم، إنه انهزام أمام الكفرة. أين عزة المسلم الذي يفتخر بشريعته؟ أين العزة المسلم الذي يرى أن هذه القوانين الغربية تتهاوى وتسقط وتثبت فشلها يوماً بعد يوم؟! إن الشريعة -أيها الإخوة- مفخرة للمسلمين، ولا يمكن إنقاذ العالم من الظلم إلا بتطبيق الشريعة الإسلامية.

انحراف الفهم عند الانهزاميين

انحراف الفهم عند الانهزاميين إن تهمة الجمود قد ألصقها هؤلاء بفقهاء المسلمين والسلف الصالح، قالوا: هؤلاء -أي السلف الصالح - نصيون حرفيون، انظر للسب للسلف، يقولون: السلف نصيون حرفيون، وأهل نصوص، وجامدون، ونحن نريد أن نحرر هذا الجمود، وأن نطلق الحرية للاجتهاد، ومناسبة الواقع. ولذلك قال واحد منهم: ضعوا من المواد ما يبدو لكم أنه يوافق الزمان والمكان -أي: العصر الحاضر- وأنا لا يعوزني بعد ذلك أن آتيكم بنص من المذاهب يطابق ما وضعتم.

رأي الانهزاميين تجاه الفنون

رأي الانهزاميين تجاه الفنون فإذاً تحت الضغط يحدث التراجع، ولما عاب بعضهم على الإسلام أنه يعادي ما يسمونه بالفنون الجميلة، كالموسيقى، ونحت التماثيل، والتصاوير، والرقص، وغير ذلك، قام هؤلاء المنهزمون منا يقولون: كلا، بل إن الإسلام يحتضن هذه الفنون ويشجع عليها، ويحضُ عليها، وأنه يقر الرقص والموسيقى والتصوير والغناء ونحت التماثيل، من الذي سماها فنون جميلة؟ أليس أولئك الكفرة؟ أليست عندنا فنون قبيحة؟ أليس النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل مصور في النار) أليس يقال لمن صنع تمثالاً من ذوات الأرواح يضاهئون خلق الله، يقال لهم يوم القيامة: أحيوا ما خلقتكم؟ أليس النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلبٌ ولا صورة من صور ذات الأرواح؟ لا يجوز إلا ما اتخذ للحاجة كالإثباتات، وتتبع المجرمين، وغير ذلك من الحاجات والضرورات، وأما التزيين فلا يجوز بذلك أبداً، وكذلك رقص النساء أمام الرجال ومخاصرتهم، وكذلك الموسيقى التي حرمها الإسلام، لما تسبب من الإدمان والصد عن ذكر الله، لا تجتمع الألحان مع قراءة القرآن في جوف عبد ولا يمكن.

أولويات الدعوة لا تجيز تحليل ما حرم الله

أولويات الدعوة لا تجيز تحليل ما حرم الله أيها الإخوة: إن هذه الانهزاميات تدلنا بوضوح على مقدار ما وصل إليه القوم من الانحراف، مما يُوجب على أبناء المسلمين أن يكونوا في غاية الوعي لمثل هذه الدسائس، وقال بعضهم يوصي الدعاة إلى الله وصية عجيبة للغاية، صاحب كتاب السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث: وأوصي الدعاة الذين يذهبون إلى كوريا ألا يفتوا بتحريم لحم الكلاب، فالقوم يأكلونه، وليس لدينا نص يفيد الحرمة، ولا نريد أن نضع عوائق أمام كلمة التوحيد، سبحان الله! ليس لدينا نص يفيد الحرمة، أولئك يأكلون الميتة أليس كذلك؟ ويأكلون الخنزير أليس كذلك؟ إذاً لا نفتي بتحريم الخنزير حتى لا نضع عائقاً أمام كلمة التوحيد: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة:3] والنبي صلى الله عليه وسلم قطع بتحريم ذوات الأنياب وذوات المخالب، والكلب من أي قسم؟ ما بال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً. فرق أن يؤجل الداعية الإخبار بالحكم، ويبدأ بالأساسيات والأمور العقدية، لكن أن يفتي بإباحة لحم الكلاب طمأنة لأولئك القوم لأنهم يستلذون به ويحبونه. وعجباً أيها الإخوة! نحن لو دعونا بوذياً يأكل الكلاب فلن نبدأ معه بتحريم لحم الكلاب، بل نبدأ معه بلا إله إلا الله، نبدأ معه بكلمة التوحيد والدعوة إلى الإسلام، عندنا ستة في أركان الإيمان ندعوه إليها، وخمسة في أركان الإسلام ندعو إليها، وبعد ذلك إذا استقر دينه وإيمانه أخبرناه بتحريم الميتة والخنزير والخمر ولحم الكلب وغيرها، أما أن نفتيه بإباحة ذلك إن ذلك ضلال مبين، إن ذلك تحريف للكلم عن مواضعه.

ولاية المرأة بين الشرع والانهزامية

ولاية المرأة بين الشرع والانهزامية ويقول هذا المنهزم أيضاً: إننا لسنا مكلفين بنقل تقاليد عبس وذبيان إلى أمريكا وأستراليا، إننا مكلفون بنقل الإسلام فحسب، وإذا ارتضوا أن تكون المرأة حاكمة أو قاضية أو وزيرة فلهم ما شاءوا، إذا كانوا كفاراً فليس دون الكفر شيء، فليفعلوا ما شاءوا، كما قال الله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت:40] مهدداً ومتوعداً، لكن أن نقول: اطمئنوا يا دعاة مساواة المرأة بالرجل، فإنه يجوز في شرعنا أن تتولى المرأة الولاية العامة، ونخالف النص الصحيح الذي رواه البخاري عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) أن نخالف ذلك، وما جرى عليه عمل الخلفاء الأربعة، ومن بعدهم من أئمة المسلمين وعلمائهم من عدم الجواز ونقول: يجوز ذلك؛ انهزاماً أمام الكفرة، فلماذا أيها الإخوة؟ من أجل عيون الكفرة نتنازل عن شرعنا، أيهما أغلى عندنا شريعتنا أم الكفرة؟ هذه هي القضية الخطيرة، أيهما تقدم؟ ما هي الأولويات لديك؟ لماذا هذا التمييع؟ أمن أجل عيون الكفرة نميع ديننا؟ وقال واحد من القوم: لولا حكاية القرآن آيات الله التي أيد بها موسى وعيسى عليهما السلام، لكان إقبال أحرار الإفرنج عليه -أي: على الإسلام- أكثر، واهتدائهم به أسرع وأعم، ماذا يقصد؟ المعجزات النبوية عصا موسى، وما قيض الله لعيسى من المعجزات في شفاء المريض، وإحياء الميت بإذن الله إلى آخره، قال: هذه عوائق لو لم تكن موجودة في القرآن كان إسلام الكفار أسرع، سبحان الله! من أجل حفنة من هؤلاء الإفرنج تصل الانهزامية بنا إلى حد أن نتمنى أن الله لم يذكرها في القرآن، القضية خطيرة جداً!

موقف الانهزاميين من الأفكار والأنظمة الغربية

موقف الانهزاميين من الأفكار والأنظمة الغربية ولما قام هؤلاء الغربيون يتباهون بما لديهم من الأنظمة كـ الديمقراطية والاشتراكية، قام هؤلاء المنهزمون يقولون: عندنا في الإسلام نفس الشيء، الديمقراطية هي الشورى، سبحان الله! مولود مشوه ولد من رحم الغرب الكافر (الديمقراطية أو الاشتراكية) يساوي ما أنزله الله الحكيم العليم الخبير من فوق سبع سماوات؛ في هذا القرآن الحكيم الكريم المجيد على النبي محمد صلى الله عليه وسلم، هذا يساوي هذا، وتطبيقهم هو هذا، عجباً كيف تستوي هذه الأمور؟ أين الشورى التي فيها أهل الحل والعقد والعلم والعقل من تلك الديمقراطية التي ينتخب فيها الخمار والسكير والحشاش والزاني والمعتوه والبليد والسفيه؟ أصوات متساوية مع العاقل والعالم عندهم؛ فأي عقل لديهم في هذا؟ ثم أي عقل لدى هؤلاء الذين يقولون: إن الإسلام أخوة في الدين واشتراكية في الدنيا، ويقولون: اشتراكية الإسلام. وقال بعضهم في كتابه يدافع عن الإسلام بزعمه: إن أبا ذر كان اشتراكياً، وإنه استقى نزعته الاشتراكية عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الافتراء والله، وهكذا يريدون أن يقولوا: إن المبادئ الغربية موجودة في الإسلام، نعم إن الإسلام قد أقر ما كان في الجاهلية من الخير، كحِلف الفضول لما كان متضمناً من رفع الظلم عن المظلوم، فأقرها النبي عليه الصلاة والسلام، وأخبر بعد البعثة أنه سُر بحضوره، لكن أن نأخذ كل ما فصله القوم وما انتقوه وما اختاروه، ونقول: موجود عندنا لنطمئن الغربيين سبحانك هذا بهتان عظيم! وبالجملة أيها الإخوة! يتصف هؤلاء بصفات واضحة، وقد ذكر الله لنا صفات المنافقين في القرآن لنحذرهم، ونحن لا بد أن نذكر صفات هؤلاء لنحذرهم ومنها: تقديس العقل، وتقديم العقل على النقل، الطعن في السلف الصالح أنهم حرفيون ونصيون ولا يراعون الواقع، التأثر بالضغوط والانهزامية، واللين مع أعداء الله، والشدة على أولياء الله، التعالم، تفسير القرآن بما يخدم أهواءهم، رد ما شاءوا من الأحاديث النبوية، ضرب العقل بالنقل، تتبع زلات العلماء وسقطاتهم، تمجيد الفرق الضالة، هدم الحواجز بين المسلمين ومن خالفهم، التلاعب بالمصطلحات، والكذب والتحايل، والتعجل في إصدار الأحكام والفتوى بغير علم، هذه سماتهم. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعز دينه، وأن يعلي كلمة الدين، وأن ينصر من نصر الدين، وأن يخذل من خذل المسلمين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

من الأحكام التي تتعلق بالحج والأضحية

من الأحكام التي تتعلق بالحج والأضحية الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. عباد الله! إن موسم الحج قد اقترب، ويجب على كل مسلم قادر بالغ قد استوفى الشروط أن يحج بيت الله الحرام: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:97] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (عجلوا الخروج إلى مكة فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له من مرض أو حاجة) ولا يجب على الإنسان المسلم أن يستدين للحج، بل من تمكن منه حج، ومن لم يتمكن أجَّل حتى يستطيع، وكذلك كل معذور من مريض وامرأة مرضعٍ أو حاملٍ وغيرها من أهل الأعذار؛ لهم أن يؤجلوا ذلك حتى يزول العذر. وإذا حج الإنسان على نفقته أو على نفقة غيره، فإن حجه مجزئ ولا حرج عليه، ومن وجب عليه الحج وأمكنه أن يفعله لابد أن يبادر إليه فوراً ولا يجوز التأخير، وبعض الناس يتوهمون أنه إذا حج ولم يُضحّ عنه فإن حجه ناقص، وهذا لا صحة له، وبعضهم يربط بين الحج وقضاء صيام رمضان، وهذا الربط غير صحيح أيضاً، وإذا كان الإنسان مطالباً بدينٍ قدم قضاء الدين على الحج، ولا حرج عليه في ذلك، فإذا سمح له صاحب الحق وأجله وأخره لما بعد الحج، فعل ذلك وكتب الدين في وصية وذهب للحج. وأما أهل البلدان من غير الحجاج، فإنهم سيشاركون الحجاج في بعض الأحكام أجراً لهم ومواساة لهم في أحكام الحج، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان له ذبح يذبحه، فإذا أهل هلال ذي الحجة، فلا يأخذن من شعره ولا من أظفاره شيئاً حتى يضحي). إذا دخل العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس من شعره ولا من بشره شيئاً، فهذا يدل على النهي، وظاهره التحريم عن أخذ شيء من الشعر والأظفار والبشرة لكل من أراد الأضحية، ابتداء من أول ليلة الواحد من ذي الحجة، فإذا عرفنا دخول ذي الحجة فمن تلك الليلة، يمتنع المسلم عن هذه الأشياء، إذا كان عنده أضحية أو نواها. وكذلك فإن أهل الإنسان من الزوجة والأولاد لا يجب عليهم الالتزام بهذا الحكم، وإنما الذي يلتزم هو الذي بذل الثمن، وهو الذي نوى وأراد الأضحية، سواء يذبحها بنفسه أو بتوكيل غيره، وتوكيله لغيره لا يخرجه عن هذا الحكم، وعلى أية حال فإن الأضحية صحيحة ولو خالف، ولكن المخالفة فيها إثم يجب على المسلم أن يتورع عنه، وكل من عرضت له حاجة في أخذ شيء من الظفر كما لو انكسر، أو احتاج لحلاقة شعرٍ لجرح أو غيره فلا بأس به، ولما كان المضحي مشابهاً للمحرم بفعل بعض أحكام النُسك وهو الذبح، فالهدي للحاج، والأضحية للمسلم في البلد، شاركه في بعض أحكام محظورات الإحرام. وأما بالنسبة لهذه الأضاحي، فإن استسمانها واستحسانها من شعائر الدين، وسنأتي على ذلك في الخطبة القادمة بإذن الله تعالى أو التي بعدها في هذه المسألة. وأما شهر ذي القعدة فإذا لم نعلم انقضاؤه بدخول ذي الحجة أكملناه ثلاثين يوماً، وامتنعنا بعده لمن أراد أن يُضحي، وكذلك فإن الذين يشتركون في أضحية عن ميتهم مثلاً، يلزمهم ذلك الحكم، والمضحي يجوز له الطيب والجماع ولبُس المخيط وغير ذلك، وإنما الذي يحظر عليه الأخذ من الشعر والأظفار والبشرة فقط، ولعلها تكون فرصة لاتباع السنة وللمداومة عليها في إطلاق اللحية وغيرها. أيها الإخوة: إن الحاج ليس عليه أضحية، وإنما عليه الهدي إذا كان متمتعاً أو قارناً، وبناءً عليه فإن الحاج إذا كان له هدي وليس له أضحية فإنه لا يلزمه هذا الحكم من أول ذي الحجة، بل إنه يمتنع عن الأخذ من الشعر والأظفار وغيرها إذا أهل بالإحرام. وأما من ترك أضحية في البلد، وأراد أن يذهب للحج ويُهدي هناك، فيلزمه ذلك الحكم من أول الشهر حينئذٍ. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين إنه سميع مجيب قريب. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وانصر من نصر الدين، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك يا رب العالمين، اللهم ارفع الظلم عن المستضعفين من المسلمين، اللهم إنا نسألك العون لهم يا أرحم الراحمين، اللهم إنا نسألك الأمن في البلاد والنجاة يوم المعاد، اللهم ثبتنا على الإيمان، ومن أراد بلدنا هذا بسوء فاجعل كيده في نحره، اللهم إنا نسألك أن تغفر لنا ذنوبنا، وتكفر عنا سيئاتنا، اللهم أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

ماذا قالوا عند الموت؟! [1]

ماذا قالوا عند الموت؟! [1] في هذا الدرس سنجد صوراً لكثير من العلماء الذين فازوا بحسن الخاتمة، منهم من جيل الصحابة مثل أبي هريرة، وسلمان ومعاذ وحذيفة، ومن التابعين: عمرو بن شرحبيل، والعمري، وأبو بكر بن عياش وغيرهم. كما تعرض الشيخ لذكر بعض العلماء المعاصرين الذين فجعت الأمة بوفاتهم.

معنى: (نأتي الأرض ننقصها من أطرافها)

معنى: (نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا) إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [الرعد:41]. قال المفسرون في هذه الآية أقوالاً: الأول: أنه ما يفتح الله على نبيه من الأرض، والمعنى: أولم ير كفار مكة أنا نفتح لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم الأرض بعد الأرض من حولهم. والثاني: أنها القرية، أو البلدة تخرب حتى تبقى الأبيات في ناحيتها، والناحية الأخرى خراب، فيرون قراهم وبلداتهم تخرب أطرافها. الثالث: نقص البركة، ونقص أهل القرية، ونقص الأنفس والثمرات. والرابع: ذهاب فقهاء الأرض وأخيارها.

نقصان أطراف الأرض هو موت العلماء

نقصان أطراف الأرض هو موت العلماء والخامس: موت أهلها، وقد أخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة ونعيم بن حماد والحاكم وصححه عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله: (ننقصها من أطرافها) قال: [موت علمائها وفقهائها، وذهاب خيار أهلها]. وروى الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عزَّ وجلَّ: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الرعد:41] قال: [موت علمائها وفقهائها] هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، قال عكرمة: [لو كانت الأرض تنقص، لم تجد مكاناً تقعد فيه، ولكن هو الموت] وقال مجاهد: هو موت العلماء. رواه عبد الرزاق عن الثوري عن منصور عن مجاهد في قوله تعالى: {نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الرعد:41] قال: موت علمائها وفقهائها، وفي هذا المعنى: الأرض تحيا إذا ما عاش عالمها متى يمت عالمٌ منها يمت طرفُ كالأرض تحيا إذا ما الغيث حل بها وإن أبى عاد في أكنافها التلفُ قال ابن كثير رحمه الله: والقول الأول أولى، وهو ظهور الإسلام على الشرك قرية بعد قرية كقوله: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى} [الأحقاف:27] وقال القرطبي رحمه الله في تفسيره عن عطاء بن أبي رباح في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الرعد:41] قال: ذهاب فقهائها وخيار أهلها، قال أبو عمر ابن عبد البر: قول عطاء في تأويل الآية حسنٌ جداً تلقاه أهل العلم بالقبول، قال القرطبي: ومعروفٌ في اللغة أن الطرف الكريم من كل شيء: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الرعد:41] موت الفقهاء والأخيار.

علماء الصحابة عند الموت

علماء الصحابة عند الموت سمعنا وسمعتم -أيها الإخوة- عن تتابع فقد عدد من أهل العلم في الشهور الأخيرة، فأصاب أرضنا نقصٌ من أطرافها، وقد مرت على المسلمين ظروف مشابهة، فسمى المؤرخون المسلمون عام أربعٍ وتسعين للهجرة بسنة الفقهاء لكثرة من مات فيها من العلماء والفقهاء ومنهم: علي بن الحسين بن زين العابدين، ثم عروة بن الزبير، ثم سعيد بن المسيب، وأبو بكر عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وسيعد بن جبير، وغيرهم ماتوا في سنة أربعٍ وتسعين فتعالوا نتذاكر حال العلماء عند الموت ليكون في ذلك موعظة وعبرة، ما هي كلماتهم في لحظاتهم الأخيرة عندما حضرتهم المنية.

أبو هريرة عند موته

أبو هريرة عند موته لما حضرت أبا هريرة رضي الله عنه المنية بكى، فقيل: ما يبكيك؟ قال: [على قلة الزاد وشدة المفازة، وأنا على عقبة هبوط إما إلى الجنة أو إلى النار، فما أدري إلى أيهما أصير، وقال: اللهم إني أحبَّ لقاءك، فأحب لقائي].

معاذ بن جبل لما حضرته الوفاة

معاذ بن جبل لما حضرته الوفاة ولما حضر معاذ بن جبل الموت، قال: [انظروا هل أصبحنا، قيل: لم نصبح، ثم أتي، فقال: قد أصبحت، فقال: أعوذ بالله من ليلة صباحها إلى النار، مرحباً بالموت مرحباً، زائر مغيب، وحبيب جاء على فاقة، اللهم إني قد كنت أخافك، فأنا اليوم أرجوك، اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب الدنيا وطول البقاء فيها لجري الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولكن لظمأ الهواجر، ومكابدة الساعات، -أي: في قيام الليل- ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر] وجلس عند تلميذ له يقال له يزيد بن عميرة السكسكي، فحدث عنه أن معاذاً لما حضرته الوفاة، قعد يزيد على رأسه يبكي، فنظر إليه معاذ، فقال: [ما يبكيك؟ فقال له يزيد: أما والله لا أبكي لدنيا كنت أصيبها منك، ولكني أبكي لما فاتني من العلم، فقال له معاذ: إن العلم كما هو لم يذهب، فاطلب العلم من بعدي عند أربعة: عند عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن سلام، وعويمر أبي الدرداء، وسلمان الفارسي] وقبض معاذ ولحق يزيد بـ الكوفة، فأتى مجلس عبد الله بن مسعود، فلقيه، فقال له ابن مسعود: [إن معاذ بن جبل كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ].

قول أبي ذر عند الموت

قول أبي ذر عند الموت وأما أبو ذر رضي الله عنه لما اعتزل في الربذة، وحضرته الوفاة، أوصى امرأته وغلامه، فقال: (إذا مت، فاغسلاني وكفناني، وضعاني على الطريق، فأول ركبٍ يمرون بكم، فقولا: هذا أبا ذر فلما مات، فعلا به ذلك، فاطلع ركبٌ فما علموا به حتى كادت ركائبهم تطأ السرير، فإذا عبد الله بن مسعود في رهط من أهل الكوفة، فقال: ما هذا؟ قيل: جنازة أبي ذر، فاستهل ابن مسعود يبكي، وقال: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم يرحم الله أبا ذر يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده، فنزل فوليه بنفسه حتى أجله، -أي: في الأرض-).

حذيفة بن اليمان عند الموت

حذيفة بن اليمان عند الموت وأما حذيفة رضي الله عنه، فقد سئل أبو مسعود الأنصاري: [ماذا قال حذيفة عند موته؟ قال: لما كان عند السحر، قال: أعوذ بالله من صباح إلى النار ثلاث مرات، ثم قال: اشتروا لي ثوبين أبيضين، فإنهما لن يتركا عليَّ إلا قليلاً حتى أبدل بهما خيراً منهما، أو أسلبهما سلباً قبيحاً].

سلمان الفارسي عند وفاته

سلمان الفارسي عند وفاته ولما حضر سلمان الفارسي الوفاة، جعل يبكي، فقيل له: (ما يبكيك؟ ألست فارقت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنك راضٍ؟ فقال: والله! ما بي جزع من الموت، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلينا عهداً يكن متاع أحدكم من الدنيا كزاد الراكب، وهذه الأسودة حولي) كأنه يقول هذا الأثاث والمتاع حولي لم أمتثل للعهد، قال: [فلما مات، نظروا في بيته، فلم يروا في بيته إلا إكافاً ووطاءً ومتاعاً قُوِّم بنحو عشرين درهماً] كل ما يملكه بعشرين درهماً، فانظروا يا عباد الله! كم عندنا من الأثاث في بيتنا، وروى ابن سعد في الطبقات من طرق عدة عن الشعبي، قال: [لما حضرت سلمان الوفاة، قال لصاحبة منزله وهي زوجته: هلمي خبيَّتي الذي استخبأت فيه، قالت: فجئته بصرة مسك، فقال: ائتيني بقدح فيه ماءٌ فنثر المسك فيه، ثم ماسه بيده، ثم قال: انضحيه حولي، فإنه يحضرني خلقٌ من خلق الله يجدون الريح ولا يأكلون الطعام، ثم اجفئي عليَّ الباب وانزلي قالت: ففعلت، وجلست هنيهةً، فسمعت هسهسةً، قالت: ثم صعدت، فإذا هو قد مات]. وعن الشعبي، قال: [أصاب سلمان صرة مسكٍ يوم فتحت جلولاء، فاستودعها امرأته، فلما حضرته الوفاة، قال: هاتي هذه المسكة فمرسها في ماء، ثم قال: انضحيها حولي، فإنه يأتي زوارٌ الآن قالت: ففعلت، فلم يمكث بعد ذلك إلا قليلاً حتى قبض] وقال الشعبي أيضاً: [حدثني الجزل عن امرأة سلمان بقيرة أنه لما حضرته الوفاة، دعاني وهو في عليّة له -تقول زوجته: لها أربعة أبواب- فقال: افتحي هذه الأبواب يا بقيرة، فإن لي اليوم زواراً لا أدري من أي هذه الأبواب يدخلون عليَّ، ثم دعا بمسك، فقال: أديثيه في تنور ففعلت، ثم قال: انضحيه حول فراشي، ثم انزلي، فامكثي فسوف تطلعين فتريني على فراشي، فاطلعت فإذا هو قد أخذت روحه، فكأنما هو نائم في فراشه].

خالد بن الوليد عند سكرات الموت

خالد بن الوليد عند سكرات الموت أما خالد بن الوليد رضي الله عنه، فإنه لما حضرته الوفاة قال: [ما كان في الأرض من ليلة أحب إليَّ من ليلة شديدة الجليد في سرية من المهاجرين أصبح بهم العدو، فعليكم بالجهاد] هو الذي احتبس دروعه وأعتده في سبيل الله، وقال: [لقد اندق في يوم مؤتة تسعة أسياف في يدي، فما صبرت معي إلا صفيحة يمانية] وهو صاحب الكرامات لما تحداه الروم بشرب سم ساعة، أخذه متوكلاً على الله يرجو مصلحة هدايتهم، فسمى وشرب، فلم يضره رواه أبو يعلى. وكذلك روى ابن أبي الدنيا بإسناد صحيح، قال: [أتى خالد بن الوليد رجلٌ معه زق خمرٍ، فقال خالد: اللهم اجعله عسلاً، فصار عسلاً].

واثلة بن الأسقع

واثلة بن الأسقع وأما واثلة بن الأسقع الصحابي رضي الله عنه، فقد دخل الأوزاعي على خصلة بنته فقال لها: [أي شيء سمعت من أبيك؟ فقالت: لما حضرته الوفاة أخذ بيدي، وقال: يا بنية! اصبري حتى عد أصابعي الخمس اصبري اصبري اصبري اصبري اصبري، ثم أخذ بيدي الأخرى، وقال: يا بنية! وأوصاها بالصبر].

عبد الله بن عائذ

عبد الله بن عائذ وقال عبد الله بن عائذ التمالي صحابي رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حضرته الوفاة، قال له خصيف بن الحارث: [إن استطعت أن تلقانا، فتخبرنا ما لقيتم من الموت، فمكث فترة لا يراه، ثم لقيه في منامه، فقال له: ألا تخبرنا؟ فقال: نجونا ولم نكد ننجو بعد المشيبات، فوجدنا رباً خير ربٍ، غفر الذنوب، وتجاوز عن السيئة إلا ما كان من الأحراض، قال: وما الأحراض؟ قال: الذين يشار إليهم بالأصابع] فهذه موعظة للذين يحبون الظهور والرئاسة، وأن يشار إليهم بالأصابع، والقصة رواها ابن سعد في الطبقات.

عبد الله بن عمر عند سكرات الموت

عبد الله بن عمر عند سكرات الموت وأما عبد الله بن عمر الصحابي لما حضرته الوفاة، قال: [انظروا فلاناً -لرجل من قريش- فإني كنت قلت له في ابنتي قولاً كشبه العدة -أي: يشبه أني وعدته بتزويجه ابنتي- وما أحب أن ألقى الله بثلث النفاق -لأن آية النافق ثلاث: إذا وعد أخلف- وأشهدكم أني قد زوجته] ذكر القصة الذهبي في تذكرة الحفاظ. ولما ثقل معاوية رضي الله عنه، جعل يضع خداً على الأرض، ثم يقلب وجهه ويضع الخد الآخر، ويبكي ويقول: [اللهم إنك قلت في كتابك: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] فاجعلني فيمن تشاء أن تغفر له، ثم قال: اللهم أقل العثرة، واعف عن الزلة، وتجاوز بحلمك عن جهل ولم يرج غيرك، فإنك واسع المغفرة، ليس لذي خطيئة من خطيئته مهرب إلا إليك].

علماء التابعين عند الموت

علماء التابعين عند الموت وأما عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الله بن عمر الملقب بالعمري قال عند موته: [بنعمة ربي أحدث لو أن الدنيا تحت قدمي، ما يمنعي من أخذها إلا أن أزيل قدمي ما أزلتها، معي سبعة دراهم من لحاء شجرة فتلته بيدي] فهذه ثروته من الدنيا كلها، هذه السبعة الدراهم من عمل يده. ويونس بن عبيد الذي شهد له أنه كان يطلب العلم لوجه الله ما حضره حقٌ من حقوق الله إلا وهو متهيئ له، لما حضرته الوفاة بكى، فقيل: ما يبكيك؟ قال: قدماي لم تغبرا في سبيل الله عزَّ وجلَّ، نظر إلى قدميه عند موته وبكى، وسئل عن سبب البكاء، فتحسر أنه لم يمشِ في الجهاد، ولم تغبر قدماه في سبيل الله عزَّ وجلَّ. وعمرو بن شرحبيل رحمه الله حين حضرته الوفاة، قال: [إني ليسيرٌ للموت الآن، وما بي إلا هول المطلع. ما أدع مالاً، وما أدع عليَّ من دين، وما أدع من عيال يهموني من بعدي، فإذا أنا مت، فلا تنعوني إلى أحد، وأسرعوا المشي، ولا ترفعوا جدثي، -أي: قبري- فإني رأيت المهاجرين يكرهون ذلك]. ولما حضر الموت إبراهيم بن يزيد النخعي قال وهو يبكي وسئل عن ما يبكيه فقال: [انتظار ملك الموت ما أدري يبشرني بجنة أو بنار؟]. ولما حضر إبراهيم بن هانئ الموت، قال لابنه إسحاق: [أنا عطشان، فجاءه بماء، فقال: غابت الشمس؟ قال: لا. فرده، ثم قال: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:61] ثم خرجت روحه رحمه الله] فختم يومه بصوم، جاءه الموت وهو صائم ولم يشرب وهو عطشان، هذا كان حالهم رحمة الله عليهم. اللهم اجعلهم من ورثة جنة النعيم، وألحقنا بهم يا رب العالمين، اللهم تب علينا إنك أنت الغفور الرحيم، اللهم أحينا مؤمنين، وتوفنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

أقوال عند الموت تدل على حسن الخاتمة

أقوال عند الموت تدل على حسن الخاتمة الحمد لله الذي خلق الموت والحياة ليبلونا أينا أحسن عملاً، أشهد أن لا إله إلا الله الحي الذي لا يموت والجن والإنس يموتون، وأشهد أن محمداً رسول الله الرحمة المهداة البشير والنذير والسراج المنير صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. عباد الله: هؤلاء أسلافنا وعلماؤنا الصالحون لما حضرتهم الوفاة، ما هي أقوالهم التي تدل على صدقهم وحبهم لربهم وعملهم للصالحات؟

قول أبي بكر بن عياش وغيره من التابعين

قول أبي بكر بن عياش وغيره من التابعين هذا أبو بكر بن عياش رحمه الله تعالى بكى ولده حين حضرته الوفاة، فقال أبو بكر بن عياش لولده: ما يبكيك؟ أترى الله يضيع لأبيك أربعين سنة يختم فيها القرآن كل ليلة؟ وهو الذي قال لولده عند موته: يا ولدي! لا تعص الله في هذه الحجرة، فإني ختمت القرآن فيها ثمانية عشر ألف ختمة. وقال أحمد بن حفص: دخلت على أبي الحسن إسماعيل والد أبي عبد الله عند موته، فقال: لا أعلم من مالي درهماً من حرام، ولا درهماً من شبهة، قال أحمد: فتصاغرت إليَّ نفسي عند ذلك، قال أبو عبد الله: أصدق ما يكون الرجل عند الموت. وقال عطاء بن السائب: ذهبنا نرجي أبا عبد الرحمن السلمي عند موته -أي: نذكره برجاء الله، فقال: إني لأرجو ربي وقد صمت له ثمانين رمضاناً. وقال أبو عمر ابن حمدان الإمام المحدث الزاهد وقد عمر تسعين سنة، وتوفي وزوجته حبلى وله بنت، فقالت له زوجته عند وفاته: قد قربت ولادتي، فقال: سلمته إلى الله، قد جاءوا ببراءتي من السماء، وتشهد ومات في ذلك الوقت، روى القصة الذهبي رحمه الله في سير أعلام النبلاء.

قصة لأبي إسحاق الحربي

قصة لأبي إسحاق الحربي وأبو إسحاق الحربي تلميذ أحمد من أئمة الفقه والحديث الذي كان يقول: من لم يجر مع القدر لم يتهن بعيشه، الذي لا يستسلم للقضاء والقدر لا يتهنى بعيشه، قال: قد كانت بي شقيقة -صداع الرأس- منذ أربعين سنة ما أخبرت بها أحداً، ولي عشرين سنة أبصر بفرد عين -بعين واحدة- ما أخبرت بها أحداً، مكث نيفاً وسبعين سنة من عمره لا يسأل أهله غداءً ولا عشاءً، إن جاءه شيء أكله، وإلا طوى وبقي إلى الليلة القابلة، دخل عليه بعض أصحابه عند موته، فقامت ابنته تشكو إليه ما هم فيه من الجهد، وأنه لا طعام لهم إلا الخبز اليابس والملح، وربما عدموا الملح في بعض الأحيان، فقال لها إبراهيم: يا بنية! تخافين الفقر؟ انظري إلى تلك الزاوية فيها اثني عشر ألف جزء قد كتبتها وكان من المحدثين، ففي كل يوم تبيعي منها جزءاً بدرهم، فمن عنده اثني عشر ألف درهم، فليس بفقير، ولما حضر بعض العباد الوفاة وكان قد أوصى بعض أصحابه أن يوضئه، فأخذ هذا الذي حضر، فلم يستطع الكلام، فشرع الموضئ يوضئه، فلما بلغ موضع اللحية نسي أن يخللها، فأخذ بيده فأدخلها في لحيته، أخذ بيد مغسله فأدخلها في لحيته، ثم قبض، قال بعضهم: فهذا الذي لم ينس آداب الشريعة حتى عند الموت.

الجنيد والكاساني عند الوفاة

الجنيد والكاساني عند الوفاة ولما حضرت الجنيد الوفاة، جعل يصلي ويتلو القرآن، فقيل له: لو رفقت بنفسك في مثل هذه الحال، فقال: لا أحد أحوج إلى ذلك مني الآن، وهذا أوان طي صحيفتي، أبادر طيِّ الصحيفة قبل أن تطوى. وأما الكاساني رحمه الله، فإنه لما حضرته الوفاة شرع في قراءة سورة إبراهيم حتى إذا انتهى إلى قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم:27] خرجت روحه عندما فرغ من قوله تعالى: {وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم:27]. محمد بن إسماعيل النساج قصته في البداية والنهاية لـ ابن كثير، لما حضرته الوفاة نظر إلى زاوية البيت، فقال: قف رحمك الله، فإنك عبدٌ مأمورٌ، وأنا عبدٌ مأمورٌ، وما أمرت به لا يفوت، وما أمرت به يفوت، ثم قام وتوضأ وصلى، وتمدد ومات رحمه الله تعالى.

من أبرز العلماء المتأخرين الذين فقدتهم الأمة

من أبرز العلماء المتأخرين الذين فقدتهم الأمة أيها المسلمون: ألا تلاحظون كيف يموت العلماء تترا ويذهبون، فذهب الإمام العالم الشيخ: عبد العزيز بن باز بعدما ذهب الشيخ: ابن غصون، وكذلك الأديب الواعظ الشيخ: علي الطنطاوي، ومن المشتغلين بالفقه الشيخ: مصطفى الزرقاء، ثم القاضي العالم: عطية سالم، والشيخ: مناع القطان من المؤلفين في علوم القرآن، ذهبوا في أشهر وجيزة جداً، وهكذا تتابع المصائب بموت أهل العلم. نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجعلنا ممن أخلصوا له. ليس الخوف على من مات محسناً، إنما الخوف على الحي والله، أما المحسن فنرجو له عند ربه الكرامة، ولكن الخوف علينا ونحن لا ندري على أي شيء نموت، وعلى أي شيء تقبض أرواحنا، وهل سنتمكن من الشهادة أم لا، الخوف على الحي، والعبرة من ذهاب العلماء بأن يتحمس طلاب العلم للازديادة منه، فإنه لا بد من تعويض النقص الذي حصل في الأمة، ونسأل الله أن يخلف بخير. أيها الإخوة: إن من مات سواء كان عالماً معلماً، وداعيةً فقيهاً، وواعظاً مؤدباً، فنرجو له عند الله الحسنى، وأن يجزل له المثوبة والأجر. اللهم ارفع درجاتهم في جنات النعيم، واخلفهم في الغابرين.

ماذا قالوا عند الموت؟! [2]

ماذا قالوا عند الموت؟! [2] تحدث الشيخ في هذه المحاضرة عن الأسباب التي تؤدي إلى سوء الخاتمة، كما تعرض لذكر عدة صور ممن ختم لهم بخاتمة سيئة، فذكر قصة محبي الدنيا وقصص بعض الظلمة عند الموت، وكذلك قصص محبي الغناء ومحبي جلساء السوء.

وقفات مع سوء الخاتمة

وقفات مع سوء الخاتمة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. عباد الله: أيها الإخوة! تحدثنا في الخطبة الماضية عن أقوال الصالحين عند الموت وبعض العبارات والأعمال التي قاموا بها عندما حضرتهم المنية وأقبلوا على الله، ومسلسل المنون يتتابع، ونذكر في هذه الخطبة الجانب المقابل في سوء الخاتمة وأقوال بعض من ختم فيه بالسوء عندما حضرتهم الوفاة. اعلموا -رحمكم الله- أن الصالحين يتخوفون من سوء الخاتمة، ويخشون أن يبدو لهم عند الموت ما لم يكونوا يحتسبون، وأنهم يوقنون أن الأعمال بالخواتيم، وأن العبد يبعث على ما مات عليه كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلم.

الإصرار على الكبائر سبب في سوء الخاتمة

الإصرار على الكبائر سبب في سوء الخاتمة والخاتمة السيئة لا تكون لمن استقام ظاهره وصلح باطنه، وإنما تكون لمن كان له فساد في العقل وإصرار على الكبائر، وإقدام على العظائم، فربما غلب ذلك عليه حتى ينزل به الموت، فيختم لهؤلاء بخاتمة سيئة، وقد تبدو تلك الخاتمة من بعض من حضرهم الموت، ولهذا أسباب، فمن ذلك: فساد الاعتقاد؛ وهو أخطرها على الإطلاق، فيتكشف في حال السكرات بطلان ما اعتقده، ولهذا يقول تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47] {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف:105 - 104]. فخاتمة السوء تكون بسبب دسيسة باطن للعبد ربما لا يطلع عليها الناس، فتظهر عند وفاته، يظهر المخبوء، قال عبد العزيز بن أبي رواد رحمه الله: حضرت رجلاً عند الموت يلقن لا إله إلا الله، فقال في آخر ما قال: هو كافرٌ بها، ومات على ذلك، قال: فسألت عنه، فإذا هو مدمن خمر، فكان عبد العزيز يقول: اتقوا الذنوب فإنها هي التي أوقعته. إن الإصرار على المعاصي وهو سببٌ ثانٍ لسوء الخاتمة يجعل إلفها في قلب صاحبها، وإذا كان ميله إليها أكثر، حضرته عند الوفاة ربما فغلبت عليه فهلك، فهذه شهوة المعصية تصير حجاباً بين صاحبها وبين ربه، وتكون سبباً في شقائه في آخر عمره، ويعرف ذلك بمثال: وهو أن الإنسان لا شك أنه يرى في منامه من الأحوال التي ألفها طول عمره، حتى أن الذي قضى عمره في العلم يرى من الأحوال المتعلقة بالعلم والعلماء، والذي قضى عمره في الخياطة يرى من الأحوال المتعلقة بالخياطة، والذي اشتغل بالتجارة إدمانه عليها يومياً، وانشغاله بها يجعله يراها في نومه، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن نوعٍ من أنواع الرؤى، أي: (رؤى الشيء يهمّ الرجل في نهاره، فيراه في نومه) والموت وإن كان فوق النوم، لكن سكراته وما يتقدمه من الغشيان قريب من النوم، فطول الإلف بالمعاصي يقتضي تذكرها عند الموت، وعودها في القلب، فإذا قبضت روح العاصي في تلك الحال، يختم له بالسوء حتى قال مجاهد رحمه الله: [ما من ميت يموت إلا مثل له جلساؤه الذين كان يجالسهم] فهذه خطورة اعتياد المعصية والإدمان عليها، وضعف الإيمان الذي يجعل الإنسان واقعاً في المعاصي.

سوء الخاتمة على قسمين

سوء الخاتمة على قسمين وسوء الخاتمة على رتبتين: إما أن يغلب على القلب عند سكرات الموت وظهور أهواله شكٌ، أو جحودٌ، فتقبض الروح على تلك الحال، فتكون حجاباً بينه وبين الله أبداً، وذلك يقتضي العذاب المخلد. والرتبة الثانية: أن يغلب على القلب عند الموت حب أمر من الأمور التي كان يقارفها صاحبها وهو حي، فتظهر عند وفاته، فربما تكون سبباً في عذابه، قال ابن كثير رحمه الله: والمقصود أن الذنوب والمعاصي والشهوات تخذل صاحبها عند الموت مع خذلان الشيطان له، فيجتمع له الخذلان مع ضعف الإيمان، فيقع في سوء الخاتمة، قال الله تعالى: {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً} [الفرقان:29].

أمثلة من سوء الخاتمة

أمثلة من سوء الخاتمة وسوء الخاتمة لا يقع فيها من صلح ظاهره وباطنه مع الله، وصدق في أقواله وأعماله، فهذا لم يسمع به، وإنما يقع سوء الخاتمة لمن فسد باطنه اعتقاداً، وظاهره عملاً، ولمن له جرأة على الكبائر، وإقدام على الجرائم، وقد يظهر من المحتضر ما يدل على سوء خاتمته مثل: النكول عن نطق الشهادتين ورفض ذلك، والتحدث بالسيئات والمحرمات، وإظهار التعلق بها.

فرعون وسوء خاتمته

فرعون وسوء خاتمته وإن من أمثلة سوء الخاتمة التي ذكرت لنا في القرآن العظيم ما حصل عند هلاك الطاغية فرعون، لما قاده الله سبحانه وتعالى بقدرته مع جنوده الكفرة لاتباع موسى وقومه، فدخلوا وراءهم في البحر بعدما هاب فرعون الدخول وهم بالرجوع، ولكن هيهات ولات حين مناص، نفذ القدر، واستجيبت الدعوة، ولم يملك من نفسه إلا الدخول، فتجلد لأمرائه، وأظهر الشدة والجرأة، وقال: ليس بنو إسرائيل بأحق بالبحر منا، فاقتحموا كلهم عن آخرهم، فلما توسطوا في البحر وتكاملوا فيه، أمر الله القدير البحر أن يرتطم عليهم، فلم ينج منهم أحد، فجعلت الأمواج ترفعهم وتخفضهم وتراكمت فوق فرعون، وغشيته سكرات الموت، فقال وهو على تلك الحال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90] فآمن حيث لا ينفعه الإيمان، ولهذا قال الله: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:91] ولما شك بعض بني إسرائيل في موته، أمر الله البحر أن يلقيه جسداً سوياً بلا روح: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرائيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ} [يونس:90] إذا نزل الموت، لا تفيد التوبة، إذا غرغر العبد أغلق باب التوبة: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} [يونس:90 - 92] وجعل جبريل عليه السلام يدس من زبد البحر في فم فرعون مخافة أن تدركه رحمة الله تعالى، فلم يتمكن من الشهادة قبل نزول الموت، ولم يعرف التوحيد ويقر به، ويظهر ذلك عليه إلا بعد نزول الموت، فلم ينفعه ذلك.

سوء خاتمة عضد الدولة

سوء خاتمة عضد الدولة وقد حدثتنا كتب التاريخ الإسلامية عن نماذج من الطواغيت، وماذا فعل الله بهم بعد تجبرهم، ومن ذلك الذي كان يسمى بـ عضد الدولة، ذكر ابن كثير رحمه الله قصته في البداية والنهاية: خرج مرة إلى بستان له، فقال: أود لو جاء المطر، فنزل المطر -والله يمهل، وكانت فتنة لهذا الرجل- فنزل المطر، فأنشأ يقول: ليس شرب الراح إلا في المطر وغناءٌ من جوار في السحر غانيات سالبات للنهى ناعماتٌ في تضاعيف الوتر غناء ووتر وأوتار وأغاني. راقصات زاهرت مجلٌ رافلات في أفانين الحبر مطربات غنجاتٌ لحنٌ رافضات الهم آمال الفكر مبرزات الكأس من مطلعها مسقيات الخمر من فاق البشر عضد الدولة وابن ركنها مالك الأملاك غلاب القدر سهل الله إليه نصرهم في ملوك الأرض ما دام القمر وأراه الخير في أولاده ولباس الملك فيهم بل غرر قال ابن كثير رحمه الله: قبحه الله وقبح شعره وقبح أولاده، فإنه اجترأ في أبياته هذه، فلم يفلح بعدها، فيقال: إن بدأ أخذه كان حين قوله: غلاب القدر، أخذه الله فأهلكه، فتمثل عند موته بأبيات، وانظروا الفرق بين هذه الأبيات والتي قبلها، وفيها كلمة الرمق وهو التراب العالق في الماء: تمتع من الدنيا فإنك لا تبقى وخذ صفوها ما إن صفت ودع الرمقا ولا تأمنن الدهر إني أمنته فلم يبقِ لي حالاً ولم يرع لي حقا قتلت صناديد الرجال فلم أدع عدواً ولم أمهل على ظنه خلقا وأخليت دور الملك من كل بازلٍ وشتتهم غرباً ومزقتهم شرقا فلما بلغت النجم عزاً ورفعةً ودانت رقاب الخلق أجمع لي رقاً رماني الردى سهماً فأخمد جمرتي فهاأنا ذا في حفرتي عاجلاً ملقى فأفسدت دنياي وديني سفاهةً فمن ذا الذي مني بمصرعه أشقى فيا ليت شعري بعد موتي ما أرى إلى رحمة الله أم ناره ألقى فهكذا حصل من هذا الذي قال عن نفسه: مالك الأملاك غلاب القدر، قال: فهاأنا ذا في حفرتي عاجلاً ملقى، وجعل يكرر هذه الأبيات، ثم جعل يكرر قوله تعالى: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:28 - 29] {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:28 - 29] حتى مات. وهكذا كان لأصحاب السلطان وقفات عند الموت كما حصل لبعض الخلفاء لما احتضر، سمع غسالاً يغسل الثياب، فقال: ما هذا؟ قالوا: غسال، قال: يا ليتني كنت غسالا ً أكسب ما أعيش به يوماً بيوم ولم ألِ الخلافة، ثم قال: لعمري لقد عمرت في الملك برهةً ودانت لي الدنيا بوقع البواسلِ وأعطيت حمر المال والحكم والنهى ولي سلمت كل الملوك الجبابرِ فأضحى الذي قد كان مما يسرني كحل مضى في مزمنات الغوابرِ فيا ليتني لم أعنِ بالملك ليلةً ولم أسع في لذات عيش النواظرِ وقيل لبعض هؤلاء من أصحاب السلطان في مرض الموت: كيف تجدك؟ قال: أجدني كما قال الله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} [الأنعام:94].

عبد الملك بن مروان وخاتمته

عبد الملك بن مروان وخاتمته قال سعيد بن عبد العزيز: لما احتضر عبد الملك، أمر بفتح أبواب قصره، فلما فتحت، سمع قصاراً بالوادي، فقال: ما هذا؟ قالوا: قصار! فقال: يا ليتني كنت قصاراً أعيش من عمل يدي، فلما بلغ سعيد بن المسيب قوله، قال: [الحمد لله الذي جعلهم عند موتهم يفرون إلينا، ولا نفر إليهم] ولما حضره الموت، جعل يندم ويندب، ويضرب بيده على رأسه ويقول: وددت أني اكتسبت قوتي يوماً بيوم، واشتغلت بعبادة ربي عزَّ وجلَّ وطاعته، ولما حضرته الوفاة، دعا بنيه فوصاهم ثم قال: الحمد لله الذي لا يسأل أحداً من خلقه صغيراً أو كبيراً، ويروى أنه قال: ارفعوني، فرفعوه حتى شم الهواء، ثم قال: يا دنيا ما أطيبك! إن طويلك لقصير، وإن كثيرك لحقير، وإن كنا بك لفي غرور، ذكر القصة ابن كثير رحمه الله في كتابه البداية. أينما بنوا من القصور خلوها والتحقوا بالقبور أينما غرسوا من الزرع تركوه وولوا حيث لا رجع {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ} [سبأ:54]. ولما حضرت أحد السلاطين الوفاة، جعل يقول: {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام:44] وجعل يقول: لو علمت أن عمري قصير ما فعلت، وجعل يقول: ذهبت الحيل، فلا حيلة.

سوء الخاتمة لأهل البدع والكفر

سوء الخاتمة لأهل البدع والكفر وأما أهل البدعة، فإنه يحضرهم من السوء عند موتهم ما الله به عليم، وهذه قصة فيها عبرة لأحد هؤلاء الذي كان يسمى إسماعيل بن محمد بن أبي يزيد أبو هاشم الحميري الملقب بالسيد، كان من الشعراء المشهورين , ولكنه كان باطنياً خبيثاً، ومبتدعاً غثيثاً من أهل الرفض والكفر المحض، وكان ممن يشرب الخمر، ويقول بالرجعة -أي: بعد الموت سيكون رجوع إلى الدنيا، ثم موت ورجوع ثم موت ورجوع- وهكذا يعتقد هؤلاء، قال يوماً لرجلٍ من أهل السنة: أقرضني ديناراً ولك عندي مائة دينار إذا رجعنا إلى الدنيا، فقال له الرجل: إني أخشى أن تعود كلباً أو خنزيراً فيذهب ديناري، وكان قبَّحه الله يسب الصحابة في شعره، قال الأصمعي: ولولا ذلك ما قدمت عليه أحداً في طبقته، ولما حضرته الوفاة، اسود وجهه عند الموت، وأصابه كربٌ شديدٌ جداً، ولما مات، لم يدفنوه لسبه الصحابة رضي الله عنهم، وهكذا يكون أهل الكفر وأهل البدعة عند الموت في أشنع موقف وأسوئه. نسأل الله السلامة والعافية، اللهم ثبتنا عند الممات، اللهم اجعل ميتتنا على الإيمان يا رحمن. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

قصص مختصرة في سوء الخاتمة

قصص مختصرة في سوء الخاتمة الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الحي الذي لا يموت، الحمد لله مالك الملك، الحمد لله ذي الجلال والإكرام، أشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، هو الأول فليس قبله شيء، وهو الآخر فليس بعده شيء، وهو الظاهر فليس فوقه شيء، وهو الباطن فليس دونه شيء، سبحانه وتعالى ملك الخلق وخلقهم، سبحانه وتعالى مالك الملك، كل ملك زائل إلا ملكه عزَّ وجلَّ، وأشهد أن محمداً رسول الله الرحمة المهداة، البشير والنذير، والسراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله وصبحه أجمعين.

قصص بعض الظلمة ومحبي الدنيا عند الموت

قصص بعض الظلمة ومحبي الدنيا عند الموت أيها الإخوة: لقد كان للظلمة مع الموت موعد، والله عزَّ وجلَّ يمهل ولا يهمل، ولما قتل الحجاج سعيد بن جبير دعا عليه، فلم يلبث بعده إلا نحواً من أربعين يوماً، فكان إذا نام يراه في منامه آخذاً بمجامع ثوبه، يقول: يا عدو الله! لم قتلتني؟ فيقول: ما لي ولـ سعيد بن جبير؟ ما لي ولـ سعيد بن جبير؟ وهكذا أخبر بعض من حضر أنهم سمعوه يقول: ما لي ولـ سعيد بن جبير؟ عند وفاته، قبحه الله. وأما أصحاب الدنيا المنشغلون بالأموال، فإن للموت معهم موعداً أيضاً، فإن كانوا قد اشتغلوا بالمال عن عبادة الله، وألهتهم الدنيا عن طاعته، فإن سوء الخاتمة نذير شديد، قال ثابت البناني رحمه الله: كان رجلاً عاملاً للعمال، فجمع ماله، فجعله في سارية، فلما حضرته الوفاة، أمر به، فنثر بين يديه، فجعل يقول: يا ليتها كانت بعراً، يا ليتها كانت بعراً، يا ليتها كانت بعراً، وقيل لأحد المحتضرين: قل لا إله إلا الله، فجعل يقول: الدار الفلانية أصلحوا فيها كذا، والجنان الفلاني اعملوا فيها كذا. وذكر ابن القيم رحمه الله عن أحد التجار أن أحد قرابته احتضر وهو عنده، فجعلوا يلقنونه لا إله إلا الله وهو يقول: هذه القطعة رخيصة، هذا مشترى جيد، حتى قضى نحبه. وسمع بعض المحتضرين عند احتضاره يلطم على وجهه ويقول: {يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر:56] قال أحدهم عند احتضاره: سخرت بي الدنيا حتى ذهبت أيامي.

قصص محبي الغناء وجلساء السوء عند الموت

قصص محبي الغناء وجلساء السوء عند الموت قيل لأحد الناس عند موته: قل لا إله إلا الله، فقال: آهٍ آهٍ! لا أستطيع أن أقولها، وكان رجلٌ يجالس شراب الخمر، فلما حضرته الوفاة، جاءه إنسان يلقنه الشهادة، فقال له: اشرب واسقني، ثم مات. وذكر ابن القيم رحمه الله أن رجلاً حضرته الوفاة، فقيل له: قل لا إله إلا الله، فجعل يهذي بالغناء، وقيل لأحد المحتضرين: قل لا إله إلا الله، فقال: وما يغني عني وما أعرف أني صليت لله صلاة، ولم يقلها. صحب رجل الأخيار فترة من الزمن، فصلح أمره، وظهر ذلك في مظهره وثوبه ولحيته، ولكن في يوم من الأيام صحب الأشرار لينفثوا سمومهم في عقله وقلبه، وليدعوه إلى كل شر ورذيلة، وليغرسوا في قلبه بغض الصالحين ومجالسهم، وأخرجوه معهم إلى رحلة برية، وفي أثناء الطريق انقلبت بهم السيارة وماتوا جميعاً، وحضر الناس ليشاهدوا الحادث، وإذا بهم يعرفون هذا الرجل بعد موته قد حلق لحيته التي أطلقها مدة من الزمن، وأسبل ثوبه الذي قصره فترة من الوقت، ووجدوا بجواره كأس الخمر بعد معاقرته لها، لقد مات وهو مخمور بها، ولقي الله وهو سكران. كم من دمعة قطرت على هذه الخاتمة السيئة؟ فهل من قلوب واعية وآذان صاغية؟ يقول أحد الأشخاص: في أثناء عملنا توقفت أنا وزميلي على جانب الطريق نتجاذب أطراف الحديث، وفجأة سمعنا صوت ارتطام قوي فأدرنا أبصارنا، فإذا بها سيارة مرتطمة بأخرى كانت قادمةً من الاتجاه المقابل، هببنا مسرعين إلى مكان الحادث لإنقاذ المصابين، حادث لا يكاد يوصف، شخصان في السيارة في حالة خطيرة، أخرجناهما من السيارة ووضعناهما ممدودين، أسرعنا لإخراج صاحب السيارة الثانية الذي وجدناه قد فارق الحياة، عدنا إلى الشخصين، فإذا هما في حال الاحتضار، هبَّ زميلي يلقنهم الشهادة، قولوا: لا إله إلا الله، لكن ألسنتهما ارتفعت بالغناء يرددان أغنية كانا يستمعان إليها قبل الحادث، أرهبني الموقف وهالني الأمر، وكان زميلي على عكسي يعرف أحوال الموتى، وأخذ يعيد عليهما الشهادة، فما استطاعا نطقها، بل أخذا يغنيان، ومن حضر من الناس يسمعهما ليشهدا عليهما يوم الفضائح، واستمرا على ذلك حتى ماتا، وما استطاعا أن ينطقا بلا إله إلا الله. قصص سوء الخاتمة لأهل الغناء كثيرة حتى أن بعضهم عند الغرغرة ربما لعن الدين وتبرأ من الصلاة.

شاب توفاه الله وهو يقرأ القرآن

شاب توفاه الله وهو يقرأ القرآن يقول أحدهم في المقابل: حضرت إنساناً يحتضر في حادث سيارة، وحملناه معنا، وقمنا بالاتصال بالمستشفى، وجدناه شاباً في مقتبل العمر صاحب دين وتقوى، يبدو ذلك من مظهره، وقمنا بإسعافه وحملناه، وإذا بنا نسمعه يهمهم ولا نفقه ما يقول، أرخينا مسامعنا، فوجدناه يقرأ القرآن بصوت ندي كأنه ليس مصاباً، واستمر في قراءته، ثم رفع إصبعه السبابة يتشهد، وسكت الصوت بعد ذلك ليختمها بكلمة التوحيد، واتصل أحد الموظفين في المستشفى بمنزل المتوفى وكان المتحدث أخوه، قال عنه: إنه يذهب كل يوم اثنين لزيارة جدته وهي وحيدة في القرية، وكان يتفقد الأرامل والأيتام والمساكين، كانت القرية تعرفه، فهو يحضر لهم الكتب النافعة، والأشرطة الدينية، وكان يذهب وسيارته مملوءة بالأرز والسكر لتوزيعها على المحتاجين، وحتى حلوى الأطفال لم يكن ينساها، كان يرد على من يثنيه عن فعل الخير، ويقول: إنني أستفيد من طول الطريق بحفظ القرآن ومراجعته وسماع الأشرطة والمحاضرات، وهكذا كانت هذه الخاتمة الحسنة.

خاتمة جونير جون

خاتمة جونير جون أيها الناس: إن في الواقع لعبراً والله، وإننا حين نسمع الأخبار لا بد أن نربط بين الأحداث وبين ما جاء في القرآن والسنة، وأن نعتبر بما ورد، وهذا الهالك جونير جون كندي قامت أمريكا من أجل رجل فاجر خبيث رووا مغامراته في الفسق والفجور حتى بعد موته؛ مع كبار المومسات والمغنيات الفاجرات، والممثلات الساقطات، والعارضات السافلات، ماذا كانت نهايته؟ كيف سقطت طائرته تهوي؟ لقد خر هذا المشرك بالله من السماء، فتخطفه السمك وهوت به طائرته في البحر العميق في مكان سحيق، أخرجوه فأحرقوه، أليس خذلاناً، أنفقوا من أجل البحث عنه أموالاً طائلةً، ثم أخرجوه وأحرقوه، وفي البحر ذروه والله قادر على جمعه، قال الله تعالى: {وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} [الشورى:29] أنفقوا عليه لإخراجه وإحراقه، الحمد لله الذي جعل في الإسلام تكريماً للمسلم في دفنه، وجعل الأرض كفاتاً على ظهرها نعيش، وفي باطنها المستودع والبيت، وإلى الله المرجع والمصير، والعبرة بالنهاية، والأعمال بالخواتيم. اللهم اجعل خير أعمالنا خواتمها، وأحسن أعمالنا آخرها يا رب العالمين، اللهم أحينا مسلمين، وأمتنا مؤمنين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، اللهم أحينا بالتقوى، وارزقنا التمسك بالعروة الوثقى. اللهم أحي قلوبنا بذكرك، اللهم أحي قلوبنا بذكرك، اللهم لا تجعلنا من الغافلين، اللهم ردنا إلى الحق رداً جميلاً، وارزقنا فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين، إذا أردت بعبادك فتنة، فاقبضنا إليك غير مفتونين، اللهم آمنا في ديارنا وأوطاننا، واجعل بلدنا هذا بلداً آمنا مطمئناً وسائر بلاد المسلمين. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

ماذا نستفيد من الجيل الفريد

ماذا نستفيد من الجيل الفريد الصحابة هم الجيل الفريد الذي لم يأت مثله قبله، ولن يأتي مثله بعده، ومجالات الاستفادة منهم كثيرة جداً، وقد قام الشيخ بذكر مقدمة عن هذا الجيل، فتحدث عن تعريف الصحابة، ووضح عدد الرواة والمفتين من الصحابة، بالإضافة إلى نبذة عن فضلهم في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما بين عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة وأقوال العلماء فيهم رضي الله عنهم. أما بالنسبة للمجالات التي يتم الاستفادة فيها من هذا الجيل فهي كثيرة جداً.

مقدمة عن الصحابة رضوان الله عليهم

مقدمة عن الصحابة رضوان الله عليهم الحمد لله معز من أطاعه، ومذل من عصاه، أشهد أن لا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وسبحان الله والحمد لله، وصلى الله وسلم على الرحمة المهداة، والسراج المنير، والبشير والنذير؛ محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه. إخواني في الله: هذه تحيةٌ في هذه الليلة في هذا البيت من بيوت الله، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يشملنا برحمته، وأن ينزل علينا سكينةً من عنده، وأن يجعل ملائكته تغشانا، وأن يجعل دار الخلد مثوانا إنه سميعٌ مجيبٌ. أيها الإخوة: عنوان هذا الدرس" ماذا نستفيد من الجيل الفريد؟ " والمقصود بالجيل الفريد هم: صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم. والله تعالى لما جعل النبي محمداً عليه الصلاة والسلام أفضل الأنبياء، جعل حواريه أفضل الصحابة، وأفضل الحواريين من بين صحابة الأنبياء جميعاً. فاختارهم عز وجل لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، وحمل دينه وشرعه، والجهاد مع رسوله، فنشروا الإسلام في الآفاق. هذا الجيل الفريد، وقلت (الفريد)؛ لأنه لن يتكرر في البشرية مثله على الإطلاق، ولم يأتِ قبله مثله، ولم يأتِ بعده مثله أبداً. إنه جيلٌ فريدٌ اصطفاهم الله تعالى، وهذه معلوماتٌ عن الصحابة في سطور قبل أن نشرع في تبيان العنوان والشروع في المقصود.

تعريف الصحابي

تعريف الصحابي الصحابي: من صحب النبي صلى الله عليه وسلم، أو رآه ولو ساعةً من نهار، فهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. قال علي بن المديني: الصحابي من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على الإسلام، فيدخل في ذلك من لقيه ممن طالت مجالسته له أو قصرت، ومن روى عنه أو لم يروِ، ومن غزا معه أو لم يغزُ، ومن رآه رؤيةً ولو لم يجالسه، ومن لم يره لعارض العمى وكان مؤمناً به، يدخل فيها كل مكلفٍ من الجن والإنس، ويدخل فيه من ارتد وعاد إلى الإسلام قبل أن يموت سواء اجتمع به صلى الله عليه وسلم مرةً أخرى، أم لم يجتمع، وهذا هو الصحيح المعتمد عند الحافظ أحمد بن حجر العسقلاني رحمه الله. قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مائة وأربعة عشر ألفاً من الصحابة، وجملة الصحابة يبلغون مائة وعشرين ألفاً. قال ذلك: أبو زرعة الرازي. مات في المدينة من الصحابة نحو عشرة آلاف، وباقيهم تفرق في البلدان. نقل ذلك عن مالك بن أنس الأصبحي. نزل في الكوفة من الصحابة ألفٌ وخمسون منهم أربعة وعشرون بدريون، وقدم حمص من الصحابة خمسمائة رجل. وهذا القول لـ قتادة بن دعامة السدوسي.

عدد الرواة من الصحابة

عدد الرواة من الصحابة الرواة عن النبي صلى الله عليه وسلم ألفٌ وخمسمائة. هذا قول الحافظ الذهبي. والذين روى عنهم الإمام أحمد مع كثرة روايته واطلاعه واتساع رحلته وإمامته من الصحابة تسعمائةٍ وسبعة وثلاثون نفساً، ووضع في الكتب الستة من الزيادات على ذلك ما يقارب من ثلاثمائة صحابي أيضاً. الحافظ إسماعيل أبي الفداء ابن كثير رحمه الله تعالى.

الصحابة في الفتوى

الصحابة في الفتوى أكثر الصحابة فتوى مطلقاً سبعة: عمر، وعلي، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، وزيد بن ثابت، وعائشة رضوان الله عليهم. ورد ذلك عن ابن حزم، وقال: يمكن أن يجمع من فتيا كل واحد من هؤلاء مجلدٌ ضخم، ويليهم عشرون في الفتوى هم: أبو بكر، وعثمان، وأبو موسى، ومعاذ، وسعد بن أبي وقاص، وأبو هريرة، وأنس، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وسلمان، وجابر، وأبو سعيد، وطلحة، والزبير، وأم سلمة، يمكن جمع من فتيا كل واحدٍ منهم جزءاً صغيراً. قال: وفي الصحابة نحو من مائة وعشرين نفساً مقلون في الفتيا جداً، لا يروى عن الواحد منهم إلا المسألة والمسألتان والثلاث، يمكن أن يجمع من فتوى جميعهم جزءٌ صغيرٌ بعد البحث؛ كـ أبي بن كعب، وأبي الدرداء، وأبي طلحة، والمقداد، وغيرهم.

فضل الصحابة في الكتاب والسنة

فضل الصحابة في الكتاب والسنة ما هو فضلهم في الكتاب والسنة، حتى نعرف قيمة الصحابة؟

فضل الصحابة في القرآن

فضل الصحابة في القرآن قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال:72] تتكلم هذه الآية عن قسمين. من هم؟ إنهم المهاجرون والأنصار الموصوفون في الآية الأولى من هذه الآيات في الصفات الثلاث وهي: الإيمان، والهجرة، والجهاد: هم المهاجرون الأولون الذين تركوا ديارهم وأموالهم وأولادهم إيثاراً لله ولرسوله من أجل إعلاء كلمة الله، وإظهار دين الإسلام على سائر الأديان. والموصوفون في الآية نفسها بالإيواء والنصرة هم الأنصار الذين هم الأوس والخزرج، فإنهم آووا الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه المهاجرين في منازلهم، ونصروا نبي الله صلى الله عليه وسلم بمقاتلة أعداء الدين، ثم بين الله تعالى الولاء والتلاحم الثابت بين المهاجرين والأنصار بقوله: {أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال:72] في النصرة والمساعدة، وهذا مما يؤكد قطع الموالاة بينهم وبين الكفار، وقال عز وجل عن أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} [التوبة:100] رغماً عن أنوف الحاقدين: {وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:100] فهذه الآية اشتملت على أبلغ الثناء من الله رب العالمين على السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان، حيث أخبر الله تعالى أنه رضي عنهم، ويكفيهم فخراً وأجراً أن الله رضي عنهم. وقال عز وجل: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} [النور:55] وهذه تشمل الإيمان، والعمل الصالح، والخلافة، وإقامة الدعوة؛ والإيمان والعمل الصالح في الآية يشمل الخلافة وإقامة الدعوة، ويقول ابن تيمية رحمه الله: ومن المعلوم أن هذه النعوت منطبقة على الصحابة في زمن أبي بكر وعمر وعثمان، فإنه إذ ذاك حصل الاستخلاف، وتمكن الدين بعد الخوف، لما قهروا فارس والروم، وفتحوا الشام والعراق ومصر وخراسان وأفريقيا إلى آخر كلامه رحمه الله. وصفهم الله بوصفٍ جميلٍ في آخر سورة الفتح، فقال عز وجل: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29] فقوله: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29] هي التي استدل بها الإمام مالك رحمه الله على أن الذين يبغضون الصحابة لا حظ لهم في الفيء، وأن من أبغضهم كافر، ومن غاظه الصحابة فهو كافر: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29]. هذه الصورة العظيمة التي تبين العلاقة بينهم: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ ُ) [الفتح:29] وتبين عبادتهم، والعلاقة، والتربية، وكيف نشئوا نشأةً قويةً، وأنهم باستمرار الزمن زادت عبادتهم وأعمالهم مثل: النبتة الصغيرة مع الزمن وتعاهدها بالسقيا تصبح شجرة كبيرة متجذرة في الأرض، وافرة الظلال، كثيرة الأغصان، متشابكة الجذوع: {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} [الفتح:29] وكل واحد يهديه الله إلى الدين، فيتعاهد نفسه بالإيمان، والعمل الصالح، ومجالس الذكر، وأصحاب الخير؛ فإن إيمانه يزداد ويقوى حتى يصبح شجرة قوية، ومرور الوقت في صالحه، وعمره خيرٌ له.

وصف الصحابة في السنة النبوية

وصف الصحابة في السنة النبوية قال أبو موسى رضي الله تعالى عنه: (صلينا المغرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قلنا: لو جلسنا حتى نصلي معه العشاء) -مثلما أنتم الآن جالسون أيها الإخوة، فلا تنسوا النية بانتظار الصلاة القادمة؛ لأن من قعد ينتظر الصلاة، فهو في صلاة- فالصحابة صلوا مع النبي عليه الصلاة والسلام صلاة المغرب- (ثم قلنا: لو جلسنا حتى نصلي معه العشاء، قال: فجلسنا، فخرج علينا، فقال: ما زلتم هاهنا -من المغرب- قلنا: يا رسول الله! صلينا معك المغرب، ثم قلنا: نجلس حتى نصلي معك العشاء، قال: أحسنتم -أو أصبتم- فرفع رأسه إلى السماء، وكان كثيراً ما يرفع رأسه إلى السماء، فقال: النجوم أمنةٌ للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنةٌ لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنةٌ لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون) رواه مسلم. قال النووي رحمه الله: معنى الحديث: أن النجوم ما دامت باقية في السماء، فالسماء باقية، فإذا انكدرت النجوم وتناثرت يوم القيامة وهنت السماء، فانفطرت وانشقت وذهبت، وقوله صلى الله عليه وسلم: (وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون) أي: من الفتن والحروب، وارتداد الأعراب، واختلاف القلوب ونحو ذلك، وقوله عليه الصلاة والسلام: (وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون) معناه: ما يوعدون من ظهور البدع والحوادث في الدين والفتن، وطلوع قرن الشيطان، وظهور الروم، وانتهاك المدينة ومكة وغير ذلك، وهذه كلها من معجزاته صلى الله عليه وسلم. فإذاً: الآن انظروا ماذا حصل من النقص لما ذهب الصحابة، والأمة في نقصٍ بعد ذهابهم ولا تزال يزداد نقصها. هؤلاء الصحابة هم الأمة الوسط: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة:143] وهم على رأس الشهود الذين يشهدون لكل نبي على أمته، هل جاءكم نذير؟ يقولون: لا. ما جاءنا النذير: (يقال للنبي: هل بلغت؟ فيقول: نعم. فيقال: من شهودك؟ -يا نوح من شهودك؟! يا شعيب من شهودك؟! يا إبراهيم! يا عيسى! يا موسى؟! فيقول: محمدٌ وأمته، فيجاء بكم فتشهدون، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة:143]) اعدلوا لتكونوا شهداء على الناس والحديث في صحيح البخاري. كل الصحابة عدول وأثبات: ولذلك ما بحث أهل الجرح والتعديل في حال الصحابة، ولا يوجد في كتب الجرح والتعديل الصحابي هذا ثقة، وهذا ثقةٌ ثبتٌ، أو هذا صدوق، أو هذا لا بأس به، أو هذا ضعيف، فكلهم ثقات لا مجال للبحث فيهم في مسألة الجرح والتعديل، لأن الله عدلهم، وما دام الله عدلهم، فمن بعد ذلك يبحث في تعديلهم؟! المسألة منتهية، لكن النظر فيمن بعدهم، فالذين مات النبي عليه الصلاة والسلام وهم باقون على العهد وماتوا على العهد هؤلاء كلهم أخيار. ولذلك لما جاء في الحديث أن عائد بن عمر وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم دخل على عبيد الله بن زياد الأمير، فقال: (أي بني -ينصحه- إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن شر الرعاء الحطمة. فإياك أن تكون منهم) -تقسوا على الرعية، وتشتد على الرعية، وتحطم الرعية، وتكلف الرعية ما لا يطيقون، إياك أن تكون من الرعاء هؤلاء الحطمة الذين يحطمون الرعية- (فقال له: اجلس، فإنما أنت من نخالة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فقال الصحابي: وهل كانت لهم نخالة، إنما كانت النخالة بعدهم وفي غيرهم) كلهم أخيار لا يوجد فيهم نخالة، فالنخالة بعدهم، والحديث في الصحيح.

العلماء الجهابذة وعقيدتهم في الصحابة

العلماء الجهابذة وعقيدتهم في الصحابة ماذا قال العلماء في شأن الصحابة؟ نحن نعلم أن الكلام في الصحابة حدث، وأن الطعون عليهم من أعداء الله قام سوقها، وأن التشكيك فيهم قد حصل، فنحن نحتاج إلى أن نقاوم بكلام مضاد نثبت به فضلهم ومكانتهم في الدين.

الحسن البصري يصف الصحابة

الحسن البصري يصف الصحابة قال الحسن البصري رحمه الله وقد سأله بعض الناس: [أخبرنا عن صفة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فبكى ثم قال: ظهرت منهم علامات الخير في السيماء والسمت والهدي والصدق، وخشونة ملابسهم بالاقتصاد، وممشاهم بالتواضع، ومنطقهم بالعمل، ومطعمهم ومشربهم بالطيب من الرزق، وخضوعهم بالطاعة لربهم تعالى، واستقادتهم للحق فيما أحبوا وكرهوا، وعطاؤهم الحق من أنفسهم، ظمئت هواجرهم، ونحلت أجسامهم، واستخفوا بسخط المخلوقين في رضا الخالق، لم يفرطوا في غضب، ولم يحيفوا، ولم يجاوزوا حكم الله تعالى في القرآن، شغلوا الألسن بالذكر، بذلوا دماءهم حين استنصرهم، وبذلوا أموالهم حين استقرضهم، ولم يمنعهم خوفهم من المخلوقين، حسنت أخلاقهم، وهانت مئونتهم، وكفاهم اليسير من دنياهم إلى آخرتهم].

أيوب السختياني وعقيدته في الصحابة

أيوب السختياني وعقيدته في الصحابة وقال أيوب السختياني رحمه الله: من أحب أبا بكر فقد أقام الدين، ومن أحب عمر فقد أوضح السبيل، ومن أحب عثمان فقد استنار بنور الله، ومن أحب علياً فقد استمسك بالعروة الوثقى، ومن قال الحسنى في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد برئ من النفاق.

قول الطحاوي في الصحابة

قول الطحاوي في الصحابة وقال الطحاوي رحمه الله في عقيدته المشهورة: ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نفرط في حب أحدٍ منهم، ولا نتبرأ من أحد منهم، ونبغض من يبغضهم وبغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير، وحبهم دينٌ وإيمانٌ وإحسانٌ، وبغضهم كفرٌ ونفاقٌ وطغيانٌ. أما شارح الطحاوية فقد قال: فمن أضل ممن يكون في قلبه غلٌ على خيار المؤمنين وسادات أولياء الله تعالى بعد النبيين، بل قد فَضَلهم اليهود والنصارى بخصلة -الذي يسب الصحابة كان اليهود والنصارى أفضل منهم بخصلة- قيل لليهود: من خير أهل ملتكم؟ قالوا: أصحاب موسى. وقيل للنصارى: من خير أهل ملتكم؟ قالوا: أصحاب عيسى. وقيل لأهل الرفض: من شر أهل ملتكم؟ قالوا: أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يستثنوا منهم إلا القليل.

قول الإمام أحمد بن حنبل في الصحابة

قول الإمام أحمد بن حنبل في الصحابة وقال الإمام أحمد رحمه الله: ومن السنة الواضحة الثابتة البينة المعروفة ذكر محاسن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعين، والكف عن ذكر ما شجر بينهم، فمن سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أحداً منهم، أو تنقصهم، أو طعن فيهم، أو عرض بعيبهم، أو عاب أحداً منهم، فهو مبتدعٌ خبيثٌ مخالفٌ لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً، بل حبهم سنة، والدعاء لهم قربة، والاقتداء بهم وسيلة، والأخذ بآثارهم فضيلة، وخير هذه الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر، وعمر بعد أبي بكر، وعثمان بعد عمر، وعلي بعد عثمان، وهم خلفاء راشدون مهديون، لا يجوز لأحد أن يذكر شيئاً من مساويهم، ولا يطعن على أحد منهم بعيب ولا نقص، ومن فعل ذلك فقد وجب على السلطان تأديبه وعقوبته، وليس له أن يعفو عنه، بل يعاقبه ويستتيبه، فإن تاب قبل منه، وإن ثبت أعاد عليه العقوبة وخلده في الحبس حتى يموت أو يرجع، وما صح فيما جرى بينهم من خلاف، فهم فيه مجتهدون، إما مصيبون ولهم أجر الاجتهاد وأجر الإصابة، وإما مخطئون ولهم أجر الاجتهاد وخطؤهم مغفور، لكن ما أكثر صوابهم بالنسبة لصواب غيرهم، وما أقل خطأهم إذا نسب إلى أخطاء غيرهم، ولهم من الله المغفرة والرضوان رضي الله عنهم.

قول أبي زرعة في الصحابة

قول أبي زرعة في الصحابة قال أبو زرعة الرازي: إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاعلم أنه زنديق، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندنا حق، والقرآن حق، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى وهم زنادقة.

ابن القيم ووصفه للصحابة

ابن القيم ووصفه للصحابة وقال ابن القيم رحمه الله في وصفهم: أفقه الأمة، وأبرها وأعمقهم علماً، وأقلهم تكلفاً، وأصحهم قصوداً، وأكملهم فطرةً، وأتمهم إدراكاً، وأصفاهم أذهاناً، الذين شاهدوا التنزيل، وعرفوا التأويل، وفهموا مقاصد الرسول، وإن أحداً ممن بعدهم لا يساويهم في رأيهم، وكيف يساويهم؟ وقد كان أحدهم يرى الرأي فينزل القرآن بموافقته؟ عمر وافق ربه في مواضع، وأبو أيوب الأنصاري ذكر كلمة فنزلت كما هي في القرآن. قال عمر: [عسى ربه يبدله خيراً منكن] فنزل قوله تعالى: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ} [التحريم:5] فنزلت بنصها في القرآن. وأبو أيوب قال: [سبحانك هذا بهتان عظيم] فنزلت كما هي في القرآن، وقد كان أحدهم يرى الرأي، فينزل القرآن بموافقته، وحقيقٌ لمن كانت آراؤهم بهذه المنزلة أن يكون رأيهم لنا خيراً من رأينا لأنفسنا. اهـ

الصحابة وسبب قوة إيمانهم

الصحابة وسبب قوة إيمانهم من أسباب عظم إيمان الصحابة: أنهم رأوا المعجزات، فهم عايشوا نزول الوحي، فتحدث القضية هنا وينزل الوحي هنا مباشرة وبالتفاصيل، بل إن واحداً من الصحابة اشتهى أن ينظر إلى النبي عليه الصلاة والسلام عند نزول الوحي، فسأل عمر، فلما نزل الوحي، دعاه عمر، وقال له: تعال، وكشف الغطاء، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم له غطيط كغطيط البَكر -أي: صوت مثل صوت الإبل، مثل: صوت النائم- تعلوه الرحضاء، يحمر وجهه صلى الله عليه وسلم، ويعرق حتى في الشتاء، أراه صفة النبي عليه الصلاة والسلام عند نزول الوحي. وكادت فخذ بعضهم أن ترض، كان الصحابي يحس بثقل الوحي، كانت فخذ الصحابي تحت فخذ النبي عليه الصلاة والسلام، وينزل الوحي والوحي ثقيل، وتكاد فخذ الصحابي أن ترض. سمعوا خبر الجن بالبشارة به قبل بعثته، وأهل الكتاب، وسمعوا كلام الذئب عنه، وعاينوا نزول الوحي عليه، ورأوا خاتم النبوة بين كتفيه، وأخبرهم بأمور من الغيب، فرأوا تحققها عياناً، ورأوا استجابة دعائه، وشموا رائحة الطيب من عرقه، وعاينوا مس يده الشريفة ليناً وبرودةً، وشربوا من مكان شربته في الإناء شراباً أحلى من العسل، وأطيب من المسك، وشاهدوا تكثير الطعام، وسمعوا تسبيحه وهو يأكله بين يديه، ورأوا الماء ينبع من بين كفيه، وحنين الجذع إليه، والتئام الشجر عليه، وشكوى البعير دامعةً عينه إليه، وتسابق نوق الهدي إليه للنحر، وإخبار الذراع بما فيه من السم، كل هذا رأوه، فلماذا لا يكون إيمانهم في المرتبة العالية؟ ولماذا لا يكون فضلهم في المنزلة العليا والعظمى؟ ولماذا لا يكون قولهم حجة من الحجج الظاهرة؟ وتكون استنباطاتهم آية من آيات الله الباهرة؟ فهم كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس: (ولو أن أحداً أنفق مثل أحدٍ ذهباً، ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه).

الصحابة فتحت لهم الأمصار

الصحابة فتحت لهم الأمصار فتحت لأجلهم البلدان، وسلم أهل الأمصار مفاتيح أمصارهم إليهم بفضلهم وإيمانهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يأتي زمانٌ يغزو فئام من الناس، فيقال: فيكم من صحب النبي صلى الله عليه وسلم؟ فيقال: نعم. فيفتح عليه، ثم يأتي زمانٌ، فيقال: فيكم من صحب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ فيقال: نعم، فيفتح، ثم يأتي زمانٌ، فيقال: فيكم من صحب صاحب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ فيقال: نعم. فيفتح) رواه البخاري. ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (لا تزالون بخيرٍ ما دام فيكم من رآني وصاحبني، والله لا تزالون بخيرٍ مادام فيكم من رأى من رآني وصاحبني) أخرجه ابن أبي شيبة وحسنه في الفتح، هذا معنى حديث: (خير الناس قرني الحديث). فتحت الأمصار، وكانت تسلم إليهم؛ لأنهم صحابة، بعض الأمصار سلمت إليهم بالمفتاح؛ لأنهم صحابة، مكانتهم عند الله عظيمة جماعات وفرادى، وقد عرفنا بعض ما نزل في القرآن بشأنهم.

فضائل لبعض الصحابة دون غيرهم

فضائل لبعض الصحابة دون غيرهم وأما عن أفرادهم، فنأخذ مثالين من فضلهم عند الله.

منزلة عبد الله بن حرام

منزلة عبد الله بن حرام قال طلحة بن خراش: سمعت جابر بن عبد الله يقول: (لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لي: يا جابر! ما لي أراك منكسراً؟ قلت: يا رسول الله! استشهد أبي، قتل يوم أحد وترك عيالاً وديناً، قال: أفلا أبشرك بما لقي الله به أباك؟ قال: قلت: بلى يا رسول الله. قال: ما كلم الله أحداً قط إلا من وراء حجاب، وأحيا أباك فكلمه كفاحاً، فقال: يا عبدي! تمنَّ عليَّ أعطك، قال: يا رب! تحييني فأقتل فيك ثانية، فقال عز وجل: إنه قد سبق مني أنهم إليها لا يرجعون، وأنزلت هذه الآية: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ} [آل عمران:169 - 171]) فهذا والد جابر أحياه الله، وقام أمام الله عز وجل وكلمه كفاحاً، وقال: يا عبدي! تمنَّ عليَّ أعطك. كرامة، والحديث رواه الترمذي وحسنه وهو في صحيح البخاري.

أبي بن كعب سيد القراء

أبي بن كعب سيد القراء مثال آخر: عن أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي -لاحظوا يا إخوة، وفكروا بالحديث- (إن الله أمرني أن أقرأ عليك) والنبي عليه الصلاة والسلام يقول عن أبي: (أقرؤهم أبي) (إن الله أمرني أن أقرأ عليك: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [البينة:1] قال أبي: وسماني؟ قال: نعم. فبكى رضي الله عنه). وفي رواية قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي بن كعب: (إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن، قال: آلله سماني لك؟ قال: نعم. قال: وقد ذكرت عند رب العالمين؟ قال: نعم. فذرفت عيناه) قوله: سماني، يعني: هل نص عليَّ باسمي، أو قال: اقرأ على واحد من أصحابك فاخترتني أنا، قال: الله سماك، الله قال: أبي، فبكى فرحاً وسروراً وخشوعاً وخوفاً من التقصير في شكر تلك النعمة، والحديث في الصحيح وهؤلاء الصحابة نماذج.

الصحابة والخلافة

الصحابة والخلافة ومن جوانب العظمة أن النبي عليه الصلاة والسلام توفي عن عدد من الصحابة كلهم يصلح للخلافة، فالرسول صلى الله عليه وسلم ربى أعداداً من الصحابة كل واحد يصلح أن يكون خليفة، تخرج من مدرسته صلى الله عليه وسلم ذهب نقي، كُمَّل في أنفسهم، ويكمل بعضهم بعضاً، وتخصصوا في الجوانب، وهذا نستفيد منه في الواقع. عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أرحم أمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياءً عثمان، وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، ألا وإن لكل أمة أميناً، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح) رواه الترمذي وقال: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وقال: (ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء أصدق من أبي ذر) رواه الترمذي وقال: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ وهو في صحيح الجامع. وعن علقمة، قال: [قدمت الشام فصليت ركعتين، ثم قلت: اللهم يسر لي جليساً صالحاً، فأتيت قوماً، فجلست إليهم، فإذا شيخٌ قد جاء حتى جلس إلى جنبي، قلت: من هذا؟ فقالوا: أبو الدرداء، فقلت: إني دعوت الله أن ييسر لي جليساً صالحاً، فيسرك لي، قال: ممن أنت؟ قلت: من أهل الكوفة. قال: أوليس عندكم ابن أم عبد صاحب النعلين -لأنه كان يحمل نعلي النبي صلى الله عليه وسلم ويتعاهد ذلك باستمرار- والوساد؟] وذكر ابن حجر في الشرح، فقال: وورد برواية: (السواد) وهي أوجه، والسواد يعني: السرب، ميزة لـ ابن مسعود، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام له: (إذنك عليَّ أن ترفع الحجاب وأن تسمع سوادي) ارفعه في أي وقت شئت، ميزة لـ ابن مسعود. [أوليس عندكم ابن أم عبد صاحب النعلين والسواد والمطهرة؟ وفيكم الذي أجاره الله من الشيطان على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم] من المقصود بالذي أجاره الله من الشيطان؟ الحديث في الصحيح من أحاديث الصحيح في صحيح البخاري، أبو الدرداء يسأل الرجل الذي جاء من الكوفة، يقول: أتأتي تطلب العلم وعندك ابن مسعود وعندك فلان وفلان؟ قال: [وفيكم الذي أجاره الله من الشيطان على لسان النبي صلى الله عليه وسلم] من هو؟ الصحابي هو: عمار بن ياسر رضي الله عنه وأرضاه: [أوليس فيكم صاحب سر النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا يعلمه أحدٌ غيره؟] من هو؟ إنه حذيفة رضي الله عنه وأرضاه، والمقصود بالسر أسماء المنافقين.

حرص التابعين على الاستفادة من الصحابة

حرص التابعين على الاستفادة من الصحابة فالتابعون لما رأوا الصحابة بهذه المنزلة، أقبلوا عليهم، واتجهت النفوس إليهم، واحترموهم، وصانوهم، وحرصوا على لقياهم، والأخذ عنهم، وسؤالهم واستفتائهم، فجمعوا علمهم وبلغوه لمن بعدهم.

يزيد بن حيان يذهب إلى زيد بن أرقم

يزيد بن حيان يذهب إلى زيد بن أرقم وهذه نماذج: عن يزيد بن حيان قال: [انطلقت أنا وحصين بن سبرة وعمرو بن مسلم إلى زيد بن أرقم، فلما جلسنا إليه قال له حصين: لقد لقيت -يا زيد - خيراً كثيراً، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمعت حديثه وغزوت معه، وصليت خلفه، لقد لقيت -يا زيد - خيراً كثيراً، حدثنا -يا زيد - ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: يا بن أخي! والله لقد كبرت سني، وقدم عهدي، ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما حدثتكم فاقبلوا، وما نافى فلا تكلفونيه. ثم ذكر حديثاً] وهذا في صحيح مسلم، فكان التابعون يقولون للصحابة: رأيتم خيراً كثيراً، وأدركتم خيراً كثيراً، حدثونا وأعطونا أخباراً من التي رأيتموها.

عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت ورؤية أبي اليسر

عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت ورؤية أبي اليسر وعن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، قال: [خرجت أنا وأبي نطلب العلم في هذا الحي من الأنصار قبل أن يهلكوا -يريدون اللحاق بمن يمكن من الصحابة قبل أن يموت الصحابة- فكان أول من لقينا أبا اليسر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم -ثم سألوه وحدثهم، وحتى السؤال فيه أدب- فقال له أبي: يا عمي! -يقول للصحابي- إني أرى في وجهك سكعةً من غضب، قال: أجل، ثم قص عليه القصة] الحديث رواه مسلم. وعن جبير بن نصير قال: [جلسنا إلى المقداد بن الأسود يوماً، فمر به رجل، فقال: طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لوددنا أنا رأينا ما رأيت وشهدنا ما شهدت] رواه البخاري في الأدب المفرد، وهو في صحيح الأدب المفرد.

معاوية بن قرة ولقاؤه بمعقل المزني

معاوية بن قرة ولقاؤه بمعقل المزني لقاء التابعين بالصحابة لم يكن لقاء تضييع أوقات، معاذ الله! بل كان لقاء انتفاع واستفادة، ولقاء أخذٍ وتربية، وانظروا إلى هذه القصة: عن معاوية بن قرة، قال: [كنت مع معقل المزني -صحابي ومعاوية بن قرة تابعي- يقول: ألازمه وأستفيد منه -ينظر إلى حركاته وتصرفاته، يقتبس منه- فأماط أذىً عن الطريق، وبعد برهة قال التابعي: فرأيت شيئاً فبادرته وأمطته عن الطريق، فقال الصحابي للتابعي: ما حملك على ما صنعت يا بن أخي؟ قال: رأيتك تصنع شيئاً فصنعت] هنا التلقي والتربية بالقدوة، وهذه اسمها: التربية بالقدوة، التابعي رأى الصحابي يفعل شيئاً، ففعل مثله وسأله الصحابي ثم علمه، [فقال: أحسنت يا بن أخي، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من أماط أذىً عن طريق المسلمين، كتبت له حسنة، ومن تقبلت له حسنة، دخل الجنة)] رواه البخاري في الأدب المفرد وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة. فإذاً: الناحية التربوية هنا يا أيها الإخوة! أن التشبه والاقتداء يسري في الأجيال، ولذلك لما ترى علم ابن مسعود مثلاً انتقل إلى من؟ فمن؟ فمن؟ وعلم ابن عباس انتقل مِن مَن؟ إلى من؟ فمن؟ وهكذا، ثم الانتقال ما كان انتقال روايات فقط، بل كان انتقال تأثر بالشخصية، ولذلك قال قبيصة: (كان ابن مسعود أشبه الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم) يعني: في هديه وسمته. وكان علقمة يشبه ابن مسعود، ويشبه بـ علقمة إبراهيم، وبـ إبراهيم منصور، وبـ منصور سفيان، وبـ سفيان وكيع، في التلقي عبر الأجيال؛ وكيع يأخذ عن سفيان، وسفيان أخذ عن منصور، ومنصور عن إبراهيم، وإبراهيم عن علقمة، وعلقمة صاحب ابن مسعود.

الصحابة وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم

الصحابة وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم هؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم مدرسة في الفضائل والأعمال، فنحن نريد أن نتبين كيف نستفيد منهم؟ ماذا علمنا الصحابة؟ لقد علمونا -أيها الإخوة- محبة النبي صلى الله عليه وسلم، وضربوا لنا الأمثلة الرائعة في محبته عليه الصلاة والسلام حباً شديداً يقول الكافر لما رجع إلى قومه: (والله ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامةً إلا وقعت في كف رجل منهم -يعني: من أصحابه- فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم، ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له) هكذا وصف، والحديث في صحيح مسلم.

عمرو بن العاص وحبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم

عمرو بن العاص وحبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: عمرو بن العاص: [وما كان أحدٌ أحب إليَّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أجل في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالاً له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت؛ لأني لم أكن أملأ عيني منه] رواه مسلم.

حب غلمان الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم

حب غلمان الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى الغلمان الصغار من الصحابة: كان عبد الرحمن بن عوف واقفاً يوم بدر بين غلامين حديثي السن، فتمنى أن يكون بين أقوى وأضرع منهما، وإذا بأحدهما يميل عليه ويقول: يا عم! هل تعرف أبا جهل؟ قلت: نعم. وما حاجتك إليه يا بن أخي؟ قلت: أخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي نفسي بيده! لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا. فتعجبت، فغمزني الآخر فقال لي مثلها، وهذا بدون اتفاق، وكل واحد يريد أن يخفي عن صاحبه بالغمز لـ عبد الرحمن بن عوف، هؤلاء صغار الصحابة، من حبهم للنبي عليه الصلاة والسلام لما سمعوا أن أبا جهل كان يسبه، يريدون الانتقام منه بأية طريقة، وقد جعل الله مقتله على يديهما.

الصحابة وفداؤهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأنفسهم

الصحابة وفداؤهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأنفسهم من حبهم للنبي عليه الصلاة والسلام أنهم كانوا يفدونه بأنفسهم. عن الزبير بن العوام قال: (كان على النبي صلى الله عليه وسلم درعان يوم أحد، فنهض إلى الصخرة، فلم يستطع، فأقعد طلحة تحته، فصعد النبي صلى الله عليه وسلم عليه حتى استوى على الصخرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أوجب طلحة) حديث حسن في الترمذي، ((أوجب طلحة) أي: الجنة، فأثبتها لنفسه بهذا العمل؛ لأنه خاطر بنفسه يوم أحد، وفدى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان وقايةً له حتى طعن ببدنه، وجرح جميع جسده حتى شلت يمينه وقطعت أصابعه، طلحة كانت يده شلاء رضي الله عنه. وأبو طلحة لما أشرف النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إلى القوم ليرى نتائج المعركة وماذا في الساحة، جعل أبو طلحة يقول ((يا نبي الله! بأبي أنت وأمي لا تشرف فيصيبك سهمٌ من سهام القوم، نحري دون نحرك) رواه البخاري. وفي غزوة أحد وقف سبعة من الأنصار، واثنان من قريش عند النبي عليه الصلاة والسلام حماية، فلما رهقوه -أي: المشركون رهقوا النبي عليه الصلاة والسلام- قال: (من يردهم عنا وله الجنة؟ -أو هو رفيقي في الجنة- فتقدم رجلٌ من الأنصار، فقاتل حتى قتل، ثم رهقوه أيضاً، فقال: من يردهم عنا وله الجنة؟ -أو هو رفيقي في الجنة- فتقدم رجلٌ من الأنصار، فقاتل حتى قتل، فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ما أنصفنا أصحابنا) قال لصاحبيه الباقيين من قريش -وهم مهاجرون- الحديث رواه مسلم.

سرعة استجابة الصحابة لأمر الله ورسوله

سرعة استجابة الصحابة لأمر الله ورسوله نتعلم من الصحابة -أيها الإخوة- سرعة استجابتهم لأوامر النبي عليه الصلاة والسلام، وسرعة التفاعل مع النص، وسرعة التنفيذ، فالتلقي للتنفيذ، لم يكن تلقياً بارداً، ولم يكن تخزين معلومات، كان أخذاً للعمل، وتعلماً للعمل، ولو كان ضد هواه أو ضد مشاعره.

معقل بن يسار وسرعة استجابته لأمر الله

معقل بن يسار وسرعة استجابته لأمر الله هذا معقل بن يسار رضي الله عنه زوج أخته رجلاً من المسلمين، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت عنده مدة من الزمن، ثم طلقها تطليقة ولم يراجعها حتى انقضت العدة، ورجعت إلى أخيها -أخوها زوَّجها لهذا الرجل وأكرمه بها وأعطاه إياها، فإذا به يطلقها ولا يراجعها في العدة- فرجعت إلى بيت أخيها الذي خرجت منه، وهذا الزوج بعد فترة هويها، وهويته، يعني: أراد كل واحد منهم الرجوع إلى الآخر، فخطبها مع الخطاب، وفي القديم ما كانت المطلقة كما يقولون اليوم سوقها بائرة، فلا أحد يتقدم إلى المطلقة، لا. قال: فخطبها مع الخطاب، فالمطلقات تمشي أمورهن بسرعة، فقال له معقل: [يا لكع! أكرمتك بها وزوجتكها، فطلقتها، والله لا ترجع إليك أبداً آخر ما علي] وفي رواية البخاري قال: [زوجتك وفرشتك وأكرمتك، فطلقتها، ثم جئت تخطبها، لا والله لا تعودك أبداً] وعودة إلى رواية الترمذي، قال: [فعلم الله حاجته إليها، وحاجتها إلى بعلها، فأنزل الله تبارك وتعالى في هذه القصة آية وهي قوله سبحانه وتعالى: ((وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ)) [البقرة:232]] لما سمعها معقل، ماذا قال؟ والآن تصور أن واحداً منا زوج رجلاً من الشباب الطيبين أخته وسهل له الأمور، والمهر لا يكاد يذكر، كأنه أعطاه عطية، والمهر يسير، وأكرمه بها، وربما تكون أخته الوحيدة المدللة المعززة المكرمة في البيت، وإذا بهذا بعد فترة من الزمن يطلقها ويرميها، ثم يأتي بعد ذلك يريد أن يخطبها مرة أخرى، ما راجعها في العدة، تركها حتى تخرج من عصمته، كيف يكون شعورك؟ وماذا عساه أن يفعل بهذا الرجل الذي جاء يطلبها مرة ثانية؟ فهذا معقل بن يسار الصحابي رضي الله عنه شعوره معروف، نفسه مشحونة الآن، لما نزلت الآية، ماذا قال؟ لقد قال: [[سمعاً لربي وطاعةً، ثم دعاه، فقال: أزوجك وأكرمك، فزوجها إيا]. ما هو الفرق بيننا وبين الصحابة؟ الفرق سرعة الامتثال: سمعاً لربي وطاعة، التسليم مباشر، وفي رواية: [فكفرت عن يميني وأنكحتها إياه] حلف ألا يعطيها إياه مرة ثانية، فكفر عن يمينه، وفي رواية: [فقلت: الآن أقبل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعاً لربي وطاعة، فدعا زوجها، فزوجها إياه].

أبو بكر وسرعة تنفيذه لأمر الله

أبو بكر وسرعة تنفيذه لأمر الله وكذلك أبو بكر الصديق لما حلف بعدما وقع بعض الناس في ابنته عائشة حتى ذاقت المر، وبكت حتى انقطع بكاؤها، وجف الدمع وانتهى وما بقي منه قطرة، فهي في كرب شديد. وكان من ضمن الذين تورطوا في القضية مسطح، وهو رجل فقير كان الصديق ينفق عليه وهو من قرابته، فلما فعل هكذا بابنته، منع عنه النفقة معاقبة له على ما فعل، فلما أنزل الله تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى} [النور:22] إلى أن قال: {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:22] قال أبو بكر: [بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح الذي كان يجري عليه] الحديث في صحيح البخاري فرجع بسرعة.

نتعلم من الصحابة الصدق

نتعلم من الصحابة الصدق نتعلم مع الصحابة -أيها الإخوة- الصدق مع الله عز وجل، لا كذب، ولا إخلاف عهد مع الله، بل الصدق مع الله تعالى. عن شداد بن الهاد: أن رجلاً من الأعراب جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فآمن به واتبعه -اسمعوا يا أيها الإخوان! إلى هذا الحديث- ثم قال: (أهاجر معك، فأوصى به النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه أن يعلموه) فالذي أسلم حديثاً يلتقي بالقديم، الجديد مع القديم يأخذ معه ويتربى عنه، هناك تعليم واهتمام بالأفراد، فقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يهتم بأصحابه: (فلما كانت غزوةٌ، غنم النبي صلى الله عليه وسلم سبياً، فقسم وقسم له -لهذا الأعرابي- أعطى أصحابه ما قسم له -يعني: أمرهم أن يوصلوا نصيبه إليه- فجاءوا به إليه، فقال: ما هذا؟ قالوا: قسمٌ قسمه لك النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذه وجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: ما هذا؟ قال: قسمته لك. قال: ما على هذا اتبعتك، ولكني اتبعتك على أن أرمى بسهم هاهنا -وأشار إلى حلقه- فأموت وأدخل الجنة -لا غنائم، ولا أموال- فقال: إن تصدق الله؛ يصدقك، فلبثوا قليلاً، ثم نهضوا في قتال العدو، فأتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحمل وقد أصابه سهمٌ حيث أشار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أهو هو؟ قالوا: نعم. قال: صدق الله فصدقه، ثم كفنه النبي صلى الله عليه وسلم في جبته ثم قدمه فصلى عليه، فكان فيما ظهر من صلاته: اللهم إن هذا عبدك خرج مهاجراً في سبيلك، فقتل شهيداً أنا شهيدٌ على ذلك) رواه النسائي وهو حديث صحيح. فالصحابة عرفوا الالتزام، وعرفوا التدين، وعرفوا التطوع، وقل: هذا متدين، أوهذا مطوع، أوهذا ملتزم، قل ما شئت، لكن المسألة -والله العظيم- في النهاية شيء واحد، الصدق مع الله فقط، لو يعمل أحدنا في حياته فقط لهذه القضية الصدق مع الله، فهذا أعرابي صدق مع الله في موقف واحد ودخل الجنة.

نتعلم من الصحابة اليقين بصدق كلام رسول الله

نتعلم من الصحابة اليقين بصدق كلام رسول الله كيف كان يقينهم بكلام النبي صلى الله عليه وسلم؟ اليقين درجة عالية، (عندما يرسل النبي صلى الله عليه وسلم علياً والزبير وأبا مرثد ليأتوا بالخطاب الذي أرسله حاطب مع المرأة، ويفتشوها التفتيش الأولي، فلا يجدون شيئاً، ويقولون لـ علي: ما وجدنا شيئاً -فماذا قالوا للمرأة؟ - قالوا: ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لتخرجن الكتاب، أو لنجردنك، فلما رأت الجد، أهوت إلى حجزتها وأخرجت الكتاب) والقصة في الصحيح، ذهبوا متيقنين بصدق النبي عليه الصلاة والسلام. وكثير من الأحاديث وردت سواء في علاج الأمراض، أو في أشياء، فما دام النبي عليه الصلاة والسلام قالها، يعني: قطعاً أنها حق، وبعض الناس ينقصهم اليقين بكلام النبي صلى الله عليه وسلم. وهذه قصة لطيفة عن عائشة رضي الله عنها: (دخل النبي عليه الصلاة والسلام على عائشة بأسير -أي: لتبقيه عندها ولا يهرب- قالت عائشة: فلهوت عنه) -لعلها كانت حديثة السن- (فذهب، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ما فعل الأسير؟ قالت: لهوت عنه مع النسوة فخرج، فقال: ما لك قطع الله يدك -أو يديك؟ - فخرج، فآذن به الناس، فطلبوه، فجاءوا به) -ألقي القبض عليه- (فدخل عليَّ -تقول عائشة - وأنا أقلب يدي، فقال: ما لك أجننت؟ قلت: دعوت عليَّ فأنا أقلب يدي أنظر أيهما يقطع) -من يقين عائشة تقول: هذه أو هذه متى ستسقط- (فحمد الله وأثنى عليه، ورفع يديه، وقال: اللهم إني بشرٌ أغضب كما يغضب البشر، فأيما مؤمنٍ أو مؤمنة دعوت عليه، فاجعله له زكاةً وطهوراً) رواه أحمد، وهو حديثٌ صحيحٌ. فإذاً: النبي عليه الصلاة والسلام إذا دعا على أحَدَ من المؤمنين، فدعوته هذه خصوصية، دعوته عليه تكون بركة ورحمة وخيراً لهذا الرجل المسلم، ولو قال: ثكلتك أمك، أو تربت يداك أو أي دعوة، وهي في الأصل من كلام العرب لا يقصدون بها حقيقتها بالتصديق بكلامه عليه الصلاة والسلام، والالتزام بكلامه كان قائماً بين الصحابة، وليس فقط على مستوى الأفراد، بل على مستوى المجتمع. وقصة كعب بن مالك رضي الله تعالى عنه: لما نهى النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين عن الكلام مع الثلاثة لما تخلفوا، قال كعب: [فاجتنبنا الناس، وتغيروا لنا حتى تنكرت في نفسي الأرض فما هي التي أعرف] كل المجتمع قاطع بلا استثناء. وقال له المقداد يوم بدر: (يا رسول الله! إنا لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: ((فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ)) [المائدة:24] لكن امض ونحن معك، امض نقاتل عن يمينك وعن يسارك، ومن بين يديك ومن خلفك حتى تهلل وجه النبي صلى الله عليه وسلم). إذاً: الالتزام جماعي، الالتزام قائم، ولذلك انتصروا، والحديث في صحيح البخاري وأحمد.

تحمل الصحابة للغربة والعذاب في سبيل الله

تحمل الصحابة للغربة والعذاب في سبيل الله لقد تحمل الصحابة الغربة في سبيل الله، تقول أسماء بنت عميس التي هاجرت إلى الحبشة: [وكنا في دار، أو في أرض البعداء، أو البغضاء في الحبشة، وذلك في الله وفي رسول الله -لأجل الله ورسوله، تحملوا الغربة- ونحن كنا نؤذى ونخاف] الحديث رواه مسلم. تحملوا الأذى والعذاب في سبيل الله. يقول خباب وقد اكتوى يومئذٍ سبع كيات في البطن لمعالجة أذى مولاته، حيث كانت تطرحه على الأسياخ المحماة، فلا يطفئها إلا شحم ظهره إذا سال عليها، يقول: [لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أن ندعو بالموت، لدعوت بالموت] رواه البخاري. وهذا بلال معروفة قصته، وكان الواحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يُضرب حتى إنه لا يقدر أن يستوي قاعداً من الضرب، حفروا الخندق بأيديهم، وبذلوا في سبيل الله، بأيديهم عملوا، ما كان لهم عبيد، حفروا الخندق بأيديهم، في غداة باردة يقول أنس: وهم يقولون: نحن الذين بايعوا محمداً على الجهاد ما بقينا أبداً كم طول الخندق؟ كم عرضه؟ كم عمقه؟ من أجم الشيخين طرف بني حارثة شرقاً حتى المذاب غرباً، وكان طول الخندق خمسة آلاف ذراع، وعرضه تسعة أذرع، وعمقه من سبعة أذرع إلى عشرة، وكان على كل عشرة من المسلمين حفر أربعين ذراعاً، وقد تولى المهاجرون الحفر من ناحية حصن راتج في الشرق إلى حصن ذباب، والأنصار من حصن ذباب إلى جبل عبيد في الغرب. وتم الحفر بسرعة وفي الجو البارد والمجاعة، فحفروه في أسبوع، وكان الخندق منتهياً، طعامهم شعير مخلوط بدهن متغير الرائحة، لبثوا ثلاثة أيام لا يذوقون طعاماً، لكن بحرارة الإيمان حفروه. لما أرادوا اليوم حفر مائة متر في شارع الخندق، تكسرت حفارات، واستسلم مقاولون، وحفره آخرون في شهر مائة متر، في شهر الآن في هذا الزمان في نفس المنطقة، وكل القضية هي تسوية شارع!! وأولئك الصحابة حفروه بأيديهم بأدوات بدائية، هذا عمقه وهذا عرضه وهذا طوله. فهم جاهدوا على القلة، وأكلوا ورق الشجر كما قال سعد في صحيح البخاري. وفي حديث سرية الخبط، أكلوا أوراق الشجر حتى تقرحت أشداقهم، وكان أبو عبيدة يعطيهم تمرة تمرة، يقول التابعي: [كيف كنتم تصنعون بها؟ قال: كنا نمصها كما يمص الصبي، ثم نشرب عليها من الماء، فتكفينا يومنا إلى الليل] جهاد على تمرة في اليوم!! رواه مسلم.

تحمل الصحابة للفقر في سبيل الله

تحمل الصحابة للفقر في سبيل الله تحملوا الفقر في سبيل الله، كان الواحد لا تجد إلا إزاراً يستر به عورته، ويجمعه بيده حتى لا تنكشف العورة، وخرج أبو بكر وعمر -وزيرا النبي عليه الصلاة والسلام، ثاني وثالث أهم رجلين في الأمة- على باب البيت في الشارع، يقول النبي عليه الصلاة والسلام (ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة؟ قالا: الجوع يا رسول الله) رواه مسلم. يقول المقداد: [أقبلت أنا وصاحبان لي قد أذهب أسماعنا وأبصارنا الجهد من الجوع] السمع اختل، وكذلك البصر، وقالت عائشة: [جئنا بـ عبد الله بن الزبير إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحنكه، فطلبنا تمرة للتحنيك، فعز علينا طلبها] هذا الحديث والذي قبله في صحيح مسلم.

الصحابة تركوا الدنيا لطلب العلم

الصحابة تركوا الدنيا لطلب العلم كانت قراءتهم للقرآن مؤثرة؛ فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه لما ابتنى مسجداً بفناء داره يقرأ القرآن، جعل نساء المشركين وأطفاله يتقصفون عليه -يجتمعون- حتى خشيت قريش على نسائها وأطفالها من بكاء الصديق. وتلك مدينة النبي عليه الصلاة والسلام هل فتحت بالسيف؟ ما فتحت إلا بالقرآن، فقد فتح مصعب بن عمير وابن أم مكتوم المدينة بالقرآن، بالقرآن اهتدى أهل المدينة، ولم تفتح بالسيف. والحديث في صحيح البخاري. نتعلم من الصحابة ترك الدنيا لطلب العلم، فلا نلهث وراء الدنيا ونترك كتب العلماء، ونترك دروس العلماء.

أبو هريرة وطلبه للعلم

أبو هريرة وطلبه للعلم يا أيها الإخوة! يقول أبو هريرة رضي الله عنه: [والله الذي لا إله إلا هو إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع، وإني كنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشبع بطني حتى لا آكل الخمير، ولا ألبس الحبير -لا ألبس ثياباً موشاة مخططة- ولا يخدمني فلان، ولا فلانة، وكنت ألصق بطني بالحصباء من الجوع] رضي الله تعالى عنه، وهذا من أجل أي شيء؟ من أجل أن يطلب العلم، ولذلك أثمر الجهد خمسة آلاف حديث في دواوين السنة منتشرة، وكان أول صحابي وأكثر صحابي يصرع بين المنبر وبيت النبي عليه الصلاة والسلام مغشياً عليه، يأتي الآتي يضع رجله على عنقه -لعله للقراءة والرقيا- يظنون به جن فيقول: [ما بي جنون، ما بي إلا الجوع] رواه البخاري. هؤلاء الصحابة الفقراء لما انفتحت عليهم الدنيا، وجاءت الغنائم، وجاءت المناصب، ما منهم أحد إلا صار أميراً على مصر من الأمصار، فهل تغيروا أو تبدلت نفوسهم لما جاءت خزائن كسرى وقيصر، وكثرت الأموال، وجاءت (الطفرة) فهل تغيرت نفوسهم؟ يقول عتبة بن غزوان: [ولقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما لنا طعامٌ إلا ورق الشجر حتى قرحت أشداقنا، فالتقطت بردة فشققتها بيني وبين سعد بن مالك، فائتزرت بنصفها، وائتزر سعد بنصفها، فما أصبح اليوم منا أحدٌ إلا أصبح أميراً على مصر من الأمصار وإني أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيماً وعند الله صغيراً] رواه مسلم.

الشجاعة عند الصحابة

الشجاعة عند الصحابة نتعلم منهم الشجاعة: لما تكالب كفار قريش على النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ابن أبي معيط يضع الثوب حول عنقه يخنقه به، ويقوم الصديق يدافع، ويقول: [أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟!] والحديث في صحيح البخاري.

حمزة بن عبد المطلب وشجاعته

حمزة بن عبد المطلب وشجاعته وحمزة وشجاعته في أحد لما قام مشرك يقول: [هل من مبارز؟ خرج إليه حمزة بن عبد المطلب يقول: يا سباع! يا بن أم أنمار مقطعة البظور -كانت ختانة للنساء- أتحاد الله ورسوله؟ ثم شد عليه، فكان كأمس الذاهب] رواه البخاري.

الزبير وشجاعته في اليرموك

الزبير وشجاعته في اليرموك الزبير رضي الله عنه وقف في موقعة اليرموك، قال له أصحابه: [ألا تشد فنشد معك؟ قال: إني إن شددت كذبتم، فقالوا: لا نفعل. فحمل على الروم حتى شق صفوفهم فجاوزهم] واحد فقط يشق صفوف الروم في معركة اليرموك حتى ينفذ إلى الجانب الآخر، وما معه أحد، ثم رجع مقبلاً مرة ثانية، فضربوه ضربتين على عاتقه رضي الله تعالى عنه، بينهما ضربة ضربها يوم بدر، قال عروة بن الزبير: كنت أدخل أصابعي في تلك الضربات ألعب بهن وأنا صغير. وهذا عروة، أخوه عبد الله شجاع كأبيه، عبد الله بن الزبير ابن عشر سنين، أو اثنتي عشرة سنة حمله أبوه على فرس ووكل به رجلاً -والحديث في الصحيح- حتى لا يتجرأ الصغير هذا ويدخل في صفوف المشركين، ولكن مع ذلك ماذا كان يفعل؟ وكان عبد الله بن الزبير وهو صغير يجهز على جرحى المشركين، فبعد المعركة ينظر من بقي فيه رمق من الكفار فينحره ويكمل عليه، فهذا عمره اثنتا عشرة سنة، والآن من عمره اثنتا عشرة سنة لو جاء صرصور صاح من الخوف، يقول خالد بن الوليد: [لقد انقطعت في يدي في مؤتة تسعة أسياف، فما بقي في يدي إلا صفيحة يمانية] صبرت في يدي صفيحة يمانية. رواه البخاري. وجليبيب رضي الله عنه الفقير المسكين وجدوه بعد المعركة، سأل عنه النبي صلى الله عليه وسلم وجدوه إلى جنب سبعة قد قتلهم، ثم قتلوه، يعني: قتل من كثرة ما طعن. وإذا كان أنس بن النضر به بضعة وثمانون ضربة ورمية في جسده، فكم قاتل حتى مات، ولفظ أنفاسه الأخيرة؟ ليس من أول طعنة، ولا من ثاني طعنة، ولا من عاشر طعنة، ولا من عشرين، بقي يقاتل حتى لفظ أنفاسه الأخيرة، وحُمل جليبيب حمله النبي صلى الله عليه وسلم وعندما وقف عليه، قال: (قتل سبعةً، ثم قتلوه، هذا مني وأنا منه، هذا مني وأنا منه فوضعه على ساعديه ليس له سرير إلا ساعدي النبي صلى الله عليه وسلم، فحفر له ووضع في قبره) رواه مسلم.

تسخير الطاقات عند الصحابة لنصرة الدين

تسخير الطاقات عند الصحابة لنصرة الدين نستفيد من الصحابة -أيها الإخوة- تسخير الطاقات في نصرة الدين.

زيد بن ثابت يتعلم السريانية لخدمة دين الله

زيد بن ثابت يتعلم السريانية لخدمة دين الله النبي عليه الصلاة والسلام يحتاج إلى تعلم السريانية من بعض أصحابه ليقرءوا له خطابات اليهود، ويريد أن يكتب خطابات إلى اليهود، ولا يأمنهم على كتابه، فيطلب من زيد رضي الله تعالى عنه أن يتعلم له لغة جديدة، فتعلمها زيد بن ثابت في كم يوم؟ في سبعة عشر يوماً، رواه أحمد رحمه الله، قال: [تعلمتها له، فلما تعلمتها كان إذا كتب إلى يهود كتبت إليهم، وإذا كتبوا إليه قرأت له كتابه] قال الترمذي: حديث حسن صحيح، حذق في سبعة عشر يوماً لغة جديدة لنصرة الدين ولإعلاء كلمة الله. الآن الإخوان الذين يعرفون اللغة الإنجليزية، يا ترى هل فكروا في الدعوة إلى الله في وسط الأقوام الذين يتكلمون بهذه اللغة؟ الذين عندهم أي نوع من أنواع الخبرات في الكمبيوتر أو غيره، الذين عندهم خطابة، الذين عندهم حسن خط، الذين عندهم قدرات إنشائية في الكتابة، والذين عندهم قدرات مالية، والذين عندهم خبرات إدارية، هؤلاء ماذا قدموا لهذا الدين؟ لقد كان الصحابة طاقات تفجر ينابيع لخدمة الدين، هذا ما يجب أن نستفيد منهم. كان الصحابة رضي الله عنهم يتفاعلون مع النصوص كان الواحد منهم إذا سمع كلاماً طيباً يتمنى أن يكون صاحبه، فـ أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه لما سمع حديث: (للعبد المملوك المصلح أجران) قال: [والذي نفس أبي هريرة بيده! لولا الجهاد في سبيل الله والحج وبر أمي، لأحببت أن أموت وأنا مملوك] متفق عليه. لأجل ما سمع الأجر يتمنى أنه عبد مملوك لينطبق عليه الحديث. والصحابي الجليل عمير بن الحمام الأنصاري لما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض) هي كلمة واحدة تفاعلت مع الصحابي، فألقى التمرات، وترك الحياة، وذهب ليقاتل حتى قتل. والحديث في صحيح مسلم. وأبو طلحة يسمع: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] فكان أحب ماله إليه بستان فتصدق به مباشرة في سبيل الله، وهو أنفس أمواله، لو أن أحداً عنده مزرعة، وقصر منيف، يسمع الآية هل يتصدق بهما مباشرة في سبيل الله؟ هؤلاء الصحابة. يقول عوف بن مالك: (قام النبي عليه الصلاة والسلام على جنازة فسمعته يدعو للميت يقول: اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه وأكرم نزله، ووسع مدخله واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه، وأدخله الجنة، وأعذه من عذاب القبر، أو من عذاب النار، قال عوف: حتى تمنيت أن أكون أنا ذلك الميت) لأجل هذا الدعاء وهو يعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام يستجاب له، والحديث في صحيح مسلم. كان الصحابة يبادرون ليس في الواجبات والفروض فقط، بل في المستحبات كانوا ينطلقون، يسمع عبد الله بن عمر قول النبي عليه الصلاة والسلام: (نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل) فما ترك قيام الليل بعدها. وعمر بن أبي سلمة لما سمع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل بيمينك) كان يقول بعدها: [ما زالت تلك طعمتي بعد] وآخر لما سب وعاتبه النبي عليه الصلاة والسلام: [ما ساببت بعده أحداً] وهكذا، شعورهم مشاركة، تفاعل بالمشاعر وليس فقط بالمجهودات العضلية.

استشعار المسئولية عند الصحابة

استشعار المسئولية عند الصحابة شعورهم لما شاع أن النبي عليه الصلاة والسلام طلق نساءه، ماذا فعل الصحابة؟ قعدوا عند المنبر يبكون، والحديث في صحيح البخاري من حديث عمر، قعد الصحابة يبكون وجاء معهم عمر وجلس معهم وهم يبكون. مشاعر تعاطف مع النبي عليه الصلاة والسلام وحزناً على ما حصل لأهله. إنهم الصحابة الذين علمونا الشعور بالمسئولية، ما كانوا لعابين أو مهملين، فـ أبو بكر الصديق عندما كلف زيداً أن يجمع القرآن ويكتبه قال له: [إنك رجلٌ شابٌ عاقلٌ لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبع القرآن تجمعه، يقول: والله لو كلفوني نقل جبلٍ من الجبال ما كان أثقل عليَّ مما أمرني به من جمع القرآن] رواه البخاري. وعبد الرحمن بن عوف يستشير الناس بعد مقتل عمر: بقي الآن علي وعثمان، من الخليفة؟ يستشير الناس، ويجمع رأي المسلمين جماعات وأشتاتاً، ومثنى وفرادى، وسراً وجهراً حتى خلص إلى النساء واستشار العجائز، وحتى سأل الولدان في المكاتب، وحتى سأل الركبان والأعراب ثلاثة أيام بلياليها لا يغتمض بكثير نومٍ إلا صلاةً ودعاءً واستخارةً، تحمل مسئولية اختيار الخليفة، يحس الإنسان أن هناك شيئاً ثقيلاً يلقى عليه، يتحمل ويقوم ويمشي. اليوم عدد من الشباب وعدد من الناس إما أن يهرب من المسئولية فلا يريدون مسئوليات، لا أقصد مناصب، إنما أقصد تحمل الأعباء، والشيء الثقيل، وإذا حملها قال: تشريف، وعمله يدل على أنه تشريف وتفاخر بها، ولا تعطى حقها، لماذا أيها الإخوة؟

أمور أخرى نتعلمها من الصحابة

أمور أخرى نتعلمها من الصحابة

الإيثار

الإيثار الصحابة يعلموننا الإيثار، إيثار الأخوة، إيثار الأنصار، لقد أعطوا نصف الثمرة للمهاجرين. والحديث في صحيح البخاري. فهذا جعفر بن أبي طالب أبو المساكين: [ينقلب بنا، فيطعمنا ما في بيته حتى يخرج إلينا العكة التي ليس فيها شيء، فنشقها، فنلعق ما فيها]. يقول أبو هريرة: والحديث في صحيح البخاري: (والجود بالموجود، خير الناس للمساكين جعفر، يخرج لهم يؤثرون ضيف النبي عليه الصلاة والسلام بطعام الأولاد) والقصة مشهورة عن الذي آثر ضيفه بطعام صبيانه ونوَّمهم -أي: الصبيان- وأطفئوا السراج حتى لا يحرج الرجل، ونزلت آيات من القرآن، وضحك الله منهما وعجب منهما عز وجل من إخلاصهما، وإذا ضحك ربك إلى عبد فلا عذاب عليه.

التراحم بينهم

التراحم بينهم الرحمة بين الإخوان: لو أصيب الواحد منهم بمصيبة، كيف يكون شعور الآخر؟ إنهم مؤمنون كالجسد الواحد، تقول عائشة رضي الله عنها: [لما حكم سعد في بني قريظة، ماذا قال بعد ذلك؟ قال: اللهم إن كنت أبقيت على نبيك صلى الله عليه وسلم من حرب قريشٍ شيئاً، فأبقني له، وإن كنت قطعت الحرب بينه وبينهم، فاقبضني إليك] لكي لا يفوته أجر الشهادة من الجرح، فانفجر كله، وكان الجرح قد قارب على أن يبرأ ولكن عندما انفجر الجرح، قالت عائشة ((فحضره رسول الله صلى الله عليه وسلم وو أبو بكر وعمر، قالت: فوالذي نفس محمد بيده! إني لأعرف بكاء عمر من بكاء أبي بكر، وأنا في حجرتي، وكانوا كما قال الله عز وجل: ((رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)) [الفتح: 29]) رواه أحمد، قال ابن كثير: وإسناده جيد. مشاركاتهم الأخوية بينهم وبين بعض: إلى كل أخوين بينهما مصارمة! إلى كل أخوين بينهما عداوة! إلى كل أخوين بينهما شحناء وبغضاء! يا إخوان! هذا كعب بن مالك لما تاب الله عليه، كيف كان تفاعل إخوانه المسلمين معه؟ يقول: [فجعل الناس يتلقوني فوجاً فوجاً، يهنئوني بالتوبة، يقولون: لتهنك توبة الله عليك حتى دخلت المسجد، فقام طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهناني، والله ما قام إليَّ رجلٌ غيره من المهاجرين] قام إليه والناس يتلقونه أفواجاً ويهنئونه إنهم الصحابة الذين أخذوا زمام المبادرة لصالح المسلمين. وخالد بن الوليد رضي الله عنه الذي تأمر لمصلحة المسلمين مع أن المسألة كانت على وشك الضياع لأجل إنقاذ الموقف. وجرير بن عبد الله لما مات أمير الكوفة من الصحابة المغيرة بن شعبة، وقف جرير على المنبر، وأثنى على الله وحمد الله، وقال: [عليكم باتقاء الله وحده لا شريك له، والوقار والسكينة حتى يأتيكم أمير، فإنما يأتيكم الآن، ثم قال: استعفوا لأميركم -اطلبوا له العفو- فإنه كان يحب العفو] ثم ذكر الحديث. وإذا جئت إلى أشياء كثيرة، لن يكون هناك وقت لأن نسرد بقيتها، لكن أيها الإخوة! الصحابة مدرسة، ويجب علينا أن نهتم بسير الصحابة، وأن نجمع أخبار الصحابة، وندرس أخبار الصحابة، ونقتدي بأفعال الصحابة، والله إنا نشهد الله على حبهم. اللهم اجعلنا ممن أحبهم، اللهم ارزقنا شفاعتهم يوم الدين، فإن أولياء الله لهم شفاعة يقول الله تعالى في الحديث القدسي: (شفع الأنبياء، وشفع الصديقون، وشفعت الملائكة) الجميع لهم شفاعة، ونحن نسأل الله تعالى أن يرزقنا شفاعة نبيه صلى الله عليه وسلم، وشفاعة أصحابه، وأن يحشرنا معهم، وأن يجعلنا في زمرتهم، وأن يوردنا معهم حوض نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن يجعلنا معهم في الجنة؟ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (المرء مع من أحب) فالصحابة حبهم إيمان كلما سمعت بصحابي، فأحبه، وإذا سمعت بـ أبي هريرة وأمه، فاستغفر لهما، فإن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لمن يستغفر لـ أبي هريرة وأمه، وقال: [ما رآني أحد إلا أحبني] لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا له، ونحن نحبه ونشهد الله على محبة أبي هريرة رغم أنوف الحاقدين، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بسيرهم، وأن يرزقنا الاقتداء بهم إنه سميعٌ مجيبٌ قريبٌ، وصلى الله على نبينا محمد.

الأسئلة

الأسئلة

كتب في فضائل الصحابة

كتب في فضائل الصحابة Q ما هي بعض الكتب النافعة في سير الصحابة؟ A الصحيح المسند من فضائل الصحابة كتاب جيد، الإصابة في تمييز الصحابة القسم الأول منه بالذات في كل حرف من الحروف، سير أعلام النبلاء المجلدات الأولى، والكتب كثيرة في سير الصحابة، وبعضها مبسط ومنها صور من حياة الصحابة، ومجلد صدر حديثاً أيضاً حول هذا العنوان.

السؤال عن الفتن التي جرت بين الصحابة

السؤال عن الفتن التي جرت بين الصحابة Q ما رأيكم في الفتن التي جرت بين الصحابة؟ A علينا أن نمسك فهي فتنة عصم الله منها دماءنا، فنحن نعصم ألسنتنا منها ولا نتكلم؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام أوصانا وقال: (إذا ذكر أصحابي فأمسكوا) وما دام أنه أوصانا فنحن ننفذ، والذين تكلموا من العلماء إنما تكلموا لما تكلم أهل البدع، ولا يصح أن نأتي إلى مكان نظيف ما أثيرت فيه قضية ما دار بين الصحابة فنثيرها نحن، لا نحتاج إثارة الشبهة، ثم نرد عليها، لماذا؟ لأن هذا مخالفة صريحة لحديث: (إذا ذكر أصحابي فأمسكوا) فالله الله في الصحابة، لكن لو أتاك واحد، فقال: أنا سمعت كذا، وقرأت كذا، ووصل إلى علمي كذا، تقول: خذ هذا الكتاب، أو هذا الشريط حول الموضوع، أما أن تنشر القضية فهذا خطأ وإجرام، ولا يجوز هذا النشر أبداً. أما بالنسبة للمنافقين فهم لا يعدون من الصحابة طبعاً، والحمد لله لم يتمكن منافق واحد أن يروي حديثاً، ولا يوجد من رواة الأحاديث منافق واحد، ما تجرءوا، وعصم الله حديث نبيه صلى الله عليه وسلم من المنافقين.

حكم التسمي بأسماء الصحابة

حكم التسمي بأسماء الصحابة Q ما حكم تسمية الأبناء بأسماء الصحابة؟ A نعم. طبعاً نحن أيضاً ينبغي أن نقدر مسألة الصحابة الذين سموا في الجاهلية بأسماء سماهم بها آباؤهم الكفار، فبعضها طيبة، وبعضها هناك ما هو أفضل منها، ولذلك فربما يكون الأدق أن نسمي بأسماء أبناء الصحابة، وكذلك أسماء التابعين؛ لأن هذا الجيل سمي في الإسلام، فلنا أن نقتدي بهم في هذه المسألة.

عوامل تساعد على الاستيقاظ لصلاة الفجر

عوامل تساعد على الاستيقاظ لصلاة الفجر Q ما هي الطرق التي تساعد على الاستيقاظ لصلاة الفجر؟ A الطرق التي تساعد على الاستيقاظ لصلاة الفجر كثيرة، وعلى رأسها: الوضوء والنوم المبكر والأذكار والصدق مع الله، فلا يقل: ليت الساعة ما تدق، وليت ما أحد يضرب عليَّ الجرس، وليت أني أواصل النوم، وبعض الآباء يقول: اترك الولد في حاله، عندما يكتفي من النوم يقوم لوحده، فأين يذهب قوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ} [طه:132]؟

حكم فتح القرآن

حكم فتح القرآن Q ما حكم فتح القرآن؟ الجواب: إذا كان المقصود بالفتح أن الإنسان إذا أراد أن يقدم على عمل أو شيء فتح القرآن، فإذا رأى آيات الجنة استبشر، وإذا رأى آيات النار رجع وتراجع، فهذه بدعة ما أنزل الله بها من سلطان.

حكم الحلف بالقرآن

حكم الحلف بالقرآن Q ما حكم الحلف بالقرآن؟ A الحلف بالقرآن جائز؛ لأنه كلام الله، ليس بالمصحف، ولا بالورق والحبر أنه يقسم بآيات الله، وآيات الله كلامه، كلامه صفة من صفاته، فيجوز أن يحلف به، ولكن بعض أهل العلم أشار إلى بدعية وضع اليد على المصحف للحلف؛ لأن بعض الناس إذا أراد أن يغلو اليمين، جاءوا بالمصحف، قال: احلف عليه وضع يدك واحلف عليه، فأشار الشيخ العلامة محمد بن صالح بن عثيمين إلى أن هذا العمل لا أصل له وهو وضع اليد على المصحف والحلف فيه.

مسألة في الحج

مسألة في الحج Q رجل اعتمر في الحج، فهل الأفضل أن يحج متمتعاً أم يحج مفرداً؟ A مسألة التمتع في الحج، ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن الرجل إذا اعتمر في الحج أن الأفضل له الإفراد، وجمهور أهل العلم يرون أن التمتع أفضل الأنساك قاطبةً.

مسألة في العقيقة

مسألة في العقيقة Q رجل له ثلاثة أولاد ماتوا في الشهر السابع، ولم يعق عنهم؟ A يعق عنهم الآن ولا بأس، ما دام أن الأولاد قد نفخت فيهم الروح، فتشرع له العقيقة، فإذا سقط بعد نفخ الروح تشرع له العقيقة، ولا يشترط أن يجمع لها الناس، بل يذبحها ويفرقها ويأكل منها.

حكم تطليق المرأة وهي حامل

حكم تطليق المرأة وهي حامل Q ما حكم تطليق المرأة وهي حامل؟ A طلاق الحامل يقع بإجماع العلماء، وحصل خلاف في طلاق الحائض، وحصل خلاف في طلاق النفساء، وحصل خلاف في طلاق من طلقها في طهر جامعها فيه، لكن طلاق الحامل يقع بإجماع العلماء، والعلماء يسمون الحامل: أم العدد، لأنها إذا وضعت حملها خرجت سواء كانت مطلقة، أو توفي عنها زوجها، وأي وضع كانت فيه إذا وضعت حملها خرجت من عدتها.

استئجار السيارات المنتهي بالتمليك

استئجار السيارات المنتهي بالتمليك Q ما هو حكم استئجار السيارات الاستئجار المنتهي بالتمليك؟ A هذا السؤال تكرر كثيراً، والذي خرجت فيه من النقاش مع بعض أهل العلم أن الاستئجار المنتهي بالتمليك والبيع عقدان في عقد واحد، وأن هذا لا يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعة، وهي تعني: أن يشمل أبيعك على أن تؤجرني، أو أؤجرك على أن تقرضني، أو أزوجك على أن تبيعني، فهذا كله لا يجوز، ربط العقدين مع بعض، لا بد أن تفرق حتى يكون أبعد عن الجهالة والغرر، ولذلك إذا قلت: يا وكالة السيارات نريد أن نفصل عقد الإيجار عن عقد البيع، أنا أستأجر منكم السيارة بإيجار شهري، أو سنوي بمبلغ كذا وكذا، وإذا أردت أن أشتريها منكم، ننهي عقد الإجارة ونوقفه ونعقد عقد بيع جديد، ونتفق فيه على سعر معين، أنتم تقولون: بقي لك ألف خذها بألف، المهم نتفق على سعر، لكن يكون عقد الإجارة منفصلاً عن عقد البيع.

أمين هذه الأمة

أمين هذه الأمة Q من هو أمين هذه الأمة؟ A أمين هذه الأمة هو أبو عبيدة بن الجراح، وقد كان أبو عبيدة من أعظم الصحابة حفظاً للأمانة، والأمانة تشمل: أمانة العبادات وأمانات الناس، وكان كثيراً ما يؤمِّره النبي عليه الصلاة والسلام لأمانته، من الذي أتى بمال البحرين؟ أبو عبيدة.

حكم استخدام الطبل

حكم استخدام الطبل Q هل يجوز استخدام الطبل في الأعراس؟ A الطبل لا يجوز استخدامه لحديث: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الكوبة) والحديث صحيح، والكوبة هي: الطبل، والذي يجوز هو الدف للنساء في الأعراس والأعياد. ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجزي بالخير جميع الحاضرين، وأن يغفر ذنوبنا أجمعين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

مصيبة عام 2000 [1]

مصيبة عام 2000 [1] عند اليهود والنصارى اعتقادات مأخوذة من كتبهم المحرفة، ومنها بشارات بعودة المسيح، وإقامة دولة اليهود، ولذلك عندهم علامات وبشارات، وهم يرون أن ذلك قد اقترب مع حلول العام (2000م) فهم يعدون لذلك عدته، وفي هذه المادة يتحدث الشيخ عن بعض ذلك، وواجب المسلمين تجاه ذلك.

اعتقادات اليهود المتعلقة بقرب نهاية الألفية الثانية

اعتقادات اليهود المتعلقة بقرب نهاية الألفية الثانية إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداًَ عبده ورسوله. أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى قد أخبرنا في كتابه عن عداوة اليهود والنصارى, وأنهم أعدى الأعداء, وأخبرنا عز وجل عن كثير من مؤامراتهم التي يحيكونها على المسلمين, وأنهم لا يزالون يمكرون مكر الليل والنهار حتى يردونا عن ديننا لو استطاعوا, وأنهم لا يرضون عنا حتى نتبع ملتهم, وأنهم قد حسدونا على ما عندنا, وأنهم يريدون أن نتبع ملتهم, والله عز وجل قد حذرنا من شرهم ومكرهم, وإذا تأملنا أطول سورتين في القرآن: (البقرة وآل عمران) لوجدنا أنهما تضمنتا كثيراً مما يتعلق باليهود والنصارى. ومع اقتراب العام (2000) للميلاد يتسارع النبض، ووتلاحق الأنفاس، ويكثر الكلام عن أحداث عظام ستحدث بزعمهم في هذا التاريخ, وإن من المؤسف حقاً -أيها المسلمون- أن يكون أهل الضلال والكفر والانحلال يعملون في الليل والنهار؛ لتحقيق نبوءاتهم المزعومة, والمسطرة في التوراة والإنجيل, بينما يغرق المسلمون في بحار الغفلة لا يعملون بالحق الذي أنزله الله في القرآن، إلا من رحم الله. ومع اقتراب هذه المناسبة الألفية، لا بد للمسلم أن يعرف شيئاً مما يدور حول اعتقادات اليهود والنصارى في العام (2000) وماذا يريدون؟ وماذا يتوقعون؟ وماذا يعملون لأجل هذه المناسبة؟ لأن المطلوب منا -نحن المسلمين- أن نعرف ماذا يدبر أعداؤنا, لا أن نعيش في غفلة عما يقومون به, خصوصاً وأن كثيراً من هذه التدابير تحدث في بلاد فلسطين المسلمة, وليست في أقصى الأرض بعيداً عن بلاد المسلمين، وإنما القضية في قلب بلاد المسلمين.

هدم المسجد الأقصى وبناء الهيكل

هدم المسجد الأقصى وبناء الهيكل أما بالنسبة لليهود أعداء الله الذين يسابقون عقارب الساعة لهدم المسجد الأقصى قبل أن يحل العام (2000) والذي يصادف عندهم ذكرى مرور ثلاثة آلاف سنة على بناء مملكة إسرائيل الأولى, وأن دورة الزمان قد اكتملت عندهم, لتأتي دورة جديدة فيها إقامة ملكهم, وكذلك عند النصارى عقائد مشابهة. فأما بالنسبة لليهود والمسجد الأقصى: فقد تضاعفت أعداد جماعاتهم المتعاونة لبناء الهيكل على أنقاض المسجد الأقصى, فهناك أكثر من خمس وعشرين جماعة متخصصة في هذا الأمر. والذين فتحوا النفق المشهور عام 1996م تحت المسجد الأقصى, بالإضافة إلى الأنفاق الكثيرة التي حفروها تحته, والسُعار اليهودي المتلهف نحو هدم المسجد الأقصى والكيد للمسلمين تمثل في أمور كثيرة: منها عمليات إحراق وتفجير وتدنيس وتلطيخ بالقاذورات, وفتح للنار على المصلين, وعندما يحين الموعد الذي ينتظرونه يمكن أن يقوم مئات الآلاف منهم بعمل ضخم وكبير، لهدم المسجد الأقصى وإزالته إذا لم يهبط المسجد من جراء الأنفاق الكثيرة التي يعملونها، أو يأملون أن تقع هزة أرضية في تلك المنطقة ولو بسيطة لينهار المسجد بعد أن حفروا تحته أنفاقاً كثيرة، فبقي على أساس هش.

بناء السور العازل

بناء السور العازل لقد عقدوا المؤتمرات لإعادة بناء الهيكل, وجعلوا النجمة السداسية شعارهم على كثير من الأماكن، وتحرص هذه الجماعات اليهودية لأداء دورها المنوط بها, ثم يريدون إقامة سور عازل بين المسلمين واليهود بطول 360 كيلو متراً وارتفاع 3 أمتار بأبواب إلكترونية, يريدون الفصل بين المسلمين واليهود، وأن يكون هذا الجدار مما يلي المسجد الأقصى، بمعنى حرمان المسلمين من الوصول إليه مستقبلاً, وهذا الجدار والحاجز مبني على أمور مذكورة في توراتهم المحرفة التي تقول: "إن الملكوت الذي سيحكم العالم تحيط به المرتفعات حتى لا تصل إليه قوى الظلام, وستعلو جدرانها حتى يعود التوازن إلى العالم". وأما بالنسبة لنا: فإن هذا الجدار الذي يبنونه الآن، وهذا السور المرتفع والطويل يمثل عندنا تطبيقاً - نحن المسلمين- عملياً لقوله تعالى: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ} [الحشر:14] فهذا الجدار الذي يبنونه هو أحد الجدر التي ربما سنقاتلهم من ورائها.

البحث عن الشمعدان وإقامة مملكتهم

البحث عن الشمعدان وإقامة مملكتهم ومع اقتراب العام [2000م] الذي يعتقدون بأنه ستقوم فيه الأحداث الكبرى التي تعيد ملكهم إلى العالم, لا بد من تهيئة وتوطئة لإقامة ذلك الملك اليهودي العالمي, فأما دولتهم فقد أقاموها, وأما عاصمتهم فقد وحدوها على أن تكون القدس , وأما منبر دعوتهم وموضع قبلتهم فهو الهيكل, وقضيته قضية وقت, ثم تتوالى التجهيزات وتتابع فيوضع حجر أساس للهيكل في عام [1989م] أي: قبل عشر سنوات في مدخل المسجد الأقصى إيذاناً بأن البناء قد بدأ, وهذا حجر الأساس, وهم يعتقدون بالشمعدان السباعي الذي يمثل أيام الأسبوع السبعة والذي يعتقدون أنهم سيتوجون فيه على العالم في يوم السابع منه, ولذلك اتخذوه رمزاً لهم في عملاتهم وأوراقهم وواجهاتهم ومنصات احتفالاتهم ومنابرهم, فيرى اليهود أن هذا الشمعدان قد فقد وأنه لا بد من البحث عنه, ثم إن نبوءاتهم المزعومة قد صدرت الفتاوى من حاخاماتهم بشأنها، أنه لا يشترط الانتظار حتى تتحقق, بل يمكن العمل على تحقيقها, ولذلك قام أحدهم في هذا العصر المتأخر بعمل شمعدان ذهبي من ستين كيلو غراماً من الذهب، فإذا لم يوجد الشمعدان الأصلي كان هذا بديلاً له, فهذه قضية الشمعدان.

البحث عن التابوت

البحث عن التابوت لا بد من البحث عن التابوت حتى يعود إلى هيكلهم، فهم لا زالوا يبحثون عنه, ويقولون: إنه في أثيوبيا تارة وفي غيرها تارة أخرى, ويجمعون المليارات لأجل عمليات البحث والبناء, ليت المسلمين يجمعون عشر معشار ما يجمعه اليهود لنشر الدعوة الإسلامية في العالم، وهي دعوة الحق, وهؤلاء يجمعون المليارات لأجل إعادة بناء الهيكل والإتيان باللوازم, إنهم يرون أن قدس الأقداس وموضع القبلة الحقيقية في داخل أروقة الهيكل. وأن المذبح لا بد أن يكون هناك, وقد شرعوا في بناء المذبح في منطقة قريبة من البحر الميت وصمم بحيث يسهل نقله إلى الهيكل, الذي سيقام على أنقاض المسجد الأقصى.

ولادة البقرة الحمراء

ولادة البقرة الحمراء عندهم قضية البقرة الحمراء التي لا بد أن تولد حتى تكتمل القضية, معتمدين على نص لديهم في التوراة، بأن بقرة حمراء صحيحة لا عيب فيها، ستولد ثم بعد ثلاثة أعوام من ولادتها ستحرق بجلدها ولحمها ودمها، وأن رمادها سيرش تطهيراً للنجس الموجود لديهم, لأن الهيكل لن يعمره بالعبادة إلا أناس مطهرون, وأن الطهارة لن تحدث والنجس لن يزول إلا برش رفات هذه البقرة, وقد أعلن قبل فترة يسيرة جداً لديهم أن البقرة الحمراء قد ولدت, في مزرعة بـ حيفا , ويريدون أن يتطابق ذبح البقرة وحرق الرماد مع هذه الألفية القادمة, ويقولون: ننتظر ذلك منذ ألفي سنة -أي: وجود وولادة البقرة- ثم بناء الهيكل بعد ذلك, ولديهم بعض الاختلافات بين حاخاماتهم في شأن موعد ذبح هذه البقرة. ولكنهم مجمعون على العمل، ونحن نعلم أن الله سبحانه وتعالى قد ذكر لنا ما يتعلق ببني إسرائيل والبقر في كتابه في موضعين, الموضع الأول: في البقرة التي ذبحت وكانت معجزة لموسى عليه السلام ليضرب ببعضها القتيل الذي لم يعرف قاتله, فيحيا بإذن الله فيخبر بقاتله. والموضع الثاني: العجل الذي عبده قوم موسى من بعده بما أضلهم السامري , ويوجد إلى الآن طائفة من اليهود من عباد العجل يعلقون العجل قلادة في رقابهم, وهي طائفة من طوائفهم، ومدرسة من مدارسهم موجودة إلى الآن.

عقائد النصارى المتعلقة بقرب نهاية الألفية الثانية

عقائد النصارى المتعلقة بقرب نهاية الألفية الثانية أيها الإخوة: إن هذه الألفية الثالثة التي يتحدثون عنها للنصارى فيها أيضاً اعتقادات, وأمة النصارى مليار ونصف مليار من البشر.

عودة المسيح والاستعداد للاحتفال بعودته

عودة المسيح والاستعداد للاحتفال بعودته ومن عقائدهم أن المسيح سيعود في هذه الألفية, وأنه سينزل في موطنه الذي كان فيه, ولذلك يعدون العدة للاحتفال في بيت لحم , والناصرة. فليس الاحتفال عندهم في تلك المنطقة، وهي بلد إسلامي، فتحه المسلمون, وأزالوا أوضار الشرك منه, إنهم لن يحتفلوا في ذلك المكان الذي تبنى فيه الفنادق بكثافة، وتنظم الأسفار السياحية إليه بكثافة؛ ليجتمع فيه أكثر من ثلاثة ملايين نصراني, تخيل يا عبد الله! ثلاثة ملايين نصراني يجتمعون في ذلك المكان، في هذه الألفية التي يتحدثون عنها - ليس احتفالاً بميلاد المسيح فقط وإنما ترقباً لقدومه وعودته، ونزوله في ذلك المكان وظهوره مرة أخرى, نحن المسلمين نعتقد بأن المسيح عليه السلام لم يمت وأن الله رفعه إليه، بخلاف النصارى الذين يعتقدون موته. ويحهم يزعمون أنه ابن الله، وأنه قتل وصلب, وأنه سيعود إلى هذا المكان لقيادتهم مرة أخرى. ونحن نعتقد بأن المسيح عليه السلام رفعه الله إليه: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:157] وأنه سينزل في آخر الزمان عند المنارة البيضاء شرقي دمشق وليس في بيت لحم ولا الناصرة كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة، وسيحكم الأرض بشريعة الإسلام, ويقاتل اليهود والنصارى, وهذه المنارة البيضاء موجودة الآن وهي إحدى منارات المسجد الأموي بـ دمشق , وسينزل المسيح عيسى بن مريم عليه السلام في ذلك المكان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم, والله أعلم بوقت نزوله, ولكن نحن في آخر الزمان والأمر قد اقترب.

ملك النصارى لا يعود إلا بقيام دولة يهود

ملك النصارى لا يعود إلا بقيام دولة يهود أيها الإخوة: لقد استطاع اليهود أن يستغلوا بعض عقائد النصارى في إقناعهم بأن من مصلحتهم -أي: من مصلحة النصارى- أن تقوم دولة اليهود, وأن ملك النصارى ومسيحهم لا يعود إلا بقيام دولة يهود, ولذلك فإن إعطاء فلسطين من النصارى لليهود في أول هذا القرن لم يكن إعطاءً عبثياً, وإنما هو مبني على تخطيطات وعلى نبوءات موجودة لديهم في كتبهم, ولما تردد هرتزل في قبول فلسطين بعث إليه أحد النصارى الكبار بورقة من الكتاب المقدس، بزعمهم أنها تدل على قيام دولتهم في ذلك المكان. فاليهود والنصارى يتواطئون اليوم على الاحتفال بهذه المناسبة والاستعداد لها استعدادات عظيمة, فيحج منهم ثلاثة ملايين وعلى رأسهم كبيرهم الذي يرشدهم إلى أعمال الشرك والكفر يوحنا بولس الذي هو شيخ كفرهم في هذا الزمان, وأنهم سيجتمعون في ذلك المكان, بالإضافة إلى احتفالاتهم في أنحاء العالم الأخرى, والقضية قريبة، والخطر داهم، ولكن كثيراً من المسلمين عن هذا غافلون. ويزداد الهوس، ويضع النصارى كاميرة مراقبة على البوابة في الأقصى, ويخصصون موقعاً في شبكة نسيج العنكبوت على الإنترنت لينقل لحظة بلحظة هذه البوابة, لأنهم يعتقدون بأن المسيح سيخرج منها, إن أولئك القوم الذين قاموا بهذه الصناعات، ووصلوا إلى الفضاء ليسوا أمة علمانية بحتة كما يتصور البعض، وإنما هم أمة لهم اعتقادات, وكما أن في المسلمين صحوة فكذلك عند النصارى صحوة في باطلهم, وكما أنه حصل عند المسلمين رجوع من كثير من أبنائهم إلى الدين، فإن النصارى يعيشون -على أعتاب الألفية القادمة- صحوة دينية ولكنها شركية كفرية. ولذلك فإن الإقبال على الدين عندهم يزداد, وجمعياتهم الدينية وجماعاتهم تزداد, والقيام بالعمل على تحقيق نبوءاتهم يستشري, وعدد الذين سيحجون بزعمهم إلى بيت المقدس، وبيت لحم والناصرة سيزداد, كل ذلك رجوع منهم إلى الديانة التي يعتقدون بها، وكبارهم يقدرون ذلك, ويقدرون الكنيسة ويقدرون تلك المناسبة.

مشكلة انهيار الحاسب الآلي

مشكلة انهيار الحاسب الآلي أيها الإخوة: إن القضية قضية كبيرة وليست قضية سهلة, وستتزامن مع مشكلة لا علاقة لها بالموضوع في ظاهر الأمر وهي: انهيار الحاسبات في عام (2000) عندما لا تستطيع أجهزة الكمبيوتر أن تظهر المعلومات وتتعامل مع البرامج؛ لأنها غير قادرة على قراءة الصفرين التي يتحدثون عنها, وبناءً على ذلك يتوقع خبراؤهم أن تتوقف كثير من الأنظمة المصرفية، والملاحة الجوية، وكذلك مراقبة التلوث وإمدادات الطاقة ونحو ذلك؛ فلذلك هم يتكلمون عن قضية تخزين مواد غذائية في البيوت, وسحب بعض من الأرصدة إن لم يكن كل الأرصدة قبل هذا التاريخ, حتى إذا تعطلت الأجهزة كان لديهم ما يأكلون به ويشربون ويشترون. إن هذا الأمر استغله بعض المتدينين لديهم ليقولوا: بأن الانهيارات والأحداث المتسارعة في العالم في الألفية من أسبابها: مشكلة الصفر في عالم الحاسب الآلي, وأنهم إذا أقدموا على سحب الأرصدة ستنهار اقتصاديات، وستقع حروب نتيجة لذلك, فيربطون ما سيحدث في عالم الكمبيوتر بمعتقداتهم في هذه الألفية القادمة. وهم يعتقدون -أي: النصارى- بأن مسيحهم المنتظر لن يأتي إلا بعد فترة متواصلة من الأزمات والكوارث المتتابعة من الحروب التقليدية والنووية وغيرها من الانهيارات الاقتصادية, فالمتدينون منهم يتوقعونها ويربطون بين هذه المشكلة وبين اعتقاداتهم. أيها المسلمون: لماذا نكون من الغافلين؟ ونُعمي أبصارنا، ونُصم آذاننا عن تتبع ما يجري ما دامت القضية تمثل لديهم أمراً كبيراً, نحن نعلم بأن الغيب لا يعلمه إلا الله, ولا ندري هل ستمر الألفية مناسبة عادية، فيها زيادة احتفالات وفحش وغناء، وخمر، وسُكر، وعربدة، وفجور، ومجون، وزيادة في الأنوار. أم أنه سيرافقها أحداث عظام من كوارث وحروب في العالم؟ هل ستكون المناسبة مجرد أعياد تعم العالم يدخل فيها المسلمون وغيرهم، أم أنها ستكون معها كوارث وحروب؟ هذا أمر لا يعلمه إلا الله, ولكن المطلوب منا ولا شك، أن نكون يقظين ولا نكون غافلين, وأن نعلم ماذا يصنع القوم؟ وماذا يريدون؟! إننا لسنا أمة مهمشة في التاريخ، بل نحن الذين قدنا العالم بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وأرغمنا أنوف اليهود والنصارى، ولم نكن في مؤخرة الأمم إلا في هذه السنوات المتأخرة من عمر الزمن الذي كان بعد النبي صلى الله عليه وسلم, ونسأل الله عز وجل أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه, وأن يجعلنا من المستبصرين بسبل المجرمين, ونسأل الله عز وجل أن يوقظ المسلمين من غفلتهم، وأن يردهم إلى دينهم، وأن يقيهم مكر أعدائهم، إنه سميع مجيب قريب. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

واجب المسلمين لمواجهة هذا الخطر الداهم

واجب المسلمين لمواجهة هذا الخطر الداهم الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله ولي المتقين, وأشهد أن محمداً رسوله إلى الثقلين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. عباد الله! قال تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً} [الحج:34] وقال سبحانه: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [البقرة:148] وقال: {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة:48] وقال سبحانه: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] وقال سبحانه: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7]. اليهود مغضوب عليهم, والنصارى ضلاّل, فالمغضوب عليهم والضالون يجتمعون اليوم, لكي يحققوا النبوءات المزعومة، ويعملون ليلاً ونهاراً بجد ونشاط, بجهود متكاتفة، وتبرعات طويلة, وأموال هائلة تجمع من أجل الوصول إلى ما يظنون أن سيحدث في هذه الألفية, فماذا أعدّ المسلمون؟! بأي شيء قمنا نحن لمواجهة هذا الخطر الداهم وهذه الجهود الجبارة والحثيثة التي يقومون بها؟!

الاستعداد العقدي والإيماني

الاستعداد العقدي والإيماني أيها الإخوة! لا بد أن يكون عندنا استعدادات لذلك, وهذه الاستعدادات تكمن في عدة أمور، ومنها: الاستعداد العقدي الإيمان بالله عز وجل, والتوكل عليه؛ الإيمان بالله عز وجل الذي يؤدي إلى أن يتصل المسلم بربه اتصالاً وثيقاً, ويتوكل عليه وينيب إليه, ويثق بنصره سبحانه وتعالى، وأن الله لن يتخلى عن دينه, وأنه سينصر الإسلام، وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن عدد من البشائر التي تدل على عودة الإسلام قوياً في آخر الزمان، ونحن في آخر الزمان ولا شك، ولقد أخبرنا عن فتح القسطنطينية ورومية والتي فيها الفاتيكان عاصمة النصارى في العالم, وأخبرنا كذلك أن الإسلام لا يترك بيت مدر ولا وبر في الحاضرة والبادية إلا ويدخله, بعز عزيز أو بذل ذليل. وأخبرنا بأن المسلمين سينتصرون على اليهود في معركة باب لد التي سيقودها المسيح ابن مريم، حتى إن الشجر سينطق بما وراءه من اليهود المختبئين إلا شجر اليهود الذي يكثرون من زراعته, وأن المسلمين سينتصرون على النصارى في معركة مرج دابق، وهي قرية بقرب حلب في بلاد الشام معروفة قريبة من الحدود التركية, ستكون معركة جاء تفصيلها في صحيح مسلم في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (وأنهم سيحشدون لنا تسعمائة وستين ألفاً من جنودهم, ولكن أهل الإسلام سينتصرون عليهم). وأخبرنا عليه الصلاة والسلام بمعارك فاصلة بيننا وبين اليهود والنصارى تكون في آخر الزمان, وأخبرنا عن أحداث متلاحقة، وأحداث عظام ستكون في آخر الزمان, ونحن لا ندري هل هذه قريبة وهل سندركها في حياتنا أم لا؟ ولكنها في الجملة قريبة, فإننا في آخر الزمان ولا شك, وإذا كانت بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هي أول أشراط الساعة الصغرى وقد مضى عليها أكثر من (1400) سنة فما بالك إذاً بما بقي؟! لا شك أنه يسير جداً.

الاستعداد بالتعلم والفقه في الدين

الاستعداد بالتعلم والفقه في الدين كذلك فإن من الاستعدادات استعدادات علمية، بتعلم هذا الدين وتفقهه, وأن ننظر في الآيات والأحاديث التي تتحدث عن علاقتنا باليهود والنصارى, وكيف يجب أن نتعامل معهم ونحذر من مكرهم, وكذلك فلا بد من استعدادات نفسية ببذل النفوس والأموال في سبيل الله, وإذا قام قائم المعركة في سبيل الله عز وجل يكون المسلم على استعداد لبذل الغالي والرخيص والنفيس والقليل من أجل دينه. أيها الإخوة: ما فائدة الحياة إذا كان يعيشها الإنسان للذات بهيمية, من طعام وشراب، ولباس واستمتاع بهذا الزائل الفاني، فما عند الله خير وأبقى.

الاستعداد بتحذير أبناء المسلمين من خطط اليهود والنصارى

الاستعداد بتحذير أبناء المسلمين من خطط اليهود والنصارى كذلك فإننا يجب أن نقوم بتحذيرات لأبناء المسلمين من خطط اليهود والنصارى في هذه الألفية وغيرها, ونحن قادمون على عيد عظيم لهم, يحتفلون فيه جميعاً، وسيكون قمة احتفالاتهم الشركية الكفرية الإباحية المشتملة على الفحش والمنكرات ستكون في قمة عبادتنا، في العشر الأواخر من رمضان, لا شك أنها قضية كبيرة جداً. فالمسلمون في قمة العبادة في العشر الأواخر من رمضان, واليهود والنصارى في قمة احتفالات الفحش في هذه الألفية التي يتحدثون عنها, وقد ذهب عدد من النصارى بعد أن باعوا ممتلكاتهم في أمريكا وغيرها إلى أرض فلسطين , وهم يتوافدون ليقوموا بحركة ما قِتال أو انتحار جماعي أو غيره, ويقولون: إن زعيم طائفتهم سيموت هناك.

العودة إلى الدين وتحكيم الشريعة

العودة إلى الدين وتحكيم الشريعة وهناك أحداث عظام قادمة, فلا بد أن يكون لنا نحن المسلمين استعدادات لأجلها, ولذلك فإن العودة إلى الدين، والتمسك بالإسلام، وإقامة الحلال وتحريم الحرام، وعمل الواجبات، وترك المحرمات، والالتجاء إلى الله، وتربية الأولاد على الإسلام، هو الاستعداد الحقيقي للمواجهة, هذا هو استعدادنا الحقيقي للمواجهة العودة إلى الدين, الذي شرفنا الله به, ونصرنا به ولم ينصرنا بغيره. نسأل الله عز وجل أن يجعل بلاد المسلمين آمنة مطمئنة, اللهم اجعل بلدنا هذا آمناً وسائر بلاد المسلمين, وقنا كيد الحاقدين والحاسدين, اللهم إنا نستجير بك من كيد اليهود والنصارى يا رب العالمين, اللهم آمنا من شرورهم ورد كيدهم في نحورهم, واجعل الغلبة لنا عليهم، إنك على كل شيء قدير. اللهم أقم علم الجهاد, واقمع أهل الزيغ والفساد والعناد، وانشر رحمتك على العباد، يا من له الدنيا والآخرة وإليه المعاد, اللهم انصر إخواننا في بلاد الشيشان وفي غيرها من الأرض على الظلمة الكافرين يا رب العالمين, اللهم سدد رميتهم، اللهم صحح منهجهم, اللهم واجمع كلمتهم على التوحيد إنك بالإجابة جدير, وعلى كل شيء قدير، والحمد لله أولاً وآخراً.

معذبان في القبر

معذبان في القبر في الحديث أن النمام يعذب في قبره، وكذلك من لا يتنزه من بوله، فهذان مرضان خطيران الأول: على المجتمع بالنخر والتفكيك، وعلى صاحبه دنياً وديناً، والثاني: على الدين وعواقبه على صاحبه، والتنبيه على ذلك مهم كما نبه عليه الشيخ، وذكر أخطاره

النميمة سبب لعذاب القبر

النميمة سبب لعذاب القبر إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم. أما بعد فيا عباد الله: اتقوا الله الذي خلقكم ورزقكم وأنعم عليكم، ومن أعظم نعمه سبحانه وتعالى أن عرفَّنا من شرعه ما نعبده به، وعرفَّنا أسباب غضبه فنتقيها لننجو من عذابه. أشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الذي قال لنا في حديثه، وقد مر بقبرين قال: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة). وعذاب القبر ثابتٌ في هذه الشريعة جاءت به لتحذير المسلمين من أهوال القبر وما فيه من الفتن، وهو مما حذر منه الأنبياء من قبلنا؛ ولذلك جاءت امرأة يهودية إلى عائشة رضي الله عنها فقالت لها: أعاذكِ الله من عذاب القبر. قالت عائشة: فعجبت من قولها! وسألت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فصدَّق ما قالت اليهودية، وأخبر أن الناس يفتنون في قبورهم مثل أو قريباً من فتنة الدجال: و (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دفن الميت وقف عند قبره واستغفر له، وقال للناس: استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت، فإنه الآن يُسأل) فأثبت النبي صلى الله عليه وسلم فتنة القبر، والسؤال الذي يكون فيه، كما أثبت عليه الصلاة والسلام عذاب القبر والنكال الذي يكون فيه. وأول شيءٍ يحصل في ذلك المقام: الضغطة التي يضغط بها القبر على صاحبه، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عند دفن طفلٍ أنه (لو نجا أحد من هذه الضغطة لنجى ذلك الطفل) وعند موت سعد بن معاذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو نجا أحد منها لنجا p=1000017> سعد بن معاذ) ولكن هذه الضغطة عامة لجميع من يدخل القبر، فإذا كان من أهل الصلاح روخي عنه وانفرج القبر واتسع عليه، وإن كان من أهل الكفر والفجور ازداد عليه ضيقاً حتى تختلف أضلاعه، ثم يكون بعد ذلك السؤال، وبناءً عليه يكون النعيم أو العذاب. لقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن أسباب عذاب القبر، وذكر منها في هذا الحديث سببين: الأول: النميمة، وقد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الآخر: (لا يدخل الجنة نمام)، وفي رواية: (قتات) فالنمام الذي ينقل الكلام بين الناس بقصد الإفساد بينهم، فيسمعهم يتحدثون حديثاً فينم عليهم، وقيل: إن القتات هو الذي يتسمع عليهم دون أن يشعروا ثم ينقل خبرهم. فهذا الذي ينقل للإيقاع والإفساد بين المسلمين يكون متعرضاً مباشرةً لسببٍ من أسباب العذاب في قبره.

النميمة معول هدم للأخوة

النميمة معول هدم للأخوة إن النميمة من الآفات العظيمة في المجتمع، والنمام يفسد ذات البين، والشريعة جاءت لإصلاح ذات البين، والأمر بالتقريب بين نفوس المؤمنين، فهذا النمام يعمل على خلاف ما أمرت به الشريعة وسعت إليه، ويفعل بالناس فعل النار بالهشيم، فيدخل بين الصديقين، فيصيرهما عدوين، وينقل إلى كل منهما عن أخيه ما يسوءه وما يكدر عليه، وهذا -ولا شك- إيذاء للمؤمنين والمؤمنات، وقد قال عزَّ وجلَّ: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} [الأحزاب:58]. وينبغي للإنسان إذا بلغه خبر من نمام أن يرده عليه وأن يعظه وينصحه، وقد قال الحكماء: من نمَّ لك نمَّ عليك. احفظ إخوانك، وصل أقاربك، وآمنهم من قبول قول ساعٍ أو سماع باغٍ يريد الإفساد بينك وبينهم، وليكن إخوانك من إذا فارقتهم وفارقوك لم تعبهم ولم يعيبوك، وينبغي على الناس أن يسدوا الطريق على النمامين، فلا يذكروا إخوانهم في المجالس إلا بخير. إن بعض النمامين يجلسون في المجالس، فيجاملون الذي يتكلم على فلان وعلان ليوهموه أنهم معه، فإذا قاموا نقلوا كلامه للإفساد، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن شر الخلق عند الله ذو الوجهين وذو اللسانين) وذو الوجهين هو الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه. وكذلك فإننا إذا تأملنا في المجتمع وجدنا أن كثيراً من الحبال قد انقطعت بسبب هذه الفتنة العظيمة فتنة النميمة؛ لأن الفسق الذي صار بالنمام والقبول الذي حصل من الآذان لكلام النمام هو الذي أوجب القطيعة، وأوجب العداوة بين كثير من المسلمين.

كيف يعامل النمام؟

كيف يعامل النمام؟ وقد علَّمنا الله تعالى كيف نعامل النمام، فقال: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم:10 - 11] أي: يمشي بين الناس بالنميمة، قال: (ولا تطع) أي: لا تصغ إليه، ولا تقبل كلامه، وتعظه وتنصحه وترده على عقبيه {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم:10 - 11] فهذا الذي يمشي بالنميمة لابد من إيقافه عند حده، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6] ولا شك أن النمام فاسق. ولذلك ينبغي التوقف في قبول خبره، والاحتياط والتحرز.

النمام سرطان يصل إلى كل عضو

النمام سرطان يصل إلى كل عضو هؤلاء النمامون لم تسلم منهم العلاقات الزوجية، ولا علاقة الموظفين مع مدرائهم، ولا الموظفون مع بعضهم البعض، بل حتى مع طلبة العلم، فقد صار بعضهم يمشي إلى فلانٍ ويقول له: إن فلاناً قد ذكرك في مجلسه بشر، وقد انتقدك أو عابك أو نحو ذلك، فيكون هذا سبباً حتى في الإفساد بين طلبة العلم، وكم من الإحن قد حصلت في الصدور، وكم من الأحقاد قد استقرت في القلوب بسبب أفعال هؤلاء. ومن النميمة: إيغار صدور الآباء والأساتذة بما ينقل بعض الأبناء والتلاميذ عن بعض، فيصبح الولد البار والتلميذ الصالح بغيضين ممقوتين، وهما يستحقان من الوالد ومن المعلم الشكر والتقدير. أما النميمة في البيوت وبين العائلة فحدث عن الابتلاء بها، ولئن كانت الضرة تنم على ضرتها لبعض الغيرة بينهما؛ فإنك تجد في كثير من الأسر النميمة تنقل من أم الزوج إلى ابنها عن زوجته، ومن الزوجة إلى زوجها عن أمه، وكذلك تنقل من الأقارب والأباعد، وكثيراً ما كانت النميمة سبباً للطلاق، وتهديم الأسر وتخريبها؛ فلا تستغرب -يا عبد الله- إذا علمت بعد ذلك أن النميمة سببٌ مباشر من أسباب عذاب القبر، وتنقل زوجة الأب لزوجها عن أبناء ضرتها، أو عن أبناء زوجته المطلقة أو الثالثة ما تنقل، وقد يكون جاهلاً ينخدع، أو مستمالاً إليها فيطيعها. وكذلك ما يذهب به بعض الناس إلى الكهان، ويسمعون منهم كلاماً في بعض الناس فيصدقونه، فيكون الكاهن قد أضاف إلى جرمه بالشرك نميمة أيضاً. وكذلك فإن بعض المدراء في الشركات، أو المسئولين في الدوائر لا يكونون حكماء، فيفتحون المجال للموظفين لنقل الأخبار في بعضهم البعض، وربما يريد أن يفرق ليسود، وأن تجتمع عنده الأخبار، زعماً بأنه من طبيعة وظيفته أن يعرف ما يدور، ولكن الشريعة فوق هذه الأمور الإدارية التي يظنها بعض المدراء مصلحة، وإنما المفسدة فيها كل المفسدة، فبعض الموظفين قد فصل أو اضطر إلى مغادرة عمله بسبب نميمة موظفٍ آخر، وكل واحدٍ يريد أن يتزلف إلى المدير بكلامٍ ينقله عن موظفٍ آخر تكلم على هذا المدير أو ذمه أو نحو ذلك، ويظن هذا الموظف النمام أنه يتقرب إلى سيده، وأنه يزداد حظوة عنده، وأنه عينه على بقية الموظفين، وما درى أنه نمام معذبٌ في قبره، وأنه سببٌ لإيذاء الآخرين، فينبغي على الإنسان أن يكف لسانه عن عيب الناس، وينبغي على من سمع العيب ألا ينقله.

عدم التنزه من البول سبب لعذاب القبر

عدم التنزه من البول سبب لعذاب القبر عباد الله: لقد ورد في الشطر الثاني من الحديث التحذير من عدم التطهر من البول، وعدم تنقية النجاسة في البدن والثوب، وقد قال الله سبحانه وتعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4].

اللامبالاة بالنجاسة وصورها

اللامبالاة بالنجاسة وصورها وبعض الناس لا يحترزون من البول، ومنهم الذين يقلدون الكفرة بالبول في هذه الحمامات المعلقة، ثم يلبسون ثيابهم عليهم، ومنهم من لا يهتم بغسلها، وبعض الحمامات تكون مصممةً على الانتقال من كرسيٍ إلى آخر تقليداً للغربيين أو الكفرة الفرنجة، ويحدث من وراء ذلك سقوط البول على الثياب وعدم الاحتراز من ذلك، وبعض الناس لا يهتمون بغسل النجاسة من ثيابهم، وبعضهم لا يهتم بغسلها من بدنه، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن المسألة خطيرة. ومن الأسباب: البول في مجتمعات الناس، وفي طرقهم العامة، فإن ذلك من أسباب عدم اتقاء النجاسة، وتلويث الثياب بها. وكذلك فإن بعض الناس ربما لا يهتم بطريقة الغسل لكي تكون منقية، فتختلط الثياب النجسة بغيرها، ولا يكون الغسل مذهباً للنجاسة. وينبغي أن نعلم أطفالنا التحرز من النجاسات من الصغر، وهذه قضية تنمو مع الولد إلى الكبر، وبعض الآباء والأمهات يهملون تعليم أطفالهم الاستنجاء والاستجمار؛ فينشأ الولد ويترعرع والنجاسة في ثيابه، لا يهتم بغسلها؛ لأنه لم يعود على ذلك، وهذه قضية خطيرة، ربما يشارك الأبوان في وزرها بسبب إهمالهم لتعليم الأطفال.

مسألة البول قائما وحكمها

مسألة البول قائماً وحكمها بعض الناس يقول: هل يحرم البول قائماً؟ و A أنه قد ورد في السنة فيما رواه الترمذي -رحمه الله تعالى- عن عائشة رضي الله عنها قالت: (من حدثكم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبول قائماً فلا تصدقوه، ما كان يبول إلا قاعداً) رواه الترمذي، وقال: هذا أصح شيءٍ في الباب. ولأنه أستر له -إذا بال قاعداً- وأحفظ له من أن يصيبه شيء من رشاش بوله، ولكن قد ورد في حديثٍ آخر عند البخاري ومسلم عن حذيفة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قومٍ فبال قائماً) والسباطة: موضع الزبالة ورمي القمامة، فكيف نجمع بين هذين الحديثين: أنه لم يبل قائماً، وحديث حذيفة أنه قد بال قائماً؟ الجواب: نقول: إن الأكثر من فعله صلى الله عليه وسلم والأعم الأغلب أنه كان يقضي حاجته قاعداً، ولا شك أن ذلك أمكن وأحسن وأعون على قضاء الحاجة وعلى التطهر منها، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد بال قائماً مرات قليلة؛ لبيان الجواز، فتكون السنة البول قاعداً، والجواز البول قائماً؛ بشرط أن يكون مستوراً عن الناس، وألا يصيبه رشاش بوله، وألا يرتد عليه، وكثير من الذين يبولون قياماً يحصل من جراء فعلهم رشاشٌ وتلويث لثيابهم، ولذلك إذا كان الإنسان لا يأمن من تلويث ثيابه بالنجاسة إذا بال قائماً فلا يفعل ذلك، أما إذا أمن فإنه يفعل ولا حرج عليه، والشريعة لا تضيق واسعاً، ولله الحمد والمنة.

الحذر من الغلو والتنطع في الطهارة

الحذر من الغلو والتنطع في الطهارة عباد الله: إن هذه المسائل من الآداب التي ينبغي على الناس أن يقفوا عندها، وينبغي لفت النظر إلى أن بعض الناس إذا سمعوا مثل هذا الحديث في عذاب القبر من جراء عدم الاستتار من البول؛ أوقعهم الشيطان في الغلو، ونقلهم من عالم الطهارة والنقاء إلى عالم الوسوسة والعذاب، وقد بلغ الشيطان منهم أن عذبهم في الدنيا قبل الآخرة، وأخرجهم عن اتباع الرسول، وأدخلهم في جملة أهل التنطع والغلو، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، فترى أحدهم يقوم بحركات عجيبة شاذة من العصر، وإدخال شيء لاستخراج ما في الداخل، والإنسان غير مكلف بإخراج ما في جوفه من النجاسة، إنما هو مكلفٌ بغسلها إذا خرجت والنتر والنحنحة والقفز، ويمكثون الساعات الطوال في دورات المياه، فتضيع صلاة الجماعة، بل ربما ضاعت الصلاة كلها بإخراجها عن وقتها؛ زعماً منهم أنهم يحتاطون ويتورعون ويزيلون النجاسة ويطبقون الدين، وليس إلا التنطع والغلو في الدين، فإن الشريعة لم تأمر بهذه الإجراءات التي ربما سببت المرض لبعض هؤلاء الموسوسين، فأصيبوا بالسلس وبالآلام المبرحة ونحو ذلك.

حكم المصاب بالسلس

حكم المصاب بالسلس وينبغي على الإنسان إذا ابتلي بالسلس، وهو عدم القدرة على منع البول -فقد الإرادة على منع إخراجه، فصار يخرج منه بغير إرادة- أن يفعل ما ذكره أهل العلم، فإذا دخل وقت الصلاة غسل الموضع وما أصاب الثوب من النجاسة، وتوضأ للصلاة مرة واحدة لا يزيد ولا يعيد، ومن زاد فقد أساء وتعدى وظلم، ثم يذهب ليصلي ولا يبالي بما خرج منه. وقد جاءت الشريعة بالاستجمار أيضاً تخفيفاً ورحمةً -ولو وجد الماء على الصحيح من أقوال العلماء- ثلاث مسحات منقيات بالورق أو الحجر وغير ذلك كافية -ولله الحمد والمنة- إذا لم تتجاوز النجاسة الموضع، فإذا تجاوزت الموضع المعتاد وانتشرت على الجلد، فلابد أن يغسل بقية المكان الذي أصابته النجاسة. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من التوابين، وأن يجعلنا من المتطهرين، وأن يخلصنا من الغيبة والنميمة والكذب، إنه أرحم الراحمين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

دعوة للمحاسبة

دعوة للمحاسبة الحمد لله الذي جعل في تعاقب الليل والنهار عبرةً لأولي الأبصار، أحمده سبحانه لا إله إلا هو العزيز الغفار، وأشكره وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، وأصلي وأسلم على أعدل الخلق وأكرم المرسلين، من أرسى الله به قواعد الدين، وأنار معالمه للعالمين. أما بعد فيا عباد الله: اتقوا الله وخذوا من تجاربكم وتصرم الأيام والأعوام أمامكم عبراً ودروساً، فكم في ممر الأيام والأعوام من عبر! وكم من تصرم الأزمان والأحوال من مدكر! كم في ذلك مما يذكر بأن لكل شيءٍ من المخلوقات نهاية، فجمعتكم هذه هي آخر جمعة في هذا العام الهجري، وبعد أيامٍ قلائل سيطوى سجله، ويختم عمله، ويبقى عامنا شاهدٌ علينا بما أودعناه من خيرٍ أو شر، وإذا كان أهل الأموال يعملون لتصفية حساباتهم والجرد في آخر كل سنة مالية أو تجارية؛ لينظروا الطرق التي استفادوا منها فيكثرون منها، والطرق التي خسروا فيها فيجتنبوها. فما أحرى بالمسلم أن يقف مع نفسه في مثل هذه المناسبة مذكراً لها ومحاسباً عما حصل منه في العام الماضي! ليقف كلٌ منا مع نفسه محاسباً لها: ماذا أسلفت فيه من خير؟ وماذا أسلفت فيه من شر؟ وإذا كان خيراً فليزدد، وإن كان شراً فليتب إلى الله عزَّ وجلَّ، وإن كان من حقوق المخلوقين رد المظلمة إلى صاحبها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كانت له عند أخيه مظلمة فليتحلل منه قبل ألا يكون درهماً ولا ديناراً) وإنما القصاص بالحسنات والسيئات. عباد الله: تلك أيامٌ قد خلت، ولكن أحصاها الله عزَّ وجلَّ وأحصى ما عُمل فيها، وسيأتي الناس يوم القيامة عملوا أعمالاً بعضهم نسيها وأحصاها الله عزَّ وجلَّ {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة:6]. وينبغي أن نحاسب أنفسنا قبل أن نحاسب، ونحن اليوم أقدر على الحساب منا عليه غداً، وما ندري ما يأتي به الغد، فليكن ختام العام مناسبة حسابٌ لنا، ووقفة نصحح بها مسارنا، ولحظة صدقٍ مع أنفسنا، نأخذ من يومنا لغدنا، ونستعد لما سيأتي، والمؤمن بين مخافتين: أجلٍ قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه، وأجلٍ قد بقي لا يدري ما الله قاضٍ فيه، فليتخذ العبد من نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشبيبة قبل الهرم، ومن الصحة قبل المرض، ومن الغنى قبل الفقر يبادر الأعمال قبل أن تهدم عليه الأعراض فتمنعه من العمل. أيها الإخوة يقول المحللون الاقتصاديون: إن الشهر القادم سيكون شهر التنفيذ الفعلي والتخطيط العملي لإجازات الناس السنوية، وفيه سيحجزون للأسفار، ويقررون ماذا يعملون في الإجازات، ولابد أن تكون هذه المسألة تابعة للمحاسبة التي أسلفنا الكلام عنها قبل قليل، وأن يكون نهاية العام استعداد لطاعة الله عزَّ وجلَّ في العام الذي يليه، وليس استعداداً للمعصية، ويتوقع الفرنسيون أن أربعين ألفاً منا سيذهبون إلى بلاد الكفر لينفقوا الأموال في معصية الله ودعم الكفرة واقتصادهم، وبعض الناس لما ضاقت بهم الأموال شيئاً ما وجاء موسم الحج، قالوا: لا يجتمع عندنا المونديال والحج، فقرروا تأخير الحج، وقالوا: هذا المال المتوفر سنذهب به إلى المونديال، أخروا فريضة الله تعالى لأجل الكرة، وليت شعري ماذا تفعل العوائل والبنات والنساء وربات البيوت بشأن الكرة؟! وإلى أي مذهبٍ سيذهبون؟! وكذلك -أيها الإخوة- الذين ينوون الذهاب إلى بلاد الكفر لأي غرض غير مشروع، ليس لحاجة شرعية ولا لعذر شرعي ندعوهم لأن يتقوا الله تعالى في أنفسهم، وبعض الذين قرروا الذهاب إلى بلاد الفجور فقد لا تكون كفراً، ولكن فجور متناهٍ في الفجور لا يقل عن فجور الكفرة، فعليهم أن يتقوا الله أيضاً، وأن يجعلوا من تخطيطهم للإجازة ما يرضي الله عزَّ وجلَّ. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يهيئ لنا من أمرنا رشداً، وأن يجعلنا من القائمين بحقوق أنفسهم وأولادهم على الوجه الذي يرضيه عنا. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل المسلمين، اللهم اجعل بأس أعداء الدين بينهم، واجعل تخطيطهم تدميراً عليهم. اللهم إنا نسألك الأمن لهذه البلاد، وسائر بلاد المسلمين يا رب العباد، اللهم إنا نسألك الأمن يوم الفزع الأكبر، اللهم إنا نسألك أن تبيض وجوهنا وتثقل موازيننا يا رب العالمين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

مقدمة في الأخلاق

مقدمة في الأخلاق الأخلاق مقياس الأمم، وثمرات حضارتها وتدينها، ولا تخفى المنزلة التي أولاها ديننا للأخلاق، حيث يظهر ذلك جلياً أيضاً من نصوص الشريعة، وكتب أهل العلم التي ذكر الشيخ في هذا الدرس طرفاً مما في بعضها، فاقرأه تستفد.

الأخلاق ومكانتها في الإسلام

الأخلاق ومكانتها في الإسلام إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فاوت بين خلقه في الخُلُق كما فاوت بينهم في الخلق، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، الذي قال الله سبحانه وتعالى في شأنه: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]. أيها الإخوة: إن موضوع الخلق من الموضوعات الإسلامية المهمة التي عليها يدور نجاح حياة المسلم، فكيف ينجح العالم في وظيفته إذا لم يكن على خلق؟ وكيف ينجح الزوج في حياته إذا لم يكن على خلق؟ وكيف ينجح الداعية في حياته إذا لم يكن على خلق؟ وكيف ينجح الأخ مع إخوانه إذا لم يكن على خلق؟ فالأخلاق عليها مدار نجاح الإنسان في هذه الحياة، حتى قال بعض العلماء: إن الدين كله هو الخلق، ونحن نعيش أزمة أخلاق في واقعنا، سواءً على مستوى العلاقات الزوجية، أو المصلين في المساجد، أو الطلاب والمدرسين، أو الموظف والمراجعين، أو الجار وجيرانه، بل بين طلبة العلم والعلماء والأقران، وهذا مما يؤكد أهمية طرق هذا الموضوع. وحيث أن عدداً من الدروس في هذه الإجازة لها اتجاه علمي صرفٌ في المصطلح، أو التفسير وعلوم القرآن، أو أصول الفقه أو الفرائض أو اللغة ونحو ذلك، فإنني أجد أن الحديث عن موضوع الخلق من الموضوعات التي لا تقل أهميةً أبداً عن تلك المواضيع، ولعلنا -إن شاء الله- سنكون مع مجموعة من الدروس في هذه الإجازة نقضي كل ليلة مع خلق من الأخلاق الإسلامية الحسنة، نبين فيه مكانة هذا الخلق في الإسلام وأدلته ومعناه، وشيئاً من تطبيقاته في الواقع. وأقول: إن الموضوع مهم للغاية وأكثر مما قد يتصور البعض، وبعض الأخلاق لها جوانب فقهية وتتعلق بها أحكام، كما لو طرق -مثلاًَ- موضوع العدل فإنك ستلاحظ فيه أحكاماً في العدل بين الأولاد، والعدل بين الزوجات ونحو ذلك.

تعريف الأخلاق ومفهومها

تعريف الأخلاق ومفهومها أما تعريف الخلق، فالخليقة هي: الطبيعة، كما قال ابن منظور رحمه الله في لسان العرب: وفي التنزيل: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] والجمع: أخلاق، ولا يكسر على غير ذلك، والخُلْق والخُلُق السجية، والخُلُق هو الدين والطبع والسجية، وحقيقته أنه لصورة الإنسان الباطنة -وهي نفسه- وأوصافها ومعانيها المختصة بها بمنزلة الخلق لصورته الظاهرة وأوصافها ومعانيها، ولهما أوصاف حسنة وقبيحة. وقال ابن حجر -رحمه الله- في شرح كتاب الأدب من صحيح البخاري قال الراغب: الخَلق والخُلق في الأصل بمعنى واحد، كالشَرب والشُرب، لكن خُص الخلق الذي بالفتح بالهيئات والصور المدركة بالبصر، وخص الخُلق الذي بالضم بالتقوى والسجايا المدركة بالبصيرة، فالشكل والصورة التي تدرك بالبصر تسمى خَلْقاً، والسجايا والطبائع التي تدرك بالبصيرة تسمى خُلقاً. وقال القرطبي رحمه الله تعالى في المفهم: الأخلاق أوصاف الإنسان التي يعامل بها غيره، وهي محمودة ومذمومة، فالمحمودة على الإجمال: أن تكون مع غيرك على نفسك، فتنصف منها ولا تنصف لها، وعلى التفصيل: العفو، والحلم، والجود، والصبر، والرحمة، والشفقة، والتوادد، ولين الجانب، ونحو ذلك، والمذموم منها ضد ذلك: أي: ضد الأخلاق المحمودة، كالكذب والغش والقسوة ونحوها من الأخلاق الرديئة، وسيكون مدار الدروس في هذه الإجازة -إن شاء الله- عن الأخلاق الحسنة.

أهمية الجانب الأخلاقي في منهج السلف

أهمية الجانب الأخلاقي في منهج السلف وموضوع الأخلاق موضوع كبير يتعلق بمنهج أهل السنة والجماعة، وليس كما يتصور البعض أنه موضوع منفصل عن المنهج أو أنه شيء أدنى منزلة أو جانبا، ً كلا! بل هو من صلب المنهج. ومما يؤيد أهمية الجانب الأخلاقي في منهج السلف: تضمين علمائهم هذه الجوانب فيما كتبوه من أصول أهل السنة والجماعة، كـ العقيدة الواسطية والطحاوية وغيرها، ومن أمثلة ذلك: قول الإمام الصابوني في تقريره لعقيدة السلف: ويتواصون بقيام الليل للصلاة بعد المنام، وبصلة الأرحام على اختلاف الحالات، وإفشاء السلام وإطعام الطعام، والرحمة على الفقراء والمساكين والأيتام، والاهتمام بأمور المسلمين، والتعفف في المأكل والمشرب والملبس والمنكح والمصرف، والسعي في الخيرات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمدار في فعل الخيرات أجمع، واتقاء عاقبة الطمع، ويتواصون بالحق والصبر. وكذلك شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في العقيدة الواسطية لما ذكر معتقد أهل السنة والجماعة قال: ثم هم مع هذه الأصول يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر على ما توجبه الشريعة، ويرون إقامة الحج والجهاد والجمع والأعياد مع الأمراء أبراراً كانوا أو فجاراً، ويحافظون على الجماعات، ويدينون بالنصيحة للأمة، ويعتقدون معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً -وشبك بين أصابعه-) وقوله صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر) ويأمرون بالصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء، والرضى بِمُرِّ القضاء، ويدعون إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، ويعتقدون معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً) ويندبون إلى أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، ويأمرون ببر الوالدين، وصلة الأرحام، وحسن الجوار، والإحسان إلى اليتامى والمساكين وابن السبيل، والرفق بالمملوك، وينهون عن الفخر، والخيلاء، والبغي، والاستطالة على الخلق بحق أو بغير حق، ويأمرون بمعالي الأخلاق، وينهون عن سفاسفها. إذاً: هذا هو المنهج الشامل للسلف الصالح -رحمهم الله- أهل السنة والجماعة بجانبيه العقدي والأخلاقي، وبقدر ما يحصل من النقص في أحدهما يكون النقص في الالتزام بهذا المنهج العظيم، ولذلك يمكن أن يوجد في الواقع طلبة علم جيدون من جهة العقيدة والتفسير ومصطلح الحديث وأصول الفقه واللغة العربية ونحو ذلك، لكنهم في جانب الأخلاق ليسوا بذاك، فلا شك أن في هؤلاء نقصاً بحسب ما نقص من أخلاقهم. وموضوع الأخلاق موضوع خطير؛ لأنه يمكن أن يقدم بحسن الأخلاق منهج مسموم، كما يمكن أن يعرض الناس بسوء الخلق عن المنهج السليم.

الخلق والدين

الخلق والدين فإذاً -أيها الإخوة- لابد من التركيز على هذا الموضوع؛ لأنه -كما قلنا- من أهم عوامل النجاح؛ فإن كثيراً من الناس لا ينظرون إلى معتقدك ولا إلى عبادتك، وإنما ينظرون إلى خلقك أولاً، فإذا أعجبهم أخذوا عنك العقيدة والأخلاق والعبادة والعلم، وإذا لم يعجبهم تركوك وما أنت عليه من العلم، فإذاً لابد من الخلق، ويكفينا أن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] قال ابن عباس ومجاهد: لعلى دينٍ عظيم وهو دين الإسلام. فالخلق أطلق على الدين كله، وهو ما كان يأمر به صلى الله عليه وسلم من أمر الله وينهى عنه من نهي الله، والمعنى: إنك لعلى الخلق الذي آثرك الله به في القرآن. ولذلك جاء في الصحيحين: أن سعد بن هشام سأل عائشة رضي الله عنها عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: [كان خلقه القرآن] فقال: لقد هممت أن أقوم ولا أسأل شيئاً. أي: لقد كفتني هذه العبارة البليغة الموجزة، حتى هممت أن أقوم ولا أسألها شيئاً. وأصول الأخلاق مجموعة في قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] فليس هناك في القرآن أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية، فهي أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، فهذه الآية أرشدت النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ العفو من أخلاق الناس، ويقبل الاعتذار، ويعفو ويتساهل مع الناس، ويترك الاستقصاء والبحث والتفتيش عن أحوالهم، وكذلك يأخذ ما عفا من أموالهم وهو الفاضل، مثل قوله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة:219] قال الله: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] أي: إذا سفه عليك الجاهل فلا تخاطبه بالسفه، كما قال تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [الفرقان:63]. وقال أنس رضي الله عنه: [كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً وقال: ما مسست ديباجاً ولا حريراً ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شممت رائحة قط أطيب من رائحة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي قط: أفٍ، ولا قال لشيء فعلته: لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلت كذا؟] متفق عليه. والبر: حسن الخلق، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وحسن الخلق هو الدين كله، وهو حقائق الإيمان وشرائع الإسلام، وفسر حسن الخلق بأنه البر؛ فدل على أن حسن الخلق طمأنينة النفس والقلب.

منزلة حسن الخلق وجزاؤه في الآخرة

منزلة حسن الخلق وجزاؤه في الآخرة

ثقل الميزان والفوز بأعلى الجنان

ثقل الميزان والفوز بأعلى الجنان وقد بلغ من منزلة حسن الخلق يوم القيامة أن يكون صاحبه من أثقل الناس وزناً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق) وهو أكثر ما يدخل الناس الجنة، كما قال عليه الصلاة والسلام عندما سئل عن ذلك: (تقوى الله وحسن الخلق) وميزان الكمال عند المؤمنين بكمال أخلاقهم: (إن من أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً) حديث صحيح. وهذا الأمر هو الذي يدرك به الإنسان درجات العبادة الكبار، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم) رواه أبو داود، وهو حديث صحيح، وأبشر يا صاحب حسن الخلق ببيت في أعلى الجنة، فإنه عليه الصلاة والسلام قال: (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً، وبيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه) رواه الطبراني وإسناده صحيح، فالبيت العلوي جزاءٌ لأعلى المقامات الثلاثة وهي حسن الخلق. وصاحب الخلق الحسن أقرب الناس مجلساً من النبي عليه الصلاة والسلام يوم القيامة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً) رواه الترمذي، وهو حديث صحيح. فهذا الخلق الحسن أثقل شيء في ميزان العبد؛ لأن الأعمال توزن يوم القيامة وزناً حقيقياً ترجح الكفة بها، وأثقل شيء في الميزان الخلق الحسن، وهي وصيته صلى الله عليه وسلم للمؤمن في معاملة الناس حين قال: (وخالق الناس بخلق حسن).

من حسن خلقه بلغ درجة الصائم والقائم

من حَسُن خلقه بلغ درجة الصائم والقائم وكذلك فإن حسن الخلق يدرك به صاحبه -كما قلنا- درجة القائم بالليل الظامئ بالهواجر وهو النهار الحار، والله تعالى يحب مكارم الأخلاق ويكره سفسافها، وسفسافها: هو حقيرها ورديئها. وكذلك فإن أعظم نعم الله على العبد حسن الخلق، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن الناس لم يعطوا شيئاً خيراً من خلق حسن) وكذلك فإن بعثته عليه الصلاة والسلام إنما هي لإتمام صالح الأخلاق، كما ذكر صلى الله عليه وسلم، وهي وصيته للصحابي لما قال له: (عليك بحسن الخلق) وهي الميزان الذي تقاس به الخيرية، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (خياركم أحاسنكم أخلاقاً) ومن كان سهلاً هيناً ليناً حرَّمه الله على النار، وهذا دليل على أن من أسباب الوقاية من النار حسن الخلق.

كيفية علاج ما اعوج من الأخلاق

كيفية علاج ما اعوجّ من الأخلاق والنبي صلى الله عليه وسلم كان يتلافى المعوج من أخلاق الناس بكرمه، كما روى البخاري رحمه الله عن عبد الله بن أبي مليكة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أهديت إليه أقبية من ديباج مزررة بالذهب، فقسمها في ناس من أصحابه وعزل منها قباءً لـ مخرمة بن نوفل، فجاء ومعه المسور بن مخرمة، فقام على الباب فقال: ادعه لي، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم صوته فأخذ قباءً منها كان عليه، فتلقاه به واستقبله بأزراره فقال: يا أبا المسور! خبأت هذا لك، يا أبا المسور!) وكان أبو المسور في خلقة شدة، فكان عليه الصلاة والسلام يتلافى بحسن خلقه شدة أخلاق الناس، والأخلاق الحسنة تغطي على الأخلاق الرديئة، ولذلك وجه النبي صلى الله عليه وسلم الأزواج إلى النظر إلى الناحية الإيجابية من أخلاق الزوجات فقال صلى الله عليه وسلم: (لا يفرك -يعني: لا يكره- مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقاً رضي منها آخر) رواه مسلم. ومن أسباب تجاوز الله عن العبد يوم القيامة حسن الخلق، فإن حذيفة رضي الله عنه قال: (أُتي الله بعبدٍ من عباده آتاه الله مالاً فقال: ماذا عملت في الدنيا قال: يا رب آتيتني مالاً فكنت أتجاوز على الموسر وأنظر المعسر، فقال الله: أنا أحق بذا منك، تجاوزوا عن عبدي) فقال عقبة بن عامر الجهني وأبو مسعود الأنصاري: هكذا سمعناه من فيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه مسلم. وحسن الخلق هو الذي لفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم إذا تقدم إليك من يخطب ابنتك فقال: (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه) وفي رواية: (خلقهُ ودينه) فهذا هو الشيء الذي ينظر منه إلى الخاطب. وحكمة الله البالغة اقتضت أن يجعل في البشر أخلاقاً عالية، وكذلك أخلاقاً سافلة، وعند المقارنة يظهر حسن هذا وقبح ذاك؛ لأن الضد يظهر حسنه الضد، وبضدها تعرف الأشياء، فلولا الظلام ما عرفت فضيلة النور، ولولا أنواع البلايا ما عرفت قيمة العافية، ولولا خلق الشياطين والهوى والنفس الأمارة بالسوء لما حصلت عبودية الصبر والمجاهدة وترتب الأجر والجنة عليهما. إذاً: عندنا محاسن الأخلاق ومساوئ الأخلاق، فإذا قلت: محاسن الأخلاق مثل: الصدق، والأمانة، والوفاء، والإيثار، والكرم، والعفة، وكظم الغيظ، والتواضع، والإخلاص، والعدل، وغير ذلك؛ فإنك إذا قارنتها بغيرها تتبين جمال هذه الأخلاق، وضدها مثل: الكذب، والنفاق، والغدر، والخيانة، والبخل، والرياء، والكبر، والعجب، والمفاخرة، والحسد، والطمع، والحقد، والظلم، وغير ذلك من الأخلاق. وكما أن حسن الخلق منجاة ونجاح، فسوء الخلق ضياع ودمار، ولا بد إذاً من الالتزام والتمسك بهذه الأخلاق الحسنة.

اعتناء أهل العلم وكلامهم في الأخلاق

اعتناء أهل العلم وكلامهم في الأخلاق وقد اعتنى العلماء رحمهم الله تعالى بجمع محاسن الأخلاق ومساوئ الأخلاق، وأفردوها بالمصنفات، وألف في ذلك ابن أبي الدنيا والخرائطي رحمهما الله، وكذلك عدد من العلماء. وكما كنا قد ذكرنا سابقاً في موضوع الآداب الشرعية شيئاً من المنظومات التي نظمها بعض أهل العلم في الآداب، فإننا سنذكر -إن شاء الله- في هذا الدرس شيئاً من المنظومات التي نظمها أهل العلم في الأخلاق.

لامية ابن الوردي

لامية ابن الوردي فمن أعظم المنظومات التي نظمت في الأخلاق اللامية المسماة: لامية ابن الوردي، نريد أن نلقي الضوء على شيء من أبيات هذه اللامية؛ حتى يتبين لنا مدى اعتناء العلماء رحمهم الله بجمع هذه الأخلاق، قال ابن الوردي رحمه الله تعالى: اعتزل ذكر الأغاني والغزل وقل الفصل وجانب من هزل ودع الذكرى لأيام الصبا فلأيام الصبا نجمٌ أفل إن أهنا عيشة قضيتها ذهبت لذاتها والإثم حل واترك الغادة لا تحفل بها تمس في عز وترفع وتجل وانه عن آلة لهو أطربت وعن الأمرد مرتج الكفل وافتكر في منتهى حسن الذي أنت تهواه تجد أمراً جلل واهجر الخمرة إن كنت فتى كيف يسعى في جنون من عقل واتق الله فتقوى الله ما جاورت قلب امرئ إلا وصل ليس من يقطع طرقاً بطلاً إنما من يتقي الله البطل صدق الشرع ولا تركن إلى رجل يرصد في الليل زحل حارت الأفكار في قدرة من قد هدانا سبلنا عز وجل أي بني اسمع وصايا جمعت حكماً خصت بها خير الملل اطلب العلم ولا تكسل فما أبعد الخير على أهل الكسل واحتفل للفقه في الدين ولا تشتغل عنه بمال وخول واهجر النوم وحصله فمن يعرف المطلوب يحقر ما بذل لا تقل قد ذهبت أربابه كل من سار على الدرب وصل في ازدياد العلم إرغام العدا وجمال العلم إصلاح العمل جمل المنطق بالنحو فمن يحرم الإعراب بالنطق اختبل مات أهل الفضل لم يبق سوى مكرف أو من على الأصل اتكل أنا لا أختار تقبيل يدٍ قطعها أجمل من تلك القبل إن جزتني عن مديحي صرت في رقها أولا فيكفيني الخجل ملك كسرى تغني عنه كسرةٌ وعن البحر اجتزاء بالوشل أعذب الألفاظ قولي لك خذ وَأَمرُّ اللفظ نطقي بلعل اعتبر نحن قسمنا بينهم تلقه حقاً وبالحق نزل ليس ما يحوي الفتى من عزمه لا ولا ما فات يوماً بالكسل اطرح الدنيا فمن عاداتها تخفض العالي وتعلي من سفل عيشة الراغب في تحصيلها عيشة الجاهد فيها أو أقل كم جهول وهو مسرٍ مكثر وعليم مات منها بالعلل كم شجاع لم ينل فيها المنى وجبان نال غايات الأمل أيُ كف لم تَفد مما تُفد فرماها الله منه بالشلل لا تقل أصلي وفصلي أبداً إنما أصل الفتى ما قد حصل قد يسود المرء من غير أبٍ وبحسن السبك قد ينفى الزغل وكذا الورد من الشوك وما يطلع النرجس إلا من بصل قيمة الإنسان ما يحسنه أكثر الإنسان منه أو أقل اكتم الأمرين فقراً وغنى واكسب الفلس وحاسب من بطل وادَّرع جداً وكداً واجتنب صحبة الحمقى وأرباب الخلل بين تبذير وبخل رتبةٌ وكلا هذين إن دام قتل لا تخض في سب سادات مضوا إنهم ليسوا بأهل للزلل وتغافل عن أمور إنه لم يفز بالحمد إلا من غفل ليس يخلو المرء من ضدٍ وإن حاول العزلة في رأس جبل مِل عن النمام وازجره فما بلغ المكروه إلا من نقل دار جار السَّوء بالصبر وإن لم تجد صبراً فما أحلى النُقل جانب السلطان واحذر بطشه لا تعاند من إذا قال فعل لا تل الحكم وإن هم سألوا رغبة فيك وخالف من عذل إن نصف الناس أعداء لمن ولي الأحكام هذا إن عدل فهو كالمحبوس عن لذاته وكلا كفيه في الحشر تغل إن للنقص والاستثقال في لفظة القاضي لوعظاً ومثل لا تواز لذة الحكم بما ذاقه الشخص إذا الشخص انعزل فالولايات وإن طابت لمن ذاقها فالسم في ذاك العسل نَصَبُ المنصب أوهى جلدي وعنائي من مداراة السِفل قصِّر الآمال في الدنيا تفز فدليل العقل تقصير الأمل غِب وزر غِباً تزد حباً فمن أكثر الترداد أقصاه الملل خذ بحد السيف واترك غمده واعتبر فضل الفتى دون الحُلل لا يضر الفضلَ إقلالٌ كما لا يضر الشمس إطباق الطفل حبك الأوطان عجز ظاهرٌ فاغترب تلقَ عن الأهل بدل فبمكث الماء يبقى آسناً وسُرى البدر به البدر اكتمل لا يغرنك لين من فتى إن للحيات ليناً يعتزل أنا مثل الماء سهل سائغٌ ومتى سخن آذى وقتل أنا كالخيزور صعب كسره وهو لينٌ كيفما شئت انفتل غير أني في زمان من يكن فيه ذا مال هو المولى الأجل واجب عند الورى إكرامه وقليل المال فيهم يستقل كل أهل العصر غمرٌ وأنا منهم فاترك تفاصيل الجمل

نونية أبي الفتح البستي

نونية أبي الفتح البستي ومن المنظومات الرائعة في الأخلاق: القصيدة النونية العظيمة، التي نظمها الشاعر بعنوان: الحِكَم، وهو أبو الفتح البستي رحمه الله تعالى، يقول في مطلعها: زيادة المرء في دنياه نقصان وربحه غير محض الخير خسرانُ وكل وجدان حظ لا ثبات له فإن معناه في التحقيق فقدانُ يا عامراً لخراب الدهر مجتهداً بالله هل لخراب العمر عمرانُ ويا حريصاً على الأموال تجمعها أنسيت أن سرور المال أحزانُ زع الفؤاد عن الدنيا وزينتها فصفوها كدرٌ والوصل هجرانُ وأرع سمعك أمثالاً أفصلها كما يفصل ياقوت ومرجانُ أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فطالما استعبد الإنسان إحسانُ يا خادم الجسم كم تشقى بخدمته أتطلب الربح فيما فيه خسرانُ أقبل على النفس واستكمل فضائلها فأنت بالنفس لا بالجسم إنسانُ وإن أساء مسيٌ فليكن لك في عروض زلته صفحٌ وغفرانُ وكن على الدهر معواناً لذي أمل يرجو نداك فإن الحر معوانُ من يتقِ الله يحمد في عواقبه ويكفه شر من عزوا ومن هانوا من كان للخير مناعاً فليس له على الحقيقة إخوان وأخدانُ من جاد بالمال مالَ الناسُ قاطبةً إليه والمال للإنسان فتانُ من سالم الناس يسلم من غوائلهم وعاش وهو قرير العين جذلانُ من عاشر الناس لاقى منهم نصباً لأن سوسهم بغي وعدوانُ ومن يفتش عن الإخوان يَقْلَهم فجل إخوان هذا العصر خوانُ من يزرع الشر يحصد في عواقبه ندامةً ولحصد الزرع إبانُ من استنام إلى الأشرار نام وفي قميصه منهم صلٌ وثعبانُ كن ريق البشر إن الحر همته صحيفةٌ وعليها البشر عنوانُ ورافق الرفق في كل الأمور فلم يندم رفيق ولم يذممه إنسانُ ولا يغرنك حظ جره خرقٌ فالخرق هدم ورفق المرء بنيانُ أحسن إذا كان إمكان ومقدرةٌ فلن يدوم على الإحسان إمكانُ فالروض يزدان بالأنوار فاغمة والحر بالعدل والإحسان يزدانُ صن حر وجهك لا تهتك غلالته فكل حر لحر الوجه صوانُ فإن لقيت عدواً فالقه أبداً والوجه بالبشر والإشراق غضانُ لا تودع السر وشاءً يبوح به فما رعى غنماً في الدّوِّ سرحانُ لا تحسب الناس طبعاً واحداً فلهم غرائز لست تحصيهن ألوانُ لا تخدشن بمطل الوجه عارفةٍ فالبر يخدشه مطل وليانُ لا تستشر غير ندبٍ حازمٍ يقظ قد استوى فيه إسرارٌ وإعلانُ فللتدابير فرسان إذا ركضوا فيها أبروا كما للحرب فرسانُ وللأمور مواقيت مقدرةٌ وكل أمرٍ له حد وميزانُ فلا تكن عجلاً في الأمر تطلبه فليس يحمد قبل النضج بحرانُ كفى من العيش ما قد سد من عوزٍ ففيه للحر إن حققت غنيانُ وذو القناعة راضٍ من معيشته وصاحب الحرص إن أثرى فغضبانُ إذا جفاك خليلٌ كنت تألفه فاطلب سواه فكل الناس إخوانُ وإن نبت بك أوطان نشأت بها فارحل فكل بلاد الله أوطانُ كل الذنوب فإن الله يغفرها إن شيع المرء إخلاص وإيمانُ وكل كسر فإن الدِّين يجبره وما لكسر قناة الدين جبرانُ خذها سوائر أمثالٍ مهذبةٍ فيها لمن يبتغي التبيان تبيانُ ما ضر حسانها والطبع صائغها إن لم يصغها قريع الشعر حسَّانُ

كلام ابن القيم في تهذيب الأخلاق

كلام ابن القيم في تهذيب الأخلاق وكما قلنا؛ فإن العلماء رحمهم الله اهتموا بقضية جمع محاسن الأخلاق، وكذلك اهتموا بجمع مساوئ الأخلاق للتحذير منها، واهتموا كذلك بالكلام عن حقيقة الخلق وكيف تعالج الأخلاق الرديئة، وكيف يتخلص الإنسان من الأخلاق الرديئة، وهناك كلام نفيس ذكره أهل العلم في هذه المسألة. يقول ابن القيم رحمه الله تعالى في مسألة التخلص من الأخلاق الرديئة: اعلم أن أصعب ما على الطبيعة الإنسانية تغيير الأخلاق التي طبعت النفوس عليها، وأصحاب الرياضات الصعبة والمجاهدات الشاقة إنما عملوا عليها ولم يظفر أكثرهم بتبديلها ثم قال: ونقدم مثلاً: نهر جارٍ في صببه ومنحدره، ومنتهٍ إلى تغريق أرض وعمران ودور، وأصحابه يعلمون أنه لا ينتهي هذا النهر حتى يخرب دورهم ويتلف أراضيهم، فانقسموا ثلاث فرق: فرقةٌ صرفت قواها وقوى أعمالها إلى سَكْره وحبسه وإيقافه، وقالوا: أحسن شيء أن نقفل النهر ونغلقه من أساسه، فلم تصنع هذه الفرقة كبير أمرٍ، فإنه يوشك أن يجتمع ثم يحمل على السكر الذي وضعوه للإغلاق، فيكون إفساده وتخريبه أعظم. والفرقة الثانية: رأت هذه الحالة وعلمت أنه لا يغني عنها شيئاً، فقالت: لا خلاص من محذوره إلا من قطعه من أصل الينبوع، فرامت قطعه من أصله، فتعذر ذلك غاية التعذر، وأبت الطبيعة النهرية عليهم ذلك أشد الإباء، فهم دائماً في قطع الينبوع، وكلما سدوه من موضع نبع من موضع، فاشتغل هؤلاء بشأن هذا النهر عن الزرع والعمارة وغرس الأشجار، فإذاً لا الإغلاق نفع ولا سده من أصله نفع. فجاءت فرقةٌ ثالثة خالفت رأي الفريقين، وعلموا أنهم قد ضاع عليهم كثير من مصالحهم؛ فأخذوا في صرف ذلك النهر عن مجراه المنتهي إلى العمران، فصرفوه إلى موضع ينتفعون بوصوله إليه ولا يتضررون، فصرفوه إلى أرض قابلةٍ للنبات وسقوها به. فإذا تبين هذا المثل؛ فالله سبحانه قد اقتضت حكمته أن ركَّب الإنسان على طبيعةٍ محمولة على قوتين: غضبية وشهوانية، وهاتان القوتان هما الحاملتان لأخلاق الناس وصفاتها. وعلاجها: إما بتر الخلق من أصله وهذا غير ممكن، والحل هو تحويل هذا الخلق السيئ إلى مجرى خير، فلو كان عند الإنسان حسد -مثلاً- فليصرفه في المنافسة على الخير (لا حسد إلا في اثنتين) صاحب القرآن وصاحب المال الذي ينفقه في الخير ويهلكه في الخير، ويحرص على التنافس مع أهل الخير كما قال الله: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26] ولو كان الإنسان فيه خيلاء فليختل على العدو في المعركة؛ لأن هذا النوع من الخيلاء مسموح به، وأيضاً لو أن إنساناً يعاني من الكذب، فإنه يصرفه إلى الكذب على العدو، والكذب للإصلاح بين المتخاصمين، وكذلك ما يكون بين الزوجين، كأن يقول: ما ذقت ألذ من هذا الطبخ! وهو قد ذاق ألذ منه، فإن هذا مسموح به بين الزوجين. فإذاً: الإنسان الذي يريد سد النهر فإن الطبيعة النهرية تأبى ذلك، فأفضل حل هو أن يغير مجرى الخلق من الاتجاه السيئ إلى الاتجاه الحسن، وأن يروض نفسه، ولاشك أن الجبلة قابلة للتغيير، ولا يمكن أن نقول: إن الإنسان لا يمكنه التغيير، بل إنه يمكنه ذلك قطعاً، والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما العلم بالتعلم وإنما الحلم بالتحلم، ومن يتصبر يصبره الله) فمعلوم أن الحلم والصبر من الأخلاق، فلم يقل: إذا لم يكن عندك حلم فلن تكون حليماً أبداً، وإذا لم يكن عندك صبر فلن تصبر أبداً، وإنما قال: (والحلم بالتحلم) أي: إذا تكلفت الحلم حتى تتعود عليه صار ذلك طبيعةً لك وسجية، وكذلك الصبر إذا تصبرت فستصبح صبوراً.

رءوس الأخلاق الحسنة

رءوس الأخلاق الحسنة ولنعلم -أيها الإخوة- أن حسن الخلق يقوم على أربعة أركان، أو رءوس الأخلاق أربعة: الصبر، والعفة، والشجاعة، والعدل. فالصبر يحمل على الاحتمال وكظم الغيظ وكف الأذى، والعفة تجنب الإنسان الرذائل والقبائح، والشجاعة تحمل على عزة النفس وإيثار معالي الأخلاق، والعدل الذي يحمل على الاعتدال والتوسط. هذه الأخلاق الفاضلة الأربعة هي رءوس الأخلاق، كما أن الأخلاق السافلة مبناها على أربعة أخلاق: الجهل، والظلم، والشهوة، والغضب. فالجهل يري الإنسان الحسن قبيحاً، والظلم يحمله على وضع الشيء في غير موضعه، والشهوة تحمله على الحرص والشح والبخل والرذائل والفواحش والدناءات، والغضب يولد الكبر والحقد والحسد والعدوان والسفه، ولذلك لابد من مراقبة هذه الأخلاق الدنيئة؛ حتى يتخلص الإنسان منها ولا يقع فيها؛ لأننا إذا عرفنا الأصل عرفنا كيف نتعامل.

اكتساب الأخلاق الحسنة

اكتساب الأخلاق الحسنة ولنعلم -أيها الإخوة- أن هذه الأخلاق التي سنتحدث عنها -إن شاء الله- بالتفصيل يمكن أن تكتسب، وليست أموراً غير قابله للاكتساب، لكن منها ما هو جبلي ومنها ما هو كسبي، فالجبلي: أن الله جبل عليه من شاء من خلقه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للصحابي: (إن فيك لخلقين يحبهما الله: الحلم والأناة) والنبي صلى الله عليه وسلم كان يسأل الله أن يكسبه الأخلاق الحسنة كما كان يقول في دعاء الاستفتاح: (اللهم اهدني إلى أحسن الأخلاق لا يهدني لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت). وكذلك فإن المجاهدة من الأمور التي تعين الإنسان على اكتساب الأخلاق الحسنة، وكذلك فإننا نتوقع أن التدرج سيكون نافعاً في عملية تغيير الأخلاق؛ لأن من الصعب على الإنسان أن يقفز قفزة واحدة من خلق سيء إلى خلق حسن. وكذلك من الأمور المهمة -وهذه النقطة تعيننا في مسألة ترك المثاليات-: أن بعض الناس يظن أنه يمكنه بسهولة أن يكتسب الخلق، والحقيقة أن القضية تحتاج إلى مجاهدة، والمجاهدة تبنى على المحاسبة، ويحتاج الإنسان إلى إخوان يوجهونه ويبينون له، وإلاّ فكيف سيكتشف عيب نفسه إذا لم يكن حوله من يقول له: فيك خلق سيء ويحتاج إلى تقويم، فأمر حسن أن يكون حول الإنسان من يرشده وينصحه. وكذلك من الأمور المهمة في اكتساب الأخلاق الحسنة: أن يتطلع الإنسان إلى المعالي ويرفع نفسه إليها؛ لأن الله يحب معالي الأخلاق، ويكره سفسافها. كذلك الإبدال: فإن الإنسان إذا استقام فإن البخل يتحول إلى كرم، والدياثة تتحول إلى غيرة، والكبر يتحول إلى تواضع، والوقاحة تتحول إلى حياء، وهذا مجرب عند بعض الذين يهديهم الله سبحانه وتعالى، فتتغير أخلاقهم فعلاً، فالهداية منبع التغير في الأخلاق. ثم إن قراءة سير الصالحين من الأنبياء والعلماء الذين هم القدوة الحسنة خير معين على اكتساب الأخلاق الحسنة، فهذا الإمام أبو إسحاق الشيرازي -رحمه الله- يقول عنه الذهبي: الشيخ الإمام القدوة المجتهد، شيخ الإسلام أبو إسحاق الشيرازي، قال السمعاني: هو إمام الشافعية ومدرس النظامية وشيخ العصر، جاءته الدنيا صاغرة فأباها، واقتصر على خشونة العيش أيام حياته، كان زاهداً ورعاً متواضعاً طريفاً كريماً جواداً، طلق الوجه، دائم البشر، مليح المحاورة، وهذا الذي أكسبه محبة الناس وإقبال الطلاب عليه، ومن أمثلة ما حدث له مع بعضهم: قال خطيب الموصل: حدثني أبي قال: توجهت من الموصل سنة أربعمائة وتسعة وخمسين إلى أبي إسحاق، فلما حضرت عنده رحب بي وقال: من أين أنت؟ فقلت: من الموصل. قال: مرحباً! أنت بلديي -أي: أنه هو وإياه من بلد واحد- قلت: يا سيدنا! أنت من فيروز آباد فكيف تقول لي: أنت بلديي؟! فقال: أما جمعتنا سفينة نوح؟! فشاهدت من حسن أخلاقه ولطافته وزهده ما حبب إلي لزومه، فصحبته إلى أن مات. إذاً: مصاحبة أصحاب الأخلاق الحسنة يحمل الإنسان فعلاً على أن يتخلق بهذه الأخلاق الحسنة. وقراءة كتب الترغيب والترهيب لبعض الأحاديث والآيات والنصوص ترغب في أخلاق حسنة، وبعضها ترهب من أخلاق سيئة، مثلاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من كظم غيظاً ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رضىً يوم القيامة) فمثل هذه النصوص تأمُّلها مهم جداً في اكتساب الأخلاق الحسنة، ولاشك أن مشوار التربية الذي يقطعه الإنسان في عمره في النتيجة النهائية هو الذي يصوغ أخلاقهم، والذي يجعلها تتحول إلى الأخلاق الحسنة. كانت هذه مقدمة عن الأخلاق، وتعريف الأخلاق وأهميتها. والحمد لله رب العالمين.

وتلك الأيام نداولها بين الناس [1]

وتلك الأيام نداولها بين الناس [1] معرفة صفات الله من الأمور التي تصحح تصورات المسلمين، ومن ثمَّ أعمالهم، فالله مسيطر على الكون، وتداول الدول من سننه التي لا تتبدل. وفي هذه المادة بيان لتداول الدول، وتدليل على ذلك، وبيان للفتوحات العظيمة في آخر خلافة إسلامية (الدولة العثمانية) مع ذكر بعض أضرار الهزيمة النفسية التي يعيشها المسلمون اليوم.

أهمية معرفة صفات الله

أهمية معرفة صفات الله إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أيها الإخوة! سبق وأن ذكرنا في مرةٍ ماضية ما لتوحيد الأسماء والصفات من أهمية بالغة في حياة المسلم الذي يريد أن يسير إلى ربه عز وجل، سيراً حثيثاً مطرداً على ضوء من الكتاب والسنة، توحيد الأسماء والصفات أيها الإخوة أحد أنواع التوحيد الثلاثة التي ذكرها علماء الإسلام، وقسموها ليتضح المعنى ويتضح المقصود من أسماء الله عز وجل وصفاته التي طالما جهلها المسلمون في كثير من الأزمان. واعلموا يا إخواني بأن معرفة صفات الله عز وجل من الأمور التي تصحح تصورات المسلمين ومن ثم أعمالهم، فمثلاً إذا نظرنا اليوم في حال المسلمين والهزائم المتكررة التي يعيشونها، والتقهقر الذي وصلوا إليه، واستعداء الشرق والغرب عليهم من كل جانب وتسلط الكفار على رقاب المسلمين حتى لم يعد لهم حول ولا قوة ولا طول، ولا تحكم في الأمور، ولا قيادة يسيرون خلفها كما كانت الخلافة الإسلامية في العصور الماضية، وهذا الظلام الحالك الذي يلف بلاد المسلمين يسبب نوعاً من اليأس والقنوط، ولا تلبث حركة تقوم في بلاد المسلمين إلا وتنطفئ، ولا جهد إلا وينتهي بالفشل، وفي وسط هذه الهزيمة النفسية قبل الهزيمة العسكرية التي يعيشها المسلمون تظهر الحاجة ملحةً لفهم صفات الله عز وجل وأسمائه، لأن فهم هذه الصفات أيها الإخوة يزيل هذه الظلمة الحالكة ويبرر ما وصل إليه المسلمون، ومعرفة أقدار الله الكونية والشرعية، ومعرفة سنن الله عز وجل التي يسير بها الكون والتي لا تتخلف، أيضاً من الأمور المساعدة على فهم حال المسلمين. أيها الإخوة: هذا الفشل وهذه الهزيمة التي يعيشها المسلمون في أصقاع الأرض، لابد من التدبر في سببها، ولابد من تفكير في صنع الله عز وجل الذي قدر هذه الأمور، وكانت بإرادته سبحانه وتعالى، معرفة الأسماء والصفات من الأمور التي تساعد على تكوين الموازين الصحيحة، التي بواسطتها يستطيع المسلم أن يوجد له مواقف ثابتة من الأحداث الجارية في هذا العالم، فمثلاً من صفات الله عز وجل: أنه يدبر الأمر، فيقول الله تعالى في محكم تنزيله: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة:5] فهو سبحانه وتعالى يدبر الأمور ويصرفها كما يشاء بقدر منه عز وجل لحكم يعلمها سبحانه وتعالى، تسير أمور العالم كله وفق إرادته عز وجل لا تحيد يمنة ولا يسرة عما قدره الله سبحانه وتعالى وكتبه في اللوح المحفوظ، فإذاً ليس في هذا العالم وما يحدث فيه من خير أو شر، من نصر للمسلمين أو هزيمة، من رفعة لهم أو ضعةٍ عليهم، إلا وهي حادثة بتقدير الله سبحانه وتعالى.

من هو المسيطر الحقيقي على كل الأمور؟

من هو المسيطر الحقيقي على كل الأمور؟ ومن صفات الله عز وجل: أنه كل يوم في شأن من الشئون، قال سبحانه وتعالى: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29] كل يوم هو في شأن، وكما قال المفسرون رحمهم الله: من شأنه أن يغفر ذنباً ويفرج كرباً، ويرفع قوماً ويضع آخرين سبحانه وتعالى {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29] يرفع أقواماً ويضع آخرين. إذاً -أيها الإخوة- من هو مالك الملك الحقيقي؟ من هو الذي يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء؟ من الذي يعز من يشاء ويذل من يشاء؟ إنه الله سبحانه وتعالى. معرفة هذه الصفات لله عز وجل من الأمور المهمة التي تجعل المسلم يعرف من هو المسيطر الحقيقي على أزِّمة الأمور ومجريات الأوضاع في العالم، إن هذه الحقيقة أيها الإخوة قد غابت عن أذهان المسلمين، أو عن أذهان كثير منهم إلا من رحم الله تعالى، فكثير من المسلمين اليوم يشعرون من خلال قراءتهم وسماعهم لإخبار العالم وما يدور فيه أن المسيطر على مجريات أمور العالم وعلى حروبه، والمسير للأحداث الجارية أناس من الشرق أو الغرب، يشعر المسلم وهو يسمع أخبار القوى في العالم، ومَن الذين عندهم الصواريخ والطائرات والقنابل بأنواعها، يشعر بأنهم هم المسيطرون على الأمور، وهم الذين يسيرون دفة العالم، يغيب عن باله في هذا الخضم الهائج من التصارعات الدولية على شئون العالم أن هناك غير البشر من يسير الأمور، ولكن الحقيقة أيها الإخوة أن الآيات تثبت لنا بشكل لا يدع مجالاً للشك مطلقاً أن الله سبحانه وتعالى وحده هو الذي يعز من يشاء ويذل من يشاء، يصرف الأمور كيف يشاء سبحانه وتعالى، فقد يرفع الله أقواماً من الكفار ويكتب الهزيمة على المسلمين، هذا شيء من تقدير الله عز وجل.

تبدل الأحوال من سنن الله

تبدل الأحوال من سنن الله وقد جرت أقدار الله في عالم المسلمين أن تكون لهم الكرة مرة وعليهم مرة، يقول الله في شأن الآيات النازلة في غزوة أحد {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران:139 - 140] إذاً: من الذي يجعل النصر اليوم والغلبة في هذا اليوم لقوم من الأقوام؟ ومن الذي يجعل النصر والغلبة لقوم آخرين في يوم تالٍ أو أسبوع تالٍ أو شهر تالٍ أو سنة قادمة؟ إنه الله سبحانه وتعالى. يا إخواني! يجب أن لا تغيب عن أذهاننا هذه الحقيقة في أي حال من الأحوال، وإذا أردت أن تعرف وتتصور أكثر، فتأمل وتذكر خارطة العالم ودويلات العالم في العصور السابقة، هل بقيت الخارطة لم تتغير؟ هل بقيت الدول كما هي منذ أن خلق الله العالم إلى الآن ما تغيرت؟ هل بقيت الغلبة لقوم معينين تناسلوها جيلا عن جيل يغلبون غيرهم حتى الآن؟! كلا -أيها الإخوة- إن أحوال العالم تتغير يوماً بعد يوم وشهراً بعد شهر، وسنةً بعد سنة، وعقداً بعد عقد، وقرناً بعد قرن من الزمان، والله سبحانه وتعالى بحكمته عز وجل وعلمه وقدرته وإرادته هو الذي يغير هذه الأمور {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] نزلت هذه الآية في معركة أحد، وكان المسلمون قد انتصروا قبلها في غزوة بدر انتصاراً مبيناً، فرقاناً بين الحق والباطل، وبعد ذلك في معركة أحد انهزم المسلمون وقتل منهم سبعون من خيارهم، وحصلت هزيمة عظيمة، وشج رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلت منه الدماء، ودفع المسلمون ثمن الهزيمة باهظاً من الأرواح والمعنويات التي فقدوها في تلك الغزوة، وأطلع النفاق رأسه واشتد النفاق بعد معركة أحد بالذات ما لم يشتد قبل ذلك، ومن هم أولئك المسلمون؟ إنهم الصفوة المختارة التي قادها أعظم نبي ظهر في البشرية على الإطلاق وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، السبب طبعاً {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [آل عمران:152] الفشل، والتنازع، والمعصية، وحب الدنيا، أربعة أسباب رئيسية ذكرتها الآية، أسباب لهزيمة المسلمين في معركة أحد، قبل فترة كانوا منتصرين، وبعد فترة أصبحوا منهزمين، وبعدها انتصروا في الأحزاب، وبعدها جاءت حنين، فانهزموا في البداية وانتصروا بعدها، ثم توالت انتصارات المسلمين تفتح بلاد العالم شرقاً وغرباً.

معاناة المسلمين من الغزو التتري

معاناة المسلمين من الغزو التتري ثم حصلت نكسات أخرى، فمن هذه النكسات التي حصلت مثلاً: ما حصل للمسلمين عندما غزا التتر الكفرة بلاد العالم، فاجتاحوها من الشرق إلى الغرب، قال ابن الأثير رحمه الله وهو يروي حوادث التتر: هذا فصل يتضمن ذكر الحادثة العظمى والمصيبة الكبرى التي عمت الخلائق وخصت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالم منذ خلق الله آدم وإلى الآن لم يبتل بمثلها لكان صادقاً، ولعل الخلائق من هول الأشياء التي عرفها هذا المؤرخ المسلم ابن الأثير رحمه الله, يقول معبراً: ولعل الخلائق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم وتفنى الأجيال إلا يأجوج ومأجوج، ما هي هذه الحادثة؟ ما هي أطراف ما حصل؟ يقول ابن كثير رحمه الله في حوادث سنة (656هـ) يقول عن التتر: قتلوا الرجال والنساء والأطفال، وشقوا بطون الحوامل وقتلوا الأجنة داخل بطون أمهاتها، وفي بغداد لما اجتاحها التتر وكانت حاضرة العالم الإسلامي ومقر الخلافة الإسلامية، كان الجماعة من الناس يجتمعون إلى الخانات ويغلقون عليهم الأبواب، فيفتحها التتر بالنار ثم يدخلون عليهم، فيهرب المسلمون إلى أعالي الأمكنة فيقتلونهم بالأسطح حتى تجري الميازيب من الدماء في الأزقة، ميازيب البيوت التي تكون في أعالي البيوت، والتي إذا نزل المطر تدفق منها الماء إلى الأسفل، فبدلاً من ماء المطر جرت دماء المسلمين، ووضع السيف في بغداد أربعين يوماً، فتراوحت التقديرات في قتلى المسلمين خلال هذه الأربعين بين مليون نفس من المسلمين إلى مليونين في تلك الأربعين يوماً فقط، والقتل كان في الطرقات، والقتلى كأنهم التلال؛ تلال من القتلى، وأنتنت الجيف وتغير الهواء، فحصل بسبب ذلك وباءٌ شديد حتى تعدى وسرى في الهواء إلى بلاد الشام، فمات خلق كثير، فاجتمع على الناس الغلاء والوباء والفناء والطعن والطاعون، ولما رحل التتر عن بغداد، خرج من كان تحت الأرض -تحت الأرض من الناس المختبئين- الذين اختفوا داخل الأقبية وحتى وفي المقابر خرجوا كأنهم الموتى إذا نبشوا من قبورهم، وقد أنكر بعضهم بعضاً، فلا يعرف الوالد ولده ولا الأخ أخاه. وساق ابن كثير في حوادث سنة (717 هـ) قال: لحق ستون فارساً من التتر قافلةً فيها أكثر من ألف من المسلمين، فمالوا عليهم فقتلوهم عن آخرهم، فقتل من تجار المسلمين في تلك القافلة ستمائة، ومن عامتهم ثلاثمائة، ولم يبق منهم سوى الصبيان وعددهم سبعون صبياً، فقال هؤلاء التتر: من يقتل هؤلاء؟ فقال واحد منهم: أنا بشرط أن تعطوني مالاً زائداً من الغنيمة، فقتلهم كلهم عن آخرهم سبعين صبياً وطفلاً، وردمت بهم خمس من الصهاريج الضخمة حتى امتلأت رحمهم الله، ولم يسلم من الجميع إلا رجل واحد عاش ليروي هول المذبحة.

انتصار الروم السريع بعد هزيمتهم الفادحة

انتصار الروم السريع بعد هزيمتهم الفادحة أيها الإخوة: رفع الدول وخفض الدول ونصر الناس وهزيمة الناس بيد الله عز وجل فقط، لا يملكها أحد من الشرق أو الغرب ((وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ)) [آل عمران:140] وأحياناً تكون الفترة بين نصر دولة وهزيمتها صغيرة جداً لدرجة أنه قد يعيشها فرد واحد، وإليكم مثالاً على ذلك: يقول الله سبحانه وتعالى في محكم تنزيله في مطلع سورة الروم: (الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:1 - 6] ذكر المفسرون رحمهم الله في شأن هذه الآية أن المسلمين لما كانوا مستضعفين في مكة قبل الهجرة كان الفرس قد تغلبوا على الروم وقتلوا منهم خلقاً عظيماً، وقد استبشر الكفار في مكة من عبدة الأصنام بهزيمة الروم الذين كانوا أصحاب كتاب (كانوا نصارى) استبشروا بغلبة فارس عليهم، لأن الفرس كانوا عباد أوثان، وكان المسلمون يتمنون أن ينتصر الروم، لا لأنهم على حق، ولكن لأنهم أقرب إلى المسلمين من المجوس الوثنين، فقال الله سبحانه وتعالى: {غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم:2 - 3] وهم من بعد هزيمتهم سيغلبون في بضع سنين لا تتجاوز التسع كما هو معروف من تعريف البِضع في لغة العرب، تسع سنين تقوم الدولة مرة أخرى وقد انهزمت هزيمة كبيرة جداً إلى أقصاها، فتتغلب على من هزمها في تسع سنين، فتحدى المسلمون والكفار بعضهم بعضاً، وحدث أن تطاول الكفار على المسلمين في شأن هذه الآية، فقالوا للمسلمين: إن قرآنكم كذب وكيف يصدق إنسان أن الفرس الذين غلبوا هذه الغلبة العظيمة في بضع سنين سيغلبون، ولم تمض بضع سنين حتى غلبت الروم الفرس غلبة منكرة، وهزموهم هزيمةً عظيمة، بعد تسع سنوات وصدق الله العظيم في هذه الآية. وقد روى ابن أبي حاتم عن العلاء بن الزبير عن أبيه قال: رأيت غلبة فارس الروم، ثم رأيت غلبة الروم فارس، ثم رأيت غلبة المسلمين فارس والروم في خمسة عشر عاماً، لأنه لما غلبت الروم فارس من الذي تغلب عليهم كلهم؟ المسلمون الذين فتحوا بلاد فارس والروم، انظروا -أيها الإخوة- تمعنوا في أحداث التاريخ كيف تنتصر دولة ثم تنهزم من الدولة التي هزمتها ثم يأتي أقوام آخرون ويهزمون الدولتين بقدر الله سبحانه وتعالى، كيف تتغير خريطة العالم في زمن وجيز جداً؟ من الذي يصرف الأمور؟! {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ} [آل عمران:26] اليوم تؤتيه الناس الفلانيين {وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ} [آل عمران:26] وتنزع من أناس آخرين {وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ} [آل عمران:26] فيغلبون {وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ} [آل عمران:26] فينهزمون {بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:26] {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] وتلك الأيام نداولها يوماً لهؤلاء ويوما لهؤلاء على قدرٍ من الله عز وجل، وهذه الهزائم والانتصارات سواءً كانت في المسلمين أو في الكفار يقول الله تعالى في شأنها: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم:4] من قبل الهزيمة والانتصار ومن بعد الهزيمة والانتصار الأمر لله عز وجل. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يبصرنا وإياكم في دينه، وأن يرزقنا وإياكم التدبر في كتابه ومعرفة أحكامه وسننه، وأن يرسخنا على الإيمان وطريقه وصلى الله على نبينا محمد.

ارتباط صفات الله بواقع الناس اليوم

ارتباط صفات الله بواقع الناس اليوم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب الأولين والآخرين، يعز من يشاء ويذل من يشاء بيده الخير وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيرا، أدى الأمانة وبلغ الرسالة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده. أيها الإخوة: هذه القضية التي تكلمنا عنها الآن نعود فنربط بين صفات الله عز وجل أنه يدبر الأمر، وأنه يداول الأيام بين الناس، وأنه يؤتي الملك من يشاء، وينزعه ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، وأن له الأمر من قبل ومن بعد، هذه الحقائق القرآنية لها التصاق وثيق بأحوال المسلمين اليوم، والسبب الذي من أجله نتحدث عن هذه القضايا: أن هذه الهزائم التي يعيشها المسلمون اليوم تسبب إحباطاً في نفوسهم ويأساً من نصر الله تعالى، فيقول المسلمون اليوم: كيف يمكن أن ننتصر؟ كيف يمكن أن ننتصر وحالنا من التشتت والانقسام ما هو معروف وواضح؟! كيف يمكن أن ننتصر والشرق والغرب من الشيوعيين والرأسماليين ومن بينهما من الطبقات الكافرة يملكون من القوى والأسلحة والعتاد العسكري والعدة ما يفوق المسلمين بأضعاف كثيرة؟ بل لا يمكن أن يقارن على المستوى المادي العسكري بين قوة المسلمين وبين قوة الكفار. كيف يمكن أن ننتصر وكل يوم تتجدد المذابح، وتتجدد الهزائم المتوالية، وتحتل أراضٍ جديدة من أراضي المسلمين، والنكسات في داخل بلاد المسلمين وخارجها حاصلة، ودائرة التخطيط على المسلمين قائمة على قدم وساق؟

أضرار الهزيمة النفسية التي يعيشها المسلمون اليوم

أضرار الهزيمة النفسية التي يعيشها المسلمون اليوم إذاً: هذه الهزيمة النفسية التي يعيشها المسلمون اليوم تسبب أنواعاً كثيرةً من الأضرار منها: أولاً: أنها تفقد المسلم القدرة على إيجاد التصورات الصحيحة التي يستطيع أن يسير بها في حياته. ثانياً: أنها تفقد المسلم القدرة على التفكير السليم، لأن من يعيش في أجواء الهزيمة -هذه نقطة مهمة أيها الإخوة- الذي يعيش في أجواء الهزيمة يفقد القدرة على الابتكار، وعلى العطاء، وعلى الإنتاج، وهذا من أسباب تخلف المسلمين اليوم، واستيرادهم لأتفه المنتجات من بلاد الكفرة، القدرة على الإنتاج بجميع أنواعه حتى في المجالات الشرعية، لذلك قل علماء المسلمين، وقل الإنتاج الحقيقي الذي له ثقل في مجال العلوم الشرعية كثيراً، وقل الدعاة والمصلحون، وانحصر الإسلام في نفوس الناس، وتشوهت الفكرة الإسلامية والعقيدة الإسلامية في نفوس كثير من المسلمين، فلم يعرفوا من القرآن إلا رسمه وكيفية كتابته، هذا إن قرءوه قراءة صحيحة، وجهلوا معانيه وما انطوى عليه من الحكم والأحكام.

حال المسلمين أثناء الخلافة العثمانية

حال المسلمين أثناء الخلافة العثمانية إذاً: هذه الهزيمة النفسية تسبب هذه الأضرار، كيف نعالج هذه الهزيمة النفسية؟ كيف نقنع الناس اليوم بأن الشرق أو الغرب لا يملك شيئاً؟ كيف نقنعهم بأن الله لو أراد شيئاً هيأ أسبابه؟ وأن الله لو أراد شيئاً فلا بد أن يكون؟ لو أراد الله أن ينتصر المسلمون غداً على الكفرة في الشرق والغرب ويعم الإسلام الأرض، لكان ذلك لأن الله أراده، إذاً -أيها الإخوة- نحن نفقد معاني أسماء الله وصفاته التي تهيئ لنا الأجواء النفسية المطمئنة التي نستطيع من خلالها أن نتحرك وأن ننتج، هذه الهزائم التي يعيشها المسلمون اليوم، هل فكرت يا أخي كيف كان المسلمون إلى عهدٍ قريب قبل بضع مئات من السنين فقط؟ إليك هذه التواريخ والأحداث التي جرت فيها: في عهد آخر خلافة قامت للمسلمين الخلافة العثمانية في عام (1683م) -يعني قبل أقل من أربعمائة سنة- فتحت جيوش المسلمين بولندا والنمسا، التي هي الآن من معاقل الكفرة ودول الكفر، قبل أربعمائة سنة تقريباً كانت جيوش الخلافة العثمانية قد دخلت داخل بولندا والنمسا وأصبحت على أسوار فيينّا عاصمة النمسا ورفع الأذان هناك. وكان الاتحاد السوفيتي -بلاد الروس الآن- كلها تحت سيطرة الدولة العثمانية والخلافة الإسلامية، بلاد القوقاز وما وراءها وبلاد تركستان التي هي من دولة روسيا الآن كلها كانت تبعاً للخلافة العثمانية وكانت بلاد المسلمين. إلى عام (1644م) كان المغول المسلمون يحكمون الصين، انتهى حكم المسلمين للصين عام (1644م) قبل بضع من السنين فقط، ربما بعض المسلمين الآن لا يعرف أصلاً أن المسلمين قد حكموا الصين في يوم من الأيام، ولا يتصور أن الصين التي تدين اليوم بالشيوعية والإلحاد آلاف الملايين من الناس الذين فيها أو مئات الملايين كانوا يوماً من الأيام يحكمون من المسلمين. عام (1526م) فتح المسلمون العثمانيون المجر وهنغاريا. وفي عام (1537م) فتح المسلمون أجزاء من إيطاليا ودخلوا مدينة أترانتو الإيطالية، كانت الخلافة الإسلامية العثمانية موجودة هناك. ووصلت جيوش المسلمين في عهد الخلافة العثمانية في عام (1543م) إلى فرنسا واحتلوا مدينة نيس وطولون في فرنسا ودخلوها وأقاموا فيها مسجداً ورفع شعار لا إله إلا الله في قلب فرنسا. وأسبانيا التي بقيت قروناً من الزمان في أيدي المسلمين، وهذه شبه القارة الهندية استكمل المسلمون السيطرة عليها؛ بلاد عباد البقر والهندوس الآن كانت في يوم من الأيام في عام (1586م) تحكم بالإسلام.

هل هناك نصر بعد هذه الهزيمة المعاصرة؟

هل هناك نصر بعد هذه الهزيمة المعاصرة؟ إذاً: أيها الإخوة! هذه الأحداث وهذه الأشياء التي حدثت في الماضي تنبئ عن أنه بمقدور الإسلام أن ينتشر، وبمقدور المسلمين بإذن الله عز وجل أن يستولوا على ما شاءوا بإذن الله سبحانه وتعالى إذا توافرت عندهم شروط النصر، لقد حدث للمسلمين نصر وهزيمة، ونصر وهزيمة، ونصر وهزيمة، كما مر معنا قبل قليل بدر نصر وأحد هزيمة، ثم نصر متوالٍ، ثم جاء التتار فانهزم المسلمون هزيمة شديدة، ثم ظهر صلاح الدين الأيوبي وحرر أراضي المسلمين من النصارى، ثم حصلت هزائم أخرى متوالية، ثم ظهرت الخلافة العثمانية، ثم نحن نعيش الآن في عصر الهزيمة. إذاً: يمكن أن يحدث بعد هذه الهزيمة نصر بإذن الله عز وجل، ولله الأمر من قبل ومن بعد، أعداء الإسلام يخططون ويدبرون ولا شك في هذا، وعندهم جيوش جرارة لاشك في هذا، وكل يوم تحصل هزائم وانتصارات، لكن من الذي يدبر حقيقة؟ من الذي وراء الأحداث كلها؟ من الذي فوق كل شيء ذاتاً وصفات، وله علو الذات والصفات والقهر والغلبة؟ إنه الله عز وجل، كل الأشياء التي تحدث الآن في العالم {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم:4] كلمات تحتوي كل شيء يدور، كل الأشياء التي تدور (لِلَّهِ الْأَمْرُ) -أيها الإخوة- احفظوا هذه الكلمات {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم:4] من قبل حدوث الأحداث ومن بعد حدوث الأحداث، الأمور بيد الله عز وجل، الله عز وجل يؤتي من يشاء ويمنع من يشاء، هذا مفهوم مهم جداً أن يكون مرتكزاً في نفوسنا، وإلا فليس هناك أمل أن تتحسن الأحوال مطلقاً. اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم وارزقنا معرفتك ومعرفة أسمائك وصفاتك وعبادتك بها يا رب العالمين! اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول ويتبعون أحسنه، اللهم واجعلنا من الذاكرين لك كثيراً، ومن الشاكرين لك نعمك وإحسانك يا رب العالمين! اللهم واجعلنا من جندك وأوليائك وأتباع نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم وارزقنا النصر في العقيدة، اللهم وارزقنا النصر في القوة على أعدائك يا رب العلمين! اللهم أقم علم الجهاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، والبدعة والعناد، اللهم وانشر دين المسلمين في أصقاع الأرض يا رب العالمين! اللهم وهيئ لهذه الأمة أمر رشد تُعز فيه أهل طاعتك، وتُذل فيه أهل معصيتك، اللهم واجعل يوم النصر قريباً يا رب العالمين! وصلوا على نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم الذي أمركم ربكم بالصلاة عليه، وأجزل العطاء: عشر صلوات لمن صلى عليه مرةً واحدة، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد. يا إخواني! إن المسلم وإن كان يعيش الآن في هزيمة، فإنه كما يقول صاحب الظلال رحمة الله تعالى عليه: فإنه ينظر إلى غالبه من علٍ، وإن كنا مغلوبين فإنا ننظر إلى أعدائنا من فوقهم، كيف؟ الله عز وجل في الآية التي قرأناها في انهزام المسلمين في أحد قال قبلها مباشرةً: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا} [آل عمران:139] نحن مغلوبون؟! نعم. نحن قد أُهِنَّا؟! نعم. قد علا الكفار علينا؟! نعم. يقول الله تعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139] لا تهنوا: لا تشعر بالمهانة ولا بالذلة يا أخي المسلم، بل اشعر بالعلو على الكفرة، انظر إلى من غلبك من الأعلى، لماذا؟! لأنك تستعلي عليهم بعقيدتك، العقيدة أغلى شيء تستعلي على الكفرة بالعقيدة، حتى يأتي يومٌ ينصر الله فيه الإسلام، فنحن والحمد لله عندنا هذه العقيدة الصافية النقية التي هي مصدر العز والاستعلاء في الأرض، التي إذا عملنا لها كما أراد الله، فلابد أن ننتصر: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج:40]. إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

وتلك الأيام نداولها بين الناس [2]

وتلك الأيام نداولها بين الناس [2] المستقبل للإسلام بلا شك، رغم محاولات أعدائه لإطفاء نوره، وفي ذلك نصوص من القرآن والسنة تستمد منها هذه الخطبة معظم مادتها، بالإضافة إلى الحديث في نزول المسيح عليه السلام، مع توضيح للخلافة الراشدة في آخر الزمان. ومن الحقائق التي لا خلاف فيها أن هذه المبشرات بالفجر الإسلامي القريب لا تعني مطلقاً ترك العمل الإسلامي.

الوعد الإلهي بنصر الإسلام

الوعد الإلهي بنصر الإسلام إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. إخواني: تكلمنا في الخطبة الماضية عن مفهوم من المفاهيم الإسلامية المهمة التي يجب أن تترسخ في ذهن كل إنسان مسلم يعيش في هذا العصر الذي عمت فيه الفتن واختلط فيه الأمر، وأصبح المسلمون في ذلة وقلة وهوان مستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها، وذلك المفهوم الذي تكلمنا فيه هو قول الله عز وجل: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] وأن لله الأمر من قبل ومن بعد، وأن الله تعالى يأذن بنصر هذا الدين فينتصر، ثم يأذن بغلبة الكفار فيغلبون، وهكذا يداول الله الأيام بين الناس، وهذه النقط مهمة أيها الإخوة حتى لا يستشري اليأس في نفوس المخلصين، وحتى يحس المسلم بنور الله عز وجل والأمل في الله تعالى، وحتى لا ييأس من روح الله، ونحن نختم هذا الموضوع في هذه الخطبة بعرضه من جهة أخرى حتى تكتمل الصورة شيئاً ما، وحتى يكتمل الإحساس من المسلمين بأن نصر الله قادم وأن المستقبل للإسلام. أيها الإخوة: إن المستقبل للإسلام شيءٌ لاشك فيه بنصوص القرآن وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنها نصوصٌ وأحاديثٌ عظيمة ينبغي للمسلم أن يقف أمام عظمتها متأملاً متفحصاً مدققاً، مشرباً في قلبه تلك المعاني القرآنية والنبوية التي تتدفق من خلالها الآمال والتطلعات نحو مستقبل إسلامي مشرق بإذن الله. أيها الإخوة: إن لله تعالى ديناً لابد أن ينصره، وإن الله عز وجل ما أرسل رسوله ولا أنزل هذا الدين إلا ليعلو في الأرض، فقال سبحانه وتعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} [التوبة:33] لماذا أرسل رسوله بالهدى ودين الحق {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة:33] ليظهر دين الإسلام على سائر الملل والنحل والأديان، وحتى يستعلي الإسلام على سائر الفرق الضالة والمذاهب الهدامة التي وضعها البشر {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة:33] وهذه الكلمة (الدين): اسم جنس يشمل سائر الأديان التي حرفها البشر ووضعوها من عند أنفسهم {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33].

محاولات أعداء الله لإطفاء نوره

محاولات أعداء الله لإطفاء نوره إن المشركين أيها الإخوة في كل وقت وفي كل عصر ومصر يعملون ليلاً ونهاراً، لكي يقوضوا صرح الإسلام، ولكي يضعوا من عظمة هذا الدين، ولكي يدحروا المسلمين ويردوهم على أعقابهم، يعملون بالليل والنهار، إنهم ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله {يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال:36] ثم تكون هذه الأموال التي ينفقونها من أجل صد المسلمين عن الإسلام وبذر بذور النفاق في أراضي المسلمين، ستكون عليهم حسرةً ثم يغلبون، هكذا قال الله تعالى في القرآن. إنهم أيها الإخوة ليلاً ونهاراً يفكرون بأشد ما أوتوا من قوة وتفكير، وينفقون ما استطاعوا من الأموال، ليصدوا الناس عن دين الله، إنهم يفعلون هذا وينشئون مساجد الضرار في العالم الإسلامي، التي تلفت أنظار المسلمين عن مساجد الله الحقيقية التي أذن الله عز وجل أن ترفع ويذكر فيها اسمه، حتى تتطلع تلك الأنظار من قبل أولئك الضعفة من المسلمين إلى تلك المنشئات التي تصرف الناس عن دين الله، وتوهمهم بأن هذا هو الدين وليس لها علاقة بالدين مطلقا، مجرد مسميات خالية من المضامين الحقيقية، مجرد أسماء خالية مما تعنيه حقيقةً. أيها الإخوة! إن هؤلاء هم الذين قال الله فيهم: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} [التوبة:32] وقال الله في آية الصف: {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:8] عجباً لهذه الآية التي تصور حمق أولئك الناس وغفلتهم الذين يريدون أن يطفئوا نور الله الذي أنزله من السماء، بتلك الأفواه البشرية العفنة التي لا تملك مطلقاً أن تحجب الحقيقة عن ناظري كل مسلم متجرد؛ يسير في طريق الإسلام على هدىً من ربه {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} [الصف:8] ويعملون من أجل ذلك ليلاً ونهاراً، وتنجح مخططاتهم في أوقات كثيرة وأماكن كثيرة، حتى يظن المسلم الذي دخله اليأس أنه لا يمكن أن تقوم للإسلام قائمة مطلقاً، وأن نور الله قد حجب، وأن المسلمين لم تعد لهم شوكة ولا منعة، وأنه ليس هناك أحد ينصر هذا الدين. ولكن -أيها الإخوة- إذا تفحصنا وتأملنا في النصوص نجد بأن الله لابد أن يظهر نوره، ليس الظهور الذي حصل في فترة الخلفاء الراشدين، وإنما ظهورٌ سيكون بعد هذا الوقت الذي نحن فيه الآن، كما سيأتيكم من خلال تلك النصوص التي نطق بها الذي لا ينطق عن الهوى.

مدلولات بداءة الإسلام غريبا

مدلولات بداءة الإسلام غريباً أيها الإخوة: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء) إن الإسلام بدأ غريباً، الذي يريد أن يعرف كيف يمكن أن يظهر الإسلام على الأرض كلها وليس هناك إلا حفنة قليلة من المسلمين هي الملتزمة بشرع الله فقط، الذين يقولون: إن المسلمين اليوم ألف مليون، يكذبون على أنفسهم وعلى الناس كلهم، إننا نعرف أيها الإخوة أن كثيراً من المسلمين هم في الحقيقة مشركون من عبدة القبور، أو مرتدون عن الإسلام لا يؤدون الصلاة بالكلية مثلاً، أو يسخرون بدين الله ويشتمون ويستهزئون، فهم كفرة بالله العظيم، أو يتبعون مذاهب فكريه كافرة ضالة كـ الشيوعية والبعثية ونحوها تخرج الإنسان عن ملة الإسلام، ملايين تتبع قادة الضلال وتجري وراءهم، هؤلاء لا يمكن أن يكونوا مسلمين. إذاً: أيها الإخوة، المسلمون الحقيقيون هم قلة، لا يمكن أن يبلغوا هذا العدد الذي يدخل فيه من يعدهم به كثيراً من الطوائف الضالة وأصحاب البدع الكافرة التي لا تمت إلى الإسلام بصلة، الذي يريد أن يتصور كيف يمكن لحفنة قليلة من البشر أن تنشئ المد الإسلامي من جديد، وأن تعلي كلمة الله عز وجل كما كانت قبل ذلك، بل وأكثر منه الأرض، يتصور تلك الحقيقة العظيمة التي كانت في يوم من الأيام: (بدأ الإسلام غريبا). يا إخواني: عندما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كم كان عدد المسلمين في الأرض؟ كم عدد الذين يحملون الفكرة الإسلامية الصحيحة ويطبقونها في واقعهم ويجاهدون في سبيلها؟ إنه رجل واحد فقط، رجل واحد فقط في تلك الأرض المظلمة بظلمات الجاهلية التي تغط في الشرك وأوحال الجاهلية، إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يوجد غيره على الدين الصحيح. بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واحد، فكيف أصبح الأمر بعد بعثته بنحو اثنتين وعشرين سنة فقط؟ بعد اثنتين وعشرين سنة فقط من بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم وهو رجل واحد، تقول الروايات بأنه حج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع أربعة وعشرون ألفاً ومائة ألف صحابي. وبعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم امتد المد الإسلامي ليكتسح أراضي كثيرة ويدخل ملايين في دين الله عز وجل، من الذي نشر الدين؟ رجل واحد فقط، واحد انبثقت عنه تلك الملايين التي دخلت في دين الله بفضل الله عز وجل، ثم التمسك بدينه والجهاد في سبيله حق الجهاد. إذاً لا نستغرب أن يكون هناك اليوم آلاف من المسلمين الحقيقيين، سينبثق عنهم ويبزغ فجر الإسلام من جديد، كما بدأ أول مرة (إن الإسلام بدأ غريباً) غريب في الأرض، من الذي يحمله؟ واحد فقط، بدأ غريباً، ثم انتشر بعد ذلك (وسيعود غريباً كما بدأ) يقول الرسول صلى الله عليه وسلم، ونحن ولا شك أيها الإخوة في هذا الزمان في عصر غربة الإسلام، عصر غربة الإسلام، وبما أنه سيعود غريباً كما بدأ، كيف بدأ؟ بدأ بالقلة، ثم انتشر، فإذا كان سيعود غريباً كما بدأ، فسيرجع قليلاً أيضاً، ثم ينتشر بعد قلته وضعفه كما حصل في المرة الأولى. إذاً هذا الحديث الذي يفهم منه كثير من المتثبطون أن الإسلام سيندحر وأن الإسلام سيزول، هو في الحقيقة فهم خاطئ، لأن هذه الغربة التي نحن فيها الآن سيعبقها بإذن الله عز وجل مد إسلامي يكتسح الأرض كلها.

مبشرات بالنصر اللامحدود للإسلام

مبشرات بالنصر اللامحدود للإسلام ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد عن أبي مرفوعاً قال عليه السلام: (بشر هذه الأمة بالسناء -وهو العلو والارتفاع- والدين والرفعة والنصر والتمكين في الأرض) هذه الأشياء التي يبشر بها الرسول صلى الله عليه وسلم لابد أن تحصل لأنه لا ينطق عن الهوى، وكما تحقق ما قاله في الماضي من أشياء كثيرة، فلابد أن يتحقق ما يخبر عنه عليه السلام في المستقبل كما أخبر عنه عليه السلام عندما بعث. ويقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي رواه الطبراني عن أبي أمامة قال: قال عليه السلام: (والذي نفسي بيده لا تذهب الأيام والليالي حتى يبلغ هذا الدين مبلغ هذا النجم) حتى يبلغ هذا الدين مبلغ هذا النجم، يفسر هذا الحديث الحديث الصحيح الآخر الذي رواه الإمام أحمد ومسلم عن ثوبان رضي الله عنه أنه عليه السلام قال: (إن الله زوى لي الأرض) يعني: جمع الأرض وضمها، فرآها الرسول صلى الله عليه وسلم؛ معجزة من عند الله (إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها) وإن ملك أمة الرسول صلى الله عليه وسلم سيبلغ ما جمع له منه، ما الذي جمع له منها؟ جمعت له كلها، فرآها عليه السلام شرقيها وغربيها، وملك هذه الأمة سيبلغ الشرق والغرب، أي: سيعم الإسلام الأرض كلها، هل سبق أن حصل في التاريخ الماضي أن عم الإسلام الأرض كلها فما بقي كافر واحد ولا دولة كافرة على وجه الأرض؟ حتى في عصر الخلفاء الراشدين ومن بعدهم، وحتى في عصر الدولة العثمانية، هل حصل أن الإسلام اكتسح الأرض كلها لم يبق كيان كافر واحد على وجه الأرض؟ الجواب أيها الإخوة: لا، لم يحصل هذا في الماضي، ما حصل مع انتشار الإسلام في الماضي، بل كان لا يزال هناك كيانات كافرة موجودةٌ على الأرض. إذاً: بما أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أن الإسلام سيعم الأرض كلها شرقها وغربها، فلا بد أن يحصل، فإذا ما حصل في الماضي، فإذاً ما هي النتيجة؟ لابد أن يحصل في المستقبل (وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها) يوضح هذه الأحاديث حديث ثالث، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه ابن حبان وغيره: (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار) أي: كل الأرض (ليبلغن هذا الأمر -الإسلام- ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر) لا بيت حجر وعمارات شاهقة ولا بيت وبر للبدو في الصحراء، لا يترك أي بيت من أي نوع كان (إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز به الله الإسلام، وذلاً يذل به الكفر). إذاً: سيأتي اليوم الذي يدخل الإسلام فيه كل البيوت على وجه الأرض، ولا يبقى بيت واحد إلا ودخله الإسلام.

مبشرات ببلوغ الإسلام أماكن لم يبلغها بعد

مبشرات ببلوغ الإسلام أماكن لم يبلغها بعد وهذه بشارات أخرى توضح ما سبق أن ذكرناه آنفاً، في الحديث الصحيح يقول عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نكتب ما يقول من الأحاديث، إذ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي المدينتين تفتح أولاً قسطنطينية أو رومية؟ يعني: هل القسطنطينية تفتح أولاً أم روما؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مدينة هرقل تفتح أولاً) التي هي القسطنطينية، وقد فتحت القسطنطينية في عهد السلطان العثماني محمد الفاتح، لكن هل فتحت روما عاصمة النصارى؟ هل فتحت روما معقل الكفرة؟ لا. لم تفتح روما حتى الآن، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم يخبر بأنها ستفتح ويخبر أن القسطنطينية ستفتح قبل روما. إذاً: لابد أن تفتح روما كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم لابد أن يحصل هذا أيها الإخوة، المشكلة أنه لا يوجد إيمان عند الكثيرين لكي يوقنوا بما أخبر به عليه السلام، لا يوجد تصديق عند الكثيرين من المسلمين حتى يؤكدوا لأنفسهم أن ما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم حق لا بد أن يقع. ويقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن أبي هريرة يقول عليه السلام: (سمعتم بمدينة جانب منها في البر وجانب في البحر؟ قالوا: نعم يا رسول الله سمعنا بها، قال: لا تقوم الساعة حتى يغزوها سبعون ألفاً من بني إسحاق والمحفوظ من بني إسماعيل) يعني: من مسلمي العرب سبعون ألفاً سيغزون تلك المدينة التي نصفها في البر ونصفها في البحر (فإذا جاءوها فنزلوا عند تلك المدينة- وهي محصنة بالكفار- فلم يقاتلوا بسلاح ولم يرموا بسهم) قالوا: مجرد ما فعل هؤلاء المسلمون من صدق إيمانهم وتأييد الله لهم (قالوا: لا إله إلا الله والله أكبر، فيسقط أحد جانبيها الذي في البحر- يسقط بيد المسلمين- ثم يقول الثانية: لا إله إلا الله والله أكبر، فيسقط جانبها الآخر- الذي في البر- ثم يقول الثالثة: لا إله إلا الله والله أكبر، فيفرج لهم فيدخلونها فيغنمون) حديث صحيح. إذاً: سيأتي اليوم الذي يؤيد الله المسلمين بمجرد الذكر (لا إله إلا الله والله أكبر) تسقط معاقل الكفرة، بمجرد الذكر بدون قتال، يلقي الله الرعب على الأعداء فينصر المسلمين، فتسقط أراضي الكفرة ومدنهم بغير قتال.

حديث في نزول المسيح عليه السلام

حديث في نزول المسيح عليه السلام وأيضاً -أيها الإخوة- نعلم بأن عيسى عليه الصلاة والسلام سينزل من السماء، عيسى عليه الصلاة والسلام سينزل من السماء، ويحكم الأرض بشريعة الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى الآن عيسى عليه السلام لم يقبض الله روحه، وإنما رفعه حياً إلى السماء، وسينزله مرةً أخرى في آخر الزمان كما وردت بذلك الأحاديث التي بلغت مبلغ التواتر، يعني: رواها جماعة عن جماعة في عصورٍ مختلفة حتى دونت في كتب الحديث، أحاديث متواترة رويت في نزول عيسى عليه السلام، فمن هذه الأحاديث، يقول صلى الله عليه وسلم في شأن المسلمين لما ينزل عيسى عليه السلام: (وإمامهم يومئذ رجل صالح -إمام المسلمين يومئذ رجل صالح- فبينما إمامهم قد تقدم يصلي بهم الصبح، إذ نزل عليهم عيسى ابن مريم، فرجع ذلك الإمام إلى الخلف ليتقدم عيسى -لأن عيسى نبي- فيضع عيسى يده بين كتفيه ويدفعه إلى الأمام، ويقول له: تقدم فصل، فإنها لك أقيمت) تصوروا أيها الإخوة كرامة الله عز وجل لهذه الأمة أن يجعل واحداً منهم إماماً يأتم به عيسى عليه السلام، كرامة الله لهذه الأمة: (فإنها لك أقيمت، فيصلي بهم أمامهم، فإذا انصرف قال عيسى: افتحوا الباب -لأن المسلمين في ذلك الوقت يكونون على مشارف أبواب تجمع اليهود في فلسطين - فيفتحون ووراءه الدجال معه سبعون ألف يهودي، فإذا نظر إليه الدجال -إلى عيسى- ذاب كما يذوب الملح في الماء وينطلق هارباً، فيدركه عيسى عليه السلام عند باب لد -المدينة المعروفة الآن مدينة لد في فلسطين - بباب لد الشرقي فيقتله، ويريهم عيسى أثر الدم على حِربةٍ في يده، دلالةً على أنه قتله قبل أن يتلاشى، فيهزم الله اليهود، فلا يبقى شيء مما خلقه الله عز وجل يتواقى به يهودي -يعني: يستتر- إلا أنطق الله ذلك الشيء؛ لا حجر ولا شجر ولا حائط ولا دابة إلا الغرقدة، فإنها من شجرهم) نوع من الشجر لا ينطق بما وراءه؛ لأنه من شجر اليهود، ولذلك أيها الإخوة جاءت الأخبار بأنهم يكثرون من زراعتها الآن في أرض فلسطين، يعرفون عن الإسلام أكثر مما يعرفه بعض المسلمين: (إلا قال هذا الشيء: يا عبد الله! هذا يهودي ورائي تعال فاقتله، فيكون عيسى ابن مريم في أمتي حكماً عدلاً وإماماً مقسطاً، يدق الصليب ويذبح الخنزير ويضع الجزية -لا تطبق الجزية لماذا لا تطبق الجزية؟ لأنه لا يكون هناك يهود أو نصارى تؤخذ منهم الجزية، كلهم يدخلون في الإسلام- ويترك الصدقة فلا يسعى على شاة ولا بعير، وترفع الشحناء والتباغض وتنزع حمة كل ذات حمة -يعني: كل حيوان فيه سم ينزع هذا السم منه- حتى يدخل الوليد يده في الحية فلا تضره، وتضر الوليدة الأسد فلا يضرها) وفي رواية صحيحة (ويطأ الرجل على الحية فلا تضره، ويكون الذئب في الغنم كأنه كلبها الذي يحرسها، وتملأ الأرض من السلم -السلام- والإسلام كما يملأ الإناء من الماء، وتكون الكلمة واحدة، فلا يعبد إلا الله، وتضع الحرب أوزارها، وتكون الأرض كفاتور الفضة -يعني: مثل الخوان عليه أصناف المطعومات والمشروبات- وتنبت الأرض نباتها بعهد آدم حتى يجتمع النفر على القطف من العنب -على العنقود من العنب- فيشبعهم، ويجتمع النفر على الرمانة فتشبعهم ويستظلون بقشرتها) كبر الرمانة من البركة التي حصلت في الأرض بتطبيق شرع الله. أيها الإخوة: لو طبق شرع الله في الأرض كاملاً يمكن للناس أن يشبعوا برمانة واحدة ويستظلون بقشرتها كما سيحدث (ويكون الفرس بالدريهمات) بالدراهم البسيطة يشترى الفرس، حديث صحيح رواه ابن ماجة وابن خزيمة.

بركة آخر الزمان والخلافة الراشدة فيه

بركة آخر الزمان والخلافة الراشدة فيه وفي حديث آخر صحيح (يؤذن للسماء فتمطر، ويؤذن للأرض بالنبات حتى لو بذرت حبك على الصفا لنبت) لو وضعت الحب (البذر) على الصخر لنبت. إذاً تكون هناك بركة عظيمة، وقد يتساءل متسائل، فيقول: هل هذا النصر بالضروري أن يحدث في عهد عيسى أم يمكن أن يحدث قبل ذلك؟ الجواب أيها الإخوة: يمكن أن يحدث قبل ذلك، يمكن أن تحدث انتصارات كثيرة قبل ذلك، خصوصاً أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر في الحديث الصحيح، قال: (لا يزال هذا الدين قائماً حتى يكون عليكم اثنا عشر خليفة تجتمع عليهم الأمة كلهم من قريش، ثم يكون الهرج بعد ذلك) كم مضى من الخلفاء؟ لم يمض هذا العدد، مضى أقل من اثنى عشر. إذاًَ: البقية ستأتي وستظهر لا محالة وستقوم الخلافة الإسلامية في الأرض، مصداقاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون -بعد النبوة- خلافة على منهاج النبوة -الخلافة الراشدة- فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً، فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعه ما شاء الله أن يرفعه، ثم تكون ملكاً جبرياً، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعه إذا ما شاء الله أن يرفعه، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت). إذاً: هذه الخلافة لابد أن تأتي، ولابد للنصر أن يأتي بإذن الله أيها الإخوة، لكن النصر لا يأتي هكذا، لا ينام المسلمون اليوم يقومون غداً صباحاً فيرون خليفة المسلمين قد ظهر والإسلام قد انتشر في الأرض، لا. نسأل الله أن يبصرنا بدينه وأن يرزقنا الإخلاص والاستقامة وصلى الله على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد.

المبشرات لا تعني ترك العمل للدين

المبشرات لا تعني ترك العمل للدين الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي المؤمنين، وأشهد أن محمداً رسول الله، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة. أيها الإخوة: كلامنا في الخطبة الماضية وفي هذه الخطبة كان القصد منه إحياء النفوس بهذه المبشرات الإسلامية التي نطق بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه الآيات في القرآن العظيم، هذه التي تبعث الأمل ثانيةً في تلك النفوس التي ملئت يأساً وحسرةً حتى كادت أن تخمد جذوة الإسلام في نفوس المسلمين، الغرض من هذا الكلام بعث الأمل في تلك النفوس اليائسة، التي يئست مع مشاهدة الواقع الحاضر، ومع المعيشة في الواقع الحاضر أن يرجع الإسلام ثانيةً، هذا هو القصد، لكن قد يؤدي هذا الكلام إلى محذورٍ آخر، وهو أن يتواكل كثير من المسلمين ويعتمدون على النصر الذي سيأتي من عند الله، والخلافة التي ستكون، فيتركون العمل للإسلام، ويقول كثير من أولئك الذين ما فقهوا الدين، يقولون: ما دام الله سينصر الدين فلماذا نعمل نحن؟! بما أن الله سينصر الدين بالتأكيد إذاً لا داعي للعمل! نجري وراء الدنيا والشهوات والأهواء وللبيت رب يحميه. كلا أيها الإخوة ما كان هذا أبداً فهماً صحيحاً للإسلام في الماضي، وليس فهماً صحيحاً مطلقاً لدين الله عز وجل، لأن الله يقول: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105] وقل اعملوا في سبيل الله، اعملوا من أجل رفع راية الإسلام، اعملوا من أجل إعزاز دين الله، اعملوا من أجل نشر منهج الله في الأرض، اعملوا من أجل الدعوة إلى الله، اعملوا من أجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، {وَقُلِ اعْمَلُوا} [التوبة:105] أمر عام يشمل جميع أنواع العمل الصالح {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ} [التوبة:105] ما قال الله عز وجل للمسلمين ناموا وأنا أنصر الدين، لا. وهذا الفهم أيها الإخوة هو الذي فهمه صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، الذين يقول شاعرهم يوم الخندق وهم يرون الرسول صلى الله عليه وسلم يعمل: لئن قعدنا والنبي يعمل لذاك منا العمل المضلل لئن قعدنا والنبي يعمل، فهذا عمل ضال لا يمكن أن يكون، فقاموا مع الرسول صلى الله عليه وسلم يعملون ويحفرون بأصابعهم الخندق، يعملون عملاً من أجل إيجاد وسيلة لصد المشركين، وبالإضافة إلى ذلك أيها الإخوة قد يتصور البعض بأن عملنا للإسلام بدافع أننا إذا لم نعمل يفوتنا الأجر، يعني: إذا لم نعمل فات علينا أجر عظيم ولذلك نعمل، هذا صحيح، لكن ليس هذا فقط كل شيء، إننا نعمل للإسلام أيها الإخوة؛ لأن الواجب علينا أن نعمل، ولأننا إذا لم نعمل أثمنا كلنا، ولأن الله يقول: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] إذا نبذنا العمل ونمنا وجلسنا نجري الآن وراء الدنيا والماديات والشهوات ونشبع رغبات نفوسنا، ماذا سيحدث؟ الله عز وجل لابد أن ينصر الدين، والله عز وجل لا ينصر الدين بملائكة ينزلون من السماء يقيمون حكم الله في الأرض، لا، الله عز وجل ينصر الدين بأسباب، ينصر الدين بأناس ينصرون هذا الدين، يبعثهم الله عز وجل من المجددين والعلماء والمجاهدين أفراد الطائفة المنصورة. إذاً: أيها الإخوة لله سنن في الأرض تعمل، لابد أن تعمل هذه السنن ومن سننه أن يجعل النصر لعباده، وأن يجعل قيام الإسلام على أيدي مسلمين مخلصين {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] الذي يرتد عن الدين ويترك العمل ما الذي سيحدث؟ سيأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه؛ أجيال أخرى تنشأ {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54]. إذاً أيها الإخوة! إذا ما عملنا نحن الآن: أولاً: يفوتنا الأجر. ثانياً: علينا الإثم. ثالثاً: سيأتي الله بقوم من بعدنا يعملون فينصر الله بهم الدين، فلماذا نتخاذل ونقعد وننتظر أن ينتصر الإسلام ونحن مكتوفو الأيدي؟ لا أيها الإخوة! يجب أن نكون من أفراد الطائفة المنصورة التي أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن وجودها إلى قيام الساعة، ما هي الطائفة المنصورة؟ هذا حديث أدرجت فيه الصفات من الأحاديث التي وردت، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفةٌ من أمتي ظاهرين على الحق) مهما كان الأمر، ومهما ضعف الإسلام، ومهما تقهقر المسلمون ومهما طم العدو وعلا على بلاد المسلمين (لا تزال طائفةٌ من أمتي ظاهرين على الحق) وفي رواية: (قائمةٌ بأمر الله) وفي رواية: (قوامة على أمر الله) وفي رواية: (منصورين) وفي رواية: (لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم) وفي رواية: (يقاتلون على الحق ظاهرين حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال). هذه الطائفة المنصورة موجودة في الأرض وهذه صفاتها على الحق، منصورة بالحجة قبل أن تكون منصورة بالسيف، تعرف العقيدة وتعرف التوحيد، مستقيمة على أمر الله، لا يضرها من خذلها ولا من خالفها من الشرق والغرب. يجب أن نكون من أفراد هذه الطائفة المنصورة التي أخبر عنها الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يقيم الله الإسلام، سواء رأيناه بأعيننا أو تأخر بعد موتنا، فلا يهم، المهم أن ننقذ أنفسنا من النار، هذا هو المهم أيها الإخوة، أن ننقذ أنفسنا من النار، سواءً رأينا النتيجة أو لم نرها، وعدم رؤية النتيجة ليس باعثاً على اليأس، لأن المسألة إذا لم تتحقق في هذا الجيل، فستتحقق في الأجيال القادمة بإذن الله: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40]. اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك، اللهم واجعلنا من جندك وأعوانك قائمين على الحق، عاملين بالحق ومجاهدين من أجل الحق، اللهم واجعلنا من أتباع رسولك صلى الله عليه وسلم، وارزقنا الإخلاص والاستقامة في الأقوال والأعمال، اللهم واجعلنا من أفراد الطائفة المنصورة من أهل السنة والجماعة الذين ينصرون الحق وبه يعدلون، اللهم طهر أعمالنا من الرياء، وألسنتنا من الكذب، وقلوبنا من النفاق، اللهم واجعل بيوتنا بيوتاً إسلامية، اللهم وارزقنا وأنت خير الرازقين، وعافنا في أنفسنا وفي أبداننا وفي أموالنا وفي أولادنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا يا أرحم الراحمين! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون.

وصايا من الله للدعاة

وصايا من الله للدعاة لقد وصى الله تعالى الناس عموماً والدعاة خصوصاً بواجب الدعوة إليه، وحثهم على استشعار المسئولية ببذل وسعهم في إيجاد الأساليب الناجحة للدعوة، ودلهم على اتباع أساليب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في ذلك، سواءً كان بالكلام أو بالقدوة والفعال.

توجيهات للدعاة

توجيهات للدعاة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. A=6000394> يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. A=6000493> يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. A=6003602> يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. عباد الله! لقد أُنزل علينا القرآن الكريم لنتدبر ما فيه ونعمل بمقتضاه، وقد جاءت فيه توجيهات كثيرة في شتى فروع الحياة وأوديتها، وجاءت فيه مواعظ من ربنا لجلاء صدأ قلوبنا، وحمل نفوسنا على السير في الصراط المستقيم، وعدم الإعوجاج، ومن هذه التوجيهات: التوجيهات للدعاة إلى الله تعالى، والتوجيه للناس للقيام بواجب الدعوة إلى الله، وكلنا يجب أن نكون دعاة إلى الله. عباد الله: لقد فرطنا في هذا الواجب الشرعي واجب الدعوة إلى الله تعالى، وركنت نفوسنا إلى الدنيا، واشتغلنا بالملذات واتباع الشهوات، وكان الإعراض من الكثيرين عن العمل بالإسلام؛ فضلاً عن الدعوة إليه، والكل واجبات سنسأل عنها يوم القيامة: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ} [الزخرف:44] فتعالوا بنا نستعرض شيئاً مما ذكره ربنا عن الدعوة إلى الله، والأمر بها، وأساليبها، وكيفية القيام بها، وتحمل المسئولية واستشعار الواجب في هذا الموضوع الجليل، قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف:164]. الاستقامة نصابها العلم والبصيرة، وزكاتها الدعوة والموعظة، والله أوجب علينا بقوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} [آل عمران:104] أي: لتكونوا أنتم أمة، صفتها: أنهم يدعون إلى الخير، وعلى فرض أن هذا أمرٌ لبعض الأمة بالدعوة؛ فإنه واجب وفرض على الكفاية لا يسقط إلا في حال تحقق الكفاية، فهل تحققت الكفاية في عصرنا؟! وهل وجد من الدعاة من يغطي الحال؟! كلا. أيها المسلمون! لقد صار واجباً علينا جميعاً أن نكون دعاة إلى الله تعالى، وينبغي أن يتحمل المسلم ما يلاقي في سبيل تبليغ دعوة ربه، وأن يكون الدعاة إلى الله عدتهم الصبر، وعتادهم اليقين بنصر الله وبلوغ أمره (وليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار). الداعي إلى الله تعالى يحزن ويتحسر لمرأى جموع البشر تتخبط في دياجير الظلام؛ فيبادر ليجعل نفسه فتيلاً مشتعلاً في هذا الليل البهيم، والظلمة المدلهمة؛ راجياً الأجر من الله تعالى أولاً، وتنبيهاً للسائرين وإيقاظاً للنائمين ثانياً، ولذلك لما قال بعض بني إسرائيل للدعاة إلى الله منهم: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً} [الأعراف:164] أي: لا فائدة من دعوتهم لأنهم مصرون على الباطل والإثم، فلم تشتغلون بدعوتهم؟ فكان جواب الدعاة إلى الله: {مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} [الأعراف:164] أي: إقامة الحجة والقيام بالأمر وتنفيذ التكليف، ثم: {وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف:164] أي: لعلهم يهتدون، وحتى لا يفقد الداعية بصيص الأمل، ولا يفقد احتمال الهداية، ولا يفقد أن يوجد من المدعوين من يقبل الدعوة ولو بعد حين، وكلمةٌ على كلمة وبعد كلمة يحصل الأثر بإذن الله، والداعية في عمله لا يتفضل على الناس؛ بل يقوم بواجبه مشفقاً عليهم: {مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف:164]. أيها المسلمون! إن الدعوة إلى الله تحتاج إلى رجال يتسللون إلى قلوب الناس، ويأسرونهم بحسن سمتهم وخلقهم، ويعرفونهم بالله، ويذكرونهم بأيام الله، ويعينونهم على أنفسهم وعلى الشيطان. إن تسهيل طريق الخير أمام الناس، وإزالة العوائق الموهومة، وتأليف قلوبهم، وإشعارهم بمحبة الخير لهم، وأن الداعي بعيد في دعوته لهم عن المصالح الشخصية أمرٌ مهم جداً، قال الله عز وجل: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:109] وعليه أن يفعل الأسباب المفضية والمؤدية إلى هداية الناس، ودلالتهم، ويقوم بالواجب بغير يأس ولا قنوط، فقد قام نوح بواجب الدعوة ألف سنةٍ إلا خمسين عاماً، وما آمن معه إلا قليل، لكن ذلك لم يثنه عن الدعوة إلى الله تعالى. أيها المسلمون: إننا شهداء الله في الأرض، يجب أن نقوم بالحق، وقد قال الله تعالى -أيضاً- مبيناً المسئولية التي ينبغي على الدعاة إلى الله أن يقوموا بها، ولا يجعلوا لها فضول الأوقات، وإنما تكون لها الأوقات كلها، قال الله تعالى: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم:12] أي: أن أخذ الكتاب يحتاج إلى مسئولية وشدة عزيمة وقوة شكيمة, ولا يطيق ذلك إلا من اختاره الله تعالى لأداء هذه المهمة. أيها المسلمون: إن كثيراً من الناس لا يأخذون الكتاب أصلاً، وأعداد يأخذون بعض ما في الكتاب ويكفرون ببعض، وبعضهم يأخذه على ضعفٍ وتراخٍ، والله يقول: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [الأعراف:171] فالمسألة تحتاج إلى تصميم وعزيمة، والمسالة تحتاج إلى حسن توجه وإلى نيةٍ خالصة حتى تحصل النتيجة.

مع أساليب الدعوة إلى الله عند الأنبياء

مع أساليب الدعوة إلى الله عند الأنبياء عباد الله: إن ربنا تعالى ذكر لنا أساليب متنوعة في دعوة الأقرباء والبعداء، ودعوة الأقوام عموماً، ولنأخذ أمثلة على دعوة الأقرباء:

أسلوب إبراهيم عليه السلام في دعوة أبيه إلى التوحيد

أسلوب إبراهيم عليه السلام في دعوة أبيه إلى التوحيد يقول الله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً} [مريم:-45]. تأمل يا عبد الله! كيف ترقى وتوخى إبراهيم عليه السلام مسالك الدعوة والحكمة فيها والرفق واللين، والبعد عن التفضل والمنة والازدراء والتحقير والشدة والغلظة، وإنما عمد إلى التملق والتزلف؛ لكي يحاول التسلل إلى قلب خاوٍ، إنه قلب أبيه المشرك، قال ابن القيم -رحمه الله تعالى- معلقاً على هذه الآيات العظيمة: ابتدأ إبراهيم خطابه بذكر أبوته -أبوة أبيه- الدالة على توقيره -بدون كلمة توقير تستهل بها الخطاب أو كلمة احترام تنشئ بها الكلام وتستهله قد لا يفتح لك مطلقاً- ولم يسمه باسمه، ولم يقل: يا آزر، وإنما قال: يا أبتِ، ثم أخرج الكلام مخرج السؤال، فقال: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً} [مريم:42] ولم يعمد إلى أسلوب الأمر المباشر والنهي المباشر، فيقول مثلاً: لا تعبد الشيطان، أو لا تعبد ما لا يسمع، وإنما قال: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً} [مريم:42]، ثم قال: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ} [مريم:43] فلم يقل له: إنك جاهل لا علم عندك؛ بل عدل عن هذه العبارة إلى ألطف عبارة تدل على المعنى، فقال: {جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ} [مريم:43] ثم قال: {فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً} [مريم:43] مثلما قال موسى لفرعون: {وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ} [النازعات:19]، قال إبراهيم عليه السلام: {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً} [مريم:45] فنسب الخوف إلى نفسه دون أبيه مثلما يفعل الشفيق الخائف على من يشفق عليه، وقال: "يمسك" والمس ألطف من غيره، ولم يقل: ينزل بك، أو يخسف بك، وإنما قال: يمسك، ثم نكَّر العذاب، فقال: {عَذَابٌ} ولم يقل: العذاب، ثم ذكر {الرَّحْمَنِ} ولم يقل الجبار ولا القهار تأليفاً له، واستجلاباً للإيمان بهذا الرحمن، واستشعاراً لرحمته، فأي خطاب ألين وألطف من هذا. ومع ذلك كله كان الرد قاسياً شديداً: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً} [مريم:46] ومع ذلك يجيء جواب إبراهيم جواباً تلين له الحجارة؛ لأنه لم يكن يدعو لحظ نفسه حتى يثور، ولم يكن يدعو لأجل أن يقابل بالإيجاب؛ ولذلك لم يثأر ولم ينتقم؛ بل قال: {سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً} [مريم:47].

أسلوب النبي صلى الله عليه وسلم في دعوة عمه أبي طالب إلى الإسلام

أسلوب النبي صلى الله عليه وسلم في دعوة عمه أبي طالب إلى الإسلام وآية أخرى من كتاب الله تعالى في موضوع الدعوة إلى الله، يقول الله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:56] هذه الآية التي درج بعض الناس على الاستشهاد بها إذا رآك تنصح إنساناً وتدعوه إلى الهدى؛ فسرعان ما يقول لك: دعه دعه؛ فإنك لا تهدي من أحببت، ولكن هذه الآية ليس المقصود بها إيقاف الدعاة عن العمل، أو أن يتحسر الدعاة ويقولون: لا فائدة، وإنما المقصود أن الله تعالى بيَّن فيها أن أحداً لا يملك أن يدخل الإسلام والإيمان في قلب شخص أبداً، ولكن الله هو الذي يهدي من يشاء، فيدخله في الإسلام بعنايته، فكأنه يقول لك: يا أيها الداعية! لا تغتر بعملك ولو أثمرت بعض مجهوداتك، ولا تظن أنك أنت الذي أدخلت الهداية إلى قلبه، ولا تغتر فإن الله هو الذي أدخل الهداية إلى قلبه. ثم فيها فائدة أخرى بخلاف تجنيب الداعية من الغرور، وهي تجنيب الداعية من اليأس والتوقف عن الدعوة بأن يقال له: لقد أديت ما عليك وأجرك قد ثبت، والرجل مصر على الباطل، ولا تستطيع أنت أن تهديه فانظر غيره، ولا تذهب نفسك عليه حسرات، ولا تأسفن عليه: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} [الكهف:6] أي: مهلك نفسك أنهم لا يؤمنون، فهذه الآية نزلت تسلية وتسرية للنبي -صلى الله عليه وسلم- لما ذهب إلى عمه أبي طالب يدعوه إلى الله تعالى، ولكن سبق القدر فيه، واختطفه من يده، واستمر على الكفر والعياذ بالله. والنبي - صلى الله عليه وسلم- يقول: (يا عم! قل: لا إله إلا الله، كلمة أشهد لك بها عند الله) فأبى أن يقول، فأنزل الله تعالى {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] ومات أبو طالب الذي كان نصير الدعوة، والمدافع عن النبي -صلى الله عليه وسلم- والمادح لأفكاره وآرائه ومعتقداته، وهو الذي كان ينصره ويحميه من أذى قريش، مات هذا الرجل في نهاية غير مرجوة أبداً، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يرجو له لقاء هذه المجهودات-وهو عمه وأقرب الناس إليه- في أن يهتدي، ولكن الله أراد أن يعلم رسوله والمؤمنين درساً عظيماً، في أن الإنسان مهما بذل الأسباب؛ فإن الله إذا لم يشأ فلا يحدث المأمول أبداً، كما بين الله تعالى أن ميزان العقيدة هو الميزان الأول، وأن النسب لا ينفع القريب قريبه فيه أبداً، فيجعل الله يوم القيامة أبا طالب في ضحضاح من نار يبلغ كعبيه يغلي منها دماغه، فليعلم الناس أن عليهم بذل الأسباب، والله يتكفل بالنتائج، والله معهم مقدر كل شيء، وأن الله إذا أراد هداية شخص فربما يهتدي بحلم من الأحلام أو مرض أو حادث، ولا يكون لأي داعية سبب في ذلك، وإذا أراد الله أن يضل شخصاً، واجتمع الناس كلهم على هدايته ما استطاعوا هدايته أبداً.

مراتب الدعوة إلى الله

مراتب الدعوة إلى الله ثم إن الله ذكر في كتابه مراتب الدعوة، فقال عز وجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ} [النحل:125] وهذا أمر يقتضي الوجوب: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] فمن الناس من هو جاهل يحتاج إلى تعليم، والحكمة: هي القرآن والسنة، فنعلمه ما يجهل، ونبين له حكم الله تعالى، ونبين له ما في القرآن والسنة، ومن الناس من ربما يكون عنده علم لكن فيه غفلة وقسوة قلب فيحتاج إلى تليين، والتليين يكون بالوعظ؛ ولذلك ينتقل الداعية إلى المرحلة الثانية وهي الموعظة الحسنة، فإن بعض الناس يحتاجون إلى موعظة للهداية، وبعضهم يحتاجون إلى تعليم للهداية، فهذه سبيل أخرى ذكرها الله تعالى آمراً نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يعلم من يحتاج إلى تعليم، وأن يذكر من يحتاج إلى تذكير، وأن يجادل من عنده شبهة أو هوى بالتي هي أحسن. هذه المراتب العظيمة من تأملها وطبقها على الناس، عرف أن الله ذكر الدواء الناجع لكل نوع من أنواع المدعوين، النوع الذي يجهل ويقبل التعليم ولو عُلِّم لتبع، والنوع الذي عنده غفلة وتأخر فيدعى بالموعظة الحسنة، وهو الأمر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب وهما من أعظم أنواع الوعظ، ثم هناك معاند جاحد يجادل بالتي هي أحسن؛ بالبرهان والحجة واللسان القويم، وربما يكون عند بعض الناس خلفيات ثقافية، أو معلومات مسبقة خاطئة، فيحتاجون إلى محاورة، ومجادلة لكشف زيف ما يعتقدونه، والرد على الشبهات التي يأتون بها. وقد حاور النبي -صلى الله عليه وسلم- وفد نصارى نجران لما جاءوه، ونزلت سورة آل عمران محاورة ومجادلة لأهل الكتاب، ولوفدهم الذين جاءوا من نجران، وحاور النبي -صلى الله عليه وسلم- عدي بن حاتم وقد كان من زعماء النصارى، فحاوره بما هو موجود عنده في الكتاب، وبما يعلمه من دينه، وحاوره بأشياء، وأوقفه على أمور عجيبة، وسأل عمران فقال: (كم إلهاً تعبد؟ قال: ستة في الأرض وواحد في السماء)، فسأله عن الإله الذي يعده للرغبة والرهبة، وعند نزول الملمات، وفي الأحوال الخطيرة وأي واحد هو من هذه الآلهة السبعة؟ فكانت نتيجة المحاورة أن قال: (إنه الذي في السماء) إذاً هو أولى بالعبادة. كما حاور عليه الصلاة والسلام أشخاصاً كثيرين. ولم يتوانَ صلى الله عليه وسلم في بذل أساليب الدعوة، سواء كان بالكلام، أو بالقدوة والفعال، كما ربط الأسير في المسجد ليسمع كلام الله وينظر أفعال المسلمين، وكيف يعيش المجتمع الإسلامي، وأرسل الرسائل إلى عظماء الأرض يدعوهم إلى الله. أيها المسلمون! حري بنا أن نتبع الأساليب الناجعة في الدعوة إلى الله، وألا نيأس من هداية الخلق، وأن نقوم بهذا الواجب الذي فرطنا فيه، فكم يوجد بيننا ممن لا يعلم شيئاً عن الإسلام؟! فتاة تقدم إليها أحد الخطاب، وهي ممن ينتسب إلى جمهور المسلمين، فحدثها عن الصلاة والحجاب؟ فقالت: أما الصلاة فلا أصلي، قال: لِمَ؟! قالت: لا أعرف كيفية الصلاة، قال: ما رأيت أناساً يصلون؟ قالت: نادراً، قال: ما تعلمت الصلاة في المدرسة؟ قالت: أدخلتني أمي مدرسة إنجليزية، فما علمونا الصلاة -وهي تعيش بين المسلمين- قال لها: المسألة بسيطة طهارة وصلاة، فقالت: الدنيا برد!! إذاً: ربما يوجد بين المسلمين من أبناء المسلمين من يجهل الدين بالكلية، ويوجد من ذهب إلى الكفار، ورجع وهو مغسول الدماغ، يستقبل صاحبه المبتعث في المطار، وقد كان يعرفه قبل الابتعاث إنساناًً مستقيماًَ أو مصلياً على الأقل، ولما رجع به من المطار بعد عناق واستقبال حار، كان وقت الصلاة قد حان؛ فأوقف السيارة بجانب أحد المساجد، وقال لصاحبه: ننزل، قال: ولِمَ؟ قال: لنصلي، قال: تغير علمك، لقد أصبحتُ نصرانياً، وأخرج الصليب من صدره فأراه إياه. إذاً يوجد -أيها الإخوة- مرتد يحتاج إلى دعوة، ويوجد من المسلمين جهلة بالإسلام، وخصوصاً العمالة الموجودة من بلادٍ إسلامية، ما علمناهم شيئاً أبداً، فانتهت عقودهم ومدة خدمتهم، ورجعوا إلى بلادهم ولم يستفيدوا شيئاً ألبتة، ويوجد كفار أصليون وغافلون من المسلمين يحتاجون إلى دعوة، وكل واحد من هؤلاء يحتاج إلى نوع خاص من الأساليب والوسائل. فهلاَّ تحركت الغيرة في قلوبنا، والقيام بالمسئولية، والخوف من السؤال يوم القيامة، والرغبة في الأجر، فإنك لا تدعو إلى خير إلاَّ وتؤجر عليه، وإذا عمل العامل بما نصحته فلك مثل أجره، ولئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من الدنيا وما عليها. نسأل الله تعالى أن يجعلنا بدينه مستمسكين، ولسبيله من السالكين، ولهذا الإسلام من الحاملين والدعاة المناصرين، ونسأله تعالى أن يحيينا على الإسلام، وأن يميتنا على الإيمان، وأن يتقبلنا في عباده الصالحين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

توجيهات قرآنية لعلاج الأمراض الاجتماعية

توجيهات قرآنية لعلاج الأمراض الاجتماعية الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، الملك الحق المبين، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الحي القيوم، هو الأول فليس قبله شيء، وهو الآخر فليس بعده شيء، وهو الظاهر فليس فوقه شيء، وهو الباطن فليس دونه شيء، خلق فسوى، وقدر فهدى، سبحانه وتعالى، وأشهد أن محمداً رسول الله، الداعي إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وذهب إلى الله وذمته بريئة من كل مسئولية، فقد أدى ما عليه وبقي ما علينا نحن، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الدعاة من بعده وفي حياته، وعلى التابعين بإحسان إلى يوم الدين. عباد الله! إن هذا القرآن الذي ذكرنا منه أمثلة في الدعوة إلى الله تعالى، وآيات في الحث عليها والترغيب؛ وبيان الوسائل والأساليب. إن في هذا القرآن عبراً، وأنا أذكر لكم أمثلةً قليلة مما يوجد في القرآن, وهو مجال التدبر والتفكر الذي طلبه الله منا.

وقفات مع قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان)

وقفات مع قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان) إن هذا القرآن يشتمل على توجيهات كثيرة جداً للدعاة وغير الدعاة، وفيه لطائف وحكم وأحكام، فتأمل مثلاً قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة:34 - 35]. إذاً: يحمى عليها بالمنافيخ وغيرها؛ مما يضاعف حرها، فإذا اشتد العذاب جاءت مرحلة الكي، فيكوى في جبهته وجنبه وظهره ويكون في هذه المواضع، لأنه كما قال العلماء: إذا جاءه الفقير السائل صعر بوجهه، ثم إذا أعاد السائل عليه ولاه جنبه، زيادة إعراض، فإذا ألح عليه، ولاه ظهره وأعرض، فلذلك جعل الكي في هذه المواضع الثلاثة: الوجه والجنب والظهر، الكي في هذه المواضع أشد على الإنسان من غيرها، والكي في الجنب والوجه والظهر هو الكي في الجهات الأربع: الأمام في الجبهة، والخلف في الظهر، واليمين والشمال في الجنبين، فجاءه الكي في المواضع التي هي فيها شدة، ثم التي حصل بها الاعراض، فجوزي على عمله، والجزاء من جنس العمل. تأمل قول الله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم:59]. قال الله: {وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ}، بمعنى أرادوها وصارت هي همهم، ولم يقل: إنهم تناولوا منها؛ لأن الشهوات منها ما يكون حلالاً، فتناول الشهوة الحلال مباح، لكن تأمل السر في قوله: {اتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} صارت متبوعاً، وقائداً وهم منقادون، صارت مطاعة وهم مطيعون {اتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} وكم الذين يتبعون الشهوات في زماننا، أناس كثر جداً، جعلوا الشهوات هي مقصودهم، والغربيون عندهم مبدأ اللذة هي الهدف الكلي؛ لذلك فسعيهم للذة المال، والمتعة، والجنس، وغير ذلك من أنواع اللذات إلا لذة الإيمان واليقين، وكثير من المسلمين يتبعون الشهوات؛ فيأخذ المال من حرام وحلال من أجل شهوة المال، ويرتكب أسباب العلاقة المحرمة بالجنس الآخر اتباعاً للشهوات؛ ولذلك كثير من الأوقات تذهب في المعاكسات الهاتفية، والمواعيد المحرمة، وارتكاب الفواحش، واتباع مطلق للشهوات. أيها المسلمون: هاتان آيتان تعرضان شيئاً من الأمراض الاجتماعية الموجودة، كالبخل والشح واتباع الشهوات، وهذان المرضان جديران بأن يدقق الدعاة إلى الله تعالى فيهما؛ لأنهما أعظم ما أصيب به المجتمع، وهذان المرضان -فعلاً- بحاجة إلى دراسة وتقويم، ثم بحاجة إلى علاج، ويحتاج الذين وقعوا فيهما أن يرجعوا إلى الله تعالى، فهذان مرضان في المدعوين يحتاج الدعاة إلى التأني والتأمل، ومعرفة السبيل الناجع في المداواة، ويبقى السبيل هو التعليم والوعظ والجدال بالتي هي أحسن. ولكن الاهتداء إلى موضع الخلل يحتاج إلى تدبر وتأمل؛ ولذلك بعض الناس ربما يدعو لكن لا يعرف أي شيء يقصد في دعوته، وما هو الهدف الذي يوجه إليه وسائل دعوته، نسأل الله تعالى أن يفقهنا في ديننا، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن يرزقنا الحكمة والخطاب الحسن، ونسأله عز وجل أن يهدي ضال المسلمين. اللهم ردهم إلى الحق رداً جميلاً يا رب العالمين، اللهم افتح قلوبهم بنور من عندك، واسلك بهم سبيل النور، وأخرجهم من الظلمات إلى النور يا أرحم الراحمين، ويا رب العالمين. اللهم أقم علم الجهاد، واقمع أهل الزيغ والفساد والعناد، وانشر رحمتك على العباد، وارحمنا يوم المعاد، وارزقنا الثبات يوم التناد، اللهم إنا نسألك الرحمة والمغفرة لموتى المسلمين، اللهم ارحم موتانا، واشف مرضانا، اللهم إنا نسألك أن تثبتنا عند اللقاء، وأن تثبتنا على الصراط يا رب العالمين. اللهم آمنا في البلاد، اللهم آمنا في البلاد، اللهم آمنا في البلاد، وأصلح الأئمة ولاة العباد. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

يا باغي الخير أقبل [1]

يا باغي الخير أقبل [1] أعمال الخير كثيرة، والجنة قريبة من المرء ما وفقه الله للعمل بمقتضى دخولها، ولكن المرء قد يغفل عن عمل صالح، أو قد يحتقر عملاً ما لعله ينجيه من النار بترجيح كفة الحسنات، وهنا طائفة من أعمال الخير فعلها يسير وأجرها عظيم، فاقرأ لتعمل عسى الله أن يوفقنا لفعلها.

طائفة من الأعمال الصالحة

طائفة من الأعمال الصالحة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. إخواني! تكلمنا في الخطبتين الماضيتين عن منكراتٍ تهاون بها الناس، وعن الوعيد الذي توعد الله به من فعل تلك المنكرات، ومن باب المقابلة وإكمال الصورة؛ فإننا نذكر في هذه الخطبة طائفة من الأعمال الخيرة التي يثيب الله عليها فاعلها أجراً عظيماً؛ لنعلم سعة رحمة الله من جهة، ومعنى اسمه (الكريم) من جهة، ومعنى أنه ذو الفضل العظيم من جهة أخرى، ليزداد الذين آمنوا خيراً؛ لأن العمل الصالح داخل في الإيمان، ولكي تصعد همم الذين يُريدون وجه الله والدار الآخرة، فينشطون للأعمال الصالحة من جهة أخرى. إن أبواب الخير رحمةٌ من الله يفتحها لعباده، فالعاقل من اغتنم الفرصة وولج هذه الأبواب، والمحروم الغافل المسكين من فاتت عليه أعمال الخير فلم يعملها. ونحن نعلم -أيها الإخوة- أن كثيراً من المسلمين في قلوبهم خير، وأنه مهما طغى على هذا الخير من الذنوب فإنه يوماً من الأيام قد تستيقظ حاسة الخير النائمة في نفسه؛ فيلجأ إلى الله عز وجل بهذه الأعمال.

حضور حلق الذكر

حضور حلق الذكر وإليكم طائفة منها على سبيل المثال لا الحصر: قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (ما اجتمع قوم على ذكر فتفرقوا عنه إلا قيل لهم: قوموا مغفوراً لكم) وقال صلى الله عليه وسلم: (ما جلس قومٌ يذكرون الله تعالى؛ فيقومون حتى يُقال لهم: قوموا قد غفر الله لكم ذنوبكم، وبُدِّلت سيئاتكم حسنات)، وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أيضاً: (لأن أقعد مع قومٍ يذكرون الله تعالى من صلاة الغداة حتى تطلع الشمس؛ أحب إليّ من أن أعتق أربع رقاب من ولد إسماعيل، ولأن أقعد مع قومٍ يذكرون الله من صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس أحب إلي من أن أعتق أربعةً) حديث حسن. والأحاديث في فضل حلق الذكر: من الملائكة الموكلين بالبحث عنها وحضورها، ومن نزول السكينة على أهلها، وغشيان الرحمة لهم، وإحاطتهم بالملائكة ما يدفع المسلم للبحث عنها والتماسها، فاحرصوا عليها في المساجد والبيوت وفي جميع الأماكن التي يمكنكم فيها عقد حلق الذكر وغشيانها، حولوا ولائمكم ومناسباتكم إلى حلق للذكر، ولتكن هذه الاجتماعات معمورةً بطاعة الله، وبالمتكلمين في أمره ونهيه، الذين ينصحون الناس ويعظونهم. والعجيب بعد سياق هذه الأحاديث، أن نجد بعض الإخوان يُهملون حلق الذكر، فيعرف أنه يُوجد في المساجد -مثلاً- حلقٌ فيتكاسل عنها، أو تكون له حلقةٌ هو فيعتذر عنها بشتى الأعذار الواهية، وهو يعلم أن جلوسه فيها خيرٌ له بكثير من كثير من الأعمال التي يتعذر بعدم حضور حِلق الذكر من أجلها. ولذلك كان لابد للمسلم أن يُحاسب نفسه قبل أن يُحاسبه غيره، ويعلم بأن غشيانه لحلق الذكر مما يقوي الإيمان ويستفيد ويتعلم العلم النافع، ويسبب مغفرة الذنوب. إن هذه الأسباب وغيرها كفيلة بأن تدفعه للحضور وعدم التخلف، خصوصاً وأن الكسل يدب إلى الكثيرين من طيلة الجلوس فيها، ويفضلون أنواعاً من اللهو عليها، أو أن الشيطان يشغلهم بالمفضول عن الفاضل في حضور حلق الذكر، وهذا أمر نسمع الشكوى منه من بعض القائمين عليها في بعض الأحيان، سماعاً يجعلنا نُذكِّر وننصح إخواننا في الله ألا يتكاسلوا عن ذلك.

الذكر بعد الوضوء

الذكر بعد الوضوء وفي جهة أخرى يقول صلى الله عليه وسلم: (من توضأ فقال بعد فراغه من وضوئه: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، كُتِبَ في رق ثم جعل في طابعٍ -خُتم هذا المظروف بطابع- فلم يكسر إلى يوم القيامة، ليجزي الله به قائل هذه الكلمات أجراً عظيماً) حديث صحيح. كم هي سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، بعد الوضوء؟ وهذا الحديث هو نفسه دعاء كفارة المجلس. وفي الوضوء أذكار أخرى معلومة منها: (اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين) (أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله) وتقول معه هذا الدعاء فإنه يكون محفوظاً لك عند الله مطبوعاً عليه مختوماً لا يكسر الختم إلى يوم القيامة.

مطلق الذكر

مطلق الذكر وقال صلى الله عليه وسلم: (ما من راكب يخلو في مسيره بالله وذكره إلا كان ردفه ملك، ولا يخلو بشعر ونحوه إلا كان ردفه شيطان) حديث حسن، فهذا الحديث يدفعنا في مشاويرنا وسفراتنا وقطعنا للطرق، ونحن نسير راجلين أو بسياراتنا -مثلاً- إلى أن نقطع ذلك الوقت بذكر الله، كعموم التسبيح، والتحميد، والتهليل، والدعاء، وأذكار الصباح والمساء، وقراءة القرآن فوق ذلك، فهذا من ذكر الله الذي لو واظب عليه المسلم وهو يقود سيارته في سفر أو حضر فإن له عند الله أجراً عظيماً، وقد كان صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه. واعلموا بأن هذا الذكر في هذا الطريق يُصحح النية، ويردع الإنسان عن جر قدميه إلى أماكن المحرمات وغشيانها. إذ كيف تقول: "سبحان الله"، أو "لا إله إلا الله" أو "أستغفر الله" وأنت تمشي إلى عملٍ محرم، زد على ذلك أن وصل القلب بالله في الجلوس في المسجد وخارج المسجد وفي السفرات يدل على حياة ذلك القلب وقرب صاحبه من ربه. وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الحسن: (لو جمع القرآن في إهاب ما أحرقه الله بالنار) وهذا حديث في فضل حفظ القرآن وجمعه في الصدر: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49] فمن فضائل حفظ القرآن هذا الحديث: (لو جمع القرآن في إهاب ما أحرقه الله بالنار) فقد شبَّه جسد الحافظ بهذا الجلد لا تمسه النار ولا تقربه، وفي الحديث الآخر: (يجيء القرآن يوم القيامة فيقولك يا رب! حَلَّه -لصاحب القرآن- فيلبس تاج الكرامة، ثم يقول: يا رب! زده، فيلبس حلة الكرامة، ثم يقول: يا رب! ارض عنه فيرضى عنه، فيقول: اقرأ وارق ويُزاد له بكل آية حسنة) فكم هي عدد الآيات التي حفظها أو قرأها ليزداد بها يوم القيامة بكل ذلك حسنات. (لا أقول (ألم) حرف ولكن ألفٌ حرف، ولامٌ حرف، وميمٌ حرف) فإذا تأملت -مثلاً- أن عدد حروف القرآن ما يقارب ثلاثمائة ألف حرف، فكم يكون لك من الأجر لو ختمته مرةً واحدة؟ وكم يكون لك من الأجر لو ختمته في كل شهر مرة مثلاً؟ ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمرنا بقراءة القرآن في أحاديث جاء في كل منها فترة مختلفة، فمرةً يقول: (اقرأ القرآن في سبع)، ومرةً يقول: (في عشر)، ومرةً يقول: (في عشرين) ومرةً يقول: (في شهرٍ)، ومرةً يقول: (في أربعين يوماً) وذلك لأن الناس طاقات، وليست أوضاعهم متشابهة أو متساوية، فمنهم من عنده من التفرغ ما يستطيع به أن يختمه في أسبوع، ومنهم من لا يستطيع أن يختمه إلا في كل أربعين يوماً.

التبكير للجمعة

التبكير للجمعة وقال عليه الصلاة والسلام موضحاً باباً عظيماً من أبواب الأجر: (من غسّل -يوم الجمعة- واغتسل، ثم بكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنى من الإمام واستمع وأنصت ولم يلغ كان له بكل خطوةٍ يخطوها من بيته إلى المسجد عمل سنةٍ أجر صيامها وقيامها) حديث صحيح رواه الإمام أحمد والأربعة. فإذا علمت بأن الله واسع المغفرة واسع العطاء واسع الأجر فما الذي يجعلك تتخلف عن الدخول في هذه الأبواب العظيمة من أبواب الأجر؟ إن الناس يتفاوتون في أجرهم في حضور الجمعة بحسب تبكيرهم وتنظفهم، ودنوهم من الإمام، وإنصاتهم ومشيهم، فليس الماشي كالراكب ولكل منهما أجر، وليس المبكر في الساعة الأولى كمن جاء في الساعة الخامسة، ولكلٍ أجر.

إدراك تكبيرة الإحرام

إدراك تكبيرة الإحرام وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الحسن الذي رواه الترمذي عن أنس مرفوعاً: (من صلَّى لله أربعين يوماً في جماعة يدرك التكبيرة الأولى كتبت له براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق) صلى أربعين يوماً في جماعة متصلة يدرك تكبيرة الإحرام مع الإمام، ويحصل الأجر في هذا الحديث لمن كان قائماً في الصف عند تكبير الإمام تكبيرة الإحرام.

الجهاد في سبيل الله

الجهاد في سبيل الله وقال صلى الله عليه وسلم: (ثلاثةٌ يُحبهم الله: الرجل يلقى العدو في فئةٍ فينصب لهم نحره -أي: مقبلاً غير مدبر- حتى يقتل أو يفتح لأصحابه، والقوم يسافرون فيطول سراهم -مشيهم في الليل- حتى يُحبوا أن يمسوا الأرض من التعب، فينزلون فيتنحى أحدهم -لا ينام- فيُصلي حتى يوقظهم لرحيلهم، والرجل يكون له الجار فيصبر على أذاه حتى يفرق بينهما موت أو ظعن) بأن يرتجل هذا عن الآخر. فتأمل الآن في أحوال هؤلاء الأصناف، فالله -عز وجل- يُعطي الناس بحسب أعمالهم وما في قلوبهم من الإيمان، إذ أن الرجلين يتساويان في صورة العمل، ولكن يكون أحدهما أعظم أجراً من الآخر وذلك بسبب ما قام في قلبه من الإيمان. هذا رجل يمشي مع إخوانه في السفر، فلما طال السفر وتعبوا نزلوا، وبدلاً من أن ينام من التعب آثر الله فجاهد نفسه، فقام يُصلي حتى أيقظهم، عملٌ عظيم في الليل وأصحابه نيام وهو لا يراه أحد إلا الله عز وجل. وأيضاً جار صبر على أذى جاره، وما أكثر أذية الجيران لجيرانهم في هذه الأيام! برفع الأصوات، وطرق الأبواب، والفوضى والإزعاج، ورمي القاذورات، وفتح النوافذ من بعضهم للإشراف على عورات الجار الآخر أمورٌ كثيرة، فمن صبر حتى فرَّق الله بينه وبين جاره المؤذي بموت أو ظعن فإنه ممن يحبهم الله. وقال صلى الله عليه وسلم في بيان فضل المجاهد: (لقيام رجلٍ في الصف في سبيل الله -عز وجل- ساعةً أفضل من عبادة ستين سنة) رواه البيهقي وغيره، وهو حديث صحيح. وقال عليه الصلاة والسلام: (موقف ساعةٍ في سبيل الله خيرٌ من قيام ليلة القدر عند الحجر الأسود) رواه ابن حبان وغيره عن أبي هريرة مرفوعاً وهو حديث صحيح. وقال صلى الله عليه وسلم: (حُرِّم على عينين أن تنالهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس الإسلام وأهله من أهل الكفر) حديث حسن. نسأل الله أن يرزقنا وإياكم قيام هذه الساعة في ذلك الموقف في جهادٍ تحت راية الإسلام لإعلاء كلمة الله. اللهم لا تحرمنا هذا الأجر برحمتك يا أرحم الراحمين، وإنني لأظن أن من باتت عينه تحرس الإسلام من الدس، والافتراءات، والبدع، والشبهات التي يذيعها ويسطرها أهل الكفر والنفاق، فيقوم فيصدع ويرد عليها، ويحذِّر الناس منها، أن ذلك ليدخل في هذا الحديث: (وعينٌ باتت تحرس الإسلام وأهله من أهل الكفر).

الصدقة بالطيب

الصدقة بالطيب وقال صلى الله عليه وسلم مبيناً شيئاً من الأجر في باب الصدقة: (ما تصدق أحد بصدقة من طيبٍ -لا من حرام ولا من مال شبهة ولا رشوة ولا رباً، ولا من إيجارات المحلات التي تفتح أبوابها في أعمال المعاصي- إلا أخذها الرحمن بيمينه، وإن كانت تمرةً فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل، كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله) ويمين الله لو وضعت السماوات والأرض فيها ما خَرَّجَت شيئاً ولا ظهر منها شيء، يطوي الله السماوات والأرض بيمينه: كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ، ويمين الله عظيمة، وكلتا يديه يمين، سواء في القوة أو العطاء أو الخير. يكرم الله هذا المتصدق ولو بتمرة؛ لأنه أنفق مخلصاً من مالٍ طيب، وتأمل في هذا الحديث: (سبق درهم مائة ألف درهم) عجباً كيف يسبق درهم واحد مائة ألف درهم؟!! يقول صلى الله عليه وسلم موضحاً ذلك: (رجل له درهمان، فأخذ أحدهما فتصدق به -أي: تصدق بنصف ماله- ورجل له مال كثير فأخذ من عُرْضِه مائة ألف فتصدق بها) فالأعظم هو الأول الذي أنفق أقل؟! لأنه أنفق نصف ماله، وهذا الغني الذي له الآلاف المؤلفة أخذ من عرضها مائة ألف فتصدق، وما ضرته شيئاً، لكنَّ الأول تصدق بنصف ماله: فإذا تأمل العبد هذه الأعمال، وكم فيها من الأجر فلا يحتقر منها شيئاً: (اتقوا النار ولو بشق تمرة). نسأل الله أن يعظم أجورنا وأجوركم، وأن يرشدنا وإياكم لولوج أبواب الخيرات، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

إماطة الأذى عن الطريق

إماطة الأذى عن الطريق الحمد الله الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له الحي القيوم الرحمن الرحيم الكريم المتفضل على عباده بأنواع الإحسان، ومنها: مضاعفة الحسنات ورفع الدرجات. يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه: (لقد رأيت رجلاً يتقلب في الجنة في شجرةٍ قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي الناس) بم تقلب في الجنة؟! بأذىً أماطه عن الطريق، وله -أيضاً- في صحيحه من حديث أبي هريرة مرفوعاً: (مر رجلٌ بغصن شجرةٍ على ظهر الطريق فقال في نفسه: والله لأنحيَّن هذا عن المسلمين حتى لا يؤذيهم، فأُدخل الجنة) وقال صلى الله عليه وسلم: (من رفع حجراً عن الطريق كتبت له حسنة، ومن كانت له حسنة دخل الجنة) حسنة متقبلة عند الله يدخل بها الجنة، فرفع حجرٍ من الطريق أو إزالة غصن من الشارع لا يأخذ منك شيئاً، لكنَّ الباعث على هذا العمل من صدق الإيمان؛ لا رياء ولا سمعة يجعل الله فيه أجراً عظيماً، أعمال بسيطة لكن أجرها عند الله كبير. إن المشكلة -أيها الاخوة- أن كثيراً من المسلمين يعلمون أبواب الأجر والحسنات وهي كثيرة جداً، ومع ذلك يقفلونها ويدخلون أبواب السيئات.

فضيلة قتل الوزغ

فضيلة قتل الوزغ يقول صلى الله عليه وسلم: (من قتل وزغاً من أول ضربة كُتِبَ له مائة حسنة، وإن قتلها في الضربة الثانية فله كذا وكذا حسنة، وإن قتلها في الضربة الثالثة فله كذا وكذا حسنة) أي: أقلُّ، رواه الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود والترمذي، وابن ماجة، عن أبي هريرة مرفوعاً، وأسباب قتل الوزغ هي: السبب الأول: أن الدواب كلها كانت تنفخ النار عن إبراهيم لتطفئها إلا الوزغ فإنه كان ينفخ النار على أبينا إبراهيم، فلذلك وبعد موته بآلاف السنين نحن نقتل الوزغ مشاركةً شعورية منا لأبينا إبراهيم في محنته تلك، فإن قلت: ما بال هذا الوزغ من ذلك الوزغ؟ فأقول: السبب الثاني: أنه قد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال فيما رواه النسائي: (الوزغ فويسق، والفويسقات يُقتلن في الحِل والحرم) والفويسقات مثل: الحدأ، والكلب العقور، والحية، والعقرب، والفأر، وكل ضار مؤذٍ يقتل، ومن بينها الوزغ، فإذا قتلت الوزغ بضربة فلك مائة حسنة.

عدم تحريز الزرع لئلا تأكل منه الطيور

عدم تحريز الزرع لئلا تأكل منه الطيور وقال صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلمٍ يزرع زرعاً أو يغرس غرساً فيأكل منه طيرٌ أو إنسانُ أو بهيمةُ إلا كانت له به صدقة) متفق عليه. ما من مسلم يغرس غرساً إلا كان ما أكل منه صدقة، وما سرق منه صدقة، وما أكل السبع فهو له صدقة، وما أكلت الطيور فهو له صدقة، ولا يرزؤه أحدٌ -أي: ما ينقص منه أحد بأخذ- إلا كان له صدقة، كثير من الناس يزرعون ويُشجِّرون؛ لكن من ذا الذي ينوي بزرعه الأجر إذا أكل منه إنسان أو طائر أو بهيمة.

فضيلة الإقراض وإنظار المعسر

فضيلة الإقراض وإنظار المعسر وقال صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يقرض مسلماً قرضاً مرتين إلا كان كصدقتها مرة) وقال صلى الله عليه وسلم: (من أنظر معسراً أو وضع عنه أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله) وقال: (من أنظر معسراً فله بكل يوم مثله صدقة قبل أن يحل الدين، فإذا حلَّ الدين فأنظره فله فيه بكل يوم مثلاه صدقة). فإذا أقرضت مسلماً قرضاً فلك وقت حلول الدين أجر نصف الصدقة بهذا المال، فإذا جاء الدين وأنظرته فكأنك تأخذ أجر هذا المال كله صدقة، فإذا جاء موعد الإنظار ولم يفِ وأعسر فأنظرته فلك في كل يوم مثلاه صدقة. وقد كان بعض الصالحين يُخصص مبلغاً من ماله فقط ليسلفه، استثمار بمجرد الإقراض ليحصل له نصف أجر الصدقة، وإذا أنظرته للمرة الأولى صدقة كاملة وللمرة الثانية يكون الأجر مثليه. لعل هذه الأحاديث تُحرِّك في نفوس الناس احتساب الأجر في المعسرين، وإذا استطردنا الكلام على أبواب الخير لو جدناها كثيرة لكن من المشمر! والله المستعان. اللهم إنَّا نسألك حب الخيرات، وإطعام المساكين، ورفع الدرجات. اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا. اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا. اللهم واجعل فيما أعطيتنا عوناً لنا على طاعتك، اللهم اجعل فيما أنزلت علينا من المطر رحمة من عندك، اللهم اجعله غيثاً مغيثاً، هنيئاً مريئاً، سحَّاً عاماً، غدقاً طبقاً، نافعاً غير ضار. اللهم سقيا رحمةٍ لا سقيا عذاب ولا بلاء ولا هدم ولا غرق، اللهم أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم واجعلنا لنعمائك من الشاكرين، وعند البلاء من الصابرين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

الإمام علي بن المديني [2،1]

الإمام علي بن المديني [2،1] بحر من بحور العلم! بدأ يطلب العلم على يد والده، ثم رحل إلى المدن العراقية وتنقل فيها طلباً للعلم، ثم رحل إلى اليمن وإلى غيرها من الأمصار، فيا ترى! من هو هذا الإمام؟ وما هي أخلاقه؟ ومن هم شيوخه وتلامذته؟ ومن قرناؤه؟ هذا الإمام الجهبذ ما موقفه في فتنة خلق القرآن؟ وهل صحيح ذلك الكلام الذي يحكى عنه بأنه وقف مع ابن أبي دؤاد ضد الإمام أحمد؟ كل هذا ستعرفه في هذا الدرس، وستعرف الكثير الكثير عن هذا الإمام الفذ.

نبذة عن الزمن الذي عاصره ابن المديني

نبذة عن الزمن الذي عاصره ابن المديني الحمد لله رب العالمين، الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، حمداً يوافي نعمه، ويكافئ مزيده. والصلاة والسلام على النبي المصطفى الأمين، خير خلق الله وخاتم رسله أجمعين، وعلى آله وصحبه الذين ساروا على هديه واقتفوا سنته ومنهجه القويم، ومن تبعهم بإحسانٍ وتأسى بهم إلى يوم الدين. أيها الإخوة: لقد منَّ الله سبحانه وتعالى على المؤمنين بأن أنزل فيهم كتابه وحَفِظَه، فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]. وكان من توابع هذه المكرمة الإلهية: حفظ السنة لأجل حفظ الكتاب؛ لأن الله عز وجل جعلها تبياناً، فقال سبحانه وتعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل:44]. وكان ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرم الله، {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]. فكانت سنة النبي صلى الله عليه وسلم في غاية الأهمية؛ لأن فهمها فهمٌ لكتاب الله، وكان الاعتناء بصحتها من العبادات العظيمة؛ لأنه لا يمكن التوصل إلى معرفة الوحي الصحيح الذي نعرف به معاني الكتاب وما أنزل إلينا ربنا من الأحكام الشرعية إلا عن طريق الدليل الصحيح؛ ولذلك توجهت وانصرفت جهود أئمة الإسلام لحفظ السنة وتنقيتها وتمييز صحيحها عن سقيمها وضبطها، وصار الأمر كما روى مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه، عن محمد بن سيرين، قال: [لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة، قالوا: سموا لنا رجالكم، فيُنْظَر إلى أهل السنة، فيؤخذ حديثهم، ويُنْظَر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم] وصار عندنا هذا العلم -علم الجرح والتعديل-الذي ليس عند أي أمة أخرى من الأمم على الإطلاق. ومن العلماء الذين قيضهم الله عز وجل لتمييز الحديث الصحيح من السقيم: القسم الأول: مَن تكلم في أكثر الرواة: مثل: ابن معين، وأبي حاتم الرازي. القسم الثاني: من تكلم في كثير من الرواة: كـ مالك وشعبة. القسم الثالث: من تكلم في الرجل بعد الرجل: كـ ابن عيينة، والشافعي رحمهما الله تعالى. ومن العلماء الأعلام الذين حفل بهم تاريخ السنة في هذه الأمة، ومن الذين كان لهم إسهامات ضخمة في هذا العلم -وهو الذي سنتحدث عن سيرته إن شاء الله في هذه الليلة- الإمام علي بن المديني رحمه الله تعالى. ويكفينا أنه شيخ البخاري، وأنه الذي قال البخاري فيه: "ما استصغرت نفسي عند أحدٍ إلا عند علي بن المديني ". فمتى عاش هذا الإمام؟ وما هي الظروف التي رافقت حياته، والأحوال التي كانت موجودة في ذلك الوقت؟ هذا قبل أن ندخل في سيرته الذاتية، وجهوده في طلب العلم، ونشر السنة، وتمييز الحديث. أما العصر الذي عاش فيه علي بن المديني رحمه الله تعالى: فإنه وُلِد رحمه الله وقد مضى على خلافة المهدي العباسي أكثر من سنتين؛ لأن ولادته رحمه الله كانت سنة (161هـ). وتوفي الإمام ابن المديني وقد مضى من خلافة المتوكل قرابة سنتين؛ لأن وفاته رحمه الله كانت سنة (234هـ). فيكون ابن المديني رحمه الله قد عاش (73) سنة، وعاصر خلالها من خلفاء بني العباس ما بين المهدي والمتوكل، فيكون قد عاصر: - المهدي. - والهادي. - والرشيد. - والأمين. - والمأمون. - والمعتصم. - والواثق. وعاصر جزءاً من خلافة المتوكل في آخر عمره.

استقرار الدولة الإسلامية في زمن ابن المديني

استقرار الدولة الإسلامية في زمن ابن المديني لا شك أن هذه الفترة كانت فترة استقرار في الدولة الإسلامية في ذلك الوقت، ووصلت إلى أوج قوتها وعظمتها، حتى قال ابن طبا طبا رحمه الله: "واعلم -عَلِمْتَ الخيرَ- أن هذه الدولة -العباسية- من كبار الدول، ساست العالَمَ سياسةً ممزوجةً بالدين والمُلك، فكان أخيار الناس وصلحاؤهم يطيعونها تديناً، والباقون يطيعونها رهبةً أو رغبةً، ثم مكثت فيهم الخلافة والمُلك حدود ستمائة سنة". وكانت هذه الدولة -ولا شك- في أولها وفي قوتها غُرَّةً في جبين الدهر، وتاجاً على مفرق العصر، كما ذكر ذلك المؤرخون. وبطبيعة الحال كان المجتمع الإسلامي في ذلك الوقت مجتمعاً قوياً، وكانت فيه الأموال كثيرة، وظهرت طبقات من الأغنياء، وظهرت مظاهر الترف والبذخ والتفنن في العُمْران وغير ذلك. وكان من أشهر خلفاء هذه الفترة: هارون الرشيد رحمه الله، الذي امتدت رقعة المملكة في عصره إلى معظم الدنيا، ولَمْ يَجتمع على باب خليفة من الشعراء، والأمراء، والعلماء، والفقهاء، والقرَّاء، والقضاة، والكتَّاب، ما اجتمع على باب الرشيد رحمه الله. وكذلك انتشر في ذلك العهد القُصَّاص الذين كانوا يتكسبون بإيراد القصص والأساطير على الناس مما لا يكون له صحة غالباً، فحصل من علماء أهل السنة تبيان حال هؤلاء القُصَّاص، وقال ابن المديني رحمه الله: أكذب الناس ثلاثة: - القُصَّاص. - والسُّؤَّال -أي: الذين يسألون. - والوجوه -أي الوجهاء- قلت: فما بال الوجوه؟ قال: يكذبون في مجالسهم، ولا يُرَدُّ عليهم. فهذا شيء مما كان في عصره.

الحركة العلمية في زمن ابن المديني

الحركة العلمية في زمن ابن المديني أما بالنسبة للحركة العلمية، فلا شك أنها كانت حركة علمية قوية جداً في ذلك الوقت، وصارت بغداد حاضرة العالم الإسلامي، يأتي إليها طلاب العلم من كل صوب وحدب، ويقصدونها لينهلوا منها، وكان منهم بطبيعة الحال: علي بن المديني رحمه الله الذي قدم بغداد، ونَبَغ في المدن الإسلامية في ذلك الوقت من المحدِّثين عدد من أهل العلم: فمن الذين نبغوا في البصرة؟ يحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، وكلاهما قد توفي في سنة (198هـ) وأخذ عنهما ابن المديني رحمه الله وتخرج. وكذلك نبغ فيها أيضاً: إسماعيل بن عُلَيَّة، وعفان بن مسلم، وأبو الوليد الطيالسي. وفي غيرها من أمصار المسلمين كان هناك أئمة أعلام، لكن لماذا ركزنا على البصرة؟ لأن ابن المديني رحمه الله نشأ فيها. وكان هارون الرشيد رحمه الله معروفاً بالتواضع لأهل العلم، حتى أن أبا معاوية الضرير محمد بن خازن يقول: أكلتُ عنده -عند الرشيد - يوماً ثم قمت لأغسل يديَّ، فصب الماء عليَّ وأنا لا أرى، ثم قال -أي: الخليفة-: يا أبا معاوية! أتدري من يصب عليك الماء؟ قلت: لا. قال: يصب عليك أمير المؤمنين. قال أبو معاوية: فدعوت له. فقال هارون: إنما أردت تعظيم العلم. وبعد هارون الرشيد اشتهر من الخلفاء: المأمون، وقد وصفه ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية بقوله: "كانت له بصيرة بعلوم متعددة؛ فقهاً وطباً وشعراً وفرائض وكلاماً ونحواً وغريبَ حديثٍ وعلمَ النجوم". ولكن الرجل اغتالته عقول المعتزلة في مسألة خلق القرآن، وحصل أيضاً أن المأمون قد شجع حركة الترجمة في ذلك العصر من لغة اليونان وغيرها من اللغات. ولما اتسعت الفتوحات أرسل المأمون من يشتري المصنفات والخزائن -خزائن الكتب من المدن المختلفة- وفرَّغ من يترجمها، وأُودعت في بيتٍ يسمى: "بيت الحكمة" وكان قد أسسه هارون الرشيد، فعمد المأمون على تزويده بشتى الكتب، حتى أصبح بيت الحكمة من أكبر خزائن الكتب في العصر العباسي، لكن هذه الترجمة لم تمر دون ضريبة، فقد دخل عن طريق هذه الترجمة ما دخل من الانحرافات على الجسم الإسلامي أو المجتمع الإسلامي، وهذا هو عصر علي بن المديني رحمه الله.

نسب علي بن المديني

نسب علي بن المديني بالنسبة لنسبه رحمه الله فهو: علي بن عبد الله بن جعفر بن نجيح السندي -مولاهم- البصري، المعروف بـ ابن المديني. ونسبة علي بن المديني إلى السندي نسبة ولاء، ليس من القوم، وإنما هو مولاهم. وأما لقب المديني بفتح الميم وكسر الدال، فإنها نسبة إلى المدينة، والقياس بالنسبة إلى المدينة أن يقال: مدني، المدني، ولكن هذه الكلمة جرت على غير القياس. وقال ياقوت الحموي: "المشهور عندنا أن النسبة إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم: مدني -مطلقاً- وإلى غيرها من المدن مديني، للفرق لا لعلة أخرى". وهذا رأي من الآراء. قال: وربما رده بعضهم إلى الأصل، فنسب إلى مدينة الرسول أيضاً: مديني، قال: وعلى هذه الصيغة يُنسب أبو الحسن علي بن عبد الله بن جعفر بن نجيح السندي والمعروف بـ ابن المديني، كان أصله من المدينة ونزل البصرة. أما كنيته رحمه الله فهي: أبو الحسن، كما قال ذلك معاصره محمد بن سعد رحمه الله تعالى، ولعله لم يكن له ولد يسمى بالحسن، لكن قد يكون كني بكنية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، حيث أن اسمه يوافق اسمه، فأخذ الكنية من ذلك. أصل الإمام علي بن المديني من المدينة المنورة، ولكنه بصري الدار، ولد بـ البصرة في خلافة المهدي العباسي في سنة (161هـ) كما تقدم. ومن الذي ارتحل من المدينة إلى البصرة؟ هل هو أبوه أو جده؟ في هذه المسألة خلاف. ووالد ابن المديني يروي عن عبد الله بن دينار وطبقة من علماء المدينة. كان والد الإمام علي بن المديني من العلماء، وهو: عبد الله بن جعفر بن نجيح السندي، ويكنى: بـ أبي جعفر، روى عن عدد من العلماء، مثل: إبراهيم بن مُجَمِّع، وثور بن زيد الديلي، وجعفر بن محمد الصادق، وزيد بن أسلم، وسعيد بن جبير وغيرهم كثير من العلماء العشرات الذين ذُكروا في ترجمته فيمن روى عنهم. قال الخطيب البغدادي رحمه الله: "وأبوه - أبو علي بن المديني - محدثٌ مشهور، روى عن غير واحد من مشيخة أنس بن مالك رحمه الله تعالى". إذاً: أبوه محدثٌ مشهور، كما قال الحافظ ابن تغري بردي رحمه الله. ولعله قد أصابه تغير في آخر عمره، ولذلك قال ابن حجر رحمه الله في التقريب في ترجمته: "ضعيف، تغيَّر حفظه بآخر عمره"، فهذا سبب ضعفه، أما هو من حيث الأصل، فهو محدثٌ مشهورٌ. كانت أم ابن المديني جدها جمهان وهو من المحدثين، وكانت عاقلة لبيبة، ويدل على ذلك أن علي بن المديني -ولدها- لما غاب في إحدى السفرات وترك أمه بـ البصرة فترة طويلة، فعندما رجع إلى البصرة، فرحت به وقرت عينها برجوعه بعدما اكتسب علماً، فقالت له كما ينقل هو عنها: غبتُ عن البصرة في مخرجي إلى اليمن -وكان مخرجه قرابة ثلاث سنوات- وأمي حية، قال: فلما قدمت عليها، جعلت تقول: يا بني! فلانٌ لك صديق، وفلانٌ لك عدو. فقلت لها: من أين علمتِ يا أُمَّة؟ قالت: كان فلانٌ وفلانٌ -وذكرت فيهم: يحيى بن سعيد - يأتون مسلِّمين فيعزونني ويقولون: اصبري، فلو قدم عليك -أي: ولدك- سرك الله بما ترينه، فعلمتُ أن هؤلاء محبوك وأصدقاؤك، وفلانٌ وفلانٌ إذا جاءوا قالوا لي: اكتبي إليه وضيقي عليه وحرجي عليه ليقدم عليكِ إلخ الكلام. فكانت تستدل على الصداقة والعداوة من حرصهم على مصلحته، فالذين يتظاهرون بالحرص عليها، ويقولون: ضيقي عليه حرجي عليه، بيني له أنك غضبانة عليه إذا لم يرجع في الحال، فعلمت أن هؤلاء لا يتكلمون في مصلحته. فكانت تعرف أصدقاءه من أعدائه من هذه القرينة، ولذلك يُسجل لها موقف عظيم في أنها لم تضجر لغياب ولدها الطويل ما دام ذلك في مصلحة الولد، وأنه قد ذهب في تحصيل العلم.

أولاد ابن المديني

أولاد ابن المديني أما ما كان لـ علي بن المديني رحمه الله من الأولاد، فقد ذُكِر أن له ولدان، هما: محمد، وعبد الله، وقد رويا عن أبيهما، وكان يصطحب معه أولاده إلى مجالس المحدثين، وقد ورد في ذلك قصة وقعت لـ محمد بن علي بن المديني حيث يخبرنا عنه ابنه جعفر، فيقول: سمعت أبي يقول: خرج أبي إلى أحمد بن حنبل يعوده وأنا معه، قال: فدخل عليه وعنده يحيى بن معين وذكر جماعة من المحدثين، قال: فدخل أبو عبيد القاسم بن سلاَّم، فقال له يحيى بن معين: اقرأ علينا كتابك الذي عملته للمأمون - غريب الحديث، وهو من الكتب المشهورة في تبيان معاني الكلمات الغريبة أو الصعبة في الأحاديث- فأخذه أبو عبيد فجعل يقرأ ويبدأ بالأسانيد ويدع تفسير الغريب. قال: فقال له أبي -أي: علي رحمه الله-: يا أبا عبيد! دعنا من الأسانيد نحن أحذق بها منك. فقال يحيى بن معين لـ علي بن المديني: دعه يقرأ على الوجه، فإن ابنك محمداً معك، أي: إذا كنت حاذقاً بهذا العلم، فإن ولدك يحتاجه. إذاً: الشاهد: أنه كان رحمه الله يعتني بأخذ أولاده إلى مجالس الحديث. وهذه فائدة مهمة بالنسبة لطلبة العلم ألا يحرموا أولادهم العلم وخاصة إذا بلغوا سناً يميزون به ويستفيدون من الحضور، فعليهم أن يأخذوا أولادهم إلى مجالس العلم، وبعض الطلبة ينسى أخذ أولاده إلى حلق العلم، حتى قال بعض المحدثين -وربما صدق في ذلك- أربعة لا فائدة منهم: فذكر: - حارس الدرب، ومنادي القاضي، ورجل يكتب في بلده ولا يرحل في طلب العلم، وابن المحدث؛ لأن أغلبهم يشتغل عن أولاده، فلا يهتم بتربيتهم ألبتة. وأرَّخ البخاري رحمه الله لوفاة شيخه علي بن المديني في يوم الإثنين، ليومين بقيا من ذي القعدة، سنة: (234هـ)، فهذه سنة وفاة علي رحمه الله تعالى.

معالي الأخلاق عند ابن المديني

معالي الأخلاق عند ابن المديني أمابالنسبة لسيرة هذا الإمام وأخلاقه، فإنه -رحمه الله- كان صاحب ورعٍ ونزاهةٍ. قال ابن حبان في الحديث عن الأئمة النقاد في الحديث: "مِن أورعهم في الدين، وأكثرهم تفتيشاً عن المتروكين، وألزمهم بهذه الصناعة على دائم الأوقات: أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني رحمة الله تعالى عليهم أجمعين"، فعدَّ علي بن المديني منهم.

أبو نعيم وتزكيته لابن المديني

أبو نعيم وتزكيته لابن المديني والقصة المشهورة في خروج بعض المحدثين إلى أبي نعيم الفضل بن دكين، وهذه القصة أخرجها الخطيب رحمه الله بسنده إلى أبي العباس بن عقدة يقول: خرج أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وعلي بن المديني إلى الكوفة إلى أبي نعيم، فدلس يحيى بن معين أربعة أحاديث على أبي نعيم، فلما فرغوا، رفس أبو نعيم يحيى بن معين حتى قلبه، ثم قال: أما أحمد فيمنعه ورعه من هذا، وأما هذا -أي: علي بن المديني - فتحنيثه -أي: عبادته وتقواه- يمنعه من ذلك, وأما أنت فهذا من عملك. قال يحيى: "فكانت تلك الرفسة أحب إليَّ من كل شيء". وقد وردت القصة بسياق آخر مختلف: أن يحيى بن معين وأحمد بن حنبل ومعهما ثالثٌ صغيرٌ في السن ذهبوا إلى أبي نعيم الفضل بن دكين، فقال يحيى لـ أحمد: أريد أن أختبر الرجل. قال: لا حاجة إلى ذلك، فقال: لا بد من اختباره، فأخذ من أحاديث أبي نعيم عشرة أحاديث كلها من رواية أبي نعيم الفضل بن دكين وجعل على رأسها واحداً ليس من حديثه وهكذا جعل على كل عشرة أحاديث حديثاً ليس من حديث أبي نعيم، ثم جاء إليهم فجلسوا، وكان على دكة له -مكان مرتفع -مسطبة- جلسوا عليها- فبدأ يحيى بن معين بسرد الأحاديث، على طريقة الطلاب والشيوخ، يقول: حدثكم فلان عن فلان عن فلان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. حدثكم فلان عن فلان، والشيخ يوافق، وبهذا يكون مجلس الحديث والطالب يحدث عن الشيخ بعد ذلك بهذا المجلس، ولما سرد عليه مجموعة من الأحاديث -في كل ذلك وأبو نعيم يهز برأسه موافقاً- فلما بلغ الحديث الذي ليس من حديثه، توقف أبو نعيم وقال: اضرب عليه، فهذا ليس من حديثي، ثم سرد الأحاديث التي بعدها، وكل ذلك يوافق عليه حتى وصل إلى حديث، فقال: اضرب عليه فهذا ليس من حديثي، فلما تكررت، فطن لها أبو نعيم -فطن أن القضية قضية اختبار- فقال: أما هذا -أي: أحمد بن حنبل - فأورع من أن يفعل ذلك، وأما هذا فأقل من أن يفعل ذلك، وإنه من عملك يا كذا، وأخرج رجله فرفسه فوقع من على الدكة، فلما رجعوا قال أحمد: ألم أقل لك؟ -أي: أن الرجل ثقة- فقال يحيى رحمه الله: لرَفْسَتُه أحب إليَّ من كذا وكذا. في هذه الرواية أن علي بن المديني اصطحبهم، وأن أبا نعيم الفضل بن دكين شهد له بأن تحنثه -أي: تقواه وعبادته- يمنعه من أن يفعل هذا. وكان علي بن المديني رحمه الله حريصاً على طاعة الله وأداء واجباته، فجاءت قصة: قال أحمد بن حنبل: حضرت عند إبراهيم بن أبي الليث، وحضر علي بن المديني، وعباس العنبري، وجماعة كثيرة، فنودي لصلاة الظهر، فقال علي بن المديني: نخرج إلى المسجد، أو نصلي هاهنا؟ إلى آخر القصة. فكان الذي اقترح أو الذي ابتدأ باقتراح الخروج إلى المسجد هو علي بن المديني رحمه الله، ولعله جاء بالكلام على طريقة سؤال؛ لأنه يرى أن هناك في المجلس من هو أكثر منه علماً. وكان رفيقاً حميماً للإمام أحمد رحمه الله تعالى، وكان صديقاً أيضاً للعالم الرباني محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله، ولذلك يقول عن صداقته للشافعي: كان الشافعي لي صديقاً، وكان سبب معرفتي إياه عند ابن عيينة، وكان ابن عيينة يجله ويعظِّمه - ابن عيينة شيخٌ للشافعي، وشيخٌ أيضاً لـ علي بن المديني، وتعرَّف علي بن المديني على الشافعي عند ابن عيينة - وهكذا لا زال الأخيار يتعرف بعضهم على بعض عند الأخيار، وكانت مجالس العلماء وسيلة للتعارف بين طلبة العلم، ويستفيدون أشخاصاً أجلاء من خلال هذه الحِلَق والتلاقي، وهذا هو الوضع الطبيعي للوضع المتوقع لهذه الحِلَق التي هي حِلَق ذكر الله؛ لأنها تضم الأخيار والطيبين والعلماء، ومنها تنطلق وتعقد أواصر التعارف. وهذه أيضاً فائدة من الفوائد التي ينبغي التوقف عندها.

تأثر ابن المديني بأخلاق مشايخه

تأثر ابن المديني بأخلاق مشايخه كان علي بن المديني رحمه الله حريصاً على حضور مجالس العبادة والذكر بصحبة الصالحين، يقول ابن المديني رحمه الله: كنا عند يحيى بن سعيد القطان، فلما خرج من المسجد خرجنا معه - القطان هذا من كبار العلماء- فلما صار بباب داره وقف ووقفنا معه، فانتهى إليه الروبي -ولعل هذه صفة، أو اسم لشخص كان قارئاً يجيد قراءة القرآن- فقال يحيى لما رآه: ادخلوا، فدخلنا -رأى هؤلاء الجماعة وفيهم قارئ حسن الصوت، أدخلهم جميعاً لعله يكون مجلساً إيمانياً، جلسوا في المجلس- فقال للروبي: اقرأ، فلما أخذ في القراءة، قال علي المديني: فنظرت إلى يحيى قد تغير وجهه انفعالاً وتأثراً بالقراءة حتى بلغ: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ} [الدخان:40] غُشِي عليه -أي: على يحيى رحمه الله- وكان هناك باب قريب منه، فانقلب عليه، فأصاب فقار ظهره وسال الدم، فصرخت النساء، وخرجنا فوقفنا بالباب حتى أفاق بعد كذا وكذا -خرجوا لأجل تمكين النساء من الدخول للمعالجة المعاينة، وهذا من الأدب، قال: فوقفنا بالباب حتى أفاق بعد كذا وكذا، ثم دخلنا عليه فإذا هو نائم على فراشه وهو يقول: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ} [الدخان:40]-يكرر الآية التي سمعها من القارئ- فما زالت فيه تلك القرحة حتى مات رحمه الله، وقد ذكر هذه القصة الذهبي في سير أعلام النبلاء. إذاً: علي بن المديني رحمه الله ممن عايش أولئك الأئمة، وهم أناس يخافون الله، يبكي الواحد منهم عند سماعه لكتاب الله تعالى حتى يُغشَى عليه، ولذلك يكتسبون مع العلم الخشوع، لم تكن المسألة فقط مجرد فوائد علمية، أو مجرد معلومات، إنما أشياء مع الخشوع، والأدب، والإيمان، والتقوى، والزهد وهكذا يتعلمون العلم والأدب العلم والإيمان جميعاً، وهذه هي الطريقة الصحيحة في التعليم، وليست إلقاء المعلومات. وكثيرٌ من المَجالس التي تَحصل ربما يكون قصارى ما فيها إلقاء معلومات، أما أن يتأثروا من بعض الحاضرين أو من الشيخ فهذا قليل مع الأسف! ولذلك فإن صحبة العلماء العاملين الصالحين هي المكسب الحقيقي وهي الفائدة. وكان علي بن المديني رحمه الله يتتبع شيوخه في جانب العبادة، فقال ابنٌ لـ يحيى بن سعيد: إن أباه كان يختم القرآن في كل يوم. قال علي: فتفقدته وأنا معه في البستان، فختمه في ذلك الوقت، فكان يتتبع شيخه ليتأسى به، ونحن نعرف أن القرآن لا يفقه في أقل من ثلاثة أيام؛ ولكن لأسباب ذكرها العلماء، وقد كان بعض السلف يختمون في كل يوم. وكذلك من الأشياء التي تأثر بها علي بن المديني رحمه الله، من القصص التي حصلت له ونقشت في قلبه أشياء: قال محمد بن نصر: سمعت علي بن المديني يقول: إني أزور امرأة عبد الرحمن بن مهدي بعد موته - عبد الرحمن بن مهدي من كبار العلماء، وهذا وفاء لـ عبد الرحمن كان يزور أهله- فرأيت سواداً في قبلة البيت، فقلت: ما هذا؟ فقالت: هذه موضع استراحة عبد الرحمن، كان يصلي بالليل، فإذا غلبه النوم وضع جبهته على هذا الموضع، أي: اتكأ عليه حتى لا يستغرق، فإذا غلبه النوم، وضع جبهته على هذا الموضع.

تواضع علي بن المديني

تواضع علي بن المديني وكذلك فإن علياً رحمه الله كان من المتواضعين، ومما يدل على تواضعه وحسن خلقه الآتي: كان ابن المديني رفيقاً وصديقاً وقريناً لـ أحمد بن حنبل، لكنه كان يقول: قال لي سيدي أحمد بن حنبل: لا تحدث إلا من كتاب. وقال مرة: نهاني سيدي أحمد بن حنبل أن أحدث إلا من كتاب. وقال فيه: لنا فيه أسوة حسنة. - وكان رحمه الله لا يتردد في الاستفادة ممن هو أصغر منه في السن، وكان يقول: إن العلم ليس بالسن. - قال محمد بن يونس القديمي البصري وهو أحد تلاميذ ابن المديني: "قال لي ابن المديني: عندك ما ليس عندي"، وهذا من التواضع، فلو حصل لبعض الناس ربما تظاهر أمام التلميذ أنه يعرف المعلومة منذ زمن بعيد، أما أن يقول: إنني استفدتها منك، أو عندك ما ليس عندي، فهذا بعيد عمن لم يكن من أهل التواضع، فكان ابن المديني يقول لتلميذه محمد بن يونس القديمي: عندك ما ليس عندي. وكان إذا مُدِحَ يأبى ذلك ويحول الكلام، فعندما ذكر له قول محمد بن إسماعيل البخاري: ما تصاغرتُ نفسي عند أحد إلا عند علي بن المديني، قال: ذروا قوله، هو ما رأى مثل نفسه. خطر في ذهن أحمد بن حنبل أن يسافر مع علي بن المديني إلى مكة، ولكن خوفه على ذهاب تلك الأخوة والمحبة ترك السفر معه، حيث قال أحمد بن حنبل: إني لأشتهي أن أصحبك إلى مكة، وما يمنعني إلا خوف أن أمَلَّك أو تَمَلَّني. قال علي بن المديني: فلما ودعته، قلت: أوصني. قال أحمد بن حنبل: اجعل التقوى زادك، وانصب الآخرة أمامك. فالعادة أن الأدنى يطلب الوصية من الأعلى. علي بن المديني رحمه الله كان قريناً لـ أحمد وصديقاً له ولم يكن تلميذاً، ومع ذلك يقول لـ أحمد رحمه الله: أوصني، وهذا من تواضعه رحمه الله تعالى. وفيه من الفائدة: أنه أحياناً ربما ترك الأخ مخالطة أخيه الطويلة خشية حدوث الملل من الصحبة، حفاظاً على المودة، أو دواماً وإبقاءً للعلاقة بحيث لا تفتر، أي: ترك الخلطة الزائدة إبقاءً لدرجة الأخوة ألَّا تنزل أو تهبط.

حرص ابن المديني على مصلحة إخوانه

حرص ابن المديني على مصلحة إخوانه وكذلك فإن علي بن المديني رحمه الله كان حريصاً على أهل الحديث، ناصحاً لهم، وإذا وجد فائدة لأحدهم ذكرها له، فقال سعيد بن سعد البخاري نزيل الري: سمعت مسلم بن إبراهيم يقول: كانت الكتب التي عند أبي داود لـ عمرو بن مرزوق، وقال: عمرو رجل كثير الغزو -يغزو في البحر- فكانت الكتب عند أبي داود إلى أن مات أبو داود، فلما مات أبو داود حولها عمرو بن مرزوق. قال سعيد: فقال لي علي بن المديني: اختلف إلى مسلم بن إبراهيم، ودع عمرو بن مرزوق. قال: فأتيت مسلماً في يوم مجلس عمرو بن مرزوق، فقال لي: اليوم مجلس عمرو بن مرزوق كيف جئتني؟ فقلت: إن علي بن المديني أمرني أن آتيك. فكان علي بن المديني رحمه الله ينصح الشخص بمن يفيده أكثر، فربما يكون هذا الشخص ليس متقناً في الحديث، أو ليس له ذاك الباع، أو كان مشتغلاً بالغزو، فلن يحصل له كثير تفنن، أو إتقان، أو غيره أعلم منه! بل كان يقول للطالب: اترك هذا وائت هذا؛ من أجل فائدته، فأمر علي بن المديني سعيد بن سعد البخاري بالاختلاف إلى مسلم بن إبراهيم، وترك الأخذ عن عمرو بن مرزوق؛ لأن مسلم بن إبراهيم إمام ثقة، وأما عمرو بن مرزوق فكان متكلَّماً فيه عند ابن المديني، ولم يكن بثقة في علم الحديث؛ لكنه من جهة أخرى كان مجاهداً كبيراً. وهكذا دأب الإنسان الحريص على مصلحة إخوانه أنه يخبرهم بالفائدة، يقول: هذا الشيخ أحسن وأفيد لك، هذا أغزر علماً، الزم فلاناً، دع هذا واذهب إلى الآخر، لا لهوى شخصي، وإنما حرصاً على مصلحة أخيه، أو على مصلحة الطالب. ومن باب عدم الحسد -أيضاً- على الإنسان أن يدل غيره على الخير، وعلى المكان الأكثر فائدة، وعلى الشيخ الأكثر علماً، هذا من دأب أهل العلم.

ابن المديني وتوقيره لأهل العلم

ابن المديني وتوقيره لأهل العلم كان علي بن المديني رحمه الله موقراً لأهل العلم، فجاء عن إسحاق بن إبراهيم بن أبي حبيب، قال: كنت أرى يحيى القطان يصلي العصر، ثم يستند إلى أصل منارة مسجده، فيقف بين يديه علي بن المديني، وابن الشاذكوني، وعمرو بن علي، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين وغيرهم، يسألونه عن الحديث وهم قيام على أرجلهم إلى أن تحين صلاة المغرب، لا يقول لواحد منهم: اجلس، ولا يجلسون هيبةً وإعظاماً. هذا من تبجيله مع قرنائه لأهل العلم. وذكر الخطيب أيضاً، عن فتح بن نوح النيسابوري، قال: أتيت علي بن المديني، فرأيت محمد بن إسماعيل جالساً عن يمينه، وكان إذا حدث ابن المديني التفت إلى البخاري كأنه يهابه، مع أن البخاري تلميذ عند علي بن المديني؛ لكن علي بن المديني كان يلتفت إلى البخاري في كل معلومة أو كلام أو حديث؛ هيبةً له، وكأنه ينظر هل يوافق عليه محمد بن إسماعيل أو عنده اعتراض؟ وكذلك نظرة احترام وهيبة إلى محمد بن إسماعيل مع أنه كان تلميذاً عند علي بن المديني رحمه الله.

مباسطة ابن المديني وحسن خلقه

مباسطة ابن المديني وحسن خلقه وكان رحمه الله تعالى أيضاً صاحب خلق حسن وصاحب مباسطة: فمن المباسطات التي حصلت له مع بعض أصحابه قال جعفر بن محمد الصائغ: اجتمع علي بن المديني، وأبو بكر بن أبي شيبة، وأحمد بن حنبل، وعفان بن مسلم. فقال عفان مباسطاً لهم: ثلاثةٌ يضعَّفون في ثلاثة طبعاً بعض الرواة ثقة، لكنه ضعيف في شيخ معين، فمثلاً: هشيم ثقة، لكنه يضعَّف في الزهري، لماذا؟ لأنه دخل عليه في مجلس قصير، فسمع منه عشرين حديثاً، فلم يحفظها هشيم، بل كتبها كتابة، فلما خرج هشيم من عند الزهري، فُقِدَت الورقة، فصار هشيم يحدِّث مما علِق في ذهنه من حديث الزهري، فاختلط عليه حديث الزهري، فـ هشيم يضعَّف في الزهري، لكنه في غير الزهري ثقة، فهناك رواة ثقات في كل شيخ إلا في شيخ معين يكون عليهم ملاحظة، أو ضعف لسبب من الأسباب، فهؤلاء: ابن أبي شيبة، وعلي بن المديني، وأحمد بن حنبل، وعفان بن مسلم كلهم ثقات، ولا يوجد ضعف في أحدٍ منهم أبداً. فيقول عفان بن مسلم مباسطاً لهم: ثلاثة يُضعَّفون في ثلاثة: - علي بن المديني في حماد بن زيد. - وأحمد بن حنبل في إبراهيم بن سعد. - وأبو بكر بن أبي شيبة في شريك. قال علي بن المديني، ورابعٌ معهم. قال: ومن ذلك؟ قال: عفان في شعبة. وقال عبد الله بن علي بن المديني: حدثني أبي، قال: جعل إنسان يحدث عن ابن المبارك عن الواقدي. فقال: صرنا إلى بحر الواقدي، أي: دخلنا في بحر الواقدي والواقدي معروف بضعفه.

وقفة مع فتنة خلق القرآن

وقفة مع فتنة خلق القرآن حصلت في عهد علي بن المديني ويحيى بن معين وأحمد بن حنبل وغيرهم الفتنة المشهورة في قضية خلق القرآن، وهذه الفتنة لا بد أن نقول: لقد كان لها أثر على أهل العلم عموماً. وفتنة خلق القرآن ظهرت من قول المعتزلة الذين ظهروا في ذلك الوقت، لأن الفِرَق كانت قد خرجت؛ كـ الخوارج، والجبرية، والقدرية، والمرجئة، والجهمية، والمعتزلة، ومنهم خرجت قضية خلق القرآن. وكانت فتنة هوجاء من أعظم الفتن التي عصفت بالأمة الإسلامية. ولا خلاف بين الأمة أن أول من قال بخلق القرآن هو الجعد بن درهم، الذي قتله خالد بن عبد الله القسري في سنة: (124هـ). وحمل لواء فتنة القول بخلق القرآن بعد الجعد بن درهم الجهم بن صفوان المقتول سنة: (128 هـ)، قُتِل بـ مرو في خلافة هشام بن عبد الملك. وفي أوائل القرن الثالث الهجري أظهر هذه البدعة السيئة بشر المريسي، المتوفى سنة: (218 هـ).

أحمد بن أبي دؤاد ودوره في نشر الفتنة

أحمد بن أبي دؤاد ودوره في نشر الفتنة بعد بشر المريسي أخذ الفتنة أحمد بن أبي دؤاد الذي نشأ وتضلَّع في علم الكلام، وكان فصيحاً معظماً عند المأمون، يصغي إلى كلامه ويأخذ برأيه، فهنا بدأت المرحلة الخطيرة في قضية خلق القرآن، لأن أول ما نشأت هذه الفتنة كانت فكرة مرذولة قال بها قلة، وكانت محارَبة، محدودة، مُسَيْطَر عليها، لكنها عندما وصلت إلى أحمد بن أبي دؤاد الذي كان له حِظْوَة عند الخليفة المأمون صاحب القوة والسلطة، وكان يسمع من ابن أبي دؤاد ولا يسمع فيه، زين له القول بخلق القرآن وحسنها عنده، حتى اعتنقها المأمون وصارت عنده حقاً مبيناً، وكان ذلك في سنة: (218 هـ) وحمل الناس على ذلك وأكرههم، وبدأت المحنة. إذاً: بدأت بتسلل الفكرة الخبيثة عن طريق هذا الرجل الذي كان له حِظْوَة عند السلطان، فأقنعه بها، واعتقد أنها حق مبين، وبدأت المحنة بأن كتب المأمون إلى نائبه على بغداد إسحاق بن إبراهيم الخزاعي في امتحان العلماء، قال له: اجمع القضاة والمحدثين والفقهاء وامتحنهم بخلق القرآن، واسأل كل واحدٍ في المجلس العام: هل القرآن مخلوق أم لا؟ قال الذهبي رحمه الله: وفيها -في سنة: (218 هـ) - امتحن المأمون العلماء بخلق القرآن وكتب في ذلك إلى نائبه بـ بغداد، وبالغ في ذلك، وقام في هذه البدعة قيام معتقد بها، فأجاب أكثر العلماء على سبيل الإكراه وتوقفت طائفة، ثم أجابوا وناظروا، فلم يلتفت إلى قولهم، وعظمت المصيبة بذلك، وهدد على ذلك بالقتل. وكان أول من امتحن في فتنة خلق القرآن هو الإمام عفان بن مسلم صاحب الطرفة التي ذكرناها قبل قليل، وكان يعارض هذه الفكرة ويأبى الرضوخ لها- يقول الذهبي رحمه الله: فلما دعي عفان للمحنة وحضر، وعرض عليه القول بخلق القرآن، امتنع أن يجيب، فقيل له: يُحْبِس عطاءك -أي: يُمْنَع الراتب- وكان يُعْطَى في كل شهر ألف درهم. فقال: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:22]. فلما رجع إلى داره بعد هذه المواجهة، عذله نساؤه ومن في داره -لاموه، من أين نأكل؟ وأذهبْتَ العطاء؟ وأذهبت المال؟ - وكان يوجد في داره نحواً من أربعين إنساناً -متكفل بأربعين شخصاًَ، الموقف ليس سهلاً- فدق عليه داقٌ الباب، فدخل عليه رجل ومعه كيس فيه ألف درهم، فقال: يا أبا عثمان! ثبتك الله كما ثبتَّ الدين، وهذا لك في كل شهر. وكتب المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم أيضاً في امتحان سبعة أنفس -الخبث الآن يأتي من ابن أبي دؤاد بانتقاء الأشخاص، واختيار المشاهير من العلماء والفقهاء منهم: - محمد بن سعد، ويحيى بن معين، وأبو خيثمة زهير بن حرب، وأحمد بن إبراهيم الدورقي. فامتحنهم بخلق القرآن، ففي البداية ما أجابوه فأمر بترحيلهم إلى بغداد، ولكنهم في الطريق أجابوا، فردهم من الرقة إلى بغداد، وأجابوه تُقْيَةً -استعملوا التورية كما كان يقول بعضهم: أشهد أنه مخلوق -ويقصد إصبعه- أو يقول: أشهد أن التوراة والإنجيل والزبور والفرقان وصحف إبراهيم أنها مخلوقة -يقصد أصابعه الخمس- المهم: صارت أفكار العلماء تدور في قضية التورية في هذا الظرف الشديد. ثم كتب المأمون بعد امتحان هؤلاء السبعة، طلب منه أن يحضر الفقهاء ومشايخ الحديث ويخبرهم بما أجاب به هؤلاء السبعة -يقول: انظر يحيى بن معين، ومحمد بن سعد، وأبا خيثمة، وأحمد بن إبراهيم الدورقي، قد وافقوا على القول بخلق القرآن، كل هذا من الخبيث ابن أبي دؤاد صاحب الأفكار التي يمليها على المأمون لكي يزلزل بها أهل السنة ويفرق بها الجمع؛ لأن الجمع على أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق- فكتب المأمون إلى نائبه بأن يحذر الفقهاء ومشايخ الحديث، ويخبرهم بما جاء به هؤلاء السبعة، ففعل ذلك، فأجابه طائفة وامتنع آخرون، وكان يحيى بن معين وغيره يقولون: أجبنا خوفاً من السيف: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} [النحل:106] المسألة وصلت إلى القتل.

ثبات أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح أمام فتنة خلق القرآن

ثبات أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح أمام فتنة خلق القرآن ثم كتب المأمون كتاباً آخراً من جنس الأول إلى نائبه، وأمر بإحضار من امتنع، فأُحْضِر جماعة أولهم أحمد بن حنبل، وبشر بن الوليد الكندي وغيرهما، وعرض عليهما كتاب المأمون، فلم يجيبا، فوجه بجوابات من المأمون، فكانوا في البداية لا يجيبون، بل يسكتون. فورد كتاب المأمون بامتحانهم واحداً واحداً، فامتحنهم واحداً واحداً، فأجابوا كلهم إلا أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح وكان شاباً، فوجههما إلى طََرْسُوْس -أو طََرَسُوْس، كلاهما صحيح، وجهان لاسم هذه المدينة- فلما صاروا إلى الرقة، بلغتهم وفاة المأمون، فحملا في سفينة، فلما وصلا إلى عانات -وهي مدينة في وسط الفرات - توفي محمد بن نوح -طبعاً بوفاة المأمون لم تنته القضية؛ لأن المأمون أوصى المعتصم بأن يحمل الراية من بعده- وكان الإمام أحمد يدعو الله تعالى ألَّا يريه وجه المأمون، فاستجاب دعاءه، فتوفي المأمون قبل أن يصل إليه الإمام أحمد، ولما توفي المأمون، رُدَّ أحمد من الطريق- وتوفي محمد بن نوح، فأُطْلِق قيده -لأنه مات في القيد- وصلى عليه الإمام أحمد رحمه الله. ومما يروى عن الإمام أحمد قوله: ما رأيت أحداً على حداثة سنه وقلة علمه أقوم بأمر الله من محمد بن نوح، وإني لأرجو أن يكون الله قد ختم له بخير. فالذين صبروا على المحنة أربعة أشخاص، كلهم من مرو كما قال أبو العباس بن سعيد المروزي وهم: 1 - أحمد بن حنبل. 2 - أحمد بن نصر الخزاعي. 3 - محمد بن نوح. 4 - نعيم بن حماد. وذكر ممن لم يجب أيضاً أبا نعيم الفضل بن دكين، وعفان بن مسلم، وأبا يعقوب يوسف بن يحيى البويطي -تلميذ الشافعي وصاحبه- وإسماعيل بن أبي أويس، وأبا مصعب المدني، ويحيى الحِمَّاني. ونقل عن البويطي قولته المشهورة: "فوالله لأموتن في حديدي هذا حتى يأتي من بعدي قومٌ يعلمون أنه قد مات في هذا الشأن قوم في حديدهم، ولئن أدخلت عليه لأصْدُقَنَّهم عليه" أي: على الخليفة الواثق. ويؤخذ أبو مسهر عبد الأعلى بن مسهر الدمشقي، شيخ أهل الشام ومحدثهم، مكبلاً بالحديد فيمتحن ويصر على الرفض بخلق القرآن، ويهدَّد بالقتل، ثم يستجيب تحت التهديد بالسيف، ومع ذلك يعاد بأغلاله إلى بغداد، ويموت في سجنها. ومات المأمون، وأوصى إلى المعتصم من بعده بامتحان الناس بخلق القرآن، فقام بتعذيب العلماء والمحدثين الذين لم يقولوا بخلق القرآن، ومكث أحمد في السجن منذ أُخِذ وحُمِل وضُرِب إلى أن خُلِّي عنه (28) شهراً. ويقال: إن المعتصم رقَّ في أمر الإمام أحمد لما رأى ثباته وتصميمه وصلابته؛ ولكن ابن أبي دؤاد قال له: إن تركته، قيل: إنك تركت مذهب المأمون وسخطت قوله، فهاجه ذلك على ضربه أي: على ضرب الإمام أحمد رحمه الله. وبعد المعتصم خلفه الواثق وورث الدعوة إلى هذه البدعة، وامتحن الناس، لكنه لم يتعرض لـ أحمد، إما لأنه خاف من أن يتألب عليه العامة، أو لما علم من صبره، وأنه لا فائدة من تعذيبه، ولكن قال لـ أحمد: لا تشاكلني بأرض -أي: لا أريد أن أرى وجهك في مملكتي، فاختفى أحمد رحمه الله تعالى بقية حياة الواثق، وبعد أن مات الواثق ظهر أحمد إلى العلن مرةً أخرى. وفي عهد الواثق توسعت دائرة الفتنة، وشملت كافة الأمصار، وكان الفقهاء يُساقون إلى بغداد ليمتحنوا في هذه المسألة ويُفَتَّش عنهم وعن نواياهم وعن قلوبهم، ولم يبق فقيه ولا محدث ولا مؤذن ولا معلِّم حتى أُخِذ بالمحنة، فهرب كثير من الناس، وملئت السجون ممن أنكر المحنة، ومُنِع الفقهاء من الجلوس في المساجد، واستمر الحال في أيام الواثق.

بداية ارتفاع محنة خلق القرآن

بداية ارتفاع محنة خلق القرآن ورد كتاب المتوكل برفع المحنة بعد الواثق، وكان من الأسباب التي أدت إلى رفع المحنة مناظرة جرت بين يدَي الواثق، فمنها رأى الواثق ترك الامتحان، لكنه كان لا يزال على القول بخلق القرآن، لكن ترك امتحان الناس بسبب حادثة حصلت، قيل: إنه جيء له بشيخ مقيد، فأذِن الواثق لـ أحمد بن أبي دؤاد بمناظرة هذا الشيخ، فقال أحمد بن أبي دؤاد: يا شيخ! ما تقول في القرآن؟ قال الشيخ: لم تنصفنِ، ولِّنِي السؤال -لماذا أنت تبدأ بالسؤال؟ أنا أبدأ بالسؤال. قال: سَل. فقال له الشيخ: ما تقول في القرآن؟ قال: مخلوق. قال: هذا شيء علمه النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي أم لم يعلموه؟ فقال: شيء لم يعلموه. فقال: سبحان الله! شيء لم يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أبو بكر، ولا عمر، ولا عثمان، ولا علي، وعلمتَه أنت؟! قال: فخجل، وقال: أقِلْني، أي: أعطني فرصة أسحب جوابي. فأعاد عليه السؤال، قال: ما تقول في خلق القرآن؟ قال: مخلوق. قال: أهذا شيء علمه النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون من بعده، أم لم يعلموه؟ قال: علِموه ولم يدعوا الناس إليه. لأن هذه ورطة، لأنه لو قال: ما علِموه، معناها: أن هذا صار أعلم من النبي عليه الصلاة والسلام؟! وإذا قال: علِموه، سيكون السؤال الذي بعده: حسناً: هل دعوا الناس إليه، وامتحنوا الناس عليه؟ فيكون A لا. فلذلك ابن أبي دؤاد جاء بالجواب في فقرتين، فقال: علِموه ولم يدعوا الناس إليه. فقال: أفلا وسعك ما وسعهم؟ جميلٌ! علموه؟! حسناً! لكن ألا يسعك ما وسعهم؟! إذا هم تركوا امتحان الناس عليه، أما تفعل مثلهم تترك امتحان الناس عليه؟! ثم قام الواثق، فدخل المجلس -مجلس الخلوة- واستلقى على قفاه، وهو يقول: هذا شيء لم يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أبو بكر، ولا عمر، ولا عثمان، ولا علي، علمتَه أنت! سبحان الله! ويكرر ما قاله الشيخ المقيد، ثم أمر برفع القيود عنه وإعطائه أربعمائة دينار، وأذن له في الرجوع، وسقط من عينيه ابن أبي دؤاد، ولم يمتحن بعد ذلك أحداً في هذه القضية. كانت هذه المناظرة هي بداية انفكاك المحنة. ثم جاء بعد الواثق المتوكل، والمتوكل رجع إلى قول أهل السنة، وأظهر قول أهل السنة أن القرآن منزل غير مخلوق، وكُشفت الغمة عن الناس، وأظهر برفع الإمام أحمد رحمه الله، ورجع كل شيء إلى ما كان عليه، فحمد الناس المتوكل رحمه الله لذلك الفعل. والكلام سيكون هو موقف ابن المديني في هذه المحنة، والاعتذار عنه بما حصل.

موقف ابن المديني من فتنة خلق القرآن

موقف ابن المديني من فتنة خلق القرآن طالت هذه المحنة أعداداً غفيرةً من العلماء، وكان منهم: علي بن المديني رحمه الله تعالى. فما هو موقفه في هذه المحنة؟ وما قيل عنه؟ وما هو اعتقاده في هذه المسألة؟ هذه قضية جديرة بالبحث. لا بد أن نعلم أن علي بن المديني رحمه الله لم يكن موقفه في هذه المحنة مثل موقف الإمام أحمد رحمه الله، فإن موقف الإمام أحمد رحمه الله فاق كل المواقف، وكان هو رجل الموقف بلا شك، ولكن الإمام علي بن المديني رحمه الله قد افتُريت عليه افتراءات في هذا المقام، فلا بد من بيان موقف الإمام علي بن المديني رحمه الله في هذه القضية.

عقيدة ابن المديني في القرآن

عقيدة ابن المديني في القرآن أولاً: لا شك أن علي بن المديني رحمه الله من أئمة أهل السنة، واعتقاده في سائر أبواب العقيدة هو اعتقاد أهل السنة والجماعة، وبطبيعة الحال، فإن الكلام في اعتقاده رحمه الله في القرآن لا بد أن يكون جارياً على اعتقاد أهل السنة والجماعة في أن القرآن منزلٌ غير مخلوق، وهذا أمرٌ لا شك فيه، والنقولات عن هذا الإمام تثبت ذلك. فقد جاء عنه رحمه الله تعالى أنه قال في هذه المسألة: أن القرآن كلام الله سبحانه وتعالى منزلٌ غير مخلوق، ونقل العلماء رحمهم الله عنه عباراته التي تؤدي هذا المعنى. فيقول إبراهيم بن عثمان بن أبي شيبة: سمعت علي بن المديني على المنبر يقول: من زعم أن القرآن مخلوقٌ فهو كافر، ومن زعم أن الله لا يُرى فهو كافر، ومن زعم أن الله لم يكلم موسى على الحقيقة فهو كافر. وقال إبراهيم بن عثمان بن أبي شيبة أيضاً: سمعت علي بن المديني يقول قبل أن يموت بشهرين: القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن قال: إنه مخلوق فهو كافر. إذاً: اعتقاد الإمام علي بن المديني رحمه الله في المسألة اعتقاد واضح لا لبس فيه من جهة ما يعتقده الرجل في هذه القضية، لكنه -ولا شك- بحسب الروايات التي جاءت لم يكن موقفه في القوة والصلابة مثل موقف الإمام أحمد رحمه الله، ولعل له عذراً في ذلك، فالرجل قد سُجِن وضُرِب. يقول علي بن الحسين بن الوليد: حين ودعت علي بن عبد الله بن جعفر -أي: ابن المديني - قال: بلغ أصحابنا عني أن القوم كُفَّار ضُلاَّل، ولم أجد بُدَّاً من متابعتهم؛ لأني جلست في بيت مظلم ثمانية أشهر، وفي رجلي قيد ثمانية أمنان حتى خفت على بصري. فإذاً: واضح أنه رحمه الله قد أُكْرِه على قول الباطل، وهذا هو صريحٌ في قوله: ولم أجد بُدَّاً من متابعتهم. والإكراه واضح من قوله: "لأني جلست في بيت مظلم ثمانية أشهر، وفي رجلي قيد ثمانية أمنان حتى خفت على بصري". واعتقاده في المعتزلة الذين يقولون بخلق القرآن وحملوا الناس على ذلك، قال: بلغ أصحابنا -أي: أهل السنة وأهل الحديث- عني أن القوم كُفَّار ضُلاَّل، ولم أجد بُدَّاً من متابعتهم. ويقول ابن المديني -رحمه الله- أيضاً: ما في قلبي مما قلتُ وأجبتُ إليه شيء -الذي قلتُ وأجبتُ إليه وأنا مُكرَه ليس اعتقاداً بقلبي- ولكني خفت أن أقتل، وتعلم ضعفي أني لو ضُربت سوطاً واحداً لَمُتُّ. وذكر رجلاً من الرواة وتكلم فيه مرة، فقال له العباس بن عبد العظيم العنبري: لا يقبلون منك، إنما يقبلون من أحمد بن حنبل -أنت بسبب موقفك، ما ثَبَتَّ، لا يأخذون بقولك في الرجال، بل يأخذون بقول أحمد قال: قوي أحمد على السوط وأنا لا أقوى. فيظهر من هذه النصوص أن الإمام علي بن المديني رحمه الله كان نحيل الجسم، ضعيف التحمل، ليس معه من القوة الجسمية ما يعينه على تلقي الضرب وهو معذور، والله تعالى قد قال: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} [النحل:106] ولكن مع ذلك فإن ابن المديني رحمه الله ظل يشعر بالندم على ما حصل منه تحت هذا الإكراه، وعدة روايات تُنْقَل عنه في تأسفه وتندمه، ونقلها العلماء.

افتراءات على ابن المديني في قضية خلق القرآن

افتراءات على ابن المديني في قضية خلق القرآن لكن الذي حصل أنه قد افتُريَت عليه أخبار. فمن القصص التي افتريت عليه: قيل: إنه دخل عليه أحد تلاميذه يوماً، فرآه واجماً مغموماً، فقال: ما شأنك؟ قال: رؤيا رأيتها؟ قال: قلت: وما هي؟ قال: رأيت كأني أخطب على منبر داوُد عليه السلام. قال: فقلت: خيراً، رأيتَ أنك تخطب على منبر نبي. قال: لو رأيت كأني أخطب على منبر أيوب، كان خيراً لي؛ لأن أيوب بلي في بدنه وداوُد فتن في دينه، وأخشى أن أفتتن في ديني، فكان منه ما كان. قال الخطيب البغدادي: أي: أنه أجاب لَمَّا امتُحِن إلى القول بخلق القرآن. ولكن هذه الرواية يقول أهل العلم في رجالها: إن العنبري هذا ناقل القصة وكنيته: أبو عبد الله غلام خليل ضعيفٌ بالاتفاق. قال الذهبي بعد حكاية القصة: غلام خليل غير ثقة. وقال فيه أبو داود: أخشى أن يكون دجال بغداد. وقال الدارقطني: متروك. وقال فيه مرة أخرى: يضع الحديث. إذاً: هذه حكاية مُطَّرَحة باطلة لا يُعَوَّل عليها. ثم قد افتُرِيَت عليه قصة أخرى أيضاً: فجاء عن الحسين بن فهم عن أبيه: قال ابن أبي دؤاد للمعتصم: يا أمير المؤمنين! هذا -أي: أحمد بن حنبل - يزعم أن الله تعالى يُرى في الآخرة، والعين لا تقع إلا على محدود, والله تعالى لا يُحَدُّ. فقال له المعتصم: ما عندك في هذا؟ فقال الإمام أحمد: يا أمير المؤمنين! عندي ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقول ابن أبي دؤاد -ما عنده إلا عقليات، العين لا تقع إلا على محدود، والله لا يُحد! وهذا حتى في العقليات باطل. فالآن نحن إذا نظرنا إلى السماء، نراها لكننا لا نحيط بها، هل يمكن أن يقول أحد: لا نراها، لأننا لا نحس بها؟ لا. هل هناك منافاة بين الإحاطة والرؤيا؟ لا. يمكن أن ترى الشيء وأنت لا تحيط به، فـ ابن أبي دؤاد ما عنده إلا عقليات فاسدة- يقول: إن هذا -أي: الإمام أحمد - إن الله تعالى يُرى في الآخرة، والعين لا تقع إلا على محدود, والله تعالى لا يُحد. فقال المعتصم للإمام أحمد: ما عندك في هذا؟ قال: يا أمير المؤمنين! عندي ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: وما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: حدثني محمد بن جعفر غندر، حدثنا شعبة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن جرير بن عبد الله البجلي، قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة أربع عشرة من الشهر، فنظر إلى البدر، فقال: أما إنكم سترون ربكم كما ترون هذا البدر، لا تُضامُون في رؤيته) فأتى الإمام أحمد بالدليل الصريح على هذا. ما أتينا بعدُ إلى موضع الشاهد من القصة المفتراة. فقال المعتصم لـ أحمد بن أبي دؤاد: ما عندك في هذا؟ قال: انظر في إسناد هذا الحديث، يقول: لا بد أن نراجع الإسناد. ماذا فعل ابن أبي دؤاد -حسب القصة هذه-؟! وجَّه إلى علي بن المديني، وهو في بغداد مُمَلَّق -أي: فقير لا يقدر على درهم- فأحضره، فلما كلمه حتى أعطاه عشرة آلاف درهم، وقال: هذه من أمير المؤمنين وأن تُدْفَع إليه أرزاقه المقطوعة سابقاً رزق سنتين. ثم قال له: يا أبا حسن - ابن أبي دؤاد يقول لـ علي بن المديني، الخبير بـ العلل - يا أبا حسن! حديث جرير بن عبد الله في الرؤية ما هو؟ قال: صحيح. قال: فهل عندك فيه شيء؟ قال: يعفيني القاضي من هذا. قال: يا أبا حسن! هذه حاجة الدهر. ثم أمر له بثيابٍ وطيب ومركب بسرجه ولجامه، ولم يزل حتى قال له: في هذا الإسناد مَن لا يعوَّل عليه ولا على ما يرويه، وهو: قيس بن أبي حازم، إنما كان أعرابياً بوَّالاً على عَقِبَيه. فقبَّل ابن أبي دؤاد ابن المديني واعتنقه. فلما كان الغد وحضروا، قال ابن أبي دؤاد: يا أمير المؤمنين! -يحتج في الرؤية بحديث جرير - وإنما رواه عنه قيس بن أبي حازم وهو أعرابي بوَّال على عَقِبَيه. هذه القصة التي ذُكِرَ بعد ذلك في تكملة القصة أن الإمام أحمد قال: هذا مما عمله ابن المديني، هذه القصة باطلة النسبةِ إلى ابن المديني وكَذِبٌ عليه وافتراء. يقول الخطيب البغدادي في القصة السابقة من الخبراء بثبوت القصص، ولذلك لما أظهر اليهود في حياة الخطيب البغدادي خطاباً أو رسالة، قالوا: هذه من محمد بن عبد الله -النبي صلى الله عليه وسلم- يضع عنا الجزية، وجاءوا إلى الخليفة، قالوا: لا تأخذ منا الجزية، أن الجزية موضوعة عنا وهذا إثبات ذلك، نبيكم أعطانا صكاً بوضع الجزية، فعرضه الخليفة على العلماء، فوصل إلى الخطيب، فقال: مزور. قال: وما دليلك؟ قال: فيه شهادة معاوية بن أبي سفيان، وإنما أسلم في الفتح، والصك هذا من أيام خيبر، وفيه شهادة سعد بن معاذ، وقد مات في الخندق قبل خيبر. فـ الخطيب رحمه الله كان ذكياً وخبيراً بموضوع القصص. قال الخطيب البغدادي في هذه القصة: أما ما حُكِي عن علي بن المديني في هذا الخبر أن قيس بن أبي حازم لا يُعْمَل على ما يرويه لكونه أعرابياً بوَّالاً على عَقِبَيه، فهو باطلٌ، وقد نزه الله علياً -أي: ابن المديني - عن قول ذلك؛ لأن أهل الأثر -وفيهم علي - مجمعون على الاحتجاج برواية قيس بن أبي حازم وتصحيحها؛ إذ كان من كبراء تابعي أهل الكوفة، وليس في التابعين من أدرك العشرة المقدمين -أي: العشرة المبشرين بالجنة- وروى عنهم غير قيسٍ، مع روايته عن خلق من الصحابة سوى العشرة، ولم يَحْكِ أحدٌ ممن ساق خبر محنة أبي عبد الله أحمد بن حنبل أنه نوظر في حديث الرؤية. يقول الخطيب البغدادي: فإن كان هذا الخبر المحكي عن ابن فهم -الراوي للقصة- محفوظاً فأحسب أن ابن أبي دؤاد تكلم في قيس بن أبي حازم بما ذكر في الحديث، وعزا ذلك إلى ابن المديني، أي: ألصقها بـ ابن المديني وابن المديني منها بريء، والله أعلم. واستبعد أيضاً تاج الدين السبكي هذه القصة، فقال: وما حُكِي من أنه علل حديث الرؤيا بسؤال القاضي أحمد بن أبي دؤاد له، وقال: هذه حاجة الدهر، وأن علياً قال: فيه من لا يعوَّل عليه وهو قيس بن أبي حازم، إنما كان أعرابياً بوَّالاً على عَقِبَيه، وأن ابن أبي دؤاد قال لـ أحمد كذا والرد عليه، وأن ابن حنبل قال: علمتُ هذا من عمل ابن المديني، فهو أثرٌ لا يصح. فالمهم: أن العلماء بيَّنوا براءة علي بن المديني من هذه الفرية، وأن علي بن المديني أورع وأعظم وأرفع من أن يطعن في راوٍ متفق على أنه ثقة من أجل بغلة بسرجها ولجامها وبعض النقود، لا يمكن، فـ ابن المديني أورع من أن يفعل هذا. ومما يدل على ذلك أيضاً: أن ابن المديني له كتاب اسمه العلل، عندما جاء على ذكر قيس بن أبي حازم، توسع ابن المديني في الكلام عنه جدِّاً أكثر من أي شخص آخر في الكتاب، وأن الرجل ثقة، مما دفع بعض الباحثين إلى أن يقول: لعل ابن المديني سمع بالفرية التي ألصقت به، فلما ألف كتاب العلل، أشبع قيس بن أبي حازم توثيقاً له ليدافع عن نفسه ضد الفرية التي ألصقت به. فخلاصة القول: أن ابن المديني رحمه الله كان صحيح العقيدة في القرآن، صحيح أنه لم يثبت مثل الإمام أحمد، هذا بلا شك، أما أنه افترى وأعطى أدلة للقوم يتقوون بها فهذا كذب وافتراء، وقد تبرأ من القوم بعد ذلك، وقال: إنهم كفار، وأعلن عقيدته صريحة بعد ذلك، وبيَّن عُذْرَه، وأنه ضعيف لا يقوى على الضرب، وأن هناك فرق بينه وبين أحمد بن حنبل رحمه الله، وأظهر ندمه على كلامه مع أنه مكره عليه، وكان يبجل أحمد جداً لموقفه، ولذلك لما ورد عليه رسالة من أحمد بن حنبل في تلك الأيام ونظر إليها جعل يقول علي بن المديني: يأتي بأبي تركةُ الأنبياء. وقبَّله ووضعه بين عينيه. فقال له رجلٌ من جلسائه: يا أبا الحسن! ما نشبه أحمد بن حنبل في زماننا إلا بـ سعيد بن جبير في زمانه، فقال علي بن المديني: لا. بل أحمد في زماننا أفضل من سعيد بن جبير في زمانه؛ لأن سعيداً كان له نظراء في زمانه، وأما أحمد فلا يُعرف له نظيرٌ في شرقها ولا في غربها. الذهبي رحمه الله في ترجمة علي بن المديني: "مناقب هذا الإمام جمة لولا ما كدَّرها بتعلقه بشيء من مسألة القرآن، إلا أنه تنصل وندم وكفَّر من يقول بخلق القرآن، فالله يرحمه ويغفر له". إذاً: هذا موقف الإمام علي بن المديني رحمه الله، وكان يدعم

نفي تهمة رمي ابن المديني بالتشيع

نفي تهمة رمي ابن المديني بالتشيع ابن المديني رحمه الله له موقف آخر في مسألة إظهار بعض الأشياء في بعض الأماكن لمصلحة معينة، فقد قال يحيى بن معين: كان علي بن المديني إذا قدم علينا أظهر السنة، وإذا ورد إلى البصرة أظهر التشيع. فهذه العبارة يجب معرفة معناها، وقد شرحها الذهبي حيث قال: كان يظهر ذلك بـ البصرة ليؤلفهم على حب علي رضي الله عنه، فإنهم عثمانية. أي: أهل البصرة كان فيهم بغضٌ لـ علي رضي الله عنه تعصباً لـ عثمان. لما كان علي بن المديني يدخل البصرة يظهر التشيع، ما معنى التشيع؟ أي: نصرة علي، وإظهار فضله، وذكر مناقبه؛ لمعالجة انحراف أهل البصرة في كره علي والتعصب لـ عثمان، وقد كانت مدينة الكوفة معروفة بتشيعها، فكان ابن المديني إذا دخل الكوفة، لا يظهر التشيع؛ لأن أهلها لا يحتاجون إلى إظهار التشيع؛ لأنهم متعصبون لـ علي. إذاً: ما حصل منه رحمه الله من التَّقِيَّة في مسألة خلق القرآن كان اضطراراً، وكما قال بعض المؤرخين وهو الصحيح: "أنه إنما أجاب خشية السيف".

الرد على القول بأن الإمام أحمد لم يرو عن ابن المديني بعد المحنة

الرد على القول بأن الإمام أحمد لم يرو عن ابن المديني بعد المحنة وهناك -أيضاً- مطعن يطعنون في علي بن المديني رحمه الله، ينبغي الدفاع فيه عنه: يقولون: إن أحمد رحمه الله ما روى عنه شيئاً بعد المحنة. فالجواب عن هذه القضية: أن المحنة رُفِعَت في أيام الخليفة المتوكل سنة: (234 هـ)، وفيها توفي علي بن المديني، فكيف سيحمل أحمد عنه بعد المحنة وهو أصلاً توفي في هذه السنة؟! لكن لا يمنع أن أحمد رحمه الله من أجل تعزيز موقف أهل السنة قد أفتى أو تكلم بعدم الرواية عمن أجاب في المحنة من باب تعزيز الموقف، ولكي يحمل الرواة والمحدثين والفقهاء والعلماء ويلقنهم درساً في القضية، ولكن أحمد رحمه الله زميل علي بن المديني، وروى عنه، وكونه لم يرو عنه بعد المحنة؛ لأن علي بن المديني مات بعد ارتفاع المحنة مباشرةً، وستأتي أخبار بين أحمد بن حنبل رحمه الله وعلي بن المديني بمشيئة الله تعالى. ودافع الذهبي رحمه الله عن علي بن المديني دفاعاً قوياً لَمَّا أورد العقيلي في كتابه الضعفاء اسم علي بن المديني، وقال العقيلي: "جنح إلى ابن أبي دؤاد والجهمية -كذا يقول- وحديثه مستقيمٌ إن شاء الله". لا شك أن التعليق بالمشيئة يضعف العملية، ولذلك يقولون: (لا بأس به) أقوى مِن (لا بأس به إن شاء الله)، و (ثقة) أقوى مِن (ثقة إن شاء الله)، و (صدوق) أقوى مِن (صدوق إن شاء الله)؛ لأن تعليق الصيغة بالمشيئة يضعفها. فالآن العقيلي يزعم في كتابه الضعفاء أن علي بن المديني ضعيف. كتاب الضعفاء جَمَع فيه أسماء الضعفاء، فيأتي ويضع اسم علي بن المديني فيه؟! يقول الذهبي: وقد بدت منه هفوةٌ -أي: من علي بن المديني رحمه الله- ثم تاب منها، وهذا أبو عبد الله البخاري قد شحن صحيحه بحديث علي بن المديني، ولو تركت حديث علي، وصاحبه محمد، وشيخه عبد الرزاق، وعثمان بن أبي شيبة، وإبراهيم بن سعد، وعفان، وأبان العطار، وإسرائيل، وأزهر السمان، وبهز بن أسد، وثابت البناني، وجرير بن عبد الحميد لغلقنا الباب، وانقطع الخطاب، ولماتت الآثار، واستولت الزنادقة، ولخرج الدجال، أما لك عقلٌ يا عقيلي؟! - الذهبي يقول مناقشاً إيراد علي بن المديني في كتاب الضعفاء - يقول: أفما لك عقلٌ يا عقيلي؟! أتدري فيمن تتكلم؟ وإنما تبعناك في ذكر هذا النمط لنذب عنهم، ولنزيف ما قيل فيهم، كأنك لا تدري أن كل واحد من هؤلاء أوثق منك بطبقات، بل وأوثق من ثقات كثيرين لم توردهم في كتابك، فهذا مما لا يَغتاب فيه محدِّث، وأنا أشتهي أن تعرفني من هو الثقة الثبت الذي ما غلط، ولا انفرد لما لا يُتابَع عليه؟! ثم شرح الذهبي قضية انفراد الثقة، وقال ملخص الكلام: "الثقة إذا انفرد بما ليس عند غيره، هذا دليل على سعة علمه، وأنه سمع أشياء ما سمعوها، أما الصدوق الذي لا يصل إلى مرتبة الثقة إذا انفرد بما انفرد به غيره، كان ذلك شذوذاً". وهو يعبر عنه بالإنكار رحمه الله. ثم قال الذهبي: "فَزِنِ الأشياء بالعدل والورع، وأما علي بن المديني فإليه المنتهى في معرفة علل الحديث النبوي مع كمال المعرفة بنقد الرجال، وسعة الحفظ والتبحر في هذا الشأن، بل لعله فردُ زمانه في معناه، وقد أدرك حماد بن زيد، وصنَّف التصانيف وهو تلميذ يحيى بن سعيد القطان ". هذا قد ذكره الذهبي رحمه الله في كتابه الميزان. إذاً: هذه خلاصة قضية علاقة علي بن المديني بموضوع محنة خلق القرآن، والجواب عن ذلك. ومن الذين أجابوا تُقْيَةً: يحيى بن معين. وأناس آخرين. أما الذي برز في المسألة فهو الإمام أحمد رحمه الله. والذين لم يجيبوا قلة يسيرة جداً، بعضهم مات في الحبس، وبعضهم مات تحت العذاب، وما بقي إلا أحمد رحمه الله، والبَقِيَّة كلهم كانوا قد أجابوا تُقْيَةً، أو أنهم تواروا واختفوا، وأما الذي ثبت وظهر فهو: الإمام أحمد رحمه الله، ولعل بعضهم قد اكتفى بموقف الإمام أحمد أنه قام بالحق وأعلنه والناس ينظرون إليه، فقالوا: لعله يسعنا نحن أن ننسحب ما دام أن واحداً هناك قام بالمهمة، ومع ذلك لا يُبَرَّءون، بل أخطئوا والله يغفر لهم.

فقه الإمام علي بن المديني

فقه الإمام علي بن المديني كان الإمام علي بن المديني رحمه الله ليس محدثاً فقط -مع أنه من كبار رواة الحديث- ولا نقاداً للعلل فقط، وإنما كان فقيهاً أيضاً: كان النبي صلى الله عليه وسلم يفتي بالوحي، والصحابة الكرام كانوا يفتون بأقواله عليه الصلاة والسلام، وإذا لم يجدوا نصاً في الكتاب وولا في السنة اجتهدوا آراءهم، والتابعون ساروا على منوال الصحابة، يعرضون الأمور على الكتاب والسنة، وأقوال الصحابة، فإذا لم يجدوا اجتهدوا من عندهم. وفي عصر الأئمة المجتهدين: أبي حنيفة، ومالك، وأحمد، والشافعي، والأوزاعي، والثوري، تكونت المذاهب الفقهية، فكان بـ المدينة مدرسة، وبـ العراق مدرسة فقهية أخرى، وبـ الشام مدرسة كذلك، وكل واحدة من هذه المدارس كان لها مميزاتها وملامحها. أما بالنسبة لـ علي بن المديني رحمه الله فلا شك أنه كان من العلماء الذين جمعوا في الحديث بين الدراية والرواية، أي: من ناحية الصحة والعلل، ومن جهة المعنى والفهم والفقه، ولذلك عندما تكلم بعض العلماء الذين يعرفون الحديث رواية ودراية، ذكروا علي بن المديني من رءوس هؤلاء، فهذا الحاكم النيسابوري في كتابه معرفة علوم الحديث، قال: "فأما فقهاء الإسلام أصحاب القياس والرأي والاستنباط والجدل والنظر، فمعروفون في كل عصر وفي كل بلد، ونحن ذاكرون بمشيئة الله في هذا الموضع فقه الحديث عن أهله ليُسْتَدل بذلك على أن أهل هذه الصنعة مَن تبحَّر فيها لا يجهل فقه الحديث، إذ هو نوعٌ من أنواع هذا العلم". ثم ذكر بعض أئمة الحديث المشهورين بالرواية والدراية، يروون الأحاديث ويفقهون معانيها ليسوا فقط نَقَلَةً، قال: منهم: - محمد بن مسلم الزهري، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وعبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، وسفيان بن عيينة، وابن المبارك، ويحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، وأحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، رحمهم الله تعالى جميعاً، فذكر علياً منهم. قال الذهبي في كتابه تذكرة الحفَّاظ: لا تنظر إلى هؤلاء الحُفَّاظ النظر الشزر، ولا ترمقنهم بعين النقص، ولا تعتقد فيهم أنهم من جنس محدثي زماننا! حاشا وكلا، فما فيمن سميتُ أحداً -ولله الحمد- إلا وهو بصيرٌ بالدين، عالم بسبيل النجاة، وليس في كبار محدثي زماننا أحدٌ يبلغ رتبة أولئك في المعرفة -لأن الذهبي متأخر، في القرن الثامن- فإني أحسبك لفرط هواك تقول بلسان الحال إن أعوزك المقال: مَن أحمد؟! ومَن ابن المديني؟! وأي شيء أبو زرعة، وأبو داود؟! هؤلاء محدثون، ولا يدرون ما الفقه وما أصوله، ولا يفقهون الرأي ولا علم لهم بالبيان والمعاني والدقائق، ولا هم من فقهاء الملة -هذه كانت دعوى، ربما قالها بعضهم في عصر الذهبي، فقال الذهبي راداً على من يقول ذلك الكلام: فاسكت بحلمٍ، أو انطق بعلمٍ، فالعلم النافع هو ما جاء عن أمثال هؤلاء؛ ولكن نسبتك إلى أئمة الفقه كنسبة محدثي عصرنا إلى أئمة الحديث، فلا نحن، ولا أنت، وإنما يَعْرِف الفضل لأهل الفضل ذوو الفضل. وإذا كان الرجل الذي هو علي بن المديني رحمه الله، قد اطلع على فقه أبي حنيفة ومالك، وروى عنه وسمع روايات كثيرة عن مالك في الفقه، وكان صديقاً للشافعي، ومبجِّلاً لـ أحمد وصاحباً له، وتتلمذ على يحيى بن سعيد القطان، ووكيع بن الجراح، وعبد الرحمن بن مهدي، فكيف لا يكون رجلاً فقيهاً؟! ومن الأدلة على فقهه: أن كل أصحاب مذهبٍ حاولوا أن يدَّعوه إليه. فهذا العبَّادي الشافعي في طبقات الشافعية ذكر علي بن المديني في الطبقة الأولى من طبقات الشافعية. وكذلك الشيرازي قال: " علي بن المديني صاحبنا، وهو شافعي". وقال أبو يعلى الفراء الحنبلي: علي بن المديني حنبلي، صاحبنا، وهو ما وضعه في كتاب طبقات الحنابلة. وكذلك محمد بن محمد المخلوف المالكي اعتبر علي بن المديني في الطبقة السادسة من المالكية، قال: صاحبنا. إذاً الرجل كان فقيهاً، وحتى أن كل واحد من أصحاب المذاهب الذين ذكروا طبقات المذاهب يدَّعون أن علي بن المديني منهم، ويريدون أن يلصقوه بهم. والحقيقة: أن الرجل فيما يظهر كان مجتهداً، ليس متقيداً بمذهب معين، عنده أحاديث وأدلة كثيرة جداً، حافظ للقرآن، وعنده فهم كبير، ولا يحتاج إلى تقليد والحمد لله؛ ولذلك كان إماماً مجتهداً.

ابن المديني كان مجتهدا لا مقلدا

ابن المديني كان مجتهداً لا مقلداً نُقِلَت عن ابن المديني أقوال يعرف من خلالها أنه كان غير متمسك بمذهب معين، ولا يتبع شيخاً أو إماماً معيناً.

قول ابن المديني في مسألة السترة

قول ابن المديني في مسألة السترة فمثلاً: حديث الخط في السترة، إذا لم يجد الإنسان عصا ولا شيئاً يغرسه، يخط خطاً، وقد ذهب علي بن المديني إلى الاحتجاج بحديث أبي هريرة أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إذا صلى أحدكم، فليجعل تلقاء وجهه شيئاً، فإن لم يجد فلينصب عصاهً، فإن لم يكن معه عصاًَ فليخط خطاً ولا يضره من مرَّ بين يديه) أي: إذا ما وجدت شيئاً تضعه، فخط خطاً، هذا الحديث مختلف في صحته. لكن أحمد بن حنبل يقول: حديث صحيح، وكذا علي بن المديني -كما يقول ابن عبد البر - يصحح الحديث ويحتج به. والأحناف يقولون: لا بد من شيء يغرز، أما الخط فإنه لا يرى من بُعد ولا يغني، مع أن ابن همام الحنفي خالف مذهبه رحمه الله في هذه المسألة، وقال: السنة أولى بالاتباع. والمالكية قالوا ببطلان الخط وعدم ثبوته. والشافعي رأى في مذهبه الجديد عدم الأخذ بالخط، وذهب إلى تضعيف الحديث. فـ ابن المديني يرى بأن حديث الخط ثابت، ولذلك أخذ به ولم يتابع الشافعي، ولا مالكاً، ولا أبا حنيفة بل وافق قوله في هذه المسألة قول أحمد.

قول ابن المديني في مسألة مس الذكر

قول ابن المديني في مسألة مس الذكر ومسألة مس الذكر ينقض الوضوء أم لا؟ هذه المسألة من المسائل الخلافية الكبيرة في الفقه الإسلامي، ولكل من الفريقين أدلة، فذهب بعضهم إلى حديث بسرة، وذهب بعضهم إلى حديث قيس بن طلق، وقالوا: هذا لا يُتَوَضَّأ منه لحديث: (إنما هو بضعة منك)، وأولئك قالوا: (من مس ذكره فليتوضأ) حديثان كل واحد يُفْهَم منهم شيء مخالف للآخر. حصل نقاش ظريف ولطيف ونادر بين علي بن المديني ويحيى بن معين بحضور أحمد بن حنبل، فيقول الحافظ رجاء بن مرجى: اجتمعنا في مسجد الخيف أنا، وأحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، ويحيى بن معين، فتناظروا في مس الذكر، قال يحيى بن معين: يُتَوَضَّأ منه، أي: من مس الذكر. وتقلد علي بن المديني قول الكوفيين، وقال به. وقول الكوفيين أنه لا يتوضأ من مس الذكر. واحتج ابن معين بحديث بسرة بنت صفوان الذي هو: (من مس ذكره، فليتوضأ). واحتج علي بن المديني بحديث قيس بن طلق، الذي هو: (إنما هو بضعةٌ منك) أي: هو جزء من جسدك، فلماذا تتوضأ؟ وقال علي بن المديني لـ يحيى -في المناظرة-: كيف تتقلد إسناد بسرة، ومروان بن الحكم أرسل شرطياً حتى رد جوابها إليه، أي: الناقل بين بسرة وبين مروان شرطي، فكيف تقبل هذا السند؟ فقال يحيى بن معين -رداً على هذا الإيراد-: ثم لم يُقْنِع ذلك عروة حتى أتى بسرة -أي: بنفسه عروة بن الزبير ثقة لا شك- حتى أتى بسرة وسألها وشافهته بالحديث، فإذا لم يقنعوا بطريق الشرطي، فهذا طريق عروة عن بسرة. ثم انتقل يحيى بن معين إلى الهجوم -الآن- فقال: ولقد أكثر الناس في قيس بن طلق، وأنه لا يُحتج بحديثه، أي: وأما أنت يا علي بن المديني! حديثك -حديث قيس بن طلق - هو الذي فيه المشكلة. قال أحمد بن حنبل رحمه الله متدخلاً في النقاش: كلا الأمرين على ما قلتما -أي: كل واحد منكما له حظ من النظر والدليل، كأنه قال أي: كلاكما مصيب، كلاكما كلامه وقوله له دليل، فقال يحيى بن معين -متابعاً للنقاش، ناصراً قوله في أن من مس ذكره فليتوضأ- قال يحيى: عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر: [يُتَوَضَّأ من مس الذكر] الآن انتقل، قرأ الأحاديث المرفوعة، وانتقل إلى قول الصحابة. فقال علي بن المديني: كان ابن مسعود يقول: [لا يُتَوَضَّأ منه، وإنما هو بضعةٌ من جسدك] أي: أن ابن مسعود أفقه من ابن عمر وأعلم، أنت تقول عن ابن عمر، وهذا ابن مسعود يقول: إنه لا يُتَوَضَّأ. فقال يحيى: هذا عَن مَن؟ أي: حديث ابن مسعود مَن الذي رواه؟ فقال: عن سفيان، عن أبي قيس، عن هزيل، عن عبد الله بن مسعود، وإذا اجتمع ابن مسعود وابن عمر واختلفا، فإن ابن مسعود أولى أن يُتَبَّع؛ لأنه أكبر وأفقه. هنا تدخل أحمد بن حنبل فقال: نعم. ولكن أبا قيس الأودي لا يُحْتَجُّ بحديثه؛ لأن أبا قيس الأودي في إسناد الحديث الذي أورده ابن المديني، عن ابن مسعود، كأنه يقول: يا علي بن المديني! إسنادك الذي سقته عن ابن مسعود فيه أبو قيس الأودي لا يُحْتَجُّ بحديثه. فقال علي: حدثنا أبو نعيم، حدثنا مسعر، عن عمير بن سعيد، عن عمار، قال: [لا أبالي مسسته، أو أنفي] أي: أنا عندي هذا والأنف سواء، فأتى له بإسناد آخر، ابن المديني دائرة معلوماته واسعة، فقال: طعنتَ في إسناد ابن مسعود من جهة أبي قيس الأودي! خذ هذا شيء عن عمار. فتدخل يحيى بن معين، قال: بين عمير بن سعيد وعمار بن ياسر مفازة -كأنه قال: فيه انقطاع بين عمير بن سعيد -الذي ذكرته الآن في السند- وبين عمار بن ياسر. فتدخل أحمد، وقال: عمار وابن عمر استويا، فمن شاء أخذ بهذا، ومن شاء أخذ بهذا، فـ أحمد بن حنبل رحمه الله أنهى النقاش على أن كلا القولين لكل واحد من الفريقين أن يأخذ بما رآه، فلا هذا ولا ذاك ولا هذا القول باطل، المسألة خلافية قوية، وكلٌ قول له أدلة. وقد ذهب شيخ الإسلام رحمه الله وغيره من أهل العلم إلى التوسط بين القولين، فقال: إن مسه بشهوة أعاد الوضوء، وإن مسه بغير شهوة لا يعيد الوضوء؛ لأن حديث: (إنما هو بضعةٌ منك) يدل على ذلك -أي: أنه هو والأنف سواء، هذا يدل في حالة إذا مسه بغير شهوة، متى يكون الذكر وأي جزء من جسد الإنسان سواء في المس؟ إذا كان هناك شهوة؛ لأنه لا يحس بشهوة إذا مس أنفه، أو يده، أو رجله، فإذا مس بشهوة أعاد الوضوء، وإذا مسه بغير شهوة فلا يعيد الوضوء، ولعل هذا القول أرجح الأقوال وأعدلها، والله أعلم. لكن هذه مناظرة من المناظرات التي تثبت كيف كان العلماء يتناقشون، وهي من النوادر التي ينبغي النظر فيها، وما خسروا بعضاً من أجل نقاش، ولا صار بينهم منازعة ومقاطعة من أجل النقاش، كل إنسان يورد الإيرادات وبالأدب. فالمهم أن علي بن المديني رحمه الله لم يكن متقيداً بمذهب معين من المذاهب المعروفة، وإنما يأخذ بما ترجح لديه وما أداه إليه اجتهاده بناءً على الدليل الصحيح. وقال علي بن المديني: "إن الذي يُفتي في كل ما يُسأل عنه لأحمق"، أي: هناك أشياء تخفى.

بداية نشأة ابن المديني العلمية

بداية نشأة ابن المديني العلمية بالنسبة لمسيرة الإمام علي بن المديني رحمه الله العلمية، فقد سبق أن ذكرنا أنه بدأ منذ الصغر بطلب العلم، وحفظ القرآن، وانتقل في صباه إلى علم الحديث وتقييده، انضم في مجالس العلماء. وكانت بداية علي بن المديني في العلم مبكرة للغاية.

تقييد ابن المديني للحديث وعلومه

تقييد ابن المديني للحديث وعلومه قال ابن المديني عن بداية تقييده للحديث وعلومه: مرَّ بنا الجمَّاز ونحن في مجلس للحديث، فقال: يا صبيان -كان علي بن المديني يلعب مع الصبيان في صغره -أنتم لا تحسنون أن تكتبوا الحديث، كيف تكتبون أُسَيْداً وأَسِيْداً وأُسَيِّداً؟ -هذه كلها من أسماء الرواة، أَسِيْد، وأُسَيْد، وأُسَيِّد، كيف تكتبون هذا وهذا وهذا؟ قال ابن المديني: فكان ذلك أول ما عرفت التقييد وأخذت فيه، لَفَتَت نظره هذه الملاحظة، وبدأ يهتم بالتقييد والشكل والتفريق في نطق الكلمات المتماثلة كتابةً، والمختلفة لفظاً ونطقاً، فبدأ تمييزه منذ صغره في قضية الدقة. فالرجل منذ الصبا كان مهتماً بدقائق الأشياء، وهذا كان له شأن عظيم في المستقبل. وهنا يجب أن نلتفت إلى هذه القضية، وهي: أن إلقاء الملاحظة على الصغير مع بساطتها، أو عدم الاهتمام بها قد تكون لها آثاراً كبيرة عليه في المستقبل، فربما يندفع الإنسان لحفظ القرآن، أو طلب العلم الشرعي، أو إلى شيء من الخير بفعل ملاحظة، وأحياناً تكون بدون قصد، يبديها أحد الأشخاص له، لكنها تقر في نفس الصبي وترسخ فيه، ويكون لها أبعاداً في نفسه، فتنفتح له بها آفاق ومجالات. إذاً: يجب عدم التواني في توجيه الصغار، وكذلك ألَّا يستحقر الإنسان الملاحظة أو التنبيه؛ لأنه قد يكون هذا هو الدافع لأن يكون هذا الولد من العلماء في المستقبل. وكذلك قد يكون تنبيهاً على جانب مُهْمَل في حياته، فيبدأ بالاهتمام به. وكذلك كان ابن المديني رحمه الله له تمييز وذكاء مبكر، فقال إبراهيم بن عثمان بن أبي شيبة: سمعت علي بن المديني يقول: جلست إلى عبد الله بن خراش وأنا حدث، فسمعته يقول: حدثنا العوام، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن علي، أن النبي صلى الله عليه وسلم نصب المنجنيق على أهل الطائف، فعلمتُ أنه كذاب -هذا وهو حدث، في نقد الكلام- لكن جده شهاب بن خراش ثقة مأمون. فلما جلس إليه اكتشف كذبه وكان عمره لم يتجاوز العاشرة تقريباً. استمر علي بن المديني في الدراسة في الكتَّاب إلى السنة الرابعة عشرة من عمره تقريباً، ولذلك يقول علي بن المديني عن نفسه: مات أبو عوانة وأنا في الكتَّاب، والمعروف أن أبا عوانة قد توفي سنة: (176) أو (175هـ) فإذا طرحنا هذا من سنة ولادة علي بن المديني، يكون في ذلك الوقت عمره تقريباً أربعة عشر عاماً.

تلقي ابن المديني للعلم

تلقي ابن المديني للعلم وأما تلقيه للعلم وطلبه للحديث، فقد بدأ تقريباً وهو في الخامسة عشرة من عمره، وذلك أنه روى عن أبيه الذي توفي سنة: (178هـ) وعن غيره، ولما لاحظ شيخه سفيان بن عيينة بفراسته رغبة ابن المديني الشديدة في العلم والتحصيل، قال له مودعاً له: أما إنك ستُبْلَى بهذا الأمر، وأن الناس سيحتاجون إليك، فاتقِ الله ولتُحْسِن نيتك فيه. وهذه فائدة مهمة: إذا رأى المدرس من طالبٍ نبوغاً، وأدرك بفراسته أن هذا الطالب سيكون له شأن في المستقبل، فعليه أن يوصيه؟ لا يمكن إهمال الطالب النابغة أو الذكي، أو المجد الذي يُتَوَقع أن يكون له شأنه في المستقبل، يوصيه كما أوصى سفيان علي بن المديني. إذاً: الوصية بتقوى الله وحسن النية في الطلب، رأى طالباً مُجِداً حافظاً مهتماً، عرف أن هذا سيكون له شأن، فأوصاه بتقوى الله، وإحسان النية في طلب العلم، وإلا فإن هذا الطالب ربما قد يكون في المستقبل من أئمة السوء والضلالة، وهناك من الحفاظ ومن الناس الذين عندهم فقه وفهم عندما ساءت نيتهم ودخل عليهم الهوى أضلوا عباداً كثيراً: (إن أخوف ما أخاف على أمتي الأئمة المضلين). وقد صدقت فراسة سفيان رحمه الله في تلميذه علي بن المديني، فعندما كبر -رحمه الله- احتاج الناس إليه، وأثنى العلماء على علي بن المديني رحمه الله في قوة حفظه، وعدُّوه من الأئمة الحفَّاظ، كـ أبي يعلى الفراء، وابن عساكر، والذهبي، وابن رجب الحنبلي، وابن العماد، وجمال الدين يوسف بن تغري بردي، والخزرجي، كلهم وصفوا علي بن المديني رحمه الله بأنه إمام حافظ. وقال الإمام أحمد رحمه الله: كان علي بن المديني أحفظنا للطوال. وقال ابن أبي حاتم: سمعت محمد بن مسلم بن وارة عندما سئل عن علي بن المديني ويحيى بن معين: أيهما كان أحفظ؟ قال: علي كان أسرد وأتقن. ويحيى أفهم لصحة الحديث وسقيمه. وأجمعهم: أبو عبد الله أحمد بن حنبل. وقال ابن أبي حاتم أيضاً: سألت أبي رحمه الله عن أحمد بن حنبل وعلي بن المديني: أيهما كان أحفظ؟ قال: كانا في الحفظ متقاربين، وكان أحمد أفقه، وكان علي أفهم بالحديث. وعلي بن المديني رحمه الله كانت له في طلب العلم رحلات ولقاءات بالمشايخ، وكان له حرصٌ ومثابرةٌ على طلب العلم، وتقدمت الإشارة إلى أن ابن المديني غاب عن البصرة في طلب العلم إلى اليمن ثلاث سنوات، ولا شك أنه قد واجه فيها صعوبات؛ لأن اليمن في ذلك الوقت لم تكن بلاد كسب ولا تجارة، ولذلك لما ودع عبد الرزاق أحمد بن حنبل عندما جاء يطلب العلم عنده في اليمن والرواية في الحديث، قال له وقد عرض عليه شيئاً من المال: خذ هذا الشيء فانتفع به، فإن أرضنا ليست بأرض متجرٍ ولا مكسبٍ، فـ علي بن المديني ذهب إلى اليمن، ومعنى ذلك أنه واجه صعاباً ومشاقَّاً، وكان إذا دخل بلداً، كعادة العلماء يطوف على شيوخها واحداً واحداً يغترف مما عندهم ولا يترك أحداً. ولما كان في يوم النفير من مزدلفة -لما قدم مكة للحج- إلى منى، كان ملازماً لشيخه الوليد بن مسلم - والوليد بن مسلم شيخ أهل الشام ومحدث الديار الشامية في ذلك الوقت- ملازماً للوليد بن مسلم في مسجد منى، مع أن الزحام عليه كثير، يأخذون عنه العلم وينتظرون فرصة في الموسم، ومع ذلك كان علي بن المديني ملازماً له، حتى قال في شغفه في طلب الحديث: يحملني حبي لهذا الحديث أن أحج حجةً، فأسمع من محمد بن الحسن. وكان يقول: ربما أذكر الحديث في الليل، فآمر الجارية أن تسرج السراج، فأنظر في الحديث- إسراج السراج كان شَغْلَة، ليس مثل مفتاح النور الآن، ومع ذلك كانوا يفعلونه مرات كثيرة، البخاري رحمه الله ربما فعله في الليلة الواحدة عشرين مرة، كلما تذكر فائدة قام لكتابتها، يضع خده على الوسادة، فيتذكر الفائدة، فيقوم ويشعل السراج ويكتب، عشرين مرة في الليلة.

اعتناء ابن المديني بحديث الأعمش

اعتناء ابن المديني بحديث الأعمش لما قدم ابن المديني الكوفة من عند جرير بن عبد الحميد، جعل يُعْنَى في الكوفة بحديث الأعمش -أي حديث فيه الأعمش يطلبه ابن المديني ويكتبه- فتتبع الحديث من أصحاب الأعمش وعلى رأسهم أبو معاوية محمد بن خازن السعدي، وقدم البصرة ولقي عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله، ويحيى بن سعيد القطان قرينان تعاصرا وعاشا معاً، وكانا من كبار العلماء، وتخرج علي بن المديني على أيديهم. أخبر علي بن المديني عبد الرحمن بن مهدي، أنه يحرص على حديث الأعمش وأنه قد جمعه وكتبه، وأنه لا يزال يبحث في حديث الأعمش. فقال عبد الرحمن بن مهدي لـ علي بن المديني: اكتب ما ليس عندك. قال: فأملى عليَّ ثلاثين حديثاً من أحاديث الأعمش لم أسمع شيئاً منها، قال علي: فجعلت أتعجب من فمهمه -من أي شيء تعجب علي؟ كيف علم أنه لا يعرف الأحاديث الثلاثين؟! - قال: فجعلت أتعجب من فهمه بما ليس عندي -لأنه مجرد أن لقي علي بن المديني عبد الرحمن بن مهدي، قال: أنا حريص على جمع حديث الأعمش، وجمعت منه، قال: اكتب، اكتب، اكتب، اكتب، هذه ثلاثون حديثاً ما عندك منها شيء. قال علي: فجعلت أتعجب من فهمه بما ليس عندي. هؤلاء عباقرة، عبد الرحمن بن مهدي يعرف إلى من ذهب علي بن المديني، ذهب إلى البلد الفلانية، إذاً: لقي فلاناً وفلاناً وفلاناًَ، وعبد الرحمن بن مهدي كان قد طاف الأرض قبله، فيعرف أن الأحاديث التي سيقولها -الآن- ليست من الأحاديث التي أخذها من البلد، هو أتى بها من بعيد من قبل، فكل واحد كان يفهم ماذا عند الآخر من هؤلاء الكبار. وقال إبراهيم بن منذر: قدمت البصرة، فجاءني علي بن المديني، فقال: أول شيء أطلب: أَخْرِجْ إليَّ حديثَ الوليد بن مسلم. فقلت: يا سبحان الله! وأين سماعي من سماعك؟ إبراهيم بن منذر تواضعاً منه يقول: تريدني أن أحدثك بحديث الوليد بن مسلم وأنت يا علي بن المديني أخذت من الوليد بن مسلم وسمعته، لقيته في الحج وجلستَ عنده ورحلتَ إلى الشام، وتريدني أن أحدثك بحديث الوليد بن مسلم، وأين سماعي من سماعك؟ أنت أتقن وأجود وأضبط، فجعل يأبى ويلح. فقلت له: أخبرني بإلحاحك ما هو؟ قال: أخبرك! الوليد رجل الشام -أي: عالم أهل الشام - وعنده علم كثير، ولم أستمكن منه -ما استطعت أن أحصر روايات الوليد بن مسلم - وقد حدثكم بـ المدينة -في المواسم، وأنت يا إبراهيم بن منذر مدني، لابد أن الوليد عندما جاءكم حدثكم بأحاديث، أنا تبعت الوليد بن مسلم إلى منى، وتبعته في الشام، لكن الرجل موسوعة، وعنده روايات كثيرة جداً، ولكني لم أحصل على روايات ابن مسلم كلها، فأنا أرى أن أسمع منك -قال: وقد حدثكم بـ المدينة فتقع عندكم الفوائد؛ لأن الحجاج يجتمعون بـ المدينة من آفاقٍ شتى- قال: فأخرجت إليه، فتعجب من فوائده، وكاد أن يكتب على الوجه -أي: على الإسناد، عن إبراهيم بن منذر عن الوليد بن مسلم.

عناية ابن المديني بجمع الحديث من عدة طرق

عناية ابن المديني بجمع الحديث من عدة طرق ومن دقة علي بن المديني رحمه الله وجمعه للعلم أيضاً: أنه كان يُعنى بجمع الحديث بالطرق المختلفة عن الشيخ الواحد يبحث عن طريق هذا الشيخ، من هنا ومن هنا ومن هنا، يبحث عن كثرة الطرق، فقال: كتبتُ عبد الوارث، عن عبد الصمد وأنا أشتهي أن أكتبها عن أبي معمر. أي: قال: أنا أريد أن أجمع حديث عبد الوارث - عبد الوارث بن سعيد التنوري التميمي من مشاهير الرواة- قال علي بن المديني: أنا سمعت أحاديث عبد الوارث من ابنه عبد الصمد، لكني أشتهي أن أسمع أحاديث عبد الوارث من غير ابنه، من طريق أبي معمر عن عبد الوارث، مع أن علي بن المديني لقي عبد الوارث مباشرةً وسمع منه، فهو سمع منه مباشرة، وسمع منه بواسطة ابنه عبد الصمد، وسمع منه بواسطة تلميذه أبي معمر، وأبو معمر كان راوية عبد الوارث، وأتقن لحديثه من ابنه. فالآن هذا علي بن المديني يجمع حديث عبد الوارث من طريق ابنه عبد الصمد، ومن طريق أبي معمر، وقد سمع منه مباشرة، ويجمع حديث الأعمش من هذا ومن هذا، ومن طريق عبد الرحمن بن مهدي، ومن طريق أبي معاوية، ومن طريق كذا، لماذا؟ حتى تُدْرَك العلل؛ لأنه إذا اتفقت الطرق عن الشيخ بنفس اللفظة، عرفت أن هذا ثابتٌ عنه، وإذا اضطربَتْ، ولاحظتَ الموازنة، ولاحظتَ الفروق، ولذلك ما كانوا يسمعون الحديث من طريق واحد، بل كانوا يسمعونه من طرق عديدة. ولذلك يقول يحيى بن سعيد القطان لـ علي بن المديني: ويحك يا علي! إني أراك تَتَتَبَّع الحديث تتبعاً لا أحسبك تموت حتى تُبْتَلى. وكان له مراسلات بينه وبين علماء عصره كـ أحمد رحمه الله، قال عندما أراد أن يسمع من الواقدي، وكان قاضي بغداد، كان علي بن المديني متروياً في ذلك، ولذلك كتب إلى أحمد يستشيره: هل أسمع من الواقدي أم لا؟ فكتب إليه أحمد يقول: كيف تستحل أن تكتب من رجل روى عن معمر حديث نبهان، وهذا حديث يونس تفرد به، ومعروف أن الواقدي متروك، مع سعة علمه بالمغازي والتاريخ والمرويات، لكنه متروك. والمراسلات بين العلماء سنة ماضية ومتبعة، يستفيد بعضهم من بعض.

السلف ورحلتهم في طلب العلم

السلف ورحلتهم في طلب العلم الرحلة في طلب العلم سنة متبعة، ومِن أول مَن سافر لطلب العلم: الصحابة رضوان الله عليهم، وقد رحلوا من الأمصار المختلفة، والقبائل المختلفة إلى النبي صلى الله عليه وسلم. والصحابي الجليل أبو أيوب الأنصاري رحمه الله ورضي عنه رحل من المدينة إلى عقبة بن عامر بـ مصر يسأله عن حديث سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، فلما جاء إلى منزل مسلمة بن مخلد الأنصاري -أمير مصر - عانقه، وبعث معه من يدله على منزل عقبة، فلما لقيه، قال له: [حدثنا ما سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ستر المسلم، لم يبق أحدٌ سمعه غيري وغيرك] فلما حدثه ركب أبو أيوب راحلته راجعاً إلى المدينة، وما حل رحله، وما أدركته جائزة مسلمة الأمير إلا بعريش مصر. وقد خشي أبو أيوب أنه قد نسي شيئاً من الحديث، فرحل شهراً كاملاً من الحجاز إلى مصر يقطع المفاوز لأجل هذا الحديث. وكذلك فإن جابر بن عبد الله رضي الله عنه رحل إلى عبد الله بن أنيس في الشام شهراً كاملاً ليحمل عنه حديثاً واحداً لم يكن جابر قد سمعه من النبي عليه الصلاة والسلام، وهو حديث: (يحشر الناس يوم القيامة عراةً غرلاً بهماً). هذه همة الصحابة في حديث واحد، يسافر لأجل حديث واحد. اتسعت الرحلة بعد ذلك في جيل التابعين؛ نظراً لأن الصحابة قد تفرقوا في الأمصار واستقروا بها، فذهب التابعون وراءهم يسافرون لطلب العلم. قال سعيد بن المسيب رأس التابعين رحمه الله: [إن كنت لأسير في طلب الحديث الواحد مسيرة الليالي والأيام]. ورحل الحسن البصري من البصرة إلى الكوفة لمقابلة كعب بن عجرة رضي الله عنه ليسأله عن مسألة. وكذلك رحل غيرهم. وقال الشعبي: لو أن رجلاً سافر من أقصى الشام إلى أقصى اليمن، فحفظ كلمة تنفعه فيما يستقبله من عمره، رأيت أن سفره لا يضيع. ورحل شعبة بن الحجاج رحمه الله للبحث في أصل حديث واحد من الكوفة إلى مكة، ومن مكة إلى المدينة، ومن المدينة إلى البصرة؛ لأجل حديث واحد؛ ليعرف أصل هذا الحديث مِن أين خرج، ومَن الشيخ الذي حدث به حتى يصل إلى أعلى شيخ يمكن الوصول إليه؛ ليتأكد من صحة حديث واحد. في القرن الثاني والثالث الهجري اتسعت دائرة الرحلة في طلب الحديث، وأدرك العلماء والمحدثون أهمية الرحلة وأثرها البعيد في حفظ السنة. عندما سئل الإمام أحمد رحمه الله عن طالب العلم: هل يلزم رجلاً عنده علم فيكتب عنه، أو يرحل إلى المواضع التي فيها العلم، فيسمع منهم؟ فقال: يرحل، يكتب عن الكوفيين والبصريين وأهل المدينة ومكة، يشام الناس ويسمع حدثيهم. أي: يتطلع ويترقب ويختبر الناس ويسمع منهم. وقال يحيى بن معين: أربعة لا تؤنِس منهم رشداً: 1 - حارس الدرب. 2 - مُنادي القاضي. 3 - ابن المحدث. 4 - رجل يكتب في بلده، ولا يرحل في طلب الحديث. كأنه يقول: هؤلاء لا ترجو منهم شيئاً. ورجل يكتب في بلده، ولا يرحل في طلب الحديث؛ لأنه إذا لَمْ يرحل، فإنه لا يُحصِّل إلا ما في بلده، فتكون دائرة معلوماته ضيقة. وعلي بن المديني رحمه الله سار على هذا النهج مقتفياً أثر الصحابة والتابعين، مصابراً ومتعلماً منهم كما قال الشعبي لما سئل: من أين لك هذا العلم كله؟ قال: بنفي الاعتماد، والسير في البلاد، وصبرٍ كصبر الجماد، وبكورٍ كبور الغراب. فجمع الشعبي رحمه الله العلم بهذه الصفات التي سار بها في البلدان. فاليوم بعد جمع الحديث وكتابته وتدوينه في الكتب، صارت الرحلة في طلب الحديث لم تعد لها تلك الأهمية السابقة؛ لأن الأحاديث قد دونت وطبعت ووجدت في الكتب، فالآن إذا أردت الحديث، ما عليك إلا أن تفتح الكتاب، في السابق لم تصنف الكتب بعد ولم تكتمل، فكانوا يرحلون إلى الرواة والأشياخ، في الأمصار والمدن المختلفة يجمعون الحديث، ولما جمعوه وصنفت الكتب، لم تعد هناك فائدة تكاد تكون مهمة في مسألة الرحلة والسفر في طلب الحديث، لكن بقيت الرحلة والسفر في طلب العلم عموماً، فإنه يوجد في بلد ما لا يوجد في بلد أخرى من أهل العلم، فربما ترحل إلى المدينة، وترى من أهل العلم ممن فيها مما لا يوجد في مكة، وفي مكة تجد ما لا يوجد مثلاً: في القصيم، وفي القصيم تجد ما لا يوجد في الرياض، وفي الرياض تجد كذا. وإذا رحل إلى الهند والشام ومصر واليمن ربما يتعرف على علماء لا يوجد لهم مثيل في بقية البلدان. فالآن الرحلة في طلب الحديث تكاد تكون قد انقطعت وانتهت بتصنيف الكتب وجمعها. بقيت الرحلة في طلب العلم عموماً والمسائل والأخذ عن الأشياخ والدراسة، وقد يوجد شيخ متقن للفرائض في بلد، وشيخ متقن للغة في بلد، وشيخ متقن للفقه في بلد وهكذا. ثم إن لقاء أهل العلم فيه فوائد: في الأدب وتعلمه في الزهد والورع، وربما يتعرف الإنسان على أصناف من المشايخ، أو الذين يلقاهم في رحلات مختلفة، يتعرف عليهم بحيث أنه يكمل شخصيته مِمَّا يعاشر من هذا وهذا وهذا. رحل علي بن المديني رحمه الله في طلب العلم إلى مدن العراق المختلفة التي كانت معروفة بلواء العلماء في ذلك الوقت، فلا شك أنه في البداية أخذ العلم عن علماء بلده كالطريقة المعتادة. أولاً: يأخذ العلم عن علماء بلده، ثم يرحل وإذا انتهى من علماء البلد رحل.

ابن المديني ورحلته في طلب العلم

ابن المديني ورحلته في طلب العلم سمع ابن المديني العلم عن أبيه في بلده، وحماد بن زيد، ولازم الشيوخ الكبار في البصرة كـ يحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، وكان: يحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي، وحماد بن زيد رءوس الناس في البصرة في ذلك الوقت، وكان عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله من أجل العلماء، ولعلنا نتحدث في درس مستقل عن سيرة عبد الرحمن بن مهدي العالم الجليل. ورحل علي بن المديني رحمه الله إلى الكوفة، وسمع فيها، وكتب عن أبي نعيم الفضل بن دكين، ووكيع بن الجراح، ويحيى بن زكريا بن أبي زائدة، ويحيى بن آدم، وغيرهم. ورحل إلى بغداد أيضاً، وكانت حاضرة العلم ومقصد العلماء، وكتب فيها عن عدد من أهل العلم، مثل: أبي عبيد القاسم بن سلام، وهو إمام جليل، وسيرته سيرة مهمة، وكذلك: إسماعيل بن إبراهيم بن علية، والحكم بن موسى وطبقته. وقال عثمان بن سعيد الدارمي: قدم علي بن المديني بغداد، فحدثه الحكم بن موسى بحديث أبي قتادة: (إن أسوأ الناس سرقةً الذي يسرق في صلاته) فقال له علي: لو غيرك حدث به، كنا نصنع به -أي: لولا أنك ثقة، لو غيرك حدث بهذا المتن المستغرَب، لكنا صنعنا به أشياء، لكن أنت الحكم بن موسى ثقة، لا نستطيع أن نقول فيك شيئاً- ولأن الحديث هذا تفرد به الحكم ولم لم يروه غيره. وكذلك فإن علي بن المديني رحمه الله قد أخذ العلم عن مشايخ واسط لما قدم إليها، ومنهم: هشيم بن بشير الواسطي، وحسين بن نمير الواسطي، وقال عن نفسه: أتيت علي بن عاصم بـ واسط، فنظرت في أثلاث كثيرة -جمع ثلث وهو: الجزء، الأجزاء الحديثية- فأخرجت منها قدر مائتي طرف. طرف الحديث: هو الجزء من المتن الدال على بقيته، هذا هو الطرف، عندما نقول: أطراف الحديث، أي: أول المتن، فمثلاً إذا قلنا: حديث: (كلكم راعٍ) هاتان الكلمتان: هذا طرف، طرف الحديث، (كلكم راعٍ) هذا الطرف تستدل به على الطرف الآخر، إذا قال لك أحد: اسرد علينا حديث: (كلكم راعٍ) فإن هذه معروفة، فبقية المتن معروفة، فهذا الطرف هو الجزء من المتن الدال على بقية المتن، وهناك كتب رتبت الأحاديث على الأطراف، مثل: كتاب المزي رحمه الله: تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف. ثم رحل رحمه الله تعالى كذلك إلى مكة، وكتب عن سفيان بن عيينة، وجرير بن عبد الحميد، والوليد بن مسلم. وكذلك فإنه رحل إلى مكة مرةً بصحبة أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، ومرةً عزم على الرحلة إلى مكة، فتمنى أحمد بن حنبل أن يصحبه، لكنه ترك الصحبة، خشية أن يحدث ملل بينهما في السفر، فحفاظاً على جو الأخوة لم يصحبة في هذه السفرة، ولكن في سفرة أخرى يبدو أنهما قد صحب بعضهما بعضاً ومعهما يحيى بن معين. وأيضاً ذهب رحمنه الله تعالى إلى المدينة، وسمع فيها من خلق كثير، وقال علي بن المديني: سمعت معن بن عيسى يقول: مخرمة سمع من أبيه. وعرض عليه ربيعة أشياء من رأي سليمان بن يسار، قال علي: ولا أظن مخرمة سمع من أبيه كتاب سليمان، لعله سمع الشيء اليسير، ولم أجد بـ المدينة من يخبرني عن مخرمة بن بكير أنه كان يقول في شيء عن حديثه: سمعت أبي، فذهب إلى المدينة ليتحرى من قضية سماع مخرمة بن بكير من أبيه، وفعلاً هذا الذي تبين له، ما رأى أحداً من الرواة في المدينة يقول: مخرمة بن بكير عن أبيه أبداً. ورحل إلى اليمن، وأخذ فيها عن شيخ اليمن: عبد الرزاق بن همام الصنعاني، وهشام بن يوسف الصنعاني، وهذه الرحلة كانت قبل المائتين للهجرة؛ لأن شيخه يحيى بن سعيد القطان كان موجوداً وقت هذه الرحلة، ويحيى بن سعيد القطان هو الذي كان يزور أم علي بن المديني، ويطمئنها ويسليها، ويحثها على الصبر على فراق ولدها، ويبين لها فضل الرحلة في طلب العلم، وكانت أم علي بن المديني ترتاح غاية الراحة لكلام يحيى بن سعيد القطان وهو يصبرها على فراق ولدها الذي ذهب في طلب العلم. وهكذا أهل العلم وطلبة العلم يسد بعضهم ثغرة بعض، ويساعد بعضهم بعضاً. وربما رحل الواحد وأوصى الآخر على أهله، يتفقدهم، ويأتيهم بما يحتاجون إليه، هذه أخلاقهم هكذا ينبغي أن تكون الأخلاق، إذا رحل الواحد، قام الثاني على أهله وهكذا يتناوبون. ورحم الله من خلف طالب علم في أهله. رحلوا ولم تكن الطرق معبدة ولا سيارات ولا طائرات. بل كانت المركب هي: الجمال. بل ربما ذهب بعضهم مشياً على الأقدام. وبعضهم قد افترسته الذئاب. وبعضهم خرج عليهم قطاع الطرق، فقتلوهم. وبعضهم وقع في أسر العدو. وبعضهم خرج عليهم لصوص فأخذوا ما معهم من متاع وسلبوهم أموالهم. وبعضهم مات من الجوع في الرحلة في طلب الحديث. وبعضهم اضطر لأن يشرب بوله. وبعضهم أكل أوراق الشجر. وبعضهم أكل من سلحفاة، مشى على شاطئ البحر يلتمس شيئاً، فما وجد إلا سلحفاة، فأخرج غطاءها وأكله، فسألوه عن مذاقه، فقال: مثل صفار البيض. وعانوا من برد الليل وقيظ النهار. كل ذلك في سبيل جمع حديث النبي صلى الله عليه وسلم. وانقطعت ببعضهم النفقة في السفر، وربما تعطل في بلد ينتظر فرج ربه، كما حصل لأربعة من أهل الحديث، ومنهم: الإمام ابن خزيمة رحمه الله تعالى، لما انقطعت بهم النفقة في السفر حتى أنهم ما صار عندهم شيء يوارون به عوراتهم، حتى لجئوا إلى الله سبحانه وتعالى بالدعاء، حتى أن بعضهم في النهاية اتفقوا على أن يخرج واحد منهم لسؤال الناس، يبحث عن حل، حتى أن السهم خرج على ابن خزيمة رحمه الله، فقام يصلي ويدعو ربه ويناشده، حتى جاء إنسان وطرق الباب، وأخبر أنه غلام السلطان، وقال: إن الأمير -أمير البلد- رأى في الليل في منامه أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: إن أربعة من المحمدين من العلماء نزلوا ببلدك فقراء وأنت لا تدري عنهم، وطبعاً منهم: الإمام ابن خزيمة رحمه الله، وأرسل إليهم بالنفقة، فكان من كرامة الله تعالى لهم، فكفى الله ابن خزيمة السؤال، وكفاهم الفقر وقطْع النفقة، فأرسل إليهم بأموال، فخرجوا من البلد معززين مكرمين بعد أن صبروا على مرارة الفقر. ورحل علي بن المديني رحمه الله كذلك إلى الري -وهي من أهم المراكز العلمية في بلاد المشرق- وكتب فيها عن جرير بن عبد الحميد الرازي. وكذلك رحل إلى همذان، وكتب فيها عن أصرم بن حوشب قاضي همذان، وقال: كتبت عنه بـ همذان وضربت على حديثه. بعدما كتب وجمع حديث هذا الرجل، شطب على الأحاديث كلها؛ لأنه اتضح له بعد ذلك ما يوجب ترك حديث هذا الرجل؛ لأنه غير ثقة.

أقوال العلماء في ابن المديني

أقوال العلماء في ابن المديني علي بن المديني رحمه الله -كما قلنا-: هو إمامٌ في الحديث، وناقدٌ للرجال، وقد أجمعوا على جلالته وإمامته وبراعته في هذا الشأن وتقدمه على غيره، وهو من الذين استحقوا لقب أمير المؤمنين في الحديث. وقال الذهبي في ترجمة علي بن المديني: الشيخ الإمام الحجة أمير المؤمنين في الحديث. وقال ابن كثير رحمه الله: إن أول من تصدى للكلام في الرواة: شعبة بن الحجاج، وتبعه: يحيى بن سعيد القطان، ثم تلامذته: أحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، ويحيى بن معين، وعمرو بن فلاس، وغيرهم. إذاً: علي بن المديني مِن أي جيل مِن الذين تكلموا في الجرح والتعديل؟ من الجيل الثالث؛ لأن أول من بدأ بالكلام في الرواة والبحث فيهم هو: شعبة، ثم جاء بعده: يحيى بن سعيد القطان، ثم جاء بعده: تلامذة يحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي، وهم: أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، وعمرو بن فلاس، وغيرهم. وقال أبو قدامة السرخسي: سمعت علي بن المديني يقول: رأيت فيما يرى النائم كأن الثريا تدلت حتى تناولتُها -السماء ذات النجوم، الثريا نزلت إليه فأخذ منها- قال أبو قدامة: فصدَّق الله رؤياه، فقد بلغ في الحديث مبلغاً لم يبلغه أحد، كأنه صار في السماء، شأنه مرتفع جداً كأنه قد طال السماء. وشهد له شيوخه، ومنهم: عبد الرحمن بن مهدي حيث قال: علي بن المديني أعلم الناس بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخاصةً بحديث سفيان بن عيينة. ومن شيوخه الذي اعترفوا له وأقروا له بالفضل والإمامة: أبو عبيد القاسم بن سلام، يقول: انتهى العلم إلى أربعة: - إلى أحمد بن حنبل، وهو أفقَهُهم فيه. - وإلى علي بن المديني، وهو أعلَمُهم به. - وإلى يحيى بن معين، وهو أكتَبُهم له. - وإلى أبي بكر بن أبي شيبة، وهو أحفَظُهم له. وقال أبو عبيد أيضاً: ربانيو الحديث أربعة: - فأعلَمُهم بالحلال والحرام: أحمد بن حنبل. - وأحسَنُهم سياقةً وأداءً له: علي بن المديني. - وأحسَنُهم وضعاً لكتابٍ وتصنيفاً: أبو بكر بن أبي شيبة. - وأعلَمُهم بصحيح الحديث وسقيمه: يحيى بن معين. وكذلك ممن شهد لـ علي بن المديني: شيخه عبد الرزاق بن همام الصنعاني، فيقول رحمه الله: رحل إلينا من العراق أربعة من رؤساء الحديث: - ابن الشاذكوني، وهو أحفَظُهم للحديث. - وابن المديني، وكان أعرَفَهم باختلافه. - ويحيى بن معين، وكان أعلَمَهم بالرجال. - وأحمد بن حنبل، وكان أجمَعَهم لذلك -اجتمعت في أحمد كل هذه الخصال: حفظ الحديث، ومعرفة الاختلاف والعلم بالرجال. وكان محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله، وهو عين عيون أهل الحديث. يقول عن علي بن المديني: كان أعلم أهل عصره. وقال أبو حاتم الرازي: الذي كان يحسن صحيح الحديث من سقيمه وعنده تمييز ذلك ويحسن علل الحديث: أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، وبعدهم: أبو زرعة، كان يحسن ذلك، قيل له: فغير هؤلاء قال: لا. وقال إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن زيد: أفخر على الناس برجلين بـ البصرة: - أحمد بن المعذل؛ يعلمني الفقه. - وعلي بن المديني؛ يعلمني الحديث. وقال أبو عمرو الطالقاني: رأيتهم يقولون: الناس عندنا أربعة: - أحمد بن حنبل. - ومحمد بن عبد الله بن نمير. - وعلي بن المديني. - ويحيى بن معين. وسمعتهم يقولون: محمد بن نمير: ريحانة الكوفة. وأحمد: قرة عين الإسلام. وابن المديني: أعلم علماء آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم. وابن معين: أعلمُ بِرُواته. وقال أبو عبد الرحمن النسائي: كأن الله خلق علي بن المديني لهذا الشأن، أي: كأن الله ما خلقه إلا للحديث. ومدحه المشهورون من المحدثين، كـ البيهقي حين قال: علي بن المديني أحد أئمة أهل العلم بالحديث. وقال الخطيب البغدادي، عن علي بن المديني: هو أحد أئمة الحديث في عصره، والمقدم على حُفَّاظ وقته. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الأئمة الذين أخذ الناس عنهم العلم، قال: فهؤلاء وأمثالهم أعلم بأحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال: فإن يحيى بن معين، وعلي بن المديني، ونحوهما أعرف بصحيح الحديث وسقيمه من مثل أبي عبيد، وأبي ثور. هذه شهادة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في علي بن المديني. وأما الحافظ أبو الحجاج المزي؛ الذي عاصر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وكان من تلاميذه، فقد قال في ابن المديني: علي بن عبد الله الإمام المبرز في هذا الشأن، صاحب التصانيف الواسعة، والمعرفة الباهرة. كذلك الذهبي رحمه الله الذي عاصر ابن تيمية رحمه الله، قال: حافظ العصر، وقدوة أرباب هذا الشأن: أبو الحسن علي بن المديني، صاحب التصانيف. ومدحه كذلك غيرهم من أهل العلم، كـ ابن رجب، وغيره. وقد اجتمع بهذه المناسبة أربعة من العلماء في عصر واحد كل واحدٍ أفاد الآخرين في فنه: - المزي وابن تيمية، والذهبي، والبرزالي. البَرْزالي: مبرزاً في التاريخ. وكان الذهبي مبرزاً في السِّيَر والتاريخ والحديث. والمزي: في علل الحديث والرجال لا يوجد له نظير. وابن تيمية: في سائر الفنون. فهؤلاء الأربعة كانوا في عصر واحد، وكل واحدٍ منهم استفاد من الآخر. وعلي بن المديني رحمه الله كان له مجلس يعقده للناس ولطلبة العلم يأتون إليه من كل حدب وصوب، ويتسابقون إليه. قال الخطيب البغدادي عن مجلس علي بن المديني: وقد كان خلقٌ من طلبة العلم بـ البصرة في زمن علي بن المديني يأخذون مواضعهم في مجلسه في ليلة الإملاء، ويبيتون هناك حرصاً على السماع وتخوفاً من الفوات. وقال ابن درستوية: ما رأيت علي بن المديني يروي من كتاب قط إلا أن يُسأل أن يروي ألفاظ سفيان بن عيينة على وجهه كما سمع. قال: وكنا نأخذ المجلس في مجلس علي بن المديني وقت العصر اليوم لمجلس غدٍ، فنقعد طوال الليل مخافة ألَّا يلحق من الغد موضعاً يُسمع فيه، أي: إذا كان الدرس غداً، جلسوا عصر اليوم والليل، ويبيتون إلى ثاني يوم حتى يأتي وقت الدرس مخافة ألا يجدوا مكاناً، فيبيتون في مجلس الدرس حتى يأتي وقت الدرس في اليوم التالي، هذا درس علي بن المديني. وقد اتخذ علي بن المديني رحمه الله مستملياً، والمستملي هو: الذي يطلب استملاء الأحاديث من المحدِّث، ويقال: استمليتُ فلاناً الكتاب، أي: سألته أن يمليه عليَّ، وهذا الاستملاء له أدب، وقد ألف السمعاني رحمه الله كتاباً في أدب الإملاء والاستملاء. وذات مرة اشتهى المأمون شيئاً غير الملك الذي هو فيه أن يقول للمستملي: من ذكرت يرحمك الله؟ لأن المستملي كان يجلس عند الشيخ، ويطلب منه الإملاء، ويبدأ الحديث والدرس ويقيد، فإذا أشكل عليه شيء، أو أراد استعادة شيء، قال: من ذكرت يرحمك الله؟ فالذين حول الخليفة من هؤلاء أهل المجاملات عملوا له مجموعة وأحضروا كتباً وأقلاماًَ، وقال: من ذكرت؟ لكن اتضح أن المسألة انهارت وأنها تمثيلية، وعرف أنها لا تأتي إلا لأهل العلم الحقيقيين، وأن هذا كله تصنع في تصنع.

اعتناء ابن المديني بالكتب (النسخ)

اعتناء ابن المديني بالكتب (النسخ) كان علي بن المديني رحمه الله شديد العناية بكتب المحدثين، -النُّسَخ- وينظر فيها، قال علي بن المديني: تركت من حديثي مائة ألف حديث، فيها: ثلاثون ألفاً لـ عباد بن صهيب -هو الآن جمع أحاديث كثيرة، مائة ألف شطب عليها؛ لأنه تبين له أنها غير صالحة للنشر، منها ثلاثون ألفاً لـ عباد بن صهيب؛ لأن عباد بن صهيب أحد المتروكين، فإذا كان علي ابن المديني ترك مائة ألف حديث، وشطب عليها، فكم الأصل والأساس الباقي؟! وقال علي بن المديني: نظرت لـ روح في أكثر من مائة ألف حديث - روح بن عبادة من شيوخ علي رحمه الله- كتبتُ منها عشرة آلاف، فإذا كان قد نظر لـ روح بن عبادة فقط في مائة ألف حديث، ويكتب عن أبي معاوية الضرير عن الأعمش ألف وخمسمائة حديث، فلا شك أنه نظر لغير روح مثل ذلك، وما كَتب عن الأعمش من غير طريق أبي معاوية أكثر، فهذا يُشْعِر بتَبَحُّر الرجل واستقصائه لأطراف الأحاديث المختلفة. وذكر السخاوي أن الطرق التي عند علي بن المديني لحديث واحد فقط الذي هو: (من كذب عليَّ متعمداً، فليتبوأ مقعده من النار) أن له - لـ علي بن المديني - عشرون طريقاً في هذا الحديث فقط: (من كذب عليَّ متعمداً) وهذا يدل على شدة اعتنائه بطرق الحديث. بالنسبة للأحاديث عندما يقول: مائة ألف، أو يقول البخاري: حفظت مائة ألف حديث صحيح، أو قال: انتقيت هذا الكتاب من ستمائة ألف حديث، وأحمد بن حنبل يقال: إنه يحفظ ألف ألف حديث، هذا معناه أنه يدخل المراسيل والمقاطيع والمعلقات، ويدخل فيها المرفوع والصحيح والضعيف والشواهد والمتابعات ولذلك يقول الذهبي رحمه الله تعالى: "ما على وجه الأرض من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الصحيحة المرفوعة من غير تكرار عشرة آلاف حديث فقط"، لكن عندما يقول: مائة ألف، هذا يقصد بها كل شيء، المقطوع الذي إلى التابعي، والمرسل، والمعلق، وكل الأنواع، والمكررات، والشواهد، والمتابعات، يدخل هذا كله في عموم لفظة حديث. وكذلك فإنه رحمه الله كان يطلع على حديث مالك اطلاعاً دقيقاً، وكذلك نُسَخ الزهري، وكتاب عبد الأعلى، وحدثت في ذلك قصة، قال علي بن المديني: سألت أبي عن أبي حفص الفلاس، فقال: قد كان يطلب، قلت: روى عن عبد الأعلى، عن هشام، عن الحسن بن علي: (الشفعة لا تورث) فقال: ليس هذا في كتاب عبد الأعلى، عن هشام، عن الحسن -فعنده خبرة بكتاب عبد الأعلى، ولذلك جزم لولده عبد الله، أنه ليس في ذلك الكتاب. وكذلك فإنه كان ينتخب الكتب وينتقي منها، وهذا يدل على إتقانه، وأنه ليس بجمَّاع فقط.

ابن المديني وفن علل الحديث

ابن المديني وفن علل الحديث ومن أبرز الأشياء التي كان علي بن المديني رحمه الله بارعاً فيها: علم العلل. وفن العلل هو أصعب نوع من أنواع الحديث: الحديث المعلل؛ لأن العلة سبب خفي غامض يطرأ على الحديث، فيقدح فيه، العلة شيء خفي؛ ولذلك خص الله به عدداً قليلاً، ونفراً يسيراً ممن يدعي علم الحديث. ومن الأشياء التي تساعد على اكتشاف الحديث: جمع الطرق، ينظر المتخصصون في طرق الحديث فيكتشفون العلة. إذاً: من أسباب اكتشاف العلة: جمع طرق الحديث الواحد. قال علي بن المديني: الباب إذا لم تُجْمَع طرقه، لم يتبين خطؤه. وربما ما انكشفت العلة إلا بعد وقت طويل. قال علي بن المديني: ربما أدركت علة الحديث بعد أربعين سنة. وقال أحمد بن حنبل: أعلمنا بالعلل علي بن المديني. وقال الذهبي: كان ابن المديني رأساً في الحديث وعلله. ابن العلائي رحمه الله عندما عرَّف من علل الحديث قال: وهذا الفن -فن العلل- أغمض أنواع الحديث وأدقها مسلكاً، ولا يقوم به إلا من منحه الله فهماً غايصاً، واطلاعاً حاوياً، وإدراكاً لمراتب الرواة، ومعرفةً ثاقبةً. ولهذا لم يتكلم فيه إلا أفراد أئمة هذا الشأن وحُذَّاقهم. مَن الذي تكلم في العلل؟ لا يتجرأ أحد أن يتكلم في العلل إلا نَفَرٌ يسيرٌ من المحدثين، ليس أي محدث يتكلم في العلل، مَن الذي يتكلم في العلل؟ - علي بن المديني. - البخاري. - الدارقطني. - أبو زرعة الرازي. - أبو حاتم. ومن المتأخرين كذلك من بعدَهم: - الترمذي. - ابن رجب. الحديث المعلل: هو من أغمض أنواع العلوم وأدقها، ولا يقوم به إلا من رزقه الله تعالى فهماً ثاقباً، وحفظاً واسعاً، ومعرفةً تامةً بمراتب الرواة، ومَلَكةً قويةً بالأسانيد والمتون، ولهذا لم يتكلم فيه إلا القليل من أهل هذا الشأن، كما يقول ابن حجر رحمه الله، مثل: - علي بن المديني. - وأحمد بن حنبل. - والبخاري. - ويعقوب بن شيبة. - وأبو حاتم. - وأبو زرعة. - والدارقطني. وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في مقدمة الفتح: لا ريب في تقديم البخاري، ثم مسلم على أهل عصرهما، ومَن بعده من أئمة هذا الفن، في معرفة الصحيح والمعلل، فإنهم لا يختلفون في أن علي بن المديني كان أعلم أقرانه بعلل الحديث، وعنه أخذ البخاري ذلك. إذاً: أعلم أهل زمانه بعلل الحديث: علي بن المديني، وهذه المسألة الشاهد فيها: أحمد بن حنبل رحمه الله، وعن علي بن المديني أخذ البخاري فن العلل، فالذي ورث منه البخاري فن العلل هو: علي بن المديني. وكان لـ علي بن المديني بين معاصرية مكانةٌ بالغةٌ عظيمةٌ. وهذا يحيى بن سعيد القطان يكرمه غاية الإكرام وهو شيخه، ويقول: الناس يلوموني في قعودي مع علي وأنا أتعلم من علي أكثر مما يتعلم علي مني. وهذا فيه تواضع من جهة، وفيه حقيقة من جهة أخرى.

علاقة سفيان بن عيينة بابن المديني

علاقة سفيان بن عيينة بابن المديني كان سفيان بن عيينة رحمه الله يلقب علي بن المديني بحية الوادي، لماذا؟ ما هي العلاقة بين الحية وعلي بن المديني؟ سفيان بن عيينة شيخ علي بن المديني كان يقول عن علي بن المديني: إنه حية الوادي، فلماذا؟ لأن الحية تعرف المداخل والمخارج، وعلي بن المديني يجيد معرفة مداخل الحديث ومخارجه من أين جاء؟ وأين ذهب الحديث؟ وكيف انتقل؟ وقال أحمد بن سنان: كان سفيان بن عيينة يقول لـ علي بن المديني ويسميه: حية الوادي، وكان إذا استفتي سفيان، أو سئل عن شيء؟ يقول: لو كان حية الوادي موجوداً الآن لأفادنا. وعن عمرو بن دينار أنه ذكر حديثاً، ثم قال سفيان: تلوموني على حب علي بن المديني، والله لقد كنت أتعلم منه أكثر مما يتعلم مني. وقال حفص بن محمود الخزاعي: كنت عند سفيان بن عيينة ومعنا علي بن المديني والشاذكوني، فلما قام -أي: قام ابن المديني - قال سفيان بن عيينة: إذا قامت الفرسان، لم نجلس مع الرجَّالة. لأن الجيش فيه فرسان يقاتلون على الخيول، وفيه رجَّاله على أرجلهم، سفيان بن عيينة شيخ علي بن المديني، في المجلس كان سفيان، والشاذكوني، وعلي بن المديني، وحفص بن محمود الخزاعي، فقام علي بن المديني وانصرف، فلما انصرف، قال سفيان بن عيينة: إذا قامت الفرسان، لم نجلس مع الرجَّالة، ماذا نعمل مع الرجَّالة؟ وقال أحد المحدثين: خرج علينا ابن عيينة يوماً ومعنا علي بن المديني، فقال: لولا علي، لم أخرج إليكم. وقال محمد بن قدامة الجوهري: سمعت ابن عيينة يقول: إني لأرغب بنفسي عن مجالستكم منذ ستين سنة، ولولا علي بن المديني.

أبو عبيد وشدة إجلاله واحترامه لابن المديني

أبو عبيد وشدة إجلاله واحترامه لابن المديني دخل أبو عبيد القاسم بن سلام -أحد شيوخ ابن المديني - دار أحمد بن حنبل زائراً إياه، وعنده جماعة من المحدثين فيهم: علي بن المديني ويحيى بن معين، فطلبوا من أبي عبيد أن يقرأ عليهم كتاب غريب الحديث على الوجه -أي: بالأسانيد- فقال لهم أبو عبيد: ما قرأته إلا على المأمون، فإن أحببتم أن تقرءوه فاقرءوه. فقال له علي بن المديني: إن قرأتَه علينا، وإلا فلا حاجة لنا فيه. ولم يكن أبو عبيد يعرف علي بن المديني. فقال لـ يحيى بن معين: من هذا؟ قال: هذا علي بن المديني، فالتزمه وعانقه وقرأه عليه؛ لأن علي بن المديني سمعته معروفة، وأبو عبيد يسمع ويعرف من هو علي بن المديني من بعيد، لكنه ما سبق أن قابله، فلما عرفه رضخ لطلبه وقرأه عليه وهو شيخه. فهذا من تمكن مكانة علي بن المديني في قلب أبي عبيد القاسم بن سلام، والإكبار له من قبل شيخه، وأبو عبيد القاسم بن سلام رجل عظيم لا يستهان به ألبتة، ومن نوادره -ولعلنا نأتي على سيرته -أن طاهر بن عبد الله - وهو أحد الأمراء في الدولة العباسية بـ بغداد، أراد أن يسمع من أبي عبيد -كان الولاة لهم اهتمام بالعلم- وكان حريصاًَ أن يأتي أبو عبيد إلى منزله، فيحدثه، وكتاب أبي عبيد الذي هو غريب الحديث كتاب اشتُهِر، فيه شرح للألفاظ الغريبة والصعبة في الأحاديث، يسوق أبو عبيد الحديث بسنده ويشرح الغريب في هذا الكتاب، وكان قد تعب عليه وجمعه وهو كتاب نفيس، من أجود الكتب في غريب الحديث، هذا الوالي كان يشتهي أن هذا العالم أبو عبيد مؤلف الكتاب يأتي بكتابه ويحدث به في بيته، يشتهي ذلك ويتمناه، فأرسل إلى أبي عبيد معرباً له عن الرغبة، يقول: يدعوك الأمير إلى بيته لتأتي وتجلس فيه وتحدث بكتابك غريب الحديث، فرفض أبو عبيد، وقال: أبداً، هو يأتي، مثله مثل غيره من الطلاب ويجلس في الدرس العلم يؤتى ولا يأتي. فلما جاء علي بن المديني وعباس العنبري، إلى بلد أبي عبيد، وأرادا أن يسمعا غريب الحديث، كان أبو عبيد يحمل كتابه كل يوم ويأتيهما في منزلهما يحدثهما. وقد علق الخطيب على هذه القصة، فقال: إنما امتنع أبو عبيد من المضي إلى منزل طاهر توقيراً للعلم، ومضى إلى منزل ابن المديني وعباس تواضعاً وتديناً. وقد فعل سفيان الثوري مع إبراهيم بن أدهم مثل هذا، فهذه من عجائب العلماء. ويحيى بن معين سئل عن علي بن المديني وعن الحميدي: أيهما أعلم؟ فقال يحيى بن معين: ينبغي للحميدي أن يكتب عن آخر، عن علي بن المديني. أي: لا يصلح حتى أن يكون تلميذاً، بل تلميذ التلميذ. وقال الأعين: رأيت علي بن المديني مستلقياً وأحمد بن حنبل عن يمينه، ويحيى بن معين عن شماله وهو يملي عليهما. وكان أحمد بن حنبل رحمه الله لا يسمي علي بن المديني، أي: لا يقول: يا علي، بل يقول: يا أبا الحسن! توقيراً له وتبجيلاً. قال أبو حاتم: ما سمعت أحمد بن حنبل سماه قط. وكان علي بن المديني كما يقول عباس العنبري رحمه الله: بلغ ما لو قُضِي له أن يتم على ذلك، لعله كان تقدم على الحسن البصري، كان الناس يكتبون قيامه وقعوده ولباسه، وكل شيء يقوله ويفعله. وهذا فيه فائدة تربوية مهمة: وهي أن الإنسان إذا صار قدوة، الناس لا يأخذون عنه العلم فقط، بل يأخذون عنه كل الحركات، ويتأثرون بصَمْتِه وكلامِه وأفعالِه وتصرفاتِه، وفي كل شيء، كان الناس يكتبون قيامه وقعوده ولباسه وكل شيء يقول ويفعل، لأنه صار أهلاً أن يُنْظر إليه في كل أفعاله، وليس فقط فيما يخرج منه من الكلام. وقال أبو يحيى: كان ابن المديني إذا قدم بغداد تصدَّر وجاء يحيى وأحمد بن حنبل والمعيطي والناس يتناظرون، فإذا اختلفوا في شيء، تكلم فيه علي. وقال محمد بن إسماعيل البخاري: ما تصاغرتُ نفسي عند أحد إلا عند علي بن المديني. وقال: ما سمعت الحديث من فِيِّ إنسانٍ أشهى عندي من أن أسمعه من فِيِّ علي رحمه الله. وقال محمد بن إسحاق السراج: سمعت محمد بن إسماعيل البخاري وقلت له: ما تشتهي؟ قال: أشتهي أن أقدم العراق وعلي بن المديني حيٌّ فأجالسه. ولما ألف البخاري كتابه صحيح البخاري، عرضه على علي بن المديني، فحكم له بالصحة والإتقان - البخاري عرض كتابه على ثلاثة من كبار العلماء، هم: 1 - علي بن المديني. 2 - وأحمد بن حنبل. 3 - ويحيى بن معين، فحكموا له بالصحة والإتقان. وعن إبراهيم الحربي قال: كان أبو عاصم -وهو: أبو عاصم النبيل، ملقب بـ النبيل - إذا حدث عن ابن جريج وغيره من أصحابه، جاء مستوياً، وإذا حدث عن سفيان أخطأ؛ لأنه لم يضبط عنه، فكان إذا أخرج المجلس -قبل أن يأتي الدرس أخرج الكتاب الذي هو عن سفيان - ووجهه إلى علي بن المديني لينظر فيه ويصلح خطأه -الشيخ يبعث بالكتاب إلى علي بن المديني، يقول: صحح لي قبل أن أحدث في المجلس. فقال له بعض مَن قال له: لماذا توجه بكتابك إلى هذا؟ حدِّث كما سمعتَ. قال: ففعل، وكان يخطئ في كل مجلس وعندما كان يصحح له علي بن المديني، لم يكن هناك خطأ، ولذلك كانت مكانة علي رحمه الله أحياناً ربما سببت رعباً في قلوب بعض شيوخه، ولذلك قال أحمد بن يوسف السلمي النيسابوري: سمعت عبد الرزاق يقول لـ علي بن عبد الله بن المديني حيث ودعه -الآن علي بن المديني جاء إلى اليمن وسمع من عبد الرزاق، وعبد الرزاق رأى نباهة وحفظ وجلالة علي بن المديني، ولما أراد عبد الرزاق أن يودع علي بن المديني قال له: إذا ورد حديث عني لا تعرفه، فلا تنكره، فلأني ربما لم أحدثك به. وقال ابن أبي حاتم الرازي: سمعت هارون بن إسحاق الهمداني وذُكر له خطأ في إسناد حديث، فقال: هذا كلام أحمد بن حنبل وعلي بن المديني -كأنه يقول: هذا ليس شغلكم، أكيد أنه علمكم إياه ونبهكم على الخطأ إما أحمد بن حنبل، أو علي بن المديني. وقال الخطيب رحمه الله مبيناً مكانة علي بين قرنائه: كان علي بن المديني فيلسوف هذه الصنعة وطبيبها، ولسان طائفة الحديث وخطيبها، رحمة الله عليه وأكرم مثواه لديه.

مشايخ ابن المديني

مشايخ ابن المديني من أشهر شيوخه: 1 - حماد بن زيد، حافظ العراق:، وكان حماد إماماً من أئمة أهل السنة. وقال أحمد فيه: هو من أئمة المسلمين من أهل الدين، وهو أحب إليَّ من حماد بن سلمة. وهو الذي قال فيه ابن المبارك: أيها الطالب علماً ائت حماد بن زيد فاقتبس علماً وحلماًَ ثم قيَّده بقيدِ ودع البدعة من آثار عمرو بن عبيد حماد بن زيد هو شيخ علي بن المديني، وهو الشخصية الأولى ربما بعد أبي علي، الذي كان له أعظم الأثر في توجيه علي بن المديني إلى طلب السنة، وكان شيخ البصرة. 2 - سفيان بن عيينة: وكان طلاب الحديث يتكلفون الحج، وما قصدهم إلا لقاء سفيان بن عيينة. البخاري أخرج لـ علي بن المديني، عن سفيان بن عيينة في صحيحه (196) حديثاً. 3 - يحيى بن سعيد القطان: وهو الذي درس على يديه الرجال، وكان يستفيد من علي بن المديني كما قلنا، ويقول: إني كلما قلت: لا أحدث كذا، استثنيت علياً، فلو قلت: لا أحدث أسبوعاً أو شهراً، يقول: أنا أستثني في قلبي علي بن المديني إذا جاءني أحدثه. وكان علي ملازماً لشيخه يحيى بن سعيد القطان يسأله عما أشكل عليه من أمور النقد، حتى يسأله عن أحواله الشخصية. فقال يوماً: قلت لـ يحيى بن سعيد في ربيع الأولي سنة: (190هـ) كم لك من سنة؟ قال: إذا مضى شهر، أو شهران، استوفيت سبعين، ودخلت في أحد، -أي: واحد وسبعين. وكان علي يحب يحيى حباً جعله يشتهي أن يراه في المنام، فيقول: مكثت أشتهي أرى يحيى بن سعيد القطان في النوم مدة، قال: فصليتُ ليلةً العَتَمَة -العشاء- ثم أوترت واتكأت على سريري، قال: فسنح لي -أي: في المنام- رأيت خالد بن حارث، فقمت فسلمت عليه وعانقته، وقلت له: ما فعل بك ربك؟ قال: غفر لي على أن الأمر شديد. قلت: فما فعل يحيى بن سعيد القطان؟ قال: نراه كما ترون الكوكب الدري في أفق السماء، أي: أن الله رفعه منزلة عالية جداً. من شيوخ علي بن المديني: عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله، وهذا الذي قال علي بن المديني فيه: "لو أخذت فأُحْلِفْتُ بين الركن والمقام، لَحَلَفْتُ بالله عز وجل أني لم أر أحداً قط أعلم بالحديث من عبد الرحمن بن مهدي ". وكان عبد الرحمن بن مهدي استفاد منه علي بن المديني جداً. يقول علي بن المديني: كنا في جنازة معاذ، وعبد الرحمن بن مهدي آخذٌ بيدي، فقال عبد الرحمن لي -أي: أثناء الجنازة ونحن نتبع الجنازة-: ألا أحدثك حديثاً ما طن في أذنيك؟ حدثني صاحب السرير -الذي هو الميت- وسرد علي الحديث. وعبد الرحمن بن مهدي يفيد تلميذه علي بن المديني حتى في وقت تشييع الجنازة. وعندما نقول: شيوخ علي بن المديني: فلان، وفلان، وفلان، هؤلاء العظماء، فهؤلاء العلماء كلهم ساهموا في صياغة شخصية علي بن المديني، ولذلك هناك نقطة مهمة جداً وهي: أن هؤلاء العلماء الأئمة الكبار ما جاءوا من فراغ، ما ظهروا من غابة أو صحراء، ما خرجوا الإجراء نتاج بيئة تربى فيها وأخذ فيها عن الأجلاء، هذه تربية، فهذه الشخصيات صيغت من شخصيات أخرى، أجيال تربي أجيالاً، وعندما نتوسع أكثر في المحدثين، نرى فعلاً أن هذه القضية واضحة، أجيال تربي أجيالاً، سفيان بن عيينة يربي علي بن المديني، وعلي بن المديني يربي البخاري، والبخاري يربي غيره، فمسألة تخرُّج الأجيال على أيدي أجيال، وأن الواحد كان يحتك بشخصيات فذة هذا الذي ينشئ الشخصية، ما الذي يساعد على نمو الشخصية؟ يحاط أن الإنسان بأناس كبار أجلاء أئمة، فيخرج إماماً في النهاية. وهذه المسألة -كما قلنا- واضحة غاية الوضوح، إنسانٌ شيوخُه: - سفيان بن عيينة، وعبد الرحمن بن مهدي، وعبد الرزاق الصنعاني، وغيرهم. وقرناؤه: - أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وابن أبي شيبة. وتلاميذه: - البخاري، وأبو حاتم الرازي، وأبو داود. لا بد أن يكون شخصية فذة. فمن هنا نتعلم درساً كبيراً في أن الإنسان إذا أراد أن يرتقي بنفسه فعلاً، فلا بد أن يُحاط بشخصيات على مستوى عظيم حتى يكون لها ذلك الأثر في نفسه.

آثار علي بن المديني التراثية

آثار علي بن المديني التراثية ورحل علي بن المديني رحمه الله تعالى إلى ربه تاركاً عدداً من الآثار والكتب، مثل: علل الحديث ومعرفة الرجال، وسؤالات لشيخه يحيى بن سعيد القطان، كَتَبَها وبَوَّبَها، وكتاب المسند ويبدو أنه قد ضاع، وَضَعَه في قِمَطْر وغاب فترة طويلة عن البيت ورجع، قال: فحركتها، فإذا هي ثقيلة، ففتحتها، فإذا الأرضة قد خرقت الكتب، فصارت طيناً، وإلا فإن علي بن المديني كان عنده كتاب عظيم هو: المسند بِعِلَلِه. وذهب علي بن المديني رحمه الله تاركاً تراثاً كبيراً من أهم ذلك: الأحاديث التي نقلها لتلاميذه. ودَوَّن البخاري رحمه الله قسماً، ومسلم، والترمذي، وأبو داود، دوِّنت الأحاديث، ودوِّن كلام علي بن المديني في الرجال جرحاً وتعديلاً. وترك كذلك آثاراً في فقهه رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً. نسأل الله عز وجل أن يعلي منزلته، وأن يرفع درجته، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الحث على طلب العلم

الحث على طلب العلم العلم فخر وشرف في الدنيا والآخرة، والعلم أفضل من المال، فهو سبيل إلى الخشية من الله تعالى. في نطاق هذا الموضوع يتحدث الشيخ عن العلم وفضله، وواقع السلف مع طلب العلم، كما يذكر الأسباب التي قتلت طلب العلم عند كثير من الشباب، ويعرج على أهمية المجاهدة في طلب العلم، ويكشف حقيقة بدعة الاحتفال بالموالد ومنكراتها، ويرجع ذلك إلى الجهل بالدين وأحكامه.

فضل العلم والتعلم

فضل العلم والتعلم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. عباد الله لقد قصرنا في حق الله كثيراً كثيراً، ومن تقصيرنا في حق ربنا: جهلنا بما أنزله إلينا وبما أوحاه إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، وكيف يليق بمسلم أن يجهل رسالة ربه إليه، وأن يجهل معاني أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي تشرح كتاب الله تعالى، ولا ينال معرفة الكتاب والسنة إلا بالعلم الذي هو أفضل ما صرفت فيه الأوقات. وفي الإجازة يتوفر من الوقت للطلاب ما لا يتوفر في غيره، فينبغي أن تتداعى الهمم، وأن تسمو النفوس، وأن يتفرغ الإخوان لطلب العلم. ينبغي أن يكون الدافع قوياً لتحقيق هذه المصلحة، وأن يتضافر الآباء مع الأبناء لعملية التعليم وطلب العلم، وأن تكون الحياة شعلة في هذا الطريق، قال الله عز وجل: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ} [آل عمران:18] استشهد الله العلماء دون غيرهم من سائر البشر، فقد أشهد نفسه وأشهد الملائكة وأشهد العلماء فقط من خلقه، وهذا دليل على فضلهم، فأشهدهم على أعظم حقيقة وهي حقيقة التوحيد، وقرن الله شهادتهم سبحانه وتعالى بشهادته. وفي ضمن هذا الاستشهاد تزكية للعلماء وتعديل ولا شك؛ لأن الله لا يستشهد من خلقه إلا العدول، وكذلك فإن العلماء هم الذين يطاعون في المدلهمات ويتبعون في الخطوب، وإذا استشكلت الأمور. علماء الشريعة هم الذين نزَّهوا أنفسهم عن الأهواء والأموال وعن سائر أنواع الشبهات، تعلموا العلم لله وعلموه في ذات الله، وقالوا بالعلم وحكموا به، لا تأخذهم في الله لومة لائم.

الفرق بين العالم والعابد

الفرق بين العالم والعابد عباد الله إذا كان الله قد أباح لنا أكل الصيد الذي صاده الكلب المعلم، وإذا صاده كلب غير معلم لا يؤكل {يَسْأَلونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة:4] فلولا فضل العلم لكان فضل صيد الكلب المعلم والجاهل سواء، وقد علمه كيف يصيد، وكيف يمسك لصاحبه، فما بالك بمن تعلم الكتاب والسنة! (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) إذا رأيت نفسك تتجه إلى الفقه، تتجه إلى العلم، تتجه إلى فهم الكتاب والسنة، فاعلم أنك ممن أراد الله بهم خيراً (فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر) فخذ بهذا الحظ الوافر يا أيها الشاب، يا عبد الله، يا أيها الكبير ويا أيها الصغير خذ من هذا الحظ الوافر الذي وصفه النبي صلى الله عليه وسلم. مسألةٌ واحدة تتعلمها وتعلمها لولدك، أو تعلمها لأخيك، أو تعلمها لصاحبك وصديقك، أو تعلمها للناس والعامة تستفيد بها أجراً بعد موتك، قال عليه الصلاة والسلام في الأربع من عمل الأحياء التي تجري للأموات: (ورجلٌ علم علماً، فعمل به من بعده، له مثل أجر من عمل به من غير ينقص من أجر من يعمل به شيء). عباد الله لو علمنا شخصاً كيفية الصلاة، كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، فإن هذا المعلم ولا شك يكون له أجر عظيم حتى بعد وفاته، فقوموا بالعلم والتعليم. (فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم، وإن الله عز وجل وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير) فلنحتسب الأجر في هذا التعليم، نعلم الناس الخير، ولا يمكن أن نعلمهم إلا بأن نتعلم، فإننا لا يمكن أن نعلمهم ونحن جهال، لابد أن نتعلم، أن نبلغ ولو آية، إذا علمناها وعلمنا معناها بلغناها فكتب لنا أجر عظيم، لماذا تنصرف النفوس عن هذه العبادة العظيمة؟ يا عباد الله إنه فخرٌ وشرفٌ في الدنيا والآخرة، إن العلماء يحضرون ربهم يوم القيامة ويقفون بين يديه مكرمين منعمين يتقدمهم معاذ بن جبل بين أيديهم برمية حجر؛ لأنه أعلم الناس بالحلال والحرام بعد النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه كما أخبر. عباد الله ما هو أفضل من أن يستغفر لك الحوت في البحر والدواب وحتى النمل تستغفر لطالب العلم؟ ما هو أفضل من أن تضع الملائكة أجنحتها لك إذا سلكت سبيلاً في طلب العلم سواء كان في درس تذهب إليه أو في كتاب تشتريه لتفتحه وتقرأ فيه؟ أي فضل عظيم هو ذاك وفَّره الله عز وجل لطلبة العلم الشرعي الذين يتعلمون الكتاب والسنة.

عاقبة مبلغ العلم

عاقبة مبلغ العلم عباد الله، يا أيها الناس إن نبيكم قد دعا بالنضارة نضارة الوجه لمن بلغ العلم ولو حديثاً واحداً، فقال: (نضَّر الله امرأً سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلغ، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) (نضَّر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها) تبليغ القرآن، تبليغ الحديث، تبليغ العلم للناس، الإبلاغ والبلاغ وظيفة الرسل {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} [الشورى:48] {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:20] نقل المعلومات الصحيحة إلى الناس، ينبغي أن يكون هذا ديدناً لنا وعادة دائماً إذا تعلمنا شيئاً، نقلناها إلى غيرنا صغيراً وكبيراً قريباً وبعيداً، وهل نريد إلا الأجر؟ وهل نريد إلا النجاة يوم الحساب؟ وهل نريد إلا الحسنات أن تأتينا من بين أيدينا ومن خلفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا ونحن في قبورنا؟ يا عباد الله إن المسألة جدٌ والله وفوزٌ عظيم، لو علم الإنسان ما له من الأجر لقام بذلك حق القيام.

أقوال السلف في طلب العلم

أقوال السلف في طلب العلم عباد الله يقول معاذ رضي الله عنه: [تعلموا العلم؛ فإن تعلمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة، وهو الأنيس في الوحدة، والصاحب في الخلوة]. وقال الحسن: "لولا العلماء، لصار الناس كالبهائم لا يدرون لا كيف يعبدون ولا كيف ينكحون". والعلم أفضل من المال، تفانى الناس في جمع الأموال، وأقبلوا على أنواع الاستثمارات، والعلم يحكم في المال، والمال لا يحكم في العلم، والعلم يكون مع صاحبه إلى القبر، والمال يفارق صاحبه إذا خسره في صفقة، العلم يكثر بالنفقة ويزداد ويترسخ، والمال ينقص إذا أنفقت منه إلا إذا كان في سبيل الله. عباد الله ما عُبد الله بشيء أفضل من الفقه، الناس إلى العلم- كما يقول أحمد رحمه الله- أحوج منهم إلى الطعام والشراب؛ وذلك لأن الرجل قد يحتاج إلى الطعام والشراب مرة أو مرتين أما حاجته إلى العلم فهي بعدد أنفاسه، وكذلك فإنه ميراث النبوة، والناس لا يفهمون الميراث إلا باللغة المادية، ولما مر أعرابي على ابن مسعود رضي الله عنه وهو يحدث طلابه وهم مجتمعون حوله، رأى أناساً مجتمعين على شخص، فقال الأعرابي: علام اجتمع هؤلاء؟ فقال ابن مسعود مخاطباً إياه بلغته -الأعراب يفهمون الاجتماع على وليمة، على قسمة مال، على عطايا، هكذا يجتمع الناس على شخص- قال ابن مسعود رضي الله عنه: [على ميراث محمد صلى الله عليه وسلم يقتسمونه بينهم].

فوائد العلم

فوائد العلم والعلم يؤدي إلى الخشية، وهذه من أعظم الفوائد قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] ليس العلم بكثرة الرواية، ولكن العلم الخشية ورأس العلم تقوى الله حقاً وليس بأن يقال لقد رأُست والعلم يدفع إلى الخشية من أن يسأل عنه صاحبه ولم يعمل به؛ ولذلك قال أبو الدرداء رضي الله عنه: [إنما أخشى أن يكون أول ما يسألني عنه ربي أن يقول لي: ماذا عملت فيما علمت؟]. وقال بعض السلف: والله إني لأخشى ألا تبقى آية في كتاب الله آمرةٌ أو ناهية إلا جاءتني يوم القيامة، فتقول الآمرة بالخير: هل عملت به؟ وتقول الناهية عن الحرام: هل انتهيت عنه؟ ولذلك لابد إذا تعلمنا أن نطبق، فهي سلسلة متواصلة علم وعمل، تعلم وتطبيق، ولذلك فليست القضية حشو أذهان ولا حفظ معلومات، وإنما هي أثر حقيقي على الإنسان، ولذلك كان العلماء الربانيون مخبتين لله تعالى، يقومون له بالعبادة، يقومون الليل ويستغفرون بالأسحار، قال ابن القيم رحمه الله عن شيخ الإسلام: أنه كان إذا صلى الفجر يقعد في مصلاه يذكر الله حتى ترتفع الشمس جداً، وكان يقول: هذه غدوتي، وإذا لم أتغد سقطت قواي. وقال الحسن رحمه الله: كان الرجل- يعني: من السلف - يطلب العلم، فلا يلبث إلا يسيراً حتى يرى أثر العلم في صلاته وخشوعه وكلامه وسمته؛ لأن الله قال: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} [الإسراء:107 - 109].

أسباب قتل طلب العلم عند الشباب

أسباب قتل طلب العلم عند الشباب عباد الله لا ينال هذا العلم إلا من جعل همته لله، إلا من ارتفعت همته، وقد سقطت كثير من الهمم هذه الأيام بأمرين عند كثير من الشباب: باللهو والملل. ما قتل طلب العلم عند الشباب وعند غيرهم أيضاً إلا بأمرين: اللهو والملل، فتراهم يعكفون على وسائل من اللهو، يشتغلون بها عن الشيء الذي خلقوا من أجله، فهذا يتبع ألعاباً ويعبث بها ويضيع وقته بها، وهذا يتبع مباريات ويشاهد مسابقات ويتابع أولمبيات، وهكذا تضيع الأعمار في اللهو، في خروج وسفر لتزجية الوقت وإضاعته، وألعاب قد اخترعت يمضي بها كثير من الناس أوقاتهم بلا حساب. وأما الملل الذي صار به الشاب لا يستطيع العكوف على الكتاب، سريع الملل، إذا فتحه لم يمكث عنده صفحة أو صفحتين إلا ويشعر بالملل، فيغلق الكتاب، وإذا كان في درسه ربما لا يستطيع أن يستوي قاعداً مطمئناً، فتراه يكثر الحركة يريد القيام، بل ترى كثيراً من العامة في مجالس الذكر أو إذا أُلقيت كلمة بعد صلاة من الصلوات لا يستطيعون أن يجاهدوا أنفسهم ويصابروا في دقائق يجلسونها لسماع العلم، لكن يمكن لهم أن يجلسوا عند المصارعة ساعات، وأن يجلسوا عند الملهيات أياماً طوالاً يتابعون ذلك بغير ملل، وعلم الكتاب والسنة يحصل منه الملل؛ لأن النفوس أسنت بالمعاصي، وفسدت بارتكاب الذنوب، فصارت نتيجة لذلك تنفر من كلام ربها وحديث رسولها، ولكنها لا تمل ولا تكل وتلتذُّ وتصابر في سبيل الاستماع إلى لغو أو مشاهدة لعبة! هذه هي الحقيقة، ولذلك كان لابد للمسلم أن يتجرد لله بالطاعة، وأن يصابر في طلب العلم، تعلو همته، عن عكرمة قال: قال ابن عباس رضي الله عنه: [لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا شاب قلت لشاب من الأنصار: هلم فلنسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولنتعلم منهم فإنهم اليوم كثير، فقال لي: يا عجباً لك يا ابن عباس! أترى الناس يحتاجون إليك وفي الناس من أصحاب رسول الله صلى عليه وسلم من فيهم؟! قال ابن عباس: فتركت ذلك الرجل وأقبلت أنا على المسألة، وجعلت أتتبع الصحابة وأسألهم، فإن كنت لآتي الرجل في طلب حديث واحد يبلغني أنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجده قائلاً -نائماً نوم القيلولة في بيته- فأتوسد ردائي على بابه، تسفي الريح على وجهي التراب حتى يخرج، فإذا خرج قال: ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم! ما جاء بك؟ هلا أرسلت إلي فآتيك؟ فأقول: لا، أنا أحق أن آتيك، بلغني حديث عنك أنك تحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأحببت أن أسمعه منك، قال ابن عباس: فكان ذلك الفتى الأنصاري إذا لقيني بعد يقول: هذا كان أعقل مني].

التنافس في طلب العلم

التنافس في طلب العلم عباد الله إذا تنافس الناس في الدينار والدرهم، فلنتنافس نحن في طلب العلم، فإن الإنسان إذا عنى بالعلم والعمل تشتاق إليه الجنة، وكذلك فإن هذه الهمة التي ينبغي أن تكون الرائد في الطلب، ينبغي أن تكون موفورة بتجديد النية بتحصيل العلم لله عز وجل. ولذلك ينبغي أن يكون لنا دعاء بأن ييسر الله لنا العلم: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه:114] وإذا استغلقت مسألة نلجأ إلى الله كما كان العلماء يلجئون، كان شيخ الإسلام يقول إنه كان يقرأ في الآية الواحدة أحياناً مائة تفسير، فلا يفهمها فيسأل الله الفهم، ويقول: يا معلم آدم وإبراهيم علمني، ويا مفهم سليمان فهمني، ويمرغ وجهه في التراب ويسأل الله عز وجل حتى يفتح الله عليه. وكان أبو حنيفة رحمه الله إذا أشكلت عليه مسألة، قال: ما هذا إلا لذنب أحدثته، فيبدأ يستغفر الله، أو يقوم يصلي ويتضرع إلى ربه ويدعو مولاه، فيفتحها الله عليه. ويقول: أرجو أن يكون قد تاب علي، أرجو أن يكون قد تاب علي. بدلاً من صرف الأموال في التوافه لننفقها في شراء كتب العلم، وإن مسئولية الآباء في ذلك كبيرة وكبيرة للغاية، قال علي بن عاصم الواسطي: دفع إلي أبي مائة ألف درهم، وقال لي: اذهب وسافر لطلب العلم، ولا أرى وجهك إلا ومعك مائة ألف حديث. فسافر وارتحل في طلب العلم، وكتب عن كثير من العلماء ورجع إلى أبيه وقد غدا عالماً اشتهر بين الناس. هكذا يكون موقف الأب المسلم يوفر لولده سائر الوسائل المتاحة لتحصيل العلم من نفقة في كتب أو سفر أو تهيئة جو وتشجيع وتحفيز، انظر إلى عبارة ذلك الأب الصالح: هذه مائة ألف، ولا أرى وجهك إلا ومعك مائة ألف حديث. فالله أكبر على ما كان من ذلك الأب بما دفع ولده إلى طلب العلم!

حال السلف مع العلم

حال السلف مع العلم عباد الله، يا عباد الله لا تصلح الإقامة على الجهل ألبتة، وإنما ينبغي السعي في الطلب حتى يصل الإنسان بالمجاهدة إلى مرحلة اللذة في الطلب، أولها: مؤلم وآخرها لذيذ. قيل للشافعي: كيف شهوتك للعلم؟ فقال: أسمع بالحرف- أي: بالكلمة من العلم- لم أسمعها من قبل؛ فتود أعضائي أن لها آذاناً تتنعم بهذه الكلمة كما تنعمت بها أذناي! قيل له: كيف طلبك للعلم؟ فقال: كطلب المرأة التي أضاعت ولدها وليس لها ولد سواه. كانوا رحمهم الله يقسمون الأوقات، يقول الخطيب: واعلم أن للحفظ ساعات ينبغي لمن أراد التحفظ أن يراعيها. وللحفظ أماكن ينبغي للمتحفظ أن يلزمها، فأجود الأوقات للحفظ الأسحار، ثم بعدها وقت انتصاف النهار، وبعدها الغدوات- أي: أول النهار- دون العشيات، وحفظ الليل أصلح من حفظ النهار للهدوء والسكون فيه. قيل لبعضهم: بما أدركت هذا العلم؟ قال: بالمصباح والجلوس إلى الصباح. وقال الخطيب: وكل موضع بعيد مما يلهي لا خضرة ولا أشكال ولا جمال ولا ألوان ولا أصوات لا يصلح الحفظ كما يقول: على شطوط الأنهار ولا على قوارع الطريق ولا بحضرة النبات والخضرة، ينتقون الأوقات وينتقون الأماكن لأجل طلب العلم، ومواصلة بعد مواصلة. ورئي مع أحمد العالم الجليل محبرة وقلم فقيل له: أنت إمام المسلمين ولا زلت تحمل المحبرة وتكتب؟! فقال الإمام أحمد -شعار أهل الحديث تلك العبارة-: مع المحبرة إلى المقبرة. وهكذا كانوا رحمهم الله تعالى، ولذلك صاروا علماء أجلاء، فالمسألة أولها صعب، أولها مؤلم، أولها ممل، تحتاج إلى جلد ومصابرة حتى تأتي اللذة، فإذا جاءت اللذة انفرجت الأمور ووصلنا، نحتاج إلى أن نطلب العلم شباناً وشيبة، كهولاً كباراً وصغاراً، هذا باب لابد من ولوجه والسعي إلى تحصيله بالشيوخ والكتب والأشرطة وسائر الوسائل المتاحة التي فيها العلم: الفقه، التفسير، الدين، الحديث، وإلا كنا هملاً لا فرق بيننا وبين هؤلاء البهائم الذين يعيشون لدنياهم. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يلهمنا رشدنا ويقينا شر أنفسنا، وأن يعيننا على طلب العلم وييسره لنا، وأن يذلل الطريق والمصاعب حتى يرتفع فيه الكعب وتعلو الدرجة إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

حكم الاحتفال بالمولد النبوي الشريف

حكم الاحتفال بالمولد النبوي الشريف الحمد لله رب العالمين، الحمد لله خالق الناس أجمعين، وفاطر السماوات والأراضين، أشهد أن لا إله إلا هو العليم الحكيم، علام الغيوب، سبحانه وتعالى، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم العالم المعلم، لم ير مثله قط، لم ير أحسن منه تعليماً صلى الله عليه وعلى أصحابه الذين نقلوا علمه، وعلى التابعين الذين تابعوهم على ذلك، وعلى كل من تعلم العلم وساهم في تحصيله ونشره. عباد الله في هذه الليلة يحتفل كثير من المسلمين في أقطار الأرض احتفالاً ينم عن جهلهم بالعلم، وكلما انحسرت السنة امتدت البدعة، وكلما نقص العلم زاد الجهل، وهذان أمران محتومان، إذا كان هذا في نقصان فالآخر في زيادة والعكس بالعكس: الاحتفال بالمولد هل فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ كلا والله، هل فعله أصحابه له من بعده؟ هل فعله أبو بكر أو فعله عمر أو عثمان أو علي أو عمر بن عبد العزيز؟ لم يفعلوا ذلك، هل فعله الأئمة أبو حنيفة والشافعي ومالك وأحمد والليث والأوزاعي وسفيان إلى آخرهم؟ هل فعلوا وقاموا بالاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم؟ لم يفعلوا ذلك. إذاً ألا يسعنا ما وسعهم؟ ألا يصلحنا ما أصلحهم؟ ألا يصلح لنا ما صلح لهم؟ كل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار، وهذا الاحتفال بالمولد أمر تعبدي يقصدون به العبادة والحسنات، فليس أمراً دنيوياً حتى نقول: اخترعوا ما شئتم من المخترعات (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) ومردود على وجهه، وسيأثم بدلاً من الأجر الذي يظنه حاصلاً له ما دام يعلم بحكم ذلك.

واجبنا تجاه الرسول عليه الصلاة والسلام

واجبنا تجاه الرسول عليه الصلاة والسلام إن ذكره عليه الصلاة والسلام عبادة وقربة نشرف به آذاننا ونصلح به أنفسنا بذكر سيرته وعبادته وهديه، يرفع ذكره في الأذان والإقامة والخطب والصلوات في التشهد وغير ذلك، في المجالس وفي الدعاء وعند ذكره صلى الله عليه وسلم، لسنا من الذين يذكرون النبي عليه الصلاة والسلام ليلة في السنة، بل نحن نذكره في كل ليلة ويوم طيلة السنة، وهكذا يجب أن نكون، ليست ذكراه عندنا سنوية، بل ذكراه عندنا يومية وأسبوعية وشهرية، ذكره دائم صلى الله عليه وسلم في كل يوم وليلة. المسلم الحقيقي لا يحتاج إلى موالد لتذكر النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه يتذكره دائماً، وتُعمل الدروس والخطب في السيرة والغزوات والشمائل المحمدية، هكذا ينبغي أن تكون على مدار العام، وبين فترة وأخرى يذكر الناس بهدي نبيهم عليه الصلاة والسلام وسيرته، وهكذا ينبغي أن يكون، ولكن الناس إذا اعتراهم الوهن والفسق والضعف راحوا يقيمون الاحتفالات لعظمائهم، وهذه طريقة الكفار، انظر إليهم في احتفالاتهم بالأشخاص. قال العلامة المصري/ محمد رشيد رضا رحمه الله: إن من طباع البشر أن يبالغوا في تعظيم أئمة الدين والدنيا في طور ضعفهم في أمور الدين والدنيا، لأن هذا التعظيم- هذا هو التحليل النفسي للمولد- لا مشقة فيه على النفس، فيعملونه بدلاً مما يجب عليهم من الأعمال الشاقة التي تُعمل طيلة العام، ولذلك ترى أهل الفسق أفسق الناس وأفجر الناس يشاركون في المولد لأنها ليلة في السنة، يدخل بها مع المحتفلين ثم يخبره ضلال الصوفية بأنه قام مغفوراً له عند رب العالمين، ليلة في السنة يحتفل بها معهم ثم يقوم مغفوراً له، ما أسهل ذلك! وليس من تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم الابتعاد عن دينه، ولا الابتداع في دينه، ونحن نعلم بالتاريخ الذي ذكره العلماء متى اخترع المولد الذي أحدثه السلطان المسمى كوكا بوري بن أبي الحسن علي بن باتكين في القرن السادس الهجري، ولا زال العلماء يفتون بتحريمه وينصون على ذلك ممن عرفوا سنة النبي صلى الله عليه وسلم وفقهوا ذلك ولم تنطلِ عليهم الأمور وتختلط.

عجيب أمر مبتدعة الموالد

عجيب أمر مبتدعة الموالد وهناك ممن ينتسب إلى العلم من اختلط عليه الأمر ولم يتبين له أو جهل ذلك أو تابع الكثرة الكاثرة من الناس، أو رأى فيه نوع بدعة حسنة وليس هناك بدعة حسنة، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (كل بدعة ضلالة) فإذا قال الشارع: كل بدعة ضلالة لا يمكن أن يأتي إنسان ويستحسن ويستثني، إذا لم يستثن الشارع ليس لنا حق الاستثناء (كل بدعة ضلالة) ويقال لهؤلاء: شهر ربيع الأول هذا الذي ولد فيه صلى الله عليه وسلم هو بعينه الذي مات فيه فليس الفرح فيه بأولى من الحزن، لماذا لا تحزنون؟ إذاً أو يستوي عندكم الأمران؟ وإذا كانت البعثة للإسلام أهم من مولده، فلماذا لا تحولون الاحتفال إلى البعثة؟ أيهم أهم للعالم والبشرية: البعثة أم المولد؟ مولده أهم أم بعثته أهم أم هجرته أهم؟ فلو كنتم صادقين بالاحتفال بأهم مناسبة كما تزعمون احتفلوا ببعثته، لكن لا أحد يحتفل ببعثته، ولا نريد منهم أن يحتفلوا بالبعثة، ولكن من باب الإلزام والمحاجة نقول لهم ذلك.

بدع ومنكرات ترافق الموالد

بدع ومنكرات ترافق الموالد ثم إن في كثير من هذه الموالد اعتقادات فاسدة ممن يحضرون، سواء كان ذلك في قراءة قصائد فيها غلو وشرك أكبر وليس بأصغر، كقصيدة البوصيري: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم ترك الله ويريد أن يلوذ برسول الله صلى الله عليه وسلم عند حلول الحادث العمم فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم وضرتها: هي الآخرة، ومن علمك: (من) للتبعيض، فماذا بقي الله إذاً؟! هذه هي قصيدة البردة التي يلهجون بذكرها، الشرك الأكبر وغير ذلك يحضرونه، ويقومون عند ذكر ولادته عليه الصلاة والسلام احتراماً وقوفاً، ويقول بعض الغلاة منهم: دخلت روحه إلى المجلس قوموا، وأن روحه تطوف بالمكان، وهذا من أبطل الباطل وأكذب الكذب. ولو قال إنسان: نحن لا نقرأ البردة ولا نقول الشرك نقرأ سيرة ابن هشام، نقرأ في كتاب للسيرة كتاب موثوق، فنقول: عينتم يوماً أم لا؟ واحتفلتم به أم لا؟ واعتقدتم أنه قربة إلى الله أم لا؟ في يومٍ ما عينه الشارع ولا فضله ولا جعله عبادة فإذاً اجتماعكم غير مشروع حتى لو لم تقرءوا البردة ولا غيرها. ثم تملأ البطون بالأطعمة والحلويات الخاصة، والفقراء بالحمص، ولذلك يقولون في الأمثال العامية: خرجنا من المولد بلا حمص. وفي هذه الموالد تحصل كثير من المنكرات والمفاسد، وفي بعض البلدان استعمال الغناء وآلات الطرب، واختلاط الرجال بالنساء وهذا مشاهد ولا يمكن إنكاره، وحتى الراقصات يشاركن في ذلك، وقد قرأت في بعض الجرائد تحقيقاً صحفياً في مشاركة الراقصات في المولد والأجور التي يأخذنها، ويسمع الغناء وتصفيق النساء ويكون في الاختلاط سبب عظيم للفتنة. الجمع بين كتاب الله والأغاني في مناسبة واحدة، الأغاني والألحان والطرب وهز الرءوس والتمايل والدف والمزهر والمزمار والدربكة وغيرها أو بعضها في مجلس ذكر، كيف يكون هذا؟! يعملون أعمال الشياطين ويطلبون الأجر من رب العالمين؟! أين هؤلاء من قوله عز وجل: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} [المائدة:83]؟ هذا هو التفاعل الحقيقي {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة:83] وتخرج النساء إلى المقابر متبرجات في المولد، ويصبح المولد غرضاً ومجالاً للأغراض المشينة، ويتبعونه بموالد أخرى وزيارات لقبور أخرى في بعض البلدان. عباد الله لو خلا هذا من المحرمات وكان مجرد جلسة كما قلنا، فإن العلماء قد بينوا حكم ذلك قال ابن الحاج الإمام المالكي في كتابه المدخل: فإن خلا المولد النبوي- يعني من المنكرات والغناء وتوابعها- وعمل طعام فقط ودعي إليه الناس، دعا به الإخوان، فهو بدعة بنفسيته فقط، إذ أن ذلك زيادةٌ في الدين وليس من عمل السلف الماضية (لا تقوم الساعة حتى يصير المعروف منكراً والمنكر معروفاً) ولذلك أكثر العالم الإسلامي- وهذه حقيقة يعترف بها- يحتفلون بالمولد. قد عرف المنكر واستنكر المعروف في أيامنا الصعبة وصار أهل العلم في وحدةٍ وصار أهل الجهل في رتبة حادوا عن الحق فما للذي ساروا به في ما مضى نسبة فقلت للأبرار أهل التقى والدين لما اشتدت الكربة لا تنكروا أحوالكم قد أتت نوبتكم في زمن الغربة وهذا ما حصل والله، ونحن من الواجب علينا النصح والتذكير بالأسلوب الحسن والكلام الحسن {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125]. نسأل الله أن يجنبنا البدع ما ظهر منها وما بطن، نسأل الله تعالى أن يرزقنا اتباع السنة وأن يحيينا عليها وأن يميتنا عليها إنه سميع مجيب قريب. اللهم آمنا في الأوطان والدور وأصلح الأئمة وولاة الأمور، واغفر لنا يا عزيز يا غفور، اللهم إنا نسألك نصراً تنصر به أولياءك وحزبك المفلحين، اللهم انصر من نصر الدين واخذل من خذل المسلمين، اللهم رد عن إخواننا كيد الكائدين وعدوان المعتدين يا رب العالمين، كن معهم ولا تكن عليهم، وانصرهم ولا تنصر عليهم يا أرحم الراحمين. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

الزواج السري

الزواج السري إن الشريعة الإسلامية قد حافظت على المجتمع المسلم وحفظته من كل ما يمس طهره وعفافه ويخدشه، أو يجعل للريبة والشك فيه مكاناً، وذلك بالتشريعات الربانية المحكمة، ومن ذلك أمر الزواج، فقد أمرت وأوجبت الولي والشاهدين في النكاح، وبعد ذلك لابد من إعلان النكاح حتى يفرق بينه وبين الزنا والسفاح، وقد انتشر في هذه الأيام ما يسمى بالنكاح السري، الذي يدخل الريبة والشك إلى المجتمع، هذا هو ما تحدث عنه الشيخ حفظه الله، ذاكراً تحريمه، وبعض مفاسده، ووجوب إعلان النكاح، وفوائده.

حكم الزواج السري

حكم الزواج السري إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة: كنا قد تكلمنا في خطبةٍ ماضية عن أركان النكاح وشروطه في هذه الشريعة، ثم أتبعنا ذلك بخطبة أخرى في الكلام عن نوع من الزواج الذي بدأ يظهر عند بعض الناس، وهو أن يتزوجها بشرط ألا يكون للزوجة مبيت ولا نفقة، وبعضهم يتزوجها عند أهلها، وبعضهم يخفي هذا الزواج، وهو الذي يعرفه بعض الناس بـ (زواج المسيار) وذكرنا أن هذا الزواج إذا كان مكتمل الشروط، بأن تحققت فيه شروط العقد، وشروط صحة النكاح؛ فإنه نكاح صحيح، وبهذا يفتي شيخنا أبو عبد الله ابن باز نفع الله به. وكذلك عرفنا أن الشروط هذه فاسدة غير مفسدة للعقد، لأن للمرأة الحق في المبيت والنفقة، فإذا سكتت عن هذه المطالبة فالعقد صحيح باقٍ على صحته، وإذا طالبت بحقها في المبيت والنفقة فلها ذلك، وكان الشرط الذي اشترطه عليها في العقد باطلاً وفاسداً غير مفسد، فإذا أعطاها حقوقها فالحمد لله، وإن أبى فإنه يجبر على الطلاق، ولكن هذا النكاح قد لا يكون مرشحاً للنجاح من الناحية الاجتماعية، حيث إن الزوج لا يتكلف فيه شيئاً، وربما كان مجالاً للتذوق والتنقل من امرأة إلى أخرى، ولوحظ أنه يفتح باباً للفساد عند المرأة التي لا يأتيها هذا الرجل إلا مرة في الشهر أو نادراً، فاتخذت ذلك ذريعة إلى ارتكاب الفواحش، واستعانت على ذلك بظهورها أمام الناس أنها متزوجة، فعند ذلك يصبح هذا النكاح حراماً ليس في ذاته ولكن لما يؤدي إليه من المفاسد، فالنكاح إذا اكتملت فيه الشروط فهو صحيح، وإذا وجدت فيه شروطٌ فاسدة غير مفسدة فهو باق على صحته، وإذا أدى إلى وقوع الفساد فإنه يحرم لا لذاته، ولكن لما يؤدي إليه من الفساد. وذكرنا أن لبعض الناس أغراضاً في مثل هذا النكاح، كأن يكون فقيراً، أو أن تكون المرأة موظفة لا تريد فراق وظيفتها أو أهلها، أو هو لا يريد أن يكتشف أمره، وأن عنده زوجة أخرى ونحو ذلك. وسنزيد الكلام إيضاحاً -إن شاء الله- في هذه الخطبة، في قضية حكم الزواج السري، ما حكم الإسرار بالزواج وكتمان أمره وجعله خفياً؟ وقد ذكرنا أن بعض الناس يعمدون إلى الزواج من بعض النساء في الخارج، أو يتزوج الخادمة في بلدها ويأتي بها ويكتم هذا الأمر، فما حكم كتمان الزواج؟ وما حكم هذا النوع من النكاح؟ وما حكم نكاح الهبة التي يسميها بعض الناس كذلك؛ أن تهب المرأة نفسها للرجل بدون ولي ولا شاهدين ولا إعلان؟

حكم إعلان النكاح

حكم إعلان النكاح أما بالنسبة لإعلان النكاح، فقد قال ابن قدامة -رحمه الله- في كتابه المغني: ويستحب إعلان النكاح والضرب فيه بالدف، قال أحمد: يستحب أن يظهر النكاح، ويضرب فيه بالدف، حتى يشتهر ويعرف. وقيل له: ما الدف؟ قال: هذا الدف -أي: المعروف- وقال: لا بأس بالعزف في العرس بمثل قول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار: أتيناكم أتيناكم فحيانا وحياكم ولولا الذهب الأحمر ما حلت بواديكم ولولا الحبة السوداء ما سمنت عذاريكم وله ألفاظ أخرى. قال أحمد رحمه الله: لا على ما يصنع الناس اليوم من الكلام الفاحش، والتوسع في المعازف. يقول أحمد -رحمه الله-: لا على ما يصنع الناس اليوم، وابن قدامة -رحمه الله- يقول ذلك، فما بالهم لو شاهدوا ما يحدث في هذا اليوم! وقال أحمد أيضاً: يستحب ضرب الدف والصوت في الإملاك -التي يسميها الناس: الملكة- فقيل له: ما الصوت؟ قال: يتكلم ويتحدث ويظهر. والأصل في هذا: ما رواه محمد بن حاطب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فصل ما بين الحلال والحرام الصوت والدف في النكاح) رواه النسائي، وقال عليه الصلاة والسلام: (أعلنوا النكاح)، وفي لفظ: (أظهروا النكاح) وكان يحب أن يضرب عليه بالدف، وفي لفظ: (واضربوا عليه بالغربال) وهو الدف المعروف المفتوح، والشرط ألاَّ يكون فيه ما يجعله بعض الناس من أنواع من الحلق المعدنية، التي تصدر أصواتاً عند الضرب به، فيكون دفاً مجرداً، وهو الدف المعروف للنساء في الأعراس. وعن عائشة أنها زوجت يتيمة رجلاً من الأنصار، وكانت عائشة فيمن أهداها إلى زوجها، قالت: (فلما رجعنا قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما قلتم يا عائشة؟ قالت: سلمنا ودعونا بالبركة ثم انصرفنا، فقال: إن الأنصار قوم فيهم غزل، ألا قلتم -يا عائشة: أتيناكم أتيناكم فحيانا وحياكم وفي لفظ: ولولا الحنطة الحمراء ما سمنت عذاريكم وقال أحمد رحمه الله: لا بأس بالدف في العرس والختان، وأكره الطبل. والمقصود التحريم، فإن أحمد -رحمه الله- قال: أكره -ويقصد كراهية التحريم- وأكره الطبل -وهو المنكر- وهي الكوبة التي نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جاء ذلك في الحديث الصحيح، في النهي عن الكوبة، وهي الطبل المشهور بين الناس، مما هو مغلق الطرفين ويضربون به، مثل: القمع الكبير، وهيئته معروفة عند العامة.

كراهية كتمان النكاح مع الولي والشاهدين

كراهية كتمان النكاح مع الولي والشاهدين وإن عقدوا النكاح بولي وشاهدين، فأسروه، أو تواصوا بكتمانه، كره ذلك وصح النكاح، وبه يقول أبو حنيفة والشافعي وابن المنذر. وممن كره نكاح السر: عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعروة، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، والشعبي، ونافع. وقال أبو بكر بن عبد العزيز: النكاح باطل؛ لأن أحمد قال: إذا تزوج بولي وشاهدين فلا حتى يعلنه. وهذا مذهب مالك، وهو وجوب إعلان النكاح. إذاً: مذهب جمهور الفقهاء على أن إعلان النكاح مستحب، وذهب بعضهم: إلى أنه فرض واجب، وهذا رأي الزهري رحمه الله، وعنده أنه إذا نكح نكاح سر وأشهد رجلين وأمرهما بالكتمان، وجب التفريق بين الزوجين، ورأي مالك -رحمه الله- أن نكاح السر يفسخ، وسيأتي كلام الإمام ابن تيمية -رحمه الله- مفصلاًً في هذه القضية بعد قليل. ونلاحظ أن الشريعة أمرت بالإشهاد عند العقد، وأمرت بالإعلان عن النكاح في أمره عليه الصلاة والسلام بقوله: (أعلنوا النكاح)، وبقوله: (أظهروا النكاح) غير أنه إذا أعلنه في بلد لم يجب عليه إعلانه في بلد آخر، وهذا اختيار الشيخ عبد العزيز بن باز نفع الله به، في الأمر بالإعلان بالنكاح وإشهاره، وأنه لو أشهره في بلد لا يلزمه أن يشهره في بلد آخر. إذاً: الإشهاد عند العقد والإعلان بعده مما جاءت به الشريعة، وأمرت بالضرب بالدف إعلاناً للنكاح، وأي وسيلة لإعلان النكاح، كهذه الأنوار والزينات، وبطاقات الأعراس، واجتماع الناس على الوليمة، كل ذلك من وسائل الإعلان؛ فهي مشروعة، إذا لم يرتكب محرم فيها، ولولا أن في دق منبهات السيارات إزعاج للناس لقال به بعض أهل العلم من المعاصرين، كما ذكروا ذلك في فتاويهم، فيسلك في إعلان النكاح كل طريق يؤدي إليه؛ تنفيذاًَ لأمر الشارع. وجاء في رواية ضعيفة: جعله في المسجد. وذكر العلماء أن علة ذلك إعلانه؛ لأنه إذا كان العقد في المسجد لم يكن خفياً، فإن المصلين سيشهدون ذلك، وعند الإشهاد في العقد يعلن بين الأقارب، وعند الوليمة والضرب بالدف ونحوه يعلن على الأباعد، فيتحقق الغرض الذي قصده الشارع في إعلان النكاح. قال شيخ الإسلام -رحمه الله- وقد سئل عن رجل تزوج امرأة مصافحة؛ والمصافحة: اسم كانوا يطلقونه في زمن شيخ الإسلام رحمه الله على نكاح السر: هل يصح النكاح أم لا؟ فأجاب: الحمد لله، إذا تزوجها بلا ولي ولا شهود وكتم النكاح فهذا نكاح باطل باتفاق الأئمة، بل الذي عليه العلماء أنه لا نكاح إلا بولي: (أيما امرأة تزوجت بغير إذن وليها؛ فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل).

حكم زواج الهبة

حكم زواج الهبة وهنا نتوقف قليلاً قبل أن نتابع كلامه -رحمه الله- في قضية الإعلان، لنذكر حكم زواج الهبة، الذي يسميه بعض الناس كذلك. إذا لم يوافق أبوها، وأحبها وأحبته، وتعلق بها وتعلقت به، هرب بها، أو اختلى بها، وقال: زوجيني نفسك، فتقول: زوجتك نفسي، فيقول: قبلت. وقد يستدعي بعض هؤلاء الجهلة من أرباب المعصية، يستدعي اثنين من أصحابه، ليشهدوا على هذا العقد ليكون حلالاً بزعمه ألا فليعلموا أن هذا النوع من العقد باطل باطل باطل، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فللولي الحق في تزويج المرأة، ولكنه ليس مستبداً بذلك، بل وضعت الشريعة له شروطاً: 1 - منها: أن تكون المرأة راضية. 2 - ألاَّ يعضل المرأة، وإلا يخلع من الولاية وتجعل إلى غيره، فالذي يزعم أنه أحب امرأة وتعلق بها وتعلقت به، وأن أهلها لا يوافقون على الزواج، فيهرب بها، أو يذهب إلى بلد، ويقول: إن فيه شيخاً يزوج بغير ولي، فإن ذلك باطل بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم. وأما مسألة الهبة؛ أن تهب المرأة نفسها لرجل، فإن ذلك خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:50] فهذا حكم خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأما غيره فليس هناك شيء اسمه زواج الهبة، أن تقول: وهبتك نفسي، فيقول: قبلت، ويكون عقداً شرعياً، هذا محال ولا يكون في هذه الشريعة، وبعض الناس يريدون التحايل بأي طريقة، ليصل إلى فرج امرأة، فهذا إنسان فاسق متحايل على الشريعة والدين، وفعله حرام، ويأثم بذلك، وبهذا تتبين قضية الزواج بامرأة دون موافقة أهلها أو الهرب بها، أو الذهاب إلى بلدٍ لا يشترطون فيه في المحكمة الولي ونحو ذلك.

مشابهة النكاح السري للزنا

مشابهة النكاح السري للزنا ثم قال رحمه الله: فإن قدر فيه خلاف، وكتما ذلك، فهذا مثل الذي يتخذ صديقة، ليس بينهما فرق ظاهر معروف عند الناس يتميز به عن هذا. إذاً: الذي يتزوج امرأة ولا يعلن ذلك أمام الناس، ما الفرق بينه وبين الزاني؟ ليس هناك فرق، والإسلام يمنع كل ما يجلب ريبة إلى المسلم، ويريد أن يكون أمر المسلم واضحاً للناس، وألاَّ يتلبس بشيء يسيء إلى عرضه، ويجعل الناس يتكلمون فيه، قال: فهذا مثل الذي يتخذ صديقة، ليس بينهما فرق ظاهر معروف عند الناس يتميز به عن هذا، فلا يشاء من يزني بامرأة صديقة له إلا قال: تزوجتها، ولكن إذا أعلن يقول الناس: فعلاً تزوجها، وإذا لم يعلن يستريب الناس في أمره، هل هو كاذب أم لا؟ ولا يشاء أحد أن يقول لمن تزوج في السر: إنه يزني بها إلا قال ذلك، لأنه ليس عنده دليل ولا سمع ولا أعلن النكاح، فيتهمه، فلا بد أن يكون بين الحلال والحرام فرق مبين، والفرق المبين هو الذي يعني به -رحمه الله تعالى- إعلان النكاح، ولذلك قال: فقيل: الواجب الإعلان فقط، سواء أشهد أم لم يشهد، كقول مالك وكثير من فقهاء الحديث وأهل الظاهر وأحمد في رواية، والأحسن والأفضل وخروجاً من جميع الاشكالات -كما تقدم- أن يشهد عند العقد، ويعلن النكاح بعده، فإذا أشهد عند العقد، وأعلن النكاح بعده؛ فإن ذلك يكون صحيحاً عند جميع العلماء، ولا شك ولا ريبة في هذا النكاح، وهذا الذي ينبغي أن يكون. فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا بدينه مستمسكين، وبسنة نبيه عاملين، وأن يرزقنا العفة والعفاف، وأن يباعد بيننا وبين الحرام، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وأغننا بفضلك عمن سواك. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم. الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، الذي خلق فسوى، وقدر فهدى، سبحانه وتعالى، يحكم ما يشاء ولا معقب لحكمه وهو الحكيم الخبير، يفعل ما يشاء ويحكم ما يشاء سبحانه وتعالى، أنزل الكتاب والميزان ليقوم الناس بالعدل، وأشهد أن محمداً رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. يقول -رحمه الله- في تكملة كلامه في مسألة إعلان النكاح: وقد روي عن ابن عباس: [((مُحْصَنَاتٍ)) [النساء:25] أي: عفائف غير زوانٍ، ((وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ)) [النساء:25] أي: أخلاء، كان أهل الجاهلية يحرمون ما ظهر من الزنا، ويستحلون ما خفي -كان عند أهل الجاهلية أن الزنا إذا خفي فليس بعيب، وإذا صار علناً فهو عيب- فقال الله: ((مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ)) [النساء:25]]. فالمسافحات: المعلنات بالزنا، والمتخذات أخذان: المسرات بالزنا، فقال ابن عباس رضي الله عنه: [المسافحات: المعلنات بالزنا، والمتخذات أخذان: ذوات الخليل الواحد] قال بعض المفسرين: كانت المرأة -أي: في الجاهلية- تتخذ صديقاً تزني معه، ولا تزني مع غيره، ويعتبرون ذلك أمراً لا شيء فيه، فالله سبحانه وتعالى قال في الكتاب العزيز مبيناً حكم الزنا بجميع أنواعه، ما صار منه علناً، وما كان منه سراً: {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} [النساء:25]. لا معلنات ولا غير معلنات، لا بغي زانية مع الجميع، ولا مع شخص واحد، كله حرام، وكثير من الزناة في هذا الزمان لم تقع آذانهم على هذه الآية ألبتة ولا عرفوا معناها، وبعضهم كذلك يرتبط بالحرام بامرأة بغي، ويقول: إنها لا تزني مع غيره، وهل إذا كانت لا تزني مع غيره، يكون أمراً مباحاً؟! ((غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ)) [النساء:25] ذكروا بهذا كل من يقع في الفاحشة، ((وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ)) [النساء:25] لا البغايا المعلنات المتعدّدات والمعددات، ولا ذوات الخليل الواحد. وذكروا أن الزنا في الجاهلية كان على نوعين: 1 - نوع مشترك. 2 - نوع مختص. 3 - المشترك ما يظهر في العادة، بخلاف المختص فإنه مستتر في العادة، ولما حرم الله الزنا المختص الذي لا يزني إلا بواحدة، وهو شبيه بالنكاح، فإن النكاح تختص فيه المرأة بالرجل، ومن فقه شيخ الإسلام يقول: لما شابه الزنا المختص بامرأة معينة، ورجل معين، وجب الفرق بين النكاح الحلال والحرام من اتخاذ الأخدان، والفرق هو فصل ما بين الحلال والحرام -الحلال النكاح والحرام الزنا- بالضرب بالدف، وإعلان النكاح. فذهب شيخ الإسلام -رحمه الله- إلى وجوب الإعلان، وقال: فلهذا كان عمر بن الخطاب يضرب على نكاح السر؛ إذا سمع بنكاح سري ضرب عليه، فإن نكاح السر من جنس اتخاذ الأخدان، وشبيه به، لاسيما إذا زوجت نفسها بلا ولي ولا شهود.

فوائد إعلان النكاح

فوائد إعلان النكاح إذاً إعلان النكاح أمر لا بد منه، وله فوائد أخرى غير دفع الريبة، ووقاية العرض، وعدم إشاعة الفاحشة في المجتمع، ومن الفوائد: 1 - أنه إذا كانت المرأة ذات زوج سابق تظهر المسألة، وإذا كان بينهما رضاع جاءت المرضعة، فقالت: قد أرضعتهما، لكن إذا كان خفياً لم يعلن، فإن مثل هذه الأمور تفوت. 2 - ومن الأمور المهمة كذلك في إعلانه: حفظ حقوق الزوجة والأولاد الجدد، وخصوصاً الزوجة الثانية في الميراث، فإنه إذا تزوج -وهذا حالة معروفة- سراً ثم مات، غضب أولاده، وقالوا: ظهر لنا إخوة لا نعلم عنهم شيئاً، وتقول زوجته: ظهرت لي ضرة لم أكن أعلم عنها شيئاً، وإذا كانت هذه المرأة ظالمة، والأولاد ظلمة، سيحرمون الزوجة الثانية وأولادها من الميراث، ويقولون: ما عندنا إثبات رسمي، ومن هنا كان لابد للعاقل -ومثله الذي يتزوج خادمة ويأتي بها- لابد له من مراعاة القوانين التي تكون موجودة في البلد لأجل مثل هذه القضية وهي حفظ حقوق المرأة الجديدة، وحقوق أولادها، حتى إذا مات ورثوه وأخذوا حقهم ونصيبهم، وإلا ضاع؛ فوجب عليه أن يحتاط لأجل ذلك، وأن يراعي هذه المسألة أشد المراعاة، فإن حقوق العباد لا يتسامح فيها، فيجب على الإنسان أن يكون حصيفاً حكيماً في إقدامه على زواج في مكان خفي أو لا يعلنه، ويحسب حساب المستقبل. المرأة في المستقبل ما وضعها؟ أولاده في المستقبل من هذه المرأة الجديدة ما وضعهم؟ كل ذلك من حكمة المسلم التي ينبغي عليه أن يتفطن لها. وبقيت قضايا أخرى متعلقة بالموضوع، مثل: زواج المغتربين، والزواج بنية الطلاق، لعلنا نأتي على ذلك في خطبة قادمة إن شاء الله، ولكن لا بد أن نقول: إن أي زواج -وإن كان مباحاً- إذا كان يؤدي إلى ضياع الأولاد عند النصارى، أو ارتداد المسلمات، فإنه يحرم لا لذاته، ولكن لما يؤدي إليه من المفاسد، ونقول عموماً في زواج الغربة، وفي زواج المسيار، وفي الزواج الذي لم يعلن وغير ذلك: لا بد أن يراعى الحال، وأن ينظر فيما يؤدي إليه هذا النكاح من المفاسد، فإذا كانت المفاسد متحققة، كأن يأخذ النصارى أولادهم بالقانون الألماني والفرنسي والأمريكي والبريطاني وغيره، ويُجعلون نصارى، أو المرأة ترتد لما ترى من أمره ونحو ذلك، فإنه يحرم عليه أن يقدم على مثل هذه الفعلة، وقد ذكر العلماء في الزواج في بلاد الحرب أموراً مهمة، ينبغي الرجوع إليها. إذاً: النكاح وإن كان مباحاً فيجب التفطن لما بعده، ولما ورواءه، وما هو المستقبل بحسب التجربة، وما أرانا الله إياه من واقع الناس وحال مثل هذه الزواجات. وكذلك في الجانب الآخر لا يجوز الإنكار على من تزوج زواجاً شرعياً، قد تحققت فيه الشروط، ولا اتهامه بالزنا إذا علمت أنه قد تزوج زواجاً شرعياً، فلا يحل مطلقاً قذفه، وهذا ما يتساهل فيه بعض الناس. أيها الأخوة: إن الحاجة إلى الفقه في الدين ماسة، خصوصاً في هذه القضايا الحياتية الحساسة والخطيرة. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يفقهنا في دينه، وأن يرزقنا العفاف، وأن يباعد بيننا وبين الحرام. اللهم طهر قلوبنا، وحصن فروجنا. اللهم اجعل بيننا وبين الحرام برزخاً وحجراً محجوراً. اللهم أعز دينك، اللهم أعز عبادك، والمجاهدين في سبيلك. اللهم ارفع لواء الدين، واخذل الكفرة والمشركين. اللهم اجعل بلدنا هذا آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، ومن أراد ببلدنا هذا سوءاً فاجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً عليه. اللهم انشر رحمتك على العباد، وارفع لواء الجهاد، واغفر لنا وتجاوز عنا في يوم المعاد، إنك أنت البصير بالعباد. سبحانك ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

الشهوة الخفية [حب الرئاسة، حب الشهرة]

الشهوة الخفية [حب الرئاسة، حب الشهرة] حب الرئاسة، وحب الشهرة مرضان خطيران على المرء المسلم، وفي هذا الدرس تحدث الشيخ عن هذين المرضين، فذكر أسباب مرض حب الرئاسة، ومظاهر هذا المرض، ثم أتى إلى العلاج الناجع الذي يقضي على حب الرئاسة في النفس. وتحدث عن مرض حب الشهرة، وبين خطره على الإخلاص، ثم انتقل لعلاج هذا المرض، وذلك بأمرين هما: التواضع لله بعد الإخلاص، ثم إخفاء العمل، وعرض عدة قصص للسلف مبيناً فيها كيف أخفوا أعمالهم، حتى تكون بينهم وبين الله.

مقدمة عن حب الرئاسة

مقدمة عن حب الرئاسة الحمد لله الذي شرع لنا الإسلام دينا، وأوجب علينا الإخلاص له سبحانه وتعالى في العبادة، فالذي يعبده لا يشرك به شيئاً يدخل الجنة، والذي يعبده مع الشرك فإن كان الشرك أكبر فإنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها، أمرنا بالإخلاص فقال: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} [الزمر:2] وقال الله سبحانه وتعالى مبيناً خطورة الشرك: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48] {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65]، والصلاة والسلام على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. وهذا الشرك -أيها الإخوة- له صورٌ كثيرة: ومن صور الشرك، ومن أنواع الشرك ما يكون جلياً واضحاً ومنه ما يكون خفياً، كما أنه ينقسم إلى شركٍ أكبر وأصغر فلذلك ينقسم إلى شركٍ جليٍ وخفي، فالشرك الجلي واضح يعرفه كل أحد، والشرك الخفي: الذي يخفى على كثيرٍ من الناس، أما المؤمنون فإن الدافع عندهم للشرك الجلي لا يكاد يوجد، لكن الخطورة والمصيبة في الشرك الخفي -بالنسبة للمؤمنين- أما المشركون فهم واقعون في أنواع الشرك، جليها وخفيها. موضوعنا في هذه الليلة -أيها الإخوة- عن شهوةٍ خفية في النفس تقدح في الإخلاص وتخالف التجرد لله سبحانه وتعالى، وهي حب الرئاسة وحب الشهرة، وهما موضوعان متقاربان، بينهما كثيرٌ من الارتباط ولعلنا نتحدث عن هذين الموضوعين -إن شاء الله- في هذه الليلة ونسأل الله الإخلاص والقبول والسداد، ونسأله سبحانه وتعالى أن يجنبنا وإياكم هذه المزالق، وأن يطهر نفوسنا من أنواع الشرك جليه وخفيه. أما حب الرئاسة فهو: حالقةٌ تحلق الدين، ومزلقٌ عظيمٌ من المزالق التي يفنى فيها الإخلاص ويذوب، بل إن خطورته على الدين أشد من خطورة الذئب الذي يترك في زريبة غنم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما ذئبان جائعان أرسلا في غنمٍ بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه). ذئبان جائعان: الحرص على المال ذئب والحرص على الشرف شبهه بذئبٍ آخر، إذا أرسل الذئب في الغنم ماذا يفعل؟ فكذلك يفعل الحرص على الشرف والحرص على الجاه والحرص على الرئاسة كذلك تفعل في الدين، تفسد الدين إفساداً عظيماً، والحرص على الرئاسة وحب الرئاسة والسعي لها، شهوةٌ خفيةٌ في النفس ولا شك، والناس عندهم استعداد للزهد في الطعام والشراب والثياب لكن الزهد في الرئاسة هذا نادر. قال سفيان الثوري رحمه الله: ما رأيت زهداً في شيءٍ أقل منه في الرئاسة، ترى الرجل يزهد في المطعم والمشرب والمال والثياب فإن نوزع الرئاسة تحامى عليها وعادى. وقال يوسف بن أسباط: الزهد في الرئاسة أشد من الزهد في الدنيا، ولذلك كان السلف رحمهم الله يحذرون أتباعهم وأصحابهم من ذلك، كتب سفيان إلى صاحبه عباد بن عباد رسالةً فيها: إياك وحب الرئاسة، فإن الرجل تكون الرياسة أحب إليه من الذهب والفضة وهو بابٌ غامضٌ لا يبصره إلا البصير من العلماء السماسرة فتفقد نفسك واعمل بنية. إذاً: هو خفي جداً إنه شهوة خفية في النفس، وقال أيوب السختياني رحمه الله: ما صدق عبدٌ قط فأحب الشهرة، وقال بشرٌ: ما اتقى الله من أحب الشهرة، وقال يحيى بن معاذ: لا يفلح من شممت منه رائحة الرياسة، وقال ابن الحداد: ما صدّ عن الله مثل طلب المحامد وطلب الرفعة: المنصب، والرياسة.

من مظاهر حب الرئاسة

من مظاهر حب الرئاسة وحب الرئاسة له مظاهر كثيرة، فمنها مثلاً: أنه لا يعمل إلا إذا صدر، فإذا لم يصدر لم يقدم شيئاً ولا حتى رأياً مفيداً ينفع من عنده، وربما يقول: أَدَعُ غيري يفشل حتى أستلم أنا، مع أن بالإمكان أن يساعده ويكون التعاون من أسباب النجاح، لكن يريد أن يفشله ليخرج هو إلى الصدارة. وقال بعض السلف موضحاً مظاهر حب الرئاسة: ما أحب أحدٌ الرياسة إلا أحب ذكر الناس بالنقائص والعيوب، فهذه أيضاً من علامات حب الرئاسة، ما أحب أحدٌ الرياسة إلا أحب ذكر الناس بالنقائص والعيوب ليتميز هو بالكمال، ويكره أن يذكر الناس أحداً عنده بخير، ومن عشق الرئاسة فقد تودع من صلاحه. وكذلك من مظاهرها: ألا يدل على من هو أفضل منه في الدين أو العلم والخلق ويحجب فضائل الآخرين، ويكتم أخبارهم حتى لا يستدل الناس عليهم فيتركوه ويذهبون إلى الأخير، أو يخشى أن يقارن الناس بينه وبين الأفضل فينفضوا عنه أو ينزل في أعينهم ويقل مقداره عندهم. وكذلك من مظاهر حب الرئاسة الحسرة إذا زالت أو أخذت منه، تأمل لو أن إنساناً كان في قريةٍ أو مدرسةٍ أو بلد، فالتف الناس حوله يعلمهم، ثم جاء من هو أعلم منه، فسكن البلد، ونزل فيها، فماذا يحصل؟ سيتركه الناس ويذهبون إلى الأعلم، فهذا السؤال الآن: هل يفرح الرجل أو يحزن. ؟ هل يفرح لأنه قد جاء من هو أعلم منه يحمل عنه المسئولية ويرفع عنه التبعة؟ ويفيد الناس أكثر. ؟ أو أنه يغتم ويخزن لأنه قد جاء من خطف منه الأضواء وبهت نجمه بقدوم غيره؟ هب أن شخصاً في مجلس فجاء من هو أعلم منه في المجلس، أو أقدر منه، فهل يفرح لمجيء من هو أعلم منه، ويفسح له المجال في الكلام، أو يغتم لحضور شخصٍ سيتصدر المجلس وتلتفت إليه الأنظار ويسعى إليه الناس الجالسون بأسئلتهم؟! لو أن شخصاً في منصب فنقل إلى دائرته أو القسم الذي هو فيه شخصٌ أقدر منه، وشهادته عالية ويرجح أنه يرشح للمنصب بدلاً منه، فكيف يكون عمله في هذه الحالة؟! هناك يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت، إن هذا خطر عظيم أيها الإخوة.

أسباب مرض حب الرئاسة

أسباب مرض حب الرئاسة حب الرئاسة كما أن له مظاهراً، فكذلك له أسباب ومن ذلك: التحرر من سلطة الآخرين، يريد أن يكون هو رئيساً، لا يريد أحداً فوقه، لو أن الذي فوقه كافرٌ أو فاسقٌ أو خائنٌ، لقلنا: نعم. ينبغي إزاحته، لكن لو كان الذي يرأسه تقياً مسلماً أميناً عارفاً، فما هو المبرر للتحرر من هذه السلطة والرئاسة التي فوقه؟ وكذلك من أسبابها: الرغبة في التسلط على الآخرين، النفس جبلت على التسلط والسعي للتحكم والسيطرة والنفوذ، ولذلك ترى الذين يحبون هذه يريدون التسلط على الآخرين، ويتلذذون بإعطاء الأوامر، هو يصدرُ أمراً وعلى من تحته أن ينفذ، وربما كان عنده ظلمٌ وبغي فيتلذذ بتعذيب غيره، أو أن يسوم من تحته ألوان العذاب بأوامره الجوفاء. ومن أسبابه كذلك، من أسباب حب الرئاسة وعدم التورع عن السعي إليها: عدم تقدير عواقب التقصير في الآخرة، قال صلى الله عليه وسلم: (ما من رجلٍ يلي أمر عشرةٍ فما فوق ذلك) انتبه يا أيها الأب في البيت! ويا أيها الرئيس في القسم والدائرة! ويا أيها الصاحب للعمل وتحته عمال! (ما من رجلٍ يلي أمر عشرةٍ فما فوق) وانتبه يا طالب العلم الذي تعلم من تحتك، وانتبه يا أيها المربي الذي تدرب من عندك وتسوسهم وينبغي أن تسوسهم بأمر الشريعة: (ما من رجلٍ يلي أمر عشرةٍ فما فوق ذلك، إلا أتى الله مغلولاً يده إلى عنقه، فكه بره أو أوثقه إثمه)، أولها ملامة، وأوسطها ندامة، وآخرها خزيٌ يوم القيامة أولها ملامة: تتوجه إليه سهام الانتقادات، وأوسطها ندامة: إذا نحي عن منصبه، أو خرج عليه فخلع، وآخرها: خزيٌ يوم القيامة بما يلقى الله عز وجل من الخيانة أو عدم القيام بالمسئولية وأداء الأمانة.

آثار حب الرئاسة على الفرد والمجتمع

آثار حب الرئاسة على الفرد والمجتمع حب الرئاسة له آثارٌ مترتبةٌ عليه لمن لم يخش الله ولم يتقه فيما وُلِّي، والسعي إليها بغير مبررٍ شرعي من أسباب حبوط العمل وفقدان الإخلاص، لأنه يصبح للإنسان غرض دنيوي يسعى إليه، وهدفٌ يطمح إلى تحقيقه وهو أن يترأس ويتزعم، فيوالي ويعادي بناءً على هذه المصلحة الشخصية، وقد يظلم ويفتري ويقترف من الآثام ما يقترف من أجل الوصول إلى هدفه، ويظلم العباد من أجل المحافظة على منصبه ومكانته، وبناءً على ذلك أي إخلاصٍ يرجى في مثل هذا الموقع؟! ومن الأمور والآثار المترتبة على هذا كذلك: الحرمان من التوفيق، قال النبي عليه الصلاة والسلام لـ عبد الرحمن بن سمرة: (يا عبد الرحمن بن سمرة! لا تسأل الإمارة، فإنك إن أوتيتها عن مسألةٍ) -أعطوك الإمارة لما سألت وألححت- (أوكلت إليها) فالله لا يعينك بسبب حرصك على ذلك، (أوكلت إليها)، والناس لا يعينوك أيضاً، لأنك أنت تسعى فأنت صاحب الطمع الشخصي- (وإن أوتيتها عن غير مسألةٍ أُعِنْتَ عليها) إذا رفعك الناس وقالوا: تعال وتولَّ، أنت أفضل من هو موجود، نحن نريدك، فإذا دفع إليها دفعاً، أعين عليها، الناس يتكاتفون معه، يقومون معه يعينونه، لأنه ليس صاحب طمع شخصي، بل هم الذين دفعوه وحملوه المسئولية، فيقومون معه، ويعينه الله قبل ذلك، لأنه ما تولى هذا الشيء إلا لمصلحة المسلمين ليس لمصلحته الشخصية هو. وكذلك من آثار حب الرئاسة السلبي: الوقوع في البدع والضلال، كما قال أبو العتاهية رحمه الله: أخي من عشق الرئاسة خفت أن يطغى ويحدث بدعةً وضلالة فهو يزين الذميم ويقمع المخالف بأي وسيلة، يترتب عليه ظلمٌ كثير إذا لم يخش الله، فيمنع غيره من الأكفاء من الوصول إلى مثل منصبه ويعرقلهم ويضع العوائق في طريقهم، كيف وقد تلبس الشيطان بداخله وزين له أمره؟! هذه لذة لا يتخلى عنها لمن هو أفضل منه إلا من عصمه الله ليس الأمر سهلاً وكذلك: إذا لم يكن على أهلية، افتضح وظهر أمره وتقصيره وأنه عاجز ليس بأهل، ولا يستطيع حل المشكلات، فإما أن يعاند ويستمر وينجرُّ عليه من الإثم، أو يتخلى مع ما حصل له من الفشل وهذا أيضاً أمرٌ مر، ولكنه أهون، لكن السؤال لماذا تصدر وليس بأهل لذلك؟!! قد يجلس في مجلس علم يتصدر، ويجمع الناس حوله ليعلمهم ثم يظهر من حاله وفي جلسته وحلقته وإجابته عن الأسئلة لا يفضح حاله ويبين جهله، فيتركه الناس ويقومون عليه، هو الذي تصدر؛ [تفقهوا قبل أن تسودوا]. فالمنصب له أحكام، والمسألة تحتاج إلى علم، ولا يجوز لإنسان أن يتقدم بدون علم وأهلية، هو الذي اختار ذلك وسعى إليه، فأكلَ النتيجة، كانت النتيجة مراً وعلقماً. وكذلك من آثار الحرص على الرئاسة والسعي إليها: الابتلاء بالشحناء وتفرق الصف وحصول الصراعات الداخلية والتنافسات، وكلٌ من الحريصين عليها يتهم الآخر بأنه قاصر وعاجز، أو يتهم الواحد الآخر بأنه يريد إقصاءه ويتبادلون الاتهامات، يقول هذا: تريد أن تقصيني عن موضع التأثير والقيادة، وهذا يتهم الآخر في مثل ذلك فيفشل العمل، أي عمل تجاري دعوي أو أي عملٍ من الأعمال إذا حصل في هذا الأمر يفشل.

علاج آفة حب الرئاسة

علاج آفة حب الرئاسة

اللجوء إلى الله

اللجوء إلى الله وأما علاج هذه الآفة، فلا شك أنه اللجوء إلى الله أولاً وقبل كل شيء، اللجوء إلى الله بأن يرزقه الإخلاص والسداد وأن يزيل ما في نفسه من المرض والعيب، فإن الإخلاص هو الذي عليه قبول الأعمال: (أول من تسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة، عالم ومجاهد وقارئ) يقول هذا: تعلمتُ العلم في سبيلك لأعلم الناس وأنشر العلم، فيقال: تعلمت ليقال: عالم، وذاك يقول: قاتلتُ في سبيلك، فيقال: كلا. قاتلت ليقال: جريء، وقد قيل، أخذت أجرك في الدنيا، قيل عنك أنك جريء، فيسحب إلى النار، والآخر يقول: قرأت القرآن فيك، فيقال: قرأت ليقال: قارئ، حسن الصوت، خاشعٌ في تلاوته، مؤثر، وذاك يقول: تصدقت في سبيلك، فيقال: لا: تصدقت ليقال: جواد، وقد قيل، أخذت أجرك في الدنيا، فيسحبون إلى النار. فلابد من الإخلاص لله سبحانه وتعالى, والتجرد عن النوازع الشخصية وتقديم مصلحة الإسلام والمسلمين قبل كل شيء.

استشعار المسئولية

استشعار المسئولية وكذلك من العلاج: استشعار المسئولية، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى سائلٌ كل راع ٍعما استرعاه، أحفظ ذلك أم ضيعه، حتى يسأل الرجل عن أهل بيته). (إن الله تعالى سائل كل راعٍ عما استرعاه) كل واحد عنده رعية، يسوس أُناساً أو يقودهم ويرأسهم ويتولى عليهم، يحاسب أمام الله يوم القيامة على هذا، والسؤال يوم القيامة ليس سؤالاً هيناً بل سؤال حساب. (إن الله تعالى سائلٌ كل راعٍ عما استرعاه، أحفظ ذلك أم ضيعه، حتى يسأل الرجل عن أهل بيته) وكلما كبرت المسئولية، ازداد الحساب واشتد.

رحم الله امرأ عرف قدر نفسه

رحم الله امرأً عرف قدر نفسه وكذلك من علاج حب الرئاسة: تقدير النفس أن يعرف الإنسان قدره: [رحم الله امرأً عرف قدر نفسه] يعرف المسئولية وما يتطلبه الوضع، ويعرف إمكانات نفسه، وهل يستطيع أن يقوم بالمسئولية أو لا، هذا الحساب للنفس مهم، هل أنا أصلح لهذه المسئولية؟ هل عندي قدرات لأن أقوم بهذه المسئولية؟ هل عندي ما أستطيع أن أملأ به هذا المكان وأعطيه حقه وأؤدي الأمانة؟ محاسبة النفس في غاية الأهمية، فإذا عرف أنه ضعيف فلا يقدم، قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي ذر -وهذا حديث عجيب- فعلاً: (يا أبا ذر! إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزيٌ وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها) وقال في رواية أخرى: (يا أبا ذر إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تتأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم) النبي عليه الصلاة والسلام يعرف شخصية أبي ذر جيداً، فـ أبو ذر رحمه الله ورضي عنه وأرضاه صادق من أصدق الناس لساناً، ورع، زاهد في الدنيا، عنده مناقب كثيرة ومن السابقين للإسلام، ضرب حتى صار نقباً أحمر من الدم الذي نزل عليه، ضربه كفار قريش لما جهر بإسلامه فما خاف، ومن أوائل السابقين للإسلام أبو ذر الغفاري، لكن ليس كل فاضل عابد عنده علم وزهد وورع يصلح للقيادة، القيادة تتطلب متطلبات ومواصفات معينة، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يا أبا ذر! إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي) أحب لك أن تبقى في جانب السلامة، أن تظل على خير، ألا تظلم أحداً ولا تبوء بإثم أحد: (إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تتأمرن على اثنين- لا تتأمرن على اثنين ولو في طريق سفر- ولا تولين مال يتيم) رضي الله عنه كان عنده شدةٌ يأخذ نفسه بها، وربما رغم غيره ويدعو غيره عليها، يحملهم عليها، فلا يطيقه؛ لا يطيق زهده وورعه من تحته، ولذلك قال: (لا تتأمرن على اثنين).

التفكر في العاقبة يوم الدين

التفكر في العاقبة يوم الدين ومن علاج حب الرئاسة: التفكر في العاقبة يوم الدين، يوم الجزاء والحساب، يوم يحاسب كل إنسانٍ: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً} [آل عمران:30] يوم الحساب؛ لأن فيه محاسبة قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن شئتم أنبأتكم عن الإمارة وما هي، أولها: ملامة، وثانيها: ندامة، وثالثها: عذابٌ يوم القيامة إلا من عدل) وقال عليه الصلاة والسلام: (إنكم ستحرصون على الإمارة، وإنها ستكون ندامةً وحسرةً يوم القيامة، فنعمَ المرضعة وبئست الفاطمة) نعم المرضعة في الدنيا بما تأتي على صاحبها من المنافع وتجر له من الجاه والأموال والبسط والنفوذ، ولكن بئست الفاطمة بالموت الذي يهدم لذاتها، ويورث النفس الحسرات، بما سيكون يوم القيامة، هذا أمر خطير ينبغي أن يحسب له حسابه، لا يتقدم إنسان ويتجرأ على منصب أو مكان أو مسئولية إلا وهو يضع نصب عينيه ماذا سيحدث له يوم القيامة ويحاسب نفسه قبل أن يحاسب، قال عليه الصلاة والسلام: (ليتمنينَ أقوامٌ ولوا هذا الأمر أنهم خروا من الثريا وأنهم لم يلوا شيئاً) سيأتي عليهم يوم يندمون ويتمنون لو أنهم خروا من السماء -نجم الثريا الذي في السماء- خروا إلى الأرض وأنهم ما تولوا شيئاً من أمور الناس لما حصلَ منهم من الخيانة أو التقصير أو الإثم والاعتداء والظلم، وقال عليه الصلاة والسلام: (ليودَّنَّ رجلٌ أن خرَّ من عند الثريا وأنه لم يلِ من أمر الناس شيئاً). ولذلك كان أحد الخلفاء يقول: [وددت أني خرجت منها كفافاً لا لي ولا علي] من عظم استشعار المسئولية، ولو حصل خطأ أو شيء جلس يبكى، كيف هو مقصر، كيف لم يعلم عن هذه الأمة، أو كيف لم يعلم عن هؤلاء الناس والأفراد، وقال صلى الله عليه وسلم مبيناً خطورتها أيضاً: (لابد من العريف، والعريف في النار) أما العريف فهو: الذي يلي أمر القبيلة أو الجماعة من الناس. رئيس الفوج من الجنود المتولي عليهم، المراتب العسكرية كل مرتبة تحته أشخاص، كلما ازدادت رتبته ازداد عدد الأفراد الذين يشرف عليهم، (لابد من العريف والعريف في النار) لابد من العريف لأنه لا يمكن أن يستقيم أمر الناس بدون عرفاء، لابد من وجود مسئولين ينظمون الأمور، والعريف في النار إذا لم يعدل، فهذا مقيد بعدم العدل وحصول الظلم منه يكون في النار، أما إذا عدل واستقام، فإن من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمامٌ عادل؛ تولى وعدل.

إيثار الباقي على الفاني

إيثار الباقي على الفاني وكذلك من الأشياء التي تعين على علاج حب الرئاسة في النفس: إيثار الباقي على الفاني والتفكر في هذه الدنيا وزوالها وسرعة انقضائها وهمومها وغمومها وأحزانها، وقصرها وهوانها على الله، لا تساوي عند الله جناح بعوضة، فلو كانت تساوي جناح بعوضة ما أعطى الكافر ولا شربة ماء. جاء في البخاري: أن عبد الله بن عمر حضر خطبة من تولى الملك في زمنه، قال الخطيب الذي تولى: من كان يريد أن يتكلم في هذا الأمر -يعني: ينازعنا فيه- من كان يريد أن يتكلم في هذا الأمر، فليطلع لنا قرنه -فليظهر وليقف- فلنحنُ أحقُّ به منه ومن أبيه -نحن أحق بهذا الأمر منه ومن أبيه وعبد الله بن عمر جالس- قال عبد الله بن عمر: [فحللت حبوتي وهممت أن أقول: أحق بهذا الأمر منك من قاتلك وأباك على الإسلام -لأنه كان متأخراً في الإسلام هو وأبوه -يقول عبد الله بن عمر: هممت أن أقول: أحق بهذا الأمر منك من قاتلك وأباك على الإسلام من السابقين الأولين- قال ابن عمر: فخشيت أن أقول كلمةً تفرق بين الجمع وتسفك الدم، ويحمل عني غير ذلك، فذكرت -هذا الشاهد- فذكرت ما أعد الله في الجنان -أي: لما تذكر ما أعد الله في الجنان، سكت وما تكلم فالمسألة الآن في الرئاسة، كاد ابن عمر أن يتكلم لكنه سكت، لماذا سكت؟ - قال: فذكرت ما أعد الله في الجنان فهانت علي] هينة لا شيء لا تساوي شيئاً.

التفكر في حال السلف وموقفهم من الرئاسة

التفكر في حال السلف وموقفهم من الرئاسة وكذلك من علاج حب الرئاسة في النفس ومطاردة هذا النازع الموجود: التفكر في حال السلف في قضية موقفهم من الإمارة والرئاسة، فعن عامر بن سعد بن أبي وقاص قال: (كان سعد في إبلٍ له وغنم -ترك البلد جلس في الإبل والغنم- فأتاه ابنه عمر بن سعد، فلما رآه قال: أعوذ بالله من شر هذا الراكب، فلما انتهى إليه فإذا هو ابنه عمر، قال: يا أبتي! أرضيتَ أن تكون أعرابياً في إبلك وغنمك والناس يتنازعون في الملك؟!) -أنت تخرج خارج المدينة بالإبل والغنم والناس يتنازعون في الملك وأنت من الصحابة السابقين الأولين، فـ سعد بن أبي وقاص! ما خرج رغبة في الدنيا والترويح عن النفس والغنم والإبل، لا. لكنه هجر الفتنة، وترك هذا التنازع- (قال: فضرب سعدٌ صدر عمر وقال: اسكت يا بني فإني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي) غني النفس، تقي في نفسه، خفي يخفي عمله ولا يطلب رئاسات ومناصب، يكفيه ما هو فيه من شئون نفسه. وكذلك حال الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، كيف كانوا يقولون، وعمر بن عبد العزيز بكى عدة مرات على المنبر، ويقول: يا أيها الناس: أنا أخلع نفسي ولا ألزم أحداً بطاعة، والناس هم الذين يصرون عليه ويقولون: بلى. أنتَ وتبقى، ويؤكدون له العهد، كذلك العلماء لما تهربوا من القضاء، القضاء مسئولية خطيرة جداً (قاضٍ في الجنة وقاضيان في النار) كيف كان هروب العلماء من القضاء؟ القضاء منصب ومسئولية وسلطة، وكان القاضي من أعظم الناس في زمانه، وكلمته لا تنزل إلى الأرض؛ فقد كانت مسموعة، وكانوا يهربون ويضربون عن القضاء ولا يتولونه ويسجنون ولا يتولونه، يرغمون يدفعون ويأبون، وكانوا يهربون من منصب الفتوى، مع أنهم أهل، لكن الواحد يرد الفتوى إلى الآخر، يقول: اذهب فاسأل فلاناً؟ لا يريد أن يتبوأ منصباً ويتصدر في الفتوى، لا يتصدر الفتوى بل يحيلها على غيره، وكانت الفتوى تذهب تدور على نفر وترجع إلى الأول كل واحد يرحلها إلى صاحبه، فهربوا من المسئوليات والقضاء والمناصب والفتوى هربوا يريدون النجاة لأنفسهم، لا يريدون تبعات، لم يكن قصدهم التهرب من المسئولية، وإنما كان الابتعاد عن النار.

التعود على الطاعة بالمعروف

التعود على الطاعة بالمعروف وكذلك من علاج هذه النزعة في النفس: التعود على الطاعة بالمعروف وهضم النفس بأن يقبل أن يكون جندياً، يوضع حيث يوضع. ألم تر أنه صلى الله عليه وسلم أثنى على رجل وعلى صنف من الناس فقال عليه الصلاة والسلام: (طوبى لعبدٍ آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعثٌ رأسه مغبرةٌ قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة) -إذا وضعوه يحرس حرس، وإذا وضعوه في مؤخرة الجيش في الساقة: بقي في المؤخرة، ما قال: لا. لابد أن أكون في المقدمة وفي الصفوف الأولى، أنا في آخر الناس لماذا؟ (إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة) ما دام في ذلك مصلحة المسلمين، وما دام هذا الذي أمره به القائد المسلم الذي يحكم فيهم بشريعة الله يطيع وينفذ- (إن استأذن لم يؤذن له وإن شفع لم يشفع) هذا الرجل من هوانه على الناس أنه إذا استأذن على إنسان لا يؤذن له، وإن شفع في شخص لا يشفع، مغمور مجهول ليس له قدر، فلذلك لا تقبل شفاعته عند الناس، لكن هذا عند الله شأنه عظيمٌ جداً.

التحذير من تولية المنصب من يطلبه

التحذير من تولية المنصب من يطلبه وكذلك ينبغي على من كان له الأمر ألا يولي من طلب المنصب، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (اتقوا الله، فإن أخونكم عندنا من طلب العمل) العمل: يعني: الرئاسة والإمارة أو طلب المسئولية، قال: (اتقوا الله، فإن أخونكم عندنا -يعني: هذا متهم بالخيانة- من طلب العمل) العمل أو العمال: كان الخلفاء يوظفون العمال على البلدان، فيقال: عمر استعمل عاملاً أو جاء عامله الذي في البصرة يعني: من وكله بأمر البصرة وجعله أميراً عليها، يقول النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الحسن: (اتقوا الله، فإن أخونكم عندنا من طلب العمل) وقال عليه الصلاة والسلام: (إنا لن نستعمل على عملنا من أراده) فمن المعجلات لشقاء هذا الشخص الذي عنده هذه النزعة: أنه إذا جاء يطلبها لا يعطاها، يمنع منها: (إنا لن نستعمل على عملنا من أراده). وعن أبي موسى قال: دخلتُ على النبي صلى الله عليه وسلم أنا ورجلان من بني عمي، فقال أحد الرجلين: أمرنا على بعض ما ولاك الله عز وجل؟ اجعلنا أمراء على بعض ما ولاك الله عز وجل من المناطق، وقال الآخر مثل ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنا والله لا نولي على هذا العمل أحداً سأله ولا أحداً حرص عليه). وكذلك على المربين مراقبة النوازع هذه عند من يربونهم، فلا يسمحون لمن طلب أمراً من هذه المسئوليات التي يتحملها إلا إذا كان عن شيءٍ شرعيٍ صحيح. وعن أبي بردة قال: قال أبو موسى: (أقبلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعي رجلان من الأشعريين) -وهذه الرواية الأخرى في مسلم أيضاً مع الرواية السابقة- (أحدهما عن يميني والآخر عن يساري فكلاهما سأل العمل -يعني: أعطنا ولاية- والنبي صلى الله عليه وسلم يستاك بالسواك، فقال: ما تقول يا أبا موسى؟ -أو يا عبد الله بن قيس - قال: فقلتُ: والذي بعثك بالحق، ما أطلعاني على ما في أنفسهما وما شعرتُ أنهما يطلبان العمل، قال: وكأني أنظر إلى سواكه تحت شفته فقال: لا نستعمل على عملنا من أراده، ولكن اذهب أنت يا أبا موسى أو يا عبد الله بن قيس فبعثه إلى اليمن أميراً عليها ثم أتبعه معاذ بن جبل).

شبهة في طلب المنصب

شبهة في طلب المنصب وهنا شبهة أو قضية يمكن أن تثار، في المجتمع الإسلامي الصحيح، لو قال أحد: إن الناس كثروا والمجتمع اتسع، ولا أحد يعرف بالضبط طاقات الموجودين، فلابد أن يعلن كل إنسان عن نفسه، وأن يقول: أنا عندي كذا وأنا مستعد أن أتحمل كذا، لأن الناس كثيرون مختلطون، فكيف تكون طبيعة التولية في المجتمع الإسلامي؟ في المجتمع الإسلامي الصحيح لا يحتاج الناس إلى تزكية أنفسهم -لا حظ معي- في المجتمع الإسلامي الصحيح، لا يحتاج الناس إلى تزكية أنفسهم، وعمل الدعايات لأشخاصهم ليختاروا للمناصب والوظائف. أولاً: لأن أصحاب الفضل والأحقية معروفون عند الناس، والمجتمع يعلم عملهم وإخلاصهم، والمجتمع الإسلامي الصحيح يبرز بمسيرته الصحيحة الطاقات المخلصة، لكن عندما تكون هناك انحرافات في المجتمع يظلم الذكي وصاحب الطاقة وصاحب القدرة يظلم ويغمط حقه، ولذلك يقع هناك ظلمٌ كثير في تولي المسئوليات، وأما في المجتمع الإسلامي الصحيح فصاحب العلم معروف وصاحب العطاء معروف وصاحب الفضل معروف، فالمجتمع صحي فهو يبرز بطبيعته دون تكلف ودون تزكيات ودون دعايات يبرز أصحاب الطاقات المخلصة، تصور جيشاً إسلامياً من جيوش الفتح الإسلامي، قائده مخلص وجنوده مخلصون خلال القتال وخلال الحركة يتبين صاحب القدرة الذي يسد الثغرة وصاحب الطرح الوجيه وصاحب الخبرة، يتبين الجريء والفعال. فحركة المجتمع الإسلامي الصحيح تفرز وتبرز الطاقات فلا تحتاج المسألة إلى تزكيات ولا إلى دعايات، وكذلك في المجتمع الإسلامي الصحيح المناصب والوظائف تكليفٌ ثقيل لا يغري أحداً من الذين يخافون الله بالتزاحم عليه، وفي المجتمع الإسلامي الأول تميز السابقون من المهاجرين ثم الأنصار، وأهل بدر وأهل بيعة الرضوان ومن أنفق قبل الفتح وقاتل، حصلت فيهم وأبرزت الطاقات، فظهر هذا للأذان، وهذا لقيادة الجيش، وهذا للفتوى، وهذا للقضاء، وهذا للإقراء، وهذا للإمامة وهذا للإمارة، أفرز المجتمع أصحاب الطاقات، ولذلك ينبغي السعي إلى إقامة المجتمع الإسلامي للدعوة إلى الله سبحانه وتعالى ونشر الخير في الناس وتربية الناس عليه حتى يتم التخلص من كل هذه السلبيات والمعوقات والظلم الذي يمنع من ظهور أصحاب الطاقات. هذا المجتمع الإسلامي الصحيح لا يبخس الناس بعضهم بعضاً، ولا ينكر الناس فضائل المتميزين وعندئذٍ تنتفي الحاجة إلى أن يزكي المتميزون أنفسهم ويطلبوا مراكز التوجيه والقيادة، ومهما كبر المجتمع المسلم واتسع، فإن أهل كل محلة متعارفون متواصلون يعرفون بأصحاب الكفايات والمواهب فيهم، كل دائرة، كل حارة، كل منطقة، كل مدرسة معروف صاحب الطاقة، صاحب القدرة على تحمل المسئولية، مهما كان المجتمع كبيراً، لكن المجتمع يتقسم مؤسسات وشركات ودوائر ومدارس ومجامع فإذا كان كل مجمعٍ فيها يسوده الشرع، أفرز وأبرز كل مجمع ٍفيها من هو قادرٌ ومن هو صاحب الموهبة والطاقة لتحمل المسئولية، فيوضع الرجل الصحيح في المكان الصحيح. ينبغي لأهل الحل والعقد في المجتمع الإسلامي أن يكونوا متجردين لله من كل الانحرافات والأهواء عند ترشيح أحدٍ لمنصب من المناصب، ولو حصل اختلافٌ في الرأي في ترشيح شخصٍ، فينبغي سرعة الأوبة، لأننا نحتاج إلى الوحدة، ونحتاج إلى التكاتف والتعاون، كما جاء في صحيح البخاري في توضيح هذا المفهوم في هذه القصة: (قدم ركبٌ من بني تميم على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: أمر القعقاع بن معبد بن زرارة، وقال عمر: بل أمر الأقرع بن حابس، قال أبو بكر لـ عمر: ما أردت إلا خلافي، وقال عمر: ما أردت خلافك، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما، فنزل في ذلك قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات:1]). الخلاف حصل بين أعظم رجلين بعد النبي عليه الصلاة والسلام، الخلاف يمكن أن يحصل لكن كانوا يسرعون الأوبة، الفرق بيننا وبين الصحابة من الفروق العظيمة، ليس أنهم لا يخطئون ونحن نخطئ، لا. يمكن أن يخطئوا لكن سرعان ما يتدارك الخطأ ويرجع كل واحدٍ منهما يفيء إلى الحق ويرجع إليه.

الخشوع والتواضع مطلوبان عند من ولي الرئاسة

الخشوع والتواضع مطلوبان عند من ولي الرئاسة وينبغي كذلك على من ابتلي بالرئاسة والتصدر أن يكون خاشعاً لله، متواضعاً لعباد الله، قال الذهبي رحمه الله عن الفضيل بن عياض: حاز من الرئاسة في بلده والرفعة ما لم يصل إليه أحدٌ قط من أهل بلده، وما زاده ذلك -هذا الشاهد الآن، فالواحد يمكن أن يرشح ويصل إلى منصب، أو وظيفة، أو عمل، لكن ماذا عليه أن يفعل هذا الواصل؟ - قال: الذهبي عن الفضيل: حاز من الرئاسة في بلده والرفعة ما لم يصل إليه أحدٌ قط من أهل بلده، وما زاده ذلك إلا تواضعاً وخشيةً لله تعالى، وما زاده المنصب هذا إلا تواضعاً وخشيةً لله تعالى، فهكذا ينبغي أن يكون. وبعد هذا العرض لهذا المرض في بعض مظاهره وأسبابه وآثاره وعلاجه، قد يطرح سؤالٌ ويثار وهو: لماذا طلب يوسف عليه السلام المنصب؟ وقال: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ} [يوسف:55]؟ وهل ينافي هذا ما تقدم ذكره من قضية ترك السعي إلى هذه المطامح؟ وما معنى قول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74]؟ قال العلماء في هذه الآية {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74] أي: واجعلنا أئمة يقتدى بنا من بعدنا، اجعلنا على درجة من العمل الصالح والخير حتى نكون قدوة للناس بأعمالنا، يكون واقعنا قدوة، يجذب الناس إلى الإسلام، ونكون نحن منارات لغيرنا، فهم لا يقولون للناس: يا أيها الناس! هلمُوا إلينا، يا أيها الناس! قلدونا، يا أيها الناس! اعملوا مثلنا، يا أيها الناس! انظروا إلينا، لا. وإنما يطلبون من الله، وليس من الناس: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74] أئمة في الخير يقتدى بنا من بعدنا، وأنتم لا يخفى عليكم -أيها الإخوة- أن الذي يَسنُ سنةً حسنةً، يكون له أجرها وأجر من عمل بها من بعده، وإذا اقتدى الإنسان بإنسان آخر في الخير، فيكون للمقتدى به من الأجر مثل المقتدي من غير أن ينقص من أجر المقتدي شيء. فهذا مطلب عظيم أن الإنسان يدعو الله أن يجعله من أئمة المتقين، يعني: يطلب من الله أن يجعل له باباً من أبواب الأجر، وهو أن يكون هو على خيرٍ فيقتدي به الناس، وليس أن يرائي ويتمظهر، وأنه يقول للناس: انظروا إلي، تشبهوا بي، لا. بل يخلص في نفسه لله، والله يقيض من الناس من يشعر به وينظر إليه ويقتدي بفعله، الله الذي يقيض، وليس هو الذي يقول: يا أيها الناس! تعالوا وانظروا إلى حالي وامشوا ورائي.

الرد على من يقول بأن يوسف عليه السلام طلب الرئاسة

الرد على من يقول بأن يوسف عليه السلام طلب الرئاسة أما بالنسبة ليوسف عليه السلام: فأنتم تعلمون أن يوسف عليه السلام كان في بلدٍ كافر وأهل جاهلية، وأنتم تعلمون أن يوسف عليه السلام قد علم من الله أن البلد سيقدم على محنة ومجاعة عظيمة سبع سنوات قحط، يمكن أن يهلك فيها الأخضر واليابس، وألا يلقى إنساناً ولا دابة إلا هلك من القحط، ويوسف يعلم من نفسه أنه قادرٌ على القيام بهذه المسئولية، ثم إن هذه المسئولية تنقطع دونها أعناق الرجال؛ لأنها ليست مسئولية ترف وأنه يقعد على أريكته ويتمدد وينظر الخدم من حوله أن يقوموا عليه، والناس أن يدخلوا عليه ويقبلوا يديه، لا. المسئولية هذه مسئولية شائكة جداً، كيف توفر من زرع سبع سنين قوتاً لسبع سنين أخرى؟ كيف يكون عندك من الاقتصاد والتدبير والحكمة ما تستطيع به أن تقدم للشعوب -ليس شعباً واحداً، ليس فقط شعب مصر، وإنما من حوله- ولذلك جاء إخوة يوسف من فلسطين، يطلبون الميرة والمدد، يوسف يريد أن يقوم بعمل إطعام شعب جائع، سبع سنين سيجوع الشعب، وكذلك شعوبٌ أخرى ستكون أيضاً ممن يأتي ليأخذ المير والطعام، هذه مهمة ثقيلة. يوسف عليه السلام يريد أن يجعل من هذا المنصب وسيلةً للدعوة إلى الله عز وجل، ثم يوسف يعلم أنه لا يوجد هناك من هو أفضل منه للقيام بهذا المنصب وتحمل هذه المسئولية، ولذلك لا توجد شبهة، فيقول الإنسان أراد المنصب بطمع شخصي ومطمح دنيوي، لا. لأن المسألة صعبة وشاقة ثم هؤلاء كفرة وهو يريد أن يدعوهم إلى الله ولا يوجد أكفأ منه، ثم إن العزيز أشعره: {قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف:54] فانتهز اللحظة المناسبة وكان حصيفاً في اختيارها، لحظة يطلب فيها المنصب والقيام بالواجب المرهق الثقيل ذي التبعة الضخمة وليكون مسئولاً عن إطعام شعبٍ كامل وشعوبٍ مجاورة، طيلة سبع سنوات لا زرع فيها ولا ضرع، وسبع سنوات من التدبير فهذا ليس ظلماً أن يطلبه لنفسه، ولا مغنماً شخصياً، وإنما هي تبعةٌ يهرب منها عظماء الرجال. ولذلك قال العلماء: يجوز للمرء أن يطلب المنصب إذا رأى الأمر في يد الخونة أو اللصوص أو الضعفاء، فيجوز أن يتقدم هو وليطلب المنصب لإنقاذ الموقف، فإذا كان بيد من لا يؤدي أمانة، وعلم من نفسه الكفاية وأنه ليس هناك من هو أفضل منه، جاز أن يطلب، إذا كان يعلم لنفسه الأمانة والكفاءة وليس هناك من هو أفضل منه، وهذه الثغرة لا يوجد فيها من يقوم بحقها، ولا يوجد هناك من يلتفت إليه ليطلب منه هذا الطلب، يجوز له هو أن يتقدم. بل لو كان هناك كافر في هذا المكان أو المنصب أو خائن، ربما يأثم لو لم يتقدم لإنقاذ الموقف، لأنه يريد مصلحة المسلمين، لا مصلحته الشخصية، وكذلك إذا كان مستعملاً على عمل، وهناك عملٌ آخر يرى أنه أنسب له، وأكثر إتقاناً في مجال الدعوة إلى الله أو غيره من الأعمال، أو يرى مصلحةً لم يرها غيره، فلا بأس أن يطلب ذلك إذا أمن الغرور والتطلع الشخصي، يطلب ذلك بتعريض وأدب وليس بفمٍ مفتوح وعنجهية، ويقول: أنا لها أنا لها، وإنما بتعريضٍ وأدب، فالإنسان قد يكون في موقع فيطلب الانتقال إلى موقعٍ آخر يسد ثغرةً أو يصلح خللاً لعلمه أنه ليس هناك من هو أكفأ منه، دون غرور، هذه هي الحقيقة التي يعلمها باجتهاده، هذا يختلف عن حال من لم يكن لديه عمل أصلاً، فهو يبحث عن عمل، -أقصد بالعمل: المنصب أي: الرئاسة أو من كان له مكانٌ صغير- فهو يقول: ولوني في المكان الأكبر، التهمة هنا موجودة وواضحة، ولذلك ينبغي على كل إنسان أن يتقي الله سبحانه وتعالى في هذا الأمر وليست المسألة سعياً للرئاسة والمسئولية، لا سعياً للرئاسة المهلكة والمطامع الشخصية الدنيوية، ولا تهرباً من المسئولية التي تستطيع أنت أن تقدم فيها ما تستطيع للإسلام والمسلمين. وهذه خلاصة الموضوع وهذا هو القسم الأول من هذا الدرس.

خطر حب الشهرة

خطر حب الشهرة أما القسم الثاني: حب الشهرة، وقد ذكرت أن له ارتباطاً بالقسم الأول ارتباطاً وثيقاً، حب الشهرة والصيت هذا المرض موجودٌ في نفوس الكثيرين، وهذا المرض موجود عند الفسقة، وقد يكون موجوداً أيضاً عند بعض أهل الدين، فعند الفسقة الآن هناك شيء اسمه عالم الأضواء وعالم الشهرة، ويقال: فلان أو فلانة من الممثلين والممثلات دخل عالم الشهرة بفلم كذا، وفلانة من المغنيات دخلت عالم الشهرة بأغنية كذا، وفلان من اللاعبين دخل عالم الشهرة وعالم الأضواء بهدف من الأهداف الرياضية، بمباراة كذا، وهكذا من أنواع الشهرة الدنيوية المذمومة القبيحة المضيعة للوقت الصارفة للجهد بغير طاعة الله، والمورثة للإثم والعدوان، والمثيرة للشهوات والأهواء التي تؤدي إلى إضلال الناس. عالم الشهرة الآن يدخل فيه كثيرٌ من أهل السوء والباطل كما هو معروف وواضح جداً. وهؤلاء الذين يحبون الأضواء والكاميرات ويحبون أن تسلط إليهم الأنظار، كثيرٌ منهم تافهون جداً، إنما يعملون على الإضرار بالمجتمع ويعملون في حقل المعصية وخطوات الشيطان وسبيل إبليس، كثير من المشهورين الآن لاشك ولا يخفى عليكم هذا الحال فيه، وهؤلاء أمرهم واضح، ولا يحتاجون إلى تبيين لكن نحن نلتفت الآن إلى مسألة حب الشهرة وحب الصيت عند الأوساط التي يكون فيها شيءٌ من التدين أو الدين والعلم، فلا شك أنه يخترق هذه الأوساط شيءٌ من هذه النوازع، حب الشهرة وحب الصيت.

حب الشهرة مرض قادح في الإخلاص

حب الشهرة مرض قادح في الإخلاص قال الذهبي رحمه الله تعالى في صاحب العلم الذي تعجبه مسألة من علمه قال: فليتكتم بها ولا يتراءى بفعله، فربما أعجبته نفسه وأحب الظهور فيعاقب ويدخل عليه الداخل من نفسه، فكم من رجلٍ نطق بالحق وأمر بالمعروف فيسلط الله عليه من يؤذيه. لاحظ الآن كم من رجل نطق بالحق وأمر بالمعروف فيسلط الله عليه من يؤذيه، لماذا؟ كيف هذا؟! كيف ينطق بالحق ويأمر بالمعروف والله يسلط عليه من يؤذيه؟! قال الذهبي رحمه الله: لسوء قصده وحبه للرئاسة الدينية، فهذا داءٌ خفيٌ سارٍ في نفوس الفقهاء، كما أنه داءٌ سارٍ في نفوس المنفقين من الأغنياء، وأرباب الوقوف -الأوقاف الذين يعملون الوقف والترب المزخرفة وربما بنوا المساجد، وهو داءٌ خفي يسري في نفوس الجند والمجاهدين- أي: حتى المجاهدون الذين يقاتلون، فتراهم يلتقون العدو. فـ الذهبي يصور حالة في عهده، نحن الآن عرفنا الشهرة هذه في أوساط أهل السوء لا تحتاج إلى بيان، لكن حب الشهرة في أوساط أهل الطاعة عند بعض طلبة العلم، أو بعض المنفقين يطبع اسمه على الكتب التي يطبعها، أو يكتب اسمه على مسجدٍ يبنيه، أو وقفٍ يعمره، أو نهرٍ يجريه، هذا يحب الصيت والشهرة، ليقال: فلانٌ بناه، وفلانٌ طبعه، ونحو ذلك وربما كتب المحسن على نفقة المحسن الكبير، ما هذا؟! حب شهرة وحب الصيت ينافي الإخلاص، أين إخفاء العمل، الذي يوفر الأجر؟ غير موجود؛ موجود بدلاً منه حب الشهرة، وحب صيت، يدمر العمل تدميراً ويفني الأجر إفناءً، فيأتي الله وليس له حسنة، قد استهلكت في الدنيا قالوا عنه: محسن وكريم، ويحب الخير، أخذها في الدنيا، قال الذهبي: ويصطدم الجمعان وفي نفوس المجاهدين مخبئاتٌ وكمائن من الاختيال وإظهار الشجاعة ليقال: فلان شجاع وفلان جريء والعجب، ولبس القراقل المذهبة، وهي نوعٌ من الثياب يستخدمها العسكر، والخوذ المزخرفة، والعدد المحلاة، على نفوسٍ متكبرة، وفرسانٍ متجبرة، ويضاف إلى ذلك إخلالٌ بالصلاة، وظلمٌ للرعية، وشربٌ للمسكر فأنى ينصرون وكيف لا يخذلون؟!! الذهبي رحمه الله يقول هذا عن صورة في عهده، وأشياء موجودة، فإذاً حب الشهرة والصيت يمكن أن يتطرق إلى طلاب العلم وإلى الدعاة والمنفقين والمقاتلين في سبيل الله، يخرجون لقتال الأعداء والكفار، ولذلك هذا حب الظهور وحب الصيت والشهرة، مرض يقدح في الإخلاص ويجرح الإخلاص، بل هذا مرض ينافي الإخلاص من أساسه؛ ولذلك يقول الله عز وجل يوم القيامة: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه أحداً غيري تركته وشركه) ولذلك لاحظ وانتبه لهذه النقطة، الأعمال التي فيها شرك لا يثيب الله الشخص على المقدار الذي لم يشرك فيه، فأي واحد عمل عملاً فيه شيء لله وشيء لغير الله؛ في عمل واحد، لا يثيبه الله عن الجزء الذي له ويحبط الجزء من العمل الذي ليس له، وإنما يحبطه كله، بنص الحديث: (من عمل عملاً أشرك معي فيه أحداً غيري تركته وشركه) ويقال له يوم القيامة: خذ أجرك من الذين أشركت معي في هذا العمل، خذ أجرك منهم، الله لا يقبل إلا العمل الخالص لوجهه، يقول الله في الحديث القدسي: (أنا خير الشركاء) فيتركه يقول: أشركت معي فلاناً وفلاناً، هذا الشخص ما عملها لفلان عملها لله ولفلان، لاحظ، ليس له أجرٌ عليها مطلقاً، فإذا صلى إنسان لله لكن طول الركعات من أجل من يراه من الحاضرين، فليس له شيء أبداً، هو لا يقول: فلان أكبر، يقول: الله أكبر، لا يقول: سبحان فلان، يقول: سبحان الله، لكن لما طرأ الرياء عليه في الصلاة وما قاومه بل استمرأه واستمر معه، فذلك يحبط العمل، إذا كان العمل متصلاً أوله بآخره يحبط العمل كله، أما لو عمل عملاً لله وعملاً منفصلاً لغير الله، قبل الله العمل الذي له، وأحبط العمل الذي ليس له، كمن تصدق بخمسين ريالاً لفقير لله، ثم رأى الناس يخرجون من المسجد، فأحب أن يقال عنه كريم، فأخرج خمسين أخرى تصدق بها، يعني: لأي شيء للناس؟ فماذا يقبل الله منه؟ الخمسين الأولى هذه صدقة مستقلة، والخمسين الثانية حابطة وآثم عليها وليس فقط لا أجر له، يأثم إثم الشرك الذي حصل فيها، والشرك خطير؛ {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48] لا يغفر إلا بالتوبة، وخصوصاً هذا الشرك، سواء كان شركاً أكبر أو شركاً أصغر، ولذلك يجب على العبد أن يتوب من جميع أنواع الشرك: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48] ما قال: أكبر أو أصغر: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48] لابد أن يتوب منها، وإلا سيبقى عليه إثم شركه، لا يغفره الله، لا تكفره الحسنات، بل لابد من توبة.

مظاهر حب الظهور

مظاهر حب الظهور حب الظهور مرض وله مظاهر كثيرة: ذكرنا نقلاً عن الذهبي رحمه الله شيئاً منها، ويدخل فيها الناس الذين يحبون أن يظهروا في المجامع والمحافل وحول المشايخ يقال: من طلاب فلان، ومن طلاب فلان، دون مناسبة، ويظهرون عند مكبرات الصوت، أو يرفعون أصواتهم، ويفعلون حركات استعراضية، وبعضهم عندما تأتي كاميرة تليفزيون لتصور تجد بعض الناس وضع وجهه أمام الكاميرا، ليقال ماذا؟ ليقال: ظهر في التليفزيون، هذا من حب الشهرة، هذا داء يمكن أن يولد للإنسان المهالك. روي أن أعرابياً بال في ماء زمزم، فقام الناس عليه فأمسكوا به، وقالوا: ما حملك؟ قال: أحببت أن يذكرني الناس ولو باللعنات، يعني: المهم عنده الصيت، ولذلك هذا المرض الخطير يمكن أن يجعل الإنسان يعمل من البلايا ما الله به عليم، لأجل فقط أن يخرج صيته، يعمل أي شيء، له حاجة أوليس له حاجة، له داع أو ليس له داعٍ، يحرك ساكناً ويسكن متحركاً المهم أن يخرج صيته أمام الناس.

المراءاة والتسميع بالأعمال

المراءاة والتسميع بالأعمال ولا شك أن هذا المرض يفضي إلى الرياء والسمعة؛ لأن الذي يطلب الصيت والشهرة، سيسمع بأعماله، يقول: والله إني اليوم صليت في الجماعة، وأنا صائم، وجاء والله ذاك اليوم واحد يجمع تبرعات الحمد لله تصدقنا بألف وأعطيناه وكفلنا يتيماً، ونحن هل رأيت المسجد هذا الذي في الحارة، نحن قائمون فيه من أوله إلى آخره، يسمع بأعماله، ولذلك يقع في التسميع الذي يقول النبي عليه الصلاة والسلام في خطورته: (من سَمَّع، سَمَّع الله به) ماذا يعني سمع الله به؟ جاء في الحديث سمع الله به: مسامع خلقه وصغره وحقره، يعني يوم القيامة: يفضحه على رءوس الأشهاد، جزاء وفاقاً والجزاء من جنس العمل، هو أراد الشهرة في الدنيا، وأراد الصيت، قيل له يوم القيامة: يا منافق يا مرائي على الملأ! فعلت ما فعلت وقلت ما قلت رياءً وسمعةً، فيقال على مسامع الناس يوم القيامة على مشهد من جميع الخلق: هذا المرائي فلان: من سمع في الدنيا بأعماله سمع الله به يوم القيامة فشهر به وجعل ذكره سيئاً في الأولين والآخرين. ويمكن أن يكون هناك عند بعض من يطلب العلم شيء من هذا، عنده دافع طلب العلم من أجل الشهرة، كيف؟ يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (من طلب العلم ليجاري به العلماء، أو ليماري به السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله في النار) فهو تعلم لأي شيء؟ ليقعد فيسأل فيجيب، فيقال: الله! فلان عنده جواب، أو ليتصدر فيتكلم ويدرس ويقال: فلان صاحب علم! قد لا يُظهر لنا نحن شيئاً، فنظن أنه إنسان يتكلم بكلامٍ طيب، ما هو الفرق بين إنسان يتقدم ليحمل الأمانة ويعلم الأمة؛ يتعلم العلم لأجل سد الفراغ، فالناس في جهل، والمسلمون يحتاجون إلى علماء وطلبة علم، وبين هذا الرجل المذكور في الحديث؟! الفرق: (إنما الأعمال بالنيات) هذا نيته في التعلم إصلاح نفسه وإصلاح الخلق، أن يعبد الله على بصيرة ويعلم الناس، هذا مأجور مثابٌ على فعله، من ورثة الأنبياء، وهذا تعلم لكي إذا ناقشه عالم يأخذ ويبين له للعلم أنا اطلعت وقرأت كذا وقرأت كذا وعندي خبر من الذي تقوله، أو يماري به السفهاء، يجلس مع الناس ويماريهم ويتشاكس معهم ويتناقش، ويقال: فلان عنده ذخيرة وعنده اطلاع وعنده حصيلة. أو يصرف به وجوه الناس إليه ويتصدر المجالس ويتكلم ويلعلع بصوته قصده الشهرة، والصيت، وقصده أن يرفع من نفسه. قال إبراهيم بن أدهم رحمه الله: من طلب العلم لله كان الخمول أحب إليه من التطاول؛ فإذا طلب الإنسان العلم لله فعلاً يكون الخمول عنده أحب إليه من التطاول. ومن مظاهر حب الظهور أيضاً تصدر المجالس: العمل لكي يكون مشتهراً- كما قلنا- بكثرة الكلام والتسميع والتعليق والظهور أمام الملأ وتصدر المجالس، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (اتقوا هذه المحاريب) يعني: صدور المجالس؛ فإذا جاء الإنسان يسلم على القوم فعليه أن يجلس حيث انتهى به المجلس، ولا يقيم إنساناً ويجلس مكانه، أما أن يقول: أنا بصدر المجلس، ما أجلس إلا في صدر المجلس، فهذه المحاريب مذابح، هذه مذابح تذبح الإخلاص وتذبح الدين، وتذبح العلاقة التي تكون بين الإنسان وربه؛ لأنه يجعلها حطاماً محطمة، من أجل أن يكون المكان عنده بين الناس. وكثرة الكتابات والظهور في القنوات المختلفة، ومن مظاهرها الفرح بالمدح وإن كان باطلاً؛ الفرح بالمدح وإن كان باطلاً، هذا موضوع حب الظهور والسعي لنشر ذلك ونشر مناقبه أو ما تكلم الناس به عنه، والتألم لفوات المديح، لو فاته مدح، يتألم، والغضب من النصيحة، هذه من علامات الذين يحبون الظهور والغضب من النصيحة، فلو وجهت له النصيحة جادل وراءى وقال: ليس عندي هذا الكلام الذي تقوله وهذه الصفة والخصلة غير موجودة في نفسي ويدافع عن نفسه بالباطل.

افتعال المواقف لإبراز النفس

افتعال المواقف لإبراز النفس ومن مظاهر حب الشهرة: افتعال المواقف لإبراز النفس، ونسج القصص والخيالات التي تحكي من البطولات المكذوبة ويكثر في كلامهم قول: أنا أنا أنا ولي، عندي مثل ما قال فرعون وهامان وقارون، والمبالغة في وصف مواقفه وسرعة بديهته وذكائه وفطنته وتخلصه ومقدرته، ويقول لك: حصل، ويعطيك أشياء يظهر فيها بطولته ومواقفه ومآثره ومناقبه، أو أنه قد يشترك في عمل مع آخر فينسب الفضل له، ولا يذكر الآخر بشيء، ويستغل في الذكر مع أن فعل غيره ربما يكون أجود من فعله، وربما يكون غيره هو الذي أنقذ الموقف في الحقيقة، لكنه ينسبه إلى نفسه.

أن ينسب إليه أعمالا ليست له

أن ينسب إليه أعمالاً ليست له ظهر الآن انتحال المؤلفات الذين يسرقون علم السلف أو علم العلماء وينسبونه إلى أنفسهم، ويقول: فلان كذا، ومن الأشياء المضحكة أن بعضهم مثلاً: ينتحل كتاباً لغيره والكاتب هذا يكون قد مات قبل أن يولد صاحبنا؛ صاحب الكتاب الأصلي مات قبل أن يولد صاحبنا المنتحل الذي يريد الشهرة والصيت، والكاتب يقول: ولقيتٌ فلاناً فقال لي كذا وكذا، وهناك من يمسح اسم المؤلف الحقيقي ويضع اسمه، ويصبح عند الناس مضحكة، ويلعنونه يقولون: هذا كذب ووضع اسمه على الكتاب وداخل الكتاب يقول: لقيت فلاناً وهو ولد بعد ما مات صاحب القصة، كيف هذا؟!! وكثير من يسرقون مجهودات الآخرين، فهذا من المرض سرقة مجهودات الآخرين، عملية أو مشروع أو بحث كتاب أو رسالة، سرقة مجهودات الآخرين من قضية حب الشهرة، وحب الصيت، وهؤلاء من صفاتهم أنهم يتحرجون قولة لا أعلم، بل إنه لا يقولها أصلاً كلمة لا أعلم ليست واردة على لسانه.

مصاحبة قليلي الخبرة

مصاحبة قليلي الخبرة وكذلك من صفاتهم مصاحبة حدثاء السن، قليلي الخبرة والتجربة ليظهر بينهم ويبرز عليهم، ليس غرضه نصحهم وتربيتهم، ليته فعل ذلك وكان قصده ذلك، لكنه قصده يعاشر هؤلاء الصغار حتى يكون بارزاً عليهم ويكون له بينهم شأن.

انتقاص الآخرين بقصد رفع نفسه

انتقاص الآخرين بقصد رفع نفسه وكذلك من صفات الذي يريد الشهرة: انتقاص الآخرين ليرفع نفسه، ويؤثر أن يبقى من معه على جهلهم ولا يدلهم على من هو أفضل منه، ليبقى دائماً هو الأفضل في نظرهم ومن سماته: الحسرة إذا منع من الظهور وفاته المجال والمناسبة، فإذا فاتهم المجال بالمناسبة كان يمكن لتصدر وفات عليهم قال: لقد فاتني، يا ليتني كنتُ هناك فأفوز فوزاً عظيماً، وهؤلاء من سماتهم أيضاً: إضفاء هالات الأهمية الزائفة كادعاء المواعيد الكاذبة والانشغالات التافهة، تجده دائماً يقول: مشغول مشغول عندي مواعيد أنا غير فاض لك هذا حاله يريد أن يقول: أنا رجل مهم، عندي مواعيد وانشغالات وهو كذاب ما عنده شيء، يمكن أن يذهب ويختبئ في غرفته ويقفل على نفسه الباب، أو يذهب يلعب ويقول: عندي مواعيد، وعندي انشغالات، فهذا المرض منتشر. أيها الإخوة، هذا من الأمراض الاجتماعية المنتشرة في المجتمع: (المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور) كما قال النبي عليه الصلاة والسلام، يقول: كنت مع الشيخ فلان، وهو ما كان معه، وحصل لي الموقف الفلاني وهو ما حصل له، ويدعي بطولات زائفة.

لبس ملابس الشهرة ومراكبها

لبس ملابس الشهرة ومراكبها وكذلك من صفاتهم: أنهم يلبسون ملابس الشهرة، ويركبون مراكب الشهرة. قال شهر بن حوشب رحمه الله: من ركب مشهوراً من الدواب ولبس مشهوراً من الثياب أعرض الله عنه وإن كان كريماً. قال الذهبي رحمه الله معلقاً: من فعله بذخاً وتيهاً وفخراً أذله الله، وأعرض عنه، فإن عوتب ووعظ فكابر وادعى أنه ليس بمختال ولا متباهٍ فأعرض عنه فإنه أحمق مغرورٌ بنفسه، هذا لابس ثوب شهرة، وهذا في النساء كثير أن يقال عنها: صاحبة الثوب الفلاني، أو أنهم يعملون حفلة زفاف ما سمع بها الأولون والآخرون ليقال: إن هؤلاء عملوا، ليشتهر ذكرهم بين الناس. قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أعلن النكاح) لكن ما قال: أسرفوا وابذخوا وارموا الطعام وغالوا في الملابس، والفقراء من المسلمين يموتون من فقرهم، لا. فلذلك هذه قضية الشهرة وأن يذيع صيتٌ بين الناس ويتكلمون عن حفلته وعن وليمته وما حصل فيها.

الإعجاب بالنفس من دوافع حب الظهور

الإعجاب بالنفس من دوافع حب الظهور ولاشك أن من الأسباب المشتركة بين حب الرئاسة وحب الظهور: الإعجاب بالنفس، يعني من الدوافع: الإعجاب بالنفس: عن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثٌ مهلكات وثلاثٌ منجيات، وثلاثٌ كفارات وثلاثٌ درجات، فأما المهلكات: فشحٌ مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه) فمن المهلكات إعجاب المرء بنفسه فيرى لنفسه من الميزات والفضائل، وذلك من وسوسة الشيطان، ويرى أنه صاحب فضل، وأنه صاحب ميزة، أنه إنسان شريف، إنسان صاحب قدرات، يتوهم هذا، ولابد أن ينشر فضله في العالمين. وكذلك من أسبابه: الرغبة في ثناء الناس، وإرادة المنزلة عندهم، ومن أسبابه أيضاً: التربية الخاطئة في البيت أو المجتمع كأن يُقَدِّم ويُثْنَى عليه في حضوره وليس بذاك، فيتوهم أنه فعلاً إنسان مهم، ويتصرف بناءً على هذا الأساس، ومن الأسباب القريبة من هذا أن يبتلى بأناسٍ أحداثٍ أغرار، يضعونه في غير موضعه ويرفعونه ويقولون: شيخنا المبجل، وقال شيخنا، وهو ليس بشيخ. والواقع -أيها الإخوة- الواقع السيئ يساعد على الشهرة والرئاسة، الناس إذا جهلوا العالم والعلماء الحقيقيين، فالعلماء العارفون ندرة. خلا لك الجو فبيضِي واصفري ونقري ما شئت أن تنقري ويتكلم أي واحد من الدهماء والرويبضة ينطق في أمور العامة، والواحد يبرز بسرعة من الجهال، ويدرس ويجلس إليه ويستفتى ويفتي، والناس في حاجة، المجتمع أحياناً يساعد على بروز هذه النوعية، ويقال: فلان والمحاضر فلان المؤلف فلان وكثيرٌ منهم أئمة ضلالة، فما أسهل مهمة الأعور الدجال في هذه الأمة!

علاج مرض حب الشهرة

علاج مرض حب الشهرة ينبغي أن يعالج المرء المصاب بحب الشهرة نفسه بكثيرٍ من العناية.

التواضع لله

التواضع لله ومن ذلك: التواضع لله، العلماء كانوا يتكلمون في كتبهم عن أبواب مهمة بعنوان " خمول الذكر " ما المقصود به؟ أن يسعى الإنسان يسعى إلى إخفاء عمله، وإخفاء ذكره، ومحو اسمه فلا تبقى إلا عبوديته لله، عن ثوبان قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن حوضي من عدن إلى عمان البلقاء ماؤه أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل وأكوابه عدد نجوم السماء، من شرب منه شربةً لا يضمأ بعدها أبداً، أول الناس وروداً عليه فقرءا المهاجرين، فقال عمر بن الخطاب: من هم يا رسول الله؟ قال: هم الشعث رءوساً، الدنس ثياباً، الذين لا ينكحون المتنعمات، ولا تفتح لهم أبواب السدد) قال ابن الأثير رحمه الله في شرح العبارة الأخيرة في حديث واردي الحوض: (هم الذين لا تفتح لهم السدد) أي: لا تفتح لهم الأبواب، لو جاء إلى مكان، طردوه، قالوا: هذا فقير هذا مسكين ليس له مكانٌ عندنا، لا تفتح لهم الأبواب هؤلاء والوعد الحوض حوض النبي صلى الله عليه وسلم، حديثٌ صحيح. وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (رب أشعث مدفوعٍ بالأبواب، لو أقسم على الله لأبره) هذا الشخص الذي يظهر أمام الناس أنه مهين وذليل ليس له قيمة، لو جاء إليهم دفعوه عن الأبواب وقالوا: اذهب عنا، هذا الرجل ربما لو أقسم على الله لأبره.

إخفاء العمل عند السلف الصالح

إخفاء العمل عند السلف الصالح من العلاج المهم لهذه المسألة: إخفاء العمل، فعن عوف بن مدرك قال: [كنت عند عمر إذ جاءه رسول النعمان بن مقرن - قائد الإسلام في الفتوحات- فسأله عمر عن الناس، فقال الرجل: أصيب فلان وفلان وآخرون لا أعرفهم، فقال عمر: لكن الله يعرفهم] ما يضرهم أن عمر ما عرفهم؛ لأن الله يعرفهم، فهذا من إخفاء العمل.

أويس القرني وإخفاء نفسه

أويس القرني وإخفاء نفسه إخفاء العمل أمرٌ مهمٌ فقد كان السلف يحرصون عليه رحمهم الله تعالى، وسنسوق بعض الأمثلة على ذلك: ومن أعظم من كان يمثل هذا المعنى أويس القرني رحمه الله تعالى، هذا الرجل عجيب وسيرته عجيبة! ومع إخفاء الرجل لنفسه إلا أن الله أبقى لنا ذكره، فنحن نقتدي به ونتأثر من سيرته، قال عليه الصلاة والسلام: (إن خير التابعين رجلٌ يقال له: أويس وله والدة، وكان به بياض -يعني: برص- فأذهبه الله عنه إلا موضع الدينار أو الدرهم فمن لقيه منكم، فليستغفر لكم) رواه مسلم. وفي روايةٍ لـ مسلم: (له والدةٌ هو بها بر) من أسباب سعادة الرجل هذا بره بأمه لو أقسم على الله لأبره، هذا الرجل من أهل اليمن، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل، قال عمر لـ أويس: فاستغفر لي، فاستغفر له، قال عمر: أين تريد؟ -هو خارج من اليمن مع الأمداد إلى الجيوش الإسلامية في الشمال في الشام والعراق - قال عمر: أين تريد؟ قال: الكوفة، قال: ألا أكتب لك إلى عاملها -وصية أعطيك توصية- قال: أكون في غبراء الناس أحب إلي، قال: فلما كان العام المقبل حجّ رجل من الناس من تلك الناحية التي ذهب إليها أويس، فسأله عمر عن أويس قال: تركته رثَّ البيتِ قليل المتاع، ثم جاء الرجل هذا إلى أويس -ذهب إلى أويس - فقال: استغفر لي، قال: أنت أحدثُ عهدٍ بسفرٍ صالح، فاستغفر لي أنت، فـ أويس يعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام قال عنه: (يا أيها الناس اطلبوا من أويس أن يستغفر لكم) وعندما قال له هذا الرجل هذا: يا أويس! استغفر لي، قال: أنت أحق أن تستغفر لي، أنت حديث عهدٍ بسفرٍ صالح، قال: استغفر لي، قال: أنت أحدث عهدٍ بسفرٍ صالح، قال: استغفر لي، قال أويس: لقيت عمر، قال: نعم. فاستغفر له ففطن له الناس فانطلق على وجهه واختفى. هذه رواية مسلم أيضاً. وفي رواية للحاكم: لما أقبل أهل اليمن جعل عمر رضي الله عنه يستقرئ الرفاق - عمر حافظ للحديث فمنذ زمن والحديث في ذهنه، عمر يريد أن يعرف الرجل- فيقول: هل فيكم أحدٌ من قرن، حتى أتى عليه قرن، فقال: من أنتم؟ قالوا: قرن، فرافع عمر بزمامٍ أو زمام أويس فناوله عمر، فعرفه بالنعت - عمر كان فطناً وكان عنده فراسة لا يقول لشيء هو كذا إلا كأنه- فقال له عمر: ما اسمك؟ قال: أنا أويس، قال: هل كان لك والدة؟ قال: نعم. قال: هل بك من البياض؟ قال: نعم. دعوت الله تعالى فأذهبه عني إلا موضع الدرهم من سرتي لأذكر به ربي -الله أبقى موضع درهم في سرة أويس من البرص ليتذكر نعمة الله عليه، أبقاه في موضعٍ خفي لنعمة الله عليه ليس في وجهه عيبه بل في سرته- دعوت الله تعالى فأذهبه عني إلا موضع الدرهم من سرتي لأذكر به ربي، فقال له عمر: استغفر لي؟ قال: أنت أحق أن تستغفر لي، أنتَ صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم!! فقال عمر: (إني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن خير التابعين رجلٌ يقال له أويس القرني وله والدةٌ وكان به بياضٌ فدعى ربه فأذهبه عنه إلا موضع الدرهم في سرته). قال: فاستغفر له، قال: ثم دخل في أغمار الناس فلا يدرى أين وقع -ذهب أويس واختفى- قال: ثم قدم الكوفة، فكنّا نجتمع -راوي القصة عند الحاكم أسير بن جابر - قال: كنا نجتمع في حلقة فنذكر الله في الكوفة، وكان يجلس معنا أويس ولا يدري أحد أنه أويس، فكان إذا ذكّرهم، وقع حديثه من قلوبنا موقعاً لا يقع حديث غيره، ففقدته يوماً، فقلت لجليسٍ لنا: ما فعل الرجل الذي كان يقعد إلينا؟ لعله اشتكى -أي: مريض- فقال رجلٌ: من هو؟ فقلت: من هو وصفه؟ قال: ذاك أويس القرني، فدللت على منزله فأتيته فقلت: يرحمك الله، لماذا تركتنا؟ فقال: لم يكن لي رداءٌ فهو الذي منعني من إتيانكم، قال: فألقيتُ إليه ردائي، فقذفه إلي -رفض أن يأخذه- قال: فتخاليته ساعة، يحاول في أخذ الرداء، ثم قال أويس: لو أني أخذتُ رداءك هذا فلبسته فرآه علي قومي قالوا: انظروا إلى هذا المرائي لم يزل في الرجل حتى خدعه وأخذ رداءه، لو أخذت رداءك سيتهموني بهذا، فلم أزل به حتى أخذه، فقلتُ: انطلق، فقال الرجل -هذا أسير بن جابر -: انطلق اسمع ما يقول الناس عنه، فلبسه -لبس أويس الرداء- فخرجنا فمر بمجلس قومه، فقالوا: انظروا إلى هذا المرائي لم يزل بالرجل حتى خدعه وأخذ رداءه، فأقبلت عليهم فقلت: ألا تستحيون عندما تؤذونه، والله لقد عرضته عليه فأبى أن يقبله، قال: فوفدت وفودٌ من قبائل العرب إلى عمر فقال: فكان فيهم سيد قومه، هذا الوفد الذي جاء إلى عمر، فقال له عمر بن الخطاب: أفيكم أحدٌ من قرن؟ فقال له سيدهم: نعم أنا، فقال له: هل تعرف رجلاً من أهل قرنٍ يقال له أويس، من أمره كذا ومن أمره كذا، فقال: يا أمير المؤمنين! ما تذكروا من شأن ذا، ومن ذاك؟! فقال له عمر: ثكلتك أمك، أدركه أدركه -مرتين أو ثلاثة- ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا: إن رجلاً يقال له أويس القرني من أمره كذا ومن أمره كذا، فلما قدم الرجل هذا الذي تحدث مع عمر لم يبدأ بأحد، لما قَدِم على بلدة أويس لم يبدأ بأحدٍ قبله، فدخل عليه، فقال: استغفر لي، فقال: ما بدا لك؟! قال: إن عمر قال لي كذا وكذا، قال: ما أنا بمستغفرٍ لك حتى تجعل لي ثلاثة؟ قال: وما هن؟ قال: لا تؤذيني فيما بقي، ولا تخبر أحداً بما قال لك عمر، ونسيت أنا الثالثة -الراوي- قال الذهبي: إسناده على شرط مسلم. روى الإمام أحمد وهو حديثٌ صحيح، قال: (ليدخلن الجنة بشفاعة رجلٍ ليس بنبيٍ مثل الحيين ربيعة ومضر) قبيلة ربيعة كلها عن بكرة أبيها وقبيلة مضر كلها عن بكرة أبيها، كم عددهم؟ هناك واحد من أمة محمد ليس بنبي، سيدخل بشفاعته عدد مثل عدد ربيعة ومضر يدخلون الجنة بشفاعة هذا الرجل يوم القيامة، انتهى الحديث بقول عليه الصلاة والسلام: (إنما أقول ما أقول). قال الحسن البصري: إنه أويس القرني، وقد ورد في رواية أنه أويس، لكنها ضعيفة، هؤلاء الناس إذا فقدوا طلبوا، وإذا طلبوا هربوا.

ابن المبارك وإخفاء عمله

ابن المبارك وإخفاء عمله كان السلف رحمهم الله حريصين على إخفاء أعمالهم، ويكرهون الشهرة، فعن عبدة بن سلمان المروزي، قال: كنا في سرية مع ابن المبارك في بلاد الروم، فصادفنا العدو فلما التقى الصفان خرج رجل من العدو فدعا إلى البراز، فخرج إليه رجل- يعني: من المسلمين- فقتله، ثم آخر خرج من الكفار خرج إليه نفس الرجل من المسلمين فقتله، ثم دعا إلى البراز فخرج إليه رجل فطارده ساعة فطعنه فقتله -المسلم قتل ثلاثة- تحدٍ أمام الجيشين فازدحم إليه الناس -إلى هذا المسلم- فنظرت فإذا هو عبد الله بن المبارك، وإذا هو يكتم وجهه بكمه -يخفي وجهه بكمه- فأخذت بطرف كمه فممدته فإذا هو ابن المبارك، فقال عبد الله بن المبارك للرجل هذا: وأنت يا أبا عمر ممن يشنع علينا.

صاحب النقب يخفي عمله

صاحب النقب يخفي عمله وعن أبي عمر الصفار قال: حاصر مسلمة حصناً فندب الناس إلى نقب منه، من يدخل ليفتح لنا؟ فما دخله أحد، فجاءه رجل من عرض الجيش فدخله ففتح الله عليهم، فنادى مسلمة أين صاحب النقب؟ أين صاحب النقب؟ فما جاءه أحد، فنادى القائد بالجيش: إني قد أمرت الآن بإدخاله ساعة يأتي، فعزمت عليه إلا جاء، فجاء رجل فقال: استأذن لي على الأمير، فقال له: أنت صاحب النقب؟ قال: أنا أخبركم عنه، فأتى مسلمة فأخبره عنه، فأذن له، فقال له: إن صاحب النقب يأخذ عليكم ثلاثاً: ألا تسود اسمه في صحيفة الخليفة، ولا تأمروا له بشيء -يعني: من المال- ولا تسألوه ممن هو ولا تستخبروا عن اسمه، قال القائد مسلمة: فذلك له، فقال الرجل: أنا هو، هذا الرجل لأن أمر القائد لابد أن يطاع، القائد قال: عزمت عليه أن يأتي، لابد أن يطاع، فكان مسلمة لا يصلي بعدها صلاةً إلا قال: اللهم اجعلني مع صاحب النقب.

أبو العالية وثابت البناني وإخفاء أعمالهما

أبو العالية وثابت البناني وإخفاء أعمالهما وكان السلف يبتعدون عن الشهرة قدر ما استطاعوا، قال عاصم الأحول: كان أبو العالية إذا جلس إليه أكثر من أربعة قام فتركهم، وعن خالد بن معدان أنه كان إذا كثرت حلقته قام مخافة الشهرة. وقال محمد بن سيرين لـ ثابت: يا أبا محمد! لم يكن يمنعني من مجالستك إلا مخافة الشهرة، فلم يزل بي البلاء حتى قمت على المصطلة، قال معمر: كان في قميص أيوب بعض التذييل -يعني: فيه طول قليل فقط ولكن ليس بمسبل- فقيل له: ما السبب وأنت قدوة؟! فقال: الشهرة اليوم في التشمير؛ اليوم صارت الشهرة أنهم يحسرون يعني: ليقال هؤلاء يتبعون السنة.

قصة لابن نجيد

قصة لابن نجيد وهذه قصة عن ابن نجيد القدوة المحدث وكنيته أبو عمر: من محاسنه أن شيخه الزاهد أبا عثمان الحيري، طلب في مجلسه مالاً لبعض الثغور قال: يا أيها الناس! الثغر الفلاني يحتاج إلى مال، فتأخر ولم يأتِ أحد بمال، فتألم الشيخ وبكى في الدرس على رءوس الناس، فجاءه ابن نجيد بألفي درهم، فدعا له الشيخ، ثم إنه نوه به، صارت مناسبة، فقال: قد رجوت لـ أبي عمر بما فعل، فإنه قد نابَ عن الجماعة، يعني: ذكر اسمه وعرف به أنه هو الذي قدَّم المال، وعمل كذا وكذا، فقام ابن نجيد الذي قدَّم المال وسط الناس وقال: لكن إنما حملت من مال أمي وهي كارهة، فينبغي أن ترده لترضى، أرجع المال حتى ترضى أمي، فأمر أبو عثمان بالكيس فرد إليه، فلما جنَّ الليل جاء بالكيس، والتمس من الشيخ ستر ذلك، أرجع الكيس، هو أصلاً قال الكلام وورى استخدم التورية، لأجل أن ينفي عن نفسه التزكية التي زكاه بها الشيخ على المال، فلما صار الليل أرجع الكيس النقود، وكان الشيخ بعد ذلك يقول: أنا أخشى من همة أبي عمر.

شريك وتواضعه

شريك وتواضعه وقال سهل بن المغيرة: رأيت شريكاً وقد خرج من دار المهدي، فاحتوشه أصحاب الحديث- تجمعوا- فتقدمت إليه وقلتُ له: أطردهم عنك يا أبا عبد الله، قال: وأنطرد معهم. فهذا الشيء من حال السلف في هذه المسألة يجب أن يتعظ أصحاب الشهرة به، والذين يحاولون الصيت، والذين يلبسون ثياب الشهرة ينبغي عليهم أن يعلموا بما لصاحب ثوب الشهرة يوم القيامة من العذاب والنكال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من لبس ثوب شهرة ألبسه الله يوم القيامة ثوباً مثله، ثم يلهب فيه النار) رواه أبو داود وابن ماجة وهو حديثٌ حسن.

وصية فضالة بن عبيد لابن محيريز

وصية فضالة بن عبيد لابن محيريز حذر السلف من الشهرة وحبها، ولابد من سماع نصائحهم، فعن ابن محيريز أنه قال: سمعت فضالة بن عبيد وقلت له: أوصني، قال: خصالٌ ينفعك الله بهن، إن استطعت أن تَعرِف ولا تُعرَف، فافعل، وإن استطعت أن تسمع ولا تكلم، فافعل، وإن استطعت أن تجلس ولا يجلس إليك، فافعل، وفي رواية: إن استعطت أن تَعرِف ولا تُعرَف، وتسأل ولا تُسأل وتمشي ولا يُمشي إليك فافعل، ما أحب الله عبداً إلا أحب ألا يشعر به، يعني: يكتم أمره على الناس. وعلينا أيها الإخوة بالتواضع، فإن الله مع المتواضعين، وقال النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الحسن: (ما من آدمي إلا في رأسه حكمة بيد ملك، فإذا تواضع قيل للملك: ارفع حكمته، وإذا تكبر قيل للملك: دع حكمته) فإذا تواضعت يرفعك الله بين الناس، وإذا تكبرت يذلك الله بين الناس. ولابد أن يكون عندنا من يعطينا النصيحة من المخلصين، عمر بن عبد العزيز قال لغلامه: إن الولاة قد جعلوا العيون على العامة، وإني جعلتك عيني على نفسي، ما ترى عيباً علي إلا وتنبهني عليه، وينبغي أن ننظر في قصور أنفسنا وأن نجالس المتواضعين والعلماء الصالحين؛ لأن الإنسان يعرف قدره عند ذلك، وأن نحاسب أنفسنا بالكلمة والحركة، وإذا عوتبنا في شيء، لا ننفي عن أنفسنا التهمة، وإنما نسأل الله السداد. وينبغي علينا أن نمنع المداحين الذين يمدحون في وجوهنا ونسكتهم ولا نرضى بمدحهم، وينبغي أن نربي الناس على هذا المفهوم، وأن نضع الشخص المناسب في المكان المناسب. ونسأل الله سبحانه وتعالى في الختام أن يرزقنا الإخلاص اللهم اجعل عملنا خالصاً لوجهك، ولا تجعل لأحدٍ من الناس فيه نصيباً يا رب العالمين، اللهم عظم أجورنا واغفر زلاتنا، اللهم إنا نستغفرك لما لا نعلم من الشرك، ونعوذ بك أن نشرك بك شيئاً نعلمه. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

العيد آداب وأحكام

العيد آداب وأحكام لكل قوم عيد، وللمسلمين عيد يوم الفطر وآخر يوم النحر، ولا ثالث لهما، وصلاة العيدين مشروعة، وقد ورد في الشريعة بيان وقتها وصفتها، وآداب العيدين. هذا ما احتوت عليه المحاضرة، مع ذكر أقوال أهل العلم في حكم صلاة العيد، وسننها وآدابها، وبيان لضوابط اللهو والفرح والألعاب في الأعياد.

مشروعية العيدين وصلاتهما

مشروعية العيدين وصلاتهما الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يتقبل منا أجمعين ما حصل من الصيام والقيام، إنه خير مسئول وأكرم من أعطى سبحانه وتعالى، وقد انتهى هذا الشهر الكريم بأسرع مما كنا نتخيل ونتصور، وانقضت تلك الأيام، وكنا في الليلة الماضية نقوم ونصلي وقد صرنا الآن في ليلة الأول من شوال، ورجع الأمر إلى ما كان عليه من قيام كل شخصٍ بمفرده، لأنه لا يشرع الاجتماع للقيام إلا في رمضان. وبهذه المناسبة أيها الإخوة، نتعرض اليوم إن شاء الله لبعض أحكام وآداب العيدين، وذلك لأن المسلم مطالبٌ بأن يعرف أحكام دينه، وكلما حدثت مناسبة أن يعرف أحكامها الشرعية. فأما بالنسبة لأحكام العيدين وآدابهما؛ فإن صلاة العيدين عيد الفطر وعيد الأضحى مشروعة بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين، وقد كان المشركون يتخذون أعياداً زمانية ومكانية فأبطلها الإسلام وعوض عنها عيد الفطر وعيد الأضحى شكراً لله تعالى على أداء هاتين العبادتين العظيمتين، صوم رمضان وحج بيت الله الحرام. فإذاً يأتي موسم الفرح هذا بعد انتهاء عبادة عظيمة وهي الصيام، وتأتي فرحة عيد الأضحى بعد الانتهاء من العبادة العظيمة أو في نهاية حج بيت الله الحرام.

النهي عن مشاركة الكفار والمبتدعة في أعيادهم

النهي عن مشاركة الكفار والمبتدعة في أعيادهم صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما قدم المدينة كان لأهلها يومان يلعبون فيهما فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قد أبدلكم الله بهما خيراً منهما يوم النحر ويوم الفطر) وقال النبي صلى الله عليه وسلم مبيناً اختصاص الأمم بأعيادٍ معينة فقال: (لكل قومٍ عيد) وبما أنه (من تشبه بقومٍ فهو منهم) فلا تجوز مشاركة الكفار في أعيادهم ولا المشاركة في المناسبات والأعياد البدعية الأخرى، ولا يجوز في الدين إحداث أعيادٍ أخرى غير عيد الفطر وعيد الأضحى في السنة، كما يفعله بعض المبتدعة من أعياد الموالد وغيرها، أو ما يفعلونه تقليداً للأمم الكافرة باتخاذ أعياد كعيد المسيح، وعيد الميلاد، وعيد رأس السنة، وعيد الزواج، وعيد الشجرة، وعيد الأم، وعيد الوطن، ونحو ذلك من الأعياد المبتدعة التي ما أنزل الله بها من سلطان؛ فإنها كلها محرمة الإنفاق فيها والمشاركة فيها والاحتفال بها، كل ذلك محرمٌ تحريماً بالغاً ومصادم للعقيدة الإسلامية، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من تشبه بقومٍ فهو منهم) وقال صلى الله عليه وسلم: (إن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة).

مذاهب العلماء في حكم صلاة العيد

مذاهب العلماء في حكم صلاة العيد وسمي العيد عيداً لأنه يعود ويتكرر كل عام، ولأنه يعود بالفرح والسرور، ويعود الله فيه بالإحسان على عباده على إثر أدائهم لطاعته بالصيام والحج، فإذاً هذان العيدان مرتبطان بعبادتين عظيمتين الصيام والحج، وعيد الفطر لزوال المنع من المباحات من الطعام والشراب والنكاح، والدليل على مشروعية صلاة العيد قوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2] وقال سبحانه وتعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى:14 - 15] فذكر الله العيدين في هاتين الآيتين: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2] هذا عيد الأضحى، صلّ وانحر بعد الصلاة {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى:14] أي: زكاة الفطر على أحد الأقوال، و {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى:15] أي: بعد زكاة الفطر وهي صلاة عيد الأضحى، وكان النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه من بعده يداومون عليها، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج لصلاة العيدين، وقالت المرأة وهي أم عطية رضي الله عنها: [كنا نُؤمر أن نخرج يوم العيد حتى تخرج البكر من خدرها، حتى نخرج الحيَّض فيكنَّ خلف الناس فيكبرن بتكبيرهم ويدعين بدعائهم، يرجون بركة ذلك اليوم وطهرته] رواه البخاري رحمه الله تعالى، وهذا يبين التأكيد على مشروعية صلاة العيد وهي التي ذكر عددٌ من العلماء أنها واجبة، وهم قد ذكروا حكم صلاة العيد على ثلاثة أقوال: فقال بعضهم: إنها واجبة، يأثم من لم يحضر صلاة العيد؛ لأنه إذا كانت النساء اللاتي يطلب منهن القرار في البيوت قد أمرن بالخروج فالرجال من باب أولى، وأن هذا فيه دليلٌ على وجوب الخروج وأنه فرض عينٍ لنص الآية عليه، وللأمر به في الكتاب والسنة، وهذا رواية عن الإمام أحمد رحمه الله وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى. وذهب بعض أهل العلم إلى أنها فرضٌ على الكفاية، إذا قام بها البعض سقط عن الباقين، وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى بأنها فرض كفاية. وذهب بعضهم وهم المالكية والشافعية إلى أنها سنة مؤكدة لقوله في حديث الأعرابي: (هل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع) ورد القائلون بالوجوب: إن حديث الأعرابي على صلوات تتكرر في اليوم والليلة ماذا يجب منها؟ قال: خمس صلوات أما وجوب صلاة أخرى لسبب يعرض مثل صلاة العيد، فإنه لم يكن متطرقاً إليه في حديث الأعرابي، وبما أننا أمرنا به وأمرت النساء بالخروج فإنه يكون واجباً، وقالت حفصة بنت سيرين: كنا نمنع جوارينا أن يخرجن يوم العيد فجاءت امرأة فنزلت قصر بني خلف فأتيتها، فحدثت أن زوج أختها غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم اثنتي عشرة غزوة فكانت أختها معه في ست غزوات فقالت: فكنا نقوم على المرضى ونداوي الكلمى، فقالت: يا رسول الله أعلى إحدانا بأسٌ إذا لم يكن لها جلبابٌ ألا تخرج فقال: (لتلبسها صاحبتها من جلبابها، فليشهدن الخير ودعوة المؤمنين) يعني لو لم يكن عندها جلباب تأخذ جلباب صاحبتها، قالت حفصة: فلما أتيت أم عطية فسألتها: أسمعت في كذا وكذا، قالت: نعم بأبي -وقلما ذكرت النبي صلى الله عليه وسلم إلا قالت: بأبي- وقال: (ليخرج العواتق) والعواتق جمع عاتق وهي البكر البالغة أو المقاربة للبلوغ، أو قال: (العواتق ذوات الخدور والحيَّض) وتعتزل الحيَّض المصلى وليشهدن الخير ودعوة المؤمنين، قالت: فقلت لها: الحيَّض؟ قالت: نعم أليس الحائض تشهد عرفاتٍ وتشهد كذا وتشهد وكذا، رواه البخاري رحمه الله. إذاً الخروج لصلاة العيد مؤكد، والنساء مأمورات به يخرجن على الوجه الشرعي، وخروج المرأة على الوجه الشرعي يعني ألا تكون متطيبة ولا لابسة لثياب زينةٍ أو شهرة لقوله عليه الصلاة والسلام: (وليخرجن تفلات -يعني غير متزينات- ويعتزلن الرجال، ويعتزل الحَّيض المصلى).

مكان صلاة العيد

مكان صلاة العيد والخروج لصلاة العيد، وأداء صلاة العيد على هذا النمط المشهود من الجميع فيه إظهارٌ لشعار الإسلام، فهي من أعلام الدين الظاهرة، وأول صلاة صلاها النبي صلى الله عليه وسلم للعيد يوم الفطر من السنة الثانية من الهجرة، ولم يزل صلى الله عليه وسلم يواظب عليها حتى فارق الدنيا صلوات الله وسلامه عليه، واستمر عليها المسلمون خلفاً عن سلف فلو تركها أهل بلد مع استكمال شروطها فيهم قاتلهم الإمام، لأنها من أعلام الدين الظاهرة كالأذان، وينبغي أن تُؤدى صلاة العيد في صحراء قريبة من البلد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي العيدين في المصلى الذي على باب المدينة -وهو يبعد مسافة ألف متر من باب السلام (ألف ذراع من باب السلام) كما قدره بعض أهل العلم، هذا مكان مُصلى النبي صلى الله عليه وسلم- وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي العيدين في المصلى الذي في باب المدينة، فعن أبي سعيد: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج في الفطر والأضحى إلى المصلى) متفقٌ عليه، ولم ينقل أنه صلاها في المسجد لغير عذر، ولأن الخروج إلى الصحراء أوقع لهيبة المسلمين والإسلام وأظهر لشعائر الدين، ولا مشقة في ذلك لعدم تكرره بخلاف الجمعة إلا في مكة المشرفة فإنها تُصلى في المسجد الحرام، وفي صلاتها في الصحراء فائدة وهي تمكين الناس من الاجتماع الكبير الذي لا يسعهم فيه إلا الصحراء، لكن إذا حدث عذرٌ جاز لهم الصلاة في المساجد، كالمطر، أو الخوف كحصار البلد، أو الزحام. كان المصلى خارج البلد فلما توسع البنيان صار المصلى داخل البلد، فلو كان من الممكن الصلاة في صحراء تسع الجميع لكان هو السنة، لكن أصبح الآن المصلى محاطاً وأصبح لا يكفي للناس، ولذلك أصبح لفتح المساجد الكبيرة لصلاة العيد حاجة خصوصاً في عيد الفطر، ولذلك فإن صلاتها في المساجد لا بأس بها، ولو تعددت إذا لم يكفهم مسجدٌ واحد أو مُصلى واحد جاز لهم أن يعددوا المساجد لصلاة العيد.

وقت صلاة العيد

وقت صلاة العيد ويبدأ وقت صلاة العيد إذا ارتفعت الشمس بعد طلوعها قدر رمح، لأنه الوقت الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يصليها فيه، ويمتد وقت صلاة العيد إلى زوال الشمس، فإن لم يعلم بالعيد إلا بعد الزوال صلوا من الغد قضاءً، وقيل أداءً، لما روى أبو عمير بن أنس عن عمومة له من الأنصار قالوا: غمَّ علينا هلال شوال فأصبحنا صياماً، فجاء ركبٌ في آخر النهار فشهدوا أنهم رأوا الهلال بالأمس، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس أن يفطروا من يومهم -لأنه تبين أنه يوم عيد- وأن يخرجوا غداً لعيدهم. رواه أحمد وأبو داود والدارقطني وحسنه وصححه جماعة من الحفاظ. فلو كانت تؤدى صلاة العيد بعد الزوال لما أخرها صلى الله عليه وسلم إلى الغد، فلما جاء الخبر بعد الزوال وأخرها إلى الغد علمنا أن آخر وقت لها هو الزوال؛ ولأن صلاة العيد شرع لها الاجتماع العام، فلا بد أن يسبقها وقتٌ يتمكن الناس من التهيؤ لها، ولذلك لا بد من نشر الخبر قبل الصلاة بوقتٍ كافٍ حتى يتمكن الناس من الإتيان لصلاة العيد. ويسن تقديم صلاة الأضحى وتأخير صلاة الفطر ليتسع الوقت للناس لإخراج زكاة الفطر إذا أخر صلاة العيد، وتعجيل الأضحى لأجل أن يتمكن الناس من ذبح الأضاحي، أو أن يسرع الناس إلى ذبح الأضاحي، هذا بالنسبة للسنة، والآن الناس في عجلة من أمرهم، ويقولون: نريد أن نصلي العيد بسرعة ونذهب للسلام على الأقارب والجيران ونحو ذلك، وتقريباً كلهم يتعجلون في إخراج زكاة الفطر قبل العيد بيومٍ أو يومين حتى صارت السنة في إخراج زكاة الفطر قبل صلاة العيد شبه مهجورة، وصاروا يقولون نحن أخرجناها قبل صلاة العيد، قبل العيد بيومٍ أو يومين فلا حاجة لتأخيرنا، صلوا بنا بسرعة حتى نذهب ونسلم على أهالينا والناس، فلا حرج أن يصلي الإمام صلاة عيد الفطر في أول الوقت لمصلحة الناس، فنحن إن شاء الله سنصلي صلاة العيد غداً بإذن الله بعد ارتفاع الشمس مباشرة، فإذا كان الإشراق الساعة السادسة وخمس دقائق فبعدها بربع أو ثلث ساعة نصلي مباشرة، بإذن الله تعالى.

حكم الأكل قبل الخروج لصلاة العيد

حكم الأكل قبل الخروج لصلاة العيد ويسن أن يأكل قبل الخروج لصلاة الفطر تمرات، وأن لا يطعم في الأضحى حتى يصلي، يوم الفطر يأكل تمرات قبل صلاة العيد، أما الأضحى فإنه لا يأكل حتى يصلي لقول بريدة: (كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يخرج يوم الفطر حتى يفطر، ولا يطعم يوم النحر حتى يصلي) رواه أحمد وغيره، واتفق أهل العلم على استحباب تعجيل الفطر في هذا اليوم قبل الصلاة، ويستحب أكل التمرات الواحدة بعد الأخرى، فهو أصح وألذ وأمرأ، وإذا لم يجدها أفطر على غيرها، واستحب بعض أهل العلم الحلوى، وأقل الجمع ثلاث. إذاً السنة أن يأكل ثلاث تمرات فأكثر، خمساً أو سبعاً أو أكثر ويقطع على وتر، يعني: تسع أو إحدى عشرة فالسنة أن يفطر على تمراتٍ وتراً، وقال شيخ الإسلام رحمه الله في استدلالٍ بالغ ولطيف قال: لما قدم الصلاة على النحر في قوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2] وقدم التزكي على الصلاة {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى:14 - 15] كانت السنة أن الصدقة قبل الصلاة في عيد الفطر والذبح بعد الصلاة في عيد الأضحى.

التبكير والتجمل لصلاة العيد

التبكير والتجمل لصلاة العيد ويسن التبكير في الخروج لصلاة العيد ليتمكن من الدنو من الإمام، لأن بعض الناس يتأخرون وبعضهم ينامون وبعضهم لا يأتون إلا وقد انتهت الصلاة، وبعضهم لا يأتون إطلاقاً. والتبكير لصلاة العيد سنة، وتحصل فضيلة لصاحبه في انتظار الصلاة فيكثر ثوابه، ويُسن أن يتجمل المسلم لصلاة العيد، ويلبس أحسن ثيابه، لحديث جابر: (كانت للنبي صلى الله عليه وسلم حلة يلبسها في العيدين ويوم الجمعة) رواه ابن خزيمة في صحيحه، وعن ابن عمر رضي الله عنه: (أنه كان يلبس في العيدين أحسن ثيابه) رواه البيهقي بإسنادٍ جيد. وعمر رضي الله عنه ابتاع أو جاء للنبي عليه الصلاة والسلام بحلة من إستبرق أو من حرير، وأخبره أنه أتاه بها ليلبسها للعيد، وليتجمل بها للوفود، فأخبره النبي عليه الصلاة والسلام: (أن هذا لباس من لا خلاق له) لأنها حرير ولا يجوز للرجال لبس الحرير، لكن لم ينكر عليه أن يأتي بثوبٍ جديدٍ جميلٍ لأجل العيد. فالسنة إذاً أن يأتي بأحسن ثيابه لصلاة العيد.

(الاستيطان) من شروط صلاة العيد

(الاستيطان) من شروط صلاة العيد وكذلك فإنه يشترط لصلاة العيد الاستيطان، وأن يكون الذين يقيمونها مستوطنين في مساكن مبنية بما جرت العادة بالبناء به كما في صلاة الجمعة، فلا يقيمها البدو الرحل مثلاً، ولذلك قال العلماء متى يذبح البدوي أضحيته وليس عنده صلاة عيد في البر والصحراء؟ قالوا: ينتظر حتى تنتهي صلاة العيد في أقرب البلدان إليه فيذبح بعد ذلك، ينتظر ويتربص فترة يظن أن صلاة العيد قد انقضت بها في البلد ثم يذبح بعدها، وهو في الصحراء.

صفة صلاة العيد

صفة صلاة العيد وصلاة العيد ركعتان قبل الخطبة لقول ابن عمر رضي الله عنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان يصلون العيدين قبل الخطبة) متفق عليه، وقد استفاضت السنة بذلك وعليه عامة أهل العلم، قال الترمذي رحمه الله: والعمل عليه عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم أن صلاة العيدين قبل الخطبة، وحكمة تأخير الخطبة عن صلاة العيد وتقدميها على صلاة الجمعة، أن خطبة الجمعة شرط للصلاة، والشرط مقدمٌ على المشروط، بخلاف خطبة العيد فإنها سنة، ولذلك فإنه إذا حضر فيها فإنه ينصت للإمام ولكنه لا يشترط له حضورها بمعنى أنه يأثم لو ترك الخطبة، وهي ركعتان بإجماع المسلمين، وفي الصحيحين وغيرهما عن ابن عباس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوم الفطر فصلى ركعتين لم يصل قبلهما ولا بعدهما) وقال عمر: [صلاة الفطر والأضحى ركعتان تمامٌ غير قصرٍ على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم وقد خاب من افترى] رواه أحمد وغيره. ولا يشرع لصلاة العيد أذانٌ ولا إقامة، لما روى مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: [صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم العيد غير مرة ولا مرتين فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذانٍ ولا إقامة] ولذلك أنكر الصحابة رضوان الله تعالى عليهم على بعض الخلفاء أو بعض الملوك لما قدموا الخطبة على الصلاة، قالوا: إن الناس لا يجلسون إلينا فنجعلها قبل الصلاة لإلزام الناس بالاستماع، فكانت بدعة من البدع أنكرها الصحابة رضوان الله تعالى عليهم. وبالنسبة للركعة الأولى فإن الإمام يكبر فيها تكبيرة الإحرام والاستفتاح، وقبل التعوذ والقراءة يكبر ست تكبيرات، فتكبيرة الإحرام ركنٌ لا بد منها، لا تنعقد الصلاة بدونها وغيرها من التكبيرات سنة في الركعة الأولى، ثم يستفتح بعدها، لأن الاستفتاح في أول الصلاة، ثم يأتي بالتكبيرات الزوائد الست ثم يتعوذ عقب التكبيرة السادسة، لأن التعوذ للقراءة فيكون عندها ثم يقرأ. فإذاً يقول: الله أكبر، ثم يذكر دعاء الاستفتاح: (سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك إلى آخر الأدعية) ينتقي من الأدعية ثم يكبر ست تكبيرات بعد التكبيرة السادسة يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] ويقرأ الفاتحة، ويكبر في الركعة الثانية قبل القراءة خمس تكبيرات غير تكبيرة القيام، لما روى أحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر في عيدٍ اثنتي عشرة تكبيرة سبعاً في الأولى -يعني مع تكبيرة الإحرام- وخمساً في الآخرة -يعني بدون تكبيرة القيام-) وإسناده حسن، ويرفع يديه مع كل تكبيرة لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه مع التكبير.

حكم التكبيرات وما يقال بينها

حكم التكبيرات وما يقال بينها نأتي الآن إلى سؤال، هل يقول بين التكبيرات شيئاً أم لا؟ A ورد عن بعض الصحابة أنهم كانوا يقولون بين التكبيرات أشياء، فعن حماد بن سلمة عن إبراهيم: أن الوليد بن عقبة دخل المسجد وابن مسعود وحذيفة وأبو موسى في المسجد، فقال الوليد وهو أمير البلد: إن العيد قد حضر فكيف أصنع؟ فقال ابن مسعود: [يقول: الله أكبر، ويحمد الله ويثني عليه، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو الله، ثم يكبر ويحمد الله ويثني عليه، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يكبر ويحمد الله ويثني عليه ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم] الحديث رواه الطبراني وصححه الألباني في الإرواء. فإذاً هناك أشياء تقال بين التكبيرات وهي: حمد الله والثناء عليه، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم تقال بين تكبيرات صلاة العيد الستة في الأولى والخمسة في الثانية. ويرفع يديه مع كل تكبيرة اقتداءً بالسنة، وأشار ابن القيم رحمه الله بأنه يسكت سكتة يسيرة بين التكبيرتين لأنه لم يثبت عنده شيء، ولكن هذا الذي ثبت عن ابن مسعود رضي الله عنه ينبغي الأخذ به، وإن شك الإمام في عدد التكبيرات بنى على اليقين وهو الأقل، وإن نسى التكبير الزائد حتى شرع في القراءة -يعني الإمام أخطأ وكبر الإحرام وبدلاً من أن يكبر ست تكبيرات شرع في الفاتحة، ما العمل؟ يسقط التكبير، لأنه سنة وقد شرع في الركن الآن، سقط التكبير لا يعود إليه وهو سنة، لو نسيها فصلاته صحيحة، هذه التكبيرات سنة، وإذا شرع في القراءة تكون هذه السنة قد فات محلها، وكذلك إذا أدرك المأموم الإمام بعدما شرع في القراءة لم يأت بالتكبيرات الزوائد، وعليه أن ينصت للإمام، ولا يأتي بالتكبيرات الزوائد، وكذلك إذا أدركه راكعاً فإنه يكبر تكبيرة الإحرام ثم يركع، ولا يشتغل بقضاء التكبير.

ما يقرأ في ركعتي صلاة العيد

ما يقرأ في ركعتي صلاة العيد وصلاة العيد ركعتان يجهر فيهما الإمام بالقراءة لقول ابن عمر: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يجهر بالقراءة في العيدين والاستسقاء) كذا رواه الدارقطني رحمه الله تعالى، وقد أجمع العلماء على ذلك ونقله الخلف عن السلف واستمر عليه عمل لمسلمين، فهي وإن صليت بالنهار فإنها صلاة جهرية، ويقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى:1] ويقرأ في الركعة الثانية (الغاشية) لقول سمرة رضي الله عنه: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في العيدين بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى:1] {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1]) رواه أحمد، أو يقرأ في الركعة الأولى بـ (ق) والثانية (القمر) لما في صحيح مسلم والسنن وغيرها: (أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بـ (ق) و (اقتربت)) قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: مهما قرأ به جاز، كما تجوز القراءة في نحوه من الصلوات، لكن إن قرأ (ق) و (اقتربت) أو نحو ذلك مما جاء في الأثر كان حسناً، وكانت قراءته في المجامع الكبار بالسور المشتملة على التوحيد، والأمر والنهي، والمبدأ والمعاد، وقصص الأنبياء مع أممهم، وما عامل الله به من كذبهم وكفر بهم، وما حل بهم من الهلاك والشقاء، ومن آمن بهم وصدقهم، وما لهم من النجاة والعافية، فإذا سلم من الصلاة خطب خطبتين يجلس بينهما.

ما ورد في خطبتي العيدين

ما ورد في خطبتي العيدين وأما مسألة ثبوت الخطبتين مرفوعاً فربما لا يوجد له نص أنها خطبتين، ولكن ورد في النص أن النبي صلى الله عليه وسلم قد خطب قائماً، وفي الصحيح: (أنه بدأ بالصلاة ثم قام متوكئاً على بلال، فأمر بتقوى الله وحث على طاعته) الحديث، وفي صحيح مسلم: (ثم ينصرف من الصلاة فيقوم مقابل الناس والناس جلوسٌ على صفوفهم) إذاً يستحب للناس البقاء كما هم على صفوف الصلاة وعدم تغيير المواقع وتغيير القبلة، يستحب للناس البقاء على الصفوف واستقبال القبلة والاستماع للإمام لأجل الحديث والناس جلوس على صفوفهم. ويحثهم في خطبة عيد الفطر على تقوى الله تعالى ويذكرهم بصدقة الفطر وأحكامها. ويرغبهم في خطبة عيد الأضحى في ذبح الأضحية ويبين لهم أحكامها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر في خطبة الأضحى كثيراً من أحكامها. وينبغي على الخطباء أن يركزوا في خطبهم على المناسبات وما يحتاج إليه الناس من البيان في كل وقتٍ بحسبه وخصوصاً الوعظ والتذكير، لا سيما في المجامع العظيمة، ويذكر الغافل ويعلم الجاهل، وينصح العاصي، ويُؤتى بما يفيد المستمعين، وليس هناك شيءٌ قبل صلاة الأضحى أبداً ولا الفطر، ليس هناك شيءٌ قبل الصلاة مطلقاً، وذلك لحديث أبي سعيد قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى فأول شيءٍ يبدأ به الصلاة) إذاً ليس هناك سنة قبل صلاة العيد، فإذا ذهب إلى المصلى جلس ينتظر، وإذا ذهب إلى المسجد يصلي تحية المسجد فقط، تحية المسجد لأجل المسجد.

حكم إتيان النساء لصلاة العيد

حكم إتيان النساء لصلاة العيد وكذلك فإنه ينبغي حضور النساء لصلاة العيد، وتوجه إليهن موعظة خاصة ضمن خطبة العيد، لأنه عليه الصلاة والسلام لما رأى أنه لم يسمع النساء أتاهن فوعظهن، وحثهن على الصدقة، وهكذا ينبغي أن يكون للنساء نصيبٌ من موضوع خطبة العيد لحاجتهن إلى ذلك، واقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم، أما حكم إتيان النساء لصلاة العيد فذهب بعض أهل العلم إلى الوجوب للأمر به الوارد في الحديث، وقال بعضهم: إنه سنة لأن الأمر بخروجهن لشهود دعوة المسلمين ليس بواجب، قال شيخ الإسلام رحمه الله: لا بأس بحضور النساء غير متطيبات ولا لابساتٍ ثوب زينة أو شهرة لقوله صلى الله عليه وسلم: (وليخرجن تفلات) وقال بعض أهل العلم: إن الأمر منسوخ لأجل أنه كان يُحتاج في أول الإسلام لإكثار سواد المسلمين، فيأتي الناس والنساء أيضاً ولما كثر الناس لم تعد هناك حاجة لخروج النساء.

كراهة التنفل قبل صلاة العيد أو بعدها

كراهة التنفل قبل صلاة العيد أو بعدها ومن أحكام صلاة العيد: أنه يكره التنفل قبلها وبعدها في موضعها حتى يفارق المصلى، لقول ابن عباس رضي الله عنه: (خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوم عيدٍ فصلى ركعتين لم يصل قبلهما ولا بعدهما) متفقٌ عليه، ولئلا يُتوهم أن لها راتبة قبلها أو بعدها، صلاة العيد ليس لها سنة قبلية ولا بعدية، قال الإمام أحمد رحمه الله: أهل المدينة لا يتطوعون قبلها ولا بعدها، وقال الزهري رحمه الله: لم أسمع أحداً من علمائنا يذكر أن أحداً من سلف هذه الأمة كان يصلي قبل تلك الصلاة ولا بعدها، وكان ابن مسعود وحذيفة ينهيان الناس عن الصلاة قبلها، فإذا رجع إلى منزله فلا بأس أن يصلي فيه لما روى أحمد وغيره: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رجع إلى منزله صلى ركعتين).

قضاء صلاة العيد

قضاء صلاة العيد ويسن لمن فاتته صلاة العيد أو فاته بعضها، قضاؤها على صفتها، بأن يصليها ركعتين بتكبيراتها الزوائد لأن القضاء يحكي الأداء، يعني: إذا فاتته صلاها ركعتين بتكبيراتها كما يصليها الإمام، ولعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا) فإذا فاتته ركعة مع الإمام أضاف إليها أخرى، فما العمل إذا جاء والإمام يخطب؟ A إذا جاء والإمام يخطب جلس لاستماع الخطبة، فإذا انتهت صلاها قضاءً بعد ذلك، ولا بأس بقضائها منفرداً أو في جماعة. فبعض الناس من جهلهم يصلون جماعة والإمام يخطب، الإمام يخطب وهم يكبرون، هذا من جهلهم، ينبغي عليهم إذا جاءوا وقد بدأ الإمام بالخطبة أن يجلسوا لاستماع الخطبة، فإذا انتهى الإمام قاموا فصلوا جماعة أو فرادى.

سنة التكبير المطلق في العيدين

سنة التكبير المطلق في العيدين ويسن في العيدين التكبير المطلق، وهو الذي لا يتقيد بوقت، يرفع به صوته، إلا الأنثى فإنها لا تجهر به، فيكبر في ليلتي العيد وفي كل عشر ذي الحجة لقوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة:185] فالفقهاء يقولون: التكبير للعيد يبدأ من بعد المغرب ليلة العيد، لأنه قال في الآية: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة:185] فمتى تكتمل عدة رمضان؟ بغروب شمس آخر يوم. اليوم لما غربت الشمس اكتملت العدة، أليس كذلك؟ إذاً نكبر بعدها لأنه قال في الآية: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة:185] ويجهر به في الأسواق والمساجد والبيوت وفي كل موضعٍ يجوز فيه ذكر الله تعالى، ويجهر به بالذات في الخروج إلى المصلى، لما أخرجه الدارقطني وغيره عن ابن عمر أنه كان إذا غدا يوم الفطر ويوم الأضحى يجهر بالتكبير حتى يأتي المصلى ثم يكبر حتى يأتي الإمام، فإذاً ينبغي الحرص على التكبير. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكبر يوم الفطر من حين يخرج من بيته حتى يأتي المصلى، وكان صلى الله عليه وسلم يخرج في العيدين رافعاً صوته بالتهليل والتكبير وهذا من الأحاديث الصحيحة، وقد جمع الفريابي رحمه الله كتاباً في أحكام العيدين ذكر فيه كثيراً من الأحاديث المتعلقة بالعيدين ومنها التكبير، وعن وليد بن مسلم قال: سألت الأوزاعي ومالك بن أنس عن إظهار التكبير في العيدين قالا: نعم كان عبد الله بن عمر يظهره في يوم الفطر حتى يخرج الإمام، وصح عن أبي عبد الرحمن السلمي أنه قال: كانوا في الفطر أشد -يعني التكبير في الفطر أشد من التكبير في الأضحى، يعني في القوة والملازمة والحرص عليه- كانوا في الفطر أشد منهم في الأضحى، يعني التكبير، هذا صحيحٌ إلى أبي عبد الرحمن السلمي رحمه الله تعالى، وذكرنا كذلك رواية الدارقطني عن ابن عمر أنه كان إذا غدا يوم الفطر ويوم الأضحى يجهر بالتكبير حتى يأتي المصلى، ثم يكبر حتى يأتي الإمام، وصححه الألباني في إرواء الغليل. وروى ابن أبي شيبة بسندٍ صحيح عن الزهري قال: كان الناس يكبرون في العيد حين يخرجون من منازلهم حتى يأتوا المصلى وحتى يخرج الإمام، فإذا خرج الإمام سكتوا فإذا كبر كبروا، أي: فإذا كبر وبدأ بالصلاة كبروا معه وصلوا، فإذاً متى ينتهي التكبير؟ عند خروج الإمام لصلاة العيد، إذا خرج الإمام انقطع التكبير، بالنسبة لعيد الفطر ينقطع التكبير بخروج الإمام.

صيغة التكبير

صيغة التكبير وأما صيغة التكبير، فإنه قد روى المحاملي بسندٍ صحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه صفته، وهي: الله أكبر كبيرا، الله أكبر كبيرا، الله أكبر وأجل، الله أكبر ولله الحمد، وفي مصنف ابن أبي شيبة ثبت تشفيع التكبير عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يكبر أيام التشريق: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد، وهي أشهر صيغ التكبير، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد، ورواه ابن أبي شيبة مرة أخرى بنفس السند بتثليث التكبير أي: الله أكبر الله أكبر الله أكبر، إلى آخره، فجاء في رواية بتكبيرتين بتشفيعه ومرة بتثليثه، وإن فعل هذا وهذا فهو حسن.

الفرق بين الأضحى والفطر في التكبير

الفرق بين الأضحى والفطر في التكبير وكذلك فإن التكبير في عيد الفطر آكد لأجل الآية: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة:185] هذا جاء في سياق صيام رمضان، ولتكملوا العدة: عدة رمضان، ولتكبروا الله على ما هداكم، لكن هناك فرق في التكبير بين عيد الأضحى وعيد الفطر: أن عيد الأضحى فيه مشروعية التكبير المقيد وهو التكبير الذي شرع في عقب كل صلاة فريضة في جماعة فيلتفت الإمام إلى المأمومين ثم يكبر ويكبرون، ويبتدئ التكبير المقيد بأدبار الصلوات في حق غير المحرم من صلاة الفجر يوم عرفة إلى عصر آخر أيام التشريق، وأما المحرم فيبتدئ التكبير المقيد في حقه من صلاة الظهر يوم النحر إلى عصر آخر أيام التشريق؛ لأنه قبل ذلك مشغولٌ بالتلبية، هذا تفصيل الفقهاء في التكبير المطلق والمقيد بالنسبة لعيد الأضحى، وقد قال الله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:203] وهي أيام التشريق، وقال الإمام النووي رحمه الله: هو الراجح وعليه العمل في الأمصار، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: أصح الأقوال في التكبير الذي عليه الجمهور من السلف والفقهاء من الصحابة والأئمة: أن يكبر من فجر يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق عقب كل صلاة، لما في السنن: (يوم عرفة ويوم النحر وأيام منى عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكلٍ وشربٍ وذكرٍ لله) وكون المحرم يبتدئ التكبير المقيد من صلاة الظهر يوم النحر وليس من فجر يوم عرفة كما يفعل المقيم، ذلك لأن التلبية لا تقطع إلا برمي جمرة العقبة، ووقت رمي جمرة العقبة المسنون ضحى يوم النحر، فكان المحرم فيه كالمحل، فلو رمى جمرة العقبة قبل الفجر فلا يبتدئ التكبير إلا بعد صلاة الظهر أيضاً عملاًَ بالغالب. انتهى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.

سنة المشي إلى المصلى ومخالفة الطريق

سنة المشي إلى المصلى ومخالفة الطريق ومن السنة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج إلى العيد ماشياً، ويرجع ماشياً، وفي حديث آخر: (كان يخرج إلى العيدين ماشياً ويصلي بغير أذانٍ ولا إقامة، ثم يرجع ماشياً من طريقٍ آخر) وفي رواية: (كان إذا خرج يوم العيد في طريق، رجع في غيره) وفي رواية: (كان إذا كان يوم عيدٍ خالف الطريق). إذاً السنة أن يخرج ماشياً لا يركب، يأتي المصلى ماشياً وهو الأكثر أجراً وهو الأفضل ولا شك، لكن إن شق عليه المشي لبعد المصلى فإنه يمكن أن يوقف سيارته مثلاً في أقرب مكان يمكن أن يمشي منه إلى المصلى ويمشي، ليحافظ على سنة المشي، وإن قال إنسان ما فائدة مخالفة الطريق؟ ف A إن مخالفة الطريق في العيد لها عدة فوائد، وقد ذكر العلماء عدة حكم في مسألة مخالفة الطريق منها: ليسلم على أهل الطريقين، ومنها لينال بركة المشي فيهما يشهدان له عند الله {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة:4] فالأرض تحدث بما عُمل عليها من خير أو شر، ومنها ليظهر شعائر الإسلام في كل الفجاج والطرق في هذا وفي هذا، فيكون البلد من جميع طرقه فيه ذكر، ومنها للتفاؤل بتغير الحال إلى المغفرة والرضى، يعني من الغضب والسخط إلى المغفرة والرضى، وقيل من الحكم في ذلك: إغاظة المنافقين واليهود وليرهبهم بكثرة من معه، وقيل: ليقضي حوائج الناس من الاستفتاء والتعليم والاقتداء أو الصدقة على المحاويج، ومنها: أن يزور أقرباءه وأصحابه، لأنه قد يوجد بعضهم في هذا الطريق وبعضهم في الطريق الآخر، فهذا بالنسبة للسبب، ولا مانع من أن يكون السبب كل هذه الأشياء مجتمعة لمن يستطيعها. وكذلك فإنه لا بأس بتهنئة الناس بعضهم بعضاً بأن يقول لغيره: تقبل الله منا ومنك، وقد أخبر ابن حجر رحمه الله أن ذلك قد جاء بإسنادٍ حسن عن جبير بن نفيل قال: [كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا التقوا يوم العيد يقول بعضهم لبعض: تقبل الله منا ومنك] وقال شيخ الإسلام رحمه الله: وقد روي عن طائفة من الصحابة أنهم كانوا يفعلونه ورخص فيه الأئمة كـ أحمد وغيره، والمقصود من التهنئة: التودد وإظهار السرور، ولا بأس بالمصافحة في التهنئة. وإذا قال أي عبارات أخرى طيبة مثلاً: كل عامٍ وأنتم بخير، جعلكم الله من الفائزين ونحو ذلك، أو أعاده الله علينا وعليكم بالخير والمسرات ونحو ذلك فلا بأس، أي عبارة طيبة يقولها لا بأس بذلك.

حكم العيد إذا وافق جمعة

حكم العيد إذا وافق جمعة ما العمل إذا وافق العيد جمعة؟ A الإمام يصلي الصلاتين يصلي العيد والجمعة، لأجل أن يخطب بالناس، أما الناس فيرخص لهم إذا حضروا العيد ألا يأتوا إلى الجمعة، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قد اجتمع في يومكم عيدان فمن شاء أجزأه عن الجمعة وإنا مجمعون إن شاء الله تعالى) فلا بد أن تقام صلاة العيد وتقام صلاة الجمعة، ولكن من حضر صلاة العيد فإنه يعفى عنه حضور صلاة الجمعة إذا لم يحضر، ولكن لا بد له أن يصلي الظهر لأنها فرض الوقت ولا يجوز تركها.

المحافظة على السنة في العيد

المحافظة على السنة في العيد كذلك فإنه لا بد من المحافظة على السنة، العيد فرصة للمحافظة على السنة، التمسك بالسنة وكسب الأجر من وراء ذلك، وقد جاء في صحيح مسلم: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى فأول شيءٍ يبدأ به الصلاة ثم ينصرف، فيقوم مقابل الناس والناس جلوسٌ على صفوفهم، فيعظهم ويوصيهم ويأمرهم، فإذا كان يريد أن يقطع بعثاً قطعه- يرسل سرية في الجهاد مثلاً- أو يأمر بشيءٍ أمر به، قال أبو سعيد: فلم يزل الناس على ذلك حتى خرجت مع مروان وهو أمير المدينة في أضحى أو فطر، فلما أتينا المصلى إذا منبرٌ بناه كثير بن الصلت فإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلي فجبذت بثوبه فجبذني فارتفع- يعني عصى الصحابي بالقوة فخطب قبل الصلاة- فقلت له: غيرتم والله، وأنكر عليه علناً أمام كل الناس، فقال: يا أبا سعيد قد ذهب ما تعلم، فقلت: ما أعلم والله خيرٌ مما لا أعلم فقال: إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة فجلعتها قبل الصلاة) فتأمل إذاً! درس عظيم من هذا الصحابي في المحافظة على السنة وعدم الرضى بمخالفة السنة وكيف أنكر ذلك. ولأجل ذلك لا بد من المحافظة على السنة في هذا العيد، ولذلك من السنة أن يلبس الجديد أو الجميل، ويأمر بناته ونساءه أن يخرجن بالتستر الكامل والحشمة الشرعية، والتكبير من خروجه من بيته حتى يأتي المصلى رافعاً صوته بالتهليل والتكبير، وأكل تمراتٍ وتراً قبل أن يخرج، وشدة التكبير في الفطر، وإذا خرج الإمام سكتوا، والقراءة بـ (سبح) و (الغاشية) أو (ق) و (القمر) والخروج ماشياً، والصلاة بغير أذانٍ ولا إقامة، والرجوع ماشياً من طريقٍ آخر، وغير ذلك من السنن التي تقدم ذكرها ينبغي المحافظة عليها.

ضوابط اللهو والفرح في الأعياد

ضوابط اللهو والفرح في الأعياد واعلموا رحمكم الله تعالى أن إظهار الفرحة بالعيد سنة، ولكن الناس أنفسهم يظلمون، ولذلك صارت هناك كثيرٌ من المخالفات الشرعية، ولا بد أن نشير إشارة إلى هذا الموضوع وهو مسألة اللهو وما يجوز منه وما يباح في العيد، فقد روى البخاري رحمه الله تعالى عن عائشة قالت: دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي جاريتان تغنيان -زاد مسلم بدف- فاضطجع على الفراش وحول وجهه ودخل أبو بكر فانتهرني وقال: مزمارة الشيطان عند النبي صلى الله عليه وسلم -يستنكر- فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (دعهما) وهذا يدل على جواز ضرب النساء بالدف في العيد، وعلى جواز الغناء بالمباحات من الكلام والشعر في العيد، لكنه لا يدل أبداً على استخدام الموسيقى والمعازف في العيد، فإن المرخص به هو الدف وأبو بكر قال: مزمارة الشيطان! استنكر حتى الدف، حتى أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالكف عن الإنكار، ولا حجة في الحديث أبداً لسماع غناء النساء، فإن عائشة قالت: وعندي جاريتان، يعني: بنتان صغيرتان، فأين غناء الجاريتين الصغيرتين بشعرٍ، فيه ذكر الحرب أو الكلمات المباحة بدفٍ، أين هذا من غناء النساء الكبيرات بالمعازف والعود والطبل والكمنجة وغير ذلك من الآلات الوترية والكهربائية وغيرها من أنواع المعازف، وسماع الرجال لهذا؟! ومع الأسف إن الذين يجيزون الغناء الموسيقي، وغناء النساء الكبيرات، وسماع الأغاني يستدلون بهذا الحديث فتباً لهم على استدلالهم! وتعساً لهم على طريقتهم المنحرفة! فإنهما جاريتان صغيرتان تضربان بالدف بكلامٍ مباح، أين هذا من غناء النساء الكبيرات بالأصوات الفاتنة، بالكلام الماجن، وذكر الحب والغرام، ووصف النساء والتشبيب بهن، وذكر الحب والعشق، ونحو ذلك من الألفاظ السيئة عند الرجال؟! أين هذا من هذا؟! فإذاً اللهو المباح لا بأس به، والنساء يضربن بالدف في الأعراس لا بأس به، وفي الأعياد لا بأس به، وفي توابع الأعراس لا بأس به، وفي توابع الأعياد لا بأس به، وأما أن يكون هذا لنساء كبيرات بمحضر من الرجال فهو حرام ولو بالدف، بل ولو بدون دف، لأن أصوات النساء الكبيرات فتنة للرجال، يحرك الشهوة ويبعث على الفتنة، يحرك كل كامن، ولذلك فإن تهييج الكامن وتحريك الساكن بالغناء المحرم لا شك أنه مما يسخط الله تعالى، فلا حجة في هذا الحديث أبداً لسماع الرجال لغناء النساء الكبيرات والبالغات بالأصوات الفاتنة، بهذه الكلمات الماجنة بالأدوات الموسيقية المختلفة. أما اللهو المباح، جوار صغيرات (بنات صغيرات) يغنين بأهازيج وأناشيد مباحة فلا بأس به.

حديث عائشة في لعب الأحباش وفائدة التوسعة على الأهل

حديث عائشة في لعب الأحباش وفائدة التوسعة على الأهل كذلك فإن إعطاء الفرصة للأهل للمتعة المباحة لا بأس به، عن عائشة كما عند البخاري: (كان يوم عيدٍ يلعب فيه السودان بالدرق والحراب، الحبشة كانوا في المسجد يتمرنون على أدوات الحرب التروس والحراب، ولهم فيها فعلٌ معين، لعبٌ فيه تدريب، كتقابل المتقاتلين بوسيلة معينة ليس فيها إيذاء ولا شهر السلاح في وجه الواحد الآخر ونحو ذلك، وإنما هو طريقة للعب بهذه الحراب فكان منظراً مسلياً- فإما سألت النبي صلى الله عليه وسلم وإما قال لي، أي: من نفسه: أتشتهين تنظرين؟ فقلت: نعم، فأقامني وراءه خدي على خده -يعني يسترها من الناس، حتى لا يراها الأجانب- وهو يقول: دونكم يا بني أرفدة، حتى إذا مللت قال: حسبك؟ قلت: نعم، قال: فاذهبي) وفي رواية: (حتى أكون أنا التي أسأم) ولـ مسلم: (ثم يقوم من أجلي حتى أكون أنا التي أنصرف) وفي رواية النسائي: (أما شبعت؟ فجعلت أقول: لا، لأنظر منزلتي عنده) -تتبين منزلتها عن بقية نسائه رضي الله عنها- وفي رواية قلت: (يا رسول الله! لا تعجل، فقام لي ثم قال: حسبك قلت: لا تعجل، قالت: وما بي حب النظر إليهم، ولكن أحببت أن يبلغ النساء مقامه لي ومكاني منه) وتقول عائشة: [فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن، الحريصة على اللهو] إذاً اللهو واللعب للبنات الصغيرات في العيد جيد وسنة ومشروع، وينبغي أن يمكن منه هؤلاء، لكن بعض الناس اليوم يلبسون بناتهم الملابس القصيرة، وربما يكون عمر البنت ست وسبع وثمان وتسع وعشر سنوات وقرب البلوغ، ويتساهلون في خروجهن إلى الشوارع، وضرب أبواب الناس لأخذ العيديات، ولا شك أن هذا باب فتنة، ولا شك أن فيه شراً وفساداً، ولذلك هو حرامٌ ولا يجوز أبداً، لكن أن يدعى البنات إلى بيتٍ من بيوت صديقاتهن المأمونة الموثوق بأهلها فيلعبن مع بعضهن البعض هذا طيب، أو يشاهدن شيئاً مباحاً هذا طيب، التوسعة على الأولاد بالألعاب المباحة في الأعياد، والملابس الجميلة الجديدة أيضاً هذا من الطاعات، لأن فيه إدخال السرور على الأهل، والعيد مناسبة فرح، فينبغي إذاً أن يكون فيه من مظاهر الفرح ما فيه إظهار لهذه الشريعة العظيمة.

اجتناب الألعاب الخطيرة والمحرمة

اجتناب الألعاب الخطيرة والمحرمة وكذلك فإنه لا بد من اجتناب الألعاب الخطيرة، فإن هذه المفرقعات النارية التي ابتلينا بها في هذا الزمان تضيع فيها الأموال، وتؤذى بها الأبدان، ويشوش بها على الناس في البيوت، وربما تصاب بعض النساء بالرعب، أو فيها إقلاقٌ وإزعاجٌ لراحة المسلمين، فلا شك أن هذا حرامٌ لا يجوز، وبيع هذه الأشياء التي فيها خطورة حرامٌ لا يجوز أيضاً، ولا يمكن الأولاد من شراء الأشياء المؤذية المحرمة، إذا كانت مؤذية تسبب حرائق أو تؤذي الأبدان فإنه لا يجوز أن يلعب بها، وربما نسمع عن ولدٍ فقد بصره، أو مكان احترق بسبب ذلك، فإن الأطفال يأخذون الكبريت وأعواد الكبريت لإشعال هذه الفتائل فربما أدى إلى نشوب حرائق، ولذلك نقرأ في الأخبار المكتوبة عن ازدياد نسبة الحرائق في بلاد الكفار أيام عيد الميلاد، لأنهم يستخدمون هذه الألعاب النارية وبتفنن وتنوع وكثرة، مما يؤدي إلى اشتعال الحرائق، فعلى أية حال لا بد من الانتباه في قضية الألعاب إلى عدم الإتيان بالألعاب المحرمة، سواءً ما كان فيه موسيقى أو ما كان فيه صلبان، أو ما كان مؤذياً للبدن، أو ما كان فيه مقامرة أو شكلٌ من أشكال الميسر، أو ما كان فيه إلهاءٌ عن ذكر الله وعن الصلاة، أو ما كان فيه صورٌ من ذوات الأرواح، فإذاً المنكرات الموجودة في الألعاب كثيرة، أو ما كان فيه نرد فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن من لعب بالنردشير أو بالنرد فقد عصى الله ورسوله، أو كأنما صبغ يده في لحم الخنزير ودمه، كما جاء في الحديث الصحيح. إذاً ينبغي اجتناب الألعاب المحرمة والمؤذية، والحرص على الألعاب المباحة المفيدة، التي فيها تسلية وفيها إدخال للسرور على الأولاد وتمتيع الأولاد ما أمكن بالفرجة المباحة والفسحة المباحة، والاجتماع بين الأولاد وإظهار الزينة المباحة ونحو ذلك هذا مشروع ينبغي عدم خلطه بالممنوع. هذا ما تيسر ذكره في أحكام صلاة العيد وبعض الآداب المتعلقة بالعيدين، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يتقبل منا الصيام والقيام، وأن يجزينا بذلك الجزاء الأوفى، وأن يجعلنا في ختام هذا الشهر من عتقائه من النار. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم وبارك على النبي الأمي محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الغلام المؤمن وأصحاب الأخدود [1،2]

الغلام المؤمن وأصحاب الأخدود [1،2] إن الله عز وجل إذا رأى من عباده من يظلم ويطغى، ويستعبد الناس، ويترك عبادة رب العالمين- يسر له من يقيم عليه الحجج والبراهين في الدنيا، حتى إذا أعذر إليه الله عز وجل أخذه أخذ عزيز مقتدر. وقد ضرب الله عز وجل للمؤمن أمثلة في كتابه وفي وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذه قصة الغلام المؤمن والراهب وأصحاب الأخدود، خير مثال يبين كيفية شق الداعية طريقه في الدعوة إلى الله مع تحمل الصعاب والابتلاءات من أجل الدين.

نص حديث الغلام المؤمن وأصحاب الأخدود

نص حديث الغلام المؤمن وأصحاب الأخدود الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: قصة من أجمل القصص ليس التي يقرؤها المسلم فقط، بل يمكن أن تكون من أجمل القصص التي يمكن أن يطلع عليها أي واحد من البشر، وهذه القصة -أيها الإخوة- هي قصة: الغلام المؤمن وأصحاب الأخدود، وسوف نسرد القصة إن شاء الله، ثم نتدارسها معكم مقطعاً مقطعاً. روى الإمام مسلم رحمه الله تعالى بإسناده إلى صهيب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كان ملكٌ فيمن كان قبلكم، وكان له ساحر، فلما كبر- أي: الساحر- قال للملك: إني قد كبرت، فابعث إلي غلاماً أعلمه السحر، فبعث إليه غلاماً يعلمه، وكان في طريقه إذا سلك راهب- كان في طريق الغلام إذا سلك إلى الساحر راهب- فقعد إليه وسمع كلامه، فكان إذا أتى الساحر مرَّ بالراهب وقعد إليه، فإذا أتى الساحر ضربه- لأنه يتأخر عن موعد الدرس، درس السحر- فشكا ذلك إلى الراهب- شكا الغلام إلى الراهب- فقال- أي: الراهب-: إذا خشيت الساحر فقل: حبسني أهلي، وإذا خشيت أهلك فقل: حبسني الساحر، فبينما هو كذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس، فقال: اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب أفضل، فأخذ حجراً فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر، فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس، فرماها، فقتلها ومضى الناس، فأتى الراهب فأخبره، فقال له الراهب: أي بني أنت اليوم أفضل مني، وقد بلغ من أمرك ما أرى، وإنك ستبتلى، فإن ابتليت فلا تدل علي، وكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص، ويداوي الناس من سائر الأدواء، فسمع جليسٌ للملك كان قد عمي فأتاه بهدايا كثيرة- جاء إلى الغلام بهدايا كثيرة- فقال: ما هاهنا لك أجمع إن أنت شفيتني، قال: إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله عز وجل، فإن آمنت بالله دعوتُ الله فشفاك، فآمن به- الأعمى آمن بالله- فشفاه الله فأتى الملك- الأعمى جليس الملك، جاء إلى الملك- فجلس إليه كما كان يجلس، فقال له الملك: من رد عليك بصرك؟ قال: ربي، قال: ولك ربٌ غيري -هؤلاء الناس كفرة مجتمع كافر كانوا يعبدون ملكهم- قال: ربي وربك الله، فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام، فجيء بالغلام، فقال له الملك: أي بني قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل؟ فقال: إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله فأخذه، فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب، فجيء بالراهب، فقيل له: ارجع عن دينك، فأبى فدعا بالمنشار، فوضع المنشار على مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه، ثم جيء بجليس الملك، فقيل له: ارجع عن دينك، فأبى فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه، ثم جيء بالغلام فقيل له: ارجع عن دينك، فأبى، فدفعه إلى نفرٍ من أصحابه -من حاشيته وجنده- فقال: اذهبوا به إلى جبل كذ وكذا -سمى لهم جبلاً- فاصعدوا به الجبل فإذا بلغتم ذروته، فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه- من فوق الجبل- فذهبوا به فصعدوا به الجبل، فقال- أي: الغلام-: اللهم اكفنيهم بما شئت، اللهم اكفنيهم بما شئت، فرجف بهم الجبل، فسقطوا إلا هو، وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله، فدفعه إلى نفرٍ من أصحابه آخرين، قال: اذهبوا به فاحملوه في قرقور- والقرقور هو: السفينة- وتوسطوا به البحر- في منتصف البحر- فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه، فذهبوا به، فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فانكفأت بهم السفينة -انقلبت- فغرقوا كلهم، وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله، فقال للملك- هذا الغلام-: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، قال: ما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيدٍ واحد وتصلبني على جذعٍ، ثم خذ سهماً من كنانتي، ثم ضع السهم في كبد القوس، ثم قل: بسم الله رب الغلام، ثم ارم، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني، فجمع الناس في صعيدٍ واحد وصلبه على جذعٍ، وأخذ سهماً من كنانته، ثم وضع السهم في كبد القوس، ثم قال: بسم الله رب الغلام، ثم رماه فوقع السهم في صدغه- الصدغ من العين إلى شحمة الأذن- فوضع يده على صدغه في موضع السهم فمات، فقال الناس: آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام، فأتي الملك فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر، قد والله نزل بك حذرك، قد آمن الناس، فأمر بالأخدود بأفواه السكك، فخدت- حفرت في الطرق- وأضرم فيها النيران، وقال: من لم يرجع عن دينه فأقحموه فيها، أو قيل له: اقتحم، ففعلوا حتى جاءت امرأةٌ ومعها صبيٌ لها، فتقاعست أن تقع فيها رحمة بالولد، فقال لها الغلام: يا أمه! اصبري فإنك على الحق) رواه مسلم.

روايات قصة الغلام المؤمن

روايات قصة الغلام المؤمن هذا الحديث -أيها الإخوة- من أجمل القصص التي يمكن أن يسمع بها إنسان، الذي رواها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي المصدق عن ربه عز وجل، هذه القصة رواها بالإضافة للإمام مسلم الإمام أحمد والنسائي، وكذلك رواها الترمذي، ولكن رواية الترمذي فيها اختلاف عن هذا السياق الذي سقناه، قال ابن كثير رحمه الله عن سياق الترمذي: وهذا السياق ليس فيه صراحة أن هذه القصة من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، سياق الترمذي ليس سياق مسلم الذي ذكرناه، قال شيخنا أبو الحجاج المزي: فيحتمل أن يكون من كلام صهيب الرومي، فإنه كان عنده علمٌ من أخبار النصارى انتهى. قال الحافظ في الفتح: صرح برفع القصة بطولها حماد بن سلمة عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب ومن طريقه أخرجها مسلم والنسائي وأحمد، إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ووقفها معمر عن ثابت، على صهيب، ومن طريقه أخرجها الترمذي، فهذا السياق -سياق الإمام مسلم - الذي ذكرناه سنعتمد عليه في شرح القصة، وسنأخذ من سياق الترمذي ما يكون فيه زيادة تفاصيل بحيث لا تكون تتعارض مع نفس القصة، لأن القصة التي نشرحها الآن رواية مسلم هي المرفوعة عن الرسول صلى الله عليه وسلم وهي المعتمدة. أيها الإخوة! لو أنا أوكلنا كتابة مثل هذه القصة إلى أعظم روائي في العالم فهل يا ترى سيكتب لنا قصة مثل هذه في جمالها ودقتها، وعظم الفوائد المحتوية عليها، ومدى تأثيرها في النفس؟ لا يستطيع أحد مطلقاً، لا يمكن أن يأتي بشر بأجمل مما رواه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه القصص -أيها الإخوة- ليست قصص حكايات، ليست روايات تسلية، هذه قصة مجتمع بأسره، مجتمع حي كان في فترة من الزمان موجوداً على ظهر الأرض. يا إخواني! ابتلينا في هذه الأيام بروايات سخيفة وقصص ماجنة، يُقبل عليها الكبار والصغار، يقرءون قصصاً، وفيها فسادٌ عظيم، وفي بعضها خرافات وشعوذات تفسد واقعية الأطفال، لذلك كان مما يُنصح به لكل أب لديه طفل، لكل أخ أو أخت لديه أخ أصغر منه أن يقرأ عليه هذه القصة حتى قبل أن ينام، حتى لو قبل النوم يقرؤها عليه، أو أن يجزئها له.

فوائد قصة الغلام المؤمن وأصحاب الأخدود

فوائد قصة الغلام المؤمن وأصحاب الأخدود أيها الإخوة: هذه الأحداث عظيمة جداً، مثل هذه القصة فيها فوائد مباشرة وفوائد غير مباشرة، قد لا يحس بها القارئ أنه يستفيد، ولكن هو يستفيد، فمن ذلك مثلاً من القضايا الخفية: أننا نتعلم درساً عظيماً في التواضع، كيف نتعلم درساً عظيماً في التواضع؟ لأننا نحن الآن الكبار نتعلم هذه الفوائد العظيمة من غلام، والغلام كما قال ابن علان في دليل الفالحين في شرح الحديث: والغلام في لغة العرب من كان بعد سن الفطام وقبل البلوغ، الذي يكون بعد الفطام وقبل البلوغ يطلق عليه غلام في لغة العرب، نحن الآن الكبار والشيوخ نتعلم من غلام، من هذا الغلام المؤمن، هذا فيه فائدة عظيمة في التواضع. ونبدأ معكم باستعراض هذه القصة جزءاً جزءاً مقطعاً مقطعاً كلمةًَ كلمة.

هذه القصة تمثل دور دعوة كاملة

هذه القصة تمثل دور دعوة كاملة هذه القصة من أهميتها: أنها تمثل دعوة كاملة من بدايتها إلى نهايتها، ابتداءً من مرحلة الاستضعاف، لما كان الحق لا يعرفه إلا شخص واحد فقط، وحتى نهاية القصة وهي مرحلة إيمان الناس كلهم، الذين آمنوا في آخر القصة، مروراً بالمرحلة السرية التي طلب فيها الراهب من الغلام أن يكتم خبره، ومروراً بالمرحلة العلنية وهي أن يصدع الغلام بالحق على الناس كافة. كذلك فيها تنوع الأساليب من الفردية إلى الجماعية، وغير ذلك، فيحتاج أصحاب الدعوات لدراسة هذه القصص جيداً، هذه القصص التي تمثل واقعاً متكاملاً، هذه التجارب، فالدين الإسلامي من عظمته أنه لا يبدأ بك أيها المسلم من الصفر، يقول لك: ابدأ، لا، بل يعطيك خلاصات تجارب الأمم السابقة، يقول لك: هذه التجارب استفيد منها، عندنا أرصدة في الإسلام من ضمن الأرصدة رصيد التجربة، تجارب الأمم السابقة مجموعة في القرآن والسنة. نبدأ من البداية عن صهيب رضي الله عنه، من هو صهيب أيها الإخوة؟ صهيب الرومي، نلاحظ في بعض الأحاديث عن بعض الصحابة أنهم يتخصصون في رواية أنواع معينة من الأحاديث، هذا التخصص نابع من الواقع الذي عاشوه، فلو عرفنا واقع صهيب الرومي، كيف كان واقعه؟ صهيب الرومي كان مسلماً مضطهداً في قريش، يعذب ويُطارد ويُشرد ويُستولى على ماله، وقصة هجرته إلى المدينة معروفة، فإذا عرفنا واقع صهيب لا نستغرب لماذا بالذات صهيب الرومي الذي روى هذا الحديث الذي فيه ابتلاء وفتن ومحن، هذه العلاقة بين الراوي والمروي، بين الصحابي والحديث الذي رواه هذا الصحابي، وإذاً علمنا أيضاً أن خباب بن الأرت رضي الله عنه روى جزءاً في هذا الحديث في صحيح البخاري لما قال: (جئنا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو متوسد ببردة في ظل الكعبة، فقلنا: يا رسول الله! ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟) -فـ خباب كان يعذب، وكان من تعذيبه أن سيدته الكافرة كانت تطرحه على أسياخ الحديد المحماة بالنار، فلا يطفئ النار في أسياخ الحديد إلا شحم ظهر خباب الذي كان يسيل عليه، لما جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يطلب منه- (ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ قال صلى الله عليه وسلم: كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه، ويوضع المنشار في مفرق رأسه فيشق حتى يقع نصفين لا يرده ذلك عن دينه) فروى خباب رضي الله عنه مقطعاً من هذا الحديث. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كان ملكٌ فيمن كان قبلكم) هذه القصة هل ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم التاريخ الذي حدثت فيه القصة بالضبط؟ في اليوم الفلاني، في الشهر الفلاني، في السنة الفلانية؟ هل ذكر فيها المكان في البلد الفلانية؟ لا، نلاحظ هنا أن القصة تجردت عن أي تفاصيل إضافية تشتت ذهن القارئ أو السامع، واقتصرت على أهم التفاصيل المتعلقة بالموضوع، حتى لا يتشتت ذهن القارئ، لا توجد تفاصيل، مجردة عن الزمان والمكان، الزمان الوحيد الموجود (قبلكم)، قبل الصحابة، والراجح من كلمة (راهب) أنها وقعت بعد عهد عيسى لما تفرق الناس، وحصل الضلال في شريعة عيسى، وبقي رهبان قلة على دين عيسى على دين التوحيد، وقبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم.

أهذه القصة تجربة حية مرتبطة بكل زمان ومكان إلى قيام الساعة

أهذه القصة تجربة حية مرتبطة بكل زمان ومكان إلى قيام الساعة ثانياً: من فوائد تجريد القصة من التفاصيل الإضافية: أن هذه القصة تصبح تجربة حية غير مرتبطة بزمان أومكان، تجربة حية كأنها قائمة اليوم، يعيشها كل المسلمين، كأنها قائمة يستفيد المسلمون منها إلى قيام الساعة، لو صار فيها زمان أو مكان معين، كان الناس قالوا: نعم. هذه خاصة بذلك الزمان، مثل بعض الناس عندما نقول لهم الآن: يا جماعة! هذه سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول لك: نعم. هذا كان على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم. يا جماعة! هكذا كان واقع الصحابة ما كان هناك من المنكرات كذا وكذا، يقول: نعم. ذاك كان واقع الصحابة، يحتجون بالزمان، ذاك الزمان مختلف نحن الآن تطورنا وتغيرنا.

ميزة أهل الحق الوضوح وميزة أهل الباطل الدجل والتضليل

ميزة أهل الحق الوضوح وميزة أهل الباطل الدجل والتضليل ثم قال: (كان ملكٌ فيمن كان قبلكم، وكان له ساحر) فكلمة (ساحر) تحدد حال الملك، هل كان ملكاً صالحاً مثل سيلمان عليه السلام؟ لا. وإنما كان كافراً، وكان يستخدم هذا الساحر في استعباد الناس، يستخدم السحر والشعوذة والتضليل والخرافات للسيطرة على عقول الناس، وهذا الساحر واحد من أعوان الباطل الذين كانوا يساعدون هذا الملك الظالم في استعباد من تحته من الرعية. والسحر -أيها الإخوة- دائماً في كل مكانٍ وزمان ضد الدين والعقل؛ لأن السحر قائم على الخرافة والشعوذة، والدين قائم على الوضوح، الدين واضح جداً فهو عقيدة صافية، فالسحر ضد الدين على طول الخط، وهو كذلك ضد العقل الصحيح، العقول الصحيحة ترفض السحر، والشعوذة، والخزعبلات، والخرافات، هكذا العقول الصحيحة المستنيرة بنور الله عز وجل.

خطورة تعريض الطفل للكفر والزندقة والبدع والخرافات

خطورة تعريض الطفل للكفر والزندقة والبدع والخرافات ثم قال: (فلما كبر، قال للملك: إني قد كبرت، فابعث إلي غلاماً أعلمه السحر) كبِر، أم كبُر، بكسر الباء كبِر، في لغة العرب تستخدم (كبِر) للسن، يعني: إذا تقدم رجل بالسن يقال: كبِر، أما بضم الباء، فتستعمل للقدر، يعني: إذا صار الشيء عظيم القدر وكبير القدر يقال: كبُر. ما هو الدليل من القرآن؟ {كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ} [غافر:35] {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [الكهف:5] هذه الكلمة قدرها في الشرك عظيم، فالله عز وجل قال: {كَبُرَتْ كَلِمَةً} وفي رواية الترمذي في هذا المقطع يقول الساحر: (انظروا لي غلاماً فطناً لقناً فأعلمه علمي، فإني أخاف أن أموت فينقطع منكم هذا العلم) سبحان الله! الساحر هذا خائف على ماذا؟ خائف على هذا العلم المهم سوف يضيع، وسوف ينقرض، وهو يريد غلاماً ليعلمه السحر حتى يحصل استمرارية لهذا السحر في الأرض. فانظروا -أيها الإخوة- كيف تفسد أجواء الكفر الفطر السليمة؟! الأطفال الآن عندما يخرجون إلى الدنيا يخرجون صفحات بيضاء ما فيها شيء، فطرة سليمة، فمن الذي يخرب فطر الأطفال؟ إنها هذه الجاهليات الممتلئة بالكفر والسحر والزندقة والضلال والبدع والخرافات والإلحاد والشهوات والأهواء، هذه التي تفسد عقول الأطفال الصغار، ينشئون على الكفر، إفسادٌ لفطرته، الله فطر الناس على التوحيد فطرة الناس {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30] فإذاً رصيد الفطرة مهم للدعاة إلى الله عز وجل لعرض الحق، فمن رحمة الله أنه جعل لك -يا أخي الداعية- عندما تعرض الكلام على ناس ما تأثروا بشيء مطلقاً صفحات بيضاء يقبلون الحق مباشرة، لأن الله فطرهم على هذا، لذلك الطفل ما يعارضك لو قلت له: الله أمرك بكذا، وأن تفعل كذا، تصادف موقعاً في نفسه ويقتنع، لأنه موافق الفطرة، لكن انظر إلى الطفل الذي يعيش في أجواء الشرك والكفر، كيف ينشأ؟ الآن أطفال المسلمين في أقطار كثيرة من الأرض يتعرضون للأخطار، فكما سمعنا أن أطفال المسلمين في أفغانستان يرسلون إلى روسيا ليتعلموا الإلحاد والشيوعية، وهناك مؤسسات تنصيرية في العالم قائمة على تجميع أطفال المسلمين الأيتام، وضحايا الحرب، والذين ليس لهم مُعين ينفق عليهم، مثل أطفال المسلمين في لبنان -مثلاً- يُؤخذون إلى الخارج إلى سويسرا وغيرها من البلاد لكي يُدخَلوا في مدارس تنصيرية، فتتلف فطر هؤلاء الأطفال، وإذا رجع، يرجع شيوعياً أو نصرانياً كافراً ملحداً لا عقيدة له، هذا بسبب هذه الكلمة: (فابعث إلي غلاماً أعلمه السحر) نستنتج خطورة تعريض الأطفال لأجواء الكفر والشرك والبدع، الذين يأخذون أطفالهم إلى الخارج عليهم أن يتقوا الله عز وجل، والذين يأخذون الأطفال إلى الخارج ويدخلونهم المتاحف، وما يرى في المتاحف؟ الأصنام، ويذهبون بهم إلى المعابد على أنها آثار، ويدخلونهم المعبد الفلاني، ويشاهدون الآلهة الفلانية، والطفل هذا صفحة بيضاء، تتسطر فيه الآن سطور الشرك في نفسه، فإذاً -أيها الإخوة- مسئولية أمام الله عز وجل الاهتمام بأطفالنا، وأطفال المسلمين الذين يحتاجون إلى إعانة حتى لا يتسلط عليهم الكفرة فيأخذونهم.

توجيه الطاقات النادرة والذكية إلى خدمة الدين

توجيه الطاقات النادرة والذكية إلى خدمة الدين الملاحظ هنا -أيضاً- لما قال: (انظر لي غلاماً فطناً لقناً) يعني: ذكي ويفهم بسرعة، فأهل الجاهلية يحرصون على انتقاء العينات من الأطفال التي لها استعداد للفهم السريع، وعندها ذكاء لكي يعلمونهم الباطل، أفلا يكون أحرى بنا نحن المسلمين أن نوجه الطاقات النادرة في بعض الأطفال إلى وجهات الخير، لو أن واحداً وجد من طفل مثلاً حافظة قوية جداً، لماذا لا يوجهه إلى حفظ القرآن؟ لماذا لا ننتقي من أطفال المسلمين؛ الناس الذين فيهم نبوغ فنعلمهم شرع الله عز وجل، ونعلمهم الأشياء المفيدة حتى الأشياء الدنيوية؟ نوجه طاقاتهم، نوجه هذه العقلية الجبارة التي تكون موجودة في بعض الأطفال إلى معرفة الحق، ودراسة الحق والتمرن والسير عليه وتطبيقه، لا نحتقر أنفسنا، مجتمعات المسلمين فيها طاقات كبيرة تحتاج إلى من يوجه ويستغل فقط، فإذاً شعور المسلمين بالمسئولية تجاه أولادهم من الأمور المهمة. ملاحظة أخرى في هذا المقطع: (فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت، فابعث إلي غلاماً أعلمه السحر) يعني: هناك شيء غريب وهو: أن هذا الساحر الآن إذا مات ماذا سيستفيد من تعليم الغلام بعد موته؟ هذا الساحر سيموت، يقول: أنا كبرت في السن وسأموت، أعطني غلاماً أعلمه السحر، ماذا يستفيد؟ لا يستفيد شيئاً، ولن يأخذ زيادة لأنه سوف يموت، إذاً لماذا يعلم الغلام السحر؟ لأنه -أيها الإخوة- لو طبعت النفس على الباطل فإن أهل الباطل يتبرعون مجاناً لتعليم باطلهم، لو صار الواحد منطبعاً ومنغمساً في الباطل بكامله كله باطل في باطل، هذا يصل إلى مرحلة -والعياذ بالله- أنه يتبرع تبرعاً بدون مقابل ليضل الناس، لأن الكفر انطبع في قلبه، فصار شيئاً طبيعياً أن يعلم الناس الكفر حتى بدون مقابل، وبدون أجر.

إذا أراد الله الهداية للعبد يسر له الأسباب الشرعية

إذا أراد الله الهداية للعبد يسر له الأسباب الشرعية ثم قال: (فبعث إليه غلاماً يعلمه، وكان في طريقه إذا سلك راهب) هذا الغلام لما ذهب الآن يتعلم يخرج من بيته إلى الساحر ليتعلم، كان في طريقه راهب، والرهبان كما ذكرنا هم النصارى الذين كانوا على دين عيسى الصحيح، ثم تحرف بعد ذلك، هذا الراهب كان موحداً كما هو واضح من سياق الحديث، يعني: يوحد الله، لا يقول: عيسى ولد الله، ولا يقول: عيسى ثالث ثلاثة، كان على التوحيد، يعني: على دين عيسى الأصلي الذي بدون تحريف، والراهب: كلمة تقال على الإنسان المنقطع عن الدنيا وملذات الدنيا ومتفرغ للعبادة، والرهبانية كانت شيئاً مشروعاً في دين النصارى، لكن في الإسلام لا يوجد شيء اسمه انقطاع عن الدنيا في العبادة وما تتصل بالدنيا، لا، الإسلام طريق الآخرة والدنيا مع بعض، إذا احتسبت نومتك لله عز وجل، أجرت على النوم، مع أنه شيء دنيوي، إذا نويت في أكلك التقوي على طاعة الله، صار هذا الأكل فيه أجر، وليس الأجر فقط في الصلاة والدعاء والزكاة والصيام، يصير الأجر حتى في الأكل والشرب والنكاح، إذا نوى الإنسان أن يعف نفسه، قال معمر: أحسب أن أصحاب الصوامع كانوا يومئذٍ مسلمين، لأن هذا الراهب كان في صومعة وهو: بناء يعتكف فيه، انظر الآن يا أخي المسلم كيف ييسر الله عز وجل الأسباب لكي يهتدي هذا الغلام، أقدار الله تجري بطرق عجيبة، لا يمكن أن يتوقعها البشر، كيف بدأت القصة؟ بدأ معرفة التوحيد من أين؟ الآن القصة انتهت أن الناس كلهم آمنوا، ولكن كيف كانت البداية، كيف جرى قدر الله حتى تحصل هذه النهاية؟ أنه كان يوجد راهب في الطريق، يعني: لو كان الساحر في مكان ثانٍ، فلو أن الغلام ذهب من طريق آخر، ربما كان ما مر على هذا الراهب، وما عرف أصلاً أن هناك توحيداً وما عرف الله، فانظر كيف جرى قدر الله، يسر الله الأسباب أن جعل مكان الراهب في الطريق حتى يمر عليه الغلام ويتربى منه على هذا التوحيد.

ترك التعقيد في عرض قضايا الدين والعقيدة

ترك التعقيد في عرض قضايا الدين والعقيدة ثم قال: (فقعد إليه وسمع كلامه، فأعجبه) الغلام لما سمع صوت الراهب جلس، تعرف على المكان ودخل وسلم عليه وجلس يستمع منه، وفي رواية الترمذي: (فجعل الغلام يسأل ذلك الراهب كلما مر به- كلما مر به يسأله؛ ماذا تعبد؟ - فلم يزل به ملحاً ومصراً حتى أخبره- الراهب أخبر الغلام- فقال: إنما أعبد الله) والناس أولئك الذين في المجتمع ما كانوا يعبدون الله أبداً، التوحيد ما كان معروفاً، فالراهب قال: إنما أعبد الله. فالآن ننظر -أيها الإخوة- في الجاذبية التي تعرض بها العقيدة الصحيحة، العقيدة الموافقة للفطرة إذا عرضت بطريقة صحيحة، تدخل القلب وتستقر فيه، هناك فرقٌ جذري مهم بين عرض المتكلمين -أصحاب علم الكلام من الأشاعرة وغيرهم- للعقيدة وبين عرض السلف للعقيدة، السلف يعرضون العقيدة بنصوص القرآن والسنة، مع شرح الأشياء التي ينبغي شرحها. أما أهل الكلام فإنهم يعرضون العقيدة بقواعد كلامية، يسمونها: قواطع كلامية، أو براهين عقلية، ما فيها شيء من القرآن والسنة، واجب الوجود، وجائز الوجود، والعدم، والجوهر، والعرض، مصطلحات ما أنزل الله بها من سلطان، هكذا يعرضون العقيدة على الناس، هؤلاء أهل علم الكلام هكذا يقولون: الناس عرض والله جوهر، والجوهر كذا تعريفه، والعرض كذا تعريفه، وضاع الناس، لا يمكن لهذه العقيدة التي تعرض بهذه الطريقة أن تنجح في دخول القلب، ولذلك يصبح إيمان هؤلاء الناس الذين تُعرض عليهم العقيدة بطريقة الفلسفة وعلم الكلام عقيدة باردة معقدة لا تؤدي إلى تحريك الإنسان للعمل ولا إلى خوف الله عز وجل، وهل هي إلا قواعد وكلام وفلسفة؟ فالآن هذا الراهب كيف عرض العقيدة؟ ببساطة شديدة جداً، بالبساطة التي يعرفها هو، والفطر السليمة دائماً عندها ما يدفعها لتقبل الحق.

الإسلام دين الامتحان والابتلاء

الإسلام دين الامتحان والابتلاء ثم قال: (وسمع كلامه، فكان إذا أتى الساحر مر بالراهب وقعد إليه، فإذا أتى الساحر ضربه) لماذا يضربه الساحر؟ لأنه تأخر، هذا الضرب الذي تعرض له الغلام منذ البداية يدلنا على ماذا؟ يدلنا على أن الله عز وجل شاء لهذا الغلام أن يتربى على الابتلاء منذ صغره، الساحر يضرب الغلام؛ لأنه يسمع الحق، هذا ابتلاء يتربى هذا الغلام على الابتلاء منذ البداية، والشخصية المتكاملة هي التي يؤثر فيها الابتلاء تأثيرً إيجابياً، هذا الغلام تعرض للابتلاء في لحظات التكوين، وزمن التربية، وفترة النمو، يعني: منذ صغره تعرض للابتلاء، فصبر على هذا الابتلاء، فكانت النتيجة شخصية قوية ومؤثرة وفاعلة في الواقع، والابتلاء -أيها الإخوة- يناسب طبيعة الدين، الإسلام دين ابتلاءات؛ لأن الناس يفكرون الآن يقولون: نحن نريد إسلاماً سهلاً ما نتعرض فيه للإيذاء، ما نريد واحداً يسخر منا إذا طبقنا الإسلام، نريد ديناً إذا طبقناه لا نتعرض لمصائب ومشاكل، ومن قال: إن الإسلام دين الراحة؟ يقول الله عز وجل: {ألم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:2 - 3] ما هي فائدة الابتلاء والفتن؟ إنها تمحيص: {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:3] لو كان الدين مسألة سهلة بدون متاعب ولا مصائب ولا إيذاء ولا سخرية، ولا همز ولا غمز ولا سجن ولا ضرب ولا شيء، لدخل كل الناس في الدين، ما كان هناك أهل النار، وشطبت هذه النار، لكن لما صار هذا الدين فيه تمحيص وابتلاء وشدة، وفيه ضغط وواقع يضغط عليك، وفيه شهوات وأهواء تحاربك من كل جانب وأنت تصبر على هذه الابتلاءات، هنا تتميز الشخصيات، وهنا يرى الصادق من الكاذب.

جواز الكذب وتقديم الرخصة الشرعية لمصلحة المسلمين

جواز الكذب وتقديم الرخصة الشرعية لمصلحة المسلمين ثم قال: (فإذا أتى الساحر ضربه، فشكا ذلك إلى الراهب) هذه الشكوى -أيها الإخوة- ليست اعتذاراً عن مواصلة الطريق، ولا تذمراً، يعني ما قال له: أنا ضربت من أجلك، من الآن لن آتيك ولن أتعلم منك، ما قصد الغلام بالشكوى التذمر أو الاعتذار عن مواصلة الطريق؛ وإنما شكوى لأصحاب الخبرة لإيجاد الحلول المناسبة للمشكلة، فالناس اليوم عندما يتعرضون لأدنى أذى يتركون الدين، الواحد إذا قال له مديره في العمل: لا تصل في وقت العمل لو وجد زبائن، فلو صليت طردتك من العمل، لأدنى إيذاء تهديد بالطرد من العمل ترك الصلاة. فإذاً أيها الإخوة! الإيذاء الذي يحصل للإنسان من جراء التمسك بالدين، إذا صبر عليه الإنسان هذا، يعني أنه مسلم حقيقي، وإذا ما صبر، يعني أنه مسلم مزيف، هنا ماذا يقول الحديث؟ (فقال الراهب: إذا خشيت الساحر، فقل: حسبي أهلي، وإذا خشيت أهلك، فقل حبسبي الساحر) لأن هذا الغلام الآن يُضرب من جهتين، إذا ذهب إلى الساحر وجلس عند الراهب تأخر عن الساحر وضربه الساحر، وإذا رجع من عند الساحر إلى أهله في البيت تأخر عليهم، فيضربه أهله، فما هو الحل الذي أوجده له الراهب؟ قال له: إذا قال لك الساحر: لماذا تأخرت؟ قل له: أهلي أخروني، وإذا قال لك أهلك: لماذا تأخرت؟ قل لهم: اليوم كانت المعلومات زيادة، هنا قد يسأل سائل فيقول: أليس هذا بكذب؟ كيف يكذب الغلام؟ وكيف أن الراهب يعلم الغلام الكذب والكذب نعرف أنه محرم؟ فنقول: أيها الإخوة: من رحمة الله عز وجل أنه حرم الكذب، لكن الله أباحه في مواضع، فأباح الكذب مثلاً للإصلاح بين الناس، وأباح الكذب في الحرب؛ حادثة نعيم بن مسعود الثقفي معروفة، لما أسلم في معركة الأحزاب وذهب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (ادفع عنا ما استطعت إنما أنت رجل) أنت واحد افعل الذي تقدر أن تفعله، واليهود محيطون بالمسلمين من الوراء، والأحزاب من كفار قريش وغطفان وغيرهم من الأمام والمسلمون بين فكي الكماشة، هذا رجل واحد ماذا فعل في الحرب؟ كذب كذبة أنهت الحرب كلها- ومن شاء التفاصيل فليرجع إلى كتب السيرة- فإذاً الكذب في الحرب على الكفرة ليس على المسلمين جائز لمصلحة الدين ولمصلحة المسلمين، ولو أن أحداً -مثلاً- سب إنساناً في مجلس، وهذا السب بلغ الشخص الذي وقع عليه السب، وجاءك أنت أحد الذين كانوا في المجلس، وقال: صحيح فلان شتمني؟ فأنت لو أتيت من باب الإصلاح بينهما وقلت له: لا. ما شتمك ما تكلم عليك تكلم على واحد آخر، أنت ماذا قصدت بهذه الكذبة؟ الإصلاح حتى لا يحدث بينهما شقاق، هل يوجد أحد تضرر من هذه الكذبة؟ لا، هل يوجد منها مصلحة؟ نعم، منها مصلحة عظيمة، فإذاً في هذه الحالة أباح الإسلام الكذب في حالات ضيقة جداً، وليس حالات مفتوحة كل واحد يكذب متى أراد، في حالات ضيقة جداً أُبيح الكذب، فالآن مصلحة الدين عند الراهب وعند الغلام تقتضي أن الغلام يكذب، ولو ما كذب هل يمكن أن يتعلم؟ لا، ولو قال الحقيقة: أنا أمر على راهب يعلمني، كانوا أخذوا هذا الراهب منذ زمن، لكنه من أجل مصلحة الدين، والسلامة من الشر وتعلم العلم، صار الكذب في هذه الحالة جائزاً. نلاحظ -أيضاً- هنا أن الراهب اهتم بإيجاد الحل للغلام الذي اشتكى إليه، وهذا يفيدنا نحن الآن لو أن أحداً من الناس اشتكى إلينا في ضائقة يجدها بسبب تمسكه بدينه، فإن من واجبنا نحن أن نسعى في إيجاد حل لمشكلة هذا الرجل، من باب الأخوة الإسلامية لا بد من إيجاد الحلول لمشاكل المسلمين، ليس أن تعرض المشكلة فقط ثم يكون مصيرها في سلة المهملات، يجب أن نوجد الحلول للمشاكل. كذلك مما نستفيد منه في هذا المقطع: أننا إذا وجدنا رخصة شرعية تيسر أمور الناس ولا تخالف الشريعة، ليست أمراً محرماً، وفي نفس الوقت تيسر على الناس ضائقة يعيشونها، فإننا في هذه الحالة نقدم الرخصة لهم، إذا كانت رخصة شرعية، نقدم رخصة لهم، ولا نجعلهم يستمرون في معيشتهم في الحرج، لا، لا نجبرهم على أخذ العزيمة، فلو أن أحداً في الصحراء لم يجد ماء إلا ما يكفيه للشرب كيف يتوضأ؟ لا نقول: والله يا أخي اعطش حتى لو هلكت في سبيل الله عليك أن تتوضأ، بل نقول له: هناك رخصة شرعية وهي التيمم، وآخر يشق عليه أن ينزع الجوارب دائماً وهو في العمل حال البرد، ما نقول: لا. يجب عليك تحمل البرد، وتتحمل هذه العزيمة، نقول: هناك رخصة إذا كانت الرخصة شرعية، فنيسر على الناس في حدود الشرع وليس أن نسلك مسلك الجهلة، فنيسر على الناس بالحق والباطل، بعض الناس يقول: يا شيخ! يسر ولا تعسر والدين يسر، وبالتيسير هذا نبيح للناس شراء الأسهم الربوية، والتعامل بالحرام، وسماع المنكرات، وحضور مجالس اللغو والباطل باسم التيسير، يجب أن يكون التيسير شرعياً موافق للشريعة.

الحق والباطل طرفا نقيض ولابد من التمييز

الحق والباطل طرفا نقيض ولابد من التمييز ثم يقول في الحديث: (فبينما هو كذلك، إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس، فقال: اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب أفضل) هذا القلق جعل الغلام ينتظر اليوم الذي يأتي ويكون فيه حصحصة الحق وتمييز الهدى من الضلال، الآن الغلام جالس ينتظر لأنه فيها جذب فيها قلق وحيرة واضطراب يريد أن يعرف أين الحق، فالآن هنا عدة نقاط: النقطة الأولى: أن القلق والاضطراب نتيجة التلقي من أكثر من مصدر متضادة هو علامة صحيحة تبين صحة التلقي، يعني: لو أن الغلام هذا يأخذ الدين والسحر، وليس عنده إشكال، الدين لأهل الدين، والسحر لأهل السحر، فهل هذا شيء واقع صحيح؟ لا. لا بد أن يحدث التناقض ما دام أن مصدر التلقي فيه تضاد واختلاف، فإذاً نفكر الآن نحن في واقعنا، أجيال المسلمين -أيها الإخوة- اليوم تتلقى الإسلام بطريقة لا تشعرهم بمخالفة الواقع لهذا الدين، الآن بعض المسلمين يتلقون الدين بطريقة عجيبة لا تشعرهم مطلقاً أن واقعهم أصبح واقع منكرات وواقعاً جاهلياً يخالف ما يتلقونه، فلذلك ليس عندهم مشكلة، ليست عندهم قلق، ولا اضطراب ولا تحير ولا شيء، الدين لأهل الدين، والباطل يوجد له مجال، ولا يوجد إشكال، هذا التلقي عندهم تلقٍّ مرضي، غير صحيح، إذ يجب أن يثور القلق والاضطراب في النفس إذا كان الواحد يتلقى شيئين متضادين، فلا بد أن يتحرك أهل الدين لتحديد موقفهم من الواقع، إذا كانت طريقة تلقيهم للدين صحيحة، أما إذا كان لا يوجد تميز ولا يوجد تحديد موقف فعند ذلك نقول: هذا الدين الذي تتلقونه فيه أخطاء، وإلا كنتم أحسستم بالتناقض، لو أن أحداً مثلاً يتعلم أحكام الإسلام، لا يجوز الاختلاط ويذكر الأدلة والأحاديث وهو واقعه في البيت اختلاط، الرجال والنساء يجلسون مع بعض، والأمور تسير عنده ولا يوجد إشكال، ولا يشعر بأي نوع من القلق والاضطراب، هل هذا الأمر صحيح؟ لا. نقول له: إما أن طريقة تلقيك خطأ، فعندك مبدأ في أنه يمكن التعايش بين الحق والباطل، أو أن الشيء الذي أنت تتلقاه خطأ، كأن تكون فاهماً أن الاختلاط مكروه، يعني: خلاف الأولى والأحسن عدم الاختلاط، لكن في حقيقة الأمر الاختلاط حرام في الشرع. فإذاً: شعور الغلام بالتناقض الذي يجعله يترقب بشدة اليوم الذي يأتي ليتبين فيه الحق، فجاء اليوم الذي طالما ترقبه هذا الغلام بلهفة وطول انتظار.

إقرار الفطرة بإحقاق الحق وبطلان الباطل

إقرار الفطرة بإحقاق الحق وبطلان الباطل فهذه الدابة وضعت الناس محبوسين في الطريق (فأخذ حجراً، فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس) يا رب! إن كان أمر الراهب أحسن، والراهب هو الذي معه الحق، فاقتل هذا الدابة بهذه الحجر الصغير، اقتل هذه الدابة العظيمة حتى يمضي الناس، هنا نلاحظ -أيها الإخوة- أن الغلام عنده إحساس بأن أمر الراهب أفضل، كيف عرفنا؟ لأنه بدأ به (أخذ الحجر وقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر، فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس) وهذه نتيجة طبيعية تبين أن الحق عليه علامات، وأن الفطرة السليمة إذا سمعت بالحق، فعلى أقل تقدير ترجحه على الباطل، وهذا يدل على رسوخ الإيمان.

حقيقة الألوهية مرتكزة في الفطرة

حقيقة الألوهية مرتكزة في الفطرة وأيضاً: أول كلمة قالها لما أخذ الحجر: (اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك) كلمة: اللهم، تعني: أن الغلام لما نطق بالكلمة أقر ضمنياً بأن هناك إلهاً موجوداً، ولذلك يسأل الله يقول: (اللهم إن كان أمر الراهب) هذا نتيجة التعليم الذي تلقاه ونتيجة التربية على العقيدة، فرسخت في نفسه فظهرت النتيجة، عرف لمن يتوجه (اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك) وهذه القضية -أيها الإخوة- وجود الله عز ووجل مرتكزة في الفطرة، ولا يمكن أن يجحد بها أي واحد، حتى الشيوعي الكافر يعلم بداخل فطرته أن الله موجود، لكنه يعاند ويكابر، فطرته تخبره بأن هناك خالقاً، وهذه حادثة تروى أن أحد الملحدين تناقش مع موحد مسلم فالموحد المسلم يقول للشيوعي يجادله: هناك خالق والطبيعة ما خلقت، ولا يمكن للطبيعة أن تخلق، الله الذي خلق كذا وكذا، وذاك الشيوعي يقول: مستحيل، لا يوجد خالق، ولا يوجد دين، والطبيعة هي التي خلقت، ونحن جئنا من الطبيعة، فلما احتدم النقاش بينهما وثارت ثائرة ذاك الملحد، فقال في عرض الكلام للمسلم: والله ما الطبيعة خلقتنا، فيقولون: إنه في عرض كلامه حلف بالله أن الطبيعة ما خلقت، يقول الله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل:14] جحدوا بحقيقة الألوهية وهم مستيقنون، لكنهم يجحدونها بألسنتهم لماذا؟ لسببين: الظلم والعلو، وهنا في الحديث يقول: (فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس) فالآن الغلام سأل الله عز وجل أن يقتل الدابة لكي يعرف الحق، أو لكي يمضي الناس؟ فهنا قالوا في شرح الحديث: يحتمل أن تكون (حتى) هنا علة لل Q يعني سبب الطلب من الله عز وجل، فيكون اجتمع الأمران: أمر لنفسه يريد أن يعرف الحق، وأمر آخر: من أجل مصلحة الناس أنهم يمروا، وقيل: إن ما بعد (حتى) غاية للسؤال وليس علة له، يعني: الذي أثار السؤال أمر الراهب والساحر، وغاية السؤال مصلحة الناس حتى يمروا، المهم أن المعنى متقارب وليس ببعيد، وفي قول الغلام: (حتى يمضي الناس) إشارة إلى حب هذا الغلام لمنفعة قومه، ولم يكن أنانياً ويريد أن يبقى في الحق والناس يصير فيهم ما يصير، لكن ما دام يمكن أن يجتمع الأمران أن يعرف الحق وينفع الناس، فلذلك قال في دعائه: (فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس) فيها فائدة أخرى.

إثبات الكرامة للأولياء

إثبات الكرامة للأولياء ثم قال: (فرماها فقتلها) وفي هذه الجملة إثبات كرامات الأولياء، وهو أن الله عز وجل من قدرته أنه يخرق العادة لبعض أوليائه، لا يمكن أن يحصل في العادة أن حجراً صغيراً يقتل دابة عظيمة؛ لكن هذه كرامة لهذا الغلام المتمسك بدينه، أجرى الله على يديه خارقة من الخوارق كرامة له، فالإيمان بكرامات الأولياء من عقيدة أهل السنة والجماعة، لكن المشكلة خلط الناس بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، لأن أولياء الشيطان من السحرة والدجالين والمشعوذين وأرباب الطرق الصوفية المنحرفة يمكن أن يحصل عندهم خوراق للعادة، فتجد بعضهم يضرب نفسه بسيفٍ يدخل في بطنه ويخرج من ظهره ويسحب السيف وما نزلت منه قطرة دم واحدة، أو يدخل في نار موقدة ويخرج منها سليماً ما فيه شيء، وكيف يكون هذا؟ يكون هذا باستخدام الشياطين، إما أنها تلعب بأعين الناس الذين يشاهدون، أو أنها تمنع الحرق عن هذا الرجل بالقدرة التي عند الشيطان لكي يتوهم الناس أن هذا الدجال وهذا الساحر المشعوذ وشيخ الطريقة أنه ولي من أولياء الله، بينما الحقيقة هو ولي من أولياء الشيطان، فإن قلت لي: أولياء الله لهم خوارق وهؤلاء لهم خوارق، كيف نميز بين الحالتين؟ نقول: واقع هؤلاء وواقع هؤلاء هو الدليل، فإن رأيت الرجل الذي حصلت على يديه خارقة من خوارق العادة رجلاً مؤمنً تقياً صالحاً عابداً مستقيماً ليس بصاحب بدعة ولا صاحب هوى الذي صارت له الخارقة فتعرف أنه من أولياء الرحمن، لكن هناك رجل دجال ومشعوذ، ويأكل أموال الناس، ويستخدم الخرافات، ويتعامل مع الشياطين، وعنده الطلاسم وهذه الحجابات، فهنا تعرف أنه من أولياء الشيطان.

التجرد من الحسد والاعتراف بالفضل للآخرين

التجرد من الحسد والاعتراف بالفضل للآخرين ثم قال في الحديث: (ومضى الناس) قتلت الدابة ومضى الناس، في رواية الترمذي التي أشرنا إليها آنفاً: (فقال الناس: من قتلها؟ قالوا: الغلام، ففزع الناس فقالوا: قد علم هذا الغلام علماً لم يعلمه أحد) يعني: الغلام اشتهر عند الناس الذين حضروا الحادثة (فأتى الراهب فأخبره) فالغلام الآن لما حصلت القصة أتى الراهب فأخبره بالخبر، وهذا الإخبار للراهب نتيجة طبيعية لكل من رأى حدثاً مثيراً أن يذهب لمن تلقى منه الدين ليطلعه على ما حصل، أو يطلب منه تفسيراً على ضوء الشريعة على ما حصل، لو أن الناس اليوم رأوا حادثاً مثيراً فكل واحد يرى الحادث يذهب لمن؟ يذهب لمن تلقى منه الدين أو للعالم أو لمن يثق به من أهل العلم والخير والدعوة إلى الله عز وجل فيطلعه على ما حدث، أو يطلب منه تفسيراً إن كان الأمر فيه غموض أو رأياً فيما يحدث، فأجابه الراهب لما أخبره الخبر (فقال له الراهب: أي بني أنت اليوم أفضل مني) هذه الكلمة -أيها الإخوة- كلمة عظيمة جداً يحتاج أن نقف عندها وقفة مهمة نتأمل في هذه الكلمة التي قالها الراهب، ماذا قال الراهب؟ قال: (أنت اليوم أفضل مني) فهذا شيخ الغلام، وهذا مصدر العلم، وهذا الذي يوجه وهو الكبير، كيف يقول لغلام صغير: أنت اليوم أفضل مني؟ هذه الكلمة -أيها الإخوة- كلمة لها وزن، هذا الموقف من الراهب موقف الاعتراف للغلام أنه قد صار اليوم أفضل منه يدل على تجردٍ كامل من هذا الراهب من الحسد، لم يقل: صارت له خارقة وصار أحسن مني أحسده وأكتم مواهبه، لكن قال: أنت اليوم أفضل مني، إن النفوس -أيها الإخوة- فيها مداخل شيطانية كثيرة، منها: حب التميز، وحب ألا يوجد أحد يفوقك، فليس الإشكال أن تكون متفوقاً، لكن الإشكال إذا تفوق عليك أحد أن تعاديه وتحسده، وتحاول أن تمنع عنه الخير الذي جاءه، هذا الإشكال، فالآن الراهب هل قال: أترك لقد صار هذا الغلام أحسن مني؟ لم يقل هذا، وقال له بكل صراحة وبكل وضوح: (أي بني أنت اليوم أفضل مني) فالقضية ليست قضية كبر وصغر، وإنما القضية فهم الدعوة، وتحقيق مصلحة الدعوة، تحقيق منهج الله في الأرض، هذه المسألة، فلو أن إنساناً اليوم فاق شيخه في طلب العلم، وهذا قد يحصل فما هو الموقف السليم للشيخ؟ هنا يقول له: أعطيتك إجازة وليس هناك داعٍ إلى أن تتعلم، يقول: هذا غداً يصبح أحسن مني، والناس يتحولون مني وينتقلون لهذا الجديد الذي صار أحسن مني، فتأخذه العزة بالإثم ويتغلب الحسد والنفسية السيئة، ولكن الراهب تجرد من هذا كله، تجرد بلا حرج مطلقاً (أنت اليوم أفضل مني) وفتح الطريق أمام المواهب الناشئة التي وفقها الله عز وجل، وليس العمر هو الأساس، بل هو الإيمان والكفاءة، والناس طاقات يتفاوتون، هذه المسألة اليوم تلعب أدواراً سيئة في واقعنا، فتجد مثلاً رئيساً تحته موظف، وهذا الموظف مثلاً نشيط وفاهم وتعلم بسرعة، ويأخذ شهادات ودورات مثلاً، ماذا يفعل الرئيس؟ يخاف، يقول: هذا بعد أيام سيأخذ محلي، فيدب الحسد والبغضاء، ويبدأ يحجب عن هذا الموظف كل المعلومات التي تفيده، بل قد يشغله بأشياء تافهة جداً، افعل كذا وابحث هذا؛ أشياء لا تصلح للعمل ولا تنفع العمل بشيء، فيبعد هذا الموظف النشيط عن حيز المسئولية، حتى لا يأخذ مكانه، وقس على ذلك من الأمثلة الكثيرة التي تحدث في حياتنا اليومية، وواقع الحياة اليوم بين الناس من جراء الحسد عندما يتفوق إنسان على إنسان، فلله در هذا الراهب ما أطيب قلبه! وما أشد تجرده لله! عندما اعترف لهذا الغلام، وقال له: (أنت اليوم أفضل مني، وقد بلغ من أمرك ما أرى) ما أرى من الصدق والاعتقاد الحسن، والكرامة التي أجراها الله على يديك، الآن لما قال له: (أنت اليوم أفضل مني) هذه الكلمات ماذا تنتج في نفس الغلام؟ قد تنتج نوعاً من الزهو، ليس الغرور، قد تنتج أشياء من هذا، فلكي يحدث هذا الراهب المربي التوازن في نفس الغلام، ماذا قال له بعدها مباشرة؟ حتى لا يصيبه الغرور، هو الآن حقيقة أفضل من الراهب، هذا قدر الله عز وجل وهذه حكمة الله، لكن ماذا قال الراهب بعدها لكي يحدث التوازن ويزيل السلبيات الناشئة عن الإخبار بالحقيقة الأولى التي لا بد من الإخبار بها؟ لكن فيها سلبية، فكيف تزال؟ قال له: (وإنك ستبتلى) فكلمة إنك ستبتلى ماذا تحدث؟ لأن هذا التشريف الذي حصل الآن ليس بلا مقابل، وإنما سيعقبه تكليف وابتلاء، فهذه الأفضلية لها ثمن، وإنك ستبتلى، فعندما يشعر الغلام بأنه سيبتلى، يذهب عنه الغرور والزهو وغير ذلك.

التكتم والسرية لمصلحة الدين

التكتم والسرية لمصلحة الدين إن الإخبار بالابتلاء سيحدث الخوف عند الغلام فيؤدي إلى أن يخاف وقد يترك، لكن الابتلاء حقيقة لا بد من الإخبار به، فماذا قال له الراهب بعد ذلك؟ قال له: (فإن ابتليت، فلا تدل علي) فيقول ابن علان رحمه الله في شرح الحديث: لماذا الراهب في البداية أخبره بشكل قاطع أنه سيبتلى، ثم في العبارة التي بعدها قال: (فإن) وإن: تدل على التشكيك، لماذا؟ لكي يخفف من الخوف الذي قد ينبعث في نفسه، وحتى لا يقع الكرب في نفس الغلام قبل حلول البلاء الحقيقي، فقال: (فإن ابتليت، فلا تدل علي) هذه كلمة" فإن ابتليت فلا تدل علي" طلب الراهب من الغلام أن يتكتم على الأمر، قال: إن ابتليت وإن عذبت وضربت لا تخبر عني، لأنك لو أخبرت عني، فأنا عدو ولا بد أني أُقتل وأهلك، فحفاظاً على نفسي ولمصلحة الدين بقاء الراهب لا شك، فهنا هذا الكتمان الذي طلبه الراهب من الغلام هل هو هدف وغاية أم وسيلة؟ إنما هو وسيلة، فإذاً الكتمان في طريق السير إلى الله ليس غاية وهدفاً، أن يكون الإنسان متكتماً في الدين، لا، فالدين يحتاج إلى وضوح، لكن في هذه الحالة التي صار فيها مصلحة الإسلام أن هذا الراهب لا يُفشى أمره، فصار التكتم هنا وسيلة لجأ إليه الراهب لجوءاً واضطراراً، وإلا فبروز الشخصيات وكونها قدوات في المجتمع هو الأساس، ولذلك كان الرسل واضحين في الناس، خرجوا أمام الناس، ما قعد الرسول يدعو من طرفٍ خفي ولا أحد يعلم من هو الرسول، كان الرسول يظهر أمام الناس ويعلم الناس.

استخدام الغلام للمعجزات التي أعطاه الله إياها في الدعوة وانتشار أمره

استخدام الغلام للمعجزات التي أعطاه الله إياها في الدعوة وانتشار أمره ثم قال: (وكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص) الأكمه: هو الذي ولد أعمى، والأبرص والبرص: مرض معروف (ويداوي الناس من سائر الأدواء) هنا الله عز وجل أعطى الغلام مقدرة على أن يشفي الأمراض بإذن الله، كما أن الله أعطى عيسى القدرة على إحياء الموتى بإذن الله، فأعطى الله الغلام القدرة على علاج المرضى وإبراء المرضى بإذن الله، فكيف استخدم الغلام هذه القدرات التي أعطاه الله عز وجل إياها؟ لقد انتشر بين الناس، يعالج هذا ويبرئ هذا بإذن الله، يزيل علة هذا، ويداوي هذا (ويداوي الناس من سائر الأدواء) كل الأمراض، فهل سيستخدم الغلام هذه القدرة في جلب الأموال، وفي تحصيل الفلوس من الناس على المداواة؟! لم يكن هذا إطلاقاً، وإنما سيستخدمها أجل وأعظم وأعلى وأغلى من قضية متاع الدنيا، سيستخدمها في إقناع الناس بالتوحيد وعرض العقيدة الصحيحة عليهم، هذه العملية- طبعاً القصة طويلة جداً، ولذلك سوف نقف بعد قليل حتى لا يطول الوقت، ونكمل إن شاء الله في وقت لاحق، لأن عرض القصة يطول بنا- هذه عملية المداواة ماذا سببت للغلام؟ أن ذاع صيته وشاع أمره بين الناس أليس كذلك؟ (فسمع به جليسٌ للملك كان قد عمي) أصابه العمى، فماذا فعل؟ (فأتاه بهدايا كثيرة) عند كلمة (فسمع به جليسٌ للملك) وقفةٌ بسيطة، ذيوع الدعوة وانتشار صيت الدعاة ومعرفة مصدر النور يؤدي إلى استقطاب الناس بشتى طبقاتهم ومستوياتهم، فعند ذلك يقتنع بالعقيدة الصحيحة الغني والفقير والأمير والحقير والصعلوك والعظيم، إذا ذاع أمر الدعوة، يقبل الناس عليها زرافاتٍ ووحداناً، صحيح أن هناك تفاوتاً في التقبل، فأهل الجنة أكثرهم الفقراء، وأول من يدخل الجنة الفقراء، فالفقراء يقبلون أكثر من الأغنياء، والمستضعفون يقبلون أكثر من الجبارين هذا معروف، لكن ذيوع الدعوة مهم حتى تستقطب الناس كافة (فسمع به جليسٌ للملك كان قد عمي فأتاه بهدايا كثيرة فقال- الأعمى للغلام-: ما هاهنا لك أجمع إن أنت شفيتني) كل الهدايا هذه لك أجمع إن أنت شفيتني (قال الغلام: إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله عز وجل) هنا أمر ملفت للنظر، أن الغلام تجاهل أمر الهدايا تماماً، ولا كأنه يوجد هدايا، ولم يقل: أنا ما أريد أن أنتقل مباشرة للأمر المهم، كأن أمر الهدايا مسألة ما طرحت، فقضية الهدايا والأموال تافهة جداً مع أن فيها بريقاً وجاذبية، لكنه تجاهلها (قال: إني لا أشفي أحداً) ركز على المقطع المهم من الكلام الذي هو كلام الأعمى حين قال: (إن أنت شفيتني) ومعروف أن الشفاء بيد الله عز وجل {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80] من أفعال الله عز وجل أنه يشفي أما الناس فلا يشفون، فركز الآن على خطأٍ في العقيدة وفي العبارة، وهذا يدلنا على وجوب تصحيح أخطاء الناس، العامة أحياناً لهم ألفاظ فيها عبارات خطأ، وتدخل أحياناً -أيها الإخوة- هذه العبارات التي نعلمها للأطفال إذا دققت النظر، تجد أشياء من هذه الأناشيد المتداولة، أذكر لكم مثالاً: مرةً خطر في ذهني لفظة مستخدمة جارية، فالولد الآن إذا لم يعرف الإجابة الصحيحة في الامتحان، أو لم يعرف هل يأخذ هذا أو هذا، أو جاءت أمه وقالت: تأخذ الذي بهذه اليد أو الذي في هذه اليد ماذا يعمل؟ عبارة مشهورة يقول: حادي بادي صح؟ وما هي حادي بادي، سيدي محمد البغدادي إلى آخر الكلام؟ فأنا مرة طرأت في ذهني قضية: من هو محمد البغدادي؟ هو ولي من أولياء الله، ولماذا يؤتى بذكره هنا في وقت التحير والواحد لا يعرف ماذا يختار؟ هل سيدي محمد البغدادي هو الذي يرشد الناس إلى الخير وإلى الأحسن؟! وهل هو شخصية وهمية أم حقيقة؟ هذا أكيد أنه مات وأن هذا كلام قديم، وعلى فرض أنه موجود، أليس هذا استعانة بالموتى في الاختيار، فنحن الآن نعلم الأطفال ونسكت عندهم على أشياء مخالفة للعقيدة ومخالفات صريحة.

عدم أخذ الأجرة على الرقية لمصلحة الدعوة

عدم أخذ الأجرة على الرقية لمصلحة الدعوة ثم إن الغلام لما قال له الأعمى: (ما هاهنا لك أجمع إن أنت شفيتني) فهنا بدأ الغلام يصحح عبارة خطأ، يوجد شيء خطأ في العبارة، قال: (إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله عز وجل) فوجهه هنا إلى الشافي الحقيقي وهو الله عز وجل، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك) وفي رواية: (لا شافي إلا أنت وحدك لا شريك لك) فهذا درس لمعاشر الأطباء اليوم الذين يذهب إليهم المرضى يجب أن يستقر في عقل الطبيب وأن يكون من الأشياء التي يضعها نصب عينيه، أول ما يأتيه المريض ويعطيه العلاج يوضح الطبيب للمريض من الشافي حقيقة ومن الذي يشفي وإني أنا الطبيب لا أملك شيئاً ولا أملك شفاءً وهذه مجرد أسباب قد تصيب وقد تخيب، وإذا أصابت وشفت، فإن الله هو الذي شفى وهذا الدواء سبب فقط لكن الفاعل الحقيقي الذي شفى هو الله عز وجل، وقس على ذلك من الأشياء الكثيرة التي يحتاج العامة إلى توجيههم فيها. وفي إهمال الغلام لأمر الهدايا درسٌ عظيم في أن منهج الرسل في عرض الدعوة: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:86] الواحد يعرض الدين على الناس لا ليسألهم أجراً ويأخذ منهم مالاً، لا يعظهم لكي يأخذ منهم أجراً، فأجره على الله عز وجل، فهنا الغلام كان من الممكن أن يأخذ، ولأجل أنها رقية قد يقال: ما فيها حرج، لأنه يجوز أخذ المال على الرقية، فهذا قرأ عليه أو دعا له شفي، لكن الغلام هنا هدفه عظيم أعظم من ذلك، بل إنه إذا أخذ المال سقطت هيبته وتقل عظمة الشيء الذي يدعو إليه، لذلك ترى الناس الآن عندما يموت لهم شخص فمن البدع أنهم يستأجرون قارئ قرآن ليقرأ في العزاء، فيجلس الناس الآن وبعض الناس يخشع مع الآيات، فإذا انتهى القارئ، طلب الحساب، وأعطاه وحاسبه، فماذا يكون موقف الناس الآن؟ تذهب كل التأثرات بمجرد ما رأوا القارئ يأخذ الفلوس فيذهب كل شيء، لأن القضية مادية بحتة، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: (أكثر منافقي أمتي قراؤها) حديثٌ صحيح. (إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله عز وجل، فإن آمنت بالله دعوت الله فشفاك، فآمن به فشفاه الله عز وجل) قد يقول أحد: كيف أن الغلام يدخل من مدخل دنيوي؟ يقول: أنت إذا آمنت أدعو لك أن تشفى، ولم يقل له: عليك أن تؤمن بالله، فقط، فإذا آمن يقول له: تعال مادام أنك آمنت، لكنه قال: (إن آمنت بالله دعوت الله فشفاك) فهذا أسلوبٌ لا بأس فيه ولا حرج إن شاء الله، بل إن باباً من أبواب الزكاة: المؤلفة قلوبهم، فيُعطى بعض الناس من أموال الزكاة لكف شرهم أو استجلابهم إلى الإسلام، يعني: إذا كان الولد لا يصلي فإذا أعطيته فلوساً صلى، قد يقول أحد: لا تعطه فلوساً حتى لا يتعود فيصلي لأجل الفلوس، نقول له: لا. أعطه الفلوس، وإذا صلى كافئه مكافأة مادية، لماذا؟ لأنه الآن صحيح أنه يندفع من أجل شيء مادي، لكنه غداً في المستقبل عندما يدخل في الصلاة أكثر وأكثر، ويستشعر فائدة الصلاة، ويستشعر عظمة الله عز وجل وهو يصلي ستزول القضية المادية ويصبح يصلي حتى لو لم تعطه شيئاً، فالخلاصة: لا بأس أن يكون المدخل على الناس لكي يدخلوا في الإسلام أو استجلابهم إلى الدين أو تقريبهم إليه أن يكون في البداية شيئاً مادياً، لكن يستمر الإنسان الصافي النقي بحيث أن الناس في الأخير لا يعتمدون على المادة فقط، لكنه بابٌ على أية حال من أبواب الإسلام وهو: المؤلفة قلوبهم. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم ممن يدركون هذا الشهر، فيصومونه ويقومونه، ونسأله عز وجل أن يجعلنا وإياكم من المقبولين، وأن يجعلنا وإياكم من التائبين، وأن يكثر ثوابنا ويعلي درجاتنا في الجنة.

وضوح المنهج في الدعوة إلى الله عز وجل

وضوح المنهج في الدعوة إلى الله عز وجل الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. كنا قد بدأنا -أيها الإخوة- في المرة الماضية بحديث أصحاب الأخدود وقصة ذلك الغلام المؤمن الذي سخره الله عز وجل فجعله سبباً لهداية الناس، ونحن نتابع -أيها الإخوة- معكم في هذه الليلة إن شاء الله هذه القصة وما نستطيع أن نعرج عليه من فوائد وعظات وحكم تؤخذ من هذه القصة العظيمة، وهذه السيرة الفذة لتلكم الأمة التي أراد الله عز وجل لها أن تهتدي إلى دين الله تعالى. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فأتى الملك) وهذا الذي أتى هو الأعمى، وقد سبق أن ذكرنا مختصر القصة أن ملكاً كان في بلد، وكان له ساحر، فأراد الساحر غلاماً يعلمه السحر، فانتقى له غلاماً ذكياً فصار يعلمه، وكان راهب على طريق الغلام، فتعلم منه الإسلام ثم إن الله أجرى على يد الغلام معجزات منها: قتل الدابة وشفاء المرضى بإذن الله عز وجل حتى سمع به جليسٌ للملك كان قد عمي فأتاه بهدايا كثيرة، فعرض الغلام عليه الإسلام فأسلم هذا الرجل الجليس، ثم إن الله رد عليه بصره (فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس، فقال له الملك: من رد عليك بصرك؟) استغرب الملك من هذا الأعمى الذي كان بالأمس لا يبصر واليوم يأتي ويجلس في المجلس يفتح ويرى: (فقال له الملك: من رد عليك بصرك؟ قال: ربي) يقول الجليس: ربي، وانظروا -أيها الإخوة- إلى هذا الوضوح في هذه الكلمة، قال: ربي، الوضوح هنا في الإجابة هو نتيجة طبيعية للوضوح في التلقي، لما كان تلقي هذا الجليس واضحاً بأن الله عز وجل هو الذي يشفي وهو الخالق، فكانت إجابته واضحة في سؤال الملك الذي قال له: (من رد عليك بصرك؟! قال: ربي) فإذاً أيها الإخوة ينبغي أن يكون تلقينا للإسلام فيه وضوح يجب أن تكون الفكرة واضحة، يجب أن يكون المنهج الذي يتربى عليه المسلمون واضحاً حتى تكون الإجابات على الشبهات والتساؤلات التي تطرح إجابات واضحة، أما إذا كان هناك غبش في الإسلام الذي يدرس طبعاً في طريقة عرض الإسلام، فإنه لن تكون هناك إجابات واضحة عن الشبهات والتساؤلات التي تطرح من قبل أعداء الإسلام (قال: ربي، قال: ولك ربٌ غيري؟!) هذا الملك الكافر الطاغية كان مستبداً، كان مدعياً الألوهية، فيقول بكل تبجح ووقاحة يقول: (ولك ربٌ غيري؟! قال الجليس: ربي وربك الله) وهذه النفسية -أيها الإخوة- التي تصل إلى حد ادعاء الألوهية من دون الله عز وجل ينبغي أن يتوقف عندها أهل الحق ليروا طبيعة هذه النفسية المماثلة لنفسية فرعون لعنه الله الذي قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] نفس المنطق، وهذا هنا يقول: (ولك ربٌ غيري؟!) نفس المنطق ادعاء الألوهية وفي رواية الإمام أحمد بسياق مشابه، لكن في تفصيل أكثر لهذه النفسية يقول: (من رد عليك بصرك؟! قال: ربي، قال: أنا؟! قال: لا، قال: ولك ربٌ غيري؟! قال: نعم) انظر كيف يقول هذا: أنا؟! فيقول له: لا. ربي وربك الله، فإذاً قد يصل الكفر في مرحلة من مراحله لدرجة أن يدعي أناسٌ الألوهية من دون الله، وقد يكون هذا الادعاء قولاً ولفظاً مثلما قال هذا، وقد يكون حكماً وواقعاً، فإذا كان هناك أناس يشرعون للناس من دون الله عز وجل، فهذا ادعاءٌ للألوهية من دون الله تعالى بالفعل، قد لا يكون واضحاً بالقول، ولكنه على أية حال منازعة لله عز وجل في حقٍ عظيمٍ من حقوق الألوهية، وهو التشريع. (فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام) أُخذ هذا الجليس، فصُب عليه العذاب حتى دل على الغلام (فجيء بالغلام) وهنا هذا الطاغية لم يقتل الجليس مباشرةً، هو ينوي قتله كما سنرى، لكن ما قتله مباشرة؛ لأنه أراد أن يعرف من وراءه، ومن أين أتى بهذا الكلام استقصاء لكل من يحمل العقيدة الصحيحة. (فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام، فجيء بالغلام، فقال له الملك: أي بني قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل؟!).

الطغاة يستميلون أهل الحق إما بالترغيب أو الترهيب

الطغاة يستميلون أهل الحق إما بالترغيب أو الترهيب انظر إلى هذه العبارة العجيبة أولاً: استهلت بكلمة عاطفية، (أي بني)، يريد هذا الطاغية أن يستجلب الغلام ويستميله، فيأتي له بهذه العبارة أو بهذه الكلمة التي فيها نوع من العطف -أي بني- وهذا ليس أبوه، لا أبوة نسب، ولا أبوة تربية أو تعليم، فهذه الألفاظ المعسولة التي تستخدم في استمالة أهل الحق لعلهم يرجعون عن حقهم، (أي بني قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل). فإذاً هنا هذا الطاغية ينسب إبراء الأكمة والأبرص إلى السحر لماذا؟ لأنه يريد أن يُعمي الحقائق ويُضيع هذه المبادئ التي استقرت في نفس الغلام، يريد أن يحرف الطريق ويقول للغلام: إن هذا الإبراء الذي أنت تفعله ليس من عند الله، وإنما هو بسبب السحر، يقول: بلغ من سحرك أنك تبرئ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل، إلى هذه الدرجة وصل بك السحر، أي: كأنه من باب الإعجاب، ولكن أهل الباطل دائماً يريدون أن يفسروا الحق بأي شيء باطل دون الحق. ولذلك بماذا فسر أنصار قريش القرآن؟ القرآن المعجز الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، بماذا فسروه؟ قالوا: ساحر، كاهن، شاعر، مجنون، أي سبب، المهم إلا أن يكون القرآن من عند الله، فهم دائماً يريدون أن يفسروا الحق ويعزوا الحق إلى أي شيء آخر، إلا المصدر الصحيح للحق. وكأن هذا الرجل يريد أن يقول لهذا الغلام: إن عندك قدرة ذاتية تشفي بها المرض، يريد أن يثير في نفس الغلام نوعاً من التكبر والغطرسة، ويصرف هذا الغلام عن السبب الحقيقي في الشفاء، لكن أنى له ذلك، وقد استقر في نفس الغلام أن الشفاء من عند الله، قال: فقال: (إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله). هنا يأتي الرد من الغلام على هذه الشبهة والفرية، فالغلام ما سكت، بل قال: إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله، فرد الشفاء إلى الشافي وهو الله عز وجل، لذلك يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث: (اللهم رب الناس أذهب البأس، اشف أنت الشافي لا شافي إلا أنت) وفي رواية: (لا شفاء إلا شفاؤك، شفاءً لا يغادر بلاءً ولا سقماً) هذا الدعاء الذي يدعى به للمريض، يدعى به لمن كان به مرض. فإذاً: الشافي هو الله عز وجل: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80] ولقد كان هذا الغلام -أيها الإخوة! - له أفعال كثيرة، وجهود كبيرة حتى إن هذا الملك سمع بها، فقال: تفعل وتفعل، أي: تفعل هذه الأشياء، فقد كان يسمع عن أخبار هذا الغلام، (إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله، فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب).

بداية الابتلاء الحقيقي

بداية الابتلاء الحقيقي هنا أيها الإخوة! تأتي نقطة هامة، وهي: صفة البشرية التي هي ملازمة لكل إنسان، فالإنسان بشر، والبشر من صفاتهم أنهم ضعفاء: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً} [النساء:28] في مراحل ضعف، وهناك حدٌ معين يصل إليه الإنسان ولا يستطيع أن يتحمل أكثر منه. هذا الغلام صغير ماذا يستطيع أن يقف أمام هذه القوة الباطشة والتعذيب الكبير، وإلى أي درجة يستطيع أن يتحمل؟ لا يستطيع أن يتحمل كثيراً، لأنه بشر، صحيح أن الراهب كان قد أوصاه، قال له: فإن ابتليت فلا تدل عليَّ، هذا صحيح، والغلام يودّ ألا يخبر عن الراهب، لأنه يعلم بأنه إذا أخبر عنه فإن الراهب سيقتل. لكن أمام هذا التعذيب، ما استطاع أن يصمد، وليست خيانة، فما أخبر به على سبيل أن يُوصل إلى ذلك الرجل فيقتل، لا، لكن ما استطاع أن يتحمل أكثر من ذلك، لأنه بشر!! إذاً: الناس -أيها الإخوة! - يعذرون إذا سلط عليهم شيءٌ أكثر من طاقتهم فلابد أن نعذرهم فيما يتعرضون له، وهذا الاعتراف الذي أدلى به الغلام لا يحط من قدره، لا يأتي أحد يقول: إن هذا الغلام انتهى وسقط الآن، ما دام أنه اعترف على الراهب، إذاً صار ليس له قيمة، لا تبقى له قيمته، بل تبقى له شخصيته، وتبقى له جهوده الكبيرة جداً، والتي لم تنتهِ بعد، فما سيأتي أعظم مما مضى، وما سيأتي بعد الاعتراف أعظم مما قبله. (فجيء بالراهب فقيل له: ارجع عن دينك، فأبى) فعلم بأن هذا هو مصدر العقيدة الصحيحة، (فدعا بالمنشار فوضع المنشار على مفرق رأسه فشقه بالمنشار حتى وقع شقاه) وهو صامد لم يتزحزح ولم يتراجع، ولم يتخل عن هذه العقيدة التي اعتقدها واستقرت في قلبه، (ثم جيء بجليس الملك فقيل له: ارجع عن دينك، فأبى فوضع المنشار في مفرق رأسه، فشقه به حتى وقع شقاه). هذا الجليس كم له منذ أن أسلم؟ هنا العجب أيها الإخوة! شخص كافر يعرض عليه الإسلام غلامٌ فلما تبين له الحق اعتنقه، وجاء في اليوم الثاني وجلس وهو مسلم، ثم عذب حتى دل على الغلام، وأتي بالغلام حتى دل على الراهب، وأتي بالراهب فشق نصفان، أمام هذا الجليس، أي: أن مدة إسلام الجليس قليلة وقتل صابراً محتسباً. فالشاهد من الكلام أن العقيدة الصحيحة إذا استقرت في النفوس، فإنها لا تحتاج إلى فترة طويلة جداً حتى تتصف بصفة الثبوت، بل إنها قد تتصف بصفة الثبات إذا توفرت فيها الشروط، فاستقر الإيمان في سويداء القلب، ولذلك ورد في السيرة النبوية أن رجلاً كافراً أتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فأسلم والرسول صلى الله عليه وسلم في معركة، أسلم ودخل الإسلام فكان أول واجب أن يقاتل، لأنه في وقت جهاد، فدخل المعركة فقاتل وقتل وهو ما سجد لله سجدة واحدة، يدخل في الإسلام ثم يقتل في لحظات! يقتل على هذا الدين، صابراً على هذا الدين، لأن الإسلام -أيها الإخوة! - لما دخلت العقيدة في هذه القلوب ما كان دخولاً بارداً. وإنما كان دخولاً حاراً بأدلة وإثباتات وبراهين نابعة من الفطرة، فإذاً كثيرٌ من المسلمين اليوم لا يثبتون مع أنهم صاروا مسلمين أربعين سنة، أو ثلاثين سنة، أو عشرين سنة، لا يثبتون، يزل أمام الشهوات والأهواء، وربما يعتقد عقائد فاسدة، مع أنه صارت له ثلاثون أو عشرون سنة مسلماً، وهذا الآن رجل أمامنا ما صار له إلا أيام حين اعتنق الإسلام يرى أمامه رجل يشق نصفين، ويعلم أنه سيلاقي نفس المصير، ومع ذلك يثبت.

السر في قتل الغلام بطريقة أخرى

السر في قتل الغلام بطريقة أخرى ثم جيء بالغلام، لماذا أخر الغلام يا ترى؟ لماذا لم يُقتل الغلام في البداية؟ لعل هذا الطاغية أراد أن يرى الغلام بعينيه مصرع الاثنين، مصرع الراهب ثم مصرع الجليس، لعله إذا رأى بعينيه مصرع اثنين أمامه وهو صغير فقد يتراجع، أليس كذلك؟ فلذلك أخر الغلام للنهاية، (ثم جيء بالغلام فقيل له: ارجع عن دينك فأبى، فدفعه إلى نفرٍ من أصحابه)، وكلمة نفر: أي: جماعة من الناس، وهذه من الكلمات في اللغة العربية التي لا واحد لها إلا من لفظها، يعني: كلمة نفر جمع ليس لها مفرد. إفهناك كلمات في اللغة العربية مفرد ليس لها جمع، أو جمع ليس له مفرد، هذه منها (فدفعه إلى نفرٍ من أصحابه)، هذا الملك دفع الغلام إلى نفرٍ -مجموعة من الجنود- من أصحابه، فقال: (اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا) سمى لهم جبلاً معيناً مرتفعاً (فاصعدوا به الجبل فإذا بلغتم ذروته، فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه) خذوه الآن إلى الجبل واصعدوا الجبل، في قمة الجبل اعرضوا عليه الرجوع فإن رجع عن دينه وإلا فألقوه من فوق الجبل. إذاً: لماذا لم يُقتل الغلام بنفس الطريقة التي قتل بها من قبله؟ لماذا لم يُنشر الغلام بالمنشار وإنما أعطي إلى هؤلاء الجنود ليذهبوا به إلى الجبل ويطرحوه من فوق الجبل؟ الذي يفكر في هذه النقطة يجد أن هناك أسباباً: منها: أن هذا الغلام الآن بعدما صار يداوي الناس من الأمراض، صارت له شعبية كبيرة بين الناس، فإذاً ليس من مصلحة هذا الطاغية في هذه الحالة أن يُقتل الغلام هذه القتلة وإنما يكون هنا من المصلحة إن صحت تسميتها بهذا الاسم أن يُذهب به إلى مكان بعيد ويقتل قتلة يظن الناس أنها طبيعية، فقد ذهب يتمشى وانزلق من فوق الجبل ومات. كذلك أن الطاغية أراد من هذا الغلام أن يكسبه إلى صفه، يريد أن يبقيه حتى آخر لحظة لعله يرجع؛ لأن الغلام عنده قدرات متميزة، ومن مصلحة هذا الطاغية أن يكسب هذا الرجل صاحب القدرات إلى صفه، فهو يريد أن يعطيه فرصة أكبر، اذهبوا به إلى جبل كذا ثم صعدوا به الجبل وهذا يأخذ وقتاً، ثم من فوق الجبل هددوه، لعله في طريق الذهاب وصعود الجبل في هذه الفترة قد يراجع نفسه، وقد يعود إلى ما يريده ذلك الكافر. كذلك إذا نُشر الغلام بالمنشار فإن هذه قتلة سيستبشعها الناس لماذا؟ لأنه غلام صغير وينشر بالمنشار؟! هذه بشعة تثير الناس لذلك لا بد من إحضار وسيلة غير مستبشعة، تردى من جبل، سقط من جبل، كأنها تبدو بغير فعل فاعل، (ثم جيء بالغلام فقيل له: ارجع عن دينك فأبى). فالمهم أن هؤلاء الجنود أخذوه فذهبوا به وصعدوا به الجبل، فوقفوا الآن على قمة الجبل وهذا الغلام يُساوم على عقيدته قالوا له: ارجع عن دينك فما رجع عن دينه، فالآن سيطرحوه بالتأكيد أنهم سيلقوه، ماذا يملك هذا الغلام الأعزل؟ لا قوة جسدية فهو واحد أمام هذا الجمع من الناس لا يملك شيئاً، عندما يقف المؤمن أعزل أمام عدد من الكفرة الطغاة ماذا يملك؟ لا يملك إلا اللجوء إلى الله عز وجل.

أهمية لجوء الداعية إلى الله عند اشتداد الكرب

أهمية لجوء الداعية إلى الله عند اشتداد الكرب يجب أن يكون لجوء المؤمن إلى الله عز وجل دائماً في ساعات الشدة والمحنة والرخاء وفي جميع الأوقات يجب أن يكون اللجوء إلى الله عز وجل، وهنا يتجه هذا الغلام إلى السند الحقيقي، إلى ركنٍ شديد، لا يُوجد أشد منه، إلى المعتمد الأول والأخير وهو الله عز وجل، فيقول متوجهاً لربه عز وجل: (اللهم اكفنيهم بما شئت) يرفع ويدعو (اللهم اكفنيهم بما شئت) اللهم أنت تكفي من الشر فاكفني هؤلاء، كلمات معدودات، بالطريقة التي تريد وبما تشاء يا رب! اكفني هؤلاء الناس (فرجف بهم الجبل) هذه نتيجة الدعاء وهذه نتيجة اللجوء وصدق اللجوء إلى الله عز وجل (فرجف بهم الجبل فسقطوا وجاء يمشي إلى الملك) سبحان الله العظيم! قدرة الله عز وجل ليس لها حد، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو على كل شيء قدير، أناس على الجبل والغلام معهم فيرجف الجبل ويسقطوا كلهم إلا هو يسلم من السقوط، ويأتي يمشي فيدخل مرة أخرى، هذه النتيجة لصدق التوجه إلى الله عز وجل. أيها الإخوة! وهنا درسٌ عظيم، أن الناس إذا عجزوا عن الوسائل فلا ييأسوا من رحمة الله، لأن الإنسان قد تنحل المشكلة الكبيرة عنده بدعاء. لذلك تسمع كثيراً من القصص واحد يقول انتهينا، كل الأطباء عجزوا وما بقي أمل مطلقاً، الرجل على فراش الموت وقال الأطباء: ودعوا صاحبكم انتهت المسألة، ثم بعد ذلك بقدرة الله عز وجل يشفى هذا الرجل ويقوم من فراشه وسط ذهول الأطباء، كيف حدث هذا؟! إنها قدرة الله عز وجل، ورحمة الله تعالى المحيطة بكل شيء، والله لا يعجزه شيء، لا يقف أمامه أحد، هذه الجزئية من جزئيات العقيدة كم هي ضعيفة اليوم في نفوس كثيرٍ من المسلمين، وإلا لو أن الناس آمنوا بأن الله على كل شيءٍ قدير لما أذلهم ولما استضعفهم أحد. وجاء يمشي إلى الملك فلماذا لم يهرب؟ ويقول: هذه فرصة ما دام أني نجوت أنفذ بجلدي، لماذا جاء يمشي إلى الملك؟ لأن الغلام لديه مهمة، عنده رسالة لم تنته بعد، لا بد من عرض الإيمان على الناس ولا بد من إيضاح الحق، فقد يتراجع هذا الطاغية عندما يرى قدرة الله ويسمع بها، فقد يؤمن، (وجاء يمشي إلى الملك). لو أن واحداً فينا مكان هذا كان قال: فرصة أني الآن أنجو (وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله) علماً أن هذا الطاغية لا يريد أن ينسب الهزيمة إلى نفسه؛ لأنه واضح أنه صار فيه هزيمة، فما قال: ما فعل أصحابي أو ما فعل جنودي، ولكن قال: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله فقط، هنا ما أبرز الغلام عضلات وقال: أنا فعلت طريقة وعملت حيلة فالمهم أني تخلصت منهم وجئت وأنا الآن أتحداك، لا، لم يكن هذا، إن تواضع المؤمن لا يزال ملازماً له حتى في لحظات الانتصار، وهو متواضع لا يفتخر بقوته وليس له من الأمر شيء، قال: (كفانيهم الله) الله عز وجل هو الذي يكفي، الله عز وجل هو الذي كفاني هؤلاء (فدفعه إلى نفرٍ من أصحابه فقال: اذهبوا به فاحملوه في قرقور -سفينة- وتوسطوا به البحر -اذهبوا إلى الوسط حتى لا يصير أي احتمال للنجاة- فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه حتى يغرق ويموت) فأخذوه ونفذوا الأمر فذهبوا به في وسط البحر، كل ما حوله ماء، وعرضوا عليه أن يرجع عن دينه فأبى فأرادوا أن يقذفوه مرة أخرى. ما حيلة الغلام؟ لا شيء، ماذا يستطيع أن يفعل؟ لا شيء، هل هناك وسيلة للنجاة؟ لا، فالبحر من جميع الجهات (فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت) نفس الدعاء: (اللهم اكفنيهم بما شئت، فانكفأت بهم السفينة فغرقوا وجاء يمشي إلى الملك)، وهنا قدرة الله عز وجل تتراءى مرة أخرى، وتظهر عياناً، تنقلب السفينة ويغرقوا كلهم ويأتي هذا الغلام يمشي مرة أخرى إلى الملك، وهذه هي معجزة طبعاً الذي هو المشي على الماء، لأنه لا بد أن يأتي من وسط البحر على الماء وهذا الغلام صارت له أكثر من خارقة من الخوارق، وهذه من أعظمها، وجاء يمشي إلى الملك، مرة أخرى ما انتهت الرسالة، لم تنته المهمة، لا بد من إكمال الطريق، وهنا أيها الإخوة! يلفت نظرنا شيء، كيف أن الغلام الآن يريد أن ينجو ويقول: اللهم اكفنيهم بما شئت، فلما ينجو يرجع مرة أخرى ويأتي إلى مصدر الشر الذي يريد أن يهلكه، أي: كيف يأتي موقف يدعو فيه بالخلاص وبعد ذلك يأتي مرة أخرى إلى مصدر الخطر؟ هنا نتعلم درساً مهماً في متى يُلقي الإنسان بنفسه في المهالك، ومتى يحاول أن يتخلص من المهالك. فعندما كان فوق الجبل وفي وسط البحر، إذا قتل الآن هل حصلت الفائدة الكبرى؟ لا. فإذاً هو يريد أن ينجو لأن الرسالة ما انتهت بعد، فلذلك دعا الله بالخلاص، ولكن عاد للمهلكة مرة أخرى وجاء يمشي إلى الملك وهذه فيها مهلكة؛ لأن الغلام يعلم أنه سيعيد الكرة وقد ينجح الملك ويقتله، لكنه جاء وأوصل نفسه إلى مصدر الخطر مرة أخرى، لأي شيء؟ هنا في هذه الحالة المسألة تستاهل أنه يرجع إلى الملك؛ لأن القضية ما انتهت، ما زال يعرض الدعوة، فهناك خطٌ بين الشجاعة والتهور، فهناك حالة من الحالات يكون إلقاؤك بنفسك في هذا المكان تهوراً ولا تستفيد منه أي شيء. وهناك حالة أخرى يكون إتيانك إلى الخطر شجاعة، فالثبات على الحق في أوقات المحنة شجاعة، والثبات أمام الطغيان شجاعة، فقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (أعظم الشهداء حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، ورجلٌ قام إلى إمامٍ جائرٍ فأمره ونهاه فقتله) فهذان الرجلان أفضل الشهداء عند الله عز وجل.

التركيز على قضية توحيد الألوهية

التركيز على قضية توحيد الألوهية ثم قال: (وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ماذا فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله) تتردد العبارة مرة أخرى، لاحظوا أيها الإخوة! انتقال العبارات -كفانيهم الله- مرة ثانية، أي: يزيد ويعيد في العبارات لعل هذا الرجل يهتدي، وأنت إذا استعرضت كلام الغلام في القصة تجد أنه متركز تركزاً عجيباً وإصراراً كبيراً على عرض قضية الألوهية فتراه مثلاً يقول: (إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله) (إن أنت آمنت بالله دعوت الله لك فشفاك) (ربي وربك الله) (اللهم اكفنيهم بما شئت) (كفانيهم الله) (بسم الله رب الغلام) كما سيأتي بعد قليل. فكل العبارات تدور حول القضية الأساسية في الدعوة وهي عرض حقيقة الألوهية، فلذلك كل عبارات الغلام تدور حول هذه المسألة، عرض حقيقة الألوهية التي ضاعت في وسط هؤلاء الناس، إذاً انتقاء العبارات في التركيز على القضية التي يحتاج إليها الناس مهمة، فيجعلها الإنسان هي المحور الذي يدور حوله، يجعل الداعية المسألة الأساسية التي يريد أن يدعو الناس إليها هي المحور الذي يدور حوله، فتؤثر هذه القضية في عباراته، وتنتقى الكلمات المناسبة لخدمة هذا الغرض.

التضحية من أجل مصلحة دعوة الناس إلى الدين

التضحية من أجل مصلحة دعوة الناس إلى الدين الآن الملك قد عجز، وهو في لحظات تحير، ويفكر ماذا يفعل؟! وهنا يقول الغلام: (فقال الغلام للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، قال: ما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيدٍ واحد إلخ) هنا عبارة عجيبة، إنه غلام وحيد أمام رجل جبار باطش عنده من القوة شيء كبير يقول له في تحدٍ: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ماذا؟ هل قال حتى تفعل ما أخبرك به؟! حتى تتبع الطريقة التي سأشرحها لك؟! لا، وإنما قال: (حتى تفعل ما آمرك به). انظروا فالقضية ليست سهلة، غلام يقول لهذا الطاغية وهو الكبير: حتى تفعل ما آمرك به، حتى تفعل ما أمليه عليك، هنا إظهار عزة الإسلام وعزة المسلم أمام الطغيان من القضايا المهمة. ولذلك يفرض الحل فرضاً على هيئة أمر، وربما يكون هذا هو الأمر الوحيد الذي تلقاه الملك طيلة حياته، فلا يتصور أن يأتي أحد يأمر هذا الطاغية، لكن هنا يحصل! إنه إظهار عزة المسلم وإثبات عجز ذلك الطاغية وأنه يتقلى الأوامر من واحد مسلم: (قال: ما هو) فالآن هذا يريد أن يتخلص بأي طريقة: (قال: تجمع الناس في صعيدٍ واحد -الصعيد: هي الأرض الخالية الفضاء البارزة- وتصلبني على جذعٍ -الصلب: هو ربط الإنسان الذي يراد قتله، ربطه على شيء، يسمى صلباً، وتصلبني يعني: تشد صلبي أي: ظهري على جذع فرع من فروع النخلة- ثم خذ سهماً من كنانتي -والكنانة: هي التي تجمع فيها السهام- ثم ضع السهم في كبد القوس، ثم قل: باسم الله رب الغلام). إذاً تجمع الناس في صعيدٍ واحد فما هو الهدف؟ إن الطغاة قد يغيرون الحقائق، ولو تمت هذه المعركة، أو هذا المشهد، في وسط منغلق لم يره أحد من الناس فإنه بمقدور هذا الطاغية أن يقلب الحقائق، ويصور المسألة بأي عبارة يريدها بعد ذلك وقد يصدقه الغافلون. لكنه أراد هذا الغلام أن تعرض القضية أمام الناس كلهم، أن تعرض هذه المسألة أمام جميع الناس على صعيدٍ واحد يجمع الناس كلهم حتى لا يكون هناك مجال لقلب الحقائق بعد ذلك (وتصلبني على جذع) وهو منظر مثير لشفقة الناس غلام مصلوب على جذع (ثم خذ سهماً من كنانتي) انظر لهذا الغلام الذي يريد أن يكون للملك ولا (1%) من الأسباب أي: ليس عنده ولا شيء من الوسائل التي تقتل، فالسهم سهم الغلام، ومن كنانة الغلام، ثم إن هذا الغلام يعلمه فيقول له: (ثم ضع السهم في كبد القوس) علماً بأن السهم أصلاً إذا أريد أن يطلق أين يوضع؟ في كبد القوس، وهو شيء طبيعي أن يوضع في كبد القوس، لكن هذا الغلام يريد أن يقول لذلك الرجل: ليس لك أي شيء بالموضوع أبداً، فالسهم من عندي وكنانتي، وتفعل الشيء الذي أقوله لك، وتضع السهم في كبد القوس وأنا الآن أرشدك على كل شيء حتى الأشياء المعروفة أنا أعلمك إياها (وتضع السهم في كبد القوس، ثم قل: بسم الله رب الغلام، ثم ارمِ) طبيعي أن يرمي لكن الغلام، سبحان الله!! ومع ذلك يقول: (ثم ارم) أي: حتى التصرف الطبيعي المتوقع حدوثه، أو ليس هناك غيره فلا بد أن يرمي، ثم يقول له: (ثم ارمِ فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني). فجمع الناس في صعيدٍ واحد، فما كان أمام هذا الطاغية إلا هذا الحل؛ لأنه لو ترك الغلام يدعو بعد فترة المجتمع كله سينقلب إلى مجتمع مسلم، لو أنه استمر في عملية اختراع طرق القتل من عنده سيفشل مثلما فشلت الطرق التي سبقت وسيزداد الناس إعجاباً بالغلام وانجذاباً إليه، وتأثراً به.

قوة الإيمان وعمقه في نفوس المؤمنين والصبر على البلاء من أجله

قوة الإيمان وعمقه في نفوس المؤمنين والصبر على البلاء من أجله إذاً ما هو الحل الأخير؟ الحل الأخير هو قتل الغلام بالطريقة التي يقولها الغلام، ولذلك اضطر الطاغية أن يلجأ لهذا الحل، يريد أن يقتله بأي وسيلة؛ لأن بقاء هذا الغلام مصدر خطرٍ على هذا الجبار المتكبر، (فجمع الناس في صعيدٍ واحد وصلبه على جذعٍ وأخذ سهماً من كنانته ثم وضع السهم في كبد القوس -وتر القوس- ثم قال: بسم الله رب الغلام، ثم رماه فوقع السهم في صدغه) وقع السهم وقع في صدغ الغلام، والصدغ منطقة بين العين وشحمة الأذن، فهل مات الغلام؟ في الرواية تقول: (فوضع يده في صدغه فمات)، يعني سبحان الله! حتى موت هذا الغلام ما جاء إلا بعد ماذا؟ ليس مجرد إطلاق ذلك السهم وإنما (وضع الغلام يده في صدغه فمات) أي: يستبين إلى آخر لحظة أن ذلك الرجل ليس له من الأمر شيء مطلقاً. وأنها كلها حصلت بإرادة الله عز وجل، (فوضع يده في صدغه في موضع السهم فمات الغلام)، مات الغلام فما هي النتيجة، وما هو الأثر على هؤلاء الناس المتجمعين كلهم الذين عرفوا بأن الغلام ما استطاع هذا الطاغية أن يقتله أبداً، وما قتل إلا بعدما نُفذ كلامه حرفياً ومن ضمن هذه الخطوات قول الملك وهو يرمي السهم: بسم الله رب الغلام، فماذا عرف الناس؟ عرفوا أن هناك فعلاً رباً للغلام هو الذي لما شاء أن الغلام لا يقتل فما قُتل، ولما شاء أن يقتل الغلام قتل فإذاً هناك محيي، وهناك مميت، وهو الله عز وجل فصارت القضية واضحة جداً الآن وليس فيها خفاء، وأثر موت الغلام على الحق، دفع الغلام نفسه ثمناً لأي شيء؟ لكي يؤمن الناس، ثمناً للدعوة إلى الله. إن التضحية بالنفس أمام الناس مؤثرة جداً، لأن الناس سيقولون ما قتل هذا نفسه ولا أتى بنفسه إلى موضع الهلكة إلا وهو على الحق، ولما تبينوا بأنفسهم أن هناك رباً يُميت ويدفع الضر آمنوا (فقال الناس: آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام ثلاث مرات). دلالة وتأكيداً على أصالة وعمق الإيمان في نفوسهم، أعلنوها واضحةً أمام الجميع، آمنا برب الغلام، (فأُتِيَ الملك -أتاه أعوان السوء- فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر؟ قد والله نزل بك حذرك قد آمن الناس) وفي رواية الترمذي التي سبق أن تكلمنا عليها: (قالوا له: أجزعت أن خالفك ثلاثة فهذا العالم كلهم قد خالفوك). وهنا ما هو الحل؟ فالناس آمنوا أي: الشيء الذي كان محذوراً قد وقع، والذي كان خائفاً منه قد حصل، فما هو الحل؟ لم يبق إلا الحل البشع أو الحل الجنوني والحل الانتقامي وهو القتل الجماعي، الإبادة الجماعية: (فأمر بأخدود بأفواه السكك -الطرقات- فخدت) والأخدود: هو الشق في الأرض. (وأضرم فيها النيران وقال: من لم يرجع عن دينه فأقحموه فيها، أو قيل له: اقتحم ففعلوا) ففعلوا حتى جعل الناس يتدافعون في الخنادق المضرمة فيها النيران، لأن الإيمان صار إيماناً قوياً جداً، ما أثَّر لهيب النار ألقوا أنفسهم بالنار لكي يحصلوا على مرضاة الله عز وجل، في سبيل الله الذي آمنوا به: (حتى جاءت امرأة ومعها صبيٌ لها فتقاعست أن تقع فيها) معها صبي وفي رواية الإمام أحمد (فجاءت امرأة بابنٍ لها ترضعه) أي: هذا الصبي رضيع صغير، والطفل الذي يرضع هل من عادته أن يتكلم بالكلام الواضح؟ لا! (حتى جاءت امرأة ومعها صبيٌ لها فتقاعست أن تقع فيها) لأن الله عز وجل خلق في المرأة عاطفة الأمومة التي ترحم بها ولدها الصغير، ولولا هذه الأمومة لما أرضعت امرأة ولداً، ولما عطفت عليه ولما ضمته إلى صدرها. فالله خلق في هذه الأم العاطفة نحو الولد، والمرأة الآن مؤمنة ومحتسبة وصابرة، وليس عندها إشكال أن ترمي نفسها في النار، وتموت من أجل العقيدة؛ لكن جذبها شيء ومانع في نفسها، وهو هذا الغلام الصبي الصغير الذي معها، كيف تفعل به؟ أي: رحمته وأشفقت عليه أن يحترق بالنار، فتقاعست أي: ترددت أن تقع فيها من أجل الغلام لا من أجلها هي (فقال لها الغلام: يا أمه! اصبري فإنك على الحق) أنطق الله هذا الصبي الرضيع (فقال: يا أمه! اصبري فإنك على الحق فرمت نفسها). هذا المقطع فيه فائدة كبيرة وهي أن الناس إذا اعتنقوا العقيدة الصحيحة فإن الله يثبتهم بأشياء لا تخطر ببالهم، أي: أن الناس إذا تجردوا لله وعرفوا الحق وأرادوا أن يثبتوا عليه فإن الله يثبتهم بأشياء من عنده ليست من عندهم، يمدهم الله بطاقات جديدة، هذه المرأة ما كانت تتوقع أن ينطق الغلام بهذه العبارة المثبتة (يا أمه! اصبري فإنك على الحق) من الذي أنطقه؟ إنه الله عز وجل فإذاً: جاءت وسائل التثبيت من عند الله.

إذا أراد الله شيئا غير ما يريده الكفار لم تنفع خططهم

إذا أراد الله شيئاً غير ما يريده الكفار لم تنفع خططهم إذاً هذه القصة أيها الإخوة! التي عرضنا تفاصيلها والتي أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم جرى فيها قدر الله العجيب المذهل! هذا الغلام الذي أرادوا منه أن يكون وسيلة للغواية، أرادوا أن يكون منه ساحر المستقبل، أرادوا منه في البداية أن يكون ساحراً هذه خططهم، وهذه أساليبهم، وهذه نواياهم وإراداتهم، وهم يريدون شيئاً وأراد الله شيئاً آخر، هم يريدون أن يجعلوا الغلام كافراً، أرادوا أن يجعلوا منه وسيلة للضلال وإغواء الناس، وأراد الله شيئاً آخر أن يحاربهم بنفس السلاح الذي أرادوا أن يحاربوه به، وعكس مقصودهم عليهم، منقوضاً، فجعل هذا الغلام بدلاً من أن يكون وسيلة غواية صار وسيلة هِداية، بدلاً من أن يكون وسيلة إضلال صار وسيلة إصلاح وتعليم للناس. فإذاً أعداء الإسلام يخططون ويريدون، ولكن إذا أراد الله شيئاً آخر لا تنفع خططهم أبداً، بل إن الله قد يحاربهم بنفس السلاح الذي يحاربونه به، وإذا أراد الله أن يرد سهام هؤلاء ردها في نحورهم، إذا سلطوها على عباد الله المؤمنين، فإن الله قادرٌ على أن يرجعها إلى نحورهم.

العاقبة والانتصار الحقيقي للمؤمنين

العاقبة والانتصار الحقيقي للمؤمنين ثم إن لـ سيد رحمه الله تعالى كلاماً جميلاً ينبغي أن نذكره يقول: في حساب الأرض تبدو هذه الخاتمة أسيفة أليمة، أي: في الحسابات الأرضية الآن تبدو هذه النهاية نهاية مؤسفة، أي: أن الناس كلهم قتلوا إبادة جماعية، وتذهب الفئة المؤمنة مع آلام الاحتراق في الأخاديد، بينما الفئة الباغية قاعدة تتفرج على المؤمنين وهم يحترقون: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ} [البروج:4 - 5] ذات الاشتعال {إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ} [البروج:6] هؤلاء الطغاة يتفرجون {وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} [البروج:7]. ويتلذذون بصرخات المؤمنين وهم يحترقون، عندما يكون الضلال أو الكفرة إذا وصلوا إلى مراحل أي: يصبح تعذيب الناس فيه لذة لهم، ولكن صحيح أن في حساب الدنيا هذه النتيجة مؤسفة وأليمة، وقد يعتبرها بعض الناس هزيمة، أي: قُتل الناس وما استفدنا شيئاً، لكن عند الله عز وجل في حساب الآخرة النتيجة أكبر من ذلك بكثير، النتيجة عظيمة جداً كيف؟ الآن ما هو الهدف من خلق الناس؟ إنه عبادة الله، وما هو الهدف من الدعوة إلى الله؟ أن يدخل الناس في دين الله، فهل الغرض من الدعوة والعبادة الانتصار؟ لا. إن الانتصار هو -لا شك- هدف يسعى إليه كل مسلم، ولكن هل هو الهدف الرئيسي الذي إذا لم يتحقق فشلنا وانتهت المسألة هكذا بدون ثمن؟ لا. إن النتيجة قد تحققت، فما هو الهدف من خلق الناس؟ إنه عبادة الله، وما هو الهدف من الدعوة إلى الله؟ إنه دخول الناس في الدين، أليسوا قد دخلوا في دين الله، أليسوا قد عبدوا الله عز وجل؟ أليسوا قد صبروا على دين الله، أليسوا قد قدموا أنفسهم في سبيل الله عز وجل؟ نعم. إذاً هذا هو الانتصار الحقيقي، الانتصار الحقيقي: أن يدخل الناس في الدين فهذا هو الهدف، لا نريد أكثر من هذا، ليس هناك أعظم من أن يدخل الناس في دين الله، وبعد ذلك انتصر المسلمون أو لم ينتصروا هذه قضية أخرى، صحيح أنها هدف جميل، وصحيح أنها مطمح طيب أن يطمع إليه المسلمون، لكن لو لم يحصل هل يعتبر أننا فشلنا وانتهينا وصارت جهودنا هباءً منثوراً؟! لا. الانتصار الحقيقي: هو انتصار الإيمان على الفتنة والطغيان، وليس كل الانتصار هو قضية الغلبة في الدنيا، لا، الانتصار الحقيقي: هو الفرق بين قول الله عز وجل: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169] وبين: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران:196 - 197]. هذه المسألة تحتاج إلى تفسير من أهل الإيمان: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169] لا تحسبن أن القضية انتهت وهؤلاء ماتوا وفشلوا وراحت جهودهم هباءً منثوراً، والغلام والراهب والجليس والناس: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169] هؤلاء الذين في الظاهر عندما انتصروا وأحرقوا كل المسلمين وأبادوهم إبادة جماعية ما هي حقيقة أمرهم؟

ترك الاغترار بالكافرين

ترك الاغترار بالكافرين قال سبحانه وتعالى: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ} [آل عمران:196] هذا خطاب آخر سورة آل عمران للرسول صلى الله عليه وسلم ولكل مؤمن، لا يغرنك يا أيها المؤمن انتصار هؤلاء انتصاراً ظاهرياً، أو غلبتهم الغلبة الظاهرية، لا يغرنك تقلبهم وتحكمهم في مقاليد الأمور في البلاد، وما هو هذا؟ {مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ * لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ} [آل عمران:197 - 198] ويقول الله عز وجل: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء ٌ} [إبراهيم:42 - 43]. فإذاً رغم كل ما حدث فإن الدعوات التي سبقتنا انتهت نهايات كثيرة، وقد عرض القرآن نماذج لنهايات كثيرة انتهت فيها الدعوات، فقد عرض الله مثلاً مصارع الطغاة، وانتصار المؤمنين في قوم نوح وهود وصالح، وموسى لما غرق فرعون، فانتهى الطغاة وانتصر المؤمنون، والرسول صلى الله عليه وسلم هذا نموذج، نتيجة الجهود المباركة انتصر المؤمنون وهزم الكفرة، لكن كان لا بد من عرض صورة أخرى قد لا ينتصر فيها المؤمنون ولا يغلبون الكفرة، وتكون نهاية الغلبة للكفرة، فجاءت مثل هذه القصة؛ لتعرض هذا الأنموذج الذي يمكن أن يقع. حتى لا يستغرب المؤمنون أبداً إذا ما حصل شيء من هذا القبيل، ويعرف الناس بأن الانتصار الحقيقي هو انتصار الإيمان، وهو أن يموت الناس على طاعة الله وعلى التوحيد.

لابد من العمل للإسلام دون النظر إلى النتيجة

لابد من العمل للإسلام دون النظر إلى النتيجة إذاً هذه المسألة تقودنا إلى نقطة، قبل النقطة الأخيرة في موضوعنا نقول: من وظيفة القرآن أن ينشئ قلوباً يعدها لحمل الأمانة والرسالة، قلوباً فيها القوة والتجرد لله عز وجل متجهة إلى الآخرة، ومن شروط الإعداد أن يستقر في هذه الأنفس أنه ليس هناك ثمن للدعوة مادي ودنيوي، وأن الناس عندما يعملون للإسلام وهم الدعاة إلى الله لا ينتظرون ثمناً دنيوياً حتى لو كان انتصاراً، لا ينتظرونه وإنما يعملون لله عز وجل، حتى لو ماتوا وهم في قهر، وهم تحت وطأة العذاب، فإنهم لا بد أن يعملوا؛ لأن الذي يعمل لكي يرى نتيجة العمل الآن في حياته بعد فترة طويلة من الزمن، إذا ما رأى النتيجة ماذا سيحدث؟ تثبيط وانهيار في المعنويات، لكن عندما يتربى الإنسان المسلم على أن لا يرى النتيجة أنه ليس من المهم أن يرى النتيجة، قد يراها وقد لا يراها، كثيرٌ من الدعاة الآن يدعون إلى الله عز وجل، قد يرون النتيجة، ويبزغ فجر الإسلام من جديد، وينتشر الإسلام في الأرض وينهزم كل الكفار، قد يرون هذا؛ لكن قد لا يرون هذا. فإذاً نوع التربية وهدف التربية التي يتلقاها الإنسان المسلم، هو الذي يحدد ماذا سيكون موقفه في حال الهزيمة وفي حال الانتصار، فالغرض أيها الإخوة! إذاً: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105] المهم أن نعمل، لو حصلت النتيجة الحمد لله، لو ما حصلت الحمد لله على كل حال، يموت الإنسان وهو مستريح أنه قد عمل للإسلام.

المعركة بين المسلمين والكفار معركة عقيدة

المعركة بين المسلمين والكفار معركة عقيدة ختاماً: يجب أن نعلم -أيها الإخوة- أن المعركة بين المسلمين والكفار هي أولاً وأخيراً معركة عقيدة، وإن تلبست بلبوسٍِ من أنواعٍ مختلفة، لكنها تبقى معركة عقيدة، قد يظن بعض الناس أن الخلاف بين المسلمين والكفار معركة اقتصادية، أو معركة عسكرية، أو معركة سياسية، لا، ولا شيء من هذا، المعركة حقيقةً بين المسلمين وأعدائهم هي معركة عقيدة وهذه قصة شاهد قوي جداً في هذا الموضوع، لأن الله يقول في سورة البروج: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:4 - 8]. أي: ما فعلوا هذا الكلام ولا هذا الإحراق ولا هذا التعذيب ولا هذا الاضطهاد! لماذا؟ ما هو السبب؟ {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8] فقط، لماذا أحرقوهم؟ {إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8]. إذاً المعركة معركة عقيدة، وأعداء الإسلام يصورون أن المعركة ليست معركة عقيدة بل معركة مطامع دنيوية واقتصادية وسيطرة لكن الحقيقة أنها معركة عقيدة، إنهم لا يحاربوننا من أجل أشياء مادية فقط! بل يحاربوننا من أجل عقيدتنا، والذي يعرف هدف المعركة، يعرف كيف تسير الأمور. أما الذي يُضَلَّلَ بالأشياء الكاذبة ويُذَرُّ الرماد في عينه، فإنه لا يعرف كيف يسير ولا يعرف النهاية الحقيقية للمعركة، إذاً لا بد أن نعمل لكي تنتصر العقيدة، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم أيها الإخوة! من جنده وأتباع نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن يجعلنا من أهل الحق السائرين على طريق الله تعالى، وأن يجعلنا من المجاهدين في سبيل الله، وأن يختم بالصالحات أعمالنا، ونسأله سبحانه وتعالى أن يجعل لنا بلاغاً إلى خير، وأن يصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأن يجعل عقيدتنا عقيدة سليمة، نحارب من أجلها، ونثبت عليها إلى يوم نلقاه عز وجل، والحمد لله أولاً وآخراً.

المسلم بين الزهد والورع

المسلم بين الزهد والورع القلب سريع التقلب، ولذلك يحتاج إلى ما يثبته ويصلحه، وهنالك وسائل لإصلاح القلوب مثل العبادات من صلاة، وصيام، وحج إلخ. ومنها الورع المشروع على الفهم الصحيح السليم، وقد بين الشيخ أسباب الورع، وأقسامه، وذكر أمثلة له، كالورع في المال والورع في الكلام. والوسيلة الثانية هي الزهد، فذكر الشيخ تعريفه وحدوده، وأقسامه، والأمور التي يُزهد فيها، والفرق بينه وبين الورع. كما تحدث عن الوسيلة الثالثة وهي: التذكر، حيث ينقسم الناس فيها إلى ثلاثة أقسام.

وسائل إصلاح القلوب

وسائل إصلاح القلوب إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. وبعد: فيسرني أيها الإخوة! أن أرحب بكم في هذه الليلة، وموضوعنا فيها: (إصلاح القلوب) والحقيقة أن هذا الموضوع كبير وضخم، ولا يمكن أن يفي به الكلام في ساعة مثلاً، كما أنه يحتاج إلى إعداد، ويحتاج إلى بحث وتفكير، ولا شك أن القلب سريع التقلب: وما سمي الإنسان إلا لنسيه ولا القلب إلا أنه يتقلب

إصلاح القلب

إصلاح القلب إن الله عز وجل يثبت من يشاء من أصحاب القلوب، ويزيغ قلوب من يشاء سبحانه وتعالى، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يقول: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) نظراً لأن تقلب القلب سريع جداً، وأنه يتقلب كما تقلب الريح الريشة في الأرض الفلاة، وهذا القلب يتغير كما يغلي القدر تحته النار، فيتصعد الماء من الأسفل إلى الأعلى ثم ينزل وهكذا، وذلك لأن القلب في غاية الحساسية، ولأن المؤثرات التي تؤثر في القلب كثيرة جداً، وهو سريع التقلب والتغير. ولا شك أن إصلاح القلوب يعتمد على أمرين: الأول: جلب المصالح له، وتغذيته بالأمور النافعة. ثانياً: درء المفاسد عنه وقطع الأمور المفسدة له. فلا شك أن مما يصلح القلب مثلاً: العبادات، من الصلاة، والصيام، والزكاة، والصدقات، وقراءة القرآن، وذكر الله إلخ. فهذه الأمور من المصلحات، وهي عبارة عن أغذية تغذي القلب، ولا شك أن من الأشياء التي يجب قطعها عن القلب حتى يصلح: أنواع المفسدات: كالكفر، والبدعة، والمعصية، والحسد، والغضب، والكبر، والعجب، ونحو ذلك. فهذه الأشياء لا بد أن تقطع حتى يصلح القلب، وسنتحدث في هذه الليلة -ولا نستطيع أن نتحدث عن أكثر الأمور، ولكن سنتحدث- عن بعض ما يصلح القلب من الأمور التي لا بد من الأخذ بها، حتى يصلح هذه القلب، وعن بعض الأمور التي لا بد من إزالتها، أو على الأقل التخفيف منها ما أمكن ذلك حتى لا يفسد هذا القلب.

الورع

الورع وسنتحدث من ضمن ما نتحدث فيه عن الأمور التي تصلح القلب، من وسائل إصلاح القلوب، ومن المنازل المهمة التي لابد للعبد أن يأتيها حتى يصلح قلبه: الورع، والزهد، والتذكر، والتفكر، والحذر من مفسدات القلب، ككثرة الخلطة والتمني والتعلق بغير الله، والشبع، وكثرة النوم، وسنتحدث كذلك عن شيء يسير من ضرر الذنوب على القلوب، ومن أهمية الاعتناء بالخواطر والأفكار الذي هو باب مهم من أبواب إصلاح القلوب، وسنبتدئ الكلام عن الورع: الورع لا شك أنه من المطالب العظيمة التي لا بد منها لإصلاح القلوب. من عمليات السعي في إصلاح القلوب أن يكون الإنسان ورعاً، والرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالتورع فقال: (وكن ورعاً تكن أعبد الناس). والورع في اللغة: هو الكف والترك، وفي الشرع: ترك كل شبهة، أو ترك ما حاك في نفسك، هذا هو الورع، ويعرفه شيخ الإسلام رحمه الله بقوله: الورع ترك ما تخاف ضرره في الآخرة، فأي شيء تخاف وتخشى أن يكون له أضرار في الآخرة؛ فتركه هو الورع، ولا يبلغ العبد درجة المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به بأس، هذه منزلة من المنازل، لا يبلغ العبد درجة المتقين حتى يدع ما لا بأس به خوفاً مما به بأس، خوفاً من أن تتدرج به الحال حتى يقع في أشياء فيها ضرر فعلاً.

الورع المشروع

الورع المشروع والورع المشروع هو: اتقاء ما يخاف أن يكون سبباً للذنب والعذاب مع عدم المعارض الراجح -كما ذكر في موضع آخر شيخ الإسلام رحمه الله في تعريفه- وذُكر أيضاً من معاني الورع: فعل المستحب الذي يشبه الواجب، وترك المكروهات التي تشبه الحرام، فهنالك أمور واجبة، وأمور مباحة، وأمور محرمة، وبين الواجب والمباح يوجد المستحب، وبين المباح والمحرم يوجد المكروه، هذه الأشياء البينية ليست على درجات واضحة في القطع، بحيث إنك في جميع الحالات تقول هذا مكروه (100%) لا يمكن أن يكون حراماً مثلاً أبداً في جميع الأشياء. بعض الأشياء تأتي فيها نصوص وفيها نوع من التباين، بحيث إنك تتردد في هذا الأمر هل هو مكروه أو محرم؟ وفي بعض المسائل تأتي أشياء ونصوص تقول لك بأن هذا الأمر يكاد يصل إلى الوجوب، هب مثلاً أنك أخذت موضوع السترة، ودرست النصوص الواردة في السترة، فتبين لك أن السترة فيها نصوص واردة في فضلها لا شك، وفيها نصوص واردة تقريباً تؤدي إلى وجوبها، وتقرأ أن جموع أهل العلم على أن السترة مستحبة، وقالت طائفة من أهل الحديث بوجوب السترة. لكن ما هو الورع عندك الآن؟ الورع أنك إذا صليت أن تصلي إلى سترة، لأن هذا الأمر فيه نصوص تقربه من الوجوب، ولا تستطيع أن تقول هذا مستحب (100%) بحيث إني أطمئن إلى كونه مستحباً تماماً، وأنه لا يمكن أن يكون واجباً لأن فيه نصوصاً فيها تشديد على هذا الأمر والأخذ به. ولذلك فإن العبد الصالح الذي ينوي إصلاح قلبه، يفعل المستحبات التي تشبه الواجب، وينتهي عن المكروهات التي تشبه المحرم، وتأمل في حديثه صلى الله عليه وسلم: (الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه،- فعلوا الأحوط، فعلوا الورع- ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام). وذلك لأن الشخص عندما يتدرج في الأمور، ويفعل الأشياء المكروهة ولا يبالي، فإن هذا الفعل منه سيؤدي إلى أن يتساهل فيها حتى يأتي عليه يوم يقع فيه في الأمور المحرمة، فأول شيء يفعل الأشياء المكروهة كرهاً يسيراً، خلاف الأولى، ثم بعد ذلك يفعل الأشياء المكروهة، ثم يفعل الأشياء المكروهة جداً، ثم يفعل الأشياء المكروهة كراهية تحريمية، ثم يقع في الحرام القطعي، وهذا شيء طبيعي؛ لأن الذي يتدرج وينزل لا بد أن يصل إلى أسفل السلم، وفي النهاية يقع في المحرمات. وخير الورع الكف -الترك- وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) هذه قاعدة مهمة في الورع، كل شيء اشتبهت فيه اتركه إلى شيء لا تشتبه فيه. والإثم: أحياناً تجد أحدهم يسأل المفتين ويقول: أفتوني في كذا، أفتوني في كذا، وهو نفسه متحرج من المسألة، وقد يأتي بأشياء إلى المفتي يزين له المسألة بحيث يقول له المفتي افعل ولا حرج، وهو الذي زخرف المسألة، ولكنه في نفسه يعلم من التفاصيل التي لم يذكرها للمفتي مثلاً، أن الأمر هذا فيه حرام، وفيه أشياء: (الإثم: ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس). فما أنكره قلبك فدعه، إذا أحسست بالأمر أن قلبك ليس مطمئناً إلى هذا الأمر، وغير مستريح إلى هذا الأمر فماذا تفعل؟ تتركه، هذا هو الورع، والورع ينتج من أي شيء؟ متى يتورع الإنسان؟ إذا خاف من الله، الورع مرتبة تنتج من الخوف، والخوف يثمر الورع: (اتق المحارم تكن أورع الناس) هذا حديث صحيح يبين أن من أهم درجات الورع، اتقاء المحارم: (اتق المحارم تكن أورع الناس).

أسباب الورع

أسباب الورع ومن أسباب الورع أيضاً: التفكر في الحساب، وعذاب القبر، وهوان الدنيا، والقناعة وهكذا إلخ، ولو قال الإنسان: كيف أزيد درجة الورع في نفسي؟ فنقول: من الأسباب أن تتأمل في قصص السلف الذين كانوا يتورعون، وخذ مثالاً: أبو بكر الصديق رضي الله عنه، إذ جاءه مرة خادمه بطعام فأكله، فلما فرغ من الطعام، قال الخادم: أتدري من أي شيء اشتريت هذا الطعام؟ فقال: لا، قال: إني كنت تكهنت لأناس في الجاهلية وأنا لا أحسن الكهانة، فأعطوني مالاً فاشتريت به طعاماً وأعطيته لك، فالآن هذا المال عند الخادم محرم من وجهين: الأول: أنه أجرة على عمل محرم، وهو الكهانة. ثانياً: أنه أخذه بطريق المخادعة والخداع، قال: إني تكهنت لأناس في الجاهلية وأنا لا أحسن الكهانة، أي: من باب الكهانة، أخذ المال وخدعهم أيضاً. ولذلك فإن هذا العمل من الخادم في شراء الطعام بالمال المحرم، قد يقول الإنسان: ما دخل السيد فيه؟ الخادم أخذ مالاً حراماً ثم وهبه إياه فجاء إلى أبي بكر بطريق هبة، ولكن ما كان لـ أبي بكر أن يسكت عن ذلك أبداً، فماذا فعل؟ -هذا الحديث في الصحيح-[وضع إصبعه في فيه حتى استقاء كل ما في بطنه رضي الله عنه]؛ لأن هذا الطعام يرى أن مصدره من مال محرم (وأن كل لحم نبت من سحت؛ فالنار أولى به) وأن الجسد يتغذى على هذا الطعام، فإذا كان الطعام محرماً، صار الجسد متعفناً بهذا الحرام، وهذا يؤثر على عبادة الإنسان، وعلى تفكيره، وعلى قلبه، وعلى صلاح نفسه، وعلى نيته، وهكذا. فإذا كان سلفنا يُخرجون الحرام من بطونهم على الشبهة، يخرجونه بعد ما يدخل وما كانوا متعمدين، لم يكن متعمداً، فكيف بالقوم الآن في زماننا الذين يدخلون الحرام إلى بطونهم عن عمد؟! إن أبا بكر الصديق أخرج الطعام من بطنه، على أنه جاء من طريق يشتبه فيه وما كان متعمداً عندما أكل، ما كان يدري، كان يمكن له أن يكون معذوراً؛ لأنه لا يدري عندما أكله، لكنه تحرزاً استقاء ما في بطنه، كانوا يخرجون الحرام من بطونهم، أو الشبهة من بطونهم، وكانوا قد أخذوها بغير تعمد، فكيف بالناس الآن الذين يأكلون الحرام وهم يعلمون أنه حرام، ويدخلونه إلى بطونهم وهم يعلمون أنه كسب خبيث؟!!

أقسام الورع

أقسام الورع والورع على أقسام: ورع في الأرباح والأموال، وورع في الأعطيات التي تأتي من السلاطين وهبات الناس، بعضهم يقول: الشركات المساهمة فيها أسهم نشتري أم لا؟ يقول: أنا لا أدري فقد يكونون هم يضعون أموال الشركة في البنك ويأخذون عليها أرباحاً -أقصد ربا- ويوزعون من الربا كأرباح على المساهمين، قد يعملها كثير من الشركات الآن. إذاً: ماذا نفعل؟ نقول: إذا اشتبهت عليك الأمور؛ فلا تشتر من هذه الأسهم، أي: هذا من الورع، أنك لا تشتري هذه الأسهم وأنت تعلم أن سياسة عامة الشركات أن تضع أموالها في بنوك ربوية، وتأخذ عليها ربا، وتوزع أرباحاً على المساهمين، أو تدخله في رأس المال وتوسع المنتجات مثلاً، أو نشاطات الشركة أو فروعها ومكاتبها وهكذا. ومن الورع: التورع عن هبات السلاطين، نظراً لأن كثيراً منهم يأخذونها ظلماً أصلاً، فإذا أعطيتها من قبلهم تكون قد أخذت شيئاً من طريق أخذ بالظلم. ومن الورع: الورع في الفتيا: فهنالك أناس تجد الفتيا على طرف لسانه، فلا يكاد يسأل إلا ويجيب، سواء يعلم أو لا يعلم، متأكد أو غير متأكد فإنه يجيب، ولا يتورع أن يفكر في المسألة أولاً قبل أن يقول شيئاً، ثم ينظر هل عنده علم فعلاً، أو يغلب على ظنه، أو ينظر الحديث هذا كأنه جواز، وهذا كأنه تحريم، وهذا كأنه وكأنه وهكذا، فهؤلاء الناس الذين لا يتورعون في إجابة الناس على أسئلتهم بالفتيا، ولا يعلمون أنه عليه الصلاة والسلام قال: (من أُفتي بفتيا غير ثبت فإنما إثمه على من أفتاه). لقد كان السلف رحمهم الله يتدافعون الفتيا، وكان الصحابة رحمهم الله يُسأل الواحد منهم فيدفعها إلى غيره والآخر إلى غيره حتى ترجع إليه هو، وقال بعضهم: إنكم تتساهلون في الإفتاء، في مسألة لو وردت على عمر؛ لجمع لها أهل بدر، وسأل رجل إبراهيم النخعي وهو من هو في علمه، فقال له إبراهيم: ما وجدت من تسأله غيري؟! فلاحظ هذا إبراهيم النخعي العالم، يقول للسائل لما جاءه بالمسألة قال له: ما وجدت من الناس من تسأله إلا أنا؟ اذهب واسأل غيري، وابحث عن العلماء، وإذاً هو يعلم أن هناك غيره من يفتي في البلد، ولو كان يعلم أنه ليس هناك إلا هو لتعين عليه الجواب؛ لأن كتم العلم لا يجوز، ولكنه تورع أن يفتي وغيره في البلد يفتي، دع العالم الآخر يتحمل المسئولية، ما دام هناك من يفتي غيري، كان الصحابة يتدافعون الفتوى ورعاً يخشى أن يخطئ. ومن أنواع الورع: الورع في الكلام في الناس وتقويمهم: فبعض الناس عنده شهوة تقويم الأشخاص: هذا العالم فقيه، وهذا غير فقيه، وهذا واع، وهذا منغلق، هذا داعية أو خطيب أو محاضر وهذا كذا وهذا كذا، فهناك شهوة عند كثير من الناس في تصنيف الأشخاص، فهو يجلس في المجالس ويصنف الأشخاص، وهذه المسألة توافق هوىً في النفس؛ لأنه يشعر المتكلم أنه أعلم منهم، ولذلك فهو يستطيع أن يصنفهم. ولذلك يأخذ راحته في تصنيف الناس، وربما اغتاب أحدهم، ووقع في الغيبة المحرمة، وإذا سُئل عن ذلك أو نبه قال: يا أخي الجرح والتعديل وأنتم تعلمون الجرح والتعديل والعلماء تكلموا في الرواة وو وإلخ. إذاً: الداعي الكبير، والضرورة الذي جعل بعض أهل العلم يتكلم في بعض الرواة، من أجل حفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنت الآن تأخذه وتستعين به على ماذا؟ تريد أن تحفظ به ماذا؟ أولئك تكلموا في الرواة كلاماً حقاً وهم جهابذة، وطبقوا قول الله تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} [الأنعام:152] من أجل إنقاذ حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فأنت الآن تريد أن تتكلم في الأشخاص، وتقوم الأشخاص، وتصنف الناس، أي: ما هي المصلحة العظيمة التي عندك لتوازي المصلحة التي عمل من أجلها أهل الحديث في حفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!! كذلك الورع -وهو يشبه الورع في الفتوى- وهو الورع في نقل الفتاوي، فهناك كثير من الشباب -وبالذات في هذه المرحلة وفي هذا الوقت- كثر النقل في الفتاوي: سمعت الشيخ فلاناً غير رأيه صار كذا، وفلان أفتى بكذا، سمعت كذا وسمعت كذا وصارت المسألة يقولون ويقولون ولم يسمع بأذنه. ولذلك صار الواحد لا يستطيع أن يعتمد على فتوى شيخ إلا إذا كان الذي أخبره ثقةً سمعها بنفسه، صار الواحد الآن من كثرة الإشاعات، ومن كثرة النقل الخطأ في الفتاوي، وعدم التورع في نقل الفتاوي، صار الواحد لا يستطيع أن يعتمد على أن الشيخ فلاناً أفتى بكذا؛ إلا إذا كان الناقل له ثقةً سمعها بنفسه، وهو ثقة في صدقه، وثقة في فهمه؛ لأن بعض الناس صادقون في الكلام، لكن عندهم انحراف في طريقة التفكير، فهو يتخيل أن العالم أفتى بالجواز وهو لم يفت بالجواز، يتخيل أن العالم يتكلم عن الواقع، بينما العالم كلامه نظري، العالم تكلم في مسألة نظرية، هذا فهم أن العالم يتكلم على الواقع، فنقل الفتوى على أنها عن الواقع بينما العالم يتكلم في شيء نظري، يتكلم في أمور في الكتب ويقوم ويفرع المسألة، فيفهم صاحبنا أنه يتكلم عن الواقع، فينقل الفتوى على أنها على الواقع، مع أن الشيخ ما نزلها على الواقع، مجرد ذكر تفصيل أهل العلم في الكتب. وأنواع الورع كثيرة، أي: الورع في المطاعم والمشارب ونقل الفتوى وتصنيف الناس وتقويمهم، والورع في النصح، والورع في تقديم النصيحة بحيث أنها لا تتعدى الواجب الشرعي في النصيحة، ولا يكون فيها تشفٍّ من الناس الذين ينصحون بشأنهم وهكذا. ومن الأمور أيضاً: -أي: من الورع- ترك الأشياء التي لم يتبين فيها وجه الحق، أو لم يتبين فيها الحلال من الحرام، فلو أنك بحثت في مسألة الدجاج المستورد، فمثلاً وصلت إلى نتائج مختلفة: أن هذا الأكل جاء من بلاد النصارى وهم أهل كتاب، نأكل ذبائحهم حسب الأصل، نعم، ولكن بلادهم فيها أحزاب شيوعية وعلمانية وهؤلاء أصحاب الحزب الشيوعي لهم مصانع، فالشبهة قوية جداً، باستعمالهم آلات غير شرعية كالخنق والإغراق والصعق والقتل بالمسدس، وغير ذلك. فالمسألة في النهاية صار عندك فيها شكوك وشبهات كثيرة، فما هو الورع؟ ترك الأكل من هذا اللحم مثلاً، لأن عندك مستندات، وليس وسوسة، لكن بعض الناس يوسوس، وليس عنده مستندات، ما سمع أن هناك أشياء من طرق الذبح غير الصحيحة، ولا سمع أنه توجد مصانع لأناس من غير أهل الكتاب إلخ. فيعقد الموضوع ويكون الورع الترك، فيترك كل شيء، فإذا صار عنده وسوسة في ترك كل شيء صار مُعقداً فعلاً، ترك كل شيء، فالمشكلة الآن أن الحرام شاع في العالم وانتشر، حتى قال بعض العلماء -وهذا من القديم- قال: ليس في الدنيا حلال محض، لا يوجد شيء لو فكرت فيه إلا وفيه شيء من الشبهة، لا يوجد شيء لو فكرت فيه إلا وتجد فيه مالاً من الأموال المحرمة، قد جاء من هنا أو من هناك. مثلاً: الراتب، من أين جاء الراتب؟ من الربا، من كذا أو كذا فأنت إذا أردت أن تتشعب في الأمور فإنك ستتعب كثيراً، ولذلك فإن الورع يجب ألا يوقعنا في الوسوسة وفي التعقيد التي لم تأت به الشريعة أصلاً. ومن قواعد الشريعة: أن المشقة تجلب التيسير. ومن قواعد الشريعة: أن الأمر إذا ضاق اتسع، وهناك مسألة وهي تتعلق بالورع وهي: أن الشبهة مسألة نسبية، فما قد يكون مشتبهاً على شخص، قد لا يكون مشتبهاً على آخر، فأنت قد ترى في المسألة شبهة، وقد تكون عندي واضحة، تكون عندي شبهة وعندك واضحة، فيكون الورع في حقي أن أترك، ويكون في حقك -لا يقدح في ورعك- أن تفعل، فالشبهة مثلاً مسألة نسبية، وتعتمد أحياناً على القناعات، قناعات الأشخاص، وعلم الأشخاص. ورسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لنا مثلاً في التورع لما وجد تمرة في بيته في يد الحسن، الولد الصغير فأخذها وقال: كخ كخ، مع أن هذا الولد صغير وهذا التمر قد يكون من تمر الصدقة، وقد يكون من تمر هدية وقد يكون كذا، لكنه كان يعتني بأن يتورع حتى الصغار عن الأطعمة المشتبهة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وآل بيته، ما كان يجوز لهم أن يأكلوا من صدقة، ولكنه صلى الله عليه وسلم كان يأكل من الهدية، ولا يجوز لأهل البيت أن يأخذوا من الزكاة. والتورع يجب أن يكون من جميع أنواع المحرمات، لأن بعض الناس يسهل عليه أن يتورع في شيء لكن يصعب عليه أن يتورع في شيء آخر من الحرام، فيقع في هذا ويترك ذاك، ويعتبر نفسه أنه متورع عن الأشياء. خذ مثالاً: هؤلاء أهل العراق قتلوا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جاءوا يسألون عبد الله بن عمر عن أي شيء؟ عن دم البعوض نجس أو غير نجس؟ قتل الذباب في الحرم يجوز أم لا يجوز؟ سبحان الله! هذا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تورعوا عن قتله، ثم دم البعوض يستفتون فيه وقتل الذباب يستفتون فيه!! معناه أن معايير هؤلاء الناس مقلوبة فهم يتورعون في الذباب والبعوض ولا يتورعون في دم الآدمي، وهو من هو، حفيد رسول الله صلى الله عليه وسلم. الخوارج حدث من قصصهم أنهم لما خرجوا عن الصحابة وقتلوا علياً، وحاولوا قتل معاوية وعمرو بن العاص، وخرجوا بالسيف على الصحابة، وقاتلوا علياً رضي الله عنه، إلى آخره، قبل أن يقاتلهم علي كانوا قد عاثوا فساداً وعملوا تجمعاً، وخرجوا بالسلاح على المسلمين، وكانوا كل من مشى في طريقهم قد يقتلونه، ومروا على صحابي يعبد الله معتزل الفتنة، قالوا: يا فلان ما رأيك في الفتنة هذه؟ قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تكون فتنة: القاعد فيها خير من القائم فيها، والقائم فيها خير من الماشي فيها، فكن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل) قالوا: إذن أنت تقصدنا، فقتلوه وأساحوا دمه في النهر، وكان عنده وليدة فبقروا بطنها وأخرجوا الجنين ورموه، ومروا بعد فترة على بستان واحد من أهل الكتاب، وكان فيهم جوع، فأراد بعضهم أن يأخذ من التمر؛ تمر البستان، فقال: بعضهم لبعض: لا، انتظروا كيف تأخذون من هذا ا

أمثلة على الورع

أمثلة على الورع وبعض الناس يتركون المشتبهات ويفعلون المحرمات، وبعض الناس يتورع عن المشتبهات، ولكنهم يتركون الواجبات، يتورع عن الشبهات ولكنه يترك بعض الواجبات، وبعض الناس يتورع عن الشبهات لكنه يفعل المحرمات، وكمثال على هاتين المسألتين: أولاً: رجل توقى من درهم شبهة في ماله، لكن قضاء الدين الواجب لا يقضيه، فقضاء الدين واجب، لكنه مهمل في قضاء الدين، يدع صاحب الدين ينتظر ولو جاءه يقول: ما عنده، لكن تجده في بعض القضايا التي تتعلق بالأموال دقيق جداً وفي الأشياء المشتبهات ويتصدق بكذا ويفعل كذا، وهذا يوجد عند كثير من العامة. ومن أمثلة الورع: الخروج من خلاف العلماء: فإذا كان عندك مسألة تستطيع إذا تصرفت تصرفاً معيناً ألا تكون قد خالفت أحداً من أهل العلم، فإذاً: الأحوط أن تفعل هذا الفعل لأن الخروج من الخلاف في كثير من الأحيان يكون من الورع. ومن الورع: فعل ما يشك في وجوبه، فلو شك أحد في هذا الأمر أنه واجب، فهذا من الورع بشرط ألا يخالف السنة، وليس من الصحيح التوقف عن كل أمر فيه خلاف أي: كلما وجدت خلافاً في الأمر تقول: ما أفعل، لا. فقد يكون الخلاف مرجوحاً، وبالتالي عندك فسحة أن تفعل. مثلاً: في باب العبادات إذا كان عند أحد شبهة، هل العبادة هذه ثبتت أم لا؟ فعنده شك، فما هو الأحوط؟ هو الآن لا يعلم هل هي مشروعة أم غير مشروعة، فهناك احتمالات: عنده احتمال أن تكون مشروعة، واحتمال أن تكون مستحبة واحتمال أن تكون بدعة، فماذا يفعل؟ يترك لأن الأصل في العبادات الحظر حتى تثبت المشروعية. وهناك نقطة مهمة وهي أنه ليس للإنسان أن يُلزم غيره بما تورع عنه هو، فمثلاً: أنت تشك في الدجاج الفرنسي -مثلاً- ما تأكل منه، لكن هل يجوز لك أن تلزم كل الناس بعدم الأكل منه وتقول: حرام عليكم يجب عليكم ألا تأكلوا، لا. فالتورع لا يُلزم فيه الناس، قد ينصح مثلاً، تتباحث معه في الأمر لكن لا تلزمه بتورعك أنت، لأنه قد يكون عنده ليس بشبهة، والإنسان قد يتحمل الشدة في بعض الأمور على نفسه لكن -مثلاً- أقرباؤه أو نساؤه قد لا يتحملون ذلك. وعلى العموم فإن الورع يختلف باختلاف حال الأشخاص والأحوال، فتطبيق الورع في زمن الصحابة غير زماننا، وكذلك لو كان شخصاً ملتزماً، فأنت تحثه بشكل أكبر على الورع، لكن قد لا تحث الشخص العادي على هذا الأمر لأنه قد لا يطيق فعله الآن فقد ينفر منك. وكذلك مجالات الورع ليست سواءً، فالتورع في مجال المطعوم والمشروب، غير التورع في مجال الأثاث مثلاً، أيهما أشد المطعوم والمشروب أم الأثاث؟ طبعاً المطعوم والمشروب الذي يدخل في الجسم، ويتغذى عليه الجسم، لكن هل يعني هذا أنه إذا جاء واحد وقال: أنا عندي أموال ربوية ما آكل منها، والله ما آكل منها، ولا أشتري منها طعاماً ولا أدخل شيئاً حراماً على جسدي، لكن أنا اشتريت بها سيارة، فنقول أين الورع؟ هذه سخافة! صحيح أنك ما أدخلتها في جسمك، لكنك استعملت المال المحرم. فالأموال الربوية حرام عليك، فبعض الناس يظن أن الورع عن الربا ما يدخله بطنه، لكن يمكن أن يستعمله في أشياء كالأثاث والسيارات ونحو ذلك، وهذا حرام، لكن بعضها أشد من بعض، والتورع في التدقيق في نفقات العبادة كالحج غير النفقات العارضة الأخرى، لأن الحج لا بد أن يكون من كسب طيب (وذكر الرجل أشعث أغبر يمد يده إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له).

الزهد

الزهد ثم ننتقل إلى مسألة أخرى من المسائل التي هي من أسباب إصلاح القلوب، وهي الزهد: الزهد أمر مطلوب شرعاً {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل:96] {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} [الكهف:45 - 46] {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:20] فالله عز وجل يحثنا على عدم التعلق بالدنيا، وعلى الزهد فيها، وعلى أن هذه الزينة والأموال والأولاد والخيل المسومة والأنعام والحرث والذهب والفضة، أن هذه متاع الحياة الدنيا لكن ما عند الله خير وأبقى، فنحن نزهد فيها، ولكن نحتاج أن نتعلم ما معنى الزهد.

تعريف الزهد

تعريف الزهد ما معنى الزهد؟ ما معنى الزهد في المال؟ هل يعني أن أترك المال ولا آخذه ولا أسعى في طلبه أبداً؟ ما معنى الزهد شرعاً؟! قال الإمام أحمد رحمه الله: الزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة، وقال سفيان: الزهد في الدنيا قصر الأمل، أي: أن تشعر أن الدنيا ذاهبة وأن حياتك فيها قليلة، وأن ما بقي منها إلا كالصبابة يتصابها صاحبها. والزهد في اللغة: هو الانصراف عن الشيء احتقاراً له وتصغيراً لشأنه للاستغناء عنه بخير منه، وهذا تعريف جيد. ذكر الإمام أحمد رحمه الله في كتابه الزهد قال: الزهد على ثلاثة أنواع: الأول: ترك الحرام: وهو زهد العوام. الثاني: ترك الفضول من الحلال: وهو زهد الخواص. الثالث: ترك ما يُشغل عن الله: وهو زهد أولياء الله العارفين بالله سبحانه وتعالى. وقال الإمام أحمد -أيضاً- رحمه الله: الزاهد لا يفرح من الدنيا بموجود، ولا يأسف منها على مفقود. أي: إذا جاءه شيء من المال من الدنيا مثلاً لم يتعلق قلبه به، ويسيطر حب هذا الشيء على قلبه، وأيضاً إذا فاته شيء من الدنيا كأن يكون خسر مالاً، أو ذهب له ولد، لا ييأس ويتأسف التأسف المنهي عنه شرعاً، فنحن بشر والإنسان لا بد أن يسر إذا جاءه مال، ولا بد أن يشعر بشيء من الضيق ويشعر بشيء من الأسف إذا فاته شيء من الدنيا أو خسر، لكن إلى أي درجة يكون الفرح بالمال؟ وإلى أي درجة يكون التأسف على فقده؟ هذا هو السؤال الكبير. فبعض الناس سروره بالمال طبيعي عادي حسب الفطرة التي في النفس، فالنفس مجبولة على حب المال والسرور بكسبه، فالإنسان إذا ذهب يقبض الراتب يكون مسروراً في قبض الراتب، فإذا فلس في آخر الشهر صار فيه نوع من الغم طبيعي، لكن إلى أي وضع هو يكون مسروراً بالمال؟ كأنه يريد أن يأكله أكلاً، كما فعل ذلك البخيل لما أقبل على الموت أكل المال حتى لا ينتفع به غيره، هذا غير طبيعي. وكذلك إذا فاته شيء من المال هل يشعر بشيء من الانهيار، واليأس والإحباط والقنوط وانتهت المسألة، وأغلقت في وجهه أبواب الدنيا، وكأن هذا المال صار إلهاً يعبد، وصار هو الذي يفرح به ولوجوده، ويحزن لفقده ولا يسر لطاعة، ولا يحزن في الوقوع في معصية، وإنما صار السرور لجلب المال، والحزن لفقد المال فقط. وقال بعض السلف: الزهد ألا يفرح من الدنيا بموجود، ولا يأسف منها على مفقود، كما قال تعالى: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد:23] أي: أن الله عز وجل كتب كل المصائب في اللوح المحفوظ: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:22] أي: من قبل أن نخلقها في الأرض، لماذا؟ ما هو السبب والحكمة؟ {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد:23] لأنك لو كنت مؤمناً وموقناً بأن هذا مكتوب عند الله قبل أن يحدث لك، سواء جاءك لا تطير به فرحاً، كأنه هو كل شيء، ولو فقدته فلا تنزل فيه غمرات اليأس، لأنه ليس كل شيء، وهو أمر مكتوب ومقدر ومقضي، انتهى وقضي الذي في الكتاب، شيء قد قضاه الله عز وجل، فلا تفرح به أكثر مما يجب شرعاً، ولا تغتم لفقده أكثر مما يصلح شرعاً. وقيل للإمام أحمد رحمه الله: أيكون الرجل زاهداً ومعه ألف دينار؟ قال: نعم، شريطة ألا يفرح إذا زادت ولا يحزن إذا نقصت، بمعنى: أن قلبه غير متعلق بالمال، فإذا زادت لا يشعر كأنه صلى ألف ركعة، وإذا نقصت يغتم كأنه وقع في المعاصي، وإلا صار عنده المال أهم من الدين.

حدود الزهد

حدود الزهد والزهد منزلة عظيمة بلغها السلف والصحابة رضوان الله تعالى عليهم، وانظر في عيش الصحابة رضوان الله عليهم كيف عاشوا من الدنيا كفافاً. وكان الواحد يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن حكم الصلاة بالثوب الواحد؟ ويقول: ما عندي إلا إزار؟ ما عندي إزار ورداء، كيف يفعل؟ يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم فأهل الصفة ثلاثمائة واحد تقريباً كانوا في الصفة مجتمعين، الذي يأتي من المسلمين بعذق من تمر وبشيء من خبز، أو كل واحد يأخذ له واحداً، يعشيه كل يوم إذا وجد، أو يبيتون فقراء طاوين، فـ أبو هريرة يسعى سعياً حثيثاً يقول الناس مجنون، وما به جنون ما هو إلا الجوع. فقد سأل أبا بكر مسألة لا لمعرفة الجواب، بل من أجل أن يفطن له، فلا يستطيع أن يبين صراحة، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يمر زمن وما يوقد في بيته نار ولا يطبخ، لكن إذا دعاه أحد الصحابة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ما أكل خبزاً أبيض وقد يمر الشهر والشهران والثلاثة، ولم يوقد في بيته نار فليس هناك شيء يطبخ، سوى الأسودان التمر والماء، لكن انتبه معي إلى هذه النقطة، إنه لم يكن عنده عليه الصلاة والسلام إلا هذا، فهذا زهد في الدنيا، إن الله عز وجل يستطيع أن يجعل منه ملكاً، عنده الخزائن، لكن ما سأل الله هذا. لكن لما دعاه واحد من الصحابة في بستانه، وأخذ المدية وذبح له شاة وأتى له باللبن وأكلوا، وشوى لهم، هل قال له الرسول صلى الله عليه وسلم لا. هذا الطعام أو هذه الشاة المشوية، هذا طعام نفيس وزهد فيه ولم يأكل، بل أكل، أي: لما تيسرت له الأشياء ولما وجد أكل، فأكله من هذا اللحم المشوي النفيس هل ينافي الزهد؟ كلا. كان له تسع نسوة ويقوم بأمرهن ويعدل، وقد أباح الله له الزيادة على أربع خصوصية في حقه، هل قال: أزهد في النساء وأطلق نسائي كلهن؟ لا. فهذا الذي نحتاج إليه وهو المفهوم الصحيح في الزهد. لقد كان ابن عوف وعثمان من أغنياء الصحابة، لكنهما كانا زاهدين مع ما فيهما من غنىً وابن المبارك، كان زاهداً مع أنه كان ذا مال وفير، وكان يقول: لولا هذا -يعني المال- لتمندل بنا هؤلاء، أي: لولا عندنا المال يسترنا وإلا كنا لجأنا إلى الناس واحتجنا إليهم وتمندلوا بنا، وصرنا مثل الطراطير نأتي إليهم ونذهب على المال الذي عندهم، لا. بل نحفظ ماء وجهنا بمال أعطانا الله إياه، لكن كان من الزاهدين، ليس كلما رغبت نفسه أكلة ممتازة، كلف نفسه وذهب إلى أقصى البلاد لكي يأتي بها. لعلنا سمعنا أن غنياً أحضر (إسكريم) بالطائرة من المحل الفلاني! هذا ممكن أن يكون زاهداً، إذا أكل من الخير الموجود عنده بلا تكلف ولا إسراف، لكن أن يرسل طيارة من أجل أن تأتي له بإسكريم، هذا إنسان!! نسأل الله السلامة. فالغني يمكن أن يكون زاهداً، إذا كان متواضعاً ولم تطغه النعمة، فإذا كان عنده بيت واسع ونظيف وأكله جيد أعطاه الله نعمة، يحب أن يرى نعمته على عبده، أو سيارة جيدة، لكن تكلف هذه الأزياء والأشياء ومتابعة الموديلات بحيث كل ستة أشهر يغير، ويغير أثاث البيت دائماً باستمرار، هذا معناه أنه متعلق بالدنيا فلا يمكن أن يكون زاهداً. فمتى يعرف الغني الذي عنده مال أنه زاهد أم لا؟ إذا شغلتك النعمة عن الله فازهد فيها، فزهدك فيها أفضل، وإن لم تشغلك عن الله، بل كنت شاكراً لله فيها، فحالك فيها أفضل. فمثلا: شخص عنده تجارة، كيف يعرف أنه زاهد أم لا؟ إذا رأى أن التجارة تشغله عن طاعة الله، ويؤخر صلوات، ويتأخر عن المساجد، وعن دروس العلم والحلق والإخوة في الله، وصار إنساناً دنيوياً، لا. إن تركك التجارة أفضل، خذ لك وظيفة عادية واجلس أحسن لك. لكن إذا رأى أن التجارة لم تقطعه عن العبادة، ولا عن المسجد، والإخوة في الله، وحلق العلم، ويعطي الزكاة والصدقات ويتصدق، وكلما جاءه فقير أعطاه، ويعطي للمجاهدين ولبناء المساجد ولطباعة كتب وإلى آخره، فإذاً بقاؤه في تجارته أفضل بالنسبة له.

الأشياء التي يزهد فيها

الأشياء التي يزهد فيها والأشياء التي يُزهد فيها كثيرة: المال، والرئاسة، والنساء أحياناً، ومن معاني الزهد ومن الأشياء التي تثمره، ومن المشاعر التي تقترن به كراهية مشاركة الفساق وأرباب الدنيا الذين يزدحمون على المواضع الدنيوية، فالرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا قال: (يوشك أن يحسر الفرات عن جبل من ذهب فيقتتل عليه الناس، فيقتل من كل مائة تسعة وتسعون، أو من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون) من كل مائة يقتل تسعة وتسعون، قتال على الذهب، قال صلى الله عليه وسلم: (فمن حضره فلا يأخذ منه شيئاً) فقد علمنا صلى الله عليه وسلم فقال: إذا انحسر الفرات عن جبل من ذهب فيقتتل عليه الناس (فمن حضره فلا يأخذ منه شيئاً). قيل لبعضهم: ما الذي زهدك في الدنيا؟ قال: قلة وفائها، وكثرة جفائها، وخسة شركائها. إذا لم أترك الماء اتقاءً تركته لكثرة الشركاء فيه إذا وقع الذباب على طعام رفعت يدي ونفسي تشتهيه وتجتنب الأسود ورود ماءٍ إذا كان الكلاب يلغن فيه

أقسام الزهد

أقسام الزهد والزهد أقسام: الأول: زهد في الحرام وهو فرض عين. الثاني: زهد في الشبهات، وهو بحسب مراتب الشبهة، فإن قويت ألحقت بالقسم الواجب، وإن ضعفت كان تركها مستحباً والزهد فيها أولى. والزهد في الفضول: يعني في المباحات، الأشياء الزائدة عن الإنسان أي: الترفهات والترفيهيات والكماليات. الثالث: زهد فيما لا يعني من الكلام. الرابع: النظر. الخامس: السؤال. فبعض الناس إذا دخل بيتاً نظر في كل شيء، في كل زاوية، وثقب، وقماش، هذا من الفضول، والمفروض أن يزهد فيه ويتركه، وكذلك Q من أين جئت؟ وإلى أين سوف تذهب؟ ومن كان معك؟ ومن كنت تكلم قبل قليل؟ ومن ومن؟ فالرسول صلى الله عليه وسلم كره لنا كثرة السؤال، فالزهد في الأسئلة هذه التي ليس لها معنى إلا إحراج الآخرين، هو من الزهد المشروع. السادس: الزهد في المدح والثناء، أي ينبغي للإنسان ألا يطلب المدح والثناء، بل يزهد في مدح الناس وثنائهم، سواء مدحك الناس أو لم يمدحوك، الأمر عندك سيان، مدحوك أو ذموك ما دمت تعمل لإرضاء الله فلا يهمك مدحهم ولا ثناؤهم، لأنه يهمك أن الله عز وجل يمتدحك على أفعالك، ولا يهمك أن الناس يمتدحونك على أفعالك. السابع: الزهد بالنفس حين تهون من أجل الله عز وجل، كالزهد بالنفس في المعركة وفي قتال المشركين مثلاً. الثامن وهو أفضلها وأهمها: إخفاء الزهد. وكذلك فإن المسلم لا بد أن يكون زهده في هذه الأمور الدنيوية نابعاً من عدم تعلق قلبه بالدنيا، فنتيجة لعدم تعلق القلب بالدنيا فإنه يترك هذه الأشياء والتوسع في المباحات؛ لأن التوسع في المباحات يأخذ وقتاً طويلاً، فأنت إذا كنت تريد أن تتابع كل موديل وكل جديد -صحيح أنه مباح- مثلاً: سيارة مباحة، أو أثاث مباح، لكن عندما تتابع وتتابع وتتابع، فإن وقتك يذهب في هذه المباحات، فتنشغل عن كثير من الطاعات.

التذكر

التذكر ومن الأمور التي تصلح القلب: التذكر، لقد ذكرنا أن الورع يصلح القلب والزهد يصلح القلب، وفرعنا أشياء في الزهد والورع، وثالثاً: التذكر. قال الله عز وجل: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الرعد:19] والله عز وجل أنزل القرآن: {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [ق:8] والتذكر هذا لا يحصل إلا لصاحب القلب الحي، أي: من الذي يفكر في الآيات؟ الآن تسمعها في الصلاة وتسمعها في الإذاعة، والشريط، بعض الناس يتذكرون، فهذه الآيات تمر على قلبه فيفكر فيها فيلفت نظره وتستقطب تفكيره، ويمعن فيها التبصر والتفكير، وتهيمن على قلبه وتدخل شغاف قلبه، هذا إنسان تذكره يحيي قلبه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37] عنده القلب يسمع وهو شهيد، فهو يتفاعل مع الآيات. لقد بكى واحد من السلف مرة في آية وهي قوله تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47] ففكر فيها أنه يوم القيامة هؤلاء العصاة تتضح لهم أشياء من رب العالمين ما كانت على بالهم ولم يكونوا يفكرون فيها: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47] فذنوبهم وجدوها كلها مسطرة واحدة واحدة، وما توقعوا أنها بكل هذه الدقة كل هذه الأشياء موجودة، فيأتي هذا العذاب مفاجئاً، ما كان على باله ولا كان في خاطره: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47] فبكى. الشاهد أن الإنسان -أحياناً- تمر به آيات فيفكر فيها -مثلاً- ويربطها بالواقع، فينتج عنده في نفسه مشاعر كثيرة، ففي هذه الأزمة التي نمر بها، قد تأتي للواحد منا في باله الآيات والآيات، يفكر مثلاً: في قوله عز وجل: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً} [الأنعام:129] وفعلاً نجد أنها تنطبق على الواقع بالضبط كما أخبر الله بهذه السنة الموجودة: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام:129]. والناس في مسألة التذكر أنواع، فمن فوائد الأزمة هذه أن الناس صاروا -والحمد لله- أنهم تعودوا على هذه الأشياء وعلى هذه المخاطر، فصارت المسألة معروفة، والواحد صار -كما ذكر أهل الفقه- قبل أن ينام يتشهد ويقرأ آية الكرسي والكافرون، فإذا جاء الموت فعلى التوحيد والحمد لله، وإذا سلمنا فخير، فهناك معانٍ كثيرة تجول في النفوس (اللهم أنت خلقت نفسي وأنت تتوفاها، لك موتها وإحياها، إن أمسكتها فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين). ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يحفظنا، وأنا أقول: إن دعاء المسلمين في المساجد وفي القنوت كان له أثر عظيم في الحفظ، فكم قلَّت خسائر وكم بعد شر، كان يمكن أن ينزل على رءوسنا، ولم تنفع بعض الأسباب الدنيوية فيه، كهذه الصواريخ والمضادات والأشياء ما نفعت، ما الذي نفع قولوا لي بالله؟ كيف يتخيل أن صاروخاً ينفجر في الجو لوحده هكذا؟ فهو ليس صناعة تايوانية، قد تجد -والله- دعاء شيخ وشايب في المسجد، بقوله: آمين، هو الذي جعل الله يحفظ البلاد والعباد، نعم، الدعاء من أسباب الحفظ.

أقسام الناس في التذكر

أقسام الناس في التذكر الناس في التذكر ثلاثة: الأول: رجل قلبه ميت فلا يتذكر فهو غافل. الثاني: رجل له قلب لكن لا يسمع، كيف؟ أي: أنه إنسان ليس بغافل، ولكنه إنسان خامة جيدة، لكن ما جاءه أحد ووضع فيها بذراً، وسقاها وقلع شيئاً، لكنها أرض خصبة تنتظر من يبذر فيها، فهناك أناس عندهم قلوب، لكن ما تهيأت لهم الأسباب، أو الأشياء التي تجعلهم يفكرون في هذه الآيات. الثالث: رجل له قلب وتمر عليه الآيات ويسمعها ويفكر فيها، فالناس الذين عندهم قلوب وعندهم استعداد لكن ما عندهم تفكر، هؤلاء ناس من العامة، مثلاً: ربما أنهم لم يحصل لهم مجال لسماع الخير؛ فينبغي أن نهتم بهم، وأن نوجه لهم جهودنا. فالإنسان الذي ليس له قلب، هذا غافل، والإنسان الذي ليس له قلب هذا بمثابة الأعمى، والذي له قلب لكن لم يتفكر؛ لأنه لم يسمع ولم يصل إليه شيء، كإنسان له بصر لكنه لا ينظر إلى شيء ينظر إلى الفضاء إلى الخلاء هكذا، والشخص الثالث: الذي عنده قلب ويتفكر فهو كالناظر إلى الشيء المهم الذي يستحق النظر والتفكير. والتفكر درجات، فليس كل الناس يستطيعون أن يفكروا في الآيات والأحاديث والأشياء، ولا يستطيع بعضهم أن يتعمق فيها جداً، بعضهم يتعمق إلى آخر الشيء، وبعضهم يتعمق إلى ما قبله، وبعضهم إلى نصف الموضوع وبعضهم إلى أطراف الموضوع، ولكن العموم الذين يتفكرون، يعني: إن لم يصبها وابلٌ فطل، فإذا ما جاءه مطر غزير، يأتي ولو رش ينتفع به. فلذلك قال الله عز وجل: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} [سبأ:6] بماذا يرون؟ بالتفكر، درسوا الآيات، فلو يدرس فقط المحرمات في الشريعة لعلم أن هذا الشرع مبني على حكمة رب العالمين: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} [سبأ:6] بما آتاهم الله من البصيرة، فتفكروا وتمعنوا في معنى هذا القرآن والسنة، فهذه القلوب تحيا، إن القلوب تحيا بالتدبر والتفكر في آيات الله عز وجل، سواء كانت: المذكورة في القرآن، أو في كتب الحديث، أو المنثورة في الأرض والكون والجبال والشجر والدواب والبحار والأنهار وهكذا.

الأسئلة

الأسئلة

الفرق بين الورع والزهد

الفرق بين الورع والزهد Q هلا ذكرت لنا الفرق بين الورع والزهد؟ A نعم. ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الفرق بين الورع والزهد فقال: الورع: يتعلق بما يخشى من عقابه في الآخرة، والزهد يتعلق بما لا ينفع ولا يرجى نفعه في الآخرة، فالزهد يتعلق بترك شيء؛ لأنه لا ينفع، لكن الورع: ترك شيء لأنه يُخشى أن يضر، فأيهما أخطر؟ الورع: أخطر لكن كلاهما مراتب، الزهد والورع مراتب، فليست مرتبة واحدة، ويصعب المقارنة بين مراتب الزهد ومراتب الورع، ولكن هذا هو ما ذكره شيخ الإسلام في التفريق بينهما.

ترك الورع

ترك الورع Q هل يعاقب الإنسان على ترك الورع في أمور لم يتبين تحريمها قطعاً؟ A إذا لم يتبين تحريمها، وقد ارتكبها ولم يتبين عنده أنها حرام فلا يأثم عليها، لكن المشكلة أين؟ (فمن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه) هذه الخطوات، فتهون الأشياء على الإنسان.

الكتب التي تتكلم عن الورع

الكتب التي تتكلم عن الورع Q أرجو أن ترشدني إلى بعض الكتب التي تتكلم عن ورع الصحابة والسلف؟ A هناك بعض الكتب مثل الزهد للإمام أحمد، والزهد لـ ابن المبارك، والزهد لوكيع ثلاثة مجلدات كتاب محقق فيه أشياء طيبة، وابن القيم رحمه الله ذكر في مدارج السالكين في منزلة الورع، ومنزلة الزهد طائفة طيبة، وفي كتاب الذهبي رحمه الله سير أعلام النبلاء فيه أشياء أخرى من الأمثلة طيبة.

ترك التورع في أمور مع فعل بعض المحرمات

ترك التورع في أمور مع فعل بعض المحرمات Q لا شك بأن الإنسان خطاء، وقد يستطيع مثلاً: ترك الشرب قائماً أو النوم على الشق الأيسر أو على البطن، ولكن لا يستطيع بسهولة أن يترك الكلام مع امرأة في الهاتف، فهل يترك التورع عن تلك الأمور حتى يترك فعل الحرام؟ A هذا الأخ يقول: إنه يشرب قاعداً تورعاً؛ لأنه قد يكون الشرب قائماً محرماً، كما ذكر بعض أهل العلم مثلاً، فهو يشرب قاعداً، لكنه عجز أو أنه لم يتب إلى الله من الكلام مع امرأة أجنبية، فهل يترك التورع في الشرب؛ فيشرب قائماً وينام على بطنه، مادام أنها فلتت من هنا فلتفلت من جميع النواحي؟!! أم أنه يحافظ على الخير الذي عنده، ولو أنه عصى الله في مسألة من المسائل، ولو كان مقيماً على ذنوب، ما هو الأحسن في نظركم؟! أن يحافظ على الخير الذي عنده؛ لأن الحسنات يذهبن السيئات، ما تدري يا أخي! قد يغفر الله لك أشياء مثل كلامك مع المرأة الأجنبية، بسبب أنك تشرب قاعداً وتنام على جنبك الأيمن إلخ، يغفر لك أشياء مثل هذا الذنب، فلماذا تقول لا. أترك كل الورع وكل الزهد لأني واقع في محرم؟!! لا. لا تفعل ذلك، وواصل على ما أنت فيه من الخير، وحاول أن تتوب إلى الله بشتى الوسائل وأن تمتنع، فهذه مسألة إرادة.

ترك النساء هل هو من الزهد

ترك النساء هل هو من الزهد Q ذكرت أن من الزهد ترك النساء، فما معناه؟ A لا، نحن ذكرنا أن الإنسان يجوز له أن يطلق ويتزوج، يتزوج أربعاً ويطلق، فيتزوج أربعاً ويطلق ويتزوج ويطلق، أنت يمكن لك أن تتزوج إلى مائة وعشرين امرأة مثلاً، لكن هذا العمل منه قد يشغله عن العبادات، فتصير المسألة كلها تحصيل مهور، وترتيب زواجات، وأوراق محاكم، وإلى غير ذلك، صارت حياته كذلك، فهو بهذا الوضع لا يكون وضعه سليماً.

أنواع القلوب

أنواع القلوب Q هل يمكن إيضاح أنواع القلوب؟ A لقد ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه توجد قلوب منيرة، وقلوب عليها ران، وقلوب قد غلفتها الذنوب وصارت صدئه، وصارت عفنة، وصارت مغلقة جداً لا ينفذ إليها شيء.

الدجاج المستورد

الدجاج المستورد Q تكلمت عن الدجاج المستورد من بلاد غير إسلامية؟ A هناك فتاوى للعلماء فارجعوا إليها إن شاء الله. قد يقول قائل: بلغني خبر من مصدر موثوق من السفارة الفلانية في البرازيل أن الدجاج الفلاني مذبوح، وشخص آخر ما بلغه هذا يتورع لأنه ما بلغه، والذي بلغه يأكل، إذن هناك فرق، الفرق بين الأشياء في الورع في المعلومات التي عندك والمعلومات التي عند الآخرين، فقد يكون ما عندك من معلومات زيادة على ما عنده، أو ما عنده زيادة على ما عندك، فتؤثر في العملية، فلا يقال: إنه غير ورع وأنك ورع في هذه الحالة. وهناك كتاب جيد للشيخ الطريقي اسمه: حكم الذبائح واللحوم المستوردة وهناك كتاب آخر للشيخ الفوزان في نفس الموضوع، هذان مرجعان مهمان في هذا الموضوع.

التورع في الصغائر دون الكبائر

التورع في الصغائر دون الكبائر Q أيهما أفضل شخص يهتم بالصغائر ولا يتورع في الكبائر، أم الذي لا يتورع لا في الكبائر ولا في الصغائر؟ A أنت الآن جلبت الجواب بنفسك، طبيعي أن الشخص الذي يفعل الكبائر ولا يقع في الصغائر أفضل من الذي يقع في كليهما.

الوسواس والورع

الوسواس والورع Q ما هو المقياس الدقيق بين الوسواس والورع، لأني في بعض الأحيان أريد أن أتورع عن بعض الأشياء فأقول لنفسي لا توسوس؟ A الميزان يا أخي! ميزان الشرع، فإذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يتورعون عن مثل هذا فتورع عنه، وإذا رأيت أنه لا يمكن أن تكون الشريعة في ترك هذه الأمور وأن هذا تعقيد وتشديد فافعله ولا حرج عليك في ذلك.

هبة السلاطين وجراياتهم

هبة السلاطين وجراياتهم Q ما الفرق بين هبة السلطان وجِرايات السلاطين؟ A لا أفهم ماذا تقصد، لكن إذا كنت تقصد مثلاً: ما حكم النقود التي تعطى لطلاب المعاهد والجامعات، فهذه لا شيء فيها، يأخذها وليس فيها شيء؛ لأن هذه رتبت من أجل إعانته على الدراسة، أي: كأن الحكومة قد أعطته راتباً لتفرغه للدراسة، أو أعطته مكافأة لكي يستعين بها على التفرغ للدراسة، لأنه كان يمكن أن يعمل ولا يدرس، لكن ما دام تفرغ للدراسة فأعطته مكافأة لكي يقيم بها شأنه، فلا بأس أن يأخذها.

السؤال عن اللحم المقدم في الوليمة

السؤال عن اللحم المقدم في الوليمة Q هل يلزم السؤال عن اللحم إذا قدم في وليمة؟ A لا. لا يلزم ما دام إنسان مسلم دعاك وقدم لك طعاماً تأكله، الأصل في طعام المسلم أنه حلال، فإذا قامت القرائن على أنه حرام، فإذا قامت قرائن واضحة جداً على أن في الطعام شيئاً فيه طعم كذا أو فيه شيء أو فيه لون يدل على أن فيه محرمات عند ذلك يُسأل الإنسان عنه.

حكم الورع في الشبهات مع فعل المحرمات

حكم الورع في الشبهات مع فعل المحرمات Q بعض الناس قد ابتلي بالحرام، فلا يستطيع تركه، فهل يعني هذا أنه يترك جميع الشبهات لأنه يفعل ما أكبر منه؟ A قد أجبنا عليه، قلنا: لا. عليه أن يستمر على ورعه ولو كان مقيماً على معصية من المعاصي، لكن ما هي فائدة الكلام الذي ذكرناه؟ الفائدة: أن يستحي الإنسان من نفسه ويقول: كيف أنا أتورع عن شيء تورعاً مستحباً، ثم أنا أفعل شيئاً محرماً.

التورع في الأكل

التورع في الأكل Q أمرني أبي أن أذهب معه إلى رجل شيخ قبيلة، فأبى أخي بسبب التورع، وذهبت مع أبي بسبب بر الوالدين، فقد غضب أبي من أخي، فلما كنت على مائدة العشاء تظاهرت بأني آكل ولم آكل بسبب أني تورعت؟ A جزاك الله خيراً، إذا كان فعلاً هذا شيخ القبيلة أمواله مشبوهة فيكون فعلك طيباً، ذهبت وأرضيت والدك وما أكلت من الطعام. وهناك كتاب الزهد للإمام أحمد وهو كتاب يذكر فيه أمثلة كثيرة من هذا النوع.

التدقيق في الأمور البسيطة وإهمال الكبرى

التدقيق في الأمور البسيطة وإهمال الكبرى Q بعض الناس يقولون: أنتم تدققون في هذه المسائل كالتصوير والإسبال وتوفير اللحية في الوقت الذي توجد فيه أمور كبرى كالدعوة والجهاد لأعداء الله، فلا تلقوا لها بالاً؟ A إذا كان كلامهم صحيحاً، أي: إذا كنت لا تلقي للجهاد والدعوة بالاً، وهمك مقتصر على هذه المسائل فأنت مخطئ، لكن ما هو الخطأ المقابل: هو أنك تعتبر أن الانشغال بالجهاد والدعوة عذر بأن ترتكب المحرمات كالإسبال وحلق اللحية وغيره، بالعكس يا أخي! فلو أعفى الإنسان لحيته أظن أنه يعينه أكثر في الجهاد والدعوة أليس كذلك؟!

التهجم على العلماء

التهجم على العلماء Q كثر في الآونة الأخيرة التهجم على العلماء من قبل بعض الناس؟ A هذا خطأ يا جماعة! إن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في الانتقام من شانئيهم معلومة، فالعالم بشر يخطئ وليس نبياً معصوماً، لكن هل يجوز أن نمسح حسناته كلها، وننسى كل الحسنات التي فعلها؛ لأنه أخطأ في مسألة أو مسألتين أو ثلاث، لا يصح هذا، بل إنه بالعكس إذا ثبت عندنا أنه عالم ورع، وعالم تقي، وعالم زاهد في الدنيا، فإننا نشفق عليه ونرحمه ولا نشعر نحوه بالكره والبغض والحقد على أنه أخطأ في فتوى أو شيء من هذا القبيل، وإنما ندعو له ونقول: نسأل الله أن يبصره وأن يثبته وأن يهديه للجواب الصحيح، وهكذا، فنشعر نحوه بالرحمة والشفقة، ولا نشعر نحوه بالحقد والكره والبغضاء لأجل هذا الأمر، إذا كان من علماء أهل السنة الأتقياء.

الهدايا التي يقدمها الطلاب

الهدايا التي يقدمها الطلاب Q هل نتورع عن الهدايا التي يقدمها الطلاب للمدرس؟ A نعم نتورع عنها؛ لأنها قد تكون مصدراً أن يحابي بعضهم أو يعطي بعضهم أشياء لا يعطيها للآخرين، وإذا كان بقي عنده يتخلص منها بأن يهديها أو يتصدق بها فهذا طيب.

دعوة الأهل لترك الغيبة

دعوة الأهل لترك الغيبة Q دعوة أهلي لترك الغيبة؟ A قل لهم: لو كان أمامكم لحم آدمي ميت هل تأكلون منه؟ لو وجدتم جدياً متعفناً ميتاً هل تأكلون منه؟ أو جيفة حمار أتأكلون منه؟ هكذا ضرب لنا القرآن والسنة المثل في ترك الغيبة والتقبيح في شأنها.

جمع الصلاة في الحضر

جمع الصلاة في الحضر Q جمع صلاة الظهر والعصر في الحضر؟ A نعم. يمكن للمريض مثلاً، أنه يجمع إذا شق عليه الوضوء لكل صلاة أنه يجمع، فمثلاً صاحب سلس البول يجمع، إذا شق عليه جداً فماذا يفعل؟ هل يتوضأ لكل صلاة في وقتها ويصليها. والطبيب في غرفة العمليات لا يمكن أن يترك المشرط في بطن المريض مفتوحة ويذهب يصلي كل صلاة في وقتها فماذا يفعل؟ يجمع الظهر مع العصر إذا احتاج إلى عملية طويلة، والمغرب مع العشاء، لكن هل يجوز أن يؤخر الظهر والعصر إلى المغرب؟ أبداً لا يجوز، ولو كانت العملية طويلة جداً، وعلى فرض أنه ما استطاع أن يهيئ وقتاً آخر يتسع، وعلى فرض أنه ما وجد شخصاً آخر يمسك مكانه وهو يذهب ويصلي ويرجع، على جميعهم إذا انتهت جميع الأشياء أن يصلي بحسب حاله، وهو يشتغل في العمليات، ويجوز جمع الظهر والعصر ولكن لا يجوز أن تأخرهما إلى المغرب إذا غربت الشمس فهذا حرام. فإذاً: المسألة فيها حرج شديد فالرسول صلى الله عليه وسلم جمع قال ابن عباس: [لئلا يحرج أمته] فكل أمر فيه حرج شديد، مثل: المرض مثلاً أو مثل الطبيب في غرفة العمليات، يجمع، مع عدم التساهل في هذا الأمر.

الشارع بين مقبرتين

الشارع بين مقبرتين Q الشارع بين مقبرتين؟ A إذا كان هو من المقبرة، فلا يجوز أن يمشى عليه، إذا كان ليس من المقبرة فلا بأس؛ لأنه قد تكون البلدية خططت شارعاً ليس مقبرة، ولكن المقبرة على اليمين وعلى اليسار، والشارع ليس تحته قبور، وليس من المقبرة، ويوجد أسوار من اليمين ومن اليسار فلا بأس بالمرور في هذا الشارع.

المؤذن يفطر قبل الأذان

المؤذن يفطر قبل الأذان Q هل على المؤذن أن يفطر قبل الأذان بوقت يسير؟ A نعم. إذا غربت الشمس، أكل التمر وأذن.

استعمال عطر الكلونيا

استعمال عطر الكلونيا Q استعمال عطر الكلونيا؟ A بعض العلماء يقول: إنها نجاسة عينية، وبعضهم يقول: إنها نجاسة معنوية، فإذاً: بعضهم يجيز استعمالها وبعضهم لا يجيز بناءً على هذا الفهم، والأورع أنك لا تفعل، فإذا تبين لأحد بالدراسة أنه لا يوجد فيها شيء؛ لأن القول بأنها نجسة قول مرجوح مثلاً، فاستعملها فلا عليه شيء، لكن آخر لم يتبين له، فالأدلة متكافئة ما هو الورع في حقه؟ الترك.

الغسل بعد التبول

الغسل بعد التبول Q إذا تبول الإنسان هل يغسل السبيلين أم محل البول؟ A يكفي محل البول.

مد القدمين تجاه القبلة

مد القدمين تجاه القبلة Q مد القدمين إلى اتجاه الكعبة؟ A لا أعلم فيه حرمة، في حدود ما أعلم أنه ليس بحرام.

الصور في البيت

الصور في البيت Q ذهبت إلى بيت أختي فوجدت عندهم رجلاً يريد أن يشتري البيت، وكان صاحب البيت معه، فقمت لأقلب الصور التي كانت على الجدار؛ فجاءت أختي وتكلمت علي بكلام غير لائق؟ A اصبر واحتسب الأذى في سبيل الله، ورفعها أحسن من قلبها.

الاستيقاظ لصلاة الفجر

الاستيقاظ لصلاة الفجر Q أخي يأتي لينام ويطلب مني أن أوقظه لصلاة الفجر وهو متزوج فأتصل عليه ولا يرد عليّ ويضع المنبه ولكن نومه ثقيل، وإذا رأيته فيما بعد أراه يلوم نفسه على عدم قيامه، فهل يأثم؟ A إذا اتخذ جميع الوسائل وما تكاسل، فإنه إن شاء الله لا يأثم، وأما إذا كان تكاسلاً وأوقظ وأحس بأنه قد أوقظ، ولكنه استمر في النوم فهذا مقصر.

طلب السماح من المغتاب

طلب السماح من المغتاب Q جلست في مجلس فيه غيبة فهل الواجب علي أن أتسامح من المغتاب؟ A نعم. طبعاً إذا كنت أنت راضياً باغتيابه، إلا إذا كان سيجد في نفسه عليك شيئاً، أي: ما كان يعلم أنه قد اغتيب فلما أخبرته آذيته، فارتفعت المسألة في نفسه، وصار فيها مضاعفات، فلا تخبره بالغيبة، بل تب إلى الله واستغفر له ودافع عنه في المستقبل، وأنكر على من يغتابه، واذكر محاسنه.

الساعة المطلية بالذهب

الساعة المطلية بالذهب Q لبس الساعة المطلية بالذهب؟ A بعض العلماء يقول: الطلاء إذا حك وكان له جرم فلا يجوز، وبعضهم يقول العبرة بما يظهر وليس بالقيمة، فلو كان الذي يظهر الذهب أو الطلاء الذهبي فهذا لا يجوز ولو كان طلاءً، لكن يكون ذهباً، فلو كان طلاءً أصفر من معادن أخرى، فلا بأس، لكن الذهب لا تلبسه.

الراتب المصروف من البنك

الراتب المصروف من البنك Q هل يجوز أن نأكل من راتبنا الذي صرفناه من البنك؟ A هذا راتبك وهذا تعبك، ولو جاء من البنك، لكن أنت هذا تعبك، فجهة العمل حولته إلى البنك حتى لا تضيع الرواتب أو شيء من هذا القبيل، فصار الآن ضرورة أن تأخذ الراتب من هذا المكان، فكون عملك حلال لا يعني أن الراتب الذي تأخذه حرام، ما دام أن عملك حلال فراتبك حلال، لكن إذا استطعت أن تجد وسيلة أخرى للقبض من غير وضع الفلوس في البنك فهو أحسن.

نكاح المشركات الكتابيات

نكاح المشركات الكتابيات Q نكاح المشركات الكتابيات وهن يعتقدن بذلك؟ A بعض العلماء مثل ابن عمر قال: لا أعلم شركاً أعظم من أن تقول بأن عيسى ربها أو كفر أعظم، لكن الصحيح أن الكتابيات يجوز الزواج منهن إذا كن محصنات، لكن أين تجد الآن محصنة من أهل الكتاب، هذا أولاً، وثانياً: الزواج منهن فيه خطر وخصوصاً إذا أقمت في تلك البلاد، لأن القانون يكون معها أحياناً، وتحرم من أولادك، ويتربون في بلاد الكفار، وإذا طالبت بهم في المحكمة تأخذهم وأنت ترجع بلدك خائباً وأنت حسير تلوم نفسك، وذهب أولادك بسبب هذه الخطوة التي أقدمت عليها من الزواج بالكافرة.

الاعتذار من إجابة الفتوى

الاعتذار من إجابة الفتوى Q بعض الإخوة يكون لديه إلمام جيد ومعرفة أكيدة ببعض الفتاوى الشرعية، لكن إذا سألته عنها اعتذر عن الإجابة وقال: لا أتحمل إثم الفتوى؟ A إذا كان هناك غيره ممن يفتي في المسألة أو يعلم الفتوى ففعله جيد، أما إذا كان ليس هناك غيره في المكان الذي يسأل فيه السائل وليس هناك من يعلم إلا هو، فلا بد أن يجيب.

التبرع بالفوائد الربوية

التبرع بالفوائد الربوية Q رجل أودع مالاً كثيراً في بنك ربوي، وبعد سنة أخذ الفوائد وتبرع بها للمجاهدين، فهل هذا جائز؟ A هذا ليس تبرعاً، وإنما هو تخلص، وليس فيه أجر التبرع وإنما هو تخلص.

الصلاة عند طلوع الشمس وغروبها

الصلاة عند طلوع الشمس وغروبها Q الصلاة عند طلوع الشمس وغروبها؟ A إذا كان نفلاً فلا يجوز لأنه وقت نهي، وإذا كان فرضاً واحداً ولم يتذكر الصلاة إلا في ذلك الوقت فيصليها.

حكم توليد الرجل للمرأة

حكم توليد الرجل للمرأة Q زوجتي حبلى ولا يوجد في المستشفى إلا رجال أخصائي طب ونساء وطبيب الحالات المستعصية؟ A إذا كان لا يوجد مستشفى ثانٍ فيه طبيبة نساء صار ذلك اضطراراً، أما إذا وجدت في المستشفيات الأخرى، فاذهب المستشفيات الأخرى.

بناء منزل من العمل في البنك

بناء منزل من العمل في البنك Q أعمل في البنك وأثناء العمل بنيت منزلاً، فما حكمه؟ A إذا كان أثناء العمل الذي بنى منه لا يعلم بحكم العمل، فلا بأس، أي: أن الأموال التي استفاد منها من البنك ولم يكن يعلم بحكم العمل أنه حرام فلا بأس، عفا الله عما سلف، أما إن كان يعلم فيجب إخراجها أو إخراج مثلها، إذا كانت عنده يتخلص منها، وإذا كانت في شيء لا يمكن إخراجه، مثلاً: شخص عنده سيارة فيها نسبة من مال حلال ونسبة من مال حرام، ماذا يفعل؟ هل يقسم السيارة بالنصف؟! لا. وإنما يتصدق بمال آخر يوازي قيمة الحرام الذي في السيارة ويتخلص منه. والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الوصية الصغرى لشيخ الإسلام ابن تيمية

الوصية الصغرى لشيخ الإسلام ابن تيمية في هذا الدرس تحدث الشيخ عن الوصية الصغرى لشيخ الإسلام ابن تيمية، وقد تطرق فيها إلى مواضيع عدة، منها: فضل معاذ رضي الله عنه، وإتباع السيئات بالحسنات، والحذر من موافقة أهل الكتاب، وأهمية ذكر الله. ثم عرج على رسالة أخرى اسمها: "قاعدة في المحبة" ذكر فيها أكثر من ثلاثين قاعدة في المحبة ومسائل أخرى مهمة.

فضل معاذ رضي الله عنه

فضل معاذ رضي الله عنه الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فموضوع الرسالة التي سنتحدث عنها هي: الوصية الصغرى لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وسنمر على هذه الوصية، ثم بعد ذلك نعقبها بتلخيص قاعدة في المحبة في نحو عشرين قاعدة بمشيئة الله تعالى، مع عرض بقية النقاط. الوصية الصغرى اسم اُشتهرت به رسالة صغيرة لـ شيخ الإسلام رحمه الله، وهي في الحقيقة شرح لحديث معاذ رضي الله عنه:) اتق الله حيثما كنت). وهذه الوصية أوصى بها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله شخصاً طلب منه الوصية، فيكون الكلام عنها من باب التواصي بالحق والتواصي بالصبر الذي أُمرنا به، واشتملت على موضوعات مختصرة ذكرها رحمه الله تعالى، فمنها: فضل معاذ رضي الله تعالى عنه، وقضية إتباع السيئات بالحسنات، ومسألة الحذر من موافقة أهل الكتاب، وأهمية ذكر الله سبحانه وتعالى والإخلاص له، وعموماً فإن الرسالة تدور على التقوى ومعانيها. أما بالنسبة لهذه الرسالة فإن السبب في كتابتها؛ كان سؤالاً وجهه شخص اسمه القاسم بن يوسف بن محمد التوجيبي السبتي المغربي يقول في رسالته أو سؤاله لـ شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: "يتفضل سيدنا الشيخ الفقيه الإمام الفاضل العالم بقية السلف وقدوة الخلف، المُبدع المفصح، أعلم من لقيت في بلاد المشرق والمغرب تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية أبقى الله علينا بركته، بأن يوصيني بما يكون فيه صلاح ديني ودنياي، ويرشدني إلى كتاب يكون عليه اعتمادي في علم الحديث، وكذلك في غيره من العلوم الشرعية، وينبهني على أفضل الأعمال الصالحة بعد الواجبات، ويبين لي أرجح المكاسب، كل ذلك على قصد الإيماء والاختصار والله تعالى يحفظه، والسلام الكريم عليه ورحمة الله وبركاته". فأجاب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى ورضي عنه وأرضاه: الحمد لله رب العالمين، أما الوصية فما أعلم وصية أنفع من وصية الله ورسوله لمن عقلها واتبعها قال الله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131]-فما هي أعظم وصية؟ تقوى الله- ووصى النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً لما بعثه إلى اليمن فقال: (يا معاذ! اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن) وهذا حديث صحيح. وكان معاذ رضي الله عنه من النبي صلى الله عليه وسلم بمنزلة عليَّةٍ فإنه قال له: (يا معاذ والله إنني لأحبك) وكان صلى الله عليه وسلم يردفه وراءه كما جاء في الحديث الصحيح الذي يقول فيه معاذ رضي الله عنه: (كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار يقال له عفير، فقال: يا معاذ! هل تدري ما حق الله على عباده، وما حق العباد على الله؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً، فقلت: يا رسول الله! أفلا أبشر به الناس؟ فقال: لا تبشرهم فيتكلوا) أخرجه البخاري، ثم أخبر به معاذ رضي الله عنه عند موته تأثماً من كتم العلم. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه -أي: في معاذ -: (أنه أعلم الأمة بالحلال والحرام) كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فيه: (أرحم أمتي بأمتي أبو بكر -وفي رواية: أرأف أمتي بأمتي أبو بكر - وأشدهم في دين الله عمر، وأشدهم حياءً عثمان، وأقضاهم علي بن أبي طالب، وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، ألا إن لكل أمة أميناً وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح) وهذا الحديث أخرجه الترمذي وغيره وهو حسن بمجموع طرقه. وأخبر عليه الصلاة والسلام أن معاذاً رضي الله عنه يُحشر أمام العلماء برتوة، يتقدم العلماء كلهم يوم القيامة، معاذ بن جبل رضي الله عنه برمية حجر -مسافة- أمام والعلماء وراءه، وقد جاء ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عمر وجابر بن عبد الله رضي الله عنهما. ومن فضله أنه صلى الله عليه وسلم بعثه مبلغاً عنه داعياً ومفقهاً ومفتياً وحاكماً -أي قاضياً- إلى أهل اليمن، كما جاء ذلك في الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري، أنه عليه الصلاة والسلام: (بعث معاذاً إلى اليمن، قال: إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله). وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشبهه بإبراهيم الخليل، ولكن هذا قد جاء في طرق موقوفة عن ابن مسعود رضي الله عنه، أي: ثبت عن ابن مسعود رضي الله عنه أن معاذ بن جبل يُشبه إبراهيم الخليل من جهة، وإبراهيم كان إمام الناس، وكان ابن مسعود يقول: [إن معاذاً كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين] تشبيهاً له بإبراهيم. فإذاً: معاذ موحد وإمام يأتم به الناس، وهذا هو وجه مشابهته للخليل إبراهيم عليه السلام. وكان معاذ رضي الله عنه يجلس ويتصدر في المسجد الجامع في دمشق، وقد دخل عليه واحد من الناس فرآه براق الثنايا فتىً لم يكن كبيراً في السن عندما تصدر بالعلم الذي آتاه الله إياه. يريد ابن تيمية أن يُوصي الشخص الذي طلب منه الوصية، وأن ينقل له وصية النبي صلى الله عليه وسلم لـ معاذ بن جبل رضي الله عنه. فوصاه بهذه الوصية، فعُلم أنها جامعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما وصى أعرابياً من الأعراب وإنما وصى معاذاً، ولما وصى معاذاً معناها أنه انتقى له وصية تناسب حاله، فعُلم أنها جامعة، وهي كذلك لمن عقلها، مع أنها تفسير للوصية القرآنية، ووصية الله للبشرية: أن اتقوا الله. هذه الوصية جامعة -وصية النبي صلى الله عليه وسلم لـ معاذ - لأن العبد عليه حقان: حق لله عز وجل، وحق لعباده، فالحق الذي عليه لله قد يُخل به أحياناً والعبد يمكن أن يخل من عدة جهات: أولاً: إما بالإخلال وذلك بترك الواجبات، أو الإخلال بفعل المحرمات، إما أن يترك واجباً أو يفعل محرماً، هذا هو الإخلال فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اتق الله حيثما كنت) أي: لا تترك واجباً ولا تفعل محرماً، وهذه كلمة جامعة، وهذه هي التقوى. ثم إنه أوصاه بها في السر والعلانية.

إتباع السيئات الحسنات

إتباع السيئات الحسنات ثم قال له: -فإذا حصل الإخلال ماذا يفعل العبد؟ فجاء الجواب-:) وأتبع السيئة الحسنة تمحها). فإن المريض متى ما تناول شيئاً مضراً، فإن الطبيب يأمره بإصلاح هذا الضرر الحاصل من تناول الشيء المضر، والذنب للعبد كتناول الشيء المضر، فالكيّس الذي يتعاطى ما يصلح الضرر الذي تناوله، وكذلك لما قال له: (أتبع السيئة الحسنة تمحها) مثل الطبيب إذا جاءه واحد تناول شيئاً مضراً، فإنه ينصحه بأن يتناول شيئاً يصلح الضرر. والعبد إذا أذنب؛ فعليه أن يأتي من الحسنات ما يكفر الذنب ويزيل الضرر، وتنبه للحكمة البالغة في أنه صلى الله عليه وسلم بدأ بذكر السيئة قبل الحسنة، قال: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها) فبدأ بالسيئة؛ لأن المقصود هنا إزالة أثر السيئة لا مجرد فعل الحسنة، ولذلك بدأ بذكر السيئة، فصار قوله كما في بول الأعرابي: (صبوا عليه ذنوباً من ماء) هذه مثل أتبع السيئة بالحسنة فيذهب الماء دنس النجاسة وأثرها. وقد نبه شيخ الإسلام رحمه الله إلى مسألة وقال: ينبغي أن تكون الحسنات المعمولة -إذا عملت ذنباً- من جنس السيئة فإنه أبلغ في محو الذنوب. فإذا سافر شخص إلى بلد فسق وفجور وعمل معصية، فالحسنة المشابهة أن يذهب في عمرة، أو في سفر حج، أو في سفر جهاد، أو في سفر طلب علم، أو في سفر طاعة مثلاً. (من قال لصاحبه: تعال أقامرك؛ فليتصدق) أي: إذا عمل معصية تتعلق بالأموال، فالحسنة المشابهة التصدق، إذا قطع رحماً يصله، فالحسنة المكفرة من جنس السيئة ومن نفس الباب تكون أبلغ في التكفير والتطهير، وأبلغ في محو الذنوب.

أسباب إزالة السيئات

أسباب إزالة السيئات ثم نبه رحمه الله تعالى إلى أن السيئة عموماً تزال بأشياء، فلو قال لك أحد: أنا عملت سيئة، ما هي أسباب إزالة السيئات في الشريعة؟ وهذا الموضوع مهم أن يطرح وخصوصاً في هذه الأيام لكثرة السيئات، الآن نتيجة وجود المعاصي وأبواب الشر والشهوات، وهذه الأفلام وهذه الصحون وغيرها وقع الناس في المعاصي، فالشاهد فساد الأسواق والشوارع والمدارس والبنات والنساء، فصارت هناك معاصٍ كثيرة في المجتمع، فالمهم أن يطرح موضوع: كيف نطهر السيئة؟ لأن كثيراً من الناس لا يخلون من فعل المعصية، فمن ذا الذي يخلو من فعل المعصية في هذه الأيام، مع كثرة أبواب الشر والمعاصي التي فتحها اليهود وأعوانهم. فمهم جداً أن يركز على قضية كيف تكفر السيئة؟ تكفر السيئة بأسباب: أولاً: التوبة. ثانيا: الاستغفار. فإن الله تعالى قد يغفر لهذا الشخص بإجابة دعائه عندما يقول: اللهم اغفر لي، وإن لم يتب التوبة بشروطها المعروفة، وإذا اجتمعت التوبة مع الاستغفار؛ كان أكمل. ثالثاً: الأعمال الصالحة المكفرة. ثم إن هذه المكفرات قد تكون مقدرة وقد تكون غير مقدرة. المكفرات المقدرة: تدور أجناسها في الشريعة على أربعة أشياء: الأول: الذبح. الثاني: العتق. الثالث: الصدقة. الرابع: الصيام. لو نظرنا إلى المكفرات، فمثلاً: إذا حلف شخص فعليه كفارة يمين، شخص جامع في نهار رمضان، أو ظاهر من زوجته، أو عمل محظوراً من محظورات الإحرام مثلاً: صاد في الحرم. المكفرات إذا نظرنا إليها في الشريعة إما أن تكون مقدرة أو غير مقدرة، وإذا نظرنا إلى الأشياء المقدرة، نجد أنها تدور على أربعة أشياء: الذبح والعتق والصدقة والصيام. كما جاء في مرتكب بعض محظورات الحج والمجامع في رمضان، والتارك لبعض واجبات الحج ونحو ذلك. أما الكفارات المطلقة غير المقدرة، فإنه قد أشير إليها في حديث حذيفة لـ عمر رضي الله عنهما، قال له من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (فتنة الرجل في أهله وماله وولده، يكفرها: الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) إذاً أبواب الخير عموماً، وقد دل القرآن والسنة على أن التكفير يكون بالصلوات الخمس، كما في الحديث: (الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر). وكذلك من فعل كذا؛ غفر له ما تقدم من ذنبه، ونحو ذلك جاءت أعمال صالحة مطلقة، أي: أعمال صالحة عموماً التي يفعلها يُغفر له، فإذاً: من المكفرات الأعمال الصالحة عموماً.

الحذر من موافقة أهل الكتاب

الحذر من موافقة أهل الكتاب ثم يقول منبهاً على زمان كأنه زماننا، ولكن نحن أسوأ بزمانه بكثير بالتأكيد، يقول: (واعلم أن العناية بهذا من أشد ما بالإنسان الحاجة إليه، فإن الإنسان من حين يبلغ خصوصاً في هذه الأزمنة ونحوها من أزمنة الفترات التي تشبه الجاهلية) الفترة هي التي ما جاء فيها رسول، وقد جاء رسولنا على حين فترة من الرسل، أي: انقطاع من الرسل. يقول: (فإن الإنسان من حين يبلغ خصوصاً في هذه الأزمنة ونحوها من أزمنة الفترات التي تشبه الجاهلية من بعض الوجوه). فتشبه الجاهلية بسيادة الشر وعلو الشر وباختفاء آثار دعوة الرسل، وقلة العلم، وفشو الجهل، وفشو المعاصي، فجاهليتنا تشبه الجاهلية الأولى من وجوه كثيرة. (التي تشبه الجاهلية من بعض الوجوه) إذاً: هذه العناية بقضية تكفير السيئات خصوصاً عند الإنسان إذا بلغ في أزمنة الجاهلية التي نحن الآن واقعون فيها قال: (فإن الإنسان الذي ينشأ بين أهل علم ودين قد يتلطخ من أمور الجاهلية بأشياء، فكيف بغير هذا؟). فلو نشأ واحد في القرون الثلاثة الأولى، أو نشأ بين أهل علم ودين فمن الممكن جداً أن يتلطخ بذنوب، فكيف إذا نشأ الشخص في أوقات جاهلية، مثل زماننا. يقول: زمانه ومن باب أولى زماننا الذي نحن فيه الآن، حيث يتلطخ زيادة، والنبي عليه الصلاة والسلام قد أخبر أن الناس يتلطخون بالأشياء التي يفعلها اليهود والنصارى بالذات، ولذلك قال في الحديث الصحيح: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة) مثل ريش السهم في تواليها وانتظامها وموازاتها لبعضها حذو القذة بالقذة في تتاليها وتوازيها وتماثلها (حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن) من غيرهم؟ هؤلاء الذين أعني، فهذا الحديث يبين أن التشبه سيسري، فقد قال: لتتبعن، فالخطاب للمسلمين، فأثبت أن التشبه سيسري في الأمة، وأنه سيسري إلى أصحاب الدين أيضاً، كما قال غير واحد من السلف، فإن كثيراً من أحوال اليهود قد ابتلي به بعض المنتسبين إلى العلم، مثل كتم العلم، والتلبيس، يشترون به ثمناً قليلاً، يبيع لك فتوى، أو يصدر فتوى توافق هوى شخص، فإن بعض أهل العلم سيتشبهون باليهود والنصارى. (وكثيراً من أحوال النصارى قد ابتلي به بعض المنتسبين إلى الدين) كما يوصل ذلك من فهم دين الإسلام، فـ الصوفية منتسبون للدين مشابهون للنصارى، وبعض المفتين وبعض الذين يحملون شهادات شرعية ودكاترة وإلى آخره، يتشبهون باليهود من جهة كتم العلم وتحريف العلم، ولوي أعناق النصوص، وبيع الفتاوى وإصدار الفتاوى حسب الأهواء، وبعض المنتسبين للدين من العبّاد والزهاد وغيرهم سيشابهون النصارى في الرهبنة والبدع والانحراف. فالنصارى مشكلتهم البدعة: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} [الحديد:27] وهؤلاء بعض الذين ينتسبون للدين من أصحاب بعض الطرق الصوفية، ملايين في العالم، وهم سائرون في قضية البدعة. (وإذا كان الأمر كذلك {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ} [الزمر:22] {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} [الأنعام:122] لا بد أن يلاحظ أحوال الجاهلية، وطريق الأمتين المغضوب عليهم والضالين من اليهود والنصارى فيرى أنه قد ابتلي ببعض ذلك). إذاً: يقول: ألقوا نظرة على سيرة اليهود والنصارى وتمعنوا فيها، لاحظوا أحوال الجاهلية ستجدون أنفسكم أنكم قد ابتليتم بشيء من هذا، واتبعتموهم في قليل أو كثير. فأنفع ما للخاصة والعامة لو قلنا: نحن المتدينين والملتزمين، لو قلنا نحن الخاصة، وهؤلاء العامة الذين لا ينتسبون إلى التدين، ولكن دخول التشبه في الجميع، لا يمكن استثناء أحد. فإذا وقعت الواقعة في قضية التشبه واتباع اليهود والنصارى في أشياء (فأنفع ما للخاصة والعامة العلم بما يُخلص النفوس من هذه الورطات) والورطات جمع ورطة، والورطة في لغة العرب: الشيء الذي لا مخلص منه، ولا مخرج منه، فإذا دخل شخص فيه لا يكاد يخرج منه، قال: (وهو إتباع السيئات الحسنات). إذن المخرج من الورطات هو إتباع السيئات الحسنات (والحسنات هو ما ندب الله إليه على لسان خاتم النبيين من الأعمال والأخلاق والصفات). إلى هنا ذكرنا من مكفرات الذنوب ثلاثة: أولاً: التوبة. ثانياً: الاستغفار. ثالثاً: الحسنات الماحية وهي الأعمال الصالحة. رابعاً: المصائب المقدرة، وهذه من المكفرات. المصائب المكفرة أي: التي تكفر الذنوب، هي: كل هم وغم وألم وحزن ومرض وأذية في مال أو جسد أو غير ذلك، أو عرض إلى آخره، فالحسنات الماحية مطلوب منك أن تسعى إليها، لكن المصائب المقدرة ليست من فعلك، وهذه مسألة مهمة، فلا يقال: مرّض نفسك؛ حتى يكفر عنك سيئاتك، أو قف بالشمس؛ حتى تُصاب بضربة وتكفر عنك سيئاتك، وجوّع نفسك حتى تتألم ويكفر عنك سيئاتك، لا! المصائب المكفرة لا تكون بفعل العبد وإنما هي من قدر الله تعالى. فلما قضى من هذا الأمر قال له: (اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها) قال له: (وخالق الناس بخلق حسن) ونحن كنا قد تكلمنا أن الحقوق على العبد من جهتين: حقوق لله، وحقوق للخلق، حقوق لله قد جرى الكلام فيها، وحقوق العباد كيف تؤدى؟ A بهذا الشطر من الحديث وهو قوله: (وخالق الناس بخلق حسن) فما هو جِمَاع الخلق الحسن مع الناس؟ جاء في أحاديث لو جمعتها تخرج بنتائج، ومنها: أولاً: (صل من قطعك) بالسلام والإكرام والدعاء له والاستغفار والثناء عليه والزيارة له وغير ذلك. ثانياً: (وتعطي من حرمك) من التعليم والمنفعة والمال. ثالثاً: (وتعفو عمن ظلمك) من ظلمك في دم أو مال أو عرض، وبعض هذه الأشياء واجبة وبعضها مستحبة، فهذا كله داخل في التقوى؛ لأن وصية الله لعباده بالتقوى تجمع كل ما أمر الله به، أمر إيجاب أو أمر استحباب، وما نهى عنه تحريماً أو تنزيهاً، سواء كان حراماً أو مكروهاً، فهذا يجمع حقوق الله وحقوق العباد. ولا شك أن أكثر الناس إيماناً أكملهم خلقاً، كما جاء في الحديث الصحيح: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً) فجعل كمال الإيمان في كمال حُسن الخلق، والإيمان كله هو تقوى الله، فهذا إذاً ملخص الموضوع. وأصول التقوى وفروعها كلها هي الدين، وينبوع الخير وأصله: هو إخلاص العبد لربه عبادة واستعانة، لو قال: فسرها لنا بكلام آخر، نقول: التقوى هي الدين، وبكلام آخر: قال عبادة واستعانة، التي جاء قوله تعالى فيها: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] وقوله تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود:123] وقوله تعالى: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88].

أفضل الأعمال بعد الفرائض

أفضل الأعمال بعد الفرائض بهذا انتهى الجزء الأهم والأعم والأشمل من الوصية، ثم انتقل بعد ذلك للجواب على جزئية وردت في السؤال. الجزئية الثانية التي وردت في السؤال هي عن أفضل الأعمال بعد الفرائض، كأن السائل يقول: الفرائض أنا أعرفها، وأنت عالم، وأنا وقتي وعمري محدود، دلني على عمل بعد الفرائض أعمله، فأنت عالم حجة، فأنا سوف أستفتيك في عمري هذا بعد الفرائض في أي شيء أقضيه؟ قال: (وأما ما سألت عنه من أفضل الأعمال بعد الفرائض، فإنه يختلف باختلاف الناس فيما يقدرون عليه وما يناسب أوقاتهم) لاحظ الكلام ففيه حكمة بالغة؛ لأنه يُراعي ظروف الناس. فهناك من هو طالب، أو تاجر، أو موظف، ومن وظيفته قصيرة كمدرس، ومن وظيفته طويلة كموظف في شركة، ومن لديه نوبات، أو عاطل عن العمل، فالناس يختلفون، وهناك من ترك له أبوه إرثاً وعقارات، فلا يحتاج أن يعمل، فأفضل شيء بالنسبة لكل واحد يختلف باختلاف أحوال الناس وأوقاتهم، وهذه أوقات وقد ذكرنا أمثلة. أما أحوالهم فهذا مثلاً عنده علم والنفس لا تشبع من العلم نهمة، وهذا عنده جلد وصبر على القراءة، وهذا عنده فهم وقوة وحافظة وقدرة على التعليم، فما أنفع شيء بالنسبة له، أن يعلِّم ويتعلم. وهناك من عنده قدرة في التخطيط للقتال وخبرة في المعارك والسلاح، فهذا الأنفع له أن يعاون المسلمين مثلاً في الجهاد. وآخر عنده صبر على الأذى وجرأة في الحق وقوة في الدين وحسن أسلوب، يشتغل في الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويركز عليه. وقد يكون آخر عنده خبرات تفيد المسلمين في مال أو اقتصاد أو تأسيس أعمال خيرية ونحو ذلك. وهذا عنده خبرة في الأسفار وتعلم اللغات بسرعة، وقد يفيد في أعمال الإغاثة ونحو ذلك. إذاً أفضل شيء عموماً يختلف باختلاف أحوال الناس، وحتى في العلم، قد يكون واحد عنده قدرة على الخطابة، وآخر عنده قدرة على التأليف، فتقول لهذا الذي يحسن التأليف ألِّف، والذي يحسن الخطابة ألق دروساً ونحو ذلك. هذا صوته جميل بالإمامة، وهذا موهبته الشعرية يذب عن المسلمين بها وهكذا. فالمسألة قدرات، والناس قدرات وطاقات، لكن قد يقول واحد مثلاً: أليس هناك شيء جامع أو ورد فضله على جميع الأعمال مثلاً فلفت نظره إلى هذه المسألة.

أهمية الذكر وفضله

أهمية الذكر وفضله بعد أن قال: (فلا يمكن فيه جواب جامع مفصل لكل أحد، لكن مما هو كالإجماع بين العلماء بالله وأمره) -يقول وإذا لم نتمكن أن نعطي جواباً مفصلاً في هذه المسألة، لأن الناس يتفاوتون، لكن هناك شيء معين يمكن أن يشترك فيه الجميع، بالإضافة لقيام كل واحد بما يحسنه، فما هو هذا الشيء؟ قال: (إن ملازمة ذكر الله دائماً هو أفضل ما يشغل العبد به نفسه في الجملة). وعلى ذلك دل حديث أبي هريرة الذي رواه مسلم قال صلى الله عليه وسلم: (سبق المفردون، قالوا: يا رسول الله! من المفردون؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات) وهذا حديث صحيح والمفردون: هم المنفردون الذين هلك أقرانهم وبقوا هم، والمقصود أنهم بقوا يذكرون الله سبحانه وتعالى. وكذلك حديث أبي داود: (ألا أنبئكم بخير أعمالكم -هذا يقتضي التفضيل- وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إعطاء الذهب والورق، ومن أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم، قالوا: بلى يا رسول الله! قال: ذكر الله) حديث صحيح بطرقه. وكلمة (ذكر الله) ماذا تعني؟ قال: (أقل ذلك-أي: أقل مرتبة في ذكر الله- أن يلازم العبد الأذكار المأثورة عن معلم الخير وإمام المتقين، كأذكار طرفي النهار، وعند المضجع، والاستيقاظ من المنام، وأدبار الصلوات، والأذكار المقيدة في الأكل والشرب واللباس والجماع، ودخول المنزل والخروج منه، ودخول المسجد والخروج منه، ودخول الخلاء والخروج منه، وعند العطاس وعند المطر وعند الرعد وعند المصيبة وغير ذلك من المناسبات) وهذه هي التي صُنفت لها كتب بعنوان: عمل اليوم والليلة، فإذا رأيت عالماً كتب كتاباً بعنوان: عمل اليوم والليلة فاعلم أن هذا موضوعه. فهذه الأذكار المقيدة بمناسبات وأوقات، وهناك الأذكار المطلقة، وأفضل شيء في الأذكار المطلقة (لا إله إلا الله) وأذكار أخرى وردت مثل: (سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله). فالآن كلمة (ذكر الله) -حتى لا يتصور الواحد أنها محصورة في هذه الجمل- أشار رحمه الله إلى أن كلمة (ذكر الله) تشمل إلى جانب الأشياء اللسانية التي تكون فاضلة جداً إذا تصورها القلب، فبعض الناس تجده بعد الصلاة فقط لسانه وأصابعه تشتغل وعقله في مكان ونظره على الناس، ويظن أنه الآن يقوم بأفضل الأعمال، لا، هذا قلب غافل لاه، فإذا كان اشتغال اللسان مع موافقة القلب، هذا من هذه الجهات، لكن ذكر الله أشمل وأعم من قضية الأذكار التي هي باللسان. قال: (فإن ذكر الله يشمل كل ما يقربه من الله، من تعلم العلم وتعليمه) مثل جلوسنا للعلم إذا أخلصنا فيه النية، هو من ذكر الله الذي هو أفضل من كل شيء ومن أفضل الأعمال، قال: (تعلم العلم وتعليمه، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، هذا من ذكر الله) ولهذا من اشتغل بطلب العلم النافع بعد أداء الفرائض، أو جلس مجلساً يتفقه أو يفقه فيه الفقه، الذي سماه الله ورسوله فقهاً، ليس فقط الفقه الحلال والحرام، الفقه الأكبر، الإخلاص وما يتعلق به، فهذا أيضاً من أفضل ذكر الله، وعلى ذلك إذا تدبرت لم تجد بين الأولين في كلماتهم في أفضل الأعمال كبير اختلاف، فعندما يقول الأفضل كذا وأفضل الأشياء كذا، فإذا نظرت لها في النهاية تجد أن ذكر الله يجمعها، فلا تعارض إذاً. وهذا الذي كان يُشير إليه ويُدندن حوله في عدد من كتبه رحمه الله في قضية اختلاف التنوع واختلاف التضاد، وأن هذا كله في قضية اختلاف التنوع الذي هو في الحقيقة لا تعارض فيه ولا تصادم. نظراً لأن الناس قد يجهلون ما هو الأصلح لهم، وليس كل شخص يدرك ما هو الأفضل بالنسبة في حقه، وقد لا يعرف الشخص دائماً كل قدراته، ولا يدري إذا ضرب بسهم في هذا المجال أفضل أو في هذا المجال أفضل، هل يتوجه إلى هذا العمل أفضل، أو إلى هذا العمل أفضل. نظراً لأنه ستعترض الشخص أشياء من الإشكالات لأجل عدم قدرته على الإحاطة بالظروف الموجودة، وعدم معرفة الغيب طبعاً، وماذا سيئول إليه حاله لو اشتغل بالتعليم أو بالجهاد أو بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحو ذلك. نظراً لهذا أشار رحمه الله إلى أهمية أنه لو وقع أحد في مثل هذا الظرف ما هو المهم بالنسبة له أن يعمل؟ الاستخارة! قال: (وما اشتبه أمره عليه فعليه بالاستخارة المشروعة، فما ندم من استخار الله تعالى، وليُكثر من ذلك ومن الدعاء؛ فإنه مفتاح كل خير، ولا يعجل فيقول: قد دعوت فلم يستجب لي، وليتحرَّ الأوقات الفاضلة كآخر الليل وأدبار الصلوات وعند الأذان ووقت نزول المطر وغير ذلك). هذا حتى يدعو الله أن يوجهه إلى أحسن وجهة وأحسن شيء يستغل فيه نشاطه ووقته ويستفيد ويفيد.

أرجح المكاسب

أرجح المكاسب بعد ذلك كأن السائل قد سأل سؤالاً يتعلق بالمكاسب، أي: من أين يعيش؟ وما هي العدة في مسألة كسب الرزق؟

التوكل والدعاء

التوكل والدعاء فقال شيخ الإسلام: (وأما أرجح المكاسب، فالتوكل على الله والثقة بكفايته وحسن الظن به، وذلك لأنه ينبغي للمهتم بأمر الرزق؛ أن يلجأ فيه إلى الله ويدعوه كما قال سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: (كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي! كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم). وفيما رواه الترمذي عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى شسع نعله إذا انقطع، فإنه إن لم ييسره لم يتيسر) شسع النعل: هي سيور النعل الذي يدخل بين الأصبعين، وطرفه في الثقب الذي في صدر النعل، حتى يمسك القدم بالنعل، فلو انقطع هذا؛ فإنه يسأل ربه. فإذا جئت تطلب الرزق والمكاسب؛ عليك بأمرين مهمين جداً: التوكل والدعاء {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة:10] وهذا وإن كان في يوم الجمعة، ولكن المعنى قائم في جميع الصلوات، بعد الصلاة اخرج وابتغ من فضل الله. (ولهذا -والله أعلم- أمر الشخص إذا دخل المسجد أن يقول: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج أمر أن يقول: اللهم إني أسألك من فضلك) فكأنه الآن يناسب الخروج من المسجد كأنك ستذهب إلى المكاسب، فتسأل الله من فضله، لأن الأعمال والوظائف تُقطع لأجل الصلاة وتخرج من الصلاة وأنت قاصد العودة أو الذهاب إلى المكاسب {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ} [العنكبوت:17] هذا الأمر للوجوب، فهذه أول وصية في قضية المكاسب: التوكل على الله والدعاء وحسن الظن بالله وأنه يدبرك سبحانه وتعالى أحسن من تدبيرك لنفسك.

سخاوة النفس في المال

سخاوة النفس في المال ثانياً: (ثم ينبغي له أن يأخذ المال بسخاوة نفس ليُبارك له فيه) أي يأخذ المال بطيب نفس دون حرص على المال ودون جشع فيه، ودون هلع فيه، دون جمع للمال وكنزه وعدم إنفاقه وتجميده، وبخل به وحرص عليه، وإنما يجب أن يكون معطاءً كريماً سخياً، وإن أخذ قرشاً لا يقول له وقد أودعه صندوقه: (لن ترى النور بعد الآن) وإنما يأخذه بسخاوة نفس، أي يأخذه الآن ويعطيه غداً ويسلف هذا، ويؤجل هذا، ويسامح في هذا ويصل رحماً به، ونحو ذلك بسخاوة، فلا يكون القرش عنده عزيزاً إذا دخل صندوقه لا يرى النور ولا يخرج، وإنما يأخذ المال ويضع المال وينفق ويدخل بسخاوة نفس، نفس ليست هلعة على المال، وإنما يكون المال عنده بمثابة الحمار الذي تركبه، وبيت الخلاء الذي تقضي فيه حاجتك. فالمال لا بد منه، فهو لازم وهو الذي جعل الله لكم قياماً، فقال: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} [النساء:5] دنياك لا تقوم إلا بالمال، لا تذهب ولا تجيء إلا بالمال الذي جعله الله لك قياماً، ولكن هذا المال إذا أخذته بسخاوة نفس ولم تكن جشعاً وهلعاً فيه، يكون هذا المال بالنسبة لك وتعلقك به كحمارك الذي تركبه، وبيت الخلاء الذي تدخله، فهل تجد الإنسان وهو يحتاج إلى الدابة للتنقل والمشاوير مثلاً، يحتاج إلى بيت الخلاء ليقضي الحاجة فيه، أليست الحاجة ماسة إلى الحمام والمرحاض، ولكن هل تجد الواحد يعانق حماره بلهف وهو عزيز عليه، ولا ينتظر اللحظة التي يدخل فيها الخلاء ويحبه جداً ولا يكاد يفارقه، لا، فالشيء الذي لا بد منه، فاتخاذه لا بد منه، لكن هل نفسه متعلقة فيه ومنشدة إليه وحريصة عليه ومنكبة عليه، تحبه حباً جماً، لا! بالعكس، فالمطلوب إذاً اتخاذ المال ولكن يكون مثل حمارك ومرحاضك، ولكن من الذي ينفذ القضية الآن، هذا الكلام سهل ولكن أين التطبيق؟! وقد مر معنا في سيرة الشيخ الشنقيطي رحمه الله أنه كان لا يميز بين الأوراق النقدية العشرة والمائة والخمسين والذي في يده للآخرين، يأخذ مصاريف البيت والباقي يتصدق به، هذا من سخاء النفس، يُبارك له فيه، ولو ما استعمل منه إلا القليل، لكن يبارك له فيه، وأما الذي يجمع الملايين بدون سخاوة نفس لا يبارك له فيها، ولا يستمتع بها، بل قد تكون نكداً عليه، وهو في قلق وهم وغم ملازم له (من أصبح والدنيا أكبر همه، شتت الله عليه شمله، وفرق عليه ضيعته، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن أصبح والآخرة أكبر همه، جمع الله عليه شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة) حديث رواه الترمذي رحمه الله تعالى وهو حديث صحيح بطرقه. وقال بعض السلف: [أنت محتاج إلى الدنيا، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج] فإذا بدأت بنصيبك في الآخرة، مر عليك نصيبك في الدنيا فانتظمته انتظاماً، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56 - 58]. وأما إذا بدأت بالدنيا فقد لا تصل إلى عمل الآخرة، لكن إذا بدأت بعمل الآخرة، وجعلت الآخرة هي الأولوية وهي الأصل جاءتك الدنيا وهي راغمة، وإذا ركضت وراء الدنيا واجتهدت فيها وجعلتها هي الأولوية، فكيف تعمل لآخرتك، وقد قال الله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ} [القصص:77] هذا رقم واحد، والثاني: {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77] وقال: {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] وقال: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الحديد:21] {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران:133] وقال: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]. هذا كله في أعمال الآخرة، وفي الدنيا قال: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} [الملك:15] قال: امشوا، والآخرة قال: اسعوا، إذاً الآخرة مقدمة وينبغي أن يكون العمل لها أكثر وتأتيك الدنيا. قال: (فأما تعيينه) الآن جاء على التفصيل في قضية المكاسب، فهذه الأشياء هي الإطارات العامة لقضية كسب الرزق، وهناك الأشياء الخاصة، فلو قال مثلاً: بماذا تنصحني أيها الشيخ أن أتوجه، قال: (فأما تعيين مكسب على مكسب من صناعة أو تجارة أو بناية -عقارات- أو حراثة -زراعة- أو غير ذلك فهذا يختلف باختلاف الناس ولا أعلم في ذلك شيئاً عاماً، لكن إذا عَنَّ للإنسان جهة فليستخر الله تعالى فيها الاستخارة المتلقاة -إن فتح لك مثلاً باب تجارة أو باب عقار أو باب زراعة- عن معلم الناس الخير صلى الله عليه وسلم فإن فيها من البركة ما لا يُحاط به، ثم ما تيسر له أن ينفتح له الباب فلا يتكلف غيره، إلا أن يكون منه كراهة شديدة، فالباب الذي ينفتح توكل على الله واستمر فيه، إلا إذا كنت تكرهه كراهة شديدة.

وصية لطالب العلم

وصية لطالب العلم ثم تحدث شيخ الإسلام رحمه الله في وصيته في اتجاه السؤال الذي سأله السائل عن قضية الكتب قائلاً: (وأما ما تعتمد عليه من الكتب في العلوم فهذا باب واسع، وهو أيضاً يختلف باختلاف نشء الإنسان في البلاد). لأن المذاهب موزعة في البلاد، هناك بلاد -مثلاً- أكثر ما يمشون عليه المذهب الحنبلي، وبعضها الحنفي، وبعضها الشافعي، والمالكي في المغرب كذا، فالمسألة أو القضية الآن تختلف باختلاف أين ينشأ الإنسان؟ قال: (تختلف باختلاف نشء الإنسان في البلاد، فقد يتيسر له في بعض البلاد من العلم أو من طريقه ومذهبه فيه ما لا يتيسر له في بلد آخر، لكن جماع الخير، أن يستعين بالله سبحانه في تلقي العلم الموروث عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه هو الذي يستحق أن يسمى علماً). إذن يا إخوان يا طلبة العلم هذه الوصية لـ شيخ الإسلام في منهج طالب العلم أنه مهما تفقه على أي كتاب وعلى أي مذهب، أو على أي شيخ، يجب أن يكون عنده حرص خاص واهتمام بالغ وعناية زائدة بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، هذا هو العلم، حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه هو الذي يستحق أن يُسمى علماً، وما سواه أي غير القرآن والسنة: كل العلوم سوى القرآن مشغلة إلا الحديث وإلا الفقه في الدين العلم ما كان قال حدثنا وما سوى ذاك وسواس الشياطين فإذن أن يكون ميراث محمد صلى الله عليه وسلم هو الذي يغنيك ولتكن الهمة فهم مقاصد الرسول صلى الله عليه وسلم في أمره ونهيه وسائر كلامه. فضع يا طالب العلم في نصب عينيك وفي ذهنك هذا الأمر: ما هو مقصود الشارع في كل أمر ونهي وفي كل تشريع، تجد مقصود الشارع هو هذا التفقه أما الحفظ فقد يحفظ أي أحد، لكن ماذا وراء الأمر وماذا وراء النهي وماذا قصد الشارع، هذا هو العلم والفقه. قال: (فإذا اطمأن قلبك أن هذا هو مراد الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يعدل عنه) خذ القول الموافق لأن يكون هو مراد الرسول صلى الله عليه وسلم، فأقوال العلماء في الأحكام كثيرة جداً، خذ القول الذي تعتقد أنه موافق لمراد الرسول صلى الله عليه وسلم. (فلا يعدل عنه فيما بينه وبين الله تعالى ولا مع الناس إذا أمكنه ذلك، وليجتهد -وهذه وصية ثانية لطالب العلم- أن يعتصم في كل باب من أبواب العلم بأصل مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا اشتبه عليه مما قد اختلف فيه الناس فليدْعُ بما رواه مسلم) إذاً: بعد قضية ما تيسر لك من التفقيه على أي مدرسة أو شيخ أو مذهب على حسب البلد التي أنت موجود فيها، تتوجه همتك نحو: أولاً: السنة. ثانياً: معرفة مقصد الشارع. ثالثاً: أن يكون في كل مسألة عندك دليل تحفظه، تعتصم في كل باب بأصل مأثور عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فيكون عندك في كل مسألة دليل مهم تحفظه، وأصل ترجع إليه، قوة وحجة وبيان وبرهان، فلو قال لك واحد: هاتوا برهانكم، تقول: خذ، ائتوني بأثارة من هذا؟ خذ هذا الدليل. رابعاً: إذا اشتبه عليك، فقد يحرص ويجتهد ويتعب ولكن لا يخرج بنتيجة نهائية واضحة في الموضوع، ولا يدري هذا أم هذا، فماذا تقول، وماذا تفعل؟ قال: (فليدع بما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا قام يصلي من الليل: اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب الشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم). فإذاً الدعاء أن يوفقك الله، إذا كان هذا هو النبي صلى الله عليه وسلم المؤيد بالوحي يقوم ويصلي في الليل ويدعو: (اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك) فما بالك بنا حيث نحن أدنى منه ونحتاج إلى هذا الطلب والدعاء دائماً، وكثير من المسائل خلافية، التي يحتار الإنسان فيها: (يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم). أما وصف الكتب والمصنفين، فقد ذكرنا ذلك في مناسبات كثيرة من أفضل الكتب: (وما في الكتب المصنفة المبوبة أنفع من صحيح محمد بن إسماعيل البخاري) هذا أنفع كتاب في السنة، فإذاً طالب العلم إذا أراد أن يدرس السنة أول شيء يتوجه إليه أو أهم شيء في هذا الموضوع، صحيح محمد بن إسماعيل البخاري أبو عبد الله أمير المؤمنين في الحديث، قال: (لكنه وحده لا يقوم بأصول العلم) فليس كل العلوم في صحيح البخاري، ولا يقوم بتمام المقصود للمتبحر في أبواب العلم، إذ لا بد من معرفة: أولاً: أحاديث أخر. ثانياً: كلام أهل الفقه وأهل العلم في الأمور التي يختص بعلمها بعض العلماء، فهناك أقوال تحتاج فيها إلى أقوال علماء لا تجدها في صحيح البخاري، وأحاديث أخرى لا تجدها في صحيح البخاري، وقد أوعبت الأمة في كل فن من فنون العلم إيعاباً، فمن نور الله قلبه وهداه بما يبلغه من ذلك بلغه، ومن أعماه لن تزيده كثرة الكتب إلا حيرة وضلالاً). إذاً: المسألة ليست بكبر المكتبة التي عندك، قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن لبيد الأنصاري: (أوليست التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى، فماذا تغني عنهم؟) وهذا حديث صحيح الذي قال فيه عليه الصلاة والسلام لما نظر إلى السماء مرة قال: (هذا أوان رفع العلم، قال رجل من الأنصار يقال له زياد بن لبيد: يا رسول الله! يرفع العلم وقد أثبت ووعته القلوب، فقال صلى الله عليه وسلم: إن كنت لأحسبك أفقه أهل المدينة، ثم ذكر ضلالة اليهود والنصارى على ما في أيدهم من كتاب الله) يقول: كان عندهم التوراة الحقيقية وعندهم الإنجيل الحقيقي، فحرفوه وضلوا. ثم ختم وصيته بهذا الدعاء فقال: (فنسأل الله العظيم، أن يرزقنا الهدى والسداد ويلهمنا رشدنا ويقينا شر أنفسنا، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد أن هدانا، ويهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب، والحمد لله رب العالمين وصلواته على أشرف المرسلين). ثم ذكر بعد ذلك الذين سمعوا هذه الوصية منه عدد من الأئمة في هذا المجلس بقراءة القاسم بن محمد بن يوسف البرزالي على ابن تيمية في ليلة الثالث من شهر ربيع الآخر سنة (697هـ) بدار الحديث بالقصاعين بـ دمشق. والحمد لله رب العالمين.

ثلاث وعشرون قاعدة في المحبة

ثلاث وعشرون قاعدة في المحبة الموضوع التالي: هناك ثلاث وعشرون قاعدة في المحبة. الحمد لله، نلخص الآن قواعد المحبة التي ذكرها رحمه الله تعالى، وهناك بعض العبارات الجامعة التي ذكرها رحمه الله في كتاب (قاعدة في المحبة) ونرى بعد ذلك ما يمكن أن نأخذه من التفاصيل، أو بعض التفاصيل الأخرى المهمة التي ذكرها. القاعدة الأولى: الحب والإرادة أصل كل فعل وحركة في العالم. القاعدة الثانية: أصل المحبة المحمودة التي أمر الله بها، هي عبادته وحده لا شريك له. القاعدة الثالثة: لا صلاح للموجودات إلا أن يكون كمال محبتها وحركتها لله. القاعدة الرابعة: المحبة لها آثار وتوابع، ولها لذة وألم، فاللذة عند نيل المحبوب، والألم عند فقده. القاعدة الخامسة: كل محبة لا يكون أصلها محبة الله وإرادة وجهه؛ فهي باطلة وفاسدة. القاعدة السادسة: المحبة والإرادة أصل كل دين، سواء كان ديناً صالحاً أو ديناً فاسداً، فهذه العلاقة بين الدين والمحبة. القاعدة السابعة: أن بني آدم لا بد أن يشتركوا في محبة شيء عام، وبُغض شيء عام، وهذا هو الدين المشترك. القاعدة الثامنة: في قلوب بني آدم محبة لما يتألهونه ويعبدونه، وهذا صلاح القلوب -إذا كان التأله لله عز وجل صلحت قلوبهم بمحبة الله- وكذلك كما أن في نفوس بني آدم محبة لما يطعمونه وينكحونه، ولكن حاجة البشرية إلى التأله أعظم من حاجتهم إلى الغذاء؛ لأن الغذاء إذا فُقد يفسد الجسم، وبفقد التأله؛ تفسد النفس كلها، فحاجة البشرية إلى عبادة الله ومحبته، أكثر من حاجتها إلى محبة الطعام والشراب بما لا يُوصف. القاعدة التاسعة: قوة المحبة يتفاوت الناس فيها تفاوتاً عظيماً، حتى إن الناس يتفاوتون في الشيء الواحد، والمحبة تارة تضعف وتارة تقوى، فالمحبة مثل الإيمان تزيد وتنقص. القاعدة العاشرة: محبة غير الله إذا زادت؛ صارت إفراطاً وانقلبت، ومحبة الله مهما زادت؛ فإنها تنفع ولا تضر، فمحبة غير الله إذا زادت عن حد معين؛ تصبح إفراطاً وتنقلب وتصبح ضارة، ومحبة الله مهما زادت؛ تنفع ولا تضر. القاعدة الحادية عشرة: إثبات المحبة لله على أن محبة الله صفة من صفاته، وإثبات محبة العبد لربه، وذكر أنه ضل في هذا الباب فريقان، فريق جحدوا محبة الله، فقالوا: الله لا يحب، وفريق أدخلوا فيها اعتقادات فاسدة من المتصوفة وغيرهم، فإثبات المحبة صفة لله وإثبات محبة المؤمنين لربهم. القاعدة الثانية عشرة: محبة ما يحبه الله من الأعيان والأعمال من تمام محبة الله، ولا يمكن أن تُفْصَل، فإذا كنت تحب الله ستحب كل شخص يحبه الله، كل نبي، وولي، وصالح، وعالم قائم بأمر الله، وكذلك ستحب كل عمل يحبه الله من صلاة وزكاة وصيام وحج وذكر ودعاء وبر. القاعدة الثالثة عشرة: الذنوب تنقص من محبة الله، وذكر رحمه الله هنا أن الذنوب قد تنقص من المحبة ولكن ليس بالضرورة أن تزيل أصلها، مثل الصحابي الذي جيء به يشرب الخمر فلعنه شخص، قال: (لا تلعنه؛ فإنه يحب الله ورسوله) فقد ينقص الذنب المحبة، لكن ليس بالضرورة أن يزيل أصلها، إلا إذا صار الذنب شركاً وكفراً فهذا يزيلها. القاعدة الرابعة عشرة: الفرق بين الحب في الله والحب مع الله، فالمشركون يحبون مع الله، والمؤمنون يحبون في الله، فقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة:165] فهؤلاء أشركوا في المحبة بين الله والأنداد، وأما المؤمنون فهم أشد حباً لله من محبة أصحاب الأنداد لأندادهم. ولذلك قال: (تعس عبد الدينار وعبد الدرهم) لأن محبتهم للدينار والدرهم والزوجة والقطيفة والخميلة والدنيا صارت محبة شركية، محبتهم للدنيا إن أعطوا منها رضوا، وإذا لم يعطوا إذا هم يسخطون. القاعدة الخامسة عشرة: أصل العبادة محبة الله، والشرك في المحبة هو أصل الشرك. القاعدة السادسة عشرة: محبة الله توجب المجاهدة في سبيله قطعاً، إذا كنت تحب الله لا بد أن تجاهد في سبيله. القاعدة السابعة عشرة: موادة عدو الله تنافي المحبة: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة:22]. القاعدة الثامنة عشرة: محبة الله على درجتين: الدرجة الأولى: واجبة. الدرجة الثانية: مستحبة. فإذا كنت قائماً بالواجبات ومنتهياً عن المحرمات فهذه المحبة الواجبة، وإذا كنت عاملاً بالنوافل بالإضافة إلى ذلك مبتعداً عن المكروهات والشبهات؛ فأنت عندك المحبة المستحبة. القاعدة التاسعة عشرة: انقسام الناس في المحبة والإرادة إلى أربعة أقسام -نجمل الأقسام ثم نشرحها-: القسم الأول: قوم لهم قدرة وإرادة ومحبة في أشياء غير مأمورين بها. القسم الثاني: قوم لهم إرادة صالحة ومحبة كاملة لله وقدرة كاملة. القسم الثالث: قوم فيهم إرادة صالحة ومحبة قوية وقدرة ناقصة. القسم الرابع: قوم قدراتهم وإرادتهم قاصرة وعندهم إرادة للباطل. فما هؤلاء الأقسام الأربعة؟ الذين لهم قدرة ولهم إرادة ولكن في محبة أشياء غير مأمورين بها، عندهم طاقة، وقوة، وجهد، وقدرة، لكن ليست في سبيل الله، إما أن تكون في أشياء محرمة أو مباحة غير مأمورين بها، فهؤلاء الأشخاص تلقاهم أصحاب عمل وإنتاج إما في أشياء محرمة أو في أشياء مباحة، مثل الذين يكدحون ويعملون في الوظائف والتجارات، أو يقول لك: أنا عندي هواية في تربية الحيوانات مثلاً، فهذه أشياء غير مأمورين بها، فهم يبدعون وينتجون في أشياء غير مأمورين بها، وليست مما يحبه الله، لكن عندهم قدرة، لكن في أشياء لا يحبها الله. وقوم لهم إرادة صالحة ومحبة كاملة وقدرة كاملة، كعالم مجاهد لله عز وجل، فهذا عنده إرادة وعنده قدرة في العلم والجهاد والصدقة، فهو يعمل في أشياء يحبها الله، فهؤلاء أشرف الأنواع. والقسم الثالث: ناس عندهم إرادة صالحة ومحبة لله قوية ولكن قدراتهم ناقصة، فهؤلاء يريدون أن يعملوا لمحبة الله ولكن لا يستطيعون، مثل الذين قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم: (إن بـ المدينة لرجالاً ما سرتم مسيراً ولا سلكتم وادياً إلا كانوا معكم، قالوا: وهم بـ المدينة، قال: وهم بـ المدينة -ما خرجوا للغزو، من هم هؤلاء- قال: حبسهم العذر) فهناك من يريد الجهاد ولكن ليس عنده سلاح، ولا مال، أو ضعيف البنية، أو مريض، فمثلاً: عثمان تخلف عن بدر؛ لأنه قام على زوجته المريضة، وآخر يريد الصدقة: (ذهب أهل الدثور بالأجور) لكن ليس عنده مال يتصدق به، فهذا صاحب قدرة ناقصة، لكن محبته لله طيبة، فهو حريص على الأشياء التي يحبها الله، ولكن ما عنده قدرة. القسم الرابع: من قدرته وإرادته للحق قاصرة، وهو يريد أن يقع في الباطل وفيما يغضب الله ولكن ليس عنده قدرة، فهؤلاء ضعاف المجرمين، فلهذا انقسم الناس إلى أقسام أربعة. القاعدة العشرون: أن المحبوبات على قسمين: القسم الأول: قسم يُحب لنفسه. القسم الثاني: قسم يُحب لغيره، وليس في هذه الدنيا وهذا العالم والكون شيء يُحَب لذاته إلا الله سبحانه وتعالى. حتى المخلوقين تقول: أنا أحب فلاناً لأنه عبد لله، لأن القرب منه يؤدي إلى القرب من الله، لكن ليس لذات الشخص، لكن لأن محبة الشخص والتقرب منه تؤدي إلى تحصيل أجر مثلاً، فأنت تحبه، لكن الذي يُحب لذاته فقط، هو الله عز وجل، فإليه منتهى المحبة والتعظيم سبحانه وتعالى. القاعدة الحادية والعشرون: أن الموالاة تقتضي التحاب والجمع، والمعاداة تقتضي التباغض والتفرق: فالتحاب إذا واليت شخصاً معناه أنك تحبه. وقد نبه شيخ الإسلام رحمه الله في هذه المسألة إلى أنه لا يجوز أن يفرق بين المؤمنين لنسب أو بلد أو مذهب أو طريقة أو مسلك ونحو ذلك، وأن الذي يجمعنا كلنا أننا مسلمون موحدون، وأنه بالنسبة للمشركين فنحن في قطيعة وعداوة وكره، ولا يجوز لنا أن نواليهم، موالاتنا للمؤمنين لأننا نحبهم، وذلك يقتضي محبتهم والاجتماع في جماعة، وأما بالنسبة للكفار فإن العلاقة معهم علاقة عداوة، تقتضي قطع العلاقات وكرههم والتفرق عنهم وعدم الاجتماع بهم أو الإقامة معهم، وعدم دعمهم. القاعدة الثانية والعشرون: إمكان اجتماع المحبة، أي الحب في الله والبغض في الله في شخص واحد: فقد تحب شخصاً لله وتبغضه في الله وهو شخص واحد، وهؤلاء هم الذي خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، فلو كان عندك ولي من أولياء الله من العباد، فموقفك منه أن تحبه، ولو كان عندك واحد جبار عنيد كافر فاجر، فموقفك منه أن تبغضه. ولو وجد شخص فيه هذا وهذا، فيه خير وشر، وصلاح وفساد، وإيمان وفجور، وحق وباطل، وطاعة ومعصية، وحسنات وسيئات، خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً، مثل أكثر الناس المسلمين على هذا، فما هو الموقف منه؟ هل تحبه أم تبغضه؟ أشار شيخ الإسلام رحمه الله إلى قاعدته العظيمة التي ذكرها ونافح عنها وشرحها في عدد من كتبه وهي قضية أنه يمكن أن يجتمع الحب في الله والبغض في الله في شخص واحد، تحبه من جهة وتبغضه من جهة، تحبه في الله بقدر الخير الذي فيه، وتبغضه في الله بقدر الشر الذي فيه، وتواليه في الحق وتعاديه في الباطل، وتتعاون معه في البر والتقوى، وتنبذه في الإثم والعدوان، هذه قاعدة مهمة، لأنه بناءً عليها تستطيع أن تتعامل مع الناس. وذكر أنه بغير هذه القاعدة لا يمكن أن تسير الأمور؛ لأن كثيراً من الناس فيهم شر وخير، والموقف منهم أنه إذا دعاك إلى خير تعاونت معه، وإذا دعاك إلى شر نبذته، وعندما يعمل طاعة تفرح به وتحبه وتثني عليه، وعندما يعمل معصية تكرهه وتنبذه وتكره معصيته. قال: وهذه القاعدة قد ذكرناها غير مرة وهي اجتماع الحسنات والسيئات والثواب العقاب في حق الشخص الواحد كما عليه أهل جماعة المسلمين من جميع الطوائف، نذمه على فعل السيئات، ونمدحه على فعل الحسنات. وذكر كلاماً نفيساً فقال: إن بعض الناس عنده السماحة في النفس، بحيث يسمح بالخير والشر، مثلاً: وهناك شخص عنده حب

مسائل مهمة تناولتها رسالة (قاعدة في المحبة)

مسائل مهمة تناولتها رسالة (قاعدة في المحبة) وقد ذكر في هذا الكتاب أموراً أخرى مهمة، مثل أهمية التعاهد والتعاقد في بني آدم، وأن الناس لا تصلح أمورهم إلا بالوفاء بالعهد والعقد، ولو لم يكن وفاء بالعقد؛ لضاعت حياة الناس، ولهذا قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] فحياة الناس تختل بدون عهود وعقود محترمة. ومن المسائل المهمة التي تناولتها هذه الرسالة أيضاً قضية العِشق والفساد الذي ينطوي عليه، ومسألة علاجه، والشيطان الذي يتولى العشاق وأنهم يشركون به، وذكر رحمه الله الفرق بين المحبة في الله وبين محبة العشق، وأن بعض الناس يخلطون، يقول: أنا أحب فلاناً في الله، وهو في الحقيقة عشق وليس محبة في الله. وكذلك من المباحث المهمة التي ذكرها رحمه الله تعالى في هذا الكتاب مباحث تتعلق في الموقف الصحيح من القضاء والقدر، وكذلك مبحث مهم في مسألة أن الله ينصر المسلمين في الدنيا، وليس في الآخرة فقط، وأن من ظن أن النصر والتقدم والرفعة للكفار دائماً في الدنيا؛ فإنه مسيء الظن بالله؛ لأن معنى ذلك أنه يعتقد أن الدنيا كلها للكفار وأن المسلمين ما لهم شيء، يبقون في ضعف وهزيمة وذل إلى أن تقوم الساعة وهذا غير صحيح، فإنك إذا استعرضت التاريخ رأيت أن الله نصر المسلمين وكانت لهم القوة والاستعلاء في الأرض في أوقات كثيرة جداً في التاريخ، ونصر موسى على فرعون، ونصر نوحاً، ونصر أتباع الأنبياء وأتباعهم، ونصر محمداً صلى الله عليه وسلم وفتح له مكة والجزيرة، وفتح خلفاؤه الشام والعراق والمغرب والمشرق، واتسعت دولة الإسلام وقامت، حتى ضعفت وصار المسلمون الآن في تفرق، لكن ليس هذا الذي نراه الآن هو الأصل وكل الزمان مثله، لا، نحن الآن في مرحلة غير كل المراحل التي سبقت، وعندما ينزل عيسى بن مريم عليه السلام سيحكم الأرض بشريعة الإسلام والغلبة للدين. إذاً: من ظن أن الله لا ينصر المسلمين في الدنيا فهو مسيء الظن بربه. إلى غير ذلك من المسائل المهمة التي انطوت عليها هذه القاعدة، وقد كنا نرجو لو ذكرنا بعض المباحث فيها، ولو لم يكن لها علاقة مباشرة بالمحبة وذلك لأهميتها ونفاستها، ولكن يرجع إليها من شاء في هذا الكتاب بعنوان (قاعدة في المحبة) ورحم الله المؤلف شيخ الإسلام ابن تيمية، وأعلى درجته وجزاه عن المسلمين خير الجزاء. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

أيتها المرأة! الحجاب أو النار

أيتها المرأة! الحجاب أو النار إن الأمر بالحجاب قد جاء في الكتاب والسنة؛ فهو واجب وجوباً عينياً على كل مسلمة، بل إنه قد ورد التنويه بوجوبه في الكتب السماوية الأخرى، وكذلك كان الحجاب موجوداً حتى عند الجاهليين وعن موضوع الحجاب تحدث الشيخ حفظه الله، فذكر أدلة وجوبه من الكتاب والسنة، ثم ذكر شروطه وأنواعه، ثم تحدث عن بعض شبهات العلمانيين حول الحجاب، ورد عليها وفندها تفنيداً مقنعاً.

الحجاب عند الأمم الماضية والجاهلية

الحجاب عند الأمم الماضية والجاهلية إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار. أيها المسلمون: إن مما جاء به هدي كتاب ربنا سبحانه وتعالى، ومما جاء في سنته صلى الله عليه وسلم: الأمر بحجاب المسلمات؛ صيانةً للمرأة المسلمة عن المفاسد والشرور، وربها الذي هو أعلم بها قد فرض عليها الحجاب، وهؤلاء النساء هن بناتنا، وأخواتنا، وزوجاتنا، وقريباتنا، وجاراتنا، هؤلاء لا بد أن تدخل كل واحدةٍ منهن تحت حديثه صلى الله عليه وسلم: (كلكم راعٍ، وكلكم مسئولٌ عن رعيته). لقد أنزل الله في كتابه بياناً لنعمةٍ ومنةٍ منه سبحانه وتعالى، وهي قوله: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ} [الأعراف:26] ولباس التقوى: هو ما يلبسه المرء المسلم مما يتقي به ربه، فيستر عورته، والله سبحانه وتعالى حييٌ ستيرٌ يحب الحياء والستر، وكان صلى الله عليه وسلم يدعو فيقول: (اللهم استر عوراتي، وآمن روعاتي). لقد فرض الله الحجاب على نساء المسلمين، وجاءت إشارات إلى أنه كان معروفاً في الأمم من قبلنا، وحتى كتبهم المحرفة التي بقيت إلى هذا الزمان فيها إشارات إلى حجاب المرأة في ذلك الوقت، كما في كتب العهدين القديم والجديد، وكما ورد في الأصحاح الرابع والعشرين والثامن والثلاثين من سفر التكوين، والأصحاح الثالث من سفر أشعياء: إن الله سيعاقب بنات صهيون على تبرجهن، والمباهاة برنين خلاخلهن؛ بأن ينزع عنهن زينة الخلاخل والضفائر والحلق والأساور والبراقع والعصائب. وكانت الكنيسة حتى القرون الوسطى تخصص جانباً منها للنساء حتى لا يختلطن بالرجال، وكفار العرب في الجاهلية كان من مكارم الأخلاق عندهم- كما تذكر أشعارهم- ستر المرأة وحجبها، قال الشاعر: تكثم عن جاراتها فيزرنها وتعتل من إتيانهن فتعذرُ لأنها كانت تجلس في البيت، وحجاب الوجه كان معروفاً عند العرب أيضاً، كما حدث أن امرأة النعمان سقط خمارها عن وجهها أمام الناس وهي تسير، فمالت إلى الأرض تلتقطه بيد ويدها الأخرى على وجهها، حتى قال النابغة: سقط النصيف ولم ترد إسقاطه فتناولته واتقتنا باليدِ وحرب الفجار قامت بين قريش وهوازن بسبب تعرض شباب من كنانة لامرأة من غمار الناشي راودوها على كشف وجهها، فنادت: يا آل عامر! فجاوبتها سيوف بني عامر، وورد في أشعارهم ذكر القناع والبرقع والحجاب والمرط والكساء ونحوها. هذا ما كانت تفعله بعض نساء العرب، دلالة على أنه من مكارم الأخلاق عندهم. أما البعض الآخر فكن متبرجات، ووصل الأمر بحالهن أنهن كن يطفن بالكعبة عرايا، فقال الله عز وجل: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:33].

أدلة وجوب الحجاب من الكتاب والسنة

أدلة وجوب الحجاب من الكتاب والسنة إن أدلة حجاب المرأة في القرآن والسنة أكثر من أن تذكر، وأعظم من أن يحاط بها، قال الله عز وجل: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:33] {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [النور:31] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (المرأة عورة) لم يستثن منها شيئاً صلى الله عليه وسلم، وهذا هو النص المحكم الجامع للأمور، ومن فقه هاتين الكلمتين فقط (المرأة عورة) لم يحتج بعد ذلك إلى دليل آخر لحجب بدن المرأة كاملاً وجهها وشعرها وكفيها وقدميها وسائر بدنها. وقد أمر الدين بستر العورات أمر وجوب لا محيد عنه، وقد ورد في تطبيق صحابيات المؤمنين وأمهاتهم ما يدل دلالة قطعية على وجوب تغطية جميع البدن بما فيه الوجه أمام الرجال الأجانب جاء في صحيح الإمام البخاري في حديث الإفك الطويل المشهور وفيه: (وكانوا في سفر في غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت عائشة لتقضي حاجتها، وتبحث عن عقد لها، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسير الجيش، فأخذوا بهودج عائشة ليرفعوه على البعير، ولم تكن موجودة داخل الهودج لذهابها، فأخذوا برأس البعير وانطلقوا به، ورجعت إلى العسكر، وما فيه من داعٍ ولا مجيبٍ، قد انطلق الناس، قالت رضي الله عنها: فتلفعت بجلبابي، ثم اضطجعت في مكاني، إذ مرَّ بي صفوان بن المعطل السلمي رضي الله عنه، وكان امرءاً يثقل عليه النوم، فيستيقظ متأخراً -ولأجل ذلك كان يستفاد منه أنه كان يسير وراء الجيش يتفقد الأغراض الضائعة، فيحملها لأصحابها في الجيش- تقول: إذ مرَّ بي صفوان بن المعطل السلمي، وكان قد تخلف عن المعسكر لبعض حاجاته، فلم يبت مع الناس، فرأى سوادي، فأقبل حتى وقف عليَّ فعرفني حين رآني، وكان قد رآني قبل أن يفرض علينا الحجاب مرت فترة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونساء المؤمنين كان الحجاب غير واجب، وهذا من حكمة الله في التدرج في التشريع. قالت: وكان قد رآني قبل أن يفرض الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه -أي: وهو يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون- فخمرت وجهي بجلبابي). احفظوا هذه العبارة لكي تضعوها سهماً تخزقون به أعين دعاة التحرر والسفور والتبرج، الذين ما فتئوا يشيعون الفاحشة في الذين آمنوا بجميع الوسائل المقروءة والمسموعة والمرئية، اجعلوا هذا النص من عائشة سهماً تخزقون به عيونهم، قولوا لهم: إن عائشة قالت في صحيح البخاري: إن صفوان كان قد رآها قبل آية الحجاب، وفي غزوة بني المصطلق في حادثة الإفك، قالت عائشة لما عرفت بوجود صفوان: فخمرت وجهي بجلبابي؛ دلالة على أنها تفهم تماماً وجوب تغطية وجهها. وكذلك فإنه عليه الصلاة والسلام قد أمر الخاطب بالنظر إلى المخطوبة أسألكم بالله لو كان كشف الوجه جائزاً فلماذا يأمره بالذهاب والنظر إلى وجهها؟ أفلا ينظر إليها في الشارع؟ أفلا ينتظرها حتى تخرج من البيت فيسير مقابلاً لها ليرى وجهها؟ فلماذا يقول عليه الصلاة والسلام: (اذهب فانظر إليها)؟ فإن قلت: يقصد الشعر والذراعين. أقول لك: إنه عليه الصلاة والسلام قال: (اذهب فانظر إليها، فإن في أعين الأنصار شيئاً) أي: إن أعين نساء الأنصار كان فيها شيء من الصغر، فقال: (اذهب فانظر إليها، فإن في أعين الأنصار شيئاً) وأين العينين؟ هل هن في الشعر أم في الذراعين أم في القدمين أم في المؤخرة؟ إن العينين في الوجه. ولماذا كان بعض الصحابة يختبئ للمرأة التي يريد خطبتها حتى يراها وهي غير عالمة؟ ولو كان كشف الوجه جائزاً فلماذا يختبئ؟ لماذا يكلف نفسه عناء الاختباء؟ كان عليه أن يسير في الشارع فينظر إليها. إذاً: كان الوجه يجب ستره، كذا فهمن، وكذا عملن. وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له امرأة أخطبها، فقال: (اذهب فانظر إليها، فإنه أجدر أن يؤدم بينكما) فأتيت امرأة من الأنصار، فخطبتها إلى أبويها، وأخبرتهما بقول النبي صلى الله عليه وسلم، فكأنهما كرها ذلك -أي: أن يطلع هذا الرجل على ابنتهما في البيت- قال: فسمعت ذلك المرأة وهي في خدرها، فقالت: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرك أن تنظر فانظر، اكشف الغطاء وانظر إليَّ، وإلا فأنشدك -غلظت عليه- إن كان لم يأمرك، فإني أحرج عليك النظر. قال: فنظرت إليها، فتزوجتها، ثم ذكر من موافقتها -أي: من طوعها- لزوجها وحسن تعاملها معه. وقال صلى الله عليه وسلم: (صنفان من أهل النار لم أرهما: نساءٌ كاسيات عارياتٌ، مائلاتٌ مميلاتٌ، رءوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا، العنوهن فإنهن ملعونات). وهذه روايات صحيحة. كيف تكون المرأة كاسية عارية؟ كيف تكون لابسة وفي نفس الوقت غير لابسة؟ يكون ذلك بأحد أمور ثلاثة: أولاً: إما أن يكون الثوب الذي تلبسه قصيراً لا يستر جميع البدن. ثانياً: أن يكون شفافاً غير سميك، ولو كان طويلاً، ولو كان كاملاً، لكن يكون غطاء الوجه -مثلاً- شفافاً لا يستر، فتكون كاسيةً عاريةً. ثالثاً: أن يكون الحجاب ضيقاً غير فضفاض، فيجسد جسدها، ويبين تقاسيم بدنها. عباد الله: انظروا اليوم إلى نساء المسلمين وهن خارجات من بيوتهن في الشوارع والأسواق، وفي السيارات انظروا إليهن كم بالمائة منهن يدخلن في هذا الحديث؟ (كاسيات عاريات لا يجدن ريح الجنة). أيها الناس: إن المرأة التي تسير في الشارع؛ سواء كانت زوجة، أو أختاً، أو أماً، أو بنتاً، أو جارة، فإنها تدخل في مسئوليتك أنت، وإني أهيب بك -أيها المسلم- ألَّا تجعل هذه المرأة محرومة من رؤية الجنة، ووجود ريح الجنة، أهيب بك أن تأخذ عليها، فتأمرها بالستر. لقد كن الصحابيات حريصات كل الحرص على ستر العورة، وهذا حديث المرأة السوداء المصروعة، فيه دلالة قاطعة على ما نذكر عن عطاء بن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس رضي الله عنهما: (ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى، قال: هذه المرأة السوداء، أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إني أصرع، وإني أتكشف- فيها جني يدخل بها ويصرعها، فيسبب لها انكشاف عورتها- فادع الله لي أن أبرأ من الصرع. فقال صلى الله عليه وسلم: إن شئت صبرت ولك الجنة -على هذا الصرع- وإن شئت دعوت الله عز وجل أن يعافيك، فلما وازنت المرأة بين الأمرين، قالت: أصبر، ولكني أتكشف، وفي رواية: إني أخاف الخبيث أن يجردني- أي: الشيطان الذي بداخلها، ابتلاء- فادع الله ألَّا أتكشف. فدعا لها) رواه البخاري. وقال صلى الله عليه وسلم: (خير نسائكم الودود الولود المواتية- التي تطيع زوجها- المواسية- التي تواسيه- إذا اتقين الله، وشر نسائكم المتبرجات المتخيلات -وهن المنافقات- لا يدخل الجنة منهن إلا مثل الغراب الأعصم) هل رأيت غراباً قدماه حمراوان ومنقاره أحمر، إنها فصيلة نادرة جداً من الغربان، فإن الغربان سوداء خالصة، وهذا النوع من الغربان نادر. إذاً: نسبة دخولهن في الجنة كنسبة وجود الغراب الأعصم بين الغربان. وكانت عائشة رضي الله عنها تقول: [كنت أدخل البيت الذي دفن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي رضي الله عنه واضعةً ثوبي- بعد موتهما كانت تدخل الحجرة التي كانا فيها واضعةً ثوبها- وأقول: إنما هو زوجي وأبي، فلما دفن عمر رضي الله عنه والله والله والله ما دخلته إلا مشدودةً عليَّ ثيابي حياءً من عمر رضي الله عنه]. أين عمر؟ إنه تحت الأرض، ولكنها تستحي، وهذا أثر صحيح. أيتها النساء في البيوت! أخاطبكن من هذا المنبر، عائشة تستحي من عمر، وعمر تحت الأرض، فلا تدخل الحجرة إلا وثيابها مشدودة عليها، وكثير منكن يخرجن إلى الشوارع والأسواق أمام الناس الذين لا يساوون شيئاً بجانب عمر وهو حي وهم أحياء، ويشاهدنك وأنت متبرجة متهتكة سافرة، وإن لبست حجاباً فإنه يكون مزركشاً أو مطرزاً -قاتل الله الذين يستوردون هذا النوع من الحجاب ويبيعونه في الأسواق، وقاتل الله من يشتري لزوجته مثل هذا، وقاتل الله المرأة التي تلبس مثل هذا- وأنتم ترون بأنفسكم الآن -أيها الإخوة- هذه الخُمر التي يزعمون أنها خُمر مطرزة من جوانب الخمار مزركشة يلبسنها هكذا فوق الرأس مستديرة، ويزعمن أنها حجاب، وأصناف أخرى بغير حجاب ألبتة. أيها الناس أيها المسلمون عباد الله: اتقوا الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6]. عائشة ومن معها كن إذا مرَّ بهن الركبان من الرجال، وهن ذاهبات في سفر الحج والعمرة، إذا مرَّ بهن الرجال أسدلت إحداهن جلبابها وخمارها على وجهها، إذا حاذين الرجال في السير؛ حتى لا يرى الرجل شيئاً من تلك المرأة مطلقاً. وهذه قصة سجلها التاريخ بمداد من الذهب لامرأة اختصمت مع زوجها إلى قاضي الري سنة (286هـ)، فادعت على زوجها صداقاً قيمته خمسمائة دينار، وقالت: لم يسلمه إلي، فأنكر الرجل، فجاءت المرأة ببينة تشهد لها بالصداق، فقال الشهود: نريد أن تسفر لنا عن وجهها حتى نعلم أنها الزوجة أم لا؟ والنظر إلى وجه المرأة من قبل الرجل الأجنبي يباح في حالات الضرورة، كالخطبة والشهادة في المحكمة، فإنه يضطر أحياناً إلى معرفة هل المرأة التي تقدمت للمحكمة فلانة أم لا؟ ثالثاً: التطبيب ورؤية الطبيب لشيء في وجه

القرار في البيوت

القرار في البيوت هذا الحجاب الذي أنزله ربنا حجاب في البيوت أولاً، لأنه قال: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33] فلا تخرج إلا للحاجة مكان المرأة في البيت رغماً عن أنف العلمانيين. مكان المرأة في البيت رغماً عن أنف دعاة التحرر والسفور. مكان المرأة في البيت لا تخرج إلا للحاجة، ولا يعني للحاجة أي: للمقبرة، أو بيت الزوج، كلا. لكن تخرج لحاجة، إذا احتاجت الخروج فتخرج، كأن تزور أهلها، أو تشتري أشياء لا يعرف شراءها إلا هي، فتخرج، ولكن بالشروط الشرعية، أما أن تصبح المرأة خراجة ولاجة، تخرج كل يوم عدة مرات لحاجة ولغير حاجة، فإنها تخالف قول الله: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33] وأنتم تعلمون معنى القرار والاستقرار. الحجاب الثاني: هو الجلباب والخمار الذي تستر به المرأة نفسها {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59]. الحجاب الثالث: وهو حجاب ثالث داخل البيت، تستر به المرأة نفسها أمام المحارم أمام الأخ والأب وحتى الأخت، لا تكشف المرأة إلَّا الشعر والوجه والعنق وما فوق موضع القلادة، ومن منتصف العضد إلى الأسفل، والقدمين وأسافل الساقين دون الخلاخل تكشفه، وما فوق ذلك تستره حتى أمام محارمها، فهذا حجاب ثالث داخل البيت.

شروط الحجاب

شروط الحجاب لقد ذكر علماؤنا شروطاً للحجاب، فالمسألة ليست لعباً، وأي حجاب يُشترى في السوق، فلا بد فيه: أولاً: أن يكون شاملاً للبدن لا يكشف شيئاً منه أمام الأجانب. ثانياً: أن يكون سميكاً صفيقاً غير شفاف. ثالثاً: أن يكون فضفاضاً واسعاً غير ضيق. وأنواع العباءات التي تلبس الآن، والتي تلتصق بالجسد، فهي سوداء، ولكنها ملتصقة تعرف منها حجم المرأة وأعضاءها، وتميز يديها ووسطها من هذه العباءة التي تلبسها. رابعاً: ألا يكون مطيباً ولا مبخراً. خامساً: ألا يشبه لباس الرجال، فلا يجوز للطبيبة في المستشفى أن تلبس هذا الصدار الذي يلبسه الطبيب، لا بد أن يختلف عنه في تفصيله حتى لو كانت متحجبة حجاباً كاملاً. سادساً: ألا يشبه لباس الكافرة، فلا يجوز مشابهة لباس الكافرات. سابعاً: ألا يكون ثوب شهرة. وكل الأحاديث التي وردت فيها شيء يدل على كشف المرأة لوجهها، فإما أن تكون أحاديث ضعيفة، وإما أن تكون أحاديث وقائع لا عموم لها، أي: أشياء فردية لا يمكن تطبيقها، ومجابهة ونسف النصوص العامة بهذه الأحاديث الخاصة، أو أن تكون الأحاديث فيها ترخيص في الرؤية؛ كالخطبة والتطبيب والشهادة، أو أن تكون أحاديث يتطرق إليها الاحتمال، فيسقط بها الاستدلال، ونحن مع المحكم من كتاب الله مع الأدلة القطعية {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [النور:31] وأنتم تعلمون الآن من الواقع حكمة ربنا في فرض الحجاب. نظرةٌ فابتسامةٌ فسلام فكلامٌ فموعدٌ فلقاءُ وكم من البيوت تدنست، وكم من الأعراض تلوثت بسبب عدم لباس هذا الحجاب! أيها الإخوة: يقضى على المرء في أيام محنته حتى يرى حسناً ما ليس بالحسنِ وهذه محنة الدين التي يعيشها كثيرٌ من المسلمين الآن؛ فلا يبالي الرجل مطلقاً وزوجته تسير سافرة بجانبه، ولا يبالي أبداً وهي تختلي بسائق في السيارة، ولا يبالي وهي تخرج من المدرسة كاشفة، وثيابها رقيقة، وقد رفعتها، وسمي الآن بنصف العباءة، أن تكون الثياب من أسفل كاشفة وضيقة. أيها المسلم: عندما تخرج معك زوجتك متزينة إلى السوق والشارع، أتراها تتزين لمن؟ اسأل نفسك هذا Q تتزين لمن؟ أسألك بالله العظيم إذا خرجت معك زوجتك إلى الشارع وهي متبرجة متعطرة متكشفة، رافعة جلبابها، حاسرة عن وجهها، والخمار إلى نصف الشعر لمن تتزين؟ هل تتزين لك أنت وقد كان حريٌ بها أن تتزين لك داخل البيت؟ ما معنى أن تترك الزينة لك داخل البيت ثم تتزين للناس في الشارع؟ أين الغيرة يا عباد الله؟ اللهم مُنَّ علينا بالحياء والستر يا رب العالمين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

شبهات حول الحجاب والرد عليها

شبهات حول الحجاب والرد عليها الحمد لله الذي لا إله إلا هو ولي الصالحين، الحمد لله القائل في كتابه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90] وإذا قالوا لنا: إن الدين لا يأمر بهذا الحجاب الكامل، نقول لهم: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} [الأعراف:28 - 29] لقد كان الناس في هذه البلاد إلى عهد قريب يقومون ويطبقون ما قاله عليه الصلاة والسلام: (المرأة عورة) فكانت المرأة تستر في كثير من البيوت، وفي كثير من المجتمعات، ولكن الآن -أيها الإخوة- انخلعت الغيرة من قلوب الكثيرين، صرت تمشي في الطريق فترى التبرج عاماً شاملاً إلا من رحم الله، تقف بسيارتك عند إشارة المرور، فتلتفت يميناً وشمالاً لترى رجلاً واضعاً زوجته بجانبه وهي متبرجة في السيارة عند إشارة المرور. وهناك في الأسواق -أيها الإخوة- مناظر ما كنا نراها من قبل أبداً، وقد غزت مجتمعنا هذا، فما بالك بغيره من مجتمعات المسلمين. أسألكم: هل كان التبرج موجوداً من قبل مثلما هو موجود الآن؟ التستر الذي كان موجوداً أين ذهب؟ كانت طبائع كثير من البدو تأبى تماماً أن تكشف المرأة، ثم قامت المسلسلات البدوية المعروضة بنسف وإزالة جميع أنواع الغيرة الموجودة عند كثير من هؤلاء، حتى أصبحت ترى اليوم الموظفة في بعض الشركات التي كان أبوها في يومٍ من الأيام أو جدها يرفض نهائياً أن يرى منها شيئاً، تخرج متبرجة بين المكاتب والموظفين! حرامٌ عليكم حرامٌ عليكم ما أقررتم من الفساد والخبث في بيوتكم، وحرامٌ ما أقررتم من الشر والفحشاء والسفور في مجتمعاتكم، إن الله سيسألكم عن هؤلاء، وسيعذب كل من قضت حكمته أن يعذبه بمخالفة هذا الأمر. أيها الناس: أما كفاكم أن يكون التبرج في كثير من نسائكم، حتى رضيتم أن تكون هؤلاء المتبرجات فتنة للناس الآخرين الذين يمشون في الشوارع، فيطالعون في وجوه النساء، وينظرون إلى أبدانهن. إن المرأة لو كانت لابسةً لباساً كاملاً متحجبةً حجاباً تاماً، فمن الذي يجرؤ على ملاحقتها أو النظر إليها؟ وقد يقول هؤلاء المتشبعون بشبهات العلمانيين: إن المرأة إذا كانت متحجبة حجاباً تاماً لفتت الأنظار إليها، لكن إذا صارت متبرجة مثل عموم النساء، لن يلتفت إليها أحد!! كذبوا والله {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} [الكهف:5] إذا كانت المرأة مستوفية لشروط الحجاب التام، فإن بعض الناس ينظرون إليها باستغراب، ولكن سينظرون، ويوجهون البصر، ثم يعيدون النظر مرة أخرى، ماذا سيحدث؟ سينقلب إليهم البصر خاسئاً وهو حسير، لأنهم ما ظفروا بشيء من هذه المتحجبة، لأنها ما أخرجت من بدنها شيئاً ينظرون إليه، فلو نظروا للاستغراب في الوهلة الأولى، فإنه سينقلب إليهم بصرهم خاسئاً كليلاً وهو حسير، لأنهم ما رأوا شيئاً، ولا ظفروا ببغيتهم، لكن أن تجعلوا نساءكم معارض يشاهدها الغادي والرائح، فأين الغيرة أيها المسلمون؟ لمثل هذا يذوب القلب من كمدٍ إن كان في القلب إسلامٌ وإيمانُ يا أيها الناس يا أيها المسلمون: لا تستمعوا إلى دعاة العلمانيين، إن هؤلاء الذين يروجون المقالات التي تأتي بالشبهات لا تستجيبوا لهم مطلقاً، وهذا الضال الذي يقول ما يفرح العلمانيين الملحدين الذين يريدون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، هذا الضال الذي لا زال يجرؤ على الشريعة، ويقول: إن حجاب الوجه غير موجود في المذاهب الأربعة كلها، هذا الضال الجاهل لا تستجيبوا لدعوته ولا لكلامه، اقرءوا كلام أهل العلم، إن هؤلاء يكتبون {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ} [الأعراف:202] ويقولون لك في ضمن شبهاتهم: إذا كانت تغطية الوجه واجبة فلماذا أمرت الشريعة بغض البصر؟ يقولون لك: إذا كانت تغطية الوجه واجبة فعن أي شيء نغض الأبصار؟ ولماذا قال الله: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30]؟ نقول لهم: يا دعاة التحرر والسفور! يا أيها الذين لا تخشون الله! لأنكم تعلمون أن الوضع وضع فتنة، ولو رجحتم كشف الوجه فهل يجوز أن ترجحوه الآن في هذا الزمان؟ افرضوا -أيها الإخوة- أن الرأي الآخر القائل بكشف الوجه رأي سديد صحيح، فهل يجوز أن يطبق في هذا العصر وفي هذا الزمان؟ ألستم تعلمون أن من قواعد الشريعة سد الذرائع، وكل باب يؤدي إلى الفساد يسد حتى لو كان أصله حلالاً، أنت تعلم أن بيع العنب حلال، لكن لو وجدت واحداً يشتريه منك ليصنع الخمر فلا يجوز أن تبيعه، مع أن بيعه في الأصل حلال. فنقول: افترض أن كشف الوجه حلال، فهل يصلح في هذا الزمان أن تكشف فيه الوجوه؟ وهل يصلح أن تبدي فيه المرأة عن زينتها؟ وأنتم ترون كلاب الشهوات المسعورة تلاحق النساء في كل مكان، فهل يصلح أن نطبق فيه هذا الرأي؟ نقول له: إن المرأة لو كانت متحجبة فإنها قد تتعرض لأحوال ينكشف فيه حجابها، قد تهب عليها الريح الشديدة في الشارع فينكشف شيء من ساقها، فهل آية غض البصر مفيدة أم لا؟ قد ترفع قدمها لتركب في السيارة، فتشاهد أنت شيئاً من القدم، فهل آية الأمر بغض البصر مفيدة أم لا؟ إذا كنت صاعداً في سلم عمارة، وفتح ولدٌ باب شقة من الشقق فجأة، ونساء في الداخل لا يقصدن أن يرى أحدٌ منهن شيئاً، فهل آية الأمر بغض البصر مفيدة أم لا؟ ثم إن الله يعلم أنه بالرغم من الأمر بالحجاب فإنه سيبقى هناك أناسٌ لم يستجيبوا للحكم، وسيبقى هناك عصاة لن يستجيبوا للحكم، وسيخرجون بنسائهم إلى الشوارع- الله يعلم هذا- {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] فعندما يعلم الله أن هناك من النساء من يرفضن الحكم ويخرجن في الشوارع، أفتكون آية الأمر بغض البصر مفيدة أم لا؟ فإذا أطبقن النساء المسلمات على تغطية الوجه، أليس سيبقى من النساء الكافرات من لم يستجبن للحكم مطلقاً؟ إذاً: الآية الآمرة بغض البصر مفيدة، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الأنعام:37] ولكن أكثرهم لا يعقلون، ولكن أكثر الناس بآيات الله يستهزئون. أيها الإخوة: إن هذه الخطبة على مشارف شهر رمضان، وشهر رمضان له حرمته وقدسيته، فنريد أن نصوم شهراً بدون شهوات ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، نريد أن نصوم شهراً ولا نرى إلا خيراً، وإنني أدعوكم ونفسي للالتزام بهذا الفقه، والشر الناتج عن التبرج كثير، ولو جلسنا نشرحه لطال بنا الموقف، فأدعوكم ونحن مقدمون على شهر رمضان أن تتوبوا إلى الله جميعاً، ومن كان منكم لم يأخذ على نساء أهل بيته بالحجاب، فليأخذ الآن، فإن المعصية في الزمان الفاضل تضاعف، كما أن المعصية في المكان الفاضل تضاعف، وهذا من قواعد الشريعة. اللهم إنا نسألك أن تحصن فروجنا، وأن تطهر قلوبنا، وأن تستر نساءنا. اللهم إنا نسألك العفاف والتقى والغنى. اللهم لا تدع لنا في هذا اليوم العظيم ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا كرباً إلا نفسته، ولا عيباً إلا سترته، ولا عورةً إلا سترتها يا رب العالمين.

أين المحافظة على الأعراض؟

أين المحافظة على الأعراض؟ حفظ الضرورات الخمس مقصد من مقاصد شريعتنا الغراء، ذكرها القرآن وأكدتها السنة. ومن هذه الضرورات حفظ النسل، وهو بعينه حفظ العرض، فقد شرعت عقوبات خاصة لمن انتهك العرض، فالرجم للزاني المحصن عقوبة لا يشاركه فيها غيره. وقد شرعت إجراءات احترازية عامة لحفظ الفرج، ليس من الزنا فحسب، بل من مختلف المزالق الأخلاقية. وبالإضافة إلى ذلك تحوي هذه الخطبة مناقشة لأسباب ترك النكاح، وتفصيلاً لأحكام تحديد النسل، وقطع الإنجاب، والإجهاض وأضراره في الشريعة الإسلامية.

حفاظ الشريعة على الضرورات الخمس

حفاظ الشريعة على الضرورات الخمس إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن من حق هذه الشريعة علينا -يا عباد الله- أن نفهمها، ومن فهمها معرفة مقاصدها، ومن مقاصدها حفظ الضروريات التي جاءت بها الشريعة لصلاح الناس في معاشهم ومعادهم، حفظ الضروريات الخمس، وهي: (الدين، والنفس، والعقل، والمال، والنسب) التي لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت؛ لم تستقم مصالح الدنيا، بل تصير إلى فساد وتهارج، وكذلك تفوت الحياة الأخروية بفوات النجاة والنعيم، وحصول الخسران المبين نتيجة اختلال حفظ هذه الضروريات. لقد ذكرها ربنا وأشار إليها كما في آيات الوصايا العشر، وهي ثلاث آيات في سورة الأنعام المبدوءة بقوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ} [الأنعام:151]، ثم قال سبحانه: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الأنعام:151]، ثم قال سبحانه: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} [الأنعام:152]. هذه الآيات فيها إشارة إلى العناية بالضروريات؛ ففي حفظ الدين قوله عز وجل: {أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [الأنعام:151]، وفي قوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153]، وحفظ النفس في قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ} [الأنعام:151] وفي قوله: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الأنعام:151]، وحفظ النسل في قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام:151]، وفي حفظ المال قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام:152]، وفي قوله: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} [الأنعام:152]، وحفظ العقل لا يمكن قيام الأمور الأخرى إلا به، فلا يقوم بها فاسد العقل، فحصلت الإشارة إلى ذلك في قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام:151]. وقد جاءت آيات أخرى فيها ذكر هذه الضروريات التي لا بد من حفظها، وأشارت الشريعة إلى ذلك في أحكام كثيرة في القرآن والسنة.

حفظ النسل في الشريعة الإسلامية

حفظ النسل في الشريعة الإسلامية نريد أن نستعرض شيئاً مما جاءت به الشريعة في حفظ النسل، أو حفظ النسب. إن هذه المسألة مسألة خطيرة جداً، لأن البضع -وهو: الفرج- مقصودٌ حفظه في الشريعة، لأن في التزاحم عليه اختلاط الأنساب، وتلطيخ الفراش، وانقطاع تعهد الأولاد، والتوثب على الفروج والتغلب، وهذه مجلبةٌ للفساد والتقاتل، ولذلك جاءت الشريعة بحفظ الفرج وحفظ النسل جاءت الشريعة بحفظهما لأجل أهميتهما، وما يترتب على حفظهما من المصالح العظيمة، وما يترتب على الإخلال بحفظهما من المفاسد العظيمة. وحفظ النسب مكملٌ لحفظ النسل، لأن حفظ النسل يؤدي إلى بقاء الكيان الإنساني، وحفظ النسب يؤدي إلى الاهتمام بالإنسان، فكلٌ منهما مكملٌ للآخر. ومن المفاسد التي تحصل بعدم حفظهما: أولاً: انتهاك الأعراض وما يجر ذلك من التقاتل. ثانياً: اختلاط الأنساب. ثالثاً: قطع النسل. رابعاً: انتشار الفساد الخلقي. خامساً: نزول المصائب وحلول الكوارث والمحن. ولو لم يرد في سوء إهمال حفظ النسل إلا قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:32] لكان ذلك كافياً، كيف لا، وقد قرنه بالشرك والقتل في قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} [الفرقان:68] وأوجب رجم الزاني المحصن حتى الموت؟ وميز حد الزنا عموماً بثلاثة أمور: أولاً: القتل فيه بأبشع القتلات، إذ لا توجد قتلة في حد شرعي أشنع من قتل إنسان بالحجارة حجراً بحجرٍ حتى يموت جمعاً للعقوبة على البدن بالجلد، أو الرجم، وعلى القلب بتغريب الزاني عن وطنه سنة كما جاء في السنة. ثانياً: أنه نهى عباده أن تأخذهم بالزناة رأفة في دينه بحيث تمنعهم عن إقامة الحد. ثالثاً: أنه أمر أن يكون تطبيق الحد بمشهدٍ من المؤمنين، فلا يكون في خلوة بحيث لا يراهما أحد، لماذا هذه الفضيحة؟ للمبالغة في الزجر عن هذا الفعل.

عموم مقاصد حفظ الفرج

عموم مقاصد حفظ الفرج ليس المقصود بحفظ الفرج في الشريعة حفظه من الزنا فقط، بل حفظه من أي شيء غير سويٍ وأي انحرافٍ؛ كاللواط والسحاق والاستمناء، وغير ذلك من الأمور التي لا يرضاها خلقٌ مستقيمٌ، ولا فطرةٌ سليمةٌ. قال ابن القيم رحمه الله: "فليس في الذنوب أفسد للقلب والدين من هاتين الفاحشتين -أي: الزنا واللواط- ولهما خاصيةٌ في إبعاد القلب عن الله عز وجل، فإنهما من أعظم الخبائث. وقال: ومفسدة الزنا مناقضةٌ لصلاح العالم، فليس بعد مفسدة القتل أعظم من مفسدته، ولذلك شرع فيه القتل على أشنع الوجوه وأفحشها وأصعبها، ولو بلغ العبد أن امرأته قتلت، كان أسهل عليه من أن يبلغه أنها زنت إلى أن قال رحمه الله: وظهور الزنا من أمارات خراب العالم، وهو من أشراط الساعة". وما من أمةٍ يظهر فيها الزنا والربا إلا حلوا بأنفسهم عقاب الله، وهذا آتٍ ولا ريب على تلك الأمم التي شاعت فيها الفاحشة من رأسها إلى أخمص قدميها، والتفكك والتفتت والتقاتل حالٌ بهم ولا ريب، كيف وقد استمرءوه وظهر فيهم في الكبير والصغير؟! وقد شرعت الشريعة الإسلامية إجراءات متعددة لحفظ النسل وحفظ الفرج وحفظ النسب، ومن ذلك: تحريم النظر إلى المرأة الأجنبية، إجراءات احترازية قبل وقوع الجريمة، وإجراءات معها وإجراءات بعدها، وتحريم الخلوة بالأجنبية، وتحريم الزنا، وتحريم اللواط، وفي المقابل شرع النكاح، وتحريم كل ما يؤدي إلى وقوع الفاحشة.

دعوة الإسلام إلى تكثير النسل

دعوة الإسلام إلى تكثير النسل وحفظ النسل من الركائز الأساسية في الحياة، ومن أسباب عمارة الأرض، وفيه تكمن قوة الأمم، وبه تكون مرهوبة الجانب، والإسلام قد عُني بحماية النسل، ودعا إلى تكثيره من وجهين: الأول: الحث على ما يحصل به استمرار النسل وبقاؤه وتكاثره. الثاني: منع ما يقطع النسل بالكلية أو يقلله أو يعدمه بعد وجوده. فأما بالنسبة للأول، فقد جاءت الشريعة لتحقيقه بالحث على النكاح والترغيب فيه، وجاءت النصوص الشرعية بذلك، قال عز وجل: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3] وهذا ولا شك أمر ترغيب في قوله: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:3] وكذلك قال عليه الصلاة والسلام: (تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثرٌ بكم الأمم يوم القيامة) والولود: من عرف عنها كثرة الولد، إن كانت ثيباً بسابقتها، وإن كانت بكراً فمن حال أقاربها كأمها وعماتها وخالاتها، وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على نكاح الأبكار، ومن أسباب ذلك قال: (فإنهن أعذب أفواهاً، وأنتق أرحاماً) ومعنى: (وأنتق أرحاماً) أي: أكثر أولاداً، لأنها شابةٌ ونشيطةٌ وقويةٌ على المواصلة في الإنجاب، وقال عليه الصلاة والسلام: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج). وقد ذكر العلماء حالات يجب فيها النكاح، ومنها: إذا وقع في الحرام، أو كاد أن يقع فيه، أو خشي على نفسه العنت، فيجب عليه حينئذٍ النكاح. فانظر إلى هذه الشريعة التي حثت على النكاح -ونكاح الولود بالذات- وأباحت التعدد، كل ذلك لأجل المحافظة على استمرار النسل، والله خلق البشرية وهو أعلم بما يصلحها. ثم بالمحافظة على النسل وعدم ذهابه أو تقليله منعت الشريعة ترك النكاح، ومنع الحمل بالكلية، والإجهاض بعد حدوث الحمل.

مناقشة أسباب ترك النكاح

مناقشة أسباب ترك النكاح ويترك الإنسان النكاح لأسباب كثيرة منها: أولاً: التبتل وزعم الانقطاع للعبادة. ثانياً: عدم القدرة البدنية، أو المالية. ثالثاً: لأن عنده طريقاً أخرى يسلكها لتصريف شهوته بالحرام. أما بالنسبة للأولى، فإن النبي صلى الله عليه وسلم عدها بدعة، والذي قال من الصحابة: لا أتزوج النساء، قال له مجيباً: (من رغب عن سنتي، فليس مني) ورد النبي صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون لما استأذنه في التبتل والاختصاء، قال الراوي: ولو أذن له لاختصينا، فنهت الشريعة إذاً عن قطع سبيل الإنجاب ووسيلته وآلته لتحقيق تكثير النسل. قال ابن حجر رحمه الله: "والحكمة في منعه من الاختصاء: إرادة تكثير النسل ليستمر جهاد الكفار، وإلا لو أذن في ذلك، لأوشك تواردهم عليه، فينقطع النسل، فيقل المسلمون بانقطاعه، ويكثر الكفار، فهذا خلاف المقصود من البعثة المحمدية". وقد أنكر السلف على من ترك النكاح، وقال طاوس لرجل: لتنكحن، أو لأقولن لك ما قال عمر، قال: وماذا قال عمر؟ قال: [ما يمنعك من النكاح إلا عجزٌ، أو فجور] إذا رأيت شاباً قادراً على الزواج، وتأخرت به السن ولم يتزوج وهو قادر وليس هناك مانع، فما هو السبب؟ لا يمنعه إلا عجزٌ عن الوطء وهذا عيبٌ، أو فجورٌ، ولذلك تأخر به النكاح. وقال الإمام أحمد: ليست العزبة من أمر الإسلام في شيء، والنكاح أفضل من التخلي للنوافل كما ذكر أهل العلم رحمهم الله. والنبي صلى الله عليه وسلم قد تزوج وعدد، وفعل ذلك أصحابه، ولا يشتغل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلا بالأفضل، ولا تجتمع الصحابة على ترك الأفضل والاشتغال بالأدنى. يا عباد الله! إن ترك النكاح ليس من أمر الإسلام، وأما تركه لعدم القدرة البدنية، فقال بعض العلماء: بوجهاته كما إذا كان به مرض ولا شهوة له، أو كبير السن طاعناً لا همة له في النكاح ولا حاجة، فلو تركه، فلا يعاتب على ذلك. وأما المال، فإن الله سبحانه وتعالى قال: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32] فليسع الشاب، فإن الله معه. وأما ترك النكاح بسبب وجود طريق محرمة أخرى لتصريف الشهوة كالزنا واللواط وسائر الشذوذات التي انتشرت في هذا العصر، فمعروفٌ حكم ذلك والحدود التي جاءت الشريعة بشأنها.

حكم منع الحمل وتحديد النسل

حكم منع الحمل وتحديد النسل ومما جاءت الشريعة به من الإجراءات لحفظ النسل: مَنْعُ مَنْعِ الحمل لدى المرأة، أو ما يضعف الشهوة، أو يقطعها بالكلية عند الرجل والمرأة، فأما إن كان منع حمل كلي، أو تعاطي دواء يقطع الشهوة بالكلية، فإنه ممنوع عند العلماء، ولا شك في ذلك، ولا يجوز تعاطي ما يمنع الشهوة بالكلية، أو أن تتعاطى المرأة ما يمنع الحمل بالكلية، أو أن يتعاطى الرجل ذلك؛ كاستئصال الحبل المنوي وهي عمليات حاصلة في الشرق والغرب، واستئصال الرحم، وربط المبايض، وما شابه ذلك، عمليات يقام بها في الشرق والغرب، وقال بعض العلماء بجواز تعاطي ما يسكن الشهوة إذا خشي على نفسه الحرام، لكن لا يجوز أن يتعاطى ما يضره أو ما يؤدي إلى قطعها بالكلية.

الأبعاد الخطيرة لتحديد النسل

الأبعاد الخطيرة لتحديد النسل لقد ثارت في بلاد المسلمين الدعوة إلى تحديد النسل، وأدرك أعداء الإسلام خطورته، وأثره الفعال في تقليل أفراد الأمة الإسلامية، وتوهين قواها، وجعلها لقمة سائغة وفريسة سهلة يفترسونها متى أرادوا، وكيف أرادوا، فأخذوا ينادون بضرورة تحديد النسل في كثير من البلاد الإسلامية بحجة قلة الموارد فيها، وبحجة التخوف من الانفجار السكاني، وجندوا لهذه الفكرة أناساً من بني جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، ويذودون عن هذه الدعوة، ويرفعون لها اللافتات المتعددة، والمظاهر البراقة، وجندت المكتبات والكتب، والأبحاث الطبية المزيفة، وكل وسيلة مقروءة أو مسموعة أو مرئية، وأُنشئت لأجلها المؤسسات والجمعيات، ورصدت لها الأموال الطائلة، والمساعدات الهائلة، وكذلك سنت القوانين لمنع تعدد النسل كعدد معين في عددٍ من البلدان الإسلامية، في الوقت الذي ينادي فيه علماء الغرب بالخطر الداهم على مجتمعاتهم، ويقولون: في بعض مدن روسيا عدد الوفيات أكثر من عدد المواليد، ماذا سينتج عن ذلك في المستقبل؟ قلة عددهم، وبالتالي ضعف قوتهم، فإن العامل البشري هو العامل الأول في سائر القوى والموازين، وانظر ما الذي أدى إليه الحال في الصين من منع إنجاب أكثر من طفلٍ واحدٍ، والعائلة تريد ذكراً، فإذا كان المولود أنثى والقانون لا يسمح لا بولدٍ واحد، أقدم على قتلها، فوجد الوأد، وقتل البنت والأنثى في الصين كثيراً في هذه الأيام. إن قضية تحديد النسل هي مؤامرة على الدين لها أبعادها الخطيرة، والتنقيص من عدد المواليد لا يخدم إلا مصلحة أعداء الإسلام، ولا شك أن هناك دوافع في ترويج هذه المسألة بيننا، بل إنهم عملوا على تصدير ما يسبب العقم في بلاد المسلمين، وكذلك فإن بعض أطبائهم قد ثبت أنهم كانوا يقتلون مواليد المسلمين في المستشفيات، وكذلك بعض ممرضاتهم وممرضيهم وجدوا مضبوطين بالتلبس في قتل أجنة المسلمين، والطبيب ينصح المرأة بعدم الحمل، أو ينصحها بالإجهاض إذا حملت، وروجت الوسائل المعينة على الإجهاض، وفتحت عيادات لأجل ذلك، وسهلت القضية في الوصول إليها.

مبررات المنع المؤقت للإنجاب وشروطه

مبررات المنع المؤقت للإنجاب وشروطه إذا قال قائل: هل يوجد في الشريعة ما يبرر منع الإنجاب مؤقتاً للحاجة؟ A نعم، لا شك أن الشريعة تراعي الحاجات، والعزل جائز كما دل عليه حديث: (كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم ينهنا)، وجاء في رواية لـ مسلم: (أن أناساً سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العزل، فقال: ذلك الوأد الخفي) ومن هنا تفاوتت أنظار العلماء في حكمه، فقال عددٌ منهم بكراهيته، لأن فيه تقليل النسل، وقطع اللذة عن الموطوءة، وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على مراعاة أسباب التكاثر، ولكن إذا دعت الحاجة في ظروف معينة ما مصلحته راجحة في تأخير الإنجاب للمولود القادم، كالخوف على الأم من الهلاك بالحمل، أو كالخوف على الولد، وعلم ذلك من مسلمٍ طبيب ثقة أو أكثر ليتأكد الإنسان، فإنه في هذه الحالة لا بأس بتعاطي ما يؤخر الإنجاب لسنتين حتى تكون هناك كفاية من الوقت لتربية الولد الحاضر، والاستعداد لاستقبال المولود القادم، والله تعالى قال: {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة:233] ويشترط في مانع الحمل ثلاثة شروط: أولاً: إذن الزوجين، فلا يجوز للزوج أن يجبرها، ولا يجوز لها أن تتعاطاه سراً. ثانياً: ألا يكون منعاً دائماً. ثالثاً: ألا يكون ضاراً. وكثيرٌ من هذه اللوالب والحبوب ضارة بشهادة عقلاء الأطباء. اللهم إنا نسألك الفقه في الدين، واتباع سنة سيد المرسلين، وأن تختم لنا بخاتمة السعادة أجمعين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الإجهاض في الشريعة الإسلامية

الإجهاض في الشريعة الإسلامية الحمد لله الكبير المتعال، أشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، إليه المرجع والمآل، وأشهد أن محمداً رسول الله، صلى الله عليه وعلى صحبه والآل. عباد الله! لقد جاءت هذه الشريعة من الإجراءات في ظل ما جاءت به لحفظ النسل في تشريعات بشأن الإجهاض، وعنيت الشريعة بالجنين في بطن أمه عناية فائقة، لأن ذلك الجنين هو الطريق إلى إيجاد النسل، ولو لم يراعِ حال الأجنة في بطون أمهاتها، للزم من ذلك فساد النسل وضياعه، وقد حكم النبي صلى الله عليه وسلم بدية الجنين على من قتلت جنين امرأة في بطنها، وقد جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن امرأتين من هذيل رمت إحداهما الأخرى، فطرحت جنينها، فقضى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بغرة عبدٍ أو أمة. فإذاً عبدٌ أو أمةٌ أو ما يقابلهما من المال كعشرة آلاف ريال ونحوها دية إسقاط الجنين عمداً، وكذلك قضى عمر رضي الله عنه وأرضاه بهذا القضاء، قال ابن قدامة رحمه الله في شرح قول الخرقي رحمه الله: "وإذا شربت الحامل دواءً فألقت جنيناً، فعليها غرةٌ لا ترث منها شيئاً، وتعتق رقبة"، فتعتق رقبة إذا تعاطت دواء قتل الجنين وأسقطته، وتسلم عبداً أو أمةً أو قيمتهما إلى ورثة الجنين دون أن تأخذ منهما شيئاً. ولا يجوز إسقاط الحمل بعد نفخ الروح فيه إطلاقاً عند جميع العلماء، لأنه قتل نفس محرمة، لا يجوز ذلك مطلقاً، وفي جواز إسقاطه قبل نفخ الروح تفاصيلٌ في كلام أهل العلم.

أضرار الإجهاض على النسل والصحة

أضرار الإجهاض على النسل والصحة وأما الإجهاض، فإن له أثاراً سلبية كثيرة، ومنها ما ذكره بعض أطباء الكفار، قال أحدهم: للإجهاض على النسل ثلاثة أضرار: أولاً: هلاك عدد غير معلوم من أفراد البشرية قبل أن يخرجوا إلى نور الحياة. ثانياً: ذهاب عدد غير يسير من الأمهات ضحية الموت أثناء عملية الإجهاض. ثالثاً: حدوث مؤثرات مرضية للمرأة لا يستهان بعددها تؤدي إلى عدم الإنجاب مستقبلاً. هذه بعض الإجراءات الشرعية التي جاءت بها الشريعة لحفظ النسل وحفظ النسب. نسأل الله تبارك وتعالى أن يطهرنا من كل فاحشة، وأن يتوب علينا من كل ذنب، وأن يحفظنا ويحفظ بيوتنا من سائر الأمراض، ونسأله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن يقيمون الملة الحنيفية.

مسئولية أولياء الأمور في الحفاظ على أبنائهم

مسئولية أولياء الأمور في الحفاظ على أبنائهم عباد الله: إن جانباً عظيماً من المسئولية يقع على أولياء الأمور في تعهد بناتهم وأولادهم، فإن كثيراً من الأولاد يساقون إلى الفاحشة ذكوراً وإناثاً بهذه المثيرات للغرائز التي تعرض على العالمين مما يأتينا من الكفار، ومن هم من جلدتنا من أبناء المسلمين، ولذلك كان لزاماً على كل أبٍ أن يقوم على تعهد بناته وأبنائه، ولزاماً على كل زوجٍ أن يقوم على تعهد زوجته، وإلا فالخراب والدمار. قال لي أحد الإخوة: مررت بمجمع تجاري في الساعة الواحدة ليلاً، فرأيت منظراً عجيباً، ثلاثة أولاد يقفون في الشارع بنت عمرها سنتين ونصف تقريباً، وولد عمره ثلاث سنوات، وولد آخر عمره سبع سنوات، فأكملت طريقي، ثم عدت من نفس الشارع في قراب الساعة الثالثة إلا ربع وقبل الفجر، فوجدت المنظر ذاته البنت الصغيرة جالسةً على الرصيف وهكذا حال الأولاد، فاستغربت وتعجبت لهذا المنظر، وهؤلاء الأولاد في هذه الساعة المتأخرة من الليل قبل الفجر، فأوقفت سيارتي، ونزلت إليهم، فقلت: مالكم واقفين في هذه الساعة؟ وما سبب حضوركم في هذا المكان؟ ورأيت البنت الصغيرة في عينيها عبرةٌ ودمعةٌ، وكذلك في عيون إخوانها، فأجابني الولد الكبير بعد السؤال والنقاش: إن أمنا قد خرجت في (ليموزين) إلى هذا السوق الذي فيه مكان للألعاب، ووضعتنا فيه، وقالت: سأعود إليكم الساعة الواحدة، ثم مضت مع شخصٍ تقول: إنه خالي، ولكنني لم أره من قبل، لكنه كان يقول إنه خالي، ثم تحدث الطفل عن مأساته، وعن مأساة إخوانه والدمعة تترقرق، والعبرة تختنق، والصوت يتهجد، وانتهت القضية بأن أوصلهم إلى بيته. ولكن هذه الأم المجرمة التي تلقي بفلذات كبدها إذا كان لها فلذات إلى هذا الوقت إلى الساعة المتأخرة في الليل لتذهب مع رجل أجنبي تعرفت عليه في استقبال المستشفى. أيها الإخوة: أين الزوج؟ أين العائلة؟ أين الأسرة؟ أين الحماية؟ ضياع الأولاد انتشار الفواحش شيوع الأمراض جلب نقمة الرب على المجتمع، أين العقول؟ أين الغيرة؟ لماذا هكذا نفيت الأسرة؟ لماذا يذهب الزوج بعيداً عن زوجته؟ لا رقابة، تفلت الأمور للمرأة للخروج كيف تشاء، و (للموزينات) تعمل في نقل البغايا، عجباً لنا كيف وصلنا إلى هذه الحال؟!! هل من توبة؟ هل من عودة؟ هل من قيام بالمسئولية يا عباد الله؟ (كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته) وأنت موقوف بين يدي الرب سائلك عن أولادك ذكوراً وإناثاً، وعن زوجتك، إن الله سائلٌ كل راعٍ عما استرعاه، أحفظ ذلك أم ضيعه. اللهم إنا نسألك الرأفة واللطف بنا يا رب العالمين، اللهم الطف بنا يا أرحم الراحمين. اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء، اللهم انشر رحمتك على العباد، واقمع أهل الزيغ والكفر والعناد. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

جنة الدنيا [1]

جنة الدنيا [1] في الدنيا جنة من لم يدخلها لن يدخل جنة الآخرة، وفي هذه الجنة تجد النفس بغيتها من طرد الهموم، وذهاب الشقاء، وحصول السعادة التي تغمر القلب وتنعش الروح، وفي هذه المادة تعيش في سعادة مع جنة الدنيا.

الحياة الطيبة

الحياة الطيبة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فقد قال الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97] هذا الإيمان والعمل الصالح هو سبب الحياة الطيبة وهو سبب السعادة والسكينة والطمأنينة التي يحس بها المؤمن، ونعمة الإيمان عظيمة فهي منة من الله تعالى. فما هو أثر الإيمان في حياة الإنسان؟ هذه مسألة ينبغي أن نقف أمامها -أيها الإخوة- وأن نتدبر فيها لنستشعر نعمة الله تعالى علينا. ما هو الفرق بين المؤمن وبين غيره؟ ما هو الفرق بين حياة المؤمن وحياة غيره؟ ما هي ميزته على غيره؟ إن الحياة الطيبة: أن يعلم المؤمن أن الله خلقه وسخر له ما في السماوات وما في الأرض سخرها من أجله {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان:20] إن المؤمن يعلم بأن الله قد اصطفاه وكرمه، إن الله خلق آدم على صورته، قال العلماء: ليس لله تعالى خلق أحسن من الإنسان، فإن الله تعالى خلقه حياً عالماً قادراً متكلماً سميعاً بصيراً حكيماً وهذه صفات الرب جل وعلا فإن الله خلق آدم على صورته. ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله: " اعلم أن الله سبحانه وتعالى اختص نوع الإنسان من بين خلقه بأن كرمه وفضله وشرفه، وخلقه لنفسه وخلق له كل شيء، وخصه من معرفته ومحبته وقربه وإكرامه بما لم يعط غيره، وسخر له ما في سماواته وأرضه وما بينهما حتى ملائكته الذين هم أهل قربه استخدمهم له -أي: للإنسان- وجعلهم حفظة له في منامه ويقظته وضعنه وإقامته، وأنزل إليه وعليه كتبه، وأرسل إليه رسله، وخاطبه وكلمه منه وإليه فللإنسان شأن ليس لسائر المخلوقات ". يشعر المؤمن بالعزة التي سجلها الله في كتابه {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8] ويشعر بأن الله أعطاه الكرامة التي بها يعلو ولا يُعلا، ويسود ولا يساد كما قال عز وجل: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء:141] ويشعر المؤمن بأنه في ولاية الله البر الكريم {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11]. يشعر المؤمن بأنه في معية الله الذي يكلؤه دوماً بعينه التي لا تنام سبحانه وتعالى، ويحرسه في كنفه الذي لا يرام ويمده بنصره الذي لا يقهر {وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:19] {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47]. ويشعر المؤمن بأنه في حماية الله القوي القدير يذود عنه ويرد عن صدره سهام المعتدين {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج:38]. كل هذه المعاني وغيرها لا يشعر بها الكفار على الإطلاق، هل رأيت الكفرة في الشركة والجامعة والمصنع؟ يا عبد الله! إن لك ميزة عليهم أنك تشعر بمقتضيات الإيمان وهم لا يشعرون بشيء منها؛ فجعلك الله إنساناً عزيزاً كريماً كبير النفس لا يحني رأسه لمخلوق، ولذلك لا عجب أن ترى بلال بن رباح ذلك العبد الحبشي الأسود لما أشرب قلبه الإيمان كان يستعلي على المستكبرين فخراً، ويرفع رأسه عالياً؛ لأن الإيمان قد جعله أرفع عند الله ذكراً وأسمى مقاماً فهو ينظر إلى سيده أمية بن خلف، وإلى أبي جهل بن هشام وغيرهما من زعماء قريش وصناديد مكة نظرة البصير للأعمى، ونظرة السائر في النور إلى المتخبط في الدجى {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122]. إذا رأيت الكافر أمامك فاعلم أنه أعمى وأنت بصير. إن الإيمان يولد عزاً يفوق ما عند الكفار من ألوان النعيم. ولذلك كان الأعرابي الأمي البدوي ربعي بن عامر رضي الله تعالى عنه الذي لف سيفه بخرقة ودخل على رستم قائد قواد الفرس وهو في هيله وهيلمانه وأبهته وسلطانه دخل غير مكترث له، ولا عابئ به، ولا بما حوله من الخدم والحراس، ولا بما يتوهج في خيمته من ألوان الذهب والفضة والحلي والحرير، وقال له تلك العبارة التي خلدها التاريخ: [نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام]. إن الإيمان أيها الإخوة: يجعل المؤمن في درجة عالية لا يصلها غيره وهي درجة العبودية لله. ومما زادني شرفاً وعزاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن أرسلت أحمد لي نبيا

الفرق بين المؤمن وغيره

الفرق بين المؤمن وغيره ما أعظم الفرق بين رجلين: يعيش أحدهما وهو يعتقد في نفسه أنه مجرد حيوان يسعى للذاته ويهيم فيها، ويعيش الآخر في الطرف الآخر وهو يعتقد أن الله قد استخلفه في الأرض، وأمره بعمارتها، وإقامة منهج الله فيها، والجهاد للدفاع عن هذا المنهج، إنه يحس أنه صاحب رسالة، وأنه مكلف بإقامة العدل، والدعوة إلى الدين، وبإقامة صرح الإسلام في الأرض. بينما الكافر يحس ماذا؟ يحس أنه حيوان يسعى في لذاته وبهيميته وظلمه للناس، واضطهاده للمستضعفين، وامتصاص الخيرات والهيمنة والسيطرة؛ لأجل لذاته، ولأجل جيبه وأمواله وهكذا الفرق العظيم بين الرجلين. أيها الإخوة! إن أثر الإيمان في حياة الإنسان عظيم، إنه يجلب له السعادة التي يبحث عنها الناس شرقاً وغرباً؛ وبعض الناس يذهبون في الرحلات السياحية، ويغيرون الأجواء، ويغيرون أثاث البيت، ويدخلون المطاعم المختلفة الشرقية والغربية، ويلبسون الثياب المختلفة باحثين عن السعادة وهي عند المسلم في نفس المؤمن. جرب الناس في شتى العصور ألوان المتع المادية والشهوات الحسية فما وجدوا السعادة فيها، بحثوا في رخاء العيش، ووفرة النعيم، ورفاهية الحياة، ومستوى المعيشة المرتفع، بحثوا فيها فلم تزدهم إلا ضيقاً وانحباساً، ولم تزدهم إلا شقاءً وخوفاً وتعاسة، بل أدت بهم إلى الاضطرابات النفسية والعصبية. هاأنت ترى بلداً مثل السويد مثلاً؛ لا يشعر سكانها بخوف من فقر، أو شيخوخة، أو بطالة، أو كارثة؛ لأن الدولة تضمن لهم كل شيء؛ هناك إعانات دورية ضخمة يستحق السويدي معاشاً وإعانة مرض، ومعاش عدم الصلاحية وإعانة غلاء معيشة، وإعانة مسكن، وإعانة للعمى تصرف نقداً، وعلاجاً مجانياً في المستشفيات، وتدفع إعانة أمومة لكل النساء شاملة مصاريف الولادة والرعاية الطبية في المستشفى، وإعانة إضافية لكل مولود، وللطفل مخصص شهري حتى يبلغ ستة عشر عاماً، ومصاريف انتقال مجانية في الإجازات، ومدارس رياض الأطفال برسوم تافهة، والتعليم مجاني في جميع مراحله، وإعانة ملابس، وللطلبة المجتهدين، وتأثيث منازل العرسان وغيرهم، فماذا جلبت عليهم؟ إن معدل الانتحار في السويد من أعلى معدل الانتحارات في العالم! لماذا وعندهم كل هذا النعيم، وعندهم كل هذا الرخاء، وكل هذه الرفاهية؟ وهذه البلد الأخرى الكبيرة لم يحقق الغنى لأبنائها السعادة على الرغم من ناطحات السحاب، ومراكب الفضاء، وتدفق الذهب من فوقهم ومن تحت أرجلهم حتى قال قائلهم: إن الحياة في نيويورك غطاء جميل لحالة من التعاسة والشقاء. إن السعادة ليست بكثرة المال والأولاد، وصدق الله إذ يقول في وصف الكفار الذين نراهم اليوم: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [التوبة:55] {وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:85] قال عليه الصلاة والسلام: (من كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له) هكذا هُم في هَمٍ لازم، وتعب دائم وحسرة لا تنقضي، مهما نال الشخص منهم شيئاً منها طمحت نفسه إلى ما فوق، وهكذا في عذاب دائم لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثاً. حالهم في الدنيا كحال شارب الخمر، كلما ازداد شرباً ازداد عطشاً. ثم إن أولادهم كثيراً ما يجلبون عليهم التعاسة والشقاء؛ في عقوقهم وكفرانهم لنعمة آبائهم، وإذا لم يكن الولد مؤمناً تقياً براً كريماً فإنه يكون سبب تعاسة لأبوية. أرى ولد الفتى ضرراً عليه لقد سعد الذي أمسى عقيما فإما أن يربيه عدواً وإما أن يخلفه يتيما وإما أن يوافيه حمام فيترك حزنه أبداً مقيما وهكذا أحس هذا الشاعر بأن العقم هو السعادة من جراء ما رآه من تعاسة الأولاد. ليست السعادة في وفرة المال، ولا سطوة الجاه، ولا كثرة الولد، ولا نيل المنفعة، ولا العلم المادي، ولا المخترعات، ولا الآلات؛ إنها شيء لا يرى بالعين، ولا يقاس بالكم، ولا تحتويه الخزائن، ولا يشترى بالدينار، ولا الجنيه والدولار؛ السعادة: شيء يحسه الإنسان بين جوانحه إنها صفاء نفس، وطمأنينة قلب، وانشراح صدر، وراحة ضمير. قال زوج لزوجته: لأشقينك، فقالت له بهدوء: لا تستطيع ذلك أبداً كما أنك لا تملك أن تسعدني، فقال في حنق: وكيف لا أستطيع؟ فقالت في ثقة: لو كانت السعادة في راتب لقطعته عني، أو زينة من الحلي والحلل لحرمتني منها، ولكنها في شيء لا تملكه أنت ولا الناس أجمعون فقال: وما هو؟ فقالت في يقين: إني أجد سعادتي في إيماني، وإيماني في قلبي، وقلبي لا سلطان لأحد عليه إلا ربي. هذه هي السعادة التي أحس بها المؤمنون الصالحون فقال قائلهم: إننا نجد سعادة لو علم بها الملوك لجالدونا عليها بالسيوف؛ لأنهم يبحثون عنها أشد البحث. وقال الآخر وهو في جنة ذكره في الدنيا وخلوته بربه: إنه لتمر علي ساعات أقول فيها: لو كان أهل الجنة في مثل ما أنا فيه لكانوا في عيش طيب. هؤلاء الذين يعيشون في جنة الإيمان وواحته في الدنيا، هؤلاء هم المغمورون في السعادة حقاً. يا عباد الله! لا نجحد أن للجانب المادي أثراً في تحقيق السعادة للإنسان، ولأجل ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أربع من السعادة وذكر منها أموراً دنيوية: كالدار الواسعة، والمركب الهنيء) ولكنها ليست كل شيء، ليست في المكان الأول، إن المكان الأول إنما هو للإيمان الذي هو حقيقة السعادة، السعادة الحقيقية فيه أنه يحس بسكينة النفس. قال أحد الأطباء اللامعين في أمريكا: وضعت مرة وأنا شاب جدولاً لطيبات الحياة المعترف بها، فكتبت رغباتي الدنيوية: الصحة والموهبة والقوة والثراء والشهرة، ثم أطلعت حكيماً من الحكماء عليها، فقال: يبدو أنك أغفلت العنصر المهم الذي بدونه يعود جدولك عبئاً لا يطاق، فقلت ما هو: فضرب على الجدول كله وكتب كلمتين: سكينة النفس وهي ما يبحثون عنها، ثم قال: وقد وجدت يومئذ أن من الصعب أن أتقبل هذا، ولكن الآن بعد نصف قرن من الزمن والتجربة الخاصة والملاحظة الدقيقة؛ أصبحت أدرك أن سكينة النفس هي الغاية المثلى للحياة الرشيدة، لقد رأيت السكينة تزهر بغير عون من المال، وبغير مدد من الصحة، بل إنها تحول الكوخ إلى قصرٍ رحب، كما تحول القصر قفصاً وسجناً. فلا سكينة -أيها الإخوان- بلا إيمان، السكينة التي يبحثون عنها أين هي؟ إنها في الإيمان بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، لقد علمتنا الحياة أن أكثر الناس قلقاً واضطراباً وشعوراً بالتفاهة والضياع هم المحرومون من نعمة الإيمان؛ انظر إليهم في المخدرات، وانظر إليهم في حالات الانتحار، وانظر إليهم في عيادات الأطباء النفسانيين، إن حياتهم ليس لها طعم ومذاق وإن حفلت باللذائذ والمرفهات؛ لأنهم لا يدركون لها معنى ولا يفقهون لها سراً، ولكن المؤمن سكينته في نفسه روحٌ من الله ونور، يسكن إليها إذا خاف، ويطمئن عندها إذا قلق، ويتسلى بها إذا حزن، ويستروح بها إذا تعب، ويقوى بها إذا ضعف {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40]. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: " في القلب شعث لا يلمه إلا الإقبال على الله، وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس بالله، وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفة الله وصدق معاملته، وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع على الله وجمع القلب وتوحد النية والتوجه والفرار إلى الله، وفيه نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه وقضائه، ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه، وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته والإنابة إليه، ودوام ذكره وصدق الإخلاص له، ولو أعطي الدنيا وما فيها لم تسد تلك الفاقة أبداً ".

الفرق بين حياة المسلم والكافر

الفرق بين حياة المسلم والكافر عباد الله! إن الإيمان الذي حرم منه الكفرة والملاحدة قادهم إلى شقاء؛ لأن الواحد منهم لا يعرف الحكمة من خلقه، ولا السبب في وجوده في هذه الحياة، يولدون ويعيشون كالبهائم ويموتون كالهمل، لقد قال قائلهم: لعمرك ما أدري وقد أذن البلى بعاجل ترحالي إلى أين ترحالي وأين محل الروح بعد خروجه عن الهيكل المنحل والجسد البالي فأجابه مؤمن: وما علينا من جهلك إذا كنت لا تدري إلى أين ترحالك؛ فإننا ندري إلى أين المصير، قال الله تعالى {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيم} [الانفطار:13 - 14]. لقد حاولوا أن يحلوا أسرار الوجود، وقام فلاسفتهم فتكلموا، وقام الذين تبعوهم من بعدهم فتكلموا؛ فإلى أي شيءٍ انتهوا؟ لقد طفت في تلك المعاهد كلها وسرحت طرفي بين تلك المعالم فلم أر إلا واضعاً كف حائر على ذقن أو قارعاً سن نادم وتمنى أحدهم لو رزق إيماناً كإيمان العجائز {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ} [الأنعام:71] حيران: هو الوصف الدقيق البليغ لهذا الوضع {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} [الأنعام:71]. إن الذي لا يؤمن لا يثبت على قرار ولا يدوم على وجهة أو طريق. كريشة في مهب الريح طائرة لا تستقر على حال من القلق إن أمرهم يعيش بين ضياع عن معرفة الهدف من الخلق وشعور بالجبرية، فتجد مذهب الجبرية في كلامهم، وهذه قصيدة الخيام التي غنتها من يقول بعض الناس: إن غناءها عفيف بينما فيه الكفر والإلحاد: لبست ثوب العمر لم أستشر وحرت فيه بين شتى الفكر وسوف أنضو الثوب عني ولم أدرك لماذا جئت أين المفر وقال المعري الملحد في قديم أمره: نفارق العيش لم نظفر بمعرفة أي المعاني بأهل الأرض مقصود وقال: سألتموني فأعيتني إجابتكم من ادعى أنه دارٍ فقد كذبا تحطمنا الأيام حتى كأننا زجاج ولكن لا يعاد له سبكا ولذلك امتنع هذا عن الزواج حتى لا يجني الشقاء على ذريته كما جناها عليه أبوه وأمه، وقال: وأرحت أولادي فهم في نعمة الـ عدم التي فضلت نعيم العاجل فأراحهم في نعيم العدم من الشقاء الذي رآه وقال الآخر معبراً عن عقيدة الجبرية التي يحس بها من لا إيمان له: جئنا على كرهٍ ونرحل رغَّماً ولعلنا ما بين ذلك نجبر والملحد الحديث الذي يقول: جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت وسأبقى سائراً إن شئت هذا أم أبيت كيف جئت كيف أبصرت طريقي لست أدري وطريقي ما طريقي أطويل أم قصير هل أنا أصعد أم أهبط فيه وأغور أأنا السائر في الدرب أم الدرب يسير أم كلانا واقف والدهر يجري لست أدري أتراني قبل ما أصبحت إنسانا سويا كنت محواً ومحالاً أم تراني كنت شيا ألهذا اللغز حل أم سيبقى أبديا لست أدري ولماذا لست أدري لست أدري لكن المؤمن يدري؛ لأن الغاية عنده واضحة والطريق أمامه واضح {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك:22] ما أعظم الفرق بين رجلين: أحدهما عرف الغاية التي من أجلها خلق فهو يسعى لتحقيقها فيطمئن ويستريح، والآخر ضال يخبط في عماية ويمشي إلى غير غاية. إن المؤمن لما عرف الغاية وسار في طريقها استعذب كل عذاب، واستهان بكل صعب، ولما اجتمع عليه الكافرون ليشمتوا فيه، ويظهروا الحرب النفسية، ويرشقونه بالسهام، وهم يظنون أن أعصابه ستنهار في ذلك الموقف قال معبراً عما يدين به: ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنبٍ كان في الله مصرعي وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلوٍ ممزعِ ألا ترى إلى الرجل من الصحابة ومن تبعهم بإحسان يخوض عباب الموت والموت يبرق ويرعد وهو يقول: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:84] ألا تسمع إلى أحدهم وهو حرام بن ملحان رضي الله عنه وقد نفذ الرمح في صدره وهو يقول: فزت ورب الكعبة. وفي غزوة الأحزاب لما ابتلي المسلمون ابتلاءً شديداً، وزلزلوا زلزالاً عظيماً {وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب:10] كان للمؤمنين موقفٌ آخر: {وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} [الأحزاب:22] من الذي وهب السكينة لهم فأعانهم على الثبات؟ {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} [الفتح:4] {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] لماذا تنخلع قلوب العالم الآن؟ كثيرٌ من الناس في اهتزاز، شخصياتهم في اهتزاز، أفكارهم مشوشة ومضطربة، الأمراض النفسية؛ لأن القلوب لم تطمئن بذكر الله، فظهر المرض النفسي الخطير مرض التوحد، الذي يشبهه الأطباء النفسانيون -يشبهون صاحبه- بشخصٍ في غرفةٍ جميع جدرانها مرايا، فأينما ينظر لا يجد إلا نفسه، وليس لهذه الغرفة أبوابٌ ولا نوافذ، هكذا يعيشون، ويقول أحد أطبائهم: إن مرض إحساس الإنسان بوحدته لمن أهم العوامل الأساسية للاضطرابات العقلية، وبحثوا وبحثوا وأجروا التجارب وفي النهاية قالوا: لا حل إلا بالرجوع إلى الدين. كيف يشعر بالتوحد من يقرأ في كتاب الله {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115] كيف يشعر بالتوحد من يقرأ قول الله ويعتقد به: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4] إنه شعور موسى عليه السلام لما قال لبني إسرائيل: {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62] وهو مشاعر محمد صلى الله عليه وسلم لما قال لصاحبه: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] فالسكينة والطمأنينة في الإيمان، نسأل الله أن يجعلنا من أهل الإيمان، اللهم اجعلنا هداة مهتدين، وبك مؤمنين، وعليك متوكلين، وبك واثقين، ولا حول ولا قوة إلا بالله رب العالمين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

أسباب الوصول إلى الراحة النفسية والحياة الطيبة

أسباب الوصول إلى الراحة النفسية والحياة الطيبة الحمد لله معز من أطاعه ومذل من عصاه، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي أعطى كل شيء خلقه وهداه، وأشهد أن محمداً رسول الله الرحمة المهداة، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. عباد الله! إن من الأسباب التي تجعل المؤمن يعيش في أمان وطمأنينة، وراحة نفسية، وحياة طيبة، كما قال الله: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97] إن من الأسباب: مسألة رضا المؤمن بالله، ورضاه عن الله، ورضا الله عنه، ولذلك كان الساخط إنساناً دائم الحزن، دائم الكآبة، ضيق الصدر، تضيق الدنيا به على سعتها كأنها سم الخياط، والمؤمن راض بأمر الله تعالى، يكتنفه في قضية القدر أمران: الاستخارة قبل وقوع الشيء، والرضا بعد وقوعه، إنه إذا احتار فإن السبيل أمامه واضحة: اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي، وعاقبة أمري، فيسره لي، وبارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، فاصرفه عني، واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به. يتمنى الكفار لو وجدوا شيئاً كهذا؛ لأنهم يحتارون كما نحتار، ولكن لا سبيل عندهم لمعرفة الاختيار، وأما المؤمن فإنه يلجأ إلى الله، راضٍ بالله (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً) رواه الإمام أحمد ومسلم. المؤمن راض عن نفسه، وراض عن ربه، وهو يشعر بأنه -ولو كان فقيراً ولو كان ما كان حاله- لا يزال يتقلب في نعم الله، أولها نعمة خلقه: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً * إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [الإنسان:1 - 2] ويتملى كذلك في حسن خلقه وتفضيله على غيره: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4]. وثالث النعم: نعمة الإدراك والعلم {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:3 - 5] {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل:78]. ورابع النعم: نعمة البيان النطقي والخطي {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن:1 - 4]. وخامسها: نعمة الرزق {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [فاطر:3] نعمة النَّفَس نعمة، ومن وقع في مرض الربو وغيره عرفها. والنعمة الخاصة بالمؤمن: نعمة الإيمان والهداية {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:7]. والسابعة: نعمة المحبة والأخوة التي يعرفها المتآخون في الله، المجتمعون على طاعة الله، قلوبهم متحدة برباط الأخوة {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} [آل عمران:103]. إن المؤمن راضٍ عن ربه دائماً وأبداً، فإذا ختم طعامه قال: الحمد لله الذي أطعمنا، وإذا اكتسى ثوباً قال: الحمد لله أنت كسوتني، اللهم لك الحمد أنت كسوتني، وإذا ركب دابة قال: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا} [الزخرف:13] وإذا استيقظ من نومه قال: الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا، وإذا قضى حاجته في الخلاء قال: الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني، وإذا رأى مبتلىً في حواسه قال: الحمد لله الذي عافانا مما ابتلاك به، وإذا تم له ما يريد قال: الحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات، وإذا لم يتم له ما يريد قال: الحمد لله على كل حال، فهو لا يزال يتقلب في رضا الرب ويحمد ربه في جميع أحواله. إن قضية الرضا مسألة عظيمة لا يعرفها إلا المؤمنون، لقد كتب أحد الكفرة إف إس بودلي يقول: في عام 1918م أوليت ظهري للعالم الذي عرفته -للغرب- طيلة حياتي ويممت شطر إفريقيا الشمالية الغربية حيث عشت بين الأعراب في الصحراء، وقضيت هناك سبعة أعوام، أتقنت خلالها لغة البدو، وكنت أرتدي زيهم، وآكل من طعامهم، وأتخذ مظاهرهم في الحياة، وغدوت مثلهم أمتلك أغناماً، وأنام كما ينامون في الخيام، وقد كانت تلك الأعوام التي قضيتها مع هؤلاء البدو الرحل من أمتع سنين حياتي وأحفلها بالسلام والاطمئنان، والرضا بالحياة، لقد تعلمت من عرب الصحراء التغلب على القلق، فهم بوصفهم مسلمين، يؤمنون بالقضاء والقدر، وقد ساعدهم هذا الإيمان على العيش في أمان وأخذ الحياة مأخذاً سهلاً ليناً، فهم لا يلقون أنفسهم بين براثن الهم والقلق إنهم يؤمنون بأن ما قدر يكون، ولا يصيب الواحد منهم إلا ما كتب الله تعالى، وليس معنى ذلك أنهم يتواكلون أو يقفون في وجه الكارثة مكتوفو الأيدي كلا. دعني أضرب مثلاً لما أعني: هبت ذات يومٍ عاصفة عاتية، حملت رمال الصحراء وكانت عاصفة حارة شديدة الحرارة، حتى أحسست كأن شعر رأسي ينتزع من منابته لفرط وطأة الحر، وأحسست من فرط القيظ كأنني مدفوعٌ إلى الجنون، ولكن العرب لم يشكوا إطلاقاً، فقد هزوا أكتافهم وقالوا كلمتهم المأثورة: قضاء مكتوب، ولكنهم ما إن مرت العاصفة حتى اندفعوا إلى العمل بنشاط كبير فذبحوا صغار الخراف قبل أن يودي القيظ بحياتها، ثم ساقوا الماشية إلى الجنوب نحو الماء فعلوا هذا كله في صمتٍ وهدوء دون أن تبدوا من أحدهم شكوى، وقال رئيس القبيلة: لم نفقد الشيء الكثير فقد كنا خلقاء بأن نفقده، وبأن نفقد كل شيء، ولكن حمداً لله وشكراً، فإن لدينا نحو أربعين بالمائة من ماشيتنا وفي استطاعتنا أن نبدأ بها من جديد. شهادة شهد بها ذلك الكافر على الرضا بالقضاء عند المسلمين، الرضا بما كتب الله، والرضا بما قسم الله وكثيرٌ من الناس يفقدونه، تأمل قول الله تعالى: {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:131] إنها تعلم القناعة، والرضا بما قسم الله تعالى، وتأمل قول الله: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:32] فبين لهم أن هناك أمراً لا يمكن تغييره، وهو أن يصبح الرجل امرأة، أو المرأة رجلاً وإن قاموا بعملية لتحويل الخنثى، لكن تحويل رجل كامل الذكورة إلى امرأة كاملة الأنوثة لا يتمنى هذا هذا، ولا هذا هذا، والشيخ إذا ولى شبابه لا يتمنى ولا يحقد على الشاب، وإنما هو مستريحٌ بقضاء الله تعالى. هذه حياة المؤمن أيها الإخوة! وهذا طرفٌ من الحياة الطيبة التي يشيعها الإيمان في جنبات الإنسان، ومن تدبر عرف، والقضية أهلٌ للتدبر والتأمل والتفكير، والمقارنة بين حال المؤمن وحال غيره هي التي تجعلك تشعر بنعمة الله عليك. اللهم إنا نسألك الأمن والأمان، اللهم إنا نسألك الأمن يوم الفزع الأكبر، اللهم اغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، واشف مرضانا، وارحم موتانا، وأهلك عدونا، واستر عيوبنا. اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك الأخيار، نسألك الهدى والتقى، والعفاف والغنى، اللهم اجعلنا في حياتنا مطمئنين، وفي الألحاد من الآمنين، ويوم القيامة من الفائزين يا رب العالمين، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.

أدرك أهلك قبل أن يحترقوا

أدرك أهلك قبل أن يحترقوا نحن ندرك اليوم التفكك الأسري الحاصل في العالم الإسلامي؛ وذلك لأننا قصرنا في انتهاج شرع الله جل وعلا. فالإسلام قد وضع للأسرة أهمية كبيرة جداً؛ لأن بتفكك الأسرة يتفكك المجتمع، وفي هذا الدرس بعض الأمور التي يجب أن يوجه رب الأسرة أسرته للعمل بها، كما ذكر الشيخ وسائل الدعوة داخل الأسرة، ثم تحدث عن آداب وحقوق واجبة على كل داعية في أسرته، بل على كل مسئول في رعيته، منها: الإنفاق عليهم، وتعليمهم أمور دينهم، وحسن معاشرتهم، وملاطفتهم ومداعبتهم، ثم الدفاع عنهم، وعدم الغلظة والشدة عليهم، وعدم التغيب عنهم لغير حاجة. كما نبه الشيخ على قضية فتنة الرجل بأهله وعلاج ذلك.

الاهتمام بالأهل واجب شرعي

الاهتمام بالأهل واجب شرعي الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. إخواني الحاضرين والحاضرات، والمستمعين والمستمعات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسأل الله عز وجل أن يجعلني وإياكم من المتجالسين فيه والمتذاكرين فيه والمتحابين فيه. "أدرك أهلك قبل أن يحترقوا" أخذاً من قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6] هذا الموضوع: يدور حول العناية بالأهل، والعناية بالأسرة، والسبيل نحو أسرة مستقيمة ومستقرة، موضوع يمس كل إنسان له أهل، أب وأم وزوجة وقريبة وأولاد وإخوان وأخوات، والاهتمام به طاعة لأمر الله واستجابة لداعي الله ورسوله، وإهماله يؤدي إلى فساد عظيم كما نشاهد ذلك في الواقع. أهل الإنسان -أيها الإخوة- هم أصله ومحيطه وبيئته وردؤه المحامون عنه ومستودع أسراره وأعرف الناس به وأحرصهم على مصلحته في الغالب، ألم تر أن الله قال عند شقاق الزوجين: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء:35]. تربية الأهل والاهتمام بهم من قوله تعالى: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:6] قال مجاهد: أوصوا أنفسكم وأهليكم بتقوى الله وأدبوهم، وهو اقتداء بأنبياء الله الكرام: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90] {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً} [مريم:54 - 55]. أيها الإخوة هذه الآية يجب أن تتردد في أنفسنا كثيراً وباستمرار: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:6] نادانا الله بنداء الإيمان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:6] قال قتادة: يأمرهم بطاعة الله وينهاهم عن معصيته، وأن يقوم عليهم بأمر الله يأمرهم به ويساعدهم عليه. فإذا رأيت معصية ردعتهم، وزجرتهم عنها، قال الضحاك ومقاتل: حق على المسلم أن يعلم أهله من قرابته وإمائه وعبيده ما فرض الله عليهم وما نهاهم عنه كما في ابن كثير، وقال علي رضي الله عنه في الآية: علموهم وأدبوهم، ونقل القرطبي عن الكيا رحمه الله: فعلينا تعليم أولادنا وأهلينا الدين والخير وما لا يستغنى عنه من الأدب. إن الحديث عن تربية الأهل هو حديث عن تحصين حارسة القلعة، بل حراس القلعة جميعاً، إنه أمر بالمعروف: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً} [مريم:55] إنه صبر ومصابرة: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه:132] إنه تعاون ومؤازرة داخل في عموم قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] إنها مسئولية، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) وقال: (إن الله سائل كل راع عما استرعاه، أحفظ ذلك أم ضيع، حتى يسأل الرجل عن أهل بيته) رواه النسائي وهو حديث صحيح.

الأسرة هي نواة المجتمع وأساسه

الأسرة هي نواة المجتمع وأساسه يا إخواني لو تلفتنا يميناً وشمالاً وسمعنا الأخبار لوجدنا أن هناك كثيراً من المآسي حاصلة في المجتمع بسبب الانحرافات الموجودة في الأسر وما المجتمع إلا أسر، فإذا صلحت الأسر صلح المجتمع، وإذا فسدت الأسر فسد المجتمع، وكل واحد فينا له أهل، الشاب له أهل، الكبير والصغير له أهل في الغالب، إذا حصل الاهتمام بهؤلاء الأهل صلح المجتمع؛ ولذلك يجب أن نؤكد على هذه القضية الخطيرة وهي: تربية الأهل ودعوتهم وإصلاحهم لوقايتهم من عذاب النار. أدرك أهلك قبل أن يحترقوا كيف نفعل؟ كثير من الشباب يتساءلون: نحن مع إخواننا في الله نتفاهم، نحن مع إخواننا في الله نتجالس، ونتذاكر، ونشتغل بالدعوة، وبطلب العلم، وباللقاء مع الإخوان وزيادة الإيمان، لكن مع أهلينا قد نشعر كثيراً بالفشل وأننا لا نؤدي دورنا ماذا نفعل؟ الزوج ماذا يفعل مع زوجته؟ الأب ماذا يفعل مع أولاده؟ الابن ماذا يفعل مع أبيه وأمه؟ الأخ ماذا يفعل مع إخوانه وأخواته؟ الأخت ماذا تفعل مع إخوانها وأخواتها؟ هناك أدوار عظيمة جداً، تستغرب أحياناً عندما يقول لك بعض الناس: الوقت عندي لا أعرف بماذا أملؤه؟ هل نظرت إلى أقرب الناس إليك في من حولك، وفي بيتك؟ هل نظرت إليهم فرأيت ماذا يحتاجون؟ وهل تعمل على وقايتهم فعلاً من النار كما أمر الله سبحانه وتعالى؟ نحتاج لوقاية أهلينا من النار إلى أمور كثيرة تقدم ذكر بعضها في كلام السلف الذين فسروا الآيات، ومن ذلك أيضاً: تعليمهم، قال البخاري رحمه الله تعالى: باب تعليم الرجل أمته وأهله، أخذه من قوله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لهم أجران -ذكر منهم- ورجل كانت عنده أمة فأدبها فأحسن تأديبها، وعلمها فأحسن تعليمها، ثم أعتقها فتزوجها فله أجران) قال ابن حجر رحمه الله: مطابقة الحديث للترجمة في الأمة بالنص وفي الأهل بالقياس، إذ الاعتناء بالأهل الحرائر في تعليم فرائض الله وسنن رسوله آكد من الاعتناء بالإماء، فإنه إذا حث على الاعتناء بالإماء فالاعتناء بالأهل الحرائر أولى وأوجب لأنك منهم نسباً وهم منك. وحتى لا يقول أحد: أنت تتكلم للأب والزوج ونحن الشباب دورنا ضئيل في هذا الموضوع فأقول: لا. خذ هذا الحديث: عن أبي سليمان مالك بن الحويرث قال: (أتينا النبي صلى الله عليه وسلم ونحن شببة متقاربون -شباب- فأقمنا عنده عشرين ليلة فظن أنا اشتقنا أهلنا وسألنا عمن تركنا في أهلنا فأخبرناه، وكان رفيقاً رحيماً فقال: ارجعوا إلى أهليكم فعلموهم ومروهم وصلوا كما رأيتموني أصلي الحديث) رواه البخاري. وكان النبي عليه الصلاة والسلام يهتم بتعليم النساء، وأتاهن في خطبة العيد فوعظهن موعظة خاصة، وجعل لهن يوماً يحاضرهن فيه وواعدهن بيتاً من البيوت. إن القضية -أيها الإخوة- جد خطيرة، ولذلك اعتنى بها إمام الأنبياء وسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم. فهل علمنا أهلنا ما يحتاجون إليه من الدين؟! هل علمناهم ما هو حق الله، وما هو حق رسوله صلى الله عليه وسلم؟ أدعوناهم إلى عبادة الله وقمنا بتربيتهم على هذه العبادة؟ كان النبي عليه الصلاة والسلام يوقظ عائشة لقيام الليل، إذا أوتر قال: (قومي فأوتري يا عائشة) رواه مسلم وقال عليه الصلاة والسلام: (رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته فصلت، فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها فصلى، فإن أبى نضحت في وجهه الماء) رواه الإمام أحمد وهو حديث صحيح.

الهدف من الاهتمام بالأسرة

الهدف من الاهتمام بالأسرة إلى أي شيء نطمح في قضية الأهل؟ إلى أي مستوى نريد أن نصل؟ إننا نريد أن نصل إلى تحقيق الشخصية في الذكر والأنثى المذكورة في قوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب:35] هذه الصفات إذا صارت موجودة في البيت ذكوراً وإناثاً، نكون قد وصلنا وحققنا المطلوب.

الاعتناء بالفرائض وحث الأهل عليها

الاعتناء بالفرائض وحث الأهل عليها ولابد من الاعتناء بالفرائض خاصة لا سيما الصلاة، لابد من أدائها في أوقاتها وبالذات صلاة الفجر، ولذلك نص العلماء على إيقاظ الرجل أهله لصلاة الفجر، وأن يأمر زوجته بغسل الجنابة لأجل الصلاة، والمرأة قد تنسى مع أشغال البيت، فحتى الابن يذكر أمه والأخ يذكر أخته بقضية الصلاة، ويتابع الأب أولاده على قضية الصلاة في أوقاتها وعلى إقامتها بشروطها، وهذه مسألة في غاية الأهمية، انظر إلى أولادنا حين يصلون كيف هم في الصلاة من ناحية العبث، فلا خشوع ولا تطبيق للسنن، وإنما يجاري بعضهم بعضاً كما يرون أصحابهم في المدارس يفعلون. كنت قد سألت شيخنا -الشيخ عبد العزيز بن باز تغمده الله برحمته- قلت له: يا شيخ لو أن شخصاً عنده درس في المسجد بعد صلاة الفجر فخرج وأهله نائمون إلى الصلاة، فهل يجب عليه أن يرجع إلى البيت ويوقظ أهله ولو فات جزء من الدرس أو فات الدرس كله أم يجلس في الدرس؟ فقال: بل يجب عليه أن يرجع؛ لأن أمره أهله بالصلاة واجب وحضوره الدرس مستحب، فلا يقدم المستحب على الواجب، وعليه أن يرجع لإيقاظ أهله. ومع أن المسألة معروفة وكثير من الوعاظ يتكلمون عن الصلاة وأمر أهل البيت بالصلاة، لكن إذا جئنا نتفكر في الواقع من هذه الجهة وجدنا تقصيراً كبيراً جداً في قضية أمر الأهل بالصلاة. وكذلك جاء عن نبي الله إسماعيل عليه السلام أنه كان يأمر أهله بالزكاة أيضاً: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً} [مريم:54 - 55] قد يكون عندها مال، أو إرث، أو حلي، فيجب عليه أن يأمرها بالزكاة، وكذلك أن يتعاهدهم في الصيام، وأن يتعاهدهم في الحج والعمرة من بلغ منهم واستطاع، وأن يأمرهم بذلك، وألا يقف الزوج في طريق زوجته إذا أرادت أن تؤدي الحج المفروض عليها ولها محرم، لا يقف في طريقها ولا يجوز له ذلك ولا يجب عليها أن تطيعه إذا أمرها بالبقاء وهي قادرة على الذهاب. نحتاج إلى أن نربي أهلنا على الاعتناء بكتاب الله تعالى، سأل أحد طلاب العلم شيخاً له قبل أن يذهب للسفر قال: يا شيخ أريدك أن توصيني -لقد كان الصحابة يسألون الوصية من النبي عليه الصلاة والسلام قبل السفر، وهكذا كان الطلاب يسألون العلماء قبل السفر- بأي شيء توصيني؟ قال: أوصيك بكتاب الله تعالى تلاوة وتدبراً وحفظاً ومعرفة للتفسير. ألا ما أجمع هذا الوصية! فنحتاج أن نقيم فيهم كتاب الله عزَّ وجلَّ، وأن نحيي فيهم الاعتناء بالقرآن الكريم وبسنة النبي عليه الصلاة والسلام: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34] والحكمة هي السنة، وإقامة ذكر الله عموماً في البيت.

وسائل الدعوة في الأسرة

وسائل الدعوة في الأسرة

من وسائل الدعوة في الأسرة: القدوة الحسنة

من وسائل الدعوة في الأسرة: القدوة الحسنة نحتاج كذلك أن نكون قدوات في البيت؛ لأجل أن يقتدي بنا أهل البيت؛ لأن الناس يريدون قدوات عملية، كثر الكلام على الناس لكن أين الأفعال، فإنه لا يؤثر فيهم مثل القدوات الحية، القدوة تؤثر أكثر من الكلام بكثير، ألق خطباً على ولدك الصغير في شأن الصلاة، ثم قم للصلاة عملياً، يقم الولد معك ويعرف أنك صادق، بل ربما قام يصلي بجانبك حتى لو لم تأمره، وإذا أمرته قد يقوم أو لا يقوم، ففعل العمل الصالح أعظم أثراً من الكلام. وأنس رضي الله عنه كان إذا ختم القرآن جمع أهله فدعا بهم، وبعض السلف قال عن أبيه في رمضان: كان أبي يجمعنا كل يوم؛ من اجتهادهم في الختمة.

من وسائل الدعوة في الأسرة: الترغيب والترهيب

من وسائل الدعوة في الأسرة: الترغيب والترهيب ونحتاج كذلك إلى الاعتناء بقضية الترغيب والترهيب، وهذه مسألة في غاية الأهمية، لو قلت لبعض الشباب: ما هي سياستكم في دعوة الأهل؟ ماذا قلت لأهلك عن الدين؟ يقول: قلت لهم: التلفزيون حرام والدش حرام والأغاني حرام والتصوير حرام أو شيء من هذا القبيل، فهل هذا كل شيء؟ قال: وقلت لهم: إن هذه الحفلات التي فيها موسيقى وأغاني حرام، فهذا هو الذي قاله، أفلا كان الوعظ طريقاً للتأثير في الأهل قبل أن يسرد عليهم الأحكام في الحلال والحرام؟! لماذا لا نبدأ -يا إخواني- بقضية ذكر عظمة الله تعالى، وحق الله عزَّ وجلَّ واليوم الآخر والجزاء والحساب والجنة والنار والصراط والميزان والشفاعة والحوض، والقبر وفتنته وعذابه، وعند الموت والنزع، وكيف تنزع روح المؤمن، وكيف تنزع روح الكافر قبل أن نذكر لهم تحريم الأغاني وغيرها، حتى إذا جاءت الأحكام كان الطريق ممهداً، وكانت النفوس مستعدة للتلقي، فمشكلة الدعوة مع أهالينا، وهذا من الأخطاء التي نفعلها في الدعوة، أننا لا نمهد لأحكام الشريعة بالتمهيد الصحيح، ندخل مباشرة: هذا حلال، هذا حرام، هذا لا يجوز. ولا نمهد لهذه الأحكام بترقيق القلوب، والترغيب والترهيب. ولهذا الأحكام التي ذكرها ربنا في كتابه كيف ذكرها؟ هل قال: هذا حلال وهذا حرام وهذا حلال فقط أو أنه سبحانه وتعالى ذكر آيات كثيرة عن اليوم الآخر، وذكر آيات كثيرة عن عظمته وحقه عز وجل، ذكر آيات كثيرة في طاعته سبحانه وتعالى وتنفيذ أوامره والاستجابة له، ذكرنا بناره وبعذابه وببطشه ونقمته وقوته وجبروته سبحانه وتعالى، ثم بدأ بنداءات محببة قبل الأحكام: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:104] {يَا عِبَادِيَ} [العنكبوت:56] نداءات محببة تستجذب نفوس المؤمنين. ثم بأي شيء ختم الآيات حتى التي فيها أحكام؟: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [البقرة:196] ومرة يقول: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:173] ومرة يقول: {يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [البقرة:235] وهكذا من الأشياء التي تأتي في الآيات مما فيه موعظة، مما يدل على أن طريقة الشارع في تقرير الأحكام ليست التقرير المجرد عن الوعظ ولا التقرير المجرد عن فتح النفوس بالنداءات التي تمهد الطريق لقبول الحكم، وإذا كان عندنا فقه في الدعوة فلابد أن نعي هذه القضية، وإلا فسيكون عندنا قصور كبير في دعوة الأهل والناس عموماً. عائشة رضي الله عنها بينت أن النبي عليه الصلاة والسلام ما قال للناس بداية: إن الخمر حرام، وإن الزنا حرام، وإن الربا حرام لا. قبل هذا ذكرهم بأشياء كثيرة جداً، تلا عليهم النبي عليه الصلاة والسلام أموراً كثيرة عن عظمة الله واليوم الآخر. أيها الإخوة إننا نحتاج -ونسأل الله أن يبارك في الجهود- إلى سلوك الطرق الصحيحة في دعوة الأهل؛ لأن الله قال: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ} [التحريم:6] والسلف قالوا: علموهم، أدبوهم، وعظوهم هذا الكلام كله داخل فيه، نحن أحياناً يقول الواحد منا: أعطيتهم الكتب والأشرطة حسناً هذا عمل تؤجر عليه وعمل طيب وجزاك الله خيراً على هذا، لكن -يا أخي- المسألة تحتاج أحياناً إلى تحريك قلوبهم بكلام منك، وحسن الدعوة يكون بمناقشة هادئة، تذكير، تليين القلوب، ولذلك ينبغي علينا أن نحسن المدخل للقلوب.

من وسائل الدعوة في الأسرة: إدخالهم مراكز التحفيظ

من وسائل الدعوة في الأسرة: إدخالهم مراكز التحفيظ بعض الناس يتقدمون بخطوات جيدة ويقولون: ذهبنا بأهلينا إلى حلق العلم في بعض المساجد في مراكز تحفيظ القرآن للنساء، ومراكز تحفيظ القرآن للنساء إذا استثمرت جيداً فهي -والله- خير عظيم، تقول إحدى الداعيات من النساء: كنا أولاً نقول: المرأة ينبغي ألا تخرج من البيت لأن خروجها يفسدها، تقول: نحن نلاحظ الآن أن هذا الكلام لا يكفي؛ لأن كثيراً من النساء يفسدن في البيوت بفعل الدش والمجلات الخليعة، فلا تفسد المرأة إذا خرجت فقط، بل حتى وهي داخل البيت! وهكذا الأولاد، أي أنك لو قلت: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33] الآن، فإن البيوت التي ليست معمورة بطاعة الله عز وجل وفيها وسائل لهو وفساد يكون جلوس النساء والأولاد فيها خطراً أليس كذلك؟ ولذلك لا يكفي أن تقول لها: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33] فقط من دون أن تقول: {وَاتَّقِينَ اللَّهَ} [الأحزاب:55] {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34] وأن تحارب المنكرات في البيوت. وبعض هذه المراكز -تحفيظ القرآن وغيرها- تؤدي دوراً عظيماً في إصلاح النساء وتعليمهن، وحتى بعض الأزواج لا يملك سلطة تأثيرية على زوجته مثل ما يلاحظ من التحسن عندما تذهب زوجته لمركز تحفيظ القرآن الكريم، وتسمع من بنات جنسها من الداعيات الفاضلات الطيبات كلاماً مؤثراً يجد الزوج أو الابن أو الأب أثره الطيب على بناته، فلا بد أن تستثمر هذه المراكز الخيرية لأن فيها نفعاً عظيماً وأثراً كبيراً، وإذا لاحظت أن المرأة لا بد أن تخرج في الأسبوع مرة أو مرتين، لأنها لا تطيق القرار في البيت فاجعل خروجها لمثل هذه الأماكن الطيبة، مع التأكيد على أن الخروج الكثير من أسباب الفتنة، وذكرها بالآية: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33] وهي بيوت إذا قرت فيها المرأة صلحت، وهذه هي البيوت الطيبة.

من وسائل الدعوة في الأسرة: البرامج التربوية داخلها

من وسائل الدعوة في الأسرة: البرامج التربوية داخلها كذلك لابد من عمل جلسة أو حلقة علم للأولاد في البيت، لا بد من التنشئة من البداية، كما أن الأولاد ينشئون على أشياء سيئة مثل أفلام الكرتون وألعاب الكمبيوتر وغيرها، لا بد أن نزاحم ذلك بخير وبرامج تربوية لهؤلاء الأطفال، لابد من الاعتناء بهم. إنني أفرح -والله- لو أن واحداً من الشباب في العائلة -أو حتى كبيراً في السن- احتسب الأجر ساعة ونصف أو ساعة في الأسبوع يلم أطفال العائلة في مجلس ويعمل لهم برنامجاً لطيفاً؛ فيه موعظة، فيه مسابقة، أو قصة، أو لعبة مباحة، ويعلمهم شيئاً من الأدب، شيئاً من الخلق؛ لأن أولادنا يفتقدون أشياء كثيرة من الآداب الشرعية، فإن هذا يثمر أشياء عظيمة، كل هذا من باب قوله تعالى: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6] فإذا صارت المرأة أو صار الولد من الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى، وسلك سبيل الاستقامة، وصار ملتزماً بالإسلام ومهتدياً، وبدأ يتجه للدعوة والعلم؛ فعند ذلك سوف تطمئن إلى أن الأمور بدأت تأخذ مجراها الصحيح، وأن هذه الأقدام بدأت ترسخ وتثبت على طريق الطاعة والهداية.

أهمية الاعتناء بقضية الأخلاق في الأسرة

أهمية الاعتناء بقضية الأخلاق في الأسرة ولا بد هنا من التذكير -أيضاً- على الاعتناء بقضية الأخلاق والآداب، وليس فقط في قضية العلم المجرد في العقيدة أو في الفقه وغيرها؛ لأن من النواقص التي تنقصنا -فعلاً- في هذه الصحوة المباركة أنك تجد -أحياناً- اهتماماً بالعلم وبالمتون وبالشروح وبالحلق أحياناً، ولا تجد مع هذا اهتماماً موازياً ومكافئاً في جانب الأدب والخلق، مما يجعل بعض الناس لا يتأثر من هذا الداعية أو طالب العلم، مع أن عنده كنزاً وعطاء، لكن ينقصه مفتاح القلوب وهو الأدب والخلق. ثم إن النبي عليه الصلاة والسلام لما قال: (خيركم خيركم لأهله) أي: في كل شيء؛ في تعليمهم، وفي كونه قدوة في العبادة، وفي كونه مانعاً للشر عنهم، وفي كونه قدوة بالأخلاق والأدب وحاملاً لهم على طاعة الله، ومحسناً لهم بالمال وبالكرم وبالخلق، فهو لا شك داخل في الخيرية. فلابد أن ننمي الصفات الحميدة في أهالينا، كالصدق، والأمانة، والسماحة، والقناعة، والتأني، وأن نعلمهم التواضع والحياء، وأن نعلمهم كيف يتعاملون مع الوالدين والجيران والأقارب والأصدقاء وهكذا. وإننا بأشد الحاجة أيضاً أن يكون عملنا متتابعاً وليس منقطعاً، وأن يكون مرتباً مع أهلينا، وأن يكون هناك أشياء من الخير المتواصل والمتنوع، فنحدثهم عن مسائل في العقيدة، مثلاً: لو قلت: أنا أريد أن أعطي أهلي كتاباً صغيراً في العقيدة كمثل كتاب 200 سؤال وجواب للحافظ الحكمي رحمه الله وأدرسهم شيئاً من القرآن، جزء عم -مثلاً- أو تبارك، وأدرسهم شيئاً من الحديث، مثلاً أعطيهم كتاب الأربعين النووية، وفي الفقه: أعطيهم صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، وصفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، والأشياء المتعلقة بالمرأة كالحجاب والزينة وأحكام الحيض، وكذلك دروس في السيرة، وخصوصاً للأولاد الصغار.

أثر القصص في تربية الأطفال

أثر القصص في تربية الأطفال جربت بعض القصص مع بعض الأطفال فوجدت لها أثراً كبيراً مع صغرهم سناً، مثلاً: قصة الجمل لما جاء يشكو إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه يجيعه ويدئبه، مثلاً: تلك الحمّرة التي أخذ أحد الصحابة أولادها وفراخها فصارت تحوم وتصيح حتى عرف النبي صلى الله عليه وسلم حالها فأمر برد فراخها إليها هذه القصص تركز أشياء في نفس الطفل الصغير، وإن كان هذا الطفل صغيراً جداً، أشياء من الحنان والعطف وكيفية التعامل حتى مع الدواب والبهائم. ثم هناك أشياء يمكن أن تؤخذ مثل قصة ابن عمر مع راعي الغنم لما قال: قل أكلها الذئب، وقصة عمر مع المرأة بائعة اللبن وابنتها في إناء اللبن، لما قالت لها: قومي فشوبي هذا اللبن بالماء، وكذلك قصة أصحاب الأخدود إذا عرضت بطريقة مبسطة، وقصة يوسف إذا عرضت بطريقة مختصرة مبسطة، وقصة أم موسى: {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7] وكذلك قصة أبي هريرة مع الشيطان في فضل آية الكرسي، وغيرها من القصص التي سترى أثرها -إن شاء الله- على الأطفال لو أنك أحسنت عرضها عليهم.

الاعتناء بالرقائق في حياة الأسرة

الاعتناء بالرقائق في حياة الأسرة ونحتاج -كما قلنا- في جانب السلوك والرقائق إلى التركيز على قضية الخشوع وتعليم الأولاد والأهل الأذكار والأدعية، أنا أعطيكم قصة حدثت معي: مرة كنت عائداً من المطار، وركبت مع سائق "ليموزين" باكستاني، وفي الطريق عطست فقلت: الحمد لله، ولم يرد علي، فقلت له: ما اسمك؟ قال: فذكر اسماً من أسماء الناس في تلك البلاد، فقلت له: أنت مسلم؟ قال: نعم مسلم سني. فقلت له: حسناً ماذا ترد على الرجل إذا قال: الحمد لله بعد عطاسه؟ قال: لا أدري. هذا شيء بسيط! فذكرت له هذا الأدب، ثم أشياء أخرى بعد الصلاة وفي النوم وقبل الخلاء، فإذا بالرجل يكاد لا يعرف من الأذكار إلا ذكر الطعام فقط "باسم الله والحمد لله"! ثم قال: أنا لي أربع سنوات وما أحد فتح معي موضوعاً في الدين وهو ماشي معي في السيارة! إذاً: عندنا تقصير يا إخوان، أحياناً الخير بجانبنا وليس صعباً ولا يحتاج إلى جهد لكن نقصر فيه، كم مرة تركب "ليموزين" في البلد؟ كم مرة فكرت أن تغتنم هذه الفرصة لتعلم هذا الشخص شيئاً من الدين؟ إذاً: نحن نحتاج إلى التأكيد على قضية الأخلاق والآداب الشرعية.

التنبيه على خطر المجرمين وطرقهم

التنبيه على خطر المجرمين وطرقهم كما نؤكد على مسألة توعية الأهل بسبيل المجرمين وطرق هؤلاء الأخباث الذين يريدون إخراج المرأة وتحريرها وإفسادها وإفساد الأسرة والقضاء على النسل وتحديده والدعوات التي تخرج لكي تفسد هذه الأسر، وكذلك نؤكد عليهم ما يفعله أعداء الله عز وجل في هذه الموجات الفضائية التي تأتي لتهدم البيوت والأخلاق وتذبح العفة والحياء وتنحرها نحراً. وعلينا كذلك تفقد الأهل في عباداتهم كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يوقظ أهله في رمضان في العشر، أحيا ليله وأيقظ أهله، ولما قام مرة فزعاً من النوم، قال: من يوقظ صواحب الحجرات؟

منع المنكرات وسط الأهل

منع المنكرات وسط الأهل من الاعتناء بالأهل أيضاً: منع المنكرات فيهم، وهذا الشيء الذي قد نحرص عليه بداية الأمر، ونكثر من الاهتمام به، ونحن نؤكد عليه لأنه من الدين، وحماية الأهل من المنكرات من الأمور العظيمة جداً لكن ليس ذلك كل شيء، بل الدين أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وليس نهياً عن المنكر فقط.

إنكار النبي صلى الله عليه وسلم المنكرات في بيته

إنكار النبي صلى الله عليه وسلم المنكرات في بيته النبي صلى الله عليه وسلم دخل مرة على عائشة وفي البيت وجد سترة فيها تصاوير، فتغير وجه النبي عليه الصلاة والسلام، وكان إذا غضب رئي ذلك في وجهه، وأحست عائشة أن هناك أمراً خطيراً واستغفرت، وعرفت القضية، وقامت وشقتها وانتهى المنكر وقضي عليه؛ لما رأت أن زوجها النبي عليه الصلاة والسلام رأت في وجهه الغضب من هذا المنكر الذي دخل ورآه أمامه.

أبو موسى وتنبيه أهله على شيء محرم

أبو موسى وتنبيه أهله على شيء محرم أبو موسى الأشعري رضي الله عنه وجع وجعاً شديداً في مرض موته وغشي عليه ورأسه في حجر امرأة من أهله فصاحت؛ لأنه غشي عليه ما استطاع أن يرد عليها، فلما أفاق قال: (أنا بريء مما برئ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم برئ من الصالقة -أي: التي ترفع صوتها عند المصيبة وتنوح- والحالقة -أي: التي تحلق شعرها وتقطعه عند المصيبة- والشاقة -أي: التي تشق ثوبها عند المصيبة) رواه البخاري، فهذا أبو موسى الأشعري ينكر على امرأته وهو على فراش الموت رضي الله تعالى عنه. والبخاري رحمه الله من أبوابه في الصحيح "باب إخراج أهل المعاصي من البيوت بعد المعرفة" والنبي عليه الصلاة والسلام أخرج هيتاً وكان يوصف بأنه ليس له إرب بالنساء، أي فيه علة: ليس فيه شهوة بالنساء، كان يدخل ويخرج على نساء النبي صلى الله عليه وسلم، ثم وصف امرأة من نساء أهل الطائف فانتبه له النبي عليه الصلاة والسلام، لأنه يمكن أن يصف زوجات النبي عليه الصلاة والسلام فقال: (لا يدخل عليكن هذا).

عمر ينكر النياحة ويضرب النائحة

عمر ينكر النياحة ويضرب النائحة قال البخاري: باب إخراج أهل المعاصي بعد المعرفة، وقد أخرج عمر فلانة حين ناحت، وقال ابن حجر: وصلها ابن سعد في الطبقات بإسناد صحيح عن سعيد بن المسيب قال: لما توفي أبو بكر أقامت فلانة -يعني: من أقربائه- عليه النوحة، فبلغ عمر فنهاهن فأبين، فقال لـ هشام بن الوليد: اخرج إلى بيت أبي قحافة -يعني: فلانة- فعلاها بالدرة ضربات فتفرقت النوائح حين سمعن ذلك، وفي رواية: فجعل يخرجهن امرأة امرأةً وهو يضربهن بالدرة؛ لأنه لما تحولت القضية إلى نياحة قام واستعمل سلطته وأنكر هذا المنكر وفرق النائحات. أيها الإخوة: إذا كنا نقول عن أنفسنا: نحن متمسكون بالدين وملتزمون به؛ فينبغي أن يكون أهلنا على هذا المستوى، إن من العيب الشنيع جداً أن ترى الآن إنساناً ملتحياً يمشي في الشارع بجانبه زوجته وهي تمشي سافرة، والعطر فوَّاح، الوجه مكشوف، الغطاء رقيق، الفتحة في التنورة. لا يوجد تناسب بين منظر هذا الإنسان وبين المرأة التي بجانبه، أو التي تركب بجانبه في السيارة! ثم إنه الناس يشنعون يقولون: هذه زوجة فلان، هذا فلان شيخ، وهذا طالب علم، وهذا متدين وهذه زوجته وهذه بنته!!

ابن مسعود وتبرؤه من المنكرات

ابن مسعود وتبرؤه من المنكرات انظر وتأمل في قصة ابن مسعود رضي الله عنه، وابن مسعود من الناس الذين ينبغي أن تؤخذ سيرتهم ويتدبر فيها ويتعلم منها؛ لأنها فيها عبراً عظيمة، ابن مسعود رضي الله عنه من الشخصيات الجديرة بجمع قصة حياته رضي الله عنه، في سيرة ابن مسعود فوائد عظيمة لو أخذها الشباب ودرسوها والكبار والصغار ففيها فوائد عظيمة جداً، وجربوا هذا، وستجدون أثر ذلك، وقد كان في غاية العناية بقضية أهل بيته. إليكم هذه القصة: قال ابن مسعود مرة: [لعن الله الواشمات والمستوشمات، والنامصات المتنمصات، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله] فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها: أم يعقوب فجاءت فقالت: إني أرى أهلك يفعلونه -انظر إلى الكلام! - قال: فاذهبي وادخلي البيت وتأكدي من هذا الذي تقولينه، فذهبت فنظرت فلم تر شيئاً، -تهمة باطلة وامرأة ابن مسعود بريئة- فقال ابن مسعود رضي الله عنه: [لو كانت كذلك ما جامعتها]. رواه البخاري، والراجح في معنى كلامه: ما اجتمعت أنا وإياها في بيت واحد ولا صاحبتها ولا بقيت معها ولا أبقيتها في بيتي هذه القصة في البخاري. قصة في صحيح مسلم: عن أبي وائل قال: [غدونا على عبد الله بن مسعود يوماً بعد ما صلينا الغداة -الغداة: صلاة الفجر- فسلمنا فأذن لنا فمكثنا بالباب هنيهة -أي: ما استعجلنا بالدخول مع أن الإذن حصل- فخرجت الجارية فقالت: ألا تدخلون؟ فدخلنا فإذا هو جالس يسبح، فقال: ما منعكم أن تدخلوا وقد أذن لكم؟ فقلنا: لا. إلا أنا ظننا أن بعض أهل البيت نائم. -أي: قالوا: خفنا أن ندخل عليك يا عبد الله بن مسعود وبعض أهلك نائمون، فنزعجهم وخاصة أن الوقت بعد الفجر، فنحن تأخرنا عند الباب قليلاً لهذا- قال: ظننتم بآل ابن أم عبد غفلة؟ -تظنون أن أهلي لا يقومون لصلاة الفجر أو لا يسبحون الله بعد الفجر ولا يذكرون الله؟ - ثم أقبل يسبح حتى ظن أن الشمس قد طلعت فقال: يا جارية انظري هل طلعت؟ قال: فنظرت فإذا هي لم تطلع، فأقبل يسبح حتى ظن أن الشمس قد طلعت قال: يا جارية انظري هل طلعت؟ فنظرت فإذا هي قد طلعت، فقال: الحمد الله الذي أقالنا يومنا هذا ولم يهلكنا بذنوبنا]. يقول النووي: وفي هذا الحديث مراعاة الرجل لأهل بيته ورعيته في أمور دينهم.

حقوق وآداب على رب الأسرة

حقوق وآداب على رب الأسرة أيضاً لابد من معرفة حقوق الأهل، فإن كل واحد فينا لأهله عليه حقاً، وحق الأهل كثير، فالزوجة حقها في النفقة وفي الفراش وفي أمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر إلى آخره، والنبي عليه الصلاة والسلام لما وصله خبر أن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه يصوم كل الأيام ويقوم كل الليالي فلقيه مرة، فقال: (إني أخبرت أنك تقوم الليل وتصوم النهار؟ قلت: إني أفعل ذلك. قال: فإنك إذا فعلت ذلك هجمت عينك -غارت وضعفت- ونفهت نفسك -كلت وملت- إن لنفسك عليك حقاً ولأهلك عليك حقاً) زوجتك لها حق، أعطها من وقتك. ومن أسباب انحراف بعض الزوجات: أن زوجها ليس فارغاً لها -ولاطها كما يقول الناس- لا يصاحبها ولا يجالسها فضلاً عن أن يعلمها ويدلها ويرشدها، وهذا من أخطائنا.

من حقوق الأهل: الإنفاق عليهم واحتساب ذلك

من حقوق الأهل: الإنفاق عليهم واحتساب ذلك من حق الأهل الإنفاق عليهم، إن معيل الأسرة له أجر عظيم، عن أبي مسعود عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إذا أنفق الرجل على أهله يحتسبها فهو له صدقة) رواه البخاري وانتبهوا معي إلى هذا الحديث؛ لأن فيه أمراً لو انتبهنا إليه فستكثر حسناتنا إن شاء الله، ولو لم ننتبه إليه فستفوت علينا حسنات كثيرة جداً جداً. لاحظ الحديث مرة أخرى (إذا أنفق الرجل على أهله يحتسبها فهو له صدقة) لقد ربط الصدقة بالاحتساب، فما هو الاحتساب؟ قال ابن حجر رحمه الله: الاحتساب القصد إلى طلب الأجر، ويستفاد منه أن الأجر لا يحصل بالعمل إلا مقروناً بالنية، ولهذا أدخل البخاري حديث أبي مسعود المذكور في باب ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة، وقوله (على أهله) يحتمل أن يشمل الزوجة والأقارب، والنفقة على الأهل واجبة بالإجماع، وإنما سماها الشارع صدقة خشية أن يظنوا أن قيامهم بالواجب لا أجر لهم فيه، وقد عرفوا ما للصدقة من أجر، فعرفهم أنها لهم صدقة حتى لا يخرجوها إلى غير الأهل إلا بعد أن يكفوهم. إذاً: لا منافاة بين كونها واجبة وبين تسميتها صدقة، بل هي أفضل من صدقة التطوع. كم الذي نصرفه على مقاضي البيت وأغراضه؟ كثير، متى تؤجر عليه؟ إذا احتسبت عند الإنفاق ونويت وقصدت أجر الإنفاق على الأهل، كم واحداً فينا عندما يصل إلى آلة المحاسبة أو إلى العامل الذي يحاسب في باب البقالة يحتسب عند الدفع أجر الإنفاق على الأهل، ويقصد أجر الصدقة وثوابها؟ كم فاتنا من الأجر؟ وكم سيفوت إذا ما انتبهنا لهذا؟ لذلك ابن حجر رحمه الله قال: المراد بالاحتساب القصد إلى طلب الأجر. فيا أخي، يا عبد الله إذا أتيت تحاسب المحلات على طعام لبيتك أو ملابس لأولادك أو أشياء لزوجتك فعليك أن تحتسب الأجر، هذه نصيحة لوجه الله. يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك) وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن واحداً من أصحاب الغار الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة قال في عمله الذي دعا الله وتوسل به: إنه كان لي أبوان شيخان كبيران، فكنت أخرج فأرعى ثم أجيء بالحلاب فآتي به أبواي فيشربان ثم أسقي الصبية وأهلي وامرأتي. والنبي عليه الصلاة والسلام كان يحبس لأهله نفقة سنة. طبعاً بهذا الكلام لا يعني أن ننسى الصدقات الأخرى، وننسى إخواننا في الشيشان وفي غيرها، ونقول: كله للأهل لا. بل ينبغي أن يكون لجوانب الخير الأخرى نصيب من صدقاتنا، وألا نسرف في الإنفاق على البيت؛ لأن بعض الناس يصرفون أكثر من المطلوب وزيادة على الحاجة، ثم يقول: ما عندنا والله يا أخي شيء نتصدق به، كله صرفناه على البيت. وقد يكون رمى من الطعام أشياء كثيرة، والاقتصاد من النبوة، فأين الاقتصاد؟ أين صرف المال في وجهه الصحيح؟

من حقوق الأهل: الأدب والسمر معهم

من حقوق الأهل: الأدب والسمر معهم مما يتعلق بحقوق الأهل -أيضاً- حفظ الأدب معهم، يقول صلى الله عليه وسلم: (لو أن أحدكم إذا أتى أهله فقال: باسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فقضي بينهما ولد لم يضره) رواه البخاري. وكذلك لا يطرق زوجته ليلاً إلا أن تعلم أنه سيأتي لأن النبي عليه الصلاة والسلام نهى أن يطرق الرجل زوجته ليلاً وقال: (إذا دخلت ليلاً فلا تدخل على أهلك حتى تستحد المغيبة -التي غاب زوجها- وتمتشط الشعثة). وقال لـ جابر: (عليك بالكيس الكيس) رواه البخاري الكيس معناه: الرفق وحسن التأتي، وأيضاً يؤخذ من معناه إتيان المرأة، ولذلك لما قال جابر لزوجته لما دخل عليها: (إن النبي عليه الصلاة والسلام أمرني أن أعمل عملاً كيساً. قالت: سمعاً وطاعة فدونك، فبات معها تلك الليلة). السمر مع الأهل: كان النبي عليه الصلاة والسلام يفعله، وابن عباس أخبر أنه عليه الصلاة والسلام تحدث مع أهله ساعة قبل أن ينام، وقال البخاري في صحيحه: باب السمر مع الضيف والأهل، والنبي عليه الصلاة والسلام كان في السفر بعيره يمشي وبجانبه بعير حفصة وعائشة يسامرهن في الطريق في الليل.

من حقوق الأهل: الخدمة والمشاركة في عمل البيت

من حقوق الأهل: الخدمة والمشاركة في عمل البيت من حقوق الأهل أيضاً: خدمتهم ومشاركتهم في عمل البيت، ورد أن الأسود سأل عائشة: (ما كان النبي عليه الصلاة والسلام يصنع في بيته؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله -أي: في خدمة أهله- فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة) رواه البخاري خدمة الأهل في أي شيء؟ جاء في الروايات الأخرى: يخيط ثوبه، ويخصف نعله، ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم، ويصلح دلوه، ويحلب شاته، ويفلي ثوبه، ويخدم نفسه. وقالت عائشة: (كان ألين الناس وأكرم الناس، وكان رجلاً من رجالكم إلا أنه كان بساماً) فهو كثير التبسم صلى الله عليه وسلم. وفي هذا الحديث فوائد كثيرة، وليس صحيحاً ما يراه بعض الناس أن العمل مع الأهل عيب كبير، لا يا أخي، إذا عملت مع أهلك في البيت، ولا بأس عليك لو غسلت لهم الصحون مرة، وساعدتهم في نقل الغسيل مرة، وطبخت مرة فهذا فعل النبي عليه الصلاة والسلام، ومن فوائده: أن المرأة ترتاح جداً إذا شاركها الرجل في بعض أعمالها، وتحس أن هذا إنسان وفي يريد أن يحمل عنها شيئاً من المسئولية ويساعدها، وفيه تواضع عجيب، ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام كان يكون في مهنة أهله، وهذا من أعظم أسباب التواضع، وبعض الرجال يكون عنده عظمة في نفسه، لا تعالج تربوياً إلا بمثل هذه الخدمة في البيت. وأيضاً: من الفوائد التي ذكرها العلماء البعد عن التنعم، لأن بعض الناس يقول: هذه ليست شغلتي، هذه شغلة الخدامة. فمن فوائد العمل في مهنة الأهل البعد عن الترفه والتنعم، ولئلا يخلد الشخص إلى الرفاهية المذمومة التي أشير إليها في قوله تعالى: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ} [المزمل:11] أولو النعمة هم المرفهون المترفون، هؤلاء أولي النعمة، فهذه تربية عظيمة للنفس.

من حقوق الأهل: الدفاع عنهم إذا كانوا أبرياء

من حقوق الأهل: الدفاع عنهم إذا كانوا أبرياء من حقوق الأهل عليك: الدفاع عنهم إذا كانوا أبرياء، النبي عليه الصلاة والسلام لما رميت عائشة وهي بريئة ولا يعلم عنها إلا خيراً قام على المنبر وقال: (يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي؟ فوالله ما علمت على أهلي إلا خيراً؟ وفي رواية: أشيروا عليَّ في أناس أبنوا أهلي -أي: اتهموهم بالباطل- وايم الله! ما علمت على أهلي من سوء). ولو وصل الدفاع عن الأهل إلى درجة القتال وإراقة الدم، فأرق دمك في سبيل الدفاع عن أهلك وأنت مأجور بالشهادة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (ومن قتل دون أهله فهو شهيد). أيها الإخوة إن القيام بالمسئوليات في الأسرة مسألة متكاملة في الإسلام، إنها مسألة موزعة على الأفراد، إن كل واحد في العائلة عليه مسئولية، وإن عظمة هذا الشرح الذي جاءت به الشريعة في هذا التوزيع يدل على عظمة الشريعة نفسها، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، الإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته، والرجل راع في مال أبيه ومسئول عن رعيته، وكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) رواه البخاري ما هي رعاية الرجل أهله؟ أن يسوسهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويوصل إليهم الحقوق، ويقيم فيهم الدين ويربيهم عليه. ما هي رعاية المرأة في بيت زوجها؟ تدبير أمر البيت والأولاد والخدم والنصيحة للزوج في كل ذلك. ما هي وظيفة الخادم والخادمة؟ حفظ ما تحت يده والقيام بما يجب عليه من الخدمة، ووظيفة الولد أن يقوم على مال أبيه ينميه ويثمره ويقوم بما يجب فيه.

من حقوق الأهل: حسن المعاشرة

من حقوق الأهل: حسن المعاشرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي) وسابق عائشة ومازحها، ولاطف زوجاته، وفاطمة رضي الله عنها ابنته كان لها في نفسه معزة خاصة جداً جداً، إذا دخلت عليه قام إليها ويقول: (مرحباً بابنتي فاطمة). إن من حسن المعاشرة للأهل أيها الإخوة: العطف والحنان والحنو عليهم كمثل فعل نبي الله موسى عليه السلام عندما سار بأهله: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} [القصص:29] فمن حنانه وعطفه على أهله ورعايته لهم أوقفهم بعيداً عن مكان النار لأنه لا يدري ماذا يوجد عندها، عدو أو صديق أو خير أو شر، ثم قال لأهله: امكثوا لعلي آتيكم بجذوة من النار لعلكم تصطلون، أي: تستدفئون من هذا البرد، ففي هذا حرص الزوج على زوجته بتدفئتها من البرد.

من حقوق الأهل: رقيتهم ومعالجتهم إذا مرضوا

من حقوق الأهل: رقيتهم ومعالجتهم إذا مرضوا ومن الحنان أيضاً والعطف على الزوجة وعلى الأهل: رقيتهم إذا مرضوا، تقول عائشة رضي الله عنها: (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعوذ بعض أهله) هكذا نطبق هذا الحديث، لا يوجد أحد في البيت إلا ويتعرض للمرض، يمرض يوماً من الأيام (كان يعوذ بعض أهله يمسح بيده اليمنى -قال العلماء: تفاؤلاً بزوال الوجع، وأيضاً فيه حنان وعطف- ويقول: اللهم رب الناس أذهب البأس، اشفه وأنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك، شفاءً لا يغادر سقماً) رواه البخاري. إذا مرض أحد من أهلك فطبق الحديث، بل وتعلمهم الرقية أيضاً، عن عثمان بن أبي العاص أنه قال: (أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وبي وجع قد كاد يهلكني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: امسح بيمينك سبع مرات، وقل: أعوذ بعزة الله وقدرته وسلطانه من شر ما أجد، قال: ففعلت فأذهب الله ما كان بي، فلم أزل آمر به أهلي وغيرهم) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

من حقوق الأهل: مراعاة ضعفهم

من حقوق الأهل: مراعاة ضعفهم ولابد من مراعاة ضعف المرأة الذي جبلها الله عليه، ولذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام يقدم ضعفة أهله من مزدلفة بعد منتصف الليل أو عند ثلثي الليل، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنه: (أنا ممن قدم النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة في ضعفة أهله) رواه البخاري.

من حقوق الأهل: ملاطفتهم ومداعبتهم

من حقوق الأهل: ملاطفتهم ومداعبتهم ومن حقوق الأهل ملاطفتهم وممازحتهم ومداعبتهم، والدعابة: هي الملاطفة في القول بالمزاح، وليس المقصود أن ينقلب الإنسان إلى شخص هزلي أبداً، بل إن الشخص الهزلي هذا إنسان ليس لكلامه تأثير في النفوس؛ لأن هزله يقضي على تأثير كلامه، ولا يكاد الناس يحترمونه؛ فتسقط مهابته ووقاره، لكن لو قلت لي: هل أحتشم عند الناس الغرباء أكثر أو عند أهلي؟ فأقول: طبعاً عند الناس الغرباء أكثر، لكن عند أهلك يمكن أن تمازح أكثر، المشكلة أن بعض الشباب يمازحون أصحابهم أكثر مما يمازحون أهليهم، فيسقط وقاره عند أصحابه، وعند أهله يظل عبوساً لا يكاد يمازح كيف هذا؟! أنت مع الشباب في مزح وضحك، ثم قد يكون هناك واحد هو المهرج وهو مضحك القوم وإذا جاء ضحكوا من مجرد رؤيته، وإذا قال كلمة ضحكوا. ولذلك بعض أهل العلم قال: من الغلط أن يتخذ المزاح حرفة نقله ابن حجر في فتح الباري، يأتي واحد يشتغل مهرجاً أو ممثلاً كوميدياً، ليس هناك شيء اسمه ممثل كوميدي في الإسلام؛ لأن هذا يتخذ المزاح حرفة، ولذلك فإن الإكثار منه يقضي على جدية الإنسان وعلى كلامه عند الناس، لكن الإنسان إذا كان عند أهله فله أن يمازح أكثر مما يمازح خارج البيت، لأن طبع المعاشرة للأهل الممازحة والملاطفة وفيهم صبيان وأطفال، والرجل مع زوجته ربما تغضب الزوجة فيعطيها من الكلام الطيب والضحك، فتنتهي المشكلة وتمشي الأمور والحمد الله.

استشارة الأهل والأخذ برأيهم

استشارة الأهل والأخذ برأيهم ومن حسن الخلق أخذ آرائهم واستشارتهم، وكعب رضي الله عنه استعان بكل ذي رأي من أهله لما وقعت له مصيبة التخلف عن غزوة تبوك، والنبي صلى الله عليه وسلم عمل برأي أم سلمة في غزوة الحديبية، ولذلك حديث: (شاوروهن وخالفوهن فإن في خلافهن البركة) موضوع مكذوب لا يصح عن النبي عليه الصلاة والسلام، وبعض الناس يجعلها قاعدة يقول: تريد أن تعرف الصحيح فشاور المرأة، التي تقوله خالفه وسترى البركة! بعض النساء قد يكون لها عقل تتفوق به على كثير من الرجال، ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام أخذ برأي أم سلمة رضي الله تعالى عنها.

من حقوق الأهل: عدم الغلظة والشدة عليهم

من حقوق الأهل: عدم الغلظة والشدة عليهم ومن حقوق أهل الإنسان عليه ألا يعنتهم ولا يشق عليهم؛ ولذلك حدثنا صلى الله عليه وسلم بقوله: (لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يعطي كفارته التي افترض الله عليه) رواه البخاري يلج: من اللجاج وهو التمادي في الأمر ولو تبين له الخطأ، ما معنى هذا الكلام؟ قال النووي: من حلف يميناً تتعلق بأهله بحيث يتضررون بعدم حنثه فيها، فينبغي أن يحنث فيفعل ذلك الشيء ويكفر عن يمينه، فإن قال: لا أحنث، بل أتورع عن ارتكاب الحنث خشية الإثم فهو مخطئ؛ كما لو حلف وقال: والله لا ترون فلساً واحداً فلو قال: أنا سأبر بيميني ولن يروا ولا فلساً واحداً، فهذا خطأ لأنه كيف لا ينفق على زوجته وهو من حقوقها عليه؟ فلذلك عليه أن يكفر عن اليمين ويريهم الريالات وألا يتمادى، بعض الناس يظن التمادي من الرجولة، أنا يميني لا ينزل الأرض، ويمكن أن يحلف بالطلاق: إذا رفعت السماعة فأنت طالق، وإذا خرجت من البيت فأنت طالق، وإذا ذهبت بيت خالك فأنت طالق، وإذا فعلت كذا فأنت طالق، كله على الطلاق يمشي بوتيرة واحدة، طلقات مدفع وراء بعض وبعد ذلك كيف تعيش هذه المرأة مع مثل هذا الرجل؟! يا إخوان ينبغي أن نتقي الله عزَّ وجلَّ.

من حقوق الأهل: عدم كثرة التغيب عنهم لغير الحاجة

من حقوق الأهل: عدم كثرة التغيب عنهم لغير الحاجة ثم علمنا عليه الصلاة والسلام ألا نتغيب عن أهلنا فترة طويلة وننقطع عنهم بغير حاجة، وإذا قضى الواحد حاجته في السفر فليرجع، ولذلك قال في الحديث: (السفر قطعة من العذاب، فإذا قضى أحدهم نهمته فليعجل إلى أهله) رواه البخاري وذلك كراهة الاغترب عن الأهل لغير حاجة، لئلا يضيعوا؛ ولأنه إذا سافر شق على الزوجة وعلى الأولاد. لما جلس إمام الحرمين موضع أبيه سئل: لِمَ كان السفر قطعة من العذاب؟ فأجاب على البديهة: لأن فيه فراق الأحباب؛ فلذلك ينبغي ألا نتغيب عن أهلنا فترة طويلة، وإذا انتهت الحاجة من السفر رجعنا لهم مباشرة، بعض الناس يتحجج بالدعوة، ويخرج أياماً طويلة يقول: في الدعوة، وقد ترك أهله ما عندهم قطعة خبز، والولد يريد المستشفى ولا يوجد أحد يذهب به، ماء عذب للشرب لا يوجد الخ.

كوارث غياب الأب عن أولاده

كوارث غياب الأب عن أولاده بعض الناس يغيبون للأمور الدنيوية، ويسافرون أسفاراً لا معنى لها ولا داعي لها، إلى أي شيء نريد أن نصل؟ هل نريد أن نصل إلى ما وصل إليه الكفار؟ في الولايات المتحدة الأمريكية تعد مشكلة غياب الأب عن أبنائه من أكبر المشكلات، (51%) فقط من الأطفال يعيشون مع آبائهم الحقيقيين، والأطفال الذين يولدون سفاحاً (30%) من مجمل الأطفال، (68%) من بعض قطاعات مجتمعهم سفاح، وعدد حالات الطلاق (1. 2) مليون حالة في السنة، نصف هذه الحالات بها أطفال، يعيش (38%) من الأطفال بعيداً عن آبائهم، كانت في الستينيات النسبة (17%) تطورت بعد ثلاثين سنة لتصل إلى (38%) ولذلك أحد مؤلفيهم ألف كتاب أمريكا اليتيمة يشير إلى قضية أن الأطفال هناك يتامى، أمٌ تخلت أو أبٌ مشغول ومسافر؛ ولذلك قال: ارتباط الأولاد بالمسدسات جاء نتيجة لذلك، والعنف والوحشية والحوادث الهمجية، يقول أحدهم: أبي دعني أراك، وآخر قتل أباه وأمه لما حدث فراغ عاطفي في نفسه نتيجة الغياب من الأبوين، الأب خارج البيت للعمل، وأيضاً الأم خارجة للعمل، ثم قام بعد ذلك الكتاب والصحفيون والناس يقولون: لا تتركوا أطفالكم، شاركوهم في ألعابهم وأحلامهم، وعلموهم، وذلك نتيجة لهذه الجريمة التي حصلت، في ذلك الوقت هرعوا يفتشون في أدراج مكاتب أبنائهم عما يوجد لما وقعت الجريمة. حنان الأب وجلوسه بجانب أطفاله أمر في غاية الأهمية، إنه يعوض الطفل عن حاجة نفسية متأصلة في نفسه، وقد وجد الأطباء النفسانيون أن الولد إذا غاب عنه أبوه افتعل أشياء في مخيلته، عن قصة فيها ولد ومعه أبوه وأن أباه أتى له بلعبة كذا وأعطاه لعبة كذا وخرج معه كذا، ويفتح القناة الثانية على التخيل ويتخيل هذا الوضع ليعوض عن نفسه بالخيال، يعوض نقص الواقع بالخيال؛ ولذلك تنشأ المشكلات النفسية والاضطرابات العاطفية، فسبب ذلك وقوع حوادث الاعتداءات، هذه من الأمور التي تترتب على هذا، إنها المخالفة لما جاء به الإسلام من تربية الأهل والقيام عليهم وملازمتهم والحرص عليهم، (46%) من الأسر التي يغيب عنها الأب وتشرف عليها الأمهات تحت مستوى خط الفقر. إن غياب الأب يزيد احتمال تعرض الأطفال للانطوائية والتعطل وإدمان المخدرات والجريمة والانتحار والاعتداءات الجنسية، وعدد القتلى على أيدي مراهقين تقل أعمارهم عن 18 سنة ارتفع بنسبة (125%) بين عام (84 - 94) في خلال عشر سنوات فقط، وأنتم تسمعون حوادثهم وجرائمهم، وتسمع أن ولد في المتوسط الثانوي يفتح النار على طلاب أو مدرس أو مدرسة، فيقتل ثلاثة أو يقتل ثمانية، وحوادث متوالية لماذا وقعت هذه الأشياء؟ لهذه الأسباب أيها الإخوة، هؤلاء ضحايا الابتعاد عن الأبوين، ضحايا الترك والإهمال، إنه شيء يدفعونه من دمائهم وصحتهم بسبب البعد عن الدين. أيها الإخوة ينبغي علينا نفع الأهل بكل طريقة، إن موسى عليه السلام ما زال يدعو ربه أن يجعل أخاه هارون نبياً حتى استجاب الله له: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً * وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً * قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه:29 - 36] ولذلك ليس أحد أعظم منة على أخيه من موسى على هارون.

عدم إيذاء الأهل وكشف أسرارهم

عدم إيذاء الأهل وكشف أسرارهم كذلك يجب أن نترك أذية الأهل، وقد روي حديث ضعيف، رواه ابن ماجة عن حذيفة، ولكن فيه عبرة، وبعض الأحاديث ضعيفة لا تثبتها عن النبي عليه الصلاة والسلام، لكن إن كان فيها حكمة فخذها، واعتبرها حكمة من الحكم قال: (كان في لساني ذرب على أهلي، وكان لا يعدوهم إلى غيرهم) أي: أن معاملتي مع الناس جميلة ولساني حلو عذب، وأما مع أهلي فإن لساني سيف قاطع، فقال: (أين أنت من الاستغفار؟ تستغفر الله في اليوم سبعين مرة) والاستغفار في اليوم سبعين مرة أمر ثابت، إذا وجد الإنسان سلاطة من لسانه على أهله فعليه أن يشغل لسانه بالاستغفار أو يتبع هذه السلاطة والأذى بالاستغفار. وكذلك يجب حفظ أسرار الأهل، النبي عليه الصلاة والسلام سألهم مرة عن الذين يكشفون أسرار الحياة الزوجية، فاعترفت امرأة من الموجودات بأنهم يفعلونه، فأخبر عن مثل ذلك بمثل شنيع، شيطان لقي شيطانة في الطريق فقضى حاجته والناس ينظرون. إذاً لابد من حفظ أسرار الأهل، والدعاء لهم دائماً بالصلاح والهداية، كما هو الحال في دعاء السفر: (اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي، اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل -كأنه يستودعهم الله عزَّ وجلَّ، والله إذا استودع شيئاً حفظه- اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنظر، وسوء المنقلب في المال والأهل) والحديث في صحيح مسلم.

فتنة الرجل في أهله

فتنة الرجل في أهله هل الإنسان يفتن بأهله؟ نعم. يمكن أن يفتن بأهله، لكن كيف يفتن بأهله؟ وما هو الدليل؟ ولو حصل ما هو الحل والعلاج؟ اسمع معي: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فتنة الرجل في أهله وماله وولده وجاره تكفرها الصلاة والصوم والصدقة والأمر والنهي) رواه البخاري ومعنى فتنة الرجل في أهله وولده الالتهاء بهم عن طاعة الله، وأن يترك واجبات بما يولدونه عليه من الضغوط، هذه فتنة الرجل في أهله وولده، أو يفعل المحرمات أو يأتي بها لأجلهم، يأتي لهم بأجهزة لهو، أجهزة محرمة، ألعاب محرمة، الولد يقول: أريد سوني بلير ستيشن، الأولاد كلهم في المدرسة يتكلمون عن سوني بلير، حسناً أتى به، ماذا فيها؟ موسيقى، نساء متعريات، صلبان وكلها لا تجوز لكن تحت الضغط جاء بها، وتحت الضغط أتى بكذا وجاء بكذا من المحرمات، وأحياناً يتكاسل الإنسان في الصلاة بسببهم، ولذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام يكون في مهنة أهله فإذا سمع نداء الصلاة خرج.

الحل إذا فتن الإنسان في أهله

الحل إذا فتن الإنسان في أهله فإذا فتن الإنسان وحصل منه تراجعات بهذا السبب؛ فعليه أن يتوب إلى الله ويصلح الأمر، ويخرج المنكر، ويعظ أهله ويعظ نفسه، وبالإضافة إلى ذلك الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أليس الولد مجبنة عن الجهاد، مبخلة عن الصدقة، مجهلة عن طلب العلم؟ ألا يحدث ذلك؟ يحدث، ولذلك لا يصح أن يشغلك أهلك عن ذكر الله عزَّ وجلَّ، فإذا انقلب الأهل أعداءً فما هو الموقف؟ قد يبتلى الإنسان بولد ضال فاسق أو كافر: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:45 - 46] قد يبتلى بزوجة عاصية فاسقة وربما كافرة: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا} [التحريم:10] ليست خيانة فراش لا. لكن كانت زوجة نوح تدل قومها على المؤمنين الذين تبعوا نوح ليفتنوهم عن دينهم، وكانت الأخرى تدل قومها على أضياف زوجها ليفعلوا بهم الفاحشة فما هو الحل إذاً؟ الدعوة وإن لم تحدث الموافقة على الحق فالمفارقة. وفي قصة الغلام والراهب وأصحاب الأخدود كيف علم الراهب الغلام كيفية التصرف مع أهله، كان يجلس ويذهب إلى الساحر يعلمه السحر، وفي الطريق يرجع إلى أهله يجلس إلى هذا الراهب المسلم يعلمه الدين؛ فكان يتأخر على الساحر ويتأخر على أهله، فشكا إليه ذلك، فقال: إذا خشيت الساحر، فقل: حبسني أهلي، وإذا خشيت أهلك فقل: حبسني الساحر وهذا الحديث في صحيح مسلم. كيف يكون التصرف مع الأهل إذا صاروا فتنة، وإذا صاروا أعداء، وإذا صاروا ضد الدين: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15] هذا قد يكون كثيراً في زمن الفساد؛ ولذلك ينبغي أن نعرف كيف نواجه مثل هذه المواقف.

أهمية القوامة للرجل

أهمية القوامة للرجل يا إخوان نحن نحتاج إلى بيوت مستقرة؛ لأن الواحد يأتي متعباً ومنهكاً، يحتاج إلى بيت يستقر فيه ويرتاح فيه، وحتى يكون البيت المستقر معموراً بذكر الله وبطاعته، وأن يكون الرجل له القوامة، هذه القوامة التي يريد أعداء الله اليوم أن يسقطوها، فيقولون: المرأة تسافر بغير إذن الزوج، المرأة تنفق مثل الزوج، لابد من مساواة هذا الكلام يقولونه الآن ويعملون من أجله مؤتمرات، مثل بمثل، وقد قال الله: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34] فجعل الله عقل الرجل أكمل؛ ولذلك جعل قرار الطلاق بيده لا بيد المرأة، غالباً أن عقل الرجل أكمل فجعلت هذه القرارات المصيرية بيده، وجعل له الإمارة عليها والقيادة؛ لأنه هو الذي ينفق عليها: {وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34] فإذا قالوا: هو ينفق وهي تنفق فالقيادة مشتركة هل يمكن أن يقود السفينة أكثر من ربان هذا يوجهها يميناً وهذا يوجهها شمالاً؟! كل منهما يريد استلام دفة التوجيه ماذا يحدث للسفينة -سفينة البيت-؟ تضطرب، وإذا صارت قائدة السفينة امرأة فهي مصيبة، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) ولذلك لا بد من إظهار القوامة، ولا يمكن أن يستقيم البيت من دون قوامة واضحة من الرجل على أهله. وينبغي أن نتحسب كثيراً لقضية المشكلات، وأن نراعي الأمور بحيث نقيم البيت على الدين كما أمر الله عزَّ وجلَّ. أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم ممن يحل حلاله، ويحرم حرامه، ويحفظ حدوده، ويقيم شرعه. اللهم اجعل عملنا في رضاك، وأسعدنا بتقواك، ولا تشقنا بمعصيتك، ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه.

الأسئلة

الأسئلة

ترك توجيه الأهل حياء

ترك توجيه الأهل حياءً Q بعض الناس يترك توجيه الأهل حياءً. A يا أخي كيف يترك الشاب أو أي إنسان الواجب الشرعي حياءً؟ لا يمكن، ولذلك جرئ نفسك على قول الحق وعلى القيام بالواجب، ولا بأس أن تأخذ المسألة بتمهل خطوة خطوة، لكن لا بد أن تكون دائماً في ازدياد.

حكم الذهاب إلى الأفراح المليئة بالمنكرات

حكم الذهاب إلى الأفراح المليئة بالمنكرات Q كثير من الرجال آباءً وإخواناً وأزواجاً يتساهلون في ذهاب النساء القريبات ممن يعولونهم إلى الأفراح المليئة بالمنكرات؟ A هذا التساهل مذموم ومحرم ولا يجوز، والذاهب والسامح بالذهاب آثم؛ ولذلك لابد أن نتقي الله عز وجل في هذا الأمر.

الطلاق ينقض عرى الأسرة

الطلاق ينقض عرى الأسرة Q من أشد ما ينقض عرى الأسرة الأشياء التي تؤدي إلى الطلاق، فكيف نعالج هذه المشكلة التي تتفشى؟ A أما أنها تفشت نعم يا أخي، الإحصاءات تقول: أنه من كل أربع زوجات فيها واحدة تنتهي بالطلاق، معنى ذلك: خمسة وعشرين في المائة (25%) من الأسر تتفكك، وهذه إحصائية مخيفة جداً يا إخوان! ربع المجتمع ينهار! أسر تنهار! بنت تمسك في حالة مزرية جداً، فتتبع القضية فتجد -أحياناً- أباها طلق أمها والبنت تعيش عند خالها، أو تعيش عند جدتها، لاحظ أنه عندما تعيش بنت عند جدتها أو خالها بعيداً عن رقابة الأبوين، وليس عليها رقابة مثل ما تكون عند والدها يحدث الفجور، فهو سبب عظيم للفجور؛ ولذلك الطلاق فيه مصائب عظيمة، وأنا أنصح كل امرأة أن تتحمل إلى أقصى ما يمكن قبل أن تطلب الطلاق، وألا تستجيب لنزغات الشيطان فتسارع بطلب الطلاق في أي مشكلة، حصول الطلاق يسبب فراغاً عاطفياً وفقدان مصدر الحنان، وإذا صادفت الفتاة أماً تخلت أو أباً مشغولاً سقطت بسهولة بين براثن الذئاب. ولا ينبغي أن تطلب المرأة الطلاق إلا إذا صار الزوج منحرفاً في أخلاقه، تاركاً لدينه، مجاهراً بالمعاصي كشرب الخمر أو المخدرات، ولا تطيق إصلاحه ولا الصبر عليه، لأنه صار من معتادي الإجرام، تردد على السجون ومخافر الشرطة هذا حال لا يطاق، لكن بعض النساء تطلب الطلاق لسبب تافه. لاحظ معي ما يحدث عند بعض الناس حتى ممن عندهم شيء من العلم، إذا طلق قال لها: اذهبي إلى أهلك. أو هي تقول فوراً لأهلها: تعالوا خذوني. كلاهما عاصيان، ألم يقل الله عز وجل: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ} [الطلاق:1]؟! لماذا يريد الشارع أن المرأة تبقى في البيت في وقت العدة في الطلقة الرجعية؟ ولماذا ينهى عن الطلاق في حيض أو في طهر جامعها فيه ويقول له: إذا أردت أن تطلق وهي حائض: انتظر حتى تطهر؟ لأنه في خلال هذه الفترة ربما اشتاق إليها ونسي الموضوع أصلاً، هناك حكم من وراء هذه العملية، ومع ذلك تجدهم يطلقون في الحيض وفي النفاس وفي طهر أتاها فيه، ويطلقها بالثلاث دفعة واحدة ويخرجها من البيت! مخالفات كثيرة في الطلاق، وأهلها يقولون: لست بدار هوان ولا مضيعة الحقي بنا نواسك الله أكبر! ولذلك يقع الخطأ في الطلاق ويقع الخطأ بعد الطلاق وتتشتت الأسر وتحدث النكبات العظيمة، لا يكاد يوجد زوجين افترقا إلا ونالهما أذى، والمرأة أحياناً تريد أن تهرب من ظلم الزوج، فتقع في ظلم المجتمع وتقول بعد ذلك: ليتني ما طلبت الطلاق، ليتني ما طلبت الطلاق. وبعض الناس في سبيل العلاج من المشكلات الأسرية يذهبون إلى الدجالين هذه حقيقة، بعض الناس يذهبون إلى الدجالين، وبعضهم من أصحاب الشهادات الجامعية كما أفادت بذلك بعض الأبحاث، وبعض النساء يترددن على الدجالين لأسباب: تريد أن يعمل لها شيئاً حتى يحبها الرجل، أو يعمل لها عملاً لكيلا يتزوج عليها، أو لكي تنجب ذكوراً، أو يعمل لها عملاً لحل العقم: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً} [الشورى:49 - 50] ما دخل الدجال والذهاب إليه أصلاً حرام؟ تصور 50% من الذاهبين إلى الدجالين في بعض البلدان العربية من المثقفين أصحاب الشهادات!

والدي يصلي ولا يهتم بالوضوء

والدي يصلي ولا يهتم بالوضوء Q والدي يصلي ولكنه لا يهتم بالوضوء، علمته الوضوء ولم يهتم وهو فوق سبعين سنة الآن؟ A جاهد في تعليمه، فإذا رفض فقد أديت ما عليك، الإنسان أحياناً يحس أن ضميره مرتاح داخلياً لأنه قام بما عليه، علم ونصح واجتهد ثم أعرض الطرف الآخر فهذا -إن شاء الله- لا يأثم.

التناقض بين الأب والأم أمام الأبناء

التناقض بين الأب والأم أمام الأبناء Q بعض الأسر تعيش في تناقض: تأمر الأم فينهى الأب، ويريد الأب شيئاً والأم لا تريده. A ينبغي التنسيق بين الزوجين وألا يكسر أحدهما كلام الآخر أمام الأولاد؛ لأن في هذا ضرراً بالغاً في نفسية الأولاد، فلا بد أن يكون الأب حكيماً والأم حكيمة، ولا بد أن يؤكد الأب دائماً على احترام الأم، وتؤكد الأم على احترام الأب، وهذه قضية خطيرة، بعض الأولاد لا يحترمون أمهاتهم، لأن الأب دائماً ينزل عليها أمام الأولاد، يشتمها أمام الأولاد، يعنفها أمام الأولاد. تقول إحدى الأمهات: أنا في المطبخ مع الأولاد، فتحنا إذاعة القرآن الكريم فأخذ الشيخ يتكلم قال: "والزوجة العاصية الناشز " والأطفال الصغار كلهم ينظرون إليها، كل الأولاد التفتوا على أمهم، معناها أن عندهم شعوراً من خلال التعامل في البيت أن هذه هي المقصودة بالحديث، معناها سلوك الأب أدى إلى أن الأولاد لما سمعوا الزوجة الناشزة العاصية أول شيء استداروا كلهم واستدارت وجوههم إلى أمهم. فإذاً: يا إخوان! لابد أن يكون هناك حكمة، وإذا كان هناك خلاف بين الأبوين ولابد؛ فإنه لا يكون أمام الأولاد. نكتفي بهذا القدر ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يهدينا سبلنا، وأن يقينا شر أنفسنا، إنه سميع مجيب جواد كريم، وهناك دعوة للإنفاق في سبيل الله والصدقة لدعم نشاطات تحفيظ القرآن الكريم، فلا تبخلوا رحمكم الله وتذكروا أن الإنسان في ظل صدقته يوم القيامة. وفقني الله وإياكم لما يرضيه، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم.

حاجتنا إلى التربية الإسلامية

حاجتنا إلى التربية الإسلامية الوصول إلى المجتمع الإسلامي غاية كل مسلم، وطريق ذلك هي التربية الإسلامية التي نحتاج إليها اليوم وكل يوم. لماذا نحتاج إلى التربية؟ ما هي فوائد التربية؟ ما هي الجوانب التي نحتاج فيها إلى التربية؟ هذه المحاضرة محاولة جادة للإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها، حيث ورد فيها ما يزيد عن العشرين من جوانب أهمية التربية الإسلامية.

التربية طريقنا إلى المجتمع الإسلامي

التربية طريقنا إلى المجتمع الإسلامي الحمد لله الذي علَّم الإنسان ما لم يعلم، الحمد لله الذي أنعم علينا بهذه النعمة وهذا الدين العظيم دين الإسلام، والحمد لله الذي أرسل إلينا هذا النبي الكريم، وهو خير الأنبياء وخاتم الرسل محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، فكان أعظم الأنبياء، وسيد الرسل، وسيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم، ابتعثه الله لإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، فربَّى صلى الله عليه وسلم أصحابه على هذا المنهاج، وعلى هذا الكتاب، وعلى هذه الشريعة، فكانت تلكم الصفوة المختارة من صحابته صلى الله عليه وسلم أفضل الأمة، وأبرها قلوباً، وأطهرها نفوساً، وأزكاها عقولاً، نشروا الأمانة، وبلغوا الدعوة في أصقاع الأرض، وكانوا بعد رسولهم صلى الله عليه وسلم دعاة خير وهدى، ومعه وزراء ومساعدون ومجاهدون في سبيل الله، أيدوا دعوته، ونصروا شريعته، رضي الله تعالى عنهم أجمعين. أيها الإخوة: موضوعنا في هذه الليلة بعنوان: (حاجتنا إلى التربية الإسلامية). هذه الحاجة العظيمة الماسة التي افتقدها الكثيرون في هذا الزمان فوقعوا في تخبطٍ وحيرة واضطراب، إذ لم يعرفوا المنهج والطريق الذي يجب عليهم أن يسلكوه. إن الوصول إلى المجتمع الإسلامي غاية كل مسلم، وأمل منشود ومرتقب يسعى إليه المخلصون من أبناء هذا الدين، ولكن منهم من عرف الطريق؛ طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته، فسار على نفس الهدي والمنهج، ومنهم من صار يتخبط حيراناً في الأرض لا يدري كيف يعمل، فيذهب يميناً وشمالاً، ويأخذ حلولاً مستعجلةً وضعية، أو يتشبه بالكفرة في استيراد بعض الحلول، هؤلاء لم يصلوا إلى الهدف مطلقاً؛ لأنهم جانبوا هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنتكلم -إن شاء الله- عن الأسباب التي من أجلها نحتاج إلى هذه التربية. لماذا يجب علينا أن نسلك سبيل التربية؟ ما هي فوائد التربية؟ ما هي ثمراتها؟

التربية الإسلامية طريقة الأولين

التربية الإسلامية طريقة الأولين أولاً: إن التربية الإسلامية هي الطريقة التي ربى الله بها أوائل هذه الأمة بإنزال الكتاب عليهم، وكانت آيات هذا الكتاب العزيز تتنزل تترى منجمة، في مواسم متفرقة، ومناسبات مختلفة، تربي هذه الأمة، في معركة بدر أنزل الله آيات تربي المسلمين أن النصر من عند الله، وأن الذين رموا لم يكن رميهم بأنفسهم فقط {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17]، ولما حصل بينهم فشلٌ وتنازعٌ ومعصية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وانشغالهم في الدنيا وهزموا في غزوة أحد، ودفعوا الثمن غالياً دماءً وأشلاءً سبعين من المجاهدين المخلصين، نزلت الآيات في سورة آل عمران تربي الأمة على أسباب الهزيمة التي يجب عليهم أن يتقوها، وبينت لهم الآيات كيف أن الانصراف عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم والانشغال بالدنيا من أعظم أسباب الهزيمة، وماذا كان يجب عليهم أن يعملوا؟ وما هي التضحيات؟ وما مدى الثبات الذي كان يجب عليهم أن يسلكوا طريقه؟ وفي معركة الخندق لما عمل المنافقون عملهم، نزلت الآيات في هتك أستار المنافقين، وتثبيت المؤمنين، وكشف دور اليهود وهكذا. وبعض المؤمنين عندما انفضوا من حول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب الجمعة من أجل قافلةٍ من التجارة قدمت، نزلت الآيات تربي أولئك القوم أنه لا يجوز لهم أن يفعلوا ذلك: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً} [الجمعة:11]. بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو رسول الله كان يتلقى من الآيات ما يتربى عليه صلى الله عليه وسلم، فلما عبس في وجه ابن أم مكتوم الأعمى نزلت الآيات عليه تربية له وتذكيراً وتعليماً. ولما حصل ما حصل في نفسه بشأن زيد بن حارثة وزواجه، قال الله له: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب:37] حتى قالت عائشة: [لو أن محمداً صلى الله عليه وسلم أراد أن يكتم شيئاً من القرآن لكتم هذه الآية]. ولما تنازع بعض المسلمين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نزلت الآيات موبخةً ومقرعةً على هذا التصرف الذي لا يليق. ولما حصل من بعض المنافقين تناجٍ، نزلت آيات في فضحهم وتعليم المؤمنين ألا يتناجوا إلا بالبر والتقوى، ولا يتناجوا بالإثم والعدوان. وهكذا وهكذا من الأمثلة الكثيرة والآيات العديدة الدالة على أن طريقة القرآن هي التربية، وأن الثلة والنفر من المسلمين المخلصين الأوائل إنما كانت تربيتهم في هذا القرآن، فإذا كنا مسلمين حقاً، ونريد أن ننهج نهج القرآن، فلا بد أن نسلك مسلك التربية.

التربية هي منهج الأنبياء عليهم السلام

التربية هي منهج الأنبياء عليهم السلام ثانياً: إن التربية هي طريقة الأنبياء رضوان الله عليهم، فهذا موسى عليه السلام يختار من قومه سبعين رجلاً يختصهم بمزيدٍ من العناية. وهذا عيسى عليه السلام له حواريون يعلمهم ويختصهم بمزيدٍ من القرب والإدناء. وهذا محمدٌ صلى الله عليه وسلم أسلم معه أناسٌ كثيرون جداً، ولكن كانت معه طائفةٌ من المؤمنين تتلقى وتتربى دائماً، والتربية للجميع، فالمقل والمستكثر، ومنهم مقبلٌ ناهلٌ من هذا المعين الذي لا ينضب، ومنهم منشغلٌ في أمورٍ، أو بعيدٌ في قبيلة أو بلدٍ لا يستطيع أن يكون معه صلى الله عليه وسلم دائماً، ولكنه عليه الصلاة والسلام كان ينتهز كل طريقة في تربية أصحابه. إننا نعلم أن عدد الصحابة رضوان الله عليهم يقارب مائة وأربعة وعشرين ألف صحابي -كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر رحمه الله في كتابه الإصابة - من الذين حجوا معه صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع، ولكن كان من هذا العدد الكبير طائفة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تتلقى التربية أولاً بأول، كانوا معه من القديم عندما كان في مكة، وهاجروا معه، والتف معه الأنصار، وكان منهم من خرج معه في غزواته وشهد المشاهد كلها أو بعضها، واشتركوا في الجهود العظيمة في الدفاع عن الإسلام، ونشر الدعوة، وكان منهم العلماء، والقادة العسكريين، وأولو الحل والعقد والرأي في أول هذه الأمة. وكان صلى الله عليه وسلم ينتهز المناسبات، فإذا جاء رجلٌ يسأله عن أحب الأعمال، يقول تارة لشخصٍ: (الإيمان بالله)، ويقول تارة لآخر: (بر الوالدين)، ويقول تارة لثالث: (الصلاة على وقتها)، وهكذا وهكذا، يعطي كل شخصٍ بحسبه، ويربي كل إنسان بما يحتاج إليه، وهذا يقول له: أوصني، فيقول: (لا تغضب)، وهذا يقول: الوصية، فيقول: (لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله)، وهكذا يتعاهد كل واحدٍ من أصحابه بما يحتاج، وينتهز المناسبات والأحداث، فيمر على جدي أسك قد تركه أهله مما أصابه من الموت والعفن، فيعلمهم فيه مفهوماً مهماً، ويمثل لهم تمثيلاً بليغاً صلى الله عليه وسلم. ولما وزع الغنائم في غزوة حنين، فنال مسلمة الفتح ما نالوه من الغنائم العظيمة مائةً مائةً من الإبل، وهؤلاء الأنصار لم تجف سيوفهم بعد من دماء الكفار لما فتحوا مكة، ولما قاتلوا في حنين، فلم يأخذوا شيئاً، فينتهز عليه الصلاة والسلام هذا التأثر الذي حصل من بعضهم ليجمعهم ويلقي فيهم موعظةً بليغة، يعلمهم ويذكرهم وينصحهم ويعظهم، حتى بكوا من التأثر، ورجعوا معه قائلين: رضينا برسول حظاً وقسماً. وهكذا كان مع أصحابه؛ يعلم جاهلهم، ويرشد من يحتاج إلى إرشاد، ويثبت من يحتاج إلى تثبيت، يأتيه خباب وهو مستظلٌ بظل الكعبة، فيقول: [ألا تدعو لنا، ألا تستنصر لنا]، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو عليه من أخبار السابقين، وما ينبغي أن يكون عليه هؤلاء الناس من الثبات والصلابة في المواقف، فكانت تربيته عليه الصلاة والسلام مثالاً يحتذى لكل أحدٍ من الناس يريد أن يسلك النهج النبوي في التربية الإسلامية.

التربية الإسلامية هي نهج الصحابة رضي الله عنهم

التربية الإسلامية هي نهج الصحابة رضي الله عنهم ثالثاً: إن هذه التربية الإسلامية هي نهج الصحابة رضي الله عنهم، والتابعين ومن تبعهم بإحسان في سائر طبقات هذه الأمة، فقد كانوا يتعاهدون أصحابهم بمزيدٍ من التربية والعناية لأهدافٍ إسلامية يعلمونها علم اليقين، ويعلمون أن الأمة تحتاج إلى هؤلاء الذين تربوا على هذا المنهاج السديد. لقد كان لكل صحابي طائفةٌ من تلامذته يختصهم بمزيدٍ من العناية، ولقد انتهى الدين والفقه والعلم في الأمة إلى أربعة أشخاص: عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه في العراق، وزيد بن ثابت وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما في المدينة، وعبد الله بن عباس في مكة، كان لكل واحدٍ من هؤلاء الأربعة تلامذةٌ يختصهم بعلمٍ وتربية زائدة عما يعطيه لسائر الناس، ولذلك ترى من تلامذة ابن مسعود مثلاً: علقمة، والأسود، ومسروق، والربيع بن خثيم وهكذا. وترى من تلامذة عبد الله بن عمر: ثابت البناني، وجبير بن نفير، وخالد بن كيسان وغيرهم. وترى من تلامذة زيد بن ثابت: قبيصة بن ذؤيب، وأبان بن عثمان، والقاسم بن محمد وغيرهم. وترى من تلامذة عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما: كريب، وعروة بن الزبير، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وأبو العالية، وأبو صالح باذام، والشعبي، والحسن، وابن سيرين، والضحاك، وابن أبي مليكة وغيرهم، فقد كانت هذه هي طريقتهم رضوان الله تعالى عليهم في انتقاء هؤلاء الطلبة الأفذاذ النجباء وتخصيصهم بمزيدٍ من العلم والتفقيه والتربية. وكان التلميذ يعيش مع شيخه فيقتبس من حسن أخلاقه، وشدة عبادته وكثرتها لله تعالى، وإحسانه في التعليم، ويقتبس من علمه أشياء كثيرة جداً، وهكذا علموها لمن بعدهم، ومن بعدهم كان لهم تلامذة وأتباع وهكذا كان للإمام أحمد وغيره، وشيخ الإسلام ابن تيمية كان له جماعة من أصحابه يأمر معهم بالمعروف، وينهى معهم المنكر، وهذا تلميذه وخاصته من بينهم شيخ الإسلام الثاني ابن القيم رحمه الله كان يسير على نهج شيخه، فترى هذه الثمرة من تلك البذرة التي تعاهدها ذلك المربي، فسقاها بماء الشرع، وحاطها بعناية إسلامية فائقة، فهذه الغرسة نبتت وآتت أكلها وثمارها كل حينٍ بإذن ربها. وهذا شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في هذا العصر كان له أتباعٌ وجندٌ مؤمنون نصر بهم الحق، وأخرج الناس بهم من عبادة الأوثان والجاهلية الأخرى التي طبقت الجزيرة في وقته إلى أنوار التوحيد.

حاجة الإسلام إلى شخصيات عظيمة

حاجة الإسلام إلى شخصيات عظيمة رابعاً: الإسلام دين عظيم يحتاج إلى شخصيات عظيمة لحمله ونشره؛ شخصيات تملك فقهاً في الدين، وثقافات حتى في أمور الجاهليات الأخرى؛ لأن من لا يعرف الجاهلية لا يمكن أن يسير في الإسلام سيراً حسناً، لا بد أن يكون هناك أشخاصٌ يحملون هذا الدين، وهذا الدين متين، لكنهم يحملونه بفقههم، وما آتاهم الله من قوة يسخرونها من أجل الاستمساك بهذا الدين فقه للواقع، وحاضر العالم الإسلامي، والتيارات المنحرفة المؤثرة وغيرها، يتمتعون بصبرٍ واحتمال، وطاعةٍ لله، وتجرد وثباتٍ على المنهج، وثقةٍ به، وتضحية من أجله يتمتعون بقدرة على الإدارة والتخطيط والتنسيق والانتقاء، ومعرفة الطاقات وتشخيص أمراض الأمة والقدرة على علاجها، هؤلاء الذين لهم علمٌ بطبائع الناس وكيفية جذبهم إلى طريق الحق، هؤلاء الناس لا يمكن إعدادهم إلا بتربية من أجل هذا الدين، ومن أجل أنه متين وعظيم لا بد من عظماء يحملونه، فلا يحمله السفهاء، ولا يحمله الدهماء، ولا العامة، وإنما يحمله قلةٌ تنقذ الموقف.

أهمية التربية في اكتساب التصورات الواجب حملها

أهمية التربية في اكتساب التصورات الواجب حملها خامساً: إن التربية مهمة في اكتساب التصورات التي يجب على الفرد المسلم أن يحملها؛ مفهوم لا إله إلا الله، وأهمية التوحيد وأنواعه، والولاء والبراء، ومفهوم العبادة، والتغيير لا الترقيع، وتميز المسلم، والالتزام بالسنة، والاستعلاء والاعتزاز بهذا الدين، والعلم الشرعي وكيفية التفقه فيه، وجنسية المسلم وعقيدته، ومنهج التفقه، وتعظيم النصوص، وعدم التعصب، والعمل لهذا الدين، والتقديم والتضحية، وعالمية المنهج، والموقف من الخلاف، والأخوة الإسلامية، والجدية في الالتزام، والتلقي للتنفيذ، ومفهوم القضاء والقدر، ومفهوم الدنيا والآخرة، ومفهوم الحضارة وعمارة الأرض. هذه طائفة من المفاهيم الكثيرة، جزءٌ منها مما يجب على المسلم أن يحمله، كيف يحمله إذا لم يكن قد تربى؟ وكيف يتشرب هذه التصورات إذا لم يكن له طريقٌ يسلكه ويتربى من خلاله؟ إن الذين يظنون أن بإمكان الفرد أن يتلقى كل شيء من تلقاء نفسه، أناسٌ جازفوا في الأمور، ولم يزنوها حق وزنها، ولنا وقفة -إن شاء الله- في أنواع التربية وأهدافها ووسائلها، في محاضرةٍ قادمة لبيان خطأ هذا الفكر الذي يسيطر على بعض الناس ممن يظنون أن الفردية تفلح في مثل هذا الزمن.

أهمية التربية في توجيه طاقات المسلم

أهمية التربية في توجيه طاقات المسلم سادساً: من الأمور التي تدفعنا إلى سلوك طريق التربية، وأهمية التربية، وحاجتنا إلى التربية: أن التربية توجه طاقات الشخص لتستغله في نصرة الدين تستغل الطاقات والمواهب في نصرة الدين بدلاً من التوافه والمحرمات؛ فهذا شخصٌ يجيد الخطابة فليخطب في نشر الدين، وهذا شخص يجيد الكتابة فليكتب في نصرة الدين، وهذا شخص يقول شعراً فليقل الشعر ينافح عن الإسلام وأهله، وهذا يخط فلتخط يمينه. إذاً: كلمات إذا رآها الرجل العاقل تأثر منها، وهذا له قوةٌ بدنية فلينصر بها المظلوم، ولينصر بها الحق، وهذا له خبرة قتالية فليسخرها في تجييش الجيوش وقيادتها وحملها على الأعداء، وهذا له قدرةٌ بتعلم اللغات فليشتغل بنشر الدعوة إلى الله في الأقوام الذين يتكلمون بهذه الألسنة التي يجيد الكلام بها. إن التربية تصنع من الشخص الجاهلي الهامشي التافه شخصاً إسلامياً قوياً مؤثراً، ومن أجل ذلك لا بد من سلوك طريق التربية.

أهمية التربية في إزالة الأخلاق الرديئة

أهمية التربية في إزالة الأخلاق الرديئة سابعاً: إن هذه التربية مهمة لإزالة الأخلاق الرديئة، فيحل مكان الجبن الشجاعة، ومكان التهور الاتزان، ومكان البخل الكرم، ومكان الفحش الأدب والحياء وغير ذلك على نحو ما فصلناه في محاضرةٍ ماضية بعنوان: (اكتسب حسنة من الأخلاق الحسنة).

أهمية التربية في التخلص من رواسب الماضي

أهمية التربية في التخلص من رواسب الماضي ثامناً: إن التربية مهمة للتخلص من رواسب الماضي، فإن الإنسان مهما سار في الطريق فلا بد أنه يبقى في نفسه علائق مما مضى من حياته السابقة من جاهليته الماضية ترسبت في نفسه، قد استقرت باللاشعور عنده في تصوراته وخلفياته السابقة، فهي تظهر من حين لآخر، تظهر كأجواء، وتظهر كأهواء وهكذا، وهذه التربية تشذبها وتنقي النفس من الرواسب، لقد كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من حلف بالآباء، كان على عهده من حلف بالأمانة، كان على عهده من حلف باللات والعزى، من أي شيء حصل؟ من رواسب ماضية وسابقة، وكان صلى الله عليه وسلم إذا سمع شيئاً من المنكر أنكره، بعضهم كان يحلف باللات والعزى خطئاً من كثرة ما جرى على لسانه من أيام الجاهلية من هذا الحلف، فكان صلى الله عليه وسلم يقول: (من حلف باللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله) يكفر بها هذا الفعل، ويربي نفسه ويعودها على عدم العودة لمثل هذا القسم. حصل في مناسبةٍ من المناسبات خصامٌ بين مهاجري وأنصاري، فقال المهاجري: يا للمهاجرين! وقال الأنصاري: يا للأنصار! فتحزبت كل فرقةٍ لصاحبهم، حتى كادت تحصل بينهم مقتلة، وهم من هم؟ الصحابة الكرام رضي الله عنهم. من أي شيء جاء؟ ومن أين أتى؟ إنه جاء من رواسب ماضية في الجاهلية، كان الثأر يلعب دوره، وكانت العصبية تلعب دورها، ولذلك نزغ الشيطان نزغة، كاد أن يحصل من ورائها شرٌ عظيم، فقام المربي صلى الله عليه وسلم يخطب فيهم، ويقول: (دعوها فإنها منتنة) ويهدئهم حتى كشف الله خطة المنافق، وأفشل كيده، ورده في نحره، فرجع الصحابة رضوان الله عليهم إلى الحق مرةً أخرى. حصل أن واحداً منهم قال لأخيه: يا بن السوداء! فماذا فعل عليه الصلاة والسلام؟ بين، وقال له: (إنك امرؤ فيك جاهلية). إن من الرواسب: الفخر بالجاهلية، والاستهزاء بعباد الله؛ لأنه أسود، أو لأنه ليس من قبيلة ونحو ذلك من الأمور، ونحن اليوم كم فينا من الرواسب؟ وكم فينا من المخلفات والموروثات الجاهلية؟ شيء كثيرٌ جداً، فما هو الطريق إلى تنقيته، وتهذيب النفس منه، وإخراج هذه الموروثات ليكون محلها مفهومات إسلامية، وتصورات صافية، تسد هذه الثغرات حتى لا يخرج الشر منها مرة أخرى؟ لا يكون ذلك إلا بتربية.

أهمية التربية في مواجهة الشبهات

أهمية التربية في مواجهة الشبهات تاسعاً: إن التربية مهمةً لمواجهة الشبهات، كثيرٌ من المسلمين تخطر في بالهم شبهات، ويلقي الشيطان في أنفسهم نزغاتٍ فيها شيء من الزيغ، فإذا لم تكن هناك تربية تربي هذا الشخص لتنقذه من الشبهات هلك. فمنهم من تأتيه شبهات في وجود الله، وشبهات في صحة القرآن، أو صحة النبوة والرسالة والوحي، أو حتى مما يلقي إليهم شياطين الإنس من بعض الشبهات في بعض الأحكام الشرعية؛ كالرق، وتعدد الزوجات، ونحو ذلك، وشبهات تعرض حتى لبعض الدعاة إلى الله، فقد يقول بعضهم: أنا أقع في منكرات فلا يجوز أن أدعو، كيف آمر بالمعروف ولا أفعله؟ وكيف أنهى عن المنكر وأقع فيه؟ إذاً: الحل ألا آمر ولا أنهى، فيقع في الخطأ العظيم بسبب هذه الشبهة. ومنهم أناسٌ وفقهم الله لوسطٍ صالحٍ يعيشون فيه، فوقعت منهم بعض المنكرات، فقالوا في أنفسهم: ما بالنا نخطئ ونقع في هذه الآثام ونحن في جوٍ نظيف ووسطٍ طيب، إننا لا نستحق مثل هذا الوسط، فلابد أن نخرج عنه حتى لا نكون سبباً في فشله وتمزقه وعدم توفيق الله له وهكذا يخرجون من الأوساط الطيبة بمثل هذه الشبهة وهكذا. ومنهم من يظن -مثلاً- أن الطريق لتقوية إيمانه أن يعتزل إخوانه، ويذهب في مغارةٍ، أو كهفٍ، أو مكان منعزلٍ لكي يقوي إيمانه، فيقع في هذه الحيلة الشيطانية في براثن الشيطان، فيستولي عليه، ويؤخره مدةً طويلة إلى الوراء بهذه الشبهة التي قامت في نفسه، فكيف يكون الطريق لاقتلاع جذور هذه الشبهات؟ وكيف يكون الطريق للرد عليها من النفس على النفس؟ لا يكون ذلك إلا بتربية تتعهد إلا بمنهجٍ يسعف إلا بأخوة ينصحون، لا يكون ذلك أبداً إلا بسلوك هذه الطريقة النبوية المحمدية؛ طريق التربية الإسلامية.

أهمية التربية في توجيه المشاعر والأحاسيس إلى طريقها الصحيح

أهمية التربية في توجيه المشاعر والأحاسيس إلى طريقها الصحيح عاشراً: إن هذه التربية مهمة، بل في غاية الأهمية؛ لأنها توجه المشاعر والأحاسيس إلى طريقها الصحيح، فإن في كل نفس خطوطاً متقابلة، وأشياء متشابهة، مشاعر وأحاسيس، ومن ذلك مثلاً: الكره من الذي لا يكره؟ لا بد أن يكره كل أحد، فالكره موجود في النفس، والبغض موجود فيها، ولكن الإسلام يوجه هذا الكره ليكون كرهاً شرعياً، لا كرهاً مدمراً لا كرهاً سيئاً لا كرهاً مخالفاً للدين، فمثلاً: يوجه المسلم لأن يكره الشيطان وأتباعه، والكفر والكفرة، وكره ما كرهه الشرع وهكذا، (وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار) يكره ما كرهه الله لنا، ومما كرهه: (قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال) فيفرغ الإسلام طاقة الكره عند المسلم في المسلك الصحيح، فلا يتحول الكره إلى طاقة سامة مبعثرة، وخذ مثلاً: الحب، من الذي لا يحب؟ لا أحد، كل إنسان فيه طاقة للمحبة، ولكن الإسلام بالتربية يوجه هذا الخلق والطبع توجيهاً حسناً، فحب الله، وحب الخير، وحب الإيمان وأهله، وحب الرسل وأتباعهم، وحب شعب الإيمان، وما يحبه الله من الأقوال والأعمال، وعندما يسمع المؤمن في الأحاديث الصحيحة أن الله يحب الرفق، وأن الله يحب الجود، وأن الله يحب الكرماء، وأن الله يحب الإحسان، وأن الله يحب الوتر، وأن الله يحب إتقان العمل، وأن الله يحب العبد التقي الخفي النقي، وأن الله يحب الرجل سمح البيع سمح الشراء، وأن الله يحب هذه الخصال، فتنصرف نفسه لمحبتها؛ لأن الإسلام يدفعه بالتربية إلى صرف المحبة لمثل هذه الأشياء، يحب التيامن؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب التيامن، ولا يحب العقوق، ولا الفاحش، ولا الفحش، ولا المتفحشين، وهكذا (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله إلخ)، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يحب الأنصار رجلٌ حتى يلقى الله إلا لقي الله وهو يحبه، ولا يبغض الأنصار رجلٌ حتى يلقى الله إلا لقي الله وهو يبغضه) فتباً لهؤلاء المبتدعة الذين كفروا الأنصار والصحابة والمهاجرين، ما أبغضهم إلى الله عز وجل! وهذه التربية التي توجه المحبة إلى الطرق الصحيحة والمسالك الشرعية، فإنها تجنب المسلم طاقاتٍ مدمرة، فقد يحب الإنسان نفسه وذاته فيكون أنانياً، أو يتحول إلى حب معشوقاتٍ صغيرة في عالم الحس من المطعومات والمشروبات واللذائذ، فيعكف عليها ولا يتعداها فيهلك، ومنهم من يقع حبه في عشق الصور من النساء والمردان، فطالما يتذكره في مخيلته، وطالما يراه في منامه، ويكون ذكره له أحب إليه من ذكر الله عز وجل، ويكون لقاؤه به أحب إليه من لقاء أعلم العلماء، وأزهد الزهاد، وأعبد العباد وهكذا. فتأمل! أن هذه التربية تنقي النفس فعلاً من هذه الأمور، وتسلك بالمحبة مسلكاً شرعياً يهذب النفس ويجنبها الويلات. وتأمل في هذا الحديث الصحيح عن عمرو بن العاص رضي الله عنه في قصته كيف كان يكره قبل الإسلام، وماذا صار يحب بعد الإسلام تأمل كيف رباه الإسلام تربيةً جعل حاسته في الكره والمحبة تنتقل انتقالاً بشكلٍ شرعي إلى ما يجب أن يحب! عن أبي شماسة قال: حضرنا عمرو بن العاص رضي الله عنه وهو في سياق الموت، فبكى طويلاً وحول وجهه إلى الجدار، فجعل ابنه يقول: يا أبتاه، أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا، أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا، فأقبل بوجهه فقال: إن أفضل ما نعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، إني قد كنت على أطباقٍ ثلاث: لقد رأيتني وما أحد أشد بغضاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم مني، ولا أحب إليَّ من أن أكون قد استمكنت منه فقتلته -في الجاهلية- فلو مت على تلك الحال لكنت من أهل النار، فلما جعل الله الإسلام في قلبي -وذكر قصة، إلى أن قال عمرو بن العاص رضي الله عنه، بعد الإسلام ماذا حصل؟ بعدما رأى وما رأى؟ - وما كان أحدٌ أحب إليَّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أجل في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالاً له، ولو سئلت أن أصفه، ما أطقت؛ لأني لم أكن أملئ عيني منه، لو مت على تلك الحال رجوت أن أكون من أهل الجنة. فهذا الرجل الذي فعلت فيه التربية هذا المفعول، والذي حوَّلت كرهه لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كاد أن يقتله إلى محبةٍ لا يستطيع أن يثبت بصره على شخص الرسول صلى الله عليه وسلم. وتأمل هذا الحديث: ما فعله في النفس وفي توجيه المشاعر؟ إن من الغيرة ما يحب الله ومنها ما يبغض الله، وإن من الخيلاء ما يحب الله ومنه ما يبغض الله؛ فأما الغيرة التي يحبها الله، فالغيرة في الريبة؛ إذا صارت القرائن موجودة في الريبة فلا بد من الغيرة، وأما الغيرة التي يبغضها الله فالغيرة في غير الريبة، وأما الخيلاء التي يحبها الله فاختيال الرجل في القتال، وأما الخيلاء التي يبغضها الله فاختيال الرجل في البغي والفخر. إذاً: هذه التربية الإسلامية هي التي تحول مشاعر الفخر والخيلاء تحول مشاعر الغيرة لتسلك الطريق الشرعي الصحيح.

التربية منهج لإعداد الشخصيات المدافعة عن الإسلام

التربية منهج لإعداد الشخصيات المدافعة عن الإسلام حادي عشر: التربية الإسلامية مهمة؛ لأنها تهيئ لنا هذه الشخصيات التي تندفع بعزة الإسلام لتكون نماذج تواجه الكفر وأهل الكفر. التربية -أيها الإخوة- مهمة في هذا الزمن جداً وفي غيره من الأزمان؛ لأننا نواجه عتاةً وفجرة، وطغاة وبغاةً نواجه أعداءً أشداء لا يمكن أن نلقاهم بشخصياتٍ هزيلة وضعيفة، ولا تقوى هذه الشخصيات ولا تشتد ولا تصبح على مستوى المواجهة إلا بالتربية الإسلامية. ألم يأتك نبأ الثلاثة من المسلمين الذين واجهوا قائد الفرس رستم كيف واجهوه؟ ما هي التربية التي كانت في أنفسهم عندما صاروا على مستوى المواجهة؟

التربية الصادقة عند ربعي بن عامر في مواجهة رستم

التربية الصادقة عند ربعي بن عامر في مواجهة رستم خرج ربعي ليدخل على رستم، فاحتجزه الذين على القنطرة، وأرسلوا إلى رستم بمجيئه، فاستشار عظماء قومه: ما ترون أنباهي أو نتهاون؟ فأجمعوا على التباهي، فأظهروا الزبرجد، وبسطوا البسط والنمارق ولم يتركوا شيئاً، ووضع لـ رستم سريره من الذهب، ولبس زينته، ووضعت الأنماط والوسائج المنسوجة بالذهب، وأقبل ربعي على فرس ومعه سيف مصقول، وغمده لفافة ثوبٍ بالٍ، ورمحه تسلم حده بسيرٍ من جلدٍ غير مدبوغ، ومعه جحفة ترس من جلود البقر ليس فيه خشب ولا عقبٌ، على وجهها أديم أحمر مستدير مثل الرغيف، ومعه قوسه ونبله، هذه العدة ظاهرياً مهلهلة، فلما انتهى إلى رستم ووصل إلى أول البسط، قيل له: انزل، فتجاهل ذلك، وحمل فرسه على البساط، فلما وقفت عليه نزل، وربطها بوسادتين فشقهما، ثم أدخل الحبل فيهما، فلم يستطيعوا أن ينهوه، وإنما أروه التهاون، وأدرك ربعي ما أرادوا، فأراد استحراجهم، وكان على ربعي درع كأنها إضاءة، وردائه عباءة بعيره قد شقها وتدرع بها، فشدها على وسطه بشيء مما غنمه من الفرس في معاركه السابقة، وشد رأسه بعمامته، وكان أكثر العرب شعراً، وعمامته نسعة بعيره، ولرأسه أربع ظفائر قمن قياماً كأنهن قرون الوعل، فقالوا له: ضع سلاحك، فقال ربعي: إني لم آتكم فأضع سلاحي بأمركم، أنتم دعوتموني فإن أبيتم أن آتيكم إلا كما أريد وإلا رجعت، فأخبروا رستم، فقال رستم: آذنوا له هل هو إلا رجل واحد؟ وأقبل ربعي يتوكأ على رمحه يقارب الخطو ويزج النمارق والبسط بزج رمحه، فما ترك لهم نمرقة ولا بساطاً إلا أفسده، وتركه منتهكاً مخرقاً، فلما دنا من رستم، تعلق به الحرس، فجلس على الأرض وركز رمحه بالبسط، قالوا: ما حملك على هذا؟ قال: إنا لا نستحب القعود على زينتكم هذه، فقال رستم: ما جاء بكم؟ قال ربعي: الله ابتعثنا والله جاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل منا ذلك قبلنا ذلك منه، ورجعنا عنه، وتركناه وأرضه يليها دوننا، ومن أبى قاتلناه أبداً حتى نفضي إلى موعود الله، قال رستم: وما موعود الله؟ قال ربعي: الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقي، قال رستم: قد سمعت مقالتكم فهل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه وتنظروا؟ قال ربعي: نعم، كم أحب إليكم أيوماً أم يومين؟ فقال رستم: لا، بل حتى نكاتب أهل رأينا ورؤساء قومنا، وأراد مقاربته ومدافعته يطول الوقت، قال ربعي: إن مما سن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمل به أئمتنا ألا نمكن العدو ولا نؤجلهم عند اللقاء أكثر من ثلاث، فنحن مترددون عنكم ثلاثاً، فانظر في أمرك وأمرهم، واختر واحدة من ثلاثٍ بعد الأجل: اختر الإسلام وندعك وأرضك، أو الجزاء -الجزية- فنقبل ونكف عنك، وإن كنت عن نصرنا غنياً تركناك منه وإن كنت إليه محتاجاً منعناك، أو المنابذة في اليوم الرابع، ولسنا نبدؤك فيما بيننا وبين اليوم الرابع إلا أن تبدأنا، أنا كفيل لك بذلك على أصحابي وعلى جميع من ترى، فقال رستم: أسيدهم أنت؟ قال ربعي: لا، ولكن المسلمين كالجسد الواحد، بعضهم من بعض يجير أدناهم أعلاهم، فانفرد رستم برؤساء أهل فارس وتشاور معهم في شأن هذا الأعرابي العجيب، فأقبلوا إليه يتناولون سلاحه ويعاينونه ويزهدونه فيه، فقال ربعي: هل لكم إلى أن تروني وأريكم، فأخرج سيفه من خرقة كأنه شعلة نار، مع عزم السحب كأنه انقدح منه النار، فقالوا له: أغمده فغمده، ثم وضعوا له ترساً ووضع لهم حجفته فرمى ترسهم بسهمٍ فخرقه، ورموا حجفته بسهمٍ فسلمت، فقال ربعي: يأهل فارس! إنكم عظمتم الطعام واللباس والشراب وإنا صغرناهن، ثم تركهم ورجع إلى معسكره إلى أن ينظروا إلى الأجل الذي منحه لهم ثلاثة أيام. هذا رجل -أيها الإخوة- من أين أتى؟ ومن أين ظهر؟ وكيف حصل منه هذا الموقف؟ هل ظهر من فراغ؟ هل قال ما قال دون أن يكون هناك أساسٌ في نفسه لما يقول؟ وكيف صارت عنده هذه العزة والقوة والجرأة والشجاعة؟ لا يمكن، لا بد أن يكون هناك أوصاف وقدوات يتربى فيها أمثال ربعي بن عامر ليخرج بذلك الحق الجلي الذي يوضحه.

موقف حذيفة بن محصن مع رستم

موقف حذيفة بن محصن مع رستم بعث الفرس يقولون لـ سعد: ابعث لنا ذلك الرجل نتفاهم معه، فبعث سعد إليهم حذيفة بن محصن وهو من الأزد، فأقبل حذيفة على رستم في زي يشبه زي ربعي الذي ذهب إليه بالأمس، حتى إذا كان على أدنى البساط، قالوا له: انزل، قال: ذلك لو جئتكم في حاجتي، فقولوا لملككم: أله حاجة إليَّ أم لا؟ فإن قال: إن الحاجة لي كذب ورجعت وتركتكم، وإن قال: إن الحاجة له لم آتكم إلا على ما أحب، فقال رستم: دعوه، فدخل حذيفة بفرسه حتى بلغ رستم وهو على سريره، كل هذه المسافة يوطئ عليها بالفرس، قال رستم: أنزل، قال حذيفة: لا أفعل وأبى، -سبحان الله! أين عزة الإسلام المأخوذة في هذا الزمان؟ - قال رستم: ما بالك جئت ولم يجئ صاحبنا بالأمس؟ قال حذيفة: إن أميرنا يحب أن يعدل بيننا في الشدة والرخاء فهذه نوبتي. قال رستم: ما جاء بكم؟ قال حذيفة: إن الله عز وجل منَّ علينا بدينه، وأرانا آياته حتى عرفناه وكنا له منكرين من قبل -في الجاهلية، ثم أمرنا بدعاء الناس إلى واحدةٍ من ثلاث، فأيها أجابوا إليها قبلناها: الإسلام وننصرف عنكم، أو الجزاء ونمنعكم إن احتجتم إلى ذلك، أو المنابذة إلى يومٍ ما، قال حذيفة: نعم، ثلاثاً من الأمس، تبدأ من الأمس، من يوم قال لك أخي ربعي بدأت بدأت.

موقف المغيرة مع رستم

موقف المغيرة مع رستم فلما كان الغد أرسل رستم إلى سعد أن يبعث إليه رجلاً، فبعث إليه المغيرة بن شعبة، انظر القضية ليست متوقفة على شخص واحد، لا يتوقف عامل المسلمين على شخص واحد، ومهما أراد الأعداء نقدم ونري محاسن هذا الدين، ومحاسن هذا الدين لا ترى إلا بالشخصيات التي تتربى على هذا الدين، كيف نقدم نماذج تفحمهم؟ كيف نقدم للكفرة نماذج ترعبهم؟ كيف نقدم للكفرة نماذج يعلمون منها ما هي طبيعة هذا الدين؟ إلا بشخصيات تربت على هذا الدين، وجاء المغيرة إلى القنطرة، فأجازه زهرة إلى جالينوس فأبلغه إلى رستم، فحجزوه حتى استأذنوا له ولم يغيروا شيئاً من شاراتهم وزيهم الذي كانوا عليه وعليهم التيجان والثياب المنسوجة بالذهب، ودعا رستم ترجمانه وكان عربياً من أهل الحيرة اسمه عبود، وأقبل المغيرة يمشي وله أربع ظفائر، وفرق رأسه أربع فرق من بين يديه إلى قفاه، وفرق ما بين أذنيه، وجاء حتى جلس مع رستم على سريره ووسادته، فنخر أخو رستم كيف يجلس على سرير الملك؟ إنها لإحدى الكبر أن يجلس على سرير الملك، ووثب الفرس فترتروه، أي: زعزعوه وحركوه وأنزلوه، ومغثوه، أي: ضربوه ضرباً خفيفاً، قال المغيرة لأخي رستم: لا تنخر فما زادني هذا شرفاً، ولا نقص أخاك!! كانت تبلغنا عنكم الأحلام، ولا أرى قوماً أسفه منكم، إنا معشر العرب سواء لا يستعبد بعضنا بعضاً إلا أن يكون محاربا ًلصاحبه، فظننت أنكم تواسون قومكم كما نتواسى، وكان أحسن من الذي صنعتم أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعض، وأن هذا الأمر لا يستقيم فيكم، ولم آتكم ولكن دعوتموني؛ اليوم علمت أن أمركم مضمحل، وأنكم مغلوبون، وأن ملكاً لا يقوم على هذه السيرة ولا على هذه العقول. فهذه ثلاثة نماذج في موقعة واحدة من المواقع التي حارب فيها الإسلام، دالة على أن الشخصيات عندما تتلقى التربية في أجواء القدوة الحسنة والعلم الشرعي وأجواء الجهاد والتضحية والبذل ترتقي إلى مراتب عليا تصلح أن تكون سفارات، ترسل إلى الكفرة فيرون فيها عظمة الدين من تصرفات هذه الشخصيات.

أهمية التربية الإسلامية في تهذيب الغرائز

أهمية التربية الإسلامية في تهذيب الغرائز ثاني عشر: من الأسباب التي تدعونا إلى سلوك طريق التربية: أن التربية تهذب الغرائز، وتصرف الشهوات في طرقها المباحة، لا يوجد إنسان إلا وتوجد فيه غرائز، ولا يوجد إنسان إلا وعنده شهوات، ولكن هذه التربية الإسلامية تجعل الشهوة تنصب في الموضع المباح، وتهذب هذه الغريزة لتكون منضبطة بضوابط الشريعة. أيها الإخوة: لم تتفش في البشرية شهواتٌ مثلما تفشت في هذا العصر قط، وأنواع الإغراءات والإغواءات لا تكاد تنتهي أبداً، وفي كل يوم يخترع لنا اليهود وأذنابهم من طرق إثارة الشهوات البهيمية ما لا ينتهي حصراً وعداً، كل يوم طرق جديدة كل يوم مجلات جديدة كل يوم صور جديدة، وأفلام جديدة، ومسلسلات وأمور لهدم الأخلاق، وإثارة الشهوات، لتنطلق النفس انطلاقاً بهيمياً، فمتى يستطيع الإنسان المسلم أن يضع الحد أمام هذه الأمور وهذه الشهوات التي تنكب عليه انكباباً، وتنحدر إليه انحدار السيل في الوادي. حدثني رجل قال: ذهبت إلى بلدٍ مجاورٍ لعملٍ من الأعمال، فنزلت في فندق، فبعد فترة رنَّ الهاتف، فرفعت السماعة، فإذا على الخط الآخر امرأة تقول: مساء الخير، كيف حالك يا فلان -باسمي طبعاً- بالتعاون مع استعلامات الفندق، لتوزيع الأسماء المنتخبة على البغايا. كيف حالك يا فلان؟ بخير. صاحٍ أم نائم؟ هل عندك أحد؟ لا. أريد أن أزورك الآن. سبحان الله العظيم! امرأة تتصل وتقول: أريد أن أزورك الآن، وفي غرفة في الفندق، في هذا الوقت من الليل، وتتأكد أن ما عنده أحد، فالرجل يعتذر عن الموعد، فيقول: لا، والمرأة تقول: لا، أنا صفتي كذا وكذا، وجسمي كذا وكذا، وتصف محاسنها، فيقول: أنا سوف أسافر الآن، فتقول: أبداً خمس دقائق وأكون عندك وسأرى كيف ستعدل عن السفر وفعلاً الرجل هرب من الحجرة؛ لأن الواقع جحيم حوله، سيئ جداً، الفندق يعج بالمنكرات، وفي هروبه شاهد المرأة المعنية التي وصفت نفسها تصعد، فحمد الله أنه سلم وهرب بجلده. أقول أيها الإخوة: اليوم عندما ينزل بعض المسلمين من شبابنا وغيرهم في الفنادق في بعض الأماكن، وتطرق عليه ويفتح، فإذا بالفتاة أمامه، بالبغي أمامه، بالزانية تدعوه إلى نفسها، ما الذي سوف يمنعه من الوقوع في هذه الفاحشة؟! امرأة تطرق الباب وتدخل عليه، بموعد أو بغير موعد، ويحصل هذا في الفنادق في أنحاء العالم، ما الذي يعصم الشخص الآن من هذا الأمر؟ نقول: الله سبحانه وتعالى، يعصمه بأي شيء؟ ما هي الوسيلة؟ إذا لم تكن هناك تربية يربي بها الشخص نفسه ويتربى مع إخوانه يعيش مع السلف يقرأ كتاب الله ويتأثر لقصة يوسف عليه السلام، وبالرجل من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، فإنه سيقع ولا بد، إذا لم يحصل له هذا وتدركه رحمة الله عز وجل. فنحن الآن نعيش في هذا العصر الذي بلغ في السوء منتهاه، فلا يمكن أن نجابه الشهوات التي تأتي إلى أبوابنا وتطرق علينا، لا نذهب نحن إليها بل هي تأتي إلينا، ولو كنت لا تريد يأتوك ويؤذوك بالقوة لا بد تفعل، لكن فما الذي يقوي هذه النفس حتى تصمد؟ إغراء كامل أمامك، فما الذي ينفع إذاً في مثل هذا الأمر؟ عند ذلك نعلم -أيها الإخوة- أنه لا بد من وجود منهج التربية، ولا بد من وجود جو التربية، ولا بد من وجود طريق يسلكه الإنسان في التربية.

التربية طريق إلى تكامل الشخصية

التربية طريق إلى تكامل الشخصية ثالث عشر: نحن نحتاج إلى التربية للوصول إلى الشخصية الإسلامية المتكاملة. بعد التربية بأنواعها التي سنتحدث عنها إن شاء الله في مناسبة قادمة، وبعد الفترة التي يأخذها الإنسان في مشوار التربية، ما هو الغرض؟ الوصول إلى أي شيء؟ التربية تحقق لنا الوصول إلى الكمال البشري بحسب درجاته بالنسبة للأشخاص، أي صورة للناس تلك التي ستطالعنا بعد بذل الجهد في التربية لشخصٍ ما؟ أي إنسان هذا الذي تربى إيمانياً وعلمياً وعقلياً وجسدياً؟ إنه الإنسان الصالح، اللبنة من القاعدة من الأساس، إذ هو جزء لا يتجزأ ما هي صفاته؟ تكامل في صفاته البشرية، ملامح التقوى والخشوع بادية عليه {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح:29] ولكن هدوءه وحياءه لا يخدعانه فيظن الظان أنه ضعيف، كلا، فهو لا تنحني هامته إلا لله، وما عدا ذلك فهو قوي صلب العود، شديد المراس، فإذا ما حاول أحدٌ النيل من دينه {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} [الفتح:29] ولكن هذه الشدة لا تمنع الرحمة بينه وبين إخوانه {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29] في اللين والشدة مناسبات ومواقف، اللين للإخوة، والشدة على أعداء الله {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة:73] ولكن هذه الغلظة ليست فظاظة ولا فحشاً، ولا تفحشاً فهو حسن الأخلاق يألف ويؤلف، إنسان اجتماعي {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت:34] وهو إنسان بعد التربية مستعلٍ بإيمانه {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139] لكنه ليس متكبراً ولا مغروراً ولا مختالاً {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان:18] وهو عفيف عما في أيدي الناس، صقلته التربية فلا يهوي في الشهوات {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [طه:131] صامد في وجه الشهوات، ولو أحس بلذعها في أعصابه، لأنه تربى على قول الله: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:33] يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يفعل الخير متزنٌ معتدل في سلوكه وفكره وشعوره، لا يطغي جانب على جانب عقله يرده عن النزعات الطارئة والاندفاعات المفاجئة، يعيش واقعه، فلا يهيم في برجٍ عاجٍ من الأفكار والأحلام، متزنٌ في نظرته للدنيا والآخرة ومتوازن {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77] ليس سلبياً لكنه عملي، قوة فاعلة في الأرض، يريد تحقيق هدفه والإنشاء والتعمير في هذه الأرض حسب المنهج الرباني، يشعر بمسئوليته المؤدية إلى انطلاق في العمل، تصوراته سليمة عن الله وأسمائه وصفاته عن الدين والحياة والشريعة والناس، ليس بينه وبين الناس حواجز، لا يختار العزلة في وقت العمل والبذل والتقديم. فإذاً سنصل في النهاية بعد التربية إلى هذه الشخصية المتكاملة، هذا هو المفترض إذا سلكنا الطريق، وهذه الشخصيات المتكاملة هي التي تتكون منها القاعدة الصلبة التي سيقوم عليها المجتمع المسلم.

أهمية التربية في حفظ رأس المال البشري

أهمية التربية في حفظ رأس المال البشري رابع عشر: التربية مهمة في حفظ رأس المال، فبعض الناس هداهم الله إلى الإسلام، كانوا كفاراً فأسلموا، وبعض الناس كانوا ضلالاً فاهتدوا، هؤلاء الكفار الذين أسلموا والضلال الذين اهتدوا هل انتهت المهمة عند هدايتهم، أم أننا نحتاج إلى تربية لإكمال المشوار معهم؟ ما هو سبب ردة بعض الكفار الذين كانوا أسلموا ثم رجعوا إلى الكفر مرةً أخرى؟ وما هو سبب انتكاس بعض الناس الذين هداهم الله إلى أجواء الشهوات مرة أخرى؟ وتركوا الدين وانحلوا وقد كانوا يوماً من الأيام أسرجةً وهاجةً وكانوا منارات وشعلات يعملون للإسلام ويضحون في سبيل الله، ثم انطفأ هذا الوهج وهذا النور وعادوا فحماً أو سود من الجاهلية التي كانوا فيها؟ ما هو السبب أيها الإخوة؟ A في الغالب عدم وجود قنوات تربوية تستوعب هذه الشخصيات لإكمال المشوار. بعض الناس يقول: سوف أركز جهودي على هؤلاء الكفار، وأدعوهم إلى الإسلام، وأعطيهم مصحفاً مترجماً، وأكلمهم عن الدين ومحاسن الإسلام، رجل تأثر في لحظة من اللحظات وأسلم وغيَّر اسمه وأخذ الشهادة من المحكمة إلخ وبعد ذلك، عملت مع جاري ودعوته وكلمته ونصحته بالأسلوب وبالشريط وبالكتاب وبالمؤثرات، فتأثر الرجل فترة من الفترات، وتسلطت عليه أنوار الإيمان واهتدى، وترك المعازف والأغاني والمجلات والمسلسلات وقرناء السوء وعمل المنكرات والتزم وصار يصلي في المسجد، وبعد ذلك أتى لسؤال الكبير والكبير جداً، وبعد ذلك هل انتهت المسألة عند هذا الحد؟ بعض الناس يظنون أن القضية هي أنك تهدي الكافر إلى الإسلام، والضال إلى طريق الهداية فقط، وتذهب لتبحث عن غيره، المهم أن تزيد العدد، هات كفاراً جدداً يسلموا، هات ضلالاً جدداً يهتدوا ماذا فعلت بالكفار الذين أسلموا؟ ماذا فعلت بالضلال الذين اهتدوا؟ بماذا أكملت لهم؟ وبماذا ساعدتهم وارتقيت بهم؟ أيها الإخوة: حفظ رأس المال مقدم على الأرباح. والتربية مهمة لاستثمار نتائج الجهود الدعوية، ولإكمال المخطط الإيماني، لم تنتهِ المسألة، ما زلنا في أول خطوة، نحن صعدنا به أول درجة من السلم، فما الذي يرتقي به بقية السلم؟ هذه هي طريقة التربية. إذاً: كانت الدعوة هي المرحلة السابقة للتربية، فالتربية مرحلةٌ لا بد منها بعد الدعوة لكي يحافظ على المكاسب التي جنيناها من وراء الدعوة، والذين يظنون أن وظيفتهم هي الدعوة إلى الله فقط، ثم لا يكون المشوار مع من دعوهم إلى الله، ومن اهتدوا إلى الإسلام، ومن رجعوا إلى الإيمان بعد الضلال، فهؤلاء الناس ما فقهوا منهج الأنبياء. ولذلك الدعوة مهمة جداً لإكمال المشوار لهؤلاء، وظني أن الذي يكمل المشوار بشخصٍ أسلم ويرتقي به ويعلمه ويوجهه ويمضي معه الطريق فترة حتى يثبت عوده ويقول له: الآن انطلق أنت صاحب رسالة، أنت الآن ادع إلى الإسلام، هذا المنهج معك، خذ كتابك بيمينك وامض، ظني به أنه لا يقل أجراً أبداً عن الشخص الذي أدخله في الإسلام أول مرة إن لم يكن أكثر، لأن الشطارة الآن، ولا نقصد بهذه الكلمة معناها اللغوي السيئ، نقول: ليس الجهد والاعتناء والهدف فقط هو إدخال الناس، وبعد إدخالهم ماذا سيحدث؟ السؤال الذي يطرح نفسه، السؤال الكبير، وكثيرٌ من الناس عندهم استعداد لأن يؤثروا على أشخاص بالالتزام بالإسلام لكن قلة من الناس الذين عندهم استعداد أن يأخذوا بأيدي هؤلاء الأشخاص مرتبةً مرتبة، ودرجةً درجة، لتنقية شخصياتهم من رواسب الجاهلية، وملء نفوسهم بالتصورات الإسلامية، وإعداد هذه الشخصيات لتكون في المستقبل دعاةً إلى الله عز وجل. إذاً: الوقاية والحماية والتعليم لا بد من إعطائه وبذله بطريق التربية إلى هؤلاء القادمين الجدد.

أهمية التربية في توافق الوسط الإسلامي وانسجامه

أهمية التربية في توافق الوسط الإسلامي وانسجامه خامس عشر: إن التربية مهمة لإيجاد التوافق والانسجام داخل الوسط الإسلامي المجتمع شخصيات مختلفة، وطباع متباينة، في كثيرٍ منها تناقض، ما الذي يوحد بينهم، ويشذب هذه الأمور التي شذت في نفوسهم، والتي تسبب الفرقة والاختلاف، وعدم التلاقي والارتقاء النفسي؟ إن الذين تصهرهم بوتقة التربية فيصبحون جسداً واحداً هم الذين يحصل بينهم هذا التلاحم، وتأمل معي المحبة التي حصلت في نفوس الصحابة بفعل تلك التربية النبوية التي صهرت شخصياتهم حتى صاروا جسداً واحداً، قصة وفاة سعد بن معاذ رضي الله عنه: لما أصيب سعد يوم الخندق وحكم في بني قريظة قال: اللهم إن كنت أبقيت على نبيك من حرب قريشٍ شيئاً فأبقني لها، وإن كنت قطعت الحرب بينه وبينهم فاقبضني إليك، وكان قد أصيب في معركة الخندق بجرحٍ في أكحله، رماه ابن العرقة المشرك بسهمٍ فقطع هذا العرق في الذراع فنزف الدم منه، ثم كاد الجرح أن يندمل ولم يرد سعد أن يفوته أجر الشهادة في سبيل الله؛ لأن الذي يموت من أثر الجراحة شهيد، فقال هذا الدعاء، والذي حصل أن الله قد قدَّر أنه لم تهجم قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الخندق أبداً (الآن نغزوهم ولا يغزونا) قالت عائشة -وراوية القصة في مسند الإمام أحمد وهو حديث حسن وبعضه عند البخاري - قالت (فانفجر كلمه -جرحه- وكان قد برأ، حتى ما يرى منه إلا مثل الخرص، ورجع إلى قبته التي ضربها له رسول الله صلى الله عليه وسلم) الانتقال من سياق أحمد إلى سياق البخاري الآن: (فضرب النبي صلى الله عليه وسلم خيمةً في المسجد ليعوده من قريب، وفي المسجد خيمة من بني غفار فلم يرعهم، إلا والدم يسيل إليهم، فقالوا: يأهل الخيمة! ما هذا الذي يأتينا من قبلكم؟ إذاً: كان جرح سعد يثغب جرحه دماً فمات فيها). عودة إلى سياق الإمام أحمد: قالت عائشة: (فحضره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر عند وفاته، قالت: فوالذي نفس محمدٍ بيده إني لأعرف-أميز- بكاء عمر من بكاء أبي بكر وأنا في حجرتي، وكانوا كما قال الله عز وجل: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29] قال علقمة: قلت: أي أمه، فكيف كان رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم يصنع؟ قالت: كانت عينيه لا تدمع، ولكن كان إذا وجد، فإنما هو آخذ بلحيته صلى الله عليه وسلم). فإذاً الذي جعل عمر؛ وهو من أشد الناس في دين الله، وأقواهم شخصيةً تقريباً، جعله يبكي كالطفل على وفاة أخيه سعد، هي هذه الأخوة، وهذا هو الترابط الذي حصل في صفوف ذلك المجتمع، وكانوا كما أمر الله: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29] فقل لي بربك: ما هو الذي أنتج هذا الأمر؟ هل هو المسلكيات الفردية ليذهب كل إنسان فيفعل بنفسه ما يشاء، ثم يقول: لقد تربيت وارتقيت وعملت ووصلت؟ أم هي تربية جماعية نبوية فيها القدوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيها المنهج كتاب الله وسنة نبيه؟!

الحاجة إلى التربية لأحداث التنويع في الكفاءات

الحاجة إلى التربية لأحداث التنويع في الكفاءات سادس عشر: إننا نحتاج إلى التربية اليوم وفي غير اليوم لإحداث التنويع في الكفاءات في المجتمع الواحد. فإن المجتمع فيه طاقات، والتربية توجه كل إنسان فيما يحسنه وفيما يبدع فيه، وتوجيه الأفراد إلى مواقع الإبداع هذا لا شك أنه من الأهداف التربوية، تأمل هذا الحديث الحسن: (أرأف أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في دين الله عمر، وأصدقهم حياءً عثمان، وأقضاهم علي، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقرؤهم أبي بن كعب، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، ألا وإن لكل أمةٍ أميناً وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح) فتجد في هذا الحديث إعداداً للمواهب والصفات والطاقات التي اتصف بها هؤلاء الصحابة. تأمل كيف أن التربية وجهت هذا الذي أبدع في الفقه إلى الفقه، وهذا الذي يبدع في الفرائض إلى الفرائض، وهذا الذي يبدع في القراءة إلى القراءة، وهذا الذي يبدع في القضاء إلى القضاء، وكان هذا متصفاً بالرأفة فنمت الرأفة في جو التربية، وهذا متصف بالشدة فتوجهت الشدة لنصرة دين الله في جو التربية، وهذا حياؤه موجودٌ معه، وهذا أمانته تحيطه وتحميه.

البون الشاسع بين من تلقى التربية وغيره

البون الشاسع بين من تلقى التربية وغيره سابع عشر: من النقاط التي تدعونا للاهتمام بالتربية، وسلوك سبيل التربية، ومعرفة أهمية التربية: أننا عندما قارنا بين الأجيال التي تلقت التربية والأجيال التي لم تتلق التربية، وجدنا بوناً شاسعاً وفرقاً عظيماً. فقد وجدنا في الأجيال التي تلقت تربيةً: حكمةً، وانضباطاً، واتزاناً، وتضحية، وثباتاً، وإقداماً وهكذا، ووجدنا في الأجيال التي لم تتلق تربيةً في الغالب: فوضوية، وعدم انضباط، وتسرعاً، وخلخلة، وزيغاً، وتركاً لطريق الثبات على المنهج، فهذه مقارنة تدفعنا إلى الاعتناء بالتربية؛ لأننا نعلم النتيجة التي ستئول إليها الأحوال بعدمها، والنتيجة التي ستئول إليها الأحوال بوجودها.

ضرورة التربية لمواجهة المحن والفتن

ضرورة التربية لمواجهة المحن والفتن ثامن عشر: إن التربية ضرورية عند المحن عند حصول التمحيص عند نزول الفتنة التربية ضرورية للتخلص من الاستعجال وكبح جماحه، وضبط الحماس الزائد التربية ضرورية في معترك الأحداث الراهنة. بعض الناس يقول عندما يرى المد العامي الهادر: جاء نصر الله، وعندما يرى هذه الجموع يقول: إن الإسلام قد انتصر في المعركة، ولكن حقيقة هذه الجموع التي تجمعهم كلمة ويفرقهم جندي، لا تغتر بها إذا وقعت المحنة، ونزلت الفتنة، هذه الدعوات التي كان لها أتباع بالملايين لما نزلت المحنة من الذي بقي ومن الذي صمد؟ كثيرٌ من هؤلاء المستعجلين يقولون: ادفعنا إلى المواجهة فنحن على استعداد، ونحن نذكر لهم في هذه المناسبة قصة طالوت ومن معه من بني إسرائيل: A=6000252> أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً} [البقرة:246 - 247] جاءت المنازعات {أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَال} [البقرة:247] وبعد الرد والمناقشات والإقناع هدئت الأمور، قال لهم طالوت بعد أن جيَّش الجيش وسلحه إلى المواجهة، نحن على استعداد، نريد أن نقاتل، قال لهم: {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} [البقرة:249] لما جاء التمحيص شربوا منه إلا قليلاً منهم، سبحان الله!! هذه الجموع الغفيرة وهذه الكثرة الكاثرة لما جاءوا على النهر، ولم يبتدئ القتال، ما فيها سيوف ولا دماء ولا أشلاء ولا جراح ولا شيء، هذا النهر فقط {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} [البقرة:247] ما الذي حصل؟ A=6000253> فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ} [البقرة:247] وبعدما جاوزوا النهر ورأوا الجيوش {قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} [البقرة:247] هؤلاء الذين صمدوا في فتنة النهر {قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:249] فانظر كم مرحلة من مراحل النخل والتمحيص مرت بهذا الجيش من بني إسرائيل، وكم صمد في النهاية، لكن الذين صمدوا هم الذين كتب الله على أيديهم النصر والتمكين {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ} [البقرة:251]. فإذاً: عندما نتذكر معركة حنين {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة:25] من الذي رجع وقاتل مع الرسول صلى الله عليه وسلم؟ هم الذين ناداهم وقال: يا أصحاب بيعة الشجرة! يا أصحاب بيعة الرضوان! فجاء هؤلاء الأنصار والمهاجرون ورجعوا، أما الناس الذين التحقوا بالجيش وهو يمشي مع الكثرة الكاثرة فقد شردوا ولم يرجعوا إلا لاقتسام الغنائم. إذاً: هذه التربية المهمة جداً، للإعداد للمواجهة إعداد للمحنة إعداد للفتنة إذا نزلت، نسأل الله ألا يفتننا.

من دواعي التربية: شدة الأعداء علينا

من دواعي التربية: شدة الأعداء علينا تاسع عشر: إن من الأشياء التي تدعونا إلى سلوك طريق التربية والاعتناء بها: شدة أعداء الإسلام علينا، فما وجد عصر من العصور اجتمع فيه كيد الأعداء علينا مثلما اجتمعوا الآن، إغراق المسلمين بالمناهج الكفرية والسلوكيات؛ الفرد المسلم -الآن- يتعرض إلى عملية تذويب كاملة، سيطرة عقلية ومادية من الكفرة المناهج الدراسية، المسرحيات، الأفلام، الكتب، القصص، القهر، الاستبداد، التسلط، الغزو الفكري والثقافي والأخلاقي والاقتصادي، والشخصيات الكفرية، والأفكار التي تلمع، وطريقة الحياة الغربية، وعادات وتقاليد الكفار، ولغتهم، والأغاني، والرقص خمور، نساء، تشبه، تشويه للتاريخ، ملابس، ميوعة، فسق، فجور، مخدرات، موضات، ألعاب، اختلاط، تبرج، كره الدين إلخ. هذه العمليات التي تسلط اليوم على أدمغة المسلمين وعلى رءوسهم، فقل لي بربك مع شدة التيار الكفري وهذا الاضطهاد الذي نعانيه: ما هو الذي سيجعل هذه الجموع تصمد؟ هذا الكيد كله من الذي سيصمد في وجهه؟ هل هم أناس جاءوا هكذا من الشارع، وقالوا: نحن مسلمون نحب الإسلام، صلوا على النبي: اللهم صلِّ على محمد، اذكروا الله: لا إله إلا الله!! هذا الجمع، لا، إن هذه الأمور لا تكفي، إن هذه المسابح وغيرها من الأشياء ليست هي الطريقة. إن الطريقة طريقة إعداد ما يمكن أن يصمد أمام هذه الهجمات على ديار الإسلام هو شخصيات تربت على الإسلام، بدون تربية لا يوجد صمود، وأنت ترى يومياً من أجيال المسلمين كم فرد يضيع! كم فرد ينحل! كم فرد يضل! كم فرد ينهار! كم فرد يغرق في بحار الشهوات والشبهات! لا يعلم عددهم إلا الله أبناء المسلمين أمانة في أعناق دعاة الإسلام، من المسئول؟ ما هي الطريقة للإنقاذ؟ الطريقة هي تربية هؤلاء الناس، أما أن تلقي موعظة وتذهب، فتؤثر وقتاً ما لكن بعد ذلك يذهب أثر الموعظة ويرجع الحال إلى ما كانت عليه الأمور، وأنت ترى الناس يخرجون بعد صلاة الجمعة أحياناً متأثرين جداً، بل قد يبكون في الخطبة، فماذا يفعلون بين الجمعتين من المعاصي؟ وأين ذهب أثر الخطبة عليهم؟ فتعلم عند ذلك أن مسألة إلقاء موعظة فقط ليست هي الطريقة الوحيدة.

أهمية التربية في التعامل مع الجاهلية

أهمية التربية في التعامل مع الجاهلية عشرون: إن التربية مهمة في التعامل مع الجاهلية، قال الشيخ محمد قطب حفظه الله: كان الامتحان الأكبر في العهد المكي هو تحمل الأذى في سبيل الله، من أجل الدعوة الناشئة المضطهدة المطاردة، دون ردٍ على العدوان ودون أخذ بالثأر، لقد كان في وسع المسلمين الأوائل أن يثيروها حرباً قبليةً أو حرباً شخصية، كل إنسان يأخذ بثأره وينتهي الأمر ولو بقتل المسلمين جميعاً، ولكن ذلك لم يكن يصبح انتصاراً للدعوة ولا انتصاراً للدين الجديد، والتربية هي التي منعتهم من الأخذ بالثأر التربية هي التي وجهتهم إلى الصبر واحتمال الأذى والعدوان دون رد، هذه التربية هي التي أنشأت النفوس الجديدة المعتزة بالله؛ نفوس مستعلية بالإيمان، مستعلية على ذواتها وعلى شهواتها وعلى أهوائها.

أهمية التربية في إعداد الكوادر الإدارية والقيادية

أهمية التربية في إعداد الكوادر الإدارية والقيادية حادي وعشرون: إن التربية مهمة في إعداد الكوادر التي ستدير المجتمع وتستلم زمام الأمور وتقود الناس، كان الصحابة في مكة مضطهدين، في حصار الشعب يأكلون ورق الشجر، يجد أحدهم وهو يتبول شيئاً جامداً ارتد عليه رشاش البول، يأخذ قطعة من جلد بعير ملقاة يغسلها ويغليها ويشرب الماء، لا يوجد غير هذا، تقرحت أشداقهم بأوراق الشجر، مات مصعب بن عمير فلم يجدوا ما يغطوا به جسده، فغطوا وجهه وجسده وجعلوا على قدميه شيئاً من الإذخر، يقول الصحابي: [الآن وما منا إلا أمير على مصرٍ من الأمصار] الأمراء على الأمصار؛ سعيد بن عامر الجمحي على الشام، وفلان على الكوفة، وفلان على مصر، وفلان على ويقول أبو هريرة: [طرقوا للأمير]، الأمراء الذين على الأمصار، الناس الذين استلموا الدواوين ديوان الجند، وديوان وديوان، زيد بن ثابت هو الذي تولى قسمة الغنائم بعد معركة اليرموك، هذه الشخصيات التي صارت تدير الأمور واستلمت زمام الأمور من أين جاءت؟ هؤلاء الناس الذين تفرقوا في الأمصار كل واحد أمة يعلم الناس هؤلاء الصحابة، الصحابة هؤلاء الذين تفرقوا جمعتهم منطقة التربية المحمدية فصقلت شخصياتهم حتى صارت قوية، الآن صاروا قدوات انتشروا في الأرض، وصار كل واحد قدوة لبلدٍ من البلدان، هؤلاء من الذي أتى بهم؟

أهمية التربية في إنشاء المجتمع الإسلامي

أهمية التربية في إنشاء المجتمع الإسلامي ثاني وعشرون: إن التربية مهمة جداً؛ لأنها هي الطريق الوحيد للوصول إلى إنشاء المجتمع الإسلامي. الحل الوحيد لانتشال الأمة: إيجاد النموذج، وتوسيع القاعدة، الآن العصر الذي نعيش فيه لا تعطي فيه الفردية ثمرة تذكر. النفوس بطيئة الفساد إذا كانت صالحة بطيئة الصلاح إذا كانت فاسدة، قلة وندرة من البشر يهتدون من كلمة واحدة، وأما الأكثرية فلا بد من تأنٍ، الفطرة موجودة في نفوسهم، وإن الله لينزع بالسلطان مالا ينزع بالقرآن. إذا لم يكن هناك مجال لأن تنزع بالسلطان الآن فلا يوجد طريق إلا أن تنزع بالقرآن، فلذلك الآن التربية الآن هي الطريقة الوحيدة للوصول إلى تكوين كيان المجتمع الإسلامي، سنستبطئ الطريق، نعم تتغير الأجيال وربما لا يأتي النصر.

منكرات الحل السياسي للوصول إلى المجتمع الإسلامي

منكرات الحل السياسي للوصول إلى المجتمع الإسلامي بعض الناس يظن أن الحل هو استخدام القوة، وبعضهم يظن أنه لا يمكن إنشاء المجتمع الإسلامي إلا بالحل السياسي وتفريغ الجهود من أجله، ثم تعال قارن الآن في القضية ما الذي أدى إليه الحل الثاني في كثيرٍ من القطاعات الموجودة في العالم الإسلامي؟ سلبيات الله بها عليم، لأن هذا العمل الذي يعمله كثيرٌ منهم لا يقوم على السياسية الشرعية، فانحرف وسار بغير ضوابط إلا من رحم الله، فانظر ماذا حصل من المنكرات:- 1 - صلة مباشرة بالطواغيت، وموت القلب، وتقديم تنازلات. 2 - نسبة التقصير للإسلام في عيون العامة. 3 - الوقوع في شرك الديمقراطيات الوهمية التي نصبها أعداء الإسلام لدعاة الإسلام. 4 - اشتراك في مجالس لا تعلن سيادة الشريعة بل تعلن سيادة القانون الوضعي. 5 - المساهمة في خروج قانون جاهلي ضمنياً باسم بعض دعاة الإسلام. 6 - القسم المحرم الذي يقوم به بعضهم. 7 - حصر العمل الإسلامي كله في هذه الزاوية، وانحصار التربية والانشغال عنها وعن الدعوة. 8 - السكوت على كثير من المنكرات والأباطيل. 9 - وقوع بعض المشاركين من المسلمين في استغلال النفوذ للإضرار بمسلمين آخرين.

مزالق العنف تجاه المنكرات

مزالق العنف تجاه المنكرات انظر إلى ما أدى إليه طريق العنف واستخدام القوة، هذه نفوس لا بد من البطء في تربيتها والسير بها، هذه جاهلية عتت على المجتمعات الإسلامية سنين طويلة، وتريد الآن في لمحة عين أن تعمل بالقوة شيئاً، وتقول: هذا هو الطريق وأقمنا المجتمع، هذا مستحيل لا يمكن، إن الله جعل في الدنيا قوانين وأسباب ومسببات، وهذه الأعمال في غير وقتها الصحيح استخدام القوة بدون ضوابط شرعية أدت إلى التورط في إزهاق أرواحٍ معصومة، أو القتال تحت راية عصبية وجاهلية، وليست العمليات الجهادية الإسلامية عمليات انتحارية فقط، بل لا بد من وجود مصلحة شرعية، مثلاً: توقع النصر، توقع قبول الأمة لهذه الحركة الجهادية، تأمين الذرية، اختيار التوقيت، ثم خصوم الإسلام متعددون وليس من المصلحة فتح الجبهات على الجميع وهكذا. إذاً: الذين يظنون أن المسألة -مثلاً- مسألة إنكار منكر دروس عامة أيضاً هم أناسٌ مخطئون؛ لأن الطريق هو طريق التربية، وهذه الروافد التي ستدعم أي جهدٍ يقوم هي روافد التربية، وبدونها يكون الجهد معلقاً في الهواء ليس له أساسٌ في الأرض أبداً، وذلك فإنه ينهار عما قريب.

الحاجة المطلقة إلى التربية الإسلامية

الحاجة المطلقة إلى التربية الإسلامية هذه التربية لا يستغني عنها شخصٌ مهما بلغ من العمر، والنوازع موجودة في النفس، والإنسان مهما وصل إلى مرتبة فلا زال عنده أشياء من الشهوات {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران:14]. إذاً: لا يوجد وقت تقول فيه: أنا الآن لا أحتاج إلى تربية، لأن شخصيتي قد اكتملت، هؤلاء الصحابة لا يزال يتربى بعضهم على بعضٍ حتى ماتوا رضي الله عنهم، فلا تزال نفوسنا تحتاج إلى توجيه وتذكير وتزكية وضبط، ونحن لم نبلغ رتبة الصحابة، إذا كان هؤلاء لا يزال بعضهم يتربى من بعض فنحن أحق وأحوج إلى ذلك منهم، لأننا لم نبلغ ما بلغوا. فهذه -أيها الإخوة- لمحة عن الأشياء التي تجعلنا نحتاج إلى التربية، ونوقن بأن التربية هي الطريق، وكل طريقٍ غيره لا يوصل، وإذا أوصل يوصل إلى نتائج تكون في كثيرٍ من الأحيان نتائج خاطئة وليست هي المطلوب، وإنما هي عبارة عن صور مشوهة لما يظن أنه مجتمع إسلامي وليس كذلك. فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يفتح بيننا وبين قومنا بالحق، وأن يهدينا سبل السلام، وأن يخرجنا من الظلمات إلى النور، وأن يسلك بنا سبيل التربية الإسلامية، وصلى الله على نبينا محمد.

حديث السبعين ألفا

حديث السبعين ألفا إن هذا الحديث قد ذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم أن سبعين ألفاً من أمته يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، وذكر أنهم لا يسترقون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون، فهذه الصفات هي التي جعلتهم يحوزون هذه المنزلة العظيمة هذا هو ما تحدث عنه الشيخ حفظه الله، فقد ذكر هذه الصفات بشيء من التفصيل، مع ذكر بعض التراجم للرواة، ثم ذكر بعض الفوائد المستفادة من هذا الحديث العظيم.

حديث السبعين ألفا شرح وتعليق

حديث السبعين ألفاً شرح وتعليق الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: لقد روى حصين بن عبد الرحمن قال: كنت عند سعيد بن جبير فقال: أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟ فقلت: أنا، ثم قلت: أما إني لم أكن في صلاة، ولكني لدغت. قال: فما صنعت؟ قلت: ارتقيت. قال: فما حملك على ذلك؟ قلت: حديث حدثناه الشعبي. قال: وما حدثكم؟ قلت: حدثنا عن بريدة بن الحصيب أنه قال: (لا رقية إلا من عين أو حمة). قال: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ولكن حدثنا ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (عرضت علي الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد، إذ رفع لي سواد عظيم فظننت أنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه، فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك، ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب. ثم نهض فدخل منزله، فخاض الناس في أولئك، فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله شيئاً، وذكروا أشياء، فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه فقال: هم الذين لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون. فقام عكاشة بن محصن، فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. فقال: أنت منهم. ثم قال رجل آخر: ادع الله أن يجعلني منهم. فقال: سبقك بها عكاشة).

مشابهة هذا الحديث لحادثة الإسراء والمعراج

مشابهة هذا الحديث لحادثة الإسراء والمعراج هذا الحديث العظيم من أحاديث الرقاق التي فيها إحياء للقلوب، يذكر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن الأمم قد عرضت عليه، وهذا أمر شبيه بما حصل في الإسراء والمعراج، ولكن هناك بعض أوجه المخالفة، فالإسراء والمعراج الذي وقع بـ مكة كان فيه تفتيح لأبواب السماوات باباً باباً، ولقاء بالأنبياء كل واحد في سماء، ومراجعة بينه وبين موسى عليه السلام فيما يتعلق بفرض الصلوات وطلب تخفيفها، وهذا الحديث حصل بـ المدينة، إذاً: هذه الرؤيا حصلت في المدينة، والإسراء والمعراج حصل في مكة، ولكن هنا تشابه بين ما هو موجود في مطلع هذا الحديث المرفوع وبين ما حصل في الإسراء والمعراج، وما حصل في المدينة بعد الهجرة معظمها في المنام.

حرص السلف على الابتعاد عن الرياء والسمعة

حرص السلف على الابتعاد عن الرياء والسمعة هذه القصة يرويها حصين بن عبد الرحمن رحمه الله، وهو حصين بن عبد الرحمن السلمي الكوفي الثقة، الذي توفى سنة ست وثلاثين ومائة للهجرة، وكان عمره ثلاث وتسعون سنة، يقول: كنت عند سعيد بن جبير وهو الإمام الفقيه، من أجلاء أصحاب ابن عباس رضي الله تعالى عنه، وهو كوفي مولى لبني أسد، قتل بين يدي الحجاج ظلماً وعدواناً، وذهب إلى الله شهيداً فيما نحسب سنة خمس وتسعين للهجرة ولم يكمل الخمسين عاماً، ومع ذلك فقد روى سعيد بن جبير علماً غزيراً نافعاً، ملأ كتب التفسير والحديث. يقول حصين بن عبد الرحمن: كنت عند سعيد بن جبير فقال: أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟ كوكب سقط، وانقضاض الكوكب يرى إذا كانت السماء صافية، والبارحة ما بعد الزوال، وقبل الزوال تقول: الليلة، إذا أردت أن تتحدث عن شيء مضى قبل الزوال تقول: الليلة، وإذا أردت أن تتحدث عن شيء مضى بعد الزوال تقول: البارحة، وبعض الناس يقولون: البارحة من طلوع الشمس إلى الغروب، ومن الغروب إلى طلوعها يقولون: الليلة، حصل الليلة كذا وكذا، من غروب الشمس إلى طلوع الشمس أو الفجر. قال: أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟ قال حصين: فقلت: أنا، ثم قلت: أما إني لم أكن في صلاة هذا الرجل وهو حصين -رحمه الله- رأى النجم وهو ينقض، لكن يقول للحاضرين: أنا لم أكن قائماً في الليل لأنني كنت أصلي، إنما كنت قائماً لسبب آخر، قال: ولكني لدغت. لم تمنعه الصلاة من النوم لكن منعه الألم من اللدغ، وهذا فيه فائدة بليغة في قضية الابتعاد عن الرياء؛ لئلا يحسب من الذين يحمدون بما لم يفعلوا، لأن الله تعالى ذم الذين يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فهذا حصين من أعداء الرياء، وهكذا كان السلف رحمهم الله في إخلاصهم قال حصين: أما إني أما: أداة استفتاح، وقيل: هي بمعنى حقاً أما إني لم أكن في صلاة، الحقيقة أني لم أكن في صلاة؛ لئلا يظن السامعون أنه قائم يصلي، فيكون كأنه قد راءى بشيء لم يفعله، أو سمَّع بشيء لم يفعله، وهذا الأمر من نقص التوحيد؛ إذا راءى الإنسان وسمع بأعماله، فهو حتى يبرئ نفسه من هذا وضحها وقال: إني كنت مستيقظاً لأجل لدغ لا لأجل الصلاة، ولكني لدغت، واللدغة للعقرب، والظاهر أنها كانت شديدة، ولذلك لم ينم منها طيلة الليل.

مشروعية الرقية

مشروعية الرقية قال سعيد: فما صنعت؟ قلت: ارتقيت. أي: طلبت الرقية لأجل اللدغة، قال: فما حملك على ذلك؟ أي: ما السبب أنك استرقيت وطلبت الرقية؟ والألف والسين والتاء تفيد الطلب، مثل: استغفر طلب المغفرة، استرقى طلب الرقية قال: فما صنعت؟ قلت: ارتقيت -أي: طلب الرقية- قال: فما حملك على ذلك؟ قلت: حديث حدثناه الشعبي إذاً: كان عند السلف محاورة للوصول إلى الحقيقة ومعرفة الحق، فـ سعيد بن جبير -رحمه الله- لم يقصد الانتقاد لهذا الرجل، بل قصد أن يستفهم منه ويعرف مستنده في طلب الرقية، لماذا طلب الرقية؟ وهذا فيه فائدة وهي طلب الحجة في المذهب، فإذا رأيت رأياً فإنك تطلب الحجة، إذا رأى شخص رأياً وتناقشت معه لك الحق أن تطلب الحجة على ما ذهب إليه، والآن سيأتي حصين بالدليل، قال: حديث حدثناه الشعبي والشعبي هو عامر بن شرحبيل الهمداني، المولود في خلافة عمر، وهو من ثقاة التابعين وحفاظهم وفقهائهم، مات سنة مائة وثلاث للهجرة، وهو شيخ حصين. قال: وما حدثكم؟ قلت: حدثنا عن بريدة بن الحصيب بن عبد الله بن الحارث الأسلمي، وهو صحابي مشهور، مات سنة ثلاث وستين عن بريدة بن الحصيب أنه قال: (لا رقية إلا من عين أو حمة). والرقية: هي القراءة على المريض أو المصاب وهي معروفة. وظاهر هذا النص أن الحديث موقوف على الصحابي الذي هو بريدة، لكن الحديث قد جاء من رواية أحمد وأبي داود والترمذي عن عمران بن حصين به مرفوعاً، وقال الهيثمي: رجال أحمد ثقات: (لا رقية إلا من عين أو حمة)، العين معروفة، وهي إصابة العائن لغيرة، والعائن حاسد، والحمة: سم العقرب، فمعنى هذا الحديث: لا رقية أولى من رقية العين والحمة، فـ حصين استند في طلب الرقية إلى هذا الحديث، وهو يدل على أن الرقية من العين أو الحمة مفيدة؛ فإن الرقى تنفع -بإذن الله- من العين ومن الحمة أيضاً، إذاً: أنفع ما تنفع الرقية في مسألة العين، وتنفع في اللدغة والشفاء من السم، وكثير من الناس يقرأ على الملدوغ فيبرأ حالاً.

قصة أبي سعيد في رقية الملدوغ

قصة أبي سعيد في رقية الملدوغ وقد وقعت القصة المشهورة للصحابي الجليل أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في سرية، فاستضافوا قوماً فلم يضيفوهم، فلدغ سيد القوم، لدغته حية، فقالوا: من يرقي؟ كانوا لؤماً، ما أكرموا الضيوف وهم الصحابة، فلدغ سيدهم الكافر سيد القبيلة، فجاءوا يقولون: من يرقي؟ ثم قالوا: لعل هؤلاء الركب عندهم راقٍ، لعل هؤلاء الركب المسلمين الذي نزلوا بجانبنا وما أضفناهم لعل عندهم راقي فجاءوا إلى السرية فقالوا: هل فيكم من راق؟ فقالوا: نعم، ولكن لا نرقي لكم إلا بشيء من الغنم، اشترطوا شرطاً على هؤلاء البخلاء، قالوا: ما نرقي سيدكم ورئيس قبيلتكم إلا مقابل قطيع من الغنم، فقالوا: نعطيكم فاقتطعوا لهم من الغنم وعينوها ثم ذهب أحدهم وهو الراوي أبو سعيد رضي الله عنه ذهب يقرأ عليه الفاتحة، فقرأها ثلاثاً أو سبعاً، وقام هذا اللديغ كأنما نشط من عقال، يمشي ما به بأس ولا كأن شيئاً لدغه، فانتفع اللديغ بقراءة الفاتحة، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ أبي سعيد بعدما رجعوا إليه يستفتونه عن الغنم الذي أخذوه، فأباحه لهم وأخبر أنه حلال لهم، قال لـ أبي سعيد: (وما يدريك أنها رقية) كيف عرفت أنها رقية؟ من الذي أخبرك؟! تعجب من علم هذا الصحابي وأقره على أن الفاتحة يرقى بها.

علاج الإصابة بالعين

علاج الإصابة بالعين والعين ترقى بوسائل كثيرة، وتستعمل لها طرق أخرى غير الرقية، بمعنى أن علاج العين يكون بالرقية وقراءة المعوذات والفاتحة. هذا أمر. الأمر الثاني: ما جاء في الحديث الصحيح عن سهل رضي الله عنه، وكان جميل الخلقة، فمر به عامر فرآه وكان يصيب بالعين، فقال: ما رأيت اليوم كجلد مخبأة -والمخبأة هي البكر، أي أنه استحسن جلده الأبيض- ما رأيت قط كجلد مخبأة مثل اليوم أبداً. فلبط سهل، أي أنه اشتل فجأة ولم يستطع أن يتحرك، فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم غضب وقال: (علام يقتل أحدكم أخاه) ثم دعا هذا العائن وأمره أن يغتسل، ويكون ذلك في إناء ويصب الماء على جنبه الأيمن والأيسر داخل اتزاره، يجمع ماء الوضوء والغسالة ثم يسكب على المعيون من الخلف من على رقبته وظهره، فسكبوه عليه، قيل: يسكب عليه فجأة، وقيل: بعلمه، فسكبوه عليه، فقام ليس به بأس فهذا العلاج الثاني للعين. وهناك أشياء عرفت بالتجربة، مثل أن يؤخذ أي شيء من آثار العائن مما يلي جسمه من الثياب كثوب، أو التراب الذي مشى عليه وهو رطب، فيصب عليه الماء ويرش به المصاب أو يشربه المصاب، أو يؤخذ بقية شرابه، كما إذا شرب العائن كأساً من الشاي، فتأخذ بقية الشاي فيشربها المعيون فتنفع بإذن الله، وهذه أشياء مجربة وأجازها أهل العلم. وأما العائن فإنه يجب عليه إذا رأى ما يعجبه أن يبرك عليه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لـ عامر بن ربيعة لما عان سهل بن حنيش: (هلا برَّكت عليه) أي: هلا قلت: بارك الله عليك، أو بارك الله لك في أهلك وفي مالك، يبرك عليه ولا يقل: ما شاء الله تبارك الله، بل يقول: اللهم بارك فيه، اللهم بارك عليه، وإذا رأى ما يعجبه من نفسه ومن ماله يقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، كما جاء في قصة صاحب الجنتين {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ} [الكهف:39]، أي: هذا بفضل الله وليس من حيلتي ولا من قوتي؛ حتى لا يصيبه العجب والغرور. أما إذا رأى إنساناً وخاف أن يحسده فإنه يبرك عليه، أو إذا علم من نفسه أنه إذا نظر إلى شيء عانه وحسده فإنه يبرك عليه ويقول: اللهم بارك فيه ولا تضره، وبعض العامة يقولون: يصلى على العائن صلاة الغائب، وهذا ليس عليه دليل، يقولون: يصلى على الحاسد والعائن صلاة الجنازة، وهذه عبادة تحتاج إلى دليل.

عرض الأمم على النبي صلى الله عليه وسلم

عرض الأمم على النبي صلى الله عليه وسلم فلما حدث حصين سعيد بن جبير بمستنده في طلب الرقية لأجل اللدغة بحديث: (لا رقية إلا من عين أو حُمة) قال سعيد رضي الله عنه -وهذا من باب المباحثة في العلم والنقاش- قال: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع. أي: من بلغه علم فأخذ به فقد أحسن ولا يلام، أدى ما وجب عليه وعمل بما بلغه من العلم، بخلاف من يعمل بجهل ولا يعلم؛ فهذا مسيء آثم، وهذه فضيلة في علم السلف وحسن أدبهم وهديهم وتلطفهم في تبليغ العلم، وأن من عمل بما بلغه عن الله ورسوله فقد أحسن. ولكن سعيد بن جبير الآن يريد أن يستدرك على حصين، يقول: إذا كنت قد عملت بهذا الحديث فعندنا حديث آخر قال: ولكن حدثنا ابن عباس وهو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب الهاشمي، ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي دعا له عليه الصلاة والسلام بقوله: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل) فكان كذلك، وتعلم التفسير وفهم الكتاب العزيز، ولم ينقل عن صحابي مثلما نقل عن ابن عباس في التفسير، ولذلك قال عمر أو ابن مسعود: [لو أدرك ابن عباس أسناننا ما عشره منا أحد] أي: لو كان كبيراً في السن مثلنا، مثل عمر وابن مسعود، ما عشره منا أحد، أي: ما بلغ عشره في العلم، لكن ابن عباس من قدر الله أنه كان صغيراً، لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم كان غلاماً، ومع ذلك روى أحاديث كثيرة، ورزقه الله الفهم والعلم، وروى عن الصحابة وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أشياء سمعها منه مباشرة، ومات -رحمه الله- في الطائف سنة ثمان وستين. قال: ولكن حدثنا ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:) عرضت علي الأمم) وهذا العرض -كما قلنا- حصل شبيه له في حادثة الإسراء والمعراج التي كانت من مكة (عرضت علي الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهط) وفي رواية: (فأجد النبي يمر معه الأمة) والأمة: العدد الكثير، والرهط: الجماعة دون العشرة، إذا كان هناك جماعة دون العشرة يطلق عليهم في اللغة العربية رهط، والأمة: الجماعة الكثيرة (فرأيت النبي ومعه الرهط -من الثلاثة إلى التسعة- والنبي ومعه الرجل والرجلان) لو كانت الواو على حقيقتها في الرجل والرجلان لصاروا ثلاثة، ولقال: ثلاثة، لكن قال: النبي ومعه الرجل والرجلان، أي: النبي ومعه رجل أو رجلان، (والنبي يمر معه النفر)، وفي رواية: (والنبي يمر معه العشرة، والنبي ليس معه أحد) هناك أنبياء ما معهم ولا شخص واحد، وفي رواية: (فجعل النبي يمر ومعه الثلاثة، والنبي يمر ومعه العصابة، والنبي يمر وليس معه أحد)، الحاصل من هذه الروايات أن الأنبياء يتفاوتون في الأتباع، هناك أنبياء أتباعهم كثر جداً، أمة كاملة، وهناك أنبياء معهم رهط وعشرة وثلاثة وخمسة واثنان وواحد، ومن الأنبياء من لم يتبعهم أحد، قال:) (فنظرت فإذا سواد كثير)، وفي رواية: (إذ رفع لي سواد عظيم)، أي: بينما أنا كذلك إذ رفع لي سواد عظيم، والسواد ضد البياض، والسواد يطلق على الشخص إذا رؤي من بعيد، وقد يكون واحداً وقد يكون جماعة فيكون بلفظ الجنس، فالنبي عليه الصلاة والسلام رأى أنبياء يمرون، النبي معه واحد واثنان وثلاثة ورهط وجماعة، ورأى نبياً معه أمة وعدد كثير، سواد كثير قد ملأ الأفق، والأفق: ناحية وجهة من السماء، فظنهم النبي صلى الله عليه وسلم أمته، قال: (فقلت: يا جبريل! هؤلاء أمتي، قال: لا)، وفي رواية: (فرجوت أن تكون أمتي، فقيل: هذا موسى في قومه)، وعند أحمد: (حتى مر علي موسى في كوكبة من بني إسرائيل، فأعجبني فقلت: من هؤلاء؟ قال: هذا أخوك موسى معه بنو إسرائيل)، والكوكبة: الجماعة من الناس إذا انضم بعضهم إلى بعض. فعرف النبي عليه الصلاة والسلام أن هؤلاء ليسوا أصحابه ولا أتباعه (ولكن انظر إلى الأفق، فنظرت فإذا سواد كثير. وفي رواية: عظيم) وفي رواية: (فقيل لي: انظر إلى الأفق، فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل لي: انظر إلى الأفق الآخر، فرأى مثله، فإذا سواد قد ملأ الأفق، فقيل: انظر هاهنا وهاهنا في آفاق السماء، فإذا الأفق قد سد بوجوه الرجال)، وفي لفظ عند أحمد: (فرأيت أمتي قد ملئوا السهل والجبل، فأعجبني كثرتهم وهيئتهم، فقيل: أرضيت يا محمد؟ قلت: نعم أي ربي). لماذا لم يعرفهم وهو قد عرفهم في مرة أخرى بآثار مثل: الغرة والتحجيل؟ قيل: إنه رآهم من بعيد، والرؤية من بعيد ليس بالضرورة أن يرى فيها الشخص ملامح تفصيلية لوجوه المرئيين.

السبعون ألفا وصفاتهم

السبعون ألفاً وصفاتهم قال: (فقيل لي: هؤلاء أمتك، ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب). هنا صار مع الأمة سبعون ألفاً من العظماء، وهم الذين لا حساب عليهم ولا عذاب (فخاض الناس في أولئك) النبي صلى الله عليه وسلم بعدما حدث بالحديث، وأخبر أن هؤلاء السبعين ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب، وهذا من كرامتهم، وهؤلاء لا حساب عليهم ولا عذاب لا في القبور ولا بعد قيام الساعة، نفي الحساب والعذاب يفهم منه العموم، فلا حساب عليهم ولا عذاب لا في القبر ولا عند قيام الساعة، ثم دخل النبي صلى الله عليه وسلم بيته وانقطع الحديث عند هذا الحدث، فخاض الناس في أولئك؛ للوصول إلى الحقيقة لمعرفة من هم هؤلاء السبعون ألفاً؟ وبدأت الاستنتاجات من الصحابة، وهذا العمل من الصحابة رضوان الله عليهم دليل على شدة حرصهم على الخير، وأن يكونوا من هؤلاء، ويا ترى هل هم منهم أو ليسوا منهم؟ وبدأت الاستنتاجات في هؤلاء السبعين الألف (فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم) والمقصود الصحبة المطلقة، وربما يكون المقصود الصحبة في الهجرة، ولكن إذا قلنا: إنهم كل الصحابة، فالصحابة أكثر من سبعين ألفاً، وقد قدر عدد الصحابة الذين حجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع فقط بمائة وأربعة وعشرين ألف صحابي، والذين صحبوه في الهجرة أقل من سبعين ألفاً، وقد يحمل على صحبة معينة، مثلاً: من صحبه قبل الحديبية؛ لأنه قال لـ خالد بن الوليد: (لا تسبوا أصحابي) وكل الذين قبل الهجرة من المهاجرين لا يبلغون سبعين ألفاً، فالمحتمل أنهم من كان مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى فتح مكة؛ لأن بعد فتح مكة دخل الناس في دين الله أفواجاً، وهذه مسألة تحتاج إلى نظر وتفتيش. (فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله شيئاً) قالوا: نحن أشركنا ثم أسلمنا، فيحتمل أن هؤلاء الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب هم الذين لم يشركوا أبداً، هؤلاء أناس ولدوا في الإسلام، وهم أبناء الصحابة، وذكروا أشياء، وخاض الناس في الاحتمالات، حتى طلع عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه، قالوا: من السبعون ألفاً؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (هم الذين لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون)، إذاً: عرفنا أنه ليس المقصود أناساً في زمن معين، لكنهم أناس عندهم صفات معينة وقد يوجدون في أي جيل.

لا يسترقون

لا يسترقون هؤلاء السبعون ألفاً لهم صفات معينة، قال: (هم الذين لا يسترقون) جاء في رواية في صحيح مسلم: (لا يرقون) وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- إلى أن هذه اللفظة خطأ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رقى، وجبريل رقى، وعائشة رقت، والصحابة كانوا يرقون؛ فيستبعد أن يكون من صفات السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عقاب أنهم لا يرقون! فأنكر الشيخ تقي الدين ابن تيمية -رحمه الله- هذه الرواية، وذكر أنها غلط من راويها، وقال: العلة أن الراقي يحسن إلى الذي يُرقى، فكيف يخرج من السبعين ألفاً وهو محسن؟! والله يقول: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة:91]، {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن:60] قال: هذا غلط من الراوي، والصحيح: لا يسترقون. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من استطاع أن ينفع أخاه فليفعل)، والنفع مطلوب، ومن جملة النفع أن يرقيه، فكيف يحث على أن ينفع الإنسان أخاه بالرقية ثم يقول له: أنت لست من السبعين ألفاً! إذاً: يرقون مستبعدة، والصواب: لا يسترقون. أما الرقية: فهي من جنس الدعاء، ومن رقى غيره فقد أحسن إليه، لكن يسترقون فيها نقص في المسترقي الذي يطلب الرقية، وقلنا: يسترقون، الألف والسين والتاء تفيد الطلب، مثل: استغفر: طلب المغفرة، استجار: طلب الجوار، استرقى: طلب الرقية، فـ (لا يسترقون)، أي: لا يطلبون من أحد أن يقرأ عليهم.

سبب عدم طلبهم للرقية

سبب عدم طلبهم للرقية أولاً: لقوة اعتمادهم على الله عز وجل لا يطلبون من أحد رقية؛ لأنهم يعتمدون على الله اعتماداً تاماً. ثانياً: لعزة نفوسهم عن التذلل لغير الله، لا يريدون أن يذلوا أنفسهم لغير الله ويلجئوا إلى بشر، لا يريدون أن يذلوا أنفسهم عند بشر، ويقفوا طوابير عند هؤلاء الشيوخ في العيادات والمساجد، لا يريدون أن يقفوا طوابير في الرقية ولا يأتي ويتوسل إليه ويطلبون منه الرقية، فلا يريدون إذلال النفس. ثالثاً: لا يريدون أن يفتحوا على أنفسهم أي باب تعلق بغير الله؛ لأنك تجد في الواقع عدداً من الذين يذهبون لبعض القراء والراقين يتعلقون بهم، ويظن أن الشيخ هذا أو الراقي ينفع بنفسه أو بذاته أو بكلامه، مع أن النفع من الله وهذا سبب، فلا يريدون أن يكون عندهم أي تعلق بغير الله، فيستغنون عن كل الراقين وكل القراء، ولا يطلبون من أحد رقية، (لا يسترقون)، أي: لا يطلبون من أحد الرقية ألبتة. وهناك فرق بين من سأل وطلب، وبين من رقى غيره. وبعضهم حاول أن يحمل اللفظة التي في مسلم على أشياء، قال: لا تكون رقى شركية، لكن هذا الحمل فاسد؛ لأننا إذا قلنا بهذا فما هي الميزة فيها؟ لأن كل المؤمنين أصلاً يجب ألا يأخذوا الرقية الشركية، فلو قلنا: لا يرقون رقية شركية؛ فلن يكون هناك ميزة للسبعين ألفاً. إذاً: الراجح قوله: (لا يسترقون) والإنسان الذي لا يسترقي تام التوكل، ويلاحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سُحِر ما طلب من أحد من البشر رقية، وإنما نزل جبريل فرقاه بأمر من الله تعالى: (بسم الله أرقيك من كل أذى يؤذيك)، ونفهم من هذا -أيضاً- أن الرقية في حد ذاتها ليست ممنوعة، وليس ممنوعاً أن الشخص يرقي ولا يسترقي، لا بأس أن يسترقي إذا كانت عقيدته صحيحة، وأن الرقية إذا كانت مشروعة فلا شيء فيها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اعرضوا علي رقاكم، ولا بأس بالرقى ما لم يكن شركاً)، فإذا كان هناك شيء عن الرقية فهو لأجل الشرك، ولا بأس بها ما لم يكن شركاً. إذاً: طلب الرقية فيه نزول عن مرتبة الكمال في التوكل، وهؤلاء السبعون ألفاً في المنزلة العالية ولا يناسب أن يكون من صفاتهم أنهم يطلبون رقى من الناس، ولو كانت مباحة. وقيل في هؤلاء أيضاً: إنهم مقصودون بقوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة:10 - 11]، لكن قد وردت أحاديث تفيد أن هؤلاء السبعين ألفاً يدخلون بعد غيرهم، منها: حديث رواه الإمام أحمد وابن خزيمة وابن حبان من حديث دفاع الجهني، قال: أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر الحديث وفيه: (وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفاً من غير حساب، وإني لأرجو ألا يدخلوها حتى تبوءوا أنتم ومن صلح من أزواجكم وذرياتكم مساكن في الجنة) إذاً: لا يلزم أن يكون هؤلاء السبعون ألفاً أفضل من غيرهم، يمكن أن يكون هناك غيرهم أفضل منهم، لكنهم يدخلون الجنة من غير حساب ولا عقاب، وقد يكون فيمن يحاسب أفضل من هؤلاء السبعين ألفاً من جهة الدرجة في الجنة، لكن هؤلاء لا يحاسبون.

ولا يكتوون

ولا يكتوون الصفة الثانية: (ولا يكتوون) أي: لا يطلبون الكي، ولا يسألون غيرهم أن يكويهم، كما لا يسألون غيرهم أن يرقيهم، استسلاماً لقضاء الله، وتلذذاً بالبلاء وصبراً عليه لمزيد من الأجر، وعدم حاجة للمخلوقين واستغناءً عنهم، ولجوءاً تاماً إلى الخالق، وتفويض الأمر إليه سبحانه. وما هو حكم الكي؟ قد جاءت الأحاديث بجوازه، كما روى جابر بن عبد الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى أبي بن كعب طبيباً، فقطع له عرقاً وكواه. وفي صحيح البخاري عن أنس أنه كوى من ذات الجنب والنبي صلى الله عليه وسلم حي، وجاء عند الترمذي من حديث أنس: (أنه صلى الله عليه وسلم كوى سعد بن زرارة من الشوكة)، وفي صحيح البخاري عن ابن عباس مرفوعاً: (الشفاء في ثلاثة: شربة عسل، وشرطة محجم، وكية نار، وأنا أنهى عن الكي. وفي لفظ: وما أحب أن أكتوي)، ويلاحظ التدرج في العلاج من الأسهل إلى الأصعب، أولاً: فالشخص إذا مرض يأخذ الدواء اللذيذ الذي مثله هنا بشربة عسل، فإذا احتاج إلى شيء أكثر مراً، وربما يحتاج إلى استخراج، ولذلك قال: (وشرطة محجم) إذًَا: هناك دواء بالامتلاك بالأخذ، وهناك دواء بالاستقرار مثل الحجامة، يخرج الدم في الحجامة، وهناك دواء وهو آخر شيء وهو الكي، قال: (الشفاء في ثلاث: شربة عسل، وشرطة محجم، وكية نار)، فإذاً: هي مرتبة من الأسهل إلى الأصعب، ولا يذهب الواحد إلى الكي مباشرة وعنده الدواء الأسهل أو الألذ وليس فيه ألم، ولا تشويه للجسم. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: فقد تضامنت أحاديث الكي أربعة أنواع: أحدها: فعله. والثاني: عدم محبته له. والثالث: الثناء على من تركه. والرابع: النهي عنه. فلو راجعنا أحاديث الكي فسنجد أنه فعله أو أقر على فعله، وهناك أحاديث أنه لا يحب الكي، وهناك أحاديث أنه أثنى على من ترك الكي، مثل حديثنا هذا، وهناك أحاديث فيها نهي عن الكي. يقول ابن القيم رحمه الله: ولا تعارض بينها بحمد الله، فإن فعله له يدل على جوازه، وعدم محبته له لا يدل على منعه؛ لأنه قد لا يحب شيئاً وهو ليس بممنوع، فإنه لم يكن يحب لحم الضب، لكن هل هو ممنوع أو محرم؟ A لا، وأما الثناء على تاركي الكي فيدل على أن تركه أولى وأفضل، وأما النهي عنه فعلى سبيل الاختيار والكراهية، أي: إذا كان عندك اختيار فلا تستعمل إلا إذا اضطررت، وقد يحمل النهي على الكراهية لا على التحريم، ويلاحظ هنا أنه قال: (وكية نار) فالكي البارد الذي يستعملونه في المستشفيات لا يعتبر كياً بالنار الذي يسبب تشويهاً للجلد، فهذا الكي الذي فيه تشويه للجسم مكروه وتعافه النفوس السليمة، ولا تريد هذا الأثر، لكن إذا لم يجد الإنسان دواءً إلا هو فآخر الدواء الكي.

ولا يتطيرون

ولا يتطيرون قال: (لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون)، ما هو المقصود بالتطير؟ أي: التشاؤم، فمعنى لا يتطيرون: أي: لا يتشاءمون، والتطير مأخوذ من الطير، والمصدر: طيرة، والتطير اسم المصدر، وهو عبارة عن التشاؤم بالطير، العرب كانوا يتشاءمون بالطيور، حتى لو أراد الإنسان منهم عملاً كسفرٍ أو بيعٍ أو زواجٍ ونحو ذلك؛ أمسك طيراً فأطلقها، فإن ذهبت يميناً قال: هذا خير وبركة، وأقدم عليه، وإن ذهبت شمالاً قال: هذا شؤم وشر فتركه وما علاقة العصفور أن يذهب يميناً أو شمالاً في قضية الخير والبرك والشؤم والشر؟! ولذلك كان أمراً سخيفاً يدل على سخافة عقول الذين يعتقدون هذا الاعتقاد. لكن التطير استخدم بمعنى أعم من قضية إطلاق الطير والنظر هل يذهب يميناً أو شمالاً، فكانت العرب تتشاءم من أشياء مرئية وأشياء مسموعة، أو أزمنة معينة أو أمكنة معينة، فربما تشاءموا بصوت البوم والغراب من المسموعات، أو تشاءموا برؤية الأعور من المرئيات أو المجذوم ونحو ذلك؛ كأن يذهب أحدهم ليفتح دكانه في الصباح، فيجد في طريقه شخصاً أعور، فيقول: هذه أولها، فيعود ولا يفتح المحل، والتشاؤم كذلك بالأمكنة، كما يكون التشاؤم بالأزمنة، والتشاؤم بالأزمنة مشهور، فقد كانوا يتشاءمون في شهر شوال في النكاح خاصة، ويقولون: الذي يتزوج في شوال شر، ولذلك ورد عن الصحابة مخالفتهم، وكانت عائشة لا تدخل نساءها إلا في شوال، كانت إذا جهزت امرأة للزواج تجعل الدخلة والعرس في شوال نكاية في اعتقاد أهل الجاهلية، وقالت عائشة رضي الله عنها: [عقد علي رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال، وبنى بي في شوال، فأيكن كانت أحظى عنده؟] لو كان شوال شراً ما كنت أنا بهذه المنزلة، ولا كان الزواج المبارك هذا. ومنهم من كان يتشاءم بيوم الأربعاء، وقد جاء حديث موضوع: (آخر أربعاء من كل شهر يوم نحس مستمر)، وهذا هو المنحوس الذي وضع هذا الحديث. وهناك من كان يتشاءم بشهر صفر، وبعض الناس الآن يتشاءمون بالرقم (13) وهذا من التشاؤم الموجود عند الغربيين، على تقدمهم والتكنولوجيا التي عندهم والتطور والمخترعات تجد بعض شركات الطيران العالمية أرقام المصاعد عندها: أحد عشر، اثنا عشر، أربعة عشر، ما فيها ثلاثة عشر، مصاعد في ناطحات السحاب أحد عشر اثنا عشر أربعة عشر، والطابق الرابع عشر هو الطابق الثالث عشر، ليس هناك طابق في الهواء غير موجود ومحذوف، الطابق الرابع عشر هو الثالث عشر، ولكنهم قوم لا يفقهون! مع أنهم يعتبرون أنفسهم متقدمين، لكنهم تراهم يتشاءمون من شيء يدل على سخافة عقولهم. وقضية التشاؤم قضية طويلة، سبق أن تعرضنا لها في درس بعنوان: التفاؤل، في سلسلة الأخلاق الإسلامية، ذكرنا طرفاً من هذا الموضوع.

التوكل على الله

التوكل على الله قال: (لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون)، هذه الجملة مفسرة لما تقدم، على احتمال أن ترك الاسترقاء والاكتواء والطيرة حقيقة التوكل، ويحتمل أن تكون من العام بعد الخاص، ذكر بعض أفراد العام ثم ذكر العام بعده، وهذه المسألة وهي قوله: (وعلى ربهم يتوكلون)، هذه هي الصفة الواضحة المهمة، أهم صفات السبعين ألفاً هؤلاء أنهم يتوكلون على الله {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2] والأشياء المذكورة تدل على ذلك (لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون)، تدل على أنهم متوكلون على الله، عندهم صدق في الالتجاء إليه والاعتماد بالقلب عليه، وهذا تحقيق التوحيد، وهذا مقام الذي يحب الله ويرجوه ويرضى به ويرضى بقضائه، ويعرف نعماءه سبحانه وتعالى، فهؤلاء هم المتوكلون على الله عز وجل.

الصوفية والتوكل

الصوفية والتوكل وقد زعمت الصوفية من هذا الحديث أن التوكل يقتضي أن الإنسان لا يعمل شيئاً، حتى لو هجم عليه أسد فلا ينزعج، ولا يسعى في طلب الرزق، والذي مكتوب سيأتي وقد أبى ذلك جمهور العلماء الفضلاء الموحدون، قالوا: إن هذا اعتقاد فاسد، وإن التوكل على الله هو: الثقة بوعده، واليقين بقضائه، وابتغاء الرزق بالأسباب مما لابد له منه، من مطعم ومشرب، والتحرز من عدو بإعداد السلاح وبإغلاق الباب من اللص ونحو ذلك، ولكن لا يطمئن قلب المتوكل على الله إلى الأسباب، ولا يعتقد أنها تجلب نفعاً أو تدفع ضراً، بل السبب والمسبب فعل الله تعالى، والكل بمشيئته عز وجل، والله تعالى خلق الأسباب وخلق آثار الأسباب، وخلق المسببات، ولا يجري شيء إلا بمشيئته عز وجل، والذي يركن إلى الأسباب قادح في توكله على الله، والذي لا يتخذ أسباباً بالكلية جاهل بالتوكل على الله، يظن نفسه متوكلاً وهو ليس كذلك، فالأخذ بالأسباب أمر فطري ضروري حتى الحيوان يعرفه، والبهيمة تعرفه، والطير يسعى أخذاً بالأسباب، ويذهب في الصباح يبحث عن الدودة والطعام، والله يرزق الطير لتوكلها عليه (لو تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً -جياعاً- وتروح بطاناُ) تذهب في أول النهار جياعاً، وتعود ممتلئة البطن، وهي متوكلة على الله، لكن هل يجلس الطير في عشه ويقول: الرزق المكتوب لي سيقع علي من السماء؟! لا. الطير يغدو، والغدو والرواح عمل وذهاب للبحث، لكن أفئدة الطير مليئة بالتوكل على الله، ولذلك الله يرزقها، ولن تجد طائراً يذهب ويعود من غير شيء، لابد أن يرجع بشيء، وهذا من توكله على الله، ففي هذا الحديث نتعلم من خلق الله من الحيوانات أشياء عظيمة، كما نتعلم التوكل من الطير. إذاً: التوكل لا ينافي الأخذ بالأسباب، بل لا بد من الأخذ بالأسباب، وكيف لا يأخذ الإنسان بالأسباب وقد جاء في الحديث الصحيح: (أفضل ما أكل الرجل من كسبه)، وكان داود يأكل من كسبه {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ} [الأنبياء:80]، والله عز وجل يقول: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء:102]، ماذا يعني خذوا حذركم؟ يعني الانتباه والحراسة، وقسم الجيش نصفين: نصف يصلي، ونصف يراقب، هذه كلها أخذ بالأسباب، إذاًَ: التوكل على الله لا يعني أبداً ترك الأسباب، لكن التوكل على الأسباب هو المصيبة، والآن أكثر الناس يتوكلون على الأسباب؛ قلبه معتمد على الطبيب، وعلى الدواء، وعلى التخطيط للمشروع، والاعتماد على الله غائب، وهكذا لا يمكن أن يحدث تكسب إلا بتحسين السلعة ونقلها وبيعها وعرضها، ولا يمكن للإنسان أن ينفق على عياله إلا بالتكسب والسعي والأخذ بالأسباب، وهؤلاء الذين لا يسترقون ولا يكتوون ليس معناه أنهم لا يتداوون، ولا أنهم لا يعملون شيئاً من الأسباب المشروعة، بل إنهم يتخذون الأسباب المشروعة.

التداوي لا ينافي التوكل

التداوي لا ينافي التوكل وبالنسبة لقضية التداوي فإننا نعلم إن التداوي قد وردت الوصية به، والأمر من النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (تداووا عباد الله ولا تتداووا بحرام)، وهذا التداوي لا ينافي التوكل على الله؛ لأنه من الأسباب، لكن حصل نقاش لعلماء يحسن أن نستعرضه في قضية التداوي: هل هو مباح وتركه أفضل، أو هو مستحب أو واجب؟ فالمشهور عن الإمام أحمد -رحمه الله- أنه مباح وتركه أفضل، والشافعي مشهور عنه الثاني وهو الاستحباب، وقال أبو حنيفة في التداوي: يداني الوجوب، وقال مالك رحمه الله: يستوي فعله وتركه، لكن ليس هناك أحد قال إن التداوي حرام، فهو ليس بحرام، بل هو أخذ بسبب. وقال بعض العلماء المعاصرين: الصحيح أن التداوي أنواع: الأول: ما غلب على الظن نفعه مع احتمال الهلاك في عدمه فهو واجب، أي أنه يغلب على الظن أن هذا الدواء نافع، ويمكن أن يهلك لو لم يأخذه، فيجب أن يأخذه. الثاني: ما غلب على الظن نفعه، لكن ليس هناك هلاك محقق لتركه، فهذا أخذه أفضل، وما تساوى فيه الأمران فتركه أفضل، ولكن استعمال الدواء المباح مباح بالجملة.

بشائر في حديث السبعين ألفا

بشائر في حديث السبعين ألفاً هؤلاء السبعون ألفاً لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنهم جاءت روايات أخرى بشائر لنا: أولاً: بالإضافة إلى صفاتهم قال: (تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر) (أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر، والذين على آثارهم كأحسن كوكب دري في السماء إضاءة) وقال في رواية: (فتنجو أول زمرة وجوههم كالقمر ليلة البدر سبعون ألفاً لا يحاسبون) البشارة أن هؤلاء السبعين ألفاً ليسوا فقط سبعين ألفاً، بل إن معهم آخرين. وقد جاء في حديث أبي هريرة وسنده جيد عند أحمد والبيهقي: (فاستزدت -أي: استزدت ربي- فزادني مع كل ألف سبعين ألفاً) كل ألف من السبعين ألفاً معهم سبعون ألفاً زيادة، وفي رواية: (مع كل واحد من السبعين ألفاً سبعون ألفاً)، لكن هذه الرواية ضعيفة، لكن الرواية الصحيحة أن الله تعالى زاد النبي صلى الله عليه وسلم مع كل ألف من السبعين ألفاً -الذين لا يحاسبون من أمته- مع كل ألف منهم سبعون ألفاً، وفي رواية: (وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفاً مع كل ألف سبعون ألفاً لا حساب عليهم ولا عذاب، وثلاث حثيات من حثيات ربي) والله أعلم كم قدر الحثية. وفي صحيح ابن حبان بسند جيد عن عتبة بن عبد الله: (ثم يشفع كل ألف في سبعين ألفاً، ثم يحثي ربي ثلاث حثيات بكفيه)، فكبر عمر رضي الله تعالى عنه، فهؤلاء السبعون ألفاً مع كل ألف سبعون ألفاً كم سيكون المجموع؟ أربعة ملايين وتسعمائة ألف غير الحثيات، هؤلاء من أمة النبي صلى الله عليه وسلم، تطلق باعتبارات، إحداها: أمة الاتباع، ثم أمة الإجابة، ثم أمة الدعوة، فالأولى: أهل العلم والصلاح، والثانية: عموم المسلمين، والثالثة: من عداهم ممن بعث إليهم النبي صلى الله عليه وسلم، ولما حصلت هذه البشارات قام عكاشة، وهو من عكش الشعر إذا التوى، فإذا التوى الشعر يقال في اللغة: عكش، ويقال: عكش القوم إذا حمل عليهم في الحرب، والعكَاشة بالتخفيف: اسم للعنكبوت، وأيضاً اسم لبيت النمل، ويصح في اسم هذا الصحابي الوجهان: عكَّاشة وعكَاشة كلاهما صحيح، ابن مِحصَن، بكسر الميم وفتح الصاد، ابن حرثان، من بني أسد من خزيمة، رضي الله عنه، كان من السابقين إلى الإسلام، وكان من أجمل الرجال، هاجر وشهد بدراً وقاتل فيها، وقيل: إنه قاتل حتى انقطع سيفه في يده، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً فصار في يده سيفاً كرامةً، ذكره ابن إسحاق بدون سند، وقد استشهد رضي الله عنه في قتال الردة مع خالد بن الوليد سنة اثنتي عشرة للهجرة. لما سمع عكاشة بهذا قال: (يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنت منهم. وفي رواية: اللهم اجعله منهم) فقوله: (أنت منهم)، خبر بمعنى الدعاء، أو يقال: إنه سأل الدعاء ثم أجيب فأخبر بالجواب، (ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن أكون منهم. فقال صلى الله عليه وسلم: سبقك بها عكاشة)، لماذا لم يدع النبي صلى الله عليه وسلم للثاني وقال: (سبقك بها عكاشة) قالوا: إن معنى (سبقك بها) أي: بإحراز تلك الصفات، فأنت لست مثله في قضية التوكل وعدم التطير إلى آخره، وقيل: عدم دعاء النبي صلى الله عليه وسلم للثاني لسببين: الأول: أن هذا الرجل كان منافقاً، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يرد أن يدعو له لأنه منافق، ولم يرد أن يجيبه بما يكره فقال: (سبقك بها عكاشة)، وقيل: إن هذا ضعيف؛ لأن الأصل في الصحابة عدم النفاق، وما الذي يثبت أن هذا كان منافقاً؟ وثانياً: قوله: (ادع الله أن يجعلني منهم)، غالباً لا يصدر إلا من قلب صحيح حريص على دخول الجنة، وهذا يتعارض مع النفاق، وإلى هذا مال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، أن القضية ليست قضية نفاق، لكن قيل: إنه صلى الله عليه وسلم خاف أن ينفتح الباب، فكل واحد سوف يقول: ادع الله أن أكون منهم، فيدخل فيها من ليس من أهلها؛ فقال هذه الكلمة التي أصبحت مثلاً: (سبقك بها عكاشة)، إذاً: أراد صلى الله عليه وسلم ألا يأتي أحد ليس على مستوى هذا ويطلب ثم يرد، ويكون هناك دخول في قضية تعيين أشخاص والتفريق بين الأشخاص، فحسماً للمادة قال: (سبقك بها عكاشة) وربما يطلب بعض المنافقين ذلك مندساً، وتتسلسل القضية بدون أن يكون لها نهاية واضحة.

فوائد من حديث السبعين ألفا

فوائد من حديث السبعين ألفاً هذا بالنسبة لشرح هذا الحديث العظيم من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وعرفنا منه أهمية التوكل على الله، وأن ترك الاكتواء أفضل، وترك التطير واجب، وأن ترك الاسترقاء أفضل، وعرفنا فضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم على بقية الأمم كما وكيفاً، فأما الكم فإن النبي عليه الصلاة والسلام رأى أهل الجنة من أتباعه يملئون كل الآفاق آفاق السماء أكثر من الذين مع موسى، وأما الكيفية فهم متوكلون على الله؛ لا يسترقون ولا يتطيرون، هذه فئة خاصة، وموسى ومن معه يلوننا في الأفضلية، أصحاب موسى عليه السلام الصالحون والعباد والشهداء والعلماء من بني إسرائيل. والحديث فيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم حين رأى بعض الأنبياء ما معه إلا الرجل والرجلان، وبعضهم ليس معه أحد، فيعلم عند ذلك فضل الله عليه وشرفه عند الله ومكانته؛ بأن جعل أتباعه أكثر الأمم، وأكثر من أتباع أي نبي آخر، وعرفنا أن كل أمة تحشر مع نبيها. ويؤخذ منه فائدة دعوية مهمة جداً وهي: أن عدد الأتباع ليس دليلاً على نجاح الداعية، فربما يقوم الإنسان بالدعوة ويجتهد ويدعو ويبذل ولا يستجيب له أحد، فلا يكون عدم اتباع الناس له دليلاً على أنه مخطئ أو ضال أو مذنب، بل قد يكون ابتلاء من الله، فهناك أكثر من نبي ومع ذلك ما تبعه أحد، وما استجاب له أحد، يعرف الدعوة ويفقهها، ويعرف أساليبها والطرق الناجحة فيها، ويبذل أسباب النجاح؛ ومع ذلك ما كتب له أن يتبعه أحد إذاً: الداعية إلى الله إذا كان صادقاً مع الله، متخذاً الأسباب، فقيهاً بأمور الدعوة، يتخذ الأساليب الناجحة، وما وفق في أشخاص يهتدون على يديه، فلا تذهب نفسه حسرات، ولا يحزن ولا ييئس، فهؤلاء أنبياء وما مشى معهم أحد، فما بالك بمن هو أقل منهم؟! وفائدة أخرى مهمة جداً: وهي أن كثرة الأشخاص لا تدل على أن هذا حق، ليست الكثرة معياراً للحق أبداً، فلا يغتر الشخص بالكثرة {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116]، {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103] ومنه نعلم فساد المذهب الديمقراطي الذي يقوم على رأي الأغلبية؛ لأنهم يأخذون آراء السفهاء والشذاذ والهمل في الشوارع، يأخذون آراءهم بالعدد استفتاء، ثم يقولون: الأغلبية كذا، مع أن الأكثرية هؤلاء همل، ولذلك انتخاب الخليفة عند المسلمين يكون من أهل الحل والعقد، وليس من عموم الرعاع من الناس. كذلك هؤلاء الغربيون يتباهون بأن عندهم الحرية ومبدأ الأكثرية، فيصوتون على أي شيء، وكثير من الناس سفهاء لا عقل لهم، أتباع الشهوات والأهواء، لو قيل لهم: أتريدون أن يكون الزنا مسموحاً به؟ لربما قال أكثر الناس: نعم، ولو قيل: أتريدون السماح بالخمر؟ لربما قال أكثر الناس: نعم، إذاً: مبدأ الأكثرية الذي تعتمد عليه الأنظمة الجاهلية هو جاهلي، وليس من الدين، لكن بالنسبة للعلماء فإنه إذا أراد الإنسان أن يطمئن إلى قول فعليه بالجمهور، وليس بالضرورة أيضاً أن يكون الحق مع جمهور العلماء، فقد يكون الحق مع غير الجمهور، حتى في قضية المسلمين المؤمنين العلماء ربما لا يكون الحق مع الجمهور، بل يكون مع من هو أقل؛ لأن الدليل معهم، فإذاً: لا يصح أن يغتر الإنسان بالكثرة حتى ولو كانوا على الحق، قال تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} [التوبة:25]، مع أن الطرف المقابل كفار، فالإنسان لا يغتر بالكثرة ولا يغتر مع الكثرة، وإذا رأيت كثرة الهالكين فلا تغتر وتقول: هؤلاء على الحق لأنهم أكثرية، وإذا رأيت كثرة أهل الحق فلا تعجب بهم، فإنه يحصل الإعجاب فيكون سبب الهزيمة والفشل، فهذه قضية الأكثرية والأقلية قضية مهمة جداً ينبغي أن تعرض على الشريعة. وفي الحديث علم من أعلام نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، ومعجزة من معجزاته، وبرهان على نبوته عليه الصلاة والسلام، وأنه يوحى إليه، وذلك أنه أخبر أن عكاشة منهم، وعكاشة ما ارتد ولا غير ولا بدل، واستمر ومات شهيداً رضي الله عنه، فبقي محبوساً من الكفر حتى مات على الإسلام، فإذا أراد الإنسان أن يخبر عن أمثلة من المبشرين بالجنة من غير العشرة فإنه يقول: عبد الله بن سلام، وعكاشة بن محصن رضي الله عنهما. كذلك في الحديث استعمال المعاريض، في قوله: (سبقك بها عكاشة) فليس المانع الحقيقي أن عكاشة سبقه، لكن المانع أنه عليه الصلاة والسلام خاف أن ينفتح الباب ويسأل هذه المرتبة شخصٌ ليس من أهلها فقال: (سبقك بها عكاشة) وهذا دليل على حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا الحديث رواه البخاري وغيره، وهو مشروح في فتح الباري، في كتاب التوحيد. والله تعالى أعلم.

الأسئلة

الأسئلة

رقية الكافر

رقية الكافر Q هل يجوز أن يرقى الكافر؟ A نعم يجوز؛ لأن أبا سعيد رضي الله عنه قد رقى كافراً.

قراءة القرآن للحائض والنفساء

قراءة القرآن للحائض والنفساء Q هل يجوز للحائض والنفساء قراءة القرآن؟ A نعم من غير أن تمسه.

حكم ذبح الرجل العقيقة عن ابن ابنه

حكم ذبح الرجل العقيقة عن ابن ابنه Q رزق ابني بمولود، فلما أخبرت قلت: عقيقته علي، فهل تجزئ أم لابد أن يعق عنه أبوه؟ A لا تجزئ إذا ذبح العقيقة جد الولد أو جدة الولد.

حال حديث: (الجنة تحت أقدام الأمهات)

حال حديث: (الجنة تحت أقدام الأمهات) Q ما صحة حديث: (الجنة تحت أقدام الأمهات)؟ ل A ورد في معناه أحاديث صحيحة كحديث معاوية رضي الله عنه: (الزمها فإن الجنة تحت قدمها) أو (الجنة تحت أقدام الوالد)، ثبت هذا الحديث.

الاكتواء والتداوي عند الطبيب لا يعد مناقضا للتوكل

الاكتواء والتداوي عند الطبيب لا يعد مناقضاً للتوكل Q كووني وأنا صغير حيث لم يكن الطب منتشراً، وهذا خارج عن رغبتي وإرادتي، فهل هذا السبب يخرجني من السبعين ألفاً؟ A لا، وذكر بعض أهل العلم المعاصرين أنه إذا كان الذي يكوي موظفاً بأجرة مثل الذي في المستشفى، فإن ذهابك إليه لا يعتبر أنك خرجت من هذا الحديث؛ لأن هذا موظف يأخذ أجرة على عمله، فإذا ذهبت إليه هو لا يتفضل عليك وليس له منة عليك، هو موظف يأخذ راتباً، لكن الذي له منة عليك هو الذي تلجأ إليه لجوءاً، وهناك فرق بين الطبيب والراقي، فقوله: (لا يسترقون) لا يعني هذا ألا نذهب إلى الطبيب ونطلب منه العلاج؛ لأن فيها نقصاً للتوكل فذهابك إلى الطبيب الذي يأخذ أجرة ليس فيه منة من الطبيب؛ لأنه يأخذ أجرة. وكذلك الذي يكوي لا يعتبر الذهاب إليه مناقضاً للتوكل إذا كان موظفاً له راتب، وليس له منة عليك، هذا عمله ولابد أن يؤديه، ثم إنك لم ترضَ على ما تذكر.

الرقية بدون استرقاء

الرقية بدون استرقاء Q هل يعتبر من رقي بدون طلب منه قد خرج من الحديث؟ A لا؛ لأنه لم يطلب الرقية، فلو جاء أحد وأنت مريض، وقال: أريد أن أرقيك، فلا حرج ولا مانع ولا تخرج من السبعين ألفاً. والحمد لله رب العالمين.

خصائص النبي صلى الله عليه وسلم

خصائص النبي صلى الله عليه وسلم لقد ميز الله سبحانه وتعالى نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم وكرَّمه، وخصه بأشياء دون غيره من الأنبياء، فله صلى الله عليه وسلم خصائص لذاته في الدنيا، وله خصائص لذاته في الآخرة، وله خصائص في أمته في الدنيا والآخرة، ومن أجل ذلك جاءت هذه المادة مبينة وموضحة لبعض هذه الخصائص.

بعض من ألف في خصائصه صلى الله عليه وسلم

بعض من ألّف في خصائصه صلى الله عليه وسلم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد: فحديثنا في هذه الليلة بمشيئة الله تعالى عن خصائص نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك أن معرفة ما يتعلق به واجب علينا، وأن نعرف له حقه، وأن نعرف منزلته وقدره، ومن معرفة منزلته وقدره عليه الصلاة والسلام أن نعرف خصائصه صلى الله عليه وسلم، وذلك كله داخل في إيماننا بنبينا محمد عليه الصلاة والسلام، فخصائصه عليه الصلاة والسلام: ما اختصه الله بها وفضله على سائر الأنبياء والخلق. والخصائص النبوية موضوع قد اعتنى به العلماء من أهميته، فتناولوه بحثاً وتأليفاً، وذكروا ما انفرد به عليه الصلاة والسلام عن إخوانه الأنبياء والمرسلين، كما ذكروا ما انفرد به عن سائر أمته، وممن ألف في هذا: الإمام العز بن عبد السلام رحمه الله تعالى في كتابه بداية السول في تفضيل الرسول، وكذلك الإمام ابن الملقن رحمه الله في كتابه خصائص أفضل المخلوقين، ومنهم من أدرج الخصائص في مؤلف من المؤلفات التي كتبها، مثل الحافظ الإمام أبي نعيم الأصفهاني رحمه الله في كتاب دلائل النبوة، والحافظ البيهقي رحمه الله في كتاب دلائل النبوة، والحافظ القاضي عياض رحمه الله في كتابه الشفاء في التعريف بحقوق المصطفى، وكذلك ابن الجوزي رحمه الله في الوفاء لأحوال المصطفى، وكذلك ابن كثير رحمه الله في كتابه البداية والنهاية والفصول في سيرة الرسول، وكذلك النووي رحمه الله في تهذيب الأسماء واللغات. كل هؤلاء العلماء وغيرهم قد جعلوا أبواباً في مصنفاتهم عن خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، هذه الخصائص التي معرفتها تزيده عليه الصلاة والسلام في أعيننا قدرا، ً وتجعلنا نحبه ونعرف منزلته أكثر، وتجعلنا نزداد به إيماناً، ونزداد له تبجيلاً، ونزداد له شوقاً ويقيناً صلى الله عليه وسلم، لأن من واجباتنا أن نعرف أحوال نبينا عليه الصلاة والسلام، ومن كمال الإيمان والتصديق به أن نعرف له من الخصائص والميزات عليه الصلاة والسلام. إن هذه الخصائص-أيها الإخوة! - منها ما اختص به عليه الصلاة والسلام في ذاته في الدنيا، ومنها ما اختص به في ذاته في الآخرة، ومنها ما اختصت به أمته في الدنيا، ومنها ما اختصت به أمته في الآخرة.

خصائصه صلى الله عليه وسلم في الدنيا

خصائصه صلى الله عليه وسلم في الدنيا فنريد أن نتناول شيئاً مما اختص به عليه الصلاة والسلام في الدنيا والآخرة:

أخذ الله العهد من الأنبياء والمرسلين باتباع النبي صلى الله عليه وسلم إذا ظهر فيهم

أخذ الله العهد من الأنبياء والمرسلين باتباع النبي صلى الله عليه وسلم إذا ظهر فيهم فمن خصائصه عليه الصلاة والسلام، وهي خاصية عجيبة: أن الله عز وجل قد أخذ العهد والميثاق على جميع الأنبياء والمرسلين من لدن آدم عليه السلام إلى عيسى عليه السلام، أنه إذا ظهر النبي صلى الله عليه وسلم في عهده وبعث أنه سيؤمن به ويتبعه، ولا تمنعه نبوته من أن يتابع نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم، وكل نبي أخذ العهد والميثاق على أمته أنه لو بعث محمد بن عبد الله فيهم أن يتابعوه عليه الصلاة والسلام، لا يتبعون نبيهم بل يتبعون محمداً عليه الصلاة والسلام إذا ظهر فيهم، والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} [آل عمران:81] من هو هذا الرسول؟ هو محمد عليه الصلاة والسلام، قال: {قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:81] ميثاق مأخوذ على جميع الأنبياء وعلى جميع الأمم، أن محمداً عليه الصلاة والسلام إذا بعث فيهم أن يتبعوه وأن يؤمنوا به وأن ينصروه، وقال علي رضي الله تعالى عنه: [ما بعث الله نبياً من الأنبياء إلا أخذ عليه ميثاقاً لئن بعث الله محمداً وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته] أمر كل نبي أن يأخذ الميثاق على أمته، لئن بُعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه، ولذلك لما جاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب، فقرأه على النبي صلى الله عليه وسلم، فغضب وقال: (أمتهوكون فيها يا بن الخطاب) التهوك: الوقوع في الأمر بغير روية، وهو التحير أيضاً: (أمتهوكون فيها يا بن الخطاب، والذي نفسي بيده! لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده! لو أن موسى -صلى الله عليه وسلم- كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني) رواه الإمام أحمد وحسنه الألباني. فإذاً: محمد عليه الصلاة والسلام لو وجد في أي عصر لكانت طاعته مقدمة، والإيمان به مقدماً، ومتابعته مقدمة.

عمومية رسالته صلى الله عليه وسلم

عمومية رسالته صلى الله عليه وسلم ومن خصائصه عليه الصلاة والسلام: أن رسالته عامة لجميع البشر، فقد كان الأنبياء والرسل يبعثون إلى أقوامهم خاصة، كل نبي إلى قومه خاصة، كما قال الله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ} [نوح:1] {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً} [الأعراف:65] {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً} [الأعراف:73] {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} [الأعراف:80] {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً} [الأعراف:85] وأما النبي عليه الصلاة والسلام فقد قال الله تعالى في شأنه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} [سبأ:28] {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} [الأعراف:158] فإذاً: لو قال يهودي أو نصراني في هذا الزمان ليس محمد بنبينا، نبينا موسى، نقول: نبيك محمد رغماً عنك، نبيك محمد صلى الله عليه وسلم الذي يجب عليك أن تؤمن به: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان:1] {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] قال العز بن عبد السلام رحمه الله: ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم: أن الله تعالى أرسل كل نبي إلى قومه خاصة وأرسل نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الجن والإنس، ولكل نبي من الأنبياء ثواب تبليغه إلى أمته، ولنبينا صلى الله عليه وسلم ثواب التبليغ إلى كل من أرسل إليه، فإذاً النبي عليه الصلاة والسلام له أجر كل الإنس الذين اتبعوه، وله أجر كل الجن الذين اتبعوه إلى قيام الساعة، ولذلك فهو أكثر الأنبياء أجراً، ولا يوجد لواحد من الأنبياء أتباع مثل أتباع نبينا عليه الصلاة والسلام، فهو أكثر الأنبياء أتباعاً على الإطلاق. والدليل على أن اليهود والنصارى في زماننا هذا مخاطبون بالإيمان بالنبي عليه الصلاة والسلام واتباعه، وأن من لم يؤمن بنبينا من اليهود والنصارى وغيرهم من الهندوس والسيخ والمجوس وسائر الكفرة أنه في النار، قوله عليه الصلاة والسلام: (والذي نفس محمد بيده! لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني) والمقصود بالأمة أمة الدعوة، واليهود والنصارى داخلون في أمة الدعوة لا أمة الإجابة الذين استجابوا له عليه الصلاة والسلام، فقوله: (والذي نفس محمد بيده! لا يسمع بي أحد من هذه الأمة -وهي أمة الدعوة يعني: الذين أرسل إليهم، كل العالم- يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار) رواه مسلم رحمه الله في صحيحه، وقال صلى الله عليه وسلم: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي، ومنها وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة)، وفي رواية: (كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود) رواهما مسلم رحمه الله، حتى الجن: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنْ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف:29] ينذرونهم عذاب الله، ويخوفونهم ما سمعوا. فإذاً: الرسل من الإنس والجن منهم دعاة إلى قومهم، والرسل من الإنس، والجني يمكن أن يسمع الإنسي، وأن يسمع كلام النبي عليه الصلاة والسلام، بخلاف الإنسي فإنه ربما لا يتمكن من سماع الجني لو كان الرسول من الجن؛ ولذلك كان الرسل من الإنس، والجن منهم دعاة ومنذرون، فهؤلاء الجن الذين سمعوا القرآن يتلى منه عليه الصلاة والسلام، ولوا إلى قومهم منذرين، وهذه آية في كتاب الله تتعلق بالموضوع، فيها بشارة وبيان ميزة للنبي عليه الصلاة والسلام، قال الله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً} [الفرقان:51] فهذه منة من الله على النبي عليه الصلاة والسلام، يقول له: لو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيراً لكن مننا عليك وبعثناك لكل القرى نذيراً وبشيراً فصار تابعوك من كل القرى، المؤمنون لك مثل أجرهم، وأنت رسول إليهم جميعاً، فلم نبعث بعدك ولا معك رسلاً إلى الأقوام الآخرين وإلى غير العرب، بل بعثناك للجميع: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً} [الفرقان:51] فهذا وجه التمنن، أنه لو بعث في كل قرية نذيراً لما حصل لرسوله صلى الله عليه وسلم إلا أجر إنذاره لأهل قريته، مكة، أو للعرب لكنه بعثه للجميع. وكذلك قال ابن عباس رضي الله عنه: [إن الله فضل محمداً صلى الله عليه وسلم على الأنبياء وعلى أهل السماء، فقالوا: يا بن عباس بم فضله على أهل السماء؟ قال: إن الله قال لأهل السماء: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:29]، وقال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:1 - 2] قالوا: يا بن عباس فما فضله على الأنبياء؟ قال: قال الله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم:4] وقال الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ} [سبأ:28]-فأرسله إلى الجن والإنس-].

النبي صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين

النبي صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين من خصائصه عليه الصلاة والسلام أن الله ختم به الأنبياء والمرسلين، فلا نبي بعده فهو آخر نبي، وأكمل به الدين، وأنه صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل، فمن ادعى الرسالة بعده فهو كذاب أفاك دجال: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40] فإذا جاء غلام أحمد القادياني وقال: أنا نبي، وإذا جاء بهاء الله، زعيم البهائية وقال: أنا نبي، وإذا جاء أي واحد دجال كذاب في هذا الزمان أو في غيره وقال: أنا نبي، فنقول: أنت كذاب لأن الله قال: ((وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40] فليس بعده نبي. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وجمله إلا موضع لبنة) القطعة من الطين التي تعجن وتعد للبناء، ويقال لها إن لم تحرق لبنةً، وإذا أحرقت صارت آجرة، الآجر: هو اللبن المحروق، (إلا موضع لبنة من زاوية فجعل الناس يطوفون به- بهذا البيت- ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة) ما بقي لإكمال البناء إلا هذه اللبنة، لو جاءت هذه اللبنة كان ما أحسن هذا البيت، فالبيت كامل كله إلا أن اللبنة تنقصه (قال: فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين) رواه البخاري رحمه الله. ولذلك يوم القيامة لما يفزع الناس إلى الأنبياء، آخر واحد عيسى عليه السلام فيردهم إلى محمد عليه الصلاة والسلام، فيأتي الناس إلى محمد، يقولون: يا محمد! أنت رسول الله وخاتم النبيين، وكذلك قال عليه الصلاة والسلام: (فضلت على الأنبياء بست- ومنها- وخُتم بي النبيون)، وقال عليه الصلاة والسلام: (إن الرسالة والنبوة قد انقطعت فلا رسول بعدي ولا نبي، فشق ذلك على الناس، قال: ولكن المبشرات) يعني: بقي المبشرات، صحيح أن النبوة انتهت الآن فلا يأتي نبي، لكن بقي المبشرات (قالوا: وما المبشرات يا رسول الله؟ قال: رؤيا الرجل المسلم وهي جزء من أجزاء النبوة) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وهو في صحيح الجامع. وهذا يدل على أن الرؤيا الصالحة الباقية التي قد يكون فيها إنذار من شيء خطير أو تبشير ببشرى لمؤمن يراها أو ترى له حق، حيث أن النبوة فيها وحي وإخبار عن الغيب، واشتركت الرؤيا مع النبوة في مسألة الإشعار بشيء قد يحدث في المستقبل، ولذلك كانت الرؤيا جزءاً من النبوة، وإلا فهناك فرق كبير بين الرؤيا والنبوة لا شك في هذا، ولكن لماذا كانت الرؤيا جزءاً من النبوة؟ ما هو وجه الاشتراك بين الرؤيا والنبوة؟ في النبوة إخبار عن المغيبات والأشياء المستقبلية، وكذلك البشارات والإنذارات، وقد يكون في بعض الرؤى الصالحة التي يراها المؤمن أو ترى له إنذار من شيء سيحدث، أو بشارة لشخص، فلذلك كانت جزءاً من النبوة، والنبي صلى الله عليه وسلم من أسمائه التي أخبر عنها، قال: (وأنا العاقب -والعاقب: فسره، قال:- الذي ليس بعده أحد) رواه البخاري، فليس بعده نبي، وقال صلى الله عليه وسلم: (كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي، وأنه لا نبي بعدي وسيكون بعدي خلفاء) رواه البخاري. والنبي صلى الله عليه وسلم رحمة مهداة إلى العالمين: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] وهو عليه الصلاة والسلام بالمؤمنين رءوف رحيم.

النبي صلى الله عليه وسلم أمنة لأصحابه

النبي صلى الله عليه وسلم أمنة لأصحابه من خصائصه عليه الصلاة والسلام: أنه أمنة لأصحابه، أمنة: أمان لأصحابه، أكرمه الله تعالى، وأكرم أصحابه بأن جعل وجوده بينهم أماناً لهم من العذاب، بخلاف الأمم السابقة، فقوم نوح ماذا حصل لهم؟ عذبوا في حياة نبيهم وأهلكوا، وقوم هود عذبوا في حياة نبيهم وأهلكوا، وقوم صالح عذبوا في حياة نبيهم وأهلكوا، وقوم شعيب عذبوا في حياة نبيهم وأهلكوا، أما النبي عليه الصلاة والسلام من خصائصه أن وجوده عليه الصلاة والسلام في أمته أمان لهم من الفناء والعذاب، فلا يأتي عذاب عام فيهلكهم، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال:33] مع أنهم يستحقون العذاب، فهم كفرة مشركون، كفار قريش متجبرون طغاة، ومع ذلك قال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33]، وكذلك فإنه عليه الصلاة والسلام رفع رأسه مرة إلى السماء بعدما صلى بالقوم المغرب، جلس وسألهم ما الذي أجلسهم، قال: ما زلتم هاهنا، قالوا: يا رسول الله! صلينا معك المغرب، ثم قلنا نجلس حتى نصلي معك العشاء -ينتظرون الصلاة بعد الصلاة رباط في سبيل الله- قال: أحسنتم أو أصبتم، فرفع رأسه إلى السماء وكان كثيراً ما يرفع رأسه إلى السماء، وهذا في غير الصلاة، فقال: (النجوم أمنة للسماء) فما دامت النجوم باقية فالسماوات باقية، يوم القيامة إذا النجوم انكدرت وتناثرت فاعلم أن السماء ستتشقق وستذهب، وتنفطر وتزول، فإذا كانت النجوم موجودة فالسماء بخير وموجودة، فإذا انكدرت النجوم وتناثرت، فاعلم أن السماء ستذهب (وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي -من البدع- فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون -من التفرق وانفتاح باب البدعة-) رواه مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه.

لم يقسم الله بنبي غيره صلى الله عليه وسلم

لم يقسم الله بنبي غيره صلى الله عليه وسلم من خصائصه عليه الصلاة والسلام: أن الله أقسم به ولم يقسم بنبي غيره، فقال عز وجل: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر:72] فأقسم الله بالنبي عليه الصلاة والسلام في قوله لعمرك، ومعنى لعمر: قسم بحياته عليه الصلاة والسلام، يقسم بعمره وحياته وبقائه، فكأنه يقول: وحياتك وعمرك وبقائك في الدنيا، {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر:72].

إقسام الله بحياة النبي صلى الله عليه وسلم

إقسام الله بحياة النبي صلى الله عليه وسلم من خصائصه عليه الصلاة والسلام: أن الله أقسم بحياته والله يقسم بما يشاء من خلقه، ولكن المخلوقين لا يجوز أن يقسموا إلا بالخالق، ومن حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك، فالإقسام بحياته عليه الصلاة والسلام يدل على شرف حياته وعزتها، ونفاستها ومنزلتها عند المقسم بها وهو الله تعالى.

مخاطبة الله له بالنبوة والرسالة لا باسمه صلى الله عليه وسلم

مخاطبة الله له بالنبوة والرسالة لا باسمه صلى الله عليه وسلم ثم لاحظ أيضاً من الخصائص النبوية: أن الله تعالى خاطب الأنبياء بأسمائهم، ولم يخاطب نبينا عليه الصلاة والسلام باسمه، يناديهم بأسمائهم، فقال: {يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة:35] {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا} [هود:48] {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ} [الأعراف:144] {يا إبراهيم * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا} [الصافات:104 - 105] {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ} [المائدة:110] في آيات كثيرة، وأما نبينا عليه الصلاة والسلام فلم يناده ربه ولا مرة: (يا محمد!) لكنه ناداه وخاطبه بالنبوة والرسالة، فقال: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ} [المائدة:41]، وقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64] فزيادة في التشريف والتكريم له خاطبه بالنبوة والرسالة، وبقية الأنبياء خاطبهم بأسمائهم، ولا يخفى على أحد أن السيد إذا دعا أحد عبيده بأفضل ما وجد من الأوصاف العلية والأخلاق السمية، ودعا الآخرين بأسمائهم الأعلام، فإن الذين دعوا بالوصف أعلى منزلة من الذين دعوا بالاسم، فلو قال مثلاً وهو يخاطب أحد عبيده: يا أيها الأمين، يا أيها الذكي، يا أيها الخبير، غير ما يقول مثلاً: يا مرجان، يا فلان، فإذاًَ الله سبحانه وتعالى خاطبه بمقام الرسالة، وخاطبه بمقام النبوة، ولما ذكر اسمه في القرآن قرنه بذلك: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح:29] {وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ} [محمد:2] {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ} [آل عمران:144] فهو ليس نداءً وخطاباً، وإنما لما ذكر اسمه قرنه بالنبوة والرسالة. ثم من أمر الأمة لتوقيره عليه الصلاة والسلام: أن الله نهى المؤمنين أن يخاطبوه باسمه، قال سبحانه وتعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} [النور:63] بينما بنو إسرائيل: {قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف:138] {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} [المائدة:112] لكن الصحابة لا يمكن أن ينادوا النبي عليه الصلاة والسلام باسمه، إنما يقولون: يا رسول الله! يا نبي الله!

النبي صلى الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم

النبي صلى الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم وكذلك فإنه عليه الصلاة والسلام قد أوتي جوامع الكلم، وتضمن كلامه الحكم البالغة، والمعاني العظيمة في الألفاظ القليلة، والعبارات اليسيرة، ولذلك عندما يقول العلماء مثلاً: (إنما الأعمال بالنيات) (ودع ما يريبك إلى مالا يريبك) يقول: هذه ربع العلم، هذه ثلث العلم، هذه عبارات جامعة، (اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن) عبارات جامعة، فصاحة لا توازى، وبلاغة لا تبارى.

النبي صلى الله عليه وسلم نصر بالرعب

النبي صلى الله عليه وسلم نُصَِر بالرعب ومن خصائصه عليه الصلاة والسلام: أنه نصر بالرعب وهو: الفزع والخوف يلقيه الله في قلوب أعدائه والنبي عليه الصلاة والسلام متجه إليهم، أو ينوي أن يتوجه إليهم، فيخافونه وهو على بعد شهر، وعلى بعد شهر يلقى الرعب في قلوبهم، فلا يملكون لأنفسهم استعداداً أو منعة منه، وإنما تنحل عزائمهم، وينفرط أمرهم، ويخافون غاية الخوف، فقال عليه الصلاة والسلام: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر الحديث) رواه البخاري رحمه الله.

النبي صلى الله عليه وسلم أعطي مفاتيح خزائن الأرض

النبي صلى الله عليه وسلم أعطي مفاتيح خزائن الأرض وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم أعطاه الله مفاتيح خزائن الأرض، فقال عليه الصلاة والسلام في خصائصه: (أوتيت مفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي) وليست كل البلدان فتحت في وقته عليه الصلاة والسلام، لكن بعد وفاته عليه الصلاة والسلام أكمل المشوار وأكمل الطريق وأكمل الاستيلاء على الخزائن أصحابه، ولذلك قال أبو هريرة بعدما ذكر الحديث، قال: (وقد ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنتم تمتثلونها -يعني: تستخرجونها-) رواه البخاري. وقال عليه الصلاة والسلام: (وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض) والكنز الأحمر: الذهب، والأبيض: الفضة، لأن أكثر مال الروم كان فضة، وأكثر مال الفرس كان ذهباً، فقال لهم: إن بلاد الفرس والروم ستسقط.

النبي صلى الله عليه وسلم غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر

النبي صلى الله عليه وسلم غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وهو عليه الصلاة والسلام الوحيد الذي أخبر بأن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، كل الأنبياء يوم القيامة يقولون: نفسي نفسي، كل واحد يذكر ذنباً؛ آدم يذكر خطيئته، ونوح يذكر دعوته على قومه، وموسى يقول: قتلت نفساً لم أؤمر بقتلها، وإبراهيم يقول: كذبت ثلاث كذبات، أما النبي عليه الصلاة والسلام فلا يقول شيئاً لأن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:1 - 2] ولم ينقل أن الله أخبر أحداً من أنبيائه بمثل ذلك، بل ظاهر قولهم في الحديث: نفسي نفسي، أنهم ليس عندهم مثلما للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ} [الشرح:2 - 3] فالناس يوم القيامة يذهبون إليه عليه الصلاة والسلام، يقولون: (يا محمد! أنت رسول الله وخاتم الأنبياء وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر) لماذا؟ لأن عيسى بن مريم لما حولهم قال لهم: (لست مناكم ولكن اذهبوا إلى محمد فهو عبد قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر) والحديث في البخاري.

حفظ الكتاب الذي أنزل عليه صلى الله عليه وسلم

حفظ الكتاب الذي أنزل عليه صلى الله عليه وسلم ومن خصائصه عليه الصلاة والسلام وهي خصيصة مهمة جداً جداً، متعلقة بنا نحن اليوم: أن كتابه محفوظ فقد أعطى الله كل نبي من الأنبياء من الآيات والمعجزات حجة له على قومه وبرهاناً على صحة ما جاء به، وأنه نبي، وكان معجزة نبينا صلى الله عليه وسلم الكبرى هي القرآن الكريم، فمن خصائصه عليه الصلاة والسلام أن معجزته باقية، وأما معجزات الأنبياء كلها قد تصرمت وانقرضت وبقيت معجزة نبينا صلى الله عليه وسلم، حتى التوراة والإنجيل تحرفت وتغيرت وتبدلت، أما كتاب هذه الأمة، قال الله فيه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:41 - 42]، قال عليه الصلاة والسلام: (ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر) أعطي معجزات من أجل أن يؤمن البشر حتى لا يقولوا: وما أدرانا أنك نبي، أثبت لنا أنك نبي، فيقول: هذه ناقة الله لكم آية، ويقول هود: فكيدوني جميعاً، كيدوني ولن تستطيعوا أن تفعلوا لي شيئاً، وهذا موسى ألقى العصا وأخرج يده بيضاء، وهذا عيسى يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، ويخبرهم بما يدخرون في بيوتهم، يقول: في بيتك رز، في بيتك عدس، في بيتك سكر، في بيتك كذا، يخبرهم بما يدخرون في بيوتهم، ونبينا عليه الصلاة والسلام له معجزات، أهم معجزة: هي القرآن الكريم، معجزة باقية لا تغيير ولا تبديل فيها. وهذه قصة عجيبة: قال يحيى بن أكثم: دخل يهودي على الخليفة المأمون فتكلم فأحسن الكلام، فدعاه المأمون إلى الإسلام، فأبى اليهودي، فلما كان بعد سنة جاءنا مسلماً، فتكلم في الفقه فأحسن الكلام، فقال له المأمون: ما كان سبب إسلامك؟ قال: انصرفت من حضرتك -أنا لما خرجت من عندك- قبل سنة وأحببت أن أمتحن هذه الأديان، فعمدت إلى التوراة فكتبت ثلاث نسخ فزدت فيها ونقصت وأدخلتها الكنيسة فاشتريت مني -راجت واشتروها آل يهود، اشتروها بسرعة- وعمدت إلى الإنجيل فكتبت ثلاث نسخ، فزدت فيها ونقصت وأدخلتها الكنيسة فاشتريت مني -راجت ونفقت مع أنها محرفة، هو بنفسه حرفها- وعمدت إلى القرآن فعملت ثلاث نسخ فزدت فيها ونقصت وأدخلتها على الوراقين فتصفحوها فلما أن وجدوا فيها الزيادة والنقصان رموا بها ولم يشتروها، فعلمت أن هذا الكتاب محفوظ، فكان هذا سبب إسلامي، قال يحيى بن أكثم: فحججت تلك السنة فلقيت سفيان بن عيينة في الحج، فذكرت له القصة، فقال لي: مصداق هذا في كتاب الله تعالى، قلت: في أي موضع، قال: في قوله تعالى في التوراة والإنجيل: {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ} [المائدة:44] فجعل حفظه إليهم -إلى الأحبار والرهبان- فضاع، وقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] فجعل حفظه إليه: فحفظه الله تعالى علينا فلم يضع.

الإسراء والمعراج

الإسراء والمعراج من خصائص نبينا صلى الله عليه وسلم: الإسراء والمعراج، وتحضير الأنبياء له في السماوات يستقبلونه، وأنه عليه الصلاة والسلام أَمَّهم جميعاً فكانوا وراءه، هو الإمام وهم المأمومون، والدليل على ذلك ما جاء في حديث أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقد رأيتني في حجر-بعد ما رجع في حجر- وقريش تسألني عن مسراي فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها) -يعني: أنا لما كنت في بيت المقدس ما حفظت التفاصيل سألوني عنها بعدما رجعت- (فكربت كربة ما كربت مثلها، قال: فرفعه الله لي أنظر إليه) -أنقذ الله نبيه ورفع له بيت المقدس أمامه وهو في مكة، أمامه ينظر إليه وعن أي شيء يسألونه يعطيهم التفاصيل، فهو يراه وهم لا يرونه، وهم يسألونه وهو يجيب من الواقع حياً على الهواء- (ما يسألوني شيئاً إلا أنبأتهم به، وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء، فإذا موسى قائم يصلي فوصفه ثم قال: فحانت الصلاة فأممتهم، فلما فرغت من الصلاة قال قائل: يا محمد! هذا مالك صاحب النار -فسلم عليه- فالتفت إليه فبدأني بالسلام) رواه مسلم رحمه الله.

خصائصه صلى الله عليه وسلم في الآخرة

خصائصه صلى الله عليه وسلم في الآخرة

النبي صلى الله عليه وسلم له الوسيلة والفضيلة

النبي صلى الله عليه وسلم له الوسيلة والفضيلة من خصائص نبينا عليه الصلاة والسلام: أن له الوسيلة والفضيلة، فالوسيلة الراجح أنها هي منزل النبي عليه الصلاة والسلام في الجنة، وهي داره، وهي أقرب أمكنة الجنة إلى العرش، قمة الجنة هي الوسيلة، درجة في الجنة لا ينالها إلا واحد وهو النبي صلى الله عليه وسلم لا يشاركه فيها غيره، من قال حين يسمع النداء: (اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آتِ محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة) رواه البخاري، وفي حديث آخر قال: (ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة) رواه مسلم، وفي رواية لـ أحمد وهي في صحيح الجامع، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الوسيلة درجة عند الله ليس فوقها درجة، فسلوا الله أن يؤتيني الوسيلة). الوسيلة حاصلة للنبي عليه الصلاة والسلام فنحن لماذا ندعو؟ نحن ندعو أن يؤتيه الله الوسيلة حتى نستفيد نحن وننال الشفاعة؛ لأن من سأل له الوسيلة حلت له الشفاعة، فإذا أردت يا عبد الله! أن تنال شفاعة رسول الله فسل الله الوسيلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك نحن نقول هذا الذكر من الأذكار بعد الأذان: (آتِ محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً) وهذه من خصائصه عليه الصلاة والسلام الأخرى: المقام المحمود.

النبي صلى الله عليه وسلم هو صاحب المقام المحمود

النبي صلى الله عليه وسلم هو صاحب المقام المحمود والمقام المحمود: الشفاعة: {وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} [الإسراء:79] قال ابن جرير الطبري رحمه الله: أكثر أهل العلم على أن ذلك هو المقام الذي يقومه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة للشفاعة للناس، ليريحهم ربهم من عظيم ما هم فيه من شدة ذلك اليوم، لأن الناس يكربون يوم القيامة كربة عظيمة حتى يتمنى الكفار الانفكاك من الموقف ولو إلى النار، ولأن الشمس دنت من رءوس العباد فصهروا في عرقهم، وهم قيام على أرجلهم، وخمسون ألف سنة، فيتمنون الفكاك ولو إلى النار، والناس يفزعون يريدون الفكاك، يطوفون على الأنبياء واحداً واحداً لينفرج الموقف ولتنفك الأزمة، كل يحولهم، حتى يصلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقوم ويستأذن على ربه ويدخل عليه ويسجد تحت العرش السجدة الطويلة التي يفتح الله عليه فيها بمحامد وأدعية لا نعرفها، ثم يقول: (يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع)، فيعطى الشفاعة في أهل الموقف، فيبدأ الحساب وتنفك أزمة الموقف، ثم تبدأ قضية أخرى وهي قضية الحساب، ويقضي الله تعالى بين الخلق، ويأتي الله تعالى بكرسيه لفصل القضاء بين الخلق، والناس جثي، كل أمة جاثية، كل أمة تتبع نبيها، فهذا المقام المحمود يحمده عليه كل الخلق لأنه سبب فك الأزمة وانفضاض الناس من الموقف للحساب، وله عليه الصلاة والسلام في هذا الموطن شفاعات متعددة: شفاعة في استفتاح باب الجنة، وشفاعة في تقديم من لا حساب عليه لدخول الجنة، وشفاعة في ناس من الموحدين عندهم معاصٍ وذنوب، استحقوا دخول النار ألا يدخلوها، وشفاعة في ناس موحدين دخلوا النار أن يخرجوا منها، وشفاعة في رفع درجات ناس في الجنة، وشفاعة في تخفيف العذاب عن عمه أبي طالب. فالنبي عليه الصلاة والسلام هو الذي يستفتح باب الجنة فيشفع لهم عند الله تبارك وتعالى، فيدخل ويدخلون وراءه، والنبي صلى الله عليه وسلم الذي يشفع لمن لا حساب عليه من أمته كما جاء في الحديث بعد ما ينادي: يا رب! يا رب! أمتي يا رب! فيقول: (يا محمد! أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب) رواه البخاري. ثم إن له في عمه أبي طالب موقفاً، تكريماً للنبي صلى الله عليه وسلم، فجاء العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم أخو أبي طالب، فـ العباس أسلم وكان قلقاً على مصير أخيه أبي طالب، فقال: (يا رسول الله! هل نفعت أبا طالب بشيء؟) أبو طالب مات كافراً وسيدخل النار قطعاً، فحق وعيد (هل نفعت أبا طالب بشيء؟ فإنه كان يحوطك ويغضب لك-كان يصونك ويحافظ عليك، ويذب عنك وينافح- قال النبي عليه الصلاة والسلام: نعم نفعته، هو في ضحضاح من نار-ضحضاح: ما رق من الماء على وجه الأرض فاستعير في النار، فقال: هو في ضحضاح من نار- ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار) رواه مسلم، وفي رواية: أن العباس عم النبي عليه الصلاة والسلام، قال: (يا رسول الله! إن أبا طالب كان يحوطك وينصرك فهل نفعه ذلك؟ قال: نعم وجدته في غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح) ومعنى الغمرات: المعظم من الشيء الكبير، لكن هذا الضحضاح ليس بنعيم إطلاقاً، فإن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه، قال أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وذُكِر عنده عمه أبو طالب، فقال: (لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منه أم دماغه) رواه البخاري، (أهون أهل النار عذاباً أبو طالب، وهو منتعل بنعلين يغلي منهما دماغه) رواه مسلم. فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيذنا من النار، وأن يقينا عذاب النار. وللنبي عليه الصلاة والسلام دعوة مستجابة خبأها لأمته من كمال شفقته عليهم، ورأفته بهم، واعتنائه بمصالحهم، وقيل: الدعوة هذه هي الشفاعة المعطاة للنبي صلى الله عليه وسلم.

خصائصه في أمته صلى الله عليه وسلم

خصائصه في أمته صلى الله عليه وسلم لقد كانت للنبي عليه الصلاة والسلام خصائص في أمته، فجعلت أمته خير الأمم، وأحلت الغنائم لهم، وكانت الغنائم من قبل تأتي النار من السماء فتأكلها، وجعلت الأرض لهم مسجداً وطهوراً، ووضع عنهم الآصار والأغلال، وهداهم الله إلى يوم الجمعة، وتجاوز له عن أمته الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، وحفظهم من الهلاك والاستئصال، فلا يمكن أن ينزل بأمة محمد صلى الله عليه وسلم عذاب يفنيهم تماماً، ولا يمكن أن يُسلط عليهم عدو يستبيح بيضتهم كلهم إطلاقاً، ولا تجتمع أمته على ضلالة، وهم شهداء الله في أرضه، وشهداء للأنبياء يوم القيامة، وصفوفهم كصفوف الملائكة في الصلاة، وهم غر محجلون يوم القيامة؛ بياض في جباههم ومواضع الوضوء منهم، وأول من يجتاز على الصراط أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهو أمامهم، وأول أمة تدخل الجنة وهو أولهم، وأن عملهم قليل وأجرهم كثير؛ فأعمارنا بالنسبة لأعمار بقية الأمم أقل، ولكن من يدخل الجنة من هذه الأمة أكثر، ثلثا أهل الجنة من هذه الأمة.

خصائصه صلى الله عليه وسلم في بعض الأمور والأحكام

خصائصه صلى الله عليه وسلم في بعض الأمور والأحكام لقد كان للنبي عليه الصلاة والسلام خصائص في بعض الأحكام، فمثلاً:

لا يجوز للنبي صلى الله عليه وسلم أخذ شيء من الزكاة أو الصدقة

لا يجوز للنبي صلى الله عليه وسلم أخذ شيء من الزكاة أو الصدقة لا يجوز له أن يأخذ من الزكاة ولا من الصدقة؛ لأن هذه أوساخ الناس، ولا تليق بالنبي عليه الصلاة والسلام، ولذلك لما رأى في يد الحسن تمرة من تمر الصدقة قال له: (كخ كخ أما علمت أنا لا نأكل الصدقة) وكان يأكل الهدية عليه الصلاة والسلام.

يحرم عليه صلى الله عليه وسلم إمساك أي امرأة لا تريده

يحرم عليه صلى الله عليه وسلم إمساك أي امرأة لا تريده ومن خصائصه عليه الصلاة والسلام: أنه يحرم عليه إمساك أي امرأة لا تريده، إذا أرادت أي امرأة فراقه يجب عليه أن يمكنها من الفراق، بينما بقية الرجال لا يلزم أحدهم إذا كرهته زوجته أن يطلقها، لكن النبي عليه الصلاة والسلام ملزم، ولذلك جاء في صحيح البخاري أن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (إن ابنت الجوني -هذه بنت من ملوك العرب كانت جميلة جداً جداً- خطبها النبي عليه الصلاة والسلام وتزوجها ولما أدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ودنا منها، قالت: أعوذ بالله منك) المرأة نفرت ثم ندمت ندماً لا يوصف، لكن هذا الذي حصل، فأول ما دخل عليها قالت: (أعوذ بالله منك، فقال لها: لقد عذتِ بعظيم الحقي بأهلك) رواه البخاري. فحرِّم عليه نكاح كل امرأة كرهت صحبته، ولاشك أن المرأة هذه ليست بمستوى أن تكون من أمهات المؤمنين، ولذلك ما أكملت الطريق وأخرجت من الحسبة.

لا يجوز للنبي صلى الله عليه وسلم التراجع عن قرار الحرب

لا يجوز للنبي صلى الله عليه وسلم التراجع عن قرار الحرب والنبي عليه الصلاة والسلام إذا لبس لباس الحرب لا يمكن أن يخلعه ولا يمكن أن يتراجع في قرار الحرب، إذا اتخذ قرار الحرب ولبس اللأمة لابد من إكمال المشوار.

ليس للنبي صلى الله عليه وسلم خائنة الأعين

ليس للنبي صلى الله عليه وسلم خائنة الأعين إن النبي صلى الله عليه وسلم ليس له خائنة الأعين، بمعنى أنه لا يجوز له ولا يليق بمقامه أن يشير بعينه إشارة خفية ولو إلى شيء مباح، مثل قتل شخص مهدور الدم، ولذلك لما أهدر النبي عليه الصلاة والسلام دم عبد الله بن سعد بن أبي سرح، لأنه كان ممن أنشد الشعر في سب النبي عليه الصلاة والسلام، فأي واحد سب النبي عليه الصلاة والسلام يقتل مباشرة، وقد أهدر النبي عليه الصلاة والسلام دم نفر من المشركين يوم فتح مكة، ومن الناس الذين أهدر دمهم: عبد الله بن سعد بن أبي سرح، عبد الله بن سعد بن أبي سرح توجه إلى عثمان أخيه من الرضاعة واختفى عنده، فلما دعا النبي عليه الصلاة والسلام الناس إلى البيعة جاء عثمان بـ ابن أبي سرح حتى أوقفه عند النبي عليه الصلاة والسلام، فرفع رأسه فنظر إليه ثلاث مرات، ابن أبي سرح يطلب البيعة والنبي عليه الصلاة والسلام يأبى، ابن أبي السرح يطلب البيعة والنبي عليه الصلاة والسلام يأبى، ثم بعد الثلاث بايعه، ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه: (أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله) أليس فيكم واحد فهمها وقام وقتله؛ لأن هذا حكمه القتل، أي شخص يسب النبي عليه الصلاة والسلام يقتل مباشرة (فقالوا: ما ندري يا رسول الله! ما في نفسك -ما أدرانا أن هذه رغبتك- ألا أومأت إلينا بعينك -يعني: إشارة ونحن نقضي عليه- قال: إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين) رواه أبو داود وغيره، وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في التلخيص: إسناده صالح.

النبي صلى الله عليه وسلم لا يعرف القراءة ولا الكتابة ولا يقول الشعر

النبي صلى الله عليه وسلم لا يعرف القراءة ولا الكتابة ولا يقول الشعر من خصائصه عليه الصلاة والسلام: أنه لا يعرف القراءة ولا الكتابة إطلاقاً، كما أن الله سبحانه وتعالى وصفه بقوله: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [العنكبوت:48] لا قراءة ولا كتابة، لماذا؟ {إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت:48] لو أنك قارئ وكاتب لقالوا: هذا القرآن من الثقافات التي اطلع عليها وقرأها وتعلمها من الكتب، ثم جاء وكتب لنا هذا القرآن، فقال: أنت معروف من أول أمرك، لا قراءة ولا كتابة، فأنت أمي؛ لأن هذا يكون أبلغ، حتى القرآن لا يمكن لأحد أن يقول: تعلمه من غيره، وأنه كان يقرأ كتب ثقافات، فهو لا يعرف القراءة أصلاً، لا يوجد إلا مصدر واحد هو: الوحي، من أين تجيئه هذه الأخبار؟ أخبار السابقين بهذه التفصيلات، لا يعرف يقرأ ولا يكتب، فهذه ليست منقصة بالنسبة للنبي عليه الصلاة والسلام، بل بالعكس هي في حقه كمال، فلو كان يعرف القراءة والكتابة، كان فتح باباً كبيراً للافتراء عليه. وكذلك فإنه عليه الصلاة والسلام لا يقول الشعر: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس:69] فهو لم يكن عالماً لا بصنوفه ولا بأنواعه، ولذلك لما أراد أن يستشهد ببيت كَسَّره وقدَّم وأخر، ولما قال شيئاً قال رجزاً يسيراً، وشعراً غير مقصود، وشيئاً أتى وجرى على اللسان من غير قصد، مثل قوله: أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب هذا من بحور الشعر وليس من القصائد، وإذا جاء ببيت أو بيتين من أبيات غيره كسرها وكسر الوزن: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس:69].

للنبي صلى الله عليه وسلم الوصال في الصيام

للنبي صلى الله عليه وسلم الوصال في الصيام النبي عليه الصلاة والسلام أبيح له الوصال في الصيام، يوالي الصيام ونحن لا نوالي، هذه من خصائصه، يختلف عنا فيها.

للنبي صلى الله عليه وسلم التزوج بدون ولي ولا شهود

للنبي صلى الله عليه وسلم التزوج بدون ولي ولا شهود يتزوج عليه الصلاة والسلام من غير ولي ولا شهود، كما حصل أن الله سبحانه وتعالى زوجه زينب بنت جحش من غير ولي ولا شهود، نزل العقد من السماء، كانت زينب رضي الله عنها تفخر على أزواج النبي عليه الصلاة والسلام، تقول: [زوجكن أهليكن وزوجني الله تعالى من فوق سبع سماوات] رواه البخاري.

للنبي صلى الله عليه وسلم أن يجمع أكثر من أربع نسوة

للنبي صلى الله عليه وسلم أن يجمع أكثر من أربع نسوة يجوز للنبي عليه الصلاة والسلام أن يجمع أكثر من أربع نسوة ونحن لا يجوز لنا أن نزيد على أربع، وفي ذلك فوائد كثيرة، منها: أن يكثر من يشاهد أحواله الباطنة، فعنده نساء متعددات وتتشرف قبائل العرب بمصاهرته ويزيد ذلك في تأليفهم، وتكثر عشيرته من جهة نسائه فيزداد أعوانه ويحاربون معه وينصرون الدين، وكذلك نقل الأحكام الشرعية من جهة عدد أكبر من النساء، لأن بعض الأشياء لا يطلع عليها إلا الزوجات، كبعض الأشياء الداخلية في البيوت، وصار عندنا عدد من أمهات المؤمنين، كذلك ألف الله قلوب أعدائه من بعض هذه الزواجات: أم حبيبة أبوها كان من أعدائه، وصفية ألف الله قلبها على الإسلام، وهكذا حصلت من البركة في زواجه عليه الصلاة والسلام.

أحل للنبي صلى الله عليه وسلم القتال في مكة ساعة من نهار

أحل للنبي صلى الله عليه وسلم القتال في مكة ساعة من نهار أحل له القتال في مكة ساعة من نهار فقط، ولم يحل لأحد آخر غيره، ولا يجوز القتال في مكة إطلاقاً، إلا النبي عليه الصلاة والسلام أحلت له ساعة كسر بها الشرك ودمر بها الأوثان والأصنام. وعصمه الله سبحانه وتعالى، فلا يقول الباطل وكل من استهان به عليه الصلاة والسلام أو سبه فإنه يكفر مباشرة وعقوبته القتل، ومن الأحكام التي قد يستغربها بعض الناس، لكن هذا هو الراجح: أن الذي يسب النبي عليه الصلاة والسلام يقتل ولو تاب، بينما الذي يسب الله تعالى إذا تاب انتهى، يعفى عنه لماذا؟ لأن الله غفور رحيم، والله سبحانه وتعالى بيَّن أن من أخطأ في حقه تعالى ثم تاب فإنه يغفر له، لكن الذي يسب النبي عليه الصلاة والسلام جاءت النصوص بقتله، فعرفنا الآن أن هناك حداً شرعياً في كل من يسب النبي عليه الصلاة والسلام وهو القتل، من الذي يملك إسقاط الحد هذا؟ هو عليه الصلاة والسلام، إذا تنازل سقط الحد، أما إذا لم يتنازل فيقام الحد، فلو أن واحداً جاء وسب النبي عليه الصلاة والسلام في حياته عليه الصلاة والسلام، مثل ابن أبي سرح فإن النبي عليه الصلاة والسلام سكت عن حقه وبايعه، فـ ابن أبي سرح تُرك، أما غيره كثير قد قتلوا، أرسل لهم من يغتالهم في بيوتهم، وعلى فرشهم، وبين زوجاتهم، وخارج حصونهم، والأعمى في المدينة كانت له أمة تخدمه وتحوطه وترعاه لكنها كانت تسب النبي عليه الصلاة والسلام فقتلها هذا الأعمى، وأهدر النبي عليه الصلاة والسلام دمها، والآن بعد ممات النبي عليه الصلاة والسلام لو جاء واحد وسب النبي عليه الصلاة والسلام يترتب عليه أمران: أولاً: انتهاك حق الله تعالى؛ لأنه عصى الله، وهذا معروف، وهذا يمكن أن يستدرك بالتوبة. ثانياً: انتهاك حرمة النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا حده القتل، إلا إذا تنازل النبي عليه الصلاة والسلام، وبما أنه قد مات عليه الصلاة والسلام فلابد من إقامة الحد، فالذي يسب النبي عليه الصلاة والسلام ويتوب فإن توبته تنفع عند الله، لكن لابد من قتله، هذا هو الراجح في مسألة سابِّ النبي عليه الصلاة والسلام، دمه مهدور مباشرة، ويرفع أمره إلى الحاكم الشرعي ليطبق حد الله فيه، يشهد عليه ويرفع أمره، أي واحد يسب النبي عليه الصلاة والسلام يشهد عليه ويرفع أمره ويبت في قتله.

النبي صلى الله عليه وسلم كان يرى من خلفه وهو يصلي

النبي صلى الله عليه وسلم كان يرى من خلفه وهو يصلي ثم إنه عليه الصلاة والسلام من خصائصه: أنه كان يرى من خلفه في الصلاة مع أن وجهه إلى القبلة لكنه يرى الصفوف التي خلفه، ويرى لو أن واحداً متقدم أو متأخر، ولما غشي على أسماء في قصة الكسوف وقامت وأكملت صلاتها بدون وضوء، والعلماء صححوا صلاة من غشي عليه وقام، والغشيان غير الإغماء، فهو درجة أخف، من غشي عليه وقام وأكمل الصلاة صححوا صلاته، بأي شيء؟ لأن أسماء كانت وراء النبي عليه الصلاة والسلام وكان يشاهد من خلفه، وقامت أسماء وأكملت بعد الغشيان من غير وضوء وما أنكر عليها عليه الصلاة والسلام، معناها أن صلاة المغشي عليه إذا غشي عليه وقام صحيحة. وذلك لأنه ليس نوماً وإنما هو دوخة خفيفة يمكن أن نسميها هكذا.

النبي صلى الله عليه وسلم لا يورث، وأزواجه لا يجوز الزواج بهن، ولا يتمثل الشيطان به في المنام

النبي صلى الله عليه وسلم لا يورِّث، وأزواجه لا يجوز الزواج بهن، ولا يتمثل الشيطان به في المنام النبي عليه الصلاة والسلام لا يورث، وأي مال يتركه فهو لبيت مال المسلمين، وأزواجه لا يجوز الزواج بهن بعد موته بل هن أمهات المؤمنين، ولا يتمثل الشيطان به في المنام.

دعوة النبي صلى الله عليه وسلم على شخص تنقلب رحمة وبركة

دعوة النبي صلى الله عليه وسلم على شخص تنقلب رحمة وبركة وأخيراً: أي واحد من المسلمين سبه النبي عليه الصلاة والسلام أو شتمه أو دعا عليه فإن هذه الدعوة تنقلب في حق هذا الرجل المدعو عليه رحمة وبركة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال لبعض أصحابه أشياء: تربت يمينك، لا كبر سنك، لا أشبع الله بطنه كذا كذا إلى آخره، فمرة أودع النبي عليه الصلاة والسلام عائشة أسيراً فهرب منها، مع أنها موكلة بحراسته فهرب، فلما علم عليه الصلاة والسلام، قال: (قطع الله يدك -يعني: لماذا لم تنتبهي لهذا الأسير- فقعدت عائشة تنتظر، قال: ما بالك؟ قالت: دعوت علي أن تنقطع يدي، قال: أما علمتِ المسألة التي سألتها ربي أو كما قال عليه الصلاة والسلام قلت: اللهم إني أتخذ عندك عهداً لن تخلفنيه، فإنما أنا بشر -يعني: أغضب كما يغضب البشر- فأي المؤمنين آذيته -شتمته، أو دعوت عليه، أوجلدته، شرط أن يكون من المؤمنين- فاجعلها له صلاةً وزكاة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة) رواه البخاري ومسلم وهذا لفظ مسلم، يعني: حتى لو سب أحد المسلمين فهو في صالحه، صلى الله وسلم على نبينا محمد، فماذا بقي من شمائل هذا النبي الكريم وكل شمائله -والحمد لله- وخصائصه بركة وخير ورحمة لهذه الأمة؟!! نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا شفاعته، وأن يجعلنا من أهل ملته وسنته، وأن يحيينا على سنته ويميتنا عليها، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الأسئلة

الأسئلة

حكم تأخير الزكاة إلى رمضان وقد حال عليها الحول

حكم تأخير الزكاة إلى رمضان وقد حال عليها الحول Q زكاة المال إذا حال الحول على أي مبلغ، وهو بالبنك يخرج عنه أم ماذا؟ وهل الأفضل أن يخرج في رمضان أم في أي وقت في السنة؟ A يخرج عنه، وتخرج عند حلول الحول، ومن المعاصي أن تؤخر الزكاة إلى رمضان وقد وجبت قبل رمضان، فبعض الناس من جهلهم يحول الحول عليها قبل رمضان، فيقول: أنتظر شهرين وأخرج الزكاة في رمضان أكثر ثواباً وأكثر أجراً، نقول: أكثر إثماً، هذا فيه إثم؛ فقد ظلمت الفقير وأخرت حقه، بأي شيء فعلت ذلك وأقدمت عليه فهذا ظلم، أخرجها فوراً هذا هو الأكثر أجراً، لكن لو أن زكاتك تجب في شوال فأنت أردت أن تقدمها في رمضان لماذا؟ تقول: إنني إذا أخرجتها في رمضان ألتمس الأجر الأكثر. فأما التقديم فلا بأس به، وقد استعجل النبي صلى الله عليه وسلم من العباس زكاة سنتين، فأما تقديمها فلا بأس إنما البأس في تأخيرها.

حكم الإسراع في المشي

حكم الإسراع في المشي Q ما هو الإسراع الذي من السنة؟ A سرعة المشي التي تدل على النشاط والقوة من السنة، أما الإسراع المخل الذي يدل على طيش هذا ليس من السنة.

حكم لبس الخاتم من الفضة

حكم لبس الخاتم من الفضة Q ما حكم لبس خاتم الفضة؟ A لبس خاتم الفضة قد لبسه النبي عليه الصلاة والسلام وتزين به فلا بأس بلبسه، ولكن يكون ليس على نحو متشابه بالكفار، كما يفعل بعضهم في الدبلة، وإنما يكون خاتماً بفص أو غيره، ليس فيه شبه بما يلبسه الكفرة.

سنن العادة لا أجر فيها

سنن العادة لا أجر فيها Q هل يؤجر الإنسان من الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في أكل لحم الكتف والدباء؟ A أكل لحم الكتف والدباء هذا ليس من سنن العبادة، ليس مجال طلب ثواب في الاقتفاء والاقتداء؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يحبه حباً طبعياً، بطبيعتة كان يحب لحم الكتف والدباء، وليس مشروعاً لنا ومستحباً بحيث أننا نعتبره سنة مثل سنن النوافل ومثل السنن الأخرى، مثلاً: دخول الخلاء بالشمال، ودخول المسجد باليمنى، والانتعال باليمين، هذه سنة تؤجر عليها، ولو بدأت باليمنى وبدأت الخلع بالشمال، لكن أكل الدباء وأكل لحم الكتف فالنبي عليه الصلاة والسلام أحبه حباً طبيعياً وليس شيئاً شرعياً وسنة وعبادة، كلا. لكن بعض الصحابة بلغوا من شدة محبتهم للنبي عليه الصلاة والسلام أنهم صاروا حتى في الأشياء الطبيعية يهوون ما كان يهوى، مثل أنس بن مالك لما كان يتتبع الدباء؛ وذلك لأنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يتتبع الدباء فكان يحب الدباء من يومئذ.

حكم توزيع لحم العقيقة

حكم توزيع لحم العقيقة Q العقيقة ماذا إذا ذبحت ووزعت؟ A لا بأس، ولا يلزم طبخها ولا إعدادها للأكل للناس، لكن إذا طبخها للفقير وكفاه مؤنة الطبخ فهو أحسن، وإذا ظن المصلحة أن يوزعها لحماً فلا بأس.

حكم زكاة إيراد المنزل المؤجر

حكم زكاة إيراد المنزل المؤجر Q بنى والدي منزلاً بقصد السكن فيه وبالفعل سكن فيه لعدة أشهر، ولظرف ما تركه وانتقل إلى مدينة أخرى فقام بتأجيره وما زال مؤجراً، هل تجب الزكاة في إيراد المنزل؟ A نعم إذا حال عليها الحول، لكن من كان يأخذ الإيجارات ويصرفها مباشرة فليس عليه زكاة، من كان يأخذ الراتب ويصرفه أولاً بأول فليس عليه زكاة؛ لأنه لا يوجد عنده نصاب حال عليه الحول.

حكم من تجاوز مكة محرما لغرض ما

حكم من تجاوز مكة محرماً لغرض ما Q ما حكم من تجاوز مكة محرماً دون الدخول إليها بقصد إيصال الأطفال إلى منزل جدهم في جدة والعودة لأداء العمرة؟ A لا بأس ما دام أنه ما قصد العمرة، الآن هو يريد أن يرجع فعليه أن يحرم ثم يذهب إلى العمرة، أما الآن دخوله ليس للعمرة بل دخوله لتوصيل الأطفال، فلا بأس بذلك، هذا دخوله لتوصيل الأطفال وليس نيته العمرة، فيرجع يحرم من الميقات ويدخل يعتمر.

حكم من علق طلاقه على امرأته بفعلها لشيء معين

حكم من علق طلاقه على امرأته بفعلها لشيء معين Q رجل حلف يمين طلاق على امرأته إذا خرجت من باب معين، وبعد ذلك سمح لها بالخروج، فما هو الحكم؟ A إذا كان نيته الطلاق فخرجت فهي طالق بمعنى الطلاق المعروف، فهذا تطلق زوجته إذا خرجت من هذا الباب، إلا إذا كان قصده أنها طالق إذا خرجت بغير إذنه، فهذه إذا خرجت بإذنه لا تكون طالقاً، لكنه لو أنه ما نوى ألا تخرج بإذنه أو بدون إذنه، لا تخرج إطلاقاً من هذا الباب وحلف بالطلاق قاصداً الطلاق، ليس لها حل ولا مخرج إلا الطلاق، كلمة قالها ويتحمل مسئوليتها لابد، وإذا قال لها حسب نص السؤال، حلف يمين طلاق، وقال: أنت طالق لو خرجت من هذا الباب فقد تكون طلقة واحدة يسترجعها بغير لفظ، أو فعل يدل على الرجوع، يقول: راجعتك ويشهد اثنين من المسلمين.

إعفاء اللحية من هديه وطريقته صلى الله عليه وسلم

إعفاء اللحية من هديه وطريقته صلى الله عليه وسلم Q الوصية بإعفاء اللحية؟ A نعم. هذه من السنن التي عملها النبي صلى الله عليه وسلم، فمن علامات محبتنا له أننا نحافظ عليها وأننا نطلقها ونعفيها اقتداء به عليه الصلاة والسلام.

(معنى حديث: (من قام مع الإمام حتى ينصرف

(معنى حديث: (من قام مع الإمام حتى ينصرف Q ما معنى: من قام مع الإمام حتى ينصرف؟ A يعني: حتى ينتهي من الصلاة ويسلم، إذا فعل ذلك فقد تم له الأجر وكان كقيام ليلة.

حكم تسبيح المأموم إذا سمع آية فيها تنزيه لله

حكم تسبيح المأموم إذا سمع آية فيها تنزيه لله Q إذا مر الإمام في صلاة التراويح بآية فيها تنزيه لله هل أسبح؟ A إذا كان الإمام يواصل القراءة فأنصت، وإذا وقف فلا بأس أن تسبح.

نبي الله يوسف أوتي شطر الحسن

نبي الله يوسف أوتي شطر الحسن Q يقال: إن نصف الجمال كان من نصيب النبي يوسف، فهل هذا صحيح؟ A هذا حديث فقد أوتي شطر الحسن، بالنبي عليه الصلاة والسلام رأى يوسف في المعراج وقد أوتي شطر الحسن عليهما السلام.

حكم استخدام الحناء للرجال

حكم استخدام الحناء للرجال Q هل ثبت أن النبي عليه الصلاة والسلام حنى يديه ورجليه؟ A أما تحنية اليدين فهذا من التشبه بالنساء، فلا يمكن أن يفعل هذا من باب الزينة، لأن هذا فيه تشبه بالنساء، وقد أوتي بمخنث قد حنى يديه فنفاه عليه الصلاة والسلام، لكن تحنية الرجلين قد فعله عليه الصلاة والسلام علاجاً لما طلى قدميه من الأسفل، طلاها بالحناء علاجاً من آلام ألمت بقدميه، فاستعمل الحناء علاجاً للقدم، فهذا لا بأس به علاجاً وليس زينة.

حكم من تجاوز الميقات دون أن يحرم

حكم من تجاوز الميقات دون أن يحرم Q أتينا من جهة المدينة ونحن ننوي العمرة ولكننا اجتزنا مكان الإحرام حتى وصلنا إلى مكة فدخلنا ونحن لم نلبس الإحرام، فما الحكم الشرعي في هذا؟ A إذا أحرمتم بعد ذلك فعليكم دم يلزمكم؛ لأنكم جاوزتم الميقات من غير إحرام، ولما جئتم من المدينة كان يجب عليكم أن تحرموا من ميقات أهل المدينة من ذي الحليفة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة).

حكم استعمال حبوب منع الحمل

حكم استعمال حبوب منع الحمل Q ما حكم استعمال حبوب منع الحمل؟ A لا ينصح به لكثرة أضراره، لكن لو لم يكن فيه ما يضر فإنه لابد فيه من رضا الزوجين، وليس لها أن تأخذه باستمرار لكن في السنتين حتى ترضع الولد الذي عندها وتكمل تربيته.

حكم فصل الشارب عن اللحية

حكم فصل الشارب عن اللحية Q ما حكم فصل الشارب عن اللحية؟ A قال به بعض أهل العلم، هذه المنطقة التي هي منطقة السبال، والسبالان: مكان التحام الشارب باللحية قال بعضهم هي من الشارب تحلق، فهذه المسألة فيها وسعة إذا أخذها أو لم يأخذها فليس عليه حرج.

حكم زكاة العمائر المستثمرة

حكم زكاة العمائر المستثمرة Q هل تلزم الزكاة في قيمة العمائر المؤجرة أم في الإيجار فقط؟ A العمائر المستثمرة تكون الزكاة في الإيجار كما تقدم وليس في قيمتها.

الأدوات المعدنية كأمواس الحلاقة كانت موجودة في عهده صلى الله عليه وسلم

الأدوات المعدنية كأمواس الحلاقة كانت موجودة في عهده صلى الله عليه وسلم Q هل كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أدوات معدنية كأمواس الحلاقة؟ A نعم، ولماذا أمر بالاستحداد وأخبر أنه من سنن الفطرة، وهو: حلق شعر العانة بالموس، بالشفرة، وهذا معروف، وكذلك فإنه عليه الصلاة والسلام حلق رأسه أيضاً بالموس، جاء حلاق وحلق له رأسه، ولما احتجم أيضاً، والحجامة يلزم منها حلق شعر الرأس، وهذا كله بأدوات حلاقة، يعني: الآلات الحادة التي يحلق بها معروفة من القديم وليست اختراعاً جديداً. هذان اثنان كانا يتناقشان في موضوع اللحية فقال واحد للآخر: الرسول عليه الصلاة والسلام ما كان يحلق لحيته لأنه لم يكن عنده موس! ونحن الآن عندنا أمواس! قال الثاني: أوما كان عنده سيف مثل الموس وأكبر؟!

وصية لتائب له رفقه سوء

وصية لتائب له رفقه سوء Q إنني تائب جديد من أول رمضان، وقبل أن أتوب بفترة بحثت عن صحبة طيبة وكلما ذهبت إلى أناس يرفضوني، ومع العلم أن أصحاب السوء يلاحقوني في جميع الأوقات، فبماذا تنصحني؟ A أولاً: احمد الله أنه من عليك بالتوبة، إذا صدقت مع الله فإنك إن شاء الله مغفور لك؛ لأن (التائب من الذنب كمن لا ذنب له) إذا صدقت، ومن علامات التوبة: ترك أصدقاء السوء، والذهاب إلى أماكن الخير؛ لأن الرجل قاتل المائة لما تاب أوصاه العالم أن يترك بلدته لأن أهلها أهل سوء؛ يعينون على المعاصي، ولا يخافون الله، وقال: اذهب إلى بلدة كذا وكذا فإن فيها أناساً يعبدون الله فاعبد الله معهم، فإذاً الإنسان يترك أهل السوء ويذهب لأهل الخير، وأهل الخير أين يوجدون؟ نجدهم في المساجد، هذا شيء طبيعي، هذا أول مكان تبحث فيه عنهم، كذلك في المحاضرات والدروس، تجدهم في المحاضرات والمساجد والدروس، وجميع أماكن الخير، وهكذا يمكن لك أن تتعرف بهم، ولماذا جعلت صلاة الجماعة في المسجد إلا لاجتماع المسلمين وتعرفهم على بعض، وتداخلهم معا، ً وقيام بعضهم بأمور بعض!! فانطلاقك من المسجد إن شاء الله سيكون انطلاقاً مباركاً.

حكم تغطية المرأة رأسها أثناء قراءة القرآن

حكم تغطية المرأة رأسها أثناء قراءة القرآن Q هل يجب على المرأة تغطية رأسها أثناء قراءة القرآن؟ A كلا، لا يجب ذلك.

حكم الدخول بعد من يصلي التراويح بنية العشاء

حكم الدخول بعد من يصلي التراويح بنية العشاء Q دخلت في صلاة التراويح بنية العشاء فما حكم الصلاة؟ A صحيح، لا حرج في ذلك أكمل بعد الإمام.

حكم استخدام البخاخ (علاج ضيق التنفس) للصائم

حكم استخدام البخاخ (علاج ضيق التنفس) للصائم Q دواء البخاخ لضيق التنفس، هل يُبطل الصيام؟ A لا يبطل الصيام كما أفتى بذلك جماعة من العلماء المعاصرين، وقالوا: إنه هواء مضغوط يذهب إلى الرئة، وأنه لابد له منه، ومتى يقضيه وهو دائماً يحتاج إليه؟

حكم الأكل والشرب عند أذان الفجر

حكم الأكل والشرب عند أذان الفجر Q ما حكم الأكل والشرب عند أذان الفجر؟ A الأكل والشرب عند أذان الفجر ينبغي الابتعاد عنه حتى لا يكون مدعاة إلى إفساد الصوم والتمادي.

رسالة إلى مستخدمي الكمبيوتر

رسالة إلى مستخدمي الكمبيوتر منهج الإسلام لا يرفض التعامل مع الأجهزة والمخترعات الحديثة والاستفادة منها. ومن هذه الأجهزة: الحاسوب، الذي دخل في العديد من المجالات، التي ورد ذكر كثير منها في ثنايا هذه المادة، بالإضافة إلى بعض الجوانب السلبية في استخدامه، وبعض الوصايا والنصائح للمؤسسات العاملة في هذا المجال.

مشروعية استخدام الحاسوب

مشروعية استخدام الحاسوب الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: أيها الإخوة! نحييكم في هذه الليلة بتحية طيبة مباركة، وأقول لكم: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وهذه الرسالة سنوجهها لمستخدمي جهاز الكمبيوتر، الحاسب الآلي، أو الحاسوب، تتضمن عدداً من النقاط، ولكنها تدور على أمرين أساسين: أولهما: استخدام الجهاز في خدمة الإسلام أو المصالح في استخدام هذا الجهاز. وثانياً: المفاسد الناشئة من استخدام هذا الجهاز، أو ذكر بعض أوجه الشر التي يستخدم فيها هذا الجهاز. أقول أولاً: إن هذا الجهاز الذي توصل إليه البشر، ما هو إلا جزئية تدخل في قوله تعالى: {عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:5] والله سبحانه وتعالى، يمتن على عباده بأن يخلق لهم من الأشياء ما ينتفعون به، ويعلمهم من الأمور ما يستخدمونه في أوجه كثيرة، ولذلك فإن المسلم الذي يفقه كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم يقدر مثل هذا الأجهزة المفيدة حق قدرها، ولا يمكن أن ينكر فائدتها، وبعض أصحاب المدرسة العقلانية يطعنون في أهل العلم، الذين يسيرون على منهاج الكتاب والسنة بأقوال مفادها أنهم ضد العلم والمدنية والحضارة، ولاشك أن هذا زعم باطل، ولذلك فإن الفقهاء من العلماء وغيرهم لا يمكن مطلقاً أن يصدوا أنفسهم أو الناس عن استعمال مثل هذه الأجهزة. وأذكر مثالاً عن علامة القصيم في وقته الشيخ/ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله أول ما جاء مكبر الصوت ووضع في المسجد، بعض كبار السن لم يعجبهم ذلك، وظنوا أن في المسألة بدعة وأن استخدام مكبر الصوت حرام، لكن هذا شأن كبار السن والأشخاص الذين لا يفقهون الأمر على وجهه، أما أهل العلم الذين يسيرون على نهج السلف فلهم موقف آخر، ولذلك لما قابل الشيخ هذا الرجل اعترض على وضع مكبر الصوت، ناداه الشيخ وقال له: هات نظارتك التي تلبسها يا أيها الرجل، فأعطاه النظارة السميكة التي يلبسها، فقال: اقرأ لي هذه الورقة، فلم يستطع الرجل أن يقرأ الورقة، ثم أعطاه النظارة فلبسها فقال: اقرأ الورقة الآن، فقرأ الورقة، فقال: هذه النظارة تمكنك من قراءة الكلام الدقيق المكتوب وهذا المكبر يمكنك من سماع الصوت. فإذاً أهل العلم والفقه لا يمكن أن يردوا الاختراعات العصرية، أو المفيدة خصوصاً مثل هذا الجهاز، لأن هذا الجهاز بحد ذاته، ليس حراماً في نفسه، ولكنه بحسب ما يستعمل فيه.

مميزات العقل الاصطناعي

مميزات العقل الاصطناعي ومن الأمور التي دخل فيها هذا الجهاز، استخدامه في خدمة الشريعة، ووفر هذا الجهاز أوقاتاً، وسيوفر أوقاتاً أخرى على كثير من الباحثين الذين كانوا يمضون الساعات الطوال والشهور والسنين في جمع المعلومات، فيمكنهم الآن باستخدام هذا الجهاز أن يجمعوا المعلومات في وقت أقل بكثير مما كانوا قبل ذلك، إذا كانت بعض الفهارس التي صنعت يدوياً، ذكر بعض أهل العلم، أنه لو وصلته قبل هذا لوفرت عليه ربع عمره، أو ثلاثة أرباع عمره في قضية البحث، فكيف إذا كان البحث عبر جهاز له إمكانات ضخمة مثل جهاز الحاسوب؟ ولا شك أن البحث في هذا الجهاز أدق وأشمل لعدم إحساس الجهاز بالإحباط والتعب ومشكلات الحياة كما يحس بها المستخدم البشري، ولقدرته الهائلة على الإحاطة والاستيعاب، إذا قورنت بقدرة الإنسان المحدودة.

مميزات العقل البشري

مميزات العقل البشري ولكن قبل أن نتكلم عن بعض المجالات التي يستخدم فيها أود أن أنبه أيها الإخوة إلى مسألة مهمة، وهي أن استخدام الجهاز لا يمكن أن يلغي عقل الإنسان مطلقاً، وستبقى هناك كثير من الأشياء لا يمكن حسابها بالجهاز، مهما كان في هذا الجهاز من ميزات الذكاء الصناعي كما يقولون، ويسمونه الذكاء الاصطناعي، ستبقى هناك أشياء لا يمكن حلها إلا باستخدام الإنسان، أو بالعقل البشري، فمثلاً الكمبيوتر لا يستطيع أن يرجح المصالح والمفاسد كما يفكر الشخص، ولذلك لا يمكن أبداً أن نتخيل أن الكمبيوتر سيحل محل العالم، أو أن الكمبيوتر سيجتهد ويتوصل إلى نتائج، نعم هو يختصر خطوات في البحث، يجمع المعلومات للعالم، يوصله بسرعة إلى ما يريد، لكن أن يحل محل العالم في الاجتهاد والقدرة على النظر، فهذا محال أن يصل الجهاز مهما تطور إلى أن يكون مفتياً، بحيث يطرح أي مسألة على الجهاز فيأتينا الجواب من الجهاز، فهذا لا يمكن، سيبقى هناك مجال للعقل البشري الذي خلقه الله سبحانه وتعالى، والله عز وجل أيضاً خلق الكمبيوتر ولا شك، والدليل قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96]. وأيضاً من الفوائد الأخرى أن الكمبيوتر يصاب بالفيروس، ويحدث له عارض مرضي، و (السستم داون) كما يقولون، ولكن الإنسان الذي آتاه الله سبحانه وتعالى مقدرة على التفكير والحفظ لا يمكن أن يذهب حفظه في ثانيه، ولذلك لما ضاعت كتب بعض أهل العلم، كان غلامه يحمل الكتب وفيها عشرات الآلاف من الأحاديث التي أنفق ذلك العالم وقته في كتابتها وجمعها، فذهب الغلام بها أو العبد في السفر فضاعت الدواب وعليها الكتب، فرجع إلى سيده العالم وهو في غاية الحزن والأسى والخوف أن يسمه بسوء، لأن هذه مجهودات سنين طويلة، فلما رآه بهذا المنظر قال: لا تخف، أو لا تخش فإنها كلها في صدري. وإذا كان الكمبيوتر يخزن مئات الآلاف من الأشياء فقد كانت عقول بعض أهل العلم تخزن أشياء كثيرة جداً، كما نقل عن الإمام أبي زرعة الرازي رحمه الله تعالى، أنه كان يحفظ مائة ألف حديث، لما جاءه رجل فقال له: إن شخصاً حلف بطلاق امرأته أن أبا زرعة يحفظ مائة ألف حديث، فالآن نريد أن نعرف: هل المرأة طالق أم لا؟ فقال له: وما حمله على ذلك؟ قال: قد جرى وحصل، رجل حلف بالطلاق وانتهى، فقال: أبو زرعة رحمه الله، يمسك امرأته فإنها لم تطلق عليه، أو كما قال، نقل القصة الذهبي رحمه الله في سير أعلام النبلاء. والبخاري رحمه الله قال: أحفظ مائة ألف حديث صحيح، ومائتي ألف حديث غير صحيح، طبعاً يدخل فيها الطرق والمتابعات والشواهد وغير ذلك، لأن الأحاديث الصحيحة بدون تكرار كما قال الذهبي رحمه الله تقدر بعشرة آلاف حديث، فعلى أية حال كانت هناك أدمغة للعلماء تحفظ أكثر مما تحمله ذاكرات بعض الأجهزة الآن، لكن الشيء المهم أن هذه العقول معهم في الحضر والسفر ولا يحتاجون إذا انقطع التيار الكهربائي أو انعدمت البطاريات، وأصيب الكمبيوتر بفيروس أو بهبوط مفاجئ يبقى للعالم دوره الذي يمتاز به عن الجهاز، مهما تطورت الأجهزة سيبقى للعلماء قيمتهم، وإنما سيكون هذا الجهاز معيناً لكثير من الباحثين، ولعل الله سبحانه وتعالى لما قدر أن يكون في هذه الأمة في عصورها المتأخرة ضعف الحفظ جعل لهم أشياء تعوض من مثل هذه الأجهزة، ولكن سيبقى للحفظ البشري دوره، وسيكون هو الحفظ الفعال في الخطابة والكلام والإلقاء، والشيء الذي يكون ذاتياً لا يمكن أن يضاهيه الشيء المصنوع الذي ينقل ويوضع في حقائب ونحو ذلك.

الجوانب الإيجابية في استخدام الحاسوب

الجوانب الإيجابية في استخدام الحاسوب وقد دخل الكمبيوتر الآن في العديد من المجالات، وهذا شيء جيد للغاية، مثل تيسير البحث والكتابة، في القرآن الكريم والسنة النبوية، وجمع الأسانيد، وعزو الأحاديث، ومعرفة مواضع الأحاديث، وجمع طرق الحديث ومعرفة درجات الرجال، وتمييز الأحاديث الصحيحة عن الضعيفة، جمع الشواهد والمتابعات في الموضوع الواحد، البحث الموضوعي، إدخال معاجم اللغة العربية لمعرفة معاني المفردات، إدخال الموسوعات الشرعية مثل: موسوعات الفقه، والتاريخ، والسيرة، والفتاوى المخطوطات، إدخال الكتب في العلوم الإسلامية المختلفة، وإذا تقدم الجهاز الذي يسمونه أو يطلقون عليه (الأوشي آر) القارئة الضوئية، ارتقت درجة الإتقان في تميز الحروف العربية، سيكون هذا فتحاً مبيناً وكشفاً هائلاً بحيث يمكن للشخص في بيته أن يدخل الكتب الكثيرة جداً، بواسطة هذا الجهاز اسكنر بحيث يخزن في الكمبيوتر وبعد ذلك تبحث كما تشاء في سير أعلام النبلاء، والبداية والنهاية، وفتح الباري ومجموعة فتاوى وغير ذلك، والمغني لـ ابن قدامة كما تشاء عن المسائل، وتأتيك النصوص، وتنتقي منها وتطبع وترتب، ويمكن أن تحضر خطبة وموضوعاً ورسالة، وهذا موجود منه أشياء كثيرة، وقد جربت بنفسي تحضير عدد من الخطب والدروس في استخدام بعض الأشياء البسيطة الموجودة، فأقول: لو أن هذا الاختراع، وهو التعرف على الحروف العربية تطور وصار متقناً ونسبة الخطأ فيه قليلة جداً، فإن ذلك سيكون فتحاً مبيناً في إفادة طالب العلم، وتسهيل الوصول إلى المواضع التي يريدها في الكتب المختلفة. وكذلك فإننا نشهد أن الكمبيوتر صار يستخدم الآن في طباعة الأبحاث، وإعلانات المحاضرات الإسلامية، وخط الفتاوى، ومساعدة طلبة العلم في أبحاثهم، وحتى تحويل التواريخ الهجرية إلى ميلادية والعكس، قد صار ذلك موجوداً، والبحث في الكلمات المتتالية والمختلفة المواقع، والكلمة الواحدة والمرادفات؛ كل ذلك صار ممكناً، ولا شك أن لهذه السرعة ضريبة في المقابل، فإن الشخص الذي يبحث في الكتب ترسخ المعلومات في ذهنه أكثر من الشخص الذي يبحث في الكمبيوتر، وربما يستفيد أكثر لأنه يمر على الكتب ويصادف معلومات كثيرة، ولا شك أن البحث الذي جاء نتيجة تعب يرسخ أكثر من البحث الذي جاء نتيجة همسة زر واحدة، لكن لا يمكن مع هذه الميزة أن نستهين بفوائد هذا الجهاز، وإذا أدخلت كذلك المجلات الإسلامية والعربية وغيرها في الكمبيوتر تستطيع البحث في المقالات أيضاً.

استخدام الكمبيوتر في الدعوة إلى الله

استخدام الكمبيوتر في الدعوة إلى الله واستخدام الكمبيوتر في الدعوة إلى الله عز وجل أمر ممكن للغاية، ولو نشط بعض الشباب والطلاب والذين يشتغلون في هذا الجانب لقدموا نفعاً كثيراً في مجال الدعوة إلى الله عز وجل، نحن نعلم أن سكان العالم يبلغون تقريباً خمسة آلاف مليون إنسان، وأن ما يقرب خمس هذا العدد هم من الذين ينسبون إلى الإٍسلام، وطبعاً نسبة كبيرة من هؤلاء جهلة بدين الله عز وجل، وكثير من الناس لم يسمعوا عن الإسلام، وبعضهم سمع عن الإسلام؛ لكن الرسالة التي وصلت إليهم مشوهة ومحرفة، فعندنا قسمان في الكفار، أناس لم تبلغهم الدعوة أصلاً، ولم يسعوا شيئاً عن هذا الدين، وأناس بلغتهم أشياء مشوهة بفعل وسائل الإعلام التي يسيطر عليها اليهود والنصارى الكفرة في تلك البلاد، ولذلك يكون عمل برامج تعرف بدين الإسلام الصحيح النقي بدلاً من الصورة المشوهة الموجودة، ويمكن إيصال هذه البرامج للأشخاص المختلفين وتوزع وتطبع، وتباع أو تهدى وتتبادل بكميات كثيرة، لا شك أنه سيكون فتحاً في عالم الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى. وكذلك إعطاء الموضوعات المختلفة التي يمكن بواسطتها لأي شخص في جماعة غربية أو شرقية من الكفار الذي يريد أن يعرف معتقدات الأديان، أو ما جاءت به الأديان في قضية معينة؟ يمكن أن يصل عبر هذا البنك من المعلومات، إلى أشياء عن الإسلام قد تكون سبباً في إسلامه. وكذلك فإن هذه الأجهزة أو البرامج يمكنها اختراق الحدود والمسافات الطويلة، وتنتشر انشاراً واسعاً وتصبح بطريق الحاسبات الشخصية بين أيدي الأفراد في المنازل والمدارس ومختلف قطاعات ومستويات المجتمع، وهذا لا شك أنه نوع من الغزو الإسلامي المطلوب في هذا الزمان، وكذلك فإن تكلفة هذه الأشياء إذا قارناها بوسائل الدعاة مع العوائق الرسمية الموجودة في الأسفار وغيرها، لا شك أننا سنكون قد تغلبنا على مشكلة كبيرة، وتوصلنا إلى إيجابية كبيرة بواسطة نشر البرامج التي تعرف بالإسلام، وبعض الإخوان كانت لهم جهودات فردية في الدعوة إلى الله عز وجل بواسطة (المودم) التي يمكنهم الاتصال به عبر الشبكات العالمية والمحلية بأشخاص آخرين في بلدان أخرى عبر شاشة الكمبيوتر، وكان ذلك سبباً في إسلام بعض هؤلاء، وبعضهم كان يكتب مشكلات ذاتية يقول مثلاً: أبي يمنعني من الصلاة، إنني أسلمت عبر الرسالة التي أرسلتموها في الجهاز بواسطة المودم، وكان يسأل عن أشياء من الدين، وكان من الأسئلة التي سألها ذلك الشخص البعيد آلاف الكيلو مترات عن حل مشكلة الصلاة بالنسبة له، لأن أباه يعاقبه إذا رآه يصلي، فهذا طرف بسيط مما يمكن استخدام الحاسب فيه في مجال الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى. ولا شك أنه حتى من جهة التكلفة، ستكون هذه الوسائل أقل تكلفة وأوسع انتشاراً، وسيبقى أيضاً لإرسال الدعاة ميزة لقوة التأثير والبلاغة والبيان وإقامة الحجة، والرد على الشبهات، والشخص الذي يكلمك أمامك غير الذي تسمع أو ترى رسالته فقط من بعد، زد على ذلك أن بعض الناس عندهم غرور وتعالٍ وكبرياء، فلو كلمه شخص ربما يرفض الكلام، لكن إذا قرأها على شاشة، فلا يكون هناك مجال للاعتراض مثلما لو كان أمامه الشخص فربما سد أذنيه وولى معرضاً ولم يعقب، لكن إذا رآها على الشاشة، فسيكون مجال الاعتراض أقل، والعناد والتمادي في رفض هذا الرأي سيكون أقل كذلك.

استخدام الكمبيوتر عند الأطفال

استخدام الكمبيوتر عند الأطفال وأيضاً من جهة التعليم استخدام الكمبيوتر في التعليم سيعطي المسلمين أشياء كثيرة عن الدين، وهذا أمر وارد جداً في تعليم الأطفال، ولا شك أن الكمبيوتر فيه مؤثرات مثل الألوان والأشكال والرسوم، وبعد وجود الساوندكارد (البطاقة الصوتية) أيضاً صار هناك إمكانية كبيرة لإدخال الأصوات، وربما تلقين القرآن بالصوت وربما تصحيح الأخطاء في التلاوة، ولاشك أن هذا سيفيد أطفالنا خصوصاً ونحن نريد بدائل عن التلفزيون المضر في برامجه الكثيرة، فيكون وجود شاشة الكمبيوتر لدى أطفالنا مع برامج كثيرة مفيدة، بديلاً قوياً عن شاشات التلفزيون التي تعرض وتنقل الآن خصوصاً مع وجود البث المباشر. أشياء كثيرة ضارة نلمس أضرارها داخل بيوتنا، وقد وجدت بعض البرامج في تعليم الأطفال العبادات، والأحرف الأبجدية بالصوت والصورة، ووجدت أيضاً إمكانية الترجمة من لغة إلى أخرى، وهذا سيفيد الداعية إلى الله كثيراً وطالب العلم، أن يدخل نصاً باللغة الإنجليزية، فيأتي مترجماً أو العكس، تدخل فتوى لبعض أهل العلم في شيء يتعلق بالجاليات الموجودة لدينا ممن يتكلمون اللغة الإنجليزية مثلاً فيخرج النص مترجماً مع مراجعة بسيطة يمكن بعد ذلك نشره.

نصائح لشركات الكمبيوتر التي تخدم الشريعة

نصائح لشركات الكمبيوتر التي تخدم الشريعة ولذلك أيها الإخوة! أنبه وأوصي الشركات التي تعمل في مجال خدمة الشريعة، أن يتعاملوا مع طلبة العلم، هذا أولاً. ثانياً: أن يكون الذين يعملون في مجالات تطوير البرامج الدينية من المسلمين، لأننا نسمع عن بعض الشركات التي تعمل في تطوير البرامج الدينية، أن القائمين على بعض الأقسام هم من النصارى، ولا شك أن هؤلاء سيكون لهم أثر بطريقة ما على هذه البرامج، وقد حصلت بعض التحريفات منهم، فلذلك لا بد أن تهتم الشركات بتوظيف طلبة العلم والمسلمين خصوصاً في قطاع البرامج الدينية أو اللغة العربية، وأؤكد على ما ذكره الدكتور قبل قليل في الموضوع: عدم تكرير الجهود، لأننا إذا استعرضنا بعض مكررات الندوات التي أقيمت في خدمة العلوم الدينية، وإذا حصل اجتماع فجاء الناس المهتمون بخدمة العلوم الشرعية بواسطة هذا الجهاز نجد أن هذا الموضوع موجود عند هذه الشركة، وعند هذا الفرد، وعند هذه المؤسسة، تكرار جهود بسبب عدم وجود اتصال لمعرفة ماذا لدى كل طرف، غير الجشع والطمع الذي يريد كل طرف من الأطراف أن يصل إلى طرح نتاجه في السوق، ليقطع الطريق على الآخرين، أو يوزع نتاجه أكثر أو يبيع ما لديه ونحو ذلك.

المحافظة على صحة النصوص عند الإدخال

المحافظة على صحة النصوص عند الإدخال ومن الوصايا المهمة للذين يعملون في إدخال النصوص الشرعية في الحاسب الآلي أن يحافظوا على النصوص الصحيحة عند الإدخال بأن يدخلوا المعلومات من الطبعات المعتمدة أو المخطوطات بعد تنقيحها، ولعل مما يمتاز به عمل الدكتور الأعظمي على عمل بعض الشركات التي أدخلت نصوصاً شرعية في هذا الجهاز، أن الدكتور الأعظمي يدخل من المخطوطات، يجمع المخطوطات، تحقيق المخطوطات، فيمتاز بجمع المخطوطات، وهناك زيادات في مخطوطات لا توجد في أخرى، وبعد ذلك يدخل هذا في الجهاز، بخلاف ما تأخذ كتاباً من السوق وتدخله في الجهاز مباشرة، ولذلك يحتاج إلى جمع المخطوطات لإدخالها في الجهاز قبل إدخالها من كتب مطبوعة موجودة في السوق، وحتى الكتب المطبوعة في السوق ليست سواء، فهناك ما هو محقق تحقيقاً جيداً كتحقيقات الشيخ العلامة المصري أحمد شاكر رحمه الله، وبعض التحقيقات ممن هب ودب من المتاجرين بتراثنا الإسلامي، الذين يطبعون وينشرون لغرض التجارة، فحتى الذين يريدون إدخال النصوص لا يصلح أن يأخذوا أي كتاب من السوق ليدخلوه. ومن الأشياء اللطيفة التي شاهدناها أيضاً في استخدام هذا الجهاز التنبيه على أوقات الصلوات، فهناك برنامج معين فيه أوقات الصلاة على توقيت بلد معين أو منطقة معينة، يظهر لك وقت الصلاة وأنت تعمل، لأن هذا الكمبيوتر من سلبياته أنه يأكل الوقت أكلاً ويلتهمه التهاماً، ويشغل الشخص عن سماع الأذان، ومعرفة وقت الصلاة وأخذ الساعات الطويلة، فتنبيهات مثل هذه على الشاشة لا شك أنها ستكون مفيدة.

عدم خلط الحق بالباطل

عدم خلط الحق بالباطل وكذلك فإن من الأمور التي ينبه عليها أيضاً بالنسبة للذين يعملون في إدخال البرامج العربية، قضية عدم خلط الحق بالباطل، فإننا نشاهد في بعض المسابقات المعمولة والمصنوعة بالكمبيوتر أنهم يضعون لك مسابقة، تختار أسئلة دينية، وثقافية ورياضية، وموسيقية وفنية، وشعرية، ولغوية، ونحو ذلك فتفتح على المسابقة الدينية تجد أسئلة عن غزوة بدر، ومن هو أول صحابي فعل كذا، وما هي الآية التي نزلت في كذا؟ وإذا فتحت على القسم المتعلق بالفنون، وجدت من هي التي غنت الأغنية الفلانية؟ وما هو المقطع الفلاني؟ وفي عام كم صار كذا، ومن هو الموسيقار الذي ألف المنظومة الفلانية؟ ونحو ذلك من المحرمات التي لا يجوز مطلقاً إدخالها في هذه الأجهزة، وهذا خلط الحق بالباطل، وهذا موجود، ولذلك بعض الناس يريدون عرض الأشياء على أطفالهم لكنهم يصدمون بأن هذه الأشياء المفيدة للأطفال مخلوطة بأشياء أخرى.

السلبيات المتعلقة بهذا الجهاز

السلبيات المتعلقة بهذا الجهاز وكذلك إدخال الأصوات الموسيقية في الجهاز ونحن نعلم حكم الموسيقى في الشريعة، فأقول: ينبغي الانتباه لهذا، ويمكن أن تكون هناك أصوات كمبيوترية، ليست موسيقية، لماذا لا تدخل هذا الأصوات بدلاً من إدخال الأصوات الموسيقية، البديل موجود. ومن المساوئ الموجودة في هذا الجهاز إهدار الأوقات الكثيرة التي تذهب، والتي ينبغي أن ينتبه لها مستخدم هذا الجهاز، وبعض الأضرار البدنية كالأضرار على العين وعلى الأصابع، وحتى الناس الذين عندهم أطفال يستخدمون الألعاب الموجودة في الكمبيوتر، فإنه قد ثبت بالدراسات أن بعض هذه الألعاب تصيب الأطفال بمرض الصرع إذا داوم على اللعب فيها فترة معينة، وربما تؤثر على أعصاب الأصابع، وأعصاب الشخص نفسه، وبعض الناس يتوتر عصبياً إذا جلس يلعب لعبة معينة، هذا واقع موجود، وإذا ناقشت بعض هؤلاء الذين يلعبون هذه الألعاب، ربما قال لك: إنني أصاب بالتوتر إذا أمضيت فترة طويلة وأنا ألعب، ولذلك صدرت بعض القوانين في بعض الدول تلزم بعض شركات الألعاب الكمبيوترية بأن تطبع عبارة: إن الإدمان أو الإكثار من استخدام هذه اللعبة يسبب مرض الصرع لأطفالكم، كما حصل التزام بهذا من شركة ماي تنده وغيرها من الشركات التي تصمم الألعاب، فعلى أية حال حتى لو أدخلنا الألعاب في بيوتنا لبعض الأطفال لبدائل عن أفلام التلفزيون الضارة، فينبغي أن ننتبه إلى قضية عدم الإفراط في اللعب بهذه الألعاب، وما ينشأ عنها من الأضرار.

إيذاء الآخرين ببرامج الفيروسات

إيذاء الآخرين ببرامج الفيروسات ومن الأمور أيضاً التي تدخل في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار) وأنا الآن أتكلم في جانب المحرمات والسلبيات المتعلقة بهذا الجهاز، ما يقوم به البعض من عمل برامج الفيروسات التي تضر بأجهزة الآخرين، وتدخل في البرامج، لتمسح أشياء وتغير مواقع أشياء وتلخبط ترتيب الحروف، أو تصيب الجهاز بالعطل المؤقت أو الدائم الذي يترتب عليه إعادة أو مسح كل الأشياء وإعادة الذاكرة مرة أخرى من جديد، فلا شك أن القيام بهذه البرامج الفيروسية محرم لأنه يسبب الضرر، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا ضرر ولا ضرار) وبعضهم يعملها تفنناً وشطارة، لأنه فارغ فيعمل برنامج فيروس لكي ينتقل عبر النسخ إلى الآخرين، لاشك أن بعض برامج الفيروسات تستخدم كوسيلة لحماية بعض البرامج، لكن بعض الناس تستهويهم الفكرة، فيعملون لا لغرض الحماية ولا لأي شيء آخر، وبما أننا قد مررنا الآن بنقطة الحماية، فهناك من الأشياء المتعلقة بجهاز الكمبيوتر التي ينبغي البحث فيها، مسألة حقوق الطبع والنسخ للبرامج التي تعملها بعض الشركات أو المؤسسات أو الأفراد، ما حكم حماية هذه البرامج؟ ما حكم القيام بنسخها؟ هذه مجهودات الآخرين، فما حكم نسخها؟ أما بالنسبة لبرامج العلوم الشرعية، فإن العلماء المعاصرين عندهم أكثر من رأي في هذا الموضوع، فبعضهم يرى أن البرامج العلمية الشرعية ليس لها حقوق نشر ولا طبع، وممن ذهب إلى ذلك العلامة الشيخ عبد الرزاق عفيفي، عافاه الله ونفع به، فإن رأيه في هذا الموضع جواز نسخ الكتب وحزم البرامج بصفة عامة، ولو كان الغرض من النسخ التجارة، وعلته في هذا أن ادعاء حفظ حقوق النشر للمؤلف في حالة الكتب، أو لمصمم البرامج في حالة حزم البرامج الجاهزة، هذا الإدعاء ليس له أصل فلا يجوز المنع من النشر، وأن العلم ليس ملكاً لأحد، وأنه لا يجوز أن يحتكر أحد حق نشر كتاب من كتب السنة أو القرآن الكريم ونحو ذلك، ويقولون هذا حصر للعلم، والعلم مفروض أن ينشر، لا أحد يضع عوائق وأشياء، ويرى بعض أهل العلم أيضاً أن هذه مجهودات، وقد تعب عليها وصرفت فيها جهود كثيرة، وأموال طائلة، ووظف موظفون لأجلها وفرغ أشخاص، وتعب عليها، فلا يصلح البرنامج الذي كلف مئات الآلاف أن يأتي شخص وينسخه بخمسة ريالات، وأنا لست في مجال ترجيح ولا عندي ترجيح في هذا الموضوع، ولكن هذه نقطة من النقاط التي تثار في قضية الأجهزة أو البرامج المتعلقة بالكمبيوتر، وإلا فالإنسان إذا أراد السلامة فالأحوط له ألا يقوم بالنسخ لمجهودات الآخرين التي تعب عليها وصرف فيها الأموال، الأحوط له والأسلم لدينه ألا يفعل ذلك، وفي الجهة المقابلة لا بد من تنبيه هذه المؤسسات والشركات التي تقوم بعمل البرامج ألا يتطاول بهم الجشع لبيع هذه البرامج بأثمان باهظة، فإنك تجد بعض البرامج ربما تباع بمائة ألف أو أكثر، ولا شك أن هذه الأثمان الباهظة لا تمكن الكثيرين من الشراء، وتعيق انتشار العلم الشرعي إذا كان موضوعها العلم الشرعي، ولذلك ينبغي عليهم أن يتقوا الله عز وجل وأن ينظروا إلى الآخرة قليلاً بعين الخوف من الله، ورجاء ما عند الله، فربما يدفعهم ذلك إلى تخفيض أسعارهم، بحيث تنتشر هذه البرامج أكثر، وهذا ما يتعلق بسياسة العرض والطلب وتأثير السعر فيهما.

وجود البرامج الإباحية

وجود البرامج الإباحية من الأشياء الموجودة في عالم الكمبيوتر: البرامج الإباحية الموجودة التي تسمى بالأسماء التي فيها فحش، وربما سمت بأسماء برامج المراهقين، أو برامج البالغين، وأحياناً يصرحون بأنها برامج جنسية، ويعملون لها إعلانات ولا تكاد تأخذ مجلة بي سي مقزين، إلا وتجد فيها إعلاناً عن برامج دعارة، ويكتب في أسفل الإعلان هاوت أُردر، تليفون نمبر أو يكتبون العنوان، أو إدخال الفيزا كارد، أو نحو ذلك من بطاقة الفيزا، لشراء هذه البرامج بحيث أنك لا تحتاج حتى إلى إرسال تحويل عملة معينة، أو تحويل مبلغ معين، وهذه الأشياء مع تطور هذا الجهاز كانت صوراً، ثم أصبحت الآن متحركة، كانت ثابتة على الشاشة، ثم صارت متحركة وصار جهاز الكمبيوتر مثل التلفزيون، بل دخل الآن فيه الفيديو كارد، الذي يجعل الصور تتحرك وتنسخ من الفيديو الأشياء التي تريدها وتخزن، وتعيد إظهارها مرة أخرى، ونحو ذلك، ورجل صاحب محل تصليح كمبيوتر في إحدى المدن جاءت له طالبة جامعية بذاكرة صلبة لإصلاحها لأنها قد تعطلت، طالبة من المسلمات في إحدى الجامعات، فإذا به يكتشف وهو يحاول إصلاح الجهاز ومعرفة الذاكرة ومعرفة ما فيها، أنها مليئة بالصور العارية من أولها إلى آخرها، خاصة بذلك! وبعض البرامج تعطي أسئلة جنسية، وإذا أجبت عليها يقولون: أنت ناضج، وإذا فشلت يقولون: أنت طفل، وبعض هذه البرامج يمكن أن تأخذ صورة شخص معين وتضع رأسه على جسد امرأة، في وضع مشين للغاية، ثم تطبع وتوزع، يعني: المقصود أن استخدام الجهاز هذا في الشر له مجالات كثيرة لا تتناهى، ويوجد هناك شبكات دولية ممكن الاتصال بها بالمودم، وتطلب منهم عرض صور، أو تسأل أسئلة فاحشة ربما تتخاطب مع نساء أيضاً، ويرسلون لك عبر اشتراك معين آخر ما صدر لديهم من الأفلام.

وجود ألعاب مخالفة للشريعة والآداب

وجود ألعاب مخالفة للشريعة والآداب ويوجد هناك ألعاب تتضمن فكرة القمار، وتعليم الربا، وكذلك من الألعاب لعبة ممرات، يأكل فيها اللاعب الكيك ويزاد وزنه ثم يموت فيوضع على قبره صليب، ولعبة يستخدم فيها صليب لقتل الوحوش، ولعبة إذا مر اللاعب بالصليب يستفيد قوة في اختراق الحواجز وتفجير ما أمامه من الأشياء، وألعاب عن الآلهة وكل إله ما هو تخصصه، وصراع بين الآلهة، ونحو ذلك، ومحاولة الصعود إلى أعلى، وبعض برامج الأطفال وألعاب الأطفال تنتهي في مرحلة بالوصول إلى أميرة فيحتضنها ويقبلها، ويكون الهدف هو الوصول إلى هذه الأميرة، وبرنامج آخر فيه رجل بوليس يدخل أماكن وحانات يبحث عن لص، تصادفه مومس في الدور الثاني تعطيه عشرة جنيهات أو يعطيها عشرة جنيهات ويصعد -وهذه أمثله استفدتها من المقابلة واللقاء مع بعض المشتغلين في برامج الكمبيوتر وشركات الكمبيوتر، وأيضاً ورش صيانة الكمبيوتر- وبرامج إذا سببته سبك، وهذه البرامج الرقابة عليها صعبة جداً، ومجيئها من الخارج سهل جداً، وهناك طرق كثيرة جداً تحول دون التفتيش عليها، كعمل فورمات لهذه البرامج، أو الإسطوانات فإذا دخلت البلد يعمل لها الفورمات أو بطريقة ضغط الملفات، لا تظهر للمراقب، أو إرسالها بالمودم من الخارج، والجهاز يخزن في الداخل، فعلى أية حال السيطرة على هذه الأشياء لا يمكن إلا بغرس تقوى الله والخوف منه عز وجل في النفوس، وهذه المناظر السيئة التي تدخل، لا شك أن لها أثراً سيئاً جداً على أطفالنا وعلى الشباب الذين يشتغلون بهذه الأشياء، ويحاولون جلبها.

إفساد واقعية التفكير عند الأطفال

إفساد واقعية التفكير عند الأطفال وهناك أيضاً من الأضرار إفساد واقعية تفكير الأطفال بهذه الألعاب الموجودة، لأن كثيراً منها أشياء خيالية، حتى أن الولد يظن أن ما شاهده على الشاشة موجود في الواقع، وعلى أية حال، بعد هذا العرض السريع لبعض استخدامات الكمبيوتر في الأمور الشرعية، ونصرة دين الله عز وجل، والدعوة إلى الله، واستخدامات هذا الجهاز أيضاً فيما حرم الله عز وجل، نقول ختاماً أيها الأخوة: إن هذا الجهاز، مما علم الله البشر، وإنه جهاز مفيد للغاية إذا استخدم في الخير، وجهاز مفسد للغاية إذا استخدم في الشر، وبين ذلك مراتب فيها ضياع أوقات، أو استفادات مرجوحة، وربما يكون التعلم بوسائل أخرى عبر حلق العلم وإتيان المشايخ، لا يمكن أبداً الاستغناء عنه بهذه الأجهزة، وإذا صار عند بعض الغربيين فكرة إدخال تعليم، فلا داعي لذهاب الأولاد إلى المدارس، يتعلمون الكمبيوتر في البيت، فنحن يبقى عندنا دور المربي، العامل البشري القدوة لا يمكن تعويضه بالكمبيوتر مطلقاً. ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفق المخلصين لخدمة دينه، وأن يجعلهم من حملة لواء السنة ونشرها في العالمين، ونسأله سبحانه وتعالى أن يوفق للخير كل من أراده، وأن يخذل كل من أراد خذلان الدين أو إدخال الشر إلى مجتمع المسلمين، والمعذرة على الإطالة، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يغفر لنا الزلات، ويضاعف لنا الحسنات، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

سؤال وجواب في ولائم الزفاف

سؤال وجواب في ولائم الزفاف النكاح من قواعد الشريعة الإسلامية في بناء الأسرة المسلمة للمشاركة في بناء المجتمع المسلم، ولذلك رغبت فيه وحثت عليه، وفرقت بينه وبين الزنا والسفاح، وكان من الفرقان بين النكاح والسفاح: الإعلان والإشهار، ولذلك أمرت الشريعة بإعلان النكاح وإشهاره بالوسائل المشروعة، ومن ذلك: وليمة الزفاف هذا ما تحدث عنه الشيخ، فقد تكلم عن الوليمة، من حيث حكمها، ووقتها، وإجابة الدعوة إليها، وشروط الإجابة، وذكر أسئلة وأجوبة تتعلق بها، ثم تكلم عن بعض منكرات الأعراس.

الوليمة أحكامها وآدابها

الوليمة أحكامها وآدابها إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن النكاح من قواعد هذه الشريعة في بناء الأسرة المسلمة للمشاركة في بناء المجتمع المسلم، ولذلك رغبت فيه وحثت عليه، وفرقت بينه وبين الزنا والسفاح، وكان من الفرقان بين النكاح والسفاح: الإعلان والإشهار، ولذلك أمرت الشريعة بإعلان النكاح وإشهاره بالوسائل المشروعة، ومن ذلك: وليمة الزفاف. وفي هذه الأيام تكثر الولائم في بداية هذه الإجازة، وتستمر في أيامها، فكان من المناسب -أيها الإخوة- أن نتحدث عن آداب ذلك في الشريعة، وعن بعض ما ورد فيها من الأحكام.

الوليمة سنة متبعة

الوليمة سنة متبعة لقد أولم النبي صلى الله عليه وسلم على نسائه، فكانت سنة متبعة، ومن ذلك ما فعله صلى الله عليه وسلم عند زواجه بـ صفية، فإنه قد جاء في الحديث الصحيح: أن أم سليم قد جهزتها له من الليل، فأصبح النبي صلى الله عليه وسلم عروساً، والعروس: كلمة تطلق على الرجل والمرأة في الشريعة إذا تزوجا وأعرسا، فأصبح النبي صلى الله عليه وسلم عروساً، فقال: (من كان عنده شيء فليجئ به، قال: وبسط نطعاً، فجعل الرجل يجيء بالأقط، وجعل الرجل يجيء بالتمر، وجعل الرجل يجيء بالسمن، فحاسوا حيساً، فكانت وليمة رسول الله صلى الله عليه وسلم) بسط ذلك البساط من الجلد، وجيء بالأقط وهو اللبن المجفف، وجيء بغيره من السمن والتمر، فخلط ذلك وعمل الحيس، وكانت وليمة النبي صلى الله عليه وسلم. وفي رواية البخاري: قال أنس رضي الله عنه: (أقام النبي صلى الله عليه وسلم بين خبير والمدينة ثلاث ليال، يبني فيه بـ صفية، ودعا الناس إلى طعام الوليمة ثلاث ليال، فدعوت المسلمين إلى وليمته، وما كان فيها من خبز ولا لحم، وما كان فيها إلا أن أمر بلالاً بالأنطاع فبسطت، فألقي عليها التمر والأقط والسمن) وهكذا كانت وليمة النبي صلى الله عليه وسلم، ودُعي إليها المسلمون. والوليمة حق، وقد جاء في صحيح مسلم: (شر الطعام طعام الوليمة، يدعى الغني ويترك المسكين وهي حق) إذاً: الوليمة حق وليست بباطل، وهي من الإسلام، ولما خطب علي رضي الله عنه فاطمة عليها السلام، قال رسول الله صلى الله وعليه وسلم: (إنه لا بد للعريس من وليمة) رواه أحمد وسنده لا بأس به. وقال عليه الصلاة والسلام لـ عبد الرحمن بن عوف: (أولم ولو بشاة) رواه البخاري وغيره. فينبغي القيام بذلك خصوصاً للمقتدرين، وهذا فيه إشهار للنكاح وإعلان له كما تقدم.

وقت الوليمة

وقت الوليمة وقد ذكر العلماء في وقتها أقوالاً، تمتد من عند العقد إلى انتهاء الدخول، وهل تكون قبل الدخول أو بعده؟ جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها بعد الدخول، كما في قصة زينب بنت جحش رضي الله عنها، فقد قال أنس في القصة: (أصبح النبي صلى الله عليه وسلم عروساً بـ زينب فدعا القوم -أي: لما أصبح بعد دخوله بها- دعا القوم إلى وليمة النكاح) وهذا يدل على أن الوليمة للدخول لا للإملاك، وأمر وقتها واسع، فلو فعله قبل الدخول كعادة الناس في هذه الأيام، أو بعده في اليوم التالي، فلا بأس بذلك، بل هي سنة.

مشاركة الأغنياء بمالهم في الوليمة

مشاركة الأغنياء بمالهم في الوليمة ومشاركة الأغنياء بمالهم في الوليمة سنة أيضاً، كما دل على ذلك الحديث السابق: (دعا النبي صلى الله عليه وسلم الناس للمشاركة، فجعل الرجل يجيء بالأقط، وجعل الرجل يجيء بالتمر، وجعل الرجل يجيء بالسمن، فحاسوا حيساً، فجعلوا يأكلون من ذلك الحيس، ويشربون من حياض إلى جنبهم من ماء السماء، فكانت وليمة رسول الله صلى الله وعليه وسلم) وكذلك لما بنى علي بـ فاطمة، قال عليه الصلاة والسلام: (يا علي، إنه لا بد للعروس من وليمة، فقال سعد: عندي كبش) انظروا إلى البساطة في مسألة إقامة الوليمة، والمشاركة من قبل الإخوان، ليس في المسألة تكلف، ولا تجعل قضية الوليمة والصالات والفنادق والمغالاة فيها، لا تجعل أبداً عائقاً في طريق الزواج؛ فإن الشريعة قد أمرت به، ورغبت فيه، فهي تذلل كل صعوبة في طريقه، فقال سعد: (عندي كبش، وجمع له رهط من الأنصار أصوعاً من ذرة، فلما كانت ليلة البناء، قال: لا تحدث شيئاً حتى تلقاني، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بماء فتوضأ فيه، ثم أفرغه على علي وذكر دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لـ علي بالبركة) الحديث.

إجابة الدعوة في الوليمة وشروطها

إجابة الدعوة في الوليمة وشروطها وأما بالنسبة لإجابة الدعوة، فقد قال البخاري -رحمه الله- في صحيحه: باب حق إجابة الوليمة والدعوة وروى -رحمه الله تعالى- حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليأتها) والوليمة هي طعام العرس، مأخوذة من الولم وهو الجمع؛ لأن الزوجين يجتمعان ويجتمع الناس إلى تلك الوليمة، هكذا تسميها العرب، كما سمت طعام الختان: إعذاراً، وطعام الولادة عقيقة، وطعام سلامة المرأة من الطلق خرساً، وطعام قدوم المسافر بالسلامة نقيعة، وطعام تجديد السكن وكيرة والمأدبة هي الطعام الذي يؤخذ بلا سبب. والمشهور من أقوال العلماء: وجوب إجابة وليمة الزفاف بالذات، واستحباب إجابة غيرها من الولائم المباحة، ولذلك فإن إجابة دعوة الوليمة عند جمهور الشافعية والحنابلة، ونص عليه مالك -رحمه الله- أنها فرض عين، تجب على كل من دعي إليها، وكونها فرض كفاية يكون كما قال ابن دقيق العيد -رحمه الله- في حالة ما إذا عمت الدعوة، إذا عم الناس بالدعوة فالإجابة فرض كفاية، وإذا خص فلاناً وفلاناً وفلاناً بأعينهم، كما في حالة إرسال بطاقات الدعوة بأسمائهم، فإن الإجابة تكون متعينة عليهم حينئذ. وشرط الوجوب: أن يكون الداعي مكلفاً حراً رشيداً، وألاَّ يخص الأغنياء دون الفقراء، وألا تكون لرهبة، وأن يكون الداعي مسلماً على الراجح، والوجوب مختص باليوم الأول على المشهور من أقوال أهل العلم، وألا يسبق الداعي، فلو سبق فإن المدعو يقدم الأول وجوباً، فلو دعاك أكثر من شخص فإنك تقدم الأول منهم وجوباً، ويسقط وجوب إجابة الثاني، ومن بعده، وإن جاءا معاً لدعوتك إلى وليمة في وقت واحد، فإنك تقدم من قدمه الشارع، تقدم الأقرب فالأقرب، وتقدم الأقرب جواراً على غيره ممن بعده من الجيران، وهكذا حتى قال العلماء: فإن استويا من جميع الوجوه فبالقرعة. ومن شروط إجابة الدعوة: ألاَّ تشتمل على منكر، وقد يكون هناك سبب لعمل الوليمة في عدة أيام، ككثرة الناس، وضيق المكان، أو توالي قدومهم من الأسفار، أي: المدعوين، أو قصد إطعام الناس، والإحسان إلى الفقراء، ولذلك أخرج أبو يعلى بسند حسن عن أنس قال: (تزوج النبي صلى الله عليه وسلم صفية، وجعل عتقها صداقها، وجعل الوليمة ثلاثة أيام). وأما إن كان تكرار الدعوة للمباهاة والمراءاة فلا وجوب، قال قتادة رحمه الله: [بلغني عن سعيد بن المسيب أنه دعي أول يوم فأجاب، ودعي ثاني يوم فأجاب، ودعي ثالث يوم فلم يجب، وقال: أهل رياء وسمعة]. وقال بعض العلماء بوجوب الإجابة في اليوم الأول، والثاني مستحب، والثالث مكروه، أما إذا قصد الخير بتكرار الأيام والدعوات فلا بأس بذلك، ويدل عليه أن يدعو في كل يوم طائفة لم يدعها من قبل، فيعرف حينئذٍ أنه لم يقصد المباهاة ولا المراءاة، ومن ترك إجابة الدعوة فقد عصى الله ورسوله، لقوله صلى الله عليه وسلم: (شر الطعام طعام الوليمة، يدعى إليها الأغنياء ويترك الفقراء، ومن ترك الدعوة فقد عصى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم) وقوله: (يدعى لها الأغنياء ويترك الفقراء) يدل على أنها تكون شر الطعام إذا كانت بهذه الصفة، ولهذا قال ابن مسعود رضي الله عنه: [إذا خص الغني -أي: صاحب الوليمة- وترك الفقير، أمرنا ألاَّ نجيب] ورخص بعض أهل العلم في تميز الأغنياء بوليمة والفقراء بأخرى إذا وجد حرجاً في خلطهم، أما أن يترك الفقراء بالكلية، فهذا أمر مذموم، وهو من عادة الجاهلية، أنهم كانوا يدعون الأغنياء ويتركون الفقراء، وكان أبو هريرة رضي الله عنه يقول لمن هذا حاله: [أنتم العاصون في الدعوة، تَدْعون من لا يأتي وتَدَعون من يأتي] تدعون الشبعان الغني وتهتمون بدعوته، والفقير المحتاج إلى الطعام تدَعونه ولا تدْعونه. ولا يجوز لمن لم يدعَ أن يأتي إذا كانت الوليمة خاصة، ويكون حينئذٍ من المتطفلين الذين يدخل أحدهم مغيراً ويخرج سارقاً، كما يفعل بعض الناس في الطواف على صالات الأعراس بغير دعوة للطعام، فأما إذا كانت الدعوة عامة، وهي التي يسميها العلماء: جفلة، كأن وجه الدعوة إلى الناس عموماً، أو بين ذلك بإقامته في ميدان عام مفتوح للناس أجمعين، وعُلم من طبع هؤلاء الذين أقاموا الوليمة أنهم لا يمانعون حضور من مر بهم، أو من قصدهم؛ فلا بأس بالحضور بغير دعوة، فأما إذا خصوا أناساً معينين؛ فلا يجوز لغيرهم الحضور، وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين هذا وهذا، فقال لـ أنس: (اذهب فادع لي فلاناً، وفلاناً، ومن لقيت) فسمى أناساً معينين، وأمر أنساً أن يدعو له من يلقى. وكذلك إذا سمح صاحب الدعوة، وهو الغالب على حال الناس، بأن يأتي الضيف وضيفه، أو الضيف ومن معه، أو المدعو وأصحابه؛ فلا بأس بقدومهم، حتى لو لم يخصوا بدعوة. ولا يجوز احتقار طعام صاحب الدعوة وإن قل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لو دعيت إلى كراع لأجبت، ولو أهدي إلي كراع لقبلت) والكراع: مستدق الساق من الرجل، ومن حد الرسغ في اليد، ويكون الذي عليه لحم قليل، ويكون الكراع محتقراً من قبل الناس وبما أنه لا يبعث على الدعوة إلى الطعام إلا صدق المحبة، وسرور الداعي، فإن أخاك تكون فرحته عظمية، بل إن حفلة ووليمة الزفاف أعظم فرحة من غيرها؛ لذلك لزمت الإجابة، وتحققت المشاركة الشعورية والعملية لصاحب العرس بإجابته؛ تحبباً إليه وتعاطفاً معه، ومشاركة لأخيك المسلم في فرحته، ولذلك كان التخلف عن الحضور بلا عذر شرعي معصية في شريعتنا. وينبغي على من لا يريد الحضور أن يعتذر، وروى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن ابن عمر: [أنه دعا بالطعام، فقال رجل من القوم: أعفني، فقال ابن عمر: إنه لا عافية لك من هذا فقم]. وأخرج بسند صحيح -أيضاً- عن ابن عباس: [أن ابن صفوان دعاه، فقال ابن عباس رضي الله عنه: إني مشغول، وإن لم تعفني جئت] وينبغي على صاحب الدعوة قبول العذر، وإجابة أخيه في طلبه، وأما إذا لم يكن عذر فليأت وليجب دعوة أخيه.

عدم المغالاة والمباهاة في الولائم

عدم المغالاة والمباهاة في الولائم عباد الله: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يغالِ في وليمة الزفاف، بل كان يفعل ما تيسر، فقد جاء في صحيح البخاري عن صفية بنت شيبة، قالت: (أولم النبي صلى الله عليه وسلم على بعض نسائه بمدين من شعير) وأقرب من يوصف بذلك هي أم سلمة رضي الله تعالى عنها، فإنه قد جاء في مسند أحمد أنها قالت: (فأخذت ثفالي وأخرجت حبات من شعير -كانت عندها- وأخرجت شحماً فعصدته، وأصبح النبي صلى الله عليه وسلم يقدم ذلك الطعام) وقوله لـ عبد الرحمن: (أولم ولو بشاة) هو للمقتدر الميسر، وفيه تأكيد أمر الوليمة، وأنها تتأكد وتستدرك ولو بعد الدخول بوقت. والنبي صلى الله عليه وسلم تفاوتت به الأحوال، فمرة أطعم الناس حيساً مما جاءوا به، ومرة أولم على زينب باللحم، كما جاء في الحديث الصحيح عن أنس: (ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم أولم على أحد من نسائه ما أولم عليها -أي على زينب - أولم بشاةٍ، وأشبع الناس خبزاً ولحماً، وكفتهم تلك الشاة ببركة النبي صلى الله عليه وسلم) فلا معنى للمغالاة والتكلف الذي يفعله بعض الناس، وينبغي على الإنسان أن يجيب ولو كان صائماً، فإن كان صائماً فليصل، أي: يدعو لأصحاب الوليمة، وإن كان يشق على صاحب الدعوة صومه فالأفضل الفطر، وإلا فالأفضل الصيام، والصيام ليس عذراً في ترك الإجابة، وكانوا قديماً يدعون للوليمة على الغداء، وأما عامة فعل الناس اليوم فهو على العشاء، وكلاهما صحيح، ولا بأس بذلك.

أسئلة وأجوبة تتعلق بالوليمة

أسئلة وأجوبة تتعلق بالوليمة وفيما يلي -أيها الإخوة- بعض أسئلة أفادنا بأجوبتها شيخنا أبو عبد الله عبد العزيز حفظه الله، في بعض ما يحدث من الحالات الواقعية. Q إذا كان المنكر في زاوية أو حجرة من البيت لا يشهده المدعو ولا يراه، فهل يحضر الوليمة؟ A نعم. السؤال: إذا كان هناك أناس من المبتدعة، لكنهم لا يتكلمون ببدعتهم في العرس، فهل يجوز الحضور؟ الجواب: نعم. السؤال: هل يدخل النساء في وجوب دعوة وليمة العرس؟ الجواب: نعم، مثل الرجال، إذا أذن زوجها أو وليها بطبيعة الحال، ولم يكن عندهن منكر، وما أكثر المنكرات في صالات النساء! السؤال: إذا كان مال صاحب الوليمة مختلطاً، فهل يجب الحضور؟ الجواب: نعم، وقد دعا النبي صلى لله عليه وسلم يهودي فأجابه، ولكن إذا كان مال صاحب الوليمة كله سحت وحرام، فلا يجوز إجابته حينئذٍ. السؤال: إذا كان العرس فيه منكر في وقت دون وقت، فهل يحضر، كما إذا كانوا يمتنعون عن المنكر في وقت العشاء، -مثلاً- فحضر وقت العشاء؟ الجواب: نعم، يجوز ذلك. السؤال: هل يعتبر كرت الدعوة وبطاقة الدعوة، والاتصال الهاتفي، والخبر عند الأهل ملزماً بالحضور ودعوة لا بد من إتيانها وتلبيتها إذا لم يكن عذر شرعي؟ الجواب: نعم. السؤال: إذا كان يستطيع حضور أكثر من مناسبة في ليلة واحدة، فهل يجيب؟ الجواب: لا. يكتفي بالأول. السؤال: هل الإسراف يسقط وجوب إجابة الدعوة؟ الجواب: إذا تحقق من كونه إسرافاً، فإن بعض الناس قد يعمل طعاماً لمائتين ولكن لا يحضر إلا مائة، فيظهر كأنه إسراف وليس كذلك، ولكن في بعض الحالات يتحقق أنه إسراف، فتكون هناك صالة للحم للغنم، وصالة للحم الطير، وصالة للحم الإبل، وصالة للعجل، وصالة للحلويات، وصالة وصالة وغير ذلك مما تسمعه من أنباء المترفين. السؤال: إذا أخروا العشاء فهل يجوز الانصراف؟ الجواب: نعم. فإن الوجوب في الحضور لا في الطعام على الراجح، لكن إذا أكل فهو أحسن. السؤال: إذا وصل الدف إلى مسامع الرجال، فهل ينكر؟ الجواب: لا. لكن لا يجوز أن يستمع إلى صوت النساء وهن يغنين، ولا يجوز لهن استعمال مكبرات التي توصل أصواتهن إلى الرجال، وهذا كثير وحادث، ولا حول ولا قوة إلا بالله! وإذا ذهب إلى دعوة فرأى منكراً أنكره، ولا بد من ذلك. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن يتبع السنة، ويحرص على حقوق الأخوة، وأن يجعلنا من أصحاب العفة، وأن يرزق من لم يتزوج بزوجة صالحة، وأن ينعم على من تزوج بصلاح زوجته والذرية الصالحة. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

منكرات الأعراس

منكرات الأعراس الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي أضحك وأبكى، وأمات وأحيا، وخلق الزوجين الذكر والأنثى، أشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، له الكبرياء في السموات والأرض وهو الحكيم الخبير، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى أصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. عباد الله: ما أكثر المنكرات في الأعراس! وما أكثر الذين يسقطون حقهم في وجوب الإجابة في الوليمة، بسبب ما أحدثوه ويحدثونه في ولائهم من المحرمات الصريحة! اسمعوا ماذا فعل الصحابة رضوان الله عليهم، جاء عند البيهقي بسند صحيح: [أن رجلاً صنع طعاماً، فدعا ابن مسعود رضي الله عنه، فقال ابن مسعود: أفي البيت صورة؟ قال: نعم، فأبى أن يدخل حتى كسرت الصورة] تمثال في البيت، رفض ابن مسعود أن يدخل حتى كسرت الصورة، بل حتى يكون -أحياناً- مما يتنزه عنه، كان لبعض الصحابة موقف حاسم، عن سالم بن عبد الله بن عمر قال: [[أعرست في عهد أبي فآذن أبي الناس -أي: دعاهم- فكان أبو أيوب فيمن آذنا، وقد ستروا بيتي ببجادٍ أخضر -جعلوا على الجدران بجاداً أخضر- فأقبل أبو أيوب، فاطلع، فلما دخل البيت ورآه، قال: يا عبد الله بن عمر -والصحابة لم يكونون يجاملون بعضهم بعضاً في الحق أبداً- قال: يا عبد الله! أتسترون الجدر؟! فقام أبي واستحيا وقال: غلبنا عليه النساء يا أبا أيوب. فقال أبو أيوب: من خشيت أن تغلبه النساء فلم أكن أخشى عليك، والله لا أطعم لكم طعاماً، فرجع] هل كان أبو أيوب يرى ستر الجدران بالقماش منكراً؟ محتمل، ولعل ابن عمر أفاد من تلك القصة، فقد جاء عنه رضي الله عنه: أنه دخل إلى بيت رجل دعاه إلى عرس، فإذا بيته قد سترت بالكرور، فقال ابن عمر: [يا فلان! متى تحولت الكعبة في بيتك؟ -الكعبة هي التي تستر بالقماش- متى تحولت الكعبة في بيتك؟ ثم قال لنفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ليهتك كل رجل مما يليه] كل واحد يمزق ما كان من جهته، هذا على قضية ستر الجدار بقماش، فكيف باليوم -يا عباد الله- وما أدراك ما يحدث اليوم من المنكرات؟! الفرق الغنائية تأتي بقضها وقضيضها بكلام الأغاني الخليع والإباحي، وذكر الحب والغرام والعشق، والمعازف يضرب بها، وقد علمنا تحريمها من الكتاب والسنة، ودخول الرجل على النساء وكثير منهن غير محتشمات ولا متحجبات، والتقاط الصور، وما أدراك ما الصور! الصور للنساء، والتي ترى من قبل الرجال في كثير من الأحيان، ثم ملابس النساء في الأعراس في غاية السوء، من القصير والشفاف والمشقوق، تجلس فيظهر الفخذ وما فوقه! ويحدث من المنكرات ما الله به عليم إسراف وطعام يرمى في براميل القمامة، إذا كان العلماء قد كرهوا النثار وهو ما ينثر على الحاضرين من الجوز وغيره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النهبة؛ لأنه يكون فيها إظهار للجشع، فكيف إذا ظهرت المنكرات والمحرمات ابتداء من بطاقة الزفاف، بطاقة الدعوة فيها منكرات، وفي كلام بعضهم لبعض: بالرفاء والبنين، وهذا من شعار أهل الجاهلية الذين كانوا يكرهون البنات، وإنما السنة أن يقال: (بارك الله لك، وبارك عليك، وجمع بينكما في خير) أو يقول: بارك الله لك، أو على البركة، وهي كلمة شرعية وردت في الأحاديث: على البركة وعلى خير طائر، ويقول بعد إجابة دعوتهم: اللهم بارك لهم فيما رزقتهم، واغفر لهم وارحمهم، أفطر عندكم الصائمون، وأكل طعامكم الأبرار، وصلت عليكم الملائكة، اللهم أطعم من أطعمنا، واسق من سقانا وهكذا من الكلمات الطيبة، لكنهم الآن يحولون صالات الأعراس ميداناً لمبارزة الله ورسوله بالمعاصي، وما هو مسموع كثير كثير. أيها الإخوة: لماذا لا ننضبط بقوانين الشريعة وحدودها؟ لماذا تستأسد النساء، ويكون الرجال كالحمام الأليف؟ لماذا تجاب كثير من النساء إلى طلباتهن بالمنكر؟ وبعضهم يقول: من الساعة العاشرة إلى الثانية عشرة حفل إسلامي، ومن الثانية عشرة إلى الفجر حدث ولا حرج، ثم ابتدعوا شيئاً اسمه: وجبة الإفطار، حيث أن بعض الأعراس لا تنتهي إلا بعد الفجر بمدة، فيفتح البوفية مرة أخرى للإفطار. عباد الله: إن المسألة قد صارت إلى تضييع صلاة الفجر، إن المسألة قد صارت إلى المنكرات التي تحدث في الولائم، إنه أمر لا يطاق ولا تقره الشريعة أبداً، والواجب علينا نحن الرجال المسلمين أن نقوم لله تعالى بالصدع بالحق، ومنع المنكر والباطل، ونحن قادرون على ذلك، ولا يمنعنك الإحراج أو كلام الناس أن تطيع الله تعالى، لا ترض الناس بسخط الله، فيسخط الله عليك ويسخط عليك الناس، ولكن أرضِ الله ولو بسخط الناس، فسيرضى الله عنك ويرضي عنك الناس. اللهم جنبنا المنكرات، وحبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين. اللهم إنا نسألك السعادة في الدارين، والفوز يوم الدين. اللهم أصلح أزواجنا وذرياتنا واجعلنا للمتقين إماماً، وآمنا في بلادنا هذه وسائر المسلمين في بلدانهم، يا رب العالمين. اللهم آمنا في الأوطان والدور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور، واغفر لنا يا عزيز يا غفور. عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.

طلوع الشمس من مغربها

طلوع الشمس من مغربها أورد الشيخ جملة من الأحاديث الواردة في علامات الساعة الصغرى والكبرى، وخص علامة طلوع الشمس من مغربها بالحديث، وذلك لما يتبعها من تغيرات جذرية في العالم العلوي والسفلي، ثم ذكر عدداً من العلامات التي حدثت أو التي سوف تحدث أو ما حدث ولم يظهر بشكل واضح.

أحاديث في أشراط الساعة

أحاديث في أشراط الساعة الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فهذه الليلة أيها الإخوة! سنتحدث فيها عن حديث عظيم من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وهو حديث رواه الإمام أبو عبد الله البخاري رحمه الله في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان تكون بينهما مقتلة عظيمة، دعوتهما واحدة، وحتى يبعث دجالون كذابون قريب من ثلاثين كلهم يزعم أنه نبي، وحتى يقبض العلم، وتكثر الزلازل، ويقرب الزمان، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج -وهو القتل- وحتى يكثر فيكم المال فيفيض حتى يهم رب المال من يقبل صدقته، وحتى يعرضه عليه فيقول الذي يعرضه عليه: لا أرب لي به، وحتى يتطاول الناس في البنيان، وحتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول: يا ليتني مكانك، وحتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون، فذلك حين لا ينفع نفساً إيمانُها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً، ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما، فلا يتبايعانه ولا يطويانه، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه، ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه، ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها). هذا الحديث قد اشتمل على عدد من أشراط الساعة؛ وأشراط الساعة أشراط صغرى وأشراط كبرى من جهة الحجم وعظم الوقوع. وأما من جهة هل وقعت أم لا؟ فهي أقسام: فأحدها وقع وانتهى وقوعه، وفق ما قال صلى الله عليه وسلم، والثاني: ما وقعت مبادئه ولم يستحكم بعد، أوله وقع ولكنه لم يستحكم ويستشر بعد. والثالث: ما لم يقع منه شيء ولكنه سيقع قطعاً. فالقسم الأول تقدم وقوعه كما قال صلى الله عليه وسلم، من ذلك: اقتتال الفئتين العظيمتين، وظهور الفتن، وكثرة الهرج والقتل، وتطاول الناس في البنيان، وتمني بعض الناس الموت، وقتال الترك، وتمني رؤية النبي صلى الله عليه وسلم، وأن هذه الأمة تبعت الأمم الأخرى كما جاء في حديث أبي هريرة: (لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها). وأما النوع الثاني: وهو الذي بدأ ولكنه لم يستحكم بعد: فتقارب الزمان، هذا الكلام ذكره العلماء منذ مئات السنين، وهو الآن في عصرنا أوضح، تقارب الزمان، وكثرة الزلازل، وخروج الدجالين الكذابين، وكذلك ما جاء في الحديث أنه يلقى الشح: (ولا تقوم الساعة حتى لا يقسم ميراث ولا يفرح بغنيمة) كما جاء في حديث مسلم وقد جاء في حديث حذيفة بن أُسيد أنه تقع قبل الساعة آيات منها: (ثلاثة خسوف، خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بـ جزيرة العرب). وكذلك جاء في حديث سحارى عند الإمام أحمد وأبي يعلى عنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى يخسف بقبائل من العرب) وهذه الخسوف الثلاثة خسوف عظيمة أكثر مما يقع ويعاين ويشاهد من جهة المكان ومن جهة القدر، يكون خسف على نطاق واسع، وإلا فقد حدثت خسوف وانهيارات أرضية وزلازل، ولكن ليست كهذه الثلاثة التي ستكون أعظم وأكبر وأفظع في القدر والنتائج. وكذلك جاء في بعض الأحاديث ذكر أشراط للساعة مثل حديث ابن مسعود: (لا تقوم الساعة حتى يسود من كل قبيلة منافقوها)، وكذلك في حديث: (كان زعيم القوم أرذلهم، وساد القبيلة فاسقهم)، وكذلك (إذا وسِّد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة). وجاء كذلك بعض الأحاديث التي جمعها بعض أهل العلم، كما فعل ابن حجر رحمه الله تعالى، ومنها ما صح ومنها ما هو ضعيف، وفي بعض هذه الروايات: (حتى يكون الولد غيضاً، والمطر قيضاً، وتفيض الأيام فيضاً) وفي رواية: (ويجترئ الصغير على الكبير، واللئيم على الكريم، ويخرب عمران الدنيا، ويعمر خرابها). هذا من جهة بعض الأشراط التي وقع أولها ولم تستحكم وتستشر. وهناك نمط ثالث وهو لم يقع بعد، ومنها: طلوع الشمس من مغربها، ومنها: قتال المسلمين لليهود، كما جاء في الحديث الصحيح: (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر) الحديث، وقد أخرجه الإمام مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه. وهذا القتال يقع قبل الدجال كما ورد في حديث سمرة عند الطبراني، وكذلك جاء في حديث أنس: (أن أمام الدجال سنون خداعات؛ يكذب فيها الصادق، ويصدق فيها الكاذب، ويخون فيها الأمين، ويؤتمن فيها الخائن، ويتكلم فيها الرويبضة)، وهو الرجل التافه يتكلم في مصير العامة من الناس، رواه الإمام أحمد وأبو يعلى والبزار وسنده جيد. وقد جاء عند ابن ماجة في حديث أبي هريرة: (قيل: وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة). وجاء في حديث سمرة كذلك: (لا تقوم الساعة حتى تروا أموراً عظاماً لم تحدثوا بها أنفسكم)، أي: ما خطرت على بال، وفي لفظ: (يتفاقم شأنها في أنفسكم، وتسألون هل كان نبيكم ذكر لكم منها ذكراً؟). وجاء في هذا الحديث: (وحتى تروا الجبال تزول عن أماكنها)، وقد أخرجه الإمام أحمد والطبراني وأصله في الترمذي. وجاء في حديث عبد الله بن عمر: (لا تقوم الساعة حتى يتسافد الناس في الطريق تسافد الحمر) أي: كما أن الحمير يركب بعضها بعضاً، ويفعل بعضها في بعض، فكذلك سيفعل الناس في الطرقات وعلى الملأ وأمام الآخرين. وجاء في حديث أبي يعلى عن أبي هريرة: (لا تفنى هذه الأمة حتى يقوم الرجل إلى المرأة فيفترشها في الطريق، فيكون خيارهم يومئذ من يقول: لو واريناها وراء هذا الحائط)، وللطبراني في الأوسط من حديث أبي ذر وفيه: (يقول أمثلهم: لو اعتزلتم الطريق)، وفي حديث أبي أمامة عند الطبراني: (وحتى تمر المرأة بالقوم فيقوم إليها أحدهم فيرفع بذيلها كما يرفع ذنب النعجة، فيقول بعضهم: لو واريتها وراء الحائط، فهو يومئذ فيهم مثل أبي بكر وعمر) أي: في العِظم والمكانة. وكذلك جاء في حديث حذيفة بن اليمان عند ابن ماجة: (يدرس الإسلام -أي: يزول وينتهي- كما يدرس وشي الثوب -كما ينمحي لون الثوب ويزول مع الوقت- حتى لا يدرى ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة، ويبقى طوائف من الناس -الشيخ الكبير والعجوز الكبيرة- يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة: (لا إله إلا الله) فنحن نقولها). وكذلك جاء في حديث أنس: (لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: لا إله إلا الله، فنحن نقولها)، وقد أخرجه الإمام أحمد بسند قوي، وجاء عند مسلم بلفظ: (حتى لا يقال في الأرض: الله الله). وفي حديث ابن مسعود (لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس)، وفي رواية: (أنه يبقى حثالة) وفي رواية: (لا تقوم الساعة على مؤمن). وجاء عند أحمد بسند جيد كما قال ابن حجر رحمه الله عن عبد الله بن عمر: (لا تقوم الساعة حتى يأخذ الله شريطته من أهل الأرض -يأخذ أهله ويأخذ المؤمنين من أهل الأرض- فيبقى عجاج لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً). وكذلك جاء في حديث الطيالسي عن أبي هريرة: (لا تقوم الساعة حتى يرجع الناس من ملتي إلى الأوثان يعبدونها من دون الله). وفي رواية لـ مسلم وأحمد: (ولا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان)، ووجد في بعض الأماكن عبادة للأوثان من بعض قبائل العرب فعلاً وحقاً. وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تذهب الأيام والليالي حتى تعبد اللات والعزى من دون الله)، رواه الإمام مسلم وفيه: (ثم يبعث الله ريحاً طيبة فيتوفى فيها كل مؤمن في قلبه مثقال حبة من إيمان، فيبقى من لا خير فيه فيرجعون إلى دين آبائهم). فالأشراط منها صغار وقد مضى أكثرها، ومنها كبار ستأتي، والكبار التي تضمنها حديث حذيفة بن أسيد عند مسلم وهي: الدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى ابن مريم، وخروج يأجوج ومأجوج، والريح التي تهب بعد موت عيسى، فتقبض أرواح المؤمنين. فماذا بالنسبة للطائفة المنصورة التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن وجودها، وأنها إلى آخر الزمان؟ ف A أن هذه الطائفة قائمة حقاً وفعلاً، ولكنها ستبقى إلى قرب نهاية الزمان، فقبيل قيام الساعة يبعث الله ريحاً فتقبض أرواح هذه الطائفة المنصورة وغيرها من المؤمنين، ويبقى شرار الخلق وعليهم تقوم الساعة، هكذا وجه الجمع بين حديث الطائفة المنصورة، وحديث: (أنه لا تقوم الساعة وفي الأرض من يقول: الله الله) أي: لا يذكر الله عز وجل، وبالتالي لا يكون هناك فائدة من وجود المصاحف، فيسرى على كتاب الله في ليلة، ولا يبقى منه آية لا في المصاحف ولا في الصدور، ويبعث الله تعالى ذو السويقتين فيخرب الكعبة؛ لأنه لا أحد يحج إلى

ما تضمنته أحاديث أشراط الساعة

ما تضمنته أحاديث أشراط الساعة هذا الحديث -الذي مر معنا- تضمن عدة فقرات: أولها: (حتى تقتتل فئتان) وقد ذكر شراح الأحاديث أن هاتين الفئتين هما فئة علي، ومعاوية رضي الله تعالى عنهما، وكان لكل منهما دعوة، فأما معاوية رضي الله عنه فإنه كان يطلب القصاص من قتلة عثمان، وعلي رضي الله عنه كان يريد أن يبايعه أولاً، ثم ينظر في قتلة عثمان، ومعاوية رضي الله عنه كان ولي الدم يريد المطالبة أولاً بقتلة عثمان وحصل ما حصل بين الصحابة، ونحن نمسك عما جرى بينهم، ولا نتكلم فيه، ونترضى عنهم، ولكن نقول: ما أخبر به صلى الله عليه وسلم وقع فعلاً، ووقعت الفتنة وكان قتل عمر هو كسر الباب الذي دخلت فيه الفتن على المسلمين، وقضى الله قضاءه، وشاء ما شاء، وقدر ما قدر، فقتل في تلك الأحداث من قتل من خيار المسلمين. وكان للمنافقين ولـ عبد الله بن سبأ اليهودي وغيره من أهل الشر الدور العظيم في حصول تلك الفتن. ثانيها: أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هناك دجالين قريب من ثلاثين يبعثون، والمقصود ببعثهم هو ظهورهم، لا بعث الرسالة، فإن بعث الرسالة يكون للأنبياء، وقال في الحديث: (قريب من ثلاثين) وجاء في رواية عند الإمام أحمد رحمه الله: أن هؤلاء يبعث سبعة وعشرون منهم أربع نساء ويكون ما ذكر من الثلاثين هو جبر للكسر. أما بالنسبة لمن ظهر، فقد ظهر عدد من الدجالين منهم مسيلمة الكذاب، والأسود العنسي، وطليحة الأسدي، الذي رجع، وتنبأت سجاح امرأة وتزوجها مسيلمة ثم رجعت بعده، فهؤلاء قد ظهروا، فذكر الإمام أحمد رحمه الله عن حذيفة بسند جيد (سيكون في أمتي كذابون دجالون سبعة وعشرون منهم أربع نسوة، وإني خاتم النبيين لا نبي بعدي)، جاء في هذه الرواية قال: (كلهم يزعم أنه رسول الله)، أي: يدعي النبوة. ومدعو النبوة كثر، ادعى النبوة ناس كثيرون ربما كانوا بالمئات، ولكن رءوسهم الذين كان لهم شأن كبير وفتنة كبيرة وعظيمة وأتباع، وربما صار قتال عظيم بينهم وبين المسلمين، فهؤلاء لا يتجاوزن الثلاثين كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا فالمدعون الصغار للنبوة كثر. ثالثها: قال في هذا الحديث: (وحتى يقبض العلم)، فأما قبض العلم فهو ظاهر؛ لأن قبض العلم سيكون فيه ذهاب العلم والعلماء؛ لأن الله لا ينتزع العلم انتزاعاً من الصدور، وإنما يقبض العلم بقبض العلماء، فإذا قبض الله العلماء بقي الجهال، فاتخذ الناس رءوساً جهالاً فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا. وكذلك فإن من الظواهر التي تدل على ذهاب العلم: أن يلتمس من يعلم المسألة فلا يوجد إلا بشق الأنفس، وربما لا يصل بعض الناس إلى من يسأله، فيظهر الجهل ويظهر مفتون كذبة، بعضهم يفتي بالهوى، وعلى ما يريد الناس، ولأجل المال والدنيا، وبعضهم يفتي بالجهل حباً للترأس، ولأن يسأل ويكون له مكانة بين الخلق. وهذا الشيء قد رئي عياناً، فقد نقص العلم وظهر الجهل، وقد حصل ما حصل من قبض العلم بموت كثير من العلماء، والمراد بالعلم بطبيعة الحال هو: علم الكتاب والسنة، والعلماء هم ورثة الأنبياء، فالعلماء مع قلتهم لا يزالون في فناء ونقصان، وسيكون نهاية رفع العلم -كما قلنا- بزوال المصاحف والقرآن من الأرض، وأن يبقى الناس جهلة ما فيهم واحد يذكر الله عز وجل. وهذا الحديث كونه يشير إلى ذهاب العلم لا يعني الاستسلام، وأن يقال: إن هذا وقتنا الذي سيذهب فيه العلماء ولا يبقى فيه أحد، لا. وإنما هو حذرنا من وقوع هذا الشيء، وليس بالضرورة أن يقع في حياتنا وفي زماننا، فقد يقع بعدنا بمدة، ولذلك فإن على المسلمين مسئولية في نشر العلم، حتى لا نكون نحن في الزمن الذي تقع فيه هذه الكارثة. وكذلك يكون مقاومة انتشار الجهل بحفظ الكتاب والسنة، وكلام العلماء والجلوس إليهم والأخذ عنهم، وكذلك تحصيلهم للقراءة في الكتب، وسماعه ونشره بالطباعة والتسجيل وغير ذلك من الوسائل حتى لا نكون نحن هذا الجيل السيئ الذي ينتهي فيه العلم، ولذلك كان من بركة اليقظة الإسلامية المعاصرة انتشار العلم ونشره بين المسلمين. رابعها: وأما بالنسبة لقضية كثرة الزلازل فقد وقع كثير منها في البلاد الشمالية والشرقية والغربية، والمقصود بكثرتها شمولها ودوامها، لذلك جاء في حديث أحمد: (وبين يدي الساعة سنوات الزلازل)، وعند الإمام أحمد عن أبي سعيد (تكثر الصواعق عند اقتراب الساعة)، وما نسمعه في هذا الزمان من مسألة كثرة الزلازل أمر مشاهد، فإنك تسمع بالأخبار العظيمة التي فيها القتلى الكثر، وتخريب المدن والمنشآت ونحو ذلك، وهذا حق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر به. والزلازل هذه لها صور ولها أشكال، قد تكون حركة واضطراباً وكسفاً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عبد الله بن حوالة رضي الله عنه لما وضع يده على رأسه، قال: (يا بن حوالة! إذا رأيت الخلاف قد نزل في الأرض المقدسة، فقد دنت الزلازل والبلايا والأمور العظام، والساعة يومئذٍ أقرب إلى الناس من يدي هذه إلى رأسك). الناس يقولون: إنه قد مضى وقت وما حدث شيء ونحو ذلك، فالناس يستعجلون {وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47]. خامسها: قوله في الحديث: (يتقارب الزمان) إما أن الزمان يسرع إسراعاً أكثر من قبل، وإما أن البركة تزول، بحيث إنك لو كنت تعيش قبل ألف سنة مثلاً لأمكنك أن تعمل من الأعمال في الأربع والعشرين ساعة أكثر مما تعمله الآن بكثير، ولا يمنع أن يكون الأمران مجتمعين، فيسرع الوقت وتنزع بركته، وقد ذكر العلماء أن الزمن يسرع أكثر منذ قبل، فليس هذا مستبعداً، فالعلماء فسروا تقارب الزمن بتفسيرات منها: الإسراع. قد يعود ذلك إلى تسارع في حركات الكواكب أو ما أشبه ذلك والله أعلم به، ولكن نزع البركة معروف، وقد ذكر العلماء نزع البركة، وكذلك إسراع الزمان، ويمكن أن يكون تقريب المسافات بالوسائل العصرية في المواصلات والنقل داخل في هذا، وكذلك انتقال الصوت بهذه الأجهزة التي قربت البعيد، فتتكلم معه من بعد كبير في مكانك. سادسها: قال: (وحتى يكثر فيكم المال فيفيض) أي: أن هذا المال يأتي عليه وقت يكثر فيه، بحيث إنه يزيد عن حاجة الناس، فقد حصل في عهد عمر بن عبد العزيز رحمه الله أن الناس طافوا بالزكاة والصدقات ليوزعوها على الفقراء فلم يجدوا من يقبلها وأغنى عمر الناس. سابعها: جاء في الحديث (تطاول الناس في البنيان)، وقد حصل ذلك، فكل من كان يبني بيتاً يريد أن يكون ارتفاعه أعلى من ارتفاع الآخر، وربما يكون هذا من المباهاة، وربما يدخل فيه أيضاً المباهاة في الزينة والزخرفة، فالارتفاع الحسي والارتفاع في قيمته وفي زخرفته وفي تشييده وتزيينه، ارتفاع حسي ومعنوي من جميع الجهات، فهم يتطاولون فيه علواً، ويتطاولون فيها أيضاً زخرفة وتشييداً. ثامنها: (وحتى يمر الرجل بقبر الرجل، فيقول: يا ليتني! مكانك)، أي: يتمنى الموت من شدة البلاء، وقد حصل هذا، وإذا كان الإنسان لا يجوز أن يدعو على نفسه بالموت، لكن قد يقع في بعض الأحيان أن يتمناه إذا كان يخشى على دينه، لأنه قال: (لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، فإن كان لابد فاعلاً فليقل: اللهم أحييني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني ما علمت الوفاة خيراً لي).

طلوع الشمس من مغربها وما بعده

طلوع الشمس من مغربها وما بعده تاسعها: ذكر في الحديث من الأشراط الكبيرة قوله: (لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها)، هذا الشرط: (طلوع الشمس من مغربها) هو من الآيات الكبيرة، وعندنا آيات تدل على قرب قيام الساعة، وآيات تدل على حصول الساعة، فمن الآيات العشر الكبيرة التي تدل على قرب قيام الساعة جداً: خروج الدجال، ونزول عيسى، ويأجوج ومأجوج، والخسف، فخروج الدجال ونزول عيسى ويأجوج ومأجوج والخسف هذه من الآيات العشر الكبيرة التي إذا حصلت تدل على أن الساعة على وشك القيام. أما الدخان، وطلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة، والنار التي تحشر الناس، فهذا معناه أن الساعة قد ابتدأت بالقيام فعلاً. (إذا طلعت الشمس من مغربها فرآها الناس آمنوا أجمعون)، وفي رواية: (آمن من عليها)، أي: من على الأرض كلهم، قال: (فذاك حين لا ينفع نفساً إيمانُها)، من الذي لا ينتفع؟ الكافر؛ لأن المؤمن أصلاً مؤمن، أما الكافر الذي لم يكن مؤمناً قبل طلوع الشمس، فإنه لا ينفعه إيمانه بعد طلوع الشمس من مغربها. ويكون مثله مثل من وصلت روحه إلى الحلقوم عند الغرغرة لا يفيده شيئاً، وكذلك مثله مثل نزول العذاب بالكفار: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} [غافر:85]. فإذاً هناك حالات لا ينفع فيها الإيمان: إذا بلغت الروح الحلقوم، وإذا طلعت الشمس من مغربها، وإذا نزل عذاب الله بالكفار انتقاماً وبطشاً كما نزل بقوم ثمود وفرعون وغيرهم. {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا} [الأنعام:158] قوله: {بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} فسرها جمهور العلماء: بطلوع الشمس من مغربها، وأما بالنسبة لما رواه الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه عن أبي هريرة رفعه، قال: (ثلاثة إذا خرجن لم ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض) كيف يفهم هذا الحديث؟ لعل هذه الثلاث تكون متتابعة؛ لأن مدة ملك الدجال هو إلى أن يقتله عيسى، فالدجال يخرج ويمكث في الأرض إلى أن يقتله عيسى، ثم لبث عيسى في الأرض وخروج يأجوج ومأجوج أمران متواليان؛ لأن يأجوج ومأجوج يخرجون في عهد عيسى، وعيسى ينزل والدجال موجود، ويأجوج ومأجوج يخرجون وعيسى موجود. والذي يترجح والله أعلم أن هذه الثلاثة قبل طلوع الشمس من مغربها، فذكر ابن حجر رحمه الله في الجمع بين الأحاديث قال: فالذي يترجح من مجموع الأخبار: أن خروج الدجال أول الآيات العظام المؤذنة بتغير الأحوال العامة في معظم الأرض، فسيأتي وقت تتغير فيه معظم الأحوال في الأرض. بداية التغير في الأرض تكون بخروج الدجال، وبعده عيسى، وبعده يأجوج ومأجوج، وينتهي ذلك بموت عيسى بن مريم عليه السلام، ويدفنه المسلمون ويصلون عليه. وأما طلوع الشمس من مغربها، فهو أول الآيات العظيمة المؤذنة بتغير العالم العلوي؛ لأنه سيحدث تغير في الأرض تحت، وسيحدث تغير فوق في العالم العلوي، فبداية التغيرات العظيمة في العالم الأرضي: خروج الدجال، وبداية التغيرات العظيمة في العالم العلوي سيكون طلوع الشمس من مغربها، وستنتهي العملية بقيام الساعة، ولعل خروج الدابة يقع في اليوم الذي تطلع فيه الشمس من مغربها، ولذلك جاء في صحيح مسلم رحمه الله عن عبد الله بن عمرو بن العاص رفعه: (أول الآيات طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة على الناس ضحىً، فأيهما خرج قبل الأخرى فالأخرى منها قريب). أول الآيات طلوع الشمس من مغربها: إذاً الأولوية هذه بالنسبة لتغير العالم العلوي، وسيكون طلوع الشمس من مغربها متوافقاً مع خروج الدابة التي تختم على الناس المسلم والكافر ختماً، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (أول الآيات طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة على الناس ضحىً، فأيهما خرج قبل الأخرى فالأخرى منها قريب). والذي يظهر أن طلوع الشمس يسبق خروج الدابة، ثم تخرج الدابة في نفس اليوم الذي تطلع فيه الشمس من مغربها، لأنه إذا طلعت الشمس من مغربها أقفل باب التوبة، فإذا أقفل باب التوبة استقرت أحوال أهل الأرض على ما هم عليه إيماناً وكفراً، فتخرج الدابة حينئذ لتميز المؤمنين عن الكفار بالختم على وجوههم، تكميلاً للمقصود من إغلاق باب التوبة، لما أغلق باب التوبة ما عاد ينفع الآن أي تغير من الكفر إلى الإسلام، فالدابة تخرج لتسم الموجودين وتطبع عليهم، مؤمن كافر وهكذا، فيكون الختم هذا ظاهراً من قبل الدابة العظيمة التي تخرج ظاهراً على وجوه الناس في ذلك الزمان، والكافر لا ينفعه إيمانه، وكذلك العاصي لا تنفعه توبته ما لم يكن قد تاب من قبل، بل يختم على عمل كل إنسان بالحالة التي هو عليها. فإذا بدأ التغير في العالم العلوي وهو طلوع الشمس من مغربها، فعند ذلك كل الناس سيخافون ورغم عنهم سيؤمنون، ولكن الإيمان لم يعد بنافعهم في ذلك الوقت؛ لأنه ارتفع الإيمان بالغيب، والأمور العظيمة بدأت في الوقوع، مثل الإنسان إذا نزعت روحه ووصلت الحلقوم، وتعاين الملائكة، وعرف أن المسألة حق، والموت حق، والجنة والنار حق، وعرف أن الدنيا فانية لكن بعد فوات الأوان. إذاً: إذا بلغت الروح الحلقوم ما عادت تنفع التوبة؛ لأنه ظهر عالم الغيب وانكشف الغيب المستور، وكذلك إذا طلعت الشمس من مغربها انكشف الغيب المستور، وبدأ عالم الغيب يتجلى، فعند ذلك لا ينفعه إيمان ولا تنفعه توبة. فتوبة من شاهد ذلك الأمر مردودة، ولا يعني طلوع الشمس من مغربها انتهاء كل شيء في تلك اللحظة، فربما تعود الشمس والقمر يكتسبان ضوءاً، ويطلعان ويغربان كما كانا من قبل، إلى أن يأذن الله بكسوفهما بالكلية، وتنكسف الشمس والقمر والنجوم، وتتصادم الكواكب وتأفل النجوم، وتتشقق السماء وتنهار المخلوقات على بعضها، فربما يكون هناك وقت في آخر الزمان إلى أن ينفخ في الصور. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في توالي الآيات: بأن الناس سيعيشون حالات من الرعب والفزع، لأن الأحداث تتوالى بشكل مذهل، فقال صلى الله عليه وسلم: (الآيات خرزات منظومات في سلك؛ إذا انقطع السلك تبع بعضها بعضاً)، خذ مسبحة واقطع السلك، كيف يحدث للحبات؟ تتوالى وراء بعض، لا يوجد فرصة بين الحبة والتي تليها، فكما يكون التوالي في خروجها من السلك تكون الآيات متوالية، والناس لا يأخذون نفساً، ولا يتراجع إليهم النفس أو يهدأ روعهم أو يرجع إليهم عقلهم وتفكيرهم؛ لأن المسائل تتوالى، وأشياء فوق التخيل وفوق الوصف، ولذلك فلا يكون هناك وقت لأن يتدارك الإنسان أمره (بين يدي الساعة عشر آيات كالنظم في الخيط إذا سقط منها واحدةٌ توالت). وعن أبي العالية: (بين أول الآيات تتابع كتتابع الخرزات في النظام)، وهو الخيط، وفي آخر الزمن سيمضي الوقت بسرعة شديدة -كما ذكرنا- الوقت يتسارع والأحداث تتسارع، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى تكون السنة كالشهر)، السنة في الطول تكون كالشهر، (واليوم كاحتراق السعفة) أي: يكون مرور اليوم سريعاً جداً كاحتراق السعفة، فهي أربع وعشرين ساعة لكن المرور سريع، ونزع البركة كما قلنا قبل ذلك. وقلنا: أول الآيات الدجال، ثم نزول عيسى، ثم خروج يأجوج ومأجوج، وطلوع الشمس من المغرب يكون بعد ذلك؛ لأن نزول عيسى سيكون فيه إسلام أناس كفار، ولا يبقى في الأرض كافر مطلقاً إما قتل وإما إسلام، والجزية لا تؤخذ ولا تقبل، هذا من خصائص عهد عيسى عليه السلام، لا تقبل الجزية من الكتابيين، وإنما إما إسلام وإما قتل، فهناك سينتفع ناس بالإسلام على يد عيسى عليه السلام. فمعنى ذلك أن طلوع الشمس من مغربها سيكون بعد عيسى عليه السلام، ومن تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه، فالذي يتوب بعدها لا يتوب الله عليه، فلا تزال التوبة مقبولة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت طبع الله على كل قلب بما فيه وكفى الناس العمل، فهذا بالنسبة لمسألة انتهاء مصائر الناس في الإيمان والكفر، بطلوع الشمس من مغربها. وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على التوبة وقال: (لا تقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها)، (التوبة مفروضة قبل أن تطلع الشمس من مغربها) (إن بالمغرب باباً مفتوحاً للتوبة مسيرة سبعين سنة، لا يغلق حتى تطلع الشمس من نحوه)، رواه الترمذي وقال: حسن صحيح (فإذا طلعت الشمس من مغربها رد مصراعا الباب، فيلتئم ما بينهما فتغلق) يغلق باب التوبة بالكلية. والشمس طلوعها من مغربها الذي ورد في الحديث يكون بناءً على أمر من الله عز وجل، ومنعٍ منه سبحانه وتعالى، فإن الشمس إذا غربت سلمت وسجدت، هكذا جاء في الحديث، وإن كنا نحن لا نراها تسجد ولا نراها تسلم، ولكن هذا ما يحدث، لأنه من عالم الغيب الذي لا ندركه: (إن الشمس إذا غربت سلمت وسجدت، واستأذنت في الطلوع من المشرق فيؤذن لها، حتى إذا كانت ذات ليلة -التي نتحدث عنها الآن- فلا يؤذن لها وتحبس ما شاء الله تعالى، ثم يقال لها: اطلعي من حيث غربتي، قال: فمن يومئذ إلى يوم القيامة لا ينفع نفساً إيمانُها لم تكن آمنت من قبل). وورد في بعض الآثار والله أعلم بصحتها: أنه يطول ليل المتهجدين، ويستغرب الناس من طول الليل، وأن الشمس ما طلعت، وأن ذلك يكون قدر ثلاث ليال ونحوه، وأن الجار ينادي جاره: يا فلان! ما شأن الليلة، لقد نمت حتى شبعت، وصليت حتى أعييت؟! فيفاجئون بأن الشمس قد طلعت من مغربها. وقد جاء عن يزيد بن شريح وكثير بن مرة: أنه إذا طلعت الشمس يطبع على القلوب بما فيها، وترتفع الحفظة، وتؤمر الملائكة ألا يكتبوا عملاً، وهذا الكلام يؤيده حديث عائشة عنها موقوفاً، والحديث هذا وإن كان موقوفاً على عائشة

جملة مما حدث وسيحدث من أشراط الساعة

جملة مما حدث وسيحدث من أشراط الساعة هذا الحديث الذي أخبرنا به صلى الله عليه وسلم لأجل الاستعداد ليوم المعاد، وذكر لنا أشياء بعضها حصلت، ومن الأدلة على أن الأشياء الكبيرة ستحصل، أن الأشياء الأخرى التي أخبرنا بها قد حصلت، فقد أخبرنا صلى الله عليه وسلم بأشراط كثيرة للساعة، أخبر أن بعثته أول شرط من أشراط الساعة، وموت النبي عليه الصلاة والسلام من أشراط الساعة وقد حصل، وفتح بيت المقدس حصل، والطاعون حصل، وفيض المال قد حصل، وظهور الفتن من قبل المشرق حصل، والمقتلة بين الصحابة حصلت، واتباع الأقوام الأخرى حصل، وإدعاء النبوة حصل، وانتشار الأمن ولا يخاف الرجل إلا الذئب على غنمه حصل شيء من ذلك. وظهور النار العظيمة في الحجاز وقرب المدينة في عام ستمائة وأربعة وخمسين قد حصل، وكتب عنه المؤرخون وفصلوا عنه تفصيلاً كثيراً، وقتال الترك وأن الترك يقاتلونا قد حصل، وقتال العجم حصل، وضياع الأمانة حصل، وقبض العلم وصار كثرة الشرط وأعوان الظلمة ما أكثرهم، وانتشار الزنا والربا وقع، وظهور المعازف وقع، وكثرة شرب الخمر كذلك، وزخرفة المساجد مملوءة، والتطاول في البنيان قام، وولدت الأمة ربتها وقع ذلك فعلاً، وكثرة القتل ما أكثره، وتقارب الزمن نحن نحسه، وتقارب الأسواق فيشتري في هونج كونج والسلعة في أمريكا، وظهر الشرك في الأمة والفواحش وقطعت الأرحام، وأسيء الجوار، وتشبب المشيخة حصل، وكثرة الشح ولا أكثر منه، وكثرة التجارة وما أكثرها، وتعين المرأة زوجها على التجارة؛ فقد أخرجوا سجلات تجارية بأسماء زوجاتهم حصل، وكثرة الزلازل نسمع عنها، وظهور الخسف والمسخ والقلب نحن منه قريب، وذهاب الصالحين، وارتفاع الأسافل، وأن يكون السلام للمعرفة فهذا منتشر، والتماس العلم عند الأصاغر، وظهور الكاسيات العاريات؛ اذهب إلى السوق لتراه في الشوارع، وصدق رؤيا المؤمن: (تكاد رؤيا المؤمن لا تكذب)، وفشوا القلم؛ انتشار الكتاب والمطابع والجرائد والأجهزة التي تنشر الكتابات شيء لا يصدق، وانتفاخ الأهلة يرى الهلال لليلة، فيقال: عمره ليلتان، وذاك لا يعول رأيته كبيراً، هذا معناه أنهم أخطئوا في رؤية الهلال، نقول: لا، من أشراط الساعة انتفاخ الأهلة، يمكن إذا رأيته أنت منتفخاً على أشراط الساعة الواقعة، وكثرة الكذب وعدم التثبت في الأخبار لا يوجد أكثر منه فشواً، وكثرة النساء وقلة الرجال، ترى في البيت سبعة بنات وولداً وربما لا يوجد، وعودة أرض العرب مروجاً وأنهاراً، هاهي الآن في طريقها إلى الحصول، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان مر بـ تبوك، فقال: (يا معاذ! يوشك أن ترى ما على هاهنا وهاهنا مروجاً وأنهاراً)، والآن الزراعة في تبوك والانتشار متوسع وآخذ، وتمني الإنسان الموت، وكثرة الروم وقتال المسلمين. بقيت أشياء من الأشراط الصغرى نحن ننتظرها، كما قلنا مثلاً: القذف والمسخ، يمسخ ناس قردة وخنازير من هذه الأمة، سيقع قطعاً ولابد، وربما يقع في عصرنا، وربما ندركه نحن في أعمارنا، حدوث قذف من السماء يقذهم الله، ويمسخ ناساً قردة وخنازير سيقع قطعاً، ستفتح القسطنطينية فتحاً غير هذا الفتح الذي حصل، وستفتح روما أيضاً، وسيخرج القحطاني، وكذلك سيحسر الفرات عن جبل من ذهب، وتكلم السباع الإنسان، فهذه أشياء نحن ننتظرها. فالسباع تكلم الإنسان وقد حصل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أن كلم الذئب راعياً، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في المسجد بـ المدينة، فدخل راع وسأل عن النبي صلى الله عليه وسلم فدل عليه، وأخبره بقصته، وقال: إنه كان معه غنمه في البادية، فجاء الذئب فعدا على شاة، فأخذها فتبعته فاستنقذتها منه، فأقعى الذئب على ذنبه، يقول: تأتي على رزق ساقه الله إلي فتأخذه مني، فقلت: واعجباً! ذئب يتكلم كلام الإنس، فقال: ألا أنبئك بما هو أعجب من ذلك؟ نبي بـ يثرب يخبر الناس بأنباء من قد سبق، وجاء الراعي ودخل المدينة، وفعلاً رأى النبي صلى الله عليه وسلم يخبر الناس بأنباء من قد سبق. وكذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن البقرة التي تكلمت، وأخبر أنه يؤمن بذلك هو وأبو بكر وعمر، فحصل قطعاً كلام للبقرة وللذئب ولا يستبعد أن تحصل أشياء أخرى، من أن تكلم السباع الإنسان، فقد نطق الحديد: المسجلات والميكرفونات والكمبيوتر. فإذاً أكثر الأشراط الصغرى حصلت، وبقي شيء واحد من الأشياء الصغرى، مثل -كما قلنا- فتح روما، وحسر الفرات عن جبل من ذهب، وغير هذه الأشياء باقية، وبقي بعد ذلك الأشياء الكبيرة التي تبدأ بخروج الدجال. فأقول: هذه الأشراط التي أخبرنا عنها النبي صلى الله عليه وسلم هي موعظة ليستعد الناس، لأنها إذا حصلت قامت الساعة -كما قلنا- لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل، هذا والله تعالى أعلم، وننتقل للإجابة على بعض الأسئلة.

الأسئلة

الأسئلة

السحر وعلاجه الشرعي

السحر وعلاجه الشرعي Q نعيش في مجتمع يكثر فيه السحر، فما هو العلاج الشرعي؟ A العلاج الأساسي للسحر هو المعوذات التي رقى بها جبريل النبي صلى الله عليه وسلم لما سحره لبيد اليهودي وقد حصل من النبي صلى الله عليه وسلم معاناة قبل أن يشفيه الله تعالى ويرسل جبريل بهاذين السورتين العظيمتين المعوذتين، وذكر بعض السلف أيضاً أخذ سبع ورقات من السدر الجاف تطحن، وتجعل في أناء، ويقرأ فيها آيات السحر الموجودة في البقرة والأعراف وطه، ويشربها ويبرأ بإذن الله. أما الذي يزيد انتشار السحر هو الذهاب إلى السحرة، وكانت الشريعة في غاية الحكمة لما حرمت الذهاب إلى السحرة، لأنه إذا ما ذهب الناس إلى السحرة يفلسون ويغلقون ولا يعملون، لكن مادام الناس يذهبون إلى السحرة فالسحر في انتشار، أحدهم يعمل السحر والثاني يفكه، تجارة الآن، والسحرة عندهم مقاولات، شخص يعمل السحر والثاني يفكه بالنقود، والأجرة بينهما.

ميقات الإحرام

ميقات الإحرام Q أريد العمرة إن شاء الله، وقبل الذهاب سوف أزور أحد الأقارب في جدة، فمن أين الإحرام؟ A الإحرام من الميقات لاشك، وإذا جاوزت الميقات إلى جدة ولم تحرم منه يجب عليك أن تعود إليه لتحرم منه، وإلا فقد أسأت ويلزمك دم، ولذلك الإحرام من الميقات.

كيفية السجود

كيفية السجود Q بعض الناس لا يسجد على الأعضاء السبعة هل تصح صلاته؟ A لا، إذا رفع قدميه في الهواء أثناء السجود، وما وضع كفيه على الأرض فإن سجوده باطلٌ، وبالتالي صلاته باطلة.

مواضع جلسة الاستراحة

مواضع جلسة الاستراحة Q متى وأين تكون جلسة الاستراحة؟ A بين الركعة الأولى والثانية، وبين الثالثة والرابعة، قبل أن يقوم إلى الثانية، وقبل أن يقوم إلى الرابعة، جلسة خفيفة يستوي قاعداً فيها لا ذكر فيها ثم يقوم بعدها، كما جاء في حديث مالك بن حويرث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستوي قاعداً في وتر من صلاته) رواه البخاري.

وضع المأموم بجانب الإمام

وضع المأموم بجانب الإمام Q كيف يكون وضع المأموم مع المصلي ووضع قدميهما إذا كانا اثنين فقط؟ A إذا كانا اثنين فقط يقومان بجانب بعضهما البعض لا يتقدم المأموم على الإمام ولا يتأخر، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما: (أنه قام بجانب النبي صلى الله عليه وسلم فتأخر ابن عباس، فقدمه النبي صلى الله عليه وسلم، فتأخر ابن عباس، فقال له بعد الصلاة: ما لي أجعلك حذائي في الصلاة فتخنس)، أي: ترجع إلى الخلف، فـ ابن عباس أخبره أنه ما كان ينبغي له أن يقوم بمقام النبي صلى الله عليه وسلم وهو أقل منه فضلاً ولذلك رجع، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن علمه أن المأموم إذا كان مع الإمام وحدهما فقط يصف المأموم بجانب الإمام بالضبط في مستوى واحد، وهذا الحديث في الصحيح الذي يثبت هذه السنة.

لفظة: (وبركاته) في التسليمتين

لفظة: (وبركاته) في التسليمتين Q ما حكم قولي: وبركاته مع التسليمتين؟ A هذا ثابت فيهما إن شاء الله كليهما، وقد ذكر بعض المحدثين المعاصرين أنها لم تثبت في الثانية، ولكن من تتبع بعض نسخ أبي داود وجدت لفظة: (وبركاته) في التسليمة الثانية أيضاً وليس في الأولى فقط، فالتحقيق إن شاء الله في هذه المسألة ثبوت لفظة: (وبركاته) في التسليمتين جميعاً.

زكاة الأموال

زكاة الأموال Q عندي شقة أتملكها منذ عشر سنين، ومازال علي أقساط رمزية لعشر سنوات أخرى، والشقة لدي بغرض الاستثمار في العمل أو البيت قمت بتأجيرها منذ سنين لتغطية الأقساط، هل علي زكاة؟ A مادمت أجرتها إذاً الزكاة في الإيجار إذا حال عليه الحول، وإذا استلمت الإيجار وصرفته، ولم تنو بيع الشقة فليس عليك زكاة لا في الشقة ولا في إيجارها.

معنى حديث (إن حوسب هلك)

معنى حديث (إن حوسب هلك) Q ما معنى قوله: (إن حوسب هلك)؟ A معنى قوله: (إن حوسب هلك) أن هناك أناساً لا يحاسبون أبداً، وهم السبعون ألفاً الذين تكلمنا عنهم، مع كل ألف سبعون ألفاً، وهناك أناس يحاسبون حساباً يسيراً، لا يدخلون في هذا الحديث، وينقلبون إلى أهلهم مسرورين، وهناك طائفة ثالثة تحاسب حساباً دقيقاً يفتش عنه واحدة بواحدة، هذا يهلك؛ لأنه إذا وصل إلى هذه المرحلة للحساب يعني أنه سيدخل النار، من نوقش الحساب عذب، إذا صار النقاش في كل واحدة هذا يوقن أنه سيدخل النار، لكن إذا عفا الله عنه ومنّ عليه، وصارت حسناته أكثر من سيئاته، وشملته الرحمة والمغفرة، سيكون من الذين يحاسبون حساباً يسيراً، وينقلب إلى أهله مسروراً.

غزوة الرجيع

غزوة الرجيع في هذا الدرس نعيش من بطولات الصحابة رضوان الله عليهم، وما أصابهم من الأذى في سبيل تبليغ هذا الدين، وما نالوه من الأجر والشهادة، مع أحداثها وما فعل المشركين بالصحابة فيها، وموقف الصحابة الأبطال. ولقد ذيلها الشيح بشيء من البسط والشرح، وذِكْر بعض الفوائد المستفادة منها.

مقتل الصحابة في غزوة الرجيع

مقتل الصحابة في غزوة الرجيع الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. أما بعد: فنحن في هذه الليلة -أيها الإخوة- مع قصة من بطولات الصحابة رضوان الله تعالى عليهم وما أصابهم من الأذى، وما حصل لهم من الشهادة في سبيل الله، وصبر النبي صلى الله عليه وسلم على هذا المصاب العظيم هو والمسلمون معه، وذلك في هذه القصة التي حصلت في غزوة الرجيع، وقد رواها أبو هريرة رضي الله عنه قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية عيناً، وأمّر عليهم عاصم بن ثابت وهو جد عاصم بن عمر بن الخطاب، فانطلقوا حتى كانوا بين عسفان ومكة ذُكروا لحيٍ من هذيل يُقال لهم بنو لحيان فتبعوهم بقريبٍ من مائة رامٍ واقتصوا آثارهم حتى أتوا منزلاً نزلوه فوجدوا فيه نوى تمرٍ تزودوه من المدينة، فقالوا: هذا تمر يثرب، فتبعوا آثارهم حتى لحقوهم، فلما انتهى عاصم وأصحابه لجئوا إلى فدفد وجاء القوم فأحاطوا بهم، فقالوا: لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا ألا نقتل منكم رجلاً. فقال: عاصم: أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر، فقاتلوهم حتى قتلوا عاصماً في سبعة نفرٍ بالنبل، وبقي خبيب وزيد ورجلٌ آخر، فأعطوهم العهد والميثاق، فلما أعطوهم العهد والميثاق نزلوا إليهم، فلما استمكنوا منهم حلو أوتار قسيهم فربطوهم بها، فقال الرجل الثالث: أي المسلم الذي كان معهما: هذا أول الغدر، فأبى أن يصحبهم، فجروه على أن يصحبهم فلم يفعل فقتلوه. وانطلقوا بـ خبيب وزيد حتى باعوهما بـ مكة، فاشترى خبيباً بنو الحارث بن عامر بن نوفل، وكان خبيب هو الذي قتل الحارث يوم بدر، فمكث عندهم أسيراً حتى إذا أجمعوا قتله، استعار موسى من بعض بنات الحارث ليستحد بها، فأعارته، قال: فغفلت عن صبيٍ لها فدرج إليه حتى أتاه، فوضعه على فخذه فلما رأته فزعتُ منه وفي يده الموسى فقال: أتخشين أن أقتله، ما كنت لأفعل ذلك إن شاء الله. وكانت تقول: ما رأيت أسيراً قط خيراً من خبيب، لقد رأيته يأكل من قطف عنب وما بـ مكة يومئذٍ ثمرة، وإنه لموثقٌ في الحديد، وما كان إلا رزقٌ رزقه الله، فخرجوا به إلى الحرم ليقتلوه فقال: دعوني أصلي ركعتين ثم انصرف إليهم فقال: [لولا أن تروا أن ما بي جزعٌ من الموت لزدت] فكان أول من سن الركعتين عند القتل هو، ثم قال: [اللهم أحصهم عددا]. ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي شقٍ كان لله مصرعي وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلوٍ ممزع ثم قام إليه عقبة بن الحارث فقتله، وبعثت قريشٌ إلى عاصم ليأتوا بشيءٍ من جسده يعرفونه، وكان عاصم قد قتل عظيماً من عظمائهم يوم بدر، فبعث الله عليه مثل الظلة من الدبر فحمته من رسلهم، فلم يقدروا منه على شيء. هذه القصة هي غزوة الرجيع، والرجيع اسم موضع من بلاد هذيل كانت فيه هذه الوقعة، وتُسمى أيضاً رعلٍ وذكوان، وهذان البطنان من بطون العرب نسبت الغزوة إليهما، وتسمى أيضاً قصة بئر معونة وهو موضع بين مكة وعسفان وهذه الأسماء الثلاثة لهذه الوقعة التي تُعرف بسرية القراء، وكانت مع بني رعل وذكوان المذكورين. أما بالنسبة لهذه القصة فقد ذكر أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية عيناً، وهذه السرية كانت عشرة أشخاص عيناً تتجسس للنبي صلى الله عليه وسلم ليأتوه بخبر قريش، وكانوا: عاصم بن ثابت، ومرثد بن أبي مرثد، وخبيب بن عدي، وزيد بن الدثنة، وعبد الله بن طارق، وخالد بن البكير، وزاد بعض أهل السير معتب بن عبيد وكذلك معتب بن عوف، هؤلاء الذين أمّر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم عاصم بن ثابت. أرسلهم النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة التي قيل إنها غزوة الرجيع أو بئر معونة ولكن الصحيح أن هذه الغزوة تسمى غزوة الرجيع، وكانت سرية عاصم وخبيب في عشرة أنفس، وحصل القتال فيها مع عضل والقارة، وهذه عضل: بطن من بطون مُضر، وأما القَاَرة فهي أيضاً بطن من بطون العرب، ويُقال أن القَاَرة أكمة سوداء فيها حجارة نزلوا عندها فسميت القبيلة بها، ويضرب بهم المثل في إصابة الرمي، وقال الشاعر: قد أنصف القارة من راماها فالصحيح والراجح كما ذكر ابن حجر رحمه الله أن قصة عضل والقارة كانت في غزوة الرجيع، وليس في بئر معونة، فإذاً غزوة الرجيع وبئر معونة، هما غزوتان منفصلتان، غزوة الرجيع في آخر سنة (3هـ) وبئر معونة في أول سنة (4 للهجرة) وبالنسبة ليوم الرجيع قدم على النبي عليه الصلاة والسلام رهط من عضل والقارة، فقالوا: يا رسول الله إن فينا إسلاماً فابعث معنا نفراً من أصحابك يفقهوننا -انظر الغدر- فأرسل إلينا أناس من أصحابك يفقهوننا، فبعث معهم ستةً من أصحابه، وعليهم عاصم بن ثابت. إذاً هذه القصة هي غزوة الرجيع التي فيها سرية عاصم بن ثابت كانت مع عضل والقارة، أما سرية القراء السبعين التي كانت مع رعل وذكوان فإنها تسمى بئر معونة. فإذاً هما غزوتان منفصلتان، وإن كان الإمام البخاري رحمه الله تعالى قد ترجم ترجمةً تُشعر أنهما شيء واحد، ولكن على التحقيق فإنهما غزوتان منفصلتان، والنبي عليه الصلاة والسلام أرسل ستة من أفاضل أصحابه إلى هؤلاء العرب الذين ادعوا أن فيهم إسلاماً، وأنهم يريدون أناساً يفقهونهم في الدين، أرسل لهم هؤلاء الأفاضل وأمّر عليهم عاصم بن ثابت، وكانوا معهم حتى إذا كانوا بين عسفان ومكة، قال في الرواية: " ذُكروا لحيٍ من هذيل يقال له بنو لحيان، فتبعوهم بقريب من مائة رامٍ " وقد جاء أنهم مائتا رجل، فيحمل على أنهم مائة رامٍ، ومائة غير رماة، فاقتصوا آثارهم حتى أتوا منزلاً نزلوه، فوجدوا فيه نوى تمرٍ، نزل هؤلاء الصحابة بـ الرجيع وأكلوا تمر عجوة، فسقطت نواة في الأرض، وكان هؤلاء يسيرون في الليل ويكمنون بالنهار، فقيل إن امرأة من هذيل ترعى الغنم رأت النواة، فأنكرت صغرها وقالت: هذا تمر يثرب، أي: هذا النوى صغير ليس بأرضنا، فصاحت في قومها أُتيتم، فجاءوا في طلبهم فوجدوهم قد كمنوا في الجبل، فلحقوهم والتجأ الصحابة إلى فدفد، والفدفد هو الرابية المشرفة المرتفع من الأرض. فأراد هؤلاء خداع الصحابة، قالوا: لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا ألا نقتل منكم رجلاً، الصحابة ستة والكفار مائتا رجل، قالوا: والله ما نريد قتالكم إنما نريد أن نصيب منكم شيئاً من أهل مكة. فقال عاصم وهو أميرهم: أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر، ولا أقبل اليوم عهد مشرك، ولما حصل هذا دعا الله فقال: اللهم اخبر عنا رسولك، فاستجاب الله دعاء عاصم وأخبر رسوله صلى الله عليه وسلم بالخبر في ذلك اليوم أن هؤلاء قد أصيبوا، ورفض عاصم رضي الله عنه، فأخذوا هؤلاء فقاتلوهم فقتل من قتل، وبقي خبيب وزيد ورجلٌ آخر.

أسر خبيب بن عدي وزيد بن الدثنة

أسر خبيب بن عدي وزيد بن الدثنة فأما خبيب بن عدي وزيد بن الدثنة، وعبد الله بن طارق فسلموا أنفسهم فربطوهم فقال الرجل الثالث: هذا أول الغدر، أي: إذا كان من أولها أنهم ربطوهم، فهذا بداية الغدر، ولذلك لما كانوا بـ مر الظهران انتزع الرجل الثالث وهو عبد الله بن طارق، انتزع يداه وأخذ سيفه وقاتلهم وقُتل، وبقي اثنان: خبيب وزيد، حتى باعوهما بـ مكة، فلما أتى هؤلاء الكفار إلى مكة وباعوا زيد بن الدثنة وخبيب بن عدي إلى كفار قريش، فاشترى خبيباً بنو الحارث بن عامر بن نوفل. وكان لبني الحارث بن عامرثأر من خبيب؛ لأن خبيباً كان قد قتل كبير العائلة يوم بدر، وهو الحارث بن عامر، قتله يوم بدر، إذاً: خبيب بن عدي رضي الله عنه شهد بدراً، فهو من أفاضل الصحابة لأنه بدري، ثم إنه قتل الحارث بن عامر القرشي. وكانت القضية في الجاهلية هي الثأر، فأرادوا أن يقتلوا خبيباً مكان قتيلهم الذي قتله، فاشتروه وأسروه عندهم وربطوه في بيتٍ لهم، ومكث عندهم أسيراً حتى إذا أجمعوا قتله، قيل أنهم كانوا في شهر حرام، وأرادوا أن ينتظروا حتى يخرج الشهر الحرام ثم يقتلوه، انتظروا حتى يخرج الشهر الحرام وأخذوهما إلى التنعيم -والتنعيم خارج الحرم كما هو معروف؛ المكان الذي فيه مسجد عائشة - هذا المكان الذي قُتل فيه خبيب وزيد رضي الله عنهما، فقيل أنهم أساءوا إليه في أسره، فقال لهم وهو أسير: [ما تصنع القوم الكرام هذا بأسيرهم] فأحسنوا إليه بعد ذلك، وجعلوه عند امرأة تحرسه، فيقال أن خبيباً قال لهذه المرأة واسمها موهب، قال لها: [أطلب إليك ثلاثاً: أن تسقيني العذب، وأن تجنبيني ما ذبح على النصب، وأن تعلميني إذا أرادوا قتلي]. فالصحابي يطلب أن يأتوا له بطعام حلال، لا يأتوا له بشيءٍ ذُبح على النصب، والنصب: هي الأصنام، وقال الله تعالى: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة:3] فهو من المحرمات، فأبقوه عندهم حتى انتهت الأشهر الحرم وأجمعوا على قتله، حتى إذا أجمعوا على قتله أراد رضي الله عنه أن يتجهز ويستحد، والاستحداد: هو حلق شعر العانة، وهو من سنن الفطرة الذي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم: (خمسٌ من الفطرة وذكر منها: الاستحداد) وحلق الشعر بالموسى، ولذلك سميت العملية بالاستحداد وهو حلق شعر العانة بالحديد، أو بالموسى وهي من سنن الفطرة التي قيل أن الله تعالى قد أمر بها إبراهيم الخليل: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} [البقرة:124] قال ابن عباس رضي الله عنه: [خمسٌ في الرأس وخمسٌ في الجسد، فمنها الاستحداد، ومنها المضمضة والاستنشاق، واللحية، ونتف الإبط، وقص الأظفار، وحلق العانة، والختان]. ويدخل أيضاً في سنن الفطرة غسل البراجم والأشاجع وهي مفاصل الأصابع ومعاقب الأصابع، وكذلك يدخل فيها قص الشارب، وهو قص ما طال عن الشفة العليا مع تخفيف الشارب، فأما قص الأظفار وحلق العانة ونتف الإبط فقد وقت النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين أربعين يوماً لا تجوز الزيادة عليها، كما جاء في حديث أنس بن مالك وهو حديثٌ صحيح. إذاً هذه الثلاثة: قص الشارب، ونتف الإبط، وحلق العانة، وقص الأظفار السنة جاءت بأن لا يُزاد على أربعين يوماً فلا يجوز تركها أكثر من أربعين يوماً، وذكر بعض أهل العلم أن الشعر والأظفار يتعاهد كل أسبوع، وذكر بعضهم أنه يكون في الجمعة. والشعر والأظفار يختلف باختلاف الأشخاص، فبعض الأشخاص تطول أظفاره وشعره بسرعة، وبعضهم ببطئ المهم أنه لا يترك أكثر من أربعين يوماً، هذه ثلاثة لا تترك أكثر من أربعين يوماً وهذا توقيت النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يفيد أنه لو ترك أكثر من أربعين يوماً فإنه يأثم. فأما الاستحداد: وهو حلق العانة فيكون بالحديد أو الموسى أو الشفرة أو ما شابه ذلك، هذه هي السنة وهذا هو الأفضل، لكن إذا استعمل أي مزيلٍ آخر جاز ذلك، والمقصود الإزالة، والسنة أن يكون حلقاً لأنه يؤدي إلى اشتداد الموضع وهذا من مصلحة البدن في هذا المكان. وأما بالنسبة لنتف الإبط فإن نتف الشعر يؤدي إلى إضعاف الجلد، وهذا مصلحة الجلد في هذا المكان، حيث الإبط فيه رائحة العرق الكريهة، فإذا ضعف المكان بالنتف صارت الرائحة أخف والعرق أقل، ولذلك كانت السنة في النتف، ولكن قد لا يقوى بعض الناس على ذلك، ولا بأس أن يحلقها أو يزيلها بالنُورة أو أي مزيلٍ آخر، كل ذلك لا بأس به بالنسبة للإبط والعانة. ومن تعاهده بالنتف فإنه يستمر على هذا ولا يكاد يؤلمه أو يؤذيه، ولكن من تركه وكبر عليه ربما أنه يؤلمه، على أية حال فالمقصود الإزالة. وأما بالنسبة لقص الأظفار؛ فقد ذكر بعض أهل العلم أنه يبدأ بأظافر اليد اليمنى ثم اليسرى، وقال بعضهم يبدأ بالمسبحة لأنها موضع الشهادة لكن لا دليل عليه، ولكن استحسنه بعض أهل العلم، ثم ما على يمينها ثم إبهام اليمنى، ثم بعد ذلك اليسرى، وأما قص الشارب فإنه يقص ما طال عن الشفة العليا ولا يتركه يطول، وهو مؤذ وربما كان مجلبةً للجراثيم عند الشرب. قال هذا: حتى إذا أجمعوا على قتله استعار موسى ليستحد بها - خبيب رضي الله عنه- تقول المرأة: حُبس خبيب في بيتي وقد اطلعت عليه يوماً وإن في يده لقطفاً من عنب مثل رأس الرجل يأكل منه، من كرامة الله لـ خبيب أوتي قطفاً من عنب كرامة من الله عز وجل، واستعار الموسى ليستحد بها، فغفلت المرأة التي تحرسه عن صبيٍ لها، قيل أن هذا الصبي هو أبو حسين بن الحارث بن عدي بن نوفل والصبي هذا دّب وحبا إلى خبيب على حين غفلة من المرأة، فأخذه خبيب فأجلسه عنده. وفي رواية فأخذ خبيب بيد الغلام فقال: هل أمكن الله منكم؟ فقالت: ما كان هذا ظني بك فرمى لها الموسى وقال: إنما كنت مازحاً، وفي رواية ما كنت لأغدر، وفي رواية: إن هذه المرأة قال لها خبيب حين حضره القتل: ابعثي لي بحديدة أتطهر بها، أي: ليلاقي الله عز وجل وقد تنظف وتطهر، فأراد أن يزيل الشعر قبل القتل، فأعطته هذه الحديدة، وغفلت عن الصبي فدرج إليه حتى أتاه فوضعه على فخذه تقول المرأة: لقد رأيته يأكل من قطفٍ من عنب وما بـ مكة يومئذ ثمرة، وما كان إلا رزقٌ رزقه الله، أي: رزقه الله خبيباً، وهذا من الأدلة على كرامات أولياء الله عز وجل.

كرامات الأولياء بين أهل السنة والمبتدعة

كرامات الأولياء بين أهل السنة والمبتدعة وقد كانت هذه آية للكفار ليروا كرامة الله تعالى للمسلمين، وكرامة المسلمين لا شك أنها من اتباعهم لنبوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فخرق الله العادة، وجعل في يد خبيب قطفاً من العنب، وأكرمه الله عز وجل بذلك، كما ظهرت الكرامة لـ عاصم، لما أراد كفار قريش أن يأتوا بقطعة منه، فلكي لا تنتهك حرمته ويأخذ العدو شيئاً منه أرسل الله مثل النحل فأحاطه وظلله فلم يستطع أحد أن يقترب منه، وهذا دليلٌ على كرامات أولياء الله تعالى. وكرامات أولياء الله عند أهل السنة والجماعة ثابتة بخلاف المعتزلة، وهي دون معجزات الأنبياء مخالفاً بذلك لمذهب الأشاعرة، الذين يقولون: كل ما كان معجزة لنبي جاز أن يكون كرامة لولي. والمعتزلة نفوا الكرامات بالكلية، والأشاعرة قالوا: المعجزات والكرامات يمكن أن تكون سواء، وأهل السنة قالوا: بإثبات الكرامات ولكن الكرامات أقل من منزلة معجزات الأنبياء، والكرامة عبارة عن خرق للعادة، يخرقه الله كرامة لأهل طاعته وولايته، مثل بعض الصحابة الذين مشوا على الماء، والعادة أن الإنسان لا يمشي على الماء، ومثل غلام أصحاب الأخدود، مشى على الماء لما غرق القارب وجاء يمشي إلى الملك. وكذلك الجبل اضطرب وتدهده بهم وماتوا وهو جاء يمشي إلى الملك، وكلما حاولوا قتله لم يستطيعوا، فهذه كرامة. ومريم: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً} [آل عمران:37] كانت تؤتى بفاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف، هذه من كرامات الأولياء. وخبيب رضي الله تعالى عنه أوتي عنباً في مكة وليس في مكة شيء منه، وعاصم بعث الله له هذا الدبر لكي يحميه ولا يستطيع أحد أن يأخذ منه شيئاً، فإن قال قائل: ما هو الفرق بين خوارق كرامات الأولياء وبين الخوارق التي هي للدجالين والمشعوذين، فإننا ربما نرى لهم خوراق؟ فنقول: الفرق هو أن الخوارق كرامة للأولياء، وأما للمشعوذين أو الدجالين أو السحرة أو الكهنة، أو أتباع الشياطين فهي استدراج، والفرق المهم جداً جداً هو حال هذا وحال هذا، حال الولي وحال المشعوذ، هذا موحد وهذا مشرك، هذا يتبع سبيل الأنبياء، وهذا يتبع سبيل الشياطين، هذا هو الفرقان بين أولياء الشيطان وأولياء الرحمن.

موقف قتل خبيب بن عدي

موقف قتل خبيب بن عدي لما أخرج خبيب خارج الحرم ليقتلوه، وكانوا لا يقتلون داخل الحرم قال: دعوني أصلي ركعتين، فكان أول من سن الركعتين عند القتل خبيب رضي الله عنه، فمن السنة لمن يُقدم للقتل أن يصلي ركعتين، سواءً للأعداء أو لقتل القصاص أو أي قتل، فلما صلى ركعتين قال لكفار قريش - وهذا طبعاً من الحرب النفسية عليهم- لولا أن تروا أن ما بي جزعٌ من الموت لزدت، أي: أخشى إن صليت أربع وست وعشر تقولون: هذا خائف من الموت وجالس يؤخر القتل بالصلاة، ثم قال: اللهم أحصهم عددا، واقتلهم بددا - أي: متفرقين- ولا تبق منهم أحداً، ومن ثم قال: اللهم إني لا أجد من يبلغ رسولك مني السلام فبلغه. وكذلك وقع في رواية: فلما رفع على الخشبة، استقبل الدعاء، فلبد رجلٌ في الأرض خوفاً من دعائه، واحد من الكفار التصق بالأرض، ونزل مباشرة فقال: اللهم أحصهم عددا، واقتلهم بددا، فلم يحل الحول ومنهم أحدٌ حي -وهذه كرامة أخرى- كلهم ماتوا غير ذلك الرجل الذي لبد بالأرض. وقال معاوية بن أبي سفيان كنت مع أبي فجعل يلقيني إلى الأرض حين سمع دعوة خبيب، لأنه يدعو على هؤلاء، فهذا نزل لكي لا يكون من هؤلاء، فيقول معاوية: جعل أبو سفيان يلقيني إلى الأرض حين سمع دعوة خبيب، وكانوا يرون أن الدعوة في الحرم مستجابة، وقيل إنه عليه الصلاة والسلام بلغه سلام خبيب ورد عليه السلام، المهم أنه نظم هذه القصيدة العظيمة الأبيات: ما إن أبالي أو في رواية أخرى فلست أبالي حين أقتل مسلماً وقيل إنه قد قال قبل ذلك: لقد أجمع الأحزاب حولي وألبوا قبائلهم واستجمعوا كل مجمعِ إلى الله أشكو غربتي بعد كربتي وما أرصد الأحزاب لي عند مصرعي في ثلاثة عشر بيتاً ساقها ابن إسحاق، ومنهم من يُنكر نسبتها لـ خبيب، ولكن قد ثبت في صحيح البخاري أنه قال هذه الأبيات: ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي شقٍ كان في الله مصرعي وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلوٍ ممزع أما الأوصال: جمع وصل وهو العضو، والشِلو بكسر السين: هو الجسد، والممزع: المقطع، فهو يقول: لست أبالي إذا قطعوا جسدي قطعة قطعة، ما دام ذلك في سبيل الله. ثم قام إليه بعد هذه الأبيات عقبة بن الحارث فقتله، وقيل إنهم لما وضعوا فيه السلاح وهو مصلوب نادوه وناشدوه: أتحب أن محمداً مكانك؟ قال: لا والله العظيم، ما أحب أن يفديني بشوكة في قدمه.

حماية الله لأوليائه

حماية الله لأوليائه وبعثت قريش إلى عاصم ليأتوا بشيءٍ من جسده يعرفونه وكان قد قتل عظيماً من عظمائهم، ولكن الله سبحانه وتعالى حماه بالظلة من الدبر، الظلة: السحابة، والدبر: ذكور النحل، فجاءت سحابة من الزنابير فظللت على عاصم فوفد أصحاب قريش الذين ذهبوا ليقتطعوا رأس عاصم ويأتوا به، ومنعتهم هذه السحابة من الزنابير، فلم يقدروا على أن يقطعوا من لحمه شيئاً، فجعلت تطير في وجوههم فتلسعهم، فلم يستطيعوا أن يأتوا منه بشيء، وذلك أن عاصماً أعطى الله عهداً ألا يمسه مشرك، ولا يمس مشركاً أبداً. ولذلك لما بلغ عمر رضي الله عنه قال: [يحفظ الله العبد المؤمن بعد حياته كما حفظه في حياته].

فوائد هذا الحديث

فوائد هذا الحديث وهذا الحديث يدل على جواز رفض أمان المشرك؛ لأن المشرك قد يخدع كما حصل هنا، ولذلك لو قالوا نعطيك الأمان وتسلم نفسك فله أن يقاتلهم ويرفض الأمان، وله أن يأخذ بالأمان حسب ما يرى المسلم ويشتهي، فلو قالوا له سلم نفسك أو نقتلك، فقاتلهم ورفض الأمان، قالوا: نعطيك الأمان سلم نفسك، فله الحق، أن يقاتلهم إلى أن يُقتل، أو أنه يسلم نفسه حسب ما يرى. عاصم قد أخذ بالشدة، وبالعزيمة ورفض الأمان، وقاتلهم حتى مات. وفيه كذلك التورع عن قتل أولاد المشركين لأنهم أطفال، والمولود يولد على الفطرة، وكذلك صلاة الركعتين عند القتل، وإثبات كرامات الأولياء كما تقدم. وكذلك فيه هز معنويات الكفار، كما فعل خبيب رحمه الله تعالى، والحرب النفسية عليهم، وأن الله تعالى يبتلي المسلمين بما يشاء. وكذلك فيه إجابة دعاء المسلم حياً وميتاً وإكرامه، استجاب الله دعاء المسلم بعد موته، فما وصلوا إليه. كذلك في هذا الحديث ما كان عليه المشركون من تعظيم الأشهر الحرم، وهذا يعني أن المسلم ينبغي أن يكون أولى بالحفاظ أو المحافظة على الأشهر الحُرم.

الأسئلة

الأسئلة

معنى (أجود من الريح المرسلة)

معنى (أجود من الريح المرسلة) Q ما معنى أن جبريل عليه السلام عندما كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان كان عليه الصلاة والسلام أجود من الريح المرسلة. A الريح المرسلة تأتي بالسحاب وفيه مطر، خير عظيم، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان أجود بالخير من الريح المرسلة.

ركعتي طواف الوداع

ركعتي طواف الوداع Q هل لطواف الوداع ركعتين؟ A نعم في كل طواف وداع ركعتين، وفضل الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة والمدينة بألف صلاة.

كيفية الصلاة لكبير السن

كيفية الصلاة لكبير السن Q كيف يصلي كبير السن جداً؟ A إن لم يستطع قائماً فقاعداً متربعاً، فإن لم يستطع فعلى جنبه، وإذا كان لا يستطيع الوضوء يتيمم.

زكاة الأسهم

زكاة الأسهم Q هل هناك زكاة في الأسهم؟ A بالنسبة للأسهم إذا اتخذت للبيع والشراء فالزكاة في قيمتها كلها وأرباحها عند حلول الحول، وإذا كانت هذه لأجل أخذ الأرباح فقط وتبقى الأصول، فالزكاة في الأرباح فقط إذا حال عليها الحول، فإذا كان قد اتخذها للاستثمار ثم نوى البيع فيبدأ الحول من نية البيع، كعروض التجارة.

سؤال الشهادة

سؤال الشهادة Q هل يجوز للإنسان أن يسأل الشهادة له وللمسلمين؟ A لا بأس أن يسأل الإنسان الشهادة له ولإخوانه المسلمين.

من أدرك الإمام وقد قام من الركوع في الركعة الأخيرة

من أدرك الإمام وقد قام من الركوع في الركعة الأخيرة Q إذا أتيت المسجد والإمام قد قام من الركوع في الركعة الأخيرة؟ A إذاً لم تدرك الجماعة ولكن لك أجر نية حضور الجماعة.

دخول النساء في تحديد الأربعين يوما لحلق العانة

دخول النساء في تحديد الأربعين يوماً لحلق العانة Q النساء هل يدخلن في تحديد الأربعين يوماً؟ A مثل الرجال بطبيعة الحال.

حكم الدعاء على شاهد الزور

حكم الدعاء على شاهد الزور Q ما حكم الدعاء على شاهد الزور؟ A جائز، ولكن إذا دعوت له أفضل من أن تدعو عليه.

(عود الضمير في قوله تعالى: (ولو كره الكافرون

(عود الضمير في قوله تعالى: (وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ Q إلى أين يعود الضمير في قوله تعالى: {وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:32] {وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [الأنفال:8]؟ A الضمير يعود إليهم، أي: ولو كرهوا فإن الله سيأتي بوعده عز وجل.

الزكاة في الأراضي

الزكاة في الأراضي Q عندي ثلاث أراضٍ الأولى للسكن، والثانية سوف أبيعها، والثالثة أجعلها استراحة، فعلى أيها أزكي؟ A إذاً الزكاة في التي ستبيعها فقط.

مكان قتل خبيب

مكان قتل خبيب Q هل قتلوه في المسجد الحرم أم في التنعيم؟ A في التنعيم خارج الحرم.

حكم إتيان الزوجة الحائض

حكم إتيان الزوجة الحائض Q توقف دم الحيض فتطهرت المرأة وجامعها زوجها، وبعد ذلك تبين أن هناك دماً لا زال ينزل؟ A إذا حصل ذلك عن خطأ فالاستغفار فقط، وإذا حصل عن عمد فالكفارة، وهي مثقال من الذهب يخرجه (دينار أو نصف دينار) كما جاء في الحديث الحسن عند الترمذي وغيره.

إقرار النبي صلى الله عليه وسلم للركعتين قبل القتل

إقرار النبي صلى الله عليه وسلم للركعتين قبل القتل Q هل أقر النبي صلى الله عليه وسلم ركعتي القتل؟ A نعم أقرهما ولم ينكرهما، وقد بلغته القصة ولم ينكرها.

الكفاية في الزكاة

الكفاية في الزكاة Q ما هي الكفاية في الزكاة؟ A نفقة سنة، يقول العلماء في تعريفها في باب الزكاة هي: نفقة سنة.

جواز صلاة المفترض بعد المتنفل

جواز صلاة المفترض بعد المتنفل Q هل أصلي مع الإمام التراويح بنية العشاء أو أصلي مع الجماعة الثانية؟ A أنت مخير، وللتشويش قلنا يصلي مع الإمام.

تربية الأولاد

تربية الأولاد Q يأخذ أولادي وقتاً كثيراً مني في تربيتهم؟ A نعم. لأنك مكلفٌ بهم: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:6] ولعلك تدمج تربيتهم بحفظك ومراجعتك القرآن معهم، حتى تُوفر وقتاً لذلك مع تربيتهم.

حكم إخراج الزكاة من البلد

حكم إخراج الزكاة من البلد Q هل يجوز إرسال الزكاة إلى بلد آخر؟ A إذا وجد سبب كشدة فقر، أو قريب فقير.

ما يقال عند الرفع من الركوع

ما يقال عند الرفع من الركوع Q بعد الرفع من الركوع ماذا يُقال؟ A يكرر ربنا ولك الحمد يكررها مراتٍ كثيرة.

حكم من خلع الإحرام ولم يقصر

حكم من خلع الإحرام ولم يقصر Q اعتمر رجلٌ معنا وبعد السعي خلع الإحرام ولبس الملابس ولم يُقصر؟ A إذا كان جاهلاً أو ناسياً يتجرد من المخيط فوراً، ويقصر ويلبس المخيط بعد ذلك.

فضل علم السلف على علم الخلف

فضل علم السلف على علم الخلف اشتملت هذه الرسالة الموجزة على أمور عدة، وهي في وجازتها مهمة لكل طالب علم وعالم؛ لأنها تضع له خط سير ينتهجه في حياته العلمية؛ وهي كذلك توضح لطالب العلم أي العلمين طلب: النافع أم الضار؟ وذلك من خلال نتائج هذا العلم وصفات حامليه.

العلم النافع والعلم الضار

العلم النافع والعلم الضار الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد: فبين أيدينا رسالة لعلمٍ من الأعلام الذين سبق التعريف بهم، وهو العلامة: زين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن رجب بن الحسن بن محمد بن مسعود السلامي البغدادي الدمشقي الحنبلي، المولود في بغداد سنة (736هـ) والمتوفى سنة (795هـ)، وعنوان هذه الرسالة عنوان مهم، ألا وهو: بيان فضل علم السلف على علم الخلف وهذه الرسالة من الرسائل التي تهم طالب العلم كيف لا وهي تبين الأولويات في طلب العلم، وعمن يأخذ الإنسان، وصفات العالم الذي يؤخذ عنه، مع إرشاد الطالب إلى حفظ وقته كي لا يضيع في أمور لا يستفيد منها، أو تكون الفائدة قليلة. قال ابن رجب رحمه الله تعالى في مطلع هذه الرسالة: (بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فهذه كلمات مختصرة في معنى العلم، وانقسامه إلى: علم نافع، وعلم غير نافع، والتنبيه على فضل علم السلف على علم الخلف). -إذاً: فإن الفهرس المبسط المختصر لهذه الرسالة قد صدّر بها كلامه رحمه الله، قال: (فنقول وبالله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله). ثم بدأ يتكلم على تقسيم العلم إلى نافع وغير نافع، وأن الله سبحانه وتعالى مدح العلم في مواضع من كتابه وذمه في مواضع أخرى، فمن المواضع التي مدح فيها العلم وأهله: قوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]. وقوله: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} [آل عمران:18] أشهد الله نفسه وملائكته، وأشهد هذه الطائفة -وهم أهل العلم- على أعظم حقيقة وهي التوحيد (لا إله إلا الله). وقوله: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه:114]. وقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]. وكذلك لما مدح آدم فذكر أنه علَّمه، وأنه عرض الأسماء على الملائكة فلم يعرفوا: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة:32]. وكذلك لما قال موسى للخضر: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} [الكهف:66]. وفي مواضع أخرى من كتابه العزيز أخبر سبحانه وتعالى عن قوم أوتوا علماً فلم ينفعهم علمهم، فقال: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [الجمعة:5]، وقال أيضاً: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الأعراف:175]. وقال: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [الأعراف:176]. وقال سبحانه وتعالى: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية:23]. إذاً: هذا العلم نافع لكن هؤلاء نماذج من الناس الذين لم ينتفعوا بالعلم النافع، فعندهم علم نافع، ويحفظون علماً، لكنهم لم ينتفعوا به. وهناك علم ذكره الله على جهة الذم. إذاً هناك علم ذكره الله على جهة المدح ومدح أهله، وذم بعضهم وهم الذين لم يعملوا به ولم ينتفعوا به، وهناك علم مذموم بحد ذاته، كما قال عز وجل في السحر: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة:102]. وقال عز وجل: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [غافر:83] وماذا عندهم؟ عندهم ما يخالف النبوة والرسالة: {وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [غافر:83].

سؤال الله العلم النافع والتعوذ من غيره

سؤال الله العلم النافع والتعوذ من غيره قال: (ولذلك جاءت السنة بتقسيم العلم إلى: علم نافع وعلم غير نافع) وهذا واضح من قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع) فهناك علم ينفع وعلم لا ينفع، فهو استعاذ بالله من العلم الذي لا ينفع، وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح أيضاً: (اللهم إني أسألك علماً نافعاً، وأعوذ بك من علم لا ينفع) أخرجه ابن حبان والآجري، وإسناده حسن. فالعلم الذي يضر ولا ينفع جهل، والجهل به خير من العلم به، هذا العلم الذي لا ينفع أو العلم الضار الجهل به أفضل من تعلمه ولا شك، وإذا كان الجهل به أفضل فيكون هو شر من الجهل، أي: أن تجهل أحسن من أن تتعلم هذا العلم، مثل: علم السحر -مثلاً- وهو العلم الضار، وقد يكون الضرر في الدين وقد يكون في الدنيا. هناك آثار تنهى عن تعلم علم الأنساب، وهناك أحاديث معروفة تحث على تعلم علم الأنساب، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم) رواه الإمام أحمد وإسناده حسن. فالمقصود هو تعلم الأنساب المفيدة في أشياء، مثل: صلة الأرحام، وتعلم الأنساب غير المفيدة ما يُفضي -مثلاً- إلى الفخر والخيلاء أو إضاعة الأوقات في تتبع السلالات وما شابه ذلك. فأما ما ينفع فيُتعلم له، ولذلك جاء في بعض الآثار: (تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم ثم انتهوا، وتعلموا من العربية ما تعرفون به كتاب الله ثم انتهوا، وتعلموا من النجوم ما تهتدون به في ظلمات البر والبحر ثم انتهوا) إذاً: هناك علوم مفيدة إلى حد معين ودرجة معينة، وبعد ذلك يكون صرف الوقت فيما لا يفيد ضياعاً للوقت.

الفرق بين علم التأثير وعلم التسيير

الفرق بين علم التأثير وعلم التسيير قال: (وكان النخعي -رحمه الله- لا يرى بأساً أن يتعلم الرجل من النجوم ما يهتدي به)، وجاء عن عمر رضي الله عنه أنه قال: [تعلموا من النجوم ما تعرفون به القبلة والطريق]؛ لأن بعض النجوم مهم معرفتها كمسافر حتى لا يضل فيعرف الاتجاهات، وكمصلي يحتاج أن يعرف بعضها، مثل: تعيين القطب الشمالي لتعيين القبلة، فمعرفة القطب الشمالي وأين يوجد القطب الشمالي، وما هو القطب الشمالي، وما هو شكله مثلاً، وأن هذه العلامة مثل علامة الاستفهام أو الملعقة، لو أخذت طرفيها أو جهة الرأس النجم الأول والثاني ثم مددت خطاً بقدر ستة أميال ما بين النجمين سيكون في اتجاه، أو سيصلك إلى النجم القطبي الشمالي مثلاً، أو ما يسمونه بمجموعة الدب الأكبر والدب الأصغر للوصول إلى قضية تعيين القطب الشمالي، وهذا لا شك أن فيه فائدة. ولكن هناك بعض العلوم المتعلقة بالنجوم حرام، وقد قال طاوس رحمه الله: [رب ناظرٍ في النجوم ومتعلم حروف (أبا جاد) ليس له عند الله خلاق] وهذا قد جاء أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنه، وإسناده صحيح. فعلم النجوم يقسمه العلماء إلى قسمين: القسم الأول: علم التأثير. القسم الثاني: علم التسيير. وعلم التسيير: هو العلم الذي يتوصل به إلى معرفة الاتجاهات وهذا علم طيب، والله سبحانه وتعالى كما قال قتادة: [خلق الله النجوم لثلاث: زينة للسماء، ورجوماً للشياطين، وعلامات يهتدى بها: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل:16] {لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام:97]]. أما علم التأثير: فهو الربط بين النجوم والكواكب وحركة الأفلاك ومنازل القمر إلخ، وبين الحوادث الأرضية؛ بحيث يعتقد أنه إذا جاء النجم الفلاني في المكان الفلاني، أو طلع النجم الفلاني في المكان الفلاني ونحو ذلك فسوف يحدث كذا وكذا في الأرض، وأن هذا دليل على أن عظيماً قد ولد، وهذا دليل على أن عظيماً قد مات، وهذا يدل على أن كارثة وحرباً ستقع، وهذا كذا. ومن هذا -أيضاً- قضية الأبراج المملوءة بها -الآن- المجلات وبعض السيارات من الجرائد وغيرها، فهذه مكتوب فيها بالنص، الربط بين أشياء متعلقة بولادة إنسان في برج معين، أو أمور متعلقة بظهور نجم أو أفلاك معينة، وبعض الناس يقول الآن: إذا ظهر النيزك الفلاني فيقع كذا وكذا في الأرض، فهذا حرام، وتعلمه حرام، ونشره حرام، وقراءته حرام حتى للتسلية، لأنه لا يجوز التسلي بقراءة الشرك. وعن قبيصة: (إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت) ومثل هذا الأثر الذي معناه: "العيافة: هي زجر الطير، والتفاؤل بأسمائها وصفاتها، وما هي العلاقة بين ذهاب الطير يميناً أو شمالاً وبين حصول نحس أو شقاء في الأرض، أو حوادث في حياة الإنسان؟! والطرق هو: الضرب بالحصى أو الخط بالرمل، أو ما يفعله بعض العجائز من رمي الودع، ثم الاستدلال بشكل الودع الذي قد ألقي على الأرض على أمرٍ معين في المستقبل مثلاً، أو حوادث معينة، ذلك كله حرام، وتعلمه حرام، وتعلم علم الفلك من هذه الجهة حرام، والعمل بمقتضاه كُفر. فأما علم التسيير الذي يتوصل به ولمعرفة القبلة والطرق ومعالم الزراعة فهو جائز عند الجمهور، وما زاد فلا حاجة إليه، فقد لا يكون كفراً ولا شركاً بل مباحاً، لكن الإكثار منه مشغلة للوقت، وصرف فيما لا ينفع.

إنكار السلف على من توسع في علم النجوم

إنكار السلف على من توسع في علم النجوم لفت الإمام أحمد رحمه الله النظر إلى مسألة، وهي: أن التدقيق في بعض ذلك ربما يؤدي إلى إساءة الظن بمحاريب المسلمين في أمصارهم، مما يؤدي إلى اتهام أو اعتقاد خطأ الصحابة والتابعين في صلاتهم الفترة الماضية. ولذلك قال: إنما ورد: (بين المشرق والمغرب قبلة). ولذلك نلاحظ أن بعض الدكاترة أو المتخصصين في أمور معينة تتعلق بالفلك مثلاً يأتي هؤلاء إلى المساجد -مسجد قديم مثلاً- ويقولون: هذا فيه انحراف ينبغي أن يحرف قليلاً، وكل صلاة الذين مضوا في المسجد خطأ، وهذا من العمى الفقهي. فنقول: إن من صلى وهو يعتقد أن القبلة هكذا ولم يدرِ أن الاتجاه خطأ فصلاته صحيحه، فيأتي ويقول: هؤلاء صلاتهم كلها باطلة، ويغيرون الخطوط، ويحدثون البلبلة عند الناس، وهذه مسألة مشاهدة وواقعة، أما كوننا نستفيد من العلم الحديث في ضبط قبلة المساجد حتى ولو أشعة الليزر فلا بأس في ذلك، لكن أن نعمل ما يؤدي إلى اتهام الأولين في صحة صلاتهم فهذا غلو. وقد يكون في الاشتغال ببعض هذه الأشياء فيه فساد عريض، ولا شك أن هناك الآن كتباً تطبع وتُشترى، وبعض الناس يسافرون ويأتون بها وفيها تعليم السحر والشعوذة، وتجد بعض الناس يشتري شمس المعارف ويفتح ويطبق ثم تظهر له أفاعي ونحو ذلك، ويقوم في الليل فزعاً؛ لأنه بدأ في الطريق ولم يُحسن!! وقد جيء إلى بعض الأخيار بفتاة ليقرأ عليها، فلما قرأ عليها وسألها عم بها؟ قالت: إنني سافرت إلى البحرين واشتريت كتاباً وطبقت ما فيه، وبدأت الأشياء تتحرك، فأضع الشيء على المنضدة، أقرأ: الكلمات التي في الكتاب؛ فينحرف يميناً أو ينحرف شمالاً، وهناك -فعلاً- بعض الألعاب التي رُوجت وفيها أشياء من هذا القبيل، فيسألها لتجيب نعم أو لا، بعدما يقرأ أشياء ويتمتم بكلمات ونحو ذلك، فعندما ندمت الفتاة وبكت قالت: لكن المشكلة أنني علَّمت بنات الصف كلهن. فالمهم أن هذا الضرب من الشعوذة وتحضير الجن والشياطين والكتب التي تتعلق بالسحر وترويجها لا شك أنها من أخطر الأشياء، وهذه قضية قائمة موجودة في الواقع، يجب على طلبة العلم الموحدين القيام لله تعالى لإنكار المنكر، ونصح العباد في هذه الأشياء. وقد يكتشف الإنسان -أحياناً- بعض أقرب الناس إليه من يتعامل في مثل هذه الأمور، ويبيع مثل هذه الكتب، ويطبق بعض ما فيها.

النهي عن التوسع في دقائق غير مهمة

النهي عن التوسع في دقائق غير مهمة والتوسع في علم الأنساب كما ضرب ابن رجب رحمه الله تعالى مثلاً في قضية العلوم المشغلة عما هو أهم منها، لكن إذا كان منها فائدة فتتعلم. أحياناً يكون منها فوائد، مثلاً: حسان بن ثابت لما أراد أن يهجو المشركين، سأله النبي صلى الله عليه وسلم: كيف سيخلص نسبه من بينهم؟ حتى لا يهجوهم هجاءً يشمل النبي صلى الله عليه وسلم، فـ أبو بكر الصديق نسابة العرب تولى تعليم حسان في قضية الأنساب دقائق حتى قال: [أسلك كما تسل الشعرة من العجين] أي: يخلصه من بينهم بكلام لا يشمله، فيكون الهجاء لهم دونه، وهذا يحتاج إلى شيء من العلم بالأنساب، فإذا كان هناك حاجة له فيتعلم. ثم إن تعلم بعض العلوم فرض كفاية، أي: إذا عرفها بعض الأمة فلا داعي أن يتعلم كل طالب علم، ونقول: لكل طالب علم: تعال وتعلم هذا العلم؛ لأن هذا خطأ أن كل طالب علم يضع في برنامجه وجدوله في طلب العلم أن يتعلم مثل هذا، بل يكفي أن يوجد في الأمة من يعلمه عند الحاجة ويدل عليه ويأتي بالمقصود. كذلك مسألة التوسع في علم العربية لغةً ونحواً مما يُشغل عن العلم الأهم، وطرح هذا الكلام عند طلبة العلم ينبغي أن يُؤخذ بحجمه الصحيح، حتى لا ينفروا من اللغة العربية، مع أنهم من أضعف ما يكونون في اللغة العربية على مرَّ العصور إذا ما قورنت بالعصور السابقة، فما وصلنا إلى درجة أن عموم طلبة العلم قد أتقنوا اللغة العربية وبدءوا يتبحرون، وصرنا نخشى عليهم من التوسع والانشغال عن الأهم، وعن الفقه والحلال والحرام ونحو ذلك، فنقول لهم كفوا: لا. لكن لا يوجد بعض الناس عندهم حب للغة العربية بحيث إنهم ينصرفون إلى تعلم دقائق هذه اللغة بما يصرفهم عن الأهم وتعلم الحلال والحرام والتفسير والحديث ومعاني السنة. مثلاً: تجد دكتوراً نحوياً كبيراً لغوياً لكنه في الفقه والحديث والتفسير ضعيف، بسبب أنه انصرف بكليته إلى هذا العلم، ولذلك هذا علم يؤخذ منه بقدر ما يفهم به القرآن والسنة فقط. ما هو المطلوب من اللغة العربية؟ المطلوب أن نفهم القرآن والسنة بواسطتها، ولذلك كره أحمد التوسع في معرفة اللغة وغريبها، وأنكر على أبي عبيد توسعه في ذلك، وقال: "هو يشغل عما هو أهم منه"، وتجد في بعض الكتب كلاماً تقرأه بالطول وبالعرض، وبالزاوية وبالمقلوب، ما هذا؟! هذا النوع لا شك أنه مضيعة للوقت، فالذي فعل هذا، والذي يهتم به، والذي يريد أن يؤلف على منواله في أشياء قد يكون صرف عمره في شيء، ولكن ما هي الفائدة؟! قال: (ولهذا يُقال: إن العربية في الكلام كالملح في الطعام) أي: أنه يؤخذ منها ما يُصلح الكلام، فإذا زاد الملح في الطعام أفسده.

خذ من كل شيء شيئا

خذ من كل شيء شيئاً وقال: (كذلك علم الحساب يحتاج منه إلى ما يُعرف به حساب ما يقع من قسمة الفرائض والوصايا والأموال التي تُقسم بين المستحقين لها، والزائد على ذلك مما لا يُنتفع به إلا في مجرد رياضة الأذهان لا حاجة إليه، ويشغل عما هو أهم منه). في الغالب علم الرياضيات يفيد في علم المواريث، فمعرفة الكسور وتوحيد المقامات هذه مهمة في علم المواريث، فلا بد أن تعرف الثلث والربع والسدس والثلثان والثمن، والأنصبة التي جاءت في المواريث، فلو اكتشفنا لعلم الرياضيات تطبيقات معاصرة مفيدة في الأمور الدنيوية مثلاً، فهل نأخذ؟ A نعم. الآن من أهم الأشياء حتى لو أردت الجهاد في سبيل الله، مثلاً المعادلات التي تنبني عليها قضية المقذوفات، ومعرفة المواقع، وانطلاق القذيفة، وعندما تذهب بهذا الشكل القوسي إلى المكان، هذه مسألة مهمة جداً، يجب أن تعرف؛ لأن لها ارتباط واضح بقضية تفيد وتنفع المسلمين. وهناك مثلاً الطب: فالرياضيات لها بعض التطبيقات الطبية، مثل: المعادلات التفاضلية لها علاقة بالتكاثر السكاني، أو تكاثر البكتيريا، أو انتشار مرض الإيدز، أو تلوث مياه البحر، هذه كلها قائمة على معادلات رياضية. وكذلك أشعة الرنين المغناطيسي للتصوير المقطعي ثلاثي الأبعاد، هذا قائم على مسلسلات فوريير في الرياضيات القائم على نظرية التكامل والتفاضل وذهاب الأشعة وانطلاقها وتشعبها أو تفرقها أو تشتتها، واستخدام الرياضيات لعمل شفرات المعلومات التي تقي البريد الإلكتروني والمعلومات التي تذهب في البريد الإلكتروني. فالمسلمون عندما اخترعوا الصفر -وكان غير معروف عند من قبلهم- كان ذلك اختراعاً عظيماً أدَّى إلى تطور كبير في العلوم، لكن هناك بعض الأشياء حتى في بعض علوم الرياضيات والطبعيات التي تُدّرس غير مفيدة؛ بل إنها مشغلة، وأقصى ما فيها لذة الذهن أحياناً. بعض الأشياء تتعلق أحياناً بالعدد والزمرة والوحدة والفئات الخالية، والإغراق في نظريات المجموعات، والمنطق المشوش، فهذه الأشياء موجودة في الرياضيات الآن، ولكن دراستها لم يظهر فيها أشياء مفيدة، فدراستها والإغراق فيها عبارة عن ضياع وقت. على أي حال، قد يقول ابن رجب رحمه الله كلاماً في الرياضيات أو في الحساب من قديم على أشياء معروفة في زمانهم، فالآن الأمور اختلفت. فنقول ونحن في زماننا: ما كان مفيداً منها يُدرس وما لا فائدة فيه لا يُدرس، فهو إضاعة وقت، ولكن أحياناً الشخص قد يكون مكرهاً؛ لأن المنهج واحد، والامتحان سيأتي على جميع المنهج، وأنت مطالب بأن تدرس المنهج بما فيه مفيد أو غير مفيد، وهنا لا بد أن يكون المدرس حكيماً ومسئولاً، فمثلاً: التركيز على ما ينفع وعدم تشتيت أوقات الطلاب والحصص في أمور لا تفيد. وبعض الناس -كما قلنا- يدرسون العلم للعلم، وليس من أجل الإستقادة منه، ويقولون: العلم للعلم، والثقافة للثقافة، وهذا شعار جاهلي مطلق؛ لأن الغربيين يدرسون كل شيء، عندهم، كل جانب من جوانب العلوم والمعرفة هذا جانب مقدس يجب أن يُدرس، فقد لا يكون مفيداً، ما الفائدة أن شخصاً يأخذ دكتوراه في اللغة الهيربروفية؟ أو لغة اندثرت من زمان ولم يعد أحد يستعملها الآن، ليكتشف بعض الأشياء التي يعلمونها في بعض الآثار، وعلوم الآثار يأتي ويذهب، وتركز الأضواء والأنوار والأشياء على استخراج شيء يؤخذ بعناية ويلف وتوضع له مواد تنظيف، وفي النهاية ما هي النتيجة؟ استخرجوا صنماً، ويعتبروا هذا اكتشافاً كبيراً وهائلاً وتنشر نشرات وإعلانات وسبق علمي وصحفي "استخراج صنم"، هذا أول شيء ينبغي أن يُكسر {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء:52] ولكن يقولون: هذا علم. فبعض المتأثرين بالذين درسوا في الخارج أو المنهج الغربي عندهم مشكلة، وهي التي يشير لها ابن رجب حقاً وحقيقة في قضية الانشغال بالعلوم غير النافعة، بل منها علوم ضارة في هذا الزمان على البشرية.

النهي عن الخوض في القدر

النهي عن الخوض في القدر أما إذا رجعنا إلى قضية العلوم المتعلقة بالشريعة، فإن بعض الناس قد اخترعوا علوماً ونسبوها إلى العلوم الشرعية، ولا علاقة لها بالعلوم الشرعية. قال ابن رجب رحمه الله: (وأما ما أحدث بعد الصحابة من العلوم التي توسع فيها أهلها وسموها علوماً، وظنوا أن من لم يكن عالماً بها فهو جاهل أو ضال فكلها بدعة، وهي من محدثات الأمور المنهي عنها، فمن ذلك: ما أحدثته المعتزلة من الكلام في القدر وضرب الأمثال لله). علم الكلام من العلوم الضارة التي لا يحتاج إليها الذكي، ولا ينتفع بها البليد- والمعتزلة يقسمون الأشياء إلى العرض والجوهر، ثم يطبقون قواعد هذه التفسيرات على الله عز وجل، ويضربون الأمثال لله عز وجل -تعالى الله عن ذلك-. وكذلك الخوض في القدر: فبعضهم يعتبره علماً ويؤلف فيه، قال: (وقد ورد النهي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزال أمر هذه الأمة موافياً ومقارباً ما لم يتكلموا في الولدان والقدر) صححه الذهبي وقال الهيثمي: ورجال البزار رجال الصحيح، وأخرجه البزار وإسناده جيد). فالنبي صلى الله عليه وسلم حذَّر من الخوض في القدر، وهؤلاء خاضوا في القدر وألفوا وغاصوا فيه، واعتبروه (علم قواعد) ينبغي أن يؤلف فيه ويكتب. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا ذُكر أصحابي فأمسكوا، وإذا ذكر النجوم فأمسكوا) والمقصود علم التأثير لا علم التسيير، و (إذا ذكر أصحابي): أي الفتنة بينهم، أما إذا ذكروا بالخير وبالفضائل وأحاديثهم فحيهلا بهذا العلم.

ضرر علم الكلام على الأمة

ضرر علم الكلام على الأمة مع الأسف! أن علم الفلسفة وعلم الكلام وقواعد المنطق يُدرس في بعض الكليات الشرعية والدينية في بعض أنحاء العالم الإسلامي على أنه مقدمة في علم المنطق وعلم المنطق وقواعد علم المنطق وتُصرف فيه أوقات، ولا يوجد في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم علم المنطق، ولا حتى يحتاج إلى تقسيمه إلى جوهر وعرض، والجوهر يقوم بذاته، والعرض لا يقوم بذاته، ولا بد أن يقوم العرض بجوهر، وغير ذلك من الكلام الفارغ الذي لا يحتاج إليه، ولكن من التأثر ممن فتح على المسلمين من علوم اليونان، وأخذ المنطق اليوناني، هو الذي أوردهم في هذه المهالك، وقد قيل: إن المسلمين لما فتحوا بعض البلدان وحقد أهلها عليهم، قال بعض النصارى لأحد ملوكهم: إن في هذه الخزائن كتباً كانت قد أورثت فينا التقتيل فيما مضى -النزاعات والخصومات- فإنك لو أرسلتها إلى المسلمين تكون فيهم النكاية، ففعل ذلك، فبعض المسلمين من غفلتهم أخذوا ذلك وترجموه، وقالوا: هذا علم ما كان عندنا، وهو علم المنطق والفلسفة. فأقول: إن بعض المناهج في بعض البلدان في العالم الإسلامي في الجامعات وغيرها يضطر المتخرج أن يدرس كل العلوم التي فيها، بل وأحياناً تجد في بعض المدارس في الجامعات، تُحذف العلوم النافعة وتُضاف علوم غير نافعة، وهذا من أسوأ الأشياء، كما زعم بعضهم أنه من المربين، درس علم التربية في الخارج، فنظر في الجدول، وقال: قرآن وتفسير لماذا؟ أليسا شيئاً واحداً، لماذا حصة قرآن وحصة تفسير ادمجوها مع بعض، ثم قال: ولماذا الإكثار من حصص القرآن؟ انظروا إلى الكلام الحق الذي أريد به باطل. قال ابن عمر: [كنا لا نتجاوز عشر آيات حتى نتعلمها ونعمل بما فيها]. إذاً: لماذا تتعبوا الطلاب وتضيعوا حصتين أو ثلاث حصص في الجدول، احذفوا حصص القرآن!! كانوا يقفون عند عشر آيات ويعملون بما فيها، فأعطونا حصة واحدة للعلم وحصصاً للعمل، وماذا كانت حياتهم إلا موقوفة على العلم بالقرآن والعمل به، وأنت تريد فقط أن تتعلم عشر آيات في سنة، وبدون شيء آخر غير حفظ عشر آيات. إن هؤلاء الذين يريدون تنحية العلوم الشرعية النافعة ووضع العلوم غير النافعة، أو الخطط التي أُريد بها محو العلم الديني كما فعل كرومر ودنلوب وغيرهما في مخططاتهم في العالم الإسلامي، حتى أصبحت عقول الجيل مثل إطارات دنلوب فارغة من الداخل، بسبب هذا. وكما تكلم العلماء في خطة تطوير الأزهر -أو بالأحرى تغيير الأزهر- حذف مادة معينة ينبغي أن يدرسها الطالب، وبالتالي يكون تكوينه ضعيفاً، والعلوم التي كانت تدرس تذهب عليه، فنحن مأساتنا ما بين: أولاً: حذف العلوم الدينية. ثانياً: تقرير علوم غير نافعة. ثالثاً: تقصير مدة التعليم الديني. ولا يخفاكم ما يكون من أعداء الله عز وجل من العلمانيين الذين يشنون في بعض بلدان المسلمين الحرب على التعليم الديني باعتباره هو سبب التطرف فلا بد من إزالته ومحوه بالكلية.

وجوه النهي عن الخوض في القدر

وجوه النهي عن الخوض في القدر قال رحمه الله: (والنهي عن الخوض في القدر يكون على وجوه: منها: ضرب كتاب الله بعضه ببعض، فينزع المثبت للقدر بآية، والنافي له بأخرى، ويقع التجادل في ذلك والخوض في القدر إثباتاً ونفياً بالأقيسة العقلية. كقول القدرية: لو قدَّر وقضى ثم عذب كان ظالماً -هذه قاعدة استنبطوها من عقولهم- وقول من خالفهم، ومنهم من قال في الطرف المقابل: إن الله جبر العباد على أفعالهم ونحو ذلك). وهذا كله انحراف وبدعة وخروج عما أراده الله سبحانه وتعالى. وأيضاً يدخل في العلوم المحرمة الخوض في سر القدر، ومنها: الخوض في ذات الله، وكيفية صفاته سبحانه وتعالى، وهذا أشد خطراً من الكلام في القدر، لماذا؟ لأن الكلام في القدر هو كلام في أفعال الله، والكلام في الصفات هو كلام في ذات الله، ولا شك أن الانحراف في الكلام في ذاته أبشع من الانحراف في الكلام في أفعاله. فالذين يريدون أن يخوضوا في ذات الله وكيفية الصفة، هؤلاء يخوضون بالباطل، وهذا شيء محرم ولا يُعتبر علم؛ لأنه لا يمكن للإنسان أن يتخيل أو يعرف كيفية صفات الله، لكنه يجب أن يُؤمن بالصفة كما جاءت وهو يعلم معناها في اللغة، ويعلم معنى اليد ومعنى الوجه في اللغة، ثم يثبتها لله عز وجل، فيثبت الوجه لله عز وجل كما يليق بجلاله وعظمته. وصار الانحراف أن بعض الناس نفوا أشياء كثيرة مما ورد في القرآن والسنة لاستلزامه التشبيه عندهم بالمخلوقين، مثل قول المعتزلة مثلاً عندما نفوا الرؤية: الله لا يرى لماذا؟ قالوا: لأنه لو رؤي لكان جسماً، والله منزه أن يكون جسماً، إذاً لا يُرى، وهل وجدت في القرآن والسنة أن الله جسد أو غير جسد، فلماذا نتكلم؟ وجدت أن الله يرى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23] {عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} [المطففين:35] فأنت تنفي وتجحد وتكذب بهذه الآية، لأجل قاعدة عقلية عندك: [أن ما رؤي لا بد أن يكون جسماً، وأن الله منزه عن الجسمية؛ فإذاً هو لا يرى]. فهذا هو العلم الضار الذي يسبب إذهاب العلم النافع، والكفر بما أنزل الله سبحانه وتعالى. وفي الطرف الآخر: هناك من غالى في الإثبات أكثر مما ورد، وأكثر مما جاء في الكتاب والسنة، فأثبتوا لله أشياء ما ثبتت في الكتاب والسنة فغلوا فيها.

كلام السلف وما يحتوي من الفقه

كلام السلف وما يحتوي من الفقه كذلك من العلوم -أيضاً- التي نبه ابن رجب رحمه الله على إحداثات فيها، قال: (ومن ذلك -أعني: محدثات العلوم- ما أحدثه فقهاء أهل الرأي من ضوابط وقواعد عقلية وردوا فروع الفقه إليها، وسواء خالفت السنن أم وافقتها؛ طرداً لتلك القواعد المقررة). إذاً: أنتم وضعتم قاعدة عقلية، ثم حكمتم النصوص، وأرجعتم فروع الفقه بناءً على القواعد، فقد يأتي استثناء، لأن السنة فيها استثناءات. مثلاً: بعض أنواع اللحوم المحرمة ما عرفناها إلا من السنة، فلو قلت مثلاً: كل آكل للعشب مباح، فما رأيك بالحمار؟ يأكل العشب لماذا حرام؟ ما حكمه؟ يقول على قاعدتي: هو حلال، وقد ورد في السنة تحريمه، والحمار الأهلي بخلاف الحمار الوحشي، أو لو جاء من قال: كلهم حمير، والشارع فرق بين الحمار الأهلي والحمار الوحشي، فأنت لا بد أن تفرق بينهما، فإما أن تجمع بين ما فرقه الشارع أو تفرق بين ما جمعه الشارع على قاعدتك وإلا فلا. لماذا قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: [لو كان الدين بالرأي لكان مسح باطن الخف أولى من أعلاه] ليس كل الأحكام تجري على عقولهم، الضبع قد أبيح في السنة، مع أن له أنياب. إذاً ننتهي ونتوقف ما دام قد ثبتت إباحته، وكذلك ما دام قد ثبت تحريم لحم الحمار الأهلي نؤمن به ونسلم. بعض فقهاء أهل الرأي كان من خطئهم أنهم وضعوا ضوابط وقواعد عقلية وردوا فروع الفقه إليها، غير آبهين هل وافقت السنة أم لم توافق السنة؟ أما الأئمة والفقهاء من أهل الحديث فإنهم يتبعون الحديث الصحيح حيث كان، إذا كان معمولاً به عند الصحابة ومن بعدهم فإنهم يعملون به. وأما ما لم يعمل به الصحابة، فإنهم لا يعملون به؛ لأنه بالتأكيد عندهم منسوخ، ولكننا ما عرفنا أنه منسوخ. إذاً: القاعدة هي: العمل بالحديث الصحيح ما دام الصحابة قد عملوا به، وهذا ينفي لك الأحاديث الشاذة التي قد يظن بعض الناس أنها صحيحة وهي ليست كذلك. وهناك قسم من الأحاديث الشاذة إسناده صحيح، لكنه حديث شاذ، فبعض الناس الذين يدّعون السلفية، ويقولون: نعمل بالحديث الصحيح، ولو قلت له: ما معنى الصحيح؟ يقول لك: ابحث عنه في تقريب التهذيب إذا كان رجاله ثقات أو لا بأس بهم فهو حجة ونعمل به. وما رأيك في قضية المتن؟ وكلام العلماء في المتن؟ لا تنظر إليه!! إذاً: هنا يُوجد عند بعضهم نقصٌ في العلم يؤدي بهم إلى اتهام الصحابة والسلف.

النهي عن الجدال والخصام في الدين

النهي عن الجدال والخصام في الدين قال رحمه الله: (ومما أنكره أئمة السلف: الجدال والخصام والمراء في مسائل الحلال والحرام أيضاً، ولم يكن ذلك طريقة أئمة الإسلام، وإنما أحدث ذلك بعدهم كما أحدثه فقهاء العراقين في مسائل الخلاف بين الشافعية والحنابلة، وصنفوا كتب الخلاف، ووسعوا البحث والجدال فيها) حتى القارئ لا يسلم صدره. فتجد بعضهم قال: خصومنا، وقلنا، وقال خصومنا، ومن هم الخصوم؟ وهل يجوز أن تكون هناك خصومات بين المسلمين؟ لماذا تعرض القضية على أنهم خصومنا؟ لماذا يقال عن طائفة من الفقهاء: إنهم خصوم للطائفة الآخرى؟ هل القضية قضية خصومات وعداوات. قال: (وكل ذلك محدث لا أصل له، وصار ذلك علمهم حتى شغلهم عن العلم النافع، وقد أنكر ذلك السلف، وورد في الحديث المرفوع في السنن: (ما ضل قوم بعد هدىً إلا أوتوا الجدل، ثم قرأ: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف:58]). وجاء في حديث مرفوع -أيضاً- رواه الإمام أحمد وإسناده حسن، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما ضل قوم بعد هدىً إلا أوتوا الجدل، وقرأ صلى الله عليه وسلم: ((مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ)) [الزخرف:58]). قال: (وقال بعض السلف: [إذا أرد الله بعبد خيراً فتح له باب العمل وأغلق عنه باب الجدل، وإذا أرد بعبد شراً أغلق عنه باب العمل وفتح له باب الجدل] وقال مالك: " أدركت أهل هذه البلدة وإنهم ليكرهون هذا الإكثار الذي فيه الناس اليوم". يريد المسائل) أي: المخاصمات والمحاجات والمناظرات والمناقشات، وكذلك التشقيق والتفريع الدقيق للأشياء التي قد لا تحصل ولا توجد.

النهي عن الاختلاف في مسائل حكم فيها الشرع

النهي عن الاختلاف في مسائل حكم فيها الشرع قال: (وكان يعيب كثرة الكلام والفتيا، ويقول: يتكلم أحدهم وكأنه جمل مغتلم، يقول: هو كذا هو كذا، ويهدر في كلامه، وكان -رحمه الله تعالى- يكره الجواب في كثرة المسائل، ويقول: قال الله عز وجل: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85]). لما خاض بعض الناس في الروح، وقالوا: الروح جسم لطيف وأجسام نورانية شفافة ونحو ذلك من الكلام الذي لا يجوز أن يقال، لأن الله اختص بعلم الروح، فما بالك إذا علمت أن الأقوال في الروح وصلت إلى ألف وثمانمائة قول كما قال الشوكاني رحمه الله، فمسألة الروح محسومة، لأن الله عز وجل اختص بعلم الروح، ولا يمكن أحد منا يعلم هذا؛ قال سبحانه: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85]. فلو جاء شخص من الخارج، وقال: عندنا علم جديد فتحنا له كلية، ما هو؟ قال: علم الروح! نحن نبحث في المحتضرين، ونزن المحتضر قبل الموت ونزنه بعد الموت، ونفحصة بالأشعة الحمراء وفوق الحمراء وتحت الحمراء، وفوق البنفسجية وفوق القرمزية، ونعمل أبحاثاً لنعرف الروح، نقول: سلفاً نعطيكم A كل ما أنفقتم في هذه الكلية وفتحها وطلابها من الأموال والأوقات فإنكم لن تجنوا من ورائه إلا حرث بذر في الهواء. فالذي ينطلق من الشريعة والعقيدة الصحيحة، غير الذي ينطلق من الثقافات الأخرى الأجنبية عن الدين، والغربيون الآن لهم أبحاث في الروح، فلم يصلوا إلى أي شيء فيها، بل عادوا إلى الصفر مرة أخرى، مثل تبه بني إسرائيل، كانوا يخرجون في الصباح يبحثون عن المخرج، ويأتي عليهم المغرب ويجدوا أنفسهم في نفس المكان الذي خرجوا منه، ضلوا على ذلك أربعين سنة.

زيادة التفريعات في المسائل

زيادة التفريعات في المسائل انتشر في بعض العصُور الخصومات والجدالات، وتفريع الفروع الفقهية والخصومات وافتراض الاحتمالات فيها: فلو كان كذا ولو كان كذا، ولو كان كذا، وتجد هذا في كثير من كتب الفروع المذهبية، ويتباهى بها بعض المتعصبين للمذاهب. فيقولون: أئمتنا رحمهم الله ما تركوا شيئاً، بحثوا كل شيء، وشققوا المسائل، وفرعوا التفريعات، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد كره لكم قيل وقال) والتشقيق والتفريع في الكلام وفي هذه المسائل داخل في قيل وقال. ويذكرون المسائل التي لا تحصل، ووجد في بعض كتب فروع الشافعية: لو صلى في أرجوحة معلقة بين السماء والأرض، ففرضوها مع أنها غير موجودة، أرجوحة معلقة بين السماء والأرض، ثم قالوا: A لا يجوز، لأنه لا بد أن يصلي على شيء مستقر متصل بالأرض، وجاءت الفروع والنتيجة أنه لا يجوز، وسأل الناس عن حكم الصلاة في الطائرة بعد اختراع الطائرة، فقيض الله من هذه الأمة من يبين الحكم بعد أن وجدت المسألة وهنا يحصل التوفيق. ولذلك فإن بعض السلف يرفض أن يجيب على المسائل الافتراضية، ويقول: دعه حتى يكون، لماذا؟ لأنه إذا كان وإذا حصل بذل أهل العلم وسعهم عند ذلك واجتهادهم؛ لأن المسألة صارت موجودة، فيأتي التوفيق من الله عز وجل. ولما صارت القضية الآن وتنادى أهل العلم لبحث الصلاة في الطائرة، وقالوا: إن الصلاة في الطائرة جائزة، إذا احتاج إلى ذلك فلا حرج، وصلاته صحيحة، وما خرجوا بالنتيجة التي خرج بها ذلك المتمذهب الذي فرَّع الفروع الدقيقة ومنها هذا، وخرج بتلك النتيجة، على مسألة افتراضية لم تكن واقعة. قال: (قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لم يبعث نبياً إلا مبلغاً، وإن تشقيق الكلام من الشيطان) وتشقيق الكلام مذموم، وكذلك فإنه قد ورد النهي عن كثرة المسائل وعن الأغلوطات. والأغلوطات: هي شرار المسائل التي يُغالط فيها العلماء؛ ليزلوا بذلك، فيأتي شخص يتحذلق في سؤال -كما فعل بعضهم، وبعض المسلمين نقلوه عن بعض النصارى- هل يستطع الله أن يخلق إلهاً مثله؟ فأنت انظر إلى السؤال لتعرف كيف يأتون بالأغلوطات التي ورد النهي عنها؟ هذا السؤال غلط أصلاً، لأنه إذا خلق إلهاً فالإله لا بد ألا يكون له بداية، وكيف يكون إلهاً وله بداية؟ فالسؤال غير وارد، وهل يوجد جواب صحيح على سؤال خطأ؟ صحح سؤالك حتى نأتي لك بالجواب. هذه قضية الأغلوطات والفرضيات التي يريدون أن يزلوا بها العلماء، ويتقعرون في الألفاظ والمسائل والفرضيات للجدال، فصارت القضية قضية جدال، أوقات تضيع في الجدل، افتراض أشياء ثم الجدال بناءً عليها.

علم السلف كان كبيرا وكلامهم كان قليلا

علم السلف كان كبيراً وكلامهم كان قليلاً كانت مؤلفات الأولين قليلة ولكنها كثيرة البركة، ومؤلفات المتأخرين كثيرة ولكن بركتها قليلة، وكذلك كلام السلف قليل، لكن مدلوله كبير ومبارك ونافع، وكلام المتأخرين كثير وكثير، تفريعات كثيرة جداً ولكن بركته قليلة. ومن يتأمل في بعض كتب المذاهب التي فيها هذه الفروع الكثيرة: فصلٌ، فصلٌ، فصلٌ، والمجلدات تزيد، وبعض الناس يقول: أين كان علم مالك والشافعي وأحمد وابن المبارك والثوري والأوزاعي، أين كان عن هذه المسائل؟ فيقال له: قال ابن رجب رحمه الله: (وما تكلم من تكلم وتوسع من توسع بعدهم باختصاصه بعلم دونهم، ولكن حباً للكلام، وقلة ورع، كما قال الحسن وسمع قوماً يتجادلون: "هؤلاء قوم ملوا العبادة، وخف عليهم القول، وقلّ ورعهم فتكلموا". وقال مهدي بن ميمون: سمعت محمد بن سيرين وماراه رجلاً-جادل محمد بن سيرين - ففطن له، فقال: "إني أعلم ما يريد، إني لو أردت أن أماريك كنت عالماً بأبواب المراء " -أنا أعلم بالمناظرة والجدال والأصول، لكن لماذا أضيع وقتي معك؟ وقال جعفر بن محمد: "إياكم والخصومات في الدين، فإنها تشغل القلب وتورث النفاق". وقال عمر بن عبد العزيز: "إن السابقين عن علم وقفوا، وببصر نافذ قد كفوا، وكانوا هم أقوى على البحث لو بحثوا". وقد فتن بعض المتأخرين بهذا، وظنوا أن من كثُر كلامه وجداله وخصامه في مسائل الدين فهو أعلم ممن ليس كذلك، وكذلك فإن من كثرت مسائله وتفريعاتها، فهو أعلم ممن قلَّ كلامه وبحثه، وكانت مؤلفاته أقل وأوراقها أقل- وهذا جهل محض، وانظر إلى أكابر الصحابة وعلمائهم كـ أبي بكر وعمر وعلي ومعاذ وابن مسعود وزيد بن ثابت كيف كانوا؟ كلامهم أقلّ من كلام ابن عباس وهم أعلم منه، وكذلك كلام التابعين أكثر من كلام الصحابة، والصحابة أعلم منهم). فعلاً: لو جربت الآن المنقولات عن السلف لوجدت كلام الصحابة أقل من كلام التابعين، وكلام التابعين أقل من كلام تابعي التابعين، وتابعي التابعين كلام أكثر من كلام التابعين، وكلام التابعين أكثر من كلامهم الصحابة، من الأعلم؟ الصحابة، ثم من؟ جيل التابعين بالتأكيد. فكيف نجدهم أعلم وكلامهم أقل؟ هذه الملاحظة التي يجب أن ننتبه لها. قال: (فليس العلم بكثرة الرواية، ولا بكثرة المقال، ولكن نور يُقذف في القلب يفهم به العبد الحق، ويميز به بينه وبين الباطل، ويعبر عن ذلك بعبارات وجيزة محصلة للمقاصد، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم واختُصر له الكلام اختصاراً). فإذاً: تجد الآن فيها قول عن ابن مسعود كلمة كلمتين جملة سطر، وتجد في كلام بعض المتأخرين صفحات وأبحاثاً طويلة جداً جداً، من الذي كلامه أكثر بركة وأصوب وأنفع؟ طبعاً كلام الصحابة مع قلته ووجازته، ولذلك العلم ليس بكثرة تسويد الصفحات، ولا بكثرة الآراء والأقوال، لكنه نور يقذفه الله في قلب العالم خاصة الذي يسير ويمشي على الكتاب والسنة، فيأتي لك بالحكم.

كثرة الكلام لا يدل على العلم

كثرة الكلام لا يدل على العلم قال: (فيجب أن يُعتقد أنه ليس كل من كثُر بسطه للقول وكلامه في العلم كان أعلم ممن ليس كذلك، وقد ابتلينا بجهلة من الناس يعتقدون في بعض من توسع في القول من المتأخرين أنه أعلم ممن تقدم، فمنهم من يظن في شخصٍ أنه أعلم من كل من تقدم من الصحابة ومن بعدهم، لكثرة بيانه ومقاله، ومنهم من يقول: هو أعلم من الفقهاء المشهورين المتبوعين). ومنهم من يقول: من المتأخرين من هو أعلم من أصحاب المذاهب الأربعة، أعلم من الشافعي وأحمد ومالك، لا! لا يمكن أن يكون هذا! لكن هنا نقطة مهمة وهي: أن المسألة قد لا تكون وجدت أسبابها في عهد الصحابة والتابعين، ووجدت أسبابها في عهد الإمام أحمد مثلاً، فتكلم فيها الإمام أحمد وما وجدنا فيها كلام الصحابة لماذا؟ لأنها لم تكن في عهدهم. مثلاً: خلق القرآن هل تجد فيه كلاماً للصحابة موسعاً؟ لا. ولماذا تكلم الإمام أحمد ومن معه في الرد على المعتزلة؟ لأن المشكلة نشأت في عصره، فعندما تدعو الحاجة إلى الكلام والرد على أهل البدع نرد هل نقوم الآن ونتكلم في قضية الصحابة؟ نقول: إذا كان عندك الوسط سليم، والناس صدورهم سليمة، وقضايا الصحابة غير مثارة، والفتن التي بينهم غير مذكورة ومنتشرة، هل تتكلم عن الفتن التي حصلت بينهم، وتتوسع فيها، وتنشرها بين العامة؟ هذا خطأ؛ لأن الواحد يكون صدره سليماً، فيصبح غير سليم. مثال واقعي: لو قال رجل: ظهرت أشرطة عن الفتنة بين الصحابة وسمعها وقال: والله هذا محمد بن أبي بكر الصديق إنسان مجرم سفاح وظالم وباغٍ، وهو ما كان يعرف محمد بن أبي بكر، ولم يسمع به إطلاقاً والآن لما سمع الكلام قال: هذا كذا وكذا وكذا. كانت صدورهم سليمة، فصارت هكذا، وذلك بسبب فتح موضوع لا توجد أسبابه أو الحاجة لفتحه، لكن من أثيرت عنده القضية، كأن يجلس مع رجل من أهل الرفض أو أهل البدعة وأثار عنده أشياء كثيرة، وهذا مسكين، هذا الذي يُعطى كتاب العواصم من القواصم، أو شيء يسمعه ويفيده ويعالج ما حصل عنده في هذه النقطة. فإذن المسألة مهمة جداً، وهي: عدم إثارة الشيء والكلام فيه إلا بعد وجود أسبابه، فلا تتكلم عن قضية خلق القرآن؛ لأنها غير مثارة، ما رأيكم نخطب خطبة ودرس وسلسلة على العامة في قضية خلق القرآن، ونورد أقوال المعتزلة ثم الرد عليها، هل هذا صحيح؟! لا. لأن المسألة أصول ومنطلقات وثوابت، فالذي يفهم طريقة السلف لا يزيغ في الكلام ولا في توقيت طرح الكلام، وأما الذي ليس عنده علم بذلك فهو يخبط خبط عشواء، فالموضوع جذاب، وقصصي فيمشي بين الناس، وبعض المكتبات والتسجيلات تبحث عن الأرباح، والمسألة هذه لها سوق وشيقة، لكن يترتب عليها مفاسد في الدين، أنت تتكسب من وراء مفاسد على الدين؟! قال: (وقد صدق ابن مسعود رضي الله عنه في قوله في الصحابة: [إنهم أبر الأمة قلوباً، وأعمقها علوماً، وأقلها تكلفاً] وقال ابن مسعود رضي الله عنه: [إنكم في زمان كثير علماؤه، قليل خطباؤه، وسيأتي بعدكم زمان قليل علماؤه، كثير خطباؤه]. وقد شهد النبي صلى الله عليه وسلم لأهل اليمن بالإيمان والفقه، وأهل اليمن أقل الناس كلاماً وتوسعاً في العلوم، لكن علمهم علم نافع في قلوبهم، ويقدرون بألسنتهم عن القدر المحتاج إليه من ذلك. وهذا قيل عن الزمن الذي كان في ذلك الوقت، وإلا فقد يطرأ على بعض الناس وبعض البلدان، أشياء وتغيرات كثيرة. ولا شك أيها الإخوة! أن الاهتمام بكلام السلف أنفع من الاهتمام بكلام الخلف، وإن كان الذين يسيرون على كلام السلف من الخلف ينبغي الاعتناء بكلامهم، فمثلاً: إذا جئت إلى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وابن القيم وغيرهما تجد أنهم يبنون كلامهم على كلام السلف، وكثير من الكلام الذي يقولونه إنما هو استشهاد بكلام السلف، فـ المغني مثلاً كثير من عباراته جمع لكلام السلف، قال عطاء وقال أيوب وقال إبراهيم النخعي وقال فلان فهذا هو علم السلف، فالكتب التي تجمع علم السلف بغض النظر عن المؤلف عاش في أي عصر، المهم الاهتمام بعلم السلف، والخلف الذين شرحوا كلام السلف، وساروا على هديهم، هذا هو المطلوب.

الإعجاز العلمي ومضادته لكلام السلف

الإعجاز العلمي ومضادته لكلام السلف قال: (فضبط ما روي عن السلف أفضل العلم مع تفهمه وتعقله والتفقه فيه، وما حدث بعدهم من التوسع لا خير في كثير منه إلا أن يكون شرحاً لكلامهم، وأما ما كان مخالفاً لكلامهم فأكثره باطل أو لا منفعة فيه). وهذا مثال ذكره بعض الإخوان وهو قضية الإعجاز العلمي في القرآن، بعض الناس يفسرون آيات في القرآن بتفسيرات ليست واردة، بل مخالفة لما قاله السلف. مثلاً: افترض أنك جئت إلى آية: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن:33] وفتحت تفسير ابن كثير، وميزته أنه يجمع تفاسير السلف: مجاهد، وقتادة، وسعيد بن جبير، وابن عباس، وابن مسعود. ستجد مثلاً أن الله إذا جمع الأولين والآخرين يوم القيامة يتحداهم ويجعلهم في صعيد واحد تحيط بهم الملائكة صفوفاً، ويقول: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن:33]، ولا يوجد سلطان {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16] فيأتي من يقول: اكتشفنا إعجازاً علمياً في القرآن؟ ما هو؟ قال: (لا تنفذون إلا بسلطان) أي: سلطان العلم، أي: صواريخ الدفع النفاثة، هذه التي تخرج، فكر في المعنى القبيح الذي فسرت به، ماذا ترتب على هذا الكلام من قُبح؟ أن الله يتحدى الإنس والجن، ثم بعضهم يقبلون التحدي ويخترعون أشياء وينفذون، هل من المعقول أن الله يتحدى الجن والإنس ويقبلون التحدي، ويتغلبون فعلاً، ويصعدون من أقطار السماوات والأرض، هل هذا كلام يقبل؟! فالجن من قبل قد خرجوا من أقطار الأرض، ويصعدون إلى السماء: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ} [الجن:9] فكيف يتحداهم وكان قد عملوا بالتحدي وهذا إنما يوم القيامة. فكثير من الكلام الذي في الإعجاز العلمي للقرآن مخالفة لكلام السلف، ثم تتغير النظرية فيتغير التفسير، فيكون قد ركَّب تفسير الآية على نظرية معينة، والنظرية قد يكتشف خطأها ماذا نفعل وقد فسرنا القرآن على هذا؟! فلا بد أن يقال ما يوافق كلام السلف، لا ما يخالف كلام السلف. افترض أنهم قالوا مثلاً: اكتشفنا أن القمر انشق من ألف وأربعمائة سنة، زادونا شيئاً جديداً؟ لا! هل خرجوا عن كلام السلف؟ لا. لكن يأتي رجل يحدث قولاً جديداً، ويخالف السلف، ويقول: أنا توصلت إلى ذلك، ويخالف السلف، فاعلم أنه لا خير فيه. والمشكلة في قضية الإعجاز العلمي أنه طرح قضايا، وبعد سنة سيأتي مؤتمر آخر لا بد أن يقدم ورقة بحث جديدة، الآن نريد سبق صحفي جديد في اكتشافات قرآنية جديدة فسوف تقل الضوابط عندهم، وكان أولاً يأخذ بالمسلمات وبالحقيقة، وصار الآن يأخذ بالنظريات، ثم صار يتعسف الورقة الثالثة والرابعة والخامسة. ولذلك المسألة تنفلت وما هي الفائدة؟ أن نخالف تفاسير السلف، الله سبحانه وتعالى لما أنزل القرآن أنزله للعرب والعجم، يا أخي! يكفي التفكر في السماء وما فيها من النجوم، فالله عندما قال: {رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [الرعد:2] {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ} [الحج:65] ألا يكفي إعجازاً أن السماء لا تقع على الأرض؟! وبعض الأشياء لو لم تشرح فيها إلا الكلام الموجود في التفاسير لكفى إعجازاً، يملؤنا إيماناً. إذاً: ما يسمى بالإعجاز العلمي منه ما هو حق، ومنه ما هو باطل، ومنه ما هو كلام مشكوك فيه، أي: مثل الإسرائيليات، شيء يُوافق ما عندنا، فنقول: نعم، وشيء يخالف ما عندنا، فنقول: لا، وشيء لا يوافق ولا يخالف، نقول: الله أعلم به، لا نعتقد به اعتقادنا في العقائد، ولا نكذبه، ونقول: إذا كانت هذه الأشياء اكتشافات علمية إذا صدقوا فيها فهي صحيحة. افرض -الآن- أنه لا يوجد نص من آية أو حديث على أن هناك حياة على كوكب غير الأرض، وغداً أخرجوا هذه المركبات والتلسكوبات، وقالوا: إنا وجدنا حياة ووجدنا دواب تمشي بأربعة عشر رجلاً ورأسين وخمسة قرون، وثلاث أعين على كوكب ما! فكان ماذا؟ ليس عندنا ما يدعو للتكذيب، وجدتموه وصارت القضية موجودة، الحمد لله ليس هناك مانع، ولا محظور في قبوله، إذا صار حقيقة وصار موجوداً، لأنه لا يوجد في القرآن والسنة ما يرده. قال رحمه الله تعالى: (فمن لم يأخذ العلم من كلامهم فاته ذلك الخير كله، مع ما يقع في كثير من الباطل متابعة لمن تأخر عنهم، ويحتاج من أراد جمع كلامهم -أي: كلام السلف - إلى معرفة صحيحه من سقيمه، وذلك لمعرفة الجرح والتعديل والعلل، فمن لم يعرف ذلك فهو غير واثق بما ينقله من ذلك، ويلتبس عليه حقه بباطله، ولا يثق بما عنده من ذلك). عندما نقول: نأخذ كلام السلف ونبحث عن كلام السلف أيضاً يكون عندنا ميزان وهو قضية صحة العبارة، هل صح أن فلاناً من السلف قالها، صحيح قالها ابن مسعود، وصحت عن ابن عباس، وصحت عن فلان وفلان من السلف.

العلم هو ما جاء به الصحابة

العلم هو ما جاء به الصحابة قال الأوزاعي: " العلم ما جاء به أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فما كان غير ذلك فليس بعلم". وكذا قال الإمام أحمد، وقال في التابعي: أنت مخير، يعني في كتابته وتركه، وقد كان الزهري يكتب ذلك، وخالفه صالح بن كيسان ثم ندم. وفي زماننا يتعين كتابة كلام أئمة السلف المقتدى بهم، إلى زمن الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد؛ وليكن الإنسان على حذر مما حدث بعدهم، فإنه حدث بعدهم حوادث كثيرة، وحدث من انتسب إلى متابعة السنة والحديث من الظاهرية ونحوهم وهو أشد مخالفة لها لشذوذ عن الأمة. بعض أتباع المذهب الظاهري يدعون الانتساب إلى طريقة السلف، ولكن بعض كلامهم بعيد عن كلام السلف.

علوم الصوفية الباطلة

علوم الصوفية الباطلة وكذلك من العلوم التي أحدثت وليست بعلم إطلاقاً: علوم الصوفية المتعلقة بالرأي والذوق والكشف والإلهام ونحو ذلك. ويقولون: شيخنا يقرأ من اللوح المحفوظ، وأنتم تأخذون علمكم ميتاً عن ميت، فأسانيد البخاري ومسلم: فلان عن فلان وكذا، عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة كلهم ماتوا، ونحن نأخذ عن الحي الذي لا يموت، علم الصوفية هو: حدثني قلبي عن ربي، وهذه علومهم مدونه وفيها كتب، هذه قضية. مثلاً: الكشف، يقولون: كشف الله له الحُجب وأستار السماوات فنظر إلى طوبى، ومكتوب عند العرش كذا، وقرأ العبارة الفلانية، أي: شيخهم قرأ العبارة الفلانية. ثم الإلهام: ألهمني كذا، ثم الرؤى، وهي من مصادر العلم عند الصوفية، ولذلك قال ابن عربي الملحد الأفاك الذي له قبر يزار ويحج إليه في الشام يقول: " فرب حديث صحيح-أي: صحيح في البخاري - يرى الولي النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فيقول له: لم أقله، ورب حديث غير صحيح -أي: سند الحديث ضعيف أو موضوع- يرى فيه الولي النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: هو من كلامي وأنا قلته ". بهذه الطريقة ضاع الحديث تماماً؛ لأن القضية صارت على المنام، إذا قال: قلته في المنام، فقد قاله، وإذا قال: ما قلته، فمعناه ما قاله، حتى لو كان الحديث في البخاري، وبهذا ضاعت الأصول. ولذلك الأئمة الذين ينسب المتصوفون إليهم كلامهم بعضهم من أهل الحق ومن أهل السنة، ولو رأيت كلامهم لناقض ما عليه أهل التصوف هؤلاء الضلال. قال: (قال الجنيد: علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة، من لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يُقتدى به في علمنا هذا). قضية الكشف وقضية الذوق ونحوها دخل فيها الزنادقة، فحركة الزندقة استغلت التصوف ودخلت فيه، وكانوا من أشد الناس بلاء على أهل الإسلام وأذىً للمسلمين، ثم أدت القضية بهم إلى الوقوع في الحلول والاتحاد ووحدة الوجود، حتى إن شيخ الإسلام لما ناقشهم قال: النصارى خير منكم، النصارى يقولون: إن الله حلَّ في عيسى في واحد، وأنتم تقولون: الله حل في كل شيء، ولذلك يقولون: وما الكلب والخنزير إلا إلهنا وما الله إلا راهب في كنيسة يقولون: الله في كل مكان، في الجدار وفي كذا وفي كذا، وفرعون كان على حق عندما قال: (أنا ربكم الأعلى)، لكن موسى استعجل وأنكر عليه هكذا قالوا. ثم لما ناظر يهودي قبل أن يُسلم ابن تيمية قال: حكى لي عبد السيد فلان من اليهود قبل أن يُسلم، قال: إنه ناظر واحداً من هؤلاء الضلال الصوفية فقال له: ما تقول في كذا. قال: الله في كل شيء حتى قال: وكلام فرعون صحيح لما قال: (أنا ربكم الأعلى)، فقال له اليهودي: إذاً فرعون كلامه أصح من كلام موسى، وفرعون غرق ومات وموسى نجَّاه الله، فأنا مع موسى، فبهت الصوفي.

ما يدل عليه العلم النافع

ما يدل عليه العلم النافع قال رحمه الله: (وغير ذلك من أصول الكفر والفسوق والعصيان كدعوى الإباحة وحلّ محظورات الشرائع، وأدخلوا في هذا الطريق أشياء كثيرة ليست من الدين في شيء، فبعضها زعموا أنه يحصل به ترقيق القلوب كالغناء والرقص). يقولون: المولد الذي فيه أذكار وغناء ورقص، ويقوم بعضهم يرقصون في المجلس هذا يسبب ويُحدث رقة في القلب. قال: (وبعضها زعموا أنه يراد لرياضة النفوس، كعشق الصور المحرمة ونظرها) وقالوا: عشق المردان ينقي النفس وفيه شفافيه في الروح ويجعلك تتسامى إلى الملأ هكذا يقولون. قال: (وبعضها زعموا أنه لكسر النفوس والتواضع، كشهرة اللباس وغير ذلك مما لم تأتِ به الشريعة، وبعضه يصد عن ذكر الله وعن الصلاة، كالغناء والنظر المحرم). اتخذوا دينهم لعباً ولهواً، فالعلم النافع من هذه العلوم ما انضبط من الكتاب والسنة، وفُهِمَ على حسب الكتاب والسنة، من معاني القرآن والحديث، وكذلك مسائل الحلال والحرام والزهد والرقائق، فهذه كلها من العلم النافع، وينبغي الاجتهاد في تمييز الصحيح من السقيم، ثم الاجتهاد في الوقوف على معاني الشيء الصحيح. قاعدتان مهمتان جداً لطالب العلم: تمييز الصحيح من السقيم، ثم العكوف والوقوف لمعرفة معاني الصحيح. قال: (وفي ذلك كفاية لمن عقل، وشغل لمن بالعلم النافع عنى واشتغل، ومن وقف على هذا وأخلص القصد فيه لوجه الله عز وجل، واستعان عليه أعانه وهداه، ووفقه وسدده وفهمه وألهمه، وحينئذٍ يُثمر له هذا العلم ثمرته الخاصة وهي خشية الله عز وجل كما قال عز وجل: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]. إذاً: هناك شيء مهم جداً وهو الخشية، وهو رأس العلم، من خشي الله فهو عالم، ومن عصاه فهو جاهل، العلم النافع يدل ويقود إلى أمرين: أولاً: إلى معرفة محبة الله، وما يستحقه سبحانه وتعالى من الأسماء الحسنى والصفات العلا، وإجلاله وإعظامه وخشيته ومحبته ورجائه والتوكل عليه والرضا بقضائه والصبر على بلائه، العلم النافع يُوصل إلى هذا، وإذا لم يصل الإنسان إلى هذا معناه أن هناك مشكلة، إما أنه ليس عنده علم نافع وإما أنه ما عنده إخلاص. ثانياً: يقود إلى المعرفة بما يحبه الله ويرضاه من الاعتقادات والأعمال الظاهرة والباطنة والأقوال، فعند ذلك يسارع العبد في رضا المولى عز وجل، لأنك إذا عرفت أن هذا حلال، وهذا حرام، وهذا مستحب، وهذا واجب، وهذا مكروه، عرفت ماذا تعمل. فالعلم النافع يقود إلى هذا، فإذا انساق العبد إلى هذا كان العلم نافعاً ووقر في القلب وخشع قلبه لله، وانكسر له وذل له هيبة وإجلالاً وخشية ومحبة وتعظيماً، وعند ذلك تقنع النفس باليسير من الحلال وتشبع به، فتزهد في الدنيا وفي كل ما هو فانٍ. وعندما يصل العبد إلى هذه الدرجة يكون قد وصل إلى المرحلة المذكورة في الحديث الإلهي في العلاقة الخاصة بين العبد وربه: (لئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه) هذه هي العلاقة الخاصة: (احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة) هذه المعرفة الخاصة والعلاقة الخاصة بين العبد والرب. فيستأنس العبد بذكر ربه في خلوته، ويجد حلاوة لذكره ودعائه ومناجاته وعبادته، ويستوي عنده سره وعلانيته، ويجد حلاوة الطاعة، فمتى وجد العبد هذا عرف أنه قد وصل وحصَّل المقصود. ولذلك قال بعضهم للفضيل يذكره: أما بينك وبين ربك ما إذا دعوته أجابك؟ أي: هل علاقتك بالله وصلت إلى درجة أنك إذا دعوت الله أجابك؟ فغُشي عليه. قال: (فالعبد لا يزال يقع في شدائد وكرب في الدنيا وفي البرزخ وفي الموقف). ليست القضية فقط في الدنيا يقع في كرب، بل في البرزخ وفي الآخرة يقع في كرب، فإذا كان بينه وبين الله علاقة خاصة، كفاه الله ذلك، كربات الدنيا والبرزخ والآخرة، قال: (وهذا هو المشار إليه بوصية النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس: (تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة). بعض الناس يعرفك في الشدة، أي: إذا غرقت في بحر أو صرت في اضطرار وفقر، لا! ليس هذا فقط، يعرفك في الشدة حتى في شدائد القبر، وفي شدائد المحشر، يعرفك في الشدة. فالعلم النافع هو ما عرف به العبد ربه، واستدل عليه، وأنس به واستحيا منه، واقترب إليه وخشع له، وهذا علم بحد ذاته، ولذلك جاء في الأثر: (أول ما يرفع من الناس الخشوع). قال: (قال الحسن رحمه الله: " العلم علمان: فعلم في اللسان، فذاك حجة الله على ابن آدم -أنت تتكلم به فإذا ما طبقت كان حجة عليك- وعلم في القلب: فذاك العلم النافع "). وكان السلف يقولون: العلماء ثلاثة: 1 - عالم بالله عالم بأمر الله: يخشى الله، ويعرف الله، ويعرف أحكام الله. 2 - عالم بالله وليس عالم بأمر الله. يخشى الله لكن لا يعلم الحلال والحرام والأحكام. 3 - عالم بأمر الله وليس عالم بالله: أي: يعرف الأحكام والفقه، لكن خشية الله لا توجد تقوى غير موجودة, وهذا خطير جداً، لأن هذا الصنف هو الذي يضل الناس، الذي عنده علم وليس عنده تقوى، فيستعمل ما عنده من العلم في إضلال الخلق، ويلقي عليهم الشبهات والأشياء، يحرفهم بها: (إن أخوف ما أخاف على أمتي الأئمة المضلين). أما الذي لا عنده علم بالله ولا بأمر الله، فهذا كالحمار يحمل أسفاراً وليس عنده شيء، فالشأن كل الشأن في أن يعرف العبد ربه ويعلم أمره ونهيه، وكان الإمام أحمد رحمه الله يقول: " أصل العلم خشية الله، أصل العلم العلم بالله " هذا العلم النافع يقود إلى خشية الله عز وجل، هذا هو العلم الحقيقي. أما لو لاحظ الشخص أن علمه يتعلمه ليماري به العلماء، ويجادلهم ويجاريهم في الكلام، ويعرف بعض ما عندهم، ويماري به السفهاء، ويصرف به وجوه الناس إليه، ويريد به شرفاً ومنصباً وذكراً وثناءً، فهذا من أول خلق الله الذين تسعر بهم النار يوم القيامة.

علامات صاحب العلم النافع

علامات صاحب العلم النافع ثم إن ابن رجب رحمه الله في نهاية رسالته شرع يذكر علامات تدل على صاحب العلم النافع. ما هي علاماته؟ ما هي أوصافه؟ قال: (من علامات ذلك: قبول الحق والانقياد له) فإذا كان لا يقبل الحق ولا ينقاد له ويتكبر ويُصّر على الباطل فهذا علمه ليس بالعلم النافع. وكذلك من العلامات: إذا كان بعيداً عن الرياء لا يريد ثناء الناس ولا الرفعة بينهم، فهذا مخلص وعلمه نافع، فإذا كان يقبل المدح ويستجلبه، فمعنى ذلك أن علمه لم ينفعه. فالصادق يخاف النفاق على نفسه، ويخشى من سوء الخاتمة، فلذلك كان من علامات أصحاب العلم النافع أنهم لا يرون لأنفسهم مقاماً، ويكرهون بقلوبهم التزكية والمدح، ولا يتكبرون على أحد، لا يحسدون من فوقهم، ولا يسخرون ممن دونهم، ولا يأخذون على علمهم أجراً، هذه من علاماتهم. ومن علاماتهم: أنهم كلما ازدادوا في هذا العلم ازدادوا لله تواضعاً. ومن علاماتهم: أنهم يهربون من الدنيا ومن الرئاسة والشهرة والمدح ويتباعدون عن ذلك. ومن علاماتهم: أنهم لا يدعون العلم ولا يفخرون به على أحد ولا يجهلون غيرهم، إلا الجاهل الحقيقي. وكذلك فإنهم يتواضعون لمن سبقهم من أهل العلم ولا يخطئون السلف ولا يعتدون عليهم، تجد الآن العقلانيين يعتدون على السلف ويجهلون السلف، ويقولون: علمنا أشياء لم يعلمها السلف، وأين كان السلف عن كلامنا ونحو ذلك؟ فاحترام السلف ومدحهم، وعدم الكلام فيهم من القرون الثلاثة المفضلة، هذا من علامات أهل العلم النافع. لما سُئل أبو حنيفة عن علقمة والأسود وهما من كبار السلف: أيها أفضل؟ قال: "والله ما نحن بأهل أن نذكرهم فكيف نفضل بينهم". أي: أنا أستحي أن أذكر اسمه على لساني من علو منزلته وأنني دونه، أستحي أن أذكر اسمه فقط، فكيف أفضل بينهم؟ لا تعرضن لذكرنا في ذكرهم ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد لا تقارن بيننا وبين السلف، ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد، فشبه السلف بالصحيح، وشبه نفسه بالمقعد. ومن علمه غير نافع يرى لنفسه فضلاً على السلف وأنه فاقهم، وأنه أتى بكلام خفي عليهم ونحو ذلك. ثم عاود التأكيد على أن القضية ليست تشقيق في الكلام والتفاصح في الألفاظ، قال: (فإن الحياء والعي -عدم القدرة على الكلام الفصيح- شعبتان من الإيمان، والبذاء والبيان شعبتان من النفاق) وإسناده صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم والحديث مرفوع. وطبعاً هذا ليس على اطراده، فكم من السلف كان فصيحاً لكن لا يظن بالإنسان أنه إذا رأى من لا يستطيع أن يتكلم بفصاحة أنه جاهل، فقد يكون عالماً. وخذوا مثالاً! الآن مثلاً الشيخ عبد العزيز بن باز كلامه ومنطقه وحروفه لا تُحس فيها بالحروف البليغة الفصيحة، وربما غيره فاقة كثيراً في قضية الألفاظ والسجع وجمال الأسلوب، لكن لا يعني أن الذي عنده أسلوب جميل أنه عالم، وأن الذي ليس عنده أسلوب جميل أنه جاهل! أبداً، بل إن الحديث يقول: (الحياء والعي شعبتان من الإيمان، والبذاء والبيان شعبتان من النفاق). قال: (فمن عرف قدر السلف عرف أن سكوتهم عما سكتوا عنه من ضروب الكلام وكثرة الجدال والخصام، والزيادة في البيان على مقدار الحاجة لم يكن عياً ولا جهلاً ولا قصوراً، وإنما كان ورعاً وخشية لله تعالى واشتغالاً عما لا ينفع بما ينفع). فنسأل الله تعالى علماً نافعاً، ونعوذ به من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعاء لا يسمع. هذا كان ملخصاً لما عرضه ابن رجب رحمه الله في رسالته العظيمة المحتوية على الأصول الجامعة النافعة لطالب العلم، بعنوان: (بيان فضل علم السلف على علم الخلف) والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد.

قصة بناء البيت العتيق

قصة بناء البيت العتيق تكلم الشيخ حفظه الله في هذه المحاضرة عن كرامات ومعجزات وفضائل، أكرم الله عز وجل بها إبراهيم عليه السلام وأهله وذريته، حين أن أطاعوا ربهم واستجابوا لندائه، ومن هذه الكرامات والفضائل: نبوع ماء زمزم تفضيل مكة المكرمة ببناء البيت العتيق حج بيت الله الحرام تشريع الأضحية وغير ذلك. ثم استخرج الشيخ فوائد عدة من رحلة إبراهيم بهاجر وابنه إسماعيل إلى مكة.

نص حديث قصة بناء البيت العتيق

نص حديث قصة بناء البيت العتيق الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فالقصة التي سنتحدث عنها في هذه الليلة -أيها الإخوة- قصة قصها علينا النبي صلى الله عليه وسلم من أخبار الأنبياء ممن كان قبلنا {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى} [يوسف:111]. وهذه القصة هي قصة بناء الكعبة، وما وقع قبلها من الأحداث لإبراهيم الخليل عليه السلام مع أهله. وقد ساق الإمام البخاري رحمه الله تعالى هذا الحديث مطولاً، وهذه إحدى روايات الحديث: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لما كان بين إبراهيم وبين أهله ما كان خرج بإسماعيل وأم إسماعيل ومعهم شَّنَّة - وهي القربة- فيها ماء، فجعلت أم إسماعيل تشرب من الشَّنَّة فيدر لبنها على صبيها، حتى قدم مكة فوضعها تحت دوحة، ثم رجع إبراهيم إلى أهله، فاتَّبَعته أم إسماعيل حتى لما بلغوا كَدَاء نادته مِن ورائه: يا إبراهيم! إلى مَن تتركنا؟ قال: إلى الله، قالت: رضيتُ بالله. قال: فرَجَعَت، فجعلت تشرب من الشَّنَّة ويدر لبنها على صبيها، حتى فَنِي الماء. قالت: لو ذهبتُ فنظرتُ لعلي أحس أحداً، فذهبت فصعدت الصفا، فنظَرَت ونظَرَت هل تحس أحداً، فلم تحس أحداً، فلما بلغت الوادي سعت وأتت المروة -كان بين العَلَمَين الأخضرَين في الصفا والمروة كان يوجد وادٍ سعت فيه هاجر سعياً حثيثاً ومشت المسافة الباقية- فلما بلغت الوادي سعت وأتت المروة، ففعلت ذلك أشواطاً, ثم قالت: لو ذهبتُ فنظرتُ ما فعل -أي: الصبي- فذهبت فنظرت فإذا هو على حاله كأنه ينشغ للموت -يشهق- فلم تُقِرها نفسها، فقالت: لو ذهبتُ فنظرتُ لعلي أحس أحداً، فذهَبَت فصعدت الصفا فنظَرَت ونظَرَت فلم تحس أحداً، حتى أتمت سبعاً، ثم قالت: لو ذهبتُ فنظرتُ ما فعل، فإذا هي بصوت، فقالت: أغث إن كان عندك خير، فإذا جبريل قال: فقال بعقبه هكذا، وغمز عقبه على الأرض، قال: فانبثق الماء، فدهشت أم إسماعيل! فجعلت تحفز -أي: تجمع وتضم هذا الماء- فقال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: لو تَركَتَه كان الماء ظاهراً. قال: فجعلت تشرب من الماء ويدر لبنها على صبيها، فمر ناس من (جُرْهم) ببطن الوادي، فإذا هم بطير كأنهم أنكروا ذاك، وقالوا: ما يكون الطير إلا على ماء، فبعثوا رسولهم، فنظر فإذا هم بالماء، فأتاهم فأخبرهم، فأتوا إليها، فقالوا: يا أم إسماعيل! أتأذنين لنا أن نسكن معك؟ فبلغ ابنها -أي: إسماعيل شَبَّ- فنكح فيهم امرأة. قال: ثم إنه بدا لإبراهيم فقال لأهله: إني مُطلع تركتي، قال: فجاء فسلم، فقال: أين إسماعيل؟ فقالت امرأته: ذهب يصيدُ، قال: قولي له إذا جاء غيِّر عتبة بابك، فلما جاء أخبَرَتْه، قال: أنتِ ذاك، فاذهبي إلى أهلك، قال: ثم إنه بدا لإبراهيم، فقال لأهله: إني مُطلِع تركتي قال: فجاء فقال: أين إسماعيل؟ فقالت امرأته -أي: الثانية-: ذهب يصيد، فقالت: ألا تنزل فتطعم وتشرب، فقال: وما طعامكم؟ وما شرابكم؟ قالت: طعامنا اللحم وشرابنا الماء، قال: اللهم بارك لهم في طعامهم وشرابهم، فقال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: بَرَكةٌ بدعوة إبراهيم -صلى الله عليهما وسلم- قال: ثم إنه بدا لإبراهيم فقال لأهله: إني مُطلِع تركتي، فجاء فوافق إسماعيلَ مِن وراء زمزم يُصْلِح نبلاً له، فقال: يا إسماعيل! إن ربك أمرني أن أبني له بيتاً، قال أَطِعْ ربك، قال: إنه قد أمرني أن تعينني عليه، قال: إذاً أفعل -أو كما قال- قال: فقاما، فجعل إبراهيم يبني وإسماعيل يناوله الحجارة، ويقولان: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:127] حتى ارتفع البناء، وضعف الشيخ عن نقل الحجارة، فقام على حجر المقام فجعل يناوله الحجارة، ويقولان: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:127]). هذه إحدى روايتَي البخاري اللتين ساقهما رحمه الله تعالى في صحيحه.

شرح حديث ابن عباس الطويل في قصة بناء البيت العتيق

شرح حديث ابن عباس الطويل في قصة بناء البيت العتيق أما الرواية الأخرى فإنها رواية أطول من هذه، وفيها تفاصيل، وسنأتي الآن إلى شرحها، وأخذ العبر والدروس مما يتيسر بمشيئة الله تعالى.

سبب إيراد سعيد بن جبير لقصة بناء البيت العتيق

سبب إيراد سعيد بن جبير لقصة بناء البيت العتيق هذه القصة رواها سعيد بن جبير، وهو تابعي أخذ التفسير عن ابن عباس، وأخذ الحديث عنه أيضاً، وقد قتله الحجاج ظلماً، ولما حضرت الحجاج الوفاة جعل سعيد يعرض له، يرى الحجاج نتيجة الظلم وهو على فراش الموت، فكان يقول: ما لي ولـ سعيد، ما لي ولـ سعيد!! سعيد بن جبير من سادات التابعين، ومن كبار العلماء، وكان في ليلة بأعلى المسجد، فقال لمن حوله من الطلاب: [سلوني قبل ألا تروني -ولعله كان رحمه الله يتوقع مَنِيَّتَه، فسأله القوم وأكثروا السؤال لما أحسوا أنه يودعهم- فكان مما سُئِل عنه أن قال رجلٌ: أحقٌ ما سمعنا في المقام -مقام إبراهيم- أن إبراهيم حين جاء من الشام حلف لامرأته ألا ينزل بـ مكة حتى يرجع] أي: كان بين سارة -أو سارَّة لأنها كانت تَسُرُّ زوجَها إذا نظر إليها تَسُرُّ مَن نظر إليها- كان بينها وبين هاجر غيرة، فإبراهيم عندما أراد أن يذهب من عند سارة من الشام إلى مكة إلى الوادي الذي ترك فيه هاجر كأنه حلف لامرأته ألا ينزل بـ مكة حتى يرجع، حتى لا يطيل المقام عند الأخرى، فقرَّبت إليه أم إسماعيل المقام فوضع رجله عليه حتى لا يحنث في يمينه، بل ينزل على الحجر. الآن هذا سائل يقول لـ سعيد بن جبير: هل هذا الكلام صحيح؟ هل قصة المقام هكذا؟ - فقال سعيد بن جبير: ليس هكذا، حدثنا ابن عباس وساق الحديث. وفي رواية قال: [يا معشر الشباب! سلوني، فإني قد أوشكت أن أذهب من بين أظهركم، فأكثر الناس مسألته، فقال له رجل: أصلحك الله، أرأيت هذا المقام هو كما نتحدث؟ وأورد له سؤالاً مشابهاً، فقال: ليس كذلك] ثم ساق القصة.

هجرة أم إسماعيل إلى مكة

هجرة أم إسماعيل إلى مكة القصة الأخرى التي رواها البخاري رحمه الله في السياق الآخر: عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: (أول ما اتخذ النساءُ المِنْطَقَة مِن قِبَل أم إسماعيل -المِنْطَق الذي يُشد على الوسط، لماذا اتخذت أم إسماعيل المنطق؟ - قال عليه الصلاة والسلام: اتخذت منطقاً لتعفي أثرها على سارة). كانت هاجر أمة لـ سارة، لأن الجبار عندما أراد أن يمس سارة بسوء، أراد أن يأخذها، دعت الله عز وجل فأصيب بالشلل، ثلاث مرات يحاول أن يمس سارة بسوء، والله سبحانه وتعالى يصيبه بالشلل، وفي النهاية قال لمن أتاه بها: إنك لم تأتني بإنسان، إنما أتيتني بشيطان، فخلى سبيل سارة وأعطاها هاجر وهاجر كانت عند الجبار الملك الظالم. وعندما رجعت سارة إلى إبراهيم قالت له: أخزى الله الفاجر وأخدم هاجر، ثم إن سارة وهبت هاجر لزوجها إبراهيم، ثم حصل بين سارة وهاجر من الغيرة ما يقع بين النساء، وإن سارة لما اشتدت بها الغيرة خرج إبراهيم بإسماعيل وأمه هاجر إلى مكة لأجل ذلك، وقد أمره الله تعالى بالخروج إلى مكة، واجتمع مع ذلك سبب الغيرة. فحتى لا تعرف سارة اتجاه هاجر وأثرها أين ذهبت، اتخذت منطقاً يشد على الوسط. (ويزحف وراءها على الأرض ليخفي أثر مشيها، فجاء إبراهيم بـ هاجر من الشام إلى مكة، وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت -الكعبة لم تكن مبنية ولا موجودة، وإنما مكان البيت- عند دوحة -أي: الشجرة الكبيرة- فوق زمزم في أعلى المسجد -مكان المسجد الذي لم يكن قد بُنِي حينئذٍ- وليس بـ مكة يومئذٍ أحد، وليس بها ماء، فوضعهما هنالك ووضع عندهما جراباً فيه تمر وسقاءً فيه ماء -ماء وطعام لأهله الذين تركهم بأمر الله- ثم قَفَّى إبراهيم منطلقاً -أي: وضع هاجر وابنه إسماعيل في هذا المكان الوادي المقفر ورجع إلى الشام - فتبعته أم إسماعيل -لما ولى راجعاً إلى الشام تبعته أم إسماعيل- فأدركته بـ كَدَاء) كداء موضع معروف في مكة غير كُدَى، هناك في مكة مكانان: كداء وكُدَى، وكلاهما مكان معروف، أم إسماعيل لما ولى زوجها إبراهيم خرجت وراءه تطلبه.

مراجعة أم إسماعيل لإبراهيم وتعرض ولدها للهلاك

مراجعة أم إسماعيل لإبراهيم وتعرض ولدها للهلاك (فأدركته بـ كداء، فقالت: يا إبراهيم! أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مراراً وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: آللهُ الذي أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذاً لا يضيعنا وقالت في رواية: رضيتُ بالله -حسبي يكفيني الله عز وجل- ثم رجعت، فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية من طريق كداء -الموضع الذي دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة منه، لما بلغ الثنية حيث لا يرونه -لا تراه هاجر - استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهؤلاء الكلمات، ورفع يديه فقال: {رَبِّ إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [إبراهيم:37] حتى بلغ: {يَشْكُرُونَ} [إبراهيم:37] ودعا لهم بأن يرزقهم الله من الطيبات والثمرات، وجعلت أم إسماعيل تُرْضِع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نفذ ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى أو قال يتلبط -أي: يتقلب ظهراً لبطن وبطناً لظهر من العطش- فانطلقت كراهيةَ أن تنظر إليه -أي: من الشفقة التي جعلها الله في قلبها تركت ولدها وانطلقت, ما بيدها حيلة، المهم ألا ترى الولد يتلبط ولا تتحمل المنظر- فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه -صعدت على الصفا - ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً فلم ترَ أحداً وفي رواية عطاء بن السائب: والوادي يومئذٍ عميق. الآن لا يوجد هناك وادٍ، الوادي أُزِيل وصار فيه بلاط بدلاً منه؛ لكن بقي العَلَمان الأخضران في أول الوادي وآخر الوادي، فنعلم أن ما بين العَلَمَين الأخضرَين كان هناك وادٍ عميق، هاجر عندما نزلت من الصفا مشت إلى الوادي، وانحطت من الوادي وأسرعت. (فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود -الذي أصابه الجهد والأمر الشاق- حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة، فقامت عليها -صعدت جبل المروة - ونظرت هل ترى أحداً فلم ترَ أحداً -لأن الإنسان إذا أراد أن يستكشف هل يوجد في المكان أحد يصعد إلى مرتفع، وهذا ما فعلته رحمها الله صعدت ونظرت- فلم ترَ أحداً، ففعلت ذلك سبع مرات. قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: فذلك سعي الناس بينهما). لماذا يسعى الناس بين الصفا والمروة سبع مرات؟ مثلما سعت هاجر بين الصفا والمروة سبع مرات. وكذلك عندما كانت في الوادي سعت سعياً شديداً، ونحن نسعى سعياً شديداً بين العَلَمَين الأخضرين مكان الوادي.

بحث أم إسماعيل عن الماء وكرامة الله لها

بحث أم إسماعيل عن الماء وكرامة الله لها قال: (فلما أشرفت على المروة -في ختام الشوط السابع- سمعت صوتاً، فقالت: صَهْ وفي رواية: أنها كانت كل مرة تتفقد إسماعيل، وتنظر ماذا حدث له بعدها وترجع، ولكن لم تقرها نفسُها -أي: لم تتركها نفسها مستقره فتشاهده في حال الموت، وكانت في كل مرة تلقي نظرة على إسماعيل وترجع تأخذ شوطاً وتصعد، وفي نهاية الشوط السابع وهي فوق المروة -سَمِعَت صوتاً فقالت: صَهٍ صَهْ -أي: اسكت، فكأنها من حرصها تقول لنفسها: اسكتي وأنصتي، لعلك تهتدي إلى مصدر الصوت- تريد نفسها -وإلا فصَهْ كلمة تقال لإسكات الشخص المتكلِّم، فهي قالت لنفسها: صَهْ- تريد نفسها، ثم تسمَّعت فسمعت أيضاً -صوتاً- فقالت: قد أسمعتَ -مصدر الصوت- إن كان عندك غِواث أو غُواث -تريد به هذا المستغيث- فأَغِث -أي: إن كان عندك معونة أغث- فإذا هي بالملك وهو جبريل عليه السلام -وعند الطبري بسند حسن- فناداها جبريل، فقال: من أنتِ؟ قالت: أنا هاجر، أو أم ولد إبراهيم -أم ولد، أمة إبراهيم أم ولده- قال: فإلى من وَكَلَكُما؟ قالت: إلى الله، قال: وَكَلَكُما إلى كافٍ -أي: يكفيكما- حسبكما مَن وَكَلَكُما إليه -وَكَلَكُما إلى عظيم يكفيكما- فإذا هي بالملك عند موضع زمزم، فبحث بعقبه أو قال: بجناحه -شكٌّ من الراوي، هل ضرب جبريل الأرض بمؤخر قدمه وهو العَقِب، أو ضرب الأرض بجناحه؟ - لما فعل ذلك جبريل ظهر الماء وفي رواية: نبعت زمزم -نبعت زمزم من هذه الضربة- حتى ظهر الماء، ففاض وانبثق، وأول ما رأت هاجر هذا المنظر -من حب التملك، والحرص على الماء ألَّا يذهب- جعلت تحوِّضُه -تجعله مثل الحوض، وتقول بيدها هكذا، تحبس الماء. فقال النبي صلى الله عليه وسلم قال: يرحم الله أم إسماعيل، لو تركت زمزم، أو قال: لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عيناً معيناً) أي: لو أن هاجر تركت زمزم كما هي مثلما ضَرَبها جبريل وانبثقت، لصارت زمزم نهراً جارياً يمتد ويجري على ظاهر الأرض، لكن حرصها الزائد جعلها تحوط الماء، فبقي في مكانه، وإلا لأصبح الآن نهراً يجري، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور -بعد ما تغرف- فشربت وأرضعت ولدها، فقال لها الملَك: (لا تخافوا الضيعة -يطمئنها، لا تخافي أن ينفد الماء، لا تخافي الظمأ- فإنها عين يشرب منها ضيفان الله وفي رواية: قالت: بشرك الله بخير وفي رواية البخاري فقال لها الملك: لا تخافوا الضيعة، فإن هاهنا بيت الله يَبْنِي هذا الغلام وأبوه وفي رواية: يبنيه هذا الغلام وأبوه -وأشار إلى موضع البيت على مدرة حمراء -تربة حمراء- قال: أشَّر لها إلى موضع البيت، وقال: هذا بيت الله العتيق، واعلمي أن إبراهيم وإسماعيل يرفعانه -بشرها ببناء البيت العتيق- وكان موضع البيت لم يُبْنَ بعد- وكان البيت مرتفعاً من الأرض) يقال: إن آدم قد بناه في هذا الموضع، ولكن البيت قد ذهب بعد ذلك، وأن بعض الأنبياء بعد آدم كانوا يحجون إلى المكان ولا يعرفون موضعه، حتى جاء إبراهيم الخليل فبناه.

نزول قبيلة جرهم عند أم إسماعيل بمكة

نزول قبيلة جرهم عند أم إسماعيل بمكة قال: (فإن هاهنا بيت الله يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله، وكان البيت مرتفعاً من الأرض كالرابية -مكان البيت مرتفع كالرابية- تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله، فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم -وهي قبيلة مشهورة- فبقيت هاجر على هذا الحال تتغذى وولدها على هذا الماء المبارك) ماء زمزم الذي هو طعام طُعْم وشفاء سُقْم، يغني عن الماء. حتى أن أبا ذر رضي الله عنه لما جاء مكة جلس عند زمزم يشرب من زمزم فقط شهراً حتى تكسرت عُكَنُ بطنه، أي: سَمِن حتى ذهبت عُكَنْ بطنه مِن السِّمَن ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم عن زمزم: (ماء زمزم طعام طُعْم وشفاء سُقْم) يقوم مقام الطعام، وهو سبب للشفاء من الأمراض والأسقام فإذن الله. عندما أتى هؤلاء الرفقة من قبيلة جرهم (مقبلين من طريق كداء، فنزلوا في أسفل مكة، فرأوا طائراً عائفاً -أي: رأوا طائراً يحوم فوق الموضع- فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على ماء -العرب كانوا يعرفون أنهم إذا رأوا الطائر يدور في موضع معناه: أنه يوجد ماء في هذا الموضع- فاستغربوا -استغرب هؤلاء الجرهميون- قالوا: إن هذا الطائر ليدور على ماء، وعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء -متى صار هناك ماء في الوادي، عهدُنا ما فيه ماء- فأرسلوا جَرِيَّاً قبيلة (جرهم) من العرب كان مكانهم قريباً من مكة، ويقال: إن أصلهم من العمالقة، هؤلاء عرب يتكلمون العربية، ولما نزلوا جاءوا على عادتهم في التنقل في هذا الموضع ورأوا طائراً عائفاً. فأرسلوا جَرِيَّاً -وهو الرسول، أرسلوه ينظر لهم الخبر، وسمي الرسول جَرِيَّاً؛ لأنه يجري مسرعاً في حوائجه ليأتي بالخبر بسرعة- فإذا هم بالماء، فرجع، فأخبرهم بالماء -رجع الرسول وأخبر قبيلة جرهم أن المكان فيه ماء- فأقبلوا وأم إسماعيل عند الماء، فقالوا: أتأذنين لنا أن ننزل عندك، فقالت: نعم، ولكن لا حق لكم في الماء -الماء ملكي فقط وليس لكم حق فيه- قالوا: نعم -نرضى وننزل عندكِ، والعرب كانوا ينزلون في المكان الذي فيه ماء. قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: فألفى ذلك أمَّ إسماعيل، وهي تحب الأنس) فالأُنس ضد الوحشة، والإِنس جنس هاجر من الإِنس، تحب جنسها، أو تحب الأُنس الذي هو ضد الوحشة، رأت هاجر من مصلحتها أن ينزل هؤلاء عندها، لماذا تبقى وحيدة في الصحراء؟! وافقت على أن ينزلوا عندها وشرطت عليهم أنه لا حق لهم في الماء. فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم -استدعوا هؤلاء الجرهميون أهاليهم- فنزلوا معهم، حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم -من جرهم- وشبَّ الغلام -أي: إسماعيل عليه السلام - وتعلَّم العربية منهم) إذاً: إسماعيل بن إبراهيم لم يكن أبوه عربياً ولا أمه هاجر عربية، فتعلم العربية من جُرْهم، لكن عندنا حديث حسن عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيه: (أول مَن فَتَقَ الله لسانه بالعربية المبينة إسماعيل) فكيف نجمع بين هذا وهذا؟! نقول: إن إسماعيل تعلَّم العربية مِن جُرهم، لكن الله رزق إسماعيل الفصاحة المتناهية في اللغة العربية، ولذلك يقول الحديث: (أول مَن فَتَقَ الله لسانه بالعربية المبينة إسماعيل) فجرهم عرب وعلموه العربية، لكن ليست العربية الفصيحة المبينة مَن الذي ألهم إسماعيل العربية الفصيحة المبينة؟ الله عز وجل. إذاً: أصل اللغة تعلمها من جرهم، ثم إن الله أَلْهَم إسماعيل العربية الفصيحة المبينة فنطق بها، ولذلك صار إسماعيل أفصح العرب، ثم صارت اللغة الفصيحة بعد ذلك تُتَناقَل. لذلك الذين قالوا: إن اللغة العربية مصدرها الوحي لهم حظ من الدليل. ويمكن أن يقال: إن أصل اللغة كانت موجودة عند جرهم، لكن مستوى الفصاحة والبيان في اللغة كان بوحي أو بإلهام من الله، هو الذي ألهم إسماعيل وعلمه العربية الفصحى، فالعربية الفصحى إلهام من الله لإسماعيل، وبعد إسماعيل انتقلت هذه العربية الفصحى التي يرفض اليوم بنو قومنا استعمالها، ويصرون على الكلام بالأجنبية، والتاريخ بالأجنبية، والعمل باللغة الأجنبية، وهذه اللغة العربية مصدرها إلهام من الله لإسماعيل، فلماذا العدول عنها؟!

إبراهيم عليه السلام يتفقد تركته في مكة

إبراهيم عليه السلام يتفقد تركته في مكة قال: (وشب الغلام، وتعلم العربية منهم وأنْفََسَهُم -مِن النَّفاسَة، أي: رغبوا فيه، وأعجبهم؛ لأنه صار ينطق بلسانٍ عربيٍ أحسن منهم، تفوق عليهم في اللغة- فلما أدرك -أي: بلغ- زوجوه امرأة منهم، وماتت أم إسماعيل -رحمة الله عليها، هاجر ماتت، بعدما تزوج إسماعيل- فجاء إبراهيم بعدما تزوج إسماعيل يُطالِع تَرِكَتَه) جاء يتفقد مَن تركهم بعد سنوات طويلة. يقال: إن إبراهيم ترك إسماعيل رضيعاً وعاد إليه وهو متزوج. وقيل: إنه جاء في بعض الروايات: أنه كان إذا أراد أن يأتي ليتفقد التركة، يأتي من الشام على البراق إلى مكة في الصباح، ويقيل في الشام، يأتي على البراق غُدْوَة من الشام إلى مكة، ويقيل القيلولة بعد الظهر في الشام مرة أخرى على البراق. قال ابن حجر: وروى الفاكهي من حديث علي بإسناد حسن نحوه، وأن إبراهيم كان يزور إسماعيل وأمه على البراق. وعلى هذا فقوله: (فجاء إبراهيم بعدما تزوج إسماعيل -أي: بعد مجيئه قبل ذلك مراراً، كان يتردد ويتفقد، لكن بعدما تزوج إسماعيل جاء يتفقد التركة- فلم يجد ولده إسماعيل في البيت، فسأل امرأته عنه: أين إسماعيل؟ فقالت: خرج يبتغي لنا -يطلب لنا الرزق- وكان عيش إسماعيل الصيد -يخرج فيتصيد، كان إسماعيل يرعى ماشيته ويخرج متَنَكِّباً قوسه فيرمي الصيد- ثم سألها عن عيشهم -إبراهيم سأل زوجة ابنه في غيابه عن عيشهم وهيئتهم- فقالت: نحن بِشَرٍّ، نحن في ضيق وشدة وفي رواية أنه قال لها: هل من منزل؟ قالت: لاهى اللهُ إذاً -لا يوجد منزل- قال: فكيف عيشكم؟ فذكرت جهداً، فقالت: أما الطعام فلا طعام، وأما الشاة فلا تحلب إلا المُصَرَّة -أي: مثل الشخب، تسيل سيلاناً فقط، شيء قليل- وأما الماء فعلى ما ترى من الغِلَظ) امرأة متأففة، غير راضية ولا قانعة، وتشكو زوجها إلى الأغراب، لا تعرف من هو هذا الرجل، بمجرد ما جاء وسأل عن عيشهم وقعت في عيشهم: نحن في ضيق وشدة، فشكت إليه. (قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام، وقولي له يغير عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل كأنه آنس شيئاً -أحس كأن أحداً جاء- فقال: هل جاءكم من أحد؟ قالت: نعم. جاءنا شيخٌ كذا وكذا -وصفته كالمستخفة بشأنه- فسألنا عنك فأخبرته، وسألنا كيف عيشنا، فأخبرته أنا في جهد وشدة، قال: فهل أوصاكِ بشيء؟ قالت: نعم. أَمَرَني أن أقرأ عليك السلام، ويقول: غير عتبة بابك، قال: ذاك أبي، وقد أمرني أن أفارقكِ، الحقي بأهلك، فطَلَّقَها). لماذا كنَّى إبراهيم بالعتبة عن المرأة؟ وما هو وجه العلاقة بين العتبة والمرأة؟ عتبة الباب ما هي وظيفتها؟ حفظ الباب، وصون ما هو داخل الباب، وهي محل الوطء، العتبة محل الوطء، فشبَّه إبراهيم المرأة بعتبة الباب، قال: هذه العتبة لا تصلح، فغيِّر العتبة.

دعاء إبراهيم عليه السلام لأهل مكة بالبركة

دعاء إبراهيم عليه السلام لأهل مكة بالبركة قال: (قال: وتزوج منهم أخرى -تزوج إسماعيل من جرهم امرأة أخرى- فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله -انقطع بعد ذلك إبراهيم ما شاء الله- ثم أتاهم بعدُ، فلم يجده -لم يجد إسماعيل- فدخل على امرأة ابنه، فسألها عنه، فقالت: خرج يبتغي لنا، قال: كيف أنتم؟ -وسألها عن عيشهم وهيئتهم- فقالت: نحن بِخَيْرٍ وسَعَة -نحن في خير عيش والحمد لله، وعندنا لبن كثير، ولحم كثير، وماء طيب- وأثنت على الله، فقال: ما طعامكم؟ قالت: اللحم، قال: فما شرابكم؟ قالت: الماء، قال: اللهم بارك لهم في اللحم والماء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ولم يكن لهم يومئذٍ حَب -لا يوجد إلا اللحم والماء، لا يوجد حَب، لا يوجد قمح، لا يوجد أرز، لا يوجد شيء إلا اللحم والماء- ولو كان لهم دعا لهم فيه) لا يوجد في مكة إلا اللحم والماء، لو كان فيها شيء آخر لقال إبراهيم: اللهم بارك لهم في مدهم في صاعهم في كيلهم في حَبهم في برهم، لا يوجد إلا اللحم والماء. قال عليه الصلاة والسلام: (فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة، إلا لم يوافقاه) يقول عليه الصلاة والسلام: لو اقتصر أحد على اللحم والماء بغير مكة لاشتكى بطنه، أي: يمرض، إلا مكة لا يمرض، لماذا؟ قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: (بركة بدعوة إبراهيم) لأن إبراهيم دعا وقال: (اللهم بارك لهم في اللحم والماء) صار الآن اللحم والماء في مكة لا يضر، وفي غيرها يضر الاقتصار على اللحم والماء وهذه من خصائص مكة. قال: (فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام، ومُرِيْه يثبت عتبة بابه) وجاء في رواية: قالت: (انزل رحمك الله، فاطعم واشرب، قال: إني لا أستطيع النزول، قالت: فإني أراك أشعث، أفلا أغسل رأسك وأدهنه، قال: بلى، إن شئتِ، فغسلت شِق رأسه وهو على دابته الأيمن والأيسر ثم انصرف، فلما جاء إسماعيل قال: هل أتاكم من أحد؟ قالت: نعم. أتانا شيخ حسن الهيئة -تلك ماذا قالت؟ شيخ كذا وكذا- وهذه قالت: أتانا شيخ حسن الهيئة، وأثنت عليه، فسألني عنك فأخبرته، فسألني كيف عيشنا، فأخبرته، أنا بِخَيْرٍ، قال: فأوصاك بشيء؟ قالت: نعم. هو يقرأ عليك السلام، ويأمرك أن تُثْبِتَ عتبة بابك، قال: ذاك أبي، وأنت العتبة، أمرني أن أمسكك).

قيام إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ببناء الكعبة

قيام إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ببناء الكعبة جاء في بعض الروايات: (أن إسماعيل لما رجع وجد ريح أبيه، فقال: هل جاءكِ أحد -فهذا الذي أشعره بأن أحداً قد جاء، ولذلك سأل- قال: ثم لبث عنهم ما شاء الله -انقطع عنهم ما شاء الله- ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلاً -أي: يقلم النبل قبل تركيب النصال والريش عليها يبريها- يبري نبلاً له تحت دوحة قريبة من زمزم -دوحة: أي شجرة قريبة من زمزم- فلما رآه -إبراهيم الآن رأى إسماعيل، تقابلا الآن المرة الثالثة- فصنعا كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد -من الشوق والحماءة واللقاء الحار، اعتناق، ومصافحة، وتقبيل اليد ونحو ذلك. وفي رواية معمر قال: سمعتُ رجلاً يقول: بَكَيا حتى أجابهما الطير -كان اللقاء حاراً جداً بعد هذه السنوات الطويلة من الفراق- قال عليه الصلاة والسلام: فصنعا كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد -بعد طول الغيبة كيف يكون اللقاء حاراً وعناقاً ومصافحةً وتقبيلاً! - ثم قال: يا إسماعيل! إن الله أمرني بأمرٍ، قال: فاصنع ما أمرك ربك، قال: وتعينني؟ قال: وأعينك، قال: فإن الله أمرني أن أبني هاهنا بيتاً، وأشار إلى أكمة مرتفعة -هضبة مرتفعة- على ما حولها، قال: فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء، جاء بهذا الحجر فوضعه له، فقام عليه وهو يبني، وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:127] قال: فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت -يبني ويدور يبني ويدور- وهما يقولان: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:127]) فقيل: إن إبراهيم بلغ أساس آدم وجعل طوله في السماء تسعة أذرع، وعرضه ثلاثين ذراعاً -ارتفاع البيت وعرض البيت- وجعل الحجر داخل البيت، الآن الحجر خارج البيت كما قلنا في تفصيل القصة في المرة الماضية: إن الحجر الآن هو جزء من الكعبة، لكنه خارج البيت، وأما إبراهيم الخليل فعندما بناها كان الحجر هذا كله داخل البيت (وكان إبراهيم يقوم على المقام -الذي جاء له به ولده- ولما جاء موضع الركن وضع فيه هذا الحجر الأسود الذي نزل من الجنة -قيل: أتاه به جبريل- وبعد ذلك قام إبراهيم على الحجر، فقال: يا أيها الناس! كُتِب عليكم الحج، فأسمع من في أصلاب الرجال وأرحام النساء، فأجابه مَن آمن ومَن كان سبق في علم الله أنه يحج إلى يوم القيامة: لبيك اللهم لبيك). قال ابن حجر: روى الفاكهي بإسناد صحيح من طريق مجاهد عن ابن عباس، أن إبراهيم عندما انتهى من بناء البيت نادى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج:27] نادى من مكانه بدون مكبرات، أو أي شيء آخر: يا أيها الناس! كُتِب عليكم الحج. فالله عز وجل تكفل بإبلاغ صوته إلى الناس كلهم في الأرض في ذلك الوقت، سمع صوتَه كل أهل الأرض، وليس فقط ذلك، وإنما أسمع الله من في أصلاب الرجال وأرحام النساء، فأجابه كل مَن كتب الله له أن يحج إلى يوم القيامة، قائلين حتى الذين في أصلاب الرجال، حتى الذين ما خُلِقوا بعد، أجابوا: (لبيك اللهم لبيك) بقدرة الله عز وجل. هذه قصة بناء البيت العتيق.

فوائد مستفادة من قصة بناء البيت العتيق

فوائد مستفادة من قصة بناء البيت العتيق هذه القصة فيها فوائد كثيرة جداً، وسوف نذكر بعض هذه الفوائد، فمن ذلك:

الحرص على سؤال أهل العلم

الحرص على سؤال أهل العلم أولاً: الحرص على سؤال العلماء، وأن العلم يُفْقَد بموت العلماء، وأن سعيد بن جبير عندما قال: [سلوني فإنه يوشك أن تفقدوني] أنه يجوز للعالم أن يقول للناس: سلوني، ويجيب بما علمه الله، والذي لا يدري عنه يقول: الله أعلم.

الغيرة بين النساء

الغيرة بين النساء في هذا الحديث أيضاً: أن الغيرة بين النساء تقع حتى بين الصالحات، سارة مع أنها حُرَّة وهاجر أَمَة؛ لكن صار عند سارة غَيرة من هاجر، فـ هاجر أنجبت وسارة تأخر إنجابها، حتى أنجبت إسحاق، تأخَّر إنجابها حتى حصلت الغَيرة.

المباعدة بين الزوجتين حل من حلول الغيرة

المباعدة بين الزوجتين حل من حلول الغيرة مِن حكمة الزوج أن المباعدة بين الزوجتين حلٌّ مِن حلول الغيرة، المباعدة بين الزوجتين حلٌّ من الحلول لمواجهة الغيرة، والغيرة من شأن النساء، وأن غيرة المرأة لا تقدح في صلاحها إذا لم تتعدَّ حدود الله، وأن المرأة يغتفر لها من الغيرة ما لا يغتفر لغيرها: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] لأن المرأة أحياناً تكون خارجة عن إرادتها. لما جيء للنبي عليه الصلاة والسلام وهو عند عائشة بإناء فيه طعام من إحدى زوجاته، بمجرد ما رأت عائشة الإناء قالت: في بيتي؟ -ترسله في بيتي- فأخذت الإناء ورمته في الأرض، وانكسر، والنبي عليه الصلاة والسلام بكل حكمه، لَمْلَمَ الطعام وجمعه، وأخذ فلقتَي الإناء، وقال: (كلوا، غارت أمُّكم) أي: عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، وأخذ من بيت عائشة إناءً، وأرسل به إلى تلك بدل الإناء المكسور، واحدٌ بواحد، وقال: (كلوا، غارت أمُّكم) ولا عنَّف ولا شتم ولا سب ولا هجر. وكذلك عائشة رضي الله عنها لها مشاهد كثيرة، تغار فيها غيرة شديدة، وغارت من خديجة مع أن خديجة ميتة، ماتت قبل عائشة بزمن، ومع ذلك تقول: [ما غرت من امرأة ما غرت من خديجة]، وكانت تقول: (ما تريد من عجوز حَمْراء الشِّدْقَين، قد أبدلك الله خيراً منها -كل شيء خديجة وخديجة وخديجة - قال: إنها كانت وكانت، وكان لي منها ولد). فالغيرة تقع حتى بين كبار الصالحات، وهكذا وقع بين سارة وهاجر غَيرة، لكن الأمر المهم هو التصرف الحكيم للزوج، هو الذي يضع الأمور في نصابها، رأى إبراهيم بحكمته أن يباعد بينهما، فوضع سارة في الشام وهاجر في مكة.

مسئولية الحفاظ على الأهل والأولاد

مسئولية الحفاظ على الأهل والأولاد كذلك في هذا الحديث: أن الإنسان لا يضيع أهله، مع أن إبراهيم مأمور بأن يضع هاجر في مكة: (آلله أمرك بذلك؟ قال: نعم) أمر من الله، لكن مع ذلك وضع عندها جراباً من تمر، وسقاءً فيه ماء، ولما ولى وابتعد عنهم دعا لهم الله عز وجل. فمسئولية شعور الزوج والأب بمسئوليته نحو زوجته وولده، هذا الذي يجعل الأمور تسير سيراً حسناً. أما إذا كان الإنسان مهملاً -كما هي عادة بعض الأزواج- لا يحسب حساب زوجته ولا أولاده، وربما أنهم يأخذون الطعام من الجيران، أو لا يجدون شيئاً في البيت ولا الطعام ولا حتى الخبز، يسافر ولا يترك لهم لا مالاً ولا أكلاً. تقول إحدى النساء: يأتي إلى البيت بنماذج وعَيِّنات من الأكل تنتهي بعد يومين أو ثلاثة أيام، ويقول: هذا حق شهر، وربما أنه لا يجد طعاماً في البيت فيأكل في المطعم ويترك زوجته جائعة، هناك أناسٌ عندهم طباع عجيبة، البخل والإهمال في البيت في أسوأ ما يكون. إبراهيم الخليل ترك جراباً من تمر وسقاءً من ماء، ودعا الله لهما.

قوة الثقة بالله عز وجل

قوة الثقة بالله عز وجل كذلك في هذا الحديث: الثقة بالله تعالى، والثقة بالنفس لا تجوز، وإنما الثقة بالله، ويظهر إيمان هاجر عندما قالت له: (آلله الذي أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذاً لا يضيعنا. وفي رواية قالت: رضيت بالله) ولا يتم هذا الكلام إلا إذا كان هناك إيمان قوي بالله عز وجل، وإلا فإن الإنسان ربما ينهار ويموت ويُجن ويصاب بما يصاب به، لكن الذي يثق بالله تعالى وبأمر الله ما دام الأمر من الله إذاً الله لن يضيعهم، لأنه لا يمكن أن يقول لإبراهيم: ضعهم في مكان حتى يموتوا من الجوع! لا، ليس هذا من حكمة الله، ولذلك أمر إبراهيم أن يضع هاجر وإسماعيل في مكان ويتركهما، وهذا من عظيم الابتلاء.

ابتلاء الأنبياء

ابتلاء الأنبياء إبراهيم ما صار أبو الأنبياء، ولا خليل الله، ولا أفضل نبي بعد نبينا عليه الصلاة والسلام إلا بصبره، ابتلاه الله بابتلاءات عظيمة وصبر، فكون الواحد يترك زوجته وولده في وادٍ غير ذي زرع، لا يوجد فيه أحد، ويمشي وقلبه متعلق بالولد، ويؤمر بتركه ويمشي، هذا ابتلاء عظيم، ولا يصبر عليه إلا من رزقه الله الصبر، وهذا درس آخر. وابتلاه الله بذبح هذا الولد، ابتلاه الله بتركه في صحراء ما فيها أحد وهو رضيع، ولما كبر وبلغ معه السعي وشَبَّ ابتلاه الله بذبح ولده. وفعلاً: {فَلَمَّا أَسْلَمَا} [الصافات:103] استسلما لله: {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات:103] وقلبه على وجهه ليذبحه من القفا حتى لا يرى آلام إسماعيل على الوجه وهو يذبح، فربما يتردد، {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات:103] وقلبه وبدأ في الذبح، فإذا بالله تعالى يبطل مفعول السكين: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا} [الصافات:104 - 105] وبعد ذلك فداه الله بذبح عظيم، وشُرِعت لنا الأضحية. بسبب إبراهيم شرعت لنا عبادات: - الحج: من إبراهيم. - بناء البيت: من إبراهيم. - السعي بين الصفا والمروة: من هاجر أَمَة إبراهيم. - زمزم: من إبراهيم، بسبب ما تركه هناك، رزق الله ولده وأمه زمزم، وبركة زمزم. - الأضحية: صيغة الخليل إبراهيم عليه السلام.

السعي في بذل الأسباب

السعي في بذل الأسباب وكذلك في هذا الحديث من الفوائد: السعي في الأسباب؛ لأن هاجر عندما انتهى ما عندها من الزاد قالت: لو ذهبتُ فنظرتُ لعلي أحس من أحدٍ، وذهبَت صعدت الصفا ثم صعدت المروة سبع مرات بينهما تجري وتستنصت، وهي امرأة لا تملك شيئاً، لكنها فعلت كل ما في وسعها، ولم تقل: أبقى في مكاني حتى ينزل الله عليَّ من السماء رزقاً، ولذلك لا بد من الأخذ بالأسباب. والله تعالى قادر على أن ينزل على مريم الرُّطَب من النخل بدون أن تهز النخل، لكنه قال: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً} [مريم:25 - 26] إذاً: أمرها بهز النخلة، مع أنه -بالعقل- النخلة من أقوى الأشجار، لا يمكن للرجال أن يهزوها، كيف تهزها امرأة؟! كيف إذا كانت المرأة في وضعٍ بعد وضع الولد؟! أضعف ما تكون: {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً} [مريم:24] السَّرِي: النهر: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم:25] كيف تهز بجذع النخلة؟! لتعليم العباد الأخذ بالأسباب، والله قادر على أن ينزل عليها الرطب من غير هز. وهذه هاجر رحمها الله تتطلب الأسباب، وتذهب وتصعد وتنظر وتستنصت لعل الله سبحانه وتعالى أن يقيِّض لها شيئاً.

الفرج بعد الشدة

الفرج بعد الشدة في هذا الحديث أيضاً: أن الفرج يأتي بعد الشدة، وأنه إذا بلغ الأمر منتهاه في الشدة جاء الفرج، قال تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} [الشرح:5 - 6]. والإنسان إذا وصل إلى حالة يأس جاء الفرج من الله، وجاء الملَك، وليس بعد المرة الأولى أو الثانية، بل بعد المرة السابعة، وتعب، وسعي الإنسان المجهود بين الصفا والمروة، تصعد جبلاً وتنزل جبلاً سبع مرات، وتصعد جبلاً وتنزل جبلاً، وتجري في الوادي جرياً، وجاء بعد ذلك الفرج، وهذه من عادة الله تعالى أن يأتي بالفرج بعد أن {يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214].

حرص الإنسان قد يمنعه من زيادة الخير

حرص الإنسان قد يمنعه من زيادة الخير وكذلك في هذا الحديث: أن حرص الإنسان ربما قد يمنعه من مزيد من الخير، (ولو أن أم إسماعيل تَركَتَها لكانت عيناً معيناً لا ينضب يمشي) نهراً جارياً يمشي.

من حكمة الرجل كتم القلق عن أهله

من حكمة الرجل كتم القلق عن أهله كذلك فإن في هذا الحديث: أن راعي الأسرة من حكمته أن يكتم القلق عن أهله، فقد تكون عنده أسباب وبواعث للقلق كبيرة، لكن لا تكون الحكمة أن يخبرهم بها فيزدادوا قلقاً. فهذا إبراهيم متى دعا؟ لما ترك أهله، وانطلق حتى إذا كان عند الثنية بحيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ودعا، ولو أنها رأته يدعو وهو يظهر الحاجة ربما ازدادت قلقاً؛ لكن أخفى عنهم ذلك، وهذا أيضاً من إخلاصه، ولكن عندما يتماسك أمامها ويظهر لها التجلد، ثم إن إبراهيم عندما مشى لم يرجع إلى الوراء، وإنما انطلق وذهب، حتى إنها ذهبت وراءه، ولم تدركه إلا عند كداء.

تقييض الله لصاحب النية الحسنة من يعينه ويؤنسه

تقييض الله لصاحب النية الحسنة من يعينه ويؤنسه وكذلك في هذا الحديث: أن الله سبحانه وتعالى يقيض لصاحب النية الحسنة من يعينه ويؤنسه، ولهذا قيض جرهم قبيلة كاملة لأجل هاجر يؤنسوها وينزلوا عندها، والماء ملكها، تعطيهم وتأخذ منهم مقابله أشياء.

حنان الأم وعطفها البالغ

حنان الأم وعطفها البالغ كذلك في الحديث حنان الأم وعطفها البالغ، عندما رأت الولد ينشغ للموت لم تستطع أن تتحمل هذا المنظر، وذهبت تبحث عن حل، ورجعت تطمئن، وما تحملته وذهبت تبحث عن ماء ولكنها ذهبت بمفردها وكانت تعود لتطمئن عليه وهكذا. وبعض النساء اليوم تترك الولد عند الخدامة ولا تدري عنه شيئاً، أهو صاحٍ؟ أهو نائم؟ أهو جائع؟ أهو شبعان؟ أبه مرض؟ أصحيح هو أو غير صحيح؟ أحي أم ميت؟ لا تدري عنه شيئاً، فأين هذا من هذا؟! ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خير نساء ركبن الإبل صالحوا نساء قريش، أحناه على ولدٍ في صغره) من ميزات صالحات نساء قريش: أنهن أحناه على ولدٍ في صغره. والآن مع وجود الخادمات ووجود السخط في الأسواق والمناسبات والزيارات، بعض النساء -فعلاً- فرطن في الأولاد، فلذلك لا تعرف عن خبر ولدها إلا كما يعلم البعيد عن البيت، وعهدن بالأولاد إلى الخادمات، ولذلك صار من القصور في التربية، وحتى الشفقة والحنان التي هي مدعاة وسبب للاستقرار النفسي عند الولد قليل جداً. تقول الدراسات الطبية الآن وتثبت: أن لبن المرأة وضم المرأة لولدها إلى صدرها ومناجاتها له وهو صغير رضيع من الأسباب التي تشبع غريزة العطف والحنان، إظهار العطف والحنان من أسباب الثبات والاستقرار النفسي للولد، وترك الولد وتضييعه مما يسبب نشأته من الصغر على حال من فقدان الحنان وفقدان الاستقرار النفسي، فتنشأ الاضطرابات النفسية عند الأطفال منذ سن مبكرة، والسبب هو ترك الولد عند الخادمة والذهاب للأسواق والمناسبات تعطي الولد حليب صناعي؛ لأنها تريد أن تحافظ على شكلها ومنظرها. والله سبحانه وتعالى يقول: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} [البقرة:233] أي: لا يجوز للمرأة أن تفطم الولد دون مشاورة الأب مشاورة أهل الخبرة: {عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا} [البقرة:233] من الأبوين، {وَتَشَاوُرٍ} [البقرة:233] مشاورة أهل الخبرة، ليس على مزاج الأم أن تفطم الولد في أي وقت تريد! لا، {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً} [البقرة:233] فطام الولد: {عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا} [البقرة:233] اثنين: {وَتَشَاوُرٍ} [البقرة:233] بعد ذلك تفطم الولد، وحليب الأم مهم للولد. ولذلك هاجر رحمها الله عندما جلست عند ولدها كانت تأكل وتشرب وترضع ولدها، قال في الحديث: (فجعلت تشرب من الشَّنَّة ويدر لبنها على صبيها).

الأخذ بالقرائن والإشارات وتفقد الأولاد

الأخذ بالقرائن والإشارات وتفقد الأولاد وفي هذا الحديث: الأخذ بالقرائن والإشارات، وأن جرهم عرفوا أن هناك ماءً نتيجة رؤية الطير الذي يحوم، وهذا فيه العمل بالقرائن والأدلة. وكذلك في هذا الحديث: تفقد الأولاد، وأن إبراهيم كان يأتي من الشام يسافر عدة مرات يتفقد تَرِكَتَه، وعدم تضييع الأولاد، ويؤخذ هذا بالنسبة للإخوان من العمال الذين يعملون في هذا البلد وتركوا أهاليهم وأولادهم في بلدهم، أن عليهم ألا تأتي فرصة يستطيعون فيها الذهاب إلى زوجاتهم وأولادهم في بلادهم إلا وينتهزوها لتفقد الأولاد والنساء. لأن المرأة إذا تُرِكت فإن تركها لوحدها سنة أو أكثر بعيدة عن زوجها يسبب أموراً منها: أولاً: أنها تشعر بالخوف، المرأة تشعر بالأمان مع الزوج، وبدون زوج كيف يكون وضعها؟ ثانياً: ربما احتاجت إلى الناس ومدت يدها إليهم، ليس عندها أحد يأتي لها بالأغراض وما تحتاجه. ثالثاً: ربما يكون فيه مدعاة للفساد، خصوصاً في هذا الزمن، وكم حدثت من كوارث. ثم: الولد والأولاد إذا كبروا والأب غير موجود، الأب يعمل في السعودية صحيحٌ، لكن الأولاد كيف ينشئون؟! ولذلك بعض الناس عندما يرجع قد يجد ولده صار مدخناً، وبعضهم أصبح يستعمل المخدرات، وبعضهم يعمل المنكرات؛ لأنه لا يوجد أب بجانب الأولاد، صحيحٌ أن المادة مهمة؛ لكن أيضاً بقاء الأب بجانب الأم والأولاد أهم. فعلى الإنسان ألا تأتيه فرصة إلا وينتهزها للذهاب إلى أهله. ولا يجوز للإنسان شرعاً أن يترك زوجته أكثر من أربعة أشهر أو ستة أشهر إلا برضاها، إذا قالت: أنا لا أرضى أن تتركني أكثر من أربعة أو ستة أشهر، فعند ذلك لها أن تطلب الطلاق أو يرجع إلى زوجته. نعم. هناك صعوبات تكون في بعض الأحيان ليس للإنسان فيها يد، يريد أن يجتمع بزوجته ويأتي بزوجته، لكن يحول بينه وبين ذلك عوائق، لا يكون له يد فيها، فيشكو أمره إلى الله، ويأخذ بأقل المفاسد، إن كان أقل المفاسد أن يعمل بعيداً عنهم يعمل، وإن كان أقل المفاسد أن يذهب إليهم يذهب. وربما كان العيش على شيء من الضيق وهو مع أهله وأولاده خير من توفير ثمن أرض أو بناء وهو تارك لأهله، يعني: الراعي بعيد عن الرعية.

سعي الزوج لإعطاء العائلة والأولاد

سعي الزوج لإعطاء العائلة والأولاد كذلك: إسماعيل عليه السلام كان يخرج ليصيد، وهذا يؤخذ منه سعي الزوج لإعطاء العائلة والأولاد والأهل حقهم والقيام عليهم، وبعض الناس كسالى، يقول بعضهم لزوجته: اذهبي واشتغلي أنتِ ليأخذ راتب الزوجة وهو نائم، يوجد أناس كسالى فعلاً، الواحد تقول له: ما هو دخلك؟ يقول لك: راتب زوجتي، ما شاء الله! وأنت أين دخلُك؟! فهناك أناس من كسلهم أنهم يعيشون على مرتبات زوجاتهم، ولو أنه لم يجد وظيفة، أو أنه حاول، لقلنا: هذا معذور، لكن أن يتكاسل ويجلس فلا. هذا إسماعيل عليه السلام يبري النبل ويذهب ليصيد يخرج يبتعد مسافة ويأتي فيها أبوه ويرجع ولم يره.

انتقاء الزوجة الصالحة

انتقاء الزوجة الصالحة كذلك في هذا الحديث: الحث على انتقاء الزوجة الصالحة القنوعة التي تعرف النعمة وتشكر الزوج، ولذلك المرأة الأولى قالت: نحن بِشَرٍّ نحن بضيق نحن في كذا، وتشتكي، فهذه امرأة سيئة الخُلُق، ولم تكرم الغريب، ولم تقدم له خدمة، ولما جاء غريب إليها شَكَتْ زوجها إليه، ما هذه المرأة التي تشكو زوجها إلى الغريب؟! لو شكت زوجها إلى أبيه وهي تعرفه أنه أبوه، لقلنا: إنها تريد حلاً في نطاق الأسرة والعائلة، لكنها تشكو زوجها إلى الغريب، هذه امرأة خير فيها من جهة حق الزوج، ولذلك أمره أن يطلقها.

حكم أمر الأب ابنه بطلاق زوجته

حكم أمر الأب ابنه بطلاق زوجته هنا نأتي إلى مسألة وهي: ما هو الحكم الشرعي فيما لو أمر الأب أو الأم الابن بطلاق زوجته هل يجب عليه الطلاق أم لا؟ لو أمر الأب أو الأم الولد بطلاق زوجته، هل يجب عليه تنفيذ الأمر أم يكون من عقوق الوالدين إذا رفض؟ الجواب فيه تفصيل: - إن كانت الزوجة سيئة الدين، سيئة الخُلُق؛ وجب عليه أن يطيع أبويه، مثل إسماعيل، لما رأى إبراهيم سوء خُلُق زوجته، قال: غير عتبة بابك. فإذا كانت الزوجة سيئة الخُلُق تتبرم لا يعجبها شيء، وتشتكي زوجها إلى الأغراب، ولا كرم عندها، ولا عندها شيء، فهذه تُغَيَّر، مثلاً: زوجة لا تصلي زوجة ترى المنكرات زوجة تقول: انظر! إما أنا وإما التلفاز، أي: أعطني تلفازاً أجلس معك، وإذا لم تعطني تلفازاً فسأرمي لك الأولاد وأمشي، فهذه عندها استعداد أنها تضحي به وبأولاده من أجل التلفاز، أين السكينة؟ {خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} [الروم:21] أين السكن والسكينة والإيمان؟ مفقود، فربما يكون له من الخير أن يطلقها، كيف يحتفظ بامرأة مثل هذه! هذه ستكون وبالاً عليه وجحيماً في الدنيا. وإذا كانت سيئة في الدين ربما تكون عليه -أيضاً- جحيماً في الآخرة، لِمَا تَجُرُّ عليه من المعاصي والمصائب. - أما إذا كانت المرأة حسنة الدين حسنة الخُلُق، جاء الأب قال لولده: طلقها، لماذا؟ قال: لأنها لا تعطيني حذائي، أنا أدخل البيت ولا تأتي لي بحذائي وتمشي ورائي!! والآن أنا أطلق الزوجة، وأخرب البيت، وأشرد الأولاد لأنها لا تأتي لك بالحذاء وتمشي وراءك؟! فبعض الآباء عندهم عقد نفسية وعناد وعصبية وعنجهية، وكأنه لا يبالي أن الولد يخرب بيته وتتفكك أسرته؛ لأن مزاج الأب أنه لا بد على الزوجة أن تمسح نعليه وتحملها، ولذلك لا يطاع الأب في مثل هذه الحالة. وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لما سئل سؤالاً مشابهاً عن امرأة تأمر ولدها بطلاق زوجته مع أن الزوجة صاحبة دين؟ قال: هذه الأم من جنس هاروت وماروت، لماذا هاروت وماروت؟ {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ} [البقرة:102] وقبلُ ماذا قال؟ {مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة:102] هذا السحر. ولذلك هذه المرأة التي تقول: أنا غضبانة عليك إذا لم تطلق زوجتك لماذا؟ لسبب تافه. أو تقول: فقط مزاج، لا تناقشني، طلق! هذه من جنس هاروت وماروت. ولذلك لما جاء رجل إلى عمر بن الخطاب قال: [إن أبي يأمرني بطلاق امرأتي، فسأله عن امرأته وحال امرأته، ثم قال: لا تطلق، قال: إن إبراهيم لما قال لولده طلِّقْها طلَّقَها، قال: حتى يكون أبوك مثل إبراهيم] عندما يصير أبوك بمستوى إبراهيم في الحكمة، وبُعد النظر، ووزن الأشياء بميزان الشرع بعد ذلك عليك أن تطبق الكلام. هذا هو الحكم بالنسبة إذا قال لولده: طلق زوجتك، يَعتمد على دين المرأة وخُلُق المرأة.

المرء مدني بطبعه

المرء مدني بطبعه وكذلك في هذا الحديث من الفوائد أيضاً: أن الإنسان مدني بطبعه، وأن الإنسان الوحيد المنعزل إنسان غير عادي (غير طبيعي) ولذلك (ألْفَى أمَّ إسماعيل وهي تحب الأُنس فنزلوا) وبطبيعة الحال وافقت أن ينزلوا عندها. وفيه كذلك: أن العربية الفصحى كانت من نطق إسماعيل عليه السلام.

الكنابة في الطلاق

الكنابة في الطلاق وكذلك في هذا الحديث: أن بعض العلماء استدلوا على أن الإنسان لو قال: غَيَّرتُ عتبةَ بابي أنه إذا قصد الطلاق أنه يقع طلاقاً، لأن هذا اللفظ من ألفاظ الكناية. الطلاق له ألفاظ صريحة، لو قال: أنتِ طالق، فهذا طلاق صريح. ولو قال: أطعمتكِ حنظلاً، هذا كناية، يحتمل الطلاق ويحتمل عدم الطلاق، فالمرجع فيه إلى نية الشخص. لو قال: أطعمتك خبزاً، لا يحتمل الطلاق. ولو قال: احتجبي مني، يحتمل الطلاق. غَيَّرْتُ عتبةَ بابي، بناء على هذا الحديث فهو لفظ يحتمل الطلاق، من الكنايات.

طاعة الوالدين في الخير والإتيان بالطيب مكان الخبيث

طاعة الوالدين في الخير والإتيان بالطيب مكان الخبيث وكذلك: فيه طاعة الوالدين في الخير، عندما قال: (أمرني أن أفارقكِِ، الحقي بأهلك فطلقها). وكذلك: أن الإنسان عليه أن يستبدل بدل الخبيث بالطيب، ولا يجلس من غير زواج، لأن بعض الناس يطلق زوجته، وفعلاً يكون فيها شر، ثم يجلس عَزَباً بدون زوجة، وهذا خطأ، فإسماعيل عليه السلام طلقها وتزوج أخرى مباشرة، لا يصبر الإنسان بدون زواج خصوصاً في هذا الزمان، وهذا يفضي إلى الفساد. وفي عدد من الحالات بعض الناس طلق زوجته فبقى بغير زوجة، ثم لعب الشيطان بعقله، وبعد ذلك مشى في الحرام وصار لا يريد يتزوج، وهذا الإنسان حكمه في الشريعة الرجم؛ لأنه قد تزوج وأُحْصِن ثم زنا.

فضل مكة وبر الوالد والاعتناء به والعطف على الولد

فضل مكة وبر الوالد والاعتناء به والعطف على الولد وكذلك في هذا الحديث: فضل مكة، وأن من يأكل اللحم والماء فيها لا يصاب بالضرر كما يصاب في غيرها. وفيه: بر الوالد والاعتناء به والعطف على الولد، كما قال في الحديث: (كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد).

التعاون على البر والتقوى

التعاون على البر والتقوى وفي هذا الحديث كذلك: التعاون على البر والتقوى، لأن إسماعلي قد أعان إبراهيم على بناء البيت الحرام. وكذلك فيه: مساعدة الأب في العمل، فإن إسماعيل كان يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني، ولما شق على إبراهيم البناء أتاه إسماعيل بالمقام (الحجر) قام عليه وصار يبني، فما هو مقام إبراهيم؟ الحجر الذي وقف عليه إبراهيم حتى يعتلي ويبني. كان المقام مُلْصَقاً بالكعبة، والناس يصلون خلف المقام: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} [البقرة:125] في عهد عمر بن الخطاب اشتد الزحام، وكثُر الحجاج والطائفون، فاستخار عمر اللهَ، واستشار الصحابة أن يؤخر الحجر عن مكانه إلى الخلف، حتى يتمكن الطائفون أن يطوفوا والناس يصلون خلف المقام، وفعلاً هذا ما حصل، وأُخِّر الحجر (مقام إبراهيم) وكان ملتصقاً بالكعبة، حينما كان إبراهيم يقف عليه ويبني، أُخِّر إلى الخلف، وصار بعيداً عن جدار الكعبة: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي).

عدم الاغترار بالأعمال الصالحة

عدم الاغترار بالأعمال الصالحة وفي الحديث كذلك: أن الإنسان إذا عمل الصالحات عليه أن يبقى على وجل أن الله لا يقبل منه، ولا يغتر بعمله، ولذلك في الحديث قال: (وهو يناوله الحجارة وهُما يقولان: ((رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)) [البقرة:127]). إذاً: الإنسان إذا عمل أعمالاً صالحة فعليه أن يَسأل الله القبول. وفي الحديث فوائد كثيرة، ولكن نكتفي بهذا القدر منها. والله أعلم. وصلى الله على نبينا محمد.

قصص جميلة عن تأثير هذا الدين

قصص جميلة عن تأثير هذا الدين القرآن معجزة باقية إلى قيام الساعة، وله تأثير عجيب على قلوب العباد؛ فقد يسمعه الأعجمي فتذرف عيناه دون أن يعرف ما هو سبب ذلك. وهناك قصص جميلة لمن أثر فيه دين الله جل وعلا، فمن ذلك: قصة رجل أعجمي من بلاد بخارى أتى مشتاقاً إلى بيت الله العتيق، وأول ما رأت عينه ذلك البيت ذرفت عيناه من الفرح. وقصة أخرى لفتاة أمريكية تسلم بسبب رؤيتها لامرأة مسلمة ترتدي الحجاب. وقصة أخرى لثبات سعيد الحلبي أمام الظالم إبراهيم باشا، ومن القصص التي تدل على عظمة هذا الدين عودة كثير من الفنانات إلى الله جل وعلا.

القرآن المعجزة الدائمة

القرآن المعجزة الدائمة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومَن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار. عباد الله: إن الله سبحانه وتعالى قد أنزل هذا الدين مهيمناً على سائر الأديان، وشرع هذه الشريعة لتكون الناسخة لجميع الشرائع، وجعل معجزة النبي صلى الله عليه وسلم -القرآن الكريم- باقيةً على مر الدهر، بخلاف معجزات الأنبياء السابقين: فإن عصا موسى قد ذهبت، وناقة صالح لا توجد، وغيرهم من الأنبياء قد ذهبت آياتهم ومعجزاتهم. لم تبقَ إلا معجزة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، حيث بقيت معجزته بعد وفاته؛ لتمتد هذه السنوات الطويلة جداً؛ دليلاً على بقاء هذا الدين، فإن الله قد أنزله ليبقى، وبرغم ما تعرض له المسلمون من الفتن الكثيرة وأنواع العذاب الذي صبّ عليهم صباً، وبرغم ما تعرض له هذا الدين من حملات التشويه، والتحريف، وقصد الإساءة، وتشويه سُمْعَته وسُمْعَة حَمَلَتِه؛ إلا أن الله تعالى أبقاه. ولو تعرض دينٌ آخر لمثل ما تعرض له ديننا لفني وزال منذ زمن بعيد. لقد بقي هذا الدين حياً في نفوس أتباعه رغم الاضطهاد، وبقيت آثاره في صمود مَعْلَمٍ من معالم الإسلام، أو ظهور عزةٍ لأحد علماء الإسلام، أو انجذاب كافرٍ لهذا الدين لشَرْعٍ أو شعيرةٍ من شعائر الإسلام، أو تأثُّر غير مسلم بكتاب الله سبحانه وتعالى، أو عودة فاسقٍ من الفسقة بعد أن طالت غربته عن هذا الدين إلى هذا الدين مرة أخرى. إن هذه الشواهد وغيرها لتدل دلالة واضحة على أن الله قد أنزله ليَبْقَى، وأنه لا أمل للكفار مهما حاولوا إطفاء نوره أو العبث به، لكي يصدُّوا الناس عن سبيله، مهما خططوا وقدَّروا، فقُتِلوا كيف قدَّروا! فإن الله مُبْقٍ دينه، ومُعْلٍ كلمته، ولو كره الكافرون. وفي هذه الخطبة -أيها الإخوة- نتناول بعض الشواهد من هذا العصر لبقاء الدين وعزة أهله، مشاهد تدلُّك على أنه دين الله حقاً، وعلى أنه الباقي إلى قرب قيام الساعة صدقاً، مشاهد سندور فيها بين أعجميٍ وعربيٍ، ندور فيها بين عالمٍ وجاهلٍ بعيدٍ عن الدين، بين إنسان قد اطَّلع عليه وآخر من العوام ليس في قلبه إلا العاطفة؛ لنرى -يا إخواني- ما نزيد به إيماننا من أثر هذا الدين في النفوس.

رجل من الأعاجم امتلأ قلبه شوقا إلى بيت الله

رجل من الأعاجم امتلأ قلبه شوقاً إلى بيت الله والمشهد الأول: مع رجلٍ من الأعاجم، من بلاد الإمام البخاري رحمه الله تعالى: جاء إلى مكة بعد عشرات السنين من الستار الحديدي الذي أقامته الشيوعية حائلاً بين أهل تلك الديار والاحتكاك ببقية المسلمين. يقول أحد المسلمين الذي يعرفون شيئاً من لسان أولئك القوم وهو في مكة، يقول: وأنا أسير في ساحة الحرم متجهاً إلى الكعبة سمعت صوتاً ينادي: يا حاج! يا حاج! فالتفت فإذا بحاجٍّ قد بدت في وجهه آثار الجهد والإرهاق، كانت هيئته وملامح وجهه تدل على أنه من بلاد ما وراء النهر، قال لي بالأوزبكية مع حركات يديه الكثيرة محاولاً إفهامي: كم عليَّ أن أطوف بالبيت؟ فأجبته بالأوزبكية وهي كل ما تبقى لنا من ذكريات بلادنا المنسية: عليك أن تطوف بالبيت سبعة أشواط. فرأيت السرور داخله بمعرفتي لغته. ثم ما لبث أن قال باستعجاب: سبعة أشواط؟! وهل تستطيعون ذلك؟! لقد بلغ الجهد مني مبلغه من أول شوطٍ حول البيت. وأشار إلى مبنى الحرم الخارجي. ففهمت سبب التعجب، ومدى ما أصابه من الإرهاق، لقد ظن هذا المسكين أن هذا المبنى كله (الحرم) هو الكعبة، فشرع في الطواف حول الحرم دون تردد من الخارج؛ لأنه لم يَرَ البيت العتيق من قبل، فهو منذ أن جاء إلى جدار الحرم الخارجي، شرع بالطواف. فقطع تفكيري صوتُه قائلاً: أستعين بالله، وأكمل الطواف. ثم أخذ بالانصراف، فوجدتها فرصةً سانحةً للتعرف على ما يدور داخل بلاد المسلمين، فاستوقفته عارضاً عليه المساعدة، فرحب مسروراً. ذهبنا سوياً إلى داخل الحرم، وأشرت إلى الكعبة المشرفة، وقلت له: هذا بيت الله، لا الذي طفت حوله من قبل. فما هي إلا لحظات حتى رأيت الدموع تنهمر من عينيه، وقال: يا ألله! هذا هو بيت الله؟! سمعتُ به كثيراً، ولَمْ أَرَه إلا الآن. فأسرع الخطى نحو البيت، وأسرعتُ معه قائلاً: هذا من فضل الله عليك أن يسَّر إليك القدوم إلى بيته، وقد حُرِم منه الكثير. فقال بصوت منتحب: كم سمعتُ أبي رحمه الله وهو يدعو ويتمنى رؤية بيت الله؛ ولكن الشيوعيين لم يُمَكِّنوه من ذلك، فمات وفي قلبه حسرةٌ وألم، لقد ذقنا الكثير مما لا أظن أن أحداً قد لاقاه، دَعْنا نطوف بالبيت أولاً، ثم أفصِّل لك شيئاً مما نلناه. وبعد طواف رقَّ له قلبي، وذرفَت عيناي مما شاهدت من عجيب انكساره بين يدي الله، وبعد تعارفٍ جرى بيننا قال لي: لم يترك لنا الروس شيئاً يَمُتُّ إلى الإسلام بِصِلَة إلا وحاولوا إبادته، حتى أسماؤنا لم يتركوها لنا، والدي أسماني عبد الحكيم، ولكنني لا أُعْرَف بهذا الاسم إلا في البيت، أما رسمياً فاسمي حكيموف، إن الروس قد فعلوا هذا بالأسماء، وهي أسماء لا تضرهم، ولا تقاومهم، فماذا تظن أنهم قد فعلوا بعلمائنا ومشايخنا الذين يعلموننا القرآن والسنة؟! دعني أقص عليك طريقة بعض علمائنا. يتبعونهم في تعليم الصبية كتاب الله، ويراقبونهم في كل شيء، ومنعوا من كل وسيلة من وسائل التعليم، حتى كان الشيخ يصعد فوق سقف المنزل من الداخل بسلم، ويصعد الطلاب خلفه، ثم يرفع السلَّم إليه ويخبئه، ويلقي الدرس بصوت خافت؛ لكيلا يعلم أحد بهم. وقل مثل ذلك في مخازن تحت المنزل، كان الشباب في المصانع إذا أرادوا المذاكرة ومراجعة شيء من العلم، اجتمع كل أربعة، أو خمسة في وقت تناول الطعام، ويتحدث كل واحد بما عنده دون أن يلتفت إليه الباقون؛ لكي لا يُعْلَم بأمرهم. حتى الصلاة التي هي عماد الدين، كان الواحد منا يذهب ويختبئ بعيداً ويصليها سريعة، ويعود لكي يذهب الآخر، لم نكن نعرف صلاة الجماعة، وما عرفناها منذ زمن بعيد. كم أشعر بالأسى على مشايخنا وعلمائنا الذين كان لهم الفضل بعد الله في بقاء دينه في بلادنا، لم نستطع أن نقدم لهم أبسط حقوق المسلم، لم نستطع أن نغسِّلهم ونكفِّنهم، وأن نشيع جنائزهم، فماتوا ودُفِنوا حسب مراسم الدفن الشيوعية، وهكذا. والشاهد -أيها الإخوة- أن دين الله بقي في تلك البلاد بمثل هذه الوسائل التي عاشت تحت الضغط والقهر والإكراه والحصار؛ لكن بقي دين الله، لو أن ديناً آخر في بلاد الشيوعيين حصل له ما حصل لهذا الدين، لكان فَنِي منذ زمنٍ بعيدٍ، أليس في هذا دليل على عظمة هذا الدين؟! أليس في هذا دليل على أن الله قد اختاره ليبقى؟!

قصة تبين غيرة العلماء

قصة تبين غيرة العلماء ومع موقف آخر لأثر من آثار هذا الدين في نفس أحد العلماء في هذا العصر، الذي يتبين لك به -يا أيها المسلم- عزة العالِم وتعففه وجرأته وعدم رضوخه للترهيب، ولا استجابته للترغيب: كان الشيخ سعيد الحلبي من كبار الأساتذة في القرن الماضي، كان يلقي مرة درساً في جامعٍ من جوامع دمشق، فجاء إبراهيم باشا -الحاكم في وقته، وهو من القسوة والعنف والجبروت والاعتداء والقتل والبطش بمكان- ودخل المسجد مع بعض شرطته وعساكره، ووقف أمام الباب، وكان الشيخ يشكو ألماً في رجله، وكان مادَّاً رجله إلى الأمام؛ لأنه كان مستنداً إلى جدار المحراب ويلقي الدرس، ورجله ممدودة للعلة إلى باب المسجد. فدخل هذا الوالي المعروف بظلمه ومعه العسكريون والشرطة، ووقف بالباب ينظر إلى الشيخ، وانتظر أن يقبض الشيخُ رجلَه احتراماً له؛ لكن الشيخ لم يفعل، فخاف التلاميذ على شيخهم من السيف، وقبضوا ثيابهم لئلا تصاب بدمه؛ ولكن الوالي وقف برهةً ثم انصرف ورجع. وبعد ذلك استدعى أحداً من خدمه، وأعطاه صُرَّةً من الدنانير الذهبية، وقال له: تقدم إلى سيدنا الشيخ، وقل له: هذه هديةٌ من إبراهيم باشا. فلما جاء بها الخادم إليه، قال الشيخ كلمته المشهورة التي تغني عن ألف كتاب، قال له: قل لسيدك: إن الذي يمد رجله لا يمد يده. وهذا مثال من أمثلة علماء الحق وعلماء الشريعة الذين زخرت بهم هذه الأمة، وهو شاهدٌ آخر من الشواهد على أن الله سبحانه وتعالى يقيض لهذا الدين مَن يقوم به، وأن الله سبحانه يَخْلُق رجالاً، يصطنعهم للمواقف، تجري بسِيَرِهم الركبان. إنه دليلٌ على أن هذا الدين باقٍ، وأن الله سيبعث له من يجدده في كل رأس مائة سنة، فاستبشروا برحمة ربكم يا أيها المسلمون!

رجل ألماني يسلم بسبب ضيافة رجل ألباني مسلم

رجل ألماني يسلم بسبب ضيافة رجل ألباني مسلم ثم ننتقل إلى مشهد ثالثٍ من رجلٍ عاميٍ من عوام المسلمين، ليس بفقيه، بل ليس بسوي الخِلْقَة، إنه أعمى، لم يُبْصِر، ولم يكلم ذلك الرجل، لكنه كان سبباً في هدايته: وُجِّه السؤال التالي إلى رجلٍ ألمانيٍّ قد اعتنق الإسلام، وهو يحمل شهادات عليا في أحد المجالات، فقال: إن أول معرفتي بالإسلام تعود إلى أيام الشباب، عندما كان في رحلة إلى ألبانيا أثناء عطلة دراسية، وبينما هو يسير في أحد الشوارع الضيقة اصطدم بأحد الرجال، ولَمَّا تبينه واعتذر له، عرف أنه أعمى لا يبصر، ولم يفقه الأعمى شيئاً من اعتذار الرجل؛ لأنه لا يفقه لغته، ومع ذلك فإن هذا الكفيف يمسك بيد الرجل الذي اصطدم به بإصرار ويسير به حتى المنزل، منزله هو، ويقدم له الضيافة وما تيسر من الطعام. يقول هذا الرجل الألماني: لقد جلستُ في بيت هذا الألباني المسلم معجَباً به! كيف أضافني وهو لا يعرفني؟! وأكرمني بمجرد أنني قد اصطدمت به في الطريق؛ لكن أمراً قد انطبع في حسي؛ إنها تلك الحركات التي كان الرجل يأتي بها في زاوية من منزله بعد أن أضافني، لقد علمت فيما بعد أنها صلاة المسلمين. ومنذ أن رأيت ذلك الرجل الذي أكرمني واحترمته، سألت عن هذا الذي يفعله، فعلمت أنها الصلاة، وأنها من دين الإسلام، فكان ذلك سبباً في إسلامي. يبقى هذا الدين في نفوس الخيرين وبعض العامة محركاً لهم. تبقى الأخلاق الإسلامية في نفوس بعض الطيبين -ولو كانوا من العامة- دليلاً على بقاء هذا الدين في الواقع، وأن الله قد اصطفاه ليبقى.

الحجاب سبب في هداية فتاة أمريكية

الحجاب سبب في هداية فتاة أمريكية ولننتقل الآن إلى شعيرة من الشعائر الإسلامية التي فرَّط فيها كثير من المسلمات، والتي أعرض عن التنبيه عليها كثيرٌ من أولياء الأمور والآباء والإخوان، ألا وهي: الحجاب: لنعرف -أيها الإخوة- كيف يكون الحجاب -وهو أمر من الشريعة- سبباً في إدخال امرأة كافرة في دين الله! هي فتاة أمريكية، يميزها حجابها الشرعي الذي ترتديه، وحرصها على حضور الحلقات التي يتم عقدها في مسجد المدينة الأمريكية التي تقطنها، وتستعير كتباً باستمرار من مكتبة المسجد، فهي حريصةٌ على ذلك. كيف أسلمت؟! لقد أسلمت تلك الفتاة وكانت تعمل على صندوق قبض الثمن في إحدى المحلات. وتقول: في بلدتنا توجد جامعة، وفيها بعض الطلاب المسلمين المتزوجين الذين جاءوا بزوجاتهم معهم إعفافاً لأنفسهم، وفي فصل الصيف كنت في زاوية المحاسبة في المحل، حيث الكل هنا يرتدي الملابس القصيرة والعارية والخفيفة جداً. إن الذي أدهشني وأصابني بالذهول أنني رأيت بعض المتسوقات يرتدين حجاباً كاملاً يغطي جميع الجسد بما فيه الوجه، ولم تكن تبدو سوى أعينهن أحياناً، فاستغربت هذا المنظر، فاستوقفت إحداهن حينما كانت تحاسب لديَّ على أغراضها، وسألتها عن السر الكامن في هذا اللباس، فأخبرتني أن دينها الإسلامي يفرض عليها ذلك صيانةً لها وحفاظاً عليها، واسترسَلَت بالشرح عن منافع الحجاب وأهميته وفائدته للمرأة حتى اشتد شوقي وانبعثت من فطرتي تلك الحاجة التي تتكلم عنها هذه المرأة، بالرغم من صعوبته وعدم تخيل لباسه في مجتمعنا. فرجعتُ إلى البيت، وأخذت قطعة قماش، ووضعتها على رأسي، ولبستُ ملابس ذات أكمام طويلة، فأعجبني شكلها، وخرجت بها في اليوم التالي إلى مركز إسلامي قريب، أبحث عن هذا الدين، أبحث عن كتب تتكلم عنه وعن أناسٍ يشرحونه لي فعمل لي بعض المسلمات مناسبة دعونني فيها إلى الإسلام، فأسلَمْتُ، فأهدتني إحداهن هدية، وكانت الهدية حجاباً، وكنت أستصعب لبسه في المكان الذي أنا فيه؛ ولكنني حاولت لبسه، وكنت خائفةً جداً من الحجاب، شأني في ذلك شأن كثيرٍ من الأمريكيات اللاتي ينظرن إلى الحجاب على أنه سجنٌ للحرية، ولكن بعد أن اعتدت عليه زال كل شيء. وكان الامتحان في اليوم الأول الذي ذهبتُ فيه لمقابلة المجتمع باللباس الجديد. أما أبي: فإنه لم يبالِ؛ لأنه شعر أن الأمر ليس بيده. وأما أمي: فهي إنسانة اعتادت على احترام آراء الآخرين وتَقَبُّلِها؛ لهذا لم تُعر أمر إسلامي شيئاً؛ لكنها كانت خائفةً عليَّ من الحجاب، وحينما رأت إصراري راعت شعوري، بل إنها أصبحت تشتري لي الحجاب وتهديني إياه. وأذكر أن ابن خالي جاء لزيارتنا ذات يوم، فأمرته والدتي أن ينتظر حينما تعطيني خبر قدومه حتى أضع الحجاب. وذات مرة زارنا عمي، فأسرعت لتناولني الحجاب حتى أضعه قبل أن يدخل، فضحكتُ، وشرحتُ له الأمر. الشاهد -أيها الإخوة- أن هذه الشعيرة من شعائر الإسلام وهي الحجاب كانت سبباً في إسلام تلك المرأة وغيرها من النساء. على أي شيء يدل هذا؟! وما هو المغزى؟! هل رأيتم شيئاً في النصرانية المحرَّفة يدعو شخصاً للدخول فيها؟! هل رأيتم شيئاً في اليهودية المحرَّفة يدعو شخصاً للدخول فيها؟! هل رأيتم شيئاً في البوذية، أو الهندوسية يدعو شخصاً للدخول فيها؟! إلا الإسلام، فإن شعائر الإسلام تدعو الناس للدخول فيه، ولو كانت الدعوة صامتة، ولو كان حجاباً يُرتَدَى بين الكفار، ولذلك ننعي على أولئك المسلمين الذين يذهبون إلى الخارج، ثم يطالِبون زوجاتهم بكشف الوجه والشعر وغيره من أجل ألا يُنْظَر إليهم نظرة السخرية والاستهزاء، ما عندهم الشجاعة الكافية أن يظهروا بمظاهر دينهم، وأولئك الكفرة قد يُعْجَبون به، بل يدخلون في الدين بناءً عليه.

القرآن وأثره العجيب في قلوب الأعاجم

القرآن وأثره العجيب في قلوب الأعاجم وهذه قصة تدلُّك كيف أن هذا الكتاب العزيز الذي أنزله الله وهو القرآن الكريم، كيف أن له تأثيراً عجيباً حتى على الكفار: أثر القرآن في النفوس غريب! وفعله في القلوب عجيب! والأعجب والأغرب -وإن كان لا عجب ولا غرابة؛ فالقرآن كلام الله- أن يثير القرآن مشاعر امرأة أعجمية! ويجعل عينيها تفيضان بالدمع، وهي لا تعرف من العربية شيئاً!! يحكي الأستاذ سيد قطب رحمه الله تعالى تلك الحكاية التي عاشها على ظهر سفينة تتجه به إلى أمريكا. يقول رحمه الله: كنا ستة نفر من المنتسبين إلى الإسلام على ظهر سفينة مصرية، تَمْخُرُ بنا عُباب المحيط الأطلسي إلى نيويورك، من بين عشرين ومائة راكب وراكبة أجانب ليس فيهم مسلم، وخطر لنا أن نقيم صلاة الجمعة في المحيط على ظهر السفينة، وقد سمح ووافق قائد السفينة الكافر على إقامة الصلاة، وسمح لبحَّارة السفينة وطهاتها وخدمها أن يصلوا معنا -ممن لا يكون منهم في وقت العمل- وقد فرحوا بهذا فرحاً شديداً؛ لأنها كانت المرة الأولى التي تقام فيها صلاة الجمعة على ظهر هذه السفينة. وقمت -يقول رحمه الله- بخطبة الجمعة، وإقامة الصلاة، والركاب الأجانب معظمهم متحلقون يرقبون صلاتنا. وبعد الصلاة جاءنا كثيرون منهم يهنئوننا على نجاح القُدَّاس، فقد كان هذا أقصى ما يفهمونه من صلاتنا (قُدَّاس)، فشرحنا لهم الحال، وأنه لا يُسَمَّى قُدَّاساً، وإنما هي صلاة الجمعة؛ ولكن امرأة من بين ذلك الحشد عَرَفْنا فيما بعد أنها أوروبية، كانت شديدة التأثر والانفعال، تفيض عيناها بالدمع، ولا تتمالك مشاعرها، جاءت لتسألنا عن شيء معين، وهي تبدي إعجابها بما فعلنا من نظام وخشوع. وليس هذا موضع الشاهد. جاءت لتسأل عن شيء معين وهي تقول: أي لغةٍ هذه التي كان يتحدث بها قِسِّيْسُكم؟ وهي لا تتصور أن يقيم مثل هذا إلا قِسِّيْس، فصحَّحنا لها هذا الفهم وأجبناها. قالت: إن اللغة التي يتحدث بها ذات إيقاع عجيب، وإن كنت لم أفهم منها شيئاً! ثم كان المفاجأة الحقيقية لنا وهي تقول: ولكن ليس هذا هو الموضوع الذي أريد أن أسأل عنه! إن الموضوع الذي لفت انتباهي وأثر في حسي، وانطبع في قلبي هو: أن الإمام -بعد أن تصَحَّحَت الكلمة، وصُحِّحَت- كانت ترد في أثناء كلامه فقرات من نوعٍ آخرٍ، يختلف عن بقية كلامه، نوعٌ أكثر عمقاً، وأشد إيقاعاً في النفس، إن هذه الفقرات التي كان يقولها أثناء الخطبة أحدثت في نفسي قشعريرة ورعشة، إنها شيء آخر. وتَفَكَّرنا قليلاً، ثم أدركنا ماذا تعني، إنها تعني الآيات القرآنية التي وَرَدَت في أثناء خطبة الجمعة وأثناء الصلاة، وكانت مع ذلك مفاجأة لنا تدعو إلى الدهشة من امرأة أعجمية لا تفهم شيئاً من اللسان العربي. {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق:13 - 14]. {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الواقعة:77 - 80]. هذا القرآن سببٌ عظيمٌ جداً لإدخال كثير من الكفرة في الإسلام، وحتى الآن يُقَدَّم لهم القرآن المترجم، فيكون سبباً في دخولهم في الدين. أليس هذا دليلاً -أيها الإخوة- على أن هذا الدين باقٍ، وعلى أنه يملك في طياته مقومات بقائه وجذب الناس إليه. اللهم أحينا مسلمين، وتوفنا مسلمين، واجعلنا من الدعاة إلى سبيلك القويم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

توبة الفنانات دليل على عظم هذا الدين

توبة الفنانات دليل على عظم هذا الدين الحمد لله الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ، وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ، وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، خلق فسوى، وقدر فهدى، هو الأحد الصمد، الذي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ. وأشهد أن محمداً رسول الله حقاً، والمبلغ عن الله صدقاً، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع هديه إلى يوم الدين. عباد الله: أن يخرج الناس متأثرين من خطبة، أن تكون الهداية منبعها من المسجد؛ شيءٌ مُتَصَوَّرٌ، وأن يخرج شخصٌ متأثراً من مدرسةٍ لموعظة أستاذ؛ شيءٌ قريبٌ إلى الذهن، أن يكون الإنسان في محاضرة أو درس، فيتأثر؛ شيءٌ مقبولٌ في الأذهان. لكن أن يخرج أناسٌ يهديهم الله من أحط أوساط الرذيلة والفساد، فهذا هو الشيء المدهش؛ أن تكون الهداية في وسط أناسٍ قد تمرغوا في أوحال الرذيلة والفواحش والشهوات والمجون دهراً طويلاً، ثم يتجهون بعد ذلك إلى هذا الدين، هذا أمرٌ محيرٌ فعلاً لمن لا يعرف السر في هذا الدين!. إنني أشير بهذه الكلمات إلى تلك الطائفة من الفنانات المعتزلات اللاتي قد اشتغلن ردحاً من الزمن بعرض أجسادهن ومفاتنهن في الأفلام والصور والرقصات والأغاني، أن توجد الهداية في الوسط الفني العفِن هذا أمرٌ فعلاً عجيب! إنها توبة الفنانات التي نسمع عنها في هذه الأيام، وفي كل فترة، حيث تَنْظَمُّ إلى تلك القافلة الكريمة من التائبات امرأة أخرى من النساء اللاتي كنُّ قد عملن في تلك الرذائل دهراً من حياتهن. إن توبة هؤلاء الفنانات فعلاً أمرٌ مدهشٌ ومحيرٌ؛ لأن هؤلاء خرجن من مستنقع الرذيلة، فإن المعروف أن أحط وسط من أوساط المجتمع هو الوسط الفني، بما يَمْخُر به من عُباب الرذيلة، وألوان الفساد وأمواجه. إن هذه الظاهرة التي اضطر العلمانيون والكتاب الفسقة والمجلات المنحرفة للكتابة عنها، وظهرت في بعض أغلفة المجلات المنحرفة بدلاً من صورة فتاة الغلاف الماجنة صورة فنانة متحجبة، لقد اضطروا إلى الاعتراف بالقضية؛ لأن المسألة لا يمكن تغطيتها، فإن هؤلاء المهتديات مشهورات، وليست القضية واحدة أو اثنتين، فإن المسألة عدد؛ حتى أُحْرِج المخرجون، واضطُروا للاستعانة بالممثلات من الدرجة الثانية، أو من ممثلات الكومبارس لإخراج وجوهٍ جديدة، تملأ الفراغات التي خلفتها توبة أولئك الفنانات، وشُنَّت الحرب بطبيعة الحال، وهذا متوقع؛ لأنه مكتوبٌ، لأنه منزلٌ في القرآن: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا إِنَّ ذَلِك مِنْ عَزْمِ الأمُور} [آل عمران:186]. قيل: إنه قد دُفِعَت لهن الأموال، وكُتِبَ في أحد المجلات عبارة: مَن الذي دفع لـ فاتن حمامة سبعة ملايين جنية حتى تتحجب؛ لكنها رفضت؟! كذب وافتراء. ولذلك قالت بعضهن: إنه يُدْفَع لنا الآن المبالغ الطائلة؛ لكي تتحجب الواحدة. أشاعوا الإشاعات، وقالوا: إن فلانة أصيبت بالمرض، وهذه فَقَدت الجمال؛ لكن مردودٌ عليهم بهذا التوالي والتتابع لبعضهن، وهن في قمة الشهرة والجمال وفي سن الشباب. إنها دليلٌ فعلاً -الهداية الموجودة في الوسط الفني العفِن- على عَظَمَة هذا الدين. إن هذه القافلة من الأسماء المشهورة: شمس البارودي، وشادية، وهالة فؤاد، وكامليليا العربي، وهناء ثروت، وشهيرة، وفريدة سيف النصر، ونسرين، وسوسن بدر، وسهير البابلي، وغيرهن من المعروفات جيداً لكثير من العوائل الإسلامية مع الأسف، من الناس الذين يأتون إلى صلاة الجمعة، وهم يشاهدون تلك المسلسلات الهابطة التي صار من الحرب على هؤلاء الفنانات إعادة عرضها، وتكثيف عرضها في صالات العرض، محاولة للضغط والحرب، هذه الأسماء وغيرها مَن ثبت منهن على الهداية، إنها صفعةٌ قويةٌ موجهةٌ لتجار الغرائز، وإنه إعلانٌ فعلاً أن هذا الدين باقٍ، وأن الله يهدي من يشاء، ولو كان الناس يستبعدون هدايتهم. إنه فعلاً سرٌ عجيبٌ في هذا الدين أن يهدي به الله مَن شاء، بهذا القرآن، بهذا التوحيد، بهذا النور، مَن شاء من عباده. إنه -فعلاًَ- عجبٌ! إنه عجبٌ أيها الإخوة! والآن: هل لنا في عودة صادقة إلى هذا الدين؟! هل لنا أن نتمثل هذه المواقف، أو هذه المبادئ الموجودة في هذا الدين؟! هل لنا أن نكون دعاةً إليه؟!: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً، خير لك من الدنيا وما عليها). هل لنا على الأقل أن ندعو بالثبات لأولئك الذين اهتدوا: أن يزيدهم الله هدىً وثباتاً؟ وأن نستحي من الله أن ننظر إلى تلك الأفلام وقد تاب مَن يمثِّل فيها؟ اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت. اللهم اشف مريضنا، وارحم ميتنا، وأهلك عدونا، وانصر ديننا، واجمع كلمتنا، ورد غائبنا، واهدِ ضالنا إلى الحق يا رب العالمين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

كيف تروض نفسك؟

كيف تروض نفسك؟ النفس تحتاج إلى ترويض حتى يفلح صاحبها وينجح، وهي كالمرأة -كما قال ابن القيم رحمه الله- في المداراة والسياسية، فهي تدارى عند نشوزها بالوعظ، فإذا لم تصلح فبالهجر، فإن لم تصلح فبالضرب، وليس في سياط التأديب أنفع من العزم والمجاهدة والمنع، فالإنسان لديه وسائل يستطيع من خلالها أن يروض نفسه.

الحديث عن موضوع ترويض النفس

الحديث عن موضوع ترويض النفس الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أيها الإخوة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. تحية عطرة تلك التحية التي حيّا بها أبونا آدم عليه السلام، وهي تحية أهل الجنة فيما بينهم، وهي التحية التي هي من أسباب المحبة فيما بيننا، فإذا أراد عباد الله أن يتحابوا فيما بينهم فليفشوا السلام. أيها الإخوة! نفوسنا ملك لله تعالى خلقها وسواها {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:7 - 10] نفسك التي بين جنبيك خلقها الله عز وجل، وهداها ودلها، وأرشدها إلى الخير والشر {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10] هذه النفس إذا زكيتها بطاعة الله أفلحت ونجحت، وإذا دسيتها بمعصية الله خابت وخسرت. هذه النفس يمكن أن تكون أعدى الأعداء {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف:53] ويمكن أن تكون نفساً عزيزة كريمة مطمئنة {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30]. وإذا كانت تلومك على ما فعلت من الشر فهي نفس طيبة لوامة أقسم الله بها {وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة:2] هذه النفس تحتاج إلى ترويض لكي تزكو فتفلح أنت يا صاحبها وتنجح. قال ابن الجوزي: " والنفس كالمرأة العاصية في المداراة والسياسة، فهي تدارى عند نشوزها بالوعظ، فإذا لم تصلح فبالهجر، فإن لم تصلح فبالضرب، وليس في سياط التأديب أنفع من العزم والمجاهدة والمنع ".

الوسائل التي تروض النفس

الوسائل التي تروض النفس الوسائل التي تروض النفس فتجعلها من الناجين المفلحين كالآتي:

الوعظ

الوعظ فالوعظ أول هذه الوسائل، أن نعظ أنفسنا ونذكرها بالله عز وجل، فنحن محتاجون إلى الوعظ جداً، فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يعظ أصحابه كما في الحديث: (وعظنا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ موعظة بليغة، وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع فأوصنا) وكل واحد من المؤمنين يعظ نفسه ويحاسبها، فنحن نحتاج إلى كتب وعظ نقرأها لنعظ أنفسنا، وأن نذهب إلى من نسمع منه كلاماً يرقق قلوبنا، والموعظة الطيبة قصيرة خفيفة مؤثرة بعيدة عن التعقيب، والواعظ إذا فرغ يقوم، كما أن موسى نبي الله ذكر الناس يوماً حتى إذا رقت القلوب، وفاضت العيون ولى؛ حتى تبقى الموعظة في النفوس. هنا مسألة: لماذا إذا سمعنا الموعظة تأثرنا، فإذا غاب الواعظ وانقطعت الموعظة، أو خرجنا من خطبة الجمعة زال التأثر؟ أكثر العامة إذا وعظوا تأثروا وتراهم يبكون في رمضان في دعاء القنوت إذا كان مؤثراً، فالمواعظ عندهم كالسياط، والسياط لا تؤلم بعد انقضائها كما تؤلم وقت وقوعها، والموعوظ لا يحضر مجلس الوعظ في الغالب وهو جائع أو به حاجة، ولذلك يكون مقبلاً مستجمعاً نفسه، وإذا أتى المسجد يكون قد تخلى بجسمه وفكره عن أسباب الدنيا، فإذا غادر وعاد إلى الشواغل عادت إليه الغفلة، فكيف يبقى على ما يكون؟ فإذا استمعنا الموعظة ينبغي أن يكون عندنا عزم بلا تردد ولا التفات، ولو أحسسنا نقصاً عادياً كما شعر حنظلة فلسنا بملومين، لكن أن نغادر فنعصي أو نترك الواجبات هذه هي المصيبة. وبعض الناس لا يتأثرون مطلقاً لا في حال الموعظة ولا بعدها، وبعضهم يتأثرون وقت الموعظة وينسى بعدها، وبعض الناس يريد الله بهم خيراً فيتأثرون وقت الموعظة ويستمر هذا التأثر بعد الموعظة. كيف تعظ نفسك؟ إذا أرادت نفسك أن تنشغل بالدنيا ذكرها بقول الله: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً} [آل عمران:178]. إذا هوت نفسك متاعاً زائلاً عظها بقول الله تعالى: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:33 - 35]. وقل لها: ألم يدخل عمر رضي الله عنه إلى رسول الله وهو يتقلب على رمال الحصير قد أثر في جنبه، وبكى عمر وقال: (كسرى وقيصر في الديباج والحرير وأنت يا رسول الله في هذا! فقال: ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا). وذكرها بقول الله، وعظها بسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. لو انشغلت نفسك في الدنيا فقل لها: ألم يقل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لو أن الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء). وتقول: لقد ثبت الأجر من الله للمؤمن، وزمن التكليف قصير فاصبري، ولا ينبغي للعامل في الطين أن يلبس نظيف الثياب، لو أنك تعمل بالطين -تعمل في البناء- هل تلبس الثياب النظيفة؟ فأنت الآن في الدنيا وفي العمل فلا تنشغل بالدنيا - وليس المقصود أنك لا تلبس الملابس النظيفة - بل ينبغي على العبد أن يصابر ساعات العمل، فإذا فرغ من العمل تنظف ولبس أجود ثيابه، ومن ترفه وقت العمل ندم وقت توزيع الأجرة، وعوقب على التواني. وتعظ نفسك فتقول: وكيف تنام العين وهي قريرة ولم تدر في أي المحلين تنزل في الجنة أم في النار؛ ينبغي لمن رأى نفسه تنجر إلى الرذائل أن يعظها ويذكرها؛ تذكرها إذا دنت إلى الرذائل ومالت إليها بكرامتها عند الله، وكيف أن الله عز وجل خلق آدم بيده، وأسجد له الملائكة وارتضاه للخلافة في الأرض، وراسله بالكتب والرسل، فإذاً تقول: يا نفس! هذا الرب كرمك: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء:70] وهذه البهائم تمشي على أربع ورأسها إلى أسفل وأنتِ تمشين على رجلين ورأسك إلى الأعلى؛ كرمك خلقةً، وكرمك بإنزال الكتب وإرسال الرسل من أجلك، واقترض منك: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} [البقرة:245] واشترى منك: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [التوبة:111]. فإذا رأيت نفسك تتكبر فروضها بموعظتها وبتذكيرها وبحقارة أصلها، وأنها خلقت من ماء مهين، وتقول لها: هل أنت إلا قطرة من ماء مهين تقتلك شرقة، وتؤلمك بقة (بعوضة) وإذا رأيت تقصيراً من نفسك فعرفها بحق سيدها ومولاها وربها سبحانه وتعالى. وإن توانت عن العمل في الصلاة وفي غيرها فذكرها بحق سيدها وبقصر الأجل، وجزالة الثواب. وإن مالت إلى الهوى فخوفها الإثم وعاجل العقوبة كقول الله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ} [الأنعام:46] هذه العقوبات المعنوية، والعقوبات الحسية: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف:146] هذه العقوبة أن الله لا يمكن بعض الناس من أن يتدبروا في آياته: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف:146]. ولو أن نفسك تاقت لما عليه بعض أهل الدنيا والمعصية من الزخارف والبهجة والنعيم فذكرها بأنه يزول {قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص:79] ماذا قال الذين أوتوا العلم؟ انظروا -أيها الإخوة- ماذا يفعل العلم: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} [القصص:80] ولكن لا يلقاها إلا الصابرون. ذكرها أن بسط يد العاصي هو قبض في الحقيقة؛ لأن هذا البسط يوجب له عقاباً، وذكرها أن قبض يد الطائع -لو رأيت مسكيناً عابداً زاهداً متمسكاً بدينه لكنه ضعيف مستضعف مسكين- فذكرها أن قبض يد الطائع يوجب بسطاً في الحقيقة؛ لأن هذا القبض يوجب أجراً جزيلاً. فإذا دعتك نفسك لارتكاب المحرمات والمعاصي، وانجذبت إليها ففسر لها لماذا تنجذب إلى الممنوعات؟ ولماذا كل ممنوع مرغوب؟ إذا عرفنا السر سهل علينا الصمود، إذا عرفنا الحقيقة هانت المسألة، فالنفس تحب الممنوع، وتهفو إليه، ويزيد حرصها كلما زاد المنع، وتستلذ بالحرام ولا تستطيب المباح؛ لأنه يشق عليها أن تمنع ويحظر عليها، وتأمل حال أبينا آدم وأمنا عليهما السلام لما نهيا عن الشجرة حرصا عليها مع كثرة أشجار الجنة -سبحان الله! - كل هذه الجنة بأشجارها أصبحت متروكة واتجهت الهمة إلى هذه الشجرة بالذات، ولماذا أكلا من هذه الشجرة بالذات؟ لأنها ممنوعة فانجذبت النفس إليها، ولولا المنع ما أكلا منها، ولا سألا عنها، ولا انجذبا إليها، ولا حرصا على الأكل منها؛ لكن لأجل المنع. ولهذا فإن الله عز وجل يبتلي الناس بالممنوعات وبالمحرمات لينظر كيف تعملون؟ هل تمتنعون أو ترتكبون؟ هل ستتركون وتجتنبون أم ستلجون وترتكسون في أوحال هذه المعاصي؟ فماذا قال الشيطان لهما؟ {وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [الأعراف:20] مؤكد أن فيها سراً، الشجرة فيها سر. {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [الأعراف:20]. ولذلك قيل: لو أمر الناس بالجوع لصبروا، ولو نهوا عن تفتيت البعر لرغبوا فيه، وقالوا: ما نهينا عنه إلا لشيء، هناك سر فيرغبون في تفتيت البعر، مع أن البعر ما قيمته؟! وقد قيل: أحب شيء إلى الإنسان ما منع منه، فالمؤمن صاحب البصيرة إذا منع من شيء فإنه يعلم أن في منعه حكمة، مثل المنع من الزنا والمنع من النظر إلى المرأة الأجنبية؛ لأن النظر سيعقبه عذاب في الدنيا والآخرة؛ عذاب في الدنيا كأن تتعلق النفس بهذا الشخص أو بهذه المرأة وتنجذب إليها، فإن وصل إليها بالحرام كانت العقوبة بالحرام، وإن لم يستطع الوصول إليها؛ لأنها ذات زوج أو غير ذلك صار له عذاب بالعشق، ولذلك لا يوجد محرم حرمته الشريعة إلا وفيه ضرر علينا، فالله من رحمته بنا لم يحرم علينا أشياء مفيدة لنا وليس فيها ضرر، أي شيء: خمر، خنزير، ربا، ميتة، زنا، سرقة، رشوة، غصب، كذب، فأي شيء محرم علينا فيه ضرر علينا، وإذا فسرت هذا لنفسك هانت المحرمات والممنوعات، وعرفت كيف تتعامل معها، وذكر نفسك أن الجنة حفت بالمكاره وأن النار حفت بالشهوات. فالنفس تشتهي ما يؤدي إلى النار، وتكره القيود والتكاليف، ولكن من لاح له فجر الأجر هانت عليه مشقة التكليف، وهان عليه الليل؛ لأن الفجر قريب، فذكر نفسك بذلك يا عبد الله إذا دعتك إلى فعل ممنوع.

تسلية النفس بآيات الوعد

تسلية النفس بآيات الوعد ومن الوسائل: تسلية النفس بآيات الوعد (حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح). يقول ابن الجوزي رحمه الله: مر بي حمالان تحت جذع ثقيل وهما يتجاذبان بإنشاد الشعر، فأحدهما يصغي إلى ما يقوله الآخر ثم يعيده أو يجيبه بمثله والآخر مثل ذلك، فرأيت أنهما لو لم يفعلا هذا زادت مشقة الطريق وثقل الأمر، وكلما فعلا هذا هان الأمر، فتأملت السبب في ذلك فإذا به تعليق فكر كل واحد منهما بما يقوله الآخر، وانشغال فكره في الجواب على صاحبه فينقطع الطريق وينسى ثقل المحمول نحن كلفنا بأمور صعبة فيها مشقة مثل صلاة الفجر وإسباغ الوضوء، وإخراج المال -الزكاة والصدقة- والصيام فيه مشقة، وكذلك الحج، والصدق، والتعفف عن الحرام، وغض البصر، وعدم سماع الغناء؛ فالنفس تحب الألحان والطرب، ولتقطع الحياة -وهي الزمن والوقت- بتحمل المشاق لا بد أن يكون لك حادٍ، فإن الإبل في طريق السفر إذا كلت وملت ماذا يفعل سائق البعير -الراحلة-؟ ينشد لها، والعرب تسمي هذا النشيد حُداءً، والحادي يحدو بالإبل، فإذا حدا بها نشطت وأسرعت وذهب عنها الكلل والملل، نحن الآن نسير إلى الله، والعمر يمضي وفيه مشاق وتكاليف، وفيه صعوبات، وخاصة في هذا الزمان زمان الفتن، فتن الصور والمجلات وفتن التلفزيون، وفتن الملابس وفتن السوق وغيرها من الفتن الكثيرة. وأنت تمشي في هذا الطريق عليك صلوات، وعليك صيام، وعليك التزام بالأخلاق الإسلامية والصدق والأمانة إلى آخره، والنفس تدعو إلى الروغان والمحرمات والوقوع في الممنوعات والكذب والخيانة، وأخذ المال من أي طريق، وإطلاق البصر، وإطلاق العنان للأذن تسمع ما تشاء. لكي يمضي العمر وأنت تتحمل مشاق التكليف ماذا ينبغي عليك أن تفعل لتسوس نفسك وتروضها على قطع الطريق؟ تحدو بنفسك في مسيرها بآيات الله وذكره، وأحاديث رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ليست مثل ألحان الإبل، فالإبل لا تعقل ولا تفهم الكلام لكن تأنس بالصوت وتسرع لأجل الصوت، رغم أنها لا تفقه الكلمات. الله ضرب مثلاً للذين يسمعون ولا يفهمون: {كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} [البقرة:171] لا يفهم الكلام، لكنه يسمع صوتاً بدون فهم كلام، مثل الدابة ومثل الشاة عندما يدعوها الراعي تستجيب لكن بدون فهم للكلام، فنحن نحدو بأنفسنا في سيرها إلى الله بآيات وأحاديث ترفع الهمة وتنشط العزيمة، وتكبت الحرام، وتثبط الرغبة إليه، وهكذا نندفع في الطاعات ونحجم عن المعاصي، ونحن نسير إلى الله تعالى. فتسلية النفس بآيات الوعد لتكون هذه الآيات والأحاديث في بيان الأجر والثواب مثل: الحادي (حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح).

فطم النفس عن المألوفات

فطم النفس عن المألوفات والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم ومن وسائل ترويض النفس فطمها عن المألوفات، مهم أن يكون لدينا انقطاع عن المألوفات أحياناً، ونحن لا نحتاج أن نتكلف ذلك؛ لأن عندنا من العبادات ما يفطم نفوسنا عن مألوفاتها. من أمثلتها: عبادة تعود النفس على ترك المألوفات: الصيام، وقيام الليل، والحج، إذاً: عندنا في الدين عبادات تساعد النفس على ترك المألوفات فتنفطم النفس وتتقي، وهذا يساعد على ترك الحرام؛ لأنك إذا تركت الحلال المتعود عليه كالنوم والطعام لله وهو حلال، فأحرى أن تترك الحرام.

إدراك إقبال النفس وإدبارها

إدراك إقبال النفس وإدبارها كذلك من وسائل ترويض النفس العظيمة إدراك إقبالها وإدبارها فتلتمس إقبالها للزيادة من الطاعات، وإدبارها لإلزامها بالواجبات والامتناع عن المحرمات. قال عمر رضي الله عنه: [إن لهذه القلوب إقبالاً وإدباراً، فإذا أقبلت فخذوها بالنوافل، وإذا أدبرت فألزموها بالفرائض] أقل شيء إذا انحدرت وانحدرت ألا تصل إلى مستوى تترك فيه واجباً أو تفعل فيه محرماً. ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (إن لكل عمل شرة) نهاية عظمى علوية، وكل شرة وكل نهاية علوية وصعود لابد أن يقابله هبوط: (ولكل شرة فترة) النفس لا تستطيع أن تستمر على حالة واحدة: (فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى) من كان في حال فتوره لا يترك واجباً ولا يعمل محرماً فقد اهتدى. ولذلك كان من سياسة النفس: عدم إملالها، فقد جاء في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلغه أن عبد الله بن عمرو بن العاص يقوم الليل ويصوم النهار، فأراد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يبين له اتباع السنة، والتوسط في الأمور، فقال له: (ألم أخبر أنك تقوم الليل وتصوم النهار؟ قلت: إني أفعل ذلك، قال: فإنك إذا فعلت ذلك هجمت عينك، ونفهت نفسك، وإن لنفسك عليك حقاً، ولأهلك حقاً، فصم وأفطر، وقم ونم) رواه البخاري. معنى هجمت عينك أي: غارت وضعفت لكثرة السهر. ونفهت نفسك: كلَّت، وملَّت، وتعبت. إن لنفسك عليك حقاً: تعطيها ما تحتاج إليه ضرورة البشرية مما أباح الله من الأكل والشراب والراحة، الذي يقوم به بدنه ليكون أعون على عبادة ربه - هذا كلام الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرح هذا الحديث.

منع النفس عن الصغائر

منع النفس عن الصغائر وكذلك فإن من سياسة النفس لجمها عن الذنوب الصغيرة واحتقار الذنوب، إياكم ومحقرات الذنوب، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن وادٍ، فجاء ذا بعود وجاء ذا بعود حتى حملوا ما أنضجوا به خبزهم، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه) حديث صحيح. بعض الناس يتساهلون بنظرة محرمة، وكلمة غيبة في عرض مسلم، ودرهم من شبهة أو حرام، يذهب إلى وليمة لم يدع إليها، لا يرد كتاباً استعاره يقول: هذه أشياء بسيطة. فقد ضرب لنا مثلاً بالأعواد التي تجمع فتحرق. وهكذا الذنوب الصغيرة تجتمع فتحرق صاحبها، وقد تحرق الشرارة بلداً. ومعظم النار من مستصغر الشرر ويتبع هذا في وسائل ترويض النفس لجمها عن التساهل وعدم التحرج من المعاصي، مثلما يفعل بعض الناس الآن من التوسع في قضية الضرورة، فيجعلون أموالهم في بنوك ربا وهم يقدرون على استعمالها بغير ذلك. المرأة تتوسع في الكشف عند الطبيب، والطبيب يتوسع في الكشف على المريضة، والناس يتوسعون في التصوير، كذلك ما يحدث من التوسع في الخادمات، وليست متحجبة كما ينبغي، والسائقين، والتساهل في لباس البنات الصغيرات. والتساهل له صور كثيرة ولذلك سنخصه إن شاء الله بمحاضرة. لكن من وسائل ترويض النفس لجمها عن التساهل؛ لأن هذا انزلاق وتحته واد سحيق، وإذا انزلق في البداية فالجاذبية لن تساعده على التوقف، وإنما ستجذبه إلى الهاوية ولا شك.

إصلاح الخواطر

إصلاح الخواطر أيها الإخوة! إن من الوسائل العظيمة في ترويض النفس وجعلت هذا الجزء الأخير من الكلام وخصصته بتركيز معين، لأهميته وهو إصلاح الخواطر. فإن هذا الكلام فيه شيء من العمق يحتاج إلى تأمل خطورة الخواطر. أولاً: الله تعالى يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، يعلم السر وأخفى، يعلم الكلام الجهري والكلام السري، والكلام الذي في نفسك، والخواطر التي في عقلك وذهنك وقلبك، والشيء الذي لم يخطر بعد أو أنه سيخطر. فهو الحي القيوم الذي لكمال حياته وقيوميته لا تأخذه سنة ولا نوم، ملك السماوات والأرض، الذي لكمال ملكه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، العالم بكل شيء الذي لكمال علمه يعلم ما بين أيدي الخلائق وما خلفهم، فلا تسقط ورقة إلا بعلمه، ولا تتحرك ذرة إلا بإذنه، يعلم دبيب الخواطر في القلوب، حيث لا يطلع عليها إلا الله -أورد هذا الكلام ابن القيم في كتابه طريق الهجرتين. وهو الرقيب على الخواطر واللواحظ كيف بالأفعال بالأركان وهو الحفيظ عليهم وهو الكفيل بحفظهم من كل أمر عاني فالقلب لوح فارغ، والخواطر نقوش تنقش فيه، ولا بد من الخواطر، أي: هل تستطيع أن تمنع نفسك من الخواطر؟ هل تستطيع أن تغلق ذهنك وتبقى بدون خواطر؟ لا يمكن. حاول أن تقفل عقلك ولا يخطر في بالك أي شيء وأنت صاح، وقد خلق الله سبحانه وتعالى النفس شبيهة بالرحى الدائرة -الرحى: آلة الطحن- التي لا تسكن ولا بد لها من شيء تطحنه، فإن وضع فيها حب طحنته، وإن وضع فيها تراب أو حصى طحنته، فالأفكار والخواطر التي تجول في النفس هي بمنزلة الحَبِّ الذي يوضع في الرحى، ولا تبقى تلك الرحى معطلة قط، بل لا بد لها من شيء يوضع فيها، فمن الناس من تطحن رحاه حباً يخرج دقيقاً ينفع به نفسه وغيره، وأكثرهم يطحن حصىً ورملاً وتبناً ونحو ذلك، فإذا جاء وقت العجن والخبز تبين له حقيقة طحينه، ذكره ابن القيم في كتاب الفوائد. ومعلوم أنه لم يعط الإنسان إماتة الخواطر ولا القوة على قطعها، فإنها تهجم عليه هجوم النفس، إلا أن قوة الإيمان والعقل تعينه على قبول أحسنها ورضاه به ومساكنته له، وعلى دفع أقبحها وكراهته له ونفرته منه، كما قال الصحابة: (يا رسول الله! إن أحدنا يجد في نفسه ما أن يحترق حتى يصير حممة أحب إليه من أن يتكلم به، فقال: أو قد وجدتموه؟ قالوا: نعم. قال: ذاك صريح الإيمان) وفي لفظ: (الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة). أورده ابن القيم رحمه الله. ولذلك من رحمته تعالى -لما كانت الخواطر لا بد منها- أنه لا يؤاخذنا على ما حدثتنا به نفوسنا ما لم نتكلم أو نعمل، وما حدثنا به أنفسنا، وما كان من الخواطر والأفكار لا نؤاخذ عليه ولكن لو لم نصلح الأمر من بدايته فإن الخراب هو المصير. فمبدأ كل علم نظري وعمل اختياري هو الخواطر والأفكار، فالخاطرة: تتحول إلى فكرة، والفكرة إلى تصور، والتصور إلى إرادة، والإرادة إلى فعل، وكثرة الفعل يصير عادة. قال رحمه الله: واعلم أن الخاطرات والوساوس تؤدي متعلقاتها إلى الفكر، فيأخذها الفكر فيؤديها إلى التذكر، فيأخذه الذكر فيؤديها إلى الإرادة، فتأخذه الإرادة فتؤديها إلى الجوارح والعمل، فتستحكم فتصير عادة، وهذه الخطورة الكبرى أن يصبح الشر عادة. وكلام ابن القيم في الخواطر لا يكاد يوجد له مثيل في كلام العلماء، فقد أبدع في كتبه في ذكرها. قال رحمه الله: الخواطر والهواجس ثلاثة أنواع: رحمانية، وشيطانية، ونفسانية. الخواطر الرحمانية: في فعل الخير كأن تريد أن تذهب عمرة أو تتصدق أو تذهب إلى الجهاد. الخاطرة الشيطانية: أن تمشي إلى حرام وتفعل الحرام، وكأن تكون جالساً في غرفتك لوحدك ليس معك أحد فتأتيك خاطرة شيطانية فتقوم وتعمل عملاً محرماً. الخواطر النفسانية: مثل الرؤيا، والإنسان معه شيطانه ونفسه لا يفارقانه إلى الموت: (والشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم). والخواطر الباطلة: النوع الأول: منها في الحرام والفواحش، كم من الشباب لو قدر لنا أن نرى ما في أذهانهم وهم في حال الوحدة، شخص وحيد فماذا يدور في باله الآن؟ لربما ترى أكثرهم تدور في أذهانهم خواطر الفاحشة والحرام من كثرة الصور، ومن كثرة ما يرون وما يسمعون يخطر في بالهم الحرام والفواحش. النوع الثاني من الخواطر الباطلة: خيالات وهمية لا حقيقة لها، أو أشياء باطلة أو فيما لا سبيل في إدراكه من أنواع ما طوي عنا علمه، فإذا كان هذا مجال التفكير ومسرح الخواطر فالعاقبة وخيمة، ولذلك فإن التمني واحد قال: رأى أحدهم رجلاً عنده مال يذهب به إلى الحرام ويسافر في الحرام، فقال: لو أن لي مال فلان لعملت بعمله فهما في الإثم سواء كما في الحديث، ولذلك فإن تمني الخيانة وإشغال الفكر والقلب بها ربما يكون أضر على القلب من الخيانة نفسها، فإذا جعل الإنسان الخيانة هي تفكيره وهمه، وانشغل تفكيره بالخيانة، وكيف يستدرج امرأة أو يخرج إلى سوق أو مكان فيظفر بفريسة، وكيف يخون الأمانة ويعتدي على ما استؤمن عليه، فإن هذا عاقبته وخيمة فإذا علمت هذا -يا عبد الله! - فماذا ينبغي أن تفعل من أجل إصلاح الخواطر؟ إذا علمت الآن أن المشكلة تبدأ من الخواطر فكيف تعالج مسألة الخواطر؟ أن تشغل هذا البال بطاعة الله، وأن تفرغ قلبك لله بكليته، وتقيمه بين يدي ربه مقبلاً بكليته عليه، يصلي لله تعالى كأنه يراه، قد اجتمع همه كله على الله، وصار ذكره ومحبته والأنس به في محل الخواطر والوساوس. وهذا الكلام الذي قاله ابن القيم نفيس جداً جداً، إذا تأملته وطبقته سنجد عواقب حميدة وأنواراً وأبواباً من الخير تنفتح عليك؛ أن تجعل عقلك وذهنك وقلبك منشغلاً بالله وذكره، والتفكير في جنته وناره، وعذابه ونعيمه، وعقابه وحسابه، والموت وما بعده. أشغل نفسك بالله، إذا أشغلت فكرك بالله فإنك ستكون بمنأى عن هذه الترهات والمحرمات، وتستريح نفسياً وقلبياً وذهنياً وجسمياً.

علاج الخواطر

علاج الخواطر فعلاج الخواطر إشغالها بالله وحمايتها عن الحرام، قال رحمه الله: وهاهنا نكتة ينبغي التفطن لها: وهي أن القلوب الممتلئة بالأخلاط الرديئة، فالعبادات والأذكار والتعوذات أدوية لتلك الأخلاط، كما يثير الدواء أخلاط البدن، فإذا لم يقبل الدواء وبعده حمية لم يزد الدواء على إشارته، وإن أزال منه شيئاً فمدار الأمر على شيئين: الحمية، واستعمال الأدوية إذاً: إذا تخلصنا من الخواطر الشريرة، وأسكنا الخواطر الخيرة في أذهاننا فهذا من أعظم الوسائل إن لم يكن هو أعظم الوسائل (ترويض النفس) ورد القضية من مبادئها أسهل من قطعها بعد قوتها وتمامها، وقد ضربنا مثلاً في التسلسل السابق، أولاً: خواطر؛ الخواطر تتحول إلى أفكار، والأفكار تتحول إلى إرادات، والإرادات تتحول إلى عمل، والعمل يتحول إلى عادة. ومن المعلوم أن إصلاح الخواطر أسهل من إصلاح الأفكار، وإصلاح الأفكار أسهل من إصلاح الإرادات، وإصلاح الإرادات أسهل من تدارك فساد العمل، وتداركه أسهل من قطع العوائد، كيف تقطع عادة؟ قد تنقل جبلاً ولا تستطيع أن تغير عادة، إلا من رحم الله. وأول ما يطرق القلب الخطرة، فإن دفعها استراح مما بعدها، وإن لم يدفعها قويت فأصبحت وسوسة وكان دفعها أصعب، فإن بادر ودفعها وإلا قويت وأصبحت شهوة، فإن عالجها وإلا أصبحت إرادة -استعمل ابن القيم هنا اصطلاحات مشابهة للاصطلاحات الأولى ومقاربة لها- أصبحت إرادة، فإن عالجها وإلا أصبحت عزيمة، ومتى وصلت إلى هذا الحال لم يمكن دفعها واقترن بها الفعل ولا بد. وعند ذلك لا بد من العلاج الأقوى وهو التوبة النصوح.

دفع الخاطر من أوله

دفع الخاطر من أوله ولا ريب أن دفع مبادئ هذا الداء من أوله أيسر وأهون من استفراغه بعد حصوله إن ساعد القدر وأعان التوفيق، والدفع أولى وإن آلم النفس مفارقة المحبوب. إذاً: لماذا ننتظر حتى نوشك أن نقع في الحرام؟ لماذا لا نستدرك القضية ونصلح من البداية، إن مسايسة النفس وترويضها يقتضي أن تتدارك المسألة من أولها، وأول المسألة الخواطر، فاطرد الخواطر السيئة ولا تسمح لها بالاستقرار، واجعل مكانها خواطر طيبة. فإذا دفعت الخاطر الوارد عليك اندفع عنك ما بعده، وإن قبلته أصبح فكراً جوالاً، فاستخدم الإرادة فإنها تساعد الفكر على استخدام الجوارح، فإن تعذر استخدامها رجع إلى القلب بالمنى والشهوة، وتوجه إلى جهة مراده، ولأهمية هذا الموضوع فقد كان الصالحون يعتنون بالخواطر، ذكر ابن كثير في ترجمة أبي صالح قال: كنت أطوف وأطلب العُبَّاد، فمررت برجل وهو جالس على صخرة مطرق رأسه، فقلت له: ما تصنع هاهنا؟ قال: أنظر وأرعى، فقلت له: لا أرى بين يديك شيئاً ولا ترعى إلا هذه العصاة والحجارة! فقال: بل أنظر خواطر قلبي وأرعى أوامر ربي، وبالذي أطلعك عليَّ إلا صرفت بصرك عني، فقلت له: نعم. ولكن عظني بشيء أنتفع به حتى أمضي عنك، فقال: من لزم الباب أثبت في الخدم -إذا لزمت طاعة الله تعالى أثبتك الله في أوليائه- ومن أكثر ذكر الموت أكثر الندم، ومن استغنى بالله أمن العدم، ثم تركني ومضى. والخواطر السيئة هي بذور يبذرها الشيطان في نفسك -يا عبد الله- فانتبه؛ بذر الشيطان في أرض القلب فإن تمكن من بذرها تعاهدها الشيطان بسقيها مرة بعد مرة حتى تصير إرادة. يقول: الخواطر السيئة إذا لم تدفعها من البداية فهي بذور تصبح في أرض قلبك مزروعة يتعاهدها الشيطان بالسقيا، ويغذيها مرة بعد مرة حتى تصير إرادات، ثم يسقيها (يعدك ويحفزك ويمنيك ويدفعك ويحثك) حتى تكون عزائم، ثم لا يزال بها حتى تثمر الأعمال، ولا ريب أن دفع الخواطر أيسر من دفع الإرادات والعزائم، فيجد العبد نفسه عاجزاً أو كالعاجز عن دفعها بعد أن صارت إرادة جازمة، وهو المفرط إذ لم يدفعها وهي خاطر ضعيف، كمن تهاون بشرارة من نار وقعت في حطب يابس، فلما تمكنت منه عجز عن إطفائها. لو قلت لي: إن الخواطر السيئة لذيذة وأنت تريد أن أترك هذه اللذة وهذا الشيء المحبوب إلى النفس، يعني: أتخيل في الإجازة أني أسافر إلى أماكن معصية، وأسكر وأفعل الفواحش، كيف تريديني أن أترك هذه الأشياء المحبوبة ولا أفكر فيها؟ الشخص لا يترك محبوباً إلا لمحبوب أعلى منه وأقوى، ولذلك إذا كانت محبة الله فوق كل شيء هانت كل المحبوبات الأخرى، إذا كانت محبة الله أعلى من كل شيء ذهبت محبة الزنا والخمر والشهوات المحرمة، ومحبة صور النساء والمردان؛ لأن محبة الله أصبحت فوق كل هذه وهذا الكلام لأصحاب العقول -العناصر المفكرة العاقلة- فالعقل يمنع ويعقل ويحجز عن كل شيء ضار،. فهناك موازنات، فإذا وازنت اقتنعت، وإذا اقتنعت تركت، فخذ هذه الموازنة ووازن بين فوات المحبوب الأخس المنقطع النكد المشوب بالآلام والهموم، وبين فوات المحبوب الأعظم الدائم الذي لا نسبة لهذا المحبوب الخسيس إليه البتة؛ لا في قدره ولا في بقائه. فمحبوب المعصية إذا قارنتها بما سيفوتك، مثلاً: قارن الزنا بما يفوتك من الحور العين، وقارن شرب الخمر في الدنيا إذا فعلته بما سيفوتك من خمر لذة للشاربين، لا فيها غول (لا يذهب عقلك، ولا يصاب رأسك بالصداع، ولا بطنك بالمغص) ولا هم عنها ينزفون. قارن إذا شربت الخمر بين هذه الخمر الخسيسة النجسة التي يعقبها زوال العقل، والتي تسبب في النهاية النكد، وربما طلاق الزوجة واحتقار الناس، والسكران حتى عند الكفار يعتبر صورة مزرية، وحادث السيارة وما ترتب على السكر والمخدرات من الأشياء، وممكن أن يكون في أوله لذة ولكن في آخره حسرة وألم. إذا استعملته قارن بينه وبين ما سيفوتك في الآخرة؛ قارن ووازن واخرج بنتيجة. ثم قارن بين ألم فوت هذا المحبوب وبين ألم فوت المحبوب الأعظم والأكبر، فأنت تفوت محبوباً عظيماً من أجل محبوب خسيس، وليوازن بين لذة الإنابة والإقبال على الله تعالى، والتنعم بحبه وذكره وطاعته، ويقارن بين هذا ولذة الإقبال على الرذائل والإتيان بالقبائح، وليوازن لو انتصرت على نفسك والانتصار على الشيطان -الانتصار على الشيطان فيه لذة- وليوازن بين لذة الظفر بالذنب ولذة الظفر بالعدو، وبين لذة الذنب ولذة العفة، المشكلة الآن أن العفة والصدق والأمانة فيها لذات، وليست اللذة فقط في الكذب والخيانة والزنا، لا. هناك لذة في المقابل، لكن المشكلة أن الناس لا يعيشون لذة الطهارة، والأمانة، والصدق، ويعيشون لذة الكذب ولذة الخيانة، كثيرٌ منهم هذا حالهم، قارن بين لذة الطاعة ولذة المعصية، قارن بين ما سيفوتك من ثناء الله وملائكته وبين لذة هذه المعصية، قال ذلك الكلام النفيس وهذا معناه واختصار له، قاله: ابن القيم في التبيان في أقسام القرآن.

الجمع بين خواطر الخير وخواطر الشر

الجمع بين خواطر الخير وخواطر الشر فموضوع الخواطر موضوع مهم جداً، فأنت الآن مدعو إلى التدبر في مسائل العلم، ومدعو إلى التدبر في معاني الآيات والأحاديث؛ كيف ترضى أن تجمع في عقلك بين معاني {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:2 - 5] وبين خواطر سيئة وخسيسة ودنيئة؟ كيف تجمع بين تدبر خواطر الخير وبين خواطر الشر؟ قال: فالقلب لوح فارغ، والخواطر نقوش تنقش فيه، فكيف يليق بالعاقل أن تكون نقوش لوحه ما بين كذب وغرور وخداع وأماني باطلة، وسراب لا حقيقة له، فأي حكم وعلم وهدى ينتقش مع هذه النقوش؟ وإذا أراد أن ينتقش ذلك في لوح قلبه كان في منزلة كتابة العلم النافع في محل مشغول بكتابة ما لا منفعة فيه لو أتيت بخنزير ووضعت في عنقه قلادة من الجواهر ما رأيك بهذا المنظر؟ هل ترى أن الجواهر تصلح أن تكون على الخنزير، إذا كان لا يصلح فكيف تجعل عقلك مستودعاً للخواطر الشيطانية الخسيسة والدنيئة، ومستودعاً للذنوب والمعاصي الحقيرة التافهة والسيئة، وتجمع معها خواطر القرآن والقيامة والجنة وصفات الله تعالى تدبراً؟! فإن كل واحد يطلب علماً لا بد أن يسأل نفسه هذا Q كيف أطلب العلم وأفكر في مسائل الطهارة والصلاة والزكاة والحج، وقبلها مسائل العقيدة وأسماء الله وصفاته، واليوم الآخر والسيرة النبوية والأحاديث إلى آخره. أفكر بهذا كله ثم أدخل عليها خواطر في الزنا والعشق، والأشياء المحرمة والصور العارية الخ. فكيف ينطبق هذا على هذا، وإذا أراد أن ينتقش ذلك في لوح قلبه كان بمنزلة كتابة العلم النافع في محل مشغول بكتابة ما لا منفعة فيه، فإن لم يفرغ القلب من الخواطر الرديئة لم تستقر فيه خواطر نافعة، فإنها لا تستقر إلا في محل فارغ لتتمكن. أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلباً خالياً فتمكنا هذه قضية -يا إخوان- مهمة جداً أن يكون هناك تفريغ للقلب من الخواطر السيئة، نعم. لا يمكن أن نمنعها من الورود لكن إذا وردت لا نجعلها تعشعش، ولا نترك لها مجالاً للاستقرار في القلب، والإنسان إذا كان قريباً من الله أصبحت الخواطر التي ترد عليه خواطر رحمانية، كما قال ابن القيم رحمه الله: الخواطر التي مبعثها الملك -أي: أيُّ خاطر طيب فإن مبعثه الملك- إذا أصبحت الخواطر الطيبة تأتي إلى ذهنك باستمرار وتتزاحم حتى في العبادات، وهذا ما حصل لـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين تزاحمت عليه الخواطر في مرضاة الرب فربما استعملها في صلاته، فتزاحم عنده تجهيز الجيش في سبيل الله مع قراءة القرآن أو الذكر في الصلاة، انظر إلى أي درجة وصل الفاروق، أصبحت تتدافع خواطر في الآيات وخواطر في الجهاد، وهو المسئول الأول في المسلمين والخليفة، وهو المنشغل جداً، فهو أول واحد يهمه الموضوع.

كيفية إصلاح الخواطر

كيفية إصلاح الخواطر فصلاح الخواطر بأن تكون مراقبة لوليها وإلهها صاعدة إليه دائرة على مرضاته ومحبته، فإنه سبحانه عنده كل صلاح، ومن عنده كل هدى ومن توفيقه كل رشد، ومن توليه لعبده كل حفظ، ومن إعراضه كل ضلال وشقاء، فيظفر العبد بكل خير وهدى ورشد بقدر إثبات عين فكرته في آلاء ربه ونعمه، وتوحيده وطرق معرفته وعبوديته، وهو يستحضر أنه مشاهد له، ناظر إليه، رقيب عليه، مطلع على خواطره وإرادته وهمه، فحينئذ يستحيي منه ويجله أن يطلع منه على عورة يكره أن يطلع عليها مخلوق مثله. لو أنك فكرت بحرام أو فاحشة هل تستحي أن أباك يطلع عليها؟ أو يطلع عليها أستاذك أو إمام المسجد؟ فكيف والله مطلع على خواطرك، فما كنت مستحياً من مخلوق أن يطلع عليه فاطرده من ذلك؛ لأنك تعلم أن الله مطلع عليك، فمتى أنزل العبد ربه هذه المنزلة رفعه وقربه منه، وأكرمه واجتباه وتولاه، وبقدر ذلك يبتعد عن الأوساخ والدناءات والخواطر الرديئة والأفكار الدنيئة، كما أنه كلما بعد منه وأعرض عنه قرب من الأوساخ والدناءات والأقذار، ويقطع عن جميع الكمالات ويصل بجميع النقائص، فالإنسان خير المخلوقات إذا تقرب من بارئه والتزم أوامره ونواهيه وعمل بمرضاته وآثره على هواه، وشر المخلوقات إذا تباعد منه ولم يتحرك قلبه لقربه وطاعته وابتغاء مرضاته، وكذلك فإن الإنسان ينبغي عليه أن يشتغل بمصلحته وما يعنيه، ويجعل الخواطر حول ما يصلحه وما يعنيه، فأنفع الدواء أن تشغل نفسك بالفكر فيما يعنيك دون ما لا يعنيك. فالفكر فيما لا يعنيك باب كله شر، ومن فكر فيما لا يعنيه فاته ما يعنيه، واشتغل عن أنفع الأشياء له بما لا منفعة فيه، فالفكر والخواطر والإرادة والهمة أحق شيء بإصلاحه من نفسك، فإن هذه خاصتك وحقيقتك التي تبتعد بها أو تقرب من إلهك ومعبودك الذي لا سعادة لك إلا في قربه ورضاه عنك، وكل الشقاء في بعدك عنه وسخطه عليك، ومن كان في خواطره ومجالات فكره دنيئاً خسيساً لم يكن في سائر أمره إلا كذلك. فإن قلت: وبماذا أشغل عقلي؟ اشغله في باب العلوم في معرفة ما يلزمك من التوحيد وحقوق الله تعالى، وفي الموت وما بعده إلى دخول الجنة والنار، وفي آفات الأعمال والتحرز منها، وكيف تنفذ العبادات على الوجه المطلوب، وفكر في مصالح دنياك كيف تتزوج وما هي الطريقة للزواج؟ في معاشك وكسب مالك، فكر في هذا ولا بأس به على الإطلاق، إذا كان الذي يشغلك الله عز وجل والعلم به والشريعة، ومسائل العلم المفيد والتفكير فيما يعنيك وترك ما لا يعنيك، والتفكير في عيوب نفسك وكيف تتخلص منها، والتفكير بهموم المسلمين وما يصلح حالهم، والتفكير في معاشك وفيما يصلحك في الدنيا؛ إذا صار فكرك في هذا فإنك على حال طيب. وتصبح في حصن حصين وفي بيت السلطان عليك الحراس قال إبليس: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص:82 - 83] وقال تعالى له: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر:42] وقال: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل:99 - 100]. وقال في حق الصديق: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24] فما أعظم سعادة من دخل هذا الحصن الحصين، لقد أوى إلى حصن لا خوف على من تحصن به، ولا ضيعة على من أوى إليه، ولا مطمع للعدو من الدنو منه: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة:4] ذكره ابن القيم في بدائع الفوائد. فإذا كانت معاني القرآن مكان الخواطر من القلب وكانت على كرسي عرش القلب، وكان له التصرف، وكان هو الأمير المطاع، استقام أمر الإنسان وسيره، واتضح له الطريق فتراه ساكناً ولكنه يباري الريح: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل:88].

خلاصة موضوع كيف تروض نفسك

خلاصة موضوع كيف تروض نفسك فإذاً نلخص موضوع الخواطر وهو الموضوع الأساسي والكبير في سياسة النفس وترويضها: أن تعلم أن الله مطلع على خواطرك. أن تستحي منه. أن تجله أن يرى ويعلم هذه الخواطر أنها ما زالت عندك موجودة. أن تخاف أن يطردك من جنابه. أن تساكن محبته قلبك لا محبة غيره. أن تخشى من شرر الخواطر. أن تعلم أن تلك الخواطر بمنزلة الحَب الذي يلقى للطائر ليصاد به، فاعلم أن كل خاطر منها حبة في فخ منصوب لصيدك وأنت لا تشعر، فالخاطرة حبة ألقاها الشيطان لصيدك. أن تعلم أن تلك الخواطر الرديئة لا تجتمع هي وخواطر الإيمان ودواعي المحبة بل إنها تضادها من كل وجه. أن تعلم أن الخواطر بحر من بحور الخيال لا ساحل له، إذا دخل القلب في غمراته غرق فيه وتاه في ظلماته، فإذا أشغلت نفسك بالخواطر الطيبة كانت ساحل نجاة. أن الخواطر السيئة وادي الحمقاء وأماني الجاهلين لا تثمر إلا الندامة والخزي. أن تجعل مكان الخواطر السيئة خاطر الإيمان والمحبة والإنابة والتوكل والخشية، وأن تفرغ قلبك لها، وإذا أتاك الخاطر السيئ نفيته، لا تؤويه ولا تسكنه، لأنها أماني وهي رءوس أموال المفلسين، ومتى ساكن الخواطر صار مفلساً، وإياك إياك -يا أخي- أن تمكن الشيطان من بيت أفكارك، فإنه يفسده عليك ويلقي بالوساوس الضارة. وأخيراً: فإن موضوع سياسة النفس ومعالجة النفس وترويضها وإصلاحها، والبداية من الخواطر التي جعلناها الجزء الثاني من الموضوع هي قضية جديرة بالاهتمام والعناية. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن زكوا أنفسهم وممن طهروها وعمروها بذكر الله وعبادته. اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم إنا نسألك فعل الخيرات وترك المنكرات، وحب المساكين، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

الأسئلة

الأسئلة

شدة الوساوس في الصلاة

شدة الوساوس في الصلاة Q الشيطان يشتد علينا بالوساوس في الصلاة، فلماذا؟ A يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين، فإذا قضى النداء أقبل، حتى إذا ثوب بالصلاة أدبر، حتى إذا قضي التثويب أقبل، حتى يخطر بين المرء ونفسه، فيقول: اذكر كذا اذكر كذا لما لم يكن يذكر قبل، حتى يظل الرجل لا يدري كم صلى) هذا الحديث الذي رواه البخاري رحمه الله تعالى يبين لنا أن الأذان ثقيل على الشيطان، وإذا أذن المؤذن هرب الشيطان خارجاً، فإذا انتهى الأذان رجع، فإذا أقيمت الصلاة هرب، وإذا انتهت الإقامة رجع يوسوس للمصلي، ويخطر بينه وبين نفسه ويذكره بأشياء لم تكن على باله. ولذلك أبو حنيفة لما جاءه رجل فقال له: إني أضعت مالاً قال: اذهب فصل ركعتين وجاهد نفسك ألا تأتي عليك الوساوس، فجاء الشيطان وذكره في الصلاة ومنها مكان المال المفقود. لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال إنه يقول: (اذكر كذا اذكر كذا، لما لم يكن يذكر) فيذكره به الشيطان حتى لا يعود الشخص يذكر كم صلى، هذه هيبة الأذان الإقامة، وكذلك فعل الشيطان. فإذا جاءك الشيطان يوسوس لك؛ لأنه يحرقه أن يراك منتصباً قائماً لربك، فاتفل عن يسارك ثلاثاً وتعوذ منه في الصلاة، فإنه يذهب عنك إن شاء الله.

معنى (لا) في قوله تعالى: (لا أقسم)

معنى (لا) في قوله تعالى: (لا أقسم) Q لا أقسم بيوم القيامة ما معنى " لا "؟ A لا هنا فيها أقوال للعلماء، ومن هذه الأقوال أنها للتأكيد، أي: في لغة العرب إذا جاءت (لا) هنا فإنها تفيد تأكيد القسم.

حب النساء والوقوع في الزنا

حب النساء والوقوع في الزنا Q أنا يا شيخ ممن يحب النساء حب شهوة، وقد زللت أكثر من مرة فوفقني الله بالتوبة، وأرى من نفسي حب الرجوع مرة أخرى فحاولت أن أدفع نفسي وأحاول أن أتزوج؟ A هذا الكلام ذكرناه في المحاضرة فلو أنك تتبع كلام ابن القيم في موضوع الخواطر، وجاهدت نفسك من الخواطر من بداية الأمر ألا يرد على نفسك، وتشغل نفسك بما يفيدك في الدنيا والآخرة، فلن تصل إلى مستوى الانزلاق إن شاء الله، ولذلك تتبع المسألة من بدايتها، هذه نصيحتي لك والله، تتبع القضية من بدايتها، وأشغل نفسك بالطاعة تنشغل عن المعصية.

الثقة بالنفس

الثقة بالنفس Q هل يجوز الثقة بأنفسنا وما حكم الثقة بالنفس؟ A سئل الشيخ العلامة المفتي/ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله تعالى هذا السؤال هل تجب الثقة بالنفس؟ فقال: لا تجب ولا تجوز، بل تجب الثقة بالله تعالى، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (ولا تكلني إلى نفسي) وقال ابن أبي مليكة: " أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلهم يخاف النفاق على نفسه " لا يوجد منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل. فلا بد أن تخاف على نفسك ولا تثق بنفسك؛ بل ثق بالله عز وجل، فإذا وثقت بنفسك أوكلك الله إلى ضعف وعجز وعورة، وإذا وثقت بالله كفاك الله عز وجل وجعلك تأوي إلى ركن شديد.

الاستهزاء ببعض الأحاديث والتشريعات

الاستهزاء ببعض الأحاديث والتشريعات Q هناك بعض الزملاء يستهزئون ببعض الأحاديث النبوية وبعض التشريعات؛ ظناً منهم أنه ليس لذلك خطر كبير؟ A { قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66] أظن الآية فيها موعظة بليغة وتجيب عن حال هؤلاء الذين يستهزئون بأحاديث وتشريعات ظناً منهم أن المسألة سهلة، الآية نزلت في من؟ قارن فيمن نزلت فيهم الآية وبين هؤلاء الشباب. الآية كما يروي ابن جرير رحمه الله -والحديث حسن- أن الآية نزلت في بعض الذين كانوا في جيش تبوك قالوا: ما رأينا مثل قرائنا -من يقصدون بالقراء؟ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والصحابة- أرغب بطوناً ولا أجبن عند اللقاء، بطونهم كبيرة أصحاب أكل، وإذا جاء الجد ولوا الأدبار. فنزلت الآيات فيهم: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66] وهؤلاء يستهزئون بالآيات والأحاديث والتشريعات مباشرة، والاستهزاء بأي شيء علم المستهزئ أنه من الله ورسوله فهو كافر خارج عن الملة، يجب أن يجدد إسلامه ويتوب إلى الله تعالى.

زكاة الراتب

زكاة الراتب Q هل يجب علي زكاة المال مع العلم أني لا أملك إلا راتبي؟ A إذا كنت لا توفر شيئاً من راتبك وتصرفه أولاً بأول فما عليك زكاة؛ لأنه لا يوجد عندك شيء يحول عليه الحول؛ لكن إذا كانت عندك مدخرات تجب فيها الزكاة، فإذا كانت عندك مدخرات فأسهل طريقة أن تنظر إلى أول راتب استلمته، لنقل: أول راتب استلمته في 1 محرم 1420هـ تنظر ماذا لديك من المال فتخرج في كل ألف خمسة وعشرون ريالاً وهذا فيه راحة نفس وفيه سماحة، وتكون قد عملت ما عليك وزيادة.

حكم سماع الأغاني في السفر

حكم سماع الأغاني في السفر Q أنا لا أحب سماع الأغاني والموسيقى، لكن في حالة السفر مع الأصحاب يجبرونني في رفقتهم مع طول الطريق والملل بأن أسمع الأغاني؟ A يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين في الحديث الحسن: (ماخلا راكب بذكر الله إلا ردفه ملك، وما خلا راكب بشعر ونحوه إلا ردفه شيطان) كيف إذا خلا بالأغاني؟! فلا تقطع الطريق بالأغاني وحاول أن تنصحهم، ومن شروط الرفقة في السفر أن تنتقي الرفقة قبل أن تسافر معهم، وليس أن تسافر معهم ثم تقول: تورطت، وإذا أكرهت وفوجئت، فمرهم بإغلاقه، فإذا لم يمتثلوا فاخل أنت بذكر الله بينك وبين نفسك.

المجاهرة بالمعصية

المجاهرة بالمعصية Q بعض الإخوان يجاهرون بالمعصية؟ A هذه مصيبة عظيمة؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين) من المجاهرة: أن الواحد يعمل العمل ثم يستره الله في الليل ثم يقول في النهار: يا فلان أنا عملت كذا وكذا! يا فلان أنا سافرت لكذا! يا فلان هذه صورة كانت معي ويريه إياها والعياذ بالله، هذا المجاهر يفضحه الله يوم القيامة، والفضيحة يوم القيامة ليست مثل فضيحة الدنيا؛ لأن الفضيحة أمام الناس من آدم إلى الراعي المزني (آخر واحد يصعق عندما تقوم الساعة) مع الجن والملائكة وكل الحاضرين يوم الدين أشد من فضيحة اليوم.

غسل الثوب من المني

غسل الثوب من المني Q المني إذا بقي على الثوب يوجب غسل الثياب؟ A لا يوجب غسل الثياب، ولكن يفركه إذا كان جافاً، وينضحه بالماء إذا كان رطباً، والأفضل أن يغسله بالنسبة للثوب، أما البدن فلا بد إذا خرج المني من الغسل كاملاً، أن يعمم جسده كاملاً مع المضمضة والاستنشاق إذا أراد أن يصلي.

هجر صاحب الكبيرة

هجر صاحب الكبيرة Q جافيت أحد الزملاء عندما رأيته على كبيرة عظيمة ومن بعدها لم أسلم عليه. A إذا كان هذا الهجر يفيده ويشعره بالخطأ، ويندم ويعود إلى الصواب فيجب هجره، وإلا فارجع إليه وادعه بالحسنى. ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وأن يغفر لنا ذنوبنا أجمعين، وأن يعمر قلوبنا بذكره إنه سميع مجيب قريب، والحمد لله أولاً وآخراً، وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه أجمعين.

كيف تسأل أهل العلم؟

كيف تسأل أهل العلم؟ العلماء ورثة الأنبياء، وهم الموقعون عن رب العالمين، وبعلمهم تكون النجاة، والسؤال مفتاح العلم، والتصدر للإفتاء منصب خطير، تجنبه كثير من السلف، وتهافت عليه أكثر الخلف. وفي هذه المحاضرة عشر مسائل أصولية تتعلق بالمستفتي، وسرد وبيان لكثير من آداب سؤال العلماء ومناقشتهم، وفي ختام هذه المحاضرة بعض الملاحظات حول استخدام الهاتف في الاستفتاء. تتخلل كل ذلك أمثلة للآداب، وطرائف من الأخطاء، لا يعدم قارؤها الفائدة.

الإفتاء بين تدافع العلماء واندفاع الجهلة

الإفتاء بين تدافع العلماء واندفاع الجهلة الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، الحمد لله الذي أنزل علينا الكتاب، وعلمنا ما لم نكن نعلم، وهو ذو الفضل العظيم، الحمد لله الذي قال معلماً لعباده: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه:114]. أيها الإخوة إن موضوعاً كموضوع: كيف تسأل أهل العلم؟ أو آداب المستفتي، من الموضوعات المهمة التي يحتاج إليها المسلم دائماً، لأن المسلم لا بد أن يتعرض في حياته لمواقف كثيرة يحتاج إلى السؤال عنها، وإلى حوادث وحالات لا يعلم حكمها، ولا بد امتثالاً لقول الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الانبياء:7] أن يسأل أهل العلم، لأن هذا فريضة قد أمر الله بها فقال: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الانبياء:7]. وموضوع الفتوى والمفتي والمستفتي من الموضوعات الخطيرة والحساسة التي أفرد لها العلماء الكتب، وصنفوا فيها الرسائل، وتكلموا عنها بكتب أصول الفقه، وموضوع الفتوى موضوع خطير، كيف وقد قال الله عز وجل: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} [النحل:116]. وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوقون الفتيا، كما قال أحد السلف: لقد رأيت ثلاثمائة من أصحاب بدر ما فيهم أحد إلا وهو يحب أن يكفيه صاحبه الفتيا، وقال ابن أبي ليلى: أدركت مائة وعشرين من الأنصار من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، يسأل أحدهم عن المسألة فيرد هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا، حتى ترجع إلى الأول، هذا المنصب الخطير، منصب الفتيا الذي ضاع اليوم بين المسلمين، منصب الفتيا الذي ملأه في كثير من بلدان العالم الإسلامي أناس من الجهلة، أو من أصحاب الهوى الذين لا يخافون الله عز وجل، من الذين يبيعون الدين بالدرهم والدينار، هؤلاء الذين تورط بهم الناس ورطة كبيرة، فتشعبت الأقوال، وتاه الناس ما بين هؤلاء الجهلة، وسلم من خلق الله من أهل العلم أناس قليلون ونفر معدودون يصلحون للفتيا يلجأ إليهم المخلصون، وهم الذين يعصمون من الهلكة والوقوع في الهاوية، هؤلاء الذين ينبغي على المسلم أن يلجأ إليهم. إن منصب التوقيع عن رب العالمين منصب خطير، والمفتي في الحقيقة يوقع عن رب العالمين، الله يفتي: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ} [النساء:176] فالمفتي إذاً ينوب عن الله في إخبار الناس بأحكام الله، فهو يوقع عن الله، يوقع بالنيابة عن الله، ولذلك صار فمنصبه جد خطير.

التحذير من الإفتاء بغير علم

التحذير من الإفتاء بغير علم وكان الذي يفتي بغير علم إثمه عظيم، قال صلى الله وعليه وسلم: (من أفتي بفتوى غير ثبت، فإنما إثمه على من أفتاه) لو قارنا حال الذين يتساهلون اليوم في إفتاء الناس بحال الصحابة التي ذكرناها قبل قليل، لوجدنا أمراً عجيباً، اليوم يفتي بعض الناس وهم جهلة، بل ربما يكون المجيب أجهل من السائل، يفتي بعض الناس من أتباع الهوى، ويأخذون الأموال على الفتاوى الرخيصة، لأجل إرضاء فلان وفلان، قال أبو حصين الأسدي: إن أحدكم ليفتي في المسألة، لو وردت على عمر بن الخطاب لجمع لها أهل بدر، وكان ابن عمر إذا سئل قال: اذهب إلى هذا الأمير الذي تولى أمر الناس فضعها في عنقه، وقال: يريدون أن يجعلونا جسراً يمرون علينا إلى جهنم، من هو الذي يقول؟ العالم المجتهد ابن عمر رضي الله عنه، والشيء الذي يمنع بعض الناس اليوم من أن يقول: لا أدري كان لا يمنع الثقات العلماء من السلف أن يقولوا ذلك. سئل الشعبي عن مسألة فقال: لا أدري، فقيل: ألا تستحي من قولك: لا أدري، وأنت فقيه أهل العراق؟ قال: لكن الملائكة لم تستح حين قالت: لا علم لنا إلا ما علمتنا، وهذا الإمام مالك رحمه الله تعالى، سئل عن ثمان وأربعين مسألة، فقال: في اثنتين وثلاثين منها لا أدري، يقول له السائل: بماذا أرجع للناس، وماذا أقول لهم؟ قال: قل لهم يقول الإمام مالك: إنه لا يدري. هذا دين {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل:5] {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق:13 - 14] ولقد شدد رسول الله صلى الله عليه وسلم على من أفتوا رجلاً من أصحابه بغير علم، لما أصاب رجلاً شجة في سفر وأصيب بجنابة، فسألهم قالوا: لا بد لك من الاغتسال، فاغتسل فمات، فقال عليه الصلاة والسلام: (قتلوه قتلهم الله) دعا عليهم وقال: (ألا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال) العي والجهل شفاؤه بالسؤال. ولقد كان الأمر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم سؤال أهل العلم، جاء رجل إلى النبي عليه الصلاة والسلام، قال: يا رسول الله! إن ابني كان عسيفاً عند هذا -اثنان مخاصمان- كان خادماً عند هذا، فزنا بامرأته، فافتديت منه بمائة شاة ووليدة، أعطيته فدية لقاء ما أفسد ولدي من زوجته، أعطيته مائة شاة ووليدة، ثم إني سألت أهل العلم، فقالوا: إنما على ابني جلد مائة وتغريب عام، الرسول عليه الصلاة والسلام قضى بكتاب الله، قال: (الوليدة والغنم رد عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام). فإذاً الصحابة كانوا يسألون أهل العلم، الذين يخبرونهم بالفتوى الصحيحة، ومن هذا المنطلق نقول في مقدمة هذا الدرس: كيف تسأل أهل العلم؟ نقول يا أيها الإخوة! سنتحدث إن شاء الله عن مسائل أصولية تتعلق بالسائل والمستفتي، وآداب السؤال، والمفتي، وملاحظات على الأسئلة بالهاتف، وأسئلة النساء، وبعض الأسئلة التي فيها أخطاء نلقي عليها بعض الضوء، ولن نتحدث في هذه الليلة أكثر عن خطورة منصب الفتيا ولا عن خطورة القول على الله بغير علم، ولا عن عمل المفتي، وماذا يجب على المفتي؟ هذا أمر طويل جداً، ونحن يهمنا الآن المستفتي أو السائل، فنقول أيها الأخوة:

مسائل أصولية تتعلق بالمستفتي

مسائل أصولية تتعلق بالمستفتي أولاً: مسائل أصولية تتعلق بالمستفتي: أولاً: يجب على المسلم إذا نزلت به حادثة لا يعلم حكمها، أن يسأل أهل العلم امتثالاً لقول الله سبحانه وتعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء:7] هذا أمر واجب، هذا من صميم الدين، يجب عليه أن يسأل. ثانياً: يجب على المستفتي أن يتحرى وينتقى الأعلم والأورع لسؤاله، فلا يسأل جاهلاً، ولا صاحب هوى، ولا يجوز للعامي سؤال كل من تظاهر بالعلم، أو وضع في منصب من قبل جاهل، أو فاسق عينه في هذا المنصب، ولا يجوز أن يسأل كل من تصدى للتدريس، أو قال للناس: اسألوني، وإنما يجب عليه أن يتحرى، وأن يبحث وأن ينتقي من يسأله {الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} [الفرقان:59] [إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم] فإذاً لا بد من البحث عن أهل العلم: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الرجال، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، فإذا لم يبق عالم اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا) لا بد من اختيار الأوثق، أنت إذا عرض لك مرض، قضية جسدك وذكر لك طبيبان، فماذا تفعل؟ تسأل من تثق بعلمه في الطب، تذهب إلى الأظهر والأكثر خبرة.

طرق معرفة المؤهل للإفتاء

طرق معرفة المؤهل للإفتاء ثالثاً: كيف يعرف العامي، أن فلاناً أهل للسؤال؟ الجواب يعرف ذلك بأمور، منها: التواتر بين الناس والاستفاضة بأن فلاناً أهل للفتوى، والمقصود بالناس العقلاء العارفون، وليس عوام الناس الذين يُلبس عليهم في بعض البلاد، ففي بعض البلاد يُلبس على بعض العامة؛ يقول لك آلاف من الناس: فلان هذا المفتي، اسأل فلاناً، وهذا ملبس عليهم فيه، فمن تواتر بين الثقات العارفين واستفاض بين الناس بأنه أهل للفتوى وعالم فهو الذي يسأل. الطريقة الثانية: تزكية العلماء العدول الثقات لفلان بعينه أنه أهل للفتوى، فيقصد ويسأل. الطريقة الثالثة: إذا تعدد المفتون في بلد، فماذا يجب على الشخص؟ هل يجب عليه أن يعرف الأعلم ليسأله، أو يسأل أي واحد منهم، مادام أنه صالح للفتيا؟ قال بعض أهل العلم: لا يجب على العامي البحث عن الأعلم مادام الجميع أهلاً للفتوى، وإنما يسأل من يتيسر منهم، خصوصاً أنه عسير على العامة معرفة وتمييز من هو الأعلم، فكيف سوف يعرفون؟ الذي ليس عنده موازين فكيف يميز؟ فهذا يقلد شيخاً يثق به، صالحاً للفتوى، يسأله فيقلده، ولما ضل الناس في مسألة التحري، نفذت عندنا أمور مهلكة، وقضايا مضحكة، وأضرب لكم مثالين مما سمعت في هذه المنطقة: رجل ظاهر من امرأته، قال لها: أنت علي كظهر أمي، ما حكمه في كتاب الله؟ عليه عتق رقبة، ثم صيام شهرين متتابعين، ثم إطعام ستين مسكيناً، إذا لم يستطع بالترتيب، هذا الرجل ذهب إلى إمام مسجد، الناس الآن من المآسي والمصائب الموجودة عندنا أن الناس لا يميزون في السؤال، ذهب إلى إمام مسجد، قال له كذا، قال: اجلس! قل ورائي: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، وقرأ هذا الإمام آيات سورة المجادلة، وآية الظهار في سورة المجادلة، والشخص الآخر يقرأ وراءه، بعدما انتهى من القراءة، قال: خلاص انتهى، اذهب ما عليك شيء، انظر كيف حل المسألة؟ مع أن المفروض أن يقول: اسمع حكم الله في المسألة، ثم يقول: سمعت حكم الله اذهب ونفذ، لكن هذا قرأ له الآيات، قال اقرأها ورائي، فلما قرأها قال: اذهب، لا شيء عليك. مثال آخر واقعي: رجل وطئ امرأته في نهار رمضان، ما حكم الله في المسألة؟ عتق رقبة، فإن لم يستطع فصيام شهرين متتابعين، المسألة فيها تغليظ، القضية قضية عقوبة، ليست المسألة مسألة هزل، فإن لم يستطع، يطعم ستين مسكيناً، ذهب إلى واحد، يسأل من هب ودب، أقرب شخص أو إمام مسجد لا يخاف الله، قال: أنا فعلت كذا وكذا، قال: هذه بسيطة، عليك إطعام ستين مسكين، ثلاثين عليك وثلاثين على زوجتك، وحتى الستين ليست عليه، لكن قسمها بالنصف، قال: عليك ثلاثين وعلى زوجتك ثلاثين. وأمثلة هذا كثيرة جداً، هناك أناس يحلون ما حرم الله، وهناك أناس يحلون ما علم حرمته من الدين بالضرورة مثل الربا وغيره، هناك أناس يحلون نكاح المتعة، وهناك أناس يحلون أشياء كثيرة جداً من الحرام الذي أجمعت عليه الأمة، وعلم في الضرورة أنه حرام، لكن من الناس من لا يخاف الله، ويتجرأ، وليس عنده أدنى مانع من أن يعطي الناس الأريح، وأن يفتي بالرخص الضالة الكاذبة، ويجعل دين الله ملعبة، وبعضهم يزعم أن هذا وسيلة للدعوة أن نرخص للناس، ونخفف على الناس، فيكذب على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى علماء الأمة، ويعطي الناس أحكاماً ما أنزل الله بها من سلطان، أو يوجب على الناس أشياء لا تجب عليهم، يأتي واحد في الحج يسأل جاهلاً، يقول له: فعلت كذا، فيقول: هذه فيها دم، وهذه فيها دم، وهذه فيها دم، خمسة دماء، ستة دماء، وربما ولا واحد منها فيه دم، فإذاً قضية إيجاب ما لا يجب على الناس حرم أيضاً، فقضية تحليل الحرام أو تحريم الحلال، وقضية إيجاب ما لا يجب، كله ليس من دين الله ولا من شرعه.

وجوب معرفة نبذة عن أسباب الخلاف

وجوب معرفة نبذة عن أسباب الخلاف خامساً: يجب على العامي أن يعلم نبذةً عن أسباب الاختلاف بين العلماء، لأن العامة الآن يسألون علماء أو مشايخ، ويسمعون فتاوى العلماء، فإذا جاء مثلاًً في قضية قراءة الفاتحة في الصلاة الجهرية خلف الإمام، سمع عالماً يقول: يجب أن يقرأ، ثم سمع عالماً يقول: لا يجب أن يقرأ، بل ربما قال: لا يجوز أن يقرأ وعليه الإنصات، يأتي في زكاة الحلي، ويسمع شيخاً يقول: تجب الزكاة في الحلي، ثم يسمع مفتياً آخر يقول: لا تجب إذا كان مستعملاً، أو يجب في العمر مرة، وهكذا حال كثير من المسائل الخلافية، فالعامي إذا لم يكن يعلم نبذة من أسباب خلاف العلماء يتيه ويضيع، ويقول: ضيعونا العلماء، هذا الدين أصبح صعباً، العلماء لماذا يختلفون؟ لماذا صار الدين هكذا؟ وبالتالي يتصور الدين تصوراً عجيباً، لكنه لو علم أن أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام قد اختلفوا، وأن الخلاف من طبيعة البشر، وأن أفهام العلماء تتفاوت، وأن العالم الفلاني قد يصل إليه الدليل، وعالم لا يصل إليه الدليل، عالم يصح عنده الدليل وعالم لا يصح عنده الدليل، عالم يفهم الدليل من جهة والآخر يفهمه من جهة أخرى، عالم يظن أن هذا هو الناسخ والآخر المنسوخ، وعالم ينظر أن العكس هو الصحيح، والخاص هو العام، والعام هو الخاص، فإذاً هذا الاختلاف طبيعي في أفهام البشر، ومادام أنهم كلهم ثقات وعلماء، فإذاً من الطبيعي أن يختلفوا، واختلافهم مقبول، وعلى العامي أن يتحرى الأعلم ليسأله.

عدم الاطمئنان للفتوى يوجب ترك العمل بها

عدم الاطمئنان للفتوى يوجب ترك العمل بها سادساً: لا يعمل بالفتوى حتى يطمئن لها قلب المستفتي، قال ابن القيم رحمه الله: لا يجوز العمل بمجرد فتوى المفتي إذا لم تطمئن نفسه وحاك في صدره من قبوله وتردد فيه، لقوله صلى الله عليه وسلم: (استفت نفسك وإن أفتاك المفتون) فيجب عليه أن يستفتي نفسه أولاً؛ ولا تخلصه فتوى المفتي من الله، إذا كان يعلم أن الأمر في الباطن بخلاف ما أفتاه. واحد يعلم أن الأمر في الباطن حقيقة خلاف ما أفتى المفتي، لشكه فيه، أو لجهله، فلا تخلصه فتوى المفتي من الله إذا كان يعلم أن الأمر في الباطن بخلاف ما أفتاه، كما لا ينفعه قضاء القاضي له بذلك، فلو أن رجلين ذهبا إلى قاض، واحد محق وواحد مبطل، لكن الذي على الباطل، ألحن وأقدر على التعبير والإقناع، فأقنع القاضي، فحكم له القاضي، هل حكم القاضي يجعل المال حلالا له؟!! لا، لا يجعل المال حلالاً له، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ومن قضيت له بشيء من حق أخيه، فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من نار) ولا يظن المستفتي أن مجرد فتوى الفقيه تبيح ما سأل عنه إذا كان يعلم أن الأمر بخلافه في الباطن، سواء تردد أو حاك في صدره، لعلمه الحال في الباطن، أو لشكه فيه، أو لجهله به، أو لعلمه جهل المفتي، أو محاباته في فتواه، أو عدم تقيده بالكتاب والسنة، أو لأنه معروف في الفتوى بالحيل والرخص المخالفة للسنة، وغير ذلك من الأسباب المانعة من الثقة بالفتوى، وسكون النفس إليه. فإذا كان عدم الثقة والطمأنينة لأجل المفتي، فعليه أن يسأل الثاني والثالث حتى تحصل له الطمأنينة، فإذاً المثل العام الذي يقول بعض الناس "ضع بينك وبين النار شيخاً" أو "ضعها في رقبة عالم واخرج منها سالم"، أي: اسأل واحداً، وإذا أفتاك فامش عليها، فإذا كان العامي (الشخص السائل) يعلم أنه ليس بأهل، أو أنه لم يفهم السؤال، أو أنه أخفى عليه أشياء، وأفتى المفتي بناء على الجزء المقدم إليه، فلا يجوز للعامي أن يعمل بهذه الفتوى، لكن لو وضح القضية، وأجاب عنها العالم الثقة، فلا يصح أن يخرج عنها بدون شيء شرعي يجب عليه أن يلتزم مادام سأل وعرف الجواب، يجب أن يلتزم ولا يتهرب، لكن إذا كان يعلم أن الأمر الذي أفتى به المفتي بحلاف الحق، فلا يجوز له أن يقول: والله مادام فلان قد أفتى فيها، إذاً فقد برئت ذمتي وعهدتي، لا يجوز له ذلك.

معرفة حكم النازلة عند عدم وجود العلماء

معرفة حكم النازلة عند عدم وجود العلماء سابعاً: قال ابن القيم رحمه الله: إذا نزلت بالعامي نازلة وهو في مكان لا يجد فيه من يسأل، ماذا يفعل؟ أنت في سفر أو في مكان ما وجدت عالماً، ماذا تفعل؟ قال: الصواب أنه يجب عليه أن يتقي الله ما استطاع، ويتحرى الحق بجهده ومعرفة مثله، وقد نصب الله على الحق أمارات كثيرة، ولا بد أن تكون الفطر مائلة إلى الحق، ولا بد أن تكون هناك أمارات في المسألة تدل على أن الحق كذا وكذا، إذاً هنا في هذه الحالة إذا ما وجد يتحرى، يتقي الله ما استطاع، ويعمل بما ظهر لديه، ويستغفر الله، ويتوب إلى الله، ويسأل الله أن يلهمه الصواب، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، ويعمل، ثم بعد ذلك يسأل إذا وجد الشيخ أو المفتي، فإذا كان يجب عليه استدراك شيء استدركه. إذا حصلت له حادثة، فسأل فأفتي، ثم حصلت له الحادثة مرة أخرى، هل يلزمه تجديد السؤال؟ لاحتمال أن رأي المفتي قد تغير مثلاً، الصحيح أنه لا يلزمه، والأصل استمرار الفتوى على ما هي عليه. ثامناً: ويجوز للمستفتي، صاحب المسألة أن يستفتي بنفسه، وهذا الأصل، أو أن يقلد ثقة يقبل خبره، فيقول له: اسأل لي العالم، ينتقي واحداً عاقلاً، يحسن النقل، يحسن الإيضاح، يحفظ، يضبط، ويقول اسأل لي العالم، وله أن يأخذ بالجواب الذي جاء عن طريق هذا الشخص. إذا سمع العامي أكثر من فتوى في المسألة، فماذا يفعل؟ A بعض العلماء قال: ياخذ بالأغلظ وبعضهم قال: يأخذ بالأخف، وبعضهم قال: يسأل ثالثاً يرجح له، لكن الصواب، والله أعلم كما ذكر بعض أهل العلم أنه يتحرى الأعلم والأوثق فيقلده، وهذا في الغالب ليس بمتعين.

عدم جواز التخير بين الأقوال

عدم جواز التخير بين الأقوال عاشراً: لا يجوز للعامي أن يتخير بين الأقوال، فيفتح كتاباً فيه علم الخلاف، ويعرف المسألة يقول: زكاة الحلي، هناك من يقول: تجب كل سنة، وهناك من يقول: تجب مرة في العمر، ومنهم من يقول: تجب إذا لبس، وهناك من يقول: لا يجب أبداً، إذاً أحسن شيء أن أنتقي، مثلاً أنه يجب مرة بالعمر، قال: نأخذ الوسط، لا كذا ولا كذا، هل هذا منهج؟ A لا يجوز للعامي أن يتخير بين الأقوال، فيفتح كتاب خلاف، وينتقي قولاً، أو يأخذ فتاوى وينتقي منها عشواائياً، يجب عليه أن يقلد الأعلم إغلاقاً لأبواب الأهواء، وباب تتبع الرخص، وهكذا. ولذلك أعطيكم مثالاً في بعض كتب مناسك الحج التي توزع وتباع بين الحجاج، يعطيك مثلاً يقول: محظورات الإحرام: الشيء الفلاني عند أبي حنيفة مثلاً جائز، عند مالك كراهة، عند أحمد مكروه، عند الشافعي مثلاً محرم ونحو ذلك، فعنده جدول للمذاهب الأربعة، يأتي يفتح الكتاب ويقول: نأخذ هذه المرة بـ أبي حنيفة، مثلاً المسألة التي بعدها شيء آخر، يقول: هنا والله مذهب الشافعي أسهل نأخذ به، ولهذا الذين يطبعون هذه الكتب ويبيعونها للعامة، ماذا يصلون إليه في الحقيقة؟ ومن من الحجاج الآن متمذهب بمذهب بحيث أنه الآن يقلد صاحب المذهب؟ قليل، ثم ما صحة هذا النقل، وهذه الكتب؟ وننتقل بعد هذه المسائل الأصولية، للمفتي إلى قضية الأدب في سؤال المستفتي أو كيف تسأل أهل العلم من جهة الأدب في طرح بالسؤال؟

آداب سؤال العلماء

آداب سؤال العلماء أما السؤال أيها الأخوة! فهو وسيلة عظيمة جداً لتحصيل العلم، العلم خزائن والسؤالات مفاتيحها، السؤال منفذ كبير لطلب العلم، السؤال دلو تغرف به من بحور العلم، السؤال يفتح لك آفاقاً، السؤال يزيل الإشكال، السؤال وسيلة للفهم، السؤال إذاً قضية خطيرة يجب ألا نلعب فيها، وأن نعطيها وزنها وحقها، فلننتقل الآن إلى الكلام عن كيفية السؤال، كيف تسأل أهل العلم؟ ما هو الأدب مع المفتي؟ المستفتي كيف يفعل؟ ينبغي على المستفتي أن يتأدب مع المفتي، وينبغي على السائل أن يتأدب مع الشيخ.

تبجيل العلماء في الخطاب

تبجيل العلماء في الخطاب ينبغي على العامي أن يتأدب مع العالم، قال أهل العلم في هذه المسألة: فيبجله في الخطاب، لا يقول: يا فلان، إما أن يكنيه يقول: يا أبا فلان، أو يا أيها الشيخ الجليل، مثلاً، أو يناديه بصيغة الجمع: ما قولكم حفظكم الله، أو رحمكم الله في المسألة الفلانية، ولا يومئ بيده في وجهه، ويؤشر له فوق وتحت ويمين ويسار شرحاً، وإنما يتأدب في الخطاب، ولا يقول إذا أجابه الشيخ: هذا رأيي من البداية، أنا هكذا قلت، أو أن يقول: لكن فلاناً أفتاني بخلاف قولك. وكذلك لا يسأله وهو في حالة ضجر، أو هم، وغير ذلك مما يشغل القلب، والعلماء تكلموا في الكتب عن قضية رقعة الاستفتاء، فقالوا: ينبغي أن يكون الخط واضحاً، وأن يضع فيها كل المعلومات وأن يجعل فيها فراغاً للكتابة، بعض الناس يعطي الشيخ ورقة، السؤال يملأ الورقة، وأين يكتب الجواب؟ يأتي بورقة أخرى! فحتى الرقعة التي فيها الفتوى تكلموا في وصفها، وكيف ينبغي أن تكون، المهم الشاهد بلغ الأدب عند بعضهم أنه كان يدفع الرقعة إلى المفتي منشورة مفتوحة، ولا يحوجه إلى فتحها، ويأخذها من يده إذا أفتى مباشرة، مفتوحة حتى لا يحوجه إلى طيها. ولا يصلح أن يستعمل الجفاء بأن يناديه باسمه كما ذكرنا أو يقول: يا أخ، يا هيه، أنت أنت يا فلان، أنت، كما يقع لبعضهم، وإنما يناديه بلقب حسن، ويقرن ذلك بالدعاء، كأن يقول: غفر الله لك، أو أحسن الله أليك، أو أحسن الله عملك، أو رضي الله عنك، أو أثابك الله، أو وفقك الله، أو نفع الله بعلمك، وحتى يأتي بكلمة مواساة، أرجو ألا أشق عليك، عسى ألا أشق عليك، ما حكم كذا؟ بعض الناس يود الشيخ ألا يسأله أبداً من سوء أدبه ولو كان الشيخ مرتاحاً، وبعضهم يود الشيخ أن يسأله زيادة، ولو كان الشيخ متعباً مما يرى من حسن أدبه، بعض الناس من أرباب الشوارع، إذا خطر بباله أن يسأل المسألة ينتقل بقلة أدبه من الشارع إلى خطابه للشيخ، ولا يتخلصون من لكنة الشوارع، فإذا سأل الشيخ وأجابه؛ قال: أنت متأكد، واحد يسأل عالماً كبيراً، يقول: أنت متأكد من هذا الكلام، أكيد سبحان الله! يعني حتى الأعراب لما جاء أحدهم قال: يا بن عبد المطلب، قال: لبيك نعم، قال: إني سائلك فمشدد عليك في المسألة، فلا تجد عليَّ في نفسك، هذا كان أسلوب الأعرابي، جاء من الصحراء، لكن قال: فلا تجد عليَّ في نفسك، قال: آلله، وهؤلاء يقولون في زماننا كلاماً فيه من الرعونة وقلة الأدب شيئاً عجيباً، أو مثلاً إذا جاء يشرح له القضية، فأجابه الشيخ قال: كذا، قال: لا، لا، ما فهمت سؤالي، ركز يا شيخ، ما فهمت السؤال، انتبه معي يا شيخ، وبعض الناس من طريقته في الشرح، أنه يجعل المخاطب، أي: يتكلم بضمير المخاطب، فمثلاً يقول: افرض يا شيخ أنك فعلت كذا وكذا ماذا يكون الجواب؟ وقد يكون فعلت كذا وكذا، قد يكون طامة من الطامات، فمثلاً قد يقول: مثلاً يا شيخ أنت زنيت والمرأة التي زنيت بها كذا وكذا، كيف؟ أو يقول مثلاً يا شيخ أنت تعمل في شركة، من قبل عشر سنوات مثلاً يدك امتدت إلى الخزينة وسرقت مثلاً، وأنت الآن لا تدري كم سرقت، فكيف تفعل الآن؟ فهذه عبارات فاحشة، وسوء أدب ما بعده سوء، وكما قلت لكم أيها الإخوة: وبعض العبارت تصطك منها المسامع يود لو أنه أغلق الهاتف، وأنه صرفه عن وجهه، من سوء أدبه، والعلماء تكلموا في آداب المفتي، كيف يكون صدره واسعاً، وكيف يستقبل، وكيف يتغاضى ويتجاوز، لكن المستفتي يجب أن يكون مؤدباً في السؤال، إذا أراد أحدهم أن يسأل وجيهاً، أو وزيراً، أو عظيماً، تأدب غاية التأدب، حتى إذا أراد أن يسأل مديراً في دائرة، يقول: لو سمحت لي، ويكون صدرك واسعاً، وإذا جاء يسأل شيخاً أو عالماً، أعطاه من هذه الكلمات العجيبة.

مراعاة فطنة العلماء وفهمهم للمسائل

مراعاة فطنة العلماء وفهمهم للمسائل وكذلك ينبغي على السائل أن ينتبه، فربما فهم الشيخ السؤال وهو يظن أن الشيخ ما فهم السؤال، الآن كثير من الأسئلة متشابهة، الشيخ ربما سمع هذا السؤال خمسين مرة، أو مائة مرة قبل ذلك، وبعض السائلين يظن أنه يسأل هذا السؤال لأول مرة وأنه ما سبق الشيخ سؤال مثل هذا، يظن ذلك، فربما الشيخ يفهم السؤال من الوهلة الأولى، فيجيبه فيظن الشخص يقول: لا، لحظة يا شيخ، دعني أكمل، افهم معي جيداً، فالشيخ يقول له: أنا فهمت سؤالك، يقول: لا، دعني أوضح، فإذا كان الشيخ فهم السؤال فأجابه الحمد لله، فإذا سمع الجواب وظن أن الشيخ لم يفهم، أتى له بالعبارات الزائدة، بلطف. لذلك واحد كان يقول لـ إياس القاضي، قال: أنا أكره فيك ثلاثاً: أنك تحكم قبل أن تفهم، مع أن إياس من أذكياء العالم، كيف يحكم؟ هو يتوهم الخصم أنه يحكم قبل أن يفهم، لكنه فهم.

عدم مقاطعة الشيخ أثناء الإجابة

عدم مقاطعة الشيخ أثناء الإجابة ومن الأدب: ألا يقاطع الشيخ أنثاء الإجابة، يتمهل حتى يقضي الشيخ كلامه، ثم يقول مايريد أن يقوله من الاعتراض، أو الاستشكال مثلاً، أو سؤال زائد، أو فرعية في الكلام، أو سؤال عن لفظة غريبة وردت في كلام الشيخ مثلاً، ولا يستعجل فقد تأتي مسألته بعد قليل، وقد يكون الشيخ يريد أن يعلمه شيئاً أهم من الشيء الذي يسأل عنه، أحياناً يأتي واحد يسأل فالشيخ يعطيه مقدمة مهمة جداً أهم من السؤال، فيقول: لا، هذا ليس سؤالاً، انتبه أنت هذا الكلام قد تنتفع به بقية عمرك، سأل رجل ابن عمر رضي الله عنه عن إطالة القراءة في سنة الفجر، فقال ابن عمر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل مثنى مثنى، ويوتر بركعة، فقاطع، فقال: لست عن هذا أسأل، فقال: إنك لضخم، ألا تدعني أستقرئ لك الحديث، أي: انتظر الجواب في بقية الحديث، أنا آتي لك بالحديث من أوله لتستفيد، وكلمة ضخم إشارة إلى الغباوة وقلة الأدب، وإنما قال له ذلك، لأنه قاطعه وعاجله قبل أن يفرغ من كلامه، وبعض الناس أيضاً يعاملون بعض الشيوخ والمفتين والعلماء، كأنهم موظفون يأخذون أجراً على الاستفتاء، وأنه موظف موجود لكي يجيب وأنه لا بد أن يجيب، وقد يكون الشيخ محتسباً لا يأخذ أجراً على ذلك، على أن يجلس عند الهاتف بين المغرب والعشاء، أو بعد العشاء، أو أنه يجلس في المسجد ليفتي الناس، لم يعطه أحد أجراً على هذا، فبعض الناس يسألون الشيخ كأن الشيخ موظف لا بد أن يجيب، لأنه يأخذ عليه أجر، وكأنه يقول حلل راتبك، انتظر هات الجواب، وخصوصاً الذين يسألون المشايخ في بيتهم، من الذي أعطاه وقال اجلس في بيتك وخذ مرتباً على الإفتاء من الساعة كذا إلى الساعة كذا؟ وكذلك لا بد للمستفتي إذا أراد أن يستفتي في مسألة فيها حرج أن يقدم بين يدي الاستفتاء بعبارات تدل على تحرجه، وأنه لا يريد الفحش بالكلام، فبعض الناس يقول: مثلاً، إن الله لا يستحي من الحق، يا شيخ ما حكم كذا؟ أو لا حياء في الدين ماحكم كذا؟ أو أريد أن أسألك عن مسألة لكني متحرج فيها، ولكن لا بد من السؤال، ويعطيه السؤال، وبعض الناس لا يبالي بذلك ويذكر توصيفات وأشياء تتعلق بالعورات، تتعلق بأمور من هذا القبيل بدون أي تقديم ولا يظهر للشيخ تحرج السائل، بل يظهر له قلة أدبه في السؤال. فإذاً لا بد من شيء من التقديم؛ لا مؤاخذة ما معنى كذا وكذا؟ لكن رأينا في المجالس أناساً يقولون: يا شيخ ما معنى "حتى تذوق عسيلتها؟ " طريقتهم واضحة أنهم يريدون الفحش، وقد يكون عارفاً للجواب، لكن هذا موجود في المجتمع، ثم إنه ينبغي على المستفتي إذا أحسَّ أن الشيخ يريد بجوابه إبعاده عن الموضوع وصرفه عنه، وهو يقول: لا، لا إما أنك تقول لي حرام حتى أتركه، أو أنك تقول أنه ليس بحرام، فأحياناً بعض المشايخ يتورع أو تكون المسألة من المشتبهات، أو من المكروهات، هذا كثير جداً فيقول الشيخ مثلاً: لا أنصح بهذا، أرى أن تترك ذلك، أرى أن تترك هذا الشيء، فيقول: لا، لا، حدد حرام أم لا؟ لماذا؟ لأن هذا السائل ما عنده شيء اسمه (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) ولا عنده "اتق الشبهات أبداً" ولا عنده شيء اسمه (فمن وقع في الشبهات وقع في الحرام). الشيخ يريد أن يعلمك ترك الشبهات، يريد أن يعلمك أن هذا خلاف الأولى لا تفعل، فتجد هذا يلزم، وأحياناً يقول: لا يجوز أم حرام؟ أي حتى بعضهم لا يفهم لا يجوز، يأثم لو فعل، فيريد كلمة حرام، يريد كلمة حرام بالنص، فيفوت مقصد من مقاصد الشيخ في الإجابة، وكذلك من آفات المستفتين، أن بعضهم يتبرع بالسؤال عن شخص آخر، فيقول لواحد من الناس أنا أسأل لك، ويذهب بمعلومات غير كافية للشيخ، فيسأل الشيخ، فإذا استفصل منه الشيخ، قال: والله لا أدري، ليس عندي علم، إذاً الفتوى كلها تتوقف على هذا الأمر، كما قال أحد السلف لسائل من هذا النوع: ليتك إذ دريت دريت أنا، لو أنك أعلمتني بالشيء الناقص، لأعلمتك بالجواب.

التطويل في السؤال بدون فائدة

التطويل في السؤال بدون فائدة ومن آفات المستفتين، وهذا شيء كثير متكرر: ذكر معلومات لا داعي لها، ولا تؤثر في الفتوى من قريب ولا بعيد، وتجد لذلك الأوراق فيها معلومات كثيرة، أو الدقائق تضيع بالهاتف في معلومات كثيرة لا داعي لها، في أسماء أشخاص، أو أعمار أو أسماء أماكن، أو وقت معين؛ ساعة معينة، ليس لها تعلق، بعض المعلومات لها تعلق بالفتوى، لكن بعض المعلومات ليس لها تعلق، وربما لو فكر قليلاً، لاختصر السؤال، مثل واحد يقول يا شيخ: سافرت إلى أمريكا قبل خمس سنوات للدراسة ومعي أهلي، وذهبنا إلى مكان معين، فيه مسبح، وجلست عند المسبح، وأولادي يسبحون، فجاء واحد بولده سعيد، وقال لي: انتبه لي للولد سعيد وهو يسبح، وأوصاني به، ثم نزل الولد يسبح، والمسبح فيه قسمين قسم عميق وقسم سطحي، وأنا أتكلم مع واحد بجانبي، ثم التهيت عن الولد، فبعد ذلك صاح أحد الناس، قال: هناك غريق، أتينا بالمنقذ الأول، نزل أول مرة وثاني مرة فلم يجده، أتينا بواحد ثانٍ، نزل واستخرج الجثة، واتصلنا بالإسعاف، ووضعوه على جنب، وعملوا له تنفساً صناعياً، واستيقظ بالمرة الأولى، أي: انتفع بها، وأخذوه بسيارة الإسعاف، ثم مات في الطريق، و Q يا شيخ ماذا يجب علي الآن؟ هل علي دية أم لا؟ أنا أقول لكم: هذه أشياء واقعية حصلت، يعني يمكن ببساطة يقول: أوصاني رجل أن أنتبه لولده الذي نزل إلى المسبح، فانشغلت عن الولد فغرق الولد ومات. صفحة طويلة أو ثلاث صفحات يمكن أن تختصرها بسطر أو سطر ونصف، فبعض الناس يعيشون بين وسوسة، أن يقول للشيخ: اسمع قصتي من أولها، وأنه لا بد أن يذكر كل شيء، بعض الناس يقول: الجزئية هذه قد تكون مهمة لا بد أن نقول للشيخ كل شيء بالتفصيل، ولكن هل يوجد فرق عند الشيخ أن اسم الولد سعيد أو عمرو أو زيد؟ هل يوجد فرق في أن حادثة الغرق صارت في أمريكا، أو في الهند مثلاً؟ هناك فرق أن الولد مات فوراً أو مات بعد ساعات؟ لكن كثيراً من السائلين لا يفكرون في المعلومات المهمة في الفتوى، والمعلومات غير الممهة، ثم يريد بعد ذلك من الشيخ أن يتسع صدره لكل التفاصيل، وأنه لا بد أن يستمع للقصة، وإذا الشيخ لم يستمع لكل القصة، وقال: اختصر وعجل وهات النهاية، قال: لماذا المشايخ لا يعطون فرصة للواحد كي يتكلم؟ لماذا يتكبر هؤلاء المشايخ على الخلق؟ وهكذا، ولا يفكر أن هذا الشيخ وراءه أناس كثيرون يريدون أن يسألوا وأنه ليس هو الذي على حسابه تهدر أوقات الشيخ.

حجب معلومات مهمة وإخفاؤها عن المفتي

حجب معلومات مهمة وإخفاؤها عن المفتي ومن الأشياء المهمة في المقابل: حجب معلومات مهمة، وتلك خيانة في عرض السؤال، مثل أن يسأل عن طلقتين ولا يسأل عن الطلقة الثالثة، فيقول الشيخ: راجعها، إذا حصلت راجعها، وأمر طلقتين من قبل، هذه إذا حصلت الثالثة انتهت القضية، أو يحذف بعض الورثة يقول: يا شيخ مات أبي أو مات أخي، وترك كذا وكذا، ويحذف بعض أسماء الورثة، هذه تفرق كثيراً، ربما كان بعض المذكورين ما لهم شيء أصلاً، وقد تختلف أنصبة الميراث، الآن أنت حجبت عن الشيخ ذكر بعض الورثة، فبعض الورثة الذين ما ذكرتهم تختلف بهم المسألة تماماً، هذه إساءة أدب أن يطرح نصف القضية، بعضهم يطرح نصف القضية، وينتظر الجواب، وبعد ذلك يقول: لكن لا يا شيخ كذا وكذا، خذ مثالاً: واحد يقول: يا شيخ! أحرمنا من الميقات، وذهبنا إلى جدة أنا وزوجتي، وجلسنا يومين بإحرامنا في جدة، ثم ذهبنا إلى مكة وأدينا العمرة، ما حكم العمرة؟ صحيح، كونه جلس يومين في جدة بإحرامه لا يؤثر، فقال الشيخ: العمرة صحيحة، قال: لكن يا شيخ أنا جامعت زوجتي في جدة، انظر الآن المسألة كيف اختلفت، الآن يلزمه إمضاء العمرة الفاسدة ودم، وأن يأتي بعمرة جديدة من الميقات الذي جاء منه، إذاً أنت تعلم أن مركز السؤال هنا في قضية جماع الزوجة، فلماذا أخرته وأهدرت الوقت؟ ولذلك أيها الإخوة، الآن في مسألة المعلومات التي لا داعي لها، وحذف المعلومات المهمة، أقول: إن الحل في كثير من الأحوال في هذه الإشكالات: كتابة السؤال قبل طرحه على الشيخ، كتابة السؤال يعطي السؤال جدية، كتابة السؤال يمكنك من انتقاء التعابير المناسبة، كتابة السؤال يمكنك من مراجعة المعلومات المهمة، وفيه توفير وقت عليك وعلى الشيخ، اقرأ السؤال مرة واحدة قبل أن تقرأه على الشيخ، اقرأه مرة واحدة، بعض الناس يكتب أسئلة ويرفعها للشيخ، لكن ربما لو قرأها مرة أخرى لحذف شيئاً لا داعي له، كلمة غير واضحة مثلاً، اكتب السؤال واقرأ السؤال بعد أن تكتبه، كتابة السؤال توفر أوقاتاً كثيرة، ثم إن السؤال أمانة فكون بعض الناس يحرفون ويغيرون، هذا لايغني من الله شيئاً، كون الشيخ أفتاك على شيء أنت حذفت منه معلومات، تظن أنك الآن قد برئت ذمتك، وخرجت منها، أنت تكذب على نفسك، وتخادع الله، وتخادع نفسك: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142]. ولذلك بعض المفتين الحاذقين الأذكياء، يقول للسائل: إذا كان الواقع كما ذكرت فالجواب كذا، إذا كانت المسألة كما صورتها، فالجواب كذا، إن كان ما تقوله حقاً فالجواب كذا، هذا جيد من المفتي أن يفعل ذلك، لينبه السائل، لأنك إذا حذفت معلومات أو غيرت، أو بدلت السؤال، فهذا لا يغنيك شيئاً، الجواب هذا ما ينطبق على المسألة الحقيقية.

الاستعداد النفسي والتهيئة قبل السؤال

الاستعداد النفسي والتهيئة قبل السؤال ومن الآداب كذلك: الاستعداد النفسي وتهيئة المكان قبل السؤال، أو تهيئة النفس، مثلاً بعض الناس قد يتصل بالهاتف ليسأل الشيخ، ولا يجهز نفسه أو يذهب مثلاً إلى غرفة هادئة، أو يكتب السؤال أمامه، فيتصل فيقال له: مشغول، مشغول، يطلع في المرة العاشرة، يقول له الشيخ: نعم. السلام عليكم. وعليكم السلام. والله يا شيخ نسيت السؤال!! إذاً اكتب السؤال، ثم اطرحه. فوجئت بردك يا شيخ ونسيت كل الأسئلة، كان عندي مائة سؤال، لكن كلما أتصل يقال: مشغول، وفي الأخير لما وجدتك ضاعت كل الأسئلة. أو لحظة يا شيخ واحد يدق الباب، يا شيخ الخط الثاني يشتغل، لحظة يا شيخ الولد يلعب بالتلفون، لحظة يا شيخ الزوجة تتكلم، أنت هيئ مكاناً، ثم لو طرأ طارئ لعله يعذرك، لكن لا بد أن تهيء مكاناً وأن تجهز نفسك، تضع ورقة الأسئلة أمامك، بعض الأحيان واحد يتصل على الشيخ، ثم يقول: لحظة يا شيخ أبحث عن ورقة الأسئلة، ضاعت بين الأوراق، فإذاً لا بد من الإعداد والتجهيز، لأن الآن هذا لعالم، سؤال العالم يجب أن يحترم ويوقر، ويحفظ وقته، وتحفظ أنت ماء وجهك أيضاً، ولا تجلب لنفسك الكلام الذي لا داعي له. كذلك من الأمور القبيحة جداً، وأشرنا إليه ونعيد التأكيد عليها: سعي بعض السائلين من أصحاب النوايا السيئة إلى أن يصادم كلام المفتين بعضهم لبعض، فيقول بعد أن يجيب الشيخ: لكن الشيخ الفلاني قال بخلاف قولك، أو قال غير كذا مثلاً، فهذا قلنا ليس من الأدب، وما تقصد؟ هل تريد أن تحرجه؟ لماذا اتصلت أصلاً؟ ما هو الباعث لك على العمل؟ ومن الأمور التي ينبغي أن يحذر منها كذلك: صياغة السؤال بطريقة تقود الشيخ للإجابة التي يريدها السائل، وعدم التجرد في طرح السؤال، بعض الأحيان تقرأ أسئلة ما بقي إلا أن الشيخ يبصم عليها، أو يضع ختمه فقط، ولذلك لا بد أن يتجرد السائل أثناء الكتابة، ولا يكتب أو لا يتكلم بشيء كأنه يملي على الشيخ الجواب، يقول: يا شيخ ما حكم كذا وكذا وأنت تعلم يا شيخ أن هذا منهي عنه، فما هو الحكم؟ فماذا تقصد إذاً؟ ومن الأمور الحساسة الخطيرة أيضاً: ما يعمد إليه بعض الناس المتخاصمين في مسألة شرعية، فيتخاصمون في المسألة كل واحد يقول هذه حكمها كذا والآخر يقول: حكمها كذا، ثم يتحاكمون إلى شيخ، كل واحد يزين الواقعة حسب ما يوافق القول الذي قال به، يزين الواقعة والحادثة ويكيفها لا بحسب ما حدثت كما هي الأمانة، وإنما بحسب ما قاله هو لصحابه واختلفا عليه، وكثير من الناس يحصل بينهم في مجلس شيء، فيتحدى بضهم بعضاً، ثم يتصلون بالشيخ، فلا بد إذاً من التجرد، ولا يصح أن تجعل كلام الشيخ انتصاراً لنفسك، وإنما تجعل كلام الشيخ لتنتصر للحق، فكثير من الناس يريد من الشيخ أن يوافق قوله، ولو قال الشيخ بخلافه لقال: لكن يا شيخ انظر في المسألة، كأنه يريد أن يوافق الشيخ قوله، حتى لا يرجع إلى الناس بجواب يحرج به، فإذاً ما هو هدفنا؟ البحث عن الحق، وليس إفحام الناس؟ هدفنا أن نبحث عن الحق، لا أن نظهر بمظهر أننا انتصرنا في المعركة والكلام.

إشغال المشايخ بالتوافه والغرائب

إشغال المشايخ بالتوافه والغرائب ومن الأمور التي يحذر منها كذلك في قضية الأسئلة: إشغال المشايخ بالأمور التافهة، مثل أسئلة المسابقات، وهذه كثيرة، وبعد كل رمضان الأسئلة تكثر في المسابقات، أي شيء ينزل في مسابقة المدرسة، مسابقة كلية، مسابقة جامعة، مسابقة هيئة، مسابقة محل تجاري. يا شيخ! من هو أول شهيد في الإسلام؟! يا شيخ من هي أول سرية خرجت؟! يا شيخ! كم مرة ذكر العسل في القرآن؟! ثم افرض أن السؤال شرعي وإسلامي، سؤال المسابقة موضوع للناس لكي يبحثوا بأنفسهم، وليس لكي يتصل ليمليه الأسئلة صح خطأ، وهذا شيء يفعله ضعفاء النفوس، يفعله أناس لا يقيمون وزناً لأوقات أهل العلم، ولا للمشايخ، ولأنفسهم هم أيضاً، ولذلك قال لي بعض العلماء: أي سؤال أحس أنه سؤال مسابقات لا أجيب عليه، أقول: ابحث أنت، مطلوب منك أن تبحث أنت، ممكن أن نعذر طالباً صغيراً، فسأل سؤالاً، دعه يعتاد سؤال العلماء، أو سؤال المشايخ، أو سؤال طلبة العلم، بل نشجعه ولو كان سؤال مسابقة، لكن واحد كبير، إنسان في جامعة، واحد ناضج بلغ من السن مرحلة لا بأس بها، يأتي يسأل الشيخ سؤال مسابقة. ومن الأمور المهمة كذلك: عدم السؤال عن الغرائب، وعما لا ينتفع ولا يعمل به، وعن الفرضيات التي لم تحدث، هذا كلام ذكره أهل العلم في كتبهم، وما لم يكن؛ سؤال الفرضيات، قال المروزي رحمه الله: قال أبو عبد الله - الإمام أحمد - سألني رجل مرة عن يأجوج ومأجوج أمسلمون هم؟ فقلت له: أأحكمت العلم حتى تسأل عن ذا؟ وقال أحمد بن القطيعي: دخلت على أبي عبد الله، يعني: الإمام أحمد فقلت: أتوضأ بماء النورة؟ نورة خالطت الماء أتوضأ به؟ فقال: ما أحب ذلك، فقلت أتوضأ بماء الباقلاء؟ قال: ما أحب ذلك، قال: ثم قمت فتعلق بثوبي، وقال: ماذا تقول إذا دخلت المسجد؟ فسكت، فقال: ماذا تقول إذا خرجت من المسجد؟ فسكت، فقال: اذهب فتعلم هذه، قبل أن تسأل عن الوضوء بماء الباقلاء، تعلم دعاء دخول المسجد والخروج من المسجد، وهؤلاء التلاميذ تعلموا وأصبحوا جهابذة، بفضل هذه التربية. عن ابن عباس قال: (ما رأيت قوماً كانوا خيراً من أصحاب رسول الله صلى الله وعليه وسلم، ما سألوا إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض، كلهن في القرآن، وماكان يسألون إلا عما ينفعهم) فكر قبل السؤال هل هذا السؤال يفيدك أم لا، ينفعك أم لا، سؤال عملي أم افتراضي لا يحصل إلا نادراً جداً؟

حكم السؤال عما لم يحدث وعن الأغلوطات

حكم السؤال عما لم يحدث وعن الأغلوطات ما حكم السؤال عن الأشياء التي لم تحدث؟ في الحقيقة التوفيق بين النصوص، والمسلك الوسط والله أعلم أن نقول: إن السؤال عن الشيء المتوقع حصوله لك، مثلاً أنت سافرت إلى مكان معين، وفي السفر تتوقع أن تحدث لك أشياء، مثلاً أنت صمت في هذه البلد، ستذهب إلى بلد صاموا بعدنا بيوم أو يومين، ماذا تفعل هناك؟ السؤال عن هذا الموضوع سؤال جيد، لأن هذا الشيء متوقع حصوله، لكن أن تسأل عن شيء نادر جداً ماذا يحدث لو أن واحد في المليون تسأل يمكن أن يحصل لي؟ فتدوخ الشخص وتضيع وقته، وتهدر الكلام والوقت في فرضيات لا تحصل إلا نادر جداً، فإذاً السؤال عما لم يحدث ينقسم إلى قسمين: الأول: إذا كان متوقعاً حصوله، فالسؤال جيد، وإذا كان غير متوقع حصوله، فالسؤال مذموم، ويدخل في حديث النبي صلى الله وعليه وسلم: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) ويدخل في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (كره لكم القيل والقال وكثرة السؤال) وأنه كره النبي صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها، وهكذا. ومن الأمور كذلك: عدم السؤال عن الأغلوطات، وسوء القصد في الأسئلة، وكذلك السؤال عما لا ينبغي السؤال فيه، خذ مثالاً من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، روى البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه، عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه: (أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اللقطة، قال: عرفها سنة، ثم اعرف وكاءها وعفاصها، ثم استنفق بها، فإن جاء ربها- صاحبها- فأدها إليه، فقال: يا رسول الله: فضالة الغنم؟ قال: خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب، قال: يا رسول الله: فضالة الأبل؟ قال فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى احمرت وجنتاه، وفي رواية: أحمر وجهه، ثم قال: مالك ولها؟! معها حذاؤها وسقاؤها حتى يلقاها ربها). مالك ولها؟ هناك أحد يسأل عن ضالة الإبل التي تستطيع أن تدافع عن نفسها، وتصبر على مر الوقت، وعلى العطش وعلى الجوع حتى يلقاها ربها، فإذاً هذا السؤال لا داعي له، لذلك غضب النبي صلى الله عليه وسلم، وقال مالك؟ قال رجل للشعبي: إني خبأت لك مسائل، فقال الشعبي رحمه الله: أخبئها لإبليس، حتى تلقاه فتسأله عنها. وعند البخاري عن يوسف بن ماهر أن رجلاً عراقياً قال لـ عائشة: أي الكفن خير؟ قالت: ويحك وما يضرك.

عدم إملال الشيخ بكثرة الأسئلة

عدم إملال الشيخ بكثرة الأسئلة ومن الآداب المهمة أيضاً: عدم إملال الشيخ بكثرة الأسئلة، عن رواد قال: سألت مالكاً عن أربعة أحاديث، فلما سألته عن الخامس، قال: يا هذا ماهذا بإنصاف؟ وكان إسماعيل بن أبي خالد من أحسن الناس خلقاً، فلم يزالوا به حتى ساء خلقه، أي يكون الشيخ مثلاً هادئ الطبع، حسن الخلق، واسع الصدر، فمن كثرة ما يشغله الناس ويضيقون عليه، ويزيدون ويشددون، ويكثرون في الأسئلة، يتغير خلقه فعلاً من الوقت، يتغير خلقه، كان أبو معاوية -ذكره أهل العلم في كتبهم، ونقوله لتوضيح القضية- كان أبو معاوية يحدثنا يوماً بحديث الأعمش عن زر رضي الله عنه، وكان ثم أهل الباتوجة، وأهل الباتوجة الظاهر أنهم ناس لا يعلقون جيداً، فجعلوا يردون: عن الأعمش عن مَن؟ يقول: عن زر، من هو؟ زر؟ قال: عن إبليس، فلما رآهم لا يفهمون، قال: إن إبليس من الضجر. وجاء رجل إلى يحيى بن سعيد يسأله أحاديث وطول عليه، فقال له يحيى في النهاية: ما أراك إلا خيراً مني ولكنك ثقيل، أنت حريص لكنك ثقيل دم، أنت ثقيل. وحضرت ذات مرة مجلس عالم كبير من العلماء، فسأله رجل فأضجر الشيخ، الشيخ يقول: تعال لي غداً، يقول: أنا مستعجل وأنا مسافر، قال: تعال غداً، فقال: أنا لا أستطيع، قال: تعال بعد شهر، تعال بعد شهرين، فزاد الرجل، فقال الشيخ: تعال بعد يوم القيامة، تعرف يوم القيامة تعال بعد يوم القيامة، فإذاً الناس إذا لم يراعوا العلماء والمشايخ، هذا من هنا وهذا من هنا، وهذا في الهاتف، وهذا الشخص، وهذا جاء، النفس لها حدود، ولها قدرة في التحمل، والواحد منا نحن السائلين يأتي ليسأل بكامل عافية، يأتي شبعان نوم وأكل وراحة، وجاء للشيخ مجهزاً نفسه، والشيخ عنده أسئلة وناس وأوراق، ويأتي ليبرز الآن ماعنده من أشياء، فينبغي أن تراعي أن هذا الشيخ كثر عليه الناس، أن هذا الشيخ حاله يحتاج إلى شفقة، ما وجدت المكان ولا الزمن المناسب، اذهب يا أخي، عد مرة أخرى، اكتف بسؤال واحد، أجل الباقي.

بعض آفات السائلين

بعض آفات السائلين وكذلك من آفات بعض السائلين: أنهم يحفظون أطرافاً من المسائل، ونتفاً من الأحاديث مثلاً تعلق في أذهانهم، ثم يأتون يسألون العلماء أو المشايخ، يقول: ما معنى حديث كذا؟ يأتي بالحديث غلط، ويأتي بجزء من الحديث، ما حفظ إلا كلمتين، أو مسألة سمعها في مجلس ما عقل منها إلا كلمتين، يأتي للشيخ ويقول: ما كذا، جاء ابن عجلان إلى زيد بن أسلم، فسأله عن شيء فخلط عليه الكلام، فقال زيد: اذهب فتعلم كيف تسأل، ثم تعال فسل. وقال ابن عيينة: ضمني أبي إلى معمر، وكان معمر رحمه الله يجيء إلى الزهري يسمع منه، فأمسك له دابته، كان في مقتبل العمر صغيراً، أبوه وضعه مع معمر، حتى يتعلم من معمر، ومعمر يذهب إلى شيخه، وهو الزهري فيسأله؟ إذا ذهب معمر إلى الزهري، أمسك ابن عيينة بدابة معمر، كان ابن عيينة صغيراً، قال: فجئت يوماً فدخل معمر على الزهري وأنا ماسك دابة معمر في الخارج، فقلت لإنسان: أمسك الدابة، فدخلت وإذا مشيخة قريش حوله -حول الزهري - فقلت له: يا أبا بكر كيف حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (بئس الطعام طعام الأغنياء) قال فصاحوا بي- الناس- فقال هو: تعال، ليس هكذا عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (شر الطعام طعام الوليمة، يدعى إليه الأغنياء ويترك الفقراء، ومن لم يجب فقد عصى الله ورسوله) فإذاً الواحد لا يحفظ كلمتين من حديث، أو طرف مسألة، ويأتي إلى الشيخ يجادله بها. وبعض السائلين عندهم آفة استعراض العضلات عند العلماء، يبحث مسألة ويقرأ فيها ويطلع، ثم يتصل بشيخه، ما استغلق عليه شيء ليسأل عنه، ولا يوجد شيء غريب يسأل عنه، ولا يريد أن يسأل عن الراجح بين قولين، لا، وإنما ليذكر للشيخ تفاصيل البحث الذي عمله، ويقول: يا شيخ ما حكم كذا؟ الشيخ الآن ما يتذكر كل التفاصيل، كمن بحث الآن، الذي قرأ الآن في الكتب ليس مثله مثل الشيخ الذي هو بعيد عهد بالمسألة، فيقول: يا شيخ! ما حكم كذا؟ فيقول الجواب الفلاني، يقول: لكن الكلام الفلاني قال في كتاب الفلاني كذا، ولكن هذه دليلها كذا، ولكن فأنت لماذا تسأل؟ نعود دائماً نكرر على الناس نقول لماذا تسأل؟ استعراض عضلات (من تعلم العلم ليجاري به العلماء، ويماري به السفهاء، ويصرف به وجوه الناس إليه، كبه الله في النار). وبعضهم يأتي بسؤال يلف به على المشايخ، لمجرد أن يقول في المجالس: سألت الشيخ فلان قال كذا، سألت الشيخ فلان فقال كذا، يفتخر بأنه جمع أقوال المشايخ، أين الإخلاص يا أيها السائل؟ أين الإخلاص يا طالب العلم؟ ولذلك المقصود من السؤال حقيقة هو الاسترشاد وطلب الفائدة، وليس استكشاف المسئول، وحب الاستطلاع، وإحراج المشايخ بالأسئلة، وفرد العضلات. وأعطيكم مثالاً للسؤال عن أشياء غير مناسبة، وفيها شيء من الإزراء، هذا يقول سؤال: سمعت أنك أخذت عمرة، فهل أنت حلقت أوقصرت نرجو منك أن تكشف غطاء رأسك لنا، لنراه؟ ما معنى هذا؟ ما هي فائدته؟ أنت تعلم حديث النبي صلى الله عليه وسلم، أنه دعى للمحلقين ثلاثاً ودعى للمقصرين واحدة، أنت تعلم الحكم الشرعي، فتأتي تسأل وتقول: اكشف لنا شعرك نراه أمام الناس، أو كذلك أن يُسأل الشيخ في قضية ما له علاقة بها أبداً. وهذه أسئلة وردت في محاضرة شرعية، Q ما هو القولون العصبي؟ وما أسبابه؟ وما هو العلاج اللازم له؟ وهل يمكن الشفاء منه؟ سؤال آخر: امرأة أخذت بالغلط دم مصاب بفيروس الكبد الوبائي وهي امرأة متزوجة، هل هذا يؤثر على الأطفال الذين تنجبهم فيما بعد؟ سؤال آخر: لو أخذت المرأة إبرة من الحصبة الألمانية، وبعدها اكتشفت أنها حامل في الشهر الثالث ماذا الذي يتوقع من خطورته؟ سؤال: حدث لي التهاب اللوزتين فوصف لي الطبيب دواء معيناً، وقال عندي بؤرة صديدية، وبلغ ثم داومت يومين على الدواء وبعد ذلك انقطعت عنه، وأحسست بالشفاء مع العلم أن هذا مضاد حيوي، هل يؤثر هذا على القلب أم لا؟ فإذاً كونك تسأل شيخاً عن سؤال طبي، أو هندسي أو فلكي، ليس له فيه اطلاع، هذا أيضاً من إساءة الأدب.

ملاحظات حول الاستفتاء بالهاتف

ملاحظات حول الاستفتاء بالهاتف ونأتي الآن إلى الفقرة قبل الأخيرة. استخدام الهاتف في السؤال، لاشك أن الهاتف أيها الإخوة من نعم الله سبحانه وتعالى، والسؤال بالهاتف أمر قيضه الله سبحانه وتعالى لنا، لكي نستفيد منه، ومن أعظم ما يستخدم به الهاتف، إن لم يكن هو أعظم الأشياء على الإطلاق، لقد كان الناس يرحلون مسافات طويلة، ويسافرون ويتغربون، ويتركون الأوطان والأهل والأولاد من أجل مسألة أو حديث وجمع العلم، وأنت بإمكانك الآن استخدام الهاتف الذي يقرب لك المسافات، والذي يكون لك بمثابة الاستئذان على بيت الشيخ أو العالم لتسأله، وينبغي أن نراعي في قضية استخدام الهاتف أو السؤال أموراً منها: أولاً: عدم الاتصال في الأوقات المزعجة، بعض العلماء أو المشايخ قد يفصل الهاتف، وتنتهي القضية، وإذا جاء وقت الأسئلة وضعه، لكن بعضهم قد لا يفعل ذلك، ليس عنده إلا هاتف واحد، يبقيه للأشياء الطارئة والمستعجلة، فيأتي واحد الساعة واحدة ليلاً أو الثانية ليلاً يتصل ويقول: عندي شيء أقلقني وما عرفت كيف أنام ولا بد أن أسأل، طيب هل من البر بأهل العلم أن تفعل ذلك؟ ثانياً: نوم المشايخ، لماذا لا يردون على الهاتف؟ ولا يفكر السائل في ظروف الشيخ، وأحواله، وأهله، وقراءته، وراحته، وأكله وشربه، وملاعبة أولاده، ولا يفكر فيمن يسأل من الناس بعده، وإنما يقول: كل واحد يفترض نفسه صاحب الحق، وأن الشيخ مخطئ إذا لم يرد عليه. ومن الأمور كذلك التي ننتبه لها في السؤال بالهاتف: الاستغراق بالسؤال عن الأحوال، والحلال والعيال ونحو ذلك، أما السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ولا بد من السلام، والاستفتاح بشيء حسن قصير من دعاء مثلاً أن تقول بارك الله في علمك، نفع الله بك يا شيخ، ما حكم كذا؟ أحسن الله عملك يا شيخ، ما حكم كذا؟ لا مؤاخذة يا شيخ على هذا الاتصال، ماحكم كذا؟ هذا شيء بسيط لا يأخذ وقتاً، لكن لو أن كل سائل يريد أن يسأل الشيخ عن حاله، وصحته وأولاده وبيته وحلاله، لو أن كل واحد يأخذ ولو نصف دقيقة، فلو كان يتصل على الشيخ مائة رجل في اليوم، فكم يكون ضاع من وقته، وكم من سؤال أهدر لأناس يتصلون من مسافات بعيدة على العلماء ليفتوهم. وأقول لكم: بعض الأشياء التي استفدتها بنفسي سؤال أهل العلم، وعلى رأسهم سماحة الشيخ/ عبد العزيز بن عبد الله بن باز نفع الله بعلمه وزاده أجراً، وأحسن عمله، ورفعه في الدارين آمين، وجدت أن من الأشياء المفيدة: اختيار الوقت المناسب، وهو أول وقت الاتصال بالشيخ، فإذا كان الشيخ مثلاً يجلس بعد المغرب مثلاً بنصف ساعة إلى العشاء، فالحرص على الاتصال في أول الوقت، عندما يكون ذهن الشيخ صافياً ولا يكون قد اتصل به أناس كثيرون، لا بد تراعي أن الناس اتصلو قبلك، فعندما تكون من أوائل المتصلين، يكون الشيخ قد جاء من راحة، فيكون أفرغ لك وأحسن، وهذه مسألة تحتاج إلى دقة وضبط في وقت الاتصال. ومسألة التلطف والاختصار كما قلت لكم في مسألة إلقاء السلام، ودعاء قصير جداً، ثم يتبعه بسؤال واضح، وأنا أحرص أن أكتب عندي الأسئلة في دفتر، كل الأسئلة التي أسأل عنها في المسجد وليس عندي علم بها أكتبها في دفتر أولاً بأول، فإذا جاء وقت الاتصال وضعت الدفتر أمامي ثم بدأت في الأسئلة، وأعرف أن الشيخ مثلاً يعاملني بثلاثة أسئلة كل مرة، فلا أزيد على ذلك، فلا أزيد على هذه الثلاثة، وكذلك لا بد من مراعاة نفسية الشيخ، فأنت تسمع وتنتظر أحياناً يرد عليك، تسمع نقاشاً حاداً في قضية شخص ملح، أناس ما عندهم أدب مثلاً، فلو أنك استعملت كلمة واحدة في التخفيف عن الشيخ قبل سؤاله فيكون أمراً حسناً. ثم أيها الإخوة: الصبر على الشيء، أحياناً الواحد يتصل ربما ثلث ساعة ربما نصف ساعة لكي تلتقط الخط، ثم لا تلقط الخط إلا أذان العشاء عند الشيخ، فقد يقول لك الشيخ مثلاً: وقت الأسئلة انتهى اتصل غداً، طبعاً الإنسان قد يتبرم ويضيق، أنا الآن متصل أنا جالس على الهاتف ثلث ساعة أتصل، وربما تجلس على الخط عشر دقائق وتتكلم من منطقة خارجية، ثم إلى أن يفرغ من مناقشاته، ثم يقول لك: أذن العشاء اتصل غداً، فينبغي الصبر والفسحة في الصدر، وبعض السلف قالوا له: فلان -هذا العالم- صعب، كيف استطعت أن تدخل عليه؟ قال: إني تملقته حتى دخلت عليه، وصار يرحب بي، ويسمع كلامي، وتعلمت كذلك ألا أقول للشيخ يوجد سؤال طويل اسمح لي آخذ من وقتك عشر دقائق، هذه مقدمات قاتلة بالنسبة للشيخ، فاختصر السؤال واعرضه. ثم أيها الإخوة هناك مشايخ مشغولون، تسألهم سؤالاً محدداً، الجواب نعم أو لا، وهناك مشايخ أفرغ، تسألهم عن الدليل، وهناك مشايخ أفرغ تسألهم عن إشكالات الدليل، مثلاً قد يكون الشخص المتفرغ ليس عالماً كبيراً جداً، لكنه طالب علم متمكن، فيفيدك في الأدلة، وخلاف العلماء، وفي الراجح، وأن تراعي أيضاً ولا تكون أنانياً، تراعي أن هناك أناساً ينتظرون دورهم في السؤال، لا تنزل السماعة إلا وهناك أناس كثيرون يتصلون، وقد تكون عندهم قضايا أهم من القضايا التي تعرضها أنت، والقضية أن إحساس بعض الناس بمشكلته أكبر من إحساسه بوقت غيره.

ملاحظات حول أسئلة النساء بالهاتف

ملاحظات حول أسئلة النساء بالهاتف أنتقل إلى النقطة الأخيرة وهي: أسئلة النساء، المرأة تجد متنفساً لها بالهاتف، ولا تستطيع أن تسافر لتسأل أو تذهب بنفسها إلى المسجد لتسأل الشيخ، فيكون هذا الهاتف رحمة لها أن تستعمله، ولكن نلفت أنظار النساء في اسخدام الهاتف إلى ما يلي: أولاً: السؤال بقدر الحاجة، وربما لو سأل عنها رجل لكان أفضل في بعض الأحيان، وأحياناً تحتاج أن تشرح مشكلتها بنفسها، فلا بأس أن تشرح. ثانياً: لا داعي للمقدمات، هي تسأل الآن رجلاً أجنبياً كيف حالك! وعساك بخير! كيف الأولاد؟ وكيف الصحة؟ هذا ليس مجال أن تسأل امرأة رجلاً أجنبياً. ثالثاً: عدم الإطالة والإعادة التي لا داعي لها، كما يكثر في أسئلة النساء. رابعاً: عدم الخضوع في القول، وعدم التكسر، وعدم الميوعة في الكلام، وقد تكون بعض النساء تعودت على هذا، ما يصلح أن تخاطب شيخاً وما زال رجلاً أجنبياً، وقال الله عز وجل: {وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} [الأحزاب:32] ولا يصلح أبداً أن تأتي امرأة وتقول لشيخ أو لطالب علم حتى من الشباب: إني أحبك في الله، هذه من مفاتيح الشيطان ومن أبواب إبليس. وكذلك أخيراً: عدم التبسط وإزالة الكلفة مع الشيخ، يعني: تتكلم وكأنها تكلم زوجها، أو تكلم أخاها، أو تلكم أباها مثلاً، فتتبسط وترفع الكلفة، ويقل الأدب، فهذه بعض النصائح.

بعض الأسئلة الطريفة

بعض الأسئلة الطريفة وختاماً أقول لكم: بعض الأسئلة الطريفة التي تدل على أشياء مما حصل ووصل، بعض الناس يتصل وهو خائف أن يسمع جواباً معيناً، هذا رجل اتصل، قال: أسألك سؤالاً: أنا -يسأل وهو خائف من الجواب- أتيت زوجتي في نهار رمضان وما أنزلت لكني وطئت، ولكن ما الحكم؟ A مادام أنك أولجت فعليك صيام شهرين، قال: يا نهار أبيض! وأغلق السماعة، بعض الناس كأنه خائف من الجواب، وربما ظن أنه إذا أغلق السماعة كأنه ما سمع، كأنها ألغيت أو محيت، وامرأة تقول: مثلاً عندي أساور المسألة فيها زكاة؟ الجواب: نعم فيها زكاة، حسب حديث أبي داود في المرأة التي جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم. قالت: ما عندي نقود. تبيعين واحدة منها، وتخرجين الزكاة. قالت: آسفة كله زينة. وأحياناً يأتيك سؤال لا تعرف كيف وصل عقله إلى هذا الحد، يقول رجل: أنا اعتمرت لنفسي فحلقت شعري، ثم خرجت للتنعيم، ثم أحرمت واعتمرت لأبي، فما وجدت شيئاً أحلقه، فنتفت من لحيتي، فهل هذه فكرة وجيهة؟ اسأل عندك في الحرم قد تجد ناساً من أهل العلم. ويقول آخر: وضعت الساعة لأتسحر ووضعتها خطأ، أخرتها ساعة، وقمت على الساعة مسرعاً في البيت وجهزت طعاماً من الثلاجة، وضعته على الطاولة ووضعت الساعة أمامي وجلست آكل آكل، ولم يؤذن، ثم قلت: لماذا المؤذنون كلهم نائمون اليوم؟ يقول: قمت وفي فمي لقمة، فتحت الستارة وإذا بالنور ظهر لي، نور النهار، فتورطت باللقمة التي في فمي، ماذا أفعل؟ فأخذت كوباً من الماء وبلعتها. لو سامحناه في موضوع اللقمة هذه التي في فيه، إذاً كوب الماء الذي أخذه. أو بعضهم يسأل بأسلوب يقول: توضأت بدون أن أغسل أحد الأعضاء وصليت، ثم وسوس لي الشيطان أن صلاتي غير صحيحة، كيف هذا؟ عدم غسل أحد الأعضاء يعني أن الوضوء باطل، كيف وسوس لك الشيطان أن صلاتك غير صحيحة، لا هذا ليس من الشيطان، هذا من الملك الذي دفعك للتفكير بهذا. ومن أشد ما يؤلم أحياناً أن إنساناً يسألك عن مسألة، وهناك من هو أعلم منك يستطيع أن يسأله، بل خذوا هذه القصة، الآن مثلاً أنا أحاول أن أجيب على الأسئلة، وأحسن أحوالي أن أنقل فتاوى العلماء، لا أملك قدرة على الفتوى، ورحم الله امرأً عرف قدر نفسه، أحسن أحوالي أن أنقل فتوى عالم أعرفه في المسألة إلى شخص، يأتيك أحد يسأل: السلام عليكم، أنا أكلمك من الرياض، ما حكم كذا وكذا؟ تقول: الحكم كذا، لكن يا أخي لماذا لا تسأل الشيخ عبد العزيز، يقول: أنا سألته لكن أحببت أن أتأكد. سبحان الله! فعلاً الناس لا يعرفون قدر العلماء، تتأكد من الأدنى على الأعلى! وممن لا يقارن! تتأكد عن فتوى العالم، هذا شيء مذهل أن الناس لا يعرفون قدر علمائهم. وختاماً أسأل الله سبحانه وتعالى لي ولكم التوفيق والسداد والإخلاص في القول والعمل، وحسن التعلم وحسن السؤال، إنه سميع مجيب، وصلى الله على نبينا محمد.

كيف نجدد الإيمان في قلوبنا؟

كيف نجدد الإيمان في قلوبنا؟ الإيمان! كلمة عظيمة لا يعلم معناها إلا من ذاق حلاوتها، ولا يذوق حلاوتها إلا من عاش في كنف طاعة الله عز وجل. وقد جعل الله من أسباب تجديد الإيمان وتقويته الأعمال الصالحة، ومن أسباب ضعفه السيئات وكثرتها.

الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية

الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فقد تكلمنا أيها الإخوة! في الدرس الماضي عن مظاهر أو أعراض ضعف الإيمان وأسبابها، ووعدنا أن نتكلم في هذا الدرس عن علاج ضعف الإيمان، ونحن إن شاء الله نشرع في الكلام عن هذا الموضوع في هذا الدرس بعنوان" كيف نجدد الإيمان في قلوبنا؟ " يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب) أي: إن الإيمان يبلى في القلب مثلما يبلى الثوب إذا اهترى وأصبح قديماً. أيها الإخوة: قد تعتري هذا القلب في بعض الأحيان سحابات من سحب المعصية، ويقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح في هذه الحالة: (ما من القلوب قلبٌ إلا وله سحابةٌ كسحابة القمر، بينما القمر يضيء إذ علته سحابةٌ، فأظلم إذ تجلت) حديث حسن في صحيح الجامع. أحياناً تأتي سحابة فتغطي ضوء القمر برهة من الزمن، ثم تزول السحابة وتنقشع، فيرجع ضوء القمر مرة أخرى؛ ليضيء في السماء، وكذلك قلب المؤمن تعتريه أحياناً سحبٌ مظلمةٌ من المعصية فتحجب نوره، فيبقى الإنسان في ظلمة، فإذا جدد الإيمان، واستعان بالله عز وجل، انقشعت تلك السحب، وعاد نور قلبه يُضيء كما كان. والإنسان إيمانه في ارتفاع وهبوط، كما هي عقيدة أهل السنة والجماعة، فالإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، والواحد منا الآن في أحواله العادية إذا خرج يمشي في السوق ويُبصر زينة الدنيا، ثم دخل إلى المقابر، فتفكر ورق قلبه، فإنه يُحس بين الحالتين فرقاً بيناً، فإن القلب يتغير بسرعة. والكلام في قضية ضعف الإيمان وفي علاج ضعف الإيمان وهو من شقين: الشق الأول: الكلام في علاج ضعف الإيمان من جهة الفرد المسلم. الشق الثاني: الكلام في علاج ضعف الإيمان من جهة الوسط الذي يعيش فيه الفرد المسلم، فهناك علاجات فردية وعلاجات جماعية، هناك علاجات تتجه إلى الفرد نفسه، وهناك علاجات تتجه إلى الوسط والمجتمع الذي يعيش فيه الفرد حتى يعالج ضعف الإيمان. ونحن سنبدأ الكلام إن شاء الله عن القضايا التي تهم الفرد في نفسه، ثم نتبع ذلك بالكلام عن بعض القضايا المنهجية في كيفية علاج ضعف الإيمان من جهة الوسط الذي يعيش فيه المسلم.

علاج ضعف الإيمان من جهة الفرد المسلم

علاج ضعف الإيمان من جهة الفرد المسلم من أوائل الأشياء التي تتبادر إلى أذهاننا ونحن نتكلم في علاج ضعف الإيمان: قضية تدبر القرآن العظيم الذي أنزله الله عز وجل تبياناً لكل شيء، ونوراً يهدي به الله سبحانه وتعالى من شاء من عباده، وكان صلى الله عليه وسلم يتدبر كتاب الله ويردده وهو قائمٌ بالليل، حتى إنه مرة من المرات قام يردد آيةً واحدةً من كتاب الله وهو يُصلي حتى أصبح، لم يتعد هذه الآية الواحدة، وهي قول الله عز وجل عن عيسى عليه السلام: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118]

تدبر القرآن

تدبر القرآن يقول عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه: [لو طهُرت قلوبنا، لما شبعت من كلام الله] لو أن القلوب صافية لما شبعت ولطلبت الزيادة باستمرار من كلام الله. وقد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم في تدبر القرآن مبلغاً عظيماً، روى ابن حبان في صحيحه وغيره بإسناد جيد، قال عطاء: دخلت أنا وعبيد بن عمير على عائشة رضي الله عنها، فقال عبيد بن عمير: حدثينا بأعجب شيءٍ رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبكت، وقالت: (قام ليلة من الليالي -أي: يصلي- فقال: يا عائشة ذريني أتعبد لربي قالت: قلت: والله إني لأحب قربك وأحب ما يسرك، قالت: فقام فتطهر، ثم قام يُصلي، فلم يزل يبكي حتى بَلَّ حِجره، ثم بكى، فلم يزل يبكي حتى بل الأرض، وجاء بلال يؤذنه بالصلاة، فلما رآه يبكي، قال: يا رسول الله! تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! قال: أفلا أكون عبداً شكوراً، لقد نزلت عليَّ الليلة آيات ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكر فيها: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الآيات} [آل عمران:190 - 191]). يقول ابن القيم رحمه الله في علاج ضعف الإيمان في القلب: إذا أردت أن تجود إيمانك فملاك ذلك أمران: أحدهما: أن تنقل قلبك من وطن الدنيا فتسكنه في وطن الآخرة، ثم تُقبل به كله على معاني القرآن واستجلائها وتدبرها، وفهم ما يُراد منه وما نزل لأجله، وأخذ نصيبك من كل آية من آياته، وتنزلها على داء قلبك، فإذا نزلت هذه الآية -العلاج- على داء القلب برئ القلب بإذن الله. وهناك أيها الإخوة! صور معينة يكون فيها استشعار التأثر عظيماً، يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (شيبتني هودٌ وأخواتها قبل المشيب)، وفي رواية: (وأخواتها من المفصَّل) وفي رواية: (هودٌ والواقعة، والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت) هذه السور الخمس: "هود، والواقعة، والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت" شيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل المشيب، بما احتوته من حقائق الإيمان والتكاليف العظيمة على قلب الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن تدبر أمثلة القرآن. وكان أحد السلف تدبر مرة في مَثلٍ من أمثلة القرآن فبكى، فسئل: ما يبكيك؟ قال: إن الله عز وجل يقول: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ} [العنكبوت:43] أي: هذه الأمثال نضربها في القرآن للناس: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43] وأنا ما عقلت المثل، فلست بعالم، فأبكي على ضياع العلم مني. وحال السلف في التدبر كثير جداً ومبثوث في الكتب. منها: ذلك الرجل رحمه الله الذي قرأ قول الله عز وجل: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} [الإسراء:109] فسجد سجدة التلاوة، ثم قال معاتباً نفسه: هذا السجود، فأين البكاء؟ لأن الآية فيها ماذا؟ {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} [الإسراء:109] قال لنفسه: هذا السجود، فأين البكاء؟! يعاتب قسوة قلبه، والكلام في موضوع التدبر طويل، ولكن تدبر القرآن من السبل الأساسية لتقوية ضعف الإيمان.

استشعار عظمة الله عز وجل

استشعار عظمة الله عز وجل ثم أيها الإخوة: من السبل كذلك لتقوية ضعف الإيمان: استشعار عظمة الله عز وجل، ومعرفة أسمائه وصفاته، والتدبر فيها، وعقل معانيها، واستشعارها، وتطبيقها في الواقع. يقول ابن القيم رحمه الله: أن يشهد قلبك الرب تعالى مستوياً على عرشه، متكلماً بأمره ونهيه، بصيراً بحركات العالم علويه وسفليه، وأشخاصه وذواته، سميعاً لأصواتهم، رقيباً على ضمائرهم وأسرارهم، وأمر الممالك تحت تدبيره -كل الممالك أقوى دولة وأضعف دولة- نازلٌ من عنده وصاعدٌ إليه، وأملاكه بين يديه، الملائكة تنفذ أوامره في أقطار الممالك -لا أحد يصده عن تنفيذ أمر الله- موصوفاً بصفات الكمال، منعوتاً بنعوت الجلال، منزهاً عن العيوب والنقائص والمثال، هو كما وصف نفسه في كتابه وفوق ما يصفه به خلقه، حيٌ لا يموت، قيومٌ لا ينام، عليمٌ لا يخفى عليه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، بصيرٌ يرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، سميعٌ يسمع ضجيج الأصوات باختلاف اللغات على تفنن الحاجات، تمت كلماته صدقاً وعدلاً. يسمع ضجيج الأصوات: الآن العباد يضجون بالأصوات في أنحاء الأرض، والله عز وجل يعلم كل واحدٍ منهم ماذا يقول، ولا تشتبك عليه الأمور، ولا تلتبس عليه اختلاف الأصوات، ولا اختلاف اللغات، ولا اختلاف الحاجات التي يدعو بها العباد، هذا يقول: اللهم أعطني ولداً، وهذا يقول: اللهم اشف مريضي، وهذا يقول: اللهم ارزقني وظيفة ومالاً، وهذا يقول: اللهم ارزقني الجنة، وهذا يقول: اللهم ارحم ميتي، فلا تختلط عليه الأشياء، ولا يعجزه علم ما يقول هذا من هذا. ونحن البشر العجزة لو تكلم ثلاثة مع واحد في نفس الوقت، فقد التمييز، والله عز وجل ملايين الأصوات تصعد إليه، فيسمع كلام كل واحد. فإذاً أيها الإخوة: إدراك معاني الأسماء والصفات، وماذا يعني كل واحد؟ وكيف نطبق هذه الأسماء ونستفيد منها في الواقع، ماذا نستفيد من اسم الرزاق؟ ماذا نستفيد من اسم الغفور؟ من اسم الرحيم؟ (إن لله تسعةً وتسعين اسماً، من أحصاها دخل الجنة) أحصاها بأن يعمل بها في الواقع، وأن يحفظها كما قيل، وأن يعلم معناها، يعلم ويحفظ ويطبق.

التفكر في عظمة الرب وقدرته

التفكر في عظمة الرب وقدرته من استشعار عظمة الله أيها الإخوة! هناك مواقف تمر بنا في القرآن إذا فكر فيها الإنسان المسلم، يشعر بأشياء يرتجف لها قلبه، وهو يفكر ويستشعر عظمة الله عز وجل، هذا الاستشعار لعظمة الله أمرٌ مهمٌ. عندما تتأمل يا أخي قول الله عز وجل: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ} [الزمر:67] {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} [يونس:61] {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19] عندما تتأمل في قصة موسى عليه السلام لما طلب أن يرى ربه: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً} [الأعراف:143]. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم وقد قرأ هذه الآية وقال هكذا (ووضع الإبهام على المفصل الأعلى من الخنصر) ثم قال عليه السلام: (فساخ الجبل) أي: تجلى من الله هذا المقدار فساخ الجبل: (حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) هذا الاستشعار لعظمة الله يقوي الإيمان، قال ابن القيم رحمه الله: إسناده صحيح على شرط مسلم.

ملء الوقت بطاعة الله

ملء الوقت بطاعة الله ومن الأسباب التي تقوي الإيمان: ملء الوقت بطاعة الله، وهذا أمرٌ عظيمٌ، عندما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه: (من أصبح منكم اليوم صائماً؟) وأبو بكر يقول: أنا (من عاد منكم اليوم مريضاً؟) وأبو بكر يقول: أنا (من تبع اليوم منكم جنازةً؟) وأبو بكر يقول: أنا. ماذا تعني لكم هذه القصة؟ تعني: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه كان وقته مملوءاً بطاعة الله، يعمل في اليوم أعمالاً تأخذ وقتاً كبيراً، ولكنه يسردها سرداً. وبلغ السلف رحمهم الله في ازديادهم من الأعمال الصالحة وملء الوقت بها درجةً عظيمةً حتى قال بعضهم، عن حماد بن سلمة رحمه الله وهو من العُبّاد من أهل السنة: لو قيل لـ حماد بن سلمة -تفكروا معي في هذه العبارة-: إنك تموت غداً، ما قدر أن يزيد في العمل شيئاً. تخيل لو قيل له: أنت غداً ستموت والواحد لو قيل له: أنت غداً ستموت ماذا يفعل؟ يبادر إلى الأعمال بازدياد، هذا يقول: لو قيل لـ حماد بن سلمة: إنك تموت غداً، ما قدر أن يزيد في العمل شيئاً، ماذا يعني؟ فإذاً أيها الإخوة: ملء الوقت بطاعة الله، والاستمرار بالأعمال الصالحة، هذه القضية الثانية. لاحظ معي هذه الألفاظ في هذه الأحاديث: (ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل) ماذا تعني كلمة لا يزال؟ الاستمرارية: (لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله) الاستمرارية: (تابعوا بين الحج والعمرة) الاستمرارية، وهكذا، فالاستمرار في الأعمال الصالحة يقوي الإيمان جداً، والمداومة عليها، ولهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل).

المسارعة إلى الأعمال الصالحة

المسارعة إلى الأعمال الصالحة وكذلك أيها الإخوة! بالإضافة إلى ما سبق المسارعة إلى الأعمال الصالحة والمسابقة إليها، يقول الله عز وجل: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران:133] {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ} [الحديد:21] ويقول عليه الصلاة والسلام: (التؤدة في كل شيء خيرٌ إلا في عمل الآخرة) أي: كل شيء التأني فيه طيب، أن تتريث فيه وتدرسه وتفكر قبل عمله ألف مرة، إلا في شيء واحد وهو عمل الآخرة ليس فيه تأنٍ، أي: سارع مباشرةً، وسابق إلى هذا العمل، يقول عليه الصلاة السلام: (ما رأيت مثل النار نام هاربها، ولا مثل الجنة نام طالبها) المفروض أن الناس يهربون منها، لكنهم نائمون عن الهروب، والجنة المفروض أنهم يطلبونها، لكنهم نائمون عن الطلب. فقضية الأعمال الصالحة: استدراك ما فات من الطاعات. أيها الإخوة! مظاهر ضعف الإيمان: عدم التحسر على فوات مواسم الطاعة، أي: هذا من مظاهر ضعف الإيمان، فعندما تمر الطاعة وموسم الطاعة ينقضي، ولا يشعر بالتأسف، ولا بالتحسر، ولا بالندم، فالشيء المقابل هنا هو استدراك ما فات من الطاعات. مثال: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من نام عن حزبه من الليل، أو عن شيء منه، فقرأه ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كُتب له كأنما قرأه من الليل). وعن عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: [كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فاتته الصلاة من الليل من وجع، أو غيره صلى من النهار اثنتي عشرة ركعة] حديثان صحيحان. ولذلك لو فاتت صلاة الوتر أحد الناس، وكان عادة يوتر مثلاً بثلاث ركعات، إذا استيقظ يصلي بعد ارتفاع الشمس، يصليها شفعاً، فيزيد عليها واحدة فتصبح أربعاً، وإذا كان يصلي إحدى عشرة ركعة في الليل عادة، أو كان ينوي أن يصلي في تلك الليلة إحدى عشرة ركعة، ثم نام وما استيقظ إلا الفجر، فإنه يصلي بعد ارتفاع الشمس اثنتي عشرة ركعة. وبعد كل هذه الطاعات احتقار النفس أمام الواجب في حق الله من هذه الطاعات. بعد أن تفعل هذا كله تحتقر نفسك، وتحتقر هذه الطاعة، يقول ابن القيم رحمه الله ناقداً بعضهم: وكل ما شهدت حقيقة الربويية وحقيقة العبودية وعرفت الله وعرفت النفس، ويتبين لك أن ما معك من البضاعة لا يصلح للملك الحق، ولو جئت بعمل الثقلين خشيت عاقبته، وإنما يقبله سبحانه وتعالى بكرمه وجوده وتفضله، ويثيبك عليه بكرمه وجوده وتفضله، ولو جئت بعمل الثقلين، ما وفيت نعمة واحدة من نعم الله، فكيف والأعمال قليلة وشحيحة؟!

النظر في حسن الخاتمة وسؤئها وتذكر الموت

النظر في حسن الخاتمة وسؤئها وتذكر الموت وكذلك أيها الإخوة: من علاجات ضعف الإيمان: التفكر في حسن الخاتمة وسوء الخاتمة، واستعراض القصص التي تعرفها عن حسن الخاتمة وسوء الخاتمة يجعلك أكثر حماساً في الطاعة، ويجدد الإيمان في القلب، وأحوال الناس التي ذكرت عن حسن الخاتمة وسوء الخاتمة في كتب الأولين كثيرة، ومنها ما ذكره ابن القيم رحمه الله في كتاب الداء والدواء وفي غيره من الكتب. يقول ابن الجوزي رحمه الله في صيد الخاطر: ولقد سمعت بعض من كنت أظن فيه كثرة الخير وهو يقول في ليالي موته: ربي هو ذا يظلمني،-تعالى الله عن قوله- اتهم الله بالظلم وهو على فراش الموت، فيقول ابن الجوزي رحمه الله: فلم أزل منزعجاً مهتماً بتحصيل عُدةٍ ألقى بها ذلك اليوم. فأثرت في نفس ابن الجوزي هذه العبارة التي انطلقت من هذا الرجل الذي كان يظن به خيراً، وإذا هو يتهم الله بالظلم وهو على فراش الموت. ومن ضمن العلاجات: نتداول قصص حسن الخاتمة وسوء الخاتمة التي نسمعها عن الناس اليوم، فهناك قصص كثيرة، تجلس في مجلس من المجالس، وتقول يا جماعة: من سمع منكم فلان كيف مات؟ فتأتيك القصص الواقعية! الحقيقة أيها الإخوة: أن تداول هذه القصص من الأشياء التي تجدد الإيمان، لأن الشيطان يقول لأعوانه عند الفراق لحظة صعود الروح عند قبض الروح، يقول: عليكم بهذا الميت، فإن فاتكم، لم تقدروا عليه آخر فرصة! ومن الأمور التي تجدد الإيمان في القلب: تذكر الموت، يقول صلى الله عليه وسلم: (أكثروا ذكر هادم اللذات) حديث صحيح، أي: الموت، ولذلك أمر صلى الله عليه وسلم بزيارة المقابر، فقال: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها، فإنها ترق القلب، وتُدمع العين وتُذكر الآخرة، ولا تقولوا هجرا) ما هي أهداف زيارة المقابر؟ لماذا أمر صلى الله عليه وسلم بزيارة المقابر؟ لأنها ترق القلب. فإذاً: صلة قضية زيارة المقابر بتجديد الإيمان في القلب صلة وثيقة، فإنها ترق القلب، وتُدمع العين، وتُذكر الآخرة، وقراءة الأحاديث التي فيها وصف سكرات الموت وصعود الروح وعذاب القبر ونعيمه من الأشياء المهمة. وربطاً بالنقطة الماضية وهي قضية حسن الخاتمة وسوء الخاتمة هذا حادث سيارة حصل قريباً، يقول لي أحد الذين كانوا في السيارة -وقد مات واحد ممن فيها:- كنا في طريق السفر، فاتفقنا على أن نستفيد من الوقت في سفرنا هذا، فكل واحد يأخذ فترة من الزمن خمس وعشر دقائق يحدث الآخرين فيها عن موضوع مفيد، فكان ذلك الشخص الذي توفاه الله في الحادث يتكلم لنا عن عذاب القبر ونعيمه، ثم حصلت الحادثة وتوفي هذا الشخص فيها. فإذاً: معرفة عذاب القبر ونعيمه من الأمور التي تُساعد في تجديد الإيمان، وقد بلغ الأمر بالرسول صلى الله عليه وسلم أن يزور مقابر الكفار للاتعاظ، ويجوز لك يا أخي المسلم أن تزور مقابر الكفار للاتعاظ بغرض الاتعاظ، والدليل على ذلك ما ورد في الصحيح (أنه صلى الله عليه وسلم زار قبر أمه فبكى وأبكى من حوله) كانت نفوس الصحابة حية -هذا الفرق بين مجتمعنا والمجتمع الأول- فالتأثر كبير، لقد بكى وأبكى من حوله عند القبر، فقال: (استأذنت ربي بأن أستغفر لها، فلم يؤذن لي) لأنها ماتت على الكفر، ولا محاباة في أمور العقيدة، نوح نبي وولده كافر في النار، إبراهيم نبي وأبوه كافر في النار، ومحمد صلى الله عليه وسلم نبي وأبوه وأمه وعمه وجده ماتوا على الكفر، قال: (واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تُذكر الموت). ولذلك أيها الإخوة: من تمام استشعار هذه المواقف: أن يحضر الإنسان مثلاً تكفين الميت والصلاة على الجنازة وحمله على الأعناق، والذهاب به إلى المقبرة، ودفنه ومواراة التراب عليه، حتى تكون الصورة حية في الذهن، هذا غير ما تسمع أنت عن فلان ذُهب به وغُسل وكفن، فعندما تشاهد بنفسك يكون الأمر مختلفاً. فالمعاونة تختلف عن السماع من بعيد، وكان السلف رحمهم الله يستخدمون التذكير بالموت فعندما يرون رجلاً يرتكب معصية، لكي يجددوا الإيمان الذي نقص في قلبه، فأدى إلى وقوع المعصية. فهذا أحد السلف رحمه الله في مجلسه رجلٌ من الجالسين ذكر رجلاً آخر بغيبة، فقال رحمه الله مذكراً ذلك الرجل الذي يغتاب، قال له: اذكر القطن إذ وضعوه على عينيك -هو الآن يرى أمامه الرجل يغتاب، ماذا قال له؟ - اذكر القطن إذ وضعوه على عينيك، هذا التذكير وهذه الهزة كفيلة بأن تردع رجلاً عن ارتكاب المعصية، أو الازدياد والاسترسال فيها.

تذكر منازل الآخرة

تذكر منازل الآخرة إن تذكر منازل الآخرة من الأمور المعينة على تجديد الإيمان في القلب، يقول ابن القيم رحمه الله: وإذا صحت الفكرة أوجبت له البصيرة، وهي نور القلب يبصر به الوعد والوعيد والجنة والنار، وما أعد الله في هذه لأوليائه، وفي هذه لأعدائه، فأبصر الناس وقد خرجوا من قبورهم مهطعين لدعوة الحق، وقد نزلت ملائكة السماء، فأحاطت بهم، وقد جاء الله ونصب كرسيه لفصل القضاء، وقد أشرقت الأرض بنوره ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء، وقد نُصب الميزان وتطايرت الصحف واجتمعت الخصوم، وتعلق كل غريم بغريمه، ولاح الحوض وأكوابه عن كثب، وكثر العُطاش وقلّ الوارد -قل الوارد على الحوض والناس عطاش؛ لأنه ليس لأي واحد أن يرد الحوض- ونُصب الجسر للعبور -الصراط على جهنم- ولز الناس فيه، وقُسمت الأنوار دون ظلمته للعبور عليه بحسب أعمالهم -يأتون الأنوار وهم يسيرون على ظلمة الجسر- فالذين عملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم، فيمرون على الجسر المظلم مروراً عظيماً، بخلاف المنافقين الذين يُسلب منهم النور، فيتعثرون ويسقطون في جهنم. والنار يحطم بعضها بعضاً تحته -تحت هذا الجسر- والمتساقطون فيها أضعاف الناجين، فينفتح في قلبه -عندما يتأمل الإنسان أحوال الآخرة ومنازلها- تنفتح في قلبه عين يرى بها كل هذه الأمور، ويكون في قلبه شاهدٌ من شواهد الآخرة، يريه الآخرة ودوامها والدنيا وسرعة انقضائها. ولذلك تجد القرآن العظيم فيه اهتمام كبيرٌ بذكر منازل الآخرة؛ لكي يُقبل هذا القلب على الله ويخاف ويرجو الله، فيتجدد الإيمان فيه. ولذلك كان من الأمور المهمة في هذا الجانب قراءة الكتب التي تتكلم عن الدار الآخرة، وعن الحشر، والحساب، والجنة والنار، وظل الرحمن، والشمس عندما تدنو من الخلائق، والصراط، وبعد دخول أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، وما يحدث من ذبح الموت. والكتب التي تتكلم عن هذه التفاصيل قراءتها مهمة حتى يبقى الإنسان على صلة بهذه الأشياء.

العبادة

العبادة وهناك العبادات، ومن أهم الأشياء لتجديد الإيمان في القلب قضية العبادة، والعبادات والطاعات كثيرة، والأوامر بإتيان الطاعات والحرص عليها كثيرة، ونقتصر الآن على ذكر بعض هذه الأشياء. هناك بعض العبادات أيها الإخوة! تحدث أثراً في النفس، أي: فيها نوع من التميز، أو تُحس وأنت تقرأ تلك الآية، أو ذلك الحديث أن فيها معنى لطيفاً وجميلاً يطرق قلبك وأنت تقرأ هذه الأشياء. مثلاً: انظر معي إلى هذا الحديث: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح -وهذه روايات كلها صحيحة مجتمعة في هذه الرواية الواحدة-: (ما من أحد يتوضأ) تأمل كيف يدفع هذا الإسلام وعظمة هذا الدين المسلم إلى الطاعات، وإلى الصلة بالله بأشياء بسيطة يرتب عليها أجراً عظيماً: (ما من أحد يتوضأ، فيحسن الوضوء، ويصلي ركعتين يُقبل بقلبه ووجهه عليهما لا يسهو فيهما) وفي رواية: (لا يُحدث فيهما نفسه) وفي رواية: (يُحسن فيهن الذكر والخشوع إلا وجبت له الجنة). وفي رواية: (غُفر له ما تقدم من ذنبه) ماذا فعل؟ (ما من أحد يتوضأ، فيحسن الوضوء، ويصلي ركعتين) نافلة لله: (يُقبل بقلبه ووجهه عليهما لا يسهو فيهما) (لا يحدث فيهما نفسه) (يحسن فيهن الذكر والخشوع إلا وجبت له الجنة). انظر الآن هذا العمل كيف يجدد الإيمان وهو عمل بسيط، لكن الحقيقة أن الإتيان به كما جاءت الأوصاف أمر لا يقدر عليه إلا من وفقه الله له، ثم نتأمل هذا الحديث الصحيح الآخر، يقول عليه الصلاة والسلام: (ثلاثة يحبهم الله، وثلاثة يشنؤهم الله -يبغضهم الله-: أما الثلاثة الذين يحبهم الله: الرجل يلقى العدو في فئة فينصب له نحره حتى يُقتل أو يُفتح لأصحابه، والقوم يسافرون فيطول سراهم -يطول السفر- حتى يحبوا أن يمسوا الأرض) -من طول السفر يحبون الآن الراحة- فينزلون، فيتنحى أحدهم، فيصلي حتى يوقظهم لرحيلهم) أي: هؤلاء الناس تعبوا من السفر، فنزلوا منزلاً فناموا، لكن أحدهم ما نام، قام يصلي لله في الليل حتى أوقظهم لرحيلهم، وهذه النماذج عندما يطلع عليها الإنسان، ويفعلها ولو مرة، لا شك أنها تحدث أثراً عظيماً في قلبه. والاهتمام بالزكوات والصدقات من العبادات، ولها أثر مباشر على القلب: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103] تطهر وتزكي قلوبهم. هناك أشياء بسيطة جداً من المعاملات وهناك قضايا اجتماعية، عندما يتأمل بها الإنسان يُسبح الله تعجباً منها، يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث في صحيح الجامع، أو في السلسلة الصحيحة لأحد الصحابة: (أتحب أن يلين قلبك وتدرك حاجتك: ارحم اليتيم وامسح رأسه، وأطعمه من طعامك يلن قلبك وتدرك حاجتك) فالآن تصور أيها الأخ المسلم! أن مسح رأس اليتيم من الأشياء التي تُلين القلب. الشاهد: أن هناك عبادات، وهناك أشياء جاءت في الشرع تؤثر على القلب مباشرة تأثيراً قوياً يلمحها الإنسان ويتعجب من أثرها، ويتعجب من وصفها الوارد في الكتاب والسنة.

التفاعل مع الآيات الكونية

التفاعل مع الآيات الكونية كذلك أيها الإخوة: من الأمور التي تجدد الإيمان: التفاعل مع الآيات الكونية كما يتفاعل القلب مع آيات القرآن، فكيف يكون التفاعل مع الآيات الكونية؟ أعطيكم مثالاً: روى البخاري ومسلم وغيرهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى غيماً، أو ريحاً؛ عُرف ذلك في وجهه) أي: يتفاعل مع الأحداث الكونية، فإذا رأى غيماً أو ريحاً؛ عُرف في وجهه الفزع والخوف، فقالت عائشة: (يا رسول الله! الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه مطر، وأراك إذا رأيته عرفتُ في وجهك الكراهية). لماذا الناس يستبشرون، وأنت يا رسول الله! تعرف في وجهك الكراهية إذا رأيت الغيم أو المطر؟! فقال: (يا عائشة! ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب) وقد عُذب قومٌ بالريح: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً} [الحاقة:6 - 7] قال (وقد رأى قومٌ العذاب فقالوا: هذا عارضٌ ممطرنا) قومٌ من الأقوام أرسل الله لهم رسوله، فلما جاءهم العذاب في ظُلة، قالوا: هذا سحاب سيمطر ويمشي، وإذا فيه العذاب الذي نزل على رءوسهم. إن الرسول صلى الله عليه وسلم أيها الإخوة! كان يتفاعل مع الآيات الكونية، ومع الأحداث الكونية، الرسول صلى الله عليه وسلم عندما يرى الكسوف، أو الخسوف، ماذا كان يفعل؟ كان يخرج فزعاً إلى الصلاة؛ لأن هذه من آيات الله التي يخوف الله بها عبادة، فتفاعل القلب مع هذه الأشياء والفزع منها يجدد الإيمان في القلب، ويُذكر القلب بعذاب الله، وبطش الله، وعظمة الله عز وجل، وقوته وقدرته. ومرتبط بهذه النقطة أيضاً مسألة أخرى: التأثر عند المرور بمواضع العذاب والخسف وقبور الظالمين، فعن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه لما وصل الحِجر) أي: ديار ثمود التي يذهب لها الناس اليوم للسياحة وبِعثات الآثار لالتقاط الصور وعمل التحقيقات، ويقيمون المخيمات هناك مع الأسف الشديد، ماذا كان رسول صلى الله عليه وسلم يفعل؟ اسمع يا أخي! ماذا كان الرسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل. (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لما وصل الحِجر قال: لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين، فلا تدخلوا عليهم، لا يصيبكم ما أصابهم) لا تمروا بتلك الديار. وفي رواية: (لما مرَّ صلى الله عليه وسلم بـ الحِجر، قال: لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم أن يصيبكم ما أصابهم، إلا أن تكونوا باكين) باكين من ماذا؟ من تذكر نقمة الله وعذاب الله الذي حلَّ بهؤلاء الناس، ثم قنَّع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه، وأسرع السير حتى جاوزا الوادي أن يصيبهم ما أصاب الذين ظلموا. تأمل يا أخي: الآن قسوة قلوب الناس واستخفافهم، يقولون: ذهبنا نرى وأخذنا صوراً بالكاميرا، وما حصل لنا شيء، والله عز وجل يقول: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:83] لما أنزل الله الحجارة على قوم لوط، ماذا قال؟ {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:83] أي: أن يصيبكم ما أصابهم، فقد ينزل بأناس مثل: عذاب أولئك. والرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بأنه سيحدث في هذه الأمة خسف وقذفٌ ونسفٌ ومسخٌ، وتأتي ريحٌ حمراء، ويأتي فيها عذاب.

أثر إخلاص القلوب على الأعمال

أثر إخلاص القلوب على الأعمال ثم ننتقل الآن أيها الإخوة! إلى مفرق آخر في هذا الموضوع وهو: أن تجديد الإيمان وليس فقط بعبادات الجوارح، ليس فقط بأعمال الجوارح، أي: الصلاة والزكاة والحج. يأتي الإنسان يوم القيامة وقد عمل سيئات كثيرة، فيقال له: هل له من عمل صالح؟ فيقال: بلى عندنا، فيخرج له بطاقة مكتوب فيها لا إله إلا الله، وكانت كفة السيئات قد رجحت رجحاناً عظيماً، وهذا لا يتخيل! فتُوضع السيئات في كفة، والبطاقة التي فيها لا إله إلا الله في كفة، فطاشت ورجحت بهن لا إله إلا الله، فيقول ابن القيم رحمه الله: وهنا قضية خطيرة وهي مسألة شبهة المرجئة وهي: أن كل من قال: لا إله إلا الله يغفر له كل سيئاته، لا، فهذا رجل له ميزة خاصة. يقول ابن القيم رحمه الله: إن الأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها، وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب، فتكون صورة العملين واحدة، وبينهما في التفاضل كما بين السماء والأرض، والرجلان يكون مقامهما في الصف واحداً، وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض. نفس العمل، نفس الإمام، نفس الصلاة، نفس الركعات، نفس الأعمال، تجد اثنين في صف واحد في مسجد واحد وجماعة واحدة، وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض، بأي شيء هذا وأعمال الجوارح واحدة، بأي شيء صار بين صلاتيهما كما بين السماء والأرض؟ بعمل القلب في حال الصلاة، بالخشوع وبالتفكر في آيات الله والتدبر، واستشعار عظمة من يقف بين يديه. ولذلك يقول: لقد قام في قلب صاحب البطاقة من معاني الإيمان ما لم يقم بقلب كثيرين ممن قالها بلسانه، ونفس الشيء الزانية التي ملأت خفها من بئر وسقت بخفها كلباً فغفر الله لها، ويقول: ولقد قام في قلبها في لحظة أداء العمل من معاني الإيمان، ومن الشفقة على هذا الكلب المسكين واستشعار الثواب من الله، أشياء كثيرة وصفها ابن القيم رحمه الله، قال: قام في قلبها من معاني الإيمان ما لم يقم في قلب كثيرين ممن يسقون الحيوانات. وأعمال القلوب كثيرة على رأسها: الإخلاص وهو أن يكون الاهتمام بتصحيح العمل أشد من الاهتمام بأداء العمل نفسه، فأداء العمل مهم، لكن الأهم منه تصحيح النية عند أداء العمل. كذلك أيها الإخوة! اليقظة حالةٌ تحدث للقلب عند تأمل عذاب الله، فيستيقظ القلب، ويتحمس لأعمال الآخرة. فحيا على جنات عدنٍ فإنها منازلك الأولى وفيها المخيمُ ولكننا سبي العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلمُ ومن الأمور كذلك المشتركة بين القلب واللسان: ذكر الله عز وجل {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] والكلام واسع جداً في هذا، وذكر ابن القيم رحمه الله أكثر من مائة فائدة من فوائد الذكر وسردها في عدة مواضع من كتبه منها: كتاب الوابل الصيب من الكلم الطيب، وذكر نقطة لطيفة، يقول -أي: من عظمة الذكر-: أن الناس إذا رأوا رجلاً مصروعاً دخل فيه شيطان وآذاه: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة:275] يقول رحمه الله في فوائد الذكر: وبالذكر يصرع العبد الشيطان -العكس- كما يصرع الشيطان أهل الغفلة والنسيان. قال بعض السلف: إذا تمكن الذكر من القلب، فإن دنا منه الشيطان صرعه كما يُصرع الإنسان إذا دنا منه الشيطان، فيجتمع عليه الشياطين -يجتمعون على الشيطان الذي حاول أن يقترب من قلب الإنسان فصرعه- فيقولون: ما لهذا؟ ماذا حصل له؟ فيقال: قد مسه الإنسي. الآن ترى أكثر الناس الذين يدخل في قلوبهم الشياطين من أهل الغفلة، ما تحصنوا بالأوراد، ولا الأذكار، ولذلك سهل تلبس الشياطين فيهم، وأكثرهم من الفسقة والعصاة. وحدثنا أهل المعرفة بهذا الشأن، قال: جاءوا بالمصروع وقرءوا عليه، فقال: الجني هذا كان في بانكوك وفضحه؛ لأن كثيراً منهم من أهل الغفلة، -وهذا قصة حقيقية واقعية- فكثيرٌ منهم من أهل الغفلة، ولذلك تتلبسهم الشياطين.

استشعار لذة الانكسار بين يدي الله

استشعار لذة الانكسار بين يدي الله ومن الأمور التي تجدد الإيمان أيها الإخوة! استشعار لذة المناجاة والانكسار بين يدي الله عز وجل، فلماذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد)؟ لأن حال السجود فيه ذلة ليست في بقية الأحوال، وفيه انكسار وخضوع ليست في بقية الأحوال، ولذلك أقرب ما يكون من ربه وهو ساجد، لما ألصق جبهته بالأرض، وهي أعلى شيء فيه لمن وضعها؟ لله، صار أقرب شيء لله. يقول ابن القيم رحمه الله في كلام جميل عن لسان حال هذا الذليل والمنكسر التائب بين يدي الله: " فلله ما أحلى قول القائل في هذه الحال: أسألك بعزك وذلي إلا رحمتني، أسألك بقوتك وضعفي، وبغناك عني وفقري إليك، هذه ناصيتي الكاذبة الخاطئة بين يديك، عبيدك سواي كثير، وليس لي سيدٌ سواك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال الخاضع الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضريع، سؤال من خضعت لك رقبته، ورغم لك أنفه، وفاضت لك عيناه، وذل لك قلبه ". فعندما يعبر العبد بهذه الألفاظ وهو يناجي الله وهو منكسر بين يدي الله، فإن الإيمان يتضاعف في قلبه أضعافاً مضاعفة، وكل هذا التجديد يحدث في لحظات. ويقول رحمه الله: "قد يكون للعبد حاجة يُباح له سؤاله إياها، فيلح على ربه في طلبها حتى يفتح له من لذيذ مناجاته وسؤاله والذل بين يديه، وتملقه والتوسل إليه بأسمائه وصفاته وتوحيده وتفريغ القلب له، وعدم تعلقه في حاجته بغيره ما لم يحصل له بدون إلحاح". أحياناً يمرض الولد مرضاً خطيراً، فيقوم الأب يناجي الله عز وجل ويتضرع إليه ويلح في الدعاء، ويحس في لحظة الشدة والضائقة، ولحظات الحرج بأنه قريبٌ من الله جداً، ويشعر بحلاوة في المناجاة، فيفتح الله عليه من ألفاظ الخضوع والانكسار والذلة بين يدي الله أموراً عظيمة. ولذلك قد يتخيل الشخص أن هذا شر، لكنه في الحقيقة خير: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:216]. فأحياناً تنزل بالإنسان مصيبة وضائقة شديدة جداً، تُقفل من جميع الجوانب، لا يجد من يساعده في الأمر، تُقفل في وجهه الأبواب، فإلى من يلتجئ؟ فيتصحح توكله على الله والإنابة إلى الله، واللجوء إلى الله وسؤال الله، كان سابقاً يسأل المخلوقين، ثم ما وجد من ورائهم رجاء، ولا من سعى منهم له بمساعدة في تلك اللحظات الصعبة، وهذا شيء أحياناً يكرهه الإنسان لكنه في الحقيقة أدى إلى اللجوء والقرب من الله عز وجل، فيتجدد الإيمان في النفس. وكذلك الخوف من عقاب الله في الدنيا والآخرة: هناك عقاب لله في الدنيا، وقد يكون العقاب في الدنيا حسياً، وقد يكون معنوياً، قد يكون حسياً كما قال الله عز وجل: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ} [الأنعام:46] عذاب حسي، وقد يكون العذاب معنوياً: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف:146] صرف الإنسان عن آيات الله عذاب معنوي، وعقوبة معنوية كبيرة جداً أن يُحرم من تدبر آيات الله.

الولاء والبراء

الولاء والبراء الولاء والبراء: موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين من أهم الأمور التي تُجدد الإيمان في القلب، لأن القلب إذا تعلق بأعداء الله يضعف جداً، وتذوي معاني العقيدة في القلب، فإذا جردها وتعلق بالله فعادى أعداء الله ووالى وناصر عباد الله المؤمنين، فإن القلب يحيا بالإيمان أيضاً.

الافتقار إلى الله

الافتقار إلى الله الافتقار إلى الله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15] قال شيخ الإسلام رحمه الله: والفقر لي وصف ذاتٍ لازم أبداً كما الغنى أبداً وصفٌ له ذات فالفقر الحقيقي هو دوام الافتقار إلى الله في كل حال، وأن يشهد العبد في كل ذرة من ذراته الظاهرة والباطنة فاقة وفقراً تاماً إلى الله من كل الوجوه.

الثقة بالله وحسن الظن به

الثقة بالله وحسن الظن به استشعار الثقة بالله وحُسن الظن بالله عز وجل هذا عمل من أعمال القلوب، أي: أنت يا أخي عندما تتأمل قول الله سبحانه وتعالى لأم موسى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ} [القصص:7] الآن إذا خافت الأم على ولدها من الأعداء ماذا تفعل؟ تخبؤه أو ترسله إلى أحد البيوت الآمنة، لكن الله عز وجل يقول: {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ} [القصص:7] إذا جاء جنود فرعون يأخذونه ليذبحوه، فماذا؟ {فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} [القصص:7] كيف؟ فالعقول لا تعقل هذا الأمر. كيف {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} [القصص:7]؟ لكن الله عز وجل ثبت فؤاد أم موسى، فصارت ثقتها بالله عظيمة، فلما جاء الطلب، ألقته في اليم -في نهر النيل - فسبح به التيار، ثم جرى قضاء الله كما هي حكمته عز وجل وإرادته حتى أغرق الله فرعون بسبب ذلك الوليد الذي جاء الجند يطلبونه. وهذه ليست الآن سنة كل واحدة تخاف على ولدها تذهب وترميه في البحر، ثم هو يطلع إلى الشاطئ. لا، لكن المعنى المقصود بهذه الآية الثقة بالله، فالواحد لا يسيء الظن بالله، ولا يفقد الثقة بالله، لا يقول: ليس هناك أمل، وأنا انتهيت، لا. وإنما يجعل ثقته بالله متجددة.

الإحساس بقصر الأمل

الإحساس بقصر الأمل قد نعيش غداً، وقد لا نعيش، متى يأتي الموت؟ الله أعلم، وهذا مُهم في تجديد الإيمان، ويقول ابن القيم رحمه الله: ومن أعظم ما فيها هذه الآية: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء:205 - 207] {كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} [يونس:45] كل الدنيا هذه كساعة للتعارف. فإذاً: لا يُطيلُ الإنسان الأمل، يقول: سأعيش وسأعيش مهما عاش! وقال بعض السلف لرجل: صلِّ بنا الظهر، فذاك الرجل قال: إن صليت بكم الظهر لم أصلِّ بكم العصر، فقال له: وكأنك تؤمل أن تعيش إلى صلاة العصر، نعوذ بالله من طول الأمل.

التفكر في تفاهة الدنيا

التفكر في تفاهة الدنيا وهذه الآن نقاط مقابلة للنقاط التي سبق أن ذكرناها في مظاهر وأسباب ضعف الإيمان: منها التعلق بالدنيا، كيف يرد الإنسان في قلبه على هذا الشيء؟ يتأمل كيف أن الدنيا حقيرة ولا تساوي شيئاً عند الله عندما تسمع معي إلى هذه الأحاديث الصحيحة: (إن الله ضرب الدنيا لمطعم ابن آدم مثلاً، وضرب مطعم ابن آدم مثلاً للدنيا وإن قزحه وملحه، فلينظر إلى ما يصير) حديثٌ حسنٌ. فالله تعالى جعل ما يخرج من بني آدم مثلاً للدنيا، ومطعم ابن آدم قد ضُرب مثلاً للدنيا وإن قزحه وملحه ثم ينظر إلى ما يصير. خذ صحناً من اللحم المشوي من ألذ ما يكون، تأمله قبل أن تأكله، كيف شكله؟ جذاب، كيف الرائحة؟ جميلة، فإذا أكلته هُضم وبعد قليل ضاق بك بطنك وذهبت إلى دورة المياه، هذا الصحن اللذيذ كيف يخرج في النهاية؟! انظر الأمثال من الرسول صلى الله عليه وسلم وهو وحي يوحى، لا تتوقع أن تجد هذه الأمثلة الدقيقة عند ألسنة الحكماء والشعراء بمثل ما تأتي على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله ضرب الدنيا لمطعم ابن آدم مثلاً، وضرب مطعم ابن آدم مثلاً للدنيا وإن قزحه وملحه -وإن حسنه وزينه- فانظر إلى ما يصير) انظر فعلاً إلى نهايته فهذه هي الدنيا، من بعيد تراها جميلة، ولكن ما هو آخر الدنيا؟ هناك أشياء تقوم بالقلوب مهمة في تجديد الإيمان مثل: الاستقامة، والتوكل على الله والرضا بالله وبقضائه وشكر الله عز وجل والصدق مع الله سبحانه وتعالى اليقين بالله سبحانه وتعالى السكينة محبة الله الطمأنينة البصيرة التوبة الإنابة التذكر الاعتصام بالكتاب والسنة الإشفاق الخشوع الزهد الورع الرجاء المراقبة المحاسبة. ومن أعظم من تكلم عن هذه الأشياء أيها الإخوة! ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب مدارج السالكين، لو جرد كلامه من دفاعه عن صاحب الكتاب، وبعض الألفاظ التي أتى بها صاحب الكتاب الأصلي، يكون لك معيناً على استحضار نقاط كثيرة يتجدد بها الإيمان.

المحاسبة للنفس والتواضع لله

المحاسبة للنفس والتواضع لله المحاسبة مهمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر:18] قال عمر بن الخطاب: [حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا] لا بد أن يكون للمسلم وقت يصفو فيه ويرجع ويئوب ويحاسب نفسه. التواضع مهم في تجديد الإيمان، كيف؟ التواضع أيها الإخوة! في المظهر دالٌ على تواضع القلب لله، وكان عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه لا يعرف من بين عبيده. ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (البذاذة من الإيمان) ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من ترك اللباس تواضعاً لله وهو يقدر عليه) واحد يستطيع أن يلبس من أجمل الثياب، لكن تركها تواضعاً لله وهو يقدر عليه: (دعاه الله يوم القيامة على رءوس الخلائق حتى يخيره من أي حلل الإيمان شاء يلبسها) حديث حسن.

تجنب الأمور التي تهدم القلب

تجنب الأمور التي تهدم القلب وقد ذكرنا في المرة الماضية أموراً تهدم القلب: كثرة الأكل والشرب والنوم والخلطة، فمن أكل كثيراً، شرب كثيراً، فنام كثيراً، فخسر كثيراً، وفي الحديث المشهور: (ما ملأ ابن آدم وعاءً شرٌ من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه) ويحكى في أثر، وللفائدة فإننا لا نعرف صحة الأثر من الإسرائيليات، لكن فيه معنى لطيف: يُحكى أن إبليس لعنه الله عرض ليحيى بن زكريا عليهما الصلاة والسلام، فقال له يحيى: هل نلت مني شيئاً قط؟ أي: استطعت أن تحوز على شيء مني؟ قال: لا. إلا أنه قدم إليك الطعام ليلة فشهيته إليك حتى شبعت منه، فنمت عن وردك، فقال يحيى: لله عليَّ ألا أشبع من طعام قط -أي: ما أزال جائعاً للطعام، حتى لا تمتلئ المعدة- فقال إبليس: وأنا لله عليَّ ألا أنصح آدمياً أبداً. والنوم الكثير أيضاً، ولذلك لا بد من ضبط القضية وعلاج هذه المسألة، فيقول ابن القيم رحمه الله: نوم أول الليل أحمد وأنفع من آخره، ونوم وسط النهار أنفع من طرفيه، ومن المكروه عندهم النوم بين صلاة الصبح وطلوع الشمس، فإنه وقت غنيمة. والآن كل الناس تقريباً، أو أكثرهم ينامون بعد الفجر إلى طلوع الشمس، ومن النوم الذي لا ينفع النوم أول الليل عُقيب غروب الشمس، أي: بين المغرب والعشاء النوم مكروه كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح.

تعظيم حرمات الله

تعظيم حرمات الله ومن الأمور كذلك المجددة للإيمان في القلب: تعظيم حرمات الله، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32]. وعكس هذه المسألة التهاون في حرمات الله، فلا بد من تعظيم حرمات الله، فهي حقوق الله، قد تكون أشخاصاً أو أمكنة أو أزمنة. ومن تعظيم حرمات الله في الأشخاص حقوق الرسول صلى الله عليه وسلم، والأمكنة مثل: جبل عرفات، والحرم، والأزمنة مثل: شهر رمضان، والثلث الأخير من الليل: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32] {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج:30].

عدم تحقير الذنوب

عدم تحقير الذنوب يقول عليه الصلاة والسلام: (إياكم ومحقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه، كرجل كان بأرض فلاة، فحضر صنيع القوم، فجعل الرجل يأتي بالعود، والرجل يأتي بالعود، والرجل يأتي بالعود حتى جمعوا من ذلك سواداً وأججوا ناراً، فأنضجوا ما فيها) حديث حسن، كذلك لو أن أحد الناس استهان بالذنوب، ذنب صغير على ذنب صغير على ذنب صغير. لا تحقرن صغيرةً إن الجبال من الحصى يقول ابن الجوزي في صيد الخاطر: " كثيرٌ من الناس يتسامحون في أمورٍ يظنونها هينة وهي تقدح في الأصول" يقول: "مثل إطلاق البصر في المحرمات" نظرة بعد نظرة حتى صار القلب فاسداً من كثرة النظر، "وكاستعارة بعض طلاب العلم جزءاً لا يردونه" يستعير كتاباً ولا يرده وهذا كثيرٌ من الناس واقعون فيه، وأين هذا من باب: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58]؟ وإذا وعدت بأن ترجع الكتاب، لماذا لم ترجع الكتاب؟ وقال بعض السلف: " تسامحت بلقمة فتناولتها، فأنا اليوم من أربعين سنة إلى خلف" أي: من تواضعه يقول: مرة أكلت لقمة وأنا شاك فيها أحلال أم حرام من أربعين سنة، وأنا أشعر أنني إلى خلف من وراء تلك اللقمة. واجتناب محقرات الذنوب، ومحاولة اجتناب الذنوب كلها. ولـ ابن تيمية رحمه الله استشهاد لطيف، يقول في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة) يقول: إذا كانت الملائكة المخلوقون يمنعها الكلب والصورة عن دخول البيت، فكيف تلج معرفة الله عز وجل ومحبته وحلاوة ذكره والأنس بقربه في قلب ممتلئ بكلاب الشهوات وصورها؟

علاج ضعف الإيمان من منظور الوسط الذي يعيشه الإنسان

علاج ضعف الإيمان من منظور الوسط الذي يعيشه الإنسان نأتي الآن أيها الإخوة! إلى علاج ضعف الإيمان من منظور الوسط الذي يعيش فيه الإنسان، أو الحركة الإسلامية التي يعيش فيها المسلم.

لا بد أن تكون الحركة على منهج النبوة

لا بد أن تكون الحركة على منهج النبوة لا بد أن تكون حركة متكاملة تحقق فيها جميع جوانب التربية، فمن الخطأ أن يحصل الاهتمام فقط بالعقيدة مثلاً، أو بالأخلاق فقط، أو بالتخطيط والدعوة إلى الله، أو الاهتمام بالواقع، وجمع المعلومات عنه، أو الفقه وأحكامه، أو الحديث وعلومه، أو بالأشياء القلبية فقط، وإنما يجب أن يُجمع بين جميع تلك الأمور في تربية الفرد، لأن منهاج الرسول صلى الله عليه وسلم في التربية كان منهاجاً متكاملاً، ما كان يهتم فقط بأمور الأسماء والصفات، والأشياء المتعلقة بتفاصيل العقيدة، ما كان يهتم فقط بالأخلاق، ما كان يهتم فقط بأعمال القلوب، ما كان يهتم فقط بالعلم الشرعي، بل كان يهتم بجميع الأمور، ويجب أن نهتم بالإيمانيات بصورة خاصة، لأنها تصحح المسار، وتوضح الهدف، وتأمن الإخلاص اللازم للوصول إلى نصر الله عز وجل، ويجب الاهتمام بالإيمانيات حتى نقطع الطريق على ضعاف النفوس، وضعاف المعرفة الذين يقولون: لم نجد التربية الإيمانية وتزكية النفوس إلا عند الصوفية. فتجد بعض الناس يقول: والله ما هناك إلا الصوفية، تريد أن تجدد إيمانك فعليك أن تسلك طريقاً من طرق الصوفية، تراهم أناساً خاشعين يُعلمون ويعلمون. ولو طبقنا منهج الرسول صلى الله عليه وسلم لاستغنينا عن هذه الترهات كلها، لماذا يوجد أوساط تفوق ما عند الصوفية من بعض الأشياء من اشتهارهم بالزهد، أو بالعبادة مع ما فيها طبعاً من الدغل والدخن والغش. ولذلك تجد الخلط عندما يقال: إن المفكر الإسلامي الفلاني أو الداعية الإسلامي الفلاني بلغ أوجاً عظيماً في شخصيته، وساعده على ذلك شفافية إيمانيه؛ لأنه قد ترعرع وتربى في أحضان الطريقة الصوفية الفلانية. فارتباط قضية تقوية الإيمان وعلاج ضعف الإيمان بقضية الصوفية عند الناس ارتباط خاطئ يجب أن يُعالج بإيجاد الأوساط التي تهتم بالقلوب وتهتم بالأمور الإيمانية، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم من أعظم الناس حرصاً على قضايا الإيمان، ولكنه ما كان من المتصوفة، وحتى من علماء المسلمين الذين أتوا بعده، فهذا ابن الجوزي من أعداء الصوفية ومع ذلك تجده مجيداً في الوعظ جداً، وربما حضر مجلس الوعظ عنده سبعون ألفاً، وتاب على يديه كثيرون. وقدوتنا صلى الله عليه وسلم كان مجتمعه مجتمعاً إيمانياً حقاً وحقيقةً، فكان صلى الله عليه وسلم يقوم الليل في ساعات الخوف، ويأخذ بالأسباب، وقد أرسل رجلاً من الصحابة في إحدى الغزوات وكان وقت خوف، فكان يُصلي الليل وينظر إلى الشعب، ليرى من يأتي منه، وهذا الصحابي الذي يحرس المسلمين في إحدى الغزوات يقوم الليل، ويرميه العدو بسهم، ويُكمل صلاته، وبيوت نساء النبي صلى الله عليه وسلم كان يسمع لها دويٌ كدوي النحل بالليل من قراءة القرآن: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34]. فما هي الجوانب التي ينبغي الاهتمام بها حتى تساعد؟

إيجاد أوساط إيمانية لتربية الناس

إيجاد أوساط إيمانية لتربية الناس أيها الإخوة: لابد أن نتهم بإيجاد الأوساط الإيمانية التي يتربى فيها الناس، ولا بد أن تُطعم هذه الأوساط بتلك النماذج البشرية ذات القلوب الحية، وذات الاستعدادات الإيمانية القوية التي تُؤثر فيمن حولها، وتصلح أن تكون قدوات عظيمة في هذا الجانب، وإنك لو نظرت في حال الأفراد لوجدت أنهم يتأثرون من الأوساط التي يعيشون فيها، فإذا وجدت الفرد متعلقاً بالدنيا، فإن الوسط الذي يعيش فيه غالباً فيه ميل إلى الدنيا، وتجد الفرد ذا الإيمان القوي إذا نظرت في الوسط الذي يعيش فيه، فإنك تجده غالباً وسطاً إيمانياً مشحوناً بتقوى الله سبحانه وتعالى وبتلك النماذج التي أوجدت مثل هذا الرجل، وللوصول إلى هذه النتائج لا بد من هذه المقترحات وإلا فإن الكلام فيها طويل: دراسة سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، كيف كان إيمانهم، وكيف كانت عبادتهم، وكيف كان زهدهم وورعهم، وكيف كان حالهم وموقفهم من الدنيا، كيف صبروا على العذاب، وكيف قاتلوا وقُتلوا، فإن تدارس السيرة يرقق القلب، ودراسة قصص المحن التي عاشها السلف من بعدهم مثل: محنة الإمام أحمد، ومثل: محنة الصحابي عبد الله بن الزبير، ومحنة الإمام أحمد بن نصر الخزاعي، وغيرهم من أئمة الدعوة إلى الله. ودراسة الكتب التي تتكلم عن أعمال القلب مثل: كتب ابن القيم رحمه الله عموماً، وبعض رسائل ابن تيمية رحمه الله مثل: التحفة العراقية وغيرها من الكتب التي تتكلم عن أعمال القلوب، واللجوء إلى خبراء القلوب من علماء السلف ومن جاء بعدهم لمعرفة أمراض القلوب وعلاجها مثال: كتاب إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان، ودراسة كتب الترغيب والترهيب، وعندما نقول دراسة لا يعني مجرد قراءة، بل دراسة تفكير وتدبر ومناقشة، وطرح الأشياء طرحاً عملياً. لماذا دراسة كتب الترغيب والترهيب؟ ما علاقتها بتجديد الإيمان في القلب؟ لأن دراسة كتب الترغيب والترهيب تعرف الإنسان بثواب الأعمال الصالحة لتكون دافعةً للعمل، وتعرفه عقاب الأعمال السيئة لتكون دافعةً إلى ترك الأعمال السيئة، ولقد اهتم السلف اهتماماً عظيماً بهذا ومن جاء من العلماء، فهذا المنذري رحمه الله يُؤلف مجلدات في الترغيب والترهيب. والنفس البشرية مفطورة على حب الثواب وخوف العقاب، وأما ما زعمته الصوفية من أنهم يعبدون الله لا خوفاً من ناره، ولا رغبةً في جنته، فإنهم ضالون مخالفون لمنهج سيد البشر صلى الله عليه وسلم، فإنه كان يدعو الله أن يرزقه الجنة، ويدعو الله أن يجنبه النيران، وأما ما زعمه بعض أهل التصوف من قولهم: ما عبدتك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنتك، فإنه مذهبٌ ضالٌ، وبعض هؤلاء الضلال لما مرَّ بقول الله عز وجل: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [الإسراء:18 - 19] قال: فأين من يريد الله؟ سبحان الله العظيم! الآية تتكلم عن من يريد الحياة الدنيا ومن يريد الآخرة، قالوا: لا هذه، ولا هذه، الدنيا لها أهل والآخرة لها أهل، ونحن أهل الله. انظر إلى السفاهة، وإلى الانحراف، وإلى تلبيس إبليس، وإن معرفة الثواب يعين على إتيان الطاعات ولا شك، نضرب مثالين فقط: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من قال: سبحان الله وبحمده، غُرست له نخلةٌ في الجنة) حديثٌ صحيح، لما تعلم أنه تغرس نخلة في الجنة لمجرد أن تقول: سبحان الله وبحمده، ألا يدفعك هذا إلى التلفظ بهذا الذكر؟ مثال آخر: عن أم هالة بنت أبي طالب، قالت: مرَّ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله! إني قد كبرت وضعفت، فأمرني بعملٍ أعمله وأنا جالسة -هذا للنساء والرجال كذلك- قال: (سبحي الله مائة تسبيحة فإنها تعدل لك مائة رقبة تعتقينها من ولد إسماعيل، واحمدي الله مائة تحميده تعدل لك مائة فرس ملجمة تحملين عليها في سبيل الله، وكبري الله مائة تكبيرة، فإنها تعدل لك مائة بدنة مقلدة متقبلة -التي تُهدى في الحج- وهللي الله مائة تهليلة) قال ابن خلف: أحسبه قال: (تملأ ما بين السماوات والأرض، ولا يُرفع يومئذٍ لأحد عملٌ إلا أن يأتي بمثل ما أتيت به) قال الألباني: هذا إسناده حسن، ورجاله ثقات كما في السلسلة الصحيحة. فإذا معرفة الثواب يحفز النفس، وهي مجبولة على هذا، وكابر أهل الانحراف أم لم يكابروا فإن النفس مجبولة على هذا.

الموازنة بين الجوانب في التربية

الموازنة بين الجوانب في التربية لابد من الاهتمام والتركيز على الموازنة بين الجوانب في تربية النفس، ومراعاة الخطأ الذي يحصل أحياناً والتدقيق فيه من تغليب جانب على جانب، فبعضهم ينشط في الدعوة إلى الله مثلاً، أو ينشط في طلب العلم، لكنه يُهمل في جانب الإيمان، ولا بد من تصحيح المفاهيم والتصورات المتعلقة بموضوع التربية الإيمانية، فمن هذه التصورات الخاطئة: اعتقاد البعض أن التربية الإيمانية هي فقط للناشئة الجُدد السالكين حديثاً في طريق الالتزام، وليست للدعاة إلى الله الذين قطعوا مرحلةً، أو شوطاً، أو مشواراً في طريق الالتزام والاستقامة، وهذا خطأ، فكلنا نحتاج ذلك، ولذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعبد ربه حتى أتاه الموت، ولم يقل: إن التربية الإيمانية لحديثي العهد الذين دخلوا في الإسلام، أما كبار الصحابة فإنهم مشغولون بالجهاد وبتدبير أحوال المجتمع، والدعوة إلى الله، والتخطيط له. ومن المفاهيم كذلك: ما يأتي في نفوس البعض من شبهة أن الاهتمام بالقلب يحسنه الصغار، ولكن الاهتمام بالأشياء الأخرى الكبيرة لا بد أن يكون لها الرجال، ولذلك تجد بعضهم يقول: أنا أهتم بالتصورات والعقائد والدعوة، وأهتم بمعرفة الواقع، ومحاربة أهل البدع والرد عليهم، ولا يهتم بقلبه هو، وهذا سببه علة كِبر، أو علة أن النفس تحب أن تتميز، فيقول: دع الصلاة للشيبان في المساجد، دع الذكر لهؤلاء المساكين، وأنا أذهب أعمل بالأشياء العظيمة، وهناك أناس على هذه الشاكلة. ويجب كذلك أن يكون منهاجناً في طلب العلم مبدوءاً بتعلم الخشية لله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] وليس مجرد تعلم التعريفات والمصطلحات واختلافات العلماء، وبغير زكاة فإن العلم يصبح نقمة ووبالاً على صاحبه، وكذلك الاستناد والاستشهاد بالأمور الإيمانية عند دراسة وعرض العقيدة أو تفاصيلها، أو عرض معاني الأسماء والصفات، وليس مجرد الاقتصار على عرض القواعد العلمية في مسألة الأسماء والصفات مثلاً، وإهمال ربط الناس بالمعاني. وكذلك عرض سائر أمور الدين، وإذا قرأت مثلاً: الجزء الذي كتبه ابن القيم رحمه الله في السيرة النبوية، أو مثلاً تأملت ما يكتبه أحياناً في أصول الفقه في كتاب إعلام الموقعين، أو بعض الأحكام المنثورة في كتبه، تجد أنه يربطها ربطاً مباشراً بالله عز وجل، وبالخوف منه سبحانه وتعالى، وتجنب الأسلوب المنطقي العقلاني البحت في عرض قضايا الدين على الناس، فهذا خطير جداً، لأنه يربي الناس على الأشياء العقلانية، أو الأشياء المنطقية، ولا يحسون بحرارة الأشياء التي يتعلمونها في قلوبهم، وإنما يكون معرفتهم بها معرفة باردة.

مخالطة أهل الإيمانيات

مخالطة أهل الإيمانيات وكذلك من الأشياء المهمة في التربية الإيمانية الجماعية: مخالطة من تميز بالإيمانيات، ومخالطة القدوات المتصلة بالله عز وجل وزيارتهم، ومجالستهم للاستفادة منهم، وكان أحدهم يقول: كنت إذا أحسست قسوةً في قلبي، وانحداراً في إيماني، ذهبت إلى فلان أبيت عنده، لماذا يبيت عنده؟ لأنه سيرى منه كثرة ذكره لله، خشوعه عند قراءة القرآن، تبكيره للصلاة، قيامه لليل، فيتأثر بأحواله، ومخالطة القدوات أمرٌ مهم. وكان السلف رحمهم الله يذهب بعضهم ويبيت عند بعض ليرقب بعضهم أحوال بعض في المبيت حتى يتعلم منه في الليل ماذا يفعل، كيف يقوم لله، وهذا الاختلاط بالقدوات مؤثر وموجود منذ القدم. ومثالٌ على هذا يقول ابن الجوزي في صيد الخاطر: ولقيت جماعةً من العلماء يحفظون ويعرفون، لكنهم كانوا يتسامحون بغيبة يخرجونها مخرج جرح وتعديل، أي: يدبر لها وبعد ذلك يأتي يغتاب، ويأخذون على قراءة الحديث أجرة، ويسرعون بالجواب لئلا ينكسر الجاه وإن وقع خطأ، لو سئل فإنه يجيب سريعاً، لماذا؟ يخاف الناس أن يقولوا عنه: إنه جاهل، فيجيب فوراً. ثم يقول رحمه الله: "ولقيت عبد الوهاب الأنماطي، فكان على قانون السلف، لم يُسمع في مجلسه غيبة، ولا كان يطلب أجراً على سماع الحديث، وكنت إذا قرأت عليه أحاديث الرقائق: الجنة والنار، عذاب القبر، الموت؛ بكى واتصل بكاؤه، فكان وأنا صغير السن حينئذٍ يعمل بكاؤه في قلبي، ويبني قواعد الأدب في نفسي" هذه التربية، يبني قواعد الأدب والإيمان في قلبه، وكان على سمت المشايخ الذين سمعنا أوصافهم في النقل. وكذلك الاهتمام بإتاحة الأوقات في المناسبات والأنشطة الإسلامية مثل: رحلات المراكز والمدارس وغيرها، والرحلات العائلية، ورحلات الإجازات الموسمية مثلاً للقيام ببعض العبادات مثل: حِلَق الذكر وقراءة القرآن جماعية، أو فردية مثل: قيام الليل والتسبيح عُقَيب الصلوات، وأن يكون الحث على ذلك لا إلزاماً حتى لا يكون الأثر عكسياً على المأمور، ومن ذلك أيضاً: عدم شغل الوقت المناسب لعبادات معينة مثل: الأذكار التي في أدبار الصلوات، وأذكار الصباح والمساء، والتبكير للصلاة بأعمال أخرى، أو مواعيد حتى لو كانت من أعمال البر. وإنما يبقى وقت بعد الصلاة للأذكار، ويبقى التبكير للصلاة مطلوباً، وأذكار الصباح والمساء في وقتها لا تُشغل بأي شيء آخر حتى لو كان الأمر بر إلا للضرورة، أو لما ترجحت مصلحته، وإلا يبقى هذا الوقت وقت ذِكر، وكان ابن تيمية رحمه الله على كثرة مشاغله وجهاده وتعليمه يحافظ على الجلوس بعد الفجر إلى طلوع الشمس، ويقول: هذا زادي، بعد ارتفاع الشمس، يصلي ركعتين ويقول: هذا زادي، وأنا بغير زاد كيف أعيش، وبين الإخوة تدارس سير الصالحين والعباد والزهاد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم حتى يتأثر الإنسان بهم. وختاماً يا إخواني، فإن الدعاء لله عز وجل مسك الختام في الأسباب، والحديث الذي بدأنا به نرجع إليه مرة أخرى لنختم به هذه الجلسة: (إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب) فاسألوا الله تعالى أن يجدد الإيمان في قلوبكم. اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تجدد الإيمان في قلوبنا، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

ماذا تسمع؟

ماذا تسمع؟ منح الله الإنسان الكثير من النعم، وجعلها متفاوتة في الفائدة، ولكن من أعظم نعم الله على الإنسان نعمة السمع؛ لأن بها يعلم خطاب الشرع له فيعمل به، فالسمع أعم وأشمل من غيره من الحواس؛ لذا عاب الله على الكفار أن سمعوا الله ولم يفهموا ويدركوا مراده. وقد رتب الله في شرعه الكثير من الأحكام على السمع، وجعل لصاحبه آداباً يسير على نهجها، وأوجب عليه سماع ما يجب ونهاه عن كل ما لا يحبه ولا يرضاه.

قيمة حاسة السمع بالنسبة لحياة الإنسان

قيمة حاسة السمع بالنسبة لحياة الإنسان إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار. عباد الله! إن نعم الله علينا كثيرةٌ متعددةٌ، وإذا تأملنا في أنفسنا؛ وجدنا لله تعالى نعماً عظيمةً: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] ومن هذه النعم: نعمة السمع التي وهبنا الله إياها كقوة ندرك بها الأصوات، وهذه النعمة من أهم حواس الإنسان وأشرفها حتى من البصر؛ لأن بها يدرك المكلف خطاب الشارع -الذي به التكليف- من سائر الجهات، كما يدرك غيره من سائر الجهات وفي كل الأحوال، بخلاف البصر الذي يتوقف الإدراك به على الجهة المقابلة، قال الله تعالى مذكراً إيانا بهذه النعمة، ومذكراً إيانا بالمسئولية عنها: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36]. وهذه النعمة العظيمة لفائدتها أجمع أهل العلم على أن فيها الدية، فإذا أذهب شخصٌ سمع آخر خطأً، فعليه الدين كاملة، وعمداً عليه القصاص. ولأجل فائدتها وعظمها، اشترط أهل العلم في المناصب العامة كالإمامة والقضاء أن يكون سميعاً، وهي أكبر مدخل إلى القلب، ومن يفقد السمع أسوأ حالاً من الذي يفقد البصر، ولذلك فإن عقله يضعف جداً في الغالب، فلا تكاد تجد أصم إلا وفي عقله شيء بخلاف الأعمى. وهو طريق من طرق اكتساب العلم، قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: "المدرك بحاسة السمع أعم وأشمل من غيرها من الحواس، فللسمع العموم والشمول والإحاطة بالموجود والمعدوم والحاضر والغائب، والحسي والمعنوي، فالسماع أصل العقل وأساس الإيمان". وقد رحم الله أسماعنا، فهناك أصواتٌ لو سمعناها لصعقنا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا وضعت الجنازة، واحتملها الرجال على أعناقهم، فإن كانت صالحة، قالت: قدموني قدموني، وإن كانت غير صالحة، قالت لأهلها: يا ويلها أين تذهبون بها؟! يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعها الإنسان لصعق). وقد أمر الله بالسماع، فقال: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا} [المائدة:108] وقال عز وجل: {وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} [التغابن:16].

السماع على ثلاثة أنواع

السماع على ثلاثة أنواع النوع الأول: سماع الإدراك: كقوله عز وجل: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ} [الجن:1 - 2]. النوع الثاني: سماع الفهم: وهو الذي نفاه الله عن الأموات كقوله عز وجل: {فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [الروم:52] ونفاه عن أهل الإعراض، فقال: {وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} [الروم:52]. النوع الثالث: سماع القبول والإجابة: كقوله تعالى: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [البقرة:285] وفي حالة الجن المسلمين اتصل سماع الإدراك بسماع الإجابة بعد سماع الفهم، فاجتمعت فآمنوا وأسلموا، ويا حظ من كان سمعه موافقاً لمرضاة الله تعالى، ولذلك قال في الحديث القدسي: (ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به) يعني: لا يسمع إلا ما يرضي الله عز وجل. أيها المسلمون! إن سماع الفهم والإجابة في غاية الأهمية، وهو سماعٌ مفقودٌ عند الكثيرين، فيسمعون بأُذن الرأس، لكن لا يسمعون بأُذن القلب، ولذلك يواجه الدعاة إلى الله تعالى من المشكلات والمصاعب ما الله به عليم؛ نتيجةً لتخلف سماع الفهم وسماع الإجابة عند الناس. سماع الرأس والإدراك أمرٌ ميسورٌ لأكثر الناس، أما سماع الفهم فيحتاج إلى إمعان وتركيز، وتفرغ وحضور قلب، أما سماع الإجابة فيحتاج إلى إخلاص وتجرد، ولذلك لا يرزقه إلا القليل، فقليل من الناس الذين يسمعون سماع الإجابة سماع التأثر سماع الانقياد، ولذلك ترى هؤلاء الناس كثيراً ما يسمعون الخطب والمواعظ، لكن قل من يستجيب، وقل من يتأثر لتخلف سماع الإجابة، وسماع التأثر والانقياد. ولذلك كان من علامات أهل الكفر وأعمالهم أنهم لا يريدون سماع الحق، قال الله تعالى عن نبيه الكريم نوح عليه السلام، الداعية الذي دعا قومه: {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} [نوح:7] لكي لا يسمعوا فيتأثروا، وكذلك الكفار: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ} [فصلت:26] حتى لا تتأثروا به، ولذلك جعل الطفيل في أذنيه كرسفاً -أي: قطناً- من الدعاية والإعلام الباطل الذي وجهه كفار قريش لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الله أسمعه وهداه، وكذا كل من يريد الله به خيراً. وقال الله عز وجل مبيناً أن هناك سماعاً بالرأس، لكنه ليس بسماع القلب: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179] فأثبت لهم سمع الرأس، ولكن نفى عنهم سمع القلب، لهم آذان ولهم سمع الرأس؛ لكنهم لا يسمعون بها، فالاستجابة معدومة، والانقياد غير حاصل. هناك سماع للصوت؛ لكن ليس هناك استجابة، ولذلك وصفهم الله بأنهم أضل من الأنعام، فإن الأنعام إذا سمعت صوت الراعي ودعاءه ونداءه استجابت واستأنست وعرفته فتقبل إليه، أما هؤلاء فلا، وهذا السماع هو المقصود من حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفس محمد بيده! لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة يهودي، ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار). أما سماع الفهم: فهو سماعٌ شريف أثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على صاحبه: (نضَّر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها، ثم بلغها عني، فرب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه)، فربما يكون الثاني فقيهاً له سمع الفهم، فيفقه ويبلغ وينذر. عباد الله! إن فهم هذه الأشياء تبين لنا لماذا لا يفهم كثيرٌ من الناس، ثم لماذا لا يستجيبون، ولماذا لا يتأثرون، ولماذا لا ينقادون؟

الأحكام المرتبطة بالسمع في الشريعة

الأحكام المرتبطة بالسمع في الشريعة عباد الله! إن هذا السمع مسئولية، وقد رتب الشارع أحكاماً عليه، وجعل فيه واجبات ومحرمات، وجعل فيه تبعات ومسئوليات، ولذلك قال ربنا: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} [النساء:140] أي: في الكفر ومعاندة الشريعة. إذا سمعت -يا أيها المسلم- آيات الله يستهزؤ بها في المجالس، وإذا سمعت بشرع الله يستهزؤ به في مجالس الناس ومنتدياتهم، وإذا سمعتهم يخوضون في الكتاب والسنة بالباطل، وإذا سمعتهم ينتقصون من الدين، ويعيبون الشريعة والأحكام، فعندك خياران لا ثالث لهما: إما أن تنكر فتسكتهم، أو تقوم وتغادر المجلس، ولا بد من ذلك، أما إذا سكت وجلست، فأنت شيطان أخرس: (الساكت عن الحق شيطان أخرس) وما أكثر المجالس التي تلمز فيها الشريعة اليوم، وتعاب فيها الأحكام، ويسخر فيها من الدين والمتدينين، وفي المقابل ما أقل المنكرين الذين يقومون بالواجب الشرعي تجاه هؤلاء العابثين، وكذلك ذكر الله من صفات المؤمنين أنهم إذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه، ولم يتأثروا به، ولم ينصتوا إليه، ولم يستمعوا، وإنما أعرضوا. وتأمل بعض ما في الشريعة من الأحكام المرتبطة بالسمع كقوله صلى الله عليه وسلم: (الجمعة على من سمع النداء) فإذا كان قريباً يسمع النداء وجب عليه الحضور، بخلاف ما إذا كان بعيداً. وكذلك حضور صلاة الجماعة في المسجد، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سمع النداء فلم يأته؛ فلا صلاة له إلا من عذر) فإذا سمع النداء ولم يأت المسجد فهو آثم، وما أكثر الآثمين في هذا الباب الذين يتخلفون عن صلاة الجماعة، فإذا فرض أن هناك مؤذناً صيِّتاً يؤذن على سطح المسجد، والسامع حسن السمع، وليس بينهما جدران ولا عوائق، والريح ساكنة، فإذا كان يسمع؛ فلا بد من الإجابة، هذا الضابط الذي تجب به على المكلف الجماعة وحضورها: (إذا سمعت النداء؛ فأجب داعي الله: حي على الصلاة) حديث صحيح. وكذلك (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول) كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم (وإذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد، فإن من وافق قوله قول الملائكة، غفر له ما تقدم من ذنبه) فسمع الله لمن حمده بمعنى: أجابه وأثابه، فإذا سمعتها وسائر أذكار الصلاة وتكبيرات الإمام، فأنت تجيب، وأنت تتابع. وكذلك جعل الشارع من المسموعات ما يتفاعل به قلب الإنسان المؤمن، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا سمعتم صوت الديكة، فسلوا الله من فضله) لأنها رأت ملكاً، وهي ترى ما لا نراه، وقال في الحديث أيضاً: (إذا سمعتم نباح الكلاب، ونهيق الحمير بالليل، فتعوذوا بالله من الشيطان) لماذا؟ لأنها رأت شيطاناً. وكذلك فإن من سمع بفتنة، فلا بد أن ينأى عنها، وأن يبتعد، فإذا سمعت بمكان فيه فتنة، فلا يجوز لك أن تسافر إليه، ولا أن تذهب إليه، والدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث الدجال: (من سمع بالدجال، فلينأ عنه) أي: ليبتعد، وما أكثر الدجاجلة الصغار قبل الدجال الأكبر الذين يذهب إليهم الناس للاستماع! وما أكثر أماكن الفتنة التي يسافرون إليها!

آداب السمع في الإسلام

آداب السمع في الإسلام وقد جاء الشارع أيضاً بآداب لما نسمع، وإرشادات لما نتكلم به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما يسمع) وما أكثر النقلة الذين ينقلون ولا يتثبتون، ويحدثون بكل ما يسمعون! فلا يحذفون، ولا يكتمون، ولا يحفظون، ويحتفظون بالكذب والباطل والمشكوك فيه والإشاعات الكاذبة. وكذلك فإن السمع مدار تحديد الوسوسة في الصلاة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا كان أحدكم في الصلاة، فوجد حركةً في دبره أحدث أم لم يحدث، فأشكل عليه، فلا ينصرف) لا يقطع الصلاة، لا يجوز له ذلك (فلا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً) علاجٌ بالغٌ للوسوسة، ولمن يسمع أصواتاً في بطنه ورزَّاء، فإنه لا يقطع الصلاة حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً، والشريعة تريد البينة، وتربي المسلم على الدليل، وليس على اتباع الشكوك والأوهام الظنون. عباد الله! إن حكم السماع يختلف بحسب المسموع، فقد يكون واجباً، أو مستحباً، أو مباحاً، أو مكروهاً، قال ابن القيم رحمه الله تعالى في عبوديات الجوارح: "فعلى السمع -يعني: من العبادة- وجوب الإنصات والاستماع لما أوجبه الله ورسوله عليه من استماع الإسلام والإيمان وفروضهما، وكذلك استماع القراءة في الجهر إذا جهر الإمام، واستماع خطبة الجمعة في أصح قولي العلماء واجب، ويحرم عليه استماع الكفر والبدع -كالموالد التي ضجوا بها والاحتفالات والاحتفاءات البدعية التي ملأت الدنيا من أرباب الصوفية ومشركي هذا الزمان، وأصحاب البدع- ويحرم عليه استماع الكفر والبدع إلا حيث يكون في استماعه مصلحةٌ راجحةٌ من رده -الرد عليه- أو الشهادة على قائله بالكفر والبدع عند القاضي ليقام الحد، ويؤخذ بما هو لازم لمكافحة هذا الأمر، أو زيادة قوة الإيمان والسنة، فإن الإنسان المسلم الصادق إذا سمع ببعض ديانات الهندوس والبوذيين مثلاً، حمد الله على النعمة". "وكذلك يحرم استماع أسرار من يهرب عنك بسره، ولا يحب أن يطلعك عليه ما لم يكن متضمناً لحقٍ يجب القيام به، أو لأذى مسلم يتعين نصحه وتحذيره منه، وكذلك يحرم استماع أصوات النساء الأجانب التي تخشى الفتنة بأصواتهن إذا لم تدع حاجة من شهادة عند القاضي، أو معاملة، أو استفتاء، أو محاكمة، أو مداواة عند طبيبٍ ثقةٍ ونحو ذلك". فيتبين لك أيها المسلم أن كثيراً من الذين يستخدمون سماعات الهاتف في سماعٍ إنما يستخدمونها في حرام، ويأثمون بالسماع، ويجلس يسمع الساعات، ويتكلم حراماً في حرام، وإثماً في إثم، ومعصية بعد معصية، والملك يكتب، وسخط الله نازل، والوعيد شديد، والآخرة متحققة، والجزاء واقع، وجنة أو نار. وكذلك يحرم استماع آلات المعازف والطرب والعود والطنبور واليراع كما ذكر ذلك ابن القيم في عصره، وفي عصرنا الكمنجة والقانون والأرج وغيرها من أنواع المعازف. وكذلك قال رحمه الله: "ولا يجب عليه سد أُذنه إذا سمع الصوت وهو لا يريد استماعه" إذا كان يمشي في الشارع، فسمع صوت غناء، أو سمع صوت موسيقى وهو لا يريد استماعها، لا يجب عليه سد أذنيه، إلا إذا خاف السكون إليه والإنصات، فإنه حينئذٍ يجب عليه سد أُذنيه لتجنب سماعه من باب سد الذرائع، ونظير هذا المُحْرِم لا يجوز له تعمد شم الطيب، ولكن إذا حملت الريح رائحته، وألقتها في مشامه، لم يجب عليه سد أنفه. وأما السمع المستحب: فكاستماع المستحب من العلم وقراءة القرآن وذكر الله، واستماع كل ما يحبه الله مما ليس بفرض، والمكروه عكسه وهو استماع كل ما يكره ولا يعاقب عليه. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يحفظ علينا أسماعنا، وأن يحفظ علينا أبصارنا، اللهم متعنا بأسماعنا، ومتعنا بأبصارنا، اللهم متعنا بسائر قواتنا، واجعلها الوارث منا، اللهم احفظ أسماعنا من الحرام، وأبصارنا من الحرام، وحواسنا من الحرام، واجعل ما نسمعه في مرضاتك. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

سماع القرآن لا يجتمع وسماع الشيطان

سماع القرآن لا يجتمع وسماع الشيطان الحمد لله الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له، هو السميع العليم هو السميع البصير سبحان الذي وسع سمعه الأصوات! أشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا يشغله سمعٌ عن سمع، ولا يشغله صوتٌ من أصوات عباده عن صوت آخر، ولا يشغله دعاء واحد عن آخر، فهو يسمع الجميع سبحانه وتعالى، يسمع أصواتهم على اختلاف لغاتهم، وتنوع حاجاتهم، فيجيب هذا، ويمنع هذا، ويؤخر هذا، ويثيب هذا سبحانه وتعالى، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، سمع كلام الله فأسمعنا وبلغنا وأدى إلينا، صلى الله عليه وعلى أصحابه وآله وذريته الطيبين الطاهرين. عباد الله! إن مما يجب أن يشغل أسماعنا: سماع العلم سماع الآيات سماع أخبار المسلمين سماع فتاوى أهل العلم سماع الدين سماع كل ما يحيي القلوب، ومما يجب صرفه: سماع الغناء والحرام. نريد سماع الآيات لا سماع الأبيات، وسماع القرآن لا سماع مزامير الشيطان، وسماع كلام الأنبياء والمرسلين لا كلام المغنين والمطربين، فهذا السماع سماعٌ يحدو القلوب إلى جوار علام الغيوب، وسائقٌ يسوق الأرواح إلى ديار الأفراح، ومحركٌ يثير ساكن العزمات إلى أعلى المقامات وأرفع الدرجات (إني أحب أن أسمعه من غيري). وطريقة الصحابة في التلاوة أن يقرأ أحدهم والباقون يستمعون، ولا شك أن القلب يا عباد الله! يتأثر بالسماع بحسب ما فيه من المحبة، فإذا امتلأ من محبة الله، يرغب في سماع كلام المحبوب، والإنصات إليه، والتفاعل معه، وأما إذا كان مملوءاً بالعشق والفسق، فإنه يريد سماع الأغاني والطرب، وحرامٌ على قلب تربى على سماع الشيطان أن يجد شيئاً من ذلك في سماع القرآن، بل إن حصل له نوع لذة، فهو من قبل الصوت المشترك، هذا لحن قارئٍ جميلٍ، وهذا لحن أغنيةٍ جميلةٍ، فهو من قبل الصوت المشترك، ولذلك تراهم يطربون عند سماع القارئ ويقولون: الله الله ونحو ذلك من الأفعال المبتدعة لإعجابهم بصوته ونغمته وسحبته، لا لمعنى ما يقول ويقرأ، مثل طرب بعض الناس لما يسمعون أصوات بعض المقرئين الذين تفننوا بتنزيل صوتهم في القرآن على ألحان الأغاني، والغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل، وما اعتاده أحدٌ إلا نافق قلبه وهو لا يشعر، فما اجتمع في قلب عبدٍ محبة الغناء ومحبة القرآن إلا طردت إحداهما الأخرى ولو بعد حين. قال ابن القيم رحمه الله: "وقد شاهدنا نحن وغيرنا ثقل القرآن على أهل الغناء، وسماعه وتطربهم به، وصياحهم بالقارئ إذا طول عليهم، وعدم انتفاع قلوبهم بما يقرأ، فلا تتحرك، ولا تخشع، فإذا جاء قرآن الشيطان، فلا إله إلا الله كيف تخشع الأصوات، وتهدأ الحركات، وتسكن القلوب وتطمئن، ويقع طيب السهر، وتمني طول الليل". تلي الكتاب فأطرقوا لا خيفةً لكنه إطراقُ ساهٍ لاهِ وأتى الغناء فكالذباب تراقصوا والله ما رقصوا لأجل اللهِ دفٌ ومزمارٌ ونغمةُ شادن فمتى شهدت عبادة بملاهي ثقل الكتاب عليهمُ لما رأوا تقييده بأوامر ونواهي فانظر إلى النشوان عند شرابه وانظر إلى النسوان عند ملاهي واحكم فأي الخمرتين أحق بالـ تحريم والتأثيم عند اللهِ اسمع كلام الله، اسمع عذر إخوانك، اسمع شكوى المراجع أيها الموظف، السماع إذاً كثيرٌ طيبٌ، لكن من الذي يفعله؟! أما سماع المعصية، سماع البدعة كسماع الصوفية وترانيمهم، وسماع أغانيهم في الموالد، فلا. وسماع الاحتفالات في الموالد، فلا. قال القشيري: سمعت أبا عبد الله السلمي يقول: دخلت على أبي عثمان المغرمي ورجلٌ يستقي الماء من البئر على بكرة، فقال: يا أبا عبد الرحمن! أتدري ماذا تقول هذه البكرة؟ فقلت: لا. قال: تقول الله الله. هذا هو شُغل الصوفية البكرة تقول الله الله، صوت الماء يسحب على البكرة يعني: الله الله وهكذا. أيها المسلمون! نسأل الله أن يدخلنا الجنة، فإننا إذا دخلنا الجنة فلن نجد أحلى ولا أعظم نعمة من رؤية الرب وسماع كلامه، ولذلك ليس في نعيم أهل الجنة أعلى من رؤيتهم وجه الله وسماع كلامه، وكذلك سماع غناء الحور العين الذي يكون ثواباً لمن امتنع عن سماع الغناء في الدنيا، قال الله في وصف أهل الجنة ونعيمهم: {فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} [الروم:15] يحبرون: يسمعون غناء الحور العين.

علاقة السماع بموضوع البوسنة

علاقة السماع بموضوع البوسنة أما علاقة موضوع السماع بـ البوسنة، فإنه قول الشاعر: ربَّ وامعتصماه انطلقت ملئ أفواه الصبايا اليتمِ لامست أسماعهم لكنها لم تلامس نخوة المعتصم وهؤلاء اليوم يخططون، وتبرز الخطط بين الصرب والكروات وكما قال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89] وسيظهر ذلك عاجلاً أو آجلاً. سلموا لهم المنطقة مقابل خروجهم بعَددهم وعُددهم إلى أراضي المسلمين، إنهم يريدون ملء جيبا وسربنتسا وغيرها من البلدان التي احتلوها والمدن الإسلامية بالصرب الجدد، إنهم قد استولوا على (70%) من أراضي البوسنة، لكن ليس عندهم شعب كاف ليملئوا تلك الأراضي، فهم يخرجونهم الآن من مكان إلى مكان، والبلد هذا يذهب إلى كفار، وتملأ البلدان الأخرى من الكفار الآخرين، والمسألة كفر في كفر، ومؤامرة في مؤامرة، ويدلك على ذلك أقوال بعض قادة الصرب: إننا لم نفاجأ، ولم تبد علينا الدهشة، أي لأنه أمرٌ قد قضي بليل. عباد الله! بعضهم يعد، وبعضهم يخطط، وبعضهم ينفذ، ويعضهم يغطي على بعض، أولئك أئمة الكفر، والله يقول: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ} [التوبة:12] لا عهد لهم ولا ذمة، كيف نثق بهم؟ كيف نركن إليهم أياً ما كانوا؟ سواء كانوا أرثوذكس، أو بروتستانت، أو كاثوليك، الكفر ملة واحدة، ولذلك ظن بعض السذج أن هؤلاء أرادوا الدفاع عن المسلمين، وأخذتهم الحمية فنصروا المسلمين، والله ما أرادوا ذلك، إنما أرادوا مصلحتهم، وقد يتعللون في الظاهر بشيء لمصلحة المسلمين، ولكن أياديهم ملوثة بدماء المسلمين مما قريب، فكيف يثق العصفور بمن افترس أخاه. يا عباد الله! ربما تأتي أخبارٌ وأيامٌ قادمةٍ بمحن مزلزلة شديدة تحمل أنباء اتفاق الكفرة على المسلمين من الجانبين، ونحن نسأل الله عز وجل أن يحفظ إخواننا، وأن يرزق إخواننا الفهم والوعي، وأن يردهم إلى دينهم، وأن ينقيهم من الشوائب، ونسأله أن يعجل بفرجهم ويأتي بنصرهم، وأن يوقظ في قلوب المسلمين الحمية، ويرزقهم القيام بواجب إخوانهم. اللهم إنا نسألك أن تنصر المجاهدين في سبيلك، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك الذين يريدون إعلاء كلمتك، اللهم من أراد دينك بسوءٍ، فاجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً عليه. اللهم آمنا في دورنا وبلداننا، اللهم اجعل بلاد المسلمين آمنةً مطمئنةً بتحكيم شريعتك يا رب العالمين! آمنا في الأوطان والدور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور، اللهم اجعل بلدنا هذا آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين يا رب العالمين. اللهم أيقظ في قلوب المسلمين الحمية للجهاد في سبيلك، اللهم اكتب للمسلمين النصر على الأعداء يا رب العالمين! اللهم ارحم موتانا، واشف مرضانا، واقض ديوننا، واستر عيوبنا يا أرحم الراحمين! سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.

ماذا فعلوا بعباءة المرأة؟

ماذا فعلوا بعباءة المرأة؟ هذه المادة عبارة عن خطبة عيد الأضحى المبارك، وقد تكلم الشيخ في بدايتها عن أعياد المسلمين والفرق بينها وبين أعياد غيرهم. ثم استفاض في ذكر توجيهات في شأن الحياة الدنيا والسلامة منها، والمواقف في الفتن في جملة من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ختمها بخطبة النبي صلى الله عليه وسلم، وماذا حصل للحجاب في هذا العصر، وماذا فعل به.

الفرق بين أعياد المسلمين وأعياد غيرهم

الفرق بين أعياد المسلمين وأعياد غيرهم إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فالحمد لله الذي أتم النعمة بإكمال العدة: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة:185] فالله أكبر الله أكبر! لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد، اللهم لك الحمد بما علمتنا وهديتنا، وأرسلت إلينا رسولنا، وأنزلت علينا كتابنا، وشرعت لنا ديننا، وميزتنا بأعيادنا عن أعياد غيرنا، لكل قوم عيد وهذا عيدنا أهل الإسلام، جعل الله لنا عيد الفطر وعيد الأضحى، ونسخ كل أعياد الجاهلية، هذه أعيادنا لا نشارك غيرنا أعيادهم، ولا نهنئهم بها، ولا نظهر بها فرحة، وإنما نكبر الله في أعيادنا، فهي أعياد توحيد، وأعياد غيرنا أعياد شرك وبدعة. فالله أكبر الله أكبر والحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، الذي أنزل علينا الدين، وشرع لنا هذا الإسلام وهذه الشريعة العظيمة.

شهر رمضان يطوى بما فيه

شهر رمضان يطوى بما فيه عباد الله: دينكم لا يشبهه دين، وشريعتكم ليس كمثلها شريعة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] عيدنا هذا يذكرنا بتوحيد الله، وشكر نعمة الله تعالى. لقد مر رمضان -أيها المسلمون! - فهل رأيتم شهراً أسرع مروراً من هذا الشهر؟ كلا والله. لقد انقضى ما بين طرفة عين وانتباهتها، كأنه حلم مر، ذهب الشهر بما استودع من الأعمال، فالحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات، لمن عبد الله فيه وصلى وقام، والحمد لله على كل حال، ونسأل الله السلامة والعافية والمغفرة من تقصيرنا، وعجزنا وضعفنا، وإسرافنا في أمرنا.

توجيهات في شأن الحياة الدنيا والسلامة منها، والمواقف في الفتن

توجيهات في شأن الحياة الدنيا والسلامة منها، والمواقف في الفتن أيها المسلمون! يا عباد الله: إن هذه الدنيا زائلة وذاهبة، إن النبي صلى الله عليه وسلم أعطانا توجيهات كثيرة في شأن هذه الحياة الدنيا، تعالوا نستعرض بعضاً منها، كلها من أقواله صلى الله عليه وسلم: (احذروا الدنيا فإنها خضرة حلوة) (ابشروا وأملوا ما يسركم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم). إن مطعم ابن آدم قد ضرب مثلاً للدنيا، وإن قَزَّحَهُ ومَلَّحَهُ، فانظر إلى ما يصير عند خروجه من البدن، حلوة الدنيا ومرة الآخرة، ومرة الدنيا وحلوة الآخرة: (الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر) (لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء) (والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثلما يجعل أحدكم إصبعه هذه في اليم فلينظر بم يرجع) (آكل كما يأكل العبد، فوالذي نفسي بيده! لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة، ما سقى منها كافراً كاساً). (أتاني جبريل، فقال: يا محمد! عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس، ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس) (إنما يكفيك من جمع المال خادم ومركب في سبيل الله) (خير الرزق الكفاف لا لك ولا عليك) (طوبى لمن هدي للإسلام وكان عيشه كفافاً وقنع به) (كن ورعاً تكن أعبد الناس، وكن قانعاً تكن أشكر الناس، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمناً، وأحسن مجاورة من جاورك تكن مسلماً، وأقل الضحك، فإن كثرة الضحك تميت القلب) (ما قل وكفى، خيرٌ مما كثر وألهى) (مالي وللدنيا!! ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها) (من أصبح آمناً في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها). (يقول ابن آدم: مالي! وهل لك يا بن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت) (الشيخ يضعف جسمه وقلبه شابٌّ على حب اثنتين: طول الحياة، وحب المال) (صلاح أول هذه الأمة بالزهد واليقين، ويهلك آخرها بالبخل والأمل) (لو كان لابن آدم واد من مال لابتغى إليه ثانياً، ولو كان له واديان لابتغى لهما ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب) (من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له) (إنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم). (أتعلم أول زمرة تدخل الجنة من أمتي؟ فقراء المهاجرين، يأتون يوم القيامة إلى باب الجنة، ويستفتحون، فيقول لهم الخزنة: أوقد حوسبتم؟ قالوا: بأي شيء نحاسب؟ وإنما كانت أسيافنا على عواتقنا في سبيل الله حتى متنا على ذلك، فيفتح لهم، فيقيلون فيها أربعين عاماً قبل أن يدخلها الناس) (اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء، واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء) (إن فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء يوم القيامة إلى الجنة بأربعين خريفاً) (ألا أخبركم بمن تحرم عليه النار غداً؟ على كل هين لين قريب سهل) (ألا أنبئك بأهل الجنة؟ الضعفاء المغلوبون) (رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره). (قمت عل باب الجنة، فإذا عامة من دخلها المساكين، وإذا أصحاب الجد -أي: المال والغنى- محبوسون، إلا أصحاب النار فقد أمر بهم إلى النار، وقمت على باب النار، فإذا عامة من يدخلها النساء) (من نزلت به فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، ومن نزلت به فاقة، فأنزلها بالله، فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل). (يا معشر الفقراء! ألا أبشركم؟! إن فقراء المؤمنين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بنصف يوم -خمسمائة عام-: {وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47]) (إن الله تعالى إذا أنزل سطوته على أهل نقمته، فوافت آجال قوم صالحين، فأهلكوا بهلاكهم، ثم يبعثون على نياتهم وأعمالهم). (إنما الأعمال كالوعاء، إذا طاب أسفله طاب أعلاه، وإذا فسد أسفله فسد أعلاه) (يحشر الناس على نياتهم) (أتدرون ما المفلس؟ إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار). (إذا ذكرتم بالله فانتهوا). (إذا رأيت الله تعالى يعطي العبد من الدنيا ما يحب، وهو مقيم على معاصيه، فإنما ذلك استدراج) (استحيوا من الله حق الحياء) (من استحيا من الله حق الحياء، فليحفظ الرأس وما وعى، وليحفظ البطن وما حوى، وليذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء). (اغتنم خمساً قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك) (إن الله تعالى لا يظلم المؤمن حسنة، يعطى عليها في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا -تقولون: لماذا عند الكفار أمطار ونباتات؟ لماذا عندهم تقدم وحضارات؟ ونعيم وأموال؟ - وأما الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يعطى بها خيراً). (إن الله تعالى يقول: يا بن آدم! تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك، وإلا تفعل ملأت يديك شغلاً ولم أسد فقرك) (إن أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة من النعيم أن يقال له: ألم نصح لك جسمك، ونروك من الماء البارد؟) حتى الماء البارد سنسأل عنه يا عباد الله! (إني أرى ما لا ترون، وأسمع مالا تسمعون، أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته لله تعالى ساجداً، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، وما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله) > (إياكم ومحقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه). (حرم على عينين أن تنالهما النار، عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس الإسلام وأهله من أهل الكفر) (صاحبُ الصور واضع الصور على فيه منذ خلق، ينظر متى يؤمر أن ينفخ فيه فينفخ) (عرضت عليَّ الجنة والنار آنفاً في عرض هذا الحائط، فلم أر كاليوم في الخير والشر، ولو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً). حديث قدسي: (قال الله تعالى: وعزتي وجلالي لا أجمع لعبدي أمنين ولا خوفين، إن هو أمنني في الدنيا أخفته يوم أجمع عبادي، وإن هو خافني في الدنيا أمنته يوم أجمع عبادي). (كن في الدنيا كأنك غريبٌ أو عابر سبيل) (ما رأيت مثل النار نام هاربها، ولا مثل الجنة نام طالبها) (من استطاع منكم أن يكون له خبءٌ من عمل صالح فليفعل) (من جعل الهموم هم المعاد؛ كفاه الله سائر همومه، ومن تشعبت به الهموم من أحوال الدنيا؛ لم يبال الله في أي أوديتها هلك) > (لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن خمس: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وماذا عمل فيما علم) (لا يدخل الجنة أحدٌ إلا أري مقعده من النار لو أساء ليزداد شكراً، ولا يدخل النار أحد إلا أري مقعده في الجنة لو أحسن ليزداد عليه حسرة). (يا أيها الناس! اذكروا الله، اذكروا الله، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه) (يتبع الميت ثلاثة: أهله وعمله، وماله، فيرجع اثنان ويبقى واحد، يرجع أهله وماله، ويبقى عمله) (اثنتان تدخلان الجنة: من حفظ ما بين لحييه -اللسان- ورجليه -أي: الفرج- دخل الجنة) (إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان، فتقول: اتق الله فينا فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا) (تكفير كل لحاء ركعتان) كل خصومة ومشاجرة كفارتها صلاة ركعتين. (رحم الله عبداً قال خيراً فغنم، أو سكت عن سوء فسلم) (زنا اللسان الكلام) (طوبى لمن ملك لسانه، ووسعه بيته، وبكى على خطيئته) (ليس شيء من الجسد إلا وهو يشكو ذَربَ اللسان). (إن من ورائكم زماناً، صبر المتمسك فيه أجر خمسين شهيداً منكم). (لم يكن نبي قط قبلي إلا حقاً عليه أن يدل أمته على ما يعلمه خيراً لهم، وينذرهم ما يعلمه شراً لهم، وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء شديد، وأمور تنكرونها، وتجيء فتن فيرقق بعضها بعضاً -كل واحدة أعظم من التي قبلها، فتنسي اللاحقة السابقة- وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي، ثم تنكشف، وتجيء الفتنة، فيقول المؤمن: هذه هذه!! فمن أحب منكم أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إ

بيان النبي صلى الله عليه وسلم لبعض أخطاء النساء في خطبة العيد

بيان النبي صلى الله عليه وسلم لبعض أخطاء النساء في خطبة العيد الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأصلي وأسلم على محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، أشهد أنه محمد رسول الله حقاً حقاً، والداعي إلى سبيل الله صدقاً صدقاً. عباد الله: إن الشريعة قد جاءت بأسباب السعادة في الحياة، ومن ذلك أنها أوجبت على الزوج الإنفاق على زوجته مأكلاً وملبساً ومسكناً، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم الأزواج أن يحسنوا معاملة النساء، وأوصاهم بهن خيراً، وقال الله: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19] ووصفهن النبي صلى الله عليه وسلم بأنهن عوان عند الأزواج، أي: أسيرات، ومن طبع الكريم أن يحسن معاشرة الأسير، أطعِمْهَا إذا طَعِمْتَ، واكسها إذا اكتسيتَ، ولا تضرب الوجه، ولا تقبح، ولا تظلم. وأنت أيتها المرأة: حق الزوج عليك عظيم، قد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة العيد أمراً عظيماً، فروى جابر وابن عباس وأبو سعيد الخدري: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوم الفطر فأمر بعنزة فركزت له عند دار كثير بن الصلت، فقام فبدأ بالصلاة بغير أذان ولا إقامة، ثم قام فتوكأ على بلال، والناس جلوس على صفوفهم، فقام مقابل الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ووعظ الناس وذكرهم - هذا في خطبة العيد- فأمرهم بتقوى الله، وحث على طاعته، وكان يقول: تصدقوا تصدقوا تصدقوا، فظن أنه لم يسمع النساء، فنزل يجلس الرجال بيده، ثم أقبل يشقهم حتى أتى النساء مع بلال، فقام يتوكأ على بلال، وألوى يده بالسلام -سلم على النساء وأشار بيده- وحمد الله وأثنى عليه، فقرأ قول الله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ} [الممتحنة:12] حتى فرغ من الآية كلها، ثم قال حين فرغ منها: أنتن على ذلك؟ -يعاهد النساء ويخاطبهن: تعاهدن بعدم الشرك، وعدم السرقة، وعدم الزنا، وعدم قتل الأولاد، وعدم المعصية في المعروف- فقالت امرأة واحدة لم يجب غيرها منهن: نعم يا نبي الله! فأمرهن بتقوى الله. ونحن نقول من موقفنا هذا: اتقين الله. ثم حثهن على طاعته، ووعظهن وذكرهن، وقال: تصدقن فإن أكثركن حطب جهنم، وإني أريتكن أكثر أهل النار، فقامت امرأة منهن من سطة النساء -هي من أفاضل النساء هي أسماء بنت يزيد بن السكن رضي الله عنها- قالت: فناديت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنت جريئة على كلامه، فقلت: يا رسول الله! لم نحن أكثر أهل النار؟ -لم معشر النساء أكثر حطب جهنم؟ - فقال: لأنكن تكثرن اللعن، وتكثرن الشكاة -أي: كثيرات التشكي- وتكفرن العشير -العشير: هو الزوج، أي: تجحدن نعمته- وفي رواية: لأنكن إذا أعطيتن لم تشكرن، وإذا ابتليتن لم تصبرن، وإذا أمسك عنكن شكوتن -وهذه أسباب دخول النار بالنسبة للنساء- فقالت امرأة: أعوذ بالله يا رسول الله! من كفران نعم الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن إحداكن تطول أيمتها من أبويها -تعنس عند أبويها- ثم يرزقها الله زوجاً، ويرزقها منه مالاً وولداً، ثم تغضب الغضبة -تحصل مشكلة بينهما- فتقسم بالله: ما رأيت منك خيراً قط!! فذلك من كفران نعم الله، وما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن، قلن: وما نقصان عقلنا وديننا؟ قال: أليس شهادة المرأة منكن مثل نصف شهادة الرجل، فقلن: بلى، فذاك نقصان عقلها، قال: أليس إذا حاضت لم تصلِّ ولم تصم، قلن: بلى. قال: وذلك من نقصان دينها، فبسط بلال ثوبه، ثم قال: هلم لكن فداء أبي وأمي، فجعل النساء يلقين الفتخ وينزعن قلائدهن وأقراطهن وخواتمهن، يلقين في ثوب بلال يتصدقن به، وبلال يأخذ في طرف ثوبه ويحصله في كسائه، فكان أكثر من يتصدق النساء، فانطلق هو صلى الله عليه وسلم وبلال إلى بيته، ورجع إلى أهله، فقسمه على فقراء المسلمين). هذا ما كان منه صلى الله عليه وسلم في خطبة عيد الفطر، وما حصل من وعظ النساء. ونحن نقول: يا معشر النساء! اتقين الله تعالى، واحفظن حقوق الأزواج: (اثنان لا تجاوز صلاتهما رءوسهما: عبد آبق من مواليه حتى يرجع، وامرأة عصت زوجها حتى ترجع) (إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت فبات غضبان عليها؛ لعنتها الملائكة حتى تصبح) (إذا دعا الرجل زوجته لحاجته فلتأته وإن كانت على تنور) (إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحصنت فرجها، وأطاعت زوجها، قيل لها: ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئتِ) (انظري أين أنت منه، فإنما هو جنتك ونارك) (خير النساء التي تسره إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه في نفسها ولا مالها بما يكره) (لو تعلم المرأة حق الزوج لم تقعد ما حضر غداؤه وعشاؤه حتى يفرغ منه) (لا تصم المرأة وبعلها شاهد إلا بإذنه) (ألا أخبركم بنسائكم من أهل الجنة؟ الودود الولود العئود -التي تعود إلى زوجها إذا غضب- التي إذا ظلمت قالت: هذه يدي في يدك لا أذوق غمضاً حتى ترضى). يا معشر النساء: ليس في نقصان العقل والدين بالنسبة إليكن ذنبٌ ارتكبته واحدة منكن، فإنما هو أمر الله تعالى في الحيض والنفاس، وجعل الله شهادة امرأتين بشهادة رجل، ولكن أين المشكلة؟ في التمرد على الشريعة، ومعصية الرب جل وعلا، إذا كان الزوج قائماً بالحقوق الشرعية، ثم تظلمه المرأة، ثم، وثم، وثم قضية الحجاب.

ماذا فعلوا بعباءة المرأة؟

ماذا فعلوا بعباءة المرأة؟ عباد الله: إن المسألة قد وصلت الآن إلى حدٍّ لا يمكن السكوت عنه بأي حال من الأحوال!! إن مناظر النساء اللاتي يغشين الأسواق بهذه الأكسية، وهذا التبرج، وهذه الأطياب، والشباب حولهن يسيرون وراءهن، وهن متباهيات بتجميع هؤلاء الفسقة وراءهن هو أمر مخجل يندى له الجبين!! إن دخول النسوة إلى بعض المطاعم اليوم، ثم إزالة الحجاب، والجلوس هكذا على مرأى أمام الرجال الذين يدخلون إلى بعض المطاعم، وبعضها التي تسمى مطاعم عائلية، والله إنه أمرٌ يغضب الرب. إن مسألة مخالفة أوامر الله في الحجاب عند النساء قد وصلت إلى حد مزرٍ -أيها المسلمون! - ضيع الولي الأمانة، وضيعت المرأة الشريعة في أمر الحجاب فصارت قضية مأساوية، وسأضرب لكم الآن أمثلة واقعية لتعلموا معنى ما أقول: عباد الله: هل رأيتم هذا الشيء الذي بيدي الآن؟ هذا النقاب التي تلبسه بعض نسائكم، انظروا إلى فتحته ما أوسعها، انظروا إليه؛ إنه يشد على الرأس من الخلف هكذا، وتخرج عينها المكحلتين وهي في غاية التبرج لتفتن الشباب، وهؤلاء لا يغضون أبصارهم، ثم انظروا معي الآن إلى بعض العباءات الموجودة، وهذه مسألة أبرئ منها نفسي أمام الله ثم أمامكم، انظروا الآن إلى هذا القيطان وهذه الزخرفة الموجودة في العباءة في الوسط وفي الأكمام، ثم انظروا معي أيضاً إلى هذه الأشياء اللامعة الموجودة على عباءات بعض نسائكم يا معشر الرجال! معشر الرجال أخاطب ومن وراء الجدران النساء! تلبس هذا نساؤكم، أرأيتم هذه الأشياء اللامعة والمطرزة في العباءة؟ تخرج نساؤكم بهذا إلى الشوارع وأخواتكم وبناتكم. ثم انظروا معي أيضاً إلى هذه الزخارف الموجودة في العباءات، هل هذا يرضي الله؟ انظروا بالله معي إلى قصر أكمام هذه العباءة، أرأيتم كم طول الكم؟ أرأيتم ماذا يخرج منه؟ ثم انظر معي إلى هذا وهو مخرَّق، ذو ثقوب موجودة، يكشف عما تحته من الجلد والثياب، الخروق موجودة على هيئة زينة في الأكمام ترونها وترون من خلالها، هذه أشياء منها ما هو شفاف ومنها ما هو مثقوب تلبسه نساؤكم، ثم انظروا إلى ما هو موجود في العباءة من الزينة والألوان، نساؤكم تذهب إلى الأسواق وتشتري من هذه الأشكال، أهذا شيء يرضي الله؟!! أهذا من الدين؟!! هل هذا هو الحجاب الذي أمر الله به؟ هكذا تلبس بعض النساء، ويخرجن أمام الناس. وعندما تقول الشريعة: إن حجاب المرأة يكون سابغاً على كل الجسم، وتقول الشريعة: إن حجاب المرأة ساتر لجميع الجسد، وتقول الشريعة: وحجاب المرأة لا يكون مزيناً ولا مطرزاً ولا مزخرفاً، هذه العباءات التي تلبسها بعض النساء!!! أهذا يرضي الله؟! أقسم بالله العظيم أن ما تفعله بعض النساء اليوم بأنفسهن، والأولياء الذين يذهبون ويشترون أمثال هذه العباءات -انظروا أيها الإخوة! - والكشاكش والضانتيلات وشفاف، عرض أزياء تحولت العباءة إلى فستان، ثم يلبس على طريقة الثوب، ويلبس الخمار على طريقة الغترة، إنهم يوم القيامة موقوفون بين يدي الله سبحانه وتعالى. يا عباد الله: أين الغيرة؟! يا عباد الله: أين تقوى الله؟! يا أيها النساء: كيف يحل لكن أن تذهبن إلى محلات العباءات لشراء مثل هذه الأشياء؟ ثم إن المصيبة تعظم إنك لو نزلت الآن لتبحث عن عباءة شرعية لا تكاد تجد، وربما تضطر إلى تفصيلها تفصيلاً؛ لأن الطلب على هذه الأنواع الفاضحة. ثم سمعتم بعباءة كريستيان ديور وعباءة إيب سان لوران، ما معنى ذلك؟ معنى القضية أننا مستهدفون من النصارى والكفرة، حتى في أعز ما نملكه؛ في حجاب نسائنا! والله إنه أمرٌ يندى له الجبين!! وأقسم بالله العظيم أن الرب ساخط على هذا، ونحن المسئولون؛ أنا وأنت وهو وهي التي تلبس أيضاً مشتركة، وإذا كان على الإنسان الإثم في الشراء وعلى البائع في البيع، الذي كسبه من هذا حرام، فإن الإثم عليها أضعاف مضاعفة، وهي تلبسه تتمشى به بين الرجال في الأسواق، والسائق صار امرأة لا اعتبار له، الخلوة معه حتى في صلاة التراويح. لم يكن ما أريتكم عرض أزياء ولا دعاية، لكنه كان شيئاً استعير على عجل، ولو أننا نقبنا لوجدنا ما هو أفضع وأفضع، فأين تحمل الأمانة والمسئولية؟! اللهم ألهمنا رشدنا، وردنا إلى دينك يا رب العالمين، لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، اللهم انشر رحمتك علينا وعافنا واعف عنا، وردنا إلى الحق يا رب العالمين، طهر بيوتنا من المنكرات، ارزق نساءنا العفاف والحجاب، وارزق شبابنا الهدى والصواب، اللهم إنا نسألك أن تغفر لنا في هذا المجمع، لا تفرق جمعنا هذا إلا بذنب مغفور، وعمل مبرور، وتجارة رابحة لا تبور.

نقطة الانطلاق في طريق الاستقامة

نقطة الانطلاق في طريق الاستقامة الهداية نقطة الانطلاق في طريق الاستقامة، ولها أسباب كثيرة أوردها الشيخ في درسه مع ذكر بعض ما حصل في عهد السلف من مواقف أثرت في أصحابها وغيّرت من أحوالهم، إضافة إلى قصص وحوادث واقعية كانت سبباً في هداية أصحابها.

الهداية نعمة من الله

الهداية نعمة من الله إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. إخواني في الله: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛؛؛ وبعد: فإنها لفرصةٌ طيبةٌ أُعرب لكم فيها عن سروري واغتباطي بلقياكم، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يحفظنا جميعاً وهذا البلد الأمين من شر كل ذي شر إنه هو أرحم الراحمين، وأسأله سبحانه وتعالى أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً، وأن يجعل تفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، وألا يجعل فينا شقياً ولا محروماً. أيها الإخوة: إن الهداية نعمةٌ من الله سبحانه وتعالى لا يملك أحدٌ أن يعطيها إلا الله عز وجل، وهي أثمن نعمة يمكن أن يحصل عليها العبد في دنياه، وإذا اهتدى العبد سار في طريق الاستقامة، فالهداية هي نقطة الانطلاق في طريق الاستقامة، فإن العبد إذا صار مهتدياً، عمل الخيرات، واشتغل بالطاعات، وابتعد عن المحرمات، فيصبح سالكاً لطريق الاستقامة. إن الهداية هي نقطة الانطلاق، هي أمرٌ له ما بعده، وينبني عليه كثيرٌ من الأمور، وهذا هو عنوان المحاضرة "نقطة الانطلاق في طريق الاستقامة" ونقطة الانطلاق مهمة جداً؛ لأنها تغير مسار الشخص. وعندما نستحضر في أذهاننا صوراً من بعض الصحابة الذين دخلوا في الدين وأسلموا، كان إسلامهم وهو نقطة الانطلاق بالنسبة لهم نقطة انطلاقٍ عظيمةٍ؛ لأن الشخص يتغير كيانه واتجاهه، فإذا فكرنا -مثلاً- في حال بعض الصحابة الذين أسلموا بـ مكة، ورجعوا بعد إسلامهم هداةً إلى قومهم، يهدون هداية الدلالة والإرشاد لعل الله أن يزرق أولئك الأقوام والقبائل هداية التوفيق والإلهام، فيكونون سبباً لإدخال الناس في دين الله، فيؤجرون الأجر العظيم. يسلم، ويهديه الله، فينطلق للعلم بالإسلام، ينطلق للتفقه في الدين، بل إنه ينطلق للجهاد في سبيل الله، وينطلق لمفاصلة الكفار وإعلان البراءة منهم. وما حدث لـ ثمامة بن أثال رضي الله عنه لما أسلم بعد الثلاثة الأيام التي كان مقيداً فيها في المسجد، يرى صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالمسلمين، ويسمع قراءته صلى الله عليه وسلم للقرآن بذلك الصوت الخاشع، وينظر إلى التعامل الذي يتعامل به المسلمون مع نبيهم صلى الله عليه وسلم، إنه يرى يومياً حياةً عمليةً منبثقةً عن دين الله. لما أسلم ثمامة انطلق ليفاصل الكفرة، استأذن في عمرة، وذهب إلى كفار قريش ليعلن مقاطعةً اقتصاديةً لهم: ما يأتيكم حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فوائد طلب الهداية

فوائد طلب الهداية وهذه المحاضرة -أيها الإخوة- هي إكمالٌ لمحاضرة سابقة بعنوان "بين الهداية والانتكاس" أذكر في مطلع هذه المحاضرة ببعض النقاط: الهداية التي هي نقطة الانطلاق -كما قلنا- من الله عز وجل، ولذلك نحن ندعو ربنا يومياً عدة مرات، ونحن نقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] نطلب الهداية من الله، فإذا قال إنسانٌ: أنا مستقيم على الدين، فلماذا أطلب الهداية؟ نقول: إن طلب الهداية من قبل المهتدي فيها فوائد، فمن ذلك: تثبيته على الهداية؛ لأن الإنسان قد يهتدي، ثم ينتكس، فيسأل الله أن يثبته على الهداية. وكذلك أن يستزيد من الهداية، فإن الهداية مراتب، الهداية مثل الإيمان والعلم، فإذا اهتدى العبد، وصار في مرتبة من مراتب الهداية، يسأل ربه المزيد من هذه الهداية، والجنة درجات فمن صار في الإيمان والعلم والتقى في المراتب العليا، صار في الجنة من أهل المراتب العليا. قالت عائشة رضي الله عنها إنها فقدت النبي صلى الله عليه وسلم مرةً من مضجعه، فلمسته بيدها، فوقعت عليه وهو ساجد، وهو يقول: (رب آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها) فهذه التقوى والتزكية هي الهداية من الله سبحانه وتعالى، لا أملكها أنا ولا أنت: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56] من الذي يهدي إلى الحق؟ {قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ} [يونس:35] {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس:25] الهداية منة من الله {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ} [الحجرات:17]. إذا اغتر الداعية يوماً من الأيام بنفسه، فليتذكر قول الله عز وجل: {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [النساء:94] منَّ عليكم بالهداية، فلا تحتقروا الناس، لا تستصغروا الناس، ولكن تذكر إذا رأيت عاصياً أنك كنت يوماً من الأيام مثله وربما أشد، إن هذه النظرة تسبب الرحمة والشفقة بالمدعو وهو أمرٌ مطلوبٌ لنجاح الدعوة. اللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا فاغفر فداءً لك ما اقتفينا وثبت الأقدام إن لاقينا رواه البخاري. هذه كلمات عامر بن الأكوع رضي الله عنه ورحمه التي أسمعها لبعض المسلمين في طريق السفر، إن الأنصار لما عاتبهم النبي صلى الله عليه وسلم على ما وجدوا في أنفسهم تجاهه عليه الصلاة والسلام، لما أعطى قريشاً والمؤلفة قلوبهم ما أعطاهم، قال لهم: (يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي، وعالةً فأغناكم الله بي؟) فإذاً هدى الله أولئك الصحابة بالنبي صلى الله عليه وسلم، فكان النبي عليه الصلاة والسلام سبباً عظيماً، والهداية من الله، وأعظم منة على النبي صلى الله عليه وسلم ما جاء في قوله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى} [الضحى:7] بل إن أهل الجنة عندما يدخلون الجنة، يقولون؟ {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43].

من طرق الهداية وأسبابها

من طرق الهداية وأسبابها والهداية ليس لها طرقٌ محددةٌ تأتي من خلالها، بل ربما تأتي بطريقة غير متوقعة، بعض الناس ذهبوا إلى بلاد الكفر ليزدادوا ضلالة، فإذا بهم يرجعون هداةً مهتدين، الهداية شيءٌ من الله، لو اجتمع أهل الدنيا على أن يهدوا شخصاً، ما هدوه، وقد يكون بين الكفار فيهتدي، فالذي هداه هو الله عز وجل. نعم إن للهداية أسباباً، فالعلم الشرعي سبب للهداية الدعاء سبب للهداية المجاهدة سبب للهداية {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] والالتقاء بالناس الطيبين الخيرين هو سببٌ للهداية، وهذه الهداية قد تقع بسبب شخص يجعل الله الهداية عن طريقه، وقد تكون من الله سبحانه وتعالى مباشرةً دون أن يكون هناك سبب من شخص موجود، والهداية قد تأتي للشخص تدريجياً يتغير حاله شيئاً بعد شيء حتى يصل إلى الاستقامة، وقد تحصل له فجأة، فيتغير في ثوانٍ، يقذف الله في قلبه نوراً، فيتغير من تلك اللحظة، وينقلب حاله، أو يرجع في الحقيقة للاستواء بعد أن كان منقلباً منكوساً. من الأمثلة على دخول الهداية تدريجياً ما حصل لـ جبير بن مطعم، وكان من جملة أسارى بدر، قال: [سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * {أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ * {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} [الطور:35 - 37] قال: كاد قلبي أن يطير، وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي] أول ما سكن وثبت {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} [الطور:35] من العدم: {أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35] لأنفسهم، أم هم الذين خلقوا السماوات والأرض، فهو يناقشهم مناقشة قوية، قال ابن كثير رحمه الله: فكان سماعه هذه الآية من هذه السورة من جملة -يعني: هذا سبب، هذا شيء من الأشياء، عامل من العوامل- ما حمله على الدخول في الإسلام بعد ذلك. قد تكون الموعظة، أو الخطبة، أو الشريط، أو الكتاب الذي يقرؤه، ونحو ذلك هذا عامل من العوامل، لكن ليس تأثيره قوياً للدرجة الكافية التي تغير الشخص، لكن تجتمع النقاط، فيمتلئ الكأس، كلمة مع خطبة، مع موعظة، مع شريط، يستمع إليه، مع شيء يقرؤه، مع حادثٍ يحصل، مع رؤيا، ونحو ذلك يتغير حال الشخص مع جيرة طيبة، مع تعهد وتفقد من قبل الدعاة إلى الله.

مواقف من السلف أثرت في أصحابها

مواقف من السلف أثرت في أصحابها وحصل في عهد السلف رحمهم الله حوادث كانت فيها معالم دعوية للدعاة إلى الله سبحانه وتعالى في كيفية التسلل إلى النفوس والتأثير في القلوب.

توبة زاذان

توبة زاذان من ذلك ما حصل لـ زاذان أبي عمر الكندي أحد العلماء الكبار، تاب على يد ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، قال زاذان: كنت غلاماً حسن الصوت جيد الضرب بالطنبور -وهو من آلات اللهو- فكنت مع صاحب لي وعندنا نبيذٌ وأنا أغنيهم. هذا فتى لاهِ لاعب، لكن الله سبحانه وتعالى قدر أن يكون من كبار العلماء، فلا بد من نقلة، لا بد من نقطة انطلاق لكي يمسك هذا الشخص بدرب الاستقامة، ويصل ويمشي فيه ويسرع الخطى إلى رتبة العلماء الكبار. فكنت مع صاحبٍ لي وعندنا نبيذٌ وأنا أغنيهم، فمر ابن مسعود، فدخل وضرب الباطية -يعني: إناء الخمر- فبددها وكسر الطنبور، ثم قال: لو كان ما يسمع من حسن صوتك يا غلام بالقرآن كنت أنت أنت. لو استعملت صوتك الحسن هذا بالقرآن بدل استعماله بالأغاني لكنت أنت أنت، لكنت أنت الرجل العظيم، وأنت الشخص المبارك، لكنت أنت بالمنزلة الرفيعة، ثم مضى، فقلت لأصحابي: من هذا؟ قالوا: هذا ابن مسعود، فألقى الله في نفسي التوبة، فسعيت أبكي وأخذت بثوبه، فأقبل علي فاعتنقني وبكى، وقال: مرحباً بمن أحبه الله، اجلس، ثم دخل وأخرج تمراً إلى آخر القصة.

توبة القعنبي

توبة القعنبي والقعنبي المحدث المشهور، كانت هدايته على يد شعبة بن الحجاج، قال أحد أولاده: كان أبي يشرب النبيذ، ويصاحب الأحداث، فدعاهم يوماً وقد قعد على الباب ينتظرهم -ينتظر أصحاب السوء وقرناء السوء- فمر شعبة على حماره، وكان شعبة هو أمير المؤمنين في الحديث في عصره، وطلاب الحديث يسرعون وراء شعبة لكتابة الحديث، فقال: من هذا؟ قيل: شعبة، وقال: وأي شيء شعبة؟ لماذا هذا التجمهر حول هذا الرجل؟ فقالوا: محدث، فقام إليه وعليه إزار أحمر، ومعلوم أن لبس الأحمر الخالص للرجال منهيٌ عنه، لكنه كان شاباً ماجناً، لكن لما سمعهم يقولون محدث، جرى وراءه، فقال له: حدثني، فقال له شعبة وقد رأى هيئته ولباسه: ما أنت من أصحاب الحديث فأحدثك. العلماء كانوا ينتقون الأشخاص الذين يضعون عندهم العلم، ما كانوا يضعون العلم عند فاسق يستغله في معصية الله، أو يخدع به الناس، بل يرتجون الأتقياء لجعل هذه الأحاديث بأسانيدها، يعني: أسانيد الحديث في ذلك الزمن كانت نوع كرامة، أن يتصل اسم الشخص بسندٍ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا لا يضعونها عند الفسقة، فيكونون كمن يقلد الخنازير عقود الدرر واللآلئ. فقال له: ما أنت من أصحاب الحديث لأحدثك، فأشهر سكينة -هذا الشاب- وقال: تحدثني، أو أجرحك، فقال له: حدثنا منصور عن ربعي عن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا لم تستح، فاصنع ما شئت) فحدثه ونزل عند رغبته، لكن حدثه بحديث فيه توبيخ وتقريع له (إذا لم تستح، فاصنع ما شئت) وهذا وعيد، مثل قوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت:40] والله سبحانه وتعالى سيجازيكم ويحاسبكم، فرمى سكينته ورجع إلى منزله، وقد أثر فيه هذا الحديث وهذه الموعظة من المحدث، ورجع إلى منزله، فقام إلى جميع ما كان عنده من الشراب، فأراقه، وقال لأمه: الساعة أصحابي يجيئون، فأدخليهم وقدمي الطعام إليهم، فإذا أكلوا، فأخبريهم بما صنعت بالشراب. أخبريهم أن حالي قد تغير. وهذه مسألة مهمة: ينبغي أن يعرف قرناء السوء أن حال صاحبهم قد تغير، ينبغي أن يعرفوا أن هذا الشخص لا طريق له معهم، ينبغي على التائب أن ييئس قرناء السوء الذين كانوا معه، يجعلهم يصابون باليأس منه؛ لأن بقاء الأمر معلقاً وهو يخفي حاله الجديد خطيرٌ جداً عليه؛ لأنهم سيعاودون الكرة، ويحاولون إعادته مرة أخرى إلى ما كان عليه، لكن إذا كان من البداية صار التصريح بالتغيير، لم يكن هذا مؤثراً فيه، ومضى من وقته إلى المدينة، فلزم مالك بن أنس، فأثر عنه، ثم رجع إلى البصرة وقد مات شعبة، فما سمع منه غير هذا الحديث.

توبة الفضيل بن عياض

توبة الفضيل بن عياض وعدد من السلف رحمهم الله تابوا بمواقف مثل: الفضيل بن عياض الذي تاب عندما سمع رجلاً يقرأ القرآن في الليل: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد:16] فلما سمعها، قال: بلى يا رب آن، فرجع، وكان يتسلق جداراً ليصل إلى امرأة يفجر بها، وكان يخوف المسافرين في طريق السفر؛ لأنه كان يقطع عليهم الطريق.

توبة لص على يد مالك بن دينار

توبة لص على يد مالك بن دينار وفي سيرة مالك بن دينار، قيل: دخل عليه لصٌ، فما وجد ما يأخذه، فناداه مالك بن دينار وكان زاهداً ما عنده ممتلكات في البيت، ما عنده كماليات، أطقم من الحلي والمجوهرات، خزينة نقود، ما كان عنده في البيت أشياء يريدها اللصوص، فأحس مالك باللص في الليل، وناداه قائلاً: لم تجد شيئاً من الدنيا، أفترغب في شيء من الآخرة؟ فاستحيا اللص، قال: نعم، فقال: توضأ، وصلِّ ركعتين، ففعل، ثم جلس وخرج إلى المسجد، فسئل مالك بن دينار: من هذا الذي خرج من عندك؟ قال: جاء ليسرق فسرقناه.

أسباب الهداية

أسباب الهداية وننتقل -أيها الإخوة- الآن لدراسة بعض الحالات التي اهتدى فيها بعض الأشخاص، وإلى أمثلة واقعية لقصص وحوادث حصلت كانت سبباً لهداية بعض الأشخاص، ونصل من خلالها إلى بعض التوصيات التي تهم الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى. ونعود إلى النقطة التي ذكرناها في البداية وهي أن الهداية تأتي أحياناً من الله سبحانه وتعالى دون سبب من شخص، ما يكون هناك شخص، لكن شيءٌ يحدثه الله في نفس المهتدي، فالله سبحانه وتعالى يهدي أناساً بأحداث يجريها، ليس لأحد من الدعاة فيها دور ولا حتى سبب، والتمعن في هذه النقطة مهم حتى لا يغتر الدعاة بأنفسهم، أو يظنوا أن الهداية لا بد أن تأتي عن طريقهم، لا، إنهم أحياناً يعملون ويعملون يريدون هداية شخص ولا يهتدي، وأحياناً يفاجئون بأن فلاناً قد اهتدى مع أن أحداً من هؤلاء الدعاة لم يحتك به مطلقاً، ذلك ليعلم هؤلاء أن الهداية من الله سبحانه وتعالى، قد تكون بسببهم، وقد تكون بسبب آخر ليس على طريقهم، الهداية من الله، ما هم -أي: الدعاة- إلا مجرد أسباب يجري الله على أيديهم الخير. ومن الأمثلة على أن الهداية التي تأتي بعض الناس لا يكون لأحد من الدعاة فيها شيء، لو سألنا بعض المهتدين المستقيمين، قلنا لهم: ما سبب هدايتكم؟ -وسلف في البداية- قلت: لو أن بعضكم يعود بذهنه إلى الوراء ممن هداه الله واستقام، ويتذكر السبب الذي غير حياته، ونقله من معسكر أهل الفسق إلى معسكر أهل الإيمان والتوحيد، هذا السبب التأمل فيه مهم يزيد الإنسان إيماناً، أحياناً يرى الشخص رؤية، أو يقع له حادث، أو يمرض مرضاً ويتغير، وينقذ بهذه الحادثة ويهتدي، ولم يكن هناك داعية اقترب منه، ولا إنسان ناصح تكلم معه، ولا أحد وعظه، تغير من تلقاء نفسه، هذا موجود في الواقع، تغير بفعل هذه الرؤيا التي رآها، أو هذا الحادث العنيف الذي حصل له، أو المرض الخطير الذي أصابه، لكن ما مهمتنا نحن الدعاة إلى الله عز وجل عند حصول هذا الشيء، لنا مهمة وعلينا واجب وهي أن نسعى لتعميق وتأصيل ما حصل لهذا الرجل بالعلم النافع والصحبة الطيبة واستمرار الوعظ. فإذا رأيت رجلاً قد اهتدى وتأثر من شيء لا سبب لك فيه، ولا تدخل أحد من الناس علمت عنه، الله سبحانه وتعالى قدمها فرصة لك أنت، وتخطى هذا الشخص بفضل الله العقبة الأساسية؛ لأن الانتقال حصل، الإكمال أسهل الآن؛ لأن الرجل تغير حاله، فوظيفتك أنت إذاً المتابعة، الرجل يحتاج إلى تعليم، يحتاج إلى وسط طيب، صحيح النقلة الأساسية حصلت، فضل من الله ومنة ليس لي ولك، ولا لأي أحد من الدعاة، ولا لأي أحد من طلبة العلم أو الوعاظ فضل فيها ألبتة، النقلة حصلت، لكن يجب علينا المتابعة في حال هذا الشخص؛ لأن التأثير أحياناً لا يستمر ويكون تأثيراً مؤقتاً، إذا لم يتابع الرجل، أو لم تتابع المرأة هذه من قبل صاحبات طيبات، تعود إلى الانتكاس مرة أخرى.

المصائب والأزمات

المصائب والأزمات نأخذ بعض الأمثلة التي أرسلها لي بعض الإخوان من حوادث واقعية في هذه النقطة، يقول: كان هناك رجلٌ قريبٌ لي وكان يدخن، ولربما أنهى علبة أو علبتين في اليوم الواحد، وكان تاركاً للصلاة، وبينما هو في أحد الأيام يغسل أرضية منزلة بمادة كيماوية (فلاش) استنشق رائحة هذه المادة، فخرج من صدره وهو يسعل مادة سوداء من أثر الدخان، وبعد أن رأى ما رأى أعطى لنفسه عهداً ألا يدخن بعد ذلك، ثم رجع إلى الصلاة، وصلى مع الجماعة، وأعفى لحيته، وهداه الله. من الذي سبب لهذا الشخص هذه الحادثة؟ أن يغسل بمادة كيماوية، وتأثر منها حتى يسعل نتيجتها ويعرف ضرر التدخين ويتركه، ثم ينتقل لما هو أهم ذلك وهو من أداء الصلاة، إنه الله عز وجل، وليس لداعية فضل في ذلك. وهذا شخص يقول: قد كنت شاباً من شباب المعاكسات، وإذا بصديقي يدخل السجن بسبب المعاكسات، وأخبروني بأني سأكون بعده، ففكرت بفكرة وهي رمي جميع الأشرطة من السيارة -أشرطة الغناء التي تكون دليلاً على أنه من المعاكسين- وشراء أشرطة قرآن حتى لا يشكوا في أمري إذا فتشوني، وأبعد الشبهة عن نفسي بأشرطة القرآن، وإذا بي أسمع أشرطة القرآن هذه -لأنه الآن يتظاهر بالصلاح- وإذا بي أسمع سورة يوسف في أحد الأشرطة، وكانت تلك هي أول مرة أسمعها في حياتي، وكيف أنه عرض عليه الزنا ولم يرض، فبكيت كثيراً، وعزمت على ألا أعود إلى ما كنت عليه من السوء، والتزمت بالدين، وهداني الله سبحانه وتعالى. يا إخواني: انظروا إلى المدخل، قضية الهداية هذه من عجائب الله سبحانه وتعالى في خلقه، هذا أتى بالأشرطة لتكون تغطية، فكانت الأشرطة سبب الهداية. وآخر يقول: أعرف شخصاً كانت هدايته أن صار في مأزق نظراً لمعصيةٍ اقترفها، كانت هذه المعصية كفيلة بذهاب وظيفته، فالتجأ إلى الله لجوءاً صادقاً بعدما كان بعيداً عن الله، أي: أن الله عز وجل يقدر على شخص أن يمر بأزمة وضائقة، وهذه الأزمة والضائقة تكون سبباً في هدايته، فالتجأ إلى الله لجوءاً صادقاً بعدما كان بعيداً عن الله، وقال في دعائه: لئن أنجاني الله من هذا؛ لأعودن إلى الله وأستقيم، فستره الله وانتهت المشكلة بسلام من حيث لا يحتسب، ولم يفقد وظيفته، ولم يفتضح، فرجع إلى الله وصدق مع الله واستقام وكان ذلك مؤثراً في نفسه. فإذاً قد يكون ما يقدره الله على الشخص من المصائب أو الأزمات سبباً للهداية، مثل بعض الكفار لما دخلوا البحر فلعب بهم الموج وأوشكوا على الموت، عرفوا الله كما حدث لـ عكرمة بن أبي جهل، خرج هارباً من النبي عليه الصلاة والسلام لما فتح مكة، فدخل البحر فأوشك على الغرق ولعب به الموج، فحلف إن أنجاه الله؛ أن يأتي محمد صلى الله عليه وسلم فيدخل في الدين، ويبايع النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا بالفعل ما حصل، أنجاه الله، فعرف أن الله حق، وأنه هو الذي يرجع إليه في الأمور، وهو الذي يكشف السوء، وهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه ولو كان كافراً، فرجع إلى الله سبحانه وتعالى. وهذا آخر يقول: أعرف شخصاً كان والعياذ بالله من أسوأ الشباب الفاسق، وذات ليلة من الليالي عمل حادثاً، فأنجاه الله بأعجوبة، فكان هذا سبباً في هدايته، وأتلف بعد ذلك حقيبة بها ثلاثمائة شريط غناء، فسبحان الهادي!

الرؤيا في المنام

الرؤيا في المنام وقلت سابقاً: إن بعض الناس يريهم الله رؤيا في المنام تكون سبباً في هدايتهم، قد يرى أن يوم القيامة قد قام، وأن الناس بعثوا من القبور، أو يرى نفسه في القبر، أو نحو ذلك، فيفزع، فتكون تلك الرؤيا تنبيهاً من الله عز وجل، ودافعاً له للعودة والتوبة. يقول هذا الأخ: كنا جلوساً ذات يوم أنا وأهلي بعد صلاة الظهر، وكان أخي نائماً، وبينما كنا كذلك، إذا بأخي ينتفض ويرتعش ويعرق وهو لا يزال نائماً، فلم نعرف ما أصابه، فأرقنا عليه الماء، وحملناه إلى سريره، ولكن حاله لم تتغير من الاضطراب والانتفاض والعرق، فحملناه إلى المستشفى ظناً منا أنه مريض، ولما صار في السيارة استيقظ، وقال: أرجعوني إلى البيت لست مريضاً، وبعد فترة سكنت نفسه وذهب ما به، وعندما سري عنه، سألناه عما به، فقال: إنه قد رأى في المنام النار وأشياء من الأهوال، فخاف منها خوفاً شديداً، فلذلك ظهر عليه ما ظهر وهو في النوم، وبعد هذه الرؤيا استقام أمره وتغير حاله بعد فسقه، ورجع إلى الله. هذه أمثلة من حوادث واقعية من الله عز وجل مباشرة، لم يكن فيها سبب بشري، وواجبنا -كما قلت أيها الإخوة- أن نسارع باحتضان مثل هؤلاء الأشخاص، يقع لأحدهم حادث في السيارة قد يموت من معه من رفقاء السوء وينجو هو، أو يموت صاحب له تربطه به علاقة قوية بإبرة مخدرات ويفارقه ذلك النديم، فتحدث له صدمةٌ ترشده، وهزةٌ توقظه فيرجع، فينبغي المسارعة إذا رأى الإنسان حالة من هذه حادث حصل أمامه، يسارع الآن في الضرب على الحديد وهو ساخن، فطرق الحديد وهو ساخن يطوع الحديد ويؤثر فيه فيتشكل، ولذلك الموعظة بعد الحادث مباشرة، مثلاً: عند المرض الشخص يكون في حال من التأثر الشديد، وهنا تكون النصيحة لها موقعها، يصاب بمرض شديد، يدخل المستشفى إلى غرفة الإنعاش إلى مرض خطير إلى تقارير طبية سيئة إلى كلام عن احتمال الوفاة يتغير الشخص، ويعاهد ربه على عدم العودة إذا كتبت له الحياة، هنا يحتاج إلى زيارة وتذكير وإحاطة به بعد خروجه، ويكفي الحالة التي يكون عليها هذا الشخص، أو من أصابه حادث لكي يكون الوقت مناسباً جداً للنصح. كنت أسير مع أخٍ لي في سيارته في أحد الطرق السريعة بقرب المدينة، وبينما نحن نسير في الجانب الآخر كانت هناك سيارة قادمة مسرعة، وفجأة خرجت السيارة عن مسارها، ودخلت في الجزيرة التي هي بين الشارعين الرئيسيين، وتقلبت عدة مرات، وارتفع الغبار حتى غطى مكان الحادث، ما عدنا نرى شيئاً مطلقاً من الغبار المنبعث إلا أنني رأيت باب السيارة يتقلب حتى وصل إلى إسفلت الشارع، وإطار من إطاراتها يمشي حتى عبر الشارع وخط المساندة، ودخل في الرصيف المقابل، فأسرعنا إليهم، فلما انجلى الغبار، رأينا أربعة أشخاص يخرجون من نوافذ السيارة، وهم الذين كانوا بها، لطف الله بهم؛ لأن الرمل ثبت السيارة بعد تقلبها، فثبتت وصار سقفها إلى الأسفل وعجلاتها إلى الأعلى، وهم يخرجون كالمتسللين من هذه الشبابيك المكسرة الزجاج، ما هي العلامات التي كانت على وجوههم؟ القترة والغبار وجروح وخدوش، وهذا يعرج، وهذا يئن من الألم، فجلسوا على حافة الطريق، وهم مستغرقون في الدهشة؛ لأن الحادث -أيها الإخوة- إذا صار في ثوانٍ، يفاجئ به الشخص أيما مفاجأة، وكان هناك صوت شريط بالغناء ينبعث من السيارة لا زال يعمل، فلما رآنا هذا الشخص أنا قدمنا عليهم، قال: أغلق هذا، الله يلعن هذه الموسيقى، يعني: تدارك الأمر، يعني: استحيا، كأنه عرف أننا سنقول له: تصور لو كانت نهايتك في هذا الحادث على سماع هذا الشريط. المهم أن تلك اللحظة لحظة مواساة، قد لا يكون مناسباً أن ينزل عليهم الشخص بالتقريع والتوبيخ، هذه حالة مواساة، لكن يكون معها شيء من التذكير والوعظ، ويقول الإنسان مثلاً لهم: ربما كان هذا نذير من الله سبحانه وتعالى، وتكون هذه فرصة لكم، عودوا إلى الله، ونحو ذلك. المهم أن تلك اللحظات ينبغي أن تستغل، هذا هو الدرس الكبير الذي نخرج فيه من هذه المسألة، عيادة المريض الكافر مشروعة ليدعى إلى الله، عاد النبي صلى الله عليه وسلم كفاراً في حال مرضهم، وكتب لبعضهم الهداية على يده صلى الله عليه وسلم، لأن هذه الحال حال تأثر، ومن الأشياء التي يكون هناك فيها تقبل من قبل أشخاص حالات كثيرة، وهذه الحالات تنبئ عن أمور ينبغي الاهتمام لها من قبل الدعاة إلى الله عز وجل. هذه قصة رجل كان منهمكاً في المعاصي وكان يعمل في أحد المقاهي، وكان يعرف نساء، فيحضر لهن رجالاً للزنا، وهو يفعل الفاحشة كذلك، حتى أصيب يوماً بمرض، فابتعد عن العمل، وابتعد عن المقهى، وكان لا ينام الليل، وفي يوم دعاه شخص من الساكنين معه إلى الصلاة، فذهب معه لصلاة العشاء، وبعد الصلاة قام أحد الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى بإعطاء الحاضرين بعض الرسائل الإسلامية الصغيرة، فأخذ منها رسالةً، فوضعها عنده، وفي ليلة لم يأته النوم فيها، قام ورأى هذا الكتاب فأخذه ليقرأه، وبعد قراءته أحس براحة تامة، واستمر كذلك يقرأ الكتب النافعة، واتجه إلى الله سبحانه وتعالى، وحفظ القرآن في سنة، ثم ذهب إلى منطقته وتزوج، وهو الآن إمام أحد المساجد بأحد المدن، ما هو الدرس الذي نأخذه نحن؟ أن إيصال الوسائل التي فيها التأثير أمرٌ مطلوبٌ من الدعاة إلى الله، إيصال الأشرطة الطيبة والكتب النافعة إلى الناس مطلوب، صحيح أن بعضهم يأخذها ولا يقرؤها، وبعضهم يجامل ويقول: شكراً شكراً ويأخذ الكتب، لكن ربما في يوم من الأيام هو أو غيره يقرأ هذا الكتاب المرمي في البيت، أو يسمع هذا الشريط المرمي في السيارة، ولذلك ينبغي علينا الجد والاجتهاد في ذلك.

الاستماع إلى القرآن والخطب والمواعظ

الاستماع إلى القرآن والخطب والمواعظ ومن الأشياء المهمة قراءة الأئمة وأصواتهم بالقرآن، وسماع الخطب المؤثرة، أو المواعظ، أو الدروس من مكبرات المساجد، بعض الناس لا يأتون المسجد، لكن هم في داخل بيوتهم يسمعون قراءة مؤثرة، أو يسمعون صوت شخص يلقي موعظة، فيكون هذا الصوت وسيلة لجذبهم. يصاب بهموم وغموم، يطرد من المدرسة، أو الجامعة، أو الوظيفة، أو يصدم بسيارة، فيتسبب في حادث كبير، أو أبوه يطرده من البيت فيبحث عما يزيل الهم والغم، ينهمك في سماع الأغاني ومشاهدة الأفلام وشرب الدخان وتعاطي المخدرات هرباً من الواقع، أو يسافر إلى الخارج، لكنه لا يجد حلاً لمشكلته، ولا يزداد إلا هماً على هم وغماً على غم، ثم يعرض له نور وباب خير ينفتح، فيستمع لقراءة خاشعة من إمام مسجد على الطريق، أو يسمع شريط قرآن، فيكون هذا من أسباب التأثر والهداية. يسمع قراءة الإمام الخاشع في التراويح يبكي والناس خلفه يبكون، يدعو والناس خلفه يؤمنون، يتأثر ويخشع ويجهش بالبكاء، ويتأسف على أيام الضياع، ويوقف سيارته على جانب الطريق، ويخرج علبة السجائر وأشرطة اللهو والباطل ويكسرها ويحطمها ويتلفها، وتكون هي نقطة الانطلاق في درب الاستقامة. إذاً ينبغي على الأئمة والخطباء الاعتناء بعملهم، يعتني بالحفظ، يعتني بالقراءة، بالتجويد، بالخشوع في الصلاة؛ لأن وراءه أناس يمكن أن يهدي الله بعضهم بتلك القراءة، خطيب الجمعة كم عليه من المسئوليات! هذا المنبر ينبغي أن يعطى حقه، ينبغي أن يتقن العمل؛ لأنك أنت في موقع المسئولية، يسمعك أشخاص قد يهديهم الله سبحانه وتعالى بسبب خطبتك، فما أشد تقصير الخطيب الذي لا يحضر للخطبة، والإمام الذي لا يهتم بالإمامة ويغيب عن المسجد، ولا يهتم بالحفظ، فيكرر عليهم دائماً آيات ربما لا تقع منهم موقعاً، لما يرون من عدم حفظ إمامهم، فهذه من الأمور التي ينبغي الاعتناء بها.

رؤية صلابة مواقف الملتزمين بالدين

رؤية صلابة مواقف الملتزمين بالدين الهداية تكون أحياناً نتيجة لصلابة المواقف. أحد الناس يتوب إلى الله وهو يرى مسلماً يعذب ويموت شهيداً ثابتاً على الحق، فيؤثر هذا في نفسه. رجل يتقدم لخطبة فتاة، ولكنها ترفضه؛ لأنها مصرة على رجل ملتزم، فهنا يحدث في نفسه شيء، لماذا تصر هذه على رجل ملتزم؟ لماذا ردوني؟ لماذا لا أكون ملتزماً؟ الصلابة في المواقف تكون من أسباب الهداية، أنتم تعلمون قصة أم سليم مع أبي طلحة الذي تقدم لخطبتها، فرفضت الذهب والفضة، وقالت: مهري الإسلام، إن تسلم فذاك مهري، ما في امرأة كانت أكثر بركة في زواجها ومن مهرها من هذه المرأة رضي الله عنها، فكان تصميمها على موقفها، وصلابتها في الحق وتأكيدها عليه هو سبب إسلام أبي طلحة؛ لأنه ذهب وأسلم بعد هذا الموقف.

الموعظة

الموعظة الموعظة: من أكبر أسباب الهداية الذي يفتح الله عليه فيحسن الوعظ، ويعرف المدخل إلى القلوب، هذه المسألة -أيها الإخوة- تحتاج إلى تمعن في الآيات التي يكون فيها وقع شديد على النفوس في الأحاديث التي فيها تذكير، القرآن كله لا شك حِكَم، كله مفيد، ليس هناك شيء في القرآن غير مفيد أبداً، لكن هناك آيات تؤثر أكثر من آيات لا شك، والآيات التي فيها -مثلاًُ- ذكر الجنة والنار، أو موقف الحساب تؤثر أكثر من الآيات التي فيها ذكر أحكام التيمم والوضوء، وقسمة المواريث، ونحو ذلك. ولو أن تلك قد تكون سبباً في الهداية، ربما بعض الناس الذين يدرسون الاقتصاد، أو الأشياء المالية، إذا تمعنوا فيها، أو بعض الأطباء إذا تمعنوا في الآيات التي تصف الجنين في الرحم، قد تكون سبب هدايتهم، لكن أقول: عادةً الآيات التي فيها ذكر الجنة والنار وموقف الحساب إذا انتقيت وقرئت بطريقة خاشعة من قلب صادق، أو حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم كما اهتدى بعض الناس بسبب حديث البراء بن عازب في تفصيل عذاب القبر وفتنة القبر، اهتدوا من هذا الحديث بسبب قراءة الحديث عليهم، فانتقاء هذه الأشياء والوعظ الذي يخرج من القلب من أكبر الأشياء التي تسبب الهداية، ولذلك من النوادر التي يذكرونها عن بعض الناس الذين لا يفهمون، أنه قرئت عليه آيات كثيرة في بعضها ذكر الجنة والنار، فما تحرك، ولما قرأ قارئ: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً} [البقرة:222] جلس يبكي، قال: يعني: أذى. إذاً بعض الناس عندهم خلل في الفهم، ولذلك انتقاء الأشياء لهم مهم، وفي بعض الأحيان يتأثر الأعاجم من تلاوة آيات القرآن مع أنهم لا يعرفون العربية، وهذا من تأثير القرآن وعظمته. ذكر أحد الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى أنه سافر مرة على باخرة من مصر إلى نيويورك، والرجل هذا لم يكن ملتزماً بحق، لكن فيه خير، فيه شيء من المعرفة بالدين والحرص على الدين مع أنه لم يكن كامل الاستقامة وقتها، قال: وكنا مجموعة قريباً من عشرين شخصاً، كلنا مسلمون في وسط مائة وكذا من الكفار، قال: فخطر في بالي أن نقيم صلاة الجمعة على ظهر السفينة، وأنا لا أتحدث الآن عن حكم إقامة صلاة الجمعة على ظهر السفينة في السفر البحري، لكن أروي لكم القصة ويهمنا العبرة منها، قال: فاستأذنا من قبطان السفينة، فوافق، وكان في السفينة عمالٌ نوبيون مسلمون، فاستأذنا لهم في حضور صلاة الجمعة معنا، فأذن لهم لمن لم يكن مشغولاً منهم في نوبته، وفرحوا؛ لأن تلك كانت هي أول مرة يحضرون فيها صلاة الجماعة منذ سنين طويلة، قال: فاجتمعنا وقمت فيهم خطيباً، فخطبت بهم بما تيسر، وقرأت بعض آيات القرآن، ثم أقمنا الصلاة وصليت بهم صلاة الجمعة، ووقف الركاب الكفار بالسفينة -أغلبهم- يحيطون بنا وينظرون بدهشة إلى ما نفعله، فلما انتهينا من أداء الصلاة، جاءوا يهنئوننا على نجاح القداس، ظنوا المسألة مثل مسائل النصارى، فشرحنا لهم المسألة، ثم جاءت امرأة كبيرة ذات ملامح أوروبية، جاءت تهنئنا بشدة على نجاح القداس، وعلى بلاغة القسيس الذي ألقى الكلمة، فشرحنا لها أنه لا يوجد في الإسلام قسيسون، وإنما هو الإمام الذي يخطب، أو يصلي بالناس، فقالت: ليس هذا الذي أثر في الذي أثر فيَّ جداً من موقفه، تقول: أنني سررت بالكلام، لكن كانت هناك مقاطع معينة في كلامه شعرت أن لها وقعاً خاصاً في النفس، وتأثرت بها حتى بكيت، إنها مقاطع تختلف عن بقية كلامه، كأنه شيء روحاني، طبعاً هي كافرة تعبر عما في ذهنها، قال: فلم يكن اندهاشنا من تأثرها، لكن كان اندهاشنا عندما تفكرنا في معنى ما تقول، وما هي الأشياء التي لفتتت نظرها وأثرت فيها إلى حد البكاء في الكلام، ثم تفطنا إلى أنها تقصد الآيات القرآنية التي كان الخطيب يرددها، والتي قرأها الإمام في الصلاة. إذاً ممكن أن بعض الأعاجم يتأثرون من سماع الآيات لعظمة هذا القرآن، ولأنه كلام الله سبحانه وتعالى، وهنا درس يؤخذ من هذه القضية وهو أهمية إعلان الشعائر الإسلامية، والهجرة تجب إذا لم يستطع الشخص إظهار الشرائع الإسلامية، ولكثير من الفوائد والحكم.

إظهار الشعائر التعبدية

إظهار الشعائر التعبدية ومن الأمور التي ينبغي للدعاة الاهتمام بها: إظهار الشعائر التعبدية في الأماكن المفتوحة والعلنية، فمثلاً: صلاة العيد تؤثر في الناس، صلاة الجمعة ذلك الحشد العظيم يؤثر في الناس، فكونك تقوم وتصلي جماعة في المطار ونحوه، هذه دعوة صامتة لتراك الصلاة، أو للفسقة، أو لمؤخري الصلاة عن أوقاتها أن يقوموا معك. هو متقاعس عن الصلاة لكن لما رآك تؤدي الصلاة قام معك، صلاتك في الطائرة إذا لم يتمكن من الصلاة في المطار، الصلاة في الطائرة كونك تقوم وتأخذ بطانية من هذا المخزن في علو السقف وتبسطها على الأرض وتؤذن وتقيم الصلاة، إنك توقظ في إحساس أولئك الركاب القيام للصلاة وأهمية ذلك، فتراهم يقومون يصلون معك، أو يقومون بعدك يصلون نظراً لصغر المكان، من الذي أوقظ فيهم هذه الحاسة؟ إنه الفعل المبارك بإعلان الشعائر التعبدية. الأذان كان سبباً في دخول أناس في الدين من الكفار، عندما يكون أذاناً خاشعاً فإنه يلفت نظرهم، وهكذا -أيها الإخوة- يكون إعلان الشعائر التعبدية من أسباب جلب الناس إلى طريق الهداية، فهذا درس مهم للدعاة إلى الله عز وجل.

إظهار أحكام الشريعة

إظهار أحكام الشريعة وكذلك من المسائل المهمة: إظهار أحكام الشريعة، والتمسك بأحكام الشريعة، هناك فتاة أمريكية تعيش في أمريكا في إحدى المدن الأمريكية، أسلمت وهداها الله عز وجل، وارتدت الحجاب، والسبب أنها كانت تعمل على آلة الحساب -قبض النقود في إحدى المحلات- وأنها كانت ترى بعض النساء يأتين للشراء من المحل وهن في حجاب كامل لا يظهر منهن شيء، فهذا المظهر كان منظراً غريباً جداً في ذلك المكان، وفي يوم من الأيام سألت إحداهن عندما كانت تحاسب، وقالت: ما هذا الذي ترتدينه؟ ولماذا ترتدينه؟ فشرحت لها أنها امرأة مسلمة، وهي زوجة أحد الطلاب الذين يدرسون في تلك المدينة الجامعية، وأنها مسلمة والإسلام يفرض عليها الحجاب، والله أوجب الحجاب ستراً للمرأة وصيانةً لها إلخ فكان هذا شيئاً قدح في نفس تلك المرأة الكافرة الإعجاب بهذا الدين، قالت: فرجعت إلى بيتي، وأخذت قطعة طويلة من القماش، فغطيت بها رأسي، وارتديت معطفاً ذا كم طويل، فأعجبني منظره، وذهبت بعد ذلك إلى مركز إسلامي قريب لأسأل عن هذا الدين، وما مكوناته، وما هي شعائره، فاطلعت وقرأت حتى اقتنعت ودخلت في الدين، والتزمت الحجاب، ما هو السبب؟ إنه ذلك التمسك بأحكام الشريعة التي قامت به تلك المرأة في ديار الكفر، فوا عجبي من الذين إذا ذهبوا بزوجاتهم إلى الخارج يأمرونهن بعدم ارتداء الحجاب، ويقولون: نخشى من الاستهزاء، نخشى من السرقة، نخشى من السخرية! يصورون على أننا من كوكب آخر، يفعلون ويستهزئون، الحجاب في تلك البلاد سبب اهتداء بعض الكافرات، وهذا المسلم يأمر زوجته المسلمة أن تخلع الحجاب في الخارج، مع أنهم لا بد أن يناقشوا في سبب ذهابهم إلى تلك البلاد، وما مشروعية ذلك.

احتضان الدعاة والصالحين للمقصرين

احتضان الدعاة والصالحين للمقصرين ومن أسباب الهداية أيضاً أيها الإخوة: احتضان الدعاة إلى الله والصالحين للمقصرين كما يحدث لبعض الناس عندما يجاوره رجل صالح سواء يسكن بجانبه في شقة، أو فوقه، أو تحته في العمارة، فيزوره ويمر عليه ويذكره بالصلاة، ويهديه أشياء نافعة من الكتب والأشرطة الإسلامية، أو بعض الطلاب يدخلون الجامعة وفيهم تقصير، وفيهم فجور، فيسكن مع شخص طيب، فهذا الشخص الداعية من خلال السكن مع هذا الرجل يتأثر به ذلك الشخص ويقتبس منه ويأخذ عنه، فيكون سبب هدايته، أو تغشاه مجموعة صالحة يحيطون به -الاحتواء والاحتضان- ويزورونه ويكرمونه، ويتفقدونه ويخدمونه. أحد الفسقة سافر إلى بلجيكا لزيارة أحد أقربائه الذي كان على علاقة بالمركز الإسلامي هناك، وخرج من الوسط التعيس الذي هو فيه إلى وسط جديد، أحاط به في بلاد الغربة مسلمون من الأقليات الإسلامية يعيشون هناك، ارتاح إليهم وأحبهم وكانوا سبب هدايته. فنؤكد -إذاً- أن قضية الاحتواء والاحتضان من أكبر الأسباب المعينة على الهداية.

النصيحة من شخص أدنى منزلة

النصيحة من شخص أدنى منزلة وأحياناً تحدث الهداية من نصيحة من شخص أصغر من هذا المقصر أو الفاسق، وأضعف فيرفض، فيحدث التأثر من الصغير للرفض، فيتأثر الكبير، كما حصل لشخص ذهب في سفر ومعه أخواته، وأدخل شريط الموسيقى في جهاز السيارة وأخذ يستمع، فنهرته أخته الملتزمة، فلم ينته، فأعادت عليه، فسخر منها، تأثرت لموقفه، وفي الطريق حدث حادث وماتت هذه الفتاة الملتزمة، فبقيت حسرة في نفس أخيها؛ لما المسألة وصلت إلى الموت، وأن هذه الفتاة أخته ماتت وفي قلبها حسرة لما لم يطعها، ولم يستجب لطلبها، كانت تلك الحادثة سبب هدايته. وآخر كان عنده أخ صغير يعلم حكم الغناء، وأركب معه أخاه الصغير في مشوار، وأدخل الشريط يستمع إليه، أخوه الصغير قال: علمونا أنه حرام، قال: اسكت أنت لا تفهم، فأعاد عليه، قال: هذا حرام لا يجوز، فاستهزأ منه وسخر به، وبعد ذلك هدده، قال: إذا ما سكت، سأقف وأنزلك على قارعة الطريق وأمشي، إن هذه الكلمات الجارحة جعلت الولد الصغير يسكت، لكن كان سكوته بحرقة، أنتجت دمعة سقطت على خده، فرأى أخوه الكبير هذه الدمعة، فكانت هذه الدمعة هي سبب هدايته، لما رأى أن أخاه الأصغر صارت عنده حرقة وألم للرفض حتى أدى به ذلك إلى البكاء، عرف تقصيره وعرف خطأه. فالمهم أن ننصح ولو كان المنصوح أكبر وأعلى في الدنيا، فإنها ولو ردت، لربما تكون هذه نقطة لتكون في المستقبل مع غيرها سبباً في للهداية.

نصيحة الأصدقاء القدامى

نصيحة الأصدقاء القدامى من الأمور أيضاً والحوادث التي تقع: أن يرجع المهتدي إلى أصدقائه القدامى بالنصيحة، ينتقي منهم واحداً وراء واحد، ما يرجع ليدخل فيهم وينتكس كما يفعل بعض الناس، مجرد ما يهتدي يعود إلى أصدقائه القدامى ويعاشرهم ويجلس معهم في مناسباتهم، وربما يلعب الورق، ويسكت عن سماع الغناء، ويقول: هذا تأليف للقلوب في سبيل الدعوة، هذه منافذ شيطانية وكلام فارغ، إما أن يكون المكان مهيأ لك لأن تدعو، أو تقول على الأقل كلمة الحق وتمشي إذا ما استجابوا وأسكتوا صوت المنكر، أو كفوا عن المنكر، وإلا لا تذهب إليهم وتخالطهم على فسقهم وتسكت عن المنكر، إما أن تذهب وتنكر وتتكلم، وإذا لم يصغوا لك؛ تمشي، أو يقفلون الأشياء ويلتفتون إليك ويجلسون للسماع. بعض الأشخاص تابوا لما رجع إليهم بعض أصحابهم القدامى الذين اهتدوا؛ لأن العلاقات السابقة هي جسر في الحقيقة للمودة والتقبل؛ لأنه مهما كان هذا كائن بينك وبينه علاقة، أنت اهتديت وبقي على ضلالة، لكن هناك علاقة سابقة، العلاقة السابقة هذه تكون جسراً تعبر أنت عليه. هذا شخص يقول: أحكي باختصار شديد قصة توبتي ورجوعي إلى الله، كنت أستعمل المخدرات في فترة مضت، ثم حصلت علي بعض النوائب التي لا يحسن ذكرها، ثم أخذت أبتعد عن المخدرات شيئاً فشيئاً، وفي يوم من الأيام مر بي أحد الأصحاب القدامى الذين منَّ الله عليهم بالهداية، وقال لي: أذهب معه إلى محاضرة، فوافقت، ثم بعد المحاضرة أخذني بالليل إلى إحدى المقابر في الدمام وكان فيها أحد الذين دفنوا بسبب المخدرات، وعندما رأيت الظلام الدامس لم أستطع الدخول، فأبيت الدخول ورجعت إلى البيت، وكأني أصبت بالصعقة، ثم منَّ الله عليَّ فهداني مع أصحاب لي. فهذا الشخص الذي تاب الله عليه، رجوعه إلى بعض أصدقائه القدامى عبر جسر التواصل الذي كان موجوداً؛ قد يكون هذا سبباً للهداية، وينفتح باب خير على هذا الصديق القديم بسببك. وآخر يقول: كنت أبحث عن السعادة، فلم أجدها، فنصحني أحد الناس وكان مثلي لا يصلي، ولا يعرف اتجاه القبلة، قال لي: هل تريد يا أخي السعادة التي كنا نبحث عنها معاً؟ قلت: نعم، قال: الصلاة، فجربت ذلك، فوجدت السعادة والإيمان في ذلك فعلاً، وكان ذلك سبب استقامتي، وأرسل الله لي هذا الشاب وإخوانه من بعده فنصحوني، ودخلت في الهداية.

المحاورة والمجادلة بالتي هي أحسن

المحاورة والمجادلة بالتي هي أحسن وقد تكون الهداية بسبب المحاورة والمجادلة بالتي هي أحسن، الله سبحانه وتعالى يقول: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] قال هذا الأخ: من خلال نقاشي مع أحد الفلبينيين عن الإسلام سألته عن اعتقاده بأن عيسى عليه السلام هو الله، أو ابن الله، أو ثالث ثلاثة، فأجابني بأنه لا يؤمن بذلك منذ سبع سنوات تقريباً، وأوضحت له بعض الأمور عن الإسلام وأركان الإيمان، فقال: إني أؤمن بهذا أيضاً، فقلت له: لماذا لا تكون مسلماً؟ فقال: لا أدري كيف أسلم، لم يعلمني أحد كيف أسلم، فعلمته وأسلم في تلك الجلسة والحمد الله.

التركيز على قائد المجموعة

التركيز على قائد المجموعة ومن الأمور المهمة -أيها الإخوة- للدعاة إلى الله سبحانه وتعالى الذين يكون عندهم من الفطنة ما يسبب هداية أناس، وربما إسلام بعض الكفار على أيديهم: أن تكون الدعوة في حال وجود مجموعة من المنحرفين موجهة في البداية إلى قائدهم، أو كبيرهم؛ لأن المجموعات في الغالب يكون فيهم لشخص هو أقوى شخصية من الجميع، ولو أن هذا الرجل اهتدى، فلعلهم أن يهتدوا بهدايته، أو على الأقل ينشق بعضهم عن بعض مما يسهل التأثير عليهم، يقول هذا الأخ: كنا مجموعة من الشباب في الجامعة، حاول فينا عدد من دعاة الشباب في السكن الجامعي ولم يفلحوا في التأثير علينا، وربما أعزو ذلك لاختلاف الطبائع والعادات، فبقينا على طبائعنا غير أنا كنا نؤدي الصلاة، لكننا نرى الأفلام، ونسمع الأغاني، ونقتني المجلات، وكان يتزعمنا في الجرأة والمعصية أحدنا، وفجأة يهتدي هذا الزعيم بين ليلة وصباحها، فتأثر نصفنا بهذا واجتمعنا على التوبة، وانقسمت مجموعتنا إلى قسمين، فتوفقنا في دراستنا ولله الحمد وتخرجنا، وانسحب النصف الآخر من الجامعة وطردوا بسبب تدني مستواهم الدراسي، فالحمد لله على الهداية والتوفيق. إذاً يكون التركيز على هذا الرأس من الأمور المهمة ولو كان عنيداً، وهذا لا يعني أن يترك البقية، لكن لا بد أن يحسب الداعية هذه الخطوة، ويعلم مكانة هذا الشخص للبدء به. النبي صلى الله عليه وسلم كان يركز كثيراً على زعماء القبائل، وكان يتألفهم ويكرمهم، ويبش في وجوههم -وهم كفرة- يتألفهم، فإذا هدى الله القائد، أو رئيس القبيلة في الغالب تتبعه القبيلة؛ نظراً لطبيعة العلاقة بين زعيم القبيلة وأفراد قبيلته التي كانت موجودة في الأيام الأولى.

الإعلان عن مراكز الدعوة والأعمال الإسلامية

الإعلان عن مراكز الدعوة والأعمال الإسلامية وهذه قصة أخرى فيها عبرة وفائدة أيضاً في الدعوة إلى الله، -مختصرة جداً- اثنان أو ثلاثة من الفلبينيين بعدما رأوا اللوحة الخارجية لمركز توعية الجاليات في القصيم بعد صلاة العصر، دخلوا وتعلموا وأسلموا بعد صلاة المغرب، يمشون في الشارع، ربما يذهبون إلى حفلة، إلى مكان فسق، فسبب الهداية رؤية اللوحة -لوحة مركز توعية الجاليات- بعد صلاة العصر دخلوا، أسلموا بعد المغرب. فالدرس هو أهمية الإعلان عن أماكن مراكز الدعوة والأعمال الإسلامية. أيها الإخوة: إذا كان التجار وأصحاب المحلات التجارية يعملون الدعايات والإعلانات لمراكزهم التجارية، فإن الإعلان لأماكن التوعية وإعلانات الدروس والمحاضرات تجذب من في قلبه خير، أو حب استطلاع على الأقل، ثم يدخل الله الإيمان في قلبه.

الإحسان إلى المدعوين

الإحسان إلى المدعوين ومن الأمور المهمة الإحسان إلى المدعوين، إن الإحسان إلى المدعوين في كثير من الأحيان هو سبب للهداية، يقول هذا الشخص: قدمت من مدينة أخرى إلى هذه المدينة للعمل، فسكنت مع زملائي -في المنطقة الشرقية - وكنت يومها لا أصلي إلا يوم الجمعة، وبعد حوالي أسبوع واحد على سكني مع زملائي هؤلاء، وجدتهم يشربون الخمر والحشيش، واليوم الذي لا يوجد فيه هذه الأمور نشتري (كلونية) ونشربها، وجلسات غناء وما إلى ذلك، وبعدما انتهت نقودي حصل سوء تفاهم بيني وبينهم، وهذا كثير ما يقع بين أهل الفسق والفجور، لا تدوم مودتهم، وأدركت أني أمشي في نفق مظلم، فاستأذنت، فخرجت من عندهم بعدما صرت لا أملك سوى عشر ريالات، فنزلت الشارع في حرارة الشمس لا أعلم إلى أين أتجه، وكنت قد سمعت من والدي الذي هو إمام جامع حديثاً في خطبة له، يحكي قصة الذي يريد التوبة، فقيل له: اذهب إلى قرية كذا وكذا، فإن فيها أناساً صالحين، فذهبت أنا إلى حي آخر مشياً، فجلست أمام دكان عقار قبل أذان العصر، وفي أثناء الجلوس مرَّ رجلٌ بسيارته، فأوقفها ونزل، وقال لي: ماذا تريد؟ فقلت: أريد صاحب الدكان لأستأجر منه شقة للإيجار، وهي كذبة؛ لأنني لا أعلم ماذا أفعل، وليس عندي نقود أصلاً، فقال لي: معك أحد؟ قلت: لا، قال: اركب، قلت: إلى أين؟ قال لي: عندي غرفة مع حمام ومطبخ في بيتي كانت لسائق، فخذها واسكن فيها، فقلت: ليس لدي مال، قال: لا بأس، فذهبت ووجدتها كما قال، وقال لي: هذا البيت وهذا المسجد أمامك، فنمت إلى صلاة المغرب، وعند الأذان قمت فصليت في المسجد، فبدأت حياتي من تلك اللحظة بالتحسن، وأسأل الله الثبات فيما بقي. بعض الفسقة يكون عندهم حاجة، يكونون محتاجين، فلا شك أن مساعدتهم من أسباب هدايتهم.

صدق الداعية

صدق الداعية وقد تكون الهداية من التأثر بصدق الداعية، لما يلمس المدعو الصدق، يكون هذا من أسباب هدايته. قال أحدهم: خرجت مرةً مع عدد من الشباب في رحلة في وقت بين المغرب والعشاء، فقرءوا لنا من كتاب الجنة دار الأبرار، فبكى بعضهم تأثراً، فأثر فيَّ بكاؤهم أشد التأثير، وذلك أنني أحسست منهم الصدق مع الله عندما بكوا، وأن البكاء لم يكن تمثيلاً، ولا يمكن تصنعه بسهولة، فأردت أن أكون مثلهم، فمشيت على منوالهم وهداني الله.

الصبر على أذى المدعوين والمسامحة في الحقوق الشخصية

الصبر على أذى المدعوين والمسامحة في الحقوق الشخصية ومن الأسباب أيضاً: الصبر على أذى المدعوين، يقول هذا الشخص، والظاهر أنه إنسان في مقتبل أمره، يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛؛؛ إلى إخواني المطاوعة بعد حمدك ربي على هدايتي، هدايتي بسبب موقف وهو أنني أولاً كنت مع شباب ملتزمين، ثم كرهت الشباب وانتكست، وأصبحت أتكلم عن المطاوعة وأسبهم، لكن بارك الله فيهم، بصراحة أقول لك: كان عندهم سلاح عجيب وهو سماحة النفس والصبر، فتأثرت، فوقفت مع نفسي وقلت لها: كيف يصبرون على هذا الأذى؟!! كيف هؤلاء البشر الذين أسبهم وأشتمهم وهم يحسنون إليَّ؟!! وكثر الله من أمثال هؤلاء المطاوعة، آمين. المسامحة في الحقوق الشخصية إذا أخطأ عليك أحد هؤلاء، أيضاً يكون سبباً لتأثره، قال هذا الرجل: سبب توبتي أنني كنت في عام (90)، وكانت سرقة السيارات وبالذات الكرسيدا موديل (90) منتشرة، فكنت أنا وواحد من رفاق السوء، وكان معنا سيارة من نوع كريسدا من موديل (81) فشاهدنا سيارة موديل (90) فوسوس الشيطان بنا، فسرقنا السيارة، وإذا بالعصر يؤذن، انظر إلى الأذان سبحان الله! فعدت إلى البيت وندمت وتوضأت وصليت العصر وعدت إلى مالك السيارة ورددتها إليه، وكانت سبب توبتي عندما رحب بي ودعاني إلى بيته، وكان بعد ذلك من أحسن أصدقائي.

اسماع مآسي المسلمين في بلدان الاضطهاد

اسماع مآسي المسلمين في بلدان الاضطهاد وبعضهم قد يهتدي بسبب سماع مآسي المسلمين في بلدان الاضطهاد، فبعضهم يتأثر -مثلاً- من مناظر المسلمين في البوسنة والأحداث التي تحصل عليهم من الظلم والقتل والاضطهاد والتعذيب، وانتهاك الأعراض، والإجلاء من البيوت، فيكون هذا سبباً لهدايته، وهذا بالتجربة فعلاً يحصل أن بعض الناس يرق قلبه من سماع مآسي المسلمين، وهذه من الأشياء التي إذا أحسن الدعاة إلى الله والخطباء استغلالها وانتهزوا الفرصة، يكون لها أثر عظيم في الناس. في بعض الأحيان ييئس الداعية إلى الله، يحاول مع فلان، ويركز عليه، ولكن لا فائدة، ثم تكون الهداية بمثل هذه القصص، يقول أحد الدعاة: كان صديقي القديم كثير المعاصي، عظيم التفريط في جنب الله، فطالما نصحته ووعظته حتى مللت، ثم إني هجرته فترة من الزمن لعله أن يهتدي، ولكن بدون فائدة، فضاقت السبل عليَّ ونفضت يدي منه، وقلت في نفسي: هذا لا يهتدي حتى يلج الجمل في سم الخياط، ولكن كانت رحمة الله أقرب إليه مني، إذ ذهبت مرة معه إلى خطبة الجمعة، فذكر الخطيب حال المسلمين في إحدى البلدان، فبكى الخطيب وأبكى الناس، فما خرجنا من المسجد إلا وقد انقلب رأساً على عقب، بل إنه قال: أريد أن أذهب وأجاهد معهم، وقد صب عليه البلاء، ولكنه لم يزدد إلا إيماناً وتسليماً، ولا أزكيه على الله، فالحمد لله الذي كان أرحم بعبده هذا مني.

من قصص المهتدين

من قصص المهتدين ومن الأشياء التي وردت من الإخوان هنا: هذا يقول في قصته: نشأت في أسرة متوسطة الحال، إلا أن ترتيبي الأخير من الذكور مما جعلني أنشأ بعض الشيء بعيداً عن التدين وتقلبت في التصوف، ودخلت عالم الشهوات والمسكرات، وحاولت تعلم السحر عند بعض السحرة إلا أن الله صرف ذلك عن قلبي وعن نفسي، فلم أتعلمه نظراً لمرض عضال ألم بي، وحاولت الصلاة وأنا أحافظ عليها، ودخلت المسجد تكراراً بعد أن كنت لا أدخل إلا نادراً، ثم هيأ الله لي طالب علم على علم جيد تعرفت عليه في المسجد، فصرت أسير معه، ففتح الله على يديه قلبي لمنهج السلف في الكتاب والسنة والفهم الصالح، فرباني وصبر على شقوتي ومعصيتي، فكم من مرة صرخت في وجهه وشتمته إلا أنه ما زاده ذلك إلا صبراً، وأسأل الله لي وله الثبات والزيادة في الأجر. وهذا يقول: نقطة بدايتي في الاستقامة ولله الحمد كانت منذ ثلاث سنوات تقريباً تخللتها بعض الانتكاسات، ولكن ولله الحمد هذه المرة التزمت مع أصدقاء من الشباب الطيبين بعد أن حججت معهم. إذاً: قضية الحج والعمرة والسكن بجوار البيت العتيق مع أصدقاء طيبين هذا بداية تغير كبيرة، ولذلك يحرص عليها وعلى هذا الأسلوب. وصرت أحضر الدروس ولله الحمد، وكان من أسباب التزامي أيضاً هو أنني مرضت بمرض معين يعاودني بين الحين والآخر، وأضطر في الجلوس في البيت لمدة شهر، أو شهرين، لا أرى أحداً، فكان هذا أبعد لي عن قرناء السوء في ذلك الوقت، وكان خيراً لي ولله الحمد، وأسأل الله أن يثبتني وإياك والحاضرين. اللهم آمين.

الأسئلة

الأسئلة

حكم إزالة الشعر الموجود في الذراعين والقدمين بالنسبة للمرأة

حكم إزالة الشعر الموجود في الذراعين والقدمين بالنسبة للمرأة Q ما حكم إزالة الشعر الموجود في الذراعين والقدمين بالنسبة للمرأة؟ A اختلف في ذلك أهل العلم على قولين، والراجح والله أعلم أنه يجوز؛ لأنه من الشعر المسكوت عنه، فهناك شعر مأمور بأخذه كشعر العانة والإبطين، وهناك شعر مأمور بتركه وهو شعر اللحية للرجل، والشعر المسكوت عنه يجوز أخذه. وهذا هو مذهب الإمام النووي رحمه الله وغيره من أهل العلم، وهو ما يفتي به بعض مشايخنا المعاصرين.

حكم المباشرة دون الجماع في رمضان

حكم المباشرة دون الجماع في رمضان Q أفطرت يوماً في رمضان بسبب المباشرة دون الجماع، فما الحكم؟ A على هذا السائل التوبة إلى الله سبحانه وتعالى وقضاء هذا اليوم فقط، ولا يلزمه أكثر من ذلك؛ لأنه لم يحصل الجماع الذي هو أسوأ المفطرات على الإطلاق.

حكم الزواج برجل لا يعرف الحقوق والواجبات الزوجية

حكم الزواج برجل لا يعرف الحقوق والواجبات الزوجية Q ما رأيك بالمرأة التي تتمسك بالرجل الملتزم وتتفاجأ بأنه لا يعرف الحقوق والواجبات التي عليه لزوجته، ويخلط بين حقوقها وحقوق غيرها من أهله، ويقول: هذا حرام، وهذا حلال وهو غير مدرك لذلك؟ A إذا كانت صدقت فيما أخبرت به، فهذا من جهله، وكنت ألقيت محاضرة بعنوان " الشاب المسلم على عتبة الزواج" كانت تكملة لمحاضرة أخرى سبقت بعنوان "الفتاة المسلمة على عتبة الزواج"، وكان هذا هو الشق الآخر من الموضوع، ومن ضمن الوصايا أن على الشاب المسلم قبل الزواج أن يعرف الأحكام الشرعية المتعلقة بالحقوق الزوجية؛ لأن كثيراً من المشكلات تحدث نتيجة عدم معرفة الحقوق الشرعية، فقد يطالب بما ليس من حقه، وقد يمنعها حقاً هو لها شرعاً بسبب الجهل، وكثير من الناس مشكلتهم بسبب الجهل. مثلاً: لو اختلفت المرأة والرجل على تسمية الولد، فقال: أسميه كذا، قالت الأم: لا، أريدك تسميه كذا، وينشب الخلاف، وقد تقع الهجرة، وتذهب إلى بيتها وتغضب، ونحو ذلك، لو كان هناك علم بالشرع وهو أن حق تسمية الولد من حق الأب سواءً كان ذكراً، أو أنثى، وهو الذي سيضاف إلى اسمه وينسب إليه، فتسميته من حقه شرعاً، لو المرأة تعرف هذا لحكم هل تختلف مع زوجها؟ لو أنها تعرف الحكم الشرعي الذي ذكره أهل العلم وتسلم. فإذاً معرفة أحكام العشرة الزوجية تزيل كثيراً من الخلافات، بل تمنع حصولها أيضاً. هذا ما تيسر ذكره من النقاط في هذا الموضوع والأسئلة، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يبارك لنا جميعاً، وأن يجمعنا وإياكم على الحق، وأن يرزقنا الصراط المستقيم، وإلى لقاء آخر، وأستودعكم الله. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أهمية الأدب في حياة المسلم

أهمية الأدب في حياة المسلم الأدب ضروري للمسلم في تعامله مع ربه ومع نفسه ومع الناس، وهذا الأدب شامل لكل جوانب الحياة، وقد عنيت النصوص الشرعية بمختلف الآداب، وثمارها في دنيا الناس وأخراهم، كما أن لعلماء الإسلام كلاماً في بيان الآداب، وتحديدها، وتوضيحها. وهنا توضيح لمعنى الأدب عند أهل اللغة، ومعانيه في اصطلاحات الناس، وشرح لكثير من الآداب الإسلامية الواردة في منظومة ابن عبد القوي.

شمول الآداب الإسلامية وأهميتها

شمول الآداب الإسلامية وأهميتها الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الحمد لله الذي جعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، والحمد لله الذي أنزل علينا هذا الدين، وأنزل فيه الأدب الذي تصلح به الحياة، وهذا الأدب هو من صميم هذا الدين، أمرٌ غفل عنه الكثير من الناس، وهو ضروريٌ للمسلم مع الله سبحانه وتعالى، ومع الرسل ومع الخلق، وضروريٌ له في أحواله حتى لو كان لوحده، فبالأدب يعرف المسلم ما ينبغي أن يكون عليه حاله في طعامه وشرابه، وفي سلامه واستئذانه، وفي مجالسته وحديثه، وفي طرائفه ومزاحه، وفي تهنئته وتعزيته، وفي عطاسه وتثائبه، وفي قيامه وجلوسه، وفي معاشرته لأزواجه وأصدقائه، وفي حله وترحاله، ونومه وقيامه، وغير ذلك من الآداب التي لا حصر لها، ومنها آدابٌ أوجبها الله سبحانه وتعالى على الصغير والكبير، والمرأة والرجل، والغني والفقير، والعالم والعامي حتى يظهر أثر هذا الدين في الواقع، ولا شك أن من جوانب العظمة في هذا الدين هذه الآداب التي جاءت في هذه الشريعة التي تميز المسلمين عن غيرهم، وتظهر سمو هذه الشريعة وكمالها وعظمها. والدين أدبٌ كله، فستر العورة من الأدب، والوضوء وغسل الجنابة من الأدب، والتطهر من الخبث من الأدب حتى يقف بين يدي الله طاهراً، ولذلك كانوا يستحبون أن يتجمل المرء في صلاته ليقف بين يدي ربه، حتى كان لبعضهم حلةٌ عظيمة اشتراها بمالٍ كثير ليلبسها وقت الصلاة، ويقول: ربي أحق من تجملت له (في صلاتي) وهذا مطلبٌ عظيم، فتعالوا بنا نتعرف إلى معنى كلمة الأدب وإلى بعض ما جاء في النصوص الشرعية حول هذه الكلمة وبعض أقوال العلماء فيها وأنواع الأدب، ثم نتكلم إن شاء الله عن المقصود من هذا الدرس وكيف المسير فيه.

معنى كلمة: الأدب

معنى كلمة: الأدب أما الأدب: فقد ذكر ابن فارس رحمه الله أن الأدب دعاء الناس إذا دعوتهم إلى شيء، وسميت المأدبة مأدبةً لأنه يدعو الناس فيها إلى الطعام، والأدب هو الداعي، وكذلك فإن الأدب أمرٌ قد أجمع على استحسانه، وعرفاً: ما جعل خلقه إلى المحامد ومكارم الأخلاق وتهذيبها، وذكر ابن حجر رحمه الله تعالى في شرحه لكتاب الأدب من صحيح الإمام البخاري رحمه الله، قال: الأدب استعمال ما يحمد قولاً وفعلاً، وعبر بعضهم عنه بأنه الأخذ بمكارم الأخلاق، وقيل: الوقوف مع المستحسنات (الأمور المستحسنة) وقيل هو تعظيم من فوقك والرفق بمن دونك، والأدب كذلك مما ورد في تعريفه: حسن الأخلاق، وفعل المكارم. والأدب الذي يتأدب به الأديب من الناس سمي أدباً لأنه يأدب الناس إلى المحامد ويدعوهم إليها، وجاء في المصباح عن الأدب: تُعلم رياضة النفس ومحاسن الأخلاق، وقيل: الأدب ملكة تعصم من قامت به عما يشينه.

استعمالات كلمة الأدب في كتب أهل العلم

استعمالات كلمة الأدب في كتب أهل العلم وقال ابن القيم رحمه الله: الأدب اجتماع خصال الخير في العبد، ومنه المأدبة: الطعام الذي يجتمع عليه الناس، فإذاً ففيه معنى الدعاء إلى الشيء والاجتماع عليه، وكذلك يطلق الأدب في اللغة على الجمع، وسمي الأدب أدباً لأنه يأدب الناس، يعني: يجمعهم إلى المحامد، والأدب هو: الخصال الحميدة، أما استعمالات هذه الكلمة في كتب أهل العلم، فإنها تأتي بمعنى خصال الخير مثل: آداب الطعام وآداب الشراب، وآداب النكاح وآداب القضاء، وآداب الفتيا، وآداب المشي، وآداب النوم ونحو ذلك، وللعلماء في هذا مصنفات، ويطلق بعض الفقهاء كلمة آداب على كل ما هو مطلوب سواء كان واجباً أو مندوباً، ولذلك بوبوا فقالوا: آداب الخلاء والاستنجاء، مع أن منها ما هو مستحب ومنها ما هو واجب، فكلمة أدب أو آداب أو أن هذا الشيء من الآداب لا يعني أنه فقط مستحب بل ربما يكون واجباً، ويطلق الفقهاء لفظة أدب بمعنى الزجر والتأديب كما جاء في حديث: (اجعل السوط في البيت فإنه أدبٌ لهم) يعني: لأهل البيت، تعليق السوط في البيت فإنه أدبٌ لهم، وحسنه الشيخ ناصر بطرقه، فإذا قيل: أدبه، بمعنى: عاقبه وزجره (عزره) فهذه من معاني كلمة الأدب كذلك. وقد نثر الفقهاء الآداب على أبواب الفقه، فذكروا في كل باب ما يخصه من الآداب، ففي الاستنجاء مثلاً ذكروا آداب الاستنجاء غير الأحكام الفقهية مما يجوز ولا يجوز، وفي الطهارة كذلك بأقسامها ذكروا آدابها، وفي القضاء ذكروا آداب القضاء في كتب الفقه.

مصنفات العلماء الخاصة بالأدب

مصنفات العلماء الخاصة بالأدب وصنفت كتبٌ خاصة بالأدب مثل: كتاب: أدب الدنيا والدين للماوردي، ونظم ابن عبد القوي رحمه الله منظومته المشهورة في الأدب والآداب، وشرحها السفاريني رحمه الله، ومن قبله ابن مفلح الذي صنف كتاب الآداب الشرعية، فإذاً هناك كتب مجموعة في الآداب عموماً، ومن أشهرها الآداب الشرعية لـ ابن مفلح، وغذاء الألباب شرح منظومة الآداب المنظومة لـ ابن عبد القوي والشرح للسفاريني وكتاب أدب الدنيا والدين للماوردي، وهناك كتبٌ تتكلم بشكلٍ مخصوص عن آداب معينة، مثلاً تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم لـ ابن جماعة رحمه الله، الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، هذه آداب تتعلق بطلب العلم للخطيب البغدادي رحمه الله، أدب الإملاء والاستملاء للسمعاني، وهو إملاء الحديث وكتابته، كيف يملي المحدث الحديث وكيف يكتبه عنه الطلاب، هذا له آداب، هذا مصنف خاص في أدب الإملاء والاستملاء. آداب الفتيا كتب منها: كتاب آداب المفتي للسيوطي، وكذلك آداب الأكل للأقفاسي وآداب الأطفال للهيثمي وفي آداب الزكاة كتب، وفي آداب البحث والمناظرة مثل: كتاب الشنقيطي، وفي الصحبة كتب مثل: كتب الصحبة للسلمي، وفي آداب العشرة كتب مثل: كتاب أبي البركات الغزي، وفي التجارة أيضاً آداب التجارة، وآداب الحوار، وآداب الزفاف، وآداب معاملة اليتيم، وآداب الطبيب، وهناك عدة كتب تتكلم في آداب مخصوصة، الكتاب في أدبٍ معينٍ من الآداب.

اصطلاح آخر لكلمة الأدب

اصطلاح آخر لكلمة الأدب أما بالنسبة لأهمية الأدب فلا شك أنه أمرٌ مهمٌ جداً، وبالمناسبة قبل أن ندخل في أهميته، فإنه أيضاً يطلق على شيءٍ يتعلق باللغة من إصلاح اللسان والخطاب وتحسين الألفاظ، والصيانة عن الخطأ والزلل، كما صنف ابن قتيبة رحمه الله أدب الكاتب. إذاً كلمة الأدب المستعملة في اللغة مثل: ما يرتبط بالشعر والنثر الأدب، هذه لفظة مولدة حدثت في الإسلام، أطلقوا على بعض الأشياء المتعلقة باللسان من الشعر والنثر أدباً، فهذا إطلاق في اعتبار لغوي، الأديب بهذا المعنى إطلاقٌ خاص يتعلق باللغة وإصلاح اللسان والخطابة، لاشك أن الأدب في الإسلام أمرٌ مهمٌ جداً، وأنه يحتم على الإنسان المسلم الالتزام بالآداب الشرعية في جميع الأمور.

بعض الآداب في النصوص الشرعية

بعض الآداب في النصوص الشرعية وقد حث الإسلام المسلم أن يعتني بالآداب في أولاده وذويه، لا يتغافل عنهم ويذكرهم ويؤدبهم بآداب الإسلام، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:6] قال علي رضي الله عنه: علموهم وأدبوهم، وقال مجاهد رحمه الله: أوقفوا أنفسكم وأهليكم بتقوى الله وأدبوهم. ومما جاء في النصوص الشرعية في معاني ما يتعلق بالأدب والتأديب قول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الحديث الصحيح: (ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين فذكر منهم: ورجلٌ كانت له أمةٌ فغذاها فأحسن غذائها، ثم أدبها فأحسن تأديبها، وعلمها فأحسن تعليمها، ثم أعتقها وتزوجها فله أجران). وكذلك فقد جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (كل شيءٍ ليس من ذكر الله فهو لهوٌ ولعب إلا أن يكون أربعة، ذكر منها: تأديب الرجل فرسه) ترويضه وتعليمه، والحديث بتمامه: (كل شيءٍ ليس من ذكر الله لهوٌ ولعب إلا أن يكون أربعة: ملاعبة الرجل امرأته، وتأديب الرجل فرسه ومشي الرجل بين الغرضين، وتعليم الرجل السباحة) تعلم السباحة رواه النسائي وهو حديثٌ صحيح. والأدب بهذه اللفظة جاءت في حديث جابر رضي الله عنه عندما تزوج ثيباً وسأله النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره أنه تزوج بثيب، فقال عليه الصلاة والسلام: (فهلا تزوجت بكراً تلاعبها وتلاعبك! قال يا رسول الله: توفي والدي، أو استشهد، ولي أخواتٌ صغار، فكرهت أن أتزوج مثلهن فلا تؤدبهن -يعني: أتزوج صغيرة لا تستطيع التأديب- فلا تؤدبهن ولا تقيم عليهن، فتزوجت ثيباً لتقوم عليهنّ وتؤدبهن) رواه البخاري رحمه الله في كتاب الجهاد.

أنواع الأدب

أنواع الأدب والأدب أنواع: فمنه أولاً: أدبٌ مع الله سبحانه وتعالى، وثانياً: أدبٌ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثالثاً: أدبٌ مع الخلق.

الأدب مع الله عز وجل

الأدب مع الله عز وجل أما الأدب مع الله عز وجل فله أمثلةٌ كثيرة، فمنها: نهي المصلي عن رفع بصره إلى السماء، كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: هذا من كمال أدب الصلاة أن يقف العبد بين يدي ربه مطرقاً خافضاً طرفه إلى الأرض، ولا يرفع بصره إلى السماء، قال: والجهمية لم يفقهوا هذا الأدب ولا عرفوه، لأنهم ينكرون أن الله فوق سماواته، وهذا من جهلهم، إذ من الأدب مع الملوك أن الواقف بين أيديهم يطرق إلى الأرض ولا يرفع بصره إليهم، فما الظن بملك الملوك سبحانه وتعالى!! وقال شيخ الإسلام في مسألة النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود: إنها من الأدب مع الله عز وجل، لأن القرآن كلام الله، قال: وحالتا الركوع والسجود، حالتا ذلٍ وانخفاضٍ من العبد، فمن الأدب مع كلام الله ألا يقرأ في هاتين الحالتين، يعني: في الركوع والسجود، لأنهما حالتا ذلٍ وانخفاض. وكذلك من الأدب مع الله: ألا يستقبل بيته في قضاء الحاجة ولا يستدبره، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورجح ابن القيم رحمه الله أن هذا الأدب يعم الفضاء والبنيان. ومن الأدب مع الله: الوقوف بين يديه في الصلاة مع وضع اليمنى على اليسرى حال قيام القراءة، ولا شك أن هذا من أنواع الأدب أن يضع يديه اليمنى على اليسرى على صدره ويقف يبن يدي ربه، وكذلك الأدب مع الله: السكون في الصلاة، ولما ذكر أهل العلم قوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج:23] ذكروا فيها معنيين: الأول: دائمون، بمعنى: مستقرون ثابتون، لا يكثرون الحركة كما يفعل كثيرٌ من الناس من تحريك النظارة والساعة وغطاء الرأس واللعب، أو العبث بالأنف والجيب ونحو ذلك من الأشياء، ولا شك أن هذا لا يعطي معنى الديمومة: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المعارج:34] المحافظة على السكون في الأطراف والطمأنينة، وكذلك المحافظة على الوقت، لا يخرجونها عن وقتها، فهم دائمون على الصلوات في أوقاتها ويحافظون عليها في أوقاتها، كما أنهم دائمون في الخشوع والطمأنينة، والأدب مع الله في الظاهر والباطن، ولا يستقيم إلا بمعرفة أسمائه سبحانه وتعالى ومعرفة دينه وشرعه وما يحب وما يكره.

أدب الأنبياء مع الله عز وجل

أدب الأنبياء مع الله عز وجل أما بالنسبة للأدب مع الله عز وجل: فقد كان كثيراً وعظيماً في أنبيائه سبحانه وتعالى، ومن تأمل أحوال الرسل عرف ذلك، وكذلك الصالحون، ألم ترَ أن المسيح عليه السلام حين يسأله الله يوم القيامة: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ} [المائدة:116] فماذا أجاب عيسى عليه السلام؟ ما قال: لم أقل ذلك! وإنما قال: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} [المائدة:116] من أدبه مع ربه أنه قال: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} [المائدة:116]، ثم قال: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [المائدة:116 - 117] إلى آخر الآيات. وكذلك أدب إبراهيم مع ربه، لما قال: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} [الشعراء:78 - 79] لم يقل: والذي يمرضني ويشفين، وإنما قال: {وَإِذَا مَرِضْتُ} [الشعراء:80] فنسب المرض إليه، ونسب الهداية والطعام والسقاء والشفاء إلى الله رب العالمين، مع أن الله هو الذي يمرض ولا شك!! وهو الذي يشفي، لكن لم يرد أن ينسب المرض إليه عز وجل أدباً مع الله سبحانه وتعالى، هذا من كمال أدب الخليل، فإنه قال: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80] وكذلك الخضر عليه السلام، على الراجح أنه كان نبياً: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف:82] كان يفعل بالوحي، فإنه لما ذكر السفينة قال: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف:79] ولما ذكر الجدار قال: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا} [الكهف:82] ولم يقل: فأراد ربك أن أعيبها، وإنما قال: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف:79] لما صارت المسألة فيها عيب نسبه لنفسه، قال: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف:79] مع أن كل ذلك بأمر الله وقدر الله. وكذلك الصالحون من الجن قالوا: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} [الجن:10] ما قالوا: أشرٌ أراده ربهم بهم أم أراد بهم ربهم رشداً وإنما قالوا: {أَشَرٌّ أُرِيدَ} [الجن:10] فجعلوا الفعل مبنياً للمفعول. وكذلك موسى عليه السلام لما نزل مدين قال: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص:24] أنا فقيرٌ إلى خيرك يا رب ومحتاج، ولم يقل: أطعمني مثلاً، وآدم عليه السلام لما أهبط من الجنة إلى الأرض قال: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23] ولم يقل: ربي قدرت عليَّ هذه المعصية، وقضيت عليَّ بها ونحو ذلك، وإنما قال: ظلمت نفسي فاغفر لي. وكذلك قول أيوب عليه السلام: {رَبِّ إِني مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83] وهذا أكثر أدباً من أن يقول: فعافني واشفني، قال: {وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83]. والأدب كذلك مع أنبياء الله طويل لا ينتهي، ولكن من أدب يوسف عليه السلام مع أبيه وإخوته، وهو نوع من أنواع الأدب مع المخلوقين، والأدب مع الأنبياء، قال: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} [يوسف:100] ولم يقل: أخرجني من الجب، مع أنه أخرجه من الجب، لأنه لا يريد أن يجرح مشاعر إخوانه فقال: {أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} [يوسف:100] ولم يذكر الجب، وكذلك فإنه لما جاء بإخوته وأهله، قال: {وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} [يوسف:100] ما قال مثلاً: رفع عنكم الجهد والجوع والحاجة، أو أنني فعلت ذلك لكم، أو أنني أنقذتكم من الجوع والجهد، ثم قال: {مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} [يوسف:100] فنسب الفعل إلى الشيطان، ولم يقل من بعد أن فعل بي إخواني ما فعلوا وظلموني ونحو ذلك، وإنما قال: {مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} [يوسف:100]. وكذلك من الأدب مع الله سبحانه وتعالى: أن يستر الرجل عورته وإن كان خالياً، أما نبينا صلى الله عليه وسلم فقد ضرب المثل العظيم في الأدب مع ربه، كما يذكر المفسرون عند قوله سبحانه وتعالى: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17] أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ارتفع إلى السماء ما زاغ بصره وما طغى، فإنه لم يزغ يميناً أو شمالاً، ولا طغى فنظر أمام المنظور، وإنما كان مطرقاً: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17] فهذا وصفٌ لمقامه صلى الله عليه وسلم، وهذا من كمال الأدب.

الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم

الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك فإنه ينبغي أن يعلم المسلم أن الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم من أنواع الأدب العظيمة، وهذا يشمل أشياء كثيرة جداً، فمن الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم: التسليم له، والانقياد لأمره، وتصديق خبره وتلقيه بالقبول، وعدم معارضته، لا يستشكل قوله وإنما تستشكل الأفهام، ولا يقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً، ولا يدعي نسخ سنته، وكذلك لا ترفع الأصوات فوق صوته صلى الله عليه وسلم، لأن ذلك سبب لحبوط العمل، وبعد وفاته عليه الصلاة والسلام، لا ترفع الأصوات فوق حديثه إذا قرئ، ولا عند قبره.

الأدب مع الخلق

الأدب مع الخلق والأدب مع الخلق وهو النوع الثالث: معاملتهم على اختلاف مراتبهم بما يليق بهم، فالأدب مع الوالدين يختلف، الأدب مع العالم يختلف، الأدب مع الأقران، الأدب مع الأجانب، الأدب مع النساء الأجنبيات، الأدب مع الضيف، الأدب مع أهل البيت، هذا من جهة ما يتعلق بمن حولك من المخلوقين. أما الأحوال ففيها آداب حتى لو كنت لوحدك وما عندك أحد مثل: آداب النوم مثلاً، فإذاً للمخلوقين آداب وللأحوال آداب، فمن آداب الأحوال: آداب الأكل، ولو كنت لوحدك فتأكل بيمينك، تسمي الله ولو كنتَ لوحدك، لا تأكل من وسط الطعام ولو كنت لوحدك، آداب الطعام، آداب الشراب، آداب الركوب، آداب الدخول، آداب الخروج، آداب السفر، آداب النوم، آداب البول، آداب الكلام، آداب السكوت، آداب الإنصات وهكذا.

ثمرة التمسك بالآداب الشرعية

ثمرة التمسك بالآداب الشرعية ولأجل عظم هذا الموضوع صنف العلماء فيه تصنيفاتٍ عظيمة، ولنعلم أن التمسك بالآداب الشرعية يقود إلى التمسك بالدين كله، ولذلك يقول الشيخ عبد الرحمن المعلمي اليماني رحمه الله في مقدمته لكتاب الأدب المفرد للبخاري، قال: قد أكثر العارفون بالإسلام المخلصون له من تقرير أن كل ما وقع فيه المسلمون من الضعف والخور والتخاذل وغير ذلك من وجوه الانحطاط إنما كان لبعدهم عن حقيقة الإسلام، وأرى أن ذلك يرجع إلى أمور: الأول: التباس ما ليس من الدين بما هو منه، أي: مثل إدخال البدع فيه. ثانياً: ضعف اليقين بما هو من الدين حقاً. ثالثاً: عدم العمل بأحكام الدين. هذه الأشياء الثلاثة التي عليها مدار أسباب انحطاط المسلمين. ما هي أسباب تخلف المسلمين التي أشار إليها الشيخ المعلمي اليماني رحمه الله؟ ثلاثة أشياء: أولاً: إدخال ما ليس من الدين في الدين. ثانياً: عدم اليقين بما هو من الدين. ثالثاً: ضعف العمل بهذا الدين. هذه أسباب تخلف المسلمين وانحطاطهم، ثم قال رحمه الله تعالى: وأرى أن معرفة الآداب النبوية الصحيحة في العبادات والمعاملات، والإقامة والسفر، والمعاشرة والوحدة، والحركة والسكون، واليقظة والنوم، والأكل والشرب، والكلام والصمت، وغير ذلك مما يعرض للإنسان في حياته، مع تحري العمل بها كما يتيسر هو الدواء الوحيد لتلك الأمراض، فإن كثيراً من تلك الآداب سهلٌ على النفس، فإذا عمل الإنسان بما يسهل عليه منها تاركاً لما يخالفها، لم يلبث إن شاء الله تعالى أن يرغب في الازدياد، فعسى ألا تمضي عليه مدة إلا وقد أصبح قدوةً لغيره في ذلك. وبالابتداء بذلك الهدي القويم والتخلق بذلك الخلق العظيم، يستنير القلب وينشرح الصدر وتطمئن النفس، فيرسخ اليقين ويصلح العمل، وإذا كثر السالكون في هذا السبيل، لم تلبث تلك الأمراض أن تزول إن شاء الله. ثم أشار إلى قضية تصنيف البخاري رحمه الله لكتاب الأدب المفرد وقد أفرده عن صحيحه وجعل له أبواباً خاصة، وقد ذكر ابن حجر رحمه الله في أهمية هذا الكتاب، قال: وكتاب الأدب المفرد يشتمل على أحاديث زائدة على ما في الصحيح، وفيه قليلٌ من الآثار الموقوفة، وهو كثير الفائدة. وقد شرحه الشيخ فضل الله الجيلاني وخرج أحاديثه، وحققه الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، فهذا الكتاب الآن مشروح ومحقق كتاب صحيح الأدب المفرد للبخاري رحمه الله وحسبك به، ويكفيك مؤلفه.

أقوال بعض العلماء في الأدب

أقوال بعض العلماء في الأدب ومن بعض أقوال العلماء في الأدب؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم، وهو إمام العلماء: (إن الهدي الصالح والسمت والاقتصاد جزءٌ من خمسة وعشرين جزءاً من النبوة) فإذاً من الأدب السمت الصالح، حسن السمت، والهدي الصالح يدخل في النبوة. وقال النخعي رحمه الله: " كانوا إذا أتوا رجلاً ليأخذوا عنه، نظروا إلى سمته وصلاته وإلى حاله، ثم يأخذون عنه " أول شيء ينظرون إلى أدب العالم والمحدث، فإن وجدوه أديباً مؤدباً، أخذوا عنه، ولذلك كان مجلس الإمام أحمد رحمه الله يجتمع فيه من الزهاد خمسة آلاف أو يزيدون، خمسمائة يكتبون الحديث، والباقون يتعلمون منه حسن الأدب والسمت. وقال ابن عباس: [اطلب الأدب فإنه زيادةٌ في العقل ودليلٌ على المروءة، ومؤنسٌ في الوحدة، وصاحبٌ في الغربة، ومالٌ عند القلة]. وقال أبو عبد الله البلخي: " أدب العلم أكثر من العلم ". وقال ابن المبارك رحمه الله: " لا ينبل الرجل بنوعٍ من العلم ما لم يزين علمه بالأدب ". وكذلك قال ابن المبارك أيضاً: " طلبت العلم فأصبت منه شيئاً، وطلبت الأدب فإذا أهله قد بادوا ". وقال بعض الحكماء: لا أدب إلا بعقل، ولا عقل إلا بأدب. وقال بعضهم: رأيتُ من أراد أن يمد يده في الصلاة إلى أنفه فقبض على يده، خرجت واحدة بنحو الأنف والثانية قبضت عليها، فكفتها. وقال يحيى بن معاذ: " من تأدب بأدب الله، صار من أهل محبة الله ". وقال ابن المبارك أيضاً: " نحن إلى قليلٍ من الأدب أحوج منا إلى كثيرٍ من العلم ". هناك أناس عندهم علم كثير لكن ليس عندهم أدب، ولذلك نفروا الناس وما أخذ عنهم أحد، بسبب عدم الأدب، وسئل الحسن البصري رحمه الله عن أنفع الأدب فقال: "التفقه في الدين، والزهد في الدنيا، والمعرفة بما لله عليك". وبعدما ذكرنا طرفاً من الأدب وتعريفه، فنقول أيها الإخوة وقد يحصل السؤال عن منهج هذا الدرس ومن أي كتابٍ يكون، فرأيت ألا يكون هناك كتابٌ محدد لأن بعض الآداب التي سنتكلم عنها قد لا توجد في كتابٍ محدد، أو موجودة في أكثر من كتاب، ولكن من أحسن الكتب في الآداب وأكثرها تنظيماً وأجودها تصنيفاً: غذاء الألباب شرح منظومة الآداب للسفاريني يقع في مجلدين، وقد شرح منظومة ابن عبد القوي وأكثر الآداب التي سنتكلم عنها من هذه المنظومة، فإذا كان الشخص يريد أن يأخذ كتاباً في موضوع الآداب، فليأخذ كتاب غذاء الألباب شرح منظومة الآداب. نعم يوجد كتاب الآداب الشرعية لـ ابن مفلح، مباحث نفيسة وجيدة، توسع في بعض الأشياء، لكن في جودة الترتيب وحسن التصنيف كتاب غذاء الألباب أحسن، فإن السفاريني قد جاء بعد ابن مفلح وأخذ أشياء كثيرة، واستفاد من كتابه، لكنه رتب كتابه، وإن كان يوجد فيه عبارات صعبة على المبتدئ في طلب العلم، كتاب غذاء الألباب. ولعلنا في بقية هذا الدرس نلقي نظرة سريعة على منظومة الآداب لـ ابن عبد القوي ونذكر أطرافاً عامة من الأدب قبل أن نشرع في الكلام عن الآداب بالتفصيل، وسنتكلم إن شاء الله في موضوع الآداب على آداب تلاوة القرآن، آداب الضيف، آداب العطاس والتثاؤب، آداب الانفعال، آداب توقير الكبير ورحمة الصغير، وكذلك أدب الجار، أدب الحوار والمناظرة، ما يتعلق بالرؤى والأحلام، آداب النكاح، آداب الطعام الشراب، آداب الأكل، آداب الضحك والمزاح، آداب المريض، آداب المساجد، آداب المشي، آداب المصافحة والمعانقة والتقبيل، آداب النوم، وآداب الهدية، وآداب الوليمة، إن شاء الله في خلال الدروس القادمة نتعرض لكل واحد من هذه الأنواع بالشرح والتفصيل مع الأدلة وأقوال العلماء، وفروع أدب كل جانب من هذه الجوانب، وسيكون الدرس ثلاثة أيام في الأسبوع، في السبت والأحد والإثنين إن شاء الله بين صلاتي المغرب والعشاء.

بعض وصايا منظومة ابن عبد القوي والتعليق عليها

بعض وصايا منظومة ابن عبد القوي والتعليق عليها أما منظومة ابن عبد القوي رحمه الله، فإنه افتتحها بقوله: بحمدك بالإكرام مارُمت أبتدي كثيراً كما ترضى بغير تحددِ وصلِّ على خير الأنام وآله وأصحابه من كل هادٍ ومهتدِ وبعد فإني سوف أنظم جملةً من الأدب المأثور عن خير مرشدِ من السنة الغراء أو من كتاب من تقدس عن قول الغواة وجحدِ ومن قول أهل العلم من علمائنا أئمة أهل السلم من كل أمجدِ لعل إله العرش ينفعنا به وينزلنا في الحشر في خير مقعدِ ألا من له في العلم والدين رغبةٌ ليصغي بقلبٍ حاضرٍ مترصد ويقبل نصحاً من شفيقٍ على الورى حريصٍ على زجر الأنام عن الردِ فعندي من علم الحديث أمانةٌ سأبذلها جهدي فأهدي وأهتدي ألا كل من رام السلامة فليصن جوارحه عما نهى الله يهتدِ

صون الجوارح عما حرم الله

صون الجوارح عما حرم الله فكانت أول وصية في هذه المنظومة: صون الجوارح عما حرم الله ثم قال: يكب الفتى في النار حصد لسانه وإرسال طرف المرء أنكى فقيدِ هذا إشارة إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصاد ألسنتهم) والشطر الثاني معناه: قيد طرفك لا تصب بطرفك الحرام، ولا تنظر إلى ما حرم الله. وطرف الفتى يا صاح رائد فرجه ومتعبه فاغضضه ما اسطعت تهتدِ يعني إطلاق النظر يؤدي إلى الوقوع في الزنى، يعني الذين وقعوا في العشق والتعلق بالصور والأشكال من أي جهةٍ أُتو؟ من النظر، فتعب نفسياً لأنه أصيب بالعشق، تعب نفسياً تعب جداً، وخصوصاً إذا عشق امرأةً متزوجةً لا قدرة له على الوصول إليها، لأنها ذات زوج، فماذا يكون حاله، في غاية التعب، ولذلك قال: وطرف الفتى يا صاح رائد فرجه ومتعبه فاغضضه ما اسطعت تهتدِ ويحرم بهت واغتيابٌ نميمة وإفشاء سرٍ ثم لعن مقيدِ البهتان حرام، إذا قلت في أخيك ما فيه فقد اغتبته، وإذا قلت ما ليس فيه فقد بهته. قال: ويحرم بهت واغتيابٌ؛ وهذه الغيبة، نميمةٌ؛ أيضاً يحرم المشي بين اثنين بالإفساد بينهما بالكلام، وإفشاء سرٍ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا حدث الرجل حديثاً ثم التفت فهي أمانة، فإذا استودعك سراً لا يجوز افشاؤه). وإفشاء سرٍ ثم لعن مقيدِ يعني: لا يجوز أن تلعن المعين، إذا كان ممن لعنه الله كإبليس وأبي جهل وأبي لهب الذين ماتوا على الكفر، فيجوز لعنهم، لكن لا يجوز لعن الحي المعين، ولو كان كافراً على الصحيح لأنه قد يموت على الإسلام، فيكون غير مستحق للعنة، فإذاً لا تلعن المعين، لكن لو لعنت الجنس، فقلت: ألا لعنة الله على الكافرين، ألا لعنة الله على الظالمين، ألا لعنة الله على الكاذبين، فلا بأس، لكن لعنة الله على فلان، أو لعن الله فلاناً، لا يجوز، إلا إذا لعنه الله ورسوله، فإذاً المعين المقيد لا تلعنه. وفحشٌ ومكرٌ والبذا وخديعة وسخريةٌ والهزء والكذب قيد البذا: الألفاظ البذيئة، يعني قيد نفسك عن هذه الأشياء ولا تطلق لسانك فيها. بغير خداع الكافرين بحربهم أو العرس أو إصلاح أهل التنكدِ إذاً الكذب يجوز إذا كان في خداع الكافرين في الحرب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الحرب خدعة). ومعنى: أو العرس أو إصلاح أهل التنكدِ، جواز كذب رجل على زوجته، إذا خشي شقاقها أو أن تغضب عليه، وإصلاح أهل التنكدِ: الإصلاح بين المتخاصمين. ويحرم مزمارٌ وشبابةٌ وما يضاهيهما من آلة اللهو والردِ إذاً هذا ذكر تحريم آلات اللهو والمعازف، سواءً كانت لها أوتار أو ليس لها أوتار، مزمار، طبل، شبابة، كله حرام، حتى لو لم يكن معها غناء، ولذلك قال في البيت الذي بعده: ولو لم يقارنها غناءٌ جميعها فمنها ذوي الأوتار دون تقيدِ لاتقيد بالأوتار، لكن ذوات الأوتار كالعود والكمنجة، داخلةٌ فيها، والشبابة والربابة داخلةٌٌ فيها.

نظم الشعر وسماعه

نظم الشعر وسماعه ولا بأس بالشعر المباح وحفظه وصنعته من رد ذلك يعتدِ القاعدة في الشعر أن حسنه حسن وقبيحه قبيح، وإذا كان لنصرة دين الله، فيكون عبادة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ حسان: (اهجهم وروح القدس معك) يعني جبريل يؤيدك ويثبتك ويناصرك، وصنعته: يعني لو صنعه ونظمه أيضاً. من رد ذلك يعتدي: يعني يحرم الشعر كله حتى المباح فهو معتدٍ. فقد سمع المختار شعر صحابةٍ وتشبيبهم من غير تعيين خردِ يعني لو أن بعض الأبيات فيها غزل، لكن ما عين امرأةً بعينها، ولا وصل إلى درجة الكلام عن العورات، وإثارة الشهوات. وحَظر الهجاء والمدح بالزور والخنا وتشبيبه بالأجنبيات أكدِ الهجاء: حرام في الشعر، والمدح: وهو عمل الشعراء، لأنهم يمدحون للأموال بالباطل، والمدح قيده بالزور، لأن من المدح ما لا بأس به، كمدح النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والخلفاء. ووصف الزنا والخمر والمرد والنسا الفتِيَّاتِ أو نَوح التسخط موردِ كشعر نزار قباني وغيره من الضالين في هذا الزمان، ولو عمل الشعر نياحه، فهو حرام.

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأمرك بالمعروف والنهي يا فتى عن المنكر اجعل فرض عين تسددِ اجعله فرض عين. على عالمٍ بالحظر والفعل لم يكن سواه به مع أن عدوان معتدِ ينبغي أن يكون عالماً فيما يأمر عالماً فيما ينهى، فبين أنه لو كان الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر مهدداً بالضرب أو السجن أن يفعل به ذلك، فإذا سكت عن الأمر والنهي لا يأثم، لأنه مكره، لكن لو صبر وأمر ونهى فهو مأجور، لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (سيد الشهداء حمزة، ورجلٌ قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله) وأنكر على الصبيان كل محرمٍ لتأديبهم والعلم في الشرع بالردي فإذاً لو أن أحداً من الناس رأى مع صبي مزماراً، هل يقول: هذا صغير ليس مكلفاً أو يأخذه منه؟ يأخذه منه لابد، لو رأى على ذكرٍ ذهباً نزعه منه، وأعطاه لوليه، وقال له: لا يجوز لك أن تلبسه ذهباً، ولا يجوز للصبي كذلك أن يلبس ثوباً مسبلاً، لا يجوز لوليه أن يفعل به ذلك، فالصبيان هل ينكر عليهم؟ A نعم. وبالأسهل ابدأ ثم زد قدر حاجة فإن لم يزل بالنافذ الأمر فاصددِ يعني لا تبدأ مباشرة بالضرب، أولاً ابدأ بالكلام الطيب بالحكمة والرفق، ثم زد قدر حاجة: على قدر الحاجة تعلو الوتيرة في الإنكار، فإن لم يزل بالنافذ الأمر فاصددِ، إذا لم يستجب لك ولا استطعت أن تغير بيدك، فاصدد عنه، لا تجلس معه في مكان المنكر، تقول: نهيت عن المنكر وفعلت الذي عليَّ وما استجاب، فسأواصل الجلوس، لا يجوز. إذا لم يخف في ذلك الأمر حيفه إذا كان ذا الإنكار حتم التأكدِ لأن بعض الناس قد يكون له سلطان، فإذا فعل به ما فعل في مجلسه، أو أنكر عليه آذاه، فيسقط وجوب الإنكار حينئذٍ. ولا غرم في دف الصنوج كسرته ولا صورٍ أيضا ولا آلة الددِ الصنوج: هذا الطار الذي له حلق معدنية، إذا هزها ضربت الحلق ببعضها فأصدرت صوتاً، فهذا لا يجوز، الدف المباح للنساء في الأعراس هو الذي ليس له حلقٌ، هو الدف العادي، هذا الذي ليس له حلقٌ معدنية متصلةٌ به، فإذا استعمل دفاً آخر لم يجز، وإذا كسر الطبل أو العود لا غرم عليه، لا يستطيع صاحبه أن يشتكي للقاضي ويقول: اضمنه لي، كسرت عودي كسرت طبلي، فلا غرم في ذلك، ولا صور ٍ أيضاً: يعني التماثيل لو أتلفها، فإنه لا يضمن الثمن ولا يستطيع أن يقول: كسرت تمثالي أعطني قيمته، والدد: هو آلة اللهو.

لعبة منكرة

لعبة منكرة وآلة تنجيمٍ وسحرٍ ونحوه وكتبٍ حوت هذا وأشباه فاقددِ مثل: لعبة الآن موجودة في الأسواق، حدثونا عنها في المدارس، أو أن بعض النساء أتين بها إلى المدارس فيها أحرف باللغة الإنجليزية وأرقام، وسهم من البلاستيك يشير إلى اتجاه، وأنه يضع إصبعيه عليها، ويستحسن أن يكون معه امرأة، هكذا يقولون في تعليمات اللعبة، تضع إصبعيها أيضاً على هذه القطعة من البلاستيك، ثم تنادي الجنية، ويقول: يا فلانة هل حضرت؟ فستشير هذه إلى إشارة نعم أو لا، يعني مكتوب على اللوحة نعم ولا، وبعد ذلك يقول مثلاً: ما اسمي؟ فيتحرك المؤشر تلقائياً إلى الحرف الأول من اسمه، كم عمري؟ فتتحرك إلى الثلاثة والسبعة مثلاً، أو إلى الأربعة والصفر لتشير إلى عمرك، كم عدد أولادي؟ ونحو ذلك، وهذه اللعبة قد افتتن بها أشخاص مع أنها من السفاهات والسذاجات ولا تدخل في عقل عاقل، وهي تباع في بعض المحلات هنا، وكان سعرها سبعين ريالاً، ولما صار الطلب عليها من الناس الذين عندهم قلة دين وعقل، صارت الآن بمائة وأربعين، بل أكثر من مائة وأربعين، وقد أتى لي واحد منهم بهذه اللعبة، طيب الآن لو أننا قمنا بتشغيله تشتغل، قال: لا، من يوم ما قالوا نذهب بها إلى الشيخ ما اشتغلت، فهذا طبعاً من الخرافات والخزعبلات الموجودة، وبعض الناس يصدقون بها فعلاً، وعندهم كذلك بالفرجار والإبرة، وفيها: نعم ولا، وينادون الجنية بزعمهم أو الجن على أساس أنها تشير لهم للأجوبة، ويقولون: طالبة سألت اللعبة ما هي أسئلة اختبار القرآن غداً؟ فأعطت لها أرقام السور وجاءت مثلما قالت، كلام كثير فيقول الناظم رحمه الله في إتلاف آلات المنكر: وآلة تنجيمٍ وسحرٍ ونحوه وكتبٍ حوت هذا وأشباه فاقددِ فاقدد: يعني: مزق، مثل: كتاب شمس المعارف وغيره من الأشياء التي فيها تعليم السحر وتحضير الأرواح وتحضير الجن، وغير ذلك.

إضافة للشيخ السلمان

إضافة للشيخ السلمان وأضاف الشيخ السلمان لنظم القصيدة أبياتاً من عنده قال: وقلت كذاك السينماء ومثله بلا ريب مذياع وتلفاز معتدِ وأوراق ألعاب بها ضاع عمرهم وكوراتهم مزق هديت وقددِ كذا بكماتٌ والصليب ومزمرٌ وآلة تصوير بها الشر مرتدِ كذلك دخان وشيشة شربه وآلة طفات لهُ اكسر وبددِ

هجران أهل المعصية

هجران أهل المعصية ثم يقول الناظم رحمه الله مرةً أخرى (عودة إلى المنظومة الأصلية): وهجران من أبدى المعاصي سنةٌ وقد قيل إن يردعه أوجب وأكدِ كما دل عليه حديث كعب وغيره، يعني إذا كان الهجران يردع صاحب المعصية، فإنه يصير واجباً. وقيل على الإطلاق ما دام معلناً فلاقه بوجهٍ مكفهرٍ معربدِ يعني: ما دام معلناً بالفسق سواءً كان يؤثر فيه الهجر أو لا يؤثر فيه اهجره، ولاقه بوجهٍ مكفهرٍ معربدِ؛ يعني: غيّر وجهك عليه، لأنه صاحب منكر ومعلن بالمنكر، فإذا كان الهجر لا يزيد إلا سوءاً، فما حكم الهجر؟ لا يجوز، لأن الهجر دائماً مع قاعدة المصالح والمفاسد، قال: ويحرم تجسيسٌ على متسترٍ بفسقٍ وماضي الفسق إن لم يجددِ يعني المتستر بالفسق لا يجوز التجسس عليه في بيته، واحد عنده فسق سابق ماض ما دام ما ترك الفسق لا يجوز أن نقول: نتجسس عليه ربما يعود، كان صاحب سوابق، أظهر التوبة، ربما يعود.

آداب السلام وضوابطه

آداب السلام وضوابطه ثم قال: وحظر انتفا التسليم فوق ثلاثةٍ على غير من كان بهجرٍ فأكدِ لا يجوز أن تهجر أخاك فوق ثلاثة أيام لا تسلم عليه، وأما المعلن بالمعصية والمبتدع فتهجر فوق الثلاثة والشهر والسنة حتى يرتدع. وكن عالماً أن السلام لسنةٌ وردك فرضٌ ليس ندبٌ بأوقدِ ويجزئ تسليم امرئٍ من جماعةٍ ورد فتىً منهم على الكل يعدِد لو سلم واحد من الجماعة على قومٍ جالسين، فرد واحد من الجالسين، أجزأ هذا عن هؤلاء، وهذا عن هؤلاء، ثم قال: وتسليمٌ نزرٍ والصغير وعابرٍ سبيلٍ وركبانٍ على الضد أيد يعني يسلم القليل على الكثير، النزر يعني: القليل، والصغير يسلم على الكبير وعابر سبيلٍ وركبانٍ على الضد أيدِ: يعني العابر الماشي يسلم على القاعد، والراكب يسلم على الماشي، على الضد. وإن سلم المأمور بالرد منهمُ فقد حصل المسنون إذ هو مبتدي وسلم إذا ما قمت عن حضرة امرئٍ وسلم إذا ما جئت بيتك تهتدِ إذا زرت شخصاً وأردت أن تغادر سلم عند المغادرة، فإذا دخل البيت {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور:61]. وإفشاؤك التسليم يوجد محبةً من الناس مجهولاً ومعروفاً اقصد ولذلك يخطئ كثير من الناس اليوم إذا لم يسلم إلا على من يعرف، إنما يجب إفشاء السلام على من عرفته ومن لم تعرفه، ولذلك إفشاؤك التسليم يوجد المحبة، والسلام على الذي تعرفه فقط من أشراط الساعة، فهو شيءٌ مذموم، ثم قال: وتعريفه لفظ السلام مجوزٌ وتنكيره أيضاً على نص أحمدِ يعني لو قلت سلامٌ عليكم، أو السلام عليكم كل ذلك صحيح.

أدب الاستئذان قبل الدخول

أدب الاستئذان قبل الدخول وسنةٌ استئذانه لدخوله على غيره من أقربين وبعدِ يعني لو أردت أن تدخل غرفة أمك التي هي أمك وهي فيها، فلا تدخل حتى تستأذنها، هل تحب أن تراها على عري، وكذلك الأبعدين لا تدخل عليهم حتى تستأذنهم. ثلاثاً ومكروهٌ دخولٌ لهاجمٍ ولا سيما من سفرةٍ وتبعدِ يعني الاستئذان ثلاثاً، لهاجمٍ: يهجم (يدخل) من غير استئذان ولو كان الزوج، فلا يهجم على البيت، وإنما يستأذن، وخصوصاً إذا جاءِ من سفر، حتى لا يقع على ما يكرهه من زوجته، وإنما يمهل حتى تستحد المغيبة، يعني تأخذ من شعرها الذي يسبب الرائحة الكريهة، وتتمشط الشعثة، وتتهيأ لتتزين لزوجها، حتى لا يراها في حالٍ ربما تشمئز نفسه منها. ووقفته تلقاء بابٍ وكوةٍ فإن لم يجب يمضي وإن يخف يزددِ يعني هذا منهي عنه، أن يقف تلقاء الباب مباشرة حتى إذا انفتح رأى من داخل البيت، يقف على جنب، بحيث لو انفتح الباب لا يرى أهل البيت، وكوةٍ: أيضاً الطاقة والثقب، وإن يخف يزددِ: وإذا خاف أنهم ما سمعوا؛ عندئذ ضربت الجرس ثلاث مرات، أو قلت السلام عليكم ثلاث مرات، تمشي إذا ما أذنوا لك، ولكن لو غلب على ظنك أنهم ما سمعوا؛ عندئذ تزيد على الثلاث. وتحريك نعليه وإظهار حسه بدخلته حتى لمنزله اشهدِ كما جاء عن ابن مسعود، أنه كان إذا جاء عند باب بيته تنحنح، حتى يعلم أهل البيت أنه داخل.

سنة المصافحة وحرمة السجود

سنة المصافحة وحرمة السجود ثم قال: وصافح لمن تلقاه من كل مسلمٍ تناثر خطاياكم كما في المسند وليس لغير الله حل سجودنا ويكره تقبيل الثرى بتشددِ المصافحة سنة، وفيها تناثر خطايا بين المسلمين، أما السجود فلا يجوز لغير الله، وإذا قبل الأرض وسجد يصير الحرام أكثر وأشد، كان سجود التحية في شرع من قبلنا كما سجد أهل يوسف ليوسف، وفي شرعنا حرم، لما رجع معاذ من الشام وسجد للنبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما هذا؟ -سأله النبي صلى الله عليه وسلم- قال: رأيتهم يسجدون لعظمائهم وأنت أعظم من العظماء، فأنت أولى بالسجود، فنهاه عليه الصلاة والسلام عن السجود، وقال: لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحدٍ لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها؛ من عظم حقه عليها). ويكره منك الإنحناء مسلماً وتقبيل رأس المرء حل وفي اليد الانحناء عند السلام منهيٌ عنه، ولفظه: (تكره) تأتي بمعنى يحرم، ولكن يستخدمها كما استخدم الإمام أحمد رحمه الله ورعاً، مثل ما يحدث الانحناء في بعض الألعاب الرياضية، كالكاراتيه وغيرها، ينحني بعضهم في بداية اللعبة، هذا حرامٌ لا يجوز، ويجوز تقبيل رأس العالم والوالد وكبير السن، وكذلك تقبيل اليد. ونزع يدٍ ممن يصافح عاجلاً وأن يتناجى الجمع من دون مفردِ يعني مكروه إذا سلمت على واحدٍ أن تنزع يدك قبله مستعجلاً، أيضاً النهي عن تناجي جماعة دون واحد. وأن يجلس الإنسان عند محدثٍ بسرٍ وقيل احضر وإن يأذن اقعدِ لا تدخل بين اثنين يتناجيان، إذا استأذنت جاز أن تجلس، وقيل لا تأتي أصلاً.

صلة الأرحام وطاعة الوالدين

صلة الأرحام وطاعة الوالدين وكن واصل الأرحام حتى لكاشحٍ توفر في عمرٍ ورزقٍ وتسعدِ كاشح يعني: صاحب عداوة، يطول عمرك وتزداد رزقاً ويحسن تحسينٌ لخلق وصحبةٍ ولا سيما للوالد المتأكدِ تحسن الصحبة ومع الوالدين أوكد ولو كان ذا كفرٍ واجب طوعه سوى في حرامٍ أو لأمرٍ مؤكدِ ولو كان ذا كفرٍ: يعني هذا الوالد، لا بد أن تطيعه إلا إذا أمرك بمعصية. كتطلاب علمٍ لا يضرهم به وتطليق زوجاتٍ برأيٍ مجردِ يعني لا تطعه إذا أمرك بترك شيءٍ مؤكد شرعاً كطلب العلم، قال لك: لا أسمح لك أن تطلب العلم، فما يضرهما إذا طلبت العلم، وأنت تحتاج إليه؟ وتطليق زوجاتٍ برأيٍ مجردِ: ولو قال لك طلق زوجتك برأيٍ مجرد، ما فعلت زوجتك شراً، ولا هي سيئة خلق، فلا يلزمك طاعة والديك في هذه الحالة. وأحسن إلى أصحابه بعد موته فهذا بقايا بره المتعودِ أصحاب أبيك وأمك، هل بقي من بر أبوي شيءٌ أفعله بعد موتهما؟ ماذا أخبره عليه الصلاة والسلام؟ (أن تصل صديقهما من بعدهما). ويشرع إيكاء السقا وغطا الإنا وإيجاف أبوابٍ وطفئٌ لموقدِ يعني تغطية الإناء بعد الشرب، إغلاق الباب بعد ما تدخل البيت، إطفاء السرج. وتقليم أظفارٍ ونتفٌ لإبطه وحلق وبالتنوير للعانة اقصدِ التنوير: وضع النورة لإزالة الشعر، والمقصود الإزالة سواءٌ كانت بالحلق، أو المقص، أو المرهم، أو النورة أو غيرها. ويحسن خفض الصوت من عاطسٍ وأن يغطي وجهاً لاستتارٍ من الردِ عند العطاس كما سيأتي.

خاتمة المنظومة

خاتمة المنظومة ثم ذكر رحمه الله بقية الآداب في المريض وعيادته، وحكم قتل الحيوانات للمحرم، وحكم قتل النمل، وحكم قتل الحية، وبعض أحكام الشرب والأكل وغير ذلك من الأحكام، إلى أن قال في آخر هذه القصيدة الجيدة البليغة التي لو حفظت، فيكون في حفظها خيرٌ عظيم، لأنه بواسطة حفظها يصل إلى معرفة آداب كثيرة جداً، قال: وهاقد بذلت النصح جهدي وإنني مقرٌ بتقصير وبالله اهتدي تقضت بحمد الله ليست ذميمةً ولكنها كالدر في عقد خردِ تقضت: يعني القصيدة انقضت يحار لها قلب لذيذ وعارفٌ كريمان إن جالا بفكرٍ منضدِ ثم قال: فخذها بدرسٍ ليس بالنوم تدركن لأهل النهى والفضل في كل مشهدِ وقد كملت والحمد لله وحده على كل حالٍ دائمٍ لم يصددِ وسنبدأ في الدرس القادم إن شاء الله بالكلام عن آداب تلاوة القرآن، والله أعلم: وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

بين الهداية والانتكاس

بين الهداية والانتكاس الهداية منة من الله على كثير من عباده، ولها أسباب منها: العلم الإيمان التوبة المجاهدة الرفقة الصالحة كما أن للهداية عوائق كثيرة منها: الاحتجاج بالمشيئة تكرار الوقوع في المعصية التسويف… وقد تحدث الشيخ عن قصص بعض التائبين، ثم انتقل إلى موضوع الانتكاس، وعرض في بداية كلامه عن الانتكاس بعض الرسائل التي يشكو أصحابها الانتكاس، ثم تحدث عن أسباب الانتكاس.

مقدمة في الهداية وفضلها

مقدمة في الهداية وفضلها إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أحييكم -أيها الإخوة- في مطلع هذا الموسم من الدروس وأقول لكم: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل لقاءنا هذا لقاءً في طاعته، وأن يجعل مجلسنا هذا مجلساً مباركاً ونافعاً لنا جميعاً، وأن يجعل ما نسمع حجة لنا لا علينا. يجدد الإنسان إيمانه بحلق الذكر وملاقاة إخوانه، والعودة لما كان متعوداً عليه من الطاعات والعبادات التي كان يمارسها في مكانٍ معين، كالمدرسة أو الجامعة، ونحو ذلك من الأنشطة الإسلامية، ولا شك أن مثل هذه العودة في بداية العام الدراسي لها أثرٌ في النفس، والعبد دائماً ينبغي أن يتقلب في مواسم الطاعات والعبادات، فسواء كان في عملٍ أو وظيفةٍ أو إجازةٍ فإنه يعبد الله سبحانه وتعالى. ودرسنا في هذه الليلة: بين الهداية والانتكاس، هذا الدرس هو انطلاقٌ من الحقيقة التي أقسم الله عليها بعدة أقسام في كتابه الكريم فقال الله عز وجل: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس:1] يعني: ضوءها {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} [الشمس:1 - 5] أي: ذات البناء أو ومن بناها؟ فيكون قد أقسم بنفسه: {وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا} [الشمس:6] يعني: دحاها وبسطها وقسمها: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس:7] يعني: خلقها مستقيمة على الفطرة القويمة: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس:8] بين لها طريق الخير والشر، وهنا يأتي جواب القسم: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:9 - 10]. قال بعض أهل العلم من المفسرين: زكاها: أي: زكى نفسه بطاعة الله وطهرها من الأخلاق الرديئة والرذائل، ودساها: يعني: أخملها بخزيانه إياها عن الهدى حتى ركب المعاصي وترك طاعة الله عز وجل، فالشاهد قوله سبحانه: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:9 - 10]. فمن زكاها: فهذه هي الهداية، ومن دساها: فهذا هو الانتكاس، بين الهداية والانتكاس.

هداية النفس تزكيتها

هداية النفس تزكيتها ونتحدث أولاً عن الهداية في هذه التزكية التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يسألها ربه كما جاء في صحيح مسلم: (اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنتَ خير من زكاها، أنت وليها ومولاها) الهداية المقصودة: هي الهداية التوفيقية التي هي من الله، وهي أعظم نعم الله على العبد، وهي التي اختص الله بها: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56]. يحبب إلى العبد الإيمان، ويكره إليه الكفر والفسوق والعصيان، هذه هي الهداية التي لا يملكها إلا الله عز وجل، وهي المقصودة لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] وهي المعنية في قوله عز وجل: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس:25]. والهداية يا إخواني منةٌ من الله على عباده، كما قال عز وجل: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ} [الحجرات:17] {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [النساء:94]. وقد استشعر الصحابة هذا المعنى وهو أن الهداية منة من الله ونعمة، ولذلك جاء في صحيح البخاري عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر فسرنا ليلاً، فقال رجلٌ من القوم لـ عامر بن الأكوع، ألا تسمعنا من هنيهاتك؟ -وكان عامر رجلاً شاعراً- فنزل يحدو بالقوم يقول: اللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا فاغفر فداءً لك ما اقتفينا وثبت الأقدام إن لاقينا فلما سمعه النبي صلى الله عليه وسلم، قال: من هذا؟ قالوا: عامر، فقال: يرحمه الله). وأعظم منةٍ من الله على نبيه صلى الله عليه وسلم هي الهداية كما قال الله عز وجل وعدد نعمه على نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} [الضحى:7 - 8]. وبين النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة هذا فقال عندما جمع الأنصار في الخطبة المؤثرة المشهورة: (يا معشر الأنصار! ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي؟ وكنتم متفرقين فألفكم الله بي؟ وعالةً فأغناكم الله بي؟) فبدأ أولاً بذكر الهداية من الضلالة، فالضلالة هي: الشرك، والهداية: الإيمان، وثنى بالتأليف والجمع وثلث بالغنى والمال، فرتب النعم ترتيباً بالغاً. وأهل الجنة حينما يدخلون الجنة يحمدون الله على نعمة الهداية التي هداهم في الدنيا: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43]. قال الطبري رحمه الله: الحمد لله الذي وفقنا للعمل الذي أكسبنا هذا الذي نحن فيه من كرامة الله وفضله وصرف عذابه عنا، هذه الهداية من الله يقذفها في قلوب من يشاء من عباده، وأحياناً يهتدي الشخص فجأةً بين عشيةٍ وضحاها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح في شأن المهدي قال: (المهدي منا أهل البيت يصلحه الله في ليلة) فـ المهدي حقاً سيخرج وهو من أشراط الساعة ويحكم سبع سنين، يملأ الأرض عدلاً، كما ملئت ظلماً، ويعطي المال بدون عدٍ ولا إحصاء، وإنما يحثو حثيه، هذا الرجل يصلحه الله في ليلة، الهداية ليست لها قاعدة ولا مكان، فإن الله سبحانه وتعالى قد يهدي الرجل في أفسق الأماكن، وقد يضل بعضهم في مكة، فكثيرون من الناس ذهبوا إلى أمريكا فأضلهم الله، وبعضهم ذهبَ إلى هناك فهداه الله، فهذا شيء من الله لا يملكه أحد: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56].

أسباب الهداية

أسباب الهداية لكن للهداية أسباب كثيرة فمنها: أولاً: العلم؛ العلم بالله تعالى وأسمائه وصفاته، فمن أراد الهداية فلا بد أن يكون عالماً بالله وأسمائه وصفاته: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19] وأن يعلم حق الرب على عبده وهو: أن يعبده لا يشرك به شيئاً. ثانياً: الإيمان، فهو من أعظم أسباب الهداية، الإيمان الذي هو الاعتقاد والتصديق بالجنان، والنطق باللسان، والعمل بالأركان، الذي يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان، وقال الله عز وجل: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11]. {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} [يونس:9] فالإيمان من أعظم أسباب الهداية. ثالثاً: الدعاء: وهو العبادة {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] ونحن نقول في الصلاة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] دلنا على الصراط المستقيم، وفقنا لطريقة الشرع وزدنا هدى، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد قال لـ علي رضي الله عنه: (يا علي! سل الله الهدى والسداد، واذكر بالهدى هدايتك الطريق، وبالسداد تسديدك السهم) فضرب له المثل الحسي: إذا سألت الله الهداية تذكر كيف إذا خرجت إلى مدينة أو بلد سلكت طريقاً فإنك تجتهد في معرفة الطريق والاستدلال إلى المكان، وعدم الضياع عن هذا الطريق وفقدانه، وتذكر بطلبك السداد، تذكر بالسداد تسديدك السهم، فإن الذي يسدد يصوب ويجتهد. ومن أسباب الهداية: التوبة، كما قال الله عز وجل: {وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} [الرعد:27] فإذا أناب العبد هداه الله سبحانه وتعالى. السبب الخامس من أسباب الهداية: المجاهدة؛ يقول الله سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] والمجاهدة على نوعين: مجاهدة النفس، ومجاهدة الشيطان، وأيضاً جهاد أعداء الله، فأما مجاهدة النفس فهي أنواع، فمنها: مجاهدة النفس على تعلم الهدى، وثانياً: مجاهدة النفس على العمل بالعلم، وثالثاً: مجاهدة النفس على الدعوة لهذا العلم، ورابعاً: مجاهدتها على الصبر على الأذى في سبيل الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى. وأما مجاهدة الشيطان فإنها تكون بأمرين: مجاهدة الشيطان بالشبهات التي يلقيها في نفس العبد، وكذلك مجاهدته على الشهوات التي يلقيها في نفس العبد ويثيرها. ومن أسباب الهداية أيضاً: الجماعة الطيبة، قال الله عز وجل: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} [الأنعام:71] وكيف يقتنع الشخص بأن الهداية هي مصلحته؟ بأن يعلم أنه هو المستفيد من الهداية ليس الله عز وجل، وأنه هو المتضرر من الضلالة وليس الله عز وجل: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} [يونس:108]. وجاء في الحديث القدسي: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجلٍ واحدٍ منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً). وهذه الهداية التي يقذفها الله سبحانه وتعالى في قلب من يشاء من عباده قد تكون عقب أمرٍ من الأمور وشيءٍ من الأشياء، فبعض الناس قد يهتدي من خطبة أو محاضرة، أو موعظة، أو دعاء تراويح، أو بعد حجٍ أو عمرةٍ، وبعضهم يهتدي لرؤيا يراها أو حادث يصيبه أو مصيبة كفقد وظيفته، أو موت قريبٍ، أو يمرض مرضاً تضعف نفسه فيه فيرجع إلى حقيقة أمره، ويفكر في شأنه فيهتدي، وبعضهم يهتدي بنصيحة أو دعوة يدعو بها رجل، وبعضهم يهتدي من رؤيةٍ نكبات المسلمين وما أصابهم، وبعضهم يهتدي بمرافقة الرفقة الطيبة، وبعضهم يكون مهتدياً من صغره، لتربيةٍ طيبةٍ في البيت. وأسباب الهداية كثيرة والتي يجعلها الله سبحانه وتعالى سبباً لدخول هذا النور إلى قلب العبد، وربما لو أنكم عدتم بأذهانكم إلى الوراء كل واحدٍ منكم، ففكر في السبب -إذا كان مستقيماً- الذي به أدخل الله الإيمان إلى قلبه، لوجد قصةً أو حادثةً كانت كذلك، ويمكنكم المشاركة بكتابة هذا الأمر من سببٍ عجيبٍ أو قصةٍ مؤثرة كانت سبباً في هدايتك أو هداية شخصٍ تعرفه، لنرى في الختام أمثلة واقعية من هذه الأشياء فيتعجب العبد من أقدار الله سبحانه وتعالى، وقد تكون الهداية بحدث تعقبه الهداية فوراً، وقد يهتدي الإنسان تدريجياً كما إذا دخل في وسطٍ طيب، فإنه يبدأ بالتأثر وممارسة العبادات وهكذا حتى يصل إلى الهداية والاستقامة والالتزام بشريعة الله سبحانه وتعالى، فقد لا يحس بالنقل المفاجئ بين عشية وضحاها ولكن يصل إلى المطلوب.

أناس عادوا إلى الله

أناس عادوا إلى الله لنتحدث عن بعض القصص من الماضين الذين هداهم الله سبحانه وتعالى، كيف هداهم، وأمثلة عن هذه الأسباب.

جبير بن مطعم وكيف اهتدى

جبير بن مطعم وكيف اهتدى فمن ذلك هداية جبير بن مطعم الصحابي رضي الله تعالى عنه وكان قد جاء في أسارى بدر، وهؤلاء من حكمة النبي عليه الصلاة والسلام وفطنته أنه جعله في مكانٍ قريبٍ من المسجد، وكان ربما جعل الأسير في المسجد حتى يسمع القرآن وصوت النبي صلى الله عليه وسلم به، قال جبير: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} [الطور:35 - 37] قال جبير: كاد قلبي أن يطير، وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي) يعني: سكن وثبت، وهذا الحديث في صحيح البخاري رحمه الله. قال ابن كثير: فكان سماعه هذه الآية من هذه السورة من جملة ما حمله على الدخول في الإسلام بعد ذلك، فقد تكون الهداية نتيجة أسباب تجتمع وقد لا تكون في وقتٍ واحد، لكن هذا السبب الآن مع سبب آخر بعده بشهر أو شهرين، أو سنة أو سنتين تحصل الأسباب التي تؤدي بالشخص إلى الهداية.

زاذان وسبب هدايته

زاذان وسبب هدايته ومن التابعين: زاذان رحمه الله قال الذهبي في سير أعلام النبلاء: زاذان أبو عمر الكندي مولاه الكوف البزاز الضرير أحد العلماء الكبار، قال ابن عدي: تاب على يد ابن مسعود وعن أبي هاشم قال: قال زاذان: كنتُ غلاماً حسن الصمت جيد الضرب على الطمبور -وهو آلة من آلات العزف- فكنت مع صاحبٍ لنا وعندنا نبيذ -خمر- وأنا أغنيهم فمر ابن مسعود فدخل وضرب الباطية -يعني: إناء الخمر- فبددها وكسر الطمبور، ثم قال: [لو كان ما يسمع من حسن صوتك يا غلام بالقرآن كنتَ أنت أنت]-أي: لو كنت بدلاً من أن تصرف هذه الطاقة الصوتية الجميلة بهذا الغناء المحرم جعلته في القرآن كنتَ أنتَ أنتْ- ثم مضى فقلت لأصحابي: من هذا؟ قالوا: هذا ابن مسعود، فألقي في نفسي التوبة فسعيت أبكي وأخذت بثوبه فأقبل علي فاعتنقني وبكى وقال: [مرحباً بمن أحبه الله، اجلس ثم دخل وأخرج تمراً] وكثير من الأسانيد تجد فيها هذا الرجل زاذان رحمه الله.

القعنبي

القعنبي ورجلٌ آخر من أهل الحديث وهو القعنبي من الرواة المشهورين قال أحد أولاده: كان أبي يشرب النبيذ ويصاحب الأحداث -أي: جماعةٌ من الفسقة- فدعاهم يوماً وقد قعد على الباب ينتظرهم -ينتظر هذه الشلة من أهل السوء- فمر شعبة بن الحجاج -المحدث المشهور الثقة المتقن الضاد- على حماره والناس خلفه يهرعون فاستغرب من المنظر فقال: من هذا؟ قيل: شعبة، قال: وماذا شعبة؟! قالوا: محدث، فقام إليه هذا القعنبي وعليه إزارٌ أحمر -معروف أن هذا اللبس ليس من لبس المؤمنين، فلقد نهينا عن لبس الأحمر الخالص للرجال- فقام إليه وعليه إزارٌ أحمر، فقال له: حدثني، فقال له: ما أنتَ من أصحاب الحديث فأحدثك! -لا سيماك سيما أصحاب الحديث ولا الهيئة ولا المنظر- ما أنت من أصحاب الحديث فأحدثك! فأشهر سكينه وقال: تحدثني أو أجرحك، فقال له: حدثنا منصور عن ربعي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت). فرمى سكينته ورجع إلى منزله، فقام إلى جميع ما كان عنده من الشراب فأراقه وقال لأمه: الساعة يأتون أصحابي، فأدخليهم وقدمي الطعام إليهم، فإذا أكلوا فخبريهم بما صنعت بالشراب حتى ينصرفوا، ومضى من وقته إلى المدينة فلزم مالك بن أنس فأثر عنه ثم رجع إلى البصرة -وقد مات شعبة - فما سمع منه غير هذا الحديث.

الفضيل بن عياض

الفضيل بن عياض والفضيل بن عياض رحمه الله توبته مشهورة نقلها الذهبي رحمه الله أيضاً فقال: عن الفضل بن موسى: كان الفضيل بن عياض شاطراً -يعني: لصاً، الشاطر: هو اللص يقطع وينهب- يقطع الطريق بين أبي ورد وسرخس وكان سبب توبته أنه عشق جاريةً فبينما هو يرتقي الجدران إليها إذ سمع تالياً يتلو قول الله عز وجل: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد:16]. هذا جاره يقوم الليل بالقرآن، وهذا يتسور إلى المرأة الجدار ليفعل بها الفاحشة، فلما سمعها قال: بلى يا رب -وقعت في قلبه موقعاً، إذا شاء الله أن يهدي رجلاً كشف الحجب الكثيفة التي كانت تغطي قلبه، فدخل النور: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد:16] قال: بلى يا رب قد آن، فرجع فآواه الليل إلى خيمة، فإذا فيها أناس مسافرون، فقال بعضهم: نرحل، وقال بعضهم: حتى نصبح، لا نرحل الليلة، فإن فضيلاً على الطريق يقطع علينا، وقد سمعهم بالمصادفة قال: ففكرت وقلت: أنا أسعى بالليل بالمعاصي وقوم من المسلمين هاهنا يخافونني، وما أرى الله ساقني إليهم إلا لأرتدع، اللهم إني قد تبتُ إليك وجعلت توبتي مجاورة البيت الحرام.

توبة لص في بيت مالك بن دينار

توبة لص في بيت مالك بن دينار والأمثلة كثيرة جداً من الهداية، لكن هذه قصة أخيرة عن توبة أحد اللصوص: جاء في سيرة مالك بن دينار، في سير أعلام النبلاء، قيل: دخل عليه لصٌ -أي: على مالك بن دينار وكان معروفاً بالزهد- فما وجد اللص ما يأخذه فانتبه مالك فنادى اللص قائلاً له: لم تجد شيئاً من الدنيا، فهل ترغب في شيءٍ من الآخرة؟ قال: نعم. قال: توضأ وصلِّ ركعتين، ففعل ثم جلس وخرج إلى المسجد فسئل مالك: من ذا؟ قال: جاء ليسرق فسرقناه. فهذا مثال عن ما يمكن أن ينتقل إليه الشخص من الإجرام إلى الاستقامة، ومن الضلالة إلى الهداية وهذا هو المطلوب، إذا صفت النفوس وأقبلت على الله فإن الله يهدي، وإذا ابتغى العبد أسباب الهداية فإن الله لا يضله، الله عز وجل رحيمٌ بعباده، لا يضل من أراد الهداية، لكن الناس أنفسهم يظلمون بعدم إرادتهم الهداية.

معوقات الهداية

معوقات الهداية وقد مر معنا من أسباب الهداية: المجاهدة: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69]. وهذه المجاهدة هي التي خالفها الكثير من الناس فلذلك لا يهتدون؛ أو أنهم يعلمون شيئاً من الشريعة والدين، لكنهم لا يعلمون الكثير ولا يطبقون.

الاحتجاج بالمشيئة

الاحتجاج بالمشيئة من معوقات الهداية: الاحتجاج بالمشيئة، هذا الذي نسمعه كثيراً من الناس، الذين يقولون: لو شاء الله لهدانا، وهؤلاء قد سبقهم الكفار بالاحتجاج بالمشيئة، فقال الله عنهم: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف:20] لو شاء الرحمن ما عبدنا هؤلاء وأشركنا في الله، وقال عز وجل في آية أخرى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} [الأنعام:148]. احتج المشركون بالمشيئة، كلامهم في الظاهر صحيح، لو شاء الله ما أشركوا لا شك في ذلك: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:20]، لكن الله عز وجل كذبهم، وقال في آية الأنعام: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الأنعام:148] وقال في آية الزخرف: {مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الزخرف:20]. فكيف كذبهم وظاهر كلامهم صحيح؟! A لأن مرادهم بكلامهم: لو شاء الله ما أشركنا، قولهم: إن الله لما كان قادراً على منعهم ولم يمنعهم دل ذلك عندهم على أنه راضٍ عنهم وعن الشرك، قالوا: لو لم يكن راضياً لصرفنا، فكذبهم الله على هذا الزعم، وأن الله لو شاء شيئاً لا يعني أنه يحبه، ولو قدر شيئاً ليس يقتضي ذلك أنه يحبه، فإن الله يشاء الخير ويشاء الشر سبحانه وتعالى، ولا يمكن أن تقول: ما دام الله شاء هذا، يعني: أن الله يحبه وأن الله يقره، أبداً. ولذلك هؤلاء العصاة الذي يقولون: لو شاء الله لصرفنا عن هذا الشرك، لو شاء الله لهدانا، نقول: إذا كنتم تحتجون بواقعكم على أنه صحيح، بأن الله شاء ذلك فأنتم ضلال، فالله عز وجل شاء كل ما يقع، لا يقع شيءٌ إلا بمشيئته قطعاً، خلافاً لمن ضل في ذلك من القدرية، وإذا كنتم تقولون: إننا مجبورون على الفعل، ولو شاء الله لأخرجنا، لكنه جبرنا على المعصية، فنقول: أنتم ضلالٌ أيضاً، فإن الله سبحانه وتعالى قد أعطاكم الإرادة. قدر الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض، وكتب أهل الجنة وأهل النار، وأقام الحجة على الجميع بإرسال الرسل وإنزال الكتب، ووفق من شاء توفيقه، ولم يوفق من سبق عليه الكتاب الشقاء، وخلق لكل إنسانٍ قدره، فلا يحتج أحد بأنه مجبور؛ لأن له قدرة وإرادة، ولا يحتج أحد على الغواية بأنه لا يعرف الحق، فالله قد أرسل الرسل وأنزل الكتب، وبين طريق الخير والشر: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10] وهذا الفاسق الذي يفعل ما يفعل يفعله مختاراً ليس مجبوراً، طائعاً غير مكره هو الذي اختار شرب الخمر فشرب، وهو الذي اختار الزنا فزنى، وهو الذي اختار سماع الغناء فسمع، وهو الذي اختار الإسبال فأسبل ونحو ذلك، فهو الذي اختار بإرادته وقدرته التي أعطاه الله إياها ولذا اختار الشر، فلا يصح بعد ذلك لإنسان أن يقول: أنا مجبور! أو أن يحتج بمشيئة الله على أن الله يرضى واقعة السيئ، كلا. بعد هذا كله لو خالف فهو يستحق العقاب، والهداية لا تصل إلى الناس من الشباك وهم يتفرجون أو وهم نائمون، تصل إليهم الهداية يقولون: نحن ننتظر الهداية تظن أن الهداية شيءٌ سيأتي من خلفك فيقذف فيك بدون أي عملٍ منك؟! بل إن الإنسان لو رأى أمامه أشد الحوادث تأثيراً! لو كان قلبه مغلفاً لا يريد التأثر فإنه لن يتأثر.

تكرار الوقوع في المعصية

تكرار الوقوع في المعصية ومن عوائق الهداية: تكرار الوقوع في المعصية، فإن بعض الناس يقول في نفسه: أنا أدخن وأترك ثم أدخن وأترك، ثم أدخن وأترك، أنا أحلق اللحية ثم أعفيها، أحلقها ثم أعفيها، ثم أحلقها ثم أعفيها، أنا أسمع الأغاني ثم أترك، وأسمع الأغاني ثم أترك، فيقول: أنا لستُ مستعداً لهذا التردد؛ فيفلت العنان لنفسه وهواه، ويرجع إلى الضلال ويستمر فيه، فنقول له: يا هذا! لا شك أنك عند رجوعك عن الباطل، وإن كان لفترة مؤقتة فإنك أحسن من الذي يستمر عليه دائماً! إذا رجعت فأنت أحسن من الذي يدخن دائماً أو يحلق دائماً أو يسمع المحرمات دائماً، ثم إن الازدواجية التي وقعت فيها ينبغي أن تدفعك إلى الثبات على الحال الحسن، واختيار الخير، وليس أن ترجع وتستقر على الحال السيئ، ثم إن الإنسان إذا وقع في معصية فإن ذلك لا يعني أن يترك بقية الطاعات، هب أنك وقعت في معصية، هل تترك بقية الطاعات، وتقول: ما دام ارتكبت بعض المعاصي، إذاً سأسلك سبيل المعاصي المفتوح بجميع ما فيه؟ كلا. ثم إن هذا الحديث يدل على أن الإنسان إذا فعل معصية، فإنه يرجع ويتوب، وليس أن يقول: وقعت فأكمل فيما وقعت فيه، لا. عن ابن مسعود قال: (جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! وجدت امرأةً في بستان ففعلت بها كل شيء، غير أني لم أجامعها، قبلتها ولزمتها ولم أفعل غير ذلك، فافعل بي ما شئت، فلم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم شيئاً، فذهب الرجل، فقال عمر: لقد ستر الله عليه لو ستر نفسه، فأتبعه رسول الله صلى الله عليه وسلم النظرة ثم قال: ردوه علي، فردوه عليه، فقرأ عليه قول الله عز وجل: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114] فقال معاذ رضي الله عنه -وفي رواية: عمر -: يا رسول الله! أله وحده أم للناس كافة؟ قال: بل للناس كافة). فنقول: إذا وقع الإنسان في معصية لا يستسلم، بل يقبل على الله ويتوب، يذهب ويتوضأ ويصلي ركعتي التوبة، وإذا كانت جريمة يذهب فيعمل عمرة أو يحج من أجل هذه المعصية، فإن عمر قال عن ذنبٍ فعله: [فعملت لذلك أعمالاً من أجل هذا الذنب].

القنوط من رحمة الله

القنوط من رحمة الله ومن عوائق الهداية: أن بعض الناس يعتقد أن الله لا يمكن أن يغفر له، وأن ذنوبه كثيرة جداً، من كثرة سيئاته لا يمكن أن يغفر الله له، وهذا باطل، وهذا سوء ظن بالله، وهو شكٌ في قدرة الله، بل إن الله عز وجل قد قال في الحديث القدسي: (من علمَ أني ذو قدرةٍ على مغفرة الذنوب غفرتُ له ولا أبالي، ما لم يشرك بي شيئاً). إذاً لا يمكن للإنسان أن يقول: لن أدخل الهداية؛ لأن ذنوبي أكثر من أن يغفرها الله، هذا باطل وهذا اعتقادٌ محرم، بل ينبغي أن يتوب إلى الله، ويقبل على الله ما دام لا يشرك بالله شيئاً: (لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً، لأتيتك بقرابها مغفرة).

النظرة الخاطئة للالتزام

النظرة الخاطئة للالتزام ومن عوائق الهداية: اعتقاد أن جو الهداية شدة وتزمت ووسوسة ورهبنة وحرمان وتحريم الضحك ونحو ذلك من الأشياء الباطلة. A كلا. فإن جو الهداية على عكس من ذلك، هو اطمئنان وسكون وسرور وحبور وفرح نفسي وطمأنينة يقذفها الله في قلوب المهتدين، ويحصل في قلوبهم من أنواع السرور ما يحمد به العبد ربه على نعمة الهداية، وليست الهداية تحريماً للطيبات، فإن الله قد قال: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف:32] من الذي حرمها؟ الله أباحها فمن الذي يجرؤ على تحريمها؟!

التسويف

التسويف ومن عوائق الهداية: التسويف؛ فإن بعض الناس يخطر في باله خاطر الهداية، يأتيه خاطر من الملك أن يهتدي؛ لأن الله جعل مع الإنسان ملكاً وشيطاناً، الملك يأمره بالخير والشيطان يأمره بالشر. يأتيه الخاطر من الملك أن يتوب ويهتدي، ويترك ما هو فيه من الباطل، فبعض الناس يسوف يقول: سوف أفعل ذلك إن شاء الله في المستقبل سوف أفعل ذلك، فنقول: هذا شيءٌ لا تعرف نهايته، فقد تموت قبل ذلك، وتقول نفسٌ: {يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّه} [الزمر:56] لو أن الله هداني: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ:54] وقد يقال له عند موته: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100] وهذا التسويف من أضر الأشياء على العبد، فبسببه تؤخر التوبة وتؤخر مشاريع الانتقال إلى طريق الخير والهداية بسبب التسويف، كلما جاء بواب الخير كلما جاء طارق الخير صرفه بواب لعلّ وعسى، ثم إن الإنسان إذا استمر في الشر صار الشر عادة، فصار ترك الشر صعباً عليه، كمثل رجلٍ خرجت له نبتةٌ في بيته، في مكان غير مناسب مؤذٍ، فقال: اليوم أقتلعها، غداً أقتلعها وهي تنمو وتكبر اليوم أقتلعها غداً أقتلعها، حتى إذا كبرت وصارت جذورها ضاربةً في الأرض وقويت صار هو في المقابل أضعف وأعجز، والشجرة صارت أقوى وأكبر فأنى له أن يقتلعها؟! ولذلك من البداية غير ولا تسوف.

ربط الالتزام بأشياء أخرى

ربط الالتزام بأشياء أخرى ومن معوقات الهداية: ربط الأشياء بعضها ببعض، وترتيب الأشياء بعضها على بعض، وهذا من حيل الشيطان، كما قال بعضهم مرةً قال لي: أنا أشتهي وأريد أن أعفي لحيتي، قلتُ: ما الذي يمنعك من ذلك؟ قال: لأنني عقدت العزم على أن أفعل ذلك بعد حدوث شيءٍ معين، وما هو؟ قال: إنني الآن في مرحلة الخطوبة يعني: الآن أخطب وأتقدم إلى الناس لأتزوج، فإذا تزوجت أنوي أن أحج بالمرأة، فإذا حججت بها فمن ذلك الوقت -من بعد الحج- سأترك المنكرات وأعفي لحيتي، فهذا علق قضية هذه الطاعة على الزواج! ثم يعلق الزواج على الحج، فيربط الأشياء بعضها ببعض، ويقول: أريد شيئاً نهائياً، فنقول: ابدأ من الآن حتى إذا دخلت سهل عليك، لكن أن تقول: سأفعل ذلك إذا تزوجت وحججت وعند ذلك عصمت نفسي وعند ذلك صرتُ عفيفاً، والحج يهدم ما قبله، وابدأ عند ذلك صفحةً جديدة، نقول: يا أخي! التوبة تفتح لك صفحة جديدة، ليس بشرط أن تتزوج وتحج حتى تفتح صفحة جديدة! ممكن أن تفتح صفحة جديدة الآن، وما يدريك فقد يأتيك ملك الموت قبل أن تتزوج أو قبل أن تحج، فما عذرك عند الله؟!.

الاحتجاج بواقع بعض الملتزمين

الاحتجاج بواقع بعض الملتزمين ومن عوائق الهداية أيضاً: الاحتجاج بواقع بعض الناس الذين ظاهرهم الالتزام، لكنهم عندهم معاصٍ وإساءات، فيقول لك: انظر هذا فلان، لحيته هذا طولها، ومع ذلك رأيته ينظر إلى النساء، أو أنه يلعب بفواتير الشركة، أو أنه ليس بنظيف، أو أن فلانة محجبة، لكن أنها تفعل من وراء الحجاب أشياء، نقول: وما لك ولهم، إذا كان ظاهرهم الطاعة، وباطنهم عندهم فسق؟ هل هذه حجة أمام الله تحتج بها يوم القيامة؟ إذا سألك: لماذا لم تسلك سبيل الاستقامة والهداية قلت: فلان هذا ظاهر الهداية، لكن في الحقيقة عنده أمور أخرى؟! نعلم بأن هناك منافقين بالمجتمع هل ألوان النفاق هي حجةٌ لك على ترك الهداية؟ أبداً لا يمكن أن تكون حجة: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105] الحق نفسك، قبل أن تؤتى فلا تستطيع الحراك. وكذلك فإن الإنسان يلجأ إلى المنهج، ولو انحرف الأشخاص، فهو لا يربط هدايته بفلان أو فلانة، فإذا ضل فلان ضل معه، وإذا اهتدى فلان اهتدى معه، كلا. بل هو دائماً مع المنهج مع القرآن والسنة يدور معهما حيثما دارا، ولا عليه من تصرفات الناس وأخطائهم؛ أخطاء الناس ليست بحجة على الشريعة، الشريعة هي حجة على الناس، ونحن نعرف الرجال بالحق، ولا نعرف الحق بالرجال.

اعتقاد أن النية الطيبة وحدها تكفي

اعتقاد أن النية الطيبة وحدها تكفي وكذلك من معوقات الهداية: اعتقاد أن النية الطيبة وحدها تكفي، وأن الأعمال لا داعي لها ما دام أن القلب طيبٌ وسليم، فنقول: هذا زعمٌ فاسد، الله عز وجل قال لأهل الجنة: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل:32] فالأعمال سبب لدخول الجنة، فإذا لم تعمل، فبأي شيءٍ تدخل الجنة، والله عز وجل مدح الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فإذا لم تعمل الصالحات، فبأي شيءٍ تنجو يوم القيامة؟!: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [البروج:11]، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} [يونس:9] {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} [مريم:96]. هؤلاء الناجون، لكن إذا لم تعمل الصالحات؟ فبأي شيءٍ أو على أي حالٍ تكون يوم القيامة، الإيمان قولٌ وعمل، أما الضلال هم الذين يقولون الإيمان هو: الاعتقاد بالقلب والتصديق فقط.

النظر إلى من هو دونه في الالتزام

النظر إلى من هو دونه في الالتزام ومن معوقات الهداية أيضاً: أن ينظر الشخص إلى من هو دونه في الدين، فيقول: أنا أصلي الصلوات الخمس، فلان يقطع الصلوات، وإذا كان يقطع الصلوات قال: أنا أفضل من فلان؛ فلان لا يصلي أبداً، وإذا كان لا يصلي أبداً، قال: أنا أفضل من البوذي وعابد البقر، فنقول: هذا مفهوم خاطئ وهذه نظرة منحرفة، فإن الإنسان في الدين ينظر إلى من هو أعلى منه، ثم أنه قد جعل لنا قدوة نقتدي به وأمرنا باتباعه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]، {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31] {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90]. لكن متى تنظر إلى من هو دونك؟ في أمور الدنيا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (انظروا إلى من هو أسفل منكم في أمور الدنيا، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم) رواه أحمد ومسلم وغيرهما. فعلى الإنسان أن ينظر إلى من هو دونه في الدنيا، فيرى من هو أسوأ منه حالاً فيحمد الله على النعمة التي هو فيها، لكن في الدين، لا يقارن نفسه بمن هو أدنى منه، وإلا فإنه سينزل درجات أو دركات.

النظر إلى المكاسب والمغانم الدنيوية

النظر إلى المكاسب والمغانم الدنيوية ومن عوائق الهداية: هواة المكاسب والمغانم الدنيوية، فبعض الناس يعملون في أعمال محرمة كرجلٍ يعمل في مؤسسة ربوية، أو في عمل محرم في فندقة أو سياحة يشارك في المحرمات كالفواحش والخمور، ونحو ذلك من الأعمال المحرمة، فإذا جاءه خاطر الهداية، قال: الآن لو اهتديت، وجب علي ترك العمل؛ لأنه محرم يتناقض مع الهداية، فإذا تركت العمل فات المرتب والمرتبة! وأين أجد عملاً آخر؟ أو فاتني الجاه والمنصب، كما وعظ أبو العتاهية الشاعر الخليع أبا نواس فماذا رد عليه أبو نواس، قال: أتراني يا عتاهي تاركاً تلك الملاهي أتراني مفسداً بالنسك عند القوم جاهيِ تريدني أن أصبح متنسكاً فأفسد جاهي عند القوم، أنا محدثهم أو أنا مضحكهم والذي أقص عليهم القصص التي ترفه عنهم ونحو ذلك، فكان مقرباً من بعض السلاطين، وكان يحبه الوجهاء والأغنياء ونحو ذلك من السفهاء والفسقة، فيأتون به يحدثهم ويقص عليهم، فإذا اهتدى معناه أنه سيترك هذه الأجواء وتفوته الأعطيات، أو يكون الإنسان في مكان يأخذ الرشاوى والعمولات، فإذا جاء خاطر الهداية، قال: سيفوتني هذا الدخل وهذه الأموال، هذه أشياء دنيوية زائلة، والدنيا كلها ملعونة بنص الحديث: (الدنيا ملعونة؛ ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه، أو عالمٌ ومتعلم) ثم نقول: إن الله عز وجل يقول: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3]. فاتركها لله يعوضك الله خيراً منها.

حب التحرر وعدم التقيد

حب التحرر وعدم التقيد ومن عوائق الهداية: حب التحرر وعدم التقيد، وإن بعض الناس يعتقد أن الهداية تقييدات وكبت للحريات، وتعتقد بعض الفتيات بأن الالتزام كبتٌ لحريتها، وتركٌ للزينة والخروج والكلام في الهاتف، كما يعتقد ذلك أيضاً بعض الفسقة من الناس يقولون: هذا تقييد، هذه قيود نحن لا نريد القيود، نصافح النساء والأقارب وغير المحارم، نتبرج، نسافر إلى بلاد الكفار، نسيح في الأرض، نسمع ما نشاء، نرى الأفلام، لا نريد الهداية؛ الهداية تقيدنا، وتكبلنا، وهي ثقيلة على النفس. نقول: هذا صحيح، لكن اعلم أنك أن تكون عبداً لله خيرٌ من أن تكون عبداً لشهواتك، وأن الجنة قد حفت بالمكاره، ولا شك أن هذه الأشياء المحرمات تقييد لا شك، لكن من قيد نفسه بالشريعة في الدنيا، أخذ حريته يوم القيامة، ومن كان عبداً لشهواته في الدنيا، فهو من أهل النار يوم القيامة، ثم إن الطاعة فيها حلاوة، وهذا شيء ثابت ومجرب، قاله العلماء والزهاد والعباد، كما قال بعضهم: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة! وقال بعض السلف: إنه لتمر بالقلب ساعة أقول فيها لنفسي: إن كان أهل الجنة دائماً في مثل هذا، فهم في نعيمٍ كبير. فإذاً الإيمان له حلاوة، والحلاوة هذه تنسيك جميع التقييدات التي تتصورها أنت عائقاً عن الهداية.

الخوف من اضطهاد المجتمع والأهل وأذيتهم

الخوف من اضطهاد المجتمع والأهل وأذيتهم ومن عوائق الهداية: خوف الاضطهاد والأذية التي قد تكون من بعض الأقرباء أو أهل البيت، بل قد تكون من الأب والأم والإخوان، أو من زملاء العمل، أو الدراسة، أو الجيران، ونحوهم من أهل الشارع، فيمر المتمسك بالدين بينهم فيستهزئون ويسخرون ويلمزون ويغمزون بمظهره أو لحيته وثوبه، أو حجابها، وربما تعدت الأذية إلى أن يسجن أو يفصل أو يضرب ونحو ذلك من أنواع الاضطهاد والأذية، فنقول: هذه طبيعة هذا الدين: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2]. هذا طريق الأنبياء، الجنة حفت بالمكاره، وليس من الصحيح أن تتصور أنك إذا اهتديت فلابد أن تجد الطرق معبدة مذللة، وكل الناس يضربون لك تحية احترام، لا. فإنك ستصاب بسبب التزامك بالدين بأنواع من الأذى، هذا ما حصل للنبي عليه الصلاة والسلام، سبوه وشتموه وخنقوه وبصقوا في وجهه، وجعلوا الشوك في طريقه، وضعوا سلى الجزور على رقبته عذبوا أصحابه وسلسلوهم بالسلاسل قتلوا بعضهم جرحوهم وحاصروهم في الشعب جوعوهم حملوا السلاح عليهم، إذاً الإنسان الذي يتصور أنه إذا اهتدى سيعيش في أمان وسلام، هذا تصور عن هذا الدين وهو تصور ناقص مشوه ليس بصحيح. نعم. ليس بالضرورة أن تحدث لك مشكلات، لكن إذا حدثت فينبغي لك أن تتوقع ذلك، خصوصاً في هذا الزمان الذي هو زمان الغربة؛ غربة الدين، وغربة الإسلام، وبعض الناس يقول: أنا سأجرب الالتزام والدخول في الهداية وأرى، إذا صارت أموري جيدة والناس احترموني أكملت الطريق، وإلا رجعت، هذا الذي يعبد الله على حرف: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11]. كان بعضهم يأتي إلى المدينة يسلم، يقول: نجرب هذا الإسلام، فإن نتجت خيله ورزق ولداً وجاءه مال، قال: هذا دينٌ حسن، وإذا لم تنتج خيله ولا جاءه ولد، ولا رزق مالاً، قال: هذا دين سوء قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} [الحج:11]. فنقول: التزامك بالدين هذا يكلفك أشياء كثيرة، فيه مصاعب، وفتن، لا شك في ذلك، يتفاوت الناس فيها، ولذلك لابد من توطين النفس على هذا، أما أن نفر من الواقع ونفر من الزحف لأي أذى نصادفه ونرجع وننتكس ونقول: مالنا وللمشاكل؟ ودعونا من الالتزام بهذا الدين فإنه مشاكل ومصائب، فلا شك أن صاحب هذا مسكين، وهو الخاسر؛ لأن هذه الدنيا زائلة وماضية وعابرة بكل ما فيها من الفتن والاضطهادات والمشكلات، فهي زائلة وعابرة، والحياة الحقيقية في الآخرة: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:64]. الحيوان: الحياة الأبدية الدائمة المستقرة. وبعد ما عبرنا على بعض الأمور التي تتعلق بالهداية، فإننا نتكلم -إن شاء الله- في الشق الثاني من هذا الموضوع عن قضية الانتكاس.

الانتكاس

الانتكاس قد سبق الكلام في موضوع الانتكاس في بعض المحاضرات الماضية، ونريد أن نجدد بعض المفاهيم والتصورات، وأن نعيد إلى الأذهان بعض القضايا المتعلقة بذلك، ولأبدأ هذا الشق معكم ببعض الرسائل التي جاءتني متنوعة، اخترت منها رسالة من عامل ورسالة من فتاة، ورسالة من شاب، ورسالة من داعية، كلها تتعلق بموضوع الانتكاس. فلنقرأ بعض هذا، ثم نبين بعض الأسباب والعلاجات.

رسالة من شاب منتكس

رسالة من شاب منتكس هذه رسالةٌ من شابٍ تائهٍ يتخبط، فأرجو أن تقرأ رسالتي بدون ملل لأهميتها القصوى وأرجو الرد عليها بسرعة. أنا شابٌ عمري ثمانية وعشرون سنة، حاصل على الشهادة الفلانية ومتزوج وعندي طفلان، وأتيت للعمل، وراتبي كذا، وقد انقلبت حياتي رأساً على عقب، فأنا كنتُ في بلدي شاباً ملتزماً جداً، وأصلي الصلوات الخمس في وقتها، وفي الشتاء والليل والبرد القارس وأصلي الفجر، وأقوم الليل، وأقرأ وأحفظ القرآن وأزور في الله وأتصدق. ولا يفوتني درسٌ علميٌ ديني، وكنتُ أدعو الله ولا أسمع الأغاني، وإذا رأيت تلفازاً أدرت له ظهري والنساء عندنا عاريات وبرغم ذلك كنتُ أغض بصري، وغير ذلك من أعمال الخير ولا أزكي نفسي على الله، ولكن ماذا حدث لي الآن؟ انظر الفارق بين القلب الخير والقلب القاسي أصبحتُ لا أصلي في المسجد سوى وقتين أو ثلاثة، ولا أصلي الفجر إلا قليلاً، أستمع إلى الغناء، وأشاهد التلفاز، بل في بعض الأحيان الفيديو، ولم أحضر درساً علمياً واحداً سوى خطبة الجمعة، ومع أن النساء في حجاب أحسن حالاً في المكان الذي أنا فيه، رغم ذلك أنظر إليهن، ونسيت ما حفظته من القرآن، وألغو في كلامي، وأتحدث ما كنتُ أستحي منه قبل ذلك، وغير ذلك من الأمور التي أستغرب أنا شخصياً من فعلها، وهذا التحول له أسباب منها: أولاً: أنا أسكن مع شابين لا يحلون حلالاً ولا يحرمون حراماً إلا نادراً، ويستمعون الغناء والموسيقى والتلفاز بكثرة، وقد جاهدتهم ولكن أصبحت أخوض معهم، ليس عندي وقت لحضور دروس العلم، ووجدت الناس قلوبهم مغلقة وقاسية ولا هم له سوى جمع المال، لا أجد أصدقاء يعينوني على طاعة الله، وكذلك فإنني أبيع العطورات، وتدخل علي النساء وهن على كل شكلٍ وقد تطلب الواحدة مني وتقول: هل تبغي؟ فإذا وجدتني أصمت من هول الصدمة تلاحقني، وتقول: هات مائتين ريال وهيا، وفي مواجهة هذه الفتنة قمت بأعمال العادة السرية التي لم أستعملها في حياتي، وأنا الآن بعيدٌ عن أهلي إلى آخر الرسالة.

فتاة تشكو الانتكاس

فتاة تشكو الانتكاس وهذه رسالة من فتاةٍ تقول: كنتُ أعيش في هذه الدنيا في طاعة الله، وأصلي وأتصدق وأذكر الله عز وجل، وكنتُ أقوم بأعمالٍ كثيرة من الطاعات، ولكن الآن انقلب أمري رأساً على عقب، فصرتُ لا أصلي وأكره الصلاة، وقطعت رحمي ونسيتُ أهلي وتشاحنت مع أخواتي على دنيا فانية، واغتبت أختي، وكذلك فإنني الآن حزينة على نفسي أشد الحزن، ولا أدري كيف لا أعود عن خطئي، وأنا الآن غافلة وتراودني المشاعر للتوبة الصادقة، ولقد ظلمت نفسي وضيعتها وأهويتُ بها في الجحيم كل ذلك حدث خلال سنةٍ واحدة، أقطع الصلوات، وصيامي عن الطعام والشراب فقط، كنتُ أقسم مصروف المدرسة بيني وبين الصدقة، والآن لا أخرج شيئاً، وإن سألتني عن لساني فلقد اتخذت الكذب هواية، والغيبة فاكهة، والنميمة وسيلة لأعيش بها، والشتائم والمسبات صارت روتيناً دارجاً لا أستطيع تركه، وإن سألت عما أرى فإنني أرى الأفلام ولا أغض بصري، وأسهر على المسلسلات، وأذني لسماع الموسيقى والأغاني، والحسد قائم، وأنا عاقةٌ لوالدي، وأهملت حتى في الدراسة إلى آخر هذه الرسالة الطويلة. ورسالة أخرى من شاب من المغرب يقول: كنتُ في بيتٍ تربيت فيه تربية دينية وأحافظ على الصلوات منذُ الصغر، وأرافق والدي إلى المسجد وأنا ابن ثلاث سنين، وأتقنت كل العبادات، وأحسست برضا الله ورضا الناس، وكنت الوحيد الذي يدخل المسجد في سن مبكرة كسني، وكانت تلك السنوات أحسنها ما في تاريخ ميلادي، لكن ما أن وصلت إلى سن المراهقة بدأت أتأخر في صفوف المصلين، وفجأةً انقطعت عن الصلوات، ورافقت أصدقاء السوء من حولي، وفارقت بلدي للدارسة فانقطعت عن أهلي ووالدتي، وتولد عندي مرضان خبيثان، مرض حب المال وحب الشهوة! واستعملت ذلك فيما حرم الله ووقعت على الأخص في فواحش الزنا واللواط حتى بالحيوانات والسرقة من الأسرة، وأكل أموال أصحاب الدين، والغش وإلى آخره. وعرضتُ عن كتاب الله، وانكببت على قراءة الكتب الخليعة ومشاهدة أفلام الجنس، ولم أعمل بأحكام كتاب الله، مع العلم أنني أعرفها تمام المعرفة، وأعرف الفرق بين الحلال والحرام، والمكروه والمستحب، كلما تذكرت ذلك يحترق قلبي ألماً وحزناً حتى دراستي التي كنتُ متفوقاً فيها أصبحت في هذه السنة أنفر منها إلى آخر الرسالة الطويلة.

رسالة من داعية يشكو كثرة المنتكسين

رسالة من داعية يشكو كثرة المنتكسين وهذه الرسالة الأخيرة من داعية من إحدى المدن يقول: أكتب إليك هذه الرسالة بمدادٍ من الأسى والحزن، ومزيد من التحرق والتأسف بسبب الواقع المرير الذي تعيشه مدينتنا، الذي يتألم منه كل من في قلبه غيرة على دين الإسلام، ويبكي منه كل من يرى تدهور هذا الحال والرجوع إلى الخلف، وكأننا نسير بعكس ما يسير عليه العالم من الصحوة والرجوع إلى الله، وألخص هذا الواقع في النقاط التالية: أولاً: منذُ فترة ونحن نرى حالات كثيرة من الانتكاس والانحراف بين شباب هذه المدينة، فهذا شابٌ سلك الصراط المستقيم منذُ سنتين أو ثلاث، وفي هذه الأيام الأخيرة انتكس وانحرف إلى حالةٍ شديدة، سهر على الحرام ومشاهدة الخنا والفجور وسماع الغناء والمعازف وترك الصلاة، وعقوق الوالدين، وجولات على السيارات في الأسواق معاكسات تفحيط في الشوارع فعل الفواحش إلى آخره.

انتكاس شاب عمره خمس عشرة سنة

انتكاس شاب عمره خمس عشرة سنة وهذا شابٌ آخر عمره خمس عشرة سنة تقريباً كان في جاهليةٍ وفسق، فبدأ يماشي الشباب الملتزم فترةً ليست بالقصيرة منذُ صغره، وفي هذه الأيام استطاع الشباب الفاسد أن يذهبوا به إلى صفوفهم، وأن يجعلوه واحداً منهم، وصار أسوأ مما كان عليه أولاً، والحالات كثيرة جداً يطول عدها وسردها في هذا المقام: ولكن هذه مجرد أمثلة لهذا التساقط المؤلم، وكثرة الانحرافات التي جعلتنا نتوقع أن أي ملتزم وتائب جديد قد ينحرف بعد فترة قصيرة لما يراه من الواقع المرير، وأصبحنا نخشى على كثيرٍ من الشباب مهما كان عهدهم بالالتزام قديماً. ثانياً: لم تنفع المناصحة لمثل هؤلاء المنحرفين ولا الرسالة ولا الشريط الإسلامي ولا المكالمة الهاتفية ولم تجد معهم طريقة. في أول الأمر: يبدأ بالمجاملات والمداهنة معنا في أول انحرافه ثم يعلنها أخيراً أنه ترك الالتزام وسلك طريق الفسق. وكثيرٌ من هؤلاء يعطيهم آباؤهم السيارات ويطلقون العنان لهم في الفساد. ثالثاً: ونحن نعتقد أن هناك بعض الأشياء المدبرة من بعض أصحاب السوء من المنافقين، حتى أن بعضاً من الشباب الفاسد يظهر الالتزام مدة قصيرة، ويدخل بين أوساط الملتزمين، ولكنه ينحرف ساحباً معه اثنين أو ثلاثة، وخاصةً من الصغار إلى آخر هذه الرسالة. وهذه الرسائل تعبر عما نريد أن نتكلم عنه في قضية الانتكاس.

أسباب الانتكاس

أسباب الانتكاس لما تكلمنا عن موضوع الهداية -أيها الإخوة- والأسباب التي تجعل الإنسان يهتدي إلى الله عز وجل، لابد أن نتحدث في المقابل عن قضية الانتكاس التي تصيب بعض الذين يدخلون في هذا الدين ويسلكون سبيل الاستقامة، ونحن لا نريد أن نهول الأمر، ونقول: ليست هذه هي الأكثرية والحمد لله، بل إنه ولله الحمد الذي يدخل في هذا الدين، ويعرفه، قلما يتركه، وإنما الترك يكون من الذين في قلوبهم مرض ولا شك في ذلك، ممن في قلبه مرض من الأمراض فيترك الالتزام بهذا الدين، أما إنسان دخل الدين وعرفه وعرف الحق وذاق حلاوة الإيمان وجاهد نفسه، فإن الله لا يضله، فالله رحيم بعباده. ومسألة الانتكاس هذه مسألة نسبية، فمن الناس من يرتد عن الدين، بمعنى يخرج منه بالكلية، فيصبح كافراً بعد إسلامه: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [البقرة:217] وبعض هؤلاء قد يكفرون بترك الصلاة بالكلية مثلاً، أو سب الدين والاستمرار على ذلك، أو غير ذلك من المكفرات، وبعض الناس يترك الالتزام إلى الفسق فيعمل بعض المنكرات والمحرمات يقع فيها مرةً أخرى، فيعود إلى أمور من الشهوات المحرمة، أو الأشياء الأخرى كأن يحلق لحيته ويدخن ويسمع الأغاني ويشاهد الأفلام وهكذا. ومن الناس من لا يفعل المحرمات لكنه يبرد بروداً ويفتر فتوراً مذموماً، فبعد أن كان داعية إلى الله نشيطاً يطلب العلم، أصبح غير طالب للعلم ولا داعية إلى الله، يعني: يترك واجبات من الدين، فيكون مقصراً ويقول: أنا أريد أن أصبح مسلماً عادياً، وطبعاً هذا في الغالب يترك النوافل والمستحبات كقيام الليل وقراءة القرآن والصدقة والذكر تخف عنده جداً، وبعض الناس قد يترك المستحبات فترة لفتور ثم يعود مرةً أخرى، هذا وضع طبيعي، أقصد: أنه في دائرة المقبول: (فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى) إذا كان الفتور لا يجعلك تترك واجباً، أو ترتكب محرماً فأنت بخير، لكن النظر الآن في الانتكاس في هؤلاء الذين يعودون ويرتدون على أدبارهم. لقد حفل التاريخ بقصص وأنواع من الناس الذين ارتدوا على أدبارهم، كالكاتب النصراني الذي أسلم وكان عند النبي صلى الله عليه وسلم فترة ثم ارتد، والناس الذين ارتدوا بسبب حادثة المعراج التي لم تقبلها عقولهم وتصدقها فارتدوا، وبعض الناس الذين ذهبوا إلى مكانٍ بعيد، كما تنصر عبيد الله بن جحش لما ذهب إلى الحبشة، إن هؤلاء ومثلهم الذين دخلوا في هذا الدين هو ينطبق عليهم قول الله عز وجل: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [الأعراف:175 - 176] إذاً هو الذي اتبع هواه: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف:176] لابد أن يعلم المنتكس أن الله ناصرٌ دينه مهما حصل من حالات الانتكاس: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة:54]. وهدد الله هؤلاء المنتكسين المرتدين على أدبارهم بقوله: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38]. نقول: أيها الإخوة! إن اتساع الصحوة وانتشارها جعل هناك حالات كثيرة من الدخول في طريق الهداية، وتسببت بعض الأشياء في خروج بعض الذين دخلوا من طريق الهداية مرةً أخرى.

عدم معرفة الدين كاملا يسبب الانتكاس

عدم معرفة الدين كاملاً يسبب الانتكاس ونريد أن نتكلم عن بعض الأسباب التي تؤدي إلى هذا الأمر، ونتحدث ونحن نعلم أن الله سبحانه وتعالى لا يضل إنساناً يريد الهداية، ولعل من أعظم الأسباب: أن بعض هؤلاء المنتكسين لما دخلوا في طريق الهداية دخلوا في أوله، لم يدخلوا فيه بالكلية، وإنما ذاقوا شيئاً من الحلاوة، عرفوا شيئاً من الحق، عرفوا شيئاً من العلم، لكنهم لم يسلكوه كما ينبغي وكما يجب، ولذلك الذي بدأ في أول الطريق يسهل عليه أن يعود، بخلاف الذي دخله دخولاً تاماً، فنجد أكثر هؤلاء المنتكسين الذين ينتكسون بعد فترة وجيزة من التزامهم، وليس الأكثرية الذين ينتكسون بعد فترة طويلة من الالتزام، أناس تغير واقعهم فترة وجيزة من الزمن، أطلق لحيته، حافظ على الصلوات في المسجد، بدأ يقرأ بعض الكتب، يسمع بعض الأشرطة، يحضر بعض الدروس، ثم بعد ذلك يرجع مرةً أخرى وينتكس، هذا الشخص ما فقه دين الله عز وجل، ولا دخل نور الإيمان في قلبه كما ينبغي، هذا عرف طرفاً وعرف شيئاً وذاق شيئاً، ثم رجع مرةً أخرى.

خطأ الاقتداء والتعلق بغير المنهج الإسلامي

خطأ الاقتداء والتعلق بغير المنهج الإسلامي ونقول: إن السبب في كثير من الحالات هو خطأ الاقتداء، فبعض هؤلاء دخل في طريق الهداية لارتياحٍ عاطفي، أو تعلقٍ بشخص (بشخصه) لا بمنهجه ودينه، تقبل الأحكام؛ لأنه خرجت من فم فلان، يصبح فلان كأنه هو الوسيط بينه وبين الله، فإذا ابتعد فلان أو سافر حدثت المشكلات وصار الانقلاب، وإذا رجع فلان تحسنت أحواله، نقول: إن فساد الاقتداء هو سبب انتكاس هذا الشخص، وبعض الناس يكون عنده من يسانده من قريب أو صاحب فإذا غادره ابتعد عنه وحصلت الزلزلة والانتكاس، إن هذا لم يعتصم بالله، ولم يقبل على الله، إنه لم يأوِ إلى ركنٍ شديد، ولذلك تراجع، ولذلك قضية التعلق بالأشخاص دائماً من الأسباب التي تكون في الانتكاس: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً} [آل عمران:144] ينبغي أن يكون التدين لله.

سلوك طريق الهداية لأغراض فانية

سلوك طريق الهداية لأغراض فانية ومن الأسباب أيضاً التي تكون الانتكاس: أن يكون دخول بعض الناس في هذا المشوار طريق الهداية لأجل تحصيل منفعة دنيوية، كما يدخل بعضهم في جمعيةٍ أو نشاطٍ إسلامي، يبتغي السمعة أو الدرجات ونحو ذلك، أو أنه يريد أن يخطب فتاةً أو امرأةً فيتبين فترة من الزمن حتى إذا سألوا عنه قالوا: صاحب دين، أو أنه يريد أن يدرس في كليةٍ شرعية ولا يناسب الحال أن يكون مظهره منحرفاً فهو يريد أن يتوصل إلى وظيفة في القضاء أو غير ذلك، فيغير من شكله أو طريقته لأجل المنصب والوظيفة، هذا الشخص ما غير لله، إنما غير لطمع ومنفعة دنيوية، ولذلك فإن الانتكاس غالب في حال مثل هؤلاء الأشخاص. والذين يدخلون الدين ويتوقعون أن ينتفعوا، وأن يقدم لهم الآخرون الخدمات، هؤلاء الأشخاص ما دخلوا في الدين لله، ولذلك فإن رجوعهم متوقع وليس بغريبٍ أبداً، بل هو الأقرب، لذا لابد للإنسان إذا دخل في الدين أن يدخل لله، وأن يجرد نفسه من جميع المطامع الدنيوية، ليس الدخول في البداية -أيها الإخوة- تجربة لكي يقول الشخص: أفعل وأقرر بعدها ماذا أفعل؟! بل هو الخيار الوحيد الذي ليس لك غيره، لأنه ليس ثم إلا النار بعد ذلك.

عدم التخلص من شوائب الماضي

عدم التخلص من شوائب الماضي وبعض الناس يكون من أسباب انتكاسهم أنهم لا يخلصون أنفسهم من شوائب الجاهلية بالكمال، فيدخل في الدين ويدخل معه أنواعاً من المنكرات يقيم عليها وتكون هذه المنكرات سبب انتكاسهم في المستقبل، فمن ذلك ألا يقطع الصلة بأصحاب السوء، مع أن قطعها واجب، والرجل العالم لما نصح قاتل المائة بالخروج من البلد بماذا نصحه؟ لأن البلد بلد سوء، اذهب إلى قرية كذا وكذا فإن فيها أناساً يعبدون الله، فاعبد الله معهم، لا يصلح أن يكون الشخص كالشاة الحائرة بين الغنمين، يذهب إلى هؤلاء ثم إلى هؤلاء، يلقى هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه، هذا لا يجوز، لابد أن يقطع الصلة بأصحاب السوء والماضي السيئ، لا يجوز أن يبقي شيئاً يذكره بالماضي السيئ، فإن بقاءه سبب من أسباب الغواية والرجوع إلى الفساد. ثم إن الشخص الذي يدخل في الهداية لابد أن يوطن نفسه على التربية، لا بد أن يتربى على هذا الدين، يتعلم هذا الدين، يمارس العبادات، يدخل مع الرفقة الطيبة، يعمل للإسلام، العمل للإسلام من أكبر المثبتات التي تثبت الشخص؛ لأنه يكون في حالة هجوم، بينما لو قعد وقال: أنا أريد أن أكون مسلماً عادياً هذا ستتناوشه المهلكات من كل جانب، ولذلك ينبغي أن يمارس الإنسان التربية في نفسه طلب العلم الدعوة إلى الله عز وجل، إذا مارس ذلك حافظ على نفسه من الانتكاس.

عدم الإكثار من سماع المواعظ

عدم الإكثار من سماع المواعظ وكذلك فإنه لا يصلح أن يكون السبب الذي يبقينا في دائرة الهداية هو أثر من موعظةٍ سابقة دون ازدياد من مواعظ أخرى، أو أثر من علمٍ سمعناه دون ازدياد من العلم، أو أثر من أخوةٍ طيبة دون الازدياد منها، لابد من الازدياد وتأسيس النفس على تقوى من الله ورضوان.

الانعزال عن الرفقة الصالحة

الانعزال عن الرفقة الصالحة ثم إن بعض الناس الذين يميلون إلى الفردية، ولا يريدون أن يعيشوا في جو الأخوة الإسلامية والجماعة الطيبة والرفقة الصالحة، هؤلاء من أكثر الناس تعرضاً للانتكاس، فهذا الدين قائم على أن يكون المؤمنون كالجسد الواحد، والله سبحانه وتعالى امتن على عباده بأن ألف بين قلوبهم، ولذلك يا أيها الإخوة! قلنا في أول محاضرة عندما تكلمنا عن تذكير النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار: (كنتم ضلالاً فهداكم الله بي) كانوا متفرقين فألفهم الله وجمعهم بالنبي صلى الله عليه وسلم، فهذا دين جماعي، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية. ولابد أن يعلم الشخص كذلك أن الالتزام ليس له حدٌ محدد والهداية ليس لها حدٌ محدد، فلابد أن يستمر في العمل، لسنا كـ الصوفية الذين يقولون: إذا وصلت إلى مرتبة اليقين سقطت عنك التكاليف، لا شيء اسمه سقوط التكاليف، لابد أن نستمر في العبادة.

الآفات القلبية سبب للانتكاس

الآفات القلبية سبب للانتكاس وكذلك من الأمور المهمة: أن نطهر أنفسنا من الآفات القلبية؛ فالآفات القلبية خطيرة جداً، فمثلاً: العجب الغرور الكبر، هذه الأمور التي تكون عند بعض الناس ولا تظهر؛ لأنها خفية خصوصاً إذا صار معها شهوات خفية، كحب الرئاسة، وحب الظهور، لابد أن تؤدي إلى قضايا من مراءاة الخلق، وإلى التعاظم والانتكاس في النهاية، كما حصل لبعض الناس الذين كان بعضهم من أهل العلم، لكن بسبب ما كان في قلوبهم من هذه الآفات، حصلت عندهم هذه الانتكاسات، وقد ذكر العلماء حالات من ذلك، قالوا: كان فلان من الذين يطلبون الورع والزهد وقيام الليل واقتفاء آثار العباد، وكنا نجتنب المزاح بحضرته، وبعد ذلك فتن وتراجع وسقط، فتنته إحدى بنات الحرس وألقت عصاها به، فافتتن الرجل وانتكس ورجع، وفلان اختصر كتاب كذا، كان يعلم في القراءات ونحو ذلك وكان مجتهداً ومثابراً على النسخ، ولكن حصل له خذلان وتراجع، جاءت فترة ضعف والرجل ما جاهد نفسه ولا قاوم نفسه، فنسي كل شيء. وآخر عشق فتىً نصرانياً حتى ترك العلم وأهل العلم، حتى ألف لهذا النصراني كتاباً في تفضيل التثليث على التوحيد. فإذاً هذه القضايا الداخلية قضايا خطيرة جداً، لابد أن تعالج من البداية، فإذا تركت قضية العجب والغرور وحب الرئاسة فإنها تستفحل وتستشري وتقضي على الشخص في النهاية.

الشعور بالكمال سبب في الانتكاس

الشعور بالكمال سبب في الانتكاس وكذلك من أسباب الانتكاس إحساس بعض الناس أنه صار كاملاً لا ينقصه شيء، ولذلك يكون هذا من أسباب كبره وعجبه بنفسه، فيسقط بعد فترة من الزمن. وكذلك الحسد، فكم تسبب في فتنة أناس، والتساهل واتباع الرخص واحتقار الصغائر من الأسباب التي تؤدي إلى الانتكاس، قيل لبعض أهل العلم: إن فلاناً يبيح الغناء، وفلاناً يبيح النبيذ وفلاناً يبيح كذا، قال: إن الذي يبيح الغناء لا يبيح النبيذ، والذي يبيح النبيذ لا يبيح الغناء، ونحو ذلك، فهذا يتتبع سقطات العلماء ويأخذ بالرخص، ويجمعها معاً فيتبعها. فهذا العالم أخطأ، سواء أخطأ لجهل أو هوى أو أخطأ لاجتهادٍ خاطئ، وإذا تتبعت الرخص خرجت من الدين، ولذلك فالذي يقول: والله فلان رخص في الأخذ من اللحية، وفلان رخص في الغناء إذا كان ما فيه أشياء من وصف النساء، والموسيقى إذا صارت هادئة لا بأس ونحو ذلك من الأشياء، فإن هذا هو بداية الانتكاس بل هو الشروع في الانتكاس فعلاً، إن تتبع الرخص من المشكلات والقضايا الخطيرة التي أودت بأشخاصٍ كثيرين وأوصلتهم إلى معسكر أهل الباطل.

عدم هجر قرناء السوء

عدم هجر قرناء السوء ومن الأمور التي ينبغي الحرص عليها كذلك وتجنبها: عدم مخالطة أهل السوء والاستئناس بهم، وعدم القعود معهم، لا يجوز أن نقعد معهم لغير حاجة شرعية، مصلحتها راجحة، وبعض الطيبين يتساهلون في الجلوس مع أهل الفسق والفجور، ولابد أن يأخذ منهم وأن يتأثر بهم، ولو سألته وقلت: أجبني بصدق: عندما خرجت منهم هل قلبك على الحال التي كان عليها قبل الدخول عليهم؟ أبداً لا يمكن أن يكون كذلك، وهذه المسألة -الجلوس مع الفسقة إيناساً لهم أو استئناساً بهم- هي من أسباب الانتكاس ولا شك. فلا يجوز الجلوس معهم، الله سبحانه وتعالى نهانا عن الجلوس مع هؤلاء. وقلنا قبل قليل قضية التهاون بالصغائر، مثل نظرة إلى امرأة أجنبية، تكون هذه هينة، أو مشاهدة شيء محرم يستهين به، ثم يستمر شيئاً فشيئاً كما قال بعضهم: كنت أولاً أرفض أي نوع من أنواع الرشوة ولا أقبل أي هدية، ثم قال: صرت أنتقي أقول: هذا يمكن ما يتأثر ولا يطلب مني شيئاً يتعلق بالوظيفة فآخذ منه، ثم فتحت المجال قليلاً فصرت آخذ بشروط، أقول: هات هدية هات كذا لكن بشرط أن لن أفعل خدمة، ثم تنازلت عن الشرط وفي النهاية قال: صرت أنتقي الهدايا انتقاءً وأشترط في النهاية، أقول: لا بد أن تأتي لي بكذا. فالناس الذين يتساهلون في البداية يتسع الخرق عليهم في النهاية، ولذلك لنجتنب الصغائر وهي محقرات الذنوب؛ لأن الإنسان يحتقرها وهي التي تورد المهالك: (يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه) وبعض الناس يقول: أترك حضور اجتماع العمل لأجل الصلاة ماذا يقولون عني؟ قد يكتب فينا المدير تقريراً سيئاً، قد يخصم علي كذا، أو أمنع من الترقية، طالب يحضر فيلماً في موسيقى ويتساهل في ذلك يقول: يخصم علي درجات أو يسجلني غائباً أو يستهزئ بي الطلاب في الفصل، نقول: هذه بداية التنازلات، أيها الإخوة! سلم التنازلات لا ينتهي، والإنسان إذا تعود واستمرأت نفسه التنازل سهل الذي يليه، وهكذا حتى يقع في النهاية.

الاشتغال بالدنيا

الاشتغال بالدنيا من أسباب الانتكاس: الاشتغال بالدنيا، فبعض الناس كانوا عباداً زهاداً أتقياءً دعاة، يطلبون العلم، اشتغلوا بالتجارة، وبعضهم ربما اشتغل بالتجارة لسبب ديني أن يقول: أكسب عيشاً حلالاً وأتصدق وأدعم المسلمين بدلاً من أن أترك الفسقة يعملون أنا أدخل في التجارة، لكن لا يدخل بمقدمات صحيحة، ولا بعهدٍ متين مع الله، ولا بنفسية خالية من الشح، ولكنه يدخل على وهنه، ويتغير شيئاً فشيئاً، حتى يكون في النهاية بعض الناس المتساهلين من التجار أحسن منه وأكثر صدقاتٍ منه، ويتوسع ويتوسع حتى يقع في الحرام، ويترك الواجبات وقد لا يخرج صدقة فصدقاته شحيحة، لو قارنت نسبة الصدقات التي كان يتصدق بها وهو طالب لوجدت رصيد التصدق وهو طالب أكثر مما تصدق وهو تاجر: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [التوبة:75 - 76]. فانتبهوا يا أيها المشتغلون بالتجارة المقبلون على الدنيا أو طلب الوظائف الكثيرة، أو العمل في أكثر من وظيفة، لربما تكون هذه الوظائف سبباً في فتنتك وانتكاستك، ولا تجد وقتاً للعبادة، إن الضرورة لها حالات، لكن الذي يقبل للتوسع في الدنيا يكون هذا من أسباب انتكاسه، وبعض الناس ينتكسون بسبب التخويف والإرجاف، فيسمع عن حالات، أو يسمع عن تعذيب، وسجن ونحو ذلك وابتلاءات وقعت لبعض الناس فيخاف ويخشى الناس وينسحب! ينبغي أن يكون حالنا كما قال الله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173]، هذا هو الحال، لا أننا إذا سمعنا الأخبار أو تطايرت الأنباء، خفنا وجبنا وتراجعنا وانسحبنا، أو إذا حصل لأحدٍ شيء خاف الآخرون وتركوا التمسك بالدين، هذا فعل الذي لم يثبت، ولم يشأ الله أن يثبت قدميه على طريق الهداية.

السفر إلى بلاد الكفار

السفر إلى بلاد الكفار ثم إن من الأمور المهمة التي ينبغي أن تجتنب حتى لا يقع الانتكاس: ترك الصحبة الطيبة والابتعاد عنهم، كم كانت الإجازات والسفر إلى الخارج والابتعاد عن أهل الخير في هذه السياحة ونحوها من الأمور التي أردت بأشخاص كان لهم فضل ودين وعلم ودعوة في أسفل السافلين! ورجعوا وقد تغيروا بعضهم أسبوعين، أحدهم ذهب إلى أمريكا دورة أسبوعين فقط، كان يعبد الله وحالته طيبة ورجع مقلوباً رأساً على عقب، معجب بالكفار أيما إعجاب، ماسك للشوكة باليسار والسكين باليمين، وقد كان قبل قليل -أسبوعين- يعرف السنن ويقوم بالعبادات، وهو الآن رجع منقلباً تمام الانقلاب، فنقول: لا شك أن الذهاب إلى بلاد الكفار بشكل عام وكذلك الابتعاد عن الطيبين بشكل خاص من أسباب الانتكاس. بعض الأقارب يكون فيهم فسق، فيضغطون على الإنسان وينتقدونه ويهاجمونه ويقاطعونه ويحرمونه من العطايا وربما من الإرث ومن المصروف وربما طردوه من البيت وتعاونوا عليه، وجعلوا المغريات أمامه، وجلبوا الأفلام إليه والصور وأمروه بمصافحة بنت عمه أو بنت خاله ونحو ذلك، أو أن هذه تشد أمها الحجاب من على رأسها، وتراقبها عند الخروج من البيت تتأكد هل هي مستمرة في عدم الحجاب أم لا، هذا الإكراه الذي يحدث لابد أن يستعين فيه الإنسان بالله، وأن يعتصم بالله عز وجل. نعم. إنه لا يأثم إذا أكره، لكن لابد أن يكرهه بقلبه، بعض الناس يزول كراهية المنكر بقلبه إذا أجبر عليه وهذه خطورة، نحن لا نقول: يأثم إذا أكره لكن لابد أن يستمر على كره هذا المنكر في قلبه، وأن يصبر على هذه الفتن وعلى هذه المحاكمات التي قد يعملونها له، أو يشهرون به في المجالس ويستهزئون به فيعلم أن هذه سنة المرسلين، وتعلم المرأة التي هددها زوجها بالطلاق لنزع الحجاب أن الدنيا ابتلاءات وأنها فتن، فتصبر على ذلك. وكذلك أيها الإخوة: فإننا أيضاً نذكر في هذا المجال بقضية طاعة الله عز وجل إذا خلا الإنسان بنفسه، وأن الخلوة بالنفس ينبغي أن يكون الإنسان فيها مستحضراً لمراقبة الله عز وجل له، وأن يعلم أن الله مطلعٌ عليه، ناظرٌ إليه، يرى حركاته وسكناته، ولابد على الإنسان إذا أحس بشيءٍ أن يرجع، إذا قصر في صلاة الفجر أن يعود مرةً أخرى، ثم إننا نوصي الدعاة إلى الله عز وجل بالحكمة في معالجة المنتكسين بالصبر والمواصلة والتذكير بالماضي وانتقاء الأشخاص المؤثرين الذين لا يكرههم الشخص ولا زالت تربطهم به علاقةٌ طيبة. ونذكر بالقاعدة في الهجر، القاعدة الشرعية: إذا أدى الهجر إلى منكرٍ أكبر وساءت أحوال الشخص أكثر لا يجوز الهجر، وإذا كان الهجر علاجاً يرده فالهجر يكون هجراً شرعياً، وقلَّ من الناس من يفقه ذلك. ولابد لأهل التربية أن يربوا الناس على دين الله عز وجل، وليس على التعلق بالشخصيات، لابد أن تكون الأسس قوية، والإنسان كذلك أن يذكر الناس الذين فيهم ضعف، أنه مهما رأى المنتكسين من حوله والمتساقطين، فإن ذلك لا يصلح أن يدفعه للتشبه بهم أو أن يبرر انتكاسه بهذا أبداً. إذا نوقش واحد من هؤلاء يفوته الظهر والعصر لينام وقد يكلم النساء بالهاتف فإذا نوقش قال: فلان كذا أنت تكلمني بينما فلان يفعل ذلك، وفلان انتكس، وفلان كان ملتزماً وانتكس، فنقول: هذه محاولة التبرير فاشلة لا تصلح أبداً ولا تكون عذراً عند الله سبحانه وتعالى. ونسأل الله عز وجل أن يهدينا وإياكم الصراط المستقيم. وأن يثبتنا على الدين القويم، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا. وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

حديث علي وفاطمة رضي الله عنهما في الذكر قبل النوم

حديث علي وفاطمة رضي الله عنهما في الذكر قبل النوم ورد في السنة كثير من الأحاديث التي فيها بيان لأذكار النوم والحث على المداومة عليها، ومن هذه الأحاديث حديث علي وفاطمة رضي الله عنهما، وهذا الحديث هو عنوان هذا الدرس، وقد شرحه الشيخ ذاكراً الروايات المختلفة التي وردت في الحديث، وقام باستنباط كثيراً من الفوائد منه.

شرح حديث علي وفاطمة

شرح حديث علي وفاطمة الحمد لله والصلاة والسلام على نبي الله محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد: فحديثنا في هذه الليلة -أيها الإخوة- في سلسلة الرقائق، وهو حديث علي رضي الله عنه: (أن فاطمة عليها السلام شكت ما تلقى في يدها من الرحى فأتت النبي صلى الله عليه وسلم تسأله خادماً، فلم تجده فذكرت ذلك لـ عائشة فلما جاء أخبرته قال: فجاءنا وقد أخذنا مضاجعنا فذهبت أقوم فقال: مكانك، فجلس بيننا حتى وجدت برد قدميه على صدري، فقال: ألا أدلكم على ما هو خير لكما من خادم؟ إذا أويتما إلى فراشكما أو أخذتما مضاجعكما فكبرا أربعاً وثلاثين، وسبحا ثلاثاً وثلاثين، واحمدا ثلاثاً وثلاثين فهذا خير لكما من خادم). وهذا الحديث رواه الإمام البخاري رحمه الله تعالى في ثلاثة مواضع من كتابه الصحيح أو في أربعة. والقصة يقول فيها علي رضي الله عنه: إن فاطمة شكت ما تلقى في يدها من الرحى، والرحى: هو آلة الطحن التي كان يطحن بها، وأرته أثراً في يدها من الرحى، واشتكت فاطمة رضي الله عنها مجل يدها، والمجل: هو التقطيع الذي يحصل لليد نتيجة العمل، وهو غلظ اليد الذي يحدث عند مباشرة الأعمال، فكل من عمل عملاً بكفه تجد فيه تقطيعاً إذا كان يمارس العمل بكفه دائماً، فيقول علي رضي الله عنه -وهو الزوج المشفق على زوجته ولاشك أن النبي عليه الصلاة والسلام عرف من ينتقي لابنته- يقول علي رضي الله عنه، قلت لـ فاطمة: لو أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فسألته خادماً فقد أجهدك الطحن والعمل، وفي رواية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما زوجه فاطمة، قال علي لـ فاطمة ذات يوم: [والله لقد سنوت حتى اشتكيت ظهري، فقالت: وأنا والله لقد طحنت حتى مجلت يداي] ومعنى سنوت: يعني: عملت مكان السانية، والسانية: هي الناقة التي تسحب الماء من البرك فيقول علي رضي الله عنه: من الحاجة عملت عمل الناقة في سحب المياه من الآبار بالدلاء لأجل الأجرة، فقالت فاطمة: [وأنا والله لقد طحنت حتى مجلت يداي] فهذه فاطمة رضي الله عنها جرت بالرحى حتى أثرت في يدها، واستقت بالقربة حتى أثرت في عنقها، وقمت البيت حتى اغبرت ثيابها كما جاء في رواية أبي داود لهذا الحديث. وفي رواية: وخبزت حتى تغير وجهها؛ لأن الخباز مع لفح نار الفرن يتغير لون وجهه كل ذلك حصل لـ فاطمة رضي الله عنها، فاقترح عليها علي رضي الله عنه أن تذهب إلى أبيها تطلب خادماً، حيث إن علياً لم يستطع أن يوفر لها خادماً، وسمعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه سبي فاقترح عليها أن تطلب جارية تخدمها من أبيها من هذا السبي الذي جاء، فقال لها: [لقد جاء أباك سبي فاذهبي إليه فاستخدميه -الألف والسين والتاء تجيب الطلب- أطلبي خادماً وجارية تخدمكِ، فذهبت فاطمة رضي الله عنها إلى أبيها محمد صلى الله عليه وسلم فلم تجده، ووجدت جماعة يتحدثون فاستحيت ورجعت] وفي رواية: (فذكرت ذلك لـ عائشة فلما جاء أخبرته عائشة أن ابنتك فاطمة جاءت تسأل عنك). وفي رواية مسلم: (حتى أتت منزل النبي صلى الله عليه وسلم فلم توافقه فذكرت ذلك له أم سلمة بعد أن رجعت فاطمة) فهذا معناه أن فاطمة رضي الله عنها ذهبت تبحث عنه في بيتين، ذهبت إلى حجرة عائشة وذهبت إلى أم سلمة تبحث عن أبيها لتسأله خادماً، وجاء في رواية: أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (ما جاء بك يا بنية؟ فقالت: جئت لأسلم عليك، واستحيت أن تسأله ورجعت) يقول علي رضي الله عنه: [ما فعلت؟ قالت: استحييت] ما استطعت أن أطلب، فلعلها رضي الله عنها ذهبت أولاً للبحث عن أبيها فلم تجده، ثم جاءت مرة ثانية فوجدته لكن استحيت أن تطلب، ثم بعد ذلك تشجعت فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فسألته الخادم، فقال: (ألا أخبرك ما هو خير لك؟) وفي رواية: قال علي رضي الله عنه لزوجته: (أن تنطلق معه فانطلقت معه فسألاه فقال: ألا أدلكما) وجاء في هذا الحديث الذي قرأناه أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي جاءهما وقد أخذا مضجعهما فقال علي: (بأبي يا رسول الله! والله لقد سنوت حتى اشتكيت صدري، وقالت فاطمة: لقد طحنت حتى مجلت يداي -وقد جاءك الله بسبي وسعة فأعطنا خادماً من هذه السبي- فقال عليه الصلاة والسلام: والله لا أعطيكما وأدع أهل الصفة تطوى بطونهم لا أجد ما أنفق عليهم ولكني أبيعهم وأنفق عليهم أثمانهم) يقول: كيف أعطيك وهذا السبي الذي جاءنا نبيعه ونأخذ ثمنه وننفقه على أهل الصفة الفقراء الذين كانوا يأوون إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، أهل الصفة ليس عندهم أهل ولا مال ولا بيوت، وإنما كانوا يأتون إلى النبي صلى الله عليه وسلم يلازمونه على شبع بطونهم. وجاء في رواية قال: (فأتانا وعلينا قطيفة إذا لبسناها طولاً خرجت منا جنوبنا وإذا لبسناها عرضاً خرجت منها رءوسنا وأقدامنا، ولما دخل عليه الصلاة والسلام قالت: فذهبت أقوم -وفي رواية: فذهبنا نقوم- فقال صلى الله عليه وسلم: مكانك أو مكانكما -أي: الزما مكانكما لا تقوما- فجلس بيننا صلى الله عليه وسلم فقال: إني أخبرت أنك جئت تطلبين، فما حاجتك؟ قالت: بلغني أنه قدم عليك خدم فأحببت أن تعطيني خادماً يكفيني العجن والخبز، فإنه قد شق علي، قال: فما جئت تطلبين أحب إليك أو ما هو خير منه؟ قال علي: فغمزتها، فقلت: قولي ما هو خير منه أحب إلي، فقالت ذلك، فقال: فإذا كنتما على مثل حالكم اليوم الذي أنتما عليه ثم ذكر التسبيح) وفي رواية: (أنه لما دخل عليها أدخلت رأسها في اللفاع حياء من أبيها) ويحمل هذا أنها فعلت ذلك أولاً فلما تآنست به رفعت وجهها إليه وكلمته. وفي بعض الروايات: قال: (ما كان حاجتك أمس؟ فسكتت، مرتين، فقال علي: أنا والله أحدثك يا رسول الله! فذكرته له) فهذا يحمل على أنه سأل فاستحيت أولاً فكلمه علي ثم لما زال الخجل تكلمت هي وأنشطها للكلام زوجها فتكلمت وطلبت. وفي رواية: أنه صلى الله عليه وسلم أتاهما فقال: (ما الذي أتى بكما، قال علي: شق علينا العمل، فقال: ألا أدلكما) وذكر الحديث، وفي رواية: قال: (ما جاء بك يا بنية؟ قالت: جئت أسلم عليك واستحيت حتى إذا كانت القابلة، قال: ائت أباكِ وذكر مثلها، حتى إذا كانت الليلة الثالثة قال لها علي رضي الله عنه: امشي فخرجا معاً). فهذه الأحاديث وهذه الروايات تدل على أنه ربما حصل ذلك بإتيانهما ثم بإتيانه إليهما، المهم أنه عليه الصلاة والسلام، قال: (ألا أدلكما على ما هو خيرٌ لكما من خادم -خير مما سألتماني-؟ قالا: بلى. فقال: كلمات علمنيهن جبريل، إذا أويتما إلى فراشكما أو أخذتما مضاجعكما من الليل تسبحان) فذكر لهما التسبيح ثلاثاً وثلاثين والتحميد ثلاثاً وثلاثين والتكبير أربعاً وثلاثين، قال: (فتلك مائة باللسان وألف في الميزان) أي أن الأجر عند الله الحسنة بعشرة أمثالها، وفي رواية: (فأمرنا عند منامنا بثلاثٍ وثلاثين وثلاثٍ وثلاثين وأربعٍ وثلاثين من تسبيحٍ وتحميدٍ وتكبير) سبحان الله ثلاثاً وثلاثين قبل النوم، والحمد لله ثلاثاً وثلاثين، والله أكبر أربعاً وثلاثين مرة يقول ذلك.

الخوارج وقتال علي لهم

الخوارج وقتال علي لهم هذه هي الوصية أي: أن الذكر أنفع من الخادمة، وأفضل. علي رضي الله عنه حافظ على هذا الذكر ولم يتركه أبداً، جاء في رواية أن علياً رضي الله عنه قال: [فما تركتها بعد، فقالوا له: ولا ليلة صفين؟ قال: ولا ليلة صفين] وهذا الرجل الذي قال له ذلك جاء في رواية: أنه: ابن الكواء يقول لـ علي رضي الله عنه: ولا ليلة صفين؟ فقال: [قاتلكم الله يا أهل العراق! نعم ولا ليلة صفين. ] عبد الله بن الكواء من أصحاب علي رضي الله عنه لكنه كان متعنتاً في السؤال، وقد ابتلي علي رضي الله عنه بأشخاص ما شفوا غليله ولا صبروا معه، ولا حققوا ما يريد، كان يريد أن يقر الأمر وتستقر الخلافة، ولكنهم ما شفوا غليله ولذلك قال في نهاية حياته: [اللهم مللتهم وملوني فاقبضني إليك]. لم يكن مع علي من الرجال مثلما كان مع أبي بكر وعمر، ولذلك لم يكن الأمر مستتباً له، فكان ابن الكواء نموذجاً ممن كان مع علي رضي الله عنه، وكان معه أفاضل وعلماء وصحابة ولا شك؛ لكن ابتلي -أيضاً- بأشخاص فيهم ما فيهم منهم عبد الله بن الكواء لما حدثهم علي بالقصة، قال: [فما تركت بعد فجاء عبد الله بن الكواء يقول: ولا ليلة صفين؟ قال: ولا ليلة صفين، ويحك! ما أكثر ما تعنتني لقد أدركتها من السحر]. وفي رواية: [فإني ذكرتها من آخر الليل فقلتها] وفي رواية: [إلا ليلة صفين فإني أنسيتها حتى ذكرتها من آخر الليل فقلتها] فهذا يدل على لزومه للذكر رضي الله عنه وأنه حتى ليلة صفين وهي المعركة التي جرت بين علي رضي الله عنه وأهل الشام، حتى أنهم اقتتلوا مقتلة عظيمة وأقاموا بـ صفين عدة أشهر وكانت المعركة عبارة عن وقعات كثيرة؛ لكنهم ما قاتلوا في الليل إلا مرة وهي ليلة الهرير، سميت بذلك لكثرة ما كان الفرسان يهرون فيها، وقتل من الفريقين في تلك الليلة عدة آلاف. وقد أوشك علي رضي الله عنه على النصر حتى رفع أهل الشام المصاحف وطالبوا بتحكيم القرآن، وحدث بعد ذلك توقف المعركة، وكانت سنة سبع وثلاثين وخرج الخوارج عقب التحكيم في أول سنة ثمانية وثلاثين، وقتلهم علي رضي الله عنه في النهروان وحاول علي رضي الله أن يحسم الأمر لكنه لم يتهيأ له ذلك، ولم يكتب الله عز وجل له ذلك، وكان الخوارج هم السبب في عدم حسم الأمر حيث انقلبوا عليه، وقالوا: حكم الرجال في كتاب الله، وأرسل علي رضي الله عنه ابن عباس فناقشهم وناظرهم ورجع من الإثنا عشر ألفاً ثمانية آلاف وهؤلاء كان عندهم سرعة في الرجوع وسرعة في الرد، وهؤلاء الذين قاتلهم علي رضي الله عنه في سنة ثمانية وثلاثين للهجرة بـ النهروان كان منهم ذو الثدية الذي كان مقطوع اليد، في عضده مثل حلمة ثدي المرأة أسود، فأخبر النبي عليه الصلاة والسلام علياً أنه سيقاتل الخوارج وأنه سيقتلهم، وأن آيتهم ذو الثدية هذا، ولذلك فإن علياً رضي الله عنه بعد المعركة طلب البحث عن ذي الثدية فلم يوجد، فأمر بالبحث فلم يوجد، ثم حلف أنه يوجد، وأن النبي صلى الله عليه وسلم ما كذب، فبحثوا عنه بين القتلى حتى وجودوه فخر علي رضي الله عنه ساجداً لله شكراً. وكان هؤلاء قد أفسدوا في الأرض حتى أنهم خرجوا على علي رضي الله عنه وعلى المسلمين يكفرون مرتكب الجريمة، حتى كفروا علياً ومعاوية وعمرو بن العاص وغيرهم من الصحابة حتى أنه اجتمع ثلاثة منهم قبل عام أربعين للهجرة في موسم الحج، قالوا: ما هي سبب مشكلات المسلمين؟ فخرجوا من الاجتماع بأن سبب مشكلات المسلمين ثلاثة: علي ومعاوية وعمرو بن العاص، فما هو الحل؟! قالوا: نقتلهم ونريح المسلمين من شرهم، فتفرقوا في البلدان على أساس أن واحداً منهم يغتال علياً، وآخر يغتال معاوية وآخر يغتال عمرو بن العاص، فأما معاوية رضي الله عنه فقد طعن فاكتوى منها فبرأ، وعمرو لم يصل في تلك الصلاة إماماً صلى غيره فطعن غيره، وأما علي رضي الله عنه فإنه خرج عليه عبد الرحمن بن ملجم بسيف ظل يسقيه السم شهراً، فخرج عليه في الظلام واختبأ له فخرج عليه فضربه على جبهته بهذا السيف المسمم وسال الدم من جبهته على لحيته فتذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أشقى الناس عاقر الناقة والذي يضربك يا علي على هذه حتى يبل منها هذه) يعني: لحيه رضي الله تعالى عنه، وقتل أشقى الناس خير الناس في ذلك الوقت وهو علي رضي الله عنه، وبعد ذلك حمل علي ثم توفي فيما نحسبه شهادة له رضي الله عنه وذهب إلى ربه. ومن ضلال الخوارج أن عبد الرحمن بن ملجم لما أخذوه فربطوه قطعوا يديه فلم يتكلم، ورجليه كذلك، فلما أرادوا أن يقطعوا لسانه كما جاء في بعض الروايات صرخ، فقالوا: مالك؟ قال: لساني أذكر به الله، وهو الذي قتل خير الناس في ذلك الوقت علياً رضي الله عنه. فهؤلاء خرجوا على المسلمين فكفروا المسلمين، فكل من ليس معهم فهو كافر وقتلوا خير المسلمين، وذهبوا إلى أحد المسلمين وكان معتزلاً الفتنة ومعه مصحف يقرأ به، وعنده وليدة حامل، فأخذوه وأخذوا المصحف منه وقتلوه وذبحوه وأراقوا دمه في النهر، وأخذوا الوليدة وبقروا بطنها وأخذوا الجنين الذي في بطنها وقتلوه، ثم مشوا إلى بستان كتابي نصراني فأراد بعضهم أن يأخذ منه تمراً، فقال بعضهم لبعض: لا. هؤلاء أهل كتاب أوصانا بهم النبي صلى الله عليه وسلم خيراً، ولا يجوز أن تأخذه إلا بحقه، فجاءوا إلى صاحب البستان يفاوضونه، فقال: واعجبا لكم تقتلون صاحبكم المسلم ثم تأتون تفاوضونني على التمر؟ حتى هذا النصراني تعجب من صنيعهم، فهؤلاء بقية الخوارج الذين كان أحدهم قد قتل علياً رضي الله عنه، وكان علي رضي الله عنه قد قتل معظمهم وأراح المسلمين من شرهم، ولكن بقيت منهم بقية ثم بعد ذلك تفرقوا في البلدان تسعة منهم: عبد الله بن إباظ التي تنسب إليه فرقة الأباظية ويقولون: هؤلاء من مكفري مرتكب الكبيرة، وتطوروا بعد ذلك فأنكروا رؤية الله في الجنة وقالوا: إن القرآن مخلوق، وقد أخذوا من المعتزلة خلق القرآن وهكذا عندهم بدع في الدين، ولازالوا هكذا إلى الآن. المهم أن علياً رضي الله عنه مع شدة وهول المعركة لم ينس هذا الذكر تلك الليلة مع أن المعركة تنسي كل شيء لكنه ما نسي أن يقوله وتذكر قبل الفجر وقال به، فهذا الذكر العظيم يدل على أن ذكر الله عز وجل يقوي البدن كما ذكر ذلك شيخ الإسلام رحمه الله، فأن رسول الله لما علم فاطمة قال: إنه خيرٌ من خادم، معناها أن ذكر الله عز وجل يقوي الأبدان. وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم قد اختار لابنته أن تبقى على حالها ولم يعطها ذاك الخادم، وإنما أعطاها بديلاً وهو ذكر الله. وكذلك فإنه اختار لابنته ما أحب لنفسه من إيثار التحمل والصبر على الشدة والقلة، تعظيماً لأجرها، وقد كان يستطيع أن يعطيها من الذهب ما شاء، ولكنه اختار لها ما اختار لنفسه، واختار لها ما هو أكثر نفعاً لها في الآخرة، وآثر أهل الصفة لأنهم فقراء قد وهبوا أنفسهم لسماع العلم وضبط السنة على شبع بطونهم منهم: أبو هريرة رضي الله عنه من زهران يرجع نسبه إليه، هذا الذي وقف نفسه على العلم على شبع بطنه فقط، ومع ذلك كان لا يجد في كثير من الأحيان ما يشبع به بطنه، فأهل الصفة وقفوا أنفسهم للعلم والجهاد يخرجون في جيوش المسلمين لا همَّ لهم إلا العلم والجهاد، اشتروا أنفسهم من الله بالقوت، وأخذ العلماء من الحديث تقديم نفقة طلبة العلم على غيرهم، لأنه أنفق عليهم.

زهد السلف رضي الله عنهم

زهد السلف رضي الله عنهم وكان بـ السلف الصالح من شغف العيش وقلة ذات اليد وشدة الحال، وأن الله حماهم من الدنيا مع إمكان أن تحصل لهم الدنيا صيانة لهم من تبعاتها؛ لأن يوم القيامة فيه وقوف للسؤال عن كل درهم من أين اكتسبته وفيما أنفقته؟ ولذلك فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام، ويوقفون في الحساب فيقولون: على أي شيء نحاسب وإنما كانت سيوفنا على عواتقنا في سبيل الله؟ أي: كل الذي كان عندنا هي سيوفنا على عواتقنا نجاهد في سبيل الله، ولذلك يقال لهم: ادخلوا الجنة، فيدخلون قبل الأغنياء بخمسمائة عام وأصحاب الجد -الغنى- محبوسين، ولكن هذا الحبس لا يشترط أن يكون عذاباً، فإذا كان أهل الغنى قد أنفقوا في سبيل الله وصرفوه فيما يرضي الله فإنه يكون لهم زيادة في الحسنات، وقد ترتفع مراتبهم في الجنة فوق الفقراء بعد ما يدخلون، لكن الدخول أولاً للفقراء، ثم أهل الغنى إذا بذلوه في طاعة الله يدخلون متأخرين؛ لكن ربما تكون مرتبة بعضهم فوق مرتبة الفقراء من أجل الصدقات التي تصدقوا بها.

من فوائد حديث علي وفاطمة

من فوائد حديث علي وفاطمة وفي هذا الحديث أن الإنسان يحمل أهله على ما يحمل عليه نفسه من إيثار الآخرة على الدنيا إذا كانت له القدرة على ذلك، لأن بعض النساء قد لا تكون لها القدرة، فربما لو أنه أراد أن يحملها على شيء من الشدة طلبت الطلاق وخرجت من البيت وتركت له البيت والأولاد، وكثير من النساء بفعل ما في المجتمع من الانحرافات والترف ترسخ في ذهنها قضية البحث عن الماديات (طلب الخدم) وأنها ربما لا تعمل شيئاً وتلقي بكل شيء على الخدم، وتتفرغ هي لذهابها خارج البيت ومشاويرها وسهراتها، والنبي صلى الله عليه وسلم لما أوصى بذات الدين لأجل أنها تحرص على الدين وتقيم له الوزن العظيم، ولذلك فإن الإنسان لابد أن يكون حكيماً، قد يجد أحياناً في نفسه شيئاً من الزهد لكن أهله لا يطيقون، لكن إذا كانوا يطيقون حملهم معه على الزهد. كذلك استدلوا بالحديث على جواز دخول الرجل على ابنته وزوجها بغير استئذان، لكن هذا فيه نظر؛ لأنه جاء في بعض طرق الحديث أنه استأذن. وكذلك في هذا الحديث: أنه صلى الله عليه وسلم معصوم فلا يقاس على غيره من غير المعصومين، كما إذا جاء ودخل وجلس بينهما، ثم إن هذا الحديث فيه إظهار الشفقة على البنت والصهر، فإنه أتاهما في بيتهما وجلس بينهما، وقال: ألا أعلمكما؟ فيؤخذ منه أن على الإنسان أن يبر بصهره، فلو قال أحدهم: زوج البنت ليس من الأرحام، لقلنا: نعم. ليس من الأرحام لأن الرحم قرابة الرجل من جهة أبيه وأمه، لكن كونه ليس من الرحم لا يعني أنه لا يبر ولا يحسن إليه، فإن الأصهار لهم -أيضاً- معاملة حسنة في الإسلام، فمن ذلك هذا الحديث. ومن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم جاء مرة المسجد فوجد علياً رضي الله عنه مضطجعاً على التراب فجعل ينفض عنه التراب وقال له: (قم يا أبا تراب) يداعبه، فصار علي رضي الله عنه لا يحب إلا هذه الكنية، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كناه بها لما لاصق التراب، وكان قد خرج من البيت عندما حصل بينه وبين فاطمة رضي الله عنهما شيء، فخرج إلى المسجد فجاء النبي صلى الله عليه وسلم إليه ليطيب خاطره. وكذلك: فإن مواقف النبي عليه الصلاة والسلام مع علي وفاطمة متعددة تدل على أنه كان يبر بصهره كما يبر بابنته صلى الله عليه وسلم، وعلى أن الإنسان إذا كان عنده زوج بنت أو زوج أخت أن عليه أن يصلح من شأنهما وألا يقول: ليس لي دخل فيهما ولا في حياتهما، بل إنه كلما استطاع أن يحسن العلاقة ويدخل السرور، وأن يسعى في دوام الألفة، ويزيل سوء التفاهم، وأن عليه أن يفعل ذلك وهو من الواجبات. وكذلك في هذا الحديث: أن من واظب على هذا الذكر لم يصبه الإعياء، لأن فاطمة شكت التعب فأحالها النبي صلى الله عليه وسلم على هذا، أفاد هذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ وهذا يدل على أن الذكر له أثر في تقوية البدن كما تقدم، فإذاً من فوائد الذكر أنه يقوي البدن كما أنه يقوي القلب، فهو يزيد النفس ثباتاً، والقلب طمأنينة، والإنسان رباطة جأش، كما أنه يقوي الجسد وهذا دليل على ذلك. وكذلك: فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتني بزيارة بنته في بيتها، ولا يقطعها بعد الزواج كما يفعل بعض الناس إذا تزوجت ابنته كأنما هو شر ألقاه عن عاتقه، ولا يسأل عنها ولا عن بيتها ولا عن حالها، فهذا تفقد منه صلى الله عليه وسلم. وكذلك في هذا الحديث: أن الإنسان يعطي الأوكد فالأوكد والأكثر استحقاقاً، وبعض الناس الآن إذا جاء يعطي الزكاة ربما حابى بها قريباً أو أعطى شخصاً ليس بفقير ذاك الفقر، مع وجود شخص مستحق وأشد حاجة وأفقر؛ لكن بالمحاباة يترك الأفقر والأحوج ويعطي الأقرب أو من له علاقة به ونحو ذلك، والرسول مع أنها ابنته وزوج ابنته لكن قدم الأوكد -الأفقر الأحوج- فمع أن هذه ابنته وزوجها لكن ما أعطاهما على حساب الأحوج، وإنما قدم الأحوج. وفي هذا الحديث كذلك: أنه إذا حصل ازدحام في الحقوق فإنه يؤثر صاحب الحق الأقوى، وفيه جواز أن تشتكي البنت لأبيها ما تلقاه من الشدة، ولم ينكر عليها أنها اشتكت، فلو اشتكت -مثلاً- تعب العمل في البيت، واشتكت من أذى أطفالها وأنها تلقى شدة في تربيتهم، أو أنهم يتمردون عليها أو أنهم يعاندون ونحو ذلك فإن لها أن تشتكي لأبيها، وأن الأب عليه أن يقوم بدور الناصح الموجه، وأن مسئوليته عن ابنته لم تنته بتزويجها، وإنما هي مستمرة في التسديد والإصلاح والنصيحة وتخفيف ما يصيب البنت من نتيجة أعباء الزواج؛ لأن البنت في بيت أبيها قد تكون مدللة، وقد يكون عندها من يخدمها، فإذا انتقلت إلى بيت رجل آخر صار حمل البيت عليها، وأيضاً بالإضافة إلى ذلك وخدمة الزوج الجديد وما يضاف من الحمل والوحام، وهو ما يصيب من الإرهاق والتعب، ثم الوضع والرضاعة مع الخدمة، البنت يختلف عليها الجو جداً، فعلى الأب أن يكون حكيماً في نصح ابنته في مواجهة الواقع الجديد بعد الزواج هذه مسألة مهمة, وكثير من البيوت تنجح بسبب مواصلة الأب فلا يقول الأب: أنا انتقيت لها الكفء وانتهت مسئوليتي، لا. يجب أن يواصل القيام بالمسئولية وأن يواصل الاعتناء بالبنت حتى بعد زواجها، وكثير من الأباء من خيرهم وبرهم أنهم لا زالوا يشرفون على بناتهم ويعتنون بهن حتى بعد الزواج بسنوات طويلة، وربما يكون هناك من أشرف على ابنته وجلب الطعام إليها في بيت زوجها، وخدمتها والاعتناء بأولادها، وهكذا لا تزال الرعاية مستمرة. والحديث فيه منقبة لـ علي رضي الله عنه من جهة منزلته عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه دخل عنده وجلس بينه وبين زوجته، وأنه اختار له أمر الآخرة على أمر الدنيا وآثر ذلك له. وكذلك في هذا الحديث: أن هذه الكلمات التي تقال مائة مرة قبل النوم يشبهها كذلك ما يقال بعد الصلوات، فقد ورد في بعض كيفيات الأذكار التي بعد الصلوات مثل أذكار قبل النوم: سبحان الله ثلاثاً وثلاثين، والحمد لله ثلاثاً وثلاثين، والله أكبر أربعاً وثلاثين، هذه كيفية صحيحة من كيفيات الأذكار بعد الصلاة، وكذلك وردت قبل النوم، وبعد الصلاة الكيفية المشهورة: سبحان الله ثلاثاً وثلاثين، والحمد لله ثلاثاً وثلاثين، والله أكبر ثلاثا ًوثلاثين، وتمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. وفيه ما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم من الشدة وأنهم احتملوا ذلك وخرجوا من الدنيا في نظافة، وأنهم لم يتقذروا بما فيها. وفيه -أيضاً- تسلية لكل من اشتدت حاله أن من هو أفضل منه لاقى ما هو أشد، فلعل أن يكون فيه درس له أيضاً على الصبر. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من الذين يسيرون على خطاهم، ويتأثرون بسيرتهم ويعملون بها، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

الأسئلة

الأسئلة

أقوال ليست من السنة

أقوال ليست من السنة Q ما حكم قول بعضهم عند القيام في التراويح: {رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [الأنبياء:89]؟ A إذا لم يثبت في هذا حديث فهي بدعة فبعض الناس -مثلاً- إذا قام للصلاة قال: أقامها الله وأدامها، هل ورد في هذا شيء؟ لم يرد حتى حديث ضعيف، إذاً لا نقوله، أو إذا قام للتراويح للوتر يقول هذا الدعاء، الدعاء صحيح لكن توقيته غير صحيح، الدعاء صحيح قاله زكريا عليه السلام: {رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [الأنبياء:89] بعض الناس بعد السلام من الصلاة يقول: تقبل الله، ويحافظ عليها، وبعضهم يقول: حرماً يعني: يصلي في الحرم فيقال: جمعاً أي: أجمعين. وبعضهم بعد الوضوء يقول: زمزم، ونحو ذلك من عبارات معينة لم ترد في الشرع إذا واظب عليها تتحول إلى بدعة، لأنك كأنك اخترعت ذكراً، بل هو كذلك اختراع لذكر لم يرد في الشريعة بقصد التعبد إلى الله، فهذا هو تعريف البدعة: اختراع في الدين يقصد به التقرب إلى الله، أحداث في الدين يقصد بها التقرب إلى الله. جاء أبو موسى إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فقال: [يا أبا عبد الرحمن! إني جئت من مسجد الكوفة ورأيت فيه عجباً، قال: وما رأيت؟ قال: رأيت قوماً حلقاً حلقاً على رأسهم واحد يقول: سبحوا مائة فيسبحون مائة، كبروا مائة فيكبرون مائة وهكذا قال: وما قلت لهم؟ قال: ما قلت لهم شيئاً انتظار أمرك، قال: هلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم وأنا ضامن لهم ألا ينقص من حسناتهم شيء، ثم تلثم وخرج فدخل المسجد فوجدهم على هيئتهم حلقاً حلقاً، وقائل يقول: سبحوا مائة فيسبحون مائة، كبروا مائة فيكبرون مائة، فكشف اللثام عن وجهه وقال: أنا أبو عبد الرحمن صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ما أسرع هلكتكم يا أمة محمد! هذه ثياب نبيكم لم تبل وآنيته لم تكسر] ثم زجرهم ووبخهم وأمرهم أن يكفوا عن هذا الصنيع المبتدع قال بعد ذلك: [فلقد رأيت عامة هؤلاء يطاعنون يوم النهروان] يعني: مع الخوارج أي: فهم أصول الخوارج، إذاً: أصول الخوارج كانت لهم بدعة خرجوا بها على المسلمين. فإذاً: لا يجوز إحداث شيء في الدين أو ذكر من الأذكار لم يرد في الشريعة ومن فعل ذلك يأثم؛ لأنه يزيد على الدين وكأنه يقول: إن الإسلام ناقص وأنا جئت وأكملته، أو يقول: إن رسول الله خفيت عليه وأنا علمته، لأنك تلزم المبتدع تقول له: هذا الشيء الذي تفعله -احتفال بالمولد أو ذكر من الأذكار، وأي بدعة من البدع، أو صلاة أول خميس من رجب، تقول: هذا الشيء الذي تفعله هل أنت تفعله بنية التقرب إلى الله أم لا؟ هو لا يستطيع أن يكابر ويقول: لا. أنا أفعله مثل الأكل أو الطعام؛ لأنه أكيد يفعله تقرباً إلى الله، إذاً أنت تقول: أنت تعمله تقرباً إلى الله وهذا دين فأين الدليل؟ فيقول: لا دليل فتقول: (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد) ثم تقول له: هل علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فإذا قال: لا. اتهم رسول الله بالجهل، وأنه فاته هذا الشيء حتى علمه هذا، ثم إذا قال: نعم. علمه رسول الله فما بلغنا معناه، فإنه اتهم النبي صلى الله عليه وسلم بكتمان العلم. وهكذا المبتدع من جميع الجهات آثم متضرر من جميع الجهات، كلما جئت من جهة وجدت خرقاً، والدين يزول بأن يزيد فيه كل واحد حتى يصبح متغيراً، والقاعدة: كلما أحييت بدعة أميتت سنة، وكلما أحييت سنة أميتت بدعة، ولذلك فالبلاد التي فيها بدع كثيرة السنة فيها ميتة، وما عندهم من العلم بالسنة إلا قليل، عندهم مجموعة كبيرة من البدع، والبلاد التي فيها السنة ظاهرة تجد البدع فيها قليلة، وهذا قانون المدافعة الإلهي، إذا انتصرت السنة وهيمنت؛ زالت البدعة وخفت، والعكس بالعكس.

جواز ترك التسليم مع الإمام في صلاة الوتر للقيام بركعة

جواز ترك التسليم مع الإمام في صلاة الوتر للقيام بركعة Q هل يجوز لأحد المأمومين ألا يسلم مع الإمام في صلاة الوتر ويأتي بركعة أخرى؟ A نعم. ولكن الأفضل أن يسلم مع الإمام وينصرف معه حسب الحديث: (من صلى مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة) ثم بعد ذلك يصلي مثنى مثنى إذا أراد الزيادة في بيته.

حكم لبس الجوربين دون طهارة كاملة

حكم لبس الجوربين دون طهارة كاملة Q ما حكم من توضأ وعند غسل القدم اليمنى نزع جوربه الأيمن ثم لبسه ثم نزع الجورب الأيسر ثم لبسه، وعندما أتى وقت الصلاة مسح على جوربيه؟ A هو يقصد -والله أعلم- أنه غسل القدم اليمنى ثم لبس عليها الجورب الأيمن، ثم غسل القدم اليسرى ولبس عليها الجورب الأيسر، فهو لما غسل القدم اليمنى ولبس عليها الجورب الأيمن هل لبسه على طهارة كاملة أم لا؟ لا. بل لبسه على طهارة ناقصة، حيث بقي عليه غسل القدم اليسرى، ولذلك لا يجوز له أن يلبس الجوربين إلا على طهارة كاملة: (دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين) بطهور كامل، فهذا الشخص ماذا عليه أن يفعل إذا لبس الجورب اليسرى على طهارة كاملة؟ إن عليه أن ينزع اليمنى ويعيد لبسها على طهارة تامة، وأبى شيخ الإسلام رحمه الله ذلك؛ وهذا رأيه، وقال: إن ذلك عبث لا تأمر به الشريعة، ويرجع إلى كلامه رحمه الله تعالى من شاء، هذا ما أراه في هذه المسألة، والأحرى بالإنسان ألا يمسح إلا على جوربين قد لبسهما على طهارة تامة.

حكم لعب الزهر

حكم لعب الزهر Q ما حكم لعب الزهر إذا كان في حدود المعقول؟ A أما قضية حدود المعقول وغير المعقول هذا ما عرفناه؛ كيف يكون معقولاً وغير معقول؟ يعني: عشرين مرة في اليوم معقول أو عشرة أو ثلاثة أو واحدة، كم المعقول وغير المعقول؟ هناك ضوابط للعب في الشريعة، فأما بالنسبة للزهر فلا يجوز اللعب به ولا مرة واحدة بسبب واضح وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من لعب بالنردشير فكأنما صبغ يده في لحم الخنزير ودمه) رواه مسلم، وكذلك أخبر صلى الله عليه وسلم: (أن من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله) فالنرد: هو المكعب الذي يكون محفوراً في كل وجه منه دوائر لعدد معين من الواحد إلى الستة ثم ترمى، وبناء على الرقم الذي يكون في النرد يتحرك اللاعب أو يفعل شيئاً في اللعبة، فإن هذا النرد هو من صميم الميسر والمقامرة، وفكرة الميسر والمقامرة موجودة في رمي الزهر بالحظ؛ لكي يخرج لك الرقم وبعد ذلك يحدث ما يحدث تبعاً له، فإذاً: فكرة المقامرة موجودة في حجر الزهر وفي النرد، فكل الألعاب الموجودة فيها حجر النرد والزهر كالطاولة والملكلي وغير ذلك من الألعاب التي لا يجوز استعمالها، ما دام حجر الزهر موجوداً فيها لأجل الحديث، فالمهم في الألعاب أن تضبط بضوابط شرعية: أولاً: لا تصد وتبعد عن ذكر الله، ولا تلهي عن الصلاة. ثانياً: ألا تؤدي إلى إيقاع العداوة والبغضاء بين اللاعبين واللعن والسب والشتم. ثالثًا: ألا تؤدي إلى الغش، لأن كثيراً من لعب الورق من أشهر الألعاب التي فيها غش. رابعاً: ألا يكون فيها صليب؛ كلعب الشطرنج وكثير من ألعاب الكمبيوتر. خامساً: ألا يكون فيها ما يخالف العقيدة من جهة إحياء الميت ونحو ذلك؛ كما تدل بعض الألعاب في الكمبيوتر، يدخل ميتاً ويخرج حياً ويقول: هذا بقي له ثلاثة أرواح، وسبعة أرواح، وخمسة أرواح، وذهبت روح الذي اخترع اللعبة، فإذا بعضها واضح المصادمة للعقيدة، والأطفال يتربون على هذا (مات ثم يعيش). سادساً: ألا يكون فيها ضرب على الوجه؛ كلعبة الملاكمة فهي حرام قطعاً (100%)، والآن يفكرون بإعادة النظر فيها عالمياً بعدما أصيب كذا واحد بنزيف، وكذا واحد كُسِر وتهشم رأسه، وكذا واحد فقئت عينه، وكذا واحد أصيب بعاهة، الآن يفكرون والحكم عندنا من زمان وهو: النهي عن ضرب الوجه. سابعاً: ألا يكون فيها تحريش بين البهائم كنطاح الأكباش ومناقرة الديوك ومصارعة الثيران؛ فمصارعة الثيران حرام؛ لأنهم يغرسون فيها السهام، وهذا تعذيب واضح للحيوان واعجبا لهم! يقولون: نحن نعترف بالحيوان ويفعلون هذا بالثيران! وهم الثيران في الحقيقة. ثم -أيضاً- من ضوابط الألعاب ألا يكون فيها صور ذوات الأرواح، فإن اتخاذ صور ذوات الأرواح محرم لا يجوز، وألا يكون فيها كشف للعورات مثل لعبة كرة القدم بالشورت فإن العورة تبان وهو هذا التبان وهو البنطلون القصير فهذا فيه كشف للعورة والرسول صلى الله عليه وسلم قال لـ جرهد: (غط فخذك فإن الفخذ عورة). عاشراً: ألا يكون فيها ما يؤذي البدن، ذكرنا مثالاً الضرب على الوجه، لكن -أيضاً- قضية التكسير أثناء اللعب كما يقع في بعض ألعاب كرة القدم، فإن الإصابات تقريباً شبه مؤكدة، ونادراً ما ينتهي الشوط من غير إصابات، وقد ذكر الشيخ/ محمد بن إبراهيم رحمه الله في أسباب النهي عنها، قال: يجعلون سيارة إسعاف في الملعب دائماً، لكن على أي حال يمكن أن تلعب كرة القدم بضوابط شرعية، كأن لا يكون فيها تكسير ولا كشف عورات، ولا تلهي عن الصلاة، ولا تأخذ بالألباب، ولا تسبب التعصب وتفريق الناس على الأندية ونحو ذلك، وهذا من شروط اللعب (ألا تسبب التعصب وتفريق القلوب) وبعضهم قد يطلق زوجته، وبعضهم يطلق على الهدف إنه صحيح وهو ليس كذلك، وبعضهم يتشاجر حتى يكون العراك بالأيدي في حسم القضية، ومعروف ما يحدث بين مشجعي الفرق من المشاجرات واللعن والسب والحلف أنه هدف وليس بهدف ونحو ذلك. فالمهم أنهم يتفرقون تعصباً للأندية وهذه لاشك أنها حرام؛ لأنها مخالفة لما أمر الله تعالى به المسلمين من أن تكون قلوبهم مؤتلفة، فالشاهد أن هناك عدداً من الضوابط الشرعية يجب أن تتوفر في الألعاب حتى تصبح مباحة، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن أربعة ليست من اللهو: (ملاعبة الرجل امرأته، وتأديبه فرسه، وتعلمه السباحة، ومشيه بين الغرضين) ملاعبة الرجل امرأته معروف، تأديب الرجل فرسه: لأن هذا شيء يعين على الجهاد والفروسية وهو محبب في الإسلام (والخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة) كما جاء في الحديث الصحيح، وإلى الآن حتى الجيوش الكبرى والدول المتقدمة في جيوشها فرق للخيالة باعتراف منهم بأهميتها. وثالثاً: قال: (وتعليم الرجل السباحة) لأنه يحتاج إليها، وبعض المعارك البحرية يحتاج فيها إلى غطاس؛ كما كان للمسلمين غطاس وكانوا يرسلون معه الرسائل والذهب من صلاح الدين إلى المسلمين المحاصرين في عكة فيغطس بها قبل سفن الصليبيين ويخرج بها من الجانب الآخر إلى أن توفاه الله عز وجل غريقاً، ولم يكن قد أدى الأمانة وقذفه البحر إلى عكة بالذهب وبالخطابات بعدما غرق في البحر فأدى الأمانة بعد موته رحمه الله، فالشاهد أن تعلم السباحة مفيد في كل الحالات، قال: (ومشي الرجل بين غرضين) يعني: التدرب على الرماية وإطلاق السهام، والغرض: الأهداف التي يطلق إليها السهم ويرمى، فهذا يفيد -أيضاً- في الجهاد في سبيل الله، فلذلك تعلم الرماية من العبادات، ومن تعلم الرمي فتركه فكأنما هي نعمة كفرها يعني: أوتي نعمة ثم كفرها، فحذر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح من أن ينسى الإنسان الرماية إذا تعلمها، فإنه إذا نسيها فكأنما هي كنعمة كفرها.

الإنفاق على الأولاد من راتب أبيهم بعد موته

الإنفاق على الأولاد من راتب أبيهم بعد موته Q يقول: توفي أبي وكان له راتب من التقاعد فأخذه أخي الأكبر وجمعه لنا ليقسمه بيننا إذا كبرنا وكان ينفق على البيت من راتبه الخاص؟ A هذا محسن إذا فعل ذلك، وإذا أنفق عليهم من راتب التقاعد فإن هذا الإنفاق يكون في محله.

عدد المسلمين في معركة الخندق

عدد المسلمين في معركة الخندق Q هل كان عدد المسلمين في معركة الخندق ألف أو ثلاثة آلاف؟ A في معركة الخندق كان ثلاثة آلاف -العدد الإجمالي- لكن الذين كانوا عند الخندق في ذلك الوقت كان عددهم ألف.

ليس على من نسي التقصير شيء

ليس على من نسي التقصير شيء Q امرأة طافت وسعت ولم تقص من شعرها إلا بعد أسبوع لأنها نسيت؟ A ما دام أنها نسيت ثم قصت فليس عليها شيء.

ترك المسجد القريب طلبا لحسن صوت القارئ

ترك المسجد القريب طلباً لحسن صوت القارئ Q هل علي شيء إذا تركت المسجد الذي في حينا وذهبت إلى مسجد آخر في صلاة التراويح لحسن الصوت؟ A لا بأس إذا لم يكن يحدث بينك وبين الإمام أو الجماعة شحناء أو بغضاء.

جواز دخول الكافر المسجد للمصلحة

جواز دخول الكافر المسجد للمصلحة Q في بعض المساجد يكون فيها إفطار جماعي لعدد من العمال، وربما دخل بينهم من غير المسلمين لأجل الإفطار، هل نمنعهم من دخول المسجد لأنهم غير مسلمين؟ A أما مسألة دخول الكافر المسجد فإن الراجح جواز دخوله للمصلحة كما أدخل ثمامة رضي الله عنه وكان مشركاً إلى المسجد وربط فيه، فيجوز دخول الكافر المسجد لمصلحة. ثانياً: لا يأكل مع المسلمين إذا كان الطعام مخصصاً لهم؛ لأن بعض الناس يأتي إلى المسجد ويقول: هذا إفطار صائم، أو يعطي الإمام مالاً ويقول: هذا المال أريد به إفطار صائم، والكافر ليس بصائم، إذاً لا يأكل معهم، لكن إذا كان الطعام صدقة عامة فإن السماح للكافر بالمجيء ربما يكون فيه فائدة من جهة دعوته وتأثره بهذا الاجتماع، وهو عندما يفطر مع المسلمين، ويرى هذه العبادة واجتماعهم عليها، فربما يؤثر ذلك في نفسه، فإذا كانت صدقة عامة رئي فيها مصلحة لهذا الكافر من الدخول أدخلناه وأطعمناه، وإذا كان لا مصلحة فيها لا ندخله المسجد، وكذلك إذا كان الطعام مختصاً بالمسلمين أو بالصائمين.

الإحرام من الميقات عند قصد العمرة

الإحرام من الميقات عند قصد العمرة Q سافرت إلى جدة لهدفين: للعمل والعمرة، والهدف الأساسي هو العمل، فأحرمت من جدة وعملت العمرة؟ A إذا كنت قاصداً العمرة سواءً كان هدفاً أول أو هدفاً ثانياً فلا بد أن تحرم من الميقات، وإذا لم تحرم من الميقات فإن عليك دم يذبح في مكة ويوزع على فقراء الحرم، وإذا كنت تقصد العمل فقط وتقول: إذا تهيأ لي وقت اعتمرت وإذا لم يتهيأ لي وقت رجعت من دون عمرة، فتحرم من حيث ما تهيأ لك، سواء جزمت بالعمرة من جدة أو من غيرها.

حسن التعامل مع الناس

حسن التعامل مع الناس إن من الميزات العظيمة لهذا الدين أنه جاء بالتعامل الحسن والأخلاق الحسنة، وقد حث هذا الدين على حسن التعامل مع الوالدين والأقرباء والأولاد والجيران والأيتام والخدم، ومع الإخوان والأصدقاء والسائلين والمحتاجين وكبار السن، حتى الحيوانات والبهائم، وكل صنف من هذه الأصناف ورد فيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أو قصة.

عظمة الدين الإسلامي

عظمة الدين الإسلامي إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدا ً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالة في النار. عباد الله! إن من الميزات العظيمة لهذا الدين، أنه جاء بالتعامل الحسن، والخلق الحسن، وأنه يكفل السعادة للمنتسبين إليه، إنه دين فيه أخذ وعطاء، واجتماعية وتعايش، إنه دين قائم على الاحترام وإعطاء الحقوق، وهذه قضيةٌ غفل عنها كثير من المسلمين فأصبح تعامل بعضهم مع بعض فضاً أجوف غليظاً، حتى أصبح كثير منهم يقطع بعضاً، وكثير منهم يظلم بعضاً، ويهجر بعضاً، ولا يوجد في كثير من الأحيان أخلاق إسلامية في التعامل، فأصبحت الحقوق ضائعة، والعلاقات متقطعة، وصار الواحد همه في حاله وماله وشأنه ولا يهمه الآخرون. عباد الله! إن حسن التعامل مع الناس ميزة عظيمة في هذا الدين، وقد جاء هذا الدين بحسن التعامل مع الوالدين والأقرباء والأولاد والجيران والأيتام والخدم، ومع الإخوان والأصدقاء والسائلين والمحتاجين والجلساء وكبار السن والعمال، وحتى الحيوانات والبهائم، فما أعظمه من دين، جاء بهذا الخلق العظيم: حسن التعامل مع الناس. عباد الله: إن ربنا جل وعلا قد ندبنا في كتابه الكريم إلى الاهتمام بالتعامل مع الخلق وقال الله تعالى عن القريب إذا سأله أقرباؤه نفقة أو صدقةً أو معونة، ولم يجد شيئاً يساعدهم به فلا أقل من كلمة طيبة، واعتذار حسن، قال ربنا {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا} [الإسراء:28] تعرض عن الأقرباء ليس عندك ما تعطيهم وتنتظر غنىً من الله {ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً} [الإسراء:28] قولاً حسناً، وعدهم وعداً حسناً، إن أيسرت أعطيتك وبذلت لك وسددت حاجتك ونحو ذلك، وقال الله عز وجل: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} [البقرة:83] هذه عبارة قرآنية من كلام الرب جل وعلا {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} [البقرة:83] كم من الناس يمتثلها اليوم؟ كم من الناس يتعاملون بالقول الحسن فيما بينهم؟

حقوق وردت في السنة النبوية

حقوق وردت في السنة النبوية وننتقل -يا عباد الله- إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم لنذهب وإياكم في جولة تشهد لهذا الأصل العظيم وهو حسن التعامل مع الخلق في هذه الشريعة.

حق الوالدين

حق الوالدين فأما حق الوالدين فمعلوم ومعروف، والأمر ببرهما مشتهر ومألوف في هذه النصوص الشرعية، لقد حدثنا أبو بردة أنه شهد ابن عمر ورجلاً يمانياً يطوف بالبيت حمل أمه وراء ظهره وهو يقول: إني لها بعيرها المذلل إن أذعرت ركابها لم أذعر ثم قال: [يا بن عمر! أتراني جزيتها؟ قال: لا، ولا بزفرة واحدة] اذكر آلام الطلق لما حملت أمك بك، وعند وضعها لك، قال: لا. ولا بزفرة واحدة [ثم طاف ابن عمر فأتى المقام فصلى ركعتين ثم قال: يا بن أبي موسى إن كل ركعتين تكفران ما أمامهما]. وعن أبي مرة مولى أم هانئ بنت أبي طالب، أنه ركب مع أبي هريرة -وأبو هريرة له شأن عظيم في بر الوالدة، حتى توسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو ربه لهدايتها فهداها الله من أجل ذلك- ركب هذا الراوي مع أبي هريرة إلى أرضه بـ العقيق، حتى إذا دخل أرضه صاح بأعلى صوته: [السلام عليكم ورحمة الله وبركاته يا أمتاه! فتقول: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، يقول: يرحمك الله كما ربيتني صغيراً، فتقول: يا بني! وأنت جزاك الله خيراً ورضي عنك كما بررتني كبيراً] إحسان متبادل، وعاطفة منسجمة بين الوالدة وولدها. والأب حقه عظيم، وكان أبو هريرة يوصي بالوالد أيضاً، فعن عروة أو غيره أن أبا هريرة أبصر رجلين فقال لأحدهما: [ما هذا منك -أي: ما علاقته بك وما علاقتك به؟! - فقال: أبي، قال: لا تسمه باسمه، ولا تمشِ أمامه، ولا تجلس قبله] لابد أن يظهر عليك حتى في مشيتك أنه أبوك.

حق الأرحام

حق الأرحام وأما الأرحام فحسن التعامل معهم هو صلتهم، والصلة أعلى من المعاملة بالمكافأة، فإن صلة من قطع أعلى درجة من مكافأة يظهرها من عومل بمثلها، عن أبي هريرة قال: (أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن لي قرابة أصلهم ويقطعونني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي, ويجهلون وأحلم عنهم) هذه معاملتي وهذه معاملتهم، هذا أذاهم وهذا إحساني، هذا ما أقابلهم به حتى اشتد ذلك على الرجل، (فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لئن كان كما تقول -لئن كان الأمر كما تقول- كأنما تسفهم المل) أي: تطعمهم الرماد الحار، وهو تعبير ينبئ عن علو كعبه، وارتفاع أمره عليهم أن له الحجة فوقهم وأنه قد أدانهم (ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك) أي: المعونة من الله.

حق الأولاد

حق الأولاد وأما الأولاد فإحسان التعامل معهم بالرحمة بهم والشفقة عليهم، عن أنس بن مالك قال: (جاءت امرأة إلى عائشة رضي الله عنها فأعطتها عائشة ثلاث تمرات فأعطت كل صبي لها تمرة وأمسكت لنفسها تمرة، فأكل الصبيان التمرتين ونظرا إلى أمهما فعمدت إلى التمرة المتبقية فشقتها فأعطت كل صبي نصف تمرة وبقيت هي بلا شيء، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته عائشة فقال: وما يعجبك من ذلك؟ لقد رحمها الله برحمتها صبييها). الإحسان إلى الأولاد والأطفال بملاطفتهم وتقبيلهم، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أتقبلون صبيانكم فوالله ما نقبلهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أو أملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة) فدل ذلك أن عدم تقبيل الصبيان نزع للرحمة من القلب، وذلك الرجل الذي تباهى بأن له عشرة من الولد ما قبلهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من لا يرحم لا يرحم) وكان فضله وملاطفته وبشاشته صلى الله عليه وسلم متعدية إلى أحفاده، فعن أبي هريرة قال: (ما رأيت حسناً إلا فاضت عيناي دموعاً، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوماً فوجدني في المسجد فأخذ بيدي، فانطلقت معه فما كلمني حتى جئنا سوق بني قينقاع، فطاف فيه ونظر ثم انصرف وأنا معه حتى جئنا المسجد فجلس فاحتبا ثم قال: أين لكاع ادع لي لكاع فجاء حسن يشتد -جاء الولد الصغير المدعو- فجاء حسن يشتد فوقع في حجره صلى الله عليه وسلم ثم أدخل يده في لحيته -الولد متعود على الملاطفة والملاعبة أدخل يده في لحية جده صلى الله عليه وسلم- ثم جعل النبي صلى الله عليه وسلم يفتح فاه فيدخل فاه في فيه، ثم قال: اللهم إني أحبه فأحبه وأحب من يحبه) وعن يعلى بن مرة قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ودعينا إلى طعام فإذا حسين يلعب في الطريق فأسرع النبي أمام القوم ثم بسط يديه، فجعل الغلام يفر هاهنا وهاهنا ويضاحكه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أخذه، فجعل إحدى يديه في ذقنه والأخرى في رأسه ثم اعتنقه ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حسين مني وأنا من حسين، أحب الله من أحب حسيناً، الحسين سبط من الأسباط).

حق الجيران

حق الجيران أما الجيران, وما أدراك ما الجيران، وماحق الجار؛ فإن الشأن عظيم والتقصير والتفريط كبير، فعن ابن عمر قال: [لقد أتى علينا زمان -أو قال حين- وما أحد أحق بديناره ودرهمه من أخيه المسلم] كله إيثار لا أحد يرى أنه أحق بماله من أخيه فالمال للجميع، ثم يقول ابن عمر: (ثم الآن الدينار والدرهم أحب إلى أحدنا من أخيه المسلم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كم من جار متعلق بجاره يوم القيامة، يقول: يا رب! هذا أغلق بابه دوني فمنع معروفه، والله تعالى يمنع عنه المعروف يوم القيامة بما منع المعروف عن جاره) وأوصى أبا ذر، قال: أوصاني خليلي بثلاث فمنها: (يا أبا ذر! إذا طبخت مرقة فأكثر ماء المرقة وتعاهد جيرانك أو أقسم في جيرانك). فبمن يبدأ؟ تقول عائشة رضي الله عنها قلت: (يا رسول الله! إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال: إلى أقربهم منك باباً) وعن الحسن أنه سئل عن الجار: منهم الجيران وإلى أين ينبغي أن يكون الفضل؟ -إلى كم من الجيران؟ - فقال الحسن رحمه الله: أربعين داراً أمامه، وأربعين خلفه، وأربعين عن يمينه، وأربعين عن يساره. وأما إيذاؤه فشنيع وعظيم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قيل للنبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله! إن فلانة تقوم الليل وتصوم النهار وتفعل وتتصدق ولكنها تؤذي جيرانها بلسانها، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: لا خير فيها هي من أهل النار). وعن أبي هريرة قال: (قال رجل: يا رسول الله! إن لي جاراً يؤذيني فقال: انطلق فأخرج متاعك في الطريق، فانطلق فأخرج متاعه فاجتمع الناس عليه قالوا: ما شأنك؟ قال: لي جار يؤذيني -أي: أنه ما أطاق البقاء في بيته وأخرج المتاع إلى الشارع- فجعلوا يقولون: اللهم العنه، اللهم أخزه -يدعون على جاره اللهم أخزه- فبلغ الجار ما يفعل الناس، فأتاه فقال: ارجع إلى منزلك فوالله لا أؤذيك) اتعظ وارتدع ورجع إلى الإحسان. وكان ثوبان يقول: [ما من جار يظلم جاره ويقهره حتى يحمله ذلك على أن يخرج من منزله إلا هلك] وكم من الناس اليوم غيروا سكنهم وخرجوا من بيوتهم بسبب جيرانهم فكان أذى الجار حاملاً لهم على الخروج من المسكن، وتغيير البيت من أجل أذى الجار. وربما انتقل إلى بيت إيجاره أعلى، أو بيت أضيق من أجل الهروب من جاره، ومن أجل أذى الجار.

حق الأيتام

حق الأيتام وأما الأيتام فالإحسان إليهم ومعاملتهم بلطف والإنفاق عليهم من هذه الشريعة، فعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الساعي على الأرملة والمساكين كالمجاهد في سبيل الله، وكالذي يصوم النهار ويقوم الليل) ولذلك كان عبد الله -كما يقول أبو بكر بن حفص - لا يأكل طعاماً إلا وعلى خوانه يتيم، لابد أن يدعو يتيماً في كل وجبة من وجبات طعامه ليأكل معه إحساناً إلى اليتامى. وأما العبيد والخدم فالإحسان إليهم بالرفق بهم والتخفيف عنهم وترك إيذائهم: عن أبي أمامة قال: (أقبل النبي صلى الله عليه وسلم ومعه غلامان فوهب أحدهما لـ علي صلوات الله عليه وقال: لا تضربه، فإني نهيت عن ضرب أهل الصلاة، وإني رأيته يصلي منذ أقبلنا، وأعطى أبا ذر غلاماً وقال: استوصِ به معروفاً، فأعتقه، فقال: ما فعل؟ -يسأل أبا ذر بعد ذلك- ماذا فعلت بالغلام؟! قال: أمرتني أن أستوصي به خيراً فأعتقته). وعن أبي مسعود رضي الله عنه قال: (كنت أضرب غلاماً لي فسمعت من خلفي صوتاً!! اعلم أبا مسعود. اعلم أبا مسعود. لله أقدر عليك منك عليه، لله أقدر عليك منك عليه، فالتفت فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: يا رسول الله! هو حر لوجه الله، فقال: أما لو لم تفعل لمستك النار أو للفحتك النار) وعن عمار بن ياسر قال: [لا يضرب أحد عبداً له وهو ظالم له إلا أقيد منه يوم القيامة] هذا في العبد الذي يملكه صاحبه، فكيف إذا كان خادماً لا يملكه ولم يشتره بماله؟ وإنما هو حرٌ أو حرةٌ من الأحرار ومع ذلك يضربونهم ويجرحونهم ويكسرونهم وقد يذهبون إلى المستشفيات من شدة الضرب، حال بعض الناس مع الخدم في الإهانة والإيذاء والشدة لا يعلمه إلا الله، مع أنهم لا يملكونهم وهذا الذي يملكه يقول عمار: [لا يضرب أحد عبداً له وهو ظالم له إلا أقيد منه يوم القيامة] فماذا سيفعل بعض الخدم ببعض المخدومين يوم القيامة؟ وعن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت قال: (خرجت أنا وأبي نطلب العلم في هذا الحي من الأنصار قبل أن يهلكوا، فكان أول من لقينا أبا اليسر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووصفوا معه حال غلامه وحسن لباسه مع سيده، فكلموا أبا اليسر في حال هذا الغلام في هذه اللبسة الجميلة الجيدة، فقال: يا بن أخي! بصرت عيني هاتين، وسمعت أذني هاتين، ووعاه قلبي -وأشار إلى مناط قلبه- سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أطعموهم مما تأكلون، وألبسوهم مما تلبسون) وكان أن أعطيته من متاع الدنيا أهون علي من أن يأخذ من حسناتي يوم القيامة. وعن أبي ذر قال: (إني ساببت رجلاً فشكاني إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي -أي: الرسول عليه الصلاة والسلام-: أعيرته بأمه؟! قلت: نعم. قال: إن إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يديه فليطعمه مما يأكل ويلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم ما يغلبهم فأعينوهم).

الإحسان إلى صانع المعروف

الإحسان إلى صانع المعروف والإحسان إلى من صنع إليك معروفاً فمكافأته على معروفه، وكم من الناس يجحد المعروف ويتنكر لمن صنع إليه معروفاً، حتى إذا رآه كأنه لم يقابله من قبل، فجاحدو المعروف في هذه الدنيا كُثر، عن جابر بن عبد الله قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من صُنعِ إليه معروف فليجزيه، فإن لم يجد ما يجزيه فليثن عليه، فإنه إذا أثنى عليه فقد شكره وإن كتمه فقد كفره، ومن تشبع بما لم يعط كأنما لبس ثوبي زور) إذاً: إذا لم تستطع مكافأته فاذكر معروفه بين الناس واثنِ عليه، فإذا كتمت ذلك فقد كفرت بمعروفه، وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أتى إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا فادعوا له حتى يعلم أن قد كافأتموه).

الإحسان إلى صديقات الزوجة

الإحسان إلى صديقات الزوجة وأما الإحسان إلى الأصدقاء، وصديقات الزوجة، وأصدقاء الأبوين فإنه من حسن التعامل مع الخلق، فعن أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتي بالشيء يقول: (اذهبوا به إلى فلانة فإنها كانت صديقة خديجة، اذهبوا إلى بيت فلانة فإنها كانت تحب خديجة) كان صلى الله عليه وسلم يتذكر الغابر، ويتذكر الدهر الماضي، ويتذكر العلاقات القديمة، حسن العهد من الإيمان. أما الإخوان والأصدقاء، فإنه لابد أن يكون الإنسان على صلة ورحمة بهم، وهذا ما سنعرف بعض أمثلته بعد قليل. أسأل الله تعالى أن يهب لنا من أمرنا رشداً، وأن يعيننا على حسن التعامل مع الخلق، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الإحسان إلى الإخوان

الإحسان إلى الإخوان الحمد لله الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ويشركون، نحمدك اللهم ونثني عليك ونشكرك ونوحدك ولا نكفرك ونخلع كل من يكفرك. وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، هو رسول الله الرحمة المهداة والبشير النذير والسراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله وذريته الطيبين الطاهرين وعلى أصحابه والتابعين. عباد الله! قال صلى الله عليه وسلم: (خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه) وقال عليه الصلاة والسلام: (المؤمن مرآة أخيه، المؤمن أخو المؤمن يكف عليه ضيعته، ويحوطه من ورائه فيحفظه في ماله، ويتعاهد حاله، ويصلح شأنه ويرعى مصلحته) ولذلك لا تجوز المصارمة بين الإخوان، القطيعة والهجران من المحرمات، فعن هشام بن عامر الأنصاري -ابن عم أنس بن مالك، وكان أبوه قد قتل يوم أحد - أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لمسلم أن يصارم مسلماً فوق ثلاث، فإنهما ناكبان عن الحق ما داما على صرامهما، وإن أولهما فيئاً يكون كفارته عند سبقه بالفيء -إذا سبق بالرجوع إلى صاحبه كان ذلك الرجوع كفارة لما حصل- وإن ماتا على صرامهما، لم يدخلا الجنة جميعاً أبداً، فإن سلم عليه فأبى أن يقبل تسليمه وسلامه رد عليه الملك ورد على الآخر الشيطان) رد عليه الملك على المسلم البادئ، ورد على الآخر الشيطان، قاله عليه الصلاة والسلام. فانظر الآن في أحوالنا الاجتماعية وتقاطع بعضنا مع بعض، وهذا لم يدخل بيت قريبه منذ كذا سنة، وآخر يمر بالمجلس فلا يسلم عليه لما بينه وبينه من القطيعة، حقوق الأخوة عظيمة، والإعداد للقاء الإخوان من الدين، فعن ثابت البناني قال: [إن أنساً كان إذا أصبح دهن يده بدهن طيب لمصافحة إخوانه] كان أنس إذا أصبح وضع الطيب في يده لأنه سيمشي ويشاهد ويقابل إخوانه وسيصافحهم، فليكن ما ينتقل من كفه إلى كف أخيه طيباً. حتى توزيع النظر في الجلسات مع الإخوان، فعن حبيب بن ثابت قال: كانوا يحبون إذا حدث الرجل لا يقبل على الرجل الواحد ولكن ليعمهم، يعمهم بنظره فيوزع عليهم نظرات يشرك فيها الجميع، ولا يجوز ترويع الأخ المسلم أبداً، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لا يأخذ أحدكم متاع صاحبه لاعباً ولا جادا فإذا أخذ أحدكم عصا صاحبه فليردها إليه).

الإحسان إلى كبار السن

الإحسان إلى كبار السن وأما كبار السن فإن إحسان التعامل باحترامهم وتوقيرهم، فعن أبي موسى الأشعري قال: [إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم] إذا أردت أن تجل الرب عز وجل فأكرم ذي الشيبة المسلم. وأما قضاء حوائج الناس ووعدهم خيراً فقد كان صفة من صفات نبينا صلى الله عليه وسلم فعن أنس قال: (كان النبي رحيماً، وكان لا يأتيه أحد إلا وعده -يعده خيراً- وأنجز له إن كان عنده، وأقيمت الصلاة وجاءه أعرابي بعد إقامة الصلاة فأخذ بثوبه فقال: إنما بقي من حاجتي يسيرة -بقي سؤال- فقام معه حتى فرغ من حاجته ثم أقبل فصلى).

التجاوز عن المحتاجين والمساكين والمدينين

التجاوز عن المحتاجين والمساكين والمدينين والتجاوز عن المحتاجين والمساكين والمدينين -أصحاب الديون- أمر عظيم من إحسان تعامل الخلق، فعن أبي مسعود الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حوسب رجل ممن كان قبلكم فلم يوجد له من الخير شيء إلا أنه قد كان رجلاً يخالط الناس، وكان موسراً فكان يأمر غلمانه أن يتجاوزوا عن المعسر، قال الله عز وجل: نحن أحق بذلك منه تجاوزوا عنه -يقول للملائكة- تجاوزوا عنه) بعد أن لقي الله وكان موحداً لكن ليس له من الخير إلا ذلك، قال: تجاوزوا عنه. مواساة الناس في السنة المجاعة وفي القحط والشدة، تنزل حيث بالناس ظروف صعبة فيحتاجون وتضيق أحوالهم، فما هو حسن التعامل مع الخلق في هذه الحالة؟ المواساة والبذل لهم، ولذلك قال الأنصار: اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل، مع أن المهاجرين ما تعبوا في شيء، قال: لا. لا يعرفون الزراعة، فقالوا: تكفونا المؤنة ونشرككم في الثمرة، قالوا: سمعنا وأطعنا. وعن عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قام عام الرمادة وكانت سنةً شديدة مؤلمة بعدما اجتهد عمر في إمداد الأعراب بالإبل والقمح والزيت من الأرياف كلها مما أجهده ذلك فقام عمر يدعو فقال: [اللهم اجعل رزقهم على رءوس الجبال، فاستجاب الله له وللمسلمين فقال حين نزل به الغيث: الحمد لله فوالله لو أن الله لم يفرجها ما تركت أهل بيت من المسلمين لهم سعة إلا أدخلت معهم أعدادهم -إذا كانوا خمسة أدخل معهم خمسة، وإذا كان أهل البيت ميسورين وكانوا أربعة أدخل معهم أربعة- إلا أدخلت معهم أعدادهم من الفقراء، فلم يكن اثنان يهلكان من الطعام على ما يقيم الواحد] يعني: طعام الواحد يكفي الاثنين. قال محمد بن زياد: أدركت السلف -انظروا إلى التعامل بين الجيران والناس في ذلك الوقت رحمة الله على أهل ذلك الوقت- أدركت السلف وإنهم ليكونون في المنزل الواحد بأهاليهم فربما نزل على بعضهم الضيف وقدر أحدهم على النار -يكون قدر أحدهم على النار، والثاني نزل عنده ضيوف- فيأخذها صاحب الضيف لضيفه، يأتي صاحب الضيف إلى القدر التي لصاحبه ويأخذها لضيفه، فيفقد القدر صاحبها!! فيقول: من أخذ القدر؟! فيقول صاحب الضيف: نحن أخذناها لضيفنا، فيقول صاحب القدر: بارك الله لكم فيها، قال محمد: والخبز إذا خبزوا مثل ذلك، وليس بينهم جدر من قصب -الحدود جدار من قصب- فالواحد لا يجد حرجاً أن يأخذ من أخيه وأخوه يفرح إذا أخذ منه؛ لأن الأول يأخذ برضا الثاني وهو يعلم أنه راضٍ، فأين هذه الأخلاق؟! وكان على الضيوف من التعامل مع صاحب البيت ألا يحرجوه، فقد قال صلى الله عليه وسلم لما ذكر (جائزة الضيف ثلاثة أيام فما كان وراء ذلك فهو صدقة عليه، ولا يحل له أن يثوي عنده حتى يحرجه) لا يحل له أن يقيم عنده حتى يحرجه، ويضيق عليه. وأما مشاركة العمال والموظفين فاسمع ما قال نافع بن عاصم أنه سمع عبد الله بن عمرو قال لابن أخ له خرج من الوهط -بستان وأرض كانت لـ ابن عمرو -[أيعمل عمالك؟ قال: لا أدري، قال: أما لو كنت ثقفياً لعلمت ما يعمل عمالك، ثم التفت إلينا فقال: إن الرجل إذا عمل مع عماله في داره، وقال أبو عاصم مرةً في ماله -في الشركة أو المؤسسة أو الدكان أو البيت- كان عاملاً من عمال الله عز وجل] كأنما يعمل لله، من عمال الله عز وجل.

حسن التعامل مع الحيوانات

حسن التعامل مع الحيوانات حتى حسن التعامل يصل إلى البهائم والحيوانات وليس إلى الآدميين فقط، فعن قرة قال رجل: (يا رسول الله! إني لأذبح الشاة فأرحمها، أو أني لأرحم الشاة أن أذبحها، قال: والشاة إن رحمتها رحمك الله -مرتين- والشاة إن رحمتها رحمك الله) وعن عبد الله بن مسعود قال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم نزل منزلاً -في طريق- فأخذ رجل بيض حمرة -نوع من الطيور، تسلق الرجل فأخذ بيضها من عشها- فجاءت الحمرة ترف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم -تحوم وترف بجناحيها- فقال عليه الصلاة والسلام: أيكم فجع هذه بيضتها؟ أيكم فجع هذه بيضتها؟ فقال رجل: يا رسول الله! أنا أخذت بيضتها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أردده رحمةً لها، أردده رحمةً لها) حتى البهائم والحيوانات. هذا جانب من حسن التعامل مع الخلق، استفدنا كل ما ورد من الأحاديث والآثار الصحيحة من كتاب الإمام العظيم أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله، فالله يغفر له ويرحمه على ما نفعنا به من هذه العلوم في كتابه العظيم (الأدب المفرد) وفيه خير كبير، وهذا الجانب منتقى منه فقط في قضية الإحسان إلى الخلق في التعامل مع الناس. اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك الأخيار، اللهم إنا نسألك أن تغفر ذنبنا وتلم شعثنا وتثبت أمننا، اللهم اقضِ ديوننا، واكبت عدونا، وارحم ميتنا، اللهم سد جوعتنا، اللهم استر عيوبنا يا رب العالمين، اللهم من أراد الإسلام وأهله بسوء في هذه البلد وسائر بلدان المسلمين فاجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا رب العالمين، اللهم آمنا في الأوطان والدور وأرشد الأئمة وولاة الأمور، اللهم ارحمنا برحمتك يا عزيز يا غفور {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90].

زيد بن عمرو موحد في الجاهلية

زيد بن عمرو موحد في الجاهلية أيها الإخوة: ضمن سلسلة من قصص الصحابة في عهد النبوة، يتناول الشيخ في هذا الدرس أحد المؤمنين الموحدين وهو زيد بن عمرو بن نفيل، فيذكر جانباً من سيرته ورحلته في طلب الدين الحق ثم يذيلها ببعض المسائل المستفادة من هذه القصة.

سيرة زيد بن عمرو بن نفيل

سيرة زيد بن عمرو بن نفيل الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ففي هذه السلسلة الجديدة -أيها الإخوة- من قصص الصحابة في عهد النبوة، نتناول واحداً من المؤمنين الموحدين الذي ربما يدخل في شرط هذه السلسلة، وربما لا يدخل، ولكنه -على أية حال- رجل من الموحدين ينبغي التعريف به، ومعرفة سيرته التي اعتنى الإمام البخاري رحمه الله تعالى من بين أصحاب الكتب التسعة جميعاً بذكر سيرته، حتى لا يكاد يوجد في كتابٍِ غير صحيح الإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل مثل هذه الروايات المجموعة، وهذا الرجل هو زيد بن عمرو بن نفيل رحمه الله تعالى ورضي الله عنه وأرضاه. روى البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح قبل أن ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي، فقدم له النبي صلى الله عليه وسلم سفرة، فأبى أن يأكل منها، ثم قال زيد: إني لست آكل مما تذبحون على أنصابكم، ولا آكل إلا ما ذكر اسم الله عليه، وأن زيد بن عمرو كان يعيب على قريش ذبائحهم، ويقول: الشاة خلقها الله، وأنزل لها من السماء الماء، وأنبت لها من الأرض؛ ثم تذبحونها على غير اسم الله!!) إنكاراً لذلك وإعظاماً له. وعن ابن عمر رضي الله عنهما: [أن زيد بن عمرو بن نفيل خرج إلى الشام يسأل عن الدين ويتبعه -قبل البعثة النبوية- فلقي عالماً من اليهود، فسأله عن دينهم، فقال: إني لعلِّي أن أدين بدينكم فأخبرني، فقال: لا تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله، قال زيد: ما أفر إلا من غضب الله، ولا أحمل من غضب الله شيئاً أبداً، وأنى أستطيعه! فهل تدلني على غيره؟ قال: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفا، قال زيد: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم؛ لم يكن يهودياً ولا نصرانياً ولا يعبد إلا الله، فخرج زيد، فلقي عالماً من النصارى، فذكر مثله، فقال النصراني: لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله، قال: ما أفر إلا من لعنة الله، ولا أحمل من لعنة الله ولا من غضبه شيئاً أبداً، وأنى أستطيع! فهل تدلني على غيره، قال: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفاً، قال: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم؛ لم يكن يهودياً ولا نصرانياً ولا يعبد إلا الله، فلما رأى زيد قولهم في إبراهيم عليه السلام، خرج، فلما برز رفع يديه، فقال: اللهم إني أشهدك أني على دين إبراهيم]. وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: [رأيت زيد بن عمرو بن نفيل قائماً مسنداً ظهره إلى الكعبة، يقول: يا معشر قريش! والله ما منكم على دين إبراهيم غيري، وكان يحيي الموءودة، يقول للرجل إذا أراد أن يقتل ابنته: لا تقتلها، أنا أكفيك مؤنتها، فيأخذها، فإذا ترعرعت، قال لأبيها: إن شئت دفعتها إليك، وإن شئت كفيتك مؤنتها]. هذا الرجل زيد بن عمرو بن نفيل هو والد سعيد بن زيد أحد العشرة المبشرين بالجنة، وزيد بن عمرو بن نفيل هو ابن عم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، كان ممن طلب التوحيد، وخلع الأوثان، وجانب الشرك، لكنه مات قبل البعثة النبوية. قال زيد بن عمرو: إني خالفت قومي، واتبعت ملة إبراهيم وإسماعيل وما كانا يعبدان، وكانا يصليان إلى هذه القبلة، وأنا أنتظر نبياً من بني إسماعيل يبعث ولا أراني أدركه -هذا إحساسه- وأنا أؤمن به وأصدقه وأشهد أنه نبي. فمن قبل البعثة يشهد أنه نبي؛ لأنه قد علم أنه سيبعث، لكنه ما بعث، فأشهد الله والناس أنه يؤمن ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعرفه. قال زيد بن عمرو لـ عامر بن ربيعة: "وإن طالت بك حياةٌ، فأقرئه مني السلام". أنا أحس يا عامر أني لن أدركه، فإذا أدركته أنت، فأقرئه مني السلام. قال عامر: فلما أسلمت أعلمت النبي صلى الله عليه وسلم بخبره، قال: فرد عليه السلام وترحم عليه، وقال: (ولقد رأيته في الجنة يسحب ذيولا) مما أسبغ الله عليه من الثياب والنعيم.

زيد بن عمرو يبحث عن الحقيقة

زيد بن عمرو يبحث عن الحقيقة كان من خبر زيد ما روى البزار والطبراني من حديث سعيد بن زيد ولده، قال: خرج زيد بن عمرو وورقة بن نوفل يطلبان الدين -يبحثان عن الحق، وعن الدين الصحيح قبل البعثة- حتى أتيا الشام، فتنصر ورقة بن نوفل -دخل في دين النصارى- لكن على دين التوحيد -أي: تابع عيسى بن مريم- وامتنع زيد، فأتى الموصل فلقي راهباً، فعرض عليه النصرانية، فامتنع. وقد سأل سعيد بن زيد هو وعمر بن الخطاب؛ باعتبار أن عمر ابن عمه، يهمه أمره أيضاً، سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن زيد؟ فقال: (غفر الله له ورحمه، فإنه مات على دين إبراهيم). وعن عروة قال: [بلغنا أن زيداً كان بـ الشام، فبلغه مخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فأقبل يريده، فقتل بمضيعة من أرض البلقاء]. قال ابن إسحاق: لما توسط بلاد لخم قتلوه، وقيل: إنه مات قبل البعثة بخمس سنين عند بناء قريش للكعبة.

هل زيد بن عمرو من الصحابة؟

هل زيد بن عمرو من الصحابة؟ بناءً على ما تقدم فإن هذا الرجل يحتمل أن يكون من الصحابة ويحتمل ألا يكون. لماذا؟ لأنه إذا جاء على أحد الاحتمالين في تعريف الصحابي دخل وإلا فلا. أما تعريف الصحابي، فهو: من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على ذلك. من رأى النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به، هل يشترط في كونه مؤمناً به أن تقع رؤيته له بعد البعثة، أم لا؟ الآن: زيد بن عمرو لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به، لكنه لا يعرف أن هذا هو النبي، لقي النبي صلى الله عليه وسلم وجلس وتحدث معه ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم قد بعث بعد، لكنه لقيه وهو يشهد أن لا إله إلا الله، وأن هناك نبيٌ سيبعث هو رسول الله ولم يكن يعلم أنه هو، فهل يشترط في الصحابي أن يكون قد لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به بعد البعثة؟ أو أنه يكفي أن يراه قبل البعثة وهو يؤمن أنه سيبعث؟ فعلى الأول: لا يدخل في تعريف الصحابي، وعلى الثاني يدخل في تعريف الصحابي. ولا شك أنه كان حنيفاً مؤمناً موحداً رحمه الله ورضي عنه، فإنه كان قد رفع يديه يقول: اللهم إني أشهدك أني على دين إبراهيم. وقد جاء عن أسامة بن زيد عن أبيه أنه قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم حار من أيام مكة، وهو مردفي- أنا وراءه- فلقينا زيد بن عمرو، فقال له: يا زيد: ما لي أرى قومك سبقوك، فقال: خرجت أبتغي هذا الدين، فذكر الحديث المشهور باجتماعه مع اليهودي وقوله: لا تكن من ديننا حتى تأخذ نصيبك من غضب الله، واجتماعه مع النصراني وقوله: لا تكن من ديننا حتى تأخذ نصيبك من لعنة الله. وفي آخر الأثر: [إن الذي تطلبه قد ظهر ببلادك -قد بعث نبيٌ طلع نجمه- وجميع من رأيت في ضلال]. فهذا يعني: أنه رحمه الله قد مات على التوحيد، وهو يؤمن بالنبي عليه الصلاة والسلام قبل أن يخرج النبي صلى الله عليه وسلم.

موقف زيد بن عمرو مما ذبح لغير الله

موقف زيد بن عمرو مما ذبح لغير الله الحديث الأول: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح). قوله: بلدح: مكان في طريق التنعيم، ويقال: هو وادٍ، التقى فيه زيد بن عمرو بن نفيل بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، فقدّم إليه النبي صلى الله عليه وسلم سفرة قبل أن يكون نبياً؛ وهي: المائدة التي عليها الطعام، وقيل: إن السفرة كانت لقريش قدموها للنبي صلى الله عليه وسلم، فقدمها هو لـ زيد بن عمرو، واللحم الذي في السفرة ذبحه القرشيون وكانوا مشركين، ذبحوه على عادتهم وهي الذبح على الأنصاب والأوثان والأصنام، فلما قدم اللحم لـ زيد بن عمرو بن نفيل رفض أن يأكله، وقال: إنا لا نأكل ما ذبح على أنصابكم. والأنصاب جمع نصب: وهي أحجار كانت حول الكعبة يذبحون عليها. قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يأكل مما كانوا يذبحون عليها، ويأكل ما عدا ذلك، وإن كانوا لا يذكرون اسم الله عليه؛ لأن الشرع لم يكن نزل بعد. فالطعام الذي قُدّم لـ زيد بن عمرو بن نفيل كان قد ذبح على النصب، وكان زيد يعلم كيف يذبحون، وكان موحداً لا يعبد إلا الله ويفهم أن الذبح عبادة، وأنه ما دام ذبح على النصب، فلا يجوز أن يؤكل لأنه شرك، وهو موحد على ملة إبراهيم، ولذلك رفض زيد بن عمرو بن نفيل أن يأكل، وكان يقول: عذت بما عاذ به إبراهيم، ثم يخر ساجداً للكعبة. لا يعرف كيف الصلاة، ولا الركعات، ولا الأوقات، لكن يعرف أن السجود تعظيم، وأنه يعبد الله، فكان يسجد للكعبة التي بناها إبراهيم لله عز وجل، ساجداً لله عز وجل إلى جهة الكعبة هكذا كان يفعل. فمر زيد بن عمرو بـ زيد بن حارثة والنبي صلى الله عليه وسلم وهما يأكلان فدعياه، فقال: يا بن أخي! لا آكل مما ذبح على النصب. قال زيد بن حارثة: [فما رئي النبي صلى الله عليه وسلم يأكل مما ذبح على النصب من يومه ذلك]. وجاء أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم لقيه وكان على بقايا دين إبراهيم الذي كان في قريش، وكان في شرع إبراهيم تحريم الميتة، وتحريم ما ذبح على النصب، فكان زيد يفهم أنه لا يجوز له أكلها؛ ولذلك امتنع عن أكلها. وكذلك كان من أَمرِه أنه خرج يسأل عن التوحيد؛ فلقي عالماً من اليهود كما جاء في القصة وسأله، وكانت هذه القصة مما جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم سمعها من زيد بن عمرو، وقال له: (مالي أرى قومك قد سبقوا عليك -أي: أبغضوك، النبي صلى الله عليه وسلم يسأل زيداً قبل البعثة- قال: خرجت أبتغي الدين، فقدمت على الأحبار فوجدتهم يعبدون الله ويشركون به) لقي اليهودي قال: لن تدخل في ديننا حتى تأخذ بنصيبٍ من غضب الله، ولقي عالماً من النصارى، وفي رواية: قال لي شيخٌ من أحبار الشام: إنك لتسألني عن دينٍ ما أعلم أحداً يعبد الله به إلا شيخاً في الجزيرة، قال: فقدمت عليه، فقال: إن الذي تطلبه -التوحيد- قد ظهر ببلادك، وجميع من رأيتهم في ضلال وفي رواية: وقد خرج في أرضك نبيٌ أو هو خارج، فارجع وصدقه وآمن به- قال زيد: فلم أحس بشيء بعد. إذاً: هذا يدل على أن زيداً رجع إلى الشام حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم، فسمع به، فرجع فمات، لكنه لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا عندما بحث عنه في الشام، لما برز وخرج من أرضهم، قال: اللهم إني أشهدك أني على دين إبراهيم. وكان يقول لقريش: ما منكم على دين إبراهيم غيري، وفي رواية كان يقول: إلهي إله إبراهيم، وديني دين إبراهيم، وكان قد ترك عبادة الأوثان، وترك أكل ما يذبح على النصب، وفي رواية ابن إسحاق أنه كان يقول: اللهم لو أعلم أحب الوجوه إليك لعبدتك به. أي: لو أعلم أحب الطرق التي تحب أن تعبد بها، وكيفية عبادة معينة، ووجه معين من أوجه التعبد لعبدتك به، ولكني لا أعلمه، ثم يسجد على الأرض براحته.

زيد بن عمرو وموقفه من وأد البنات

زيد بن عمرو وموقفه من وأد البنات كان من كريم أخلاق هذا الرجل أنه كان يحيي الموءودة كما جاء في الحديث، والمقصود بإحياء الموءودة، أي: إبقاؤها حية، وإلا فلا يحيي من العدم إلا الله، ومعنى يحيي الموءودة: أي: يبقيها على قيد الحياة، يفتديها أن تقتل، ويمنع عنها القتل، ووأد الشيء: إذا أثقله، وأطلق على دفن البنات وهن على قيد الحياة.

سبب وأد البنات في الجاهلية

سبب وأد البنات في الجاهلية يقال: إن أصل وأد البنات كان نتيجة الغيرة على البنت؛ لأن بعض العرب سبيت ابنته عندما أغار عليه رجل من العرب وسبى ابنته وأخذها، فاستفرشها ووطئها وصارت عنده، فلما أراد أبوها أن يفتديها منه، خيرها الذي سباها، قال: أتريدين أن ترجعي إلى أبيك أو تمكثي عندي؟ فاختارت الذي سباها -كل هذا الكلام في الجاهلية- فحلف أبوها عندما رأى هذا الأمر ليقتلن كل بنتٍ تولد له، قال: ما دام أن هذه البنت استغنت عني واختارت الذي سباها، فإن كل بنت تأتيني سأقتلها -جاهلي- فتبعه العرب على هذا المبدأ. يعني: هذه كانت بداية وأد البنات عند العرب نتيجة -كما قيل- لهذه القصة. ثم إن منهم من كان يفعل ذلك من إملاق؛ أي: خوف الفقر، ولذلك قال الله عز وجل: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام:151] فكان العرب يئدون بناتهم خشية الفضيحة، وخشية الإملاق. ويقولون: الذكر والولد يدافع عن نفسه وأهله ويعين أباه، ويعمل ويكسب ويصيد، لكن البنت ضعيفة، فإما أن تسبى فتصبح عاراً علينا، أو أنها تكون عالةًً علينا، فإما عار وإما عالة، فالحل قتل البنات وإزهاق أرواحهن.

طرق الجاهلية في وأد البنات

طرق الجاهلية في وأد البنات كانت العرب تقتل البنات بطريقتين: الطريقة الأولى: أن تأتي المرأة الحامل على وشك الوضع إلى حفرة -تحفر فتكون عند الحفرة- وتأتي القابلة التي تستلم المولود، فتولد المرأة، فإذا خرج ذكراً أبقته، وإذا خرجت أنثى ألقتها في الحفرة مباشرة. الطريقة الثانية: أن بعضهم كان يتأني بها وينتظر ولا يدفنها مباشرة، فإذا بلغت سبع سنين، قال لأمها: زينيها؛ لأزور بها أقاربها، فإذا زينتها وجملتها أخذها في الطريق إلى بئرٍ، ثم قال: انظري فيه، فإذا نظرت دفعها من الخلف فوقعت على رأسها وطم عليها الحجارة والتراب وتموت، قال الله: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [النحل:58 - 59] وجاء الله تعالى بالإسلام، وحرَّم وأد البنات وقتل الأولاد عموماً، قال تعالى: {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:8 - 9] وسؤالها يوم القيامة ليس سؤال محاسبة؛ لأنها صغيرة غير مكلفة، لكن تسأل توبيخاً لمن قتلها، فتسأل الوليدة: لم قتلت؟ والمقصود بالسؤال توبيخ القاتل؛ وهو أبوها: {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:8 - 9] وبالإضافة إلى ذلك جاء الإسلام بالأجر العظيم لمن أحسن تربية البنات: (من عال جاريتين أو ثلاثاً وأطعمهن وكساهن من جذته -من ماله ومما أعطاه الله- وصبر عليهن، كن له ستراً من النار). وجاء في فضل تربية البنات، وأجر تربية البنات ما لم يأتِ في أجر تربية الذكران؛ لأن النفوس قد تثقل عليها البنت، وبعض الناس يكرهون البنات، وربما إذا كانت المرأة قائمةً فجاءها خبر ولادة بنت من أحد أهلها قعدت، أو دعت عليها مباشرة أن يعجل الله أخذها، وترى بعضهم إذا سأل الآخر: ماذا أتى لك؟ فإذا قال: أتاني ذكر، جعل يهنئه ويظهر الفرح والاستبشار بقدوم المولود الذكر لصاحبه، وإذا قال: جاءتنا بنت؟ قال: يا الله! الحمد لله على سلامة الأم، أي: المهم أن الأم سلمت، ولا يظهر الفرح بالبنت والاستبشار مثلما يظهر للولد، ولذلك نهينا عن تهنئة الجاهلية: بالرفاء والبنين. لماذا نهينا عن هذه التهنئة؟ الرفاء هو: الالتحام والارتفاق والتوافق؛ وهذا جيد ولا بأس أن تدعو للمتزوج بالرفاء، فليست المشكلة في قولهم: بالرفاء، لكن المشكلة والمصيبة في قولهم: بالبنين؛ لأن أهل الجاهلية كانوا يكرهون البنات، فأي إنسان من المتزوجين الجدد يقال له: بالرفاء والبنين، لماذا البنين؟ جمع ابن؛ لأنهم يكرهون البنات، فيقولون: الرفاء والبنين؛ هذه التهنئة الجاهلية انتقلت إلينا، مع أنه قد ورد النهي عنها، فتجد بعض الناس إذا كتب بطاقة تهنئة لمتزوج قال: بالرفاء والبنين. إذاً: كل ما أتى من عند الله، فحياه الله ومرحباً وأهلاً وعلى الرحب والسعة، واحتساب الأجر في الإنفاق على البنات ربما يفوق الإنفاق على الذكور؛ بحسب ما ورد في الأحاديث من فضل الإنفاق على البنات. وكان هذا الرجل يقول للعربي الجاهلي إذا جاءته بنت: أنا أكفيك مؤنتها، وقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن زيد؟ فقال: (يبعث يوم القيامة أمةً وحده بيني وبين عيسى بن مريم). وكان زيد بن عمرو بن نفيل يذكر أشعاراً في مجانبة الأوثان، وكان يدعو كفار قريش إلى التوحيد، وقد فارق قومه واتبع ملة إبراهيم، وكان ينتظر نبياً من ولد إسماعيل، ولكن شاء الله وقدَّر أن يموت قبل ذلك، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم ترحم عليه، وبشَّر أهله أنه من أهل الجنة. هذا طرف من سيرة هذا الرجل رحمه الله ورضي عنه وأرضاه.

الدروس المستفادة من قصة زيد بن عمرو

الدروس المستفادة من قصة زيد بن عمرو يؤخذ من هذه القصة فوائد متعددة: أولاً: أهمية البحث عن الحق، وأن الإنسان ما دام أنه يبحث عن الحق فإنه مأجور. ثانياً: ركوب المشاق للبحث عن الحق، ولذلك سافر ورجع، وسافر مرة أخرى، وكلما دله شخص على شخص ذهب إليه وسافر إليه يبحث عن الحق. ثالثاً: استعمال مخاطبة العقول في الدعوة، ولذلك كان يقول لكفار قريش: الشاة خلقها الله، وأنزل لها من السماء الماء، وأنبت لها من الأرض، ثم تذبحونها على غير اسم الله؛ على اسم هبل واللات والعزى ومناة، تذبحون هذه الشاة على أسماء الأوثان، واعجباً لكم!! وكان ينكر ذلك جداً. رابعاً: أن من عُرِضَ عليه شيء منكر فلا يقبله، فهذا زيد بن عمرو من سلامة فطرته لما قال له اليهودي: لا تكن على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله؛ لأنهم قوم مغضوب عليهم، رفض، ولم يقل: أدخل في دينكم وإنما قال: ما أفر إلا من غضب الله؛ أنا فررت من غضب الله تريديني أدخل في غضب الله!! وكذلك النصراني لما عرض عليه أن يدخل في دينه على أن يأخذ بنصيبه من لعنة الله، قال: ما أفر إلا من لعنة الله، كيف أدخل في لعنة الله؟!! خامساً: أن الإنسان إذا عثر على الحق تمسك به، فقصار ما وصل إليه أن دين إبراهيم هو التوحيد، إذاً يبقى على دين إبراهيم لا يغير الإنسان الحق الذي يعثر عليه بل يبقى عليه ويتمسك به ولا يتركه. سادساً: أن الإنسان يحارب المنكرات الاجتماعية الموجودة عنده في بني قومه، فهذا زيد بن عمرو كان يحارب المنكرات الاجتماعية كوأد البنات.

واجب الداعية نحو المنكرات الاجتماعية

واجب الداعية نحو المنكرات الاجتماعية يوجد عندنا كثير من المنكرات الاجتماعية، فيجب على الدعاة والمصلحين، ويجب علينا جميعاً محاربة المنكرات الاجتماعية التي تكون موجودة في المجتمع، كان عندهم وأد البنات؛ وهي من المنكرات الاجتماعية، وهي خصلة ذميمة جداً، فيقوم هذا الرجل المصلح بأخذ البنت، وإنقاذها من أبيها، وإحيائها بعد أن كادت تموت وتدفن حية. فمن وظيفة المصلح: أن ينظر في المنكرات الاجتماعية فيتولى إصلاحها؛ لأن المجتمع -يا إخوان- تنتشر فيه انحرافات بسبب بعد الناس عن الدين، وقد يكون شخص واحد هو سبب الانحراف. الآن هذا العربي الأول الذي أُخذت ابنته واختارت أن تبقى عند الذي سباها، فغضب وأخذته الحمية، وعاهد نفسه أن يقتل كل بنتٍ تأتيه، واحد هو الذي سبب المنكر، واخترعه ثم فشا في المجتمع. كثير من المنكرات الموجودة، قد يكون الذي دعا إليها واخترعها شخص واحد، ثم انتشرت في المجتمع، ووظيفة الدعاة والمصلحين هي مجابهة المنكرات الموجودة، ودعوة الناس إلى تركها، وبيان خطرها، وإنقاذ الموقف، فتجد -مثلاً- في المجتمع أشياء كثيرة من أنواع الفواحش، أو أشياء من التقصير في الحجاب، أو أشياء من انتشار الخمر أو المخدرات، سوس من السوس الذي ينخر في عظم المجتمع. فوظيفة الداعية إلى الله سبحانه وتعالى أن يقوم بالمواجهة. ومشكلة المنكرات الاجتماعية أن الناس قد تآلفوا عليها، وأن عليها خلقٌ كثير، فتكون المواجهة صعبة؛ لأنك تواجه عدداً كبيراً لا تواجه شخصاً واحداً. ومشكلة المنكرات الاجتماعية أن الذي يرتكبها يحتج بالأغلبية وينطلق من منطلق الأغلبية؛ فإذا أتيت وأنكرت على واحدٍ منهم، يقول: كل العالم يفعلون هذا، وهذه الحجة التي ابتلينا بها، كلما دعوت شخصاً إلى شيء يقول: كل العالم هكذا، بعض منكرات الأعراس من المنكرات الاجتماعية تفشت، مثلاً: إدخال الرجل على النساء تصوير النساء، تفشت. فإذا أتيت تنكر، يقولون: كل الأعراس هكذا كل الناس يفعلون هذا. ولذلك فينبغي علينا الصبر، وأن نبين للناس أن الأكثرية ليست دليلاً على الحق؛ وهذا مبدأ مهم جداً، ولذلك يقول الله تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103]، ويقول الله عز وجل: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116] فعمر الأكثرية ما كانت دليلاً على الحق، بالعكس الأكثرية في الأرض كفار، انظر إلى التعدادات، كم مليون نصراني؟ كم مليون بوذي؟ كم مليون هندوسي؟ كم مليون مشرك؟ حتى من المحسوبين على المسلمين، كم منهم من المبتدعة أصحاب البدع المكفرة؛ الخارجين عن الدين، كـ القاديانية، والبهائية، والبابية، والإسماعيلية، والأغاخانية، والباطنية، وفرق الباطنية كلهم محسوبون على المسلمين، حتى في بعض البلدان يكتب: مسلم قادياني، مسلم باطني، مسلم إسماعيلي، مسلم دورزي، مهزلة، فإذا حذفت هؤلاء وجئت بعد ذلك إلى المحسوبين على المسلمين، وأيضاً تصفي منهم الذين يطوفون بالقبور، والأضرحة، ويسألون الأموات، ويستشفعون بالموتى، ويطلبون من الميت ما لا يقدر عليه إلا الله؛ إذا صفيت هؤلاء، ماذا يبقى؟!! ولذلك قال ابن القيم رحمه الله: "أهل الإسلام في الأرض غرباء، وأهل السنة في المسلمين غرباء، والداعين إلى السنة المطبقين للسنة الحريصين على السنة، أهل الحديث وأتباع الدليل غرباء، كلما نشدت الحق الصافي ضاقت الدائرة". ليست الأكثرية أبداً معياراً للتوصل إلى الحق؛ وهذه حجة باطلة أن أكثر الناس يفعل ذلك، خصوصاً عندما يتنفس في المجتمع المنكرات والانحرافات، ولو كنا في مجتمع الصحابة، لقلنا: والله أكثر أهل المدينة هكذا، الاحتجاج بعمل أهل المدينة، كان ذلك في عصر من العصور؛ عصر النقاء والصفاء، عصر المجتمع الإسلامي الأول الذي أسسه محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم. لو قلت: أكثر أهل المدينة كذا، لكن الآن لا يمكن أن تحتج بأكثرية الناس على شيء، ولذلك كان المذهب الغربي الفاسد قضية التعيين بالأغلبية، واختيار القوانين بالأغلبية، وسن التشريعات بالأغلبية، واختيار الانتخاب بالأغلبية؛ هذا مبدأ فاسد، لأن الأغلبية أصحاب هوى، وإذا ترك الناس أن يشرعوا بالأغلبية لا شك أنهم سيشرعون الكفر المحض. أقول: إن مواجهة المنكرات الاجتماعية يجب أن يبين الشخص للناس قضية الاحتجاج بالأغلبية؛ لأن المنكرات الاجتماعية من طبيعتها كثرة توالي الناس عليه وعلى اتباعها، كذلك فإن إنكار المنكرات الاجتماعية يحتاج إلى تكوين بيئات صالحة لتقاوم هذه المنكرات الاجتماعية، فعندما يكثر في المجتمع مثلاً: البيئات الصالحة التي لا توجد في بيوت أهلها أجهزة اللهو المحرمة، ولا الشاشات البيئات الصالحة التي يحرص فيها أهلها على إتيان المساجد مع أولادهم، أو تحفيظ القرآن لأبنائهم، أو عندما ينتشر الحجاب؛ وينتشر الغطاء الشرعي، والقفازات والجوارب ونحو ذلك؛ هذا فيه مقاومة ومزاحمة للشر، وكذلك عندما يكثر الملتزمون بالسنة الحريصون عليها يكون فيه مزاحمة للمتساهلين بها وهكذا ينتشر الخير، فهذه وسيلة أخرى: تكوين البيئات الصالحة، لأن مواجهة الأكثرية التي جانبت الصواب بدعوات فردية من هنا ومن هنا لا تكاد تنجح، أما مواجهتها بتأسيس بيئات قوية هي بذاتها تكون دعوة بالقدوة، وعندما يرى الناس أن نموذجاً مطبقاً فهذا خير دعوة، وأحسن من ألف خطبة، وألف كتاب، وألف شريط، وألف شخص يتكلمون. ثم إن هذه البيئات النظيفة تستقطب من فيهم بذرة خير يأتون إليها، ولذلك خذ مثلاً: مراكز تحفيظ القرآن الكريم للنساء على سبيل المثال، عندما توجد البذرة يوجد المجتمع يقوم مجتمع مصغر فيه العلم، وتحفيظ القرآن، والوعظ والتذكير؛ هذا هو الذي يصلح الناس يصلحهم إقامة البيئات التي تجذبهم، وتصهرهم إقامة البيئة التي تحتويهم وتحميهم إقامة البيئة التي تعلمهم وتساندهم وتقويهم إذا اهتدوا، فيجد الشخص سنداً، عنده اثنين أو ثلاثة أو أربعة أو عشرة من المتدينين على مثل حاله، فعند ذلك سنشد عضدك بأخيك، وعند ذلك تكون المواجهة قوية مثمرة، وإلا فإننا نجلس على أفراد وعلى كلام، فهذا لا يكون من المقاومة ولا من الاستمرار على الحق إلا أمر في غاية الصعوبة. فـ زيد بن عمرو بن نفيل واحد، ورقة بن نوفل واحد، قس بن ساعدة واحد، كانوا آحاداً فلم يعملوا شيئاً من ناحية التغيير، ولم يستطيعوا أن يصلوا إلى التغيير، لكن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث أقام المجتمع الإسلامي الذي ترابط أفراده، وتعاقدوا وتعاهدوا وتعاونوا على البر والتقوى، الذين أقاموا الدين في أنفسهم، وبرهنوا للناس ولمجتمع قريش أن الإنسان يتغير، وكانوا يرونهم نماذج أمامهم، عندما ترى المرأة المشركة التي جعل خبيب عندها أسيراً في بيتها ترى ولدها يدب الرضيع إلى خبيب؛ خبيب سيُقتل حتماً، محكوم عليه بالإعدام، وهذا الطفل هذا ولد المشركة جاء إلى خبيب فأخذه خبيب وأقعده في حجره وجلس يلاطفه، فلما انتبهت المرأة فزعت؛ لأنه كان بيد خبيب موسى يستحد بها -الاستحداد هو حلق شعر العانة- فهو استعار الموسى ليستحد بها؛ وهذه من سنن الفطرة، فبقيت عنده الموسى وهو موثق، فدب إليه الولد فأقعده عنده وبيده الموسى، فلما انتبهت فزعت ورعبت هذا محكوم عليه بالإعدام، والآن فرصة لينتقم، وبيده الموسى وهذا الولد، لكنه ألغى هذه الفكرة من رأسه، أتظن أنه سيقتله؟ كلا، قالت: والله ما رأيت أسيراً خيراً من خبيب؛ كان بـ مكة يأكل قطفاً من عنب وما في مكة عنب؛ وهذه من كرامات أولياء الله. إذاً: الناس عندما يرون النموذج يتأثرون ويقتنعون وقد لا يُطبق في البداية، ولكن تبقى المشاهدة في نفسه بانتظار الوقت المناسب، تظهر وعلى شكل تنفيذ لما استقر في النفس من التأثر المسبق. والحمد لله رب العالمين.

الأسئلة

الأسئلة

مفهوم التمتع في الحج

مفهوم التمتع في الحج Q شخص ينوي أداء العمرة بعد العيد، ويرجع إلى المنطقة الشرقية وعنده نية أداء الحج. هل يعتبر متمتعاً؟ A التمتع ينقطع بالعودة إلى بلده، فإذا اعتمر في شوال؛ وشوال من أشهر الحج، فإن التمتع ينقطع إذا رجع إلى بلده.

أول ليالي العشر

أول ليالي العشر Q أول ليالي العشر هل هي بعد غدٍ؟ أم بعدها؟ A ليلة واحد من ذي الحجة هي أول ليالي العشر؛ فإذا انتهت العشر الأول تبدأ العشر الثانية، وآخر العشر الثانية يوم عشرين، وأول العشر الثانية يوم الحادي عشر، وأول العشر الثالثة ليلة واحد وعشرين.

السترة في الصلاة

السترة في الصلاة Q هل يجوز أن يكون خط السجاد الذي أمامي سترة؟ A السترة من طبيعتها وصفتها: أنها مرتفعة عن الأرض، والسنة أن تكون مثل مؤخرة الرحل وأعلى، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يستتر وراء الجدار في الصلاة؛ يصلي وراء الاسطوانة، فالسنة ألا تنزل عن مؤخرة الرحل؛ وهو المرتفع الذي يكون في آخر الرحل الذي يوضع على الدابة.

البنين أم البنون

البنين أم البنون Q بالرفاء والبنين؟ أم بالرفاء والبنون؟ A بالرفاء والبنين؛ لأن البنين معطوفة على الرفاء؛ والرفاء مجرورة بالباء. فكأنه يقول: بالرفاء وبالبنين.

حكم من اختل عقله بمرض ونحوه

حكم من اختل عقله بمرض ونحوه Q أصيب الوالد بنزيف في الدماغ وهو الآن طريح الفراش، وعقله ليس كاملاً، وأحياناً يكون في حالة جيدة، وأحياناً في حالة سيئة، فهل يصلي أم لا؟ A إذا رجع إليه عقله صلى، وإذا كان يستطيع الصيام صام، وإذا غاب عنه العقل، فإنه ليس بمكلف، فلا يجب عليه لا الصلاة ولا الصيام.

صحة حديث: (شيبتني هود وأخواتها)

صحة حديث: (شيبتني هود وأخواتها) Q ما صحة هذا الحديث: (شيبتي هود وأخواتها) ومن أخوات هود؟ A حسن بعضهم الحديث بمجموع طرقه، وبعضهم قال: إنه ليس بصحيح. وأخوات هود هي: المرسلات، وعم، وإذا الشمس كورت.

العقيقة

العقيقة Q ما هي العقيقة؟ A العقيقة: هي ذبيحة تذبح اليوم السابع شكراً لله على نعمة المولود، وفكاً لأسر الشيطان وتأثيره عن المولود. قال صلى الله عليه وسلم: (كل غلام مرتهن بعقيقته) مرتهن أي: أن الشيطان له نوع من التسلط على المولود، فينفك التسلط ويضعف تأثير إبليس بذبح العقيقة. غير أنها طعمة للمساكين؛ يهدى منها إليهم، وإذا احتاج إلى كسر عظامها كسرها، وقال بعض العلماء: إنها لا تكسر، والحديث الذي فيه النهي عن كسرها ليس بصحيح، وذهب بعض العلماء إلى أنها تقاس على الأضحية، فتثلث أثلاثاً يأكل الثلث، ويهدي الثلث، ويوزع الثلث ويتصدق به على الفقراء.

الحجة قائمة على قريش بدين إبراهيم

الحجة قائمة على قريش بدين إبراهيم Q هل يؤخذ من قصة زيد بن عمرو بن نفيل أن الحجة قائمة على قريش قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن من مات منهم مشركاً بالله دخل النار؟ A نعم، هذه من الحجج، أن قريشاً قد أقيمت عليهم الحجة، وأن دعوة إبراهيم الخليل معروفة عندهم، وأن التوحيد معروف عندهم، ولذلك كان أبو طالب وعبد المطلب وأبو النبي صلى الله عليه وسلم وأمه في النار؛ لأنهم لم يموتوا على التوحيد، فكفار قريش الذين ماتوا قبل البعثة كان التوحيد معروف عندهم، ولكنهم اختاروا الشرك وكان فيهم دعاة التوحيد، منهم: زيد بن عمرو بن نفيل، وكانت دعوة التوحيد موجودة عنده ومعروفة، لكنهم قالوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23].

متابعة الإمام في الصلاة

متابعة الإمام في الصلاة Q رجل صلى خلف إمام الصلاة الرباعية وسلم الإمام ناسياً في التشهد الأول، هل يقوم المأموم ويكمل الصلاة؟ أم يسلم مع الإمام؟ A لا يسلم، ولا يقوم، وإنما يسبح حتى يقوم الإمام يكمل الصلاة فيكملها معه، فإن أبى الإمام إكمال الصلاة أكمل هو الصلاة.

ورقة بن نوفل قبل البعثة

ورقة بن نوفل قبل البعثة Q ما حال ورقة بن نوفل؟ A هو في الجنة؛ لأنه مات على التوحيد، أي: دخل دين النصرانية على التوحيد، وهو الذي أحس ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وآمن بالنبي صلى الله عليه وسلم، قال: وإن أدرك يومك أنصرك نصراً مؤزراً؛ إذا بعثت أنت وأنا حي فإنني أتعهد بنصرتك، قال: هذا الناموس الذي أنزله الله على موسى، يعني: ورقة بن نوفل أدرك أول الوحي، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع يقول: (زملوني زملوني) رجع مرتعداً مما رآه؛ من منظر جبريل، ولما أمسكه وضمه حتى بلغ منه الجهد، رجع النبي صلى الله عليه وسلم، وقامت خديجة إلى ورقة بن نوفل فأخبرته، فجاء وصدقه بما حصل للنبي صلى الله عليه وسلم، وأن هذا أول النبوة، وأول الدين، لكن ورقة ما نشب أن توفي قبل أن يقوم النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة.

العمرة بغير نية مسبقة

العمرة بغير نية مسبقة Q رجل كان يقيم في الطائف إقامة مؤقتة، فنزل إلى مكة فاعتمر عمرة لنفسه، وبعد ذلك ذهب إلى مدينة جدة، فأراد أن يصلي الجمعة في مكة، فقام بأخذ عمرة عن صاحبٍ له قد مات، ولم ينو إلا من جدة، فهل عمرته صحيحة؟ A نعم. لأنه لم ينوِ إلا في جدة.

حكم الجوائز في المسابقات

حكم الجوائز في المسابقات Q ما حكم السيارة التي ربما تأتي جائزة في مسابقة ما؟ A هذه الجائزة ليست وصفاً لحكم، إنما يضعونها مكافأة أو مقابلاً، لكن إذا كان يشترطون لها اشتراطاً، وكان فيها دفع مال وأخذ كوبون ويتم عليه السحب، فهو نوع من الميسر.

حكم إخراج الزكاة إلى خارج البلد

حكم إخراج الزكاة إلى خارج البلد Q ما حكم إرسال زكاة الفطر إلى خارج البلد؟ A لا يجوز، بل يغني بها فقراء بلده، فإذا لم يوجد فقراء في بلده يخرجها إلى خارج البلد.

حكم السلام على غير المسلمين

حكم السلام على غير المسلمين Q ما حكم السلام على غير المسلمين، مثل: الهندوس؟ A إذا كان اليهود والنصارى الذين هم أحسن من الهندوس لا يجوز إلقاء السلام عليهم، فما بالك بالهندوس؛ الذين إذا وجد الواحد منهم حذاء أخيه عند زوجته ترك البيت ورجع والعياذ بالله، يعني: عندهم وطء للمحارم، ووطء زوجة الأخ شيء عادي، وأن الأخ إذا جاء إلى بيته ووجد أخاه نائماً عند زوجته تركه ورجع، لا يجوز عندهم أن يقلق راحة أخيه عند زوجته. ويكفي أنهم يقولون: إن الله- تعالى الله عن قولهم- حل في بقرة، لكن لا ندري في أي بقرة؟ ضاعت البقرة، الحل أننا نعبد جميع البقر لأن واحدة من البقر هي الإله. فلذلك هؤلاء عباد البقر، وهؤلاء الذين احتج بهم الآغاخان، لما قيل له: إن طائفة يعبدونك؟ قال: إذا كانت الهندوس يعبدون البقر، ألست أحسن من البقر؟ أي: أنا أولى بالعبادة من البقر؛ هؤلاء كلهم في ضلال مبين. فالشاهد: أن هؤلاء لا يجوز إلقاء السلام عليهم أبداً. ومعروف اضطهادهم وقتلهم للمسلمين، وهدمهم لمساجد المسلمين، واعتداؤهم على المسلمين، واستغفالهم للمسلمين في بلدهم، ولذلك فهم أعداؤنا أعداء الله. أما اليهود والنصارى فلا يجوز لنا أن نبدأهم بالسلام، لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام).

الفطر في السفر

الفطر في السفر Q أراد رجل أن يسافر بعد العصر في رمضان. هل يجوز له أن يفطر بعد الظهر؟ A كلا. لا يجوز له أن يفطر إلا بعد أن يغادر البلد، فإذا فارق بنيان البلد أفطر، وقبل ذلك لا يجوز له أن يفطر، هذا مذهب جمهور أهل العلم، وكذلك الذي دلَّ عليه حديث جابر في إفطار النبي صلى الله عليه وسلم بـ عسفان بعد أن خرج من المدينة.

حكم من حاضت بعد دخول وقت الصلاة

حكم من حاضت بعد دخول وقت الصلاة Q أنا امرأة استيقظت وقت صلاة الفجر، ولكن نمت بعد ذلك تقريباً نصف ساعة، وعندما أردت أن أتوضأ لصلاة الفجر أحسست بأن الدورة قد نزلت عليَّ، ولو أني قمت على الوقت لما نزلت عليَّ، فهل أقضي أم لا؟ A إذا كانت تقول: إنه قد طلع عليها الفجر وهي طاهرة ولكنها لم تبادر إلى الصلاة فوراً؛ وانتظرت نصف ساعة ثم حاضت، فهل تقضي أم لا؟ العلماء في هذه المسألة لهم ثلاثة أقوال: - منهم من يقول: إذا دخل وقت الصلاة على المرأة وهي طاهر ثم حاضت، فإنها تقضي بعد ذلك تلك الصلاة الذي دخل عليها وقتها وهي طاهر، وحاضت أثناء الوقت. - ومنهم من يقول: إنها لا تقضي. - ومنهم من يقول: إنها إذا تراخت وأخرت الصلاة، ونزلت الدورة في آخر الوقت، ولم تصلِ، فعليها القضاء. وأما إذا جاءت الدورة في أول الوقت فليس عليها القضاء، وكأن شيخنا الشيخ عبد العزيز قد مال إلى هذا في بعض فتاويه.

الجن المؤمنون يدخلون الجنة

الجن المؤمنون يدخلون الجنة Q هل الجن المسلمون في النار مع الشياطين؟ A كيف والله تعالى يقول: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:35 - 36] هؤلاء في الجنة لا شك.

حكم استخدام الجن في العلاج

حكم استخدام الجن في العلاج Q هل يجوز استخدام المسلمين للجن في العلاج؟ A إن كان يستخدمهم في أمر مباح جاز، ولكن إن أثبت لنا أنه يستخدمهم على نحوٍ مباح في أمر مباح؟ هنا المشكلة.

استحباب الوضوء عند كل صلاة

استحباب الوضوء عند كل صلاة Q هل يلزم الوضوء عند كل أذان لكل صلاة؟ A لا. لكن يستحب.

حكم من دخل عليه رمضان وعليه صيام من رمضان الأول

حكم من دخل عليه رمضان وعليه صيام من رمضان الأول Q ما حكم من كان عليه صوم في رمضان، وأتى عليه رمضان الثاني دون أن يقضي ما عليه؟ A عند ذلك يلزمه الصوم وكفارة للتأخير: إطعام مسكين نصف صاع من قوت البلد، مثلاً: كيلو ونصف من الأرز، يطعم مسكيناً كفارة للتأخير مع القضاء.

المدة الطبيعية للعادة الشهرية

المدة الطبيعية للعادة الشهرية Q امرأة تأتيها العادة الشهرية أكثر من عشرة أيام، فنرجو توضيح ذلك؟ وما هي المدة الطبيعية للمرأة؟ A أكثر ما يكون عند النساء ستة أو سبعة أيام وهذا في الغالب، ولكنها قد تزيد، فما لم تبلغ خمسة عشر يوماً، فهي عادة، فلو أن امرأة عادتها إحدى عشر يوماً اثنا عشر يوماً ثلاثة عشر يوماً أربعة عشر يوماً؛ هذه عادة، فإذا زادت على خمسة عشر يوماً، فهذه استحاضة فترجع إلى عادتها الأصلية، وإن لم يوجد فترجع إلى عادة نسائها، كأمها وعمتها وخالتها وأختها ونحو ذلك.

حكم تقسيم الميراث قبل الموت

حكم تقسيم الميراث قبل الموت Q هل يجوز للإنسان أن يقسم ميراثه قبل وفاته على أولاده؟ A نعم. لا بأس، يعطي الثمن لزوجته و {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء:11].

دخول أرواح المؤمنين الجنة عند الموت

دخول أرواح المؤمنين الجنة عند الموت Q عند موت الصالحين والأنبياء والشهداء هل يدخلون الجنة بأرواحهم وأجسادهم؟ أم بأرواحهم فقط؟ A بأرواحهم، فأرواح الشهداء مراتب، والمؤمنون مراتب؛ وهناك مؤمنون أرواحهم في حواصل طيرٍ خضرٍ تسرح في الجنة وتأوي إلى قناديل تحت العرش، تسرح في الجنة وتأكل من ثمر الجنة. وهناك مؤمنون أرواحهم تعلق في شجر الجنة. وهناك نوع من الشهداء أدنى منزلة من الشهداء الأولين أنهارهم عند بارق نهر بباب الجنة. فالأرواح تذهب وتأتي وتطير وتدخل الجنة، أما دخول الأرواح مع الأجساد، فلا يكون إلا بعد قيام الساعة (أما إنك ستدخله ولكن ليس الآن) كما جاء في الرؤيا.

الاهتمام بالمظهر وأخذ الزينة

الاهتمام بالمظهر وأخذ الزينة Q زوجي دائماً لا يهتم بمظهره ولبسه أمام الناس، فإذا قلت له: لماذا لا تهتم؟ قال: هذا شيء عادي بالنسبة لي، ويعلم الله أني أتضايق منه بسبب هذا الإهمال الزائد، ولكنه مهمل في شخصيته، وبيني وبينه مشاكل، إذا فتح باب الشقة، يشتم ويسب ويرفع صوته مع أنه يأتي الدروس والمحاضرات؟ A يجب على المرأة أن تطيع زوجها، وألا تغضبه وتتسبب في ثوران أعصابه، ويجب على الرجل أن يكون معاشراً لها بالمعروف، وأن لا يسبها ولا يشتمها، وأن يعتني بمظهره، وهي تقول: إنه يأتي الدروس والمساجد والمحاضرات، والله عز وجل يقول: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31].

من فوائد دراسة التاريخ الإسلامي

من فوائد دراسة التاريخ الإسلامي نحن أمة ذات عراقة في التاريخ، أمة تاريخها يبدأ منذ أن كان الأنبياء قادة، والمؤمنون سادة، أمة لها تاريخ حقق الله فيه على أيدي المسلمين إنجازات كبيرة. والحقيقة أن تاريخنا ممتلئ بالعبر والعظات، والأحداث والطرائف التي يجب أن نقف عندها وقفة المتأمل المستلهم؛ المستفيد مما حملته من أمور نحتاج إليها؛ لنربط بها حاضرنا بماضينا.

فوائد عامة من معرفة التاريخ

فوائد عامة من معرفة التاريخ الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فأحييكم -أيها الإخوة- بتحية الإسلام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وأقول في مطلع حديثي في هذه الليلة: إن التاريخ الإسلامي تاريخٌ عظيمٌ جداً، بدأ منذ بداية هذه البشرية من آدم عليه السلام، ونحن أمة ذات عراقة في التاريخ، وجذورنا ضاربة فيه، وبدايتنا مبكرة جداً، وتاريخنا لا يبدأ في هذا القرن، ولا في هذا الزمان، بل إنه قديمٌ جداً، تاريخٌ مشرق تاريخٌ كان فيه الأنبياء قادة، والمؤمنون سادة تاريخٌ عظيم حقق الله فيه على أيدي المسلمين إنجازاتٍ كبيرة، وهدى الله بأفرادٍ من هذه الأمة خلقاً من خلقه لا يعلمهم إلا الله عز وجل، وهذا التاريخ دراسته ذات فوائد جمة، والذي يحرم من فوائد دراسة التاريخ فإنه يخسر كثيراً. أيها الإخوة! هذا التاريخ الذي صنف فيه علماؤنا مصنفاتٍ كثيرة، وكتبوا الأحداث، وبينوا زمنها ومكانها حتى تكون الأجيال على وعيٍ، وحتى تتربى على بصيرة. أيها الإخوة: سوف يكون حديثنا في هذه الليلة مقدمة لهذا الموضوع الكبير، وسيكون العنوان: (من فوائد دراسة التاريخ الإسلامي). 1 - التاريخ الإسلامي دراسته ذات فوائد تربوية؛ لأن المسلم يعلم من خلال دراسة التاريخ أن الأمة كانت مناطة بهدفٍ عظيم؛ ألا وهو استعمار هذه الأرض عمارتها بمنهج الله عز وجل، والأنبياء في هذا التاريخ كانوا قدوات، ونستلهم منهم نحن اليوم طريقة الحياة، والقيم والموازين الربانية التي بعثوا بها، وكذلك كيفية تحقيق المنهج في الأرض. 2 - من فوائد دراسة التاريخ: معرفة سنن الله سبحانه وتعالى في هذا الكون، والله له سننٌ لا تتخلف ولا تتبدل {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [الأحزاب:62] هذه السنن بعضها خارقٌ يجريها على أيدي أنبيائه بالمعجزات، وعلى أيدي أوليائه بالكرامات، وبعضها سننٌ جارية وهي الأعم الأغلب، مثل: تنفيذ وعد الله لأوليائه بالنصر {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ} [غافر:51] كما أن من هذه السنن إهلاك المكذبين. 3 - وكذلك فإن دراسة التاريخ تحوي في طياتها فوائد، مثل: معرفة أن هلاك الأمم يكون بالترف والفساد. 4 - ومن فوائد دراسة التاريخ: معرفة أن الله عز وجل يداول الأيام بين الناس، فتكون تارة لهؤلاء وتارة لهؤلاء ولا يدوم أحد، وكما قال أحدهم لخليفة: " لو دامت لغيرك ما وصلت إليك " وهذا دليلٌ على بقاء الله سبحانه وتعالى، وديمومة ملكه وانتهاء ملك الأمم والناس، فكم من دولة ظهرت، وكم من دولة سقطت، وكم من ملكٍ تولى ثم مات، وكم من خليفة استخلف ثم انتهت خلافته وانتزع ملكه، وهكذا يبقى ملك الله عز وجل هو الحي لا إله إلا هو، لا يموت سبحانه وتعالى مالك الملك، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء. 5 - نتعلم من دراسة التاريخ: مسألة ابتلاء الله سبحانه وتعالى للمؤمنين، وكيف يصبر المؤمنون على ذلك، كقصة أصحاب الأخدود وغيرها. 6 - نتعلم من دراسة التاريخ: طبيعة الصراع بين الحق والباطل، والتدافع بين الحق والباطل، وأن هذه الدنيا منذ أن خلق الله فيها البشر والمعركة بين الحق والباطل مستمرة وقائمة لا تنتهي، وأن الحق يكون له الدولة في أزمان، والباطل قد يعلو في أزمان، لكن يبقى أصحاب الحق مستعلين بالمنهج والعقيدة: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين) بالظهور الذي قد يكون ظهور السلاح والملك، ولكن يكون دائماً ظهور العقيدة والحق الذي معهم يظهرون به على سائر الملل والنحل. 7 - وكذلك فإننا نتعلم من دراسة التاريخ -أيها الإخوة- معالم الحياة الإنسانية، وكيف بدأت البشرية، وأنها بدأت على التوحيد، وأن الفكرة التي تقول: " إن الديانة في الأرض تطورت من تعدد الآلهة إلى الإله الواحد " هي فكرة خاطئة ضالة، وأن الله أول ما خلق البشرية على التوحيد، وأن آدم وعشرة قرون بعده كانوا على التوحيد حتى ظهر الشرك في قوم نوح، فبعث الله سبحانه وتعالى نوحاً نبياً وهادياً. 8 - ونتعلم من دراسة التاريخ: سير العلماء والمجاهدين، وعلى رأسهم حواريو الأنبياء، وصحابة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وتابعيهم. 9 - ونتعلم: أن الصبر على المشاق من لوازم حياة المؤمنين في هذه الأرض. ونتعلم أيضاً: الحصانة الفكرية التي لا تجعلنا نخطئ في التعامل مع الأفراد والأمم، وفي نظراتنا إلى الدول المختلفة، وإلى الحكومات المتعددة؛ لأن هذا التاريخ يضع لنا الحروف على النقاط، ودراسته من خلال القرآن والسنة وأقوال المؤرخين الإسلاميين الثقات لها فوائد كثيرة، ومنها: الفضائل الأخلاقية التي تتربى عليها الأجيال المختلفة عندما يتعلم الناس كيف صبر السالفون، وما هي طبائعهم الفاضلة، وكيف حصل بسبب الأخلاق انتشار لهذا الدين. 11 - كما أن دراسة التاريخ تساعدنا على فهم الحاضر، لأن الحاضر هو جزءٌ من الماضي لا يمكن أن يقطع منه، والدليل على ذلك: أن كثيراً من الأديان الموجودة -الآن- أصولها قديمة، وأن معرفة الأصول القديمة تساعد على فهم واقع الأديان الحاضرة، وعلى فهم الملل والنحل الموجودة الآن. زد على ذلك أن قولة: (التاريخ يعيد نفسه) قولة صحيحة ولا شك، وأن كثيراً من الأخطاء حصلت في الأزمان الماضية يمكن للأذكياء إذا درسوا التاريخ أن يتلافوا كثيراً منها، ولذلك كان من أكثر ما يؤدب به أولاد الخلفاء سير الماضيين، حتى يتعلموا أصول الحكم، وكيف يسوسون الرعية. وكذلك -أيها الإخوة- فإننا في هذا الواقع الموجود الآن؛ من جهة أننا أمة مضطهدة ومحاربة، وأن الدولة الآن للكفار، وأن أعداء الله قد ظهروا على الأرض بقواتهم المادية، وإمكانياتهم التي أعطاهم الله إياها فتنة لهم، نتعلم كيف نواجههم، وكيف نصبر على أذاهم، وما هي السنن الربانية التي يجب أن نسير عليها، وكيف نستعمل المنهج في مواجهة الكفر والإلحاد؟ نحن نعلم أن هذا الزمان بما فيه من هذا التسلط والجبروت من أعداء الله سوف سيعقبه دولة للإسلام ولا شك إن شاء الله، وسوف يقوم للإسلام قائمة عظيمة إذا حصل ظهور جيلٍ من المسلمين يطبق الإسلام في نفسه، ويطبق الإسلام في المجتمع، وعند ذلك ستقوم دولة الإسلام عالية على جميع أمم الكفر ومذاهب أهل الأرض، ونحن نستعرض الآن نماذج من الأمور التي حصلت في التاريخ الماضي وكيف نأخذ منها عبراً ودروساً. إن دراسة تاريخ الأنبياء ودعوات الأنبياء مسألة مهمة جداً، وقد قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90] سِر على ذاك النهج، واختط نفس الطريق.

فوائد من معرفة تاريخ ابن تيمية

فوائد من معرفة تاريخ ابن تيمية نحن الآن لسنا بصدد دراسة تاريخ الأنبياء والدعوات؛ ولكن نريد أن نذكرها في البداية لنؤكد عليها، وعلى رأس ذلك سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وسيرة الصحابة من بعده والخلفاء الراشدين، وسير العلماء الذين كانوا يبينون للناس الأحكام الشرعية، عندما تقوم المحن يظهر دور العلماء عندما يعم الجهل يقوم المخلصون من أهل العلم بالبيان والصدع بالحق، مثلما قام الإمام أحمد رحمه الله لما ظهرت المبتدعة على أهل السنة بالقول بخلق القرآن. ومثلما ظهر شيخ الإسلام رحمه الله لما تكالب المبتدعة من كل جانب، فصنف المصنفات للرد عليهم، سواء الباطنية، أو المنحرفة في باب الأسماء والصفات، أو المبتدعة ومجيزي التوسل وأصحاب الموالد، أو الذين كانوا يحاربون الدين من النصارى؛ فرد على النصارى واليهود، وبيَّن بياناً مهماً باطل التتر، لأن الناس عندما هجم التتر واكتسحوا بلاد العالم الإسلامي بعد فترة ادعى بعض التتر الإسلام، ولكنهم استمروا في هجومهم الكاسح، حتى وصلوا إلى قريب من دمشق، وعند ذلك خرج المسلمون لملاقاتهم، ولكن طرأت شبهة على المسلمين وهي: كيف نقاتل التتر وقد ادعوا الإسلام ونحن لنا الظاهر وهم ليسوا بغاة على الإمام، فإنهم لم يدخلوا في طاعته أصلاً؟ وقد انطلت هذه المسألة على كثيرٍ من الناس، واحتاروا كيف يقاتلون التتر، وهذا قائد التتر قد جاء معه بإمام وقاضٍ ومؤذن، فكيف يقاتلوه؛ فظهر شيخ الإسلام رحمه الله علماً بارزاً وسراجاً منيراً، فقال للناس: هؤلاء من جنس الخوارج الذين خرجوا على علي ومعاوية، ورأوا أنهم أحق بالأمر منهما، وهؤلاء يزعمون أنهم أحق بإقامة الحق من المسلمين، ويعيبون على المسلمين ما هم متلبسين به من المعاصي والظلم وأكثر من ذلك، فتفطن العلماء والناس، وكان يقول شيخ الإسلام: إذا رأيتموني من ذلك الجانب وعلى رأسي مصحف فاقتلوني -أي: إذا رأيتموني من جانب التتر وعلى رأسي مصحف فاقتلوني -ابدءوا بي أنا- ثم حمس الناس على القتال، وكان انتصاراً عظيماً للمسلمين في معركة شقحب بالقيادة الحقيقية لأهل العلم، وعلى رأسهم شيخ العلم ابن تيمية رحمه الله تعالى. فلولا هذا البيان لحصل للناس ذعرٌ، وحصلت انشقاقات واختلافٌ كبير كان سيؤدي بهم إلى الهزيمة. ثم قَعَّد شيخ الإسلام في بيان حقيقة التتار قواعد كبيرة، وبيَّن بأن الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره، وأنه لا بد من تصور حال التتار ومعرفة ما هم عليه، ولهذا فقد بيَّن أهل العلم أن معهم كتاب الياسق، وكتاب الياسق هو عبارة عن تشريعات مجمَّعة من ملة الإسلام واليهودية والنصرانية وأشياء من المذاهب المنحرفة الأخرى، جمَّعها لهم ملكهم وأمرهم أن يسيروا عليها. فبيَّن لهم ابن تيمية أن خلط الحق بالباطل كفر، وأن هؤلاء يريدون استئصال شأفة المسلمين ولو كانوا على الحق، لماذا يغيرون على المسلمين؟ ولماذا يخربون مدن المسلمين؟ ولماذا يقتلون المسلمين إذاً؟ يقول شيخ الإسلام للناس: ليسوا أحق بالإسلام منا؛ ولذلك فقد كان بسبب هذا البيان خيرٌ عظيم. ومن الأمثلة كذلك ما استعان به أهل الجرح والتعديل في كشف كذب الرواة، حيث استعانوا بالتاريخ في معرفة من لقي من الرواة البعض الآخر ومن لم يلقه، وكشفوا الانقطاع في الأسانيد من خلال التاريخ، بل ودرسوا من دخل المدينة الفلانية ومن لم يدخلها، ومن الذي يمكن أن يكون قد اجتمع بالراوي الفلاني. ومن الذي لا يمكن أن يجتمع به، فكشفوا أموراً كثيرة من التدليس، وبينوا بناءً على ذلك صحة الأحاديث من ضعفها. ومن الأمثلة الطريفة في استعمال التاريخ في كشف الأشياء المزورة، ما فعله الخطيب البغدادي رحمه الله، فإن بعض اليهود الخيابرة -من أهل خيبر - أظهروا كتاباً، قالوا: هذا كتاب من عهد النبوة، مكتوب في هذا الكتاب إسقاط الجزية عنهم، فلما عرض الكتاب على أمير المسلمين في ذلك المكان اطلع عليه الخطيب البغدادي رحمه الله، فقال الخطيب: هذا الكتاب كذب لا يمكن أن يكون صحيحاً. فقالوا له: وما الدليل على كذبه؟ قال: لأنه موجود -لاحظ الذكاء والفطنة- من الشهود على الكتاب في الأسفل معاوية بن أبي سفيان وسعد بن معاذ، فأما معاوية فإنه أسلم عام الفتح، وخيبر كانت قبل الفتح، وأما سعد بن معاذ فقد قتل بعد الخندق بعد بني قريظة، وغزوة بني قريظة كانت قبل فتح خيبر، فكيف تدَّعون أنه شهد على الكتاب بإسقاط الجزية عن أهل خيبر، فـ معاوية أسلم بعد خيبر وسعد مات قبل خيبر، فكشف زورهم وبهتانهم.

كشف التاريخ حقائق الفرق الباطنية

كشف التاريخ حقائق الفرق الباطنية إن دراسة التاريخ تكشف لنا أعداءنا، وتبين الخطورة التي هم عليها. فعلى سبيل المثال: الباطنية بجميع فرقهم من ألد أعداء الإسلام؛ لأن عندهم عقائد كفرية كثيرة، وهؤلاء الباطنية بفرقهم المختلفة، مثل: القرامطة، والحشاشين، والنصيرية، والرافضة، والدروز وغيرهم لهم امتدادات موجودة إلى هذا الزمان، وهؤلاء كان لهم وجودٌ في الحقب الماضية، فكيف واجههم المسلمون؟ وكيف تكلموا على عقائدهم، وما زالت عقائدهم موجودة إلى الآن؟ ينبغي أن يُدرس تاريخ هؤلاء الباطنية بعناية شديدة، لأننا سنكتشف بعد دراسة تاريخ الباطنية أنهم من ألد أعداء الإسلام، فنحذر منهم في هذا الزمان، وربما نضطر أن نحذر منهم أكثر من اليهود والنصارى، ولذلك فلو درست تاريخ الباطنية وأخذت مثالاً على ذلك: حادثة القرامطة وما فعلوه في مكة سنة [317هـ] لاكتشفت أشياء عجيبة جداً، وإليك مثال على ذلك: خرج القرامطة جهة المشرق، وجهة المشرق كانت ولا زالت مصدراً للفتن منذ فجر الإسلام؛ مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: (الفتنة من قبل المشرق، وأشار بيده إلى جهة المشرق) وأكثر الدجالين والباطنية والجيوش التي اجتاحت العالم الإسلامي قدمت من المشرق، ولا زالت الفتنة قائمة إلى الآن، وآتية من جهة المشرق كما تدل عليها الحوادث الموجودة، وهذا لا يعني أنه ليس هناك فتنٌ من جهة المغرب؛ بل قد حدث للباطنية أنفسهم كما حدث في دولة ابن تومرت الذي ظهر وادعى أنه المهدي، وعمل أشياء عجيبة، وقتل في المسلمين خلق كثير، وظهر من جهة المغرب.

أفعال القرامطة في بيت الله وحجاجه

أفعال القرامطة في بيت الله وحجاجه هؤلاء القرامطة الذين ترأسهم يوماً من الأيام أبو طاهر الجنابي جاءوا إلى مكة، ودخلوا يوم التروية فانتهبوا أموال الحجاج، واستباحوا دماءهم، وقتل في رحاب مكة وفي شعابها وفي المسجد الحرام وفي جوف الكعبة خلقٌ من المسلمين لا يعلمهم إلا الله، وجلس قائدهم أبو طاهر الجنابي -لعنه الله كما يقول ابن كثير في تاريخه - على باب الكعبة والمسلمون يقتلون حوله، وسيوف القرامطة تعمل في الناس في المسجد الحرام في الشهر الحرام يوم التروية، وهو يقول: أنا الله وبالله أنا أنا أخلق الخلق وأفنيهم أنا!!! فكان الناس يفرون منه ويتعلقون بأستار الكعبة فلا يجدي عنهم ذلك شيئاً، بل يُقتلون وهم متعلقون بأستار الكعبة، ويطوف هؤلاء القرامطة حول الكعبة فيقتلون الطائفين، وكان بعض أهل الحديث يطوف يومئذٍ، فلما قضى طوافه أخذته السيوف فأنشد وهو كذلك: ترى المحبين صرعاً في ديارهمُ كفتية الكهف لا يدرون كم لبثوا ولما انتهى هذا القرمطي من قتل الحجاج حول الكعبة وفعل ما فعل أمر بإلقاء الجثث في بئر زمزم، ودُفن كثيرٌ من الناس في أماكنهم في صحن الحرم، ويا حبذا تلك القتلة وتلك الضجعة في ذلك المكان وذلك الزمان، ولم يغسلوا، ولم يكفنوا؛ لأنهم شهداء قتلوا في إحرامهم في الحرم. ثم أخذ الكسوة وفرقها على أصحابه، وأصعد رجلاً إلى الميزاب لكي يقتلعه، ثم أمر بأن يقتلع الحجر الأسود، فاقتلع الحجر الأسود من مكانه، وجعل أصحابه يطوفون ويقولون: أين الطير الأبابيل؟ وأين الحجارة من سجيل؟ يستهزئون بالمسلمين، ورجعوا بالحجر الأسود إلى بلادهم، ومكث عندهم الحجر الأسود [22سنة] والناس يطوفون بالكعبة من غير الحجر الأسود. ولذلك لا تستغرب إذا وجدت في كتب بعض الفقهاء عندما يصف الطواف حول الكعبة، يقول: ويستلم الحجر [إن وجد] والذي لا يعرف هذه الخلفية إذا مر بعبارة الفقيه يقول: كيف يقول: [إن وجد] أي: ممكن لا يوجد؟!! نقول: نعم لقد مرت فترة طاف فيها المسلمون بالكعبة ولم يكن يوجد فيها الحجر الأسود، ثم رده الله من عندهم، هؤلاء الذين ألحدوا في المسجد الحرام إلحاداً عظيماً، هؤلاء الذين كان لهم اتصال بالفاطميين الذين ملكوا مصر بعد ذلك وهم من الباطنية، وكان بين فرق الباطنية تعاونٌ كبير، وهؤلاء لا زالت آثارهم ممتدة إلى الآن، ولا زالت محاولاتهم للإلحاد في البيت الحرام ممتدة إلى هذا الزمن.

فوائد من تربية كل من أهل السنة والباطنية لأتباعهم

فوائد من تربية كل من أهل السنة والباطنية لأتباعهم لا بد أن نقرأ ولا بد أن نعي تاريخ هؤلاء الباطنية، ثم نأخذ من التاريخ فوائد كثيرة في الفرق بين تربية أهل السنة لمن كان معهم وتربية الباطنية لمن كان معهم. أهل السنة وعلماء السنة كانوا يربون من معهم على الدليل الصحيح، وعلى اتباع الحق، وعلى التضحية في سبيل الله، وعلى محبة الله ورسوله كانوا يربون من معهم على عمل الطاعات، وعلى الأخلاق الحسنة، وكان العالم في الحلقة يعلم الناس الخلق قبل أن يعلمهم العلم، لكن قل لي: كيف كانت تربية الباطنيين لأتباعهم؟! لما ظهرت فرق الحشاشين وغيرهم من الذين كانوا ينتقون الأفراد ويأخذونهم إلى بستان كبير جداً فيه نساء وخمور وأنواع الثمار والفواكه ثم يقنعون الشخص أن هذه هي الجنة، ويجلسونه في ذلك المكان فترة من الزمن، ثم يقولون له بعد ذلك: تذهب وتقتل القائد المسلم الفلاني، أو تقتل الخليفة الفلاني، أو تقتل العالم الفلاني، فإذا قتلوك ستدخل هذه الجنة. وكذلك فإن من طريقة تربيتهم لأتباعهم: ما ذكره ابن كثير رحمه الله سنة [494هـ] تقريباً عندما قام أحد دعاتهم، واسمه: الحسن بن صباح، وتعلم الزندقة ثم صار ينتقي من الناس من كان غبياً جاهلاً لا يعرف يمينه من شماله، ثم يطعمه العسل بالجوز والشونيز حتى يعكر مزاجه ويفسد دماغه، ثم يذكر له أشياء من أخبار آل البيت، ويكذب له من أقاويل الرافضة أنهم ظلموا ومنعوا حقهم الذي أوجبه الله لهم، ثم يقول له: قم وقاتل لنصرة الإمام علي بن أبي طالب، ولا يزال يسقيه العسل حتى يستجيب له، ويصير هذا الشخص أتبع له من أبيه وأمه وأطوع، ويظهر له أشياء من الحيل التي لا تروج إلا على الجهال، حتى التف مع الحسن بن صباح هذا الباطني خلقٌ كثير. وبعد ذلك حصل أن سلطان المسلمين أرسل له رسالة يتهدده ويتوعده وينذره، فأتى الباطني برسول المسلمين الذي معه الخطاب يريد أن يبين له حال أتباعه، ثم قال له: إني أريد أن أرسل منكم رسولاً إلى مولى هذا الرسول الذي أتى من عند المسلمين، فاشرأبت وجوه الحاضرين، فقال الحسن بن صباح الباطني لأحد أتباعه أمام رسول المسلمين: اقتل نفسك. فأخرج سكيناً فضرب بها غرصمته فسقط ميتاً -انظر إلى أي درجة وصلت الطاعة العمياء- وقال لآخر منهم: القِ نفسك من هذا الموضع، فرمى نفسه من رأس القلعة إلى أسفلها فتقطع. ثم قال لرسول المسلمين: هذا هو الجواب، فرجع. إذاً: هكذا يربون أتباعهم، فالتاريخ حلقات متواصلة، وتربية الباطنيين لأتباعهم ما زالت مستمرة إلى هذا العصر؛ لذلك لا تستغربوا إذا رأيتم أتباع الباطنيين يلقون أنفسهم في المهالك مثل الجراد يتقاطرون ويلقون أنفسهم في خضم المعارك؛ لأنهم يعتقدون أنهم سيدخلون الجنة بطاعة الإمام، أو آية الله الفلاني ونحو ذلك، هذه التربية ما زالت موجودة عند فرق الباطنية إلى الآن، والذي يفشي أسرار الطائفة يعدم، ولا يطلع على أسرار الطائفة إلا من بلغ [40سنة] وأكثر، وهكذا طريقتهم موجودة إلى الآن في تربية أتباعهم.

مؤامرات الباطنية على أهل السنة

مؤامرات الباطنية على أهل السنة إن من فوائد دراسة التاريخ: معرفة المؤامرات التي يدبرها الباطنيون لـ أهل السنة في كل زمانٍ ومكان، ولذلك فإن الباطنية وفرق الحشاشين -بالذات- اغتالوا عدداً من قادة المسلمين وعلمائهم، فمن ذلك: أنهم قتلوا مودود قائد المسلمين ضد الصليبين، واغتالوا ابن إمام الحرمين، واغتالوا وزير السلطان السلجوقي، واغتالوا الإمام أبو سعد الهروي القاضي، واغتالوا الخليفة المسترشد وقاموا بعدة محاولات لاغتيال صلاح الدين الأيوبي رحمه الله. ومن طرقهم الخبيثة في الاغتيال: ما حصل في قتل فخر الملك أبو المظفر، هذا الرجل كان فيه جوانب من العدل والإحسان، خرج يوماً في آخر النهار، فرأى شاباً يتظلم، كأنه مسكين يشتكي وفي يده رقعة، فقال: ما شأنك، فناوله الرقعة، فبينما هو يقرأها، انتهز الفرصة، فأخرج خنجره فضربه به حتى قتله، هذه من الطرق. ونفس القصة حصلت مع القائد الإسلامي مودود رحمه الله الذي كان يقاتل الصليبين، فقد جاءه أحدهم في هيئة سائل واقترب منه يسأله، فلما همَّ بأن يعطيه شيئاً أخرج خنجره فطعنه به وهكذا. ومن نتائج ذلك: شماتة النصارى بأمة الإسلام؛ لأن الباطنيين محسوبون على المسلمين، كثير منهم يحسب الكفار أنهم مسلمون، وهم ليسوا من الإسلام في شيء، فحصل أن ملك النصارى أرسل رسالة إلى المسلمين يقول لهم بعد مقتل هذا القائد فيهم: "إن أمةً قتلت عميدها، في يوم عيدها، في بيت معبودها، لحقيقٌ على الله أن يبيدها ". حتى النصارى صاروا يشمتون أفعال الباطنيين وما فعلوه في المسلمين، ويعتبرون أن هذه انشقاقات في صفوف المسلمين، ويعتبرون أن هذه هي أخلاق المسلمين، ولا زال الكفار إلى الآن إذا رأوا في وسائلهم المقروءة والمسموعة والمرئية بعض المناظر الملتقطة من بلدان فيها أناس من الباطنيين يظنون أن هذا هو الإسلام فيشمتون بالمسلمين، ويقولون: انظروا إلى الإسلام، هذا هو الإسلام، لا زالوا إلى الآن، ومؤامراتهم في اغتيال علماء المسلمين وزعمائهم موجودة إلى الآن، ومقتل الشيخ إحسان إلهي ظهير رحمه الله ومعه نفرٌ من العلماء في اجتماعٍ لأهل الحديث بواسطة مزهرية مفخخة؛ شاهدٌ على أن الباطنيين مؤامراتهم مستمرة لعلماء الإسلام حتى في العصر الحاضر، والذي لا يعرف يقرأ التاريخ.

حال الباطنية لما حكموا المسلمين في مصر

حال الباطنية لما حكموا المسلمين في مصر من فوائد دراسة التاريخ: معرفة هؤلاء الباطنيين لما حكموا المسلمين مثل الدولة الفاطمية التي قامت في مصر ماذا فعلوا بالمسلمين؟ لقد فعلوا أفعالاً عجيبة جداً، وقد حصل في سنة [411هـ] أن قتل حاكم مصر ملك الفاطميين، واسمه ابن المعز الفاطمي كيف كانت سيرته؟ انظر إلى الحاكم عندما يسوس الناس بمزاجيته الفاسدة، ويسن فيهم أشياء عجيبة، يريد أن يتوصل من ذلك إلى هدفٍ خبيث، هذا الحاكم ابن المعز الفاطمي ماذا فعل؟ أمر أهل مصر على الخصوص إذا قاموا عند ذكره أن يخروا له سجداً، حتى إنه ليسجد بسجودهم من في الأسواق من الرعاع من لا يصلي الجمعة أصلاً، وكانوا يتركون السجود لله يوم الجمعة ويسجدون للحاكم. وهذا الرجل من مزاجياته: أنه ابتنى المدارس وخربها، ورتب المشايخ وقتلهم، وألزم الناس بغلق الأسواق نهاراً وفتحها ليلاً، فامتثلوا لذلك دهراً طويلاً، حتى إنه مرة من المرات خرج بنفسه ليتفقد تطبيق القرار، فمر برجل قد فتح دكانه في النهار، فلما أخذ به ليبطشه قال: سهران يا مولاي سهران، يعني أنه سهران في النهار. وكان يدور على الأسواق على حمارٍ ومعه أتباعه ومعه عبدٌ أسود، فإذا اكتشف رجلاً يغش في المعاملة أمر العبد الأسود أن يفعل به الفاحشة، وهذه عقوبة شنيعة ليست موجودة في دين الله، وكثيرٌ من العقوبات الأرضية الدنيوية فيها ظلمٌ لا توجد في شرع الله. وكانت العامة تكرهه جداً، ويكتبون له الأوراق بالشتيمة البالغة في صورة قصص؛ فإذا قرأها ازداد غيظاً عليهم، حتى إن أهل مصر عملوا صورة امرأة من ورق مخفية بهذا الجلباب، وفي يدها قصة من الشتم واللعن، فلما رآها ظنها امرأة، فذهب من ناحيتها وأخذ القصة من يدها فقرأها فغضب جداً، فأمر بقتل المرأة، فلما تبين أنها من ورق ازداد غيظاً. ثم بعد ذلك أنزل مماليكه وعبيده وجنوده إلى مصر ليحرقوها وينهبوا ما فيها من أموال أهل السنة ومتاعهم وحريمهم، فقاتل أهل مصر دون أنفسهم ثلاثة أيام، والنار تعمل في دورهم وحريمهم، وهو يخرج فيقف من بعيد وينظر إلى المعركة ويبكي، ويقول: من أمر بهذا، كل هذا ويقول: من أمر بهذا!!! وهذا مثال من الأمثلة التي طبقت فيها مزاجيات هذا الرجل ليتوصل في النهاية إلى ادعاء الألوهية وادعى أنه الله، وصار الحاكم بأمره، وكان الذي يسمى الحاكم بأمر الله، صار حاكماً بأمره هو، لأنه هو الله بزعمه. بعض الناس يظنون أن النهي عن طبخ الملوخية وغلق الدكاكين في النهار وفتحها في الليل عبث، لكن الرجل كما ذكر أهل العلم كان يريد اختبار العامة، فإذا رآهم أطاعوه عند ذلك ادعى الألوهية، وهذا ما حصل، وهذا من خبث الباطنية وفعلهم.

وقائع وأحداث عبر تاريخنا الإسلامي

وقائع وأحداث عبر تاريخنا الإسلامي عندما نقرأ التاريخ فإننا نجد أن هذه الأمة قد أصيبت بمصائب عديدة، فمن أهم المصائب بعد حروب الردة وخروج الخوارج والفرق التي حصلت بالمسلمين، والقرامطة والباطنية والحملات الصليبية، واجتياح التتر، بالإضافة إلى ذلك سلَّط الله على هذه الأمة لما ضعفت وابتعدت عن الهدي من سامهم سوء العذاب من الكفار أو من ظلمة المسلمين.

معرفة مصدر مصائبنا

معرفة مصدر مصائبنا إن ما حصل للأمة الإسلامية مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم لما دعا ربه ألا يجعل أمته بأسهم بينهم، ولكنه لم يعطه هذه؛ فجعل الله بأس هذه الأمة بينها في كثيرٍ من المواطن لما ابتعدت عن تحكيم الشريعة، ولما حصلت البغضاء والشحناء والفرقة بينهم، سلط الله عليهم من داخلهم ومن خارجهم من يسومهم سوء العذاب. ثم إن هذه الأمة أمة مرحومة، جُعل عذابها في دنياها تكفيراً لكثير من ذنوبها، ومن ذلك ما نقرأه في التاريخ من المصائب الكبيرة التي حلت بالمسلمين، ومن ذلك المصائب التي هي نوازل من الريح والخسف والزلازل والطوفان والأمراض والطواعين والجوع والفقر الذي سلط عليها، والذي لا تزال الأمة في كثيرٍ من البلدان تعيش فيه حتى الآن، نتيجة عدم تطبيق الشريعة. إذا طبقت الشريعة في عهد عيسى بن مريم سيستظل الناس بقحف الرمانة -بقشرتها من كبرها- وستخرج الأرض كنوزاً من الذهب والفضة، وستكفي اللِّقْحَةُ الفئام من الناس تحلب في إناء، وسيطاف بالمال فلا يوجد أحد يقبله، عندما تطبق الشريعة تحل البركة في الأرض حتى يصبح الذئب على الغنم كأنه كلبها، وحتى يدخل الولد يده في الحية فلا تضره. بسبب تطبيق الشريعة في الأرض يعم السلام والأمن في الأرض في عهد عيسى بن مريم. لكن انظر ماذا حل بالمسلمين عندما ابتعدوا عن تطبيق الشريعة، فإن الله عز وجل قد أرسل عليهم جوعاً عظيماً في الماضي والحاضر، وابتلاءات بنهب الأموال وقتل بعضهم لبعض، وإليكم شيئاً مما حصل من المصائب في الجوع. في عام [462هـ] حصل في مصر غلاءٌ شديد حتى أكلوا الجيف والميتات والكلاب، وكان يباع الكلب بخمسة دنانير ليأكل، وماتت الفيلة، فأكلت ميتاتها، وأفنيت الدواب، وكان الوزير له خيول كثيرة جداً فلم يبق منها إلا ثلاث؛ لأن الناس كانوا يتخطفونها ليأكلونها، واكتشف رجلٌ يقتل الصبيان والنساء ويبيع لحومهم، فقتل وأكل الناس من شدة الجوع لحمه، وكانت الأعراب يقدمون بالطعام يبيعونه بظاهر البلد؛ لأنهم يخافون أن يخطف منهم إذا دخلوا البلد، وكان لا يجسر أن يدفن الميت بالنهار إنما يدفن في الليل خفية؛ لئلا يُنبش فيؤكل. وحدث أن الناس من كثرة الموت لم يستطيعوا دفن بعضهم بعضاً، ودفن العشرون والثلاثون في قبرٍ واحد، وبعضهم ماتوا من الدفن فصاروا يرمون في البحر، وحصل كذلك أن أكل الناس الجيف والنتن من قلة الطعام، ووجد مع امرأة فخذ كلبٍ قد اخضر، وشوى رجلٌ صبية في فرنٍ فأكلهم، وسقط طائرٌ ميتاً من حائطٍ فاحتوشه خمسة من الناس فاقتسموه وأكلوه. وأحصي من مات من الوباء في بخارى وتلك البلاد بألف ألف وخمسمائة ألف وخمسين ألف إنسان، والناس يمرون في البلاد فلا يرون إلا أسواقاً فارغة، وطرقاتٍ خالية، وأبواباً مغلقة، ووحشة وعدم أنس، وكان الفقراء يشوون الكلاب، وينبشون القبور، ويشوون الموتى فيأكلونهم، وليس للناس شغلٌ في الليل والنهار إلا غسل الأموات، فكانت تحفر الحفر فيُدفن فيها العشرون والثلاثون. وتاب كثيرٌ من الناس، وتصدقوا بأكثر أموالهم فلم يجدوا أحداً يقبلها؛ لأن الناس لا ينتفعون بالأموال إنما يريدون أكلا، ً وكان الفقير تعرض عليه الثياب والدنانير الكثيرة، فيقول: أريد كسرة خبز أسد بها جوعي. وأراق الناس الخمور، وكسروا آلات اللهو، ولزموا المساجد للعبادة وقراءة القرآن، وقلَّ دارٌ يكون فيها خمرٌ إلا مات أهله كلهم. ودخل على مريضٍ له سبعة أيام في النزع ينازع ليموت ولم يمت، فأشار بيده إلى مكان، فوجدوا فيه خابية خمر فأراقوها، فمات من وقته بسهولة. ومات رجلٌ في مسجد فوجدوا معه (50000درهم) فعرضت على الناس فلم يقبلها أحد، فتركت في المسجد تسعة أيام لا يريدها أحد، فدخل أربعة ليأخذوها بعد ذلك فماتوا عليها، ولم يخرج من المسجد منهم أحدٌ وهو حي. والمشكلة أن المصيبة إذا نزلت تعم الناس جميعاً، وحصل موت في العلماء والفقهاء وطلبة العلم، حتى إن فقيهاً كان يدرس عليه في الفقه (700) نفس فلم يبق منهم أحياء إلا (12) نفساً. وحصل طوفانٌ شديد في بعض الأزمنة، كما حصل في بغداد سنة (775هـ) حتى صارت السفن تنقل الناس من مكان إلى مكان، ومن تل إلى تل، ثم يصل الماء إليهم فيغرقهم {لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [هود:43]. وإذا نظرت اليوم إلى حال المسلمين في الأرض تجد أن كثيراً من البلدان قد حصل فيها من أنواع الطوفان والمجاعات والحروب والأمراض والطواعين ما لا يعلمه إلا الله، وهذه المصائب -أيها الإخوة- لا تحدث في الأرض إلا بسبب، فعدم تطبيق الشريعة، سببٌ لنزع البركة، ونزول المصائب، وحصول الآفات، وحصول الاعتداءات من الكفار على المسلمين، هذا كله نتيجة عدم تطبيق الشريعة. وقد حصل أيضاً تسلط لأعداء الله من التتر كما ذكرنا في درسٍ سابق، ومن النصارى الذين دخلوا بيت المقدس عام (492هـ) يوم الجمعة، وكان عددهم مليون مقاتل تقريباً، فعاثوا في المسجد فساداً، وأخذوا قناديل المسجد، وما فيه من الحلي، وقتلوا الناس في ذلك المكان، حتى بلغ عدد القتلى (60 ألفاً) فأكثر، وصار الناس يهربون، وفزعوا إلى إخوانهم المسلمين في أماكن أخرى ليقولون لهم: أنجدونا فلم ينجدهم أحد. ومع الأسف! أن الخطباء قاموا على المنابر وندبوا الناس إلى الجهاد، وخرج أعيان الفقهاء إلى الناس يحرضوهم على الجهاد فلم يخرج أحد، حتى قال أحد شعراء المسلمين: مزجنا دمانا بالدموع السواجم فلم يبق فينا عرضة للمراجم وشر سلاح المرء دمعٌ يريقه إذا الحرب شبت نارها بالصوارم فيا بني الإسلام إن وراءكم وقائع ملحقن الذرى بالمناسم وكيف تنام العين ملئ جفونها على هفواتٍ أيقظت كل نائم وإخوانكم بـ الشام يضحى مقيلهم ظهور المذاكي أو بطون القشاعمِ تسومهم الروم الهوان وأنتم تجرون ذيل الخفض ذيل المسالم النصارى دخلوا واحتلوا البلاد، ثم قال: أرى أمتي لا يشرعون إلى العدى رماحهم والدين واهي الدعائم ويجتنبون النار خوفاً من الردى ولا يحسبون العار ضربة لازم وهكذا بقيت الأمور حتى قيض الله لهذه الأمة عماد الدين زنكي وصلاح الدين الأيوبي ومن بعدهم من المماليك الذين طردوا النصارى من بلدان المسلمين: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140].

محمود بن سبكتكين ومحاربته للشرك

محمود بن سبكتكين ومحاربته للشرك إذا قرأنا التاريخ نجد فيه ما فعل قادة المسلمين من إزالة الشرك وأنواعه من الأرض، فنعلم أن من الأوليات التي يجب أن يسعى إليها المسلم إزالة الشرك وقتال المشركين: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39]. هذا ما ينبغي أن تفعله أمة الإسلام أن تقاتل المشركين حتى يزول الشرك، فإذا قام بعضهم بالواجب من سد الثغور، وغزو من يُستطاع غزوه من المشركين، وإلا أثم المسلمون كلهم. ولقد سجل التاريخ مواقف مشرفة لبعض قادة المسلمين، ومنهم: السلطان العظيم محمود بن سبكتكين الذي دخل بلاد الهند فاتحاً، ووصل فيها إلى أماكن لم يصلها أحدٌ بعده، ومن ذلك: أنه كسَّر الصنم الأعظم المسمى بـ (سومناة)، وكان أهل الهند يفدون إليه من كل فجٍ عميق أعظم مما يفد الناس إلى الكعبة والبيت الحرام، وينفقون عنده النفقات والأموال الكثيرة التي لا توصف، وكان عليه من الأوقاف عشرة آلاف قرية، كل هذه الغلات للصنم ولمن يزور ويحج للصنم، وقد امتلأت خزائن الصنم أموالاً وعنده ألف رجلٍ يخدمونه، وثلاثمائة رجل يحلقون رءوس الحجاج الذين يأتون إلى الصنم، وثلاثمائة رجلٍ يغنون ويرقصون على بابه، وكان عند الصنم من المجاورين الذين يأكلون من أوقاف الصنم آلافاً مؤلفة، وقد كان البعيد من الهنود يتمنى لو بلغ هذا الصنم. ثم استخار الله السلطان محمود لما بلغه خبر هذا الصنم، وكثرة عبادة هذا الصنم من الهنود، فتجشم المشاق، وجهَّز الجيش، وقطع الأهوال، وانتدب معه ثلاثين ألفاً من المسلمين حتى وصلوا إلى ذلك المكان وسلمهم الله، فدخلوا البلاد التي فيها الوثن، ونزلوا بساحة عَبَّادِه فقتلوا من أهله خمسين ألفاً، وقلعوا الوثن، وأحرقوه بالنار. وكان أهل الهند قد بذلوا لـ محمود أموالاً جزيلة ليترك لهم الصنم، وأشار عليه بعض الأمراء بأن يترك الصنم ويأخذ الأموال، فقال: أستخير الله، فلما أصبح قال: إني فكرت في الأمر الذي ذكر، فرأيت أنه إذا نُوديتُ يوم القيامة: أين محمود الذي كسَّر الصنم، أحب إلي من أن يُقال: أين الذي ترك الصنم لأجل ما ينال من الدنيا، ثم عزم فكسره رحمه الله، ووجد فيه من الجواهر واللآلئ والذهب أضعاف أضعاف ما عرضه عليه الكفار ليستنقذوا صنمهم. إذاً: هذا نموذج من النماذج التي يعرضها التاريخ الإسلامي للقادة المسلمين الذين سعوا في الأرض ليطهروها من الشرك وكيف نصرهم الله عز وجل.

نماذج مشرفة لقضاة المسلمين

نماذج مشرفة لقضاة المسلمين إن دراسة التاريخ تعطينا نماذج مشرفة من قضاة المسلمين في ذكائهم وعدلهم وجرأتهم، فمن ذلك: القاضي إياس رحمه الله تعالى، الذي ناقشه رجلٌ مرةً في الخمر -النبيذ- هل هو حرام أم لا؟ فقال القاضي: إنه حرام. فقال الرجل: أخبرني عن الماء هل هو حلال أم لا؟ قال: نعم. قال: فالكسور -هذه المادة التي يصنع منها النبيذ- قال: حلال. قال: فالتمر. قال: حلال. قال: فما باله إذا اجتمع وخلط صار حراماً؟ انظر الشبهة! فقال له إياس رحمه الله: أرأيت لو رميتك بهذه الحفنة من التراب أتوجعك. قال: لا. قال: فبهذه الحفنة من التبن أتوجعك؟ قال: لا. قال: لو رميتك بهذه الغرفة من الماء أتوجعك؟ قال: لا. قال: أرأيت لو خلطت هذا بهذا وهذا بهذا حتى صار طيناً ثم تركته حتى تحجر ثم رميتك به أيوجعك؟ قال: إي والله وتقتلني. قال: فكذلك تلك الأشياء إذا اجتمعت. وبلغ من ذكائه وهو صغير أنه كان يهب إلى الكُتَّاب -مكان يتعلم فيه الصبيان القراءة والكتابة. فكان فيه نصارى وكان -مع الأسف- الأستاذ نصراني- قال: فكان صبيان النصارى يستهزئون بالمسلمين، ويقولون: إن المسلمين يزعمون أن أهل الجنة طعامهم لا فضلة له -أي: أهل الجنة إذا أكلوا لا يخرج منهم مخلفات- فالنصارى يقولون: هذا مستحيل ولا يمكن، ويستهزئون بالمسلمين على هذا، وهذا ثابت عندنا أن أهل الجنة تخرج الفضلات منهم على هيئة رشح رائحة المسك ثم تضمر بطونهم، فيأكلون ويخرج رشح كالمسك، فتضمر بطونهم، فيأكلون ولا يمتخطون ولا يتبولون، هذه الفكرة صارت عند صبيان النصارى شيء يستهزئون به على المسلمين. فقال القاضي إياس رحمه الله -وكان صغيراً- للمعلم النصراني: ألست تزعم أن في الطعام ما ينصرف في غذاء البدن قال: بلى. قال: فهل هو بعيدٌ على الله أن يجعل طعام أهل الجنة كله غذاءً لأبدانهم ولا يخرج منه شيء، فقال المعلم: أنت شيطان. أي: مثلما يقول المعلم: أنت ذكي أنت عفريت، فهذا أيضاً ما حصل منه. كان القاضي إياس رحمه الله ذكياً جداً، وذكاؤه في القصص ليس هذا موضعه، ولكن المقصود أن نُري كيف كان قضاة وعلماء المسلمين يردون على أهل البدع ويفحمونهم، ولا نقول: إنهم كلهم على الحق، وكلهم لم يأخذوا الرشوة ولكن يوجد نماذج ممتازة جداً يجب أن تعرض، ولعل أن تكون هناك فرصة أخرى لنعرض تلك النماذج.

نموذج رائع لبعض الملوك الذين لم تغيرهم المناصب

نموذج رائع لبعض الملوك الذين لم تغيرهم المناصب عندما نقرأ التاريخ الإسلامي أيضاً نجد الموقف الصحيح لصاحب المنصب، يوجد بعض الناس استغلوا مناصبهم في السوء، ولكن بعض الناس استغلوا مناصبهم في الأشياء التي هي من الطاعات، فاستغلوا المناصب في نشر العلم، واستغلوا المناصب في بناء المدارس، وفي وضع رواتب للعلماء وأهل الخير وعمل الأوقاف عليها استغلوا المناصب في قمع أهل البدع وإظهار السنة وهكذا، وهذا تتبعه مهم حتى يتبين لأهل المناصب في زماننا ما يجب أن يكونوا عليه. فهذا مثلاً نظام الملك الوزير الحسن بن علي بن إسحاق رحمه الله تعالى: مع أنه كان وزيراً فإنه نشأ في طلب العلم، فلما أصبح وزيراً استعمل إمكانياته المادية والمعنوية ووجاهته في نشر العلم، وبنى المدرسة النظامية بـ بغداد، وسميت النظامية نسبة إليه؛ لأنه يعرف بـ نظام الملك، وكان مجلسه عامراً بالفقهاء والعلماء، وكان يقضي غالب نهاره معهم، وهكذا ينبغي أن يكون حال أهل المناصب اليوم، يقربون الصالحين، ويباعدون الطالحين. وكان إذا سئل وقيل له: إن هؤلاء يشغلونك؟ قال: هؤلاء جمال الدنيا والآخرة، ولو أجلستهم على رأسي ما استكثرت ذلك، وإذا دخل عليه أبو القاسم القشيري وأبو المعالي الجويني قام لهما وأجلسهما في المقعد، وإذا دخل عليه أبو علي الفرندي قام وأجلسه مكانه وجلس بين يديه، هذا الوزير يجلس بين يدي الشيخ، فعوتب، فقال: إنه إذا دخل علي ذكرني عيوبي وظلمي، فأنكسر وأرجع عن كثيرٍ من الذي أنا فيه. وكان محافظاً على الصلوات في أوقاتها لا يشغله بعد الأذان شغلٌ عنها. تأمل الآن في حال أصحاب المناصب والوظائف، يجلسون في اجتماعات العمل والمؤذن يؤذن والناس يذهبون للصلاة وهم جالسون في اجتماعات العمل، وربما يخرج وقت الصلاة وهم لا يزالون في اجتماعات العمل، فتباً لهذه الاجتماعات، ولا بارك الله فيها ما دامت تشغل عن الصلاة، فلينتبه أهل المناصب من المسلمين لذلك.

بعض القدوات في أغنياء المسلمين

بعض القدوات في أغنياء المسلمين نقرأ التاريخ فنجد قدوات من الأغنياء من المسلمين كيف كانت معاملتهم للفقراء؛ فهذا أبو شجاع الوزير: كان غنياً جداً، ومع ذلك فإنه أنفق أمواله في الخيرات وأكثر الإنعام على الأيتام والأرامل. وقد حصل أنه ذات مرةٍ أوتي بأنواعٍ من الحلويات -قطايف عليها السكر- فتذكر أن هناك فقراء في البلد لا يذوقون هذا الطعام، لأنه طعام لا يجلب إلا لخاصة الناس -تأملوا! وزير يُؤتى له بطعام لا يؤتى إلا لخاصة الناس- فذهب به كله إلى الفقراء فقسمه عليهم ولم يأكل شيئاً منه. وجلس مرة للطعام، فقيل له: إن هناك أربعة أيتام وأرملة في مكانٍ ما في البلد، فرفع يده عن الطعام فذهب به إليهم ومعه نفقة، وكان الوقت شتاء، فخلع رداءه في البرد، وقال: لا ألبسه حتى أخبر أن الطعام والنفقة قد وصلت إليهم. فأين أغنياء المسلمين عن الفقراء اليوم؛ الذين ينفقون أموالهم في كثير من التراهات والمفاسد، ويستفيد الكفار من الأموال المودعة في الخارج، وفقراء المسلمين يئنون في أطراف آسيا وأفريقيا من الجوع فلا يغيثهم أحد، ولا يتفطن لحالهم أحد، وهؤلاء الذين يبطرون النعمة، لا بد أن يأتيهم من الله عذابٌ في الدنيا أو في الآخرة! وسوف نورد أمثلة وإلا فالتاريخ فيه الصالح والطالح، هذا أحمد بن علي أبو بكر العلوي رحمه الله كان يعمل في تجصيص الحيطان ولكنه كان لا ينقش صورة، لأن نقش الصور لا يجوز، وكان يتكسب من عمل يده، ونجد كذلك أن هناك بلدان في التاريخ الإسلامي كانوا أهل سنة وأهل طاعة، ومن ذلك: بلدة كيلان التي ينتسب إليها الكيلانيون، هذه البلدة وقعت بينها وبين التتر حروب، فطلب ملك التتر منهم أن يجعلوا له طريقاً داخل بلادهم، فامتنعوا، فأرسل جيشاً كثيفاً فأمهلهم أهل كيلان حتى دخلوا البلد، ثم أرسلوا عليهم خليجاً من البحر كان محبوساً بأشياء، أرسلوا السدود على الجيش، ورموهم بالنفط وهو يحترق، فغرق كثيرٌ منهم واحترق آخرون، وقتلوا بأيديهم طائفة كثيرة، وقتلوا أميرهم فلم ينج من التتر إلا قلة. يقول ابن كثير رحمه الله: وبلادهم من أحصن البلاد وأطيبها لا تستطاع، وهم أهل سنة لا يستطيع مبتدعٌ أن يسكن بين أظهرهم -الله أكبر- لما يظهرون في البلد من الطاعات، فأين مدن المسلمين اليوم التي يعيش فيها كل من هب ودب من الكفرة والمجرمين وأهل البدع وغيرهم، أين هي البلاد التي يتمسك أهلها بالسنة فيكونون مجاهدين في سبيل الله؟!

مواقف العامة تجاه من اعتدى على الإسلام

مواقف العامة تجاه من اعتدى على الإسلام ينبغي أن لا ننسى -أيضاً- أنه مرت في التاريخ الإسلامي أحداثاً جيدة تعبر عن حمية العامة للإسلام، ففي إحدى السنوات قام أربعة من الرهبان ودعوا فقهاء المسلمين لمناظرتهم، فلما اجتمعوا جهر هؤلاء الرهبان بالسوء من القول وصرحوا بذم الإسلام، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم ساحر كذاب، فثار الناس عليهم فقتلوهم وأحرقوهم، فأين العامة الذين توجد في نفوسهم حمية للإسلام؛ بحيث إنه إذا صار شيء وأهين الإسلام قام العامة على من أهان الإسلام فأذاقوه صنوف العذاب، بل على العكس قد يهان الإسلام في المجالس قد يهان الإسلام في بعض الشوارع والمحلات والعامة ساكتون، لا يستطيعون أن يغيروا شيئاً. ونجد كذلك في دراسة التاريخ وأحداثه أمثلة من تغيير أماكن الفسق إلى أماكن العبادة: فيذكر ابن حجر رحمه الله تعالى في كتابه التاريخ المشهور يقول: كان هناك دارٌ عرفت بدار الفاسقين في بولاق خارج القاهرة؛ لكثرة ما يجري فيها من أنواع المحرمات، فاشتراها الأمير عز الدين الخطيري رحمه الله، استغل أمواله بماذا؟ اشترى مكان فسق فيه خمور وزنا وفواحش، مرقص وملهى، اشتراه بنقوده وهدمه، وبنى مكانه الجامع في عام (737هـ) وسماه جامع التوبة. لاحظ العلاقة بين المبنى السابق واسم المبنى الجديد (جامع التوبة) وكان الخطيري بالغ في عمارته حتى كان من أحسن الجوامع، وهذا الجامع موجود إلى الآن، وقد يعرف الآن باسم (جامع الخطيري) وهو في ناحية بولاق في شارع (فؤاد الأول قرب النيل)، وفيه صحن سمائي وتحيط به أروقة ومئذنة، وقد تهدَّم جزءً منه ثم عمر بعد ذلك، وربما الذين يعرفون مصر جيداً يعرفون هذا المسجد، فإذا مروا به وتذكروه فإنهم يتذكرون رجلاً عظيماً من المسلمين اشترى مكان فسق فهدمه وبنى بدلاً منه مسجداً يذكر الله فيه، فكم عظم الأجر؟ أول شيء درأ المفسدة، ثم جلب المصلحة. ولا زال هناك بقية من أهل الخير في هذا الزمان ولله الحمد، فهلَّا قام أغنياء المسلمين بشراء الملاهي وأماكن الفسق ليبنوا فيها مساجد أو أماكن للطاعات؟! وقد حصل قبل سنواتٍ في بلدة من بلاد الشام أنه كان فيها ملهى معروف يسمى بـ (المونتانا) اجتمع بعض أهل الخير وجمعوا التبرعات واشتروا الملهى، وبنوا فيه جامعاً وهو موجود الآن يسمى (جامع الفرقان) فرقان بين الحق والباطل، فهلا كثرت هذه الأمور أيضاً؟ وكذلك فإننا إذا استعرضنا التاريخ أيضاً سنجد فيه أموراً من الفقه والأحكام الشرعية وطرائف فقهية وهي كثيرةٌ جداً، ونضرب مثالاً واحداً: عبد الملك بن إبراهيم أبو الفضل الهمداني رحمه الله تعالى، كان رجلاً قد درس العلم الشرعي وكان ظريفاً لطيفاً، كان يقول: كان أبي إذا أراد أن يؤدبني أخذ العصا بيده -وكانت مسألة الجهر بالنية مشهورة- ويقول: نويت أن أضرب ولدي تأديباً كما أمر الله. قال: وإلى أن ينوي ويتم النية أكون قد هربت. فهذه مسألة الجهر بالنية من البدع الشائعة، وهي إلى الآن لازالت موجودة شائعة، ترى الواحد إذا قام يصلي قال: نويت أن أصلي لله فرض الظهر الحاضر جماعة وراء الإمام مستقبل القبلة أربع ركعات إلخ وهذه البدعة عبارة عن استحسان استحسنه بعض الناس والله: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19] فلا حاجة للتلفظ بالنية. فمثل هذه الطرف ترد في ضمن كتب التاريخ، وكتب التاريخ الإسلامي تحوي أحكاماً فقهية، ومناظرات علمية في غاية الجودة والروعة.

التاريخ ومعرفة السنن الكونية في انتقام الله من الناس

التاريخ ومعرفة السنن الكونية في انتقام الله من الناس عندما ندرس التاريخ الإسلامي نجد مصداقاً للسنة الكونية في انتقام الله من الناس، عندما يترفون وينفقون الأموال ويسرفون فيها ويبذرون، فإليكم مثالاً واحداً في المرحلة الزمنية التي هي وقت اجتياح النصارى لبلاد المسلمين، والتشرذم الذي حصل في بلاد المسلمين وقيام بعضهم بقتل بعض، وقيام الدولة الفاطمية في مصر التي أزيل ذكر الخلافة العباسية من على المنابر وصار يذكر الحاكم الفاطمي على المنبر ويدعى له بدلاً من الخليفة العباسي، وما صار الأمر إلى ما صار إليه إلا بانتشار مثل هذه الحوادث التي سأذكر واحدة منها الآن: في سنة (480هـ) نقل جهاز ابنة السلطان إلى دار الخلافة -انظر الزواجات في القديم والحديث، فأهل السوء لا يزالون يبذرون الأموال- على مائة وثلاثين جملاً مجللة بالديباج الرومي غالبها من أواني الذهب والفضة، وعلى أربعٍ وسبعين بغلة مجللة بأنواع الديباج الملكي، وأحلاسها وقلائدها من الذهب والفضة، وكان على ستة منها اثنا عشر صندوقاً من الفضة فيها أنواع الجواهر والحلي، وبين يدي البغال ثلاثة وثلاثون فرساً عليها مراكب الذهب مرصعة بالجواهر، ومهدٌ عظيمٌ مجللٌ بالديباج الملكي عليه صفائح الذهب ومرصعٌ بالجوهر. وبعث الخليفة بالوزير لتلقيهم وبين يديه نحو ثلاثمائة مويكبة غير المشاعل لخدمة الست فلانة امرأة السلطان، وحضر الوزير وأعيان الأمراء وبين أيديهم الشموع والمشاعل ما لا يحصى، وجاءت الأميرات مع كل واحدة منهن جماعتها وجواريها، وبين أيديهن الشموع والمشاعل، ثم جاءت زوجة الخليفة بعد الجميع في محفة مجللة وعليها من الذهب والجواهر مالا تحصى قيمته، وقد أحاط بالمحفة مائتا جارية تركية بالمراكب المزينة العجيبة تبهر الأبصار، ودخلت دار الخلافة وقد زينت حرمه وأشعلت فيها الشموع إلخ. بمثل تضييع أموال المسلمين هكذا حصل ما حصل من المصائب العظيمة التي نكبت المسلمين.

التاريخ وخداع المشعوذين

التاريخ وخداع المشعوذين عندما نقرأ التاريخ نجد فيه أخبار المشعوذين والدجاجلة وكيف كانوا يخدعون الناس، والأشياء الموجودة الآن في أماكن مختلفة من البلدان كانت موجودة في السابق. ومن ذلك مثلاً: ما حصل أن رجلاً من الصوفية -والصوفية لا زالوا يخدعون الناس في أنحاء كثيرة من العالم الإسلامي- خدع الملك الظاهر برقوق وأوهمه أنه من أولياء الله، فاعتقد هذا السلطان بهذا الشيخ وهذا الولي -كما يزعمون- وكان إذا دخل الشيخ شفع عند الملك، ثم وصل الأمر إلى درحة أن هذا المشعوذ كان يحضر مجلس السلطان العام ويجلس معه بجانبه على المقعد الذي هو عليه، ويسبه بحضرة الأمراء، وربما يبصق في وجهه ولا يفعل السلطان له شيئاً، لماذا؟ من أثر هذا المشعوذ على السلطان، وكان يدخل المشعوذ على حريم السلطان فلا يحتجبن منه وهكذا. وكذلك من الأشياء المشابهة لهذا: أنه أشيع أن امرأة عام (796هـ) -انظروا كيف تشيع الخرافات بين الناس- طال رمدها، فرأت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فأمرها أن تأخذ من حصى أبيض في سفح جبل المقطم وتكتحل به بعد سحقه، ففعلت فعوفيت، فانتشر هذا بين الناس فماذا فعل العامة؟ تكاثروا على استعماله حتى أن حصى جبل المقطم انتهى وهم يلتقطونه ويسحقون منه للشفاء والعلاج والبركة، لماذا؟ لأن امرأة رأت الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام وقال كذا، وانتشرت الرؤية المكذوبة، والآن الرؤى الكاذبة على الرسول صلى الله عليه وسلم لا تزال موجودة ومنتشرة، ومنها الرؤيا المنسوبة إلى (أحمد) خادم الحرم المدني قبل مائتي سنة، وربما الرؤيا لا زالت تروج إلى الآن في مواسم وتهدأ وتظهر وتهدأ، مفادها: أن هذا الخادم نام مرة بجانب المسجد، فرأى الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام، وأخبره عن حوادث كثيرة وكذا وكذا وفي النهاية ومن لم يطبع الورقة فإنه سيخسر، وإذا كذَّب بها فإنه سيموت أو كذا ويصاب المصائب والمغفلون من المسلمين يطبعون هذه الأوراق ويوزعونها. وكذلك فمن الأشياء التي حصلت: أن في أوائل رجب شاع بين الناس أن شخصاً كان يتكلم من وراء حائط؛ فافتتن الناس به، حتى قال قائلهم: (يا رب سَلِّم، الحيطة بتتكلم) وحتى قال أحد الشعراء مستهزئاً: يا ناطقاً من جدارٍ وهو ليس يرى اظهر وإلا فهذا الفعل فتانُ لم تسمع الناس للحيطان ألسنة وإنما قيل للحيطان آذنُ هذه اللعبة التي لعب فيها بعض المشعوذين على الناس، عملوا من جهةٍ من الجهات نقض في الحائط وله مثل الماسورة أو قرن وينفخ فيه بشكل يتغير الصوت عند النفخ فيه، والناس يأتون ويسمعون الصوت ويعتقدون أن ولياً من أولياء الله هنا ونحو ذلك، وعظم ذلك المكان بسبب لعبة لعبها بعض المشعوذين. إن الموالد كانت تقام وتفعل فيها الرذائل، ومن ذلك أنه عُمِلَ المولد النبوي -بزعمهم- واجتمع فيه من الخلق مالا يحصى عددهم، ووجد في صبيحته (150) جرة من جرار الخمر فارغة، غير ما كان في تلك الليلة من الفساد والزنا واللواط، هذا في أي شيء؟ في حفلة المولد النبوي، وهي بدعة زائفة. هذا الاحتفال يُفعل إلى الآن -أيها الإخوة- في كثير من البلدان، يعملون مولد نبوي رجالاً ونساء إلخ، وأنت تسمع وتقرأ في الوسائل المرئية والمسموعة إلى الآن عندما يأتي (12ربيع الأول) حفلة مولد نبوي، غناء وموسيقى وطبل ونساء يغنين ويرقصن، في ماذا؟ في المولد النبوي.

التاريخ ومساوئ الرياضة

التاريخ ومساوئ الرياضة كذلك فإننا إذا قرأنا التاريخ سنجد مساوئ للرياضة كانت موجودة في ذلك الزمان انظر مثلاً في يوم السبت (12 من ذي القعدة) عمل السلطان حفلاً مهماً عظيماً بالميدان تحت القلعة، وسببه أن السلطان لعب بالكرة مع أحد الأمراء فغلبه، فقال: لا بد ما دام أني غلبتك أن تعمل وليمة عظيمة، قال من كرمه: أنا أتولى عنك النفقات، فعملت الوليمة العظيمة؛ فنصبت الخيم بالميدان، وكان فيها من اللحم عشرون ألف رطلٍ، ومائة زوج أوز، وألف طائرٍ من الدجاج، وثلاثون قنطاراً من السكر استعملت في صنع الحلويات، وثلاثون قنطاراً من الزبيب، وستون إردباً دقيقاً، وعملت المسكرات في جنان من الفخار، ونزل السلطان سحر يوم السبت وأمرهم بأن يعاقروا الشراب، ثم سمح للعامة في انتهاب الأكل بعدما أكل هو ومقربوه. قال المؤرخ: فكان يوماً في غاية القبح والشناعة؛ أبيحت فيه المسكرات، وتجاهر الناس بالفواحش بما لم يعلم مثله قط، ومن يومئذٍ انتهكت الحرمات بتلك الديار، عقب انتصارٍ في مباراة كرة حصلت، وكانوا في القديم يلعبون الكرة على الفرس يضربونها بشيء. المهم انظر الآن ما يحصل أيضاً بعد حصول المباريات الرياضية أو الانتصارات بزعمهم. إذاً يوجد كثيرٌ من هذه المفاسد ولا زالت موجودة في القديم والحديث، ونحن لا بد أن نتعظ ونعلم تماماً بأن الله سبحانه وتعالى لا يرضى عن هذه الأمور.

التاريخ ولطائف قدر الله على عباده

التاريخ ولطائف قدر الله على عباده أيضاً في التاريخ عجائب لقدرة الله عز وجل في المخلوقات، فيقول المؤرخ: وجد مخلوق كذا وصفته كذا وكذا من العجائب، وأمطرت السماء في يوم كذا وكذا مطراً كان فيه سمك، وأمطرت مرة حجارة، وحصل أشياء من العجائب حتى وصفوا النيازك وسقوط بعض الأجرام السماوية على الأرض وما حصل فيها. ومن الأشياء اللطيفة التي تذكر في هذه المناسبة: ما يحصل من جريان قدر الله عز وجل في بعض المساكين فمن ذلك: قال ابن كثير رحمه الله: نقل عن ابن الساعي: كان رجلاً بـ بغداد على رأسه زبادي فزلق فتكسرت، ووقف يبكي، فتألم الناس لحاله وفقره، ولأنه لم يكن يملك غيرها، فأعطاه رجلٌ من الحاضرين ديناراً، فلما أخذه نظر فيه طويلاً، ثم قال: والله إني لأعرف هذا الدينار، لقد ضاع مني مرة في جملة دنانير، فقال له الرجل الذي أعطاه إياه: ما علامة الدنانير؟ قال: وزنها كذا، وكان معه (23) ديناراً، فوزنوها فوجدوها كما قال: فأعطاه. وذات مرة كان رجل بـ مكة، فنزع ثيابه ليغتسل بماء زمزم، وأخرج دملجاً زنته (50) مثقالاً ووضعها في الثياب، فلما فرغ من الاغتسال لبس الثياب ونسي الدملج ومضى، ورجع إلى بغداد وبقي سنتين حتى افتقر ولم يبق معه إلا شيء يسير، فاشترى بهذا الشيء اليسير زجاجاً وقوارير ليبيعها ويتكسب بها، فبينما هو يطوف ذات مرة إذ زلق فسقطت القوارير وتكسرت، فوقف يبكي فاجتمع الناس عليه يتألمون له، فقال للناس من جملة الشكوى: والله لقد ذهب مني منذ سنتين دملج من ذهب زنته (50) ديناراً ما باليت لفقده كما باليت لتكسير هذه القوارير؛ لأنها كل ما أملك الآن، فقال له رجل من الناس: أنا والله لقيت الدملج وأخرجه وأعطاه إياه. تصور أنه فقده في مكة وذهب إلى بغداد وبعد سنتين يأتي في وسط الجمع وهو يتألم لفقره، فيقول رجل: أنا وجدته ولم أعرف صاحبه، فدفعه إليه. فالشاهد -أيها الإخوة- أننا نرى عجائب وغرائب من قدر الله سبحانه وتعالى سواء في مثل هذه الأشياء، أو في وفاة الأشخاص. مثل: ثلاثة إخوة افترقوا فلم يجتمعوا إلا في قبرٍ واحد، ماتوا وما اجتمعوا في الحياة إلا في القبر بعدما ماتوا عرف أن هؤلاء إخوة هذا فلان فدفن، ثم فلان، ثم فلان وهكذا.

تاريخنا تاريخ أحداث وعبر وعظات

تاريخنا تاريخ أحداث وعبر وعظات الشاهد: أن تاريخنا غنيٌ جداً بالأحداث وبالعبر والعظات، ولا بد أن نقرأ ونحن لسنا أمة مبتوتة ولا منقطعة، والحقيقة أن هناك أحداث كبيرة يجب أن نقف عندها، مثل: غزو النصارى لبلاد الإسلام، وغزو التتر، وقيام الدول الباطنية في السابق، والمؤامرات على الإسلام، والأسباب التي أدت إلى انهيار المجتمعات. أقول: لا بد من دراسة هذه الأشياء؛ لأننا نحتاج في هذا الزمان إلى ربط حاضرنا بماضينا، وإلى أن نعود إلى طريقة أسلافنا. وإنني أقول لكم أيها الإخوة: إن في التاريخ عبرة ومنهاجا، وإن هذه الأمة لن تقوم على أقدامها إلا إذا استلهمت الماضي وعملت به. إن كثيراً من الكفار متشرذمون لا ماضي لهم ولا حضارة، دولٌ كاملة قامت وسكانها قطاع طرق، كانوا منفيون في جزيرة فتكاثروا حتى أسسوا دولة، وحكموا أجزاء كثيرة من العالم إلى الآن، وليس لهم حضارة، لو تسأل مثلاً: ما هو أصل الشعب الأمريكي والشعب الأسترالي؟ أصلهم قطاع طرق، لصوص، طلاب دنيا، قاموا وقامت لهم حضارات -أقصد الآن دولٌ وهيمنات- فنحن أمة الإسلام ماضينا قديم جداً، وتاريخنا مليء بالثروات الضخمة التي يجب أن نتمعن فيها ونهتم بها. ونقول أيها الإخوة: لا بد من تربية الناس على الإسلام، وتربية العامة حتى يتهيئوا للجهاد في سبيل الله، لا يمكن أن الأمة تجاهد وهي بهذا الوضع من الانشغال بالدنيا، لو ارتفع سعر الخبز في بلد من بلاد المسلمين لأقاموا الدنيا وما أقعدوها، ولكن لو أهين القرآن والسنة والشريعة ما تحرك أحدٌ تقريباً. خذ هذا المثال: قيل للطبيب: ما هي أمنيتك؟ فقال: نحن الأطباء أمنياتنا بحرف العين: عيادة عربية وعروسة وعمارة. هذا مثال نقصد به أن الناس علاقتهم بالدنيا وليست بالله عز وجل، فلا بد من إرجاعهم إلى الله، وتربيتهم على هذه المبادئ، وأشير إلى أن بعض الناس يظنون أن انتهاء المشكلة الحاضرة بظهور قائد للمسلمين يجمع كل المسلمين، نقول: ليس حل المشكلة في القائد كما يظن بعض الناس فقط، القائد صحيح أنه مهم، لكن ليس العلاج فقط في القائد، مثال: موسى عليه السلام أليس قائداً عظيماً، ونبياً كريماً؟ نعم. لكن كيف كانت سيرة شعبه معه؟ كيف كانت سيرة بني إسرائيل؟ {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:138] {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء:153] {لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ} [البقرة:61] {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ} [المائدة:21] {إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24] وجد القائد لكن الشعب إذا لم يترب على الإسلام فلا فائدة، الأمة إذا ما تربت على الإسلام فلا ينفع القائد، فالناس الذين يقولون: نحن ننتظر قائداً ربانياً لا يميناً ولا يساراً! نقول: على هونكم، ليس القائد كل شيء، لا بد أن يتربى الناس على الإسلام ثم يقومون في سبيل الله عز وجل. نسأل الله لنا ولكم التوفيق والهداية، وأن يوفقنا لنصرة شريعته وإعلاء كلمته سبحانه وتعالى. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

قاعدة في المحبة لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله

قاعدة في المحبة لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إن الحب والإرادة هي أصل كل حركة في العالم، وهما أصل كل دين، والدين لابد أن يشتمل على عقيدة للروح. حول هذا وغيره دار كلام الشيخ حفظه الله في هذه المحاضرة، ثم أتى بكلام شيخ الإسلام عن لفظة العشق، والمآخذ التي عليها، ومفاسدها في حق الله والخلق.

الحب والإرادة أصل كل حركة في العالم

الحب والإرادة أصل كل حركة في العالم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فالرسالة التي سنستعرض جزءاًً منها وإياكم في هذه الليلة هي رسالة عظيمة، لشيخ عظيم وهو شيخ الإسلام أحمد بن عبد السلام ابن تيمية رحمه الله تعالى. وهذه الرسالة اعتنى بإخراجها وتحقيقها الشيخ: محمد بن رشاد بن محمد بن رفيق بن سالم رحمة الله تعالى عليه، والذي كان له نصيب وافر من الجهد في تحقيق كتب شيخ الإسلام رحمه الله، حتى إنه من أعظم إن لم يكن هو أعظم من قام بتحقيق رسائله تحقيقاً دقيقاً في هذا العصر. يقول إنه وجد هذه الرسالة في عام [1975م] في مخطوطات كتب شيخ الإسلام رحمة الله تعالى في المكتبة الظاهرية بعنوان (قاعدة في المحبة) فصورها واحتفظ بها، ثم بعد ذلك قام بتحقيقها ونشرها، ومن الأدلة التي تثبت نسبة هذه الرسالة لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى ما ذكره الحافظ ابن عبد الهادي في كتاب العقود الدرية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. يقول عن مؤلفاته وما تركه من آثار: "وقاعدة كبيرة في محبة الله للعبد ومحبة العبد لله، وهناك قاعدة أخرى هي قاعدة في وجود تقديم محبة الله تعالى ورسوله على النفس والمال والأهل، وله -أي: ابن تيمية رحمه الله تعالى- قاعدة بعنوان: (أمراض القلوب وشفاؤها) وهذه أيضاً غير رسالة التحفة العراقية في الأعمال القلبية " هذه من مؤلفات شيخ الإسلام رحمه الله، الشاهد أن هذه القاعدة (قاعدة في المحبة) من الرسائل العظيمة التي ألفها رحمه الله. مطلعها: (بسم الله الرحمن الرحيم. على الله توكلي. الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله وحبيبه وخليله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. أما بعد: فهذه قاعدة عظيمة في المحبة وما يتعلق بها من جمع الإمام العلامة شيخ الإسلام بقية السلف الكرام، أبي العباس أحمد ابن الشيخ شهاب الدين عبد الحليم ابن الشيخ مجد الدين أبي البركات عبد السلام ابن تيمية، رضي الله عنه وأرضاه. والناسخ لهذه الرسالة يظهر أنه قد كان في القرن التاسع بحسب ما يظهر على المخطوطة قال رضي الله عنه: "فصل في الحب والبغض، والمحمود من ذلك والمذموم". فالقاعدة هذه اشتملت على قواعد تفصيلية في المحبة، من المهم تدوين هذه القواعد واستيعابها، أول قاعدة ابتدأ بها رسالته قال: " القاعدة الأولى: وأصل كل فعل وحركة في العالم من الحب والإرادة فهي أصل كل فعل ومبدؤه. حتى إن الإنسان يتعاطى بعض المكروهات لأجل المحبة، فمثلاً يشرب الدواء المر، لأجل محبة الصحة والعافية. وكذلك المؤمن يُحب رحمة الله ونجاته فيترك الهوى، وترك الهوى شيء ثقيل على النفس، لكن لأجل النجاة ومحبة الجنة {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46] وقال: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40 - 41] فلا يترك الحي ما يحبه ويهواه إلا لما يحبه ويهواه " لا يمكن أن يترك شيئاً يحبه إلا لشيء آخر يحبه، ولكن هذا الثاني أعظم وأكبر. ولذلك ما ترك المحبوب الأول إلا لأجل محبوب أعظم منه، فيترك أضعفها لمحبة أقواهما. وهذه قاعدة أخرى: فلا يترك الإنسان المحبة الأضعف لأجل المحبة الأقوى. قال: " ولهذا كان رأس الإيمان الحب في الله والبغض في الله، وكان من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله؛ فقد استكمل الإيمان ".

المحبة المأمور بها هي عبادة الله وحده

المحبة المأمور بها هي عبادة الله وحده بعد بيان أن المحبة والإرادة أصل كل حركة في العالم، فإنه لابد أن يُعلم أن المحبة تنقسم إلى قسمين: محبة محمودة ومحبة مذمومة، وهنا قاعدة: أصل المحبة المحمودة التي أمر الله بها هي عبادته وحده لا شريك له، من أي شيء تنبع المحبة؟ وأين توجد المحبة في عبادة الله وحده لا شريك له؟ فكلمة العبودية تنطوي على المحبة ولا شك. ويكون أعظم أقسام المحبة المذمومة هي المحبة الشركية التي يُشرك فيها العبد مع الله عز وجل، فعبادة الله هي أصل السعادة، وعبادة غير الله هي أصل الشقاء، لأن عبادة الله تنتج محبة الله التي تشيع السعادة في النفس، وعبادة غير الله تنتج حب غير الله الذي يؤدي إلى الشقاء وتعاسة النفس. فأهل التوحيد الذين أحبوا الله وعبدوه وحده لا شريك له لا يبقى منهم في العذاب أحد -في النهاية- حتى لو كان عندهم معاصي وحتى لو عذبوا في الآخرة لا يبقوا في العذاب ولابد أن يخرجوا. والذين اتخذوا من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله، وعبدوا غير الله، وهم أهل الشرك لا يخرج منهم من العذاب أحد، وكل ما في القرآن هو الأمر بمحبة الله ولوازمها، والنهي عن ضدها، وضرب الأمثال للنوعين وقصص أهل النوعين، فلا يمكن أ، يخرج ما في القرآن عن هذا. لو قلت: القرآن يدور على أي شيء؟ نقول: يدور على محبة الله ولوازمها وضدها وأهل الفريقين -أهل الحب لله وأهل الحب لغير الله- وضرب الأمثال لهما وقصصهما، هذا هو القرآن، هذا التأمل مدخل في ربط العبودية والمحبة بما في القرآن العظيم.

الله هو الذي يحب لذاته

الله هو الذي يحب لذاته هل هناك شيء يحب من وجه ولا يُحب من وجه، وشيء يُحب من كل الوجوه؟ A نعم. الشيء الذي يحب لذاته، ويحب من كل الوجوه هو شيء واحد، وهو الله عز وجل، وهذه قاعدة. فتحبه لقضائه وقدره وصفاته وأفعاله، وتحبه لنعمه عليك وخلقه، فيُحب من كل الوجوه سبحانه وتعالى. أنت قد تحب شخصاً لوجه وتبغضه من وجه، تُحب عملاً من أعماله، وتبغض عملاً من أعماله؛ تحب فيه خلقاً وتكره فيه آخر، لكن الذي يُحب من جميع الوجوه هو الله عز وجل، والذي يُحب لذاته محبة صحيحة هو الله عز وجل، وكل الأشياء الأخرى التي ليست محبتها لذاتها وإنما محبتها لغيرها، ولما توصل إليه. والمؤمن يعبد الله سبحانه وتعالى، والكافر يعبد غير الله عز وجل، فالمؤمن يخضع لله ويحبه، ويخلع الأنداد ولا يحبها، والمشرك يحب غير الله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة:165] ولما آمن الخليل كفر بكل شيء يعبد من دون الله وأبغضه وقال: لا أحب الآفلين.

المحبة أصل كل حركة

المحبة أصل كل حركة يعيد تلخيص ما مضى فيقول: " كل متحرك فأصل حركته المحبة والإرادة، ولا صلاح للموجودات إلا أن يكون كمال محبتها وحركتها لله تعالى، كما أنه لا وجود لها إلا بخلق الله لها " فإذاً: لا صلاح للموجودات إلا بأن تُحب الله، وبكمال محبته تسعد وتستقر الأمور. مبعث الأعمال والحركات شيء داخلي، والمحبة والإرادة وهي النية قال: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) وهذا يعم كل عمل وكل نية، فكل عمل في العالم بحسب نية صاحبة، وليس للعامل إلا ما نواه وقصده وأراده وأحبه بعمله، ليس في ذلك تخصيص ولا تقييد ". وهذا رد على من يقيد: (إنما الأعمال بالنيات) بالنية الشرعية المأمور بها، فيحتاج هذا إلى أن يحصر الأعمال في الأعمال الشرعية، ولكن المسألة أعم من ذلك لأن النية موجودة في كل متحرك، وكل مخلوق يعقل ففيه نية، المخاليق التي تتحرك تنبعث من نياتها وإراداتها ومن محبتها. قال: " وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أصدق الأسماء الحارث والهمام) فالحارث: هو العامل، والهمام: هو القاصد المريد، وكل إنسان متحرك بإرادته حارث همام ".

أقسام الحركات عند الله

أقسام الحركات عند الله والمحبة والإرادة التي هي مبعث كل الحركات في العالم، تنقسم إلى شيء محبوب لله وغير محبوب لله، وكذلك الأعمال والحركات منها محبوب لله، ومنها غير محبوب لله، وإذا كان كذلك فالمحبة لها آثار وتوابع، سواء كانت محبة صالحة محمودة، أو كانت غير محمودة، فمثلاً لها حلاوة ولها أحزان. والحي العاقل لا يختار أن يُحب ما يضره، وإذا فعل فإنما يكون ذلك عن جهل أو هوى، لأن النفس قد تهوى ما يضرها، بل كثيراً ما تهوى ما يضرها، وهذا من ظُلم النفس، وقد تكون جاهلة فتهوى شيئاً وتحبه وليس من مصلحتها، وقد يعمل الإنسان شيئاً نتيجة لاعتقاد فاسد من شبهة أو شهوة، علماً بأن الشهوة بحد ذاتها ليست مذمومة، فإن من الشهوات ما هو محمود ومنها ما هو مباح. فمثلاً: القريب الذي يُحب لقاء قريبه ويشتهي ذلك ويهواه، فهذه المحبة في نفسه موافقة لما يريده الله، وهذا شيء محمود، لأن أصل صلة الرحم من اسمه سبحانه وتعالى، الرحم من الرحمة والرحمان. فهذه الرحم التي خلقها الله سبحانه وتعالى وسماها باسم مشتق من اسمه، وسماها بشيء مشتق من صفته، وهي صفة الرحمة، فالله يحبها، فإذا الإنسان تابع هواه ومحبته في لقاء قريبه، يكون موافقاً لمحبة الله. لكن حتى محبة الأقرباء إذا لم تضبط بضوابط الشرع قد تنقلب إلى محبة ضارة يبغضها الله، مثل من أحب بعض أولاده أكثر من بعض، فنتج عن ذلك أنه لم يساو بينهم في الأُعطيات، فجار بين الأولاد، وكذلك من دفعه محبته لأقربائه إلى محاباتهم على حساب أصحاب الحق، فأنت تسمع بعض العامة يقولون مثلاً: أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب، هذه قاعدة عندهم، فيقول: أنا مع الأقرب أسانده وأناصره وأعاضده ولو جار ولو ظلم، أدخل معه في هيشاته وأناصره على الغريب ولو كان الغريب محقاً. فإذن قد تكون بعض الأشياء التي أصلها محمود مثل الاعتناء بالرحم، ولكن إذا لم تضبط بضوابط الشرع فإنها تؤدي إلى الجور، ولذلك يقول الله تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام:152] وكذلك الذي يحب الطعام والشراب والنساء -وأقصد بالشراب الأشربة المباحة- فإن هذا محمود، بل لا يصلح حال ابن آدم إلا بهذا، ولو أن الإنسان لا يأخذ حظه من طعام وشراب ونكاح فلن تستقيم النفس ولن تقوم الأنساب ولن توجد الذرية، ولكن هذه المحبة للطعام والشراب والنكاح لو لم تُضبط بضوابط الشرع فإنها تؤدي إلى مفاسد. ولذلك قال الله في الضوابط: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} [الأعراف:31] وقال الله في النكاح: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ} [المؤمنون:7] تعدى النكاح والزواج وملك اليمين في شهوة الوطء والاستمتاع واللذة فإنه سيقع في الحرام {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المعارج:31] أي: الذين جاوزوا حدود العدل. ومن الناس من تكون آراؤه واستحساناته موافقة للنصوص، كما عبر عن ذلك مجاهد رحمه الله بقوله: " أفضل العبادة الرأي الحسن، وهو اتباع السنة ". فمن الناس من صلاحهم وقربهم من الله، وصلاح فطرتهم أن آرائهم موافقة للحق. عمر رضي الله عنه كان يرى ويهوى تحريم الخمر بعقله، ورأيه أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم لابد أن يحجبن، ويفرض عليهن الحجاب، وكان يرى أن هذا هو الصحيح ونزل القرآن بموافقة آراء عمر رضي الله عنه؛ لأنه من قربه من ربه وسلامة فطرته وعقله أدرك أموراً يريدها الشرع ووافق ربه فيها. وقد قال الله تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} [سبأ:6] ولذلك صاحب العقل السليم أحياناً يكون كافراً، ويتوصل بعقله إلى شيء موجود في الشرع، ولكن طبعاً أكثر من يحصل لهم ذلك هم علماء الإسلام، أهل الحق وأهل السنة، هؤلاء الذين تكون آراؤهم موافقة للحق، بحيث لو أن الواحد ما اطلع على الدليل يتوصل إلى النتيجة، ثم قد يطلع على الدليل فيحمد الله أن رأيه كان موافقاً للدليل. بعكس أهل الأهواء الذين أهواؤهم مخالفة للحق، ولذلك كان أهل السنة يسمون أهل البدعة بأهل الأهواء؛ لأنهم يخالفون الحق، والرأي المخالف للسنة لابد أن يكون جهلاً وظلماً. ما علاقة الهوى بمسألة المحبة؟ العلاقة واضحة جداً؛ لأن اتباع الهوى يكون في الحب والبغض، فالإنسان يبغض بهواه ويحب بهواه، وقد يبغض شخصاً ويحب شخصاً، قد يبغض رأياً ويحب رأياً، ويبغض منهجاً ويحب منهجاً، فالمسألة تعم، فهو يُحب الأشياء ويبغضها على حسب هواه، فإذا كان هواه موافقاً لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم كان على الحق.

خضوع الكون لمشيئة الله

خضوع الكون لمشيئة الله ثم أعاد التلخيص ليدخل في مسألة أخرى فقال رحمه الله: " ولما كانت كل حركة وعمل في العالم فأصلها المحبة والإرادة، وكل محبة وإرادة لا يكون أصلها محبة الله وإرادة وجهه فهي باطلة فاسدة، كان كل عمل لا يراد به وجهه باطلاً، وجميع الحركات الخارجة عن مقدور بني آدم والجن والبهائم فهي من عمل الملائكة ". وكأنه يقول: إن كل حركة في العالم، مبعثها المحبة والإرادة، فنستطيع أن نفسر مثلاً حركات الجن والإنس والبهائم والملائكة أنهم يريدون تنفيذ ما أمرهم الله سبحانه وتعالى به، فحركات الملائكة من جعل الرياح تهب والمطر ينزل ونحو ذلك؛ لأن هناك ملائكة موكلة بالمطر وملائكة موكلة بالسحاب، وملائكة موكلة بالريح، وملائكة موكلة بالجبال، وملائكة موكلة في أمور العالم التي لا علاقة ولا قدرة للجن والإنس والبهائم على التحكم فيها. وهذه الأشياء المخلوقة التي تتحرك إنما تتحرك في العالم خضوعاً لله، ابتداءً من ذرات أجسامنا وانتهاءً بذرات الأفلاك والسماوات، فكل الكون تدور حركته خضوعاً لله سبحانه وتعالى، وعبودية له وقهراً، حتى كفار بني آدم لا يخرجون عن مشيئة الله وتدبيره، بأي شيء؟ بكلمات الله، وهذا معنى حديث قد لا يعرف معناه الكثير من الناس، وإذا مروا به قد يمروا به مروراً سريعاً دون أن يقفوا على معناه، الآن يتبين معناه: (أعوذ بكلمات الله التامات اللاتي لا يجاوزهن بر ولا فاجر). فهذا الحديث ما معناه؟ أي: حتى الفجرة والكفرة يخضعون لكلمات الله التامات، ويُقهرون ويُذلون لأجل ذلك، وهذا من عموم ربوبيته وملكه سبحانه وتعالى أن أجساد الكفار وذرات أجسادهم منقادة له سبحانه وتعالى، وكل الحركات التي تسير في أجسامهم بقهر الله وتسخيره وأمره سبحانه وتعالى. {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} [الحج:18] كثير من الناس الذين لا يسجدون لله طوعاً منقادين رغماً عنهم لله عز وجل: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران:83] {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء:44] حتى ذرات أجساد الكفار؟ A حتى ذرات أجساد الكفار تسبح بحمد الله ومنقادة مقهورة ولا يستطيع الكافر أن يدرأ عن نفسه الموت، ولا يستطيع أن يوجد نفسه، وكثير من الأشياء اللاإرادية لا يستطيع أن يفعل فيها شيئاً، ولا أن يقاومها.

أهل الطبائع لا يشهدون الحكمة من المخلوقات

أهل الطبائع لا يشهدون الحكمة من المخلوقات ويُلفت النظر إلى مسألة مهمة لدارسي الطب والفيزياء والعلوم الفلكية والعلوم الدنيوية، يقول: " فأما كثير من الناس -وهم علماء الدنيا- وأهل الطباع المتفلسفة وغيرها؛ فيعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا ويأخذون بظاهرٍ من القول) يرون ظاهر الحركات والأعمال التي للمخاليق وبعض أسبابها القريبة، وبعض حكمها وغايتها القريبة فيقولون: هذه علتها، كما يذكرون في وظائف الأعضاء في الطب، وفي تشريح الإنسان وأعضائه وحركاته، لماذا يحدث كذا؟ لأنه كذا وكذا. لا يقولون لأنها مخلوقة لله ومربوبة للرب، وأنه هو الذي يحركها ويصرفها ويسخرها، بل يقولون: إن هذا يحدث لأن إشارات الدماغ تُرسل العضلات فيحدث كذا، فيرون السبب القريب والغاية القريبة، ويعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا ولكن لا يقولون في كلامهم وفي كتبهم: تتحرك لأنها مربوبة للرب، ومقهورة ومذللة وخاضعة لله تعالى، ولأن هذا أمره، وهو الذي أمرها بأن تتحرك هكذا، ولماذا يسير الدم من هذا الاتجاه إلى هذا الاتجاه؟ لأن الله أمره بذلك وهو خاضع لأمر الله عز وجل. هذا السبب الأصلي، لكن السبب الظاهر مثلاً لأن الضخ كذا، واتجاه الضخ من القلب، فالدم يسير باتجاه كذا ونحو ذلك، فهؤلاء علماء الدنيا ما تصل عقولهم لقضية: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الحج:18] {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء:44] ما تصل لهذا، يبقى فقط على مستوى الأسباب الدنيوية، تفسير الأمور بالأسباب الدنيوية. لماذا وقع هذا النيزك؟ لماذا انفجر هذا النجم؟ لماذا حصل كذا؟ فيقولون: أسباب الحرارة والضغط، وتجاذب الكواكب والحركات ونحو ذلك، لكن لا يقول: لأن الله أمر بذلك، ولأن الله شاء ولأنه قدره، فلا يقولون ذلك ولا يأتون بهذه السيرة إطلاقاً، والمؤمن يؤمن بالأمرين معاً، يعرف السبب الطبعي ولكن يعرف أن وراء قوانين الطبيعة الله عز وجل، وأن كل شيء يسير بأمره، ولذلك النار التي تسبب الإحراق، إذا قال الله لها كوني برداً تكون برداً، وسلاماً فتكون سلاماً، وهكذا. وتتخلف بعض القوانين عن العمل، لأن موجد القوانين هو الذي منعها من العمل، فالشمس تخرج كل يوم من المشرق إلى المغرب وتدور وتعود، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها كل يوم تستأذن من ربها أن تُشرق من المشرق وتذهب إلى المغرب. فهل سمعت من علماء الطبيعة والفلك من يقول: إنها مأمورة بأمر الله وأنها تستأذن، لماذا تُشرق من المشرق؟ يقولون أي جواب دنيوي خطأ أو صح، لكن نحن نعرف لماذا تشرق؟ لأن الله أمرها بذلك واستأذنت وأذن لها، ويوم القيامة يكون أول علامات تغير العالم العلوي طلوع الشمس من مغربها، فتأتي تستأذن ربها أن تشرق من المشرق فلا يأذن لها فتعود وتخرج من المغرب، فكيف سيفسر ذلك علماء الفلك. فإذن {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7] ونحن لا ننكر السبب المادي، ولا نقول لا تقولوه، بل قولوه، ولكن ذكِّروا بالسبب الأصلي للشيء، واربطوه بخالقه ومسببه وموجده وآمره، فيقع الغلط من إضافة هذه الآثار العظيمة إلى مجرد قوة الجسم، ولا يعرف هؤلاء الحكمة، وأن ذلك من عبودية الأجسام والكائنات لله عز وجل. لماذا يحدث المد والجزر؟ يقولون سبب متعلق بالقمر والجاذبية، لكنه لا يُذّكر إطلاقاً بأن من عبودية البحر لله هذه الحركة، وأنه شاء ذلك سبحانه، وأنه الآمر به، وأنه من خضوع البحر له ونحو ذلك. لكن أهل العلم يضيفون جميع الحوادث -انظر الفرق بين العالم- المسلم الذي ينطلق من الدين، وبين الكافر الذي ينطلق من الطبيعة فقط، في إضافة جميع الحوادث إلى خلق الله ومشيئته وربوبيته، فهؤلاء أصح عقلاً من أولئك. قال: " ومن يدخل في ذلك كل شيء حتى أفعال الحيوان فهو المصيب والموافق للسنة والعقل ". يقول شيخ الإسلام رحمه الله: " ولهذا تجد هؤلاء إذا تكلموا في الحركات التي بين السماء والأرض، مثل حركة الرياح والسحاب والمطر وحدوث المطر، من الهواء الذي بين السماء والأرض تارة، ومن البخار المتصاعد من الأرض تارة وكما يخلق الولد في بطن أمه من المني، وكما يخلق الشجر من الحب والنوى، فإنهم يشهدون الأسباب المرئية ويتكلمون عنها، ويعرضون عن الخالق المسبب لذلك كله، وعما جاء في ذلك من عبادته وتسبيحه والسجود له {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [البقرة:116] الذي هو غاية حكمته ". الآن ذكر في ثنايا الكلام استطراداً في قضية الرد على الملاحدة الذين يقولون كل شيء من الطبيعة، وهذا خلقته الطبيعة، وهذا خلق نفسه، والطبيعة خلقت نفسها، والكون خلق نفسه، وأن كل شيء مخلوق من مادته التي هو فيها، فضرب مثلاً بالشخص الذي يكتب بالحبر كلاماً، فيأتي واحد ويقول من الذي خلق الكلام؟ فيجيب: الحبر الذي خلق الكلام، من الذي كتب الكلام؟ الحبر الذي كتب الكلام. فلو أن شخصاً رأى كلاماً مكتوباً بالحبر، وسأل من الذي كتبه؟ قيل: الحبر الذي كتبه، هل سيقبل هذا الجواب؟ لا. فهذه مخلوقاته في أرضه وسماواته وكونها دالة على أنه خالقها سبحانه وتعالى: وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد وهؤلاء يجعلون هذه الطبيعة هي العلة الفاعلة، أو هي الخالقة، وهذا طبعاً كفر، وهو أعظم أنواع الكفر.

المحبة والإرادة أصل كل دين

المحبة والإرادة أصل كل دين الدين هو الأعمال الباطنية والظاهرة، فالآن سيتكلم رحمه الله تعالى عن قضية العلاقة بين المحبة والدين، فقد قال: " إن كل الحركات في العالم منشؤها المحبة والإرادة " وقسمنا المحبة وعرفنا العلاقة بين ما يحبه الله وما يبغضه الله إلى آخره. المحبة والإرادة أصل كل دين، والدين هو مجموعة الأعمال الظاهرة والباطنة، والدين يُفسر أيضاً بأنه الطاعة الدائمة اللازمة التي صارت عادة وخلقاً، ولذلك فسر ابن عباس رضي الله عنه قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] قال: [وإنك لعلى دين عظيم] وفي اللغة بعض الشعراء يستعمل الدين بمعنى العادة، ومنه في اللغة بمعنى (الديدن) مأخوذ من الدين، والديدن هو العادة اللازمة، وديدن مأخوذ من دان مثل صلصل من صَلَّ، وكَبْكَبَ من كَبَّ، فهذا التشديد المفكوك. قال: " واسم العبادة يتناول غاية الحب بغاية الذُل، وهكذا الدين الذي يدين به الناس في الباطن والظاهر لابد فيه من الحب والخضوع " وإذا كان بعض الناس يخضعون لأشخاص ولا يحبونهم كما يخضعون لبعض الظلمة، مثلاً: ظالم يتحكم فيهم ويتولى عليهم، فيخضعون له، هل يسمون محبين له؟ A لا، لأن المحبة ليست هي الخضوع فقط. ولو جاء من قال: أنا أحب فلاناً أو أحب هذا الشيء لكن لا أخضع له، وأعمل على ما أريد، هل يكون محباً له؟ لا. هل يكون عابداً له؟ لا. فالعبادة والدين تستلزم محبة وخضوعاً، وإذا كان كل عمل صادر عن محبة وإرادة، والعمل يتبع الحب والبغض، وبنوا آدم لا غنى لبعضهم عن بعض، ولابد أن يكونوا اجتماعيين يحتاج بعضهم إلى بعض، فلابد أن يكون هناك اشتراك في أشياء نتيجة معيشة الناس مع بعض، فلابد أن يشتركوا في محبة شيء عام وبغض شيء عام، وهذا هو الدين المشترك. فالدين المشترك للناس المجتمعين، يكون فيه محبة أشياء وبُغض أشياء، بغض النظر عن هذا الدين ما هو بالضبط، ولكن الدين المشترك هو: وجود هؤلاء الأحياء أو هذه المخلوقات أو الناس المجتمعين يحبون شيئاً ويبغضون شيئاً، هذا هو الدين المشترك. أما اختصاص كل واحد بمحبة، كمحبة ما يأكله ويشربه وينكحه وطلب ما يستره، فهذا يشتركون في نوعه لا في شخصه، أي: مثلاً هذا يحب الطعام هذا فيأكل منه، وهذا يحب الطعام هذا فيأكل منه، لو كان من جنس واحد كله كالأرز لكن ما يأكله هذا غير ما يأكله هذا، بل قالوا حتى في الهواء وحتى في المطر فالذي يصيب هذا غير الذي يصيب هذا، مع أنهم كلهم يحبون المطر ويحبون الهواء البارد العليل لكن ما يصيب هذا من الهواء غير ما يصيب هذا من الهواء وهكذا.

الدين هو التعاقد والتعاهد

الدين هو التعاقد والتعاهد المخاليق إذا احتاجوا إلى أمور يجب أن يوجبوها على أنفسهم، فيحرمون على أنفسهم ما يضرهم، ويوجبون على أنفسهم ما ينفعهم بعملية تُعرف بالتعاقد والتعاهد، وهذا يسمى الدين المشترك، والرسول صلى الله عليه وسلم أشار إلى ذلك بقوله: (لا دين لمن لا عهد له) فالدين المشترك بين جميع بني آدم هو التزام الواجبات والمحرمات بالوفاء بالعهد، وهذا قد يكون فيه منفعة، وقد يكون فيه مضرة، وقد قال الله سبحانه وتعالى عن يوسف عليه السلام: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} [يوسف:76] الدين المشترك الذي كان يحكم الناس في ذلك الوقت، ولما كان لابد لكل آدمي من اجتماع، ولابد في كل اجتماع من طاعة ودين، ترى حتى المجتمعات الكافرة بدون نظام لا يمكن أن يعيشوا، وبدون دين مشترك لا يمكن أن يعيشوا، فإذا وجدت دولة أو مجموعة من الناس موجودين في مكان أو في بلد أو في قرية، فاعلم أن بينهم ديناً مشتركاً، وأن هذا مبني على العقود والعهود الموجودة بينهم. وأنه لا يمكن أن تستقيم حياتهم إلا بهذه العقود والعهود التي تحافظ على المنافع وتمنع المضار، ولو أتيت بكافر يمكن أن يقول هذا الكلام، وإذا علمنا هذا فهذا معلوم من الواقع.

كل دين لابد له من عقيدة وشريعة

كل دين لابد له من عقيدة وشريعة إذا توصلنا إلى هذه النتيجة، فإن كل دين غير دين الله تعالى فهو باطل، ودين الله سبحانه وتعالى هو الوحيد الذي يكفل للناس حقوقهم، فإن الناس مهما اخترعوا في قضية الدين المشترك لا يمكن أن يحصلوا على السعادة الحقيقية. ومسألة الدين المشترك قال فيها بعض الكفرة والفلاسفة: الناس لابد أن يعيشوا معاً، وإذن فلا يمكن أن تستقيم أمورهم إلا بجلب المنافع ودفع المضار، وهذا لابد أن يكون فيه عهود وعقود، فنعمل قوانين تضبط هذه الحالة، وتكلموا عن أشياء من ذلك كما كتب بعض الفلاسفة (المدينة الفاضلة) ووصفها ونحو ذلك، والكفار كذلك في عصرنا من خلال التجارب والسماعات والخبرات، والرصيد السابق عملوا قوانينهم التي تسير بلدانهم، فمثلاً قالوا: لابد من توزيع الثروات والعدل في الرغبات، وعدم اعتداء البعض على البعض الآخر، فحتى ينضبط المجتمع نجعل قوانين تحل المشكلة، فالفكرة هذه التي تقوم عليها بالذات المجتمعات الغربية اليوم فكرة ليست جديدة، بل هي فكرة قديمة. فمثلاً: حمورابي قد كتب وسن قوانين، وجنكيز خان ونحو ذلك، وهؤلاء هم أتباع الملوك المتفلسفة، فهؤلاء قد جعلوا قوانين بعضها فيه عدل فعلاً، فإذا ذهبت إلى بلدانهم تجد في بعضها عدل حقيقة، ولكن؟ لكن هل امتنع الشقاء؟ لا. الانتحار والجنون، والأمراض العصبية، والانهيارات النفسية موجودة؛ لأنه بقي شيء واحد لم يضعوه في قوانينهم؛ لأن القوانين قائمة على هوى. لكن هناك شيء أساسي جداً ما عملوه، ألا وهو عبادة الله، ولا يمكن أن يستقيم حال الناس بالدين المشترك، إلا بأن يكون هناك دين سماوي إلهي يضبطه ويؤسسه، فيكون مؤسساً بناءً عليه، فإذن قلوب العباد إذا جمعتهم مع بعض ووضعت لهم قوانين قد تكف عنهم من الظلم، لكن لا يمكن أن تُوجد لهم سعادة ولا ضبط للأشياء، لأن القوانين قد يلعب عليها وقد تخترق، وقد يأتي بمحامي ماهر ويوجد له ثغرة في القانون، وأشياء كثيرة كما نجد، ثم مهما كان القوي يغلب الضعيف حتى في تلك البلاد التي فيها قوانين دقيقة جداً جداً فإن فيها ثغرات كثيرة. لكن هناك شيء مهم جداً في نفوس العباد لم تحققه لهم القوانين، ما هو؟ عبادة الله عز وجل، لأن قلوب بني آدم لابد أن تحب إلهاً، وهي مفطورة على هذا، وأن تعبده ولذلك وجد عند هؤلاء الغربيين قيم روحية ينادون بها، واكتشفوا أن قوانينهم ولا تكفي لجلب السعادة إلى النفوس، فصار بعضهم يتجه إلى ديانات شرقية، ويتجهون إلى الكنيسة، وفي هذا إثبات واعتراف وإقرار بأن القوانين والدين المشترك لم تكفِ، ولا تصلح حياتهم ولا يدوم شمل الناس إطلاقاً إلا بأن يكون هناك تأله، يحتاجه الإنسان أكثر من حاجته للطعام والشراب والغذاء، وأن عدم الغذاء إذا كان يُفسد الجسم فإن فقد التأله يُفسد النفس ويتلفها، ويدمر القلب تدميراً. وما الذي يمكن أن يُصلح النفس والقلب؟ هو التأله لله سبحانه وتعالى، وهي الفطرة التي فطر الله كل الناس عليها، لابد لهم من رب واحد يكونون خاضعين له، فيتألهونه ويعبدونه فتحصل لهم السعادة والاستقرار، وينضبط دينهم المشترك الذي تعبوا جداً في سن القوانين فيه، والله سبحانه وتعالى إذا خضعوا له فقد أنزل عليهم شريعة تحكم دينهم المشترك وتحكم دينهم الخاص، وبالتالي تحصل السعادة، هذه هي المسألة المهمة جداً التي ينبغي أن ننقد فيها الواقع الموجود بناءً عليها، وأنك تعرف من خلالها أن ما فعله الكفار من تنظيمات وأشياء وقوانين لم تجلب لهم السعادة، ولم يحصل لهم الاستقرار إطلاقاً. ولو حصل في مجتمعهم فإنهم يظلمون غيرهم، وهذا ما يُفسر تسلط الدول الكبرى على دول العالم الثالث والدول الفقيرة لماذا؟ لأنهم لا يتعاملون بناءً على العبادة، وإلا لما ظلموا غيرهم، ولو وضعوا أشياء وقوانين فهي في بلادهم، وأما على غيرهم فالقوي يأكل الضعيف، وشريعة الغاب هي التي تسود لا القوانين ولا غيرها، وهذا ما يبين لنا أن كلاماً أو عبارة مثل: (النظام العالمي الجديد) كلام فارغ وتافه، لا يمكن عمله ولا القيام به؛ لأنه ليس مؤسساً على عبادة الله عز وجل، ولا على الدين الذي شرعه الله وهو دين الإسلام.

ما تشتمل عليه كل محبة

ما تشتمل عليه كل محبة ولابد في كل دين وطاعة ومحبة من شيئين: الأول: الدين المحبوب المطاع، وهو الشيء المقصود. الثاني: نفس صورة العمل الذي تُطاع ويُعبد بها، وهي السبيل والطريق والشريعة والمنهاج والسبيل. فإذن كل دين فيه غاية ووسيلة: الغاية: هي الشيء المراد، أي: وجه مَنْ أردت بالعمل. الوسيلة: صورة العمل التي يعبد بها ويراد بها الوجه، ويقصد بها السبيل والطريق والشريعة والمنهاج. فهنا لابد أن يتحقق الأمران إذا أردت السلامة يا عبد الله! للنجاح في الجواب على سؤالين عظيمين يوم القيامة عن كل عمل عملته: لم وكيف؟ لم: هي قضية الغاية، وكيف: هي صورة العمل والوسيلة، كيف كانت؟ وبناءً على أي منهج؟ ومتابعة لأي شريعة؟ وهذا معنى قول الله عز وجل: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:2] قال الفضيل بن عياض: أخلصه وأصوبه، قالوا: يا أبا علي! ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يُقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يُقبل، حتى يكون خالصاً صواباً، فالخالص لله، والصواب موافقة السنة. فهكذا يجمع الدين هذين الأمرين، المعبود والعبادة: المعبود: هو الله وإخلاص القصد لله. والعبادة: هي اتباع السنة والإتيان بالعمل على الصورة الصحيحة الموافقة للسنة. وأصحاب الأديان قد يقولون لك: نحن نعبد الله، ولكن إذا جئت إلى الوسائل -إذا سلمنا أنهم فعلاً يعبدون الله- فهي تختلف ولذلك لنا شريعتنا ومنهاجنا ولهم شريعتهم ومنهاجهم، ولا يجوز لنا أن نوافقهم في ذلك، لكل جعلنا شريعة ومنهاجاً: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ} [الحج:67].

تنوع الناس في المعبود والعبادة

تنوع الناس في المعبود والعبادة لا يظنن ظان أن الاختلاف بيننا وبين غيرنا فقط في قضية الطريقة والأسلوب، لا. بل حتى معرفة الله عز وجل، فقد أثبت شيخ الإسلام رحمه الله في كلامه هذا قال: " فقد تعرف هذه الأمة من أسمائه وصفاته ما لا تعرفه به الأمم الأخرى، فهم مشتركون في عبادة نفسه، وإن تنوعوا فيما عرفوه وعبدوه به من أسماءه وصفاته ". ويتفرع عن معرفة الله اليوم الآخر، فينضم إليه اليوم الآخر وما جاء في نعته من الأسماء والصفات والوعد والوعيد. فإذا صار عندنا ثلاثة أشياء: الأول: هو سبحانه وتعالى. الثاني: اليوم الآخر. الثالث: الوسيلة -اتباع السنة- فقد اكتمل كل شيء. وبهذا نعرف كيف نتوصل إلى السعادة الحقيقة والاستقرار الصحيح بمسألة عبادة الله وحده لا شريك له، وبمسألة الوفاء بالعهود والمواثيق، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} [البقرة:177] وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1]. وإذا لم يكن مقصود الدين والناموس الموضوع الذي يحكم جماعة من الناس إلا جلب المنفعة في الحياة الدنيا ودفع المضرة، فليس لهم في الآخرة من خلاق، وإذا كانت قضيتهم قضية قوانين أو الذي أطلقوا عليه الدين المشترك، فإنهم لابد أن يستولي بعضهم على بعض ويقهر بعضهم بعضاً كما فعل فرعون وغيره، وقال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ} [القصص:4] مع أنه كان له دين، والقبط الذين كان يملكهم فرعون لهم دين مشترك. وقال الله تعالى في قصة يوسف: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} [يوسف:76] وهذا الملك كان فرعون يوسف، قبل فرعون موسى، لأن كلمة فرعون اسم لملك مصر، كما أن خاقان اسم لملك الترك، كما أن كسرى اسم لملك الفرس، كما أن المقوقس اسم لكل من ملك الإسكندرية، كما أن تبع اسم لكل من ملك اليمن، كما أن النجاشي اسم لكل من ملك الحبشة وهكذا. فالنجاشي ما اسمه رحمه الله أصحمة والنجاشي لقب معناها ملك. لقد كان فرعون يعيش مع قومه في دين يحكم بلده، لكنه كان يستضعف طائفة، يُعذب أبناءهم ويقتلهم، ويستحيي نساءهم، لماذا كان يفعل ذلك؟ لأن المسألة ليست قائمة على دين الله، بل كانت قائمة على دين ابتدعوه هم، ورأوا فيه من المصالح ما رأوا، لكن ما حقق العدل في الأرض فإن الظلم قائم، ولا شك في ذلك. ثم القضية الأهم وهي إقامة التوحيد في الأرض وإزالة الشرك: فلو وضعوا قانوناً تتم به مصلحة الدنيا لكن ليس فيه أمر بالتوحيد وعبادة الله تعالى، ولا بالعمل للآخرة، ولا نهي عن الشرك فإنهم لن يسعدوا حتى في الدنيا.

الحب أصل كل عمل من حق وباطل

الحب أصل كل عمل من حق وباطل أصل الأعمال الدينية حُب الله ورسوله، فإن قوة المحبة لكل محبوب يتفاوت فيها الناس في الشيء الواحد، حتى الشخص الواحد تتفاوت محبته فيقوى حبه تارة ويضعف أخرى، ويكون فلان يحب هذا الشيء أكثر من فلان، فإذن المحبة تتفاوت في الأشخاص وفي الشخص الواحد. والمحبة ينبني عليها أشياء، من اتخاذ المواقف وتنبني عليه محبة جديدة وبُغض جديد بناء على ما يحدث للإنسان من التغير، ولذلك قال الله تعالى عن إبراهيم الخليل: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4]. إذن المحبة تنقلب وتتغير وتزيد وتنقص، وممكن يحل محلها بغضاء، وممكن تنقلب البغضاء إلى محبة، ما مثال ذلك؟ قصة إبراهيم عليه السلام لما قامت المسألة على التوحيد أبغض أباه وأبغض قومه. فالحب الطبيعي الذي كان يحب به الابن أباه انقلب بغضاً له؛ لأنه يكفر بالله وقال: {وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4] إذن اتخذ موقفاً جديداً في قضية المحبة والبغض نابعاً من قضية التوحيد، نفس الذي يحصل للمهتدي، فلو أن شخصاً هداه الله هداية قوية، ماذا يحصل له، افرض هداه الله في ليلة، أمسى كافراً وأصبح مؤمناً، فسحرة فرعون اهتدوا من موقف فجأة، أي: إلى لحظة إلقاء الحبال والعصي وهم كفار يحبون فرعون ويكرهون موسى. فلما ألقى العصا وأكلت ما ألقوا وعرفوا الحق، تبدلت كل المشاعر في لحظة، فتبدل كل شيء، فكرهوا فرعون وعمل فرعون وكرهوا السحر الذي قاموا به، وأحبوا موسى، ودين موسى وأحبوا الله عز وجل، وفوق ذلك ضحوا بأنفسهم، وانقلبت أشياء بفعل التبدل الذي حصل في القلب. كما حصل لـ ثمامة رضي الله عنه، فقد أتي به مأسوراً إلى المسجد النبوي، وهو يكره الدين والإسلام والبلد والمدينة التي أُسر فيها، والمسجد والنبي صلى الله عليه وسلم، ولما ربط وجُعل في المسجد، ورأى ما رأى من الصلاة واجتماع المسلمين، ثم منّ النبي صلى الله عليه وسلم عليه وقال: (أطلقوا ثمامة) بدون مقابل، ماذا حصل؟ صار عنده قناعة فاقتنع، وجاء موقف المنّ عليه فهداه الله، ولما هداه الله قال: يا محمد! ما كان على وجه الأرض من شخص أبغض إليّ منك، فصار وجهك أحب الوجوه إلي، والله ما كان على وجه الأرض من دين أبغض إلي من دينك، فقد صار دينك أحب الدين لدي، والله ما كان في سطح الأرض من بلد أبغض إلي من بلدك، فقد صار بلدك أحب البلاد إليّ. فكيف انقلبت المسألة؟ بالهداية انقلبت المواقف، فإذن المحبة هذه تتغير، وبناء عليه البغض أيضاً يتغير، وكذلك فإنها تزيد وتنقص.

تنازع الناس في لفظ العشق

تنازع الناس في لفظ العشق في مسألة المحبة أدخل بعض الناس الذين يزعمون أنهم أصحاب أعمال القلوب وأرباب التقوى، أدخلوا كلمة غريبة عن الكلمات الإسلامية والشرعية وهي كلمة: (العشق) وأدخلوها في وصف العلاقة بين العبد وربه، وصار عندهم شيء اسمه: (العشق الإلهي) حتى غنت به أم كلثوم فكذلك قديمهم وحديثهم. فقالوا: العشق هذا هو قمة المحبة وأولى الناس بذلك هو الله، وقالوا: عشقني، وعشقته، وعشقت الله وتكلموا وقالوا بهذه الألفاظ، لماذا؟ قالوا: العشق منتهى المحبة وأقصاها. ولذلك فهو لا يليق إلا بالله، فنقول: لو قلتم إن العشق هو منتهى المحبة وأقصاها، فهذه صحيح أنه لا ينبغي إلا لله عز وجل، لكن هل ورد لفظ شرعي فيه؟ A نعم. ما هو؟ الخلة، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً) فقمة المحبة والخلة التي كانت من الله سبحانه وتعالى أعظم ما أحب عبداً هو محمد صلى الله عليه وسلم ثم إبراهيم، وأعظم محبة من العباد لربهم كانت من محمد صلى الله عليه وسلم وإبراهيم.

المآخذ على لفظ العشق

المآخذ على لفظ العشق هذا اللفظ -وهو العشق- ليس مأثوراً عن السلف، وباب الأسماء والصفات يُتبع فيها الألفاظ الشرعية، فلا نطلق إلا ما ورد في الأثر، وهذا الكلام باطل من وجوه ذكرها رحمه الله وسنأتي عليها إن شاء الله. فاستخدام كلمة العشق في وصف العلاقة بين العبد والرب مرفوض لأسباب: السبب الأول: أن هذه الكلمة غير مستخدمة في النصوص الشرعية، فمثلاً قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة:165] ما قال عشقاً، وإنما قال (حباً لله) أن يحب الله ورسوله، فإذاً نقف مع الكلام المستخدم ونتأدب مع الله ورسوله ولا نستخدم ألفاظ لم تستعمل في الكتاب والسنة. السبب الثاني: أن المعروف من استعمال هذا اللفظ إذا رجعنا إلى اللغة العربية، أن كلمة العشق محبة جنس النكاح، ومحبة الإنسان الآدمي لمثله من امرأة أو صبي بالشهوة بالحلال أو الحرام، امرأة في النكاح مثلاً أو في الزنا، فلا يكاد يُستعمل هذا اللفظ في غير هذا الموضع في اللغة، فلا يقال: إن فلاناً يعشق ولده أو يعشق أقرباءه، أو يعشق وطنه، أو يعشق ماله أو يعشق دينه. وكذلك فإنها لا تُستعمل في الأشياء المعنوية، فلا يقال: عشقت في فلان كرمه وشجاعته وعلمه ودينه وإحسانه إطلاقاً، فاستعمالات العشق عند العرب في اللغة العربية: العشق في محبة النكاح ومقدماته، فالعاشق يريد الاستمتاع بالنظر إلى المعشوق وسماع كلامه، ومباشرته بالحس تقبيلاً ومعانقةً ووطئاً. ولكن كثيراً من العُشاق كان لا يختار الوطء، ويقول: إذا نكح الحب فسد، فيبقون على قضية هذه العلاقات التي ما دون الوطء ولكن كثير منهم في النهاية أوصلهم العشق إلى الزنا وما هو أسوأ من الزنا. فاستعمال العشق الآن في العلاقة بين العبد وربه لا يصح، وإذا كان الآن هذا أصله اللغوي واستعماله في اللغة فهذه مصيبة، فإنه يُفهم أو يُوهم معنىً فاسداً للغاية، وهذا المعنى من أعظم الكفر. وللعلم فإن الاتحادية الكفرة -الذين يقولون: إن الله عين الموجودات، وكل ما ترى بعينك فهو الله- قالوا كلاماً عظيماً سيئاً جداً جداً عندما جمعوا بين العشق وبين العقيدة الاتحادية فقالوا: ما نكح سوى نفسه فهو الناكح والمنكوح، تعالى الله عن قولهم. انظر الآن ماذا يلزم، تقول لهم: أنتم تقولون كل شيء هو الله، الرجل هو الله والزوجة هي الله، يقولون: نعم، إذاً هذا ينكح هذا، يقولون: ما نكح إلا نفسه، تصوّر إلى أي درجة يصل هؤلاء بالكفر، أصحاب ابن عربي الذين يحجون إلى قبره في الشام، ويعبدونه من دون الله، هذه مقالتهم، والحلاج الذي يعملون له الآن رسائل ماجستير ودكتوراه، يسمونه شهيد الثورة، وابن الفارض تحقق كتبه، وابن سبعين فهؤلاء أصحاب عقيدة الاتحاد، وكذلك أصحاب عقيدة الحلول. وسبق القول ونبه على ذلك شيخ الإسلام رحمه الله: أن النصارى أعقل منهم؛ لأنهم على الأقل يقولون: حل في واحد وهو عيسى، وهؤلاء يقولون: حل في كل المخلوقات، وكل ما ترى بعينك فهو الله، ولذلك يصفونه بما يُوصف به البشر من النكاح، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً، هو الأحد الصمد الذي: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:3 - 4]. ولذلك كان من الصوفية الاتحادية ومن هؤلاء المنحرفين من يعشق الصور الجميلة ويزعم أن الله قد تجلى فيها، ويقول: هذا من محبتي له، ويقصد بها نوعاً من العبودية وهو كذاب، فمن زعم أن الله يُحب ويُعشق بهذا المعنى فهو أعظم كفراً من اليهود والنصارى. ثم أيضاً من مفاسد استعمال كلمة العشق في وصف العلاقة بين العبد والرب: أن العشق هو الإفراط في المحبة حتى يُخرج عن القصد والاعتدال، ويكون مذموماً فاسداً، ويفسد القلب والجسم، ولذلك ترى العاشق نحيل لا يشتري طعاماً ولا ينام في الليل، متعب منهك جداً، العشق يُنهكه ويدمر نفسه، لماذا؟ يقولون هذا عاشق وواقع في العشق، فلا يشتهي طعاماً ولا يهنأ بنوم لأن باله كله مع المعشوق، فما عاد يريد أي شيء، إذن وقع في الغلو وصار مفْرِطاً. فهل يناسب أن تستعمل هذه الكلمة وهي قضية العشق الدالة على الإفراط ومجاوزة الحد لدرجة أن يضر الإنسان بنفسه، أن تستعمل في وصف العلاقة بين العبد والرب؟ ما يمكن، فإن الله لا يُحب محبة زيادة على العدل، ولا يمكن، ولذلك هنا سر عظيم وفائدة بديعة في قضية محبة الله تعالى ألا وهي: (أن محبة الله ليس لها حد تنتهي إليه). وكذلك يمكن أن نقول أيضاً: (محبة غير الله إذا زادت صارت إفراطاً أو غلواً وانقلبت وصارت مضرة، ومحبة الله مهما زادت فلا تنقلب ولا تصير إفراطاً وغلواً). فهذه من خصائص عبودية المحبة بين العبد والرب، أن محبة الله ليس لها حد تنتهي إليه، ومهما أحببت ومهما زدت في المحبة لا يمكن أن تقع في غلو أو إفراط، لكن أي شيء آخر مثل محبة الطعام أو محبة الشراب، أو محبة فلان أو محبة فلان، ممكن إذا جاوزت حداً معين تصير غلواً وتصير شركاً، إلا محبة الله تعالى مهما زدت فيها فلا تقع في إفراط ولا في غلو ولا في شيء. لابد أن يحب العبد ربه حتى يكون الرب أحب إليه من غيره، ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم تابعة لمحبة الرب، فلماذا تحب النبي صلى الله عليه وسلم؟ لأن الله تعالى أمر بمحبته وجعله رسوله، وأنزل عليه كتابه، وجعل له الشرف والمكانة بين الخلق والمقام المحمود يوم القيامة. قال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين، ولما قال عمر: يا رسول الله! لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال: لا يا عمر! حتى أكون أحب إليك من نفسك، قال: لأنت أحب إلي من نفسي، قال: الآن يا عمر!).

الفساد المترتب على العشق

الفساد المترتب على العشق فهذا ما ينبغي أن يكون عليه الحال في المحبة. أما قضية العشق وما يترتب عليه فلا شك أن العشق هو فساد في الإدراك والتخيل والمعرفة، ولذلك فالعاشق يخيل له المعشوق على صورة أخرى غير ما هو عليه حقيقة، ينقل ابن تيمية الآن عن الأطباء النفسانيين: (يقول الأطباء: العشق مرض وسواسي شبيه بالمانخوليا، فيجعلونه من الأمراض الدماغية التي تُفسد الفكر والتخيل كما يفسده المانخوليا) مرض يُفسد التخيل فتتخيل أشياء وتراها على عكس ما هي عليه. فالعاشق إذا وصل إلى درجة مع المعشوق تخيله شيئاً آخر على غير ما هو عليه تماماً، ولذلك فليس بصحيح إطلاقاً أن يكون هذا مما تُوصف به العلاقة بين العبد والرب. وبعض هؤلاء الذين يسمون أنفسهم بالعشاق لله يعتريهم من الصور اعتقادات فاسدة -لأجل هذه القضية- لا تجوز إطلاقاً في حق الله تعالى، وكثيراً ما يعتري أهل المحبة من السُكر أعظم مما يصيب السكران بالخمر، والسكران بالصور كما قال تعالى في قوم لوط: {إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر:72] والحب له سُكر أعظم من سُكر الشراب، كما قال الشاعر: سُكْرانِ سكر هوىً وسكر مدامة ومتى الإفاقة من به سُكرانُ والمدامة: هي الخمر. فالسُكر كما يكون بالخمر قد يكون أيضاً بالصور، بل ربما كان السُكر بالصور أعظم من السكر بالخمر، لأنه يُحدث اضطراباً في العقل والعلم واعتقادات وتخيلات فاسدة. ثم لخص رحمه الله تعالى الانحراف في باب محبة الله فقال: " باب محبة الله ضل فيه فريقان من الناس: الفريق الأول: فريق من أهل النظر والكلام والمنتسبين للعلم جحدوها وكذبوا بحقيقتها وقالوا: إن الله لا يُحب، ونفوا صفة المحبة لله. الفريق الثاني: فريق من أهل التعبد والتصوف والزهد، أدخلوا فيها من الاعتقادات والإرادات الفاسدة ما ضاهوا بها المشركين. فالأولون يشبهون المستكبرين، والآخرون يشبهون المشركين، ولهذا يكون الأول في أشباه اليهود، ويكون الثاني في أشباه النصارى، وقد أمرنا الله تعالى أن نقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7]. " فالأولون كابروا النصوص، فالنصوص تقول يحب، وهم يقولون لا ما يحب، والآخرون وافقوا النصارى في قضية الغلو وجعلوا فيها أشياء من الاعتقادات والإرادات الفاسدة

كل محبة وبغضة يتبعها لذة وألم

كل محبة وبغضة يتبعها لذة وألم ثم أشار رحمه الله إلى قاعدة أخرى، قال: " ومن المعلوم أن كل محبةٍ وبغضةٍ فإنه يتبعها لذة وألم، ففي نيل المحبوب لذة، وفراقه يكون فيه ألم، وفي نيل المكروه ألم، وفي العافية من المكروه لذة ". فقضية اللذة من الأشياء التي ينبغي أن يُتمعن فيها، ولذلك تكلموا عنها كثيراً لأنهم قالوا: إن المخاليق كلهم يسعون لأجل نيل اللذات، قد تكون لذة صحيحة أو لذة سقيمة، أو لذة فاسدة أو لذة شرعية أو لذة محرمة، المهم أن الناس سعيهم الآن لأجل نيل اللذات عموماً.

أجناس اللذات

أجناس اللذات قال شيخ الإسلام رحمه الله: " واللذات الموجودة في الدنيا، ثلاثة أجناس " الأولى: اللذة الجسدية كالأكل والنكاح واللباس، لماذا سميت لذة جسدية؟ لأن الشخص يباشرها بجسده. الثانية: اللذة النفسية أو التخيلية أو التوهمية، لأن الإنسان يتخيلها في نفسه، فإحساسه بها إحساس نفسي، مثل: أن يمدحك غيرك، فالمدح مثلاً لذة نفسية، وكما أن فوات الأكل والشرب يؤلمك وتحصيل الأكل والشرب تلتذ به، فكذلك فوات المدح وحصول عكسه من الذم مثلاً، ومخالفة الناس لك تُحدث أذى. وكذلك فإن موافقة الناس لك ومدحهم، وثناؤهم عليك يُحدث في نفسك لذة، فالإهانة والذم تُحدث ألماً كما أن فَقْدَ الأكل والشرب يُحدث ألماً وهو ألم الجوع. فالمأكول والمنكوح تنال بالجسد، أي: أشياء محسوسة، يتلذذ بوجودها ويتألم بفقدها، وأما الكرامة فهي في النفوس، فإذا أُكرمت حصل عندك لذة وإذا أهنت صار عندك ألم. الثالثة: لذة القلب والروح: كلتذاذه بذكر الله تعالى ومعرفته، ومعرفة الحق، هذه اللذة العظمى التي لا تضاهيها لذة، والتي من تذوقها هانت عنده اللذات الأخرى.

شرع الله لعباده من اللذات ما فيه صلاحهم

شرع الله لعباده من اللذات ما فيه صلاحهم اللذة مطلب عظيم أساسي، فالناس لا يمكن أن يعيشوا بدونه، والله سبحانه وتعالى قد شرع لنا من اللذات ما فيه صلاحنا في الدنيا، فلذلك أحل لنا الطيبات من الطعام والشراب، وأحل لنا النكاح، فله الحمد سبحانه وتعالى، وحياتنا لا تستقيم بدون هذه اللذات. وجعل في الآخرة اللذة التامة والكاملة، وكانت لذات الدنيا منقوصة، فالطعام قد تلتذ به عند الأكل ثم يحصل لك إمساك أو يحصل لك إسهال، وكذلك النكاح إذا أفرطت فيه أو إذا امتنعت عنه، فالمهم أن لذات الدنيا ممكن أن تسبب مشكلات، ثم لها حد ونهاية، ثم بعد ذلك تعافها حتى تتجدد مرة أخرى. أما لذات الآخرة فهي لذات تامة كاملة متجددة، فتصور أن لذات الآخرة لا تشبع منها، مثلاً تأكل لتشبع ثم تعاف نفسك، أما طعام الجنة؟ فتأكل وتشرب فيخرج رشحاً له رائحة المسك، ثم تأكل وتشرب وتخرج رائحة، وهكذا، والنكاح كذلك، النكاح في الدنيا إذا زاد منه أضعف وأنهك وتحللت قواه، أما في الآخرة فليس هناك فتور ولا ضعف، وليس هناك تعب منه إطلاقاً. ثم بالإضافة إلى ذلك فإن لذات الجنة زائدة متجددة باستمرار: (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) قال الله تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة:17] فلذات الجنة متجددة، يأكل ثمرة ثم يأكل ثمرة فيجدها أطيب مما قبل، ثم يأكل ثمرة فيجدها أطيب من التي قبلها وهكذا، وأهل الجنة يذهبون إلى سوق الجمعة فيرجعون إلى أهاليهم فيقلن لهم: ازددتم بعدنا حُسناً وجمالاً، فيقولون: وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً. فلاحظ أن لذات الجنة في تطور مستمر، ما في نهاية عظمى وبعد ذلك ينزل، بل تستمر في التطور، ولذات الجنة مستمرة، وأعظم لذة فيها على الإطلاق وهي اللذة التي تنسي جميع اللذات: النظر إلى وجه الله عز وجل، فإنهم إذا رأوه شعروا بلذة غامرة عظيمة لا يوجد أعظم منها إطلاقاً، فينسون لذات الجنة الأخرى بجانب هذه اللذة، وهي تتجدد عليهم، ينظرون إلى وجه ربهم بين حين وآخر، فتتجدد عليهم هذه اللذة. فإذن لا شك أن الأشياء التي تحب النفس تحصيلها فيها لذة وفي فراقها ألم، وكذلك المكروهات فراقها والمعافاة منها فيه لذة، والوقوع فيها إذا حلت فيه ألم.

من ترك لذة فانية عوضه الله بلذة متكاملة

من ترك لذة فانية عوضه الله بلذة متكاملة فالذي يتحمل مكروهات الدنيا لأجل اللذة الأخروية، ويصبر عن اللذات المؤقتة الناقصة، لأجل تحصيل اللذات الكاملة المتجددة، هذا هو المؤمن، ومع ذلك من رحمة الله أنه ما حرم علينا كل اللذات في الدنيا، ولا قال: يا أيها العباد إذا أردتم لذة الجنة اتركوا كل لذات الدنيا، ولا تتلذذوا بطعام ولا شراب ولا نكاح ولا ملابس أبداً، احرم نفسك من لذات الدنيا تأخذ لذات الجنة، ما قال ذلك، وإنما أباح لنا لذات في الدنيا: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3] وقال صلى الله عليه وسلم: (حبب إليّ من دنياكم: الطيب والنساء) أفلا ترى أن من رحمة الله بنا أنه أعطانا لذات مباحة في الدنيا وحرم علينا لذات لننال بسبب الامتناع عنها ابتغاء وجهه لذات أخرى. وقد غلط المتفلسفة من الصابئين والمشركين ومن حذا حذوهم كـ الرازي وغيره في أمر هذه اللذات في الدنيا والآخرة حتى جرهم ذلك الغلط إلى الدين الفاسد في الدنيا بالاعتقادات الفاسدة والزهادات الفاسدة، فصاروا تاركين لما ينفعهم من لذات الدنيا معرضين عما خُلقوا له، فالآن بعض الصوفية الذين يتبعون رهابنة النصارى، يقولون بالحرمان من كل لذة، ويتعبدون بترك كل لذة، وهذه بدعة. ولما أراد بعض الصحابة أن يمتنعوا عن لذة النساء والنوم والطعام واللحم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم خطأهم وعنف على ذلك بعبارات شديدة وقال: (من رغب عن سنتي فليس مني). أي: واحد قال: أنا لا أنام الليل، وآخر قال: أنا لا أفطر في النهار، وآخر قال: لا آكل اللحم، وآخر قال: لا أنكح النساء، فالنبي صلى الله عليه وسلم قاوم ذلك كله وقال: (من رغب عن سنتي فليس مني). فإذن الحقيقة أننا نزداد محبة لله عندما نرى أنه أباح لنا لذات كثيرة في الدنيا، وأعطانا على الامتناع عن بعض اللذات التي هي في الحقيقة مصائب وآلام كالزنا والخمر وغيره، أعطانا عوضاً عن ذلك في الآخرة لذات كثيرة، ولذلك لو قال واحد أنا لو امتنعت عن الأغاني الآن في الدنيا، لم أعد أسمع لا الموسيقى ولا الأغاني فماذا لي في الآخرة؟ نقول: لك في الآخرة كما قال الله عز وجل: {يُحْبَرُونَ} [الروم:15] وغناء الحور العين، فيحبرون: هو سماع الغناء في الجنة وغناء الحور العين، فهذا أعظم من كل غناء في الدنيا ولا يقارن به على الإطلاق. فلا يوجد شيء يتركه العبد في الدنيا لله ثم لا يأخذ مقابلاً في الآخرة.

لماذا لا نطبق ما تعلمناه؟!

لماذا لا نطبق ما تعلمناه؟! العمل رديف العلم، لكن قد تجد من الناس من لا يطبق ما تعلمه، وفي هذا الدرس بيان مفصل لأسباب التفريط في العمل ممن علم، وقد ذكر الشيخ في بداية حديثه أحوال الصحابة رضوان الله عليهم الذين كانوا يتعلمون لينفذوا، وختم درسه بذكر بعض العلاجات الدافعة إلى جعل العمل ثمرة من ثمرات العلم.

علامات عدم تطبيق ما تعلمناه

علامات عدم تطبيق ما تعلمناه الحمد لله الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا أشرك به أحداً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى سبيل الله ورضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأعوانه، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم نلقاه. أيها الإخوة! أيها الشباب! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وتحية طيبة لكم أيها الحاضرون والمستمعون في هذه الليلة ونقف وقفة حساب مع أنفسنا، والمؤمن يحاسب نفسه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر:18]. عنوان درسنا من باب المحاسبة: لماذا لا نطبق ما تعلمناه؟! كم خطبة حضرنا؟ كم كتاباً أو ورقة قرأنا؟ كم شريطاً سمعنا؟ كم نصيحة إليها أصغينا وأسديت إلينا؟ كم ختمة ختمنا؟ فكم من ذلك عقلنا؟ وكم من المضمون طبقنا؟ كم أمراً فيها نفذنا؟ وكم نهياً فيها اجتنبنا؟ لماذا ندعى إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فنتولى ولا نعمل؟ لماذا تقرأ علينا الآيات التي لو أنزلت على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله، ثم لا نتعظ ولا نتأثر؟ نجد أحياناً أنفسنا نمر بموقف ولا نعمل بالحكم الذي نعمله في هذا الموقف، أحياناً نذهل عنه، وأحياناً نتذكره، ولكننا نتقاعس ونتكاسل، لماذا نجد كثيراً من الناس يحملون شهادة شريعة وحصلوا أشياء من العلم، وآخرين حفظوا متوناً وقرءوا كتباً وحضروا حلقاً، وكثيراً من الشباب فعلوا ذلك، لكن أثر العلم لا يظهر عليهم، لا في سمتهم ولا في طريقتهم، ولا في أخلاقهم؟ لماذا نقصر في الواجبات ونسيء، ونفرط كثيراً في المستحبات ونتقاعس؟ للإجابة على ذلك وإيضاح الأسباب والعلاج كانت هذه الكلمة التي أسأل الله أن ينفعني وإياكم بها إنه سميع قريب. إخواني! إن العمل يكون له دافع من حرارة الإيمان، فإذا كان الإيمان ناقصاً بارداً لا يدفع الإنسان للعمل، لقد نادانا الله بوصف المؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا} [النساء:136] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} [آل عمران:102] نادانا بالإيمان لكي ننطلق منه للعمل، ربما لا يكون عندنا الجدية الكافية التي تدفعنا للعمل، جمهور الخطب والدروس ليس كلهم يأتي بنفسية التلقي للتنفيذ.

الصحابة تعلموا لينفذوا

الصحابة تعلموا لينفذوا إن هذا القرآن أنزل للتنفيذ، كان الصحابة رضوان الله تعالى عليهم يتعلمون للتنفيذ، انظر إلى أبي بكر رضي الله عنه، قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (علمني دعاءً أدعو به في صلاتي) وفي رواية لـ مسلم (علمني يا رسول لله دعاءً أدعو به في صلاتي وفي بيتي). يقول أبو برزة للنبي عليه الصلاة والسلام: (يا رسول الله! إني لا أدري لعسى أن تمضي وأبقى بعدك، فزودني شيئاً ينفعني الله به) رواه مسلم. يقول عبد الله بن مسعود: (يا نبي الله! أي الأعمال أقرب إلى الجنة) رواه مسلم. يقول أبو ذر: (يا رسول الله! أي الأعمال أفضل؟ قال: الإيمان بالله والجهاد في سبيله، قلت: أي الرقاب أفضل؟ قال: أنفسها عند أهلها وأكثرها ثمناً، قلت: فإن لم أفعل؟ قال: تعين صانعاً أو تصنع لأخرق الحديث) رواه مسلم. أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا رسول الله! كيف أقول حين أسأل ربي؟ قال: قل اللهم اغفر لي وارحمني، وعافني وارزقني، وجمع أصابعه الأربع إلا الإبهام، فإن هؤلاء يجمعن لك دينك ودنياك) رواه ابن ماجة. للآخرة اغفر لي وارحمني، وفي الدنيا عافني وارزقني، جمع لك خير الدنيا والآخرة في هذا الدعاء. قالت عائشة: (يا رسول الله! أرأيت لو وافقت ليلة القدر ما أدعو؟) كانوا يسألون للتنفيذ. أبو برزة يقول: (يا رسول الله! دلني على عمل يدخلني الجنة أو انتفع به، قال: اعزل الأذى عن طريق المسلمين) رواه الإمام أحمد. جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا رسول الله! علمني عملاً يدخلني الجنة، فقال: لئن كنت أقصرت الخطبة، لقد أعرضت المسألة -جئت بمسألة عظيمة- أعتق النسمة، وفك الرقبة) رواه أحمد. أبو جري الهجيني، قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: (يا رسول الله! إنا قوم من أهل البادية، فعلمنا شيئاً ينفعنا الله تبارك وتعالى به، فقال: لا تحقرن من المعروف شيئاً الحديث) أبو جري يقول: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محتبٍ بشملة له وقد وقع هدبها على قدميه، فقلت: أيكم محمد، أو رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأومأ بيده إلى نفسه عليه الصلاة والسلام، فقلت: يا رسول الله! إني من أهل البادية وفي جفائهم فأوصني، قال: ولا تسبن أحداً، فما سببت بعده أحداً ولا شاةً ولا بعيراً). هو يقول: لا تسبن أحداً، التنفيذ مباشرة، وليس التنفيذ في أول يومين وثلاثة، ثم تنسى، لا، قال: فما سببت بعده أحداً؛ لأنه قال: ولا تسبن أحداً، أنت تلمس يا أخي الصدق من طريقة السؤال. عن عبد الله بن عباس أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا نبي الله! إني شيخ كبير عليل يشق عليّ القيام، فأمرني بليلة لعل الله يوفقني فيها لليلة القدر، قال: عليك بالسابعة) رواه أحمد. كانوا يطلبون ويطلبون المزيد، ومستعدون للتنفيذ. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله! مرني بصيام، قال: صم يوماً ولك أجر تسعة- لأن الحسنة بعشر أمثالها- قلت: يا رسول الله! إني أجد قوة فزدني، قال: صم يومين ولك أجر ثمانية أيام، قلت: يا رسول الله! إني أجد قوة فزدني، قال: فصم ثلاثة أيام ولك أجر سبعة أيام، قال: فما زال يحط لي، حتى قال: إن أفضل الصوم صوم أخي داود أو نبي الله داود صم يوماً وأفطر يوماً) قال عبد الله لما ضعف: [ليتني كنت قنعت بما أمرني به النبي صلى الله عليه وسلم] لكنه استمر إلى آخر حياته؛ لأنه كره أن يغير شيئاً فارق عليه النبي عليه الصلاة والسلام. الصحابة إذاً أيها الإخوة يتعلمون ليعملوا، أبو فاطمة قال: (يا رسول الله! أخبرني بعمل أستقيم عليه وأعمله، قال: عليك بالسجود، فإنك لا تسجد لله سجدة؛ إلا رفعك الله بها درجة وحط بها عنك خطيئة). إذاً لابد أن يكون عندنا مفهوم العلم للعمل، والتلقي للتنفيذ، نريد أن نقرأ المصحف، وننفذ ما قال الله عز وجل؛ لأن الأوامر لنا وليست لغيرنا، ثم إن التنفيذ يزيدنا خيراً وثباتاً، قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} [النساء:66] العمل يثبت الإنسان.

أسباب عدم تطبيق ما تعلمناه

أسباب عدم تطبيق ما تعلمناه عندنا -يا إخواني- ضعف في تربيتنا؛ في صياغة شخصياتنا، المقومات المطلوبة في الشخصية الإسلامية فيها نقص عندنا بسبب ضعف التربية، في البيت، في المدرسة، في كل مكان، يوجد ضعف في التربية، قد يوفق الإنسان لمكان طيب يتربى فيه، قد يزرق أبوين صالحين، وقد يكون أبواه من عامة الناس، وكذلك في المدرسة قد يوفق بمدرسين طيبين، وقد يكون المدرسون عاديين، لا يقدمون له شيئاً كبيراً، وهكذا المنكرات المبثوثة ينتج عنها وسط يتربى فيه الإنسان بضعف، بل ربما يتربى على آلة اللهو وأدواته، ولذلك يحصل عندنا ضعف في الشخصية ينعكس على درجة التنفيذ.

عدم معرفة الأجر

عدم معرفة الأجر يمكن أن يكون عدم معرفة الأجر يؤدي إلى ضعف التطبيق، لو كنا نعرف الأجر لطبقنا، لكن بسبب عدم معرفتنا بالأجر لا نتحمس، لماذا ذكر الله لنا الأجور، وبين لنا أشياء كثيرة في القرآن والسنة؟ حتى نعمل. لو قيل لك: لو فعلت كذا تأخذ ترقية أو نرفعك درجة ورتبة، فإنك تتحمس للعمل، نعطيك ألفاً تتحمس للعمل، أجور كثيرة مذكورة في القرآن والسنة تحمسنا للعمل، ينبغي علينا أن نفكر في هذه القضية، كل حرف بعشر حسنات من القرآن الكريم، كم حرفاً في القرآن؟ أكثر من ثلاثمائة ألف حرف، اضرب في عشرة، ثلاثة مليون حسنة وأكثر، والله يضاعف لمن يشاء وكذلك في الصدقات. من قام الصبح والعشاء في جماعة فكأنما قام الليل كله، وكأنما قام نصف الليل، وهناك أعمال الذي يعملها يغفر له ما تقدم من ذنبه، كما قال عثمان بن عفان بعدما توضأ فأحسن الوضوء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه، غُفر له ما تقدم من ذنبه) رواه البخاري. وضوء جيد بركعتين مع الخشوع يغفر لك ما تقدم من ذنبك. وربما بعض الناس يظن أن غفران ما تقدم من الذنب لا يتم إلا بأشياء صعبة وعسيرة جداً، وليس الأمر كذلك، تأمل معي الحديث التالي: عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أمَّن الإمام فأمنوا، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة، غُفر له ما تقدم من ذنبه). وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قال أحدكم: آمين، وقالت الملائكة في السماء: آمين، فوافقت إحداهما الأخرى، غُفر له ما تقدم من ذنبه) رواهما البخاري. فمتى تقول الملائكة: آمين؟ إذا قال الإمام: آمين، فإذا طابق تأمينك تأمين الملائكة، غُفر لك ما تقدم من ذنبك. وعن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أكل طعاماً، فقال: الحمد لله الذي أطمعني هذا ورزقنيه من غير حولٍ مني ولا قوة، غُفر له ما تقدم من ذنبه) رواه الترمذي وحسنه، على ذكر تقوله بعد طعام. ولذلك ينبغي علينا إذا كان في قلوبنا حياء أن نتحسر لفوات الأجر، يقول عمرو بن سعد بن أبي وقاص، وكان قاعداً عند عبد الله بن عمر رضي الله عنه: (إذا طلع خباب صاحب المقصورة، فقال: يا عبد الله بن عمر! ألا تسمع ما يقول أبو هريرة؟ إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من خرج مع جنازة من بيتها وصلى عليها، ثم تبعها حتى تدفن، كان له قيراطان من الأجر كل قيراط مثل أحد، ومن صلى عليها ثم رجع، كان له من الأجر مثل أحد، فأرسل ابن عمر خباباً إلى عائشة يسألها عن قول أبي هريرة ثم يرجع إليه فيخبره ما قالت، وأخذ ابن عمر قبضة من حصباء المسجد يقلبها في يده -ينتظر على أحر من الجمر ماذا سيرجع به خباب من عائشة - حتى رجع إليه الرسول، فقال: قالت عائشة: صدق أبو هريرة، فضرب ابن عمر بالحصى الذي كان في يده الأرض، ثم قال: لقد فرطنا في قراريط كثيرة) رواه مسلم. وجاء في رواية أخرى لـ مسلم كان ابن عمر يصلي على الجنازة ثم ينصرف، فلما بلغه حديث أبي هريرة أنك إذا تبعتها إلى المقبرة ودفنت، كان لك قيراط، والقيراط: مثل جبل أحد قال: لقد ضيعنا قراريط كثيرة. رواه مسلم.

الإعراض عن المستحبات والتقصير في الواجبات

الإعراض عن المستحبات والتقصير في الواجبات بعض الناس لا يريد أن يطبق إلا الواجهة، من ضعف التطبيق تطبيقه لا يمتد إلى المستحبات، قصور في الواجبات وإعراض عن المستحبات، أليس في المستحبات أجر؟ نعم هي ليست واجبة، تركها لا تأثم به، لكن هل أنت مستغن عن الأجر؟ لماذا تضاءلت عندنا مكانة السنن والمستحبات؟ بعض الشباب يكون في أول التزامه بالدين متحمساً يريد أن يطبق كل صغيرة وكبيرة، فتراه لا يشرب قائماً، يهتم بالسترة في الصلاة ونحو ذلك، ثم تراه ضعف عن هذه الأشياء، وإذا ناقشته يقول: هناك أولويات، نعم هناك أولويات، لكن هذه الأشياء التي تأتي بعد أليس لها نصيب عندك من العمل؟ لماذا الإهمال في السنن؟ لماذا الزهد في المستحبات؟ أين الصحابة الذين كانوا يعلمون السنة ويحرصون على تطبيقها؟ عن زياد بن جبير قال: رأيت ابن عمر رضي الله عنهما أتى على رجل قد أناخ بدنته لينحرها، أناخها في الأرض، والسنة في النحر أن تكون قائمة، فقال ابن عمر رضي الله تعالى عنه: ابعثها قياماً مقيدة -معقولة الرجل اليسرى- سنة محمد صلى الله عليه وسلم، رواه البخاري. من كلام الصحابي تحس بالوفاء بالسنة، وأنه محافظ عليها إلى آخر العمر. عن أبي رافع قال: صليت مع أبي هريرة العتمة، أي: العشاء، فقرأ: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق:1] فسجد، فقلت بعد الصلاة: ما هذه؟ قال: سجدت بها خلف أبي القاسم صلى الله عليه وسلم، فلا أزال أسجد بها حتى ألقاه. رواه البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه.

سوء الوسط الموجود فيه الإنسان

سوء الوسط الموجود فيه الإنسان من أسباب عدم التنفيذ وقلة التطبيق: الوسط الموجود فيه الإنسان، قد يكون في وسط لا يوجد فيه قدوات، البيئة التي يعيش فيها التطبيق فيها قليل، الموجودون يغلب عليهم الجدل لا العمل، الوسط الذي يحيط بك في غاية الأهمية، غيِّر وسطك إذا كان فاسداً أو ميتاً غيَّره تنطلق، انتقِ الحي، القالب غالب، والصاحب ساحب، الصحبة والقدوة مهمة جداً خصوصاً في هذا الزمان الذي عمَّ فيه الفساد العظيم، لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه، غلبت المعصية على الناس والجيران والأقرباء، أطبقت علينا الوسائل المفسدة بالموجات من كل مكان، في الأجواء والفضاء والأرض، غزتنا مسموعة ومرئية ومقروءة. وعاش كثير منا في بلاد الغرب، وعاش بعضنا بين أناس مستغربين من أبناء المسلمين، أجسادهم في الشرق وقلوبهم في الغرب، لقد أصبحت المحرمات جزءاً من حياة بعض الناس العادية اليومية، كل يوم مليء بالمحرمات، تأثرنا ببعض المحرمات التي تراكمت علينا، ومع تقدم السن بقيت هذه المحرمات التي نشأنا عليها. وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عود أبوه هذا تعليل وتفسير وليس بتبرير، أي: لا نقول: والله يا أخي! مادام أنك نشأت على معصية فأنت معذور، كلا، أنت مسئولٌ عن التغيير، تأثير البيئة على الإنسان لا يمكن أن ينكر، قال تعالى: {وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ} [النمل:43] صدها عن الله تعالى أنها كانت في قوم كافرين، ولذلك كانت مشركة وكافرة، فتأثرت رغم رجاحة عقلها وذكائها، فكفرت، ثم لما جاءت إلى سليمان عليه السلام أسلمت. ولذلك يا إخواني! ننادي دائماً بأهمية الوسط الطيب، والصحبة الصالحة، والرفقة الحسنة، قال الله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف:28] اصبر أي: احبس نفسك مع الذين يدعون ربهم، هؤلاء قوم اتصفوا بالإخلاص، وعملهم مستمر بالغداة والعشي، ليس فقط في المسجد، يدعون ربهم بالغداة والعشي، وعندهم إخلاص يريدون وجهه {وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:28] لا ملاعب ولا ملاهي ولا مراكب ولا سفريات ولا سياحات ولا مسلسلات: {وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:28] ثم حذر الله من قرين السوء، فقال: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف:28]. كان الصحابة وسطاً جميلاً جليلاً عظيماً يعيش فيه الناس يتربون ويتأثرون، أبو موسى يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين -قومٌ من أهل الإيمان قدموا من اليمن - بالقرآن حين يدخلون بالليل، وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل وإن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار) رواه البخاري. والرفقة: الجماعة المترافقون. حين يدخلون بالليل: قال ابن حجر في فتح الباري: المراد يدخلون منازلهم إذا خرجوا إلى المسجد أو إلى شغل ثم رجعوا. بالقرآن: أي برفع أصواتهم بالقرآن، وفيه أن رفع الصوت بالقرآن مستحسن، لكن محله إذا لم يؤذ أحداً وأمن من الرياء. أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام يقول كعب: أنه وجد صفتهم موجودة ومكتوبة في الكتب المتقدمة، الحمادون يكبرون الله عز وجل على كل نجد- أي: على كل مرتفع- ويحمدونه في كل منزلة، يتأزرون على أنصافهم، ويتوضئون على أطرافهم، مناديهم ينادي في جو السماء، صفهم في القتال وصفهم في الصلاة سواء، لهم بالليل دوي كدوي النحل. رواه الدارمي كان التابعي ينزل البلد بعد السفر، يتوجه إلى المسجد، ويقول: اللهم إني أسألك جليساً صالحا، اللهم هيئ لي جليساً صالحا. لذلك كل واحد في بيئته فساد، وعنده رفقه سوء لابد أن يتركها ويغادرها، مثلما نصح العالم الصالح قاتل المائة أن يترك بلده التي عمل فيها الجرائم؛ لأن فيها أناساً من أهل السوء يعينونه على السوء، ويذهب إلى قرية كذا وكذا، فإن فيها أناساً يعبدون الله فاعبد الله معهم. إذاً غير بيئتك لتنطلق في عمل الصالحات، تاريخ جديد وحياة جديدة ورؤية جديدة، وأناس يذكرون بالصالحات، بدلاً من أناس رؤيتهم تذكر بالمعاصي: (مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافح الكير) وبعض الناس يقول: تعودت عليه، وهو زميلي من الابتدائية، ودرسنا مع بعض، كنا جيران عشرين سنة، وما معنى هذا إذا كان رجلاً سيئاً؟ مهما كانت العشرة والصحبة ينبغي أن تتركه لله بعد أن تنصحه، وإذا لم تجد النصيحة فاترك هذا القرين، واذهب إلى أهل الصلاح وإلى أهل الخير، هاجر إليهم في سبيل الله. بعض الناس يقول: أهلي وأهل زوجتي وبيئة العمل، هناك أوساط ممكن نخرج منها، وهناك أوساط لا يمكن أن نخرج منها، أهلك لو كان فيهم فساد أو في بيئتهم شر، أنت لا تستطيع أن تقطع العلاقة بالكلية، أهل زوجتك كذلك، العمل الذي أنت تعمل فيه إذا لم تستطع أن تغيره وما وجدت عملاً آخر، هنا لابد أن نقاوم، لابد أن يكون عندنا مقاومة ومناصحة وتسديد ومقاربة، نناصح ونقاوم هذا مهم جداً، بعض الناس ينصحون ولا يقاومون، وبعض الناس يسكتون ولا ينصحون، لابد أن ننصح ونقاوم ونسدد ونقارب، نحاول ألا يصل إلينا ولا إلى أولادنا شر، ونقلل من الاحتكاك ما أمكن في الوسط الذي لا يمكن أن ننفك عنه.

العمل في بيئات محرمة

العمل في بيئات محرمة وبعض الناس يعملون في بيئاتٍ العمل فيها محرم، يؤثر على التطبيق والتنفيذ، يختاره لجاذبيته المالية، ويقول: علي ضغوط اقتصادية، واحد يعمل في عمل فيه نساء وفتنة، أو في مكان ربوي، ويقول: لا أستطيع أن أترك الوظيفة في هذا الزمان، ومن أين أجد عمل؟ نقول: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} [الطلاق:2] هذا فعل شرط مرتب عليه جواب شرط {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} [الطلاق:2] وليس الاتقاء فقط في ترك هذا العمل، بل في ترك كل المحرمات، حتى يحدث الموعود به {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} [الطلاق:2]. بعض الناس يقول: يا أخي! زحمة المكان ما تركت لنا مكاناً، ووقت للتطبيق والتنفيذ كله عمل في عمل، وعمل وراء عمل، طبيعة عملنا مرهقة، نقول: هل تعجز عن تطبيق وصية النبي عليه الصلاة والسلام، وهي قوله: (لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله) مهما كان عملك فيه أشغال كثيرة ومتوالية، لا يزال لسانك رطباً بذكر الله، لا يمكن أن تطبق هذا الحديث.

خلل في التطبيق

خلل في التطبيق بعض الناس قد يوجد عنده خلل في التطبيق، أو توقف عن التنفيذ، أو تباطؤ نتيجة لعدم الوضعية في التطبيق، كأن يكون قد هجم في التزامه بالإسلام هجوماً على هذه العبادات والنوافل والمستحبات، فعمل عملاً كبيراً لا يطيقه، فجأة صعد صعدة واحدة أضرت بنفسه، لم يوافق السنة في العمل بالسنن والمستحبات، هنا قد يحدث كلل وملل، وبالتالي يحدث انقطاع، لذلك عبد الله بن عمرو رضي الله عنه لما بلغ النبي عليه الصلاة والسلام أنه يعمل أعمالاً كبيره قد لا يطيقها، قال صلى الله عليه وسلم ينصحه نصيحة مربٍ: (ألم أخبر -لاحظ يريد أن يتأكد ويتثبت- أنك تقوم الليل وتصوم النهار، قلت: إني أفعل ذلك، قال: فإنك إذا فعلت ذلك هجمت عينك ونفهت نفسك، وإن لنفسك حقاً ولأهلك حقاً، فصم وأفطر وقم ونم) رواه البخاري رحمه الله. هجمت عينك أي: غارت أو ضعفت من كثرة السهر، نفهت نفسك أي: ملت وكلت، فذكر أن لنفسك عليك حقاً، لابد أن تنام جزءاً من الليل، لابد أن تفطر بعض الأيام لتحافظ على جسمك، فإن لجسدك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، ولزوارك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه، صم وأفطر. لا حظوا أن النبي عليه الصلاة والسلام حث على ملازمة العبادة، لم يقل: توقف، ولكن قال: اقتصد، بعض الناس إذا رأى شخصاً عنده عبادات كثيرة، قال: يا أخي! هكذا ستقود نفسك إلى المهلكة، توقف عن كل الأنشطة، ليس بصحيح. قال ابن حجر رحمه الله: من فوائد هذا الحديث: أن من تكلف الزيادة على ما طبع عليه، يقع له الخلل في الغالب، قال: وفيه الحث على ملازمة العبادة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم مع كراهته له التشديد على نفسه حثه على الاقتصاد، كأنه قال له: ولم يمنعك اشتغالك بحقوق من ذكر أن تضيع حق العبادة، وتترك المندوب جملة، ولكن اجمع بينهما، وفي الحديث أن الإنسان إذا كلف نفسه أكثر مما يطيق توقف عن التطبيق، إن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى.

الرضا بالدون والتواضع السيئ

الرضا بالدون والتواضع السيئ بعض الناس عندهم خلل في التطبيق وتباطؤ وامتناع؛ لأنهم يتواضعون تواضعاً سيئاً ويرضون بالدون، فيقول: أنا لست عالماً، ولا شيخاً ولا إماماً، ولا خطيباً ولا داعية ولا قدوة، ولا يشار إلي بالبنان، ما أنا إلا واحداً من عامة الناس، فلست مطالباً بمستويات عالية من العبادة أو الزهد أو العلم، من الذي سيسألني ويتلقى عني ويتأثر بي؟ ولذلك لما تطيح الهمة؛ فعند ذلك يكون التطبيق مهلهلاً فعلاً. وبعض الناس همته القاصرة هذه، ستطيح بتنفيذه وتطبيقه، ولكن أنت اعمل لله، رآك أحد أو لم يراك أحد، اقتدى بك أحد أو لم يقتد بك أحد، أنت تعمل لله وابتغاء مرضات الله.

الخوف من انتقاد الناس

الخوف من انتقاد الناس وبعضهم لا يطبق ما تعلمه، بسبب خوف انتقاد الناس له وكلامهم فيه، سيقولون عني متزمت، متشدد، مجنون، فلما جعل رضا الناس غايته ترك أعماله، وربما وقع في محرمات، لو جعل رضا الله غايته لكان انطلق في العمل، دع عنك كلام الناس فليقولوا عنك ما يريدون أن يقولوا، إذا أرضيت الله سيرضي الله الناس عنك، وهذه مسألة مهمة، لا يصلح أن يكون عندنا هزيمة نفسية، أين عزة المسلم؟ بعض الأشخاص قد يستهزئ به لصلاته أو لعبادته، إذا قعد يقرأ القرآن، قالوا: مراءٍ، يريد أن يراه الناس، ما عليك من كلام الناس، قالوا ذلك أو لم يقولوا اعمل، وكذلك لو قالوا: هذا متزمت ومتشدد، فيقولوا ما يريدون أن يقولوا؛ لأن غرضك هو إرضاء الله عز وجل.

ضعف التصديق بالجنة والنار والحساب

ضعف التصديق بالجنة والنار والحساب أحياناً يكون مستوى تصديقنا بالجنة والنار فيه ضعف، ومستوى إيماننا بالحساب فيه نقص، ولذلك نستغرب أحياناً كيف تصدق أبو بكر بكل ماله؟ وكيف تصدق عمر بنصف ماله؟ ما الذي دفعهم إلى هذا المستوى العالي من التطبيق والتنفيذ؟ كل المال ما ترك لنفسه شيئاً، ونصف المال والمدخرات! افترض الآن أن عندك في البنك ثروات، تأخذ كل الرصيد وتتصدق به أو نصفه، ما هو الدافع لمثل هذا العمل؟ الدافع قضية الإيمان بالجنة والنار والحساب وما أعد الله للمتقين، لو كان مستوى الإيمان عالياً لرأيت تطبيقاً عظيماً [لئن أنا عشت حتى آكل هذه التمرات، إنها لحياة طويلة] ألقى التمرات وقام يقاتل فقتل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض) لما وقعت هذه الكلمات في نفس ذلك الصحابي موقعاً حسناً، لقيت قبولاً وإيماناً؛ فقام مباشرة وألقى التمرة وتقدم فقاتل وقتل، وصل إلى الجنة وانتهت المشكلة، كل الأحلام والأماني تحققت.

ضعف الارتباط بالقرآن والسنة

ضعف الارتباط بالقرآن والسنة أحياناً يكون ضعف الارتباط بالقرآن والسنة سبباً في عدم التطبيق أو التباطؤ فيه، لماذا بكت أم أيمن لما زارها أبو بكر وعمر؟ ما بكت لأنها تريد أن يبقى النبي عليه الصلاة والسلام في الدنيا، هي تعلم أن ما عند الله خير لرسول الله، لكنها بكت لأن الوحي قد انقطع، وهي تريد مزيداً من الوحي. كانت قلوبهم حية ومتصلة بالوحي.

التعلق بأحاديث الرجاء وعدم الخوف من الله

التعلق بأحاديث الرجاء وعدم الخوف من الله عندنا يا إخوان مشكلة أخرى، هي مشكلة في الإرجاء والتعلق بأحاديث الرجاء، وعدم الالتفات إلى الخوف من الله، لو سألت الواحد فينا ماذا تؤمل يوم القيامة؟ يقول: آمل الجنة، وأظن أن الله سيرحمني ويغفر لي، والجنة إذا نحن لم ندخلها فمن سيدخلها؟ ألكفار؟ فنقول: وما أدراك لو دخلتها، هل ستمر على النار قبل دخولها؟ {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً} [مريم:71] قطعاً كل واحد فينا سيرد النار مائة في المائة {كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً} [مريم:71] ليس فيها كلام، لكن ليس عندنا وعد أننا سننجو، قال الله تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} [مريم:72]. مشكلتنا أننا دائماً نقول: إن الله غفور رحيم، وننسى أن الله شديد العقاب: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر:49 - 50] نحن نتذكر جيداً قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} [الزمر:53] لكننا قد لا نتذكر قوله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} [النساء:123] قالوا عن: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} [الزمر:53] أرجى آية في كتاب الله، وفي قوله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} [النساء:123] أخوف آية في كتاب الله، وكذلك: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47].

مفهومات خاطئة

مفهومات خاطئة بعض الإخوان عندهم مفهومات خاطئة تقود إلى التباطؤ في التنفيذ، يقول: لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، ظروفي لا تسمح، لا أستطيع، لا أطيق، وقد لا يكون صادقاً في دعواه، يستشهدون بالآيات، أمرنا بالجهاد وفيه قتل نفس، هل ممكن واحد يقول: لا أستطيع، هذا فيه قتل نفس، نقول: أمرت لابد أن تنفذ، وبعض الإخوان هداهم الله إذا وقع في بعض المحرمات، قيل له: ألا تنتهي ألا تكف؟ يقول لك: في المسألة خلاف، والمسألة فيها سعة، وبعض الناس حللوها، والدين فيه فسحة، وهكذا يقعد يترخص لنفسه ويجمع الرخص؛ المشايخ اختلفوا، والفتاوى تضاربت. أولاً: قضية المسألة فيها خلاف، هل نعي أنه ليس كل خلاف صحيح وسائغ، وأن هناك أقوالاً باطلة؟ وليس كل خلاف جاء معتبراً إلا خلافٌ له حظٌ من النظر ليس كل خلاف سائغ، ثم لا يحق للعامي أن ينتقي من الأقوال على ما يشتهي وعلى حسب هواه، لابد أن يسأل أهل العلم ويقلد مادام عامياً، فإذا قال له المفتي الثقة: امتنع، يمتنع، وإذا قال له: يجوز، يجوز، هل طبق قول الله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]؟ ثم بعضهم قد يقول: سألت فلاناً فلم يعطني جواباً يعجبني، فيذهب ويسأل واحداً آخر، وبعض الناس مع الأسف يكون ممتنعاً عن محرم معين، فيسمع شيخاً قال يوماً من الأيام: إنه يجوز، فيأتي الشيطان يقول له: هذا فلان أفتى بالجواز، كأنه باب فتح له، وشيء ينتظره، قال: انحلت فقد أفتى فيها فلان، أليس هناك شيء اسمه زلة العالم؟ قد يزل العالم، ثم أين الاعتناء والحرص على الدليل الذي يبين لك الزلة والمقارنة بأقوال أهل العلم؟ أيها الإخوة! إننا لا نستطيع أن نخادع الله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} [البقرة:9].

طول الأمل

طول الأمل لابد أن نعلم أيضاً أن طول الأمل ينسينا ويطغينا ويرجئ التنفيذ عندنا، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يونس:7 - 8]. أيها الإخوة! إن مسألة سوف، ولعل، وسنطبق بعد ذلك قد أساءت إلينا كثيراً، كلما جاء طارق الخير صرفه بوَّاب لعل وعسى، الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (اغتنم فراغك قبل شغلك) (بادروا بالأعمال) وقال الله قبل ذلك: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران:133] وهذا يعني أنك تعمل الآن ولا تدري ماذا سيحدث لك في المستقبل.

جعل الصلاح كلا لا يتجزأ

جعل الصلاح كلاً لا يتجزأ ومن الشبهات التي تؤجل التنفيذ وتمنعه عند البعض: أنه يجعل الصلاح كلاً لا يتجزأ، ويقول: إما التزام كامل أو لا التزام، أما نصف التزام فلا، وهذه مصيبة، وخدعة شيطانية كبيرة؛ فمن منا لا يقصر؟ فما دام التقصير حاصل، فإذاً سيقول لنفسه: أنا في حل الآن، ولا داعي للخداع مع نفسي، مادام أنني لست متديناً تديناً كاملاً، فلا يلزمني أن أفعل هذا وهذا، سأدعه كله، يا أخي افعل وطبق ما تستطيع، ولو كان فيك تقصير فاحرص على الطاعات الأخرى، بعض الناس يمكن أن يمتنع عن معاصي؛ لأن نفسه ليست متعلقة بها تعلقاً شديداً، ويقع في معاصي؛ لأن نفسه متعلقة بها تعلقاً شديداً، أيهما أسوأ هذا أم الذي يقع في كل المعاصي، ويقول: مادام وقعنا في الأولى نقع في الثانية أيهما أشد عذاباً؟ ثم لو عملت وطبقت الصالحات فإنها ستنهاك عن المعاصي، وستؤجر على الطاعات، وسترجح كفة حسناتك يوم القيامة. أحياناً يبتلى الإنسان بزوجة جاهلة مفرطة -ربما يكون عندنا قصور في التصور الإسلامي الصحيح- تجره إلى تنازلات وإلى منع من الخيرات، أحدهم رجع بعد خطبة الجمعة متأثراً، الخطيب كان يتكلم عن إسبال الثوب، وأنه لا يجوز، والوعيد الذي جاء فيه، فقال لزوجته: قصري لي ثيابي، فقالت له: لما تصلي في المسجد؛ تعال اقصر لك الثياب، المسكين أفحمته ولم يستطع أن يرد عليها من جهله ومن جهلها أيضاً، إذا أنت تستطيع أن تنفذ شيئاً الآن لماذا لا تنفذه؟ نفذ ولا تقل أبداً: عندي معاصي أخرى، وهذا ينفعك عند الله. وقد يكون عندنا أيها الإخوة استهانة بالصغائر، لا تنظر إلى صغر المعصية وانظر إلى من عصيت، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: [إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه في أصل جبل يخاف أن تقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه، فقال به هكذا وهكذا، فطار] رواه الترمذي رحمه الله تعالى.

عدم وجود قناعة في الالتزام بالإسلام

عدم وجود قناعة في الالتزام بالإسلام كثيراً ما تكون عدم وجود القناعة في الالتزام بالإسلام مانعاً من التطبيق، فبعض الناس يقول: عليَّ ضغوط ولا أستطيع أن أنفذ. يا أخي قاوم، بعض الناس يقنع بالتحسن التدريجي، يقول: أنا سأضع خطة خمسية للالتزام بالإسلام، يمكن تموت في السنة الثالثة أو الرابعة، من أعطاك ضماناً بأنك ستعيش حتى تنفذ كل الخطة. إذاً يا إخوان! لا يصح أبداً أن نقبل خداع أنفسنا لأنفسنا، خداع النفس بالنفس مصيبة كبيرة، بعض الناس يتخيل أنه لا يمكن أن يفارق منكراً من المنكرات، وإذا قيل له: جهاز اللهو هذا الذي وضعته في بيتك، يقول: ما هو البديل؟ وإذا أخرجته كيف سأصرف وقتي؟ وماذا سيقول عني الناس وأهلي وأولادي وزوجتي؟ ويضخم القضية وفي النهاية يترك تنفيذ الحكم الشرعي، سبحان الله! وبعض الناس يقول: أريد أن أتدرج في تخفيف المنكر، ثم يبقى فترة طويلة من الزمن ولا يتخلص من المنكر، الشيطان يضخم المشكلة التي تنتج عن ترك الحرام، ويضخم العوائق، توكل على الله وأخرج المنكر والله يعينك، وينزل معونته على قدر مئونتك، وستشعر مع التنفيذ بحلاوة، وسيعينك الله على مواجهة الانتقادات، وعلى الصبر على الأذى، ويرتفع إيمانك وترزق حلاوة له، وعند ذلك تستطيع المقاومة والصمود والاحتمال، ثم أنت لو فشلت، على الأقل أنت خضت التجربة، وبذلت محاولة، أليس خيراً ممن لا يبذل شيئاً؟ أيها الإخوة! الشيطان حريص على أن يصرفنا عن تنفيذ الأعمال وتطبيق ما تعلمناه، منية الشيطان ألا ننفذ، عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خصلتان، أو خلتان لا يحافظ عليهما رجل مسلم إلا دخل الجنة، هما يسير ومن يعمل بهما قليل، تسبح الله عشراً، وتحمد الله عشراً، وتكبر الله عشراً في دبر كل صلاة، فذلك مائة وخمسون باللسان، وألف وخمسمائة في الميزان، وتسبح ثلاثاً وثلاثين، وتحمد ثلاثاً وثلاثين، وتكبر أربعاً وثلاثين، إذا أخذ مضجعه، فذلك مائة باللسان وألف في الميزان، فأيكم يعمل في اليوم ألفين وخمسمائة حسنة؟ قالوا: يا رسول الله! كيف هما يسير ومن يعمل بهما قليل؟ قال: يأتي أحدكم الشيطان إذا فرغ من صلاته فيذكره حاجة كذا وكذا، فيقوم ولا يقولها- السيارة واقفة خطأ اطلع بسرعة، ينتظرونك في البيت، الآن يأتي فلان ولا يجدك قم بسرعة- فإذا اضطجع - أي: للنوم- يأتيه الشيطان فينومه قبل أن يقولها، فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعقدهن في يده) رواه الإمام أحمد. وفي رواية لـ ابن ماجة، قال: (يأتي أحدكم الشيطان وهو في صلاته، يقول: اذكر كذا وكذا، حتى ينفك العبد لا يعقل، ويأتيه وهو في مضجعه، فلا يزال ينومه حتى ينام) إذاً الشيطان يأتي يهدهد على الإنسان يريد أن ينومه بسرعة قبل أن يقول الأذكار، ولذلك هناك ناس فعلاً، يقول: والله يا أخي أني أحاول أن أقول الأذكار قبل النوم، وأنا أعرف أن هذا ذكر عظيم، سبحان الله ثلاثاً وثلاثين، والحمد لله ثلاثاً وثلاثين، والله أكبر أربعاً وثلاثين قبل النوم، لكن ما أن أضع رأسي على الوسادة إلا وأذهب في الشخير والنوم العميق، لاحظ الحديث يقول: (فلا يزال ينومه حتى ينام) فإذا تسلح الإنسان بالإرادة والعزيمة والتوكل على الله؛ طبق ونفذ ولم يجعل للشيطان عليه سبيلاً.

عدم الإحساس بقيمة المعلومة

عدم الإحساس بقيمة المعلومة هنا مسألة مهمة في قضية التنفيذ والتطبيق وهي: الإحساس بقيمة المعلومة، كان الواحد من السلف عندما يأخذ معلومة أو حديثاً أو آية، وعندما يأخذ حكماً شرعياً، يحس أنه عثر على كنز ثمين وصيد وفير، ولذلك يقدر القضية حق قدرها وينفذ، لكن نحن اليوم نسمع العشرات من المعلومات، لكن لا نحس أننا قد حصلنا على شيء كثير، مثل هذه المعلومة مثلاً: يسبح الله قبل النوم ثلاثاً وثلاثين، ويحمد الله ثلاثاً وثلاثين، ويكبر أربعاً وثلاثين، عددها مائة، أي: ألف حسنة. هل تظن أننا عندما تصل إلينا هذه المعلومة أنها في نفوسنا شيء عظيم جداً، وأننا قد حصلنا كنزاً عظيماً، أم أن المسألة عادية؟ وهذا سر من أسرار التلكؤ أو عدم التنفيذ، أننا لا نقدر المعلومة حق قدرها. كان بعض المحدثين لا يكثر من التحديث، يعطي الطالب في اليوم ثلاثة أحاديث يمليها عليه فقط، ليتمكن من العمل، ويقول للسائل: هل عملت بالذي أمليت عليك أمس؟ فإذا قال: لا. يقول: فلماذا تستكثر من حجج الله علينا وعليك؟

علاج عدم التطبيق: التفكر في أحوال السلف

علاج عدم التطبيق: التفكر في أحوال السلف إن من العلاجات العظيمة أيها الإخوة: أن نفكر كيف كان السلف ينفذون، نتأمل في تلك القصص، يقول المروذي: قال لي أحمد رحمه الله: ما كتبت عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثاً - مسند الإمام أحمد فيه حوالي أربعين ألف حديث، والمطبوع فيه تقريباً سبعة وعشرين ألف حديث- يقول: ما كتبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم حديثاً إلا وقد عملت به، حتى مر بي في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم، وأعطى أبا طيبة ديناراً للحجام، فأعطيت الحجام ديناراً حين احتجمت. والدينار أربع غرامات وربع، وسعر الغرام في السوق ستة وثلاثين وخمسة وثلاثين وكان أربعين من قبل وأكثر، فالإمام أحمد احتجم وأعطى الحجام ديناراً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الحجام ديناراً. واستأذن الإمام أحمد رحمه الله زوجته في أن يتخذ أمة طلباً للاتباع، فأذنت له، فاشترى جارية بثمن يسير وسماها ريحانة استناناً بالرسول صلى الله عليه وسلم. كان أبو داود السجستاني في النهر، فسمع رجلاً قد عطس وحمد الله، فاستأجر قارباً وذهب إلى الرجل وشمته، قال: يرحمك الله. استأجر قارباً ليصل إلى هذا العاطس ويشمته ليطبق السنة، كله الحرص على التنفيذ وعلى التطبيق، هذا حالهم، أولئك آبائي فجئني بمثلهم، هؤلاء قدواتنا ينبغي أن نقتدي بهم.

أقوال السلف في الحث على تطبيق العلم

أقوال السلف في الحث على تطبيق العلم إن العلماء أيها الإخوة قد ذكروا حرص طالب العلم على تطبيق العلم، والخطيب البغدادي رحمه الله له كتاب اسمه اقتضاء العلم العمل، يقول فيه: العلم شجرة والعمل ثمرة، وليس يعد عالماً من لم يكن بعلمه عاملاً، العلم والد والعمل مولود، العلم مع العمل والرواية مع الدراية، فلا تأنس بالعمل إذا كنت مستوحشاً من العلم، ولا تأنس بالعلم إذا كنت مقصراً في العمل، ولكن اجمع بينهما. ثم قال رحمه الله تعالى: فإن الله سبحانه وتعالى قال: {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} [آل عمران:187] قال بعض السلف: تركوا العمل به، وأول من تسعر بهم النار يوم القيامة الذين لا يعملون بعلمهم، وكذلك فإن من الذين تسعر بهم النار، رجل آتاه الله القرآن وعرَّفه تلك النعمة فعرفها، قال: ما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وقرأت القرآن وعلمته فيك، فقال: كذبت، إنما أردت أن يقال: فلانٌ قارئ، فقد قيل، فأمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. قال الناظم: وعامل بعلمه لم يعملن معذب من قبل عباد الوثن قوم يوم القيامة تقرض شفاههم بمقاريض من نار، من هؤلاء يا جبريل؟ قال: خطباء من أمتك الذين يقولون ولا يفعلون، ويقرءون كتاب الله ولا يعملون. الإنسان يسأل يوم القيامة عن علمه ماذا عمل فيه، وكذلك فإن أبا الدرداء رضي الله عنه قد قال: [إنما أخاف أن يكون أول ما يسألني عنه ربي أن يقول: قد علمت فما عملت فيما علمت]. حسن موقوف عليه. وكان بعض السلف يقول: أخشى ألا تبقى آية في كتاب الله تعالى آمرة أو زاجرة إلا جاءتني تسألني فريضتها، فتسألني الآمرة هل ائتمرت، والزاجرة هل ازدجرت، فأعوذ بالله من علم لا ينفع ومن نفس لا تشبع. كان فتىً يختلف إلى أم المؤمنين عائشة يسألها ويكثر السؤال، فقالت: [يا بني! هل عملت بما سمعت مني؟ فقال: لا والله يا أماه، فقالت: يا بني! فلم تستكثر من حجج الله علينا وعليك؟] قال وهب بن منبه: مثل من تعلم علماً لا يعمل به، كمثل طبيب معه دواء لا يتداوى به. لماذا حصلت البركة عند الأولين؟ لأنهم كانوا يأخذون عشر آيات لا يتجاوزنها حتى يعملوا بما فيها، ولذلك تعلموا العلم والعمل جميعاً. قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: [يهتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل]. الإمام أحمد جاءه شاب يطلب الحديث، لما لاحظ عليه الإمام أحمد أنه لا يقوم الليل، قال: أف لطالب حديث لا يقوم الليل. قال خلاد: أتيت سفيان بن عيينة، فقال: إنما يأتي بك الجهل لا ابتغاء العلم، لو اقتصر جيرانك على علمك لكفاهم، ثم كوم كومة من بطحاء، ثم شقها بإصبعه، ثم قال: هذا العلم أخذت نصفه، هل استعملته؟ ولذلك إيانا وخدعة جمع العلم ثم نعمل، قال حفص بن حميد: دخلت على داود الطائي أسأله مشكلة وكان كريماً، فقال: أرأيت المحارب إذا أراد أن يلقى الحرب، أليس يجمع آلته؟ فإذا أفنى عمره في الآلة فمتى يحارب؟ إن العلم آلة العمل، فإذا أفنى عمره في جمعه، فمتى يعمل؟ أيها الإخوة! إن مخالفة العلم للعمل خطيرة جداً، هناك واحد في النار يجاء به يدر بأقتاب بطنه كما يور الحمار بالرحى، فيطوف به أهل النار، فيقولون: (أي فلان! ألست كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: إني كنت آمر بالمعروف ولا أفعله، وأنهى عن المنكر وأفعله). رواه البخاري. وأناس في آخر الزمان الرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا عنهم يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون. جاءت امرأة إلى ابن مسعود رضي الله عنه تقول: أنبئت أنك تنهى عن الواصلة؟ قال: نعم، ثم بين لها الدليل، قالت المرأة: فلعله في بعض نسائك، يمكن بلغنا أن زوجتك تفعل نمص الشعر، قال: ادخلي بنفسك وتأكدي، فدخلت ثم خرجت فقالت: ما رأيت بأساً، قال: [ما حفظت إذاً وصية العبد الصالح، وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه، لو فعلت ذلك ما جامعناها ولا سكنا معها أصلاً]. قال الحسن: " كان الرجل إذا طلب العلم؛ لم يلبث أن يرى ذلك في بصره وتخشعه ولسانه وصلته وزهده ".

نداءات لصاحب العلم

نداءات لصاحب العلم يا صاحب العلم! إن الذي علمت ثم لم تعمل به؛ قاطعٌ حجتك ومعذرتك عند ربك إذا لقيته. يا صاحب العلم! إن الذي أمرت به من طاعة الله؛ ليشغلك عما نهيت عنه من معصية الله. يا صاحب العلم! لا تكونن قوياً في عمل غيرك ضعيفاً في عمل نفسك. يا صاحب العلم! إنه لا يكمل ضوء النهار إلا بالشمس، كذلك لا تكمل الحكمة إلا بطاعة الله. يا صاحب العلم! إنه لا يصلح الزرع إلا بالماء والتراب، كذلك لا يصلح الإيمان إلا بالعلم والعمل. يا صاحب العلم! كل مسافر متزود، وسيجد إذا احتاج إلى زاده ما تزود، وكذلك سيجد كل عامل إذا احتاج إلى عمله في الآخرة ما عمل في الدنيا. كيف أنت إذا قيل لك يوم القيامة أعلمت أم جهلت؟ فإن قلت: علمت، قيل لك: فماذا عملت فيما علمت؟ وإن قلت: جهلت، قيل لك: فما كان عذرك فيما جهلت؟ ألا تعلمت؟ الذي يعرف ولا يعمل، ويعلم الناس ولا يعمل، قال النبي عليه الصلاة والسلام فيه: (مثل العالم الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه، كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه) رواه الطبراني، وصححه الألباني. إذا أراد الله بعبد خيراً؛ فتح له باب العمل، وأغلق عنه باب الجدل، وإذا أراد الله بعبد شراً، فتح له باب الجدل، وأغلق عنه باب العمل، كان السلف يستعينون على حفظ الحديث بالعمل به، أبو بكر النشهلي في سياق الموت يومئ برأسه يصلي، قال له من حوله: سبحان الله! على هذه الحال، قال: أبادر طي الصحيفة، أي: قبل ما تطوى صحيفتي ألحق ركعتين. وجاء أحد الصالحين الحلاق ليقص له شاربه، وهو لا يفتأ يذكر ربه، فقال: اسكت حتى أقص الشارب، فقال: أنت تعمل وأنا أعمل، قال: لا أتوقف عن العمل. ولا ترجِ فعل الخير يوماً إلى غدِ لعل غداً يأتي وأنت فقيد احذروا سوف، إن سوف من جند إبليس، الآن موسم الحج قادم، بعض الناس شباب بالغون يجب عليهم الحج، ويستطيع يأخذ إجازة ويذهب، ما عذره؟ والحج قريب، يقول: إذا كبرت، وفي المستقبل، وهل تضمن أن تعيش إلى المستقبل؟ علم بلا عمل، كشجرة بلا ثمر.

نظر الناس إلى عمل العالم قبل كل شيء

نظر الناس إلى عمل العالم قبل كل شيء أيها الإخوة! إن الناس ينظرون إلى العالم أول شيء في عمله ماذا يعمل؟ إذا عمله طابق قوله، أخذوا به، حتى لو كانت المسألة لا علاقة لها بالموضوع، جاء أعرابي إلى ابن أبي ذئب وهو من كبار الفقهاء، فسأله عن مسألة الطلاق، فأفتاه أن زوجته طالق، فقال: انظر حسناً، هذا أعرابي عنده جفاء يقول للشيخ: فكر وأعد النظر فيها، قال: نظرت وقد بانت منك، فقال الأعرابي الجاهل: أتيت ابن أبي ذئب أبتغي الفقه عنده فطلق حتى البت تبت أنامله أطلق في فتوى ابن ذئب حليلتي وعند ابن ذئب أهله وحلائله الآن الشيخ زوجته عنده وأنا بدون زوجه، لا يمكن، وهذا من الجهل. فإذاً الناس ينظرون إلى فعل العالم وإلى طالب العلم ويحتجون به، ولذلك لابد أن يتقن طالب العلم العمل. تناقش بعض الأشخاص في حكم النوم بعد العصر، واحد قال: يجوز، وواحد قال: لا يجوز، قال واحد: يا أخي أنا عندي الخبر يجوز النوم بعد العصر، بالطبع هو يجوز النوم بعد العصر، لكن انظر الدليل، فقال له صاحبه: ما هو الدليل على أنه يجوز النوم بعد العصر؟ قال: ذهبت إلى الشيخ فلان بعد العصر فوجدته نائماً، مع أن أفعال النبي عليه الصلاة والسلام هي الحجة، لكن الناس هكذا. وبعض طلبة العلم يقف مع صورة العمل، مع القراءات والأسانيد، ويقف مع الأقوال يجمعها في الفقه والخلاف، ثم ينسى قضية العمل، ولذلك ابن الجوزي وعظ نفسه في هذا، قال لما رآها وقفت مع صورة العلم فقط، قال: صحت بها، فما الذي أفادك العلم؟ أين الخوف والحذر؟ أوما سمعت بأخبار أخيار الأحبار في تعبدهم واجتهادهم؟ أما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد الكل، ثم قام حتى ورمت قدماه؟ أما كان أبو بكر شجي النشيج كثير البكاء؟ أما كان في خد عمر خطان من الدموع؟ أما كان عثمان يختم القرآن في ركعة؟ أما كان علي يبكي في الليل في محرابه حتى تخضل لحيته بالدموع، ويقول: [يا دنيا! غري غيري؟]. أما كان سعيد بن المسيب ملازماً للمسجد، فلم تفته صلاة الجماعة أربعين سنة؟ أما صام الأسود بن يزيد حتى اخضر واصفر؟ أما قالت بنت الربيع بن خثيم له: مالي أرى الناس ينامون وأنت لا تنام؟ قال: أن أباك يخاف عذاب البيات؟ أما صام يزيد الرقاشي أربعين سنة، وكان يقول: وا لهفاه! سبقني العابدون وقطع بي؟ أما كان سفيان الثوري يبكي الدم من الخوف؟ أما كان إبراهيم بن أدهم يبول الدم من الخوف؟ أما تعلمين أخبار الأئمة الأربعة في زهدهم وتعبدهم أبي حنيفة والشافعي وأحمد ومالك؟ هكذا يجب على الإنسان أن ينظر إلى السلف، ويقارن نفسه.

حث على العلم والعمل

حث على العلم والعمل أيها الإخوة! ينبغي علينا أن نعود إلى الله سبحانه تعالى، وأن نقوم لله عز وجل بالتنفيذ والتطبيق، ونربي أولادنا على العلم والعمل، لنصحح المسيرة من أولها، إذا كان فاتنا من أعمارنا شيء لتقصير أهلينا وآبائنا وأمهاتنا، فلنستدرك ذلك في أبياتنا. هذه أبيات جميلة جداً يعظ بها أبٌ مشفق ابنه، كناه بأبي بكر، يقول له: أبا بكر دعوتك لو أجبت إلى ما فيه حظك لو عقلت إلى علمٍ تكون به إماماً مطاعاً إن نهيت وإن أمرت ويجلو ما بعينك من غشاها ويهديك الصراط إذا ضللت وتحمل منه في ناديك تاجاً ويكسوك الجمال إذا اغتربت ينالك نفعه مادمت حياً ويبقى ذكره لك إن ذهبت وكنز لا تخاف عليه لصاً خفيف الحمل يوجد حيث كنت يزيد بكثرة الإنفاق منه وينقص إن به كفاً شددت فلو قد ذقت من حلواه طعماً لآثرت التعلم واجتهدت ولم يشغلك عنه هوىً مطاعٌ ولا دنيا بزخرفها فتنت فواظبه وخذ بالجد فيه فإن أعطاكه الباري أخذت وإن أوتيت فيه طول باعٍ وقال الناس أنك قد سبقت فلا تأمن سؤال الله عنه بتوبيخٍ علمت فهل عملت وأخيراً: نلجأ إلى الله سبحانه وتعالى بالدعاء، نسأل الله أن يعيننا على تطبيق ما تعلمناه، ونسأله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لما يرضيه، وأن يجعلنا من الحريصين على تطبيق العلم والعمل به، يقول أبو بكر بن العربي: كنت مقيماً في ذي الحجة في سنة (489هـ) أشرب من ماء زمزم كثيراً، وكلما شربته نويت به العلم والإيمان، ففتح الله لي ببركته في المقدار الذي يسره لي من العلم، ونسيت أن أشرب للعمل، يا ليتني! شربته لهما، حتى يفتح الله لي منهما، ولم يقدر- يقول من تواضعه- فكان سطوي للعلم أكثر منه للعمل، وأسأل الله الحفظ والتوفيق برحمته. فإذاً ينبغي أن نسأل الله عز وجل أن يوفقنا للعمل بالعلم، وأن يعيننا على ذلك، ونسأله سبحانه وتعالى حسن السريرة وحسن السيرة، ونسأله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لما يرضيه، وأن يباعد بيننا وبين ما لا يرضيه، ونسأله عز وجل أن ينعم علينا بلباس التقوى، وأن يرزقنا التمسك بالعروة الوثقى، وأن يجعلنا من أهل الإيمان علماً وعملاً ورائحة زكية، كما أن المؤمن قارئ القرآن كالأترجة طعمها طيب وريحها طيب، ونسأله أن يباعد بيننا وبين النفاق، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً إنك سميع مجيب قريب.

سلسلة رسائل أهل العلم، الرسالة الأولى، الرسالة التبوكية

سلسلة رسائل أهل العلم، الرسالة الأولى، الرسالة التبوكية إن رسالة ابن القيم رحمه الله المسماة: الرسالة التبوكية، هي كما قال، ومن نظر في هذه الكلمات التي تضمنتها هذه الورقات؛ علم أنها من أهم ما يحصل به التعاون على البر والتقوى، وسفر الهجرة إلى الله ورسوله، وهو الذي قصد مسطرها بكتابها، وجعلها هديته المعجلة السابقة إلى أصحابه ورفقائه في طلب العلم. وقد شرحها الشيخ حفظه الله شرحاً موجزاً مفيداً، فجزاه الله خيراً.

الرسالة التبوكية وموضوعها وتاريخها وسببها

الرسالة التبوكية وموضوعها وتاريخها وسببها الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد: ففي هذه السلسلة من رسائل أهل العلم، سنستعرض -بمشيئة الله تعالى- عدداً من رسائلهم، مع ذكر طرف من سيرة المؤلف، وبعض ما احتوته هذه الرسائل من النفائس والعلم، ولاشك أن الاطلاع على رسائل أهل العلم مما يزيد الإنسان فقهاً ونظراً وبصيرة؛ لأن رسائلهم كالمنائر، يستنير بها الإنسان في ظلمات الدجا، الذي يغشى الواقع، ويتبصر على ضوئها بما حوله، ويعرف كيف يعبد ربه، وهذه الرسالة التي سنستعرضها في هذه الليلة -بمشيئة الله تعالى- هي الرسالة التبوكية، للعالم الرباني، وشيخ الإسلام الثاني، الإمام ابن القيم رحمه الله، وقد سُميت بـ الرسالة التبوكية؛ لأنه سيرها من تبوك ثامن المحرم، سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة للهجرة. وقد قال في ذكر أهميتها: (ومن نظر في هذه الكلمات التي تضمنتها هذه الورقات؛ علم أنها من أهم ما يحصل به التعاون على البر والتقوى، وسفر الهجرة إلى الله ورسوله، وهو الذي قصد مسطرها بكتابتها، وجعلها هديته المعجلة السابقة إلى أصحابه ورفقائه في طلب العلم) وقال: (وإنما الهدية النافعة كلمة يهديها الرجل إلى أخيه المسلم). هذا موضوع الرسالة، والمكان الذي أرسلت منه الرسالة والتاريخ، والسبب الباعث على ذلك.

ترجمة الإمام ابن القيم رحمه الله

ترجمة الإمام ابن القيم رحمه الله أما ترجمة المؤلف رحمه الله، فإنه: أبو عبد الله شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد بن حريز بن مكي زين الدين الزرعي، ثم الدمشقي، الشهير بـ ابن قيم الجوزية، ونسبته إلى زَرْع، وهي قرية من قرى حوران، المكان المعروف في بلاد سوريا الآن، وهي من نواحي دمشق. وقد ولد -رحمه الله- في السابع من شهر صفر، سنة ستمائة وإحدى وتسعين للهجرة، وقد اشتهر أبوه بلقب: قيم الجوزية؛ لأنه كان ناظراً ومشرفاً وقيماً على المدرسة الجوزية بـ دمشق مدةً من الزمن، والجوزية اسم المدرسة التي أنشأها وأوقفها أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله، ويقال: ابن القيم على سبيل الاختصار، واشتهر أبوه -رحمه الله- وأخوه وابن أخيه بالعلم والفضل، ونشأ رحمه الله تعالى في بيئة طيبة، وعائلة وأسرة كريمة.

ابن القيم وطلبه للعلم

ابن القيم وطلبه للعلم وكان قد تلقى علمه منذ بداية أمره على الشهاب النابلسي، والقاضي تقي الدين بن سليمان، وأبو بكر بن عبد الدائم، وعدد من أهل العلم، وقرأ العربية والفقه على المجد الحراني ابن تيمية، وقرأ الأصول على الصفي الهندي وكذلك شيخ الإسلام رحمه الله، ولازمه ملازمة تامة منذ أن قدم من الديار المصرية في سنة (712هـ) إلى أن مات ابن تيمية -رحمه الله- سنة (728هـ). وكان والد ابن القيم -رحمه الله- له علم واسع في الحساب والفرائض، ولذلك أخذه ولده عنه، ولما تم تحصيله، وأصبح لديه ملكة كبيرة، صار بعد ذلك يقرأ بنفسه ويطلع وينهم ويتصدى بعد ذلك للتدريس والإفتاء والتأليف.

أولاد ابن القيم

أولاد ابن القيم للإمام ابن القيم أولاد، ومنهم: عبد الله، كانت ولادته سنة (723هـ)، ووفاته سنة (756هـ)، وكان مفرطاً في الذكاء، أنه حتى حفظ سورة الأعراف في يومين، وصلى بالقرآن سنة (731هـ)، أي: أنه كان في التاسعة من عمره تقريباً، وأثنى عليه بأمور، وكذلك ابنه إبراهيم كان علامة نحوياً فقيهاً.

العلوم التي برع فيها ابن القيم

العلوم التي برع فيها ابن القيم وأما العلوم التي برع فيها ابن القيم -رحمه الله- فإنها كثيرة جداً، فهي تكاد تكون علوم الشريعة بأكملها، وعلوم الآلة والتوحيد والتفسير والحديث والفقه وأصول الفقه واللغة والنحو وغير ذلك. قال ابن رجب واصفاً شيخه ابن القيم: "تفقه في المذهب، وبرع وأفتى ولازم الشيخ تقي الدين ابن تيمية، وتفنن في علوم الإسلام، وكان عارفاً بالتفسير، وأصول الدين لا يجارى، وإليه فيها المنتهى، والحديث ومعانيه وفقهه ودقائق الاستنباط لا يُلحق في ذلك، وبالفقه وأصوله، وبالعربية وله فيها اليد الطولى وغير ذلك". وقال ابن كثير رحمه الله في وصفه: "سمع الحديث، واشتغل بالعلم، وبرع في علوم متعددة، ولا سيما علم التفسير والحديث، ولما عاد شيخ الإسلام ابن تيمية من الديار المصرية سنة (721هـ)؛ لازمه إلى أن مات الشيخ، فأخذ عنه علماً جماً مع ما سلف له من الاشتغال، فصار فريداً في بابه في فنون كثيرة". وقال الذهبي رحمه الله: "عُني بالحديث ومتونه ورجاله، وكان يشتغل بالفقه ويجيد تقريره". وقال ابن حجر: "كان جريء الجنان، واسع العلم، عارفاً بالخلاف ومذاهب السلف، ومن الأشياء التي حصلت له مناظرة مع أكبر من يشار إليه بالعلم عند اليهود، جرت له مناظرة معه بـ مصر ".

مجاورة ابن القيم

مجاورة ابن القيم وكذلك فإنه -رحمه الله تعالى- قد حج مرات كثيرة، وجاور بـ مكة، وكان أهل مكة يذكرون عنه من شدة العبادة وكثرة الطواف أمراً يُتعجب منه، وألف كتابه: مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة، مدة إقامته بـ مكة، بما فتح الله عليه يقول: "وكان هذا من بعض النُزْول والفتح التي فتح الله بها عليّ حين انقطاعي إليه عند بيته، وإلقائي نفسي ببابه مسكيناً ذليلاً، وتعرضي لنفحاته في بيته وحوله بكرة وأصيلاً، فما خاب من أنزل به حوائجه، وعلق به آماله، وأصبح ببابه مقيماً، وبحماه نزيلاً". ومن الأشياء التي حصلت له بـ مكة: أنه مرض مرضاً شديداً استعصى على الأطباء، فقال: لقد أصابني أيام مقامي في مكة أسقام مختلفة، ولا طبيب ولا أدوية كما في غيرها من المدن، فكنت أستشفي بالعسل وماء زمزم، ورأيت فيها من الشفاء أمراً عجيباً. وقال في هذا المرض الذي انقطعت فيه حركته، وحصل له فيه شيء من الألم كثير: "إنه كان يقرأ على ماء زمزم الفاتحة ويشرب، فحصل له شفاء لم يحصل له على يد الأطباء".

مؤلفات الإمام ابن القيم

مؤلفات الإمام ابن القيم لقد ألف كتبه في أحوال، منها: أحوال الغربة والسفر، كما ألف كتاب مفتاح دار السعادة، وكذلك كتاب زاد المعاد، ألفه في حال السفر لا الإقامة، والخاطر متفرق، والقلب في كل وادٍ منه شعبة، كما وصف رحمه الله. وكان شديد المحبة للكتب، وجمع كتباً لم يتهيأ لغيره -كما يقول ابن كثير - عشر معشار ما اجتمع عنده -رحمه الله- من كتب السلف والخلف، كان مغرماً بجمعها، وحصل ما لا يحصى، حتى كان أولاده يبيعون منها بعد موته دهراً طويلاً، سوى ما اصطفوه لأنفسهم، وكان لا يبخل -رحمه الله- في إعارتها. وقد تولى الإمامة بالجوزية، والتدريس في الصدرية -أسماء مدارس- وتصدى للفتوى والتأليف، وقد سجن بسبب بعض الفتاوى، كفتواه في الطلاق الثلاث بلفظ واحد، التي تابع فيها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وعامة أهل الأرض مطبقون على أن طلاق الثلاث بلفظ واحد يقع ثلاثاً، كما هو قول أهل المذاهب الأربعة. وكذلك حصل له أذى بسبب تأليفه رسالة إنكار شد الرحال إلى قبر الخليل، وتابع فيها شيخ الإسلام رحمه الله، المتابع لمحمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، في مسائل التوسل، ومقاومة أنواع الشرك.

حسن خلق ابن القيم وتواضعه

حسن خلق ابن القيم وتواضعه كان ابن القيم حسن القراءة، كثير التودد، لا يحسد أحداً ولا يؤذيه، ولا يحقد على أحد، وكان قليل النظير في مجموعه وأموره وأحواله، وكان ذا خلق عظيم رحمه الله تعالى. ومن خلقه: تواضعه الذي يظهر في أشياء كثيرة من كتبه، ومن ذلك: قصيدة يظهر فيها تواضعه أنشدها لبعض طلابه، وهو العلامة الصفدي رحمه الله، يقول ابن القيم عن نفسه في هذه القصيدة: بُني أبي بكر كثير ذنوبه فليس على من نال من عرضه إثم بُني أبي بكر جهول بنفسه جهول بأمر الله أنى له العلم بُني أبي بكر غدا متصدراً يعلم علماً وهو ليس له علم بُني أبي بكر غدا متمنياً وصال المعالي والذنوب له هم بُني أبي بكر يروم ترقياً إلى جنة المأوى وليس له عزم بُني أبي بكر لقد خاب سعيه إذا لم يكن في الصالحات له سهم بُني أبي بكر لما قال ربه هلوع كنود وصفه الجهل والظلم فو الله لو أن الصحابة شاهدوا أفاضلهم هم الصم والبكم هذا ما وصف به حاله -رحمه الله- وتواضعه، مع أنه كان ذا عبادة شديدة، وكان ذا تأله وتهجد واستغفار بالأسحار، وافتقار إلى الله عز وجل، وطول قيام، وحج مرات كثيرة، حتى قال ابن كثير رحمه الله: لا أعرف في هذا العالم في زماننا أكثر عبادة منه، وكان له طريقة في الصلاة يُطيلها جداً، ويمد ركوعها وسجودها، ويلومه كثير من أصحابه في بعض الأحيان، فلا يرجع ولا ينزع عن ذلك رحمه الله، وكان إذا صلى الصبح جلس مكانه يذكر الله حتى يتعالى النهار، ويقول: هذه غدوتي لو لم أقعدها سقطت قواي. وهذه عبارة مشابهة للعبارة التي جاءت عن شيخه في هذه المسألة، وهي القعود من بعد صلاة الفجر إلى طلوع الشمس، ثم الصلاة ركعتين، حتى يتعالى النهار، ومن عباراته المشهورة: "بالصبر والفقه تنال الإمامة في الدين".

ملازمة ابن القيم لابن تيمية وتأثره به

ملازمة ابن القيم لابن تيمية وتأثره به وأما تأثره بـ ابن تيمية رحمه الله فكان تأثراً شديداً جداً، فإنه التقى به سنة (712هـ) للهجرة، ولازمه إلى سنة (728هـ)، إلى أن توفي رحمه الله تعالى، وهو الذي كانت هدايته على يديه، ويصف توبته على يد شيخه بقوله: يا قوم والله العظيم نصيحتي من مشفق وأخ لكم معوان جربت هذا كله ووقعت في تلك الشباك وكنت ذا طيران مثل علم المنطق والكلام والفلسفة وغير ذلك حتى أتاح لي الإله بفضله ومن ليس تجزيه يدي ولساني فتى أتى من أرض حران فيا أهلاً بمن قد جاء من حران فالله يجزيه الذي هو أهله من جنة المأوى مع الرضوان أخذت يداه يدي وسار فلم يرم حتى أراني مطلع الإيمان ورأيت أعلام المدينة حولها نزل الهدى وعساكر القرآن ورأيت آثاراً عظيماً شأنها محجوبة عن زمرة العميان ووردت كأس الماء أبيض صافياً حصباؤه كلآلئ التيجان ورأيت أكواباً هناك كثيرة مثل النجوم لوارد الظمآن يصف السنة التي قاده إليها شيخه بالحوض الذي فيه أكواب يغرف منها ويشرب ورأيت حول الكوثر الصافي الذي لا زال يشخب فيه ميزابان مثل الميزابين في الآخرة التي تصب في نهر الكوثر، ميزابان في حوض السنة، أو ميزابان في حوض الحق يصبان فيه ميزاب سنته وقول إلهه وهما مدى الأيام لا ينيان الكتاب والسنة والناس لا يردونه إلا من الـ ألف أفراد ذوو إيمان وردوا عذاب مناهل أكرم بها ووردتم أنتم على عذاب هوان هذه الهداية التي كُتبت لـ ابن القيم -رحمه الله- على يدي شيخه الذي لازمه، وأخذ عنه العلم والفقه والطريقة السُنْية السَّنية، وكان يشكو إلى شيخه وينصحه شيخه بأشياء، كما قال مرة: جعلت أورد عليه إيراداً بعد إيراد، فقال: لا تجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثل السفنجة، فيتشربها، فلا ينضح إلا بها، ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة، تمر الشبهات بظاهرها ولا تستقر فيها، فيراها بصفائه، ويدفعها بصلابته، وإلا فإذا أشرب قلبك كل شبهة تمر عليك، صار مقاماً للشبهات، قال: فانتفعت بوصيته في دفع الشبهات انتفاعاً عظيماً. وقال: قال لي شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- مرة: "العوارض والمحن والابتلاءات هي كالأمراض والبرد، فإذا علم العبد أنه لا بد منها، لم يغضب لورودها، ولم يغتم ولم يحزن". وكان شيخ الإسلام يتابع تلميذه في حفظه للوقت والابتعاد عن الملهيات، فقد قال: "قال لي يوماً شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه: المباح ينافي المراتب العليا، وإن لم يكن تركه شرطاً للنجاة -أو نحو هذا الكلام- قال: فالعارف يترك كثيراً من المباح ابقاءً على صيانته، ولا سيما إذا كان المباح برزخاً بين الحلال والحرام". أي: من قسم المشتبهات.

ابتلاءات ابن القيم

ابتلاءات ابن القيم لقد نصر ابن القيم -رحمه الله- شيخه ووفى له وامتحن بسببه وأوذي مرات، وحبس معه في السجن بالقلعة منفرداً، ولم يُطلق سراحه إلا بعد موت الشيخ، وتعرض للأذى لما اقتنع بالحق ونشره، وأوذي حتى ضرب وطيف به وأهين مضروباً بالدرة مرة من المرات. ومن الأشياء التي نقموا عليه: مسألة تحريم شد الرحال لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك فتاوى الطلاق، وكان مقاوماً للتقليد والتعصب المذهبي، وهذا ما جلب عليه عداوة كثير من أتباع المذاهب. وكذلك نقده اللاذع للفلسفة وعلم الكلام، فإنه كذلك قد جلب عليه عداوة الفلاسفة، وكان يتضح في تأليفه جداً مسألة اتباع الدليل، وهذه من أعظم خصائص المنهج السلفي، تقديم الكتاب والسنة وأقوال الصحابة على قول كل أحد آخر، وكان -رحمه الله- يستطرد في المسائل، ويذكر أوجهاً كثيرة قلما تحصل لغيره، حتى لا تكاد تجد تحليلات بعض المسائل مثلما تجدها في كلام ابن القيم رحمه الله، حيث كان طويل النفس في عرض المسائل.

تأليف ابن القيم للكتب حضرا وسفرا

تأليف ابن القيم للكتب حضراً وسفراً وكذلك فإنه -رحمه الله تعالى- كان يؤلف حضراً وسفراً، والتأليف في السفر ليست قضية يسيرة، خصوصاً عند البعد عن المراجع، كما قال في مقدمة زاد المعاد متواضعاً: "وهذه كلمات يسيرة، لا يستغني عن معرفتها من له أدنى نهمة إلى معرفة نبيه صلى الله عليه وسلم وسيرته وهديه، اقتضاها الخاطر المكدود على عجره وبجره، مع البضاعة المزجاة، مع تعليقها في حال السفر لا الإقامة، والقلب بكل وادٍ منه شعبة، والهمة قد تفرقت شذر مذر". ومن لطائف الأمور التي حصلت في تآليفه: ما حصل له في كتابه: تحفة المودود بأحكام المولود فإن سبب تصنيف هذا الكتاب أن ولده قد رُزق ولداً، والعادة أن الجد يُهدي للحفيد، أو يُهدي لابنه لأجل الحفيد الذي جاء، ولم يكن عند ابن القيم مالٌ يقدمه لولده، أو هدية من متاع الدنيا، فصنف هذا الكتاب، وهو تحفة المودود بأحكام المولود، وقال في مقدمته: "سبب التأليف هو أن الله عز وجل رزق ابن المصنف مولوداً، ولم يكن عند والده في ذلك الوقت ما يقدمه لولده من متاع الدنيا، فصنف هذا الكتاب وأعطاه إياه، وقال له: أتحفك بهذا الكتاب إذ لم يكن عندي شيء من الدنيا أعطيك". والحقيقة أن هذا الكتاب من روائع الكتب الذي لا يكاد يوجد مصنف مثله في أحكام وتربية المولود، وقد ذكر في الجزء الأخير من هذا الكتاب فوائد تربوية وطبية بالغة الأهمية.

أعداء ابن القيم

أعداء ابن القيم وقد كان له أعداء لعله زاد بسبهم له حسنات كثيرة، من ضمنهم: الكوثري، الذي وصفه بالزندقة والكفر والضلال والبدعة والزيغ والكذب والبلادة والغباوة ونحو ذلك، لكن: لا يضر البحر أمسى زاخراً إن رمى فيه غلام بحجر وقد رد على أهل البدع وأعداء الله مثل الجهمية وغيرهم، وتفرغ لأجل مقاومة أهل البدع تفرغاً كبيراً، وعالج عدة أمراض في النفس البشرية، مثل: العشق والهوى، ولأجلها ألف كتاب الجواب الكافي، وروضة المحبين، وغير ذلك، وكان له أسلوباً جيداً في العلاج، وكان صاحب استنباطات، حتى قال: إنه استنبط من قصة يوسف ألف فائدة، ثم تمنى على الله عز وجل أن يوفقه لأجل أن يكتب مؤلفاً يجمع هذه الفوائد. ومما ابتلي به بعد موته بأناس كانوا يحرقون كتبه، كما ذكر الألباني في مقدمة الكلم الطيب، لأحد الأمراء الذين استوطنوا دمشق في القرن الماضي، كان ذا سلطان ومال، جعل يجمع مؤلفات ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ويحرقها، ويتقرب إلى الله بها، لأنه يقول: هذه ضلالات وبدع، ويحرقها، ومع ذلك كانت كتبه -رحمه الله- قد سارت في الأمصار، ومع أن المطبوع منها لا يقارب ثلث الأصل من عدد الرسائل والكتب التي ألفها.

وفاة ابن القيم

وفاة ابن القيم اتفقت التراجم على أن ابن القيم -رحمه الله- توفي ليلة الخميس، الثالث عشر من شهر رجب، وقت أذان العشاء، سنة (751هـ). وقد كمُل له من العمر ستون سنة فقط -رحمه الله تعالى- وصُلي عليه، وكان ذلك وسط حُزن الناس، ودُفن في مقبرة الباب الصغير بـ دمشق، في نفس المقبرة التي دفن فيها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.

سبب تأليف الرسالة التبوكية وما تضمنته

سبب تأليف الرسالة التبوكية وما تضمنته وكتبه التي خلفها كثيرة ومعروفه وموجودة بين طلبة العلم وفي المكتبات، وهذه الرسالة -وهي الرسالة التبوكية - اتضح لنا مما سبق أن ابن القيم -رحمه الله- قد ألفها لأجل شرح قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2]. وبيَّن زاد الإنسان في سيره إلى الله عز وجل، وحشد فيها أشياء مما يتعلق بالتصورات الأصلية الأصيلة الإسلامية، مما يُعين طالب العلم، ويُعين الإنسان عموماً على سيره إلى الله، ورسم منهج التلقي في هذه الرسالة، وبيّن أيضاً منهج العلم ومنهج العمل في هذه الرسالة، فقال: (أحمد الله بمحامده التي هو لها أهل، والصلاة والسلام على خاتم رسله وأنبيائه محمد صلى الله وعليه وسلم، وبعد: فإن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] وقد اشتملت هذه الآية على جميع مصالح العباد في معاشهم ومعادهم، فيما بينهم بعضهم بعضاً، وفيما بينهم وبين ربهم، فإن كل عبد لا ينفك عن هاتين الحالتين، وهذين الواجبين، واجب بينه وبين الله، وواجب بينه وبين الخلق). فأما ما بينه وبين الله فلا بد من القيام بحق الله، بفعل الواجبات التي أمر بها، والانتهاء عن المحرمات التي نهى عنها، وأما ما بين الإنسان وبين الخلق، فلا بد أن يكون هناك معاشرة، ومعاونة، وصحبة، وأن تكون هذه قائمة على مرضاة الله، فإذا حصل ذلك للعبد حصل له الخير كله.

حقيقة البر والتقوى والفرق بينهما

حقيقة البر والتقوى والفرق بينهما قال الله عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2] ما معنى البر وما معنى التقوى؟ وما هو الفرق بينهما؟ البر يدخل في التقوى، والتقوى تدخل في البر في المعنى العام للفظ، كما يكون ذلك في الإيمان والإسلام، والفسوق والعصيان، والفقير، والمسكين، والفحشاء والمنكر، ولكن إذا اجتمعت الكلمتان معاً في سياق واحد فلا بد من تفريق، أما إذا افترقت هذه الكلمات فقد تكون الواحدة بمعنى الأخرى. أما البر: فهو الكمال المطلوب من الشيء والمنافع التي فيه، وهو كلمة جامعة لجميع أنواع الخير، وهو عكس الإثم التي هي كلمة جامعة للشرور والعيوب التي يذم العبد عليها، فيدخل في البر: الإيمان وأجزاؤه الظاهرة والباطنة، ولا شك أن التقوى جزء من هذا، وقد جمع الله خصال البر في قوله: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:177]. فماذا جمعت كلمة البر حسب الآية من أركان الإيمان؟ جمعت: الإيمان بالله والملائكة والكتاب والنبيين واليوم الآخر، وهذه أصول الإيمان الخمسة. وماذا جمعت من أركان الإسلام والشرائع الظاهرة؟ جمعت: إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، ويتبع ذلك النفقات الواجبة، وهذه الآية احتوت -أيضاً- خصالاً من الأعمال القلبية، مثل: الصبر والوفاء، فتكاد هذه الآية أن تكون قد جمعت جميع أقسام الدين، ثم أخبر الله في هذه الآية أنها هي خصال التقوى، فقال في الذين يقومون بهذه الأعمال من البر: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:177] فهذه هي خصال التقوى بعينها. إذا: البر والتقوى يدخلان في بعض، لكن إذا جئت إلى تعريف التقوى، فحقيقتها: العمل بطاعة الله إيماناً واحتساباً، أمراً ونهياً، وقد نبه ابن القيم -رحمه الله- على مسألة مهمة، وهي: كل عمل لا بد له من مبدأ وغاية -هذه مسألة مهمة- مبدأ، أي: باعث على العمل، وغاية، أي: الهدف من العمل ما هو باعثك على العمل؟ ولأجل أي شيء عملت هذا العمل؟ فإذا كان الباعث هو الإيمان المحض، ومن بواعث العمل مثلاً: أن يعمل العمل إيماناً بالله وإرضاءً لله، وقد يعمل عملاً لأجل أي شيء آخر، فالباعث على العمل قد يكون شهرة ورياءً، وقد يكون للدنيا، وقد يكون للهوى، أو عن عادة وتقليد، تسأل بعض الناس: لماذا تعمل؟ فيقول: هذه تعودنا عليها، ومثل ذلك أن يقول: كل من حولنا يعملون مثل ذلك فلا بد أن يكون الباعث على العمل الصالح هو الإيمان، وغايته: ثواب الله وابتغاء مرضاته، وإلا فلا يكون العمل صالحاً، وكثيراً ما يقرن الرسول صلى الله عليه وسلم بين هذين الأصلين، مثل قوله: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً) فالإيمان هو الدافع للعمل، والاحتساب هو الغاية من العمل، وهو احتساب الأجر والثواب، ومثل قوله: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً)، فالاحتساب هو الغاية التي لأجلها يبدأ الإنسان في العمل. وإذا قرن أحدهما بالآخر (البر والتقوى) مثل قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2] فما هو الفرق بينهما؟ قلنا: إذا افترق كل واحد عن الآخر فقد يدخل الأول في الثاني البر كلمة جامعة، والتقوى كلمة جامعة، لكن إذا اجتمعا فما هو الفرق بينهما؟ الفرق: أن البر هو العمل المطلوب لذاته، والتقوى هي الوسيلة الموصلة إليه.

ضرر الجهل بحدود الله

ضرر الجهل بحدود الله لا شك أن الإنسان لا يمكن أن يعمل عملاً صالحاً دون أن يكون عنده علم يعمل بناء عليه، ومعرفة الأحكام وحدود الله تعالى هي التي تجنب الإنسان من الوقوع في الضلال. وقد ذم الله تعالى في كتابه من ليس عنده علم بحدود ما أنزل الله على رسوله، والذي ليس عنده علم سيقع في أحد محذورين: الأول: أن يدخل في الشيء الحرام أمراً ليس منه، أو في الشيء الحلال أمراً ليس منه، ويسوي بينهما، فيجعل الشيء مباحاً وهو ليس بمباح، أو يجعله محرماً وهو ليس بمحرم، وقد يُخرج من شيء أباحه الله أمراً يحرمه بهواه، أو يخرج من شيء حرمه الله شيئاً أباحه الله بهواه، أو العكس. فمثلاً: الخمر حرَّمها الله، وهو اسم شامل لكل مسكر، فيأتي رجل ويخرج من المسكر شراباً معيناً، ويقول: هذا حلال، بهواه أو بجهله، فيفرق بين ما سوت الشريعة بينه في الحكم. أو يُخرج نوعاً من الربا، ويقول: هذا ليس رباً، والربا إذا كان (5%) فهو حلال، وإذا كان (15%) أو أكثر فهو حرام!! ما هذا التفريق؟! إنه تفريق ضلال؛ لأن الشريعة سوَّت بين الربا في كل صوره وأشكاله. أو يقول: الربا إذا كان على فقير فهو حرام، أما إذا أخذته من غني فهو حلال، ويفرق بين ما سوت الشريعة بينه من الصور. وكذلك لو أنه أدخل في النكاح ما ليس بمسمى النكاح الشرعي، ويقول: هذا نكاح شرعي، فيسوي بين حرام وحلال، والله أباح النكاح، وهذا قد أدخل في النكاح صورة من صور النكاح ليست حلالاً؛ كنكاح الشغار، ونكاح المتعة إلى آخره. إذاً: العلم هو الذي يميز به الإنسان حدود الله تعالى، والمقصود من اجتماع الناس وتعاشرهم هو التعاون على البر والتقوى، لأن الله يعلم أن الإنسان بمفرده لا يستطيع أن يُقيم الدين كله، ولا أن يتعلم الدين كله، وأن الناس لا يزال يتعلم بعضهم من بعض، ويعاون بعضهم بعضاً على إقامة الدين، ولذلك قال: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2] ومن حكمة الله أن جعل الناس يحتاجون إلى بعض، ويعيشون مع بعض، وأن الإنسان لا يستطيع أن يعيش لوحده منفرداً؛ فالإنسان مدني بطبعه، واجتماعي بطبعه.

معنى الإثم والعدوان والفرق بينهما

معنى الإثم والعدوان والفرق بينهما ونهانا عن التعاون على الإثم والعدوان، فما هو الفرق بين الإثم والعدوان؟ مثل: البر والتقوى، الإثم سيدخل في العدوان؛ لأنه نوع من الاعتداء، والعدوان سيدخل في الإثم؛ لأن الذي يقوم بالاعتداء آثم، هذا إذا افترقا فيكونان بهذا المعنى، وإذا اجتمعا كما في قوله تعالى: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى اْلإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] فلا يمكن أن نقول: إنها مجرد تكرار، فما هو الفرق بين الإثم والعدوان؟ الإثم: ما كان حراماً لجنسه، مثل: الزنا، والخمر، والسرقة والعدوان: ما كان حراماً لزيادة في قدره، وتعدٍ لما أباح الله، فلو تزوج رجل خامسة، فإنه يعتبر عدواناً، ولو قطع شخص يد شخص، فجاء الثاني وقطع يديه في استيفاء الحق في القصاص، أو الظالم قطع يديه، فإنه يعتبر عدواناً. فالعدوان: هو تعدي حدود الله عز وجل، وقد قال الله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} [البقرة:229] {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا} [البقرة:187] فنهى عن أمرين بالنسبة لحدود الله: 1 - تعدي الحدود. 2 - نهى عن قربان الحدود، لا تتعدَّ ولا تقترب لماذا؟ لأن الحدود هي النهايات الفاصلة بين الحلال والحرام، والحد قد يكون من الشيء تارة، وقد يكون منفصلاً عنه تارة، أي: الحد بين الشيئين، أحياناً يكون من أحدهما، وأحياناً يكون برزخاً وحاجزاً بينهما، فإذا كان الحد أحدهما إذا كان حد الحرام جزءاً منه، فما هي الآية المناسبة؟ قوله تعالى: {فَلا تَقْرَبُوهَا} [البقرة:187]. وإذا كان الحد هو برزخ منفصل لا من هذا ولا من هذا، فما هي الآية المناسبة؟ قوله تعالى: {فَلا تَعْتَدُوهَا} [البقرة:229]. وهذا كله من فقهه رحمه الله؛ الربط بين الآيات والواقع وبين المعاني، هذه اشياء لا تتأتى إلا لأهل العلم.

واجب العبد فيما بينه وبين الخلق وبينه وبين الحق

واجب العبد فيما بينه وبين الخلق وبينه وبين الحق وهذا كله من فقهه رحمه الله؛ الربط بين الآيات والواقع وبين المعاني، هذه أشياء لا تتأتى إلا لأهل العلم. تكلمنا عن قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] وأن الإنسان في طبيعته في الأرض له علاقة بينه وبين الله، وبينه وبين الناس، وقد تكلمنا عن أشياء فيما يتعلق بينه وبين الناس. أما العلاقة بينه وبين الله، فلابد أن تكون التقوى هي الضابط في العلاقة بين العبد وربه، قال الله عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [المائدة:2] فتقوى الله هي العلاقة بين العبد وربه. وكذلك يتقي الله العبد في العلاقة بينه وبين الناس، ولا يمكن للإنسان أن يقوم بعلاقة صحيحة مع الله ومع الخلق إلا بتحقيق التقوى، ولا يمكن أن يقيم علاقة صحيحة مع الخلق إلا إذا كان هناك نصيحة وإحسان من جهة الخلق، وإخلاص ومحبة وعبودية من جهة الخالق.

الهجرة إلى الله ورسوله

الهجرة إلى الله ورسوله ثم طالعنا ابن القيم -رحمه الله- في هذه الرسالة بعبارة جميلة من عباراته التي ترد عادة في كتبه، قال: "لما فصل عير السفر أي: خرجت من البلد وهي الإبل أو القافلة- واستوطن المسافر دار الغربة، وحيل بينه وبين مألوفاته وعوائده المتعلقة بالوطن ولوازمه " ماذا يصير عند الواحد إذا خرج من المكان الذي فيه كل ما يعتاده وكل المألوفات والأقارب؟ يحصل له وحشة وحنين، ويحصل له في ذهنه فراغ، وإذا غادر المكان الذي يعيش فيه باستمرار، تحصل له فكرة لم تحصل له وهو يعيش فيه؛ لأنه ابتعد عن الشيء، والعلاقة قد ضعفت أو انقطعت به. قال: "أحدث له ذلك نظراً، فأجال فكره في أهم ما يقطع به منازل السفر إلى الله، وينفق فيه بقية عمره، فأرشده من بيده الرشد -وهو الله عز وجل- إلى أن أهم شيء يقصده إنما هو الهجرة إلى الله ورسوله، فإنها فرض عين على كل أحد في كل وقت".

أنواع الهجرة

أنواع الهجرة والهجرة نوعان: الهجرة الأولى: هجرة بالجسم من بلد إلى بلد، وهذه أحكامها معلومة. الهجرة الثانية: وهي التي لا بد منها لكل أحد، هي الهجرة بالقلب إلى الله ورسوله، وهذه هي الأصل، وهجرة الجسد تابعة لها، ولو لم تحصل هذه الهجرة الثانية، فلن تحصل الهجرة الأولى.

مبدأ الهجرة ومنتهاها

مبدأ الهجرة ومنتهاها قال: (وهي هجرة تتضمن (من) و (إلى)؛ فيهاجر المسلم بقلبه من محبة غير الله إلى محبة الله). الهجرة بالجسد من دار الكفر إلى دار الإسلام وهذه معروفة، والهجرة الأخرى هي هجرة القلب، التي لا بد لكل أحد منها، وهذا هو المعنى المهم جداً، الذي انطوى عليه هذا الفصل، والذي هو الرسالة التبوكية أن يُهاجر بقلبه من محبة غير الله إلى محبة الله، ومن عبودية غير الله إلى عبودية الله، ومن خوف غير الله إلى خوف الله، ومن رجاء غير الله إلى رجاء الله، ومن التوكل على غير الله إلى التوكل على الله، وهكذا وهذا معنى قوله تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات:50].

الفرار من الله إليه

الفرار من الله إليه قال ابن القيم رحمه الله: (وتحت (من) و (إلى) في هذا سر عظيم من أسرار التوحيد، فإن الفرار إلى الله سبحانه وتعالى يتضمن إفراده بالطلب والعبودية) كيف تهاجر وتفر من غيره إليه؟ إذا جردت الإخلاص وجردت العبودية، بحيث تكون العبودية لواحد وهو الله عز وجل، ومن تصور هذا المفهوم سهل عليه أن يفهم معنى حديث: (وأعوذ بك منك) وسهل عليه أن يفهم معنى حديث: (لا ملجأ منك إلا إليك). وهذه الكلمات عندما يقرؤها الإمام في دعاء التراويح لا يفهمها إلا قليل من الناس، وبالنسبة لكثير منهم تكون طلاسم ما معنى (لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك)؟ قد يعتبرون هذه ألغازاً، لكن الحقيقة أن كل شيء في الكون تفر منه من أذى أو ظلم أو إلخ، فهو بتقدير الله ومشيئته، والله هو الذي خلقه. وكذلك أنت تفر من عقاب الله، وتفر من أسباب سخط الله تفر إليه عائذاً به مستجيراً سائلاً أن يحميك من الوقوع في معاصيه، وأن يرزقك الطاعة والأجر والفوز بالجنة، وكل أحد إذا خفت منه هربت منه -سواء أكان حيواناً أو إنساناً- إلا الله عز وجل؛ فإنك إذا خفت منه هربت إليه أين ستذهب؟ أي إنسان مخلوق موجود هنا -مثلاً- وهو ظالم وتخشى منه، فسوف تهرب منه إلى بلدة أخرى، لترتاح منه، وتنفث بريشك، ولكن الله عز وجل إلى أين تهرب منه؟ أينما هربت فثمَّ وجه الله، وأنت في ملكه، لا يمكن أن تفر ولا تخرج، فلا مفر لك منه إلا إليه، ولا مفر من عقابه إلا إلى نعيمه، ولا مفر من معصيته إلا إلى طاعته، ولا مفر من قدرته إلا إليه سبحانه وتعالى، وكل شيء مخلوق في الوجود من الظلم الذي أنت تفر منه أو الشر؛ فهو خالقه، فأنت تفر من هذا الشيء إلى ما ينجيك، وتأخذ بالأسباب التي قدَّرها وشرعها سبحانه وتعالى. فالمقصود أن الهجرة إلى الله تتضمن هجر ما يكرهه الله إلى ما يحبه ويرضاه، وكل واحد يهاجر من شيء إلى شيء، ويترك بلداً إلى بلد، ووظيفة إلى وظيفة، وشخصاً إلى شخص، في العلاقات وإقامة العلاقات، وما يحمله على هذه الهجرة والترك إلى ذلك الطرف الآخر، إلا أن المهاجر إليه أحب إليه من المهاجر منه، وإلا لما هاجر. فإذا قال أحد: كيف أهجر ما نهى الله عنه؟ كيف أهجر المعاصي؟ كيف أهجر الفسوق؟ كيف أهجر قرناء السوء؟ كيف أهجر مكان الحرام؟ نقول: لا بد أن يكون الطرف الذي ستذهب إليه أحب إليك من الطرف الذي ستخرج منه. ولذلك فالهجرة مرتبطة بالمحبة، ولما كانت الهجرة شاقة على النفس، فلا بد أن هناك شيئاً يعوض المشقة حتى تستطيع الفكاك والهرب والهجرة، فإذا لم ترجع محبة الطرف الثاني الذي ستهاجر إليه على محبتك للطرف الأول؛ فلن تحصل الهجرة، ومن هنا كانت تقوية محبة الله تعالى أمراً أساسياً في حدوث الهجرة، سواء هجرة الجسد أو هجرة القلب. لقد كان خروج المهاجرين من مكة إلى المدينة أمراً شاقاً، حتى إنهم مرضوا في المدينة، وأصابتهم الحمى، وصار أبو بكر وبلال يأتيان بالأشعار التي فيها التلهف والحنين إلى الإذخر والجليل، وجبال مكة، والبلاد التي خرجوا منها، والجو والبيوت، ولكن ما هو الذي عوضهم عن ذلك كله؟ إنه محبتهم لله ورسوله، وللدار التي تحكم بما أنزل الله ويحكمها رسوله.

سبب قوة الهجرة وضعفها

سبب قوة الهجرة وضعفها والهجرة -كما يذكر ابن القيم رحمه الله في هذه الرسالة- تقوى وتضعف بحسب داعي المحبة في قلب العبد، فكلما كانت المحبة أقوى كانت الهجرة أقوى وبعض الناس يهجرون المعاصي هجراً جزئياً، وبعض الناس يهجرونها نسبة أكثر، وبعض الناس يهجرونها هجرة كلية، فما هو السبب الذي فاوت بين هؤلاء؟ إنه المحبة. وعندما يكون الواحد لا يزال قلبه يحب المنكر، ولو وعظ موعظة أو قصة انتهى عن ذلك، وربما يترك تركاً مؤقتاً، أو يترك تركاً جزئياً، لأنه لا زال فيه تعلق ومحبة للشيء الأول، لكن إذا صارت محبة الله طاغية، انقطعت العلاقة.

الهجرة العارضة والهجرة الدائمة

الهجرة العارضة والهجرة الدائمة وهناك هجرتان: هجرة عارضة، وهجرة دائمة. فالهجرة العارضة هي هجرة الجسد، فـ ابن القيم -رحمه الله- يتعجب من بعض الفقهاء أو من بعض المؤلفين الذين يركزون على الهجرة العارضة، وهي هجرة الجسد، ويذكرون الفروع والأحكام المتعلقة بها، ويوسعون فيها المسائل، وربما لن تمر على بعض الناس مطلقاً ولا مرة واحدة، وربما أنت في حياتك لا تحتاج إلى هذه الهجرة، في الوقت الذي يفوتون ويغفلون الكلام عن الهجرة الدائمة الواجبة على مدى الأنفاس، وهي هجرة القلب. ولذلك يعد ابن القيم بحق من العلماء الذين تكلموا في الفقه والأحكام، وتكلموا -أيضاً- في القلوب. أي: هناك توازن كبير بين كلامه في الفقه وكلامه في أحكام القلوب وأحكام الحلال والحرام، وهنا يريد أن يتوصل ابن القيم إلى شيء مهم، لما كان في عهده صنم الفلسفة وعلم الكلام قائماً، وطاغوت التعصب المذهبي موجوداً، وكانت هذه الأوثان تُعبد من دون الله؛ علم الكلام والفلسفة، والتعصب المذهبي، منكران شائعان في عصره فكيف يستطيع ابن القيم وهو الداعية أن يحرر الناس من عبادة هذه الأوثان؛ وثن الفلسفة، ووثن التعصب المذهبي؟ طرح مفهوم الهجرة هنا لأجل أن يقول: أنتم أيها الواقعون في البدعة أو في الأخطاء بسبب تعصبكم المذهبي، متى يمكن أن تتركوا التعصب المذهبي أو البدع إلى السنة واتباع الدليل؟ يجب عليكم أن تهاجروا من البدعة إلى السنة، وتهاجروا من التعصب إلى اتباع الدليل، وتهاجروا من علم الكلام والفلسفة إلى طريقة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولا يمكن أن تهاجروا حتى تكون السنة والدليل الصحيح أحب إليكم من المذاهب، وإذا ما حصل هذا فلن تفعلوا ذلك.

الهجرة إلى رسول الله

الهجرة إلى رسول الله ولذلك طرح هنا مفهوم الهجرة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وحتى يوسع القضية ولا يظن الناس أن الهجرة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم كانت في المدينة وانقطعت الآن؛ فإن الهجرة إلى الرسول صلى عليه وسلم باقية وموجودة، وذلك بالهجرة إلى سنته، وإلى حديثه، وإلى طريقته وقد شكا الغربة من قلة هذه الهجرة، فقال: وأما الهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلم لم يبق منه سوى اسمه، ومنهج لم تترك بنيات الطريق سوى رسمه. فصارت الهجرة النبوية كما يقول: شأنها شديد، وطريقها على غير المعتاد بعيد وشكا الأذى الذي يجده من بني قومه ممن حوله من الناس، عندما يتبع السنة والدليل، ويقولون له: أنت تخالف المذهب أنت تخالف أئمتنا أنت خارج عن كلام فلان وفلان، ونحو ذلك.

حد الهجرة إلى رسول الله

حد الهجرة إلى رسول الله ثم شرع يعرف الهجرة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: سفر النفس في كل مسألة من مسائل الإيمان، ومنزلٍ من منازل القلوب وحادثة من حوادث الأحكام، إلى معدن الهدى، ومنبع النور المتلقى من فم الصادق المصدوق، الذي {وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4]، فكل مسألة طلعت عليها شمس رسالته وإلا فاقذف بها في بحر الظلمات. فلو عندك أي حكم أو أي شيء سمعته أو رأيته أو قرأته أو حفظته، فلابد أن تعرضه على السنة، فإن وافقته السنة فتمسك به، وإن خالفته السنة فاقذف به. بعض الناس عندما تأتي وتعلمهم السنة، وافتراض أن بلداً منتشر فيها القنوت في صلاة الفجر، فعندما تأتي وتعلمهم السنة فإنهم سيتركون القنوت في الفجر الدائم إلى السنة وهي قنوت النوازل؟ وإذا خالفتهم كأن صليت بهم ولم تقنت؛ عملت عندهم مصيبة عظيمة، فيعيبونك ويذمونك؛ لأنك أنت مفارق لما عليه الناس، وللطريقة وللجماعة ونحو ذلك. وبعض الناس يعيش في بيئة -وهذا الكلام مهم جداً، وليس هو فقط في قضية العبادات بل حتى في المحرمات- بعض الناس مثلاً يقولون: عندنا في بيئتنا مصافحة بنت العم وبنت الخال أمر طبيعي، وإذا امتنعت عن مصافحة قريباتي فستكون القطيعة والمشكلات كثيرة جداً، فماذا أفعل؟ أو تجده يقول: أنا في بيئتي يطوفون بالقبور والأضرحة أنا في بيئتي يُقنت في صلاة الفجر باستمرار أنا في بيئتي لا تُطبق السنة الفلانية والفلانية، أو تحدث أشياء كثيرة، فما هي الطريقة؟ الطريقة أن كل شيء في بيئتك تعرضه على السنة، فإن وافقها فخذ، وإن خالفها فارم به، وهكذا فالعجب للمقيم في مدينة طبائعه وعوائده وما ورثه عن آبائه وأجداده، ولا يريد أن ينتقل إلى مدينة الحق والسنة والدليل وما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة. هذه الهجرة أهم من هجرة الجسد، وهذه الهجرة فرض على كل مسلم، وهي مقتضى شهادة أن محمداً رسول الله، وعن الهجرة التي تقتضيها شهادة أن لا إله إلا الله سيسأل العبد يوم القيامة، بل قال ابن القيم: وفي البرزخ، وفي كل الدور هو مسئول عنها. قال قتادة رحمه الله: "كلمتان يُسأل عنهما الأولون والآخرون: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟ ". فالأولى: متعلقة بمبعث العمل وغايته، أشهد أن لا إله إلا الله، إيمان بالله، واحتساب لما عند الله. والثانية: متعلقة بكيفية العمل، وهي مرتبطة بشهادة أن محمداً رسول الله، هل تابعت سنته وطريقته في العمل أم لا؟

تأكيد الله باتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم

تأكيد الله باتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ابن القيم: وهاتان الكلمتان هما مضمون الشهادتين، وقد قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65]. انظر إلى المؤكدات التي انطوت عليها هذه الآية. أولاً: صدّرها بالنفي {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ} [النساء:65] وهذا منهج معروف عند العرب، كما قال الصديق رضي الله عنه: [لاها الله إذاً لا يعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله فيعطيك سلبه] هذا كان في قصة أبي قتادة، لما طالب شخص بسلب من قتله أبو قتادة، فـ أبو بكر نفى ذلك، كيف تُعطى سلب القاتل؟ والقاتل أحق به؟ وكما قال الشاعر: فلا والله لا يلقى لما بي ولا لما بهم أبداً دواء هذا النفي المستخدم في الآية أسلوب من الأساليب، فهذه الآية التي قال الله سبحانه وتعالى فيها: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:65] في رد الناس إلى السنة، وترك ما هم عليه، فيها مؤكدات كثيرة جداً، مثل النفي الموجود في أوله، كما تجده في أقسام الله تعالى: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [القيامة:1] {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة:75] {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ} [التكوير:15] وهذا يؤكد الحقيقة المذكورة أكثر. ثانياً: القسم نفسه {فَلا وَرَبِّكَ} [النساء:65] واو القسم. ثالثاً: التأكيد بالمقسم به، فإنه أقسم هنا بالرب سبحانه وتعالى، والله يُقسم بالمخلوقات ويُقسم بنفسه سبحانه، فهنا أقسم بنفسه. رابعاً: أكده بنفي الحرج: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً} [النساء:65] لأن بعض الناس يسمع حكم الله ورسوله لكنه يتحرج منه، بل إنه يود لو أنه ما كان هكذا يقول عند صفقة كذا وكذا: ما حكمها؟ فتقول: حرام؛ لأنك أنت بعت ما لا تملك مثلاً، فينصرف عنك، ولو سمع الكلام يسمع وفي نفسه حزازة، بل يتمنى أن الحكم ما كان، لأنه فوت عليه أشياء. خامساً: تأكيد الفعل بالمصدر، قال سبحانه وتعالى: {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] فكأنه قال: (ويسلموا) مرتين، لأجل ألا يكون هناك أي نوع من أنواع الاعتراض، ويكون هناك كمال الانقياد والطاعة والرضا والتسليم.

كيفية حبنا للرسول صلى الله عليه وسلم

كيفية حبنا للرسول صلى الله عليه وسلم ولذلك طرح هنا مفهوم الهجرة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وحتى يوسع القضية ولا يظن الناس أن الهجرة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم كانت في المدينة وانقطعت الآن؛ فإن الهجرة إلى الرسول صلى عليه وسلم باقية وموجودة، وذلك بالهجرة إلى سنته، وإلى حديثه، وإلى طريقته وقد شكا الغربة من قلة هذه الهجرة، فقال: وأما الهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلم لم يبق منه سوى اسمه، ومنهج لم تترك بنيات الطريق سوى رسمه. فصارت الهجرة النبوية كما يقول: شأنها شديد، وطريقها على غير المعتاد بعيد وشكا الأذى الذي يجده من بني قومه ممن حوله من الناس، عندما يتبع السنة والدليل، ويقولون له: أنت تخالف المذهب أنت تخالف أئمتنا أنت خارج عن كلام فلان وفلان، ونحو ذلك.

أدعياء المحبة

أدعياء المحبة لا ينبغي للعبد أن يكون لنفسه حكم أصلاً، بل الحكم على نفسه للرسول صلى الله عليه وسلم يحكم عليها أعظم من حكم السيد على عبده أو الوالد على ولده، ولا يكون عنده مقررات عقلية ينطلق منها، بل ينطلق من الكتاب والسنة. ومن العجب أن بعض الناس يقول: هات فإن وافق عقلي قبلت، وإن خالف عقلي رددت، فيجعل عقله هو الحكم على الكتاب والسنة، والإعراض عما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من أعظم الإثم العدوان، وقد قال الله تعالى: {وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} [النساء:135]. إن اللي والإعراض هما السببان الموجبان لكتمان الحق وتركه، فأول ما يحاول أصحاب الباطل أن يلووا الأمور، ويحرفونها، فإذا ما استطاعوا أعرضوا عنها، فكانوا كالشيطان الأخرس. اللي: هو التحريف، فقد يحرفون الألفاظ، إما بزيادة أو نقصان أو تبديل، يقول لك: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] أي: استولى، فيزيد لاماً، واليهود ماذا كانوا يقولون في السلام عليكم؟ كانوا ينقصون اللام، ويقولون: السام عليكم، هذا ليّ وتحريف، وقد يحرفون المعنى، قد يحرف اللفظ وقد يحرف المعنى، فيقول: المقصود بكذا كذا، غير ما قصده الله وما أراده سبحانه وتعالى، وبعضهم يُعرض إعراضاً تاماً عن الدليل، وينبغي على الإنسان ألا يختار لنفسه، وإنما يكون لله ولرسوله الخيرة، فإذا ثبت لله ورسوله اختيار معين وجبت الطاعة والاتباع، ومن استبانت له سنة لم يكن له أن يدعها لقول أحد، كما قال الإمام الشافعي رحمه الله، وقد قال الله عز وجل: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [التغابن:12] {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} [النور:54]. إذا توليتم عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنما عليه ما حمل، وماذا حمل النبي صلى الله عليه وسلم؟ حمل التبليغ، وعلينا ما حملنا وهو التنفيذ والعمل، فالرسول صلى الله عليه وسلم غير مكلف بتنفيذنا نحن، إنما هو مكلف بالتبليغ فقط، وكل داعية ليس مكلفاً بأن يهتدي الناس ويؤمنوا، هذا شيء لا يملكه، هو مكلف بالتبليغ فقط. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء:59]. فأمر بطاعته وطاعة رسوله، وصدّر الخطاب بـ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [النساء:59] ولم يأتِ بصفة أخرى؛ لأنه نادى بالصفة التي تقتضي الأمر، فالصفة هي صفة الإيمان، كأن تقول: يأيها الحاكم! احكم، يأيها المنعم عليه! أحسن، ويأيها العالم! علِّم، فعندما ناديته بهذا النداء؛ يُفهم منه أن الشيء له علاقة بالموضوع، وأنه يقتضيه الموضوع، فلما قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59] عُلِمَ أن هذا من مقتضيات الإيمان، لأنه ناداهم به.

طاعة الرسول من طاعة الله

طاعة الرسول من طاعة الله لماذا قال: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء:59] فذكر طاعتين؟ حتى لا يتوهم أحد أن الشيء الذي يأمر به الرسول صلى الله عليه وسلم وليس موجوداً في القرآن أنه غير واجب، كما قال عليه الصلاة والسلام: (يوشك رجل شبعان متكئ على أريكته، يأتيه الأمر من أمري، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله تعالى، ما وجدنا فيه من شيء اتبعناه، ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه) الذي أنزله الله وأوجب اتباعه مثل الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم واجب الاتباع. وتأمل كيف أفرد لنفسه طاعة، وللرسول طاعة، وأدخل طاعة أولي الأمر في طاعة الله ورسوله، ولم يفرد الطاعة؛ لأنها تبع، فلو خالفوا ما وجبت لهم طاعة: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59] في أي نزاع، وأي قضية، لا بد من الرد إلى الكتاب والسنة {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء:59] هذا شرط، إذا كنتم تؤمنون فردوه وإذا ما رددتموه، فمعنى ذلك أنكم غير مؤمنين بالله واليوم الآخر. وهذه آية كما قال رحمه الله: عاصمة قاصمة، تعصم المتمسك بها، وتقصم ظهر المخالف لها، فإذا أطعنا الله وأطعنا الرسول وكل شيء تنازعنا فيه رددناه إلى الله والرسول، فإن الذي سيحصل لنا هو الخير: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59] وكل خير في العالم يحدث بسبب طاعة الله ورسوله، وكل شر في العالم يحدث بسبب مخالفة الله ورسوله، وهذا أمر معروف. فإذا صرت إنساناً تطيع الله والرسول، وترد إلى الله والرسول كل شيء يحصل عندك فيه لبس أو غبش أو جهل أو نزاع؛ فإنك تكون قد كملت نفسك، وبقي عليك أمران: الأول: دعوة الخلق إلى هذا الحق. الثاني: الصبر على ما تلقاه. فصار عندنا علم وعمل ودعوة وصبر، هذه أربعة مراتب إذا عملها الإنسان فقد بلغ كماله. ومن الصوارف: العلاقة بالخلق عن الحق، إذا كانت العلاقة سلبية وغير صحيحة، ولذلك اختار العلماء العزلة حينما يكون الأشرار محيطين بالإنسان، وحين ذلك لا بد أن يفارقهم. لقاء الناس ليس يفيد شيئاً سوى الهذيان من قيل وقال فأقلل من لقاء الناس إلا لأخذ العلم أو إصلاح حال تعاون على البر والتقوى، اجعل علاقتك بالناس قائمة على: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2] وإذا ما وجد التعاون على البر والتقوى فاقطع العلاقة، هذا هو الصحيح.

حال المتخالين على غير طاعة رسول الله

حال المتخالين على غير طاعة رسول الله وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً} [الفرقان:27 - 28] فيتندم: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67] فتتقطع الأسباب، ويلعن بعضهم بعضاً، ويقول الأتباع: {رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً} [الأحزاب:68] فهؤلاء هم الذين ستتقطع بهم الأسباب، إلا أولياء الله سبحانه وتعالى، لأن علاقتهم كانت بالله فاستمرت العلاقات. يوم القيامة لا تتقطع علاقة الإخوان في الله ببعضهم، لكن تتقطع كل العلاقات الأخرى؛ لأن العلاقات المبنية على العلاقة بالله قائمة ومستمرة إلى يوم القيامة، وأما المبنية على الدنيا والهوى فإنها تتقطع ويلعن بعضهم بعضاً، ويتبرأ بعضهم من بعض، وستكون هناك معركة كبيرة جداً يوم القيامة، بين الأتباع والمتبوعين، وكل من تابع آخر في باطل سيسبه ويشتمه، وكل المودات والعلاقات والموالات التي كانت في الدنيا لغير الله، ستنقطع يوم القيامة، ولا تنفعه لا في دار البرزخ ولا في دار الآخرة، وأما العلاقة بالله فإنها تبقى قائمة: إذا انقطع حبل الوصل بينهم فللمحبين حبل غير منقطع وإن تصدع شمل القوم بينهم فللمحبين شمل غير منصدع هؤلاء أتباع الأشقاء، بينهم يوم القيامة عداوات ومعارك، ولعن وسب وشتم، ولكلٍّ صعف من العذاب.

الأتباع السعداء

الأتباع السعداء أما أتباع السعداء فنوعان: النوع الأول: الذين يكونون مستقلين، اتباع استقلالي، الذين قال الله فيهم: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} [التوبة:100] هؤلاء السعداء تبعوا النبي صلى الله عليه وسلم وتبعوا أصحابه كيف تبعوهم؟ تبعوهم بإحسان، فلا بد أن يكون هناك إحسان في الاتباع، ومن الناس من أدرك الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه، ومنهم من لم يدركه ولم يلحقه، كما قال الله سبحانه وتعالى في سورة الجمعة: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [الجمعة:2 - 4]. فالذين مع النبي صلى الله عليه وسلم لحقوا به في الزمن والفضل، ومن جاء بعدهم ما لحق بالنبي صلى الله عليه وسلم في الزمن، فلن يلحق في الفضل، ولأن فضل الصحابة لن يجاريه أحد، لكنه سيكون له أجر وفضل لاتباعه للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهذا الاتباع الذي يستلزم حسن الأخذ، وحسن التلقي، وحسن التطبيق، مبني على تشرب السنة، وأخذ العلم. أنزل الله سبحانه وتعالى الوحي من السماء غيثاً للقلوب، والغيث كما أنه يحيي الأرض، فكذلك يحيي الله القلوب بالوحي، والأراضي أنواع: 1 - أرض تأخذ الماء وتنبت من كل زوج بهيج. 2 - وأرض صلبة تأخذ الماء وتحفظه ولا تنبت شيئاً، لكن الماء لا يضيع. 3 - وأرض لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً، إنما هي قيعان، وهذه أمثلة تفاعل النفوس مع العلم، فهناك نفوس إذا سمعت الأدلة وكلام الله وكلام رسوله أنبتت الثمار، ونفع الله بها، وانتفع الخلق، وهناك نفوس تسمع النصوص وتحفظها صالحة في نفسها، لكن لا تستطيع أن تستنبط من النصوص ولا تُعلِّم، فما هو كمالها وحسبها؟ أن تنقل هذا العلم لغيرها حتى يستفيد منه، وهذا معنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه غير فقيه) ومثل هاتين الدرجتين كالتاجر الخبير بوجوه المكاسب والتجارات، فهذا يشغل المال ويكسب منه ويثمر، وآخر يحفظ المال، لكنه لا يستطيع أن ينميه. وهناك الطائفة الأخرى: التي لا تمسك شيئاً ولا تنبت شيئاً، فلا فائدة للغير ولا فائدة لنفسها.

أطفال المؤمنين يلحقون بآبائهم في الجنة

أطفال المؤمنين يلحقون بآبائهم في الجنة هناك أتباع مُلحقين، وهم كل من تابع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بإحسان، فسيلحق بهم يوم القيامة، وهناك أتباع ملحقين مثل أطفال المؤمنين، قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور:21]. وعندما يلحق الولد المؤمن بأبيه المؤمن في الآخرة وفي الجنة، هل معنى ذلك أن عمل الأب سيوزع على الأب والولد، أي: ينقص عمل الأب لكي يدخل الولد معه الجنة؟ A لا، قال تعالى: {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور:21] وحتى لا يتصور أن الأب إذا كان قد عمل سيئة فسيعاقب عليها الولد -أيضاً- من باب الاتباع والإلحاق، فقد قال الله سبحانه وتعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فاطر:18]، ولذلك الإلحاق هنا في الفضل والثواب وليس في العدل والعقاب، فإن الولد ليس له دخل بسيئة أبيه.

زاد السفر إلى الله وطريقه ومركبه

زاد السفر إلى الله وطريقه ومركبه السفر إلى الله يحتاج إلى زاد، والزاد هو العلم، ولا بد أن يكون الرفقاء في السفر طيبين؛ حتى يصل الإنسان بسلامة، وهذا معنى قولنا: إنه يجب على الإنسان أن يكون عنده قرناء صالحون وأخيار وأصحاب طيبون، حتى يصل معهم إلى بر السلامة، والذي يتخذ أناساً من قرناء السوء يحملونه على المنكر والمعاصي فإنه سيتضرر بهم في الدنيا ويوم القيامة عندما يكون معهم في العقاب، فلن ينفعهم اشتراك بعضهم مع بعض في العقاب، كما قال الله تعالى: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:39] لكن في الدنيا لو صارت مصيبة على الجميع فكل واحد يخف عنه الألم لما يجده من مصاب الآخرين، فهذه الخنساء عندما قتل أخوها صخر، عزت نفسها بأن كثيراً من النساء قد قتل أزواجهن أو أولادهن، فقالت: ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي وما يبكون مثل أخي ولكن أسلي النفس عنهم بالتأسي تقول: أخي أفضل وأكرم وأحسن، لكن المصيبة لما اشتركوا فيها خف الألم، لكن يوم القيامة عندما يكون أهل السوء مع بعضهم البعض في النار فلن يخف عنهم الألم، ولا عزاء لبعضهم في اشتراكهم في العذاب. والذي يريد أن يسير إلى الله تعالى لا بد أن يكون له مركب يركب عليه ذكرنا أن الزاد هو العلم، وانظر إلى التشبيه البليغ من ابن القيم رحمه الله المسافر يحتاج إلى زاد، ويحتاج إلى دابة، ويحتاج إلى رفقة، وقد ذكرنا أن الزاد هو العلم، وبينا أمر الرفقة وهم الإخوان الصالحون، فما هو الظهر الذي سيركب عليه؟ يقول ابن القيم رحمه الله: لا يمكن أن تصل إلا إذا امتطيت مطيتين: الأولى: مطية الصبر على لوم اللائمين. الثانية: أن تهون نفسك لله، ولا تبالي بمن خالفك، فإذا لم تبالِ بمن خالف الحق، وإذا صبرت على أذى المخالفين للحق فسوف تصل، ومدار هذين الأمرين على الصبر، وأن يكون مركبك اللجوء إلى الله، والاستعانة بالله، والانطراح بين يديه، والتطلع لما عنده، أن يلم شعثك، ويمدك بفضله، ويسترك بستره.

التفكر في آيات الله والتدبر في كتابه الكريم

التفكر في آيات الله والتدبر في كتابه الكريم قال ابن القيم: ورأس الأمر وعموده التفكر في آلاء الله، والتدبر في آيات الله، وقد تجد شخصاً جالساً فتقول: ماذا يفعل هذا؟! وإن كان ثابتاً ببدنه، لكن عقله جوال في آيات الله المسطورة والمنثورة، يتأمل فيها، وإذا كان الإنسان عنده علم بالتفسير، استطاع أن ينظر ويتفكر في آيات الله عز وجل، وصارت خواطره وفكره مستودع للاستنباطات والفهم من كتاب الله تعالى، وتراه ساكناً وهو يباري الريح {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل:88] وتدبر القرآن وتفهمه من أعظم الأمور. ثم قال ابن القيم رحمه الله: إن قلت لي: اضرب لي مثلاً على التدبر في القرآن كيف يكون؟ فسأقول لك: آيات في الكتاب العزيز، إذا قرأها الشخص العادي يفهم شيئاً، وإذا تدبرها صاحب العلم يفهم شيئاً آخر، هذه الآيات هي قول الله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ * {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * {فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ * {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ * {فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} [الذاريات:28 - 29]. قال: هذه الآيات لو طرحت على الشخص العادي، فسيخرج منها أن الملائكة أتوا إبراهيم في صورة أضياف يأكلون ويشربون، وبشروه بغلام، والمرأة لما سمعت ضربت وجهها قال: فاسمع الآن ما فيها من الأسرار: أولاً: إن الله سبحانه وتعالى قال: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} [الذاريات:24] افتتحها بأداة استفهام، وهذه الأداة تدل على شيء، فإنها تنبه الشخص لما سيأتيه من العلم، وأن هذا العلم من الغيب {مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} [هود:49]، وكذلك تستخدم لتضخيم الشيء: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1]، وتستخدم لما سيقصه عليه من نبأ الغيب: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} [النازعات:15] {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ} [ص:21] {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} [الذاريات:24] ولما وصفهم بأنهم مكرمون؛ عرفنا أن إبراهيم قد أكرمهم، فإذاً إبراهيم يُكرم الضيوف وهذه من مناقبه، ولو كان المقصود بالمكرمين أن الله كرمهم، فكون إبراهيم يُكرم من كرمه الله، يعتبر من مناقبه أنه كرَّم المكرمين. {فَقَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ} [الذاريات:25] سلاماً جملة فعلية، وسلامٌ جملة اسمية، والشيء الفعلي يقتضي التجدد والحدوث، والشيء الاسمي يقتضي الثبات والاستقرار، فإذاً: سلامٌ أبلغ؛ لأنها تقتضي الثبات والاستقرار، فكانت تحيته لهم من باب قوله تعالى: {فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء:86]. {قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} [الذاريات:25] ولم يقل: من أنتم؟ أنتم قوم منكرون، ولم يقل: أنا أنكركم، فدل ذلك على لطافة أسلوبه مع ضيفه، فإنه أخبرهم أنه ما رآهم من قبل، لكن لم يخبرهم بأسلوب فيه فجوة بينه وبينهم، ثم إنه راغ إلى أهله: {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ} [الذاريات:26] باختفاء وسرعة، وهذا هو الروغان، حتى لا يخجّلهم، لا كما يفعله بعض الناس مع ضيوفهم، فإنه يبرز بمرأى منه، ويخرج النقود، ويستدعي الولد، ويقول: خذ اشترِ لنا كذا من السوق، وهاتِ لنا كذا، أمام الضيوف، فإنه استقبال بارد، ويتضمن تخجيلاً للضيوف، وتسبباً في سواد وجوههم، لكن إبراهيم بدون أن يستشيرهم، راغ إلى أهله {فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات:26]، فتضمن ذلك أنه خدم ضيوفه بنفسه، ولم يُرسل عبداً ولا ولداً. ثانياً: أنه جاءهم بحيوان تام، لينتقوا منه ما يشاءون، بعجل كامل، ثم إنه سمين وليس بهزيل، فهو يضيف الناس من نفائس ماله، فقربه إليهم، ولم يقل: تعالوا واقتربوا، وإنما قرب الطعام، وهذا أبلغ في الإكرام، ثم إنه قال: {أَلا تَأْكُلُونَ} [الصافات:91] فعرض عليهم الأكل بصيغة لطيفة، ولم يقل: كلوا، ضعوا أيديكم ونحو ذلك، أو سكت، فيتحرج الضيف، هل يمد يده أو ينتظر إشارة المد؟ فقال إبراهيم: ألا تأكلون؟ وهكذا فإذا قارنت بين المعنى العام الذي يفهمه الشخص وبين هذه الدقائق التي لا يُتوصل إليها إلا بالتدبر في الآيات؛ لوجدت ما معنى التدبر في القرآن الكريم؟!

الرفيق والطريق

الرفيق والطريق ثم قال ابن القيم رحمه الله: (إذا أردت أن تسير إلى الله سيراً حثيثاً قوياً، فعليك بمرافقة الأموات الذين هم في العالم أحياء، واحذر من مرافقة الأحياء الذين هم في الناس أموات). من هم الأموات الذين هم في العالم أحياء؟ إنهم الصحابة والعلماء وأهل الفضل والكتب، كتبهم وعلمهم، وإن مات المؤلف فعلمه حي بين الناس، كما قالوا: تصنيف العالم ولده المخلد، ليس ولداً عمره ستون أو سبعون سنة ويموت، فانظر إلى كتبهم رحمهم الله، كتب العلماء النافعة، فإنها مئات السنين مستمرة وباقية، ووصلت إلينا، فرافق الأموات الذين هم في العالم أحياء، وتجنب أن ترافق الأحياء الذين هم في الناس أموات أموات بسبب معاصيهم وضلالهم وضياع أوقاتهم، وتضييعهم لأوقات غيرهم. يقول: إياك أن ترافق هؤلاء، فإنك لن تستفيد مطلقاً، فإذا حصلت هذه الأمور كان الأصل طيباً، وكان العود طيباً، وكانت النفس قوية، وصار العلم موجوداً، والصحوة الطيبة موجودة، والزاد إلى الله موجود، فإنك ستصل إلى الله بسلام. هذا تمام الكلام عن استعراض هذه الرسالة لـ ابن القيم -رحمه الله- وهي الرسالة التبوكية، التي أرسلها من تبوك -كما قلنا- ونبه فيها على سير المسلم إلى الله عز وجل نسأل الله أن ينفعنا بما سمعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه سميع مجيب، وصلى الله على نبينا محمد.

دروس وعبر من قصة أبي ذر

دروس وعبر من قصة أبي ذر إننا لو نظرنا -نحن المسلمين- إلى حياة الصحابة، وكيف كانوا يُبلُون لأجل نصرة الدين وانتشار الإسلام؛ لما وجد هذا الذل والاضطهاد من قبل أعداء الله المشركين. وإن قصة أبي ذر رضي الله عنه لتشهد لنا حقيقة وتبين لنا كيف كانت هممهم في طلب الحق واعتناقه، ثم إذا اعتنقوه دافعوا وبذلوا النفس رخيصة من أجله، وقاموا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دون خوف من أحد.

جيل الصحابة كون مجتمعا مسلما متكاملا

جيل الصحابة كون مجتمعاً مسلماً متكاملاً الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: أيها الإخوة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أحييكم في هذه الليلة التي نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا وإياكم بما سنسمع فيها، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يثيبكم خيراً على حضوركم واستماعكم، ونسأل الله أن يجعل مجلسنا هذا من المجالس التي تثقل فيها أعمالنا يوم القيامة، إن دراسة قصص الصحابة رضوان الله عليهم لها أهمية كبيرة؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم هم أولئك الجيل الذي رباهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على عينه، ولقنهم مبادئ الوحي ومضامين الرسالة التي أنزلت عليه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم هذه الأمة قاطبة جنها وإنسها، ولذلك فإن هذا المربي العظيم عندما يربي ذلك الجيل على تلك التعليمات الإلهية، كتاباً وسنة، فإن ذلك الجيل لا بد أن يكون جيلاً عظيماً، جيلاً تستفيد منه البشرية إلى قيام الساعة، وهذا الجيل -أيها الإخوة- عبارة عن أفراد تجمعوا وآمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم، وانصهروا في تلك البوتقة الإيمانية التربوية، حتى خرجت تلك النماذج، وصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم يتفاوتون في ميزاتهم، وصفاتهم الشخصية، ولذلك نجد أن أرأف الأمة: أبا بكر وأشدها في أمر الله: عمر، وأكثرها حياءً: عثمان، وأحسنهم قضاء بين الخصوم: علي بن أبي طالب، وأعلمهم بالحلال والحرام: معاذ بن جبل، وأعلمهم بالفرائض: زيد بن ثابت، وأكثرهم أمانة: أبو عبيدة عامر بن الجراح، وأعلمهم بالقراءة -قراءة القرآن- أبي بن كعب، فإذاً الصحابة رضوان الله عليهم كانت صفاتهم الشخصية واستعداداتهم وقدراتهم تتفاوت، ومن مجموع هذه القدرات وتنوع هذه الشخصيات، تكون ذلك المجتمع المسلم.

أبو ذر الغفاري رضي الله عنه ترجمته وحياته

أبو ذر الغفاري رضي الله عنه ترجمته وحياته ونحن اليوم سنلقي الضوء في هذا الليلة إن شاء الله عن شخصية من تلكم الشخصيات العظيمة التي نشأت في ظل النبوة نشأة إيمانية، فالصحابة رضوان الله عليهم كثير منهم دخلوا في الإسلام وهم كبار السن، ومع أن تشكل الكبير على أمر جديد صعب، ولكن عندما يسلم الإنسان تسليماً كاملاً وينقاد فإن ذلك التشكل يكون سهلاً، والرجل الذي سنتكلم عنه في هذه الليلة، هو: أبو ذر الغفاري رضي الله عنه، هذه الشخصية التي لا يعلم عنها الكثيرون، وبعض من يعلم عنها شيئاً يعلمون عنها أشياء مشوهة، قد أخذوا عنها فكرة غير كاملة وصحيحة، فمن الناس من يعتقد أن أبا ذر شخصية ضعيفة مهزوزة، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنك لضعيف) ولكن الحقيقة غير ذلك كما سنبين إن شاء الله.

اسمه ونسبه وفضله

اسمه ونسبه وفضله فأما أبو ذر فإن اسمه: جندب بن جنادة -جُندُب أو جُندَب لغتان صحيحتان- ابن سفيان بن عبيد بن حرام بن غفار وغفار يرجع أصلهم إلى بني كنانة، قال الذهبي رحمه الله في السير: هو أحد السابقين الأولين من نجباء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كان يفتي في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان، وكان رأساً في الزهد والصدق والعلم بالعمل، قوالاً بالحق، لا تأخذه في الله لومة لائم، على حدة فيه. وقال عليه الصلاة السلام مبيناً فضائل ذلك الرجل في الحديث الصحيح: (ما أقلت الغبراء - الأرض- ولا أظلت الخضراء - السماء- من رجل أصدق لهجة من أبي ذر). أما بالنسبة لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم الصحيح الذي يقول: (يا أبا ذر! إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تتأمرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم) فهذا التعليم منه عليه الصلاة والسلام والإرشاد لـ أبي ذر ذلك لأن أبا ذر كانت تعتريه حدة في كثير من الأحيان، مما قد لا يكون مع تلك الحدة جيداً في الإمارة، وكان يرى أن إبقاء المال هو كنز للمال، ولا بد من إنفاقه كله، ولذلك لو تولى مال يتيم قد ينفق مال اليتيم في سبيل الله.

قصة إسلام أبي ذر في الرواية المتفق عليها

قصة إسلام أبي ذر في الرواية المتفق عليها وأما من ناحية شخصية الرجل، فإنها عظيمة، وموضوعنا الذي سنتحدث عنه في هذه الليلة هو عن جزء من حياة أبي ذر وهذا الجزء هو قصة إسلامه، إن قصة إسلام أبي ذر -أيها الإخوة- من القصص الشيقة الممتعة التي تحتوي على دروس عظيمة، وهذه القصة رواها الإمام البخاري رحمه الله والإمام مسلم في صحيحيهما، وغيرهما، وهناك رواية اتفق على إخراجها البخاري ومسلم ورواية أخرى أخرجها مسلم وغيره، وبين الروايتين تغاير واضح في السياق، حتى إن بعض أهل العلم قالوا: إنه يتعذر الجمع بين بعض التفاصيل الواردة في السياقين، وبعضهم قال: يمكن الجمع، والمسألة فيها دقة وفيها صعوبة شديدة، ولذلك نحن سنقتصر إن شاء الله على إيراد الروايتين، وشرحهما، مع ذكر الفوائد فيهما، ونبدأ بذكر رواية الصحيحين التي رجحها بعض أهل العلم، على رواية مسلم، وإن كانتا من ناحية صحة السند ثابتتين، فأما رواية البخاري ومسلم فهي عن عبد الله بن عباس أنه كان في مجلس فقال لمن حوله: ألا أخبركم بإسلام أبي ذر؟ قلنا: بلى. قال ابن عباس: قال أبو ذر: (كنت رجلاً من غفار -قبيلة غفار- فبلغنا أن رجلاً خرج بـ مكة يزعم أنه نبي، فقلت لأخي: انطلق إلى هذا الرجل فكلمه وائتني بخبره). وفي رواية: أن ابن عباس قال: (لما بلغ أبا ذر مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بـ مكة، قال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي، - مكة، لأنها في وادي- فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء، واسمع من قوله ثم ائتني، فانطلق -أي الأخ- حتى قدم مكة وسمع من قوله، ثم رجع إلى أبي ذر، فقال: والله لقد رأيت رجلاً يأمر بالخير وينهى عن الشر) وفي رواية: فقال: (رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وكلاماً ما هو بالشعر -ليس شعراً- فقال أبو ذر: ما شفيتني -أي ما أتيت لي بالكلام الذي يلبي حاجتي في نفسي، ما شفيتني فيما أردت- فتزود أبو ذر وحمل شنة له فيها ماء وجراباً وعصا حتى قدم مكة -الآن أبو ذر يذهب ليبحث عن هذا الرجل وعن حقيقة الأمر، هل هو حق أم لا؟ - حتى قدم مكة، فأتى المسجد، فالتمس النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعرفه -لكن لا يعرف من هو الرسول صلى الله عليه وسلم- وكره أن يسأل عنه) لماذا كره أبو ذر أن يسأل عن الرسول صلى الله عليه وسلم؟ هناك أسباب ذكرها ابن حجر رحمه الله قال: لأنه عرف أن السؤال عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذي السائل، أو أن السؤال عن الرسول صلى الله عليه وسلم يؤذي المسئول عنه وهو الرسول صلى الله عليه وسلم، أو أن كفار قريش لن يدلوا السائل على الرسول صلى الله عليه وسلم لعداوتهم له، أو يمنعونه من الاجتماع به، أو يخدعونه حتى يرجع عنه ولا يقابله، ولذلك كان أبو ذر رحمه الله حكيماً عندما لم يسأل عن الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى أدركه الليل. وفي رواية: أنه قال: (وأشرب من ماء زمزم وأكون في المسجد -يعني: أجلس في المسجد الحرام، وأشرب من ماء زمزم- فاضطجع رضي الله عنه، فرآه علي بن أبي طالب، فعرف أنه غريب من هيئته ومظهره، فقال علي رضي الله عنه: كأن الرجل غريب؟ -يقول: لـ أبي ذر كأن الرجل غريب؟ - قال: قلت: نعم، قال: فانطلق إلى المنزل -أي حتى أضيفك- فلما رآه تبعه فلم يسأل الواحد منهما صاحبه عن شيء حتى أصبح، ذهب أبو ذر مع علي وما سأل علياً عن شيء ولم يسأله علي عن شيء، حتى صار الصباح، ثم احتمل قربته -وفي رواية: قريبته، تصغير- وزاده إلى المسجد، خرج من بيت علي ورجع في الصباح إلى المسجد، فظل ذلك اليوم، ولا يرى النبي صلى الله عليه وسلم حتى أمسى، فعاد إلى مضجعه، فمر به علي للمرة الثانية، فقال: أما آن للرجل أن يعلم منزله؟). أي: كأنه يريد أن يضيفه مرة أخرى، يعرض عليه الضيافة، وفيها تلميح إلى أنه ما هو قصدك؟ ماذا تريد؟ (أما آن للرجل أن يعلم منزله؟ فأقامه فذهب به معه، قال: فانطلقت معه لا يسألني عن شيء ولا أخبره بشيء حتى إذا كان اليوم الثالث، فعل مثل ذلك -أخذه معه إلى منزله في المساء، ويرجع أبو ذر رضي الله عنه في الصباح إلى المسجد- فقال علي في المرة الثالثة: ألا تحدثني ما الذي أقدمك هذا البلد؟) وفي رواية: فقال: (ما أمرك؟ وما أقدمك هذه البلدة؟ فقال أبو ذر رضي الله عنه: إن أعطيتني عهداً وميثاقاً لترشدني فعلت) لو أعطيتني العهد والميثاق أن تخبرني عما أنا جئت بسببه، أخبرتك، وفي رواية: أنه قال لـ علي: (إن كتمت علي أخبرتك، قال علي: فإني أفعل) أعطاه وعداً أن يفعل -الآن علي مسلم وليس بكافر- وقال ابن حجر: والراجح أنه أسلم وهو ابن عشر سنين ولذلك يقول: فالراجح أن هذه القصة وقعت بعد البعثة بسنتين على الأقل، بسنتين فأكثر، أي: يحتمل أنه كان سن علي في ذلك الوقت بين اثنتي عشرة سنة وبين عشرين سنة تقريباً؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هاجر بعد البعثة، أو أكثر، المهم أنه فوق أثنتي عشرة سنة، لماذا؟ لأن اثني عشر سنة هو السن المعقول في أن رجلاً مثل علي يخاطب رجلاً ويضيفه، ولذلك فإن هذه القصة على الراجح كما سيمر معنا بعد قليل أنها حصلت قبيل الهجرة إلى المدينة - (فقال أبو ذر لـ علي رضي الله عنه: سمعنا أنه ظهر نبي في مكة، وأتيت أتحقق من الأمر وأسأل، فأخبره أبو ذر، فقال علي رضي الله عنه: إنه حق وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي رواية: أنه قال له: أما إنك قد رشدت) أي: قد أصبحت على الرشد، أنت فعلاً جئت لشيء صحيح وحق (وهذا وجهي إليه) علي يقول لـ أبي ذر، إنني متوجه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فيقول علي رضي الله عنه: (فإذا أصبحت فاتبعني فإني إن رأيت شيئاً أخافه عليك قمت كأني أريق الماء) يقول علي: هناك مشكلة وهي أن كفار قريش يقومون بضغط شديد على الدعوة ومحاربة عظيمة جداً، وتتبع مستمر لكل رجل يحاول الالتحاق بركب الدعوة، ولذلك فـ علي بن أبي طالب كان لا بد أن يلجأ إلى طريقة لا تشعر الناس أن أبا ذر سيتبعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال علي لـ أبي ذر: (فاتبعني فإني إن رأيت شيئاً أخافه عليك، قمت كأني أريق الماء). وفي رواية: (قمت كأني أصلح نعلي -في هيئة الذي يصلح نعله- فإذا أنا فعلت ذلك فأمض أنت دون أن تلتفت) معناها: أن تتابع سيرك فيما بعد، قال ابن حجر رحمه الله: ويحتمل أنه قالهما جميعاً، قال: كأني أريق الماء، أو كأني أصلح نعلي (فاتبعني حتى تدخل مدخلي، ففعل، فمضى ومضيت معه، حتى دخل ودخلت معه، فانطلق يقفوه حتى دخل على النبي صلى الله عليه وسلم ودخل معه، فقلت له: اعرض عليّ الإسلام، فعرضه الرسول صلى الله عليه وسلم على أبي ذر، فسمع من قوله، فأسلم أبو ذر مكانه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا ذر اكتم هذا الأمر، وارجع إلى بلدك). وفي رواية: (ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري، فإذا بلغك ظهورنا فأقبل -إذا بلغك أننا ظهرنا على أعدائنا فتعال إلي من بلدك- فقال: والذي بعثك بالحق، وفي رواية: والذي نفسي بيده، لأصرخن بها بين ظهرانيهم) يقول: لا أكتم الأمر، ولا أكتم إسلامي، وسأذهب وأصرخ بالشهادتين بين ظهرانيهم، أي: بين ظهراني المشركين في مكة، (فخرج فجاء إلى المسجد وقريش فيه، فنادى بأعلى صوته، يا معشر قريش! أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، فقالوا: قوموا إلى هذا الصابئ الذي غير دينه، وثار القوم فضربوه حتى أضجعوه، وأتى العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم فرآهم وهم يضربونه فأكب على أبي ذر وقال: ويلكم ألستم تعلمون أنه من غفار؟). وفي رواية قال: (ويلكم تقتلون رجلاً تعلمون أنه من غفار وهي طريق تجاركم إلى الشام) انظر إلى ذكاء العباس يقول: أنتم الآن تريدون أن تقتلوا رجلاً من غفار وطريق تجارتكم تمر من بلادهم، فيمكن أن يثأروا له عن طريق تجارتكم؛ فأنقذه منهم (فأقلعوا عني -أي كفوا عني- ثم أصبحت الغد، فرجعت فقلت مثلما قلت بالأمس! فقالوا: قوموا إلى هذا الصابئ فصنع بي مثلما صنع بالأمس -ثاروا إليه، فضربوه- فأكب عليه العباس فأنقذه)، هذه الرواية في البخاري ومسلم، أما رواية الإمام مسلم رحمه الله ففيها زيادة تفاصيل في بداية القصة وفي نهايتها، وفيها طريقة أخرى لمقابلة أبي ذر للرسول صلى الله عليه وسلم لأول مرة.

قصة إسلام أبي ذر في رواية مسلم

قصة إسلام أبي ذر في رواية مسلم روى الإمام مسلم رحمه الله عن عبد الله بن الصامت قال: قال أبو ذر: (خرجنا من قومنا غفار، وكانوا يحلون الشهر الحرام -غفار كانوا في جاهليتهم يحلون الشهر الحرام الذي حرم الله القتال فيه- قال: فخرجت أنا وأخي أنيس وأمنا) هؤلاء الثلاثة هؤلاء أبو ذر وأنيس وأمهما كانوا لا يرضون عن فعل غفار، ولأجل المنكر الذي كانت عليه غفار خرجوا من غفار (فنزلنا على خال لنا، فأكرمنا خالنا وأحسن إلينا، فحسدنا قومه، فقالوا: إنك إذا خرجت عن أهلك -الكلام موجه إلى الخال- فقالوا: إنك إذا خرجت عن أهلك، أي: زوجتك، خالف إليهم أنيس) يعني: أنت إذا خرجت من هنا هو جاء إليهم من هنا، وكان أنيس جميل الخلقة (فجاء خالنا، فنثى علينا الذي قيل له -أي أفشى علينا وأشاع ما قيل له- فبلغ أخي هذا الكلام؛ فقال: والله لا أساكنك، فقلت: أما ما مضى من معروفك فقد كدرته) -قد فعلت الشيء الطيب لنا وضيفتنا، والآن ماذا فعلت بكلامك هذا؟ هذه الإشاعات التي قال لك الناس، ونشرتها الآن، ماذا فعلت؟ لقد أفسدت المعروف- (ولا جماع لنا فيما بعد، لا نلتقي بك، فقربنا صرمتنا -وهي: القطعة من الإبل أو الغنم يقال عليها صرمة- فاحتملنا عليها، ركبنا عليها وتغطى خالنا بثوبه فجعل يبكي -تأثراً من الخطأ الذي فعله- فانطلقنا حتى نزلنا بحضرة مكة، فنافر أنيس عن صرمتنا وعن مثلها، فأتيا الكاهن فخير أنيساً فأتانا أنيس بصرمتنا ومثلها معها). وفي رواية: (فتنافر إلى رجل من الكهان، قال: فلم يزل أخي أنيس يمدحه حتى غلبه، فأخذنا صرمته فضممناها إلى صرمتنا) ما معنى هذا الكلام؟ معنى هذا الكلام أنهم كانوا في الجاهلية، يتفاخرون بالشعر، أيهم أشعر من الآخر، ويتحاكمون إلى رجل ثالث يقضي بينهم أيهما أشعر من الآخر، فهنا تفاخر أنيس مع رجل رآه في الطريق، فاحتكما إلى كاهن، وهذا عمل حرام، لكن هذا وقع منهم في الجاهلية قبل أن يسلموا، فاحتكما إلى كاهن أيهما أشعر وجعل أنيس القطيع الغنم الذي معه -الصرمة- رهناً، وذلك الرجل كان معه قطيع آخر جعله رهناً أيضاً، فالذي يفوز ويكون أشعر من الثاني يأخذ القطيعين كلهم ويمشي، فكسب أنيس، (فأخذنا صرمته فضممناها إلى صرمتنا، فأتانا أنيس بصرمتنا ومثلها معها، فيقول أبو ذر للشخص الذي سمع منه الحديث: وقد صليت يا ابن أخي قبل أن ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين) يقول أبو ذر: إني كنت أصلي قبل أن ألقى الرسول صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين، فيقول الذي سمع منه القصة: (فقلت: لمن؟ -أي: لمن تصلي؟ - قال: لله تعالى، قلت: فأين توجهت؟ قال: أتوجه حيث يوجهني ربي) أصلي حيث يوجهني ربي، فالمؤمن يصلي لله، وقد ذكروا أن أبا ذر كان رجلاً في الجاهلية مثل قومه، فاجر من الفجار، ثم هداه الله إلى التوحيد قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، فكان من جنس الموحدين مثل ورقة بن نوفل وغيره من الناس الموحدين، وبعضهم كان عنده علم من الديانات السابقة، الأديان السابقة، كان أبو ذر على التوحيد، وكان يعلم أن الذي يستحق العبادة هو الله عز وجل، لكن لا يعرف كيف يصلي ولا أين يستقبل!! ولذلك يقول: (صليت قبل أن آتي الرسول صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين) صلى قبل الإسلام بثلاث سنوات، وكان يتوجه حيث يوجهه الله (أصلي عشاء حتى إذا كان من آخر الليل ألقيت كأني خثاء) أصلي حتى أتعب ويأتي آخر الليل وأنا تعبان من الصلاة، فألقى كأني كساء أي: من تعب العبادة، حتى تعلوني الشمس، فتوقظه، فقال أنيس: (إن لي حاجة بـ مكة فاكفني، فانطلق أنيس حتى أتى مكة). وهنا يمكن أن نجمع بين الروايتين ونقول: إن أبا ذر طلب من أخيه في هذا الوقت أن يذهب إلى مكة، ليعلم له خبر النبي صلى الله عليه وسلم يقول أبو ذر: (فراث علي -أي: أبطأ عليه أخوه، لم يأت بسرعة- ثم جاء فقلت ما صنعت؟ قال لي: لقيت رجلاً بـ مكة على دينك) فـ أنيس الآن يرى أن أخاه على التوحيد، فقال: حينما ذهبت إلى مكة وجدت رجلاً على دينك، يزعم أن الله أرسله. وفي رواية قال لي: (أتيت مكة فرأيت رجلاً يسميه الناس الصابئ، هو أشبه الناس بك، قلت: فما يقول الناس عن هذا الذي ظهر في مكة؟ قال: يقولون شاعر، كاهن، ساحر -وكان أنيس أحد الشعراء- قال أنيس لأخيه: لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم -لست بكاهن- ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر -أي طرقه وأنواعه- فما يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر) لا يمكن أن يكون شاعراً لأني أعرف أوزان الشعر وطرقه فلا يمكن أن يكون كلامه شعراً (والله إنه لصادق، وإنهم لكاذبون، قال: قلت: فاكفني حتى أذهب فأنظر). هنا كأن أبا ذر قال لأخيه: إني بعثتك لتأتيني بتفاصيل، والتي أتيتني بها غير كافية، أنت أتيتني بأشياء مجملة، فأنا أريد أن أستقصي بنفسي، قال: (فأتيت مكة، وقبل أن يأتي مكة قال له أخوه: كن على حذر من أهل مكة فإنهم قد شنفوا له وتجهموا) أي أنه لما عرف حال الناس ضد الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: انتبه من أهل مكة، فإنهم قد أبغضوه وعادوه، وكادوا له، وهذا يدل على أن هذه القصة وقعت والدعوة في مكة أصبحت جهرية؛ لأنهم عادوه، فإذا عادوه وشنفوا له وتجهموا له معنى ذلك: أنه أعلن الدعوة، ولذلك وقفوا منه هذا الموقف. قال أبو ذر: (فأتيت مكة فرأيت رجلاً فقلت: أين الصابئ؟). وفي رواية: (فتضاعفت رجلاً منهم) أي: بحثت عن واحد ضعيف مسكين، يقول أبو ذر: (وسألت هذا الضعيف قلت له: أين الصابئ؟) ما قال أين محمد؟ ولا أين نبي الله؟ قال: أين الصابئ؟ فلماذا سأل رجلاً ضعيفاً؟ لأن العادة أن الضعيف لا يخشى منه، فيجيب بسذاجة ولا يخشى منه أن يكون رجلاً شريراً، فهو ضعيف، لكن يبدو أن ذلك الوقت كان وقت شدة، بحيث إن هذا الرجل الضعيف لما سمع أبا ذر يسأل عن الصابئ قال: (فرفع صوته عليّ، فقال: صابئ، صابئ، فمال عليّ أهل الوادي بكل مدرة وعظم) أي: نبه كفرة قريش قال: الصابئ، الصابئ هذا الذي يسأل عن الصابئ، فمال عليه كفار قريش بكل مدرة وعظم: كل حجرة وعظم رموا به أبا ذر، فيقول: (فرماني الناس حتى خررت مغشياً عليّ كأني نصب أحمر) والنصب: هو التمثال الذي كان كفار قريش يقيمونه، وكانوا يذبحون عنده حتى يصير لون التمثال الصنم أحمر من كثرة الدم، فرموا أبا ذر وضربوه حتى سال الدم منه، كأنه الصنم الذي عنده الدماء، تصور كيف رموه حتى سال عليه الدم حتى كأنه نصب أحمر! قال: (فخررت مغشياً علي، فارتفعت حين ارتفعت، كأني نصب أحمر -من كثرة الدماء التي سالت- فأتيت زمزم فغسلت عني الدماء، وشربت من مائها، فاختبأت بين الكعبة وبين أستارها) وكانت بطريقة بحيث أن الواحد يمكن أن يختبئ بين الكعبة وبين أستارها (ولقد لبثت يا بن أخي ثلاثين بين ليلة ويوم، وما كان لي طعام إلا ماء زمزم، فقط، فسمنت حتى تكسرت عكن بطني) فالبطن إذا سمنت تتثنى، واللحم إذا سمن جداً ينثني، فلو رأيت شخصاً سميناً جداً قبض يده تجد أنه صار ينثنى، فهذه الثنيات تسمى: عكن، ولذلك في حديث: المخنث الذي كان يدخل على بيت الرسول صلى الله عليه وسلم ثم منعه الرسول صلى الله عليه وسلم من الدخول؛ لأنه قال: إذا فتح الله عليك الطائف فعليك ببنت فلان؛ فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان، فإنهم كانوا من قبل يحبون تزوج المرأة السمينة، ولذلك يقول هذا الرجل: إذا فتحت الطائف عليك ببنت فلان؛ لأنها تقبل بأربع أي: أنها من شدة سمنها من الأمام أربع ثنيات، وإذا أدبرت من الخلف تصير الأربعة ثمانية، أربعة من الجهة اليمنى وأربعة من الجهة اليسرى، لأن العظم الفقري ينصف العكن هذه، فهذا الرجل ليس بذكر ولا أنثى، وهذه طبعاً خلقة من الله عز وجل في ناس من هذا القبيل، وكان يدخل على النساء، وحكمه أنه ليس برجل مكتمل الرجولة، فلما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم أن ذلك الرجل بدأ يصف النساء يقول: هذه كذا فمنعه من الدخول على نسائه صلى الله عليه وسلم، والشاهد: يقول أبو ذر: (فتكسرت عكن بطني، وما وجدت على كبدي سُخفة جوع) وفي رواية: (سَخفة جوع) سمن من ماء زمزم حتى تكسرت عكن بطنه! سمن جداً وما أحس بالجوع مطلقاً. فقال: (وما وجدت على كبدي سخفة جوع) أي: ضعف الجوع وهزاله ما أحسست به، قال: (فبينما أهل مكة في ليلة قمراء) أي مقمرة (أضحيان) أي: مضيئة (إذ ضرب على أصمختهم) وأصمختهم أي: آذانهم، ومعنى ضرب الله على آذانهم أي: أنهم ناموا في إحدى الليالي قبل الوقت، مثل قول الله عز وجل: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ} [الكهف:11] أي: ناموا، وأبو ذر الآن مختبئ بين الكعبة وبين أستارها، قال: (إذ ضرب على أصمختهم فما يطوف بالبيت -في هذا الوقت، لأنهم ناموا- من كفار قريش إلا امرأتان منهم تدعوا

فوائد قصة إسلام أبي ذر

فوائد قصة إسلام أبي ذر أيها الإخوة! نأتي لنستعرض بعض الفوائد والعبر المأخوذة من هذه القصة العظيمة.

حرمة الجلوس في أماكن المنكرات

حرمة الجلوس في أماكن المنكرات أما من ناحية القصة الثانية التي انتهينا منها، فإننا نلاحظ يا إخواني: أن أبا ذر وأمه وأخاه قد تركا المكان؛ لأن قومهم غفار كانوا يستحلون الشهر الحرام، ومع أن هذا وقع في الجاهلية، لكن هذه كانت بادرة طيبة منهم حين أن تركوا ذلك المكان، ولذلك إذا كان الإنسان في مكان فيه منكر لا يستطيع أن يغيره، ولا يستطيع البقاء، ربما لا يستطيع البقاء فيه سليماً فعليه أن يهاجر مباشرة، فلو أن شخصاً -مثلاً- سافر إلى بلاد أخرى ليدرس، فرأى منكرات حين عاش هناك، وأحس من الوضع هناك بأنه محتمل جداً أن يقع في الفاحشة، أو محتمل جداً أن ينحرف عن دينه، وأحس بضغوط فعلاً وأنه إذا بقي فترة أخرى فقد ينحرف، فهل يجوز له أن يبقى لإتمام دراسته؟ لا. بل يجب عليه أن يرجع إلى البلد الأخف شراً، أو إلى المجتمع المسلم، ليجلس فيه؛ لأن سلامة الدين أهم من جميع الأشياء الأخرى. ولو أن شخصاً شاباً -مثلاً- في بيت فيه خادمات فاتنات، ويعلم هذا الشاب أنه لو استمر بالبقاء في بيت أبيه وهؤلاء الخادمات حوله ورفض أبوه النصيحة ورفض إخراج الخادمات، وهذا الشاب بدأ فعلاً يخشى على نفسه، ولاحظ بوادر ذلك، فهل يجوز له أن يبقى في بيت أبيه؟ لا. بل يجب عليه أن يخرج من بيت أبيه، ويسكن في بيت أقاربه أو يدبر له مكاناً، ولا يجلس في مكان الفتنة.

الاستعانة على قضاء الحوائج بالكتمان خوف الحسد وغيره

الاستعانة على قضاء الحوائج بالكتمان خوف الحسد وغيره والقضية الأخرى -أيها الإخوة- أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان، فإن كل ذي نعمة محسود) فما هو السبب الذي من أجله يأمر صلى الله عليه وسلم بإخفاء نجاح الإنسان المسلم، أن يخفي نجاحه عن الناس الحساد؟ خوفاً من حسدهم، والناس حساد جهال قد يحسدون على أدنى شيء، هؤلاء ناس جاءوا إلى خالهم فأكرمهم، فهم يستحقون الإكرام، لأنه خالهم، وهذه الأم أخته، ومع ذلك حسدوه. ولذلك فينبغي لصاحب النعمة إن كان خشي من حسد الناس، ومن العين مثلاً، ألا يخبر بالنعمة التي هو فيها، ويخبئها، لأنهم قد يفشلون مشاريعه وخططه، وقد يصيبونه بعين، أو يصيبون النعمة التي هو فيها بعين متلفة فتزول. والأمر الآخر، مشكلة تصديق الشائعات والتهم، وخصوصاً كثير من الشائعات والتهم مصدرها الحساد، فهم لا يريدون أحداً أن يعلو عليهم في أي شيء من الأشياء، ولذلك لو أن شخصاً علا عليهم بالمال، أو علا عليهم بمنصب أو علا عليهم بالعلم، حتى بالعلم الشرعي مع الأسف، أي: تجد هذا بين بعض الذين لا يتقون الله من المنتسبين إلى العلم، يحسدون من فضله الله عليهم، فيكيدون له، وينشرون الشائعات عنه، ويتهمونه بالتهم الباطلة، ويتلبسون بلبوس الناصحين على قلوب الذئاب! وقد يقولون له كلاماً، إننا نخشى عليك أننا نخاف عليك وإننا كذا حتى ينحجب عن أداء دوره التعليمي بين الناس، وقد يسعون بالوشايات عند الناس حتى يزيلوه عن مكانه، وقد يتهمونه بالتهم الباطلة وينشرونها بين الناس، حتى ينفروا الناس عنه، انتبهوا! قد يكون داعية ناجحاً، فيأتون إلى من يدعوهم مثلاً فيقولون: فلان فيه كذا، وفلان فيه كذا حتى يصدوهم عنه، حسداً من عند أنفسهم. وهذا الحسد مشكلة كبيرة، ولذلك ينبغي على الإنسان دائماً أن يقرأ المعوذات، وأن يستعين بالله على أولئك الناس، وهذه القضية لا يسلم منها إلا النادر، أي حتى الناس الذين فيهم استقامة وفيهم دين قد يقع منهم الحسد، وحصل هذا فيمن قبلنا لبعض الكبار، ولذلك عائشة أثنت على زينب في حادثة الإفك، أثنت على زينب بأن الله عصم زينب، فهناك منافسة بين عائشة وبين ضرائرها، زينب ما تكلمت بشيء مطلقاً، بل إنها أثنت على عائشة مع أنها فرصة حيث اتهم الناس عائشة بالإفك، إذاً تخوض معهم، فهي فرصة بأن تنال من ضرتها. ولذلك الحسد بين الضرائر من المشاكل التي ينبغي على الزوج أن يراعيها، ولعلنا نفرد إن شاء الله درساً خاصاً ربما للنساء عن قضية الغيرة، التي تحدث بين النساء وبين الضرائر بالذات، ومعالجة هذه المشكلة وكيف يمكن للمرأة أن تتغلب عليها، وكيف يكون موقف الرجل من هذه الأشياء.

عدم التسرع في تكدير المعروف

عدم التسرع في تكدير المعروف الشيء الآخر أيها الإخوة: أن الإنسان أحياناً يفعل معروفاً، ولكن نتيجة تسرع منه يأتي بما يكدر هذا المعروف! فكثير من الناس أحياناً يكون محسناً وكريماً وباراً ويفعل الخير بالناس، لكنه في لحظة من اللحظات يفعل شيئاً يفسد ذلك المعروف كله، فقد يحسن شخص إلى الناس، ويعطيهم ويتصدق عليهم وينفق عليهم، وفي لحظة من اللحظات، يأتيه الشيطان فماذا يفعل؟ يقول كلمة فيها منّ: ألم أعطك كذا، وكذا؟ قد يكون أعطاه مائة حاجة، فيقول له مرة من المرات: أما أعطيتك كذا؟ ويذكر له حاجة واحدة، فهذا يؤدي إلى إفساد المعروف كله، ولذلك ينبغي للمحسنين سواء كان إحسانهم إحسان علم، أو إحسان مال، أو إحسان مساعدة ومعاونة وبذل جهد، ألا يمنوا، ولا يأتوا بشيء فيه تكدير لذلك المعروف.

من يبحث عن الحق يوفقه الله إليه

من يبحث عن الحق يوفقه الله إليه وكذلك قوله: (وقد صليت يا بن أخي قبل أن ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين) هذه النقطة يؤخذ منها: أن الإنسان الذي يبحث عن الحق، فإن الله يوفقه ولو إلى شيء منه، فقد كان أبو ذر رضي الله عنه مقتنعاً بالتوحيد، كان مقتنعاً أن الله واحد، وأن الناس الذين يعبدون الأصنام هؤلاء مشركون، وأنه لا يمكن أن يكون هذا هو الحق، ولذلك هو يؤدي أي شيء يعبر فيه عن الوحدانية، يصلي لله، ولذلك فإن الباحث عن الحق بتجرد إذا سلك الطريق وأخلص فلا بد أن يصل إليه، وقد يصل إليه على مراحل، أي: أول شيء يهتدي إلى هذه الجزئية من الحق ثم إلى الجزئية الأخرى، ثم إلى الجزئية الأخرى حتى يهتدي إلى الحق في أغلب أموره.

أهل الحق يتشابهون

أهل الحق يتشابهون وكذلك قول أنيس لـ أبي ذر (أتيت مكة فرأيت رجلاً يسميه الناس الصابئ هو أشبه الناس بك، أو لقيت رجلاً بـ مكة على دينك) هذا فيه إشعار بأن أهل الحق يتشابهون، وأهل التوحيد يتشابهون، ولو لم يلتق أحد منهم بالآخر، أو كان بعيداً عنه كل البعد، فلو رأيت رجلاً من أهل السنة والجماعة في أبواب العقيدة والعمل، في اعتقاده، وعمله، وعبادته، وجميع الأشياء. ثم سافرت إلى مكان بعيد جداً، فوجدت رجلاً بنفس الصفات فإنك تحس أن هذين النفرين من أهل الحق متشابهان ولو لم يكن قد تلاقوا من قبل ولا عرف أحد منهم الآخر، ربما تسأله: أتعرف فلاناً؟ يقول: لا، وتستغرب كيف تشبه صلاة ذلك صلاة الآخر، وكيف كلام هذا عن السنة والبدعة مثل كلام ذلك الرجل، وكيف تصور هذا عن الواقع يشبه تصور ذاك، فتستغرب من التشابه والتطابق في الوجهات أو في المعتقدات والأعمال والآراء. ولكن الذي يبرر هذا الأمر أن الحق -أيها الإخوة- إذا وقر في النفوس، فإن أتباعه يتشابهون أينما كانوا، وعمر رضي الله عنه كان من الناس المعروفين بأنه يصيب الحق، فقد تنبأ بأشياء، أو كانت عنده فراسة وإلهام، ألهمه الله بأشياء حصلت فعلاً، مثل أنه كان يتحرى نزول تحريم الخمر ويعلن بذلك، فنزل تحريم الخمر، وكان يتحرى نزول آية الحجاب، ويرى أنه وضع غير طبيعي أن نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحتجبن ونساء المسلمين، فنزلت آية الحجاب، وكان رأيه في أسارى بدر صائباً موافقاً للقرآن، وأشياء أخرى، كان فيها رأي عمر بن الخطاب رضي الله عنه موافقاً للحق، وهذه قضية إلهام يلهمه الله عز وجل، فأحياناً أهل الحق الواحد منهم من قد يهتدي إلى شيء من غير تعليم؛ بسبب سلامة فطرته، وصحة تفكيره، يهتدي إلى الحق، ولو ما دله عليه ولا علمه إياه أحد، وهذا أبو ذر ما علمه التوحيد أحد، لكن الرجل فكر في الواقع، فليس من المعقول أن هذه السماء يكون خلقها هبل، وهذه الأرض والأشجار خلقتها إساف ونائلة، لا بد أن يكون هناك واحد أوجد هذه الأشياء وخلقها، ولذلك عرفه وصار يعبده، فمن الذي علمه؟ فأصحاب الفطر السليمة لا بد أن يهتدوا إلى الحق، وربما يتشابهون في أعمالهم ومعتقداتهم.

وجود الخلفية عن الواقع لدى المسلم أمر مهم

وجود الخلفية عن الواقع لدى المسلم أمر مهم وكذلك نأخذ من كلام أنيس: (لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم، ووضعت قوله على أقراء الشعر فما يلتئم على لسان أحد بعدي أنه الشعر) نأخذ منه أهمية المعرفة، أن معرفة الأمور تأتي بمعرفة خلفيات الأشياء، فيستطيع أن يحكم عليها، فلأن أنيساً رضي الله عنه يعرف أوزان الشعر، وطرق الشعر، ويعرف أقوال الكهان وعنده خلفية عن هذه الأشياء ما ضُلِّل وما صدَّق أن الرسول صلى الله عليه وسلم كاهن ولا شاعر، ولذلك لا بد أن يكون للإنسان المسلم خلفية عن الواقع وأن يعلم الأمور حتى لا تتشابه عليه الأشياء، فتكون نظرته غير صائبة، وغير صحيحة، فلا بد أن يعلم عن المذاهب الهدامة مثلما علم أنيس عن كلام الكهان، ومن قبل كانت المذاهب الهدامة: الكهانة والسحر إلى آخره، أما الآن فقد اختلفت الأمور وزادت، فالكهانة والسحر موجودة لكنها زادت مذاهب أخرى كثيرة ضالة، فلا بد أن يتعلم المسلم عن المذاهب الهدامة، وعن النفاق والمنافقين ومساجد الضرار حتى لا يخدع بكثير من الشعارات التي ترفع، والأعمال التي تعمل، وليست لوجه الله، وإنما يراد من ورائها الصد عن سبيل الله.

أهمية التناصح بين المسلمين

أهمية التناصح بين المسلمين وكذلك فإن هذا الأخ أنيساً قد أعطى أخاه الخبرة، قبل أن يذهب إلى مكة، فقال: (كن على حذر من أهل مكة، فإنهم قد شنفوا له وتجهموا) فقد زوده بالنصيحة، والمسلم أخو المسلم، ينصحه، فإذا أراد شخص أن يذهب إلى مكان، وأنت تعلم أشياء هناك ولديك معلومات تفيده، فعليك أن تقدمها له، وتقول: يا أخي انتبه سوف ترى هناك كذا وكذا، واحذر، أو استغل كذا، فإن هناك -مثلاً- خيراً، لو أنك ذاهب إلى البلد تلك فهناك يوجد رجل عالم بالحديث، وهناك رجل عالم بالأصول، أو قابلت مرة من المرات رجلاً يعلم اللغة العربية، فانتهز الفرصة، قابل فلاناً: فعليك النصيحة له.

الأمور المهمة والخطيرة لا يكتفي المسلم فيها بخبر الناس

الأمور المهمة والخطيرة لا يكتفي المسلم فيها بخبر الناس كذلك بعض الأمور، أو بعض المهام، لا يكفي الإنسان فيها كلام الأشخاص، فهذه قضية رسول ونبي ظهر، وهي قضية خطيرة، وليست سهلة، وليست مثل شخص يقول: اذهب إلى ذلك المكان فإذا وجدت فيه ماء أعلمني، إن هذه قضية تحدد مسار الإنسان وتحدد مصيره، وتحدد اتجاهه وتفكيره فهذه فيها تغيير شامل لحياة الإنسان ولذلك ما اكتفى أبو ذر بكلام أخيه، بل قال: ما شفيتني، وذهب بنفسه. فإذاً: بعض المهمات العظيمة، والأشياء المصيرية لابد أن يطلع الإنسان عليها بنفسه، إذا ما اشتفى من كلام الموثوقين، لأن هذه قضايا مصيرية، فلا بد أن يتحرى عنها، ويسأل عنها ويطلع هو عنها بعينيه ويسمع بأذنيه؛ حتى يكون السند عالياً جداً بينه وبين الحق، أو بينه وبين الواقع الذي يريد أن يطلع عليه.

ذكاء أبي ذر في سؤاله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

ذكاء أبي ذر في سؤاله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك ذكاء أبي ذر رضي الله عنه في انتقاء الناس الذين يريد أن يسألهم، انظر قال: (فتضاعفت رجلاً فسألته). فهذا رجل ذاهب إلى مكان فيه تضليل إعلامي على الرسول صلى الله عليه وسلم، والناس في عداء شديد، فعرف من يسأل، قال: (فتضاعفت رجلاً) ما سأل أي واحد من الناس وقال: أين الرسول صلى الله عليه وسلم وأين محمد صلى الله عليه وسلم؟ وإنما: (تضاعفت رجلاً وقلت: أين الصابئ) وهذا فيه ذكاء في البحث، ويجب أن نعلم -أيها الإخوة- أن الإنسان قد ينتقل إلى مكان لا يعرف فيه أعداءه من إخوانه، ولا يعرف فيه أهل الحق المحقين من غيرهم، ولا يعرف فيه الأحسن من الحسن، ولذلك عليه أن يتحرى بدقة وبشدة، عندما يذهب إلى ذلك المكان، وأن يكون ذكياً في معرفة أهل الحق، كما كان هذا الرجل الصحابي ذكياً في معرفة أهل الحق، ما يقول: دلوني على فلان، ولا دلوني على الناس الذين صفاتهم كذا وكذا، لأنه قد يُضلِّل عنهم، وقد يواجه تضليلاً إعلامياً وقد يواجه تكثيفاً في الآراء والأقوال التي تصرفه، ولذلك كان كلام ابن حجر رحمه الله دقيقاً جداً قال: قد يؤذى السائل وقد يؤذى المسئول، وقد يصدونه عن صاحب الحق، وقد يمنعونه من الالتقاء به، وقد يخدعونه حتى لا يلتقي بصاحب الحق. هذه نقطة مهمة جداً، وقد يخدعونه حتى لا يلتقي بصاحب الحق، ويضللونه، ويصرفونه بشتى الصوارف عن أصحاب الحق، فهذه قضايا خطيرة، قضية حق وباطل، ولا يصح للإنسان أن يحجب دينه الرجال في مثل هذه الأمور، أو يتبع كلام الناس، ويمشي مع الإشاعات وعلى السائد أو على رأي الأغلبية، بل لا بد أن يكون دقيقاً فطناً حذراً ذكياً وهو يتوصل إلى الحق وأهله.

من أراد أن يصل إلى الحق فإن الله يعينه

من أراد أن يصل إلى الحق فإن الله يعينه وكذلك -أيها الإخوة- فإن الله يعين الذي يريد أن يصل إلى الحق حتى بالأشياء المادية، فلا يوفقه حتى يصل إلى نهاية المطاف فقط، وإنما مثل ما أن الله عز وجل أعان أبا ذر فرزقه شرب ماء زمزم ثلاثين يوماً بدون طعام، يعينه لأنه يريد أن يصل إلى الحق.

غيظ الكفار من شعائر المسلمين

غيظ الكفار من شعائر المسلمين وكذلك أيها الإخوة: فإن في فعل أبي ذر تجاه الأصنام فيه إغاظة الكفار، وسب آلهتهم وغيظهم وهذا أمر مهم أن نفعله اليوم، أن نستهزئ بآلهة الكفار ومعتقداتهم - إذا لم يؤد ذلك إلى سبهم لله عز وجل ودين الإسلام ونبيه عليه الصلاة والسلام- مثل النصارى الذين يقولون: إن الله ثالث ثلاثة، فأنت يجب عليك أن تفند شبهاتهم، تقول: هل هذه عقيدة عقلاء؟! أن الواحد في ثلاثة والثلاثة في واحد! وأن الأب الإله ينظر إلى ولده الإله وهو يصلب ولا يستطيع أن ينقذه! وكيف يموت الله؟!! فهناك يمكن أشياء أن تستهزئ بها على تلك المعتقدات الكافرة التي يعتنقها أولئك الكفرة، فهؤلاء الناس عندهم تخطيط في إضلال المسلمين وتشكيكهم، ولقد اطلعت على كتاب كتبه أحد القساوسة على الغلاة في صورة ميزان فرسم كفةً فيها صليب وهي الراجحة، وكفة فيها المسجد وهي مرتفعة إلى الأعلى ومكتوب على الكتاب: في الموازين هم إلى فوق، فالصليب راجح والمسجد تحت، وكتب هذا الخبيث على الكتاب: في الموازين هم إلى فوق، فيظن الشخص أنه يمدح المسلمين إلى فوق، لكن ماذا يعني في الموازين هم إلى فوق؟ أي: أن أصحاب الصليب هم الأثقل، فإغاظة الكفار هذه من شعائر دين المسلمين، أن يظهرها الإنسان. وليس بلازم أن أول شيء يفعله هو أن يستهزئ بهم ومعتقداتهم، بل أولاً يدعوهم بالحسنى ويجادلهم بالتي هي أحسن، فإذا رفضوا فيستخدم مثل هذه الوسائل، ونلاحظ أن لكل مقام مقال، فكان أبو ذر رضي الله عنه، أديباً جداً هنا، يقول: (فقلت: هن مثل الخشبة غير أني لا أكني) أي: أنه لما صار مع الراوي وهو مسلم فليس هناك داعٍ أن يقول له الكلمة القبيحة التي قالها لسب آلهة المشركين، ولذلك أتى بكلمة (هن) هذه كناية، قال: (غير أني لا أكني) لكني ما كنيت، لما قلت للمرأتين الكافرتين ما كنيت، وهذا من الأدب في استخدام العبارات، وفي أن لكل مقام مقال يناسبه، عندما تقول للمسلم شيئاً، ترويه خلافاً لما تجابه به الكفار وأصنامهم.

الكفار يعتقدون أنهم على حق

الكفار يعتقدون أنهم على حق كذلك أن الشبه التي عند الكفار قد تكون عظيمة وأنهم يقتنعون بآلهتهم قناعة شديدة، وأن المرأتين ولولتا، فالمسألة عندهم وصلت إلى أنه كيف يقول هكذا عن الآلهة؟! فاعتقادهم في الآلهة اعتقاد كبير، ولذلك قال: (فانطلقتا تولولان ثم قالتا للرسول صلى الله عليه وسلم: إنه قال لنا كلمة تملأ الفم) وجلستا تقولان: (لو كان ها هنا أحد من أنفارنا). فإذاً لا تظنوا أن السخافة التي نرى بها أصنام الجاهلية ومنطقهم ومعتقداتهم هم ينظرون إليها بنفس المنظار، فنحن قد أنعم الله علينا بالإيمان فقد نرى أن شبههم تافهة، لكن في منظارهم هم القضية أن هذا حق، وأنه كذا، وكيف يُنْتقص ولا بد من الدفاع عنه، فال الله عنهم: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ} [الأنبياء:68] {أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} [ص:6] لا بد أن نصبر على الآلهة، ولا بد أن ندافع عنها، هكذا ينظرون، ولذلك من الخطأ أن تأتي إلى شخص عنده شبهة وتقول: ما هذا الشيء التافه الذي أنت مقتنع به، فهذا لا يصلح؛ لأنه هو ما يرى أنه تافه، وهذا لا يعتبر رداً. وكذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغشى أماكن التجمعات التي قد يوجد فيها أناس يأتون للتوحيد، مثل ما فعل علي بن أبي طالب مع أبي ذر رضي الله عنه. وهنا نقطة نحب أن نذكرها: لماذا وضع الرسول صلى الله عليه وسلم يده على جبهته لما قال أبو ذر: من غفار؟ لأنهم كانوا قطاع طرق، يقطعون الطريق على الحجيج ويسرقونهم بالمحجن، وهو شيء مثل العكاز، أي: أن قبيلة غفار كانوا مشهورين بقطع الطريق على الحجيج وسرقة الحجاج، مع أن الحجاج كانوا مشركين لكن وصل بهم السوء إلى هذا، فالرسول صلى الله عليه وسلم فعل حركة عفوية كيف يأتي رجل من الناس الذين يسرقون الحجاج؟! وكأنه أراد أن يستوثق منه أكثر، فقال: (متى كنت هاهنا؟ ومن كان يطعمك؟) حتى توثق منه صلى الله عليه وسلم، ثم كلمه عن الإسلام.

العلم يؤدي إلى تعظيم حرمات الله

العلم يؤدي إلى تعظيم حرمات الله وفي هذا أيضاً: تبجيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف أن أبا بكر أمسك أبا ذر، فمنعه من أن يمسك يد الرسول صلى الله عليه وسلم ويرجعها، وهذا التبجيل يأتي من من؟ ماذا يقول في الرواية: (وكان أعلم به مني) وأنه يأتي من الأعلم وأن العلم يؤدي إلى تبجيل وتعظيم حرمات الله.

تفقد القادمين للحاق بالدعوة

تفقد القادمين للحاق بالدعوة وكذلك تفقد أحوال القادمين للحاق بالدعوة، ولو في أمور معاشهم، فبعض الدعاة قد يصادف مدعواً، فلا يقول له مثلاً: هل يكفيك معاشك أو أين تسكن؟ أو كذا، وإنما يقول له بداية: هل تريد أن تعتقد بكذا؟ وما نظرتك بكذا؟ وهذه أدلة على كذا فقط. بينما نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم اهتم بـ أبي ذر فسأله عن طعامه وعن معيشته، صحيح أنه جاء للحق، لكن النفس البشرية لها حاجة للمسكن ولها حاجة للطعام فلابد من الاهتمام بهذه الأشياء، ولا نقول: هذه أشياء جانبية وأشياء سطحية وغير مهمة، المهم الدعوة، والمهم الحق والأدلة، والمهم المبادئ، لا، وإنما حتى هذه الأشياء مهمة، فراحة الناس والأشخاص، والذين يريدون أن ينضموا إلى ركب الدعوة مهمة جداً، وضيافتهم للاستئناس، يقول أبو بكر: (ائذن لي في طعامه الليلة) حتى يتداخل معه، ويحصل استئناس بينهم، ويكرم ذلك الرجل الذي أتى، وخصوصاً أنه قد اضطهد اضطهاداً بالغاً فلا بد من تعويضه بشيء من الإكرام.

حكمة النبي صلى الله عليه وسلم وحسن تخطيطه للدعوة

حكمة النبي صلى الله عليه وسلم وحسن تخطيطه للدعوة وكذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان مرحلياً مخططاً لدعوته، وكان إذا ما وجد فائدة كبيرة أو كان هناك مضرة في بقاء الشخص في مكة وهو من غير أهلها، ماذا كان يقول له؟: (ارجع إلى قومك فإذا سمعت أني قد ظهرت فائتني) قالها لـ عمرو بن عبسة وقالها لـ أبي ذر الغفاري والطفيل بن عمرو الدوسي ارجع إلى أهلك؛ لأن هذه مرحلة استضعاف، ومن الحكمة والخير أن تنتشر الدعوة في أجواء أخرى وبلدان أخرى غير مكان الاضطهاد مثل مكة، ولذلك لما انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، جاء الطفيل بثمانين بيتاً من دوس كلهم قد أسلموا، وجاء أبو ذر بالقبيلة كلها، جاء النصف الأول وجاء النصف الثاني وأسلموا، وجاء أناس من الصحابة بأقوامهم، فاجتمعوا في المدينة لتأسيس المجتمع الإسلامي، وهذا الأمر لا يمكن أن يوجد في مكة وهذا العداء قائم، والحرب قائمة، فهذا من حكمة الرسول صلى الله عليه وسلم وبعد نظره، في تخطيطه لأمور دعوته.

من يصدق في اللهجة يفتح الله على يديه

من يصدق في اللهجة يفتح الله على يديه وكذلك فإن الذي يصدق في اللهجة، يفتح الله على يديه مغاليق قلوب الناس، فـ أبو ذر صادق اللهجة، عرض الكلام على أخيه فأسلم، ثم على أمه فأسلمت، ثم على القبيلة فأسلم نصفهم، وهذا ليس شرطاً، فقد يكون هناك أناس صادقون لا يستجاب لهم، لكن ليس هناك أناس كاذبون يستجاب لهم بالحق، وتفتح لهم قلوب الناس فيتابعونهم بإخلاص، ولو تابعهم بعض الناس وصدقوا بعض الكاذبين فهذا قليل ونادر، ولا يدل على المتابعة الصحيحة، ولا بد أن أولئك من الأئمة المضلين، وسيكون لهم أثر سلبي على من استجابوا له. والترغيب في الدعوة إلى الله، وعظم أجر الدعوة إلى الله، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (عسى الله أن ينفعهم بك ويأجرك فيهم) وتصور أن الشخص إذا دعا فله من الأجر مثل أجور من تبعه، عندما تسلم قبيلة أو قبيلتان فكم من الأجر يكون لهذا الشخص؟! ألا يكفي مثل هذا الكلام، حتى يكون هذا محمساً لنا وباعثاً لنا على الانطلاق والتحرك والدعوة إلى الله عز وجل ونشر الخير بين الناس.

بعض الناس قد يتريثون في قبول الحق

بعض الناس قد يتريثون في قبول الحق وكذلك بعض الناس قد يتريثون في قبول الحق، فلا نعدم منهم الأمل، فقد يقول لك شخص: أريد أن أفكر في الأمر، أنت تعرض عليه الحق لكنه يقول: أفكر، قد أحتاج إلى وقت، لا تقول: إما أنك تسلم الآن وإلا اذهب فإني مخاصمك ومقاطعك إلى يوم الدين، لا، لماذا؟ بعض هؤلاء القوم قالوا: فأسلم نصفهم، والنصف الباقي قالوا: إذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلمنا، ما قال: لا، تسلموا الآن وإلا، فقد يتريث بعض الناس، وقد يكون التريث صحيحاً والتأني طيباً إلا في عمل الآخرة، وفي قبول الحق، لكن بعض الناس طريقة تفكيرهم هكذا ما يريد أن يعتنق ولا يلتزم ولا يستقيم بسرعة، لكن اصبر عليه.

هداية الله عظيمة وجواز التفاؤل بالأسماء الحسنة

هداية الله عظيمة وجواز التفاؤل بالأسماء الحسنة وكذلك أيها الإخوة: فإن هداية الله عظيمة، فقد كانت هذه القبيلة قطاع طريق، وكانوا يسرقون الحجاج، وهذه من الجرائم العظيمة، ثم هداهم الله فأصبحوا من أعوان وأنصار الإسلام، وكانوا من سراق الحجيج، فلا تستبعد على أي إنسان مهما كان مغرقاً في المعاصي أن يهديه الله عز وجل. وكذلك الأسماء الحسنة، تدع المجال لمن أراد أن يتفاءل بالخير، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (غفار غفر الله لها) لو كان اسمهم: (كعب) أو كان اسمهم: (حرب) أو (كلب) مثل بعض القبائل، فهذه الأسماء لا تتيح مجالاً للتفاؤل، ولذلك حيث الرسول صلى الله عليه وسلم على الأسماء الحسنة، حتى يتفاءل بها.

لابد من الدقة والتعمق في البحث عن الحق

لابد من الدقة والتعمق في البحث عن الحق وأما بالنسبة لرواية البخاري ومسلم لحديث ابن عباس فإن فيها قول ابن عباس: (ألا أخبركم بإسلام أبي ذر؟) وهذه من الأشياء المهمة جداً، هذه القصص التي حدثت، هذه قصة الدعوة، هذا تاريخ، فهذه ليست مسألة سهلة، هذا تاريخ لا بد أن ينقل إلى الناس، ولا بد أن يتعلموه، ولا بد أن يقدم إلى الأمة رصيد التجربة للأجيال القادمة، ولذلك الآن نحن نستفيد من قصة أبي ذر كم مضى عليها؟ مضى عليها سنوات طويلة جداً، من الذي قدمها لنا؟ مثل ابن عباس رضي الله عنه، قال: (ألا أخبركم بإسلام أبي ذر؟) فهذا الرصيد لا بد أن يقدم للأجيال حتى تستفيد منه، وهذه القصة، قصة عظيمة، وحياة الدعوات وتاريخ الدعوات مهم ينبغي الاهتمام به؛ لأن فيه دروساً وفوائد، والتاريخ يعيد نفسه، والأحداث تتشابه، وللمعتبر أن يعتبر. وبعد ذلك -أيها الإخوة-هذا الأسلوب اللطيف من ابن عباس رضي الله عنه في التعليم: (ألا أخبركم) ماذا في هذا الأسلوب؟ إنه تشويق للسامعين، ألا أخبركم بإسلام، ما قال: يا جماعة! أنا عندي محاضرة ألقيها عليكم؟ فينبغي لمعلم الناس والداعية إلى الله أن يعرف طرق التشويق وشد الانتباه حتى يستقطب الأفكار، والأذهان، حتى يستطيع أن يدخل وهي مفتوحة، فالناس يتفاوتون في استقصائهم للحقيقة، فمنهم من يكون استقصاؤه سطحياً، ومنهم من يكون استقصاؤه أعمق، وطريقة بحثه أعمق، والطرق التي يتوصل بها أعمق، وهذا الفرق واضح بين أنيس وبين أبي ذر، ولذلك أبو ذر اتبع طريقة وأسلوباً ما أتى بها أنيس، فإذاًَ هذا يعود إلى نتيجة تفاوت الأفهام، وأن البحث عن الحق لا بد أن يكون استقصاءً عميقاً، وأن الاعتناء بالبحث عن الحق نابع من الاهتمام بالحق، فبعض الناس يقول: أين الحق؟ هات الدليل؟ أعطني شيئاً؟ فقد أعطيه أي شيء وأي دليل حتى لو لم يكن دليلاً حقيقياً ولا صحيحاً، فيقتنع به ويمشي، لكن الأذكياء الذين هداهم الله عز وجل لا يقبلون بأي شيء، ولا يقبلون أي طريقة وأي فكرة، فلا بد من التمحيص، والبحث، والتدقيق، فـ أبو ذر جلس فترة طويلة، وجلس يدقق، ولا يسأل أحداً، وعلي بن أبي طالب مع أنه مسلم فكل واحد كان يخفي عن الآخر، وعلي لا يسأله خلال ثلاثة أيام، حتى صار فيه نوع من الاطمئنان ثم بدأ يتوغل معه ويسأله، فإذاً أوصي كل أخ يبحث عن الحق: أن يكون دقيقاً في بحثه، عميقاً، وألا يكتفي بالأشياء السطحية، أو الأشياء التي يراها عرضاً أمامه، أو الأكثرية، أو الرأي العام، وإنما يدقق حتى يصل إلى الحقيقة، وهذا سيكون من دقة فهمه وهو مأجور على هذا عند الله، لأنه ما اتبع أي شيء، بل فحص ومحص الأمور ولم يقلد الرجال، وإنما قارن حتى وصل بعلمه الذي اطلع عليه، كلام أهل العلم، قراءة الكتاب والسنة، حتى أيقن أن هذا هو الحق وأن هذا هو الطريق المستقيم، ومن الناس شخصيات جريئة تركب المخاطر للوصول إلى الحق، أبو ذر أول ما ضرب ما قال: تركت الأمر، بل استمر، وضرب حتى صار أحمر اللون، ومع ذلك استمر، فالناس شخصيات، ويختلفون في الجراءة، وبعضهم يركب الأهوال، وهذه فيها الثواب من الله عز وجل، حتى يصلوا إلى الحق، واهتمام الصحابة بالقادمين إلى مكة يتلقطونهم، فـ علي بن أبي طالب شاهد الرجل قال: كأنه غريب، فكان نبيهاً، وليس عندما رآه قال: ما عليّ منه اتركه، قد يكون مسافراً، بل ضيفه أول يوم، وثاني يوم، وثالث يوم، ثم فاتحه في الموضوع.

الاطمئنان وسيلة لتحقيق المعاشرة

الاطمئنان وسيلة لتحقيق المعاشرة وكذلك أيها الإخوة: فإن الاطمئنان يكون فعلاً نتيجة للمعاشرة التي تدل على السلوك الصحيح، والمعاشرة تؤدي إلى الاطمئنان، ولما اطمأن أبو ذر لـ علي فاتحه بالأمر، وعلي رضي الله عنه كان حريصاً على شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان حريصاً على أبي ذر، ولذلك أشار له بهذه الإشارات الخفية، أو هذه الإشارات لجأ إليها علي لما كان الجو فيه شدة، وما كانت هذه الأشياء منهجاً ينتهج دائماً، وإنما كان شيء يفرضه الواقع، وتفترضه الطبيعة التي كانت موجودة، وهي شدة كفار قريش التي أدت إلى هذه السرية البالغة التي تعامل بها علي بن أبي طالب رضي الله عنه مع أبي ذر. بقي نقطتان أو ثلاثة في قضية الجرأة في الصدع بالحق، وأن ذلك تابع للمصلحة، وطلب كتمان الحق؛ لأجل المصلحة، والفعل الحسن من العباس رضي الله عنه في انتقاء الشيء الذي أقنع به كفار قريش فعلاً بأن يكفوا عن أبي ذر. وبعد ذلك أيها الإخوة فإن تلك الشخصية العظيمة، شخصية أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، الذي تحمل ما تحمل، لأجل الوصول إلى الحق، والتعرف على الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم تابعه، ثم ذهب داعية إلى قومه واجتهد فيهم ثم هاجر إلى المدينة، وشهد الغزوات، وبعدما توفي الرسول صلى الله عليه وسلم ظل ثابتاً، وكان لا يخشى في الله لومة لائم حتى تأذى منه بعض المسلمين في صدعه بالحق في عهد عثمان، وطلبوا منه أن يأتي به إلى المدينة، ثم بعد ذلك ذهب إلى الربذة، وتوفي بها رحمه الله تعالى رحمة واسعة، وجزاه الله عن المسلمين كل خير، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، سبحانك الله وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.

أريد أن أتوب ولكن [1، 2]

أريد أن أتوب ولكن [1، 2] إلى كل من يريد الخروج من أسر الذنب إلى فسحة العبادة، ومن ظلمات المعصية إلى نور الطاعة: إن باب التوبة مفتوح، وهذه المادة دليلنا إلى التوبة وأحكامها، فهي سطور نفيسة، غنية بمادتها، كافية في موضوعها، عالجت الجزئيات، ووضحت الكليات، يحتاجها الملقي خبرة، ويحتاجها المتلقي فكرة، فإليها فإنها خير بيان لمعوقات التوبة وما يتعلق بها.

مسائل متعلقة بموضوع التوبة

مسائل متعلقة بموضوع التوبة الحمد لله غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يقبل التوبة عن عباده ويغفر السيئات ويعفو عن كثير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الداعي إلى سبيله، أرسله الله رحمةً للعالمين بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً. إخواني في الله! أحييكم في هذه الليلة التي نسأل الله سبحانه وتعالى أن تكون من الليالي المشهودة في صفحات أعمالنا عنده عز وجل، ونسأله سبحانه وتعالى أن يجعل ملائكته السيارين الذين يبحثون عن حلقات العلم والذكر، نسأله سبحانه وتعالى أن يجعل هذه الملائكة تحفنا بأجنحتها، وأن تحط رحالها في حلقتنا هذه. إخواني! موضوعنا في هذه الليلة يتعلق بأعمال القلوب ويتعلق بالأمور الإيمانية التي حصل فيها إهمال وتقصير من جمهور المسلمين في هذه الأيام، وقضية قسوة القلوب موضوع طال الكلام فيه، ولكن أعمال القلوب دائماً تعتمد على التطبيق العملي أكثر مما تعتمد على الكلام النظري، وهذا الموضوع الذي سنتحدث عنه في هذه الليلة إن شاء الله، قبل أن أدخل فيه أحب أن أنبه إلى ثلاث مسائل: الأولى: دعوية. الثانية: تربوية. الثالثة: عقدية.

واقع الناس مع المعاصي

واقع الناس مع المعاصي أما المسألة الدعوية في موضوعنا: فإن الوضع الذي نعيشه اليوم -أيها الإخوة- وضع انغماس الناس في المعاصي، وارتكابهم للمخالفات الشرعية التي نهى الله عنها، ولذلك أكثر الناس اليوم غارقون في أوحال الذنوب، والدعاة إلى الله عز وجل عليهم مسئولية عظيمة في فتح الطريق أمام هؤلاء الناس حتى يعودوا إلى ربهم عز وجل، والذي لا يعرف كيف يمهد الطريق ويفتح الباب أمام الناس الذين يريدون أن يتوبوا، فهو غير ناجح في عمله، ولذلك ينبغي على الدعاة إلى الله عز وجل أن يفقهوا هذه المسألة وأن يعرفوا خطورة موضوع التوبة، لأن هناك الآن في هذه الأيام رجعة صادقة إلى الله عز وجل من الكثيرين بدأت تنتشر والحمد لله على نعمه ونسأل الله المزيد. فالفقه في هذه القضية يسبب المزيد من النجاح في استجلاب الأعداد الكثيرة الغفيرة إلى طريق الهداية، والدين لا ينتشر بغير فعل فاعل، لا يكفي القرآن فقط حتى ينتشر الإسلام في الأرض ولا السنة فقط، ولكن لابد من رجال يحملون القرآن والسنة وينطلقون بهما في الأرض يفتحون قلوب الناس قبل بلدانهم، ومدينة الرسول صلى الله عليه وسلم إنما فتحت بالقرآن ولم تفتح بالسيف.

حاجة جميع المؤمنين إلى التوبة

حاجة جميع المؤمنين إلى التوبة والقضية الثانية وهي قضية تربوية تتعلق بموضوع التوبة: وهي أن بعض الإخوان ربما يظن أن هذا الموضوع خاص بالفسقة أو الفجرة أو الكفار، وليس للمسلمين أو ليس للمستقيمين الملتزمين بشرع الله، وربما يظن أن هذا الموضوع تحت مستواه بكثير، ولكن الحقيقة غير ذلك؛ لأن الله عز وجل يقول: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31] ما قال: وتوبوا إلى الله جميعاً أيها الكافرون أو أيها الفاسقون أو الفاجرون فقط، وإنما قال: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ} [النور:31] فإذاً موضوع التوبة معني به المؤمن أيضاً وليس هو عنه ببعيد، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يستغفر الله ويتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة أو مائة مرة. أقول هذا الكلام لأن بعض الإخوان قد يوجد عندهم شعور أنه قد بلغ مرتبة اليقين في التربية وأن قضية التكاليف القلبية مثل التوبة وغيرها قد سقطت عنه، وأنه الآن في أعمال هامة للمسلمين وأنه يطلب العلم ويتفقه في الأصول والعلوم الصعبة، وأنه يشتغل بقضايا مصيرية للأمة، وأنه لا يحتاج إلى قضية التوبة والاستغفار وهذه الأشياء التي هي لعامة الناس، هذا مدخلٌ شيطاني خطير ينبغي أن نتنبه إليه.

علاقة التوبة بعقيدة أهل السنة

علاقة التوبة بعقيدة أهل السنة والمسألة الثالثة العقدية في هذا الموضوع: أن الكلام في المواضيع هذه ينبغي أن يكون منطلقاً من عقيدة أهل السنة والجماعة، وقد يستغرب البعض ما علاقة موضوع التوبة بعقيدة أهل السنة والجماعة، وربما يقول: أنت تريد أن تقحمها إقحاماً، أقول لك: كلا يا أخي! وأنا أبين لك إن شاء الله مثلاً: من المواضيع المتعلقة بالتوبة والملتصقة بها التصاقاً شديداً قضية مفهوم الإيمان وأن الإيمان يزيد وينقص، هذا المفهوم هو عقيدة أهل السنة والجماعة، من تفاصيل عقيدة أهل السنة والجماعة في الإيمان أنه يزيد وينقص. إذا كنا من المرجئة الذين يقولون: إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص وأنك أنت يا أيها المسلم كامل الإيمان، إذا أنت معتقد أنك كامل الإيمان ما الذي سيدفعك إلى التوبة والاستغفار؟ إذا لم تعتقد أن الإيمان يزيد وينقص ما الذي يدفعك في لحظات الضعف أن تبادر مستغفراً لله عز وجل طالباً منه المعونة؟ فإذاً: مثل هؤلاء المرجئة اللعَّابين بالدين كما قال الشاعر: ولا تك مرجياً لعوباً بدينه ألا إنما المرجي بالدين يمزح إذا كنا من هؤلاء من أصحاب هذه العقيدة فما الذي سيدفعنا إلى التوبة؟ وما الذي سيجعلنا نتحسس نقص الإيمان في قلوبنا؟ مرتبطة وقضية التوبة مرتبطة أيضاً بجانب آخر من العقيدة وهي مسألة الأسماء والصفات، فإذا لم نفقه قضية توحيد الأسماء والصفات، فما الذي يجعلنا نتجه إلى التوبة ونحن لا نعرف معنى الرحمن ومعنى الرحيم؟ ما الذي سيلجئنا إلى التوبة ويدفعنا إليها ويجذبنا إلى هذا الباب الإيماني الواسع ونحن لا نفقه معنى التواب، أو الحليم، أو السميع الذي يسمع آهات التائبين وأناتهم وهم يصرخون مستغيثين بربهم؟ وما الذي سيدفع الإنسان إلى الخوف من الله فيتوب وهو لم يعقل بعد أن الله شديد العقاب؟! إذاً: أيها الإخوة المسألة فيها تكامل، ومن الناحية الأخرى نجد أن الناس الذين لا يعتقدون بالعقيدة الصحيحة وأن عندهم أنواعاً من الشركيات عندهم في باب التوبة انحرافات خطيرة، فمثلاً: بعض غلاة الصوفية يتوب الفرد منهم في ذلك الطريق الصوفي يتوب إلى شيخه وليس لله عز وجل، ولذلك عندهم شيء اسمه: التوبة للشيخ، قال ابن القيم رحمه الله: وهذا شرك عظيم. وملاحظة أخرى أيضاً: أن هذا الكلام أو هذا الدرس هو موجه للصادقين في توبتهم وليس إلى المستهترين ولا إلى المصرين، ولهذا -أيها الإخوة- تعمدت أن أترك أحاديث صحيحة مهمة في باب التوبة خشية أن يفهم بعض ضعاف النفوس غير المقصود الصحيح عند عرضها، وبهذا نصحني بعض أفاضل العلماء وأنا أتباحث معه في بعض هذه الأحاديث.

نفسية اليأس والقنوط

نفسية اليأس والقنوط والموضوع الذي سنتكلم فيه يا إخواني فيه نوعٌ من المصارحة التي قد يستغربها البعض، ولكن حتى تكتمل الفائدة أرى أنه لابد منها، وموضوع التوبة يُطرق على مستويات كثيرة ونسمع خطباً كثيرة في هذا الجانب، لكن هناك أموراً ذكرها بعض أهل العلم لا تطرق عند الكلام عن موضوع التوبة وهي متعلقة بالتوبة تعلقاً شديداً. الناس الآن في موضوع التوبة عندهم إشكالات، فبعضهم يمنعه من التوبة أشياء مثل ماذا؟ إن الشخص عندما يفكر بالذنوب والمعاصي التي فعلها في الماضي يتذكر عدد الفواحش التي اقترفها من زنا ولواط وغيره، والمحرمات التي شربها كالخمر والمخدرات وغيرها، والمال الحرام الذي أكله من ربا وسحت ورشوة وأكل مال اليتيم ومال مغصوب ومسروق، عندما يفكر بهذا الكم الهائل من المعاصي التي قارفها، يستبعد أن رحمة الله عز وجل تمحو هذه الأشياء، هذا اعتقاد عند بعض الناس، يقول لك: يا أخي أنا عملت أشياء عظيمة جداً، كيف يغفر الله هذه كلها؟ معقول! يمكن أن أصدق أن الله يغفر هذه كلها؟ هذا يكون حاجزاً في نفسه يمنعه من التوبة. وآخر مسلم مستقيم سلك سبيل الاستقامة فترة من الزمن ثم عمل معصية، وقع في معصية من المعاصي فاحشة من الفواحش، فيقول في نفسه: الله عز وجل سيغفر لي أنا الداعية إلى الله والمستقيم على شرع الله الذي ظللت فترة من الزمن، الآن وقعت، يعني: هل يعقل أن هذه العثرة يمكن أن أنهض منها؟ هل يتجاوز الله عنها؟ وأنا الذي أعلم الناس وأنا الذي أدعو الناس إلى التوبة وأدعو الناس إلى ترك الذنوب وأنبههم على خطورة الفواحش والكبائر، والآن أنا وقعت، أهذا معقول؟ يعني: أنا الذي علمت وفقهت أكثر من غيري أمعقول أن يقبل الله مني توبتي؟ فيستبعد القبول، وربما يتزايد الانحراف ويترك الطريق بالكلية. بعض الناس عنده نفسية اليأس من رحمة الله وأن الله قد كتبه في عداد أهل النار ولا محالة هكذا يظن، ييأس من رحمة الله، وبعضهم يمنعه عن التوبة خشية أن يفضحه أهل السوء الذين كان مخالطاً لهم، وهذه الشلل المنتشرة الآن في المجتمع، وهذه المجموعات التي تلتف على بعضها من أصحاب السوء، رافق بعضهم بعضاً ويعرف بعضهم خبايا بعضٍ وأسرار بعضهم الآخر، وربما تكون عندهم مستندات صور عن الجرائم التي اقترفوها في بلدان العالم المختلفة، وقد يكون عند أحدهم رسالة من آخر وهكذا فيها اعترافات بأشياء، فيأتي إنسان يريد أن يتوب يتنبه من الغفلة، فيقول له أصدقاء السوء: لو تركتنا وتركت ما نحن عليه فإننا سنشهر بك وسنفعل وسنفعل، وسنظهر جميع هذه المستندات ونفضحك بين الناس، فهو تحت هذا الضغط النفسي من هؤلاء الفسقة يُسقط في يدهم ولا يتوب، هو يريد التوبة لهذا السبب. إذاً: هناك عند الناس إشكالات كثيرة، هناك عند الناس مشاكل في قضية التوبة تحتاج إلى علاج، ينبغي منا نحن معشر الذين نحاول أن ندعو ونفقه الدعوة إلى الله أن نحل لهم هذه العقد، هذه مهمتنا.

أهمية التوبة ومعناها

أهمية التوبة ومعناها وبادئ ذي بدءٍ اعلموا أن ربكم يقول: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات:11] فقسم الله العباد إلى تائب وظالم وليس ثم قسم ثالث البتة: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات:11] والله عز وجل قد فتح لنا للتوبة باباً عظيماً يقول عليه الصلاة والسلام في شأنه: (إن للتوبة باباً عرض ما بين مصراعيه ما بين المشرق والمغرب) وفي رواية: (عرضه مسيرة سبعين عاماً) يقول عليه الصلاة السلام في شأنه: (لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها) لا يغلق هذا الباب باب التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها، وقد بين عليه الصلاة السلام أ، من تاب إلى الله قبل أن يغرغر قبل الله منه ويقول: (من تاب إلى الله قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه). إذاً: انظر إلى الرحمة الواسعة الآن، إنه باب عريض جداً لا يغلق إلى قيام الساعة، ويمكن أن تتوب ما لم تصل إلى مرحلة الغرغرة وما لم تطلع الشمس من مغربها، ماذا تريد أكثر من ذلك؟ هذه نقطة أساسية في القناعة بأن التوبة ممكنة مهما عظم الجرم، ويقول عليه الصلاة السلام: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له) حديث صحيح، ويقول عليه الصلاة السلام مبيناً كيف أن الله يمهل العاصي: (إن صاحب الشمال -الملك الذي يكتب السيئات- ليرفع القلم ست ساعات عن العبد المسلم المخطئ فإن ندم واستغفر الله منها ألقاها ولم يكتبها -ست ساعات- وإلا كتبت واحدة) رواه الطبراني عن أبي أمامة وحسنه الألباني وهو في أحاديث السلسلة الصحيحة. وعرَّف بعض العلماء التوبة فقال: هي "الاستغفار باللسان، والإقلاع بالأبدان، وإضمار ترك العود بالجنان" أي: عدم العودة إلى المعصية، إضمار عقد القلب على عدم العودة إلى المعصية. "ومهاجرة سيئ الإخوان": لابد من الخروج من الوسط السيئ، "وإرجاع حقوق بني الإنسان"، إذا كانت الحقوق للعباد فلابد من إرجاعها. فإذاً: الاستغفار باللسان والإقلاع بالأبدان وإضمار ترك العود بالجنان، ومهاجرة سيئ الإخوان، وإرجاع حقوق بني الإنسان.

خطر الاستهانة بالذنوب واستصغارها

خطر الاستهانة بالذنوب واستصغارها ولقد كانت نفسيات الصحابة حساسة جداً ضد الذنوب، يقول أنس رضي الله عنه فيما رواه البخاري رحمه الله في صحيحه: [إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر كنا نعدها على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم من الموبقات] فإذاً: قضية استصغار الذنوب مشكلة عند بعض الناس، يستصغرون الذنوب ويحتقرونها، ولذلك يقول بعض السلف: "لا تنظر إلى صغر المعصية ولكن انظر إلى من عصيت"، انظر إلى من عصيت عند ذلك تجد فعلاً أنك تستنكر كيف فعلت هذا الأمر؟! تتهول ما فعلت، فبعض الناس يستصغرون مثلاً: النظر واللمس المحرم والحديث المحرم في الهاتف وغيره، والقبلة التي هي من مقدمات الزنا، ويستصغرون النظر إلى المجلات والمسلسلات ويقولون: هذه أشياء بسيطة جداً، يعني: ماذا ستؤثر؟ ومن ضمن الناس الذين قد يتجاوزون أناسٌ أبيح لهم النظر للضرورة فتوسعوا فيه مثل: الطبيب والخاطب، امرأة لم تجد طبيبةً مسلمةً مؤهلةً للنظر في ذلك المرض، فذهبت إلى الطبيب، يباح للطبيب أن ينظر من المريضة إلى الموضع الذي يحتاج أن ينظر إليه للعلاج، وقد يتوسع الطبيب أكثر من ذلك، فبعض الأطباء قد يتساهل، والخاطب يباح له أن ينظر إلى مخطوبته حتى يرى ما يدعوه إلى نكاحه منها، فإذا رأى وقرر وانتهينا وعرف النتيجة، ثم طلب أن يرى مرة ثانية وأنه جلس معها فترة طويلة ساعة أو ساعتين وهو لا يحتاج إلى هذه الفترة، فإذاً: هذا إنسان متعدٍ ينبغي له أن يتوب من هذه الزيادة. وهذا الاستصغار يولد الاستهتار والوقوع في الكبائر، ويترك الإنسان الخوف ويستهين بالمعصية، سألني أحد الناس سؤالاًَ عن معصية، قال: ما حكم كذا؟ قلت له: هذه حكمها حكم المسألة أو بالدليل من كلام العلماء أنها محرمة فهي حرام، فقال: حرام، يعني: حرام كثير أم قليل؟ فيها سيئات كثير وإلا كم؟ لماذا يسأل بعض العامة هذه الأسئلة؟ لأن عندهم مبدأ الاستهانة بالصغائر، ومحقرات الذنوب هذه مسألة لا يلتفتون إليها ولا يلقون لها بالاً. وقال ابن القيم رحمه الله: وقد يقترن بالصغيرة من قلة الحياء وعدم المبالاة وترك الخوف والاستهانة ما يلحقها بالكبائر بل يجعلها من رتبتها؛ من رتبة الكبائر.

حرص الصحابة على إصلاح الخطأ

حرص الصحابة على إصلاح الخطأ ولذلك -أيها الإخوة- كان الصحابة رضوان الله عليهم عندهم اهتمام بالغ فإذا أخطئوا أن حاولوا إصلاح الخطأ بأي وسيلة ولو كلفهم إصلاح الخطأ والتوبة ولو كلفتهم أنفسهم، ففي الصحيح عن بريدة رضي الله عنه أن ماعز بن مالك الأسلمي أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا رسول الله! إني قد ظلمت نفسي وزنيت -اعترف- وإني أريد أن تطهرني، فرده وأعرض عنه، فلما كان من الغد أتاه، فقال: يا رسول الله! إني قد زنيت، فرده ثانيةً، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومه فقال: أتعلمون بعقله بأساً؟ تنكرون منه شيئاً؟ فقالوا: ما نعلمه إلا وفيَّ العقل من صالحينا فيما نرى -نعرف أنه من الصالحين، عندنا أنه إنسان صالح- فأتاه الثالثة، فأرسل إليهم أيضاً فسأل عنه، فأخبروه أنه لا بأس به ولا بعقله، فلما كان الرابعة حفر له حفرةً ثم أمر به فرجم رضي الله عنه) دفع حياته ثمناً لتكفير تلك الفاحشة التي وقع فيها. قال: (فجاءت الغامدية -يقول الراوي في نفس الرواية- فجاءت الغامدية) وبعض العلماء يقولون: إن ماعزاً زنا بتلك الغامدية (فجاءت الغامدية فقالت: يا رسول الله! إني قد زنيت فطهرني، وإنه ردها، فلما كان الغد قالت: يا رسول الله! لم تردني؟ لعلك أن تردني كما رددت ماعزاً، فوالله إني لحبلى -أنا حبلى والدليل على الفاحشة لا يحتاج إلى سؤال ولا يحتاج إنه قد بان والمسألة ظاهرة- قال: أما لا -يعني: أما وقد حصل هذا فلا، انتهت المسألة، وصل الحد إلى الإمام وهو ظاهر فلابد من إقامته- فاذهبي حتى تلدي، قال: فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة، قالت: هذا قد ولدته) -ما فرت ولا تراجعت طيلة أشهر الحمل وهي لا تزال متذكرة الذنب وتنتظر متى تلد حتى تأتي ليقتص منها لتتوب لتتطهر فلم تنس ولم تتراجع عن المبدأ طيلة الأشهر مع أنه قضية موت- (قال: اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه -والرضاع يأخذ وقتاً- فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبزٍ -حتى تبين أنه فعلاً انفطم وأنه الآن بدأ يأكل الطعام ولا حاجة له للرضاع- فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين، ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها وأمر الناس فرجموها، فيقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها فتنضخ الدم على وجه خالد فسبها، فسمع نبي الله سبه إياها، فقال: مهلاً يا خالد! فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبةً لو تابها صاحب مكس لغفر له -الذي يأخذ الضرائب على الحجاج- ثم أمر بها فصلى عليها ودفنت) تابت توبةً لو وزعت على سبعين من الفساق لكفتهم، تابت توبة عظيمة تسع أهل مدينة بأسرها.

عدم لزوم الاعتراف بالفاحشة

عدم لزوم الاعتراف بالفاحشة إن الصحابة لم يكن ديدنهم الفسق، حاشا وكلا! كانوا يقعون أحياناً وإذا وقعوا أصروا على أن تمحى تلك الذنوب بشتى الوسائل، أما فساقنا فهم يمرحون ويرتعون ويلعبون في غفلة عن الله، وإذا فكر أحدهم يوماً بأن يتوب ويؤدي ما عليه من الحقوق يتراجع لأول وهلة فإنه يتعاظم ذلك، وأنا أعلم أن بعض الناس سيتساءلون ويقولون: لقد وقعنا في فواحش، هل يجب علينا أن نأتي ونعترف؟ A ما دامت المسألة لم تصل إلى الإمام ولا إلى القاضي فإنه لا يجب عليك أن تذهب وتعترف وهذه عزيمة أخذ بها ذلك الصحابي وتلك الصحابية، ولكن المسألة عندك أنت يا من وقعت في الفاحشة لا يجب عليك أن تذهب إلى القاضي وتقول: أقم حد الله علي، لا يجب من ناحية الوجوب، وتكفيك التوبة بينك وبين الله. وبعضهم سأل الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله سؤالاً قال: إني قد زنيت هل يجب علي أن أذهب إلى إمام المسجد مثلاً أو أحد الناس فأقول له اجلدني الحد حد خمر أو حد زنا اجلدني خفية؟ فقال الشيخ حفظه الله تعالى ونفع به المسلمين: لا يجب عليه ذلك، فلا يفعل هذا، وإنما تكفيه التوبة بينه وبين الله، لا يحتاج أن يضربه أحد لا في بيت ولا في مسجد ما لم تصل المسألة إلى الحاكم أو القاضي فإنه يجب عند ذلك إقامة الحد.

خطر استعظام الذنوب

خطر استعظام الذنوب بالنسبة لقضية استعظام الذنوب، فبعض الناس يستعظمون الكم الهائل من الذنوب التي ارتكبها عبر عشرات السنين في الماضي وجاء الآن ليتوب، وقد ملأت تلك الذنوب نفسه وضاقت بها جوانحه وهو يريد الخلاص، فقد يقول كما ذكرت قبل قليل: كيف يغفر الله لي؟ هذه أشياء عظيمة جداً، كثير من الناس يأتي بعضهم يقول: يا أخي! أنا ما تركت بلية إلا فعلتها، ما تركت فاحشة إلا وأتيتها، ليس هناك حد من حدود الله إلا وانتهكته، كل ما تتصور ببالك من المعاصي والآثام أنا فعلتها، ماذا يمكن أن أفعل؟ هذه نفسية كثير من الناس يكتبونها برسائل أو يأتون يشافهون بها وهم في غاية الحرج، يقول: فعلنا وفعلنا، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل: (من علم أني ذو قدرة على مغفرة الذنوب غفرت له ولا أبالي ما لم يشرك بي شيئا) ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل في الحديث الصحيح أيضاً: (يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا بن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، يا بن آدم! لو لقيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً أتيتك بقرابها مغفرة) إن الله عز وجل واسع المغفرة واسع الرحمة: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82]. وفي حديث أبي ذر: (يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم) سبحانه وتعالى ما أحلمه! ما أرحمه! ما أشد عفوه! وما أوسع مغفرته! لو قال إنسان: يا أخي هذه من الناحية النظرية أنت تأتيني بآيات وأحاديث، لكن أعطني مثالاً واقعياً على أناس اشتدت بهم الفواحش ثم غفر الله لهم، نقول لك: نعم يا أخي يوجد، والحمد لله، ورصيد التجربة وهو رصيد مهم للأمة الإسلامية ولجيل الصحوة، رصيد التجربة رصيد موجود والحمد لله، في القرآن والسنة ما نقل إلينا من السابقين ومن سيرة المسلمين التي نحن الآن نقرؤها، مثل: حديث قاتل المائة النفس حادث عملي، وشيء وقع، شخص قتل مائة نفس قتلها كلها ظلماً وعدواناً، فهو معتد ظالم، وبعد ذلك يقول له العالم وليس العابد الجاهل: وما الذي يحول بينه وبين التوبة؟ نعم. لك توبة، ثم يتوب فيتوب الله عليه وتختصم فيه الملائكة فيكون من نصيب ملائكة الرحمة، وقد قتل مائة نفس. إذاً: حتى نقرب المسألة عملياً إلى الأذهان نقول: نعم، هناك أمثلة عملية، فهذا قتل مائة نفس، فهل عندك جريمة مثل هذه؟ قتل مائة نفس! والعلماء يصنفون الذنوب: الشرك ثم البدعة ثم قتل النفس ثم الفواحش الأخرى، قتل النفس عظيم، وقول ابن عباس رحمه الله فيه أنه خالد مخلد في جهنم، والعلماء لهم فيها أقوال بسطها ابن القيم رحمه الله في المدارج وغيرها ورجح فيها.

تبديل سيئات التائبين إلى حسنات

تبديل سيئات التائبين إلى حسنات إذاً: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الفرقان:70] فماذا تريد إذا تبت أكثر من أن يبدل الله سيئاتك حسنات؟ هذه السيئات كلها التي فعلتها في الماضي تنقلب إلى حسنات بالتوبة ليست فقط تغفر السيئات، وإنما تنقلب إلى حسنات، لكن ليس هذا فتح باب للشر ولا هو دفعٌ للناس أن نقول لهم أذنبوا أذنبوا واستكثروا من الذنوب، لأنها كلها ستنقلب إلى حسنات، لا. فهذا لا يمكن أن يحدث للعابين البطالين، كلا -أيها الإخوة- المسألة لها ضوابط وحدود، والدين ليس لعباً وهزوا، كلا: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً} [الفرقان:70] لاحظ الشروط: التوبة، والإيمان، والعمل الصالح، وفي الآية الأخرى: {ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82] بعد ذلك تبدل السيئات حسنات. وقال ابن القيم رحمه الله: إما أن تبدل بالسيئات حسنات من ناحية الصفة، يعني: أن يبدل الله بالشرك الإيمان، وبالزنا عفةً وإحصاناً، وبالكذب صدقا، وبالخيانة أمانة، هذا أحد المعاني: {يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:70] من المعاني أيضاً: تبديل السيئات التي عملوها في الدنيا بحسنات يوم القيامة، وهذا الأخير قد يقل وقد يكثر، يعني: لو أن شخصاً عنده مليون سيئة فقد تبدل بحسنات مثلها في العدد، أو أقل منها، أو أكثر منها، أو أنها أكثر في الكيفية أو أقل أو مثلها في الكيفية كما أنها في الكمية على حسب ماذا؟ على حسب استقامة الشخص والأعمال الصالحة التي فعلها بعد ارتكاب تلك الفواحش. ومسألة رغبة الناس أن يكونوا عند الهداية قد مُسِح عنهم الماضي فهي رغبة عند كثيرين من مريدي التوبة، يريدون مسح الماضي بأي وسيلة، فكثير من الشباب الذين هداهم الله عز وجل والكبار الذين هداهم الله عز وجل والنساء اللاتي هداهن الله عز وجل يأتون يقول لك: أنا أريد أن أهتدي، لكن ماذا عن سيئاتي الماضية هل تمحى أم لا؟ هذا سؤال مصيري يهمني، أريد أن أعرف هل يمكن أن يمسح الماضي أم لا؟ أنا قلق على الماضي، أنا لا أزال أتذكر تلك الفواحش، ماذا سيحدث؟ يعبر عن هذه النفسية الصحابي الجليل عمرو بن العاص رضي الله عنه في صحيح مسلم قال: (فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: ابسط يمينك فلأبايعك، فبسط يمينه فقبضت يدي -غريب لماذا قبض عمرو يده؟ - قال: ما لك يا عمرو؟ -هل تراجعت؟ - قال: قلت: أردت أن أشترط، قال: تشترط بماذا؟ قلت: أن يغفر لي - عمرو بن العاص يريد أن يدخل الإسلام لكن يريد في نفس الوقت أن تمحى الصفحة الماضية وتطوى بالكلية- قال: يا عمرو! أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله؟) وقال الله عز وجل: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} [آل عمران:86] إلى أن قال سبحانه: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:89] إذاً ليست المسألة أن نتوب الآن وبعد دقائق أو بعد أيام نرجع مرة أخرى ونواصل ونضحك على أنفسنا ونخادع الله كما يخادع بعض الناس الصبيان، الآن أفعل الذنب وأتوب بعد خمس دقائق، وأفعله مرة ثانية وهكذا، وأقول: تبدل السيئات حسنات ومسح هذا الماضي! ويعبر عن هذه النفسية أيضاً نفسية إرادة مسح الماضي بالكلية الحديث الآتي: عن ابن عباس (أن ناساً من أهل الشرك قتلوا فأكثروا وزنوا فأكثروا، ثم أتوا محمداً صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن -كلامك جميل جداً ونحن مقتنعون به- فلو تخبرنا، أن لما عملنا كفارة، فنزل قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً} [الفرقان:68] ونزل قول الله عز وجل: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53]).

بقاء حسنات التائب السابقة

بقاء حسنات التائب السابقة فلو أن إنساناً عمل سيئات كثيرة استغرقت حسناته الماضية، ثم تاب إلى الله عز وجل، استقاموا فترة من الزمن ثم انتكسوا، نكصوا على أعقابهم وارتدوا على أدبارهم، هؤلاء الناس كانوا قد عملوا أعمالاً صالحة، الواحد يكون قد دعا إلى الله واهتدى على يديه أناس ثم ضل ونكص على عقبيه، وعمل الآن في حياته الجديدة السيئة سيئات كثيرة ربما أذهبت حسناته الماضية، ثم جاءه دافع التوبة وعاودته نفسه بالرجوع إلى الله، فهو الآن يقول: يا ترى لو أني تبت إلى الله واستقمت هل تعود لي حسناتي السابقة؟ يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: هذا الرجل يقال له: تبت على ما أسلفت من خير، فالحسنات التي فعلتها في الإسلام أعظم من السيئات التي يفعلها الكافر في كفره من عتاقة وصلة، وقد قال حكيم بن حزام: (يا رسول الله! أرأيت عتاقة أعتقتها في الجاهلية، وصدقة تصدقت بها، وصلة وصلت بها رحمي، فهل لي بها من أجر؟ فقال: أسلمت على ما أسلفت من خير) إذاً: نقول: يقال لهذا الرجل: إن كنت صادقاً فإن الله يرد لك حسناتك الماضية ولا تضيع عليك، ولو قال شخص: هذا على مستوى المشركين وعمرو بن العاص كان مشركاً وهؤلاء الصحابة كانوا قبل أن يسلموا أشركوا.

طريقة لتكفير المعاصي

طريقة لتكفير المعاصي فمثلاً: أنا حصلت لي معصية الآن كيف أبدل؟ قال البخاري رحمه الله وساق بإسناده إلى ابن مسعود: إن رجلاً أصاب من امرأة قبلة -واحد من الصحابة، والصحابة بشر طبعاً، يجب ألا ننسى هذا الأمر، الصحابة بشر، هذا الصحابي قبل امرأة أجنبية- فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فأنزل الله: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] فقال الرجل: (ألي هذا يا رسول الله؟ -هذا لي فقط، الصحابي فرح- قال: لجميع أمتي كلهم) وروى الإمام أحمد ومسلم قصة هذا الرجل: عن ابن مسعود قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني وجدت امرأة في بستان لوحدها، ففعلت بها كل شيء غير أني لم أجامعها، قبلتها ولزمتها، ولم أفعل غير ذلك، فافعل بي ما شئت) انظر نفسية الإنسان عندما يأتي تائباً، يقول: يا رسول الله! عملت كذا وكذا وكذا، فهذا أنا بين يديك افعل بي ما شئت، فيه أسلوب الصدق في التوبة، يقول: افعل بي ما شئت، أنا يا رسول الله يبن يديك افعل بي ما شئت (فلم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً فذهب الرجل، فقال عمر: لقد ستر الله عليه لو ستر نفسه؟ فأتبعه صلى الله عليه وسلم بصره ثم قال: ردوه علي، فردوه عليه، فقرأ عليه: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] فقال معاذ: يا رسول الله! أله وحده أم للناس كافة؟ فقال: بل للناس كافة) وهذا الحديث أيضاً له طريق آخر عند ابن جرير لا نذكره خشية الإطالة في هذه النقطة بالذات. ولكن المقصود أن المسلم مهما كان مستقيماً ومهما كان قد تلقى من التربية يمكن أن يقع في يومٍ من الأيام في فاحشة، فلو وقع ماذا يفعل؟ {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] فقط المسألة بسيطة.

إضمار التوبة قبل إيقاع الذنب

إضمار التوبة قبل إيقاع الذنب لكن ليس معنى هذا الكلام أن كل واحد الآن يذهب ويفعل ما يشاء ثم يقول: أنا سأعمل بعد ذلك، ولذلك ما هو الخطأ في توبة إخوة يوسف عندما عملوا العمل في البداية؟ فما هو الخطأ في سيرة إخوة يوسف عندما ألقوه في الجب؟ ما هو النص من القرآن؟ {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} [يوسف:9] {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً} [يوسف:9] لتصلوا إلى نتيجة: {يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} [يوسف:9] ماذا قالوا بعدها؟ {وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ} [يوسف:9] فأضمروا التوبة قبل إيقاع الذنب، هذه عقلية موجودة عند بعض الناس مثل إخوة يوسف قالوا: الآن نتخلص منه ونقضي عليه ونقتله ونرميه في الجب، وبعد ذلك نكون قوماً صالحين، وترجع الأمور ونرجع إلى الاستقامة وكل شيء يصبح طيباً. فبعض الناس عندهم هذه النفسية، يقول: هذه الصيفية أنا أذهب إلى البلد الفلاني وأفسق وأفجر وأفعل وأفعل وبعد ذلك أرجع وأذهب إلى مكة وأعتمر، لذلك خط سير بعض الناس عجيب: بانكوك، ومكة، أو العكس، يقول: الآن أريد حسنات كثيرة، وبعض الناس لهم عجائب في الموضوع يذهب إلى مكة والحرم ويحجز هناك ويجلس في مكة ويحجز حجزين في الطائرة واحد في آخر رمضان وواحد في أول شوال إلى مكة ثم إلى بانكوك، تصور!! فلماذا هذه الازدواجية؟ لأن الناس لم تترب التربية الصحيحة، لا يمكن لواحد تربى التربية الإسلامية الصحيحة أن يفعل هذا.

مكانة المذنب في المجتمع الإسلامي

مكانة المذنب في المجتمع الإسلامي ما هو موقع المذنب في المجتمع المسلم؟ سؤال مهم جداً، كيف ينظر إلى من تاب؟ وهذا كلام مهم بالذات للدعاة إلى الله، ما هو الموقف من المذنب؟ شخص أذنب، فما هو موقفنا منه؟ كيف نعامله؟ كيف نواجهه؟ بأي وجه نتلقاه؟ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل قد شرب، فقال: اضربوه -اضربوه الحد- قال أبو هريرة: فمنا الضارب بيده ومنا الضارب بنعله ومنا الضارب بثوبه، فلما انصرف قال بعض القوم: أخزاك الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقولوا هذا، لا تعينوا عليه الشيطان). هذه مسألة مهمة يجب أن يكون موقفنا تجاه المذنب عندما يقام عليه الحد، أو عندما يأخذ جزاءه، أو عندما تصح توبته وفعلاً يستقيم، فلا نقول: هذه فعلة فعلتها سود الله وجهك، وهذا عمل أخزاك الله تفعله، وهذا كذا، هذا العمل ما الذي يفعل في نفس المذنب؟ إنه يرى أن الناس كلهم ينظرون إليه بمنظار أسود، بالرغم من أنه تاب وأقيم عليه الحد وطهر، فكيف يقال له: أخزاك الله؟! فإذاً ينفر من الوسط ويترك ولا يجلس مع الصالحين فنعين عليه الشيطان، إذاً: مراعاة شعور التائب إذا صلح حاله، نقطة هامة فتجب مراعاة شعور التائب إذا صلح حاله. وحديث المرأة المخزومية وهذا طريق من طرق حديث هذه المرأة، فشأن هذه المرأة فيه فائدة مهمة، فقد سرقت المرأة المخزومية وأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقطع يدها، فكلم الناس أسامة أن يشفع عند الرسول صلى الله عليه وسلم فيها، فغضب الرسول صلى الله عليه وسلم وخطب خطبةً مهمة وقال القاعدة الإسلامية في هذا الموضوع وأمر بتلك المرأة التي سرقت فقطعت يدها، قالت عائشة رضي الله عنها [فحسنت توبتها بعد -المرأة المخزومية هذه التي قطعت يدها حسنت توبتها بعد- وتزوجت وكانت تأتيني بعد ذلك، فأرفع حاجتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)، انظر حسنت التوبة، فلما حسنت التوبة استقبل الصحابة المرأة هذه استقبالاً حسناً فوجدت مكاناً في المجتمع المسلم، فصارت تأتي إلى عائشة وتجلس عند عائشة وتزوجت وصلح حالها، وعائشة طبعاً ترفع أمرها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم. إذاً: لولا أن المرأة وجدت مكانة في المجتمع هل كانت ستأتي وتجلس عند عائشة وتتحدث عندها، فحسن استقبال الصحابة للتائب هذا يؤدي إلى أن يكون التائب لبنة صالحة في المجتمع، الآن خطأ بعض الدعاة إلى الله وبعض الناس أنهم يستقبلون التائب استقبالاً سيئاً يقولون: اذهب أنت بعد كل هذه الأعمال تأتي الآن، اذهب من هنا، لا مكان لك عندنا، ماذا يحدث عند الشخص؟ يفور وربما رجع وانتكس انتكاسةً أشد من الأولى، من هو السبب؟ أنت السبب، أنت الذي نفرته، هذه المشكلة، المشكلة الأسلوب، المشكلة مشكلة الأسلوب عند الكثيرين، فلو دخل واحد إلى طريق الاستقامة، وحصل سوء تفاهم بينه وبين واحد من إخوانه الدعاة، فصار فيه كلام فذهب لشخص ثانٍ يشكو حاله، يقول له: لقد حصل بيني وبين فلان خلاف وكذا، وأنه أخطأ علي بكذا وقال كذا وكذا، فقال الشخص الثاني كلمة واحدة فقط فصلت الموضوع، قال له: أحسن، تستاهل، طبعاً باقي القصة متوقعة، تائب جديد يلجأ لمن؟ لقد أغلقت الطريق أمامه فإلى أين يذهب؟ وحتى في الردة في الحديث الصحيح عن ابن عباس قال: كان رجلٌ من الأنصار أسلم ثم ارتد ولحق بالشرك، ثم ندم فأرسل إلى قومه: سلوا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم هل لي من توبة؟ ندم مع أنه ارتد، لكنه ندم، فجاء قومه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن فلاناً قد ندم وإنه أمرنا أن نسألك هل له من توبة، فنزلت: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} [آل عمران:86] {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا} [البقرة:160] هؤلاء الله عز وجل لهم غفور رحيم، حتى لو ارتد يرجع. شخص سافر إلى الخارج، كان مسلماً واعتنق الأفكار العلمانية، ثم جاءنا كافراً، ثم بعد ذلك تاب، وقال: أنا يا جماعة كنت في يوم من الأيام ملحداً فهل لي من توبة؟ نقول: نعم لك توبة، لا أحد يمنعك من التوبة، تعال، نعلمه ونرفق به ونتلقاه تلقياً حسناً، فلا يلبث أن يكون داعيةً إلى الله.

مسامحة المذنب إذا تاب

مسامحة المذنب إذا تاب من المواقف أيضاً للمذنب أننا إذا استطعنا أن نسامحه في شيء نسامحه فيه، فلو سرق شخص من شخص، وقبل أن يصل الأمر إلى القاضي أو الحاكم، لو استطعت أن تسامحه فسامحته فهذا شيء طيب، قبل أن يصل الأمر، لكن لو وصل فلا فائدة، يبين ذلك الحديث الصحيح الآتي: عن أبي ماجدة قال: (كنت قاعداً مع عبد الله بن مسعود، فقال: إني لأذكر أول رجلٍ قطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بسارق فأمر بقطعه، فكأنما أسف وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد قطع اليد، فقال: يا رسول الله! كأنك كرهت قطعه، قال: وما يمنعني، لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم، إنه لا ينبغي للإمام إذا انتهى عليه حدٌّ ألا يقيمه إن الله عفوٌ يحب العفو: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:22]) حديث حسن السلسة الصحيحة رقم أربعة. فإذاً الرسول صلى الله عليه وسلم يحث الصحابة قال: لو أنكم سامحتموه قبل أن يصل أمره إلي لكان حسناً، لكن مادام وصل الأمر فلا تنفع المسامحة بعد ذلك، ولابد من إقامة الحد حتى لا يحصل التلاعب.

النهي عن التعيير بالذنب

النهي عن التعيير بالذنب ومن الأمور المهمة في موقفنا من المذنبين التائبين العائدين إلى الله قضية خطيرة يقع فيها البعض وهي تعييرهم بالذنب وتذكيرهم به فترة بعد فترة، وهذه المسألة التي تجعل كثيراً من الناس لا يتوبون، عندما يرى الآن أن معاملة الناس الطيبين تعير بالذنب، يقول: لماذا أتوب؟ إن ألسنتهم لن ترحمني، فلذلك لا يتوب، وربما تاب ولكنه عاش في الوسط محطماً، لماذا؟ لأن هؤلاء الذين من حوله لا يساعدونه على نسيان الماضي، هذه نقطة مهمة أرجو أن تنتبهوا إليها، فالناس الذين من حوله لا يحاولون أن ينسى الماضي وإنما يذكرونه به مرة تلو الأخرى، ولذلك قد يتوب لكن يعيش شخصية محطمة لا ينتفع منها المسلمون من طاقاته، من الموقف الذي حصل تجاهه. وقد يكون تعيير المسلم لأخيه بذنب فعله أعظم إثماً من المذنب لما فيه من إظهار الطاعة وتزكية النفس وتبرئتها من العيوب، يقول عليه الصلاة والسلام: (إذا زنت أمة أحدكم، فليقم عليها الحد ولا يثرب) لا يثرب يعني: لا يعير، في الحديث الصحيح، وورد عن بعض السلف قوله: "إن من عير أخاه بذنب قد تاب منه لم يمت حتى يعمله"، وقال بعضهم: "لا تظهر الشماتة بأخيك فيرحمه الله ويبتليك"، فإذاً: أنت لابد أن تحس يا أخي أنك يمكن أن تقع في نفس ما وقع فيه هذا الشخص، فعندما تعيره بالفاحشة فقد تقع في الفاحشة، وعندما تعيره بالكذب فقد تقع في الكذب {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً} [الإسراء:74] هذا الرسول صلى الله عليه وسلم يقال له هذا الكلام، وقال يوسف: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف:33] هذا النبي يوسف يقول لربه لو لم تصرف عني كيد هؤلاء النسوة أقع في الفاحشة، وكان عامة يمينه صلى الله عليه وسلم: لا. ومقلب القلوب. ولذلك الرجل الذي جاء لمذنب وقال: إني أنصحك عشرين مرة ولا فائدة، أنت تصر على المعصية، أنت أنت لا يغفر الله لك، في الحديث الصحيح: (إن رجلاً قال: والله لا يغفر الله لفلان، قال الله: من ذا الذي يتألى علي ألا أغفر لفلان فإني قد غفرت لفلان وأحبطت عملك) هذا تعدٍّ على حق من حقوق الله، من الذي يغفر؟ إنه الله عز وجل هو الذي يغفر، أنت لا تعطي الناس كروتاً إلى جهنم والجنة توزع عليهم تقول: أنت يغفر لك وأنت لا يغفر لك، ليست من صلاحياتك.

قرب الداعية إلى نفسيات المدعوين

قرب الداعية إلى نفسيات المدعوين كذلك ينبغي لمن يتابع الناس ويدعوهم إلى الله ويسير معهم أن يبقى قريباً من نفسياتهم، فإذا ما أرادوا التوبة وجدوا بجانبهم شخصاً رحيماً رفيقاً يفتحون صدورهم له ويقولون له: ماذا نفعل؟ بعض الناس قد يذنب فيحتاج إلى أخٍ له يقف بجانبه يقول له: يا أخي! أنا فعلت كذا ماذا أفعل؟ ماذا يجب علي؟ بعض الناس لا يرتاح حتى يقول كل الذنب الذي فعله بالتفصيل، هذه مسألة نفسية، بعض الناس المذنبين لا يرتاح، لا يستطيع أن يكتم مسألة بينه وبين نفسه، تجده لابد أن يفشي هذا الأمر إلى واحد من المقربين إليه، فلو كان المقرب إليه شخصاً واعياً فستجده يقول له كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم لـ عائشة: (يا عائشة! إن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله، فإن التوبة من الذنب الندم والاستغفار) فإذا وقع أد إخوانك في معصية، فهذا الرجل الذي وقع في المعصية يريد شخصاً يفرج عنه شيئاً في الموضوع فقد لا يستطيع لوحده، فأنت إذا أحسست أنه أخطأ وغالباً ما يظهر الخطأ عليه، إذا كان إنساناً صادقاً فإنه لابد أن هذه المعصية توجد عنده نوعاً من تأنيب الضمير، نوعاً من التغير، فأنت إذا وجدت رجلاً تغير فقد تأتي له وتقول: يا أخي إن كنت ألممت بذنب فاستغفر الله فإن التوبة من الذنب الندم والاستغفار، فقد يفتح لك الموضوع ويقول: أنا وقعت في كذا، أنا وقعت في فاحشة بدون تسمية، وأنت لا تدري ما هي درجة الفاحشة، ليس لازماً أن تقول: لا، تعال: أنا لا أحل لك المشكلة حتى تخبرني بالتفصيل ماذا فعلت وتعلمني من هي ومن هو وما الذي صار وإلى أي درجة، ليس هذا صحيحاً، فهذه مسألة بينه وبين الله، أنت تعطيه القاعدة الأساسية، تقول له: يا أخي الكلام الذي ذكرناه سابقاً في مواجهة من حصل منه الذنب، تقول له: تفعل كذا وكذا. بعض الناس لا يرتاحون حتى يقول بالتفصيل، فقد جاءني مرة شخص قال: أنا طبعاً الذي يفعل هذا الأمر لا يدري كيف يفتح الموضوع أصلاً، لابد أن نعرف كيف نعامل عامة الناس، هذه نقطة مهمة، جاء يفتح الموضوع فتأثر ثم بكى، ثم بدأ يقول: أنا فعلت شيئاً ولا أدري ماذا أفعل لأن هذا الشيء في داخله مسألة ولا أدري كيف أحلها، طبعاً الكلام غير واضح، فأنت تقول له: يا أخي! تذكره برحمة الله وبوجوب التوبة، فقال الرجل: يا أخي أنا مشكلتي لا تنتهي بقضية أني أتوب وأستغفر، لأن المسألة وراءها أشياء، فالرجل يتلكلك في الكلام ويتلعثم، ثم قال: مشكلتي أني فعلت الفاحشة، ولا زال السؤال حائراً في ذهن الرجل، ما هو السؤال؟ ليست قضية التوبة فقط، إذاً هناك شيء آخر، قال: والمرأة التي فعلت فيها الفاحشة قد عقد عليها منذ أيام، والمهم في النهاية قال: وأنا الآن والله ما أدري ربما كانت حاملاً مني وستدخل في الرجل الجديد، سبحان الله يا جماعة! المعصية شؤم تبقى تطارد الواحد وأسواط المعصية تلسع، طبعاً تلسع الصادق أما ذاك المستهين فلا. الآن مثل هذا الرجل عنده مشكلة لا يمكن أن تتحقق بقضية أنه فقط فعل الفاحشة يقول: هل أخبر زوج المرأة؟ صحيح ربما كانت حاملاً مني، يمكن أن يدخل بها الآن، طبعاً الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقي ماءه زرع غيره) ما معنى الحديث؟ مزارع عنده بستان وفيه ساقية تسقي عنده في البستان وتذهب إلى جاره سمع الحديث: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقي ماءه زرع غيره) قال: أنا أولى أن أطبق الحديث، فقطع الماء عن جاره، لماذا يا فلان؟ وترافعا إلى القاضي، قال: هذا حديث صحيح: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقي بمائه زرع غيره) يجب أن تعلم ما هو شرح الحديث، ما هي أقوال أهل العلم، طبعاً الشرح: أنك أنت لا تدخل بامرأة طلقت أو مات عنها زوجها ولما يستبرئ الرحم ولما تتبين براءة الرحم لأنه يمكن أن يكون فيها شيء من زوجها الأول، فلو دخلت فيها تسقي بمائك "المني" زرع غيرك (الرجل الأول) هذا معنى الحديث. فالآن الرجل عنده مسألة العقدة الآن، كيف أتخلص؟ هل يجب علي؟ أنا لا أطيل عليكم بشرح الأحكام وسألنا الشيخ الفلاني وقال كذا، إنما أقول هذا مثالاً على أن بعض الناس لابد أن تعلمه وتوضح له وتشرح له وتستقبله وتستفرغ ما في نفسه من الأشياء.

ذنوب لها فائدة

ذنوب لها فائدة فإن قال قائل: إذا نظرنا إلى الذنب نجد أن لبعض الذنوب فائدة، فقد يستغرب البعض ويقول: كيف تكون للذنوب فائدة؟ طبعاً أولاً أقول حتى لا يفهم الكلام فهماً خاطئا: كوننا نقول: إن بعض الذنوب لها فائدة، هذا لا يعني أن نفعل الذنوب حتى نحصل على هذه الفائدة، لأن هناك أشياء لا يجوز أصلاً أن يفعلها الإنسان حتى لو ترتب عليها خير، بل إن من فعلها فإنه لن يحصل على خيرها، يعني: إذا فعل شخص الشيء هذا لأجل الخير الذي فيه وهو أصلاً محرم، فربما لا يحصل على الخير أصلا. إن الذنوب تحدث فيها أحياناً أشياء إيجابية في النفس، وهي لا يجوز فعلها، لكنها وقعت، فعند بعض الناس يكون للذنوب أثر إيجابي في النفس، كيف؟ هذا الانكسار الذي يحدث للمذنب التائب العائد إلى الله وليس المتكبر المستهين أصلاً الذي لا يحصل له خير نهائياً، هذا رجل حصل منه الذنب وتاب إلى الله، ماذا يحصل له؟ يحصل له انكسار وذلة وخضوع بين يدي الله ويتخلص من الكبر، بعض الناس يتخلص من الكبر بطريقة عجيبة: فهو إنسان مستقيم ولكن عنده كبر ويرى نفسه أنه أحسن من الناس وأن الناس هؤلاء يذنبون، فهو أحسن منهم، ويتكبر ويتعالى عليهم، وبعد فترة يقع في ذنب هو نفسه يقع في ذنب، فإذا وقع في الذنب يتبين له حقارة نفسه، ويتبين له قيمتها، ويتبين أيضاً أن الشيء الذي كان يذم الناس به ويتعالى عليهم قد وقع هو فيه، فتذهب صفة العجب، أو يكون هذا الذنب فيه علاج لصفة الكبر الذي في نفسه، وأنين المذنبين أحب إلى الله من زجر المسبحين المتفاخرين، أيهم أحب إلى الله شخص مسبح يتعالى ويتفاخر في التسبيح ويرائي به، أم إنسان انكسر بين يدي الله لذنب فعله وهو يئن الآن ويستغيث بالله أن ينجيه من هذا الهم والكرب الذي وقع فيه؟ فعليك أن تدرك يا أخي أن هذا المذنب لعل الله قد أسقاه بهذا الذنب دواءً استخرج به داءً قاتلاً هو فيه ولا تشعر كما قال ابن القيم رحمه الله: وهذا الانكسار بين يدي الله له أهمية عظيمة، ولذلك أنت تجد في حديث (يا بن آدم! مرضت ولم تعدني، قال: يا رب! كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما إن عبدي فلاناً مرض فلم تعده، أما لو عدته لوجدتني عنده) لماذا؟ بينما الجائع والعطشان قال: (لوجدت ذلك عندي) أما عند المريض قال: (لوجدتني عنده) يقول ابن القيم رحمه الله معلقاً: فتأمل هذه اللفظة لماذا؟ للكسرة الحاصلة في نفس المريض من المرض ولو كان أكبر متكبر إذا مرض، يعني: مرضاً شديداً جداً أقعده يحصل عنده نوع من الانكسار، ولذلك تجد الله عند المنكسرة قلوبهم من أجله، وهذا والله أعلم السبب في استجابة دعوة المظلوم والمسافر والصائم، لأن المظلوم انكسرت نفسه بالظلم، والصائم انكسرت نفسه بالجوع، فانكسرت حدة هذه النفس السبعية الغضبية التي لا تشبع، وهذا المسافر انكسرت نفسه بالغربة، ولذلك تجد الله يستجيب دعاء هؤلاء الناس المسافر والصائم والمظلوم، وكذلك المريض. ويقول ابن القيم رحمه الله أيضاً: وقد يكون ذنبٌ عند بعض الناس أعظم أثراً من طاعة، كيف؟ يقول: يعمل الذنب فلا يزال هذا الدنب نصب عينيه، إن قام وإن قعد وإن مشى ذكر ذنبه، فيُحدِث له انكساراً وتوبةً وندماً، فيكون ذلك سبب نجاته وفي المقابل شخص محسن وضع الحسنة أمام عينيه يراها دائماً، يقول: ويعمل الحسنة فلا تزال نصب عينيه إن قام وإن قعد وإن مشى كلما ذكرها أورثته عجباً، وكبراً ومنةً فتكون سبب هلاكه، فيكون الذنب موجباً لترتب طاعات وحسنات لأنه يرى السيئة أمام عينيه دائماً فيعمل طاعات ويعمل حسنات، ويخاف الله ويستحي منه ويطرق بين يديه منكسراً خجلاً باكياً نادماً مستقبلاً ربه، حتى يقول الشيطان -اسمع هذه الطرفة- يقول ابن القيم رحمه الله: هذا المذنب الذي يضع السيئة أمام عينيه حتى تحدث له كل هذه الأشياء، حتى يقول الشيطان: يا ليتني لم أوقعه فيها، لما يرى من ترتب الحسنات والعودة العظيمة إلى الله، فيندم الشيطان على إيقاعه في الذنب كندامة فاعله على ارتكابه، لكن شتان ما بين الندمين. والذنب أيضاً يحدث الاعتذار إلى الله واللجوء إلى الله ومناجاة الله عز وجل، فالله! ما أحلى قول المذنب في هذه الحالة: أسألك بعزك وذلي إلا رحمتني، أسألك بقوتك وضعفي وبغناك عني وفقري إليك، هذه ناصيتي الكاذبة الخاطئة بين يديك، عبيدك سواي كثير، وليس لي سيد سواك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال الخاضع الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، سؤال من خضعت لك رقبته، ورغم لك أنفه، وفاضت لك عيناه، وذل لك قلبه. هذه المناجاة التي تحدث عقب الذنب، لأن الإنسان يحس بالخطأ يحس بالندم، فيدفعه إلى هذه الأشياء التي يقبل بها على ربه، وهذا هو موضع الحكاية المشهورة التي جاءت عن بعضهم أنه شرد وأبق من سيده، فرأى في باب السكك باباً قد فتح، وخرج منه صبي يستغيث ويبكي وأمه خلفه تطرده حتى خرج، فأغلقت الباب في وجهه ودخلت، فذهب الصبي غير بعيد، لاحظ تطابق هذا المثال مع المذنب، فذهب الصبي غير بعيد ثم وقف مفكراً، فلم يجد له مأوى غير البيت الذي أخرج منه ولا من يئويه غير والدته، فرجع مكسور القلب حزيناً فوجد الباب مرتجاً مغلقاً فتوسده ووضع خده على عتبة الباب ونام، فخرجت أمه بعد وقت فلما رأته على تلك الحال لم تملك أن رمت نفسها عليه والتزمته تقبله وتبكي وتقول: يا ولدي أين ذهبت عني؟ ومن يئويك سواي؟ ألم أقل لك لا تخالفني ولا تحملني بمعصيتك لي على خلاف ما جبلت عليه من الرحمة بك والشفقة عليك وإرادة الخير لك؟ ثم أخذته ودخلت. يقول ابن القيم رحمه الله -هذا الرجل العظيم الذي قلما أنتجت الأمة الإسلامية مثله في طب القلوب- يقول: فتأمل قوله صلى الله عليه وسلم: (لله أرحم بعباده من الوالدة بولدها) وأين تقع رحمة الوالدة هذه التي في القصة الآن من رحمة الله التي وسعت كل شيء؟

حكم التوبة من ذنب مع الإصرار على غيره

حكم التوبة من ذنب مع الإصرار على غيره قد يسأل بعض الناس يقول: هل تصح التوبة من ذنب مع الإصرار على غيره، يعني: شخص الآن يشرب الخمر ويزني وهو مصر على شرب الخمر، لكنه امتنع من الزنا وتاب، هل تقبل توبته من الزنا وهو يصر على شرب الخمر؟ قال ابن القيم رحمه الله بعد أن ساق اختلاف العلماء: والذي عندي في المسألة أن التوبة لا تصح من ذنب مع الإصرار على آخر من نوعه، وأما التوبة من ذنب مع مباشرة آخر لا تعلق له به ولا هو من نوعه فتصح، كما إذا تاب من الربا ولم يتب من شرب الخمر، فإن توبته من الربا صحيحة، لأن الربا ليس من نوع شرب الخمر، وأما إذا تاب من ربا الفضل وبقي مصراً على ربا النسيئة هل تقبل توبته؟ لأنه ما زال مصراً على نوع آخر من نفس المعصية، أو تاب من تناول الحشيشة -هذا ابن القيم يقول الحشيشة، ونحن نقول: المخدرات أيصاً- شخص تاب من المخدرات وأصر على شرب الخمر، فهاتان المعصيتان من نوع واحد أم من نوعين مختلفين؟ فلا تقبل التوبة والحالة هذه، هذا مثل واحد يتوب عن الزنا بامرأة ويصر على الزنا بامرأة أخرى، فنقول: لا، لا ينفع، لأنه ما زال واقعاً في الزنا. مرةً قابلت موظفاً أتكلم معه يقول لي: والله أنا أكثر السفر وأنا أصارحك أني ما شربت الخمر مطلقاً برغم أني جلست على موائد فيها خمر، ما شربت الخمر، ولكن الصراحة أني قد زنيت، لماذا؟ يقول: لأن الخمر أريد أن أشربها في الجنة -هذا منطق، أناس عندهم طرق عجيبة في التفكير- فيقول: أنا تبت من هذا، أتيت بهذا المثال لكي أوضح كي لا يفهم بعض الناس ويقول: إذاً نتوب من بعض الذنوب ونبقى على الذنوب الأخرى، لأن هذه الاستهانة مصيبة يمكن أن تمحق العمل كله. وقد يعدل الإنسان عن معصية إلى معصية أخرى لأسباب، فمنها: إما أن يترك معصية ويصر على أخرى، لأن الأخرى وزرها أخف، يقول مثلاًَ: أنا تبت عن الزنا لكن لا أريد أن أتوب عن النظر إلى المسلسلات والصور المحرمة، لماذا؟ يقول: لأن هذه إثمها أقل، لذلك أنا تبت عن هذه، لكن أبقى على هذه. أو لغلبة دواعي الطبع عليه، فهناك شخص مثلاً قد لا يسبل، يترك معصية الإسبال لأنها ليست متعلقة بشهوة كما قال أحدهم، قال: أنا قد أعفي لحيتي وأقصر ثوبي لأني لا أجد فيها مقاومة للنفس، لكن بصراحة لا يمكن أن أترك النظر إلى المرأة الأجنبية، لماذا؟ لأن نفسه تلك ما فيها مقاومة، هذه ليست فيها مقاومة للنفس، فلذلك قد لا يستطيع أن يتركها. وبعض المعاصي أسبابها حاضرة بين يديه فمثلاً يمكن بسهولة أن يضع فيلماً ويشغله ويراه بسهولة، لكن مثلاً المخدرات يقول: كيف أحضرها؟ ومن أين أبحث عنها؟ صعبة!! ولذلك هو يترك ذلك الذنب ويصر على هذا لأن أسباب تحصيل هذا متوفرة، وأسباب تحصيل ذلك الذي تركه صعبة، فمثل هذا لا يكون صادقاً مع الله. أو أن بعض أقران السوء وخلطائه لا يدعونه يتوب من المعصية، لماذا؟ لأنه قد يترك جاهه، فقد يكون مترئساً مجموعة يفعلون فعلاً، أو هو الذي يجلب لهم المنكر الذي يقارفونه، وهذا موجود، فهو الآن عندهم زعيم عظيم ووجيه، لو تاب فقد الزعامة، فبعض الناس يحب الرئاسة بأي طريقة حتى لو بحصب جهنم، المهم أن يكون هو الذي ينظر إليه، فمثل هذا مثل أبي نواس الشاعر الفاجر الذي نصحه أبو العتاهية ولامه على تهتكه في المعاصي، فقال أبو نواس: أتراني يا عتاهي تاركاً تلك الملاهي أتراني مفسداً بالنسك عند القوم جاهي

رجوع التائب من المعصية إلى منزلته قبلها

رجوع التائب من المعصية إلى منزلته قبلها كذلك أيها الإخوة بعض الناس يفكر إذا تاب الآن هل يرجع أحسن مما كان عند الله أم أقل مما كان أم مثل ما كان، هذه المسألة ذكر فيها بعض أهل العلم أقوالاً، ولكن يقول ابن القيم رحمه الله: الصحيح التفصيل وهو ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن من التائبين من لا يعود إلى درجته قبل الذنب، ومنهم من يعود إلى نفس الدرجة، ومنهم من يعود إلى درجة أعلى، وذلك بحسب الهمة، لو أن واحداً كان بمستوى معين من الطاعة، ثم أذنب وتاب، وهذه التوبة دفعته إلى مزيد من الأعمال أكثر من الأول، فإنه يرجع إلى درجة أعلى، وآخر تاب لكن رجع إلى نفس المستوى من الطاعة، محيت التوبة فاستمر على نفس الدرجة، وثالث تاب لكن الذنب شرخ شرخاً قلل الطاعة عنده فهو الآن يرجع إلى مستوى أقل مما كان عليه قبل الذنب، وداود عليه السلام رجع بعد التوبة إلى منزلة أعلى من منزلته قبلها لأن توبته كانت عظيمة. بعض الناس يتوبون -وهذه مسألة مهمة أيها الإخوة- نتيجة عبادة من العبادات مؤقتة أو حدث معين، بعض الناس يذهب إلى الحج أو العمرة ويرجع متغيراً، تاب إلى الله وتجده الآن قد تحسن مظهره وتغير شكله، أو شخص أصابه حادث سيارة ونجا منه، طبعاً رق قلبه للحادث وكيف حصل وكيف أنجاه الله، فتحسنت أحواله والتزم بطاعة الله، أو مثلاً مرض مرضاً شديداً ثم شفي منه، تجد بعض الناس يتحسنون، لكن لا يستغلون هذا التحسن في تنمية إيمانهم والمزيد من العبادات، يبقى على حاله حتى يخف تدريجياً مع الزمن حتى يعود كما كان، ولذلك لابد من استغلال هذه الأشياء.

أنواع غير مقبولة من التوبة

أنواع غير مقبولة من التوبة أحياناً بعض أنواع من التوبة ليست صادقة ولا مقبولة، مثل شخص أحس أن الذنوب ستؤثر على جاهه وسمعته بين الناس وربما طرد من وظيفته، شخص يشرب الخمر ويسكر ويسكر، فقد يطرد من العمل، يأتي متأخراً جداً غير صاح، وتؤثر على عمله وعلى وظيفته، فترك الخمر لا لله، لكن حفاظاً على الوظيفة، هل توبته صحيحة؟ رجل تاب لحفظ حاله وقوته، شخص ترك الزنا مثلاً واللواط خشية مرض الإيدز والهيربس، ليس خشيةً لله، هل توبته صحيحة؟ فكر يجب أن يكون الدافع للتوبة لله لا خشية الأشياء الدنيوية. شخص ذهب ليسرق بيتاً، فلم يجد منفذاً، ووجد سيارة الشرطة، فخاف ورجع، هل توبته صحيحة؟ إنسان جاء شخص يعطيه رشوة فامتنع عن هذه الرشوة، لماذا؟ قال: أخاف أن يكون هذا المال الذي يعطيني الرجل من هيئة مكافحة الرشاوي والفساد الإداري، ولذلك أنا لا آخذ الرشوة، فهو ما ترك أخذ الرشوة لله وإنما خشية من هيئة مكافة الرشاوي، ولذلك يا جماعة يركز المسئولون الصالحون دائماً على قضية الرقابة الذاتية لأنها هي التي تكفل استقامة الناس. لو أن بعض الناس مثلاً يتوبون إلى الله بعد حصول شيء عندهم يفقدهم القدرة عن المعصية، فشخص كاذب أصيب بشلل في لسانه، ما عاد يستطيع أن يتكلم ولا يكذب، أو زان فقد القدرة على الوقاع، أو سارق فقد أطرافه في حادث، الصحيح أن هؤلاء إذا تابوا إلى الله توبة صحيحة أنها تقبل إذا تابوا لله ليس لأنه مجرد فقد الأدوات، تاب لله، فتوبته إن شاء الله صحيحة.

تذكرة للمشتاقين إلى التوبة

تذكرة للمشتاقين إلى التوبة نختم هذا الكلام بتذكرة إلى الذين كانوا في يوم من الأيام مستقيمين على طاعة الله فانحرفوا وتلوثوا بالمعاصي فرجعوا إلى أنفسهم رجعةً تذكروا فيها جمال الماضي وحلاوة الإيمان التي سلبوها، فتشوقت أنفسهم للرجوع، إلى هؤلاء الناس الذين كانوا مستقيمين ثم فعلوا أشياء وهم يتوقون للعودة إلى الماضي وربما لا يعودون لأسباب، وهذا الموضوع بالذات قضية الانتكاس وظروفه ما هي الأسباب والعلاج وحال الناكص على عقبيه قد ذكرناها في محاضرة منفصلة بعنوان: لا ترتدوا على أدباركم. إلى هذا الشخص نقول هذا الكلام الذي ذكره ابن القيم رحمه الله: وصاحب هذا المشهد يشهد نفسه كرجل كان في كنف أبيه يغذيه بأطيب الطعام والشراب، ويلبسه أحسن الثياب، ويربيه أحسن التربية ويعطيه النفقة وهو القيم بمصالحه كلها، فبعثه أبوه في حاجة له -الأب بعث الابن في حاجة له- فخرج عليه -على الولد- في طريقه عدو فأسره وكتفه وشد وثاقه، ثم ذهب به إلى بلاد الأعداء فسامه سوء العذاب وعامله بضد ما كان أبوه يعامله به، فهو يتذكر تربية والده وإحسانه إليه الفينة بعد الفينة فتهيج في قلبه لواعج الحسرات كلما رأى حاله، ويتذكر ما كان عليه وكل ما كان فيه، فبينما هو في أسر عدوه يسومه سوء العذاب ويريد ذبحه في نهاية المطاف إذ حانت منه التفاتة نحو ديار أبيه، فرأى أباه منه قريباً، فسعى إليه وألقى نفسه عليه وانطرح بين يديه يستغيث: يا أبتاه! يا أبتاه! يا أبتاه! انظر إلى ولدك وما هو فيه ودموعه تسيل على خديه، قد اعتقنه والتزمه، وعدوه في طلبه حتى وقف على رأسه، وهو ملتزم لوالده ممسك به، فهل تقول إن والده يسلمه مع هذه الحالة إلى عدوه مرةً أخرى ويخلي بينه وبينه؟ -تظنون هذا يا جماعة؟ - فما الظن بمن هو أرحم بعبده من الوالد بولده ومن الوالدة بولدها؟ إذا فرَّ عبدٌ إليه وهرب من عدوه إليه. شخص يكون ماشياً في طريق الاستقامة ويأتي الشيطان ويستحوذ عليه ويحرفه عن سبيل الله، ثم يبصر طريق الهداية مرة أخرى يريد أن يرجع، فإذا رجع إلى الله رجع صادقاً وصحيحاً، تظنون أن الله يسلمه إلى الشيطان مرة أخرى إذا كان صادقاً. إذا فرَّ عبدٌ إليه وهرب من عدوه إليه وألقى بنفسه طريحاً ببابه يمرغ خده في ثرى أعتابه باكياً بين يديه يقول: يا رب! يا رب ارحم من لا راحم له سواك، ولا ناصر له سواك، ولا مؤوي له سواك، ولا مغيث له سواك، مسكينك وفقيرك وسائلك ومؤملك، لا ملجأ له ولا منجى منك إلا إليك، أنت معاده وبك ملاذه: يا من ألوذ به فيما أؤمله ومن أعوذ به مما أحاذره لا يجبر الناس عظماً أنت كاسره ولا يهيضون عظماً أنت جابره إذا خاف الواحد من أحد من البشر فإنه يهرب منه، لكن أنت إذا خفت الله تذهب إلى من؟ ترجع إليه وهو الذي خفت منه، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك. اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى، اللهم إنا نسألك أن تغفر لنا وترحمنا، وأن ترزقنا التوبة النصوح، وأن تعفو عنا، وأن تتجاوز عن سيئاتنا بمنك ورحمتك يا أرحم الراحمين! أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد.

الجهل بالأحكام من معوقات التوبة

الجهل بالأحكام من معوقات التوبة الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد. هذا الدرس الذي اقترح عنوانه بعض الإخوان "أريد أن أتوب ولكن" أساس الدرس الكلام على العوائق التي تحول بين بعض الناس وبين التوبة، يعني: يقول: أريد أن أتوب ولكن كيف يغفر الله هذه الذنوب كلها؟ أريد أن أتوب ولكن أصدقاء السوء لا يدعوني سيشهرون بي، أريد أن أتوب ولكن لا أعرف كيف أتوب؟ أنا تركت صلوات وتركت زكاة وتركت كذا، وسرقت مالاً وعندي أموال ربوية، لا أعرف كيف أتوب. فإذاً: نحن -أيها الإخوة- ركزنا أصلاً في الدرس حول هذه النقاط التي هي تشكل عقبة في طريق التائبين، أو أمور تزيل ذلك الحرج الذي لا يجعل الشخص ينتج في المجتمع المسلم نتيجة الكابوس الذي يبقى فوق رأسه، وقبل أن نبدأ بأسئلتكم، وأنا لا أنوي الإطالة بالأسئلة حتى لا يحصل الملل أكثر مما حصل. أريد أن أذكر بعض الأحكام قبل أن تأتي الأسئلة لأن الأحكام التي سنذكرها ربما تجيب أصلاً عن بعض الأسئلة المطروحة، وهذه الإجابات على هذه الأسئلة قد جمعتها من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وتلميذه ابن القيم وبعض الأشياء سألت فيها الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله، والشيخ محمد بن صالح بن عثيمين، والشيخ عبد الله بن جبرين.

أحكام توبة تارك الصلاة أو الصيام

أحكام توبة تارك الصلاة أو الصيام بعض الناس يحول بينهم وبين التوبة عدم معرفتهم بالأحكام فمثلاً: رجلٌ كان تاركاً للصلاة ثم اهتدى، ماذا يفعل بصلواته الماضية؟ هذه المسألة فيها نزاعٌ بين أهل العلم، والأرجح والله أعلم أنه لا يلزمه القضاء ولكنه يكثر من التوبة والاستغفار وصلوات النوافل لعلها تعوضه عما فاته، لأن الوقت لا يمكن إرجاعه مرة أخرى وهذا ليس معذوراً كالنائم والناسي، الخلاف طويل، هذا الملخص فقط. أو كذلك رجل ترك الطمأنينة في الصلاة، رجل صلاته كنقر الغراب، ثم تاب إلى الله وعرف أن الطمأنينة ركن كيف يفعل؟ استدلالاً بحديث المسيء صلاته لا يجب عليه أن يعيد وإنما يستأنف الآن الصلاة بطمأنينة. ورجل ترك الصيام، هذا الرجل إن كان تركه للصيام حاصلاً وهو يصلي ولم يرتكب مكفراً، يعني: ترك الصيام ولم يزل مسلماً، فهذا عليه أن يقضيه الآن، يقضي الصيام الماضي الذي تركه، أما إذا كان أصلاً كافراً مستهزئاً بالدين مرتداً عن الإسلام تاركاً للصلاة بالكلية، فهذا لا يؤمر بإعادة الصيام لأنه كان عند تركه للصيام كافراً، والرسول صلى الله عليه وسلم ما طلب من الصحابة الذين أسلموا أن يعيدوا الصيام الذي فاتهم مثلاً، وكذلك الزكاة، ولكن نضرب مثالاً بمسألة تحصل ويسأل عنها بعض النساء، تقول المرأة مثلاً: أنا عندما بلغت لم أخبر أحداً ببلوغي لأني خجلت ممن حولي، وتظاهرت بالإفطار وأفطرت حتى لا يحسوا بأنها قد بلغت لأنه أمرٌ مخزٍ عندها، وما أعلمتهم وتركت الصيام، وبعد مرور سنوات طويلة تقول: ماذا أفعل بصيامي الذي تركته، ف A إن توبتها إلى الله عز وجل تقضي بأن تصوم هذه المرأة ما فاتها من الأيام في بداية بلوغها أو بعده مثلاً: تركت الصيام سنتين فتصوم شهرين، فهذه تصوم أيام الحيض التي تقضيها أصلاً [كنا نؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة] تصوم أيام الحيض وغيرها، يعني: تصوم الشهر كاملاً الذي تركته، وإن كانت صامت بعضاً وأفطرت بعضاً، فإنها تصوم ما فاتها منها. ولكن إذا أخرت ذلك الصيام حتى جاء رمضان الذي بعده ولما تقضه بعد، فعليها بالإضافة إلى قضاء الصيام إطعام مسكين عن كل يوم، يقول الشيخ عبد العزيز: وهذه فتوى ستة من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم أن من أخر صيام رمضان حتى دخل رمضان الذي بعده، فإن عليه بالإضافة إلى قضاء الصيام إطعام مسكين عن كل يوم أخره من رمضان هذا إلى الذي بعده، وقد يقول قائل: أنا مر علي عشرون رمضاناً، ولم أصم منها إلا ثلاثة، فهل تتضاعف الكفارة؟ فنقول: لا. كما أجاب عن ذلك أهل العلم، لا تتضاعف الكفارة، تقضي ما فاتك في الماضي وتطعم عن كل يومٍ مسكيناً.

أحكام التوبة المتعلقة بالزكاة

أحكام التوبة المتعلقة بالزكاة بالنسبة للزكاة، إن كان قد ترك الزكاة وهو مسلم أو ترك بعضها، أو مثلما يفعل بعض الناس الآن، يأتي على الزكاة يأخذ من عرض ماله عشرين ألفاً وعنده ملايين الملايين، ربما تكون الزكاة مليوناً، لكن هذا الرجل مستهتر بالزكاة عد عشرين ألفاً وأخرجها زكاة، وعليه أكثر من ذلك، فعليه أن يقدر كم الذي تركه من الزكاة وهو الآن يتوب إلى الله، كم الذي تركه من الزكاة فيخرجه، باقٍ في ذمته دين عليه لله عز وجل. امرأة تركت زكاة ذهب الحلي، فيقول الشيخ عبد العزيز حفظه الله: إن كانت تركته لشبهة كأن تركتها لعلمها أنه لا زكاة فيه، كانت مقتنعة من قبل أنه لا زكاة فيه، فهذه ليس عليها إعادة إخراجها للشبهة التي حصلت عندها في الحكم، لكن لما تغيرت قناعتها وعرفت بالدليل على وجوب الزكاة في الحلي، فإنه يجب من عند تلك اللحظة أن تخرج الزكاة التي عليها ولو لسنوات مضت تقدرها تقديراً إن استحال تعيين المبلغ.

توبة أهل الأفكار المنحرفة

توبة أهل الأفكار المنحرفة فبعض الناس الآن يتوبون وقد نشروا بين الناس أفكاراً ضالة، كرجل علماني أو رجل مخرف في العقيدة أو حامل لواء بدعة يضل الناس، أو رجل يكتب قصصاً لكنها سم ضد الدين أو يؤلف الأشعار وينظم الأشعار الساقطة مثلاً، هذا الرجل إذا هداه الله عز وجل ماذا يفعل؟ يقول الله عز وجل: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} [البقرة:160] فلا تكفيه التوبة المجردة وإنما يجب أن يزيد عليها تبرؤه مما فعل في الماضي، يعلن للناس الذين أعلن لهم الشرك والكفر والبدعة والفساد يعلن لهم أنه قد تاب منها وأنه بريءٌ من كل ما كتب في الماضي، وليس ذلك فقط، بل إنه يرد على نفسه، يعني: يقول: أنا قلت كذا وأحذركم إن كلامي كان خطأ ضد الدين، أو أني زللت فيه في النقطة الفلانية والفلانية والفلانية، والرد عليها إن كان قد أثار في كتبه شبهات، بعض الناس يؤلفون كتباً فيها شبهات تطعن في الدين، فلو تاب إلى الله عليه أن يؤلف أو ينشر في أي مكان آخر ما يصل إلى الناس الذين قرءوا الكلام الأول على الأقل بغلبة الظن يرد على الشبهات التي سبق أن طرحها حتى تكتمل توبته. وقضية البيان مهمة، وبها نرد على من قال: إن ابن سينا الملحد تاب -طبعاً هناك أناس أصلاً لا يعرفون أنه ملحد- لكن إذا قال شخص: ابن سينا تاب، كيف ندري أنه تاب؟ وطه حسين عميد الأدب العربي -أستغفر الله، عميد قلة الأدب العربي- تاب، كيف نعرف ذلك؟ هل قدم لنا شيئاً مكتوباً أنه تاب، هل كتب شيئاً نقض فيه ما كان يعتقده وينشره بين الناس، وأن يسخر قلمه هذا من كمال التوبة، وأن يسخر قلمه لنصرة هذا الدين والرد على أعداء الله وعلى شبه الكفار والملاحدة، وأنه لو كان نشر في الرذيلة فيكتب الآن في الفضيلة، ولو نشر في البدعة فيكتب الآن في السنة، ولو نشر في الشرك فيكتب الآن في التوحيد وغيره، لكن هذه بالتركيز لأنه كان قد قصدها في الماضي، هذا من كمال توبته، ولو أن إنساناً ضلل شخصاً آخر مثلاً: أقنعه باللواط والعياذ بالله، أو بمقدماته، قال: هذه لا شيء فيها، فذاك المسكين كان قد غرر به، يجب عليه أن يبين له: يا أخي ما قلته لك سابقاً خطأ وكان من الشيطان، وأنا أستغفر الله منه وهذا حرام، وهذه لا تجوز، لأنه كان قد ضلله، إذا لم ينتبه الشخص الآن ولم تتغير الفكرة لديه وما زالت في ذهنه أنها ليس فيها شيء وأنه شيء شرعي مثلاً، فعليه عليه أن يبين له ما قد أقنعه به في الماضي.

أحكام التوبة من جريمة القذف

أحكام التوبة من جريمة القذف ومن ذلك أيضاً في قضية التبيين يلتحق بها القاذف، فإذا قذف شخص شخصاً مثلاً بالفاحشة بالزنا وذلك المقذوف بريء، فإن عليه الآن أن يبين أن ذلك المقذوف بريء، وليس مجرد أن يستغفر الله ويتعرف بأن القذف حرام، بل إن عليه أن يبين سلامة ذلك الشخص مما قذفه به، وأن يكذب ما قاله عنه، يقول: يا جماعة أنا رميت فلاناً بكذا وأنا أشهدكم أنه بريء وأني كذبت عليه وأن الشيطان أزلني وأنا أستغفر الله، فيبين براءة الشخص. وأحياناً تجد من يفتري على إنسان مستقيم فيقول: هذا يفرق صفوف المسلمين، هذا صاحب بدعة -أي تهمة من التهم- فإذا أراد أن يتوب إلى الله عليه أن يبين، يقول: لا يا جماعة، أنا كنت قد رميته بأنه يفرق صفوف المسلمين كلا، إنه يجمعها، رميته بأنه مبتدع، كلا. إنه صاحب سنة، قلت إنه كذاب، لا، إنه صادق، أو إني لا أعرف حاله أنا افتريت عليه، عليه أن يبين، لاحظوا هذه الأشياء قد يقع فيها طائفة من الناس الذين ظاهرهم الاستقامة، بل وحتى الدعوة إلى الله عليهم أن ينتبهوا إلى كيفية التوبة من هذه الأشياء وهذه قضية خطيرة وحساسة. وكذلك إذا كان الذنب في حق آدمي مثل القذف الذي بدأنا به الآن، أو الاتهام بأشياء باطلة سواء رجل اتهم امرأة، أحياناً يتهم امرأة يقول: فلانة فيها كذا، فلانة كذا، يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات، فعليه أن يتوب إلى الله وأن يبين سلامة تلك المرأة من القذف الذي قذفها به، أو امرأة كذبت على رجل، فتبين سلامة الرجل، أو أن شخصاً شكك في شخص ليس بناءً على أشياء محسوسة وواقعية، فعليه الآن أن يبين: يا جماعة أنا شككت فيه عن هوى، عن تسويل الشيطان، وليس عندي في الحقيقة مستند لظن السوء.

أحكام التوبة من انتهاك الأعراض

أحكام التوبة من انتهاك الأعراض فإذا كانت السيئة في حق الآدمي فيجب على التائب أن يخرجها من نفسه بأدائها إلى المظلوم، أو باستحلاله منها على الأقل بعد إعلامه بها، فإن كانت حقاً مالياً أو جناية على بدنه فيجب عليه أن يتحلل من أخيه المسلم الذي ظلمه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح: (من كان لأخيه عنده مظلمة من مال أو عرض فليتحلله اليوم قبل ألا يكون دينارٌ ولا درهم إلا الحسنات والسيئات). فإذاً: حقوق الآدميين إما في العرض أو في المال، فيجب عليه أن يتحلل منهم. وهناك أشياء تتعلق بالعرض فلو أن رجلاً زنى أو فعل الفاحشة بشخص ويريد الآن أن يتوب، فإن كان الشخص المقابل راضياً فلا يتحلل منه لأنه راض وتكفيه توبته فقط، أما إن كان مغصوباً فيجب عليه أن يتحلل منه بطريقة لا تؤدي إلى المفسدة، فقد يقول تائب: أنا غصبت امرأة مثلاً، فهل أتحلل منها بأن أكلمها وأراسلها حتى أتحلل منها؟ وقد أقع فيها، نقول: لا. إذا كنت ستقع لا تطرق هذا الباب، فهذه المسألة فيها حساسيات معينة، وفيها إحراجات كثيرة، ولذلك لا أرى الآن من المناسب أن أطرح هذا الموضوع وأتوسع فيه لأنه غير مناسب، فالمسألة فيها أشياء، وقد يخون شخص جاره في زوجته، فهل يذهب إلى الجار ويكلم المرأة، ماذا تفعل مع زوجها؟ هذه مشكلة المعاصي والفواحش، وبعد هذا تصبح مشكلة كبيرة جداً، ولذلك الذي عنده سؤال خاص بهذا الموضوع، فعليه أن يسأل أهل العلم عن هذه الجزئية في الموضوع، لأن هذه ستدور في الأذهان كيف أفعل؟ ماذا أقول؟ كيف أعمل؟ إنما أكتفي بما قلت فيكفي التوبة بينه وبين الله، يتوب إلى الله عز وجل ويستقيم. وأما إن كانت المعصية في غيبة أو نميمة، يعني: في العرض أيضاً فحصل أيضاً خلاف بين أهل العلم في المسألة هل يجب عليه أن يخبره أم لا؟ وحتى لا نطيل فالقول الوسط كما ذكر شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله: لا يشترط الإعلام بما ناله في عرضه من قذف واغتياب، بل يكفي توبته بينه وبين الله، وأن يذكر المغتاب والمقذوف في مواضع غيبته وقذفه بضد ما ذكره به من الغيبة، فيبدل بغيبته مدحاً وثناءً عليه وذكراً لمحاسنه، ويبدل قذفه للشخص الآخر بذكر عفته وإحصانه ويستغفر له بقدر ما اغتابه وهذا اختيار شيخنا أبي العباس ابن تيمية رحمه الله؛ لأن إعلام الشخص بالغيبة والنميمة والقذف الذي فعلته في حقه وفي عرضه إذا جئت وعلمته بالمسألة قلت: فعلت كذا وقلت عليك كذا وكذا، فإنها مفسدة محضة لا تتضمن مصلحة، فإنه لا يزيده إلا أذى وحنقاً وغماً، وقد كان مستريحاً قبل سماعه، فإذا سمعه ربما لم يصبر على حمله، وربما كان إعلامه به سبباً للعداوة، فلا يصفو له أبداً، وينتج عنه شر أكبر من الغيبة نفسها، ويوجد التقاطع بين المسلمين. خلاصة المسألة: إذا كنت تظن أنك إذا أخبرت الشخص أنك قلت عنه كذا وكذا وكذا، فتزيد الأمور تعقيداً وسوءاً فلا تفعل، أما إذا كنت تعتقد أنه من النوع المتسامح، أنه لن يأخذ في نفسه، فقل له: يا أخي! أنا أخطأت عليك -بكلام عام- سامحني! وإذا عرفت أنه يقول: ما هو الكلام بالضبط، وقد إذا قلته وأخبرته بالتفصيل تتفاعل المسألة في نفسه وتقع العداوة، فلا يجب عليك إخباره ولكن تجب عليك أشياء أخرى، أن تذكره بضد ما اغتبته فيه، وأن تدافع عنه في المجالس التي يغتاب فيها وأن تستغفر له، وأن تبين محاسنه، وبهذا تكون قد استكملت توبتك من الغيبة أو القذف.

كيفية التحلل فيما يتعلق بالأموال والجنايات

كيفية التحلل فيما يتعلق بالأموال والجنايات أما بالنسبة للأشياء المالية والجنايات البدنية فهناك فرق بينها وبين الغيبة لأن الحقوق المالية والجنايات البدنية ينتفع بها صاحبها إذا أخبرته عنها، فلا يجوز إخفاؤها عنه ويجب أداؤها إليه بخلاف الغيبة والقذف، فإنه ليس هناك شيء ينفعه يؤديه إليه إلى الإضرار والتهييج، والشيء الثاني: إذا أعلمت شخصاً أنك سرقت منه مثلاً ولم تؤذه وتجرح شعوره وتسبب غضباً وعداوة، بل ربما سره ذلك في الغالب، ينبسط أنك الآن اعترفت له، وبالنسبة لقضية الجنايات نبدأ الآن نفصل في قضايا الجنايات والأموال: بالنسبة للجنايات لو جنيت على شخص مثلاً: قتلت إنساناً وهربت ولم يقبض عليك ويقتص منك، هربت أنت وأخفيت أثر الجريمة، فالآن القاتل يتعلق عليه ثلاثة حقوق: الأول: حق لله. الثاني: وحق للقتيل. الثالث: وحق لورثة القتيل. فأما حق الله فبالتوبة، إذا تبت إلى الله قضي عنك حق الله، وأما بالنسبة للورثة فإنك يجب عليك أن تسلم نفسك إليهم لأن لهم حقاً وهم يستوفون حقهم منك إما بالمال (الدية) أو بالعفو مجاناً يطلقونك لوجه الله، أو يقولون: لابد لنا من القصاص، لابد أن نقتص منك وتقتل أنت لأنك قتلت صاحبنا، فحق الورثة لا يسقط إلا إذا سلم نفسه إليهم وهم الآن بالخيار إما أن يعفوا عنه مجاناً، أو يأخذوا منه مالاً، أو أن يطلبوا القصاص، وبقي حق القتيل، حق القتيل كيف تقضيه؟ لا يمكن، ولذلك حصل خلاف بين العلماء في هذه المسألة، الأوسط فيها أن الإنسان القاتل إذا تاب إلى الله توبة صادقة صحيحة فإن الله يتحمل عنه حق القتيل ويعطي القتيل في الآخرة من الحسنات أو من العوض ما يعوضه عن حقه على القاتل، هذه رحمة الله عز وجل.

إرجاع الأموال المسروقة

إرجاع الأموال المسروقة فإذا سرق شخص عليه أن يرد المسروق، فلو جاء وأخبر الشخص أنه قد سرق منه، قال: وهذا المال الذي أنا سرقته منك، فلو كان المال قد تلف، وليس عنده الآن مالٌ يعطيه إياه، شخص سرق وسرق وسرق وأتلفها وبذرها وأفلس، والآن أراد أن يتوب، فعليه أن يتحلل من المسروق منه، يذهب إليه يقول: يا فلان! يا مديري! يا رئيس الشركة! أنا سرقت منك، يقول ذلك بأسلوب معين، مثلاً يقول: الشيطان وكذا ونفسي الأمارة بالسوء أخذت منك أموالاً بغير علمك، تحللني؟ فإن حلله فالحمد لله، وإذا لم يحلله فتبقى هذه الأموال ديناً في ذمته، فإذا فتح الله عليه وأغناه الله يعيدها إليه مع الأيام. قد يقول بعض الناس: أنا أتحرج، أنا عندي المسروق، عندي المبلغ لكن أتحرج أن أرده إلى المسروق منه، فقد يسأل شخص سؤال يقول: أنا كنت أسرق من جيب أبي، وأنا الآن كبرت وأنا موظف وعندي مال، لكن من الصعب أن أذهب إلى أبي، وأقول: يا أبي أنا كنت أسرق منك، أو مثلاً: موظف في شركة يستحي أن يقول لمدير الشركة: أنا قد سرقت من الشركة، فكيف هذا؟ فيقول أهل العلم: لا يجب عليه الذهاب والمصارحة وإنما يرده إليهم بطريقة حتى لو لم يعلموا، مثلاً: يذهب إلى جيب أبيه فيضع فيه المبلغ الذي سرقه ولو أراد أن يضعه على مراحل حتى لا يكتشفه الأب فهذا ممكن، أو مثلاً: يذهب إلى الشركة يقول: إن فلاناً واحد من الناس لا يريد ذكر اسمه -وهو يعني نفسه- قد سرق منكم والمبلغ هذا وأنا الآن أرده بالنيابة عنه، أو إنه أعطاني إياه لأرده إليكم، فخذوه، أو أرسله بظرف مختوم، أو أي شيء آخر بطريقة من الطرق فهذا حسن، إذا كان لا يستطيع أن يقول لهم: سرقت منكم، فالمهم الآن هو إرجاع الحق لأصحابه، أو مثلاً: شركة مساهمة، كيف يذهب ويدور على المساهمين يعتذر منهم واحداً واحداً؟ هذا أمر صعب، فالمهم الآن أن يرجع المال المسروق إلى الشركة بطريقة من الطرق. ولو غصب مالاً، شخص غصب مال أيتام وأخذه بالقوة فاتجر به وربح ونما المال، فماذا عليه؟ بعض العلماء يقولون: النماء للمالك الأصلي، وبعضهم يقولون: النماء للمنمي (السارق) وبعضهم يقول وهو القول الوسط: رأس المال يعني: المبلغ المسروق أو المغصوب الأصلي يرجع لصحابه مع نصف الأرباح، وهو يأخذ النصف الآخر، الغاصب يأخذ نصف النماء أو نصف الأرباح ويرجع رأس المال مع نصف الأرباح ونصف النماء إلى صاحب المال الأصلي للتوبة، وهو رواية عن أحمد واختيار شيخنا رحمه الله يعني: يقصد ابن تيمية، وهو أصح الأقوال. وهذا مثل شخص غصب ناقة أو غصب شاة فأنتجت أولاداً فإنه يردها ونصف أولادها إلى صاحب المال الأصلي، لو ماتت هذه المغصوبة مثلاً الناقة أو الشاة، فيدفع ثمنها مع نصف النتاج إلى صاحب المال الأصلي، وهذا أيضاً ما ذكره الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله في هذه المسألة، يرجع أصل المال ونصف النماء. وإذا ما وجد الرجل صاحب الشركة أو الرجل المغصوب قد مات، فهذه الأموال لمن ترجع؟ ترجع إلى الورثة، وإن مات الورثة فإلى ورثتهم، فالحق باقٍ.

حكم الأموال المحرمة حين يتعذر إرجاعها

حكم الأموال المحرمة حين يتعذر إرجاعها ومن الفتاوى في هذه المسألة: غلَّ رجل من الغنيمة، جيش غزا وواحد من الناس أخذ من الغنيمة قبل أن تجمع وتقسم، سرق من الغنيمة ثم تاب فجاء بما غله إلى أمير الجيش، فأبى أن يقبله منه، وقال: كيف لي بإيصاله إلى الجيش، أمير الجيش قال: لا. هذه القصة حصلت أيام السلف، قال أمير الجيش: كيف آخذه وقد وزعنا الغنائم؟ ولو وزعته الآن كيف أجمع الجيش مرة أخرى وقد تفرقوا وأوزعه عليهم؟ وربما كان شيئاً لا يتوزع، فرفض أخذه، فأتى هذا الشخص الذي غلَّ أتى حجاج بن الشاعر، فقال له هذا الشيخ: يا هذا إن الله يعلم الجيش وأسماءهم وأنسابهم فادفع خمسه إلى صاحب الخمس وتصدق بالباقي عنهم، تصدق عنهم وانو هذه الصدقة لأفراد الجيش، ففعل فلما أخبر معاوية قال: لأن أكون أفتيتك بذلك أحب إلي من نصف ملكي، يعني: من شدة ما أعجبه من الفتوى. وقال ابن القيم رحمه الله: ولقد سئل شيخنا أبو العباس ابن تيمية قدس الله روحه، سأله شيخٌ فقال: هربت من أستاذي وأنا صغير -ما معنى أستاذي؟ أستاذي كانت تطلق على مالك العبيد أو صاحب العمل أو رئيس الخدم في الماضي، من إطلاقاتها، وأيضاً تطلق على العالم الكبير، ولذلك الشافعية عندهم أبو إسحاق يلقب بالأستاذ عند الشافعية- فقال: هربت من أستاذي وأنا صغير، وإلى الآن لم أطلع له على خبر، -عبد هرب من سيده، الآن كبر وصار عمره خمسين أو ستين سنة ويريد أن يتوب، لكن ما وجد السيد، بحث عنه فلم يجده كيف يكون- وأريد براءة ذمتي وقد خفت الله عز وجل، وأريد براءة ذمتي من حق أستاذي من رقبتي، يعني: أنا ما زلت ملكاً له، وقد سألت جماعة من المفتين فقالوا لي: اذهب فاقعد في المستودع -ما دمت لم تجده- فاذهب اجلس هناك، فضحك شيخنا ابن تيمية رحمه الله، وقال: تصدق بقيمتك أعلى ما كانت عن سيدك، ولا حاجة لك بالمستودع تقعد فيه عبثاً في غير مصلحة، إضراراً بك وتعطيلاً عن مصالحك، ولا مصلحة لأستاذك في هذا ولا لك ولا للمسلمين، أو نحو هذا الكلام. ولو أن زانيةً أخذت أموالاً على الزنا أو مغنياً أخذ أموالاً على الغناء، أو بائع خمر مثلاً، أو رجلاً يتاجر بالمخدرات أخذ أموالاً على تجارته، أو شاهد زور أخذ مقابلاً، فهل هذه الأموال أموال حلال أم حرام؟ إنها حرام، فإذا كانت معهم الآن فيجب عليهم إخراجها، يتخلصون منها. وهل ترجع الزانية للزاني ماله؟ والذي اشترى الخمر يرجع إلى تاجر الخمر ماله؟ والذي شهد الزور يرجع للذي رشاه حتى يشهد الزور ماله؟ وهل يرجعون المال إليهم؟ A لا. أولاً: فيه إعانة لهم على المعصية. ثانياً: جمعوا لهم بين العوض والمعوض وهذا غير ممكن. فلذلك ماذا يفعلون به؟ يتصدقون به، ويتخلصون منه. ولو أن إنساناً اختلط ماله الحلال بماله الحرام وتعذر عليه تعيينه فإنه يقدر كم الحرام هل بقدر خمسين بالمائة من المال أو ثلاثين بالمائة أو عشرين بالمائة ويتخلص منه. وإذا قم مرتش بأخذ رشوة، فينظر هل أخذها والراشي له حق أو أنه ليس له حق؟ فإن كان للراشي حق ولا وسيلة لتحصيل الحق إلا دفع الرشوة فدفعها، والآن المرتشي تاب فماذا يفعل بالمال؟ يعيده إلى صاحبه، لأنه دفعه مرغماً في تحصيل حق له، فإن كان المرتشي قد أخذ المال من الراشي بغير حق، يعني: الراشي ليس له حق ودفع رشوة لتحصل مكاسب، فهل يعيده إليه؟ لا. وإنما يتصدق به. هذه طائفة من الأحكام المتعلقة بالتوبة لعلها تكون قد أجابت عن بعض الأسئلة في أذهان بعض الإخوان، وعلى العموم نسمع الآن بعض الأسئلة.

الأسئلة

الأسئلة

بطلان أسباب التردد في التوبة

بطلان أسباب التردد في التوبة Q يقول بعضهم: إنه قد وقع مع بعض أصدقاء السوء في بعض الفواحش، وأنه يتردد في التوبة لسببين: الأول: الخوف من هؤلاء الأصدقاء. الأمر الثاني: أنه يلتذ بالمعاصي ويشعر بعدم استغنائه عن أصدقائه ويقول: إنه يأنس بهم ويرتاح إليهم، لا لشيء إلا لمجرد المعصية التي تقع بينهم، فما رأيكم في كيفية التخلص في مثل هذا؟ A الحمد لله، هذا السؤال يا أخي فيه غرابة، شخص يريد أن يتوب بصدق وهو يقول بلسانه يمنعني من التوبة أني ألتذ بالمعصية، وأني جالس مع هؤلاء لأني ألتذ معهم بالمعصية؟! فإذا كنت تلتذ معهم بالمعصية يجب عليك أن تكره هذا الأمر وتنفر منه نفوراً شديداً، بعض السلف يقولون: إذا رأيت امرأة فأعجبتك فتذكر مناتنها، يعني: فلو رأى شخص امرأة فنظر في السوق نظرة من نظرات إبليس، فرأى امرأة فأعجبته فليتذكر على سبيل المثال عرقها ووخمها والخارج منها من السبيلين ويشغل باله فيه، وهذا سيذهب الأثر بالكلية، صحيح، تأمل مناتنها كما قال بعض السلف: إذا رأيت امرأة فأعجبتك فتذكر مناتنها، فعليك أن تطبق هذا، لو أنك -لو سمح الله- وقعت على نظرة، ثم تذكرت مناتنها، لنفرت منها، أو فاحشة اللواط، أصحاب الفطرة السليمة لاشك أنه سينفر، فإذا بدأ يكره المعصية، هذا بداية التصحيح، بداية طريق التصحيح أن تكره المعصية لا أن تلتذ بها ثم تقول: أريد أن أتوب، وعلى العموم: المسألة هكذا أو هكذا تحتاج إلى مجاهدة. النقطة الأخرى يا أخي: قاتل مائة نفس ماذا قال له العالم؟ واذهب إلى بلدة كذا وكذا فإن فيها أناساً صالحين يعبدون الله فاعبد الله معهم، لم يقل له: اجلس في الوسط السيئ، فلا يمكن أن تتوب وأنت جالس في الوسط السيئ وأنت فلان زميلك وفلان زميلك وفلان، هم الذين يزينون لك الفاحشة، عليك أن تقطع علاقتك بهم نهائياً، لا تكلمهم ولا تسلم عليهم، وإذا اتصلوا بك فأغلق السماعة، إذا قاطعتهم هنا تكون البداية، أما أن تجلس في الوسط السيئ ثم تقول: كيف أتوب! هذا أولاً. ثانياً: أنا ذكرت في بداية المحاضرة قلت: بعض الناس يضغطون على الشخص يقولون: لو تبت، لو خرجت من عندنا من وسطنا سننشر عنك وسنفضحك ونخبر الناس عن مخازيك وأفعالك، فالمؤمن لا يهمه كلام الناس مهما قالوا عنه وإن الله سيدافع عنه، ولذلك فإن عمر بن الخطاب كان يفعل ويفعل ثم تاب فتاب الله عليه، دع الأمور هذا خير لك يا أخي من أن تستمر في المعصية لأنهم سيضغطون عليك من نواحي ويعلمون الناس عنك بأشياء، فارجع إلى الله ولا عليك من هذه الضغوط، وأنت لو صبرت في البداية تنتهي المشكلة، اصبر عند الصدمة الأولى تنتهي المشكلة، مهما كلفتك الأمور فأقدم ولا يرهبك هذا الضغط الذي يمارسونه معك.

نصيحة للموسوسين

نصيحة للموسوسين Q تكرر السؤال عن قضية الوسواس مثلاً: من ضمن الإخوة من يقول: أنا شاب ألتزم بحمد الله بالأوامر، لكن تواجهني عقبات منها أنه لا يخرج مني الريح إلا في وقت الصلاة مما يجعلني أتوضأ ثلاث مرات أو أربع، وأني مصاب بالسلس، ويقول: إني كلما أقبلت على طاعة أدخل الشيطان إلي باب النفاق؟ A بالنسبة للوسوسة هذا مرض، تكلم عنه ابن القيم رحمه الله في إغاثة اللهفان، وذكره ابن قدامة رحمه الله في رسالة مستقلة أيضاً عن الوسوسة وذم الموسوسين، وممن أعرف أنهم تكلموا عنه في هذه الأيام الشيخ سلمان العودة حفظه الله في شريط "رسالة إلى موسوس" فأنا أوجهك يا أخي إلى هذين الكتابين وهذا الشريط ولعل الله أن يبرئك مما أنت فيه. وعلى العموم: هذه مسألة شديدة وخطيرة فبعض الناس فعلاً عنده وسواس يعني: غير وضوء الطهارة تصل إلى أشياء مضحكة أحياناً، يعني: بقضايا الطلاق بعض الناس يوسوس هل طلق زوجته أم لا؟ ويجلس يوسوس، هل قلت: طالق؟ وبعضهم يغلق أذنيه حتى لا يسمع كلمة طالق من كثرة الوسوسة التي في نفسه، يقول: أنا طلقت أم لا؟ ويغلق أذنيه يقول: حتى لا أسمعها، فهذا مرض نفسي ناتج عن أمور تتعلق بالإيمان ليست فقط قضية مرض نفسي، القضية هذه تتعلق بالإيمان والجزم والهمة والعزيمة التي ينتجها الإيمان. وعليك أن ترجع إلى ما ذكرته لك من الأشياء. وختاماً أيها الإخوة: قضية العلم الشرعي مهمة جداً في علاج كثير من المسائل، فأوصي نفسي ثم أوصيكم بتقوى الله عز وجل وطلب العلم الشرعي. ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح وحسن الخاتمة وصلى الله على نبينا محمد.

إطلالة على السيرة العمرية

إطلالة على السيرة العمرية لقد أخرج لنا هذا الدين أفذاذاً عرفهم التاريخ، منهم في عهد الصحابة ومنهم من كان في التابعين وتابع التابعين، بل إنهم يكادون يظهرون في كل عصر، ومن هؤلاء العظماء عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي انتشرت سيرته حتى أصبح يتكلم عنه الناس مسلمهم وكافرهم.

إسلام عمر رضي الله عنه

إسلام عمر رضي الله عنه الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. عباد الله: إن هذا الدين لما نزل وعلمه النبي صلى الله عليه وسلم للناس، وربى عليه من ربى من الناس، أخرج لنا أفذاذاً ورجالاً عرفهم التاريخ، وتكلم عنهم الناس مسلمهم وكافرهم، خلف هذا الدين رجالاً حملوا لواءه وحكموه في العالمين، وصاروا قدوات ومنارات يهتدي بهم من بعدهم، وإن من حق هؤلاء علينا أن نعرف سيرهم، ونبلو أخبارهم، أولاً لنعرف عظمة هذا الدين الذي أخرج هؤلاء الرجال، وثانياً: لأننا نقتدي بسلفنا، ونقتدي بأئمتنا، وهؤلاء الأئمة الأعلام منارات يهتدى بها في دجى الظلمات، ونعلم -أيضاً- بأن هذه النماذج يمكن أن تتكرر بدرجات أقل ولا شك إذا ما وجدت البيئة الإسلامية والتربية التي تصقل النفوس وتهذبها، فتغرس العقيدة وتصقل النفوس وتخلقها بأخلاق النبوة. ولا شك أن شخصية عمر بن الخطاب رضي الله عنه شخصية مثالية من الشخصيات العظيمة التي مرت في تاريخنا الغني الذي غفل عنه الكثيرون، وإن استرجاع سير مثل هذه الشخصية، يذكر الغافلين منا الذين خدعهم الغرب والشرق بسير عظماء عندهم؛ لو نظر الناظر لعرف أن واحدهم لا يخلو من انتهازيةٍ أو فسقٍ أو شرب خمرٍ، أو ظلمٍ أو بغيٍ وجور، ويبقى أعلام الإسلام لا يوجد لهم مثيل. إن عمر رضي الله عنه كان في الجاهلية يعبد الأصنام، وكان يئد ابنته، ويفعل الأفاعيل، ويظلم الناس، وظلم المسلمين حتى قال سعيد بن زيد: [لقد رأيتني وإن عمر لموثقي وأخته على الإسلام] ولكنه أسلم وشاء الله أن ينتقل عمر من ظلام الجاهلية إلى نور الإسلام، فتغيرت الشخصية وانقلبت تمام الانقلاب، وكان لذلك بادرة، وما سيأتي من الأحاديث الصحيحة والحسنة في سيرة هذا الرجل تدل على جوانب من عظمته، لقد كان المسلمون يستبعدون إسلام عمر، حتى قالت أم عبد الله بنت أبي حثمة: [والله إنه لنرتحل إلى أرض الحبشة إذ أقبل عمر حتى وقف علي، وهو على شركه، قالت: وكنا نلقى منه أذىً لنا وشراً علينا، فقالت: فقال عمر لما رآهم يتأهبون للجلاء عن مكة: إنه الانطلاق يا أبا عبد الله! قالت: قلت: نعم. والله لنخرجن في أرض الله، آذيتمونا وقهرتمونا حتى يجعل الله لنا مخرجاً، قالت: فقال: صحبكم الله، ورأيت له رقةً لم أكن أراها، ثم انصرف، وقد أحزنه فيما أرى خروجنا، قالت: فجاء عامر بن ربيعة فقلت له: يا أبو عبد الله! لو رأيت عمر آنفاً ورقته، وحزنه علينا، قال: أطمعتِ في إسلامه؟ قالت: قلت: نعم. قال: لا يسلم الذي رأيتِ حتى يسلم حمار الخطاب] هل يسلم الحمار؟ قالها يأساً لما كان يرى من غلظته وقسوته على الإسلام، ولكن الله إذا أراد أن يهدي هدى، ولو كان الرجل أقسى الناس قلباً وأبعدهم عن الله، وهذا درسٌ للدعاة إلى الله عز وجل، ألا ييأسوا من الناس، ولو كان من يرون أمامهم من أغلظ الناس قلباً، لكن الله إذا أراد بعبدٍ خيراً هيأه له ووفقه له، ويسر الأسباب إليه، وهكذا حصل. فلما أسلم عمر ونطق بالشهادتين كان إسلامه فتحاً ولم يكن إسلامه سراً، بل إنه قد جاء في الحديث الحسن بطرقه أنه لما أسلم قال: [أي قريشٍ أنقل للحديث؟ قيل له: جميل بن معمر الجمحي، قال: فغدا عليه عمر، قال عبد الله: وغدوت أتبع أثره أنظر ما يفعل وأنا غلام، أعقل كل ما رأيت حتى جاءه، فقال: أما علمت يا جميل! أني قد أسلمت ودخلت في دين محمدٍ صلى الله عليه وسلم؟ قال: فوالله ما راجعه حتى قام يجر رجليه فتبعه عمر وتبعت أبي، حتى إذا قام على باب المسجد - جميل المشرك الإذاعة- وقف على باب المسجد وصرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش! -وهم في أنديتهم حول الكعبة- ألا إن عمر قد صبأ، قال: يقول عمر من خلفه: كذبت ولكن قد أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، فأعلنها صراحةً أمامهم، هذه العزة التي دخلت قلبه فأورثته هذه الصراحة وهذه الجرأة على الكفرة، إعلان المبادئ، قال: وثاروا عليه، فما برح يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رءوسهم، قال: وتعب وأرهق، فقعد وقاموا على رأسه وهو يقول: افعلوا ما بدا لكم، فأحلف أن لو كنا ثلاثمائة رجل لقد تركتموها لنا، قال: فبينما هم على ذلك، إذ أقبل شيخٌ من قريش وهو العاص بن وائل، فصرفهم عنه وإلا كانوا قتلوه].

سعة علم عمر رضي الله عنه

سعة علم عمر رضي الله عنه لما أسلم عمر أعز الله به المسلمين وأذل الله به المشركين، وطاف المسلمون حول الكعبة لما أسلم عمر علانيةً جماعةً فأعز الله به الدين، أراد الله بـ عمر خيراً ففقه في دينه وعلمه وهو العليم سبحانه وتعالى، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم في علم عمر وفقهه وفضله أحاديث جمعها العلماء، فمن ذلك أربعة ساقها الزهري في نسقٍ واحد، قد وردت في سياقات صحيحة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رأيت لـ عمر أربعة رؤيا: رأيت كأني أُتيت بإناءٍ فيه لبن فشربت حتى رأيت الري يخرج من أناملي، ثم ناولت فضلي -ما بقي في الإناء- عمر، قالوا: يا رسول الله! فما أولت ذلك؟ قال: العلم، ورأيت كأن أمتي عليهم القمص إلى الثدي وإلى الركب وإلى الكعبين ومرَّ عمر يسحب قميصاً سابغاً من طوله، قالوا: يا رسول الله! ما أولت ذلك؟ قال: الدين، قال: ودخلت الجنة، فرأيت فيها قصراً أو داراً، فقلت: لمن هذا؟ قالوا: لرجلٍ من قريش، فرجوت أن أكون أنا هو، فقيل: لـ عمر بن الخطاب، فأردت أن أدخل فذكرت غيرتك يا أبا حفص! فبكى عمر، وقال: يا رسول الله! أويغار عليك؟ ورأيت كأني وردت بئراً، فورد ابن أبي قحافة فنزع ذنوباً أو ذنوبين ونزعه فيه ضعف والله يغفر له، ثم وردها عمر، فاستحالت غرباً فاستقى، فأروى الظمأة وضرب الناس بعطن، فلم أر عبقرياً نزع كنزعه) قال العلماء: هذا تأويل خلافة الشيخين، فإن أبا بكر استخلف سنة أو سنتين، فكانت خلافته قصيرة، وكان منشغلاً عن الفتوحات بحروب الردة، فلما جاء عمر صارت خلافته أطول، ففتح الله في عهده من الفتوحات، وأدخل الله من الناس في عهده في الإسلام ما لا يحصى من الخلق كثرةً، فنشر العدل في تلكم البلاد بعد أن أسس الصديق قاعدتها، فأعاد القاعدة وأبلى بلاءً حسناً، فمهد الطريق لـ عمر، فجاء عمر فولى الولاة وفتح الفتوحات، وأتى للمسلمين بالخير من عند الله. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل جعل الحق على قلب عمر ولسانه) هذا الهادي المهدي، الذي علمه الله، وهداه، وبالعلم يهتدي الإنسان للحق والصواب، فلابد من الاعتناء بالعلم والبحث عنه -يا أيها المسلمون! - وإن في اكتساب العلم هدىً، وإن العلم يهدي صاحبه في الظلمات، ويكشف له عندما يحتار، ويوقظه من المحرمات، ويجنبه الشبهات، فتعلموا هذا الدين يهديكم به الله. فلما جعل الله الحق على لسان عمر وقلبه، وافق ربه في آياتٍ نزلت من القرآن على ما قال عمر، فيما ثبت في الصحيحين: [وافقت ربي في ثلاث: قلت: يا رسول الله! لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى -نصلي وراءه- فنزلت: ((وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً)) [البقرة:125] وقلت: يا رسول الله! يدخل على نسائك البر والفاجر، فلو أمرتهن أن يحتجبن فنزلت آية الحجاب، واجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في الغيرة، حصل منهن كلام اشتدت وطأته على النبي صلى الله عليه وسلم، -يقول عمر - فقلت وهو يعظ أمهات المؤمنين ويزجرهن: ((عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ)) [التحريم:5] فنزلت كذلك]. تأملوا يا عباد الله: آية تنزل على كلام عمر، يلهم الله عمر أن يقول كلاماً، فتنزل الآية بألفاظ عمر وتصبح قرآناً يتلى إلى يوم القيامة، وافق عمر ربه بأمور أخرى كذلك كما ورد في أسارى بدر وهكذا.

هيبة عمر رضي الله عنه

هيبة عمر رضي الله عنه كان عمر رضي الله عنه مهيباً، هيبة تفتقدها كثير من شخصيات المسلمين اليوم، لأن الله نزع منهم الهيبة، فلا يُهابون، ونزع الله من قلوبهم خوفه، فصاروا يخافون من الناس، كان عمر شخصية رفيعة يهابه الناس فيرتعدون منه، ومن ذلك ما حصل لما استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده جواري قد علت أصواتهن على صوته، فأذن له عليه الصلاة والسلام، فبادرن الحجاب -هربن فذهبن- فدخل عمر ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك، فقال: (أضحك الله سنك يا رسول الله! بأبي أنت وأمي، ما الخبر، علام تضحك؟ قال: عجبت لجوارٍ كن عندي، فلما سمعن حسك بادرن فذهبن، فأقبل عمر عليهن من وراء حجاب فقال: أي عدوات أنفسهن، والله لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن تهبن منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعهن عنك يا عمر! فوالله ما لقيك الشيطان بفجٍ قط إلا أخذ فجاً غير فجك). هذا الرجل المهيب، هذا الرجل العظيم الشديد في دين الله، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام عن أصحابه: (أرأف أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم بأمر الله عمر) هذا الرجل الشديد المهيب لما تولى الخلافة ظهرت المعاني التي كانت مخبوءة في نفسه، معاني الشفقة والعفو والإحسان والرحمة، لقد كان رحيماً في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، لكن لما ولي الخلافة ظهرت رحمته أكثر، هذا الرجل الذي جمع في شخصيته بين الهيبة والرحمة، وبين الشدة في دين الله والرقة حتى كان يبكي عندما يتلو القرآن، ويمرض من قراءة القرآن الكريم أحياناً، فيعاد من مرضه الذي حصل بسبب تأثره بالقرآن. ليست الهيبة -يا أيها الناس! - أن يكون الإنسان صلفاً فظاً غليظ القلب، ليست الهيبة أن يكون متعجرفاً قاسياً، وإنما الهيبة في مكانها محمودة، هذا الرجل الذي شهد التاريخ بفضله ورحمته لرعيته، هذه هي القيادة المثلى التي خلفها النبي صلى الله عليه وسلم من بعده من أصحابه.

عمر والرعية

عمر والرعية عندما يرى الإنسان حاله ويرى المسلمون واقعهم يشتاقون لخلافة مثل خلافة عمر، ويتوقون لقيادةٍ مثل قيادة عمر، الذي كان يخرج ليتفقد رعيته، قال أسلم: [خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى السوق، فلحقت عمر امرأة، فقالت: يا أمير المؤمنين! هلك زوجي وترك صبيةً صغاراً، والله ما يجدون كراعاً، ولا لهم زرعٌ ولا ضرعٌ، وخشيت أن تأكلهم الضبع، وأنا بنت خفاف بن إماء الغفاري -صحابي جليل- وقد شهد أبي الحديبية مع النبي صلى الله عليه وسلم، فوقف معها عمر ولم يمض، ثم قال: مرحباً بنسبٍ قريب، ثم انصرف إلى بعيرٍ ظهيرٍ كان مربطاً في الدار، فحمل عليه غرارتين ملأهما طعاماً وحمل بينهما نفقةً وثياباً، ثم ناولها البعير وما عليه، ثم قال: اقتاديه فلن يغني حتى يأتيكم الله بخير، فقال رجل: يا أمير المؤمنين! أكثرت لها، قال عمر: ثكلتك أمك، والله إني لأرى أبا هذه وأخاها قد حاصرا حصناً زماناً فافتتحاه ثم أصبحنا نستفيء سهمانهما فيه. لا ينسى لأصحاب الفضل فضلهم، هذه امرأة أبوها وأخوها من كبار المجاهدين، بسبب قتالهم غنم المسلمون وأكلوا، هذا الرجل هو الذي كان يخرج في الليل يعس على رعيته، قال أسلم: خرجنا مع عمر بن الخطاب إلى حرة واقم (وهي الحرة الشرقية من المدينة) حتى إذا كنا بصرارٍ -مرتفع من الأرض- إذا نارٌ، فقال: يا أسلم! إني لأرى هاهنا ركباً قصر بهم الليل والبرد، انطلق بنا، فخرجنا نهرول حتى دنونا منهم، فإذا بامرأة معها صبيان صغار وقدرٌ منصوبة على نار، وصبيانها يتضاغون -يصيحون ويبكون- فقال عمر: السلام عليكم يا أصحاب الضوء! -وكره أن يقول: يا أصحاب النار! هم يوقدون ناراً، وعمر ينتقي الألفاظ- قال: السلام عليكم يا أهل الضوء! فقالت: وعليك السلام، فقال: أدنو؟ فقالت: ادن بخيرٍ أو دع، فدنى، فقال: ما بالكم؟ قالت: قصر بنا الليل والبرد، قال: فما بال هؤلاء الصبية يتضاغون؟ قالت: الجوع، قال: فأي شيءٍ في هذه القدر؟ قالت: ما أسكتهم به حتى يناموا، والله بيننا وبين عمر -تقول المرأة: والله بيننا وبين عمر - فقال: أي رحمك الله، وما يدري عمر بكم؟ -المرأة تقول: الله بيننا وبين عمر، نحن في الصحراء لوحدنا لا نجد طعاماً، وعمر يقول وهي لا تدري من هو: أي رحمكِ الله وما يدري عمر بكم وأنتم في هذه البقعة النائية؟ - قالت: يتولى عمر أمرنا ثم يغفل عنا؟ قال: فأقبل عليَّ، فقال: انطلق بنا، فخرجنا نهرول حتى أتينا دار الدقيق -دار اتخذها عمر خاصة لتخزين الدقيق- فأخرج عدلاً من دقيق وكبةً من شحم، فقال: احمله عليَّ، فقلت: أنا أحمله عنك، قال: أأنت تحمل عني وزري يوم القيامة؟ لا أم لك، فحملته عليه، -الخليفة يحمل على ظهره، ويمشي والطعام على ظهره من المدينة إلى الحرة الشرقية، إلى المكان النائي الذي فيه المرأة، ويهرول من أجل الأولاد- فانطلق وانطلقت معه إليها نهرول، فألقى ذلك عندها وأخرج من الدقيق شيئاً فجعل يقول لها: ذُري عليَّ وأنا أحرك لكِ، وجعل ينفخ تحت القدر -الخليفة منبطح على الأرض صدره في التراب ينفخ على الحطب حتى يشتعل- ثم أنزلها فقال: أبغيني شيئاً أسكب فيه، فأتته بصحفةٍ فأفرغها فيه، ثم جعل يقول لها: أطعميهم وأنا أطبخ لهم، فلم يزل حتى شبعوا، وترك عندها فضل ذلك -بقية الكيس- وقام وقمت معه، فجعلت تقول: جزاك الله خيراً، كنت أولى بهذا الأمر من أمير المؤمنين، فيقول: قولي خيراً إذا جئت أمير المؤمنين وحدثيني هناك إن شاء الله، ثم تنحى ناحية عنها -ابتعد ثم استقبلها ينظر إلى مكانها من بعيد- فربض مربضاً فقلنا له: إن لنا شأناً غير هذا، ولا يكلمني -يقول: لابد أن تكون الوقفة لهدف، وعمر لا يتكلم- حتى رأى الصبية يضطجعون، ثم ناموا وهدءوا، فقال: يا أسلم! إن الجوع أسهرهم وأبكاهم، فأحببت ألا أنصرف حتى أرى ما أرى] إسناده حسن. هذا عمر في الرعية، هذا عمر في تفقده للمساكين وعطفه، هذا عمر ورحمته وإشفاقه بالرغم مما عنده من الشدة في دين الله، والهيبة التي كان يهابه بها الأقرباء والبعداء. اللهم ارحم عمر واغفر له، وأعل شأنه وارفع درجته في المهديين. اللهم إنا نسألك أن تجعلنا ممن يحب نبيك محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وممن يقتدي بنبيك صلى الله عليه وسلم وأصحابه، واغفر لنا أجمعين وتب علينا يا أرحم الراحمين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

وفاة عمر رضي الله عنه

وفاة عمر رضي الله عنه الحمد لله الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له، لم يتخذ صاحبةً ولا ولداً. لقد كانت وفاة عمر فاجعة، فُجع بها القريب والبعيد، كان عمر هو الباب الذي يدرأ عن المسلمين الفتن، فلما كسر الباب باغتيال عمر دخلت الفتن على المسلمين من كل جانب. عن عوف بن مالك الأشجعي أنه قال: رأيت في المنام كأن الناس جُمعوا، فكأني برجلٍ قد صرعهم سوطهم بثلاثة أذرع -أطول من الجميع- قال: قلت من هذا؟ قالوا: عمر بن الخطاب، قال: قلت لِمَ؟ قال: إنه لا تلومه في الله لومة لائم، وإنه خليفةٌ مستخلف وشهيدٌ مستشهد، قال: فأتيت أبا بكر فقصصتها عليه، قال: فأرسل إلى عمر يبشره، فقال لي: اقصص رؤياك، فلما بلغ إلى خليفةٍ قال: زجرني وانتهرني، قال: تقول هذا وأبو بكر حي، قال: فسكت، فلما ولي عمر كان بعد بـ الشام مررت به وهو على المنبر فدعاني فقال لي: اقصص رؤياك، قال: فلما بلغت لا يخاف في الله لومة لائم، قال: إني لأرجو أن يجعلني الله منهم، وأما خليفةٌ مستخلف فقد والله استخلفني فأسأله أن يعينني على ما ولاني، قال: فلما بلغت وشهيداً مستشهد، وأنى الشهادة وأنا في جزيرة العرب، ثم قال عمر مستدركاً: يأتي الله بها أنى شاء، يأتي الله بها أنى يشاء. ورأى عمر في منامه أن ديكاً ينقره نقرات، وكان لا يُدخل الأعاجم إلى جزيرة العرب، فدخل بعضهم متسترين بالإسلام، وكان من سياسة عمر، ألا يدخلهم، دخلوا فأقاموا، فكان منهم الحاقد الفارسي المجوسي أبو لؤلؤة الذي قال لـ عمر متوعداً: لأصنعن لك رحىً يتحدث بها الناس، فقال عمر: توعدني العبد، وبعد أيام اختبأ له وراء باب المسجد في الظلام في صلاة الفجر، فلما سجد عمر قفز عليه فطعنه في كتفه وخاصرته، فقال عمر: قتلني الكلب، ثم صمت، ثم سمع الناس قراءة ابن عوف وطار العلج في الناس -في صفوف المصلين- ينحر يميناً وشمالاً، فقتل ستة من الصحابة، وحمل عمر مطعوناً، وجعلوا يشربونه اللبن فيخرج من الجرح، فعلموا أن الأمر قد انتهى، فأوصى عمر ووعظ الناس وذكرهم بالله وانتقل إلى الرفيق الأعلى، في قصة مشهودة عظيمة جداً أخرجها الإمام البخاري في صحيحه. كانت وفاة عمر شديدة الوطأة على القريب والبعيد، قال المسيب بن رافع: سار إلينا عبد الله بن مسعود سبعاً من المدينة، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن غلام المغيرة أبا لؤلؤة قتل أمير المؤمنين عمر، قال: فضج الناس وصاحوا واشتد بكاؤهم، قال: ثم قال ابن مسعود: إنا اجتمعنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فأمرنا علينا عثمان بن عفان، فأخبرهم الخبر والمكيدة، قال عبد الله بن مسعود: لقد أحببت عمر حباً حتى لقد خفت الله -من شدة حب عمر خفت الله- ولو أني أعلم أن كلباً يحبه عمر لأحببته، ولوددت أني كنت خادماً لـ عمر حتى أموت، ولقد وجد فقده كل شيءٍ حتى العضاة -شجرة الشوك-. إن إسلامه كان فتحاً، وإن هجرته كانت نصراً، وإن سلطانه كان رحمة، ذلكم عمر ومناقبه كثيرة جداً وهذا شيءٌ قليل منها، والمقصود: أن لهؤلاء حقاً علينا في معرفة سيرهم، وإن هؤلاء منارات نقتدي بهم، وإن في تذكر هؤلاء سبباً لحنين المسلم إلى أيام الخلافة ورغبته في عدلٍ كعدل عمر، وقد طبق الأرض اليوم الظلم والجور، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيد للإسلام عزه، وأن يقيم الخلافة في أرجاء الأرض. اللهم ردنا إلى الإسلام رداً جميلاً، اللهم اجعلنا ممن أقاموا الشريعة وعملوا بها، اللهم اجعل بلدنا هذا آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين في تحكيم شرعك يا رب العالمين، اللهم ارفع الظلم عن المظلومين، اللهم انصر من نصر الدين.

الأذكار الشرعية بين الاهتمام والإهمال

الأذكار الشرعية بين الاهتمام والإهمال أمر الله المؤمنين بالإكثار من ذكره، وحمده وشكره، وأخبرهم أن ذلك أكبر، وأثنى على مجالس فيها يذكر، وعلى من ذكره خالياً فاتعظ واعتبر. تتمحور هذه المادة حول أسباب إهمال الأذكار، مع نقاش مستفيض عن كل سبب. وقد اشتملت أيضاً على كثير من الأذكار الواردة في السنة، مع بيان فوائد الأذكار في الدنيا والآخرة، وأهميتها، وغير ذلك مما يتعلق بها.

أثر الأذكار في تقوية الإيمان

أثر الأذكار في تقوية الإيمان الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أيها الإخوة! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فإن من عوامل تقوية الإيمان وتقوية الصلة بالله عز وجل ذكر الله تعالى، وما حصل الضعف والوهن في علاقتنا بالله تعالى إلا من وراء نسيان أسباب كثيرة، منها: إهمال الأذكار الشرعية التي شرعها الله لنا في كتابه، وعلمنا إياها نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ولأجل ذلك صارت الأذكار مجهولة منسية مهملة عند الكثيرين من المسلمين، ولأجل هذا صار درسنا هذه الليلة للتذكير بهذا الموضوع الذي نحتاج إليه جميعاً بلا استثناء. وقد أمرنا الله عز وجل في كتابه بالإكثار من ذكره فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الأحزاب:41 - 42] وأخبر أن ذكره أكبر من كل شيء، فقال عز وجل: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:45]، وأخبر بأنه سبب لطمأنة القلوب: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] وامتدح الله أقواماً من المؤمنين لأنهم {يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران:191] وهكذا كان رسولنا صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه، وقال عليه الصلاة والسلام: (ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأرضاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إعطاء الذهب والورق، ومن أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: ذكر الله) فجعله مفضلاً في وجه العموم على الإنفاق وعلى الجهاد، يعني: أن جنس الذكر أفضل من جنس الإنفاق ومن جنس الجهاد، وهو وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن كثرت عليه شعائر الإسلام: (لما شكا الرجل حاله قال: يا رسول الله! إن شعائر الإسلام قد كثرت عليَّ فأخبرني بأمر أتشبث به، قال: لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله).

ذكر المنفرد وذكر المجالس

ذكر المنفرد وذكر المجالس والذكر من علامات الإخلاص، فإن الرجل الذي ذكر الله خالياً ففاضت عيناه كان في ظل الرحمن يوم القيامة. ومجالس أهل الذكر محفوفة بالملائكة، مغشاة بالرحمة، منزل عليها السكينة، مذكور أهلها عند الله، وهو سبب نجاة يونس عليه السلام، فلولا أنه كان من المسبحين -قبل الحوت وفي بطن الحوت- {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات:143 - 144].

أثر الذكر في الوقاية من الشيطان

أثر الذكر في الوقاية من الشيطان وهو سبب لفك عقد الشيطان ونجاة المسلم منها، فمثلاً: عند القيام لصلاة الفجر إذا ذكر الله انحلت عقدة، فإذا توضأ انحلت الثانية، فإذا صلى انحلت الثالثة. وهذا الذكر حصن حصين إذا دخله العبد نجا من الشياطين إنسهم وجنهم، ولذلك لما جمع يحيى بن زكريا بني إسرائيل كان مما قال لهم: وآمركم بذكر الله كثيراً، ومثل ذلك كمثل رجل طلب العدو سراعاً في أثره، فأتى حصناً حصيناً، فأحرز نفسه فيه، (وإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله تعالى) حديث صحيح. وقال عليه الصلاة والسلام: (مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه كمثل الحي والميت، أو مثل الحي والميت) وفي رواية لـ مسلم: (مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه مثل الحي والميت)، (ما من ساعة تمر بابن آدم لا يذكر الله فيها إلا حسر عليها يوم القيامة) حديث صحيح، وليس يتحسر أهل الجنة على شيء إلا على ساعة مرت عليهم في الدنيا لم يذكروا الله تعالى فيها. وهو أرجى عمل ينجي العبد من عذاب الله: (ما عمل آدمي عملاً أنجى له من عذاب الله من ذكر الله) أنجى عمل ينجي الإنسان من عذاب الله، وأرجى عمل ينجي الإنسان من عذاب الله ذكر الله عز وجل. وقال عليه الصلاة والسلام لرجل من الصحابة: (ألا أعلمك كلمات إذا قلتهن غفر الله لك وإن كنت مغفوراً لك؟ قل: لا إله إلا الله العلي العظيم، لا إله إلا الله الحكيم الكريم، لا إله إلا الله سبحان الله رب السماوات السبع ورب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين) حديث صحيح.

من أسباب إهمال الأذكار عدم معرفة فوائدها

من أسباب إهمال الأذكار عدم معرفة فوائدها فإذا جلسنا نتأمل الآن أيها الإخوة في الأسباب الباعثة للناس على إهمال ذكر الله عز وجل وعلى إهمال الأذكار الشرعية، فالأذكار الشرعية مهملة منسية عند كثير من المسلمين، لماذا؟ ما هو السبب؟ كيف نعالج الأمر؟ كيف نتدارك أنفسنا؟ من الأسباب أيها الإخوة: عدم معرفة فوائد هذا الذكر، ونستطيع أن نتوصل إلى حمل أنفسنا على ذكر الله بالأذكار العامة أو بالأذكار الخاصة، الأذكار العامة مثل: (لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله)، (لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنز الجنة) أذكار عامة، هناك أذكار خاصة عند النوم، وعند الوضوء، وفي السفر، وفي الصباح والمساء، وأذكار خاصة بمناسبات معينة، فكلا الأمرين صار فيهما غفلة، ينبغي أن نعرف أولاً فوائد الذكر، حتى نشعر بأهمية هذا الموضوع، فنستطيع أن نرتقي بأنفسنا منازل للأخذ بزمام هذه الأذكار، فلو لم يكن الذكر مهماً ما شدد عليه في القرآن والسنة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً} [الأحزاب:41] وأمر بالذكر في أصعب المواقف عند المعركة، إذا احتدمت الحرب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً} [الأنفال:45]. وصدأ القلب الذي نحس به في كثير من الأحيان، هذه السحابة التي نحس بها تظلل قلوبنا في كثير من الأوقات، لا يقشعها إلا ذكر الله عز وجل بأنواعه، فالغفلة والذنب لا يزيلها إلا ذكر الله عز وجل، وهذا الران الأسود الذي يعلو القلوب لا يمكن أن يزال إلا بذكر الله عز وجل، وهناك أناس من الغافلين طبع الله على قلوبهم، قال الله في التحذير منهم: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف:28] كيف تفارط أمره؟ لما أعرض عن أمر الله عز وجل: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} [الكهف:28] هناك أيها الإخوة في المكاتب والمدارس والمستشفيات والقاعات المختلفة، والأروقة والدهاليز أناس كثيرون لا يذكرون الله، من الأغنياء، والرؤساء، والوجهاء، والكبراء أناس لا يذكرون الله، {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} [الكهف:28] عاقبهم الله على إعراضهم عن شريعته بأن حرمهم من ألذ شيء للروح والقلب وهو ذكر الله عز وجل: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} [الكهف:28] فأية عقوبة أسوأ من هذه العقوبة؟!

ذكر ابن القيم لفوائد الذكر

ذكر ابن القيم لفوائد الذكر وفي الذكر فوائد كثيرة، عدها ابن القيم رحمه الله تعالى وغيره: فمنها: أنه يطرد الشيطان. ومنها: أنه يرضي الرحمن. ومنها: أنه يزيل الهم والغم عن القلب. ومنها: أنه يفرح القلب ويجعله مسرورا. ومنها: أنه ينور الوجه. ومنها: أنه من الأسباب الجالبة للرزق. ومنها: أنه يورث القلب محبة الله عز وجل، ومن أحب شيئاً أكثر من ذكره. ومنها: أنه يجعل العبد منيباً إلى ربه، رجاعاً إليه، فيكون الله ملاذه وملجأه سبحانه وتعالى. ومنها: أن الله يفتح للذاكر أبواب العلوم والمعارف، فيفقه في أنواع من العلم لا يفقهها بدون ذكر الله عز وجل، ولذلك كان الناس من الصالحين والعلماء يستعينون على فهم المسائل بذكر الله، والابتهال إليه، والتضرع عنده، والتذلل على أعتابه عز وجل، طالبين منه أن يفتح عليهم: يا معلم إبراهيم علمني، ويا مفهم سليمان فهمني. بل إن الله أمر القضاة، أمر الناس الذين يفصلون في المسائل، أمر رسوله صلى الله عليه وسلم إذا فصل في المسألة أن يقول: {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ * وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً} [النساء:104 - 105] لذلك قال أهل العلم: يشرع للقاضي إذا فصل في مسألة أن يقول بعد حكمه فيها: أستغفر الله.

فائدة الذكر في تقوية القلب

فائدة الذكر في تقوية القلب ومن فوائده أيضاً: أنه يقوي القلب ويجرئه في مواجهة أعتى المواقف. ولذلك ثبت عن الصحابة رضوان الله عليهم في قتال فارس والروم مع أنهم أعظم أجساماً وأقوى أسلحة وأكثر عدداً وعدة كيف صبر الصحابة أمامهم، ومع الكفار الفيلة، ومعهم أنواع من المنجنيقات وآلات الحرب لم يكن العرب يعرفونها أو يعرفون مثل عظمها؟ كيف ثبتوا أمامهم؟ {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً} [الأنفال:45] فغلبوهم بإذن الله. وذكر الله عز وجل يورث أن يذكرك الله: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152]، (من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه).

فائدة الذكر في علاقة العبد بربه

فائدة الذكر في علاقة العبد بربه وكذلك فإن ذكر الله يزيل الوحشة بين العبد وربه، هذه الظلمة أو هذا البعد الذي نحسه أحياناً في علاقتنا بالله عز وجل هذا لا يزيله إلا ذكر الله تعالى، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن ما تذكرون من جلال الله عز وجل من التهليل والتكبير والتحميد يتعاطفن حول العرش لهن دوي كدوي النحل يذكرن بصاحبهن، أفلا يحب أحدكم أن يكون له ما يذكر به؟!) الناس يحبون في الدنيا أن يعملوا أعمالاً يذكرون بها بعد ذلك، وأهل الصلاح أيضاً يحبون أن يكون لهم ما يذكرون به في الدنيا وفي الآخرة؛ في الدنيا لكي يترحم عليهم الناس ألم يقل نبي الله: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [الشعراء:84] يذكرني الناس به، فيدعون لي فأزداد أجراً وثواباً، هذه الأذكار عند الله تحمي صاحبها في أوقات الشدة، في أهوال يوم القيامة، هذا التحميد، وهذا التكبير، وهذا التهليل، يكون عوناً لصاحبه في الشدائد يوم القيامة. وكذلك فإن مجالس الذكر مجالس الملائكة، ويأمن العبد من الحسرة يوم القيامة كما قدمنا بذكره لله في جميع الساعات، ومع أن الذكر باللسان حركته خفيفة لا يأخذ جهداً إلا أنه عند الله ثقيل جداً: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) كم تأخذ منك جهداً لتقولها؟ كم تأخذ منك وقتاً لتقولها؟ لكنها أثقل عند الله من الجبال الرواسي. وكذلك فإن غراس الجنة ذكر الله، وقد جاء في الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لقيت ليلة أسري بي إبراهيم الخليل عليه السلام، فقال: يا محمد! أقرئ أمتك مني السلام وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر) رواه الترمذي وهو حديث صحيح. ولذلك: (من قال: سبحان الله وبحمده، غرست له نخلة في الجنة) كما ورد في الحديث الصحيح. وكذلك فإن قسوة القلب كما قدمنا يذيبها ذكر الله كما جاء رجل إلى أحد السلف، فشكا إليه قسوة قلبه، فقال: أذبها بذكر الله. أذب هذه القسوة بذكر الله. وما استجلبت نعمٌ للعبد بمثل ما تستجلب بذكر الله، الأسباب الجالبة للنعم كثيرة، ومن أعظمها ذكر الله: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7] ورأس الشكر هو ذكر الله عز وجل. وكذلك فإن ذكر الله يجعل للعبد الذاكر صلوات عليه من ربه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} [الأحزاب:41 - 43] فأتى بهذه: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ} [الأحزاب:43] بعد أي شيء؟ بعد الأمر بالذكر. وكذلك فإن الله يباهي بالذاكرين الملائكة، روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي سعيد قال: (خرج معاوية رضي الله عنه على حلقة في المسجد فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله تعالى، قال: آالله ما أجلسكم إلا ذاك؟ قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك، قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، وما كان أحدٌ بمنزلتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم أقل عنه حديثاً مني، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه، فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله تعالى، ونحمده على ما هدانا للإسلام ومن به علينا، قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: آالله ما أجلسكم إلا ذاك؟ قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك، قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم ولكنه أتاني جبريل فأخبرني أن الله تبارك وتعالى يباهي بكم الملائكة) ما هو المجلس أيها الإخوة؟ يذكرون الله تعالى ويتذكرون نعمة الله فيما من الله به عليهم من الهداية إلى الإسلام، ولذلك ينبغي أن يكون هذا الموضوع مما يكثر طرقه في المجالس، ذكر الله وحمده على نعمة الهداية إلى هذا الدين، أناس في غياهب الشرك يعبدون بقراً وحجراً ونجوماً وكواكب وأناساً وأصناماً وشياطين وجنا، وبعضهم وصل به إلى أن عبد فرج المرأة، أفلا تكون هذه النعمة العظيمة نعمة الهداية إلى الله للإسلام من الأمور التي ينبغي أن يكثر من طرقها في المجالس؟

نيابة الذكر عن بعض التطوعات

نيابة الذكر عن بعض التطوعات وكذلك فإن دوام ذكر الله عز وجل ينوب عن التطوعات الكثيرة التي تأخذ جهداً ووقتاً، وتعوض الذي لا يستطيع أن يفعل بعض الأعمال فتعوضه، ولذلك ورد في الحديث الصحيح: (أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله! ذهب أهل الدثور من الأموال بالدرجات العلى والنعيم المقيم، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضل أموالهم -هم أغنياء يتصدقون، ونحن فقراء ليس عندنا ما نتصدق به، فحرمنا من أجر الصدقة، يحجون ويعتمرون ويجاهدون ويتصدقون بالأموال- فقال صلى الله عليه وسلم: ألا أعلمكم شيئاً تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا أحد يكون أفضل منكم إلا من صنع ما صنعتم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: تسبحون وتحمدون وتكبرون خلف كل صلاة الخ). وذكر الله يسهل الصعب وييسر العسير، ويخفف المشاق، وما ذكر عبد ربه في شدة إلا زالت، ولا مشقة إلا خفت، ولا كربة إلا فرجت، وهو الجالب للفرج بعد الشدة، واليسر بعد العسر، وبعد الغم والهم.

فائدة الذكر في تقوية البدن

فائدة الذكر في تقوية البدن ومن فوائده: فذكر الله يعطي الذاكر بالإضافة إلى قوة القلب قوة في بدنه، وهذا ما استدللنا به قبل قليل على صمود الصحابة أمام الكفار، وهزيمتهم للكفرة مع أنهم أقوى أبداناً، وقال ابن القيم رحمه الله: وقد شاهدت من قوة شيخ الإسلام ابن تيمية في مشيته وكلامه وإقدامه وكتابته أمراً عجيبا، فكان يكتب في اليوم من التصنيف ما يكتبه الناس في جمعة أو أكثر، وقد شاهد العسكر من قوته في الحرب -لما حارب التتار- أمراً عظيماً. ومن الأدلة على أن الذكر يقوي الجسد: أن فاطمة وعلياً شكيا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الضعف، فاطمة عليها شغل كثير في البيت، طلبت خادماً فعلمهما صلى الله عليه وسلم أن يسبحا ويهللا ويكبرا قبل النوم ثلاثاً وثلاثين يغنيهم عن الخادم. فاستدل منه بعض أهل العلم على أن ذكر الله للمرأة التي تعمل في البيت تستفيد من هذا إذا كثر عليها الأولاد، ونظافة البيت والطبخ والغسيل، ونحو ذلك، فإن من أهم ما تستعين به على هذا؛ هذا التسبيح والتكبير والتهليل قبل النوم. ولا أعظم من فوائد الذكر من أن يصدق الرب عبده حين يذكره، يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إذا قال العبد: لا إله إلا الله والله أكبر، يقول الله تبارك وتعالى: صدق عبدي لا إله إلا أنا وأنا أكبر، وإذا قال: لا إله إلا الله وحده، قال: صدق عبدي لا إله إلا أنا وحدي، وإذا قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، قال: صدق عبدي لا إله إلا أنا لا شريك لي، وإذا قال: لا إله إلا الله له الملك وله الحمد، قال: صدق عبدي لا إله إلا أنا لي الملك ولي الحمد، وإذا قال: لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، قال: صدق عبدي لا إله إلا أنا ولا حول ولا قوة إلا بي) هؤلاء أيها الإخوة من رزقهن عند موته لم تمسه النار. وكذلك فإن ذكر الله يبعد عن مشابهة المنافقين، فإن من صفاتهم أنهم لا يذكرون الله إلا قليلا.

شهادة الأرض للذاكر

شهادة الأرض للذاكر ومن فوائده: أن تضاريس الأرض تشهد للذاكر عند الله عندما يذكر الله عندها، (فما من عبد يذكر ربه في سهل ولا جبل، ولا طريق ولا بقعة أرض في سفر ولا في حضر -في بيت أو خارج البيت، على أريكة أو كرسي أو على الأرض، قائماً أو قاعداً أو نائماً يذكر الله- إلا شهدت له هذه البقاع عند الله) ولو أنه صعد في الطائرة فذكر الله في ذلك الموضع لشهد له ذلك الموضع عند الله، ألم يقل الله عز وجل: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة:1 - 5] وما هو تحديثها لأخبارها؟ (أنها تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها تقول: عمل يوم كذا كذا وكذا) حديث حسن بشواهده، ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا ذهب من طريق يوم العيد رجع من طريق آخر، ولذلك أمر المسافر أن يكبر عندما يصعد ويسبح عندما ينزل، كل هذه المرتفعات والمنخفضات تشهد للذاكر عند الله. ونختم هذه الفوائد المختصرة: أنه لو لم يكن في ذكر الله من الفائدة إلا أن يشغل اللسان عن الكذب والغيبة والنميمة والقول بلا علم إلى غير ذلك من آفات اللسان لكان كافياً، أليس كذلك؟ عندما ينشغل الإنسان بذكر الله لا يشتغل بالمصائب والمعايب.

فوائد الأذكار في الوقاية من الأمراض

فوائد الأذكار في الوقاية من الأمراض وهناك فوائد كما قدمنا شرعية دينية، وفوائد بدنية للأذكار، فمثلاً: عندما يرى الإنسان مبتلى فيقول: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلا، فعندما يرى مشلولاً أو أعمى، أو مجنوناً، أو معتوهاً، أو عجوزاً بلغ به الخرف كل مبلغ، أو أبرص، أو أي عيب من العيوب، فيقول: (الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلا، لم يصبه ذلك البلاء) هذا من الفوائد الدنيوية. ومثلاً: ذكر الله يحمي من صرع الجن، وعامة من يتلبس بهم الجان فيصرعهم، وتأتيهم نوبات الصرع من الذين كانوا غافلين عن ذكر الله، ويبعد تأثير السحر، وكثير من الناس في هذا الزمان انتشرت فيهم قضية الإضرار بالسحر، والتضرر به ويقولون: ماذا نفعل؟ ويلجئون إلى العرافين، والكهان والمشعوذين والدجالين ويقولون: ماذا نفعل؟ نقول: أين أنتم من ذكر الله؟ لو ذكرتم ربكم لذهبت عنكم هذه الآفات ولما حصلت بكم أصلاً. ومن الفوائد أيضاً البدنية أو الدنيوية: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! ما لقيت من عقربٍ لدغتني البارحة -لدغة عقرب شديدة- قال عليه الصلاة والسلام معلماً: أما لو قلت حين أمسيت: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم تضرك) انظر ما تضرك لدغة العقرب مع أنها طبياً مميتة قاتلة، لكن لو قلت حين أمسيت: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم تضرك) وقال عليه الصلاة والسلام: (من قال حين يمسي ثلاث مرات: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم تضره حمة تلك الليلة) الحمة: كل ما يلدغ ويؤذي من العقارب والحيات ونحوها، قال سهيل أحد السلف: فكان أهلها تعلموها -علمناها لأهلنا هذا الذكر- فكانوا يقولونها كل ليلة، فلدغت جارية منهم -بنت صغيرة- فلم تجد لها وجعاً حديث صحيح. وانظر كيف تقرب الأذكار بين المسلمين فإن لها فوائد اجتماعية، فمثلاً: السلام ورد السلام، وما يقوله المسلم عند العطاس والرد على ذلك ورد العاطس بعده، وقول الرجل لأخيه: إني أحبك في الله، ورد أخيه عليه: أحبك الله الذي أحببتني فيه. هذه الأشياء أيها الإخوة تقرب بين المسلمين، هذه من فوائد الأذكار.

الأذكار فيها تفاعل الحواس مع الأحداث

الأذكار فيها تفاعل الحواس مع الأحداث وتأمل كيف أن الأذكار تجعل اشتراك الحواس قوياً فيها، ولذلك مثلاً: (إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله فإنها رأت ملكاً) فجاء الذكر بعد ماذا؟ بعد السماع. (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول)، من رأى مبتلى فقال كذا (إذا سمعتم نهيق الحمار فتعوذوا بالله من الشيطان فإنها رأت شيطاناً)، (إذا سمعتم نباح الكلب ونهيق الحمار بالليل فتعوذوا بالليل فإنهن يرين ما لا ترون)، عند سماع الرعد: يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته، اللهم لا تقتلنا بغضبك، ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك. فإذاً: هذه الأذكار عبارة عن مشاركة عبارة عن تفاعل حواس المسلم مع ما يحدث يومياً من الأشياء، وهي ليست عبارة عن نصوص تقال فقط، وإنما بعض الأذكار عبارة عن ردة فعل من المسلم لما يراه أو يسمعه أو يحسه، فهذه نقطة مهمة جداً في الأذكار، إن الأذكار ليست نصوصاً تقال وتسمع فقط، أشياء روتينية، لا، وإنما بعض الأذكار عبارة عن تفاعل إحساس المسلم مع الأشياء التي تحدث حوله، فإذا رأى أو سمع أو أحس قال أذكاراً معينة، مالها وقت محدد، إذا حدث ذكر، وهذا يعني أن الأذكار توقظ في نفس المسلم الحس بذكر الله في الأحداث المختلفة، وتأمل أيضاً أن بعض الأذكار تقال في مواضع عجيبة، تدل فعلاً على أن شرعية الأذكار هذه شرعت لأجل إيقاظ حس المسلم، أول شيء يقوله الإنسان إذا قام من النوم، الموتة الصغرى أول شيء: (الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور) تقال الأذكار في مواضع بعض الناس يستغرب، مثلاً الذكر عند الجماع جماع الزوجة، وعند اشتداد شهوة الإنسان، يطالب بأن يقول: (بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا) هذا موضع غريب يلفت الأنظار أن يكون في ذلك الموضع ذكر الله. عند دخول الخلاء موضع غريب لكن يقول عند دخول الخلاء: (اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث) فأنت إذا تأملت أيضاً المواضع التي تحصل فيها الأذكار فإنك تحس بأنها في أوقات مختلفة أحياناً لكونها في وقت معين وأحياناً لا يكون لها وقت معين، وفي أحوال مختلفة من الحزن والفرح والشهوة والغم والضعف والقوة والموت -الموتة الصغرى- والبعث منه ونحو ذلك. هذه قضية واحدة: معرفة فوائد الأذكار تحمس المسلم وتدفعه للذكر.

الجهل من أسباب إهمال الأذكار

الجهل من أسباب إهمال الأذكار ثانياً: إن كثيراً من المسلمين قد فرطوا في الأذكار وأهملوا فيها بسبب جهلهم بالأذكار، ببساطة لا يعرف ما هي الأذكار، لا يدري ماذا يقول، يقول واحد من الناس: والله لا أدري يا أخي ماذا أقول عند النوم إذا سألتني ماذا أقول عند النوم فإني لا أدري! لو قلت لي: ماذا تقول عند دخول المسجد؟ أقول لك: لا أدري، لو قلت لي: ماذا تقول عند الكرب والهم؟ أقول لك: لا أدري، فالجهل بها من أسباب الإهمال، ولذلك لا بد من تعلم الأذكار، لا بد من تعلم ماذا يقال في المناسبات المختلفة، وها نحن نعرض لكم بسرعة طائفة من الأذكار في مناسباتها المختلفة: (إذا سمعتم النداء فقولوا مثلما يقول المؤذن) وعندما يقول: حيّ على الصلاة، ماذا نقول؟ لا حول ولا قوة إلا بالله، وإذا قال: الصلاة خير من النوم، ماذا نقول؟ الصلاة خير من النوم، (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول)، وعند الشهادتين إذا قال أشهد أن لا إله إلا الله نقول: أشهد أن لا إله إلا الله (رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً. من قالها غفر له ذنبه) حديث صحيح. (من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت سيدنا محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة). قبل الوضوء ماذا نقول؟ بسم الله (لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه) صحيح بشواهده. وبعد الوضوء ماذا نقول؟ (أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين) وماذا أيضاً؟ (سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك. من قالها وضعت في رق فختم عليه بطابع فيجعل عند الله -لا يكسر- إلى يوم القيامة ليجزي الله به صاحبه)، وعندما يكون المسلم في الخلاء يقول: بسم الله، في نفسه لا يجهر بها، وإذا نسي فوضوءه صحيح. وعند دخول المسجد: (أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم، إذا قالها العبد قال الشيطان: حفظ مني سائر اليوم)، وإذا دخل أيضاً المسجد يقول: (اللهم افتح لي أبواب رحمتك) وإذا خرج: (اللهم إني أسألك من فضلك).

أذكار الصباح والمساء

أذكار الصباح والمساء وفي الصباح والمساء يقول أذكاراً كثيرة: عن خبيب قال: (خرجنا في ليلة مطيرة وظلمة شديدة نطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي لنا، قال فأدركته، قال: قل، فلم أقل شيئاً، ثم قال: قل، فلم أقل شيئاً، قال: قل، قلت: ما أقول؟ قال: قل هو الله أحد، والمعوذتين حين تمسي وتصبح، ثلاث مرات تكفيك من كل شيء) اعتبرها مثل الدواء، وهي أعظم من الدواء، إن الناس يحافظون على الأدوية بمقاديرها وعدد مرات أخذها أكثر مما يحافظون على الأذكار بكثير، ويتفطنون للدواء الذي يعالج الجسد وقد لا يعالج الجسد، ولا يتفطنون لذكر الله الذي يعالج القلب والجسد. ومن أذكار الصباح والمساء: سبحان الله وبحمده مائة مرة، سيد الاستغفار: (بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء) ثلاث مرات، (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق) ثلاث مرات، (اللهم بك أصبحنا وبك أمسينا وبك نحيا وبك نموت)، (أمسينا وأمسى الملك لله، والحمد لله، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير) الخ، (اللهم عالم الغيب والشهادة فاطر السماوات والأرض رب كل شيء ومليكه أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه، وأن أقترف على نفسي سوءاً أو أجره إلى مسلم)، (اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة، اللهم أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي، واحفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني ومن شمالي ومن فوقي وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي). (لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت. عشر مرات). (إذا أصبح أحدكم فليقل: أصبحنا وأصبح الملك لله رب العالمين، اللهم إني أسألك خير هذا اليوم، فتحه ونصره ونوره وبركته وهداه -وفي رواية: فتحه ونصره وتأييده- وأعوذ بك من شر ما فيه وشر ما قبله وشر ما بعده) حديث صحيح. عند النوم ماذا نقول؟ (باسمك اللهم أموت وأحيا) وإذا قام من النوم: (الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور)، عند النوم قراءة المعوذات والنفث في اليدين ومسح الوجه والجسد بهما ثلاث مرات. (التكبير أربعاً وثلاثين، والتحميد ثلاثاً وثلاثين، والتسبيح ثلاثاً وثلاثين، خير لكما من خادم) كما قال عليه الصلاة والسلام. (باسمك ربي وضعت جنبي وباسمك أرفعه إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين، رب قني عذابك يوم تبعث عبادك)، (اللهم اغفر لي ذنبي واخسئ شيطاني، وفك رهاني، وثقل ميزاني واجعلني في الندي الأعلى)، (اللهم أنت خلقت نفسي وأنت تتوفاها، لك مماتها ومحياها، إن أحييتها فاحفظها، وإن أمتها فاغفر لها، اللهم إني أسألك العافية)، (اللهم إني أسلمت وجهي إليك ووجهت وجهي إليك وفوضت أمري إليك وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت). إذا انتبه الإنسان من الليل استيقظ من الليل فجأة ماذا يقول؟ (من تعار من الليل فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، الحمد لله وسبحان الله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله ثم قال: اللهم اغفر لي، أو دعا إلا استجيب له، فإن توضأ وصلى قبلت صلاته).

أذكار السفر والنكاح والطعام

أذكار السفر والنكاح والطعام عند السفر أنتم تعلمون الأذكار التكبير ثلاث مرات {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف:13] (اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى) الخ، (اللهم أنت الصاحب في السفر)، والاستعاذة من وعثاء السفر، وكآبة المنظر، وسوء المنقلب، وعند الصعود يكبر، وعند النزول يسبح، سمع سامع بحمد الله وحسن بلائه علينا، ربنا صاحبنا وأفضل علينا عائذاً بالله من النار في بداية النكاح خطبة الحاجة المعروفة، وإذا دخل بزوجته: (اللهم إني أسألك خيرها وخير ما جبلتها عليه، وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلتها عليه)، ماذا نهنئه؟ (بارك الله لك وبارك عليك وجمع بينكما في خير)، ماذا نقول له أيضاً؟ (على الخير والبركة وعلى خير طائر) كما قالت نساء الأنصار. عند الجماع قدمنا الذكر فيه، وإذا رزقنا بمولود فتأسى ببنت عمران: وأعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم، كان حسناً. وعند الطعام: بسم الله، وإذا نسي: أضاف: أوله وآخره، وبعده: الحمد لله، وأيضاً: (اللهم إنك أطعمت وسقيت، وأغنيت وأقنيت، وهديت واجتبيت، اللهم فلك الحمد على ما أعطيت، الحمد لله الذي كفانا وأروانا -وفي رواية: وآوانا- غير مكفي ولا مكفور)، (الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه غير مكفي ولا مودع -يعني متروك- ولا مستغنىً عنه ربنا، الحمد لله حمداً طيباً مباركاً فيه، الحمد لله الذي كفانا وآوانا). (إذا أكل أحدكم طعاماً فليقل: اللهم بارك لنا فيه وأبدلنا خيراً منه، وإذا شرب لبناً فليقل: اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه فإنه ليس شيءٌ يجزي من الطعام والشراب إلا اللبن).

أذكار المطر والريح والفزع

أذكار المطر والريح والفزع عند المطر: (مطرنا بفضل الله ورحمته)، وكان عليه الصلاة والسلام إذا رأى المطر يقول: (رحمة رحمة) ويقول: (اللهم صيباً نافعاً) وإذا رئي القمر قال لـ عائشة: (استعيذي بالله من شر هذا الغاسق إذا وقب). وإذا جاء لمريض: (طهور، لا بأس إن شاء الله) بالإضافة للأدعية الأخرى. وإذا بدأ صلاح الثمرة -الثمر بدأ الآن ينضج ويستوي- (اللهم بارك لنا في مدينتنا وفي ثمارنا، وفي مدنا وفي صاعنا، بركة مع بركة)، وإذا جيء به إلى شخص يعطيه إلى أصغر الصبيان عنده ليأكله كما هي السنة. وإذا عصفت الريح: (اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به)، وإذا اشتدت قال: (اللهم لقحاً لا عقيماً) يعني: مفيدة لا ضارة. وإذا فزع من النوم: (أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وشر عباده، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون، فلو قالها: لا يضره شيء)، وكان إذا تضور من الليل قال: (لا إله إلا الله الواحد القهار، رب السماوات والأرض وما بينهما العزيز الغفار).

أذكار الغضب والمصائب

أذكار الغضب والمصائب وعند الغضب ماذا يقول؟ (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)، وإذا جاءه الشيطان في الصلاة: (يستعيذ ويتفل عن يساره ثلاثاً)، وإذا نزل منزلاً في رحلة في بر في سفر: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق)، وإذا ذكر رسول الله ماذا يقول؟ صلى الله عليه وسلم، وفي كل مجلس يقول: صلى الله عليه وسلم، وقبل الدعاء يصلي على الرسول صلى الله عليه وسلم، يوم الجمعة في التشهد الأول أحياناً ثبت أنه يصلي على الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي الأخير وجوباً يصلي على الرسول صلى الله عليه وسلم. وعند المصيبة: (اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها، إنا لله وإنا إليه راجعون)، في التعزية: (إن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى، فلتصبر ولتحتسب).

أذكار أخرى متفرقة

أذكار أخرى متفرقة وعند وضع الميت في القبر: (بسم الله وعلى ملة رسول الله)، وعند التعجب من أمر: سبحان الله، وعند السرور من أمر: الله أكبر، لما أخبرهم قال: (أنتم ربع أهل الجنة فكبروا، أنتم نصف أهل الجنة فكبرنا)، عند السرور بشيء، وعند البشارة بشيء: الله أكبر، عند اللقاء: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وردها، وأيضاً: مرحباً، كان يقولها صلى الله عليه وسلم، وإذا تعثرت الدابة يقول: بسم الله، والمسافر يقول: (استودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك)، ماذا يرد؟ (أستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه) فإن قال المودع: (أستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه) ورد في السنة أيضاً. وعند لبس الثوب الجديد: (البس جديداً وعش حميداً ومت شهيداً)، ويقال: ابلي واخلقي، وماذا يقول اللابس؟ (اللهم لك الحمد أنت كسوتنيه، أسألك من خيره وخير ما صنع له، وأعوذ بك من شره وشر ما صنع له)، وإذا رأى رؤيا طيبة يحمد الله، وإذا رأى حلماً سيئاً يستعيذ بالله من الشيطان ومن شر ما رأى ثلاث مرات، ويتفل عن يساره ثلاثاً. وإذا سبك أحد عند الصيام تقول: (إني صائم إني صائم). أذكار الحج في طوافه وسعيه وتلبيته ورميه ووقوفه كثيرة جداً، وإذا خاف قوماً: (حسبنا الله ونعم الوكيل، اللهم إني أجعلك في نحورهم، وأعوذ بك من شرورهم)، وإذا قدم إنسان بصدقة ماذا نقول له؟ (اللهم صل على آل أبي فلان) لو كان اسمه عبد الرحمن نقول: اللهم صل على آل عبد الرحمن كما ورد في السنة. إذا خاف إنسان أن يصيب نفسه بالعين أو أولاده أو صديقه أو مالاً من الأموال ماذا يقول؟ (إذا رأى أحدكم من نفسه أو ماله أو من أخيه ما يعجبه فليدع له بالبركة فإن العين حق)، (استعيذوا بالله من العين فإن العين حق) حديثان صحيحان. إذا عطس يقول: الحمد لله رب العالمين، فيقول له صاحبه: يرحمك الله، فيقول هو: يغفر الله لنا ولكم، هذه إحدى الصيغ. الصيغة الأخرى: الحمد لله على كل حال، يقول له من حوله: يرحمك الله، يقول هو: يهديكم الله ويصلح بالكم. صيغة ثالثة: يقول: الحمد لله، يقول له صاحبه: يرحمك الله، يقول هو: يهديكم الله ويصلح بالكم، وهي المشهورة، وكل الثلاثة صحيحة ومن ينكر على من يفعل واحدة منها فإنه جاهل. إذا عطس الكافر وقال: الحمد لله، ماذا نقول له؟ نقول: يهديكم الله ويصلح بالكم. كما رد عليه الصلاة والسلام على اليهود الذين كانوا يتعاطسون عنده. في كفارة المجلس: (سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك)، إذا رأيت شيئاً ساراً ماذا تقول؟ إذا جاءك خبر طيب، إذا جاءك الخبر كما تريد: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. إذا رأيت شيئاً مكروهاً وحصل لك ما ليس مرغوباً تقول: الحمد لله على كل حال. إذا نزل بك كرب أو هم أو غم أو بلاء (ألا أخبركم بشيء إذا نزل بأحد منكم كرب أو بلاء من أمر الدنيا دعا به ففرج عنه دعاء ذي النون: ((لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)) [الأنبياء:87])، (دعوة ذي النون إذ دعا بها وهو في بطن الحوت ((لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)) [الأنبياء:87] لم يدعُ بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب له). (ألا أعلمك كلمات تقولهن عند الكرب: الله الله ربي لا أشرك به شيئاً)، (كان إذا راعه شيءٌ قال: الله الله ربي لا أشرك به شيئا). (كان إذا كربه أمر قال: يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث). دعوات المكروب: (اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت). (من أصابه هم أو غم أو سقم أو شدة فقال: الله ربي لا شريك له، كشف عنه). كلها أحاديث صحيحة. إذا صابك دين هم من الدين وأصبح الدائنون يطاردونك ويقضون مضجعك ويقلقون راحتك: (ألا أعلمك كلمات لو كان عليك مثل جبل صبير ديناً أداه الله عنك قل: اللهم اكفني بحلالك عن حرامك وأغنني بفضلك عمن سواك) حديث صحيح. هذه -أيها الإخوة- طائفة من الأذكار التي تقال عند الأحوال المختلفة، فلماذا يقصر الناس في الأذكار؟ لأنهم لا يعلمون ماذا يقولون، ما هو الواجب؟ قراءتها وحفظها، واستعمالها دائماً لترسخ في الذهن.

من أسباب إهمال الأذكار

من أسباب إهمال الأذكار

الجهل بأجر الأذكار

الجهل بأجر الأذكار ومن الأسباب التي نعالج بها قضية الإهمال في الأذكار: معرفة الأجر؛ لأنك إذا عرفت الأجر يحصل حماس للعمل. فمثلاً: إذا قلت بعد الوضوء الذكر الذي ذكرناه تفتح أبواب الجنة الثمانية من أيها شاء دخل، وإذا خرجت من المنزل وقلت الدعاء المعروف في خروجك من المنزل حفظت من الشيطان، وإذا قلت: آمين، في الصلاة (من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه)، (من وافق قوله: اللهم ربنا لك الحمد، قول الملائكة بعد الرفع من الركوع غفر له ما تقدم من ذنبه)، من قال: (ربنا ولك الحمد حمداً كثيرً طيباً مباركاً فيه، قال صلى الله عليه وسلم: رأيت بضعاً وثلاثين ملكاً يبتدرونها أيهم يكتبها أولاً)، (وإذا سبح ثلاثاً وثلاثين بعد الصلاة وحمد وكبر وأكمل المائة لا إله إلا الله، غفرت له خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر)، (من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت)، (من صلى صلاة الصبح في مسجدي جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين تسبيحة الضحى كانت له كأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة) حديث صحيح من روايات مجتمعة. والمرأة إذا صلت في بيتها لأن السنة لها أن تصلي في البيت، وقعدت في مصلاها تذكر الله إلى طلوع الشمس يرجى لها نفس الأجر. سيد الاستغفار إذا قيل في الصباح ومات الإنسان وقد قاله موقناً به أو في المساء دخل الجنة. (من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي). بل ورد في الحديث الصحيح: (أن الله يبعث له مسلحة تحرسه في النهار -يعني: ملائكة- ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل عملاً أكثر من ذلك). (من قال: سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر) قال عليه الصلاة والسلام: (أيعجز أحدكم أن يكسب كل يوم ألف حسنة؟ فسأله سائل: كيف يكسب أحدنا ألف حسنة؟ قال: يسبح الله مائة تسبيحة فيكتب له ألف حسنة ويحط عنه ألف خطيئة).

الجهل بمعاني الأذكار

الجهل بمعاني الأذكار من الأسباب أيضاً أيها الإخوة التي تؤدي إلى إهمال الأذكار: عدم معرفة معانيها. فمثلاً أسألكم: سيد الاستغفار ما نصه؟ (اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي) ما معنى أبوء؟ يعني: أعترف بنعمتك علي وأقر بذنبي، وأبوء بذنبي الذي لا يعرف معنى: أبوء سيصبح هذا لغزاً بالنسبة له، فلن تتشوق نفسه وتنجذب إلى قوله، ولذلك ينبغي فهم معاني الأذكار وهناك كتاب اسمه تحفة الذاكرين للشوكاني جيد في معرفة معاني الأذكار وفيه في أحاديث صحيحة وضعيفة لكن خذ شرح الأحاديث الصحيحة من هذا الكتاب.

البيئة الفاسدة من أسباب إهمال الأذكار

البيئة الفاسدة من أسباب إهمال الأذكار لقيت شخصاً مرة من المبتعثين إلى الخارج فقلت له: برأيك ما السبب في إهمال الناس للأذكار؟ فقال: أنت يا أخي إذا سافرت إلى ذلك المكان، كل الذين حولك لا يذكرون الله أبداً، فكيف سيخطر ببالك ذكر الله؟ قال: نحن في أمريكا نعيش مع ناس كفار من جميع الجوانب معك دائماً في كل مكان لا يمكن أن نتذكر ذكر الله، كل أحاديثهم عن الدنيا. إذاً: من الأسباب أن بعض الناس يعيشون في بيئات لا تذكر بالله أصلاً أصحاب معاصٍ وفجور وفسق وكفر واستهزاء بالدين، أو على أقل أحوالهم اقتصار الكلام في الدنيا والدنيا: الأسعار والأسواق والسلع والوظائف والترقيات! فكيف سيتذكرون أصلاً ذكر الله؟! ولذلك لا بد للإنسان أن يعيش في جو يذكره بالله. هذا من العلاجات المهمة.

التلفظ بالأذكار وإسرارها

التلفظ بالأذكار وإسرارها بعض الناس يعتقدون أن التلفظ بالأذكار بدعة، فقال لي واحد: أنا كنت أظن منذ أن تعلمت أن النية محلها القلب والتلفظ بها بدعة، أقول: معنى ذلك ينبغي أن ننوي الأذكار نية بالقلب، فلا نتلفظ بشيء، لأن التلفظ بدعة، فهذا أتي من باب عدم التفريق بين النية وبين الأذكار، النية شيء و (سبحان ربي الأعلى) شيء ثان، النية شيء و (الله أكبر) في تكبيرة الإحرام شيء آخر، فإذاً من أسباب الإهمال: اعتقادات خاطئة مغلوطة مثل هذا الاعتقاد. أحياناً بعض الناس يظن أن الجهر بالأذكار والتلفظ بها يخالف الحضارة والرقي، وأن المدير والطبيب والمهندس لا يليق يعني في صالة الاجتماعات في المستشفى وفي القاعات وهذه الأمكنة الراقية كما يقولون مطعم راق، فندق راق، يعني هذا ليس محلاً يقال فيه: سبحان الله، يعني لا يتلاءم، بهو المستشفى، وفخامة القاعات والناس الذين يأتون للتجارة والأعمال والوظائف، كيف أقول فيها: بسم الله ولا إله إلا الله، فلذلك تجد بعض الكبار في السن يدخل في أكبر قاعة فتجد لسانه من عادته تحصله يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، بعض الناس ينظرون إليه ويقولون: انظروا إلى هذا المتخلف القادم من العصور الحجرية، قادم من آخر الدنيا لكي يقول: لا إله إلا الله، انظر إلى أي درجة تصل الأمور الآن فعلاً أضرب لك مثالاً: ذهب أحدهم ليحضر مؤتمراً دولياً مثلاً يمثل البلد في مؤتمر دولي، وحضر الكفار وأجهزة الإعلام والتصوير والمصورون من كل جانب والقاعات والأنوار والكراسي الفخمة هل تراه سيقول في ذلك الموضع: لا إله إلا الله وحده لا شريك له؟ أحياناً الواحد يحضر مثلاً بحثاً في جامعة، يقدم بحثاً في جامعة ويحضره الدكاترة، وهذا البرفسور فلان والبرفسور فلان، شيء أبهة، فالآن يرى أن (سبحان الله وبحمده وسبحان الله العظيم)، ليست مناسبة ولا تتلاءم مع هذا الديكور الموجود. وإذا دخل واحد مجمعاً تجارياً ضخماً وسوقاً وطوابق وسلالم كهربائية تطلع وتنزل ونوافير! كيف يقول دعاء دخول السوق: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير)!! يرى أن المسألة لا تتناسب، نعم صحيح هذا موجود، هذه الهزيمة النفسية التي أصبنا بها. وإذا دخل غرفة مسئول كبير قد لا يجرؤ على أن يتلفظ بأي ذكر من الأذكار، يقول لك: هذا مكان عمل، مكان عمل ماذا يعني مكان عمل؟! يعني لا نذكر الله في مكان العمل؟! أيها الإخوة! من أسباب التفريط في الأذكار: النوم بعد الفجر مباشرة، ثم الذهاب إلى العمل بسرعة، فهذا كيف يقول أذكار الصباح؟! بعد الفجر مباشرة نام ووضع الساعة وقام من النوم فزعاً إلى العمل والشغل! يلبس بسرعة، ويقود السيارة بسرعة، ويدخل بسرعة، ويوقع بسرعة!! من أين له بوقت لأذكار الصباح والمساء؟! هذه مشكلة أخرى.

مشكلة التسويف في وقت الأذكار

مشكلة التسويف في وقت الأذكار ومن المشاكل أيضاً: التسويف في الأذكار في الوقت المعين، فمثلاً: قد يخطر لشخص بعد الصلاة أن يخرج من المسجد بسرعة ويقول: سأذكرها في الطريق، فينسى في الطريق ولا يقول شيئاً! وإذا خرج من المسجد بسرعة ليلحق شخصاً فإنه يقول: سأذكرها بعد مقابلته، فينساها ولا يذكرها. بعض الناس مثلاً قبل النوم يريد أن يقرأ كتاباً يقول: بعد القراءة أذكار النوم، فلا يلبث أن ينام ويسقط الكتاب بجانبه، لا هو قرأ ولا ذكر أذكار النوم. فإذاً، إذا ما ذكرتها في لحظتها قد تفوت عليك إذا فاتت عليك حاول أن تتداركها بسرعة.

إهمال الأذكار بسبب الأعباء والأشغال

إهمال الأذكار بسبب الأعباء والأشغال من الأسباب أيضاً: كثرة الأعباء والأشغال، فالمسلم أيها الإخوة ينبغي أن يكون له خلوة بربه، وقت يخلو فيه بالله، فعصرنا هذا عصر المادة الذي طغت فيه المادة على كل شيء حتى ذكر الله، ولم يعد الفرد يجد وقتاً يذكر الله فيه، يقوم مسرعاً ويلبس مسرعاً ويخرج مسرعاً ويشتري الأغراض ويذهب للوظيفة، ثم يرجع وينام ويأكل، ثم يقوم وعنده موعد وعنده أشغال، وشغل مع فلان، وموعد مع فلان، صار اليوم مملوءاً بالأشغال لدرجة أن الإنسان ما عنده وقت يذكر الله، وهذه لا بد من التخفيف منها، ليس معقولاً أن نصل إلى مرحلة أننا نطارد وراء الأشغال والوظائف والتجارات والأعمال والدراسات ولا يكون عندنا وقت نذكر الله فيه، فهذا خطأ واقع ينبغي تصحيحه. ولذلك تجد بعض الناس المنشغلين إذا أذن المؤذن لا يحس أنه أذن أصلاً حتى يردد معه! مع الاشتغال والانهماك في العمل لا يسمع، لا ينتبه أنه أذن أصلاً، وكذلك في اللحظات الخطيرة والطارئة الناس عادة يصيبهم الصدمة تشغلهم عن ذكر الله، مع أن المفروض أنهم في الصدمة يذكرون الله.

إهمال الأذكار بسبب الذنوب

إهمال الأذكار بسبب الذنوب ومن أسباب التقصير في الأذكار الشرعية: كثرة الذنوب، وعدم تذكر الموت، والتوسع في المباحات فالمعاصي أيها الإخوة إذا لم يتحرز منها الإنسان ولو كانت صغائر وتراكمت الصغائر عليه فإنها توقعه في مصائب {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30] كيف يعفو عن كثير؟ {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر:45] لو أن الله عز وجل يريد أن يحاسب الناس فعلاً على ما يعملون ما ترك على ظهرها من دابة لكنه يعفو عز وجل. يقول أحد السلف وهو الضحاك رحمه الله: ما نعلم أحداً حفظ القرآن ثم نسيه إلا بذنب، ثم تلا: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى:30] ثم يقول الضحاك رحمه الله: وأي مصيبة أعظم من نسيان القرآن. ودخل بعضهم على كرز بن وبرة وهو يبكي، فقال له: أتاك نعي بعض أهلك؟ قال: أشد، قال: وجعٌ يؤلمك؟ قال: أشد، قال: وما ذاك؟ قال: بابي مغلق ولم أذكر حزبي البارحة. ما الذي حز في نفسه وأبكاه؟ فات عليه الحزب، فاتت عليه الأذكار ونام عنها فهو يبكي، ثم قال: لم أقرأ حزبي البارحة وما ذاك إلا بذنب أحدثته. الله عز وجل لم يفوت عليه هذه الأذكار إلا بذنب كم من ذنب منع من صلاة جماعة؟! وكم من أكلة منعت من قيام ليلة؟! وكم من نظرة منعت من قراءة سورة؟! وكما أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فالفحشاء تنهى عن الصلاة والخيرات. وقال ابن القيم رحمه الله: من آثار المعصية حرمان الطاعات. فالعبد إذا أذنب ذنباً حرم بسبب هذا الذنب طاعة وثانية وثالثة ورابعة حتى يصبح بعيداً عن الطاعات وعمله في المعاصي، وهذا كرجل أكل أكلة أوجبت له مرضة طويلة منعته من أكلات، مع أن المرضة التي تمنع من أكلات دنيوية بسيطة فإن الشخص يشفى ويأكل فهذه ليست مشكلة، لكن المشكلة عندما يحرم من الطاعات بسبب مرض القلب أو بسبب الذنوب.

إهمال الأذكار بسبب الأسوة

إهمال الأذكار بسبب الأسوة ومن أسباب التفريط في الأذكار أيضاً: مشاهدة بعض ذوي الأسوة والقدوة على شيء من التفريط. فلو أن واحداً يقتدي بفلان معين، ففلان هذا بشر، صحيح أنه قد يكون أحسن منه، لكن الشخص هذا عندما يعتقد أن هذا القدوة نمط فريد من الناس فإذا رأى منه تفريطاً في شيء يقول: هذا الشيء الذي فرط فيه ليس مهماً، لو كان مهماً لما فرط فيه هذا القدوة، فيحاكيه في التفريط، وتنقص هذه الطاعة في نفسه لأنه يرى القدوة لم يفعلها، ونحن أيها الإخوة نعتقد أن البشر كلهم خطاءون، ونحن لا نقلد بشراً في تقصير أو معصية، فلو شاهدت أكبر شيخ انشغل عن الأذان وما ردد مع المؤذن تعتقد أن الترديد مع المؤذن ليس شيئاً مهماً؟! فلو أنك رأيت أكبر شيخ أذن المؤذن أمامه وانشغل عن الترديد أو نسي، هل تعتقد وتظن بأن الترديد شيء غير مهم؟ لا طبعاً. ومن الأمور المهمة: أن نربي أطفالنا على هذه الأذكار، فنحفظهم إياها ونعلمهم إياها منذ نعومة أظفارهم، وما أحسن الأب وهو يهتم بولده فيعلمه أذكار الصباح والمساء وعند النوم والأكل والشرب والعطاس والسلام ودخول الخلاء والخروج منه أذكار بسيطة تناسب الولد الصغير حتى ينشأ ويدرج على هذه الأذكار، هذه ترى مسألة مهمة، فتصبح الأذكار سهلة عليه في المستقبل، بدلاً من أن يأتي وهو بالأربعين سنة يريد أن يحفظ الآن الأذكار، فيجد في ذلك صعوبة.

فوائد مراجعة الأذكار

فوائد مراجعة الأذكار وكذلك من المسائل المهمة: مراجعة الأذكار بين فترة وأخرى، فلو أنك حفظت أذكاراً فبعد شهر أو شهرين أو ستة أشهر راجع الأذكار، فإن في مراجعتها فوائد: منها: تذكر ما نسيته، أحياناً تكون نسيت ذكراً كاملاً فتقول: قد غاب هذا الذكر، ولم أذكره منذ فترة، أو أنك نسيت شيئاً من الذكر كلمة أو كلمات فتستعيدها. وكذلك: قد تصحح كلمة خاطئة بالمراجعة، أحياناً يكون الواحد يلفظ الذكر بطريقة خطأ، فعندما يراجع يقول: أنا دائماً أقولها كذا والصحيح خلاف هذا، فتصحح الأخطاء التي عندك.

تنويع صيغ الأذكار

تنويع صيغ الأذكار ومن الأمور التي تمنع انقلاب الأذكار وهي عبادة إلى عادات وتصبح أموراً روتينية كما يقولون، من هذه الأسباب التي تمنع هذا: الإتيان بالصيغ المختلفة للأذكار والتنويع فيها، ولذلك للصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير صيغ مختلفة، أدعية الاستفتاح فيها صيغ مختلفة، أدعية الفراغ من الطعام فيها صيغ مختلفة، فإذا أتيت بهذا مرة وبذاك أخرى، تقضي على الرتابة؛ وتحدث تغييراً، إلا إذا كانت الأذكار من السنة أن تجمعها كلها في موضع معين فتجمعها، وإلا فإنك تذكر هذا مرة وهذا مرة وهذا مرة. ومرافقة الصالحين والمعيشة معهم من أهم الأشياء والأسباب التي تؤدي إلى استرجاع الأذكار والمداومة عليها والانتباه لها، ماذا قال موسى في دعائه؟ {وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً * وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً} [طه:29 - 34] فقد طلب العون من الله بأخ صالح يشرك معه في النبوة لماذا؟ ليستعين به على ذكر الله.

بعض الآداب والأحكام المتعلقة بالأذكار

بعض الآداب والأحكام المتعلقة بالأذكار وختاماً: فإننا نذكر هنا -أيها الإخوة- طائفة من الآداب والأحكام المتعلقة بالأذكار على وجه من السرعة إذا عرفت ذكراً معيناً اعمل به ولو مرة واحدة، وواظب عليه ما استطعت. كذلك: اعلم بأنه كما يستحب الذكر فإنه يستحب مجالسة أهل الذكر. كذلك: اعلم أن الذكر يكون بالقلب ويكون باللسان، وهو مراتب أعلى مرتبة إذا وافق القلب اللسان. (رجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه) ماذا يحتمل؟ أنه رجل في خلوة ذكر عظمة الله في قلبه وما قال شيئاً، ذكر عظمة الله في قلبه ففاضت عيناه، ويحتمل أنه ذكره بلسانه، فذكر الله يحتمل الأمرين: ذكر في القلب مثل: تذكر عظمة الله، عذاب الله، الخوف من الله، صفات الله، معاني أسماء الله. وذكر باللسان، لكن من الخطأ أن يذكر باللسان دون القلب، مثلما نفعل نحن في الصلوات، نقول الأذكار في الصلوات وقلوبنا في وادٍ واللسان في وادٍ آخر. كذلك من الأشياء المهمة: أن نعلم أن الذكر ليس منحصراً في التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير، بل كل واحد يعمل بطاعة يعتبر ذاكراً لله عز وجل، فليحضر حلقة علم ويسمع، فماذا يعتبر؟ ذاكر لله، جلس في مجلس يذكر الله، وعندما يصلي أيضاً، والدليل على ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أيقظ الرجل أهله من الليل فصليا ركعتين جميعاً كتبا في الذاكرين الله كثيراً والذاكرات)، ولذلك قال بعض أهل العلم: إذا واظب على الأذكار المأثورة صباحاً ومساءً في الأوقات والأحوال المختلفة ليلاً ونهاراً كان من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات. وهنا مسألة: نحن نعرف أن أفضل الذكر هي تلاوة الذكر فهل الذكر هو سماع الصوت؟ فبعض الناس عندما تراه في الصلاة يكبر ويطبق شفتيه من أول تكبيرة في الإحرام إلى الركوع، مطبقاً شفتيه، فهل يعتبر هذا قرأ الفاتحة بدون حركة لسان وشفتين؟ هل يعتبر قرأ الفاتحة؟ لا، هل يعتبر قرأ أذكار الركوع والسجود؟ لا، لذلك انتبهوا فهذا خطأ شائع جداً، وهو قضية أن بعض الناس يذكرون ويقرءون الفاتحة بدون حركة لسان ولا حركة الشفتين، ولذلك بعض العلماء قال: لا يعتبر الذكر ذكراً ولا ينال أجره إلا إذا أسمع نفسه، فقد قال النووي بهذا القول، وبعض العلماء قالوا: لا، المهم أنه يحرك لسانه وشفتيه، وإلا (إذا ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي) لكن نقول: على الأقل لا يعتبر ذكراً ولا تؤجر عليه إلا إذا حركت لسانك وشفتيك، وجرى الهواء به، سمعته أو ما سمعته فلا بد أن تحرك. كذلك: يجوز الذكر بالقلب وباللسان للمحدث والجنب والحائض والنفساء، ولو كان جنباً يذكر الله، (كان يذكر الله على كل أحيانه) ولو كان جنباً لكن لا يقرأ القرآن، الجنب لا يقرأ القرآن، لو أن واحداً أجنب وصارت له مصيبة هل يقول: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:156] أم لا؟ لو أن واحداً نام وهو جنب، هل يقول: الحمد لله والحمد لله موجودة في القرآن؟ A نعم، يقولها لا بنية تلاوة القرآن ولكن بنية الإتيان بهذا الذكر الذي علمناه في هذا الموضع. ولو أن جنباً ركب سيارته هل يقول: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف:13]؟ نعم، ليس على أنه من القرآن لكن لأنه ذكر يقال في هذا الموضع. وكذلك يستحب أن يكون الذاكر مستقبل القبلة متذللاً متخشعاً بسكينة ووقار، وإن ذكر الله على كل أحيانه، فحسن {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران:191] وأن يكون المكان الذي يذكر الله فيه نظيفاً خالياً ما أمكن. وأن يكون متسوكاً نظيف الفم، وأن يتدبر ما يقول، ولو أن واحداً لا يعرف معنى ذكر معين حفظه لكن دون أن يعرف المعنى هل يقوله؟ هل يؤجر عليه؟ نعم. لكن ليس مثل أجر الذي يعرف المعنى ويتدبر المعنى. وكذلك: ينبغي إذا فات على الإنسان ذكر معين أن يتداركه، فلو فاته: سبحان الله ثلاثاً وثلاثين والحمد لله ثلاثاً وثلاثين بعد الصلاة، وخرج من المسجد ووصل إلى البيت فهل يقوله؟ نعم، يتدارك ما فات من الذكر. ولا بأس أن يقطع الذاكر الذكر لحاجة شرعية مثل: أن يسلم عليه إنسان وهو يسبح بعد الصلاة، فيرد السلام؟ وإذا عطس عاطس عنده يشمته، وإذا أذن المؤذن، يترك الذكر ويؤذن مع المؤذن بطبيعة الحال، أو رأى منكراً وهو يذكر الله فليغيره ويقول: يا فلان لا تفعل. ولو سأله أحد عن مكان معين فيرشده إليه وهكذا. وإذا غلبه النعاس يقطع الذكر وينام حتى لا يسب نفسه كما أخبر عليه الصلاة والسلام.

إسرار الذكر من علامات الإخلاص

إسرار الذكر من علامات الإخلاص والإسرار بالذكر أيها الإخوة من علامات الإخلاص: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف:205] إلا ما دل الدليل على الجهر به ورفع الصوت، فالأفضل أنك تسره، فلا تسمع الناس إلا في حالات مثل: التلبية، وتعليم الناس، والأذان، والإقامة، يجهر طبعاً، والتكبير في العيدين في الشوارع وهم ذاهبون إلى المسجد يكبرون، وبعد الصلوات يجهر بالذكر، وإن كان في المسألة خلاف بين أهل العلم، لكن دلت الأدلة كما في صحيح البخاري: عن ابن عباس: (كنت أعرف قراءة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالتكبير، وكان رفع صوتي بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم) لكن انتبهوا لا يحدث ذكراً جماعياً؛ لأنه في بعض البلاد إذا التفت الإمام بعد الصلاة يبدأ الجميع بالأذكار بصوت واحد فهذا بدعة من البدع. وأيضاً الأذكار التي تقال للناس الآخرين مثل: تهنئة بالزواج، فهذه يجهر فيها، وغير ما ورد فيه الجهر والإسماع للآخرين فإن الإنسان يسر به أفضل (ومن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي). واعلموا أيها الإخوة أن الثواب في الأذكار ليس دائماً فيها على قدر المشقة، فهناك أذكار قصيرة لو قورنت بغيرها أطول منها كانت أكبر، والدليل: عن جويرية: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من عندها بكرة حين صلى الصبح وهي في مسجدها، ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة فقال: ما زلت على الحال التي فارقتك عليها؟ قالت: نعم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلتِ منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله عدد خلقه، ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته) إذاً ليس الثواب دائماً على قدر المشقة، فبعض الأذكار أكثر أجراً من أذكار أخرى مكانها ولو كانت أطول منها.

تحذير من الأذكار المبتدعة

تحذير من الأذكار المبتدعة وختاماً: احذروا -أيها الإخوة- من الأذكار المبتدعة سواء في النص، فبعض الأذكار وردت في أحاديث ضعيفة أو موضوعة، أو مثلاً درج عليها الناس، إذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين، قالوا: "استعنا بالله" قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة "أقامها الله وأدامها" بعد الصلاة: "حرماً" وذاك يقول: "جمعاً" وبعد الوضوء: "زمزم" وذاك يقول: "الله يزمزمك" فهذه أشياء لم ترد في السنة، فهذه أذكار مبتدعة فلا يصح أن نأتي بها ولا أن نواظب عليها، لا نخترعها بالنص ولا بالهيئة والكيفية، واحفظوا هذه القاعدة المهمة جداً جداً: كل ذكر مقيد بزمان أو مكان أو كيفية أو عدد لم يرد به الشرع فهو بدعة. فإذا جاء شخص وقال: (سبحان الله) هذه من الدين أم لا؟ قلنا: من الدين، قال: سأقولها ثلاثاً وسبعين مرة الساعة اثنين ونصف بعد الظهر واضعاً إحدى رجلي على الأخرى، نقول: بدعة، لماذا بدعة؟ كل ذكر قيد بعدد، أو زمن أو كيفية أو هيئة لم ترد في الكتاب والسنة فهو بدعة. هذا ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإياكم لذكره، واللهج به، سبحانه عز وجل. وصلى الله على نبينا محمد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

تأملات في الزلزال الأليم [2]

تأملات في الزلزال الأليم [2] الزلازل والمحن والابتلاءات إنما تحدث بقضاء الله وقدره، ولا يحق لنا أن نعترض على قضاء الله وقدره، بل يجب علينا التسليم لله في كل ما يفعل وما يريد دون اعتراض، كما يجب الثبات على الدين مهما أصابت المسلم مصائب في الدنيا، وإن مما يخفف أثر المصائب على المسلم اللجوء إلى الله، وذكره، وكذلك مواساة المسلمين له.

لا يجوز الاعتراض على مقادير الله

لا يجوز الاعتراض على مقادير الله الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم. وبعد: إخواني: إن الله سبحانه وتعالى يرسل علينا الآيات لنتعظ ونتدبر، ويُحدث لنا من الأحداث ما يجب علينا به أن نتعقل ونتفكر، ونحن أمة لا يصح لها أن تنسى تاريخها، ولا الأحداث التي ألمت بها، وإن كثيراً من الناس عن لقاء ربهم لغافلون، وأكثرهم عن الاعتبار بما يحدث من حولهم لاهون معرضون، وقد تكلمنا في الخطبة الماضية عما ألم ببعض المسلمين من الكوارث التي أنزلها الله لحكمة. ونتكلم أيضاً لكي لا نكون غافلين عن بعض ما يتعلق بهذا الأمر من العبر والعظات؛ لأنه لا يصح لنا أن ننسى ما حدث في الأمس القريب، ولابد أن نظل على اعتبارٍ واتصالٍ بما يشاء الله سبحانه وتعالى أن يكون في ملكه؛ لكي تبقى القلوب حية والأفئدة بذكر الله عامرة والنفوس بالعبر قائمة، قد يقول بعض المسلمين: لماذا يُنزل الله كارثة بالمسلمين؟ لماذا تحل بهم الحروب وتنزل بهم المصائب وتُرسل عليهم الزلازل وهم مسلمون؟ A أيها الإخوة! إن هذا الكون ملكٌ لله سبحانه وتعالى يتصرف فيه كيف يشاء، لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] إذا شاء الله أمراً كان، وما لم يشأ لم يكن، وكثيرٌ من الناس عن قضية مشيئة الله غافلون، ما يشاء الله لابد أن يحدث، وكل أمرٍ يحدث لحكمٍ يعلمها سبحانه وتعالى، وأمر المشيئة أمرٌ عظيم، والمشيئة واردةٌ في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ في نصوص كثيرة تدل على مشيئته النافذة سبحانه وتعالى. يختص برحمته من يشاء، ويغفر لمن يشاء، ويعذب من يشاء، ويجتبي من رسله من يشاء، يخلق ما يشاء، ينفق كيف يشاء، ويتوب الله على من يشاء، ويُسمع من يشاء، ويُدخل في رحمته من يشاء، ويهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور: {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ} [الأعراف:128] يمحو الله ما يشاء ويثبت، وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة، وربك يخلق ما يشاء ويختار، كذلك الله يفعل ما يشاء: {قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156] {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ} [الرعد:13] كما قال الله عز وجل. هذه النصوص تدل على مشيئة الله النافذة وأنه يفعل ما يشاء، هذا ملكه، وهؤلاء عبيده، مهما فعل بهم فإنه لا يسأل عن ذلك سبحانه، ولا يعترض على قضائه، ولا يقال: يا رب! لم أنزلت كذا؟ ولماذا فعلت بنا كذا؟ وماذا فعلنا لأجل أن تفعل بنا كذا؟ ما جاءنا وما حل بنا فبما كسبت أيدينا وبمشيئته سبحانه، لا اعتراض على فعله، مهما كان ومهما حصل، ومهما حدث، فإن هؤلاء الناس والعبيد ملك لله، ومهما نزل من الحروب، ومهما حل فإن الله سبحانه وتعالى هو الذي قدره، وهو الذي شاءه، قال الله عز وجل: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة:253] بعض الناس يقولون: إن بعض الحروب التي حلت قد أخرت المسلمين إلى الوراء كثيراً، وتسببت في تسلط الكفار بمزيد، فنقول: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة:253].

التسليم لأوامر الله والثبات على دينه أمام المحن

التسليم لأوامر الله والثبات على دينه أمام المحن لابد أن يسلم المسلم تسليماً تاماً لمشيئة ربه، ولا يعترض على ما حل من المصائب مطلقاً، هذه مشيئته سبحانه. وثانياً: إذا قال بعض الناس: نحن مسلمون، فلماذا تنزل بنا الكوارث؟ هل يظنون أن الإسلام ينبغي أن يمنع عنهم كل كارثة وكل مصيبة؟ إذاً اسمع معي -أيها المسلم- هذا الجواب، قال الله سبحانه وتعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11] قال ابن عباس رضي الله عنه كما جاء في البخاري وغيره: [كان الرجل يقدم المدينة -كان الأعراب يأتون من النواحي يسلمون في المدينة - فإن ولدت امرأته غلاماً وأنتجت خيله قال: هذا دينٌ صالح، وإن لم تلد امرأته غلاماً أو ولدت جارية -وكانوا يكرهون البنات- ولم تنتج خيله قال: هذا دين سوء] وفي رواية أخرى بسندٍ صحيح عن ابن عباس قال: [كان ناسٌ من الأعراب يأتون النبي صلى الله عليه وسلم يسلمون، فإذا رجعوا إلى بلادهم فإن وجدوا عام غيثٍ وعام خصبٍ وعام ولادٍ حسن قالوا: إن ديننا هذا صالح، فتمسكوا به، وإن وجدوا عام جدبٍ وعام ولاد سوء، وعام قحطٍ قالوا: ما في ديننا هذا من خير] فأنزل الله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ} [الحج:11] الآية. أي: كارثة أو حلت به مصيبة أو مرض، أو جدب انقلب على وجهه وارتد: {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11]. ونحن المسلمون نبقى مسلمين سواءً حلت بنا النعم أو النقم، سواءً جاءنا الرخاء أو القحط، وسواءً حل بنا الأمن أو الحرب والفزع، فإن إسلامنا يبقى على حاله، لا نرتد ولا نغير، هذا ما ينبغي أن نكون عليه، فإن الإسلام لا يُعتبر دين سوء أو دين حسن بناءً على الأحداث التي تمر بالشخص، بل هو الذي رضيه الله وشرعه، فما يحدث من الأحداث والكوارث لحكمٍ يعلمها سبحانه وتعالى، والله عز وجل يبتلي بالسراء ويبتلي بالضراء، ويبتلي بالرخاء ويبتلي بالشدة، ويبتلي بالغنى ويبتلي بالفقر، والله يبتلي بالأولاد ويبتلي بالعقم سبحانه وتعالى، فلا يقولن إنسان: لو أن الإسلام دين حق لما حل بنا الذي حل، وإنما يقول لنفسه: ما أصابك من حسنة فمن الله وهو الذي قدرها، وما أصابنا من سيئة فبما كسبت أيدينا، بسبب ذنوبنا ومعاصينا، والله يذكرنا فيكون من حكمته سبحانه ومن رحمته أن بعض الناس يتذكر بعد الغفلة، ويعود بعد السوء والذنوب إلى الله عز وجل، فيكون الحدث مذكراً، يكون الحدث معيناً، يكون الحدث نافعاً؛ لأن الله سبحانه وتعالى لما مسنا بشيءٍ من العذاب تفكرنا في أنفسنا فعلمنا أن التقصير منا، فهنا يجب أن نرجع ونتذكر. أما الذين يقولون: نتمسك بالدين، وندخل مشوار الالتزام بالإسلام والاستقامة على دين الله فننظر، فلو عافانا الله في الأبدان وأعطانا الأموال فهذه الاستقامة نستمر عليها، وإن استقمنا على الدين وتركنا المنكرات فحلت بنا الكوارث أو جاءتنا الأحداث المفزعة تركنا الاستقامة، هذا مبدأ خاطئ وخطير جداً، فإنه لا ارتباط بين الاستقامة وأقدار الله من المصائب التي تحدث، لكن المسلم إذا ابتلاه الله يصبر ويعلم أن الأمر لله، وأن كل شيءٍ بيد الله، وأن الاستقامة تنتج الصبر على الأقدار والمصائب، وأن الذين لا استقامة لديهم يصابون بالجزع، يصابون بسوء الظن بالله، يرتدون على أعقابهم، ينكصون، يرتدون على أدبارهم. ولذلك -أيها الإخوة- ينبغي أن نستقيم على الشريعة مهما حل بنا، ومهما حدث، ولا نقول: إن الإسلام دين غنائم، إذا جاءتنا الغنائم استقر بنا الحال على الإسلام، وإذا حلت بنا المصائب تركنا الإسلام والاستقامة على الدين، وكثير من الناس يربط بين هذا وهذا، فتزل قدم ويرتد على أدباره بعد أن هداه الله.

أثر ذكر الله في تخفيف المصائب

أثر ذكر الله في تخفيف المصائب ينبغي كذلك من هذه الأحداث والعبر أن نعلم -أيها الإخوة- أن الكوارث إذا وقعت بالناس يخففها ذكر الله سبحانه وتعالى، التصبير على الابتلاء أن يقول الناس بعضهم لبعض: إن لله وإنا إليه راجعون، يخفف الكارثة أن يقول الإنسان إذا حلت به الكارثة: اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها، حسبنا الله ونعم الوكيل. ولذلك عندما حل بالمسلمين في مصر ما حل من الزلزال قام أهل الخير والدين يعزون الناس بالأذكار النبوية والأدعية المشروعة، يخفف على الناس أن تقول لهم: جبر الله مصيبتك وأحسن الله عزاءك، وأخلف لك خيراً منها، وعوضك الله في الدنيا والآخرة، وغير ذلك من العبارات، أما أن تقوم مذيعة فاجرة تلف على أسرة المجروحين المنكوبين في المستشفيات لتقول لهم: ماذا تودون من سماع وأي أغنية تريدون؟ فهذا -والعياذ بالله- من الغفلة العظيمة، هذا -والعياذ بالله- من أنواع الردة، الله يُذكر وبعض الفجرة يأبى إلا الغفلة، وإلا أن يتسبب في إيصال الإثم والسيئات لغيره، إن المصيبة التي نزلت بإخواننا المسلمين في مصر مصيبة عظيمة. يا أيها الناس ينبغي أن نكون معهم بقلوبنا، إننا نشكو الآن من غلاء الإيجارات وارتفاعها، وعدم وجود البيوت المناسبة، وبعض المسلمين الآن لا يجدون نتيجة الزلزال بيتاً أصلاً لا بإيجارٍ مرتفع ولا منخفض، تأمل عندما يكون بيتك ومتاعك وأثاثك وربما أولادك تحت الأنقاض، تخرج لا تملك شيئاً أبداً إلا الملابس المهترئة التي عليك، كيف يكون حالك؟ فينبغي أن نقف مع الملهوف نغيثه، ومع المصاب نساعده، أما ما يحدث من بعض الناس من الشماتة بإخوانهم المسلمين، فهذا حرامٌ عليهم، لا يجوز لهم ذلك، كما قال بعض السلف: من أظهر الشماتة بأخيه يعافيه الله ويبتليه. فقد يعافي الله أخاه ويبتليه هو، التخفيف من المصيبة يكون بالتذكير بالله والدعاء للمصابين وتقديم المعونة. إن المصيبة كما قلنا -أيها الإخوة- كبيرة، كل ما يحل بأوطان المسلمين الآن، المصائب كبيرة في كشمير في البوسنة في الصومال وفي المقدمة ما يحل بالمسلمين في فلسطين من أنواع الاضطهاد الذي يدبره اليهود، الذين يزعمون السلام، وهم يريدون ضرب المسلمين بعضهم ببعض في سبيل مخططاتهم. نسأل الله أن يحبط كيدهم، وأن يردهم على أعقابهم، وأن يجعل دائرة السوء عليهم. إن المصاب يخفف بالأذكار الشرعية والأدعية النبوية، المصاب يخفف بتقديم المساعدات، ليس بالأغاني ولا بالمسلسلات، الكارثة التي ألمت بإخواننا كبيرة تحتاج إلى إمامٍ عادل، وليس إلى عادل إمام، الوقت ليس وقت مسرحيات ومسلسلات، لكن الوقت وقت اتعاظ وتدبر وتفكر وتقديم المساعدة والمعونة، وليس وقت شماتة، ولا غفلة، ولا إعراض، وإلا فإن الله سبحانه وتعالى قال: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:83] وربما يصيبنا ما أصاب غيرنا، إذا لم نتعظ ونتفكر ونعود إلى الله. اللهم إنا نسألك أن تردنا إلى الإسلام رداً جميلا، اللهم إنا نسألك أن تعافينا في أبداننا، اللهم عافنا في ديننا، وعافنا في أسماعنا وأبصارنا، اللهم اجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

انتشال رجل حي من بين الأنقاض بعد مرور أربعة أيام

انتشال رجل حيِّ من بين الأنقاض بعد مرور أربعة أيام الحمد لله الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير، هو الأول والآخر والظاهر والباطن، وهو بكل شيءٍ عليم، سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا. كان من العبر التي حدثت في ذلك الزلزال -أيها الإخوة- مما رأيتم وقرأتم ذلك الرجل الذي خرج من تحت الأنقاض والحطام بعد مرور أربعة أيام، تأمل في قدر الله سبحانه كيف يحيي ويميت، يحيي من يشاء ويميت من يشاء، وينقذ من يشاء ويهلك من يشاء، تلك العمارة المرتفعة التي سقطت على من فيها من الأحياء وهم بداخلها وتحتها، تأمل كيف نجى الله منها رجلاً حتى لا يقولن أحد: إنهم كلهم يموتون ولا ريب، ولا يقطع أحد بحياة حيٍ، ولا بموت ميت؛ لأن الأقدار مكتوبة والأعمار عند الله معلومة، لا يتخطى شيءٌ شيئا: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34] بعد مرور أكثر من ثمانين ساعة على انهيار العمارة في الزلزال عُثر على أحد سكانها حياً تحت الأنقاض، وانتشل وسط ذهول أفراد قوات الإنقاذ والدفاع المدني وجموع الناس المتحلقين حول الأنقاض، الذين أخذوا يصيحون: الله أكبر الله أكبر، والناس لو ترك بينهم وبين الدين يرجعون إلى الفطرة، فيوحدون الله لما يرونه أمامهم من الآيات، فوجئ رجال الإنقاذ بصراخٍ شابٍ ينبعث من تحت الأنقاض، يستغيث بالإنقاذ، يطلب الإنقاذ، وأعطي زجاجة ماء، وبعض الإسعافات، ثم أخذ يذكر أن والدي لم يكن موجوداً معي في العمارة وقت الحادث، فهل هو حيٌ أم ميت؟ فلما خرج قال: كان يوجد شخصٌ بجواري يفصلنا دولاب خشب، وكنا نتعامل بالطرق على الدولاب لكنه مات قبل ساعات، عند وقوع الزلزال كنت في الشقة مع والدتي وزوجتي وبنتي، ولما اهتزت العمارة في الهلع والذعر فتحنا باب الشقة وخرجنا على أمل أن نهبط على السلم، إلا أن العمارة قد انهارت في لحظات وتشابكت أيدينا ووجدنا أنفسنا في مكانٍ ضيق ومظلم، تحسسناه فإذا بنا وسط ركامٍ وأخشابٍ وطوب ورمال، وشعرت أن قدمي محشورة وسط هذا الحطام، وتحدثنا مع بعضنا البعض، ما الذي جرى؟ وهل سنخرج من هذا المكان، أم أن هذه هي النهاية المحتومة؟ تساؤلات وخواطر كثيرة كانت تمر، وبعد أن استوعبت ما حصل وبعد ساعاتٍ قليلة كنت أسمع أنين الضحايا بقربي في أماكن مختلفة، وكان هذا الأنين يتوقف تدريجياً لأنهم فارقوا الحياة، وشاهدت بعيني والدتي وهي تحتضر وتفارق الحياة، وكذلك ابنتي الصغيرة، ثم زوجتي وكانت هذه أصعب لحظات تمر عليَّ في مثل هذه الظروف، واضطررت أن أشرب من بولي بعد ما شعرت بالعطش الشديد، وكان قلبي يتمزق لرؤية من مات من الأقرباء، ولكن ماذا يمكنني أن أفعل؟ أُخرج الرجل من تحت الأنقاض بعد مرور ساعات طويلة قرابة أربعة أيام، لم يكن يتوقع أحد وجود حي تحت هذا الركام، لكن لنعلم أن الله على كل شيءٍ قدير، أربعة أيام يجلس تحت الأنقاض ليس عنده إلا بوله يشربه فقط. فإذا أراد الله أن ينجي أحداً نجاه، وإذا أراد الله أن يهلك من يشاء أهلكه، إن في ذلك لآيات، يا أيها الناس! إن في ذلك لآيات، هذه فيها عبر، لكن أين المعتبرون؟ ولو جلسنا نتتبع الأخبار وأصحاب المآسي، وعندهم أحداثٌ أخرى وقصص لم نسمعها، لكن يبقى الدرس الكبير أن الله يفعل ما يشاء، ويبقى الدرس الكبير أنه يجب علينا أن نعود إلى الله، ونتمعن فيما أصابنا، ويبقى الدرس في أن نقف بجانب إخواننا، أن تشمت بكنيسة انهارت نعم، أو بنصراني أجل، أو فاجرةٍ أو فنانةٍ قد انهد بيتها، لكن بإخوانك المسلمين هذا لا يجوز قطعاً. ثم يسأل بعض الناس يقولون: ما حكم إعطاء الزكاة لمن أصابهم هذا الزلزال؟ ف A أن ذلك جائزٌ إذا كانوا لا يملكون شيئاً، صاروا فقراء معدمين بعد أن ذهبت ممتلكاتهم كلها، وكانوا مسلمين، ووجدت الطريقة الآمنة الصحيحة الموثوقة لإرسالها إليهم، فإذاً أَرسل زكاتك إليهم -يا عبد الله- فإنهم من المستحقين، ونحن ندعو الله سبحانه وتعالى لمن مات في ذلك المصاب من المسلمين أن يتغمده برحمته. اللهم ارحمهم واغفر لهم، اللهم اجعلهم في قبورهم من الآمنين، واجعل ما أصابهم من المحنة تكفيراً عن ذنوبهم يا رب العالمين، واجبر مصاب أقربائهم وإخوانهم يا أرحم الراحمين، اللهم عوض من أوذي من المسلمين خيراً، اللهم إنا نسألك أن تجعلنا في بيوتنا آمنين.

جوانب التكامل في شخصيات السلف

جوانب التكامل في شخصيات السلف إن الله نظر إلى قلوب الأمة، فوجد الصحابة أطهرها قلوباً فاختارهم لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، فضرب الصحابة أروع الأمثلة في تبجيل النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره، فلذلك كملت شخصياتهم، وكلٌّ شجعه النبي صلى الله عليه وسلم حسب ميله وحبه، ونمى موهبته؛ فصار مجتمعاً متكاملاً في جميع جوانب الدين والحياة.

لا يصلح هذه الأمة إلا بما صلح به أولها

لا يصلح هذه الأمة إلا بما صلح به أولها إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فأرحب بكم -أيها الإخوة- في هذه الليلة في هذا اللقاء الذي نسأل الله سبحانه وتعالى أن يكون لقاء خير وبر، وأن يجعلنا وإياكم فيه من المتعظين، وأن يرزقنا الاقتداء بسيرة السلف الصالحين رضوان الله عليهم أجمعين. أيها الإخوة: إن هذا الدين يحمله من كل خلف عدوله، يحمل هذا الدين رجالٌ صدقوا بالله وآمنوا، وصدقوا المرسلين، هذا الدين لا يمكن أن يتحرك في الواقع ولا يمكن أن يؤثر إلا إذا كان هناك أناس آمنوا به فجعلوه عقيدة تحركهم، وجعلوه حياتهم وهمهم، فصار يحركهم للعمل لأجل رفعة شأنه ونصرة أمره هذا الدين العظيم دين الإسلام، وخيرية هذه الأمة على بقية الأمم من أسبابها ما وجد في هذه الأمة من الرجال الذين حملوا لواء الإسلام، ما وجد فيها من الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب:23]، {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور:36 - 37] هؤلاء الرجال هم الذين يحملون هذا الدين، وقد شاء الله سبحانه وتعالى أن يوجد في هذه الأمة من هذه النوعية من حملة الدين عدداً كثيراً والحمد لله على فضله وإحسانه. أيها الإخوة: إنا حين ننشد التغيير الذي نحلم به من منطلق إسلامي من قول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11] عندما ننشد هذا التغيير في الواقع المر الذي نعيش فيه، إننا لنعلم علماً يقينياً أن هذا التغيير لن يحدث إلا إذا وجد هناك النفر المخلصون من الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، هم الذين يخلصون الأمة وينقذونها من الشتات وعالم الضياع، إن هذه الفئة -جيل الإنقاذ- التي تريد أن تصل بسفينة المجتمع وسفينة الأمة إلى بر الأمان هم من نوعية مخصوصة اختارها الله سبحانه وتعالى، جعل فيهم من الصفات والميزات ما يستطيعون به حمل هذا الدين، والصبر على تبليغه، وعلى أذى المخالفين في سبيل الله سبحانه وتعالى، ونحن لا نريد أن نكون بمنأى عن هؤلاء الأشخاص، ولا نريد أن نقف متفرجين، وأن نرقب النصر المنشود من أناس آخرين، نحن نريد أن نكون من هذا الركب، ومن هذه الطائفة، ولكن المسألة تخليص الأمة من الهاوية التي انحدرت إليها أمرٌ في غاية الصعوبة، ويحتاج إلى تربية عميقة تصقل مواهب الرجال، وتنشئ فيهم حب الله ورسوله، وتجعل منهم قادة يقودون الأمة نحو الصلاح المنشود، وإننا في هذا الطريق نتلفت إلى الوراء لنرى من سلفنا عَبر تاريخنا فننشد من تلكم الشخصيات هذه الصفات التي ينبغي أن يكون فينا بعضها، ودرجات منها على الأقل، ولا يصلح أمر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها. من أجل هذا سنتحدث في هذه الليلة عن موضوع بعنوان: جوانب التكامل في شخصيات السلف. الشخصيات التي خرجت في صدر الإسلام، والتي كُتبت سيرتهم في تاريخ هذه الأمة، هذه الشخصيات قد تميزت بميزات، من أجل ذلك كانت الأمة منصورة، وكان علم الدين قائماً، وكانت راية الجهاد مرفوعة، وكان المسلم يسير عزيزاً من شرق بلاد المسلمين إلى غربها رافعاً رأسه، كان الكفر في ذلة، وكان أهل الذمة في صغار، وكان أعداء الدين يَرهبون المجتمع الإسلامي، كان المجتمع فيه من الخصائص ما ضاع كثير منه في هذه الأيام، طبقت الشريعة، وأقيمت الحدود، وعقدت حلق العلم، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وجردت السيوف للجهاد، وعقدت الألوية، وحورب أهل البدعة، كان مجتمعاً فيه من الأخلاق الإسلامية والآداب الشرعية ما يفوق الوصف. لقد جاء على المسلمين يوم يقدمون فيه المال للزكاة والصدقة فلا يوجد من يقبل منه؛ لأن أمير المؤمنين عمر قد أغنى الناس. ونحن في هذه المحاضرة سنستعرض بعض الجوانب من تلكم الشخصيات التي ظهرت في هذه الأمة، وإن هذه الشخصيات كثيرة وكثيرة جداً لمن استعرض كتب التراجم والسير والتاريخ الإسلامي، ولعلنا سنذكر بعضاً منها من جيل الصحابة وتابعيهم، إذ أن الوقت لن يُسعف في أن نستقصي حتى جيل الصحابة والتابعين، ولن تخلو الأمة من خير أبداً، ولا تزال الشخصيات التي تحمل لواء هذا الدين تظهر بين آونة وأخرى، ولا يزال المجددون الذين تكفل الله بإظهارهم يظهرون بين حين وآخر، والحمد لله على نعمه وآلائه.

أبو بكر الصديق يبذل ماله ونفسه في سبيل الله

أبو بكر الصديق يبذل ماله ونفسه في سبيل الله أليس منا أبو بكر الصديق الذي كان من أمن الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفسه وماله؟ أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرجال وأولهم إسلاماً (ما نفعني مالٌ قط ما نفعني مال أبي بكر) وهو يقول: (وهل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله، وهل نفعني الله إلا بك يا رسول الله) أتى بماله كله وقال: (أبقيت لهم -لأهلي- الله ورسوله). دافع عنه لما أرادوا ضربه، ونفض له الضرع وظلل عليه في طريق الهجرة، وجمع من خصال الخير ما لو وزن إيمانه بإيمان الأمة لرجح إيمان أبي بكر رضي الله عنه، إن جئت إلى الرأفة فهو أرأف الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم: (أرأف أمتي بأمتي أبو بكر) وإن جئت إلى القيادة فهو حازم خليفة جمع الله عليه المسلمين، وإن جئت إلى الأعمال الصالحة: (من أصبح منكم اليوم صائماً؟ قال أبو بكر: أنا، من عاد منكم اليوم مريضاً؟ قال أبو بكر: أنا، من تبع منكم اليوم جنازة؟ قال أبو بكر: أنا، من أطعم منكم اليوم مسكيناً؟ قال أبو بكر: أنا). كان حازماً في حرب المرتدين، فأرانا بسيرته البصيرة التي تكشف ظلمة الشبهات حزم العادلين، وكيف يكون موقف الرجل المسلم في موقف الأزمة لما ارتد المرتدون، وإن جئت إلى كونه أباً للزوجة كان موقفه من زوجة النبي صلى الله عليه وسلم -ابنته- موقفاً يدل على عقل وحكمة حتى في الجوانب الاجتماعية.

عمر بن الخطاب رضي الله عنه المحدث الملهم

عمر بن الخطاب رضي الله عنه المحدث الملهم أليس منا عمر رضي الله عنه الشهيد العبقري، صاحب القصر في الجنة، المحدث الملهم؟ جعل الله الحق على لسانه وقلبه، ينطق على لسانه ملك، وافق ربه في عدة مواضع، أنزل الله فيها قرآناً يتلى إلى يوم الساعة، ما لقيه الشيطان سالكاً فجاً إلى وسلك فجاً غير فجه، شياطين الجن والإنس قد فروا من عمر، ما زال المسلمون أعزة منذ أسلم عمر، وهو الباب بين هذه الأمة وبين الفتن؛ فلما كسر الباب جاءت الفتن، كان وقافاً عند كتاب الله، إن جئت على الشدة في أمر الله فـ عمر رأس المقدم وأشدها في أمر الله، عمر أشد الناس على أهل البدعة، ما تجرأ أحد من المبتدعة أن يخرج لسانه وأن يرفع رأسه في عهد عمر، إن جئت إلى محاسبة الولاة فـ عمر المقدم الظاهر، وإلى استشعار المسئولية: [لو أن دابة عثرت بأرض العراق لخشيت أن أسأل عنها يوم القيامة، لِمَ لَمْ تذلل لها الطريق يا عمر]. إن جئت على تفقد الرعية فهو يسير بين البيوت يتفقد أهلها، ويحرس المسلمين بالليل، ويخرج إلى الأرض البعيدة؛ ليرقب خيمة فيها امرأة وحولها أولاد صغار يبكون، ليتأثر عمر فيحمل لهم الطحين على ظهره. شديد في أمر الله، وفي المعارك على الكفار لا يملك نفسه أن يرد على عدو الله في ذلك الوقت رداً تشعر فيه بعزة المسلم.

عثمان بن عفان رضي الله عنه أصدق الأمة حياء

عثمان بن عفان رضي الله عنه أصدق الأمة حياءً أليس منا عثمان رضي الله عنه الشهيد الذي بشر بالجنة على بلوى تصيبه؟ أصدق الأمة حياءً تستحيي منه الملائكة، جهز جيش العسرة (ومن جهزه فله الجنة) اتفقت الأمة على البيعة له، مات ودمه على المصحف، إن جئت إلى خلق الحياء فأعظم وأصدق الأمة حياءً عثمان، وإلى الإنفاق في سبيل الله فقد جهز جيشاً كاملاً من ماله، وإلى قراءة كتاب الله فقد كان له مصحف يقرأ فيه حتى كانت نهايته وهو يقرأ في المصحف، وقيام الليل، هو الذي فدى الأمة بدمه كان بإمكانه أن يقول للصحابة وأبناء الصحابة: دافعوا عن خليفتكم لكنه نهى الناس عن الدفاع عنه لما جاء هؤلاء الثوار الذين حرضهم عبد الله بن سبأ اليهودي وغيره، وصارت الفتنة، وفدى عثمان الأمة بدمه رضي الله عنه.

علي بن أبي طالب رضي الله عنه أقضى الأمة بعد نبيها

علي بن أبي طالب رضي الله عنه أقضى الأمة بعد نبيها أليس منا علي؟ أول من أسلم من الصبيان، رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، أعطاه الراية يوم خيبر ففتح الله عليه، هو من رسول الله بمنزلة هارون من موسى (لا يحبه إلا مؤمن ولا يبغضه إلا منافق)، (أنت مني وأنا منك) كما قال له المصطفى صلى الله عليه وسلم: (من سب علياً فقد سبني، من آذى علياً فقد آذاني، من كنت مولاه فـ علي مولاه) رابع الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين، إن جئت إلى القضاء فأقضى الأمة بعد نبيها علي بن أبي طالب، وإن جئت إلى قتال أهل البدعة والخوارج والقضاء على الفتن فـ علي بن أبي طالب الرأس المقدم في ذلك، إن جئت إلى لحكمة والعلم تجده قاضياً مفتياً رضي الله تعالى عنه.

طلحة بن عبيد الله الذي فدى الرسول بيده

طلحة بن عبيد الله الذي فدى الرسول بيده أليس منا طلحة بن عبيد الله؟ أحد العشرة المبشرين، وقى بيده رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شلت، طلحة ممن قضى نحبه، أوجب طلحة، أي: عمل عملاً يوجب له الجنة.

الزبير بن العوام الذي تولى الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم

الزبير بن العوام الذي تولى الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم أليس منا الزبير بن العوام؟ حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن الذين استجابوا لله وللرسول من بعد ما أصابهم القرح، جمع له رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أبويه فقال: (فداك أبي وأمي) تولى الدفاع عن الرسول عليه الصلاة والسلام، وعن القائد، ضَرب هذا الرجل والذي قبله وغيره من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في ذلك.

سعد بن أبي وقاص صاحب الدعوة المستجابة

سعد بن أبي وقاص صاحب الدعوة المستجابة واعتزل الفتنة سعد بن أبي وقاص وهو أول من رمى بسهم في سبيل الله (ارم سعد فداك أبي وأمي) صاحب الدعوة المستجابة، نزلت آيات من كتاب الله: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} [العنكبوت:8] فاخر به صلى الله عليه وسلم فقال: (هذا خالي فليرني امرؤٌ خاله) حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفتح الله على يديه بلاد فارس. فإن جئت إلى القيادة وإلى الحكم وتخطيط المدن وبعد النظر في مصلحة المسلمين فـ سعد بن أبي وقاص.

أبو عبيدة أمين الأمة

أبو عبيدة أمين الأمة أليس منا أبو عبيدة أمين هذه الأمة؟ نعم الرجل أبو عبيدة تولى فأحسن الولاية، وقاد الجيش فأحسن القيادة رضي الله تعالى عنه.

حمزة رضي الله عنه أسد الله ورسوله

حمزة رضي الله عنه أسد الله ورسوله حمزة سيد الشهداء، أسد الله ورسوله، نافح عن الإسلام، وقد عليه الصلاة والسلام مع أفواج من المسلمين الذين استشهدوا في أحد يصلي عليهم في كل مرة، (ما كان الله ليدخل شيئاً من حمزة النار) أعز الله به الدين كما أعزه بـ عمر بن الخطاب، فأعز الله بـ حمزة وبـ عمر ما لم يعز بغيرهما من كفار قريش الذين أسلموا.

بلال الحبشي مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم

بلال الحبشي مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا بلال سابِق الحبشة إلى الإسلام، الذي سَمع رسول الله صلى الله عليه وسلم دف نعليه في الجنة، وصابر مع النبي صلى الله عليه وسلم في حصار الشعب ما ارتد عن دينه، ضرب لنا المثل في الصبر في وقت الشدة، وكان مؤذناً محتسباً لله يؤذن بلا أجرة، كان يؤذن فيأتي الناس إلى المسجد لأذانه، ضرب لنا مثلاً في المؤذن المحتسب، هانت عليه نفسه في سبيل الله، ألبسوه الدروع، وصهروه في الشمس، وأعطوه الولدان يطوفون به وهو يقول تحت الصخرة: أحد أحد، فإن أردت مثالاً في الثبات على دين الله تحت التعذيب فخذ بلالاً رضي الله عنه، فعن أسلم مولى عمر قال: قدمنا الشام مع عمر فأذن بلال والناس مجتمعون في الشام في ذلك الوقت عند فتحها، جاء عمر رضي الله عنه يشهد الفتح، وأذن بلال فتذكر الناس النبي صلى الله عليه وسلم وأيامه، فما رئي يوم أكثر باكياً منه في ذلك اليوم.

عمار بن ياسر الصابر في الفتنة

عمار بن ياسر الصابر في الفتنة أليس منا عمار بن ياسر؟ من آل ياسر موعدهم الجنة، ملئ عمار إيماناً إلى مشاشه، أجاره الله من الشيطان، وما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما وأرشدهما، تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة، ويدعونه إلى النار (أبشر عمار) فضَرب مع بلال وخباب وغيرهم المثل في الثبات مع وقوع الفتنة.

ابن مسعود صاحب النعلين والوساد

ابن مسعود صاحب النعلين والوساد أليس منا عبد الله بن مسعود؟ ساقاه أثقل في الميزان من جبل أحد، مِن أقرب الناس عند الله وسيلة يوم القيامة: (من سره أن يقرأ القرآن غضاً كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد) أقرب الناس سمتاً وهدياً ودلاً بالنبي صلى الله عليه وسلم، صاحب النعلين والوساد، وكان كاتماً لسره عليه الصلاة والسلام، والمطهرة فكان يصحبها لطهور النبي صلى الله عليه وسلم، أخذ من فم النبي صلى الله عليه وسلم سبعين سورة، قال فيه: (إنك غلام مُعلَّم كنيِّف ملئ فقهاً) فضرب لنا مثلاً في المقرئ الذي يقرئ الناس ويعلمهم، رجل بأمة يأتي إلى الكوفة فيدرس هناك فيخرج أجيالاً من التابعين من الفقهاء العلماء المفتين عبد الله بن مسعود، وقل عن عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمرو بن العاص وغيرهم من نفس هذا المثال، علماء يخرجون علماء، ما دفنوا علمهم، ولا قبعوا في بيوتهم، وإنما برزوا للناس فتصدروا فأفتوا وعلموا وصاروا كالسحابة تمطر الخير حيثما جاءت، وكالآبار يُستقى منها، وكالعيون العذبة رضي الله تعالى عنهم.

مصعب بن عمير داعية الإسلام

مصعب بن عمير داعية الإسلام مصعب بن عمير ألم يضرب لنا مثلاً بشخصيته في صبره على الأذى، وترك النعيم، وحياة الترفه، والشباب اللاهي واللذات؟ كل ذلك في سبيل الله، يضرب لنا مثلاً في الدعوة بالقرآن قبل السنان، أسلم على يديه كثير من أهل المدينة فوطأ المكان لقدوم النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك مات بين يديه حاملاً اللواء في غزوة أحد، فوقع أجره على الله، مضى ولم يأكل من أجره شيئاً، ترك اللذات في حياة الشباب، وهاجر وترك الوطن، وكان داعية ناجحاً وغازياً مجاهداً، ما أدرك وقت الفتوح ولا الغنائم ولا كثرة الأموال، حتى ما وجدوا شيئاً يغطون به جسده عند موته من الكفن، فغطوا رأسه بالثوب ورجليه بشيء من الإذخر، فمضى إلى ربه محتسباً ما نقص من أجره شيء.

البراء بن مالك البطل الكرار

البراء بن مالك البطل الكرار أليس منا البراء بن مالك البطل الكرار الذي ضرب لنا مثلاً بشخصيته في حرب مسيلمة لما أمرهم أن يحتملوه على ترس على أسنة رماحهم ويلقوه في حديقة مسيلمة فاقتحم عليهم وشد وقاتل حتى افتتح باب الحديقة، رجل بأمة، مقدام وجريء. هذه شخصياتهم رضي الله عنهم تتكامل في جميع الجوانب، وتكون ذلك المجتمع الذي لن يمر على الأمة مثله أبدا، فجرح بضعاً وثمانين جرحاً، وقتل في حروبه مائة من الشجعان مبارزة، كان من الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم: (كم من ضعيف متضعَّف ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره) فكان المسلمون في الفتوحات يقدمونه فيقولون: ادع يا براء.

جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه صاحب الجناحين

جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه صاحب الجناحين وهذا جعفر بن أبي طالب أبو المساكين، هاجر الهجرتين ودعا النجاشي إلى الله، ضرب لنا مثلاً في عدم كتم الحق والمواجهة بالحق، أشبه خَلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وخُلقه، وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستشهد في غزوة مؤتة، له جناحان يطير بهما في الجنة.

أبو دجانة آخذ سيف رسول الله بحقه

أبو دجانة آخذ سيف رسول الله بحقه وأبو دجانة سماك بن خرشة الذي أخذ سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم بحقه، خرج يتبختر عليه عمامة حمراء في مشية يبغضها الله إلا في ذلك الموطن، ففلق بسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم هام المشركين، إنهم أناس يقدرون المسئولية، من يأخذ السيف بحقه؟ أخذه سماك بن خرشة رضي الله عنه بحقه، ففعل به الأفاعيل، رمى بنفسه يوم مسيلمة إلى داخل الحديقة؛ فانكسرت رجله فقاتل حتى قتل رضي الله عنه.

خبيب بن عدي رضي الله عنه يقتل صبرا

خبيب بن عدي رضي الله عنه يقتل صبراً وخبيب بن عدي الذي سن لنا الركعتين عند القتل وقال: [والله لولا أن تظنوا أنما طولت جزعاً من القتل؛ لاستكثرت من الصلاة] كان يأكل وهو محبوس قطفاً من عنب ولم يكن في مكة عنب أبداً، كرامة من الله عز وجل لهذا الرجل، فيعلمنا الصبر ومعنى محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه لا يرضى أن يشاك رسول الله صلى الله عليه وسلم بشوكة وأن يكون هو حراً طليقا، فهل جزع لما ربطوه ولما أطلقوا عليه رماحهم وسهامهم؟ كلا، بل دعا الله أن يبارك على أوصال شلوٍ ممزع، وصبر في ذات الله سبحانه وتعالى. حتى شيبان المسلمين وكبار السن ضربوا لنا مثالاً فكانت شخصياتهم مثالاً يحتذى.

عمرو بن الجموح يطأ بعرجته الجنة

عمرو بن الجموح يطأ بعرجته الجنة عمرو بن الجموح الذي قاتل في أحد وهو أعرج ليطأ بعرجته في الجنة وهو ابن ثمانين سنة، فقتل فيها شهيداً رحمه الله تعالى.

عبد الله بن حرام يكلم ربه كفاحا

عبد الله بن حرام يكلم ربه كفاحاً أليس كذلك من هذه النوعية من كبار السن الذين أبلوا في الإسلام بلاء على تقدم أسنانهم وعلى شيخوختهم عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر أحد النقباء ليلة العقبة الذي استشهد في أحد؟ قال عليه الصلاة والسلام لولده جابر: (تبكيه أو لا تبكيه ما زالت الملائكة تظلله بأجنحتها حتى رفعتموه) كفن هو وصاحبه أخوه في الله: عمرو بن الجموح، الشيخ الكبير الآخر، قتلا سوياً في معركة أحد، ما توقف العطاء رغم كبر السن، يضربون لنا المثل بكبر سنهم وأفعالهم في سبيل الله، يقول عليه الصلاة والسلام لـ جابر: (ألا أخبرك أن الله كلم أباك كفاحاً -مباشرة بعد موته- فقال: يا عبد! سلني أعطك؟ قال: أسألك أن تردني إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية، فقال: إنه قد سبق مني أنهم إليها لا يرجعون، قال: يا رب! فأبلغ من ورائي) فأنزل الله عز وجل رسالة تبليغ من عبد الله بن عمرو بن حرام إلى المسلمين من إخوانه الأحياء: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169].

سعد بن معاذ يهتز عرش الرحمن لموته

سعد بن معاذ يهتز عرش الرحمن لموته أليس منا سعد بن معاذ الذي ترك السيادة لله عز وجل، وكان سيد قومه فتنازل للرسول صلى الله عليه وسلم، أسلم على يد مصعب فقام في قومه وهو سيدهم يضرب لنا مثلاً في الداعية كيف يحمل قومه على الإسلام، قال: [إن كلامكم عليَّ حرام رجالكم ونساؤكم، حتى تؤمنوا بالله ورسوله] قال: فوالله ما بقي في دار بني الأشهل رجل ولا امرأة إلا أسلموا، وهو الذي تحدى أبا جهل بـ مكة ليظهر لنا عزة المسلم في الطواف، فقال: [والله لو منعتني لقطعت عليك متجرك بـ الشام] جرح يوم الخندق فقال: [اللهم لا تخرج نفسي حتى تقر عيني في بني قريظة] مع أنهم كانوا حلفاءه في الجاهلية، لكنه نسي الأحلاف والعلاقات كلها التي تقطعت بسبب الإسلام، فحكم فيهم بحكم الله من فوق سبع سموات، ثم دعا الله أن يقبضه لكي لا يفوته وجه الشهادة، فمات فنزلت الملائكة تحمل جنازته، اهتز العرش فرحاً لموت سعد، فتحت له أبواب السماء، وشهده سبعون ألف ملك، إنه يضرب لنا مثلاً. هذه الشخصيات أيها الإخوة! نرى منها العجب والعجاب نتيجة التربية النبوية، ماذا ظهر من الشخصيات؟ وما هي جوانب التكامل التي بناها أولئك الأشخاص في ذلك المجتمع؟

ثابت بن قيس خطيب الأنصار

ثابت بن قيس خطيب الأنصار ثابت بن قيس خطيب الأنصار، لقد كان للمسلمين دور في الخطابة، كانت منبراً إعلامياً، قال عند مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم: [نمنعك مما نمنع منه أنفسنا وأولادنا] إعطاء العهد والوثاق، ولما جاء وفد تميم فافتخر خطيبهم، قال له ثابت بن قيس بخطبة فأسكتته، ولما نزل قول الله: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات:2] يضرب لنا هذا الصحابي مثلاً في حساسية المؤمن وتأثره وتفاعله مع الآيات، وكان امرأً من طبعه أنه صيت جهوري الصوت بطبعه، إذا تكلم كان صوته عالياً فقال: [ويلي هلكت فقعد في بيته] لما نزلت الآية أخشى أن أكون قد هلكت، هذا الذي تحنط يوم اليمامة ولبس ثوبين أبيضين فلما انهزم المسلمون في بداية الأمر قال: [اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء - مسيلمة وأصحابه- وأعتذر مما صنع هؤلاء، بئس ما عودتم أقرانكم، خلوا بيننا وبينهم ساعة] فتحمل فقاتل حتى قتل، ولم تنفذ لرجل وصية بعد موته إلا هو فقد حكم بذلك الصديق.

معاذ بن عمرو بن الجموح رضي الله عنه وغيرته على رسول الله صلى الله عليه وسلم

معاذ بن عمرو بن الجموح رضي الله عنه وغيرته على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعاذ بن عمرو بن الجموح الفتى الصغير، حتى الشباب الصغار كانت في جوانب شخصياتهم أمور تحمل على العجب، يميل على عمه في الإسلام عبد الرحمن بن عوف يقول: [يا عم! أتعرف أبا جهل؟ فقال له: لماذا؟ ماذا تصنع به؟ قال: أخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم] هل سمعه يسب رسول الله؟ لا. لكن أخبرت وأريد أن أنتقم من رجل سب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالحمية لرسول الله في نفوس الفتيان الناشئة في ذلك المجتمع [والذي نفسي بيده لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا] فحمل على عدو الله فضربه فقتله، وأصيبت يده فصارت معلقة بجلده على جنبه فصار يقاتل ويسحبها خلفه، فلما آذته قال: [وضعت قدمي عليها ثم تمطأت عليها حتى طرحتها].

سعد بن الربيع وإيثاره للصحابة

سعد بن الربيع وإيثاره للصحابة وسعد بن الربيع، وما أدراك ما سعد بن الربيع! وجانب الإيثار في شخصية سعد بن الربيع واضحة عندما قال لـ عبد الرحمن بن عوف: [أشاطرك مالي، واختر أي زوجتيّ أحب إليك أطلقها كي تتزوجها]، وهو أحد النقباء في ليلة العقبة، قُتل في أحد شهيداً، ضرب لنا مثلاً في الثبات والوصية عند الممات بالثبات إلى آخر لحظة على المنهج والبيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قال في آخر رمق: [أبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقل: إن سعداً يقول: جزاك الله عني خير ما جزى نبياً عن أمته، وأبلغ قومك السلام، وقل لهم: إن سعداً يقول لكم: إنه لا عذر لكم عند الله إن خُلص إلى نبيكم ومنكم عين تطرف] فالوصية بالثبات والاستمرار، فإن الرجل إذا مات وانتقل فإنه لا زال يوصي لمن بعده بالثبات على ما مات هو عليه.

ابن أم مكتوم خليفة النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة

ابن أم مكتوم خليفة النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة حتى المعوقون في المجتمع الأول كانت لهم أدوار، وقد فعل الإسلام فعله العجيب بنفوس أولئك القوم، فهذا ابن أم مكتوم الأعمى من السابقين المهاجرين، الضرير مؤذن الرسول صلى الله عليه وسلم، والخليفة على المدينة في غيابه عليه الصلاة والسلام يصلي ببقايا الناس، أنزلت فيه سورة عبس، كان حريصاً على طلب العلم وعلى الفائدة، يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [علمني مما علمك الله] وتظهر غيرته على رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كانت امرأة تخدمه من اليهود، وكانت تسب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فينهاها فلا تنتهي، فغفلها يوماً فضربها بحربة في صدرها واتكأ عليها حتى ماتت، فأهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم دمها، هو الذي لما سمع قول الله: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:95] قال: يا رب! أنزل عذري، فنزل قول الله عز وجل: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء:95] وكان يغزو وهو ضرير ويقول: [ادفعوا اللواء إلي؛ فإني أعمى لا أستطيع أن أفر، وأقيموني بين الصفين].

خالد بن الوليد ومواهبه العسكرية

خالد بن الوليد ومواهبه العسكرية ظهرت المواهب العسكرية والشجاعة الحربية في شخصيات أولئك النفر تكاملاً على تكامل، وزينة على زينة، فهذا خالد بن الوليد سيف الله وفارس الإسلام قائد المجاهدين أبو سليمان هاجر مسلماً سنة ثمان ثم سار غازياً فشهد مؤتة فاستشهد أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ الراية قال: رأيتني يوم مؤتة اندق في يدي تسعة أسياف فصبرت في يدي صفيحة يمانية -سيف يماني- وقد احتبس أدراعه ولأمته في سبيل الله، وكان مغرماً بالجهاد، فجعل أدراعه ومتاعه وقفاً في سبيل الله، وحارب أهل الردة ومسيلمة وغزا العراق وانتصر، ثم اخترق البرية السماوية وقطع المفازة من حد العراق إلى أول الشام في خمس ليال في عسكره، وشهد حروب الشام، ولم يبق في جسده قيد شبر إلا وعليه طابع الشهداء، وكان يقول: [ما من ليلة يهدى إلي فيها عروس أنا لها محب، أحب إلي من ليلة شديدة البرد، كثيرة الجليد، في سرية أصبح فيها العدو].

النجاشي وإكرامه للنبي صلى الله عليه وسلم وصحابته

النجاشي وإكرامه للنبي صلى الله عليه وسلم وصحابته حتى الملوك لما دخل فيهم الدين، فهذا النجاشي الملك المعدود في الصحابة من وجه وفي التابعين من وجه آخر، هو الذي بكى لما قرأ عليه جعفر بن أبي طالب صدر سورة مريم، فحمى المسلمين وأكرمهم، وآمن برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال لمهاجرة الحبشة: [أنتم شيوم بأرضي -آمنون- من سبكم غرم، ثم من سبكم غرم] آثر الحق ولم يخش ثورة البطارقة لما نخروا حوله فقال: وإن نخرتم والله. زوج النبيَّ صلى الله عليه وسلم من أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان التي كانت في أرض الحبشة ودفع الصداق إليها أربعمائة دينار إكراماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وجهزها، لذلك لما مات قام صلى الله عليه وسلم وقال: (إن أخاً لكم قد مات بأرض الحبشة) فخرج بهم إلى الصحراء فصفهم صفوفاً ثم قام فصلى عليه.

جرير بن عبد الله ومبايعته للنبي صلى الله عليه وسلم

جرير بن عبد الله ومبايعته للنبي صلى الله عليه وسلم وقريبٌ منه جرير بن عبد الله البجلي، الذي جاء من اليمن أميراً لكنه ترك الإمارة بيعةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

سلمان الفارسي الباحث عن الحق

سلمان الفارسي الباحث عن الحق وسلمان الفارسي الذي كان في شخصيته مضرب المثل في البحث عن الحق، الذي ظل يبحث عن الحق والتوحيد حتى أوذي وقيد وسجن، وعمل خادماً، واسْتُرِقَّ، وظل يتنقل حتى رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرفه وآمن به، كان متواضعاً يخدم صاحبه في السفر، حتى قال صاحب له: إن أنا عجنت خبز، وإن خبزت طبخ. وهو الذي أشار بحفر الخندق (سلمان منا آل البيت).

أبو طلحة الأنصاري رضي الله عنه ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

أبو طلحة الأنصاري رضي الله عنه ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أغنياء المسلمين قد ضربوا المثل منهم أبو طلحة الأنصاري وكان من أعيان أهل بدر، وأحد النقباء ليلة العقبة الأولى: (صوت أبي طلحة في الجيش خير من مائة أو خير من فئة) لما كان يوم أحد جوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجفة، ورمى وكسر يومئذ قوسين أو ثلاثة وهو ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الرجل يمر معه الجعبة من النبل فيقول صلى الله عليه وسلم: (انثرها لـ أبي طلحة، ويقول أبو طلحة: يا نبي الله! بأبي أنت لا تشرف لا يصيبك سهم، نحري دون نحرك) قتل يوم حنين عشرين رجلاً، وهو صاحب الأموال الكثيرة وقد تصدق بأحب ماله إليه (بيرحاء) بستان عظيم جداً، تفاعل مع الآية لما نزل قول الله: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] قال: (يا رسول الله! ضعها حيث أراك الله، إنها صدقة لله، أرجو برها وذخرها، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله) هذا الرجل العظيم الذي يضرب به المثل في النفقة في سبيل الله والإيثار رغبةً فيما عند الله وقد غزا آخر عمره في غزوة في البحر، وكان قد قرأ أمام بنيه قول الله عز وجل: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} [التوبة:41] فقال: [استنفرنا الله وأمرنا شيوخنا وشبابنا، جهزوني، فقال بنوه: يرحمك الله إنك قد غزوت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر ونحن نغزو عنك الآن] قال: فغزا البحر فمات فلم يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد سبعة أيام فلم يتغير.

خديجة بنت خويلد رضي الله عنها وتثبيتها للنبي صلى الله عليه وسلم

خديجة بنت خويلد رضي الله عنها وتثبيتها للنبي صلى الله عليه وسلم والطائفة الأخرى من المجتمع والنوع الثاني: النساء. أليست منا خديجة بنت خويلد؟ أم المؤمنين، أول من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم على الإطلاق قبل كل أحد، حمته وآزرته وثبتت من جأشه، مصونة كريمة، كاملة من بين النساء، وأنفقت عليه من مالها، أنفقت على الدعوة من مالها، كانت وزيرة صدق، تحميه، وتدافع عنه رضي الله تعالى عنها: (بشر خديجة ببيت في الجنة، من قصب لا صخب فيه ولا نصب).

عائشة بنت الصديق العالمة الكريمة

عائشة بنت الصديق العالمة الكريمة وعائشة أم المؤمنين ضربت لنا مثلاً في جمع العلم فروت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم علماً كثيراً طيباً مباركاً فيه، قال أحد أئمة الإسلام: لا أعلم في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، بل ولا في النساء مطلقاً في أي امرأة في العالم منذ أن خلق الله آدم إلى وقتها امرأةً أعلم منها، بَرَّأها الله من فوق سبع سموات، ولا يستبعد أن تكون هي أعلم نساء العالمين على الإطلاق، وأنزل الله في شأنها قرآناًَ يتلى إلى يوم القيامة، وأنزل بسببها آية التيمم، هذه الصديقة بنت الصديق تضرب لنا مثلاً لطالب العلم في جمع أنواع العلم، فإن بعض الناس يتخصص في فن ولا يدري عن بقية الفنون، وقد يحسن في بعض أنواع العلم وهو لا يحسن في أنواع أخرى كثيرة، عن أبي الضحى قال: قلنا لـ مسروق: هل كانت عائشة تحسن الفرائض؟ قال: والله لقد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الأكابر يسألونها عن الفرائض. وعن عروة ابن أخت عائشة قال: [لقد صحبت عائشة -خالته- فما رأيت أحداً قط كان أعلم بآية أنزلت، ولا بفريضة، ولا بسنة، ولا بشعر، ولا أروى له، ولا بيومٍ من أيام العرب، ولا بنسب ولا بكذا ولا بكذا ولا بقضاء، ولا طب منها، فقلت لها: يا خالة! يعني: ربما بعض العلوم الأخرى نعلم لكن الطب من أين علمتيه؟ قالت: كنت أمرض فينعت لي الشيء ويمرض المريض فينعت له، وأسمع الناس ينعت بعضهم لبعض فأحفظه] وفي بعض الرواية: (إن أهل الخبرة من الطب في البادية، كان يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فينعت الدواء، فتحفظه عائشة). وتضرب مثلاً في الإنفاق فقد بعث إليها معاوية بمائة ألف، فقسمتها بين أمهات المؤمنين، وبعث لها ابن الزبير بمال في غرارتين يكون مائة ألف، فدعت بطبق، فجعلت تقسم في الناس، فلما أمست قالت: هاتي يا جارية! فطوري، فقالت: يا أم المؤمنين! أما استطعت أن تشتري لنا لحماً بدرهم؟ ما عندنا أكل، كل المال هذا الذي وزعتيه أما اشتريت لنا لحماً بدرهم؟ قالت: لا تعنفيني لو ذكرتيني لفعلت.

حذيفة بن اليمان أمين سر رسول الله صلى الله عليه وسلم

حذيفة بن اليمان أمين سر رسول الله صلى الله عليه وسلم وحذيفة بن اليمان الذي تصدق بدية أبيه على المسلمين؛ فازداد خيراً إلى خير يعلمنا درساً في كتمان السر، حافظ أسماء المنافقين، اهتم برواية أحاديث الفتن الكائنة في الأمة وضبطها [كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أساله عن الشر مخافة أن يدركني] ومثل في حسن تصرفه وشجاعته يوم الخندق لما انتدبه الرسول صلى الله عليه وسلم ليأتي بخبر المشركين وسرعة بديهته لما قال أبو سفيان: لينظر كل رجل من بجانبه، فقال لمن بجانبه: من أنت؟ وضبط نفسه في عدم قتل أبي سفيان وكان يستطيع قتله، وَليَ إمرة المدائن فعدل وعلى يده فتحت الدينور؛ بلد من البلدان.

أبو موسى الأشعري رضي الله عنه صاحب الصوت الحسن

أبو موسى الأشعري رضي الله عنه صاحب الصوت الحسن وأبو موسى الأشعري الإمام الكبير الفقيه المقرئ قدم على أهل البصرة فأقرأهم وفقههم، كانوا سادة يعلمون الناس وجاهدوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وحمل علماً غزيراً، وكان حسن الصوت بالقرآن جداً، حتى إن من الصحابة من كان يخرج بالليل قريباً من دار أبي موسى ليسمع صوته وهو يقرأ القرآن في قيام الليل، أُعطي مزماراً من مزامير آل داود، وكان فارساً مقداماً فلما رمي عمه بسهم من أحد الكفار؛ لحقه أبو موسى قال: ألا تستحي؟ ألست عربياً؟ ألا تثبت؟ فكف، وكان في العرب من الكفار نخوة قد زالت اليوم، فالتقيا فاختلفا ضربتين فقتله أبو موسى، وهو من قواد الصحابة الستة، والمفتين الأربعة في مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام، اجتهد قبل موته اجتهاداً شديداً في العبادة فقيل له: لو أمسكت ورفقت بنفسك، فقال: [إن الخيل إذا أرسلت فقاربت رأس مجراها أخرجت جميع ما عندها] الخيل إذا جاء نهاية السباق أخرجت جميع ما عندها، والذي بقي من أجلي أقل من ذلك فأنا أجتهد بأكثر ما عندي، وقال: [إني لأغتسل في البيت المظلم فأحمي ظهري حياء من ربي] رضي الله تعالى عنه.

أبو أيوب الأنصاري وإكرامه للنبي صلى الله عليه وسلم

أبو أيوب الأنصاري وإكرامه للنبي صلى الله عليه وسلم وأبو أيوب الأنصاري الذي نزل صلى الله عليه وسلم في بيته وخصه بالنزول من باب إكرام الضيف، فكان أسفل البيت وأبو أيوب أعلاه، فانسكب الماء، فقام مع أم أيوب بالقطيفة ينشف الماء بسرعة؛ خشية أن ينزل منه شيء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: يا رسول الله! انتقل إلى العلو، لا يمكن أن أمشي فوقك، لا يمكن أن أسكن في الدور العلوي وأمشي فوقك، وهو الذي نزل القرآن بلفظه لما قال في حادثة الإفك: {مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور:16] فنزل القرآن على لفظه، وكان يحب الغزو، وكان ورعاً لا يأتي وليمة فيها منكر، ولما مات في غزو القسطنطينية أوصى بأن يوغل به في أرض العدو، فدعي فدفن عند أسوار القسطنطينية، حتى قيل: إن الروم كانوا يستسقون به عند القحط.

زيد بن ثابت شيخ أهل الفرائض

زيد بن ثابت شيخ أهل الفرائض وجوانب التكامل في شخصيات الصحابة كثيرة، ولقد عدَّ الرسول صلى الله عليه وسلم بعضها لما قال: (أرأف أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدها في أمر الله عمر، وأصدقها حياءً عثمان، وأقضاهم علي، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأقرؤهم أبي بن كعب، وأفرضهم زيد بن ثابت) وزيد بن ثابت شيخ أهل الفرائض، وأحد المفتين في المدينة، رُبي يتيماً وكان أحد الأذكياء، أسلم وله أحد عشر عاماً، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم نجابته، والمجتمع الإسلامي يحتاج إلى رجل يتعلم لغة اليهود، لأن اليهود قوم بهت لا يؤمنون على كتاب، فأمره عليه الصلاة والسلام بتعلم السريانية لغة اليهود، فتعلمها زيد بن ثابت في سبعة عشر يوماً، وكان يكتب الوحي، وهو الذي تولى جمع القرآن.

أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم

أسامة بن زيد حِبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فالطاقات تنبغ في المجتمع المسلم عندما تقام فيه الشريعة ويتولى أمر المجتمع رءوس الناس. وأسامة بن زيد حبه وابن حبه صلى الله عليه وسلم، شديد السواد خفيف الروح، رباه عليه الصلاة والسلام منذ صغره، أمَّره على جيش لغزو الشام وعمره ثمانية عشر عاماً، وفي الجيش عمر وكبار الصحابة.

حسان بن ثابت وكعب بن مالك شاعرا رسول الله صلى الله عليه وسلم

حسان بن ثابت وكعب بن مالك شاعرا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحسان بن ثابت كان منبراً إعلامياً منافحاً عن الدعوة، شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم، المؤيد بروح القدس، يهاجي الكفار ومعه جبريل، انتدب لنصرة الإسلام بشعره، وقال: [والذي بعثك بالحق لأفرينهم بلساني هذا، والذي بعثك بالحق لأسلنك منهم سل الشعرة من العجين] حتى قال عليه الصلاة والسلام: (لقد شفيت واشتفيت). ومثله كعب بن مالك شاعر الرسول صلى الله عليه وسلم، وأحد الثلاثة الذين تاب الله عليهم، صادق ضرب لنا المثل بصدقه، فما حدث حديثاً إلا صدقاً بعد حادثة تبوك، قيل: أسلمت دوس فرقاً من بيت قاله كعب، وهو: نخيرها ولو نطقت لقالت قواطعهن دوساً أو ثقيفا يعني: السيوف نخيرها ولو نطقت لقالت، لأن البيت الذي قبله: قضينا من تهامة كل ريب وخيبر ثم أجمعنا السيوف نخيرها ولو نطقت لقالت قواطعهن دوساً أو ثقيفا فكانت أبياتهم ترهب العدو فجاءت قبيلة دوس مسلمين.

أبو هريرة أحفظ الصحابة للحديث

أبو هريرة أحفظ الصحابة للحديث وأبو هريرة الذي يعلمنا درساً في الحرص على طلب العلم، وتقديم طلب العلم على طلب الدنيا، الفقيه المجتهد الإمام الحافظ الذي روى عنه أكثر من ثمانمائة نفس، هذا الرجل العظيم الذي دعا أمه للإسلام، واجتهد إلى أن أسلمت، بسط ثوبه لسماع مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الناس يشغلهم الصفق بالأسواق وكان مرابطاً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يحفظ حديثه، وعن أبي الزعيزعة كاتب مروان الخليفة أن مروان أرسل إلى أبي هريرة وجعل يسأله، وأجلسني خلف السرير، وأنا أكتب، حتى إذا كان رأس الحول دعا به -بعد سنة- فأقعده من وراء الحجاب، فجعل يسأله عن ذلك الكتاب فما زاد ولا نقص ولا قدم ولا أخر رضي الله عنه، لقد كان حفظه متيناً، وعن أبي عثمان النهدي قال: تضيفت أبا هريرة سبعاً فكان هو وامرأته وخادمه يعتقبون الليل أثلاثاً، يصلي هذا، ثم يوقظ هذا، ويصلي هذا، ثم يوقظ هذا، حتى الخادم والمرأة لها تربية من نصيب أبي هريرة من عنايته في قيام الليل، وهو الأمير المتواضع لما ولي الإمارة كان يحمل حزمة الحطب على ظهره، ويقول: طرقوا للأمير طرقوا للأمير. وعن محمد قال: كنا عند أبي هريرة فلما تمخط مسح بثوبه وقال: [أبو هريرة يتمخط في الكتان، لقد رأيتني وإني لأخر في ما بين منزل عائشة والمنبر مغشياً علي من الجوع، فيمر الرجل يحسبني مصروعاً فيقعد عليَّ -ليرقيه- فأقول: ليس الذي ترى إنما هو الجوع] وقال: [والله إن كنت لأعتمد على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع، وكان مع أهل الصفة] رضي الله تعالى عنه، وصلى بالناس يوماً فلما سلم رفع صوته مرة فقال: [الحمد لله الذي جعل الدين قواماً، وجعل أبا هريرة إماماً بعد أن كان أجيراً لابنة غزوان على شبع بطنه وحمولة رجليه].

نماذج من شخصيات التابعين

نماذج من شخصيات التابعين

عامر بن عبد قيس وزهده وعبادته

عامر بن عبد قيس وزهده وعبادته ولما مضى جيل الصحابة وهم أكثر مما ذكرنا بكثير جداً، ومناقبهم أكثر مما ذكرنا بكثير جداً، فقد رباهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصنعهم على عينه، خرج ذلك الجيل الذي فتح الأرض فربى الجيل الذي بعده، فانتقلت تلكم الصفات الكريمة من صفات الصحابة إلى صفات الجيل الذي بعدهم، وكان لهم أتباع وتلاميذ حملوا علمهم واقتبسوا خلقهم، فهذا مجاب الدعوة أبو مسلم الخولاني رضي الله تعالى عنه ورحمه، وهذا عامر بن عبد قيس الولي الزاهد القدوة من عباد التابعين، كان يقول: من أقرئ؟ فيأتيه ناس فيقرئهم القرآن، ثم يقوم فيصلي إلى الظهر، ثم يصلي العصر، ثم يقرئ الناس إلى المغرب، ثم يصلي ما بين العشائين، ثم ينصرف إلى منزله فيأكل رغيفاً وينام نومة خفيفة، ثم يقوم لصلاته، ثم يتسحر برغيف ويخرج، ولما احتضر بكى، فقيل: ما يبكيك؟ قال: [ما أبكي جزعاً من الموت ولا حرصاً على الدنيا، ولكن أبكي على ظمأ الهواجر وقيام الليل].

أويس القرني وبره بأمه

أويس القرني وبره بأمه أويس القرني سيد التابعين له والدة كان بها بر؛ كان به برص أذهبه الله إلا موضع درهم يذكر به نعمة ربه، هذا الذي لما توجه حاجاً وفطن له عمر وطلب أن يدعو له وطلب أن يستوصي به قال: أُحب أن أكون في أغمار الناس، ولما تفطن له الناس يطلبون منه الدعاء هرب منهم فلا يدرى أين ذهب، إخفاء العمل، والتواضع، وخمول الذكر إخلاصاً لله.

علقمة بن قيس مقرئ الكوفة

علقمة بن قيس مقرئ الكوفة علقمة بن قيس النخعي فقيه الكوفة وعالمها ومقرئها لازم ابن مسعود حتى صار رأساً في العلم والعمل، وكان أشبه الناس بـ ابن مسعود، قال علقمة: ما حفظت وأنا شاب فكأني أنظر إليه في قرطاس، أوتي عبد الله بن مسعود بشراب فقال للآتي: أعط علقمة أعط مسروقاً فكلما أعطى واحداً قال: إني صائم، فقال ابن مسعود: ((يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ)) [النور:37] وكان علقمة يقرأ القرآن في خمس ويقول: أطيلوا ذكر الحديث لا يدرس، أي: كرروا الحديث حتى لا ينسى.

مسروق بن الأجدع الإمام القدوة

مسروق بن الأجدع الإمام القدوة والتلميذ الآخر مسروق بن الأجدع الإمام القدوة العلم أبو عائشة، يقال: إنه سرق وهو صغير ثم وجد بعد ذلك فسمي مسروقاً، حج فلم ينم إلا وهو ساجد، وكانت امرأته تقوم وهو يصلي حتى تتورم قدماه، فربما جلست تبكي مما تراه يصنع بنفسه، وكان لا يأخذ على القضاء أجراً، أرسل إليه أمير الكوفة ثلاثين ألفاً فلم يأخذ منها شيئاً وهو محتاج.

عقبة بن نافع فاتح أفريقيا

عقبة بن نافع فاتح أفريقيا عقبة بن نافع الفهري المجاهد القائد فاتح أفريقيا، الشجاع الحازم الذي اختط القيروان، وكان مجاب الدعوة، ولما أراد أن ينزل بجيشه في غابة نادى: يا أهل الوادي! إنا حالون إن شاء الله فاضعنوا، ثلاث مرات، فلم يبق شيء من السباع والأفاعي إلا خرجت، حتى الأمهات تحمل صغارها، ثم قال: انزلوا باسم الله.

سعيد بن المسيب عالم أهل المدينة

سعيد بن المسيب عالم أهل المدينة سعيد بن المسيب عالم أهل المدينة، الذي ما فاتته الصلاة أربعين سنة، وما أذن المؤذن ثلاثين سنة إلا وهو في المسجد، وحج أربعين حجة، وكان يكثر أن يقول في مجلسه: اللهم سلم سلم، ويسير الأيام والليالي في طلب الحديث الواحد، وكان جريئاً عزيز النفس، لما قدم عبد الملك بن مروان، وقف على باب المسجد، وأرسل إلى سعيد رجلاً يدعوه ولا يحركه، قال: لا تحركوه ادعوه لي فقط، فأتاه الرسول فقال: أجب أمير المؤمنين واقفٌ في الباب يريد أن يكلمك، فقال: ما لأمير المؤمنين إلي حاجة ومالي إليه حاجة، وإن حاجته لي لغير مقضية، فرجع الرسول فأخبره، فقال: ارجع وقل له: إنما أريد أن أكلمك ولا تحركه، فرجع إليه وقال: أجب أمير المؤمنين، فرد عليه مثل ما قال أولاً، فقال: الرسول لولا أنه تقدم إلي فيك ما ذهبت إليه إلا برأسك، يرسل إليك أمير المؤمنين يكلمك تقول مثل هذا، فقال: إن كان يريد أن يصنع بي خيراً فهو لك، وإن كان يريد غير ذلك فلا أحل حبوتي حتى يقضي ما هو قاض. وعن قتادة قال: أتيت سعيد بن المسيب وقد ألبس تبان شعر، وأقيم في الشمس تعذيباً له، فقلت لقائدي - قتادة رجل ضرير لكن يطلب العلم ويأخذ عن سعيد بن المسيب - فقلت لقائدي: أدنني منه، فأدناني فجعلت أسأله - قتادة يسأل سعيداً وهو في الشمس يعذب- فجعلت أسأله خوفاً من أن يفوتني -أخشى أن يفوتني فيموت قبل أن أسأله ما في نفسي- وهو يجيبني حسبة والناس يتعجبون! أما قضيته في تزويج ابنته فهي مشهورة معلومة، فهي تضرب مثلاً للآباء الذين لا يضعون العراقيل أمام زواج بناتهم، ولا يغالون في المهور، ويرأفون بالشاب الصالح، كانت بنت سعيد قد خطبها عبد الملك لابنه الوليد، فأبى عليه مع أنه ابن الخليفة، فلم يزل يحتال عليه فأبى، حتى ضربه مائة سوط في يوم بارد، وصب عليه جرة ماء، وألبسه جبة صوف، فلم يرضخ، فهو ليس الرجل المناسب، وكان من تلاميذه كثير بن أبي وداعة، قال: كنت أجالس سعيد بن المسيب ففقدني أياماً، فلما جئته قال: أين كنت؟ قلت: توفيت زوجتي فاشتغلت بها، فقال: ألا أخبرتنا فشهدناها، ثم قال: هل استحدثت امرأة فقلت: يرحمك الله، ومن يزوجني ولا أملك إلا درهمين أو ثلاثة؟ قال: أنا، قلت: وتفعل؟ قال: نعم. ثم تحمد، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، وزوجني على درهمين أو ثلاثة، فقمت وما أدري من شدة ما أصنع من الفرح، فصرت إلى منزلي، وجعلت أتفكر ممن أستدين، فصليت المغرب ورجعت إلى منزلي، وكنت صائماً، فقدمت عشائي أفطر، وكان خبزاً وزيتاً، فإذا بابي يقرع، فقلت: من هذا؟ قال: سعيد، ففكرت في كل من اسمه: سعيد إلا ابن المسيب، فإنه لم ير أربعين سنة إلا بين بيته والمسجد، فخرجت وإذا سعيد، فظننت أنه قد بدا له -يمكن غير رأيه- فقلت: يا أبا محمد ألا أرسلت إلي فآتيك، قال: أنت أحق أن تؤتى؛ إنك كنت رجلاً عزباً، فتزوجت وعقدنا لك، فكرهت أن تبيت الليلة وحدك وهذه امرأتك، فإذا هي قائمة من خلفه في طوله من خلف الباب، ثم أخذ بيدها فدفعها في الباب ورد الباب، فسقطت المرأة من الحياء، فاستوثقت من الباب، ثم وضعت القصعة في ظل السراج لكي لا تراه فأول عيشتها خبز وزيت، ثم صعدت إلى السطح فرميت الجيران، فجاءوني فقالوا: ما شأنك؟ فأخبرتهم ونزلوا إليها، وبلغ أمي فجاءت وقالت: وجهي من وجهك حرام إن مسستها قبل أن أصلحها إلى ثلاثة أيام، فأقمت ثلاثاً، ثم دخلت بها فإذا هي من أجمل الناس، وأحفظ الناس لكتاب الله، وأعلمهم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعرفهم بحق الزوج -هذه تربية العلماء لأولادهم وبناتهم، هذه تربية العلماء لبناتهم- فمكثت شهراً لا آتي سعيداً -يأخذ عن بنت سعيد الآن- ثم أتيته وهو في حلقته، فسلمت، فرد عليَّ السلام، ولم يكلمني حتى تقوض المجلس، فلما لم يبق غيري قال: ما حال الإنسان؟ قلت: خير يا أبا محمد، على ما يحب الصديق ويكره العدو، قال: إن رابك شيء فالعصا، فانصرفت إلى منزلي فوجه إلي بعشرين ألف درهم، قال عبد الرحمن بن حرملة: دخلت على سعيد بن المسيب وهو شديد المرض، وهو يصلي الظهر وهو مستلقٍ يومئ إيماءً، فسمعته يقرأ بالشمس وضحاها.

الربيع بن خثيم من عباد التابعين

الربيع بن خثيم من عباد التابعين والربيع بن خيثم الإمام القدوة العابد من عقلاء الرجال، قال له ابن مسعود: يا أبا يزيد لو رآك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحبك، وما رأيتك إلا ذكرتُ المخبتين، ما تكلم الربيع بن خثيم بكلام منذ عشرين سنة إلا بكلمة تصعد، أي: من الكلم الطيب كله، وعن بعضهم قال: صحبت الربيع بن خثيم عشرين عاماً ما سمعت منه كلمة تعاب، إنهم أناس يحفظون كلامهم، وعن الثوري عن أبيه قال: كان الربيع بن خثيم إذا قيل له: كيف أصبحتم؟ قال: ضعفاء مذنبين، نأكل أرزاقنا وننتظر آجالنا.

سعيد بن جبير وثباته أمام الحجاج

سعيد بن جبير وثباته أمام الحجاج وسعيد بن جبير الذي قرأ القرآن على ابن عباس، قال: ربما أتيت ابن عباس فكتبت في صحيفتي حتى أملؤها، وكتبت في نعلي حتى أملؤها، وكتبت في كفي، وكان لا يدع أحداً يُغتاب عنده، وعن الربيع بن أبي صالح قال: دخلت على سعيد بن جبير حين جيء به إلى الحجاج، فبكى رجل فقال سعيد: ما يبكيك؟ قال: لما أصابك، الآن الحجاج سيقتلك، قال: فلا تبك، كان في علم الله أن يكون هذا، ثم تلا: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:22] ولما جيء بـ سعيد بن جبير وطلق بن حبيب وأصحابهما، دَخلتُ عليه السجن، فقلت: جاء بكم شرطي من مكة إلى القتل؟ أفلا كتفتموه وألقيتموه في الطريق -تغلبتم عليه فأنتم اثنان وهو واحد- ألا كتفتموه وألقيتموه في البرية؟ قال سعيد: فمن كان يسقيه الماء إذا عطش؟ وكان قد فر من الحجاج لكنه في النهاية ثبت، وقال: والله لقد فررت حتى استحييت من الله، ولما علم فضل الشهادة ثبت للقتل ولم يقترف ولم يعامل عدوه بالتقية، وكان لـ سعيد بن جبير ديك يقوم من الليل على صياحه، فلم يصح ليلة من الليالي حتى أصبح، ففاتت الصلاة على سعيد، فشق عليه ذلك، فقال: ماله؟ قطع الله صوته - سعيد بن جبير يقول عن الديك الذي لم يصح تلك الليلة: ماله؟ قطع الله صوته- فما سمع للديك صوت بعد ذلك، فقالت له أمه: يا بني! لا تدع على شيء بعدها.

زين العابدين وصدقته في ظلمة الليل

زين العابدين وصدقته في ظلمة الليل وهذا زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، كان يدخل المجلس فيشق الناس حتى يجلس في حلقة عبد من العبيد مولىً من الموالي هو زيد بن أسلم وهو من هو؟ زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وكان يقول له نافع بن جبير: غفر الله لك أنت سيد الناس، وتأتي حتى تجلس مع هذا العبد، فقال علي بن الحسين: العلم يبتغى، ويؤتى، ويطلب حيث كان، وكان يقول: يا أهل العراق! أحبونا حب الإسلام، ولا تحبونا حب الأصنام. وكان يتذلل إلى الله تعالى بفناء الكعبة، وإذا أحرم ولبى ربما غُشي عليه، وإذا صلى أخذته رعدة وهيبة ممن يناجي، وكان يحمل الخبز في الليل على ظهره يتبع به المساكين في الظلمة، وربما قال: إن الصدقة في سواد الليل تطفئ غضب الرب. وكان ناس من أهل المدينة يعيشون لا يدرون من أين يأتي معاشهم، يأتيهم الطعام ولا يدرون المصدر، فلما مات علي بن الحسين فقدوا الطعام، فعرفوا أنه هو الذي كان يأتيهم بالليل، ويضع الطعام على باب بيوتهم، ولما مات وجدوا بظهره أثراً مما كان ينقل الجرب بالليل إلى منازل الأرامل، ولما مات وجدوه يعول مائة بيت، وهو لما حج هشام بن عبد الملك قبل أن يتولى الخلافة كان إذا أراد أن يستلم الحجر زُوحم عليه، وإذا دنا علي بن الحسين من الحجر تفرقوا عنه إجلالاً له فوجم هشام وقال: من هذا فما أعرفه؟ فأنشأ الفرزدق وكان حاضراً يقول: هذا الذي تعرف البطحاء وطأته والبيت يعرفه والحل والحرم هذا ابن خير عباد الله كلهم هذا التقي النقي الطاهر العلم إلى أن قال: هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله بجده أنبياء الله قد ختموا وهو النبي صلى الله عليه وسلم.

عروة بن الزبير أحد الفقهاء السبعة

عروة بن الزبير أحد الفقهاء السبعة وعروة بن الزبير بن العوام عالم المدينة وأحد الفقهاء السبعة، قال: لقد رأيتني قبل موت عائشة بأربع حجج وأنا أقول: لو ماتت في اليوم ما ندمت على حديث عندها لأني وعيت كل الأحاديث، وقد كان يبلغني من الصحابي الحديث فآتيه فأجده قد قال -من القيلولة- فأجلس على بابه حتى يخرج وأسأله عنه، وكان يقرأ ربع القرآن كل يوم في المصحف نظراً، ثم يقوم به في الليل، وإذا كانت أيام الرطب سلم حائط البستان الذي له، وأذن للناس أن يدخلوا، فيدخلون فيأكلون ويحملون، وقد ابتلاه الله عز وجل بابتلاء عظيم فصبر، فإنه قد قدم في أحد السنوات على الوليد ومعه ابنه محمد وكان ابنه محمد بن عروة بن الزبير من أحسن الناس وجهاً، فأصابه بالعين بعضهم، فخرج الولد متوسلاً به نعاس، فوقع في اصطبل للدواب فلم تزل الدواب تطؤه بأرجلها حتى مات، وبعدها بقليل حدث أن الآكلة وقعت في رجل عروة فبعث إليه الوليد الأطباء فقالوا: إن لم تقطعها سرت إلى باقي الجسد فتهلك، فعزم على قطعها، فقالوا: لو سقيناك شيئاً كي لا تتوجع، قال: إنما ابتلاني ليرى صبري، فنشروها بالمنشار، فقطعها الطبيب من نصف الساق فما زاد أن يقول: حسبي، فقال الوليد: ما رأيت شيخاً أصبر من هذا. فلما صار المنشار إلى قصبة الساق وضع رأسه على الوسادة ساعة؛ فغشي عليه، ثم أفاق والعرق يتحدر من وجهه، وهو يقول: لا إله إلا الله والله أكبر، فأخذ رجله المقطوعة وجعل يقبلها في يده ثم قال: أما والذي حملني عليك إنه ليعلم -سبحانه وتعالى- أني ما مشيت بك إلى حرام، ولا إلى معصية، ولا إلى ما يسخط الله، ثم أمر بها فغسلت وطيبت ولفت في قطيفة وبعث بها إلى مقابر المسلمين، فلما رجع إلى المدينة وقد أصيب بولده ورجله تلقاه أهل بيته وأصدقاؤه يعزونه، فما زاد أن يقول: {لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً} [الكهف:62] وكان يقول: اللهم إنه كان لي بنون سبعة فأخذت واحداً وأبقيت لي ستة، وكان لي أطراف أربعة فأخذت طرفاً وأبقيت ثلاثة، ولئن ابتليت لقد عافيت ولئن أخذت لقد أبقيت.

ابن سيرين وزهده وورعه

ابن سيرين وزهده وورعه وهذا ابن سيرين العالم إذا سئل عن الحلال والحرام تغير لونه حتى نقول: كأنه ليس بالذي كان، وذلك ورع من الفتيا، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وكان يبر أمه ولم ير رافعاً صوته عليها قط، كان إذا كلمها كهيئة المصغي إليها، وكان إذا كان عند أمه لو رآه رجل لا يعرفه ظن أن به مرضاً، من شدة ما يخفض صوته عند أمه. هذه طائفة من سيرة أولئك النفر الذين قيضهم الله لحمل دينه ونشر دعوة نبيه، ضربوا لنا الأمثال في التقوى والورع والزهد والعبادة والتعليم والشجاعة والجرأة والجهاد والصبر وبر الوالدين والآداب العظيمة، هؤلاء أيها الإخوة حري بنا فعلاً إن كنا نريد أن نكون اليوم نحن حملة الرسالة، وأن نكون نحن من الطائفة التي يكون إنقاذ الأمة على أيديها، أن نبلو أخبارهم وأن نقتدي بهم، وفي التاريخ سطر كثير من العبر من حياة أولئك القوم، وإن تربية لا تأخذ في عين الاعتبار سير أولئك الكرام لهي تربية ناقصة، ونحن اليوم أشد ما نكون إلى معرفة هذه السير للتأسي والعمل، نحن بأشد حاجة إلى تربية متكاملة، ولذلك كنا نقول اليوم: جوانب التكامل في شخصيات السلف تربية متكاملة لا تركز على العبادة فقط، ولا على العلم فقط، ولا على الآداب فقط، ولا على الجهاد فقط، ولا على العقيدة وأمورها النظرية فقط، وإنما تلم كل ذلك وتحويه، وكل نقص في أبناء الإسلام اليوم مرده إلى عدم التكامل في التربية، وضعفت هذه التربية، ولن نستطيع أن نجابه كفار الشرق والغرب بنفوس مهلهلة وضعيفة، ونحن نعلم أن الدنيا ما فتحت لأسلافنا إلا لما كان فيهم أمثال من ذكرنا، في صفات أعظم، وما ذكرنا قطرة من بحر، ولذلك فإننا نرى اليوم ونحن نتطلع إلى فجر إسلامي قادم، أن طلائع الصحوة هذه لا يمكن أن تثبت وأن تؤدي دورها في العالم الآن إلا إذا ربيت التربية على منهاج هؤلاء السلف، وتخلقت بمثل أخلاق أولئك السلف. وإن الوصية العظيمة في الاقتداء بهم والتأسي بأفعالهم لهي أمر متعب جداً؛ لأن جمع الفضائل لا يطيقه كل أحد، فإن الإنسان قد يجمع فضيلة أو فضيلتين، وقد ينشط في نوع من أنواع العبادة، أو يتجلد في بعض مجالس العلم أو في قراءة كتاب أو كتابين، لكن الجمع والتكامل مع الاستمرار على ذلك هذا هو الذي في غاية الصعوبة، وهو الذي نحتاج إليه اليوم في أشد الحاجة. وإننا أيها الإخوة في هذا العصر الذي ضعف فيه أهل الإسلام لنرى من بصيص الأمل والنور أمراً كبيراً ولله الحمد، في أن الله سبحانه وتعالى لن يخلي هذه الأمة من مجددين ومجاهدين ومصلحين، ونحن نسمع اليوم من أخبارهم في الواقع من جرأتهم وجهادهم وصبرهم ودعوتهم ما هو فعلاً أمل في الله كبير بأن ينصر الإسلام وأهل الإسلام، ولكن نرجو أن نكون نحن من هؤلاء، ونرجو الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن لهم حظ وافر من نصر الدين وأهله، وأن يجعلنا ممن يحملون لواء هذا الدين ويتبعون سنة سيد المرسلين.

الأسئلة

الأسئلة

نصيحة في الاطلاع على سير الصحابة والسلف وكتبهم

نصيحة في الاطلاع على سير الصحابة والسلف وكتبهم Q من الملاحظ أن بين الصالحين والدعاة ضعفاً في العلم بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم والسير والتاريخ، ونجد كثيراً من الملتزمين لا يعرف بعض الكتب المهمة في السيرة كـ البداية والنهاية، وسير أعلام النبلاء، ولا يفتح هذه الكتب، فما هو التعليق؟ A هذا من القصور ومن ضعف الهمة، فإن بعض الشباب إذا رأى كتباً طويلة متعددة المجلدات هاب أن يفتحها، وأنا أقول: افتح ما تيسر منها، واقرأ ما تيسر، ومن الأسباب التي ربما حملت بعض العلماء على اختصار بعض الكتب: معالجة مسألة ضعف الهمة الموجودة عند مثل هؤلاء القوم. فأقول: أيها الإخوة! لابد أن نحرص على القراءة في تاريخ المسلمين وأوصيكم بكتابين: البداية والنهاية لـ ابن كثير وسير أعلام النبلاء للذهبي، وهو مختصر في ثلاثة مجلدات لمن لا يطيق القراءة في الكتاب الكبير، فإنه يمكن أن يرجع إليه ويستفيد أمراً عظيماً، ووالله الذي لا إله إلا هو لو أنك فتحت هذه الكتب بقلب مفتوح مقبل على الله؛ لربما دمعت عيناك من موقف صحابي، أو خشعت لله من عبادة أحد السلف، أو حصل في قلبك نوع من الخلق ما كان موجوداً من شدة ما تجد وأنت تقرأ، المهم هو التفاعل مع هذه القصص وتحس وأنت تقرأ فيها أنك انتقلت إلى ذلك الجو العطر، وأنك ابتعدت عن هموم هذا العالم المليء بالترهات، الذي يجلب الصداع للإنسان عندما يفكر، ولكن أقول: هناك شيء مهم كنت بالأمس قد سجلت سؤالاً من فترة ثم تسنى لي أن أسأل عنه الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله سؤالاً فيه إزاحة لجزء كبير من الهم، وفيه باب مهم من الأبواب، قلت له بنص السؤال: هل يؤجر الشخص على تفكيره بمصلحة الإسلام؟ يعني: لو أن شخصاً استلقى على فراشه ثم قعد يفكر في المسلمين ومشاكلهم وأوضاعهم في العالم، والأقليات الإسلامية، وأوضاع الجهاد، وأسباب تفرق المسلمين واختلافهم، وما هي الوسيلة المثالية في جمعهم؟ وكيف تكون الدعوة والتربية وطريق الدعوة ووسائل الدعوة؟ وكيف يبدأ بالدعوة والتربية وما هي الأشياء التي يتربى عليها؟ وموضوع الإخوة في الله، وكيف يلم شعث إخوانه؟ ويفكر بمسائل وأوضاع المسلمين في العالم ما يحصل لهم الآن هل يؤجر الشخص على تفكيره بمصلحة الإسلام مجرد التفكير وهو مستلقٍ على فراشه؟ أو هكذا ساهم وهو يقود السيارة مرة من المرات يفكر في أوضاع المسلمين، فقال الشيخ: لا شك أنه يؤجر، كيف لا يؤجر؟ وقلت: وهو مستلقٍ على فراشه؟ قال: نعم. يؤجر وهو مستلقٍ على فراشه يفكر في مصالح المسلمين، يفكر في مصلحة الإسلام. فالذي يجعل الإسلام همه، ويفكر دائماً بمصلحة الإسلام على الأقل يأخذ من الأجر، يخرج بأجر عظيم وهو يفكر.

المرء مع من أحب

المرء مع من أحب Q إن بعض الشباب قد يوهم عليه الشيطان أنه لا يستطيع أن يعمل عملاً كأعمال بعض الصحابة فيستصعب ذلك، فما هي النصيحة؟ A هذا واقعي وصحيح ونحن نعترف أنه لا يمكن ونحن في قصورنا وضعف إيماننا أن نعبد الله كما عبده الصحابة، ولا أن تكون فينا الميزات التي كانت في الصحابة، لكن -أيها الإخوة- إن التشبه بالكرام فلاح، ونحن نعلم أننا لن نصبح مثلهم لكن لا بد أن نجاهد لكي نحصل شيئاً مما حصلوه، وما يدريك ربما تكون أنت داخلاً في حديثه عليه الصلاة والسلام: (المرء مع من أحب) ربما إذا أنت قرأت في سيرة سعد بن معاذ، وتفكرت فعلاً في هذا الرجل العظيم الذي ضحى بالملك وقام وقاتل وبذل لله سبحانه وتعالى، وما أُصيب المسلمون في رجل مثل سعد بن معاذ، فقلت في نفسك: اللهم احشرني مع سعد، من حبك له قلت: اللهم احشرني مع سعد، ربما يكون هذا من أسباب نجاتك يوم القيامة فـ (المرء مع من أحب) وقد جاء رجل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم) لا صلاة مثلهم، ولا صيام مثلهم، ولا جهاد مثل جهادهم (قال: المرء مع من أحب قال الصحابة: ما فرحنا بشيء فرحنا بتلك المقولة وذلك الحديث).

حكم من يعيش في البيت مع غير محارمه

حكم من يعيش في البيت مع غير محارمه Q أهل أخي يعيشون معنا في البيت وهي لا تتغطى. فهل يجوز أن أجلس معهم؟ A أنت تنكر، وتجلس وتغض البصر، وتنكر عليهم فعلهم ذلك، فإذا لم تتمكن من غض البصر فتفارق ذلك المجلس.

ذكر مراجع تتكلم عن آل البيت

ذكر مراجع تتكلم عن آل البيت Q لماذا نحن لا نعرف شيئاً عن أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أني قرأت كتب الأحاديث ففهمت أن حبهم واجب، وقوله: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به وأذكركم أهل بيتي) الصالحون من أهل بيته هم الذين يتبعونه؟ A الحقيقة هذا الموضوع مهم، من مواضيع العقيدة محبة آل بيت رسول الله والاقتداء بالصالحين منهم، وقد ذكرنا منهم زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رحمه الله تعالى، ولعله يتاح هناك مجال معين لتبيين مراجع موثوقة لموضوع العقيدة في آل البيت إن شاء الله.

كيفية تقوية الإيمان في حب الصالحين

كيفية تقوية الإيمان في حب الصالحين Q إني أحب الشباب الملتزم، وأريدهم أن يكونوا أصدقائي، لكني ضعيف النفس أفعل المخالفات الشرعية، كيف أجعل صدق حبي للملتزمين يترجم على صدق إيماني؟ A خذ منهم ما تراه موافقاً للإسلام، خالطهم وتشبه بهم، استنصحهم واقتد بهم، رافقهم والزمهم، فلاشك أنك ستتأثر عاجلاً أم آجلاً، سيرتفع إيمانك مثل هؤلاء الأشخاص، وأقول مرة أخرى: (المرء مع من أحب) وربما يكون قصورنا مغفوراً لنا بسبب محبتنا لأشخاص من أولياء الله الصالحين.

ضرورة ضبط النفس عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

ضرورة ضبط النفس عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر Q رجل أراد أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فاتهم الشخص الذي أمامه بالكفر؟ A هذا الأمر خطير، فإذا كان الرجل ما أبدى كفراً بواحاً فلا يجوز لنا أن نرميه بالكفر، ولو كنا في مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يستلزم ضبط النفس؛ لأن الشخص المجادل الذي أمامك قد يستفزك، وبعض الشباب إذا أراد أن ينهى عن المنكر وهناك شخص يستفزه في المجلس ويجادله بالباطل ربما تَسرع فأطلق عليه كلمة الكفر، فلابد من ضبط النفس عندما نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر.

حكم من فضل عليا على أبي بكر

حكم من فضَّل علياً على أبي بكر Q ما رأيك فيمن يفضل علياً رضي الله عنه على أبي بكر الصديق؟ A لقد أزرى بالمهاجرين والأنصار بفعله هذا.

ضوابط تتعلق بموضوع المساهمة

ضوابط تتعلق بموضوع المساهمة Q ما حكم الاشتراك في المساهمات؟ A ذكرنا في خطبة الجمعة بعض الضوابط التي تتعلق بموضوع المساهمة فذكرنا أنه ينبغي أن يكون مجال عمل الشركة حلالاً كالزراعة والصناعة وغير ذلك. ثانياً: ألا يكون عندهم تعاملات محرمة كالتعامل بالربا، وذكرنا بعض الوسائل التي يعرف منها بعض هذه الأمور إذا كانت موجودة أم لا، لكن لابد أن تتثبت وتسأل وتتأكد، وإذا ما وجدت شيئاً حراماً خذ بالظاهر، وإذا أردت أن تشارك وتساهم لا أحد يمنعك، فإذا اكتشفت حراماً في المستقبل فتتخلص من الأسهم حالاً، وما نتج عنها في وقت جهلك بالمحرم الذي لديهم فهو لك، وما جاء منها وأنت تدري بالمحرم من الذي عندهم يجب أن تتخلص منه ولك رأس مالك، وبعض الناس مع الأسف لا يتأكدون ولا شيء من ذلك، وربما يكون مساهمة في بنك يقوم بها البنك موضع شبهة، فبمجرد ما يكتب له البنك: أنت معرض للربح أو الخسارة قال: هذه مساهمة إسلامية، فهل عرفت أنهم يتاجرون بماذا؟ وهل طريقتهم في شراء وبيع العملات صحيحة؟ وهل طريقتهم في شراء وبيع الذهب صحيحة؟ هل يدخلون أشياء في الربا ويعطونك أرباحاً في الربا؟ فبعض الناس يُضْحَك عليهم بأشياء من هذه الشعارات التي تكتب: معرض للربح والخسارة إذاً حلال، لابد أن تسأل وتتأكد، ثم أي عمل استثماري يقوم به البنك فهي مسألة شبهة ولا شك، بنك ربوي شبهة، وبعض الناس مع الأسف اندفاعاتهم عجيبة فلا يتأكدون المهم الربح يقول: هذا مشروع لابد، حتى اسم الشركة فقد اتصل بي شخص يقول لي: ما هو الحكم في الاشتراك في شركة فاصوليا؟ فاصوليا يا أخي هذه تباع في سوق الخضرة! يعني: حتى اسم الشركة المهم يشترك ويذهب أحدهم مثل المجنون يسأل أين الفاصوليا؟ دون أن يتحرى. فمسألة التحري عند الناس فيها خلل واضح فالمهم عندهم جمع المال أولاً، ويأتي بعد ذلك السؤال هل هي حلال أم حرام.

حكم من ترك صلاة الوتر والضحى

حكم من ترك صلاة الوتر والضحى Q ما هو حكم من ترك صلاة الوتر والضحى؟ A بعض العلماء يفسق تارك السنة، وصلاة الوتر أوكد من صلاة الضحى، ولاشك في المحافظة عليها ولو على الأقل ركعة.

حكم من عمل بدون راتب ابتغاء الأجر

حكم من عمل بدون راتب ابتغاء الأجر Q أعمل في دائرة عملاً إضافياً بدون راتب، فأنا أريد أن أعمل ذلك للأجر، ولكن الناس يقولون: لا تعمل إلا براتب؟ A هذا جيد فإذا أردت أن تعمل لوجه الله عملاً إضافياً وأُعطيت مالاً، فخذه وتصدق بهذا الأجر الإضافي ويكون عملك إن شاء الله لوجه الله وأجرك محفوظ.

حكم لبس الأحمر من الثياب

حكم لبس الأحمر من الثياب Q هل يجوز لبس الفنيلة الحمراء؟ A لا. لا تلبس أحمر قانياً لما ورد من النهي عن لبس الأحمر، وإنما البس الأحمر إذا كان مخططاً أو فيه خطوط.

حكم استئجار الذهب ليلة العرس

حكم استئجار الذهب ليلة العرس Q هل يجوز استئجار الذهب في ليلة العرس؟ A يمكن أن يستأجر الحلي استئجاراً ويرجعه، لكن المهم أنه لا يتشبع بما لم يعط، فتقول المرأة: انظري ماذا أهدي إلي، وهو مستأجر، انظري ماذا أعطاني زوجي، وهو مستأجر، فهذا (من تشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور).

حكم كشف المرأة لخطيب ابنتها

حكم كشف المرأة لخطيب ابنتها Q هل يجوز لأمي أن تكشف حجابها لخطيب أختي؟ A لا. لأنه لازال خطيباً ولم يصبح زوجاً، فإذا تزوج وعقد كشفت له.

حكم كشف والدة زوج البنت أمام أبي البنت

حكم كشف والدة زوج البنت أمام أبي البنت Q هل يجوز لأبي أن يكشف على والدة زوج أختي؟ A لا. لأنه ليس هناك علاقة نسب ولا مصاهرة ولا رضاعة. فختاماً: نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم الإخلاص، والاستقامة والسداد، في القول والعمل، وأن يرزقنا حسن الختام، وأن يتوب علينا أجمعين، ويهدينا الصراط المستقيم، والله تعالى أعلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.

حكم المشاركة في أعياد الكفار

حكم المشاركة في أعياد الكفار من أعظم البدع والضلالات مشابهة الكفار من اليهود والنصارى، ومن أعظمها مشابهة الكفار ومشاركتهم في أعيادهم قولاً وفعلاً. وفي هذه الخطبة بيان مفصل لما يجب على المسلمين تجنبه من أعمال وتصرفات في أيام عيد الكفار؛ لأنها دليل المشابهة والمشاركة، والتي تورث التعارف والتآلف وتلغي حقيقة الولاء للمسلمين والبراء من الكفرة والمشركين.

حث الشريعة على الاتباع ونبذ التشبه بالكفار

حث الشريعة على الاتباع ونبذ التشبه بالكفار إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار. ومن أعظم البدع والضلالات التي هي في النار مشابهة الكفار من اليهود والنصارى وغيرهم، ومن مقاصد شريعة الإسلام تمييز شخصية المسلم عن كل ما يخالطها من شعائر أهل الكفر، لتبقى هذه الشخصية نقية متميزة عن غيرها من شخصيات أهل الأرض، ومن مقصود هذا الدين إعلاء الإسلام وعزله عن شوائب الشرك، وإظهار ميزاته وتفرداته عن سائر الملل والأديان، ولذلك كان من أخص خصائص هذا الذين اتباع السنة والابتعاد عن مشابهة الكفار في كل صغيرة وكبيرة، ولذلك فإنك تجد ربنا عز وجل قد تكلم بهذه الآيات الدالة على تمييز الملة الإسلامية وأهلها عن سائر الملل: {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} [المائدة:48] ويقول: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة:48]. فشريعتكم غير شريعتهم، ومنهاجكم غير مناهجهم: {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:5 - 6] ودينكم غير دينهم، وجاءت هذه الملة الحنيفية ناسخة لسائر الملل من قبلها، مستعلية عليها، وصار هذا الإسلام بحمد لله دين الله القويم، وكان مهيمناً على الدين كله من قبل. ولذلك تجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بين بقوله: (من تشبه بقوم فهو منهم) وهذه قاعدة أساسية من قواعد هذا الدين في تحريم التشبه بالكفرة، وقال في أكثر من مناسبة: (خالفوا المشركين) وأنت تقرأ في الصلاة سورة الفاتحة، وفيها قول الله عز وجل: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7] لا اليهود ولا النصارى، بل اهدنا لطريق الحق وسبيله الذي ليس مثل سبيل اليهود ولا سبيل النصارى. اهدنا الصراط المستقيم، صراطاً مستقيماً لا يشابه سبيل اليهود ولا النصارى ولا سائر الكفار، ولذلك نجد في شريعتنا الأمر بمخالفة الكفرة في كثير من الأمور منها: تعجيل الإفطار، وتأخير السحور، والصلاة بالنعال خصوصاً إذا كان المكان مناسباً، وتوجيه قبور المسلمين إلى الكعبة بخلاف قبور الكفار، وكثير جداً من الأمور التي أُمرنا فيها بمخالفة الكفار وعدم مشابهتهم، حتى صيام يوم عاشوراء نصوم يوماً قبلهم أو يوماً بعدهم تحقيقاً لهذه المخالفة، ونحن أحق بموسى منهم وهو يوم نجى الله فيه موسى، ولكن تمعناً في المخالفة، حتى أن اليهود تضايقوا أشد المضايقة فقالوا: ما ترك صاحبكم شيئاً إلا خالفنا فيه.

ارتباط الأعياد بالعقائد

ارتباط الأعياد بالعقائد ومن الأمور الخطيرة التي أُمرنا بمخالفتهم فيها: قضايا الأعياد، والعيد اسم لما يعود ويتكرر، وقد يكون عيداً سنوياً، أو شهرياً، أو أسبوعياً، أو أكثر من ذلك، فسمي عيداً، ونحن المسلمون لنا ثلاثة أعياد فقط، عيدان سنويان وعيد أسبوعي، عيد الفطر وعيد الأضحى في السنة، والجمعة عيد الأسبوع، وليس لنا أعياد أخرى غير هذه البتة، والعيد يرتبط بالعقيدة ارتباطاً وثيقاً، وليس هو مناسبة فرح وعادات فقط، والذي يظنون أن الأعياد مسألة عادات فقط فهم أناس ما فقهوا دين الله، لا عندنا ولا عند غيرنا، الأعياد مرتبطة بالدين. فانظر مثلاً عيد الفطر يعقب صوماً، وفيه زكاة الفطر وصلاة العيد أهم شعائر ذلك اليوم، وعيد الأضحى بالإضافة للصلاة هناك نحر الأضحية تقرباً إلى الله، وهو أعظم أيام السنة، والأيام التي بعده من أيام التشريق أيام أكل وشرب، وتأمل كيف أن الشارع أمر بالفطر في هذين اليومين وحرم الصيام يومي العيد. فالمسألة إذاً مرتبطة بالدين وليست مسألة عادات، وعند الكفرة من اليهود والنصارى أعيادهم أيضاً مرتبطة بدينهم ويقومون فيها بطقوس من صميم عقيدتهم، وليست قضية عادات وتقاليد.

أدلة وجوب مخالفة اليهود والنصارى في أعيادهم

أدلة وجوب مخالفة اليهود والنصارى في أعيادهم ومن الأدلة الدالة على وجوب مخالفة اليهود والنصارى في أعيادهم وعدم مشاركتهم فيها البتة، قول الله عز وجل: ((وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ)) [الفرقان:72] فهي صفة مهمة من صفات المؤمنين: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} [الفرقان:72]. قال محمد بن سيرين: هو عيد الشّعانين عند النصارى، عيد يقيمونه يوم الأحد السابق لعيد الفصل، ويحتفلون فيه بحمل السعف، ويزعمون أن ذلك ذكرى لدخول بيت المقدس. فانظر إلى ارتباط العيد عندهم بقضية دينية وليست قضية عادات وتقاليد. وقال مجاهد: الزور أعياد المشركين. وكذا قال الربيع بن أنس. وقال عكرمة: لعبٌ كان لهم في الجاهلية مؤقت بأوقات معينة. وعن الضحاك قال: عيد المشركين. وقال بعضهم: لا يشهدون الزور أي: لا يمالئون أهل الشرك على شركهم، ولا يخالطونهم. فإذاً هذه الآية: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان:72] نص صريح في عدم جواز مشاركة الكفار في أعيادهم، وإذا كان الله قد قال: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ} [الفرقان:72] مجرد الشهود والحضور لا يجوز، فكيف بالمشاركة والممارسة معهم لأحوال ذلك اليوم وذلك العيد! وانظر كيف سماه الله زوراً، وهذا من أدلة التحريم: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان:72] فسماها زوراً، وروى أبو داود عن أنس قال: (قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، ولأهل المدينة يومان من أيام الجاهلية يلعبون فيهما فقال: ما هذان اليومان؟ قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله قد أبدلكم بهما خيراً منهما يوم الأضحى ويوم الفطر) إسناده صحيح على شرط مسلم. والإبدال يقتضي ترك المبدل، فبدلهم الله بهذين اليومين يومين آخرين هما الفطر والأضحى، وهذا يقتضي ترك الأيام السابقة، وعن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه قال: (نذر رجل على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينحر إبلاً بـ بوانة -موضع قريب من مكة - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هل كان فيهما وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ قالوا: لا، قال: فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ قالوا: لا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوف بنذرك) بعد أن تأكد بأنه ليس في هذا الموضع مكان لعيد للكفار ولا وثن من أوثانهم، وإسناده صحيح على شرط الشيخين وأصله فيهما. فإذا كان صلى الله عليه وسلم نهى عن الذبح في مكان العيد مع أنه قد لا يكون في ذلك الوقت عيد، لكن مجرد أن هذا المكان يجتمعون فيه يوماً من الأيام لا يجوز الذبح فيه؛ لعدم إحياء تلك البقعة؛ لأن المشركين يعيدون فيها، فكيف بمن وافقهم في نفس العيد؟ وكيف بمن فعل معهم بعض الأعمال التي تفعل في عيدهم؟ وبهذا الحديث يتبين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان حريصاً أشد الحرص على طمس أعياد الكفرة وإزالتها، ودرسها وعدم إحيائها البتة، واقتلاعها من جذورها. والعيد أيها الإخوة! عندنا وعند غيرنا، مع ما فيه من صلاة أو ذكر أو نسك، يجتمع معه عادات مثل التوسع في الطعام واللباس واللعب، فإذاً ليس العيد قضية فرح وتوسع باللباس والمأكل والهدايا فقط، وإنما هو مرتبط بالعقيدة وبالدين وبالملة. ومن الأدلة أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم لما دخل أبو بكر عليه يوم العيد وجد عنده جاريتان تغنيان في بيت رسول الله، فنهرهما أبو بكر فقال: (دعهما يا أبا بكر فإن لكل قوم عيداً وإن هذا عيدنا) عيدنا نحن مختص بنا، ولكل قوم عيد مختص بهم. هذا دليل آخر على تميز المسلمين بأعيادهم وعدم مشاركة الكفرة، وبالمناسبة أقول: احتج بعض التافهين السفهاء بجواز الأغاني والمعازف الموجودة والمنتشرة بهذا الحديث، من الذي كان يغني؟ جاريتان صغيرتان، هل ورد في الحديث أن معهما معازف؟ كلا، إذاً هو بالصوت لبنتين صغيرتين، كلام طيب وإلا ما وافقه رسول الله، كلام طيب لبنتين صغيرتين بدون معازف، هل يدل على هذه الأغاني الموجودة الآن؟ اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا. وكذلك حديث: (فإن الله أضل عن الجمعة من كان قبلنا، فكان لليهود يوم السبت، وكان للنصارى يوم الأحد، فجاء الله بنا فهدانا ليوم الجمعة) رواه مسلم. ولذلك نهى صلى الله عليه وسلم عن إفراده بالصوم لما فيه من معنى العيد.

حكم المشاركة في أعياد الكفار

حكم المشاركة في أعياد الكفار الأعياد من أهم ما تتميز به الشرائع والأديان، والمشاركة في أعياد الكفرة تتراوح بين المعصية والكفر، قد تكون معصية، وقد تكون كفراً، وفيها من المخاطر أمورٌ كثيرةٌ جداً، وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في كتابه العظيم اقتضاء الصراط المستقيم بحثاً في هذا الموضوع، لا أظن أنه يوجد في مكان آخر لغيره، واشتكى فيه شيخ الإسلام رحمه الله من حال المسلمين المجاورين للكفار في بلادهم. بلاد المسلمين واسعة، فمنها ما هو في القلب، مثل جزيرة العرب، ومنها ما هو في الأطراف، مثل حال بلاد الأندلس الملاصقة للنصارى ومنذ زمن كان الإسلام يهيمن على تلك الديار، فاشتكى شيخ الإسلام رحمه الله من تغير حال المسلمين الملاصقين لبلاد الكفار من تلك البلاد، فقال: لقد صار من حال المسلمين فيها أمراً عجيباً -معنى كلامه- قل علمهم وإيمانهم فصاروا يشاركون الكفرة في أعيادهم، حتى صارت مشاركتهم لأعياد الكفار أبهى في أنفسهم وأعظم من أعياد المسلمين، لما يفعلونه في أعياد الكفار من الهدايا والخروج والاجتماع والنفقات والكسوة للأولاد. وإذا علمنا أيها الإخوة أنهم يشاركون النصارى في أكل البيض واللحم واللبن والخروج في الخميس إلى تبخير البخور، ويأخذون معهم ذبائح يزفونها بناقوس صغير، وكثير من المسلمين يفعلون ذلك كما ذكر شيخ الإسلام في ذلك الزمن، حتى أنه كان في يوم الخميس تبقى الأسواق مملوءة من أصوات هذه النواقيس الصغيرة، وكلام المنجمين، وتباع فيها صور الحيات والعقارب التي يلصقونها في بيوتهم؛ لزعمهم واعتقادهم أنها تمنع السموم، وتمنع العين، وكانوا يصبغون أبوابهم ومراكبهم ودوابهم بالطين الأحمر أو الخلوط مشابهة للنصارى لما يفعلونه، ويحملون أوراق الزيتون، ويكشفون رءوسهم لاعتقادهم بأن مريم تمر فوق رءوسهم فتنزل عليهم بالبركة.

الشروط العمرية على أهل الذمة

الشروط العمرية على أهل الذمة إذا تأملنا في شروط أهل الذمة التي تمنع الوصول إلى هذا المستوى التي شرطها عليهم عمر رضي الله عنه، تعلمون عظمة هذا الدين، فإن عمر رضي الله عنه شرط على أهل الذمة توقير المسلمين، والقيام لهم من مجالسهم إذا أراد المسلمون أن يجلسوا فيها، ولا يتشبهون بهم في شيء، لا في اللباس ولا غيره، ولا يفرقون رءوسهم؛ لأن الفرق من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، والإسدال من عادات اليهود والنصارى، فألزمهم بإسدال شعورهم وعدم فرقها، ولا يتكنون بكنى المسلمين ولا يتقلدون سيفاً ولا سلاحاً، ولا ينقشون خواتيمهم بالعربية، وأن يشدوا الزنانير على وسطهم حتى يتميزوا عن المسلمين، ولا يظهرون صليباً على كنائسهم ولا كتباً، ولا تبنى كنائس جديدة، وبالنسبة للكنائس القديمة في البلاد التي فتحها المسلمون، فلا يظهر الصليب فوق الكنيسة، ولا تباع كتبهم وأناجيلهم، ولا يضربون بنواقيسهم في الكنائس إلا ضرباً خفيفاً لا يسمع من خارج الكنيسة، ولا يرفعون أصواتهم في صلواتهم، ولا يبيعون خمراً، ولا يجاورون مسلماً بخنازير، ولا يخرجون في باعوث، وهذا عيد من أعيادهم، يخرجون فيجتمعون فيه، فإذا تأملنا هذه السنن التي شرطها عليهم أمير المؤمنين، كيف يوجد فيها من الصغار عليهم وإذلالهم، وكبت دينهم وشعائرهم حتى لا تظهر أمام المسلمين، تميزاً لهذه الملة وأهلها عن تقاليد الكفر وشعائرهم، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم ممن يميزون هذا الدين، ويحافظون على نقائه، وصلى الله على نبينا محمد. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

حدوث المشابهة للكفار ومشاركتهم أعيادهم

حدوث المشابهة للكفار ومشاركتهم أعيادهم الحمد لله الذي لا إله إلا هو لا شريك له، لم يكن له صاحبة، ولم يتخذ ولداً، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى سائر إخوانه من الأنبياء، وصحابته من تبعه بإحسان إلى يوم الدين. أيها الإخوة! أخبرنا رسولنا صلى الله عليه وسلم أننا سنقلد اليهود والنصارى، بلام التوكيد والنون: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، وحتى لو أن أحدهم نكح أمه علانية، لكان في أمتي من يفعل ذلك) وكلام رسول الله وحي يوحى، فهو لا ينطق عن الهوى، وما أخبرنا به قد حصل، فأنت ترى اليوم واقع بلاد المسلمين من جهة مشاركتهم للكفار في أعيادهم أمراً مؤلماً وواقعاً سيئاً، هذه المشابهة التي تهنئ فيها النصراني بعيد رأس السنة مثلاً، أو تشاركه فيه، فإن هذا إقرار ضمني منك ولو غير صريح على عقيدته ودينه ومنهجه. إقرار غير صريح منك على هذا الأمر، بل إنهم سيغتبطون سروراً عندما يرون المسلمين يشاركونهم في أعيادهم، وإن المشرك ليتمنى أن موحداً يشاركه في عيده، لكي يحس بأنه لا فرق بين الأديان، وأن الكل سواء، ولا يحس بخطئه هو. ومن المقاصد من وراء عدم مشابهة الكفار تحسيسهم بغربتهم وتحسيسهم بخطئهم، وأننا لماذا لا نشاركهم؟ لأنها خطأ، شرك، فعندما تشاركهم وتهنئهم كأنك تقول لهم: ليس عليكم ضير في هذا الدين، فنحن نفرح معكم، ونسر كما تسرون، وكم في هذا من إماتة لشعائر الإسلام! وكم في هذا من إقرار لأهل الباطل على باطلهم إقراراً لا يرضاه الله! ويتربى أطفالنا اليوم منذ الصغر على التشوق لهذه الأيام -أيام رأس السنة واحتفالات عيد الميلاد كما يقولون- لما يأتيهم من الهدايا والحلويات في هذه الأيام في كثير من بلدان المسلمين، فصار الأطفال من الصغر يتوجهون قلبياً لهذه الأيام.

المشابهة والمشاركة تسبب التآلف

المشابهة والمشاركة تسبب التآلف واعلموا أن مشابهة اليهود والنصارى بمشاركتهم في أعيادهم تجر إلى المشاركة في أمور أخرى تسبب نوعاً من التآلف معهم، ألا ترى أن أصحاب المهنة الواحدة! النجار يميل إلى نجار مثله، وصاحب سيارة الأجرة يميل إلى مثيله؛ لاشتراكهم في صنعة واحدة، وهي قضية دنيوية، بل إن الذي يسير في الشارع في سيارة ويرى أمامه سيارة مماثلة لسيارته التي يركبها تماماً، يشعر بنوع من التقارب لصاحب هذه السيارة شاء أم أبى، هذه الطبيعة ركبها الله في النفس، فإذا شاركناهم في أعيادهم؛ فإن هذا مشابهة لهم توجب تقارباً وتآلفاً شئنا أم أبينا. كيف نشعر بعدائنا لليهود والنصارى، وكيف نشعر أن دينهم شرك، وكيف نتبرأ من شركهم ونعلن أن هذا لا يرضاه الله ثم نشاركهم في أعيادهم؟! لا يمكن أن يجتمعا.

محرمات في أيام أعياد الكفار

محرمات في أيام أعياد الكفار واحذروا من طاعة كثير من النساء في مثل هذه الأيام اللاتي يردن الذهاب للتفسح والسفر في مثل هذه الأيام. ومن الأشياء المحرمة تخصيص أيام معينة لطبخات معينة، كما يفعل اليهود والنصارى؛ مثل أكل رز باللبن في أيام معينة في السنة، أو البسيسة وربما تكون هي البسبوسة، أو العدس أو البيض المصبوغ كما يفعلون، بيض ملون بألوان مختلفة، يفعلونه في عيد من أعيادهم، مثل عيد الربيع عندهم وأعياد أخرى، يصبغون البيض بألوان مختلفة ويوزعونه على الأطفال، أو الاغتسال بغسالة ورقة الزيتون كما يعتقدونه، أو التعطيل في أيام عيدهم، تعطيل الصنائع والتجارات والوظائف، فإنها من أكبر المحرمات لما في ذلك من مشاركتهم في عيدهم، ويقول شيخ الإسلام رحمه الله مضيفاً: والواجب أن تجعل أيام عيدهم عندنا كسائر أيام السنة دون قطع، طمساً لهذا الدين المحرف، ولا يعين المسلم على التشبه بهم، ولا تجاب دعوتهم إلى ولائمهم في تلك الأعياد، وقال شيخ الإسلام: ولا تقبل هداياهم التي يهدوننا إياها بمناسبة عيدهم، تقول: لا. آسف لا أقبل منك: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6]. وكذلك لا يجوز بيعهم ما يستعينون به على شعائر أعيادهم مثل الديك الرومي، وإذا علمت أن المشتري واحد منهم أو يريد أن يعينهم، لكن بيع الديك الرومي في سائر أيام السنة لا بأس به، وبيعه لمسلم بالطريقة العادية لا بأس به، لكن بيعه لكافر تعلم أنت أنه سوف يستعين به على إظهار شعائر دينه لأن من تقاليده في أعيادهم طبخ الديك الرومي فلا يجوز، ولا يجوز تأجيرهم الصالات ولا الفنادق لإقامة احتفالاتهم، لأن في ذلك رفعاً لدينهم وإظهاراً لأعيادهم، والله يأبى ذلك، وما يفعلونه ليلة خمسة وعشرين من ديسمبر، ويوم خمسة وعشرين من الشهر نفسه فيه من المنكرات ما الله به عليم، وفي الساعة العاشرة ليلاً أكثر من تسعين في المائة من الشعب الأوروبي والأمريكي يكونون سكارى في هذا اليوم، ويعملون الولائم ويخصصون لها الأكلات المعينة، ويلبسون ثياباً مثل ثياب المهرجين، وبعضهم يمثل دور بابا نويل كما يقولون، الذي يسمونه سنتا كلوز، شيخ بلحية بيضاء يوزع الحلويات على الأطفال، والبيت الذي ليس أمامه شجرة عيد ميلاد عندهم هو بيت بؤس وتعاسة، حتى أن فقراءهم يتقاسمون هذه الشجرة، ويزينونها بالأنوار، ويجعلون الحلويات التي تقدم إلى الأطفال على شكل عكاز بابا نويل، وطبعاً بعض أطفال المسلمين يشترون ذلك ويأكلون منه، أو على شكل دمى مثل بابا نويل أو غيره. وقبل الساعة الثانية عشرة ليلاً بدقيقة تطفأ الأنوار في رأس السنة، وترتكب أنواع الفواحش، يودعون السنة التي أعطاهم الله إياها بأنواع الفواحش. ويقولون: وألقى كثير من الشباب المخمرين أنفسهم في النافورة الكبيرة المشهورة في ميدان الطرف الآخر في مدينة لندن، يشربون الخمر ويلقون أنفسهم في النوافير ابتهاجاً في تلك الليلة بهذا اللعب. وما يحدث من المسلمين من المشاركة سيأثمون عليه عند الله إن لم يغفر الله لهم، ويتوبوا إلى الله من هذا، مثل إرسال بطاقات المعايدة لهم المخصصة لتلك الأعياد، أو تهنئتهم مثلما يقولون: هبي النورين ونحو ذلك، أو ميري كرسميس ونحو ذلك، ولا يجوز تبادل الهدايا بهذه المناسبات، وبعض المسلمين يتعمد زيارة الكفار في بيوتهم مع ما فيها من المنكرات والفواحش بيتاً بيتاً، وبعض المسلمين يسافرون إلى بلاد أخرى لحضور هذه المناسبات، وبعض المسلمين يشترون الهدايا لأولادهم في هذه المناسبات، حتى أنهم شابهوا الكفرة في إعطاء الشراب الأحمر للطفل الصغير ليجمع فيه الحلويات والهدايا واللعب، ويضعونها لهم تحت وسائدهم، كما يفعل النصارى. وتوقد الشموع في هذه المناسبات، وتجلب الأشجار حتى وهي اصطناعية. وبالمناسبة حتى تعلموا أن القضية متعلقة بالدين، وليست قضية عادات وتقاليد وأفراح فقط، يزعمون أن هذه الشجرة هي التي ولد عيسى تحتها، فهي شجرة خير وبركة، فلذلك يجلبونها ويضعونها ويزينون بها مقدمات بيوتهم وأبوابها. وبعض المسلمين من السذج البسطاء يقولون: لماذا تقيمون الدنيا وتقعدونها، هم يهنئوننا في أعيادنا، أفلا نهنئهم في أعيادهم؟ أفلا نقابل الإحسان بالإحسان؟ نقول: إذا كنت أنت تعلم أنك على الحق، وهم هنئوك بعيدك اعترافاً منهم فالحمد لله، لكن إذا كنت تعلم أنهم على الباطل فكيف تهنئهم بعيدهم؟ كلامك يقال عندما يكون الدينان سواء، النصرانية مثل الإسلام كلها صحيحة، عند ذلك تهنئهم ويهنئونك! لكن إذا كنت تعلم أن الله قال: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73] {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:72]. كفروا وخرجوا عن الملة وعادوا الدين وأهله، ثم تهنئهم بأعيادهم!! وكذلك أيها الإخوة فإنما يجب أن نسعى بالتواصي بالحق والصبر، والحمد لله إن لبعض الجهات المسئولة إسهاماً جيداً في هذا الأمر، نسأل الله أن يوفق هؤلاء المسئولين المخلصين إلى إقامة شعائر الدين، وكبت شعائر أهل الكفر والزيغ. اللهم إنا نسألك أن تقيمنا على الملة الحنيفية من غير اعوجاج، اللهم اجعلنا ممن يخافك ويتقيك ظاهراً وباطناً، اللهم إنا نسألك أن ترينا الحق حقاً وترزقنا اتباعه، وأن ترينا الباطل باطلاً وترزقنا اجتنابه، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، واللهم إنا نسألك أن تجعلنا من أهل التوحيد أحياءً وأمواتا، اللهم انصر إخواننا المجاهدين في أفغانستان في هذا الشتاء، اللهم كن لهم معيناً وناصراً يا رب العالمين، اللهم انصر إخواننا من أهل السنة في لبنان وفلسطين، اللهم اكبت اليهود والعنهم، اللهم أخزهم ودمرهم. اللهم إنهم عاثوا في بلاد المسلمين فأظهروا فيها الفساد، اللهم صب عليهم سوط عذاب، اللهم أرنا فيهم يوماً كيوم فرعون وعاد وثمود، اللهم واجعل نصرة الموحدين من هذا الدين قريبة، اللهم لولا ثقتنا بك ما دعوناك، اللهم لا تخيب رجاءنا فيك يا رب العالمين، اللهم انصر الإسلام نصراً مؤزراً، وأعل كلمته على سائر الملل وأديان الكفر المنحرفة، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.

خذوا حذركم

خذوا حذركم القرآن الكريم مصدر التصورات والمفاهيم والموازين التي يزن بها المسلم ما يعرض له في حياته، وفي هذه الخطبة ذكر الشيخ جزءاً من تلك المفاهيم المتعلقة بشئون الناس والتي تجد المخالفة على أرض الواقع، من هذه المفاهيم: رد الشائعات إلى أهل العلم والبصيرة الهجرة في سبيل الله الحذر من الكفار بمفهومه الشامل مفهوم الفرق بين قتال المسلمين للكفار وقتال الكفار للمسلمين

رد الشائعات والأمور إلى أولي البصيرة

رد الشائعات والأمور إلى أولي البصيرة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. A=6000394> يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. A=6000493> يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. لا زلنا نؤكد ونتكلم يا إخواني على أهمية القرآن الكريم كمصدر من التصورات والمفاهيم والموازين التي يزن بها المسلم ما يعرض له في حياته، هذا القرآن الذي شكى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ربه ما لقي هذا القرآن من الهجران: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} [الفرقان:30] أعرضوا عنه وكذبوه، وخالفوه وهجروه ولم يعتمدوه مصدراً لأخذ التصورات الإسلامية التي عليها يسيرون، وبنورها يستضيئون، وبقوتها يواجهون. وأسرد لكم في هذه الخطبة أربعة من التصورات الأخرى، أفصل في واحد منها. من التصورات القرآنية المهمة، والمفهومات القرآنية العظيمة؛ مفهوم رد الشائعات والأمور إلى أولي البصيرة من أهل العلم والعقيدة، وعدم نشر الاضطرابات وإثارة البلبلة في صفوف المؤمنين، قال الله عز وجل: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:83] تنشأ أخبار كثيرة وتنتشر شائعات عظيمة، وتحصل الاختلافات في مسائل متشعبة في حياة المسلم إلى أولئك الذين يثيرون البلبلة، وينشرون هذه الأشياء بغير علم وبغير بصيرة، ينشرون الشبهات بين الناس، وليس عندهم رد قوي عليها، يثيرون المسائل العلمية، وليست لديهم أجوبة قاطعة أو واضحة عليها، ينشرون الأخبار التي تفرق صفوف المسلمين، وتشتت شملهم، وتثير الخوف والرعب في نفوسهم، إلى هؤلاء يوجه القرآن هذا التصور الذي يجب أن ترجع فيه الأمور إلى أهلها، وتوضع فيه الأمور في نصابها {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83] لأنه لا زال والحمد لله بين المسلمين من يوضح الحق ويبطل الباطل، الرجوع إلى أهل العلم والبصيرة وعدم التشدق والتكلم في الصفوف وفي المجالس.

مفهوم الهجرة في سبيل الله

مفهوم الهجرة في سبيل الله قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} [النساء:97 - 98] قد تضيق الأرض بأهلها، وقد تضطرب الأمور في إقامة الديانة وإحقاق الحق وإقامة شرع الله، فيبقى المسلم في وسط يخشى فيه على نفسه، لا يستطيع أن يقيم شعائر الإسلام الظاهرة، فعليه أن ينتقل إلى بيئة أفضل وأحسن يستطيع فيها أن يعبد الله. وهذه الأمور نسبية قد لا يوجد المثال في وقت من الأوقات، ولكن اتقوا الله ما استطعتم: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء:100] فإنه يؤجر ويفتح الله عليه وييسر له أموره. قارن بين هذا الأمر في القرآن وبين ذهاب الكثيرين من أبناء المسلمين للإقامة وسط الكفار، ودعم الكفار، وإفادة الكفار من عقول المسلمين وطاقات المسلمين. لماذا أمر الله المسلمين بالهجرة من بلاد الكفر والشرك إلى بلاد الإسلام؟ حتى تستثمر الطاقات الإسلامية في بلاد المسلمين وليس في بلاد الكفر، وحتى يحرم الكفار من الانتفاع بها، من تكثير العَدد والعُدد أو القوة المادية والمعنوية، فعند ذلك يصبح الانتقال إلى معسكر أهل الإسلام من الأمور المهمة الذي يقتضيها التميز ومفاصلة الكفار وموالاة المسلمين ومعاداة الكفار.

مفهوم أخذ الحذر من الكفار

مفهوم أخذ الحذر من الكفار قال تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً} [النساء:102] انظر كم مرة يتكرر الأمر بأخذ الحذر من الكفار. في هذه الآية التي هي نموذج على هذا المفهوم وهذا التصور: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً} [النساء:71] خذوا حذركم فإن الكفار يتربصون بكم، إنهم منبثون في كل مكان، يتربصون بكم الدوائر، لا تخرجوا فرادى ووحدانا، إما أن تخرجوا ثبات يعني: جماعات جماعات، وسرايا بعد سرايا، وقطعة بعد قطعة، أو انفروا جميعاً في جيش كامل حسب المصلحة التي يقتضيها واقع الحرب، لكن لا تخرجوا وحداناً لا تخرجوا آحاداً، إن الكفار يتربصون بكم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً} [النساء:71] وتلك الآية في صلاة الخوف ولماذا كانت هذه الكيفية في صلاة الخوف أن يقف الإمام فيكبر ويقف وراءه صف من المسلمين يصلون معه ووراءهم صف آخر، فإذا ركع وسجد الصف الأول والصف الثاني قائم ينظر ويحذر ويترقب حتى لا يؤخذ المسلمون على حين غرة؟ إذا انتهت الركعة الأولى بدأ الصف الثاني بالاقتداء بالإمام بالركعة الثانية في ركوعها وسجودها، والصف الأول قائم بعد أن يرجع إلى الخلف ويتقدم الثاني إلى الأمام حتى يحوز كلا الصفين أجر الصف الأول، ويقف القسم الأول يراقبون والقسم الثاني يصلون الركعة الثانية، ثم تقضي كل طائفة ما فاتها بالحذر والترقب، ولصلاة الخوف سبع كيفيات أو أكثر كلها بحسب الحال التي يكون فيها المسلمون من الأعداء، لماذا أيها الإخوة شرعت؟ لماذا نص القرآن على هذه المسألة؟ لماذا نبه إليها؟ لماذا قال: {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ} [النساء:102]؟ ولماذا قال بعد ذلك: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء:102]؟ لأن الكفار أعداء. ومن المفاهيم المهمة التي غابت عن أذهان المسلمين اليوم المفهوم الشامل الواسع للحذر من الكفار، الحذر من الكفار: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء:102] إن هناك محاولات للدس وتشويه الإسلام، والافتراءات على رجال خير القرون، والشخصيات الإسلامية المؤثرة في الكتب والمؤلفات والدوريات التي كتبها الكفار أو أشرفوا عليها، أو ربوا جيلاً من أبناء المسلمين يكتبون فيها لحرب الإسلام، وتقرأ هذه من قبل الناشئة وغيرهم، فتترسخ المفهومات المغلوطة المشوهة عن الإسلام وأهله، حدث هذا لأننا لم نأخذ حذرنا من الكفار، ولم نطبق قول الله: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء:102].

الحذر من الخدم والسائقين الكفار

الحذر من الخدم والسائقين الكفار الكفار والكافرات في بيوت المسلمين من الخدم والسائقين، كم منهن قتلت رب البيت أو ولده؟ كم منهن علمت الأولاد الأمور المنافية للعقيدة؟ كم منهم كانوا وكن بؤراً للفساد والفواحش؟ تسمع القصص المخزية الحزينة المؤلمة التي تفتت الكبد والقلب وتعصره، الزوج مع الخادمة، الزوجة مع السائق، الأولاد الشبان معها، تحطمت البيوت وتهاوت تلك الصروح، بقيت بيوت المسلمين خاوية على عروشها، نتيجة أي شيء حصل هذا؟ لأننا لا نطبق قول الله في الكفار: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء:102].

الحذر من حالات الاحتيال والسرقة في البضائع

الحذر من حالات الاحتيال والسرقة في البضائع حالات الاحتيال والسرقة في البضائع التي يستوردها التجار المسلمون وقد كتبت المجلات والصحف عن ذلك مراراً، البضائع التي لا تشحن أصلاً وقد دفعت قيمتها، البضائع التي تفقد وتضيع في الطريق خلال توقف السفينة في بعض الموانئ، البضائع المزورة بغير المواصفات المطلوبة، البضائع التي يكتشف حين وصولها أنها أكياس من رمل أو قوالب أسمنت أو من القش وغيره، لماذا حصل هذا؟ نتيجة عدم تطبيق قول الله عز وجل: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء:102].

الحذر من بضائع الكفار

الحذر من بضائع الكفار حتى بضائع الكفار التي تأتي إلينا لم تسلم من كتابة لفظ الجلالة على الأحذية، ولا الشهادتين على الملابس الداخلية، ولم تسلم كثير من الأطعمة من شحوم ودهون الخنزير والكلب، وتصدير الميتة ونحوها حتى السمك مكتوب عليه: ذبح على الطريقة الإسلامية، لماذا حصل هذا؟ لأننا لا نفقه قول الله تعالى: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء:102]. والحمد لله أن الوعي بدأ ينتشر بين كثير من المسلمين ولكننا نريد المزيد، كم سمعنا عن هؤلاء الكفار الذين يديرون تجارات المسلمين، أو جعلوا أمناء عليها، كم خانوا فيها؟ كم سرقوا؟ كم نهبوا؟ كم من التجار اكتشف أنه كان ضحية لمن سلم له أشياء من عمله من نصب واحتيال واختلاسات؟ تنبيهان: قد يقول قائل: إن المسلمين يغشون ويخونون. نقول: نعم. هناك منهم من يغش ويخون لضعف العقيدة، ولكن الكفار يغشون أكثر ويغشون انطلاقاً من عداوة العقيدة، المسلم قد يغش لضعف الوازع الديني ولضعف خوف الله في قلبه، الكافر لا يغش لهذا فقط لكنه يغشك ويخونك لعداوته لك في العقيدة، وهذا أخطر وأكبر وأعظم. وقد يقول قائل: لقد لمسنا من التعاملات مع بعض الكفار أمانة، نقول: نعم. إن الله قد قال في القرآن: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً} [آل عمران:75] فما بالك بما هو أكثر من الدينار؟ لماذا حصل هذا منهم؟ لماذا يخونون المسلمين ويسرقونهم؟ كيف استباحوا ذلك؟ {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:75] قال ابن كثير رحمه الله: يخبر تعالى عن اليهود بأن فيهم الخونة ويحذر المؤمنين من الاغترار بهم، ولو رأيت بعض الكفار فيهم أمانة؛ فاعلم بأن تلك الأمانة في الغالب أمانة تجارية. إنهم ينظرون إلى بعيد وتهمهم مصالحهم، إنهم يريدون أن يتعاملوا بالأمانة لكي يكسبوك أكثر لو تعاملوا بالأمانة، ولكن الغش والخداع فيهم كثير، وأرباب الأعمال والأموال يعرفون الأضعاف المضاعفة عن مثل هذه الأخبار، يحصل هذا مرة أخرى لأننا لم نعمل بقول الله: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء:102].

حوادث تعقيم نساء المسلمين

حوادث تعقيم نساء المسلمين حوادث تعقيم النساء المسلمات في المستشفيات في بعض بلدان المسلمين أو البلدان التي فيها أقليات إسلامية، كيف يحصل هذا؟ صورة من صور الكيد تنشأ عن عدم أخذ الحذر من الكفار، والغرض تحديد نسل المسلمين، والغرض الحد من تكاثرهم، ويحدث هذا؛ لأننا لم نفقه قول الله: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء:102].

تسلل الديانات المنحرفة والأفكار الهدامة

تسلل الديانات المنحرفة والأفكار الهدامة كم تسلل المبشرون بالديانات المنحرفة والأفكار الهدامة إلى مجتمعات المسلمين، فأثروا في العقول، وفتنوا المسلمين عن دينهم بسبب عدم أخذ الحذر من الكفار.

حقد الكفار على المسلمين وعداوتهم لهم

حقد الكفار على المسلمين وعداوتهم لهم الأمثلة كثير جداً، لكن ينبغي أن نعلم أن الكفار جبلوا على أن في قلوبهم حقداً وعداوة على المسلمين، ينبغي أن نعلم أن الله عندما قال: {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً} [الممتحنة:2] يعني هم أعداء فعلاًَ بكل ما تحمل الكلمة من المعنى، وعندما يقول الله فيهم: {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلّاً وَلا ذِمَّةً} [التوبة:10] يعني: ليس لهم عهد ولا أمان: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89] يريد الكفار ويتمنون لو كفرنا مثلهم حتى نكون سواء في الكفر، لا يريدون أن نكون أصحاب مبادئ، وأصحاب أمانة وأصحاب ديانة، وحملة رسالة ومجاهدون في سبيل الله. تحذير قرآني: {إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران:149]. استنكار قرآني لواقع بعض المسلمين: {تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} [الممتحنة:1] كيف يكون هذا؟ لو سكت الكفار فترة وهجعوا فإنما يريدون زيادة التَقَوِّي لمواصلة الحرب على المسلمين واستئنافها، وليس أنهم يعيشون معنا، وليس لأنه يمكن أن نعيش معهم في سلم، إنهم جبلوا على حرب الدين، وكره الدين، وعداوة المسلمين، لا يمكن أن يتوقفوا لحظة واحدة، مكر الليل والنهار بالإسلام وأهله. إذاً، أيها المسلمون خذوا حذركم. وفقنا الله وإياكم لأن نسير على هدي كتابه، وأن نأخذ حذرنا من الكفار، وأن يرزقنا العداوة لهم والموالاة لإخواننا المؤمنين. وأستغفر الله لي ولكم.

الفرق بين قتال المسلمين للكفار وقتال الكفار للمسلمين

الفرق بين قتال المسلمين للكفار وقتال الكفار للمسلمين الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله سيد ولد آدم وخاتم الأنبياء والمرسلين. عندما نقارن أيها الإخوة بين التصورات والمفهومات القرآنية وبين واقع المسلمين، عندما تقارن وتفكر في عمق القرآن وهذه التصورات القرآنية، ومحبة الله لعباده المؤمنين ينبههم ويحذرهم ويوعيهم ويبين لهم سبيل الهداية، ويحذرهم من الكفار ومن طرقهم، وبعد ذلك تجد المسلمين في غفلة وفي نوم تستغرب، ويأخذك العجب، وتقول في نفسك: يا ترى لمن أنزل هذا الكتاب؟ من هم المعنيون به؟ ومن المفهومات الأخرى التي نختم بها حديثنا في هذه الخطبة مفهوم الفرق بين قتال المسلمين للكفار وقتال الكفار للمسلمين، وهذه الآية نزلت ووردت في القرآن بعد آية الخوف، ولذلك فالرابط بها قوي، يقول الله عز وجل منبهاً العباد المسلمين الذين يقاتلون ويجاهدون، هم يجرحون ويقتلون ويألمون في القتال، أليس كذلك؟ إن هذا يحصل للمسلمين ويواجهون الشدائد والمصاعب، ويتغربون عن أهلهم، يواجهون مصاعب كثيرة جداً، ولكن عندما تقرأ هذه الآية تجد أن البلسم القرآني ينزل برداً وشفاءً على أولئك الذين يجاهدون في سبيل الله: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ} [النساء:104] إن كنتم تألمون أيها المسلمون؛ فإن الكفار يألمون كما تألمون، ويصيبهم الجراحات والقتل والمصائب كما تصيبكم، ولكن ما هو الفرق الجوهري؟ ما الذي يدفع المسلم إلى البذل وإلى العطاء وإلى التقدم والتضحية؟ إنه قول الله عز وجل: {وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:104]. تأمل يا أخي في هذه الآية: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ} [النساء:104] ولكن: {وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:104] أنتم تنتظرون جنة عرضها السماوات والأرض، تنتظرون الحسنيين: النصر في الدنيا الذي وعدكم الله، والجنة في الآخرة، هم لا ينتظرون، لا يوجد أحد وعدهم بالنصر إذا طبقوا شروط النصر، بل قد يطبقون شروط المعركة ثم ينهزمون كما حدث لأقوى الدول. ثانياً: لا أحد وعدهم بفوز في الآخرة، هذا مقتصر على المسلمين، فإنكم أنتم ترجون من الله، انظروا أيها الإخوة كيف يدفع القرآن المسلم دفعاً إلى العمل، كيف يهون عليه الشدائد، كيف يقول له: ضحِ وتقدم وجاهد؛ لأنك ترجو من الله ما لا يرجو أولئك. إذاً أنت أحق بالجهاد من الكفار، أنت أحق بالمواجهة من الكفار، لأنك ترجو من وراء عملك شيئاً لا يخطر لهم على بال ولا يتوقعونه ولا ينتظرونه، هذا مثال كيف القرآن يربي النفوس؟ كيف القرآن يرفع المسلم إلى مستويات عليا؟ هذا الذي أعرضنا عنه نسأل الله أن يعيدنا إليه. اللهم عالم الغيب والشهادة فاطر السموات والأرض أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون؛ اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، اللهم اجعلنا ثابتين على الحق شرعة ومنهاجاً، اللهم اجعلنا من الذين يعودون إليه ويفيئون، اللهم اجعلنا ممن يبطل الباطل ويعادي أهله، اللهم اجعلنا من الموالين لك ولدينك ولشريعتك ولعبادك الصالحين، اللهم إنا نسألك الفوز بالجنة والنجاة من النار، اللهم أعتق رقابنا من النار، اللهم إنا نعوذ بك من حميمها ويحمومها وغسلينها وغساقها، اللهم أعتق رقابنا منها ونجنا منها برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم انقلنا من ضيق اللحود ومواطن الدود إلى جنات الخلود، اللهم ارفع منازلنا في الجنة، اللهم واجعلنا ممن يصاحب نبيك وصحابته فيها يا رب العالمين. إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون، وصلى الله على نبينا محمد.

خلاصات في أحكام الزكاة

خلاصات في أحكام الزكاة تطرق الشيخ في هذه الخطبة إلى الكلام عن الزكاة ومسائلها الكثيرة، فتحدث عن: حكم إخراج الزكاة مصارف الزكاة عقوبة مانع الزكاة في الدنيا والآخرة زكاة الذهب والفضة زكاة الحلي زكاة الدين زكاة عروض التجارة زكاة الزروع والثمار إضافة إلى مسائل أخرى في ثنايا الخطبة.

الزكاة الركن الثاني من أركان الإسلام

الزكاة الركن الثاني من أركان الإسلام إن الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. اللهم لك الحمد على ما بلغتنا من هذا الشهر الكريم، وعلى ما أنعمت به علينا من البدء في صيامه، فأتمم نعمتك علينا إنك سميع مجيب. أيها المسلمون: بدخول شهر رمضان تتجدد أمور كثيرة من الذكريات، ويطوف ببال المسلم قضايا مهمة من الأمور التي يعيشها إخوانه المسلمون في هذا العصر والأوان، ويرتبط بشهر الصيام أمور متعددة سنقتصر على بيان واحد منها: أولاً: لأنه ركن من أركان الإسلام. وثانياً: أنه يهم كل مكلف، وهو فرض عين، بل حتى غير المكلفين يشملهم هذا الحكم، ونظراً لأن كثيراً من الناس قد ارتبط قيامهم بهذا الأمر وهو الزكاة في هذا الشهر العظيم؛ كان لا بد من الكلام عنه، وبيان شيء من أحكامه؛ ليكون المسلم على بينة، ويعبد ربه بالدليل والبينة فيما يقوم به من أموره وعباداته كلها.

الزكاة في القرآن

الزكاة في القرآن أيها المسلمون: يقول الله عز وجل: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} [البقرة:177] إذاً لا بد من إخراج الزكاة وهي من البر، قال سبحانه وتعالى مبيناً من هم المسلمون، ومن هم إخواننا في الدين، ومن هم الذين يجب الكف عن قتالهم، قال تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة:5] وقال: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11] ومن هذه الآية وغيرها أخذ بعض أهل العلم أن تارك الزكاة كافر ولو لم يكن جاحداً {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11] فإذا لم يتوبوا من الشرك، ولم يقيموا الصلاة، ولم يؤتوا الزكاة؛ فليسوا بإخواننا في الدين. وذهب بعض أهل العلم إلى عدم كفر تارك الزكاة إذا منعها بخلاً ولم يمنعها جحوداً، قال الله عز وجل عن إسماعيل عليه السلام: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ} [مريم:55] ووصف الله المؤمنين بقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} [المؤمنون:4] وهدد وتوعد وقارن بين الربا والزكاة فقال: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم:39] فبعض الناس يخرج الزكاة ابتغاء عرض دنيوي من ذكر أو شهرة أو ثناء من الناس ونحو ذلك، أو يخرجها لا عن طيب نفس فقال الله: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم:39] أي: الذين يضاعف لهم الأجر. أيها المسلمون: ولأن الزكاة ركن من أركان الإسلام والشريعة تبين الأركان كما تبين غيرها؛ فقد بين الله في كتابه من هم الذين يستحقون الزكاة، وإلى أي أصناف الناس تصرف: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:60] عليم بعباده، حكيم فيما شرع لهم.

حكم مانع الزكاة في الدنيا

حكم مانع الزكاة في الدنيا أيها المسلمون! قال صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس؛ حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله) لقد فهم أبو بكر رضي الله عنه هذا الحديث، فلما ارتد العرب وبعضهم منع الزكاة جاء في حديث أبي هريرة تفاصيل ما حدث فقال: (لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستخلف أبو بكر بعده، وكفر من كفر من العرب، قال عمر لـ أبي بكر: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله؛ عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله، فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه، فقال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق) رواه البخاري وغيره. ولذلك جاء حكم مانع الزكاة في السنة، فقال صلى الله عليه وسلم عن الزكاة: (من أعطاها مؤتجراً، يبتغي الأجر؛ فله أجرها، ومن منعها؛ فإنا آخذوها -بالقوة- وشطر ماله -وفي رواية- وشطر إبله -لأن المناسبة كانت في الإبل- عزمة من عزمات ربنا تبارك وتعالى، لا يحل لآل محمد منها شيء) حديث حسن. إذاً: يجب على إمام المسلمين أو من يقوم مقامه أن يأخذ الزكاة من مانعه بالقوة ولو اضطروا لقتاله، زائد شطر ماله عقوبة على المنع، هذا هو الحكم الشرعي في مانع الزكاة.

عقوبة مانع الزكاة في الآخرة

عقوبة مانع الزكاة في الآخرة قال صلى الله عليه وسلم عن حكمه في الدار الآخرة: (ما من صاحب ذهب ولا فضة، لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة، صفحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة؛ حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار). أيها المسلمون: ليست صفيحة واحدة ولكنها صفائح من نار، ليست نار الدنيا ولكنها نار جهنم فضلت على نارنا بتسعة وستين جزءاً. أيها المسلمون: لا يكوى بها طرف واحد من جسده، ولكن يكوى بها جنبه وجبينه وظهره. أيها المسلمون: إذا بردت لا ينتهي الأمر، كلما بردت أعيدت له. أيها المسلمون: ليس في ساعة ولا في يوم ولا في جمعة، ولا في أسبوع، ولا في سنة يستمر ذلك العذاب، إنما هو في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد. (ولا صاحب إبل لا يؤدي منها حقها، ومن حقها عليه حلبها يوم وردها للفقراء على الماء، إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر أوفر ما كانت لا يفقد منها فصيلاً واحداً، تطؤه بأخفافها وتعضه بأفواهها، كلما مرت عليه أولاها؛ رد عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد). وفي البقر والغنم قال صلى الله عليه وسلم: (تأتي وتمر عليه تنطحه بقرونها، وتطؤه بأظلافها، كلما مرت عليه أولاها رد عليها أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة). فماذا بعد أيها المسلمون؟ ماذا تريدون من الأدلة التي تدفع المسلم إلى إخراج زكاته عاجلاً عند حلول الحول، قبل أن يتوفاه الله، فيلقى ربه غضبان عليه، ويعذب في قبره، وفي الدار الآخرة بما جنى من منع الزكاة وعدم إخراجها، ماذا يقول الأغنياء من المسلمين الذين تصل زكاتهم إلى الملايين، وهم يمنعونها لأنهم قد استكثروا هذه الزكاة ولم يخرجوها كما أمر الله.

بعض أحكام الزكاة

بعض أحكام الزكاة أيها المسلمون: هاكم طائفة من الأحكام -وإن أطلنا قليلاً- نظراً للحاجة إليها والبيان في هذا المجتمع العظيم الذي أنتم فيه.

شروط إخراج الزكاة

شروط إخراج الزكاة الزكاة: هي النماء والزيادة، ومن ملك أي صنف من الأصناف التي تجب فيها الزكاة من الذهب والفضة أو ما يقوم مقامهما من الأوراق النقدية أو عروض التجارة، أو الغنم والإبل والبقر، وغيرها من الأصناف الزكوية إذا بلغت نصاباً وحال عليها الحول وجب إخراج الزكاة فيها، حق الله ويشترك فيها حق للفقير أيضاً، لا بد من إخراج الزكاة، ولو كان المال ليتيم أو مجنون لا بد من إخراج الزكاة، ويخرجها عنه وليه.

نصاب الذهب والفضة في الزكاة

نصاب الذهب والفضة في الزكاة أيها المسلمون: قال صلى الله عليه وسلم: (ليس في أقل من عشرين مثقالاً من الذهب ولا في أقل من مائتي درهم -يعني: من الفضة- صدقة) فهذا هو الحد في زكاة النقدين. حديث صحيح. وبناءً على ذلك: فإنك إذا سألت: كم يساوي الذهب الآن بالأوزان المتداولة؟ قوّم أهل العلم هذا النصاب الوارد في الحديث بما مقداره إحد عشر جنيهاً ذهبياً متداولاً هنا، وثلاثة أسباع من الذهب، أو ستة وخمسون ريالاً من الفضة، وإذا أردتها بالغرامات فإنها تقريباً خمسة وثمانون غراماً من الذهب تنقص قليلاً أو تزيد قليلاً، بحسب ما رأى أهل العلم والخبرة المقدرون لذلك. ونصاب الفضة ما يعادل ستمائة وأربعة وثلاثين واثنين في العشرة غراماً من الفضة، هذا هو النصاب في النقدين، ولأن الريالات في هذه البلد أول ما خرجت وتجولت كانت مبنية على الفضة وكانت مقدرة، وكان المستعمل هو ريال الفضة، ولأن هذا هو الأحظ للفقير، صار النصاب من الأوراق النقدية مقدراً بالفضة في مبدأ الأمر، ولو تغير بعد ذلك فإنه الأحظ للفقير. أن الرجل إذا كان عنده ستة وخمسون ريال فضة فأكثر، يخرج عن كل مائة اثنان ونصف، فإذا قيل لك: إن ريال الفضة الآن في السوق يساوي عشرة ريالات مثلاً أو تسعة، فإنك تعلم أن نصاب المال تقريباً الآن خمسمائة ريال فأكثر، وهو الأحظ للفقير يخرج من كان عنده هذا المبلغ، وأكثر الريالات الموجودة الزكاة الآن في كل ألف خمسة وعشرين ريالاً، والحمد لله إن أكثر الناس يملكون أكثر من هذا النصاب، فالواجب عليهم إذاً المبادرة لإخراج الزكاة فيها. ويقول الناس: إنا لا نستلم رواتب فماذا نفعل؟ نقول: خذوا أول يوم استلمتم فيه مرتباً وليكن الثلاثين من شعبان في عام (1410هـ) مثلاً، فإذا جاء عندك في ثلاثين من شعبان (1411هـ) فانظر مثلاً ماذا عندك من الرصيد؟ أخرج في كل ألف خمسة وعشرين ريالاً، وأرح نفسك من العناء حول كل راتب، ومعرفة ما أخذت منه وما وفرت؛ فإنك ستتعب، فإن أردت سبيل الراحة والسماح وطيب النفس؛ فأخرج بهذه الطريقة. فإن كنت متعوداً على إخراج زكاة المال مثلاً في الخامس عشر من رمضان، فإذا جاء هذا اليوم؛ فانظر ما عندك من الأموال؟ فأخرج على كل ألف خمسة وعشرين ريالاً، فإذا كان عندك أو عند زوجتك سبائك ذهب أو حلي وغيرها؛ فلا بد من إخراج الزكاة من كل، خمسة وثمانين غراماً فأكثر، ويعامل بمفرده في قيمة الذهب الحالية في السوق عند حلول الحول. وكذلك فإن كل ما لدى الإنسان من أقلام أو ساعات ذهب وغيرها مع أنه لا يجوز أصلاً لبس الذهب للرجال، ولكن نقول: من ملك أشياء فيها ذهب، كلها تدخل مع النصاب، فإذا وصل خمسة وثمانين غراماً تقريباً تجب فيه الزكاة أو في قيمته الحالية في السوق في كل ألف خمسة وعشرين ريالاً.

حكم الزكاة في المعادن الثمينة

حكم الزكاة في المعادن الثمينة وأما المعادن الثمينة فإنه لا زكاة فيها ولو كانت أغلى من الذهب، مثل الألماس وغيرها لا زكاة فيها، لعدم ورود النص فيها، والأصل براءة الذمة إلا إذا أعدت للتجارة فصارت من عروض التجارة. ولا يجب تكميل نصاب الذهب بالفضة التي عندك، فإنك تعامل الذهب بنصاب مستقل والفضة بنصاب مستقل، وتعامل ما ملكت البنت الأولى كنصاب مستقل وما ملكت البنت الثانية كنصاب مستقل، ولا يجب أن تجمعه جميعه. وكذلك فإنه إذا نقص عن النصاب شيئاً يسيراً جداً، فأخرج الزكاة لأنه يصعب ضبطه، وكذلك إذا كان عندك شيء مخلوط بالذهب والفضة أو ذهب وألماس؛ فقدر الذهب عند أهل الخبرة، ثم ضم الذهب بعضه إلى بعض مما كنت تملكه أنت، أو ضم بعضه إلى بعض فيما تملكه زوجتك؛ لتعلم كم مقدار الزكاة فيه؟ ومن كان عنده هواية جمع نقود، فيجب إخراج الزكاة فيها إذا بلغت مع بقية ماله نصاباً.

حكم الزكاة في عروض التجارة

حكم الزكاة في عروض التجارة وأما عروض التجارة فتقوم السلع المعدة للبيع في آخر السنة، ويجب إخراج قيمة الزكاة عند حلول الحول في كل ألف خمسة وعشرين ريالاً. وأما أموال السيولة في البنك مثلاً فإنه يخرج زكاتها أيضاً، والأراضي المعدة للبيع يجب إخراج الزكاة فيها؛ لأنها صارت من عروض التجارة إذا نوى بها البيع وعرضها للبيع، فبمجرد نية البيع وعقد العزم يبدأ الحول، فإذا حال عليها الحول؛ وجب إخراج الزكاة في قيمتها الحالية عند حلول الحول؛ لأن الأراضي معرضة للارتفاع والانخفاض، وأما الأرض المعدة للإيجار أو للسكن أو لبناء مشروع عليها أو محطة بنزين أو عمارات أو دكاكين للإيجار فلا زكاة فيها، وإنما الزكاة في الإيجارات إذا استلمت وحال عليها الحول، وأما إذا أعدت للبيع؛ فيجب فيها الزكاة، وإذا ترددت النية بين البيع والتأجير أو الاحتفاظ للنفس مثلاً؛ فإنه لا زكاة حتى تجزم بالبيع.

حكم زكاة الحلي

حكم زكاة الحلي تجب الزكاة في حلي الزوجة على الزوجة لأنها صاحبة المال، إلا إذا تبرعْتَ بطيب نفس أن تخرج عنها؛ فلك الأجر بعد أن تعلمها بإخراج الزكاة عنها، وإذا كانت تجهل حكم الزكاة في الماضي؛ فلا إعادة عليها فيما مضى؛ لجهلها بهذا الحكم الذي وقع فيه اختلاف، لكن جاء الدليل الصحيح به في امرأة جاءت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يد ابنتها مسكتان من ذهب (سواران) قال: (أتؤدين زكاة هذا؟ قالت: لا. قال: أيسرك أن يسورك الله بهما سوارين من نار يوم القيامة) فدل على وجوب إخراج الزكاة في الحلي سواءً ما كان مستعملاً أو للإعارة، أو يلبس مرة في السنة أو طيلة السنة أو لا يلبس أبداً، تجب فيه الزكاة على القول الراجح المسنود بالدليل من أقوال أهل العلم.

حكم زكاة الأسهم

حكم زكاة الأسهم وأما الأسهم فإنها تقوم عند حلول الحول، فيعرف قيمة الأسهم في السوق الآن وتخرج قيمتها، وأرباحها تضاف إليها، فليس هناك حول منفصل للأرباح ورأس المال، ولكن إذا حال الحول على رأس المال وهو الأسهم؛ تخرج زكاتها مع زكاة الأرباح ولو خرجت الأرباح قبلها بيوم.

حكم الزكاة فيما هو معد للاستعمال الشخصي

حكم الزكاة فيما هو معد للاستعمال الشخصي وأما ما أعده الإنسان لسكنه من أنواع الأثاث والأواني والسجاجيد وغيرها فلا زكاة فيها، كذلك السيارات إذا كانت معدة للاستعمال؛ فليس فيها زكاة ولو بلغت مائة سيارة والحمد لله، وصاحب سيارة الأجرة (التاكسي) لا يخرج الزكاة على سيارته؛ لأنها ليست معدة للبيع، فكل ما هو معد للاستعمال الشخصي لا زكاة فيه إلا الذهب والفضة. يجب على المرأة إخراج الزكاة في الصداق إذا كان عندها، أو إذا كانت متى طالبت زوجها أعطاها، أما إذا لم تستطع المطالبة، فإنه ليس عليها إلا حين تقبضه وتخرجه مرة واحدة.

زكاة المزارع والزروع والثمار

زكاة المزارع والزروع والثمار وكذلك فإن المزارع لا زكاة فيها إلا إذا أعدت للبيع، وما يخرج من المزارع إذا كان من الأصناف الزكوية كالحبوب والثمار تجب فيها الزكاة حسب ما ورد في النصوص الشرعية من المقادير، وأما إذا كانت خضروات مثلاً فلا زكاة فيها لحديث: (ليس في الخضروات زكاة) فمن كان عنده بيوت محمية فيها خضروات؛ فلا زكاة فيها والحمد لله، الإسلام لا يهدف لإضرار الناس أبداً، في كل مائة اثنين ونصف في الأموال التي عندك، وبقية الأشياء مقادير يسيرة للمصالح العامة ولمصلحتك أنت قبل كل شيء.

حكم الزكاة في المنافذ المؤجرة

حكم الزكاة في المنافذ المؤجرة المنافذ المؤجرة وغيرها لا تجب فيها الزكاة إلا في الأجرة إذا حال عليها الحول، والأموال المعدة لشراء بيت أو للزواج أو لقضاء دين يجب فيها الزكاة؛ إذا كانت لا زالت عندك، أما إذا صرفتها في تسديد الديون قبل الحول؛ فلا زكاة فيها.

حكم الزكاة على الدين

حكم الزكاة على الدين إذا كان عليك ديون وعندك أموال، فالصحيح أن الدين لا يمنع إخراج الزكاة التي عندك، ولو كان الدين أكثر من المال الذي عندك، تخرج منه اثنين ونصف في المائة، إلا إذا أخرجت المال لتسديد الدين قبل حلول الحول فلا زكاة فيه. وكذلك إذا كان لديك أموال عند الناس أسلفتهم إياها؛ فلا يجب عليك إخراج الزكاة فيها إلا إذا قبضتها منهم، فإذا كانوا أغنياء متى طالبتهم أعطوك -هذا تعريف الغني في هذا الحكم- تخرج عن كل السنوات الماضية، أما إذا كان مماطلاً أو فقيراً؛ فلا زكاة عليك إلا إذا قبضتها، وتخرجها مرة واحدة فقط. ويحسن إخراج زكاة المال من جنسه، من الثمار ثمار، ومن الغنم غنم، ومن التجارة أموال، وهكذا تقوم، ويحسن ولكن لا يجب، فلو أخرجها مالاً كلها فلا بأس.

مصارف الزكاة

مصارف الزكاة ويجب إعطاء الزكاة لمستحقيها والمستحقون هم المذكورون في الآية، والفقير هو من لا يجد شيئاً من الأشياء الضرورية، إذا كان لا يجد طعاماً أو شراباً أو سكناً أو أشياء ضرورية في البيت كالثلاجة والمكيف مثلاً ضرورية في البيت لكن الكنب ليس ضروري، فإذا كان لا يجد الأشياء الضرورية فهو فقير يعطى. ويجوز إعطاء الزكاة للذين عليهم ديون لا يستطيعون أداءها وهم مطالبون الآن، أو مهددون بالسجن مثلاً، أو تخرجه من السجن لتسديد ما عليه. وكذلك أصحاب الجنايات والديات يجوز إعطاؤهم منها؛ ليسددوا الجنايات والديات التي عليهم، ولا يجوز إعطاء الزكاة لتارك الصلاة والكافر أبداً، ويجوز إعطاؤها للفاسق الذي يرتكب شيئاً من المنكرات ولكن إعطاؤها للتقي أولى، ولا حرج في دفع الزكاة للأخ الفقير، الخال الفقير، العم الفقير، الأخت الفقيرة، العمة الفقيرة وهكذا، إلا من يلزمك نفقتهم فلا يجوز إعطاؤهم كالأصول (الآباء والأجداد) والفروع (الأبناء) والزوجة؛ لأنك مكلف بالنفقة عليهم شرعاً. وكذلك لا يجوز صرف الزكاة لبناء مساجد أو طباعة مصاحف؛ لأنها ليست من مصارف الزكاة، ولا يعطى الخادم ولا السائق ولا الخادمة من الزكاة؛ لأن لهم راتباً إلا إذا كان فقيراً لا يكفيه راتبه وهو فقير في أهله؛ ولا يزال محتاجاً؛ فيجوز إعطاؤه، مع أن الأولى ألا يعطى؛ لئلا تحصل مكاسب وأشياء تعود عليك من إعطائه الزكاة، كأن يحسن خدمته أو لا يريد أن يجلس عندك، فيجلس عندك؛ لأنك أعطيته هذه الزكاة.

حكم النية في الزكاة

حكم النية في الزكاة لا بد من النية عند إخراجها، فإن الإنسان لو تصدق قبل شهرين بخمسمائة ريال صدقة ولما جاءت الزكاة قال: أحسب الخمسمائة من الزكاة نقول: لا يجزئ؛ لأنك ما نويت الزكاة عند إخراج تلك الصدقة، فأما إذا نويت من قبل قلت هذه الزكاة مقدم خمسمائة ريال؛ فتحسب من الزكاة ولا بأس بذلك.

حكم إعطاء الزكاة للجمعيات الخيرية

حكم إعطاء الزكاة للجمعيات الخيرية واحذروا إذا دفعتم زكواتكم للجمعيات الخيرية، فلابد من التأكد أنها تصرف للمستحقين، وإلا من يعطي للجمعيات من غير تدقيق في من يأخذ وأين تصرف؛ فإن هذا على خطر عظيم. وكذلك فإن أموال صناديق البر والصناديق الخيرية والرصيد في البنك لبناء مسجد والمجمع من متبرعين لا زكاة فيه.

حكم التصرف في مال الزكاة

حكم التصرف في مال الزكاة وكذلك لا يجوز التصرف في المال بل لا بد من إعطائه الفقير، لا تشتر له بها أشياء ثم تعطيه، أعطه المال وهو يتصرف، إلا إذا كان أحمق أخرق لا يحسن التصرف؛ فيجوز أن تتصرف بشراء أشياء ضرورية له؛ لأنه لا يحسن التصرف، وأما إن كان عاقلاً يحسن التصرف، فلا تتصرف له في أمواله.

حكم إعطاء الزكاة للأقارب

حكم إعطاء الزكاة للأقارب وإذا لم يوجد عندك فقراء هنا؛ تعطيها لفقراء آخرين في بلدان أخرى خصوصاً إذا كانوا من الأقارب، فأنت تعطيها لهم إذا كانوا من الذين لا تلزمك نفقتهم. افرض أن لك عماً فقيراً في مصر أو الأردن أو غيرها من البلدان، فيجوز أن ترسلها إليه وتعطيها إياه، وهو أولى من غيره.

حكم تأخير الزكاة بسبب الضرر

حكم تأخير الزكاة بسبب الضرر وكذلك فإنه لو قال إنسان: أنا أتضرر لو أخرجت الآن، أي: إذا أخذت بعض ممتلكاتي أتضرر، نقول: لا بأس أن تتأخر الشهر والشهرين؛ فتخرج الزكاة مقسطة خلالها، ولكن لا تؤخر حق الله وحق الفقير.

حكم أخذ موزع الزكاة من زكاة الغني

حكم أخذ موزع الزكاة من زكاة الغني وكذلك فإنه لا يجوز لإنسان أن يأخذ الزكاة من غني لنفسه وإن قال: آخذها وأعطيها محتاجين، لا يجوز أن يأخذها إلا بعد أن يخبر صاحب المال أنه هو المحتاج. ولا يلزم إخبار الفقير عند إعطائه الزكاة أنها زكاة، فلا داعي للحرج، تعطيها وترسلها بأي طريقة، ومن يوقف الفقراء أمام بيته بالطابور؛ فعليه أن يخشى الله من إذلال الناس، إنما يوصلها إليهم في بيوتهم مخفية، لا يطلع عليها إلا الله، ومن فاتت الزكوات الماضية منه؛ فعليه أن يخرجها الآن، ويتدارك أمره قبل العذاب الأليم المترتب على عدم إخراجها. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يفقهنا وإياكم في دينه، وأن يرزقنا اتباع سنة نبيه، اللهم اجعلنا ممن يحفظ حدودك، ويؤدي حقوقك، اللهم اجعلنا من الوقافين عند حدودك لا من المعتدين، واغفر لنا أجمعين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

أحكام الزكاة في البقر والغنم والإبل

أحكام الزكاة في البقر والغنم والإبل الحمد الله الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير، هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد السراج المنير، والداعي إلى الله بإذنه، تركنا على البيضاء ليلها كنهارها. أيها المسلمون: من كان عنده سائمة من الإبل أو البقر أو الغنم؛ فإن كان يعدها للتجارة؛ فيجب إخراج الزكاة في قيمتها؛ لأنها صارت من عروض التجارة، أما إن كانت عنده يعدها لاستعماله الشخصي، أو يذهب إليها بين حين وآخر فقط ولم يعدها للبيع فلا زكاة، وإذا كانت ترعى من هذه الأعشاب في الأرض، فتجب فيها الزكاة كما جاء في الحديث: (في كل أربعين شاة) وهكذا في الإبل في كل خمس إبل شاة، وهكذا في البقر إلى آخر الأنصبة. وإما إن كان هو الذي يطعمها ويشتري لها شعيراً وهو الغالب في أمره؛ فإنه لا زكاة فيها إلا إذا أعدت للتجارة والبيع منها؛ فإنها تجب فيها الزكاة ولو كان هو الذي يعلفها.

أحكام الدين

أحكام الدَّين وكذلك فإننا نقول ونعيد الكلام في الدين؛ للحاجة إلى بيانه لكثرة المداينات التي تحصل بين الناس: إذا كان عندك نقود، وعليك دين؛ أخرج الزكاة على المال الذي عندك؛ إذا حال عليه الحول، وإذا كان لك مال عند الناس فإذا قبضته، فإن كان الشخص الذي أسلفته غنياً، ويمكن أن تأخذ مالك في أي وقت، فأخرج الزكاة عن كل سنة مضت والمال عنده، وإن كان المال عند فقير أو مماطل؛ فليس عليك إلا إخراج زكاة واحدة عند الاستلام، وإذا مات إنسان قبل حلول الحول؛ فلا زكاة في ماله؛ لأنه لم يكن حياً وقت الوجود، وليس على الورثة الزكاة، فإذا صارت من نصيب الورثة؛ بدأ الحول على الورثة، فإذا استمر المال مجموعاً لم يقسم وحال عليه الحول، فإنه يخرج كل وارث الزكاة من نصيبه من الإرث ولو لم يقسم بعد، وإذا استلمه، يجب عليه أن يخرج ما مضى من الزكوات في نصيبه وهو منذ أن ملك المال بوفاة المورث.

أحكام مختلفة في الزكاة

أحكام مختلفة في الزكاة وكذلك فإن الإنسان إذا كان عنده أموال يحول حولها في رمضان مثلاً، فاشترى بها في شعبان عروض تجارة، فالصحيح أنه إذا جاء رمضان وقت حلول الحول على المال والسيولة الأصلية؛ تجب الزكاة فيها، ولو حولها إلى عروض تجارة، لأن هذا بعضه من بعض. وكذلك فإننا لا بد أن نتقي الله في إخراجها، فبعض الناس لا يضبطونها وإنما يأخذ من عرض المال كمشة من المال ويقول: هذه زكاة، وقد تكون أكثر، فيجب عليه أن يحسب ويضبط، وإذا أراد أن يخرج زيادة، الحمد لله له الأجر. والمقاولون الذين عندهم رافعات أو آلات أو تركتلات -كما يسمونها- أو قلابات وشاحنات؛ فليس فيها زكاة إلا إذا أعدت للتجارة، وإنما الزكاة في المكاسب التي تأتي منها. وكذلك الفقير يعطى ما يكفيه لمدة سنة، فإذا قال إنسان: كم أعطي الفقير أكثر ما أعطيه؟ نقول: يجوز لك أن تعطيه مصروف سنة من الزكاة. ويجوز إعطاء الشاب الذي لا يستطيع الزواج من الزكاة؛ إذا كان سيقع في الحرام لو لم يتزوج ويخشى على نفسه العنت، ولا يجوز محاباة الأقرباء بها، فبعض الناس يعطون أقرباء وليسوا فقراء، وبعض الناس يعطون عائلات كانت فقيرة منذ عشر سنوات، لكن تغير حالها، واشتغل الأولاد فيها، وصاروا أغنياء فلا يجوز إعطاؤهم جرياً على العادات السابقة، وإنما يبحث عن المستحقين الحقيقيين الجدد. وكذلك فإنه لا يجوز إسقاط الدين من الزكاة مقابل الزكاة على القول الصحيح، فلو أن لك ألف ريال عند فقير، ولا يستطيع إعطاءك إياها، وعليك زكاة ألف ريال، فلا يجوز أن تقول: يا فقير سامحتك بالألف وبالتالي ليس علي زكاة. والسبب أن الزكاة أخذ وإعطاء: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103] وأنت لا أخذت ولا أعطيت، وإنما أسقطت شيئاً بشيء، وكذلك فإن هذا العمل نفعت به نفسك؛ لتحصيل مال غير متحصل، ولا يجوز الانتفاع من إخراج الزكاة بأي شيء من الدنيا، لأن هذا المال غير المتحصل دنيء، فكيف تفدي به مالاً عزيزاً وهو الزكاة. فإذاً، احرصوا على إخراج الزكاة بالطريقة الشرعية، ومن كان عنده بضاعة في المخازن استوردها وخزنها ومضى عليها سنة وهو معدها للبيع، ففيها الزكاة، لكن لو قال: لا أعلم ثمنها الآن في السوق نقول: انتظر حتى تبيع، ثم أخرج الزكاة عن هذه السنة التي مضت.

عقوبة مانع الزكاة يوم القيامة

عقوبة مانع الزكاة يوم القيامة أيها المسلمون: قال صلى الله عليه وسلم: (يكون كنز أحدكم يوم القيامة شجاعاً أقرع) شجاع: الحية الذكر، أقرع: الذي سقط شعره من كثرة سمنه (يفر منه صاحبه) الذي منع الزكاة وكنز المال {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لانْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة:34 - 35] هذا مانع الزكاة يفر من ماله يوم القيامة، وماله يتحول إلى ثعبان عظيم سام (يفر منه صاحبه، فيطعمه هذا الثعبان، ويقول: أنا كنزك، قال: والله لا يزال يطلبه حتى يبسط يده -حتى يحاصر الرجل ولا بد له من مواجهة الثعبان- فيبسط يده فيلقمها -يجد نفسه مضطراً لبسط يده لفم الثعبان- فيلقمها فاه) رواه البخاري. وقال صلى الله عليه وسلم: (من آتاه الله مالاً؛ فلم يؤد زكاته؛ مثل له يوم القيامة شجاعاً أقرع، له زبيبتان يطوقه يوم القيامة يأخذ بلهزمتيه -بشدقيه- يقول: أنا مالك، أنا كنزك، ثم تلا صلى الله عليه وسلم هذه الآية: ((وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) [آل عمران:180]). وعن الأحنف بن قيس قال: (قدمت المدينة، فبينا أنا في حلقة فيها ملأ من قريش، إذ جاء رجل أخشن الثياب أخشن الجسد، أخشن الوجه، فقام عليهم فقال: بشر الكانزين برضف -حجار محماة بالنار- يحمى عليها في نار جنهم، فيوضع على حلمة ثدي أحدهم؛ حتى يخرج من نغض كتفيه -هذا العظم الرقيق في أعلى الكتف- يتزلزل من الألم يقول: فرأيت القوم وضعوا رءوسهم فما رأيت أحداً منهم رجع إليه شيئاً) رواه البخاري. وعن الأحنف بن قيس قال: (كنت في نفر من قريش، فمر أبو ذر وهو يقول: بشر الكانزين -والكانز الذي لا يخرج زكاة ماله- بكي في ظهورهم يخرج من جنوبهم، وبكي من قبل أقفائهم -من تحت- يخرج من جباههم، قال: ثم تنحى فقعد، قال: فقلت: من هذا؟ قالوا: هذا أبو ذر، قال: فقمت إليه، فقلت: ما شيء سمعتك تقول قبيل؟ -قبل قليل- قال: ما قلت إلا شيئاً قد سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم) هذا عقاب الذي لا يؤدي الزكاة، فأنت وشأنك يا عبد الله! اتق الله في مالك وأد الزكاة.

عاقبة إخراج الزكاة

عاقبة إخراج الزكاة أيها الناس! لو أن المسلمين أخرجوا زكاة أموالهم الآن كما يرضي الله عز وجل؛ من مِن المسلمين سيبقى فقيراً على وجه الأرض؟! ولكن لما عصت هذه الأمة؛ سلط الله علينا ذلاً وهزيمة وضعفاً، وحروباً وجوعاً، وخوفاً ومصائب لا يعلم بها إلا الله، ما طبقوا الشريعة لا في أنفسهم ولا في مجتمعاتهم؛ صار أمرنا الآن إلى ما ترون من تلاعب أمم الكفر بنا. أيها المسلمون: عوداً عوداً إلى الدين، وهذا شهر رمضان؛ فليكن شهر عودة إلى الله، وليكن شهر توبة وإنابة، وتصحيح الأوضاع وتصحيح الأخطاء واستدراك ما فات. نسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى أن يجعلنا وإياكم من المغفورين لهم في هذا الشهر العظيم. اللهم اغفر لنا في يومنا هذا أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، اللهم كثرت ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وتقصيرنا، فاغفره لنا يا رب العالمين، وارزقنا التوبة والإخلاص وعبادتك كما تحب وترضى. اتقوا الظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، اتقوا الظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، اتقوا الظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة.

زلزال الدنيا وزلزال الآخرة

زلزال الدنيا وزلزال الآخرة جعل الله في الكون آيات يستدل بها الخلق على عظم قدرته وعظمته وجلال سلطانه وملكه، وجعل من هذه الآيات كذلك عبراً يتذكر بها الناس عذاب الآخرة علَّهم يتوبون إلى بارئهم وخالقهم، ومن هذه الآيات الزلازل. كان هذا هو محور كلام الشيخ في خطبته، ثم عظم حرمة شهر رجب، وخطر ما يفعله بعض الناس من بدع لا تجوز، ولم يأت عليها دليل من الشرع.

أثر الزلازل على حياة السلف

أثر الزلازل على حياة السلف إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. عباد الله! إن الله تعالى يخوف عباده، ويرسل عليهم ما يشاء من جنده؛ لعلهم يئوبون إليه ويرجعون، قال الله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً} [الإسراء:59] وقال عز وجل: {وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَاناً كَبِيراً} [الإسراء:60]، وقال تعالى: {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} [التوبة:126] وقال: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنعام:43] وقال: {أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ} [الإسراء:68] وقال: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} [الأنعام:65] قال مجاهد رحمه الله: " الصيحة والحجارة والريح (أو من تحت أرجلكم) قال: الرجفة والخسف، وهي عذاب أهل التكذيب "، وعن مجاهد قال: " عذاب أهل التكذيب بالصيحة والزلزلة " إسناده صحيح. فالله عز وجل أهلك أقواماً من قبلنا بالرجفة كما أهلك قوم شعيب: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [الأعراف:78] {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} [الأعراف:155] أخذتهم الرجفة؛ لأنهم لم يزايلوا قومهم في عبادتهم، ولم ينهوهم عن عبادة العجل، قال شيخ الإسلام رحمه الله: والزلازل من الآيات التي يخوف الله بها عباده، كما يخوفهم بالكسوف وغيره من الآيات، والحوادث لها أسبابٌ وحكم، فكونها آية يخوف الله بها عباده هي من حكمة ذلك. عن صفية بنت أبي عبيد قالت: [زلزلت الأرض على عهد عمر حتى اصطفقت السرر، فخطب عمر الناس فقال: أحدثتم لقد عجمتم، لئن عادت لأخرجن من بين ظهرانيكم]. وقد تكلم أهل العلم هل للزلازل صلاةٌ تخصها عند حدوثها؟ فقال الشافعي رحمه الله: آمر بالصلاة منفردين، ويستحب أن يصلي منفرداً ويدعو لئلا يكون غافلاً، وكذلك سائر الآيات كالصواعق والريح الشديدة. وقال أحمد رحمه الله: يصلي للزلزلة الدائمة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم علل الكسوف بأنه آيةٌ يخوف الله بها عباده، والزلزلة أشد تخويفاً، فأما الرجفة الواحدة فلا تبقى مدةً تتسع للصلاة. وعن جعفر بن برقان قال: " كتب إلينا عمر بن عبد العزيز في زلزلة كانت بـ الشام أن اخرجوا يوم الإثنين من شهر كذا وكذا، ومن استطاع منكم أن يخرج صدقةً فليفعل، فإن الله تعالى قال: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى:14 - 15] " سنده حسن. عباد الله! إن من أشراط الساعة كثرة الزلازل، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم، وتكثر الزلازل، ويتقارب الزمان، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج وهو القتل) رواه أحمد والبخاري عن أبي هريرة مرفوعاً. وقال صلى الله عليه وسلم لأحد الصحابة: (يا بن حوالة! إذا رأيت الخلافة قد نزلت الأرض المقدسة فقد دنت الزلازل والبلابل والأمور العظام، والساعة يومئذٍ أقرب من الناس من يدي هذه من رأسك). وهذه الزلازل من حِكَم الله تعالى، فإذا وقعت بالمسلمين فإنها من الرحمة بهم، بالإضافة لما فيها من التخويف والتذكير، والعقوبة للعصاة، قال عليه الصلاة والسلام: (أمتي هذه أمةٌ مرحومة، عذابها في الدنيا: الفتن والزلازل والقتل والبلايا) رواه أبو داود، وهو حديثٌ صحيح.

علاقة زلزال الدنيا بزلزال الآخرة

علاقة زلزال الدنيا بزلزال الآخرة عباد الله! إن من أكبر العظات في الزلازل التذكير باليوم الآخر، روى الترمذي رحمه الله عن عمران بن حصين: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في بعض أسفاره، وقد تفاوت بين أصحابه السير، رفع بهاتين الآيتين صوته: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:1 - 2] فلما سمع أصحابه بذلك حثوا المطي وعرفوا أنه عند قولٍ يقوله، فلما تأشهوا حوله -أي التفوا- قال: أتدرون أي يومٍ ذلك؟ قال: ذاك يوم ينادى آدم عليه السلام فيناديه ربه عز وجل، فيقول: يا آدم! ابعث بعثك إلى النار، فيقول: يا رب! وما بعث النار؟ فيقول: من كل ألفٍ تسعمائة وتسعة وتسعون) فعند ذلك تشيب الولدان، وعند ذلك تضع كل ذات حملٍ حملها، وعند ذلك ينزل بالناس الكرب العظيم. وقال عز وجل مذكراً بذلك اليوم: {إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجّاً * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً} [الواقعة:4 - 5] ورج الأرض: زلزلتها، وقال تعالى مذكراً بيوم الدين في سورةٍ عظيمة من السور: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا} [الزلزلة:1 - 3] (إذا زلزلت الأرض زلزالها) أي: تحركت من أسفلها، (وأخرجت الأرض أثقالها) أي: ألقت ما فيها من الموتى، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج:1] وكقوله: {وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} [الانشقاق:3 - 4]. روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تقيئ الأرض أفلاذ كبدها أمثال الأسطوان من الذهب والفضة) تتقيأ تقيئاً وتخرج ما في بطنها (تقيئ الأرض أفلاذ كبدها أمثال الاسطوان) جمع اسطوانة، عبر عن ذلك لكثرة الشيء الذي يخرج من الذهب والفضة، مثل الاسطوان تلقيه الأرض على ظهرها، من الذهب والفضة، مما فيها: {وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا} [الزلزلة:3] استنكر أمرها بعد أن كانت قارةً ساكنةً ثابتة، وهو مستقرٌ على ظهرها، فتقلبت الحال، فصارت متحركةً مضطربة، قد جاءها من أمر الله ما قد أُعد لها من الزلزال الذي لا محيد لها عنه. ثبات الأرض نعمة من الله. يا أيها الناس! الذين تمشون عليها ساكنين آمنين مطمئنين، اذكروا أن ثبات الأرض واستقرارها نعمة من الله، فهو الذي أرساها، وهو الذي ثبتها، فيذكر عباده ببعض الزلازل بهذه النعمة، ولذلك يستغرب الإنسان يوم القيامة، ما يحدث للأرض بعد أن كانت ثابتةً قارةً ساكنة؟! A=6006141> يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة:4] عن أبي هريرة قال: (قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية قال: أتدرون ما أخبارها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: فإن أخبارها أن تشهد على كل عبدٍ أو أَمَّة بما عمل على ظهرها، أن تقول: عمل كذا وكذا يوم كذا وكذا، فهذه أخبارها) إذاً: الأرض ستخبر بما عملنا عليها، وذلك بما أوحى الله إليها وأمرها، ويقول لها: قولي فتقول. : {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة:5] فتخرج ما في بطنها وتحدِّث بما أمرها الله به، عندما يقول لها: قولي فتقول. فإذاً تأمل يا عبد الله! وتفكر في هذه القضية، وهي أن الأرض ستخبر بما عملت عليها في جميع الأماكن علت أو نزلت، ستخبر الأرض بما عملت عليها {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً} [الزلزلة:6] أي: فرقاً {لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} [الزلزلة:6]، فيجازون عليها من خيرٍ أو شر: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * مَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:7 - 8] عن سعيد بن جبير في قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * مَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:7 - 8] قال: [ذلك لما نزلت هذه الآية: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} [الإنسان:8] كان المسلمون يرون أنهم لا يؤجرون على الشيء القليل إذا أعطوه، فيجيء المسكين إلى أبوابهم، فيستقلون أن يعطوه التمرة والكسرة والجوزة، ونحو ذلك، فيردونه ويقولون: ما هذا بشيء، إنما نؤجر على ما نعطي ونحن نحبه، أي: نؤجر على الكثير، وكان آخرون يرون أنهم لا يلامون على الذنب اليسير، الكذبة والنظرة والغيبة وأشباه ذلك، يقولون: إنما وعد الله النار أهل الكبائر، فرغبهم في القليل من الخير أن يعملوه، فإنه يوشك أن يكثر، وحذرهم اليسير من الشر فإن يوشك أن يكثر، فنزلت: ((فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ)) [الزلزلة:7]]. ذرة: أي: وزن أصغر النمل، فمن يعمل مثقال ذرة من خيرٍ فإنه يراه حاضراً يوم القيامة، ومن يعمل مثقال ذرةٍ من الشر يجده حاضراً أمامه يوم القيامة، {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً} [آل عمران:30].

انقطاع الأنساب يوم القيامة

انقطاع الأنساب يوم القيامة وروى ابن جرير بإسنادٍ صحيح له حكم الرفع عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: [يؤتى بالعبد والأمَّة يوم القيامة، فينادي منادٍ على رءوس الأولين والآخرين: هذا فلان بن فلان، من كان له حقٌ فليأتِ إلى حقه، فتفرح المرأة أن يكون لها الحق على أبيها أو أخيها أو زوجها، ثم قرأ ابن مسعود: {فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:101]] فهي لا ترحم أحداً ولا يرحمها أحد، وكل واحد يطالب الآخر بحقوقه، كل واحد يحتاج إلى حسنة، ولذلك العلاقة الزوجية لا تشفع، والعلاقة الأبوية لا تشفع، والعلاقة الأخوية لا تنفع، وعلاقة البنوة لا ترفع، وإنما كل واحد يطلب حقه من الآخر ولو كان أقرب الناس إليه، حتى إن المرأة تفرح أن تطالب أباها وأخاها وزوجها بالحقوق التي لها عليهم، [ثم قرأ {فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:101] فيغفر الله من حقه ما يشاء، ولا يغفر من حقوق الناس شيئاً]؛ لأن حقوق الناس مبنية على التشاح ولا بد من أدائها في الدنيا أو في الآخرة: [فينصب للناس، فينادى: هذا فلان بن فلان، ما كان له حقٌ فليأتِ إلى حقه، فيقول -يقول هذا الذي عليه الحقوق التي ما أداها، والذي لطم هذا، وشتم هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا-: يا رب! فنيت الدنيا من أين أوتيهم حقوقهم؟ فيقول الله للملائكة: خذوا من أعماله الصالحة فأعطوا كل ذي حقٍ حقه بقدر طُلبته، فإن كان ولياً لله ففضل له مثقال ذرة ضاعفها الله له حتى يدخله بها الجنة، ثم قرأ علينا ابن مسعود: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:40] قال: ادخل الجنة، وإن كان عبداً شقياً قال الملك: رب فنيت حسناته -أعطينا أصحاب الحقوق حقوقهم وفنيت حسناته، من أين نعطيهم ولا مال ولا حسنات باقية وبقي طالبون كثير؟ عمال ما أخذوا رواتب، زوجات ما أخذن نفقة، أولاد ما أخذوا كفاية، أقارب ما أخذوا المستحقات، بقي طالبون كثير، ناس مظلومون في العرض، ناس مظلومون في الدم، ناس مظلومون في المال- فيقول: خذوا من سيئاتهم فأضيفوها إلى سيئاته ثم صكوا له صكاً إلى النار]. عباد الله! بماذا تذكرنا الزلازل؟ بهذا اليوم، فلمثل هذا اليوم اعدوا يا إخواني! أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن يؤدي إلى أهل الحقوق حقوقهم، وأن يتجاوز عنا بمنه وكرمه وفضله، وأن يرحمنا برحمته وعفوه. أقول قولي هذا، وأستغفر الله فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

حرمة شهر رجب وما يبتدع فيه

حرمة شهر رجب وما يبتدع فيه الحمد لله الذي لا إله إلا هو لم يتخذ صاحبةً ولا ولداً، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الأول فليس قبله شيء، والآخر فليس بعده شيء، والظاهر فليس فوقه شيء، والباطن فليس دونه شيء، هو الحي الذي لا يموت والجن والإنس يموتون، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، صلى الله عليه بما علمنا وهدانا وأرشدنا وأدبنا، صلى الله عليه وعلى أصحابه الذين بلغوا حديثه وأدوا سنته، صلى الله عليه وعلى آله وذريته الطيبين الطاهرين، وعلى التابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

تعظيم الشرع لشهر رجب

تعظيم الشرع لشهر رجب عباد الله! هذا شهركم، شهر رجب المحرم قد دخل، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حُرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان). أما قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض) فقد ذكر بعض أهل العلم في معناه: أن أهل الجاهلية كانوا يتلاعبون بالأشهر الحرم، فإذا طال عليهم توالى ثلاثة أشهر حُرم: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم لا يقاتلون فيها أنفسهم، شق ذلك عليهم وثقل وأرادوا القتال، فماذا يفعلون بمحرم؟ يقدمونه، يؤخرونه، ويستعملونه في القتال، ويحرمون صفر مكانه، ويتلاعبون في الأشهر الحرم، فيقدمون ويؤخرون، ويزيدون وينقصون، ويحلون ما أرادوا تحليله ويحرمون بدلاً منه، إلى أن جاء الإسلام فوافق حجة الوداع رجوع التحريم إلى محرم الحقيقي، ورجع كل شهرٍ إلى حقيقته التي خلق الله عليها السماوات والأرض، وصارت المطابقة بين الواقع وبين ما قدره الله وشرعه، في تلك الحجة -حجة الوداع- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض). أما قوله: (ورجب مضر) فإن مضر: حيٌ من أحياء العرب وقبيلة من قبائلهم، أضاف رجب إليهم؛ لأنهم كانوا أشد العرب تعظيماً له، وسميت الأشهر الحرم لعظم حرمتها، وحرمة الذنب فيها، ولذلك قال الله: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة:36] وكان القتال محرماً على المسلمين في الأشهر الحرم في أول الإسلام، ثم نسخ بعد ذلك وأمر بقتال المشركين في أي زمان وفي أي مكان، وهذا قول جمهور أهل العلم، ونص على نسخه الإمام أحمد رحمه الله وغيره.

ما يفعله الناس من بدع في رجب

ما يفعله الناس من بدع في رجب فشهر رجب شهرٌ محرم، الذنب فيه أضعاف، وأكثر وأسوأ من الذنب في غيره من الأشهر غير الحرم، ولا شك أن الذنوب تعظم في الأزمنة الفاضلة والأمكنة الفاضلة، والناس عددٌ منهم بدلاً من أن يمسكوا عن ظلم أنفسهم في رجب، فإنهم يظلمون أنفسهم بأشد أنواع الظلم، أو من أشدها وهي البدعة التي هي أشد ذنبٍ بعد الشرك بالله، فيحولون شهر رجب إلى شهر بدعة، فيجعلون فيه صلاة الرغائب التي هي أول ليلة جمعة من شهر رجب، فيصلونها على كيفيةٍ معينة وهي بدعةٌ عند العلماء، ويجعلونه صياماً، والإكثار من الصيام إنما يكون في شعبان والمحرم، والشهر الوحيد الذي يصام كله هو رمضان، ويعتقدون أن عمرة رجب أفضل من غيرها، والمفروض أن الإنسان يعتمر في أي وقتٍ يتيسر له، والعمرة في رمضان تعدل حجة، فاعتمر في رجب أو في غير رجب دون اعتقادٍ لفضلٍ معين، وقد اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم أربع مرات كلهن في ذي القعدة، وبذلك أثبتت عائشة وسكت ابن عمر، ويحتفلون ببدعة الإسراء والمعراج في السابع والعشرين منه؛ علماً بأن الإسراء والمعراج لم يثبت أصلاً أنه في السابع والعشرين من رجب فضلاً عن الاحتفال به. ولذلك قال شيخ الإسلام رحمه الله مقعداً هذه القاعدة العظيمة: الزمان ثلاثة أنواع: أولاً: يوماً لم تعظمه الشريعة أصلاً، ولم يكن له ذكرٌ في السلف، ولم تحدث فيه حادثة معينة. فتعظيمه وتخصيصه بعبادة أو زينة أو احتفال بدعةٌ شنيعة، كأول خميس من رجب ليلة الجمعة التي يصلون فيها صلاةً يسمونها صلاة الرغائب، ويومٌ في وسط رجب فيه صلاة يزعمون أنها صلاة أم داود، وكل ذلك بدعةٌ منكرة، وتخصيص بعض الأيام بصيام وليلها بقيام من بين سائر الليالي والأيام لا يكون ذلك، فينبغي أن يصام منه كأي شهرٍ آخر، مثل أيام البيض والإثنين والخميس، أو صيام يوم وإفطار يوم ونحو ذلك. ثانياً: ما جرت فيه حادثة معينة لم تجر في غيره، ولكن هذا الجريان لهذه الحادثة لا يوجب أن تجعل موسماً، ولا تجعل عيداً ولا تُعظم، كخطبة النبي صلى الله عليه وسلم في غدير خم، أو المولد، فيوم المولد حدث فيه حدثٌ معين، وهو ولادة النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لا اليوم ولا الحدث يوجب أن نحتفل به أو نخصصه بعبادةٍ معينة من بين سائر أيام العام، وقد حدث للنبي صلى الله عليه وسلم خطبٌ وعهودٌ ووقائع ومعارك في أيام كثيرة لم يحتفل بها الصحابة، ولم يخصصوها بعبادةٍ معينة. ثالثاً: ما هو معظمٌ في الشريعة، كيوم عاشوراء، ويوم عرفة، والعشر الأواخر من رمضان، والعشر الأوائل من ذي الحجة، وليلة الجمعة ويومها، والعشر الأُول من محرم، ونحو ذلك، فهذه يقتصر فيها على ما فعله السلف، ولا يحدث فيه أشياء جديدة، وإنما يقتصر على ما ورد عن السلف من الاجتهاد فيها بالعبادة، طول القيام، الصيام، فيما ورد فيه ذلك، والحمد لله. وهكذا تكونون أمةً وسطاً، لا إفراط ولا تفريط ولا غلو، وإنما العبادة وفق ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والسلف من بعدهم. نسأل الله تعالى أن يجعلنا من القائمين بالملة الحنيفية، وأن يجعلنا من المستقيمين على السنة النبوية، وأن يجعلنا من العاملين بحديث النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الشريعة السمحة. اللهم اغفر لمن مات من المسلمين من الموحدين يا رب العالمين، اللهم ارحم موتى المسلمين الذين ماتوا في هذه المصيبة، اللهم خفف عن المصابين مصابهم، اللهم واشف مرضى المسلمين مما أصابهم، اللهم إنَّا نسألك أن تجعل ما أصاب الموحدين من المسلمين كفارةً ورفعةً لهم في الدنيا والآخرة يا رب العلمين. اللهم آمنا في البلاد، وأرشد الأئمة ولاة أمور العباد، وانشر رحمتك على العباد يا رب العالمين. إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله الجليل العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

صدقات مهجورة

صدقات مهجورة لقد تحدث الشيخ في هذه الخطبة عن أبواب كثيرة من أبواب الصدقة، والتي هجرت في يومنا هذا، وحث على المبادرة إلى اغتنامها والسعي في نيل أجورها، ومن هذه الأبواب: صلاة الضحى الذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر احتساب الأجر في الإنفاق على الأهل غرس الأشجار رفع الأذى عن الطريق إلخ.

مقدمة عن الصدقة بالأموال وغيرها

مقدمة عن الصدقة بالأموال وغيرها إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار. أيها المسلمون: لقد ندب الله عباده إلى الصدقة ودعاهم إليها وحثهم عليها، وبين لهم الثواب الجزيل فيها، وجعل باباً من أبواب الجنة خاصاً بالمتصدقين، فكما أن للجنة باباً يقال له باب الصلاة يدخل منه المصلون، وكما أن لها باباً يقال له الريان يدخل منه الصائمون، فكذلك فيها باب للجهاد يدخل منه المجاهدون، وبابٌ للصدقة يدخل منه المتصدقون كما ورد بذلك الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم. والصدقة بالمال يربيها الله لصاحبها فتتضاعف أضعافاً كثيرة، ولا يجزي أحد على شيء كما يجزي ربنا على الصدقة التي تخرج خالصةً لوجهه سبحانه وتعالى، هذا من حكمة الدين، هذا من الحكمة في تشريعات هذا الدين أن جعل الله للفقراء من المسلمين فرجاً ومخرجاً من صدقات إخوانهم المسلمين. والحديث عن الصدقة طويل، فإن الحديث عن حكمتها ومشروعيتها وفضلها وأجرها وأحكامها حديث طويلٌ لعلنا نتطرق إليه في وقت آخر، وذلك لأن الشح قد كثر في المسلمين وخصوصاً بعد هذه الأحداث العادية صار الكثيرون يدخرون ويوفرون أموالهم للمستقبل زعموا، فبخلوا بالصدقات ونسوا الأجر الذي كان مكتوباً في كتاب الله سبحانه وتعالى للمتصدقين، وكثيرٌ من الناس الذين يريدون التصدق وأموالهم قليلة قد يتحسرون، فهل جاءت الشريعة بأمور من الصدقات غير الصدقات المالية؟ وكثيرٌ من المتصدقين الذين يتصدقون بأموالهم يغفلون عن جوانب خفية للصدقة جاءت بها الشريعة، وكثيرٌ من المسلمين تصورهم للصدقة ناقص، فيتصورون أن الصدقة بالأموال فقط، من أجل ذلك كانت هذه الخطبة التي نبين فيها جوانب للصدقة قد يغفل عنها الناس مع أنهم قد يسمعون أحاديثها ولكنهم لا يقدرون قدرها، فهذا التنبيه على هذه الأبواب الخفية أو المتغافل عنها أو غير المحتسب فيها الأجر، فإن كثيراً من الناس قد يقومون بها دون احتساب أجر.

الصدقة على المصلي المنفرد بالصلاة معه

الصدقة على المصلي المنفرد بالصلاة معه من ذلك الصدقة على المصلي المنفرد الوحيد، قال صلى الله عليه وسلم: (ألا رجلٌ يتصدق على هذا فيصلي معه) وله قصة، فعن أبي سعيد الخدري: (أن رجلاً دخل المسجد وقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يتصدق على ذا فيصلي معه؟ فقام رجلٌ من القوم فصلى معه) فإذاً صدقتك على المصلي المنفرد بالصلاة معه تؤجر عليها كما ورد في الحديث الصحيح، ولو كان عقب صلاة الفجر أو عقب صلاة العصر، قيام الرجل مع أخيه يكسبه أجر الجماعة ويرأف بحاله خصوصاً المتأخر لعذر الذي فاتته صلاة الجماعة يجد أخاً مسلماً في المسجد يواسيه فيصلي معه.

احتساب الأجر في الإنفاق على أدوات الجهاد

احتساب الأجر في الإنفاق على أدوات الجهاد واحتساب الأجر في الإنفاق على الخير وأدوات الجهاد في سبيل الله فيها أجرٌ عظيم، قال صلى الله عليه وسلم: (المنفق على الخيل في سبيل الله كباسط يديه بالصدقة لا يقبضها) رواه الإمام أحمد وهو حديث صحيح، وهذا باب عظيم من أبواب الأجر لئن كنا حرمنا منه نتيجة عدم رفع راية الجهاد الصادقة في سبيل الله، فإن المخلصين من المسلمين يبحثون عن أمثال تلكم الأبواب ولو كانت قليلة شحيحة في هذا الزمن ليضعوا فيها أموالاً من أموالهم، يحبسون بها أدراعاً وأسيافاً وخيلاً في سبيل الله، فكذلك يحبسون اليوم من أدوات القتال الحديثة يعينون به المجاهدين في سبيل الله، وما ينفق فيها من صيانتها وذخيرتها فهي تجري عليهم باباً عظيماً من أبواب الصدقة لا يغلق لهم؛ جزاءً وفاقاً على ما أعانوا المجاهدين في سبيل الله.

أبواب متفرقة في الصدقة

أبواب متفرقة في الصدقة قال صلى الله عليه وسلم: (على كل سلامى من ابن آدم في كل يوم صدقة، ويجزي عن ذلك كله ركعتا الضحى) وقال مبيناً ذلك في الحديث الصحيح الآخر: (في الإنسان ستون وثلاثمائة مفصل، فعليه أن يتصدق عن كل مفصل منها صدقة) حق الله في هذه المفاصل التي أنعم بها علينا يجب علينا في كل يوم صدقة عن كل مفصل، فكيف يا ترى نحصل ثلاثمائة وستين صدقة في اليوم لكي نقوم لله بشكر نعمة هذه المفاصل؟ فقال صلى الله عليه وسلم رافعاً هذا الحرج: (النخاعة في المسجد تدفن -هذا البلغم والأذى والبصاق المتجمع في جدران المسجد أو في أرضه أو في بابه تحكه فتنظف المسجد منه- ذلك صدقة، والشيء تنحيه عن الطريق صدقة). وقال عليه الصلاة والسلام: (يصبح على كل سلامى من ابن آدم صدقة، تسليمه على من لقيه صدقة، وأمره بالمعروف صدقة، ونهيه عن المنكر صدقة، وإماطة الأذى عن الطريق صدقة، وبضعه في أهله صدقة، ويجزئ من ذلك كله ركعتان من الضحى) (فكل تسبيحة صدقة -كما في رواية- وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمرٌ بالمعروف صدقة، ونهيٌ عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان تركعهما من الضحى) وقال صلى الله عليه وسلم: (ابن آدم ثلاثمائة وستون مفصلاً، على كل واحدٍ منها في كل يوم صدقة، فالكلمة الطيبة يتكلم بها الرجل صدقة، وعون الرجل أخاه على الشيء صدقة -لو أعنته على فتح قارورة لا يستطيع فتحها كان ذلك منك صدقة- والشربة من الماء يسقيها صدقة، وإماطة الأذى عن الطريق صدقة). وقال صلى الله عليه وسلم مبيناً أيضاً: (كل سلامى من الناس عليه صدقة -على كل مفصل صدقة- كل يوم تطلع فيه الشمس؛ تعدل بين الاثنين صدقة، وتعين الرجل على دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة -وضعك المتاع في سيارة أخيك ومساعدته في حملها على دابته صدقة- والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة تخطوها إلى الصلاة صدقة، ودل الطريق صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة). من أبواب الصدقة: التكبير وسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله وأستغفر الله، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويعزل الشوك عن طريق الناس والعظم والحجر، وتهدي الأعمى، وتسمع الأصم والأبكم حتى يفقه، تشير له تفهمه حتى يفهم ما يريد، وتدل المستدل على حاجة قد علمت مكانها، لو سألك عن دكان خبزٍ فدللته عليه صدقة، وتسعى بشدة ساقيك إلى اللهفان المستغيث، وترفع بشدة ذراعيك مع الضعيف، كل ذلك من أبواب الصدقة منك على نفسك، ولك في جماع زوجتك أجرٌ: (أرأيت لو كان لك ولدٌ فأدرك ورجوت أجره فمات، أكنت تحتسب به؟ فأنت خلقته، فأنت هديته، فأنت ترزقه، فكذلك فضعه في حلاله وجنبه حرامه، فإن شاء الله أحياه وإن شاء أماته، ولك أجر) رواه الإمام أحمد وهو حديث صحيح. وقال صلى الله عليه وسلم: (يصبح على كل سلامى من أحدكم في كل يوم صدقة، فإنه بكل صلاة صدقة، وصيام صدقة، وحج صدقة، وتسبيح صدقة، وتكبير صدقة، وتحميد صدقة، ويجزئ أحدكم من ذلك ركعتا الضحى). فإذا أردت أن تعرف كيف تحصل ثلاثمائة وستين صدقة في اليوم، وهو حق الله في هذه المفاصل فارع سمعك لهذه الأبواب المتعددة التي يذكرها محمدٌ صلى الله عليه وسلم. هؤلاء الفقراء من المسلمين قالوا: (يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالأجور -أهل الأموال ذهبوا بالأجر- يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموالهم) -لقد تفوقوا علينا بالأموال يتصدقون منها فيؤجرون ونحن فقراء، كيف نفعل لاستدراك ما فاتنا وتعويض النقص الذي عندنا في هذا الباب من أبواب الأجر؟ فماذا قال لهم صلى الله عليه وسلم؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به؟ إن بكل تسبيحة صدقة، وبكل تكبيرة صدقة، وبكل تحميدة صدقة، وبكل تهليلة صدقة، وأمرٌ بالمعروف صدقة ونهيٌ عن المنكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجرٌ؟ قال: أرأيتم لو وضعها في الحرام أليس يكون عليه وزرٌ، فكذلك إذا وضعها في الحلال يكون له أجر) وجماعك زوجتك أيها المسلم تبتغي إعفاف نفسك وإعفافها، وابتغاء الولد لك صدقة عند الله، وقال صلى الله عليه وسلم: (أمط الأذى عن الطريق فإنه لك صدقة) وقال عليه الصلاة والسلام: (أفضل الصدقة سقي الماء) حديث حسن. وقال عليه الصلاة والسلام وجاء في الحديث أيضاً: (إن سلامك على عباد الله صدقة) وقال صلى الله عليه وسلم: (على كل مسلم صدقة، فإن لم يجد فيعمل بيده فينفع نفسه ويتصدق، فإن لم يستطع فيعين ذا الحاجة الملهوف، فإن لم يفعل فيأمر بالمعروف) هذا كله من أبواب الصدقات. وقد كانت أمنا زينب أم المساكين تعمل بيدها لتتصدق، فقال عليه الصلاة والسلام: (أسرعكن لحاقاً بي أطولكن يداً) فكانت زينب رضي الله عنها أول من لحق به من أزواجه.

قرض الناس له أجر عظيم

قرض الناس له أجر عظيم ويبين عليه الصلاة والسلام باباً آخر من أبواب الصدقة، فيقول: (إن السلف يجري مجرى شطر الصدقة) حديث صحيح رواه الإمام أحمد، وقال موضحاً: (من أقرض ورقاً مرتين كان كعدل صدقة مرة). فأنت أيها المسلم إذا أسلفت رجلاً سلفاً، إذا أعطيته مالاً ديناً -مثلاً- ألف ريالٍ فكأنك تصدقت بخمسمائة والألف سترجع إليك، فلو أسلفتها لرجل مرة أخرى له أو لغيره، كان لك أيضاً أجر نصفها صدقة، فصار لك أجر المال كله صدقة لك والمال سيرجع إليك، وهذا يبين فضل إقراض الناس وفك أزمة المحتاجين بالإقراض. إن قال قائل: هذه البنوك الربوية لا تقرض إلا بالربا ونحن نحتاج مالاً، من الذي يقرضنا مثلاً بمثل دون زيادة؟ وما هو الدافع على إقراض الناس للناس إذا كانوا لا يأخذون فوائد ربا، الربا مهم لأجل إقراض الناس وفك الأزمات؟ فنقول: هذا في شريعة الكفرة لا في شريعتنا، أما شريعتنا فإن الحوافز على إقراض الناس للناس موجودة، في شريعتنا لا نحتاج إلى ربا، لا نحتاج إلى فوائد زعموا، في نار جهنم يأكلونها في بطونهم يوم القيامة، فإن في شريعتنا الحث على إقراض المحتاج من المال، ومن يقرض أخاه المسلم كان له من الأجر نصف ما أقرض صدقة، هل سمعت بفائدة خمسين في المائة؟ وأي بنك يعطيك ذلك؟ فاعلم بعد ذلك أن الإسلام قد أوجد الحل لمشكلة الإقراض بأبواب من الأجر أخروية ليست في الدنيا، فجعل في الإقراض الأجر العظيم، فمن أقرض مسلماً قرضاً كان له شطره صدقة، فكأنه تصدق بنصف المال ترغيباً للناس في إقراض الناس، فتنحل هذه الأزمة. وقال صلى الله عليه وسلم: (من منح منحةً غدت بصدقة وراحت بصدقة صبوحها وغبوقها) وفي رواية للبخاري: (نعم الصدقة اللقحة، الصفي منحةً، والشاة الصفية منحةً، يغدو بإناء ويروح بإناء) تصور لو أنك تصدقت بشاة حلوب كان الإناء الذي يذهب به في أول النهار (شرب أول النهار الصبوح) والإناء الذي يشرب في أول الليل ويحلب من هذه الشاة وهو الغبوق، كل إناء يروح بصدقة في أول النهار، وكل إناء يغدو منها بصدقة. فإذاً، أبواب الصدقة كثيرة، فمن الذي يتحفز ويتحمس لولوج هذه الأبواب الخفية التي قد يغفل عنها الناس؟! اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من التوابين والمتطهرين، ونسألك أن تجعلنا من المتصدقين الذين يلجون أبواب الصدقة فيؤجرون عليها يا رب العالمين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

فضل الضيافة وإحياء الأرض

فضل الضيافة وإحياء الأرض الحمد لله الذي لا إله إلا هو الكريم المنان مالك الملك، المال ماله، والخلق خلقه سبحانه وتعالى، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، علمنا فأحسن تعليمنا، ووعظنا وأدبنا بكلامه وكلامه صلى الله عليه وسلم، جزاه الله خير ما جزى نبياً عن أمته، ورضي عمن تابعه وسلك سبيله إلى يوم الدين. أيها المسلمون: مبيناً لباب آخر من أبواب الصدقة يقول صلى الله عليه وسلم: (الضيافة ثلاثة أيام، فما زاد فهو صدقة) وفي رواية: (فما كان وراء ذلك فهو صدقة) نقولها للذين حلَّ عليهم ضيوفٌ فأكثروا عليهم في أيام الضيافة، فإن كانوا من المحتاجين الذين لا مأوى لهم فليحتسبوا هذا الأجر عند الله. وقال صلى الله عليه وسلم: (من غرس غرساً، لم يأكل منه آدمي ولا خلق من خلق الله إلا كان له صدقة) يوضحه فيقول: (ما من مسلم يغرس غرساً إلا كان ما أكل منه له صدقة، وما سرق منه صدقة، وما أكل السبع فهو له صدقة، وما أكلت الطيور فهو له صدقة، ولا يرزؤه أحد إلا كان له صدقة) رواه الإمام مسلم. وقال عليه الصلاة والسلام: (ما من مسلم يزرع زرعاً، أو يغرس غرساً فيأكل منه طيرٌ أو إنسان أو بهيمة إلا كانت له به صدقة) وقال: (من أحيا أرضاً ميتةً فله فيها أجر، وما أكلت العافية منها فهو له صدقة) فهذه الأغراس وهذه النباتات التي تزرع لو نوى بها وجه الله ونوى بها أجر الصدقة عندما يؤكل منها، بل عندما يعبث الأطفال فيها فيأكلون ويرمون الشجر فيأخذون من ثمره له فيه صدقة، وهذه الطيور التي تغدو وتروح على أغصان الأشجار فتأكل.

تصدق الرجل بشيء من جسده

تصدق الرجل بشيء من جسده يا أيها الناس: أي دين أعظم من هذا الدين الذي جعلت فيه لنا كل هذه الأبواب؟! وقال صلى الله عليه وسلم: (ما من رجلٍ يجرح في جسده جراحةً فيتصدق بها إلا كفر الله عنه مثلما تصدق) رواه الإمام أحمد وهو حديث صحيح، فيه قصةٌ توضحه، مثالٌ من أمثلته فيها انقطاعٌ لكن فيها عبرة في مسند الإمام أحمد، قال: (كسر رجل من قريش سن رجل من الأنصار فاستعدى عليه معاوية وكان خليفة، فقال الأنصاري: إن هذا دق سني، قال معاوية: كلا. إنا سنرضيك، وكأن معاوية رضي الله عنه رأى أن الدية أنفع للأنصاري وأرحم بالقرشي، قال: فلما ألح عليه الأنصاري، يعني: يطلب القصاص، قال معاوية: شأنك لصاحبك، وأبو الدرداء جالس، فقال أبو الدرداء: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من مسلم يصاب بشيء في جسده يتصدق به إلا رفعه الله به درجة، قال: فقال الأنصاري: أأنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم سمعته أذناي ووعاه قلبي، فعفا عنه) فهذا الذي يشهد له الحديث السابق وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (ما من رجلٍ يجرح في جسده جراحة فيتصدق بها إلا كفر الله عنه مثلما تصدق). يبين أن الإنسان إذا اعتدي عليه بشيء فتصدق بدية هذا الجرح أو هذا السن، أو تصدق بدية الولد عندما يقال: فلان صدم ولد العائلة الفلانية بالسيارة فسامحوه بالدية، كلمة فسامحوه بالدية -أيها المسلمون- لها معنى عظيم جداً، تصور عندما يسامحونه بأكثر من مائة ألفٍ مثلاً كم يكون لهم من أجر الصدقة، والناس يغفلون، يحسبون فقط أنه من مكارم الأخلاق مع أن فيها أجراً عظيماً جداً، هذا من أنواع الصدقة. وبالجملة يقول عليه الصلاة والسلام: (كل معروف صدقة) وقال: (كل معروف صنعته إلى غني أو فقير فهو صدقة).

الإنفاق على الأهل

الإنفاق على الأهل ولما كان بعض الناس يستخسرون في صرف الأموال على أهليهم، ويبخلون على زوجاتهم وأولادهم بالصرف جاءت هذه الأحاديث لتبين لك -يا عبد الله! يا أيها المسلم! - أجر الأموال التي تنفقها على أهلك، قال صلى الله عليه وسلم: (ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل شيء عن أهلك فلذي قرابتك -من المحتاجين- فإذا فضل عن ذي قرابتك شيءٌ فهكذا وهكذا من الأموال التي تنفق في أوجه الخير) وقال عليه الصلاة والسلام: (ما أطعمت زوجتك فهو لك صدقة، وما أطعمت ولدك فهو لك صدقة، وما أطعمت خادمك فهو لك صدقة، وما أطعمت نفسك فهو لك صدقة) إذا كنت تبتغي وجه الله. وقال عليه الصلاة والسلام: (ما أعطى الرجل امرأته فهو صدقة) بعض الناس يبخلون على زوجاتهم بالمصروف، يقول لهم عليه الصلاة والسلام: (ما أعطى الرجل امرأته فهو صدقة)، وقال صلى الله عليه وسلم: (كل ما صنعت إلى أهلك فهو صدقة عليهم) وقال عليه الصلاة والسلام: (نفقة الرجل على أهله صدقة) وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا أنفق الرجل على أهله نفقة وهو يحتسبها كانت له صدقة) فاحتسبوا إذاً هذه الأموال التي تنفق على أهاليكم من المصروفات اليومية، مصروف الأكل واللبس والسكن وغيره صدقة. (أربعة دنانير: دينارٌ أعطيته مسكيناً، ودينارٌ أعطيته في رقبة، ودينارٌ أنفقته في سبيل الله، ودينارٌ أنفقته على أهلك، أفضلها الذي أنفقته على أهلك) رواه البخاري في الأدب المفرد، وهو حديث صحيح. إن صدقة من مالك صدقة، وإن نفقتك على عيالك صدقة، وإنما تأكل امرأتك من مالك صدقة، وإنك إن تدع أهلك بخير خيرٌ من أن تدعهم يتكففون الناس. (ما كسب الرجل كسباً أطيب من عمل يده) و (ما أنفق الرجل على نفسه وأهله وولده وخادمه فهو له صدقة). فإذاً يا عبد الله! أي دين أعظم من هذا الدين الذي يجعل حاجة الرجل النفسية في الإنفاق على من يعول صدقةً له؟! لكن نحن ننسى الاحتساب عندما ننفق على الأهل، وننسى الاحتساب عندما نشتري المأكولات من السوق، وننسى الاحتساب عندما نشتري ألبسة لأولادنا، وننسى الاحتساب ونحن ندفع إيجار السكن من أجلهم ومن أجلنا، إذا ابتغيت وجه الله فعليك الاحتساب. أيها المسلمون: الاحتساب: حضور النية عند إخراج المال أن ذلك لوجه الله، وتنفيذاً لحكم شرعي ودرء المفسدة الشرعية الأخوية عن النفس. (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول) كل هذا صدقة، فإن لم يحصل كل هذا المعروف، يقول عليه الصلاة والسلام: (كف شرك عن الناس فإنها صدقةٌ منك على نفسك) حديث صحيح. فاغتنموا -أيها المسلمون- هذه الأبواب من أبواب الصدقات، واحرصوا ألا يفوتكم منها شيء، فإن هذه الدنيا دار عمل والآخرة دار حساب. وأنت تتصدق الآن وتنفق، ولا تنتظر حتى إذا صرت في سياقة الموت، ونزل بك وبلغت الروح الحلقوم، قلت: أعطوا من هنا، وتصدقوا من هنا، ولا تنسوا هذا وهذا، كيف؟ لا يمكن أن يقبل تصرفك في مالك إذا بلغت الروح الحلقوم، صار المال لغيرك ولمن وراءك من الورثة، فاغتنم الفرصة إذاً وتصدق بما تجود به نفسك: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ} [البقرة:110] الصدقة بالكلمة، والصدقة بالبدن، والصدقة بالمال، الصدقة بالنية عند الاحتساب. اللهم إنا نسألك أن تطهر قلوبنا من الشح والبخل، وأن تجعلنا من الكرماء في سبيلك، اللهم اجعلنا ممن ينفقون ويبذلون، اللهم اجعلنا ممن تضاعف لهم الأجور في صدقاتهم، واكتب لنا بها أجراً عندك يا رب العالمين، وأدخلنا من باب الصدقة في جنات النعيم. عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.

عشر وقفات بعد رمضان

عشر وقفات بعد رمضان أتى الشيخ بعشر وقفات لابد أن يقفها من أحسن في شهر رمضان ومن أساء، فمن أحسن فليستمر، ومن أساء فما أحوجه إلى التوبة الجادة على ما فرط. ثم ذكر أحكاماً متفرقة في باب الكفارات في الصيام؛ للمرضع والنفساء وغيرهما، وأنهى كلامه بنداء لكل من فرَّ أن يعود، ولكل من يئس أن يحسن الظن بربه وبعفوه ومغفرته.

عشر وقفات للتأمل

عشر وقفات للتأمل إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار. عباد الله: لقد مر ذلك الشهر الكريم وانقضى رمضان وولى عنا، فواحزناه على ذلك الشهر الذي تولى! ووا أسفاه على رمضان الذي انقضى! ولكن السعيد من كان قد استودعه الأعمال الصالحة، والشقي من ضيع حق رمضان، وبعد انقضاء الشهر لنا وقفات نقفها في هذا الموقف حول رمضان الذي انقضى.

الوقفة الأولى: من الذي استفاد من رمضان؟

الوقفة الأولى: من الذي استفاد من رمضان؟ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) وقال: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه). وقال: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه). فمغفرة الذنوب لهذه الأسباب الثلاثة، كل واحدٌ منها مكفرٌ لما سلف من الذنوب، وهي صيام رمضان وقيامه وقيام ليلة القدر، فتحصل المغفرة والتكفير بقيام ليلة القدر ولمن وقعت له وأصابها، سواء شعر بها أم لم يشعر. أما في صيام رمضان وقيامه فيتوقف التكفير بهما على تمام الشهر، فإذا تم الشهر فقد كمل للمؤمن صيام رمضان وقيامه، فيترتب على ذلك مغفرة ما تقدم من ذنبه، ومن نقص من العمل الذي عليه نُقص له من الأجر بحسب نقصه، فلا يلومن إلا نفسه. الصلاة مكيال، والصيام مكيال؛ فمن وفاها وفّى الله له، ومن طفف فيهما فويلٌ للمطففين، أما يستحي من يستوفي مكيال شهواته، ويطفف في مكيال صيامه وصلاته؟ إذا كان الويل لمن طفف في مكيال الدنيا: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين:1 - 3] فكيف حال من طفف مكيال الدين؟! {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:4 - 5]. وهذا الويل لمن طفف، فكيف حال الذي فرط بالكلية؟ كيف حال الذي لم يقم ولم يصم وهم أعداد ممن ينتسبون إلى الإسلام؟! ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: (من أدركه رمضان فلم يغفر له، فأبعده الله -وقالها جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم- ثم قال له: قل آمين، فقلت: آمين) دعاءٌ عليه بالإبعاد عن رحمة الله والطرد عنها؛ لأن ذلك الشهر قد مر ولم يستفد منه؛ لأن ذلك الموسم العظيم قد حصل ولم ينهل منه، لم ينتهز الفرصة فتباً له. وإذا كان لم ينتهز الفرصة العظيمة فهو لإهمال ما هو أدنى منها من باب أولى، أي: إذا فرط في رمضان فتفريطه في غير رمضان من باب أولى، ولذلك أبعده الله؛ لأنه لا يستحق أجره، ولا يستحق الرحمة ولا المغفرة، ولا شك أيها المسلمون! أننا قد حصل منا تطفيف بالصيام والقيام، وقد حصل منا إخلالٌ بآداب الصوم الواجبة والمستحبة.

الوقفة الثانية: التوبة من التقصير في العبادة

الوقفة الثانية: التوبة من التقصير في العبادة وهذا ما يدفعنا للوقفة الثانية وهي: توبة المقصر في صيامه وصلاته، والاستغفار عما مضى من الإخلال والتفريط في حق الله تعالى، وحق ذلك الشهر الذي انقضى ولم نستفد منه كما ينبغي: الاستغفار وهو الدعاء بالمغفرة، وقد جاء في حديث أبي هريرة: (يغفر فيه إلا لمن أبى، قالوا يا أبا هريرة! ومن يأبى؟ قال: من أبى أن يستغفر الله عز وجل) قال الحسن رحمه الله: [أكثروا من الاستغفار، فإنكم لا تدرون متى تنزل الرحمة] وقال واحدٌ ممن مضى لولده: يا بني! عوَّد لسانك الاستغفار، فإن لله ساعات لا يرد فيهن سائله. وقد جمع الله بين التوحيد والاستغفار في قوله عز وجل: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19] فعطف هذا على هذا مبيناً أهميته. قال إبليس: أهلكت الناس بالذنوب، وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار. والاستغفار ختام الأعمال الصالحة كلها، فتختم به الصلاة والحج وقيام الليل، وتختم به المجالس، فإن كانت مجالس ذكر كانت كالطابع عليها، وإن كانت مجالس لغوٍ كانت كفارة لها لما حصل فيها، فكذلك ينبغي أن يختم صيام رمضان بالاستغفار. كتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله إلى الأمصار يأمرهم بختم شهر رمضان بالاستغفار والصدقة -صدقة الفطر- فإن صدقة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، والاستغفار يرفع ما حصل من الخروق في الصيام باللغو والرفث. وقال بعض أهل العلم: إن صدقة الفطر للصائم كسجدتي السهو. وقال عمر بن عبد العزيز في كتابه: " قولوا كما قال أبوكم آدم: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23] وقولوا كما قال نوحٌ عليه السلام: {وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود:47] وقولوا كما قال إبراهيم عليه السلام: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء:82] وقولوا كما قال موسى عليه السلام: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص:16] وقولوا كما قال ذو النون عليه السلام: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87] صيامنا هذا يحتاج إلى استغفار نافع وعملٍ صالح له شافع، كم نخرق من صيامنا بسهام الكلام ثم نرقعه وقد اتسع الخرق على الراقع، كم نرفو خروقه بمخيط الحسنات، ثم نقطعه بحسام السيئات القاطع ". كان بعض السلف إذا صلى صلاةً استغفر من تقصيره فيها كما يستغفر المذنب من ذنبه، إذا كان هذا حال المحسنين في عباداتهم، فكيف حال المسيئين؟ أنفع الاستغفار ما قارنته التوبة، والتوبة حل عقدة الإصرار على الذنب، فمن استغفر بلسانه وقلبه عن المعصية زالت، ومن كان عزمه أن يرجع إلى المعاصي بعد رمضان ويعود فهذا صدقه غير موجود وباب القبول عنه مسدود، وصومه عليه مردود، يصوم ويقوم ويتابع على المعاصي كيف يكون ذلك؟! فالمهم أيها المسلمون أن نكثر من الاستغفار بعد هذا الشهر، علَّ الله أن يتجاوز عنا إسرافنا وتفريطنا وما حصل منا من المعاصي والسيئات في ذلك الشهر الذي تعظم فيه السيئة لفضله وشرفه.

الوقفة الثالثة: (إنما يتقبل الله من المتقين)

الوقفة الثالثة: (إنما يتقبل الله من المتقين) لقد مضت الأعمال، والصيام، والقيام، والزكاة، والصدقة، وختم القرآن، والدعاء، والذكر، وتفطير الصائم، وأنواع البر التي حصلت، والعمرة التي قام بها الكثير، لكن هل تقبلت أم لا؟ هل قبل العمل أم لا؟ يقول الله تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27]. كان السلف الصالح يجتهدون في إتمام العمل وإكماله وإتقانه، ثم يهتمون بعد ذلك بقبوله، ويخافون من رده، وهؤلاء الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة، يعطي ويخشى ألا يقبل منه، يتصدق ويخشى أن ترد عليه، يصوم ويقوم ويخشى ألا يكتب له الأجر. قال بعض السلف: " كانوا لقبول العمل أشد منهم اهتماماً بالعمل ذاته، ألم تسمعوا قول الله عز وجل: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27] " فغير المتقين ما هو حالهم؟ وعن فضالة بن عبيد قال: لأن أكون أعلم أن الله قد تقبل مني مثقال حبةٍ من خردل، أحب إليَّ من الدنيا وما فيها؛ لأن الله يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27]! يقول بعضهم: لو أعلم أن الله تقبل مني ركعتين لا أهتم بعدها؛ لأنه يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27]! وقال عبد العزيز بن أبي رواد رحمه الله: أدركتهم يجتهدون في العمل الصالح، فإذا فعلوه وقع عليهم الهم أيقبل منهم أم لا؟! وقع عليهم الهم، وليس وقعوا في المعاصي، وكان بعض السلف يقول في آخر ليلة من رمضان: يا ليت شعري من هذا المقبول فنهنئه، ومن هذا المحروم فنعزيه. أيها المقبول! هنيئاً لك، أيها المردود جبر الله مصيبتك، فإذا فاته ما فاته من خير رمضان فأي شيء يدرك، ومن أدركه فيه الحرمان، فماذا يصيب؟ كم بين من كان حظه فيه القبول والغفران ومن كان حظه فيه الخيبة والخسران؟ أيها المسلمون: من علامات التقوى: الامتناع عن الفسق بعد رمضان؛ إن الذي يخشى على عمله ولا يدري هل قبل منه أم لا؛ يجتهد في العبادة ويواصل في الطاعة، والذي يظن أنه قد عمل حسنات أمثال الجبال، فلا يهمه بعد ذلك ويقول: عندي رصيد وساعة لربك وساعة لقلبك.

الوقفة الرابعة: المواصلة على العمل والطاعة بعد رمضان

الوقفة الرابعة: المواصلة على العمل والطاعة بعد رمضان عباد الله! إن الذي يتقي الله حق تقاته يواصل على الطاعة والعبادة، والله تعالى لما ذكر صفات المؤمنين لم يقيدها بوقت، ولم يخصها بزمان، قال: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:1 - 3] ليس معرضين في رمضان فقط: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} [المؤمنون:4] متى ما دار الحول يزكي في رمضان أو في غيره، وبعض الناس إذا حال الحول في رمضان زكى ويهمل الزكاة في الأموال التي يحول عليها الحول في غير رمضان، فانتبهوا لهذه المسألة: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون:5] ليس في رمضان فقط، بل وفي غير رمضان. أيضاً: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} [الفرقان:63] دائماً هكذا مشيهم: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [الفرقان:63] هكذا هم في العادة: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً} [الفرقان:64] هم باستمرار يفعلون ذلك، وليس قيام رمضان فقط، وهكذا من سائر صفات المؤمنين، والسبب أننا مطالبون بالعمل إلى الموت بأمرٍ من الله تعالى، مرسومٌ رسمه الرب، وأمرٌ صدر من الرب، قال الله عز وجل: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] واليقين هو الموت، وقال الله تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} [مريم:65] فلابد من الصبر والمصابرة على الطاعة. وهذه وقفةٌ مهمة جداً في قضية الاستمرار على الطاعة، ولعله لهذا السبب شرع لنا صيام الست من شوال بعد رمضان، حتى لا تنقطع العبادة الجميلة وهي عبادة الصيام، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من صام ستة أيامٍ بعد الفطر كان تمام السنة) {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام:160] هكذا يقول الله تعالى، وفي رواية: (جعل الله الحسنة بعشر أمثالها) وفي رواية: (فشهرٌ بعشر ذي أشهر) وفي رواية: (صيام شهر رمضان بعشرة أشهر، وصيام ستة أيام بشهرين فذلك صيام السنة) ستة في عشرة بستين، ستون يوماً هي شهران مع الشهر الذي صمناه في عشرة بعشرة أشهر، فتمت السنة وفضل الله عظيم، وكرمه واسع، وهباته مستمرة، وعطاؤه لا ينقطع، لكن أين العاملون؟ فمن فعل هذا دائماً فكأنما صام عمره، من كان كلما صام رمضان صام ستاً من شوال، فإنه يكون قد صام العمر وله أجر صيام الدهر.

الوقفة الخامسة: عدم الاغترار بما حصل من طاعات

الوقفة الخامسة: عدم الاغترار بما حصل من طاعات بعض الناس اجتهدوا فعلاً، صاموا وحفظوا جوارحهم، وختموا القرآن وبعضهم أكثر من مرة، وعملوا عمرة في رمضان، وصلوا قيام رمضان كله من أوله إلى آخره، لم يخرموا منه يوماً أو ليلة، وفعلوا ما فعلوا من الصدقات وقدموا ما قدموا، وجلسوا في المساجد من بعد الفجر إلى ارتفاع الشمس، وبعد الصلاة يقرءون القرآن، وقبل الصلاة ينتظرون الصلاة، حصلت عبادات كثيرة، لكن إذا كانت النفس سيئة، إذا كان الطبع متعفن فإن كثرة العبادة لا تنفع، بل إن الشيطان يوسوس ويقول: لقد فعلت أشياء كثيرة وطاعاتٍ عظيمة، خرجت من رمضان بحسنات أمثال الجبال، رصيدك في غاية الارتفاع، صحائف حسناتك مملوءة وكثيرة فلا عليك بعد ذلك ما عملت، ويصاب بالغرور وبالعجب، وتمتلئ نفسه تيهاً وفخراً، ولكن آية من كتاب الله تمحو ذلك كله، وتوقفه عند حده، وتبين له حقيقة الأمر وهي قول الله تعالى: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر:6] أتمن على الله؟ أتظن أنك عندما فعلت له هذه الأشياء تكون قد قدمت له أشياء عظيمة؟ تظنها كخدمة من خدمة البشر؟ {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر:6] لا تمن على الله بعملك، لا تفخر، لا تغتر، لا تصاب بالعجب {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر:6] وتتخيل أن أعمالك كثيرة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الحسن: (لو أن رجلاً يجر على وجهه من يوم ولد إلى يوم يموت هرماً في مرضات الله تعالى لحقره يوم القيامة) لجاء يوم القيامة فرآه قليلاً ضعيفاً، لرأى عمله لا يساوي شيئاً، فإنه لو قارنه بنعمة واحدةٍ من النعم كنعمة البصر أو غيره، لصار هذا قليلاً لا يساوي شيئاً. ولذلك فإن الناس لا يدخلون الجنة بأعمالهم، وإنما يدخلونها برحمة الله تعالى، ليست الأعمال ثمناً للجنة، لكنها سببٌ لدخول الجنة، لا ندخل الجنة إلا بالأعمال الصالحة، الذي لا يعمل صالحاً لا يدخل الجنة، فهي سبب لكنها ليست الثمن، فبدون رحمة الله الأعمال لا تؤهل لدخول الجنة، بل ولا تسديد حق نعمة واحدة من النعم.

الوقفة السادسة: عدم تكليف النفس ما لا تطيق

الوقفة السادسة: عدم تكليف النفس ما لا تطيق أيها المسلمون: ونُذكر أيضاً بأن الاستمرار في العبادة والطاعة وهضم النفس مع وجوبهما، فإن ذلك لا يعني أن يكلف الإنسان نفسه فوق ما يطيق (خذوا من العبادة ما تطيقون، فإن الله لا يسأم حتى تسأموا) حديث صحيح.

الوقفة السابعة: الحال بعد رمضان لا يكون كرمضان

الوقفة السابعة: الحال بعد رمضان لا يكون كرمضان وهنا وقفة سابعة وهي: أنه لا يشترط أن نكون بعد رمضان كما كنا في رمضان، فنحن نعلم أن ذلك موسمٌ عظيم، لا يأتي بعده مثله إلا رمضان الذي بعده، لا يأتي شهرٌ فيه خيرات ومغفرة ورحمة وعتق كما في هذا الشهر الذي انصرم، فنحن لا نقول: كونوا كما كنتم في رمضان من الاجتهاد، النفس لا تطيق ذلك، لكن لا للانقطاع عن الأعمال، الخطورة في الانقطاع يا عباد الله! لابد من أخذ الأمور بواقعية، ليس من المطلوب أن نكون بعد رمضان مثل رمضان، كان ذلك شهر اجتهاد له وضعٌ وظرفٌ خاص، لكن الانقطاع عن الأعمال لا. ترك الصيام بالكلية لا. ترك القيام بالكلية لا. ترك ختم القرآن بالكلية لا. ترك الدعاء والذكر والصدقة والعمرة لا. استمروا على العمل وإن كان أقل مما كان في رمضان، ثم إن الله سبحانه وتعالى إذا كان العبد مواصلاً على عمله، لو أصابه عارض؛ لو مرض، لو سافر، يكتب له من الأجر مثلما كان يعمل صحيحاً مقيماً، وجاء في الحديث: (إذا مرض العبد قال الله للكرام الكاتبين: اكتبوا لعبدي مثل الذي كان يعمل حتى أقبضه أو أعافيه) حديث صحيح. إذاً هذه من فوائد المواصلة على الطاعة والعبادة. أيها المسلمون! من الوقفات المهمة أن الاستمرار على الطاعة والعبادة سببٌ لحسن الخاتمة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أراد الله بعبدٍ خيراً استعمله، قيل: كيف يستعمله؟ قال: يوفقه لعملٍ قبل الموت ثم يقبضه عليه) فإذا كان من الصالحين كانت عبادته حسنة، وكذلك فإن عبادتنا لله تعالى في جميع الأوقات والأحيان سواءً في السراء أو الضراء في رمضان أو في غير رمضان، في أوقات الرخاء والشدة، في أوقات المحنة والنعمة، إذا كانت مستمرة فإن الأجر يعظم: (عبادة في الهرج والفتنة كهجرة إليه) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، العبادة في وقت الفتن واختلاط الأمور أجرها كأجر المجاهد في سبيل الله تعالى، عندما لا يشجع الجو على العبادة، عندما يرجع كثير من الناس إلى فتورهم بعد رمضان، عندما تقوم أنت بالعبادة لا شك أن لك أجراً عظيماً، عندما فتر الناس أنت نشطت، عندما تقاعس الناس أنت قدمت، عندما تخلفوا أنت تقدمت. أيها المسلمون: إن هنا مفهوماً عظيماً، وهي أن العبادة هي أصلٌ في حياتنا، إنها ليست قضية طارئة، إنها ليست قضية مؤقتة، إنها ليست قضية محددة بزمانٍ أو مكان، إنها مستمرة، من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله شابٌ نشأ على طاعة الله تعالى.

الوقفة الثامنة: إلى كل من دخل وخرج بالمعاصي من رمضان

الوقفة الثامنة: إلى كل من دخل وخرج بالمعاصي من رمضان أيها المسلمون: من الوقفات العظيمة التي نقفها الوقفة الثامنة: للذين دخلوا رمضان بالمعاصي وخرجوا بالمعاصي إنهم لم يستفيدوا شيئاً، قال الله تعالى: {وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ} [المائدة:61] قال ابن كثير رحمه الله: هذه صفة المنافقين، وقد دخلوا، أي: عندك يا محمد! بالكفر، يعني: مستصحبين بالكفر في قلوبهم، ثم خرجوا من عندك والكفر كامنٌ فيها، لم ينتفعوا بما سمعوا، لم يفد فيهم العلم، لم تنجح فيهم المواعظ والزواجر. فالذين دخلوا رمضان ثم خرجوا مثلما كانوا قبل رمضان، أو أسوأ تنطبق عليهم هذه الآية، دخلوا بالمعاصي وخرجوا بالمعاصي، بعد رمضان رجعوا إلى ما كانوا فيه من المنكرات، لم يستفيدوا من رمضان، رمضان لم يورث توبةً عندهم، ولا استغفاراً ولا إقلاعاً عن المعاصي، ولا ندماً على ما فات، لقد كانت محطةً مؤقتة ثم رجعوا إلى ما كانوا فيها. هذه النفسية السيئة هل عبدت الله حق عبادته؟ هل وفت حق الله؟ هل أطاعت الله أصلاً؟ هذه مصيبة كبيرة أن يعود شراب الخمور إلى خمورهم، ومتعاطو المخدرات إلى مخدراتهم، وأصحاب الزنا إلى الزنا، وأصحاب الربا إلى الربا، وأصحاب الفسق ومجالس اللغو إلى اللغو، أن يعود أصحاب السفريات المحرمة إلى السفريات المحرمة، هذه مصيبة والله وكارثة، دخلوا بالمعاصي وخرجوا بالمعاصي، لم يستفيدوا شيئاً أبداً! أيها المسلمون: بعض الناس يتصور أن ما حصل في رمضان كافٍ للتكفير عن سيئات الإحدى عشر شهراً القادمة، ولذلك فهو يحمل على ما مضى، ويعول على ما مضى، وكأن هذا باعتباره ونظره ما حصل منه كافٍ، مستند يستند عليه، ومتكئ يتكئ عليه لمعصية الله تعالى وهو ما درى، ربما رد على أعقابه ولم يقبل منه عملٌ واحدٌ في رمضان.

الوقفة التاسعة: مآسي ما بعد رمضان

الوقفة التاسعة: مآسي ما بعد رمضان لقد حصل كثير من البلايا في رمضان، هذا أكل مجاملة لكفار، دخل عليهم المكتب وهم يأكلون أكل معهم وهذه حصلت، وهذا وقع على زوجته في نهار رمضان، وانتهك حرمة الشهر الكريم بأسوأ مفطر من المفطرات، وعليه الكفارة المغلظة عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع لمرضٍ وعذرٍ حقيقي لا تلاعب فإنه يطعم ستين مسكيناً، فكيف بمن زنا في رمضان، وفعل الفاحشة في رمضان، من وطئ في قبلٍ أو دبرٍ حلالٍ أو حرامٍ أو بهيمةٍ لزمته الكفارة المغلظة، هذا كلام العلماء فيمن حصل له ذلك في نهار رمضان، قتلى حوادث السيارات في العيد الذين يخرجون متهورين لا تسعهم الفرحة، الفرحة بالمعصية، الفرحة بانقضاء موسم الطاعة، ماذا يكون حالهم؟

الوقفة العاشرة: الفائزون في رمضان

الوقفة العاشرة: الفائزون في رمضان يقول الناس لبعضهم البعض في العيد من العبارات التي يقولها العامة: من العايدين ومن الفايزين، هل تعلمون منهم الفائزون؟ قال الله تعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185] {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر:20] وقال الله عن أهل الجنة: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:100] {جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} [البروج:11] فالفوز الحقيقي الفوز في الجنة. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهل الجنة، نسأل الله أن يجعلنا ممن قبل أعمالهم في رمضان، اللهم تقبل ما حصل من العمل، واغفر لنا الخطأ والتقصير والزلل، اللهم إنا نسألك رحمة من عندك تلم بها شعثنا، وتغفر بها ذنبنا، وترحم بها ميتنا، وتشفي بها مريضنا، وتقضي بها ديننا، اللهم إنا نسألك رحمة من عندك تجعلنا فيها بعد هذا الشهر الكريم خيراً مما كنا قبله. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

أحكام الكفارات والقضاء في الصيام

أحكام الكفارات والقضاء في الصيام الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، أشهد أن لا إله إلا هو الحي القيوم، رب الأرض والسماء، وأصلي وأسلم على نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أشهد أنه رسول الله حقاً، والمبلغ عن الله صدقاً، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن تبعه إلى يوم الدين. عباد الله: لقد غادرنا رمضان وترك في قلوبنا شيئاً من الحزن وغصة في النفس. دع البكاء عن الأطلال والدار واذكر لمن بان من خلٍ ومن جار واذر الدموع نحيباً واضحاً أسفاً على فراق ليالٍ ذات أنوار على ليالٍ لشهر الصوم ما جعلت إلا لتمحيص آثام وأوزار يا لائمي في البكا زدني به كلفاً واسمع غريب أحاديثي وأخباري ما كان أحسننا والشمل مجتمعٌ منا المصلي ومنا القانت القاري أي شهرٍ قد تولى يا عباد الله عنا حق أن نبكي عليه بدماءٍ لو عقلنا كيف لا نبكي لشهرٍ مر بالغفلة عنا ثم لا نعلم أنا قد قبلنا أو طردنا ليت شعري من هو المحروم والمطرود منا ومن المقبول ممن صام منا فَيُهَنّا كان هذا الشهر نوراً بيننا يزهر حسنا فاجعل اللهم عقباه لنا نوراً وحسنا هذا شهرٌ مبارك الذي نحن فيه أيضاً وهو شهر شوال، وعوضنا الله لنا بأشياء، به تبتدأ أشهر الحج (شوال وذي القعدة وعشر ذي الحجة) ويأتي بعده موسم الحج بأشهر الحج دلالة على الاستمرار في الطاعة وحتى لا ينسى الناس العبادة، موسم عظيم بعد موسم عظيم، وفي هذا الشهر -شهر شوال- صوم الست وقضاء الاعتكاف، فقد اعتكف النبي صلى الله عليه وسلم عشراً من شوال لما فاته الاعتكاف في رمضان، وربما كان يفوته في الغزو والجهاد، وهو شهر بناءٍ ونكاح وإعفافٍ بالحلال، قالت عائشة: [تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان، وبنا بي في شوال، وكانت عائشة تستحب أن تدخل نسائها في شوال] كما جاء في صحيح مسلم. أيها المسلمون: تذكروا بعض الأحكام الشرعية، من فاته شيءٌ من رمضان كالمسافر والمريض والحائض والنفساء فإنه يقضي بعدد الأيام التي أفطرها لقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] فإن كان الشهر ثلاثين وأفطره لزمه ثلاثين، وإن كان تسعة وعشرين أفطره لزمه تسعة وعشرون، ويجوز أن يقضيه متتابعاً أو مفرقاً، وهذا هو الراجح، فإن الله لم يشترط التتابع، وإنما أطلق فقال: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184]. وتنبغي المبادرة إلى القضاء، والأولى أن يكون من حين زوال العذر؛ لأنه أسبق إلى الخير وأسرع في إبراء الذمة، ويجوز أن يؤخره حتى لا يكون بينه وبين رمضان الثاني بعدد الأيام التي بقيت، ولا يجوز تأخير القضاء أكثر من ذلك أبداً، ومن فعله فهو عاصٍ وعليه التوبة وكفارة التأخير، ولكن من أخر لعذرٍ فليس عليه شيء، وقد قالت عائشة رضي الله عنها: [كان يكون عليَّ الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان]. ومن شرع في صومٍ واجب كالقضاء أو الكفارة والنذر، فلابد له من إتمامه، وليس مخيراً في الإفطار، ولابد من نية لصيام القضاء من الليل. واعلموا رحمكم الله أن قضاء رمضان قبل صيام الست: (من صام رمضان ثم أتبعه بست من شوال كان كصيام الدهر) ولو لم يكف شهر شوال للقضاء والست فليبدأ بالواجب، بل إن صيام الكفارة الواجب يقدم على صيام الست، ولا قضاء للست بعد شوال ولكن يصوم من ذي القعدة إذا لم يكف الوقت لاستدراك ما يمكن استدراكه من الخير. والأفضل النية لصيام الست من الليل خروجاً من خلاف أهل العلم، ولكن من أصبح فصام في الصباح ونوى ولم يأكل شيئاً فصيامه صحيح، ونفله مقبول عند الله عز وجل، والصائم متطوعاً يجوز له أن يفطر أثناء النهار لحديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يومٍ: يا عائشة! هل عندكم شيءٌ؟ قالت: فقلت يا رسول الله! ما عندنا شيء، قال: فإني صائم، قالت: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهديت له هدية، قالت: فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: يا رسول الله! أُهديت لنا هدية وقد خبأت لك شيئاً، قال: ما هو؟ قلت: حيسٌ -طعام من التمر والأقط والسمن- قال: هاتيه، فجئته به فأكل، ثم قال: قد كنت أصبحت صائماً) قال طلحة: فحدثت مجاهداً بهذا الحديث، قال: ذاك بمنزلة الرجل يخرج الصدقة من ماله، فإن شاء أمضاها وإن شاء أمسكها رواه مسلم، لكن إن سلمها للفقير فلا يجوز له الرجوع فيها. فإذاً حثوا النساء على القضاء (الحامل والمرضع كذلك) فالراجح أن عليهما القضاء فقط، أفطرتا عن نفسيهما أو ولديهما، وإن أطعمت مع القضاء أحسن، لكن الراجح أن عليهما القضاء فقط كالمريض، وكذلك نذكر الذين لم يخرجوا الزكاة، بعضهم أخرج جزءاً من الزكاة في رمضان، سارعوا بإخراج بقية الزكاة يرحمكم الله.

وأخيرا نداء

وأخيراً نداء يا من أعتقه مولاه من النار! إياك أن تعود إليها بعد أن صرت حراً من رق الأوزار، أيبعدك مولاك من النار وأنت تقترب منها، وينقذك منها وأنت توقع نفسك فيها ولا تحد عنها؟!! إن كانت الرحمة للمحسنين فالمسيء لا ييأس منها، وإن تكن المغفرة مكتوبةٌ للمتقين فالظالم لنفسه غير محجوب عنها ورحمة الله واسعة. إن كان لا يرجوك إلا محسنٌ فمن الذي يرجو ويدعو المسلم ونعم الله متوالية متعددة فالحمد لله على نعمائه. اللهم انصر الإسلام والمسلمين، كن مع المجاهدين، اجمع شملهم على الحق والتوحيد يا رب العالمين، دمر أعداء الدين، اكبتهم وزلزل الأرض من تحتهم، واجعلها عليهم سني كسني يوسف، اللهم اجعلنا من عتقائك من النار، واغفر لنا سائر الآثام والأوزار. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

قصة أبي هريرة وإناء اللبن

قصة أبي هريرة وإناء اللبن أورد الشيخ حفظه الله حديث أبي هريرة وقصته مع إناء اللبن، ثم استطرد في شرحه وبيان كيف كان حال الصحابة رضوان الله عليهم في العيش ومعاناة الجوع، وختم ذلك بذكر فوائد من الحديث، ثم أسئلة مبينة لما انبهم من الدرس.

نص حديث أبي هريرة وإناء اللبن

نص حديث أبي هريرة وإناء اللبن الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، والصلاة والسلام على النبي المصطفى الأمين، خير خلق الله وخاتم رسله أجمعين، وعلى آله وصحبه والذين ساروا على هديه واقتفوا سنته ومنهجه القويم، ومن تبعهم بإحسان وتأسى بهم إلى يوم الدين. أيها الإخوة: سنتحدث إن شاء الله إليكم في هذه الليالي المباركة عن سلسلة من القصص من كلام النبي صلى الله عليه وسلم مع ذكر شرحها وفؤادها، وفي هذه الروائع من الكلام الذي جاء عن صحابة النبي صلى الله عليه وسلم مما رووه عن نبينا صلى الله عليه وسلم دروسٌ عظيمة وفائدة كبيرة لنا جميعاً. وفي هذه الليلة نتحدث عن قصة أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مع أهل الصُّفة في إناء اللبن، وهذه القصة تبين عيش النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف كان عيش أصحابه رضي الله تعالى عنهم. روى البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يقول: (آلله -وفي رواية-: والله الذي لا إله إلا هو إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت يوماً على طريقهم الذي يخرجون منه، فمر أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله، ما سألته إلا ليشبعني، فمر ولم يفعل، ثم مر بي عمر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني، فمر ولم يفعل، ثم مر بي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم فتبسم حين رآني وعرف ما في نفسي وما في وجهي، ثم قال: يا أبا هر! قلت: لبيك يا رسول الله! قال: الحق، ومضى فتبعته فدخل فاستأذن فأذن لي، فدخل فوجد لبناً في قدح، فقال: من أين هذا اللبن؟ قالوا: أهداه لك فلان أو فلانة، قال: أبا هر! قلت: لبيك يا رسول الله! قال: الحق إلى أهل الصفة فادعهم لي، قال: وأهل الصفة أضياف الإسلام، لا يأوون إلى أهل ولا مال ولا على أحد، إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئاً، وإذا أتته هدية، أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها، فساءني ذلك، فقلت: وما هذا اللبن في أهل الصفة؟ كنت أنا أحق أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها، فإذا جاء أمرني فكنت أنا أعطيهم وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن، ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم بد، فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا، فاستأذنوا فأذن لهم، وأخذوا مجالسهم من البيت، قال: يا أبا هر! قلت: لبيك يا رسول الله! قال: خذ فأعطهم، قال: فأخذت القدح فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد عليّ القدح، فأعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد عليّ القدح، فأعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد عليّ القدح، حتى انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد روي القوم كلهم، فأخذ القدح فوضعه على يده، فنظر إليّ فتبسم، فقال: أبا هر! قلت: لبيك يا رسول الله! قال: بقيت أنا وأنت، قلت: صدقت يا رسول الله! قال: اقعد فاشرب فقعدت فشربت، فقال: اشرب فشربت، فما زال يقول: اشرب حتى قلت: لا والذي بعثك بالحق لا أجد له مسلكاً، قال: فأرني، فأعطيته القدح فحمد الله وسمى وشرب الفضلة). هذا الحديث أخرجه البخاري في كتاب الرقاق من صحيحه، وأخرجه الترمذي وأحمد في كتبهم.

أحاديث تبين حال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه

أحاديث تبين حال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه هذا الحديث يبين كيف كانت عيشة النبي صلى الله عليه وسلم، ونحن اليوم في هذا الشهر من رمضان على طعام الإفطار نضع ألواناً من الطعام والشراب، فحريٌّ بنا أن نتذكر كيف كانت عيشة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأن نستحضر في أنفسنا ما كانوا عليه من شظف العيش، فقد كانوا يعانون ويقاسون ومع ذلك صبروا، واجتمعت عليهم أمم الأرض فلم يغيروا ولم يبدلوا. لقد كان بإمكان النبي صلى الله عليه وسلم أن يعيش ملكاً من الملوك، لقد كان بإمكانه أن تجبى إليه خزائن الدنيا، ولكنه صلى الله عليه وسلم فضَّل أن يعيش على الزهد وعلى هذا الحال، حتى أن زوجته عائشة رضي الله عنها تقول لـ عروة: (يا بن أختي! إن كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال ثم الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار -شهران كاملان لا يوجد طبخ، ولا توقد نار؛ لم يكن عندهم شيء يطبخونه- فقلت: ما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء -سميا بالأسودين من باب التغليب، وإلا فالماء شفاف لكن أطلق عليه الأسود تغليباً مع التمر الأسود- قالت: إلا أنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار، كان لهم منائح -والمنحة هي العطية من الشاة أو البقر- وكانوا يمنحون رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبياتهم فيسقيناه)، وكذلك قال سهل رضي الله عنه: (ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم النقي من حين ابتعثه الله حتى قبضه الله) ما رأى الخبز الأبيض النقي حتى قبضه الله، فقلت: (هل كانت لكم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مناخل؟ قالت: ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم منخلاً من حين ابتعثه الله حتى قبضه الله، قلت: كيف كنتم تأكلون الشعير غير منخول؟ قالت: كنا نطحنه وننفخه فيطير ما طار وما بقي ثريناه فأكلناه) رواه البخاري رحمه الله أيضاً. وروى مسلم، عن عائشة قالت: (جئنا بـ عبد الله بن الزبير إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحنكه، فطلبنا تمرة فعز علينا طلبها) بحثنا عن تمرة فعز علينا طلبها. وكذلك روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: [ما شبعنا حتى فتحنا خيبر] ما شبعوا من التمر إلا في العام السابع من الهجرة، وقال الصحابي: (ما أكل النبي صلى الله عليه وسلم خبزاً مرققاً ولا شاةً مسموطةً حتى لقي الله) الشاة المسموطة: الصغيرة ذات الجلد الطري التي تطبخ مع جلدها ثم تقشر فتؤكل، وهي من طعام المنعمين، هذه ما رآها النبي صلى الله عليه وسلم ولا أكلها. وكذلك روى البخاري رحمه الله عن عائشة أنها سُئلت: (أنهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تؤكل لحوم الأضاحي فوق ثلاث؟ قالت: ما فعله إلا في عام جاع الناس فيه، فأراد أن يطعم الغني الفقير، وإن كنا لنرفع الكُراع -الكُراع: ما استدق من الساق ما فيه إلا شيء قليل من اللحم- فنأكله بعد خمس عشرة، قيل: ما اضطركم إليه؟ فضحكت، قالت: ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم من خبز بر مأدوم ثلاثة أيام حتى لحق بالله). وقالت أيضاً فيما رواه البخاري رحمه الله: [لقد توفي النبي صلى الله عليه وسلم وما في رفي شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير -نصف- في رفٍ لي، فأكلت منه حتى طال عليّ، فكلته ففني] لو تركته بدون كيل لبقي، فلما كالته انتهى وفني. وقال سعد: (لقد رأيتني سابع سبعة مع النبي صلى الله عليه وسلم ما لنا طعام إلا ورق الحُبلة أو الحَبلة -أي: ورق الشجر- حتى يضع أحدنا ما تضع الشاة ما له خلط) لا يتبرز إلا مثل الشاة. وكذلك فإن هذا الحديث الذي سقناه في بداية الدرس دليل على ما كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعانون.

شرح قصة أبي هريرة وإناء اللبن

شرح قصة أبي هريرة وإناء اللبن هذه القصة العظيمة التي رواها أبو هريرة رضي الله تعالى عنه قال: (آلله -أو- والله الذي لا إله إلا هو -يحلف- إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع) أي: ألصق بطني بالأرض من الجوع، فإما أن يكون المعنى أنه كان يشد الحجر على بطنه حتى لا يشعر بالجوع، أو أنه كناية عن سقوطه إلى الأرض مغشياً عليه، كما قال هو رضي الله عنه (فمشيت غير بعيد فخررت على وجهي من الجهد والجوع)، فكان يصل إلى درجة الغشيان، قال: (لقد رأيتني وإني لأخر ما بين المنبر والحجرة -يطوف بينهما ما عنده شيء في غاية الجوع- مغشياً عليّ من الجوع، فيجيء الجائي -يراه مغشياً عليه- فيضع رجله على عنقي يرى أن بي جنوناً وما بي إلا الجوع) كأنه كان يريد أن يقرأ عليه ليخرج الجن، يحسبه مصروعاً فيه جن، فيخرج الجن وما به جن ولا صرع ما به إلا الجوع، وقال: (كنت من أهل الصفة، وإن كان ليغشى عليّ فيما بين بيت عائشة وأم سلمة من الجوع)، وفي رواية: (وإني كنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم لشبع بطني) يلزمه بأخذ الأحاديث والعلم وليس له إلا الطعام فقط، وقال في رواية: (وكنت ألصق بطني بالحصى من الجوع، وإن كنت لأستقرئ الرجل الآية وهي معي -أي: أحفظها وأعلم بها منه كي يتفطن لحالي- كي ينقلب بي فيطعمني، وكنت إذا سألت جعفر بن أبي طالب -وكان يلقب بأبي المساكين رضي الله عنه- لا يعطيني جواب السؤال حتى يذهب بي إلى منزله ويطعمني)، قال: (وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع) وفي رواية: يقول عبد الله بن شقيق: [أقمت مع أبي هريرة سنة، فقال: لو رأيتنا وإنه ليأتي على أحدنا الأيام ما يجد طعاماً يقيم به صلبه، حتى إن كان أحدنا ليأخذ الحجر فيشد به على أخمص بطنه، ثم يشده بثوبه ليقيم به صلبه] الحجر في حالة الجوع الشديد إذا شد على البطن يفيد في الاعتدال والانتصاب، لأن الإنسان مع الجوع الشديد ينحني، فيشد الحجر على بطنه ويساعده على الاعتدال والانتصاب، أو يمنع كثرة تحلل الغذاء الذي في البطن فيبقى الطعام أكثر لكي يقتات به أكثر، أو حتى يبرد بالحجر حرارة الجوع في بطنه، فهكذا كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في شظف العيش، صبروا معه وما ذهبوا عنه يميناً ولا شمالاً. يأخذون صفائح رقاق من الحجر بطول الكف أو أكبر قليلاً، فيربطها الواحد منهم على بطنه وتشد بعصابة فوقها فتعتدل قامته بعض الاعتدال، قال أبو هريرة: (ولقد قعدت على طريقهم الذي يخرجون منه)؛ لأن طرق الصحابة من منازلهم إلى المسجد كانت متحدة في طريق واحد إلى المسجد (فمر بي أبو بكر فسألته عن آية ما سألته إلا ليشبعني -وفي روية- ليستتبعني) أي: يطلب مني أن أتبعه ليطعمني، ما كان أبو هريرة يريد أن يقول: هات وأعطني، كان متعففاً عن السؤال، لكنه كان مع ضرورة الحال يسأل السؤال وهو يعلم الجواب لعل المسئول يتفطن لحاله فيدعوه لطعام أو يعطيه شيئاً، مرَّ أبو بكر رضي الله عنه ولم يفطن لحال أبي هريرة، ثم مرَّ به عمر رضي الله عنه فسأله أبو هريرة فلم يفطن عمر رضي الله عنه لذلك أيضاً. وعمر بعد ذلك علم، يقول أبو هريرة: (فلقيت عمر فذكرت له وقلت له ما حصل، أو ما كان مني) فتأسف على عدم إدخال أبي هريرة داره، وأنه لم يفطن له، وقال: لـ أبي هريرة معتذراً بعد أن عرف القصة: [والله لئن أكون أدخلتك أحب إليّ من أن يكن لي حمر النعم].

تفطن النبي صلى الله عليه وسلم وتفقده لأحوال أصحابه

تفطن النبي صلى الله عليه وسلم وتفقده لأحوال أصحابه قال: (ثم مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم أبو القاسم فتبسم حين رآني وعرف ما في نفسي) فالتبسم يكون تارة للعجب، وتارة لإيناس الشخص الذي تتبسم إليه، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان متفطناً لحال أصحابه، فأول ما رأى أبا هريرة عرف في وجهه الجوع، وعرف أنه يحتاج إلى ما يسد رمقه، (ثم قال لي: يا أبا هر!) وهذا نوع من التحبب وأبو هر على التكبير، وأبو هريرة على التصغير؛ لأن هريرة تصغير هر، وكان لـ أبي هريرة هرة يلازمها فكني بـ أبي هريرة، قال: (يا أبا هر! قلت: لبيك يا رسول الله) وفي رواية: (فقلت: لبيك يا رسول الله وسعديك، قال: الحق ومضى فتتبعته فلحقته، فدخل النبي عليه الصلاة والسلام على أهله فاستأذن)، وفي رواية: (فاستأذنت فأذن لي، فدخل أبو هريرة رضي الله عنه). وفي رواية: (فدخلت فوجد النبي عليه الصلاة والسلام في البيت عنده لبناً في قدح، فسأل عليه الصلاة والسلام: من أين هذا اللبن؟ -ما هو مصدره؟ من أين لكم هذا؟ يقول - قالوا: أهداه لك فلان أو فلانة) والنبي عليه الصلاة والسلام كان يأكل الهدية، ولكن لا يأكل الصدقة، مقامه أرفع من أن يأكل صدقات الناس، لكن الهدية يأكل منها؛ لأن الهدية ليس فيها إزراء ولا تنزيل من المقام، ولا إسفاف على النفس، والنبي عليه الصلاة والسلام لما وجد اللبن ما قال لـ أبي هريرة: خذ واشرب، قال: (الحق إلى أهل الصفة).

تعريف بأهل الصفة ومكانهم وتحديد مكان الروضة

تعريف بأهل الصفة ومكانهم وتحديد مكان الروضة أهل الصفة: أضياف الإسلام، هؤلاء أناس فقراء أسلموا، جاءوا من القبائل إلى المدينة، ما عندهم أهل ولا مال، ولا يأوون إلى أهل ولا مال ولا على أحد، وكان عليه الصلاة والسلام إذا جاءه الرجل وله قريب في المدينة أو عريف نزل عليه، فإذا لم يكن له عريف نزل مع أصحاب الصفة، وكان أهل الصفة أناساً فقراء لا منازل لهم، فكانوا ينامون في المسجد لا مأوى لهم غيره، أين مكان أصحاب الصفة الآن في المسجد النبوي؟ هل القبلة شمال البيت النبوي والقبر النبوي أو جنوب البيت النبوي؟ جنوب؛ لأن مكة جنوب المدينة، على الناحية الأخرى، أي: شمال القبر النبوي. منبر النبي عليه الصلاة والسلام معروف، ومكانه موجود، وبيت النبي عليه الصلاة والسلام في حجرة عائشة التي دفن فيها صلى الله عليه وسلم ما بين البيت والمنبر روضة من رياض الجنة -كما قال النبي صلى الله عليه وسلم- لعله أراد تشجيع حلق الذكر في هذا المكان، وحلق الذكر من رياض الجنة. والمكان هذا فيه فضل، وقد ذهب ابن القيم رحمه الله إلى أن ما بين البيت والمنبر روضة من رياض الجنة أي: على الحقيقة، وأن هذا المكان هو من الجنة، أو يكون هذا المكان في الجنة يوم القيامة. كان النبي عليه الصلاة والسلام له حجرات، باب حجرة عائشة يفتح من جهة المنبر، وكذلك بيوت نساء النبي صلى الله عليه وسلم، لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم دفن في حجرة عائشة كما قال: (ما من نبي يموت إلا دفن حيث يموت). ودفن أبو بكر إلى جانبه وإلى جانبهما عمر رضي الله عنهما، ثم في العهود السابقة جاء من أدخل الحجرة في المسجد في عهد الوليد، وإلا لكانت الحجرات خارج المسجد، ولما جاء عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى سداً لذريعة الشرك والبدع بنى جدراناً مثلثة حول القبر النبوي، وقبر صاحبيه، بحيث لا يستطيع أحد أن يستقبل القبر مع القبلة، جعلها بطريقة مثلثة سداً لذريعة الشرك، ولذلك لا يوجد الآن باب يدخل إلى قبر النبي عليه الصلاة والسلام، لأن بناء عمر بن عبد العزيز بناء مثلث مصمت ليس له أبواب لكنه مفتوح من الأعلى إلى القبة، وفي القبة فتحة إلى السماء، لكن القبة بنيت بعد ذلك، وأساء من أساء في علو النجارين على قبر النبي صلى الله عليه وسلم ودق الخشب، ثم تركت على حالها إلى الآن، وإلا فإنه لا يجوز البناء على القبور ولا وضع القباب عليها. لكن حجرة النبي عليه الصلاة والسلام مفتوحة ليس مبني عليها في الأصل، وكان القبر داخل الحجرة، ثم جاء عمر بن عبد العزيز رحمه الله وبنى عليها ثلاثة جدران ليس لها مدخل، ثم جاء بعده من بنى سوراً ثانياً حول الحجرة ثم وضع القفص الأخضر، فهو محاط بثلاثة أسوار، ولا يمكن الدخول إلى القبر مباشرة، وإنما يأتي الإنسان بمحاذاة القبر فيقول: السلام عليك يا رسول الله، ثم يخطو خطوة، فيقول: السلام عليك يا أبا بكر، ثم يخطو أخرى، فيقول: السلام عليك يا عمر، وفي العصور السابقة جاء من أدخل جزءاً من الحجرة في هذه الأسوار، فجزء من الروضة (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة) مأخوذ داخل القبر، وإلا فإن الروضة أوسع من ذلك، ما بين المنبر وبيت النبي عليه الصلاة والسلام روضة من رياض الجنة، فهذا الذي كان أبو هريرة يطوف بينهما ويقع مغشياً عليه من الجوع. كان طريقهم إلى المسجد من البيوت، والآن زيدت التوسعة، وأزيلت كل البيوت القديمة، بل مدينة النبي عليه الصلاة والسلام كلها الآن زالت بالتوسعة، ولم يبق منها شيء، ومن العجائب أن الإنسان في القديم لو نظر من جبل أحد لا يمكن أن يرى المسجد النبوي؛ لأنه بناء محدود وحوله بيوت، وحول البيت مزارع ونخل، أما الآن فقد وسع المسجد توسعة كبيرة، وصار حوله ساحة كبيرة، ويغلب عليه اللون الأبيض من الخارج، فالآن يمكن أن يرى من جبل أحد. ومن العجائب ما رواه الإمام أحمد رحمه الله في مسنده، بسند رجاله ثقات (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس، فقال: يوم الخلاص وما يوم الخلاص! يوم الخلاص وما يوم الخلاص! يوم الخلاص وما يوم الخلاص! ثلاثاً، فقيل له: وما يوم الخلاص؟ قال: يجيء الدجال، فيصعد أحداً، فينظر المدينة، فيقول لأصحابه: أترون هذا القصر الأبيض، هذا مسجد أحمد). أي: يراه الدجال من جبل أحد، وهو الآن كذلك، فهذا يعني أن الساعة قد اقتربت، ومن قبل لم يكن المسجد النبوي يُرى من جبل أحد، والآن يرى، وفي الحديث (ثم يأتي المدينة -يحاول دخول المدينة - فيجد بكل نقبٍ ملكاً مصلتاً -أي: بيده سيف، لا يستطيع الدجال الدخول إلى المدينة، وهذه من ميزات المدينة، ولا يدخل الدجال مكة - مصلتاً فيأتي سبخة الحرف -وهي الجانب والطرف- فيضرب رواقه في تلك المنطقة، ثم ترجف المدينة ثلاث رجفات، فلا يبقى منافق ولا منافقة، ولا فاسق ولا فاسقة إلا خرج إليه، فذلك يوم الخلاص). هذا يوم الخلاص يوم يخرج منافقو المدينة وفساقها إلى الدجال ولا يبقى فيها إلا المؤمنون.

أبو هريرة يدعو أهل الصفة إلى لبن رسول الله

أبو هريرة يدعو أهل الصفة إلى لبن رسول الله جلس أبو هريرة رضي الله عنه على طريقهم فلم يتفطن له أحد، حتى فطن له النبي صلى الله عليه وسلم، فأدخله إلى بيته ووجد لبناً في قدح، فسأل: (من أين هذا اللبن؟ قالوا: أهداه لك فلان أو فلانة، قال: الحق إلى أهل الصفة) هات أهل الصفة، وأهل الصفة: أضياف الإسلام، هؤلاء أناس ليس عندهم مال ولا مأوى، كانوا يأوون إلى المسجد النبوي، يقول أبو هريرة في رواية: (كنت من أهل الصفة، كنا إذا أمسينا حضرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأمر كل رجل فينصرف برجل أو أكثر، فيبقى من بقي عشرة أو أقل أو أكثر فيأتي النبي صلى الله عليه وسلم بعشائه فنتعشى معه، فإذا فرغنا، قال: ناموا في المسجد) ما عندهم إلا المسجد. ولذلك كان عليه الصلاة والسلام كثيراً ما يقول: (من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث)، (طعام الاثنين يكفي الثلاثة) خذوا واحداً من أهل الصفة، كل واحد من أهل المدينة معه طعام اثنين يأخذ ثالثاً من أهل الصفة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى قسم ناساً من أصحاب الصفة بين أناس من أصحابه، فيذهب الرجل بالرجل، والرجل بالرجلين، حتى ذكر عشرة. لما جاء هذا القدح من اللبن قال: (يا أبا هر! الحق إلى أهل الصفة ادعهم، وكان عليه الصلاة إذا أتته صدقة بعث بها إليهم -إلى أهل الصفة- ولم يتناول منها شيئا، وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم وفي رواية: شركهم فيها، وكان يَقبل الهدية ولا يَقبل الصدقة، وإذا قيل له: صدقة، قال لأصحابه: كلوا ولم يأكل، وإذا قيل: هدية ضرب بيده فأكل معهم) فإذا كان صدقة، قال: اذهبوا بها إلى أهل الصفة، وإذا كان هدية قال: ائتوا بأهل الصفة فيشركهم في هذه الهدية، ويأكل هو وأهله صلى الله عليه وسلم. والأحوال كانت مختلفة معهم بحسب ما يتيسر في ذلك الوقت، وقد جمع بعض العلماء أسماء أهل الصفة، كما فعل أبو سعيد بن الأعرابي وأبو عبد الرحمن السلمي، وجمع بينهما أبو نعيم في أوائل كتاب: الحلية فسرد جميع الأسماء، وقيل: إنهم كانوا سبعين، والصحيح أنهم كانوا يقلون ويكثرون بحسب الأحوال، فلما قال النبي عليه الصلاة والسلام لـ أبي هريرة: (ادع أهل الصفة، قال أبو هريرة: فساءني ذلك وفي رواية: أحزنني ذلك) أي: أنا الآن في غاية الجوع، وغاية الجهد، ومحتاج إلى شربة لبن، يقول: اذهب إلى أهل الصفة! نعم. وأهل الصفة ماذا يكفيهم؟! وإذا كفاهم ماذا يبقى لي؟! لا شيء، لذلك أبو هريرة: (فأحزنني ذلك، فقلت -أي: في نفسي- وما هذا اللبن؟! -أي: ماذا يجزئ؟ وماذا يكفي؟ - في أهل الصفة؟ وأين يقع هذا اللبن من أهل الصفة وأنا ورسول الله؟ وكنت أرجو أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها). ثم الأمر سيكون -أيضاً- زيادة: (فإذا جاء أهل الصفة؛ أمرني عليه الصلاة والسلام فكنت أنا أعطيهم)، أي: بالإضافة إلى ذلك لو دعوت أهل الصفة ولو كنت أنا أول من يشرب، أو ثاني من يشرب أو ثالث من يشرب، كان ذلك طيب، لكن المشكلة سوف أدعوهم ثم أكون أنا المضيف، ويقول لي: ضيفهم، وسأمر بالقدح عليهم واحداً واحداً، فإذاً أنا ساقي القوم: (ساقي القوم آخرهم شرباً) إذاً ذهبت! (فكنت أنا أعطيهم وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن) أي: ماذا سيصل إلي بعدما يشربوا منه؟ ولكن يقول أبو هريرة: (ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله بد) لكن لا يمكن أن نحيد، من يطع الرسول فقد أطاع الله. قال: (فأتيتهم فدعوتهم، فجاءوا، فاستأذنوا فأذن لهم، فأخذوا مجالسهم من البيت) قيل: إن هؤلاء كانوا سبعين، وقيل: مائة، ولكنهم كانوا يتفاوتون بسبب اختلاف الأحوال، مرة تأتي سرية يخرج بعضهم مع السرية، لتبليغ الدعوة، ويأتي أحياناً أناس من خارج المدينة يزيدون، إذاً كان عددهم يتزايد ويتناقص بحسب الأحوال.

معجزة النبي صلى الله عليه وسلم في بركة اللبن

معجزة النبي صلى الله عليه وسلم في بركة اللبن قال النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء أهل الصفة كلهم وجلسوا: (يا أبا هر! خذ فأعطهم) خذ القدح الذي فيه اللبن وأعطهم (فجعلت أعطي الرجل فيشرب حتى يروى من إناء اللبن، ثم يرد عليّ القدح فأعطيه الرجل -أي: الذي إلى جانبه- فيشرب حتى يروى) وهكذا واحد وراء الآخر يشربون من القدح نفسه، حتى انتهوا كلهم حتى روي القوم جميعاً، (حتى انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعدما شرب القوم كلهم من الإناء) وهذا معجزة من معجزات النبي عليه الصلاة والسلام، بركة تكثير الطعام والشراب للنبي عليه الصلاة والسلام، بقي النبي عليه الصلاة والسلام، (أعطيته القدح، فأخذ القدح وقد بقيت منه فضلة) أي: هو نقص لكن بقيت منه فضلة ما انتهى، (فأخذ القدح فوضعه على يده صلى الله عليه وسلم، فنظر إليّ فتبسم) كأنه يقول: يا أبا هريرة! أظننت في نفسك ألا يبقى منه شيء؟ انظر لقد بقي منه، هذا معنى الابتسامة، (فوضعه على يده، فنظر إليّ فتبسم، فقال: أبا هر! فقلت: لبيك يا رسول الله! قال: بقيت أنا وأنت، قلت: صدقت يا رسول الله! قال: اقعد فاشرب، فقعدت فشربت، فقال: اشرب فشربت، فما زال يقول: اشرب حتى قلت: والذي بعثك بالحق لا أجد له مسلكاً، قال: فأرني، فأعطيته القدح فحمد الله -أي: على البركة التي حصلت ووقعت في اللبن مع قلته وكثرة القوم- وسمى وشرب الفضلة) أي: شرب البقية.

فوائد من قصة أبي هريرة وإناء اللبن

فوائد من قصة أبي هريرة وإناء اللبن هذا الحديث فيه فوائد كثيرة، منها: أولاً: استحباب الشرب جالساً، وهذا مذهب جمهور العلماء، وقال بعضهم بتحريم الشرب واقفاً ووجوب الجلوس، لكن مذهب جمهور العلماء هو استحباب الشرب جالساً وعدم الشرب واقفاً، اللهم إلا إن كان لحاجة، مثل: أن تكون القربة معلقة، أو مثل بعض برادات الماء -الآن- في بعض ممرات المستشفيات والمباني، يكون براد الماء مرتفعاً لا يمكن أن تشرب منه إلا وأنت واقف، فهذه حالة يمكن أن يشرب الإنسان وهو واقف، أو مثلاً في زمزم مع الزحام لا يمكن القعود وسط الزحام، فالنبي عليه الصلاة والسلام شرب واقفاً، لكن الأصل أن يشرب الإنسان جالساً، والمسألة عليها تأكيد شديد في الأحاديث النبوية في قضية الشرب جالساً. ثانياً: أن خادم القوم إذا دار عليهم بما يشربون يتناول الإناء من كل رجل ويدفعه إلى الذي يليه، ولا يدع الرجل يناول رفيقه لئلا يكون فيه استخدام للضيف وهذا من باب زيادة الإكرام. ثالثاً: في هذا الحديث معجزة واضحة للنبي عليه الصلاة والسلام في تكثير الطعام والشراب ببركته عليه الصلاة والسلام، وهذه لها أمثلة كثيرة. رابعاً: في هذا الحديث جواز الشبع، أي: الأصل أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (فإن كان لا بد، فثلث للطعام، وثلث للشراب، وثلث لنفَسك) فهنا في الحديث: تركه يشرب وأمره أن يشرب حتى قال: (لا أجد له مسلكاً) فالعلماء حملوه على ما إذا كان الإناء بعد مسغبة شديدة -جوع شديد- فيمكن في بعض الأحوال أن يشبع الإنسان، لكنه دائماً يأكل حتى الشبع فهذا مذموم؛ ويؤدي إلى الكسل عن العبادة والنوم ونحو ذلك، ويكون فيه سبب للأمراض، فإذا كان بعد شدة جوع أو أنه يستبعد حصول شيء قريب فيشبع، ويتزود. خامساً: في هذا الحديث فائدة لطيفة في الخلق الكريم، وهي: أن كتمان الحاجة أولى من التصريح بها، وإذا اضطر فيلمح، لكن لا يصرح ويمد يده: أعطوني هاتوا، وإنما يلمح إذا اشتدت عليه الوطأة. وفيه حسن خلق النبي عليه الصلاة والسلام كيف قدَّم كل أصحاب الصفة وقدم أبا هريرة على نفسه وشرب آخرهم، مع أنه عليه الصلاة والسلام هو -أيضاً- جائع. سادساً: فيه طاعة النبي عليه الصلاة والسلام وتقديم أمره على حظ النفس مع شدة الحاجة. وفيه فضل أهل الصفة هؤلاء الذين جاءوا لنصرة الله ورسوله، وتركوا أهلهم وديارهم. سابعاً: فيه أنه لا بد من الاستئذان قبل الدخول. ثامناً: فيه جواز دعاء الإنسان خادمه بالكنية، لما قال: (يا أبا هريرة أو يا أبا هر) وهذا يؤخذ منه ترخيم الاسم، وفيه كذلك تفطن الإنسان لحاجة من حوله، النظر في الوجه (الفراسة) (فعرف ما في وجهي، وما في نفسي) فهذه فراسة، وأن الإنسان عليه أن يدقق النظر في أحوال من حوله ليعرف ماذا يخبئون أو ماذا تنطوي عليه نفوسهم أو ما هي حاجتهم. تاسعاً: فيه كذلك أن الإنسان إذا رأى في منزله ما لا عهد له به فإنه يسأل عنه من أين؟ وممن هو؟ عاشراً: فيه قبول الهدية ولا ترد مادامت حلالاً، وإيثار الفقراء بنصيب منها. حادي عشر: أن ساقي القوم آخرهم شرباً. ثاني عشر: حمد الله على النعم، إذا حدثت لك نعمة، تقول: الحمد لله، لما رأى البركة، قال: الحمد لله، والتسمية عند الشرب.

نبذة مختصرة عن أبي هريرة وحاله بعد النبي صلى الله عليه وسلم

نبذة مختصرة عن أبي هريرة وحاله بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو هريرة رضي الله عنه التي وردت قصته في هذا الحديث كان متفرغاً للعلم، يقول أبو هريرة كما روى البخاري في صحيحه: (إن الناس يقولون: أكثر أبو هريرة) دائماً يحدثنا بأحاديث أكثر من غيره، لماذا؟ يقول أبو هريرة معللاً: [وإني كنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشبع بطني، حتى لا آكل الخمير، ولا ألبس الحبير -أي: الثياب المزينة- ولا يخدمني فلان ولا فلانة، وكنت ألصق بطني بالحصباء من الجوع، وإن كنت لأستقرئ الرجل الآية هي معي كي ينقلب بي فيطعمني، وكان أخير الناس للمسكين جعفر بن أبي طالب كان ينقلب بنا فيطعمنا ما كان في بيته، حتى إن كان ليخرج إلينا العكة -قربة من الجلد يحفظ فيها السمن- التي ليس فيها شيء فنشقها ونلعق ما فيها] أبو هريرة رضي الله عنه هذا الرجل الكريم الراوي الذي روى قرابة خمسة آلاف حديث، والذي يعد من أكثر الصحابة رواية على الإطلاق، ما سمع من النبي عليه الصلاة والسلام شيئاً فنسيه؛ كما دعا له عليه الصلاة والسلام مع أنه جاء في عام خيبر، في آخر العهد النبوي المدني، ومع ذلك فهو أكثر الصحابة رواية؛ لأنه لزم النبي عليه الصلاة والسلام، لم يذهب في تجارة ولا صفق بالأسواق ولا زراعة ولا شيء، كان متفرغاً لسماع العلم، يلزم النبي عليه الصلاة والسلام على شبع بطنه فقط، يقول: أنا أسمع منك ولا أريد إلا الطعام، هذا الرجل العظيم صار أميراً بعد ذلك، أَمَّره عمر رضي الله عنه على مصرٍ من الأمصار. هل تغير أبو هريرة لما صار أميراً وانفتحت عليه الدنيا، وجاءت الغنائم؟ لم يتغير أبداً، كان يحمل حزمة الحطب على ظهره وهو أمير، ويقول: طرقوا للأمير، أي: خذوا الدرب، أي: خذوا الطريق للأمير، هو يقول بنفسه، وروى البخاري في صحيحه عن محمد قال: (كنا عند أبي هريرة وعليه ثوبان ممشقان من كتان، فتمخط فقال: بخٍ بخٍ، أبو هريرة يتمخط في الكتان، لقد رأيتني وإني لأخر فيما بين منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حجرة عائشة مغشياً عليّ، فيجيء الجائي فيضع رجله على عنقي ويُرى أني مجنون، وما بي من جنون، ما بي إلا الجوع) فإذا رأيت الإنسان يذكر حال الشدة وهو في حال الغنى فاعلم أن عنصره جيد ومعدنه طيب، لأن بعض الناس إذا ورث شيئاً أو غني بعد الفقر، يقول: ورثت هذا المال كابراً عن كابر، كذلك كان أبي وجدي، وينكر أيام الشدة، وأيام الفقر. فإذا رأيت الإنسان بالرغم مما فتح الله عليه يذكر أيام الشدة وأيام الفقر، ويقول: كنا في كذا وكانت حالتنا كذا ومنّ الله علينا وأعطانا، فهذا رجل طيب المعدن، جيد العنصر وهكذا أبو هريرة رضي الله عنه، ما تغير ولا تكبر مع أنه فتحت عليه الدنيا. هذه القصة وبعض ما اشتملت عليه من فوائد نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن أحب هؤلاء القوم واتبعهم.

الأسئلة

الأسئلة

أجر صلاة الجماعة الأولى مضاعف على الثانية

أجر صلاة الجماعة الأولى مضاعف على الثانية Q إذا فاتت صلاة الجماعة الأولى فوجدت مجموعة من المصلين ممن لم يكونوا قد صلوا، هل نحن وهم في الأجر سواء، أم أجر الجماعة أكثر؟ A لا شك أن الأجر للجماعة الأولى، أما الجماعة الثانية فلهم أجر لكن ليس مثل الجماعة الأولى قطعاً.

كفارة من أتى زوجته وهي حائض

كفارة من أتى زوجته وهي حائض Q ما كفارة من أتى زوجته وهي حائض؟ A جاء في الحديث الذي حسنه بعض أهل العلم، عن النبي عليه الصلاة والسلام: (كفارة من أتى امرأته وهي حائض دينار أو نصف دينار، يخرجه الرجل صدقة) الدينار: مثقال، والمثقال: أربعة غرامات وربع من الذهب، أو نصفها، هذه كفارة الذي يأتي زوجته وهي حائض مع التوبة.

حكم إفطار الطفل قبل الغروب

حكم إفطار الطفل قبل الغروب Q أنا طفل عمري سبع سنوات، صمت من الفجر حتى العصر ثم أفطرت، فهل عليّ إثم؟ A ليس عليك إثم ولكنك ما أتممت الصوم، ولا يؤجر الإنسان إلا إذا أتم صومه، وإذا لم تقدر على الصيام لك أن تفطر ولا بأس بذلك.

حكم الخارج من الرجل حال تقبيل زوجته

حكم الخارج من الرجل حال تقبيل زوجته Q إذا قبل الرجل امرأته فخرج منه شيء شفاف بلا لون هل يكون عليه غسل؟ A إذا كان الذي خرج مذي وليس بمني، فإنه نجس، يغسل موضع الخروج وما حوله، ويتوضأ للصلاة، ويغسل ما أصاب الثوب من هذا، ولا يبطل الصيام على الراجح، ولكن عليه أن يتوب إلى الله لأنه جَرَحَ صومه.

حكم من قتل خطأ وليس له مال يؤدي منه الدية

حكم من قتل خطأ وليس له مال يؤدي منه الدية Q ما حكم من قتل خطأ ولم يكن عنده مال يؤدي منه الدية؟ A الذي عليه دية وقتل خطأ وليس عنده من المال يعطى من الزكاة.

(حال حديث: (قراءة يس تعدل قراءة القرآن عشر مرات

(حال حديث: (قراءة يس تعدل قراءة القرآن عشر مرات Q هل قراءة يس تعدل قراءة القرآن عشر مرات؟ A هذا حديث موضوع فلا يصح عن النبي عليه الصلاة والسلام.

فتنة الدجال تكون على الأحياء

فتنة الدجال تكون على الأحياء Q إذا مات الشخص ودفن في الأماكن التي لا يدخلها الدجال هل يأمن فتنة الدجال؟ A الفتنة تكون على الأحياء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا ظهر وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم).

كتب فيها ترجمة لابن تيمية

كتب فيها ترجمة لابن تيمية Q أرجو من فضيلتكم أن تدلني على كتاب لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن نشأته وتعليمه وحياته؟ A هناك كتب كثيرة جداً تتكلم عن شيخ الإسلام ابن تيمية، ولعل من أفضلها كتاب ابن عبد الهادي رحمه الله العقود الدرية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية مع أن الكتاب ليس موجوداً متوفراً بكثرة، لكن هو من أحسن المراجع التي كتبت عن شيخ الإسلام ابن تيمية. أيضاً مقدمة رسالة: موقف ابن تيمية رحمه الله من الأشاعرة، فيها تعريف جيد بحياة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

حكم التعامل مع المرأة الأجنبية في المستشفى

حكم التعامل مع المرأة الأجنبية في المستشفى Q إذا اُضطر للتعامل مع المرأة في المستشفى للضرورة؟ A إذا لم يجد الإنسان للضرورة إلا ذلك ولم يستطع أن يجلب رجلاً أو ممرضاً، فإنه يتحاشى أن تمسه ما أمكنه ذلك؛ لأن مس المرأة الأجنبية للرجل لا يجوز.

حكم مشاهدة المنكر في رمضان

حكم مشاهدة المنكر في رمضان Q هل أُحضر جهاز المنكر لهؤلاء الذين زاروني في رمضان؟ A لا تعرض لهم شيئاً منكراً في رمضان! هذا زيادة في الإثم، لأن السيئات تعظم في الزمان الفاضل والمكان الفاضل.

حكم الخلوة ومتى تزول ومتى لا تزول

حكم الخلوة ومتى تزول ومتى لا تزول Q ذكرت بعد خطبة الجمعة سؤالاً عن الخلوة متى تزول ومتى لا تزول، الرجاء إعادة الإجابة؟ A الخلوة بالمرأة الأجنبية قال بعض العلماء: لا تزول إلا بمحرم، ولو داخل البلد، أما السفر فلا يجوز إلا بمحرم هذا واضح ومنتهي منه، لكن داخل البلد متى تزول الخلوة مثلاً في بيت أو في سيارة؟ بعض العلماء يقول: لا تزول إلا بمحرم، وقال بعضهم: إذا وجد رجل ثقة آخر مع هذا الرجل والمرأة الثالثة أو امرأة أخرى ثقة، فإن الخلوة تزول، أو وجد صبي يفهم ويعقل ويستحيا منه، أي: لو أراد أن يفعل لها شيئاً أو تفعل له شيئاً يستحيان من وجود الولد إذا كان يميز، كابن عشر سنين يزيل الخلوة، أما أن يأخذ طفلاً لا يفهم أو شخصاً نائماً فهذا حرام، والحوادث أكثر من أن تقال.

حكم من أحرم من الميقات ثم ذهب لقضاء بعض حاجاته

حكم من أحرم من الميقات ثم ذهب لقضاء بعض حاجاته Q إذا نويت العمرة، ثم ذهبت ومكثت في جدة يوماً واحداً لقضاء بعض الحاجة؟ A لا بأس، لكن الإحرام باقٍ عليك، فلا يمكن أن تحرم من جدة لأنك من أهل الميقات الذي هو: قرن المنازل ميقات السيل، فتحرم من السيل.

حكم وضع المرهم في فم الصائم

حكم وضع المرهم في فم الصائم Q هل يجوز وضع المرهم على الجرح داخل فم الصائم؟ A إذا كان لا يدخل إلى الجوف فلا بأس بذلك إذا احتاج فيضعه، وإذا دخل إلى جوفه قضى صومه، لكن إذا لم يدخل فلا بأس بذلك.

هل الدجال الآن موجود على أبواب المدينة؟

هل الدجال الآن موجود على أبواب المدينة؟ Q حديث الدجال هل يفهم أنه على الأبواب؟ A إن كنت تقصد أبواب المدينة، فهو خارج أبواب المدينة، لكن الدجال لم يخرج بعد.

حكم من مات وعليه صلاة وصيام

حكم من مات وعليه صلاة وصيام Q كان والدي في حياته صلاته منقطعة، وصيامه متقطع، ولكن مرض ولزم الفراش وبقي على حاله إلى حين وفاته، وحججت عنه وأنا أدعو له، ماذا بالنسبة للصيام عنه؟ A إذا كان حين ترك الصيام مصلياً فإنك تصوم عنه إذا أردت ذلك: (فإن مات وعليه صيام صام عنه وليه).

حكم طواف الوداع على المعتمر

حكم طواف الوداع على المعتمر Q هل للمعتمر طواف وداع؟ A جمهور العلماء على أنه ليس على المعتمر طواف وداع وجوباً إن طاف فهو مستحب، ويؤجر على ذلك.

(معنى قوله: (واجعله الوارث منا

(معنى قوله: (واجعله الوارث منا Q ما معنى: واجعله الوارث منا، في قولك في الدعاء: ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا؟ A قيل: اجعل هذه الأعضاء والحواس والسمع والبصر بأبصارنا وقواتنا، اجعلها وافرة وصابغة وكثيرة وكاملة عند وفاتنا كأننا نورثها إلى من بعدنا، يعني: أنها من الكمال والقوة كأنها تبقى لمن بعدنا، تفيض وتزيد، وقيل: اجعل ما بقي من قوتنا وسمعنا وبصرنا للورثة من بعدنا من أولادنا، انقل لهم هذا واجعله فيهم.

عدد الأسوار حول قبر النبي صلى الله عليه وسلم

عدد الأسوار حول قبر النبي صلى الله عليه وسلم Q أشكل عليّ فهم عدد الأسوار حول قبر النبي صلى الله عليه وسلم؟ A قلنا: إن هذا البناء الذي بناه عمر بن عبد العزيز المثلث، ثم وراءه سور آخر، ثم القفص الأخضر المذهب، ثلاثة، فإذا نظرت من خلال القفص الأخضر لا ترى القبر، بل ترى الجدار. أحد العمال الأتراك الذين كانوا يعملون في صيانة القبة وصل إلى هذه الفتحة في القبة -متروكة مفتوحة- فأشرف عليها فرأى ثلاثة قبور فأغمي عليه، لكن ماذا فعل به بعد أن رجع إلى تركيا الله أعلم.

حكم تزيين المساجد

حكم تزيين المساجد Q ما حكم تزيين المساجد؟ A إذا كانت زخرفة فإنها منهي عنها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تحمر ولا تصفر) زخرفة نقوش كتابات، كل ذلك ممنوع، فالمساجد بيوت الله لا يشغل فيها المصلون عن الصلاة في أي حال من الأحوال. والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

كيف تقرأ كتابا؟

كيف تقرأ كتابا؟ إن من نعم الله عز وجل على عباده أن يسر لهم الخط البياني: القراءة والكتابة، لذا استطرد الشيخ في هذه المادة بدءاً باهتمام السلف بالقراءة وبيان أهميتها، ثم بين كيفية القراءة الواعية، وذكر أسباب النفور عن القراءة وطلب العلم وعلاجه، ثم ختم ذلك ببيان طرق القراءة وأنواعها.

نعمة البيان الخطي

نعمة البيان الخطي الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب فقال له: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1] والحمد لله القائل {نْ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم:1] وقال عز وجل: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن:3 - 4] قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في مفتاح دار السعادة: ثم تأمل نعمة الله على الإنسان بالبيانين، البيان النطقي، والبيان الخطي، فقال في أول سورة أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1 - 5] التعليم بالقلم الذي هو من أعظم نعمه على عباده، إذ به تخلد العلوم وتثبت الحقوق وتعلم الوصايا وتحفظ الشهادات، ويضبط حساب المعاملات الواقعة بين الناس، وبه تقيد أخبار الماضين للباقين اللاحقين، ولولا الكتابة لانقطعت أخبار بعض الأزمنة عن بعض، واندرست السنن، يعني: ذهبت واضمحلت، وتخبطت الأحكام ولم يعرف الخلف مذاهب السلف، وكان معظم الخلل الداخل على الناس في دينهم ودنياهم، ما يعتريهم من النسيان الذي يمحو صور العلم من قلوبهم، لما صار الناس ينسون من نعمة الله عليهم أن جعل لهم الكتاب وعاء حافظاً للعلم من الضياع، كالأوعية التي تحفظ الأمتعة من الذهاب والبطلان، فنعمة الله عز وجل بتعليم القلم بعد القرآن من أجل النعم، فهو الذي علم الإنسان الكتابة، علمه ما لم يعلم، علمه الكلام فتكلم، وأعطاه الذهن الذي يعي به، واللسان الذي يترجم به، والبنان الذي يخط به، فكم لله من آية نحن عنها غافلون في تعليمنا بالقلم! وأنزل الله أعظم كتاب، فدعانا رسوله إلى القراءة فيه، فقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الحسن: (من سره أن يحب الله ورسوله فليقرأ في المصحف).

اهتمام السلف بقراءة الكتب

اهتمام السلف بقراءة الكتب ثم دونت السنة، والعلم والفقه، وكان لهذه الكتب التي دون فيها العلم بالأقلام، كان لها في نفوس علمائنا أثراً عجيباً ومكانة عظيمة. قال أصحاب ابن المبارك له: ما لك لا تجالسنا؟ فقال ابن المبارك: أنا أذهب فأجالس الصحابة والتابعين، وأشار بذلك أنه ينظر في كتبه، وكان الزهري رحمه الله قد جمع من الكتب شيئاً عظيماً، وكان يلازمها ملازمة شديدة، حتى إن زوجته قالت: والله إن هذه الكتب أشد علي من ثلاث ضرائر. وكان العلماء يحسبون عند تفصيل ثيابهم حساب الكتب، فهذا أبو داود رحمه الله، كان له كُم واسع -وكان الكُم يستخدم كالجيب- وكُم ضيق، فقيل له في ذلك فقال: الواسع للكتب والآخر لا يحتاج إليه، وكان منهم من إذا أصابه مرض من صداع أو حمى، كان الكتاب عند رأسه، فإذا وجد إفاقة قرأ فيه، فإذا غلب عليه الصداع ترك الكتاب، فدخل عليه الطبيب يوماً، وهو على هذه الحال يأخذ الكتاب متى استطاع أن يقرأ ويدعه إذا غلبه الصداع، فلامه على ذلك. وكان سلفنا وعلماؤنا رحمهم الله يقرءون في الكتب على كل أحيانهم، فكان الخطيب البغدادي يمشي وفي يده جزء يطالعه، وكانوا يقرءون عند الاضطجاع، وينفلت الكتاب من يد أحدهم مرة أو مرتين أو أكثر فيعود إليه، فيأخذه، يسقط من النعاس ويعود إليه فيأخذه، وكان البخاري رحمه الله يقدم له الطعام، طعام الإفطار مثلاً وهو يقرأ ثم تأخذه الخادمة بعد فترة، فتأخذ الطعام ولم يمسه، لم ينتبه أصلاً أن الطعام قد جاء، ثم يأتي وقت الغداء، فيوضع له الطعام وهو يقرأ، وتأتي بعد فترة فتأخذ الطعام ولم يمسه؛ لأنه لم يدر أن الطعام وضع ولا أنه، وبعضهم كان يجلس يقرأ في الظل فينحسر عنه، وتأتي عليه الشمس وهو لا ينتبه. قال ابن الجوزي رحمه الله: وإني أخبرك عن حالي: ما أشبع من مطالعة الكتب، وإذا رأيت كتاباً لم أره فكأني وقعت على كنز، فلو قلت: إني قد طالعت عشرين ألف مجلد لكان أكثر، وأنا بعد في طلب الكتب، فاستفدت بالنظر فيها ملاحظة سير القوم وقدر هممهم، وحفظهم، وعاداتهم وغرائب علوم لا يعرفها من لم يطالع. أرسل أحد الخلفاء في طلب أحد العلماء، ليأتيه فاعتذر إليه، بأن عنده قوماً من الحكماء يحادثهم، ثم عرف الخليفة أنه لم يكن عنده أحد، فعاتبه وسأله: من الذي كان عندك؟ فقال: لنا جلساء ما نمل حديثهم ألباء مأمونون غيباً ومشهدا يفيدنونا من علمهم علم ما مضى ورأياً وتأديباً ومجداً وسؤددا فلا غيبة نخشى ولا سوء عشرة ولا نتقي منهم لساناً ولا يدا من المقصود؟ الكتب.

قدر الكتب ومنزلتها

قدر الكتب ومنزلتها والكتاب -أيها الإخوة- جار بار، ورفيق مطاوع، لا يعصيك أبداً، ومعلم خاضع، هل رأيت معلماً يخضع للتلميذ؟ كذلك الكتاب يخضع للقارئ، وصاحب كفء، وشجرة معمرة، دائماً مثمرة، يجمع الحكم الحسنة والعقول الناضجة، وأخبار القرون الماضية، والبلاد المترامية، يجلو العقل، ويشحذ الذهن ويوسع الأفق ويقوي العزيمة، ويؤنس في الوحشة، يفيد ولا يستفيد، ويعطي ولا يأخذ. نعم الأنيس إذا خلوت كتاب تلهو به إذا خانك الأصحاب لا مفشياً سراً إذا استودعته وتنال منه حكمة وصواب هذه الكتب لا تعترف بالفواصل الزمانية ولا المكانية ولا الحدود الجغرافية، فيستطيع القارئ أن يعيش في كل العصور، وفي الممالك والأقطار وأن يصاحب العظماء، وأعمالهم وإن استغرقت أعواماً، وتأمل حال المسلم عندما يقرأ قصص الأنبياء في القرآن الكريم، أين عاشوا؟ في بلاد متباعدة، متى عاشوا؟ في أزمنة متطاولة قديمة جداً، ومع ذلك يقرأ قصة موسى وفرعون كأنه يعيش معهم، وكذا إبراهيم، وكذا هود، وصالح وآدم وغيرهم من الأنبياء والصالحين في القرآن والسنة نقرأ أخبارهم كأننا نعيش معهم، كيف أتتنا إلا بالكتاب، فشأنه عظيم جداً، وبعض الناس يجمع الكتب ولكن لا يقرأ فيها ولا يحصل منها شيئاً، قال الشاعر في شأن مثل هؤلاء: عليك بالحفظ دون الجمع في كتب فإن للكتب آفات تفرقها الماء يغرقها والنار تحرقها والفأر يخرقها واللص يسرقها إذا لم تكن حافظاً واعياً فجمعك للكتب لا ينفع تحضر بالجهل في مجلس وعلمك في البيت مستودع ولذلك أيها الإخوة: النصيحة إذا اشتريت كتاباً فلا تدخله مكتبتك، إلا بعد أن تمر عليه جرداً أو على الأقل قراءة لمقدمته أو فهرسته ومواضع منه، حتى إذا احتجت في المستقبل إلى هذا العنوان أو هذا الموضوع، تعرف أنه موجود في الكتاب الذي اشتريته، أما إذا جعلته في المكتبة مباشرة، فربما يمر عليك، زمان وقد يفوت العمر دون النظر فيه، أليس هذا قد حصل؟

أمور تجعل القراءة واعية

أمور تجعل القراءة واعية موضوعنا في هذه الليلة أيها الإخوة بعد هذه المقدمة عن: كيف تقرأ كتاباً؟ كيف نستفيد من القراءة؟ ما هي الطريقة الصحيحة للقراءة؟ ما هي العوامل التي تسبب العداوة بين الناس والكتاب وكيف نزيلها؟ ما هي أسباب الفهم الخطأ أثناء القراءة؟ وكيف نقضي عليها؟ ما هي أنواع القراءة؟ إلى مسائل أخرى ستستمعون إليها إن شاء الله في هذا الدرس. عند تعرضنا لموضوع القراءة، تبرز ثلاثة أسئلة: السؤال الأول: لماذا نقرأ؟ وما هي أهمية القراءة؟ السؤال الثاني: ماذا نقرأ؟ وما هي الكتب التي نقرؤها؟ السؤال الثالث: كيف نقرأ؟ والكلام عن لماذا نقرأ، وماذا نقرأ قد يكون أكثر أهمية من كيفية القراءة، ولعلنا نتعرض لهذين السؤالين في درس قريب إن شاء الله. لا بد أن تكون قراءتنا -أيها الإخوة- قراءة واعية، المنهج الجاهلي يقول: القراءة للقراءة، الفن للفن، أي أنهم يجعلون القراءة غاية وليست وسيلة، ولذلك فهم يقرءون ما هب ودب، دون تمحيص ولا تمييز، أما المسلم فإن القراءة عنده وسيلة لتحقيق الهدف وهو أشياء متعددة، وعلى رأسها طلب العلم الذي يعرف به المسلم كيف يعبد ربه، هذا الهدف، الوسيلة: القراءة، وهذا المنهج الجاهلي الذي أشرنا إليه وهو: القراءة من أجل القراءة مهما كانت المهم أن يقرأ، ويعتبر الشعب مثقفاً إذا كان فيه أعداد كبيرة من القراء بغض النظر عما يقرءون، هذا المفهوم الجاهلي، قد نتج عنه في مجتمعات المسلمين تكوين فئة من القراء بما يصلح أن نطلق على هذه الفئة: القارئ الإمعة، الذي يكون بوقاً مضخماً لهجمات أعداء الإسلام، لأنه لا يعرف ماذا يقرأ، فيقرأ الضار، ويقرأ أشياء سطرتها أيدي أعداء الإسلام وينشرها بين الناس، دون وعي ولا إدراك.

البدء بالمرحلة التأسيسية الأولية مع سلامة المعتقد

البدء بالمرحلة التأسيسية الأولية مع سلامة المعتقد كيف تكون قراءتنا واعية؟ لا بد أن يكون التكوين العقدي للقارئ المسلم سليماً وقوياً حتى يستطيع أن يقرأ بوعي، وهذا يعني أن تكون قراءاته الأولية تأسيسية ينتقي ماذا يقرأ في البداية، حتى يؤسس وعياً يستطيع من خلاله أن يعرف بعد ذلك إذا قرأ في أي كتاب، هل هذا يتفق مع الإسلام، أم هو ضد الإسلام، أم بغير تكوين وبغير تأسيس وتربية، لا يمكن للناس أن يعرفوا هل ما يقرءون مخالف للشريعة أو موافق للشريعة. يجب أن نقرأ بطريقة نقدية، يعني: أن ننقد ما نقرأ على ضوء عقيدة أهل السنة والجماعة، وما نعرفه من الأدلة الشرعية ورصيدنا من الأحاديث الصحيحة والسقيمة، على ضوء تأسيساً السابق نستطيع أن ننقد ما نقرأ، أو موثوقية العلماء الذين ينقل عنهم الكاتب، ومن الأخطاء أن يغير الشخص قناعاته فجأة لأدنى قراءة يقرؤها، مثل بعض المسائل الفقهية، تجد بعض الناس يغير قناعته الفقهية لأدنى قراءة، بل يجب أن يمحص ويفكر وينقد قبل أن يتبنى فكرة أو موقفاً أو رأياً، ومن الخطأ أن ننسى ما قرأناه من قبل، وما سمعناه من قبل، وما تعلمناه من قبل لأجل أول قراءة نقرؤها، لا بد أن تمر مرحلة تكوين القناعة مروراً تأسيسياً صعباً، حتى نستطيع بعد ذلك أن نصمد أمام كل ما نقرؤه من الأفكار التي تصادم القناعات الشرعية التي لدينا. وبعض الناس -أيها الإخوة- عندهم عقدة، وهي الثقة بكل شيء مطبوع، أحياناً يعرض لك شخص من الناس فكرة خاطئة، تقول له: يا أخي! هذا الكلام خطأ، هذا الكلام مصادم للشريعة، يقول لك: هذا مكتوب في الكتاب، انظر! لو كان خطأ ما كانوا طبعوه. سبحان الله العظيم!! التقليد الأعمى لكل ما هو مكتوب، آفة أصيب بها كثير من قراء المسلمين، وبعض الناس يشكون في معلوماتهم المؤكدة لمجرد أن الشيء المخالف مطبوع في كتاب! ونحن أيها الإخوة: قد نلتمس الأعذار للكتاب فنقول: ربما أخطأ لكذا ربما وهم لكذا لكن هذا لا يجعلنا نتابعهم في أخطائهم مهما كان الكاتب عظيماً.

ملاحظة التناقضات التي يقع فيها الكاتب

ملاحظة التناقضات التي يقع فيها الكاتب وكذلك من القراءة الواعية أن نلاحظ التناقضات التي يقع فيها الكاتب أثناء الكتاب، وإن تباعدت المواضع، أحياناً يأتي كاتب بفكرة في موضع، ثم يأتي بعكسها في موضع آخر، القارئ الواعي يحفظ ماذا قال هنا وماذا قال هنا، ثم تجده يراجع فيقول: عجباً إنه كتب في البداية أشياء غير التي كتبها هنا، فأيهما هو الصحيح يا ترى؟

تقويم الأشخاص والكتب

تقويم الأشخاص والكتب ومن القراءة الواعية أيضاً: أن نقرأ لنقوم الأشخاص والكتب، وننصح بناء على ذلك الناس بها، والمسلم عندما يقرأ فإنه يكون متجرداً، فمن الخطأ مثلاً أن يصدر القارئ حكماً مسبقاً على أفكار الكتاب من خلال اسم المؤلف فقط، أو الناشر أو العنوان -مثلاً- بل يقرأ ويفكر، ونحن بهذا الكلام لا ندعو إلى الإقبال على كتب المبتدعة، أو الناس الذين نعرف أنهم مضلون من خلال كتاباتهم، كلا، لا ندعو الناس لهذا أبداً، بل إننا ندعوهم إلى الحذر عند قراءة كتب المبتدعة، بل إن كتب المبتدعة أصلاً لا يصلح أن يقرأها أي شخص، الناس في البداية لا بد أن يقرءوا الكتب السليمة، كتب أهل السنة والجماعة، بل إننا ندعو الناس ألا يفتحوا صدورهم لأي فكرة، وخصوصاً إذا كان المؤلف مجهولاً، والقراءة الواعية هي التي تكشف لنا خداع المضللين، الذين يجتزئون أشياء من أحاديث مثلاً، يجتزئون: يأخذ جزءاً، كأن يقول: حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (لعن الله اليهود والنصارى) ويحذف: (اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) لماذا يحذفها؟ لأن له غرضاً، لأنه يعتقد ببناء المساجد على القبور، فيحذف جزء الحديث ويقول لك: انظر هذا الحديث الذي تستدلون به، ليس فيه دليل، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله اليهود والنصارى) وكذلك بعض المضللين يأخذون من كلام علمائنا الثقات جزءاً ويتركون الأجزاء الباقية، سواء كانت قبله أو بعده، ويقول: انظر فلان العالم يقول: كذا، لكن لأنه أتى بجزء من الكلام غير المقصود، كما فعله الكوثري المتعصب الهالك الذي كان ينقل كلام بعض أئمة الجرح والتعديل في شخص، ويخفي الأقوال الأخرى مثلاً، وكشف زيفه العالم الجليل عبد الرحمن المعلمي اليماني رحمه الله في كتابه: التنكيل.

أسباب نفور الناس عن قراءة الكتب الشرعية وعلاجها

أسباب نفور الناس عن قراءة الكتب الشرعية وعلاجها وأما بالنسبة للمشكلة الحاصلة اليوم بين أكثر الناس وبين الكتاب وهي: النفور، الذي يصل إلى حد العداوة، بعض الناس لا يريدون أن يقرءوا نهائياً -المراد الكتب المفيدة كتب العلم الشرعي- وإلا الناس أكثرهم يقرءون الجرائد، يقرءون المجلات التافهة وأخبار الرياضة، يقرءون في الغالب ولا يوجد أحد لا يقرأ نهائياً، إلا إذا كان أمياً، لكن المشكلة أيها الإخوة! لماذا لا يقبل الناس على الكتاب الإسلامي، لماذا ينفرون من القراءة، لماذا توجد عقدة عند بعض الناس وعداوة بينه وبين الكتاب، كيف ننشئ العلاقة بين المسلم والكتاب؟ كيف نجعل الكتاب صديقاً؟ بحيث يصبح الأمر كما قال القائل: إذا قرأت كتاباً جديداً للمرة الأولى، شعرت أنني كسبت صديقاً جديداً، وإذا قرأت ثانية أحسست بأنني أقابل صديقاً قديماً.

الاصطدام بالأمور الصعبة في أول الكتاب

الاصطدام بالأمور الصعبة في أول الكتاب في الحقيقة أن هناك أسباباً للعداوة والنفور بين الناس وبين الكتاب منها مثلاً: الاصطدام بأمور صعبة في بداية القراءة منها مثلاً: عدم معرفة المصطلحات المتكررة أثناء القراءة.

المكث لمدة طويلة في مكان واحد وطول الموضوع

المكث لمدة طويلة في مكان واحد وطول الموضوع كذلك: أن بعض الناس طبيعتهم حركية ويحبون الذهاب والمجيء لا يحبون الجلوس في مكان واحد لمدة طويلة. منها مثلاً: طول الكتاب أو طول الموضوع، وهكذا. فإن هذه المشكلات لها علاجات ولا شك، فمنها مثلاً: أن القارئ المسلم ينبغي أن يقرأ في الكتب السهلة في البداية قبل الكتب الصعبة، الخطأ الذي يصد بعض الناس عن القراءة أنه يقرأ كتباً متقدمة في الفن، أقصد الموضوع العلمي، الفن كلمة شريفة، كلمة جميلة عند المسلمين، ويقولون: فن الفقه، فن التجويد، فن القراءات، فن الأصول، فن النحو، فن الصرف، وهكذا، لكن الآن أهل الجاهلية هم الذين استخدموا هذه الكلمة، استخداماً معيناً، وجعلوا لها مدلولاً معيناً في نفس المستمع، فهو إذا سمع كلمة الفن، فإنها تعني الموسيقى، الغناء، الرقص، نحت التماثيل، وكما يسمونها الفنون الجميلة، ولا أقبح منها عند الله. نعود فنقول: إن القراءة في الكتب المتقدمة في الفن قبل الكتب المبسطة أو الأساسية من الأخطاء التي تجعل بعض الناس ينفرون من القراءة، فمثلاً: لماذا يقرأ الشخص المراجع الكبيرة قبل الكتب الصغيرة المبسطة؟ لماذا يبدأ بالأصعب قبل الأسهل؟ بعض الناس عندهم نوع من الغرور، فيقول: أنا مثلها، وأنا على مستوى القراءة ولا يهمني أنه كبير أو صغير، ولكن النتيجة تنعكس على نفسيته، فمثلاً: أليس من الخطأ أن يبدأ إنسان يريد أن يقرأ في الفقه بكتاب المغني قبل كتاب العدة؟ أليس من المفروض مثلاً: أن الإنسان إذا أراد أن يقرأ بالتفسير. نأتي بأمثلة توضح الفكرة، وفي نفس الوقت نعطي شيئاً في الموضوع، لو أردت أن تقرأ في التفسير -مثلاً- وأنت لم تقرأ نهائياً من قبل، أليس من الأفضل أن تأخذ كتاباً مبسطاً في التفسير جداً مثل: زبدة التفسير من فتح القدير، فتح القدير للشوكاني، بسطه محمد سليمان الأشقر، مثلاً: في كتاب: زبدة التفسير، كلمة ومعناها، مع أشياء أخرى إضافية مفيدة، ثم إذا أردت أن تتوسع تأخذ مثلاً تفسير ابن سعدي رحمه الله، الذي ليس فيه ذكر المرويات بالأسانيد التي تنفر بعض الناس، وهو بأسلوب -أيضاً- مبسط وسهل، ثم إذا أردت أن تنتقل إلى تفسير ابن كثير، تنتقل إلى تفسير ابن كثير ثم إلى غيره مما هو أطول وأصعب، وكذلك أليس من الحكمة إذا أردت أن تقرأ في السيرة النبوية أن تبدأ بكتاب دروس وعبر -مثلاً- للسباعي رحمه الله، ثم تنتقل للرحيق المختوم للمباركفوري، هذا قبل أن تصل إلى البداية والنهاية لـ ابن كثير. كذلك إذا أردت أن تقرأ في العقيدة، أليس من المناسب أن تقرأ لمعة الاعتقاد مع شرحه، ثم الواسطية، قبل أن تنتقل إلى الطحاوية فـ السفارينية، أليس من المناسب إذا أردت أن تقرأ في الحديث على سبيل المثال: أن تقرأ الأربعين النووية مع شرح مبسط، قبل أن تنتقل إلى رياض الصالحين ومشكاة المصابيح بعد ذلك، ومن الأمور التي تجعل بعض الناس ينفرون من القراءة في كتب القدامى، من علمائنا الأجلاء، أن هذه الكتب التي يسمونها بالكتب الصفراء، مع أنها الآن والحمد لله بدأت تطبع طبعات بيضاء، وأكثر العلم موجود فيها، ومؤلفات الأولين قليلة ولكنها كثيرة البركة، ومؤلفات المتأخرين كثيرة ولكنها قليلة البركة.

أسلوب الكتاب وبلاغته المناسبة لعصر مؤلفه

أسلوب الكتاب وبلاغته المناسبة لعصر مؤلفه من الأسباب التي تنفر بعض الناس من الكتب القديمة -أقصد التي ألفت قديماً- التي كتبها علماء المسلمين الأجلاء: أسلوب الكتاب، أسلوب الكتاب الذي قد يكون مكتوباً بلغة ذلك العصر، ويناسب مستوى القارئ في ذلك العصر، وذلك العصر كان مستوى القراء يختلف في العربية عما عليه قراؤنا الآن وهذا بلا شك، والقراءة في كتب القدامى إذا انتقيت ومشيت بالأسلوب المبسط ستصل إلى مستوى تستطيع به أن تقرأ كتب القدامى، ولو استصعبت عليك بعض الألفاظ، لكن ستخرج بفوائد عظيمة.

أن كتب القدامى ألفت في عصر العزة والانتصار للإسلام

أن كتب القدامى ألفت في عصر العزة والانتصار للإسلام كذلك أن كتب القدامى قد كتبت في عصر كان الإسلام فيه في عزة، وعندما يكتب الكاتب بروح العزة الإسلامية وروح الانتصار يكون أسلوبه وروح كتابته تختلف عما يكتب به أحد الكتاب الآن في الوقت الذي أصبح المسلمون فيه في ذلة وهزيمة، وهذه نقطة مهمة جداً، قراءة كتب الماضين تأسس في نفوسنا الثقة بهذا الدين لأنهم يكتبون من منطلق القوة، ومن منطلق الاستعلاء، ولذلك نرشد الناس أن يقرءوا الكتب الحديثة التي يكتب فيها الكاتب المسلم من روح الاستعلاء كما هي كتابات سيد قطب رحمه الله مثلاً، هناك كتاب يتأثرون بالانهزامية الموجودة الآن، فتحس وأنت تقرأ بالانهزام، وتحس بأن الكاتب يتراجع عن كثير من الأمور الإسلامية الشرعية، تحت ضغط الحضارة الغربية مثلاً. ولذلك الحذر الحذر -أيها الإخوة- عندما تقرأ للكتاب المحدثين، وهذا يقودنا إلى مسألة وهي الاهتمام باللغة العربية، وتعميق فهمنا لهذه اللغة، والوقوف أمام من يدعو إلى إشاعة اللهجات العامية كما يريد المستشرقون وأعداء الدين، فخرجوا علينا بلغة شرشر ونحو ذلك من الأمور التافهة، وهنا قاعدة: كلما كان الكتاب ألصق بالقرآن والسنة، أي: فيه استشهادات من القرآن والسنة كثيرة، كلما كان أيسر، وكلما كان المؤلف الذي يكتب قريباً من القرآن والسنة، كان كتابه أيسر وأبسط وأقرب للفهم، لأن الله قال: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17]. وينبغي -أيضاً- بالنسبة للمؤلفات القديمة، أن ننتقي أصحاب الأسلوب الرشيق، والقلم السيال، والعبارة الجميلة، مثل ابن القيم رحمه الله، لأنك إذا قرأت في كتبه، أو بعض كتبه على الأقل، تحس بانجذاب لكتب القدامى، هذا قبل أن تنتقل إلى قراءة كتب من في أسلوبهم شيء من التعقيد أو تداخل العبارات، أو كثرة الاستطرادات، بعض الناس يقولون: نقرأ لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لكن لا نفهم، نقول: نعم. يحصل كثيراً، ابن تيمية رحمه الله كان ذهنه سيالاً، كان يكتب وعندما يكتب تتدفق الأفكار، كالسيل العارم الجارف، فيخرج كل ما عنده ويفرغ في الكتاب. ولذلك تجد في المسألة الواحدة أقاويل كثيرة جداً وتعليقات ونقد وعرض بشكل مذهل، لكن قد لا يستطيع القارئ البسيط أن يفهم مثل هذا، لكن في نفس الوقت له رحمه الله كتب بسيطة مثل كتاب: العبودية مثلاً.

كون الكتاب مكتوبا بلغة عربية قوية

كون الكتاب مكتوباً بلغة عربية قوية ومن أسباب النفرة بين القارئ والكتاب: صعوبة اللغة، أن يكون مكتوباً بلغة عربية قوية، أو تكون الكلمات غير معتادة الاستعمال في وسط الشخص القارئ، ولذلك من الممكن التغلب على مثل هذا بأن يكون لدى القارئ المسلم -مثلاً- قاموساً مختصراً جداً مثل: مختار الصحاح، وهو كتاب يمكن أن يوضع في الجيب، فتجده كل كلمة ومعناها، أو القاموس المحيط، وإذا مرت عليه كلمات في الأحاديث غريبة فعنده كتاب: النهاية في غريب الأثر والحديث يستطيع به أن يفك رمز هذه الكلمة التي لا يعرف معناها. فإذاً هناك كتب بسيطة يمكن أن يحتفظ بها القارئ، بجانبه تساعده أثناء القراءة، وهو سيلاقي صعوبة في البداية، لكن بعد فترة سيتعود، والكلمة الصعبة الآن إذا عرفت معناها في المستقبل لن تحتاج أن تنظر في معناها مرة أخرى أليس كذلك؟ وستتقوى الملكة اللغوية تدريجياً مع كثرة القراءة، ونعود فنقول: إن تعلم قواعد اللغة العربية، شيء ضروري، فمعرفة الفاعل من المفعول، يؤثر كثيراً عند القراءة، ومعرفة المضاف من المضاف إليه يؤثر كذلك، المبتدأ والخبر، الشرط، فعل الشرط وجواب الشرط، تقديم ما من شأنه التأخير، ماذا يعني في لغة العرب، وهكذا. وإذا لم يفهم القارئ شيئاً في البداية، فليس من الضروري أنه يقف حتى يفهم، بل يتجاوز الآن ويكمل حتى يسهل عليه الأمر في المستقبل.

كثرة الملل لدى القارئ

كثرة الملل لدى القارئ ومن الأمور التي تنفر الناس عن القراءة: الملل، أنه يقرأ نصف ساعة أو ساعة أو ساعتين وبعد ذلك يمل، فماذا يفعل؟ يستريح بين فترة وأخرى، يريح عينيه، يقوم يتحرك، حركة بسيطة، ثم يرجع إلى القراءة، ومن الأساليب أيضاً أن يغير الكتاب الذي يقرأ فيه، أو يغير نوعية العلم الذي يقرأ فيه، كما ذكر عن ابن عباس رضي عنه أنه كان إذا مل قال: هاتوا ديوان الشعراء، وأيضاً الشعر مفيد، يفهم لغة العرب، تقوى سليقته، وكان محمد بن الحسن رحمه الله قليل النوم في الليل، وكان يضع عنده الدفاتر، فإذا مل من نوع ينظر في نوع آخر، وكان يضع عنده الماء ويزيل نومه بالماء كلما نعس. من الأمور التي تشد أو تحبب القراءة للشخص أن يحس بالمردود، وإذا كان المردود سريعاً، كان تحبيب القراءة أو حبه للقراءة أكثر، فمثلاً: لو أن الإنسان قرأ مسألة فقهية، ثم تعرض لها، فإنه يستأنس جداً لأنه يعرف الجواب، مثلاً: لو قرأت عن الحج ثم ذهبت إلى الحج سيكون إحساسك بفائدة القراءة كبيراً، لو قرأت كتاباً في صفة الوضوء، أو صفة الصلاة، وأنت تطبق ذلك يومياً، ستشعر بحب للقراءة، لأن الثمرة مرئية ومشاهدة وسريعة. ومن الأمور أيضاً أن يقيد الإنسان الفوائد الجميلة، اللآلئ التي يقرؤها، وليس كل ما يقرأ يشد انتباهه، وليس كل ما يقرأ يقع في نفسه موقعاً جميلاً، فلو أن القارئ يدون الأشياء الجميلة التي يقرؤها، الأحداث المؤثرة، فإنه بعد فترة ستتجمع عنده أشياء، لو فهرسها، ستخرج في كتيب جميل، إذا قرأه استأنس لأن عنده فواكه عذبة مما قرأه، وكثير من العلماء لهم مصنفات، هي عبارة عن فوائد، حصلت لهم أثناء البحث والقراءة، انظر إلى كتاب: بدائع الفوائد لـ ابن القيم رحمه الله مثلاًُ، يتحدث الناس بأحسن ما يحفظون، ويحفظون أحسن ما يكتبون، وأحياناً يحب الإنسان القراءة أكثر لأنه يعيد القراءة فيستفيد من إعادة القراءة معاني جديدة، لم يكن قد عرفها من قبل، وبالذات الذين يتدبرون القرآن الكريم، فإن هذا القرآن لا يشبع منه العلماء، كلما قرأت بتدبر وجدت معاني جديدة، وكذلك عندما تقرأ في كتب العلم وتعيد الكتاب مرة أخرى، تثبت ما كنت حفظته، وتحفظ شيئاً جديداً وتفهم شيئاً جديداً، وهذا يحببك في القراءة بزيادة. عندما نقول: أن من الأشياء التي تنفر القارئ من الكتاب أنه يمر بأشياء لا يفهمها، يجب أن يكون للقارئ موقف مهم جداً في هذا المكان وهو: ما جاءنا من سنة علمائنا أنهم كانوا إذا استغلقت عليهم المسألة، أو مر بهم الأمر الصعب أثناء القراءة، كانوا يلجئون إلى الله، ويتضرعون إليه ويسألونه أن يفتح عليهم سر هذه المسألة، مثلما كان يقول شيخ الإسلام رحمه الله مناشداً ربه: يا معلم إبراهيم علمني، ويا مفهم سليمان فهمني، لأن الله قال: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء:79]. وهذه المناشدة لله هي التي تفتح عليك هذا الذي استغلق من المسألة أو الكلمة أو العبارة الصعبة في الكتاب، لكن بعض الناس مع الأسف ليست عندهم هذه الروح، أو هذه النفسية، التوجه إلى الله إذا استصعب عليه شيء في القراءة، ومن الأشياء التي تحبب الإنسان إلى الكتاب: الاعتناء بالكتاب، وكان علماؤنا رحمهم الله يعتنون بكتبهم اعتناء شديداً، فكانوا يقولون مثلاً: لا تجعل كتابك بوقاً ولا صندوقاً، بعض الناس يأتي بكتاب ويلفه على شكل دائرة، ويمسكه بيده فيكون كالبوق، وهذا ملاحظ في طريقة الحمل، يلف الكتاب ويحمله بيده، أو يجعله صندوقاً، يضع فيه الأوراق والأقلام والدفاتر، وينتفخ الكتاب ويتشقق بفعل هذه الأشياء التي تكون داخله، فتجد كل شيء في الكتاب، وذكروا في صفة القراءة قالوا: لا يفرشه، بعض الناس لما يأتي بكتاب يفتح الكتاب ثم يدعكه بيده بشدة حتى يفتحه، فالكتاب يتفلت، وتتفلت الأوراق، هذا الخيط الذي يمسك الأوراق والملازم يتفلت، والصمغ يتفكك، لا يفرشه لكي لا يتقطع حبله بسرعة، ولا يوضع على الأرض مباشرة. إذا جاء يرص الكتب في الخزانة أو في الدولاب أو في الرفوف، لا يضعه على الأرض مباشرة وإنما فوق خشبة، لئلا يبتل، وإذا وضع على خشب وضع فوقها جلداً، وتحتها جلداً إذا لم يكن هناك عازل، أو بينه وبين الحائط يضع جلداً، ويراعي في وضعها أن يكون أعلاها هو أشرفها، ثم يراعي التدريج: القرآن ثم الحديث ثم شرح الحديث، ثم العقيدة، فالفقه فالنحو فأشعار العرب، حتى الكتب لها ترتيب، فإن استوى كتابان في فن معين، صاروا مثل بعض، جعل أعلاهما أكثرهما قرآناً أو حديثاً، فإن استويا فبجلالة المصنف، فإن استويا فأقدمهما كتابة، فإن استويا فأكثرهما وقوعاً في أيدي الصالحين والعلماء، أي: الكتاب الأكثر استخداماً، فإن استويا فأصحهما، وهكذا. وحفظ الكتاب يشرح الصدر، عندما ترى كتابك جميلاً جيداً، يفتح نفسك للقراءة، بعض الناس يضعون كتبهم على الرفوف بشكل مائل، ماذا يحدث للكتاب، تختلف الصفحات، ولا بد من الاعتناء بتجليدها وتلصيق ما تمزق منها، ولا يرمي الكتاب، بعض الناس إذا أراد أن يناول أحداً كتاباً رمى له بالكتاب، وهذا يساعد في تشققه وتلفه، بل يناوله مناولة، ولا يكتب عليه بأقلام لا تمحى، إلا الأشياء المهمة، طبعاً الإنسان عندما يشتري ينتقي الطبعات النظيفة، والأوراق التي يسهل القراءة فيها، والحرف ترى له أهمية في القراءة، فعندما يكون صغيراً جداً يتعب في القراءة، لذلك بعض السلف قال: لا تقرمط، فتندم وتشتم، لا تقرمط أي: لا تكتب بحروف صغيرة جداً، فإذا احتفظت فيها ثم كبرت وصار بصرك ضعيفاً تندم في المستقبل، لأنك ما تقرأ بسهولة، وإذا ورثتها لغيرك مثل المخطوطات التي كانت تورث؛ تشتم، ويقال: فلان هذا كاتب الخط، هذا الذي ما يقرأ. وكذلك لا يبقي الكتاب مفتوحاً لفترة طويلة، أو مقلوباً بعدما يفتح لفترة طويلة، ولا يضع ذوات القطع الكبيرة فوق ذوات القطع الصغيرة لئلا تسقط، ولا يجعل الكتاب خزانة للكراريس، أي يضع فيه أشياء: كراريس أو مخدة، فبعض الناس ينام عليها، أو يجعله مروحة، أو مكبساً يكبس به، ولا مسنداً ولا متكأً ولا مقتلة للبعوض، ولا يطوي حاشية الورق. بعض الناس إذا أراد أن يعلم المكان الذي وقف عليه، طوى الصفحة، ثم يطوي صفحة ثانية، وكان العلماء يكتبون: بلغ، حتى يعرف أين وصل، ونحن الآن نطوي الأوراق، وإذا أراد الإنسان أن يضع علامة يضع ورقة رقيقة في المحل الذي وصل إليه، ولا يُعلِّم بعود أو شيء جاف، وحتى طريقة قلب الصفحات، بعض الناس يقلب بعصبية كأنه يريد أن ينتقم من الصفحة، مع أنه يمكن أن يقلب بكل تؤدة وسهولة ويحافظ على صفحات الكتاب، ويتفقده عند الشراء، حذراً من المسح أو النقص أو عكس الملازم وقلبها، وهذا يلاحظ كثيراً في الكتب، ويعيرها لمن يأتمنه عليها، حتى لا تضيع، ولا يجوز له أن يحبس الكتاب المعار عنده، المستعير إذا استعار كتاباً لا يحبسه، ولا يحشيه ويكتب في بياضه إلا إذا علم رضا صاحبه، إذا علمت أن صاحبه يرضى أنك تكتب اكتب وإلا لا تكتب، ولا بد من الاهتمام بالكتب ذات علامات الترقيم الجيدة، فواصل ونقط، ويبدأ فقرة جديدة من أول السطر. وكذلك إذا حصل على كتب فيها تقسيمات وتفريعات في أشكال توضيحية تساعد في فهم الفكرة، مثل: كتابة الجداول الجامعة للعلوم النافعة، فيكون هذا جيداً.

اقتناء الأشرطة وسماعها بدلا عن الكتب

اقتناء الأشرطة وسماعها بدلاً عن الكتب ومن الأشياء التي صرفت الناس عن القراءة أيها الإخوة: الأشرطة، وهذا حق، ونحن لا نقول: يجب أن نلغي الأشرطة، لا، ولكن نقول: لا بد أن يكون المسلم عنده توازن، بين سماع الأشرطة وقراءة الكتب، لأن بعض الناس اهتموا بالأشرطة فأصبحوا لا يقرءون شيئاً، كل شيء بالأشرطة، مع أن هناك فروقاً كبيرة، فمثلاً الأشرطة لا يمكن أن تستخدم مراجع، وإذا أردت أن تبحث عن شيء في الأشرطة فمن الصعب أن تجده بخلاف الكتاب، وهذه الأشرطة تقتل روح البحث العلمي عند من يسمع الأشرطة ولا يقرأ الكتب والأشرطة لها مجالات معينة، مثلاً: في السواقة، أي في الأوقات أو الظروف والأوضاع التي لا يستطيع فيها الشخص أن يقرأ. ويمكن أن يسمع عند الاسترخاء، مثل ما فعل جد شيخ الإسلام ابن تيمية، إذا دخل الخلاء أمر قارئاً أن يرفع صوته ليسمع ويستفيد، أفضل من أن يغتسل الإنسان نصف ساعة، ويجلس فارغاً، ممكن يفعل هذا، يسمع الشريط، لكن أن نقلع عن الكتاب ونرغب عنه بالأشرطة فقط، فهذا خطأ كبير جداً، حتى الفهارس التي صدرت فإنك تجد مع إيجابيتها الكبيرة إلا أنها قتلت روح البحث عند الناس، فالباحث يرجع إلى المسالة ولا يمر على أي مسألة أخرى، قد يكون بدون الفهرس سيمر عليها.

متابعة المسلسلات والبرامج

متابعة المسلسلات والبرامج وكذلك من الأمور التافهة التي شغل بها الناس: متابعة المسلسلات والبرامج في الشاشة الصغيرة -مثلاً- أو هذه الأفلام في الفيديو ونحو ذلك، هذه قتلت القراءة عند الناس قتلاً، وذبحت القراءة ذبحاً، لأن الناس انشغلوا تماماً بهذه الأشياء، كم ساعة يجلسون أمام الشاشة؟! وبعد ذلك يقول: ما عندي وقت أقرأ! طبعاً صور ملونة وأحداث وأشياء تتحرك، من أين له أن ينجذب إلى الكتاب، مع أنه ماذا يستفيد من النظر والمتابعة؟ تقريباً لا شيء. ونستطيع أن نشجع الناس على القراءة بأمور كثيرة، مثلاً: معارض الكتاب لها دور، الغرب عندهم أسبوع الكتاب، ونادي الكتاب، واتحاد القراء وأشياء كثيرة، لكن نحن نستطيع إقامة معارض الكتاب والإعلان عن الكتب في الوسائل المختلفة، إقامة محاضرات عن القراءة، وفقرات منهجية في المدارس والجامعات، وحصص خاصة بالقراءة الحرة إذا أمكن، وإنشاء مكتبة في البيت، وتكون هناك مسابقات للقراءة، الشاهد: هناك وسائل يمكن أن نشجع عامة الناس على القراءة من خلالها.

شرود الذهن أثناء القراءة وعدم التركيز

شرود الذهن أثناء القراءة وعدم التركيز نأتي الآن -أيها الإخوة- إلى مسألة شرود الذهن أثناء القراءة ومشكلة عدم التركيز، وهذه المشكلة فعلاً تسبب نفور الناس من القراءة وشعورهم بأنهم لا يستفيدون شيئاً، وكثيراً ما تلاحظ على نفسك أنك وأنت تقرأ قد ختمت الصفحة دون أن تفهم شيئاً، لأن العين هي التي تشتغل ولكن القلب لاهٍ. هناك نوعان من الشرود: شرود النظر والفكر معاً، وشرود الفكر فقط، أنت أحياناً قد تقرأ كما ذكرنا والعين تعمل والقلب لا يعمل، فهذا شرود الفكر وشرود القلب: النظر موجود لكن القلب لا يوجد، لاتوجد متابعة، وأحياناً تجد نفسك وأنت تقرأ قد نظرت في شيء وجلست تبحلق فيه فترة من الزمن، أو وضعت يدك على خدك وجلست تسرح في موضوع، أو ترى نظرك في جهة والكتاب في جهة، وقد ذهبت في وادٍ آخر أثناء القراءة، هذا الشيء طبيعي بالنسبة للشخص الذي يريد أن يتعود على القراءة في البداية، والناس كل واحد فيهم تقريباً لا بد أن يشرد، لكن المشكلة والقضية أنهم يختلفون في الشرود، فمنهم من يطول شروده ومنهم من يقصر، ومنهم من تخطر له خاطرة أو خاطرتان ومنهم من تخطر له عدة خواطر.

أمور تساعد على التركيز

أمور تساعد على التركيز

المجاهدة والصبر وعدم الانشغال بالمؤثرات الخارجية

المجاهدة والصبر وعدم الانشغال بالمؤثرات الخارجية هذه المسألة أكبر حلٍ لها هو المجاهدة، مجاهدة النفس عند قدوم الخواطر الطارئة، وعندما يقفز النظر بين السطور وينهي الصفحة والصفحتين، وإذا توقفت فجأة وجدت نفسك لم تستوعب شيئاً، لا بد أن تراجع طريقتك في القراءة، التجاوب مع القراءة من أكبر الأسباب التي تؤدي للتركيز، ولذلك -مثلاً- إذا نظرت إلى قراءته صلى الله عليه وسلم للقرآن وجدت فيها أمراً عجيباً، فمثلاً: كان إذا مر بآية تسبيح سبح، وإذا مر بآية عذاب استعاذ، وإذا مر بآية نعيم سأل الله، {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة:40]. قال: بلى، إذا مر بآية فيها سجدة سجد، ما معنى هذا؟ التفاعل مع القراءة، التفكر في الأشياء التي تقرأ، بعض الناس إذا نظرت إليه وهو يقرأ تجد في قسمات وجهه أنه أحياناً يعبس، وأحياناً تجده ينبسط، وأحياناً تجده يبتسم، وأحياناً تجده مستغرباً، وأحياناً تجده مندهشاً، وأحياناً تكون أنت جالساً في حجرة شخص يقرأ في سكون وفجأة تسمعه يقهقه، ماذا حصل؟ قرأ شيئاً مضحكاً، فهذه العلامات على الوجه أثناء القراءة تدل على أن الشخص متابع لما يقرأ، التركيز لا يأتي من أول وهلة، ولا يأتي بسهولة جداً لا بد له من تمرن مستمر، وصبر وعدم استجابة للمؤثرات الخارجية، وإذا استطاع القارئ بالمجاهدة أن يرد عقله مرة بعد أخرى إلى الموضوع فإن الخواطر الطارئة لا تلبث أن تعود من حيث أتت وبتكرار ذلك يصبح تركيز الذهن من الأمور المألوفة، فالقضية قضية صبر ومجاهدة. العين -أيها الإخوة- ترى رسم الحروف لكن لا تفهمك معنى الكلام، وإنما القلب هو الذي يفهمك المعنى، وعن طريق التدبر تلتذ القراءة، هناك أمر وهو: إذا لاحظنا القراء الآن نجد أنهم يختلفون، فمنهم قارئ سماعي، لا يقرأ إلا برفع الصوت، يوجد أناس لا يعرف يقرأ أبداً ولا يفهم ولا يستوعب إلا إذا رفع صوته، ولذلك يصير مزعجاً بالنسبة لشخص آخر. هناك قارئ آلي، يحرك شفتيه لكن بدون صوت، تجده يقرأ بالشفتين، وهناك قارئ بصري لا يقول شيئاً ولا يسمع شيئاً، لكن فقط ينظر ويفكر، لا تسمع صوتاً ولا ترى حركة، وإنما يتابع ببصره وقلبه، بعض الناس المفكرين يقولون: إن الأخير هو أجود الأنواع لأنه يركز تركيزاً شديداً جداً، بحيث أنه لا يحتاج إلى أشياء أخرى تنبهه وتجعله يعيش داخل الموضوع، ولكن الناس يتفاوتون، وممكن شخص لا يستوعب إلا برفع الصوت، وممكن شخص لا يستوعب إلا بتحريك الشفتين، وممكن شخص لا يركز إلا بالنظر مع استعمال الفكر والقلب، فالناس يتفاوتون، كل واحد يرتاح بطريقة معينة. وكذلك الأشياء نفسها المقروءة تختلف فمثلاً: ذكر بعض أهل العلم قال: ينبغي للدارس أن يرفع صوته في درسه حتى يسمع نفسه فإن ما سمعته الأذن رسخ في القلب، ولهذا كان الإنسان أوعى لما يسمعه منه لما يقرؤه، وإذا كان المدروس مما يفسح طريق الفصاحة يكون رفع الصوت به مهماً، مثل قراءة الشعر، قراءة الأشياء التي تحسن الأسلوب، التي تحسن النطق، التي تجلب الفصاحة، هذه رفع الصوت بها مهم، ويقول أحد أهل العلم وحكي لي عن بعض المشايخ أنه قال: رأيت في بعض قرى النبط فتى فصيح اللهجة حسن البيان، فسألته عن سبب فصاحته مع لكنة أهل جلدته فقال: كنت أعمد في كل يوم إلى خمسين ورقة من كتاب الجاحظ -والجاحظ من المعتزلة ضال في العقيدة، لكن له كتب جيدة في أسلوب الفصاحة، مثل كتاب البيان والتبيين - فأرفع بها صوتي فما مر بي إلا زمان قصير حتى صرت إلى ما ترى، لذلك رفع الصوت كأن يسمع القارئ نفسه القرآن من الأمور التي تجعله فصيحاً جداً. أيها الإخوة: من الأمور السيئة أنه وجد مطرب مغني ينصح الشباب الذين يريدون الإقبال على الغناء، فيقول لهم: وصية: أنصحكم بدراسة التجويد، لأنه يساعدكم على أداء الأغنية بكفاءة عالية، فالتجويد فيه علم مخارج الحروف، والتفخيم والترقيق، أي أشياء كثيرة، لكن انظر السفيه يريد أن يستغل التجويد في الغناء.

استخدام القلم أثناء القراءة

استخدام القلم أثناء القراءة من الأمور المهمة التي تساعد على التركيز استخدام القلم أثناء القراءة، وهذه وصية مهمة نافعة إن شاء الله لك أيها الأخ المسلم، استخدم القلم أثناء القراءة، إن كثرة التعليقات التي تكون موجودة على كتابك دالة على تركيزك وتفاعلك مع القراءة، واستعمال القلم عند القراءة لشد الانتباه والتعبير عن الموقف المقروء أو الاستيعاب يدل على الاستيعاب أصلاً، إذا قرأت ورأيت أنك ملأت الصفحة بالكتابة فاعلم بأنك ناجح في الاستيعاب، وربط الجمل والأفكار، الكتابة على الهوامش، هامش الكتاب سواء كان الأعلى أو الجانبي أو الأسفل، ينبغي أن تكون التعليقات كأنها حوار بينك وبين الكاتب، وليس المقصود ما يفعله بعض القراء، وبعض الناس الذين يقرءون من خرابيش، تفتح الكتاب تجد سيارة، طيارة، مثلثاً، دوائر، مكعبات، وأشكالاً، ورسوماً سريانيه، ونحو ذلك، لا، المقصود باستخدام القلم مثلاً: وضع خط تحت النقط الأساسية والأفكار الهامة، وضع خطوط رأسية في الهامش للإشارة إلى أهمية الفكرة. أحد الشباب كان في المذاكرة أيام الجامعة، يذاكر وكان الكتاب ضخماً فيه ما هب ودب، فكان يستخدم الألوان، اللون الأصفر للأشياء المهمة جداً، قانون يجب حفظه، الشيء الأزرق أقل أهمية، الشيء الأحمر أقل شيء، ويترك الباقي بياضاً أو يرقمه، فيجعل للشيء المهم جداً رقم واحد، وللمتوسط رقم اثنين، وما يمكن تأجيله في المذاكرة رقم ثلاثة، فإذا وجد وقتاً قرأه وإلا تركه. فهذه أشياء مهمة نافعة جداً في التحصيل، وكذلك وضع الأرقام بالإشارة إلى أهم النقاط، ترقيم الأشياء، وقد تجد بعض الكتب ليس فيها شيء مرقم، فإذا رقمته فإنك تحس بنوع من التركيز أكثر، والإشارة إلى أرقام الصفحات التي ذكرت فيها النقاط لها علاقة بهذه النقطة، وهذا يدل على أنك مستوعب، ولذلك يقول -مثلاً-: انظر صفحة كذا تقدم الكلام عن هذا الموضوع في صفحة كذا، فمعنى ذلك أنك متابع وأنك تربط بين هذه الفكرة والفكرة التي سبقت، وأيضاً: القيام بكتابة أسئلة، فأحياناً الشخص يكتب سؤالاً على أساس أنه يقول: سأسأل عنه العالم كذا، أو يذكر نقطة فيكتب سؤالاً: هل يدخل فيها كذا، أو تبسيط الفكرة في الهامش، أنت إذا نظرت إلى كتاب: اقتضاء الصراط المستقيم طبعة الشيخ: محمد حامد الفقي رحمه الله، ماذا تلاحظ في هذا الكتاب؟ فيه عناوين جانبية كثيرة جداً، في كل مقطع عنوان جانبي، وذلك لأن الأولين كانت كتبهم عبارة عن فصل ويسرد لك فيه عشرين صفحة، ثم فصل ويسرد فيه خمسين صفحة، يعني ذهن سيال ما شاء الله! حفظة، الناس الآن بدءوا يكتبون بهذا التفصيل وهذا التنقيط، وهذا الترقيم الموجود، فأنت إذا قرأت في كتب الأقدمين استخدم هذه الوسائل، العناوين الجانبية مثلاً: اكتب موضوعاً لكل فقرة ستلاحظ أول شيء التعريف اللغوي، ثانياً: التعريف الشرعي، اكتب: التعريف الشرعي، ثالثاً: الأدلة، رابعاً: أقوال العلماء، خامساً: القول الراجح، حاول أن تكتب في الهامش العنوان الذي يدلك ماذا يوجد في هذه الفقرة، وإذا كنت لا تحب أن تكتب في كتابك أو لم يكن الكتاب كتاباً لك، استعرته مثلاً، خذ ورقة خارجية ودون فيها الملخص، وإذا كنت لا تحب الكتابة حتى في كتابك أنت، خذ ورقة ودون فيها الأشياء، تكون مناسبة لمقاس الكتاب ثم ألصقها في الغلاف من الأخير أو من الأول، وبعض الناس يقول: يا أخي! الكتاب يضيع الوقت، أنا كل شيء أكتبه هذا معناه أن أجلس في الكتاب أسبوعاً، نقول: اجلس أسبوعاً واستفد أحسن من أن تكمله في ساعتين ولا تستفيد. حاول أن تجعل كتابك ثرياً، كيف؟ بعض الناس يثرون كتبهم، يصير الكتاب عنده يساوي أضعاف أضعاف قيمته في المكتبة، وليس عنده استعداد أن يعطيه لأحد لأنه يخشى عليه، لأن الكتاب صار ثميناً، كيف صار ذلك؟ مثلاً: إذا مر على قول ذكره الكاتب قال -مثلاً- للعلماء أقوال أخرى، ونقل من كتب أخرى الأقوال في الهامش، حديث مر عليه ذهب إلى كتب التصحيح والتضعيف وخرج الحديث وبين صحته: صحيح، انظر صحيح الجامع رقم كذا، تلخيص الحبير رقم كذا، وهكذا، ينقل درجة الحديث، أو يكتب نقداً لفكرة خاطئة، يقول: وهم الكاتب هنا، والصحيح كذا، لأن فلاناً يقول من العلماء كذا ونحو ذلك. أو يصوب الخطأ المطبعي فيضع إشارة بالقلم الرصاص، ويكتب فوق الكلمة: الصحيح كذا، ولكن لا تستعجل؛ لأن الشخص أحياناً يظن ما ليس بخطأ خطأً فيصحح، وتصحيحه خطأ، والموجود في الكتاب هو الصحيح، مثلاً: قرأ تذهيب التهذيب وهناك كتاب: تذهيب التهذيب قال: تذهيب التهذيب ما سمعت به ولكن المعروف: تهذيب التهذيب، فشطب على تذهيب وكتب فوقها: تهذيب، مع أن هناك كتاباً اسمه: تذهيب التهذيب، لكنه لا يدري، ومثلاً: قال الباوردي، يقول: من هذا الباوردي؟ لا، البارودي هذا المعروف، فيشطب على الباوردي وكتب: البارودي، مع أن هناك عالماً معروفاً اسمه: الباوردي وهكذا، فلا تستعجل بالتصحيح، وليكن بقلم رفيع وخط دقيق، يوضع فوق الكلمة، وبعض الناس يحك حتى إنه يخرق الورقة، ومن المفيد عند انتهائك من قراءة الكتاب أن تكتب مذكرة على جلدة لكتاب، عبارة عن تقويم عام، أو اختصار للكتاب يحوي ما تضمنه من أفكار والملاحظات عليه سواء ما يتعلق بالشكل والمضمون أو الأسلوب، المربي والداعية الذي يعلم الناس يهمه جداً هذا الكلام، لأنه يعرف من خلال هذا التقويم من يصلح أن يهدى إليه هذا الكتاب ومن يصلح أن يقرؤه. وإذا أردت أن تلخص كتاباً فلا بد أن تعرف فن التلخيص، والتلخيص له فن لا بد من الاستيعاب والفهم أولاً، ثم تقدر حجم التلخيص ثانياً، ثم تتحرر من عبارات الكاتب الأصلي إلا إذا كانت مهمة جداً، وتصيغها بكلماتك أنت وعباراتك، والتلخيص قدرات عند البشر، لذلك بعض الطلاب عندما يقول المدرس: لخص لي الكتاب الفلاني، تجدهم يأخذون من هنا سطرين ومن هنا سطرين، وهنا سطرين، فتجده ينقل نقلاً، ثم يخرج في النهاية كلام ليس بينه ترابط على الإطلاق، لأنه استعمل عبارات المؤلف، فلابد من صياغته صياغة كاملة تامة مترابطة.

تلمس الأوضاع المريحة عند القراءة

تلمس الأوضاع المريحة عند القراءة وكذلك من الأمور التي تساعد على التركيز أثناء القراءة: تلمس الأوضاع المريحة عند القراءة، ولا بد أن يحاول الإنسان أن يكون مرتاحاً، ولا شك أن القراءة التي بعد النوم والراحة أفضل من القراءة في حال النعاس، وإذا كان الإنسان يحتاج نظارة يقيس له نظارة، القراءة في ضوء النهار أفضل من القراءة في الضوء الاصطناعي، وكذلك القراءة في النور الكافي، أما النور الخافت جداً فإنه يتعب البصر، مثلاً: يكون وضع الضوء بحيث لا يلقي ظلاً على الكتاب، أو انعكاساً على صفحاته فيرتد على العين فتؤذيك، ويستحسن أن يمسك الكتاب بحيث أن الضوء يقع عليه بشكل متساوٍ، والنصيحة العامة في طريقة مسك الكتاب التي ذكرها بعض أهل الخبرة في هذا المجال أن يكون الظهر مستقيماً، لا هو منحني ولا هو راجع للخلف، والكتاب في مستوى وسط الجسم مرفوعاً بزاوية خمس وأربعين درجة تقريباً، والرأس مائل إلى الأمام قليلاً، بحيث تكون المسافة بينك وبين الكتاب ثلاثين (سم) تقريباً، فهذا وضع ذكره أهل الخبرة أنه وضع مثالي، لكن لا يعني أنك لا بد أن تقرأ على هذا الوضع وإذا لم تستطع لا تقرأ، لا، علماؤنا كانوا يقرءون في ضوء القمر رحمهم الله، كانوا يقرءون على ضوء السراج والشمعة، ويقرءون وهم في حالة الجلوس ويقرءون في القيام، ويقرءون وهم يمشون، ويقرءون وهم مضطجعون، ولكن الإنسان يحرص على أن يلتزم الوضع المريح، حتى يستطيع أن يستمر فترة أطول، لأن بعض الناس يجلس بكيفية خطأ ثم تؤلمه رجله فيترك القراءة، أو تؤلمه رقبته فيترك القراءة، أو تؤلمه عيناه فيترك القراءة، السبب أن طريقته في القراءة غير صحيحة، انظر إلى تصميم المكتبات العامة، تجد أن مكان الجلوس فيه حواجز من اليمين واليسار والأمام معنى ذلك: أن الشخص عندما يقرأ ينبغي أن يكون في مكان هادئ بعيد عن الضجيج والأصوات وبعيد عن المناظر، أي: الصور البراقة، الألوان الزاهية، المناظر المتحركة، الروائح الفائحة، كروائح الطبخ، كذلك عدم تلبية المقاطعات والشواغل أثناء القراءة مثل إجابات جميع الهواتف الهامة وغير الهامة، واستقبال كل طارق على الباب وكل نداء، إلا ما كان مهماً مثل نداء الوالدين فلا بد من إجابتهما. الكفرة يقولون: الموسيقى الهادئة تساعد على القراءة، هم يقولون: أنها تساعد على حلب البقر الهولندي، لكن أنها تساعد على القراءة! لا حول ولا قوة إلا بالله! وبالمناسبة نحن نقول أيضاً: ليس المقصود أنك تستبدل وتفتح القرآن وتقرأ، القضية أن فيها حرجاً، أنك تلهو، أن يصير فقط اللحن وأنت تقرأ في شيء ولا تنصت للقرآن.

أسباب الخطأ في الفهم أثناء القراءة

أسباب الخطأ في الفهم أثناء القراءة أما بالنسبة لأسباب الخطأ في الفهم أثناء القراءة، فهي من الأشياء المهمة جداً، ولعلنا نوجزها لكم فيما تبقى من الوقت، لماذا نقرأ ونخطئ في الفهم؟

عدم فهم المراد من العبارة

عدم فهم المراد من العبارة فقد يكون أحياناً عدم فهم المراد من العبارة، مثلاً: شخص قرأ حديث: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يسق بمائه زرع غيره) وعنده بستان وعند جاره بستان، فيمر الماء من بستانه إلى بستان جاره، والحديث (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسق بمائه زرع غيره) فيقطع الماء عن الجار، فإذا اشتكى قال: معي حديث وعندما يراجع يعرف أن معنى: لا يسق بمائه زرع غيره، يعني: لا تدخل بامرأة فيها حمل من زوج سابق، ولما يتبين الحمل وتضع حملها، لا بد أن يستبرئ الرحم أولاً، براءة الرحم لا تدخل ماءك على زرع غيرك، وانظروا أين المقصود الصحيح وأين الذي فهمه الرجل.

أن يكون للكلمة أكثر من معنى

أن يكون للكلمة أكثر من معنى أحياناً يكون للكلمة أكثر من معنى، أو لها معنى في اللغة ومعنى في الشرع، فيقرأ الإنسان في كتب الفقه مثلاً: والعقل على كذا، ويظنه عقل الإنسان، لكن في الفقه العقل هو من العاقلة والدية أثناء القتل، وهذا شيء آخر غير العقل الذي هو يفهمه، أو مثلاً: الإسلام، كلمة الإسلام يفهم منها الدين، لكنه يجد في بعض الكتب: ولا يجوز الإسلام في كذا ويجوز الإسلام في كذا وإذا أسلم في خمسة دنانير وكذا فيصح الإسلام، كيف يفهم هذا الكلام؟ المقصود بالإسلام الذي هو بيع السلم، وهو نوع من أنواع البيوع.

أن تكون عنده خلفية خاطئة

أن تكون عنده خلفية خاطئة أحياناً تكون عنده أفكار خاطئة سابقة، خلفية سابقة خاطئة تجعله يحمل الكلام المقروء على غير الوجه الصحيح بسبب الخلفية الخاطئة، مثلاً: أحياناً المفوض والأشعري يقرأ كلام ابن تيمية يقول: وهذا يؤيد مذهبنا، لأن فكرته خطأ هو، فهو سيحمل كل كلام يقرؤه على هذه الخلفية.

عدم إكمال القراءة إلى آخرها

عدم إكمال القراءة إلى آخرها وبعض الناس من أسباب عدم الفهم أنهم لا يكملون القراءة للأخير، لا بد من إكمال المقروء، بعض الناس يقول: إن اللبيب بالإشارة يفهم، يقرأ ثلاث كلمات والباقي واضح، أكمل العبارة أكمل الفقرة اكمل المقطع، فقد يقرأ شخص أول الآية فيقول: يقصد الآية الفلانية ويترك مع أنه يقصد الآية الأخرى حيث أن فيهما تشابه في البداية، وكثيراً ما نتراجع في معلومات ونتأكد أنا قرأناها بشكل صحيح، ويقول الإنسان: يا أخي! هل أنت متأكد؟ يقول: نعم متأكد أني قرأتها في الكتاب الفلاني، نراجع ونتبين خلاف المقصود. فلا بد -إذاً- من التوثق والمقارنة، كل ما أشكل شيء نرجع إلى الأصل، نرجع إلى الأصل وهكذا، أحياناً تكون صياغة المؤلف قصيرة جداً أو مختصرة، فتحتاج إلى تركيز في القراءة، وهذا شأن علمائنا، وقد يكون الكلام طويلاً متداخلاً يحتاج إلى تحليل، وحذف الأشياء الزائدة، وترتيب العبارات من جديد لتفهم.

عدم المتابعة والتركيز في قراءة كل الفقرات

عدم المتابعة والتركيز في قراءة كل الفقرات أحياناً يقول العالم أولاً ثانياً وبعد ذلك يستطرد وبعد عشرين صفحة يقول: ثالثاً فينبغي أن يكون القارئ متابعاً، لا يفقد الخيط، وهذا الخطأ في الفهم يؤدي إلى مشاكل منها: نسبة الكلام إلى غير قائله، ومنها تعميم الخاص، يكون الكاتب يقصد شيئاً معيناً، فيقول: يقصد أي: في كل الحالات الأخرى، أحياناً يفهم شيئاً أنقص مما قصده المؤلف، وأحياناً يفهم خطأً أن هذا هو رأي المؤلف وليس كذلك، بعض الناس من المشاكل التي يقعون فيها يفتح الكتاب من منتصفه ويقرأ، مثلاً: مجموع الفتاوى لـ ابن تيمية، يقرأ من منتصفه كلاماً في العقيدة، يا أخي! هذا غريب مخالف لعقيدة أهل السنة والجماعة، لكن مادام أنه ابن تيمية فهو صحيح، ثم يقفل الكتاب، ثم بعد ذلك ينسبه لـ ابن تيمية في المجالس وقال ابن يتمية وبعد المراجعة يتبين أن ابن تيمية رحمه الله نقل هذا عن مبتدع من المبتدعة، وهو كلام طويل جداً ثم بدأ يرد عليه، وصاحبنا فتح من منتصف الكتاب، فقرأ كلام المبتدع كله وقبل رد ابن تيمية أقفل الكتاب، ويقول: قال ابن تيمية وهذا يحدث كثيراً، ويظلم العلماء بنسبة كلام إليهم لم يقولوه. من الأشياء التي تساعدك على فهم الكلام إذا قرأت -مثلاً- أدلة المسألة ثم أراد المؤلف أن يذكر الحكم، أغلق الكتاب ثم حاول أن تستنبط ماذا سيقوله الكاتب أو المؤلف أو العالم، حاول أن تفكر في المقدمات وتستنبط النتيجة، ثم افتح وقارن ما فكرت فيه واستنبطته بما كتبه العالم، هذا يساعد على تمرين الذهن للفهم وخصوصاً في المسائل الفقهية.

الدخول في قراءة الكتاب وترك المقدمة

الدخول في قراءة الكتاب وترك المقدمة ومن الأمور التي تسبب سوء الفهم أثناء القراءة، الدخول في الكتاب بدون قراءة المقدمة، ويقول: الناس يريدون الزبدة، مع أنه أحياناً جزء كبير من الزبدة موجود في المقدمة، مثال: المصطلحات، أعطيكم مثالاً واحداً: يفتح تقريب التهذيب لـ ابن حجر يقول: فلان من الطبقة التاسعة، مات سنة إحدى وسبعين، ماذا سيفهم؟ مات سنة إحدى وسبعين هجرية، مع أنه إذا رجع إلى مقدمة الكتاب سيجد ابن حجر يقول: وذكرت وفاة من عرفت سنة وفاته منهم، فإن كان من الأولى والثانية -الطبقة الأولى والثانية، وهو عرف الطبقة الأولى والثانية- فهم قبل المائة، وإن كان من الثالثة إلى آخر الثامنة، فهم بعد المائة، وإن كان من التاسعة إلى آخر الطبقات، فهم بعد المائتين، فلما يقول ابن حجر: من التاسعة مات سنة إحدى وسبعين، ما معناها؟ مائتين وإحدى وسبعين، لكنه ما يكرر ويقول: من التاسعة مات سنة مائتين وإحدى وسبعين، فقد ذكر ذلك في البداية، فالذي لا يعرف مصطلح العالم لا يعرف ماذا يقصد بالكلام. مثلاً الرموز: (خ) البخاري، (م) مسلم، (ت) الترمذي، (ن) النسائي، (هـ) ابن ماجة، أحياناً هذه الرموز تختلف من مصنف إلى آخر، بعضهم (ق) متفق عليه، وبعضه يقول: (ق) ابن ماجة مثلاً، أحياناً يختلف من كتاب إلى آخر لنفس المصنف، وعلى أقل الأحوال لو أن الإنسان ما فاته مصطلحات، ستفوته فوائد من عدم قراءة المقدمة، وإن لم يقع في أخطاء، كمثل أنه لا يعرف ما معنى سكوت ابن حجر على حديث في كتاب: تلخيص الحبير، ما معناه؟ إذا أنت ما قرأت المقدمة، وعرفت أن ابن حجر يقول: إذا سكت عنه -ما قلت شيء بعده- أي: أنه حسن، لا يمكن أن تعرف درجة الحديث، خلاص ذكره ابن حجر وما قال شيئاً. وبعض الناس يقولون: ما معنى نا، ثنا، أنا؟ يقول: هذا كل حين يقول: أنا فلان، أنا فلان، يقول: ما شاء الله الرواة يعرفون بأنفسهم! والمقصود أنا، أي: أنبأنا، ثنا: حدثنا، اختصارات. وأحياناً يحتاج القارئ أن يقرأ كتاباً آخر ليعرف طريقة مؤلف أو كتاب، مثل صحيح البخاري، العلماء استقرءوا منهج البخاري ووضعوه في كتب، وبعض كتب الفقه لها مصطلحات مثلاً: مغني ذوي الأفهام عن الكتب الكثيرة في الأحكام لـ ابن عبيدان الحنبلي، هذا إذا قال: اتفقوا يقصد الأئمة الأربعة مثلاً، أحياناً إذا قال: اتفقت يقصد ثلاثة إلا فلاناً، أحياناً إذا قال: اتفقا يقصد فلاناً وفلاناً، ولكن ليس دائماً يقول هذا، فلابد أن تعرف ذلك، وقد ذكر لك الاصطلاح في البداية. ما معنى قول الترمذي حسن صحيح؟ ما معنى قوله: حديث غريب؟ وما هو مصطلح البغوي في المصابيح؟ المنذري في الترغيب والترهيب له مصطلح معين يدل على درجة الحديث، بعض الناس عندهم سطحية تسبب سوء فهم، وبعض الناس عندهم بعد نظر أكثر من اللازم فيتجاوزن العبارة ويحملونها ما لا تحتمل، وهكذا.

وجود الأخطاء المطبعية

وجود الأخطاء المطبعية الانتباه للأخطاء المطبعية، والأخطاء في التشكيل من الناسخ أو من المطبعة يغير المعنى تماماً ويجعلك تفهم خطأ، أحياناً يقع في السند، أحياناً يقع في الحديث، بعض الناس صحفوا في القرآن، مثلاً: في الجامع لأخلاق الراوي عن محمد بن يونس الكديمي قال: حضرت مجلس مؤمل بن إسماعيل، فقرأ عليه رجل من المجلس: حدثنا سبعة وسبعين، وهذه الكلمات كانت تكتب في ذلك الزمن بغير نقاط، فمثلاً: كلمة (سبعة) ما فيها نقطة عند الباء، ولذلك كانت القراءة هذه لها خبرة، فالسين لها طريقة، والباء لها طريقة، والتاء لها طريقة حتى يدل على أنها تاء، ما كان في تنقيط، التنقيط ظهر فيما بعد، فقال مؤمل: كيف حدثنا سبعة وسبعين، فضحك وقال: الفتى من أين؟ قال: من أهل مصر، فقال: حدثنا شعبة وسفيان، فقرأ كلمة شعبة: سبعة، وسفيان: كانت تكتب من زمان مثل سفين ما كان يكتب الألف، كانت تكتب ألف بسيطة فوق. وعن الفضل بن يوسف الجعفي قال: سمعت رجلاً يقول لـ أبي نعيم: حدثتك أمك عن فلان، وعن فلان، ماذا أمك؟ يقصد راوي اسمه: أمي الصيرفي، فقرأها هذا (أمي) وقال: حدثتني أمي، أعطني الحديث حدثتني أمك عن فلان، فقال: سنينك، سنينك متى كانت أمي تدخل يدها في جرة العسل. وعن أبي العيناء قال: حضرت مجلس بعض المغفلين، فأسند حديثاً قدسياً، فقال: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جبريل، عن الله، عن رجل، فقال: من هذا الذي يصلح أن يكون شيخ الله؟! فأخذ الكتاب ففحصه، فوجد أن قوله عن الله عن رجل، فإذا هي: عز وجل، لكن عز الزاء صارت من طرفها طويلة قليلاً إلى الأعلى، وكلمة (وجل) صارت فيها الواو راء. وبعضهم كان لا يحلق يوم الجمعة، لماذا؟ قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحلق يوم الجمعة، كيف عن الحلق يوم الجمعة؟ حديث: (نهى عن الحِلَق يوم الجمعة) أي: النهي عن تحلق الناس قبل الصلاة، لئلا يقطعوا الصفوف في صلاة الجمعة، وحتى لا يلتهوا ويفوت غرض الخطبة والتهيء النفسي لها بالحلقات والأحاديث. وجاء رجل إلى الليث بن سعد فقال: كيف حدثك نافع عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي نشرت في أبيه القصة؟ قال: أعطني حديث الذي نشرت في أبيه القصة، فنظر فإذا هو حديث: (الذي يشرب في آنية الفضة، فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم) فبدَّل يشرب في آنية الفضة: نشرت في أبيه القصة. وبعضهم صحف حديث: (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عنزة) العنزة هي حربة كانت تركز له فيصلي وراءها إذا صار في الخلاء، فقال: (صلى عليه الصلاة والسلام إلى عنزة) جاء بعنزة وجعلها سترة، وبعضهم عرف أنها عنزة لكن جاء الخطأ من شيء ثانٍ، هذا الرجل اسمه: محمد بن مثنى العنزي من قبيلة عَنَزَة، قال لهم يوماً: نحن قوم لنا شرف، نحن من عنزة قد صلى إلينا النبي صلى الله عليه وسلم، فتوهم أنه صلى إلى قبيلته. وأما التصحيف في القرآن مع الأسف فهو كثير، اجلس بجانب أي واحد من العامة واسمع قراءته لتسمع التكسير والتخبيط في القراءة، شيء عجيب، أحدهم صحف فجعل السقاية في رجل أخيه، وهي في رحل أخيه، قال: في رجله، وهكذا. سمع أعرابي إماماً يقرأ: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة:221] أي: لا تتزوجوا المشركة حتى تؤمن: {وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} [البقرة:221] معنى لا تنكحوا المشركين أي: لا تزوج بنتك أو أختك إلا لواحد مسلم، فالقارئ أخطأ، قال: ولا تَنكِحُوا المشركين حتى يؤمنوا فقال الأعرابي: ولن ننكحهم حتى ولو آمنوا، كيف نكاح الذكر للذكر! والرجل للرجل؟! قبحه الله لا تجعلوه بعدها إماماً فإنه يحل ما حرم الله. وهذا أعرابي جاء من البادية. لذلك -أيها الإخوة- العلماء القدماء كانوا يضبطون، ما هو مثل المطابع الآن بالضمة والفتحة والكسرة، يقول: بفتح المثلثة وكسر المعجمة، ما المثلثة؟ أي: الثاء، المثناة الفوقية: التاء، بالموحدة: الباء أو النون، فيكتبون كتابة: بضم أوله، وفتح ثانيه وهكذا، حتى ما يحصل الخطأ في هذا. ولذلك لا بد من الضبط والانتباه والتركيز والتثبت أثناء القراءة، وقد وصف رجل رجلاً فقال: كان يغلط في علمه من وجوه أربعة: يسمع غير ما يقال له، ويحفظ غير ما يسمع، ويكتب غير ما يحفظ، ويحدث بغير ما يكتب، ما بقي شيء، وإذا كتب لحان عن لحان صار الحديث بالفارسية، إذا جاء شخص يغلط ونقله، وجاء شخص آخر ونقل من نسخة الذي يغلط، وآخر يغلط مثله ضاعف الغلط ثانياً، ولذلك الناس يشتغلون بالمخطوطات، ويهمهم المخطوطة الأصلية، حتى يتجنبوا تحريف النّساخ.

القراءة طرقها وأنواعها

القراءة طرقها وأنواعها ويأتي شخص يتساءل ويقول: هل نقرأ كل شيء عن شيء معين ونتوسع فيه أم نقرأ بعض الأشياء في كل شيء فنأخذ نتفاً من كل موضوع؟ نقول: كلاهما خطأ، في البداية لا بد أن يكون هناك قاعدة عند الشخص، فلا بد أن يكون عنده قاعدة في كل شيء يحتاجه، قاعدة في التفسير، وقاعدة في العقيدة، وقاعدة في الفقه، وقاعدة في التجويد، وقاعدة في الحديث والمصطلح، وهكذا، ثم يتبحر الإنسان بحسب إقباله على هذا الفن وحاجته له ويتخصص فيه. وأما بالنسبة لسرعة القراءة فقد كان علماؤنا رحمهم الله يقرءون بسرعة، كان ابن حجر يقرأ قراءة سريعة مركزة، كيف سريعة ومركزة؟ قرأ السنن لـ ابن ماجة في أربعة مجالس، وقرأ صحيح مسلم في أربعة مجالس، سوى مجلس الختمة في يومين وشيء، وقرأ السنن الكبرى للنسائي في عشرة مجالس كل مجلس نحو أربع ساعات، وأسرع شيء وقع له أنه قرأ في رحلته الشامية، معجم الطبراني الصغير في مجلس واحد بين صلاتي الظهر والعصر، وهذا الكتاب مجلد يشتمل على نحو ألف وخمسمائة حديث، وقرأ صحيح البخاري في عشرة مجالس كل مجلس أربع ساعات، يقرأ على شيخ، حتى قراءة الضبط، فالقراءة أنواع: قراءة دقيقة متأنية، أي: بمعدل مائة وخمسين كلمة إلى ثلاثمائة كلمة تقريباً في الدقيقة، هذه قراءة بدقة متأنية، لماذا؟ مثلاً: شخص يريد أن يرد على كتاب، فلابد أن يقرأ بتؤدة شديدة. فالقراءة السريعة بمعدل ثلاثمائة كلمة إلى ستمائة كلمة في الدقيقة مثل مراجعة الحفظ، قراءة الحدر. قراءة التصفح والاستعراض أي: بواقع تقريباً ألف وخمسمائة كلمة في الدقيقة، كيف ألف وخمسمائة في الدقيقة؟! مثلاً: يقرأ أول جملة من كل مقطع، يقرأ أسطراً معينة حتى يأخذ فكرة عن الكتاب قبل شرائه مثلاً، أو شخص -مثلاً- مسئول مكتبة يريد أن يعرف هل الكتاب جيد أو لا؟ الكتب كثيرة جداً، كيف يفعل؟ فيقرأ من كل صفحة ويأخذ مقاطع. فيتحكم في سرعة القراءة أمور منها: الغرض من القراءة، والخلفية عن الموضوع، بعض الناس يستطيع أن يسرع، وبعض الناس ما يستطيع، لماذا؟ واحد عنده خلفية، وواحد ما عنده خلفية، وهكذا، هناك قراءة إطلاع، مثل واحد يقرأ الجرائد والمجلات فهذه قراءتها ليست مثل قراءة كتب العلم التي تكتسب فيها أشياء جديدة، وحتى قراءة كتب العلم تختلف من فن إلى آخر، فمثلاً: قراءة كتب الفقه ليست مثل أصول الفقه، قراءة كتب التاريخ ليست مثل قراءة كتب العقيدة، ولذلك يجب على الإنسان ألا يتأثر، المبتدئ يقول: والله فلان ينجز كتاباً في ساعتين أنا ما أنجزه إلا بعشر ساعات فتتحطم معنوياته، لا، إذا توسع عدد الكلمات التي يعرفها الشخص فإن قراءته تصبح أسرع، يتحكم في سرعة القراءة، بعض الخبراء يقترح لزيادة سرعة القراءة أشياء، يقول: إذا كانت سرعة القراءة أقل من مائة وخمسين كلمة في الدقيقة، طبعاً أنت اقرأ خمس دقائق ثم عد الكلمات، اقسم على خمسة يطلع سرعتك في الدقيقة كذا، فإذا كان أقل من مائة وخمسين كلمة في الدقيقة معناها أنك بطيء في المواضيع العادية، فيقترح بعض الخبراء، أن تقرأ خمس دقائق لمدة شهر بأسرع ما تستطيع من غير أن تهتم بما فاتك من المعاني، مع مرور الزمن ستلاحظ أنك بدأت تفهم مع السرعة. الحل الثاني: توسيع نطاق النظر، بإقلال زمن الوقت على رسم الكلمة الواحدة، بدل أن تقف هنا، ثم هنا، حاول أن تسرع في الانتقال من كلمة إلى الأخرى، وثالثاً: عدم تحريك الشفة ورفع الصوت وعدم تكرار الكلمة ولو فاتك معناها، فإن الغالب أنك سوف تفهم من سياق الكلام. هناك القراءة الجماعية، القراءة الجماعة مفيدة أحياناً، مثلاً: شيء قد لا تفهمه أنت، وقد يفهمه زميلك، ولذلك لما تكونون مجتمعين وشخص يقرأ والبقية يستمعون، فإن هذا مفيد من هذه الناحية، وبالعكس، قد لا يفهمه زميلك وتفهمه أنت، بالإضافة أنه يشجع بعضهم بعضاً، بالإضافة للفوائد والاقتراحات المفيدة أثناء القراءة، إلى غير ذلك من الأسباب التي تولدها البركة في الاجتماع، لكن هناك شرط مهم جداً جداً في القراءة الجماعية وهو الجدية، لأن كثيراً من الطلاب يجتمعون في المذاكرة فيضيع بعضهم وقت بعض، بالنكت والأضحوكات، والتسالي، وكل واحد يأتي بشيء، فيدور الشاي، وضاع الوقت، فالقراءة الجماعية لها شروط حتى تنجح. وأخيراً: كما يحدث في الجامعات، هناك اثنان في غرفة أو أكثر، عندما تقرأ أنت وزميلك في الغرفة، فلا بد من وضع معاهدة، ولو غير مكتوبة عن أوقات معينة يحترمها الطرفان، لا تنتهك إلا لمرض مفاجئ أو حريق لا سمح الله، وإذا كان جدول الشخصين متفقاً، فإن هذا يسهل، لأن بعض الناس إذا جلس مع شخص في الغرفة فكل منهما يضيع وقت الآخر، وهذا يؤثر على النتيجة الدراسية، فلا بد من احترام أوقات المذاكرة من قبل الطرفين. أيها الإخوة: هذا بعض الأمور في كيفية القراءة، والمسألة جهاد ومجاهدة وجد ومثابرة، وتوفيق من الله عز وجل، لتستوعب وتفهم وتحفظ، فإليه الملتجأ وعليه التكلان والله تعالى أعلم. وصلى الله على نبينا محمد. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

كيف تكون مجالسنا إسلامية؟ [2]

كيف تكون مجالسنا إسلامية؟ [2] إن المجالس التي يجلس فيها الناس تختلف وتتنوع، فبعضها مجالس دنيوية بحتة ليس فيها أي ذكر لله تعالى، ومجالس فيها معاصٍ ومنكرات ونحو ذلك، فموقف الداعية وطالب العلم من ذلك أن يبادر إلى الإنكار، فإن لم يستطع فليخرج وليفارق ذلك المجلس الذي يعصى الله تعالى فيه، أو يشغل الناس بقراءة كتاب أو تفسير آية وغير ذلك من الأمور.

أقسام المجالس

أقسام المجالس إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أيها الإخوة! تكلمنا في الأسبوع الماضي عن أنواع المجالس التي يجلس فيها الناس، وتكلمنا أيضاً عن أهمية هذه المجالس وأنها مرآة المجتمع، وأن أفكار الناس وتصوراتهم وآراءهم تطرح في مجالسهم في الغالب، وأن المجالس لها تأثير كبير على عقول الناس، وأن ما يحدث في المجلس ينعكس على داخل الأسرة بشكل مباشر أو غير مباشر، وأن المجلس -أيها الإخوة- فرصة خير لمن أراد الله تعالى به خيراً، ومن أراد الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً، وهو فرصة للازدياد من الشر والسيئات، والوقوع في حبائل الشيطان لمن أغواه عدو الله إبليس وجعله من جنده وأعوانه.

مجالس دنيوية بحتة

مجالس دنيوية بحتة ولذلك -أيها الإخوة- ذكرنا في المرة الماضية أن غالب مجالس الناس: إما أن تكون حديثاً دنيوياً بحتاً من أول المجلس إلى آخره ليس فيه ذكر لله تعالى، ولا تسمع فيه آية ولا حديثاً واحداً، وذكرنا بأن هذه المجالس مذمومة، وأن رسول الله عليه الصلاة والسلام وصف أهلها الذين لا يذكرون الله تعالى فيها أبداً، ولا يصلون على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم يتفرقون على مثل جيفة الحمار.

مجالس منكرات ومعاص

مجالس منكرات ومعاصٍ والنوع الثاني من المجالس في الغالب مجالس السوء والمعصية التي تمتلئ غيبة وبهتاناً في عباد الله تعالى، وتمتلئ استهزاءً وسخرية بآيات الله وأحكامه وشرعه، وهي كذلك -أيها الإخوة- تمتلئ بالملهيات التي تشغل عن ذكر الله، فمنهم من يقعد يلعب بالورق أو بالألعاب الأخرى حتى يطلع الفجر، أو ينام قبل الفجر بقليل، أو يسهر سهراً طويلاً يضر بحضوره في صلاة الفجر، فتفوته هذه الصلاة بالكلية، لا يصليها في بيته فضلاً عن أن يصليها مع الجماعة في المسجد. وكذلك -أيها الإخوة- فإنك ترى في المجالس من الاشتغال بأحاديث المنكر والاشتغال بالملهيات عن ذكر الله أمراً فظيعاً، أمراً لا تكاد تحتمله عقول المسلمين ولا فطرهم الصافية، إنك ترى الناس كثيراً ما يشتغلون بأحاديث الرياضة، والملهيات، وأخبار الكرة، ويوالون عليها ويعادون فيها، ويتقسم الناس أحزاباً وشيعاً بفعل انقسامهم بحسب ميولهم الرياضية ونحوها. ونحن أيها الإخوة نعلم جميعاً بأن الإسلام حث على تقوية البدن وعلى الاشتغال بما يفيده، ولكن منع أيما منع من الالتهاء بها حتى تكون هم الإنسان الشاغل، وحتى تكون معاداة الناس وموالاتهم على مثل هذه الأشياء التي لا يرضاها الله عز وجل. وبالجملة: فإن مجالس الناس في هذه الأيام لا يرضى الله عنها لما امتلأت به من أنواع المنكرات والفواحش. ونريد أن نوضح في هذا المقام كيف نجعل من مجالسنا مجالس إسلامية يرضى الله تعالى عنها وعن أهلها، ويثيب الله تعالى القاعدين عليها درجات.

فلينظر أحدكم من يخالل

فلينظر أحدكم من يخالل لا بد يا إخواني! بادئ ذي بدء لا بد لكل واحد فينا يجلس في مجلس، أو يدعو الناس إلى مجلسه، أو يجيب دعوة الناس أن ينظر في حال من يجالس، إن انتقاء الجليس من الأمور الأساسية المهمة، ولذلك أخبر الله تعالى بأن رجلاً من أهل النار قد وقع في سوء العذاب بسبب قرينه: {يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً} [الفرقان:27 - 28] لماذا؟ {لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً} [الفرقان:29] لا نريد أن نأتي يوم القيامة -أيها الإخوة- ويتحسر الواحد منا، ويقول يوم لا تنفع الحسرة والندامة: {يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً} [الفرقان:27 - 28] يا ليتني ابتعدت عنه ونبذته، يا ليتني لم أقترب منه ولم أجلس معه لحظة واحدة، لقد كان سبباً في ضلالي وفي وقوعي في حبائل الشيطان، لقد كان يزين لي المنكر ويحثني عليه ويجعلني شريكاً معه في الإثم وعبادة الطاغوت. ومدح الله رجلاً من أهل الجنة، وأخبر أن سبب نجاته أنه تخلص من حبائل صديقه وجليسه وخليله الفاسق أو الكافر في اللحظات الأخيرة، فقال الله تعالى حاكياً عن رجل من أهل الجنة قعد يبحث عن جليسه وصديقه الذي كان يخالله في فترة من الدنيا، فوجده في النهاية: {فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الصافات:55] اطلع هذا الرجل من الجنة فرأى صاحبه في سواء الجحيم؛ في وسط جهنم: {قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ} [الصافات:56] لترديني معك فيها: {وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [الصافات:57] في هذا الحساب والعذاب.

السلف وحرصهم على مجالسة الصالحين

السلف وحرصهم على مجالسة الصالحين أيها الإخوة! إن الجليس له خطورة كبيرة على جليسه وتأثير بالغ، وبعض الناس قد أعطاهم الله قدرة في الإقناع وقدرة في الجذب، فقد يجذبك معه إلى سوء الضلالة والعياذ بالله، ويستطيع أن يتفنن في إغوائك وأن يضلك عن سبيل الله ومنهج الله، إن أناساً يستطيعون أن يجذبوا نفوس الناس، ويسحروا عقولهم ليردوهم في نار جهنم، إن هناك شياطين من الإنس كما أن هناك شياطين من الجن، قل لي من تجالس؛ أقول لك من أنت. إذاً، كان الجليس عنوان جليسه، هذه هي النقطة الأولى، والشيء الثاني الذي يجعلنا على أن يكون جلساؤنا من أهل الخير والصلاح: حال السلف رحمهم الله تعالى عندما كانوا يبحثون عن جلساء الخير، وهذه القصة التي رواها الإمام البخاري رحمه الله تبين هذا المقصود: عن علقمة؛ وكان من كبار التابعين وأجلائهم، قال: قدمت الشام فصليت ركعتين في المسجد ثم قلت -انظروا أيها الإخوة كيف كان السلف يدعون الله، وبماذا كانوا يدعون الله، ثم قلت -بعد أن فرغ من تحية المسجد-: اللهم يسر لي جليساً صالحاً. هذا كان دعاؤه، يذهب إلى المسجد إلى مظنة وجود الجلساء الصالحين، أين تجد الجلساء الصالحين؟ في الأسواق؟ في الدكاكين؟ في الشوارع وفي الطرقات؟ كلا. إنك تجدهم في المجالس، إنك تجدهم في المساجد أولاً، فلتكن نقطة الابتداء من المسجد. ثم قلت: اللهم يسر لي جليساً صالحاً، فأتيت قوماً من الناس -جالسين في المسجد- فجلست إليهم، فإذا شيخ قد جاء حتى جلس إلى جنبي، قلت من هذا؟ قالوا: أبو الدرداء الصحابي الجليل صاحب الرسول صلى الله عليه وسلم أبو الدرداء، فقلت -يقول علقمة - فقلت: إني دعوت الله أن ييسر لي جليساً صالحاً، فيسرك لي إلى آخر الحديث. كانوا يدعون الله بشروط الدعاء المستجاب؛ فيستجيب الله لهم في الحال وييسر لهم جلساءً صالحين، فهذا الرجل التابعي رزقه الله بصحابي جليل ليجلس إليه ويستمع منه ماذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ويقول. الجليس -أيها الإخوة- له صفات كثيرة وله حقوق. قال سعيد بن العاص رحمه الله تعالى: لجليسي عليَّ ثلاث خصال: إذا دنا رحبت به، وإذا جلس وسعت له، وإذا حدث أقبلت عليه. لنا جلساء ما تمل حديثهم ألباء مؤملون غيباً ومشهدا يفيدوننا من علمهم علم ما مضى وعقلاً وتأديباً ورأياً مسددا بلا فتنة تخشى ولا سوء عشرة ولا نتقي منهم لساناً ولا يدا هذه صفات جلساء الصلاح والتقوى. وفقنا الله وإياكم لأن نجلس معهم وأن نجدهم ونتأدب معهم بآداب رسول الله عليه الصلاة والسلام.

ما يجب على من يجلس مجالس المنكرات

ما يجب على من يجلس مجالس المنكرات فإذا جلست يا أخي في مجلس من المجالس، فإنه يجب عليك لكي يكون هذا المجلس مجلس خير أن تفعل أشياء كثيرة:

الذب والدفاع عن أعراض المسلمين

الذب والدفاع عن أعراض المسلمين منها: أولاً: سيقول كثير من الناس كلاماً منكراً، وزخرفاً من القول وزوراً، وستنطلق ألسنة السفهاء في غيبة عباد الله ونهش لحومهم، كثير من المسلمين يجلسون بلا مبالاة ولا ينكرون هذه المنكرات التي يسمعونها، ورسول الله عليه الصلاة والسلام يقول في الحديث الصحيح: (من ذب عن عرض أخيه بالغيبة -عندما يكون أخوه غائباً- كان حقاً على الله أن يعتقه من النار) ويقول في اللفظ الآخر الذي رواه أحمد بإسناد صحيح: (من رد عن عرض أخيه؛ رد الله عن وجهه النار يوم القيامة). المجالس اليوم مجالس غيبة كبيرة وكثيرة، لا بد أن ترد الغيبة عن أخيك، لا بد أن تنكر على هذا الذي يتكلم في عرض أخيك، وإلا فلا يجوز لك الجلوس ولا السكوت، لا بد أن تتكلم وتنكر ما يقولون، وتبين بالحق خطأ ما يفعلون.

الخروج من المجالس المستهزئة بكتاب الله وآياته

الخروج من المجالس المستهزئة بكتاب الله وآياته وكذلك أيها الإخوة تتعرض مجالس المسلمين اليوم لغارات يشنها أعداء الله من داخل المجالس لا من خارجها، إنهم يستهزئون بشرع الله ودينه، إنهم يغيرون على أحكام الله تعالى بسهام القدح والاستهزاء والسخرية، حتى يجعلوا من نصوص الكتاب والسنة أضحوكة في عقول الناس، إنهم يريدون أن يميعوا قضايا التميز والولاء في عقول المسلمين، بعض هؤلاء الناس -أيها الإخوة- يفعلون هذه القضية بجهل، ولكن الله تعالى لا يعافي هؤلاء من هذا الجهل، إنه جهل مذموم لا يعذر الله تعالى صاحبه، وبعض الناس يتقصد آيات الكتاب وأحاديث رسول الله بسوء نية وخبث طوية، فيجعل منها أضحوكة وسخرية في المجالس، يستهزئ بالأحكام، وبالمظاهر الإسلامية، يستهزئ بثياب المسلمين وأشكالهم، وبالأحاديث التي تذم الغناء والملاهي والمنكرات. إنهم يستهزئون بأشياء كثيرة، ماذا يكون موقف المسلم الجاد الذي يريد أن يسلك طريق الله المستقيم، ويغير واقع المجالس الفاسدة، ماذا يفعل؟ وكيف يتصرف؟ وأنى له معرفة الطريق السليمة في هذه الحالة؟ اسمع معي -أيها المسلم- لهذه الآية التي تهز كيان المؤمن هزاً عنيفاً، كأن قلبه سينخلع عندما يسمع وقع هذه الآية على قلبه، يقول الله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً} [النساء:140] {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا} [النساء:140] ما هو التصرف؟ {فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [النساء:140] حتى يغير الموضوع، ويقلع عن هذه المعصية، وهذا الكفر أعظم المعاصي، يقلع عن الكفر ويبدأ في موضوع آخر: {حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [النساء:140] تقوم من المجلس وتنكر عليهم إنكاراً شديداً وتقرأ عليهم هذه الآية توبخهم بها على هذا الفعل الشنيع: {فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} [النساء:140] وتقول لهم: {إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً} [النساء:140]. أيها الإخوة! المسألة خطيرة جداً بكل ما تحمل الكلمة من معنى، فهناك أناس كثيرون اليوم من المسلمين يستهزئون في المجالس بأشياء كثيرة من أحكام الدين وشرائع الله وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ما هو الحل؟ الحل موجود في هذه الآية، وكثير من المسلمين لم يسمع الآية من قبل مطلقاً: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} [النساء:140] ماذا نزل عليكم في الكتاب؟ نزل علينا أيها الإخوة آية أخرى تشبه هذه الآية، ومضمونها مضمون هذه الآية، الآية المذكورة في سورة النساء، والآية المشار إليها التي سنقرؤها الآن في سورة الأنعام، ما هي الآية الثانية؟ {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام:68] أعرض عنهم بالقول، وبترك المجلس، وبالتوبيخ والزجر، وأعرض عن الاشتراك معهم في هذه الجريمة، فالساكت عن الحق شيطان أخرس: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام:68] فإذا نسيت وأنساك الشيطان أن تترك المجلس، نسيت الموضوع واسترسلت معهم في الكلام ما هو الحل؟ ليس هناك مشكلة في الإسلام ليس لها حل، قال تعالى في تمام السياق: {وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:68] {وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ} [الأنعام:68] في حالة أن أنساك الشيطان الموقف الصحيح، فماذا تفعل؟ إذا تذكرت ورجعت إلى رشدك وانتبهت من غفلتك: {وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى} [الأنعام:68] بعد التذكر {مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:68]. إنها آيات مفاصلة، آيات شديدة أيها الإخوة، تعاليم الإسلام اليوم مضيعة بين الناس، لا يفهمون حدود الله تعالى، فليس في الإسلام تلاعب، ولا تمييع للعقيدة، ولا سماح لأي مغرض بأن يمس العقيدة بأدنى سوء، المسألة إذاً خطيرة فلذلك كان الجواب حاسماً: {فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ} [النساء:140]، {فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:68]، {إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} [النساء:140] مثلهم في الكفر، إنها الخطورة أيها الإخوة، الإسلام لا يرضى أن تمس عقيدتك يا أخي المسلم بأي سوء. وكذلك مجالس أهل البدع، مجالس المنكرات والفسق والمعاصي، وكثير من الناس يجلس في مجلس فأهل المجلس يدخلون في أعراض الناس أو يتبادلون قصص المنكرات، يقول هذا: أنا فعلت كذا وكذا، وأنا سافرت إلى مكان كذا وفعلت كذا، ويتبجحون، يسترهم الله تعالى وهم يكشفون ستر الله عليهم، يتبجحون بالمعصية، هؤلاء أيضاً لا يجوز لك أن تسكت عما يقولون مطلقاً، لا بد أن يكون لك موقف، يا أخي المسلم! لا بد أن تفهم أنك صاحب موقف، لا بد أن تفهم أنك صاحب رسالة، ما خلقك الله هملاً. قد هيئوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل مع الأغنام والماشية، لا تمش بلا هدف، فالمؤمن صاحب رسالة وهدف وحق ومواقف إيمانية، أينما حل، وأينما ارتحل، وأينما جلس في أي مجلس يفصح عن عقيدته، ويلقن الناس الدروس الإيمانية فيما يحمله في طيات قلبه من مبادئ وأفكار أنزلها الله في القرآن والسنة. لا تكن يا أخي المسلم غير مبال، لا، هذا خطأ كبير، إن الله لم يخلقك لتجلس في هذه المجالس ثم تصمت على هذه المنكرات وتكون شيطاناً أخرس.

دعوة أهل الخير والصلاح إلى هذه المجالس لسد الفراغ

دعوة أهل الخير والصلاح إلى هذه المجالس لسد الفراغ كذلك يا إخواني! من المقترحات التي ينبغي الأخذ بها لتحسين أحوال مجالسنا، اليوم الناس غارقون في هذه المنكرات والمجالس، والتحسين يحتاج إلى وقت وإلى جهد، يحتاج إلى عمل دءوب، يحتاج إلى نوع من التمرس والمرونة في قلب هذه المجالس المنكرة إلى مجالس خيرة. فمن المقترحات أيها الإخوة: أن يدعى أهل الخير لحضور المجالس، كثيراً ما يقيم الناس ولائم للزفاف، أو يعمل الإنسان عقيقة فيذبح لولده ويدعو الناس، أو بعضهم يعمل مثلاً وليمة عند قدومه من سفر، أو عند نزوله في بيت جديد، أو يكون هناك دورية بين الناس، كل يوم في الأسبوع على واحد منهم، هذه المجالس -أيها الإخوة- هي الآن من شغل الناس الجالسين، تسأل عن فلان بعد صلاة العشاء غير موجود أين؟ عنده دعوة، عنده دورية، عنده ديوانية، عنده مجلس، عنده ضيوف، وهكذا. هذه الأوقات -أيها الإخوة- لا يصح بأي حال من الأحوال أن تذهب سدى، لا بد أن تستغل، ماذا نفعل؟ من الحلول أن ندعو وأهل الخير أهل العلم وطلبة العلم؛ لكي يجلسوا في هذه المجالس ويلقوا علينا وينصحونا ويعظونا ويذكرونا ويبينوا لنا شيئاً من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، يذكرون بالله وبأيام الله، وباليوم الآخر، وبعذاب القبر، وبأشياء كثيرة وأحكام فقهية، ويحيون واعظ الله في قلوبنا. إننا نحتاج إلى هذه النوعية أشد الحاجة، أن ندعو هؤلاء الناس إلى مجالسنا، هؤلاء الناس الذين نتوسم فيهم الخير، قد يكون لك قريب خيّر طيب ملتزم بأحكام الله ادعه إلى هذا المجلس، ألح عليه بالحضور، واطلب منه أن يفتح في ذلك المجلس حديثاً إسلامياً، يستفيد الجالسون منه، وإذا خاض الناس في إفكهم فقل لهم: لحظة يا جماعة! فلان موجود نريد منه أن يحدثنا عن كذا وكذا موجود فلان الذي عنده سؤال يطرح السؤال، لا بد أن ننتهز وجود هؤلاء الناس فنطرح عليهم هذه الإشكالات التي تواجهنا، والشبهات الممتلئة بها عقولنا، كثير من الناس عندهم شبهات، نجلس في بعض المجلس تجد أن بعض الناس عنده شبهات ضد الأنبياء، شخص يقول في مجلس: نبي الله يوسف كان شهوانياً، ويقول دليلاً على ذلك: {وَهَمَّ بِهَا} [يوسف:24] ولا يعرف ما معنى قول الله: {وَهَمَّ بِهَا} [يوسف:24] ولا يعرف ما الفرق بين قول الله: {وَهَمَّ بِهَا} [يوسف:24] ولا الفرق بين هم يوسف وهم امرأة العزيز. إذاً: أيها الإخوة إن عقول المسلمين اليوم نتيجة ابتعادهم عن دينهم، أصبحت ممتلئة بهذه الشكوك والشبهات، ممتلئة بالشبهات حتى أعلاها.

استغلال المجلس في قراءة كتاب أو تفسير آية

استغلال المجلس في قراءة كتاب أو تفسير آية كذلك أيها الإخوة ما المانع أن يكون في مجلس الواحد منا كتاب؛ تفسير قرآن، كتاب: رياض الصالحين فيه أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، كتاب عن أحكام، خطب جمعة مكتوبة، أحاديث ترقيق وترغيب وترهيب، فإذا جاء جلساؤه قال: يا جماعة لحظة لا نريد أن يضيع المجلس، فيأخذ الكتاب ويفتح ويقرأ، يقرأ الأحاديث يا أخي، (رب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) ربما ينتفع من هذه الكلمة أناس يخرجون من المجلس فيغيرون من واقعهم، وأنت السبب ويعود لك مثل أجورهم، ما المانع أن يقول الإنسان لولده الطيب الصالح: تعال يا بني! أنا لا أقرأ أنت تقرأ، أنا تقدم بي السن وفاتني علم كثير وأنت فتح الله عليك، تعال يا ولدي اجلس في هذا المجلس حدثنا، ماذا سمعت من مدرس الشريعة؟ ماذا سمعت في خطبة الجمعة؟ ماذا سمعت في الدرس الفلاني في المحاضرة الفلانية؟ أعطني ملخصاً لشريط سمعته من خطيب أو عالم من علماء المسلمين. وبعض شيباننا ولله الحمد أيها الإخوة فيهم طيبة كبيرة، ولقد سمعنا ورأينا أناساً من كبار السن الذين أنعم الله عليهم بفطرة صافية، وخشية لله تعالى، يقول لولده: تعال يا ولدي لقد فاتني كثير وأنت عندك شيء كثير أعطني مما عندك، ويأتي به على أعين الناس في المجالس ويقول له: علمنا واقرأ علينا وحدثنا، هذه النوعية أيها الإخوة موجودة ولكنها تحتاج إلى تكثير وتحتاج إلى تشجيع. اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق، اللهم إنك تقلب القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك، واجعلنا من الجالسين على ذكرك، ومن المرافقين لأهل طاعتك، ووفقنا اللهم لذكرك وإحسانك، وصلى الله على نبينا محمد.

أسباب الأمر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وحكمه

أسباب الأمر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وحِكمه الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو على كل شيء قدير. أيها الإخوة! ولا بد من الإكثار من ذكر الله تعالى في المجلس، وذكرنا بأن ذكر الله والصلاة على رسول الله عليه الصلاة والسلام واجبة في كل مجلس من المجالس، ولهذا أسباب وحكم منها: إنه من الصعب على الإنسان أن يقول في المجلس: لا إله إلا الله اللهم صل على محمد فلان بخيل وفلان كذا وكذا، فإنه لا يحدث التوافق بين هذه الأمور، يريد الله منك أن تذكره في المجلس حتى تطرد الشيطان، ويريد أن تشغل لسانك بذكره حتى لا تنشغل بذكر الناس وعيوب الناس. كذلك في الوقت الذي نحث الناس فيه على إحياء مجالسهم بذكر الله تعالى وأهل الخير، نحث الدعاة إلى الله تعالى على انتهاز مثل هذه الفرص، ومجامع الناس ومجالسهم؛ ليعلموا الناس دين الله تعالى، واجب ومسئولية عظيمة وخطيرة على الدعاة إلى الله في الاقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان يغشى الناس في مجامعهم فيعرض عليهم الدعوة إلى الله ويعلمهم العقيدة، المجالس -أيها الإخوة- فرصة مهمة جداً إذا فوتت فقد فات خير كبير، أين تجد هؤلاء الناس مجتمعين حتى تتكلم معهم؟ إذا لم أتكلم أنا ولم تتكلم أنت ولم يحضر المجلس فلان وفلان من أهل الخير من الذي يحضر؟ ومن الذي يتكلم؟ ومن الذي يعلم وينصح؟ إنها مسئوليتنا جميعاً أن تجلس مع الناس، انتهز كل فرصة لتطرح الخير الذي عندك، صحح تلك المفهومات الخاطئة في العقيدة والعمل، وفي التصورات التي امتلأت بها عقول الناس، إذا سمعت رجلاً في مجلس يقول: ودخلت على المدير الفلاني في المشكلة الفلانية وقلت له: مالي إلا الله وأنت، وأنا مشكلتي كذا قل له: يا أخي! هذه الكلمة التي تفوهت بها كبيرة عند الله، ما يجوز لك أن تقول: مالي إلا الله وأنت، هذا شرك بالله، تقول له: مالي إلا الله ثم أنت، أعتمد على الله ثم عليك، وهكذا، وأحياناً نسمع كلمات تخرج في المجالس عفوية من الناس لكن لها مدلولات خطيرة تقدح في العقيدة، أجلس مع واحد من الناس فأقول له: ما حال فلان وفلان؟ فيقول: أما فلان فهذا ربنا افتكره ومات، فهل الله عز وجل كان ناسياً هذا الرجل ثم تذكره وأخذ روحه؟!! هذه كلمات تنطلق على ألسنة الناس، أخطاء عظيمة تدل على أن هذا الرجل لا يعلم ولا يفهم ولا يعي أن الله يعلم كل خافية: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [يونس:61] فالناس عندهم أخطاء إذا لم تصلح هذه الأخطاء فمن ذا الذي يصلحها؟! فإذاً أيها الإخوة القضية عظيمة والمسئولية مشتركة. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإياكم للقيام بها حق القيام.

كيف تكون مجالسنا إسلامية؟ [3]

كيف تكون مجالسنا إسلامية؟ [3] تكلم الشيخ حفظه الله في هذه المادة عن مسألة التناجي بين الناس، وحكمه وأحواله، ومتى يجوز ومتى لا يجوز، ثم أتبع ذلك بذكر صور يجوز فيها التناجي، وصور لا يجوز فيها التناجي، ثم ختم ذلك بالحديث عن التميز في التناجي وذمه، وأنه لابد من الوضوح في الشخصية اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم.

التناجي وأحكامه في الإسلام

التناجي وأحكامه في الإسلام إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: أيها الإخوة! ذكرنا في الخطبتين الماضيتين شيئاً من أحكام المجالس وآدابها في الإسلام، وقلنا: إن ذلك الموضوع حساس ومهم، ونحن اليوم نتكلم عن أدب آخر من الآداب وهو وإن كان داخلاً في ضمن آداب المجالس إلا أن العلماء قد أفردوه في أبواب مستقلة من خلال مصنفاتهم، نظراً لأهميته؛ ولشدة الآيات والأحاديث الواردة فيه؛ ونظراً لفشو هذه القضية بين الناس اليوم في مجالسهم، فكان لا بد من إلقاء الضوء على هذه المسألة، وإيجاد حل لها، من خلال كلام ربنا سبحانه وتعالى، وأحاديث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. ألا وإن هذا الموضوع -أيها الإخوة- هو موضوع التناجي، الذي قال الله سبحانه وتعالى في شأنه في ثلاث آيات متتابعة في سورة المجادلة: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [المجادلة:8 - 10].

الحكمة في تحريم النجوى

الحكمة في تحريم النجوى فبين الله سبحانه وتعالى أن الحكمة في تحريم النجوى: أنها تحزن الذين آمنوا. قال ابن كثير رحمه الله تعالى: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ} [المجادلة:10] يعني: عندما يصدر هذا عن المتناجين عن تسويل الشيطان وتزيينه: {لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [المجادلة:10] أي: ليسوءهم: {وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [المجادلة:10] مطلقاً، ومن أحس من التناجي ضرراً فماذا يفعل؟ فليستعذ بالله وليتوكل على الله فإنه لا يضره شيء بإذن الله. فإذا أحسست يا أخي المسلم بحزن من جراء تناجي بعض الناس أمامك، فإنه يشرع لك أن تستعيذ بالله وتتوكل على الله، وتنزل هذه الضائقة بالله عز وجل فيكشفها الله عنك.

سبب نزول آيات التناجي

سبب نزول آيات التناجي والتناجي -أيها الإخوة- من صفات المنافقين فإنهم كانوا يتناجون دون المؤمنين؛ حتى يحزنوا الذين آمنوا، وكان اليهود يتناجون أيضاً إذا رأوا مسلماً يمر من أمامهم فيتناجون حتى يخيفوا ذلك المسلم ويوهموه بأنهم يدبرون حوله مؤامرة، ويحيكوا حوله أخدوعة لعلهم يهلكونه بها، فكان المسلمون يحزنون لذلك فيجتنبون تلك الطرق، فنزلت هذه الآية تشتد على هؤلاء اليهود والمنافقين، وتبين للمؤمنين بأن هذا التناجي لا يضر مطلقاً إلا بإذن الله: {وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [المجادلة:10] فهم يتوكلون على الله؛ فيمنع الله عنهم ذلك الكيد، وذلك العداء.

العلة في النهي عن التناجي

العلة في النهي عن التناجي وقد جاءت سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مبينة لهذه الأحكام، فقال ابن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: (إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الآخر حتى تختلطوا بالناس) لماذا؟ ما هي العلة المهمة جداً التي ينبغي لنا أن نفقهها؟ لأن عليها مدار الحكم فإذا انتفت العلة انتفى الحكم، وإذا وجدت العلة وجد الحكم، ما هي العلة في منع التناجي؟ يقول صلى الله عليه وسلم في بقية الحديث: (فلا يتناجى اثنان دون الآخر، حتى تختلطوا بالناس؛ من أجل أن ذلك يحزنه) فصار الحزن -أيها الإخوة- هو المانع من التناجي وهو السبب، لماذا يحزنه؟ يحزنه لأسباب ذكر العلماء بعضها فقالوا: أولاً: ربما توهم هذا الرجل الثالث أن نجواهما لتبييت رأي أو تجسيس غائلة ضده، ربما يتوهم هذا الرجل الثالث بأن هذين المتسارين يبيتان له أمر سوء ويحيكان شراً حوله، فلأجل ذلك منع التناجي. والعلة الأخرى: من أجل الاختصاص بالكرامة، يعني: كأن هذين المتناجيين يقولان بلسان الحال لا بلسان المقال: إنك أيها الثالث الذي تناجينا دونك لست بأهل لسماع كلامنا، وهذا الكلام ليس على مستواي إلا أنا وصاحبي، أما أنت فلست بأهل له، وليست هذه كرامة لك، وإنما كرامة لنا نحن المتناجيين، فهذه العلة أيها الإخوة أيضاً فيها الحزن الذي بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: أن فيها احتقاراً للشخص الثالث؛ لأنه ليس على مستوى الكلام كما يدعيان.

النهي عن التناجي يحتمل التحريم

النهي عن التناجي يحتمل التحريم وإذا نظرنا إلى الحكم في التناجي فقد ذكر بعض العلماء أن حكمه الكراهة، وذكر بعضهم أن حكمه التحريم، والظاهر أيها الإخوة أن الحكم في ذلك التحريم؛ لأن النهي يقتضي التحريم، ولأن الله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} [الأحزاب:58] وأذية المؤمن محرمة، ولذلك يقول الله في هذه الآية: {فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} [الأحزاب:58] وبما أن في التناجي إيذاء للمؤمن، إيذاء المسلم لأخيه المسلم، والإيذاء محرم بنص القرآن، فلذلك صار التناجي محرماً. وقد فهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه المسألة حق فهمها، فروى الإمام مالك في الموطأ عن عبد الله بن دينار قال: (كنت أنا وابن عمر عند دار خالد بن عقبة في السوق، فجاء رجل يريد أن يناجيه -جاء رجل عند ابن عمر، وابن عمر يريد أن يناجيه- وليس مع ابن عمر أحد غيري، فدعا ابن عمر رجلاً آخر من السوق -قال لرجل رابع تعال- حتى كنا أربعة، ثم قال لي وللرجل الثالث الذي دعا استأخرا شيئاً -واستأخرا من التأخر حتى يبلغ المناجي مراده، تأخر أنت والرابع شيئاً حتى أتمكن من كلام هذا الرجل الذي معي- فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يتناجى اثنان دون الثالث).

إذا وجد رجلان يتناجيان فلا يدخل بينهما

إذا وُجِد رجلان يتناجيان فلا يُدخَل بينهما ويقول ابن مسعود رضي الله عنه لما جاءه رجل يريد أن يدخل بينه وبين رجل آخر؛ لكزه في صدره وقال له: (ألم تسمع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا كان اثنان يتناجيان فلا تدخل بينهما). فالحكم الثاني من أحكام المناجاة: أنك يا أخي المسلم إذا رأيت اثنين يتناجيان فيما بينهما، وأنت لم تكن معهما وإنما دخلت عليهما الآن فإنه لا يجوز لك أن تدخل وتجلس بينهما، أو تقرب رأسك منهما حتى تسمع كلامهما، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: (إذا كان اثنان يتناجيان فلا تدخل بينهما). قال ابن عبد البر رحمه الله: لا يجوز لأحد أن يدخل على المتناجيين في حال تناجيهما. وقال في الآداب الكبرى: ويكره أن يدخل في سر قوم لم يدخلوه فيه، والجلوس والإصغاء إلى من يتحدث سراً. وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بمنع الرجل أن يدخل بين اثنين. وهذا يعم عدم الدخول بينهما حتى ولو تباعد عنهما، حتى لو جلس بعيداً عنهما إلا بإذنهما، إذا قال: عن إذنكم أنا أدخل وأجلس في المجلس وهما يتكلمان، فأذنا له فيجلس بعيداً عنهما؛ لأنهما لما افتتحا حديثهما سراً وليس عندهما أحد دل على أن مرادهما ألا يطلع أحد على كلامهما، ويتأكد ذلك إذا كان صوت أحدهما جهورياً لا يتأتى له إخفاء كلامه ممن حضره، بعض الناس طبيعة صوته أنه مرتفع، فقد لا يستطيع أن يهمس همساً ويسر إسراراً فلذلك نهي عن الدخول بين المتناجيين، وقد يكون لبعض الناس قوة فهم، بحيث إذا سمع بعض أطراف الكلام استنتج فحوى الكلام كله، ولذلك لا يجوز الدخول على المتناجيين، أما المسألة الأولى التي تكلمنا عنها فإنه لا يجوز لاثنين أن يتكلما بحضرة رجل ثالث وهو موجود أصلاً. ويقول عليه الصلاة والسلام في تأكيد المنع في هذه المسألة: (ومن استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون؛ صب في أذنه الآنك) والآنك أيها الإخوة: هو الرصاص المذاب من شدة الحرارة، يوم القيامة يصب في أذنه الآنك وهو الرصاص المذاب؛ لأنه قد دخل في حديث رجلين يستسران بينهما بغير إذنهما، وهذا يبين خطورة التجسس والتنصت على أسرار المسلمين.

شروط التناجي

شروط التناجي ويشترط في جواز التناجي شروط منها: أولاً: أن تكون هناك مصلحة راجحة على مفسدة التناجي، ولذلك قال النووي رحمه الله في رياض الصالحين باب: النهي عن تناجي اثنين دون الثالث بغير إذنه إلا لحاجة. فصار هناك شرطان لجواز التناجي: أولاً: أن يكون بإذن الشخص الثالث، ويجب أن يراعى -أيها الإخوة- ألا يكون الشخص الثالث مكرهاً، لأن بعض الناس عندما يجلس في المجلس ثلاثة أشخاص يقول: عن إذنك يا فلان! ويتكلم مع الثاني، بدون أن يأخذ إذنه وبدون أن يستمع إلى إذنه، بل وبدون أن يكون الشخص الثالث راضياً، لأنه قد يحرج فيأذن وهو غير راض، لا بد أن يأذن الثالث الإذن الذي يدل على رضاه، وإلا فلا تناجي، وهذه أيها الإخوة من المسائل المخالفة للشريعة، الواقعة كثيراً، المنتشرة في المجالس. والشرط الثاني: أن يكون هناك حاجة فعلاً، يعني: مصلحة راجحة مؤكدة تتغلب على مفسدة مشكوك فيها وهي: إحزانه، فإذا كانت المصلحة قوية جداً، وإحزان الشخص هذا مشكوك فيه عند ذلك يجوز التناجي.

صور التناجي المحرمة والمباحة

صور التناجي المحرمة والمباحة هذا هو الضابط الذي ذكره العلماء، ومن هذه الصور مثلاً: أحياناً يأتيك ضيف أنت وهو في المجلس فيأتي إليك ولدك أو خادمك فتضطر أن تسر في أذن الولد أو الخادم كلاماً عن تجهيز الطعام مثلاً، أو عن تفريغ طريق مثلاً، أو أحياناً يقول لك ولدك: إن أمي تقول كذا وكذا، وفي هذه الحالة فقد درجت مروءة الناس على عدم الجهر بهذه الأشياء أمام الضيوف، فهذه المسألة هي مصلحة راجحة تقاوم المفسدة المشكوك بها، لأن الضيف سوف يقدر أن ولدك هذا عندما تسر إليه بكلام لن تقول كلاماً سيئاً عنه، وإنما سوف ترتب أنت وإياه أمراً يتعلق بالضيافة، أو يتعلق بداخل أهلك بداخل البيت، فلذلك لن يحزن، هذا مثال على التناجي الجائز، وإلا أيها الإخوة فأغلب صور التناجي الواقعة اليوم هي صور محرمة. وكذلك لو سأل إنسان: هل يدخل في التناجي أن يتكلم اثنان بلغة أخرى جهراً أمام ثالث لا يفهم هذه اللغة؟ لنفترض أن هناك ثلاثة رجال في مجلس واحد أحدهما لا يعرف اللغة الإنجليزية مثلاً، فأنت تكلمت مع صاحبك وأنت وإياه تفهمان هذه اللغة والثالث لا يفهم اللغة، تكلمتما بصوت مسموع، هل يدخل هذا في التناجي؟ قال العلماء: نعم. يدخل ذلك في التناجي. ومنه قول النووي رحمه الله وفي معناه معنى التناجي: ما إذا تحدثا بلسان لا يفهمه لأن العلة موجودة، كأنك أنت وهو تساررتما لأن الشخص الثالث لا يفهم شيئاً، ففي هذه الحالة لا يجوز التناجي بهذه اللغة الثالثة. أما لو كان عندك في البيت مثلاً خادم أو سائق لا يتكلم بالعربية فهل يكون تناجياً أن تتكلم بالعربية مع صاحبك في البيت بحضرة الخادم؟ الظاهر أن هذا لا يدخل في الحديث لماذا؟ لأن هذا الخادم موجود في البيت أصلاً، وكلامك مع صاحبك ليس عن الخادم، ولا من أجل الإضرار به. وكذلك فإن الخادم لن يحزن في هذه الحالة. وكذلك لأن التناجي هنا في الحديث خاص بالثلاثة الموجودين في المجلس في بعض الحالات، وليس الناس الموجودين في البيت من الخدم وأصحاب البيت مثلاً. فلذلك لا حرج أن يتكلم مثلاً اثنان من أهل البيت أمام الخادم باللغة العربية وهو لا يفهمها إذا كانا لن يتكلما في شأنه أو يغتابانه مثلاً، فإنك تجد بعض الناس الآن للأسف عندما يأتي خادم مسلم قد لا يتكلم اللغة العربية فتجد شخصاً يقول للثاني: انظر إلى هذا الغشيم كيف يضيف الناس، هذا عمره ما يتعلم، لو جلست، فيغتاب الرجل، ويشرِّح في عرضه، وينبذه بالألقاب التي نهى الإسلام عنها، والخادم أمامه مسكين لا يفهم، فإنه في هذه الحالة لا يجوز ذلك مطلقاً. وكذلك لو سأل إنسان فقال: هل يدخل في التناجي مثلاً عندما أكون أنا مع اثنين وأكتب لثالث صاحبي كتابة في ورقة وأريه الورقة والشخص الثالث لا يعلم ما هو المكتوب؟ الجواب أيها الإخوة: إن هذا داخل في التناجي قطعاً، بل ربما كانت الكتابة في الأوراق أشد من الكلام، وبعض الناس يستعمل هذا، تجد ثلاثة في مجلس واحد يتكلم مع الثاني فيقول له: بكم اشتريت هذه أو كذا وكذا فلكي لا يخبر الثالث يكتب هذا في ورقة ويريه الورقة، يزعم أنه قد تخلص من هذا المحظور ولم يقع فيه، والحقيقة -أيها الإخوة- أنه ما تخلص منه مطلقاً، بل إنه وقع في عين التناجي، لأن هذه الكتابة في الورقة ستحزن الشخص الثالث ولا شك في ذلك. فلو كان هناك في المجلس أكثر من ثلاثة أو أربعة أو عشرة، هل يجوز أن تناجي تسعة دون العاشر، أو تناجي الثمانية دون التاسع؟ الجواب كلا، بل هو ربما أشد من ذلك، يعني: ذكرت الثلاثة في الحديث لأنه أقل ما يتصور فيه التناجي لكنه عام، لو كان في المجلس خمسة أشخاص فاجتمع أربعة على جنب يتكلمون سراً والخامس موجود ألا يعتبر هذا تناجياً؟ A نعم. وكذلك أيها الإخوة فإنه يجوز أن يتناجى جماعة دون جماعة؛ لأنه وقع في الحديث الصحيح من حديث ابن مسعود أنه قال: (فأتيته وهو في ملأ فساررته) فلو كان هناك جماعة وجاء واحد منهم وأسر في إذنك شيئاً، والبقية موجودون فلا حرج في ذلك كما ذكرنا آنفا. هذه بعض الأحكام المتعلقة بالتناجي. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجنبا وإياكم المحرمات والمنهيات، وأن يوفقنا لاتباع دينه، والتأدب بآداب نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.

ذم التميز في المناجاة

ذم التميز في المناجاة الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين المتقين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى سبيله القويم. أيها الإخوة! قد جرت عادات بعض الناس في مجالسهم أنهم يتناجون، أو يأتي شخص ويتكلم مع واحد والآخر موجود، وصار هذا عرفاً في بعض المجالس ومنها وللأسف مجالس الدعاة إلى الله عز وجل. واعلموا -أيها الإخوة- أن هذه العادة عادة سيئة مرذولة، وكثير من الأحيان يتوهم الشخص أن فيها مصلحة وأن المصلحة راجحة، والحقيقة أنه ليست هناك مصلحة على الإطلاق، أو قد تكون المصلحة مرجوحة وإحزان الشخص الثالث أمر مؤكد لا شك فيه. فلذلك ينبغي ألا يلبس الشيطان على عباد الله الصالحين فيوقعهم في حبائله، فيظنون أن بعض أنواع التناجي للمصلحة لا شيء فيها، وهي ليست كذلك، وكما ذكرنا فإن العلة هي الإحزان، فإذا انتفت العلة مطلقاً وهذا أمر يصعب التأكد منه جداً، فإنه لا بأس من ذلك، بل إنه في كثير من الأحيان قد يدفع الشيطان إنساناً ليسر شيئاً في أذن أخيه بحضرة أخ له ثالث موجود، يحسب أن ذلك مصلحة، وقد يكون هذا خدعة من خدع الشيطان كيف ذلك؟ قد يأتي في نفس الإنسان -أيها الإخوة- أحياناً حب التميز عن الآخرين، فيأتي في مجموعة وفيهم شخص فيسر إليه بحديث، ويأتي الجواب من ذلك الرجل ثم يتكلم، ويأتي كلام آخر سراً، لا لأن هناك مصلحة في هذا التسار ولكن لأن الشيطان قد لعب بنفس هذا الرجل وأدخل فيه قضية حب التميز عن إخوانه الآخرين، فهو يحب أن يكون له أسرار وأن تكون له قضايا خاصة، وأنها ليست بمستوى الموجودين، وأنه يتكلم مع شخص بعينه ولا يتكلم مع الآخرين، ليبدي لهم بأنه أعلى شأناً منهم، هذا أيها الإخوة من مداخل الشيطان على عباد الله. وفيه إدخال لحظوظ النفس وخلطها في مصالح الدعوة إلى الله، وهذا خلط لا تقره الشريعة ويأباه الإسلام ويدفعه بكل وسيلة؛ لأن الإسلام أيها الإخوة يحرص على وضوح شخصية الداعية إلى الله، وهذا أمر مهم جداً، لا بد أن تتصف شخصية الداعية بالوضوح التام أمام الناس، سواء كانوا من إخوانه الخلص أو من عامة الناس.

الوضوح في الشخصية وفوائده على صاحبه

الوضوح في الشخصية وفوائده على صاحبه لا بد أن يكون الوضوح هي الصفة المتميزة لهذه الشخصية، ولهذا الوضوح يا إخواني فائدة عظيمة في الدعوة إلى الله، فمن فوائده: أنه يمنع قابلية إشاعات المغرضين على نفسه، إذا كان الإنسان غير واضح وتحيطه هالات من الغموض، فإن الناس المغرضين سيتكلمون فيه، ويقولون: انظر فلاناً ماذا حوله! إن أمره مريب، إنه كذا وكذا فتبدأ إشاعات المغرضين تلوكه، وهو السبب لأن شخصيته غير واضحة أمام الناس، وإذا أردتم مثالاً من السيرة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحرص على وضوح الشخصية أمام المجتمع بأسره، فتأمل معي يا أخي المسلم في هذه الحادثة، إنها قصة ابن أبي السرح؛ وهو صحابي جليل أسلم، وكان من كتبة الوحي، ثم ارتد عن الإسلام وصار يقول لكفار قريش: أنا كنت أكتب الوحي لمحمد وأنا أصرفه حيث أشاء، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله، ولما فتح مكة أمن الناس كلهم إلا أربعة منهم ابن أبي السرح هذا رضي الله تعالى عنه. وستعرفون من القصة لماذا رضي الله تعالى عنه، قال ابن تيمية رحمه الله تعالى في الصارم المسلول على شاتم الرسول؛ وهو كتاب ممتاز ذو فوائد قيمة قال: قصة ابن أبي السرح مما اتفق عليه أهل العلم واستفاضت عندهم استفاضة تستغني عن رواية الآحاد كذلك، وهذا أقوى مما رواه الواحد العدل: (لما كان يوم فتح مكة اختبأ عبد الله بن أبي السرح عند عثمان بن عفان، فجاء حتى أوقفه على النبي صلى الله عليه وسلم) - عثمان أتى بهذا الرجل عبد الله بن أبي السرح وأوقفه أمام الرسول صلى الله عليه وسلم بعد الفتح- (فقال: يا رسول الله! بايع عبد الله، بايع هذا الرجل، يريد الآن أن يتوب بايعه، فرفع رأسه صلى الله عليه وسلم فنظر إليه ثلاث مرات، ثم كل ذلك يأبى أن يبايعه، فبايعه بعد الثلاث، فلما بايع النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي السرح على توبته ودخوله في الإسلام مرة أخرى، قال عليه الصلاة والسلام لأصحابه: أما فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله؟!) الرسول صلى الله عليه وسلم يقول للصحابة: يا جماعة! ما فيكم رجل لبيب يفهم ويعقل ويستنتج من أني امتنعت عن مبايعة هذا الرجل ثلاث مرات أني لا أريد مبايعته فيقتله، لأن الرسول كان قد أحل دمه قبل أن يأتي تائباً. (فقال رجل من الصحابة: ما ندري يا رسول الله! ما في نفسك -ما اطلعنا على دخيلة نفسك- ألا أومأت إلينا بعينك، إشارة إلى أنك تريد قتله وأنك لا تريد بيعته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين) قال ابن تيمية: رواه أبو داود بإسناد صحيح، وخرجه جماعة من أهل العلم. فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يريد الغموض ولا يحبه، ولا يريد حتى الوصول إلى المقصود بالإشارات الخفية، بل يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون واضحاً. وهذا أيها الإخوة من أسباب عدم قبول كفار قريش لكثير من الإشاعات التي أشاعها المنافقون واليهود عن شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان واضحاً في شخصيته وضوحاً بيناً. لذلك يقول عبد الله بن سلام لما جاء يختبر الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلم يقول: (فعرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب)؛ لأن فيه وضوحاً ليس فيه مواربة ولا أسرار ولا غموض، (فعرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب). فإذاً أيها الإخوة! ينبغي أن يحرص الدعاة إلى الله عز وجل حرصاً كبيراً جداً على وضوح شخصياتهم أمام الناس؛ لأن في ذلك أكبر الإعانة والمساعدة على تقبل دعوتهم، وعلى إبعاد ألسنة أهل السوء عنهم. ونختم هذا الموضوع بهذه الأبيات الجامعة لهذه الآداب وغيرها، قال الشاعر: وقد خص بالصفع في الدنيا ثمانية لا لوم في واحد منهم إذا صفعا المستخف بسلطان له خطر وداخل في حديث اثنين قد جمعا وآمر غيره في غير منزله وجالس مجلساً عن قدره ارتفعا ومتحف بحديث غير حافظه وداخل بيت تطفيل بغير دعا وقارئ العلم مع من لا خلاق له وطالب النصر من أعدائه جمعا نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من المتخلقين بأخلاق الإسلام المتأدبين بآدابه. اللهم اجعلنا من المسلمين لك، المخبتين لك، المنيبين إليك الأواهين. اللهم واجعلنا ممن يقيم حدود هذا القرآن ويحل حلاله ويحرم حرامه. اللهم وانصر المجاهدين في كل مكان، وفي بلاد الأفغان، وفي فلسطين ولبنان. اللهم دمر اليهود ومن شايعهم، اللهم إنهم عاثوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد اللهم فشتت شملهم، وفرق جمعهم، واجعل دائرة السوء عليهم يا رب العالمين! وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.

كيف تلقي موضوعا؟

كيف تلقي موضوعاً؟ بدأ الشيخ حفظه الله بالحديث عن أهمية الموضوع، ثم ذكر عشرين وسيلة تعين الملقي على إلقاء الموضوع الذي يريد طرحه، من ناحية الإخلاص والتحضير وكيفية جذب أنظار الناس وشد انتباههم، وإزالة الملل عنهم، وكان آخر ما ذكره هو: أن الإلقاء موهبة من الله تنمو مع المراس والتعود، وقد ذكر في ثنايا الكلام قصصاً لأناس أرتج عليهم الموقف.

أهمية الموضوع

أهمية الموضوع إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: أيها الإخوة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. موضوعنا في هذه الليلة بعنوان: (كيف تلقي موضوعاً) وهذا الأمر نحتاج إليه يحتاج إليه خطيب الجمعة، والذي يلقي الدروس المذهبية، أو المدرس الذي يلقي في مدرسته وفصله، وكذلك المربي الذي يلقي على من يرعاهم، والمحاضر الذي يحاضر، والواعظ الذي يعظ. هناك مناسبات كثيرة يحتاج الدعاة إلى الله إلى غشيانها، والكلام فيها، وإلقاء البرامج للمستمعين والمشاهدين فيما أباح الله سبحانه وتعالى من الوسائل. أقول: إن هذه الأشياء وغيرها من الأمور التي تجعل هذا الموضوع مهماً وهو معرفة طريقة الإلقاء الصحيحة، وكيف يكون إلقاء الإنسان مؤثراً ومفيداً. فهلم بنا لاستعراض بعض الوسائل والأمور المهمة في هذا الموضوع.

أولا: ضرورة الإخلاص لله سبحانه وتعالى

أولاً: ضرورة الإخلاص لله سبحانه وتعالى رُبَّ كلمات غير معدة سلفاً من شخص مخلص متوكل على الله عز وجل؛ يكتب الله بها أثراً عظيماً في نفوس السامعين، ورب موضوع معد ومحضر تحضيراً ممتازاً؛ يشعر السامعون منه بالسآمة والملل، وأن الملقي يريد أن يكون أستاذاً عليهم، ويفقد سمة التواضع وهو يلقي الموضوع ويتسلح بالتعالي والكبر على إخوانه وعلى المستمعين، فتكون النتيجة نفوراً ومللاً. فلا بد لمن يريد أن يلقي موضوعاً أولاً: الإخلاص لله سبحانه وتعالى، لا تلق ليقال عنك: ملم، أو ليقال عنك: مؤثر، أو ليقال عنك: فصيح، أو ليقال عنك: فاهم مفهم. وكثير من الذين يلقون المواضيع يعتمدون على تحضيرهم وينسون الله والاتكال والاعتماد عليه فوكلهم الله لأنفسهم، وقد يصاب بالتلعثم فجأة، وقد يخطئ أخطاء مضحكة ليست بالحسبان، وقد تخونهم أنفسهم في وقت يحتاجون إلى الثبات وهم يلقون المواضيع والخطب.

ثانيا: الافتتاح بالحمد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

ثانياً: الافتتاح بالحمد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كيف نفتتح الموضوع؟ لا شك أننا معشر المسلمين نفتتح بالحمد والثناء على الله عز وجل كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل، فكان كثيراً ما يقول الراوي: فحمد الله وأثنى عليه، يعني النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخطب أو يتكلم حمد الله وأثنى عليه، فلا بد من الحمد والثناء على الله. وكان النبي عليه الصلاة والسلام كثيراً ما يفتتح كلامه بخطبة الحاجة المعروفة، وكان أيضاً يفتتح بالحمد والثناء في مثل حديث مسلم افتتح بكلمات كانت سبباً في إسلام الصحابي الجليل ضماد الأزدي لما قال عليه الصلاة والسلام: (إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، أما بعد) أسلم الرجل من هذه الكلمات. وكذلك في الافتتاح لا يمكن أن ينسى المسلم التشهد، كيف والنبي عليه الصلاة والسلام قد قال: (كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء) أي: اليد المشوهة المصابة بالجذام؛ هذا حال من يفتتح بغير تشهد. وكثير من الناس الذين يلقون الموضوعات والمدرسين الذين يلقون الدروس ينسون أن يفتتحوا بالحمد والثناء والتشهد، فيفوتهم أجر عظيم.

ثالثا: اختيار العنوان المناسب

ثالثاً: اختيار العنوان المناسب بعد ذلك يكون ذكر العنوان جامعاً ومركزاً للأذهان حول ما تريد عرضه على السامعين، وتبيان السبب الباعث على عرض الموضوع، وأهمية الموضوع، واستعراض فقراته الرئيسية.

رابعا: الدخول مباشرة إلى الموضوع

رابعاً: الدخول مباشرة إلى الموضوع لأن من أشد ما يكره الناس المقدمات الطويلة التي تحول بينهم وبين الموضوع، وكثيراً ما تجد الأصوات تتعالى قائلة أعطنا الزبدة، وهات ما عندك بسرعة، وعجل، أوصلنا للمقصود. ويمكن أن يكون الافتتاح بعد الحمد والثناء بذكر حادثة أو قصة أحياناً تناسب الوضع.

خامسا: براعة الاستهلال

خامساً: براعة الاستهلال كان العلماء يهتمون ببراعة الاستهلال، وهو أن يقدم بين يدي موضوعه مقدمة فيها إشارة لما يريد أن يتكلم عنه، وما سيذكر فيه، وبرز بعض الناس الذين إذا أرادوا الكلام في موضوعات أن يقولوا اعتذارات بارزة، ينبغي على الإنسان أن يحرص وينتبه لها؛ لأنها أحياناً تعطي شيئاً من التزكية، كأن يقول: لست بخطيب ولست بكذا ولست بكذا ونحو ذلك، يذم نفسه في الملأ وفيه شيء من المدح، أو أن يقول: ليس لدي ما أقوله ويطنب في ذكر إفلاسه وفقره وإذا قلنا: إن بعض الناس سيكتشف ذلك فلا فائدة من الإخبار، وإذا قلت: إن بعضهم لن يكتشف ذلك فلا داعي للإخبار بالحقيقة المرة.

سادسا: الاهتمام بدرجة الصوت عند الإلقاء

سادساً: الاهتمام بدرجة الصوت عند الإلقاء ينبغي لمن يلقي موضوعاً أن يرفع صوته رفعاً يفهم السامعين، ويوصل إليهم الكلام، ولا شك أن درجة رفع الصوت تختلف بحسب الموضوع، فالذي يلقي خطبة من خطب الجمعة يختلف في رفعه لصوته عمن يلقي درساً فقهياً فيه بيان لأحكام شرعية وأقوال العلماء والأدلة ونحو ذلك. أما النبي صلى الله عليه وسلم فإنه (كان إذا خطب وذكر الساعة اشتد غضبه، وعلا صوته) وفي رواية (كان إذا ذكر الساعة احمرت وجنتاه، وعلا صوته، واشتد غضبه صلى الله عليه وسلم) ورفع الصوت أحياناً يكون لإسماع الناس شيئاً له أهمية خاصة، كما جاء في صحيح البخاري عن عبد الله بن عمر: (تخلف النبي صلى الله عليه وسلم عنا في سفرة سافرناها فأدركنا وقد أرهقنا العصر -صلاة العصر أدركتهم وغشيتهم- قال: فجعلنا نتوضأ ونمسح على أرجلنا) فصارت بعض الأجزاء في الأرجل لم يمسها الماء (فنادى صلى الله عليه وسلم بأعلى صوته: ويل للأعقاب من النار، ويل للأعقاب من النار مرتين أو ثلاثاً).

سابعا: الاستشهاد بالأمثلة

سابعاً: الاستشهاد بالأمثلة من الأمور التي تجعل إلقاء الموضوع إلقاءً حسناً: الاستشهاد بالأمثلة: والقرآن مليء بالأمثال، ضرب الله لنا أمثلة في القرآن كثيرة، وقرب إلى أفهامنا كثيراً من الموضوعات بذكر المثال، ألم تر -مثلاً- أنه قرب التوحيد والشرك بقوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً} [الزمر:29]. فأما المشرك الذي يعبد عدة آلهة فإنه يكون متوزعاً، مقسم النفس، هائماً على وجهه؛ لا يدري أي إله يرضي، وأي طرف يجيب، أما الذي يرضي الله فقط، ويعبد الله عز وجل فقط، فإنه على صراط مستقيم، متوحد الوجهة، يعرف إلى أين يسير. أما النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كان يضرب أثناء عرضه للمواضيع المختلفة أمثلة مختلفة تناسب الأفكار التي يريد إيصالها للناس، فقد ضرب لنا مثل حامل المسك ونافخ الكير في موضوع الجليس الصالح وجليس السوء، وضرب المثل بالنخلة في المؤمن وانتفاعه ونفعه للناس والآخرين بكل وسيلة، وضرب لنا مثل المرآة في النصيحة من المؤمن لأخيه (المؤمن مرآة أخيه) وضرب لنا مثل خرق السفينة في موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لما أراد قوم أن يخرقوا السفينة فلو أن أهل السفينة تركوهم لغرقوا جميعاً، وضرب لنا صلى الله عليه وسلم، مثلاً بالفتيلة في موضوع الذي يعلم الناس وينسى نفسه: (مثل معلم الناس الخير وينسى نفسه مثل الفتيلة تضيء للناس وتحرق نفسها). واستعمل عليه الصلاة والسلام أشياء مختلفة، فمثلاً استعمل التمرة وقال: (اتقوا النار ولو بشق تمرة) وكذلك استعمل البعوضة لما قال: (إن هذا الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة) وخاتم الحديد لما قال للرجل الذي يريد أن يتزوج: (ابتغ ولو خاتماً من حديد) وقضيب الأراك لما قال عليه الصلاة والسلام: (من اقتطع حق امرئٍ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار ولو قضيباً من أراك) واستعمل الإبرة كالمخيط إذا أدخل البحر، واستعمل الحبة من خردل والشعيرة في حديث الإيمان وغير ذلك. المهم أن ضرب الأمثلة في المواضيع الملقاة يكون عاملاً من عوامل التشويق، وسبباً من أسباب التفهيم وتقريب الفكرة.

ثامنا: تنويع الأسلوب

ثامناً: تنويع الأسلوب من الأمور المهمة تنويع الأسلوب: مثل أسلوب التقرير، والاستفهام، والتعجب، وضرب الأمثال، وقص القصص كما ذكرنا، فأسلوب التقرير يختلف عن أسلوب الاستفهام، يختلف عن أسلوب التعجب. مثال على الاستفهام من الأحاديث: (أتدرون من المفلس؟) (أتدرون ما الغيبة؟). أسلوب تعجب: (مطعمه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام فأنا يستجاب له؟!). وكذلك الإقبال على المخاطبين بالوجه؛ فإن الإقبال على المخاطبين بالوجه مما يسبب الانجذاب في الإلقاء، وقد جاء في حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح ثم أقبل علينا بوجهه فوعظنا موعظة بليغة) رواه ابن ماجة وهو حديث حسن. فالنظر في وجوه المستمعين والناس الحاضرين لا شك أنه يوجد صلة مهمة بين السامع والمتكلم خلال الإلقاء، وبعض الناس لا يهتم بالنظر إلى السامعين والحاضرين، فتراه ينظر في السماء ويميناً وشمالاً، أو يطلق بصره طيلة الوقت، وبعضهم له عذرٌ في تفكيره في الكلام الذي يريد أن يقوله، فهو يركز في التفكير في الكلام ولكن هذا يوجد حاجزاً بينه وبين الحاضرين، ولا بد من تواصل بين المتكلم والمستمع حتى يدخل الكلام إلى القلب. ولا بد من استعمال عبارات تجعل المستمعين متصلين بالمتكلم، ولذلك لو أن إنساناً أثناء إلقائه للموضوع أو عرضه له يأتي باعتراض ويبرزه ثم يفند هذا الاعتراض وهكذا.

تاسعا: النظر إلى الحاضرين

تاسعاً: النظر إلى الحاضرين والنظر إلى السامعين والحاضرين يبين لك أثر كلامك على الناس، واستعمال الكلمات التي فيها إشراك للحاضرين في الموضوع مثل: وقد تتعجبون، أو ربما لا تصدقون، أو تصور معي. ونحو ذلك؛ إن مثل هذه الألفاظ مهمة في ربط السامع بالمتكلم، والنظر كما أسلفنا مهم، والعين تخاطب كما أن اللسان يخاطب، والنظر إلى الناس يتبين لك من خلاله إقبالهم أو إدبارهم، يقظتهم وانتباههم أم رقودهم وشرودهم، انجذابهم أو مللهم، فتغير الأسلوب أو تستمر، تقصر الكلام أو تستمر تبعاً للحالة الموجودة. ولو كان الإنسان يقرأ من أوراق فلا بد من أن تكون هناك نظرات بين الحين والحين، صحيح أن الخطيب إذا نظر إلى الناس وكلهم ينظرون إليه يشعر بالرهبة والهيبة والرعشة ولكن يتجلد ويتصبر، فإذا اعتاد الأمر هان عليه. ورد أن النبي عليه الصلاة والسلام كان ينظر إلى السماء أثناء الكلام، ولكن ليس هذا هو شأنه الدائم، بل قد بينا في الحديث أنه كان يقبل بوجهه على المتكلم، ولما أتى شخص من الناس كان فيه فجور وشر أقبل عليه بوجهه إقبالاً عجيباً، حتى تعجب أهل بيته من إقباله على هذا الرجل الذي فيه شر، لكن النبي عليه الصلاة والسلام كان يتألفهم. أما النظر في السماء فقد ورد في صحيح الإمام مسلم (أن النبي عليه الصلاة والسلام كان كثيراً ما يرفع بصره إلى السماء) وروى أبو داود بإسناد ضعيف: (أن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا جلس يتحدث ربما وقع بصره على السماء) لكن لو قال إنسان: ما هو الجمع بين حديث النهي عن رفع البصر إلى السماء، والتهديد بأن يحول الله رأس هذا الناظر رأس حمار، أو أن يخطف بصره، وبين هذا الحديث الذي رواه مسلم، فقد ذكر ابن حجر رحمه الله الجواب فقال: فحافل طريق الجمع أن النهي خاص بحالة الصلاة.

عاشرا: الاهتمام بوضوح الكلمات

عاشراً: الاهتمام بوضوح الكلمات ينبغي أن يكون كلام المتكلم واضحاً، قالت عائشة رضي الله عنها: (ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسرد كسردكم هذا، ولكنه كان يتكلم بكلام بين فصل يحفظه من جلس إليه) رواه الترمذي في الشمائل وهو حديث صحيح. فمن العيوب أن يأكل الإنسان أجزاء من الكلمات، أو حروفاً من الكلمات، أو أنه يسرع فيها إسراعاً يهذه هذاً. فكما أن من عيوب الإلقاء البطء الشديد الذي يسبب الملل، فمن عيوب الإلقاء الإسراع الشديد الذي تضيع بسببه بعض الكلمات فلا تصل إلى المستمع، ولا بأس عند إلقاء موضوع من إعادة بعض جمله وكلماته وأجزائه لأهميتها، كما روى الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه قال: باب من أعاد الحديث ثلاثاً ليفهم عنه، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم (كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً حتى تفهم عنه) وهذه الكلمات المهمة التي تكون في ثنايا الجمل والفقرات يحسن أن يركز عليها الملقي حتى تستقر في الأذهان، ولهذا وسائل: منها: الضغط على الكلمة أثناء النطق بها. ومنها: تغيير النبرة عند النطق بالكلمة خفضاً أو رفعاً، إسراعاً أو إبطاءً. ومنها: التوقف قبلها أو بعدها توقفاً يسيراً للفت النظر إليها. ومنها: إعادة الكلمة والعبارة كما سبق ذكره في الحديث، ولا بد من التذكير بعدم الإكثار من التركيز على كلمات كثيرة لئلا يفقد التركيز أهميته. ومن أمثلة السكتات التي كان النبي عليه الصلاة السلام يريد من خلالها أن يبين أموراً مهمة هذا الحديث: (خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر فقال: أتدرون أي يوم هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: أليس يوم النحر؟ قلنا: بلى. قال: أي شهر هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: أليس ذي الحجة؟ قلنا: بلى. قال: أي بلد هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس بالبلدة الحرام؟ قلنا: بلى. قال: فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا).

حادي عشر: استخدام الإشارة

حادي عشر: استخدام الإشارة كان النبي صلى الله عليه وسلم يستخدم الإشارة أثناء الكلام، والإشارة ملفتة للنظر طاردة للشرود؛ فالناظر يرى الإشارة ويسمع العبارة، وكلما أشركت المستمعين بحواسهم معك كلما كان حضور فهمهم واستيعابهم أكثر، خذ معي هذه الأمثلة: (أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين، فأشار بإصبعيه السبابة والوسطى) والإشارة بهاتين الإصبعين ورد في أحاديث كثيرة، وقال: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً وشبك بين أصابعه) وقال: (التقوى هاهنا ويشير إلى صدره ثلاث مرات). وكان أحياناً يغير الجلسة، لما تكلم عن أكبر الكبائر قال: (الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس فقال: ألا وقول الزور، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت) ولا بد من مراعاة عدم الإكثار من الحركات والإشارات؛ لأن كثرتها تصرف السامع عن الانتباه، وإنما يأتي بها في مواضعها الملائمة، ويجعلها موافقة، وأن لا يحجب عن الناظرين وجهه بيده أو يديه.

ثاني عشر: جودة التحضير

ثاني عشر: جودة التحضير من الأمور التي تجعل الإلقاء ناجحاً، عامل مهم جداً وهو: جودة التحضير للموضوع: يجب أن لا يفهم مما سبق عندما تكلمنا في قضية التوكل على الله أن نترك الأخذ بالأسباب، فإن من أعظم وسائل نجاح إلقاء الموضوع جودة تحضيره، وحفظ الأدلة والشواهد وإعجاز القصص والأمثال، ومراعاة المدخل، وطريقة العرض، وتزوير الكلمة في النفس سلفاً، كما قال عمر رضي الله عنه: [فلما سكت -يعني خطيب الأنصار- أردت أن أتكلم، وكنت قد زورت مقالة أعجبتني أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر] يعني: أعددت مقالة في نفسي لهذا الخطب الجسيم وأردت أن أقولها. ولا شك أن درجة الإعداد تختلف بحسب الموضوع، أو بحسب الحالة، فإعداد خطبة الجمعة غير إعداد الموعظة، أو إعداد الكلمة التي بعد الصلاة غير إعداد خطبة العيد، غير الخطبة التي أمر صلاح الدين شيخاً معيناً أن يخطبها ويلقيها في المسجد الأقصى أول جمعة بعد تحريره من أيدي النصارى، هذا أمر يسهر له الليل لتحضيره، والذي يلقي من غير تحضير قد يكون شخصاً موهوباً يستطيع أن يحضر في ذات الوقت، وأن يرتب الكلمة، وأن ينسقها في ذهنه فهذا شيء ممتاز، لكن الكثير من الناس قد لا يستطيعون ذلك، قد لا يكون طالب علم، ولا حافظاً مستحضراً للأدلة، أو جريئاً سريع البديهة، يحتاج أكثر الناس عند الإلقاء إلى تحضير، لا بد من الإعداد الجيد والذي يلقي من غير إعداد كالذي يخوض معركة بعدة فاسدة أو بلا عدة أصلاً. والتحضير هذا يحتاج إلى محاضرة مستقلة (كيف تحضر موضوعاً) لعلها تكون في وقت آخر إن شاء الله، لكن لا بد من جودة التحضير: جمع النقاط، انتقاء وطرح النقاط الرديئة، أو غير المهمة، وإن كان الإنسان لا يحسن أن يتكلم ارتجالاً فيكتب النقاط ليذكر نفسه بها أثناء الكلام، وإن كان لا يستطيع هذا يكتب الكلام كله، اكتب ما ستقوله وما تريد أن تقوله فتنفي عن نفسك كثيراً من الكلمات الرديئة أو غير المهمة.

ثالث عشر: محاولة الإلمام باللغة العربية

ثالث عشر: محاولة الإلمام باللغة العربية ثم لا بد -أيها الإخوة- عند إلقاء المواضيع أو الموضوعات من الإلمام باللغة العربية، وأن يكون هناك اهتمام من قبلك -يا أيها الملقي- باللغة، لأن اللحن في الكلام والخطأ أقبح من الجدري في الوجه، ويتضايق من عنده إلمام ومعرفة باللغة من الخطيب أو المتكلم الذي يرفع المنصوب وينصب المجرور ويجر المجزوم، لذلك لا بد من محاولة دراسة متنٍ مختصر في اللغة العربية، كـ متن الآجرومية مثلاً على شيخ أو مدرس للغة العربية، ثم التطبيق، القراءة في الجماعة ويصوب الحاضرون بعضهم لبعض، وأثناء إلقاء موضوع مع الأصحاب يكون التصحيح وتبيين الصواب. قال بعض السلف: رحم الله امرئٍ أصلح من لسانه، وقيل: إن عبد الله بن عمر كان يضرب ولده على اللحن، يعني الخطأ في اللغة، وقال بعضهم: رأيت لسان المرء رائد عقله وعنوانه فانظر بماذا تعنونُ ولا تعدُ إصلاح اللسان فإنه يخبئ عما عنده ويبينُ ويعجبني زي الفتى وجماله فيسقط من عيني ساعة يلحنُ رأى أبو الأسود الدؤلي أحمالاً للتجار -بضاعة مكتوب- عليها: لأبو فلان -ما هو الصحيح؟ لأبي فلان- فقال: سبحان الله! يلحنون ويربحون. وفي رواية أن إعرابياً سليم اللسان جاء من البادية فدخل السوق فسمعهم يلحنون فقال: سبحان الله! يلحنون ويربحون ونحن لا نلحن ولا نربح.

رابع عشر: الاهتمام باللغة والبلاغة والبيان والبديع

رابع عشر: الاهتمام باللغة والبلاغة والبيان والبديع قيل لـ بشر بن مالك: ما البلاغة؟ قال: التقرب من المعنى، والتباعد عن حشو الكلام، ودلالة بقليل على كثير. وقيل البلاغة ليست كثرة الكلام، ولا خفة اللسان، ولكن إصابة المعنى، وقيل لرجل: ما البلاغة؟ فقال: حسن الإشارة، وإيضاح الدلالة، والبصر بالحجة، وانتهاز موضع الفرصة. وقال خالد بن صفوان: خير الكلام ما غرست معانيه، وشرفت مبانيه، فالتذت به آذان سامعيه. وقال الحسن بن سهل العسكري في كتاب الصناعتين: الكلام -أيدك الله- يحصل بسلاسته، وسهولته، ونصاعته، وتخيل لفظه، وإصابة معناه، وجودة مطالعه، ولين مقاطعه، واستواء تقاسيمه، وتعادل أطرافه، وموافقة مآخذه من مبادئه، فإذا كان الكلام كذلك، كان بالقبول حقيقاً، وبالتحفظ خليقاً. ولا بأس من استعمال السجع غير المتكلف، هناك سجع متكلف، وسجع غير متكلف، انظر مثلاً في قوله صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس! أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام) تلاحظ هذا السجع الجميل ليس بمتكلف، ولكنه طبيعي خرج من النبي عليه الصلاة والسلام الذي أعطي جوامع الكلم. وكذلك لا بد من الابتعاد عن وحشي الألفاظ، ألم تر أنه صلى الله عليه وسلم كره لنا التشدق في الكلام، بل إنه قد أخبر بمثل شنيع، فقال: (إن الله يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة) هل رأيت البقرة كيف تتخلل بلسانها؟ كره لنا عليه الصلاة والسلام التكلف في الكلام، والتشدق، والإتيان بالألفاظ الغريبة الوحشية والتقعر في الكلام، كره لنا هذا وشبه من يفعل ذلك بالبقرة التي تتخلل بلسانها. ولا شك أن التقعر في الكلام واستخدام الألفاظ الوحشية والغريبة مما يسبب عدم الفهم، ويسبب النفور أيضاً. دخل أبو علقمة على أعين الطبيب، وأبو علقمة هذا لغوي مشهور باستخدام الألفاظ الغريبة، فدخل وهو يشتكي، فكيف وصف مرضه؟ قال: أمتع الله بك! إني أكلت من لحوم هذه الجوازل، فطفئت طفأة فأصابني وجع ما بين الوابلة -طرف الكبد- إلى دأنة العنق -يعني الفقرة- فلم يزل يربو وينمي حتى خالط الخلب والشراتيت، فهل عندك دواء؟ فهذا اللغوي يقول للطبيب هذا الكلام، فقال أعين: نعم. خذ خربقاً وشلفقاً وشبرقاً فزهزقه وزقزقه واغسله بماء روث واشربه، فقال أبو علقمة: لم أفهم عنك، فقال أعين: أفهمتك كما أفهمتني. ومر أبو علقمة ببعض الطرق بـ البصرة فهاج به مرة -يعني عصارة المرارة هاجت به- فنزل على الأرض من الألم، فسقط ووثب عليه قوم -يعني ظنوه صرعته الجن- فأقبلوا يعصرون إبهامه ويؤذنون في أذنه، ظنوا به جناً، فأفلت من أيديهم وقال: ما لكم تتكأكئون علي كما تتكأكئون على ذي جنة؟! افرنقعوا عني، فقال رجل منهم: دعوه فإن شيطانه هندي. أما تسمعونه يتكلم بالهندية؟ وجلس أعرابي إلى أبي المكنون النحوي في حلقته وهو يريد أن يدعو بدعاء الاستسقاء فشرع في الدعاء، ثم قال: ومن أراد بنا سوءاً فأحط ذلك السوء به كإحاطة القلائد على كرائد الولائد، ثم أرسخه على هامته كرسوخ السجيل على هام أصحاب الفيل، ثم قال: اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً مريئاً مريعاً مجلجلاً مسحنفراً مزجاً سحاً طبقاً غدقاً متعنجراً -ألاحظ بعض الألفاظ وردت في الحديث، وبعض الألفاظ من تقعراته- فقال الأعرابي: يا خليفة نوح! هذا الطوفان ورب الكعبة، دعني آوي إلى جبل يعصمني من الماء.

خامس عشر: ضبط الكلمات المكتوبة بالشكل

خامس عشر: ضبط الكلمات المكتوبة بالشكل لا بد إذا كان الإنسان يقرأ من ورقة أن يضبط بالشكل لضعفنا في اللغة، يعني: يحسن أن يضبط بالشكل ما يقرأ، ويوضح الحروف، ولا يسرع في الكتابة؛ لأنك إذا كتبت ولو لنفسك بسرعة دون توضيح فقد تقرأ الخاء غيناً، أو الحاء هاء ويحدث لها تصحيف، أو تكون النقطة بعيدة عن الحرف فتصعد إلى الحاء في سطر علوي فتصيرها جيماً، أو تنزل على الحاء السفلية فتصيرها خاءً، وينبغي وضع الشكل فوق الحرف. ثم تقطيع العبارات، والصمت المناسب بين الكلمات أو الجمل يؤدي إلى فرز المعاني ومنع اختلاطها، والاستمرار بالكلام على نسق واحد بالتوازن دون توقف قد يتعب المعطي والمتلقي ولا بد من راحة، ودمج العبارات بعضها ببعض من غير إعطاء فواصل زمنية صامتة يؤدي إلى اختلاط الأمر على السامع. ولذلك الوقت مهم في تبيين المعنى، الوقت في استراحة المتكلم بأخذ النفس والمتلقي في السماع، ولماذا كان هناك الوقف في القرآن؟ هذا من العلوم المهمة، وقد صنف العلماء فيه مصنفات مهمة فمثلاً: ينبغي أن يعلم أن هناك وقفاً ممنوعاً محرماً فلا يجوز أن يقول الإنسان: (فاعلم أنه لا إله) ويقف، أو يقول: (إن الله لا يستحي) ويقف، فهذا محرم، وقد يكون وقفاً قبيحاً يغير المعنى أيضاً كما لو أنه قرأ {وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ} [يوسف:17] ويقف، فيكون ما قاله أن يوسف أكل المتاع، وهناك وقف تام، ووقف حسن، ووقف جائز، ويكون وقفاً صحيحاً والوصل أولى، أو الوصل صحيحاً والوقف أولى، فهذا من علوم القرآن. وخلال الإلقاء هناك وقفات صغيرة من غير أخذ شهيق للتفريق بين الكلمات والمقاطع في الكلمة أحياناً، مثل حرف اللين مع حرف صحيح، أو وقفة متوسطة للتفريق بين جملة وأخرى، أو للتركيز على جملة مهمة أو كلمة، أو وقفة طويلة يأخذ فيها الشهيق تستعمل للتفريق بين المعاني والأفكار وغالباً تكون في نهاية الفقرة أو الجملة الكاملة المعنى، ويجب ألا تكون طويلة إلى الحد الذي يؤدي إلى اتساع سلسلة الأخطاء. ويمكن للملقي من ورقة أن يشير إلى أماكن الوقفات المناسبة وينظمها سلفاً بالتقطيع والنقاط والفواصل، ولا بد من إجادة مكان أخذ النفس حتى لا تجهض الكلمة أو الجملة عند الإلقاء، وكذلك أن يتعلم الملقي مخارج الحروف، فما الذي يفرق بين الذال والضاد، والذل والظاء، والكاف والقاف، ما هو الفرق الرئيسي بين هذه الأحرف، التفخيم والترقيق، الدال إذا فختها صارت ضاداً، والضاد إذا رققتها صارت ظاء، والطاء إذا رققتها صارت تاء، أما ترى أهل الدلع يقولون: (أكلنا بتاتة)؟. فالشاهد: أن عدم معرفة صفات الحروف يسبب انقلاب المعنى، لأنك إذا غيرت الحرف انقلب المعنى، وكذلك التفريق أثناء الإلقاء بين أنماط الجمل، فلست تلفظ الجملة الإثباتية كما تلفظ الجملة الاستفهامية، كما تلفظ الجملة المنفية. حديث فيه جملة استفهامية: (أتدرون ما الغيبة؟) حديث فيه جملة منفية (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) والجملة الإثباتية على سبيل المثال: (إن الصدق يهدي إلى الجنة) لاحظ هذه الجملة كل واحدة لها طريقة في الإلقاء (إن الصدق يهدي إلى الجنة) (أتدرون ما الغيبة؟) لا والله، لا والذي نفسي بيده. فإذاً كل واحدة من الجمل وكل نوع له طريقة، كما أن النبرة في الكلام ستختلف لو كان الموضوع فيه فرح أو حزن مثلاً. وكذلك لا بد من التفريق بين إلقاء الداعية، أو إلقاء الخطيب، أو طالب العلم، كما يكون الفرق بين إلقاء هؤلاء وإلقاء الممثل والمسرحي، وبعضهم يدرسون فنون الإلقاء في التمثيل والمسرح، وفيها تكلف وسخافة، ولكن المقصود منها الإشارة إلى الفرق بين حال الخطيب وهو يخطب، أو حال الشخص وهو يلقي درساً، أو وهو يلقي موعظةً فكل واحدة لها نبرة. وكذلك لا بد من توضيح الاصطلاحات التي تعرض أثناء الموضوع، والكلمات الغريبة، فيبين المعنى، حتى لا تتشوش الأفكار، وينبغي منع المقاطعات المشوشة، ومن عيوبنا في المجالس إذا ألقينا الموضوعات أننا ننشغل بصب الشاي، وتقديم الضيافة، ويحجب نظر المتكلم عن بعض الناس. فنقول: إذا أردتم أن تكونوا جادين في إلقاء الموضوعات في جلساتكم فعليكم بألا تشوشوها بهذه الضيافات، اجعلوا لها وقتاً خاصاً، استراحة أثناء الموضوع يؤتى فيها بالشاي مثلاً وغيره، هذه مجالس السلف لما كانوا يتكلمون ويلقون فيها كان الناس فيها كأن على رءوسهم الطير، ولو ألقيت إبرة لسمع صوتها.

سادس عشر: فتح المجال للأسئلة المهمة

سادس عشر: فتح المجال للأسئلة المهمة إعطاء المجال لتوجيه الأسئلة من الأمور المعينة على فهم الموضوع الذي يلقى، طبعاً هناك أشياء ليس فيها أسئلة كخطبة الجمعة مثلاً لا يسأل الخطيب فيها الناس ويريد فيها الجواب في العادة، لا يفعل ذلك، أو أن شخصاً يسأل الآخر عن شيء أثناء الخطبة، وكذلك يحدث أحياناً أن يتطرق إلى الأذهان سؤال أثناء عرض الدرس، فالملقي يستحسن أن يجعل وقتاً لطرح الأسئلة كلما انتهت فقرة كبيرة جعل وقتاً محدداً للأسئلة، أو إذا كان الدرس قصيراً أو معتدلاً جعل الأسئلة في نهاية الموضوع مثلاً بحسب المصلحة.

سابع عشر: الاهتمام بالأمور التي تعين على إزالة الملل

سابع عشر: الاهتمام بالأمور التي تعين على إزالة الملل بالنسبة لإزالة السآمة والملل أثناء الإلقاء: فإذا كان قصصياً ومن السيرة وطريقة الإلقاء شيقة فإن الناس قد لا يملون ولا تحتاج إلى شيء لإزالة الملل؛ لأنه غير موجود أصلاً، لكن في الدروس العلمية، وسياق أقوال العلماء، والأدلة المتعارضة، وذكر الترجيح، هذه الدروس المكثفة يحتاج الإنسان إلى طرد النعاس عن بعض الحاضرين، الدروس التي فيها سرد طويل ينبغي فيها إعادة الشارد وإيقاظ من به سِنة. يزال الملل بأشياء: منها: طرح سؤال على الحاضرين، تغيير الجو بأن ينتقل الكلام إلى السامعين، أو إيراد طرفة جائزة شرعاً يحصل فيها تلطيف للجو وترويح عن النفوس أو اختصار الكلام، أو زيادة إضاءة، أو فتح نافذة، أو الإتيان بشيء من المشروبات التي يجعل لها وقت، أو أخذ راحة فيتوقف -مثلاً- لأخذ راحة. أقول: هذا من الأمور المهمة التي ينبغي الانتباه لها في إلقاء الموضوعات. إذا نسيت نقطة وأنت تلقي وأنت ترتجف {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف:24] وأعد النقطة السابقة فربما تتصل النقطة السابقة بالنقطة المنسية فتأتي، أو لخص ما سبق منتظراً أن تأتي النقطة المنسية، والإعادة ولو كانت فيها شيء من التكرار خير من الصمت المطبق الطويل، وربما سأل الإنسان من عنده أن يعينوه، أو سأل سؤالاً يأتيه بالجواب، تأتيك الفكرة المنسية ريثما يأتيك الجواب، وبعضهم قد يقول -يأتي بحيل- يقول: هل الصوت جيد؟ هل الجميع يسمع بوضوح؟ وهو لا يقصد هذا وإنما يقصد أن تأتي الفكرة المنسية.

ثامن عشر: ضبط الوقت

ثامن عشر: ضبط الوقت ومن الأمور المهمة جداً: ضبط الوقت، المقدمة كم لها، الموضوع ينقسم إلى كم قسم، والخاتمة كم لها، كم ستعطي لأقسام الموضوع، كل فقرة ستتكلم عنها في كم دقيقة من الوقت، بعض الناس إذا تكلم نسي نفسه ولا يحسب حساب الوقت الذي سيأخذه هو، وقد يكون هناك موضوع سيلقى بعد موضوعه، أو كلمة ستلقى بعد كلمته، أو أنه يسهب في نقطة، ويختصر في نقطة مهمة نظراً لضيق الوقت. فمراعاة الوقت وضبط الوقت من الأمور المهمة جداً في الإلقاء، وبعض الناس يكتبون عدد الدقائق على أطراف الورقة، هذا كم يأخذ وهذا كم يأخذ، ويجعل أمامه ساعة حتى يضبط نفسه، وبعض الناس قد يجيد بسط نفسه تلقائياً، فالمهم أنه لا بد من مراعاة هذه المسألة.

تاسع عشر: الاهتمام بخاتمة الموضوع

تاسع عشر: الاهتمام بخاتمة الموضوع أما بالنسبة للخاتمة وإنهاء الكلام فلا شك أننا نحن المسلمين ننهي كلامنا بذكر الله كما نبدأ بذكر الله، وقد يقول الخطيب: أستغفر الله لي ولكم، وقد يختم المتكلم بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. وبالنسبة لخاتمة الموضوع النهائية فهي أستغفر الله لي ولكم، أو صلى الله على نبينا محمد مثلاً، دعاء كفارة المجلس، أو ختام الكلام، الخاتمة خاتمة الموضوع، لأنه آخر ما يبقى في أذهان المستمعين، فينبغي أن يجهزه بعناية خاصة، وبعض الناس لا يعرف كيف يختم، وبعضهم يختم فجأة لدرجة أنه يذهل الموجودين، وبعضهم يختم ويعيد الدخول مرة أخرى في الموضوع، وبعضهم يبحث عن مخرج فلا يهتدي لمخرج، ولا يستطيع الخروج، ولا يتوصل إلى نهاية أبداً، فهو يعيد ويكرر باحثاً عن مخرج ولا يجد مخرجاً فليكتب هذه الكلمة وهذه الخطبة خيراً له. ومن الأمور المهمة في الخاتمة إعادة اختصار الموضوع وعرض النقاط حتى تتركز في أذهان المستمعين.

عشرين: التعود على الإلقاء

عشرين: التعود على الإلقاء واعلموا -أيها الإخوة- أن الإلقاء موهبة، وكذلك الإلقاء الجيد وليد التدريب، والإنسان قد لا يلقي موضوعاً طويلاً من البداية، أو يلقي موضوعاً صعباً يحتاج إلى مزيد شرح وإيضاح، أو أنه يلقي خطبة فجأة على مجموعة كبيرة من الناس، لكنه يتدرج في الإلقاء فيلقي على إخوانه شيئاً، ثم قد يلقي كلمة بسيطة في مسجد، ثم يلقي شيئاً في قاعة الدراسة، وبحثاً على الطلاب، ثم ينتقل بعد ذلك في إلقاء خطبة في مسجد على مستوى أوسع ونحو ذلك، ويلقي في وسط أناس لا يعرفهم، هذا بعد أن يكون قد ألقى وسط أناس يعرفهم، لأن الوجوه المألوفة والصداقة مع المستمعين هذا مما يسهل عليك الإلقاء في البداية. ولذلك أقول: لا بد من التدرج وليس أمر مثل الخطابة أمر سهلاً، بل إن عدداً من الخطباء قد يصاب بأمور صعبة على نفسه، إذا أراد أن يخطب المرة الأولى في خطابة وتسمع أحياناً عن قصص في هذا كإذا غاب الخطيب واضطر الناس في المسجد إلى الطلب من أحد الموجودين أن يقوم فيخطب، وليس هناك أحد مجهز خطبة، لأن الكل في حسبانهم أن باب المنبر سيفتح ويدخل الخطيب. ولذلك فإن إلقاء خطبة مفاجئة أمر صعب لا يستطيعه إلا الجرآء الذين عندهم قوة نفس وصبر وتحمل؛ لأن أعين الناظرين إليك وأنت على المنبر كالسهام التي تخترقك. ولذلك يقال: إنه في مسجد من المساجد تأخر الخطيب فرأوا أحد الموجودين صاحب لحية، وهو في الصفوف المقدمة، فضغطوا عليه: قم فيك الخير والبركة، فقام المسكين متعثراً متردداً فصعد الدرجات متثاقلاً، فلما وقف واستدار إليهم فوجد أنه لوحده في المنبر وكل الناس ينظرون إليه، فمن هيبة الموقف أغمي عليه وسقط. وهناك عدد من الخطباء كما يروى في الكتب يصابون بعملية الحصر ويُرتَج عليهم، يعني: يقفل عليه ويغلق عليه وما يدري ما يتكلم، وما يدري ماذا يقول، وقد يكون بعضهم عنده نوع من الظرافة فيتخلص بها من الموقف المحرج، وفي السابق ما كانوا يكتبون في أوراق ويصعدون وإنما يرتجلون الخطبة ارتجالاً. صعد روح بن حاتم المنبر فلما رآهم قد فتحوا أسماعهم وشقوا أبصارهم، حصر وأرتج عليه، فقال: نكسوا رءوسكم، وغضوا أبصاركم، فإن أول كل مركب صعب، وإذا يسر الله فتح قفل يُسفر. وصعد أحد الظلمة -وكان خطيباً- على المنبر فحمد الله ثم أرتج عليه الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وبعد: ولم يستطع أن يقول شيئاً، فجعل يقول: أما بعد أما بعد وقبالة وجهه رجل أصلع فقال: أما بعد يا أصلع! والله ما غلطني غير صلعتك، فأمر به فضرب أسواطاً عند المنبر، يعني هذه الخطبة. وخطب آخر فقال: أما بعد أما بعد وجعل لا يدري ماذا يقول: ثم نظر فإذا إنسان ينظر إليه فقال: قاتلك الله! ترى ما أنا فيه وتلمحني ببصرك أيضاً. وارتج على عبد الله بن عامر بـ البصرة وهو أميرها في خطبة عيد الأضحى -وهذه حالة نفسية، يعني: قد لا يتخيل الشخص حال الخطيب إذا أغلقت دونه الأبواب ولم يجد شيئاً يقوله وهو يرتجل وليس عنده شيء ولا ورقة- ارتج عليه في خطبة عيد الأضحى فمكث ساعة ثم قال: والله لا أجمع عليكم عياً وبخلاً، من أخذ شاة من السوق فهي له وثمنها علي، يعني الأضاحي على حسابي. وكان عبد ربه اليشكري أميراً على المدائن، فصعد المنبر فحمد الله، فارتج عليه فسكت، ثم قال: والله إني لأكون في بيتي فتجيء على لساني ألف كلمة، فإذا قمت على أعوادكم هذه جاء الشيطان فمحاها من صدري، ولقد كنت وما في الأيام يوم أحب إلي من يوم الجمعة، فصرت أغتم لها، وما ذلك إلا لخطبتكم هذه. ودعي رجل ليلقي كلمة في نكاح فحصر، أراد أن يقول ماذا يتكلم؟ ماذا يقول؟ ما وجد شيئاً، فقال: لقنوا موتاكم لا إله إلا الله. فقالت أم العروس: عجل الله موتك لهذا دعوناك؟! وهذه مسألة الخطابة مسألة تدريب وتعود، والإنسان إذا كان يخشى على نفسه يكتب الخطبة، وهذا -والله المستعان- حال أكثر الخطباء اليوم، يعني نحن الآن فينا من الضعف ما لا نستطيع أن نرتجل ونحفظ النصوص ونتفوه بهذه الكلمات بخطبة متقنة، فيحتاج الإنسان أن يكتب. وكذلك الملقي تعتريه عيوب، فقد يكون عنده لثغة وهي التردد في الكلام أو قبل كلمة معينة أو قبل بداية الجملة، وقد يكون عنده تأتأة يتردد عند حرف التاء، أو فأفأة يتردد عند حرف الفاء، أو لتغة مثل أن يغير الراء غيناً، لا يستطيع أن ينطق بالراء، أو تمتمة يتردد اللسان في حرف التاء، ورتلة وهي قلب الراء كما قلنا غيناً أو واواً، فهذا من العيوب، بعضها لها علاجات عند الأطباء النفسيين، وبعضها يحتاج إلى تدريب، أو هو العلاج أكثره تدريب وإن كان التدريب شاقاً. وقد قيل لرجل كان لديه فطنة وكان يقلب الراء غيناً لا يجيده، قل: أمر الأمير بحفر بئر في قارعة الطريق، فقال: أوعز القائد أن يقلب قليب في الجادة. القليب هو البئر، والجادة هي قارعة الطريق، فكان بعضهم يتخلص من الحروف التي لا يجيد نطقها بكلمات ليس فيها هذا الحرف، وهذا يحتاج إلى ثروة لغوية، مثل كتاب جواهر الألفاظ وهو كتاب جيد في المترادفات، إحكام صنعة الكلام في البديع والبلاغة أيضاً كتاب مهم، الشاهد أن هناك كتباً تتكلم عن مثل هذه الأمور التي ذكرناها. ولا بد أن يتغلب الملقي على العقدة النفسية، خصوصاً في الإلقاء للمرة الأولى، كالارتباك وعدم القدرة على التفكير، والتلعثم، وسرعة النبض، وبعضهم قد يفضل أن يبقى خلف طاولة أو منبر شبه مغلق ولا يستطيع أن يقف في مكان مفتوح ليس أمامه إلا مكبر الصوت. وينبغي أيضاً على الملقي أن يتجنب العبث بالأزرار أو اللعب بالقلم، أو التشبث بقوة غير طبيعية، أو فرك اليدين، أو حك اللحية المتواصل أو العبث بالشارب، وكثرة تعديل الغترة، وتقليب الأوراق وطيها تقليباً مزعجاً، لأن هذا يشوش أفكار المستمعين الناظرين إليه. هذا ما تيسر ذكره من الأمور المعينة على حسن الإلقاء. ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من الدعاة إلى سبيله الذين يبذلون النفس والنفيس في مرضاته سبحانه، ونسأله أن يجعل ما أعطانا من القوة والبيان عوناً على طاعته، وألا يجعلنا ممن يستخدمون ما آتاهم من المواهب في الشر والصد عن سبيله. ونختم بدعاء موسى لما أرسله الله إلى فرعون فقال: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه:25 - 28]. فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يشرح صدورنا، وأن ييسر أمورنا، وأن يرزقنا البيان والحجة، وأن يجعلها عوناً على الدعوة إلى سبيله والله تعالى أعلم.

الأسئلة

الأسئلة

حكم الاعتكاف للمصلي

حكم الاعتكاف للمصلي Q هل يجب على المصلي إذا دخل المسجد أن ينوي نية الاعتكاف؟ A لا يجب. بل اختلف العلماء في مدة الاعتكاف ما هو أطول وقت للاعتكاف، وما هو أقل مدة للاعتكاف، فقال بعضهم: يوم وليلة، وقال بعضهم: ليلة، واحتجوا بحديث عمر كما في البخاري: [إني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام] فلو كان اعتكف ليلة أو يوماً وليلة فهذا أقل ما ورد، وهذا من الأقوال القوية في أقل ما ورد.

من دخل عليه رمضان وهو لم يصم ما عليه

من دخل عليه رمضان وهو لم يصم ما عليه Q امرأة أفطرت قبل سنة شهر رمضان، وجاء رمضان هذه السنة وبقي عليها ثلاثة عشر يوماً ولم تقضها، فماذا يجب عليها وما هي الكفارة؟ A إذا فرطت في القضاء حتى جاء رمضان القادم ولم تقض فعليها بالإضافة إلى القضاء بعد رمضان إطعام مسكين عن كل يوم كفارة التأخير، كما قضى به الصحابة، طعام مسكين، أو نصف صاع، يعني كيلو ونصف من الرز -مثلاً- مع شيءً من الإدام. افرض أنه أخر الشهر كله، وفرط فيه حتى دخل رمضان الذي بعده، كم يخرج؟ مثلاً خمسة وأربعين كيلو من الرز، مع -مثلاً- كرتونين من الدجاج مثلاً، يعني شيء من الإدام أو اللحم لو أعطيه لمسكين واحد أو عائلة واحدة جاز ذلك.

وضعية الطفل في الطواف

وضعية الطفل في الطواف Q رجل يشترط أن يكون البيت عن يسار الطفل وهو محمول في الطواف؟ A لا دليل على هذا، سواء حملوه على اليمين أو الشمال لا بأس بذلك.

العدل بين الزوجات

العدل بين الزوجات Q كيف أعدل بين زوجتين؟ وكيف أفعل إذا أردت أن أصطحب معي إحداهن لدرس أو محاضرة وكانت حائضاً؟ A هناك أشياء أساسية: العدل في المبيت والنفقة، فلا تأتِ ليلة هذه في ليلة الأخرى، ولا تأتِ هذه في ليلة الأخرى، ولا تعط هذه أكثر من هذه، أو تجدد أثاث هذه ولا تجدد أثاث الأخرى، أو تدخل أولاد هذه مدرسة خاصة وتبقي أولاد الأخرى، ونحو ذلك من الأشياء الكثيرة التي يجور فيها بعض الناس ويظلمون؛ لأن الذي لا يعدل بين زوجتيه يأتي يوم القيامة وشقه مائل. وإذا أردت اصطحاب إحداهن فما عليك في اصطحاب غير المعذورة حرج.

الصلح بين الأقارب

الصلح بين الأقارب Q إن لي أعماماً متخاصمين بسبب مشكلة صغيرة وبعضهم لا يدخل على بعض. A حاول أن تكون واسطة في الخير وأن تصلح بينهم، وأن تعذر إلى الله فأنت قد حاولت أنت عليك البلاغ وعليك العمل والله بصير بالعباد.

كيفية التعود على الإلقاء

كيفية التعود على الإلقاء Q أريد أن أرشد الناس في المسجد أو في البيت ولا أقدر. A يا أخي! هذه قضية تعود، الإنسان يبدأ مع معارفه، يبدأ مع أقربائه ثم ينتقل إلى المسجد؛ لأنه إذا قفز إلى المسجد فجأة يريد أن يرشد الناس وهو ليس عنده تعود، أو خبرة سابقة في الكلام مع الناس يزل، أو أنه يتلعثم ويرتج عليه، فلذلك المسألة تؤخذ بالتدريج، ومن البرامج الجيدة يعني في بعض المراكز الصيفية أو المدارس في الأنشطة الخطابة، يعني عمل برامج لتأهيل الخطباء، تأهيل خطباء من الشباب يلقون الموضوعات في خطب على زملائهم، تأهيل الخطباء هذه مسألة مهمة جداً.

حكم إلقاء السلام على المتحلقين في المسجد

حكم إلقاء السلام على المتحلقين في المسجد Q في حديث الثلاثة الذين دخلوا المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم في حلقة في أصحابه، هل هذا الحديث فيه دليل على عدم أداء التحية أثناء الدخول؟ A ذكر ابن حجر رحمه الله في شرح هذا الحديث رواية فيها إلقاء السلام.

حكم شراء السلعة ممن ليست عنده

حكم شراء السلعة ممن ليست عنده Q ما حكم ما تفعله بعض الشركات من أن المشتري يعين السلعة فتذهب الشركة فتشتريها؟ A لا يجوز له عقد البيع إلا بعد أن تملك الشركة السلعة وتنقلها إلى مخزنها أو مستودعها ومكانها وإلا لا يجوز البيع، فإذا لم يجد عندهم السلعة يقول لهم: هل ستأتون بالبضاعة الفلانية؟ ومتى؟ إذا أتيتم بها فأنا عندي رغبة في الشراء مثلاً، فمن فتاوى الشيخ عبد العزيز بن باز في هذا أنه يجوز أن يقول لهم: لو أتيتم بها فأنا عندي رغبة في شرائها، فإذا جلبوها يذهب ويشتري، أما قبل ذلك فلا يجوز أن تباع السلع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم (لا تبع ما ليس عندك) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.

اعتقاد باطل في العقيقة

اعتقاد باطل في العقيقة Q يقول بعض الناس: من لم يعق عند ولادته يلزمه الهدي في الحج. A هذا غير صحيح، هذا من الاعتقادات الفقهية عند العامة، وبعض الناس يعتقد أنه إذا لم يعق عنه فليس له حج، وهذا خطأ، له حج ولو ما عق عنه، ثم إن الإنسان يمكن أن يتدارك الأمر ويذبح العقيقة ولا مانع حتى لو صار كبيراً.

حكم الصور

حكم الصور Q أنا طالب في المرحلة المتوسطة من الطلبة الجيدين دراسياً، وطلب مني إحضار صورة لتعلق في المدرسة. A لا. لا تحضر، هذه ليست ضرورة.

توزيع الأسئلة أثناء المحاضرة

توزيع الأسئلة أثناء المحاضرة Q ألا تظن أن توزيع أوراق الأسئلة فيه تشويش؟ A أرى ذلك، لذلك أرى أن توزع أوراق الأسئلة في آخر المحاضرة؛ لأن بعض الناس أحياناً يكتب سؤالاً وبعد قليل يأتي جوابه في المحاضرة، فلو وزعت في آخر المحاضرة يكون أحسن.

أسلوب التنفس قبل الإلقاء

أسلوب التنفس قبل الإلقاء Q لإزالة الرهبة عند إلقاء موضوع: أن يأخذ نفساً عميقاً طويلاً، ويشد جسمه بادئاً بصدره وذراعيه وساقيه ثم يزفر الهواء المحبوس. A هذا قرأته في أثناء تحضير هذا الموضوع في الكتب المترجمة عن بعض كتب الغربيين، ولكن لم أر نقله؛ لأن فيه بعض التكلف أنه يقف ويمد يديه ويرخي ويأخذ زفرة طويلة، ربما لم أر ذلك من الأشياء المهمة في الموضوع ولكن لعل بعض الناس يستفيد من هذا. والنفس يحتاج أثناء الإلقاء على أية حال.

كتاب (حوار صحفي مع جني مسلم)

كتاب (حوار صحفي مع جني مسلم) Q ما رأيكم بكتاب ظهر حديثاً بعنوان: حوار صحفي مع جني مسلم؟ A هذا الكتاب صاحبه دجال كذاب أشر، وقد سبق له أن ألف كتاباً في المسيح الدجال وهو نفسه دجال، وقد بينا هذا سابقاً، بينا أن هذا الرجل يأتي بأشياء عجيبة ليس لها أدلة من الكتاب والسنة في الأعضاء التناسلية للجن، ويأتي ببعض الآيات والأحاديث الصحيحة ويموه فيها على القارئ، يظن أن الكتاب ما دام فيه آيات وأحاديث يعني أنه كتاب جيد، ولذلك أحذر منه وبالرغم من ذلك فهذه الطبعة العاشرة، وينفذ من المكتبات بسرعة، والناس لأنهم يخافون من الجن أو يريدون أن يعلموا العوالم الخفية أو عندهم حب استطلاع، فيقبلون على هذه الأشياء ولو لم تكن صحيحة وهذا خطأ في منهج التلقي.

من أقيمت الصلاة وهو يصلي النافلة

من أقيمت الصلاة وهو يصلي النافلة Q إذا صلى رجل صلاة النافلة قبل صلاة الفرض فأقيمت الصلاة وهو في قيام الركعة الثانية؟ A صلى صلاة النافلة قبل المكتوبة، (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة) إذا كان قبل ركوع الركعة الثانية يقطع الصلاة ويدخل في الفريضة، إذا كان بعد ركوع الركعة الثانية يتمها خفيفة، وفي هذه الحالة الغالب أنه لا تفوته ركعة، وهذا أحد أقوال أهل العلم.

موقف محرج

موقف محرج Q هل وقع لك موقف محرج في أثناء الخطابة؟ A نعم حصل موقف قبل فترة، ولا بأس بالمصارحة وأنتم إخواني، كتبت خطبة أذكر أنها كانت عن عذاب القبر، وأكثرها نصوص لا أستطيع أن أحفظها، فكتبتها وتعبت في كتابتها، وكان هناك إضافة كتبتها قبل الصلاة بقليل، ووضعت الأوراق، وكان بجانب الأوراق الموضوعة أوراق الخطبة السابقة، فذهبت وتجهزت للصلاة وخرجت مسرعاً فأخذت الأوراق التي وجدتها وذهبت وصعدت المنبر وجلست، فبدأ الأذان، أخرجت الخطبة تمهيداً لوضعها أمامي فإذا هي -ويا لهول الموقف- خطبة الجمعة الماضية، يعني لو كانت الخطبة من السنة الماضية كان يمكن أن الناس نسوها فنعيد، لكن هذه خطبة الجمعة الماضية!! فلا أكتمكم أنني كنت أفكر وهو يقترب من إنهاء الأذان والوقت يمضي: وأنا أريد أن أعثر على موضوع، فكان التفكير في ذلك الوقت في موضوع ما هو رأس الموضوع. وللأسف انتهى ولم أنتق موضوعاً، هذا فضلاً عن التفكير في نقاط الموضوع، وشرعت في خطبة الحاجة وأنا لا أدري عما سأتكلم، ولكن يسر الله وفتح وتكلمت في موضوع عن أثر الإيمان باليوم الآخر في نفس المؤمن ومشت الأمور والحمد لله، ولحسن الحظ أنني سألت شخصاً بعدها فقلت: ما رأيك في الخطبة؟ فقال: يظهر أن فيها تحضيراً، فقلت: الحمد لله أنهم لم يكتشفوا هذا.

الدم الخارج بعد السقط

الدم الخارج بعد السقط Q إذا أسقطت المرأة مضغة لم تتخلق ونزف دم فهل تصوم وتصلي؟ A إذا أسقطت شيئاً يتبين فيه خلق إنسان، يعني بعد الثمانين يوماً، بعد الأربعين الأولى والأربعين الثانية يبدأ التخلق والتكون وظهور هذا الشيء، تخطيط يد أو رجل أو رأس، وما بعد ذلك من الجنين المتكامل أو ما كان فيه روح، إذا أسقطت فالدم نفاس، وقبل هذا يعني إذا كان لم يظهر فيه تخطيط، أو كان فيه قطعة من الدم، أو اللحم ليس فيه تخطيط، فهذا دم فساد واستحاضة وعليها بالصلاة والصيام.

استخدام الأسلوب العامي في المحاضرات

استخدام الأسلوب العامي في المحاضرات Q بعض المشايخ يستخدمون الأسلوب العامي عند تقديم المواضيع. A طبعاً هذا لا يصلح في خطبة الجمعة مثلاً، لكن قد يصلح أن يقال أحياناً في بعض الدروس مع العامة، كذلك الدروس العلمية ينبغي أن نتكلم باللغة العربية الفصحى، لكن يعني في بعض الدروس مع العامة قد يصلح هذا من باب أن يكون قريباً إليهمن وهذا لبعدهم هم عن اللغة العربية الفصحى، يعني ليس هذا هو الوضع الصحيح والمثالي، لكن ببعدهم هم عن اللغة العربية الفصحى يشعرون بنوع من الحواجز إذا تكلمت معهم بها، أو يشعرون أنك أنت متكلف، وربما يكون وسيلة.

خلق الله العرش قبل السماوات والأرض

خلق الله العرش قبل السماوات والأرض Q هل العرش خلق قبل السماوات والأرض؟ A لا شك خلق العرش قبل خلق السماوات والأرض، والمسائل الغيبية التي لا يجد فيها الإنسان جواباً من الكتاب والسنة يمسك ولا يتكلم (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) قضايا الغيب وما يتعلق بالله سبحانه وتعالى ينبغي على المسلم أن يقف عند حده فيها {الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} [الفرقان:59] ولا يجوز أن يتكلم عن الله بغير علم فهذا من الكبائر.

ضبط العواطف بين الشباب

ضبط العواطف بين الشباب Q الإسراف في العواطف بين شباب الصحوة وما هو ضد ذلك من الحسد والحقد والإحساس بالنقص. A إن شاء الله أرجو أن يكون لهذا درس خاصٌ، وقد بدأت في كتابة شيء فيه، فأرجو أن يأتي عليه الوقت الذي يقدم فيه.

حكم صلاة الرجل في بيته لغير عذر

حكم صلاة الرجل في بيته لغير عذر Q كثير من الشباب يفضلون الصلاة في البيت وليس فيهم أي علة. A هؤلاء مقصرون مفرطون، صحيح أن صلاته صحيحة لكنه آثم، والأدلة على وجوب صلاة الجماعة كثيرة، لا صلاة له إلا من عذر، والله أوجبها في حال الخوف فكيف بحال الأمن، ولم يرخص النبي صلى الله عليه وسلم للأعمى، وهم بتحريق البيوت.

اختيار الموضوع المناسب

اختيار الموضوع المناسب Q لم تشر إلى اختيار الموضوع الذي يناسب الحادثة فضلاً عن الحاجة إليه. A هذا يدخل في موضوع: كيف تحضر موضوعاً، فلعلنا إن شاء الله نأتي عليه في مناسبة أخرى. السؤال: كيف تختار الموضوع المناسب إذا كان هناك كلمة أسبوعية أو دورية في مسجد أو مع الأصحاب؟ الجواب: هذا تابع للسؤال الذي قبله لكن ممكن أنه يأتي مرة بتفسير آية غامضة لا يعرف كثير من الناس تفسيرها، أو آية مهمة فيها أحكام، أو حديث في أدب أو خلق، أو موعظة، أو يعلق على حادثة حدثت في المجتمع، أو قصة من السيرة مع ذكر فوائد فينوع عليهم.

حكم الإلقاء بالعامية

حكم الإلقاء بالعامية Q إذا كنت لا أجيد اللغة العربية فهل يمنعني هذا من إلقاء موعظة. A لا والله، فقد تكون موعظة عامي تؤثر أكثر مما تؤثره إلقاء موعظة باللغة العربية الفصحى، هذه قدرته وهذه طاقته، فإذا حصل الإخلاص والعلم الحمد لله.

معنى قوله تعالى: (واذكر ربك إذا نسيت)

معنى قوله تعالى: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ) Q ما معنى قوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف:24]. A { وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف:24] يؤخذ منها أن الإنسان إذا نسي شيئاً يذكر الله سبحانه وتعالى، سبحان الله ولا إله إلا الله، وقيل أيضاً في معناها: إذا نسيت أي: عصيت، يعني نسيت الله وأنساك الشيطان فوقعت في المعصية اذكر الله: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران:135].

التهيب والخجل من الإلقاء

التهيب والخجل من الإلقاء Q ما أن أبدأ بالإلقاء حتى ينتابني الشعور بالرهبة ورجفة الأعضاء. A هذا لأنك في البداية، لكن تعود وتجلد وواصل الطريق فتصل إن شاء الله، من الناس من يصل بسرعة ومنهم من يصل ببطء، لكن: ومدمن القرع للأبواب أن يلجا فلا بد أن نصل بمشيئة الله سبحانه وتعالى. وهذا ليس من الحياء بل هذا خجل، والنبي عليه الصلاة والسلام كان أحسن الناس إلقاءً وهو أشد حياءً من العذراء في خدرها. فإذاً لا تجعله حياءً هذا بل خجل ينبغي أن يعالج نفسه، الإنسان أولاً يجعلها تعليقاً على كلمة لشخص آخر، ما يقول هو الكلمة محادثة، كيف يبدأ الإنسان يتعود، تعليق يستنبط فائدة ويقولها، ثم بعد ذلك يكون له إضافة مثلاً، ثم يقول كلمة قصيرة، ثم يقول كلمة أطول، ويبتدئ بموضوع سهل، ثم ينتقل لموضوع أصعب، يكون درساً ثم يكون خطبة وهكذا.

الرياء في عمل الخير

الرياء في عمل الخير Q أعمل أعمال خير فيأتيني الشيطان فيقول: إنك تعملها رياءً. A إذا تركتها وقعت في الرياء؛ لأنك تركتها من أجل الناس، حتى لا يقولوا عنك أنك مراءٍ، فاعملها وتوكل على الله واقصد وجه الله.

حكم الحج لمن عليه دين

حكم الحج لمن عليه دين Q عندي جمعية وأريد أن أحج. A ما دام عندك من المال ما لو حصل لك شيء ما يوفى به للجمعية فلا مانع من الحج.

صيام الست من شوال

صيام الست من شوال Q بدأت في قضاء ما أفطرته في رمضان لعذر ووصلت الصيام بست شوال، ولحقتني الدورة في آخر ست من شوال ولم يتبق إلا يوم واحد؟ A لا يلزم طبعاً الفصل بين القضاء والست من شوال، ولا بأس من صيام الأيام المتبقية من ذي القعدة.

حكم المطلي بالذهب

حكم المطلي بالذهب Q ما حكم الشيء المطلي بالذهب؟ A رأي الشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ محمد بن صالح بن عثيمين كالتالي: إذا كان الطلاء عاماً في الشيء فلا يجوز للرجل لبسه، وكذلك الأواني لا تستخدم، إذا كان الطلاء في شيء يسير مثل عقارب الساعة، أو الأرقام التي فيه، أو ريشة القلم، أو زاوية النظارة فلا بأس في لبسه.

حكم القراءة والبقية يسمعون

حكم القراءة والبقية يسمعون Q قراءة أحد الطلبة في مدرسة تحفيظ القرآن قبل الصلاة والباقي يستمعون له. A أرى ألا يجعل ذلك عادة، فقد كان المسلمون يدخلون مسجد النبي عليه الصلاة والسلام وكل واحد يقرأ لوحده: (ولا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن) فما كان النبي عليه الصلاة والسلام يرتب لكل صلاة شخصاً من الصحابة يقرأ والبقية يستمعون، يدخلون المسجد ويصلون التحية وكل واحد يقرأ لوحده، والذي يريد أن يدعو يدعو لأن الدعاء بين الأذان والإقامة مستجاب، والذي يريد أن يذكر الله يذكر، والذي يريد أن يستمع إلى قراءة من بجانبه يستمع، وهكذا.

زواج الصغير قبل أخيه الكبير

زواج الصغير قبل أخيه الكبير Q هل يحق لي أن أتزوج قبل أخي الأكبر مني؟ A طبعاً لا يمنع، وإن كان ينبغي التلفظ في قضية استئذانه أو تهوين المسألة عليه، حتى لا يكون هناك ضيق؛ لأنها قد تكون ظروفك أحسن من ظروفه فتبين له الأمر والحمد لله.

البداية للمبتدأ بمتن الآجرومية

البداية للمبتدأ بمتن الآجرومية Q هل الأفضل البداية بـ متن الآجرومية أو ألفية بن مالك؟ A لا شك أن متن الآجرومية أسهل من ألفية بن مالك.

الأسلوب العلمي في الإلقاء

الأسلوب العلمي في الإلقاء Q نسمع كثيراً عن الأسلوب العلمي في الإلقاء؟ A هو أسلوب إلقاء الدروس العلمية، لكن المواعظ أو الآداب والأخلاق، أو مشكلات المجتمع، عرضها لا يصلح فيه الأسلوب العلمي.

الخروج إلى الأسواق مع الأهل

الخروج إلى الأسواق مع الأهل Q تعلمون ما يحدث في الأسواق من الفتن من لبس النساء الكاسيات العاريات، وإظهار الأعين والسيقان وإبداء الزينة، وإذا نزلت إلى السوق أتحرج من أخذ أهلي معي، وإذا جلست في السيارة فتجلس بدون محرم. A لا بأس أن تجلس في السيارة في مكان آمن وتغلق الأبواب وتشتري أنت الشيء وترجع، وهذا إذا كان الوضع غير مناسب، وإذا كان مناسباً نزلت بكامل حجابها معك.

حكم إزالة الشعر المجاور للعين

حكم إزالة الشعر المجاور للعين Q ينبت الشعر قرب العين؟ A إذا كان يؤذيك فلا بأس من إزالته.

حكم كشف الزوجة أمام عم الزوج أو خاله

حكم كشف الزوجة أمام عم الزوج أو خاله Q ما حكم عم وخال الزوج؟ A لا يجوز للزوجة أن تظهر أمامهم.

حكم الدم الذي ينزل في فترة انقطاع الحيض

حكم الدم الذي ينزل في فترة انقطاع الحيض Q زوجتي ترضع ولا تأتيها الدورة عندما ترضع، وعمر الطفل الآن أربع أشهر وأخذت موانع الحمل وهو ما يسمى باللولب وعند وضعه خرج دم؟ A تسأل الطبيبة فإذا قالت لها: إنه ليس بدم حيض فإنها تصلي وتصوم.

حكم الصلاة في مصلى بجواره مسجد

حكم الصلاة في مصلى بجواره مسجد Q عندنا مصلى في المكتب والمسجد مجاور؟ A لا يجوز الصلاة إلا في المسجد، (حافظوا عليهن حيث ينادى بهن).

حكم المني الذي ينزل بعد الاغتسال

حكم المني الذي ينزل بعد الاغتسال Q اغتسل وبعد الغسل نزل المني مرة أخرى؟ A هذا المني الذي ينزل بغير شهوة بعد الاغتسال لا يوجب إعادة الاغتسال.

موضع النهي عن استقبال القبلة

موضع النهي عن استقبال القبلة Q هل النهي عن استقبال أو استدبار القبلة أثناء قضاء الحاجة أو في كل الأحوال حتى لو كان عرياناً؟ A الذي ورد فيه الدليل في حال قضاء الحاجة، فلذلك لا يجب عليه أن يتجنب استقبالها أو استدبارها إذا كان يغير ملابسه مثلاً.

موقف الواعظ إذا خرج شخص وهو يعظ الناس

موقف الواعظ إذا خرج شخص وهو يعظ الناس Q بعض أئمة المساجد ألقى نصيحة أو موعظة أمام المستمعين، ثم قام أحدهم فأثر في نفسه، ما نصيحتك لهؤلاء؟ A أن يقدروا أن بعض الناس لديهم أشغال، لديهم أعمال ولديهم ظروف، وأنهم لا يجب عليهم شرعاً أن يجلسوا ويتركوا ما عندهم، قد يكون عنده أطفال في سيارته، فلماذا نشعر بنوع من الحقد عليهم، دع الذي يريد أن يجلس يجلس والذي يريد أن يذهب يذهب، هذه خطبة العيد، من يريد أن يذهب يذهب ومن يريد أن يجلس يجلس، وليست كلمتك بأفضل من خطبة العيد.

اختيار موضوع خطبة الجمعة

اختيار موضوع خطبة الجمعة Q ما رأيكم في موضوع خطبة الجمعة؟ A خطبة الجمعة يمكن أن تكون فيها موعظة لليوم الآخر وذكر الموت، أو بيان عظمة الله وذكر أسمائه وصفاته وآثار الإيمان بالأسماء والصفات، ويمكن أن يكون في خطبة الجمعة بيان أحكام يحتاج إليها الناس في البيع والشراء والعبادات والمعاملات، ويمكن أن تكون خطبة الجمعة بياناً لأشياء من عبادات من الأخلاق والآداب، ويمكن أن تكون خطبة الجمعة فيها ذكر لشيء من سيرة النبي عليه الصلاة والسلام، أو أخلاقه وشمائله، أو معارف إسلامية، أو منكرات موجودة في الواقع، أو أحداث يحتاج الناس إلى بيان الرأي الصحيح فيها. أرى الاكتفاء بما حصل من الأسئلة، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين وأن يغفر لنا ذنوبنا أجمعين.

كيف نضبط انفعالاتنا؟

كيف نضبط انفعالاتنا؟ خلق الله البشرية وجعل لها ميزاناً تسير عليه؛ فهو خالقها وأعلم بما يصلحها، ومن أهم ما يظهر على هذه النفس من الانفعالات اليومية: الحب والبغض، وهي طاقة بشرية مخزونة في النفس، ولكن الحكيم من الناس هو الذي يوجهها إلى الوجهة الشرعية السليمة. والناظر في أحداث الكون الآن يلحظ هوان المسلمين في مقابل رفعة عدوهم؛ وهذا مما يؤدي إلى الغضب، ومن هذا الباب فقد ذكر الشيخ عدداً من الأمور التي يستعملها الإنسان في مراجعة هذا الغضب، وكيف يستفيد من سيرة الرسول وأصحابه في مدافعته وتحويله لصالحهم.

الأصل في تكوين النفس البشرية

الأصل في تكوين النفس البشرية الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الحمد لله الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى، وصلى الله وسلم على رسول الله الذي علمنا فأحسن تعليمنا، وبعثه الله متمماً مكارم الأخلاق وصالحها. أيها الإخوة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فعنوان درسنا في هذه الليلة: كيف نضبط انفعالاتنا؟ وهذا الموضوع موضوع مهم نظراً لأن الإنسان المسلم الذي يعيش في هذه الحياة يتعرض لكثيرٍ من الأمور التي تسبب انفعاله، ولا بد له أن يعلم كيف يكون الانفعال في مرضات الله سبحانه وتعالى، والله عز وجل قد خلق النفس وخلق فيها انفعالات، فالنفس تحب وتبغض، وترضى وتسخط، وتغضب وتهدأ، وتحزن وتفرح إلى آخر ذلك من أنواع الانفعالات التي تعتمل داخل هذه النفس. هذه النفس البشرية شديدة التعقيد التي لم ينته علماء الطب وعلماء النفس من دراسة آثار الانفعالات في هذه النفس حتى اليوم، ولا زالوا يخرجون بنتائج جديدة، وأبحاث متعددة في مجال هذه النفس، هذا المجال الواسع الرحب، ولا يعلم ما في هذه النفس إلا الذي خلقها، ولا يعلم حدودها وما يصلحها إلى الذين فطرها رب العالمين. ولذلك أيها الإخوة! ينبغي أن نرجع في تعاملنا مع أنفسنا إلى القرآن والسنة، فإنه مهما أتى البشر بنظريات ونتائج وأبحاث وتجارب فلا يمكن أن يأتوا بمثل ما جاء في هذا القرآن وهذه السنة المطهرة. والله سبحانه وتعالى خلق آدم من قبضة من جميع الأرض؛ فجاء بنو آدم على قدر ذلك، فكان منهم السهل والحزن، يعني: الناس الذين تتميز أنفسهم بالسهولة والسلاسة، والناس الذين تتميز أنفسهم بالشدة والصلابة، بحسب التربة التي خلقوا منها، فناس أخذوا من تربة من أرضٍ سهلة، فجاءت أنفسهم مثل التربة التي خلقوا منها، وناس كان خلقهم من قبضة من جميع التربة فجاء أولاد آدم على قدر هذه القبضة التي خلق الله آدم منها، فمن الناس من يكون في صلابتهم وشدتهم مثل صلابة الصخر وشدة الجبال ووعورة مسالكها، كذلك وعورة أنفسهم، ولأن تربة الأرض مختلفة الألوان فمنها تربة سوداء ومنها تربة صفراء ومنها تربة بيضاء فجاء بنو آدم على قدر ذلك، فكان منهم الأبيض والأحمر والأصفر والأسود وهكذا، إن الله خلق آدم من قبضة من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر ذلك. فتأمل ما أخبر به عليه الصلاة والسلام، ثم تأمل في الواقع فستجد انطباق ما أخبر به على الواقع انطباقاً تاماً، ونفوس العباد إذاً ليست سواء، وما يعتلج في هذه النفوس ليس أمراً واحداً بل هو عدة أمور، ولذلك فشخصيات الناس أنواع، منها شخصيات تتميز بالهدوء والرزانة، وشخصيات تتميز بالحكمة، وشخصيات تتميز بالضعف، وشخصيات تتميز بالقوة، وشخصيات تتميز بانضباط النفس، وشخصيات تتميز بالعصبية، وشخصيات تتميز بالعاطفية، وشخصيات تتميز بالغضب، وشخصيات تتميز بالهدوء وهكذا من أنواع الخطوط المتقابلة الموجودة في النفس البشرية. ولذلك نجد من الناس من هو عصبيٌ لا يستقر على حال فهو في قلقٍ وتغيرٍ دائم، ومن الناس من يكون غضوباً ينفجر دون أدنى مقدمة، ومن الناس من يكون عاطفياً تغيظه أتفه المضايقات ويتملكه اليأس أمام أيسر العراقيل، ومن الناس من يكون ولوعاً إذا تعلق بفكرةٍ تحمس لها جداً، وتعصب لها وتصدى لتسفيه كل مخالف لهذه الفكرة أنى كان ذلك. ومن الناس من تسيطر عليهم المفاجآت فلا يستطيعون أن يتحركوا ولا أن يتصرفوا، فيتسمرون وتقعد بهم أنفسهم الضعيفة عن مواجهة الواقع، وعن السعي في التحكم في الأمور فتفقده المفاجئة السيطرة على نفسه. ومن الناس من يتبدل مزاجه فجأة، فتكون جالساً معه فتخطر بباله فكرة، ثم تبدأ تتفاعل مع نفسه وتتحرك، ثم يغمره أنواع من الانفعالات مع هذه الفكرة، ويستغرب الجالس من هذا التغيير المفاجئ الذي حصل في الشخص مع أنه لم يقع في المجلس أي حادثٍ يذكر، إلا مجرد الفكرة التي طرأت في ذهن ذلك الشخص العاطفي. ومن الناس من ينجر بسهولة مع أفكاره ومع أحداث الساعة فينتقل فوراً إلى العمل بسبب ما حصل له من تهييج دون أدنى تفكير، فتكون أفعاله ردات فعل لما يحدث في الواقع. ومن الناس من يكون رابط الجأش؛ فيتلقى الصدمات ويدرس الوضع قبل أن يتخذ قراراً عملياً ويفكر قبل التنفيذ. ومن الناس من لا يستطيع كتمان الأخبار، ولا حفظ الأسرار، فهو في قلق، فيسهل استخراجها منه مثل الناس الذين يتميزون بالعاطفية الشديدة، وبعض الناس عندهم أنسجة عصبية متقلبة، وقد يحب إنساناً فيفرط في حبه، ثم يتنكر له لسببٍ بسيط فيفرط في بغضه إلى أبعد الدرجات. ومنهم من يكون عنده نتيجة اضطرابٍ في نفسه غلوٌ في الوصف، فإذا عمل مغامرة عادية أخرجها لك على أنها المعركة الفاصلة، ومنهم من يعيش مع انفعالاته فهي التي تنشطه وتحفزه، فإذا لم ينفعل ولم يستثر، فإنه باردٌ لا حراك فيه. ومنهم من يستسلم للنزوات والإسراف في الأشياء، وهل الصحيح أن يكون الإنسان منفعلاً أو لا يكون منفعلاً؟ الصحيح أن يكون منفعلاً؛ لأن الشخص الذي لا ينفعل أبداً ولا تهزه الحوادث إما أن يكون مجنوناً لا يعي ما حوله، أو أنه مدمن مخدرات مثلاً فهو مصاب بتغليف لذهنه ومخه وقلبه فلا يحس بشيء، ولكن المهم الآن أن نعرف متى تكون الانفعالية إيجابية ومتى تكون الانفعالية سلبية؛ لأننا إذا قلنا: لا بد أن ينفعل الإنسان الصحيح السوي ويتفاعل مع الواقع، ويتفاعل مع الأحداث، ويكون للأحداث تأثيرٌ عليه، فإذا كان هذا الأثر موافقاً للشريعة فهذا هو الانفعال الإيجابي المطلوب، وإذا كان الانفعال مضاداً للشريعة ومخالفاً لها فهذا هو الانفعال المذموم، وليس المقصود من وراء هذه المحاضرة أن نتوصل إلى نموذج نقول من خلاله: إن المطلوب منا ألا ننفعل على الإطلاق، وألا تتحرك فينا أدنى عاطفة، ولا أدنى شعور، ولا أي غريزة ولا دافع لعمل أي شيء، ليس هذا أبداً هو المقصود من وراء عرض هذا الدرس.

أمثله على الانفعالات

أمثله على الانفعالات أيها الإخوة! لا بد أن نعلم أن دين الإسلام قد جاء لتهذيب وتربية النفس المشاعر وتنقيتها، وتنحية العنصر المذموم في النفوس والتأكيد على استجلاب وجذب وتركيز وتأسيس العناصر الجيدة المفتقدة أو المفتقر إليها، وقد جاءت هذه الشريعة أيضاً بقواعد وضوابط للمشاعر والعواطف، فلنذكر أمثلة على سبيل الإيضاح، وهذا موضوع طويل جداً، وهو ما هي الضوابط والقواعد التي جاءت بها الشريعة لتهذيب ومواجهة انفعالات النفس البشرية. هذا شيء كبير جداً، وبذلك لن نستطيع في هذه المحاضرة أن نغطيه، وإنما سنركز على قضايا معينة، نختصر الكلام عليها ثم نتجه إلى الكلام عن علاقة هذا الموضوع بالواقع المرير الذي يعاني منه المسلمون في هذا العصر وفي هذا الزمان.

كتم السر

كتم السر خذ على سبيل المثال: كتم السر، بعض النفوس لا تستطيع أن تكتم السر، لقد جاء في الشريعة أوامر معينة وتوجيهات إرشادية في مسألة كتم السر، وأخبر عليه الصلاة والسلام أن المجالس بالأمانة، وأن الرجل إذا حدث بالحديث ثم التفت فهي أمانة، وأن كتم السر من الإيمان، ومن حسن العهد وحقوق الأخوة الإسلامية وذلك إذا لم يحدث من كتمه ضررٌ على الإسلام والمسلمين، وإنك لتدهش وتتعجب من يوسف عليه السلام لما جاء إخوته وهم لا يدرون أنه الحاكم في مصر على خزائن الأرض، وأراد أن يبقي أخاه عنده، لما جاءه إخوته بأخيهم فعمل حيلة، فجعل صاع الملك في رحل أخيه {ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ * قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ * قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ} [يوسف:70 - 72] المهم أنهم نفوا أن يكونوا سرقوا، وقالوا: فتشوا رحالنا، وقبل أن يفتشوا رحالهم قال: ما جزاؤه؟ {قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} [يوسف:75] على شريعة يعقوب عليه السلام أن السارق يؤخذ عبداً عند المسروق منه كما قيل، فلما وجد الصواع في رحل بنيامين -إن صح اسمه- وهو أخو يوسف الأصغر، قال إخوة يوسف: {إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ} [يوسف:77] لقد كان هذا الاستفزاز غير المقصود ليوسف كافياً طبعاً لأن يعرف عن نفسه ويقول: من تتهمون، أتعرفون من تتهمون وعمن تتكلمون إنه أنا، وكان يمكن أن يقول لهم أشياء كثيرة جداً لكنه كتم هذا الأمر: {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ} [يوسف:77] لم يأت بعد الوقت المناسب لتوضيح القضية، ولم يأت الوقت المناسب للكشف عن الحقائق.

الحب أو البغض المفرط

الحب أو البغض المفرط وإذا جئت مثلاً للأشخاص الانفعاليين الذين يحبون شخصاً فيصعدون به إلى السماء، ثم قد يبغضونه بعد ذلك فينزلون به إلى أسفل السافلين لوجدت في حديثه عليه الصلاة والسلام: (أحبب حبيبك هوناً ما؛ عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما؛ عسى أن يكون حبيبك يوماً ما) لعرفت أيها المسلم من هذا الحديث الصحيح قاعدة إسلامية في الاقتصاد في المحبة وعدم الإسراف في المشاعر؛ لأنك لا تدري عن تقلبات الزمان، وقد يصبح هذا العدو يوماً من الأيام صديقاً لك، وقد يصبح الصديق عدواً لك، وذلك بحسب الأطر الشرعية. فإذاً ينبغي الاقتصاد، وهذا درس في الاقتصاد في المشاعر.

الغضب المطلوب وعلاجه

الغضب المطلوب وعلاجه ونأتي إلى مثالٍ واضحٍ جداً يبين لنا موقف الإسلام من بعض الانفعالات، وهو أحد الانفعالات التي تكون في النفس البشرية، ألا وهو انفعال الغضب؛ لنبين من خلال هذا الشعور والانفعال الذي يحدث في النفس، ما موقف الإسلام من هذه الانفعالات، وكيف يندفع المسلم لضبط انفعاله بضابط الشرع. الغضب انفعالٌ يحدث في النفس لا شك في ذلك، فكيف كان علاج الشريعة لهذا الانفعال؟ نأخذه مثالاً نركز عليه لنبين أن في الشريعة علاجات كافية لهذه المشاعر، هل الغضب مذمومٌ دائماً أم لا؟ إن المتتبع لسيرته عليه الصلاة والسلام يجد أنه صلى الله عليه وسلم كان حليماً متزناً، ولكنه في بعض الأحيان يغضب غضباً شديداً صلى الله عليه وسلم، فهل لنا أن نتعرف على الغضب في الإسلام وكيف يواجه كنموذج لموضوعنا في هذه الليلة؟ لا شك أن الغضب في الجملة خلقٌ مذموم، ولا شك أن هذا الغضب له أضرار كثيرة وعواقب وخيمة، ومن أجل ذلك جاءت الشريعة بعلاجات لهذا الغضب، وعلى هؤلاء الناس أصحاب الطبيعة الغضبية الذين يستفزهم الشيطان أن يتأملوا جيداً في علاج الشريعة لهذا الانفعال الحادث في النفس، ويتعلموا كيف يضبطون انفعالهم هذا وهو انفعال الغضب. من الإجراءات الإسلامية التي جاءت لعلاج الغضب: أولاً: تنفيذ وصيته صلى الله عليه وسلم، فقد ورد في صحيح البخاري عن أبي هريرة أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (أوصني؟ قال: لا تغضب، ردد ذلك مراراً) كل ذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (لا تغضب، لا تغضب، لا تغضب) وهكذا. وفي رواية لـ أحمد قال: قال الرجل: (ففكرت حين قال النبي صلى الله عليه وسلم ما قال، فإذا الغضب يجمع الشر كله) فإذا أردت أن تهذب نفسك من الغضب فعليك بتنفيذ وصيته عليه الصلاة والسلام. ثانياً: أن تعلم الحافز لترك الغضب، وهذا الحافز قد يكون ميزة دنيوية بينها عليه الصلاة والسلام في حال الرجال الأفاضل، أو ميزة وثواباً أخروياً يكون لمن ملك نفسه عند الغضب، فمثلاً: عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقومٍ يصطرعون فقال: (ما هذا؟ قالوا: فلانٌ لا يصارع أحداً إلا صرعه، قال عليه الصلاة والسلام: أفلا أدلكم على من هو أشد منه؟ رجلٌ كلمه رجلٌ فكظم غيظه، فغلبه وغلب شيطانه وغلب شيطان صاحبه) فهذا الرجل لما استفزه رجل بكلمة فأغضبه صار حليماً، فأمسك زمام نفسه فكظم غيظه، فغلب الرجل الآخر بحلمه وغلب شيطانه هو حتى لا يدفعه إلى عمل شيءٍ ما من الرد، وغلب شيطان صاحبه، فهو قد تغلب على نفسه وعلى شيطانه وعلى صحابه وعلى شيطان صاحبه، قال الحافظ ابن حجر: رواه البزار بسندٍ حسن. وهذا أصله في الحديث الصحيح، قال عليه الصلاة والسلام: (ليس الشديد بالصرعة -يعني: إذا صارع غلب- إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) وبهذا لو قلنا: أيهما أصعب: أن يغلب الرجل الرجل في المصارعة أو أن يتغلب على غضبه؟ لا شك أن التغلب على الغضب أصعب من التغلب على الرجال في المصارعة. وفي رواية أخرى في حديث حسنٍ قال عليه الصلاة والسلام: (الصرعة كل الصرعة الذي يغضب فيشتد غضبه، ويحمر وجهه، ويقشعر شعره، فيصرع غضبه) حديث حسن. إذاً: هذا الانفعال الذي له آثار على النفس، ويحدث منه احمرار الوجه واقشعرار الشعر، هذا إذا كان صاحبه يستطيع أن يغلبه ويكبته فهو الشديد حقاً. ثالثاً: ومن العلاجات: التذكر وقبول النصيحة والرجوع إلى النفس، جاء في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً استأذن على عمر رضي الله عنه فأذن له، فقال له: يا بن الخطاب والله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل، فغضب عمر رضي الله عنه حتى هم أن يوقع به، فقال الحر بن قيس وكان من أصحاب عمر: يا أمير المؤمنين! إن الله عز وجل قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] وإن هذا لمن الجاهلين، فوالله ما جاوزها عمر رضي الله عنه حين تلاها عليه، وكان وقافاً عند كتاب الله عز وجل. فإذاً التذكر وقبول النصيحة والرجوع إلى النفس، عندما يتذكر الإنسان قول الله عز وجل: {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى:37]، {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134] إن التذكر والرجوع إلى الكتاب يورث في النفس دافعاً لكتمان الغضب وعدم الانقياد وراء التصرفات الهوجاء التي يدفع إليها الغضب. رابعاً: ومن العلاجات أيضاً: تذكر الآخرة وما فيها، ولا شك أن تذكر اليوم الآخر بالنسبة للمؤمنين يعني شيئاً كثيراً، كما أنه بالنسبة للفساق لا يعني شيئاً على الإطلاق، بالنسبة للمؤمنين تذكر اليوم الآخر يعني أشياء كثيرة من التحميس للطاعات، والامتناع عن المعاصي، وضبط النفس. أحد الملوك أو الخلفاء صعد على المنبر يوماً وقال: من أحق منا بهذا الأمر فيظهر لنا قرنه، فكان ابن عمر موجوداً قال: [فكدت أن أقول له: الذي أولى منك بهذا الأمر هو الذي ضربك وأباك على الإسلام] لأن هذا الخليفة كان كافراً ثم أسلم وكان أبوه كافراً ثم أسلم، لكني تذكرت الآخرة، قال ابن عمر: لكني تذكرت الآخرة، فكتم غيظه ولم يرد، والإنسان يستفز بأشياء والشيطان يقول له: رد ويدفعه للرد، لكن الذي يكظم غيظه ويكون الرد غير مناسب شرعاً ما الذي يضبطه ويصرفه عن الرد؟ تذكر الآخرة. خامساً: وكذلك من علاجات الغضب: معرفة الجزاء لمن يكتم غضبه ويكظم غيظه، فقد قال صلى الله عليه وسلم لرجل: (لا تغضب ولك الجنة) وهذا فيه بيان أن منع الغضب يورث صاحبه الجنة، وأن أجر منع الغضب دخول الجنة، وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (ومن كظم غيظاً ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رضاً يوم القيامة) وكذلك في حديث آخر حسن: (من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رءوس الخلائق حتى يخيره من الحور العين يزوجه منها ما شاء) فهل إذا تأمل الإنسان الأجر في كظم الغيظ وكتم الغضب في لحظة الغضب تذكر هذا الحديث، وماذا سيحصل؟ (من كتم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رءوس الخلائق حتى يخيره من الحور العين يزوجه منها ما شاء) فليتأمل الإنسان هل لو أنه انتصر لنفسه الآن ورد، وعافس الناس بالكلام، وربما كان بليغاً فأسكت الشخص الآخر الذي استفزه ورد عليه وأفحمه، هل يكون أجره أكبر أم لو احتفظ بهذا إلى الدار الآخرة لكي يخيره الله من الحور العين يزوجه منها ما شاء، وحتى يملأ الله قلبه رضاً يوم القيامة؟ فلا شك أن العاقل سيقول: أحتفظ لنفسي بهذا الموقف إلى الدار الآخرة، ولو أن هذا الشخص استفزني ومن المصلحة أن أرد عليه لرددت عليه، لو أنه من أعداء الإسلام أو رجل يثير الشبهات لأسكته نصرة لدين الإسلام، ورفعاً للراية، لكن كثيراً من الشباب والناس في مجالسهم تحدث بينهم مناقشات ومخاصمات كلامية وجدل عقيم، وكلٌ منهم يريد إثبات صواب نفسه وخطأ الآخر، لا لشيء، لا لنصرة لمسألة علمية ولا لقضية في الدعوة إلى الله وإنما (أنت أخطأت لا. أنا ما أخطأت لا. أنت الخطأ منك) وهذه القضية إذاً صارت انتصاراً للنفس فليتأمل العبد إذاً بدلاً من ضياع الأوقات، وازدياد الحمق والغيظ عليه في نفس أخيه، واستهلاك كلٍ منهما لجهد الآخر؛ ليتأمل الأجر الموجود في الدار الآخرة، دعاء الله على رءوس الخلائق حتى يخيره من الحور العين يزوجه منها ما شاء، إنه لأجرٌ عظيم، أجرٌ كبيرٌ جداً يدفع كثيراً من الناس وبالذات الشباب في مجالسهم إلى تجنب الخصومة والمراء والجدل، ومحاولة إفحام أخاه المسلم وإثبات خطأ الآخر والانتصار لنفسه وتبرئتها وهكذا من الأشياء التي لا يترتب على الدفاع فيها شأن يذكر. سادساً: ومن علاجات الغضب: تبين مساوئه، ومعرفة ماذا ينتج عن الغضب من الأضرار. ينتج عن الغضب أضرارٌ كبيرة جداً سواء كانت على النفس أو على الآخرين. فمما يحدث على الآخرين إليك هذا المثل العجيب من صحيح الإمام مسلم رحمه الله تعالى: عن علقمة بن وائل أن أباه رضي الله عنه حدثه قال: (إني لقاعدٌ مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل يقود آخر بنسبة -حبل مبتور علقه في رقبة غريمه وجاء يجره إلى الرسول صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله! هذا قتل أخي، فقال رسول الله عليه وسلم للمجرور: أقتلته؟ فقال صاحب الدم: إنه لو لم يعترف أقمت عليه البينة، فقال الرجل المتهم الذي في رقبته الحبل: نعم قتلته، قال: كيف قتلته؟ قال: كنت أنا وهو نختبط -يعني: نضرب الشجر ليسقط ورقها فنأخذه علفاً للدواب- من شجرة، فسبني فأغضبني فضربته بالفأس على قرنه -أداة حادة قاتلة على جانب رأسه- فقتلته) فنتج الغضب عن أي شيء؟ نتج عن قتله لأخيه المسلم، فقال له صلى الله عليه وسلم: (هل لك من شيء تؤديه عن نفسك؟ - أي: لو شفعنا لك فهل عندك دية تؤديها؟ - قال: مالي إلا كسائي وفأسي، قال: فترى قومك يشترونك؟ قال: أنا أهون على قومي من ذاك، فقال عليه الصلاة والسلام: دونك صاحبك -خذه يا ولي الدم، يعني قصاص القتل- فانطلق به الرجل، فلما تولى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن قتله فهو مثله، فرجع فقال: يا رسول الله! إنه بلغني أنك قلت: إن قتله فهو مثله وأخذته بأمرك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما تريد أن تبوء بإثمك وإثم صاحبك؟) أي: أما تكتفي أن عليه إثم القتل وإثمك أنت لأنه فجعك بقتل أخيك فصار عليه إثمان (قال: يا نبي الله بلى، قال: فإن ذاك كذاك، قال: فرمى بنسعته وخلَّى سبيله). فسبحان الله! كيف

ما يجوز وما لا يجوز من الغضب

ما يجوز وما لا يجوز من الغضب هل المطلوب من الإنسان المسلم ألا يغضب أبداً ولا في أي حالة من الحالات؟ طرحنا هذا السؤال في بداية عرض هذا الموضوع، وإليكم هذا A الإمام البخاري رحمه الله تعالى عقد بابين متتاليين في كتاب الأدب من صحيحه قال في الباب الأول: باب ما يجوز من الغضب والشدة لأمر الله تعالى، وقال في الباب الذي يليه: باب الحذر من الغضب، فتبين إذاً أن هناك غضباً محموداً شرعاً وهو ما إذا انتهكت محارم الله، فهو لأجل دين الله عز وجل، الغضب إذا أريد على أمر من الدين، كان عليه الصلاة والسلام إذا غضب احمرت وجنتاه، فقد كان عليه الصلاة والسلام يغضب، توضح عائشة رضي الله عنها هذا الغضب وأين يكون موقعه، فتقول في حديث مسلم: (وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها) من أجل الله يغضب، من أجل النفس لا، فتبين الآن متى يكون الغضب مذموماً ومتى يكون محموداً؟ يكون مذموماً إذا كان انتصاراً لأجل النفس، ويكون محموداً: إذا كان انتصاراً لله عز وجل، وهذا الغضب من أجل الله غضب محمود، قال الله عز وجل: {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج:30] ومن تعظيم حرمات الله أنك لا ترضى بالمنكر، وتغضب لو انتهكت حرمات الله أمامك، وقد قال رجلٌ مرة: (إني لأتأخر عن صلاة الصبح من أجل فلانٍ مما يطيل بنا، فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم غضب في موعظة قط أشد مما غضب يومئذٍ، فقال: يا أيها الناس! إن منكم منفرين، فأيكم أم بالناس فليتجوز، فإن من ورائه الكبير والصغير وذا الحاجة) متفق عليه. وهذا حدث آخر في مناسبة أخرى: لما رأى عليه الصلاة والسلام ستراً فيه صور من ذوات الأرواح في بيت عائشة هتكه وتلون وجهه وقال: (يا عائشة! أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله). ولما كلمه أسامة في شأن المرأة المخزومية التي سرقت لكي لا تقطع، قال: (أتشفع في حدٍ من حدود الله تعالى، ثم قام فاختطب ثم قال: إنما أهلك من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد) غضب جداً عليه الصلاة والسلام لما جاء يشفع في حدٍ من حدود الله. ولما رأى النخامة في قبلة المسجد حكها وشق ذلك عليه حتى رؤي في وجهه صلى الله عليه وسلم. وعن زيد بن خالد الجهني: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله رجل عن اللقطة؟ فقال: اعرف وكاءها وعفاصها ثم عرفها سنة، ثم استمتع بها، فإن جاء ربها فادفعها إليه، فسأله عن ضالة الغنم؟ قال: خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب، قال: فضالة الإبل؟ فغضب صلى الله عليه وسلم حتى احمرت وجنتاه فقال: مالك ولها، معها سقاءها وحذاءها ترد الماء وترعى الشجر فذرها حتى يلقاها ربها) يعني: صاحبها، فغضب فعنون عليه البخاري رحمه الله: باب الغضب في الموعظة والتعليم إذا رأى ما يكره. وروى أيضاً حديث أبي موسى قال: (سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أشياء كرهها -مثل: متى الساعة؟ ونحو ذلك- فلما أكثر عليه غضب ثم قال للناس: سلوني ما شئتم -إلى آخر الحديث- فلما رأى عمر ما في وجهه عليه الصلاة والسلام قال: يا رسول الله! إنا نتوب إلى الله عز وجل). هذا حاله عليه الصلاة والسلام فكيف حال أصحابه؟ أخرج ابن أبي شيبة بسندٍ حسن عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: [لم يكن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منحرفين ولا متماوتين، وكانوا يتناشدون الأشعار في مجالسهم، ويذكرون أمر جاهليتهم، فإذا أريد أحدهم على شيءٍ من دينه دارت حماليق عينيه] وفي رواية للبخاري في الأدب المفرد: [فإذا أريد أحدهم على شيءٍ من أمر الله دارت حماليق عينيه كأنه مجنون] قال الألباني: وهذا سند حسن، هذا يدل على أن الصحابة إذا أريد أحدهم على أمرٍ من دين الله، وانتهاك حرمات الله، فإن أحدهم لا يرضى بالباطل أبداً. فلا بد أيضاً من الغضب، لكن الغضب لمن؟ الغضب لله عز وجل، هذه الغضبة المحمودة التي أخرجت خلفاء وأمراء جيوش إلى قتال الأعداء بسبب كلمة يستغيث بها مسلم بإخوانه، فيخرج الجيش والخليفة والمسلمون للقتال غضبةً لله تعالى، ودفاعاً عن دينه، وحمية ونصرة لهذا الدين.

استخدام التصبر والتحلم لمعالجة الانفعالات

استخدام التصبر والتحلم لمعالجة الانفعالات ومن الأمور المهمة في معالجة الانفعالات: التصبر والتحلم، والصبر هو الخلق الذي يكاد يكون اعتماد ضبط الانفعالات عليه، ومدار تهذيب النفس وتقييد الانفعالات على الصبر. عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبيناً من الأنبياء صلوات الله عليهم ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) هذا هو الخلق العام الذي ينبغي أن نؤسسه في أنفسنا لضبط الانفعالات، الصبر والتحلم. الصبر بالتصبر والحلم بالتحلم، والرسول عليه الصلاة والسلام لقي ما لقي حين خرج يعرض نفسه على ابن عبد ياليل هذا الذي رفض أن يجير رسول الله صلى الله عليه وسلم وينصره، فانطلق عليه الصلاة والسلام هائماً على وجهه من المصيبة والضعف والشدة حتى لقي ملك الجبال قال: (إن الله أرسلني إليك إذا أردت أن أطبق عليهم الأخشبين قال: لعل الله يخرج من أصلابهم من يعبد الله). والرسول عليه الصلاة والسلام يضرب لنا المثل الأعلى في الصبر والحلم، الإنسان إذا استفز بأي تصرف فيه حق لنفسه يمكن أن يتنازل ويتغاضى، أما في حق الله فلا يمكن أن يتنازل ويتغاضى، إذا كان حقاً لنفسه يتنازل به لأخيه المسلم، ولا يتنازل لكافر ليذل نفسه، لمسلم ولو لجهلة المسلمين فيحلم على جاهلهم ويصفح عن مسيئهم، لو قطعوا رحمه وصلها، انظر إلى هذا المثل في حلمه عليه الصلاة السلام. في الحديث المعروف عن أنس رضي الله عنه قال: (كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابيٌ فجبذه بردائه جبذة شديدة، فنظرت إلى صفحة عاتق النبي صلى الله عليه وسلم -بين العتق والكتف العاتق- وقد أثرت بها حاشية البرد من شدة الجذب) أعرابي جلف يجيء ويسحب البرد ويشده حتى احمرت صفحة عاتقه من شدة الجذبة (ثم قال: يا محمد! مر لي من مال الله الذي عندك). يالله! هذه جلافة الأعراب (يا محمد!) انظر لم يقل: يا رسول الله! يا نبي الله! بل قال: (يا محمد! مر لي من مال الله الذي عندك) ما هو رأيك في موقف مثل هذا؟ واحد يأتي من ورائك ويشدك حتى يجرح جسمك ثم يقول: يا فلان! (فالتفت إليه صلى الله عليه وسلم فضحك ثم أمر له بعطاء) المقصود الآن استمالت قلب الأعرابي، والنتيجة تأليف قلبه، هذه النتيجة التي يريد عليه الصلاة والسلام الوصول إليها، (فضحك ثم أمر له بعطاء) متفق عليه. ولذلك ينبغي علينا أن ندرس شخصية الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأن في شخصيته الكثير من جوانب العظمة عليه الصلاة والسلام، فلا يمكن استيعابها، ولا يمكن من عظمته صلى الله عليه وسلم أن نحيط بها إحاطة تامة، ولكن يجب علينا أن نسعى ونجهد من أجل ذلك ما استطعنا لأجل الارتقاء بالنفس ومزيدٍ من التربية. وهكذا سار خلفاؤه صلى الله عليه وسلم في حلمهم على المسيء وصفحهم. وهذا عمر بن عبد العزيز دخل المسجد ليلة في الظلمة فمر برجلٍ نائم فعثر به، فرفع النائم رأسه قال: أمجنونٌ أنت؟ يقول للخليفة عمر بن عبد العزيز: أمجنون أنت؟ فقال عمر: لا، فهم به الحرس، فقال عمر: مه؛ إنما سألني أمجنون أنت؟ فقلت: لا.

موقف المسلم أمام العاصفة الإلحادية

موقف المسلم أمام العاصفة الإلحادية وبعد عرض هذا المثل وهو الغضب، وما هو الخلق المهم وهو خلق الحلم والصبر في مجابهة الانفعالات، نأتي الآن إلى الجزء الثاني من هذا الدرس وهو: ما هو موقف المسلم من الأحداث التي تعصف بالمسلمين اليوم، والتي فيها عددٌ كبير وهائلٌ جداً من الاستفزازات التي تكاد تخرج الفرد المسلم عن صوابه، ويطيش به عقله، ويذهب في عددٍ من الأودية والمهاوي؟! وماذا نريد من المسلم: هل نريد منه أن يكون رجلاً بارداً لا يتحرك فيه انفعالٌ أبداً ولا يثور في نفسه شيءٌ مطلقاً تجاه ما يحدث من قضايا العالم الإسلامي اليوم؟!

الحكمة الحقيقية في التعامل مع الأحداث

الحكمة الحقيقية في التعامل مع الأحداث إن المسلمين يعانون في العالم أفراداً وجماعات من الاضطهاد والتعذيب، وقضايا الفقر، وهيمنة الأعداء والتسلط، وأنواع الظلم وسلب الحقوق، إنهم يعانون من الظلمة الذين يسوسونهم بغير شرع الله، وتعم مدنهم وبلدانهم المنكرات، ويراد منهم بالقوة أن ينحرفوا عن شرع الله، وكلما رفع بعضهم رأسه جاءت ضربة لتذهب بهذه الرءوس المرفوعة، مما يجعل المسلمين يعيشون في أجواء من الإحباط والانهيار النفسي، وبعضهم قد يكون من النوع الانفعالي العصبي الغضبي، فيثور ويغضب ويحدث من ذلك نتائج لا تحمد عقباها، فما هو موقف المسلم حيال ذلك؟ هل المطلوب تجاه كثرة المنكرات الشائعة، وتوالي حدوث الأحداث التي يدبرها المنافقون والعلمانيون في العالم الإسلامي وغيرهم من أذناب الكفار هو برودٌ تام، وعدم إحساس، ولا تفاعلٍ؛ أم أن المطلوب ثورة وهيجان ضد هذا الظلم؟! إن هذه القضية هي التي تشغل بال الحريصين والمتفقهين في الدين من المصلحين المخلصين في العالم الإسلامي اليوم، وإن هذه القضية هي لب المشكلة التي نعيش فيها، إن فهمها يُسهّل معرفة الموقف الصحيح من المشكلات التي يواجهها المسلمون اليوم. وإن من الخطأ الكبير أن نقول للمسلمين ولشباب المسلمين بالذات الذين هم إلى الحركة والنشاط أقرب: هونوا على أنفسكم ولا تأبهوا لما يدور حولكم، وإن الله سينصر الدين فلا تكترثوا. كلا والله. إن هذا الكلام هو من اللهو والباطل، وإنه ليس من الصحيح أن تستقبل متحمساً ينقل إليك منكراً من المنكرات، أو يشكو إليك ظلماً من هذه المظالم الكثيرة التي تقع في المسلمين صباح مساء فتقول له: هون على نفسك واجلس في بيتك ولا تتدخل في أي شأن من الشئون، وإنما يكون من المناسب أن يؤخذ بيده فيقال له: تعال ننظر في الوسيلة المناسبة لمواجهة هذا المنكر، ثم تفكر معه في الوسيلة المناسبة لمواجهة هذا المنكر الذي يحدث. لأنك عندما تقول: هون على نفسك ولا تشتغل بشيء، فإما أن يدفعه ذلك إلى الإحباط وهذا أمر لا نريده، أو يدفعه ذلك إلى التمرد والانصراف عنك والسخرية من حكمتك التي جاءت في غير محلها، مما يدفعه إلى التفكير في قضية من قضايا العنف أو استخدام القوة المذمومة في غير محلها فتكون أنت السبب الذي أديت به إلى تلك الحال. ونحن اليوم على أعتاب مرحلة جديدة ونتطلع لفجرٍ قادمٍ بإذن الله، وإن هذه الظلمة التي ادلهمت واشتدت وإن كثرة المنكرات التي حصلت والتي تستفز نفوس المؤمنين فعلاً لا بد من معرفة الموقف المناسب حيالها، وقد بينا أنه لا بد أن ننفعل، وأن الذي لا ينفعل إنسان بارد لا نريده، وإن الذي لا يتحرك ضميره ولا قلبه مع مشكلات المسلمين وما يحل بهم مع الأوضاع المتردية هو إنسان لا يعيش هَمَّ الإسلام، ولا يصلح أن يحمل همَّ الإسلام وهو بهذا القلب البارد وهذه النفس الميتة، لكن ما هو الموقف اليوم وأنت ترى كلا الاحتمالين الخطيرين: الإصابة بالإحباط والقعود، أو التدهور في مهاوي العنف واستخدام القوة المرذولة غير محمودة العواقب. كيف يصل شباب الإسلام إلى الحل الوسط أو الوسطية في مواجهة هذه الأمور؟ كيف يضبطون انفعالاتهم التي تحدث في أنفسهم من وراء تكرر المنكرات وكثرة حصولها وانتشارها، وكلما انتهت قصة ظهرت قصة جديدة، وكلما قام حدث لا يلبث أن يحدث حدث آخر، وهكذا تتوالى الأخبار من أنحاء العالم الإسلامي في عددٍ من حالات الأذى والاضطهاد التي يلاقيها المسلمون من منعٍ وقمعٍ وحيالةٍ بينهم وبين القيام بشرع الله عز وجل، فما هي الطريقة يا ترى وما هو الحل لأجل ذلك؟

الطريقة النبوية في رد الانفعالات إلى الوسطية

الطريقة النبوية في رد الانفعالات إلى الوسطية أيها الإخوة! إن هذا هو ما نريد أن نلقي عليه الضوء في بقية الحديث في هذه الليلة. إن المفتاح لمعرفة الجواب عن هذه الأمور يكمن في: أولاً: معرفة المرحلة التي نمر بها، والتقويم الصحيح لهذا الوضع الذي نعيش فيه، هل نحن في مكانٍ أو في مرحلة لا نستطيع فيها قول الشهادة على الإطلاق؟ أو أننا في وقتٍ فيه عزة للإسلام تستطيع فيه أن تغير ما شئت من المنكرات كيف شئت؟ الصواب: لا هذا ولا ذاك، وإننا نعيش اليوم مرحلة من مراحل الاستضعاف ولا شك، وإن الهيمنة للكفرة ولا شك، ولكننا نوقن بأن الله ناصرٌ دينه، ومعزٌ أولياءه، ومظهرٌ سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فعلينا إذاً لضبط انفعالاتنا في مواجهة هذه الانحرافات والمنكرات وهذا الطغيان والظلم أن نعود بأذهاننا إلى سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف كان حاله وحال أصحابه عندما كانوا في وضعٍ يشابه الوضع الذي نعيش فيه الآن، من جهة غربة الدين ووقوع الظلم عليهم؛ كما هو واقع على كثير من المسلمين اليوم، ماذا كان يفعل صلى الله عليه وسلم عندما كان يظلم وهو بـ مكة؟ عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم قائمٌ يصلي عند الكعبة وجمعٌ من قريشٌ في مجالسهم إذ قال قائلٌ منهم: ألا تنظرون إلى هذا المرائي أيكم يقوم إلى جزور آل فلان فيعمد إلى فرثها ودمها وسلاها فيجيء به، ثم يمهله حتى إذا سجد وضعه بين كتفيه؟ فانبعث أشقاهم، فلما سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وضعه بين كتفيه، وثبت النبي صلى الله عليه وسلم ساجداً فضحكوا حتى مال بعضهم إلى بعض من الضحك، الآن الرسول عليه الصلاة والسلام في أسوء الحالات، وضعوا على ظهره سلى الجزور وهو ساجد عند الكعبة وهو رسول الله وأفضل الخلق صلى الله عليه وسلم، ثم أخذوا يتضاحكون حتى كاد بعضهم يسقط من الضحك، ماذا يمكن للإنسان أن يفعل في هذه الحالة؟ لا بد أن نسائل أنفسنا ونقوم الموقف ماذا يمكن للإنسان أن يفعل في هذه الحالة؟ هل يأخذ أقرب سيف ويتجه إلى أقرب مشرك ويضرب رأسه بالسيف؟! لم يكن المسلمون الذين شاهدوا الحادثة بعاجزين أن يتجه واحدٌ منهم إلى أقرب مشرك ويضربه بالسيف، أو يقطع رقبة الذي وضع سلى الجزور على ظهر الرسول عليه الصلاة والسلام، لكنهم لم يفعلوا ذلك، فانطلق منطلقٌ إلى فاطمة وهو جويرية صغيرة فأقبلت تسعى وثبت النبي صلى الله عليه وسلم ساجداً حتى ألقته عنه وأقبلت عليهم تسبهم، إذاً الإنكار كان من فاطمة الصغيرة بالقول هذا الذي تستطيعه، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة قال: اللهم عليك بقريش، فأنكرت عليهم فاطمة ودعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا كل ما حصل، تحمل الأذى صلى الله عليه وسلم. قال له أبو لهب: تباً لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟ ما قال: اسكت يا كذا، الوضع لا يسمح بذلك، جاء في بعض الأحاديث: أن أصحاب بيعة العقبة الثانية رأوا أنهم نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعوه في مكة، فتحمسوا وأخذتهم الحمية قالوا: (إن أردت أن نغير على أهل منىً غداً، قال عليه الصلاة والسلام: إنا لم نؤمر بذلك) وهذا الحديث فيه كلام، وهو من رواية ابن إسحاق عن معبد بن كعب عن أخيه عبد الله بن كعب بن مالك، لكن فيه معنىً مفيد ومهم للوضع الذي تعايشه الدعوة اليوم، تحمل عليه الصلاة والسلام الأذى لما كان مستضعفاً، وحتى لما صار في المدينة وهي القاعدة ما دام أن الرد ليس في مصلحة الإسلام لم يرد، كم مرةٍ آذاه عبد الله بن سلول؟ وكم بلغ شر هذا الرجل؟ أوقع بين فئتين من المسلمين حتى اقتتلوا، وقذف عائشة حتى انتشر خبر الإفك في المدينة، وأوذي عليه الصلاة والسلام في ذاته، ماذا فعل عندما انخذل في أحد؛ ربما انخذل بعددٍ كبير من الجيش، فعل طامات كبيرة لكن ما كانت المصلحة في قتله، لو قتلوه لقال الناس: إن محمداً يقتل أصحابه، فصار ذلك سداً ومانعاً من الدخول في الدين بالنسبة للناس البعداء الذين لا يعرفون حقائق الأمور وإنما يظهر لهم أن عبد الله بن أبي رجل من المسلمين ثم يقتله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه) لما كانت الأفضلية في عدم قتل الرجل ما قتله عليه الصلاة والسلام مع أن الرجل كان له شرٌ كبير مستطير. المسلمون في مكة اضطهدوا اضطهاداً شديداً، أخذهم المشركون وألبسوهم أدرع الحديد وصهروهم في الشمس، لا شك أنه كان يمكن اغتيال بعض الكفار في مكة لكن ما هي الفائدة؟ كانوا يضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه حتى ما يقدر أن يستوي جالساً من شدة الضر الذي نزل به، فكيف واجه عليه الصلاة والسلام هذه القضية مع أصحابه؟ بثلاثة أشياء: 1 - كان يذكرهم بالأجر الذي ينتظرهم ويقول: (صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة). 2 - كان يقص عليهم من أنباء ما قد سبق ما هو مشابه لمرحلتهم وظروفهم التي يعيشون فيها، فكان يقول لهم: (إن الرجل كان فيمن كان قبلكم يؤتى وينشر بالمنشار الحديد ما بين اللحم والعظم ما يصده ذلك عن دينه) وقصة أصحاب الأخدود من أروع الأمثلة الدالة على هذا المبدأ. 3 - كان يذكرهم أن المستقبل للإسلام ويقول: (والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله والذئب على غنمه).

المستقبل لهذا الدين

المستقبل لهذا الدين نحن اليوم في أشد الاحتياج إلى هذه الأمور التي يتربى عليها أبناء الإسلام. عدم الرد إذا لم يكن الرد من مصلحة أهل الإسلام، وتصبير النفس بالثواب والعقبى في الآخرة، وأخذ العبرة من أنباء ما قد سبق وعلى رأسهم رسول الله صلى عليه وسلم في مكة هو وأصحابه، وأن نتيقن أن المستقبل للإسلام. لأن الإسلام في طريق العودة إلى حياة المسلمين رغم جميع الضربات، الإسلام الآن في تقدم مستمر على جميع الأصعدة، وبعد انتهاء حرب الشرق والغرب انتقل مجال الصراع إلى التحدي بين الشمال والجنوب، أي بين الكفار والمسلمين، وصحيح أن المسلمين لا يملكون سلاحاً للمواجهة والتحدي يحصل به نوعٌ من الموازنة بين القوى، ولكن ماذا يملك المسلمون من الأشياء التي تستثير الكفار فعلاً؟ يملك المسلمون منهجاً حضارياً ينافسون به الكفار، هذا المنهج يعلن تقدمه باستمرار ويتأكد فشل المنهج الغربي يوماً بعد يوم، إن هذا الذي يقلق الكفار فعلاً؛ لأن النظام الحضاري لما درسه المستشرقون وقدموه لأسيادهم، وجدوا أن النظام الحضاري الإسلامي يفوق غيره بكثيرٍ جداً، وهذا ما سيقنع العالم بعد فترة من الزمن، أولئك الناس يخططون ويعرفون أن حضارتهم أنتجت الجنون والأمراض العصبية والنفسية والانتحار والمجاعات، والربا ازداد ازدياداً بحيث فقر الفقير جداً، واغتنى الغني غناءً فاحشاً، وعرفوا بأنه سبب هذه الأمراض التي تفتك بالملايين منهم، يقول لك: الآن موجود في تلك البلد مليون ونصف مصابون بالإيدز، الآن في عام [2000] سيصل العدد إلى كذا، ربما إلى أربعين مليون مصاب بالإيدز، وبعد كذا سنة سيموت هؤلاء؛ لأن هذه الدراسات التي يعملونها تؤكد أنه يمكن أن تنهار حضارتهم بالمرض فقط من غير حرب، ولا يحتاج إلى شيء يمكن أن تنهار بالمرض فقط والله عز وجل على كل شيء قدير. فهم يعلمون أن عند المسلمين نظاماً حضارياً هائلاً وقوياً جداً، ويعلمون أن حضارة الإسلام أفضل من حضارتهم، وأن هذا العلم بالدنيا الذي اكتشفوه جعل لهم ميزة من التفوق لن يصمد طويلاً وأنه سينهار، فنحن اليوم بأمس الحاجة إلى أن نعرف أن المستقبل للإسلام كعلاج نهدئ به أنفسنا في موازنة الانفعالات التي تحدث، وتمنعنا ونحن نسير على يقين بأن المستقبل لنا بإذن الله، المستقبل للإسلام بلا شك؛ لأن هناك عدداً من البشائر الموجودة في القرآن والسنة تؤكد هذا المعنى وهذا المفهوم، هذا الأمر الذي ينبغي أن يتيقنه المسلم حتى اليائس ماذا يفعل؟ اليائس الذي يعلم أنه غارق وأنه لا مستقبل له يخبط يميناً وشمالاً، يائس لا مستقبل له، لكن ليس هذا وضع المسلمين، لو كنا نعلم أنه لا مستقبل للإسلام وأنه إلى زوال، لكن نحن نعلم يقيناً أن المستقبل للإسلام وأن الله ناصر دينه، وأن هذه فترة مرحلية ستنتهي بالتأكيد، وأن تساقط الحضارات والمجتمعات الكبيرة جداً فيها دلالة قاطعة على بقاء الإسلام، فهناك أفكار بدأت وانتهت وصارت نسياً منسياً، ونظريات زالت وبقي الإسلام موجوداً في الواقع، رغم المحاولات الكثيرة والحملات المتعددة إلا أن الإسلام بقيت جذوره موجودة، ماذا يعني هذا؟ بل إنه في ازدياد كما تدل عليه الحوادث الجارية الآن، والمسلمون في ازدياد وتقدم من الوعي وغيره عدداً وكماً وكيفاً، فمعنى ذلك: أنه لا حاجة إلى أن نخبط خبط عشواء ونحن نعلم أن المستقبل لنا، إذا كنا نحن جيل الصحوة فأولادنا جيل النصر إن شاء الله، ولن نيئس وربما نرى النصر في حياتنا فما يدرينا. فإذاً نقول: أن تعلم أن المستقبل للإسلام هذا مهم في ضبط الانفعالات، لأن الذي يعلم أن المقتول مقتول والزائل زائل فلنخلد ذكراه ولو باللعنات، لكن الذي يعلم بأن المستقبل له فعلام يسير بشكل أهوج ويخبط بدون حساب؟! هذا لا يمكن أن يكون.

الوسائل الشرعية في إنكار المنكر وضبط الانفعالات

الوسائل الشرعية في إنكار المنكر وضبط الانفعالات أولاً: أن نعرف سيرته عليه الصلاة والسلام كيف انضبط هو والصحابة رضوان الله عليهم في مكة في مرحلة الاستضعاف، ما استعملوا القوة مطلقاً في مواجهة ما واجهوه، وإنما صبر عليه الصلاة والسلام هو ومن معه، و (صبراً آل ياسر) ويصبر ويذكرهم بالجنة ويعطيهم أنباء ما قد سبق، ويبشرهم أن المستقبل للإسلام، هذا ما كان يحدث، إذاً هذا الذي كان يحدث عملياً في مكة. ثانياً: إذا كان استعمال العنف واستخدام اليد ليس من مصلحة الإسلام فلا يجوز الإقدام عليه في أي حالٍ من الأحوال، خصوصاً ونحن نعلم أن القاعدة الشرعية: أن إنكار المنكر بطريقة تؤدي إلى منكر أكبر منه لا تجوز، وبالتالي فقد يقول قائل: فما هو الموقف إذاً حيال المنكر؟ وكيف يتصرف المسلم؟ فنقول: لا بد أن يكون للمسلم موقف، ومن الخطأ ألا يكون له موقف، ولذلك جاءت مراتب الإنكار بالمنكر، ومن أجل ذلك نقول: إن الإنكار باللسان لو استطاع عليه المسلم لا يجوز أن يتركه، لا بد أن يقوم لله ببيان الحق والحجة والصدع بالدين وبيان الحكم، لا بد أن يبلغ الدعوة ويعلم الناس، ولا بد أن يقول لهذا المنكر إنه منكر، ولو أدى ذلك إلى قتله فلا بأس، فإنه عليه الصلاة والسلام قد قال: (أفضل الجهاد كلمة حقٍ عند سلطان جائر) فينبغي أن يقول كلمة الحق، وهذه ليس فيها محذور، كاستخدام العنف واليد والتغيير بالقوة؛ لأن التغيير باللسان قصاراه أن يموت صاحبه ويذهب شهيداً، ولا يمكن ممالأة الناس عليه ولا استخدام الحادثة في استعداء الجمهور على هذا المسلم، لأنهم يعلمون أنه قد ذهب شهيد كلمة الحق، وأنه لم يستعمل شيئاً من الأشياء التي ينفر عنها الناس من استخدام القوة المتنوعة ولكنه استخدم كلمته ولسانه في قول الحق. أما استخدام اليد والعنف فيسهل إقناع الغوغاء بأنه باطل واستعداء الناس على صاحبه، ولا شك أن الصحوة الآن نبتة لم يشتد عودها بالدرجة الكافية بعد، وأنها لا تتحمل أحداث عنفٍ جديدة، وإن التجارب الحالية والماضية قد أثبتت الحاجة إلى الاستمرار في الدعوة والتربية والاقتصار على إنكار المنكر باللسان إن استطاع صاحبه، أو اليد إذا لم يترتب عليه منكر كما ينكر رب الأسرة المنكر في بيته باليد لكسر آلة لهوٍ ونحوها، أو أي صاحب سلطانٍ في سلطانه يستطيع أن يزيل المنكر بيده دون أن يترتب عليه منكرٌ أكبر منه. أما هذا الفقه فإنه فقه دقيقٌ جداً، وليت شعري متى يصل شباب الصحوة اليوم إلى الوضع الذي يفرقون فيه بين الصدع بالحق، وصيحة النذير العريان، وإعلان النصيحة، وإقامة الحجة، وتبليغ الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، وبين إظهار التحدي، وفرد العضلات، وتصعيد الموقف، واستخدام القوة في غير موضعها والتهور في ذلك. لو أن شباب المسلمين فقهوا الفرق بين القضيتين وعرفوا بأن المناصحة والإنكار باللسان بالحكمة والموعظة الحسنة هو الدور المناسب المطلوب في هذه المرحلة، وأن استخدام العنف لا يجدي شيئاً، بل يجدي بالضرر لعلموا ماذا يصنعون وفي أي اتجاهٍ يتحركون. ولذلك فإن من الحكمة التي تقتضيها طبيعة هذه المرحلة عدم التصعيد والابتعاد عنه بكل سبيل. ثالثاً: من الوسائل المهمة لضبط انفعالاتنا في هذه المرحلة: توجيه الطاقات إلى المجالات الأقل حساسية والأكثر فائدة للإسلام، مثل الدعوة والتربية كما قلنا، فإن الإسلام يحتاج اليوم لكسب عناصر جديدة إلى هذا الدين، يحتاج إلى مزيدٍ من الانتشار في الأرض، ولتعلم أيها المسلم أن كل بقعة يدخل فيها الإسلام ويذهب إليها نور الحق إنما هي عبارة عن عمقٍ مهمٍ واستراتيجيٍ للإسلام، وإن صدى صوت الحق يتردد في تلك الأعماق الضاربة في أقصى الأرض التي وصل إليها الإسلام، وأن هذا سيكون مفيداً في نصرة الإسلام إن شاء الله، فكلما انتشر الإسلام، وتعمقت جذوره في الأرض، وازداد أتباعه كسب طاقات جديدة، وازداد هؤلاء الأفراد معرفة بمعنى التربية التي ينشئون عليها؛ فإن هذه القاعدة ستكون هي التي يقام عليها البناء الإسلامي الشامل في المستقبل إن شاء الله. رابعاً: من وسائل ضبط الانفعالات: استشارة الحكماء من أهل العلم والبصيرة والفقه في الأحوال قبل الإقدام على أي خطوة، وإن بعض الناس يظن أنه يحيط بالواقع وأنه قد درس الأمر دراسةً جيدة، لكنه ربما لا يعلم حديثه عليه الصلاة والسلام: (البركة في الجماعة) وإنه لا بد أن يتعلم فائدة قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران:159]. وخامساً: إننا نحتاج إلى الصبر، وحبس النفس عما يمكن أن يؤدي إلى المهلكة، وإلى شيء لا يكون فيه فائدة للإسلام والمسلمين بل ربما ضر. سادساً: لا بد أن نفهم التحكم في انفعالاتنا عند الإقدام على أي خطوة: هل المسلمون على مستوى المواجهة وفتح جبهاتٍ جديدة أم لا؟ لا شك بأن الأمر يحتاج إلى مزيدٍ من الصبر، وما دام الإسلام في الانتشار فلم العجلة؟ وما دمنا نرى الآن أن هذه الصحوة تعم وتشمل وتدخل بيوتاً ويخرج الله بها أقواماً من الضلالة إلى الهداية، ومن الظلمات إلى النور، فنحن إذاً نرى أثر الدعوة إلى الله واضحاً، ونرى أثر التربية في قيام أناسٍ من أهل العلم والفقه في الأحوال، ما دمنا نرى أن التربية ولدت لنا كل هذه العناصر، فلماذا اللجوء إلى حلول أخرى لا يكون فيها فائدةً كما نرى من التجارب المتلاحقة الموجودة؟ فاسأل نفسك: ما المصلحة في الإقدام على أي أمرٍ من هذه الأمور؟ فإذا قالت لك نفسك: إن فيه نجاحاً ففكر: هل هو نجاحٌ جزئي أم هو نجاحٌ شامل؟ هل سيترتب عليه مصلحة للإسلام أكبر، أم المفسدة ستكون فيه أكبر؟ قد يخطر لبعضهم أن يتخلص من بعض الأشرار، فنقول: إن الأشرار كثر، فإن ذهب بعضهم جاء البعض الآخر. سابعاً: فكر ما هي المضرة وما هي المفسدة التي ستنتج عن ذلك؟ ولتعلم يا أخي المسلم أن قطع الطريق على الأعداء في توظيف أحداث العنف لتشويه سمعة الدعاة عند الناس هو مخطط معروف، وإن من أُمنيات أعداء الإسلام أن يخرج المسلمون عن اتزانهم، وأن يسهل استغضابهم واستثارتهم ليقوموا بما لا تحمد عقباه، وإنه ينبغي علينا أن نتأسى بسيرة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حبس النفس في المواقف الحرجة، إن النفس تميل أحياناً إلى العجلة وإلى التخلص من أي شيء فيه عداء للإسلام.

أثر عدم استخدام السلاح حال الضعف

أثر عدم استخدام السلاح حال الضعف لكن تعال معي ننظر في هذه الحادثة: روى الإمام مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه، عن يزيد التيمي قال: (كنا عند حذيفة فقال له رجل: لو أدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلت معه وأبليت، قال له حذيفة: أنت كنت تفعل ذلك؟ لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب، في ليلة ذات ريحٍ شديدة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا رجلٌ يأتيني بخبر القوم يكون معي يوم القيامة، فلم يجبه منهم أحد، ثم الثانية ثم الثالثة مثله، ثم قال: يا حذيفة! قم فائتنا بخبر القوم، فلم أجد بداً إذ دعاني باسمي أن أقوم، فقال: ائتني بخبر القوم ولا تذعرهم عليَّ، قال: فمضيت، كأنما أمشي في حمام -مع أن الجو كان بارداً جداً- حتى أتيتهم، فإذا أبو سفيان يصلي ظهره بالنار -وكان أبو سفيان مشركاً وهو قائد المشركين- لكي يتدفأ فوضعت سهماً في كبد قوسي وأردت أن أرميه ثم ذكرت -وهذه ثمرة التربية- قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تذعرهم عليَّ، قال حذيفة: ولو رميته لأصبته فرجعت كأنما أمشي في حمام) الآن ربما المشركون يتهيئون للرحيل والريح شديدة، لكن لو قتل زعيمهم، ربما تقوم لهم حمية فيذعرون وتحدث أشياء أخرى، وأنت إذا تأملت واقع المسلمين في مكة لعلمت بأن الحكمة كانت دائماً معهم في عدم استخدام القوة في المواجهة وليس هناك تكافؤ. عمر رضي الله عنه لما قيل إنه قاتل المشركين في مكة، ولكن ما قاتلهم بالسلاح بل قاتلهم بيديه، فلم يزل يقاتلهم منذ غدوة حتى صارت الشمس حيال رأسه، قال: ورعي وقعد، فدخل عليه رجل؛ قيل: إن هذا الرجل هو العاص بن وائل السهمي دافع عن عمر ورد عنه القوم، قال عمر يومئذٍ: [يا أعداء الله! والله لو قد بلغنا ثلاثمائة لقد أخرجناكم منها] حديثٌ حسن، وصرح فيه ابن إسحاق بالتحديث. فإذاً، هذا تقدير الموقف الذي أشرنا إليه كان أيضاً مع المسلمين دائماً في مخيلتهم لا يمكن أن ينسوه. هذا الإسلام مسئولية وأمانة، ولا بد من نشره بالطريقة الصحيحة، ولا بد من استغلال الفرص لنشر هذا الدين، وهذه الأمانة تأبى وترفض من المسلم أن يتصرف فيها بأي شكلٍ كان لا يعود بالنفع على الإسلام، وفي كل مجتمعٍ متهورون، وهؤلاء طبقة نعلم أنه لا يمكن القضاء عليها مطلقاً، لكن يمكن التخفيف من شرهم بإسداء النصح لهم ومناقشتهم. وقد يقول قائل: إن في بعض هذه الأعمال جوانب إيجابية؟ نقول: نعم، قد يكون ذلك فعلاً، فقد يكون في بعضها إرهابٌ للأعداء، أو ذهاب الشهداء إلى الله تعالى، لكن يبقى الخطأ خطأ، وإن كان فيه بعض الجوانب الإيجابية، فإن المفسدة إذا كانت أكبر من المصلحة غلبت المفسدة. إذا أخطأ المخطئون فقلَّ من يخطئ في شيء فيه مفسدة مائة في المائة، لا بد من مصلحة ومفسدة، مصلحة من وجه ومفسدة من وجه، لكن المشكلة التي تحدث في تقدير هل المفسدة أكبر أو المصلحة؟ ولذلك قلنا: لا بد من مشاورة أهل العلم والحكمة والفضل ورجاحة العقل والبصيرة في هذا الأمر. ولا بد أن نعود ونذكر أيها الإخوة بأن المستقبل لهذا الدين، وأن الله سبحانه وتعالى متمٌ نوره ولو كره الكافرون، وأن الله سيظهر هذا الدين على الدين كله ولو كره المشركون. اللهم أعزنا بالإسلام وأعز الإسلام بنا يا رب العالمين، اللهم اجعل نصرة الدين على أيدينا، اللهم اجعل بلاد المسلمين آمنة مطمئنة بالإسلام، واجعل بلدنا هذا آمناً مطمئناً بهذا الدين، اللهم من أراد للدين خيراً فوفقه إليه وكن يا مولانا عوناً له عليه، ومن أراد بدينك شراً فاردد كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا رب العالمين. إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، وهذه الأمانة أمانة الدين في أعناقكم، فاحملوه وادعوا إليه وقوموا بتربية أنفسكم على منهجه، وإياكم وسبل الشيطان الرجيم، واضبطوا أنفسكم بضوابط الحكمة في هذا الدين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

محرمات استهان بها الناس [1]

محرمات استهان بها الناس [1] إن الله سبحانه وتعالى ما حرم علينا الحرام وأحل لنا الحلال إلا رحمة بنا، وشفقة علينا، ولكن أبى قوم إلا أن يستحلوا حرمات الله، ويتهاونوا فيها، ويتساهلوا في ارتكابها مع علمهم بتحريمها، وقد تكلم الشيخ في هذه المادة عن بعض المعاصي سواء كانت من الكبائر أو الصغائر التي استهان بها كثير من الناس ولا حول ولا قوة إلا بالله!

أنواع الذنوب والمعاصي وخطرها

أنواع الذنوب والمعاصي وخطرها إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أيها المسلمون! لقد أوجب الله على عباده طاعته، وحرم عليهم معصيته، وكان ذنب إبليس لعنه الله أنه عصى ربه معصية عظيمة، كان سببها الكبر، إذ قال: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12] فلعنه الله وأعطاه بحكمته المهلة إلى قيام الساعة؛ فتعهد إبليس بإضلال البشر وإغوائهم، بشتى أنواع الإغواء وتعهد بإيقاعهم في حبائل المعصية، كبيرها وصغيرها. والذنوب تنقسم إلى قسمين: كبائر وصغائر دل عليها قول الله عز وجل: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم:32] وهي صغائر الذنوب. والمشكلة في هذا الزمان -أيها الإخوة- أن الناس عدوا أموراً من الكبائر ظنوها من الصغائر، وثانياً: أنهم استهانوا بأمور من الصغائر استهانة ألحقتها بالكبائر. وقد اختلف أهل العلم في الكبائر ما هي؟ هل هي محدودة بحد أو بعد؟ فمنهم من قال: إنها محدودة بعدٍ فعدها بسبعين، وبعضهم أوصلها إلى تسعين، وظن بعض الناس أن بعض الكتب المؤلفة في الكبائر هي التي تحصر الكبائر فقط، وأنه لا يوجد كبائر غيرها، وبعض أهل العلم قال: إنها ليست محدودة بعدٍّ ولكن الحد فيها: هو كل معصية ورد فيها لعن، أو غضب، أو طرد من رحمة الله عز وجل، أو نفي الإيمان عن صاحبها (والله لا يؤمن) مثلاً، أو وعيد بالنار، أو بنوع من العذاب في الدنيا أو في الآخرة، في الدنيا مثل إقامة الحدود ونحوها، ولعل هذا التعريف جامع لأنواع كثيرة من الكبائر. والأمر الثاني أيها الإخوة: وهو أن بعض الناس قد استصغروا أشياء من الكبائر، أو أنهم قد احتقروا صغائر الذنوب التي يعملونها، خلافاً لاعتقاد الصحابة رضوان الله عليهم كما وقع في حديث أنس عند البخاري رحمه الله: (إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر -ترونها تافهة جداً- كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات) وكما وقع لـ ابن مسعود رضي الله عنه في معنى قوله: [إن المؤمن يرى ذنوبه كجبل يوشك أن يقع عليه، وإن المنافق يرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه فقال به هكذا، فطار] وهذا معنى أن الناس اليوم يحتقرون الذنوب، وقد يقترن بالذنب الصغير، فبالتهاون به واحتقاره وتكراره والإصرار عليه ما يجعله كبيرة من الكبائر، وهذا معنى قول علمائنا: لا صغيرة مع الإصرار -فإنها مع الإصرار تصبح كبيرة- ولا كبيرة مع الاستغفار، إذ إن التوبة تمحو الذنوب.

الرشوة

الرشوة وإليكم أيها الإخوة طائفة من الذنوب المذكورة في القرآن والسنة التي استهان بها كثير من الناس حتى أصبحت عندهم لا شيء، أو أنهم يعتقدون أنها ليست بذنوب أصلاً، وتأمل العذاب المقترن بها في الآية أو الحديث لتعلم منزلة هذه المعصية عند الله عز وجل، فمثلاً: يقول الله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:188] هذه الآية نص في تحريم الرشوة التي يدفعها الراشي إلى الحاكم كالقاضي، أو الموظف والمسئول في أمر من الأمور؛ فيحكم له بالحق مع أنه على الباطل، أو يحكم على خصمه بالباطل مع أن خصمه على الحق، هذا المال الذي يدفع إلى هذا الحاكم الذي يفصل بين الأمور هو الذي لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم دافعه وآخذه: (لعن الله الراشي والمرتشي في الحكم) حديث صحيح. وتأمل ما فعلت الرشوة اليوم في أحوال الناس، من تضييع الحقوق، وتفويت الحق على أهله، ومن أخذ كثير من الناس لأمور ليست من حقهم، وإنما هي بأموال توصلوا بها إلى إبطال الحق وإحقاق الباطل، وهذا لعمر الله من الأمور التي تهدم المجتمعات، إذ إنها من الظلم الذي لا يرضاه الله، وإن سماها كثير من الناس بأسماء يوهمون بها أنفسهم وغيرهم أنها ليست رشوة، وهي عين الرشوة، كما يسميها بعضهم بالحلاوة ونحوها، قاتلهم الله!

الفرح بالمعصية وحب الحمد بغير فعل

الفرح بالمعصية وحب الحمد بغير فعل ومنها كذلك: الفرح بالمعصية، وحب الحمد بغير فعل، كما قال الله عن أهل ذلك: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران:188] وتأمل حال كثير من العصاة اليوم الذين يباهون بالمعاصي التي ارتكبوها ويتبجحون بها في المجالس، ويرون الناس صورهم حال ملابستهم للفسق والمعصية، ويتباهون بذلك ويقولون: سافرنا وعملنا، وفعلنا وارتكبنا، دون حياء من الله ولا خلقه: (يصبح أحدهم وقد ستره ربه، وهو يكشف ستر الله عليه) هؤلاء الذين يفرحون بالمعصية، وفي الوقت ذاته أيضاً يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فترى أحدهم يحب أن تنسب إليه الأعمال العظيمة التي ليس له فيها مغرز إبرة، وليس له فيها جهد ولا عمل ويحب أن يقال عنه: إنه هو الذي فعلها وهو الذي ابتدأها، فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب، والذين ينتحلون أعمال الآخرين، ليوهموا الناس أنهم هم الذين فعلوها، هذا من الظلم والتزوير، وهو واقع ومنتشر في المجتمع ولا حول ولا قوة إلا بالله!

قتل المرء نفسه

قتل المرء نفسه وكذلك ينظر بعض الناس إلى المنتحر على أنه مسكين، ويعذرونه بأعذار شتى، ويظنون بأنه لا ذنب له، وأن المجتمع هو الذي جنى عليه. قال تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً} [النساء:29 - 30]، قال صلى الله عليه وسلم: (من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيها خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن تحسى سماً فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبدا، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبدا) وتأمل الأخبار التي تسمعها عن الناس اليوم ممن قتلوا أنفسهم بالسلاح بأنواعه أو بأخذ جرعات زائدة كبيرة من الدواء، أو من يقتلون أنفسهم بالمخدرات وهؤلاء كثر، والمخدرات سم لمن يعرفها ويعرف شأنها، وكل الناس يعلمون ذلك، والذي ألقى بنفسه من شرفة العمارة أو سطحها ونحوه فقتل نفسه، هؤلاء الذين ظنوا بأنهم قد نجوا من العذاب، إنهم قد رموا بأنفسهم في عذاب الجحيم. ينبغي -أيها الإخوة- أن نعلم الناس الصبر على أقدار الله، وأن نشيع في أنفسهم أجواء الأمل برحمة الله، وعدم اليأس والقنوط من رحمته عز وجل، وضعف الإيمان هو الذي يؤدي في لحظات اليأس القاتل إلى أخذه لتلك السموم وإلى قتل نفسه؛ فهو يتردى في جهنم خالداً مخلداً فيها أبدا. كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل به جراحٌ فقتل نفسه فقال الله: (عبدي ابتدرني بنفسه فحرمت عليه الجنة) وفي رواية قال صلى الله عليه وسلم: (كان فيمن كان قبلكم رجل به جرحٌ، فجزع، فأخذ سكيناً فحز بها يده، فما رقأ الدم حتى مات، فقال الله: بادرني عبدي بنفسه حرمت عليه الجنة).

تغيير خلق الله

تغيير خلق الله ومن الأمور الشائعة أيضاً بين الخلق: تغيير خلق الله عز وجل، تغيير الخلقة التي خلق الله الناس عليها، وهذا هو عين ما توعد به إبليس فيما قال الله تعالى عنه: {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً * يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً} [النساء:119 - 120] وتغيير خلق الله في هذا الزمان قد زاد وأربى وصار متفشياً عظيماً، فمن ذلك: وصل الشعر بأن يضاف فيه ما ليس منه، كما لعن صلى الله عليه وسلم الواصلة والمستوصلة، بل إن المرأة لما جاءته فقالت: (إن ابنتي أصابتها الحصبة فامَّرق شعرها، وإني زوجتها أفأصل فيه؟ قال صلى الله عليه وسلم: لعن الله الواصلة والموصولة) وجاءت المرأة قالت: (يا رسول الله! إن لي بنتاً عروساً، وإنها تشكت فتحرق شعرها -وفي رواية: فتمعط شعرها- فهل علي جناح إن وصلت لها فيه؟ فقال: لعن الله الواصلة والمستوصلة) ومن ذلك الوشم الذي لعن صلى الله عليه وسلم من فعله: (لعن الله الواصلة والمستوصلة، والواشمة والمستوشمة) وكان بعض الجاهلية يعتقدون أنه يدفع العين، فيضعون هذه الرسومات تحت الجلد بهذه المواد التي يحقنونها فيها حتى يصبح الوشم علامة لا تزول، هذا الوشم لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من فعله وأخبر أنه تغييرٌ لخلق الله عز وجل. وأنت أيها الأخ الكريم تسمع بين حين وآخر بالعمليات التي يسمونها عمليات التجميل، من تصغير الأنف، أو الثدي ونحو ذلك، هؤلاء ملعونون على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل طبيب يجري عملية فيها تغيير لخلق الله فهو ملعون على لسانه صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك برد الأسنان والأخذ منها وتفليجها بالمبرد ونحوه، لعن صلى الله عليه وسلم المتفلجات للحسن، فإجراء العمليات التي يقصدون منها التجميل والتحسين زيادة أو نقصاناً على ما خلقهم الله عليه، إنهم ملعونون على لسانه صلى الله عليه وسلم، ولا يدخل في ذلك عمليات تقويم الأسنان فإنها ليست تفليجاً ولا برداً ولا إزالة، ولا يدخل في ذلك العمليات الناتجة عن إزالة التشويه، كالأصبع الزائد، أو الحروق فإنها ليست داخلة، وإنما المقصود خلقة خلقها الله عليه لم يحدث فيها تشويه يذهب هو ويعمل العمليات ليحسنها فهو ملعون على لسانه صلى الله عليه وسلم، وانظر ماذا فعلت عمليات التلاعب بالجينات الوراثية في خلق الله؟ وأنتم تقرءون على صفحات المجلات والجرائد العشرات من هذه الأحوال، إنه فعل إبليس: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء:119].

الجلوس في المجالس التي يكفر فيها ويستهزأ فيها بالدين وأهله

الجلوس في المجالس التي يُكْفَر فيها ويُستهزأ فيها بالدين وأهله ومن الأمور التي تساهل الناس فيها: الجلوس في المجالس التي يُكْفَر فيها ويستهزأ فيها بآيات الله: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً * وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً} [النساء:138 - 140] كم من المسلمين اليوم يجلسون مع أناس يستهزئون بدين الله، ويلمزون شرع الله، أو عباد الله الصالحين، لا لشيء إلا لأنهم تمسكوا بدين الله، أو يعترضون على حكم الله وشريعته، ويقرون في مجالسهم غير شرع الله عز وجل، ويعتبرون أن الدين رجعية، وأن الشرعية تخلف، وأنها لا تناسب هذا الزمان، وأنه يجب الأخذ من قوانين الشرق والغرب، إلى غير ذلك من الأمور، ويلك! ثم ويلك! ثم ويلك! إن جلست معهم وهم يخوضون في هذا الحديث، بل يجب عليك أن تنكر وتفارق حالاً قبل أن ينزل عليك السخط.

اتباع الأئمة المحللين للحرام والمحرمين الحلال

اتباع الأئمة المحللين للحرام والمحرمين الحلال ومن الأمور أيضاً: اتباع بعض الناس للأئمة المضلين في تحليل الحرام وتحريم الحلال: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة:37] تأخير الأشهر الحرم، أهل الجاهلية كانوا يؤخرونها، بحسب أهوائهم إذا أرادوا القتال في وقت معين فصادف شهراً حراماً أجلوا الشهر الحرام إلى غير وقت من أوقات السنة: {يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [التوبة:37] وأنت تسمع اليوم ممن ينادون بتحليل الحرام كالربا ونحوه، ويعطون الفتاوى الرخيصة يكتبونها بأيديهم: {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ} [البقرة:79] وينشرونها بين الناس ويقولون للناس خداعاً وتضليلاً وتمويهاً: نحن نتحمل المسئولية أمام الله، تباً لهم على هذا الصنيع، وويل لهم يوم القيامة مما كسبت أيديهم، وسيتحملون مسئوليتهم عند الله، وسيجزون بجهنم قعرها سبعون عاماً لا تدرك، وويل للذين يتابعونهم ويقولون: أفتى واحد، هذه حجة، ففيها فتوى، وقد صدر فيها شيء، وحللها بعض العلماء، ويل لهم يلعبون بشريعة الله ويخادعون الله كأنما يخادعون الصبيان، ويظنون أن الله سينجيهم يوم القيامة لأنهم الآن اتبعوا بعض الأئمة المضلين.

محبة إشاعة الفاحشة بين المؤمنين

محبة إشاعة الفاحشة بين المؤمنين وكذلك الذين يحبون إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، ونشر الفساد في الأرض، وتخريب الأخلاق والعلاقات الأسرية والزوجية بهذه الإباحية التي تنشر في جميع الوسائل ويل لهم، هؤلاء الذين قال الله في شأنهم: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور:19]. وبعض الناس مع الأسف ببغاوات يرددون ومكبرات يضخمون أقوال أعداء الإسلام، وينقلون الفساد إلى بيوتهم، وإلى أنفسهم تقليداً لغيرهم، أو علماً بما ينطوي عليه ذلك الأمر من الخطورة، ويساهمون في نشر الفساد، ويل لهم عند الله عز وجل.

شراء لهو الحديث للإضلال عن سبيل الله

شراء لهو الحديث للإضلال عن سبيل الله وقل مثل ذلك فيمن يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بأنواع الأغاني الفاحشة، والموسيقى الصاخبة أو غير الصاخبة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ليكونن أقوام من أمتي يستحلون -يعني: هي حرام وهم يستحلونها- الحر -يعني الفرج كناية عن الزنا- والحرير -للرجال- والخمر والمعازف) فنص رسول الله صلى الله عليه وسلم على تحريمها، والناس اليوم يستمعون إليها صباحاً ومساءً، ومع وجبات الطعام، وأثناء العمل والمذاكرة، غير آبهين بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتي جاءت وصحت في أن هؤلاء الناس سيمسخهم الله في ليلة، يمسون فيصبحون على غير الخلقة التي خلقهم الله عليها، سيحدث ذلك في يوم من الأيام.

إيذاء المؤمنين والمؤمنات

إيذاء المؤمنين والمؤمنات ومن أمثلة هذه المعاصي التي استخف بها الناس: إيذاء المؤمنين والمؤمنات، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} [الأحزاب:58] بأنواع الأذى، اللمز، الهمز، السخرية، السعي بالشكاية والنكاية، وتدبير المؤامرات وحبكها للإيقاع بعباد الله الصالحين، ويل لهم ثم ويل لهم، وأنت تنظر اليوم في أبسط الأشياء وهي قضية المعاكسات الهاتفية المعاكسات الهاتفية ماذا تعتبر في شرع الله؟ {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب:58] فهو إيذاء فعلاً: {بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا} [الأحزاب:58] بلا ذنب، بلا جريرة: {فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} [الأحزاب:58] تأمل في أحوال الطائشين اليوم بكل سهولة يرفع السماعة ويتصل بالرقم عدة مرات، وأحياناً في آخر الليل يزعج المسلمين، ويريد أن يكلم حريمهم، هذا ماذا يعتبر وماذا يكون؟

التطفيف في المكيال والميزان

التطفيف في المكيال والميزان ومن هذه الذنوب أيضاً: التطفيف في المكيال والميزان: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} [المطففين:1 - 2] إن كان له يأخذ: {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ} [المطففين:3] وباعوا هم: {يُخْسِرُونَ} [المطففين:3] يخسرون في الميزان، ويطففون فيه، ويدخل في ذلك أيها الإخوة جميع أنواع الغش التجاري، ابتداءً من الكتابة على الصندوق محتويات ليست بداخله، أو مواصفات لا تنطبق على ما بداخله، أو غش الأشياء وشوبها بالماء مثلاً، أو بنشارة الخشب وبيعها على أنها خشب خالص إلى آخر ذلك من الأمور، أو بيع البضائع المقلدة على أنها أصلية وهي في مواصفاتها تختلف عن الأصلية والمشتري يظن أنها أصلية، وما يفعله بعض التجار أو المقاولين في الغش في أثناء أعمالهم إنهم داخلون ولا شك تحت قول الله: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين:1] ويل تهديد ووعيد. أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجنبنا وإياكم هذه الفواحش والآثام، وأن يرزقنا وإياكم الابتعاد عن هذه الكبائر والذنوب، ونسأله أن يسلمنا ويسلمكم من سائر أنواع الفحش والمعاصي. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

التطفيف في الصلاة

التطفيف في الصلاة الحمد لله الذي لا إله إلا هو رب الأولين والآخرين، عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي جاء بالإنقاذ من الضلال، وهدانا لما اختلف فيه من الحق، وعرفنا شريعة ربنا صلى الله عليه وسلم، هدانا هداية الدلالة والإرشاد، وأمرنا بأن نتمسك بما أمر الله به لا نحيد عنه ونهانا عن معصية ربنا عز وجل لسائر أنواع المعاصي والآثام. ومن أعظم أنواع التطفيف أيها الإخوة التطفيف في الصلاة، [رأى حذيفة رضي الله عنه رجلاً يصلي فطفف في صلاته -أنقص في الركوع والسجود والقراءة، وأسرع إسراعاً مخلاً بالصلاة- فقال له حذيفة: مذ كم تصلي هذه الصلاة؟ قال: منذ أربعين سنة، قال: ما صليت منذ أربعين سنة -كل الصلوات الماضية باطلة- ولو مت وأنت تصلي هذه الصلاة مت على غير فطرة محمد صلى الله عليه وسلم، ثم قال: إن الرجل ليخفف ويتم ويحسن] رواه النسائي، وهو حديث صحيح، وأصله عند البخاري رحمه الله. وأنت ترى حال المصلين اليوم من نقر الصلاة والإسراع فيها إسراعاً مخلاً، حتى إنك تعجز في بعض الأحيان عن قراءة الفاتحة، أو قول سبحان ربي العظيم ولو مرة واحدة وراء بعض الأئمة، وكذلك انظر إليهم حين ينفردون بالصلاة في السنة مثلاً بعد صلاة الجماعة إلى أحوالهم في تطفيف هذه الصلاة، كيف تكون مقبولة عند رب العالمين؟! ولو قال قائل: إنني فعلت هذا في الماضي وأنا أجهل فهل علي الإعادة؟ نقول: كلا، لأنه صلى الله عليه وسلم لما رأى الرجل يطفف في صلاته، أمره بإعادة هذه الصلاة في الوقت، ولم يأمره بإعادة الصلوات الماضية، وإنما الواجب التوبة، والإكثار من صلوات النوافل، وإكمال وتحسين الصلوات القادمة.

ترك الشارب بدون قص

ترك الشارب بدون قص ومن الأمور كذلك التي يتساهل فيها الناس ويقولون: هي مظهر، ونقول: قال صلى الله عليه وسلم: (من لم يأخذ من شاربه فليس منا) تأمل هذا الحديث، مع أنه شيء في المظهر لكن قال: (ليس منا) ما معنى: (يأخذ من شاربه)؟ يعني: يقص ما طال عن الشفة العليا، الذي ينزل ويتدلى من الشارب عن الشفة يجب قصه حتى تظهر حدود الشفة العليا: (من لم يأخذ من شاربه فليس منا).

حلق اللحى وعدم إعفائها

حلق اللحى وعدم إعفائها وكذلك المسألة التي يزعم بعض الناس أنها من القشور، وليس لها تأثير، وهي إعفاء اللحى، كم كلمة وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ (أعفوا اللحى)، (وفروا اللحى)، (أرخوا اللحى)، (أرجوا اللحى)، (خالفوا المشركين)، (خالفوا المجوس)، (من رغب عن سنتي فليس مني)، (ملة أبيكم إبراهيم)، (سنن الفطرة خمس) أحاديث كثيرة جداً، والناس عنها غافلون. عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على مشيخة من الأنصار بيض لحاهم فقال: يا معشر الأنصار! حمروا أو صفروا) يعني: غيروا الشيب لكن ليس باللون الأسود، وهذا منكر يقع فيه كثير من الناس، فيظهرون بما لم يعطوا، ويوهمون الناس بسن غير سنهم الحقيقية، يصبغون الشيب بالسواد وهو حرام، وإنما غيروا الشيب بأي لون من الألوان الأخرى، وخالفوا أهل الكتاب، قال: (فقلنا: يا رسول الله! إن أهل الكتاب يتسرولون ولا يأتزرون، فقال صلى الله عليه وسلم: تسرولوا وائتزروا وخالفوا أهل الكتاب -البسوا السروايل والإزار وخالفوا أهل الكتاب- قال: فقلنا يا رسول الله! إن أهل الكتاب يتخففون ولا ينتعلون -يلبسون الخف ولا يلبسون النعال- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فتخففوا وانتعلوا وخالفوا أهل الكتاب، قال: فقلنا: يا رسول الله! إن أهل الكتاب يقصون عثانينهم -لحاهم- ويوفرون سبالهم -الشارب- فقال صلى الله عليه وسلم: قصوا سبالكم، ووفروا عثانينهم -اللحى- وخالفوا أهل الكتاب) حديث حسن.

طلب المرأة الطلاق من زوجها بدون بأس

طلب المرأة الطلاق من زوجها بدون بأس وكذلك من المعاصي المنتشرة: طلب الخلع بغير عذر، وطلب الطلاق من غير بأس، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أيما امرأة اختلعت من زوجها من غير بأس لم ترح رائحة الجنة)، وفي رواية: (أيما امرأة سألت زوجها طلاقاً من غير بأس -من غير حاجة ملجئة لهذا الطلب- حرام عليها رائحة الجنة)، وفي رواية صحيحة: (إن المختلعات هن المنافقات) التي تطلب الخلع دون حاجة إليه.

سرور بعض الناس بالقيام له

سرور بعض الناس بالقيام له ومن هذه المنكرات التي تساهل فيها الناس: سرور بعضهم عندما يقوم الناس له، وطلب ذلك منهم ولو بلسان الحال دون لسان المقال، لقوله صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار) حديث صحيح. وورد أيضاً في الحديث الصحيح: أن معاوية خرج على ابن عامر وعلي بن الزبير، فقام ابن عامر وجلس ابن الزبير، فقال معاوية لـ ابن عامر: (اجلس فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أحب أن يمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار) وعند الترمذي: (من سره أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار) وبعض الناس اليوم لو لم تقم له يغضب ويحقد، ويأخذ في نفسه ويحمل عليك، ويبغضك وأنت تطبق السنة في عدم القيام، اللهم إلا القيام للحاجة كفتح الباب، أو استقبال قادم من سفر ومعانقته، أو توسيع المكان له، ونحو ذلك، أما الكبر الذي انطوى عليه صدور كثير من الناس وهو أنهم يغضبون إذا لم يقم لهم، فليتأملوا هذا الحديث: (من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار). اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين، اللهم كره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين، اللهم كره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين.

محرمات استهان بها الناس [2]

محرمات استهان بها الناس [2] تكلم الشيخ في هذه المادة عن بقية المحرمات التي تهاون فيها كثير من الناس وظنوها من الصغائر التي لا يأثم عليها العبد، أو قد يتجاوز عنها، وهذا لا يجوز، فإنه مع الإصرار تكون الصغيرة كبيرة من الكبائر ولا حول ولا قوة إلا بالله.

من المحرمات تعليق التمائم والرقى الشركية

من المحرمات تعليق التمائم والرقى الشركية إن الحمد لله، نحمده ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. تكلمنا منذ أسبوعين أيها الإخوة عن بعض المنكرات التي يتهاون بها الناس، مع ورود الوعيد الشديد في الشرع عليها، وعلى مرتكبها من النار أو الغضب، أو التوعد بسلب الإيمان أو بالوقوع في الكفر ونحو ذلك، ونحن نتم الكلام إن شاء الله في هذه الخطبة عن بقية مما يتعلق بهذا الموضوع. عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الرقى والتمائم والتولة شرك، قالت زوجته له: لم تقول هذا؟ والله لقد كانت عيني تقذف وكنت أختلف إلى فلان اليهودي -رجل معروف بأنه يرقي ويصنع التمائم- فيرقيني، فإذا رقاني سكنت عيني وسكن الألم، فقال عبد الله رضي الله عنه: إنما ذلك عمل الشيطان، كان ينخسها بيده فإذا رقاها كف عنها) هذا الشيطان يتعاون مع ذلك اليهودي: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} [الأنعام:112] ويتعاونون على الإثم والعدوان. هؤلاء منهم هذا الرجل اليهودي كان إذا بدأ يقرأ نخس الشيطان بيده على مكان الألم، فيحس المريض بأن الألم قد زال وأنه قد سكن، فيعتقد بأن رقية هذا اليهودي مفيدة وأن لها أثراً، ثم يقول ابن مسعود رضي الله عنه: (إنما كان يكفيك أن تقولي كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أذهب البأس رب الناس، اشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك، شفاءً لا يغادر سقما -لا يترك مرضا-) رواه أبو داود وهو حديث صحيح، وهذا ما يفسر لنا عندما نقول لبعض الناس: يا أيها الناس! لا تذهبوا إلى الدجالين. يا أيها الناس! لا تذهبوا إلى المشعوذين. يا أيها الناس! لا تذهبوا إلى العرافين والكهان؛ فنسمع بعض هؤلاء يقولون: لقد ذهبنا واستفدنا، فنقول: لو أنك استفدت فإن ذلك من صنيع الشيطان، ثم ما هي الفائدة وأنت تقع في الشرك لكي تحصل على فائدة دنيوية؟ وأين هذا من هذا؟ ولذلك: لا يجوز التوصل إلى أي منفعة مهما كانت إذا كانت الوسيلة الشرك بالله: (والله لم يجعل شفاء الأمة فيما حرم عليها) كما ورد في الحديث الصحيح، لذلك تكون هذه خداعات من الشياطين، وأوهاماً في كثير من الأحيان، وفي الأغلب فإنهم لا يستفيدون شيئاً عند الذهاب إلى العرافين والكهنة سوى الوقوع في الشرك، وخسارة الأموال، ويردون على أعقابهم. لم يرجعوا إلا بخف من خفي حنين. ولذلك فإن استخدام الرقى الشركية التي فيها استغاثة بالجن والشياطين، والتي فيها خزعبلات وأرقام وحروف وكلمات وطلاسم مجهولة، لا تجوز بأي حال من الأحوال، لا يجوز الذهاب إلى من يصنعها، ولا يجوز تعلقيها، بل قال أهل العلم: الأرجح منع التعليق حتى لو كان آيات من القرآن، لا يجوز التعليق، لأسباب منها: أنه يتعلق من يعلقها بها دون الله عز وجل، فيظن أن هذا المعلق في صدره هو الذي يشفي وهو الذي يمنع العين والأمراض دون الله عز وجل. وثانياً: أنها تفضي إلى تعليق غيرها، وعندما ترى الناس يعلقون في صدورهم وأعناقهم، وعلى عضد واحد منهم أو في يده شيئاً من هذا، فما يدريك أن بداخل تلك اللفائف والأوراق أشياء من الشرك والطلاسم وعمل الشيطان. فسداً للذريعة المنع من ذلك. وثالثاً: أن هذا ليس بعلاج محسوس أبداً، فما هو العلاقة بين التعليق وبين علاج المرض؟! أما لو قلت: إنني أقرأ وأنفث فإن هذا النفس الخارج بالقرآن له تأثير فعلاً، ولذلك كانت القراءة والنفث من الطب النبوي الذي لا شك فيه، قارن بينه وبين أفعال الدجالين، اقرأ على نفسك، اجمع يديك وانفث فيهما بعد القراءة وامسح بهما على جسدك قبل النوم وغيره كما كان عليه الصلاة والسلام يفعل، وافعل مع ولدك المريض. نعم، هذا علاج مشروع تؤجر عليه. وكذلك فإنه عندما يدخل المعلق الخلاء فإن فيه إهانة لما يعلقه في صدره من الآيات والأحاديث والأذكار على فرض أنها شرعية، ولو تتبعنا ما في ذلك من المنكرات لكان طويلاً، ويكفي أن نختم بأن صاحب هذا التعليق داخلاً تحت حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تعلق تميمة فلا أتم الله له) وأنه عليه الصلاة والسلام نهى عن تعليق التمائم، ولم يخص القرآن من غير القرآن، نهى عن التعليق مطلقاً.

من المحرمات إطلاق لفظ التحليل والتحريم على الأشياء

من المحرمات إطلاق لفظ التحليل والتحريم على الأشياء وكذلك من الأمور التي يتهاون بها الناس: إطلاق ألفاظ التحليل والتحريم على الأشياء، فيقولون: كما نهى الله، هذا حلال وهذا حرام، يصفون بألسنتهم هذا حلال وهذا حرام ويفترون على الله الكذب، وترى بعضهم يقول عن الشيء المعين: حلله الشيخ فلان أو حرمه الشيخ فلان، وأكبر عالم في الدنيا لا يحلل ولا يحرم، وغاية ما يفعل أنه ينقل للناس الحلال والحرام الذي حلله الله وحرمه الله في القرآن وفي السنة، إنه ينقل لك الحكم فقط بالأدلة إن كان من أهل الطريقة المستقيمة، ولكن لا يحلل من عند نفسه، فلا يجوز أن تقول: حللها الشيخ فلان وحرمها الشيخ فلان، ولا يجوز أن تقول من عندك هذا حلال وهذا حرام بلا علم، فإن الله قد عد ذلك كبيرة وحذر: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:169] وحرم ربي هذا الكلام.

التأخر عن الصف الأول

التأخر عن الصف الأول ومن الأمور التي يتهاون بها الناس: التأخر عن الصف الأول؛ عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزال قوم يتأخرون عن الصف الأول حتى يؤخرهم الله في النار) حديث صحيح، قارن بين هذا وبين تأخر الناس عن الصلوات، وإتيانهم متأخرين دون حاجة أو عذر شرعي، وقارن بينه كذلك وبين ما يفعله بعض الجهلة عندما يكون في طرفي الصف الأول نقص من ميمنته وميسرته فيبقون في منتصف الصف الثاني متكاسلين لا يتحركون لسد الفرجة؛ تكاسلاً عن المشي إلى ناحية الصف، ولو أنهم تفكروا في مقدار الأجر الذي يفوتهم دون الأجر الذي يلحقهم، الأجر الذي يفوتهم من المشي لسد تلك الفرجة، المشي فيه أجر، وسد الفرجة فيه أجر، والصلاة في الصف الأول فيها أجر، ثلاثة أنواع من الأجر تفوتهم بتكاسلهم وتهاونهم.

إغضاب الإخوة في الله بغير حق

إغضاب الإخوة في الله بغير حق ومنها كذلك: إغضاب الإخوة في الله بغير حق؛ عن عائذ بن عمرو أن أبا سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال في نفر في المدينة، فقالوا: (ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها -كان المفروض أن السيوف تأخذ مكانها في عنق عدو الله أبي سفيان وكان لم يسلم بعد- فقال أبو بكر: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم؟ فأتى أبو بكر النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: يا أبا بكر لعلك أغضبتهم؟ لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك -بكلمة قالها لإخوانه أتقولون هذا الكلام الشديد لسيد قريش- فأتاهم أبو بكر فقال: يا إخوتاه! أغضبتكم؟ قالوا: لا، ثم قالوا: يغفر الله لك) أخرجه الإمام مسلم. قارن بين هذا وبين ما يقع في أوساط الإخوة من اعتداء على حق الجماعة، أو أنه يقوم بأفعال وتصرفات تغضب من حوله، هذه حرمة من وسط الأخوة الإسلامية، له حرمة يجب أن تصان، وللإخوة في الله حق يجب أن يقام به، ومن أغضب إخوانه في الله بشيء فهو معرض لهذا الوعيد الوارد في الحديث. فافقهوا ذلك يا دعاة الإسلام! يا من تحرصون على تكوين أجواء التربية الإسلامية لتعيشوا فيها وتنقلوا فيها وتنقلون الناس إليها! احذروا من مداخل الشيطان للتفرقة، ولإيقاع العداوة والبغضاء فيما بينكم.

التحايل لأكل حقوق الناس بغير حق

التحايل لأكل حقوق الناس بغير حق ومن الأمور: التحايل لأكل حقوق الناس بغير حق؛ عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع جلبة خصمٍ بباب حجرته فخرج إليهم، فقال: (إنما أنا بشر وإنه يأتيني الخصم، فلعل بعضهم يكون أبلغ من بعض) واحد من الخصمين يكون عنده قدرة في الجدال، ولسانه يكون أبلغ من صاحبه وهو الظالم، ولكن يقنعني بأنه الحق له، (فأحسب أنه صادق -لأن لي الظاهر، وأحكم بالظاهر والله يتولى السرائر- فأقضي له، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار، فليحملها أو يذرها) وكذلك في الرواية الصحيحة الأخرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنما أن بشر وإنكم تختصمون إليَّ، ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له بنحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه -لأنه لسن ومجادل ويستطيع أن يثبت ولو على باطل- فإنما أقطع له قطعة من النار) أخرجه البخاري ومسلم. قارن بين هذا وبين ما يتم اليوم من بعض الخصوم عند الحاكم؛ وهم يعلمون أنهم ظلمة من الكلام أمام القاضي بالباطل فيتكلم بلسانه، وإن من البيان لسحراً، فيبين ويتكلم، ويرفع صوته، ويقنع وهو على الباطل، وقد يكون خصمه (صاحب الحق) ضعيفاً ليس عنده مثل بيانه، ولا مكانته، فيخرج المظلوم مسكيناً؛ لأن القاضي يقضي بالظاهر إذا لم تتبين له الأدلة، وقارن بين هذا أيضاً وبين عمل كثير من المحامين المشتغلين في مجال المحاماة الذين لا يتقون الله ليس كلهم، ولكن كثيراً منهم لا يتقون الله، فيهمه أن يكسب القضية لموكله ويأخذ المبلغ والأتعاب، ولا يدري أو لا يبالي إن كان خصمه محقاً أم لا، فانظر في المنكرات الحاصلة من هذه المهنة على ضوء هذا الحديث.

ترك الحج مع الاستطاعة

ترك الحج مع الاستطاعة ومن الأمور كذلك: ترك الحج مع الاستطاعة، فإن كثيراً من الناس اليوم يستطيعون الحج لكنهم لا ينوونه ولا يعزمون عليه ولا يبادرون إليه، قال تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران:97] ماذا قال بعد ذلك؟ {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:97] فإذاً هو وعيد لمن استطاع الحج ولم يحج قال: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:97] وقال صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا) ولذلك قال أهل العلم على القول الراجح من أقوالهم: إن الحج واجب على الفور من استطاع وجب عليه أن يحج، ولا يجوز له أن يؤخر إلى السنة التي بعدها أو التي بعدها، فما يدريه لعله يموت، لعله يمرض، لعله تعرض له حاجة، لعله يحال بينه وبين الحج، فليبادر الآن إذا استطاع ولا يؤخر، وإلا فالآية حسبه وعيداً.

الفخر بالأحساب والطعن في الأنساب

الفخر بالأحساب والطعن في الأنساب ومن المنكرات الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة؛ عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة). قارن بين هذا وبين ما يقع من الناس اليوم من الفخر بمآثرهم وبطولاتهم، أو بمآثر قبائلهم وعوائلهم يفخرون بها على الناس، وقد يكونون فحماً من فحم جهنم، أهون عند الله من الجعلان التي تدهده الأذى بفمها وبرجلها وبرأسها، يكونون أهون عند الله من أولئك، ولكن يفخرون ويقولون: نحن ونحن، وفعلنا وفعلنا، وأصلنا وحسبنا كذا، ولا يكتفون بل يطعنون بالأنساب، فيقولون: أنت ما لك أصل، أنت خضيري، أنت ليس لك منزلة، أنت حقير ومهين، ومن افتراءاتهم: أنت لست من ولد آدم، إن آدم تناسل منه فقط أهل القبائل، وغيرهم احتلم آدم على التراب فخلق الخضيريين منهم، وهذه من الفرى المضحكة إذ أننا نعلم أن البشر كلهم من ولد آدم، وهل كان آدم من قبيلة معروفة أو من غير قبيلة معروفة؟! وهل كان قبلياً أو خضيرياً كما يقولون؟! فكر وتدبر.

إتيان النساء في أدبارهن

إتيان النساء في أدبارهن ومن المنكرات: إتيان النساء في أدبارهن؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ملعون من أتى امرأة في دبرها) أخرجه أبو داود، وهو حديث صحيح. تأمل في قوله: (ملعون) لتعلم عظم الذنب، والمقصود إتيانها في الدبر، أما إتيانها في مكان الولد فيجوز بأي طريقة شئت من الأمام أو الوراء، متى كان الجماع في مكان الولد فجائز، أما إتيانها في الدبر في مكان خروج الغائط فهو ملعون صاحبه: (ملعون من أتى امرأة في دبرها). وإنني أحذركم أيها الإخوة من هذه الأفلام الإباحية الداعرة المنتشرة بين كثير من الناس التي تروج لمثل هذه الشذوذات، إذ أن الله أجاز للمتزوج أن يطأ زوجته أو أمته في مكان الولد: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة:223] كيف شئتم ما دام في مكان الولد. هذه بعض تلك المنكرات التي لا يتورع كثير من الناس عن الوقوع فيها رغم الوعيد. نسأل الله السلامة والعافية، وأن ينجينا وإياكم من هذه المهلكات. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

التصاوير التي تصور والرسوم

التصاوير التي تصور والرسوم الحمد لله الذي لا إله إلا هو، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، بين للناس ما أنزل إليهم من ربهم، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى من تبعه بإحسان واستقام على سنته إلى يوم الدين. أيها الإخوة! ومن الأمور التي تساهل فيها كثيرٌ من الخلق في هذا الزمن: هذه التصاوير التي يصورونها؛ عن عائشة رضي الله عنها أنها اشترت نمرقة -مخدة أو مرتفق- فيها تصاوير، صور ذات الأرواح على هذا القماش، فلما رآها النبي صلى الله عليه وسلم قام على الباب فلم يدخل، فعرفت في وجهه الكراهية، فقالت: (يا رسول الله! أتوب إلى الله ماذا أذنبت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بال هذه النمرقة؟ قلت: اشتريتها لك لتقعد عليها وتوسدها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة فيقال لهم: أحيوا ما خلقتم) ثم قال عليه الصلاة والسلام: (إن البيت الذي فيه صور لا تدخله الملائكة) ثم تعال وقل بعد ذلك: إن المقصود بها التماثيل، تماثيل على القماش، أم أنها صور ذوات الأرواح؟! وقال صلى الله عليه وسلم لها أيضاً: (أما علمت أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة، وأن من صنع هذه الصور يعذب يوم القيامة فيقال لهم: أحيوا ما خلقتم) زاد في رواية أنها قالت: (فأخذته فجعلته مرفقتين، فكان يرتفق بهما في البيت) أزالت الوجه وقطعته وجعلته مرفقتين، تصرفت بالقماش، أزالت الصورة فصار صلى الله عليه وسلم يستعمله، حديث صحيح. وجاء رجل إلى ابن عباس فقال: (إني رجل أصور هذه الصور فأفتني، فقال له: ادن مني، فدنا منه، ثم قال: ادن مني، فدنا منه، حتى وضع يده على رأسه وقال: أنبئك بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كل مصور في النار، يجعل له بكل صورة صورها نفساً فيعذبهم في جهنم) ثم قال له: (إن كنت لا بد فاعلاً فاصنع الشجر وما لا نفس له) ما دامت ليست من ذوات الأرواح افعل، وفي رواية عن النضر بن أنس قال: كنت جالساً عند ابن عباس، فجعل يفتي ولا يقول قال رسول الله، حتى سأله رجل فقال: إني أصور هذه الصور، فقال ابن عباس ادن، فدنا الرجل، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من صور صورة في الدنيا كلف أن ينفخ فيها الروح يوم القيامة وليس بنافخ، فربا الرجل ربوة شديدة، واصفر وجهه، فقال ابن عباس: ويحك! إن أبيت إلا أن تصنع فعليك بهذا الشجر) كل شيء ليس فيه روح إن أردت أن تصنع فاصنعه. قارن بين هذا وبين الصور المعلقة اليوم في بيوت الناس، والتماثيل التي يزينون بها الرفوف في بيوتهم، ويشترونها بالأثمان الباهظة، يبذرون أموالهم في الحرام، ويكونون سبباً لعدم دخول الملائكة إلى بيوتهم، ويدخلون في هذا الوعيد الوارد في الأحاديث، وتأمل في حال بعض مدرسي التربية الفنية في المدارس الذين يأمرون التلاميذ والتلميذات برسم صور ذوات الأرواح، أو يقولون: هذه وسائل فنية فينحتون منها هذه التماثيل على شكل صور ذوات الأرواح، مالهم وهم يأمرون بإحيائها يوم القيامة، وإنما تباح الصور في حال الضرورة كالوثائق الرسمية، وتتبع المجرمين، ونحو ذلك من الحاجات التي تمس الضرورة وتدعو إليها في بعض الأحيان، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن أشد الناس عذاباً عند الله المصورون) وقال في الحديث الصحيح: (لعن الله المصورين). وكذلك من المنكرات التي يتساهل فيها بعضهم قوله عليه الصلاة والسلام: (من تحلم كلف أن يعقد بين شعيرتين) الذي كذب في المنام وذكرنا ذلك، ثم قال: (ومن استمع إلى حديث قوم يسرونه عنه صب في أذنيه الآنك يوم القيامة) الذي يتجسس على الناس بغير حق، ويسمع كلامهم وهم لا يريدون أن يصل إليهم، فإنه يصب في أذنيه الآنك؛ الرصاص الأسود المذاب في أذنيه يوم القيامة.

الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة

الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة ومن المنكرات التي يستهان بها: الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الذي يشرب في إناء الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم) وقال: (إن الذي يأكل ويشرب في آنية الفضة والذهب فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم)، للكفار في الدنيا، وللمؤمنين في الجنة، فلا يجوز الأكل بها، سواءً كانت صحناً أو ملعقة أو شوكة أو سكيناً لا مطلياً بذهب ولا فضة، أو ما كان خالصاً -وهو أشد- من الذهب والفضة، ثم قارن بين ذلك وبين الأطقم النفيسة الثمن المذمومة عند الله التي يزينون بها خزانات بيوتهم، ولا يجوز الاحتفاظ بها للزينة سداً للذريعة، لأنه قد يستخدمها، ولو قال: أنا لا أستخدمها نقول: أخرجها من بيتك، لا تحفظ في البيوت ولا يؤكل بها، ولا يشرب بها، ثم بعد ذلك فكر وتدبر في لوحات المكتوبات على بعض المطاعم، مطعم الصحن الذهبي، ومطعم الملعقة الفضية لتعلم مدى تغلغل هذه الأمور في أفكار الناس، يتهاونون ويقولون: وما هو الفرق بين ملعقة الذهب وملعقة النحاس، أو ملعقة الألمنيوم ونحوها؟ نقول: الفرق هو الحديث، إن كنت مسلماً استسلم. اللهم أغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، اللهم اجعلنا ممن يخافك ويتقيك، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين.

مظاهر نقص الاستقامة

مظاهر نقص الاستقامة حث الإسلام على الاستقامة في الدين وأخذ الإسلام كله، لكن واقع الناس مع الاستقامة عجيب جداً، فإن الناظر يجد التباين بين الظاهر والباطن ظاهراً، ولزيادة الإيضاح فقد ذكر الشيخ صوراً من مرض نقص الاستقامة إضافة إلى آثارها السلبية.

فضل الاستقامة وتعريفها

فضل الاستقامة وتعريفها الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد: إخواني! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. نسأل الله تعالى أن يجعل لقاءنا هذا لقاءً نافعاً، وأن يرزقنا وإياكم الإخلاص والاستقامة، فالله سبحانه وتعالى قد أوصانا بالاستقامة وأمرنا بها، فقال جل وعلا: {أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} [فصلت:6]، ورسولنا صلى الله عليه وسلم قال لنا: (استقيموا ونعما إن استقمتم)، وقال: (استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن). وقد أمر الله نبيه بالاستقامة، فقال: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} [هود:112]، وقال لموسى وهارون: {قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا} [يونس:89]، ولما أراد رجلٌ من النبي صلى الله عليه وسلم أن يوصيه وصية لا يسأل بعدها أحداً غيره عن شيء، قال: (قل آمنت بالله ثم استقم)، وفي رواية قال لرجل: (استقم وليحسن خلقك)، وقد وعد الله أهل الاستقامة بالثواب العظيم، فقال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأحقاف:13] {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30] {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً} [الجن:16] والله سبحانه قال: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير:27 - 28]. أما الاستقامة فقد تنوعت ألفاظ السلف في تعريفها، فمنهم من قال: استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله. - ومنهم من قال: استقاموا على أداء الفرائض. - ومنهم من قال: أخلصوا الدين والعمل. - ومنهم من قال: استقاموا على طاعة الله. - ومنهم من قال: لم يروغوا روغان الثعلب. قال ابن رجب رحمه الله: "الاستقامة سلوك الصراط المستقيم، وهو الدين القيم من غير تعريجٍ عنه يمنة ولا يسرة، ويشمل ذلك فعل الطاعات كلها الظاهرة والباطنة، وترك المنهيات كلها كذلك". إذاً: نحن الآن أمام التعريف الجامع للاستقامة، وهو: فعل الطاعات وترك المنهيات؛ فعل الطاعات الظاهرة والباطنة وترك المنهيات الظاهرة والباطنة.

واقع الاستقامة في حياة الناس

واقع الاستقامة في حياة الناس أيها الإخوة! عند النظر للواقع الذي نعيش فيه الآن، نرى أن أكثر الناس على غير دين الله، وأكثرهم يصدون عن سبيل الله، وفي وسط هذه الظلمات قامت الدعوة بدين الله لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، وهي لا تزال في تقدمٍ وانتشارٍ ولله الحمد. إن بوادر اليقظة الإسلامية التي تعم اليوم أرجاء العالم الإسلامي وحتى الأقليات الإسلامية في بلدان كثر هي أمر واقع، وإن ظهور علامات التدين على كثيرٍ من الأشخاص لا شك أنه نتيجة لهذه الصحوة وظهور هذه اليقظة هو أمرٌ من أمر الله سبحانه وتعالى. ونحن مع فرحنا واستبشارنا بهذه النعمة الإلهية من ظهور أمر الدين وانتشاره؛ فإننا في نفس الوقت نحذر حذراً عظيماً مما يخالط هذه الصحوة، وهؤلاء الناس الذين تظهر عليهم بوادر الاستقامة ومظاهرها، الخشية العظيمة التي نخشاها على أنفسنا وعلى الآخرين من فشو الأمراض الباطنة ونقص الاستقامة الذي هو عيب أي عيب، فإن الكثير ضعف عندهم معيار الالتزام، وتقلص المفهوم الحقيقي للتمسك بهذا الدين، ولقد ظهرت علامات التدين على كثيرٍ من الأشخاص تأثراً بالجو العام، وإذعاناً لبعض الفتاوى، أو حماساً بعد سماع موعظة أو محاضرة، فهؤلاء الذين يغشون اليوم التجمعات الإسلامية من هم هؤلاء؟ ما هي صفاتهم؟ ما مقدار تمسكهم بهذا الدين؟ لا بد أن ننقد أنفسنا لنصحح الواقع، ولا بد أن نعلم مواطئ أقدامنا ومواقعنا حتى ننظر هل نحن على الصراط المستقيم أم أنه يوجد عندنا من الانحرافات ما يجب علينا أن نصححه؟ فهذا بيان للحقيقة، وتنبيه للغافلين، ونصيحة للمقصرين، وكلنا مقصرون. بيان الاستقامة أمر مهم؛ لأننا لن نسلم إلا إذا جئنا الله بقلب سليم، وكذلك فإننا لا نريد أن نكون عقبة في طريق التزام الناس بالإسلام لا نريد أن نكون منفرين عن شرع الله لا نريد أن يكون عندنا من التصرفات ما يكون سداً بين الناس وبين الدخول في هذا الدين والشريعة، فكم من الكفرة لما رأوا بعض التصرفات من بعض المسلمين عدلوا عن الدخول في دين الله، وكم من العامة الذين رأوا تصرفات بعض الذين عندهم شيء من الالتزام الظاهر حملوا على هذا الدين وعلى هذه الاستقامة، وقالوا: هؤلاء المتدينون انظروا إليهم ماذا يفعلون! هل تريدون أن نكون مثل هؤلاء؟ والناس كثيرٌ منهم جهلة، لا يفرقون بين الإسلام والمسلمين، يقولون: الإسلام هو هذه التصرفات التي نراها من المسلمين الاستقامة والالتزام والتدين هو هذه المعاملة التي نلقاها من المتدينين الناس عندهم هذا المبدأ وهم لا يميزون، ليتهم يعرفون الرجال بالحق، لكنهم مع الأسف يعرفون الحق بالرجال! ولذلك فإن كثيراً منهم يكون عنده تصورات خاطئة وقناعات مغلوطة عن حقيقة الاستقامة مما يرونه من تصرفات بعض المتدينين في الظاهر.

الاستقامة على الدين ظاهرا وباطنا

الاستقامة على الدين ظاهراً وباطناً إن الالتزام بالإسلام والاستقامة على دين الله هو ظاهرٌ وباطن، هو مخبرٌ ومظهر، هو حقيقة وجوهر كما أنه شكل ومظهر ينتج ويظهر على المسلم في الخارج، ونحن نريد أن يكون التزامنا بالإسلام داخلي وخارجي، شيء يقر في القلب فينعكس على التصرفات وعلى الأعمال أعمال القلب وأعمال الجوارح. ينبغي أن نعالج القلب قبل أن نعالج العادات والتقاليد والملابس مع أن الكل من الدين، لكن هناك أولويات، ونحن نوقن بالارتباط بين الظاهر والباطن، ونحن نعتقد أن هناك مضغة في الجسد إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله. نعتقد أن تحكيم الشريعة في كل شيء يقود إلى إصلاح الظاهر والباطن، وأن ديننا قد أمر بإصلاح الظاهر والباطن، والله سبحانه وتعالى قال: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} [الأنعام:120] لم يقل: ذروا ظاهر الإثم فقط، ولا قال: ذروا باطن الإثم فقط، قال: ذروا ظاهر الإثم وباطنه، فظاهر الإثم كل ما يظهر للناس من البذاءة والفحش والسب واللعن والشتم ونحو ذلك. وباطن الإثم كل ما يكون في القلب من الحقد والحسد والعجب والغش واحتقار الخلق ونحو ذلك: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} [الأنعام:120] الباطن مهم جداً والظاهر مهم كذلك، ولولا أن الظاهر مهم ما جاءت الشريعة بأحكام اللباس وسنن الفطرة والزينة والشعر والانتعال والنظافة وكل أمرٍ من الأمور التي تميز المسلم ظاهرياً عن غير المسلم، ولما شرعت الشريعة لنا وجوب مخالفة أهل الكتاب وغير المسلمين حتى في صبغ الشعر وفي الصلاة حفاة بغير نعال، وفي اللحية والشارب وغير ذلك، حتى نهينا عن التشبه بالحيوانات والبهائم، والذين يطيلون شواربهم اليوم مخالفون للهدي النبوي الذي أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بقوله وحذرنا: (من لم يأخذ من شاربه؛ فليس منا) يجب قص ما طال عن الشفة، وأولئك النسوة اللاتي أطلن أظافرهن مثل الوحوش وصبغنها بالمناكير الحمراء وغيرها، هؤلاء المتشبهات بالحيوانات والبهائم والوحوش الكاسرة هن على استعداد بالخدش بها في أقرب مناسبة تقوم بها قائمة. إذاً أيها الإخوة! الظاهر أمر عظيم وليس هناك في الإسلام شيء اسمه قشور ولب، والذين ينادون بتقسيم الإسلام إلى قشور ولباب أناسٌ ضالون مخطئون، الإسلام كلٌ لا يتجزأ الإسلام يؤخذ كله ويطبق كله، ومع الأسف فإن الناس اليوم يغترون بالظاهر، وليت أن ظاهر الأكثرية ظاهراً إسلامياً؛ إذاً لقلنا: إنهم على الأقل قد امتثلوا شيئاً من الدين، لكن الناس اليوم يعتنون بالمظاهر في الثياب والحفلات والزينات والطعام والشراب والسياحة، حتى العبادات إذا سمعوا قارئاً يقرأ بصوتٍ جميل، قال: صوتٌ رائع، ويجعلون حجهم سياحة، وعمرتهم أكل وحكايات في الحرم، هذا حالهم. وطائفة أخرى من الناس دخلوا في الدين ظاهرياً؛ فهذا أطال لحيته وأعفاها، والتزم الثوب بطوله الشرعي الذي لا ينزل عن الكعبين، ولكن قلبه ينطوي على أنواع من المفاسد، والأمور العظيمة، ولذلك التصرفات الناتجة عنه والتعامل مع الناس بل مع زوجته وأولاده في البيت وأقربائه وجيرانه من أسوأ ما يمكن. وأناسٌ قد أخذوا بنصيبٍ من هذا وهذا الالتزام الظاهري والباطني، ولكن عندهم نقص، نحن كلنا مقصرون ولذلك هذه دعوة حقيقة للالتزام بالإسلام ظاهراً وباطناً. ولسنا من الذين ينخدعون بالظاهر، ولا بالذين يقومون الناس على الظاهر، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالساً وعنده رجل، فمر رجلٌ فقال النبي عليه الصلاة والسلام للرجل الذي عنده: (ما رأيك في هذا؟ فقال: يا رسول الله! هذا رجلٌ من أشراف الناس، هذا والله حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مر رجلٌ آخر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للجالس عنده: ما رأيك في هذا؟ فقال: يا رسول الله! هذا رجلٌ من فقراء المسلمين، هذا حري إن خطب ألا ينكح، وإن شفع ألا يشفع، وإن قال ألا يسمع لقوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا خيرٌ من ملء الأرض مثل هذا) هذا الضعيف المستضعف خيرٌ من ملأ الأرض من أمثال هذا الذي تقول عنه: إنه من أشراف الناس. ولما كانت امرأة من بني إسرائيل ترضع صبياً لها، أقبل رجلٌ ذو شارة حسنة وهيئة وفخامة ولباس وحشم، فقالت: اللهم اجعل ابني مثل هذا، فترك الصبي الثدي، وأقبل وقال: اللهم لا تجعلني مثله، أنطقه الله في المهد، ونحن اليوم في خضم هذه الجاهلية التي يتعارك فيها ومعها؛ فإننا نحتاج إلى شخصيات إسلامية قوية ذات إيمان وإخلاص ذات علم وعمل: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} [النساء:66] نحتاج إلى أناسٍ يتمسكون بالدين ظاهراً وباطناً نحتاج إلى أناس لا يلعبون بالدين، وإنما يكونون صادقين مع الله سبحانه وتعالى في تمسكهم به، وقلنا أن الناس اليوم قد اهتموا بالمظاهر السيئة، وبعضهم عنده مظاهر طيبة وبواطن سيئة، ولكن الأكثرية -كما قلنا- بعيدون عن شرع الله يلعبون بهذا الدين لعباً، وهؤلاء هم الذين ذمهم الله سبحانه وتعالى، فقال: {أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأعراف:98] {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأنبياء:2] {فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ} [الطور:11 - 12]، والله عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ * وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} [المائدة:57 - 58] {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [الأنعام:70]. هذه النوعية التي تلعب بالدين ابتداءً من العقيدة: ولا تك مرجياً لعوباً بدينه ألا إنما المرجي بالدين يمزح وقل إنما الإيمان قولٌ ونيةٌ وفعل على قول النبي مصرح فهذا الإيمان قول وعمل واعتقاد، والذين يقولون: إن الإيمان بالقلب فقط هم أناسٌ يلعبون بالدين، ويتخذونه لعباً ولهواً، هؤلاء الذين يتحايلون على شرع الله قد عرفناهم، وقد جاءت تصريحاتهم موافقة لما في قلوبهم من الاستهزاء بالدين هؤلاء الذين سموا الربا فوائد وعوائد استثمار، والذي سموا الخمر مشروبات روحية، والذين سموا الرقص والموسيقى والغناء والتماثيل فن، والذين سموا الرشوة أتعاب، هؤلاء الذين يلعبون بالدين قد عرفناهم، وميزناهم جيداً في الواقع، هؤلاء الذين يتتبعون الرخص ويضربون كلام العلماء بعضه ببعض، هؤلاء يلعبون بالنار، الذين يفتون في المجالس في الأهواء ويتكلمون في الدين يخبطون بغير علم، كما قال الأول: ما قال ربك ويلٌ للأُلى سكروا وإنما قال ويل للمصلين قد عرفنا الذين يقولون: لِمَ يأخذ رجل أربعة نسوة ولا تأخذ المرأة إلا واحد؟ فلماذا لا تأخذ المرأة أكثر من رجل؟ قد عرفنا هؤلاء. أيها الإخوة! نريد أن نلقي الضوء على عقيدتنا وتصرفاتنا نحن؛ نحن الذين نرى أننا نريد الصراط المستقيم والهداية، نسعى للتمسك بهذا الدين نريد أن نرى أنفسنا على ضوء الشريعة، الشريعة أمرتنا بأي شيء؟ هل أمرتنا بجزء من الإسلام أو أمرتنا بالإسلام كله؟ هل قالت: أسلموا في وقت الرخاء، ثم تراجعوا في وقت الشدة؟ بماذا طالبتنا الشريعة؟ ما هو المنهج والموقف من هذه الشريعة؟ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة:208 - 209] {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208] كلكم ادخلوا في الإسلام أو ادخلوا أنتم جميعاً في شعائر الإسلام كلها، لا تتركوا شعيرة إلا وطبقتوها بما تستطيعون: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] اعملوا بجميع الأعمال ووجوه البر: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [الأعراف:170] فالله عز وجل قال: يُمسِّكون بالكتاب، فيها معنى التكرير والتكثير للتمسك، هذا الفرق بين يمسِكون بالكتاب ويمسِّكون بالكتاب، إنها صيغة القبض على الكتاب بقوة وجد وصرامة، وهذه الصورة هي التي يريد الله منا أن نأخذ بها كتابه، ونحن نعلم كما علمنا الله ورسوله أن الجد والقوة في أخذ الدين شيء والتعنت والتنطع والغلو والتطرف هو شيء آخر، ولذلك نحن نعلم جيداً الذين يوجهون إلينا سهام التطرف والتنطع بلفظة الأصولية اليوم، نعرفهم ونميزهم ونعرف معنى التمسك بالدين على وجهه صحيح. إن الجد والقوة والصرامة لا تنافي اليسر، لكنها تنافي التميع إنها لا تنافي سعة الأفق، لكنها تنافي الاستهتار لا تنافي مراعاة الواقع، لكنها تنافي أن يكون الواقع هو الحكم على الشريعة، لأن الدين يقول: إن الشريعة هي الحكم على الواقع، وليس العكس. والله سبحانه وتعالى علمنا ونبهنا إلى أن كتابه الكريم هذا قولٌ فصل وما هو بالهزل، بل هو حقٌ وجد، ليس فيه سائبة هزلٍ بل كله جدٌ محض، هو فاصل بين الحق والباطل قد بلغ الغاية في ذلك، فليس بالهزل ولم ينزل باللعب، ويجب أن يكون مهيباً في الصدور: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:63] خذوا ما ألزمناكم من

هل نحن مستقيمون على الشريعة؟

هل نحن مستقيمون على الشريعة؟ أيها الإخوة! نحن نريد أن نعرف جيداً ما مدى التزامنا وتمسكنا بهذا الدين، وهل نحن صادقون فعلاً فيما نزعمه من أننا مستقيمون على الشريعة وأننا متدينون، السؤال الكبير: هل نحن متدينون حقاً؟ السؤال المطروح: هل نحن فعلاً في أنفسنا مستمسكون بالكتاب؟ هل نحن قد أخذنا الكتاب بقوة كما أمرنا الله فقال: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ} [البقرة:63] {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا} [البقرة:93] وكما قال الله آمراً موسى: {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ} [الأعراف:145]، وقال عن يحيى: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم:12] أم أننا نحن عندنا تلاعب وعندنا قصورٌ كبير؟ ما مدى حرصنا على الاستقامة؟ هل استقامتنا كاملة أم أن عندنا نقص في الاستقامة؟ مرض نقص الاستقامة أسوء من مرض نقص المناعة، فإن الأشياء الجسدية ابتلاء، أما الأشياء التي تكون في الدين؛ فإن مصيبة الدين لا تعدلها مصيبة، ولذلك إذا ألقينا الضوء الآن على الواقع الموجود وعلى هذه النوعيات الموجودة من الذين يقولون آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم من جهة وقد عرفنا صفاتهم، ونريد أن نلقي الضوء أيضاً على هذه الفئة التي تقول باستقامتها على الشريعة، والذي يقول لنفسه: قد تدينت والتزمت واستقمت، نريد أن نناقش أنفسنا ونقدم كشف حساب. إن نظرةً في الواقع وفي النفس لتوحي بأن هناك تقصيراً كبيراً للغاية، وأن هناك مرضاً يستشري وهو مرض نقص الاستقامة.

صور مرض نقص الاستقامة

صور مرض نقص الاستقامة مرض نقص الاستقامة له عدة صور في الواقع: - مرض نقص الاستقامة الذي أودى بالإيمان في وادٍ سحيق. - مرض نقص الاستقامة الذي شوه صورة الإسلام وشوه جمال الإسلام في أعين الناظرين إلى بعض الذين يزعمون التدين. - مرض نقص الاستقامة الذي سبب الانتكاس حقيقة، والارتداد على الأعقاب، والنكوص على الأدبار. - مرض نقص الاستقامة الذي أوجد عناصر مشوهة تزعم الانتساب إلى الدين، وليس عندها منه إلا النزر اليسير. - مرض نقص الاستقامة الذي جعل بعض الناس يقولون: نحن نلتزم بالإسلام إلى حدٍ معين لأنه لا طاقة لنا بأخذ الدين كله، والذين يقولون: ما عندنا استعداد لتقديم التضحيات.

من مظاهر نقص الاستقامة: عدم الاستعداد لتقديم التضحيات

من مظاهر نقص الاستقامة: عدم الاستعداد لتقديم التضحيات أيها الإخوة! الذي يسير معك ثم يقول: ليس عندي استعدادٌ لإكمال المشوار، أنت تطالبنا بأمورٍ لا طاقة لنا بها، والحقيقة أنك تطالبهم بالدين، ليس عندنا استعداد للتضحية والتقديم والعمل لهذا الدين، نحن نريد أن نكون طيبين في أنفسنا، مصلين مزكين صائمين نحج ونعتمر، نذكر الله وندعو، لكن أن نقدم تضحيات لهذا الدين ليس عندنا استعداد، أن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر ونتحمل الأذى ليس عندنا استعداد هل هؤلاء فعلاً أصحاب تدين حقيقي؟ إذا احتاجت الدعوة إلى الله إلى إنفاق وبذل أموال وبذل أنفس وبذل جهد وبذل الأعمار تراجعوا، فقالوا: إن أموالنا نحتاج إليها، وأوقاتنا نحتاج إليها، إننا لا نصبر على الأذى، ولا نتحمل ولا نطيق، حتى الأذى الكلامي لا يريدون سماعه، ثم يقولون: نحن متدينون، هذا الالتزام البارد وهذه الاستقامة الناقصة لا تغني شيئاً، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا ظهر السوء في الأرض؛ أنزل الله بأسه بأهل الأرض، وإن كان فيهم قومٌ صالحون، يصيبهم ما أصاب الناس من العذاب، ثم يرجعون إلى رحمة الله ومغفرته) فأين النوعية المصلحة التي تكفل الله بإنجائها إذا حلَّ العذاب بأهل القرى: {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} [الأعراف:165].

الرياء والنفاق في الأعمال

الرياء والنفاق في الأعمال إن الذين يتحركون بعباداتٍ جسدية ليس فيها إخلاص ولا روح ولا توجه لله، بل إن الكثير من أعمالهم يغشاها الرياء والنفاق، هؤلاء يجب أن يعودوا إلى الله ويتوبوا إليه من هذا الخطر العظيم وهذا السوس الذي نخر عظامهم من الداخل، والذي أودى بعباداتهم وقلل أجرها أو أعدمها بالكلية، الذين لا يصلون إلا مع الناس، ولا يطيلون الصلاة والخشوع إلا أمام الناس، الذين لا يتعلمون العلم إلا للمباهاة، الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأنهم: (من تعلم العلم ليباهي به العلماء، أو يماري به السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله جهنم). وفي رواية: (لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء، أو تماروا به السفهاء، ولا لتجترءوا به المجالس، فمن فعل ذلك؛ فالنار النار). وقال عليه الصلاة والسلام: (لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء، أو لتماروا به السفهاء، أو لتصرفوا به وجوه الناس إليكم، فمن فعل ذلك؛ فهو في النار).

من مظاهر نقص الاستقامة: عدم مقاومة للنفس وهواها

من مظاهر نقص الاستقامة: عدم مقاومة للنفس وهواها الذين يقولون: إننا مستعدون للالتزام والاستقامة على الأمور التي لا مغالبة للنفس فيها ولا مقاومة، نحن نطلق اللحى ونقصر الثياب، ولا نشعر أن هناك شهوة نريد أن نقاومها، لكن لا تطلب منا غض البصر عن المرأة الأجنبية؛ هذا أمرٌ صعب، لا تطلب منا ترك الغناء؛ لأنه شيءٌ قد تأصل في نفوسنا هل هؤلاء الناس صابرون على منهج الله؟!! أين الصبر بأنواعه؟ أليس الصبر على طاعة الله نوع، والصبر عن معصية الله نوعٌ آخر، والصبر على أقدار الله وقضائه نوعٌ ثالث؟ أم أنهم لا يصبرون عن الأشياء التي فيها شهوات ومقاومة على النفس، ويقولون: الأمور التي فيها سهولة نعملها من الدين، والأمور التي فيها مشقة وصعوبة نتركها، هل هؤلاء الناس صادقون في استقامتهم أم أنهم مرضى؟!

من مظاهر نقص الاستقامة: الخلل في معيار الحرام

من مظاهر نقص الاستقامة: الخلل في معيار الحرام إن الذين يفعلون أنواعاً من المحرمات وقد فقدوا معيار الحرام بدرجاته، فيرون أشياء كبيرة وعظيمة وهم يعملون أكبر منها وأعظم، الذين يرون -مثلاً- أن حلق اللحية أمرٌ خطير، وهو أمرٌ خطير فعلاً ومحرم في الشريعة، لكنهم يتساهلون جداً في الغيبة وهم يعلمون أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (الربا اثنان وسبعون باباً أدناها مثل إتيان الرجل أمه، وإن أربا الربا استطالة الرجل في عرض أخيه) فكم الذين يقعون في الغيبة ويستطيلون في أعراض إخوانهم وهم يزعمون أنهم أهل صلاح وتدين؟ (أتدرون ما الغيبة؟ ذكرك أخاك بما يكره، إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته). يأكلون لحم إخوانهم كالذي يأكل لحم أخيه ميتاً، وأسوؤهم على الإطلاق -وقد ظهرت نابتة في عصرنا هذا كما ظهرت في عصور الإسلام السابقة- الذين يقعون في أعراض الدعاة إلى الله وأهل العلم، فيستطيلون في أعراض الدعاة إلى الله ويتهمونهم بشتى التهم بحجة الإصلاح، ويلبسون الغيبة لباس النصيحة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر في الحديث القدسي الذي يرويه عن ربه عز وجل: (من عادى لي ولياً؛ فقد آذنته بالحرب) فإذا قام يعادي أولياء الله، الذين قاموا لله بالحجة، ونصحوا الأمة، وحذروا وبينوا يُقام عليهم بالتشهير والشتم والتنقص ويُترك أعداء الله سالمين، هؤلاء معادين لأولياء الله، هل هم مستقيمون على الشريعة فعلاً أم أن عندهم مرضاً داخلياً مستشرٍ مثل السرطان يأكل الخلايا من الداخل؟! الذين يتساهلون في النميمة، ولا يعدون خطورة النميمة كخطورة أمرٍ آخر مثل الإسبال، فيرون الإسبال شيئاً كبيراً وهو كبيرٌ فعلاً عند الله، فالله يحرق من الإنسان الجزء الذي يكون أسفل من كعبه (ما تحت الكعبين من الإزار ففي النار) فالمسبلون تحت المشيئة إذا كانوا من أهل التوحيد، لكن النظر إلى هذا الأمر على أنه أمرٌ خطير، والنميمة ونقل كلام الناس بعضهم إلى بعض للإفساد بينهم لا يعتبرونه أمراً خطيراً، فهؤلاء أناسٌ مغفلون عندهم جهلٌ أو هوى. الذي يزعم أنه متمسك بالشريعة في الظاهر هو مفلسٌ أشد الإفلاس، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أتدرون ما المفلس؟ إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيامٍ وزكاة، ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه، أُخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار). إذاً هناك أناس يذهبون إلى مكة فيحجون ويعتمرون ويقرءون القرآن ويبكرون ربما إلى المساجد لكن في الوقت نفسه عندهم من أنواع الظلم لإخوانهم وللمسلمين ولعباد الله عموماً ما يأكل حسناتهم أكلاً، فيأتون يوم القيامة من المفلسين.

من مظاهر نقص الاستقامة: سوء الخلق

من مظاهر نقص الاستقامة: سوء الخلق هؤلاء الذين يقولون: نحن متدينون، لكن عندهم من سوء الخلق ما أفسد عليهم تدينهم، لديهم أخلاق سوقية فهم يتعاملون مع الناس بشراسة وعناد وقبح وفحش، عندهم من الكبر في أنفسهم ما هو أكثر من كثيرٍ من المعاصي والموبقات والفواحش، عندهم عنجهية واحتقار للخلق، هؤلاء وإن كان مظهرهم حسناً لكن الله سبحانه وتعالى سيحاسبهم على سوء الخلق (وإن سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل) هؤلاء الذين يعاملون آباءهم وأمهاتهم بفضاضة وغضاضة، ويعاملون زوجاتهم أسوأ المعاملة، ويظلمون أولادهم، كيف يكون هؤلاء متدينون ومستقيمون فعلاً وهم بهذه الطريقة؟ لقد قلنا: إن السفهاء من الناس إذا رأوا هؤلاء يقولون: هذا هو التدين المطلوب الذي تقولون لنا عنه وتأمروننا به؟! فيكون سيئ الخلق من الذين يصدون عن سبيل الله. الذي يزعم أنه مستقيم على الشريعة ولكنه ظالمٌ للناس للعمال، للخدم، للمراجعين، للزملاء (اتقوا دعوة المظلوم فإنها تحمل على الغمام، يقول الله: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين) (اتقوا دعوة الله المظلوم، فإنها تصعد إلى السماء كأنها شرارة) (اتقوا دعوة المظلوم وإن كان كافراً؛ فإنه ليس دونها حجاب) فلنتق الله في أكل الحقوق وظلم الناس.

من مظاهر نقص الاستقامة: الكذب وخلف الوعد والفجور في الخصومة

من مظاهر نقص الاستقامة: الكذب وخلف الوعد والفجور في الخصومة الذي يقول: إن عنده تدين واستقامة؛ لكنه إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، والذين يكذبون في الحديث كثرٌ جداً، وبعضهم مع الأسف قد يكون عنده من لبوس التدين ما عنده، لكنه يكذب في الحديث، بل قد يكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، ويكذب على العلماء، وقد علمنا أن من هؤلاء من يجلس في المجالس ويقول: هذا حديث صحيح أخرجه فلان وفلان، وقال فيه فلان كذا، وهو كذاب ما في كلامه حرفٌ واحدٌ صحيح، أو الذين يجترئون على العلماء في المجالس ويقولون: الشيخ الفلاني أفتى بكذا، وقال: إنها حلال، والشيخ الفلاني حرمها، وقال: إنها حرام، وهو كذاب ما سمع الفتوى من الشيخ، ولم يتثبت منها وليس عنده طريقٌ صحيح من العالم، ومع ذلك ينقل على لسان الشيخ ما ينقل. الذين يكذبون في الفتوى ويكذبون على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم وينسبون الأحاديث إلى النبي عليه الصلاة والسلام وهم ليسوا متأكدين فعلاً من صحتها، هل هؤلاء مستقيمون على الشريعة أم أن عندهم مرضاً خطيراً هو مرض نقص الاستقامة؟ وهذا الذي إذا وعد أخلف، يخلف وليس عنده عذر، ويخلف دون اعتذار، ماذا يسمى؟ والذي يتخلف عن الموعد بدون عذر، والذي لو وعدك الساعة السابعة يخرج من بيته الساعة السابعة، وإخلاف الموعد درجات، فقد يخلف بالكلية، وقد يخلف جزءاً منه، لماذا تعد؟ وإذا وعدت لماذا لا تثبت على الموعد؟ وإذا لم تستطع لماذا لا تعتذر؟ أليس هذه من صفات المنافق؟ (أربعٌ من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كان فيه خصلة منهن؛ كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذَب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر). هذا الكذاب الذي يقول لك أشياء لم تحصل، ويقول لك من القصص ما يخترعه، هذا هو الكذاب الذي يكذب فتبلغ كذبته الآفاق، وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه فقال: (إذا اقترب الزمان، ولم تكد رؤيا الرجل المسلم تكذب، وأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثاً) فجعل صدق الحديث من أسباب صدق الرؤيا وانطباق الرؤيا في الواقع حتى يرى الرؤيا، فتكون تنبيهاً له وتعريفاً له بأمر سيحصل. إن الذين إذا أتوا أهل الخير جلسوا معهم، وأعطوهم من الكلام الطيب ما يقنعونهم به أنهم مثلهم وأنهم على طريقتهم وأنهم متدينون فعلاً، ثم إذا ذهبوا إلى أهل الشر جلسوا معهم وشاركوهم، وقالوا لهم من الكلام ما يدل على أنهم مثلهم ومن شيعتهم، هل هؤلاء مستقيمون على الشريعة؟! ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تجدون الناس معادن، فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقِهوا أو فقُهوا، وتجدون خير الناس في هذا الشأن أشدهم له كراهية قبل أن يقع فيه، وتجدون شر الناس يوم القيامة عند الله ذا الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه ويأتي هؤلاء بوجه هؤلاء) حديث صحيح، هؤلاء الذين يلعبون على الحبلين ويظنون أنهم حكماء، وأنه من الذكاء والفطنة والحنكة أن تسايس أهل الدين وتسايس أهل الفسق، وأن تكون مع هؤلاء بالألفاظ الطيبة والكلام الحسن والسمت الحسن، ثم تذهب إلى أهل الشر، فتكون مثلهم وتشاركهم في منكراتهم، هؤلاء الذين إذا ذهبوا إلى أهل الشر قالوا: {إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:14] نحن إنما نأتي هؤلاء المتدينين ما يناسبهم (من كان له وجهان في الدنيا؛ كان له يوم القيامة لسانان من نار) أخرجه أبو داود من حديث عمار مرفوعاً، وهو حديث صحيح. تجد أحدهم من سوء التعامل أنه إذا حدث بينه وبين أخيه خصومة؛ فجر في الخصومة، ثم هجر أخاه المسلم هجراً تاماً، لا يسلم عليه إذا لقيه، ولا يجلس معه في مجلس، ولا يزوره ولا يرد سلامه مع أنه مسلم مثله، لو ترك السلام عليه؛ لأنه صاحب بدعة؛ لقلنا: أحسنت، لو ترك السلام عليه؛ لأنه صاحب منكر ظاهر؛ لقلنا له: في الله هجرت، لكن من أجل الدنيا يهجرون إخوانهم المسلمين ويقطعونهم قطعاً، ويبتونهم بتاً، هل هؤلاء من المستقيمين على شرع الله أم أن عندهم مرضاً في الاستقامة؟ (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، فمن هجر فوق ثلاث، فمات؛ دخل النار) أخرجه أبو داود عن أبي هريرة مرفوعاً، وهو حديث صحيح. وفي حديث صحيح آخر: (هجر المسلم أخاه كسفك دمه)، وقال صلى الله عليه وسلم: (من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه) (تعرض أعمال الناس في كل جمعة مرتين: يوم الإثنين ويوم الخميس، فيغفر لكل عبدٍ مؤمن إلا عبداً بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: اتركوا هذين حتى يصطلحا، اتركوا هذين حتى يفيئا) رواه مسلم. وقال صلى الله عليه وسلم: (تفتح أبواب الجنة يوم الإثنين ويوم الخميس، فيغفر فيهما لكل عبدٍ لا يشرك بالله شيئاً، إلا رجلٌ كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: انظروا هذين حتى يصطلحا) رواه مسلم. فإذاً الذين يقطعون حبال الوصل مع إخوانهم المسلمين في الله هل هؤلاء من المستقيمين على شرع الله فعلاً؟ وبالمناسبة نقول: إنه لو انقطعت أخبار أخيك عنك لا لشحناء ولا لبغضاء، وانقطعت صلتك به لانشغالك وليس لعداوة؛ فإنك لا تكون هاجراً له، لكن احرص على وصل أخيك المسلم، لكن من أجل الدنيا تقطع أخاك المسلم فتهجره سنين ولا تسلم عليه! وهذا متفشٍ وكثير، ودقق في أحوال الناس واستمع للأخبار تجد ذلك عياناً بياناً.

من مظاهر نقص الاستقامة: الكبر

من مظاهر نقص الاستقامة: الكبر تجد الذين عندهم كبر يحرصون على صدور المجالس ولا يجلس حيث انتهى به المجلس، فيرتكبون أمراً حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح بقوله: (اتقوا هذه المذابح -أي: المحاريب- حضور المجالس، تواضعوا لله) اجلس حيث ينتهي بك المجلس، هذا الذي مهما كانت هيأته ومظهره هذا الذي يجد في نفسه حنقاً لو أنه لم يقم له في صدر المجلس ليجلس، فأين يكون موقعه من الاستقامة؟ إن الذين يأتون بالكفرة من الخدم والموظفين وهم يعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أخرجوا المشركين من جزيرة العرب)، وقال: (أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب) ولو كانت سيماهم سيماء أهل الخير، لكنه يرتكب منكراً ومعصية. الذين يظلمون الخدم في البيوت بالضرب والإهانات والخصم، كيف به وهو يسمع حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه فاكتفاه علاجه ودخانه، فليجلسه معه، فإن لم يجلسه معه؛ فليناوله أكلةً أو أكلتين) هذا طبعاً في غير النساء مع الرجال، فإن المرأة لا تجلس مع الرجل الأجنبي. إن الذين عندهم نوع من الكبر يظنون أن نوعاً معيناً خاصاً من الدماء يجري في عروقهم، وأنهم من نسلٍ غير نسل آدم، وأنهم من طبقة من البشر ليست كباقي طبقات الناس الذين لو جاءهم خاطبٌ يخطب منهم احتقروه، وقالوا: كيف تتجرأ أصلاً أن تطرق بابنا وأنت تعلم أننا أصحاب حسب ونسب وشرف وأنت حقير؟ هؤلاء ما هو موقعهم من الاستقامة مهما كانت أشكالهم وصورهم، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه؛ فزوجوه إلا تفعلوا؛ تكن فتنة في الأرض وفسادٌ عريض) إذا كنت تخشى مفاسد وقطيعة داخل العائلة؛ إذاً اعتذر بأدب، أما أن يحتقر خلق الله لماذا يتقدم أصلاً للزواج؛ لأنك ترى في نفسك خاصية من دون عباد الله، وكأنك لست لآدم الذي هو من تراب: (كلكم لآدم وآدم من تراب) فهذه النوعية من البشر أين موقعهم من الاستقامة؟

من مظاهر نقص الاستقامة: أذية الجار

من مظاهر نقص الاستقامة: أذية الجار إن الذين يشتكي منهم جيرانهم من أنواع الأذى التي يعاملونهم بها ويؤذونهم بها، هل هؤلاء مؤمنون حقاً والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن! قيل: من يا رسول الله! قال: من لا يأمن جاره بوائقه)، وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا أثنى عليك جيرانك أنك محسن؛ فأنت محسن، وإذا أثنى عليك جيرانك أنك مسيء؛ فأنت مسيء).

من مظاهر نقص الاستقامة: أذية المصلين في المساجد

من مظاهر نقص الاستقامة: أذية المصلين في المساجد إن الذين يضايقون خلق الله في المساجد بالروائح الكريهة من روائح البصل والثوم ونحوه، أو يتنخم في المسجد نخامة تصيب بدن أخيه أو ثوب أخيه، كيف هو؟ لقد قال صلى الله عليه وسلم: (إذا تنخم أحدكم وهو في المسجد؛ فليغيب نخامته لا تصيب جلد مؤمنٍ أو ثوبه فتؤذيه) حتى هذه الأشياء الإسلام يراعي فيها مشاعر المسلمين.

من مظاهر نقص الاستقامة: ظلم الزوجة

من مظاهر نقص الاستقامة: ظلم الزوجة إن الذي تكون عنده زوجة فيظلمها ويأكل حقها، فلا يدع لزوجته ريالاً من راتبها إلا ويأخذه في آخر الشهر، حتى رواتب الصيف ومكافئة نهاية الخدمة يأخذها بدون رضاها وهو ما اشترط عليها في العقد شيئاً، فيأخذ مال أخيه المسلم بغير حق، هذا كيف يكون حاله؟ هؤلاء الذين يظهرون بالبشاشة في وجوه إخوانهم، ثم يكونون من أسوء خلق الله في التعامل مع زوجاتهم. الذي يكون عنده أكثر من زوجة وهو يهمل إحداهن ويغيب عنها، ويتركها ولا ينفق عليها، ويقول: أنت موظفة أنفقي على نفسك، كأن الشريعة قالت: إذا كانت الزوجة موظفة فالنفقة عليها، والشريعة ما قالت هذا، وربما أدخل أولاد هذه في مدارس خاصة، وترك أولاد تلك ونحو ذلك، تفريط بدون سبب شرعي (إذا كانت عند الرجل امرأتان فلم يعدل بينهما؛ جاء يوم القيامة وشقه مائل) جزاءً وفاقاً لظلمه لزوجته. وكذلك الزوجة التي تظلم زوجها، فترفض خدمته وتتعالى عليه أو تقول: راتبي أكثر من راتبك، وشهادتي أعلى من شهادتك، وتطلب الطلاق منه من غير ما بأس؛ فحرام عليها رائحة الجنة، ومهما كان حجابها وشكلها؛ فإن استقامتها ليست بكاملة.

من مظاهر نقص الاستقامة: مماطلة الأجراء

من مظاهر نقص الاستقامة: مماطلة الأجراء إن الذين يستأجرون الأجراء ويماطلونهم ولا يعطونهم حقوقهم، ويخصمون عليهم من الرواتب والمستحقات والبدلات، ويقف في طريقه إذا أراد أن يعف نفسه (أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه) هؤلاء استقامتهم ليست بكاملة. إن الذين يقترضون الأموال ويستدينون، وهم يعلمون أنهم لن يؤدوا هذه الأمانة، ويتساهلون في الاستدانة، مهما كانت أشكالهم وصورهم ومظاهرهم، فكيف يكون حالهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها؛ أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها؛ أتلفه الله)، وقال صلى الله عليه وسلم: (سبحان الله! ماذا أنزل من التشديد في الدين، والذي نفسي بيده! لو أن رجلاً قتل في سبيل الله، ثم أحيي، ثم قتل، ثم أحيي، ثم قتل وعليه دين، ما دخل الجنة؛ حتى يقضى عنه دينه) وبعض الناس الآن يتساهلون في الدين وهو يعلم أنه لن يرد، وإن كان عنده مال يماطل ويقول: لا أريد أن تنزل مدخراتي عن مستوى كذا، إذا ارتفعت فوق كذا؛ رددت إليك مالك، هؤلاء المماطلين عليهم أن يعلموا أن استقامتهم ناقصة مهما كانوا.

من مظاهر نقص الاستقامة: عدم أخذ الدين بالقوة

من مظاهر نقص الاستقامة: عدم أخذ الدين بالقوة ونحن أيها الإخوة! نعاني ونعاني كثيراً من عدم أخذ الدين بالقوة كما أمرنا الله، نعاني من تسيبات، حتى على مستوى الصحوة توجد أنواعٌ من الغثائية والتفريط، فهذا إغراق في الضحك، وتضييع للأوقات في النكت والطرائف وليس نكت بمعنى الفوائد لكنها نكت بمعنى آخر فيه إغراق في الضحك، والنبي صلى الله عليه وسلم قد علمنا بأن كثرة الضحك تميت القلب، فأين استشعار المسئولية تجاه هذا الدين؟ وأين حديث: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً). نحن اليوم نعاني على مستوانا الداخلي من أنواع التسيب وعدم الجدية في طلب العلم، فهناك من الشباب من لا صبر له على القراءة ولا اهتمام له بحضور حلق الذكر والعلم، ولا دافع عنده للسؤال عن الأحكام الشرعية وتعلم دين الله، ولو سئل عن دليلٍ شرعيٍ في حجاب المرأة ما عرفه، أو في حكم الزنا ما أثبته، وكل كلامه: أو كما قال أو كما قال. والذين يشتغلون ببعض أنواع الملهيات من الألعاب وغيرها ويجعلون جُل وقتهم فيها ويتركون العمل لهذا الدين والسعي لنصرة الدين والدعوة للدين، فهؤلاء فقههم في دين الله ضعيف. إن واقع المجالس اليوم التي نجلس فيها مع أنواع القضايا التي تثار في هذه المجالس والمواضيع التي تطرق تحتاج إلى مراجعة كبيرة، ليتهم يتناقشون في مسائل في العلم، أو يعرضون شيئاً من أحوال المسلمين، أو يفكرون في حلول مشكلات المجتمع، أو يتداولون الخبرات، أو يذكرون شيئاً؛ ليزدادوا به إيماناً! وإنما مجالسهم لهوٌ ولعب وسهر وتضييع لصلاة الفجر ساعات طويلة تنفق من العمر. إن مرض نقص الاستقامة قد أصاب مجالسنا إصابات بالغة، وجعل هذه المجالس قليلة الخير نادرة الفائدة، ولو كان هناك استقامة صحيحة لصارت المجالس مثمرة.

من مظاهر نقص الاستقامة: تمييع الأخوة الإسلامية

من مظاهر نقص الاستقامة: تمييع الأخوة الإسلامية إن مرض نقص الاستقامة قد انعكس كذلك على مفهوم الأخوة الإسلامية فميعه، وصارت العلاقات كثيراً ما تكون استئناسات وترويحات وتبادل للألفاظ العاطفية، وخلطة زائدة، وأضرار سلبية، وانخفاض إيمان، وتعلق بغير الله، ووصول إلى درجات العشق ونحو ذلك وإعراض عن الجلوس مع من يستفيد منهم، ومع من يكون عندهم علمٌ نافع، وإنما التقوقع على فلانٍ واحدٍ أو اثنين أو أكثر وترك البقية والحرمان -حرمان النفس من فوائد جمة- وإنما هي شجين وعواطف تنطلق بلا حساب.

من مظاهر نقص الاستقامة: التهاون في السنن والمستحبات

من مظاهر نقص الاستقامة: التهاون في السنن والمستحبات إن مرض نقص الاستقامة قد أدى إلى حصول تهاونٍ بالسنن والمستحبات، وهناك قسمان: نقص الكمال الواجب ونقص الكمال المستحب، فأما نقص كمال الاستقامة الواجب فقد ذكرنا أمثلة منه كثيرة، ولكن ينبغي أن ننتبه لمرض نقص كمال الاستقامة المستحب. الكمال كمالان: كمال واجب لا بد أن يؤتى به. وكمال مستحب ولكن التفريط والتضييع أدى إلى الوقوع في أنواع من التهاونات. فأقول: إن مرض نقص الاستقامة قد أدى فيما أدى إلى الاستهانة بالسلوك، حتى السواك ورص الصفوف التي يعتبرها بعض الناس أشياء ثانوية وجانبية، أي: أنهم يمكن أن يهملوها، مع أنك يا أخي المسلم لو تتبعت الأحاديث الواردة في السواك لرأيت أمراً عجباً، وقد صنف بعض العلماء كتباً في السواك فقط، والذي يتتبع هذا الأمر يخرج بانطباع أن الشريعة تريد تكميل المسلم وإحاطته من جميع الجوانب، وأن تجعله في أحسن صورة، لكن بعض الناس يصرون على الإهمال والتضييع لهذه السنن، ويقولون: هذه قشور، اترك وابتعد. نحن لم نقل: اجعلها أولويات في الدعوة، أو قدمها على ما هو أعظم منها من الأعمال، لكن ألا تعملها وتتركها نهائياً، والذي حصل من أنواع التأخرات والتهاونات في السنن أدى إلى أشياء سيئة، فمثلاً: التهاون في النوافل، قال صلى الله عليه وسلم: (إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله الصلاة، فإن صلحت؛ فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت؛ فقد خاب وخسر، وإن انتقص من فريضة -لو انتقص من الطهارة أو الشروط أو الأركان أو الواجبات أو الخشوع- قال الرب: انظروا هل لعبدي من تطوع؟ فيكمل بها ما انتقص من الفريضة، ثم يكون سائر عمله على ذلك) أي: لو نقص من الزكاة؛ يكمل من الصدقة، لو حدث رفث وفسوق وجدال في الحج؛ يكمل من حج النافلة، فكيف نضيع النوافل إذا كانت النوافل مهمة في تكميل النقص الحاصل في الصلوات الواجبة والفرائض؟ وكذلك التهاون في الصدقات وصيام النافلة وغيرها من العبادات. ومن الأشياء التي تحدث في هذا الجانب أيضاً: التكاسل عن التبكير للصلاة، وخاصة صلاة الجمعة وصلاة الجماعة، ولقد هدد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (ولا يزال أناس يتأخرون حتى يؤخرهم الله)، وقال صلى الله عليه وسلم: (احضروا الجمعة وادنوا من الإمام، فإن الرجل لا يزال يتباعد؛ حتى يؤخر في الجنة وإن دخلها) حديث صحيح. وكذلك يوقع في أخطاء، فمن الأخطاء التي يوقع فيها مثلاً: الإسراع أثناء الحضور إلى المسجد إسراعاً يخل بالخشوع، مع أن السنة الإتيان إلى المسجد بالسكينة والوقار: (إذا ثُوب للصلاة؛ فلا تأتوها وأنتم تسعون، وائتوها وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا، فإن أحدكم إذا كان يعمد إلى الصلاة؛ فهو في صلاة) فلماذا يركض؟ ولماذا يستعجل؟ ولماذا يجري فيدخل في الصف لاهثاً لا يلتقط أنفاسه إلا بصعوبة، فيفوت عليه الخشوع وحسن القراءة؟ قد نقع في أخطاء من جهة التطويل في الإمامة، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (إذا أم أحدكم الناس فليخفف، فإن فيهم الصغير والكبير والضعيف والمريض وذا الحاجة، وإذا صلى بنفسه فليطول ما شاء) والمقصود التطويل غير الشرعي، أما أداء الصلاة كما أمر الله وإتقانها كما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا من اتباع السنة. من الأمور التي يحصل فيها تفريط أيضاً في قضايا المستحبات: عدم التورع عن المشتبهات والوقوع في الشبه، وهذا يؤدي إلى الوقوع في الحرام، وهذا يقول لك: هذا مطلي بالذهب، وهذا يقول: هذا كذا، وموقفنا الصحيح إن كان فعلاً عندنا استقامة جادة على الشريعة أن نترك هذه المشتبهات (اجعلوا بينكم وبين الحرام ستراً من الحلال، من فعل ذلك استبرأ لعرضه ودينه، ومن ارتع فيه كان كالمرتع إلى جنب الحمى يوشك أن يقع فيه، وإن لكل ملكٍ حمى، وإن حمى الله في الأرض محارمه). إن كثرة النزول إلى الأسواق، وما فيها من المنكرات وغشيان أماكن الاختلاط لغير حاجة ما هو إلا نقص في الاستقامة (أحب البلاد إلى الله مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها) ومن الناس من همه الصفق في الأسواق.

من مظاهر نقص الاستقامة: حصول الطفرات والانتكاسات

من مظاهر نقص الاستقامة: حصول الطفرات والانتكاسات وأقول: إن مرض نقص الاستقامة قد أدى فيما أدى إليه حصول الطفرات التي ليست مؤسسة على تقوى من الله ورضوان، وحماس على غير أساس، فينقطع الطريق بالإنسان ولم يؤسس نفسه كما يريد الله عز وجل، ولذلك ترى الرجل حين يصعد فجأة من عالم الجاهلية إلى عالم الدين والعبادة، ثم يهبط فجأة وتهوي به ريح الانتكاس في وادٍ سحيق، وسبب ذلك: أن تحصيل الاستقامة يحتاج إلى تربية تحصيل الاستقامة يحتاج إلى وسط إسلامي تحصيل الاستقامة يحتاج إلى إخوة في الله يجالسهم تحصيل الاستقامة يحتاج إلى حلق ذكر يغشاها تحصيل الاستقامة يحتاج إلى تربية جماعية وفردية تحصيل الاستقامة يحتاج إلى تناصح بيننا، ولذلك فهؤلاء الذين تحدث عندهم نوع من الحماسة بعد الخطبة أو محاضرة أو شريط يستمع إليه يخفق في الوصول إلى الهدف وينكص ويرجع؛ لأنه لم يعرف كيفية تحصيل الاستقامة الكاملة ولا الطريق إلى ذلك، هو الذي يريد أن يكون فرداً لا صلة بينه وبين إخوانه، ولا يريد أن يكون مع الجماعة، ويد الله مع الجماعة.

من مظاهر نقص الاستقامة: عدم التفاعل مع قضايا المسلمين

من مظاهر نقص الاستقامة: عدم التفاعل مع قضايا المسلمين ومن آثار نقص الاستقامة: ألا نتفاعل مع قضايا المسلمين، ولا نعرف أخبار إخواننا المسلمين، ولا نمد يد العون لإخواننا المسلمين! مسلمون يشردون وآخرون يقتلون وفئة يسجنون وغيرهم يعذبون، ونحن حتى الدعاء بخلنا به، فهل هذه الاستقامة صحيحة؟ وأين مفهوم الجسد الواحد الذي حثَّ عليه الإسلام؟ ونحن نتكئ على الأرائك نتبرد ونأكل من الملذات، فهذا واحد لا يأتي بالحلوى إلا من البحرين، وعنده مشاوير خاصة من أجل الحلوى، ولو أخذت وقتاً طويلاً أو قصيراً فالأمر عادي، ولو ضاعت صلاة الجماعة فذلك ليس مهم، يعني: أحياناً نضرب في تحصيل لذائذنا أكباد الإبل، ونمتطي ونرحل، ولأجل صلاة أو حلقة علم لا نبذل شيئاً من الوقت فهذا من نقص الاستقامة.

من مظاهر نقص الاستقامة: التعلق بالدنيا

من مظاهر نقص الاستقامة: التعلق بالدنيا إن التخلي عن الزهد والاهتمام بالمظهر والثياب والعطور والأرياش والتنعم والتحف في البيوت من الأشياء المشغلة؛ لأنها تؤدي إلى التعلق بالدنيا، والتعلق بالدنيا ينافي الاستقامة، فمفهوم الزهد أيضاً ناقص، والذي تكون استقامته كاملة يكون زهده كبيراً، فعندنا اهتمام بالمظاهر إسراف تضييع أموال كماليات، هذا يقول: أشتري قارباً بثلاثين ألفاً، من أجل إذا كانت هناك تمشية أتمشى هل هذا فكر مرة أخرى وراجع نفسه هل القرار هذا صحيح؟ أليس هناك مجالات أحسن وأفضل وأكثر أجراً لتضع فيها هذه الأموال؟ إذاً: هناك قضايا كثيرة تحصل ولكن محاسبة النفس ضعيفة، ولأجل ذلك فإنه تخترقنا كثيرٌ من سهام الشيطان.

من مظاهر نقص الاستقامة: بقاء رواسب الجاهلية عند الإنسان

من مظاهر نقص الاستقامة: بقاء رواسب الجاهلية عند الإنسان من نقص الاستقامة: أن توجد عند الإنسان رواسب من الجاهلية لا يسعى لتخليص نفسه منها، ولذلك فانحرافه من أسهل ما يكون، فقد تكون له علاقات محرمة لا يقطعها، وصور موجودة لا يتلفها، وأفلامٌ سيئة لا يتخلص منها، وأرقام هواتف لا زال يحتفظ بها، كل ذلك من أثر مرض نقص الاستقامة، ولو أنه جلس في مجلس فظهرت على الشاشة مباراةٌ لكرة القدم؛ لانخرط في التشجيع وانهمك به، واتخذ جانباً معيناً وصارت القضية قضية مهمة عنده، هذا لنقص استقامته، وأقرب نوعية للانتكاس هي هذه النوعية.

من مظاهر نقص الاستقامة: عدم القيام بواجب الإصلاح والإنكار

من مظاهر نقص الاستقامة: عدم القيام بواجب الإصلاح والإنكار من آثار نقص الاستقامة: عدم الاهتمام بالبيت وإصلاح البيوت، ويكون هذا الإنسان الذي يزعم الاستقامة شبه معطل ليس عنده طاقات يبذلها لله لا إنكار منكرات، ولا قيام لله بواجب الذب عن شريعته، وربما لو أن المجلس حصل فيه اتهامٌ للإسلام أو طعنٌ في الدين ما قامت له قائمة ولا تحرك له رمشٌ ولا اختلج فيه عرق؛ لأن من الخذلان -والعياذ بالله- ما يمنعه عن الدفاع عن بيضة الدين وحفظ هذه الشريعة. أن تمر بالمنكر فلا تنكره، لماذا؟ أتخشى الناس؟! فالله أحق أن تخشاه: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175] أين إنكار المنكر ولو بالكلام؟ إن لم تستطع باليد فبالكلام، وماذا يضرك لو تكلمت؟ ثم إننا مطالبون بالنصيحة والكلام والصبر على الأذى: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان:17]. إلقاء التبعات على العلماء والخطباء والقول إنهم مسئولون عن تصحيح الانحرافات أنا مسلم عادي ما عندي شيء مقصوص الأجنحة لا أستطيع أن أفعل شيئاً، من قال ذلك؟ أنت يمكن أن ترى منكرات لا يراها أولئك العلماء والخطباء، وأن تكون في بيئات لا يأتي إليها العلماء والخطباء، وأنت تجلس في أوساط ومجالس لا يغشاها أولئك القوم؛ فعليك المسئولية والتبعية، فلماذا التخاذل عن إنكار المنكر؟ لماذا الاستسلام للدعة والخشية من أن يرد عليك أو يقال فيك كلمة؟ أين النصيحة؟ (الدين النصيحة) النصيحة لله أن تذب عن دينه وشريعته أن تقوم له سبحانه النصيحة لرسوله صلى الله عليه وسلم النصيحة لكتاب الله، أين النصيحة لكتاب الله وهم في المجلس يتكلمون على الإسلام وأنت ساكت؟

من مظاهر نقص الاستقامة: ضياع الأوقات في الأسفار

من مظاهر نقص الاستقامة: ضياع الأوقات في الأسفار وكذلك نعاني أيضاً من ضياع الأوقات في الأسفار التي لا طائل من ورائها، وحياة الاصطياف التي يعملها كثيرٌ من الناس لا مصلحة شرعية فيها، بل فيها كثيرٌ من المضرة وإنفاق الأموال الكثيرة، ويحصل فيها من قسوة القلب ورؤية المنكر ما يجعل الإنسان مختل الإيمان ينزل إيمانه إلى الحضيض يرجع من الإجازة لم يزدد إيماناً وإنما نقص إيمانه ونقص دينه وفرط في أشياء كثيرة.

مظاهر أخرى مخالفة للاستقامة

مظاهر أخرى مخالفة للاستقامة ينبغي أن تكون استقامتنا على الدين استقامة صحيحة كاملة واعية، أن نمسك بهذا الدين فعلاً، لا نترك إلقاء السلام على الناس بحجة أنهم غير متمسكين، وأن عندهم نوعاً من الفسق؛ بل أفشوا السلام وأطعموا الطعام، وابتسامتك في وجه أخيك صدقة، دع الغيبة التي تكون بخلاف النصيحة، ودع التظاهر بالانشغال وليس عندك شيء لتبدي نفسك شخصاً مهماً، واترك الضعف والوهن، ودافع عن عرض أخيك المسلم، أليس من السوء كل السوء أن كافراً يستهزئ بمسلم مثلاً وتضحك أنت مشاركةً لهذا الكافر؟ أليس من الخلل في الاستقامة أن يكون عندنا السرعة في الحكم على الآخرين وانطلاقه من الهوى والعاطفة؟ أليس بخلاف الاستقامة أن نحكم بالنيات بالفساد ولا يعلم النيات إلا الله، ولم يظهر لنا هذا الرجل شيء؟ وينبغي أن نحمل أمر أخينا المسلم على أحسنه، أليس مما ينافي الاستقامة إهدار الأموال العامة من المياه والكهرباء وغيرها ولو كنت أنت لا تدفع الفواتير؟ أليست هذه ملك لبيت مال المسلمين في الأصل وإن فرط فيها من فرط وضيع فيها من ضيع، فهل أنت تشارك المفرطين والمضيعين؟ أليس مما ينافي الاستقامة أن نتشدد مع من تحتنا من الناس بشيء لا تأمر به الشريعة بحجة الحزم في العمل، وننفر الناس من أهل الدين مع أن المسألة لا تساوي كل هذا الأمر من الحملة والعقاب؟ أليس مما ينافي الاستقامة أن يتأخر الإنسان من عمله ويخرج قبل الوقت ويتكلم مع بقية زملائه، والمراجعون يقفون في الطوابير، فيترك العمل ويعطل العالم؟

محاسبة النفس وتقويمها

محاسبة النفس وتقويمها أيها الإخوة: إن الكلام في هذا الموضوع يطول ويطول، والمظاهر المخالفة للاستقامة سواءً كانت مخالفة لكمال الواجب أو لكمال المستحب كثيرة، وأعود فأقول: نحن نحتاج أن نحاسب أنفسنا وننظر في أمرنا ونسأل الله سبحانه وتعالى السداد. أيها الإخوة: إن العمر قصير، وإننا مقبلون على يومٍ لا بد منه: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281]. إننا نحتاج أن نقوم أنفسنا فعلاً على ضوء هذه الشريعة، وأن نكون عباداً ناصحين مخلصين مستقيمين، لا نريد أن نكون أصحاب مظاهر، ولا نعمل ليقال: إننا عملنا كذا، وإنما نربي أنفسنا ونستقيم على الدين وعلى الشريعة. ينبغي أن نكون دعاةً بأفعالنا قبل أن نكون دعاة بأقوالنا، لا بد أن تزول هذه الغثائية الموجودة في عالم الصحوة لماذا تأخر النصر؟ لماذا استمرأ الأعداء؟ لماذا طال ليلنا؟ السبب من أنفسنا نحن، فإذا كنا نريد أن نكون صادقين مع الله وصادقين في اتباع الشريعة؛ فلا بد أن نقوم بتنزيه أنفسنا من هذه النقائص والعيوب. أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يجعلنا وإياكم هداةً مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، وأن يتوب علينا أجمعين، وأن يرزقنا حسن الخاتمة، إنه سميع مجيبٌ كريم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

نيران الدنيا [الاستدانة]

نيران الدنيا [الاستدانة] إن كثيراً من الناس قد خالفوا أمر الله في إبراء ذممهم، فأقدموا على أمر يقلق أنفسهم ويقض مضاجعهم، ألا وهو الاستدانة وأخذ القرض، حتى ركبت كثيراً منهم الديون، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً أشد الحرص على قضاء الدين؛ لأن الدين مذلة ومهانة، وهو كذلك مدعاة للكذب وإخلاف الوعد كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم.

اهتمامه صلى الله عليه وسلم بوفاء الدين

اهتمامه صلى الله عليه وسلم بوفاء الدَّين الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين. عباد الله: إن كثيراً من الناس قد خالفوا أمر الله ورسوله في إبراء ذممهم، وأتوا على أمر من الأمور الذي يقلق أنفسهم ويقض مضاجعهم، ألا وهو الاستدانة من الغير وأخذ القرض والسلف؛ حتى ركبت كثيراً منهم الديون، واجتمع عليهم من الهموم ما لا يذوقون معه طعماً للنوم ولا يهنئون بعيش. إن النبي صلى الله عليه وسلم قد حذرنا من الاستدانة، الاستدانة التي لا يكون لها داعٍ وإنما يدفع إليها عدم القناعة والحرص على الاستكثار من الدنيا، والتوسع في الملذات الفانية، إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (لو كان لي مثل أحدٍ ذهباً ما يسرني ألا يمر عليَّ ثلاثٌ وعندي منه شيء إلا شيء أرصده لدين) كان اهتمامه بأمر وفاء الدين عظيماً. إن الإنسان قد يضطر أحياناً للاستدانة، وإنه عليه الصلاة والسلام يقول: لو كان عندي مثل أحدٍ ذهباً لأنفقته في سبيل الله، لا يمر عليَّ ثلاث إلا أنفقت في سبيل الله ما عدا أمراً واحداً وهو إعداده لإيفاء الدين. أيها المسلمون: ولقد حرصت الشريعة أيما حرص على حقوق العباد، فإن حقوق العباد عظيمة، والله قد يتسامح في حقوقه لكن حقوق العباد باقية، ولذلك فقد جاءت الشريعة بالأمر بقضاء الدين قبل الوصية، فلو مات الميت وعليه دين وقد أوصى بوصية ولأهل الميراث حقوق، فإن الدين يقدم على الوصية، وعلى ميراث الورثة، فيقضى الدين أولاً لقوله صلى الله عليه وسلم: (الدين قبل الوصية). إن الذين يرهبون أنفسهم بالدين لا يعلمون المعنى الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يشير إليه بقوله: (لا تخيفوا أنفسكم بالدين) لأنه خوفٌ ومخافة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجعل من دعائه شيئاً يستعين به ربه على هذا الأمر، فكان يقول: (اللهم استر عورتي، وآمن روعتي، واقض عني ديني) وكان عليه الصلاة والسلام يقول أيضاً: (اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والجبن والبخل، وضلع الدين وغلبة الرجال) أما ضلع الدين: فهو غلبة الدين؛ لأنه يرهق صاحبه إرهاقاً، وضلع الدين: هو الذي لا يجد الدائن من يدينه، وكان يقول -أيضاً- في رواية: (اللهم إني أعوذ بك من غلبة الدين) بل إنه عليه الصلاة والسلام كان يدعو في الصلاة بقوله: (اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم، فقال له قائل: ما أكثر ما تستعيذ يا رسول الله من المأثم والمغرم! فقال: إن الرجل إذا غرم حدث فكذب، ووعد فأخلف) وانظر إلى حال هؤلاء الذين يركض أصحاب الديون وراءهم لأخذ الديون، ترى العجب في الكذب في الحديث وإخلاف الوعد، يعده مرات كثيرة ثم لا يوفي، لو قال له: لا أستطيع، أو ليس لدي مال لكان أهون، لكنه يعد ويخلف، ويعد ويخلف، ويعد ويتهرب وهو على هذا الحال.

إجراءات الشريعة لحفظ الدين وتوثيقه

إجراءات الشريعة لحفظ الدَّين وتوثيقه والشريعة قد جعلت للدين إجراءات لحفظه وتوثيقه، فمن ذلك توثيقه بالكتابة لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} [البقرة:282]. ثانياً: توثيقه بالشهادة لقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282]. ثالثاً: توثيق الدين بالرهن لقوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة:283] فيرهن أرضه أو شيئاً عنده لأجل أن يوثق الدين لصاحب الدين. رابعاً: توثيقه بالكفالة، كل هذه الإجراءات دالة على أن الشريعة تحفظ حقوق العباد، وأنها حريصة على عدم تضييعها.

مذلة الدين

مذلة الدَّين إن الدين مذلة؛ لأنه قد يدخل صاحبه السجن فتسوء سمعته وسمعة أولاده وأهله بين الناس، وقد يحرج مع الديَّانة حتى يلجأ إلى الكذب وربما علمه لأولاده، فيقول: قل لهذا الطالب للدين الطارق للباب إن أبي غير موجود، وكذلك إذا اتصل به بالهاتف -مثلاً- يكذب ويعلم أولاده الكذب، وقد يحلف حراماً بالحرام، أو يطلق وهو حانث وكذاب، أو يضطر للتخفي ويتحرج من مواجهة الناس الذين يطالبونه فيتوارى عن الأنظار والمجالس، ويحرم المعيشة الطبيعية ومعاشرة الخلق، وربما ذهب الحياء منه وصار ليس في وجهه ماء، فمهما ألح عليه الديَّانة وطاردوه قابلهم بوجه صلف ونفس ليست بنفس طيبة، فيزول من حيائه ومن ماء وجهه ما الله به عليم، ويكفي وقوعه في بعض آيات المنافق (وإذا وعد أخلف) فهو كثيراً ما يعد فيخلف، وقد يضطر للوقوع في الربا ليس اضطراراً شرعياً وإنما نفسياً لا يجيزه له الله ولا رسوله، فيقترض من المرابين ليسدد بالزيادة ليفر من السجن، والسجن أهون وأحب للمؤمن من الاقتراض بالربا؛ لأنه إذا سجن وهو مغلوب على أمره كان السجن ابتلاء وكفارة، وإذا اقترض بالربا ليسدد الدين فهو ملعون؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لعن الله آكل الربا وموكله) والموكل: الذي يدفعه إلى المرابي، وقال: (الآخذ والمعطي سواء) فالسجن أحب إلى المؤمن من الاستلاف بالربا لو كانوا يعلمون، ولو كانوا يعقلون، ولكنهم قوم لا يفقهون، وربما استدان من مرابٍ ليوفي مرابياً آخر، وهكذا يزداد عليه الدين ويعظم حتى لا يكون له أملٌ في السداد مطلقاً في حياته. يقول بعض السلف: لأن تلقى الله وعليك دَين ولك دِين -لأنك لم تدفع بالربا- خيرٌ من أن تلقاه وقد قضيت دَينك وذهب دِينك. وهو مذلة لما فيه من شغل القلب والبال، والتذلل للغريم عند لقائه، وتحمل منة الناس بالتأخير إلى حين أوانه، وربما مات فصار مرتهناً بدينه، فإن النبي عليه الصلاة والسلام قد أخبر أن نفس المؤمن مرتهنةٌ بدينه، فهو محبوس مأسور حتى يوفى عنه دينه، وهو يجعل المستدين ذليلاً من جهة أنه يحس في قرارة نفسه أنه محتاجٌ إلى غيره، وقد يجر على نفسه تسلط غيره عليه، فإن كان الدائن الذي أعطاه لا يراعي حقوق الأخوة فقد يبدأ بالتدخل في شئونه الخاصة، وقد يتكلم فيما يؤذيه في أهله وولده ومسكنه، بل قد يتدخل في تجارته ومصروفه وراتبه، فيقول: بع كذا، ولا تشتر كذا، وارهن كذا، والمدين المسكين يحرج ولا يستطيع أن يخالف حتى وجهة نظر دائنه، وهو مذلة -أيضاً- لأنه سيسمع من الدائن كلاماً قاسياً ومن الناس كذلك، ويضطر إلى السكوت على مضض، وربما لا يجد جواباً، وروى عبد الرزاق عن ابن جريج قال: [رآني عمر وأنا متقنع، فقال: يا أبا خالد! إن لقمان كان يقول: القناع بالليل ريبة، وبالنهار مذلة، فقلت: إن لقمان لم يكن عليه دين]. وقال عياض بن عبد الله: الدين راية الله في أرضه، فإذا أراد أن يذل عبداً جعلها طوقاً في عنقه. ومن أمثالهم: لا هَمَّ إلا هَمُّ الدين، ولا وجع إلا وجع العين. ويروى عن عمر أنه قال: [إياكم والدين فإن أوله هَمٌّ وآخره حرب]. وقال عمر بن عبد العزيز: " الدين وقر طالما حمله الكرام ". ومن أمثالهم: الدين رق فلينظر أحدكم أين يضع رقه. وساير بعضهم رجلاً وهو يحادثه وفجأة قطع الحديث واصفر لونه، فقال له الرجل: ما هذا الذي رأيت منك؟ فقال: رأيت غريماً لي من بعيد. ونفَّس بعض المدينين عن نفسه بقوله: ألا ليت النهار يعود ليلاً فإن الصبح يأتي بالهموم حوائج ما نطيق لها قضاءً ولا دفعاً لروعات الغريم الدين هم بالليل وذل بالنهار، نقول هذا الكلام -أيها الإخوة- لأننا نجد في الواقع من الأمراض الاجتماعية تساهل الناس بأمر الدين والاستدانة، نحن لا نعتب على الذين استدانوا اضطراراً فهذه ضرورة وحاجة، لكن الذين يشترون الكماليات التي لا يملكون قيمتها أو بعض قيمتها، فيصبح الاقتراض عندهم من أسهل الأمور، الدين سهل حلو عند أخذه في البداية، ولكنه حنظل مر عند حلول أجله والمطالبة به. التبذير والإسراف من العادات القبيحة التي فشت بين الناس، وهم لا يرضون بأن يمدوا أرجلهم على قدر لحافهم ولكنهم يريدون أن يصلوا من لحاف غيرهم بلحاف أنفسهم حتى يمدوا أرجلهم أقصى ما يستطيعونه، ولو أنهم تعقلوا فأنفقوا على قدر طاقتهم واستطاعتهم ما حصل لهم هذا الخزي، والعجيب أنك ترى بعض هؤلاء يسكن بيتاً فخماً ويركب سيارةً فارهة، وربما وضع بها هاتفاً سياراً كل ذلك بالدين، ولعله لا يجد في جيبه ما يملأ به خزان وقود سيارته من أجل المظهر، حب المظاهر والشهرة، وحب الظهور أمام الخلق، والمراءاة، وحتى يقال عنه: صاحب كذا وله كذا، مرض والعياذ بالله، يجدد سيارته وليس عنده مال، ويشتري بالتقسيط ولا يقنع، وبعض البنوك تعطي بعض الناس مبالغ يقولون: هذه مليون ضارب بها، يعطونه إياها بالربا، فيعطون المجال لبعض الناس بأن يسلفوهم مالاً يركبه الدين والربا، وهذا الذي يريد المخاطرة والمجازفة وليس عنده دين يأخذه ليضارب به، ثم قد يكسب وقد يخسر، والدين والربا عليه باقيان. وبعض الناس يستلفون من البنوك بالربا ليعملوا المشاريع، ويشتروا الأراضي ويقول: هذه أرض جيدة وليس عندي مال وفيها مربح، فيستلف من البنك على أمل أن يبيع الأرض بربح يسدد به الدين ويبقى له ربح ولا يعلم بأنه لم يبق له دين. هؤلاء الجشعين الذين يريدون أن يتوسعوا في التجارات، وليس التوفيق حليفهم والله، ولا بركة لهم في مكاسبهم، يأخذون بالربا، وبعض الناس يتساهلون في الاستلاف من أموال اليتامى أو النساء، ويكون بعض النساء عندهن أموال من الوظائف والرواتب فيأخذها سلفاً ليضارب بها، ولو أنه أخذها إحساناً لأجر، ولكن توسعاً في الدنيا وجرياً، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (أحرج عليكم حق الضعيفين اليتيم والمرأة). وبعض الناس يستلفون من أموال الأمانات والصدقات التي عندهم وهذا حرام، لا يجوز أن تأخذ من الأمانة، ولو أعطيت صدقة لا بد أن تؤديها إلى مستحقها؛ لأنك وكيل، أعطيت الصدقة فلا يجوز أن تأخذ منها شيئاً.

أنواع المدينين

أنواع المدينين والمدينون ثلاثة أنواع: أولاً: أن يستدين وهو يعلم من حاله ودخله أنه سيوفي. ثانياً: منهم من يستدين وهو يعلم من حاله ودخله أنه يستحيل عليه أن يوفي. ثالثاً: منهم من يستدين وهو لا يدري هل يستطيع الوفاء أم لا. وأشدهم الأوسط الذي يستدين وهو يعلم من حاله ودخله أنه لا يمكنه الوفاء. والدين دينان كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الدين دينان: فمن مات وهو ينوي قضاءه فأنا وليه، ومن مات وهو لا ينوي قضاءه فذاك الذي يؤخذ من حسناته ليس يومئذٍ دينارٌ ولا درهم)، وقال صلى الله عليه وسلم: (من مات وعليه دين فليس ثَمَّ دينار ولا درهم ولكنها الحسنات والسيئات). إذاً: من الناس من يستلف وهو ينوي الأداء، ومن الناس من يستلف وهو ينوي عدم الأداء، وهذه من المصائب الموجودة في الناس، وهي من أسباب العداوات، قال عليه الصلاة والسلام: (ما من أحدٍ يدّان ديناً يعلم الله منه أنه يريد قضاءه إلا أداه الله عنه في الدنيا) ما من عبدٍ كانت له نية في أداء دينه إلا كان له من الله عون. من أخذ ديناً وهو يريد أن يؤديه أعانه الله، خصوصاً إذا احتاج إلى الاستلاف لكي يتزوج لإعفاف نفسه، لأنه يخشى على نفسه الوقوع في الحرام، أو اضطر إلى الاستدانة لإطعام أولاده وهو ينوي الأداء خالصاً لله وفياً لصاحبه، فالله يعينه ويكون معه: (إن الله تعالى مع الدائن حتى يقضي دينه ما لم يكن دينه فيما يكره الله). هؤلاء الذين يتوسعون ويشترون بالأقساط، كثيرٌ من الذين يشترون بالأقساط في الحقيقة يجرون وراء الدنيا ليسوا بمحتاجين، وهذه الشركات التي فتحت أبوابها لإغراء الناس بالشراء بالأقساط -أيضاً- تتحمل جزءاً في ذلك، وقال النبي عليه الصلاة والسلام مبيناً خطورة الذي يستدين وهو لا يريد الوفاء: (أيما رجل تدين ديناً وهو مجمع -أي: عازم- ألا يوفيه إياه لقي الله سارقاً) وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله) فهذا الذي يؤخذ من حسناته يوم القيامة وترمى عليه السيئات، هذا إنسان متساهل في الدين، يستدين بدون حاجة فيما يكره الله، هذا الذي لا يعينه الله، بل إنه يكون عليه وبالاً يوم القيامة، فالمسألة مسألة نية، ومن علاج الاندفاع للدين أمور: منها: القناعة، فإنه لو قنع بحاله فرزقه الله القناعة بعيشه لم يتطلب أكثر، لكن الناس لا يقنعون، القناعة كنزٌ مفقود. وثانياً: الزهد في الدنيا، فإنه لو علم أنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، وأن (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه) ملعونة لا تساوي عند الله جناح بعوضة، حقيرة زائلة فانية، ما ركض وراء متاعها وركب الديون على ظهره. وقد تكون الاستدانة لضرورة مثل علاج لا يملك قيمته، أو صاحب زواج يخشى على نفسه الحرام، لكن يشترط أن ينوي الوفاء عند الاستدانة، وأن يبحث بكل الوسائل من تجارات طيبة، واستثمارات، وأعمال إضافية حلال؛ ليخلص نفسه من رق الدين. ألم تعلم -يا عبد الله- أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إن قتلت في سبيل الله صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر كفر الله عنك خطاياك إلا الدين، كذلك قال لي جبريل آنفاً) وقال عليه الصلاة والسلام: (أول ما يهراق من دم الشهيد يغفر له ذنبه كله إلا الدين) حديث صحيح. (من فارق الروح جسده وهو بريء من ثلاث دخل الجنة الكبر، والدين، والغلول) والغلول: السرقة من الغنيمة، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (سبحان الله ما أنزل من التشديد في الدين! والذي نفسي بيده لو أن رجلاً قتل في سبيل الله ثم أحيي، ثم قتل ثم أحيي، ثم قتل وعليه دين ما دخل الجنة حتى يقضى عنه دينه) حديث حسن. وقال صلى الله عليه وسلم: (نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه). مات في عهد النبي عليه الصلاة والسلام رجل، قال جابر: (فغسلناه وكفناه وحنطناه ووضعناه لرسول الله صلى الله عليه وسلم حيث توضع الجنائز عند مقام جبريل، ثم آذنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة عليه، فجاء معنا فتخطى خطاً ثم قال: لعل على صاحبكم ديناً؟ قالوا: نعم ديناران، فتخلف وقال: صلوا على صاحبكم، فقال له رجل منا يقال له أبو قتادة: يا رسول الله! صل عليه وعلي دينه، فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم لقيه عليه السلام من الغد -لقي أبا قتادة - فقال: ما صنعت الديناران؟ قال: يا رسول الله! إنما مات أمس، ثم لقيه من الغد، فقال ما فعل الديناران؟ قال: قد قضيتها يا رسول الله! قال: الآن حين بردت عليه جلده، أو الآن حين بردت عليه جلدته) لما قضي عليه الدين بردت عليه جلدته وهو في القبر. وأخبر رجلٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أخاه مات وترك ثلاثمائة درهماً، وترك عيالاً، قال: فأردت أن أنفقها على عياله، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أخاك محبوس بدينه فاقض عنه) النبي صلى الله عليه وسلم رفض أن يصلي على من كان له دين لم يقضه، وهذا محمول على الذي استلف وهو متهاون لا يريد القضاء، أما من استلف وهو يريد القضاء ثم مات فالله يعينه، ويتكفل الله له بحسن نيته بأن يقضي عنه في الدنيا، ويبرئ ذمته بمحسنين أو بورثةٍ، أو أنه يعطي الدائن حسنات يوم القيامة نظراً لحسن نية المدين الذي استدان اضطراراً وهو يريد الوفاء، قال عليه الصلاة والسلام: (هاهنا أحدٌ من بني فلان؟ إن صاحبكم مأسورٌ بدينه عن الجنة، فإن شئتم فافدوه وإن شئتم فأسلموه إلى عذاب الله) هذه النصيحة للورثة؛ إذا علموا أن على ميتهم ديناً أن يسارعوا إلى قضائه، الحقوق في الشريعة مكفولة، والله لا يضيع حقاً لعبد حتى الكفار غير المحاربين، الكفار حقوقهم باقية، ويجب أداء الديون لهم، ويجب إعطاء الناس حقهم. اللهم إنا نسألك القناعة، اللهم إنا نسألك القناعة، اللهم قنعنا بما رزقتنا، اللهم اقض عنا ديوننا.

تقديم الدين على الحج

تقديم الدين على الحج الحمد لله رب العالمين. عباد الله: إن هذا البلاء الاجتماعي الذي أصبنا به وهو التوسع في الدنيا ولو بالديون أمرٌ خطير، إن من الناس من يجعل له أرصدة في الداخل أو في الخارج ثم يقترض بالربا ليتاجر ويقول: أخاطر بمال غيري ثم أدعي أنه ليس عندي شيء، وحتى النساء سمعنا فيما سمعنا أنه قد صار عندهن شراء الذهب بالدين والأقساط، شراء الذهب بالأقساط حرام لأنه فيه ربا، شراء الذهب يجب أن يكون يداً بيد، تسلم النقود وتشتري الذهب في نفس المجلس في الدكان أو المحل، ولا يجوز لك أن تستلم الذهب وتؤخر القضاء والسداد، والآن لطمعهن في الدنيا وقلة عقول الرجال معهن صار شراء الذهب بالأقساط من أجل التفاخر والتكاثر: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر:1]. والدين -يا عباد الله- منه ما هو دينٌ لله مثل الكفارات والنذور، وقضاء الصوم والزكاة، والحج من أعظم الديون التي في رقبة العبد لربه. روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: (إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها؟ قال: نعم. حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك ديناً أكنت قاضيته؟ اقضوا الله فالله أحق بالوفاء). إذا كان على الإنسان دين يستغرق ما عنده من المال -وقد طرحنا الموضوع لقربه من الحج، وسؤال بعض الناس عن مسألة الحج والديون- إذا كان على الإنسان دين يستغرق ما عنده من المال، فإنه لا يجب عليه الحج؛ لأنه في هذه الحالة ليس من أهل الاستطاعة ولا داخلاً في قول الله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران:97] فعليه أن يوفي الدين أولاً. وأما إذا كان الدين أقل مما عنده بحيث يتوفر عنده ما يحج به من بعد أداء الدين، فإنه يقضي الدين ويحج وجوباً حج الفريضة، وإذا كان مطالباً من أصحاب الدين فلا يجب عليه الحج إذا لم يكن عنده وفاء وهو مطالب، ولا يحج إلا بعد الوفاء ما لم يطالبوه، فإذا علم منهم التسامح وأذنوا له وقالوا: قد أجلناك، فإنه يجوز له الحج، وربما يكون الحج سبباً في قضاء دينه، ولا يلزمه الاستدانة ولو وجد من يسلفه، الذي ليس لديه مال لا يلزمه شرعاً أن يستدين للحج ولو وجد من يسلفه، ولو حج بمال غيره بأن أهداه له، أو تبرع له به، أو حج على نفقته، فحجه صحيح ولو كان حج فريضة. والذين عليهم أقساط سيارات أو بيوت أخذوا قروضاً من صندوق التنمية ونحو ذلك، إذا كانوا منتظمين في التسديد، فإنه لا حرج عليهم في الحج، وكذلك إذا كانوا يملكون من المستحقات ما يكفي لتسديد ديونهم لو حصل لهم شيء من أمر الله فمات الشخص وعنده من التقاعد أو مكافأة نهاية الخدمة ونحو ذلك ما يسدد به، يكتب في الوصية ويذهب إلى الحج. ومن حج بمالٍ اقترضه فحجه صحيح، لكن الأفضل والأولى ألا يفعل ذلك؛ لأن الله إنما أوجب الحج على من استطاع إليه سبيلاً، ولا يصلح أن تشغل ذمتك وتستدين، والله لم يوجب عليك أن تستدين، إذا كان الدين غير محدد القضاء لوقت معين، بل على التيسير، وأصحاب الدين متسامحون فلا بأس أن يذهب إلى الحج، وإذا طالبوا وشددوا وقالوا: هات المال، فيعطيهم المال ويخفف عن نفسه. وبعض الناس -يا عباد الله- يعتقد أن الإنسان إذا كان عليه صيامٌ فإن حجه غير صحيح، وهذا غير صحيح، وبعضهم يعتقد أنه إذا لم تذبح عقيقة الشخص فلا حج له، وهذا غير صحيح -أيضاً- وهو من المعتقدات الخاطئة؛ لأن العامة عندهم معتقدات فقهية خاطئة، فالذي لم يعق عنه فحجه صحيح. وأذكركم وأذكر نفسي في ختام هذه الخطبة، بأن الله سبحانه قد جعل للدين آداباً للمدين والدائن في الإقراض والاستقراض والأداء لا يمكن ذكرها الآن لقصر الوقت. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

وسائل محاربة الشيطان وأتباعه

وسائل محاربة الشيطان وأتباعه لقد حذرنا الله عز وجل من دخول سبل الشيطان، الذي هو عدونا وعدو أبينا آدم، هذا الشيطان الذي طرده الله من رحمته وتوعده بالنار خالداً فيها، فطلب من رب العزة أن يمهله وأخذ العهد على نفسه أن يعمل على إضلال بني آدم، ولما كان الشيطان بهذا الخبث والمكر شرع الله لنا كل طريق للاستعاذة منه ومن شره، والوقاية منه ومن مكره.

وسائل الوقاية من الشيطان

وسائل الوقاية من الشيطان إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} [فاطر:5 - 6]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [البقرة:208]. على رأس كل طريق شيطان يدعو إليه، فإياك أيها المسلم! من دخول سُبل الشيطان التي حذرنا الله منها، هو عدوك وعدو أبيك آدم، هذا الشيطان الذي طرده الله من رحمته وتوعده بالنار خالداً فيها، فطلب من رب العزة أن يمهله وأخذ العهد على نفسه أن يعمل على إضلال بني آدم، ولما كان الشيطان بهذا الخبث والمكر شرع الله لنا كل طريق للاستعاذة منه ومن شره، والوقاية منه ومن مكره، وتجنبه ورد كيده في نحره. ومن أعظم طرق الشيطان ما قاله الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة:90 - 91] وكم من المسلمين يقعون اليوم في شرب الخمور التي هي من أعظم وسائل الشيطان لصد المسلم عن طاعة ربه وعبادة الله الواحد الأحد، وكذلك أنواع الميسر التي انتشرت بين الناس في بيوعهم وشراءاتهم، فلا يزالون يقعون فيها ويلعبون مختلف الألعاب التي تقوم على فكرة الميسر: {وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:68]. فهناك مجالس لأعوان الشيطان؛ يزين الشيطان للمسلم أن يقعد فيها، فيحذر الله من هذا أشد التحذير، وللشيطان سُبل كثيرة، لكن ما هي الوسائل التي تقي المسلم كيد إبليس؟ وما هي الأعمال التي يقوم بها فيبتعد بها عن شر هذا العدو؟ إن الشريعة قد جاءت بأمور كثيرة فمن ذلك: الأذان: (إن الشيطان إذا سمع النداء بالصلاة أحال -تحول من موضعه- وله ضراط حتى لا يسمع صوت التأذين، فإذا سكت -يعني: المؤذن- رجع فوسوس، فإذا سمع الإقامة ذهب حتى لا يسمع صوته -صوت المؤذن- فإذا سكت رجع فوسوس للمصلي) فعليكم -عباد الله- بالأذان وإقام الصلاة، ولا تفعلوا كبعض الضعفاء الذين يستحيون إذا صاروا في بر أو موضع فيه أناس يستحيون من التأذين، وهذا شعار الإسلام ومطردة للشيطان. ومما شرعه الإسلام لنا قول: باسم الله إذا وضع أحدنا ثوبه؛ لأن باسم الله ستر ما بين أعين الجن وعورات بني آدم. ومن ذلك: أن المرء المسلم ينبغي أن يخلو بذكر الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من راكب يخلو في مسيره بالله وذكره إلا كان رادفه ملك، ولا يخلو بشعر ونحوه -من هذه الأمور المذمومة- إلا كان رديفه شيطان) فانظر إلى أصحاب السيارات والمسافرين كم يحملون معهم من أشرطة الأشعار والأغاني التي هي من سبل الشيطان، يصحبون بها أنفسهم في السفر بدلاً من أن يصحبوا أنفسهم بذكر الله فيصحبهم الله في سفرهم. وكذلك إذا قمت من النوم -يا عبد الله- فاستنثر ثلاث مرات، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا استيقظ أحدكم من منامه فتوضأ فليستنثر ثلاث مرات، فإن الشيطان يبيت على خياشيمه) فاعتن بهذا الاستنشاق والاستنثار، ودع عنك ما يفعله الجهال من وضع الماء على طرف الأنف دون سحبه إلى الداخل. وإذا سمعتم نهيق حمار أو نباح كلب بالليل، فتعوذوا بالله من الشيطان فإنهن يرين مالا ترون، وكذلك استعذ بالله عند قراءة القرآن كما قال الله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:98] وعند الغضب (إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال أعوذ بالله من الشيطان الرجيم لذهب عنه ما يجد) وعند دخول الخلاء قل: (اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث) هؤلاء ذكران الشياطين وإناثهم، وأنت تستعيذ بالله منهم ومن شرهم قبل دخول الخلاء. وكذلك فإن مما شرعه الله للمسلم أن يتعوذ بالمعوذتين: قل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس، يتلوهما بعد كل صلاة ثلاث مرات وقبل النوم ثلاث مرات مع السورة العظيمة التي تعدل ثلث القرآن، إن مجموع هذه السور تحصن المسلم أشد تحصين من الشيطان وشره، من عين أو سحر أو كيد ونحو ذلك. وهؤلاء ينامون كالجيف لا يذكرون الله قبل النوم، ولا يتعوذون بالله فقال: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق:1 - 2] {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} [الناس:1 - 4]. والعوام تعودوا إذا حصل لهم شيء أن يلعنوا إبليس وأن يسبوا الشيطان بدلاً من أن يذكروا الله عز وجل، وهذا أقل ما فيه أنه يفوت عليه خيراً عظيماً، قال صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا الشيطان وتعوذوا بالله من شره) وأرشدنا إلى أمر أهم وقال: (لا تقل تعس الشيطان فإنه يعظم حتى يصير مثل البيت، ويقول: بقوتي صرعته ولكن قل: باسم الله، فإنك إذا قلت ذلك تصاغر حتى صار مثل الذباب). أرشدتنا الشريعة إلى قراءة سورة البقرة في البيت، وقال عليه الصلاة والسلام: (اقرءوا سورة البقرة في بيوتكم؛ فإن الشيطان لا يدخل بيتاً يُقرأ فيه سورة البقرة) فكم من قارئ لسورة البقرة في بيته! وإذا مررت بسورة فيها سجدة فاسجد -يا عبد الله! - فإن سجودك إرغام للشيطان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول: يا ويلاه! أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فعصيت فلي النار) هكذا يتحسر إبليس. وأنت يا أيها الزوج مع زوجته تجنب الشقاق والفراق، فإن هذا من أعظم مداخل إبليس، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة، يجيء أحدهم -من الشياطين الصغار إلى القائد إبليس- فيقول: فعلت كذا وكذا، فيقول: ما صنعت شيئاً، ويجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين أهله، فيدنيه منه ويقول: نعم. أنت الذي قمت وعملت) أنت الناجح في عملك. وهؤلاء المغتاظون من الرجال يطلقون ألفاظ الطلاق مرات عديدة متوالية، يؤزهم الشيطان أزاً، ولا يفكرون بمستقبل الأولاد، يعميهم الشيطان بالغضب أن يفكروا في مصالح أنفسهم. رصوا الصفوف -يا عباد الله! - فإن رص الصفوف من وسائل محاربة الشيطان؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أقيموا الصفوف ولا تذروا فرجات للشيطان، أقيموا صفوفكم وتراصوا فوالذي نفسي بيده إني لأرى الشياطين بين صفوفكم كأنها غنم عفر -بيضاء ليست بناصعة- بين أظهركم) فإذاً: ما حال الذين يتباعدون بينهم وبين جيرانهم في الصف، ولا يريدون إلزاقاً ولا سداً للفرجة، هؤلاء من الذين تشتد وسوسة الشيطان عليهم في صلاتهم، فإذا صليت يا أيها الإمام! ويا أيها المنفرد! اجعل سترةً أمامك فإنها مهمة في دفع الوساوس في الصلاة، قال عليه الصلاة والسلام: (إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدن منها، لا يمر الشيطان بينه وبينها -وفي رواية- لا يقطع الشيطان عليه صلاته) فإذا جاءك في الصلاة فوسوس لك وذكرك بموضوعات الدنيا، وأدخلك في أوديتها ومتاهاتها، وأولجك شعبها فإن لك من نبيك نصيحة. قال أحد الصحابة: (يا رسول الله! إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي، وقراءتي يلبسها عليَّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذاك شيطان يقال له: خنزب، فإذا أحسسته؛ فتعوذ بالله منه واتفل عن يسارك ثلاثاً، قال: ففعلت فأذهبه الله عني) فإذا كنت تصلي وحدك أو ليس بجانبك أحد وجاء الوسواس في الصلاة؛ فإنك تتفل عن يسارك كما في الحديث مع الاستعاذة، وإن كان بجانبك أحد فلم تحب أن تؤذي أحداً فاستعذ بالله من الشيطان أثناء الصلاة، فإن الله يُذهب عنك كيده ووسوسته، وما سجدتي السهو بهذه المناسبة إلا ترغيماً للشيطان الذي يوسوس للمصلي، فابن على الاستيقان وهو الأقل، إذا شككت ولم تعرف ترجيحاً لعدد الركعات التي صليتها، ثم بعد ذلك تسجد سجدتين للسهو ترغم بها أنف الشيطان. ويا أيها المصلي المتشهد القارئ للتحيات! لا تنس رفع الإصبع أثناء التشهد في الصلاة، فإنه أثقل على الشيطان من الحديد، ارفعه وحركه، واجمع بين الرفع والتحريك دون عبث ولا سرعة شديدة جداً. فإذا تثاءبت في الصلاة فلا يصدر منك ذلك الصوت الكريه، فإن الشيطان يضحك منك، وعليك أن تغطي فاك ولا تذره يدخل، فإنه يدخل مع التثاؤب ويضحك منك، بل اكتم التثاؤب ما استطعت ورده، وأغلق الفم ولا تذرها مضحكة للشيطان تؤذي عباد الله بصوتك ومنظرك الكريه. وإذا دخلت بيتك فاذكر اسم الله تعالى حين تدخل وحين تطعم، فإنك إذا فعلت ذلك قال الشيطان لأعوانه: لا مبيت لكم ولا عشاء هاهنا وإذا دخل فلم يذكر اسم الله عند دخوله قال الشيطان: أدركتم المبيت، وإن لم يذكر اسم الله عند مطعمه؛ قال الشيطان: أدركتم المبيت والعشاء. ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمسك بيده يد أعرابي وجارية جاءا يسعيان إلى الطعام لم يذكرا الله عز وجل؛ معهما يد ثالثة وهي يد الشيطان، كما قال عليه الصلاة والسلام: (فوالذي نفسي بيده إن يده مع يديهما في يدي) وانظر إلى حال المتفرجي

أتباع الشيطان وحربهم للإسلام

أتباع الشيطان وحربهم للإسلام الحمد لله الذي لا إله إلا هو لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، لا إله إلا الله يفعل ما يشاء، لا إله إلا الله الحي القيوم، لا إله إلا الله مالك الملك، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، أشهد أنه عبد الله ورسوله وخيرته من خلقه وأمينه على وحيه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وتابعيه إلى يوم الدين. ومن أعظم أتباع الشيطان: اليهود والنصارى والمشركون، الذين عاثوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد، هؤلاء الذين يقتلون إخواننا يومياً، يقتلون المسلمين في أرض فلسطين، ويقتلونهم اليوم في البوسنة، ويقتلونهم اليوم في الهند، هؤلاء الكفرة المشركون عباد الشيطان الوثنيون. إن هذه الحادثة التي حدثت مؤخراً من إقدام الهندوس الكفرة الوثنيين عبدة الشيطان والأصنام، الذين يعتقدون البقرة إلهاً، ويستعد أحدهم ليحرف قطاراً عن مساره من أجل بقرة، عقولهم الوثنية التي تجعلهم يستحمون في نهرهم المقدس ويحرقون المرأة بعد موت زوجها، لأنه لا قيمة لها عند ذلك. هذه التقاليد العفنة التي أورثها الشيطان لأولئكم القوم، والذين قاموا اليوم بتحريكٍ من أوليائهم من اليهود والنصارى بهدم مسجد تاريخي للمسلمين مسجد البابلي في الهند، هؤلاء الذين فعلوا فعلتهم ثم أتبعوها بفعلة أشنع وأقسى، ولكن كثيراً من الناس عنها غافلون، ألا وهي الإقدام على قتل المسلمين الذين احتجوا في الهند على هدم المسجد بالرصاص، حتى بلغت الإحصائيات المعلنة نحواً من تسعمائة شخص حتى الليلة الماضية. وزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مؤمن بغير حق، وقتل المؤمن أعظم من هدم المسجد، ولكنهم أتبعوا هدم المسجد بقتل نحو من تسعمائة مسلم، هذا ما أعلن وما خفي كان أعظم، قتل المؤمن أشد من هدم المسجد، ولكنهم قتلوا مؤمنين ومسلمين كثر، وأنت يمكن أن تعرف حجم المأساة في صبيحة ذلك اليوم الذي وصلت فيه الأخبار أنك لو دخلت إلى البقالات والدكاكين التي يوجد بها عمال مسلمون من الهند، لوجدت حجم الكارثة على وجوههم، ونحن غافلون، ونحن نوظف الكفرة من الهندوس في الوظائف المختلفة عندنا. يا أصحاب الأعمال! توبوا إلى الله، أما كفاكم أن يقوموا بتقتيل إخوانكم وهدم مساجدكم ونحن أمة واحدة لا فرق بين شرقيها وغربيها، ثم توظفونهم وتعطونهم الرواتب لكي يدفعوا منها إلى منظماتهم المنحرفة هناك، لتقوم بتمويل أعمال الاضطهاد ضد المسلمين، وتقوونهم اقتصادياً بهذه الرواتب والتحويلات الهائلة، حرام عليكم أن تفعلوا ذلك، كيف وقد نهاكم نبيكم أن تبقوهم في جزيرة العرب، فاتق الله يا من تستخدم هندوسياً أو كافراً وقد أعلنوا الحرب على إخوانك، ثم أنت توظفهم فلعنة الله على الظالمين. ثم إن هؤلاء الهندوس قد فرحوا حتى وهم بين أظهرنا، ووزعوا الحلويات وهم بين أظهرنا بعد هدم المسجد، أقصد الذين يعيشون بيننا منهم ويشتغلون عندنا وزعوا الحلويات فرحاً بهدم المسجد. يا من وضعت المسلمين والكفار في سكن واحد! كيف شعور إخوانك وهؤلاء يكيدون لهم ويغيظونهم الآن بعد هدم المسجد؟ أين رجل الأعمال المسلم، والتاجر المسلم، والمقاول المسلم، وصاحب البيت المسلم وهو يوظف هؤلاء الكفرة؟ نعم. هم تآمروا على أن يجعلوا الوظائف، وعمال الاستقدام، ومكاتب الاستقدام تدفع بهم إلينا، لكن نحن لنا عقول ولنا وسائل، والمفروض أن نتجه لنصرة دين الله. لقد نوى أمير المؤمنين عمر أن يفتح الهند، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (عصابتان من أمتي أحرزهما الله من النار: عصابة تغزو الهند وعصابة يقاتلون مع المسيح ابن مريم) إذاً: هذا الجيش الذي فتح الهند ووصل إليها أحرزه الله من الشيطان، وأحرزه الله من النار بشارة بفتح الهند. وقد تولى البداية في ذلك محمد بن القاسم رحمه الله تعالى لما استولى الوثنيون على سفينة فيها نساء للمسلمين، فاستنجدن بالمسلمين فجرد الجيش، وفتحت الأطراف، وخاض المسلمون البحر إليهم ودخلوا الدبيل وهي مدينة كراتشي اليوم، ثم اكتملت الفتوحات الإسلامية، وأشهر من توغل في بلاد الهند من المسلمين محمود بن سبكتكين الغزنوي رحمه الله، الذي انطلق من قاعدته غزنة في أفغانستان ليدخل بلاد الهند فاتحاً منصوراً، مكسراً أصنامهم، هادماً لمعابدهم، رافعاً راية التوحيد، عاملاً بين كل ثلاثة أميال مسجداً ورتب له إماماً ومؤذناً، وارتفعت راية التوحيد في بلاد الهند، فقتل الله من ملوكهم خلقاً عظيماً، قاتلوا المسلمين بالفيلة ولكن الله نصر عسكر التوحيد، هذا السلطان الذي آثر ما عند الله على أن يُعطَى من الجواهر واللآلئ والذهب والفضة مقابل أن يترك صنمهم الأعظم، لكنه آثر أن ينادى: يا عبد الله هادم الصنم عند الله يوم القيامة، أحسن من أن يقال: يا عبد الله يا آخذ اللآلئ والذهب والجواهر والفضة مقابل أن تتركها لهم. هؤلاء اليوم يريدون القضاء على تاريخ المسلمين في الهند، حتى لو كان هناك مساجد لا يصلى فيها فهم يريدون هدمها، ولعلهم قد وقتوا ذلك مع هجوم شنيع على عاصمة البوسنة سراييفو، لتكون المصائب مجتمعة على المسلمين في آن واحد، وهذا تخطيط ماكر ولا شك، يريدون إيقاع المصائب متعددة في وقت واحد للمسلمين، فيوقتون هذه الأشياء لِنُصاب نحن بالإحباط، ونحن مع اعتقادنا ويقيننا أننا أكثر أمة مستهدفة في العالم. نحن الذين نعرف كما اعترف اللورد البريطاني في الهند حينما كانت مستعمرة، قال: إننا نرى أن عدونا الأكبر هم المسلمون، إن هؤلاء القوم في قلوبهم عداوة لنا شديدة فلا بد أن نتجه إلى الهندوس، ولذلك في أيام الاستعمار ولوهم المناصب وأعطوهم أشياء كثيرة جداً، حتى آل الحال إلى ما آل إليه الآن، رغم أن الهند كانت تحكم قروناً بالإسلام. إن جمع المصائب على المسلمين، وإغراق المسلمين بالأخبار السيئة والهجمات الشرسة التي يراد منها إحباط روح المعنوية، إنها -أيها المسلمون- خطة ماكرة، ولكننا على ثقة بأن الله سينصر دينه، المهم أن ننصر الله حتى ينصرنا الله، فإذا لم ننصر الله ولا شريعة الله ولا دين الله فكيف ينصرنا الله. ولذلك: فإننا نتوجه إلى الله العلي العظيم مالك الملك الجبار، اللهم إنا نسألك يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام، أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، نسألك بأسمائك الحسنى أن تنصر الإسلام والمسلمين، وتقمع الكفر والكافرين، اللهم أفشل مخططات الكفار، واجعل كيدهم في نحرهم، واجعل دائرة السوء عليهم، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، اللهم أنزل عليهم بأسك الذي لا يرد عن القوم الكافرين، واشدد وطأتك عليهم يا قوي إنك على كل شيء قدير. اللهم اجعل بأسهم بينهم، واردد سهامهم في نحورهم، ورد المسلمين إلى الإسلام رداً جميلاً، اللهم اهد فاسقنا إلى الدين، وثبت المهتدي منا على السنة والحق المبين، اللهم طهر بيوتنا من المنكرات، اللهم أصلح ذرياتنا ونياتنا، وتوفنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

الأسماء والكنى والألقاب في ميزان الشريعة

الأسماء والكنى والألقاب في ميزان الشريعة أورد الشيخ -حفظه الله- في درسه هدي الشريعة الإسلامية في الأسماء والكنى والألقاب، فبدأ بذكر الهدي في الأسماء، وبين أثر الاسم على المسمى، ثم ثنى بذكر الكنى وذكر طائفة من الفوائد المتعلقة بالكنية للرجل والصبي، وما فائدة هذا الأدب في الشريعة الإسلامية. ثم ثلث بذكر الألقاب وأن الإسلام قد منع منها إلا ما كان لضرورة. وختم الشيخ كلامه بذكر أحاديث اشتهرت على الألسنة، وهي في الحقيقة موضوعة أو ضعيفة.

مدخل إلى الأسماء في الإسلام

مدخل إلى الأسماء في الإسلام إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. ومن هديه صلى الله عليه وسلم المحافظة على آداب الإسلام في التسمية والكنى والألقاب، وهذه من الآداب الإسلامية العظيمة التي غفل عنها كثيرٌ من المسلمين. ونظراً لما في هذا الموضوع من الأهمية، إذ أن الاسم هو عنوانٌ للمسمى ودالٌ على معانيه، فإنه لا بد أن يحسن الاهتمام بالتسمية من قبل المسلمين.

قول أهل السنة في أسماء الله وصفاته

قول أهل السنة في أسماء الله وصفاته اعلموا رحمكم الله تعالى أن ربكم قال: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف:180] له الأسماء الحسنى التي بلغت في الحسن غايته، فهي ليست حسنة فقط، وإنما هي حسنى. ولأن العباد قد قصرت معرفتهم وعقولهم أن تدرك ما هو الأحسن في أسماء الله؛ فكان من رحمة الله أن علمنا نحن العباد نحن البشر علمنا طائفة من أسمائه سبحانه وتعالى لكي نعبده بها ونتوسل إليه بها، ونتقرب إليه بها سبحانه وتعالى؛ ولذلك كان من قواعد أهل السنة والجماعة: عدم جواز إطلاق أسماءٍ على الله سبحانه لم ترد في القرآن والسنة، كالقديم والموجود مثلاً. ومن الأدب مع الله والأدب مع خلقه ألا نسمي ملائكة الله بأسماءٍ نجزم لهم بها لم يرد في القرآن ولا في السنة تسمية عباد الله المكرمين بهذه الأسماء، ومما شاع على ألسنة الناس تسمية ملك الموت (بعزرائيل) مثلاً، وهذه التسمية لم ترد في نصٍ صحيح؛ ولذلك كان لا بد من التوقف في هذه القضايا لأنها من عالم الغيب.

حرص الإسلام على جانب الأسماء الشرعية

حرص الإسلام على جانب الأسماء الشرعية وقد حرص الإسلام على تثبيت الأسماء الحسنة حتى لفروض الصلاة، فإنك تجد في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حذر المسلمين من أن يغلب عليهم تسمية الأعراب لصلاة العشاء بصلاة العتمة، وأمرهم بأن يسموها صلاة العشاء، لما في الكراهة من هجر الاسم المشروع، والاسم المشروع هو صلاة العشاء، وكان الأعراب يسمونها بالعتمة فنهاهم صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وأوصاهم باستعمال الاسم الشرعي، وإن ورد في بعض الأحاديث تسميتها بصلاة العتمة عند من هجر الاسم الشرعي، وإنما يجب أن يكون الاسم الشرعي متداولاً.

حكم التسمي باسم أو صفة تتعلق بالله تعالى

حكم التسمي باسم أو صفة تتعلق بالله تعالى ولعلاقة بعض الأسماء التي يطلقها العباد بأسماء الله وصفاته كان من أكبر الجرائم منازعة الله سبحانه وتعالى في اسم من أسمائه أو صفة من صفاته تطلق على مخلوقٍ من المخلوقين، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إن أخنع اسم عند الله: رجل تسمى ملك الأملاك؛ لا ملك إلا الله) وقال صلى الله عليه وسلم: (أغيظ رجل عند الله يوم القيامة وأخبثه: رجلٌ كان يسمى ملك الأملاك لا ملك إلا الله). ويدخل في هذا ما يسمي به الأعاجم ملوكهم (شاهٍ شاه) فإن معنى (شاهٍ شاه): ملك الملوك، والمتسمي بهذا الاسم هو أغيظ رجل عند الله، وأخبث رجل، ومعنى أخنع: أي أذل وأفجر وأفحش. وبالقياس على ذلك أنكر بعض أهل العلم تسمية: (قاضي القضاة) لأنه ليس قاضي قضاةٍ يقضي بالحق إلا الله عز وجل وهو خير الفاصلين، وإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون، وقس على ذلك من الأسماء كسلطان السلاطين مثلاً.

أحب الأسماء إلى الله وحق الولد على أبيه في ذلك

أحب الأسماء إلى الله وحق الولد على أبيه في ذلك وأوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم العباد بأن يسموا بأسماء هي أحب الأسماء إلى ربهم، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن أحب أسمائكم إلى الله: عبد الله وعبد الرحمن) فلما علم العباد أن أحب الأسماء إلى ربهم عبد الله وعبد الرحمن كان من المستحب لهم أن يسموا أبناءهم بهذه الأسماء. وتسمية المولود من حق الابن على أبيه، فإن هناك حقوقاً للولد على والده، وللوالد على ولده، ومن حقوق الولد على والده التي يجب على الوالد أن يهتم بها إحسان اسم المولود، ولهذا أثر عظيم في الواقع كما سيمر معنا إن شاء الله. وكان من هديه صلى الله عليه وسلم إذا أتاه الرجل وله اسم لا يحبه حَوَّله، كما ورد في الحديث الصحيح: (وكان صلى الله عليه وسلم إذا سمع بالاسم القبيح حوله إلى ما هو أحسن منه) حديث صحيح، ولذلك كان لا يقتصر هذا التغيير على أسماء الناس بل إن الأمر قد تعدى في فعله صلى الله عليه وسلم إلى تغيير أسماء الأمكنة والأراضي التي سميت بأسماء قبيحة. جاء في الحديث الصحيح: (كان إذا سمع اسماً قبيحاً غيره، فمر على قرية يقال لها: عثرة، فسماها خضرة) مع أنها أرض، ولكن إشاعة الأسماء الحسنة وإطلاق الأسماء الحسنة من شعائر الإسلام. يقول خيثمة بن عبد الرحمن بن أبي سبرة أن أباه قد ذهب مع جده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: (ما اسم ابنك؟ قال: عزيز، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تسمه عزيزاً ولكن سمه عبد الرحمن، ثم قال: أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن والحارث) أخرجه الإمام أحمد بأكثر من إسناد وابن حبان مختصراً وكذا الحاكم وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي وهو في السلسلة الصحيحة. وفي الصحيحين: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُتي له بـ المنذر بن أبي أسيدٍ حين ولد، فوضعه على فخذه، فأقاموه، فقال: أين الصبي؟ فقال أبو سعيد: قلبناه يا رسول الله -أي: رددناه- قال ما اسمه قالوا: فلان -ولم يعين الراوي ما هو اسم المولود، ولكن بالتأكيد اسم غير جميل- فقال صلى الله عليه وسلم: ولكن سمّه المنذر) حديث صحيح. وروى الإمام مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه: (أنه عليه الصلاة والسلام غير اسم عاصية -بنت سماها أهلها عاصية- إلى جميلة، وأتي برجل يقال له: أصرم -وأنتم تعلمون ما في الصرامة من المعاني المقبوحة- فسماه صلى الله عليه وسلم زُرعة) رواه أبو داود وهو حديث صحيح. وكان رجلٌ من الصحابة يسمى حزناً فسماه صلى الله عليه وسلم سهلاً، فأبى الرجل وقال: السهل يوطأ ويمتهن، كأنه لم يفطن إلى مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم من التسمية بسهل من السهولة، فقال: كلا إن السهل يوطأ ويمتهن ويمشي عليه العباد، وفي رواية قال: لا أغير اسماً سمانيه أبي، ولنا مع هذه الجملة وقفة إن شاء الله. وفي صحيح مسلم عن جابر بن سمرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله سمى المدينة طيبة أو طابة) ولذلك يكره تسميتها بالاسم الذي كان مشتهراً في الجاهلية وهو يثرب من التثريب وهو العيب، فسماها الله طيبة أو طابة فكان هذا هو الاسم الصحيح أو هو الاسم المستحب أن يطلق على مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما حكى الله سبحانه وتعالى في القرآن تسميتها ولكن عن المنافقين، فقال عز وجل: (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً * وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا} [الأحزاب:12 - 13].

أسباب المنع من التسمي بأسماء معينة

أسباب المنع من التسمي بأسماء معينة

كراهية بعض الأسماء لاشتمالها على تزكية للنفس

كراهية بعض الأسماء لاشتمالها على تزكية للنفس وكما أن تغيير الاسم يكون لقبحه ولكراهيته فقد يكون لمعنى آخر فيه مع أن الاسم قد يكون في ظاهره جميلاً، فقد روى البخاري في الأدب المفرد وأبو داود عن محمد بن إسحاق قال: حدثني محمد بن عمر بن عطاء: (أنه دخل على زينب بنت أبي سلمة فسألته عن اسم أخت له عنده، قال فقلت: اسمها برة، قالت: غير اسمها فإن النبي عليه الصلاة والسلام نكح زينب بنت جحش واسمها برة فسمعها تدعوني برة، فقال: لا تزكوا أنفسكم فإن الله أعلم بالبرة منكن والفاجرة، سمها زينب، فقالت أم سلمة: فهي زينب، فقلت لها اسمي، فقالت: غير إلى ما غير رسول الله صلى الله عليه وسلم سمها زينب) قال في السلسلة الصحيحة: وهذا سند حسن، فلأنه قيل إنها تزكي نفسها، مع أن اسم برة اسم جميلٌ في الظاهر فغيره عليه الصلاة والسلام لهذا السبب، وقال: لا تزكوا أنفسكم؛ الله أعلم بأهل البر منكم، ولذلك كان التغيير في هذا الاسم مستحباً لا واجباً. ويدخل في هذه الكراهية التسمية بالتقي والمتقي والمطيع والطائع والراضي والمخلص والمنيب والرشيد والسديد كما ذكر ابن القيم رحمه الله وقال: وأما تسمية الكفار بذلك -إطلاق اسم الطائع أو المنيب أو الرشيد أو البر أو برة على كافر أو كافرة- لا يجوز أبداً، ولذلك لو رأيت تاركاً للصلاة هاجراً دين الله واسمه محسن فلا تناديه بمحسن، وإذا رأيت تاركاً للصلاة هاجراً دين الله قد سمي مطيعاً فلا تناديه بمطيعٍ أبداً، ولو رأيت تاركاً للصلاة عاصياً لأمر الله مصراً على الفواحش واسمه منيب فلا تناديه بمنيبٍ أبداً، فإنه لم ينب إلى ربه. وأما تسمية الكفار من ذلك فلا يجوز التمكين منه، ولا دعاؤهم بشيء من هذه الأسماء، ولا الإخبار عنهم بها، والله عز وجل يغضب من تسميهم بذلك. وأما بقية الأسماء التي فيها معنى الصلاح، فلا يجب تغييرها وخصوصاً إذا كانت من أسماء الأنبياء، كصالح مثلاً، ولذلك كان تغيير اسم برة فيه خصوصية معينة في تلك الحالة وتلك الواقعة لا ينطرد على جميع الأسماء التي فيها معنى شبيه بمعنى برة.

اشمئزاز بعض أصحاب النفوس الضعيفة

اشمئزاز بعض أصحاب النفوس الضعيفة ومن الأسباب على تغيير بعض الأسماء الحسنة أحياناً كما ورد في الحديث الصحيح: (لئن عشت إن شاء الله لأنهين أن يسمى رباح ونجيح وأفلح ويسار) وفي رواية صحيحة: (لأنهين أن يسمين بنافعة وبركة ويساراً) وثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا تسمين غلامك يساراً ولا رباحاً ولا نجيحاً ولا أفلح) ما هو السبب؟ هل لأن الاسم قبيح؟ كلا، يقول عليه الصلاة والسلام: (فإنك تقول: أثمت هو؟) تأتي وتسأل عنه في البيت فلان موجود؟ فلا يكون موجوداً فيقال: لا، فيحصل التشاؤم والتطير بأن هذا البيت لا يسار فيه أو لا رباح فيه، وذلك عند الناس الذين تشيع بينهم مسألة التشاؤم. وفي معنى هذا: خير وسرور ونعمة وما أشبه ذلك فإنه لو كان في البيت رجلٌ يقال له خير أو سرور أو بنت يقال لها: نعمة، فجاء إنسان فسأل: عندكم نعمة؟ فلو لم تكن موجودة سيقولون: لا، عندكم خير؟ فلو لم يكن موجود سيقولون: لا، عندكم سرور؟ فلو لم يكن موجوداً سيقولون: لا، ولذلك يحصل في بعض النفوس التي لم تتمكن منها عقيدة التوحيد نوعٌ من التشاؤم فلذلك كاد أن ينهى صلى الله عليه وسلم عنها إذا عاش، أو نهى أن يسمى العبيد بهذه الأسماء حتى لا يحصل التشاؤم بذلك ليس لأن الأسماء هذه قبيحة. فلأن بعض النفوس قد تشمئز وتتطير ويدخل هذا في باب المنطق المكروه نهى صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وإلا فإن الاسم الجميل له فوائد في التفاؤل الذي هو من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك ورد في الحديث الصحيح: (كان يعجبه إذا خرج لحاجته أن يسمع يا راشد) من الرشاد والنجاح فيتفاءل به وهو خارج إلى حاجته، إذا سمع يا راشد يتفاءل لأن الرشاد حليفه، والتوفيق صاحبه في هذه الحاجة.

التعبيد لغير الله عز وجل

التعبيد لغير الله عز وجل ومن الأشياء المحرمة تسمية كل شيء وتعبيده لغير الله، كعبد الجن، وعبد الدار، وعبد الكعبة، وعبد تميم، وعبد الحجر، وعبد العزى، وعبد الرضا، وعبد الحسين، وعبد الرسول، وعبد المسيح، وعبد علي، وعبد الإمام، وعبد الحسن، وعبد الأمير، وعبد السجاد، وعبد الباقر، وعبد الصادق، وعبد الكاظم، وعبد المهدي، وعبد الونيس، وعبد النعيم، وعبد الراضي، وعبد النبي، وعبد طه، وعبد المقصود، لأنها ليست من أسماء الله. وكذلك كل ما عبد لاسم لم يثبت لله كعبد العال والصحيح عبد المتعال، فإن المتعال هو اسم الله، وكذلك عبد الوحيد، وعبد الفضيل، وعبد الصاحب، وعبد السادة، وعبد الخضر، وعبد العاطي، وعبد الزبير، وعبد النور كلها لا تجوز؛ والنور ليست من أسماء الله. هذه طائفة من الأسماء المحرمة لعلة أنها معبدة لغير الله وهو نوع من أنواع الشرك. ومن الأدلة على أنه لا يجوز منازعة الله في اسم من أسمائه أو صفة من صفاته الحديث الصحيح الآتي: روى أبو داود في سننه عن هانئ أنه لما وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مع قومه، سمعهم يكنونه بـ أبي الحكم، فدعاه عليه الصلاة والسلام فقال: (إن الله هو الحكم وإليه الحكم فلم تكنى بأبى الحكم، فقال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم فرضي كلا الفريقين ولذلك كنوني: أبا الحكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أحسن هذا) فالحكم بين الناس بالعدل وإرضاء الفريقين بذلك شيء حسن، ولكن هذا شيء والتكنية بـ أبي الحكم أمر آخر، قال عليه الصلاة والسلام: (فما لك من الولد؟ قال: لي شريح ومسلمة وعبد الله، قال: فمن أكبرهم؟ قلت: شريح، قال: فأنت أبو شريح).

جواز التسمي بأسماء الأنبياء

جواز التسمي بأسماء الأنبياء وأما التسمية بأسماء الأنبياء فهي من الأشياء الطيبة وهو مما هو معروف من تاريخ المسلمين، وقد سمى صلى الله عليه وسلم ولده بـ إبراهيم، وقال البخاري في صحيحه: باب من تسمى بأسماء الأنبياء، وساق حديثاً عن إسماعيل قال: قلت لـ أبي أوفى رأيت إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم مات صغيراً، ولو قضي أن يكون بعد محمدٍ صلى الله عليه وسلم نبياً عاش ابنه ليكون نبياً من بعده، ولكن لا نبي بعده. وفي صحيح مسلم: باب التسمي بأسماء الأنبياء والصالحين، ثم ذكر حديث المغيرة بن شعبة قال: لما قدمت نجران سألوني فقال النصارى في نجران، إنكم تقرءون: {يَا أُخْتَ هَارُونَ} [مريم:28] وموسى قبل عيسى بكذا وكذا، اعترضوا عليه قالوا له: أنتم تقولون في القرآن عن مريم: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} [مريم:28] ومريم بينها وبين هارون أخو موسى مئات السنين وربما آلاف السنين، فكيف تقولون في القرآن: {يَا أُخْتَ هَارُونَ} [مريم:28] عن مريم ومريم ليست أختاً لهارون. يقول: فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سألته عن ذلك، فقال: (إنهم كانوا يسمون بأنبيائهم والصالحين قبلهم) فإذاً هارون أخو مريم وليس هو هارون أخو موسى، وإنما هو هارون آخر ولكن من عادة قوم مريم أنهم كانوا يسمون بأنبيائهم والصالحين من قبلهم ومنهم هارون. ومن الأسماء المكروهة المقبوحة التسمية بأسماء الفراعنة والجبابرة كفرعون وقارون وهامان. واختُلِف في حكم التسمي بأسماء الملائكة كجبرائيل وميكائيل وإسرافيل فكرهه ابن القيم في تحفة المودود والأحوط الابتعاد عن ذلك.

حكم التسمي بالحروف المقطعة

حكم التسمي بالحروف المقطعة ومما يمنع من التسمية به: أسماء القرآن وسوره، مثل طه ويس وحم، وقد نص الإمام مالك على كراهية التسمية بـ يس، وأما ما يذكر العوام أن يس وطه من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم فغير صحيح، ليس في ذلك حديثٌ واحد صحيح، وإنما طه من الحروف المقطعة مثل حم، ويس من الحروف المقطعة مثل كهيعص وليست أسماء ثابتة للنبي صلى الله عليه وسلم، وإن قال آلاف الناس أنها أسماء للنبي صلى الله عليه وسلم فليست كذلك، وقد سمعت بنفسي عن رجلٍ من شبه القارة الهندية قد سمى ولده طس. ومن البدع الحاصلة في هذه الأيام: تسمية الأولاد بطريقة فتح المصحف، فيفتحون المصحف فإذا وقعوا على اسم من الأسماء سموه للولد أو للبنت، فإذا وجدوا (أفنان) سموا البنت (أفنان) وإذا لم يجدوا شيئاً سموها آية، وهذه طريقة مبتدعة ولو كانت خيراً لسبقنا السلف إليها، وعندنا ولله الحمد في أسماء أبناء الصحابة وأبناء التابعين وأبناء من تبعهم رجالاً ونساءً ذكوراً وإناثاً أسماء في غاية الجمال.

العلاقة بين الاسم والمسمى

العلاقة بين الاسم والمسمى ولما كانت الأسماء قوالب للمعاني ودالة عليها، اقتضت الحكمة أن يكون بينها وبينها ارتباطٌ وتناسب، فللأسماء تأثير في المسميات، وللمسميات تأثير في أسمائها سواء كان في الحسن أو القبح، أو الخفة والثقل، أو اللطافة والكثافة كما قال الشاعر: وقلما أبصرت عيناك ذا لقبٍ إلا ومعناه إن فكرت في لقبه كان عليه الصلاة والسلام يستحب الاسم الحسن، وإذا أرادهم أن يبرزوا إليه بريداً أمرهم أن يجعلوه حسن الاسم حسن الوجه حتى لا يحصل تشاؤم من أصحاب النفوس المريضة، وحتى يكون هناك مجالٌ للتفاؤل من أهل التوحيد. وكان صلى الله عليه وسلم يأخذ المعاني من أسمائها في المنام واليقظة، (كما رأى عليه الصلاة والسلام في منامه ليلة أنه وأصحابه في دار عقبة بن رافع فأتوا برطب من رطب ابن طاب فأوله صلى الله عليه وسلم -أول هذا المنام- بأن لهم الرفعة في الدنيا من كلمة رافع، والعاقبة في الآخرة من كلمة عقبة، وأن الدين الذي قد اختاره الله لهم قد أرطب وطاب، وذلك عندما أتي برطب ابن طاب). وكذلك تأول سهولة أمرهم يوم الحديبية من مجيء سهيل بن عمرو فقال عليه الصلاة والسلام: (سهل لكم من أمركم) فتفاءل باسم سهيل عندما قدم عليه. ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة واسمها يثرب زال عنها ما في لفظ يثرب من التثريب وحل فيها الطيبة التي تضمنها اسم طابة أو طيبة كما سماها الله عز وجل ورسوله.

مثال لتأثير الأسماء في مسمياتها

مثال لتأثير الأسماء في مسمياتها وإذا أردت أن تعرف تأثير الأسماء في مسمياتها فتأمل الحديث: عندما قدم حزن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جد سعيد بن المسيب، فغير رسول الله صلى الله عليه وسلم اسم حزن إلى سهل، فقال ذلك الرجل: لا أغير اسماً سمانيه أبي، فيقول سعيدٌ رحمه الله: [فما زالت تلك الحزونة فينا بعد] والحزونة هي الشدة والصلابة والعسر قال: لا زالت تلك الشدة معروفة في عائلتنا وأسرتنا لقاء عصيان ذلك الرجل تسمية رسول الله صلى الله عليه وسلم له باسم سهل وإصراره على اسم حزن مع ما يتضمنه ذلك الاسم من القبح، فصارت تلك الغلظة في طبعهم وأخلاقهم موجودة لقاء ذلك العصيان. ومن تأمل السنة وجد معاني في الأسماء مرتبطة بها، حتى كأن المعاني مأخوذة من تلك الأسماء، وكأن الأسماء مشتقة من تلك المعاني فتأمل قوله عليه الصلاة والسلام مثلاً: (أسلم سالمها الله، وغفار غفر الله لها -ولكن قبيلة عصية قال:- عصية عصت الله ورسوله) مع أن الأحداث التاريخية تخبر بأن أسلم وغفار تلكما القبيلتين قد أسلمتا لله رب العالمين وجاء أفرادهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما عصية فإنها حاربت رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتركت مع رعل وذكوان في قتل أصحابه عليه الصلاة والسلام، فتأمل كيف جرى ذلك القدر أن يكون أسلم وغفار ممن جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منيبين مهتدين وبين عصية التي عصت الله ورسوله. ولما نزل الحسين رضي الله عنه وأصحابه في كربلاء سئل عن اسمها، فقيل له: كربلاء، فقال: كرب وبلاء وكان ذلك فعلاً، ولما وقفت حليمة السعدية على عبد المطلب تسأله رضاع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صغير قال لها: ومن أنت؟ قالت: امرأة من بني سعد، قال: ما اسمك؟ قالت: حليمة، قال: بخٍ بخٍ سعدٌ وحلمٌ هاتان خلتان فيهما غناء الدهر. ولأجل هذا كان من الأسباب التي تدفع إلى اختيار الاسم الطيب الذي يحمل من المعاني أشياء حسنة فيسمي به الوالد ولده من ذكر أو أنثى، والله سبحانه بحكمته في قضائه وقدره يلهم النفوس أن تضع الأسماء على حسب مسمياتها، ولتناسب حكمة الله بين اللفظ ومعناه كما تتناسب بين الأسباب ومسبباتها.

تأثير الاسم على من يسمعه

تأثير الاسم على من يسمعه قال أبو الفتح بن جني وهو من علماء اللغة: ولقد مر بي دهرٌ وأنا أسمع الاسم ولا أدري معناه، فآخذ معناه من لفظه ثم أكشفه فإذا هو ذلك بعينه أو قريباً منه. يقول ابن القيم رحمه الله بعد سياق الكلام المتقدم: فذكرت ذلك لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فقال: وأنا يقع لي ذلك كثيراً. فتأمل مثلاً في لفظ سعيد كيف تدل تلك الكلمة على معناها، ثم تأمل لفظ شقي كيف تدل الشين والقاف مع الياء على معنى مكروه من النفس، ولو ذكرت كلمة خنزير مثلاً إلى أحد الأشخاص الذين لا يعرفون معناها ولا يعرفون مدلول هذه الكلمة ثم سألته هل هذا الاسم حسنٌ أو قبيح؟ لكان تأثير اجتماع الخاء والنون والزاي في نفسه أثراً قبيحاً، ولقال لك: إن اسم خنزير قبيح ومدلوله قبيح، لو كان سليم الفطرة. وبالجملة فإن الأخلاق والأعمال والأفعال القبيحة تستدعي أسماء تناسبها وأضداد ذلك تستدعي أسماء تناسبها أيضاً. وكما أن ذلك ثابت في الأوصاف فهو كذلك ثابت في الأعلام، وإن صاحب الاسم الحسن قد يستحي من اسمه وقد يحمل اسمه على فعل ما يناسب ذلك الاسم، ولهذا ترى أكثر السفلة كما يقول ابن القيم: أسماؤهم تناسبهم، أبو لهب، وأكثر العلية أسماؤهم تناسبهم محمد صلى الله عليه وسلم، عمر وهكذا، علي بن أبي طالب رضي الله عنه. هذه مقدمة لطيفة في العلاقة بين الاسم والمسمى وقد لا تطرد دائماً ولكن هناك علاقة ما.

منكرات تقع في باب الأسماء

منكرات تقع في باب الأسماء وتغيير الاسم الحرام واجب، وتغيير الاسم المكروه مستحب، ويجب أن يتعاون العباد فيما بينهم على هذا التغيير، فبعض الناس قد يكون اسمه محرماً كأن يكون معبداً لغير الله كما ذكرنا آنفاً، فعندما يغير اسمه فإنه ينبغي لأصحابه وأصدقائه أن ينادوه بالاسم الجديد وأن يتفادوا مناداته بالاسم الأول القبيح، وأن يعينوه على ذلك حتى لا يحرج، وحتى يشعر بأن الأمر طبيعي وهذا داخل في قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2] ومن أسلم وكان اسمه معبد لغير الله أو يدل على شركٍ أو كفرٍ فإنه يجب عليه أن يغيره، وأن ينتقي بدلاً منه اسماً من أسماء أهل التوحيد، ولا يجب عليه تغيير اسم أبيه أو جده لأنه عليه الصلاة والسلام لم يغير في أسماء أجداده ولا أصحابه وقد كان فيهم عبد العزى وعبد الكعبة وعبد الدار وغيرهم، إذ أن مسئولية الإنسان عن اسمه هو.

التسمي باسم من أسماء الله

التسمي باسم من أسماء الله ومما يمتنع التسمية به: تسمية الإنسان نفسه بأسماء خاصة بالله عز وجل، كالأحد، والصمد، والخالق، والرزاق وهكذا. ولا يجوز تسمية عظيمٍ من العظماء أو ملك من الملوك أبداً بأسماءٍ أو تلقيبه بألقابٍ أو وصفه بصفاتٍ هي من صفات الرب عز وجل، فلا يجوز أن يلقب بالقاهر ولا بالظاهر، كما لا يجوز أن يلقب بالمتكبر أو الأول والآخر والباطن وعلام الغيوب ونحو ذلك، وقد وقع لبعضهم في العصر الحديث أن أطلقوا على عظمائهم أسماء خاصة بالله عز وجل فقال قائلهم -عامله الله بما يستحق- عن عظيمٍ من عظمائه، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وهذا من الكفر الشنيع والشرك القبيح، ومن أعظم الجرائم عند الله سبحانه وتعالى أن ينازعه رجلٌ في اسم من أسمائه أو صفة من صفاته، وأن يتعدى كائنٌ من كان على ذلك الاسم وتلك الصفة.

التلاعب بالأسماء المعبدة لله عز وجل

التلاعب بالأسماء المعبدة لله عز وجل ومما ينبغي الحذر أيضاً فيه: التلاعب بالأسماء المعبدة لله عز وجل، كعبد الرحمن فلا يصح أن يقال: رحم، أو دحيم أو دحيّم أو دحمان أو دحمي ونحو ذلك، وإنما يبقى الاسم المعبد لله كما هو. وكان الحافظ/ عبد الرحمن بن إبراهيم يعرف بـ دحيمٍ بين الناس وكان يكره أن يقال له: دحيم، وقال ابن حبان: دحيم تصغير دحمان، ودحمان بلغتهم، الرجل الخبيث. ولا بأس أن يترك المسلم اسماً أحسن لاسم حسن، أو اسماً حسناً لاسم لا بأس به لمصلحة شرعية، فمثلاً: لو أراد رجلٌ أن يسمي ولده عبد الرحمن فأحس أن رغبة أبيه أن يسمي ولده سعيد؛ لأن اسم الأب سعيداً، ولأن اسم سعيد لا حذر فيه شرعاً، فإنه قد يكون من المستحب لهذا الولد أن يسمي ولده على اسم أبيه براً بالأب الذي هو جد المولود إذا أحس هذا الوالد بأن لأبيه رغبة قوية في هذا، فقد ينضاف لترك اسم أحسن إلى اسم حسن قد ينضاف إليه مصلحة شرعية لا بأس بها كالبر بالأب وهو مأجور على ذلك إن شاء الله. وبعض الناس عندهم عقدة وهي: أنهم لا يريدون التسمية باسم معروف ويقولون: هذا اسم منتشر مستهلك، فيلجئون إلى الغرائب والشواذ؛ فيأتون بأسماء ما أنزل الله بها من سلطان، وكأن المسألة هي طلبٌ للشهرة؛ فيقعون في أسماء قبيحة سعياً وراء التفرد والشهرة، وليست هكذا عادة السلف أبداً، فإنهم سموا بأسماء مشهورة منتشرة معروفة متكاثرة في الصحابة والتابعين ومن تبعهم، فإذا استعرضت كتب الرجال مثلاً لوجدت طائفة كبيرة من اسمه محمد أو إبراهيم أو عبد الله أو عبيد الله أو عبد الرحمن وهكذا، ولم يقولوا نحن نريد اسماً شاذاً غير معروف بين الناس.

التسمية بأسماء الفساق حبا لهم

التسمية بأسماء الفساق حباً لهم ومن المنكرات الحادثة في التسميات ما يلجأ إليه بعض الناس ممن رق دينهم وكان لهم نصيبٌ من الفسوق والعصيان أن يسموا أولادهم على أسماء الممثلين والممثلات أو المغنين والمغنيات أو الراقصين والراقصات، فترى واحداً منهم مع أنه أب مسئول لا يتورع أن يسمي ابنته على اسم مغنية أو ساقطة من الساقطات لأنه معجبٌ بها، وترى ديوثاً يقر الخبث في أهله لا يتورع أن يسمي ولده باسم داعرٍ أو راقصٍ أو ماجن ولو كان اسمه قبيحاً لأنه معجبٌ به، والمرء يحشر مع من أحب. وقد يكون الاسم جميلاً أو حسناً ولكن الباعث إلى التسمية به ليس إرضاء الله وإنما اتباعاً لذلك المغني، كمن يسمي (عبد الحليم) مثلاً فهو اسمٌ حسن والحليم من أسماء الله، ولكن ما هي النية والباعث على التسمية بهذا الاسم، هل لأنه تعبيدٌ لاسم من أسماء الله، أم لأنه إعجاب بمغنٍ من المغنين أو مطربٍ من المطربين مثلاً، وإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى؟! وكذلك من المنكرات في هذا التسمية بأسماء تكره النفوس معانيها، كحرب ومرة وحية وحنش ومثل ذلك ثعلب وثعيلب وثعيل وكليب وخنفس وخنيفس، وهذا منتشر بين البادية كثيراً، وأحياناً التسمية بأسماءٍ ذات ألفاظ وحشية كخربوش وعجيريف من العجرفة أو متحس وطفشير ونحو ذلك، وهذه أسماء واقعية يسمون بها، وقد تقدم أنه عليه الصلاة والسلام لما أقيم بين يديه قاتل حمزة وسأله عن اسمه فكان اسمه وحشي، فقال: (غيب وجهك عني) فعمله واسمه منافٍ للحق وفيه نفور تحس به النفس. وكذلك من الأسماء القبيحة ما يفعله بعضهم من التسمي بأسماء الحيوانات، كثعيلب وثعيل ووحش ونحو ذلك، أو أن يكون الاسم قبيح المعنى مثل عناد وغسيس وغصاب وعاشق ومتروك ونحو ذلك، وهذه أسماء منتشرة كما ذكرنا، وتأمل عندما يقف رجل أمام الناس فيقال له ما اسمك؟ فيقول: اسمي كذا، وإذا كان اسمه قبيحاً فكيف يكون موقفه بينهم؟ حدثني بعضهم عن طالبٍ من الطلاب في مدرسة من المدارس لما جاء المدرس يسأل عن أسماء طلابه فلما أوقف أحدهم قال له: اسمي خايس، هذا هو اسمه خايس، كيف يكون موقف ذلك الطالب بين زملائه وهو يقول: اسمي خايس، وهذا لعمر الله من الجرائم التي يجرم بها بعض الآباء وهم لا يتقون الله في تسمية أولادهم، أو يكون لبعضهم أسماء تافهة مثل قوطي ونحو ذلك، وهذا موجود. ومن الشناعة أن يقول بعض هؤلاء كما قال ذلك الرجل حزن لا أغير اسماً سمانيه أبي، فقد يعاقب على ذلك، كما عوقب سلفه من قبل. ومبدأ {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23] مبدأ جاهلي آخذه القرآن وعاب أهله وذمهم، فكيف يأتي أناسٌ من المسلمين اليوم ويقولون: هذه أسماء آبائنا وأجدادنا وقبيلتنا وعشيرتنا لا نغير فيها، ومن الذي قال: إن هذا شرع وإن تسمية آبائكم وأجدادكم وقبيلتكم وعشيرتكم إن هذا في القرآن والسنة، من الذي قال بهذا؟ ولماذا نسمي أنفسنا مسلمين إذاً إذا لم نكن سنستسلم لآداب الإسلام وأوامر الله ونواهيه، فإذاً شرع الله فوق عادات القبائل وفوق أعراف المجتمعات، يجب أن يتبع شرع الله.

المنكرات الواقعة في أسماء البنات

المنكرات الواقعة في أسماء البنات أيها الإخوة: وأما بالنسبة لأسماء البنات فحدث ولا حرج عما حدث فيها من التلاعب والتغيير والابتعاد عن آداب الإسلام وهدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في هذا الجانب، فتجد بعضهم يسمي ابنته اسماً عجيباً، فمنهم من يسميها (فتنة) أو (فاتن) ومعلوم أن الفتنة شر وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعاذ منها، ولكنهم يسمون بتلك الأسماء. وقبل أن أسرد لكم طائفة من الأسماء المنتشرة بين الناس في تسمية البنات، أوضح نقطة ذكرتها تكلمنا عن بدعية فتح المصحف لتسمية الأولاد أو البنات، فقال بعض الإخوة: إن في القرآن أسماء حسنة مثل مريم وكوثر ونحو ذلك؟ فأقول توضيحاً: إننا لا نعيب على من يسمي بأسماء في القرآن مثل مريم، بل إن هذا شيء محمود، ولكن الانتقاد في الطريقة التي يسمي بها هؤلاء الناس بناتهم أو أولادهم، الطريقة وليس الاسم، ففتح المصحف للتسمية ليس معروفاً على عهد السلف رحمهم الله، بل هو أقرب إلى البدعة، أما أن يجول الإنسان بذاكرته فينتقي اسماً حسناً من الأسماء الموجودة في القرآن إذا كان ذلك الاسم حسناً فعلاً وليس متكلفاً كما يفعل بعضهم إذا لم يجد شيئاً سماها آية، فإذا كان اسماً حسناً فلا يضر كونه في القرآن بل هذا شيء طيب، ومن التأسي بأسماء الأنبياء والصالحين من قبلنا أن نسمي بأسمائهم كما تقدم. بعض الناس في مجال تسمية البنات يقتبسون من الكفار ويأخذون منهم، وإليكم طائفة من الأسماء الواقعية التي سمي بها في هذا الزمان، من آباء مسلمين، فمنهم من يسمي ابنته: (سوزان أو سالي أو منوليا أو مايا أو هايدي أو ليندا أو لارا أو لسندا أو انجلا أو جلوريا أو ديانا) ونحو ذلك، انظر إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، وحذو النعل بالنعل، حتى لو دخلوا جحر ضبٍ لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن!) من غيرهم؟ وهؤلاء المسلمون الآن تبعوا اليهود والنصارى في التسمية في الأسماء حذو القذة بالقذة، ولذلك ترى من المسلمين من سمى ابنته بمثل هذه الأسماء، وهي أسماء لكافرات بنات كفارٍ وكافرات، وينبغي أن يبحث المسلم لابنه أو ابنته عن اسم عربي جميل المعنى سهل اللفظ؛ لأن هذا عنوان سيحمله ذلك المسمى من ذكرٍ أو أنثى يسير به بين الناس، لابد أن يكون شيئاً مشرفاً جميلاً، وليس شيئاً يجلب الخجل والعار، ولا ينبغي أن يلجأ إلى أسماء الأعاجم كما يفعل بعضهم، فيسمي مثلاً (ميرفت وناريمان وشيريهان ونيفين وشيرين) ونحو ذلك. وتفكر في حال من سميت (بفيفي أو ميمي) مثلاً في تفاهة هذا الاسم وعدم دلالته على أي معنى، تأمل في حال تلك المرأة عندما تكبر وتصبح أماً أو جدة واسمها (ميمي) كيف يكون موقفها أمام أولادها أو أحفادها وهم ينادونها بهذا الاسم. وبعض الناس لا تتعدى نظرتهم أرنبة أنوفهم، فلا يفكرون في المستقبل وقد ينتقون اسماً يناسب الطفل الصغير الوليد فيه تدليل، ولكن لا يحسبون الحساب عندما يكبر هذا كيف سيكون، وقد يقولون: انتهت الأسماء فلم نجد اسماً مناسباً ماذا نفعل؟ نقول: ارجعوا إلى كتب أسلافكم، ارجعوا إلى كتب العلماء، انظروا ماذا سمى الصحابة بناتهم وماذا سمى التابعون بناتهم، وماذا سمى أتباع التابعين بناتهم، عند ذلك ستجد الأسماء العربية ذات المعنى الحسن واللفظ السلس التي يحسن بأب أن يسمي بها ابنته، وأنا أعرض لكم أمثلة لهذا. فمن أسماء المسلمات في الماضي: (آمنة وأروى وأسماء وأمامة وجمانة وأميمة وحكيمة وحسانة) حسانة هذا الاسم العظيم، لماذا؟ (جاءت عجوزٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها عن اسمها فقالت: جثامة المزنية، فقال: بل أنت حسانة) فقد غير الرسول صلى الله عليه وسلم اسم جثامة إلى حسانة، وعاملها بلطفٍ واحترامٍ وأقبل عليها فأدركت الغيرة أمنا عائشة فقالت: يا رسول الله ما رأيتك تقبل على امرأة كما أقبلت على هذه العجوز ما شأنها، فأخبرها عليه الصلاة والسلام أنها من صديقات خديجة، وكانت تأتيهم أيام خديجة، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (وإن حسن العهد من الإيمان) الاحتفاظ بالفضل لأهل الفضل، وبالمعروف لأهل المعروف، وتذكر أصدقاء الماضي وعدم نسيانهم (إن حسن العهد من الإيمان) فما أخلق المسلم أن يسمي ابنته حسانة كما سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المرأة. (وأمينة وأنيسة وبشيرة وجميلة وحميدة وحليمة وحبيبة وحسنة ورفيدة ورقية وزينب وروضة وريحانة وسارة وسعيدة وسكينة وسلمى وسمية وسهلة وشفاء وصفية وعائشة ويسيرة وعميرة وفاضلة وفاطمة ولبابة ولبنى ومريم ومعاذة وميمونة ونائلة ونسيبة وهند) وغير ذلك من الأسماء طافحة بها كتب الأعلام في الماضي، فهل انتهت الأسماء فعلاً حتى نسمي بأسماء الكافرات، والماجنات والمغنيات والتافهات؟ فعوداً أيها المسلمون إلى شخصيتكم الإسلامية، اعلموا بأن هذه الأمور ليست فكرية أو سطحية تافهة وإنما لها معنى. ومن الأسماء من لا تصلح إلا لله، لا لفظاً ولا معنىً لا تصلح إلا لله، ولا يجوز تسمية المخلوق بها في أي حالٍ من الأحوال، كالخالق والرازق والرحمن لا بـ (ال) ولا بغير (ال) لا يجوز أن يسمى بها المخلوق.

الاعتقاد بأن الاسم يدفع العين

الاعتقاد بأن الاسم يدفع العين ومن الأمور الشائنة الحادثة والمعتقدات الباطلة: اعتقاد بعضهم -وخصوصاً في البادية- أنه لو سمى الولد باسمٍ بغيضٍ أو قبيح فإن العين لا تصيبه أو أنه لا يموت صغيراً ونحو ذلك، ولهذا صار بعضهم يسمي أسماء قبيحة كما سمى بعضهم ولده طمث ونحو ذلك والعياذ بالله، وتأمل في حال الولد وهو يُنادى بين الناس بالاسم القبيح ولو كان اسمه غريباً تستك منه الأسماع، فإن الذي يسأله عن اسمه لأول مرة فيقول له: ما اسمك؟ فيقول: فلان فيستغرب السائل ويعيد السؤال، فيقول: ماذا؟ فيعيد المسئول الاسم وهكذا يضل الولد في إحراجٍ بسبب جهل الأب وإعراضه عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يؤدي في كثيرٍ من الأحيان إلى أن يكره الأبناء آباءهم لأن ذلك الأب قد جر على ولده القبح في مجامع الناس والاشمئزاز منه. وعلى وجه العموم نختم قضية الأسماء بما ذكره الطبري رحمه الله فقال: لا ينبغي التسمية باسم القبيح المعنى، ولا باسمٍ يقتضي التزكية لهذا الشخص، ولا باسم معناه السب، ولو كانت الأسماء إنما هي أعلامٌ للأشخاص لا يقصد بها حقيقة الصفة ولكن وجه الكراهة أن يسمع سامعٌ بالاسم فيظن أنه صفة للمسمى، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يغير الأسماء القبيحة. وليعلم أن من الأسماء التي فيها تزكية وقد ذمها أهل العلم ما راج في هذا العصر والعصور السالفة المتأخرة في الإسلام من التسمية بزكي الدين وتقي الدين ونحو ذلك، مثله فخر الإسلام مثلاً فإن هذه الأسماء حادثة في العصور المتأخرة من الإسلام، لا يعرف أن الصحابة ولا السلف الصالح تسموا بهذه الأسماء، ومن العجيب أن هذه الأسماء قد شاعت في الوقت الذي ضعف فيه المسلمون، ولما كان المسلمون أقوياء كانوا لا يحتاجون إلى التسمية بهذه الأسماء ولكن لما صار الضعف حاصلاً صارت عقدة نقصٍ عند الكثيرين فصاروا يسمون زكي الدين وسراج الدين وتقي الدين وفخر الإسلام ونحو ذلك. وهذا مركب نقص في النفوس دفع إليه الشعور بالضعف، زد على هذا السبب وهو: أن المسألة محدثة مبتدعة، زد عليه: أن فيه تزكية للنفس ومخالفة لقول الله: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32]. وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أن يرخم الاسم عند النداء للملاطفة بأن يحذف الحرف الأخير منه مثلاً، ولذلك كان عندما ينادي عائشة يقول: يا عائش! من باب الملاطفة فهذا لا بأس به؛ لأن فيه مداعبة وتحبباً وكما يكون من ينادي فاطمة يا فاطم، ونحو ذلك.

الهدي الإسلامي في الكنى

الهدي الإسلامي في الكنى وأما بالنسبة للكنى فإنها من هدي السلف الصالح رحمهم الله، وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان يكني أصحابه وكان له عليه الصلاة والسلام كنية وهي أبو القاسم.

جواز التكني ولو لم يوجد ولد

جواز التكني ولو لم يوجد ولد ولما أرادت زوجته عائشة أن تكتني ولم يكن لها ولد قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! كل نسائك لها كنية غيري، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتني بابنك عبد الله) يعني: ابن الزبير، مع أنه ليس ولدها وهي خالته ولكن أطلقه عليها لأن الخالة بمنزلة الأم كما ورد في الحديث الصحيح، فقال: (اكتني بابنك عبد الله أنت أم عبد الله) وهذا سندٌ صحيح، والحديث رواه الإمام أحمد، فلو كانت المرأة ليس لها كنية فإنه يسن لها أن تكتني بأقرب الناس إليها، مثل أن تسمى بأم فلان، وهذا فلان ولد أختها مثلاً. وقال البخاري في صحيحه: باب الكنية للصبي وقبل أن يولد الرجل، وساق حديث (يا أبا عمير ما فعل النغير) وهذه الجملة التي داعب بها الرسول صبياً صغيراً من صبيان الصحابة، وهو أخا أنس بن مالك رضي الله عنهما فقال له عليه الصلاة والسلام: (يا أبا عمير! -مع أنه صغيرٌ جداً- ما فعل النغير) اسم طائرٍ كان عنده.

الكنية للصغير

الكنية للصغير وكنى صلى الله عليه وسلم ابن مسعودٍ أبا عبد الرحمن قبل أن يولد له، رواه الطبراني قال الحافظ: إسناده صحيح، ولذلك من السنة أيضاً أن يكنى الرجل بأبي فلان حتى قبل أن يرزق بمولود. قال العلماء: كانوا يكنون الصبي تفاؤلاً بأنه سيعيش حتى يولد له، وكذلك للأمن من التلقيب، ولهذا قال قائلهم: بادروا أبناءكم بالكنى قبل أن تغلب عليهم الألقاب.

جواز التكني بأكثر من كنية

جواز التكني بأكثر من كنية وكنى النبي صلى الله عليه وسلم علياً بـ أبي تراب، كما ورد في الحديث الصحيح الذي عنون عليه البخاري رحمه الله: باب التكني بـ أبي ترابٍ وإن كانت له كنية أخرى، فعن سهل بن سعد قال: إنه إن كانت أحب أسماء علي رضي الله عنه إليه لـ أبو تراب، وإن كان ليفرح أن يدعى بها، وما سماه أبا ترابٍ إلا النبي صلى الله عليه وسلم، فقد غاضب يوماً فاطمة، حصل بين علي وفاطمة ما يحصل بين الرجل وزوجته، فخرج فاضطجع إلى الجدار في المسجد، فجاءه النبي صلى الله عليه وسلم يتبعه فقال: هو ذا مضطجع في الجدار، فجاءه النبي صلى الله عليه وسلم وقد امتلأ ظهر عليٍ تراباً من جراء الاضطجاع على الأرض أو على الجدار، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يمسح التراب عن ظهره ويقول مداعباً: اجلس يا أبا تراب، مع أن علياً له كنية أخرى وهي كنيته بابنه الحسن، فكان يقول: أنا أبو الحسن. قال ابن حجر رحمه الله: وفيه جواز تكنية الشخص بأكثر من كنية، والتلقيب بلفظ الكنية وبما يشتق من حال الشخص، كما اشتق عليه الصلاة والسلام أبا تراب، وأن اللقب إن صدر من الكبير في حق الصغير تلقاه بالقبول ولو لم يكن لفظه لفظة مدح، ولكن لا يصح أن تكون الكنية أبداً قبيحة، كأن يقول: أبو كذا، وهي من أسماء الحيوانات على سبيل المثال، وأيضاً قال صلى الله عليه وسلم لبنتٍ صغيرة لبست لبساً حسناً قال: (هذا سنا يا أم خالد) يعني: جميل بلسان الحبشة.

فوائد التكني

فوائد التكني والتكني ولو لم يكن له ولدٌ أدب إسلاميٌ ليس له نظير عند الأمم الأخرى، ولذلك انظر إلى حال الكفرة في بلاد الغرب والشرق مثلاً، هل رأيت أمريكياً يقال له: أبو فلان، أو رأيت إنجليزياً يقال له: أبو فلان كلا، وإنما التكنية أدبٌ إسلاميٌ شاع بين المسلمين ومن فوائده: أولاً: توقير الشخص واحترامه فإنك عندما تقول: يا أبا فلان، هذه منزلة أعلى من أن تقول يا فلان باسمه. ثانياً: إن تكنيته بها يمنع من تلقيبه بالألقاب السيئة لأن له كنية، فلا يطلق عليه لقبٌ سيئ فتكون التكنية حائلة بينه وبين اللقب السيئ. ثالثاً: إن تكنية الصغار فيه إشعار لهم بالمسئولية كأنهم آباء، فعندما يقال للولد الصغير: يا أبا فلان، فإنه يعظم في نفسه ويكبر في عين نفسه، ويشعر بأن الكبار يحترمونه وكأنه يُخاطب على أنه رجلٌ كبير، وهذا من دقائق التربية الإسلامية التي غفل عنها كثيرٌ من المسلمين. وبناءً على ذلك أيها الإخوة! فإن ما حدث من ترك التكني قد ولد استخدام ألقاب مقتبسة من الكفرة أو من الأعاجم (كالبيك والأفندي والباشا والمسيو أو السيد والسيدة والآنسة) ونحو ذلك، وليس في هذه الطائفة كلها من الألقاب أبداً أدبٌ إسلاميٌ واحد؛ فهو إما أن يكون اقتباساً من الأعاجم وإما أن يكون تشبهاً بالكفار الذين يطلقون على المرأة سيدة، ومتى كانت المرأة سيدة؟ ولذلك ترى هؤلاء المعجبين بالكفرة يتشدقون عند تقديم البرامج بقولهم مثلا: (سيداتي آنساتي سادتي) وليس في ذلك شيء أبداً من أدب الإسلام، وإنما يقال للمرأة: يا أم فلان إن كان لا يصلح أن تسمى باسمها أمام الناس، ويقال للرجل: يا أبا فلان، ونحو ذلك، ولا بأس بتلقيب أهل العلم بألقابٍ دالة على فضائلهم، أما هذه الألقاب فليست أبداً من الإسلام في شيء، وخصوصاً إذا كان في بعضها تزكية، مثل كلمة الأفندي. واعلموا أيها الإخوة أن كثيراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كنوا بكنى ولم يكن لهم أولاد بنفس هذه الكنية، فلم يكن لـ أبي بكرٍ ابنٌ اسمه بكرٌ، ولا لـ عمر ابن اسمه حفص، ولا لـ أبي ذر ابن اسمه ذر، ولا لـ خالد ولدٌ اسمه سليمان، وكذلك أبو سلمة لم يكن له ولد اسمه سلمة، فعلى ذلك يجوز التكنية باسم الولد ولو لم يكن كذلك، وهذا مثلما يحدث أحياناً أن يكنى رجل بكنية ثم يأتيه ولد فيسميه باسم آخر، فيجوز أن يطلق عليه هذه الكنية وهذه الكنية إذا كان يحب ذلك. ومن الفوائد للكنى: التنبيه، ولذلك جاء على لسان بعض السلف: أشيعوا الكنى فإنها منبهة، يعني يا أبا فلان تنبهه أكثر من يا فلان وهكذا. ومن الكنى القبيحة أبو مرة؛ لأن العرب كانت تطلقه على الشيطان، وهذا ما يحدث عند كثيرٍ من الناس في السباب والشتائم. ومن الأمور المحرمة تكنية الكافر والمبتدع بكنى المسلمين، ولا يجوز تكنيته على سبيل التوقير، فلو رأيت تاركاً للصلاة أو مستهزئاً بالدين لا يصح لك أن توقره بأن تقول: يا أبا فلان على سبيل التوقير للفاجر والعاصي لا يصح أو للكافر أو المبتدع، وكذلك أن يطلق عليه عدو الدين أو خراب الدين ونحو ذلك.

الهدي الإسلامي في الألقاب

الهدي الإسلامي في الألقاب وأما بالنسبة للألقاب: فإن الله يقول: {وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} [الحجرات:11] وقبل أن نذكر ما تحت اللقب من الفوائد نقول: إنه عليه الصلاة والسلام قد نهى عن الجمع بين اسمه وكنيته، وسمح بأن نتسمى باسمه: (تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي) وهذا الحديث صحيح. واختلف العلماء في توجيهه: فمنهم من قال: لا يجوز أن يجمع لإنسان بين محمد وأبي القاسم في حياته عليه الصلاة والسلام فقط وبعد حياته زال المحذور، ومنهم من قال: النهي عام في حياته وبعد مماته، ومنهم من قال: إن النهي عن الجمع بأن يقال: يا محمد يا أبا القاسم، لكن لو أفرد كلاً منها عند النداء فلا بأس، والأحوط ألا يجمع لإنسان بين كنيته صلى الله عليه وسلم واسمه، فلا ينادى بمحمد ويكنى بأبي القاسم في نفس الوقت.

المنع من التلقيب للسخرية وجوازه للحاجة

المنع من التلقيب للسخرية وجوازه للحاجة وأما التنابز بالألقاب الذي نهى الله عنه في القرآن فقد أخرج الترمذي في سننه وغيره عن أبي جبيرة بن الضحاك قال: (كان الرجل يكون له الأسماء الاثنان والثلاثة، فيدعى ببعضها، فعسى أن يكره) كان الجاهليون يسبون بعضهم ويلقبون بعضهم بألقاب سيئة، فعسى أن يكره عندما ينادى بعدما دخل في الإسلام، فنزلت هذه الآية {وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} [الحجرات:11] ولذلك روى أبو ذر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من دعا رجلاً بالكفر أو قال: يا عدو الله! وليس كذلك إلا حار عليه) رواه مسلم. فهذا من الألقاب (يا عدو الله) هذا لقب سيئ، أو يا كافر ونحو يا فاجر، فإذا لم يكن المنادى هكذا رجع الاسم على المنادي وحار عليه. ومن الألقاب ما يكون فيه نوعٌ من العيب، مثل يا أعرج، يا أحول، يا أعمش، يا أفطس، ونحو ذلك، فهذا من هذا الباب منهيٌ عنه بنص الآية {وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} [الحجرات: 11] إلا في حالة واحدة نص عليها أهل العلم: إذا كان الرجل لا يعرف ولا يميز إلا بهذا اللقب، فإنه يجوز للتعريف، كأن تحتار في كيفية وصف إنسان لآخر فتضطر أن تقول له: هو الرجل الذي في رجله عرج، أو هو الأعرج، فيتميز من الواصف للموصوف، فإذا كان ليس على سبيل التنقص فلا بأس بذلك، كما ورد في صحيح مسلم عن عبد الله بن سرجس قال: [رأيت الأصلع يقبل الحجر] وفي رواية: [رأيت الأصيلع يقبل الحجر] يقصد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فإنه قصد تمييزه وتعريفه لا عيبه وذمه وانتقاصه.

ألقاب يمنع منها الشرع

ألقاب يمنع منها الشرع ومن هذه الأمور أيضاً: التلقيب بسيد الكل وسيد الناس، وست الكل وست الناس فإنها من الأمور المذمومة الجامعة بين الكراهة والقبح والكذب؛ لأن هذا من خصائص رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط، لأنه عليه الصلاة والسلام قال: (أنا سيد ولد آدم) فعندما تقول لإنسان: أنت سيد الكل أو أنت سيد الناس أو يقال لامرأة أنتِ ست الكل فإنه عليه الصلاة والسلام يدخل في هذا الكل، ولذلك صار أمراً معيباً ينبغي اجتنابه خصوصاً عند الشعراء الذين يمدحون والذي يكذبون كثيراً في مدحهم، ومن هذا الباب تسمية البنت بست الناس أو ست العلماء أو ست النساء أو ست الفقهاء كما كان ذلك شائعاً في بعض العصور الماضية. ومن الألقاب أيضاً التي ذكر بعض أهل العلم الكراهية فيها: تلقيب الذي يحج بلقب الحاج، فيقال: الحاج فلان ونحو ذلك، وقد حكى بعض أهل العلم أنه بدعة، وحكى بعضهم أنه لا بأس به، والأحوط عدم استخدامه لما فيه من إظهار الأعمال المفضية للوقوع في الرياء، يعني: كأنه يقال له بين الناس: الحاج فلان لأنه حج، فهذا يكون فيه نوعٌ من إظهار عمله الصالح بين جميع الخلائق، وبعضهم لا يرضى إلا أن ينادى بالحاج فلان، ولو قلت له: يا أبا فلان أو يا فلان لم يرض بذلك، ولم يرد هذا التلقيب عن الصحابة ولا عن السلف الصالح رحمهم الله، فلم يعرف بأنه قيل الحاج أبو بكر والحاج عمر والحاج عثمان والحاج سعيد بن المسيب، والحاج أحمد بن حنبل، ونحو ذلك، وإنما هو لقبٌ حادثٌ في الأزمان المتأخرة. وأما تسمية النصارى الذين يحجون إلى بيت المقدس، يزورونه ويشدون الرحل إليه بأنهم حجاج فإنه أمرٌ ممنوع لما فيه من تشبيه المشرك الكافر بالمسلم في عبادة من العبادات. وكذلك أصحاب القبور الذين يعظمون القبور في بعض البلدان عندما يزور قبر البدوي يقال له: الحاج فلان، ولذلك ترى بعضهم عندهم كتب مكتوب على الغلاف مناسك حج المشاهد، مناسك حج القبور، يعني: يقال في الشوط الأول حول قبر البدوي كذا وكذا، وفي الشوط الثاني كذا وكذا وهكذا، وعند الدخول على القبر كذا وكذا، وعند قبر الحسين كذا وكذا، وهذا من الشرك العظيم الذي وقعت فيه هذه الأمة ولا حول ولا قوة إلا بالله.

هديه صلى الله عليه وسلم في تلقيب أصحاب المهن

هديه صلى الله عليه وسلم في تلقيب أصحاب المهن ومن هديه صلى الله عليه وسلم تسمية أصحاب المهن الذين غلبت عليهم أسماء فيها نوعٌ من القبح بالأسماء الحسنة، حتى أصحاب المهن والصناعات، فقد روى ابن ماجة في سننه وهو حديث صحيح عن قيس بن أبي غرزة رضي الله عنه قال: (كنا نسمى في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم السماسرة -جمع سمسار- فمر بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمانا باسم هو أحسن منه، فقال: يا معشر التجار! -ما قال: يا معشر السماسرة- إن البيع يحضره الحلف واللهو فشوبوه بالصدقة) يا معشر التجار! إن البيع يكثر فيه الحلف واللغو فاخلطوه بالصدقة كي يزكوا وتطرد تلك الآثام التي وقعت أثناء البيع. ومن الألقاب السيئة التي يلقب بها كثير من الناس أولادهم (يا شاطر) فإنك إذا رجعت إلى كلام العرب ومعاني هذا في قواميس العربية لوجدت أن الشاطر هو الحرامي اللص قاطع الطريق، وقال في لسان العرب: الشاطر هو الذي أعيا أهله ومؤدبه خبثاً يعني: أتعبهم فلا فائدة من تربيته فهو خبيث إلى أبعد الدرجات قد تعبوا في تربيته بدون فائدة، هذا معنى الشاطر، ولذلك الأحسن ألا ينادى به الأولاد؛ لأن معنى الكلمة قبيح، وإن غلب على الناس أنها كلمة حسنة.

اختصار الصلاة والسلام على النبي كتابة

اختصار الصلاة والسلام على النبي كتابة ونختم بأمر درج بين كثيرٍ من الناس وخصوصاً عند الكتابة وهو أنهم إذا قالوا: فجاء النبي بدل أن يقول: صلى الله عليه وسلم يكتب بين قوسين (صلعم) وبعضهم يضع بين قوسين (ص) وهذا استخدام قبيح. قال: ابن حجر الهيثمي رحمه الله: لا يجوز بل الواجب الصلاة والتسليم (صلى الله عليه وسلم). وقال الفيروز أبادي: ولا ينبغي أن ترمز الصلاة كما يفعله بعض الكسالى والجهلة وعوام الطلبة فيكتبون صورة (صلعم) بدلاً من صلى الله عليه وسلم. وقال العلامة أحمد شاكر رحمه الله: هو اصطلاح سخيف، وللعلامة الأثري الشيخ عبد العزيز مقالة عن هذه المسألة وأنا أتساءل عندما يكتبون صلعم ماذا يختصرون؟ في الحقيقة يختصرون الأجر، بدلاً من أن يكتب بيده صلى الله عليه وسلم فيكون له أجر الصلاة والسلام على الرسول صلى الله عليه وسلم يسيئون الأدب معه عليه الصلاة والسلام فيكتبون اختصاراً (ص) و (صلعم) وهل هناك بابٌ جيد من أبواب الأجر مثل أن تكتب بيدك صلى الله عليه وسلم، عليه الصلاة والسلام، فإذاً: ينبغي الحذر من ذلك وكتابتها كاملة ليحصل الأجر. ومن الأسباب التي ذكرها العلماء في تفضيل أهل الحديث المشتغلين بالحديث: أنهم كثيراً ما يتعرضون لصلى الله عليه وسلم فهو دائماً يحدث الأحاديث ويقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودائماً يكتب الأحاديث ويقول: قال النبي ويكتب صلى الله عليه وسلم، ولذلك هم من أكثر الناس أجراً في هذا الباب العظيم من أبواب الأجر، وهو الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم. عن عائشة قالت: (جاءت عجوز إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهي عنده، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أنت؟ قالت: أنا جثامة المزنية، فقال: بل أنت حسانة المزنية، كيف أنتم؟ كيف حالكم؟ كيف بعدنا؟ -يعني: كيف حالكم بعدنا- قالت: بخيرٍ بأبي أنت وأمي يا رسول الله! فلما خرجت قلت: يا رسول الله تقبل على هذه العجوز هذا الإقبال، فقال: إنها كانت تأتينا زمن خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان) هنا أدركت الغيرة أمنا عائشة رضي الله عنها فقالت: تقبل على هذه العجوز هذا الإقبال؟ فقال: إنها كانت تأتينا زمن خديجة وإن حسن العهد من الإيمان، وهذا حديث صحيح. وأما تغييره صلى الله عليه وسلم لاسم شهاب فإنه ورد أيضاً بإسنادٍ حسن عند البخاري في الأدب المفرد عن عائشة رضي الله عنها: (ذكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلٌ يقال له: شهاب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أنت هشام) وهذا الحديث يفيد أمرين: تغيير شهاب، وسنة التسمية باسم هشام، وأنت ترى التقارب بين شهاب وهشام في الأحرف.

فائدة لمن ولد له مولود على كبر

فائدة لمن ولد له مولود على كبر وهذه قصة عن إمام من أئمة المسلمين: أبو نصر المروزي رحمه الله تعالى: فقد حُكي أن الإمام المروزي كان يتمنى على كبر سنه أن يولد له ابن، فرزقه الله مولوداً في كبر سنه فقال الحاكي: كنا عنده يوماً وإذا برجل من أصحابه قد جاء وساره في أذنه، فرفع الإمام المروزي يديه وقال: الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل، وهذا جزء من آية، قال: فرأينا أنه استعمل في تلك الكلمة الواحدة ثلاث سنن، تسمية الولد، وحمد الله على الموهبة، وتسميته إسماعيل لأنه ولد على كبر سنه، وقال الله عز وجل: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90] قال رحمه الله: فنستفيد من هذا أنه يستحب لمن ولد له ابن على الكبر أن يسميه إسماعيل، وهذه مسألة حسنة، والقصة في كتاب تعظيم قدر الصلاة. وسأل بعض الإخوان عن بعض أسماء فسألت عنها شيخنا عبد العزيز بن باز، وهذه بعض الأسماء المضافة إلى لفظ الجلالة، مثل: (نفع الله وفتح الله وجار الله ومد الله ولطف الله) ونحو ذلك، فأفتى الشيخ عبد العزيز بأنه لا بأس أن يسمى بهذه الأسماء، لا بأس يسمى: رزق الله، دفع الله، مد الله، مد الله أي مدد الله، وسألته عن اسم غرم الله، فقال: في النفس من هذا شيء والأحسن أن يترك، لا يسمى غرم الله وإنما يسمى ببقية الأسماء الحسنة.

أحاديث مشتهرة لا أساس لها

أحاديث مشتهرة لا أساس لها ونختم أيها الإخوة موضوع الأسماء والكنى والألقاب في ميزان الشريعة ببعض الأحاديث المشتهرة على الألسنة مما لم يصح عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك الحديث الموضوع بلفظ: (أحب الأسماء إلى الله ما تعبد به). وكذلك الحديث المشابه له: (أحب الأسماء إلى الله ما عبد وما حمد) فإنه أيضاً حديث لا أصل له، ويغني عن هذين الحديثين الحديث الصحيح المذكور آنفاً: (أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن) فقد رواه الإمام مسلم وغيره، وهذا الحديث الصحيح يغنينا عن الأحاديث السابقة التي لم تثبت. إضافة إلى أنه قد فهم البعض حديث خير الأسماء (ما عبد وحمد) مفهوم أدى إلى وقوعهم في بدعة جديدة وهي إضافة اسم محمد أو أحمد إلى اسم الشخص فيكون له اسمان، فلو أن أناساً سموا ولدهم مثلاً: سالم، فتراهم يسمونه محمد سالم، أو أحمد سالم يضيفون أحمد ومحمد للبركة هذا في بعض البلدان منتشر واقع يضيفون محمد أو أحمد للبركة على اسم الشخص، فيصبح له اسمين، وهذا أيضاً خطأ ومستنده محدث، لا أصل له عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة. وكذلك يوجد حديثٌ آخر موضوع وهو: (من ولد له ثلاثة فلم يسم أحدهم محمداً فقد جهل) فهذا الحديث مكذوب على الرسول صلى الله عليه وسلم، وهناك كثيرٌ من السلف جاءهم ثلاثة أولاد ما سموا ولا واحداً منهم محمد مع أنهم فقهاء علماء صلحاء، وربما سمى بعضهم: عبد الله، عبد الرحمن، عبد اللطيف، عبد الرحيم، ولكن تسمية محمداً أثر طيب كما يقول عليه الصلاة والسلام: (تسموا باسمي) تسموا باسمه فلا بأس ولكن أن يوصف بالجهل من لم يسم أحد أولاده بمحمد فهذا غير صحيح أبداً. وعموماً فإن هذه الأسماء أيها الإخوة تذكرنا بحديث البراء الطويل الصحيح الثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل صاحب الروح الطيبة من أهل الجنة عندما تقبض روحه ويصعد بها إلى السماء، فإذا جاءت السماء نادى منادٍ من معكم؟ فيقال: فلان بن فلان بأحب أسمائه التي كان ينادى بها في الدنيا، وإذا كان صاحب روح خبيثة والعياذ بالله وسئل عن اسمه على باب السماء فوق يقال: فلان بن فلان بأخبث أسمائه التي كان ينادى بها في الدنيا، ثم تطرح روحه طرحاً وتلا عليه الصلاة والسلام: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31]). فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم ممن حسنت أسماؤهم في الدنيا والآخرة، وأن يجعلنا ممن تفتح لهم أبواب السماء يلجون فيها ويعرجون إلى ربهم، ونسأله عز وجل أن يجعلنا وإياكم من السعداء في دار المقامة. وصلى الله وسلم على نبيه الكريم، والله أعلم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

التساهل في الاحتجاج بالضرورة

التساهل في الاحتجاج بالضرورة إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر بأن الجهل سوف ينتشر في هذه الأمة، بسبب موت العلماء الربانيين، واتخاذ علماء ضلالاً يفتون الناس بغير علم فيضلونهم، وهاهم قد ظهروا في عصرنا، فأصبحوا يفتون الناس بارتكاب المحرمات بحجة الضرورة، فأعملوا القاعدة الشرعية في غير مكانها، واستدلوا بها على غير مدلولها، وذلك يرجع إلى أسباب ذكرها الشيخ حفظه الله، مع بيان أن لهذه القاعدة الشرعية ضوابط لا بد أن تراعى عند تطبيقها.

قاعدة: الضرورات تبيح المحظورات أدلتها وصورها

قاعدة: الضرورات تبيح المحظورات أدلتها وصورها إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار. أيها المسلمون: حديثنا في هذه الخطبة عن موضوعٍ صعب، ولكننا نستعين الله سبحانه وتعالى في فهمه، وإدراك بعض المسائل المتعلقة به، وهو موضوع حصل فيه خلط كثير، وحصل فيه استغلالات سيئة كثيرة من كثير من أصحاب النوايا السيئة، ولذلك كان لا بد للمسلم من فهمه، وفهم ما يتعلق به، ألا وهو القاعدة الشرعية العظيمة: الضرورات تبيح المحظورات، هذه القاعدة التي ظُلمت ظلماً عظيماً من كثير من أبناء المسلمين، هذه القاعدة التي أصبح الاستدلال بها على ما هب ودب من الأمور ديدن عامة الذين يعصون الله سبحانه وتعالى. كلما أراد أحدهم أن يفعل معصية أو فعلها فناقشته في ذلك كان من حججه: الضرورات تبيح المحظورات. فما هي حقيقة هذه القاعدة؟ وما هي أدلتها وصورها؟ وما هي ضوابطها؟ وما هي الاستخدامات الصحيحة أو المجالات وبعض المجالات التي استخدمت فيها من قبل علماء الشرع الثقات؟ وذكر أمثلة على بعض الاستخدامات السيئة التي استخدمت فيها هذه القاعدة. قال الله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام:145] وقال: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:173] وقال عز وجل: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام:145] {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام:119] لماذا شرع ربنا جواز أكل الميتة للضرورة وجواز تناول الأمر المحرم للضرورة؟ لأنه قال عز وجل: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185] وقال: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة:6] وقال: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء:28] ولأن الله رحيم شرع لنا هذا. وقد أجمع الفقهاء على أن للجائع المضطر الذي لا يجد شيئاً حلالاً يدفع به الهلاك عن نفسه أن يتناول المحرم إذا لم يجد غيره، فيتناول منه بقدر ما يزيل ضرورته، لأن الله قال: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:3] وقال الله سبحانه وتعالى مبيناً حالة أخرى من حالات الاضطرار: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} [النحل:106] فإذا كان المسلم قد تعرض لتهديد حقيقي وتعذيب وحشي يُراد منه أن ينطق بكلمة الكفر نطق بها لسانه وقلبه مطمئن بالإيمان. كان جبابرة مكة يعذبون المسلمين المستضعفين حتى ربما قالوا لأحدهم: هذا الجُعل إلهك من دون الله؟ فيقول: نعم. تحت وطأة التعذيب، فإذاً هذه القاعدة في الشريعة محفوظة بأدلتها، قائمة من علامات وميزات هذا الدين، ومن رحمة الله بالأمة وبالناس. ولكن أيها المسلمون! متى يصبح الشيء ضرورة؟ ما معنى كلمة الضرورة؟ إن كثيراً من الناس يفسرون الضرورة بأي مشقة تعرض، بأي درجة تكون، أو يفسرون الضرورة بحاجتهم إلى التوسع في الأمور الدنيوية، ولأجل ذلك ينتهكون حرمة الشريعة. فأما الضرورة فقد ذكر العلماء تعريفها، وقالوا: إذا ترتب على عدم فعل شيء محرم هلاك، أو إلحاق الضرر الشديد بأحد الضروريات الخمس وهي: الدين، والنفس، والعقل، والمال، والعرض، فإنه عند ذلك يجوز له أن يتناول المحرم للضرورة. فتأمل كلامهم رحمهم الله في قولهم: هلاك أو إلحاق ضرر شديد كتلف عضو من الأعضاء مثلاً، عند ذلك يجوز له أن يرتكب هذا المحرم للضرورة، وهذا الكلام أيضاً فيه تفصيل، ولذلك فإننا لا يجوز لنا أن نترك الجهاد في سبيل الله من أجل المحافظة على النفوس، ونقول: إن ترك الجهاد ضرورة لأن الجهاد يسبب قتل النفس، كلا. لأن حفظ الدين أعلى، والجهاد لا بد منه لحفظ الدين، وهناك أمور تقدم وتؤخر في أبواب الضرورة، فلو أنه غص بلقمة لم يجد إلا خمراً ليبتلعها أمامه وإلا لمات وهلك واختنق، جاز له أن يتناول ما يسلك به تلك الغصة وينجو به من الهلاك، فتنجو نفسه ولو أدى لإلحاق ضرر بعقله.

ضوابط قاعدة: الضرورات تبيح المحظورات

ضوابط قاعدة: الضرورات تبيح المحظورات ولكن لا بد لنا أن نعلم ونعرف ما هي القواعد أو بعض القواعد التي ذكرها العلماء لنكون على بينة عند استخدام هذا الأمر الخطير الذي إن لم يُحسن استخدامه تعرض المستخدم للهلاك في العاجل والآجل. أولاً: يجب ألا يتسبب الإنسان لإيقاع نفسه في الضرورة، فلو أنه أتلف ماله وطعامه الطيب، وهو يعلم أنه سيضطر لأكل طعام محرم كان آثماً عند الله بفعله هذا. وكذلك فإن الضرورة لا بد أن تقدر بقدرها. إن باب الضرورة أيها المسلمون! ليس مفتوحاً على مصراعيه يدخل منه كل من هب ودب بأي طريقة شاء، وإنما هو مضبوط بضوابط وقواعد يعلمها أهل العلم الثقات، ذكروها في كتبهم، ويذكرها المفتون المخلصون للناس إذا سئلوا. فالضرورة لا بد أن تقدر بقدرها، فمن اضطر إلى الكذب مثلاً فإن أمكنه التورية لا يجوز له أن يكذب، والتورية أن يأتي بلفظ له معنى بعيد في نفسه، ومعنى قريب في نفس الوقت يقصده الشخص السامع، أو يفهمه السامع، فعند ذلك لا يجوز أن يكذب، ويستخدم التورية، وإذا اضطر إلى الكذب كأن يكون عنده مال إنسان معصوم مخبأ، فجاء ظالم يقول له: هل عندك المال؟ ولم يجد طريقة للتورية، فيجوز له أن يكذب في هذا الأمر فقط، بجملةٍ محددة لا ينتشر الكذب إلى غيرها، ومن أكره على النطق بكلمة الكفر، لا يجوز له أن يكفر بقلبه مثلاً، لأن الكفر على اللسان فقط إذا اضطر إلى ذلك. ومن جاز له التيمم للضرورة، فإذا قدر على استعمال الماء لا يجوز له أن يواصل في التيمم، ومن اضطر للإفطار في شهر رمضان من أجل المرض مثلاً، فإذا اشتد وقوي وأطاق الصيام ما جاز له أن يكمل في إفطاره، وكذلك المسافر لو أقام لا يجوز له الإكمال في الإفطار في رمضان. وخذ مثلاً من الأمثلة التي يتعرض لها كثير من الناس في هذه الأيام بسبب عدم الاحتياط في الشريعة، وعدم وجود الجهود الصحيحة التي تزيل الحرج عن كثير من نساء المسلمين، كشف الطبيب على المرأة المسلمة أو على المرأة عموماً. كشف الطبيب على المرأة المريضة، بسبب تقصيرنا وإهمالنا، وعدم تخطيطنا وانتباهنا للمحرمات وحرمات رب العالمين؛ حصل تقصير شديد في تنظيم الأمور، فصارت المرأة تضطر في كثير من الأحيان للكشف عند الطبيب الأجنبي، وهنا لا بد أن نفهم معنى تقدير الضرورة بقدرها في مثل هذا الموضع. فمثلاً: لا بد أن تبحث عن طبيبة مسلمة لزوجتك أو بنتك، فإن لم يوجد طبيبة مسلمة مؤهلة، في أي مكان تستطيع الوصول إليه وتستطيع دفع أجره، جاز اللجوء إلى طبيبة كافرة، فإن لم توجد طبيبة كافرة مؤهلة أيضاً جاز اللجوء إلى الطبيب المسلم المؤهل، فإن لم يوجد جاز اللجوء إلى الطبيب الكافر، فهل يتبع الناس هذا التنفيذ؟ ثم: إذا جاز للطبيب الكشف عن المرأة الأجنبية، فيجب أن يكون بغير خلوة، وأن يحضر محرمها مثلاً، وأن يكشف على موضع العلة فقط، وإذا كان النظر إلى موضع العلة يكفي فلا يجوز له أن يلمس، وإذا كان يكفيه لمس من وراء حائل لا يجوز له أن يلمس بغير حائل، وإذا كان يتوجب أن يلمسه بغير حائل فلا يلمس ما حوله من المنطقة التي لا علاقة لها بالعلة، ولا علاقة لها بالعلاج أيضاً، وإذا كان يكفيه أن يفحص لمدة دقيقة مثلاً، فلا يجوز له أن يتعدى هذه الفترة، وكل إنسان مؤتمن على حريمه، وما أكثر التفريط في هذا الأمر في هذه الأيام! ثم إن الضرر لا يزال بمثله أو شيء أكبر منه، فمثلاً لو قالوا له: اقتل فلاناً وإلا سلبنا مالك، فلا يجوز له أن يقتله، بل لو قالوا له: اقتل فلاناً وإلا قتلناك، وفلان هذا مسلم معصوم، لا يجوز له أن يقتله لأن النفوس في الشريعة سواسية، فكيف يجوز له أن يقتل غيره من المسلمين لكي يدفع القتل عن نفسه؟ ولذلك قال العلماء: لا يجوز للجنود المسلمين قتال الجنود من المسلمين بغير وجه حق، ولو كانوا مكرهين، ولو كان الإكراه بالقتل. وكذلك لو أكره جندي مسلم بالقتل على أن يدل العدو على ثغرة ينفذون منها إلى البلد المسلم، لكي يحتلونه ويوقعون القتل والتشريد في أهله، ما جاز له أن يدلهم ولو قتلوه. ويرى أكثر أهل العلم أنه لو أكره على الزنا بامرأة مسلمة عفيفة، لا يجوز له أن يزني بها، ولو أكره بالقتل لما يترتب على ذلك من المفسدة العظيمة المنتشرة، من انتهاك عرضها، وتحطيم شرفها وشرف أسرتها، أو زوجها، واختلال النسب، وإنما يصبر على القتل صابراً محتسباً لوجه الله تعالى.

ضوابط الإكراه وشروطه

ضوابط الإكراه وشروطه ثم إن كثيراً من الناس يقولون لك: نحن أكرهنا فما هو الإكراه الذي يباح به الأمر المحرم؟ هل هو ضرب سوط أو سوطين مثلاً لأن ينتهك حرمة الله بالزنا على سبيل المثال؟ قال الفقهاء: الضرب الذي يعتبر إكراهاً هو ما كان فيه خشية تلف النفس، أو أحد الأعضاء، أو ألم شديد لا يطيق تحمله، فعند ذلك قد يجوز أن يفعل أمراً، وينبغي أن يدرك الأمر أيضاً قبل الإقدام عليه، فما هو الإكراه؟ ليست المسألة سهلة أيضاً، بل إنهم ذكروا شروطاً للإكراه، كأن يكون المكره متمكناً من التنفيذ، أو يكون المكرَه عالماً أو غالباً على ظنه أن المكرِه سينفذ وعيده، فلو قال الظالم لزوجته: إن لم تكشفي وجهك على إخواني، فأنت طالق، أو إني سأطلقك، فإن هذا الإكراه إذا كانت تعلم أنه سيوقعه جاز لها الكشف عن وجهها في هذه الحالة للضرورة مع كرهها لذلك؛ لأن الإكراه بالطلاق في بعض المواضع يعتبر إكراهاً سائغاً. وكذلك أن يكون المكره عاجزاً عن دفع الإكراه عن نفسه، إما بالمقاومة أو الفرار. وكذلك أن يكون الإكراه بشيء فيه هلاك للمكره، أو ضرر عظيم كالقتل أو إتلاف عضو من الأعضاء، أو التعذيب المبرح، أو السجن الطويل الذي لا يخرج منه، وكذلك أن يكون الإكراه فورياً كأن يهدده بالقتل فوراً إذا لم ينفذ، أما إذا قال له: إذا لم تفعل كذا ضربتك غداً أو بعد غدٍ فلا يعتبر إكراهاً صحيحاً، فتأمل الشروط التي وضعها الفقهاء لهذا؛ لتعلم -أيها المسلم- أن المسألة ليست ألعوبة، وأن القضية ليست سهلة.

أسباب التساهل في إفتاء الناس بحجة الضرورة

أسباب التساهل في إفتاء الناس بحجة الضرورة ثم قارن بين هذا وبين ما يقوم به كثير من مفتي السوء بإفتاء الناس ببعض الأمور بحجة الضرورة في غير محلها، فما هي أسباب ذلك؟ لماذا يتساهل بعضهم في إفتاء الناس في أمور بحجة الضرورة وليس فيها ضرورة؟

عدم الخوف من الله سبحانه

عدم الخوف من الله سبحانه أولاً: عدم خوفهم من الله، وعدم تمكنهم من العلم أيضاً، وكذلك سيطرة روح التيسير ورفع الحرج في غير محله على نفوسهم، والتيسير أيها الإخوة! أمر معتبر في الشريعة، لكن التيسير إذا تعارض مع أحد مقاصد الشريعة فلا يعتبر تيسيراً شرعياً، قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء:97] فلماذا لم يعتبروا مكرهين؟ لأنهم كانوا يستطيعون الهجرة من بلاد الكفر، أقاموا تحت راية الكفر يفتنون في دينهم، ويتنازلون عن أمور الدين، وقالوا: مستضعفين، لماذا لم تهاجروا؟ وكذلك لو قال إنسان: إن من التيسير ألا نخرج إلى الجهاد في وقت الحر، فاسمع ماذا يقول الله: {وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [التوبة:81].

الحرص على موافقة رغبة المستفتي

الحرص على موافقة رغبة المستفتي ومن الأمور التي تجعل بعض المفتين بالباطل يفتون الناس بالضرورة: الحرص على موافقة رغبة المستفتي لإغراءاته مثلاً أو ضغوطه على المفتي، من جهة ترغب مثلاً استصدار فتوى لتوافق ميولها وأهواءها، فالمفتي إذا لم يكن عنده خوف من الله أفتى بما يوافق رغبة القوم مستنداً إلى رفع الحرج أو التيسير على الأمة، أو أن الضرورة تبيح المحظورات، أو أن اختلاف الأمة رحمة، أو أن هذا الزمان والعصر يختلف، وأن له حكماً خاصاً، وأن الأحوال قد تغيرت، ونحو ذلك من أبواب الكلام الخطير الذي يقول به بعضهم، كلام يحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم.

تورط بعض المفتين في محرم من المحرمات

تورط بعض المفتين في محرم من المحرمات وقد يكون الشخص الذي يقول للناس: افعلوا ولا حرج هذه ضرورة، قد يكون متورطاً في أمر محرم في حياته الشخصية، فلكي لا يلومه الناس يفتيهم بالجواز. وكذلك عدم العلم الدقيق والقدرة على تصور الواقع، وهناك أناس عندهم حسن نية يقولون للناس: افعلوا ضرورة، ما هو السبب؟ قالوا: نحن نريد أن نحبب الناس إلى الدين، ولذلك نحن نيسر عليهم ونفتح المجالات لهم، ونقول: اعملوا ولا حرج، وهذه ضرورة، لماذا؟ لتحبيب الناس في الدين. هؤلاء -أيها الإخوة- يدخلون الناس إلى الدين من باب، ثم يخرجونهم من الدين من باب آخر، مسيئون وليسوا بمحسنين، وأضرب لكم مثلاً: شيخ في حلقة جاءه شخص فقال -ومع الأسف أيها الإخوة أهل العلم المتمكنون من العلم قلة جداً، ولذلك الناس لا بد لهم أن يذهبوا إلى المأمون ولا يسألوا أي شخص- جاءه شخص وقال: يا شيخ! أريد أن أنقل عفش بيتي في نهار رمضان، وهذا أمر متعب في رمضان هل يجوز أن أفطر؟ قال: لا بأس؛ للضرورة أفطر، حتى قال أحد الحاضرين من النبهاء من عامة الناس، قال: يا شيخ! لماذا لا تقول له أن ينقل عفش بيته في الليل؟!

توجيهات لابد أن يعلمها المستفتي

توجيهات لابد أن يعلمها المستفتي

أن يعلم أن الضرورة حالة استثنائية

أن يعلم أن الضرورة حالة استثنائية ولذلك لا بد للشيخ والمفتي أن يقول للناس إذا وقعوا في ضرورة فعلاً أن يبين لهم أموراً، ومن هذه الأمور أن يقول: أيها الناس! إن الضرورة حالة استثنائية، وليست هي الأصل، لكي يشعر المستفتي أنه يعيش في دائرة ضيقة وهو يفعل هذا الأمر المحرم، وأن عليه أن يخرج منها بأي وسيلة.

أن المباح للضرورة ليس من الطيبات

أن المباح للضرورة ليس من الطيبات ثانياً: أن المباح للضرورة ليس من الطيبات، الميتة إذا أبيحت للضرورة لا تصبح طيبة لا زالت خبيثة نتنه، لكن الفرق أن الذي يتناولها للضرورة يسقط عنه الإثم، فلا بد أن يشعر الذي يأكل الميتة للضرورة أنه يأكل شيئاً منتناً حراماً لا يجوز في الأصل، لا بد أن يستشعر هذا.

أن يحمل المفتي المستفتي المسئولية في صحة المعلومات

أن يحمل المفتي المستفتي المسئولية في صحة المعلومات ثالثاً: أن يحمل المفتي المستفتي المسئولية عن كامل التفاصيل التي يقدمها له، وأن فتواه له بالضرورة مبني على صحة المعلومات، فإذا كان المستفتي مزوراً ويقدم معلومات خاطئة، ويقول: ما دام الشيخ سيفتي فأنا أخرجت نفسي من العهدة ما دام أخذتها من فمه، وهو يقدم معلومات خاطئة، يقدم معلومات ليشعر الشيخ أنه في حرج وأن المسألة لا مخرج منها، حتى يقول له الشيخ: افعل للضرورة.

أن الإفتاء بالضرورة عند عدم وجود حلول أخرى

أن الإفتاء بالضرورة عند عدم وجود حلول أخرى رابعاً: لا يجوز الإفتاء بالضرورة إلا بعد انسداد جميع الأبواب، واستنفاذ جميع الحلول والبدائل، وكذلك لا بد أن يشعر المضطر عند الاضطرار بالحرج وهو يقدم على هذا الفعل، وأضرب لكم مثلاً: أفتى العلماء الثقات بجواز وضع النقود في البنوك الربوية للضرورة إذا لم يوجد غيرها، هل يشعر الشخص اليوم وهو يدخل بنكاً ربوياً ليضع فيه مالاً أو يأخذ منه ماله، هل يشعر بالحرج الشديد؟ هل يشعر وكأنه يأكل ميتة؟ هل يدخل وهو يستغفر الله ويخاف أن يقع عليه عذاب في هذه القلعة من قلاع الربا؟ أم أن الناس يتباهون بشعارات البنوك، ودفاتر البنوك، وبطاقات السحب الآلي للبنوك، ودعايات البنوك، ويتفاخر أنه قد أودع في البنك الفلاني، وأن أمواله في البنك الفلاني، ويتفاخر بتسهيل الخدمات المصرفية في البنك الفلاني. ماذا الذي يحدث أيها الناس؟ الشعور بالحرج وأنت تضع أموالك في البنوك الربوية للضرورة وبدون فوائد أو ربا أم أن الذي يحدث أحياناً نوع من التفاخر بالبنك وشد النفس به؟ مثلاً: وأنت تعلم أن تناول كوباً من الشاي من مال هذا البنك كضيافة من البنك أنه حرام لا يجوز أين الحرج وأنت ترتكب الضرورة؟

لابد من التخلص من الضرورة وإزالتها

لابد من التخلص من الضرورة وإزالتها ثم إن من القواعد المهمة: أنه لا بد من السعي لإزالة الضرورة، على المضطر أن يسعى بكل قوته أن يتخلص من الضرورة، لا أن يستسلم لها، لا بد أن يتخلص، كم من الناس الآن إذا وقعوا في ضرورة يحاولون التخلص فعلاً من هذا المجال الضيق الحرج الذي وقعوا فيه، وأن المضطر إذا لم يسعَ للخروج من الضرورة فإنه يأثم، فإذا قدر -مثلاً- كما ضرب العلماء مثلاً حياً في كتبهم، ولو اطلعوا على حالنا اليوم ماذا سيقولون أيها الإخوة؟ قالوا في كتبهم: إذا جاز للمسلمين في عصر من العصور مصالحة العدو لضرورة مع توفر الشروط الشرعية فلا بد أن يسعى المسلمون للخروج من هذه الضرورة التي ألجأتهم إلى مصالحة العدو، ومعنى الشروط الشرعية: أن يتولى عقد الصلح مثلاً خليفة المسلمين الذي وكله المسلمون عليهم أو نائبه الذي وكله الخليفة، أما أن يتولى عقد الصلح مع العدو رجل ظالم تسلط على المسلمين، أو كافر أو قومي علماني، أو نصراني أو ملحد أو لاديني يتكلم باسم المسلمين ويفاوض عنهم من الذي وكله، ومن هي الأمة الإسلامية التي وكلته في شئونها؟! وأن يكون هذا الصلح هو أفضل حل للمسلمين فعلاً، وألا يؤدي إلى مفاسد أكثر بترك الصلح، وأن يكون موقتاً بوقت معين كما اشترط الفقهاء لذلك، وأكثر مدة اشترطها الفقهاء للصلح عشر سنين بناء على صلح الحديبية إذا توفرت الشروط في الصلح فعلاً، توفرت الشروط فإنه يجب على المسلمين أن يسعوا لإزالة الضعف والتقوي والشعور بأنهم في ذل، وأنه لا بد أن يعدوا العدة للجهاد حتى ينهوا هذا الظلم والهوان المفروض عليهم، ولذلك تعلم أن كثيراً مما يحدث في هذه الأيام لا علاقة له بالإسلام أصلاً، ولم يسأل عنه الإسلام ابتداء.

أن الضرورة تقدر بقدرها

أن الضرورة تقدر بقدرها ومن قواعد الشريعة: أن الضرورة التي تقدر بقدرها لا بد أن تكون ضرورة فعلاً، فيها حرج عظيم على الشخص، لا يطيق تحمله فعلاً، وليست مسألة توسع في مكاسب وزيادة أرباح مثلاً، أو مشقة بسيطة يمكن تحملها، فهذه ليست ضرورة ولا داعي لأن نخادع أنفسنا ونكذب على الله سبحانه وتعالى، وهو يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فهل فقهنا -أيها الإخوة- شيئاً مما يتعلق بهذه القاعدة العظيمة التي ذكرها أهل العلم؟ وهل عرفنا الآن سبيل المتلاعبين وأنه يجب أن نصدق مع الله سبحانه وتعالى؟ اللهم فقهنا في ديننا، وقنا شر أنفسنا، اللهم كن لنا عوناً على طاعتك يا رب العالمين! أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

أمثلة لحالات الضرورة فيها صحيحة وحالات فاسدة

أمثلة لحالات الضرورة فيها صحيحة وحالات فاسدة الحمد لله الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم، لا إله إلا هو سبحانه وتعالى خلق الخلق، وأرسل الرسل، وأنزل الكتب، وأقام الحجة، لا إله إلا الله يفعل ما يشاء، لا إله إلا الله الحي القيوم، لا إله إلا الله فعال لما يريد. وصلى الله وسلم على نبينا محمد الرحمة المهداة، السراج المنير، والبشير النذير، الذي أرسله الله رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأتباعه إلى يوم الدين. أيَّها المسلمون: لا بأس أن نذكر الآن بعض الحالات التي فيها ضرورة صحيحة، وبعض الحالات التي ليس فيها ضرورة وإنما يستخدم الناس كلمة الضرورة زوراً وبهتاناً على الشريعة. فمثلاً: الكذب في الحرب ضرورة مع الكفار، كما قال صلى الله عليه وسلم: (الحرب خدعة) والكذب لأجل الإصلاح بين المتخاصمين ضرورة من أجل التوفيق بين المتخاصمين من المسلمين، إذا لم يجد حلاً إلا ذلك. وكذلك غيبة رجل لا يصلح في الزواج تُقدِّم إلى أناس وأنت تعلم حاله، يجوز أن تغتابه للضرورة لا حرج في ذلك. وسفر المرأة بغير محرم يكون ضرورة في حالات: كمن مات محرمها في الطريق، أو أجبرت على الخروج من بلد بالقوة وليس عندها محرم، أو مضطرة للهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام وليس عندها محرم، وعائشة رضي الله عنه في غزوة بني المصطلق لما تركها الجيش وذهبوا وظنوا أنها في الهودج، وهي كانت تبحث عن عقدها بعيداً عن الجيش تركوها وذهبوا، فلما مر بها صفوان بن معطل السلمي رضي الله عنهما اقتاد بعيرها وذهب بها للضرورة؛ لأنها مقطوعة. لو شاهدت حادث سيارة في طريق سفر وامرأة تحتاج إلى إسعاف تأخذها للضرورة لا حرج في ذلك، ترك الجماعة في المسجد لوجود مجنون أو مريض في البيت يخشى عليه، يحتاج إلى من يقف بجانبه ويرعاه لأن حالته خطرة، هذه ضرورة تترك لأجلها صلاة الجماعة. لكن ترك صلاة في المسجد لأجل المباريات والكلام الفارغ، ما حال أكثر المسلمين؟ وضع النقود في البنوك الربوية لحفظها إذا لم يوجد إلا هي ضرورة، لأن المال بالتجربة يضيع أو يترك، وهناك مؤسسات عندها أموال كثيرة، وأناس أغنياء من المسلمين أين يضعون نقودهم؟ فيضعونها إذاً في البنوك الربوية إذا لم يوجد إلا هي مع وجوب السعي لإقامة البنوك الإسلامية -كما ذكرنا قبل قليل- من القادرين على السعي لا بد منه. السفر إلى بلاد الكفار لعلاج لا يوجد إلا في بلاد الكفار جائز للضرورة، وذكر بعض أهل العلم في حالة عصرية الاضطرار إلى عقد التأمين المحرم في بلد لا تستطيع قيادة سيارتك فيه إلا بعقد التأمين، لا تستطيع، يمنعونك ويخالفونك ويسحبون رخصتك، ويمنعونك من قيادة السيارة، أنت مكره في هذه الحالة لأنك لا بد أن تستعمل سيارتك، لا تستطيع أن تمشي المسافات الطويلة، ولكن ما رأيكم بمن يؤمنون على سيارتهم لغير ضرورة؟ ما أحد دفعه إليها ولا ضرب يده عليها، ومع ذلك يقوم بعقد التأمين المحرم، يقول: أخشى أن يحدث حادث، أتوقع يمكن وبناءً على هذه الممكنات يرتكبون عقد التأمين المحرم قطعاً، وهو نوع من أنواع الميسر والقمار لا يجوز فعله. العمل في البنوك الربوية حرام ليس بضرورة أبداً ولا يجوز، الأعمال الأخرى موجودة وأرض الله واسعة، إذا لم تجد في البلد فأرض الله واسعة، وإذا لم تجد يجوز لك أن تمد يدك إلى الناس، لو قال واحد ما وجدت، نقول: الشحاذة جائزة للضرورة، لكن العمل في البنوك لا يجوز، الشحاذة جائزة، العلماء أباحوا التسول للضرورة، فيجوز. الاستلاف من البنوك الربوية للمشاريع التجارية أو الزواج ونحوه، حرام لا يجوز، وكذاب الذي يدعي أنها ضرورة، لا يجوز. الاستلاف من البنوك الربوية: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3]. السماح ببيع الخمور في بلاد المسلمين، وفتح الملاهي، ودخول الكفار إلى المساجد للفرجة بحجة أن البلد مضطر إلى العملة الصعبة التي يأتي بها هؤلاء السياح، سبحانك هذا بهتان عظيم! سفر المرأة بغير محرم لغير ضرورة لا يجوز وحرام، والعلاج بالمحرمات فإن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها، أو العلاج بالموسيقى كما يقولون، أو الإفطار في رمضان لأجل نقل عفش أو وظيفة أو عمل غير ضرورة، لو كان جهاداً في الجيش لقلنا: أفطر تَقوَّ على جيش الكفار. رجال المطافئ يطفئون حريقاً صعباً طويلاً جداً يتقوون لإطفاء الحريق، لكن هذا يقول: وقت طويل وعمل طويل. حلق اللحية لمجرد الخوف من توقيف بسيط أو مساءلة كما يفعل في بعض البلدان الذين لا يخافون الله سبحانه وتعالى، فيوقفون أصحاب اللحى ويفتشونهم، واحد ذهب إلى بلد وهو ملتحي أوقفه موظف التفتيش وين يا أخ؟ ماذا؟ ما هذا الذي عليك؟ قال: لحية، ما تعرف أن اللحية ممنوع؟ سبحان الله! ومن الذي منعها؟ فحلق اللحية لمجرد خوف توقيف بسيط أو مساءلة لا يجوز وليس بضرورة، لكن لو خاف أنه يسجن سجناً مؤبداً أو يقتل ويلحق به ضرر عظيم، يجوز له حلقها للضرورة، أما لمجرد كلمة أو كلمتين يسمعها من الأذى يجب عليه أن يتحمل ذلك في سبيل الله. وضع البنات في مدارس مختلطة بدون حجاب للدراسة، والمرأة هذه تفتن وربما تفعل الفاحشة، وتجعل لها خليلاً من أجل الشهادة، لا، لا نريد الشهادة وليست بضرورة، قالوا: حتى يرغب المتقدمون لها بالزواج؛ لأنها صاحبة شهادة، لا يا أخي! يرزقها الله. وزعموا أن الربا ضرورة عصرية، قاتلهم الله أنى يؤفكون، وجلب عمال الكفار إلى جزيرة العرب لفتح أعمال تجارية لا يجوز. إجهاض الجنين من المرأة التي تريد أن تحافظ على رشاقتها، قال: هذا الجنين الآن يشوه الشكل ويسبب انتفاخ البطن، وتجعد الجلد نجهض، حرام. أو إجهاض الزانية لكي تتوسع في الزنا بزيادة حرام. كشف الطبيب على المرأة الأجنبية بغير حاجة ولغير ضرورة، وترك المرأة للحجاب عند السفر للخارج ليس بضرورة، وأصرفكم بهذه المسألة سمعتها في الليلة الماضية من فتاوى إذاعة لندن أستغفر الله برنامج بين السائل والمجيب. السؤال عن حكم مصافحة المرأة الأجنبية. بدأ المفتي يفتي في إذاعة لندن يقول: إن هناك كثيراً من الأمور التي تساهل الناس فيها، وأحوال كثيرة في الواقع مخالفة للشرع، فاستبشرنا خيراً وبعد ذلك، قال: وقد وردت الأدلة المانعة لتحريم المصافحة وقالت عائشة: (ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط) ولا كذا وكان يبايعهن فيكتفي في المبايعة من بعد، وو إلخ، قال: ولكن في النهاية كل هذه الأدلة ليس فيها دليل على التحريم لأنها خاصة بالرسول صلى الله عليه وسلم. الله أكبر! {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21] وهو الذي قال عليه الصلاة والسلام وهذا دليل ما جاء به المفتي الضال المضل، قال عليه الصلاة والسلام: (لأن يطعن أحدكم بمخيط في رأسه خير له من أن يمس امرأة لا تحل له) وإنما قال: جاءت امرأة في المركز الفلاني ومدت يدها للمصافحة، هذا إحراج، قال: هذا إحراج ماذا نفعل؟ هذا إحراج صارت ضرورة يصافح المرأة الأجنبية، قال: وجاءت امرأة اسكتلندية مهرولة تريد أن تعانقني، إحراج. أيها الإخوة! إن هذا الموضوع مؤلم وخطير، وقد آثرت أن أطرقه بنوع من التفصيل لكني أرجو من الله سبحانه وتعالى أن يفقهنا وإياكم في دينه، لأن الفقه في الدين أيها المسلمون! أمر مهم جداً لكي لا نقع في هذه المحظورات بحجج واهية لا يقبلها الله، هذا دين، وهذه أمانة، وهناك حساب، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يخفف عنا أهوال يوم القيامة. اللهم إنا نسألك أن تتجاوز عنا يا رب العالمين! وأن تغفر لنا ذنوبنا وتكفر عنا سيئاتنا، وأن تدخلنا الجنة مع الأبرار، اللهم سامحنا في تقصيرنا في حقك، اللهم تجاوز عنا ما فعلنا من المآثم والمعاصي والسيئات، واغفر لنا إنك أنت الغفور الرحيم.

الدنيا معلونة

الدنيا معلونة الكثير من الناس اليوم قد اشتغل بالدنيا ولذتها ونسي الآخرة ونعيمها، والنبي صلى الله عليه وسلم قد ربى الصحابة على احتقار الدنيا، وعدم الاغترار بها، وعظَّم في قلوبهم الآخرة التي هي دار القرار.

حقيقة الدنيا

حقيقة الدنيا إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

حقيقة الدنيا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم

حقيقة الدنيا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أيها المسلم: وصية لك من النبي صلى الله عليه وسلم، تحملها ثنايا هذه العبارة الموجزة الجامعة من جوامع الكلم التي أوتيها نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، قال ابن عمر: أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بمنكبي وقال: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) كن في الدنيا: هذا إرشاد من النبي صلى الله عليه وسلم يبين لك الحال التي ينبغي أن تكون عليها في الدنيا: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل). هذا الحديث أصل في قصر الأمل في الدنيا، وأن المؤمن لا ينبغي له أن يتخذ الدنيا وطناً ولا مسكناً، ولا يطمئن إليها، ولكن ينبغي أن يكون فيها كمن كان على جناح سفر، يهيئ جهازه للرحيل: (ما لي وللدنيا؟ إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب قال في ظل شجرة -قيلولة- ثم راح وتركها) هكذا أوصانا صلى الله عليه وسلم. هذا ما ينبغي أن يكون عليه حالنا في هذه الدنيا، ينبغي أن يعتبر بهذا الحديث التاجر الذي تعلق قلبه بتجارته، وصاحب المال الذي تعلق قلبه بماله، وصاحب المنصب الذي تعلق قلبه بمنصبه، وصاحب القصر الذي عمره وزخرفه ونقشه، هكذا ينبغي أن يكون حال كل واحد منا ممن أوتي شيئاً من الدنيا ألا يغتر به، وأن يعلم أن الرحيل حاصل حاصل -يا عباد الله- ولكننا غافلون لا تذكرنا إلا أخبار موت فلان أو موت فلان ممن حولنا من الناس أو من الأقرباء، اعتبروها ولا تعمروها، اعمروها بطاعة الله ولكن لا تعمروا بطول الأمل والزخارف والزينات من الذي يبني على موج البحر داراً تلكم الدنيا فلا تتخذوها قراراً

حقيقة الدنيا عند السلف

حقيقة الدنيا عند السلف دخل رجل على أبي ذر رضي الله عنه فجعل يقلب بصره في بيته فقال: [يا أبا ذر! أين متاعكم؟ لا أرى أثاثاً في البيت ولا متاعاً! أين متاعكم؟ قال: إن لنا بيتاً نوجه إليه صالح متاعنا وليس هذا. قال: لا بد لك من متاع ما دمت هاهنا. قال أبو ذر: إن صاحب المنزل لا يدعنا فيه، لا بد أن يأخذه منا ويأخذنا منه يوماً من الأيام]. وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: [إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل]. قال بعض الحكماء: عجبت ممن الدنيا مولية عنه والآخرة مقبلة إليه، يشتغل بالمدبرة ويعرض عن المقبلة! وإذا لم تكن الدنيا -يا إخواني- دار إقامة للمؤمن ولا وطناً له فينبغي أن يكون حال المؤمن فيها أحد حالين: إما أن يكون كأنه غريب، مقيم في بلاد غربة همه التزود للرجوع إلى وطنه، كن في الدنيا كأنك غريب لا تحس بالتعلق في هذه البلد التي أنت فيها، وإنما همك رجوعك إلى بلدك الأصلي، وإنما تأخذ من هذه البلد ما تتزود به لبلدك الأصلي كأنك غريب، أو عابر سبيل مسافر غير مقيم البتة لا في بلد غربة ولا في البلد الأصلي. ولذلك فالمسافر إحساسه بأنه مسافر في الدنيا أعلى من إحساسه بأنه غريب فقال: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) وعابر السبيل المسافر يسير باستمرار ليصل إلى المكان، لو وقف وجلس انقطع هدفه في الوصول إلى مكانه الذي يريد، وكذلك الذين يركنون إلى الدنيا ينقطع هدفهم في الوصول إلى الآخرة بسلام؛ لأنه يتيهون في أوديتها. نزل نفسك -يا عبد الله- منزلة الغريب غير المتعلق قلبه ببلد الغربة، بل قلبه متعلق بوطنه الأصلي الذي يريد أن يرجع إليه، المؤمن في الدنيا مهموم محزون؛ همه أن يصل إلى المكان الذي يريد، ولذلك من كانت هذه حاله فإنه لا ينافس أهل البلد الذي هو متغرب فيه، لا ينافسهم في عزهم، ولا يجزع من الذل عندهم، قال الحسن: [المؤمن في الدنيا كالغريب لا يجزع من ذلها، ولا ينافس في عزها، لها شأن وللناس شأن]. ما هو وطننا الأصلي أيها المسلمون؟ أين موطننا الأصلي نحن؟ أسكن آدم وزوجه الجنة ثم أهبطا منها إلى الأرض، ووعدا بالرجوع إليها مع صالح ذريتهما، فالمؤمن أبداً يحن إلى موطنه الأصلي، إلى وطنه الأول كم منزل في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبداً لأول منزل موطننا الأصلي إذاً هو جنات عدن، هذا هو موطننا الأصلي، وما نحن فيه الآن كله غربة في غربة، وشيء مؤقت وإنما المصير النهائي في دار الكرامة أو دار الهوان فحي على جنات عدن فإنها منازلنا الأولى وفيها المخيم ولكننا سبي العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلم وقد زعموا أن الغريب إذا نأى وشطت به أوطانه فهو مغرم وأي اغتراب فوق غربتنا التي لها أضحت الأعداء فينا تحكم كان بعض السلف يقول: اللهم ارحم في الدنيا غربتي، وارحم في القبر وحشتي، وارحم موقفي غداً بين يديك. وقال يحيى بن معاذ الرازي: الدنيا خمر الشيطان، من سكر منها لم يفق إلا في عسكر الموت نادماً مع الخاسرين. قيل لـ محمد بن واسع: كيف أصبحت؟ قال: ما ظنك برجل يرتحل كل يوم إلى مرحلة من مراحل الآخرة؟ وقال الحسن: يا بن آدم! إنما أنت أيام مجموعة كلما مضى يوم مضى بعضك. وقال: ابن آدم! إنما أنت بين مطيتين يوضعانك (يوضعك النهار إلى الليل والليل إلى النهار) حتى يسلمانك إلى الآخرة، فمن أعظم منك يا بن آدم خطراً؟ وقال: الموت معقود في نواصيكم والدنيا تطوى من ورائكم. كل يوم يمضي من حياتنا يقربنا إلى الموت سبيلك في الدنيا سبيل مسافر ولا بد من زاد لكل مسافر ولا بد للإنسان من حمل عدة ولا سيما إن خاف صولة قاهر كيف يفرح بالدنيا من يومه يهدم شهره، وشهره يهدم سنته؟ كل يوم يهدم شهرك، اليوم يجعل الثلاثين تسعة وعشرين، والتسعة والعشرين ثمانية وعشرين وهكذا، وشهره يهدم سنته، وسنته تهدم عمره، وكيف يفرح من يقوده عمره إلى أجله، وتقوده حياته إلى موته؟ قال الفضيل بن عياض لرجل: كم أتت عليك؟ قال: ستون سنة. قال: فأنت من ستين سنة تسير إلى ربك، يوشك أن تبلغ. فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون! فقال الفضيل: أتعرف تفسير ما تقول؟ أنا لله وأنا إليه راجع، أنا لله عبد وإليه راجع، إنا لله وإنا إليه راجعون فمن علم أنه لله عبد وأنه لا بد إليه راجع فليعلم أنه موقوف، ومن علم أنه موقوف فليعلم أنه مسئول، ومن علم أنه مسئول فليعد للسؤال جواباً، فقال الرجل: فما الحيلة؟ قال: يسيرة. قال: وما هي؟ قال: تحسن فيما بقي يغفر لك ما مضى، فإنك إن أسأت فيما بقي أخذت بما مضى وبما بقي. قال بعض الحكماء: من كانت الليالي والأيام مطاياه سارت به وإن لم يسر. وتأمل هذا المعنى الذي نظمه الناظم: وما هذه الأيام إلا مراحل يحث بها داع إلى الموت قاصد هذه الأيام مثل المطايا التي تسير، تسير بنا: وأعظم شيء لو تأملت أنها منازل تطوى والمساكن قاعد العادة أن المسافر يمضي، يحس أنه يمشي ويذهب، لكن هذه الأيام تذهب والمسافر قاعد حتى يفاجأ بأنه قد وصل، لم يزل الليل والنهار سريعين في نقص الأعمار وتقريب الآجال، هيهات قد صحب نوح وعاد وثمود وقرون بين ذلك كثيراً، وقدموا على ربهم ووردوا على أعمالهم، وأصبح الليل والنهار غضين جديدين، بليت الأجساد والليل والنهار يعودان: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} [الفرقان:62] ففي الليل والنهار تقع الأعمال والعبادات. وقال الأوزاعي لأخ له: أما بعد فقد أحيط بك من كل جانب، واعلم أنه يسار بك في كل يوم وليلة، فاحذر الله والمقام بين يديه، وأن يكون آخر عهدك به، والسلام.

قصر الأمل عند السلف الصالح

قصر الأمل عند السلف الصالح أيها المسلمون: ينبغي علينا ألا نظن لحظة واحدة أننا مقيمون في هذه الدنيا، ينبغي أن يلازمنا هذا الشعور باستمرار، فإن الذي يلازمه هذا الشعور لا يقع في المعاصي، ولا يتعلق بالفاني وإنما يسارع إلى الله بالعبادة. قال ثلاثة من العلماء لبعضهم، كل اثنين يقولان للآخر: ما أملك؟ فقال أحدهم: ما أتى علي شهر إلا ظننت أني سأموت فيه. فقال صاحباه: إن هذا لأمل. فقالا للآخر: ما أملك؟ قال: ما أتت علي جمعة إلا ظننت أنني سأموت فيها. فقال له صاحباه: إن هذا لأمل. فقالا للأخير: ما أملك؟ قال: ما أمل من نفسه بيد غيره؟ قال داود الطائي: سألت عطوان بن عمر التميمي قلت: ما قصر الأمل؟ قال: ما بين تردد النفس. فحدث بذلك الفضيل بن عياض فبكى، وقال -يقول في معنى كلامه-: يتنفس فيخاف أن يموت قبل أن ينقطع نفسه، يأخذ الزفير يخاف أن يموت بعده فلا يرد الشهيق هذا حال الصالحين؛ لأننا فعلاً لو تأملنا في الميت يموت إما بعد أخذ النفس أو بعد رده، واحدة منهما فيحدث الموت فيها، فتأمل الآن وتفكر في نفسك أنك ستموت بعد هذا أو بعد هذا، فماذا يكون حالك وشعورك؟ قال بعض السلف: ما نمت نوماً قط فحدثت نفسي أني سأستيقظ، وإنما أوطن نفسي أني ربما لا أقوم: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} [الزمر:42] وكان حبيب أبو محمد يوصي كل يوم بما يوصي به المحتضر عند موته من تغسيله ونحو ذلك، وكان يبكي فكلما أصبح وأمسى أوصى، فسألت امرأته عن بكائه فقال: يخاف الله إذا أمسى ألا يصبح، وإذا أصبح ألا يمسي. وكان محمد بن واسع إذا أراد أن ينام قال لأهله: أستودعكم الله فلعلها أن تكون منيتي التي لا أقوم منها. وقال بكر المزني: إن استطاع أحدكم ألا يبيت إلا وعهده -وصيته- عند رأسه مكتوب فليفعل، فإنه لا يدري لعله يبيت في أهل الدنيا فيصبح في أهل الآخرة. وكانت امرأة متعبدة بـ مكة كلما أمست قالت لنفسها: يا نفس! الليلة ليلتك، لا ليلة لك غيرها فاجتهدت في العبادة، فإذا أصبحت قالت: يا نفس! اليوم يومك ستقبضين فيه، لعلك تؤخذين فيه، اليوم يومك لا يوم لك غيره، فاجتهدت، وهكذا سارت من اجتهاد إلى اجتهاد. إذا أردت أن تنفعك صلاتك يا عبد الله فقل: لعلي لا أصلي غيرها، صل صلاة مودع كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. ولذلك عندما اجتمع بعض السلف للصلاة فقدم، كل منهم صاحبه، حتى قدموا رجلاً منهم، فقال هذا الرجل وهو يتقدم بحرج: إن صليت بكم الظهر لا أصلي بكم العصر، يصلي غيري. فقال له بعض الحاضرين من السلف: نعوذ بالله من طول الأمل، أو تأمل أن تصلي الصلاة الأخرى؟ عندك يقين بأنك ستصلي الصلاة الأخرى؟ تشترط تقول: إن صليت بكم الظهر لا أصلي العصر؟ وهكذا -أيها الإخوة- كل يوم يمضي يذهب فيه من عمرنا جزء، فماذا قدمنا في هذه الأيام التي تمضي؟ نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيذنا وإياكم من طول الأمل، وأن يجعلنا متصلين بحبله المتين، قائلين بالركن الركين، متعبين لسنة سيد المرسلين. أيها الناس: خذوا من الصحة للمرض، ومن الحياة للموت، فإن الاعتراضات التي تعترضنا كثيرة، فربما يمرض الإنسان ولا يستطيع العمل، وربما يقع له ظرف يؤدي به إلى الأجل ويكون الخسران هو العاقبة لقلة العمل وضعفه، فأنيبوا إلى ربكم كما قال الله: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} [الزمر:54] قبل أن تتحسر النفس وتقول: {يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر:56 - 58] ماذا ننتظر؟ ننتظر هرماً أو مرضاً أو فقراً، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر، ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (بادروا بالأعمال -اعملوا قبل أن تأتي أشياء- بادروا بالأعمال ستاً: طلوع الشمس من مغربها، أو الدخان، أو الدجال، أو الدابة، أو خاصة أحدكم، أو أمر العامة) بادروا بالأعمال فاستبقوا بها قبل أن يحين الأجل، وقبل أن يأتي ما يقطع عن العمل، والناس مغبونون في الصحة والفراغ، فعندهم الصحة لا يفكرون في المرض، وعندهم المال لا يفكرون في الفقر، عندهم الفراغ لا يفكرون في الشغل فإن الله يشغل بعض الناس بنفسه.

ماذا قال الله في كتابه عن الدنيا؟

ماذا قال الله في كتابه عن الدنيا؟ إن الله سبحانه وتعالى قد بين لنا حقيقة هذه الدنيا في كتابه، وذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه ذكراً كثيراً جداً حتى لا ينطلي أمرها على المسلمين، وحتى يعرفوا حقيقتها وفناءها وزوالها وهوانها على الله، قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ} [الكهف:45] نزل الماء فاختلط بنبات الأرض فأصبح مورقاً أخضر يانعاً، ونضجت الفواكه والثمار وطابت واصفرت واحمرت، ولكن ماذا بعد هذا؟ قال الله تعالى: {فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} [الكهف:45] أصبح يابساً متكسراً متفتتاً، تفرقه الرياح وتنسفه لخفته: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً} [الكهف:45]. وقال الله عز وجل: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً} [الحديد:20] في النهاية، هشيماً متكسراً يابساً: {وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:20] فهي تغر بفتنتها وزينتها ولكنها هينة، ولكنها عند الله لا تساوي شيئاً، هذه الحياة الدنيا وصفها ربنا بأنها لهو ولعب، وعقد المقارنة بينها وبين الآخرة وقال الله: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنعام:32] {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} [العنكبوت:64] هي الحياة الحقيقية، هي الحيوان: يعني الحياة الدائمة المستقرة الباقية: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ * أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ} [القصص:60 - 61] في الآخرة: {كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [القصص:61] أي: للجزاء والحساب. هذه الحياة الدنيا سميت دنيا لدنوها وسفولها، الحياة الدنيا، هي القليلة الصغرى، هذه الحياة الدنيا مليئة بالشهوات والفتن ولكنها شهوات زائلة، وأمور تفتن ولكن لحظات عابرة لا يستمتع بها حق الاستمتاع أحد: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ} [آل عمران:14] الأشياء المتشهاة: {وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ} [آل عمران:14] المضاعفة بعضها فوق بعض: {مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ} [آل عمران:14] المعلمة المطهمة: {وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} [آل عمران:14] يعني: الزرع والثمار والشجار والنبات: {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [آل عمران:14] هذه أنواع البهجات الدنيوية هذا متاع الحياة الدنيا: {وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران:14].

الدنيا بالنسبة للآخرة

الدنيا بالنسبة للآخرة إن الدنيا بطبيعتها خضرة حلوة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، لها بهجة وجاذبية، والله سبحانه وتعالى قد استخلفنا فيها لينظر كيف نعمل، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فاتقوا الدنيا واتقوا النساء) رواه مسلم. هذه الدنيا -أيها الإخوة- مقارنتها بالآخرة ونسبتها إلى الآخرة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (ما الدنيا في الآخرة إلا كما يمشي أحدكم إلى اليم فأدخل إصبعه فيه فما خرج منه فهو الدنيا) هذه الدنيا بالنسبة للآخرة، رجل أدخل إصبعه في اليم ثم أخرجها فما علق في الإصبع من ماء البحر هو نسبة الدنيا إلى الآخرة. وهذه الدنيا التي احتقرها ربنا وذكر فناءها وزوالها لأنها فانية وزائلة، وما فيها من الفتن والشهوات التي تفتن وتجذب لا تساوي عند الله شيئاً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه، وعالماً أو متعلماً) لأنها هينة على الله لا تساوي شيئاً عند الله، متاعها يغر أصحاب الاغترار. يكفيك يا طالب الدنيا أن الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه إلا ما ابتغي به وجه الله مما في الدنيا، إذا ابتغيت وجه الله خرجت من هذه الأشياء الملعونة في الزوجة والولد والمال والعلم -قبل ذلك- والعبادة هذا الذي ليس بملعون، والباقي كله ملعون بنص الحديث. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على تهوين شأن الدنيا في نظر الصحابة، وانتهاز الفرص لعرض هذا المفهوم، وهو مفهوم حقارة الدنيا لما ينبني على إيضاح هذا المفهوم من الفوائد العظيمة والتربية الجسيمة في نفوس الصحابة. روى الإمام أحمد بإسناد صحيح عن جابر رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى العالية -ناحية في المدينة - فمر بالسوق، فمر بجدي أسك -صغير الأذن- ميت فتناوله، فرفعه، فقال: بكم تحبون أن هذا لكم؟ قالوا: ما نحب أنه لنا بشيء، ولا نشتريه بفلس، وما نصنع به؟ قال: بكم تحبون أنه لكم؟ قالوا: والله لو كان حياً لكان عيباً فيه أنه أسك -صغير الأذن- فكيف وهو ميت؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم). وعاقبة الدنيا إلى فناء وزوال، عاقبة الدنيا إلى شيء كريه بغيض، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن مطعم ابن آدم -الطعام الذي نأكله- قد ضرب مثلاً للدنيا وإن قزحه وملحه، فانظر إلام يصير) أشهى أكلة في الدنيا خذها، قزح وملح، وضع والتوابل، وزين الأكلة واجعلها أشهى ما تكون، ثم كلها والتهمها فماذا تكون في البطن وكيف تخرج في النهاية؟ كيف تخرج أشهى أكلة في الدنيا؟ كيف تخرج من دبر الإنسان في النهاية؟ (إن مطعم ابن آدم قد ضرب مثلاً للدنيا، وإن قزحه وملحه فانظر إلام يصير). ولذلك حث النبي صلى الله عليه وسلم على التقلل منها، وكان صلى الله عليه وسلم يتقلل منها أيضاً، وأوصى بوصايا في هذا المجال، من ذلك قوله: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) والغريب وعابر السبيل لا يثقل بدنه وكاهله وظهره بالمتاع؛ لأن عابر السبيل يريد أن يتحرك ويتنقل، وكثرة المتاع على ظهره تثقله وتعيق حركته، ولذلك عندما أوصانا بقوله: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) يعني: تخففوا من المتاع، قللوا من زينة الدنيا، لا تأخذوا منها وتعبوا عباً، وإنما كلما كان أخذك أيسر كلما كان حسابك أخف. وضرب عليه الصلاة والسلام المثل بذلك فقال: (ما لي وللدنيا؟ وما للدنيا ومالي؟ والذي نفسي بيده، ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف فاستظل تحت شجرة ساعة من النهار ثم راح وتركها) فارقها وذهب عنها، ساعة من النهار، ظل، والظل من طبيعته أنه يزول. والله سبحانه وتعالى إذا أحب عبداً حماه من الدنيا، وباعد بينه وبين زخرفها وزينتها، والانغماس فيها والانشغال فيها؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (إذا أحب الله عبداً حماه من الدنيا كما يحمي أحدكم سقيمه الماء) وقال عليه الصلاة والسلام: (إن الله ليحمي عبده المؤمن من الدنيا وهو يحبه كما تحمون مريضكم الطعام والشراب تخافون عليه) رواه أحمد وهو حديث صحيح.

عدم الاغترار بما عليه الكفار من نعيم الدنيا

عدم الاغترار بما عليه الكفار من نعيم الدنيا وكان صلى الله عليه وسلم متقللاً متخففاً، لا يكاد يُرى في بيته شيء، دخل عمر على النبي صلى الله عليه وسلم -في قصة مع نسائه مشهورة- قال: فرآه وإنه على حصير ما بينه وبينه شيء، ليس بين جلده وجسده الشريف وهذا الحصير حائل، وتحت رأسه وسادة من أدم -من جلد- حشوها ليف وإن عند رجليه قرضاً مضبوراً مجموعاً، وعند رأسه أُهباً معلقة -والإهاب: هو الجلد الذي لم يدبغ- فرأيت أثر الحصير في جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكيت، فقال: ما يبكيك؟ فقلت: يا رسول الله! كسرى وقيصر فيما هما فيه -يعني: من الملك والنعيم والرياش والقصور والحرير، وأنت رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير؟ هذا متاعك من الدنيا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟ -وفي رواية- ولك الآخرة) وقال لـ عمر أيضاً: (أوفي شك أنت يا بن الخطاب! أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا). ولذلك إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا ما يحب وهو مقيم على معاصيه فإنما ذلك منه استدراج، حديث صحيح. إذا رأيت -أيها المؤمن- الدول الكافرة ومجتمعات الكفر والكفرة والفسقة والمجرمين، إذا رأيت عندهم متاع الدنيا: سيارات فارهة، وقصور مرتفعة، وثمار ناضجة، وصحة وأجساد، وإذا رأيت عندهم الرياش والنعيم، ورأيت عندهم بهجة الدنيا وزينتها وزخرفها؛ فاعلم أنما هذه طيباتهم عجلت لهم في الحياة الدنيا لأنه ليس لهم في الآخرة من نصيب. وإذا رأيت الفسقة يتطاولون ويتفاخرون بالأموال، ويتكاثرون في الأرصدة، إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا ما يحب وهو مقيم على معاصيه فإنما ذلك منه استدراج لهذا الفاسق حتى يزداد {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً} [آل عمران:178] ولأن هذه الدنيا وضيعة عند الله لا تساوي شيئاً جعل الله في حكمته أنه لا يدوم فيها شيء، متاع زائل، أعمار منقضية، وأجساد للتراب، دول تنقرض ومجتمعات تزول، والثمار نراها تتعففن أمامنا، وهؤلاء المتفوقون في الدنيا حتى في الرياضات انظر إليهم هل يحتفظ أحدهم بقوة عنده في رياضته وتدوم له؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن حقاً على الله تعالى ألا يرفع شيئاً من أمر الدنيا إلا وضعه) فكر في هذا السر وهذه الحكمة: (إن حقاً على الله تعالى ألا يرفع شيئاً من أمر الدنيا إلا وضعه) فترى صاحب الحافظة في النهاية ينسى ويخرف، وصاحب القوة في النهاية أمره إلى ضعف: {مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً} [الروم:54] وصاحب المال قد يفتقر ويزول ماله أو يموت وهو غني فلا يستفيد من ماله في قبره بشيء، وصاحب الملك يزول ملكه وهكذا، أو يموت فلا يستفيد من ملكه شيء: (إن حقاً على الله تعالى ألا يرفع شيئاً من أمر الدنيا إلا وضعه).

أعمال خير من الدنيا وما فيها

أعمالٌ خيرٌ من الدنيا وما فيها أما الذين يعملون للآخرة فإن الله يبقي لهم ذكراً جميلاً وأجراً عظيماً، وأعمالهم تنمو وتزداد، وهذه العبادات بالنسبة للدنيا لا شيء؛ لأن الدنيا زائلة والعبادة أجرها باق؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها، وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة -في الصباح أو في المساء في سبيل الله- خير من الدنيا وما عليها) لماذا؟ لأن العبادة أثرها وأجرها باق، خير من الدنيا وما عليها، حسنة واحدة يوم القيامة أجرك عليها خير من الدنيا وما عليها، وموضع السوط في الجنة، المكان الذي يأخذه السوط من الجنة، المكان هذا القليل خير من الدنيا وما عليها. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها، ولقاب قوس أحدكم أو موضع قدمه في الجنة خير من الدنيا وما فيها، ولو اطلعت امرأة من نساء أهل الجنة إلى الأرض لملأت ما بينهما -ما بين السماوات والأرض- ريحاً، ولأضاءت ما بينهما بالنور والضياء، ولنصيفها على رأسها -خمارها على رأسها- خير من الدنيا وما فيها). (ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها) هاتان ركعتان خير من الدنيا وما فيها! واعقلوا -يا عباد الله- كيف أن النعيم في الدنيا حساب في الآخرة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حلوة الدنيا مرة الآخرة، ومرة الدنيا حلوة الآخرة) قد يكون مرضاً، مصاباً، كموت حبيب أو قريب يصبر عليه حلو في الآخرة، هو مر في الدنيا، كفقر، أو شيء مؤلم، لكنه حلو في الآخرة، وحلوة الدنيا من المناصب والأموال والرياش مُرة في الآخرة. والله سبحانه وتعالى جعل الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر كما ورد في الحديث الصحيح، كثير من المؤمنين لا يرون فيها زينة وبهجة، بل يمكن أن يكون ابتلاء متوالياً، سلب أموال وسجن وتقييد حرية، مرض وموت قريب، قلة الملابس وما يستر به جسده، يجد الطعام يوماً ولا يجده يوماً آخر، الدنيا سجن المؤمن، نفسه تضيق بالدنيا لأنه يتطلع إلى العالم الفسيح، وجنة الكافر لأن هذا منتهى أملهم وهذا هو كل ما يعيشون لأجله: الدنيا، ولذلك تراهم حريصين كل الحرص على الاستمتاع بها، ما عندهم إيمان بالآخرة ولا تطلع للآخرة، ولا أمل أن يكون لهم شيء في الآخرة؛ لأنهم لا يؤمنون بالآخرة أصلاً. ولذلك ترى عند الكفرة انتشار قضية الترفيه، قضايا الترفيه والألعاب؛ لأن هذا هو عيشهم وأملهم الوحيد، فهم يريدون أن يستمتعوا من هذه الدنيا بكل لحظة، فترى انتشار قضية الاستمتاعات ولو كانت محرمة، وانتشار قضية الترفيه، ونحن مقبلون على إجازة، والناس سيسيحون سياحة يطلبون ملذات الدنيا، والله أعلم بما هم صانعون، لكن الدنيا هذه ولو ساحوا فيها فهي سجن للمؤمن وجنة للكافر.

إزالة النبي صلى الله عليه وسلم لكل شيء يذكره بالدنيا

إزالة النبي صلى الله عليه وسلم لكل شيء يذكره بالدنيا وكان النبي عليه الصلاة والسلام يزيل كل شيء يذكره بمتاع الدنيا من الأشياء المحرمة المنهي عنها، والتي تشغل ولو بالصلاة، كان لنا ستر فيه تماثيل طير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا عائشة! حولي هذا فإني كلما دخلت فرأيته ذكرت الدنيا). وماذا نحتاج من الدنيا أيها الإخوة؟ أمور قليلة يسيرة هي التي تبلغنا، قال النبي صلى الله عليه وسلم موضحاً هذه الضروريات الثلاث: (من أصبح منكم آمناً في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها) حديث حسن، من أصبح منكم آمناً في سربه: آمناً في بيته، لا يخاف على نفسه ولا على ماله ولا على أهله وعرضه، معافى في جسده: صحيح ما فيه مرض، عنده قوت يومه فهو شبعان، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها، هذا كل ما هو موجود مما نحتاجه في الدنيا، أما البقية فهي استكثارات مشغلة ملهية. كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر بمثل الدنيا في الآخرة، وبمثل الدنيا في نعيم الجنة، ولذلك قال في الحديث: (سأل موسى ربه فقال: يا رب! ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ قال: هو رجل يجيء بعدما يدخل أهل الجنة الجنة، فيقال له: ادخل الجنة. فيقول: أي رب كيف وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم؟ فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل ملك من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت ربي. فيقول: هو لك ومثله ومثله ومثله ومثله -لك الأولى وأربعة وخمسة- فقال في الخمسة: رضيت ربي، فيقول: هذا لك -الذي ذكرنا لك قبل- هذا لك وعشرة أمثاله، ولك ما اشتهت نفسك ولذت عينك. فيقول: رضيت ربي، -هذا أدنى أهل الجنة منزلة، خمسة في عشرة بخمسين، ضعف ملك من ملوك الدنيا، خمسين ضعفاً! هذا أدنى أهل الجنة منزلة، بالإضافة إلى ذلك لك ما اشتهت نفسك ولذت عينك- قال ربي: فأعلاهم منزلة؟ قال: أولئك الذين أردت، غرست كرامتهم بيدي، وختمت عليها فلم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر) رواه أحمد وهو حديث صحيح.

نعيم الدنيا وبؤسها بالنسبة للآخرة

نعيم الدنيا وبؤسها بالنسبة للآخرة وهذه الدنيا نعيمها في الآخرة أيضاً لا يساوي شيئاً، كما أن نعيم الآخرة بالمقارنة بالدنيا لا يمكن أن يقارن، ضرب النبي عليه الصلاة والسلام المثل فقال: (يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار -أنعم واحد من أهل الدنيا، أكثرهم مالاً وأكثرهم لذات في الدنيا لكنه من أهل جهنم، يؤتى به في يوم القيامة- فيصبغ في جهنم صبغة ويرفع، ثم يقال له: يا بن آدم! هل رأيت خيراً قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب! ويؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة -مؤمن فقير، كان عارياً، مريضاً، مصاباً، مضطهداً- يؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة فيصبغ في الجنة صبغة واحدة فيقال له بعد ما صبغ بهذه الصبغة: يا بن آدم! هل رأيت بؤساً قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط) هذا على غمسة فكيف وهم سيعيشون فيها خالدين {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7].

ولا تنس نصيبك من الدنيا

ولا تنس نصيبك من الدنيا إن الآيات والأحاديث -أيها الإخوة- تركز على هذا المفهوم تركيزاً عظيماً، يجب أن يستقر هذا المفهوم في أنفسنا، وينبغي أن يكون حياً في أذهانناً ومشاعرنا لأن الأحوال لا تستقيم، حال المؤمن لا يستقيم إلا وهذه جزء منه وركيزة من ركائزه، لا يصلح أن يكون من انعكاسات هذا الموضوع في أنفسنا ترك الأخذ بالأسباب التي أمرنا بالأخذ بها شرعاً، لا يصلح ولا يعني عرض هذا الموضوع ترك السعي لتحصيل القوة التي نهزم بها الكفار، وليس معنى هذا أن نترك السعي لطلب الرزق الذي نعيش به الأنفس التي نحن مسئولون عنها، وليس الموضوع لترك العلاج والتداوي أو ترك الدراسة والجد والتحصيل، أو ترك الغرس والبناء وعمارة الأرض كما أمر الله؛ بل إن القضية بعدم التعلق بالدنيا مع الأخذ بنصيبنا منها فإن الإسلام وسط، وهذه الأمة التي اصطفاها الله وأخرجها لعمارة هذه الأرض والجهاد في سبيل الله لا بد أن تأخذ بالأسباب، قال الله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ} [القصص:77] أولاً {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77]. إذاً لا تنس نصيبك من الدنيا، فخذ ما تحتاج إليه، واعمل ما تقتات به، واكسب عيشك، الله سبحانه وتعالى جعل في الدنيا معايش وأخبرنا بأنه جعل لنا فيها معايش، لا بد من الطعام والشراب، لا بد من الغذاء والسكن واللبس. ولكن -أيها المسلمون- الانشغال الحاصل الآن في هذا التنوع والتوسع والكماليات -مع الأسف- التي غرق فيها الناس وأدخلوها بيوتهم، وأنفقوا فيها الأموال الطائلة، الكماليات والتعلق بالزينة، إذا مرت سيارة فارهة قال: آخ لو أن عندي مالاً. وإذا رأى قصراً مشيداً ضرب كفاً بكف وقال: لو أن لي مثله. اعلم أن الذين رأوا أموال قارون التي تنوء بمفاتحها الرجال أولو القوة قالوا: {يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ} [القصص:79] لكن ماذا قال أهل العلم؟ {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} [القصص:80]. فإذاً -أيها الإخوة- لا بد من أخذ الأسباب التي نرفع بها شأن الدين، وإن نحن ابتعدنا بأنفسنا عن هذه المهالك في الدنيا، وكذلك الدنيا هذه هي الفرصة للعمل، فلا يعني هم الدنيا أن نقعد عن العبادة وننتظر الأجل لا. لأن الدنيا هي الفرصة للعمل للتزود للآخرة والعبادة، الدنيا ساعة فاجعلها طاعة. يا بن آدم! الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما.

فوائد معرفة حقارة الدنيا

فوائد معرفة حقارة الدنيا يستفاد من عرض هذا المفهوم ألا نتعلق بزينة الدنيا فنهلك، ألا نمد أعيننا إلى ما متع الله به أقواماً من الكفرة والفسقة {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:131] قال بعض السلف: بيننا وبين الأغنياء والملوك يوم واحد، أما أمس فقد مضى علينا وعليهم، وذهبت لذتهم وذهب بؤسنا في الأمس، فنحن وإياهم سواء، وفي الغد هم على وجل وخوف أن يذهب ملكهم أو غناهم، ونحن ما جاءنا بؤس الغد بعد، فنحن وإياهم في الغد سواء، وإنما هو اليوم هذا الذي نعيشه، فما عسى أن يكون ساعات وينقضي. هذا يستفاد منه -أيها الإخوة- الاستعداد ليوم الرحيل بالعمل، قال سليمان بن عبد الملك لـ أبي حاتم الواعظ: ما لنا نكره الموت؟ قال: لأنكم أخربتم آخرتكم، وعمرتم دنياكم، فكرهتم أن تنتقلوا من العمار إلى الخراب. كل جهده وضعه في هذه الدنيا، بناء بيوت وتحصيل أموال؛ فيكره الانتقال من الدنيا إلى الآخرة، ما عمل للآخرة شيئاً، عمله للآخرة قليل، لكن هذه الدنيا التي وضع فيها حيله وحاله. وكذلك فإن الآخرة تقدم في العمل على الدنيا، الله سبحانه وتعالى يقول: {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] وابتدأ بالآخرة بالأمر بالعمل ثم الدنيا، قال في الدنيا: تمشي، وقال في الآخرة: تسعى، والسعي أسرع من المشي، إذا اشتغلت بالدنيا أضررت بالآخرة والعكس بالعكس كما قال بعض السلف: مثل الدنيا والآخرة مثل ضرتين إن أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى. هذا الموضوع -يا أيها المسلمون- حتى إذا رأينا صاحب متاع لا نتأسف ولا نتحسر، وإنما نقول: هذه زينة، إن كان إنساناً تقياً فهو يطيع الله في هذا المال، وإن كان فاسقاً فهو استدراجٌ له، وإن كان كافراً فهذا غاية مناه وقصارى ما يأمل في هذه الحياة. الدنيا مثل الحية لين مسها قاتل سمها، الدنيا إما نقمة نازلة أو نعمة زائدة، لا بد إذاً أن توطن النفس على الذهاب من هذه الدنيا والرحيل، الدنيا لا تصفو لشارب، ولا تبقى لصاحب، ولا تخلو من فتنة ولا من محنة، فأعرض عنها قبل أن تعرض عنك، واستبدل بها قبل أن تستبدل بك، فإن نعيمها يتنقل، وأحوالها تتبدل، ولذاتها تفنى، وآثارها تبقى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس:12] خطوات المشي إلى المساجد تبقى عند الله، والصدقات تبقى للآخرة، الآثار هذه الآثار وليست الآثار التي يتفرج عليها الناس في السياحة. وهذا المفهوم أيضاً يجعل الإنسان سخياً بما في يده في سبيل الله، يضع ما عنده في سبيل الله؛ لأنه يعلم أن هذا الذي ينفق هو الذي يبقى، والذي يدخره عنده هو الذي يزول كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم لـ عائشة، ما بقي منها إلا كتفه، أنفقت وبقي جزء، فأخبرها أن الباقي هو الفاني وأن ما أنفقته هو الباقي. روى ابن المبارك في كتابه الزهد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخذ أربعمائة دينار فجعلها في صرة، ثم قال للغلام: اذهب بها إلى أبي عبيدة بن الجراح، ثم تلهَّ ساعة في البيت حتى تنظر ما يصنع، فذهب بها الغلام إليه فقال: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذه في بعض حوائجك. فقال أبو عبيدة: وصله الله ورحمه كما وصلني، ثم قال: تعالي يا جارية! اذهبي بهذه السبعة إلى فلان، وبهذه الخمسة إلى فلان حتى أنفذها وانتهت كلها! فرجع الغلام إلى عمر بن الخطاب فأخبره، ووجده قد أعد مثلها لـ معاذ بن جبل فقال: اذهب بها إلى معاذ بن جبل، ثم تلهَّ في البيت ساعة حتى تنظر ما يصنع، فذهب بها إليه فقال: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذا في حاجتك. فقال: وصله الله ورحمه، ثم قال: تعالي يا جارية! اذهبي إلى فلان بكذا، وإلى بيت فلان بكذا، وإلى بيت فلان بكذا. فاطلعت امرأة معاذ، فقالت: ونحن والله مساكين فأعطنا، هذه زوجته تقول: اجعلنا في عداد المساكين، نحن محتاجون، فلم يبق في الخرقة إلا ديناران فدحا بهما إليها. فرجع الغلام إلى عمر فأخبره فسر بذلك وقال: إنهم إخوة بعضهم من بعض. فحقارة الدنيا إذاً وزوالها يدفع الإنسان للإنفاق والبذل والعطاء؛ لأن ما عندكم ينفد وما عند الله باق، ولو أنفقتها فقد جعلتها في كف الرحمن، وما عند الله باق، فهي في كفه سبحانه وتعالى يربيها لصاحبها حتى تكون كالجبل العظيم.

الدار الآخرة هي الباقية

الدار الآخرة هي الباقية وفوائد هذا المفهوم -أيها الإخوة- وهو زوال الدنيا وفناؤها وحقارة زينتها، ودوام الآخرة وبقاء ونعيمها أمر عظيم جداً يحتاج إلى كثير من الوقت لبيان فوائده. اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من المتعلقين بدار كرامتك، العاملين لآخرتهم يا رب العالمين! وضاعف لنا الأجور والحسنات وارفع لنا الدرجات، واجزنا الجزاء الأوفى، اللهم لا تجعلنا بدار الهوان والدنيا من المتعلقين، اللهم اصرف عنا نقمتها وفتنتها وبأسها وشدتها يا أرحم الراحمين. اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. اللهم ارفع الظلم عن المستضعفين من المسلمين، اللهم إنهم حفاة فاحملهم، وإنهم عراة فاكسهم، وجياع فأطعمهم، أنت أعلم بهم وأرحم إنهم عبادك وإنك لا تضيعهم، اللهم فانصرهم على عدوهم، واجمع شملهم على الحق المبين يا رب العالمين! اللهم اجعل آخرتنا إلى خير، واجعل أمرنا إلى نعيم، اللهم إنا نسألك الثبات عند الممات، والأمن من فتنة القبر، اللهم إنا نسألك الثبات على الصراط، جز بنا عليه بأسرع ما يمر عليه يا أرحم الراحمين. إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون. وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.

الرد على من أحل الربا

الرد على من أحل الربا للربا صور كثيرة مختلفة، نهى الشرع عنها وبينها، وفي هذا العصر كانت الطامة في وجود من يفتي بجواز الربا ويلبس على الناس في ذلك، ويسميه بغير اسمه، لذلك كان لا بد من البيان والإيضاح.

حرب الله على أهل الربا

حرب الله على أهل الربا إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. يقول الله عز وجل: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:275] يقوم آكل الربا من قبره يتخبط كأنه حبلى، جزاءً بما أكل في بطنه من المال الحرام، يخرج الناس من الأجداث سراعاً، ولكن آكل الربا يتخبط في مشيته عقاباً له من الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:278 - 279] لا تَظلمون: بأخذ الزيادة، ولا تُظلمون: فيكون لكم رأس المال كما أعطيتموه، تأخذونه عدلاً من الله عز وجل. {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ} [البقرة:279] ولم يحدد الله هل الحرب عسكرية، أم مرضية، أو وبائية، أو جوع، أو خوف، إنها كلمة عامة تتضمن جميع أنواع الحرب، ولذلك قال أهل العلم: إن من كان مقيماً على الربا لا ينزع؛ فحق على إمام المسلمين -واجب- أن يستتيبه من أكل الربا، فإن نزع وإلا ضرب عنقه، وإذا مات رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الحرب على أكلة الربا وشنها عليهم منوطة بنوابه وخلفائه عليه الصلاة والسلام، وكل إمام يسير على نهجه. والربا باب من السبع الموبقات الكبيرة التي لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من فعلها، وحذر الأمة فقال: (اجتنبوا السبع الموبقات) وحذر عليه الصلاة والسلام منه تحذيراً شديداً: (إذا ظهر الزنا والربا في قرية؛ فقد أحلو بأنفسهم عذاب الله) حديثان صحيحان، ولذلك لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الربا وآكله وموكله وجميع من يساعد عليه فقال: (لعن الله الربا وآكله وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هم فيه سواء) وفي لفظ آخر: (الآخذ والمعطي فيه سواء) لا تقولن: إني محتاج سأقترض من البنك، أنت والبنك ملعونان على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم. إن أبواب الربا اثنان وسبعون باباً، فهو إذاً كما قال عليه الصلاة والسلام: (إن أبواب الربا اثنان وسبعون باباً) فهو متنوع وله صور متعددة، فلا تغتروا أيها المسلمون باستهزاء المستهزئين، وألاعيب المتلاعبين، وحيل المتحايلين على الله سبحانه وتعالى، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور (إن أبواب الربا اثنان وسبعون باباً، أدناه كالذي يأتي أمه في الإسلام) أدنى باب من أبواب الربا كالذي يزني بأمه في الإسلام، وقال عليه الصلاة والسلام: (الربا سبعون حوباً -والحوب هو الذنب الكبير- أيسرها أن ينكح الرجل أمه) وقال صلى الله عليه وسلم: (درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم، أشد عند الله من ست وثلاثين زنية) أحاديث صحيحة ثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد أخبرنا عليه الصلاة والسلام: (أنه قد رأى في الرؤيا الصالحة -ورؤيا الأنبياء حق- رجلاً يسبح في نهر، ورجلاً آخر قد جمع عنده حجارة كثيرة، وإذا ذلك السابح يسبح، ثم يأتي ذلك الذي قد جمع الحجارة، فيفغر له فاه، فيلقمه حجراً) وهكذا يظل يفعل به عقاباً من الله وعذاباً. ولذلك كان كل من ساهم في معاملة ربوية، أو إنشاء مكان ربويٍ حتى ولو بنظافته وصيانته، أو تأجيره أو بنائه داخل في لعنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مستحق للعقاب إذا لم يمتثل ذلك النهي، قال ربنا: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] فكم من أناس ملعونون على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الزمان؟ ولقد وصل الأمر إلى مهازل، أناس يخرجون زكواتهم من الربا، وأناس يحجون من الربا، وآخرون يتصدقون من الربا، وطائفة يبنون المساجد من الربا، وبعضهم يطبع الكتب الإسلامية من الربا، يتقربون إلى الله بالحرام: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً) هذا بخلاف من يتخلص منها اتقاء غضب الله، فإنه يجوز أن يصرفها في أي مصرف خير، لكن تخلصاً لا صدقة ولا قربة إلى الله عز وجل. وبعضهم يظن أن الربا في المطعومات والمشروبات، ولذلك فهو يبني سكنه من الربا، ويدفع أجور العمال والخادمات من الربا، ويشتري السيارات من الربا، ويقول: الشريعة حرمت أكله ولكنه إنسان متلاعب، مستهزئ بآيات الله، فإن الله حرم الانتفاع به من أي وجه كان، وجاء التعبير بالأكل في بعض الآيات والأحاديث؛ لأن أكثر ما يستخدم الناس الربا في الأكل، وإن كانوا يستخدمونها في أشياء أخرى كلها من الحرام، سحت في سحت، يبنون أجسادهم خلية خلية من الربا والمال الحرام، لا يتقون الله (وكل لحم نبت من سحت، فالنار أولى به) يأكل منه، ويطعم أولاده وزوجته من المال الحرام، ثم يريد مغفرة الله، ثم يريد أن ينجو من عذاب الله، كيف له ذلك وهو مصر على أكل الربا، حتى لو صلى صلاة الفجر في المسجد.

أنواع الربا وضوابط البيع المشروع

أنواع الربا وضوابط البيع المشروع لكي يكشف عليه الصلاة والسلام أنواع الربا، ولكي يضبط الأمر ويحدده قال: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، سواء بسواء، يداً بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، فإن اختلفت الأصناف؛ فبيعوا كيف شئتم؛ إذا كان يداً بيد) رواه مسلم وغيره. ولذلك يشترط في بيع الأشياء المتماثلة من الأشياء المكيلة والموزونة شرطان: أولاً: التماثل، مائة غرام ذهب بمائة غرام ذهب، بلا زيادة هللة. ثانياً: التقابض في مجلس العقد، سلمني مائة غرام ذهب الآن، وأسلمك مقابلها مائة غرام ذهب الآن، أو ما يقوم مقام الذهب من العملة النقدية الآن؛ لو تأخر لحظة واحدة وقع في الحرام، لو قال: هات الذهب وسأذهب إلى البيت وآتيك بالمال، فيكون هذا البيع حراماً، فالشرط واضح في الحديث: (يداً بيد) لو قال: هذا مائة غرام من الذهب القديم آخذ منك سبعين غراماً من الذهب الجديد، فهذا لا يجوز، وإنما يبيع الذهب القديم أولاً، ويقبض المال، ثم يشتري به ذهباً جديداً لو أراد، عقدان لا ترابط بينهما لكي تصبح المسألة حلالاً. (فإذا اختلفت الأصناف؛ فبيعوا كيف شئتم) سيارة بسيارة مع دفع الفرق جائز، ساعة بساعة مع دفع الفرق جائز، لكن ذهب بذهب مع دفع الفرق حرام، تمر بتمر غير متماثلين حرام، يجب أن يكون التماثل وزناً في الأشياء الموزونة، وكيلاً في الأشياء المكيلة، يداً بيد في مجلس العقد، لا يتأخر الدفع لحظة واحدة. روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد رضي الله عنه: (جاء بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر برني-نوع جيد من التمور يقال له: التمر البرني- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: من أين هذا؟ فقال بلال: كان عندي تمر رديء، فبعت منه صاعين بصاع -تمر أقل جودة، أعطيته صاعين، وأخذت صاعاً من النوع الجيد، والغرض شريف يريد به نفع النبي صلى الله عليه وسلم ولا يريد أن يأكله هو- ولكنه عليه الصلاة والسلام قال: أوه أوه! عين الربا، عين الربا، لا تفعل ولكن إذا أردت أن تشتري؛ فبع التمر بيعاً آخر ثم اشتر به) وهكذا يحدد عليه الصلاة والسلام المسألة، ويقطع الطريق على المتلاعبين المتحايلين. ولذلك قال أهل العلم: الربا أنواع: منه ربا الفضل، ومنه ربا النسيئة، ومنه ربا اليد، ومنه ربا القرض الذي يجر منفعة، لو وضعت ألف ريال في بنك، وأخذت عليها زيادة، فهو حرام لا يجوز، كذلك لو أعطيته ذهباً وأخذت أكثر من الذي أعطيته، مثلاً أعطيته مائة غرام وأخذت مائة وعشرة أو أخذت سبعين؛ كان ذلك حراماً، لو قلت: هات الذهب؛ وسأدفع لك بعد خمس دقائق أو أذهب إلى البيت وأحضر الثمن، فذلك حرام. ولو أنك أقرضته على أن يرجع لك الشيء المقترض بسلة؛ فالسلة حرام، لو قلت له: أقرضك على أن توصلني بسيارتك إلى البيت، وترجع لي القرض نفسه، فذلك حرام، كل قرض جر نفعاً فهو ربا، تأخذ مثلما أعطيت، نفس الشيء بلا تلاعب.

فتاوى مضلة في جواز الربا

فتاوى مضلة في جواز الربا هذه مقدمة أقولها بمناسبة أن بعض إخواننا جزاهم الله خيراً من الحريصين قد أراني مقالة نشرت في بعض الجرائد في الخارج عن فتوى أفتى بها أحد الضالين في هذه المسألة على الأقل، يقول في هذه الفتوى، ومن كلامه نقلت مختصراً بعد تعليلات وأدلة وليٍ لأعناق النصوص، واجتزاءٍٍ من أقوال بعض أهل العلم كما يهوى هو، قال بعد ذلك: وبناء على كل ما سبق فإن () ترى أن المعاملات في شهادات الاستثمار وفيما يشبهها كصناديق التوفير جائزة شرعاً، وأن أرباحها كذلك حلالٌ وجائزة شرعاً، إما لأنها مضاربة شرعية -كما يظن هذا المفتري- وإما لأنها معاملة حديثة نافعة للأفراد وللأمة، وليس فيها استغلال من أحد طرفي التعامل للآخر. ثم قال حاثاً الناس أن ينهجوا هذا النهج المحرم: ومن الخير أن يشتري الإنسان هذه الشهادات، وأن يتقبل ما تمنحه -يعني ما يمنح- من أرباح نتيجة لذلك، ثم قال متبجحاً: وقد اقترحت على المسئولين -في بلدته- أن يتخذوا الإجراءات اللازمة لتسمية الأرباح التي تعطى لأصحاب شهادات الاستثمار بالعائد الاستثماري، أو بالربح الاستثماري، وأن يحذفوا كلمة الفائدة لارتباطها في الأذهان بشبهة الربا. A=6002806> سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور:16] يريد أن يحلل للناس الحرام، ثم يقترح بأن تسمى الفائدة أرباحاً استثمارية وعائدات استثمارية، لكي يلبس على الناس بزيادة، وليس هو الجديد الذي فتح هذا الباب، فقد فتحه اليهود من قبله، وغيروا الأسماء لكي يلبسوا على الناس، والرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا بأنه (سيأتي من هذه الأمة أناس يشربون الخمر يسمونها بغير اسمها) سمها ما شئت؛ خمراً، مشروبات روحية، كحولاً، وسكي، كله حرام، كل مسكر خمر وكل خمر حرام، طلعت أو نزلت، ذهبت يميناً أو شمالاً، دخلت جحر ضب نصراني أو يهودي فهو خمر حرام. وكذلك نقول: سمها ما شئت؛ ربا، فوائد، أرباحاً، عوائد استثمارية، أرباحاً استثمارية، سمها ما شئت، هو حرام أولاً وأخيراً، طلعت أو نزلت فهي حرام؛ لأنها ربا منصوص على تحريمه في الكتاب والسنة. ثم قال: إن دخول الإنسان في مضاربة دون تحمل للخسارة أيها الإخوة! حرام -هذا الكلام نقوله نحن ولم يقله هو- إذا كان دخوله في مضاربة مع اشتراط ألا يتحمل خسارة حرام، فكيف يدخل في مضاربة وهو يشترط نسبة معينة من الأرباح 8% أو 10% أو 11% ونحو ذلك؟! إنه حرام أكثر، فكيف يقول هذا في فتواه مستنداً يقول: تحديد الربح مقدماً حماية لصاحب المال، وهكذا يجادلون في آيات الله، وهكذا يريدون أن يضلوا الناس. ورغم هذه الشنشنة التي يطلقونها يقولون متبجحين: الربا ما كان بين طرفين غني وفقير، الربا ما كان فيه استغلال، أما إذا كان بين غني وغني؛ فلا بأس. من الذي قعد هذه القاعدة؟ ومن الذي وضع هذا الاستثناء؟ هل هو موجود في القرآن؟ لما قال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا} [البقرة:278] هل قال: ذروا ما بقي من الربا بين الأغنياء والفقراء؟ أم أن الآية عامة تشمل كل شيء؟! غني وغني، غني وفقير، فقير وفقير، الآية عامة ولذلك مهما حاول هؤلاء أن يخرجوها فإنها لن تخرج؛ لأنها نزلت من عند الحكيم الخبير. وأهل الباطل يستغلون هذه الفتاوى العوجاء، ويبحثون عنها بتنقيب شديد، ويستغلونها أبشع استغلال، ويصورونها ويطبعونها وينشرونها ويوزعونها، لكن هل دخلت مرة مكاناً ربوياً فوجدت معلقاً عليه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:278 - 279] هل وجدت هذه الآية؟ هل إذا دخلت مكاناً فيه ربا وجدت حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم؛ أشد عند الله من ست وثلاثين زنية) لا تجد هذا، لكن تجد الفتاوي الرخيصة مطبوعة ومنشورة لتضل الناس، ويل لهم من عذاب الله، ثم ويل لهم ثم ويل لهم. بلال عنده صاعان من التمر غير الجيد، ذهب إلى السوق، واشترى صاعاً من التمر الجيد، هل هناك أحد مظلوم؟ هل جرت المعاملة وهل فيها استغلال؟ أليست قد تمت برضا الطرفين؟ هذا رضي أن يعطي صاعين من التمر الرديء، وهذا أعطاه مقابلها صاعاً من التمر الجيد، تمت برضا الطرفين بدون استغلال، ومع ذلك يقول صلى الله عليه وسلم: (أوه أوه! عين الربا، عين الربا، لا تفعل) إذاً هؤلاء الذين يقولون: نحن نستثمر في البنوك بالربا، البنك قوي وأنا غني، أو أنا فقير محتاج نقول له: أين هذا في حديث بلال؟ كيف تتلاعبون على الدين؟ كلاهما قد استفاد بلال استفاد والآخر قد استفاد، ربما كان عنده عائلة كبيرة والصاعين عنده شيء جيد، وبلال أخذ صاع تمر لشخص واحد للرسول صلى الله عليه وسلم، كلاهما قد استفاد، كلاهما لا ينكر أن يكون قد حقق رغبته، بل هناك تراض، وليس فيها استغلال، لكنه عليه الصلاة والسلام رفض هذا، ذلك لتعلموا مدى تحايل هؤلاء الناس، وتتابعهم على الشر والإثم والعدوان. وبعضهم يثير الشبهات، يقول: الله قال: {لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130] يعني لا تأخذ (100%، 200%، 300%) نحن نأخذ فقط (10%) نقول له: هل نسيتم بقية الآيات: {اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا} [البقرة:278] ولو (1%). ثم لو أنني قلت لشخص: حرام عيك أن تزني بعشرات النساء، هل يعني هذا أنه لو زنى بامرأة واحدة صار حلالاً؟! لو قلت لواحد مرتشٍ كبير: حرام عليك أن تأخذ مئات الآلاف أو تأخذ آلاف النقود بالرشاوي، بمعنى: لو أخذ ريالاً واحداً برشوة كان ذلك جائزاً، إذاً فانظروا كيف يتلاعبون بكتاب الله عز وجل، ويستهزئون به، ثم نقول لهم: أين تذهبون بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم، أشد عند الله من ست وثلاثين زنية) درهم واحد يمكن هذا (1%) يمكن (0. 5%). والمؤسف أيها الإخوة أنني سمعت أن بعض الفقراء لديه ألف ريال مثلاً يضعها في البنك، لكي يأخذ عليها فوائد، والفائدة مقدارها؟ عشرة ريالات! هكذا تغلغل الربا في الأمة، حتى لم يكد يسلم منه أحد إلا من رحم الله، ونسأل الله العافية. فإذاً، الذي يقول البنوك غير معروفة على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، نقول له: لكن مبدأ الربا معروف على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ونقول له: إن الله يعلم أنه سيكون في الزمان بنوك، وهذه الشريعة تصلح لأول الأمة كما تحصل لآخر الأمة، وتلك مهزلة إذا كانت الشريعة تصلح للزمن الذي قبل وجود البنوك، ولا تصلح لزمن وجود البنوك. أيها الإخوة! يقول تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38] كل شيء موجود حكمه، وإن تغيرت الوسائل والأساليب، فإن هذا التبيان والحكم موجود في كتاب الله العزيز، فما بال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً؟! اللهم سلمنا من الحرام، وباعد بيننا وبينه، واجعل أموالنا ورزقنا حلالاً يا رب العالمين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

التحذير من علماء السوء

التحذير من علماء السوء أحمد الله وحده لا إله إلا هو الحكيم الخبير، الذي بيّن لنا الحلال في القرآن فأحله، وبيّن الحرام فحرمه، وأرسل رسوله صلى الله عليه وسلم ليبين للناس ما نزل إليهم من ربهم، فجاء كلامه عليه الصلاة والسلام مؤكداً للكتاب العزيز شارحاً له ومفصلاً ومبيناً، فصلوات الله وسلامه عليه. ماذا نقول لهذه الفتاوى العوجاء التي تصدر من أولئك الذين لا يخافون الله، يتبعون شهواتهم وأهواءهم، ويقبضون ثمن الفتوى عاجلاً، ويبيحون الربا المعجل ولا حول ولا قوة إلا بالله، لا نملك أن نقول إلا كما قال الله: {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18]. والمشكلة أن في المسلمين ضعفاء إيمان، يقولون: ضعها في رقبة عالم واخرج منها سالماً، ضع بينك وبين النار شيخاً أو مطوعاً كما يقولون، هؤلاء ضعاف الإيمان الذي سيستغلون مثل هذه الفتاوى العوجاء وسيقولون: نحن مضطرون، نحن محتاجون، ويضعون أموالهم في الربا، هؤلاء لو قالوا لنا: هذا عالم، هذا مفتي، هذا مشهور، نقول لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر بأن أخوف ما يخاف على أمته الأئمة المضلين، الذين يأتم بهم الناس فيضلونهم، ولذلك وضح الله في القرآن بأن هؤلاء سيحملون أوزارهم كاملة يوم القيامة زائد: {وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل:25] لا تحسب المسألة ستمضي في الدنيا، سيحملون أوزارهم يوم القيامة؛ جراء هذه الفتاوى مع أوزار كل الناس الذين اتبعوهم، وأنت أيها الأخ المسلم لا تغتر بقول فلان وفلان، فعندك المسألة في الكتاب والسنة واضحة جداً ولا تحتاج بعدها إلى شيء. ثم اعلم بأن هؤلاء سيتبرءون ممن اتبعهم يوم القيامة: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:166 - 167]. وهذا أيها الإخوة تاريخ سيكتب أنه في 8/صفر/1410هـ صدرت الجريدة الفلانية في البلد الفلاني يقول فيها المفتي كذا وكذا، وستلعن الأجيال القادمة هذا الرجل الذي أفتى بهذا ومن معه من الذين يضلون الناس بغير علم، ولو لم يكتبه الناس؛ فهو مكتوب عند الله، وأرض بلاد النيل والحمد لله فيها خير عظيم، وما عقمت نساء مصر أن ينجبن العلماء الصلحاء الأخيار أبداً في القديم ولا في الحديث، والمتدينون من أهل مصر يعلمون أن هذه الفتاوي حرام، وأنها خزعبلات فارغة، ولو أتينا بصبي صغير في المدرسة وقلنا له: لو أخذت مالاً من بنك أو مصرف، وأخذت عليه (10%) نسبة ثابتة فما هذا؟ سيقول الولد الصبي: هذا حرام إنه ربا، وإذا قالوا: إن وظيفة البنك في الاقتصاد كوظيفة القلب في الجسم، فقل لهم: كلا، إن وظيفة البنك في الاقتصاد هي كوظيفة السرطان في الجسم. المشكلة أن النقاش صار الآن في الأساسيات، ومنذ زمن بعيد كان النقاش في أشياء أصغر، لكن النقاش الآن صار في أساسيات، الربا من السبع الموبقات، من كان يتصور أنه سيأتي زمان على المسلمين يتناقشون في الأشياء الأساسية المفروغ منها، والتي أجمعت الأمة على تحريمها، يأتي أناس اليوم يحلونها والله عز وجل يقول: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31] وقد فسرها عليه الصلاة والسلام لـ عدي بن حاتم: أحلوا لهم الحرام فاتبعوهم، وهكذا يحدث. وإذا أردت أن تعلم عظم جريمة الربا فتأمل هذه القصة: جاء رجل إلى الإمام مالك بن أنس رحمه الله، قال: يا أبا عبد الله! إني رأيت رجلاً سكران يتعاقر، قد بلغ السكر أوجه، يريد أن يأخذ القمر -سكران يقفز ليأخذ القمر- فقلت: امرأتي طالق إن كان يدخل جوف ابن آدم أشد من الخمر، فما حكم امرأتي الآن؟ فقال له الإمام مالك: ارجع حتى أنظر في مسألتك، فأتاه من الغد، فقال: ارجع حتى أنظر في مسألتك، مسألة طلاق المرأة أو بقائها ليست سهلة، فأتاه من الغد، فقال: ارجع حتى أنظر في مسألتك، فلما أتاه قال له: امرأتك طالق، إني تصفحت كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فلم أر شيئاً شراً من الربا؛ لأن الله أذن فيه بالحرب ولم يحارب أحداً آخر، فالخمر ضرره على الشارب في الغالب، والزنا ضرره على الزاني والزانية في الغالب، أما الربا فليس ضرره على فرد ولا فردين ولا دولة ولا دولتين، بل أضراره على أمم تتحطم بهذا الربا، ذلك لتعلموا حكمة الله في تحريم الربا، فهذا الدين عظيم وليس دين لهو ولا لعب. وكذلك فإن مما يؤسف له أنني قرأت خبراً في جريدة خارجية، ليست خارجية عن البلاد فقط ولكن خارجية عن الإسلام أيضاً، يرد فيها كاتب على الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله، في أي شيء؟ في قضية تحريم الربا، يقول: قال ابن باز حتى كلمة توقير واحترام واحدة لم ترد، ما هو المأخذ؟ يقول: أنت يا بن باز لو حرمت العمل في البنوك، معناه أن البنوك سيعمل فيها الكفار؛ لأن المسلمين سيتركون البنوك حسب الفتوى، فإذاً نسلم البنوك للكفار، انظر إلى هذه الشبهة. نقول أيها الإخوة باختصار شديد رداً على الشبهة: لو كان هناك مصنع خمر في بلد من بلدان المسلمين، قلنا: يا أيها المسلمون العاملون في هذا المصنع! حرام عليكم العمل في مصنع الخمر، يجب أن تتركوا وظائفكم فيه، هل سيأتي عاقل ويقول: لا، أصلاً إذا ترك المسلمون هذا المصنع معناه عمل فيه الكفار وسلمنا مصنع الخمر للكفار؟! لو كان هناك بلد دعارة يشتغل في المسلمون قلنا لهم: يا أيها المسلمون حرام عليكم أن تعملوا في هذا المكان، رواتبكم سحت، هل سيأتي قائل وعاقل يقول: لكن لو ترك المسلمون بيت الدعارة سيستلمه الكفار، هل هذا عقل؟! فانظروا أيها الإخوة كيف يفعل هؤلاء، ثم إن كثيراً منهم يبتغون الشهرة بكلامهم هذا، يأتي واحد مغمور لا يساوي الوسخ الموجود تحت الأظافر، فيرد على عالم جليل في فتوى صحيحة لا غبار عليها ليشتهر فيقال: فلان رد على الشيخ فلان، هؤلاء مثل الأعرابي الذي جاء وبال في ماء زمزم، فقام الناس عليه: لماذا تبولت في ماء زمزم؟! قال: أحببت أن أُشتهر بين الناس حتى لو باللعنات المهم أن يُشتهر، وهذا دأبهم. ونقول لهذا الخبيث: اطمئن ولتقر عينك قراراً لا حركة بعده بإذن الله، أنه سيبقى هناك من الفسقة والعصاة من المسلمين من سيعملون في بيوت الربا، حتى لو صدرت الفتاوى بتحريم أعمالهم، فاطمئن ونم قرير العين، فإن مخاوفك لن تتحقق.

أهل الربا في القبور

أهل الربا في القبور ختاماً فإننا نقول أيها الإخوة: إن علماء الأمة الثقات آراؤهم واضحة، وفتوى هيئة كبار العلماء في المملكة صريحة والحمد لله في تحريم الربا، وفوائد شهادات الاستثمار وصناديق التوفير، وغيرها من المشاريع الكاذبة الخاطئة في البنوك، والحمد لله أنه ما زال لدينا من أهل الفتوى من يوثق بدينهم ولا يشترون بعهد الله ثمناً قليلاً. ذكر ابن حجر الهيتمي في مقدمة كتابه الزواجر عن اقتراف الكبائر قال: كنت وأنا صغير أتعاهد قبر والدي، فخرجت يوماً بعد صلاة الصبح بغلس في رمضان، فلما جلست عند قبره ولم يكن بالمقبرة أحد غيري، إذ أنا أسمع التأوه العظيم والأنين الفظيع بآه آه آه وهكذا، بصوت أزعجني من قبر مبني بالنورة والجص وله بياض عظيم، فاستمعت صوت ذلك العذاب من داخله وذلك الرجل يتأوه تأوهاً عظيماً، يقلق سماعه القلب ويفزعه، فاستمعت إليه زمناً، فلما وقع الإسفار -أسفر الفجر خفي حسه- فمر بي إنسان فقلت: قبر من هذا؟ قال: هذا قبر فلان، لرجل أدركته وأنا صغير، وكان على غاية من ملازمة المسجد والصلوات في أوقاتها والصمت عن الكلام، وهذا كله شاهدته وعرفته، فكبر علي الأمر جداً لما أعلمه من أحوال الخير التي كان ذلك الرجل متلبساً بها في الظاهر، فسألت واستقصيت الذين يطلعون على حقيقة أحواله، فأخبروني أنه كان يأكل الربا؛ فأوقعه ذلك في العذاب الأليم. وذكر الشيخ محمد بن أحمد السفاريني رحمه الله في كتابه المسمى بـ البحور الزاخرة في علوم الآخرة قال: أخبرني بعض إخواني وهو عندي غير متهم -صادق- أن رجلاً من بلدهم ماتت زوجته، وكانت تتعاطى الربا، فلما كان وقت العشاء، سمع زوجها صريخاً من داخل القبر، وكان جالساً في باب داره، فلما سمعها أخذه الغضب والغيرة من أجلها، وكان ذا شدة وبأس، فأخذ سلاحه وذهب إلى عند قبرها، فوقف عليه وقال لها: لا تخافي، فأنا عندك، زعماً منه أنه سينقذها مما هي فيه لشدة عتوه وجهله، وتناول حجراً من القبر. قال: فما رفع رأسه حتى ضربه ضربة أبطلت حركته، وأرخت مفاصله وأدلع لسانه، فرجع على حالة قبيحة وهيئة فضيحة، قال: فوالله لقد رأيته وقد رض حنكه وبصاقه ينزل على صدره قال: وهذا خبر استفاض عند أهل البلدة عندنا. النقل قرآن وسنة، وأقوال الصحابة والتابعين، والعلماء الثقات، وما شهد به الثقات في الواقع، ماذا تريدون أكثر من ذلك أيها الإخوة؟ اللهم أغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، اللهم احم بلدنا هذا من الحرام والربا، اللهم واجعل رزق هذا البلد وفيراً يا رب العالمين، اللهم واجعل الطمأنينة والسكينة فيه وفي سائر بلاد المسلمين، اللهم باعد بين المسلمين وبين أكل الربا، اللهم طهر أموالنا من الربا والحرام واجعلها حلالاً يا أرحم الراحمين.

السامري دروس لأهل التربية

السامري دروس لأهل التربية لقد وردت قصة العجل في القرآن الكريم في أكثر من سورة، وقد عاش موسى حياتين وتاريخين، عاش مع فرعون حتى أهلكه الله، ثم جاهد مع بني إسرائيل حتى أضلهم الله في الصحراء، وهذه القصة فيها الكثير من الدروس والوقفات لأهل التربية.

قصة موسى مع قومه

قصة موسى مع قومه الحمد لله الذي هدانا إلى الإسلام دين الله القويم، ومَّن علينا بإرسال أفضل الأنبياء والمرسلين بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة وداعياً إلى الله بإذنه، فتركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. إخواني: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: لقد وردت قصة العجل في القرآن الكريم في سورة البقرة، وسورة الأعراف، وسورة طه، وموسى عليه السلام من أولي العزم من الرسل، وهو ثالث أفضل رسول في البشرية بعد محمد صلى الله عليه وسلم وإبراهيم، وقد عاش موسى حياتين وتاريخين، كان كل نبي يعيش مع قومه حتى يهلكهم الله وينجو بمن ينجو من أهل الاتباع والإسلام، لكن موسى عليه السلام عاش حياتين؛ عاش مع فرعون حتى أهلكه الله، ثم جاهد مع بني إسرائيل حتى أضلهم الله في الصحراء، ومات موسى وبني إسرائيل في التيه.

إغراق فرعون وجنده

إغراق فرعون وجنده لقد عانا موسى عليه السلام معاناة شديدة جداًَ، وصبر وكان ذا شخصية عظيمة، وجاهد في سبيل الله وقدم أشياء كثيرة، وهيأه الله سبحانه وتعالى واصطنعه لأجل القيام بهذا الدور العظيم في جهاد فرعون وقومه ثم في قيادة بني إسرائيل، وجاهد موسى عليه السلام وقال كلمة الحق عند الملك الظالم الذي ادعى الربوبية والألوهية، وخلص ببني إسرائيل إلى البحر وأتبعه فرعون بجنوده، فلما نظر بنو إسرائيل وراءهم فرعون وجنوده، قال أصحاب موسى: إنا لمدركون لا محالة، وسيقضى علينا، ولكن موسى عليه السلام قال: كلا. لا يمكن أن يحصل ذلك ولو كانوا وراءنا بمسافة بسيطة: {قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62] وأوحى الله إلى موسى فضرب بعصاه البحر {فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء:63]، كان جبلاً كبيراً عن اليمين والشمال وفي الوسط درب أيبسه الله؛ لأن قاع البحر طين لكن الله أيبسه، وأمره أن يسلك في البحر يبساً لا يخاف دركاً ولا يخشى، ودخل موسى ومن معه في هذا الطريق، وعبروا إلى الجانب الآخر، ولما وصل فرعون وجنوده إلى المكان فوجئوا بهذه القضية، فضرب فرعون فرسه ومشى وتشجع وأظهر الجلد، ومشى في ذلك الطريق، ولما استكمل دخول فرعون وجنوده في هذا الدرب أطبق الله عليهم البحر، فعاد كما كان {فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} فصار الماء فوقهم بمسافة، فأعلاهم وأغرقهم وقضى الله على ذلك الطاغية وجنوده جميعاً. عبر موسى البحر ومعه بنو إسرائيل الذين نجاهم الله وامتن عليهم بأن نجاهم من فرعون وجنوده.

السامري وتشكيله للعجل وافتتان بني إسرائيل به

السامري وتشكيله للعجل وافتتان بني إسرائيل به ثم إن الله سبحانه وتعالى واعد موسى عليه السلام، كما قال سبحانه: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} [طه:80] لما نجاهم من عدوهم فرعون وأقر أعينهم منه، واعد الله سبحانه وتعالى موسى عليه السلام وبني إسرائيل على جانب الطود الأيمن عند الجانب الأيمن من الطور، ولكن موسى عليه السلام استبق قومه للقاء الله سبحانه وتعالى، وسأله ربه عم أعجله؟ فقال: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:84] لتزداد عني رضاً، ولما سأله ربه: لماذا سبق قومه؟ قال: {هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي} [طه:84] قادمون سينزلون قريباًً من الطور، فأوحى الله سبحانه وتعالى إليه أنه قد فتن قومه بعبادة العجل في أثناء غيابه، قال الله سبحانه وتعالى في سورة الأعراف: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ} [الأعراف:148] كان بنو إسرائيل قد استعاروا من القبط -وهم سكان مصر الفرعونيين- استعاروا منهم حلياً ولما هرب بنو إسرائيل أخذوا معهم الحلي؛ لأن هذه أموال محاربين فهي جائزة للمسلمين أخذوها معهم وعبروا بها، وكان هناك رجل، قيل: إنه ليس من قوم موسى ولكنه من طائفة تعبد البقر، يقال له: السامري دخل معهم، ولما ألقى بنو إسرائيل هذا الذهب في الحفرة تحرجاً منه، وقالوا: كيف نأخذه معنا وهي أموال مسروقة، لما وضعوها في الحفرة كان السامري قد رأى أثر فرس جبريل فأخذ منه قبضة من وطأة الفرس على التراب، فألقاها في الحفرة التي فيها الذهب؛ فشكل لهم منه عجلاً من الحلي، ثم ألقى هذه القبضة من التراب من أثر فرس جبريل، فصار العجل له صوت -وهو الخوار: صوت البقر- قال الله: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ} [الأعراف:148] فوبخهم ربهم، قال: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ} [الأعراف:148]. وأخبر الله سبحانه وتعالى موسى أنه قد فتن من بعده وأضلهم السامري، قال بعض المفسرين: إن هذا العجل من لحم ودم، وقال بعضهم: إنه لم يزل على طبيعته الذهبية إلا أنه يدخل فيه الهواء ويخرج؛ فيكون له صوت كصوت البقر فافتتنوا به أيما افتتان، وقالوا لبعضهم: {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} [طه:88] وبخهم الله على ذلك (وحبك الشيء يعمي ويصم) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأبو داود، لما افتتنوا به أحبوه وتغلغل فيهم، فلم يكونوا على استعداد لتركه.

عتاب موسى لهارون عليه السلام

عتاب موسى لهارون عليه السلام اختصرت القصة في سورة الأعراف، فقال الله تعالى: {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:149] فاعترفوا بالذنب بعدما تبين لهم {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً} [الأعراف:150]، والأسف: هو أشد الغضب، قال موبخاً لهم: {بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي} [الأعراف:150] بئسما صنعتم في عبادتكم العجل بعد أن تركتكم: {أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ} [الأعراف:150] استعجلتم مجيئي إليكم وهو مقدر من الله سبحانه وتعالى، وألقى الألواح التي أعطاه الله إياها وأنزلها في جبل الطور أعطاه الله التوراة مكتوبة في الألواح، فلما رأى موسى ما حلَّ بقومه ألقى الألواح غضباً على قومه وليس إهانة للألواح، وهذا قول الجمهور من أهل العلم {وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} [الأعراف:150] لأنه كان قد استخلفه على قومه خوفاً من أن يكون قد قصر في أمرهم ونهيهم، ولكن أخاه توسل إليه قائلاً: {قَالَ ابْنَ أُمَّ} [الأعراف:150] يا بن أم! أنا وإياك من بطن واحد: {لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي} [طه:94] ولا تشدني شداً {إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي} [الأعراف:150] أنا لست قوياً مثلك، فالقوم استضعفوني وما أعاروني اهتماماً ولا سمعوا كلامي {وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي} [الأعراف:150] وصل الأمر بهم إلى مقاربة قتل هارون، وبنو إسرائيل معروفون بقتل الأنبياء، {فَلا تُشْمِتْ بِي الأَعْدَاءَ} [الأعراف:150] توبخني أمام الناس وتجرني أمامهم، {فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأعراف:150] تخلفني معهم وتسوقني مساقهم، وقال له: ابن أمَّ لتكون أرأف وأنجع عنده، مع أنه شقيقه من أبيه وأمه، لكن عندما ناداه بالأمومة لأجل أن يكون هناك عاطفة -يستجر العاطفة من موسى عليه السلام- وقد ذكر ابن كثير رحمه الله هذه النقطة في كتابه العظيم البداية والنهاية وفي التفسير، قال: ترقق له بذكر الأم مع أنه شقيقه لأبويه؛ لأن ذكر الأم هنا أرق وأبلغ -أي: في الحلول والعقل- لما تحقق موسى عليه السلام من براءة ساحة هارون، وأخبره هارون بما صنع في غيابه من مجاهدة هؤلاء القوم، قال موسى عليه السلام: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأعراف:151]، ثم قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ * وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} [الأعراف:152 - 154] وابتدأ في السير مع بني إسرائيل من جديد، والصحيح أن الألواح لم تتكسر إنما مجرد الإلقاء، ثم جمعها موسى مرة أخرى وأخذها ليقود بني إسرائيل بمقتضاها. وجاءت هذه القصة -أيضاً- في سورة طه بتفصيل أوسع، فقال الله سبحانه وتعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى * كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [طه:80 - 81]، ثم إن الله سبحانه وتعالى قال لموسى: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى * قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمْ السَّامِرِيُّ * فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً} [طه:83 - 86] أي: حزيناً شديد الغضب على ما صنع قومه من بعده، وخبر الله لموسى صدق أنه قد يُفتن القوم في غيابه فرجع إليهم، فقال لهم: {أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً} [طه:86] أنجاكم من عدوكم وأنعم عليكم وأكرمكم، {أَفَطَالَ عَلَيْكُمْ الْعَهْدُ} [طه:86] في انتظار ما وعدكم الله {أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [طه:86] "أم" هنا بمعنى: بل، أي: بل أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم {فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي} [طه:86] لما وبخهم على عبادة العجل، فإنهم اعتذروا بعذر فارغ سخيف غير مقبول على الإطلاق، وهو قولهم: {مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا} [طه:87] ملكنا، أي: قدرتنا واستطاعتنا واختيارنا، كأنهم مكرهين على ذلك ليس لهم إرادة، وأخبروه أن المسألة تورع منهم عن الذهب الذي كانوا قد أخذوه من الفرعونيين وحلي الفضة التي استعاروها منهم عند خروجهم من مصر، فقذفناها وألقيناها عنا، {فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ * فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ} [طه:87 - 88] صنعه لهم، ((فَقَالُوا} الضلال منهم: {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} [طه:88] فنسي، قيل: فيها ثلاثة أقوال: الأول: أن موسى نسي ربه هاهنا، وذهب يطلبه عند الجبل، والعياذ بالله. الثاني: نسي موسى أن يذكر لكم أن هذا إلهكم. الثالث: أن الذي نسي هو السامري أي: ترك ما كان عليه من الإسلام ورجع إلى ما كان عليه قومه من عبادة البقر. السامري الذي صنع لهم العجل وفتنهم به لا تزال طريقته موجودة إلى الآن، وهناك طائفة من اليهود عباد العجل يعلقون في رقابهم بقرة صغيرة، يمكن أن يراهم الشخص وهم يعلقون في رقابهم سلسلة فيها عجل أو بقرة صغيرة، وقيل: إنهم لازالوا يقولون عبارة: لا مساس، ويرددونها في ترانيمهم أو أذكارهم التي يزعمون أنهم يعودون بها، قال الله سبحانه وتعالى: {أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً} [طه:89] هذا العجل لا يجيبهم إذا سألوه، ولا يرد عليهم إذا خاطبوه، ولا يملك لهم نفعاً ولا ضراً في دنياهم ولا في أخراهم، فحاصل ما اعتذر به هؤلاء الجهلة أنهم تورعوا عن زينة الكفر، فتورعوا عن الحقير وفعلوا الأمر الكبير مع أنه جائز لهم؛ لأن هذه من أموال المحاربين أخذوها منهم، وقد أثبت الله تعالى أن هارون في غيبة موسى كان حريصاً عليهم، وأنه كان مقاوماً للشرك فيهم، ولذلك قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ} [طه:90] البيان لم يحصل من موسى فقط بل حصل من قبل من هارون، فقال: هذه فتنة لكم، وإن ربكم الرحمن وليس هذا العجل، {وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي} [طه:90] فيما آمركم به وأنهاكم، {وَأَطِيعُوا أَمْرِي} [طه:90] ولكن هؤلاء الشرذمة أصروا على عبادة العجل، وقالوا: {لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ} [طه:91] وكانوا هم الأغلبية، ثبت مع هارون أناس لكن ما استطاعوا أمام هذا الطوفان من الأشخاص الذين يريدون عبادة العجل أن يغلبوهم، بل إن الطائفة الأخرى هي التي غلبت حتى كادوا أن يقتلوا هارون عليه السلام، {قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} [طه:91] نحن نسمع كلام موسى فقط، كلامك عندنا غير مقبول ولا نأخذ به، وسنبقى على عبادة العجل حتى نرى موسى ماذا يقول، وحاربوا هارون وكادوا أن يقتلوه. توجه موسى عليه السلام إلى أخيه هارون بالخطاب: {قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلاَّ تَتَّبِعَنِي أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه:92 - 93] وأخذ برأس أخيه يجره إليه كما حصل وتقدم في سورة الأعراف، وشرع يلوم أخاه هارون: لماذا لم تخبرني بهذا الأمر أول ما حصل؟ لماذا لم تتبع آثاري وتأتي إلي وتخبرني بما حصل؟ {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه:93]؛ لأن موسى قال لأخيه: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف:142] هذه وصيته لأخيه هارون قبل أن يفارقه، قال: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف:142]، فلما عاتبه قال: أفعصيت أمري الذي كنت أمرتك به؟ قال: {يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طه:94] كانت لحية هارون وافرة، وهذا رد على الذين يحلقون اللحى، ويقولون: حلق اللحية من سنن المرسلين، وهارون كانت لحيته وافرة، ولذلك استطاع موسى أن يأخذه منها وأن يقبض عليها {لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي} [طه:94] وأنها أقل ما فيها أنها قبضة يمكن أن تقبض. قال هارون مجيباً عن السبب: لماذا لم يتركهم ويلحق بموسى، ويقول: حصل كذا وكذا الحق بالقوم؟ قال هارون: {إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ} [طه:94] إذا لحقت بك لأخبرك عما حصل، كنت أخشى أن تقول لي: {فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْر

النقاش الذي دار بين موسى والسامري

النقاش الذي دار بين موسى والسامري قال موسى وهو ملتفت إلى السامري: {فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ} [طه:95] انتقل الحساب إلى السامري، كان موسى ينتقد بسرعة وبحزم للقضاء على هذه الفتنة، {قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ} [طه:95] ما حملك على ما صنعت؟ {قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ} [طه:96] رأيت شيئاً لم يره القوم، رأيت جبريل حين جاء لهلاك فرعون على فرسه {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ} [طه:96] من أثر الفرس، وهذا هو المشهور عند كثير من المفسرين أو أكثرهم كما يقول ابن كثير رحمه الله: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ} [طه:96] من تحت حافر فرس جبريل، والقبضة ملء الكف، فأخذتها وخبأتها عندي، والشيطان يسول للسامري ويخطط له ويلهمه الأشياء، وألقى الشيطان في روع السامري أنك إذا ألقيت القبضة على هذا الحلي بعدما تصنعه عجلاً سيكون له صوت ويفتن به القوم، فألقى هذه القبضة عليه، وكان عجلاً له خوار، قال: {فَنَبَذْتُهَا} [طه:96] أي: ألقيتها؛ لأن بني إسرائيل جمعوا الحلي وجعلوا يلقونه في الحفرة، فجاء هذا وألقى معهم، {وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} [طه:96] أي: حسنت نفسي هذا الشيء وأعجبها، قال موسى للسامري: {فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ} [طه:97] كما أخذت ومسست ما لم يكن أخذته من أثر الرسول لتفتن به الخلق، فعقوبتك من جنس عملك {أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ} [طه:97] لا تمس الناس ولا يمسونك فتكون مقبوحاً منبوذاً طريداً، لا أحد يريدك ولا تستطيع أنت أن تقترب من أحد {وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً} يوم القيامة {لَنْ تُخْلَفَهُ} ولن تغيب عنه {وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ} ومعهودك هذا الذي فتنت به الناس ((الَّذِي ظَلَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً)) ومقيماً على عبادته {لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً} [طه:97] حرقه في النار إذا كان من لحم ودم، أو برده بالمبارد إذا كان من ذهب حتى صار ذرات، ثم أذرى الرماد هذا أو الذرات في هواء في البحر ليفرقه الهواء في ماء البحر فيتلاشى تماماً {ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً} [طه:97]، ثم قال موسى عليه السلام لقومه: {إِنَّمَا إِلَهُكُمْ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} [طه:98]. وقد جاء تفصيل لهذه القصة في حديث الفتون الذي رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، لكن الراجح أن هذا الحديث من الإسرائيليات، فلذلك نبقى على ما جاء في الكتاب العزيز.

عقوبة عبدة العجل

عقوبة عبدة العجل هذه عقوبة السامري، فما هي عقوبة الذين عبدوا العجل؟ وما هي عقوبة الذين سكتوا؟ وما هي عقوبة الذين لم ينكروا المنكر؟ قال الله سبحانه وتعالى في سورة البقرة: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمْ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} [البقرة:51] لما عبدتم العجل بعد ذهاب موسى لميقات ربه عند انقضاء أمد المواعدة، وكانت أربعين يوماً وهي المذكورة في الأعراف: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} [الأعراف:142] بعد خلاصهم من قوم فرعون ونجاتهم من البحر، أنزل الله عليه التوراة، وهذا -أيضاً- بعد خروجهم من البحر، واتخذوا العجل، فماذا قال موسى لقومه عن قضية توبتهم من عبادة العجل؟ {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمْ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [البقرة:54] هذه هي الطريقة الوحيدة للتوبة من عبادة العجل، حين وقع في قلوبهم عبادة العجل والشرك والكفر بالله يقولون: الله هو هذا العجل، ما أسفه عقولهم! قال تعالى: {فلمَا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا} [الأعراف:149] فعند ذلك قال موسى: {يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ} [البقرة:54] الذي خلقكم؛ لعظم جرمكم {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة:54] لا بد أن تقتلوا أنفسكم، لا بد أن يقتل بعضكم بعضاً، وفي هذا وردت عدة آثار عن السلف رحمهم الله تعالى، فمما ورد عن ابن عباس قال: إن توبتهم أن يقتل كل رجل منهم كلما لقي من ولد ووالد فيقتله بالسيف، ولا يبالي من قتل في ذلك الموطن. وكذلك جاء أنهم أخذوا الخناجر بأيديهم وأصابتهم ظلة شديدة، أي: أظلم الجو في ظلة أرسلها الله حتى لا يرى بعضهم البعض عند القتل، فجعل يقتل بعضهم بعضاً، فانجلت الظلة عن سبعين ألف قتيل، وتاب الله على القاتل والمقتول؛ لأن القتل كان هو التوبة، كل شخص يرفع السيف على الآخرين ويقتل من يلقى، بهذه الظلة أو بهذه الظلمة لم يعد أحد يرى من أمامه فيقتل من يلقاه من ولد ووالد وقريب وصاحب، لا يدري من أمامه فيقتله، فجعل بعضهم يقتل بعضاً، وربما قتل الولد أباه، وربما قتل الأب ولده أو عمه وخاله وهكذا. وقال بعض السلف: قام بعضهم إلى بعض بالخناجر فقتل بعضهم بعضاً، لا يحنو رجل على قريب ولا بعيد، حتى أوقف الله ذلك بأمر منه، فانكشف عن سبعين ألف قتيل. وقال قتادة: أمر القوم بشديد من الأمر فقاموا يتناحرون بالشفار، يقتل بعضهم بعضاً، حتى بلغ الله فيهم نقمته، فأمسك عنهم القتل فجعله لحيهم توبة، ولمقتولهم شهادة. وقال الحسن البصري: أصابتهم ظلمة الحندس؛ أي: الحديدة، فقتل بعضهم بعضاً، ثم انكشف عنهم فجعل توبتهم في ذلك. وجاء -أيضاً- في كلام بعض السلف: كل من قتل منهم كانت له توبة، وكل من بقي كانت له توبة. فقال الله سبحانه وتعالى: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:54]. أصاب موسى الحزن على قومه، لكن الله عز وجل أخبره أنه تاب عليهم، وأن المقتول شهيد، والباقي تاب الله عليهم. فانتقلوا بعد ذلك إلى المرحلة التي تليها في قصة موسى مع بني إسرائيل. هذه خلاصة قصة العجل، وكيف انتهت هذه النهاية المأساوية التي كان يجب عليهم للتوبة أن يقتل بعضهم بعضاً، حتى كاد بعضهم أن يفني بعضاً.

من قصة السامري

من قصة السامري وعند هذه القصة العظيمة التي أخبرنا الله عز وجل عنها لنا وقفات نقفها، ودروس نأخذها:

أثر الاستعباد على النفوس

أثر الاستعباد على النفوس هؤلاء القوم -بنو إسرائيل- ألفوا الاستعباد الطويل استعبدهم فرعون سنين طويلة جداً، ومع هذا الاستعباد والذل الطويل في ظل الفرعونية الطويلة فسدت طبيعة القوم وهذا شيء متوقع، وصار في كيانهم النفسي خلخلة، والاستعداد للانقياد لكل ناعق، فما كاد موسى يترك قومه ويبتعد عنهم قليلاً حتى تخلخلت عقيدتهم، وانهارت أمام أول اختبار، إنهم لما عبروا البحر وجدوا أناساً عاكفين على أصنامٍ لهم: {قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:138] الآن أنجاكم الله قبل قليل الآن النعمة عليكم واضحة جداً، تقولون: اجعل لنا آلهة كما لهم آلهة! ما رأيتم بأعينكم صنيع الله وفضله عليكم حتى تطلبوا أن يجعل لكم آلهة، فما أعجب التواء تلك النفوس! فما من عجب أن الله يضرب عليهم الذل والضعف، وأن يغلبهم الناس ويقهروهم ويستحقرونهم إلى قيام الساعة إلا فترات يسيرة جداً في التاريخ، منها: الفترة التي نعيشها الآن التي بلغت الذروة في تسلط اليهود، وإلا فاليهود على مر التاريخ محقورين منبوذين حتى إذا أراد الواحد أن يسب واحداً قال: يا يهودي. فطبيعة بني إسرائيل ما كانت تستقيم وإنما تلتوي دائماً، وما كان موسى عليه السلام ينتهي من محنة معهم إلا ويدخل في محنة جديدة، ولذلك عندما نعدد الانحرافات التي أصابتهم: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:138] وعبدوا العجل، قالوا: المن والسلوى لا نريده، نريد بصلاً وثوماً وقثاء، حتى في الأكل مزاجهم منحرف، شخص يترك المن والسلوى ويقول: أعطنا ثوماً وبصلاً وقثاء -كراث-؟! ثم بعد ذلك يقولون: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة:55] وبعد ذلك قيل لهم: ادخلوا الأرض المقدسة، فقالوا: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24] {إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا} [المائدة:22] ثم ما أشد وقاحتهم حينما قالوا: لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24] نحن ننتظر الفتح إذا فتحتوها ادعونا لدخولها. وقد نتق الله الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم، يرون الآيات تلو الأخرى وليست هناك فائدة، وفي النهاية لما امتنعوا عن دخول القرية، حكم الله سبحانه وتعالى عليهم بالتيه في صحراء سيناء أربعين سنة يخرجون من الصباح للبحث عن منفذ ولا يأتي عليهم المغرب إلا ويجدون أنفسهم في نفس المكان الذي ذهبوا منه في الصباح، ومات موسى وفي نفسه أشياء على بني إسرائيل، مات موسى وبنو إسرائيل في التيه {مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ} [المائدة:26] وسأل موسى ربه أن يدفن في الأرض المقدسة، فجعله الله يقبض هناك ويموت في الأرض التي كان يتمنى أن يدخلها مع بني إسرائيل. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو شئتم لأريتكم قبره عند الكثيب الأحمر) في داخل أرض فلسطين. ومن هذه القصة نأخذ عدداً من الفوائد: منها: هذه الطبيعة الملتوية لبني إسرائيل. ومنها: كيف أن هذا النبي الكريم صابر وجاهد بهذه النفوس الملتوية، وأراهم الله آيات ومعجزات على يديه ومع ذلك ما استجابوا ولا انقادوا، كان فيهم صلحاءً كان فيهم قوم مستقيمون كان فيهم أناس رفضوا عبادة العجل مع هارون لكن ليس هم الأكثرية وإنما هم الأقلية، وحتى الصفوة الذين أخذهم لميقات لقاء الله قالوا: {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء:153] طلبوا رؤية الله سبحانه وتعالى. من الدروس التي نأخذها من هذه القصة العظيمة: أن الاستعباد يخرب النفوس، ويجعلها تنقاد بسهولة لأي مخرف وناعق، والاستعباد من أشنع الأشياء استعباد الشعوب وتربية الناس تربية العبيد، ولا شك أن هذا النوع من التربية يجعل الناس أذلاء صاغرين خائفين، يمكن أن يضحك عليهم أي إنسان ويقودهم، ولذلك ترى الناس أحياناً رعاع همج إلا من رحم الله، يتبعون كل ناعق، لو جاء أحد فنعق بهم يميناً أو شمالاً ذهبوا معه، هذه نتيجة تربية الناس تربية العبيد وليس تربية الأحرار، هذه نتيجة الإذلال والكبت والضغط، ونتيجة التخويف، والتجويع؛ وهذه الأشياء يمارسها الطواغيت مع الناس لتركيعهم وإذلالهم، فإذا فقه دعاة الله بهذه النقطة عرفوا كيف يربون الناس تربية القادة وتربية الأحرار لا تربية العبيد، كان ذلك من أسباب نقلهم من عالم الضلال إلى عالم الهدى، ومن عالم الكفر إلى عالم الإيمان، ومن عالم الذل إلى عالم الحرية، ولذلك لما ذهب ربعي يخاطب رستم: [إن الله ابتعث هذا النبي لينقذنا به من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام].

كيف واجه موسى قومه بعد اتخاذهم العجل

كيف واجه موسى قومه بعد اتخاذهم العجل ومن الفوائد -أيضاً- المهمة في هذه القصة: كيف واجه موسى عليه السلام هذا الموقف العظيم؟ أولاً: غضب لله عز وجل، وبلغ من غضبه أنه لم يتمالك نفسه، فألقى الألواح، ولو ألقى أحد الألواح إهانةً كفر، أما موسى فقد ألقاها غضباً لله، لم يتمالك نفسه عندما رأى ما حصل، وذهب يقرع قومه ويوبخهم: {أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ} [الأعراف:150] لماذا فعلتم هذا؟ ألا ترون أنه لا يكلمكم؟ ونزل توبيخاً في قومه، وهم يستحقون هذا التوبيخ بما فعلوا هذا الظلم، ثم إنه حاصر مصدر الفتنة مباشرة واتجه إلى السامري ليحقق معه، ثم إنه أخذ مصدر الفتنة وهو العجل، وحرقه ونسفه في اليم نسفاً؛ بحيث لا يعود أبداً كما كان، فكان تعامل موسى مع القضية تعاملاً عجيباً فيه حزم، وسرعة التحقيق مع قومه، ثم التحقيق مع السامري، ثم محاصرة السامري وجعله بمعزل عن الناس، هذا مبتدع هذا رأس بدعة أضل الناس ولا بد من جعله بمعزل عن الناس وهكذا لا بد أن يعامل المبتدع؛ يعزل ولا يكلم أحداً ولا يكلمه أحد، ولذلك قال بعض المبتدعة لـ أيوب رحمه الله: أريد أن أكلمك كلمة، قال: ولا نصف كلمة. يرفضون سماع البدع، الذين شقوا عصا طاعة النبي صلى الله عليه وسلم، والذين ابتدعوا في دين الله ما لم يأذن به. وينبغي على الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى إذا رأوا مبتدعاً من مثل الصوفية أو غيرهم أن يحاصروهم، ولا يجعلوا له مجالاً ليتنفس ولا لينفث سمومه في الناس، وهذا الشيء لا بد منه، وينبغي أن يدقق جيداً في هذه المسألة حتى لا تستغل من أعداء الإسلام فيرمون العلماء والصالحين بالبدع؛ لأن هذا سلاح ذو حدين، يمكن أن يستخدمه أعداء الله في رمي أهل الصلاح بالبدعة حتى ينفر عنهم الناس، ولذلك ينبغي أن يعرف من هو المبتدع؟ وما هي البدعة؟ وما هي أنواعها؟ والفرق بين البدعة المكفرة وغير المكفرة، والفرق بين المسائل الاجتهادية وما يجوز الاجتهاد فيه، وما لا يقبل فيه الكلام بين المسائل الخلافية الاجتهادية المقبولة والخلافية التي ليس فيها الاجتهاد مقبولاً، لا بد من الوعي بجميع هذه الأشياء حتى يعرف من هو المبتدع؟ فقد يكون الذي يرمي الناس بالبدعة هو المبتدع. وكذلك فإنه لا بد من عزل المسلمين عن أسباب الفتنة، كل شيء يثير فتنة بين المسلمين يعزل ويحاصر ويحذر منه، مصدر الفتنة في الدين، وكذلك لا يجوز تسمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فتنة بين الناس؛ لأن الفتنة هي ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمن قال عن آمر بالمعروف وناهٍ عن المنكر: إنه يفتن أو يبذر بذور الفتنة فهو المفتون، والآمر والناهي بمنزلة عند الله، (ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله) هذا أعظم الناس منزلة عند رب العالمين (أعظم الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله).

اتباع أصحاب الخوارق والفرق بين الكرامة والخارقة

اتباع أصحاب الخوارق والفرق بين الكرامة والخارقة كذلك من الدروس العظيمة: أنه ليس أي شخص أتى بأي خارقة من الخوارق اتبعناه لأنه خرق لنا العادة وأرانا شيئاً عجيباً ما رأينا مثله. من قواعد أهل السنة والجماعة في الفرق بين الكرامة والخارقة التي تكون للمشوعذ والساحر، وهي من الفروق الهامة بل هي أهم الفروق، لو قال لك أحد: كيف تفرق بين الساحر الذي يطير في الهواء ويمشي على الماء وبين عباد الله الصالحين الذين ربما مشى أحدهم على الماء، أو الغلام في قصة أصحاب الأخدود لما أرسله الملك مع جنوده إلى عرض البحر في سفينة في قارب، قالوا: إن رجع إلى دينه وإلا فألقوه، فدعا الغلام ربه وقال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فانقلبت السفينة فغرقوا كلهم إلا هو، وجاء يمشي إلى الملك أين مشى الغلام؟ على الماء، لم يغرق، جاء إلى الملك يمشي إذاً كيف نفرق بين شخص أعطاه الله كرامة بأن يمشي على الماء، وبين ساحر مشعوذ يسير على الماء أو يطير على الهواء؟ الفرق في حال الشخص؛ لا بد أن نبحث في حال الشخص، لو أخذ رجل كفاً من حصى فقبض يده عليها ثم فتحها فإذا بالحصى تتحول إلى ذهب، كيف نعرف هل هذا تقي وهذه كرامة أعطاه الله إياها فقلب الحصى في يده ذهباً، أو أنه مشعوذ دجال، الجن أو الشياطين هم الذين اشتركوا معه في هذه الفتنة، وجعلوا مكان الحصى ذهباً، أو أنهم سحروا أعين الناس فأصبحوا يرون الحصى ذهباً؟ الفرق في حال الشخص، فإذا كان الإنسان على منهج السلف، وعلى عقيدة أهل السنة والجماعة يقوم بأمر الله، طائع لله قائم بالواجبات مبتعد عن المحرمات، ملتزم بالدين، لا يقول: أنا ولي!

الحذر من شخصيات كشخصيات السامري

الحذر من شخصيات كشخصيات السامري وكذلك من الدروس المهمة في هذه القصة: الحذر من شخصيات كشخصيات السامري التي عندها قدرة على البهرجة بالقول، وخداع الناس، وصنع الأشياء التي تذهب القلوب وتحير الألباب، فهؤلاء الأشخاص لا بد من الحذر منهم، ومن عذوبة منطقهم وحلاوة ألسنتهم، أو دقة صنعتهم، فإن هناك كثيراً من يقوم بدور السامري بين المسلمين.

يجب على الداعية ألا يصاب بخيبة الأمل عندما يرى انتكاس من يدعو

يجب على الداعية ألا يصاب بخيبة الأمل عندما يرى انتكاس من يدعو ومن الدروس المهمة في هذه القصة: أن الداعية إلى الله سبحانه وتعالى يجب ألا يصاب بخيبة الأمل عندما يرى انتكاساً خطيراً قد حصل في قومه، ولو كان قد مشى معهم فترة طويلة، هب أنك دعوت شخصاً إلى الله، فاستجاب لك وتأثر ومشى معك، وأعطاك القيادة، فجعلت تعلمه وتذهب وتجيء معه، وتذهب من خطبة إلى درس إلى موعظة إلى حلقة علم إلى مجتمع، ثم ذهب عنك في إجازة من الإجازات وفوجئت بأنه وقع -مثلاً- في فاحشة والعياذ بالله، فهل يسقط في يدك وتقول: لم تعد هناك فائدة، بعد كل هذا التعب وقع في الفاحشة، أقول: لا أكمل معه المشوار، فنقول: لا. هذا موسى عليه السلام كم جاهد قومه لما وقعوا في الشرك الذي هو أكبر معصية على الإطلاق؟ التوحيد أعظم معروف في الدنيا والشرك أعظم منكر، لم يقل: هؤلاء لا فائدة منهم، أو قال: اللهم خذهم وزلزل بهم الأرض، وأسقط عليهم كسفاً من السماء وأرحنا منهم سنوات يجاهد فيهم ثم لا فائدة، يرجعون إلى الشرك بكل سهولة، خذهم أخذ عزيز مقتدر، لا. النبي عليه الصلاة والسلام أخبر عائشة، قال: (لقد لقيت من قومك ما لقيت) ومن أعظم ما لقي منهم: أنه خرج إلى الطائف يرجو فرجاً من أهل الطائف فطردوه، فهام على وجهه، لم يدرِ أين يسير، قال: (فلم أستفق إلا وأنا في قرن الثعالب) موضع قريب من مكة، فأرسل الله إليه ملك الجبال يقول له: (ما تأمرني به أنفذ -الله عز وجل أرسلني إليك أنتظر أمرك- إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين -أطبق عليهم الجبلين، لأن مكة بين جبلين عظيمين- قال: لا. إني لأرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله) فإذاً: الداعية لا ييئس مهما حصل من الانحراف في قومه أو في الشخص الذي يدعوه، هذا هو ما ينبغي أن يكون عليه الداعية، فلا بد من العودة للعلاج والعودة أن نبدأ من البداية فلا بد أن يوطن الداعية نفسه على المفاجآت، وألا ييئس مهما حصل.

التعلق بالمنهج لا بالشخص

التعلق بالمنهج لا بالشخص كذلك من الدروس: أنه يجب التأكيد على عدم التعلق بشخصية الداعية، وإنما يكون التعلق بمنهج الداعية، لو كان التعلق بشخصية الداعية فيعني أنه متى ما غاب الداعية عن المدعو فإن المدعو ينتكس؛ لأنه متعلق بشخصية الداعية، ينبغي أن نربط الناس بالمنهج لا بالأشخاص بالكتاب والسنة لا بزيد وعمرو نربط الناس بدين الله سبحانه وتعالى، حتى إذا غاب الداعية بقي المنهج موجوداً حياً في قلب المدعو، فيستمر على المنهج، ويستمر في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى والالتزام بهذا الدين، وهذه من الدروس البالغة الأهمية، وهذا الأمر قد يخطئ فيه عدد من الدعاة إلى الله عز وجل، يجعلون ارتباط الشخص بشخصيته هو، وأنه ينبغي أن يكون موجوداً دائماً، فلذلك إذا غاب فترة لأي ظرف تغيروا من بعده.

مراعاة أدنى المفسدتين

مراعاة أدنى المفسدتين ومن دروس هذه القصة: مراعاة أدنى المفسدتين، فبقاء هارون في قومه على الشرك الذي حصل معهم مفسدة، وخروجه من عندهم مفسدة أخرى، فالحل أنه يبقى مراعاة للمفسدة الأعظم ودرءاً لها فيبقى، كان بإمكانه أن يتخذ إجراءً حاسماً ويتركهم وشأنهم، ولا يبالي بما حصل، لكنه آثر أن يبقى بناءً على أوامر موسى، وبناءً على مواصلة الدور في الدعوة لعل الله أن يهديهم، يحاول فيهم حتى يرجع موسى، يبقى على الحق الأصلي حتى يرجع موسى، يبقى على توحيد الله عز وجل والدعوة إليه حتى يرجع موسى.

غياب المربي عمن يربيه والداعية عمن يدعو

غياب المربي عمن يربيه والداعية عمن يدعو وفي هذه القصة أيضاً: أنه لا بد للمربي ألا يغيب عمن يربيه، ولا ينبغي للداعية أن يغيب عمن يدعوهم، فإن الغياب في هذه الحالة يؤدي إلى وقوع القوم في الانتكاسات، ومهما حاول ألا يربطهم بشخصه لكن وجوده سيبقى مهماً؛ لأنه هو مصدر الخير والإشعاع بالنسبة لهؤلاء القوم، ولذلك يحرص الداعية والمربي ألا يغيب عمن هو معهم حتى لا يحصل لهم انتكاس وانحدار. من الدروس المتعلقة بهذه النقطة أيضاً: أنه لا بد أن يكون هناك بدائل، فإذا غاب عنهم لا بد أن يكون وراءه من يقوم بأمرهم، ولذلك موسى استخلف هارون، ومن أبسط الأشياء أن إمام المسجد لو غاب عن المسجد ينبغي أن يستخلف رجلاً ثقة يصلح للإمامة، أما أن يترك المسجد بلا إمام فهذا خطأ، وهذا يفعله بعض الأئمة في رمضان، وهذه من الأخطاء، يتركون مساجدهم ويذهبون عشرة أيام في نصف رمضان، من أول الشهر يصلي كم ليلة ويمشي ولم يضع مكانه ثقة يقوم بهم ويأمهم، فتحدث الفوضى في أوقات إقامة الصلوات، ويتقدم من ليس بأهل، والناس فيهم من قلة الفقه ما يجعل زعزعة الموقف في الصلاة وارد جداً، وربما صلوا ظهراً بدلاً من الجمعة قالوا: تأخر الخطيب، أو ما جاء الخطيب، اجلسوا لا يخطب أحد، فمن أبسط الأشياء: أن الثغرات التي يكون فيها الداعية إلى الله موجوداً لا ينبغي له أن يتركها، ولو تركها لا يطيل الغياب، ولو غاب لا بد أن يستخلف بدلاً منه من يقوم بدوره.

طريقة موسى في عتابه لهارون

طريقة موسى في عتابه لهارون ومن دروس هذه القصة أيضاً: طريقة موسى في عتابه لهارون عليه السلام، غضب موسى عليه السلام لكن كان غضبه، ما كان يغضب لشخصه أنه ما أعطي، لا. وإنما كان يغضب لله، لكن كان فيه شيء من الحدة، ولعل في شخصية عمر بن الخطاب مشابهة من شخصية موسى عليه السلام في بعض الجوانب، فموسى عاتب هارون بشدة لكن لما اعتذر هارون واسترحم موسى، قبل موسى عذره، وقال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي} [الأعراف:151] ولم يصر على وضع الخطأ كله على هارون، وقال: أنت السبب لا، شخصية هارون ليست كشخصية موسى، يمكن أن يستجيبوا لموسى لكن قد لا يستجيبون لهارون، وقوة الشخصية فضل يؤتيه الله من يشاء، فإذا أنعم الله به على شخص لا يلوم الآخر الذي هو أقل منه ويضع كل الخطأ عليه؛ لأنه قد يكون معذوراً، ويكون سبب الانحراف ليس منه إنما هناك أشياء أقوى، فقبل موسى عليه السلام اعتذار هارون، وكان اعتذار هارون مشوب بالعواطف وبالاسترحام، كان هارون رجلاً رحيماً رقيقاً رفيقاً؛ ولذلك فإنه آثر أن يجمع شمل القوم، وعندما رجع موسى مع إنكاره للشرك لم يكن موافقاً، ولذلك بعض الناس قد يقول: لماذا لا نحتج في هذه القصة على بقاء الشخص في الصف ولو كان فيه شرك؟ نقول: أبداً، ليس مقبول على الإطلاق، لا يمكن، فبعض الناس قد يبقى في صف فيه شرك ويتعلق بقصة هارون مع قومه مع الفوارق العظيمة. أولاً: هارون تبرأ من الشرك وواصل في دعوة قومه للعدول عن الشرك، فهل يفعله هذا ويعلن البراء من الشرك وأهل الشرك الموجودين في الصف؟ أم أنه يقول: أنشغل بأشياء أخرى وأدعهم وشركهم؟ إذاً: البراءة من الشرك وأهل الشرك واجبة. ثانياً: هل الباقي في هذا الصف منصبه مثل منصب هارون خليفة؟ أو أنه شخص عادي لا يؤبه له؟ على الأقل هارون كان يرفع راية التوحيد، فالثابتين على التوحيد معهم هارون حامل راية وحامل لواء الشرعية، وعنده أمل أن يعود من يعود من هؤلاء الضلال ويلتحقوا به، ثم هناك أمر من موسى -وموسى نبي- أن يبقى، فأين أمر الوحي بالنسبة لهذا الشخص؟ ثالثاً: هل هذا الشخص ينتظر شخصية مثل شخصية موسى لترجع بعد حين يسير وتعالج الأوضاع؟ رابعاً: هل يوجد جماعة لأهل الحق كما كان على عهد هارون يكون معهم أو أنه واحد في هذا الخضم؟ ولذلك لا يجوز البقاء في صف أهل الشرك مطلقاً، يجب على المسلم أن ينحاز لأهل التوحيد، ولا يبرر لنفسه البقاء في صف فيه شرك ويحتج بقصة هارون لهذه الفوارق التي بيناها.

الخلط بين المسئوليات والعاطفة

الخلط بين المسئوليات والعاطفة ومن دروس هذه القصة العظيمة: عدم الخلط بين المسئوليات والعاطفة عند المحاسبة، لم يقل موسى: هذا أخي فحصل خير لأنه أخي فلا أحاسبه، بل حاسبه حساباً شديداً، ودقق معه، وحاصره بالأسئلة، ولم تغلبه العاطفة، فينبغي في مسألة المحاسبة في موقع المسئولية محاسبة أهل المسئولية وعدم الخلط بين ما ينبغي أن يفعل هنا، وبين مسألة العواطف والقرابات والصحبة ونحو ذلك: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام:152]. وكذلك من دروس هذه القصة: بقاء السامري معذب، ليكون عبرة حتى لا يسول لأي أحد أن يعمل عملاً مثل هذا وهو يرى السامري منبوذاً مقبوحاً لا يقترب أحد منه. وكذلك: فإن في التعامل الأخوي بين موسى وهارون قدوة للآخرين، ومن الأشياء المهمة: أن الخلاف بين المربين ينبغي ألاَّ يخرج إلى الناس، الخلاف بين الدعاة لا ينبغي أن يخرج إلى الناس مادام أنه ضمن الدائرة الشرعية، أي: في مسائل الاجتهاد، اتبع القاعدة الشرعية العظيمة: لا إنكار في مسائل الاجتهاد، لا يشنع بعضهم على بعض في مسائل الاجتهاد، فمثلاً: هذا يرى أن النزول في الصلاة يكون على الركبتين وهذا يرى أنه على اليدين، لا مشاحاة ولا تعليق ولا لوم ولا توبيخ ولا إنكار في مباحثة علمية هذا يرى أن أهم ما يحتاجه المسلمون الجهاد فيعمل في حقل الجهاد، وهذا يرى أن أهم ما يحتاجه المسلمون العلم الشرعي فيعمل في حقل تعليم العلم الشرعي، وهذا يرى أن المسلمين بحاجة إلى إغاثة فهو يعمل في العمل الإغاثي، والأجواء كلها تكمل بعضها بعضاً، ولا داعي للإنكار ما دام الجميع على معتقد سليم ومنهج صحيح، فكل شخص يؤدي كل ما يستطيعه؛ لأن الثغرات المفتوحة على المسلمين كثيرة في جهل وهجوم من الأعداء، وفي فقر ومرض وموت، وفي منكرات، فيفرغ جهده لإنكار المنكر. إذاً: لا بد أن تتكامل الجهود مع المعتقد السليم العام لجميع الذين يسيرون ضمن دائرة أهل السنة والجماعة. أقول -أيها الإخوة- في مسألة النقد بين الإخوان: موسى عليه السلام انتقد هارون وحاسبه، وهارون كان يرجو من موسى ألا يشمت به الأعداء، فينبغي أن نفرق بين قضية المحاسبة والنقد، وبين قضية التخطئة العلنية التي يكون مبعثها التشهير والتشفي، والتخطئة العلنية أحياناً يكون لا بد منها؛ لإحقاق الحق ولبيان الحق، والنبي عليه الصلاة والسلام خطأ أشخاصاً، لكن متى تكون التخطئة سلبية ومتى تكون التخطئة علنية إيجابية؟ إذا كانت لإحقاق الحق وبيانه، وأنه لابد منه لبيان الحق فلا بأس أن نخطئ، مثال: لو أخطأ الإمام في الصلاة، هل تقول: لا أرد عليه حتى لا أفشله عند الجماعة أو أظهر أنه لا يحفظ، لا. بل ترد على الإمام، ولكن إذا كان مبعث التخطئة التشفي والتشهير، وليس بيان الحق، فهذه التخطئة حرام وهي مما توغر الصدور، فينبغي معرفة الفارق بين هذا وهذا. ثم إن من النقاط المهمة في هذه المسألة: قضية ستر جميع العيوب، المهم ألاَّ يظهر عيب للناس مهما حصل بحجة عدم نشر الغسيل، هذه المسألة غير صحيحة بإطلاقها، لكن الأخطاء التي لا يفهمها ولا يدركها العامة، لا تخطئ أمام العامة شيء على جنب ينبغي أن يكون هذا هو الأدب، والأشياء التي ليس من المصلحة إشهارها لا تشهر، لكن أن يرفض الإنسان أي نقد حتى يبقى في الظاهر للناس سليماً من أي نقد بأي صورة، فهذا -أيضاً- خطأ (كل بني آدم خطاء). وينبغي أن نفرق -أيضاً- بين الخطأ الذي يتعدى إلى الناس وبين خطأ الشخص في نفسه، لو كان الشخص يخطئ في نفسه نبهناه في نفسه، لكن لو كان خطأً متعدياً للناس لا بد أن نبين للناس ولو علموا أن فلاناً هو مصدر الخطأ، لو قام شخص وتكلم بكلام باطل على الناس، فقام شخص ورد عليه الرد الحق هذه تخطئة علنية، لكن لا بد منها؛ لأنه نشر خطأه على الناس، لكن لو أنه عمل منكراً بينه وبين نفسه هل يجوز التشهير به؟ هل يجوز أن يقوم شخص بين الناس ويقول: فلان فعل كذا، ما يخاف الله، ارتكب المنكر الفلاني، هذا لا يجوز، التشهير هنا حرام، كذلك ما ينصب من التخطئة على المناهج التي فيها أخطاء لا بد من البيان؛ لأن الناس قد يتبعون هذا النهج الخاطئ، فلا بد من بيانه، ويبقى لصاحب الفضل فضله وخطأه، ينبغي أن يعلم إذا كان منشوراً. ومن الفوائد كذلك في هذه القصة: عظم نعمة الله سبحانه وتعالى على هذه الأمة بأن جعل توبتها كلمات، وتوبة بني إسرائيل كانت القتل، الواحد مهما أجرم لو أشرك بالله يتوب إلى الله: (من حلف فقال في حلفه: باللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله) لو قال شخص لك: أنا أخطأت، وقلت: بذمتي بأمانتي برأس أولادي بحياة أبي وحياة أولادي ونحو ذلك، وشرفي وأمانتي، كيف أتوب؟ هذا حلف بغير الله: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) فلتقل له: إن كفارتها أن تقول: لا إله إلا الله (من حلف فقال في حلفه باللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله، ومن قال لصاحبه: تعال أقامرك، فليتصدق) على عادة الجاهلية تعال نتقامر. فتأمل في عظمة الله على هذه الأمة أن الإنسان لو وقع في الشرك كفارته أن يتوب إلى الله، والتوبة كلمات يستغفر الله ويوحد الله ولو شرك، لكن بني إسرائيل لما وقعوا في هذا الشرك كانت عقوبتهم القتل، لا توبة إلا بالقتل، ويمكن أن يقول بعض الناس: هذا شيء عظيم، لماذا أوجب عليهم هذه الطريقة الشنيعة في التوبة؟ نقول: لأنهم يستحقون ذلك لو نظر في التواءات القوم وانحرافاتهم وعرفها لرأى أنهم يستحقون ذلك، ثم إن فضل الله عليهم عظيم، فقد جعل المقتول شهيداً والحي تيب عليه.

ليس الخبر كالمعاينة

ليس الخبر كالمعاينة وكذلك من دروس هذه القصة أنه: (ليس الخبر كالمعاينة) وهذا حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، رواه أحمد والحاكم وغيرهما، عن ابن عباس مرفوعاً: أخبر الله موسى لما استلم الألواح أنه فتن قومه من بعده وأضلهم السامري، خبر الله صدق لا شك فيه؟ {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً} [النساء:122] ولما رجع موسى إلى بني إسرائيل كان يعلم يقيناً أن قومه قد عبدوا العجل؛ لأن الله أخبره بذلك، لم يلق الألواح لما قال الله له: {فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ} [طه:85] ولكنه ما ألقاها إلا عندما رجع إلى قومه فرآهم بعينيه يعبدون العجل. إذاًَ: الخبر ليس كالمعاينة، يمكن أن يقال لك: فلان حصل له حادث فضيع وحصل له كذا وكذا، تتأثر لكن إذا رأيته ونظرت إليه ورأيت ما حل به فعلاً من الأشياء المفضعة فإن الشفقة والشعور والألم سيكون أكثر لماذا؟ لأن النظر ليس كالخبر، والخبر ليس كالمعاينة، وهذه مسألة لا بد أن تراعى، ومن راعاها كان حكيماً في كثير من تصرفاته.

تقبل الوصية ولو كان فيها شدة

تقبل الوصية ولو كان فيها شدة وكذلك من دروس هذه القصة: أنه ينبغي تقبل النصيحة ولو كان فيها شدة، يقول موسى لهارون: {وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف:142] قد يرى الإنسان هذه الكلمة ثقيلة، لكن موسى يعرف طبيعة بني إسرائيل، خبرهم عنده لأنه عاش معهم منذ صغره فهو يعرف طبيعة قومه، ولذلك كان شديداً في وصيته لأخيه: {وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف:142] فالوصية ولو كانت شديدة فالإنسان يتقبلها، ليس هناك غضاضة أن يقبل الوصية ولو كانت شديدة.

لا ينبغي التوقف في الحرام

لا ينبغي التوقف في الحرام وكذلك من دروس هذه القصة: أن الحرام لا ينبغي التوقف فيه، ولذلك من سفاهة عقول هؤلاء عباد العجل أنهم قالوا: {لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} [طه:91] لا نغير حتى يرجع إلينا موسى، جاء في حديث الفتون أن بعضهم توقفوا، وهؤلاء المتوقفين توقفهم غلط؛ لأن التوقف ضلال، ولذلك الإمام أحمد رحمه الله لما ظهرت طائفة تقول: لا نقول القرآن مخلوق أو غير مخلوق، هؤلاء الواقفة، بدعهم الإمام أحمد رحمه الله تعالى، وقال: إن قولاً شر عظيم. فمسألة التوقف في تخطئة المنكر أو الخطأ لا يجوز أن يقول إنسان: أتريث وهو يعلم أنه شرك، ليس هناك تريث ما دمت علمت أنه شرك لا بد من إنكاره، لكن لو أنه لا يدري هل هذا خطأ أم لا يقول: أتوقف في الإنكار حتى أسأل عالماً، فإذا قال لي: هذا خطأ أنكرت وإلا سكت. وكذلك لا بد من تبيان العقيدة الصحيحة عند محاربة الشرك، موسى لما تخلص من العجل وتخلص من السامري وقضى على الفتنة ماذا قال بعدها؟ {إِنَّمَا إِلَهُكُمْ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} [طه:98] فإذاً بين لهم من هو إلههم سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا إِلَهُكُمْ اللَّهُ} [طه:98] مبيناً لهم. ومن فوائد هذه القصة: خطورة أصحاب الموروثات السابقة عند انضمامهم للصف، فهذا السامري الذي قيل: أنه كان من قومه من يعبدون العجل فأظهر الإسلام ودخل مع بني إسرائيل، كيف صار خطره عظيم؟ لذلك لا بد من الانتباه لأصحاب الموروثات السابقة الذين يدخلون في الصف فيفسدون ويخربون. ومن فوائدها كذلك: أن وجود سلبية المربي لا يمنع من التلقي عنه والتأثر به، والعلة التي لا تكون قادحة لا تجعل الإنسان بمعزل عن التأثير والإمساك بزمام الأمر؛ لأنه ما من إنسان يخلو من سيئات، لا بد أن يكون كل واحد عنده أخطاء وسلبيات، ولذلك إذا كان الشخص سجاياه الحميدة أكثر من أخطائه فهذا مرضي يناصح بأخطائه، لكن لا شك أن موقع القدوة والقيادة يتطلب وجود صفات عالية، وأن تكون الصفات السلبية أقل ما يمكن. كذلك من فوائدها: أن الإنسان عليه ألا يتحمس وينفعل جداً ويزيد في التخطئة والهجوم؛ لأنه لو اكتشف أن رأيه خطأ سيكون الانسحاب عليه صعباً، لو سمع أحد أن فلاناً أخطأ فذهب يشنع عليه ويصب عليه غضبه ويعنفه تعنيفاً شديداً، ثم بعد ذلك يتضح له أن القضية ليست كما سمع، وأن المسألة فيها اختلاف، وأن الرجل هذا قد يكون له عذر، فسيكون الانسحاب شديداً، ولذلك نأخذ من قضية شدة موسى مع هارون في البداية أن الإنسان إذا أراد أن يخطئ غيره عليه أن ينظر في ظرفه وعذره جيداً، وألا يشتد في التخطئة ما دام لم يعرف كل ملابسات الموضوع، فقد يكون الانسحاب صعباً عليه.

فائدة من قوله تعالى: (هذا إلهكم وإله موسى فنسي)

فائدة من قوله تعالى: (هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ) وكذلك فإن هناك فائدة مهمة للغاية في قولهم: {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} [طه:88]: لقد حاولت الفئة الضالة إطفاء الشرعية على هذا الانحراف، فقالوا لبقية القوم: {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى} [طه:88] حاولوا إطفاء الشرعية على هذا العجل وأن يجعلوه مقراً: {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى} [طه:88] وهذه الفائدة لا شك أن لها أثراً في نفوسنا عندما لا نغتر بأي شيء مكتوب على الإسلام، أو هذه القضية إسلامية، أو هذا الشيء إسلامي دون أن نعرف حقيقته، فمحاولة أعداء الإسلام لإطفاء الشرعية على كثير من المناهج المنحرفة وعلى كثير من الكيانات، وعلى كثير من الشخصيات، وعلى كثير من الكتب، محاولات لا شك أن القصد منها تضليل المسلمين. على سبيل المثال: لو وجدت أي لحم مكتوب عليه: مذبوح على الطريقة الإسلامية، هل مجرد أن عليه ختم مذبوح على الطريقة الإسلامية أي: أنه كان مذبوحاً على الطريقة الإسلامية؟ محاولة إطفاء الشرعية على هذه اللحوم -مثلاً- من قبل أي تجار أو جهات مصدرة هل تجعل هذه القضية شرعية بمجرد أنه كتب عليها ذلك؟ إذا كانوا قد ذبحوا السمك على الطريقة الإسلامية فما بالكم ببقية الأشياء التي يصدرونها للمسلمين من الأفكار والمناهج غير مسألة السمك، مما هو أخطر من السمك بكثير، ويحاول اليوم عدد من أصحاب المناهج المنحرفة أن يضفوا الشرعية على اتجاهاتهم، ومن أخطرهم في نظري في هذا الوقت أصحاب الفكر العقلاني أو الإسلام المستنير، أو الإسلام الحضاري كما يسمون أنفسهم، وهؤلاء يقولون: لا بد من الموافقة بين الإسلام وبين واقع العالم الذي وصل إليه، فإذا كان العالم اليوم يرفض -مثلاً- الرق والإسلام فيه أشياء تفيد بجواز الرق، فلا بد أن نجد لهذه الأدلة صرفة، وأن نخرجها إذا كان العالم لا يقبل فكرة أهل الذمة ولا يقبل فكرة دفع الجزية، وهكذا مسائل وأفكار خطيرة إذا كان العالم لا يقبل حديث: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) ولو قلنا بهذا الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه في محفل من الناس وفيهم غربيين مفكرين عالميين قلنا لهم: عندنا نحن المسلمين لا يجوز للمرأة أن تتولى ولاية عامة، فسيقولون: ظلمتم المرأة! لماذا تجعلونها في مستوى ثانٍ؟ لماذا لا تتولى الوزارة والقضاء والرئاسة؟ فيحاول بعض العقلانيين أن يضعف الحديث، ويستدل باستدلالات منحرفة، إذا كان العالم لا يقبل فكرة الجهاد اليوم ويقول: إن الجهاد هو اعتداء على مجتمع آخر أو على كيان آخر، والجهاد ما وضع في شريعتنا إلا جهاد دفاعي هجومي، ويحاول العقلانيون اليوم أن يثبتوا أن الجهاد دفاعي فقط، وأنه ليس هناك جهاد اسمه جهاد هجومي في الإسلام، والله يقول: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة:36]، {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة:29] ونص: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29] قال العلماء: لا تقبل منه إذا أرسل غلامه أو خادمه ليدفعها لا بد أن يأتي بنفسه؛ لأن الله يقول: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} [التوبة:29] أي: يسلمها بيده بنفسه، ثم قال: وينبغي على الإمام أن يطيل وقوفهم عند بيت المال إذلالاً لهم ثم يقبلها منهم ولا يقبلها منهم مباشرة؛ لأن الله قال: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29] نسأل الله أن يبلغنا هذا الوقت الذي يطبق فيه هذه الآية. فأقول: إن من أخطر الناس الذين يحاولون إطفاء الشرعية اليوم على مناهجهم المنحرفة هم العقلانيون المنحرفون أو أصحاب الفكر المستنير. من مداخلهم: الموسيقى الإسلامية، والفن الإسلامي، والرقص الإسلامي، هذا ما طرحوه بوضوح وصراحة، وقالوا: أسلمة كل شيء لا بد أن نؤسلم الفن ونؤسلم التماثيل فن النحت الإسلامي، الرقص الإسلامي، هذا كله هراء، هذا ما يطرحونه ويجاهرون به في مقالاتهم. كذلك من فوائد هذه القصة: كيف يتحرج الإنسان من الشيء الذي ليس فيه حرج ويقع في الشيء العظيم والطامة، قالوا: هذه حلية تورعنا منها خفنا أن تكون ليست حلالاً علينا أخذناها من الفرعونيين القبط وهربنا بها، ليست حلال علينا، فنبذناها وألقيناها، ثم عبدوا العجل، هؤلاء الذين قال في مثلهم ابن عمر في قضية أهل العراق قتلوا الحسين بن علي ابن بنت النبي صلى الله عليه وسلم وحبيبه، ثم جاءوا يسألون: هل قتل البعوض من محظورات الإحرام أو لا؟ وهذه المسألة قضية التحرج من الأشياء اليسيرة والوقوع في الأشياء العظيمة، هذا ديدن كثير من الناس، تجدهم اليوم يقولون: هو واقع في الربا والزنا، وإذا جاء على عشر ذي الحجة في الأضحية قال: سقطت مني شعرة وأنا أحك ماذا أفعل؟ الأضحية بطلت أم لا؟ أنا قلق أخبروني، الله أكبر! أنت الآن قلق على الشعرة التي سقطت بالحك، ولست قلقاً على الملايين الموجودة في البنك تأخذ عليها ربا وفوائد محرمة! وكذلك في الإحرام يسأل: يجوز ترجيل الشعر أم لا؟ وتراه يغتاب ويلعب ورقاً في الحج، ويفعل كل المحرمات ويمكن أن يستمع الأغاني، وإذا ذهب يطوف حول الكعبة نظر للنساء، وربما أبطل حجه أو عمل شيئاً خطيراً، ثم يقول: سقطت شعرة إن مسألة التورع عن الأشياء الصغيرة والوقوع في الأشياء العظيمة هذا منهج بني إسرائيل. ثم نلاحظ -أيضاً- درساً في الفتنة بالذهب الذي هو معبود اليهود الأصيل. إن قضية العجل تبين لنا تغلغل الذهب في نفوس اليهود، وأنهم فتنوا بالعجل المصنوع بالذهب وأن فتنتهم هي الذهب، وهم الذين يملكون أكثر الذهب في العالم اليوم ولا شك، فيتبين لنا فتنة هؤلاء القوم بهذا الذهب في القديم والحديث. لعل هذه بعضاً من أهم الدروس والفوائد التي تؤخذ من هذه القصة وهي قصة عظيمة جداً جديرة بالتأمل، والله سبحانه وتعالى ما قص علينا هذه القصة ولا غيرها من القصص إلا ليتدبرها أولو الألباب، ويتعظ بها المتعظون، ويأخذ من فوائدها الذين ينهلون من حياض هذه الشريعة وينجون من مواردها. فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، والله تعالى هو الموفق والهادي إلى سواء السبيل، وإلى طريق الحق والثواب. والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

الأسئلة

الأسئلة

حكم الصلاة على المنتحر

حكم الصلاة على المنتحر Q ما حكم الصلاة على المسلم المنتحر؟ A إذا كان مسلماً لم يخرجه ذلك عن الإسلام فإن الصلاة عليه تصح؛ لأنه مسلم، لكن ينبغي لأهل الفضل والعلم والقدوة مثل القاضي والعالم إذا حضروا ألا يصلوا عليه ويتركوا الصلاة لبقية الناس، يقول: صلوا على صاحبكم، زجراً لغيره ممن يحاول محاولته، وكذلك الصلاة على مدمن المخدرات وشارب الخمر وغيرهم ممن عرف بالشر.

نصائح لمن يؤخر الصلاة عن ميقاتهم

نصائح لمن يؤخر الصلاة عن ميقاتهم Q ما هي النصائح لمن يضيع أوقات الصلاة؟ A يقول الله سبحانه وتعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ} [مريم:59]، وقال: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:4 - 5] ولا شك أن الويل هنا عقوبة من الله عظيمة ينبغي أن ينزجر بها الذين يؤخرون الصلوات عن وقتها وخصوصاً صلاة الفجر.

السيارة ليس عليها زكاة إنما على المال الذي يدخل بسببها

السيارة ليس عليها زكاة إنما على المال الذي يدخل بسببها Q أملك سيارة كبيرة وأعمل عليها يومياً، فهل يجوز أن أزكي على السيارة أم أزكي على المبلغ الذي يدخل علي؟ A بما أن السيارة ليست للبيع فإذاً الزكاة في الإيراد، إذا حال عليه الحول تخرج في كل ألف خمسة وعشرين ريالاً، مثل: المبنى المؤجر ليست الزكاة في قيمته، الزكاة فقط في الإيجار إذا حال عليه الحول، بمعنى: أنك إذا أخذت الإيجار من هنا وأنفقته من هنا قبل أن يحول الحول فليس عليك زكاة.

حكم إعطاء المرأة زكاة مالها لزوجها

حكم إعطاء المرأة زكاة مالها لزوجها Q هل يجوز للمرأة أن تعطي زكاة أموالها لزوجها وهو في حاجة؟ A إذا كان فقيراً فنعم؛ لأن الزوج ليس ممن تلزم الزوجة نفقته، فيجوز أن تعطي زكاة مالك لمن لا تلزمك نفقته، لكن العكس لا يجوز للرجل أن يعطي زكاته لزوجته.

رمضان ليس اسما من أسماء الله

رمضان ليس اسماً من أسماء الله Q هل رمضان اسم من أسماء الله كما ورد في الحديث: (لا تقولوا: جاء رمضان، فإن رمضان اسم من أسماء الله)؟ A هذا الحديث لم يثبت، وهو حديث ضعيف غير صحيح، فإذاً رمضان مأخوذ من الرمضة: وهي شدة الحر، وهذا اسم إسلامي لم يكن هكذا اسمه في الجاهلية، وقيل: إن سبب ذلك، أول ما فرض الصيام كان في شهر شديد الحر فسمي رمضان من الرمض وهي شدة الحرارة مثل: جمادى الأول وجمادى الآخرة لماذا سمي بهذا الاسم؟ لأنه يتجمد فيه الماء من شدة البرد، فأول ما عرف الشهر هذا عند العرب كان في وقت يتجمد فيه، وإلا فالسنة الهجرية تدور على الفصول الأربعة، رمضان قد يأتي في الحر، وقد يأتي في البرد، لكن أول ما فرض كان في وقتٍ شديد الحر.

العقيقة

العقيقة Q العقيقة للمولود ما صفتها؟ وما شروطها للذكر والأنثى؟ وكيفيتها؟ A العقيقة مستحبة وبالذات على القادر، وغير القادر ليس عليه شيء، وقال بعض العلماء بوجوبها لكن الجمهور على استحبابها، وفيها فائدة كبيرة على المولود وهي فكه من أسر الشيطان؛ لأنه قال في الحديث الصحيح: (كل غلام مرتهن بعقيقته) وكما ذكر ابن القيم في كتابه العظيم: تحفة المودود بأحكام المولود، أن ما من مولود يولد إلا وللشيطان عليه نوع من التسلط، وأن العقيقة تفك تسلط الشيطان على المولود، بالنسبة للذكر شاتان ويجوز شاة، لحديث: (ضحى عن الحسن والحسين كبشاً كبشاً) وهو حديث صحيح، والأفضل شاتان، والأنثى شاة واحدة، وقد فاوت الله بين الذكر والأنثى في عددٍ من الأحكام، فجعل شهادة المرأتين بشهادة الرجل، وجعل دية المرأة على النصف من دية الرجل، وجعل في الإرث للمرأة نصف ما للرجل، وجعل في العقيقة للذكر شاتان وللأنثى شاة.

النهي عن كف الثوب والشعر

النهي عن كف الثوب والشعر Q ما المقصود بقوله صلى الله عليه وسلم: (أريد أن أكف ثوبي)؟ A الرواية المعروفة في صحيح مسلم: (نهى عن كف الثوب وكف الشعر) فأما كف الثوب فيدخل فيه تشميره أو جمعه كما يفعله بعض الناس عندما يجمعونه عند السجود، فهذا مما ينهى عنه، وجمهور العلماء على الكراهة كما ذكر ذلك النووي رحمه الله، يكره كف الثوب في الصلاة فيتركه يسجد معه لا يضمه ولا يجمعه ولا يشمره، وكف الشعر: حبسه تحت العمامة أو الطاقية، يجمعه ويحبسه حبساً، بل يتركه يسجد معه.

حكم طواف الوداع للمعتمر

حكم طواف الوداع للمعتمر Q هل طواف الوداع للمعتمر واجب؟ A هذه مسألة فيها خلاف عند أهل العلم، والراجح فيها إن شاء الله عدم الوجوب، ومن المعاصرين من يفتي بذلك كالشيخ/ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، والشيخ/ محمد ناصر الدين الألباني، أن طواف الوداع للمعتمر سنة وليس بواجب، وذهب آخرون إلى الوجوب كالشيخ/ محمد بن صالح بن عثيمين، فمن عرف خلاف العلماء لا تلتبس عليه الأمور.

ماذا يفعل من أقيمت الصلاة وهو يصلي سنة المسجد؟

ماذا يفعل من أقيمت الصلاة وهو يصلي سنة المسجد؟ Q ماذا يفعل المصلي الذي يصلي سنة المسجد قبل الصلاة وأقيمت الصلاة هل عليه أن يقطعها أو يتابع؟ A في المسألة أقوال: القول الأول: أن يقطعها بكل حال. القول الثاني: أن يتمها بكل حال. لكن من أعدل الأقوال: أنه إذا أنهى ركوع الركعة الثانية فكأنه أنهى الصلاة؛ لأنه ما بقي له إلا شيء يسير فيتمها بخفة، وأما إذا كان قبل ركوع الركعة الثانية فيبقى له ركعة كاملة فإنه يقطعها بدون سلام بالنية.

كيف نفرق بين السحرة والدجالين وبين الصالحين في العلاج بالقرآن؟

كيف نفرق بين السحرة والدجالين وبين الصالحين في العلاج بالقرآن؟ Q كثير من السحرة والمشعوذين يدجلون على الناس بأنهم من أهل الصلاح والصلاة ويعالجون بالقرآن، فكيف نفرق بين السحرة الدجالين وبين الصالحين؟ A ينظر في حاله: فإن رأيناه يحافظ على الصلوات في أوقاتها، ولا يعرف عنه معصية لا في سماع الأغاني ولا التدخين أو الإسبال، أو ما هو أعظم من ذلك، مثل التساهل في لمس النساء وربما كان إنساناً سيئاً يريد الوصول من وراء القراءة إلى العبث بالنساء مثلاً، فإذا لاحظنا عليه التساهل وأنه يخلو بها ويقول لوليها: لا يخرج الشيطان إلا إذا خرجت أنت، فنعرف أنه دجال وأنه كذاب أشر، وأن له مقصداً سيئاً، ولا تلمس المرأة إلا للضرورة، لكن ليس من جهة أنه يقول: لا بد من المباشرة، أو لا بد من لمس المرأة عند القراءة، فيمس يدها أو وجهها، فهذا حرام ولا يجوز. والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

الشباب المسلم على عتبة الزواج [1، 2]

الشباب المسلم على عتبة الزواج [1، 2] في هذا الدرس تجد وقفات عديدة مع الزواج وفوائده، وقد تحدث الشيخ فيها عن قضايا تخص الشاب الذي يريد طرق باب الزواج، ومن تلك القضايا: الحث على الزواج بالبكر صاحبة الدين الحث على النظر إلى المخطوبة. وكذلك حث على تزوج المرأة الودود الولود، كما بين كيفية البحث عن المرأة، كما حذر من أمور لا ينبغي للرجل أن يفعلها، ثم ذكر نصائح تهم الزوج عند الدخول على زوجته أول ليلة.

وقفات مع الزواج

وقفات مع الزواج إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن هذه المرحلة الحساسة التي يمر بها الشباب أو الناس الذين يتزوجون يحتاجون فيها إلى نوع من التوجيه والإرشاد وبيان آداب الشريعة في هذا الأمر، لابد أن يكون الهدف من الزواج في ذهن الشاب المسلم واضحاً، لابد أن يكون الباعث للزواج باعثاً شرعياً، وأن تكون القناعة به قناعة شرعية. إن المسألة في الشريعة ليست مجرد عادة أو تقليد أو أنه أمر من الأمور التي يريد الإنسان أن يفعلها قبل أن يموت، كما قال لي أحدهم مرة: هناك في الحياة ثلاثة أمور الواحد يريد أن يفعلها قبل أن يموت يدرس أو يتوظف ويتزوج ويخلف أولاد ثم يموت، فهي عند بعض الناس تقليد أو مهمة من المهمات التي سيفعلها في حياته، ولكن المسألة أسمى من ذلك، والقضية قضية عبادة إنه لو نوى طاعة الله تعالى لأُجر أجراً عظيماً.

بعض فوائد النكاح

بعض فوائد النكاح انظر -أيها الأخ المسلم- إلى ما في النكاح من العفة عفة النفس وإعفاف الزوجة والاستمتاع المباح الذي جعل الله فيه أجراً (وفي بضع أحدكم صدقة) لما وضعها في الحلال كان له أجر، وكذلك لو وضعه في الحرام كان عليه وزر، لا تنظر إلى قضية الاستمتاع فقط ولكن انظر إلى قضية العفة أيضاً؛ لأن العفة مطلب شرعي. انظر إلى مسألة تكوين الأسرة التي هي لبنة في بناء المجتمع الإسلامي، يتحول المجتمع إلى مجتمعٍ إسلامي عندما تنشأ الأسرة المسلمة على قاعدة شرعية وتقوى من الله ورضوان. انظر إلى مسألة الأولاد التي ندبت الشريعة إلى تحصيلهم: {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [البقرة:187] أي: الأولاد، والنبي عليه الصلاة والسلام سيكاثر بهذه الأمة جميع الأمم يوم القيامة ويفاخر بهم، ولذلك كان كثرة الولد من المقاصد الشرعية، ولا شك أنها تسبب قوة في المجتمع المسلم، والمجتمعات الغربية اليوم آخذة بالتقلص نظراً لما صار عندهم من الحد من الإنجاب أو منع النسل أو تقليل النسل، هذه الفكرة الخبيثة التي يريدون ترويجها بين المسلمين. انظر إلى المكانة التي يجعلها الزواج لك -يا أيها المسلم- في المجتمع، إن الناس ينظرون إلى المتزوج وصاحب الأولاد نظرة فيها احترام أكثر مما ينظرون إلى الأعزب، ولا شك أن هذه المكانة من الأمور التي تسهل لك أموراً كثيرة في الدعوة إلى الله عز وجل، وكثير من الشباب يشتكون في مرحلة العزوبة من عدم سماع الأقرباء لهم، وعدم تقبل كلامهم في الدعوة إلى الله عز وجل أو يقولون: أنت صغير لا تفهم الحياة أنت تريد أن تنصحنا؟ فإذا صار زوجاً له امرأة وأولاد ورب أسرة تغيرت مكانته في المجتمع، ولا شك أن هذا التغير يهيئ له فرصة في الدعوة إلى الله عز وجل أكثر من ذي قبل. وما يحصل أيضاً من التقريب بين الأسر والعوائل، فإنه إذا تزوج من أناس صار بينهم علاقة صهر؛ لأن الله عز وجل خلق من الماء البشر، فجعل العلاقات بينهم على قسمين: نسب وصهر، علاقة نسب مثل: الأم والأب والابن والخال والعم ونحو ذلك، وعلاقة صهر: مثلما يحدث إذا تزوج بامرأة فتكون زوجته وأمها هي من المحارم، وكذلك أبو الزوجة وأخو الزوجة تنشأ علاقات جديدة، ويدخل الإنسان بزواجه في عالم أوسع وأرحب من ذي قبل، بل كثير من الناس تتغير أوضاعهم حتى الاقتصادية والمعيشية نتيجة زواجهم. والإنفاق على الزوجة فيه أجرٌ أيضاً، واللقمة التي تضعها في فيّ زوجتك تؤجر عليها. والشاهد أنه كلما كثرت النيات الحسنة في الزواج عظم الأجر عند الله تعالى، فليست القضية قضية استمتاع فقط، المسألة أعظم من ذلك بكثير.

الحث على الزواج في الكتاب والسنة

الحث على الزواج في الكتاب والسنة لقد حث الله تعالى في كتابه على الزواج والإنكاح: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32] {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:3] هذه الأوامر الإلهية التي فيها توجيه الغريزة نحو المجال الشرعي وتحقيق المصالح العظيمة التي تترتب على الزواج، وقال البخاري رحمه الله تعالى: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: من استطاع الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، وهل يتزوج من لا أرب له في النكاح؟ وساق بإسناده إلى علقمة قال: (كنت مع عبد الله فلقيه عثمان بـ منى - علقمة من أشهر تلاميذ عبد الله بن مسعود فقال: يا أبا عبد الرحمن! إن لي إليك حاجة -أي: أستأذنك على جنب في كلمة خاصة بيني وبينك- فخليا لوحدهما، فقال عثمان: هل لك يا أبا عبد الرحمن في أن نزوجك بكراً تذكرك بما كنت تعهد؟ -فاستدل به أهل العلم على أن زواج البكر يجدد النشاط، ولذلك ذكر ابن حجر رحمه الله تعالى من فوائد هذه القصة أن معاشرة الزوجة الشابة تزيد في القوة والنشاط بخلاف عكسها فبالعكس- فيقول عثمان لـ ابن مسعود: هل لك -يا أبا عبد الرحمن في أن نزوجك بكراً تذكرك بما كنت تعهد؟ فلما رأى عبد الله أنه ليس له حاجة إلى هذا أشار إلي، فقال: يا علقمة -لأن علقمة كان بعيداً والكلام كان خاصاً- فانتهيت إليه وهو يقول: أما قلت ذلك لقد قال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) فالنبي عليه الصلاة والسلام علق النكاح على الاستطاعة على الباءة: (من استطاع منكم الباءة فليتزوج) وهذا الحديث له قصة وهي أنه قال في الرواية: (لقد كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال لنا -ثم ذكر هذا الحديث-: من استطاع منكم الباءة فليتزوج) وابن مسعود رضي الله عنه لم يرفض ذلك، لكن لما كان لا حاجة له به الآن أو عنده أيضاً زوجة وعنده أولاد فإنه أكد على المعنى، وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من استطاع منكم الباءة فليتزوج) فهو موافق لـ عثمان رضي الله عنه فيما قال له. وقوله: (من استطاع منكم الباءة) من كان مؤهلاً للزواج وعنده الاستطاعة فليتزوج، أما ما يقوله بعض الناس اليوم: إن الزواج المبكر فيه ضرر، أو لابد أن ننتظر حتى يتم الدراسة ويعمل ونحو ذلك فهذا ليس عذراً مطلقاً في تأخير الزواج بل هذا خلاف السنة، لكن لو كان الإنسان لا يستطيع فيدرس ليتخرج ويتوظف فيجمع المهر وتكاليف الزواج؛ لأنه ليس مقتدراً فهذا معذور، لكن الذي عنده غنىً أو يستطيع أبوه أن يزوجه مثلاً، وقد عرض ذلك عليه، فالعجيب أن بعض الشباب إذا عرض عليهم آباؤهم الزواج يرفضون ذلك، ويقولون: الوقت مبكر، وهم يعلمون ماذا يحل بالأمة في هذا الزمان من الفتن الهوجاء، والمعاصي المترتبة على ثوران الشهوة، وما حدث في هذا الزمان من أفلام الفجور ومجلات الدياثة أو الخلاعة والاختلاط المحرم وإطلاق البصر وتبرج النساء، فالشاهد أن الزواج في زماننا صار لابد منه.

حكم التبتل (الاختصاء)

حكم التبتل (الاختصاء) قد يخطر لبعض الناس أن يتبتل ويقول: هذا النكاح شهوة لا أريدها لأنها تقطعني عن العبادة، أو عن طلب العلم الزواج مشكلات الأولاد مصائب تربيتهم مسئولية لا أطيق ذلك ونحو ذلك من الأمور؟ فنقول: إن التبتل ليس من طبيعة هذا الدين، وليس من عادة هذه الأمة، أبو هريرة يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! إني رجل شاب وأنا أخاف على نفسي العنت، ولا أجد ما أتزوج به النساء، فسكت عني -وفي رواية: أنه استأذنه في الاختصاء- فقال النبي صلى الله عليه وسلم لما كرر عليه وسكت عنه، ثم قال ذلك فسكت عنه، ثم قال ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أبا هريرة! جف القلم بما أنت لاقٍ فاختص على ذلك أو ذر) افعل ذلك أو اترك وليس ذلك إذناً بالفعل كلا، وإنما هو نوع من التنبيه على أن هذا الأمر ليس من السنة، وأن ذلك كله مقدر في علم الله تعالى، ومكتوب في اللوح المحفوظ، سواء فعل أو لم يفعل وهو ينبهه على ألا يفعل ذلك ويلفت نظره. والحديث الآخر الذي يرويه عثمان بن مظعون لما استأذن النبي صلى الله عليه وسلم فلم يأذن له، فإن سعد بن أبي وقاص قال: (رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل ولو أذن له لاختصينا)، وقال قيس: قال عبد الله: (كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس لنا شيء، فقلنا: ألا نستخصي؟ فنهانا عن ذلك، ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب، ثم قرأ علينا قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)) [المائدة:87]) وكل الأحاديث السابقة رواها الإمام البخاري رحمه الله تعالى.

حرص السلف على الزواج

حرص السلف على الزواج كان السلف حريصين على هذا الأمر، قال طاوس: [لا يتم نسك الشاب حتى يتزوج]. وقال إبراهيم بن ميسرة: قال لي طاوس: [تزوج أو لأقولن لك ما قال عمر بن الخطاب لـ أبي الزوائد، ماذا قال له؟ قال: ما يمنعك من النكاح إلا عجز أو فجور] أنت لماذا لا تتزوج؟ إما أنك عاجز أو فاجر، ولذلك كانوا يشددون في المسألة. وقال أحمد بن حنبل رحمه الله: لو كان بشر بن الحارث تزوج لتم أمره. وقيل لـ أحمد: مات بشر، قال: مات والله وما له نظير إلا عامر بن عبد قيس، فإن عامراً مات ولم يترك شيئاً، ثم قال أحمد: لو تزوج؟ فكان عندهم أن الشخص غير المتزوج فيه نقص، هذا مع نظافة مجتمعهم وسلامتهم من كثير من الآفات الموجودة في مجتمعنا. ثم إن الزوجة الصالحة لا شك أنها من السعادة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر عن ثلاث من السعادة وأربع من الشقاء، فمن ذلك: المرأة تراها فتعجبك، وتغيب فتأمنها على نفسها ومالك، وأخبر عن أربع من الشقاء: المرأة السوء، كما أخبر عن أربع من السعادة المرأة الصالحة، بل إن هذه الدنيا الملعونة الملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه، هذه الدنيا التي هي المتاع خير متاعها المرأة الصالحة، فإذاً المرأة الصالحة مستثناة من هذه الدنيا الملعونة. فهذا خير ما يستفيده المرء من دنياه، زوجة مؤمنة تعينه على أمر دينه ودنياه. بل إن النكاح من أسباب الغنى، قال الله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور:32] هذا ما نصح به بعض السلف رجلاً أصابته الفاقة فأمره أن يتزوج لما في هذه الآية من الوعد، وقد تكفل الله سبحانه وتعالى بعون الناكح الذي يريد العفاف، إنه الغنى الذي يغنيه الله من فضله الذي يشمل غنى النفس وغنى المال. وكذلك فبالنكاح يأتي الولد الذي إذا صار صالحاً نفعك وأنت في قبرك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) لو بكر بالزواج فأنجبت له ولداً صالحاً فرباه لو مات يموت مطمئناً بأن له ولداً من بعده يدعو له، بخلاف الذين يتأخرون في الزواج فيموتون وأولادهم صغار يتامى ليس لهم أب يربيهم، وهذا يمكن أن يحدث لأي أحد، لكن لا شك أنه يحدث للذي يؤخر الزواج أكثر من الذي يحدث للمتزوج.

فوائد نكاح صاحبة الدين

فوائد نكاح صاحبة الدِّين على الشباب إذا ابتغوا النكاح أن يركزوا جيداً في مسألة مواصفات المرأة التي يريد أن يتزوج بها، فكثير منهم إذا أراد أن يتزوج فإنه ينظر إلى الجمال وهذه من الآفات المشهورة الموجودة في زماننا هذا، والنبي عليه الصلاة والسلام قد أخبر عن هذا المطلب الذي يطلبه بعضهم وهو مسألة الجمال، فقال عليه الصلاة والسلام: (تنكح المرأة لأربع: لمالها وحسبها ولدينها وجمالها، فاظفر بذات الدين تربت يداك) فإذاً هذا الحديث يرشد إلى أول شرط من شروط الزوجة، إذا أراد الرجل أن يبحث فإن أول ما يبحث عنه قضية الدين، لأن دين الزوجة هو الأساس، إن المرأة تنكح لأسباب ذكر في هذا الحديث أربعة أسباب رئيسية تدعو إلى نكاح النساء: المال والحسب والدين والجمال، فما هو الذي تختاره؟ اختر الدين تربت يداك، وهذا خبر بمعنى الدعاء لكن لا يراد به حقيقته؛ لأن معنى تربت يداك، أي: التصقت يدك بالتراب من الفقر، ولكنه لا يريد به حقيقته وإنما هو نوع من التأنيس ولفت النظر إلى ما يريد. وهؤلاء الذين يطالبون اليوم بمواصفات عجيبة من الجمال يستلهمونها من أغلفة المجلات، ومما بقي في الأذهان من النساء في المسلسلات، والذين لا يغضون أبصارهم في النهاية يقول: أريد امرأة وصفها كذا ونحو ذلك، وبعضهم يتشدد في هذا تشدداً عجيباً حتى يشترط لون بؤبؤ العين! فنقول لهؤلاء الناس: رويدكم مهلاً! ماذا تقصدون؟ وهل تظنون أن وجود هذه المواصفات التي تركبونها من الأشكال الموجودة في مخيلاتكم أمر سهل أو أنه يمكن أن يتأتى بيسر؟ A كلا. المشكلة تنبع من قضية الجاهلية التي عاشها بعض الناس مما رأوه في الأفلام أو في المسلسلات أو فتيات الغلاف ونحو ذلك. وقد يكون الجمال سبباً لطغيان المرأة فعسى حسنها أن يوردها المهالك وهذا موجود في الواقع، فإن بعض النساء إذا آنست من نفسها جمالاً صارت مغرورة وربما طال لسانها على زوجها وطالبته بالنفقات الكثيرة وعابته في خلقته وأخبرته بأنه لا يستحقها؛ بل إنه أدنى من ذلك وأنها بالمكانة الأرفع وتمن عليه أنها رضيت به، ولذلك قد يكون الجمال تعاسة في الحقيقة على أنه لا يمنع الشخص من أن يبتغي الجمال، فإنه لو وجد الجمال بعد الدين فهذا خير إلى خير، فإن من الأمور الجيدة أنه إذا نظر إليها سرته. لكن هذه المستويات من الصور الجميلة الموجودة في الأفلام والمسلسلات والمجلات هي في الحقيقة عينة نادرة في الواقع؛ لأن أكثر النساء لسن كذلك، وإنما اليهود وأعوانهم يغوون من يغوون من النساء في المجتمعات فينتقون صاحبات الصور الجميلة ليدخلن في هذه الأشياء. ثم إن بعض الناس لا يفرق بين الجمال الطبيعي وجمال المكياج، فإن ما فعلته اليوم دور الأزياء وصالات الكوافيرات والتزيين لوجوه النساء هو أمر عجيب! فإن المرأة تدخل فتقعد عند المزينة بوجه ثم تقوم من عندها بوجه آخر، حتى إن المرأة الأخرى التي تنتظرها في صالة التزيين عند الكوافير لا تكاد تعرفها من كثرة الأصباغ والمساحيق والألوان والأدهان التي يستخدمونها، ولذلك لو نظرت إلى صورة فرأيت فيها جمالاً فاعلم أنه قد يكون جمالاً مزيفاً، ثم أنت تطلب مثله في الواقع وتقول: أريد امرأة هذا وصفها، وهذا لونها، وهذه عيونها، وهذا ثغرها، وهذا طولها ونحو ذلك، لذا لابد أن يكون الإنسان عاقلاً، فالصحيح أنه ليس مأموراً أن يتزوج ذميمة أو قبيحة لكن في نفس الوقت لا يشترط هذه الشروط وليس ببعيد أن الذي يشترط هذه الشروط يأخذ عكس ما اشترط بالضبط، وهذا ملاحظ، فإن الذي يكون عنده يسر في انتقائه ويشترط الدين يوفقه الله لامرأة تقر بها عينه، وإذا كان متشرطاً كثيراً من الشروط يريد أوصافاً دقيقة جداً، ويقول: لا أريدها بعدسات ولا بنظارات، فهذا الشخص نادراً ما يصل إلى مطلوبه، هذا إذا سلمت زوجته ولم ترفع عليه صوتها أو تسيء العشرة معه في المستقبل. إذاً المطلوب الأول هو الدين، وهذه وصية النبي صلى الله عليه وسلم: (فاظفر بذات الدين تربت يداك). ومن هي ذات الدين؟ المرأة التي تقوم بالواجبات وتنتهي عن المحرمات، فنحن لا نشترط داعية ولا طالبة علم لكنها إذا كانت صاحبة دين دفعها دينها إلى الدعوة إلى الله وطلب العلم ما دام زوجها يدفعها إلى ذلك، فإذاً يكفي في البداية أن تكون المرأة صاحبة دين وتقوى وخوف من الله عز وجل، وهذه المسألة تتفاوت عند النساء، فمنهن من تكون ذات تقوى عالية وخوف من الله عظيم، ومنهن من تكون متوسطة في ذلك، المهم أن تكون معروفة بالستر والعفاف والصيانة، قائمة بفروض الله من الصلاة والصيام والحجاب تاركةً المحرمات كسماع آلات اللهو والغناء والتعلق بالأفلام ونحو ذلك من الأمور، صحيح أنه حتى مع تبسيطنا للمسألة فإنها عزيزة في الوجود نظراً لكثرة الفسق في عصرنا؛ لكن مع انتشار الصحوة والحمد لله لن يعدم الإنسان امرأة ذات دين في الواقع، ولا يقل: لم أجد امرأة ذات دين، الذي يقول: كل هذا المجتمع ما وجدت فيه امرأة ذات دين فهذا إنسان في نظرته نظر. ولا ينبغي التساهل في هذا المطلب مطلقاً، فإن كثيراً من الأشخاص الذين تزوجوا بغير ذات الدين، وقالوا: في المستقبل يصلحها الله في المستقبل يهديها الله في المستقبل سأجتهد عليها حتى تلتزم بالدين. فنقول: إن الهداية بيد الله، فربما تجتهد وتعمل وتعمل ثم لا تتدين المرأة، فتتبرج وتذهب إلى الأماكن والأعراس المختلطة ونحو ذلك فماذا ستفعل وقد تورطت، وصار لك منها ولد، وصار الاستغناء عنها الآن أعسر بكثير من ذي قبل، وستعض أصابع الندم وتتمنى لو كنت من البداية قد تزوجت ذات الدين؟ ومن الأشياء الطريفة! أن أحد الشباب عرضت عليه امرأة متدينة، فقال: أنا لا أستحقها، فنقول: هذا تواضع مذموم، فاحمد الله إذا عرضت عليك امرأة ذات دين ولو كنت أنت عندك شيء من التقصير فربما تكون هدايتك على يديها، وهنا قد يقول بعض الناس: هل أنت تدعو لترك غير المتدينات فمن سيتزوجهن إذاً؟ أقول: أنا أدعو إلى ما دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم: (فاظفر بذات الدين) وليحدث هذا الشعور في نفوس بعض النساء غير المتدينات إذا شعرت الفتاة غير المتدينة إنها غير مرغوب فيها إذا كانت غير ذات دين، وقد كثر في المجتمع الكلام عن ذات الدين وأن ذات الدين مطلوبة فسيكون هذا من الدوافع لهؤلاء الفتيات أن يلتزمن بالدين، وقد يلتزم الإنسان بالدين من باب مادي أو يظهر الالتزام بالدين ثم يقوده ذلك إلى الإخلاص لله سبحانه وتعالى، كما حصل من بعض السلف الذين قالوا: طلبنا هذا العلم للدنيا فأبى الله إلا أن يكون لوجهه، فساقهم الله عز وجل للإخلاص في النهاية. وبعض الشباب الذين تهاونوا في شرط الدين سبب لهم هذا التهاون -والعياذ بالله- انتكاسة ووقعة ورجوعاً ونكوصاً على الأعقاب بعد الزواج، لم يصبح الأمر على ما أراد أنه سيجعلها تلتزم بالدين، وإنما الذي حصل أنها الذي أوقعته في فتنة الدنيا وهي التي أرجعته خطوات كثيرة إلى الوراء. وبعض الناس يلعب ويلهو ويعصي ويفجر ثم يقول: أريد امرأة متدينة، وهو يقول من تجربته في عالم الفساد: إنه لا يؤتمن على البيت إلا المرأة المتدينة، كلامه صحيح لكن من أسباب توفيق الله للشخص من امرأة متدينة أن يكون متديناً. نعم إن بعض الناس كانوا أصحاب فجور، فلما تزوجوا بنساء متدينات أثر ذلك فيهم، لكن إذا أراد الشخص أن يصل إلى بغيته من امرأة ذات دين، فينبغي له أن يتقي الله حتى يجعل له من أمره يسراً ويرزقه من حيث لا يحتسب، وحتى يجعل الله له فرجاً ومخرجاً ويرزقه بذات الدين المطلوبة، أما الواحد يعصي ويفجر ثم يقول: أريد ذات الدين فربما تكون معصيته وفجوره من الأشياء التي تحول بينه وبين الوصول إلى ذات الدين.

نكاح البكر

نكاح البكر كذلك من الأشياء أو الصفات التي حثت الشريعة عليها نكاح البكر في مواصفات المرأة، قال البخاري رحمه الله تعالى: باب نكاح الأبكار، عن عائشة رضي الله عنها قالت: (قلت: يا رسول الله! أرأيت لو نزلت وادياً وفيه شجرة قد أكل منها، ووجدت شجراً لم يأكل منها في أيها كنت ترتع بعيرك؟ قال: في التي لم يرتع منها) أي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتزوج بكراً غيرها، وهذا من إدلال عائشة بنفسها؛ فإنها كانت تدلل نفسها عند النبي صلى الله عليه وسلم وتلفت نظره إلى هذا الأمر بين فترة وأخرى والنبي عليه الصلاة والسلام لم ينكح بكراً غيرها، فإذاً نكاح البكر مستحب ولا شك، وفي ذلك فوائد منها: 1 - أنهن أعذب أفواهاً. 2 - أنتق أرحاماً. 3 - أرضى باليسير. فهي مستعدة للحمل والإخصاب أكثر من الثيب، وكذلك فالنتق هو الرمي والنقض والحركة، وكذلك في العشرة أكمل، وكذلك فإنها أرضى باليسير، لأنها ليست ذات تجارب سابقة وتتطلع إلى الدنيا كما تتطلع أو تعرف ذلك الثيب، لكن الإنسان لا يعني هذا أنه لو وجد ثيباً ذات دين وأنه وجد المصلحة في نكاحها فإنه لا يفعل، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أقر جابراً رضي الله عنه لما عدل عن البكر إلى الثيب لمصلحة وهي أن عنده أخوات صغيرات لم يشأ أن يأتي لهن بواحدة مثلهن في السن، وإنما رأى المصلحة أن يتزوج ثيباً تقوم بأمرهن فأقره النبي صلى الله عليه وسلم على هذا، مع أنه دعاه إلى هذا فقال: (هلا بكراً تلاعبها وتلاعبك أو تضاحكها وتضاحكك) وكذلك لو أن الإنسان تزوج بكراً وتزوج ثيباً ضمها إليه؛ لأجل الإحسان إليها، أو لأنها أرملة مثلاً، أو ليتم أولادها أو لنحو ذلك فهذا إنسان على خير عظيم، وهذا من الحلول التي تكون لكثرة الطلاق أو النساء الأرامل أو المطلقات الموجودات في المجتمع، فإن حث الشريعة على الزواج بالبكر ليس معناه إهمال الجانب الآخر وإنما ما هو الأفضل؟ هذا هو الأفضل.

الحث على الزواج بالمرأة الولود الودود

الحث على الزواج بالمرأة الولود الودود كذلك فإن من الصفات التي دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى مراعاتها: الودود الولود، فقد يقول قائل: إذا كانت بكراً كيف نعرف أنها ولوداً؟ ف A يعرف ذلك بأمور، منها: النظر في حال أمها وجدتها وخالاتها وعماتها، فإذا كان النسل عندهن كثيراً عرف أن هذه في الغالب ستكون على منوالهن، فإذا كانت قريباتها من أصحاب الأولاد الكثر فإنها كذلك في الغالب. ولنعلم -أيها الأخوة- أن الاختيار أمر مهم ليست المسألة تسلية أو مثل السيارة تشترى وتباع والتخلص منها سهل لا. والذين يتساهلون في مسألة التخلص من الزوجة أو يتزوج ويطلق ويتزوج ويطلق، ويقول: أجرب، نقول: هذا الشخص يرتكب عدة سلبيات بفعله ذلك، فليست المسألة بهذه السهولة، وحسن الاختيار ينبني عليه التوفيق في الحياة، فالذي يتزوج امرأة لعزها ربما لا يزداد إلا ذلة، والذي يتزوجها لمالها ربما لا يزداد إلا فقراً، والذي يتزوجها لحسبها ربما لا يزداد إلا دناءة، وأما الذي يتزوج ليحصن فرجه ويغض بصره ويصل رحمه فإن الله سبحانه وتعالى يبارك له فيها، والمسألة مسألة نية، فإذا صدق الشاب مع الله سبحانه وتعالى وفقه لاختيار الصواب؛ لأن هذه المسألة صحيح أن فيها بحث وبذل أسباب وسؤال وتحري لكن قد يخدع الإنسان قد يتخذ قراراً غير سليم قد يعمل بناءً على غلبة الظن ثم يكتشف أن ظنه في غير محله، فإذاً المسألة مسألة توفيق من الله سبحانه، لابد أن يكون فيها نية طيبة.

شروط غير معقولة عند طلب الزوجة

شروط غير معقولة عند طلب الزوجة لنعلم -أيها الإخوة- أن هذا المجتمع فيه ثغرات كثيرة، فمثلاً: المجتمع لم يلغِ الفوارق ولا يعين على تجاوزها، ولذلك تحدث كثير من المشكلات في قضية الزواج، فيرفض الشخص لأنه ليس من قبيلة معروفة، أو لأنه ليس من طبقة معينة ونحو ذلك، ولذلك نقول: إن الشخص لا يطرق الأبواب التي يتوقع منها الرفض فيلج بيت رجل من علية القوم يعرف أن عنده غنىً وبطراً، ثم يقول: زوجني ابنتك، وهو فقير صعلوك ويتوقع الاستهزاء به وطرده، فهذا ليس مدخلاً كريماً يدخله فيوفق فيه، لكن لو كان أبوها صالحاً لطبق الحديث: (ترضون دينه وخلقه) فزوج البنت لهذا الشاب كائناً من كان ما دام تنطبق عليه المواصفات. ولذلك نقول: على الإنسان أن يبحث عن المرأة التي تناسبه في بيئته وطبيعته ومستواه الاجتماعي والمادي حتى لا يحدث نتيجة التفاوت مشكلة في المستقبل. نعم، إن التفاوت قد لا تجعله الشريعة مقياساً وأساساً أبداً، لكن مراعاة هذا التفاوت من الحكمة التي أمرت بها الشريعة، ولذلك الإنسان يحرص أن يأخذ من هي قريبة منه في مستواه وطبقته فهذا أحرى أن يؤدم بينهما. وبعض الناس قد يشترط شروطاً، فيقول: أريدها طالبة علم وجميلة ومن بيت معين، ويشترط شروطاً كثيرة لا تجتمع إلا في النادر، ويقول: أنا مستعد أن أنتظر سنة وسنتين وثلاث وخمس ليس مهماً عندي، فنقول: كيف هذا؟ كيف تمكث هذه الفترة من حياتك فترة طويلة في عالم الفتن وتضيف شرطاً إلى شرط وتعقد المسألة، وكلما أتيح لك المجال قلت: بقي شرط واحد لم يتوفر، فنقول: هذا من قلة العقل، وبعضهم يقول: أريد فتاة تعرف الطبخ حتى تبيض وجهي مع ضيوفي، فنقول: خذها ولو كانت لا تحسنه فإن الطبخ من شيم النساء وهي مفطورة على سرعة تعلمه والقيام بالبيت فستتعلم إن شاء الله، يندر أن نسمع أن امرأة بقيت عشرين سنة لا تحسن الطبخ بل إنها في الغالب ستتقنه ولو بعد حين. وبعض الشباب قد لا يبالي بالزواج من المرأة التي تكون في البيئة المترفة، ثم يحصل له انتكاسة وصدمة، فإن الفتيات اللاتي يعشن في البيئات المترفة في الغالب لا تعرف كيف تطبخ ولا كيف تنظف ولا كيف تكوي الملابس ونحو ذلك، وربما إذا أرادت أن تتزوج أتت معها بخادمة أمها لأنها كانت مترفة في تلك البيئة فهي لا تصلح أن تكون ربة منزل ولا أن تدبر شئونه. ولكن المسألة وسط فالإنسان هو الذي يبحث عن امرأة جادة ليست من بيئة مترفة أو عندها استعداد للتغيير ولو كانت في بيئة مترفة، المهم أن تكون صاحبة دين، ثم ينبغي أن يصبر عليها ريثما تتعلم شئون منزلها وتتعلم الطبخ والغسل والتنظيف ونحو ذلك، فإنها قد تكون ذات أم، أو عندها خدم في البيت يقومون بكل شيء، فلذلك لا تنشأ متعلمة لهذه الأشياء، لكن على الشاب ألا يتوقع أن تكون الزوجة هذه تعطيه خدمة فندقية من فئة خمسة نجوم، فإن بعض الناس يريد ذلك ويتوقعه يريد زوجة تعطيه من البداية خدمة ممتازة، فنقول: حلمك وصبرك فإذا كان عندك رفق فسيأتي المطلوب بإذن الله تعالى.

كيفية البحث عن الزوجة

كيفية البحث عن الزوجة كيف يبحث الشخص عن الزوجة حيث وأنه قد عرف المواصفات، من أين له أن يعثر عليها؟ إن المسألة بطبيعة الحال شاقة، نعم بعض الناس لا يتعبون؛ لأنه قد يكون عنده إحدى قريباته بنت عم أو بنت خال معدة أو من زمن يتكلمون أنها لفلان، فببساطة إذا كانت بنت خاله أو بنت خالته مثلاً صاحبة دين فتاة متدينة أمه كلمت أخته أو أخاها وصارت المسألة سهلة وخُطبت الفتاة ووافقوا والمسألة عائلية وانتهت القضية، لكن ليس كل الناس يتوفر لهم هذا ويجدون في أقربائهم من تكون فيها المواصفات الطيبة أو يريدون الابتعاد، يقولون مثلاً: أخشى إن تزوجت بإحدى قريباتي أنه نتيجة الخلافات التي قد تحدث مستقبلاً يصل الأمر إلى قطع الرحم، فلو اختلفت معها ذهبت إلى أمها التي هي خالتي وشكت لها ما يحدث، فخالتي غضبت وكلمت أمي فأمي انتصرت لابنها فقامت المشكلات بين أمي وخالتي، وبيني وبين خالتي، أو بيني وبين خالي، أو بيني وبين عمي، فأنا أريد أن أختصر المسألة من البداية وأبتعد وأتزوج من نساء بعيدين، وليس هذا عيباً ولا خطأ في النظرة، لكن لا عيب أن يتزوج الإنسان من إحدى قريباته، فقد تزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش وما هي قرابتها منه؟ بنت عمته، فإذاً دعك من الكلام الذي يقوله بعض الناس ابتعد عن الأقارب والأقارب عقارب، وأنها الأمراض الوراثية ونحو ذلك، فالزواج من الأقارب معروف من عهد الصحابة والسلف؛ لكن لو أراد الإنسان أن يبتعد، رأى مثلاً هناك مرضاً وراثياً في العائلة فخشي إن تزوج أن يكون ذلك في أولاده، فلا حرج عليه مطلقاً أن يبعد ويتزوج من الأباعد وفيها فوائد، مثل: تقريب الأسر البعيدة، فهذه الأسرة ليس بينه وبينها قرابة من قبل، فتتقارب الأسر البعيدة بالزواج من الأباعد ويكون أبعد عن قطيعة الرحم لو صارت مشاكل أو مشكلات بينه وبين زوجته. إذا غير البحث في الأقارب كيف يبحث الشخص؟ البحث في الغالب يكون عن طريق النساء؛ لأنه من الذي يعرف أن هذا البيت عندهم بنات؟ المسألة سيكون فيها وسائط من النساء، ولذلك فهو سيتجه للبحث عن طريق محارمه مثلاً من النساء وفلانة تكلم فلانة وما أحسن النساء في هذا المجال؛ فانتشار الأخبار عندهن سريع، وكذلك فبعض الأمهات يصطحبن بناتهن إلى الأعراس من أجل أن ترى فتخطب مثلاً، فلذلك البحث عن طريق النساء من الوسائل المهمة جداً، لكن الآن -ولله الحمد- بعد انتشار التدين قد عرفت غير الملتزمة تعريف الملتزمة، ففي المدارس والكليات وعلى مستوى الأسر والعوائل معروفة الآن من هي المرأة المتدينة؛ إذا قلت لهم: من هي المرأة المتدينة؟ قالوا: التي لا ترى التلفزيون، ولا تسمع الأغاني، وتلبس قفازات، باختصار: مسألة صفات المتدينة في الغالب معروفة، نعم هي لا تعرف قضية العلم ولا تستطيع أن تختبر العلم الشرعي لكن كما قلنا: يكفي المتدينة التي تقوم بالواجبات، وتمتنع عن المحرمات. وبالمناسبة فإن طريق النساء حتى الخطابات قال بعض العلماء: يدفع لها أجرة الدلالة لو طلبت، لو كان في المجتمع من يخطب أو تدل دلالة تدل العوائل أو تدل فلاناً على زوجة ثم طلبت الأجرة تعطى ولا حرج شرعي في هذا. وكذلك يمكن البحث عن طريق الأخت لو كانت في مدرسة ثانوية أو كانت في كلية ونحو ذلك، وكذلك عن طريق الإخوة في الله.

مسألة البحث عن زوج للأخت

مسألة البحث عن زوج للأخت هنا مسألة ينبغي التأكيد عليها، وهي: أن كثيراً من الأمور يمكن أن تحل لو أن كل شخص بحث لأخته عن زوج متدين، لو كان ينشط في البحث لأخته عن زوج متدين فتأتي المسألة بالعكس تأتي المسألة من الجهة الأخرى ولكن هذا وللأسف ليس منتشراً كثيراً عند الناس؛ بل بعضهم يعده عيباً وعاراً، ويقول: بناتنا لسن للعرض، ومن قال لك: أخرجهن لي حتى أراهن في البيت إذا أردت أن أتقدم أو في الشارع؟ المسألة مسألة البحث عن الكفؤ لها، ألم يأتك نبأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما تأيمت حفصة فمات زوجها خنيس بن حذافة السهمي بـ المدينة، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [أتيت عثمان بن عفان فعرضت عليه حفصة، فقال: سأنظر في أمري، فلبثت ليالي ثم لقيني، فقال: قد بدا لي ألا أتزوج يومي هذا، قال عمر: فلقيت أبا بكر الصديق، فقلت: إن شئت زوجتك حفصة بنت عمر فصمت أبو بكر فلم يرجع إليَّ شيئاً، وكنت أوجد عليه مني على عثمان، صحيح أن الإنسان قد يُصدم عندما يرفض منه الطرف الآخر وتكون المسألة كأنها فشيلة كما يقول بعض الناس، أعرض عليه أختي أو بنتي ثم يرفض، فنقول: لا حرج في ذلك إذا رفض، أنت عملت جهداً مشكوراً ومأجوراً عليه -إن شاء الله- للبحث لأختك عن زوج متدين أو لابنتك عن شخص متدين ثم خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنكحتها إياه، فلقيني أبو بكر فقال: لعلك وجدت عليَّ حين عرضت عليَّ حفصة فلم أرجع إليك شيئاً؟ فقال عمر: قلت: نعم. قال أبو بكر: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت إلا أني كنت علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد ذكرها فلم أكن لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم لقبلتها]

الحث على السعي في التوسط في تزويج الشباب

الحث على السعي في التوسط في تزويج الشباب كذلك من الأمور المهمة أن الشخص صاحب الدين يتوسط لمن يريد الزواج أو صاحب العلم أو صاحب الفضل أو الشخص المشهور أو السيد في قومه يتوسط، هذه من وسائل التقريب بين الشاب والفتاة أن يوجد هناك من يتوسط من يبذل جاهه في سبيل الله يبذل مكانته في المجتمع في سبيل الله فيبحث يشغل زوجته في البحث، وقد وجد من المشاريع الطيبة في الدلالة في الزواج ما جعل الله فيه خيراً عظيماً، بحيث يمكن أن يستغل ويأتي بنتائج كبيرة للغاية فهذا من الطرق، أيضاً النبي عليه الصلاة والسلام كان أحياناً يأمر عائلة أن يزوجوا فلاناً يعرض عليهم كما توسط لـ جليبيب ولم يكن رجلاً سيداً ولا رجلاً مشهوراً ولا رجلاً نسيباً ولا حسيباً، جليبيب رجل متواضع فقير ليس ذا حسب، أرسل لأناس أن يزوجوه فكأن الأم امتنعت، فالبنت كانت مطيعة، ولفتت نظر أهلها كيف تخالفون مشورة النبي صلى الله عليه وسلم! كيف ترفضون طلب النبي صلى الله عليه وسلم فاقتنعوا وزوجوه، وكذلك توسط عليه الصلاة والسلام لـ أبي هند عند بني بياضة وهو حجام.

النظر في أهل الزوجة

النظر في أهل الزوجة من الأمور المهمة أيضاً أن ينظر الشخص في حال أهل زوجته، ويحاول أن يختار المرأة من المنبت الحسن، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تخيروا لنطفكم وأنكحوا الأكفاء وأنكحوا إليهم) أي: اطلبوا لها أطيب المناكح وأزكاها والحديث صحيح بطرقه، وقال عروة بن الزبير: [ما رفع أحد نفسه بعد الإيمان بالله بمثل منكح صدق، ولا وضع نفسه له بعد الكفر بالله بمثل منكح سوء]. وقال بعض الشعراء: وأول خبث الماء خبث ترابه وأول خبث القوم خبث المناكح ولا شك أن هذه المرأة سيكون أبوها جداً لأولادك، وأمها جدة لأولادك، وأخوها خال لأولادك، وأختها خالةٌ لأولادك؛ فلذلك ينبغي الاعتناء بالأسرة قدر الإمكان. إن الحاجة التي نحن فيها الآن في هذا الزمان وهي حالة انتشار الفسق والفجور في المجتمع تجعل التوصل إلى امرأة متدينة من بيت متدين أمراً صعباً، ولذلك فلو أن الإنسان لم يجد إلا امرأة متدينة وأهلها غير متدينين فلا مانع أن يخطبها فينكحها، وقلت تصحيحاً للاسم الوارد قبل قليل النبي عليه الصلاة والسلام توسط لـ أبي هند وقال: (يا بني بياضة! أنكحوا أبا هند وأنكحوا إليه) وكان حجاماً، روى الحديث أبو داود رحمه الله تعالى وهو حديث صحيح. فنقول: إن البحث عن منبت حسن للزوجة هو من الأمور المهمة.

الاستعداد للزواج أمر مطلوب

الاستعداد للزواج أمر مطلوب كذلك فإن الاستعداد للزواج أمر مهم، فإن بعض الشباب لا يقدرون للأمر قدره، ولا يعدون له عدته، يأتيك شخص متحمس يقول: أريد الزواج والشريعة حثت على الزواج، وأنا لا بد أن أتزوج ويسعى في الأمر سعياً شديداً، لكنه ما أعد العدة من جهة الشعور بالمسئولية من جهة العلم بالحقوق الشرعية للزوجين من جهة البحث عن مصدر للمعيشة، وبعض الأشخاص إذا تزوج ليس مستعداً أن يذهب ويشتري طعاماً ولا أن يأتي بمن يكمل بيته؛ لأنه ليس عنده شعور بالمسئولية، ولذلك كثير من هذه الزواجات تفشل لهذا السبب. وإعداد الشاب نفسه للمسئولية مستقبلاً أمرٌ مهم، وقلنا: الإعداد يكون إعداداً علمياً ويكون إعداداً نفسياً، وأن يقدر المسألة قدرها، وأن هذه أسرة ستنشأ، وأولاد سيتحمل مسئوليتهم سيأتي لهم بطعامهم ولباسهم ويذهب بهم إلى الطبيب، فبعض الكسالى يقولون: نريد زواجاً بغير مسئوليات، كيف تريد زواجاً بغير مسئولية؟! ولذلك يقع لهم في بداية أمرهم أشياء محرجة للغاية حتى يعاب من قبل أهل زوجته، يقولون: زوجنا شخصاً غير ناضج، إذا انتهى الغاز من البيت لا يأتي بالغاز، وإذا انتهى اللحم لا يأتي بلحم، وإذا انتهى الخبز من البيت ليس مستعداً أن يذهب إلى البقالة ليأتي به فهو كسلان، هذه قضايا مهمة ومسائل واقعية؛ ولذلك من أسباب فشل الزواجات عدم الاستعداد النفسي لتحمل المسئولية في المستقبل، تريد أن تقدم على خطوة كهذه الله يعينك نعم لا شك في ذلك؛ لكن إذا لم تبذل الأسباب ولم تعرف قدر القضية فلن تنجح.

التغافل عن أخطاء الزوجة من بداية الأمر

التغافل عن أخطاء الزوجة من بداية الأمر بعضهم يريد زوجة طائعة من أول الأمر! فإذا خالفته في شيء حلف عليها بالطلاق، يقول: كيف تعصيني؟ لم يدخل إلى الزواج من بوابة واقعية الأمر، المرأة ليست ملكاً لا يخطئ، إنها تخطئ وقد تعصي وفيها اعوجاج، بل أخبر النبي صلى الله عليه وسلم (إنها خلقت من ضلع أعوج، وإن أعوج ما في الضلع أعلاه) ولذلك فلابد أن يدخل الشخص إلى عالم الزواج وهو مروض نفسه أنه سيكون واقعياً، وليس هذا معناه الرضا بالمنكرات كطبيعة الحال لكن معناه تحمل أخطاء مسامحة وصبر، يوطن نفسه على مقاومة ما يكون في نفسه من المشاعر الرديئة: (لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن ساءه منها خلق رضي آخر) ربما لا يعجبك طبخها لكن ينفعك دينها وصلاحها ربما يسوءك شكلها لكن يأتيك منها ولد يساوي الدنيا، ولد صالح يكون مفخرة لك، بعض الناس يقول: هذه زوجتي لو ما جاءني منها إلا هذا الولد لكفى، من كثرة ما يراه من نجابة الولد وصلاحه يقول: يكفي أنها أنجبت لي هذا الولد. وكذلك بعضهم قد يتزوج امرأة غير متعلمة فيصاب بنوع من الحرج وخصوصاً إذا أراد أن يستقبل ضيوفاً أو أصحاباً له، له نساء متعلمات، فيقول: هذه زوجتي إذا جلست معهن فلا تحسن الكلام، ولا تفتح موضوعات، ولا تعرف تناقش ونحو ذلك، فنقول: علمها، والتعليم بالمناسبة ليس كل شيء؛ لأن بعض النساء قد درسن في مدرسة الحياة، وعندهن من الفطنة والذكاء ولو لم تكن جامعية ولا لديها مؤهل ثانوي لكن عندها فطنة وذكاء وأدب درست في مدرسة الحياة، وقد تكون الجامعية وبالاً على زوجها، فالمسألة إذاً في القضية هذه مسألة وسط، لا للجاهلية الأمية التي يحرج زوجها لا يشترط أنه يوافق عليها، ابحث عن امرأة فيها شيء من التعلم والوعي، وهذا ينفع ولا شك حتى الوعي بالأشياء الطبية والإسعافات الأولية تنفع المرأة. وكذلك ينبغي على الشاب في هذا الموضوع أن يكثر من الاستشارة، وألا يفاجئ أصحابه بزواج وهو لم يتأكد من وضع قدمه في المكان المناسب والصحيح، قد يشير عليه بعض أصحابه برأي سديد، قد يكون بعضهم على علم أو سمعوا أخباراً عن هذه الفتاة التي تقدم إليها، قد يعرفون من طبيعته أشياء ينبهونه بها إلى أمور تنفعه، قد يكون عنده طبيعة حارة أو عصبي المزاج والمرأة كذلك، فمثلاً: سمعوا أنها متدينة وتصلي ومتحجبة لكنها عنيدة وعصبية، وهو عصبي وعنيد، إذاً وجود هذين الأمرين معاً سيؤدي إلى مشكلات كثيرة، فربما وجد نصيحة من بعض أصحابه لا تقدر بثمن. ثم إن بعض القصور في المعلومات عن تدين المرأة التي سيتقدم إليها ربما تأتيه بها زوجة أحد أصحابه عن طريق صاحبه وأخيه المسلم.

الوضوح عند الزواج

الوضوح عند الزواج من الأمور المهمة للشاب على عتبة الزواج: الوضوح، فلابد أن تكون الأمور واضحة، مسألة أن تكمل البنت دراستها أم لا؟ أن تتوظف أم لا تتوظف؟ الراتب من حق من؟ هذه قضية مهمة، ولذلك كانت الشروط بين المسلمين محترمة، (المسلمون على شروطهم) وبعض الناس يغضبون لو شُرِط عليه شيء أو يغضب منه لو شَرَط شيئاً، لكن العامة يقولون: (الذي أوله شرط آخره نور) وهذا صحيح، نحن لا نقول: عقد المسألة من البداية وضع شروطاً صعبة أو هم يضعون عليك شروطاً صعبة، لكن الأشياء الأساسية التي لها تأثير في الواقع كقضية عمل المرأة بعد التخرج، هذه قضية سيترتب عليها أشياء في حياتك العملية في تربية الأولاد في رجوعك إلى البيت واستقرار البيت، ولذلك لابد أن تكون واضحة من البداية، وكثير من حالات الطلاق ناتجة عن الاختلاف على راتب الزوجة، وعلى عمل الزوجة، وعلى إكمال الزوجة للدراسة ونحو ذلك. فالوضوح إذاً أمرٌ مهم لكن لا للشروط المعقدة.

مسألة العيوب الموجودة في الزوجين

مسألة العيوب الموجودة في الزوجين قضية العيوب الموجودة بين الطرفين ذكرها الفقهاء في كتاب النكاح من كتب الفقه، قد يكون هناك عيب يمنع من الاستمتاع كما أن يكون أحد الطرفين مصاباً بمرض الصرع أو انفصام الشخصية مثلاً، أو قد يكون بالمرأة عيب يمنع من الاستمتاع بها، العيوب المانعة من الاستمتاع من الأشياء التي يحق بها للطرف الآخر فسخ النكاح، وبعض الناس عندهم خديعة ومكر، فيريدون أن يزوجوا ابنتهم ولو كان ما بها من العيوب دون أن يبينوا للزوج كبرص مثلاً ونحوه وهذا حرام، أو يكون في الزوج عيب، مثل: مرض الصرع مثلاً لا يبينه، فإذا كان المرض مستفشياً فإنه ربما يكون من الأشياء، أو مرض انفصام الشخصية هذا مرض خطير في طبيعة الحال لابد أن يبين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (المكر والخداع في النار) بعض الشباب يقول: لو أخبرتهم بما عندي لم يوافقوا يعني: لا تخبرهم؟ تخفي عنهم ذلك؟ إذا كانت الأمراض تعالج فلتعالج قبل الزواج، هل يجوز للشخص أن يدخل بامرأة وفيه مرض معدٍ ينتقل إليها؟ هذه قضية حساسة وخطيرة، نعم نحن لسنا مع الذين يعقدون الأمور ويقولون: يجب الفحص الطبي قبل الزواج، هذا لا يجب في الشريعة، شيء ما هو معلوم لو كان معلوماً وجب ذكره لكن لو قال شخص: هل يجب الفحص الطبي قبل الزواج؟ A لا يجب ذلك، لكن من أراد أن يفحص فليفحص، لكن أن نوجبه ونؤثم من لا يقوم به؟ الجواب: لا.

معرفة الحقوق الزوجية

معرفة الحقوق الزوجية من الأمور كذلك معرفة الحقوق الشرعية لكل منهما، فإن بعض الناس يدخل في الزواج وليس عنده علم بالحقوق الشرعية لزوجته، وبعض النساء تدخل في الزواج وما عندها علم بالحقوق الشرعية لزوجها، فلا يعرف كل واحد منهما ما حق الآخر عليه؛ ولذلك يحصل الخصام والنكد والمشاجرات التي لو كانت الحقوق الشرعية واضحة لما حصلت، وكذلك فإنه لو علمت الحقوق الشرعية لما حصل بين الزوج وزوجته كثير من المشكلات. عن عبد الله بن عمرو قال: (زوجني أبي امرأة من قريش -بالمناسبة نساء قريش هن أصلح النساء بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم أحناهن على ولد في صغره، وأرعاهن لما في ذات يد الزوج، خير نساء ركبن الإبل صالح نساء قريش- فلما دخلت عليَّ جعلت لا أنحاش لها -أنحاش: مأخوذ من التجمع والجمع أي: لا أقربها- مما بي من القوة على العبادة من الصوم والصلاة، فجاء عمرو بن العاص إلى كنته -الكنة هي زوجة الابن- حتى دخل عليها -وهذا فيه فائدة تفقد أبي الزوج لزوجة ولده بعد الدخول؛ لأنه قد يكون هناك خلل يستطيع أن يساعدها في حله- فقال لها: كيف وجدت بعلك؟ قالت: خير الرجال أو كخير البعولة من رجل لم يفتش لنا كنفاً -ما كشف ستراً ولا جانباً هذا تلميح دقيق ناتج من فطنة عظيمة، قالت: خير الرجال ولدك، هذا أحسن الرجال لكنه لا يفتش لنا كنفاً- ولم يعرف لنا فراشاً، يقول عبد الله بن عمرو بن العاص: فأقبل عليَّ -أي: أبي- فعاتبني وعضني بلسانه -أي: عنفني ووبخني- فقال: أنكحتك امرأة من قريش ذات حسب وفعلت وفعلت -فعلت ببنت الناس وتركتها بغير حق الفراش- ثم انطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشكاني، فأرسل إليَّ النبي صلى الله عليه وسلم فأتيته، فقال: أتصوم النهار؟ قلت: نعم. قال: وتقوم الليل؟ قلت: نعم. قال: لكني أصوم وأفطر وأصلي وأنام -وهو صلى الله عليه وسلم يعاشر النساء- ثم قال لي: فمن رغب عن سنتي فليس مني، قال: اقرأ القرآن في كل عشرة أيام، قلت: إني أجدني أقوى من ذلك، قال: فاقرأه في كل ثلاثة أيام، ثم قال: صم في كل شهر ثلاثة أيام، قلت: إني أجدني أقوى من ذلك، قال: فلم يزل يرفعني حتى قال: صم يوماً وأفطر يوماً فإنه أفضل الصيام وهو صيام أخي داود، وقال له: إن لكل عمل شرة -أي: نشاط وقوة- ولكل شرة فترة -أي: هبوط وانحدار، فإما إلى سنة وإما إلى بدعة- فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك). قال مجاهد: كان عبد الله بن عمرو حين ضعف وكبر يصوم الأيام كذلك يصل بعضها إلى بعض ليتقوى بذلك ثم يفطر بعدد تلك الأيام، أي: يصوم سبعة متوالية ثم يفطر سبعة، وكان يقول: [لئن أكون قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليّ]. فالشاهد من القصة كيف أن عبد الله بن عمرو بن العاص كان من اجتهاده في العبادة لا يعطي زوجته حقها حتى حصل ذلك التنبيه. وكذلك قال سلمان الفارسي لـ أبي الدرداء لما رأى أم الدرداء متبذلة وشكت له زوجها، قال: (إن لأهلك عليك حقاً) وأقره النبي صلى الله عليه وسلم.

النظر إلى المخطوبة

النظر إلى المخطوبة من الأمور المهمة التي ينبغي أن نتحدث عنها في هذا المقام قضية النظر إلى المخطوبة فهي مما يهم الشاب على عتبة الزواج، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر منها ما يدعو إلى نكاحها فليفعل، قال جابر: فخطبت جارية من بني سلمة فكنت أختبئ لها تحت الكربِ وأصول السعف حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها فتزوجتها). كذلك أخرج أحمد رحمه الله وغيره من حديث سهل بن أبي حثمة قال: (رأيت محمد بن مسلمة يطارد بثينة بنت الضحاك ببصره يريد أن ينظر إليها، فقلت: تنظر إليها وأنت من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم -أي: هذه امرأة أجنبية وأنت صحابي- فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا ألقى الله عز وجل في قلب امرئ خطبة امرأة فلا بأس أن ينظر إليها). وقال المغيرة بن شعبة: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له امرأة أخطبها، فقال: اذهب فانظر إليها فإنه أجدر أن يؤدم بينكما، قال: فأتيت امرأة من الأنصار فخطبتها إلى أبويها وأخبرتهما بقول النبي صلى الله عليه وسلم فكأنهما كرها ذلك، قالت: فسمعت المرأة وهي في خدرها، فقالت: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرك أن تنظر فانظر وإلا فإني أنشدك -كأنها عظمت ذلك عليه- قال: فنظرت إليها فتزوجتها فذكر من موافقتها) أي: من طاعتها لزوجها بعد ذلك، وقال صاحب الزوائد: إسناده صحيح؛ لأن الحديث قد رواه ابن ماجة رحمه الله تعالى. وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا خطب أحدكم امرأة فلا جناح عليه أن ينظر إليها إذا كان إنما ينظر إليها لخطبتها غير متلاعب، وإن كانت لا تعلم ذلك)، هذا الحديث دليل على جواز النظر إلى المخطوبة وإن كانت لا تدري ولا تحس ما دام الشخص جاداً غير متلاعب، فإنه يجوز له أن ينظر إليها من وراء ستار ونحوه وإن كانت لا تدري. وقال أبو هريرة فيما رواه مسلم رحمه الله: (خطب رجل امرأة من الأنصار، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل نظرت إليها؟ قال: لا، قال: فاذهب فانظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئاً) أي: من الصغر أنها كانت أعينهم صغيرة فإذا رآها فإنه يعلم حقيقة الأمر. وبهذه المناسبة أقول: إنه لا بد من مراعاة نفسية المرأة عند التقدم إليها والنظر، وكذلك لابد أن يكون النظر شرعياً فما هي الأشياء التي ذكرها العلماء فيما يحل للرجل أن ينظر إلى المرأة؟ لقد اختلفت أقوال العلماء في ذلك، فبعضهم قال: ينظر إليها كما هو حجابها في الصلاة، وبعضهم قال: يراها كما تظهر عند محارمها، وبعضهم قال: يرى منها الوجه والعنق والكفين والقدمين، المهم أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها، ولا شك أن الوجه أهم الأشياء، فإن المرأة لا تعرف بجمال أو بقبح في الغالب إلا من وجهها فهو عنوان الجمال، وهو أهم الأشياء. ولكن الشاب يقدم من أهله من يأتي له بصورة مقربة عنها حتى يقرر الرؤية من عدمها منعاً للإحراج، ولو أنه كان لديها صورة فجاء أحد محارمها هي فأراها لهذا الشاب الذي يريد التقدم إليها فنظر إليها ولم يحتفظ بها بطبيعة الحال وإنما ينظر ثم تتلف فإنه لا بأس بذلك كما أفتى بعض أهل العلم المعاصرين، وإذا ذهب للنظر يجوز له أن يكلمها ويكون النظر بقدر الحاجة، فلو كان يكفي خمس دقائق فلا يجوز أن ينظر أكثر ونحو ذلك. وبعض الناس يقول: استحيت وما نظرت جيداً وأنا الآن متورط، فهل أرجع إليهم وأقول لهم: أروني البنت مرة ثانية، فنقول من أولها: لابد أن تذهب وأنت تعلم ماذا تريد وتكرر، وليست القضية سهلة في أن يعاد النظر مرات، المسألة من الآن أن تذهب لتنظر فتذهب لتنظر، وبعضهم يقول: عندما دخلت علمت مكان رأسها من دخولها عند الباب، حتى إذا ذهبت عرفت فيما بعد طولها، فنقول: اعمل ما شئت علم الباب ولا تخرج إلا وقد قررت وعزمت أو نظرت إلى ما يدعوك إلى نكاحها. هل تجوز الخلوة؟ A لا. هل يجوز له أن تصافحها؟ الجواب: لا. وكذلك لا يجوز لها أن تتطيب إنما تأتي بمنظرها الطبيعي، وينبغي أن يكون هناك في المجلس من يزيل الخلوة؛ لأنها لا زالت امرأة أجنبية والنظر هنا للضرورة ونحن لا زلنا الآن في حدود الضرورة، وينبغي على الأولاد أو الشباب المتدينين في البيت إقناع الآباء المتعجرفين الذين يرفضون تطبيق السنة في قضية النظر إلى المخطوبة.

تحريم المواعدة السرية بين الرجل والمرأة

تحريم المواعدة السرية بين الرجل والمرأة من الأمور المهمة تحريم المواعدة السرية، قال الله تعالى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً} [البقرة:235] فإذاً المواعدة السرية أو ما يحدث الآن من قضايا الخطبة عبر الهاتف، ويقول: أجرب، وما يسمى بتجربة الحب قبل الزواج! كل ذلك من الأمور المحرمة التي غالباً ما تكون معصية، فإذا دخل الشخص الزواج من باب المعصية فزواجه في الغالب سيكون فاشلاً، وبعض المترفين والذين درسوا في الخارج أو تأثروا بثقافة الغربيين يؤمنون بذلك، ويقولون: لابد من تجربة قبل الزواج، نقول: إن هذه العلاقات الهاتفية لم تأتِ بنتائج طيبة مطلقاً في الزواج، وإن أغلب التجارب التي عاشها أولئك الفجرة مع الفاجرات تجارب فاشلة، وأن خروج المرأة مع الرجل قبل العقد الشرعي حرام، وأدى إلى مصائب؛ بل إن بعض الذين ألفوا في أهمية التجربة قبل الزواج من الغربيين أو ممن حذا حذوهم من هؤلاء الذين يعيشون في الشرق لكن عقولهم وقلوبهم في الغرب اعترفوا بأن هذا أمر سلبي، ولذلك يقول بعضهم: إن غالب الذين أتوا للعقد كن حوامل، وكثيراً ما تنفسخ الخطبة بعدما يقضي الذئب وطره، وتقع الكارثة عند ذلك، وهذا نتيجة المعصية ولا شك، ثم كيف يعقد عليها وهي حامل والولد ليس ولده شرعاً؛ لأنه سوف ينسب إلى أمه لأنه ولد زنا، ولذلك فكل هذا الكلام الذي يقولونه من أهمية التعارف وإقامة العلاقات لكي يفهم كل من الطرفين الآخر قبل العقد الشرعي هذا كله حرام، لأن في شرعنا يكفي أن ينظر الإنسان إلى المرأة عند الخطبة ويسأل عنها ويدقق في البحث ولا يجعل القضية سائبة، ومن أول كلمة تأتيه يوافق، فإذا كان ذلك كذلك يكفي إن شاء الله وسيبارك له فيها. قبل أن ندخل في قضية العقد والزواج ننبه إلى مسألة، وهي: أن بعض الشباب يصابون بنكسة إذا رده أولياء أمور بعض النساء وتحطمت نفسيته، وقال: كيف يردوني؟ وأعرف واحداً قال لي من سوء ظنه بالله وهذه قضية خطيرة جداً قال: لو أن الله يريد أن أتزوج لوفقني لكن لا يريد، ويقول: تقدمت إلى سبعين فتاة فرفضوا كلهم، صحيح أن الإنسان قد تضيق عليه نفسه ويصاب بخيبة أمل وبكربة إذا تقدم ورفض وتقدم ورفض وتقدم ورفض لكن ومدمن القرع للأبواب أن يلجا وهذا الأمر لابد فيه من الصبر والتحمل، ولا ينبغي أن يعيب الناس بعضهم على بعض في هذه المسألة؛ لأنهم قد يرون من المناسب أن يزوجوه إذا كانوا قد رفضوه لسبب شرعي.

الخطبة على خطبة الأخ

الخطبة على خطبة الأخ كذلك من الأمور المهمة ألا يدخل على خطبة أخيه فيخطب على خطبته، فإذا عرفت أن هذه الفتاة قد تقدم إليها شخص لا يجوز لك أن تتقدم إليها مطلقاً حتى يرفضوه هو أو تمضي فترة طويلة تدل على أنهم لا رغبة لهم به أو تستأذن منه، وتقول: أنت ما شاء الله عليك يمكن أن تجد غيرها كثير، لكني مسكين وما عندي إلا هذه الفرصة، فلو سمحت لي أن أتقدم أنا وتأذن لي فإن أذن له جاز ذلك، لو تقدم إلى فتاة وهو لا يدري أن رجلاً قد خطبها فلا يأثم ما دام لا يعلم، أما إذا كان يعلم وتقدم فهو آثم، فإذا انتهت رغبتهم بالخاطب الأول فعند ذلك يتقدم هو، ولا شك أن خطبة الرجل على خطبة أخيه من أسباب إيقاع الوحشة والعداوة بين المسلمين.

أمور ينبغي مراعاتها عند بداية الزواج

أمور ينبغي مراعاتها عند بداية الزواج من الأمور المهمة التي ينبغي ملاحظتها ورعايتها عند بداية الزواج:

ملاطفة الزوجة عند البناء بها

ملاطفة الزوجة عند البناء بها أولاً: ملاطفة الزوجة عند البناء بها كما جاء في حديث أسماء بنت يزيد بن السكن قالت: (إني قيمت عائشة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جئته فدعوته لجلوتها -أي: النظر إليها مكشوفة- فجاء فجلس إلى جنبها، فأتي بعس لبن -أي: بقدح كبير- فشرب ثم ناولها النبي صلى الله عليه وسلم فخفضت رأسها واستحيت. قالت أسماء: فانتهرتها، وقلت لها: خذي من يد النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: فأخذت فشربت شيئاً، ثم قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: اعطي تربتك صديقتك، قالت أسماء: فقلت: يا رسول الله! بل خذه واشرب منه ثم ناولنيه من يدك، فأخذه فشرب منه ثم ناولنيه، قالت: فجلست ثم وضعت على ركبتي ثم طفت أديره وأتبعه بشفتي؛ لكي تصيب بركة النبي صلى الله عليه وسلم).

الدعاء بالبركة للزوجة عند الدخول عليها

الدعاء بالبركة للزوجة عند الدخول عليها كذلك إذا دخل عليها يضع يده على رأسها ويدعو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا تزوج أحدكم امرأة فليأخذ بناصيتها وليسمِ الله عز وجل وليدعو بالبركة، ويقول: باسم الله، اللهم إني أسألك من خيرها وخير ما جبلت عليه، وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلت عليه) لأن الأشياء المجبولة عليها المرأة هي التي تكون من عوامل النجاح أو الشقاء في الحياة الزوجية.

الصلاة مع الزوجة ركعتين

الصلاة مع الزوجة ركعتين يستحب للزوجين أن يصليا ركعتين معاً كما جاء في حديث أبي سعيد بن أبي أسيد قال: (تزوجت وأنا مملوك، فدعوت نفراً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم ابن مسعود وأبو ذر وحذيفة -أجابوه وهم من كبار الصحابة مع أنه مملوك لأن إجابة الدعوة واجبة- قال: وأقيمت الصلاة فذهب أبو ذر ليتقدم، فقالوا: إليك، قال: أو كذلك؟ قالوا: نعم -أي: من الأولى أن يتقدم صاحب البيت- قال: فتقدمت بهم وأنا عبد مملوك، وعلموني، فقالوا: إذا دخل عليك أهلك فصلِّ ركعتين ثم اسأل الله من خير ما دخل عليك وتعوذ به من شره، ثم شأنك وشأن أهلك) وهذا الحديث صححه الشيخ الألباني، وقال: سنده صحيح إلى أبي سعيد وهو مستور، سِوى أن الحافظ أورده في الإصابة، ثم رأيته في الثقات لـ ابن حبان، وعند الشيخ قاعدة في تصحيح حديث التابعي الذي يروي عن جماعة من الصحابة ولو كان مستوراً، وكذلك يتأكد في حقه صلاة الركعتين إذا كان يخشى نفورها منه.

الوليمة للعرس

الوليمة للعرس وينوي بنكاحه وجه الله تعالى، ويستحب له في صبيحة بنائه بأهله أن يأتي أقاربه الذين أتوه في داره ويسلم عليهم، ويدعو لهم، وأن يقابلوه بالمثل، لحديث أنسٍ رضي الله عنه قال: (أولم رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ بنى بـ زينب فأشبع المسلمين خبزاً ولحماً، ثم خرج إلى أمهات المؤمنين فسلم عليهن ودعا لهن، وسلمن عليه ودعون له، فكان يفعل ذلك صبيحة بنائه) وبعض العوام يسمونها الصبحة أو الصبيحة، فإذا اجتمع إليه أهله يكون هذا أمراً حسناً. وكذلك من الأمور: الوليمة، فقد قال عليه الصلاة والسلام لـ علي لما خطب فاطمة: (إنه لا بد للعرس من وليمة) والسنة في الوليمة أن تكون بعد الدخول، ولكن إذا فعلها قبل الدخول كعادة النساء اليوم فلا بأس بذلك. والغني يولم ولو بشاه، ولو لم يجد الإنسان وكان فقيراً فيولم ولو بغير لحم، كما ثبت ذلك في السنة عندما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم بـ صفية بُسطت الأنطاع وألقي عليها التمر والأقط والسمن فشبع الناس، ولا يجوز إجابة الوليمة التي فيها معصية.

مقاومة الزوجين للمنكرات التي تحدث في الأعراس

مقاومة الزوجين للمنكرات التي تحدث في الأعراس ومن الأمور السيئة في عصرنا الإسراف في الولائم، كما أن من العادات السيئة الإسراف في المهور والمغالاة فيها، وكثيرٌ من الزيجات لا يُبارك فيها مما يحصل في الحفلات من الإسراف وغيره، وهي معصية، فيبدأ دخوله بالحياة الزوجية بمعصية، ولا بد أن يكون العرس خالياً من المعاصي، وقد يقول الشاب: أنا أضمن صالة الرجال، لكن كيف لي أن أضمن ما يحدث في صالة النساء، فإن أهلها قد يأتون فجأة بفرقة ونحوها من الأشياء التي لا تضمن، لا أضمن أنهم يغدرون بي مثلاً، أو أن أمي قد هددت بفعل كذا، أو أنها تريد أن تفعل هكذا ونحو ذلك، ويقولون: أنت افرح على ما تريد ونحن نفرح على ما نريد، وقد تكون هذه الفتاة المتدينة الملتزمة زوجته لا طاقة لها ولا قدرة على الإنكار وإيقاف المنكر، فماذا يفعل الإنسان؟ المهم أن يكون من البداية قد حرص على قضية اجتناب المنكرات، وأن يشرف بنفسه على تحضير عرس النساء ما أمكن، ليعرف ماذا سيحل وماذا سيوجد؛ لأن كثيراً من الشباب يأمنون في ذلك ثم يفاجأ بأنه قد حصل منكرات في صالة النساء. ولا بد من تعاون الطرفين هو وزوجته في مقاومة هذه المنكرات وخصوصاً عند النساء، وأنا أدعو إلى اختيار الأراضي المفتوحة لإقامة الأعراس فيها فإنها خيرٌ وأكثر بركة من الفنادق والصالات التي تنفق فيها الأموال الطائلة، من عدة جهات: أولاً: هي من الاقتصاد وليس فيها إسراف في الغالب، فهي خيامٌ وأنوار وزينات وكراسٍ أو فرش وعشاء. ثانياً: أنها أقرب إلى السنة في إعلان النكاح؛ لأنها في مكان مكشوف يراه الناس في الشارع الغادون والرائحون، فلذلك لو جعل فيها عرس الرجال لكان أمراً طيباً من باب محاربة الإسراف في الصالات والفنادق. والإنسان أو الشاب في الغالب يستدين وهذا طبيعي أن يستدين في هذا الزمان لكثرة النفقات، لم يكن عند الأولين شقق مستأجرة بكذا وكذا، وأفران وثلاجات وغسالات ونشافات وموكيت وكنب وغرفة نوم وما إلى ذلك من الأشياء الكثيرة الموجودة، فهو في الغالب سيضطر للاستدانة، لكن هناك فرق بين من يسرف ويركب على نفسه ديناً عظيماً، وبين من ينفق مقتصداً دون بخلٍ، فلو صار عليه شيء من الدين يعينه الله عز وجل، لكن يستدين الآلاف المؤلفة، بعضهم يستدين بالربا فكيف سيوفق في زواجه؟ وبعض الناس الذين ينفقون أموالاً طائلة ويتزوج ثم لا يستطيع أن يقضي دينه يعيش عيشة ضنك وشدة مع زوجته. وكذلك إذا حصل خلاف ربما يقول لها: دفعت فيك كذا وكذا، توبيخاً وإهانة، هو الذي دفع وهو الذي تكلف هذه التكاليف، وإذا كان أهل زوجته أرغموه على أشياء من هذا يصب جام غضبه على ابنتهم فيكونون شركاء في الإثم، وسبب لما سيحدث بعد ذلك من الإخفاق. والإنسان لو اتقى الله يوفقه الله بزوجة مئونتها قليلة؛ لأن من بركة المرأة تيسير صداقها، هذا من بركة المرأة، والذين يطلبون من الزوج هذه الأشياء الكثيرة لا شك أنهم يجرمون في حق ابنتهم في المستقبل، وإذا اتقيت الله يا أيها الشاب وخفته وعملت في طاعته فإنه يوفقك لأهل امرأة لا يطلبون منك الكثير، وقد أتاك نبأ تلميذ سعيد بن المسيب الذي ماتت زوجته ففقده شيخه سعيد، فلما عرف أن زوجته قد ماتت أتاه في بيته، وقال: ما حدث؟ فعلم منه الخبر، فقال: اتبعني فتبعه فأدخله على ابنته فزوجها إياه وكان فقيراً وكانت من أجمل النساء وأعلمهن، ثم أتى بها إليه وقال: كرهت أن تبيت أعزب، فأصلحتها أمها وزينتها ودخل بها، عقد له عليها ويسر له الأمر في ليلة واحدة، فإذا كان هناك تقوى من الله يمكن أن تتزوج في فترة وجيزة بمئونة قليلة، هذا توفيق من الله. وكذلك فإنه ليس من المنصوح به أن تطول الفترة بين العقد والدخول، فحتى أن العلماء قالوا في أكثر مدة ينقطع بها الرجل عن زوجته: أربعة أشهر، وقال بعضهم: ستة أشهر، قالوا: وهذا يدخل فيه بداية النكاح، أي: لو عقد على امرأة ولم يدخل بها مدة طويلة تجاوزت ستة أشهر فيجوز لها طلب الفسخ، يعني: المدة هذه التي هي أكثر مدة يسمح بها للزوج أن يبتعد عن زوجته داخلة حتى في بداية العقد ولذلك لا ينصح بطول المدة؛ لأن كلاً منهما ينظر إلى الآخر، فطول المدة هذا إلى يجر سيئاتٍ كثيرة. وعلى الشاب أن يستغل الفرصة بين العقد والدخول لأجل تثقيف زوجته وتعليمها، فيعطيها من هذه الكتيبات أو الكتب إن كانت تطيق القراءة والأشرطة الطيبة عن الخشوع في الصلاة وصفة الصلاة وصفة الوضوء، وفتاوى النساء، ومقومات الحياة الزوجية، وكيف تقضي وقتها، وآداب الزيارة بين النساء، وأحكام العشرة الزوجية يجهزها للمستقبل.

تحكيم شرع الله عند اختلاف الزوجين

تحكيم شرع الله عند اختلاف الزوجين ينبغي كذلك أن يكون الاتفاق بينهما على كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم واتباع الدليل وسؤال العلماء، فلست تجعل نفسك مرجعاً علمياً تحتكر فيه أجوبة المسائل، وليس هي تحتكم إلى هواها، وإنما بينك وبينها من البداية عليك أن تعلمها أننا سنسير على الكتاب والسنة ونستفتي العلماء ونأخذ بالأدلة ونرضى، ولا نلجأ إلى عصبية أو هوى أو عناد، والزوجة في الأيام الأولى بحسب ما يعودها زوجها. وعليه أن يبين لها ما لها وما عليها من الحقوق، وكذلك يبين لها الممنوعات والمحرمات من البداية، ولو كان قبل العقد، يبين لها رأيه الواضح وحكم الشريعة في وجود آلات اللهو في البيت، وأخطار الشاشة ونحو ذلك؛ لأن بعضهم قد يمر بها مروراً عابراً ولا يؤكد عليها أو أنه يتحاشى الدخول في هذا الموضوع ثم بعد ذلك تحصل مشكلة كبيرة؛ لأن أمها تقول: كيف تسجن بنتي وتضعها في البيت من غير تلفزيون وكيف وكيف، وأنت تغيب عن البيت مع أصحابك، ولا بد أن تجعل لها كذا، فلو كانت المسألة واضحة من البداية لاكتفى شراً كثيراً، وكذلك يبين لها حرمة البيت وأسراره وأهمية حفظها، وعدم إدخال أحدٍ بينهما في المشكلات؛ لأن نقل المشكلات إلى أهله أو إلى أهلها يوسع الدائرة ويجعل القضية أصعب في الحل، وأنه إذا صار خلاف يسأل أهل العلم، ولا بأس بالرجوع إلى العقلاء من أهله وأهلها عند الحاجة، وكثيراً ما تكبر المشكلات إذا تدخلت أمها أو أمه، ويكون هذا التدخل من أسباب الطلاق. ويحتاج الداعية إلى الله في بداية الأمر أن يفهم زوجته أهمية التضحية في سبيل الله؛ لأن الزوجة تريده كله لوحدها، ألم تقل نساء بعض السلف امرأة الزهري أن هذه الكتب أشد عليها من ثلاث ضرائر؟ وأنا أنصح أن يعجل لها بالأولاد حتى يملأ فراغها وأن يسعى في ذلك. وإذا كانت المرأة تفوقه في العلم الشرعي فلا تأخذه العزة بالإثم فيحسم النقاشات العلمية على حسب ما يرى لهوى، وحتى لا يظهر بمظهر الضعيف وأنه لا حجة لديه، فهذا دين ولا مجال فيه لاتباع الهوى، وكذلك لو كانت داعية وهو مبتدئ فإنه لا بأس أن يتلقى منها ما يصلح حاله، هذا الذي تزوج بنت سعيد بن المسيب أقام عند زوجته شهراً منقطعاً عن شيخه يتعلم من زوجته، ولا تعارض بين هذا وبين القوامة، أنت الذي تنفق وأنت الذي تطلق، أنت القائم على البيت: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34] فلا تحزن إذا فاقتك في أشياء أخرى، لأن القوامة لا زالت لك. ومن التنبيهات المهمة الإساءة في فرض القوامة منذ البداية لمفهومٍ خاطئ لإظهار الشدة أو الرفض لأي طلب.

عدم التهاون في المنكرات

عدم التهاون في المنكرات كذلك انتبه -أيها الزوج- أن تتهاون في المنكرات من بداية الأمر، فبعضهم يتهاون في أمرها بالصلاة أو إيقاظها لصلاة الفجر أو التخلص عندها من المجلات أو الأمور المنكرة، فينبغي ألا يتهاون في هذا لكن بالحكمة، وعليه أن يكون رفيقاً معها يمزح بما يلطف الجو، ولا يفعل كما فعل ذلك الشخص الذي أراد أن يمزح معها في أول ليلة، فقال: أنا أفكر أن أتزوج عليكِ. وكذلك فإن الشاب المتزوج يختار جاراً طيباً أو صاحباً تقياً يسكن بجانبه، فيختار الجار قبل الدار ما أمكن ذلك، فإن لهذا فوائد تنعكس على حياته الزوجية، وينبغي على أصحاب الشاب ألا يتركوه بعد زواجه، ويقولون: دعوه في شهر العسل، فإنه قد يواجه ظرفاً حرجاً أو نفسياً ويحتاج من يكون قريباً منه عند زواجه، وربما يحصل عنده نوع من انحدارٍ في دينه وإيمانه إذا كانت المرأة ليست بذاك، أو ينشغل بها عن طاعة الله، فينبغي أن يكون بقربه من إخوانه الصالحين من ينبهه ويقومه، ولا يتركوه من الإيقاظ لصلاة الفجر ولو في أول ليلة، فإن بعض الناس قد تفشى عندهم اعتقادٌ عجيب أنه لا يجب على الزوج الذي أعرس صلاة الفجر في أول يومٍ وهذا من العجب. والكلام في هذا الموضوع يطول، ونكتفي بما تقدم مع ما حصل من الطول.

الأسئلة

الأسئلة

حكم تزويج المرأة قسرا

حكم تزويج المرأة قسراً Q ينتشر بين بعض القبائل مبدأ تزويج البنت قسراً لابن عمها حتى وإن تفاوتا في السن أو المميزات أو حتى في درجة الالتزام، حتى إن من حق ابن العم أن يحجر عليها فلا تتزوج، أو يأذن لها إن شاء؟ A هذا حرام ولا يجوز، وهذا من ظلم المرأة، بل إن إحدى البنات في عهد النبي صلى الله عليه وسلم رفعت دعوى على أبيها عند النبي عليه الصلاة والسلام أنه زوجها من فلان ليرفع بها خسيسته، فبين النبي عليه الصلاة والسلام أن أمرها بيدها ما دامت تزوجت بغير رضاها.

وجوب تفرغ الزوج لأهله بعض الأوقات\

وجوب تفرغ الزوج لأهله بعض الأوقات\ Q إذا كان الزوج يخرج للعمل الساعة السابعة ويعود الساعة الثانية، ثم يخرج إلى صلاة العصر ولا يعود إلا الساعة الحادية عشرة وهو يقوم بالدعوة وزيارة أصدقائه والزوجة غير راضية، ملاحظة: حتى وإن كان يوماً واحداً في الأسبوع؟ A نقول: صحيح لو كان يوماً واحداً في الأسبوع ينبغي على الرجل ألا ينسى زوجته وأهله، إذا كان هذا الشخص فعلاً يدعو إلى الله، ويطيع الله عز وجل، فإن عنده من الأوامر الإلهية ما يلزم به: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6] فلا يصح إذاً أن يهمل زوجته ويذهب يقول: أدعو وأذهب مع الشباب وأدعو، نقول: لا بد أن تعطيها من وقتك، لكن ليس كل الوقت، المسألة الآن في الإفراط والتفريط، منهم من يترك الدعوة ويترك طلب العلم ويقيم مع زوجته ويعتكف معها، وهذا خطأ؛ لأن الزوجة قد تكون كارثة على زوجها، بل هي من العدو كما وصفها الله أنها عدو هي والأولاد ما معنى العدو؟ أي: أنها قد تشغل زوجها عن طاعة الله وليس المقصود أن عليه أن يكرهها ويضربها ويحاربها محاربة العدو، لا. وإنما هي قد تكون مشغلة لزوجها عن طاعة الله، فالإنسان لا بد أن يربي زوجته، يعتني بتعليمها وتثقيفها، يجعل لها يوماً في الأسبوع أو وقتاً معيناً في اليوم ويراجع معها أشياء مما قرأت ويسألها فيما قرأت، ويطلب منها تلخيص ما سمعت ونحو ذلك، وأن يبحث لها عن مجموعة طيبة من النساء تدرس معهن الدين، وأن يجعل لها مجال لزيارات طيبة مع نساء أصحابه ونحو ذلك.

مسألة في الاستمتاع بالزوجة

مسألة في الاستمتاع بالزوجة Q كثر السؤال حول قضية من جزئيات الاستمتاع بالزوجة نريد حسم المسألة، لأن كثيراً من الشباب يستحيون من السؤال؟ A نحن نجيب بجواب -إن شاء الله- يفهم منه المقصود، أباحت الشريعة الاستمتاع بالزوجة: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة:223] ومنعت أشياء، فمنها الوطء في الدبر، وهو: مكان خروج الغائط، ومنها الوطء في الحيض، فمن وطأ زوجته في الدبر فهو ملعون، لكن إذا وطئها في الفرج من الأمام أو الخلف فهذا جائز كما ذكر أهل العلم، إنما يكون في موضع الولد، ومن وطأ في الحيض فعليه كفارة كما جاء بذلك الحديث وصححه جماعة من أهل العلم، مثل ابن القيم رحمه الله وابن حجر وابن دقيق العيد وغيرهم، أن من وطأ زوجته في الحيض فعليه كفارة دينارٌ أو نصف دينار من الذهب، أي: أربعة غرامات وربع تقريباً، وقال بعضهم: دينار إذا كان في ثوران الدم ونصف دينار إذا كان في آخر الحيض، أو قبل أن تغتسل وتتطهر، وقال بعضهم: إذا كان غنياً فعليه دينار وإذا كان فقيراً فنصف دينار. ويحرم أي كيفيةٍ من كيفيات الاستمتاع ويترتب عليها دخول النجاسة إلى الجوف، والمذي من النجاسة بطبيعة الحال، فلذلك نجد بعض الناس من خلال ما تفشى في المجتمع من الأفلام الجنسية أفلام الفحش والخنا يتطرق إليهم بعض هذه الأشياء فهذا جواب السؤال.

حكم الشك في الزوجة

حكم الشك في الزوجة Q في قلبي شكٌ من زوجتي من أول ليلة من الزواج لأنني لم أجد شيئاً من علامات البكارة؟ A هذه من القضايا التي يتعرض لها بعض الناس فعلاً في مقدمة الزواج، وأريد أن أقول ما يلي: أولاً: ليس من الشرط وجود الدم. ثانياً: إن ما يتحدث عنه هذا الشخص أنواع؛ فلذلك يتصور بعضهم تصوراً معيناً لأول اتيانه زوجته، فإذا خالف ذلك التصور الواقع الذي رآه ذهب إلى اتهامها مباشرة، وهذا أمر خطيرٌ جداً، ولذلك الأصل السلامة، وعندما تبحث عن ذات الدين الأصل أنها سليمة، وما أتحدث عنه واقعي طبياً وعملياً معلوم من أسئلة الناس، فلذلك لا تنزل كل ما تعلم من المعلومات على الواقع ثم تنتهي بك القضية إلى اتهام زوجتك بالخيانة ونحوها، ثم هب أنه قد حصل شيءٌ في الماضي فما هو الموقف الشرعي؟ الموقف الشرعي أن يستر الإنسان ما دام يعلم أنها قد استقامت وتابت، وعليه من حالها الآن حتى لو اعترفت له، فإنه يستر عليها وهو مأجورٌ عند الله عز وجل مادامت الفتاة مستقيمة، والصحابة الكرام الأجلاء بعضهم وأد ابنته وشرب الخمر وزنا وفعل وفعل قبل الإسلام، فالتوبة تجب ما قبلها، لكن إذا كانت غير مستقيمة ولا شريفة، ولاحظ منها هذا الاعوجاج المستمر وأشياء منكرة بالأدلة بعد الزواج فهذا لا خير له مطلقاً في الاحتفاظ بهذه المرأة، وعليه أن يفارقها وقد تدخل عليه من ليس من ولده.

حكم قراءة الكتب الجنسية

حكم قراءة الكتب الجنسية Q يسأل عن كتاب ذكر بعض أهل العلم أن فيه شيئاً من الأدب وشيئاً من قلة الأدب، يعني: فيه أشياء من التصريح والرسومات ونحو ذلك من الأمور غير اللائقة؟ A هذه قضية ينبغي أو يجدر التنبيه عليها وهي: أن بعض الشباب قبل الزواج وهو لم يخطب ولم يفعل شيئاً يذهب ويقرأ في كتب فيها بعض التفصيلات الضارة بحاله؛ لأنها تثير فيه الشهوة والغريزة بغير فائدة، ويقول: أنا أستعد، تستعد لماذا؟ وبعضهم يتداولون المعلومات، وبعضهم يجلس مع شخص متزوج ليحكي له أشياء، فذاك مجرم يفشي أسرار الاستمتاع وهذا مجرم يسمع للكلام الذي يضره ولا ينفعه، بعض المعلومات مهمة في أول ليلة يدخل بها الرجل على زوجته، يمكن أن يأخذها بطريق شرعي أو من بعض الثقات، لكن هذا التوسع الموجود في القراءة في بعض المجلات صارت المعلومات عامة لم يعد خاصاً، ويقرءون في بعض الكتب ويتداولون الأخبار ويتناقلون الأنباء ويجلسون في مجالس إلى ساعات متأخرة من الليل يحكون في قضايا تفاصيل النكاح، أقول: يا أيها الإخوان! هذا أمر منكر، وهو موجود عند بعض الذين يزعمون التدين، فحذار حذار من هذه الطامة.

حكم مسألة زواج المرأة بخالها

حكم مسألة زواج المرأة بخالها Q أعرف شخصاً أخته متزوجة بخاله فما حكم ذلك؟ A إذا كانت أخته الشقيقة متزوجة من خاله فهذه مصيبة، ويمكن أن تتصور مثل هذه الأشياء في مجتمعات الجهل الفاحش، وتسمع من المنكرات أشياء عجيبة كهذا، والرسول صلى الله عليه وسلم قد أرسل رجلاً ليقتل من نكح امرأة أبيه، فحكم أن من وطأ ذات محرم أن يقتل محصناً كان أو غير محصن.

حكم إعادة صلاة الاستخارة

حكم إعادة صلاة الاستخارة Q هل يجوز إعادة الاستخارة إذا لم يترجح لديه الأمر عند الزواج؟ A نعم، يجوز إعادة الاستخارة.

حكم شراء شيء بالتقسيط وبيعه نقدا

حكم شراء شيء بالتقسيط وبيعه نقداً Q هل يجوز لإنسان شراء سيارة بالتقسيط وبيعها نقداً من أجل الزواج؟ A هذه مسألة التورق، والراجح جوازها خصوصاً عند الحاجة.

حكم دراسة القوانين الوضعية

حكم دراسة القوانين الوضعية Q شاب تزوج فتاة كانت تدرس في كلية الحقوق والقوانين الوضعية، وبعد الزواج نصحها الزوج بعدم دراسة القوانين الوضعية؟ A يجب عليه أن يمنعها إذا كانت تدرس القوانين الوضعية دون أن يكون هناك على الأقل ما يبين مخالفتها للشريعة، والقانون الذي يدرس في بعض البلدان في كلية الحقوق لا ينقد على ضوء الشريعة مطلقاً، ثم ماذا نتوقع أن تعمل في المستقبل محامية وتقف أمام القاضي والشهود والناس في القاعة وإلا ماذا؟

حكم الكشف الطبي قبل الزواج

حكم الكشف الطبي قبل الزواج Q ما حكم الكشف الطبي قبل الزواج إذا كانت النتيجة سلبية؟ A إذا عرف في نفسه عيباً مانعاً من الاستمتاع فإنه يجب الإخبار، كأن يعرف أنه عقيم فالراجح أنه يجب الإخبار.

الزواج بالمرأة غير الملتزمة

الزواج بالمرأة غير الملتزمة Q عقدت على ابنة عمي بناءً على رغبة الذي ألح علي وهي غير ملتزمة وحاولت معها بالأشرطة والكتب ولم يؤثر فيها؟ A لا أنصحك على الإقدام على هذا الزواج وإتمامه.

حكم تكلف الهدايا لأهل الزوجة

حكم تكلف الهدايا لأهل الزوجة Q بعض الناس الذين يتزوجون من مناطق بعيدة يثقل كاهله إذا أراد السفر لأنه يجب أن يجلب هدايا لأهلها؟ A يمكن أن يأتي بهدايا بسيطة ليست مكلفة، ولا يجوز للمرأة أن ترهق زوجها بهدايا لا يستطيع أن يشتريها، وأن تركم عليه ديناً في ذلك، دعوا المجاملات وكونوا مع الشريعة.

الزواج بالمرأة قبل بلوغها

الزواج بالمرأة قبل بلوغها Q ما حكم الزواج ببنتٍ قبل بلوغها مع أنها قد تزيد عن اثني عشرة سنة؟ A يجوز ذلك، وقد سئل أحمد رحمه الله عن السن التي تتزوج به الفتاة البنت؟ فقال: إذا بلغت تسعاً فما فوق فإنها تزوج ويعقد عليها، واستدل بقصة النبي صلى الله عليه وسلم مع عائشة، أما قضية الدخول بالبنت ونحو ذلك فتختلف فيه النساء في قضية البلوغ والنضج، وأن تكون أهلاً للدخول.

مدى تأثير الزواج على الناحية النفسية

مدى تأثير الزواج على الناحية النفسية Q أرجو توضيح مدى تأثير الزواج على الناحية النفسية للشخص؟ A تأثير إيجابي إن شاء الله، لأنه طمأنينة وسكون.

الفرق بين الأرحام والأقارب

الفرق بين الأرحام والأقارب Q من هم الأقارب ومن هم الأرحام؟ A الأقارب هم الأرحام، وهم أقرباء الرجل من جهة أبيه وأمه.

الزواج بامرأة ثيب وهي صالحة وتقية

الزواج بامرأة ثيب وهي صالحة وتقية Q يسر الله لي امرأة مؤمنة تقية صالحة مدحت لي من كثيرٍ من الصالحين، وقد نظرت إليها وأعجبت بها، لكنها ثيب، وأنا أريدها فهل تنصحني بها؟ A نعم، النبي صلى الله عليه وسلم سأله رجل عن امرأة جميلة وصاحبة دين لكنها لا تلد، فنصحه بالودود الولود، وهذه المرأة ما دام أنها تلد، وتقول: إنك قد أعجبت بها، وأنها صالحة، وأنها شابة صغيرة مثل صفات البكر، نقول: الحمد لله هذا طيب.

حكم زواج المرأة بدون ولي

حكم زواج المرأة بدون ولي Q هل تتزوج الفتاة بغير ولي؟ A لا. حرام؛ لأنها إذا نكحت نفسها من غير ولي فنكاحها باطل، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام، ويجب أن يشهد العقد اثنان من المسلمين.

حكم تفضيل البكر على الثيب

حكم تفضيل البكر على الثيب Q سوف يستمع هذه المحاضرة معظم فئات المجتمع والمرأة الثيب منهم، وهي تستمع مدحك وثناءك على البكر بما ثبت من نصوص القرآن والسنة، فقد يصبن بانكسار القلب، مع العلم أن الفرق بين البكر والثيب قد يكمل في سوء المعاملة، نرجو التوضيح بما هو مناسب؟ A سبق التوضيح أن ذكر فضل البكر في الشريعة لا يعني ترك الثيب، وأن الإنسان قد يتزوج الثيب لأمورٍ كثيرة، وقد يحتسب فيها أجراً لا يكون في زواجه من البكر.

إثم الأب إذا لم يزوج ابنه وعنده استطاعة

إثم الأب إذا لم يزوج ابنه وعنده استطاعة Q إذا كان أبي مقتدراً على تكاليف زواجي ولكن يقول: بعد انتهاء الدراسة فهل يأثم؟ A إذا كان الأب يعلم أن ولده قد يقع في الحرام إذا لم يزوجه وهو قادر والولد غير قادر فيأثم الأب إذا لم يزوج ولده، وإذا صار العنت أو خشي في الوقوع في الحرام وبلغ هذه الدرجة فلا بد أن يزوجه.

حكم الاقتراض من بنك ربوي لغرض الزواج

حكم الاقتراض من بنك ربوي لغرض الزواج Q هل يجوز الاقتراض من بنك ربوي للزواج خوفاً من أن أقع في فاحشة الزنا؟ A لا يجوز مطلقاً، لو سأل الناس ومد كفه إليهم ولا يقترض أبداً مالاً ربوياً، وأي خيرٍ في زواجٍ يؤسس من الربا.

معنى الاختصاء

معنى الاختصاء Q ما معنى الاختصاء؟ A هو: استئصال الخصيتين بحيث لا يكون له شهوة، وهذا فيه مثلة لتغيير خلق الله، وربما يؤثر في صفات الرجولة، وربما يندم عليه ندماً شديداً في المستقبل، ولذلك حرمته الشريعة.

حكم صلاة الرجل في ملابس النوم

حكم صلاة الرجل في ملابس النوم Q هل يجوز الصلاة بالملابس التي جامع بها وأصابه الجنابة؟ A طبعاً إذا ما كان أصابتها نجاسة فلا بأس، ثياب الجنب طاهرة، وثياب الحائض طاهرة ما لم يصبها شيءٌ من النجاسة.

حث الآباء على مساعدة الشباب في الزواج

حث الآباء على مساعدة الشباب في الزواج Q نرجو تقديم النصيحة للآباء والأمهات في مساعدة الشباب على الزواج؟ A نعم. هذه مسألة مهمة خصوصاً أن بعض الآباء إذا فاتحه ولده في الموضوع يقول: أنت صغير، وهذا خطأ ينبغي على الأب أن يقدر أن ولده هذا الذي فتح معه الموضوع ربما يكون واقعاً في الحرام أو على وشك الوقوع، فلا يتجاهل هذا الطلب.

مشكلة الزواج والدراسة

مشكلة الزواج والدراسة Q أنا شاب أخاف على نفسي من الحرام ولكن أدرس في الجامعة، الدراسة فيها نوع من الصعوبة، فماذا تنصح؟ A أقول: إن الزواج -إن شاء الله- لن يعيقك عن الدراسة ولو كانت الدراسة صعبة، بل إن الزواج يوفر لك وقتاً إن شاء الله ومكاناً هادئاً للدراسة.

حكم نشر الشباب لأسمائهم وصورهم في المجلات رغبة في الزواج

حكم نشر الشباب لأسمائهم وصورهم في المجلات رغبة في الزواج Q بعض الشباب والشابات بنشر أسمائهم وأوصافهم على صفحات المجلات رغبة في الزواج فما حكم ذلك؟ A لا شك أن هذا باب فتنة كيف تصف المرأة نفسها في الجريدة أو المجلة لا شك أن هذا من الفتن، بل هذه طريقة للفساد؛ لأنه سيتصل بها وتتصل به.

كيفية معرفة رأي الفتاة في العمل والدراسة قبل العقد عليها

كيفية معرفة رأي الفتاة في العمل والدراسة قبل العقد عليها Q كيف يعرف رأي الفتاة في العمل والدراسة قبل أن يعقد عليها؟ A عن طريق أخته أو أمه أو عن طريق أخيها أو أبيها، فإن لم يوجد طريقة من هذا النوع، يكتب ما يريد وتكتب له الجواب بدون زيادة ولا نقصان، أو ذكر أي شيء مما ليس له علاقة بهذه القضايا. يعني: لا توسع.

اشتراط عدم سماع الغناء ومشاهدة الأفلام على العريس

اشتراط عدم سماع الغناء ومشاهدة الأفلام على العريس Q تقدم لأختي رجل غير ملتزم لكنه كان متزوجاً وحصل له حادث ماتت فيه زوجته وأولاده، وتقدم لخطبة أختي هل أشترط عليه ألا يسمع الغناء ولا يشاهد الأفلام ويحافظ على صلاة الجماعة؟ A نعم. اشترط عليه ذلك. أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، وأن يغفر لنا ذنوبنا أجمعين، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

العدل في العطية بين الأولاد

العدل في العطية بين الأولاد الإسلام دين عظيم، أنزله الله للناس ليعملوا به ويطبقوه في حياتهم حتى تستقر أمور دنياهم، ومن أعظم ما أنزل الله العدل. ومن الأمور التي يتعلق بها العدل: العدل في العطية بين الأولاد مراعاةً لنفوسهم وشعورهم، لأن بعض الأبناء إذا رأوا من آبائهم ظلماً تمردوا عليهم وأصبحوا لا يطيعونهم، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (اعدلوا بين أولادكم في النحل، كما تحبون أن يعدلوا بينكم في البر واللطف).

حديث النعمان بن بشير

حديث النعمان بن بشير إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده رسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار. الحمد لله الذي جعل العدل الميزان بين الخلق، والحمد لله الذي قامت السماوات والأرض بالعدل بحكمته عز وجل، والعدل أساس مصالح البشر، والشريعة مبنية على العدل، وهو من أحكم الحاكمين، وهو العدل اللطيف الخبير العليم الحكيم، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد والنسائي: (اعدلوا بين أبنائكم، اعدلوا بين أبنائكم، اعدلوا بين أبنائكم). وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي رواه الطبراني: (اعدلوا بين أولادكم في النحل، كما تحبون أن يعدلوا بينكم في البر واللطف) والنحل: هو ما ينحله الوالد لولده من العطايا والهدايا. وقد أخرج أبو داود في سننه باب في الرجل يفضل بعض ولده في النحل، عن النعمان بن بشير قال: (أنحلني أبي نحلة غلاماً له -عنده عبد أعطاه لولده- قال: فقالت له أمي - عمرة بنت رواحة -: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشهده، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال: إني نحلت ابني النعمان نحلاً، وإن عمرة سألتني أن أشهدك على ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألك ولد سواه؟ قال: قلت نعم، قال: فكلهم أعطيت مثلما أعطيت النعمان؟ فقال: لا. فلما قال لا، قال عليه الصلاة والسلام: فأرجعه) وفي رواية: (فرده) وفي رواية: (فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم، فرجع أبي في تلك الصدقة) وفي رواية: (فلا تشهدني إذاً فإني لا أشهد على جور) أي: ظلم، وفي رواية: (فأشهد على هذا غيري) وفي أخرى: (أيسرك أن يكون بنوك في البر سواء؟ قال: بلى، قال: فلا إذاً) وفي لفظ: (أفكلهم أعطيتهم مثل ما أعطيته؟ قال: لا. قال: فليس يصلح هذا، وإني لا أشهد إلا على حق) وكل هذه الروايات والألفاظ في الصحيح.

اختلاف العلماء في حكم التفضيل بين الأولاد

اختلاف العلماء في حكم التفضيل بين الأولاد وزعم بعض أهل العلم أن التفضيل مكروه، ولكن المتأمل في الحديث ورواياته وألفاظه يعلم علماً بأن التفضيل محرم، وأن المساواة بين الأولاد في الأعطيات واجبة، وأن الذي يخالف في ذلك فهو آثم، واستدل من قال بالكراهية بقوله: (أشهد على هذا غيري) وهذا اللفظ تهديد، وليس إذناً أبداً لتسميته عليه الصلاة والسلام بذلك الأمر جوراً، وهذه الألفاظ التي سقناها كما ذكر العلامة ابن القيم رحمه الله صحيحة صريحة في التحريم والبطلان من عشرة أوجه، تؤخذ من الحديث، وقد ألف في ذلك مصنفاً مستقلاً. وقوله: (أشهد على هذا غيري) فإنه ليس إذناً منه قطعاً، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأذن في الجور ولا فيما لا يصلح ولا في الباطل، فإنه قال: (إني لا أشهد إلا على حق) فدل ذلك على أن الذي فعله والد النعمان لم يكن حقاً بل باطلاً، فقوله إذاً: (أشهد على هذا غيري) حجة على التحريم كما قال تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت:40] وكما قال عليه الصلاة والسلام: (إذا لم تستح فاصنع ما شئت) هل يعني هذا: أن الذي لا يستحي يجوز أن يصنع ما يشاء؟ كلا. بل هو توبيخ وتقريع وتهديد. وقال رحمه الله في إغاثة اللهفان تحت مبحث سد الذريعة، وأمر صلى الله عليه وسلم بالتسوية بين الأولاد في العطية وأخبر أن تخصيص بعضهم بها جور لا يصلح، ولا تنبغي الشهادة عليه، ولا يجوز أن تشهد لو قال لك أب: اشهد يا جاري على أن هذه الأعطية لأحد أولادي دون الآخرين قل له: لا أشهد: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق:2]. إن كانت شهادة زور وظلم فلا تشهد، قال تعالى: {فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ} [الأنعام:150] وأمر فاعله برده، ووعظه وأمره بتقوى الله تعالى، وأمره بالعدل لكون ذلك ذريعة إلى وقوع العداوة والبغضاء بين الأولاد، وقطيعة الرحم كما هو مشاهد عياناً، فلو لم تأت السنة الصحيحة الصريحة التي لا معارض لها بالمنع منه، لكانت أصول الشريعة والقياس يقتضيان العدل ووجوبه بين الأولاد. وتأمل قوله عليه الصلاة والسلام لـ أبي النعمان بن بشير، وقد خص ابنه بالنحل: (أتحب أن يكونوا في البر سواء؟) كيف تجد كلامه عليه الصلاة والسلام؟ مبيناً الوصف الداعي إلى شرع التسوية بين الأولاد، وهو العدل الذي قامت به الأرض والسموات، فكما أنك تحب أن يكونوا سواء في برك وألا ينفرد أحدهم في برك دون الآخرين، فكيف ينبغي أن تفرد أحدهم بالعطية وتحرم الآخر؟. وقال في إعلام الموقعين في علة النهي في الفتوى: ينبغي للمفتي أن يذكر الحكم بدليله، ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام لـ أبي النعمان بن بشير: (أيسرك أن يكونوا لك في البر سواء؟ قال: نعم، قال: فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم) وفي لفظ: (إن هذا لا يصلح إني لا أشهد على جور). وقال رحمه الله في الإعلام في ذكر طرف من تخبط المقلدين في الأخذ ببعض السنة وترك البعض الآخر، واحتجوا على جواز تفضيل الأولاد على بعض بحديث النعمان بن بشير وفيه: (أشهد على هذا غيري) ثم خالفوه صريحاً، فإن في الحديث نفسه: (إن هذا لا يصلح) وفي لفظ: (إني لا أشهد على جور) وقال: فقالوا: بل هذا يصلح وليس بجور، ولكل أحد أن يشهد عليه. فانظر كيف خالف المقلدة المتعصبون حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستدلوا على الإباحة على أن أبا بكر قد أعطى أحد أولاده عشرين وسقاً دون سائر أولاده، و A أن أهل العلم قد ذكروا ضعف هذا الحديث في طريقين، وأنه يُحتمل أنه خصها لحاجة، وإذا حصل الاحتمال بطل الاستدلال، وافرض أنه صحيح ولا احتمال هناك، فهل تعارض بفعل صحابي حديثاً صحيحاً عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وممن قال بوجوب التسوية من أهل العلم الإمام البخاري رحمه الله، وطاوس والثوري وأحمد وإسحاق وبعض المالكية، قال الشوكاني: فالحق أن التسوية واجبة، وقال الإمام أحمد في دخول الأم مع الأب في وجوب التسوية، قال: إن حج بها ولدها دون أخويه، تعطيه أجرته وتسوي بين أولادها -تعطيه الأجرة فقط، وتسوي بين أولادها- ولا يجوز لها أن تخص أحداً من أولادها دون أحد، فإن فعلت أثمت كما يأثم الأب، ووجب عليها أخذ الزائد كما يجب على الأب، أو زيادة الأولاد الآخرين، إذا أعطيت واحداً زيادة دون سبب إما أن تعطي الآخرين مثله أو أن تسحبها من الولد الذي أعطيته، وحديث النعمان دليل على جواز رجوع الأب في عطيته وهبته للولد إذا كان ظالماً. والعطية والهبة لا يجوز الرجوع فيها على القول المختار لحديث: (ليس لنا مثل السوء العائد في هبته كالكلب في يعود في قيئه بعد إلقائه) لكن الأب يجوز له أن يرجع في العطية والهبة، ولو لم يساو ومات قال الإمام أحمد: يرد على بقية الأولاد ويوزع بينهم بالتساوي، ولا وصية لوارث، لا يجوز أن يكتب في الوصية لأحد الأولاد، لأن الله قسم بينهم في القرآن والسنة، فلا وصية لوارث، لا يكتب لأحد الورثة في الوصية شيئاً أبداً، ويجوز للأب أن يرجع إلا إذا تغيرت الهبة عند الولد، مثل أن سمن الغنم، أو أعطاه مالاً ثم نماه الولد، فلا يجوز له أن يأخذه بعد التنمية، وبعد أن زاد بمجهود الولد.

كيفية العدل بين الذكور والإناث

كيفية العدل بين الذكور والإناث ويسأل الناس فيقولون: لقد عرفنا أن العدل بين الأولاد واجب، وهم ذكور وإناث، فكيف نعدل بينهم؟ قال بعض أهل العلم: يجب العدل بينهم (الذكر مثل الأنثى) وقال بعضهم: يجب العدل بينهم كما عدل الله في كتابه، فالله عدل بينهم، لأن للذكر مثل حظ الأنثيين، وعلى ذلك لو أعطيت الولد مائة تعطي البنت خمسين، وهذه هي طريقة الشريعة في الدية وفي الإرث وفي العقيقة وغير ذلك، ولأن الذكر صاحب حاجة أكثر من الأنثى، ولذلك لما سأل بعض الإخوان فقال: إني آخذ من راتبي مائة ريال -مثلاً- وأسجله باسم ولدي فلان، أوفره له وآخذ خمسين وأسجلها باسم ابنتي فلانة، فنقول: لقد جوز بعض أهل العلم هذا، ولك أن تفعل هذا في التوفير لأولادك إذا أردت. ومن عمق هذه المسألة قال أهل العلم: يعدل بين الأولاد حتى في البشاشة والترحيب والتقبيل، قال إبراهيم رحمه الله: كانوا يستحبون أن يسوى بينهم حتى في القُبَل، ولا يخص أحداً بطعام دون آخرين لغير سبب، وقد تدعو الحاجة لتخصيص أحد الأولاد بنوع من الشفقة، كما إذا كان مريضاً، أو زيادة في الترحيب كما إذا قدم من السفر، وهذا لا بأس به لقيام السبب الموجب لذلك، وفي الأشياء التافهة تسامح أهل العلم في عدم العدل فيها كقطعة -مثلاً- من الحلاوة ليس عنده غيرها، أعطاها للصغير -مثلاً- ولكن الأصل أن يعدل بينهم لو استطاع. واعلموا -أيها الإخوة- أن كثيراً من الناس لا يتقون الله، كثير من الآباء يظلمون أولادهم، فتجد الواحد منهم يميل إلى أحد الأولاد لسبب تافه، كأن يكون هذا الولد أوسم من إخوانه وأجمل في الشكل والصورة فيميل إليه، أو أن الولد يشبه أباه، والولد الآخر يشبه أمه، فيقول: أنت منا ويعطيه، ويقول للآخر: أنت لأخوالك فاذهب، هذا من الأسباب التافهة التي يتركب عليها الظلم بالأولاد، وكذلك أن يدخل بعض الآباء أولاد الزوجة الأولى في مدارس خاصة، وأولاد الزوجة الثانية في مدارس عادية، هذا من الظلم أيضاً، يجب أن يساوي بينهم، وهذا الظلم وعدم التسوية تولد الغيرة والحسد بين الأولاد بعضهم على بعض، تربية سيئة، ولنا في قصة يوسف عبرة: {إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا} [يوسف:8]. مع أن يعقوب عادل، لكن محبته القلبية سببت هذا، فكيف بالظلمة: {يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً} [يوسف:5] فكيف بمن يتعمد الظلم بين الأولاد، ويسأل بعض الإخوان فيقول: لي أولاد يعطونني من رواتبهم، وأولاد آخرون لا يسألون عني فماذا أفعل؟ وأنا أريد أن أعطي هؤلاء شيئاً؟ وقد أجاب الشيخ/ محمد بن إبراهيم رحمه الله عن هذا السؤال بما ملخصه: لو كان الأولاد يعطونك من رواتبهم لك لتتملكه براً بك، فيجب العدل ولا تعطيهم شيئاً بعد أن تملكته زيادة على إخوانهم، أما لو أعطوك المال لتحفظه لهم، ولتوفره لهم، أي أن بعض الأولاد يعطي راتبه كاملاً للأب ليحفظه له، وهو ينوي أن أباه سوف يعطيه إياه في المستقبل أو جزءاً منه على الأقل، فعند ذلك يجوز للأب أن يعطي الولد ما لا يزيد عما أعطاه الولد في البداية، وكذلك بعض الآباء من أصحاب الشركات والمؤسسات والدكاكين مثلاً يشتغل معه ولده في الدكان أو الشركة، والأولاد الآخرون موظفون بوظائف مستقلة، فما هو الحكم؟ A له طريقتان: إما أن يعطي الولد الذي يشتغل معه أجرة بنفس ما إذا كان العامل غير ابنه، أو أن يدخل الولد شريكاً معه، فيقول: يا بني! تريد أن تعمل معي وتفرغ لي وقتك، وتنشط أعمالاً فادخل معي شراكة في الربع مثلاً؟ فإن اتفقا على هذا كانت شركة، دون أن يظلم بقية الأولاد. كونه يشتغل معك لا يعني أن تظلم بقية الأولاد، وكذلك إذا خلص الولد قطعة أرض لأبيه وجرت المعاملة حتى أنهاها، فإن الوالد يجوز أن يعطيه أتعابه، كما يعطي المحامي وكما يعطي المخلص. وكذلك إذا اضطر أن يعطي الولد راتباً لئلا يتركه كما تركه بقية الأولاد، فهذا جائز، وإذا بلغ الولد سن الزواج فإنه يجب على الأب أن يزوجه إذا كان قد زوج إخوانه الكبار، مثلما زوجهم يزوجه لو كان عنده قدرة وطاقة، وإذا مات الأب وأوصى للولد الذي لم يتزوج بمقدار مثلما زوج به إخوانه يجوز هذا، لكن لو مات وهو صغير، فلا يجوز له بشيء وإنما حظه مثل حظ إخوانه في التركة. وكذلك يجب العدل بين الأولاد، وأن يراعي ذلك ولا يفضل أحداً على أحد إلا لمسوغ شرعي بالزيادة، فمثلاً لو كان أحد الأولاد فقيراً والآخرون أغنياء، كان يكون أحد الأولاد عنده عائلة كبيرة والآخرون ليس عندهم ذلك، فيجوز أن يدعم الأب ابنه في هذه الحالة لوجود السبب، ليسوا سواء الآن، كذلك لو أرادت إحدى بناته أن تتزوج يعطيها بمناسبة الزواج ذهباً ونحوه، فإذا تزوجت البنات الباقيات يعطيهن مثلما أعطى ابنته، وقال أحمد: يعوض البنات الباقيات، وكذلك ما يتفاضل به بعضهم على بعض من الطعام والكسوة -مثلاً- فلا شك أن الولد الكبير يحتاج إلى ثياب أكثر مما يحتاج الولد الصغير مثلاً. هذا الاختلاف لا بأس به، والولد الأكبر يأكل أكثر من الولد الأصغر فلا بأس، والبنت تنفق على ملبوسها أكثر مما ينفق الذكر لا بأس بذلك، وتحتاج إلى حلي والولد لا يحتاج لا بأس بذلك، فهذا سبب تفاوت الطبيعة بينهم، الولد قد يحتاج إلى سيارة والبنت لا تحتاج، وكذلك إذا وقع أحد الأولاد في مصيبة مثل ما إذا ترتب عليه دية بسبب حادث فيجوز للأب أن يسدد عن ولده، أو لحقه فقر أو دين يسدد عنه والده، وكذلك ألعاب الأطفال، فإنه لا شك أن الولد الصغير حاجته للألعاب ليس مثل الذي أكبر منه، ولو أنه اشترى لهم دراجات فلا شك أن دراجة الولد الأكبر ستكون أغلى من دراجة الولد الأصغر فمثل هذا لا بأس به، لأنه شيء موجود في أصل خلقتهم وفي طبيعتهم مختلفون. وكذلك إذا أعطى لأحدهم في ظرف من الظروف مالاً، فينبغي أن ينوي أن الأولاد الآخرين لو مروا بنفس الظرف فإنه سيعطيهم مثلما أعطى أخاهم أو أختهم، ينوي أن يعطيهم في المستقبل، وكذلك فإذا أراد أن يعطي ولده الأكبر سيارة مثلاً، وليس عنده ما يعطي إخوانه الآخرين سيارات، والسيارة لقضاء أغراض البيت أو يذهب بها الولد إلى الجامعة ونحو ذلك، فإنه يجعلها عند ولده عارية، ولا يجعلها هبة للولد، تبقى باسم الأب، يقضي فيها الولد الكبير حاجاته، ويقضي حاجات البيت، وإلا فينبغي أن يساويهم في الأعطيات، نبهنا على هذا شيخنا عبد العزيز حفظه الله. أيها الإخوة: العدل من شريعة الله، بنيت شريعة الله على العدل، فينبغي على المسلمين أن ينتبهوا لهذه الأمور، وإلا فإن الظلم مرتعه وخيم وعاقبته سيئة، والله لا يهمل الظالم، وإنما يمهله حتى إذا أخذه لم يفلته. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

جواز منع الأعطية عن الولد الفاسق

جواز منع الأعطية عن الولد الفاسق الحمد لله الذي لا إله إلا هو لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، وهو أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين سبحانه وتعالى، حرم الظلم على نفسه وجعله محرماً بين عباده، وصلى الله وسلم على نبينا محمد الذي حكم بشريعة ربه وبالقسطاس المستقيم. أيها الإخوة: ومن المسوغات الشرعية لتفضيل بعض الأولاد على بعض؛ أن يكون أحدهم طالب علم متفرغاً لطلب العلم، فيجوز لأبيه أن يعطيه راتباً لتفرغه، أو يشتري له كتب العلم؛ لأنه أنبغ من إخوانه في طلب العلم، وكذلك لو أن أحدهم -مثلاً- حفظ شيئاً من القرآن، فأعطاه الأب مكافأة لأنه حفظ من القرآن ما لم يحفظ إخوانه؛ فإن هذا أمر جيد ومستحب ومشجع لبقية الأولاد أن يحذوا حذو أخيهم الذي نبغ في العلم أو في حفظ القرآن مثلاً، أو لتفوقه العلمي، وجديته في الدراسة، وأنتم تعلمون بأن إعطاء أحد الأولاد زيادة لسبب شرعي على إخوانه لا بأس به، والمحرم أن يعطي أحدهم بلا سبب، وأن يميز أحداً منهم بلا سبب شرعي. وكذلك يجوز للأب بل يجب عليه أن يمنع الأعطية عن الولد الفاسق، أو المبتدع، أو الذي سوف يستعملها في معصية الله عز وجل، أو ينفقها في معصية الله ومحادته سبحانه وتعالى، وكثيرٌ من الآباء عندهم اعوجاج فكري في هذه المسألة، فتراه يعطي الولد العاصي الفاسق، يقول أنت تحتاج إلى بنطلونات وأنت تحتاج إلى ثياب السهرات والحفلات، وأنت تحتاج أن تأكل في المطاعم الراقية، وأنت تحتاج أن تصرف على شلة الفساد، ويعطيه. يعطيه ويدعمه ويعينه على المعصية وعلى الإثم وعلى الفسق، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وقد يكون عنده ولد آخر متدين، لا يسأل أباه شيئاً، هو بارٌ بأبيه، لم يفتح فمه، ولم يتطاول على الأب، فينتهز الأب الفرصة ويقول: هذا المسكين الدين القنوع لا يحتاج، ويعطي ذلك الفاسق بدلاً من العكس، وهو أن يمنع المال عن الفاسق الذي سوف يستخدم المال في السفريات المحرمة، وشراء المخدرات والمعاصي والإنفاق على أصدقاء السوء ونحو ذلك. والمفروض أن يدعم الولد المتدين الملتزم بدينه؛ لأنه عنده نفقات لطلب العلم، ولإخوانه، ويتصدق، والفاجر يضعها على ظهرك يوم القيامة. ومن الأمور السيئة أيها الإخوة: أن يعاون بعض الآباء أبناءهم على الإثم والعدوان وأن يمدوهم بالأموال. يحدث أحد رجال الأمن في مطار من المطارات، يقول: جاءنا ولد عمره خمسة عشر عاماً يريد أن يسافر إلى بانكوك، معه تذكرة، قال له: النظام لا يسمح، لا بد من موافقة أبيك، قال: أبي موافق، هذا تلفون السيار اتصل على أبي، يتصل على أبيه: فلان؟ نعم، ابنك فلان؟ نعم، هو عندنا في المطار يريد أن يذهب إلى بانكوك، قال: نعم. أنا أذنت له، أنا أعطيته ثمن التذكرة، أذنت ليلحقنا بعد ذلك إلى باريس، قاتلهم الله. كم يجني الآباء على أبنائهم -أيها الإخوة- كم يجنون على أبنائهم في مثل هذه الأمور، كيف وقع كثير من الأبناء في المعاصي؟ كيف وقعوا في المحرمات إلا بسبب أن الأب لا يبالي بإعطاء ولده، يعطيه ويعطيه وهو يعلم أنه ينفقها في الفساد، ولا حول ولا قوة إلا بالله! وعلى الأب العاقل ألا يستجيب لضغط الأم، فالأم أحياناً تلين بعاطفتها، تعلم أن الولد ينفق في المحرمات لكن مع الضغط والإلحاح تقول للأب: أعطه، أعطه، الأب العاقل لا يستجيب، ويعلم أن مصلحة الولد بعدم إعطائه ليستعين بها على المحرمات. وتنبيه أخير أقوله للأبناء: افرض أن والدك قد ظلمك وفضل عليك إخواناً لك، فلا تقع في خطأ المقابل فتعق أباك، فترتكب جريمة أعظم من التي فعلها أبوك، أبوك ظلم بإعطائه لأحد إخوانك شيئاً أكثر مما أعطاك، لا تقابله بجريمة أكبر وهي عقوق الوالدين، انصحه واصبر عليه والله يحكم بينه وبينك وهو خير الحاكمين. اللهم إنا نسألك السداد في الأمر، اللهم إنا نسألك أن توجهنا الوجهة الصحيحة، وأن تجعلنا ممن يكسبون أموالهم من الحلال وينفقونها في الحلال، اللهم ارزقنا العدل بين أبنائنا والصبر على آبائنا، اللهم ارحمنا وارحم آباءنا وأجدادنا، اللهم واغفر لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان. اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم إنا نسألك العون على الدَين، ونعوذ بك من الدَين وقهر الرجال، اللهم أغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، اللهم أنت أكرم الأكرمين، أنت الغني ونحن الفقراء أغننا من فضلك، اللهم إنا نعوذ بك من الغنى المطغي ومن الفقر المنسي، اللهم أغننا ولا تطغنا، واجعل بلدنا هذا رخاءً سخاءً وسائر بلاد المسلمين، اللهم آمنا فيه، وأطعمنا من خيراته، اللهم لا تجعلنا ممن يظلمون أنفسهم ويظلمون الناس. وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.

المدح

المدح كثير من الناس اليوم يطلقون ألفاظ المديح والثناء ويكيلونها لكل أحد، حتى لو لم يكن أهلاً لها، بل ربما كان منافقاً أو كافراً والعياذ بالله. وهذه المسألة تؤدي إلى مخاطر على الشخص المادح والممدوح، سواء كان الخطر اجتماعياً أو في دين الشخص وعلاقته بربه عز وجل؛ لذا فقد جاء الشرع بضبط هذه المسألة ووضع الشروط الحاكمة لها دون إفراط أو تفريط.

ما يترتب على المدح من فساد

ما يترتب على المدح من فساد إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.

فساد اجتماعي

فساد اجتماعي إخواني المسلمين: إحدى المشاكل الاجتماعية التي هي واقعة بكثرة في حياة المسلمين اليوم شيء مما يتعلق بعيوب اللسان، وهذا العيب وهذه الآفة تؤدي إلى مخاطر كثيرة، هذه الآفة: مسألة التمادح. كثير من الناس اليوم يطلقون ألفاظ المديح والثناء ويكيلونها لكل أحد حتى ولو لم يكن أهلاً لها، فتجد هذا يقول: فلان الفلاني كذا وكذا من ألفاظ المديح، وهذا الرجل من أفجر الناس ومن أفسق الناس، وقد يكون منافقاً أو كافراً والعياذ بالله. هذه المسألة أيها الإخوة! كيل الثناء والمدح لمن ليس له بأهل تؤدي إلى مخاطر كثيرة سواء على الصعيد الاجتماعي في قضايا الزواج مثلاً أو التعامل والوظائف، لأن الإنسان إذا مدح رجلاً فإنه يوثقه عند الآخرين، فقد يستخدمونه وهو ليس بأهل للاستخدام في هذا الجانب، وقد يؤدي إلى إفساد قلب الرجل ونيته؛ لأن كيل ألفاظ الثناء والمدح مما يخرب الإخلاص ويجرحه تجريحاً، ولذلك كان لا بد من إلقاء الضوء على هذه المسألة بحسب ما جاء في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأحاديثه، وما ذكر العلماء في هذه القضية.

فساد الشخص نفسه

فساد الشخص نفسه اعلموا رحمكم الله تعالى أنه قد ورد في الحديث الصحيح عن همام بن الحارث أن رجلاً جعل يمدح عثمان رضي الله عنه، فعمد المقداد -أحد الصحابة وكان جالساً في المجلس- فجثا على ركبتيه وكان رجلاً ضخماً فجعل المقداد الصحابي يحثو في وجه المادح الحصباء، الحصى الصغير مع التراب يحثوه في وجه المادح، فقال له عثمان: (ما شأنك؟ ماذا جرى لك؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب) رواه مسلم. وعن عبد الرحمن بن جبير بن نفير قال: [مدحك أخاك في وجهه كإمرارك على حلقه موسي رهيصاً]. كأنك تمرر على حقله موسى شديداً وحاداً جداً. ومدح رجل ابن عمر رضي الله عنه في وجهه، فقال ابن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب، ثم أخذ ابن عمر التراب فرمى به في وجه المادح وقال: هذا في وجهك، هذا في وجهك، هذا في وجهك، ثلاث مرات) أخرجه أبو نعيم، قال في الصحيحة: السند جيد.

توضيح لكيفيةحثو التراب

توضيح لكيفيةحثو التراب هذا الفعل أيها الإخوة -حثو التراب في وجوه المداحين- من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن لا بد عند تطبيق الأحاديث من مراعاة أحوال الحديث، فهذا لا يقول لك بأنه إذا جاءك رجل يمدحك الآن فإنك تأخذ التراب وترميه في وجهه مهما كان حاله، كلا يا أخي! فلا بد من مراعاة حال المادح فقد يكون جاهلاً لأحكام المدح وما يترتب عليها، ثم إن ابن عمر رضي الله عنه من فقهه أنه علَّم الرجل أولاً وقرأ عليه الحديث ثم حثا في وجهه التراب. ثم أنك إذا رأيت بأن حثو التراب في وجه هذا المادح قد يباعد فيما بينك وبينه، ويصده عن الإسلام، ويمنعه من التأثر فيك أو الاقتداء بك فإن من الحكمة في هذه الحال عدم استعمال هذا، ليس تعطيلاً للحديث وإنما حكمة في الدعوة إلى الله، وترفقاً بالجاهل. وكذلك يا أخي المسلم! فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في هذا الحديث: (احثوا في وجوه المداحين) وأتى بصيغة المبالغة (المداحين) وهم الذين يكثرون المدح ويستعملونه بكثرة فيجعلونه صنيعهم ودأبهم الدائب. قال ابن العربي رحمه الله: وصورة تطبيق هذا الحديث أن تأخذ كفاً من تراب وترمي به بين يديه، وليس في وجهه فتعمي به عينيه، كلا، وإنما ترميه أمامه، لماذا؟ فإنك تقول له: ما عسى أن يكون مقدار من خلق من هذا. لماذا قال عليه السلام التراب؟ من الحكم أيها الإخوة: أنك تأخذ التراب وترميه أمامه وتقول له: أنا خلقت من هذا التراب، فهل أنا أهل لهذا المديح وما خلقت إلا من الطين؟ وأنت كذلك ما خلقت إلا من هذا التراب فاربأ بنفسك عن هذه الآفات التي تعرضك إلى ما لا يُحمد عقباه، وتعرف المادح قدرك وقدره. قال النووي رحمه الله: ومدح الإنسان قد يكون في غيبته وهو غير موجود، وفي وجهه، ففي الحالة الأولى إذا مُدح وهو غائب عن المجلس فإن هذا المدح لا يمنع منه إلا إذا دخل المدح في الكذب حتى ولو كان الممدوح غير موجود؛ لأنه يدخل في الكذب لا لكونه مدحاً. ويستحب كذلك أيها الإخوة: أن الإنسان إذا مدح ألا يبالغ حتى ولو كان الممدوح أهلاً لهذا المدح، كما سيمر معنا بعد قليل.

علل وآفات يسببها المدح للمدوح

علل وآفات يسببها المدح للمدوح وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم خطورة المدح فقال: (إياكم والتمادح فإنه الذبح) فإنه في خطورته مثل الذبح، مدحك لأخيك في وجهه مثل أن تذبحه بالسكين. رواه ابن ماجة، وهو في صحيح الجامع. وقال أيضاً: (ذبح الرجل أن تزكيه في وجهه) هذا قوله عليه السلام، وهو حديث مرسل تشهد له أحاديث أخرى، وهو في صحيح الجامع. هذا المدح أيها الإخوة يسبب عللاً كثيرة وآفات كبيرة في دين المادح والممدوح، فلذلك سماه عليه الصلاة والسلام ذبحاً لأنه يميت القلب ويخرج الممدوح عن دينه، وفيه ذبح للمدوح أيضاً من جهة أنه يغره بأحواله ويغريه بالعجب والكبر، ويرى نفسه أهلاً للمدحة لا سيما إذا كان من أبناء الدنيا، لذلك قال بعض السلف: لو أن إنساناً صنع إليك معروفاً وهو يحب المدح والثناء والظهور بين الناس فلا تمدحه على صنيعه، لا تمدحه ولكن ادع له أدعية، مثلما قال عليه الصلاة والسلام: (من صنع لأخيه معروفاً فقال له: جزاك الله خيراً فقد أجزل في العطاء، أو فقد أجزل في الثناء). الدعاء له لا بأس به، أما لو شعرت بأن هذا الرجل الذي صنع لك معروفاً وهو يحب من وراء هذا المعروف أن تمدحه وتثني عليه في المجالس، وتذكر سيرته أمام الناس ففي هذه الحالة لا تمدحه، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام ناهياً عن الإطراء وهو الزيادة في المدح، قال: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى) ما قال عليه السلام لا تمدحوني، ولكن قال: (لا تطروني) والفرق أيها الإخوة! أن الرسول صلى الله عليه وسلم يستحق المدح، ومع ذلك فقد أوصانا بعدم إطرائه، والإطراء هو المبالغة في المدح حتى يرفعه فوق قدره ومنزلته التي أنزله الله إياها. ولذلك قال بعض العلماء: ويحرم مجاوزة الحد في الإطراء في المدح وترد به الشهادة. كان قضاة المسلمين إذا جاء رجل معروف بالإطراء والزيادة في المدح، وعادته الثناء على الناس بما ليسوا له بأهل كانوا يردون شهادته ولا يقبلونها. وهذه الحالة أيها الإخوة! معروفة في الشعراء كثيراً، ولذلك قال بعضهم: لا تؤاخي شاعراً لأنه يمدحك بثمن ويهجوك مجاناً، يمدحك ويأخذ أجراً على هذا الشعر، ولكنه إذا أراد أن يهجوك هجاك مجاناً، ولذلك وقع من جراء التمادي في المدح في بعض أشعار السابقين واللاحقين أشياء لا يرضاها الله تعالى، فمن ذلك قول الشاعر ابن هانئ الأندلسي، وهو يمدح المعز المعبدي مخاطباً له، وصل به الإطراء إلى درجة أنه قال له هذا البيت مخاطباً إياه: ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار هذه الصفات لمن أيها الإخوة؟ هذه الصفات لله عز وجل، هو الذي يشاء ومهما شاء البشر فمشيئته نافذة، وهو الذي يحكم وهو الواحد القهار، وصل الحال بهذا الشاعر لدرجة أن خرج عن الملة بإطلاق هذه الألفاظ على عبد من العبيد. وروى البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه: عن أبي موسى قال: (سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يثني على رجل ويطريه في المدحة -يبالغ في المدح- فقال: أهلكتم، أو قطعتم ظهر الرجل) وترجم عليه البخاري رحمه الله في صحيحه في كتاب الشهادات، قال معنوناً: باب ما يكره من الإطناب والمدح. وعن أبي بكرة رضي الله عنه: أن رجلاً ذُكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فأثنى عليه رجلٌ خيراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ويحك، ويحك، ويحك! قطعت عنق صاحبك يقول ذلك مراراً). يقول له: ويحك قطعت عنق صاحبك (إن كان أحدكم مادحاً لا محالة -يقول عليه الصلاة والسلام موجهاً للأمة: إن كان أحدكم لا بد أن يمدح- فليقل: أحسب كذا وكذا إن كان يرى أنه كذلك). ليس فقط أن يقول المدح، وهذا لا يعني أن يستاهل في المدح حتى ولو قال: أحسبه كذا لا بد أن يكون مصلياً حتى تقول: أحسبه من أهل الصلاة، أما إن كان غير مصلٍ فلا يجوز أن تقول له من أهل الصلاة حتى لو قلت قبلها أحسبه، لأنه ليس من أهل الصلاة، فيقول عليه الصلاة والسلام: (إن كان يرى أنه كذلك، والله حسيبه، ولا يزكي على الله أحداً) لذلك إن رأى إنسان أن يمدح إنساناً لحاجة شرعية أو مصلحة شرعية فليقل في مدحه: أحسبه والله حسيبه، ولا أزكي على الله أحداً أن الرجل هذا من أهل كذا. وبوب النووي رحمه الله تعالى على هذا الحديث باب: كراهة المدح في الوجه لمن خيف عليه مفسدة من إعجاب ونحوه وجوازه -يعني: بلا كراهة- لمن أُمن ذلك في حقه، وذلك لكمال تقواه ورسوخ عقله ومعرفته.

شروط جواز المدح

شروط جواز المدح شرط جواز المدح ألا يكون فيه مجازفة، فإذا كان فيه زيادة عن حال الرجل ومجازفة فإنه عند ذلك لا يجوز مطلقاً. وكذلك أيها الإخوة من أفرط في مدح آخر بما ليس فيه فإن الممدوح لا يأمن على نفسه العُجب، فربما ضيع العمل والزيادة من الخير اتكالاً على ما وصف به، لو أنك أخذت إنساناً ومدحته وقلت: أنت كذا وكذا أمام الناس أو بمفرده ماذا يحصل لهذا الرجل؟ يحصل بسبب مدحك إياه بأنه قد وصل إلى منزلة عالية من الخير، وأنه عند الله في كذا وكذا، وأنه من أهل الجنة مثلا، هذا الشيء يدفعه إلى ترك العمل لأنه يشعر بأنه قد أمن على نفسه، وبأنه قد أصبح في المنزلة العالية، ولذلك قال العلماء: إن الرجل لا يعمل إلا إذا أحس بالتقصير، فأنت إذا مدحته مدحاً زائداً فإنك تزيل عنه التقصير من نفسه، تزيل عنه الإحساس بالتقصير فلذلك يتكاسل عن العمل ويتوانى، هذه أيها الإخوة من أضرار الإفراط في المدح. وأما من مدح إنساناً بما فيه وكان هذا الرجل من أهل الصلاح والتقوى، ولا يوجد عنده حب للظهور، أو لا يوجد عنده اغترار بالكلام الذي سيمدح به فإنه والحالة هذه لا يكره مدحه، ولكن هذا الأمر لعمر الله يحتاج إلى فراسة إيمانية لا تتوفر لكثير من الناس، لذلك كان الأحوط ألا تبالغ في المدح ولا تمدح إلا للضرورة الشرعية. ولذلك قال ابن حجر رحمه الله في الفتح: وقد ضبط العلماء المبالغة الجائزة من المبالغة الممنوعة، بأن الجائزة يصحبها شرط أو تقريب والممنوعة بخلافها. يعني: أنت أحياناً تضطر إلى المدح فماذا تقول في مدحك؟ فلان إن شاء الله من أهل الخير ما دام متمسكاً بالدين، أو ما دام متبعاً لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، هذا الشرط أو التقريب ما دام متبعاً مهمٌ جداً لكي يكون المدح شرعياً وإلا كان إطلاق المدح: فلان من أهل الخير والصلاح هكذا تزكية ومدح بدون قيد أو شرط، هذا المدح يخشى أن يكون مما لا يرضي الله عز وجل، أو تقول: فلان نحسبه من كذا على سبيل التقريب، نحسبه من أهل كذا، هذه الصيغة لا بأس بها إذا احتاج الإنسان إليها.

ما يسببه المدح للمادح

ما يسببه المدح للمادح وكذلك فإن المادح نفسه يتضرر من وراء هذا المدح، فيضطر للكذب في المدح، وقد يضطر للرياء، وقد يرتكب منهياً عظيماً من المنهيات وهو يمدح إنساناً فاسقاً أو ظالماً، وقد يطلق الكلام لا على سبيل التحقق يقول: فلان من أهل كذا، وفلان صفته كذا وهو ما تحقق ولا تأكد؛ خصوصاً أيها الإخوة أن بعض الأشياء التي يمدح بها بعض الناس لا سبيل إلى التأكد منها مطلقاً، لأنها قد تكون أشياء قلبية، كيف اطلعت على قلبه لتقول هذا الرجل من المخلصين وإيمانه كامل، وكذا وكذا؟ والإيمان محله القلب ويصدقه العمل، أنت تحكم بالعمل فقط ولم تطلع على قلبه؟ وتحكم لفلان من الناس بكمال الإيمان وهي مسألة الحكم بها مستحيل لأنها تحتاج على اطلاع على القلب، وهذا ليس إلا لله عز وجل.

عادة السلف وأهل العلم في المدح

عادة السلف وأهل العلم في المدح أيها الإخوة: بعض الناس قد يقول: فلان ورع، فلان تقي، فلان زاهد، هذا المدح ليس بصحيح، هذا بخلاف ما إذا قال: رأيت فلاناً يصلي، رأيت فلاناً يحج، رأيت فلاناً يزكي. لو طلب منك شهادة في فلان في مسألة زواج مثلاً، لا تقول: فلان ورع وتقي وعابد وزاهد وكامل الإيمان، ولكن تقول مثلاً: أنا رأيته يصلي، رأيته يدعو إلى الله على بصيرة، رأيت فيه علماً، فلا تطلق الألفاظ، تقول هذا الكلام مما يسهل الاطلاع عليه لأنه يسهل الاطلاع على فلان أنه من أهل الصلاة، يسهل الاطلاع على فلان أنه من أهل العلم وهكذا. وكذلك أيها الإخوة قال سفيان بن عيينة: إذا مدح الإنسان في وجهه ماذا يقول؟ (اللهم اغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون، واجعلني خيراً مما يظنون) أخرجه البيهقي في الشعب. وتستنكر هذا المدح وتنكر على هذا الرجل هذا الكيل المتدفق في المدح لأنه مخالف لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلماؤنا من السلف رحمة الله تعالى عليهم كانوا لا يكيلون المدح جزافاً ولا يطلقونه إطلاقاً؛ بل إنك إذا رجعت إلى كتب الجرح والتعديل التي فيها تقييم لرجال الحديث؛ وجدت العلماء من السلف في هذا الجانب يدققون جداً، لا يقولون: فلان إمام عدل ثقة ثبت، ورع زاهد تقي عابد إلا إذا كان من أهل هذه المنزلة فعلاً، أما إذا كان فيه شيء آخر فإنهم يبينونه، فلذلك مثلاً يقول الذهبي رحمه الله في ترجمة إسماعيل بن سميع الكوفي: ثقة فيه بدعة، كونه ثقة ما منع الذهبي أن يقول: فيه بدعة، وكونه فيه بدعة ما منع الذهبي أن يقول عنه: ثقة {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} [الأعراف:85] قال عنه: ثقة فيه بدعة. وقال في ترجمة أبو سليمان داود المدني رحمه الله: ثقة مشهور له غرائب تستنكر، مع أنه ثقة مشهور لكن عنده غرائب تستنكر منه، ما منع الذهبي ثقة الرجل وشهرته أن يضيف هذه الإضافة: له غرائب تستنكر، لا بد من إنزال الناس منازلهم، وعدم إطلاق ألفاظ الثناء عليهم. مثال أخير: قال الذهبي رحمه الله في ترجمة طلق بن حبيب: من صلحاء التابعين إلا أنه يرى الإرجاء، وقال ابن حبان في نفس الرجل: كان عابداً مرجئاً، الإرجاء بدعة في الدين، وهو مذهب باطل إلا أنهم لما ترجموا لهذا الرجل قالوا: من صلحاء التابعين، هو صالح نعم، لكن عنده في فكره انحراف منهجي في قضية الإرجاء. ومن أعظم المصائب في قضية المدح: مدح المنافق والفاجر أو الكافر بقول سيد، قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي يرويه أحمد وأبو داود عن بريدة وهو في صحيح الجامع: (لا تقولوا للمنافق سيدنا، فإنه إن يكن سيدكم فقد أسخطتم ربكم). قال العلماء في شرح الحديث: إذا قلت للمنافق يا سيدنا أو يا سيدي، وهذا الرجل سيد فعلاً عنده عبيد وعنده أموال وعنده جاه ومنصب، فإن قلت له: يا سيدي وهو منافق فعلاً فقد أسخطت ربك، فكيف إذا كان هذا المنافق ليس بسيد أصلاً، بل هو من عامة الناس، وهو منافق، وأنت تقول له: يا سيد أو يا سيدي؟! ولذلك قال النووي رحمه الله معنوناً على هذا الحديث: باب النهي عن مخاطبة الفاسق والمبتدع ونحوهما بسيد ونحوه، قال الشارح في دليل الفالحين: ونحوهما -يعني: الفاسق والمبتدع- من الظلمة وأعوانهم، وبعض الناس اليوم عندما يخاطب الكفار يقول له بلهجته أو بلغته الأجنبية: نعم يا سيد، كما يقول بعض الطلبة للمدرس الكافر يقول له: يا سيد! هذا أيها الإخوة داخل في الحديث حتى ولو قالها بلغة الكافر، وهذه اللفظة شائعة على ألسنة كثير ممن يتعاملون مع الكفرة، لماذا هذا النهي وهذا التعظيم وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (فقد أسخطتم ربكم) قال الشارح رحمه الله: لأن فيه تعظيماً لمن أهانه الله، الله عز وجل يهين منافقاً أو مبتدعاً أو فاجراً ويتوعده في كتابه بالنار والعذاب والإهانة في الدنيا والآخرة، وأنت أيها المسلم تأتي وترفع هذا الرجل إلى مرتبة السيادة، إنه لأمر عجيب فعلاً! وهذا الشيء مقيد بمن لا يكون على نفسه ضرر في أهله أو ماله فلا كراهة حينئذٍ، وقوله: (فقد أسخطتم ربكم) أي: عظمتم من خرج عن عبودية الله واتخذ له ضداً ونداً، وكذلك العصاة فإنهم اشتركوا مع المنافق في الخروج من حزب الرحمن والانتظام في إخوان الشيطان. هذا أيها الإخوة لا يجوز بحال، كثير من المسلمين اليوم يعظمون الفجار والفسقة والمبتدعين والمنافقين ويكيلون لهم ألفاظ الثناء والمدح بغير حساب. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجنبنا وإياكم هذه الآفات، وإن يرزقنا وإياكم العدل في القول والعمل، وألا نبخس الناس أشياءهم، وصلى الله على نبينا محمد. أستغفر الله العظيم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

نهي الشرع عن مدح الموت

نهي الشرع عن مدح الموت الحمد لله وحده، وأشهد أن لا إله إلا هو عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أقام الله به الملة العوجاء، ودعا الناس إلى لا إله إلا الله وعلمهم ما ينفعهم في الدنيا والأخرى. أيها الإخوة: ومما يتعلق بالموضوع كذلك: ما تراه أيها المسلم أحياناً في نعي الجرائد، فإن كثيراً من الناس إذا ذهب ينشر نعياً عن ميت من أصحابه أو من أهله، تراه يقول مثلاً في مطلع النعي: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفجر:27 - 28] أو يقول في لقب: انتقل إلى رحمة الله فلان، أو يقول: المغفور له فلان قد مات في كذا وكذا، أو يقول: الشهيد فلان، أو مات شهيداً ونحو ذلك، إلى آخر ذلكم من الآيات التي يصدر بها النعي، وإلى آخر ذلك من الألفاظ: المرحوم فلان. يا أخي المسلم ما يدريك بأنه مرحوم؟ ما يدريك لعله انتقل إلى غضب الله وعذابه بدلاً من أن ينتقل إلى رحمته؟ ما يدريك لعل نفسه أمارة بالسوء وليست نفساً مطمئنةً؟ كيف تحكم عليه؟ كيف تحكم عليه بهذه الأحكام فتقول هذا صاحب النفس المطمئنة: {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:28 - 30] ما يدريك أنه قد دخل الجنة عندما مات؟ ما يدريك بأن الله قد غفر له أو لم يغفر له؟ ما يدريك بأنه شهيد؟ ربما كان غير شهيد. فلذلك أقرأ عليكم أيها الإخوة هذا الحديث الذي رواه البخاري رحمه الله، والذي يوضح لك بجلاء خطأ ونكارة ما يفعله الناس اليوم في هذه الأمور. عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أم العلاء الأنصارية -امرأة من الأنصار- قالت: لما هاجر المهاجرون من مكة إلى المدينة، كانوا فقراء ليس عندهم مأوى ولا مكان يبيتون فيه، إخوانهم الأنصار كانوا يحرصون عليهم أشد الحرص، فتقول المرأة: اقتسموا المهاجرين قرعة، كل واحد من الأنصار قال: أنا أريد فلان أنا أريد فلان، والمهاجرين قلة في العدد أقل من الأنصار، فماذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم؟ قسمها بالقرعة، يأتي برجل من المهاجرين، فيقرع بين الأنصار فيخرج هذا من نصيب فلان فيأخذه معه في بيته، ويسكنه ويكرمه ويطعمه، قالت هذه المرأة رضي الله عنها: فصار لنا عثمان بن مظعون المهاجري رضي الله تعالى عنه، وأنزلناه في أبياتنا، أكرمناه فوجع وجعه الذي توفي فيه، نزل به المرض والوجع الذي أدى به إلى الوفاة، فلما توفي غسل وكفن في أثوابه، تقول هذه المرأة التي أضافت هذا الرجل: ما علمت منه إلا كل خير، أي أنها ما رأته إلا عابداً مجاهداً في سبيل الله، تقول: رحمة الله عليك يا أبا السائب -وهي كنية عثمان بن مظعون - حتى هنا الكلام صحيح ودعاء بالرحمة له، فشهادتي عليك لقد أكرمك الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وما يدريك أن الله أكرمه؟ فقلت: بأبي أنت يا رسول الله! فمن يكرمه الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما هو فقد جاءه اليقين -أي: الموت- والله إني لأرجو له الخير). انظروا إلى التصحيح والتعليل، المرأة قالت: شهادتي عليك لقد أكرمك الله، ماذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم؟ (والله إني لأرجو له الخير) فلو قلت مثلاً: أرجو أن يكون فلاناً من أهل الجنة، أرجو أن الله قد أكرمه، نسأل الله أن يغفر له ذنوبه، نسأل الله أن يبلغه عليين، إلى آخر ذلك من ألفاظ الدعاء للميت، فلا بأس، لكن إطلاق الحكم له بالجنة وإطلاق الحكم له بالمغفرة أو الشهادة هذا مخالف لمذهب أهل السنة والجماعة، لأن من عقيدتهم أنهم يقولون: لا يجوز الحكم لمعين بجنة أو نار إلا من حكم له الوحي، فإذا حكم الوحي لـ أبي بكر أنه من أهل الجنة فنحن نقطع أنه من أهل الجنة، إذا حكم القرآن أن أبا لهب في النار قطعنا بأنه في النار، أما غير ذلك من الأشخاص لا نقطع لهم بجنة أو بنار إلا ما ورد في الوحي، بل نقول: إن فلاناً عمله من عمل أهل الجنة، وفلان عمله من عمل أهل النار، وهكذا. ثم قال عليه الصلاة والسلام مكملاً حديثه: (والله إني لأرجو له الخير، ووالله -انظروا أيها الإخوة إلى هذه العبارة- ما أدري وأنا رسول الله ماذا يفعل بي). ولذلك تقول هذه المرأة: فما زكيت بعده أحداً أبداً.

كيفية الاعتدال في المدح

كيفية الاعتدال في المدح نقطة أخيرة في هذا الموضوع: عندما نقول بالنهي عن المدح والتمادح والثناء فلا نعني أيها الإخوة بأي حال من الأحوال الجفاف في معاملة الناس، وعدم الثناء على من يستحق الخير، وأنه إذا ورد أمامنا ذكر عالم أو رجل من المخلصين ألا نقول له كلمة مدح أو ثناء البتة، كلا أيها الإخوة، ولا يعني ذلك أيضاً أننا في حال الدعوة إلى الله لا نترفق بالناس، ونستثير كوامن الخير في أنفسهم بالثناء على ما فيهم من الخير، أنت كداعية عندما تريد أن تدعو إلى الناس لا تذهب إلى الرجل وتقول في وجهه: افعل كذا وكذا بدون مقدمات تستثير بها عاطفته وتفتح قلبه، فمثلاً تقول للرجل: أحسب أنك من أهل الخير هلا فعلت كذا وكذا، أحسب أنك من أهل طاعة الله لم لا تفعل كذا؟ أو تقول مثلاً لرجل وهو يصلي: يا أخي أنت من أهل الصلاة والحمد لله، وفيك خير كبير، وفيك إيمان ما دمت أنك من أهل الصلاة، لماذا لا تكمل هذا الإيمان بالإقلاع عن المعصية الفلانية والفلانية؟ وقد قال الشاعر: ولم أر في عيوب الناس عيباً كنقص القادرين على التمام هذا الأسلوب أيها الإخوة مطلوب، تشجيع طلبة العلم أثناء تعليمهم بقول المعلم للرجل: أحسنت مثلاً، والثناء عليه لا بأس بذلك، تشجيع الناس الذين يفعلون الخير بالكلمات الطيبة لا بأس بها، بشرط أن يؤمن بأنهم لن يأخذوا كلامك هذا ويفسد نياتهم ويتركون العمل، وذلك بأن تقتصد في المدح وتعطي كل رجل الألفاظ المناسبة لحاله بغير أن تخرجه عن الحد المشروع. ولذلك أيها الإخوة أبو سفيان المشرك لما أسلم رضي الله عنه، كيف أسلم؟ من الأسباب التي دعته للإسلام أن الرسول صلى الله عليه وسلم أنزله منزلة فيها إظهار لبعض قدره حتى يؤلف قلبه على الإسلام، فلذلك قال عليه السلام مخاطباً أهل مكة: (من دخل المسجد الحرام فهو آمن، ومن دخل بيته فهو آمن، ومن دخل بيت أبي سفيان فهو آمن) لماذا قال هذه الجملة؟ قالها إعطاء لهذا الرجل شيئاً من المنزلة لعل الله أن يهديه، فأصاب أبو سفيان هذه المنزلة تأليفاً لقلبه، وهذا قدوة نقتدي بها أيها الإخوة في باب الدعوة إلى الله عز وجل. وفقنا الله وإياكم لمعرفته حق المعرفة، وعبادته حق العبادة، وأن نقوم بحقوق الله جل وعلا، وأن نقيم حدوده عز وجل في أعمالنا وجوارحنا وألسنتنا، ونسأله تعالى أن يقينا وإياكم آفات اللسان فإنها مهلكة. اللهم اجعلنا من الطائعين لك سراً وجهراً، ومن القائمين بحقوقك في الليل والنهار، وأدخلنا الجنة مع الأبرار.

أهلا رمضان

أهلا رمضان جعل الله شهر رمضان موسماً للخيرات، وندب الناس للاجتهاد فيه، فهو زاد لباقي العام، وفوق هذا فقد وعد الله من صامه إيماناً واحتساباً بالخير الكثير، فكيف بمن قام بغير ذلك من أعمال الخير كالصدقة والبر والصلة إلخ. وقد قام أعداء الله باستنفاذ كل طاقاتهم من أجل تفريغ هذا الشهر من كل ما فيه، فسلطوا على المسلمين فضائيات اشتكى الفضاء من محتواها، فكيف بعباد الله المؤمنين؟! فالحذر كل الحذر ممن يريدون أن يعبثوا بديننا وخصوصاً في مثل هذا الشهر الكريم.

ترقب المؤمنين لشهر رمضان

ترقب المؤمنين لشهر رمضان إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

حرص الشرع على التشويق لشهر رمضان

حرص الشرع على التشويق لشهر رمضان قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185]، شهركم على الأبواب، ونفوس المؤمنين تنتظر، والفرحة بقرب قدوم الغائب عمت القلوب التي تنتظره؛ لأن المؤمن يتطلع إلى موسم الخير، وإلى الأوقات الفاضلة، ليتعرض لنفحات ربه. وها قد اقترب شهر الصيام، وتأججت في النفوس اللوعة ونيران الاشتياق لشهر رمضان، وتأتي الشريعة بالأحكام التي تؤدي إلى حصول الشوق والتطلع، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقدموا رمضان بيوم أو يومين إلا من كان يصوم صوماً فليصمه) فمن صام فيما تبقى من الأيام قضاءً عما فاته من رمضان الماضي، أو كفارة ليمينٍ ونحوه فلا بأس بذلك، وأما من صامه بنية الاحتياط لرمضان فهذا منهيٌ عنه، ومن كانت له عادةٌ فوافقت عادته قبل رمضان بيوم أو يومين فهو يستمر على عادته، فلو كان دخول رمضان الجمعة وكان معتاداً على صيام الخميس من قبل، فهو يصومه على عادته كما جاء في الحديث، أما من لم تكن له عادة وليس له قضاءٌ أو كفارة فممنوعٌ من الصيام قبل رمضان بيومٍ أو يومين، لماذا؟ ذكر العلماء عدة أسباب: أولاً: ألا يزاد في رمضان ما ليس منه. ثانياً: الفصل بين الفرض والنفل. ثالثاً: الاستعداد للصيام والتشوق له، فيدخل رمضان بطعمٍ جديد، وينحبس الناس عن الصيام ترقباً لدخول الشهر حتى يصوموا، حبستهم الشريعة عن الصيام قبله لكي يدخلوا به وقد استطعموه طعماً جديداً، وحبسوا عن الصيام قبله تشوقاً إليه، فهذه الشريعة تشوقهم لشهر رمضان.

أخطاء الناس عند الاستعداد لشهر رمضان

أخطاء الناس عند الاستعداد لشهر رمضان ذكر العلماء أن بعض العامة يظنون بأن المراد بالفطر قبل رمضان وعدم الصيام هو اغتنام الفرصة للأكل؛ لتأخذ الأنفس حظها من الشهوات قبل أن تمنع من ذلك، ولذلك يقولون في الأيام الأخيرة من شعبان: هي أيام توديعٍ للأكل، وبعضهم يسميها الشعبانية، وذكر بعض أهل اللغة أن أصل ذلك مأخوذ من النصارى، فإنهم كانوا يفعلونه قرب صيامهم، وليس المقصود بالمنع من الصيام قبل رمضان أن نستعد بالأكل ونشبع، كلا والله. والعصاة يستعدون بالازدياد من المعاصي قبل دخول رمضان، ويقولون: حتى ندخل فيه فيغفر لنا، فيستهينون بالأيام الأخيرة من شعبان، كما قال بعضهم: إذا العشرون من شعبان ولّت فواصل شرب ليلك بالنهار ولا تشرب بأقداحٍ صغارٍ فإن الوقت ضاق عن الصغار ويكثرون من شرب الخمور قبل دخول الشهر والعياذ بالله. ومن كان هذا حاله، ويظن أن التزود الآن بالشبع والمعاصي قبل دخول رمضان، فالبهائم أعقل منه، وله نصيبٌ من قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا} [الأعراف:179] وربما يكره كثيرٌ منهم صيام رمضان ودخوله، حتى إن بعض السفهاء كان يسبه لأجل أنه سيحرم فيه من الشهوات، والله عز وجل جعل الليل مجالاً للأكل والشرب والنكاح، فليس ما سبق بممنوعٍ إلا ساعات، وفي هذا الفصل في هذا الشهر سيكون النهار من أقصر أيام السنة، وربما لا يحس الإنسان بكثير مشقة في الامتناع عن الطعام والشراب، فلابد ألا يُفقد لذة رمضان، وعليه بالازدياد من العبادات، ومن أراد الله به خيراً حبب إليه الإيمان وزينه في قلبه، وكرَّه إليه الكفر والفسوق والعصيان وجعله الراشدين، ومن أراد الله به شراً خلى بينه وبين نفسه، فأتبعه الشيطان فحبب إليه الكفر والفسوق والعصيان فكان من الغاوين. باع قومٌ من السلف جارية لهم، فلما قرب شهر رمضان رأتهم يتأهبون له ويستعدون بالأطعمة وغيرها، فسألتهم فقالوا: نتهيأ لصيام رمضان، فقالت: وأنتم لا تصومون إلا رمضان، لقد كنت عند قومٍ كل زمانهم رمضان، ردوني عليهم. وباع الحسن بن صالح رحمه الله جارية له، فلما انتصف الليل قامت، فنادتهم: يا أهل الدار! الصلاة الصلاة، تقصد قيام الليل، قالوا: طلع الفجر، قالت: وأنتم لا تصلون إلا المكتوبة، ثم رجعت إلى الحسن الذي باعها، وقالت له: بعتني على قوم سوء لا يصلون إلا المكتوبة ردني ردني. تتطلع النفوس إلى الشهر الكريم بالازدياد من العبادة، ويقبل الناس على الله تعالى بالدعاء أن يبلغهم هذا الشهر، ويستعدون لذلك بأنواع الاستعداد، ويدرسون أحكام الصيام، ويتنبهون إلى مسألة عقد النية قبل الفجر في أول ليلةٍ من رمضان على العزم على الصوم، والنية محلها القلب، والتلفظ بها بدعة، ويحتاط إلى أن يستيقظ في جزءٍ من الليل قبل الفجر حتى يعلم هل دخل الشهر أم لا؛ ليكون عنده نية جازمة يدخل بها شهر رمضان. يا من عليه صيام قضاءٍ! سارع، فما بقي شيء ويا من عصى الله! تب الآن وجدد التوبة، ويا معشر أصحاب الأموال! احصوا الزكاة استعداداً لإخراجها إذا كان الحول يحول في رمضان.

الاستعداد الواجب لشهر الصيام

الاستعداد الواجب لشهر الصيام عباد الله: إن قوة الترقب لموسم العبادة يدل على قوة الإيمان، والفرح بالقدوم يدل على قوة الإيمان، وحسن الاستعداد يدل على قوة الإيمان. فيا معشر الأئمة والدعاة إلى الله! بادروا بترتيب الدروس وحسن انتقاء الكتب، وشحن الناس لدخول الشهر، أتاكم شهر رمضان شهر مبارك، وكان عموم الناس يتراءون الهلال على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من تشوقهم وتطلعهم يقول في الحديث: (تراءى الناس الهلال) الناس يتراءون الهلال، الجود بالعلم والخلق، والقدوة أن يعد نفسه للاقتداء، جيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في سفرٍ في رمضان، فقيل له: إن الناس قد شق عليهم الصيام، وإن الناس ينظرون ماذا فعلت، فدعا بقدحٍ من ماء بعد العصر فشرب والناس ينظرون إليه. الدعاة قدوة فينبغي أن يكملوا أنفسهم، لا استعداداً بما فيه معصية كما يفعل الكثيرون، ينبغي إعداد المساجد لصلاة التراويح، ليس بزيادة الأنوار، فزيادة الأنوار في رمضان بدعة، وإنما بتنظيفها وتطيبها وليساهم أهل اليسر والمال في ذلك، فإن فيه أجراً عظيماً، المساجد التي لم تكتمل المساجد التي فيها نقصٌ في فرشها ونحو ذلك مما يحتاجه الأمر، وتجهيز أماكن النساء التي لا يكون فيها اختلاط بالرجال، ولا يجوز أن يحول المسجد إلى مجالٍ للدعاية والإعلان عن السلع التجارية، وتعلق الإعلانات وبعض التقاويم المطبوعة فيها خانةٌ الإمساك قبل الفجر بعشر دقائق وهي بدعة ضلالة. أيها المسلمون: إن كثيراً من الناس يتجهزون، ولكن مع الأسف لا يتجهزون بالتقوى {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197] سيأتي رمضان في إجازة، ومعنى ذلك أننا سنتوقع سهراً طويلاً في الليل، والليل طويل، ومعنى ذلك: أن عدداً من الناس سيسهرون ثم يرقدون قبل الفجر، ومعنى ذلك: أن صلاة الفجر ستضيع، وربما رأيت اهتماماً بصلاة الفجر في أول ليلة أو ليلتين ثم يعود الأمر إلى المعتاد أو أقل من المعتاد، وبعض المسلسلات ستجتذب بعض الناس عن صلاة العشاء في الجماعة، وعن بعض صلاة التراويح، وسيأتون إلى المساجد متأخرين لأجل المسلسل الفلاني الذي يعرض؛ فتباً وتعساً لهم لهذا الاستعداد، يتأخر عن الصلاة لأجل اللهو.

سهام الأعداء في رمضان

سهام الأعداء في رمضان عباد الله: هذا الشهر مجالٌ عظيم لاستغلال الطاعات والعبادات، وفيه تضاعف الحسنات والأجور؛ لأن القاعدة الشرعية هي أن الطاعات في الأزمنة الفاضلة تضاعف، والسيئات في الأزمنة الفاضلة تضاعف، ونحن نعلم مكانة هذا الشهر جيداً، ونعلم مكانة الصيام في أركان الإسلام، ونعلم الأجر العظيم في الصيام والقيام والاعتكاف والعمرة في رمضان، وسائر العبادات وتلاوة القرآن. ولما علم أعداء الله مكانة رمضان في الدين، وأنه شهر توبة للكثيرين والرجوع إلى الله سلطوا سهامهم على شهر رمضان، وأعدوا العدة للانقضاض على روح العبادة في هذا الشهر بأنواع المعاصي التي يجرون إليها الناس، فإذا نظرت وقرأت في الدعايات والإعلانات ماذا ستجد بمناسبة شهر رمضان؟ أصبح الآن قدوم رمضان مجالاً ومناسبة وفرصة للمعاصي بأنواعها، بمناسبة شهر رمضان خصومات على الاشتراك في القنوات الفضائية الأوائل في الفسق والمجون ومبارزة الله بالمعصية، ثلاثة أشهر مجاناً، تسهيلات في قيمة جهاز فك الشفرة خمس قنوات بكذا، وثلاث قنوات بكذا، كنا نعجب من حديث النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (ورأيت رجلاً جالساً ورجلاً قائماً بيده كلوب من حديد -حديدة معوجة- يدخل ذلك الكلوب في شدقه ويشرشره ويقطعه من شدقه الأيمن إلى القفا، ثم يعود فيضع الكلوب في الشدق الأيسر ويشرشره إلى قفاه، فيعود الشدق الأيمن سليماً، فيعود فيشرشره وهكذا باستمرار، فسألهم: من هذا؟ قالوا: أما الذي رأيته يشق شدقه فكذابٌ يحدث بالكذبة فتحمل عنه حتى تبلغ الآفاق فيصنع به هكذا إلى يوم القيامة). والآن بعد وجود القنوات الفضائية لم يعد هناك مجالٌ للعجب، فإنهم ليس فقط يكذبون الكذبة حتى تبلغ الآفاق، وتحمله الموجات إلى أرجاء الأرض، وإنما يدبرون المؤامرات والمعاصي. تحول شهر رمضان إلى شهر غناءٍ وطرب، وأمسيات رمضانية في المعصية، والأغاني والفلكلورات الشعبية ونحو ذلك، وكذلك الفوازير التي تعرض بالغناء مع اللوحات الاستعراضية الراقصة هكذا شهر العبادة! هكذا شهر الصيام!! مخطط أعداء الإسلام لتفريط رمضان من محتوياته، ما دام شهر توبة وعبادة لابد من الإغارة عليه، ولابد من تفريغه من محتوياته، ولابد من منع تأثيره على الناس، ولابد من عزل هذه الروح العظيمة في هذا الشهر عن الناس، لئلا يتنسموها كيف؟ بهذه المسلسلات والأغاني والعروض، والفوازير والاشتغال بها، ومكاتب تبيع الأسئلة، حتى قضية جمع المعلومات ليس فيها فائدة، وخصوصاً أن بعض هذه الأسئلة لا علاقة لها بالإسلام. ثم برامج للطبخ، وطبق اليوم، ولقمة هنية طبق رمضان المأكولات العربية، إشغال ربات البيوت في الوقت الفاضل في وقت الصيام في اللحظات الغالية بمتابعة هذه الأطباق، وبعد الإفطار يعرضون مواقف كمودية، والكاميرا الخفية، ونجوم الفكاهة، ويعرضون مسلسلات عن التاريخ الإسلامي بزعمهم أن هذه الأشياء إسلامية، وهي في الحقيقة تشويهٌ -والله العظيم- للشخصيات الإسلامية، فشوهوا شخصية عمر بن عبد العزيز، وشوهوا شخصية شيخ الإسلام ابن تيمية، وشوهوا شخصية صلاح الدين الأيوبي، وعرضوا المناظر المقذعة الفظيعة التي تبين أنهم عشاق، وهذا له علاقة بالنساء، ونحو ذلك من أنواع التبرج والفجور في الفيلم، ويمثله شخصٌ فاجرٌ يقوم بتمثيل رجلٍ من أبطال الإسلام. وسنرى الدور على من في تشويه تاريخ المسلمين، ولو قاموا في هذه القنوات الفضائية العالمية التي تبث على العالم بأشياء من الدين أو إجابات أو برامج فإنها لا تخلو من التساهلات والتنازلات، وبالتالي ماذا سيكون أيها الإخوة؟! النهار ليس هناك دراسة عند الطلاب في هذا الشهر، سيتحول النهار إلى أي شيء؟ والليل إلى أي شيء؟ وأوقات صلاة التراويح إلى أي شيء؟ والليل في الألعاب والملاهي والمعاصي والتمشيات، والشباب على الأرصفة، وربما دقوا بالعود وعزفوا وفعلوا وفعلوا، ونظموا المباريات والسداسيات، واشتغلوا بالرياضة عن قيام الليل، وعن اغتنام هذه الأوقات الثمينة بالمعاصي أو الملاهي، ولو قلت: اللهو المباح، فأي غبنٍ أعظم من جعل هذه الأوقات مجالاً للفسق والفجور، وحتى اللهو المباح أليس غبناً؟ أليس خسارةً؟ عباد الله: هل يا ترى سننساق وراء مخططات أعداء الإسلام لتفريغ رمضان من محتوياته أم لا؟ هذا ما ستكشفه الأيام القادمة، وشتان شتان بين الذين سيسافرون إلى الخارج في هذا الشهر وينقطعون بالكلية عن مجتمعات المسلمين، ويعتبرونها سياحة في الأرض لا يسمع أذاناً، ولا يشهد صلاةً، وبين من سيعد العدة للذهاب إلى مكة. أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج، فقالت امرأة لزوجها: أحجني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ما عندي ما أحجكِ عليه، قالت: أحجني على جملك فلان، قال: ذاك حبيسٌ في سبيل الله عز وجل -أي: وقف في الجهاد- ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن امرأتي تقرئ عليك السلام -أدب النساء- وإنها سألتني الحج معك، وقالت: أحجني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على جملك، فقلت: ذاك حبيسٌ في سبيل الله، فقال: (أما إنك لو أحججتها عليه كان في سبيل الله، قال: وإنها أمرتني أن أسأل ما يعدل حجةً معك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقرئها السلام، وأخبرها أنها تعدل حجةً معي عمرة في رمضان) رواه أبو داود بإسنادٍ حسن. وأول رمضان هو ليلة الأول منه، فإذا غربت الشمس وثبت دخول الهلال بدأنا في رمضان، ومن أوقع عمرته في ليلة الواحد من رمضان -الليلة التي تسبق نهار الأول من رمضان- فقد أوقعها في رمضان. عباد الله: الحذر الحذر من المعاصي، فكم سلبت من نعم، وكم جلبت من نقم، وكم خربت من ديار، فما بقي فيها ساكنٌ ولا ديَّار، وكم أخذت من العصاة بالثأر، وكم محت لهم من آثار. يا صاحب الذنب لا تأمن عواقبه عواقب الذنب تخشى وهي تنتظر فكل نفسٍ ستجزى بالذي كسبت وليس للخلق من ديانهم وزر نسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهل البصيرة، اللهم اجعلنا من أهل البصيرة، اللهم اجعلنا ممن عرفوا الشر فتركوه، وممن عرفوا الخير فسلكوا طريقه واتبعوه. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

أصناف الناس في استقبال رمضان

أصناف الناس في استقبال رمضان الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، وأشهد أن لا إله إلا هو الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. عباد الله: رمضان سيصنف الناس أصنافاً شتى، فمنهم من سيكون همه طاعة الله تعالى صياماً وقياماً احتساباً للأجر ورجاءً للثواب، وطمعاً فيما عند الله، ويتوب إلى الله مما سلف، ويرجع عما كان من المعصية، ويجدد العهد مع الله، لينطلق فيما بقي من حياته إلى طاعة الله تعالى، وطريق الجنة، ومنهم من سيجعل هذا الشهر شهر نومٍ وكسلٍ ولهوٍ وبطالة، وجل النهار وهو نائم، وأكثر الليل وهو لاعب، وربما سهروا إلى بعد صلاة الفجر ثم ناموا وفاتتهم صلاة الظهر والعصر ليستيقظوا عند صلاة المغرب للأكل والشرب. ومن الناس من سيكون هذا الشهر بالنسبة إليه موسماً للتسول، وسؤال الناس، وتأتيك المعاريض والأوراق ويطوف المحتالون على المساجد. وينبغي للمسلم أن يكون كيساً فطناً، وأن يتحرى بزكاته وصدقته المحتاجين، وإذا لم يعرف المحتاجين والفقراء يدفعها للثقات من المسلمين ليوصلوها إلى المحتاجين حقاً، فلا يغتر بهؤلاء الذين جعلوا رمضان شهراً للتسول، والازدياد من المال وأكل الحرام. ومن الناس من سيكون همه التفنن بالأكل والشرب وصنع المأكولات بأنواعها، والمفاخرة، ونصيحة للنساء بالاقتصاد، وعدم ملء هذه اللائحات وهذه القائمات بالمأكولات والمشروبات التي تدفعها إلى زوجها، ليندفع إلى السوق ويشتري الناس ثلاثة أضعاف ما كانوا يشترونه في الأيام العادية، هل هذا هو المطلوب في هذا الشهر؟ ثم تنشغل المرأة والخادمة معها بطبيعة الحال في المطبخ ساعاتٍ طويلة، ثم بعد ذلك تمد السفرة على الأصناف، وينهمك الجميع في الأكل وقد صوبوا أنظارهم تجاه الشاشة، ويزدادون شراهةً، وتمتلئ البطون بأنواع المأكولات والمشروبات، وما سيرمى في القمامة أكثر. ثم جعل الصيام شافعاً للعبد يوم القيامة كما جعل للصائم فرحة عند لقاء الله. يا عبد الله! الفرحة عند لقاء الله لا تعدلها فرحة، ومن فرح ذلك اليوم فلا يحزن أبداً: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62] فهذا الصائم إذا لقي ربه فرح بصومه، والصيام يقول يوم القيامة: (أي رب! منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه، فيشفع فيه).

بشرى لكل محتسب لأجر الصيام

بشرى لكل محتسب لأجر الصيام جعل الله رائحة فم الصائم الكريه عند الناس أطيب عنده من ريح المسك، وجعل الصوم جُنة ووقاية من عذاب النار، وأخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أن (من صام يوماً في سبيل الله باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفاً). يا معشر المسلمين: أبشروا أبشروا! (إن في الجنة باباً يقال له: الريان يدخل منه الصائمون لا يدخل منه أحدٌ غيرهم -خصوصية للصائمين- فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد). يا عباد الله! اُشعروا بالنعمة العظيمة عندما تفتح أبواب الجنان في أول ليلة من رمضان، وتغلق أبواب جهنم وتصفد الشياطين. هذه النعمة: تصفد الشياطين، وتفتح أبواب الجنة، وتغلق أبواب النيران، وضاعف الأجور، وهو يقول لك: يا عبدي! هلم فاعمل، وكثر شهوة نفسك بما أعانك على ذلك من منعك عن الطعام والشراب في النهار، والجسد ينجذب إلى الأرض، والروح تحتاج إلى غذاء، وخفة المعدة والتجرد من الشهوات يؤدي إلى صفاء النفس وفراغ الخاطر، فيعرف المسلم تفاهة الدنيا، فيحن إلى الآخرة حنين الطائر إلى وكره، والسمك إلى مائه إنه الحنين إلى الآخرة. فحيا على جنات عدنٍ فإنها منازلك الأولى وفيها المخيم ولكننا سبي العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلم أخرج أبونا من الجنة بمكيدة إبليس، والجنة وطننا الأصلي الذي نزل فيه أبونا الجنة هي الدار الأصلية لهذا المخلوق البشري، ولكن مكيدة إبليس أخرجت الأب من الجنة، فهل يا ترى سنرجع إلى وطننا الأصلي؟ هل سنرجع إلى أرضنا الأصلية أرض الجنة؟ هل سنرجع إلى تلك الدار أم لا؟ السعيد من رجع بسلام، والشقي من تاه عن درب الجنة، فسقط في عذاب النيران. عباد الله: صيام شهر رمضان يعدل صيام عشرة أشهر: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) إيماناً بالله، وإيماناً بفرضية الشهر، وعدم الشك بوجوبه إيماناً بما أعد الله للمؤمنين، واحتساباً للأجر، فهو لا يزال يراجع نفسه ويذكرها بأجر الصوم، في نهاره يقول لنفسه: إلا الصوم، فإنه لله وهو يجزيني به إلا الصوم فإن جزاؤه بلا حساب، يرجو ثواب الله، ويأمل في موعود الله، ويتعلق أمله بهذه الحسنات العظيمة يوم يقال للصائمين: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:24] منعناكم عن الطعام والشراب والنكاح في نهار أشهر رمضان في أعماركم، خذوا الآن الأجر: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:24]. الاحتساب مهمٌ جداً في حصول الأجر، والذي لا يحتسب لا يرجو رحمة ربه لا يأمل في الثواب لا تتعلق نفسه بالحسنات، فيفوته أجرٌ عظيم، تذكر الحديث إيماناً واحتساباً في كل أيام الشهر، تذكر الحديث (إيماناً واحتساباً) ولله عز وجل، عند كل فطرٍ تفطره في أيام هذا الشهر له فيه عتقاء من النار فيا فرحة الذي كتب في العتقاء في ليالي هذا الشهر، نسأل الله أن يكتبنا فيهم، ونسأل الله أن يجعلنا منهم، ونسأل الله ألا يحرمنا الأجر في هذا الشهر. عباد الله: إذا كانت المسألة عظيمة إلى هذه الدرجة، وإذا كانت القضية خطيرة ولها شأنٌ عظيم، الأمة كلها مطالبة بأن تصوم (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) وجعل القمر دليلاً عينياً على بلوغ الشهر أو إكمال عدة شعبان ثلاثين يوماً، فعند ذلك تتجه الأمة وتتوحد، وقد آلمنا وآلم المسلمين تفرقهم شيعاً وأحزاباً، دولاً وبلداناً، تفرقوا والإسلام فيه ما يجمع (صوموا لرؤيته). ولذلك قال جمهور العلماء: إذا رأى رجل ثقة من المسلمين الهلال صام المسلمون كلهم في أرجاء الأرض: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) لا حسابات ولا فلكيات، ولكنه دليلٌ عينيٌ، المسلم الثقة الذي يوثق ببصره وخبره إذا رأى الهلال صامت الأمة كلها.

عتاب لكل من ضيع رمضان

عتاب لكل من ضيع رمضان عباد الله: إذا كانت القضية بهذه الخطورة فهل يجوز لنا أن نذهب الحسنات بالانشغال بالترهات والسيئات والأفلام والمسلسلات والمباريات والجلسات الفارغات، أو التسكع في الطرقات، أو اللهو بالسيارات، أو الازدحام في الأرصفة والطرقات؟ هل يجوز لنا إذا كان هذا هو الأجر، وهذا هو المغنم أن ننام ونضيع الصلوات أو نفوت الجماعات؟ هل يجوز لنا بأي حالٍ من الأحوال أن نسافر إلى بلاد الكفار للتمتع بالإجازات في موسم الخيرات؟ هل يجوز لنا أن نفعل المنكرات حتى في المساجد؟ هل يجوز أن يحول الشهر إلى شهر لهوٍ ولعب وصفقٍ بالأسواق، وتطوافٍ على المحلات وتتبعٍ للبضائع، والله يدعونا إلى مائدته، ونحن نعرض عنها؟ كلا والله، فاترك هذه الملهيات التي خطط لها أعداء الإسلام جيداً وحبكوا طرائقها حبكاً محكماً من أجل أن يلهوك أنت يا أيها المسلم لأنك أنت المستهدف وأنت غنيمتهم ومرادهم وبغيتهم، لا يجوز لك أن تجعل الحيلة تنطل وأن تقع في الفخ اترك اللهو اترك هذه الملهيات اترك الانشغال بالقنوات وما أدراك ما القنوات، وأقبل على الله تعالى عَِّد الطاعات خذ آداب الصيام من الحرص على السحور وتأخيره، وتعجيل الفطر، وعدم الإكثار من الطعام، ولا تشغلوا نساءكم في البيوت بالطبخ حتى لا يعود لهن وقتٌ يعبدن الله فيه جودوا بالعلم، جودوا بالمال، جودوا بالجاه في هذا الشهر، الأجر مضاعف، جودوا بالبدن، جودوا بالخلق الحسن، (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان -كل ليلة اجتماع ثنائي بين النبي صلى الله عليه وسلم وجبريل، ما هو موضوع الاجتماع؟ ما هو جدول الاجتماع؟ - فيدارسه القرآن) هذا شهر القرآن: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185]، (فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة) فإن قلت يا عبد الله: إنني عازمٌ على الختمة، والله أيها الإخوة! إن الذي بدأ رمضان يريد الوصول إلى الله سيصل {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] وعدٌ قاطع من الله، لما غربت شمس الأمس ففتح ذلك الرجل مصحفه وأقبل على القراءة، عازم على البداية الصحيحة، أن يختم -والصحابة كانوا يختمون القرآن في كل أسبوعٍ مرة- سيختم، والذي لهى وأجل وسوف فلن يتقدم.

نقاط على الطريق لمن أراد الخير

نقاط على الطريق لمن أراد الخير أولاً: أن يقرأ القرآن لله، لا من أجل الناس؛ لأن الله يقول لأحد الناس يوم القيامة: (ألم أعلمك ما أنزلته على رسولي؟ قال: بلى يا رب! قال: فماذا فعلت فيما علمت؟ قال: كنت أقوم به أناء الليل، وأناء النهار، فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول الله له: بل أردت أن يقال: فلانٌ قارئ فقد قيل، ثم يسحب إلى النار). ثانياً: أن يتلوه على طهارة، ويستقبل القبلة، ويستخدم السواك (إن أفواهكم طرق القرآن فطيبوها بالسواك) وأن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، وأفضل صيغها: (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه) الترتيل وتحسين الصوت التأني والترسل في القراءة الصبر على مشقة التلاوة لمن لا يحسن تهجي الحروف أو به علةٌ في نطقه البكاء والتباكي: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} [الإسراء:109] وبكى النبي صلى الله عليه وسلم عند قوله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً * {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} [النساء:41 - 42]. ودخل عمر دير راهب فناداه فأشرف الراهب، فجعل عمر ينظر إليه ويبكي، فسألوه: ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟ قال: [ذكرت قول الله عز وجل: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * {تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً} [الغاشية:3 - 4]] مع عملها ونصبها تصلى ناراً حامية؛ لأنها تعمل وتنصب في الباطل والبدعة والشرك. وكتب عمر إلى رجلٍ سمع أنه يشرب الخمر: [من عمر بن الخطاب إلى فلان بن فلان: سلام عليك، فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [غافر:3]] ولما بلغت الرجل الرسالة جعل يقرأها ويردد، ويقول: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ} [غافر:3] قد حذرني عقوبته، ووعدني أن يغفر لي، فلم يزل يرددها على نفسه ثم بكى، وبعد ذلك نزع ما كان فيه من شرب الخمر. يا أيها الناس يا عباد الله! لقد تفشى شرب الخمور في المجتمع تفشياً عظيماً، والأغنياء يشربون النوع الأصلي، والذين هم أقل يأخذون الزجاجة أو القارورة الكبيرة بخمسين والصغيرة بخمسٍ وعشرين، والذي يشرب الخمر يسقيه الله من ردغة الخبال يوم القيامة، وهي عصارة أهل النار، قرف وعرق وصديد وقيح أهل النار، هذا هو شرابه يوم القيامة، والذين أساءوا وأسرفوا على أنفسهم ينتهزون رمضان ليجعلوه فرصةً للتوبة، نريد أن يكون هذا الشهر -أيها المسلمون- شهر انقلاب في حياتنا، نريد أن نتغير فعلاً، نريد أن نحول مسارنا من مسار المعصية إلى مسار الطاعة، وعددٌ من الناس الذين يرتكبون المعاصي عندهم صراع نفسي، فإذا جاء رمضان غلبت نزعة الخير في أنفسهم نزعة الشر وأقبلوا على الله، وجاءوا إلى المساجد زرافاتٍ ووحداناً، يتقاطرون إلى بيوت الله تعالى، يشهدون الإفطار، يأكلون بعد صيام، ألا ليتذكروا أنه الذي قال: (يدع طعامه وشرابه وزوجته من أجلي) الذي قالها في الحديث القدسي (يدع شهوته)، وفي رواية: (يدع زوجته) يدع طعامه وشرابه من أجلي إذا كانت حلال وتركها لله وهي حلال؛ لأن الله أمره بتركها في نهار رمضان فحريٌ به أن يترك الآن الحرام الذي هو حرام في الأصل زنا خمر مخدرات علاقة بالنساء ربا أموال حرام ظلم، اترك وأقبل على الله، هذا موسم التغيير، فإذا لم تتغير الآن فمتى تتغير؟ وإذا لم تقبل الآن فمتى تقبل؟ بكى الصحابة من قوله تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق:19]، وقرأت عائشة: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:27] فلا زالت تبكي وتبكي مدةً طويلة، وبكى الصحابة من قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة:284] وبكوا من قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد:16] استبطأ الله إقبال قلوب المؤمنين، فقال لهم: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحديد:16] ما جاء الأوان بعد، فإذا ما جاء الأوان في رمضان فلن يأتي في الغالب، هذه هي الفرصة، هذه رقة ما بعدها رقة، وفرصة ما بعدها فرصة، فغير يا عبد الله! وتخلص من اللهو، وتخلص من أدوات المنكر الآن قبل أن يفوت الأوان. ثالثاً: من آداب التلاوة أن يكون بصوتٍ ليس بجهرٍ ولا مخافتة، {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} [الإسراء:110]، أن يكون بين الجهر والإسرار، والإخفاء أفضل حيث خاف الرياء، أو خاف أن يتأذى من بجانبه من صوته، والجهر أفضل لطرد الشيطان والنوم رتب السور، وحافظ على ترتيب المصحف ما أمكنك، فإنها السنة، وكف عن القراءة عند النعاس أو التثاؤب أو خروج الريح، وإذا مررت بسجدةٍ فاسجد، ولا تقطع القراءة لكلام الناس إلا عند الحاجة، وقف عند رأس الآية، والوقوف عند رءوس الآيات سنة وإن تعلقت في المعنى بما بعدها، واستحضر عظمة الله تعالى المتكلم بهذا القرآن، وقراءة التفسير تساعدك على التدبر، واستشعر بأنك المخاطب بهذا الكتاب، نسأل الله أن يجعلنا من أهل القرآن.

حال السلف في رمضان

حال السلف في رمضان عباد الله: الجمع بين القيام والصيام وإطعام الطعام من أسباب دخول الجنان، ولذلك فإن هذا الشهر تجتمع فيه هذه الأمور، صيامٌ وقيامٌ وإطعام، ومن فطَّر صائماً فله مثل أجره من غير أن ينقص من أجر الصائم شيء، كان كثير من السلف يؤثرون بإفطارهم وهم صيام، منهم: عبد الله بن عمر وداود الطائي، ومالك بن دينار، وأحمد بن حنبل رحمهم الله، وكان من السلف من يطعم إخوانه الطعام ويجلس يخدمهم. وكان رجالاً من بني عدي يصلون في هذا المسجد، كما قال أبو السوار العدوي: ما أفطر أحدٌ منهم على طعامٍ قط وحده، إن وجد من يأكل معه أكل وإلا أخرج طعامه إلى المسجد فأكل مع الناس وأكل الناس معه. إطعام الطعام، والإتيان به إلى المساجد التي فيها الفقراء والغرباء لإطعامهم، والمسألة تحتاج إلى تنظيم وترتيب حتى لا تتكدس الأطعمة في مكانٍ وتنقص في مكان، فاعملوا لذلك الجهد. يا عباد الله! هذا الشهر فرصة لصلة الأرحام التي انقطعت، ولتطييب النفوس والخواطر والاسترضاء، وإزالة الشحناء وقلب العداوة والبغضاء إلى مودةٍ وإخاء، وصلة الأرحام تهلهلت عند كثير من الناس، وتقطعت بهم الأسباب، والمادة غلبت عليهم، ولذلك وجدت حالات كثيرة من المآسي، ولا بأس بالتهنئة بدخول الشهر زوروا أرحامكم وأقرباءكم في هذا الشهر بروا آباءكم وأمهاتكم في هذا الشهر العظيم. أحد الناس عنده خيرٌ ونعمة، لكن لما رأى أباه قد بلغ من الكبر عتياً، وصار عالةً وكلاًّ وتعباً عليه ولم يطق أن يتحمل أباه في بيته. ويقوم بخدمته، ذهب به إلى مستشفى العجزة والمعاقين، وتركه هناك وذهب، وبعد فترة من الزمن قفز الابن في بيته في بركة السباحة الموجودة في البيت، فوقع على رقبته فأصيب بشللٍ رباعيٍ كامل، لا يستطع حتى النطق، وفي النهاية لما رأوا أنه لا يفيد علاجه نقلوه إلى هذا المستشفى -مستشفى العجزة والمعاقين- وَوُضِعَ في سريرٍ بجانب سرير أبيه، وكان والده يقوم على خدمته، وهو ينظر إلى والده ويبكي، حتى الكلام لا يستطيع أن يتكلم، فقط ينظر إلى هذا الوالد الذي جنى عليه وعيناه تمتلئان بالدموع. أيها المسلمون: نريد أن نجعل من هذا الشهر صلةً للرحم، كما أنه طاعة لله وإقبال على الله، كذلك هو شهر برٍ وخيرٍ وصلة. اللهم إنا نسألك في هذا اليوم يوم الجمعة، وفي هذا الشهر شهر رمضان أن تعتق رقابنا من النار، اللهم أعتق رقابنا من النار، واغفر لنا يا غفار! اللهم قدمنا عليك في شهرك هذا بذنوبٍ كثيرة، وسيئات عظيمة، وأنت غنيٌ عن عذابنا ونحن محتاجون إلى رحمتك فلا تعذبنا، اللهم ارحمنا أجمعين، واغفر لنا ذنوبنا يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عتقائك في هذا الشهر الكريم، اللهم من كان منا مقصراً فرده إليك رداً جميلاً، اللهم من كان منا مشتغلاً بمعصية فارزقه التوبة منها يا رب العالمين! اللهم اجعلنا أخياراً أبراراً يا أكرم الأكرمين! اللهم انصر الإسلام وأهله اللهم انصر الإسلام وأهله في الأرض يا رب العالمين! اللهم اخز اليهود والنصارى والمشركين، اللهم اجعلها عليهم دماراً، اللهم أهلكهم وانصر المسلمين عليهم، اللهم اكشف أستار المنافقين، اللهم اهتك أستار المنافقين، اللهم واجعل عبادك الأخيار في خيرٍ ونصرٍ وعافية يا رب العالمين! سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين. وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.

تأملات في الزلزال الأليم [1]

تأملات في الزلزال الأليم [1] بدأ الشيخ في خطبته بالتحدث عن الزلزال الذي سيحدث عند قيام الساعة، ثم تطرق إلى موضوع الزلازل التي تحدث على الأرض عموماً، وبيَّن أن الزلزال آية من آيات الله يخوف بها عباده، فواجبنا عندما تقع هذه الكوارث أن نرجع إلى الله ونتوب، ونفزغ إلى الصلاة. كما وضح أن من أسباب الزلازل الذنوب والمعاصي.

زلزال الأرض عند قيام الساعة

زلزال الأرض عند قيام الساعة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. A=6000394> يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. A=6000493> يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. A=6003602> يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار. A=6002595> يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:1 - 2]. A=6004982> إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجّاً * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثّاً * وَكُنْتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاثَةً} [الواقعة:4 - 7]. A=6006138> إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْأِنْسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:1 - 8]. عن عمران بن حصين رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو في بعض أسفاره، وقد تفاوت بين أصحابه السير، رفع بهاتين الآيتين صوته: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:1 - 2] فلما سمعوا أصحابه بذلك حثوا الخطى وعرفوا أن عنده قولاً يقوله، فلما تأشفوا حوله قال: أتدرون أي يومٍ ذلك؟ ذاك يوم ينادى آدم عليه السلام، فيناديه ربه عز وجل، يا آدم! ابعث بعثك إلى النار، فيقول: يا رب! وما بعث النار؟ فيقول له: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة) فأبلس أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حتى ما أوضحوا بضاحكة، ولا ظهر لهم سنٌ من الأسنان التي تظهر عند الضحك، وفي رواية البخاري: (تغيرت وجوههم، ثم أخبرهم صلى الله عليه وسلم: أن يأجوج ومأجوج ما كانتا في شيءٍ إلا كثرته، وقال: أبشروا واعملوا، وأمرهم بعمل الصالحات وإرضاء الله سبحانه وتعالى) هذا الحديث رواه الترمذي وهو صحيح. فإذاً من الأشياء التي تكون يوم القيامة زلزال عظيم جداً، وهو أعظم زلزالٍ على الإطلاق: {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} [الحج:2] وقال بعض العلماء: إنه يكون في آخر الدنيا على مشارف يوم القيامة، فإذا تكلمت الأرض فهذا في يوم القيامة، هذا الزلزال ليس من زلازلنا الآن، إنما هو زلزالٌ عظيم جداً: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} [الزلزلة:1 - 2] ثم قال الله: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة:4 - 5] تتزلزل الأرض زلزالاً عظيماً وتتكلم وتخبر بما فعل عليها من خير أو شر. فيا أيها الإنسان! اعمل ما شئت فإن الأرض التي أنت عليها ستحدث يوم القيامة بما عملت عليها من خير أو شر: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة:4 - 5] وكان الزلزال ولا يزال من العذاب الذي يرسله الله على من يشاء من خلقه، فكان عذاب قوم شعيب الزلزال، من العذاب الزلزلة، قال الله عز وجل عن قوم شعيب: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [الأعراف:78] هلكوا عن آخرهم: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} [الأعراف:155] ابتهل موسى إلى الله، قال المفسرون: كانوا لم ينهوا قومهم عن عبادة العجل، هؤلاء السبعون لما يزايلوا قومه في عبادتهم العجل ولا نهوهم، فكان هذا من أسباب أخذهم بالرجفة، وقال الإمام مجاهد رحمه الله في قول الله تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ} [الأنعام:65] قال: الصيحة، والحجارة والريح، وقال الله: {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} [الأنعام:65] قال مجاهد رحمه الله: الرجفة والخسف وهما عذاب أهل التكذيب، وعن مجاهد قال: عذاب أهل التكذيب بالصيحة والزلزلة. إسناده صحيح. فالله سبحانه وتعالى يرسل العذاب من الأعلى والأسفل، من فوق ومن تحت، ولذلك في الدعاء العظيم: (اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي، وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي، واحفظني من بين يديَّ ومن خلفي، وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي، وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي) قال وكيع: هو الخسف، وهذا من أدعية الصباح والمساء التي ينبغي على المسلم يحافظ عليها، والشاهد من الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي) لأنه عذاب شديد؛ لأنه أخذٌ شديد. ومن أشراط الساعة، قال صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم، وتكثر الزلازل، ويتقارب الزمان، وتظهر الفتن ويكثر الهرج وهو القتل) رواه الإمام البخاري رحمه الله، وهذا من أشراط الساعة. وفي الحديث الصحيح الآخر الذي رواه الإمام أحمد وأبو داود قال عليه الصلاة والسلام لأحد الصحابة: (يا بن حوالة! -قال للرجل الحوالي من بني حوالة- قال له عليه الصلاة والسلام يا بن حوالة! إذا رأيت الخلافة قد نزلت الأرض المقدسة -قالوا: هو انتقال الخلافة من المدينة إلى بلاد الشام في عهد بني أمية- فقد دنت الزلازل والبلابل والأمور العظام، والساعة يومئذٍ أقرب من الناس من يدي هذه من رأسك) فكثرة الزلازل ووقوعها دلالة على قرب قيام الساعة، وهي من وجهٍ رحمة من الله، الله عز وجل يكفر بهذه الزلال أموراً كثيرة من الذنوب والمعاصي والآثام، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمتي هذه أمةٌ مرحومة، إنما عذابها في الدنيا الفتن والزلازل والقتل والبلايا) حديث صحيح.

الزلزال آية من آيات الله التي يخوف بها عباده

الزلزال آية من آيات الله التي يخوف بها عباده فالزلازل إذاً آية من آيات الله، يخوف الله بها عباده، قال شيخ الإسلام رحمه الله: والزلازل من الآيات التي يخوف الله بها عباده، كما يخوفهم بالكسوف، وغيره من الآيات. والحوادث لها أسبابٌ وحكم، فكونها آية يخوف الله بها عباده هي من حكمة ذلك، وكون الزلازل لها أسباب يشرحها علماء الأرض المقصود بهم طبعاً علماء طبقات الأرض، هذه الأسباب لا تنفي كون هذه الزلازل آيات يخوف الله بها عباده، مثل الكسوف، له سبب وله حكمة، السبب معروف من وقوع الكواكب الثلاثة الأرض والشمس والقمر في مسافات معينة في ترتيبٍ معين، فيكون كسوفاً أو خسوفاً، لكن الحكمة يخوف الله بها عباده، فينبغي ألا يخلط المسلم بين السبب والحكمة، وينبغي ألا يشغله السبب عن الحكمة؛ لأن الماديين الأرضيين الذي لا يؤمنون بالله رباً، ولا بالإسلام ديناً، ولا بمحمدٍ نبياً، إذا عرضوا قضية الزلازل فقصارى عرضهم لقضية الزلازل أنهم يتكلمون عن تحرك الصفحات الأرضية وعن الموجات والاهتزازات، هذا حسبهم، لكن نحن إذا سمعنا بها عرفنا أن هذه مجرد أسباب للزلزال (السبب الدنيوي) لكن الحكمة هي أن يخوف الله بها عباده، وهؤلاء كثيراً ما يكذبون، فيقولون: نتوقع زلزالا ولا يحدث، أو لا يتوقعون شيئا أصلا، ولا يخبرون عنه بشيء، آتاهم الله من حيث لم يحتسبوا، فاختلطت حساباتهم وكان الزلزال مفاجأة للجميع، لم يتنبأ أحد به، ولم يخبر عنه، بل إن الزلازل تحدث في العادة في المناطق الساحلية كما يقولون نتيجة تحرك الصفحات الأرضية، وقرب البحار ونحو ذلك، أما أن يضرب الزلزال في وسط قارةٍ، في وسط الأرض، فهذا ما لم يكن لهم بحسبان، فأين حساباتهم وأين تنبؤاتهم: {لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل:65] كل هذه آيات يا أيها الناس! قد خلت النذر من بين أيدينا ومن خلفنا، كل هذه أمور من الله يخوف الله بها عباده، له في ذلك حكم سبحانه وتعالى، ولذلك فإنه يجب اللجوء إلى الله. إن قضية الحسابات والأرقام، ومقياس ريختر لا يقدم ولا يؤخر في القضية، الآن حصل ما حصل، والمسألة هي اللجوء إلى الله، أما تحليلها علميا وفي حسابات أرضية، وقد ظهر فشله في كثير من الأشياء، وخابت توقعاتهم، بل إنهم فوجئوا كما فوجئ غيرهم، المقصود قول الله عز وجل: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً} [الإسراء:59] لكن أين الذي يخاف؟ قال الله عز وجل: {وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَاناً كَبِيراً} [الإسراء:60]. بعض الناس لو حصلت الزلازل بعضها وراء بعض وتتابعت ليس هناك فائدة، قلبه ميت مظلم صلب، لا يدخل إليه شيء: {وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَاناً كَبِيراً} [الإسراء:60]، ولذلك مهما حدث من الزلازل والخسف والآيات، فإن بعض القلوب القاسية لن تتحرك ولن تلين، وستستمر في الكفر والعجرفة مهما حصل لها: {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} [التوبة:126] ويرسل الله الآيات للناس لأجل ماذا؟ ليحسبوها بمقياس ريختر؟ أهذا هو السبب؟ أهذه هي الحكمة؟ إنما يخوف الله بها عباده: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً} [الإسراء:59]. من الحكم في الآيات لجوء الناس إلى الله، تضرعهم إلى الله: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:43] هلا فعلوا ذلك؟ {إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} [الأنعام:43] الرسول عليه الصلاة والسلام لما نزل عليه قول الله عز وجل: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ} [الأنعام:65] قال: (أعوذ بوجهك) {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} [الأنعام:65] الخسف والزلازل، قال: (أعوذ بوجهك). A=6005256> أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} [الملك:16] {أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ} [الإسراء:68] سبحان الله!

سرعة اللجوء إلى الله عند الكوارث

سرعة اللجوء إلى الله عند الكوارث ولذلك العلماء لما تكلموا في موضوع الزلازل -ونقصد علماء الشريعة- تكلموا في هذا المبحث عن اللجوء إلى الله، تكلموا عن الصلاة وهل يصلى للزلازل كصلاة الكسوف أم لا؟ وهل يجتمع الناس للصلاة أم أنهم يصلون متفرقين؟ أخرج البيهقي بإسناد صحيحٍ عن ابن عباس في زلزلة بـ البصرة فأطال القنوت، ثم ركع، ثم رفع رأسه، فأطال القنوت، ثم ركع، ثم رفع رأسه فأطال القنوت، ثم ركع وسجد فقام في الثانية ففعل مثل ذلك، فصارت صلاته أربع ركعات وست سجدات، قال ابن عباس: هكذا صلاة الآيات، هذا قولٌ من أقوال أهل العلم يصلى لها كصلاة الكسوف، وعن جعفر بن برقان قال: كتب إلينا عمر بن عبد العزيز في زلزلة كانت بـ الشام: " اخرجوا يوم كذا، ومن استطاع منكم أن يخرج صدقة فليفعل؛ لأن الله تعالى يقول: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى:14 - 15] وإسناده حسن. قال الشافعي رحمه الله في الصلاة للزلازل: آمر بالصلاة منفردين، ويستحب أن يصلي منفرداً ويدعو ويتضرع لئلا يكون غافلاً، إذ بالرغم من هذه الأشياء يغفل الناس وهذه مصيبة، كل هذا التذكير وهذا التخويف ثم الناس قلوبهم جامدة، يتحدثون في الأشياء العلمية، فلئلا يكون غافلا يصلي منفرداً، يصلي ويدعو ويتضرع إلى الله سبحانه وتعالى. النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا حزبه أمر، إذا كربه أمر أقبل على الصلاة، قال: وكذلك سائر الآيات كالصواعق والريح الشديدة، وقال الإمام أحمد رحمه الله: يصلى للزلزلة الدائمة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم علل الكسوف بأنه آية يخوف الله بها عباده، والزلزلة أشد تخويفاً، فأما الرجفة فلا تبقى مدة تتسع للصلاة، فإذاً من العلماء من قال: يصلون مثل صلاة الكسوف جماعةً، وبعضهم قال: يصلون منفردين، كالإمام الشافعي رحمه الله، وبعضهم قال: صلاة عادية: (إذا رأيتم الآيات فاسجدوا) رواه أبو داود بسندٍ صحيح. فإذاً ينبغي الفزع للصلاة والخروج من المباني عند الزلزال ليس من الأمور المذمومة، وإنما هو اتخاذ أسباب النجاة، لكن بالأناة والرفق والحكمة، وقد كان المسلمون يفزعون إلى الصلاة عندما تحدث فيهم الزلازل، والزلازل قد حدثت، فمن الأمور ما قال الإمام الذهبي رحمه الله في كتابه العبر في حوادث سنة (232 للهجرة): كانت الزلزلة المهولة بـ دمشق ودامت ثلاث ساعات، وسقطت الجدران وهرب الخلق إلى المصلى يجأرون إلى الله، وهذا هو الشاهد، ومات كثيرٌ من الناس تحت الردم، وامتد إلى أنطاكية، وفي حوادث سنة (233 للهجرة) ذكر ابن عساكر رحمه الله في تاريخ دمشق فقال: زلزلت دمشق يوم الخميس ضحى فقطعت ربع الجامع وتزايلت الحجار العظام -يعني: عن أماكنها- ووقعت المنارة، وسقطت القناطر والمنازل وامتدت في الغوطة، فأتت على دارية والمزة وبيت لهية وغيرها، وخرج الناس إلى المصلى يتضرعون إلى قريبٍ من نصف النهار فسكنت الدنيا، وعاد الأمر إلى الهدوء، وهذا هو الشاهد. ومن الأمور التي تندب عند حدوث هذه الآيات وعظ الناس وتخويفهم بالله سبحانه وتعالى، أخرج ابن أبي شيبة في المصنف بسندٍ حسن عن صفية بنت أبي عبيد زوجة عبد الله بن عمر قالت: [زلزلت الأرض على عهد عمر حتى اصطفقت السرر، فخطب عمر الناس، فقال: أحدثتم، لئن عادت لأخرجن من بين ظهرانيكم] قال: ما حصل إلا بسبب أمرٍ ارتكبتموه، وذنوب اقترفتموها، قال: [أحدثتم، لئن عادت لأخرجن من بين ظهرانيكم] يعني: يعظهم ويذكرهم بالله سبحانه وتعالى، هذا ما ينبغي فعله من اللجوء إلى الله والصدقة، وقال العلماء: العتق وهو من أنواع الصدقات. فإذاً اللجوء إلى الله والذكر والتضرع والدعاء والصدقات، نسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يجعلنا آمنين مطمئنين، وأن يدفع عنا الزلازل والمحن والبلايا، وأن يجعلنا وإياكم ممن بات في سربه آمناً، وممن حفظه الله بالإسلام قائماً وقاعداً. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الزلزال عقوبة أم ابتلاء؟

الزلزال عقوبة أم ابتلاء؟ الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير، أشهد أن لا إله إلا الله يفعل ما يشاء، وأشهد أن لا إله إلا الله الحي القيوم مالك الملك، يفعل في خلقه ما يشاء: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] فلله الحكمة البالغة يفعل ما يشاء، هو الذي خلق الخلق إن شاء أحياهم وإن شاء أماتهم وهم داخلون في ملكه، وهم المقهورون الأذلاء بين يديه، إن شاء صعقهم وإن شاء خسف بهم وإن شاء رحمهم: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] مالك الملك يفعل ما يشاء، لا اعتراض على حكمه، ولا خروج لأحدٍ عن علمه، ولا عن فعله، ولا عن اختياره سبحانه وتعالى، وله في كل فعلٍ حكمة، وهو الحكيم الخبير، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، صلى الله عليه صلاةً دائمة إلى يوم الدين، صلى الله عليه بما هدانا وعلمنا وأرشدنا وذكرنا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أيها المسلمون: هل الزلازل ابتلاء أم عقوبة؟ ما هو الفرق بين أن تكون ابتلاء أو عقوبة؟ إذا كانت ابتلاء لرفع درجات وزيادة حسنات، فقد تكون لأتقى خلق الله، الابتلاء قد يكون لأتقى خلق الله، ولو لم يعمل معصية، يزيد الله في حسناته ويرفع درجاته في الجنة. أما إذا كان عقوبة فإنه يكون للمعصية، للشرك، للتوسل إلى الأموات والطواف بالأضرحة والقبور وتقبيل الأعتاب، وترك الشريعة وتحكيم الجاهلية، والكفر بالله، وشرب الخمور، وارتكاب الموبقات والملاهي والمحرمات بأنواعها، وأكل الربا، وعقوق الوالدين، وتولي الكفر، والتبرؤ من الإسلام وأهله، هذه من أسباب العقوبة، هل يمنع أن يكون الحدث ابتلاء وعقوبة في نفس الوقت؟ A كلا. فإنه ابتلاء للمؤمنين، فكل مؤمن أصابه من البلاء ما أصابه، وهو طائع لله، يدعو إلى الله، متمسك بدين الله، موحد لله غير مشرك به، فإنه ابتلاء بحقه، فإذا مات أو سقط عليه البناء، أو جرح أو كسر، أو مات له أولاد أو زوجة أو أقرباء وانهدم بيته وتهشمت سيارته، وعدم أثاثه ونحو ذلك، هذا في حقه ابتلاء يزيد الله حسناته ويرفع به درجاته. أما إذا كان من المتولين عن الله، المعادين لدين الله، الخارجين عن طاعة الله، فهذا في حقه عقوبة وشر مستطير نزل به، قد يرجع إلى الله فيتوب، وهذا هو المرجو، الله عز وجل يذكرنا: {لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} [الأنعام:42] {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف:48] لعلهم يعقلون {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [البقرة:221] وقد لا يحدث له إلا الزيادة في الكفر والزيادة في المعاصي: {وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَاناً كَبِيراً} [الإسراء:60].

عقوبة الله تعم الجميع

عقوبة الله تعم الجميع السؤال الثاني: هل يكون الحدث على الجميع؟ A قالت الصحابية الجليلة للنبي عليه الصلاة والسلام: (أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم. إذا كثر الخبث) أي: انتشر، يهلك الجميع إذا كثر الخبث إلا المصلح: {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} [الأعراف:165] والفرق بين الصالح والمصلح أن الصالح صالحٌ في نفسه، لكن لا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر، ولا يجاهد في الله، أما المصلح فهو الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب لحدوث العذاب ونزول الانتقام من الله على الصالح والطالح، أما الذين ينهون عن السوء هؤلاء قد يكون لهم ابتلاء يرفع الله درجاتهم، وقد ينجيهم ربهم بسبب أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر. إذا كثر الخبث، إذا ظهر الفساد، إذا ترك الأمر والنهي نزلت العقوبة على الجميع، ولذلك يجب أن نكون أمارين بالمعروف ناهين عن المنكر، نجاهد في الله حق جهاده، وإلا فالويل لنا جميعاً بلا استثناء: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:117] إذا سكتوا عن الظالم أوشك أن يعمهم الله بعقابٍ من عنده، إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعذاب، هكذا قال أبو بكر رضي الله عنه.

الحكمة من حدوث الزلازل والكوارث

الحكمة من حدوث الزلازل والكوارث هل للحوادث والزلازل حكم من الله؟ طبعاً هي كثيرة، فمنها تذكير الأقوام وتخويفهم، وتذكير من حولهم: {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دَارِهِمْ} [الرعد:31] لعلهم يعقلون، لعلهم يرجعون وتكون عقوبة وانتقاماً من الله لأهل الباطل، وهذا أمر آخر: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102]. ثالثاً: إشغال أهل الباطل بأنفسهم عن الكيد لأهل الحق، فيكونون مندفعين في الكيد لأهل الحق، ومحاربة المصلحين، ومحاربة الدعاة إلى الله فيشغلهم الله بأنفسهم. رابعاً: اصطفاء شهداء لله: إذا كان الإنسان تقياً، مقبلاً على الله فأصابه زلزال، فقبضت روحه أو حصلت له جراحٌ وكسور وابتلي في ماله وأهله فماذا يكون؟ أما إذا مات في مثل الزلازل فإني لا أظنه إلا في حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: (والهدم شهيد) الهدم: يعني: الذي ينهدم عليه بيته، ويذهب في هذه الحادثة فهو شهيد تجري عليه أحكام الشهداء، يعني: شهيد الآخرة. أما في الدنيا فإنه يغسل ويكفن ويصلى عليه مثل بقية الأموات، لكنه في عداد الشهداء، والشهداء مراتب أعلاهم قتلى المعارك في سبيل الله، والهدم شهيد، فإذاً الذين يموتون تحت الأنقاض إذا كانوا من عباد الله الموحدين فنرجو أن تكون لهم شهادة. وكذلك من الحكم إظهار أهل الخير على خيرهم، فإنكم تسمعون ونسمع جميعاً ما حصل من قيام الوعاظ بالتذكير، والخطباء المصلحين بأمر تنبيه الناس عن الذنوب والمعاصي في البلاد التي أصابتها الزلازل، وكذلك قيام الدعاة وأهل الخير بإغاثة المنكوبين ومساعدة المحتاجين، وإغاثة الملهوفين ومد يد العون لهم، وهذا فيه فائدة عظيمة وهي إظهار الحق للناس، وأن أولى الناس بالناس هم الدعاة المصلحون، هم الذين إذا حصلت الفتن قاموا ينبهون، وإذا نزلت الكوارث وحلت قاموا يساعدون، يدفعهم الدافع الإيماني والرغبة في الثواب، ولذلك فإنهم يحتسبون الأجر من الله في تقديم كل مساعدة إلى من يحتاج إلى مساعدة، رغم قلة الإمكانيات وضعف الذات يقدمون ما لديهم، فيتعلم الناس كما تعلَّموا في كثير من الأزمات، أن أولى الناس بالناس هم الدعاة المصلحون، أهل الخير المستقيمون، أول من يعاون وأول من يشارك، وأول من يساهم بدون مرتبات، أطباء ومهندسون قاموا لله يساهمون في مساعدة الناس بدون رواتب، احتساباً، ولله حكم في تحطم معابد أهل الوثنية، والآثار الجاهلية، لو جلسنا نتأمل في حكم الله في الأحداث الواقعة والله ما ننتهي لو كان عندنا عقل أو ألقينا السمع ونحن شهداء. اللهم إنا نسألك أن تجعلنا آمنين في أوطاننا، اللهم باعد بيننا وبين الزلازل والمحن، واجعلنا آمنين مطمئنين وسائر المسلمين يا رب العالمين، اللهم احفظ بلدنا وبلاد المسلمين من كل سوء ومكروه، اللهم ادفع عنا وعن المسلمين البلاء.

حكمة إبراهيم الخليل

حكمة إبراهيم الخليل قصَّ الله علينا في كتابه من أخبار الأنبياء ما هو مجال للاقتداء، ومن هؤلاء أبو الأنبياء وإمام التوحيد إبراهيم عليه السلام، ففي هذه الخطبة ذكر لحياته عليه السلام وجوانب من دعوته لقومه، إضافة إلى بيان مدى استسلامه عليه السلام لأوامر الله تعالى مع ذكر بعض مناقبه.

مولد إبراهيم عليه السلام ونشأته

مولد إبراهيم عليه السلام ونشأته إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار. إن الله قص علينا في كتابه من أخبار الأنبياء ما هو فعلاً مجالٌ للاقتداء والاقتفاء بأولئك الأنبياء، بل إن الله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهم وبهديهم: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90]. والأنبياء على مراتب، وقد فضل الله بعضهم على بعض: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة:253] وأفضل الأنبياء على الإطلاق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم والذي يليه في الفضل والمرتبة خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام، هذا النبي الجليل الكريم الذي قام يدعو إلى الوحدانية ويحارب الشرك، وهذا أهم ما تميزت فيه دعوته من خلال عمله ومناظراته مع أهل الكفر، وكان مع ذلك إنساناً تتجلى فيه المعالم الجليلة التي أودعها الله في نفسه، وكان شخصية متكاملة، وهو بحق أبو الأنبياء، وهو الذي آتاه الله نبوة عظيمة، ومرتبة جليلة. وُلد إبراهيم عليه السلام في أرض بابل، وهي أرض الكلدانيين كما ذكر ذلك مؤرخو الإسلام، واسم أبيه آزر كما قال الله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ} [الأنعام:74] وقال الطبري رحمه الله: قال عامة السلف من أهل العلم: كان مولد إبراهيم عليه السلام في عهد النمرود، هذا الملك الطاغية الظالم الغشوم، الذي جعل نفسه إلهاً يعبد، وحمل الناس على ذلك، وفي هذه البيئة الفاسدة من عبادة الأوثان والأصنام عاش إبراهيم عليه السلام، فلا يوجد أثر للوحدانية ولا للتوحيد؛ لأن البشرية كانت قد انحرفت في ذلك الوقت، فأراد الله أن يعيدها إلى التوحيد، فابتعث فيهم إبراهيم. عاش إبراهيم عليه السلام في هذه البيئة، ولما شب تزوج بـ سارة وكانت عقيماً لا تلد، وكان منذ صغره صائب الرأي، ثاقب الفكر، راجح العقل، قوي الحجة كما قال الله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} [الأنبياء:51]. وقد ابتلاه الله بكلمات قيل: هن سنن الفطرة خمس في الرأس وخمس في الجسد، فأتمهن، فجازاه الله بالإمامة: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} [البقرة:124] وهكذا لا تكون المراتب العالية إلا بعد المجاهدة، فمن أراد أن يكون قدوة للناس وأن يكون إماماً يؤتم به، فلا بد أن يجاهد نفسه حاملاً لها على طاعة الله والتزام أوامره، فلما أدى الأمانة؛ رزقه الإمامة: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم:37] بما أمره الله به، وكان من صبره وجلده أنه اختتن كبيراً كما جاء في البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اختتن إبراهيم عليه السلام وهو ابن ثمانين سنة بالقدُّوم) القدُّوم بالتشديد اسم آلة، وفي رواية: بالقدوم وهو اسم موضع.

دعوة إبراهيم عليه السلام لأبيه

دعوة إبراهيم عليه السلام لأبيه ولما عرف إبراهيم التوحيد؛ سار إلى الله تعالى بخطى ثابتة يدعو قومه، فكان أول ما بدأ به دعوة أبيه إلى الإسلام وإلى التوحيد، فقد كان أبوه من عباد الأصنام ومن سدنتها، فبدأ به كما قال الله: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] وهكذا الترتيب في الدعوة يا معشر الدعاة! فيبدأ بالأقربين: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً} [مريم:41 - 45]. فكان جواب الأب الظالم الغشوم: {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ} [مريم:46] هل أنت تريد أن تبتعد وتترك هذه الآلهة وتخرج عن عبادتها؟ {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ} [مريم:46] عن هذه المفارقة للآلهة وهذه الدعوة التي أتيت بها: {لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً} [مريم:46] فارقني وابتعد عني وإلا رجمتك، كان هذا جوابه، فبماذا أجاب الولد البار بأبيه المشرك؟ {قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً} [مريم:47]. هذا هو الأسلوب الدعوي الجذاب الذي حاول فيه إبراهيم الخليل، أن يكسر حجة أبيه وأن يعيده إلى جادة الصواب، لقد استخدم هذا الأسلوب الموجب للعطف والحنان، لكي يهدئ من ثورة أبيه المشرك ويحاول اجتذابه، لم يبدأ إبراهيم بالحديث عن غزارة علمه أو قوة حجته، وإنما تكلم بهذا النداء "يا أبتِ" المنطوي على غاية التواضع لهذا الأب له لعله يهتدي، كما أنه لم يصف أباه بالجهل ونفسه بالعلم وإنما قال: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي} [مريم:43] وهكذا تكون الدعوة مع كبار السن ومع الآباء والأجداد بالتلطف والرفق وإدخال عامل العاطفة والحنان والمناشدة والنداء؛ عل الله أن يفتح بذلك قلباً أغلف أو أذناً صماء أو عيناً عمياء. كان استغفار الابن لأبيه في بداية دعوته؛ لما لم يتبين له بعد إصرار أبيه على الشرك: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} [التوبة:114] لكن لما: {تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ} [التوبة:114] ومات على الشرك: {تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة:114]. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح الإمام البخاري: (يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة -سواد وغبرة- فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك لا تعصني؟ فيقول له أبوه: فاليوم لا أعصيك، فيقول إبراهيم: يا رب! إنك وعدتني ألا تخزيني يوم يبعثون، وأي خزي أخزى من أبي الأبعد، فيقول الله: إني حرمت الجنة على الكافرين، فيقال: يا إبراهيم! انظر ما بين رجليك، فينظر فإذا هو بذيخ -أي: ضبع، متلطخ قذر منتن- فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار) قال الحافظ رحمه الله: وفي رواية إبراهيم بن طهمان: (فيؤخذ منه فيقول: يا إبراهيم! أين أبوك؟ قال: أنت أخذته مني، قال: انظر أسفل، فينظر فإذا ذيخٌ يتمرغ في نتنه) ضبع في صورة قبيحة ورائحة منتنة. وفي رواية أيوب: (فيمسخ الله أباه ضبعاً فيأخذ بأنفه - أي: إبراهيم يأخذ بأصابعه أنفه من نتن الرائحة- فيقول: يا عبدي! أبوك هو؟ فيقول: لا وعزتك) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: قيل الحكمة في مسخه لتنفر نفس إبراهيم منه، لئلا يبقى في النار على صورته، فيكون غضاضة على إبراهيم، وهكذا ينتهي الأب المجرم بهذا المصير المخزي؛ لما رفض سماع كلام الولد الصالح، فماذا عسانا نقول لأولئك القوم الذين غلوا في طغيانهم وفجورهم، فلما هدى الله أولادهم إلى الصراط المستقيم من قاموا لهم بالنصيحة وبينوا لهم الطريق القويم، ولكن أخذتهم العزة بالإثم فلا يريدون الرجوع عن طريق الغواية إلى طريق الحق والهداية، ويصرون على الباطل ويستهزئون بالولد الصالح وهو يدعوهم إلى الله تعالى وإلى ترك الفجور والخنا على الكبر والشيب، وترك الخمرة في نهاية العمر، ولكن لا فائدة، فأي مصير ينتظرهم وهم المعرضون عن التذكير والنصح؟ فتباً لتلك الأفئدة ما أقواها على النار! وهي لا تقوى على النار.

دعوة إبراهيم عليه السلام لقومه

دعوة إبراهيم عليه السلام لقومه انطلق إبراهيم الخليل في دعوة قومه: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:85 - 87]. فماذا كان جواب القوم؟ وبأي شيء اصطدم إبراهيم الخليل في أول دعوته؟ لقد اصطدم بجدار عجيب، لقد اصطدم بعقبة كئود، لقد اصطدم بعائق كبير إنه تقليد الآباء والأجداد، فكان الرد من قومه على دعوته: {قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء:74] {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأنبياء:51 - 54]. واليوم يكون عائق تقليد الآباء والأجداد عائقاً كبيراً يصد عن ترك العادات والتقاليد المخزية المنافية للشريعة المتينة التي تنتشر في أوساط الناس لجهلهم، فكلما أردت أن تعلم شخصاً شيئاً من أحكام الصلاة ونحو ذلك، قال: وجدت أبي هكذا يصلي، ويستمر الخاطئ على الخطأ، وهكذا لو قلت: هذه عادة قبيحة، هذا جهل، قال: هكذا وجدنا أنفسنا منذ صغرنا وعلى هذا تربينا ونشأنا. {لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأنبياء:54] فما معنى إذاً الاستمرار على العادات والتقاليد المخالفة للشريعة والشعور بالعيب والنقص إذا تركها الشخص؟ لا شك أن في ذلك سفاهة عقل وبعداً عن الحق وتقديماً للآباء والأجداد على الله ورسوله، وهذا مبدأ في غاية الخطورة، يذوق منه الدعاة الويل اليوم في واقع الناس. وكان إبراهيم عليه السلام قد أوتي حجة من الله، مؤيداً بالوحي، ينطق لسانه بالحق والحكمة، فبدأ في مناظرة قومه: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام:75] فهو من المؤمنين والمسلمين، ولم يشرك إبراهيم قط: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ} [الأنعام:76] والقوم موجودون حضور وشهود: {رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} [الأنعام:76] فكيف أتخذ رباً يأفل! {فَلَمَّا رَأى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * {فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام:77 - 78]. كانوا يعبدون الأصنام والأوثان فأراد بهذه الطريقة الذكية أن يستدرجهم بالكوكب والقمر والشمس إلى إقامة الحجة عليهم، والقوم يشاهدون هذه الظاهرة، وقال إبراهيم في نهاية كلامه: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً} [الأنعام:79 - 80] خوفوه بالآلهة، خوفوه بالأنداد والأصنام، ولكن إبراهيم يقول: {وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا} [الأنعام:80 - 82] لم يخلطوا {إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام:82]، بشرك {أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82]. أقام عليهم الحجة فأفحمهم وأسكتهم، ولذلك قال الله: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام:83] ولا يجوز الاعتقاد بأي حال من الأحوال أن إبراهيم كان مشركاً أو أنه كان لا يعرف ربه، أو أنه كان محتاراً شاكاً فهذا قول الضلال، فإن إبراهيم كان موحداً وهذه طريقة للدعوة وللاستدراج وللإقناع والتنزل مع الخصم، ولا تدل بأي حال من الأحوال أبداً على إن إبراهيم كان مشركاً أو مشككاً أو متحيراً، فإن الله قال عنه: {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [البقرة:135] وقال العلامة الأمين الشنقيطي رحمه الله: ونفي الكون الماضي يستغرق جميع الزمن الماضي، فثبت أنه لم يتقدم عليه شرك يوماً ما: {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [البقرة:135] ولا في أي وقت من الأوقات، لم يكن إبراهيم عليه السلام من المشركين.

إبراهيم يحاجج النمرود

إبراهيم يحاجج النمرود لم يكن إبراهيم بذلك الرجل يناقش الضعفاء والعامة ويترك الأقوياء والكبراء، وإنما كان يثبت الحق عند الجميع، لم يكن ليخاف في الله لومة لائم، ولذلك لما وصلت القضية إلى النمرود، قام إبراهيم لله بالحجة بين يديه فأمره ونهاه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ} [البقرة:258] ألم تر إلى هذا الحقير! ألم تر إلى وتتعجب منه ومن حاله وغروره: {أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} [البقرة:258] بدلاً من أن يشكر هذه النعمة إذا به يكفر ويشرك: {أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} [البقرة:258] بدلاً من أن يشكر نعمة الملك إذا به يدعي أنه رب، ويقول إبراهيم أمامه: {إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة:258] بكل صلافة ووقاحة، أنا أحيي وأميت، فيأخذ رجلاً ويقتله، وآخر حكم عليه بالقتل فيعفو عنه، ويقول: أحييته، فلما يرى الداعية الفقيه أن هناك مجالاً للطاغية أو للفاسق والفاجر في المناقشة في أمرٍ الحق فيه واضح، ولكن يريد أن يرد، ينتقل إلى أمر لا يمكن فيه أن يرد: {قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة:258] بهت وتحير واضطرب وتغير وأسقط في يده، فماذا عساه أن يقول الآن؟ {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:258] وهكذا قام إبراهيم لله بالحجة على هذا الطاغية.

إبراهيم يكسر الأصنام

إبراهيم يكسر الأصنام انتهز إبراهيم فرصة خروج قومه في عيدٍ لهم إلى خارج البلد على عادةٍ منهم وتقليد من التقاليد، بعد أن أقام عليهم الحجة: {قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ * قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ * فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} [الأنبياء:54 - 58] لما خرجوا ادعى إبراهيم المرض: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * {فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:88 - 89]. وذلك لكي يعقد لهم هذه الخطة التي تبين لهم في النهاية سفه الرأي وضلالة، فلما خرجوا دخل بيت الأصنام وراغ عليهم ضرباً باليمين، بفأس في يديه راح يكسرها حتى جعلها جذاذاً حطاماً مكسرة كلها إلا كبيراً لهم وضع الفأس في يده إشارة إلى أنه غار أن تعبد معه هذه الصغار، أراد أن ينبههم أيضاً فكيف بالله الواحد القهار؟ ترك الكبير والفأس معلقة في يد الكبير، كأنه يقول لهم: إنه غار من أن تعبد معه هذه الصغار، ليقول لهم بطريقة غير مباشرة: فكيف بالواحد القهار تعبدون معه هذه الأحجار؟! فرجع القوم من عيدهم، ويا لهول ما رأوا! لأن أعظم شيء عندهم عبادة هذه الأصنام، فكان الهم الوحيد لهم: {مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:59] وبدأ التحقيق والبحث والسؤال وجمع الأقوال واتجهت الأنظار إلى إبراهيم الخليل: {قَالُوا سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء:60] كان فتىً عندما فعل ذلك، كان في مقتبل العمر: {سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} [الأنبياء:60 - 61]. هذه المحاكمة والنهاية للإجرام الذي فعله، بدأت المحاكمة العلنية وتقاطر الناس من كل مكان وبدأ التحقيق مع هذا الذي فعل: {قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء:62] كان بإمكانه بأن يقول من البداية: أنا فعلتها ولا يخشى في الله لومة لائم، لكن عنده أمل أن يقتنع القوم: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} [الأنبياء:63] قيل: هي تورية، وقيل: إن كان ينطق فهو الذي فعله، استخدم إبراهيم عليه السلام هذا الأسلوب لإقناع قومه: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} [الأنبياء:63]. وهنا كأن القوم قد أسقط في أيديهم: {فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ} [الأنبياء:64 - 65] لم يعلوا جواباً ولم ينطقوا بكلمة؛ لأن الحجة قوية فعلاً، هل فعله هذا؟ إذا كان لم يفعله هذا وفعله إبراهيم، فلماذا نعبد هذا إذاً وهو لا يستطيع أن يدفع عن نفسه، نعبد أصناماًَ لا تستطيع أن تدفع عن نفسها؟! وإن كان فعله هذا غيرة على نفسه من الصغار، فكيف إذاً بالواحد القهار؟! فـ {نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ} [الأنبياء:65] لقد ألجمتهم الحجة والكلمة البينة القاطعة، وهكذا يجب أن تكون الدعوة بلسان واضح صريح وحجة بينة دامغة تسكت المعاند وتلقمه حجراً. A=6002548> قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء:66 - 67]. ولكن الذي يبتلى به كثير من الناس هو العناد والمكابرة رغم وضوح الحق: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ} [الأنبياء:68] وانتقموا من أجلها: {حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} [الأنبياء:68] جمعوا الحطب وأججوا النيران، وألقوا إبراهيم فيها جزاءً أمام الناس، ولكن الذي خلق النار قادر أن يسلب منها خاصية الإحراق: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69]. فكانت برداً قلع منها الحر، وسلاماً على إبراهيم: لا يؤذيه لا حرها ولا بردها: {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} [الأنبياء:70] وهكذا ينجي الله أولياءه وعباده الصالحين من الشرور إذا هم توكلوا عليه وأنابوا إليه، وهذا درسٌ عظيمٌ ينبغي أن يتأمل فيه كل إنسان يقوم لله بالحجة. إن إبراهيم لما ألقي في النار لم يكن في الأرض دابة إلا أطفأت النار عنه غير الوزغ، فإنها كانت تنفخ عليه، فلذلك كان فيها أجر لمن قتلها، من قتل وزغاً من أول ضربة كان له مائة حسنة، والثانية خمسون حسنة، كله تذكير بعهد إبراهيم، وأمر إبراهيم، وكان لـ عائشة رمح تقتل به الأوزاغ. قال ابن عباس: [كان قول إبراهيم حين ألقي في النار: حسبي الله ونعم الوكيل] حسبي الله: يكفيني، ونعم الوكيل، ولذلك نجاه الله من النار، إن في ذلك لعبرة لأولي الألباب ولأولي الأبصار. فاعقلوا واتعظوا يا أيها المسلمون! من سيرة هذا النبي الجليل، أحبوه من قلوبكم؛ لما قام لله بالحجة والحق، أَحِبُّوه؛ لأنه كان إماماً وقدوة، أَحِبُّوه؛ لأنه كان موحداً لا يخاف في الله لومة لائم. اللهم اجعلنا على ملة إبراهيم، وارزقنا اتباع التوحيد والدين القويم إنك أنت الغفور الرحيم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

ضيافة إبراهيم عليه السلام للملائكة

ضيافة إبراهيم عليه السلام للملائكة الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، ملك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا هو رب الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم، خاتم الأنبياء والمرسلين وإمام المتقين، وحامل لواء الحمد يوم الدين، وصاحب الشفاعة العظمى الذي ترغب إليه الخلائق كلهم حتى إبراهيم، كما جاء في الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين. أيها المسلمون: لم يكن إبراهيم داعيةً إلى التوحيد فحسب، وإنما كان إنساناً كريماً يكرم الضيف كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كان أول من أضاف الضيف إبراهيم) ومعلوم خبر الملائكة الذين أتوا إليه، وكانوا يريدون القضاء على قوم لوط الذي كان من آل إبراهيم موحد مثله: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} [الذاريات:24 - 25] فرحب بهم ولو أنه لا يعرفهم، وفتح الباب لأجلهم، دخلوا عليه فقالوا سلاما، أي: بابه مفتوح للضيوف، فراغ إلى أهله خفية حتى لا يشعروا بالحرج، لأنه يريد أن يقدم لهم ضيافة: {فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات:26] جاء بعجل سمين على وجه السرعة، عجل مشوي على الرضف المحمى، طعام نفيس للضيوف، ولم يقل: تعالوا وإنما قربه إليهم ودعاهم إلى الأكل فقال: {أَلا تَأْكُلُونَ} [الذاريات:27]؟ حتى يبتدءوا، لأن الناس يجلسون على الطعام ينتظرون إشارة المضيف، وإبراهيم يسارع ويقول: {أَلا تَأْكُلُونَ} [الذاريات:27] وسائر أنواع كرم الضيف تجدها في سيرته عليه السلام وهو يكرم أولئك الملائكة الذين لم يأكلوا؛ لأنهم لا يأكلون.

استسلام إبراهيم عليه السلام لأوامر ربه

استسلام إبراهيم عليه السلام لأوامر ربه لقد كان إبراهيم مسلماً لأمر ربه لا يخرج عن طاعته، وكان استسلامه لأمر الله عجيباً يتمثل ذلك في عدة مواقف منها:

حادثة ذبح ابن إبراهيم

حادثة ذبح ابن إبراهيم في حادثة الذبح المشهورة، إبراهيم ما كان ينجب من زوجته، ومع ذلك يدعو الله ولو كان في الكبر، يقول: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات:100] ولم يقل: هب لي ولداً ذكراً وإنما {مِنَ الصَّالِحِينَ} يريد صالحاً؛ لأن مجرد الولد قد يكون عاراً وشناراً على أبويه: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات:100] فتعلم يا عبد الله! يا أيها المتزوج! كيف تطلب الولد من الله من سيرة أبيك إبراهيم {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات:100]. المهم أن يكون صالحاً: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} [الصافات:101 - 102] لما كبر الولد وشب وأطاق السعي مع أبيه، إذا بهذا الابتلاء العظيم من الله: يرى إبراهيم في المنام رؤيا ورؤيا الأنبياء حق: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات:102] الولد من تربية الوالد: {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا} [الصافات:102 - 103] الولد والوالد: {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات:103] قلبه على قفاه لكي لا يشاهد علامات التألم عند الذبح، فربما يتردد، فشرع في الذبح ولكن الله كان يريد أن يبتلي ابتلاء يرفع به درجة ذلك النبي وولده: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ} [الصافات:104 - 106]. أن يذبح الولد الذي جاءه الآن بعد انتظار سنين طويلة دون إنجاب، بعدما بلغ معه السعي، فأي استسلام هذا! وأي طاعة لأمر الله! وفداه الله بذبح عظيم صار شعاراً وسنة وإلى الآن يذبح الناس الضحايا تذكيراً بسيرة ذلك النبي الكريم.

ترك إبراهيم لزوجه وولده في مكة

ترك إبراهيم لزوجه وولده في مكة أيها الإخوة: لقد كان إبراهيم عليه السلام آية من آيات الله سبحانه وتعالى، كان إبراهيم نبياً كريما، تجلى استسلامه أيضاً لله لما ترك ولده وأم الولد في مكة في أرض ليس فيها بشر ولا زرع لأن الله أمره بهذا، ورفض أن يتردد ومضى حتى علمت ولحقت به أم الولد تقول: أين تتركنا في هذا المكان؟ حتى علمت أن الله أمره بهذا، فقالت: لن يضيعنا. كان إبراهيم يرجع ليتفقد أولاده وتركته، فهو يرعى مصلحة الأسرة فلما رأى الزوجة التي عند ولده فيها فساد واعوجاج أمر بطلاقها، ولما رأى الزوجة التي تليها صالحة بارة، أمر بإبقائها.

من مناقب إبراهيم عليه السلام

من مناقب إبراهيم عليه السلام كان إبراهيم يستعين بولده في بناء البيت، وهو يدعو أن يبعث الله فيمن بعده نبياً حتى تستمر الدعوة ويستمر التوحيد؛ لأنه يعلم أنه ميت، فإبراهيم حريص على مستقبل هذه البشرية، ولذلك فإن لهذا النبي الكريم من المناقب أموراً كثيرة: الأولى: أنه أول من يكسى من الخلق كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، ونحن نتبع في الحج كثيراً من شعائر إبراهيم، كونوا على مشاعركم هذه، فإنكم اليوم على إرث من إرث إبراهيم، ونحن نتخذ من مقام إبراهيم مصلى كما أمرنا: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} [البقرة:125]. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب إبراهيم حباً شديداً حتى سمى ولده باسمه: (إنه ولد لي الليلة غلام فسميته باسم أبي إبراهيم)، ولما شبه الأنبياء قال: (أما إبراهيم فأشبه الناس بي فانظروا إلى صاحبكم) يعني نفسه، ولقد استفدنا من إبراهيم حياً وميتاً، واستفدنا من إبراهيم بعد وفاته بهذه السيرة التي ذكرها الله لنا، ونستفيد منه لكفالة أولاد المسلمين الذين ماتوا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أطفال المسلمين في جبل في الجنة يكفلهم إبراهيم وسارة، حتى يردهم إلى آبائهم يوم القيامة). فهنيئاً لك يا عبد الله، يا من مات لك ولد وأنت في الإسلام ثابت على هذا الدين صابر ومحتسب لأمر الله، فإن ولدك عند إبراهيم، لقد استفدنا من إبراهيم بعد وفاته في أنه يكفل أولاد المسلمين، وهذه وصية من إبراهيم لنا بعد وفاته، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقيت إبراهيم ليلة أسري بي فقال: يا محمد! أقرئ أمتك مني السلام -هذا إبراهيم يسلم علينا نحن أمة النبي صلى الله عليه وسلم- وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر) فمن شاء أن ينفذ وصية إبراهيم له، وأن يقوم بهذه الوصية من إبراهيم بعد موته؛ فليأخذها إذاً بكثرة ذكر الله، سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر اليهود والمشركين، اللهم عليك بأعداء الدين، اللهم إنهم طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد؛ فصب عليهم سوط عذاب، اللهم إنا نسألك أن تجعلنا ممن يخافك ويتقيك، اجعلنا من عبادك الأخيار، وجندك الأبرار، وارحمنا في هذه الساعة في هذا المكان يا أرحم الراحمين. {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:180 - 182].

ذكرى المثوى

ذكرى المثوى هذا اللهو وهذه الغفلة، وهذا التجاهل المتعمد لحقيقة وجودنا، كل ذلك يمثل احتشاداً لمهرجان البكاء الأعظم، والحزن الذي لا ينتهي، يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم، فالموت أمره عظيم، وكفى به واعظاً!! وهذه المادة عبارة عن تنبيهات هامة في موضوع الموت وسكراته، وكيف أهمّ السلف وأهمله الخلف، وكيف ينبغي أن نتعامل معه كحقيقة مرة لا محيص عنها.

أهمية تذكر الموت

أهمية تذكر الموت إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. A=6000394> يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] لقد ألهانا ما في هذه الدنيا عن الاستعداد للدار الآخرة، إن هذا البهرج وهذه الزينة، إن هذه الألوان والسلع، إن هذه التسالي والألعاب، إن هذه الأفلام والمسلسلات، إن هذه الأسفار والسياحات، إن هذه الملابس والصناعات؛ قد ألهتنا عن الله تعالى والاستعداد للدار الآخرة، ولا يزال أهل الدنيا في غفلة حتى يأتيهم الموت، فإذا ماتوا انتبهوا. الموت -يا عباد الله- حثنا النبي صلى الله عليه وسلم على تذكره وأمرنا بذلك فقال: (أكثروا من ذكر هادم اللذات) وامتثالاً لأمره صلى الله عليه وسلم، تعالوا بنا نتذكر شيئاً من الأمر الذي أمرنا به صلى الله عليه وسلم، وهو تذكر الموت، لعل الله تعالى أن ينعش قلوبنا بذكره، وأن يزيل الغفلة عن القلوب الصدئة، وأن يعود من انحرف إلى الجادة، وأن يزداد الذي سلك الجادة عبادة، قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجمعة:8] نَفِرُّ من الحوادث والأمراض إلى الأطباء والمستشفيات، نَفِرُّ من الموت والموت ملاقينا: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق:19] إنه مجيءٌ أكيدٌ ولابد: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} [الأنعام:93] إن هذا الموت يا عباد الله آتٍ لا محالة، كيف بأمرٍ إذا نزل قطَّع الأوصال، أمر يقطع أوصالك، ويفرق أعضاءك، ويهدم أركانك؟ إنه حقاً أمرٌ عظيمٌ وخطبٌ جسيم، وإن يومه لهو اليوم العظيم، قال ابن مسعود رحمه الله: [ليس للمؤمن راحة دون لقاء الله] وهذا الأمر قد نسيناه، دهانا مجرد ذكر الموت والحديث فيه، والكثير يغضب إذا ذكر الموت ويقول: تنغص علينا حياتنا وعيشتنا، تنغص علينا أكلنا ومعيشتنا، وذِكر الموت ليس لتكدير حياة الناس وإفساد مجالسهم ونزع السعادة منهم، ولكن لإصلاح حالهم وتنوير قلوبهم، وجعلهم مستعدين للقاء الله والقدوم عليه. قيل للحسن رحمه الله: يا أبا سعيد! كيف نصنع؟ نجالس أقواماً يخوفونا حتى تكاد قلوبنا تطير، فقال: والله أن تخالل أقواماً يخوفونك حتى يدركك أمنٌ؛ خيرٌ من أن تصحب أقواماً يؤمنونك حتى يدركك الخوف. وقال رحمه الله: كان من كان قبلكم يقربون هذا الأمر، كان أحدهم يأخذ ماءً لوضوئه ثم يتنحى لحاجته مخافة أن يأتيه أمر الله وهو على غير طهارة، فإذا فرغ من حاجته توضأ.

الاتعاظ بالموت للشباب والشيوخ

الاتعاظ بالموت للشباب والشيوخ يا عبد الله! إن ملك الموت إذا جاء لم يمنعه منك وفرة مالك ولا كثرة احتشادك، أما علمت أن ساعة الموت ذات كربٍ شديد، وغصص وندامة على تفريط، رحم الله عبداً عمل لساعة الموت، وما نراه في المقابر أعظم عظةٍ وأكبر معتبر. تمر بنا أيامٌ أيها الإخوة! تتابع علينا أخبار الوفيات، تتابع الجنازات وأخبار الأموات، هذا صديق، وهذا قريب، وهذا جار، قد اختطفهم الموت بأمر الله تعالى، وما نراه في المقابر أعظم عظة وأكبر معتبر، فحامل الجنازة اليوم محمولٌ غداً، ومن يرجع من المقبرة إلى بيته اليوم سيُرجع عنه غداً ويترك وحيداً فريداً مرتهناً بعمله، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر. يا أيها الشاب! لا تغرنك الصحة والقوة والعافية، ولا يغرنك الشباب وكلام الأصحاب، لا يغرنك عِشاءٌ ساكن قد يوافي بالمنيات السحر، قد يأخذك على حين غفلة، وأنت لا ترى الموت يصل إليك، بل تراه بعيدا. أيها المسلمون! أيها الإخوان! يا عباد الله! هذه ذكرى للشاب، أما من وخطه الشيب وأمد الله في عمره، وتخطاه الموت في سن الشباب فإن شيبه نذير الموت. تقول النفس غَيِّرْ لون هذا عساك تطيب في عمرٍ يسيرِ فقلت لها المشيب نذير عمري ولست مسوداً وجه النذير قال صلى الله عليه وسلم: (من شاب شيبة في الإسلام كانت له نوراً يوم القيامة).

عظم أمر الموت

عظم أمر الموت إذا جاءنا هذا الأمر من الله فهل إلى الطبيب من سبيلٍ، فتدعى الأطباء؟ أو إلى الشفاء طريقٌ فيرجى الشفاء؟ ما يقال إلا فلانٌ أوصى، ولماله أحصى، قد ثقل لسانه فلا يكلم إخوانه، ولا يعرف جيرانه، وعرق الجبين، وتتابع الأنين، وثبت اليقين، وصدقت الظنون، وتلجلج اللسان وبكى الإخوان، هذا ابنك فلان، وهذا أخوك فلان، قد منعت الكلام فلا تنطق، وختم على لسان فلا ينطق، ثم حل بك القضاء، وانتُزعت النفس من الأعضاء، ثم عرج بها إلى السماء، فاجتمع عند ذلك إخوانك وأحضرت أكفانك، فغسلوك وكفنوك، فانقطع عوادك، واستراح حُسادك، وانصرف أهلك إلى مالك، وبقيت مرتهناً بأعمالك. قال سفيان الثوري رحمه الله مبيناً حال شيخٍ كبيرٍ في استعداده للموت: رأيت شيخاً كبيراً في مسجد الكوفة يقول: أنا في هذا المسجد منذ ثلاثين سنة أنتظر الموت أن ينزل بي، لو أتاني ما أمرته بشيء، ولا نهيته عن شيء، ولا لي على أحدٍ شيء، ولا لأحدٍ عندي شيء، أنتظر الموت، أنتظر أمر الله على عبادةٍ وطاعة. لو أتانا الموت يا عباد الله! فقرع بابنا واستأذن للولوج -ولن يستأذن- لاحتجنا إلى سنوات طويلة نرتب أمورنا ونسدد حقوقنا، ولكن السلف كانوا على استعدادٍ دائم. انظر يا أخي في غدك ودنو أجلك وقلة عملك، فقد كتب بعض أهل الحكمة إلى رجلٍ من إخوانه: يا أخي! احذر الموت في هذه الدار قبل أن تصير إلى دارٍ تتمنى الموت فيها فلا تجده؛ يُتمنى الموت في ذلك اليوم: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77] فلنحذر في هذه الدار قبل أن نصير إلى دارٍ نتمنى فيه الموت فلا يحصل. قال يحيى بن معاذ رحمه الله: مصيبتان للعبد في ماله لم يسمع بمثلها الأولون والآخرون، قيل: وما هما؟ قال: يؤخذ منه كله ويسأل عنه كله، فأي مصيبة في المال أعظم من هذه؟ لو احترق، أو ذهب في الدنيا لأتى غيره بدلاً منه، يأتي هو ببدلٍ منه، لكن عند الموت يؤخذ منه كله، ولا يأتي ببدل، ويسأل عنه كله، وعن كل درهمٍ: من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ قيل لـ عبد الله بن عمر رضي الله عنه: [توفي فلانٌ الأنصاري، قال: رحمه الله، قالوا: ترك مائة ألف، قال: لكن هي لم تتركه] وكيف تتركه وهنالك كتابٌ لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها.

حال خير الناس في سكرات الموت

حال خير الناس في سكرات الموت (إن للموت لسكرات) قالها النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدخل يديه في ركوة ماء ويمسح بها وجهه الشريف، وهو يحتضر يقول: (لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات) (ولما رأت فاطمة رضي الله عنها ما برسول الله صلى الله عليه وسلم من الكرب الشديد الذي يتغشاه قالت: واكرب أبتاه! فقال لها: ليس على أبيك كربٌ بعد اليوم) ولما احتضر أبو بكر الصديق رضي الله عنه تمثلت عائشة ببيت من الشعر: أعاذل ما يغني الحذار عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر فقال أبو بكر رضي الله عنه: [ليس كذلك يا بنية! ولكن قولي: ((وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ)) [ق:19] ثم قال: انظروا ثوبيَّ هذين فاغسلوهما ثم كفنوني فيهما، فإن الحي أحوج إلى الجديد من الميت]. وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ورحمه لما كان في مرضه الذي مات فيه، قال: " أجلسوني، فأجلسوه، ثم قال: أنا الذي أمرتني فقصرت، ونهيتني فعصيت، ولكن لا إله إلا الله، ثم رفع رأسه، وأَحدَّ النظر وقال: قد أصبحنا، أعوذ بالله من ليلةٍ صباحها إلى النار ". هذه كلمات أخرى لـ معاذ بن جبل لما نزل به الموت قال: [مرحباً بالموت زائراً مغيباً، وحبيباً جاء على فاقة، اللهم إني كنت أخافك وأنا اليوم أرجوك، اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب الدنيا وطول البقاء فيها لجري الأنهار، ولا لغرس الأشجار ولكن لطول ظمأ الهواجر، وقيام ليل الشتاء، ومكابدة الساعات، ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر]. فكانوا ثابتين عند الموت لما كان لهم الثبات في الحياة، الطاعة في الحياة تثمر ثباتاً عند الموت، والمعصية في الحياة تثمر اللجلجة والحشرجة، وعدم التوبة وقلة الثبات عند الموت، ولذلك كان السلف رحمهم الله أثبت ما يكونون في تلك الساعة، وهي أحوج ما يكون فيها الإنسان إلى الإيمان، وإلى سلامة العقيدة. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم ممن ثبتهم بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، اللهم هوِّن علينا سكرات الموت، وارزقنا الثبات عند الممات، اللهم إنا نسألك المغفرة والرحمة والعتق من النار. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

استعداد الصحابة والسلف للموت وتأثرهم به

استعداد الصحابة والسلف للموت وتأثرهم به الحمد لله الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً، أشهد أن لا إله إلا الله الحي القيوم، لا إله إلا هو يحيي ويميت وهو حيٌ لا يموت والجن والإنس يموتون، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. عباد الله: بكى أبو هريرة في مرضه فقيل له: [ما يبكيك؟ فقال: أما إني لا أبكي على دنياكم هذه، ولكني أبكي على بُعد سفري وقلة زادي، وأنا أصبحت في صعودٍ مهبطٍ على جنة ونار، ولا أدري إلى أيتهما يؤخذ بي]. وهذا عمر رضي الله عنه لما حضره ابن عباس فقال له: [أبشر يا أمير المؤمنين! أسلمت مع رسول الله حين كفر الناس، وقاتلت مع رسول الله حين خذله الناس، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنك راضٍ، ولم يختلف في خلافتك رجلان، فقال عمر: أعد، فأعاد، فقال عمر: المغرور من غررتموه، لو أن لي ما على ظهرها من بيضاء وصفراء من الذهب والفضة لافتديت به مِنْ هَوْلِ المطلع]. ولما حضرت سلمان الفارسي الوفاة بكى فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: [ما أبكي جزعاً على الدنيا، ولكن عَهِد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تكون بُلغة أحدنا من الدنيا كزاد الراكب] هذا هو الذي يكون معه في الدنيا كزاد الراكب، فلما مات سلمان نُظر في جميع ما ترك، فإذا قيمته بضعة عشر درهماً، خاف من بضعة عشر درهماً أن يكون خالف فيها وصية النبي صلى الله عليه وسلم. وقد ذكَّر عمر بن عبد العزيز من حوله فقال: " ألا ترون أنكم تجهزون كل يومٍ غادياً أو رائحاً إلى الله عز وجل، وتضعونه في صدعٍ من الأرض قد توسد التراب، وخلف الأحباب وقطع الأسباب ". سفري بعيد وزادي لن يبلغني وقسوتي لم تزل والموت يطلبني ولي بقايا ذنوبٍ لست أعلمها الله يعلمها في السر والعلن

تأثر السلف عند رؤية الجنازة

تأثر السلف عند رؤية الجنازة نظر عمر بن عبد العزيز وهو في جنازة إلى قومٍ قد تلثموا من الغبار والشمس، وانحازوا إلى الظل، فبكى وقال: من كان حين تصيب الشمس جبهته أو الغبار يخاف الشين والشعثا ويألف الظل كي تبقى بشاشته فسوف يسكن يوماً راغماً جدثا في قعر مظلمةٍ غبراء موحشةٍ يطيل في قعرها تحت الثرى اللبثا تجهزي بجهازٍ تبلغين به يا نفس قبل الردى لم تخلقي عبثا هانحن نمر في الجنائز ونمشي فيها ونحملها ولا تدمع العيون، ولا تتحرك القلوب، ولا ترى على الوجوه آثار الخشية من هذا المصير، والله إنها غفلة! وإلا فمن لا يعتبر بميت محمولٍ إلى حفرة ضيقة؟ قال الأعمش: كنا نشهد الجنازة ولا ندري من المعزى فيها لكثرة الباكين، ليس أهل الميت فقط هم الذين يبكون، كل الناس يبكون فيها، وإنما كان بكاؤهم على أنفسهم لا على الميت. وقال ثابت البناني: كنا نشهد الجنازة فلا نرى إلا باكياً! وقال إبراهيم النخعي: كانوا يشهدون الجنازة فيرى فيهم ذلك أياماً. وقال أسيد بن حضير: ما شهدت جنازة وحدثت نفسي بشيء سوى ما يفعل بالميت وما هو صائرٌ إليه. وقال إبراهيم النخعي رحمه الله: كنا إذا حضرنا الجنازة أو سمعنا بميت عُرف فينا أياماً؛ لأنا قد عرفنا أنه قد نزل به أمرٌ صيره إلى الجنة أو إلى النار، وإنكم في جنازتكم تتحدثون بأمور الدنيا.

غفلة الخلف ونتائجها

غفلة الخلف ونتائجها والله يا إخوان! يرى في الجنازة من يضحك، ويرى في المقبرة من يضحك، ويرون خارجين من المقابر وبأيديهم السجائر يدخنون، ضحك وتدخين، هذا في أعظم مكان يمكن أن يتذكر فيه الإنسان على وجه الأرض، في المقبرة غاية الغفلة فماذا تعرف وتنتظر وتتوقع خارج المقبرة؟ إذا كانت الغفلة في المقبرة فماذا نتوقع خارج المقبرة؟ ولذلك لا عجب إذاً أن يقعوا في المعاصي متواليات، ويسهروا الليالي في المعاصي، وهؤلاء اليوم وفي هذا الشهر (شهر الحر) يريدون السفر بأي طريقة إلى بلاد الكفر والمعصية، وهؤلاء بائعو السياحة يتفننون في إغراء المسلمين بقضاء إجازتهم في بلاد الكفر التي غابت عنها شمس الدين والفضيلة، وهي محاولات للسطو على أماناتنا من الأموال والأولاد؛ لأن الله قال: {لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [الأنفال:27 - 28] وهذا وليٌ لا يحفظ ولده، وهذا صاحب مالٍ لا يحفظ ماله. يا عباد الله! يقترضون من البنوك للسفر إلى الخارج، وتقول المرأة للأخرى لماذا لا تسافرون؟ أما عندكم مال؟ اتجهوا إلى البنك يعطيكم! فيقترضون المال بالربا لأجل سفر محرم، والمسألة حرام في حرام، وبعد ذلك يسددون الفواتير، هناك عوائل تقتر على أنفسها طيلة السنة؛ لكي يجمعوا المال ليسافروا به إلى الخارج، حتى إذا عادوا قالوا لمن حولهم: لماذا لم نركم في لندن؟ ولا في باريس؟ ما رأيناكم في كذا؟ منيتهم غاية ما يتمنون أن يقولوا: كنا في مكان كذا، وكنا في مكان كذا، أين هؤلاء من الموت؟ أين هؤلاء من القبر؟ أين هؤلاء من الآخرة؟ أقسام الجوازات تعمل ليل نهار، الناس في غاية الاندفاع إلى السفر إلى بلاد الكفار، جاء شهر الحر: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [التوبة:81] لو كانوا يعلمون، لو كانوا يبصرون، لكن ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم توجد غشاوة، فلا يرون الحق، ولا يرون الدين، ولا يرون التقى، وإنما يرون المعاصي والآثام والفجور. هذه المظاهر الاجتماعية السيئة، إلى متى ستستمر؟ قالوا: نقصت أموال الناس، فإذا هم يزدادون في السفر، وعوضوا بدلاً من بعض بلاد الكفر الأغلى بلاداً أرخص، وهذه المتع المحرمة التي يسافرون إليها، وتضيع الأموال، ثلاثة مليون سائح في عشرة أيام في معدل إنفاق خمسمائة إلى ستمائة ريال، هذا من أدنى المستويات، النتيجة مليار وستمائة مليون تصب في جيوب الكفار من أموال المسلمين، والناس في بلاد المسلمين الأخرى يموتون من الجوع ويبحثون عن حبة طعامٍ تركها بعض موظفي الإغاثة بين التراب ليأكلوها، وهؤلاء يبعثرون أموالهم، ويقترون على أنفسهم، ويستدينون من البنوك، ويسافرون بالأقساط، ويبعثرون الأموال، هل تظنون أن الله سيبدل هؤلاء، أم يتركهم وقد فعلوا ما فعلوا؟ اللهم أصلح أحوال المسلمين، اللهم أصلح أحوال المسلمين، اللهم ردنا إلى الحق رداً جميلاً يا رب العالمين، بصَّرنا بعيوبنا، اللهم قوِّ إيماننا في قلوبنا، اللهم ارزقنا الغلبة على فتنة النساء والأولاد، اللهم ارزقنا الصمود أمام هذه الفتن يا رب العالمين، اللهم اجعلنا من القائمين بأمرك في أسرنا وبيوتنا، وفي أولادنا ونسائنا يا رب العالمين. اللهم ارزق المجاهدين نصراً قريباً، عجل فرجهم يا رب العالمين، إن لنا إخواناً مستضعفين في الأرض يسامون سوء العذاب وأنت الحي القوي، يا ربنا أنت على كل شيءٍ قدير، اللهم ارحم قتلاهم، واشف جرحاهم، اللهم أطعم جائعهم، واكسُ عاريهم واحمل حافيهم، اللهم عجل بنصرهم، وعجل بفرجهم وردهم إلى الإيمان والتوحيد يا أرحم الراحمين. اللهم دمر أعداءنا، اللهم أهلك عدونا، اللهم اجعل الفرقة بينهم وأفشل خططهم، واجعل تدبيرهم تدميراً عليهم، اللهم خالف بين قلوبهم، وألق فيها الرعب يا رب العالمين، اللهم اضرب بعضهم ببعض، اللهم خيب رميتهم واجعل دائرة السوء عليهم. اللهم أنت على كل شيءٍ قدير، فارحم إخواننا، واكبت أعدائنا، اللهم اقض ديوننا، واستر عيوبنا، وارحم ميتنا، اللهم إذا وُضعنا في قبورنا فليس لنا إلا رحمتك، اللهم ثبتنا عند السؤال، اللهم ثبتنا عند السؤال، وباعد بيننا وبين سوء المآل، يا رب العالمين، أحسن وقوفنا بين يديك، ولا تخزنا يوم العرض عليك، وأنت الرحمن الرحيم، ونحن عبادك، ليس لنا إلا رحمتك، فإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين. وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.

رسالة إلى الطبيب المسلم

رسالة إلى الطبيب المسلم إن الطبيب المسلم داعية إلى الله تعالى، ومجاله يؤهله للقيام بدور كبير في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي تصحيح واقع كثير من الناس وله مع المريض مواقف لابد أن يعلمها ويعمل بها، وقد ذكر الشيخ بعضاً من هذه المواقف، ثم تكلم عن موقف الطبيب مع المريض المحتضر بشيء من التفصيل، وعقب على ذلك بالكلام عن بعض العمليات الجراحية التي ينبغي على الطبيب أن يعرف أحكامها وفقهها، كعملية العقم، والتجميل، وبتر الأعضاء، وعملية التشريح

من هو الطبيب المسلم؟

من هو الطبيب المسلم؟ الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أيها الإخوة حديثنا في هذا اليوم -إن شاء الله- عن بعض الأمور المتعلقة بالطبيب المسلم سنتكلم عن الطبيب المسلم، وسنتعرض من خلال كلامنا في هذا الموضوع لموقف الطبيب المسلم من المريض ومن المحتضر، وبعض النقاط المهمة التي تحصل -أحياناً- في المستشفيات وفي غرف العمليات، وبعض العمليات الجراحية، وقضايا تتعلق بجهاز الإنعاش، وبعض الأمور المتعلقة بعلاقة النساء والرجال داخل المستشفيات. والكلام عن صفات الطبيب المسلم كلام طويل، ولكن لن نتطرق إليه بالتفصيل في هذه المحاضرة، بل سوف تكون محاضرة عامة أشبه بجمع بعض النقاط التي تصادف الإخوان الأطباء والطبيبات في المستشفى، فبادئ ذي بدء أقول لكم أيها الإخوة: إن الطبيب المسلم ليس هو ذلك الإنسان الذي أخذ الشهادة، أو درس مجموعة معينة من الكراسات في علم الطب في أي حقل من حقوله؛ حتى حصل على تلك الورقة التي تخبر وتثبت بأنه وصل إلى الدرجة الفلانية في حقل الطب، وإنما الطبيب المسلم حقيقة هو داعية إلى الله عز وجل بالدرجة الأولى، وإن المجال الذي يعمل فيه الطبيب المسلم يؤهله للقيام بدور كبير في الدعوة إلى الله عز وجل، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي تصحيح واقع كثير من الناس. والداعية إلى الله -عموماً- قد يواجه في المجتمع بصدود كبير، وبمقاومات عنيفة، وعوامل كثيرة تجعله لا يستطيع أن يوصل ما يريد إيصاله من الأفكار الإسلامية الصحيحة إلى الناس، ولكن الطبيب عنده فرصة ذهبية لا تكاد توجد لغيره، وهذه الفرصة أنه الآن يتعامل مع شخص في حالة ضعف، والشخص عندما يكون مريضاً أو على وشك الموت؛ فإنه يكون في حالة من التقبل لتقوية صلته بالله أكثر من أي شخص آخر، وهنا تبرز قضية الجانب الإيجابي الذي يتمتع به كثير من الأطباء، والذي لا يوجد لغيرهم من المسلمين الذين يقومون بالدعوة إلى الله في أماكن أخرى.

موقف الطبيب المسلم من المريض

موقف الطبيب المسلم من المريض في البداية -أيها الإخوة- سنتحدث عن موقف الطبيب المسلم من المريض.

تصبير المريض وجعله يرضى بقضاء الله

تصبير المريض وجعله يرضى بقضاء الله الحقيقة أنه عندما يوجد أمامك مريض فهذه فرصة كبيرة لتعليم هذا المريض أشياء كثيرة جداً، وستصادف بطبيعة الحال كما ترى أنت في الواقع العملي أكثر مما أراه أنا أو غيري، سترى فرصة للتصحيح ينبغي أن تستغلها، فمثلاً: ينبغي للطبيب المسلم أن يذكر المريض بالرضى بالله عز وجل وبقضاء الله، ويذكره بمثل حديث: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير) لأن المريض قد يكون في حالة من اليأس والقنوط، ويحس مع تزايد الألم ومع وطأة المرض عليه بأنه في حالة قد لا يشفى منها وقد يقنط من رحمة الله، والشخص في الحالة الطبيعية قد لا يأتي في نفسه هذا اليأس، ولكن الشخص في حالة المرض وتحت وطأة المرض قد يوجد عنده هذا الإحساس، وأنت -يا أخي- بصفتك طبيباً وأنتِ بصفتك طبيبة لا بد من استغلال هذه الفرصة لوضع الدواء الإسلامي الناجح؛ لتبيين قضية الرضى بقضاء الله، ومساعدة المريض بالألفاظ الطيبة التي تصبره على ما يعيشه من المحنة ومن التعب النفسي والجسدي. وقد يتسخط بعض المرضى، وقد يسبون المرض أو أعراض المرض، ولكن عندما نرى هذا الحديث في صحيح الإمام مسلم، عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على أم السائب فقال: (ما لك تزفزفين؟ قالت: الحمى، لا بارك الله فيها. فقال: لا تسبي الحمى؛ فإنها تذهب خطايا بني آدم كما يذهب الكير خبث الحديد) كما أن هذا الفرن الحار وهذه النار الحامية تذهب الخبث أو الشوائب في الحديد حتى يخرج معدناً صافياً نقياً، كذلك هذه الأمراض تنقي المريض من الخطايا، فأنت إذاً تفتح له باب الأمل، وتفتح له باب رحمة الله، وتقول له: رب ضارة نافعة، وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم، وهذه فرصة لمحو كثير من الذنوب والخطايا التي قد لا تمحى إلا بالمرض، لأن كثيراً من توبة الناس واستغفارهم خاطئة فيها خطأ، ولكن إذا جاء المرض يمحو الله به من السيئات ما لا يمحوه بالتوبة والاستغفار. وقد يصل المريض إلى درجة أن يتمنى الموت، تجده يصرخ -مثلاً- في الغرفة ويدعو على نفسه بالموت، أو يدعو الله أن يميته تحت هذا الضغط من الألم، فعند ذلك تبين له حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يتمنى أحدكم الموت لضر نزل به، فإن كان لا بد فليقل: اللهم أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني ما علمت الوفاة خيراً لي) هذه مبادئ أساسية، وهذه الأحاديث -يا إخوة- يمكن أن الشخص العادي لا يجد لها مجالاً عملياً مثل ما يجدلها الطبيب، ولكن أنت بواقعك تستطيع أن تطبق هذه الأحاديث وتعمل بها في الواقع كثيراً.

العمل مع المرض الخبيث

العمل مع المرض الخبيث وأحياناً يكون مرض المريض خبيثاً، قد يصاب بسرطان أو غيره، فماذا يجب عليك في هذه الحالة؟ يلجأ كثير من الأطباء إلى إخفاء واقع المرض السيئ عن المريض، وعدم إخباره نهائياً بحالته الصحية، وهذه المسألة مع ما فيها من الإيجابيات حتى لا تسوء نفسية المريض؛ فإنه لا بد -أيضاً- من إخباره بوضع معين حتى يتأهب للموت، قد يكون لم يوصِ بعد، فهو يحتاج إلى أن يوصي مثلاً، وقد يكون رجلاً عنده معاصي كثيرة يريد أن يتوب منها، فأنت لا بد أن تتوسط بين تبيين وضعه تماماً بحيث أنه -مثلاً- لا ييأس، أو بحيث أنه لا يصاب بإحباط، وبين أن تبين له مدى الخطورة التي يستعد بعدها، فلا بد -مثلاً- أن تبين له وتقول له: يا أخي! الأعمار بيد الله، قد يكون هذا المرض مميتاً وقد تشفى بإذن الله، نحن لا ندري، لكن أنت عليك أن تتأهب لملاقاة الله عز وجل في أي وقت كلمات تشعر صاحب المرض الخبيث أنه قد يقدم على الله في أية لحظة فيستعد. إذاً: السلبية من عدم إخبار المريض نهائياً بحالة المرض الخبيث الذي هو فيه، هي: أن المريض لا يتمكن من القيام بتصرفات معينة، مثل التوبة، ومثل كتابة الوصية، فأنت تتلافى هذه السلبية وتتوسط بأسلوبك الهادئ المتزن بين سلبية إشعاره باليأس كأن تقول: معك سرطان -مثلاً- مفاجأة، وبين أنك تطمئنه تماماً؛ بحيث أن الرجل يظن أنه ليس فيه شيء نهائياً، وأنه سيقوم بعد أيام، وإذا به تفاجئه المنية.

وصية المريض إلى الطبيب

وصية المريض إلى الطبيب وقد يسر المريض للطبيب في حالة الاحتضار بأسرار معينة، وقد يوصيه بوصايا ما يطلع عليها أحد، لكن هذا عندما يجد نفسه في حالة احتضار، فقد يقول للطبيب مثلاً: قل لأبي كذا، أو قل لأمي أو قل لإخواني كذا، أو أوصي بأن يخرج من مالي كذا، أو أني -مثلاً- ظلمت عمالاً معينين، أكد على أهلي بأن يخرجوا حقوقهم أو رواتبهم الخ، ففي هذه الحالة لا بد أن ينقل، فإن من مهمات الطبيب المسلم أن ينقل إلى أولاد الميت أو أوليائه بأمانة تامة كل ما أخبره به المريض عند احتضاره، فأنت قد تسمع من الرجل وصايا ما يسمعها غيرك؛ لأنك كنت موجوداً في تلك اللحظة.

عدم إكراه المريض على الطعام والشراب

عدم إكراه المريض على الطعام والشراب كذلك -أيها الإخوة- حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الصحيح أو الحسن، الذي رواه الترمذي وابن ماجة عن عقبة بن عامر مرفوعاً: (لا تكرهوا مرضاكم على الطعام والشراب، فإن الله يطعمهم ويسقيهم) فالذي يفكر بمنظور مادي بحت؛ قد يجد أنه لا بد من أن يأكل المريض الطعام كله، أو لا بد أن يلتهم هذه الأطباق كلها، ولكن الحديث يقول: (فإن الله يطعمهم ويسقيهم) وبالتأمل وبالتجربة تجد فعلاً أن المريض يتحمل، أحياناً يعيش على مقادير ضئيلة من الطعام والشراب لا يعيش عليها غيره! أو أنه يبقى بحالة معينة على مقادير ضئيلة من الطعام والشراب لا يبقى عليها غيره! وهذا بسبب أن الله يساعده، وعلى قدر البلاء تكون المعونة -كما قال العلماء. إذاً: قضية إكراه المرضى على الطعام والشراب ليست مسألة واردة أو محبذة في وضع المريض، ولكن هناك أشياء لا بد منها، مثلاً: هناك سائل معين مغذٍّ في حالته لا بد أن يأخذه، ففي هذه الحالة لا نقول له: اعزل السائل هذا ولا تأخذه لأن الله يطعمه بل لا بد من اتخاذ الأسباب.

زيارة المرضى

زيارة المرضى وهنا تذكير في أثناء مرور الأطباء على المرضى في الغرف: أن ينوي الطبيب بإتيانه للمريض أنه يعوده لتحصيل الأجر، فإن بعض الإخوان من الأطباء قد يمر على المرضى بحكم أن هذا عمل، وأنه لا بد أن يقوم بالجولة المعينة على الغرف الفلانية والأسرة الفلانية، وينسى في غمرة هذا العمل أن ينوي في قلبه أنه الآن يمر عليهم ليس فقط لمعالجتهم والتأكد من أحوالهم، أو أن هذا العمل موكل إليه وهذا التوزيع المعين، وإنما -أيضاً- ينوي أن يمر للعيادة لتحصيل الأجر العظيم؛ لأن في عيادة المريض أجراً عظيماً، فعن ثوير عن أبيه قال: أخذ علي بيدي فقال: انطلق بنا إلى الحسن بن علي نعوده، فوجدنا عنده أبا موسى الأشعري، قال علي لـ أبي موسى: عائداً جئت أم زائراً؟ فقال: عائداً. فقال علي: فإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من مسلم يعود مسلماً غدوةً إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، ولا يعوده مساءً إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح، وكان له خريف في الجنة) والخريف هو المخرف، أي: الثمار المجتناة في الجنة، طوال ذهابه وعودته وهو يمشي في خرافة الجنة، في الثمار المجتناة التي تكون له في الجنة. فإذاً: لا ننسى تحصيل هذا الأجر، ولذلك نجد بعض الإخوة الأطباء عندهم روح طبية في زيارتهم، فتجده لو مر بمريض ليس بمريضِهِ وليس بمكلف بالمرور عليه، تجد أنه يأتي ويسلم: السلام عليكم، كيف أنت يا أخي؟ هل تحتاج شيئاً؟ وهذه الأشياء ليست علاجاً، فهو لن يعطيه إبراً أو أدوية، وإنما يعطيه كلمات، وقد لا يكون المريض تابعاً لنفس الطبيب، لكن هذه الكلمات ينوي بها العيادة ولن يخسر شيئاً؛ لأنه سيمر بسريره وسرير غيره، فيحصل أجراً عظيماً، فهذه فرص للأجر لكم تستطيعون تحصيلها، ليس كغيركم من الزوار الذين لا يأتون إلا جزءاً من ساعة معينة في اليوم، وقد لا يأتي يومياً، وأنت يومياً تستطيع أن تكسب هذا الأجر.

الاهتمام بالأحكام الشرعية التي تهم المريض

الاهتمام بالأحكام الشرعية التي تهم المريض كذلك من الأمور المهمة بعلاقة المريض بالطبيب والتي يحصل فيها غفلة كبيرة: الاهتمام بالأحكام الشرعية التي تهم المريض، مثل: قضايا الطهارة، استقبال القبلة، وكيفية الصلاة، فإن كثيراً من المرضى ونتلقى أسئلة كثيرة جداً عن بعض المرضى يقول: تركت الصلاة بالكلية فترة المرض؛ لأني لم أكن أظن أن الصلاة تجب علي في تلك الحال! أو يقول: إن البول يخرج مني باستمرار في أثناء وجودي، أو إن عندي مرضاً معيناً لا أستطيع أن أتطهر، وقد لا أستطيع أن أذهب إلى دورة المياه للإخراج، وقد أخرج في سريري وأنا جالس، وقد تتلوث الأغطية بهذه النجاسات، فكيف أصلي؟! والطبيب يرى بعينه حالة المريض، فينبغي له أن يتفقه في أشياء كيف يصلي المريض؟ كيف يتطهر المريض؟ ما معنى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]؟ إذا كان لا يستطيع أن يصلي إلا بالنجاسة في ثيابه يصلي بالنجاسة في ثيابه إذا لم يقدر على أن يتوضأ ولا أن يؤتى له بالماء ليتوضأ يساعده الطبيب بأن يأتي له -مثلاً- بعلبة من الرمل أو التراب النظيف حتى يتيمم عليه، ينبغي أن يكون بجانب كل غرفة مرضى إناء من الرمل أو التراب بدل إناء الزهور هذا الذي قد لا يكون له فائدة؛ حتى إذا طلب المريض شيئاً وما يستطيع أن يتوضأ يأتي له الطبيب بهذا الإناء من الرمل يضرب عليه، ويمسح ظاهر كفيه ووجهه، فقد صار الآن طاهراً يؤدي الصلاة، وإذا استطاع الطبيب أن يوجهه إلى القبلة وجهه إلى القبلة، إذا لم يقدر على أن يتحرك نهائياً وبعض الأجهزة متصلة به فيصلي على حسب حاله ولو إلى غير القبلة، ويشرح له الطبيب أنه يجوز له الجمع بين صلاتي الظهر والعصر، والمغرب والعشاء؛ لأنه من أصحاب الأعذار. إذاً: لا بد أن يكون لك موقف يا أخي، لا تقل: أنا عملي أنني فقط أحط السائل، وأرى لهذا، وأعالج وأكشف لا، أنت ترى الآن مسلماً أمامك لا يعرف كيف يصلي، لا يعرف كيف يعبد الله، ومن المهم أن يبقى الإنسان المسلم متصلاً بالله في الصلاة وغير الصلاة وبعض الأطباء يقول: ليس لي دخل، أنا ما علي من صلاة، هذه بينه وبين الله نعم. بينه وبين الله، ولكن أنت تستطيع أن تقدم شيئاً، تستطيع أن تساعد، تستطيع أن تغير، ليس هناك مشايخ وعلماء في المستشفيات يبينون للمرضى، ولو وجد قد لا يستطيعون الدخول في كل وقت، فأنت تبين للمرضى كيفية الطهارة والصلاة بالنسبة إليهم، وهناك نشرة لطيفة كتبها الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين في كيفية طهارة المريض وصلاته، صفحة أو صفحتين تقرؤها وتحفظ ما فيها وتنتهي القضية. كذلك -مثلاً- إذا أغمي على شخص في عملية كيف يقضي الصلاة مرتبة عندما يقوم؟ تشرح له وتقول: لقد أغمي عليك -مثلاً- من الساعة الفلانية إلى الساعة الفلانية، من الوقت الفلاني إلى الوقت الفلاني، لقد فاتك كذا وكذا من الصلوات، فأنت تبين له ما هي الأشياء التي فاتته من الصلوات لكي يقضيها.

ما ينبغي على الأطباء في المستشفى التعليمي

ما ينبغي على الأطباء في المستشفى التعليمي كذلك بالنسبة للأطباء أو الأساتذة الذين في المستشفى التعليمي- والمستشفى التعليمي يتمرن فيه الطلاب على بعض الحالات المرضية التي قد تأتي، قد يجلس التلاميذ أو الطلاب في حالة انتظار للمريض الذي سيأتي، وهم يتلمسون الحالات النادرة، ويتسقطون أخبارها، وإذا جاء واحد بحالة نادرة فزعوا فوراً وأقبلوا ابتهاجاً، المريض مسكين وهم مبتهجون وجدنا حالة قلب، حالة قلب! يالله! ويقبلون على الطبيب وهم فرحون مبتهجون، لأنه أتت حالة قلب وأتى ليرى، وكل واحد يريد أن يكشف، وهذا المسكين يئن ويتألم وهذا يتبسم ويقبل فارح لأنه رآه! فهنا على الأستاذ الدكتور أن ينهى الطلاب عن إظهار الابتهاج بالمريض مراعاة لشعوره. وكذلك عند فحص هذا المريض يتجنب أن يظهر أهالي المريض أنه محل تجارب، كأن يقول: تعال اكشف أنت وقد يحتاج إلى علاج حتى يسكن ألمه، فيقول: لا، لابد أن يرى هذا كل الطلاب، دعه قليلاً يتألم إن شاء الله هذا لن يحدث، لكن من باب التذكير والتنبيه.

موقف الطبيب المسلم من المريض المحتضر

موقف الطبيب المسلم من المريض المحتضر فإذا وصل المريض إلى مرحلة الاحتضار أو جاءت حالة طارئة إلى الطوارئ وهو الآن في حالة احتضار، فماذا ينبغي على الطبيب المسلم أن يفعل؟

تلقين المحتضر الشهادتين

تلقين المحتضر الشهادتين أوائل الأشياء التي تتبادر إلى الذهن والتي جاءت في السنة: قضية تلقين الميت أو المحتضر الشهادة، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يأمر بها، وفي الحديث الصحيح أنه عليه السلام عاد رجلاً من الأنصار فقال: (يا خالي قل لا إله إلا الله) فالموضوع هو قضية التلقين، أن تقول للمريض: قل لا إله إلا الله، لكن قد لا يقولها هذا المحتضر للمرة الأولى، فأنت تعيدها عليه الثانية والثالثة، لكن بدون أن تضجره، لأنه في حالة النزع يكون مشغولاً جداً بسكرات الموت التي نزلت به، وهي أثقل ما يكون على الإنسان، ومهما كان الطبيب حاذقاً، ومهما رأى مئات الحالات أمامه لا يشعر أبداً بالسكرات التي يحس بها الشخص الذي يحتضر أمامه، ولذلك قد لا يستجيب، وقد يرفض، وإذا كان من أهل الخاتمة السيئة -والعياذ بالله- قد يأبى إباءً شديداً ويبعدك عنه، ولا يرضى أن يسمع منك، لأن الله قد قضى عليه بهذا لأجل عمله، لأن الرجل نفسه لم يكن صالحاً.

الاتعاظ بحال الاحتضار

الاتعاظ بحال الاحتضار وينبغي عند مشاهدة المحتضرين أن يوجد في نفوس من يرون هذا المشهد الخوف من الله عز وجل، وتذكر الموت وهيبته، ومع كثرة مشاهدة الحالات تصبح القضية في النفس فيها نوع من البلادة، وهناك -أيضاً- نوع من عدم الإحساس تدريجياً لكثرة الحالات التي يراها الإنسان، وهنا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إن للموت لفزعاً) وللموت سكرات، والرسول صلى الله عليه وسلم في مبدأ أمره لما جاءت الجنازة، قام، لأن الموت يفزع، فأنت عندما ترى هذا المفروض أن تكرار الرؤيا لا يحدث عندك تبلداً في الإحساس بحيث أنك لا تدرك ما معك. وقد نسمع عن بعض الحالات في الطوارئ، يأتي رجل على وشك الموت ويحيط به الأطباء والناس قد يصيحون، وقد يصيح من حوله أولاده، وتحدث لحظات صمت عند الوفاة، فإذا مات الرجل وذهب به مع أهله وذويه وخرجوا، رجع الأطباء والطبيبات والممرضات والمرضى يضحكون، ويتكلمون، وكأن شيئاً لم يكن، وهم قبل دقائق كانوا يرون رجلاً سيكون أحدهم في مكانه في يوم من الأيام. فإذاً نقول: لا ينبغي أن تحدث كثرة الحالات عندنا هذه القسوة في القلب، وينبغي للإنسان أن يستشعر مهما كان هذا الرجل يعاني من سكرات الموت، وملائكة الموت تنزل به، قد تكون ملائكة رحمة وقد تكون ملائكة عذاب، ولذلك الطبيب لا يشتغل وهو ساكت صامت كأنه أغلق فمه، وإنما يطلب من الله أن يعينه ويعين المريض، ويسأل الله أن يرحم المريض وأن يثبت هذا المحتضر، ويسأل الله له حسن الخاتمة لو مات، ويدعو له، وتلك اللحظات فيها أشياء لا توجد في غيرها، وأنت قد تعاصر أشياء لا يعاصرها غيرك، ولا يعيش فيها غيرك، من ذلك -مثلاً- أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إذا حضرتم الميت فقولوا خيراً فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون) والطبيب يحضر مرضى ويحضر موتى، بإمكانه أن يقول خيراً وأن يدعو خيراً؛ فعليه أن يستغل هذه الفرصة، ولا يقف صامتاً مجرد أنه يعمل الآن بيديه ويراقب وهو مشغول عن الموت وعن الدعاء، وعن سكرات الموت، وعن التأثر، وأن قلبه قد تحجر، وقد لا يذرف دمعة واحدة مهما رأى من الموتى.

موقف الطبيب إذا أبى المحتضر أن ينطق الشهادتين

موقف الطبيب إذا أبى المحتضر أن ينطق الشهادتين نعود إلى المسألة فنقول: لو أنك خشيت إذا أمرت المريض بأن يقول: (لا إله إلا الله) أن يضجر؛ فعليك أن تقولها أنت بلسانك حتى يحاكيك ويستجيب لك؛ لأنه قد لا يفهم، في لحظات الاحتضار قد لا يفهم ما تأمره به، فعندما تقول أنت: لا إله إلا الله، وتكررها عشرين أو ثلاثين مرة، قد يستجيب ويقولها، وتكون نهاية خاتمته على لا إله إلا الله. ويستطيع الطبيب أن يساهم في إنقاذ أناس من جهنم إذا أراد الله له ذلك، فيكتب على يديه هداية أشخاص في اللحظات الأخيرة، أو أن يخرجوا من الدنيا بلا إله إلا الله التي قالها لهم الطبيب، وهنا قد يسأل بعض الإخوان سؤالاً فيقول: أتاني مريض في حالة خطيرة جداً إلى الطوارئ، فلو أني قلت له: قل: (لا إله إلا الله)، ثم إنه كتب له الشفاء، فهنا قد يقيم علي دعوى، ويشكوني ويقول: أنت حطمت معنوياتي لما قلت لي: قل (لا إله إلا الله)؛ لأن معناها أنك حكمت علي بالموت! هناك بعض ضعفاء العقول والإيمان يقولون هذا، فأنت الآن بين نارين: إذا قلت له: قل: "لا إله إلا الله" قد تحدث هذه السلبية، وفعلاً -إذا أردنا أن نكون متجردين- قد تضعف نفسية الرجل ويقول: معناها أني سأموت. لكن في الجانب الآخر لو لم تقل له هذا الكلام فيمكن يموت ويخرج من الدنيا وما قال: (لا إله إلا الله) وتكون قد فوت عليه فرصة عظيمة لا يمكن أن تأتي إلا على يديك؛ ففي هذه الحالة ينبغي أن يكون الطبيب لبقاً، وأن يقول له -مثلاً- إذا أتى إليه واحد في حالة خطيرة: اذكر الله يا أخي، اذكر الله، واستعن بالله، وعندما تقول لأي واحد من العامة: اذكر الله ماذا يقول في العادة؟ سيقول: (لا إله إلا الله)، فإذاً: أنت حللت هذا الإشكال، فممكن أن تقول: اذكر الله يا أخي، فسوف يقول: (لا إله إلا الله) فتنتهي المشكلة، وتقول له: أنت الآن لا بد أن تستعين بالله في وضعك هذا. فيقول: (لا إله إلا الله). فلو مات انتهت القضية، وخرجت بسلام.

موقف الطبيب من المريض الكافر

موقف الطبيب من المريض الكافر وإن كان المريض كافراً فينبغي للطبيب أن يدعوه إلى الإسلام؛ لحديث أنس رضي الله عنه قال: (كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، فمرض، فأتاه يعوده فقعد عند رأسه فقال: أسلم. فنظر إلى أبيه، فقال له -أي: الأب- أطع أبا القاسم صلى الله عليه وسلم. فأسلم ومات فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه بي من النار) وهنا نذكر بالمشكلة الحاصلة في نفوس الكثير من المشتغلين في حقل الطب: وهي مشكلة الفصل بين واجبات المهنة وواجبات الدين فقد يقول الواحد: ماذا علي منه أن أدعوه إلى الإسلام وأدعو له، الله يقول: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6] ويستشهد بآيات على ما يسوغ له، ويأخذ من القرآن ما يريد ويدع ما يريد، وهذه الآية: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6] هل معناها أننا ما ندعوهم إلى الإسلام؟ الرسول صلى الله عليه وسلم دعاه إلى الإسلام وقال: (الحمد لله الذي أنقذه بي من النار) وهذا كافر أمامك، لقنه، قل له بالإنجليزي، اشرح له إذا لم يكن يفهم بالعربي، قد تكسب أجراً عظيماً: (لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم) إذاً: الإخوان الذين يقولون: نحن أطباء ما لنا علاقة بالقضايا الإسلامية أو بقضايا الدعوة إلى الله، وهذه القضية عمل المشايخ وأئمة المساجد والدعاة، نحن أطباء لنا الجانب الطبي، والجانب العلمي!! تقول: من قال: إن المسلم إما أن يكون طبيباً أو مهندساً أو شيخاً أو قاضياً وليس له علاقة بالأمور الأخرى؟ إذا كان الأطباء من النصارى يذهبون في بعثات تبشيرية ولا يعطون الرجل الدواء حتى يشهد للصليب ويؤمن به، وغالب البعثات التبشيرية من الأطباء، أولئك على باطل يستغلون الطب ويستغلون المرضى ويستغلون الموتى بنشر الأباطيل النصرانية، ونحن -يا أهل الإسلام ويا أهل الحق- نأتي ونقول: ما لنا دخل نحن الأطباء! هذا وأنت لم تذهب إلى أدغال أفريقيا ولن تسافر إلى أمكنة بعيدة كما يضحي أهل الباطل، أنت قد جاء إليك في المستشفى، أما ذاك فإنه يذهب ويقطع آلاف الأميال، ويهجر الأهل والبلد والأولاد، ويتغرب عن الوطن لكي يدعو إلى الباطل، ويستغل الطب، ويقولون له: ما نعطيك إلا كذا، أو يقولون له مثلاً: هذا من يسوع، وهذا ما أدري ممن وأنت أخونا في الله جالس وتقول: أنا ما لي علاقة بالدين!

واجب الطبيب المسلم بعد وفاة المريض

واجب الطبيب المسلم بعد وفاة المريض فإذا مات فإنك تغمض عينيه، ومن علامات الوفاة أن البصر يصعد إلى الأعلى، فتجد الرجل الميت أو الميتة يشخص ببصره إلى الأعلى لماذا؟ لأن الروح تسحب من الأعلى، والروح كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم تخرج من أسافل القدمين والأجزاء التي تليها حتى تصل إلى الحلق فعند ذلك يغرغر، ثم تسحب من رأسه من جهة الأعلى؛ ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا قبضت الروح تبعها البصر) ولذلك تجد الموتى يشخصون بأبصارهم إلى الأعلى؛ لأن الروح تسحب إلى العلو، فيكون منظره مخيفاً أو مرعباً فعند ذلك يسن أن تغمض عيناه، وكذلك يغطى بثوب يستر جميع بدنه، وهذا قبل الدفن بعد الموت مباشرة، إذا مات بين يديك غمضت عينيه، وسترته بملاءة -برداء- يستر جميع بدنه. وكذلك يعجل بتجهيزه، ويخبر أولياء الميت بسرعة، وإخبار أولياء الميت يتعلق به أشياء: من امرأة قد تحد، وسوف تحد من لحظة وصول خبر الموت إليها، فهناك أحكام تترتب على إخبارك أولياء الميت قضايا الاستعجال بالتجهيز والدفن هم سيقومون بها، وهناك مرأة ستدخل في الحداد، وهناك قضايا الميراث، وأشياء كثيرة ستترتب على هذا؛ ولذلك يسرع بإخبار أولياء الميت لكن برفق، ويأتي أحدهم ينتظر ويسأل: ما الخبر؟ فيقول: مات!! فلا بد أن يخبر؛ لأنه تترتب عليه أحكام، لكن بطريقة لطيفة، وعليه أن يتذكر آيات وأحاديث يقولها لأولياء الميت عندما يخرج عليهم من غرفة الإنعاش وقد مات الرجل، حتى يهون عليهم، لا يقول: مات! ويدير ظهره ويمشي، فهناك قضايا هم يسمونها إنسانية لكننا نسميها، (آداب شرعية إسلامية). وأحياناً يحصل إهمال فيبقى الميت على سريره وسط المرضى لساعات، والمرضى يعلمون في الغرفة أن الرجل الذي في هذا السرير قد مات، وهذا خطأ كبير أن يحدث هذا، فلا بد من التفقد ومن سرعة الانتباه، وإذا استطعت أن تقدم أشياء كالروتين حتى يمشي بسرعة لأن إجراءات الوفاة من أصعب الإجراءات وأطولها يذهب ذلك ويبحث عن الدكتور يوقع له ورقة، وذاك مشغول ذاهب فأنت داخل في أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالإسراع في تجهيز الميت. وإذا رأيت عليه من علامات حسن الخاتمة شيئاً، كأن رأيت -مثلاً- بياضاً في وجهه أو نوراً، أو رأيت التجاعيد زالت عند موته؛ لأن بعض أولياء الله وبعض الصالحين قد يحدث لهم علامات من حسن الخاتمة، أو أنك شاهدته يتبسم، فمن باب أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالثناء على الميت والإخبار بمحاسنه، فأنت تخبر بهذه المحاسن وتقول لأهله: أبشروا، ميتكم -إن شاء الله- على خير، لقد رأيته تبسم مع أنه مات، لقد رأيت نوراً يسطع بين عينيه. وأنت ما تكذب وتؤلف لكن تخبر بالحقيقة. وإن كنت رأيت شيئاً من علامات سوء الخاتمة -والعياذ بالله- قد ترى وجهه قد انقلب أسود وكان أبيض البشرة، وقد تجد له رائحة منتنة حالما يموت، وقد تجد أشياء كثيرة؛ فهذه تستر ولا تنشر بين الناس.

دور الطبيب المسلم تجاه منكرات الأموات

دور الطبيب المسلم تجاه منكرات الأموات وللطبيب -أيضاً- دور في منكرات أهل الميت التي يفعلونها، مثل: النياحة، فقد تخبرهم وتكون أمه أو أخته موجودة أو ابنته، فتصيح وتولول وتزعق، وقد تشق خمارها وتنشر شعرها وتحدث منكرات، فأنت عليك في هذه الحالة أن تبين لهم وأن تنهاهم عن هذا، فعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران) وهو المعدن المصهور المذاب المتناهي في الحرارة، سربال: أي: ثوب يغطيها (ودرع من جرب) رواه مسلم فما ينبغي أن ترى هذه النائحة وترى هذا المنكر أمامك وأنت ساكت، ولا بد أن تنكر وتبين وتقول: ما يصلح هذا، اصبروا واعتصموا بالله وهكذا.

مسائل متفرقة تتعلق بالطبيب المسلم

مسائل متفرقة تتعلق بالطبيب المسلم وهذه بعض الأحكام أذكرها بسرعة لابد للطبيب أن يعرف أحكام النجاسات، ونواقض الوضوء، وحكم لمس عورة المريض والسوائل الكحولية -نجاستها وعدم نجاستها- وكذلك الذين يعملون في المختبرات، لابد أن يعملوا نجاسة العينات والدم، فإن الدم نجس مثلاً، كذلك لا بد للطبيب المسلم أن يتفقه بالإضافة إلى قضايا الطهارة التي يحتاجها في أثناء عمله في أحكام الصلاة، وجمع الصلوات للذين يعملون عمليات طويلة، فإن هذا جائز للضرورة الطبيب الآن في غرفة العمليات يعمل عملية ولا يمكن أن يتركها، فنقول: أولاً لا بد أن توقت توقيتاً صحيحاً، فإذا أمكنك أن تعمل العملية بعد أن تصلي الصلاة في وقتها فتعمل العملية بعد أن تصلي الصلاة في وقتها، فإن بعض العمليات يمكن أن تؤجل ربع ساعة أو ساعات ولا يضر ذلك، وبعضها عمليات طارئة لا بد منذ أن تأتيك الحالة أن تشتغل فيها، ففي هذه الحالة يجوز لك أن تجمع الظهر مع العصر أو المغرب مع العشاء، وتوقت العملية قدر الإمكان بحيث أنك تستطيع أن تجمع، لا تأتي -مثلاً- وتبدأ العملية بعد العصر أو قبل العصر وأنت ما صليت العصر ولا جمعتها مع الظهر للضرورة، ولن تنتهي العملية إلا بعد المغرب ولا يمكن الجمع الآن فقد ذهب وقت الصلاة، ولن تؤديها لا جمعاً ولا أداءً؛ فينبغي أن ترتب المسألة قدر الإمكان.

الطبيب المسلم داعية إلى الله

الطبيب المسلم داعية إلى الله الطبيب -أيها الإخوة- أيضاً إنسان ناصح، وإنسان داعية، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، لا بد أن يكون له موقف من بعض المرضى بأسباب معينة، كأن يتبين لك أنه مريض بسبب شرب الخمر، أو أنه مريض بسبب شرب المخدرات، أو أن هذا المرض الذي فيه من الأمراض التناسلية الحاصلة بسبب الزنا أو اللواط، فبعض الأطباء تأتيه الحالة ويعرف ما وراءها، ويعرف ما هو السبب، وعنده الخبرة من عمليات الاحتكاك ومرور الحالات عليه أن هذه جاءت بسبب كبائر وبسبب فواحش، فلا يأتي ويقول: أنا حدي في الطب أن أقدم له العلاج وذاك يكفيه!! أنت الآن تعالجه، وإذا خرج من المرض استعمل الحرام مرة ثانية، فأنت أعنته على المنكر، ولا نقول لك: اتركه مريضاً حتى لا يتمكن من فعل المنكر! لكن نقول لك: بالإضافة إلى تقديم العلاج البدني قدم له العلاج القلبي، قل له: يا فلان! لنكن صرحاء، هذه الحالة تأتي -مثلاً- بسبب فواحش، بسبب كذا، فأنت عليك أن تتوب إلى الله، وأن تتقي الله عز وجل، وقد تأتي المرة القادمة ويمكن ما ينفعك العلاج. كذلك الأعراض الخطيرة للمرض لكن ما يذكرها؛ مع أنها قد تمنع المريض عقلاً -لا شرعاً- قد تمنع عقلاً عن ارتكاب الفاحشة، لكن لا يخبره بها فقط، يأتي مريض فيعالج ويذهب، ثم يرجع له في المرة الثانية بمرض ثان، ثم يبدأ يعالجه وهكذا، هذا الكلام غير صحيح، ينبغي عليك أن تبين له مضاعفة الأمراض هذه بالذات، كالأمراض التناسلية وغيرها، وكذلك أضرار المخدرات والخمر، تبين له الأضرار التي قد تترتب عليها ما لا تبينه لرجل آخر ليست عنده هذه الأشياء؛ لأنه لا فائدة من أنك تهبط من معنويات رجل صالح أتى له مرض فتقول: هذا قد يتطور وقد يتضاعف وقد يؤدي إلى كذا، وهو إنسان صالح، وليس هناك مصلحة من إخباره بالمضاعفات، أما الرجل الذي يرتكب الفواحش، ويشرب هذه الأمور، عليك أن تقول: يا أخي! هذه تؤدي إلى كذا، وفيها مضاعفات كذا وكذا؛ لأنها قد تسبب أن يمتنع عقله، والإنسان قد يكون عاقلاً فيترك من باب أنه لا تؤدي إلى هذا لكي لا يتضرر، وفي نفس الوقت تبين له الحكم الشرعي في المسألة. ولا نكون مثل بعض الناس الذين إذا رأوا طبيباً مسلماً وعنده دين وخير ويبين هذه الأشياء، فيأتي طبيب آخر ويقول: هذا غير صحيح، كيف تستغل المهنة في إملاء أفكارك؟! أنت الآن تكلم ماسونياً أو نصرانياً أتكلم عن أشياء، أنا رجل مسلم، أبين للرجل أخطار هذه شرعاً، وإن أمليت عليه أفكاري واجتهاداتي وأمليت عليه آرائي، وأنا أملي عليه قول الله وقول رسوله، أم ماذا؟ فإذاً: هذا لا يعتبر استغلالاً، وإن سميناه استغلالاً فهو استغلال في شيء حسن، أنت تستغله في إبعاده عن المنكر، تستغل هذا الشيء في تقريبه من الله عز وجل، ونعم هذا الاستغلال.

العلاج بالقرآن وذكر الله تعالى ودور الطبيب في ذلك

العلاج بالقرآن وذكر الله تعالى ودور الطبيب في ذلك كذلك -مثلاً- في حقل الطب النفسي، حقل الطب النفسي فيه أيضاً مجال كثير لإدخال أشياء إسلامية هي فعلاً علاجات وما هي ضحك على الناس، مثل: ذكر الله عز وجل، والتعلق بالله، وصلة المريض بالله والإقبال على الله من أنفع الأمور التي تعالج؛ لأن الله يقول: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:124] ماذا تعني "معيشة ضنكا"؟ أي: شقاء نفسي وتعب، ونفسية سيئة بسبب البعد عن الله عز وجل، وأكثر الأمراض النفسية بسبب الابتعاد عن الله عز وجل، فأنت عندما تقربه من الله عز وجل فهي أيضاً من باب العلاج. أيضاً: قضايا الاستشفاء بالقرآن، والله عز وجل يقول: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء:82] ونعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يداوي نفسه بالقرآن، كانت عائشة تجمع يدي الرسول صلى الله عليه وسلم وتقرأ فيهما فتمسح بهما رجاء بركة يديه عليه صلى الله عليه وسلم، فإذاً: أنت تعلم المريض استخدم المعوذات، استخدم آية الكرسي، استخدم سورة الفاتحة، يقول ابن القيم رحمه الله: ومرضت مرة بـ مكة مرضاًَ شديداً أقعدني وآلمني، فجاء الأطباء فعجزوا تماماً عن فعل شيء، قال: فشرعت في مداواة نفسي بسورة الفاتحة، فكان لها أثر عجيب، وقمت من مرضي بعد فترة بسيطة! والمشكلة الآن أن كثيراً من الأطباء درسوا في الخارج فإن المهندس يمكن أن يجلس أربع سنوات، والطبيب يمكن أن يجلس عشر سنوات في الخارج، فالطبيب العادي يتشبع بأفكار الغرب إذا لم يكن عنده حصيلة إسلامية طيبة، ولذلك الغربيون لا يؤمنون بأنك إذا قلت: الحمد لله، قل أعوذ برب الفلق، سوف تشفى، يقول لك: هذا كلام فارغ، إما أن تقدم شيئاً مادياً محسوساً بالتجارب والمختبرات، أما هذا فلا أعترف به، فالذي منزعه ومشربه مشرب غربي، وتفكيره تفكير غربي، لا يؤمن إلا بالمادة وينكر ما وراء المادة، وينكر أثر القرآن، وهذه الأشياء لن تدخل عقله مطلقاً. أما أنت -يا أخي- فإنك رجل تأخذ الحضارة الغربية بخيرها وتترك شرها، تأخذ حلوها وتترك مرها، فإذاً: مثل هذه الأمور لها حسبان عندك، أنت تعني قول الله عز وجل: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء:82] عندك شيء، أما أستاذك الغربي الكافر قد لا يفهم شيئاً فإذاً: هذه مسألة مهمة.

الطب النبوي وأثره

الطب النبوي وأثره أيضاً: مسألة الطب النبوي إذا نحن راجعنا بعض كتب الحديث سنجد أن هناك أشياء في الطب النبوي مذكورة، والمفروض أن ينتبه لها، وتعمل عليها أبحاث؛ لأنه قد تكتشف أنت التركيبة التي فيها شفاء هذا الداء مثلاً: بالنسبة لمرض العين، لما نقرأ حديث: (إذا اشتكى عينيه وهو محرم ضمدهما بالصبر) أو (اكتحلوا بالإثمد فإنه يجلو البصر وينبت الشعر) أو إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم بأن في العسل العلاج، وقبل ذلك في القرآن، وإخباره بأن السنا والسنوت من العلاجات، وهي أنواع معروفة من النباتات، ينبت أجودها في أرض الحجاز، ويعرفها العطارون، فإن بعض الأشياء قد لا يعرفها الأطباء، وليس لها مسمى علمي عندهم، لكن هذه الأشياء في الأحاديث عند العطارين معروفة، كالحبة السوداء، وكذلك حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (شفاء عرق النسا إلية شاة أعرابية تذاب ثم تجزأ ثلاثة أجزاء، ثم تشرب على الريق كل يوم جزءاً) شاة أعرابية، مثلاً: خروف نجدي يعيش ويرعى في البر، هذه الإلية تؤخذ وتصهر -تذاب- ثم تقسم إلى ثلاثة أجزاء، وتشرب لمن به مرض عرق النسا فيشفى بإذن الله قد يكون هذه الوصف غير معروف طبياً، لكن الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى يعرف هذا الأمر، وقد تجري فيه بحوث، وقد تكون فاتحة أمور طبية. مثلاً: ألبان البقر وسمن البقر، والكمأة بالنسبة للعين، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين) يمكن أن ماء الكمأة يستفاد منه، وإذا جرب أحد هذا الأمر حصل له أشياء، فإذاً: هذه أبحاث أريد أن أشير إليها إشارة سريعة، فلابد من الاهتمام بالطب النبوي.

كشف العورات وحكمها في العلاج

كشف العورات وحكمها في العلاج من الأمور المهمة -أيها الإخوة- قضية العورات فإنه عند الفحص وعند العمليات يحدث كشف للعورات، ونحن نعلم حرص الإسلام على ستر العورة، والرسول صلى الله عليه وسلم أخبر في الحديث الصحيح بقوله: (لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ولا المرأة إلى عورة المرأة، ولا يفضي الرجل إلى الرجل في الثوب الواحد، ولا تفضي المرأة إلى المرأة في الثوب الواحد) رواه مسلم، والإفضاء هو الملامسة متجردين من الثياب تحت فراش أو تحت غطاء واحد، فالشاهد: كل ما حرم الشرع النظر إليه حرم لمسه هذه قاعدة، فالشرع يحرم النظر إلى العورات، إذاً: لا يجوز لمس العورة. في باب الطب هناك ضرورات معينة، فهنا لا بد من الرجوع إلى أقوال أهل العلم عن الضرورة، وما هي الضرورة التي تبيح المحظورات؟ لأن بعض الإخوان قد يقول: الضرورة تبيح المحظورات، ويفعل أشياء ليست من الضرورات في شيء، ويكون قد ارتكب المحظور بدون حاجة، وكذلك الضرورة تقدر بقدرها، حتى لو وصلنا إلى نتيجة أن هذا الأمر ضرورة فلا يعني أن نسترسل فيه وأن يأخذ الواحد راحته لأنها صارت ضرورة، لا بد أن تقدر بقدرها مثلاً: المرأة لا يجوز أن يفحصها رجل، هذا أمر محرم في الشريعة، وهو معروف ومتفق عليه مهما رأيت من الحالات وتبلد إحساسك في المستشفى، وقد رأيت مئات من هذه الأشياء ومن حالات النساء مع رجال، فيبقى الأمر حراماً لا يجوز، وهو عند الله إثم عظيم لكن ما توفرت المرأة المؤهلة لفحص هذه المرأة المريضة ماذا نفعل؟ هل نقول لها: تموت، تتضاعف حالتها وتبقى على ألمها؟ لا، في هذه الحالة نقول: يجوز أن يؤتى برجل ليعالج المرأة، وحتى هذا الأمر فيه ترتيب، فأولى الناس بالعلاج المرأة المسلمة، ثم المرأة الكتابية، ثم الرجل المسلم، ثم الرجل الكتابي أو الكافر، فلا يقدم رجل مسلم على المرأة الكافرة، المرأة الكافرة تعالج مع أنها كافرة لماذا؟ لأن الشريعة تحتاط في قضايا الاختلاط، وقضايا الملامسة والنظر إلى العورات احتياطاً شديداً، وهذا الترتيب ذكره أهل العلم. وهناك أشياء يتوسع فيها الناس وليست ضرورات، فينبغي لك يا أخي الطبيب ألا تستجيب، أو -مثلاً- أتت امرأة لها حالة غير طارئة، ويمكن أن تبحث صاحبتها عن حل وتجد، وأنت تعلم الحل، فلا يلزم أن تكشف عليها، بل تدلها وتقول لها: المستشفى الفلاني فيه نساء، لأنها ليست ضرورة، لكن لو قال: والله ما وجدنا ولا أي مستشفى، وبحثنا على قدر طاقتنا، فهنا يجوز أن تكشف، وأنت لست مكلفاً بالتنبيش عن الناس، هذه هي شغلتهم ومسئوليتهم، لكن أنت إذا كنت تعلم أن هناك حلاً فالمفروض أنك ما تدخل لكي لا تعين على المنكر. مثلاً: بعض حالات العقم قد يكون هناك رجل امرأته فيها عقم، أو فيها شيء يمنع الإنجاب، فهذه الآن ليست حالة طارئة؛ فإن من الممكن أن تبحث وتواصل البحث عن امرأة وقد تجد، فليس هناك ضرورة أن يكشف عليها رجل إذا لم تجد امرأة الآن؛ لأنها ليست حالة طارئة، لكن لا يعني هذا أن تبقى طيلة عمرها بدون علاج حتى ترى امرأة لا، لكن إن بحثت مع الفترة الزمنية الكافية المقنعة عن امرأة فلم تجد، فلا بأس أن تذهب لتتعالج عند الرجل. أيضاً حالات الطوارئ، حتى لو أن هناك أناساً في أماكن أخرى فما يكفيك الوقت أن تستدعي المرأة من بيتها لتقول: تعالي، هنا حالة طارئة، أنت الموجود في الطوارئ، إذاً أنت الذي تشرف بنفسك مباشرة. وهنا ننبه إلى مسألة فيها جانب من التضحية مهم جداً، لكن لأنه ليس فيها احتساب للأجر فلا تعطى هذه القضية حقها أحياناً تنتهي فترة دوام الطبيبة المناوبة أو المشرفة، أو التي موجود في الجدول أنها في الوقت الفلاني، جاءت مريضة بعد انتهاء النوبة، والموجود رجل، فمن المفروض شرعاً -لله- أن هذه الطبيبة التي انتهت فترة النوبة عندها، لكي لا تحرج أختها المسلمة التي أتت للعلاج، وتضطرها للكشف على الرجل، من المفروض أن تكشف عليها ولو كان خارج الدوام، ولو كانت خارج النوبة، وتحتسب الأجر عند الله، والرجل مثلها، لو رأى رجلاً قد أتى، وأنه الآن سيكشف على امرأة وهي الموجودة الآن في العيادة، فيحاول هو أن يأخذ الدور ويأخذ الرجل ويعالجه، وهذه المسألة نابعة من احتساب الأجر عند الله عز وجل، ونابعة من أنك أنت الآن تحاول ألا يقع المنكر، وبالذات في حالات الولادة التي تنكشف فيها من العورات ما الله به عليم أشياء كثيرة جداً. وللأسف أن الغربيين يراعون هذا الأمر؛ فلو أن امرأة في الغرب في المستشفى قالت: أنا لا أريد إلا امرأة، لأتوا لها بامرأة من أي مكان، حرصاً على نفسية المريض، وعلى النواحي الإنسانية، ونحن لأن القضية كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، والمسألة إسلامية وشرعية نضيعها! فهل الكفار أحسن منا في هذا الجانب؟! مع أنهم ما عندهم وازع ديني يدفعهم لهذا، لكن بمجرد أن طلبت المرأة هذا الأمر، نحن عندنا ليس فقط طلب المرأة، عندنا دين، عندنا قانون إلهي نعمل به، فلا يجوز التفريط بسهولة، والله ما هو موجود عندنا إلا يا فلان دبر نفسك بعض الناس يجيبون إجابات عجيبة، مع أنه قد يمكن التوفير. نعم. إن هذه القضية إدارية أكثر من أنها تتعلق بنفس الطبيب، لكن سددوا وقاربوا، ولا بد من التعاون والتكاتف على إيجاد الحلول، وإذا لم أتحرك أنا ولم تتحرك أنت فما الذي يصلح الأمور؟ مثلاً: هناك بعض العلميات قد يجرد المريض فيها من ثياب لا يحتاج إلى إزالتها، أحياناً تكون عملية جيوب أو عملية الغدة الدرقية، فما هو الداعي إلى كشف ثياب المريض من الأسفل؟! أو كشف أشياء من المرأة في الساقين والعملية في الغدة الدرقية أو في الجيوب لماذا تكشف الساقين؟ أو -مثلاً- من باب أن الضرورة تقدر بقدرها ما الداعي لكشف العورة على عمال النظافة؟ فالقضية الآن كلها قضية أطباء، فإذا كان الطبيب يريد أن يطلع عليه أن يترك المجال للمريض كي يغطي، فإن بعض الأطباء يهمل المريض، وقد يكون هذا في السرير، فأنت إذا مررت بين الأسرة والعنابر من المفروض إنك إذا رأيت مريضاً قد كشفت فخذه أو جزء من عورته أن تغطيه حتى لو كان نائماً، فإنه قد يكون مخدراً لا يدري عن نفسه، ولو أنه كان في اليقظة لراعى نفسه ولستر عورته، لكنه مسكين مستسلم بين يديك، المفروض أنت الآن الذي تحرص عليه، أحب لأخيك ما تحب لنفسك، هل ترضى أن تكون عورتك مكشوفة والناس يمرون ويجيئون ويذهبون؟ لا ترضى بهذا، فينبغي أن يكون عندك حرص على هذا الجانب، وعلى ستر عورات المرضى وعدم كشفها إلا في الضرورة، وألا يراها الناس الذين ليس لهم علاقة بالموضوع، أو أنهم مستثنون من الرؤية.

بعض العمليات التي ينبغي على الأطباء أن يعرفوا أحكامها

بعض العمليات التي ينبغي على الأطباء أن يعرفوا أحكامها هناك عمليات معينة ينبغي على الإخوان الأطباء أن يلتفتوا إليها وإلى أحكامها

عمليات العقم

عمليات العقم مثلاً العمليات التي تسبب العقم، مثل: عملية ربط المبايض، هناك أشياء ينبغي ألا يلجأ إليها إلا عند الضرورة والخوف على حياة المرأة، وإذا ما وجد علاج آخر أقل ضرراً من هذا، وبالذات إعطاء أشياء لمنع الحمل؛ لأن من مقاصد الشريعة تكاثر الأمة، والطبيب عندما يعطي هذه الأشياء يصادم مقصود الشريعة بتكثير النسل للمسلمين، فعليه ألا يعطي هذه الأشياء إلا في الحالات الضرورية، كأن يخشى على صحة المرأة، فلا يمكن أن تحمل نهائياً، ولو حملت فإنه خطر مؤكد على حياتها، ولا بد أن يوافق الزوج؛ لأن له حقاً في الولد وليست المرأة فقط هي التي لها حق في الولد، فالمسألة إذاً لا بد أن يبحث فيها أيضاً. الأدوية التي تخفف الشهوة قد يجوز إعطاء مريض دواءً يخفف الشهوة -مثلاً- حتى لا يجد العنت وحتى لا يقع في شيء، لكن لا يجوز إعطاؤه دواء يقطع الشهوة بالكلية ويجعله عنيناً لا يقوى على الوقاع.

عمليات التجميل

عمليات التجميل أيضاً: عمليات التجميل فإن بعض عمليات التجميل مباحة، مثلاً: رجل حدث له حروق فلا بد من عملية التجميل، أو آخر عنده حَوَلٌ ممكن أن يعمل عملية تجميل، أيضاً: سحب الدهن والشحم من البطن، هذه سألنا فيها بعض العلماء فقال: إذا لم تسبب ضرراً فلا بأس أن يسحب الشحم، كذلك إزالة الإصبع الزائدة وبعض الأشياء المشوهة، أو إزالة الوشم، وقد سأل أحد الإخوة عن هذه فقال: أنا عندي وشم، وشمت وأنا ما زلت صغيراً، يقول: والرسول صلى الله عليه وسلم لعن الفاعل لهذا الفعل، فأريد أن أذهب الآن لعملية التجميل، فما حكم إزالة الوشم بهذا؟ فكان جواب الشيخ ابن عثيمين لما سألته عن المسألة قال: يجوز أن يعمل العملية لإزالة هذا المنكر، لأنه فعل منكراً هنا في الجلد، فيجوز له أن يزيله بعملية تجميل. لكن لو أتى إليك أحدهم وقال: أريد عملية تصغير الثدي، ووشر، وتفليج، وشد إلخ فهنا أشياء فيها تغيير واضح لخلق الله، وليس هناك داع وليس فيه عيب، وقد كان جواب الشيخ ابن عثيمين فيها واضح، حيث قال: هذه مثل التفليج فلا يجوز عملها. وليس قصدي أن أطرح لكم أحكاماً تفصيلية في المواضيع بقدر ما أقصد أن أثير هذه النقاط عند إخواني الأطباء والطبيبات حتى يحصل فيها اهتمام وسؤال.

قطع الأعضاء ودفنها

قطع الأعضاء ودفنها كذلك: عملية إسقاط الأجنة ما حكم إسقاط الجنين؟ قد تأتي بعض النساء اللاتي يفعلن الفاحشة -والعياذ بالله- وفي بطنها جنين، فتقول: تعال أسقط الجنين أيضاً الأعضاء المبتورة، قد تقطع يد، وقد تقطع رجل، إذا كان المرض سرطان، فهذه الأعضاء -كما يقول الشيخ ابن باز لما سألته عن هذه المسألة-: هذه أعضاء محترمة مصانة، لا بد أن تلف ولا بد أن تدفن، إلا الأشياء مثل الأظفار والشعر والمخلفات البسيطة؛ لأن الظاهر الآن أن بعض هذه الأشياء تجمع ويلقى بها في سلة المهملات أو في الزبالة أو في أي مكان، فهنا لا بد أن يراعى (ما قطع من حي فهو ميت) ولا بد أن هذا الشيء يصان ويدفن، ولا بد أن يكون فيها إجراءات، وأنتم بينكم وبين إدارة المستشفى تتواصون بالحق حتى هذه الأشياء لا تذهب هكذا. مثلاً: الجنين الذي سقط إذا لم يأخذه أهله أين يذهب؟ إذا كان الجنين قد نفخ فيه الروح فلا بد من معاملته كجنازة كاملة، وأن يدفن في المقبرة، وإذا كان الجنين لم ينفخ فيه الروح أو كان شيئاً بسيطاً نزل فيدفن في أرض، لكن لا يشترط أن تكون مقبرة، لكن لا بد أن يدفن في أرض ولو لم تكن مقبرة، أما إذا كان الجنين لا بد من دفنه، كأن يكون سقط ومات وقد نفخت فيه الروح، فلا بد أن يدفن في المقبرة.

عملية التشريح

عملية التشريح كذلك: قضية التشريح يمكن أن يحدث تساهل -لا سمح الله- فيؤتى بجثة إنسان مسلم لتشرح، فإذا اكتشفت أنت بالقرائن وتبين لك أن هذه جثة مسلم فلا يجوز لك مطلقاً أن تشرح فيها، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح: (إن كسر عظم المؤمن ميتاً مثل كسره حياً) أتي لك بجثة، وتأتي بالمنشار الكهربائي وتفك الرأس وتخرج الدماغ، وتريد أن تفحص هذا على جثة أخيك لو أنت مكانه هل ترضى بهذا الكلام؟ فالأصل أن الأجساد محترمة فتدفن، ولا تبقى حتى على وجه الأرض، فإن الدفن واجب، لكن لضرورة التعليم يؤتى بأجساد ليست أجساد مسلمين، فيحصل فيها قضايا التعليم، ولذلك قال أهل العلم: ويحرم قطع شيء من أطراف الميت وإتلاف ذاته أو إحراقه ولو أوصى به. وحتى في مسألة الجنين الذي يتحرك في بطن الأم الميتة تردد بعض الفقهاء في شق بطن الأم، وقالوا: يمكن أن يخرج الولد ويمكن أن يموت، فنكون قد شققنا بطن الميتة، لكن القول الراجح في هذا: أنه إذا غلب على ظن الطبيب أن الولد سيخرج حياً فيجوز له أن يشق بطن الأم الميتة لإخراج الولد الذي يغلب على الظن أنه سيعيش، لكن إذاك كان ميتاً والأم ميتة فلا تشق بطنها، وهناك قضايا تنبه لها العلماء، قالوا: لو أن امرأة نصرانية كافرة تزوجها رجل مسلم، وماتت وفي بطنها جنين قد نفخت فيه الروح، ومات الجنين معها، فكيف تدفن؟ حتى هذه المسألة فكروا فيها، فقالوا: تدفن الأم وظهرها إلى القبلة لماذا؟ لأن الجنين الذي في البطن جنين مسلم، والمسلم عند الدفن يوجه إلى القبلة، وهو في بطه أمه يكون وجهه إلى ظهرها، فعندما تدفن تكون هي موجهة إلى غير القبلة وظهرها إلى القبلة ليكون الولد المسلم في بطنها متوجهاً إلى القبلة. وهنا جاءت مسألة أخرى: هذه امرأة كافرة هل يجوز قبرها في مقابر المسلمين؟ لا يجوز، لكن في بطنها ولد مسلم فهل يدفن في مقابر الكفار؟ لا يجوز، ولذلك كان الحل أن يقبر في مدفنة خاصة لا هي من مقابر المسلمين ولا من مقابر الكفار، أو جزء معين من المقبرة خاص لمثل هذه الحالة. انظر إلى الفقهاء! هذه أمور من الدين ليست سهلة، ونحن الآن نفعل أشياء ولا نعرف ولا نفكر أصلاً ما هو الحكم في المسألة هذه! بقي عندنا حالة، أو فتوى في جهاز الإنعاش ودراسة، ملخص دراسة في الموضوع، ونقف عند هذه؛ لأنني أخشى أن أطيل عليكم، ولكن -أيها الإخوة- أذكركم أخيراً بمسألة مهمة بتقوى الله، واستشعار الأمانة، فهو أهم ما يعتمد عليها في مهنة الطب، قضية الأمانة التي يسميها الغربيون "شرف المهنة" ونحن نسميها "أمانة" أوصانا الله عز وجل بها. وأسأل الله سبحانه وتعالى لي ولكم السداد.

سلامة الصدر من الأحقاد

سلامة الصدر من الأحقاد لقد جاءت هذه الشريعة بإصلاح ذات البين؛ من أجل أن تكون العلاقة بين المؤمنين على أحسن ما يمكن؛ وتكون صدورهم سليمة، لكن الواقع اليوم مليء بالأحقاد والشحناء، والتي تسببها الغيبة والنميمة، وبعض الآفات الأخرى، وهذه المادة خطوة في طريق إصلاح هذه الاختلالات.

سلامة الصدر وأهميته

سلامة الصدر وأهميته إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا مضل له، وأشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: عباد الله! إن هذه الشريعة جاءت فيما جاءت به إصلاح ذات البين، لأجل أن تكون العلاقة بين المؤمنين على أحسن ما يمكن، وأمر الله تعالى بإصلاح ذات البين لأجل حفظ سلامة الصدور، فقال الله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال:1] وجاءت الشريعة بكل الأمور التي تكفل سلامة صدر المسلم لأخيه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم: أفشوا السلام بينكم) كل هذه الإجراءات لسلامة لصدور، سلامة الصدر مطلب شرعي، وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم: (أي الناس أفضل؟ قال: كل مخموم القلب صدوق اللسان، قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: هو التقي النقي، لا إثم فيه ولا بغي، ولا ذل ولا حسد) رواه ابن ماجة وهو حديث صحيح. عباد الله: لقد كثر اليوم في الناس الشحناء، وصارت الأحقاد في القلوب كثيرة، لقد صرنا نجد تقطع العلاقات، وحمل الناس في قلوب بعضهم على بعض، مع أن هذه الشريعة قد جاءت فيما جاءت به تصفية القلوب والنفوس ومراعاة المشاعر، وقد قال الله تعالى: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور:28] علم الله تعالى أن بعض الناس إذا استأذن فلم يؤذن له وقيل له: ارجع، أنه قد يجد في نفسه على أخيه صاحب البيت، فقال الله معزياً ومسلياً حتى يرجع المؤمن ونفسه راضية عن أخيه المؤمن قال: {فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور:28] فسلاه وعزاه بالتزكية التي تحصل له في قلبه إذا رجع لما يقال له ارجع، ولذلك كان بعض السلف يفرح إذا قيل له: ارجع، ولم يؤذن له بالدخول؛ لأنه يريد موعود الله بحصول التزكية التي وعد الله {هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور:28]. وسلامة الصدر نعمة من النعم التي توهب لأهل الجنة حينما يدخلونها قال الله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47] فأهل الجنة لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم قلبٌ واحد، يسبحون الله بكرة وعشياً، كما جاء في صحيح البخاري رحمه الله. سلامة القلب: طهارته من الحقد والغل للمسلم، وهذه راحة ونعمة، ولذلك أكدت عليها الشريعة حتى يعيش الناس في بحبوحة من أمرهم، وفي سلامة وعافية، فإن سلامة صدر المسلم لأخيه من أعظم الأسباب لتحقيق ذلك، وهذه مسألة صعبة ولا شك، فإن الإنسان قد يحسن مكابدة الليل وقيام ساعاته، ولكنه قد لا يستطيع أن يزيل من قلبه كل شيء فيه على إخوانه، وقد وصف العلماء رحمهم الله أخلاق طالب العلم فقالوا: لا مداهن، ولا مشاحن، ولا مختال، ولا حسود، ولا حقود، ولا سفيه، ولا جاف، ولا فظ، ولا غليظ، ولا طعان، ولا لعان، ولا مغتاب، ولا سباب، يخالط من الإخوان من عاونه على طاعة ربه، ونهاه عما يكرهه مولاه، ويخالط بالجميل من لا يأمن شره إبقاءً على دينه، سليم القلب للعباد من الغل والحسد، يغلب على قلبه حسن الظن بالمؤمنين في كل ما أمكن فيه العذر، لا يحب زوال النعم على أحدٍ من العباد، هذا دأب طالب العلم والداعية إلى الله والمتمسك بالدين، هذا حاله وهذا خلقه، لقد أثنى الله على الأنصار لأمر مهمٍ في غاية الأهمية قال الله عز وجل: {وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا} [الحشر:9]. لما فضل المهاجرون على الأنصار كانت قلوب الأنصار سليمة لإخوانهم، ولم يعترضوا على تفضيلهم ولم يحسدوهم على ما آتاهم الله من فضله، وإنما كانت الأنصار كما قال الله: {وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا} [الحشر:9] أي: مما أوتي إخوانهم المهاجرون من الفضل: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9] لو كان بهم حاجة مع ذلك يؤثرون على أنفسهم. إن مما يدل على صعوبة تحقيق سلامة الصدر هذه القصة العظيمة التي رواها الإمام أحمد وغيره: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كنا جلوساً مع الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: يدخل عليكم الآن رجلٌ من أهل الجنة، فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من وضوئه، قد تعلق نعليه في يده الشمال، فلما كان الغد، قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى، فلما كان اليوم الثالث، قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل مقالته أيضاً، فطلع الرجل على مثل حاله الأولى، فلما قال النبي صلى الله عليه وسلم تبعه -أي تبع الرجل الممدوح- عبد الله بن عمرو بن العاص، فقال للرجل: إني لاحيت أبي فأقسمت ألا أدخل عليه ثلاثاً، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي -أي: هذه الأيام الثلاث- فعلت، قال: نعم، قال أنس: وكان عبد الله يحدث أنه بات معه تلك الليالي الثلاث فلم يره يقوم من الليل شيئاً، غير أنه إذا تعارَّ وتقلب على فراشه ذكر الله عز وجل وكبر حتى يقوم لصلاة الفجر، قال عبد الله: غير أني لم أسمعه يقول إلا خيراً، فلما مضت الثلاث الليالي وكدت أن أحتقر عمله، قلت: يا عبد الله! إني لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا عداء، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك ثلاث مرار: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة، فطلعت أنت الثلاث المرار، فأردت أن آوي إليك لأنظر ما عملك فأقتدي به، فلم أرك تعمل كثير عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال الرجل: ما هو إلا ما رأيت، قال: فلما وليت دعاني، فقال: ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشاً، ولا أحسد أحداً على خيرٍ أعطاه الله إياه، فقال عبد الله بن عمرو: هذه التي بلغت بك، وهي التي لا نطيق) حديث صحيح.

حرص السلف على سلامة الصدر

حرص السلف على سلامة الصدر إنها ليست مسألة سهلة أن يكون الإنسان دائماً سليم الصدر لإخوانه، ليس في قلبه غش ولا حقد ولا حسد على أحدٍ من إخوانه، إنه أمرٌ بالغ الصعوبة، ولكن يحصل بالمجاهدة، فمن وفقه الله له حصل له. كان الصحابة رضوان الله عليهم يلتمسون إزالة أي شيء يحصل في صدر الأخ على أخيه، لما أتى أبو سفيان على سلمان وصهيب وبلال في نفر قالوا: (والله ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها، فقال أبو بكر مستدركاً -لعله يطيب خاطر الرجل الذي يرجى إسلامه- قال أبو بكر: أتقولون هذا لشيخ قريشٍ وسيدهم -لعلها عبارة أراد أن يتألف بها قلب الرجل- فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: يا أبا بكر لعلك أغضبت إخوانك من أجل هذا المشرك، -قبل إسلامه رضي الله عنه- يا أبا بكر لعلك أغضبتهم، لأن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك، فأتاهم أبو بكر فقال: يا إخوتاه! أغضبتكم؟ قالوا: لا. ويغفر الله لك) رواه الإمام مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه. فهذا يدل على أنه ينبغي على المسلم إذا خشي أن يكون أخوه المسلم قد أخذ عليه في نفسه، أن يسارع لتطييب خاطره والاعتذار إليه، وأن يتأكد بأن صفحة قلب أخيه لا زالت بيضاء، وأنه لم يتصرف تصرفاً يدخل في قلب أخيه شيئاً عليه. وفي المقابل ينبغي على من اعتذر إليه أن يقبل العذر وأن يسارع إلى تطييب خاطر الآخر، وأن يدعو له بالمغفرة، يغفر الله لك يا أخي، لقد كانت المناشدة بأسلوبٍ غاية في المحبة، يا إخوتاه! أغضبتكم؟ تلك أخلاق الصديق رضي الله تعالى عنه. وقد قال ابن عباس >-أيضاً- كلماتٍ تدل على صلاح قلبه لإخوانه ولجميع المسلمين، لما شتمه رجل قال له: [إنك لتشتمني وفي ثلاث خصال: إني لآتي على الآية في كتاب الله عز وجل فلوددت أن جميع الناس يعلمون منها ما أعلم] ابن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن، دعا له النبي صلى الله عليه وسلم بأن يعلمه الله القرآن، ففتح الله على ابن عباس أشياء كثيرة في تفسير كتابه، كان ابن عباس يتمنى أن جميع المسلمين يعلمون ما يعلم من تفسير الآية إذا مر بها، ولم يكن يتمنى أن يتفرد بالعلم، ليكون بارزاً بينهم، متميزاً عليهم، وإنما يتمنى أن كل المسلمين يعلمون منها ما يعلم، ثم قال: [وإني لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين -أي القضاة الذين ينظرون في قضايا الناس- يعدل في حكمه فأفرح به، ولعلي لا أقاضي إليه أبدا] أفرح به لأجل مصلحة إخواني المسلمين، لأنه عادل أفرح لوجوده بين المسلمين، ولعلي لا أجد فرصة ولا علاقة لي بهذا الرجل ولا أتوقع أن أعرض قضية لي عليه، ثم قال ابن عباس: [وإني لأسمع أن الغيث قد أصاب بلداً من بلدان المسلمين فأفرح به، ومالي به سائمة] لا غنم ولا زرع في تلك البلد، ولكنني أفرح لأن مطراً أصاب بلداً من بلاد إخواني المسلمين فانتفعوا به، هذه أخلاق ابن عباس. وأما أبو دجانة رضي الله عنه لما دخل عليه وهو مريض كان وجهه يتهلل، فقيل له: [ما لوجهك يتهلل؟ فقال: ما من عمل شيء أوثق عندي من اثنتين: كنت لا أتكلم فيما لا يعنيني، -والأخرى- وكان قلبي للمسلمين سليماً]. وعن أبي حبيبة عمران بن طلحة قال: [أدخلت على علي رضي الله عنه بعد وقعة الجمل -المعركة التي استشهد فيها طلحة - فرحب به، ثم أدناه، ثم قال لولد طلحة يطيب خاطره بعد مقتل أبيه: إني لأرجو أن يجعلني الله وأباك ممن قال الله فيهم: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47]] وهكذا مضى علماء هذه الأمة على هذا الطريق؛ طريق سلامة الصدر للمسلمين، فهذا شيخ الإسلام رحمه الله تعالى كان فيما يجمع من الخصال: سلامة الصدر لإخوانه من أهل العلم، مع أن بعضهم حصل لهم حسدٌ عليه، بل قاموا ضده، بل سعوا في سجنه، وألبوا عليه الحكام، ومع ذلك كان ممسكاً للسانه، وممسكاً لألسنة أصحابه أن تنال أحداً من أهل العلم، فقال في رسالته التي بعثها من السجن، قال لأصحابه خارج السجن، وهو يتوقع أن صدورهم كالغلال على أولئك الذين كانوا سبباً في جعله في ذلك السجن، يقول: تعلمون رضي الله عنكم أني لا أحب أن يؤذى أحدٌ من عموم المسلمين، فضلاً عن أصحابنا بشيء أصلاً، لا ظاهراً ولا باطناً، ولا عندي عتبٌ على أحدٍ منهم ولا لومٌ أصلاً، بل هم عندي من الكرامة والإجلال والمحبة والتعظيم أضعاف أضعاف ما كان، كلٌ بحسبه، ولا يخلو الرجل من أن يكون مجتهداً مصيباً، أو مخطئاً، أو مذنباً، فالأول مأجور مشكور، والثاني مع أجره على الاجتهاد معفوٌ عنه مغفور له، والثالث المذنب فالله يغفر لنا وله ولسائر المؤمنين, فنطوي بساط الكلام المخالف لهذا الأصل، لا تتكلموا بأي عبارة، كقول القائل: فلان قصر، فلان ما عمل، فلان أوذي الشيخ بسببه، فلان كان سبب هذه القضية، فلان كان يتكلم في كيد فلان، ونحو هذه الكلمات التي فيها مذمة لبعض الأصحاب والإخوان، فإني لا أسامح من آذاهم من هذا الباب، ولا حول ولا قوة إلا بالله. قال ابن القيم رحمه الله: كان بعض أصحاب ابن تيمية الأكابر يقولون: وددت أني لأصحابي كـ ابن تيمية لأعدائه وخصومه، وما رأيته يدعو على أحدٍ من خصومه قط، بل كان يدعو لهم، وجئته يوماً مبشراً بموت أكبر أعدائه وأشدهم عداوة وأذىً له، من أصحاب المذاهب، فنهرني وتنكع لي واسترجع وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، أما أخبرت بموت الرجل، ثم قام من فوره إلى بيت أهله -أي أهل الميت- فعزاهم وقال: إني لكم مكانه، ولا يكون لكم أمرٌ تحتاجون فيه إل مساعدة إلى وساعدتكم فيه، فسروا به ودعوا له. وقال ابن مخلوف -وكان من أشد الناس عداوة لـ ابن تيمية رحمه الله، بل أفتى بقتله- كان يقول: ما رأينا مثل ابن تيمية حرضنا عليه فلم نقدر عليه، وقدر علينا فصفح عنا وحاجج عنا، ذلك أن الأيام قد دارت وتولى السلطان الناصر وقرب شيخ الإسلام، وأراد أن ينتقم له من أعدائه ممن أمر بسجنهم ولكنه رحمه الله أبى ذلك، وقال: إن قتلتهم من أين تأتي بمثلهم، وهم علماؤك ونحو ذلك من الكلام حتى سكنه. عباد الله: (إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب) كلمة قالها النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب) في ذلك الوقت قال هذه الكلمة: (ولكن في التحريش بينهم) فالشيطان هو الذي يئز هذا على هذا، ويريد أن يحقد هذا على هذا، وينفخ في نفس هذا، ويريد أن يمتلئ القلب غيظاً على أخيه، فلنحرص على تجنب عداوة اللعين الذي طرده الله من رحمته وأبعده إلى يوم الدين، ولنعلم أن كل حقدٍ أو حسد مصدره هذا الشيطان، وكذلك لنعلم أن الحقد على المسلم أو الحسد له يعرض الإنسان لرد عمله وحرمانه من الفضل العظيم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تعرض الأعمال كل إثنين وخميس فيغفر الله لكل امرئ لا يشرك به شيئاً، إلا امرءاً كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقول: اتركوا هذين حتى يصطلحا) رواه مسلم. فلذلك المشاحن لأخيه يحرم من المغفرة يوم الإثنين والخميس؛ بسبب الشحناء، وبسببها حرم الناس من معرفة ليلة القدر على التعيين. كما أن هذا الحقد بين المسلمين سببٌ لسوء الخاتمة، قال عليه الصلاة والسلام (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثٍ، فمن هجره فوق ثلاثٍ فمات دخل النار) رواه أبو داود وهو حديث صحيح. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل قلوبنا سليمة لإخواننا المسلمين، اللهم طهر قلوبنا من كل غلٍ وحقدٍ وحسدٍ وغش، اللهم اجعل قلوبنا تقية نقية، واجعلها سليمة يا رب العالمين، واجعلنا ممن يأتيك يوم القيامة بقلبٍ سليم، واغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا إنك رءوف رحيم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم، وتقاربوا وأفسحوا لإخوانكم يفسح الله لكم.

باب وحر الصدر

باب وحر الصدر الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، أشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى أزواجه وذريته الطيبين الطاهرين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. عباد الله: إنه ينبغي الكف عن أعراض المسلمين، وإن من أعظم الأشياء التي تسبب وحر الصدر الغيبة والنميمة، وهما أمران عظيمان، فكم صار بين المسلمين أحقاد بسببهما، وكم جرت من مآسي في انفصام عرى الأخوة بين أطرافهما، ولذلك كان حرياً بالمسلم أن يمسك لسانه عن الفري في أعراض المسلمين، وكم من رجلٍ متورعٍ عن الفواحش والظلم، ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات، وربما تورع بعضهم عن أكل بعض اللحم المستورد وهو لا يزال يأكل لحم إخوانه: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً} [الحجرات:12]. وكذلك لنتوجه عن تتبع العثرات وتسقط العيوب، فإن الاشتغال بعيوب النفس يشغل عن عيوب الغير، وقد قال الإمام مالك رحمه الله: "كان هنا -يعني: بـ المدينة - أناسٌ لهم معايب، فسكتوا عن عيوب الناس، فنسيت عيوبهم، وكانت أناسٌ لهم معايب، فتكلموا في عيوب الناس فبقيت عيوبهم وذكرت من بعدهم" ثم إن النفس الأصل فيها الجهل والظلم والتعدي على الخلق، فلذلك يرى الإنسان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يبصر أحدكم القذى في عين أخيه، وينسى الجذع في عينه) فهو يبصر أخطاء الناس وإن دقت، وينسى أخطاءه هو. وكذلك ينبغي على الإنسان ليسلم صدره لأخيه أن يترك المراء والجدال والخصومة، فإن من أكثر ما يحدث الحقد والضغائن بين الإخوة: المراء، والجدل، والنقاش العتيل، وكذلك فإنه ينبغي الحذر من التعصب، فكم كان التعصب سبباً في إثارة الأحقاد والضغائن، قال يوسف الصدفي رحمه الله: ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يوماً في مسألة ثم افترقنا، ولقيني فأخذ بيدي ثم قال: يا أبا موسى! ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة واحدة؟ إذاً الخلاف في الرأي لا يفسد الود بين المسلمين، لا يفسد للود قضية. ثم إن التعصب لغير الحق، لمذهبٍ، أو قبيلة، أو حزبٍ، أو جماعة، أو شخص تقليداً أو حمية من أعظم الأسباب التي تورث الضغائن بين المسلمين، قال شيخ الإسلام رحمه الله: ومن نصب شخصاً كائناً من كان، فوالى وعادى على موافقته في القول والفعل، فهو من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً. فكان التعصب سبباً عظيماً لوقوع العداوة والبغضاء بين المسلمين. وقال الشيخ ابن القيم: وإنما كثر الاختلاف وتفاقم أمره بسبب التقليد وأهله، وهم الذين فرقوا الدين، وصنفوا أهله شيعاً كل فرقة تنصب متبوعها وتدعو إليه، وتذم من خالفها ولا يرون العمل بقولهم، حتى كأنهم ملة أخرى سواهم يدأبون ويكدحون في الرد عليهم، ويقولون: كتبهم وكتبنا، وأئمتهم وأئمتنا، ومذهبهم ومذهبنا، هذا والنبي واحد، والدين واحد، والرب واحد، ولذلك كان لا بد من ترك هذا التعصب، والحوار بالحسنى، والمباحثة في مسائل العلم بصدر متسع، وأن ينشد الجميع صحة الدليل والفهم السليم. عباد الله: إن التنافس في الدنيا من الأشياء التي توغر الصدور، لماذا حرمت الشريعة بيع المسلم على المسلم، وشراء المسلم على المسلم، وسوم المسلم على المسلم؟ حتى في حال المساومة لا يجوز أن تدخل بينه وبينه، وخطبة المسلم على خطبة أخيه، لأن الشريعة تريد المحافظة على صدور المسلمين نقية، وقال عليه الصلاة والسلام: (أوغير ذلك؟ تتنافسون، ثم تتحاسدون، ثم تتدابرون، ثم تتباغضون) قالها لما بشرهم بما يفتح عليهم من فارس والروم. وكذلك فإن حب الرئاسة هو من أعظم أسباب الحقد على الإخوان، قال الفضيل رحمه الله: ما من أحدٍ أحب الرئاسة إلا حسد وبغى، وتتبع عيوب الناس، وكره أن يُذكر أحد بخير. ثم إن هناك بعض الأمور التي يتساهل فيها بعض الناس، ولها صلة وثيقة بقضية اختلاف القلوب، مثل اختلاف الصفوف للصلاة، وعدم تسوية الصفوف، وسد الفرج، والتقدم والتأخر، وعدم الإتمام من الجانبين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم). وينبغي على المسلم أن يترك كل ما يكون سبباً للعداوة كالمزاح الثقيل، والنجوى بين اثنين التي تحزن الثالث، وليكن الشعار الدعاء دائماً وأبداً، بأن يجعل الله قلبه سليماً، قال الله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10]. عباد الله: إن الهدية تذهب وحر الصدر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تهادوا تحابوا) فلو كان بين إنسان وأخيه شيءٌ فأهدى له هدية، فلا شك أن مثل هذه الهدية كفيلة في الغالب بإذهاب ما في القلب، فهذه من العلاجات الشرعية. عباد الله: إن بعض الناس لا يفرق بين صاحب القلب السليم الطيب، وبين الإنسان المغفل الساذج، ويظن أنه عندما يقول: فلان قلبه طيب أي: مغفل وساذج، وأن الدعوة إلى أن يكون الشخص طيب القلب سليم القلب، يعني: أن يكون مغفلاً ساذجاً، كما يقولون: على نياته، فما هو الفرق بين المغفل والساذج، وبين الإنسان سليم الصدر طيب القلب الذي ننشده ونتحدث عنه؟ قال شيخ الإسلام رحمه الله: القلب السليم المحمود هو الذي يريد الخير لا الشر، وكمال ذلك بأن يعرف الخير والشر، إذاً ليس أن يكون مغفلاً أمراً مطلوباً، أن يكون الإنسان مغفلاً لا يدري عن طرق أعداء الله، ولا يدري عن وسائل المجرمين؛ المجرمون لهم وسائل في اصطياد الناس، والمخدرات، وأوكار الرذيلة، وجر الناس إلى الفساد، ومن المهم بالذات في هذا الوقت، وفي هذا الزمان أن يكون المسلم واعياً منتبهاً، فكثير من الناس قد جروا إلى فاحشة، وجروا إلى مسكرات ومخدرات، وجروا إلى محرمات، بسبب الغفلة والسذاجة، مغفل لا يدري عن طرق أهل الشر، وليس هذا هو سليم الصدر طيب القلب الذي ننشده، نعم. ربما يكون حاله في الإثم مختلفاً عن حال القاصد الذي يعلم الشر وينجر إليه، ولكن على المسلم أن يكون نبيهاً غير مغفلاً، قال ابن القيم رحمه الله معقباً على كلام شيخ الإسلام الذي قال فيه: فأما من لا يعرف الشر فذاك نقص فيه لا يمدح به. عبارة ذهبية، قال ابن القيم رحمه الله: الفرق بين سلامة القلب، وبين أن يكون أبله مغفل: أن سلامة القلب تكون مع عدم إرادة الشر بعد معرفته، فيسلم قلبه من إرادته وقصده، لا من معرفته والعلم به، هذا بخلاف البله والغفلة فإنها جهل وقلة معرفة، وهذا نقص لا يحمد به صاحبه، فالأمر كما قال عمر رضي الله عنه: [لست بخب ولا يخدعنا الخب، وكان عمر أعقل من أن يُخدع، وأورع من أن يَخدع] قال عمر رضي الله عنه: لست بخبٍ يعني: لست بلئيم ولا مخادع، لست بخبٍ ولكن في نفس الوقت الذي لست بخبٍ قال عمر: ولا يخدعنا الخب، وكان عمر أعقل من أن يخدع وأورع من أن يخدع، فهذا الذي نريده، نريد مسلماً يعرف طرق الشر، ويعرف أهل الشر وهو نبيه فطن، ولكنه لا يريد شراً لأحد، ولا يخدع أحداً، فإذا وصل المسلم ووصل المسلمون إلى هذا الحد، فهذا ما نتمناه. فينبغي التفرقة إذاً بين المغفل الأبله، وبين طيب القلب الممدوح شرعاً. نسأل الله تعالى أن يجعلنا من المتفقهين لأهل الشر وكيدهم، وأن يباعد عنا كيد الفجار وشر الأشرار إنه سميعٌ مجيب. اللهم اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم. اللهم انصر المجاهدين في سبيلك يا رب العالمين، وأهلك أعداء الدين إنك على كل شيء قدير، اللهم أخرج اليهود من بيت المقدس أذلة صاغرين، اللهم اجعلنا في بلادنا آمنين مطمئنين، واجعلهم في ديارهم خائفين مذعورين، واغفر لمن قتل في سبيلك يا رب العالمين. اللهم اغفر لنا ولآبائنا ولمن مات من المسلمين على التوحيد يا رب العالمين، واجعلنا ممن يلقاك بقلبٍ سليم. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

سيرة سفيان الثوري

سيرة سفيان الثوري إننا بحاجة إلى معرفة سير سلفنا الصالح، أولئك الرجال الأفذاذ الذين أنجبتهم هذه الأمة المباركة المعطاءة، وذلك حتى نسير على ما ساروا عليه، ونترسم خطاهم ونقتفي آثارهم، فإنهم هم القدوة الحسنة لمن أراد الاقتداء، وهم خير متَّبع لتابع من أولئك الرجال الأفذاذ سفيان الثوري رحمه الله فقد تكلم الشيخ عن جوانب من سيرته الفذة، وذكر بعض أقوال العلماء في الثناء عليه، وذكر بعض فضائله.

أهمية معرفة سير السلف

أهمية معرفة سير السلف إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار. لقد ضيعت هذه الأمة فيما ضيعت حفظ سير السلف والتعرف على رجالاتها في القرون الماضية، يوم أن التفتنا إلى أسماء اللاهين واللاعبين، وسير العابثين والفاسقين، ضيعنا من ضمن ما ضيعنا سير الأجداد المصلحين، والآباء الفاتحين، والعلماء العاملين. أيها المسلمون: إن ديناً في رقابنا أن نتعرف على سير أسلافنا، وخصوصاً رجال خير القرون الذين مضوا وخلفوا سيراً وعبراً. إن سير أولئك الرجال لتبعث في النفس الشجاعة في الحق، والحماسة في طلب العلم، والسعي لتغيير المنكر، والقيام لله بالعبادة، وسائر الفوائد التي تنبع من دراسة سير أولئكم الأفذاذ.

سيرة سفيان الثوري رحمه الله

سيرة سفيان الثوري رحمه الله ونحن مع سيرة رجل من الرجال الذين أنجبتهم هذه الأمة إنه عَلَم بحق، كان رأساً في العلم، ورأساً في الزهد والورع وإنكار المنكر والجهر بالحق والعبادة والحفظ رحمه الله تعالى ورضي عنه وأرضاه، وقل من الناس من يعرفه، فلا تكاد ترى له عند العامة ذكراً أو تسمع له عندهم حساً وخبراً.

نسبه ومولده

نسبه ومولده إنه أبو عبد الله سفيان بن سعيد بن مسروق بن حبيب الثوري رحمه الله تعالى، من قبيلة ثور، وهي قبيلة من مضر، ولد -رحمه الله- سنة سبع وتسعين للهجرة، ودرس على أبيه سعيد بن مسروق، الذي كان ثقة عند المحدثين، وأخرج له أصحاب الكتب الستة.

طلبه للعلم ورحلته

طلبه للعلم ورحلته طلب سفيان العلم وهو حدثٌ باعتناء والده المحدث الصادق، وأمه كان لها أثر حسن في توجيهه، قالت أم سفيان لـ سفيان: يا بني! اطلب العلم وأنا أكفيك بمغزلي. كانت تعمل بالغزل وتقدم لولدها نفقة الكتب والتعلم وقالت له مرة: يا بني! إذا كتبت عشرة أحرف فانظر هل ترى في نفسك زيادة في خشيتك وحلمك ووقارك، فإن لم تر ذلك فاعلم أنها تضرك ولا تنفعك! من هذا البيت خرج هذا الرجل، فالتربية التربية يا عباد الله! فإن النشء يخرج هكذا. أفنى عمره في طلب العلم وطلب الحديث، وقال رحمه الله: لما أردت أن أطلب العلم قلت: يا رب! لا بد لي من معيشة، ورأيت العلم يُدرس -أي: يذهب ويندثر تدريجياً- فقلت: أفرغ نفسي في طلبه، قال: وسألت الله الكفاية. وقال: أنا في هذا الحديث منذ ستين سنة. وقال: ينبغي للرجل أن يكره ولده على طلب الحديث، فإنه مسئول عنه. وكان -رحمه الله- يقول: لا نزال نتعلم العلم ما وجدنا من يعلمنا. وقال: لو لم يأتني أصحاب الحديث ليسمعوا ويكتبوا لأتيتهم في بيوتهم. وبلغ عدد شيوخه ستمائة شيخ، وعن المبارك بن سعيد قال: رأيت عاصم بن أبي النجود -وكان شيخاً جليلاً- يجيء إلى سفيان الثوري يستفتيه، ويقول: يا سفيان! أتيتنا صغيراً وأتيناك كبيراً. أي: أتيتنا صغيراً تطلب العلم عندنا فتفوقت علينا فجئناك وأنت كبير وكان يكتب ويتعلم حتى آخر عمره يشتغل بطلب العلم. دخلوا على سفيان في مرض موته، فحدثه رجل بحديث أعجبه، فضرب سفيان بيده إلى تحت فراشه فأخرج ألواحاً فكتبه -كتب الحديث وهو على فراش الموت- فقالوا له: على هذه الحال منك! فقال: إنه حسن! إن بقيت فقد سمعت حسناً، وإن مت فقد كتبت حسناً. رحل إلى مكة والمدينة، وحج ولم يخط وجهه بعد، وزار بيت المقدس، ورحل إلى اليمن للقاء معمر، وكانت أسفاره ما بين طلب علم وتجارة وهرب كان نابغة بحق. عن الوليد بن مسلم قال: رأيت سفيان الثوري بـ مكة يستفتى ولم يخط وجهه بعد. وعن أبي المثنى قال: سمعت الناس بـ مرو يقولون: قد جاء الثوري قد جاء الثوري، فخرجت أنظر إليه فإذا هو غلام قد بقل وجهه. أي: نبت شعره من قريب، كان ينوه بذكره في صغره من فرط ذكائه وقوة حفظه. وقال محمد بن عبيد الطنافسي: لا أذكر سفيان الثوري إلا وهو يفتي، أذكره منذ سبعين سنة، ونحن في الكتاب تمر بنا المرأة والرجل فيسترشدوننا إلى سفيان يستفتونه ويفتيهم، ولما رآه أبو إسحاق السبيعي مقبلاً في صغره تمثل بقول الله: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً} [مريم:12].

حفظه للحديث

حفظه للحديث كان ذا حافظة عجيبة، قال سفيان عن نفسه: ما استودعت قلبي شيئاً قط فخانني. وكانوا يقدمونه في الحفظ على مالك وعلى شعبة، وقال يحيى القطان: ليس أحد أحب إليَّ من شعبة ولا يعدله أحد عندي، وإن خالفه سفيان أخذت بقول سفيان. وقد خالفه في نحو من خمسين موضعاً في حفظ الأحاديث، وكان الحق فيها مع سفيان. وكان ليله يُقسم جزأين: جزء لقراءة القرآن وقيام الليل، وجزء لقراءة الحديث وحفظه، وكان حفظه يبلغ نحواً من ثلاثين ألفاً، وقال ابن عيينة: ما رأيت رجلاً أعلم بالحلال والحرام من سفيان الثوري. وقال شعيب بن حرب: إني لأحسب أن يُجاء غداً بـ سفيان حجة من الله على خلقه يقول لهم: لم تدركوا نبيكم قد أدركتم سفيان. وقال أبو بكر بن عياش: إني لأرى الرجل يصحب سفيان فيعظم في عيني. كانت مرافقة الرجل له شرف وقال عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله: كنا نكون عند سفيان فكأنه قد أوقف للحساب من خشيته لله، فلا نجترئ أن نكلمه وهو في تلك الحال من الخشية، فنعرض بذكر الحديث، ونذكر في الكلام بيننا شيئاً عن الحديث، فيذهب ذلك الخشوع فإنما هو حدثنا وحدثنا، ويبدأ بالتحديث. وكان يطلب سماع الحديث وهو مستخف لما هرب واضطر للاختفاء كان وهو مستخف يطلب العلم، قال سليمان بن المثنى: قدم علينا سفيان الثوري، فأرسل إليَّ: إنه بلغني عنك أحاديث وأنا على ما ترى من الحال، فائتني إن خف عليك، قال: فأتيته فسمع مني، وفعل ذلك بعدد من أصحابي. وقال ابن المبارك عن سفيان: كنت أقعد إلى سفيان الثوري فيحدث، فأقول: ما بقي شيء من علمه إلا وقد سمعته، ثم أقعد عنده مجلساً آخر فأقول: ما سمعت من علمه شيئاً.

عمله بالعلم

عمله بالعلم وقال عبد الرحمن بن مهدي: سمعت سفيان يقول: ما بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث قط إلا عملت به ولو مرة واحدة. كان يحس بالمسئولية، ويخشى أن يقابل الله فيسأله عن كل حديث حفظه: لأي شيء حفظته؟ وهل عملت به؟ رحمه الله تعالى.

ورعه في الفتوى

ورعه في الفتوى ومع علمه كان ورعاً في الفتوى لا يتسرع في الإجابة، قال مروان بن معاوية: شهدت سفيان الثوري وسألوه عن مسألة في الطلاق، فسكت وقال: إنما هي الفروج أي: أخاف أن أفتي بالحل وهي محرمة عليه، فأتسبب في الوقيعة والوقوع في فرج لا تحل له. وقال ابن أسباط: سئل الثوري وهو يشتري عن مسألة، فقال للسائل: دعني فإن قلبي عند درهمي فلست متفرغاً لأفتيك، وقد أخطئ وأنا منشغل بالبيع والشراء.

دقته في الاستنباط

دقته في الاستنباط وكان له دقة عجيبة في الاستنباط والفقه، فعن الفريابي قال: رأينا سفيان الثوري بـ الكوفة، وكنا جماعة من أهل الحديث، فنزل في دار، فلما حضرت صلاة الظهر دلونا دلواً من بئر في الدار، فإذا الماء متغير -متغير بشيء من النجاسة- فقال: ما بال مائكم هذا؟ قلنا: هو كذا منذ نزلنا هذه الدار، فقال: ادلوا دلواً من ماء البئر التي قبلكم، فإذا ماء أبيض، فقال: ادلوا دلواً من بئر الدار التي شرقيكم، فإذا ماء أبيض، ثم قال: ادلوا دلواً من بئر الماء التي غربيكم، فإذا هو ماء أبيض، فقال: ادلوا دلواً من ماء البئر التي شأمكم، فدلوا دلواً فإذا هو ماء أبيض، فقال: إن لبئركم هذه شأناً، كل ما حولها من الآبار نظيفة إلا هذه التي أنتم فيها، فحفرنا فأصبنا عرق كنيف ينزل فيها -عرق من مرحاض ينزل إلى هذه البئر فينجسها- فقال: منذ كم نزلتم هذه الدار؟ فقلنا: منذ أربع سنين، فأمر بإعادة صلاة أربع سنين. وكان -رحمه الله تعالى- حكيماً في تعليمه، وكان يقول: إذا كنت في الشام فاذكر مناقب علي؛ لأن بعضهم في تلك البلد كانوا يشتمون علياً، وإذا كنت في الكوفة فاذكر مناقب أبي بكر وعمر؛ لأن بعض المتشيعين في الكوفة كان يقع في أبي بكر وعمر. وقال ابن المبارك رحمه الله: تعجبني مجالس سفيان الثوري، كنت إذا شئت رأيته في الحديث، وإذا شئت رأيته في الفروع، وإذا شئت رأيته مصلياً، وإذا شئت رأيته غائصاً في الفقه.

عبادته وخشيته لله

عبادته وخشيته لله وكانت عبادته عظيمة -رحمة الله عليه- قال يوسف بن أسباط: قال لي سفيان بعد العشاء: ناولني المطهرة أتوضأ، فناولته فأخذها بيمينه ووضع يساره على خده، فبقي مفكراً، فنمت ثم قمت وقت الفجر فإذا المطهرة في يده كما هي، فقلت: هذا الفجر قد طلع! قال: لم أزل منذ ناولتني المطهرة أتفكر في الآخرة حتى هذه الساعة. وكان عجيباً في قيامه لليل، كان يقوم الليل حتى الصبح في أيام كثيرة، وكان يرفع رجليه على الجدار بعد قيام الليل حتى يعود الدم إلى رأسه، وكان إذا أكل اجتهد في القيام بزيادة، أكل مرة طعاماً ولحماً ثم تمراً وزبداً، ثم قال: أحسن إلى الزنجي -أي: العبد- أحسن إلى الزنجي وكده. ومرة قدم على عبد الرزاق، فقال عبد الرزاق: طبخت له قدر سكباج -لحم مع خل- فأكل، ثم أتيته بزبيب الطائف فأكل، ثم قال: يا عبد الرزاق! اعلف الحمار ثم كده، وقام يصلي حتى الصباح. وقال علي بن الفضيل: رأيت الثوري ساجداً، فطفت سبعة أسابيع -سبعة أشواط حول الكعبة- قبل أن يرفع رأسه وقال ابن وهب: رأيت الثوري في الحرم بعد المغرب سجد سجدة فلم يرفع رأسه حتى نودي للعشاء. وكانت خشيته لله أبلغ من أن توصف، قال قبيصة: ما جلست مع سفيان مجلساً إلا ذكرت الموت، وما رأيت أحداً أكثر ذكراً للموت منه. وقال يوسف بن أسباط: كان سفيان إذا أخذ في ذكر الآخرة يبول الدم من خشيته لله عز وجل. وقال سفيان: البكاء عشرة أجزاء: جزء لله، وتسعة لغير الله، فإذا جاء الذي لله في العام مرة فهو كثير.

زهده وورعه وتواضعه

زهده وورعه وتواضعه وكان زاهداً أقبلت عليه الدنيا فتركها وأخذ كفايته حتى لا يحتاج إلى الناس، وربما اشتغل ببيع وشراء لأجل ألا يحتاج إلى الناس ولا يمد يده، وكان له وصايا في الزهد، فكان يقول: ليس الزهد بأكل الغليظ ولبس الخشن، ولكن قصر الأمل وارتقاب الموت. وكان يوصي من يخرج في سفر ألا يخرج مع من هو أغنى منه، فيكون إن ساويته بالنفقة أضر بك، إذا أنفقت مثله وهو أغنى منك أضر بك، وإن أنفقت أقل منه ظهرت كأنك بخيل، فاخرج مع من هو مثلك. وأما إنكاره للمنكر فكان شائعاً كثيراً، قال شجاع بن الوليد: كنت أحج مع سفيان فما يكاد لسانه يفتر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذاهباً وراجعاً. وكان استشعاره لمسئولية إنكار المنكر عظيمة، وخصوصاً الشيء الذي لا يستطيع تغييره، فعن سفيان قال: إني لأرى الشيء يجب عليَّ أن أتكلم فيه فلا أفعل فأبول الدم. وعن ابن مهدي قال: كنا مع الثوري جلوساً بـ مكة، فوثب وقال: النهار يعمل عمله قوموا نعمل، الجلوس إذا كان مضيعة للوقت لا خير فيه. وتواضعه كان عجيباً، وإزراؤه على نفسه كان كثيراً، قال ابن مهدي: بت عنده فجعل يبكي فقيل له عن سبب بكائه، فقال: لذنوبي عندي أهون من ذا -ورفع شيئاً من الأرض- ولكني أخاف أن أسلب الإيمان قبل أن أموت! كان يخشى الله عز وجل في علمه وعمله، وهذه صور من التقوى والورع، وما خفي علينا ولم ينقل إلينا أعظم بكثير.

منزلته بين العلماء

منزلته بين العلماء وكذلك فإنه من أئمة الدنيا وطلاب العلم الكبار والعلماء الأفذاذ بقي بن مخلد -رحمه الله- كان من علماء الأندلس، رحل من الأندلس إلى بغداد لملاقاة الإمام أحمد رحمه الله، وحصلت له قصة عجيبة مع الإمام أحمد قال فيما يروى عنه: لما قربت من بغداد اتصل بي خبر المحنة التي دارت على أحمد بن حنبل المحنة التي جرت على الإمام أحمد معروفة، وكان مما حصل على الإمام أحمد سجن وضرب، وحصل عليه إقامة جبرية، وحصل عليه منع من التحديث والتدريس. بقي بن مخلد رجل من الأندلس جاء إلى بغداد لملاقاة أحمد بن حنبل، فوجده مضروباً عليه الإقامة الجبرية والمنع من التدريس، ولا أحد يستطيع أن يقترب من بيت الإمام أحمد، فماذا فعل؟ قال: فاغتممت لذلك غماً شديداً، فلم أعرج على شيء بعد إنزالي متاعي في بيت اشتريته في بعض الفنادق أن أتيت المسجد الجامع الكبير -أنزل العفش في الفندق وجاء إلى الجامع الكبير- قال: وأنا أريد أن أجلس إلى الحلق وأسمع ما يتذاكرون، فدفعت إلى حلقة نبيلة، فإذا برجل يكشف عن الرجل فيضعف ويقوي فلان ثقة فلان ضعيف، وهكذا فقلت لمن كان بقربي: من هذا؟ قالوا: هذا العالم يحيى بن معين، فرأيت فرجة قد انفرجت قربه -قرب الشيخ- فقمت إليه فقلت له: يا أبا زكريا رحمك الله! رجل غريب نائي الدار، أردت السؤال فلا تستخفني، فقال لي: قل، فسألت عن بعض من لقيته من أهل الحديث، فبعضاً زكى وبعضاً جرح، فسألته في آخر السؤال عن هشام بن عمار فقال: صاحب صلاة، دمشقي ثقة وفوق الثقة إلخ.

ابتعاده عن الأمراء والسلاطين ونصحه لهم

ابتعاده عن الأمراء والسلاطين ونصحه لهم ولما استخلف المهدي بعث إلى سفيان فلما دخل عليه خلع خاتمه -الخليفة يخلع خاتمه لـ سفيان - فرمى به إلى سفيان وقال: يا أبا عبد الله! هذا خاتمي فاعمل في هذه الأمة بالكتاب والسنة. فأخذ الخاتم بيده وقال: تأذن بالكلام يا أمير المؤمنين! قال السامع للراوي: قال له: يا أمير المؤمنين! قال: نعم. فقال الخليفة: نعم. يأذن له بالكلام. قال: أتكلم على أني آمن؟ قال: نعم. قال سفيان: لا تبعث إليَّ حتى آتيك، ولا تعطني حتى أسألك. قال: فغضب الخليفة وهمَّ به، فقال له كاتبه: أليس قد آمنته؟ قال: بلى. فلما خرج سفيان حس به أصحابه، فقالوا: ما منعك وقد أمرك أن تعمل في الأمة بالكتاب والسنة؟! فاستصغر عقولهم وخرج هارباً إلى البصرة، وكان يقول: ليس أخاف إهانتهم، إنما أخاف كرامتهم فلا أرى سيئتهم سيئة. أي: إذا أكرموني تغاضيت عن الحق ولا أرى سيئتهم سيئة. وكان ينكر عليهم الإسراف في الولائم في مواسم الحج، فعن محمد بن يوسف الفريابي: سمعت سفيان يقول: أُدخلت على أبي جعفر بـ منى فقلت له: اتق الله، فإنما أنزلت في هذه المنزلة وصرت في هذا الموضع بسيوف المهاجرين والأنصار وأبنائهم وهم يموتون جوعاً، حج عمر فما أنفق إلا خمسة عشر ديناراً وكان ينزل تحت الشجر. فقال الخليفة لـ سفيان: أتريد أن أكون مثلك؟ قلت: لا. ولكن دون ما أنت فيه وفوق ما أنا فيه. فقال: اخرج. ولما أُدخل على المهدي بـ منى وسلم عليه بالإمرة، فقال الخليفة: أيها الرجل! طلبناك فأعجزتنا، فالحمد لله الذي جاء بك، فارفع إلينا حاجتك. قال: وما أرفع؟ حدثني إسماعيل بن أبي خالد قال: حج عمر فقال لخازنه: كم أنفقت؟ قال: بضعة عشر درهماً، قال عمر: أسرفنا! وإني أرى هنا أموراً لا تطيقها الجبال.

تنقله في البلاد هاربا ودفنه لكتبه

تنقله في البلاد هارباً ودفنه لكتبه أما هرب سفيان وتنقله في البلاد هارباً فترة من عمره ودفنه لكتبه، فكان بسبب أن الخليفة أبا جعفر أراده على القضاء، فأبى أن يتولاه، فأراد أن يلزمه به، وكان يسجن ويضرب حتى يرضخ القاضي للقضاء، فهرب سفيان، ولا زال هارباً متخفياً، وهو مع هربه يطلب الحديث ويطلب العلم ويعبد الله قال أبو أحمد الزبيري: كنت في مسجد الخيف مع سفيان والمنادي ينادي: من جاء بـ سفيان فله عشرة آلاف. وقيل: إنه من أجل الطلب والملاحقة هرب إلى اليمن، فاتهموه -وهم لا يعرفونه في اليمن - بأنه سرق شيئاً؛ فأتوا به والي اليمن معن بن زائدة، وكان عنده خبر من الخليفة بشأن طلب سفيان، فقيل للأمير: هذا قد سرق منا، فقال: لم سرقت متاعهم؟ قال سفيان: ما سرقت شيئاً. فقال لهم الأمير: تنحوا حتى نسائله -حتى أحقق معه- ثم أقبل على سفيان فقال: ما اسمك؟ فقال: عبد الله بن عبد الرحمن، وأراد ألا يكذب ولا يذكر اسمه لأنه مطلوب عند الخليفة، فقال الأمير: نشدتك بالله لما انتسبت سأله بالله، فكان لا بد أن يجيب، قال: فقلت: أنا سفيان بن سعيد بن مسروق، قال: الثوري؟ فقلت: الثوري، قال: أنت بغية أمير المؤمنين؟ قلت: أجل! فأطرق ساعة يفكر ثم قال: ما شئت أقم ومتى شئت فارحل، فوالله لو كنت تحت قدمي ما رفعتها. أي: أحميك وأدافع عنك، وكان معن بن زائدة فيه خير كثير. وهرب إلى البصرة أيضاً، قال ابن مهدي: قدم سفيان البصرة والسلطان يطلبه، فصار إلى بستان، فأجر نفسه لحفظ الثمار، صار ناقوراً حارساً يحفظ الثمار، فمر به بعض العشارين الذين يأخذون أجزاء الثمار للوالي، فقال: من أنت يا شيخ؟ قال: من أهل الكوفة. فقال: أرطب البصرة أحلى من رطب الكوفة؟ قال: لم أذق رطب البصرة. قال: ما أكذبك! البر والفاجر والكلاب يأكلون الرطب الساعة. فرجع العامل إلى الوالي فأخبره ليعجبه بهذا الخبر العجيب، فقال الوالي: ثكلتك أمك! أدركه فإن كنت صادقاً فإنه سفيان الثوري، فخذه لنتقرب به إلى أمير المؤمنين. فرجع في طلبه فما قدر عليه. ولاحقه أبو جعفر ملاحقة شديدة وجدَّ في طلبه، فاختفى الثوري بـ مكة عند بعض المحدثين قال عبد الرزاق: بعث أبو جعفر الخشابين حين خرج إلى مكة وقال: إن رأيتم الثوري فاصلبوه. فجاء النجارون ونصبوا الخشب ونودي عليه ورأسه في حجر الفضيل مختفٍ بالبيت، ورجلاه في حجر ابن عيينة، فقيل له: يا أبا عبد الله! اتق الله لا تشمت بنا الأعداء كان مختفياً في الحرم ورأسه في حجر الفضيل ورجلاه في حجر ابن عيينة، فتقدم إلى الأستار ثم أخذه وقال: برئت منه إن دخلها أبو جعفر، قال: فمات أبو جعفر قبل أن يدخل مكة، فأخبر سفيان فما قال شيئاً، قال الذهبي رحمه الله: هذه كرامة ثابتة.

وفاته رحمه الله وثناء العلماء عليه

وفاته رحمه الله وثناء العلماء عليه واستمر هذا الرجل على العطاء، وكان قد دفن كتبه فلما أمن استخرجها مع صاحب له، فقال صاحبه: في الركاز الخمس يا أبا عبد الله! فقال: انتق منها ما شئت، فانتقيت منها أجزاء فحدثني بها. استمر -رحمه الله- عابداً لربه مستمراً على العهد الذي بينه وبين الله علماً وتعليماً وعبادة حتى جاءه الأجل ووافاه قدر الله سبحانه وتعالى بالموت في البصرة، في شعبان سنة إحدى وستين ومائة للهجرة، وقد غسله عبد الله بن إسحاق الكناني. قال يزيد بن إبراهيم: رأيت ليلة مات سفيان قيل لي في المنام: مات أمير المؤمنين -أي: في الحديث. ولم يتمكن إخوانه وأصحابه من الاجتماع للصلاة عليه، فجعلوا يفدون إلى قبره يوم وفاته، ودفن وقت العشاء، وعن بعض أصحاب سفيان قال: مات سفيان بـ البصرة ودفن ليلاً ولم نشهد الصلاة عليه، وغدونا على قبره ومعنا جرير بن حازم وسلام بن مسكين من أئمة العلم، فتقدم جرير وصلى على قبره ثم بكى وقال: إذا بكيت على ميت لمكرمة فابك غداة على الثوري سفيان وسكت، فقال عبد الله بن الصرباح: أبكي عليه وقد ولى وسؤدده وفضله ناظر كالغسل ريان وقال سعيد: رأيت سفيان في المنام يطير من نخلة إلى نخلة وهو يقول: الحمد لله الذي صدقنا وعده. وهذا مما روي له من المنامات الصالحة بعد وفاته. وقال إبراهيم بن أعين: رأيت سفيان بن سعيد بعد موته في المنام، فقلت: ما صنعت؟ فقال: أنا مع السفرة الكرام البررة. قال أحمد بن حنبل رحمه الله: قال لي ابن عيينة: لن ترى بعينك مثل سفيان الثوري حتى تموت. وقال الأوزاعي: لو قيل لي اختر لهذه الأمة رجلاً يقوم فيها بكتاب الله وسنة نبيه لاخترت لهم سفيان الثوري. وقال ابن المبارك: كتبت عن ألف ومائة شيخ ما كتبت عن أفضل من سفيان. وقال ابن أبي ذئب: ما رأيت أشبه بالتابعين من سفيان الثوري. وقال ابن المبارك: ما نُعت إلي أحد فرأيته إلا كان دون نعته -دون الوصف- إلا سفيان الثوري، رحمه الله رحمة واسعة.

حاجتنا إلى معرفة سير السلف واقتفاء آثارهم

حاجتنا إلى معرفة سير السلف واقتفاء آثارهم هذا من الرجالات الذين أنجبتهم هذه الأمة وصاغهم هذا الدين، فكم نحن بحاجة أن نلتزم خطاهم وأن نسير على نهجهم وأن نتمثل سيرهم! كم نحن بحاجة إلى استعادة سير أسلافنا الماضين؛ لنكون في العز كما كانوا أو نحاول، ونحن نعلم أننا لن نكون مثلما كانوا، لكن على الأقل لا يصلح -أيها المسلمون- أن تبقى سير العلماء مدفونة، وأن يبقى أولئك الأجلاء الأعلام غير معروفين عند متأخري هذه الأمة، هذه جريمة لا تغتفر، فإن هؤلاء الصالحين قدوة يجب الكلام في سيرهم ونشر نهجهم وحياتهم؛ حتى تعرف هذه الأمة الامتداد الحقيقي لها، وتعرف هذه الأمة أن لها سابقين، وتعرف هذه الأمة أنها متى قامت بالحق وعدلت بوأها الله المكانة التي ينبغي أن تكون عليها. اللهم ارحم سفيان واجزه الجزاء الأوفى، اللهم إنا نسألك أن ترحمنا أجمعين، وأن تغفر لنا ذنوبنا يا أرحم الراحمين. اللهم ارحم موتانا، واشف مرضانا، وفرج همومنا، ونفس عنا كروبنا اللهم إنا نسألك أن تجعلنا في هذه الليلة من عتقائك من النار، وفي هذا اليوم العظيم من الفائزين بالجنة يا رب العالمين. الله إنا نسألك يوماً قريباً تعز فيه دينك، وتقر أعيننا فيه بنشر الإسلام والسنة يا رب العالمين. اللهم ارحم المستضعفين من المسلمين، اللهم إنا نسألك أن ترفع الذل عن المسلمين يا رب العالمين. عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.

شكاوى وحلول [2،1]

شكاوى وحلول [2،1] هذا الدرس عبارة عن حل لكثير من المشكلات التي تواجه كثيراً من المسلمين، ومن أبرز القضايا التي تحدث الشيخ عنها مشاكل الحياة الزوجية الوسواس في الصلاة الوساوس في ذات الله العادة السيئة وعلاجها ومسائل أخرى فقهية، كما ذكر الشيخ كتباً مهمة في شتى الفنون لمن أراد الاستفادة.

مقدمة عن سؤال أهل العلم

مقدمة عن سؤال أهل العلم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: ففي هذه الليلة نلتقي وإياكم -أيها الإخوة- على مائدة من موائد العلم، وسيكون الكلام في هذه الليلة عن بعض الشكاوى وحلولها، والإنسان في الأصل يشكو إلى ربه سبحانه وتعالى، والمؤمنون من أخلاقهم أنهم يشكون ضعفهم إلى الله ويطلبون منه العون والسداد والقوة، والجاهل يشكو للعالم ولطالب العلم الحيرة التي هو فيها حتى يجليها له، وجاءت خولة بنت ثعلبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تشكو إليه زوجها، وجاء الغلام إلى الراهب يقول له: عن ضرب الساحر له وعن ضرب أهله له، فقال له الحل المناسب في ذلك المقام وتلك الظروف بين أولئك الكفرة: إذا ضربك أهلك فقل: حبسني الساحر، وإذا ضربك الساحر أو سألك الساحر فقل: حبسني أهلي. ووردت إلينا في المحاضرات السابقة كثير من الأسئلة أجلناها لحين تيسر مناسبة للإجابة عليها، وبعض هذه الأسئلة هي عبارة عن شكاوى من بعض الإخوان المهتمين والأخوات المهتمات في أمر الدين. وسوف تكون طريقتنا في عرض هذا الدرس أن نتكلم عن مشكلة أو عن شكوى وعن حلها، ثم نورد فتاوي عن أسئلة وردت من بعض الإخوة أيضاً من التي عرضناها على أهل العلم فأتيناكم بإجاباتها، ثم نعرض شكوى أخرى مع حلها وهكذا، ولعلكم -إن شاء الله- تجدون الفائدة والمتعة العلمية في هذه الليلة، ونشكو إلى الله ضعفنا في الإيمان والعلم ونسأله سبحانه وتعالى التسديد.

الشرود في الصلاة

الشرود في الصلاة يقول هذا الأخ: إنني أشكو من مشكلة عدم الخشوع في الصلاة، أكبر ثم أغيب عن الواقع، فأذهب في متاهات كثيرة في مشاكل عائلية، وفي أمور مادية، وفي الدراسة والامتحانات، وفي علاقاتي مع الكثيرين، وفي الهموم والغموم، ولا أرجع إلى وعيي إلا عندما يسلم الإمام من الصلاة. فما هو الحل لهذه المشكلة؟ A نقول: إن ربنا عز وجل لم يتركنا هملاً ولم يتركنا نهباً للشياطين ولله الحمد، وله سبحانه وتعالى المنة وهو المتفضل على عباده، وإنما بين لنا عز وجل في القرآن وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم كثيراً من العلاجات والحلول لهذه المشكلة، وهاك أيها الأخ المسلم ثلاثة وثلاثين سبباً للخشوع في الصلاة: الأول: أن يحسن الوضوء. وسنسردها بسرعة واختصار مع بعض التنبيهات. هناك -أيها الإخوان- في موضوع الوضوء كثير من الأخطاء التي تحدث بين الناس، والواجب على طلبة العلم والذين يعلمون أحكام الوضوء أن ينبهوا الناس، وقد كان من سلفكم رحمهم الله من يطوف على المطاهر في المساجد فيرقبون أحوال الناس في الوضوء ويعلمونهم، وأنت ترى في عامة الناس اليوم تقصيراً كبيراً في مسألة الوضوء، فمنهم مثلاً: إذا أراد أن يتمضمض فإنه لا يدير الماء في فيه، وبهذا تكون مضمضته باطلة، فإن أخذ الماء وإخراجه من غير إدارته في الفم لا تسمى مضمضة، وكذلك في الاستنثار تجد كثيراً منهم يأخذ الماء فيضعه على طرف أنفه وبعد ذلك يخرجه ولا يدخل إلى الداخل وهذا ليس باستنثار، وكذلك فإنهم إذا أرادوا أن يغسلوا وجوههم فإنه يأخذ الكفين مملوءة بالماء فيضرب بها وجهه من جهة المنتصف، فلا يصل الماء إلى منابت الشعر حدود الرأس ولا إلى جنبتي الرأس عند الأذنين، إن هذه المنطقة أيها الإخوة! حدود الرأس من الجانب الأيمن والأيسر من الأذن اليمنى إلى الأذن اليسرى والذقن في الأسفل، والذين يتوضئون مع الأسف الكثير منهم لا يعمم وجهه عند الوضوء، وكذلك فإنهم عند مسح الرأس محافظة على تمشيط شعورهم وخصوصاً الذين يلبسون الطاقيات ويضعون غطاء على الرأس فإنهم لا يصلون بالماء أو باليد المبللة بالماء إلى آخر الرأس حدود الرقبة عند الرقبة ثم يعودون، وبذلك يكون مسحهم على رءوسهم ناقصا. وبعض السائلات تقول: إنني ذات شعر طويل. فكيف أمسح رأسي في الوضوء؟ فنقول: إن أهل العلم قد بينوا أن المرأة ذات الشعر الطويل إذا أرادت أن تمسح رأسها في الوضوء فإنها تبدأ من الإمام حتى تصل إلى الخلف عند الرقبة على الشعر بما يحاذي الرقبة ثم ترجع إلى الإمام بعد ذلك، ولا يجب عليها أن تمسح الشعر إلى آخره وهو يصل إلى منتصف الظهر، وكذلك إن كثيراً من الذين يتوضئون لا يمسحون آذانهم جيداً فلا يدخلون أصابعهم في تجاويف الأذن من الداخل والخارج فيكون مسحهم لآذانهم ناقصاً، ويكون مسحهم لرءوسهم ناقصاً لأنه عليه الصلاة والسلام قال: (الأذنان من الرأس). ناهيك عما يقع في وضوء كثير منهم من عدم إيصال الماء إلى الأعقاب وهي النقطة القصوى أو المكان الأقصى في القدم من الأسفل من جهة الكعبين، أسفل الكعبين هذا المكان كثير من المتوضئين الذين يجعلون أقدامهم تحت صنابير المياه المفتوحة لا يتأكدون من وصول الماء إلى ذلك المكان فيكون وضوءهم باطلاً وبالتالي صلاتهم غير صحيحة. كما أن كثيراً منهم يخالف سنة تخليل أصابع اليدين والرجلين، وقد أمر عليه الصلاة والسلام بهذا، فلا بد أن يخلل المسلم أصابع يديه من الداخل وأصابع رجليه بالخنصر كما ورد في الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم، تخليل أصابع اليدين والرجلين. فإذاً أولاً: إحسان الوضوء. ثانياً: التزيين للصلاة. خذ بعض الإخوان الذين يأتون إلى المساجد في ثياب النوم مثلاً، ورائحة النوم أو العرق تفوح منهم، والذي يأتي وقد أكل ثوماً أو بصلاً ناهيك عمن يدخل المسجد وهو قد دخن فيكون متشبعاً بتلك الروائح الخبيثة، وإذا كان الإنسان يتزين في المناسبات والأعراس فالله أحق أن يتزين له. ثالثاً: أداؤها في المسجد للرجال وأداؤها في قعر البيت بالنسبة للمرأة. رابعاً: السكينة عند الإتيان إلى الصلاة. خامساً: عدم التشبيك بين الأصابع. سادساً: أذكار الخروج من المسجد ودخول المسجد. سابعاً: تسوية الصف. ثامناً: السترة للإمام والمنفرد فإنها تمنع الشيطان من المرور والوسوسة. تاسعاً: أن يمنع المار بين يديه. عاشراً: استشعاره بوقوفه بين يدي ربه عز وجل، وهذه يمكن أن تكون أهم نقطة في موضوع الخشوع، أن يستشعر أنه واقف الآن بين يدي الله عز وجل. الحادي عشر: التفكر في معنى ما يقرأ أو يسمع وتزيين الصوت بالقرآن. الثاني عشر: إذا مر بآية رحمة سأل أو آية عذاب استعاذ، أو مر بآية سجدة سجد خصوصاً للذين يصلون في قيام الليل. الثالث عشر: إتمام الأركان والواجبات والسنن، والطمأنينة في الصلاة. الرابع عشر: تذكر الموت في الصلاة للحديث الصحيح الوارد في ذلك. الخامس عشر: النظر إلى موضع السجود، والنظر إلى السبابة عند الجلوس. السادس عشر: وضع اليمين على الشمال على الصدر، ولما سئل الإمام أحمد رحمه الله عن هذا؟ قال: هو ذل بين يدي الله العزيز، فلا تحسبن المسألة شكلية وإنما لها معنىً في القلب. السابع عشر: عدم الالتفات في الصلاة، لا التفات القلب ولا التفات البصر. الثامن عشر: حفظ الأدعية والأذكار المختلفة والتنويع فيما من السنة تنويعه في الصلاة كأدعية الاستفتاح والتشهدات الواردة عن الرسول صلى الله عليه وسلم. التاسع عشر: التأمين مع الإمام. العشرون: التفكر في معنى الأذكار التي يقرؤها المسلم. الحادي والعشرون: تحريك الإصبع في التشهد، فإنه قد ورد في الحديث الصحيح: (أنها أشد على الشيطان من الحديد). الثاني والعشرون: الخوف ألا تقبل الصلاة، وأن يتفكر في حديث: أن الناس يخرجون من الصلاة، فمنهم من يخرج بعشرها، ومنهم من يخرج بتسعها، ومنهم من يخرج بنصفها، ومنهم من يخرج بكلها، حسب خشوع وإتمام أركان وواجبات وسنن الصلاة. وأن يتأمل ويتفكر أنها لو لم تقبل كيف ترد ويضرب بها وجهه. الثالث والعشرون: الاستعاذة بالله من الشيطان عند وسوسته في الصلاة، والتفل عن اليسار ثلاثاً إذا كان مكانه مناسباً. الرابع والعشرون: تجنب الصلاة في أماكن الصور والزخارف والضوضاء ومرور الناس وفي الحر الشديد والبرد الشديد ما أمكنه ذلك. الخامس والعشرون: ألا يصلي وهو حاقن ولا حاقب، يعني: لا حابس البول ولا حابس الغائط. السادس والعشرون: ألا يصلي وهو بحضرة طعام يشتهيه: (فإذا حضر العَشاء والعِشاء فقدموا العَشاء). السابع والعشرون: ألا يصلي خلف النائم والمتحدث كما ورد في الحديث الصحيح، وألا يستقبل وجه الرجل في الصلاة، ونشاهد بعض المصلين إذا أراد أن يتسنن وهو وراء الإمام وقد التفت الإمام إلى المصلين تجده يقوم ويصلي وراء الإمام مباشرة وجهه لوجه الإمام وهذا غير صحيح. الثامن والعشرون: كظم التثاؤب ورده ما استطاع فإن الشيطان يدخل مع التثاؤب، ويضحك من العبد وهو يتثاءب. التاسع والعشرون: عدم رفع البصر إلى السماء والوعيد الشديد في الحديث الصحيح. الثلاثون: ألا يبصق جهة القبلة ولا عن يمينه إذا اضطر إلى البصاق، أحياناً يضطر الإنسان في الصلاة، وإنما يبصق عن جهة اليسار في منديل أو طرف الثوب ونحو ذلك. الحادي والثلاثون: ألا يغطي فاه في الصلاة، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن التلثم. الثاني والثلاثون: أنه إذا فاته الخشوع في أجزاء كبيرة في الصلاة فلا يقل انتهى الأمر ويستمر في اللهو، فلو لم يتذكر الإنسان أنه في الصلاة إلا وهو يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب النار ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال فليحضر قلبه عندها وليخرج بهذا أفضل ألا يخرج بشيء، وليتدارك الأمر ولو كان في آخر لحظات الصلاة. الثالث والثلاثون: الأذكار بعد الصلاة فإنها مما تثبت خشوع الصلاة في القلب وأثر الصلاة فيه. والله أعلم.

حكم الجمعية التي تكون بين عدة أشخاص

حكم الجمعية التي تكون بين عدة أشخاص وأما بالنسبة لبعض الأسئلة، فهاهنا سؤال يقول: تفادياً للوقوع في الربا وحلاً لبعض الإشكالات التي تواجه كثيراً من الناس، فإننا نقوم بعمل مجموعة يدفع كل فرد في هذه المجموعة مبلغاً معيناً متساوياً مثلاً، فإذا جاء الشهر الأول أخذ المبلغ كله فلان، كل واحد يدفع ألفاً وهم عشرة أشخاص، الشهر الأول يأخذ فلان عشرة آلاف وفي الشهر الثاني يأخذ الذي بعده العشرة الآلاف والثالث وهكذا، حتى يتم العشرة. فما حكم ذلك من جهة الشرع؟ وقد سألني بعض الإخوان قائلين: لقد سمعنا ممن نقل عن الشيخ/ عبد العزيز بن باز أن هذا لا يجوز؟ A وكنت قد سألته حفظه الله عن هذه المسألة فقال: قد كنا فترة من الزمان نرى بعدم الجواز، ولما تمعنا في المسألة أكثر ودرسناها وجدنا أنه لا بأس بها إن شاء الله. وللتيقن أكثر فقد سألته في مساء هذا اليوم، والفتوى هذه التي أنقلها عن الشيخ قريبة جداً يعني في الساعة السابعة إلا ربعاً بالضبط من مساء هذا اليوم، يعني قبل حوالي أقل من ساعة، فقال الشيخ: حصل فيها شبهة وقلنا لهم: تركها أحوط، ثم درسها مجلس هيئة كبار العلماء ورأى المجلس أنه لا حرج إن شاء الله بالأكثرية لأنه لا أحد يأخذ زيادة، كلهم متساوون فيها، اتفقوا على أن يقرض بعضهم بعضاً إلى آجال معلومة كل يسدد في أجل معلوم كالأقساط. ثم سألته: وأنت ماذا ترى فيها حفظك الله شخصيا؟ فقال: أنا مع الإخوان -إن شاء الله- مع الأكثرين وأرى بالجواز. فإذاً هذا رأي الشيخ وفتواه حفظه الله في هذه المسألة، وأرجو أن تكون القضية قد اتضحت للإخوان الذين يسألون كثيراً عن هذا الموضوع. والحقيقة أيها الإخوة: أننا ينبغي علينا بصفتنا مسلمين أن نبحث عن كل طريقة تخلصنا من الوقوع في الربا، وكل حل يجعل القرض متيسراً للمحتاج، ومن هذا أيضاً إشاعة أجر القرض في الإسلام، فإن من أقرض قرضاً مرتين فهو كصدقة مرة، مع أن المال يرجع إليه، لو أقرضت واحداً عشرة آلاف ثم أخذتها منه ثم أقرضتها لآخر أو لنفس الشخص مرة أخرى ثم أرجعها إليك فإنك تكون كأنك تصدقت بها ولك أجر الصدقة بها.

حكم إعادة الاستخارة أكثر من مرة

حكم إعادة الاستخارة أكثر من مرة وهذا Q هل أعيد الاستخارة أكثر من مرة؟ بعض الإخوة يقول: أنا ما تبين لي شيء في المرة الأولى فهل يجوز ويشرع أن أعيدها أكثر من مرة؟ A سألت الشيخ حفظه الله فقال: نعم. يشرع له أن يعيد الاستخارة أكثر من مرة حتى ينشرح صدره.

كيفية توبة من أخذ مالا من جهة حكومية بغير حق

كيفية توبة من أخذ مالاً من جهة حكومية بغير حق وهذا سؤال أيضاً يقول: رجل سبق أن أخذ مالاً من جهة حكومية بغير حق، والآن يريد التوبة ولكنه يخشى من المساءلة وألا يتفهم المسئول موقفه. فماذا يفعل؟ A فأجابني الشيخ حفظه الله على هذا Q يتصدق بها على الفقراء والجمعيات الخيرية مع التوبة. ثم سألته: هل يعطيها لجمعية البر التي تشرف عليها الحكومة باعتبار أنه أخذ المال من الحكومة، هل يرجعها إلى جمعية البر باسم فاعل خير؟ فقال: نعم يجوز ذلك. وبعض الناس لا يخشون الله فيقول: هم أغنياء، ولا يضر الحكومة إذا أخذت منها، ويسرق، وهذا لا يجوز وهو حرام، ولا يحل له أن يفعل ذلك مطلقاً وهي سرقة على أية حال.

عمر الطفل الذي يزيل الخلوة بين المرأة والسائق

عُمْر الطفل الذي يزيل الخلوة بين المرأة والسائق وهذه امرأة تسأل وتقول: أريد أن أذهب بالسيارة مع سائق أجنبي داخل البلد. فما هو عمر الطفل الذي لو اصطحبته معي زالت الخلوة؟ A فأجاب الشيخ/ عبد العزيز حفظه الله: لا بد أن يكون معها من تزول معه الخلوة في سن عشرة ونحوها، يعني: يفهم ويستحيا منه هذا الذي تزول به الخلوة، هذا ليس في السفر هذا داخل البلد تزول الخلوة إذا كان مع المرأة في السيارة من يستحيا منه، أي: تأخذ معها ولداً واعياً عاقلاً يفهم ويدرك بحيث أن أحدهما لو أراد أن يفعل شيئاً لاستحى من وجود هذا الثالث، والآن -أيها الإخوة- نحن نرى من المنكرات التي تفشت والعياذ بالله ركوب النساء في سيارات الأجرة المرأة بمفردها، بل وصلت الوقاحة ببعضهن أن تركب بجانب السائق وتقول: أنا ما عندي أحد يوصلني للمدرسة. عمرك لا ذهبتِ إلى المدرسة، المدرسة أهم أم تطبيق حدود الله؟! المدرسة أهم أم مراعاة الأحكام الشرعية؟! لو لم تذهبي إلى المدرسة ماذا سيحصل؟ لكن لو عصيت الله ماذا سيحصل؟

كثرة الوساوس المتعلقة بذات الله

كثرة الوساوس المتعلقة بذات الله ثم ننتقل إلى مشكلة أخرى، يقول هذا السائل: إنني أشكو من كثرة الوساوس المتعلقة بذات الله عز وجل، ويطوف بخاطري أشياء لا يمكن أن أذكرها لأنها لا تليق بالله سبحانه وتعالى ولكنها تتردد على خاطري كثيراً، وتأتيني في الصلاة وفي غير الصلاة، ولا أدري ماذا أفعل، حتى شككت في إيماني، وشككت هل أنا مسلم أم لا. فما هو الحل؟ A نقول: إن من رحمة الله أن هيأ لنا رسوله صلى الله عليه وسلم ليعلمنا الحلول في هذه المشاكل والمواقف، وإليك -أيها الأخ المسلم- هذه الأحاديث الصحيحة التي تعالج المشاكل منها مشكلة الوساوس المتعلقة بالله عز وجل. يقول عليه الصلاة والسلام -وهذه روايات مجتمعة ألفاظها بعضها إلى بعض سقتها إليكم-: (إن أحدكم يأتيه الشيطان فيقول: من خلقك؟ فيقول: الله، فيقول: من خلق السماء؟ فيقول: الله، فيقول: من خلق الأرض؟ فيقول: الله، فيقول: فمن خلق الله؟ فإذا وجد ذلك أحدكم فليقل: آمنت بالله ورسوله، فإن ذلك يذهب عنه) وقال أيضاً: (من وجد من هذا الوسواس فليقل: آمنا بالله ورسوله، فإن ذلك يذهب عنه). قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق ربك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته) وقال صلى الله عليه وسلم: (يوشك الناس يتساءلون حتى يقول قائلهم: هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله؟ فإذا قالوا ذلك فقولوا: الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، ثم ليتفل عن يساره ثلاثاً وليستعذ من الشيطان) وقال صلى الله عليه وسلم: (تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله) وقال: (تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله) فيجتمع من هذه الأحاديث السابق ذكرها ست وسائل للتغلب على وسوسة الشيطان في هذه المسألة، القضايا الفكرية أو تجوال الفكر فيما يتعلق بالله عز وجل: الوسيلة الأولى: إذا جاءك الشيطان وقال لك هذا الوسواس أو غيره فقل: آمنت بالله ورسوله، أولاً تقول: آمنت بالله ورسوله. ثانياً: تتعوذ بالله من الشيطان، تقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه. ثالثاً: أن تتفل عن يسارك ثلاث مرات، هذا مشابه لما سبق أن ذكرناه عندما يوسوس خِنزب أو خُنزب أو خَنزب الشيطان المسئول عن الوسوسة في الصلاة. رابعاً: أن ينتهي، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ولينته) وهذه مسألة مهمة، فإن كثيراً من الذين تأتيهم هذه الوساوس لا ينتهون، بل إنهم يستطردون في الأفكار الواحدة وراء الأخرى، لا ينتهي لا يشغل ذهنه بالمفيد ويطرد هذه الأفكار، بل إنه يواصل فيها، وهذه مشكلة. خامساً: أنه يقرأ سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] فإن فيه ذكر صفات الرحمن عز وجل، فيها ذكر صفة الرحمن، ولذلك صارت تعدل ثلث القرآن، القرآن فيه قصص وأخبار وأحكام وتوحيد عقيدة وهذه صفة الرحمن مذكورة في هذه السورة فقراءتها وتدبرها والتمعن فيها كفيل بأن ينهي الوساوس من عقل هذا الشخص الذي يوسوس في هذه المسائل. سادساً وأخيراً: أن يتفكر هذا الشخص في خلق الله أو في نعم الله ولا يفكر في ذات الله، لأنه لا يمكن أن نصل بعقولنا القاصرة أبداً إلى ذات الله، وليس عندنا إلا ما أخبرنا الله ورسوله في هذه المسألة. هذه ست وسائل مذكورة في هذه الأحاديث تنهي مسألة الوسوسة في ذات الله. نأتي الآن إلى بعض المسائل الأخرى، أو المسائل الفقهية.

مسألة في سلس البول

مسألة في سلس البول يقول السائل: رجل به سلس سواء سلس بول أو سلس ريح فاتته صلوات مثلاً نتيجة عملية، وضع تحت المخدر في العملية ثم استفاق. فكيف يفعل بالطهارة بالنسبة لقضاء ما فاته من الصلوات؟ هل يصلي الصلوات كلها بوضوء واحد؟ أم لا بد لوضوءٍ لكل صلاة فائتة يقضيها من وضوء مستقل؟ فكروا في هذا السؤال. شخص عنده سلس بول أو سلس ريح فاتته صلوات بسبب، خمس صلوات عشر صلوات، ثم أراد الآن أن يقضيها فماذا يفعل بالنسبة للوضوء؟ طبعاً نحن نعلم بأن الذي فيه سلس بول أو سلس ريح أو المرأة المستحاضة التي ينزل عليها الدم باستمرار غير دم الحيض والنفاس طبعاً دم نزيف هؤلاء ماذا يفعلون؟ كيف يتطهرون للصلاة؟ يتوضأ لكل صلاة بعد الأذان بعد دخول وقتها، الذي عنده سلس يتوضأ لكل صلاة بعد دخول وقتها ثم يصليها، ولا يصلي أكثر من صلاة بوضوء واحد، هذا في الأحوال العادية، لكن الآن عندنا مسألة ثانية مختلفة: شخص فاتته عدة صلوات، الآن يريد أن يقضيها، توضأ وصلى الظهر والآن يريد أن يقضي الصلوات الفائتة عنده عشر صلوات، ماذا يفعل؟ هو أصلاً السلس حادث معه مستمر. يقول الشيخ/ عبد العزيز حفظه الله: يجوز له أن يقضي من الصلوات ما بين الوقتين بنفس الوضوء الأول، يعني: الآن توضأ وصلى الظهر عنده عشر صلوات، رجل يستطيع أن يصلي منها الآن خمس طاقته الجسدية يستطيع أن يصلي خمساً يصلي هذه الخمس صلوات ما دام بين الظهر والعصر يصليها بنفس وضوء صلاة الظهر، وكذلك سننها لو أراد أن يقضي السنن، ويصلي من النوافل -الذي معه السلس- ما شاء بين الوقتين، فالذي عنده سلس له أن يصلي صلوات فائتة ونوافل وسنن رواتب وما شاء إذا كان ما زال بين الوقتين، لكن لو جاء عليه وقت العصر وبقي عليه صلوات فائتة فإنه يتوضأ لصلاة العصر ويصلي بقية الفوائت ثم يصلي العصر.

رجل دخل أبيه من الربا

رجل دَخْلُ أبيه من الربا يقول Q رجل دَخْلُ أبيه من البنك، يعني: حرام -يعني: أبوه من كتاب الربا ملعون على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس لأبيه دخل آخر- ماذا يفعل هذا الولد إذا أراد أن يتزوج؟ هل يجوز له أن يأخذ من مال أبيه للزواج؟ هل يجوز أن يشتري سيارة من مال أبيه؟ هل يجوز له أن يدعو أصدقاءه إلى وليمة من مال أبيه؟ A فكان جواب الشيخ/ عبد العزيز حفظه الله: إذا كان ليس لأبيه دخل آخر فإن كل ما ذكر لا يجوز، لو كان لأبيه دخل آخر نقول: اختلط الحلال والحرام ولم يميز فربما الذي أخذه من الحلال، المسألة أهون، لكن يقول الشيخ: لو كان ليس لأبيه دخل آخر إلا الحرام، وقس على ذلك: شخص أبوه -مثلاً- صاحب دكان فيديو يبيع أفلاماً حرمة، يبيع أدوات موسيقية، يبيع أشرطة غناء، عمله كله حرام، ودخله كله حرام، فيقول الشيخ: إذا كان ليس له مصدر آخر والولد يعلم بذلك -يقول الشيخ: لو كان الولد لا يعلم لكان سهلاً، لكن إذا كان الولد يعلم بذلك فإنه لا يجوز له أن يأخذ من مال أبيه، وقال: إن كان يعلم هذا يبتعد عن هذا الشيء ويطلب الرزق من عند الله ويحاول أن يأخذ من جهة أخرى ولا يأخذ من مال أبيه- طبعاً في ماذا؟ في هذه الأشياء المتوسعة- لكن أبوه عليه النفقة على الولد، فإن استطاع الولد أن يخرج من البيت ويستقل بنفسه فهذا طيب، أما من له الأخذ من الوالد النفقة الواجبة على الوالد فإنه يأخذ منها، لكن لو استطاع أن يستقل بنفسه حتى في الأشياء الواجبة حتى في الأكل والشرب واللبس والسكن لو استطاع الولد فإنه يخرج عن أبيه، قارن بين هذا الموقف وبين ما يحدث اليوم من الكثيرين في قضية ماذا؟ التساهل في كسب المحرمات، ويأخذون الأموال ولا يبالون من حلال من حرام، سلفنا رحمهم الله كانوا يخرجون الشبه من بطونهم ويتقيأ أحدهم ليخرج أمراً فيه شبهة، والواحد من هؤلاء الناس في هذا الزمان يدخل إلى بطنه الحرام عمداً وهو يعلم أنه حرام فانظروا الفرق، سلفنا يخرجون الشبه من بطونهم بعدما دخلت بالقيء وهذا يدخلها في بطنه وهو يعلم أنها حرام ولا يخرجها.

حكم صبغ الحاجب بلون غير اللون الأسود

حكم صبغ الحاجب بلون غير اللون الأسود Q وهذه تسأل وتقول: ما حكم صبغ الحاجب الكثيف بلون يشابه لون البشرة بحيث لا يبدو الجزء الأعلى منه فيظهر الحاجب رقيقاً. فما هو الحكم؟ A هذه عملية تسمى عند بعض النساء بالتشقير تصبغ جزءاً من الحاجب بلون يشابه لون البشرة، فيقول الشيخ/ عبد العزيز حفظه الله جواباً على هذا السؤال: إذا كان لون الصبغ ليس بأسود فلا بأس ويجوز، فالأصل أنه يجوز ما دام أنه ليس بأسود، ولذلك فالعجب من كثير من الرجال كبار السن الذين نبت لديهم الشيب أنهم يصبغونه بالسواد وهو محرم في دين الله، غير الخداع والتمويه، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من شاب شيبة في الإسلام كانت له نوراً يوم القيامة) ولذلك لا يصح أن يغير الإنسان هذا الشيب بالسواد لكن يمكن أن يغيره بلون آخر، فلو غيره بأي لون آخر جاز لا إشكال كما كان عليه الصلاة والسلام يغير شيبه بالحناء مثلاً.

تقديم الرجل في الكلام على المرأة الأكبر منه سنا

تقديم الرجل في الكلام على المرأة الأكبر منه سناً Q هل تدخل المرأة إذا تكلمت مع رجل في حديث: (كبر كبر)؟ يعني: إذا كانت أكبر منه سناً فهل يجب أن يسكت هو لتتكلم هي أولاً؟ A يقول الشيخ/ محمد بن صالح العثيمين لما سألته: لا، أبداً حتى ولو بالمناقشة: (أخروهن حيث أخرهن الله) فإذاً لا تدخل المرأة في نقاشها مع الرجل في هذا الحديث، وإنما يقدم الرجل عند النقاش، فمثلاً: القاضي لو جاء يسمع من رجل وزوجته، والمسألة تساويا فيها، وليس أحدهما هو صاحب الشكوى ويريد أن يسمع منه أولاً، بل تساوت المسألة، ولو كانت أكبر منه سناً يقدم الرجل في الكلام.

حكم تسبب الطبيب في وفاة المريض نتيجة الإهمال

حكم تسبب الطبيب في وفاة المريض نتيجة الإهمال Q وهذا سؤال جاءنا من طبيب يقول: إذا تسبب الطبيب في وفاة المريض نتيجة إهمال الطبيب ولكن لم يثبت قانونياً -مثلاً لدى اللجنة المشكلة لهذه القضية- ليست هناك أدلة مادية تدين الطبيب. فما هو موقف الطبيب؟ A يقول الشيخ/ ابن عثيمين لما سألته عن هذا: يقول له: إذا عرفت أنك تسببت في قتل خطأ يجب عليك الكفارة حتى لو لم تثبت إدانتك قانونياً، فيجب عليه الكفارة، ولذلك الطبيب المسلم من أوجه اختلافه عن الطبيب الكافر والفاسق والفاجر أنه لا يهمل في العلاج، فبعض الأطباء لا يخافون الله، وفي الحالات الخطرة تجد إهمالاً وتسيباً من بعضهم، وقد يموت المريض نتيجة إهمال الطبيب فيكون الطبيب عليه كفارة قتل الخطأ، وبعضهم قد يصرف دواء لا يتقي الله فلا يتدبر ولا يفكر ولا يتأكد فيصرف هكذا وقد يكون هذا الدواء أو هذه الإبرة سبباً في موت المريض وعند ذلك يجب عليه التوبة إلى الله توبة عظيمة لأنه تسبب في قتل وعليه كفارة القتل.

حرمة تأجير الدكان لحلاق أو بائع دخان

حرمة تأجير الدكان لحلاّق أو بائع دخان Q وهذا سؤال وجهته للشيخ/ عبد العزيز بن باز حفظه الله: ما الفرق بين تأجير الدكان لحلاق يحلق اللحى وبين تأجير الدكان لبقال يبيع مع السلع الدخان؟ بعض الإخوان سألني قال: عندنا دكاكين نؤجرها فيستأجرها حلاق أو بقال صاحب سوبر ماركت ويبيع فيه دخاناً مثلاً؟ A فيقول الشيخ/ عبد العزيز حفظه الله: كلها لا تجوز هذا وهذا، يشترط عليهم ألا يحلقوا اللحى ولا يبيعوا الدخان، ما هو الدليل؟: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] فتأمل في حال الناس الذين يؤجرون الدكاكين الآن والعقارات كم يتعاونون على الإثم والعدوان وهو يأجر دكانه لحلاق يحلق اللحى أو لصاحب بقالة يبيع الدخان، أو لمحل يبيع أشرطة فيديو، أو لواحد يبيع استريو أغاني، أو لخياط نسائي فيه اختلاط يعلم أنه غير مطبقٍ للشروط. وأن دكانه صار بؤرة فساد، وقد يقول قائل: أنا لا دخل لي في ذلك؛ أنا وقعت معه عقد الإيجار انتهيت، كيف؟ هذه مسئوليتك هذا دكانك، أنت باستطاعتك أن تخرجه منه، وأن تمنع وقوع الفساد، فلماذا لا تفعل؟

مشكلة الفوضى وضياع الأوقات عند الشباب

مشكلة الفوضى وضياع الأوقات عند الشباب ثم ننتقل إلى مشكلة أخرى من المشاكل أو الشكاوى مع حلها، يقول: إنني شاب طالب أشكو من الفوضى وضياع الوقت، لا أعرف ماذا أفعل، قد أبدأ بعمل ثم لا أنتهي منه وأنا مقصر في الدراسة وأيضاً في طلب العلم وأيضاً في الدعوة إلى الله، لا أعلم ماذا أُقدم وماذا أؤخر، وأخشى من ضياع عمري بلا فائدة، أحس كأني أسير لغير هدف، فكيف أفعل في تنظيم وقتي؟ A نقول: سبق أن أجبنا عن هذه المشكلة، أو سبق أن كانت المحاضرة الماضية: كيف ينظم المسلم وقته عن هذا، ولكن بعض الإخوان يقول: نحتاج لتركيز في الموضوع، بين لنا المسألة بخطوات، فإجابة لهذا الطلب، وتبييناً لحل هذه الشكوى، فإننا نقول: هاك واحداً وعشرين نقطة في مسألة تنظيم الوقت: الأولى: أن يشعر الإنسان المسلم بالغيرة على وقته، وأنه إذا ذهب فإنه لن يعود. ثانياً: أن يستشعر الهدف الذي خُلق من أجله، وأن عبادة الله شاقة، وأن الواجبات أكثر من الأوقات. ثالثاً: أن ينظر في حاله وإمكاناته وأن يدرس وضعه جيداً، وبناءً على ذلك يخطط لتنظيم وقته. رابعاً: ليعلم بأن الترتيب مهم جداً، وأنه يوفر أوقاتاً كثيرة وخصوصاً عند البحث عن الأشياء الضائعة. خامساً: التخطيط وكتابة مذكرات بما ينوي أن يفعله الإنسان كل يوم مثلاً. سادساً: عمل جداول زمنية سواء للأيام أو للأعمال التي يريد أن يقوم بها بحيث تتلاءم مع واقعه ومع قدراته دون تسريح في الخيال أو الأحلام أو وضع أشياء لا يستطيع أن يطبقها. سابعاً: تحديد مواعيد الأشياء الثابتة كالأكل والنوم والمذاكرة والزيارة. ثامناً: توزيع المهمات التي يستطيع أن يساعده فيها الآخرون. تاسعاً: أن يبذل كل ما يستطيع من مال من أجل توفير وقته. عاشراً: قتل مضيعات الوقت كالنوم الكثير والأكل الكثير والكلام الكثير والخلطة الكثيرة والمكالمات الهاتفية ووسائل اللهو بأنواعها. الحادي عشر: أن يعود الآخرين على احترام وقته. الثاني عشر: أن يتعلم كيف يستغل وقته بالسماع والقراءة في أوقات الانتظار مثلاً، أو في الأوقات الضائعة في السفر ونحوه. الثالث عشر: أن يستغل وقته بأكثر من شيء إن استطاع. الرابع عشر: أن يحارب التسويف، وأن يعلم بأنها عادة قبيحة وأن يقدم على تنفيذ المهمات ولو كانت صعبة وشاقة لكي يستريح، وأن يجزئها إلى أجزاء صغيرة ما أمكنه ذلك ليسهل قضاؤها. الخامس عشر: أن يستعين بالالتزام مع الآخرين ليتشجع ويستمر، قضية الالتزام الجماعي وقد سبق أن بيناها. السادس عشر: إياك والكمال الزائد.

جثة الآدمي لا تنجس

جثة الآدمي لا تنجس Q ما الحكم في رجل لمس جثة أو هيكلاً عظمياً. فهل يجب أن يغسل يده أم لا؟ A يقول الشيخ/ ابن عثيمين إجابة على هذا السؤال: الآدمي ليس بنجس سواء كان كافراً أو مسلماً، وبناء عليه فإنه لو لمس الجثة بيده وهو متوضئ فلا ينفسخ وضوءه ولا يجب عليه غسل يده، وكذلك بالنسبة للهياكل العظمية، لكن يقول الشيخ: لكن إذا كان هيكلاً عظمياً لشيء مذكى يعني: مثلاً: جملاً مذبوحاً، خروفاً مذبوحاً، الهيكل العظمي له طاهر أو نجس؟ الهيكل العظمي لبهيمة من بهائم الأنعام قد ذكيت وذبحت طاهر، أما إذا كان هيكلاً عظمياً لقرد فيقول الشيخ: الظاهر أن القرود نجسة، وكذلك الميتة لو قتلوها وبعد ذلك أخذوا الهيكل العظمي للدراسة فهذا الهيكل نجس، فلو لامسه بيده ويده رطبة من العرق ونحوه فإنه لا بد أن يغسل يده.

حكم ربط الشعر أثناء الصلاة للمرأة والرجل

حكم ربط الشعر أثناء الصلاة للمرأة والرجل Q هذه امرأة سألت: هل يدخل في النهي عن عقد الرأس أثناء الصلاة، وهذا ورد في الحديث الصحيح النهي عن ربط الشعر أثناء الصلاة، هل يدخل فيه المرأة التي تربط شعرها باللفافات أو مثلاً بشيء تربط الشعر فيه هل يدخل هذا في النهي هذا أم لا إذا أرادت أن تصلي؟ A فأجابني الشيخ/ عبد العزيز بن باز حفظه الله تعالى: لا يدخل ذلك في الحديث لأنها مأمورة بستر شعرها، لأن شعر المرأة عورة في الصلاة، فما دامت أنها تستره فإن هذا الربط الحاصل في شعرها لا يدخل في النهي عن عقد الشعر أثناء الصلاة.

مسألة إهداء الأعمال لرسول الله صلى الله عليه وسلم

مسألة إهداء الأعمال لرسول الله صلى الله عليه وسلم وسألته حفظه الله عن مسألة تقع في الذين يقدمون للكتب، بعض الكتاب لما يقدم للكتاب يقول: إهداء، أهدي هذا الكتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأجاب الشيخ حفظه الله: لا أعرف لها أصلاً، هذه مسألة إهداء الكتب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، إن الرسول صلى الله عليه وسلم غني عن أعمالنا، بعض الناس يقول: أريد أهدي أريد أن أعمل حجة للنبي صلى الله عليه وسلم أريد أقرأ قرآناً للنبي صلى الله عليه وسلم أريد أن أتصدق للرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا الأمر محدث وليس من السنة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم غني عن أعمالنا. ثانياً: بما أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد دلنا على كل خير فـ (الدال على الخير كفاعله) فلو أنت الآن صليت صلاة بالسنة كما هي السنة، فمثل أجرك يذهب للرسول صلى الله عليه وسلم، لو ضحيت أضحية قد دلك عليه الصلاة والسلام، فمثل أجرك يذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، لو سبحت تسبيحاً علمك إياه صلى الله عليه وسلم، فمثل أجرك يذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا كان الثواب والأجر واصل إليه صلى الله عليه وسلم، فلماذا تهدي إليه الأعمال؟

وصلت مساعدة الزواج بعد تيسر أموري فهل أعيدها؟

وصلت مساعدة الزواج بعد تيسر أموري فهل أعيدها؟ وهذا سؤال يقول: قدم على طلب مساعدة للزواج، وقبل أن تصل إليه المساعدة تيسرت أموره. هل يجب عليه ردها أم لا؟ A يقول الشيخ/ عبد العزيز حفظه الله: يردها؛ لأن الغالب إذا كانت جاءت من طريق الزكاة، أن هذه المساعدة جاءت من زكاة، فيجوز دفع الزكاة إلى الرجل الذي يحتاج للزواج ويخشى على نفسه الحرام فعلاً ولا يجد مالاً يتزوج به يجوز إعطاؤه من الزكاة، فهذا الشخص قبل أن تصل إليه المساعدة وينفقها تيسرت أموره فهنا يردها، وإن كانت من غير الزواج يقول الشيخ/ ابن عثيمين: يستأذن الجهة التي قدمت المساعدة فإن أذنت له وإلا ردها.

فرق بين عتق رقبة وبين افتداء أسير مسلم

فرق بين عتق رقبة وبين افتداء أسير مسلم وهذا سؤال أيضاً وردنا من بعض الإخوان يقول: هل افتداء الأسير المسلم في سجون الكفار إن كان محكوماً عليه بالإعدام يقوم مقام العتق في الكفارات؟ فمثلاً: إذا قتل شخص إنساناً خطأ في حادث سيارة فعليه عتق رقبة، والآن لا يوجد عتق رقبة ولا يتيسر في هذا الزمن، وعلم أن هناك مسلمين في سجون أفغانستان مثلاً عند الكفرة، وأنه من الممكن لهؤلاء الكفرة أن يأخذوا فدية ويطلقوا الأسير المسلم المحكوم عليه بالإعدام عندهم، فهل يقوم هذا مقام عتق الرقبة في الكفارات أو لا؟ A انوِ الاستفادة مما ستسمعه من فتوى الشيخ/ عبد العزيز رحمه الله، وكذا الشيخ/ محمد بن صالح العثيمين فقد كان الجواب واحداً: لا يجزئ ذلك لأنها ليست رقبة، بل هو أسير والأسير شيء والرقيق شيء آخر، ولذلك لا يقوم مقامه. ولكني سألت الشيخ/ عبد العزيز حفظه الله عن مسألة الرقاب الموجودة في موريتانيا: هل هي ما زالت موجودة إلى الآن؟ وهل يقوم مكتب الدعوة والإرشاد التابع للشيخ في موريتانيا بعملية عتق الرقاب؟ فقال الشيخ: نعم. ما زالت المسألة موجودة إلى الآن، وبإمكانه إذا أراد أن يرسل المبلغ تكلفة عتق الرقبة، هذه كم هي عشرة آلاف أو اثنا عشر ألفاً الله أعلم، يرسله عن طريق الشيخ/ عبد العزيز إلى المكتب في موريتانيا فيشترى به رقيقاً هناك رقبة مؤمنة وتفك.

لا يخطب على خطبة أخيه

لا يخطب على خطبة أخيه Q هذا سؤال يقول: تقدم رجل إلى أهل بيت يخطب ابنتهم فقالوا: نفكر، ثم تقدم خاطب آخر بعده بأيام، يعني: لا يدري عن الأول تقدم شخص آخر، فهل يجب على أهل هذا البيت أهل البنت إخبار الثاني بأن الأول متقدم حتى يذهب ولا يأتينا حتى ننتهي من الأول؟ A فكان جواب الشيخ/ ابن عثيمين: لا يجب عليهم ذلك، وإذا رأوه أنسب يجوز لهم أن يزوجوه؛ لأن الثاني لا يدري عن الأول، كل واحد تقدم من جهة، فحسب الأنسب، ليس بلازم الأول إذا رأوا أن الثاني أنسب أو الثالث أنسب فليزوجوه. ثم سألته حفظه الله: هل المحرم في الخطبة على الخطبة هو في حالة الموافقة على الأول؟ أم يشمل فترة التردد؟ يعني: هل يحرم على الخاطب الثاني أن يتقدم إذا وافقوا على الأول؟ ولو كانوا مترددين فيه ولا زال تحت البحث فإنه يحرم على الثاني إذا علم أن الأول متقدم أن يتقدم؟ الجواب: فكان جوابه حفظه الله: يشمل كل فترة خطبة الأول وتقدمه وبحثهم عنه والسؤال حتى يرفضوه، فإذا قالوا: لا. هنا يتقدم الثاني، أو يُعلم من طول المدة التي ما ردوا له فيها خبراً أنهم رفضوه لأنه أحياناً لا يقولون: لا بل يسكتون لا يريدونه فيسكتوا، وتظل المسألة شهراً وشهرين أو ثلاثة أو أربعة أو ستة فيكون من الواضح أنهم لا يريدونه من الحال والقرائن فعند ذلك يجوز له أن يتقدم.

لا يجوز عرض أختين على خاطب في وقت واحد

لا يجوز عرض أختين على خاطب في وقت واحد وهذا شخص سألنا سؤالاً عجيباً! يقول: هل يجوز أن يرى أختين في نفس الوقت ويختار واحدة منهما؟ A فيقول الشيخ/ ابن عثيمين حفظه الله: لا يجوز ذلك، وإذا لم تعجبه الأولى يطلب النظر إلى الثانية، أما أن يقول: أروني بناتكم وأنا أختار، فهذا لا يصح، العائلة لا ترضى أصلاً بهذا، يقولون: نحن لسنا معرضاً تجارياً، نضع بناتنا سلعاً تأتي أنت وتنظر وتختار على كيفك.

حكم وضع العدسات الملونة

حكم وضع العدسات الملونة Q جاء من امرأة، ما حكم وضع العدسات الملونة على العينين؟ A سألته للشيخ/ محمد ناصر الدين الألباني حفظه الله فقال: إذا كان للتجميل فلا يجوز ذلك.

صفات القرين الصالح

صفات القرين الصالح ثم نأتي إلى مشكلة أخرى، يقول: إنني شاب حديث عهد بالاستقامة أرى من حولي أناساً كثيرين على خير وصلاح، فأحتار من اتخذ منهم قريناً، فأرافق هذا تارة وهذا تارة وأشعر بالتشتت. فما هي صفات القرين الصالح الذي لو وجدته رافقته؟ وما هو الحل لهذه المشكلة؟ A هذا الواقع صحيح، فالإنسان لابد له أن يتعلم، فمثلاً: إذا استقام شخص على الشريعة وهو في البادية استقام على الملة المحمدية واستقام على الدين لا بد له من أناس يعلمونه، لا بد من قرين يربيه، لا بد من شخص طيب يسير معه، لا بد من قدوة يتأثر به، والقدوة الحية مهمة، وإذا قال شخص: يا أخي! الرسول صلى الله عليه وسلم قدوة فيكفينا هذا، فنقول: هذا قدوة ونعم بها وهي أعظم قدوة، لكن القدوة الحية لها أثر، ألم تروا إلى الحديث الصحيح: لما جاء قوم مجتابو النمار، أي: مقطعةٌ ثيابهم، ومعنى جاب في اللغة يعني: قطع، ولذلك يقول الله عز وجل: {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} [الفجر:9] قطعوه من الوادي وأتوا به فبنوا به، فالرسول صلى الله عليه وسلم قدوة، كلمهم فما تحرك أحد، كلمهم وانتظر أن واحداً من الناس يقوم فما قام أحد مع أنه قدوة عليه الصلاة والسلام، فلما قام ووعظ الناس على المنبر وتكلم جاء رجل بصرة كادت كفه أن تعجز عنها بل قد عجزت ثم تتابع الناس، لماذا تتابع الناس؟ لأنهم رأوا القدوة أمامهم، شخص أتى بصرة كبيرة كادت كفه أن تعجز عنها، فتتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل كأنه مذهبة، صفيحة ذهب عندما تسطع عليه الشمس صلى الله عليه وسلم، فالآن انظروا القدوة مع الرسول صلى الله عليه وسلم كيف أثرت، وهناك أناس استفادوا من أبي بكر وعمر مع وجود الرسول صلى الله عليه وسلم، لذلك نقول: القدوة مهمة من الناحية التربوية، ولكن لما كان الناس الذين فيهم خير واستقامة كثيرين والحمد لله فكان لا بد لسالك طريق الاستقامة الذي يريد التربية وطلب العلم أن ينتقي الأفضل طبعاً بلا شك، ولذلك لا بد أن يعلم ما هي الصفات التي إذا توفرت في شخص يلازمه، فنقول: إن لذلك صفات عدة، نذكر منها سبع صفات، فنقول: الأولى: أن يكون هذا الذي تريد أن تصاحبه ذا عقيدة صحيحة، هذا أول شيء يجب أن يكون اعتقاده صحيحاً، ينبغي أن يكون اعتقاده اعتقاد أهل السنة والجماعة في جميع الأبواب في الإيمان في الأسماء والصفات في القضاء والقدر، يجب أن تكون عقيدته صحيحة فلا يكون من الخوارج ولا من المرجئة ولا من الأشاعرة ولا من الماتريدية ولا من الصوفية ولا من أصحاب الحلول، كل هذه المعتقدات الباطلة ينبغي أن يكون صاحبك هذا متبرئاً منها تمام التبرؤ، بل إنه يجب أن يكون عنده علم بعقيدة أهل السنة والجماعة وأن يلتزمها في نفسه وأن تبنى عليها تصرفاته. فمثلاً: لا بد أن يكون عنده ولاء وبراء يوالي المسلمين المؤمنين أهل السنة والجماعة حتى ولو كانوا في آخر الدنيا، لو كان هناك شخص من أهل السنة والجماعة في الصين فإنني أشعر تجاهه بولاء له ولو كان أخي في البيت ملحداً أو كافراً أو مبتدعاً فإنني أشعر ببغض له انطلاقاً من قضية العقيدة. ولذلك -أيها الإخوة- تجدون في الواقع بعض الناس عقيدتهم منحرفة هؤلاء لا يجوز مخالطتهم نهائياً، بعض الناس عندهم عقيدة صحيحة لكن لا يوالون ولا يعادون من أجلها. اسمعوا مني هذه النقطة المهمة جداً: بعض الناس عقيدتهم صحيحة من ناحية العقيدة، فمجمل العقيدة عندهم صحيح، لكن لا يوالي من أجلها ولا يعادي عليها، ولذلك يمكنه أن يتعاون مع أشعري ومع مرجئ ومع صوفي ومع خرافي ومع مبتدع، يقول: نتعاون معهم في الدعوة، نقول: هذا ضلال وانحراف، ولا يجوز هذا مطلقاً، وإنما قامت دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم على تجريد التوحيد وعلى العقيدة الصحيحة، ما قامت على خزعبلات ولا كفريات وشركيات وبدع وضلالات، فهذا أمر غير مقبول، ولا بد أن يكون لنا مواقف من أهل البدع، لا بد أن نفاصلهم، فأهل البدع والضلالات لا نصادقهم أو نسكت عنهم ونقول: لمصلحة الدعوة، كلا وألف كلا، إن هذا أمر خطير، بل يجب أن نعلن الدعوة الصحيحة، وأن نقول لهم: إما أن تلتزموا معنا بهذه العقيدة أو تفارقونا. الثاني: أن يكون صاحب سنة، ما معنى صاحب سنة؟ يعني: يلتزم بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم في الكبير والصغير، ويعتمد السنة مبدأً يسير عليه وطريقاً، ولا نقصد بالسنة أمور الفرعيات فقط، يعني: يلتزم السنة في كيفية الصلاة وكيفية الوضوء. ليس هذا فقط هذا مهم، لكن لا بد أن يكون صاحب سنة أي: منافياً للبدع ولأهل البدع محارباً لهم صاحب سنة، والسنة ضد البدعة. ويشمل كذلك: أن يعتمد على الدليل الصحيح من أقوال أهل العلم الذين يأخذ بأقوالهم، فينظر الدليل الصحيح ما يوافق أقوال العلماء من الدليل الصحيح فيتبعه ويأخذ به، فهو إذاً ليس مقلداً تقليداً أعمى، بل هو صاحب سنة يرعى الدليل وينظر دليل العالم هل هو موجود وصحيح فيأخذ بقول العالم، لا يفتح الكتاب والسنة ثم يقول: أنا أجيب من عندي، فهذا ضلال، وإذا لم يكن عنده شروط هذا الاستنباط أو معرفة الأحكام لا يفعل هذا، لكن عندما يأتي في مسألة من المسائل الفقهية يريد أن يعرف الحكم، فإنه يعرف الدليل، فهو إذاً ليس متعصباً لمذهب من المذاهب، ولا لطريقة من الطرق، ولا لشيخ من الشيوخ، وإنما متجرد لله عز وجل، يعبد الله على بصيرة، ما معنى بصيرة؟ يعني الدليل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف:108]. ثالثاً: أن يكون صاحب علم شرعي، يهتم بالعلم الشرعي، أي: يهتم بالتعلم، وحلقات العلماء، والقراءة في كتب العلم، ويهتم بأقوال أهل العلم ولا يستنبط أقوالاً من عند نفسه، بل يأخذ من أقوال العلماء وأقوال السلف يحرص عليها ويحرص على حلق العلم وعلى طلب العلم، ولا يكون إنساناً جاهلاً فإنك لا تستفيد منه، أو يكون إنساناً فقط عنده علم ببعض المذاهب وبعض القضايا العامة ويقول: هذا داعية، ماذا تستفيد منه؟! إذا ما كان صاحب علم شرعي مؤسس فليس بقرين يصلح أن تقتدي به. رابعاً: أن يكون صاحب عبادة وتقوى وورع، فإنه قد يكون إنساناً بالإضافة إلى ما تقدم قد يكون عنده أشياء من المعاصي أو الكبائر أو أنه إنسان يرتكب المنكرات والمعاصي فلا خير لك حينئذ في صحبته، فلا بد أن يكون إنساناً تقياً وورعاً، صاحب عبادة، بعيداً عن الشبهات، وقافاً عند حدود الله، يفعل الواجبات ويجتنب المحرمات، تظهر آثار الطاعة عليه. خامساً: أن يكون حسن الأخلاق، لأنك لا بد أن تتأثر به، فإذا كان عنده حدة، وسريع الغضب، وينتقم لنفسه، ويجادل بالباطل، وهو إنسان عاق لوالديه، وهو يستعمل السباب والشتائم، فعند ذلك سيكون تأثرك به سلبياً، فلا بد أن يكون على خلق حسن. سادساً: أن يكون مهتماً بالدعوة إلى الله وهداية الناس وأحوال إخوانه المسلمين، ينبغي أن يكون عنده إلمام بهذا، وليس متقوقعاً على نفسه أن يكون إنساناً داعية، يخرج ويذهب ويتنقل من مكان إلى آخر يدعو وينير للطريق يهدي هداية الدلالة والإرشاد ويهتم بأحوال المسلمين من إخوانه ولو كانوا في أطراف الأرض. سابعاً: أن يكون صاحب منهج في التربية، يعرف كيف يربي الناس، يعرف كيف يأخذهم درجة درجة، يعرف الأوليات، عنده مفهوم التدرج واضح، تستطيع أن تستفيد منه في التربية. وقد تقول لي: هذه أين تتوفر، هذا كالكبريت الأحمر؟ أقول لك: الحمد لله النماذج موجودة، لكن قد تقل عند أناس وتكثر عند أناس، أو بعضها يقل عند شخص ويكثر عند آخر، فسددوا وقاربوا، وانتق الأشخاص. هذه القضية خطيرة وحساسة، ينبغي أن تنتقي الشخص الذي تقتدي به، تنتقي الشخص الذي يوجهك ويربيك وليس أي واحد من الشارع، لا بد أن تتفرس فيه وتتأمل في أحواله وتسمع له وتنظر وترى تقول: هل هو صاحب عقيدة، هل يظهر شيئاً من المفاصلة، هل يظهر شيئاً من الولاء والبراء، هل هو صاحب سنة، كيف منهجه في الفقه، كيف يعتمد على الدليل أم يقلد تقليداً أعمى، هل يهتم بالعلم أم هي مسائل عامة هكذا، هل هو صاحب منهج واضح وعنده أشياء تتدرج وينتقل من مرحلة إلى أخرى، فيتضح لك: أهو قائم على الحماس وعلى الكلام الفاضي، أو أنه إنسان عنده أساسيات يأخذ الناس بالأسس، وهكذا تتبين عند ذلك من هو الشخص الذي تقتدي به وترتضيه لك قدوة ومربياً ومن لا.

من بقي عنده مال لكافر

من بقي عنده مال لكافر وهذه مجموعة من الأسئلة يقول: لو صار عنده مال لكافر ولم يدر أين هو صاحب المال. فماذا يفعل؟ مثلاً: عندك عامل فلبيني كافر عمل لك عملاً وما حاسبته مباشرة مع أنه المفروض أن تحاسبه: (أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه) بعد ذلك ذهب وما عرفت مكانه. فماذا تفعل؟ هل تتصدق بها نيابة عنه؟ قد تقول لي: الصدقة لا تصل الكفار، يعني: لا ينتفعون بها في الآخرة لأنهم في جهنم خالدين فيها. وسألت شيخنا عبد العزيز بن باز حفظه الله عن هذه المسألة فقال: نعم. يتصدق بها نيابة عنه لأنها تنفعه في الدنيا. الكفار فإن الله عز وجل يعطي في الدنيا أموالاً وأولاداً، صحة: نملي لهم ليزدادوا إثماً أي: نعطيهم، فيقول الشيخ: إذا ما عرفت الكافر هذا فتصدق بها نيابة عنه يصل أجرها إليه لكن في الدنيا.

مسافر صلى خلف إمام لا يدري هل هو مسافر أم مقيم

مسافر صلى خلف إمام لا يدري هل هو مسافر أم مقيم Q دخل رجل مع إمام في جماعة في مسجد في قرية على الطريق لا يدري هل الإمام مقيم أو مسافر، وصلى ركعتين وسلم الإمام، فصاحبنا هذا لا يدري هل الإمام مقيم فيكمل ركعتين بعده في صلاة العصر مثلاً، يعني: لا بد للمسافر المأموم أن يتم وراء الإمام المقيم، أو هو إمام مسافر تكفيه الركعتان؟ فكان السؤال الذي وجهته للشيخ/ عبد العزيز حفظه الله، فلما سلم مع الإمام من الركعتين تبين له أن الإمام مقيم، يعني: لو تبين أن الإمام مسافر لا يتم؟ A قال الشيخ: إن لم يطل الفصل صلى ركعتين ليتمها، إذا ما طال الفصل قام وأتى بركعتين وسلم، وقد تقول لي: سأل الحاضرين، قال: الإمام هذا مقيم أم مسافر، فصار هناك كلام، فهل هذا يمنع من إتمام الركعتين؟ لا يمنع لأن الكلام لمصلحة الصلاة فلا يضر بها، لذلك الرسول صلى الله عليه وسلم لما سلم من الركعتين كما ورد في البخاري من صلاة الظهر قال له الناس: (قصرت الصلاة أم نسيت؟ قال: لم تقصر ولم أنس) ثم تبين له وصار هناك نقاش في المسألة وأخذٌ وعطاء وهناك أناس خرجوا خارج المسجد، ثم قام فأتى بالركعتين الباقية لما تأكد أنه صلى ركعتين فقط، ثم سلم، ثم سجد للسهو ثم سلم، فالمناقشة التي حصلت؛ لأنها لمصلحة الصلاة ما قال: ما دام حصل كلام بطلت الصلاة وإنما أكمل، ولذلك الشيخ حفظه الله حدثني عنه الثقة قال: صليت وراء الشيخ قبل عشرين عاماً فكان على الشيخ سجود سهو بعد السلام، فسلم ثم أراد أن يسجد فالناس ما سلموا، فقال لهم: سلموا، ثم سجد للسهو ثم سلم، فقوله هنا: سلموا، لمصلحة الصلاة ليعلم الناس لأنه لا بد من التبليغ، قال: سلموا، ثم سجد للسهو ثم سلم.

حكم الصلاة في الحمام للضرورة

حكم الصلاة في الحمام للضرورة وهذا سؤال أيضاً يقول: غلام نصراني أسلم سراً يخشى الفتنة في دينه إذا علم أهله بإسلامه، وهو طالب صغير في مدرسة، ما عنده مكان يصلي فيه، فإذا خاف أن يكتشفوا أمره فقد يرحلوا به إلى ديار الكفر مثلاً أو يفتنونه في دينه وهو إنسان لا يستطيع الثبات فلا زال صغيراً، فكان السؤال الذي وجهته للشيخ حفظه الله: هل يجوز أن يصلي في الحمام؟ A فقال الشيخ: الظاهر أنه لا حرج إذا لم يجد مكاناً آخر، إذا صلى أمامهم قد يكشفونه ويفتن في دينه، قال الشيخ: إذا لم يجد مكاناً آخر فلا حرج، ولكنه قد يجد مكاناً آخر وقد يجد في بعض الصلوات مكاناً وبعض الصلوات الأخرى لا يجد، فلذلك إذا كان يستطيع أن يجد فلا بد أن يصلي؛ لأن الصلاة في الحمام منهي عنها، نهى عن الصلاة في المقبرة والحمام، لكن إذا ما وجد لا يترك الصلاة.

امرأه تشكو زوجها

امرأه تشكو زوجها ننتقل إلى سؤال آخر وإلى مشكلة أخرى. تقول: تزوجت من رجل كان يظهر في البداية الخير والاستقامة، قدم لي هدايا ولاطفني ولاطف أهلي، سألنا عنه قالوا: إنسان طيب وأخلاقه طيبة، وبعد الزواج تبين ما يلي: إنه تارك للصلاة، يستهزئ بي وبديني وبحجابي، حتى إنه أعطاني مهلة لأنزع الحجاب وأكشف على إخوانه، وأقدم الضيافة لأصحابه الرجال الأجانب، وينزع عني الحجاب بالقوة، وحرمني من المناسبات الطيبة ولقاء أخواتي في الله وحضور المحاضرات الدينية، مزق كتبي وكسر الأشرطة الإسلامية التي لدي، ويضربني دائماً ويشتمني ويهينني حتى أمام أهله، ويقول: أنا أخذتك من الشارع، ومرة انفرد بي في غرفة وضربني حتى سال الدم وأسقطت مرتين إحداهما طفل له أربعة أشهر دفناه، والإسقاط نتيجة الضرب. يسافر إلى الخارج إلى بانكوك والفليبين، ولديه خطابات من نساء هناك وصور بين أوراقه، يسافر للبلاد البعيدة للفاحشة وللقريبة لشرب الخمور، ويتذرع بأن لديه أعمالاً وأشغالاً في تلك البلاد، وهو يتعاطى المخدرات ولا ينفق علي وأعطاني مرة مائة ريال وقال: هذا مصروف سنة، اشتريت كثيراً من أغراض البيت من مالي الخاص، حتى الحلويات أوفرها من الضيافة عند الناس الآخرين لأجل أولادي، يستهزئ بالدين ويقول: ما عليك مني إذا ربي يهديني هداني، مالك دخل أنا ربي يحاسبني، أنا في النار ما عليك مني، أنا قلبي نظيف، البيرة التي أشربها فيها واحد في المائة كحول، وإذا سألته: لماذا كان سكران؟ قال: كنت أمثل عليك، إذا رآني أصلي وأدعو ربي قال مستهزئاً: أنت شحاذة ما عندك إلا الشحاذة من الله، ويطلق في كل شيء ووقت وأنا أظن أني أعيش معه بالحرام. هذه -أيها الإخوة- جمعتها من أكثر من سؤال ورد في نفس المشكلة تقريباً، هناك رجال تجار لا يخافون الله منتشرون في المجتمع لا يعرفون حدود الله ولا عندهم أدنى اهتمام ولا أدنى احترام ولا أدنى ذرة من إيمان أو خشية من الله عز وجل، ولذلك عندما تقع امرأة مسلمة في براثن مثل هؤلاء الأشخاص فإن طامات كثيرة تحدث وبلاوي، وهذا نموذج من النماذج، وأسئلة نتلقاها بالأوراق وبالهاتف وأشياء نقرؤها من هذا القبيل، وهذه المشكلة تتحمل المرأة منها جزءاً لا بأس به، لأن كثيراً من الفتيات اللاتي يتقدم إليهن أشخاص لا يحسن لا هن ولا أولياء أمورهن مع الأسف السؤال عن الشخص المتقدم، حيث يقولون في البداية: سألنا عنه قالوا: إنسان طيب وأخلاقه طيبة ويصلي في المسجد؟ من أين أتت هذه الأشياء؟ أيها الإخوة! الوعي مهم وهذا من الوعي فهذا زواج وهذا عمر وهذه عيشة، وإذا كان الرجل كافراً فالعقد باطل، العقد فاسد والدليل: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة:10] لا تحل مسلمة لكافر ولا كافر لمسلمة، لا يجوز وهذا حرام، فالعقد غير صحيح، ولذلك هذه المرأة كان زوجها بالصفة التي ذكرت لا يصلي نهائياً ويستهزئ بالدين فهو كافر، ولذلك تأخذ أغراضها وتذهب إلى بيت أهلها مباشرة، قد تقول: أهلي ردوني قالوا: تصرفي أنت وزوجك ما لنا دخل، لسنا على استعداد أن نصرف عليك، كما يحدث عند البعض، تبحث قد تكون موظفة، تستأجر بيتاً لوحدها، تخرج من عنده، قد يكون لها من يؤويها من قريب أو صديق، تخرج من عنده، لو ما استطاعت ولم تجد تتحجب منه ولا يجوز لها أن تمكنه من نفسها لأنه رجل أجنبي كافر والعقد باطل. أما لو كان فاجراً أو فاسقاً لكنه مسلم فإنها تصبر عليه وتنصحه حتى يهتدي وهي تقيم عليه الحجة في جميع الأحوال، متهاون بالصلاة أو فاجر فقط يجب عليها أن تقيم الحجة فإذا أصر على كفره تركته وإذا أصر على فجوره ما تحملته تذهب إلى القاضي وتشكو أمرها إليه، وهؤلاء الأولاد الذين يتربون في مثل هذا البيت كيف سينشئون؟ وماذا سيتعلمون؟ هناك مشاكل كثيرة -أيها الإخوة- موجودة في الواقع، وحتى لا نطيل بذكر هذه القضية فقط سبق أن تكلمنا في محاضرة لعلها -إن شاء الله- تكون متوفرة قريباً بعنوان: المرأة المسلمة على عتبة الزواج، ذكرنا فيها بعض النقاط المتعلقة بهذه المسألة، فالحذر الحذر يا أيتها الفتاة من الشخص المتقدم، وأنت يا ولي الأمر من أب أو أخ ينبغي أن تتقي الله في هذه البنت التي سوف تسلمها للرجل، من هو؟ اسأل عنه ودقق وابحث، فإن الخطأ لو حدث قد يستهلك إصلاحه دهراً طويلاً وربما لا يصلح وربما تكون قد ارتكبت جريمة كبيرة بإسلامك المرأة لهذا الشخص.

حكم الطعام المصنوع لمناسبة ظهور أسنان الطفل أو مشيه

حكم الطعام المصنوع لمناسبة ظهور أسنان الطفل أو مشيه هذا سؤال يقول: ما حكم الطعام المصنوع لمناسبة ظهور أسنان الطفل أو مشيه؟ بعض الناس عندهم عوائد إذا طلعت أسنان الولد أو مشى صنعوا وليمة، يعني: حبوباً أو أنواعاً من الحليب أو أشياء من الحلويات. أجابني على هذا السؤال الشيخ/ محمد ناصر الدين الألباني حفظه الله فقال: إذا لم يعتقد أنها سنة ولم يوهم أنها سنة فلا بأس بذلك، إذا ما اعتقد أن هذه سنة لأنه ما ثبت ولا أوهم الناس أنها سنة فجائز، ولا بأس بذلك، من عوائد الناس فهي جائزة.

حكم من جامع زوجته بحائل ولم ينزل

حكم من جامع زوجته بحائل ولم ينزل وهذا سؤال آخر يقول: جامع زوجته بدون إنزال بحائل -غطاء بلاستيكي- مثلاً. فما حكم الاغتسال؟ يقول الشيخ/ عبد العزيز بن باز أول ما سمع Q حيلة فاجرة لإسقاط كفارة الصيام والاغتسال، ثم قال بعد ذلك: لو كان ما هو قصده لإسقاط الكفارة والاغتسال جامع بهذا الحائل وليس قصده أنه فعل ذلك في نهار رمضان ولا شيء بل عمله بشكل عادي فقال: فلا بد من الاغتسال حتى ولو وضع حائلاً لا يقول: والله ما مس الختان الختان ولا أنزل لأنه عندي حائل، بل يجب عليه الاغتسال.

الانضباط بأنظمة الشركة التي تعمل فيها

الانضباط بأنظمة الشركة التي تعمل فيها وهذا سؤال يقول: عمل في شركة أو مؤسسة يحتاج إلى رجلين، وظفت عليه الشركة أربعة. هل يجوز أن يقسموا مدة العمل بينهم بحيث يبقى اثنان نصف الدوام والاثنان الباقيان يذهبان من هنا ومن هنا، يعني: على أساس أن العمل يحتاج لاثنين فقط، هذا موجود في بعض الدوريات وفي بعض الشركات وبعض النوبات، يكون في النوبة أربعة يكفي واحد أو اثنان لأداء العمل، فيقول بعض الإخوان سألوا: هل يجوز أنه نوزع علينا النوبات هذه والباقي يذهبون. فسألت عن هذا الشيخ/ ابن عثيمين فقال: إذا أذنت الشركة أو أذن المسئول المباشر إن كان مفوضاً، لأنه أحياناً يكون المسئول الذي عليهم طيباً فيقول لهم: اذهبوا لكن ما عنده تفويض لهذا الشيء، فإذا كانت الشركة أذنت والمسئول المباشر مفوض بهذا الأمر فلا بأس أن يجعلوا واحداً أو اثنين حسب حاجة العمل وإلا وجب عليهم جميعاً أن يكونوا عند العمل، هذا دوام مشروط تأخذ عليه راتباً لا يصح أن تتلاعب.

حكم وضع المباخر أمام المصلين

حكم وضع المباخر أمام المصلين Q وسألني بعض الإخوان عن حكم وضع المجامر في المساجد على حاملات المصاحف بين الصفوف أثناء الصلاة -ليس أثناء الخطبة- أثناء الصلاة نضع مجامر -يعني: هذه المباخر- هل يدخل هذا في النهي عن استقبال النار في الصلاة؟ A فقال الشيخ/ عبد العزيز بن باز حفظه الله: الأحوط ألا توضع، لا توضع مبخرة فيها جمر أثناء الصلاة.

امرأة زوجها يبذر راتبه في الخمور

امرأة زوجها يبذر راتبه في الخمور Q وهذه سائلة تقول: زوجها يبذر راتبه في الخمور. هل يجوز لها أن تأخذ منه خفية لتوفره لأولادهما في المستقبل؟ A فقال الشيخ/ عبد العزيز حفظه الله: نعم. يجوز لها أن تأخذ بغير علمه وتوفره وهي مأجورة، يقول الشيخ: ولو استطاعت أن تأخذه كله فلتفعل؛ لأنه إنسان يبذر هذه الأموال في الحرام. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والله تعالى أعلم. سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك.

كتب ينصح بها طالب العلم

كتب يُنصح بها طالب العلم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أيها الإخوة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فهذه فرصة طيبة أن نلتقي معاً في هذا المكان، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل اجتماعنا هذا على طاعة وخير، وأن يجعل تفرقنا بعده على مغفرة وبر، ونسأله سبحانه وتعالى ألا يجعل فينا شقياً ولا محروماً من الأجر. موضوعنا في هذه الليلة كما تعلمون الحلقة الثانية من شكاوى وحلول، أو مشكلات وحلول، وسوف نتطرق هذه الليلة -إن شاء الله- إلى بعض المشكلات أو الشكاوى التي اشتكى منها أو يشتكي منها بعض الإخوة ولعلنا نجيب إجابةً مقنعة ووافية -إن شاء الله- على هذه المشكلات والتساؤلات، وأيضاً يوجد لدينا بعض الأسئلة المتراكمة لمحاضراتٍ ماضية نريد قراءة الإجابة عليها. Q إن في نيتي البداية في الإقبال على الكتب الإسلامية بالذات، فكيف أبدأ، خاصةً وأنني أرغب تأسيس نفسي تأسيساً متنوعاً، أي: في علوم الإسلام مثل: التفسير والحديث والفقه والسير. فبماذا تنصحون؟ A كثرت الكتب الإسلامية في الساحة، وصرت تدخل معارض الكتاب فتحتار ماذا تشتري، ومن كثرة الكتب يصاب بعض الناس بهيبة في القراءة فلا يقرءون، أو أنهم يتهيبون من هذه الكثرة فيقعون في حيرةٍ واضطراب. والحقيقة أيها الإخوة: أن الإنسان لا بد أن يسأل مجرباً قد قرأ في هذه الكتب، وأكبر المجربين هم علماء الإسلام الذين بينوا فوائد بعض الكتب، وشرحوا مزاياها، وكذلك يعرف قدر الكتاب بالآتي: أولاً: من ثناء العلماء عليه. ثانياً: من استفاضة خبره بين المخلصين أنه كتاب جيد، وعموم النفع به، وانطلاق ألسنة المخلصين بالثناء عليه وعلى محتواه، أو من شهرة مؤلفه بالخير والوعي والعمق في معالجة المشكلات. ومن تجربة الإنسان الشخصية أيضاً فإنه يقرأ ثم يتبين له الغث من السمين والرطب من اليابس. وهذه مجموعة من الكتب المقترحة في كل فنٍ من الفنون ليجمعها طالب العلم ويقرأ بها على فترات بحسب نشاطه وإقباله: ففي التفسير مثلاً: يقرأ المبتدئ في كتاب: زبدة التفسير من فتح القدير؛ الكتاب الأصلي للشوكاني، والاختصار للأشقر، وهذا كتاب مختصر جداً مجلد واحد، يجمع الكلمة إلى معناها مع شيء بسيط في أسباب النزول، وفوائد أخرى، فإذا أراد أن يتوسع أكثر فإنه يقرأ مثلاً في تفسير العلامة الجليل عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي رحمه الله؛ فإنه كتاب وافٍ وواسع، ولكنه ليس فيه الأسانيد التي يمل منها بعض الناس، وإنما الكلام متصل في شرح الآيات بأسلوب مبسط. وإذا أراد أعلى من ذلك فإنه يقرأ في تفسير العلامة ابن كثير رحمه الله؛ وهو قد يكون أجل مصنفٍ في التفسير، ولاقى قبولاً في هذه الأمة من المتقدمين والمتأخرين من بعد كتابته، وهو تفسير سلفي يمتاز بشرح آيات الكتاب العزيز وفقاً لمنهج أهل السنة والجماعة، وهو تفسيرٌ أثريٌ يمتاز بإيراد الأحاديث والآثار عند تفسير الآية، وأظن بأنه أجود من كل المختصرات التي اختصرته، ولذلك إذا وجد الإنسان طاقةً في قراءته فلا يعدل إلى غيره مع استصحاب كتاب سيد قطب رحمه الله في ظلال القرآن؛ وهو كتاب مهم في بيان التصورات الإسلامية المأخوذة من الآيات مع عرض لبعض المشكلات العصرية على ضوء القرآن الكريم، وكون وجود بعض الملاحظات فيه لا يحط أبداً من شأنه العظيم، ولا يستغني عنه أبداً مسلم يعيش في هذا العصر بالذات. وفي الحديث: لا بد أن يقرأ المبتدئ في كتب الأذكار التي جمعت الأحاديث التي تتكلم عن وظائف اليوم والليلة، مثل كتاب: صحيح الكلم الطيب، ويحفظ هذه الأحاديث الموجودة في هذه الأبواب، أو كتاب: عمل المسلم في اليوم والليلة بشكل أوسع، وكذلك كتاب: صحيح الترغيب والترهيب، وكتاب: رياض الصالحين؛ فإنه كتاب عظيم، والناس عندهم مشكلة وهي أنهم ينظرون بعين النقص إلى بعض الكتب؛ لأنها منتشرة جداً ومع أن الكتاب مهم ولو أنه منتشر جداً، بل إن انتشاره الكبير في كثير من الأحيان يدل على جودته، وإقبال الناس عليه يدل على شيء مما وضع الله لمصنفه من القبول في الأرض، وهذا كتاب: رياض الصالحين للإمام النووي رحمه الله، ولو تيسر أن يقرأ طالب العلم مختصر صحيح البخاري للإمام الزبيدي رحمه الله ومختصر صحيح مسلم للإمام المنذري رحمه الله مع شرحٍ مبسط على الأقل للكلمات الصعبة فإنه قد يكون مر على طائفة ضخمة من الأحاديث ويستفيد فائدة كبيرة من القراءة في هذه الكتب. وإذا احتاج إلى معرفة صحة الأحاديث من ضعفها فإن العلماء قد صنفوا في بيان الأحاديث المشتهرة على الألسنة مصنفات كثيرة، وكذلك صنف العلامة الألباني حفظه الله تعالى مجموعة هامة جداً من الكتب في هذا الباب؛ منها كتاب: السلسلة الصحيحة، والسلسلة الضعيفة، وإرواء الغليل، وصحيح الجامع، وضعيف الجامع الصغير، وصحاح السنن الأربعة التي عزلها، وهذا لا يعني أن طالب العلم لا يقرأ في الكتب الأصلية كالكتب الستة، ولكن عند الحاجة لمعرفة صحة الحديث وكثير من طلبة العلم ليست لديه المقدرة على أن يميز بنفسه في الأسانيد ويحكم بنفسه فلا بد أن يلجأ لمثل هذه الكتب. وبالنسبة للكتب في مجال العقيدة فهناك كتب مبسطة مثل: شرح لمعة الاعتقاد للشيخ محمد بن صالح العثيمين، وأعلام السنة المنشورة للحكمي رحمه الله تعالى؛ وهو كتاب نفيس، وقد صدر في طبعة محققة، وشرح العقيدة الواسطية بهوامش للشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ ابن سعدي وغيرهم، وشرحها كذلك للشيخ الفوزان حفظه الله، وكتاب فتح المجيد؛ وهو كتاب مهم جداً في العقيدة، وهو للعلامة عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ، وسلسلة عمر الأشقر حفظه الله في العقيدة؛ وهي سلسلة موسعة ومبسطة في نفس الوقت وهي مهمة جداً، ويقرأ طالب العلم القواعد المثلى في الأسماء والصفات للشيخ ابن عثيمين، وشرح العقيدة الطحاوية، وكتاب: معارج القبول للحكمي والمنهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى؛ هذه بعض الكتب المتعلقة بالعقيدة. وفي الفقه: فإن كتاب مثل: الروضة الندية للعلامة صديق حسن خان، وسبل السلام للعلامة الصنعاني، ونيل الأوطار للعلامة الشوكاني، وزاد المعاد لـ ابن القيم رحمه الله، والجمع بين منار السبيل لـ ابن ضويان، وإرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل هو أيضاً خطوة جيدة وموفقة -إن شاء الله- في دراسة الفقه، بالإضافة إلى كتاب فقه السنة مع تمام المنة في التعليق عليه، وإذا أراد التوسع فيلجأ لمثل كتاب المغني لـ ابن قدامة رحمه الله، والمجموع في شرح المهذب، ولـ ابن قدامة رحمه الله سلسلة مهمة مثل كتاب: العدة، والكافي، ثم المغني. وفي مجال الأخلاق وتزكية النفس: فإن القراءة في مثل كتاب تهذيب موعظة المؤمنين، والجواب الكافي لـ ابن القيم رحمه الله، والفوائد له أيضاً، وتهذيب مدارج السالكين؛ من الأمور النافعة. وفي أصول التفسير: رسالة مبسطة للشيخ محمد بن صالح العثيمين، ورسالة في أصول التفسير لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. وفي علوم القرآن: لو أخذ فضائل القرآن لـ محمد موسى نصر، والصحيح المسند للوادعي، وعلوم القرآن للصباغ والقطان والزرقاني ثلاثة كتب، والتفسير والمفسرون للذهبي، ومنهج المدرسة العقلية للرومي، واتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر له أيضاً؛ فإنه يكون قد ألم بطائفة جيدة من علوم القرآن. وهناك كتب موسعة: مثل كتاب البرهان للزركشي رحمه الله. وفي علوم الحديث والمصطلح: لو قرأ نخبة الفكر مع شروحها، والسنة ومكانتها في التشريع للسباعي رحمه الله، وقواعد التحديث للقاسمي؛ فإنه أيضاً قد يكون أخذ بطائفة جيدة من المصطلح. وفي أصول الفقه: لو قرأ في كتاب الأصول من علم الأصول للشيخ ابن عثيمين، والواضح في أصول الفقه للأشقر، والبدعة للهلالي من الكتب المبسطة، ولو أراد التوسع بعد ذلك فيقرأ مثل كتاب الاعتصام للشاطبي رحمه الله، وروضة الناظر لـ ابن قدامة رحمه الله. وفي السير والتراجم وهي مسألة مهمة، وعنوان مهم جداً ليربط المسلم ماضيه بحاضره فإنه لو قرأ في السيرة النبوية لـ ابن كثير؛ وهي جزء من البداية والنهاية، والرحيق المختوم

حكم تخليل اللحية

حكم تخليل اللحية Q حكم تخليل اللحية، وإذا نسي الإنسان أن يخلل لحيته ماذا يفعل. فهل يعيد الصلاة أم لا؟ A أما بالنسبة لتخليل اللحية فذكر أهل العلم وفصَّل ابن قدامة رحمه الله في المغني في المسألة في نقطتين أساسيتين، بعد أن نعلم الدليل: (أنه صلى الله عليه وسلم كان يأخذ كفاً من ماء فيجعله تحت الحنك فيدلك به لحيته ويخلل لحيته بالماء) يأخذ كفاً من ماء فيجعله في أسفل الحنك ويدخله في شعر اللحية. وذكر أهل العلم: أن الإنسان إذا كان ذا لحية كثيفة فإن التخليل في حقه يكون مستحباً، وإذا كان ذا لحيةٍ خفيفة بحيث يرى جلده من وراء الشعر فإنه يجب عليه أن يوصل الماء إلى هذا الجلد. وجواباً على السؤال الذي طرح: قال صالح رحمه الله سُئل أبي، يعني: الإمام أحمد عن رجل نسي أن يخلل لحيته ثم صلى. هل يعيد الصلاة؟ فقال: لا يعيد. فصلاته صحيحة كما أفتى الإمام أحمد رحمه الله.

حكم نتف اللحية

حكم نتف اللحية وسئل أيضاً الإمام أحمد رحمه الله عن رجل قد بلي بنتف لحيته وليس يصبر عنها؟ هذا سؤال وجهه بعض الإخوان قال: أحياناً أنسى وأنتف من اللحية وأنا أفكر أو أكون ساهماً ببصري. فما هو الحكم؟ A إن صبر عن ذلك فهو أحب إليَّ، يعني: ينبغي عليه ألا يقرب لحيته لقوله صلى الله عليه وسلم: (أعفوا اللحى، وفروا اللحى، أرخوا اللحى، أرجوا اللحى، خالفوا المشركين، خالفوا المجوس) ولكن قد يغفل الإنسان أحياناً ويسهو فينتف من لحيته شعيرات فينبغي أن يتنبه لنفسه وأن يقلع عن هذا العمل.

المتأخر عن صلاة الجنازة يقضي التكبيرات

المتأخر عن صلاة الجنازة يقضي التكبيرات Q دخلت في صلاة الجنازة في التكبيرة الثالثة. فماذا أفعل؟ A قال صالح رحمه الله وسألته، يعني: وسألت أبي عن الرجل يفوته التكبير على الجنازة. أيقضيه؟ قال: نعم. فأفتى الإمام أحمد رحمه الله: بأن من دخل في صلاة الجنازة وفاتته تكبيرات فإنه يدخل مع الإمام فيكبر التكبيرة الأولى فيقرأ الحمد، ثم يكبر التكبيرة الثانية فيقرأ الصلاة الإبراهيمية، ثم يكبر التكبيرة الثالثة فيدعو للميت، ثم يكبر التكبيرة الرابعة فيسكت هنيهةً كما بين الإمام أحمد رحمه الله ثم يسلم. إذاً. المتأخر عن صلاة الجنازة يقضي التكبيرات.

حكم الرجل الذي يصلي وراء الإمام ولا يسمع قراءته

حكم الرجل الذي يصلي وراء الإمام ولا يسمع قراءته Q نكون في بعض المساجد في صلاة الجمعة فلا نسمع صوت الإمام في الصلاة في القراءة في صلاة الجمعة؛ إما لانقطاع مكبر الصوت، أو بُعد الصوت، أو تداخل الأصوات أحياناً، أو عدم وضوح الصوت خارج المسجد لشيء في المكبرات، فنحن لا نسمع قراءة الإمام في صلاة الجمعة. فماذا نفعل؟ A وقد وجدت أن الإمام أحمد رحمه الله سئل: عن الرجل يكون خلف الإمام يوم الجمعة، ولا يستمع قراءة الإمام. فماذا يفعل؟ قال: إن شاء قرأ؛ إذا شاء المصلي أن يقرأ فليقرأ، ما دام أنه لا يسمع قراءة الإمام فهو يقرأ، مثل: أحياناً يكون الإنسان في صلاة التراويح في الحرم فتتداخل الأصوات، أو يكون الصوت ضعيفاً جداً؛ فلا يسمع ماذا يقرأ الإمام، فلو أنه سكت ربما كان عرضةً للوساوس، أو انشغال الذهن وانصرافه عن الصلاة، فلو قرأ في نفسه فلا حرج، ولو أنه خلف الإمام ما دام لا يسمع قراءة الإمام.

لكي تعيش حياة زوجية سعيدة

لكي تعيش حياة زوجية سعيدة وهذه عدة أسئلة في الحقيقة عن العلاقات الزوجية، وعن المشاكل الموجودة في الحياة الزوجية، وأكثر هذه الأسئلة من النساء؛ وهي عبارة عن شكاوى كثيرة جداً تحتاج إلى درسٍ أو أكثر لإيضاح علاجها، وكنت قد تمهلت في الكلام عن هذا الموضوع ريثما تتجمع لديَّ الشواهد من الواقع، مع البحث في هديه صلى الله عليه وسلم في معاشرة أزواجه حتى أتطرق لهذا الموضوع، فاجتمع لديَّ قدرٌ كافٍ لدرسٍ أو أكثر في موضوع المعاشرة الزوجية أو الحياة الزوجية والمشكلات في الحياة الزوجية، ولكن ليس هذا موضع ذلك، ونظراً لمحدودية الوقت وضرورة الكلام عنه فإنني سأذكر هنا خمسة وعشرين سبباً، أو نصيحةً للزوج ليحافظ على علاقةٍ جيدة لزوجته، ثم نتكلم عن الموضوع بالتفصيل مع الأدلة في درسٍ قادم إن شاء الله، والتركيز في هذه النصائح على الزوج؛ لأنك إذا أخذت المشكلات فإنك ستجد أن أكثرها من الزوج، وهذا لا يعني أن الزوجة ليست منها مشاكل، بل كثير من الزوجات لديهن مشاكل ومتسببات في مشكلات كثيرة، ولكن أخصص هذا الكلام للرجال بهذه النصائح: أولاً: احرص على توفير حاجيات البيت باستمرار، ولا مانع في الاعتراض على بعض الكماليات تعليماً للزهد وتصدقاً بقيمتها. ثانياً: اجعل لزوجتك وأولادك نصيباً من وقتك؛ في الملاعبة، والملاطفة، والقصص الهادفة، والنزهة البريئة. ثالثاً: راعِ شعور زوجتك وظروفها الصحية وخصوصاً عند معاشرتها في الفراش. رابعاً: إياك وإذلال الزوجة وطلب الأشياء التافهة منها لمجرد إظهار سلطتك عليها وإرغامها على التنفيذ. طبعاً: كل نقطة من هذه هي عبارة عن مشكلات واقعية قد أتت إليَّ يوماً من الأيام. خامساً: إذا ظلمت زوجتك، وأسأت معاملتها لا تستغل الأحاديث في منعها من البوح لأحد ولكن اطلب المسامحة. بعض الناس يضرب زوجته ويهينها ثم يقول: الأحاديث تنهى عن أن المرأة تفشي أخبارها التي بينها وبين زوجها للناس ليس هناك داعٍ أن تقولي لأهلك فقد تأثمين، بينما المفروض أنه يطلب المسامحة. سادساً: تجنب إهانة زوجتك بحضرة أهلها أو أمام الآخرين عموماً. سابعاً: لا تشعر زوجتك مطلقاً بعدم الثقة بها؛ من خلال إخفاء جهاز الهاتف أو الإقفال عليه أو فصل الحرارة، أو إزالة النقود من المنزل بالكلية مثلاً، إلا إذا كان هناك دافع شرعي لهذا العمل. ثامناً: إياك وأكل حقوق الزوجة المالية كإرغامها على بيع ذهبها، أو مماطلتك في إرجاع ما اقترضته منها، ولا تجبرها على شراء أغراض البيت من مالها الخاص. ثامناً: احذر العقوبات السيئة كالضرب المستمر، أو تمزيق أغراضها الشخصية كالدفاتر والكتب أو الثياب ونحوها. تاسعاً: إياك والاستجابة لضغط الأهل، مثل: الوالدين في بعض الأسر بحملها على معصية كمصافحة أخيك، أو الجلوس في جلسة مختلطة وإرغامها على كشف الوجه. عاشراً: لا تتكلم بما يحدث بينك وبين زوجتك من الأمور الخاصة أمام إخوانك ولو كانوا في غاية الاستقامة، ولو كنت تثق بهم جداً، فلا يجوز نشر أسرار الاستمتاع، اللهم إلا في بعض الحالات الضرورية جداً كأن يأخذ الإنسان حكماً شرعياً من عالمٍ من العلماء، أو مشكلة لا يستطيع أن يحلها بنفسه فيضطر إلى أخذ آراء شخص ثقة فيها. الحادي عشر: لا يجوز الاستمتاع بالزوجة أمام الأولاد المميزين في الفراش، وكذلك احذر ممارسة بعض الأوضاع الشاذة المأخوذة من بعض الأفلام السيئة. الثاني عشر: لا بد أن تشعر أنك مكلف بمتابعة زوجتك في عبادتها كإيقاظها لصلاة الفجر، وقراءاتها في كتب العلم، وتنفيذها للأحكام الشرعية كإخراج زكاة الحلي. الثالث عشر: لا تكلف زوجتك رهقاً بكثرة الولائم خصوصاً إذا صارت متعبةً من الحمل أو المرض وتكلف شيئاً ما بشراء الطعام الجاهز من السوق أحياناً. الرابع عشر: مكنها من شراء الثياب لها في حدود المعقول، ولا تتذرع دائماً بالإسراف إذا أرادت شراء شيء مهم، وخصوصاً في لباسها في المناسبات غير المتكررة. الخامس عشر: تجنب قدر الإمكان إظهار الاختلاف معها في تربية الأطفال أمام الأطفال أنفسهم، وتحمل خلافها لك في الرأي أمامهم ثم تفاوض معها فيما بينك وبينها. السادس عشر: احرص على النظافة الشخصية خصوصاً إذا أردتها بعد الرجوع من عملك مباشرةً. السابع عشر: إياك ومعاقبة زوجتك بمنعها من بعض الطاعات كجلسات العلم مع أخواتها، أو سماع الكتب والأشرطة إلا إذا صار خروجها من البيت شيئاً غير محمود فلك منعها عند ذلك أو التخفيف. الثامن عشر: تجنب ذكر شيء من أخطاء الماضي أمامها -أخطاءك أنت- خصوصاً المحرمات التي يقع فيها بعض الأزواج في ماضيهم قبل الزواج لا داعي لذكرها للزوجة، ولا تعيرها بأخطائها هي الماضية إذا حسنت توبتها. التاسع عشر: تجنب إيذاء زوجتك بالألفاظ مثل: أنا أخذتك من الشارع، أنتِ لا تفهمين شيئاً، أو أنتِ بقرة، أو أنتِ هندية، ونحو ذلك، فبعض الناس يقولها لزوجته. العشرون: انتبه لإشباع رغبتها، وإعفافها في المعاشرة، وتذكر قوله صلى الله عليه وسلم: (أحب لأخيك ما تحبه لنفسك). الحادي والعشرون: إياك وعدم العدل بين الأولاد خصوصاً زيادة أولاد إحدى الزوجتين على أولاد الزوجة الأخرى في الأعطيات، أو الهبات، أو إدخال أولاد إحدى الزوجتين في مدارس خاصة وترك أولاد الأخرى في المدارس العادية. الثاني والعشرون: حاول ألا تعيب لباسها وطعامها قدر الإمكان، أثنِ على ما كان جيداً واسكت عن الباقي وهي ستفهم. الثالث والعشرون: تجنب انتقاد أهلها أمامها؛ فإنه غالباً يثيرها عليك. الرابع والعشرون: إذا دعيت إلى وليمة خارج البيت فتأكد أن في البيت طعاماً يكفيهم. الخامس والعشرون: إذا أوصلت أهلك لزيارة أناس وذهبت إلى شغلٍ لك فلا تتركهم في بيت الناس إلى ساعة متأخرة من الليل فتحرج أهلك وتضايق الناس. هذه خمس وعشرون نصيحة لطرد بعض المنغصات في الحياة الزوجية.

سؤال عن دم الاستحاضة

سؤال عن دم الاستحاضة Q امرأة انقطعت عنها العادة لمدة سنة وثلاثة أشهر ثم جاءها في شهرٍ دمٌ متصل. فماذا تفعل؟ A أجاب الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله تعالى على هذه المسألة بقوله: تجلس عادتها والباقي دم استحاضة، فمثلاً: لو أن هذه المرأة كانت تحيض عشرة أيام في الشهر ثم انقطعت عنها العادة هذه فترة طويلة جداً، ثم جاءتها العادة وجاءها الدم شهراً متصلاً فماذا تفعل؟ تجلس عشرة أيام لا تصلي ثم تغتسل والباقي استحاضة.

أكثر مدة الحيض

أكثر مدة الحيض Q ما هي أكثر مدة للحيض؟ A في بعض أقوال أهل العلم: خمسة عشر يوماً. لحديث: (تمكث إحداكن نصف دهرها لا تصلي).

لا يجوز التصدق من مال الأيتام

لا يجوز التصدق من مال الأيتام Q امرأة عندها أيتام ولها راتب تقاعد لزوجها يأتيها هي ويأتي للأولاد. هل يجوز أن آخذ من مال التقاعد الذي هو للأيتام وأتصدق لهم عن أبيهم؟ A أجاب الشيخ عبد العزيز حفظه الله لما سألته، قال: لا يجوز الصدقة فيهم، وهي تتصدق من نصيبها فقط إن أرادت.

مسألة ظهور عورة الإمام في الصلاة

مسألة ظهور عورة الإمام في الصلاة Q رأيت شقاً في ثوب الإمام يظهر منه الفخذ أو جزء من العورة بشكل دائم في الصلاة وأنا في الصلاة. فماذا أفعل؟ فهو لا يستطيع أن يتكلم في الصلاة، يقول: غطِّ عورتك مثلاً، ولا يستطيع أن يكمل وهو يعلم أن إمامه قد فقد شرطاً من شروط الصلاة وهو ستر العورة. فماذا يفعل؟ A سألت الشيخ حفظه الله فقال: إن كان لا يمكنه التقدم لستره مثل: طرح شيء عليه فيقطع الصلاة وينبه الإمام.

حكم تطويل أحد الأظافر

حكم تطويل أحد الأظافر Q ما حكم تطويل أحد الأظافر لاستخدامه في الأشياء الدقيقة؟ A فسألت عن هذا الشيخ محمد ناصر الدين الألباني حفظه الله فأجاب: إذا زاد عن أربعين يوماً وجب قصه؛ لأن الحديث في صحيح مسلم: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت للصحابة في الأظفار وشعر العانة والإبط أربعين يوماً لا يزيدون عليها) وبناءً على هذا الحديث: لا يجوز للإنسان أن يبقي أظفاره أكثر من أربعين يوماً بدون قصها، ولا يجوز له أن يترك شعر العانة أكثر من أربعين يوم بدون حلقه أو قصه، وكذا شعر الإبط. والمستحب له أن يأخذه كلما دعت الحاجة إلى أخذه؛ لأن الناس يتفاوتون فمن الناس أظفارهم تطول بسرعة، ومن الناس شعورهم تنمو بسرعة ومن الناس شعورهم تنمو تدريجياً أو بشكل منخفض، فلذلك يأخذ الإنسان منها كلما دعت الحاجة إلى الأخذ، ولا يزيد عن الأربعين يوماً في جميع الحالات.

حكم شراء الحبحب على السكين

حكم شراء الحبحب على السكين Q ما حكم شراء الحبحب على السكين؟ A أجاب الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله وكذا الشيخ محمد بن صالح العثيمين على هذا السؤال: بأنه جائز ولا بأس به. يعني يقول له: أشتري منك على السكين الكيلو بريالين أو بثلاثة ريالات؛ هذا بيع صحيح ولا بأس به.

تصورات ومفاهيم غائبة عن المجتمع المسلم

تصورات ومفاهيم غائبة عن المجتمع المسلم هذه شكوى: هناك عدد كبير من المستقيمين والمستقيمات الملتزمين بشرع الله والملتزمات، ولكننا إذا دققنا في أحوالهم لوجدنا أن هؤلاء الإخوة والأخوات يعيشون الإسلام عيشةً سطحية؛ فهم يلتزمون في الظاهر مثلاً باللحية وتقصير الثوب والمرأة بالحجاب، ولا يستمعون الأغاني، ولا يشاهدون المسلسلات، ولا يكذبون، ولا يسرقون، ولا يقعون في الفواحش؛ هذه صورة الالتزام. ونجد أيضاً في نفس الوقت: أن هؤلاء النوعيات ليس لهم أثرٌ في الواقع كبير؛ بسبب أنهم لا يحملون التصورات والمفاهيم الإسلامية، يعني: أن هذا الشخص فقط: اللحية والثوب، أو الحجاب، ولا يقترف المنكرات، ويفعل الواجبات؛ ويؤدي الصلاة في المسجد في أوقاتها، لكن ليس وراء ذلك شيءٌ آخر. فيقول Q ما هي التصورات التي من المهم أن يكتسبها كل شخصٍ مستقيم على شرع الله؟ بالإضافة إلى التزامه في المظهر طبعاً، وعدم مقارفة المنكرات أو المعاصي والمحرمات مع فعل الواجبات. ما هي التصورات المهمة أن المسلم يتشربها؟ A إليكم سبعةً وأربعين تصوراً من التصورات المهم أن يكسبها الشخص المسلم؛ سواء بالقراءة، أو بسماع الأشرطة، أو بأن يتربى مع إخوانه عليها، وهذا أهم شيء أن يحدث، التربية الجماعية على التصورات والمفاهيم الإسلامية: أولاً: مفهوم خيرية هذه الأمة. لماذا هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس؟ لكي يعتز بالانتساب لها. الثاني: مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ حكمه، وسائله، ضوابطه. الثالث: أضرار المعاصي. الرابع: مداخل الشيطان وخصوصاً على الصالحين والحيل النفسية. الخامس: صور الانحراف في الحياة العامة، أو ما يمكن أن نعبر عنه: بنقد الواقع على ضوء الإسلام؛ وهذا عمل مهم جداً. لا يعرف الإسلام من لا يعرف الجاهلية، وحذيفة كان يسأل عن الشر حتى لا يقع فيه. سادساً: أننا مكلفون بجميع نصوص الشريعة. سابعاً: مفهوم التعاون على البر والتقوى؛ صوره، وأشكاله. ثامناً: مفهوم المسئولية؛ كيف ننشئها؟ وما هي أهميتها؟ تاسعاً: مفهوم البذل والتضحية والعطاء. عاشراً: مفهوم الأخوة الإسلامية؛ معناها حقوقها آدابها الانحراف والغلو الذي قد يحدث فيها. الحادي عشر: مفهوم العزلة الشعورية عن أهل المنكر ونحن نعيش بينهم، وهذا مهم حتى يحافظ الإنسان على التزامه وهو يدعو إلى الله وسط أهل المنكرات. الثاني عشر: الآثار التربوية لتوحيد الأسماء والصفات. الثالث عشر: فوائد دراسة التاريخ الإسلامي. الرابع عشر: مفهوم الوقت وأهميته، وكيف نستغله؟ الخامس عشر: مفهوم الإيجابية وخطورة السلبية. السادس عشر: مفهوم سد الثغرة. السابع عشر: جنسية المسلم عقيدته. الثامن عشر: المنافقون؛ خطورتهم وأساليبهم. التاسع عشر: تميز المسلم عن الكفار وأهل الفسق. العشرون: المستقبل لهذا الدين. الحادي والعشرون: مفهوم الجماعية، وأهميته في تحقيق الواقع في الإسلام. الثاني والعشرون: وجوب مفاصلة أهل الكفر والبدع والمنكرات. الثالث والعشرون: العبادات الفردية، ووسائل تقوية الصلة بالله. الرابع والعشرون: مفهوم لا إله إلا الله، ومعنى الشهادتين. الخامس والعشرون: مفهوم العبادة الواسع، واحتساب الأجر في جميع الأفعال. السادس والعشرون: الأخلاق الإسلامية، وكيفية اكتسابها؟ السابع والعشرون: أهمية الصحبة الصالحة، وأضرار رفقة السوء. الثامن والعشرون: مفهوم الابتلاء العام، وأن الله خلقنا ليبلونا أينا أحسن عملاً، وما هي شروط العمل الصالح؟ التاسع والعشرون: الصبر على المحن والفتن في الدين. الثلاثون: أهمية العلم الشرعي؛ فضله وسائل اكتسابه المنهج والمزالق. الحادي والثلاثون: الولاء والبراء. الثاني والثلاثون: أهمية الدعوة إلى الله؛ حكمها ووسائلها. الثالث والثلاثون: الانتباه من تحول العبادات إلى عادات، وكيف نحافظ على أثر العبادات، ونمنع تحول عبادتنا إلى عادات ليس لهذا أثر. الرابع والثلاثون: مفهوم القدوة؛ أهميتها الاستفادة منها. الخامس والثلاثون: الاستشارة وعدم الفوضى. السادس والثلاثون: الجدية في الالتزام بهذا الدين. السابع والثلاثون: تنقية الالتزام، وأهمية أن يخلع المسلم على عتبة الإسلام جميع أردية الجاهلية. الثامن والثلاثون: اقتضاء العلم بالعمل. التاسع والثلاثون: أعمال القلب: المراقبة الإخلاص الصبر الخوف الرجاء المحبة إلى آخره. الأربعون: مفهوم: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه). الحادي والأربعون: الأوليات وتقديم الأهم، والواجبات أكثر من الأوقات. الثاني والأربعون: الدقة والتثبت. الثالث والأربعون: منهج التلقي، وتقديم قول الله ورسوله على قول كل أحد. الرابع والأربعون: الالتزام بالدليل وعدم التعصب. الخامس والأربعون: الالتزام بالسنة. السادس والأربعون: دارسة مبسطة عن أسباب اختلاف العلماء حتى لا يتذبذب الشخص، ويقول: ما بالهم اختلفوا؟ وماذا نفعل؟ ونحن متحيرون ومضطربون. السابع والأربعون: أهمية الوعي بالواقع، والانتباه لمواجهة كيد أعداء الإسلام. ومن الأمور المهمة في طرح هذه المفهومات والتصورات: حسن عرضها، وعدم تكديسها، وأهمية تطبيقها في الواقع. وكل مفهوم من هذه المفهومات يحتاج إلى درسٍ لشرحه أو أكثر، ونحن أجملناها هنا وهناك غيرها، وهذا على سبيل المثال حتى نعلم -أيها الإخوة- أن الاستقامة على شرع الله والالتزام ليست مسألة سهلة، وليست قضية مظاهر، وحتى نعلم أيضاً: لماذا يوجد هناك كثير من الإخوان الملتزمين بشرع الله ليس لهم أثر في الواقع؟ لماذا؟ لأنه فارغ من التصورات الإسلامية، ليس عنده ما يعطيه لغيره، لو جلست مع واحد قال: لا تسمع الأغاني، لا تنظر إلى المحرمات، صل في المسجد، لا بد من اللحية، فهذه أشياء معينة محدودة، فلا تجد الناس يتأثرون به، ولا تجد له وزناً في الواقع، ما الذي يعطيك الوزن في الواقع؟ وما الذي يعطيك الأثر في الواقع؟ إن هي إلا التطبيق العملي للتصورات الإسلامية، وهذا مما يفيد أهمية معرفة هذه التصورات بأدلتها وواقعها في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة، والمسلمون والانطلاق لتطبيقها في الواقع، وإلا أصبحت شخصاً فارغاً هامشياً ليس لك دورٌ ولا تأثير.

حكم بيع السلع التي اشتريت بالتقسيط قبل انتهاء المدة

حكم بيع السلع التي اشتريت بالتقسيط قبل انتهاء المدة Q رجل اشترى سيارة بالأقساط ولا يزال عليه أقساط منها. هل يجوز له أن يبيعها لشخص آخر بمبلغ معين على أن يكمل الشخص الآخر الأقساط للشركة؟ زيد اشترى سيارة بخمسين ألف ريال بالأقساط؛ كل شهر يدفع كذا، هل يجوز أن يبيعها إلى عمرو من الناس، مثلاً: بعشرين ألف ريال نقداً بعد أن استعملها فترة على أن يتكفل الشخص الثاني الذي هو عمرو في هذه الصورة بتسديد باقي الأقساط على الشركة؟ A فكان جواب الشيخ محمد بن صالح العثيمين على هذا السؤال: لا بأس بذلك إذا كانت الأقساط الباقية معلومة، يعني: الشيء الذي يسدده الشخص الثاني للشركة معلوم كم هو، ويلتزم بتسديده.

حكم لبس الثوب الأبيض للعروس

حكم لبس الثوب الأبيض للعروس Q ما حكم لبس الثوب الأبيض في الأعراس للعروس؟ A فسألت عنه كلاً من الشيخ محمد ناصر الدين الألباني حفظه الله فقال: أفتي بأنه لا بأس به إذا لم يكن أمام غير المحارم ولا يشف عما لا يجوز للمحارم أن ينظروا إليه، ويدخل في ذلك طبعاً عموم النساء؛ لأن المرأة لها عورة أمام أختها أقصد أمام أختها المرأة. وأجابني كذلك الشيخ محمد بن صالح العثيمين عن هذا السؤال: لا بأس لبس الثوب الأبيض في الأعراس للمرأة، لا بأس إذا لم يشبه ثياب الرجال، ولا ثياب الكافرات. فسألته: ما معنى: أنه لا يشبه ثياب الكافرات؟ فقال: أي: لا يكون من خصائص الكفار. فسألته: إذا كان تصميمه قد جاء من الكفار، لكنه انتشر في بلاد المسلمين، ولم يصبح خاصاً بالكفار؟ فقال: يزول حكم التشبه، ويجوز لبسه. لكن طبعاً: لبس الثوب هذا ينبغي أن يكون خالياً من المحاذير الشرعية، مثل: أن يكون ضيقاً، أو يجسد منطقة العورة، أو يكون له ذيل طويل يسحب ثلاثة أمتار ويرفعها ويحملها وراءها شخص أو أشخاص؛ فهذا طبعاً من الكبر والاختيال، فالمرأة رخص لها شبر أو شبران تسحب على الأرض حتى لو جاءت الريح لا تنكشف قدماها من أسفل الثوب، وأما هذه السحبة الطويلة الموجودة في بعض تصميمات أثواب الأعراس فهي غير جائزة؛ لأن فيها الاختيال والكبر، أو هي الإسبال عند المرأة، الرجل يسبل إذا نزل عن الكعبين، والمرأة تسبل إذا زادت عن الشبر والشبرين وصارت تسحب بشكل طويل على الأرض فهذا إسبال في حقها لا يجوز.

حكم بيع الأشرطة في المسجد بسعر التكلفة

حكم بيع الأشرطة في المسجد بسعر التكلفة Q حكم بيع الأشرطة في المسجد بسعر التكلفة دون ربح، والثمن المتحصل يشترى به أشرطة جديدة تباع وهكذا؟ A فكان جواب الشيخ محمد بن صالح العثيمين على هذا السؤال: لا يجوز البيع في المسجد، ولو كان بهذه الصفة، يمكن أن يوضع خارج المسجد ويباع، لكن داخل المسجد فلا، ولو كان مشروعاً خيرياً. وأجابنا كذلك الشيخ محمد ناصر الدين الألباني عن نفس السؤال بنفس الجواب، إلا أنه قال: إذا كان يوجد مكتبة في المسجد، وكان بابها من خارج المسجد ليس من داخل المسجد فإنه ربما يجوز البيع فيها، لكن إذا كانت المكتبة داخل المسجد وبابها في المسجد فإن حكمها حكم المسجد ولا يجوز البيع فيها.

مندوب مشتريات في شركة يأخذ عمولة من البائع حتى يتعامل معه

مندوب مشتريات في شركة يأخذ عمولة من البائع حتى يتعامل معه Q جاء مندوب مشتريات: وهو إنسان موظف في شركة يذهب يشتري لهم قطعاً من السوق فيذهب إلى الدكان يقول: أعطني (محولاً) فسعر (المحول) مائة ريال، فيشتري المحول ويقول لصاحب الدكان: لا بد أن تعطيني حلاوة، لا بد أن تعطيني مبلغاً لكي أشتري من عندك ولا أشتري من عند غيرك، يعني: يقول: ترى أنني سوف أشتري (المحول) من عندك أو من عند غيرك، هذه مائة ريال للشركة هات فاتورة بمائة ريال باسم الشركة لكن لابد أن تعطيني عشرة ريالات من عندك وإلا سوف أذهب أشتري من عند غيرك، فأعطني عشرة ريالات خاصة لي، وهذه مائة الشركة وهذه فاتورة باسم الشركة بالمائة ريال. فما حكم هذا العمل؟ A أجاب الشيخ محمد بن صالح العثيمين حفظه الله: لا يجوز ذلك، وهو وكيل موظف في الشركة وهو يشتري على أساس أنه للشركة وليس له، فلا يجوز أن يأخذ شيئاً، ولو أخذ تخفيضاً فيذهب التخفيض للشركة ليس له هو؛ وهذا أمر متفشٍ جداً اليوم بين مأموري المشتريات فإنهم يذهبون إلى الدكاكين ويشترون للشركة؛ وهو موكل، ومؤتمن، فيأخذ منهم يقول: هات أتعابي، أو هات نقوداً لأني اشتريت من عندك والفاتورة باسم الشركة. أنا أسألكم الآن: شخص صاحب بيت يحتاج مواد للبناء ذهب إلى مكان بيع مواد البناء، فقال له: كم تبيع لي مثلاً كذا حديد؟ فقال مثلاً: أبيعك بعشرة آلاف ريال، فالمشتري يشتري لنفسه، هو صاحب البيت، قال: أعطني خصماً وإلا أشتري من عند غيرك، فأخذ مثلاً: تسعة آلاف وخمسمائة. فما هو الحكم؟ الجواب: هذا جائز. لأنه هو صاحب الشأن، وهو يشتري لنفسه، ولذلك هو المستفيد، ولذلك فإذا أخذ التخفيض له فلا بأس، لأنه هو صاحب الشأن.

العادة السرية وعلاجها

العادة السرية وعلاجها Q أنا شاب في العشرين من عمري وقد هداني الله إلى الطريق المستقيم فالحمد لله على ذلك، وقد كنت أفعل من قبل هذه العادة السيئة، ثم منَّ الله عليَّ وتركتها، وفي هذه الإجازة الصيفية عدت إليها، وكلما تبت وجزمت بعدم العودة لم أقدر وعدت إليها ثانيةً، مع العلم أني عملت بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم بالصيام، وحاولت الزواج ولم أستطع لظروفي؟ وهذا سؤال أيضاً يقول: أمنيتي في الحياة أن أتوب من عمل هذه العادة التي أصبحت مدمناً عليها، حتى أنني أتوب كثيراً وأعود إليها، مع أني أعبد الله وأذكره وإن كنت مقصراً. والآن أريد الحل والطريق إلى التوبة النصوح التي ليس بعدها رجعة بأمثل السبل وأيسرها؟ وهذا سؤال يقول: كنت في الجاهلية أعمل فواحش ولما رأيت أحد الذين كنت معهم في هذه الفاحشة وما زلت أرافقه حتى كاد أن يوقعني في هذا الذنب، فتركته وذهبت لأعمل هذه العادة. فما هو الحكم؟ وكيف أتخلص منها؟ هذه أسئلة كثيرة جداً عن موضوع: العادة السيئة؟ A وهذه حقيقةً مشكلة من المشاكل التي تحتاج إلى معالجة، واعلموا -أيها الإخوة- أن كل مشكلة لها علاجان: علاج علمي، وعلاج عملي: فالعلاج العلمي: أولاً: أن تعرف حكم هذه المسألة. ثانياً: أن تعرف الأضرار المترتبة عليها. فلو عرفت الحكم وعرفت الأضرار هذا جزء من الحل. ثم العلاجات العملية التي يمكن أن تتخذ. وأنا أجمل لهؤلاء السائلين شيئاً من هذين العلاجين: قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كلامٍ له عن حكم الاستمناء، وهذا الكلام بعد الكلام على قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون:5 - 6]، واستنباط الإمام الشافعي رحمه الله ومن تبعه من أهل العلم: أنه لا يجوز استعمال هذه العادة؛ لأن الله تعالى أمر بحفظ الفرج إلا عن الزوجة وملك اليمين وهذا لم يحفظها لما وقع في هذه العادة. فقال شيخ الإسلام رحمه الله وكذلك من أباح الاستمناء عند الضرورة: فالصبر عن الاستمناء أفضل فقد روي عن ابن عباس: [أن نكاح الإماء خيرٌ منه، وهو خير من الزنا] فإذا كان الصبر عن نكاح الإماء أفضل، فالحر لا يصح أن يتزوج أمة إلا إذا عجز تماماً فإذا كان الصبر عن نكاح الإماء أفضل فعن الاستمناء بطريق الأولى أفضل. لا سيما وأن كثيراً من العلماء أو أكثرهم يجزمون بتحريمه مطلقاً؛ وهو أحد الأقوال في مذهب الإمام أحمد، واختاره ابن عقيل في المفردات، والمشهور عن أحمد أنه محرم إلا إذا خشي العنت، والثالث: أنه مكروه إلا إذا خشي العنت، فإذا كان الله قد قال في نكاح الإماء: {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [النساء:25] ففيه أولى، الصبر في هذا، وذلك يدل على أن الصبر عن كليهما ممكن؛ لأن الله لا يأمر بالصبر عن شيء إلا إذا كان الصبر في طاقة البشر ويستطيعون أن يجاهدوا أنفسهم فيه. فإذا كان قد أباح ما يمكن الصبر عنه فذلك لتسهيل التكليف. كما قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً} [النساء:28]. والاستمناء لا يباح عند أكثر العلماء سلفاً وخلفاً؛ سواء خشي العنت أو لم يخش ذلك. وكلام ابن عباس وما روي عن أحمد فيه إنما هو لمن خشي العنت، والآن بعض الناس يقولون: ما هو العنت؟ لأن هذا مهم في معرفة حكم المسألة. يقول شيخ الإسلام: لمن خشي العنت -وهو الزنا واللواط- خشية شديدة خاف على نفسه من الوقوع في ذلك، لأن بعض الناس يقول: أنا خشيت العنت، هو جالس في بيته ما عنده أحد يقول: أنا خشيت العنت، لا. المقصود: أن الشخص يخشى أن يقع في الفاحشة خشيةً حقيقية ويكون سبيل الوصول إليها سهلاً جداً فهو يخشى على نفسه. هذا الذي رخص بعض أهل العلم له الاستمناء، فأبيح له ذلك؛ لتكسير شدة عنته وشهوته. ويقول شيخ الإسلام: وأما من فعل ذلك تلذذاً، أو تذكراً، أو عادةً، بأن يتذكر في حال استمنائه صورة كأنه يجامعها فهذا كله حرام لا يقول به أحد؛ لا أحمد ولا غيره، وقد أوجب فيه بعضهم الحد، والصبر عن هذا من الواجبات لا من المستحبات. انتهى كلام شيخ الإسلام من فتاويه في المجلد العاشر. ومن الأشياء المهمة في علاج هذه القضية: معالجة الأفكار والخواطر التي تطرأ في بال الإنسان، كل عمل اختياري يقوم به الإنسان هذا يأتي من الخواطر والأفكار، أي عمل تعمله الآن أول شيء يبدأ بالمرحلة الأولى وهو خاطرة تأتي في الذهن فإذا وقفت الخاطرة في الذهن وانشغل الذهن بها تتحول إلى فكرة؛ لأن الذهن بدأ يفكر فيها، ما طردها مباشرة بل بدأ يفكر فيها، ثم إن هذه الفكرة تتحول إلى تصور، يعني: تتصور المسألة الآن بشكل كامل في ذهنك، وهذا التصور ينشئ الإرادة؛ إرادة الفعل، وهذه الإرادة تتطور إلى عزيمة وهي الرغبة المشددة في الشيء، وهذه العزيمة تؤدي إلى الوقوع في الفعل، وإذا تكرر الوقوع في الفعل صار عادةً. كلما عالجت الموضوع في مراحله الابتدائية كان أسهل في التخلص، وعدم الوقوع في الفعل، وكلما استمريت في هذه الخطوات يكون الحل أصعب، ولذلك لا بد للإنسان أن يعالج خواطره من البداية فيحرص على ألا يخطر بباله إلا الخير، وهذه الأعمال الحسنة التي نعملها هي عبارة عن لمة من الملك، والأعمال السيئة التي نعملها عبارة عن لمة من الشيطان فهي من الشيطان، فأي شيء خير تفعله دلك عليه الملك المرافق لك أو أوعز به إليك، وأي عمل شر تفعله فإن الشيطان قد أوعز به إليك كما ورد في الحديث الصحيح. يقول ابن القيم رحمه الله: فإذا جعل العبد فكره في ربه أنه مطلع عليه، ناظر إليه، عليمٌ بخواطره وإراداته وهمه، فحينئذٍ يستحيي منه، ويجله أن يطلع منه على عورة يكره أن يطلع عليها مخلوق مثله. إن كلام ابن القيم مهم جداً، يقول: هذه الأفكار الرديئة في ذهنك افرض أن شخصاً الآن يستطيع أن يقرأ ماذا يدور بأفكارك من هذه الخواطر السيئة. ماذا تشعر أمامه؟ ستشعر بالخجل الشديد. فإذا علمت أن الله مطلعٌ على أفكارك وخواطرك فكيف ينبغي أن يكون شعورك؟ هذا هو البداية: الحياء من الله عز وجل، وبقدر هذه المنزلة يبعد العبد عن الأوساخ والدناءات والخواطر الرديئة والأفكار الدنيئة، والخواطر والوساوس تؤدي إلى التفكير فيأخذ الفكر في التذكر، فيأخذه التذكر إلى الإرادة، فتأخذه الإرادة إلى الجوارح والعمل، وقد خلق الله النفس شبيهة بالرحى؛ الدائرة التي لا تسكن، ما هو الرحى؟ الطاحون الذي يطحنون فيه الحب، فالنفس البشرية شبيهة بهذا الطاحون. فيقول ابن القيم في تشبيه جميل: وهذه النفس شبيهة بالرحى الدائرة التي لا تسكن ولا بد لها من شيء تطحنه، فإن وضع فيها حباً طحنته، وإن وضع فيها حصى طحنته، فمن الناس من تطحن رحاه حباً يخرج دقيقاً ينفع به نفسه وغيره وأكثرهم يطحن رملاً وحصىً وتبناً ونحوه فإذا جاء وقت العجن والخبز تبين له حقيقة عجينة. الله أكبر! جماع هذه التفسيرات، وهذه التحليلات النفسية لعلمائنا في غاية الأهمية. يقول: الإنسان حسب الخواطر التي فيه؛ إن كان يغلب على ذهنه خواطر الخير دائماً إيعازات الخير فهو على خير عظيم، وإن كان الغالب على فكره وخواطره أنها شر فحالته حالة شر حالة سيئة، ولذلك أنت تأمل حالة بعض الناس، لو قلت له الآن: بماذا تفكر؟ ما هي الأفكار؟ هذا الذهن الإنسان مسئول عنه عن الخواطر عن هذا الفكر عن هذا العقل، لو قلت لواحد الآن: أنت يومياً بماذا تفكر؟ فبعض الناس يقول لك: أنا نفسي تراودني بالفاحشة، وبالسرقة، وبالرشوة، وأنا أفكر بالكذب، وأنا أفكر في الشهوات، فتحصل أن عامة ما يفكر به من الخواطر هي أشياء سيئة، ولذلك هذا الرجل على شفا هلكة، وأحياناً تجد بعض الناس يفكر: كيف أدعو فلاناً من الناس؟ كيف أدخل إلى قلبه؟ يفكر في مسألة علمية في حكم شرعي يفكر في تربية نفسه وأهله في مشكلات أولاده، إذا كان هذا الذي يفكر به الإنسان من الخير والصلاح فإنه على خير عظيم. يقول ابن القيم رحمه الله: ودفع الخواطر أسهل من إصلاح الأفكار وإلا أصبحت الخاطرة فكراً جوالاً، وإصلاح الأفكار أسهل من إصلاح الإيرادات، وإصلاح الإرادات أسهل من تدارك فساد العمل، وتدارك ذاك أسهل من قطع العوائق وهي قطع العادات، وإياك أن تمكن الشيطان من بيت أفكارك وإرادتك فإنه يفسدها عليك، فإنه يفسدها عليك فساداً يصعب تداركه، ومثل ذلك كمثل صاحب رحى يطحن فيها جيد الحبوب فأتاه شخص معه حمل تراب وبعر وفحم وغثاء ليلقيه في الطاحون؛ فإن طرده استمر في طحن ما ينفع، وإن مكنه أفسد الحب وخرج الطحين فاسداً. يقول: إذا كنت تفكر في أفكار جيدة وجاءتك فكرة خبيثة إذا تركت الشيطان يلقيها في ذهنك وتفكر فيها صرت مثل صاحب الذي يطحن الحب فجاء واحد أثناء الطحن بغثاء وبعر وفحم وطين وألقاه في الطاحون فيفسد عليه الحب، فاجتهد في دفع الخواطر. نعود الآن إلى المسألة: يقول الإنسان: كيف أتخلص الآن من هذه العادة السيئة؟ واضح من كلمة عادة أنها وصلت بالمرحلة الأخيرة، فالسؤال ليس كيف أدفع خاطرة عمل هذه العادة؟ السؤال: كيف أتخلص من العادة السيئة؟ معناها: أنها صارت عادة؛ صارت الآن في أسوأ مرحلة، فالآن تدارك الموضوع صعب لكن لو قلت لك: من البداية ابدأ أول ما تأتيك الخاطرة بعمل العادة، تعوذ بالله من الشيطان، وفكر بالأشياء النافعة، فإن غلبت نفسك الأمارة بالسوء وتحولت إلى فكرة فاجتهد في قراءة شيء تدفع به تلك الفكرة، أو سماع شيء، وإذا صارت عزيمة أو إرادة فاخرج من المكان وامش منه لتعمل عملاً مفيداً كالتبكير للصلاة في المسجد، أو زيارة أخ في الله، أو حضور درس مفيد لتقطع على نفسك الوقوع فإذا باشرت العمل وبدأت فيه فمراقبة الله تجعلك تقف ولا تس

حكم حلق زوجة الأب عانة الولد المجنون

حكم حلق زوجة الأب عانة الولد المجنون Q هل يجوز لزوجة الأب أن تحلق عانة الولد البالغ المعتوه؟ يعني: مجنون. A فسألت عن ذلك الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله فقال: ما أعلم فيه شيئاً، الأصل أنه يحرم حتى على الرجل لكن ما دامت الحاجة موجودة فلأجل الحاجة يجوز، لكن بشرط عدم وجود فتنة فتحلق هي أو حلاق آخر، وإذا كانت تعرفه فهي أولى به.

أشخاص يجمعون مالا ثم يشترون به سلعة ثم يبيعونها لأحدهم

أشخاص يجمعون مالاً ثم يشترون به سلعة ثم يبيعونها لأحدهم Q جماعة لهم صندوق يضعون فيه أقساطاً ويشترون بعد فترة بالمال الموجود في الصندوق سيارة ويبيعونها على واحد منهم بربحٍ ثم يقتسمون الربح بما فيهم المشتري؟ A فكان جواب الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله: إذا كانوا يقتسمونه بنسبة حصصهم فلا أعلم مانعاً ولو كان المشتري منهم.

الطبيب لا يعلم الغيب

الطبيب لا يعلم الغيب Q رجل فحص عند الطبيب هو وامرأته وقال الطبيب: إن الولد الرابع لهما يأتي مشوهاً. فهل يدع الرجل الزواج من تلك المرأة لهذا السبب؟ A فأجاب الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله: لا يترك الزواج، لا يمنع الزواج هذا ولو قال الطبيب ذلك فليس الطبيب عالم غيب.

إذا كان الميت كافرا فهل يعزى أهله؟

إذا كان الميت كافراً فهل يعزى أهله؟ Q هل تجوز التعزية إذا كان الميت كافراً؟ A فأجاب الشيخ حفظه الله: يعزي أهل هذا الميت الكافر، لكن لا يدعو له ولا يستغفر له، يعني: يمكن أن يقول لهم مثلاً: اصبروا، أو يقول: هذا نهاية كل حي، أو يقول: إن لله ما أخذ ولله ما أعطى، لكن لا يقول: اللهم اغفر له وارحمه وعافِه واعف عنه؛ لأنه لا يجوز الدعاء للكافر.

حكم قول (صدق الله العظيم) بعد التلاوة

حكم قول (صدق الله العظيم) بعد التلاوة Q حكم قول: (صدق الله العظيم) بعد التلاوة؟ A قال الشيخ ابن باز حفظه الله: ليس لها أصل وهي أقرب للبدعة، لم يرد أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يختم بصدق الله العظيم ولا الصحابة فهي أقرب للبدعة. ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيننا وإياكم على طاعته، وأن يفقهنا في دينه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

صدأ النفوس

صدأ النفوس في هذه الخطبة تحدث الشيخ عن أحوال الصحابة رضوان الله عليهم مع الفقر، مبيناً كيف صبروا على ذلك ولم يفتنوا في دينهم بسبب الفقر، ثم تكلم عن أحوالهم وقد فتحت لهم الدنيا على مصراعيها، وأتتهم الأموال من كل حدب وصوب، فلم يتغيروا أبداً، وإنما أدوا حق الله في شكر تلك النعم، وهذا بخلاف ما عليه المسلمون اليوم الذين أغناهم الله فتكبروا وتجبروا، وطغوا وأفسدوا إلا من رحم ربك.

ما الفقر أخشى عليكم

ما الفقر أخشى عليكم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أيها المسلمون: إن فتنة المال من الفتن العظيمة التي وقع فيها المسلمون، وفتنة الجاه من الفتن الكبيرة التي أودت بكثير من أخلاق المسلمين، هذه الفتنة التي عظم رسول الله صلى الله عليه وسلم شأنها فقال: (إن لكل أمة فتنة وفتنة أمتي المال)، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم لا يخشى على أصحابه الفقر، (لا الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى أن تفتح عليكم الدنيا فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم) تنشغلون بالدنيا وبالأموال، فتفتنون فيصبكم ما أصاب الأمم من قبلكم. أيها المسلمون: مالنا نرى اليوم كثيراً من الناس إذا أصابتهم نعمة من الله كفروا، وإذا وسع الله عليهم شيئاً من معيشتهم نسوه سبحانه وتعالى، وإذا أعطاهم الله وظيفة أو جاهاً تكبروا على عباد الله. ما هو السبب الذي يجعل كثيراً من النفوس تصاب بهذه المصيبة الكبيرة؟ أو رجل يزاد له في دخله شيء أو يتجر تجارة أو تكثر أمواله بوجه من الوجوه، فتخرب نفسه ويتعالى على عباد الله، ويقطع الرحم، ويتكبر في الأرض، ويفسد فيها ويعلو علواً كبيرا؟!

الصحابة وحالهم مع الفقر

الصحابة وحالهم مع الفقر لا بد لنا من رجعة إلى حال الصحابة رضوان الله عليهم، وعلى رأسهم نبي الله صلى الله عليه وسلم، لنرى كيف عاشوا قبل أن تفتح عليهم الدنيا، وكيف كانوا وصاروا بعد أن فتحت عليهم الدنيا. إن الصحابة رضوان الله عليهم كثيراً منهم قد أدرك الحالين: حال الفقر وحال الغنى، فكيف كان حالهم في وقت الفقر وكيف صار حالهم في وقت الغنى، هل تغيرت نفوسهم؟ هل اضطربت أحوالهم؟ هل رجعوا وارتدوا على أعقابهم؟ كان حال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قبل الفتوحات حالاً شديداً، قال صلى الله عليه وسلم: (لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، وأخفت في الله وما يخاف أحد، ولقد أتت علي ثلاثون من بين يوم وليلة مالي ولـ بلال من طعام -ليس لي ولـ بلال طعام- إلا شيء يواريه إبط بلال)، قالت عائشة: (ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم منذ قدم المدينة من طعام بر ثلاث ليال تباعاً حتى قبض) ما شبعوا من طعام البر ثلاث ليالٍ متوالية، ما مر عليهم، وقالت: (ما أكل آل محمد صلى الله عليه وسلم أكلتين في يوم إلا إحداهما تمر) وقالت: (كان يأتي علينا الشهر ما نوقد فيه ناراً إنما هو التمر والماء، إلا أن نأتي باللحيم -واللحيم تصغير لحم- من الجيران أو الصحابة الذين يهدون إلى النبي صلى الله عليه وسلم) قالت لابن أختها عروة: (يا بن أختي! إن كنا لننظر إلى الهلال ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار)، قال قتادة: (كنا عند أنس وعنده خباز له بعد ذلك، قال: ما أكل النبي صلى الله عليه وسلم خبزاً مرققاً ولا شاة مسموطة حتى لقي الله). كان أهل الصفة فقراء، ليس لهم مأوى فينامون في المسجد، يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإضافتهم ويأخذ معه بعضاً منهم إلى بيته، ويدخل النبي صلى الله عليه وسلم على أهله فيقول: (عندكم طعام؟ فيقولون: لا. فيقول: إني إذاً صائم). ولما أراد الصحابي أن يتزوج لم يجد مهراً ولا خاتماً من حديد، ليس له إلا إزاره يواري به عورته، لو أعطاه للمرأة لم يغنِ عنها شيئاً وبقي هو بغير ثياب. عن عائشة قالت: (دخلت امرأة معها ابنتان لها تسأل -محتاجة ومسكينة- فلم تجد شيئاً عندي غير تمرة) -يا أيها المسلمون! اتعظوا! بيت النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه إلا تمرة- فأعطيتها إياها فقسمتها بين ابنتيها ولم تأكل منها، ثم قامت فخرجت فدخل النبي صلى الله عليه وسلم علينا فأخبرته فقال: من ابتلي بهذه البنات بشيء كن له ستراً من النار) فقم بتربيتهن -يا أبا البنات- واحفظهن يحفظك الله في الدنيا والآخرة. كان الصحابة يقدم عليهم إخوانهم من سائر النواحي فقراء مطاردين مشردين، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (يا معشر المهاجرين والأنصار! إن من إخوانكم قوماً ليس لهم مال ولا عشيرة، فليضم أحدكم إليه الرجلين والثلاثة) هذا شيء يسير جداً من حال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ما شبعوا من التمر إلا بعد معركة خيبر، أما غير ذلك فلم يكونوا يرون الطعام إلا يسيراً، وكانت خفافهم مشققة وثيابهم مرقعة رضوان الله عليهم، يجاهدون في سبيل الله ولو لم يجدوا في طريق الجهاد إلا ورق الشجر.

الصحابة وحالهم مع الغنى

الصحابة وحالهم مع الغنى وبعد وفاته صلى الله عليه وسلم ومحاربة أهل الردة بدأت الفتوحات شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، بدأت الفتوحات فانهالت الأموال على الصحابة لما فتحوا المدائن وهي مستقر كسرى وعاصمة مملكته، ومكان كرسيه وعرشه، أخذوا تاج كسرى وهو مرصع بالجواهر، وبساطه منسوج بالذهب واللآلئ ومصورة فيه جميع ممالك كسرى، بأنهارها وقلاعها وأقاليمها، وكان كسرى إذا جاء يدخل تحت تاجه، ويجلس على عرشه وتاجه معلق بسلاسل الذهب، لأنه لا يستطيع حمله على رأسه من ثقله وكثره ما فيه من الذهب والجواهر المرصعة، وملابس كسرى مرصعة بالجواهر، لما قاتل الصحابة الفرس فهزموهم وأخمد الله نار المجوس وجدوا تاج كسرى وبساطه واللآلئ والجواهر، ووجدوا دوراً مليئة بأواني الذهب والفضة، ووجدوا كافوراً كثيراً جداً ظنوه ملحاً خلطوه بالعجين فصار العجين مراً، فعرفوا أنه ليس بملح. لما قسم سعد الغنائم حصل الفارس اثنا عشر ألفاً وكانوا كلهم فرسان، كانوا في معركة بدر ليس معهم إلا فارس، وبعضهم يتعاقبون بعيراً وبعضهم مشاة حتى عقلة البعير لا يجد، وبعث سعد أربعة أخماس البساط إلى عمر، فلما نظر إليه عمر قال: [إن قوماً أدوا هذا لأمناء، فقال علي: إنك عففت فعفت رعيتك، ولو رتعت لرتعوا، ثم قسم عمر البساط على المسلمين، فأصاب علياً قطعة من البساط فباعها بعشرين ألفاً]. توالت الأموال على الصحابة، غنائم جهاد، وأعطيات، وعمر يعدل ويقسم على المسلمين، وعمر كيف كان حاله؟ الصحابة بعد الفتوحات والغنائم -يا أيها المسلمون- كيف صار حالهم؟ لما فتحت عليهم الدنيا كيف كان حالهم؟ خليفتهم كان في إزاره اثنتا عشرة رقعة، وفي ردائه أربع رقع كل رقعة مختلفة عن الأخرى وكان باستطاعته أن يأكل لحماً مشوياً كل يوم، ولكنه كان يأكل زيتاً وكان يأكل خبزاً وملحاً، ويرفض أن يأكل من الطعام الهنيء، ورفض أن يجلس على الفراش الوثير، ونام في المسجد، حتى دخل مرسول من الكفرة فرآه في المسجد قال: عدلت فأمنت فنمت يا عمر. كيف كان حال الصحابة بعد أن صاروا أمراء على البلدان، هل طغوا وبغوا؟ هل غيرتهم الأموال؟ هل غيرتهم الدنيا؟

خباب يحكي حال الصحابة

خباب يحكي حال الصحابة روى البخاري رحمه الله عن أبي وائل قال: عدنا خباباً -وخباب أصابه ما أصابه في مكة، أحرق ظهره بأسياخ الحديد ومع ذلك عاش حتى رأى الفتوحات- قال خباب: هاجرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نريد وجه الله، ما أردنا مالاً ولا شيئاً من الدنيا فوقع أجرنا على الله تعالى من مكة إلى المدينة، فمنا من مضى ولم يأخذ من أجره شيئاً -هذا خباب يتكلم بعد أ، تدفقت الأموال- فمنا من مضى ولم يأخذ من أجره شيئاً، منهم مصعب بن عمير الذي مات قبل الفتوح فوفى الله له أجره كاملاً، لم يأخذ منه شيئاً في الدنيا، قال خباب: منهم مصعب بن عمير قتل يوم أحد وترك نمرة فإذا غطينا بها رأسه بدت رجلاه وإذا غطينا رجلاه بدا رأسه، فأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نغطي رأسه، ونجعل على رجليه شيئاً من الإذخر، ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها، ومنا من جاءته الأموال، أينعت له الثمرة فهو يقطفها، هذا الصحابي يذكر نفسه ويذكر الحاضرين، ويذكر هذا الحديث ما كان عليه الصحابة من الصدق في وصف أحوالهم، يقول: منا من مات في فتح البلاد فتوفر له ثوابه كاملاً، ومنا من بقي حتى نال من طيبات الدنيا حتى خشينا أن حسناتنا قد عجلت لنا، وأن أجر الطاعة قد جاءنا منه شيء في الدنيا، وأنه نقصنا من الآخرة شيء، ولذلك كان عمر يتجنب هذا ويقول: إن قوماً قال الله فيهم: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} [الأحقاف:20]. روى البخاري بإسناده عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: أتي بطعام وكان صائماً - عبد الرحمن بن عوف من كبار الأغنياء، قال لما قرب إليه الطعام، فنظر إلى الطعام الشهي- قال: قتل مصعب بن عمير وهو خير مني -هذا من تواضع عبد الرحمن رضي الله عنه، مع أنه أفضل من مصعب - وكفن في بردة إن غطي رأسه بدت رجلاه وإن غطت رجلاه بدت رأسه. وأراه قال: وقتل حمزة وهو خير مني ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط، أو قال: أعطينا من الدنيا ما أعطينا، وقد خشينا أن تكون حسناتنا قد عجلت لنا، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام، ما تغيرت نفوسهم والله، ولا تبدلت، ولا بطروا، ولا أشروا، وإنما تواضعوا لله، كانوا يذكرون على الطعام إخوانهم القتلى قبل الفتوحات.

فضالة بن عبيد وحاله أثناء الإمارة

فضالة بن عبيد وحاله أثناء الإمارة عن عبد الله بن بريدة: أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رحل إلى فضالة بن عبيد - فضالة بن عبيد هذا صحابي جليل، وهو بـ مصر صار أميراً على مكان- فقدم عليه وهو يمد ناقة له، الأمير يسقي الناس مديداً من الماء، فقال: إني لم آتك زائراً وإنما أتيتك لحديث بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجوت أن يكون عندك منه علم، فرآه شعثاً -المسافر القادم رأى أمير البلد شعثاً متفرق الشعر- فقال: مالي أراك شعثاً وأنت أمير البلد؟! قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهانا عن كثير من الإرفاه، يعني: التدهن والتنعم -وشبابنا اليوم بالكريمات والشعر بالاستشوار وصالونات الحلاقة، وهذا أمير البلد فضالة بن عبيد شعره متفرق، والتنعم والدعة ولين العيش خطير على الأمة إذا تفشى فيها، هل يرجى منها الجهاد أو الوقوف أمام الأعداء؟ كلا والله- ورآه حافياً، فقال: مالي أراك حافياً؟ قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نحتفي أحياناً - أحياناً نحتفي لنشعر بالخشونة، هذا الأمير يحتفي، ما تغيرت أحوالهم بل بقوا على إيمانهم، إنهم تربية محمد صلى الله عليه وسلم، رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، حتى لما جاءتهم الدنيا ما تغيروا.

أبو هريرة بعد تولي الإمارة

أبو هريرة بعد تولي الإمارة عن محمد قال: [كنا عند أبي هريرة فتمخط فمسح في ردائه، وقال: الحمد لله الذي تمخط أبو هريرة في الكتان] هذا بعد الفتوحات، وصار أبو هريرة أميراً وقال: [الحمد لله الذي تمخط أبو هريرة في الكتان، لقد رأيتني وإني لأخر فيما بين منزل عائشة والمنبر مغشياً علي من الجوع، فيمر الرجل فيجلس على صدري فأرفع رأسي فأقول: ليس الذي ترى إنما هو الجوع] أي: يظنه مصروعاً فيه جني، فيجلس على صدره ليرقيه ويقرأ عليه فيقول أبو هريرة: ليس هناك جنون ولا جن ما هو إلا الجوع- قال أبو هريرة: [والله إني كنت لأعتمد بكتفي على الأرض من الجوع، وكنت لأشد الحجر على بطني من الجوع، لقد رأيتني وإني لأخر ما بين المنبر والحجرة من الجوع مغشياً علي فيأتي الآتي فيضع رجله على عنقي، يرى أن بي الجنون وما بي إلا الجوع]. ماذا صار حال أبي هريرة بعدما صار أميراً؟ عن ثعلبة بن أبي مالك القرضي قال: أقبل أبو هريرة في السوق -صار أميراً على البلد في عصر الفتوحات- يحمل حزمة حطب وهو يومئذ خليفة لـ مروان، فقال: أوسعوا الطريق للأمير، أو في رواية يقول: طريق للأمير، طريق للأمير، طريق للأمير، والأمير يحمل حزمة من الحطب على ظهره. فهل تغيرت أحوالهم بعد الأموال والمناصب؟ ما تغيرت أحوالهم، فكيف حال المسلمين اليوم؟ تأتيه وظيفة أو يصبح موظفاً بعد أن كان طالباً، أو ينجح في شيء من التجارة، انظر إليهم في فسقهم وماذا يفعلون؟ انظر إلى حالهم لتعلم فتنة المال.

الصحابة ينفقون أموالهم في سبيل الله

الصحابة ينفقون أموالهم في سبيل الله كان عند أنس خباز يخبز له، وربما صنع له لونين من الطعام، وخبزاً حوارياً -يعني: نقياً منخولاً- يجيء إليه الضيوف يكرم الضيوف يأتي بالخباز يصنع ويطبخ لهم، هذا في عصر الفتوحات، قال قتادة: [كنا نأتي أنس وخبازه قائم ويقول: كلوا -وهذا إكرام للضيف- يقول: كلوا أنتم كلوا فما أكل النبي صلى الله عليه وسلم خبزاً مرققاً ولا شاة مسموطة -وهي الذبيحة الصغيرة الطرية التي تشوى- حتى لقي الله عز وجل]. كل ما تقدم من الأحاديث في صحيح البخاري أو هو حديث صحيح، وقال عروة: [بعث معاوية مرة إلى عائشة بمائة ألف درهم فقسمتها ولم تترك منها شيئاً، فقالت بريرة خادمة عائشة: أنت صائمة فهلا ابتعت لنا منها بدرهم واحد من المائة ألف من أجل طعام الإفطار، فقالت عائشة: لو ذكرتيني لفعلت] وتصدقت بسبعين ألف درهم وإنها لترقع جاني درعها رضي الله عنها. وزار أبو هريرة قوماً فأتوه برقاق فبكى قال: ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا بعينه. ومن أعظم الأحوال خطبة عتبة بن غزوان في صحيح مسلم، وهو أمير البصرة قال في خطبته للناس: [ولقد رأيتني سابع سبعة -أسلم سابع واحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم- مالنا طعام إلا ورق الشجر حتى قرحت أشداقنا، فالتقطت بردة فشققتها بيني وبين سعد بن مالك، فأتزرت بنصفها وأتزر سعد بنصفها، فما أصبح اليوم منا أحد إلا أصبح أميراً على مصر من الأمصار، وإني]-الآن هذا الكلام يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم، قاله الأمير في الخطبة بعد أن بين حاله السابق- ثم قال: [وإني أعوذ بالله أن أكون عظيماً وعند الله صغيراً] أعلم القوم بأول حاله وآخره إظهاراً للتواضع وتحدثاً بنعمة الله وتحذيراً من الاغترار بالدنيا. أيها المسلمون: هل يكون في هذا الحال وفي هذا الوصف عظة للمتعظ، وعبرة للمعتبر، ومانعاً لنا من الكبر إن أصابنا شيء من الدنيا، أو نعمة المال أو التجارة، أو المناصب والوظائف؟! هذا حال الصحابة ربما أتاهم من المال أكثر مما أتانا، لكن ما تغيروا رضي الله عنهم، بل بقوا على حفظ العهد الذي عاهدوا به محمداً صلى الله عليه وسلم. اللهم إنا نعوذ بك من فتنة المال ونعوذ بك من فتنة الجاه ونعوذ بك من فتنة المحيا والممات، اللهم اجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

حال الأمة اليوم مع الأموال والثراء

حال الأمة اليوم مع الأموال والثراء الحمد لله الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، مالك الملك يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء ويذل من يشاء بيده الخير إنه على كل شيء قدير، وصل اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد السراج المنير سيد الزاهدين وإمام العابدين وسيد ولد آدم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعه إلى يوم الدين. أيها المسلم: إذا رأيت الغني يصف حاله أيام فقره، ويذكر نعمة ربه، فهذا فيه خير كثير. قال غني لأولاده: كنا أيام الفقر في الحر ينزع أحدنا ثوبه ينقيه وينفضه من القمل، القمّل التي كانت تعلق به، وإذا رأيت الغني يقول: ورثت هذا كابراً عن كابر، فاعلم أن الخير من نفسه منزوع، وأن نصيبه من الرحمة والتواضع مفقود. وتلك قصة الثلاثة الذين أنعم الله عليهم؛ هذا بقطيع من الإبل، وهذا بقطيع من البقر، وهذا بقطيع من الغنم، وزال من كل واحد عيبه؛ زال الصلع، وزال العمى، وزال البرص، فماذا قال الأول والثاني: ورثته كابراً عن كابر، والأعمى قال: خذ ما شئت، هذا مال الله أعطاني إياه، خذ منه ما شئت، ما أمنعك من شيء منه أبداً.

عدم المبالاة من أي باب جمع المال

عدم المبالاة من أي باب جمع المال أيها المسلمون: إن من أشراط الساعة أن يفيض المال، ففي بعض بلدان المسلمين فاض المال، فهل شكروا نعمة الله أم ماذا فعلوا بالمال؟ فجروا وطغوا وبغوا وكفروا بنعمة الله، ولذلك يستحقون ما أصابهم من خوف، ويستحق المسلمون ما يصيبهم من جوع وفقر وسلب نعمة وتحول عافية وزوال، وسيسيرون في الطريق حتماً إن استمروا على ذلك، ثم إن الناس لم يعودوا يبالون أكلوا من الحلال أو من الحرام، قال صلى الله عليه وسلم: (ليأتين على الناس زمان لا يبالي المرء بما أخذ المال أمن حلال أمن حرام) حديث صحيح رواه البخاري وغيره. وفي رواية: (يأتي على الناس زمان لا يبالي الرجل من أين أصاب المال من حلال أو حرام) وهؤلاء الناس اليوم لا يبالون، يظلم، أو يأخذ راتب عمال، أو أسهم بنوك، أو شركات محرمة، لا يبالون بما أخذوا من حلال أو من حرام، غصب أموال، أخذ حقوق أيتام، وهكذا، صدق نبي الله صلى الله عليه وسلم، وصار الجشع والشرة في الناس عظيماً، يتنافسون على الدنيا ويتقاتلون وقد يشتكي الابن أباه في المحكمة، (يا أبا ذر! أترى أن كثرة المال هو الغنى، إنما الغنى غنى القلب، والفقر فقر القلب، من كان الغنى في قلبه فلا يضره ما لقي من الدنيا، ومن كان الفقر في قلبه فلا يغنيه ما أكثر له في الدنيا، وإنما يضر نفسه شحها) قاله صلى الله عليه وسلم، وقال صلى الله عليه وسلم (اثنتان يكرهما ابن آدم -اسمع أيها الفقير، أو يا صاحب الدخل المحدود، أو الذي لا يكفيه راتبه اسمع- (اثنتان يكرههما ابن آدم: يكره الموت والموت خير له من الفتنة، ويكره قلة المال وقلة المال أقل للحساب). ولذلك الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام، لأن أصحاب الجد محبوسون يحاسبون على الأموال، فلا تجزع إذاً إذا فاتك شيء من الدنيا. المهم -أيها المسلمون- أننا إذا أصابتنا نعمة من الله حمدنا الله وشكرناه وعرفنا حقه في نعمته، وإذا ابتلينا صبرنا ولم نجزع لفوات شيء من الدنيا، الدنيا ملعونة ملعونة ملعونة، هل نريد أكثر من هذا؟!! الدنيا ملعونة، هكذا يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالماً أو متعلماً).

وقفة مع المسافرين

وقفة مع المسافرين أيها المسافر: اتق الله سبحانه وتعالى وأنت تستعد لسفرك، واجعل نيتك في السفر إرضاء الله وصلة الأرحام وتعليم الجهال ودعوة الأهل والأقارب إلى الله، اصطحب معك من الكتب والأشرطة المفيدة ما تستعين به على هداية أهلك ونشر الخير بينهم في البلاد التي ستذهب إليها، ومن السنة السفر صباح الخميس إن تيسر، وأذكار السفر لا تنساها، وجمع الصلاة وقصرها في طريق السفر من السنة، وصلاة النافلة في السيارة والحافلة والطائرة في السفر من السنة، والتدبر في آيات الله في الأرض وإعانة الرفيق، وإذا قعدت في بلد أكثر من أربعة أيام فقول الجمهور أنك تتم الصلاة، لا تسافرن امرأة بغير محرم، واصطحب معك في طريق البر إذا سافرت من الأشرطة النافعة ما يقطع الطريق وأنت تذكر الله عز وجل. أكثر من سماع القرآن ودع سماع الأشعار، واذكر الله تعالى عند كل مرتفع وكل منخفض، كبره إذا ارتفعت وسبحه إذا انخفضت، سبحان الله إذا انخفضت تنزيهاً له عن النقائص والعيوب، واعلم أن دعاء المسافر مستجاب، وعجل الرجوع إلى أهلك إذا قضيت حاجتك، هكذا أوصى النبي صلى الله عليه وسلم. ولا تطرق أهلك ليلاً إلا بخبر مسبق، والنقيعة: الطعام الذي يصنعه المسافر إذا رجع من سفره شكراً لله وحمداً على السلامة من السنة، وبيع وشراء الأموال: كثير من الناس يحتاجون إلى بيع وشراء العملات وهم في السفر في البلدان التي يسافرون إليها، تذكر أنه يشترط لبيع وشراء العملات الحلال أن تكون يداً بيد، تسلم ريالات وتستلم دينارات، تسلم دولارات وتستلم ليرات، تسلم جنيهات وتستلم ريالات، وهكذا يداً بيد، في أي مكان، سوق بيضاء أو سوداء ينبغي أن يكون التسليم يداً بيد، حتى يكون البيع والشراء جاهزا، ولا تعمل شيئاً فيه مضرة لعموم المسلمين، لقوله صلى الله عليه وسلم (لا ضرر ولا ضرار) واتق الله واحذر من أماكن الفحش، واعلم بأنك موقوف عند الله وسائلك عن البلد الذي سافرت إليه لأي شيء سافرت؟ وماذا فعلت في السفر؟ وكم أنفقت من المال؟ أنت مسئول عند الله. يقولون لك في تعليمات السفر: اركب وسائل النقل العامة، واحذر من سيارات الأجرة الخاصة حتى لا تكون عرضة للنهب وعمليات السلب، وضع جواز السفر والجواهر والحلي في قسم الأمانات في الفنادق، ونحن نقول: اهتم بحفظ الدين الذي هو أهم من حفظ الأموال وحفظ جوازات السفر، حفظ الدين الذي قصر فيه المقصرون وفرط فيه المفرطون. اللهم إنا نسألك أن تجعلنا في هذا اليوم من عتقائك من النار، اللهم لا تفرق جمعنا هذا إلا بذنب مغفور وعمل مبرور، اللهم اجعل فيما سمعنا حجة لنا لا حجة علينا، اللهم إنا نسألك أن ترفع البلاء عن المسلمين، اللهم انصر المستضعفين، اللهم ارفع سيف الذل والبغي عن عبادك الصالحين، اللهم انصر المجاهدين واجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين. اللهم دمر اليهود ومن شايعهم، اللهم من ولاهم على ظلمهم أو كان معهم في فسقهم وبغيهم فدمره تدميراً وخذه أخذ عزيز مقتدر إنك أنت العزيز الجبار، نسألك بكل اسم هو لك أن ترحمنا وتجعلنا من عتقائك من النار.

عالم الأرواح

عالم الأرواح ما حقيقة الروح؟ كيف تنظر إليها الشريعة؟ ما علاقتها بالإنسان؟ ما حقيقة تعلقها بالجسد وانفصالها عنه؟ هذه المادة محاولة جادة للإجابة عن هذه الأسئلة، وخطوة في طريق فقه هذه المسألة، ابتداءً من تعارف الأرواح وتناكرها، ثم علاقة الملائكة بالروح أثناء الموت وبعده، ومصير الروح بعد الموت، وبيان تلاقي الأرواح مع بعضها.

حقيقة الروح وبعض أحكامها

حقيقة الروح وبعض أحكامها إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71] أما بعد: فإن علم الروح قد اختص به الله سبحانه وتعالى كما جاء في صحيح البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرث بـ المدينة وهو يتوكأ على عسيب، فمر بنفرٍ من اليهود، فقال بعضهم: سلوه عن الروح، وقال بعضهم: لا تسألوه لا يسمعكم ما تكرهون؛ فقاموا إليه، فقالوا: يا أبا القاسم! حدثنا عن الروح؛ فقام ساعة ينظر، وفي رواية: رفع بصره إلى السماء، قال ابن مسعود رضي الله عنه: فعرفت أنه يوحى إليه، فتأخرت عنه حتى صعد الوحي، ثم قال: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [الإسراء:85]) فالروح من أمر الله سبحانه وتعالى، ولذلك كان الذي يشابه صنعة الله ويحاول تقليدها في عمل ذوات الأرواح من التماثيل والصور إنساناً ملعوناً عند الله تعالى: (لعن الله المصورين) ثم إنه يكون له بكل صورة صورها نفساً يعذب بها في جهنم، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم، انفخوا فيها الروح، فلا يستطيعون ذلك؛ فيعذبون بالنار ويعذبون بالتكليف بما لا يطيقون ولا يستطيعون. وأمر الروح أمر معظم في الشريعة، فلا يجوز تعذيب الأرواح المعصومة ولا أرواح البهائم، ولذلك قال: (إذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة)، وجاء في الحديث الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنه أنه خرج من منزله، فمر بفتيان من قريش نصبوا طيراً يرمونه -يتدربون على رميه بالسهام من بعيد- وقد جعلوا لصاحب الطير كل خاطئة من نبلهم، فلما رأوا ابن عمر تفرقوا -أي: خوفاً من الصحابي- فقال ابن عمر: (من فعل هذا؟ لعن الله من فعل هذا؟ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من اتخذ شيئاً فيه الروح غرضاً). أي: هدفاً لرميه، رواه البخاري رحمه الله وغيره.

عالم الأرواح بين التآلف والاختلاف

عالم الأرواح بين التآلف والاختلاف نحن نعيش في عالم الماديات والمحسوسات قد غابت عنا أمور كثيرة من شأن الأرواح وما يحدث لها، مع أنه حق وواقع، فتعالوا بنا ننتقل من عالم الأسواق والسلع والطائرات والمراكب والملابس والأطعمة والأدوية وسائر الماديات إلى عالم الأرواح لنأخذ جولة في ذلك العالم العجيب، لعله يكون في ذلك رقة تصيب قلوبنا، وتنقلنا من هذا الواقع الذي نعيشه يومياً إلى عالم آخر مختلف تمام الاختلاف ذكره لنا الله في كتابه وذكره نبيه صلى الله عليه وسلم، وشهد به الواقع؛ لنتعلم شيئاً عن أمر هذه الروح العجيبة لقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن (الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف) كما جاء في الحديث الصحيح، وهو عجب من العجب! فإنك ترى الإخوان في الله على بعد ما بينهما، أحدهما في المشرق والآخر في المغرب، يعيشان كأنهما معاً من التقاء الروحين، بما حدث من التقارب بسبب الأخوة في الله، وتشاكل الطباع وتناسبها.

أنواع تعلق الأرواح بالأجساد

أنواع تعلق الأرواح بالأجساد ثم إن الله عز وجل يقبض الأرواح عند النوم فيكون لها تعلقٌ بالأجساد من نوع يختلف عن حال اليقظة؛ لأن الأرواح تتعلق بالجنين حينما يرسل الملك لينفخ الروح، فإذا خرج إلى الدنيا وصار إنساناً يمشي أو يبكي ويبحث ويأكل الطعام صار لها تعلق آخر، فإذا نام صار لها تعلق آخر، فإذا مات صار لها تعلق آخر فإذا بعث صار لها تعلق آخر، وهكذا يتقلب الإنسان مع روحه في أطوار مختلفة: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ} [الانشقاق:19] أي: حال بعد حال. وقد نام أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة في السفر بعدما تكفل بلال بإيقاظهم لصلاة الفجر فغلبه النوم، فاستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم وقد طلع حاجب الشمس، فقال لأصحابه: (إن الله قبض أرواحكم حين شاء، وردها عليكم حين شاء، يا بلال! قم فأذن بالصلاة) الحديث، ولذلك يقول المسلم حينما يقوم من فراشه إذا اضطجع قبل ذلك: (باسمك ربي، وضعت جنبي وبك أرفعه، فإن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين)، فإذا استيقظ فليقل: (الحمد لله الذي عافاني في جسدي، ورد عليَّ روحي، وأذن لي بذكره) حديث صحيح يدل على أن الروح تخرج من الجسد عند النوم، ولكن يبقى لها معه تعلق واتصال، ولذلك يستمر في التنفس والحياة، وإلا فلو كان خروجاً كلياً كخروجها عند الموت لكان لجسده شأن آخر فيما يحدث له من البلى والفناء إلا عجب الذنب الذي يُركب منه الخلق يوم القيامة.

عمل الملائكة عند الموت

عمل الملائكة عند الموت لقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن ملك موكل بقبض الأرواح يرسله الله تعالى إلى من شاء، لا يحبسه حابس ولا جدار، يدخل على الفقراء والأغنياء والملوك فيقبض أرواحهم، أرسله إلى موسى فشمه شمة فقبضت روح موسى كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد شيء حصل بينهما، يرسله الله إلى الأنبياء وغيرهم ليقبض الأرواح، وله ملائكة يعاونونه، ويحضر عند الموت ملائكة الرحمة وملائكة العذاب بحسب حال المحتضر، وأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن جهة خروج الروح تكون من قبل الرأس لا من غيره، وقد قال في الحديث الصحيح لما دخل على أبي سلمة وقد شق بصره فأغمضه صلى الله عليه وسلم، ثم قال: (إن الروح إذا قبض تبعه البصر، فضج ناس من أهله، فقال: لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير، فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون) فيكون خروج الروح من الجهة العلوية، والبصر يتبع الروح، ولذلك تجد الميت شاخصاً ببصره إلى الأعلى إلى جهة أعلى الرأس مكان خروج الروح. هذه الأرواح تجعلها الملائكة في أكفان من الجنة إذا كان أصحابها من أهل الجنة، وفي أكفان من النار إذا كان أصحاب الأرواح من أهل النار.

مصير أرواح الشهداء

مصير أرواح الشهداء أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن أمورٍ عجيبة تتعلق بالروح، ومن ذلك ما يكون للشهداء، قال صلى الله عليه وسلم: (أرواح الشهداء في طير خضر تعلق من ثمر الجنة) الطير تأكل من ثمر الجنة، وأرواح الشهداء في أجوافها. وكذلك جاء في الحديث الصحيح عن مسروق قال: (سألنا الرسول صلى الله عليه وسلم عبد الله عن هذه الآية: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169] قال: أما إنا قد سألنا عن ذلك، فقال: أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل -قناديل معلقة بالعرش تأوي إليها أرواح الشهداء- فاطلع إليهم ربهم اطلاعة -فهنيئاً لمن اطلع الله عليه- فقال: هل تشتهون شيئاً؟ قالوا: أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا؟ -ففعل ذلك بهم ثلاث مرات- فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا، قالوا: يا رب! نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى، فلما رأى أنهم ليس لهم حاجة تركهم) حديث صحيح. هذه الروح جاء في الحديث الصحيح أنها تصعد وتهبط، وأنها تهوي وتتلقى (تلقت الملائكة روح رجل ممن كان قبلكم، فقالوا: هل عملت من الخير شيئاً؟ قال: لا، قالوا: تذكر! قال: كنت أداهم الناس فآمر فتياني أن يُنظروا المعسر ويَتجوزوا عن الموسر. قال الله عز وجل: تجوزوا عنه، تجوزوا عنه) هذا لفظ مسلم رحمه الله تعالى.

خروج الروح من البدن

خروج الروح من البدن الروح في البدن لها عند خروجها قعقعة وشنشنة واضطراب في نفس المحتضر؛ ولذلك لما أرسلت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيها، فأرسل إليها معزياً (إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده إلى أجل مسمى فمرها فلتصبر ولتحتسب) فأقسمت عليه أن يأتيها وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبر بقسم المقسم، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقام معه الصحابة: معاذ وأبي وعبادة، فلما دخلنا ناولوا الصبي رسول الله صلى الله عليه وسلم وروحه تقعقع في صدره -الروح تضطرب في الصدر عند الاحتضار- قال: حسبته قال: كأنها شنة -القربة القديمة- فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم تأثراً لحال الصبي الذي يحتضر. فقال له عبادة: ما هذا يا رسول الله؟ قال: (الرحمة التي جعلها الله في بني آدم، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء). إن هذه الروح يا عباد الله تتأثر بشيء عظيم عند الموت وهو شهادة أن لا إله إلا الله كما جاء في الحديث الصحيح أن عمر رضي الله عنه مر بـ طلحة وهو حزين، فسأله عن سبب حزنه؟ فأخبره طلحة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إني لأعلمٍ كلمة لا يقولها أحد عند موته إلا كانت نوراً لصحيفته، وإن جسده وروحه ليجدان لها روحاً عند الموت رحمة وفرجاً وتنفيسا، فلم أسأله حتى توفي -يقول طلحة حزيناً- قال عمر: أنا أعلمها، هي التي أراد عمه عليها -لا إله إلا الله- قال طلحة: صدقت). عباد الله: إن هذه الروح تصعد وتنزل، وتتصل وتنفصل، وتخرج وتذهب وتجيء، وتتحرك وتسكن، كما ورد ذلك في الأحاديث الصحيحة والآيات التي جاءت من عند ربنا، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها تصعد إلى السماء، ويصلي عليها كل ملك لله بين السماء والأرض إذا كان صاحبها طيباً من الصالحين، وتُستقبل استقبالاً عظيماً، وتفتح لها أبواب السماء، ويشيعها من كل سماء مقربوها إلى السماء التي بعدها، يعرجون معها تكريماً وتشريفاً، ويفتح لها باب السماء الثانية والثالثة وهكذا، حتى تنتهي إلى السماء التي فيها الله عز وجل ليقول الله لها: صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة -يكون فراشه من الجنة- وألبسوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة، هكذا تشرف روح المؤمن. أما العبد الفاجر صاحب الكبائر، والمصر على الصغائر، الذي ليس له حسنات ماحية، ولا أمور مكفرة لهذه السيئات فأي استقبالٍ يستقبله؟ إن روحه تصعد إلى السماء بعد أن يستلمها ملائكة العذاب، فتغلق أبواب السماء دونها، ويقول الله: كذب عبدي، ويرد إلى الأرض فيطرح طرحاً من الأعلى إلى الأسفل يهوي من السماء إلى الأرض: {حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31].

عودة الروح إلى البدن

عودة الروح إلى البدن عباد الله! إن لهذه الروح شأناً إن هذه الروح التي تخرج عند الموت تعود إلى الجسد ليقع العذاب والنعيم على الجسد والروح معاً، إنها ترجع للسؤال تعاد روحه في جسده ليأتيه الملكان فيجلسانه ليسألانه عن هذه الأمور المذكورة في الذكر الذي ينبغي أن يردد صباحاً ومساء: رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً. عباد الله! دلت الأحاديث والنصوص على أن الروح تعود إلى البدن ليقع العذاب أو النعيم على هذه الروح التي تكون في البدن في القبر كما هو مذهب أهل السنة والجماعة، ولذلك نعلم أن الله على كل شيء قدير، وأن إنساناً لو أُحرق حرقاً بالنار وذر رماداً في يومٍ عاصفٍ عند البحر لجمعه الله وأوقع العذاب أو النعيم على روحه وبدنه، وكذلك لو تخطفته الطير.

الأدلة على عذاب القبر

الأدلة على عذاب القبر دلت النصوص على عذاب القبر ونعيمه، ومنها: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير)، وقبل ذلك قول الله: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46] وعذاب البرزخ مذكور في القرآن والسنة، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الكفار يعذبون، وأنهم يعذبون عذاباً تسمعه البهائم، لا يسمعه الجن ولا الإنس، وقد شهد الواقع بذلك أيضاً، حتى قال بعض أهل العلم: لهذا السبب يذهب الناس بدوابهم إذا مغلت -أكلت التراب مع البقل- فأصابها شيء في بطنها إلى قبور اليهود والنصارى والمنافقين كـ الإسماعيلية والنصيرية والقرامطة من بني عبيد وغيرهم الذين بأرض مصر والشام، فإن أصحاب الخيل التي أصابها هذا الداء كانوا يقصدون قبورهم، فإذا سمعت الخيل عذاب القبر أحدث ذلك لها فزعاً وحرارة تذهب بذلك المغل الذي حدث لها في بطنها، وقد ذكر بعض أهل العلم وهو الحافظ عبد الحق الإشبيلي رحمه الله في شرحه لـ صحيح مسلم، لما وصل مع الطلاب إلى الحديث الذي فيه عذاب القبر أخبرهم بالقصة التي حدثت أن دابة أتت إلى قبرٍ من القبور فألصقت أذنها به ثم تراجعت إلى الوراء، ثم ذهبت إلى القبر فألصقت أذنها به ثم تراجعت إلى الوراء، فعلت ذلك مراراً، ومن يسأل بعض الرعاة الذين ربما يرعون حول المقابر أو يمرون ببهائهم على المقابر لسمع من ذلك أحداثاً عجيبة.

الأعمال التي تنفع الإنسان في قبره

الأعمال التي تنفع الإنسان في قبره عباد الله: إن الذي ينفع الإنسان في قبره هو عمله الصالح، ولذلك جاء في الحديث الصحيح إن شاء الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الميت إذا وضع في قبره يسمع خفق نعالهم حين يولون عنه، فإن كان مؤمناً كانت الصلاة عند رأسه، والصيام عن يمينه، والزكاة عن شماله، وفعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان عند رجليه، فيؤتى من قبل رأسه، فتقول الصلاة: ما قبلي مدخل، ثم يؤتى من يمينه، فيقول الصيام: ما قبلي مدخل، ثم يؤتى من يساره، فتقول الزكاة: ما قبلي مدخل -لا يمكن الاختراق من هذه الجهة- ثم يؤتى من قبل رجليه، فيقول فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان: ما قبلي مدخل. فيقال له: اجلس، فيجلس قد مثلت له الشمس وقد أخذت بالغروب، فيقال له: ما هذا الرجل الذي كان فيكم؟ ما تقول فيه وما تشهد به عليه؟ فيقول: دعوني حتى أصلي -لأنه كان متعوداً على إدراك صلاة العصر، لا يضيعها حتى تغيب الشمس- فيقولون: إنك ستصلي، أخبرنا عما نسألك عنه، ثم يجيبهم بعد ذلك عن هذه الأسئلة التي طرحوها عليه) حديث حسن، رواه ابن حبان رحمه الله تعالى. وكذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن المؤمن إذا حضره الموت حضرته ملائكة الرحمة)، قال في الحديث الصحيح: (عند صعودها إلى السماء يقول أهل السماء: روح طيبة جاءت من قبل الأرض، صلى الله عليك وعلى جسد كنت تعمرينه، فينطلق به إلى ربه عز وجل، ثم يقول: انطلقوا به إلى آخر الأجل، وإن الكافر إذا خرجت روحه من نتنها -وذكر الراوي لعناً يحصل- ويقول أهل السماء: روح خبيثة جاءت من قبل الأرض، ويأمر بها إلى آخر الأجل) رواه مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه. عباد الله: إن هذه الأشياء التي تقع على الروح وإن كنا لا ندركها فإنها واقعة حقاً حقاً؛ لأن ذلك قد جاء في الأخبار الصحيحة من أنها تبلغ الحلقوم، وأن الإنسان يغرغر إذا بلغت الروح الحلقوم إنها جاءت الأخبار بأنها تصعد إن الأخبار قد جاءت بأن العذاب والنعيم يقع، ولو أن إنساناً قال لك: لقد نبشت قبراً بعد وفاة صاحبه الكافر فوجدت بدنه سليماً، إنهم يحنطون أجساد موتاهم ويجعلونها في توابيت، وربما جعلوها في المتاحف والمزارات، ولا نرى قبضاً ولا هصراً ولا عصراً، بل نرى صدور هؤلاء الأموات سليمة لم يحصل لها شيء؟! نقول له: لقد خرجت المسألة الآن من عالم المحسوسات وصارت في عالم الغيب، ونحن لا نطلع عليه ولا نرى ولا نحس، ولكن العذاب واقع ولا بد على مثل هؤلاء الكفار، نسأل الله السلامة والعافية. اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وثبتنا في قبورنا، اللهم ارحمنا فوق الأرض، وتحت الأرض، ويوم العرض إنك على كل شيء قدير. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

أماكن أرواح الصالحين بعد موتهم

أماكن أرواح الصالحين بعد موتهم الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، إله الأولين والآخرين، وقيوم السماوات والأرضين، لا إله إلا هو يفعل ما يشاء، أشهد أنه الله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، وأشهد أن محمداً رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، هو الرحمة المهداة، والبشير النذير، والسراج المنير، أرسله الله إلينا، علمنا فأحسن تعليمنا، وأدبنا فأحسن تأديبنا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. عباد الله! إن هذه الروح يكون لها مواقف شتى في أمكنة مختلفة قد جاءت في الأحاديث الصحيحة، فإن قلت يا عبد الله: أين تكون الأرواح إذا خرجت؟ فإن النصوص قد جاءت بأن منها ما يكون في حواصل طير خضر تسرح في الجنة، وجاء في بعض النصوص بأنها تكون عن يمين آدم وعن يساره أرواح أيضاً، فعن يمينه أسمدة (وهي أرواح المؤمنين)، وعن شماله أفئدة (وهي أرواح الذين كتب الله عليهم العذاب)، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن شخص بعد الموت محبوس على باب الجنة، فقال: (رأيت صاحبكم محبوساً على باب الجنة) وفي الحديث الصحيح: (ومنهم من يُحبس في قبره بسبب الدين، ومنهم من حبس في قبرة في غلة غلها)، ومن الأرواح ما يكون مقره عند باب الجنة كما جاء في حديث ابن عباس: (الشهداء على بارق) ما هو بارق؟ (قال: نهر بباب الجنة في قبة خضراء يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرةً وعشياً) حديث صحيح. إذاً: الأرواح منها أرواح في مراتب عليا تسرح في الجنة في مراتب عليا مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ومنها ما يكون على بارق -نهر بباب الجنة- يخرج رزقهم من الجنة إليهم بكرة وعشياً، ومنها ما يكون في قناديل، أو منها ما يكون آوياً تحت العرش يأوي إلى تحت العرش كما جاء في الحديث أيضاً عن أرواح المؤمنين أنها معلقة، أنها تكون تحت العرش، ومن الأرواح ما يكون محبوساً في الأرض لا يرفع إلى الملأ الأعلى، ومنها ما يكون محبوساً في تنور من نار يأتيهم النار من أسفل فيضجون ويصيحون، وهؤلاء هم الزناة والزواني، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن حالهم في الحديث الصحيح (أرواح الزناة والزواني تحبس في تنور من نار يعذبون إلى أن تقوم الساعة) هذا عذابهم في البرزخ، وكذلك أكلة الربا الذين رآهم النبي صلى الله عليه وسلم يسبحون في نهر الدم ويلقمون الحجارة، ويسبحون والحجارة في بطونهم في نهرٍ من دم منتن كما كانوا يأكلون الربا في الدنيا. عباد الله! إذاً الأرواح أحوال مختلفة في أماكن مختلفة، ولكن يبقى لها اتصال بالبدن، ولو كانت تطير وتسرح في أنهار الجنة في أعلى عليين فإنه لا يزال لها تعلق بالبدن في الأسفل في الأرض لتنعم أيضاً. ولا تقل: كيف يكون الشيء في مكانين في وقت واحد؟ ف A هذا في الدنيا، أما عالم الغيب -أمر الآخرة- فهو أمر مختلف تماماً، نعم تكون في مكانين في وقت واحد، وتكون متصلة بالجسد وهي في أعلى عليين.

تلاقي أرواح المؤمنين بعد موتهم

تلاقي أرواح المؤمنين بعد موتهم أرواح الأنبياء والصدقين والشهداء والصالحين معاً، فإن قلت يا عبد الله: هل تتلاقى أرواح المؤمنين بعد موتهم؟ فاسمع A في الحديث الصحيح الذي رواه النسائي رحمه الله، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا حُضِر المؤمن أتته ملائكة الرحمة بحريرة بيضاء، فيقولون: اخرجي راضية مرضية عنك إلى روح الله وريحان ورب غير غضبان، فتخرج كأطيب ريح المسك، حتى أنه ليناوله بعضهم بعضاً -الملائكة تناول الروح، يناوله بعضهم بعضا إكراماً للميت- حتى يأتون به باب السماء، فيقولون: ما أطيب هذه الريح التي جاءتكم من الأرض! فيأتون به أرواح المؤمنين فلهم أشد فرحاً به من أحدكم بغائبه يقدم عليه -ترحيب حار من المؤمنين بروح أخيهم الذي قبض حديثاً فجاءته روحهم- فيسألونه: ماذا فعل فلان؟ -ممن تركتهم وراءك في الدنيا؟ - فيقولون له: دعوه أي: يستريح- فإنه في غم الدنيا -كان في لأوائها ونصبها ومرضها وحزنها وغمها وهمها وعقوق أولادها وعصيان أزواجها- فإذا قال-مجيباً لهم عن السؤال الذي طرحوه: أين فلان؟ ما حال فلان؟ - فإذا قال: أما أتاكم؟ -فلان مات الذي تسألون عنه مات- فيعلمون حينئذٍ، قالوا: ذهب به إلى أمه الهاوية) ما جاءنا، إذاً ذهب إلى مكان آخر، فما هو المكان الآخر؟ أمه الهاوية. إذاً: تتلاقى أرواح المؤمنين ويتساءلون فيما بينهم، وقد جاء عن أبي هريرة أيضاً رفعه قال: (إن المؤمن ينزل به الموت ويعاين ما يعاين، فيود لو خرجت نفسه -لله يحب لقاءه- وإن المؤمن يُصعد بروحه إلى السماء فتأتيه أرواح المؤمنين فتستخبره عن معارفهم من أهل الأرض، إذا قال: تركت فلاناً في الأرض، أعجبهم ذلك -اطمأنوا، ربما يصلح حاله أو يزداد صلاحاً إذا كان صالحاً- وإذا قال: إن فلاناً قد مات، قالوا: ما جيء به إلينا أين؟ إلى أمه الهاوية) حديث حسن.

تلاقي أرواح الأحياء مع أرواح الأموات

تلاقي أرواح الأحياء مع أرواح الأموات أما تلاقي أرواح الأحياء مع الأموات فإن بعض أهل العلم قد فسروا قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر:42] فسروه بذلك، بتلاقي أرواح ما يقتضي تلاقي أرواح الأحياء مع الأموات، ومنهم من قال غير ذلك، وعلل بعض أهل العلم الرؤيا التي يراها الإنسان في نومه لميتٍ مات ويتحدث معه ويخاطبه ويكلمه بأنه من نتيجة تلاقي روحه لما خرجت وهو نائم وجالت وتجولت مع روح ذلك الميت. أما ما نُقل عن السلف في مسألة الرؤى التي رئيت للصالحين من موتاهم والأحاديث التي حدثوا بها فهي كثيرة جداً ومستفيضة، قال سفيان بن عيينة: رأيت سفيان الثوري بعد موته يطير في الجنة من نخلة إلى شجرة، ومن شجرة إلى نخلة، وهو يقول: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:61] فقيل له: بم أدخلت الجنة؟ قال: بالورع. وقال صالح بن بشر: لما مات عطاء السلمي رأيته في منامي، فقلت: يا أبا محمد! ألست في زمرة الموتى؟ قال: بلى. قلت: فماذا صرت إليه بعد الموت؟ قال: صرت والله إلى رب غفور شكور وخير كثير. ورئي الفضيل بن عياض بعد موته، فقال: لم أر للعبد خيراً من ربه. وقال أبو بكر بن أبي مريم: رأيت وفاء بن بشر بعد موته، فقلت: ما فعلت يا وفاء؟ قال: نجوت بعد كل جهد. قلت: فأي الأعمال وجدتموها أفضل؟ قال: البكاء من خشية الله عز وجل. وقال عبد الله بن عبد العزيز: رأيت أبي في النوم بعد موته كأنه في حديقة، فقلت: أي الأعمال وجدتها أفضل؟ قال: الاستغفار أي بني. وقال سهيل أخو حزم: رأيت مالك بن دينار بعد موته، فقلت: أبا يحيى! ليت شعري ماذا قدمت به على الله؟ قال: قدمت بذنوبٍ كثيرة محاها عني حسن الظن بالله عز وجل. وقال عمار بن سيف: رأيت الحسن بن صالح في منامي، فقلت: قد كنت متمنياً للقائك، فماذا عندك فتخبرنا به؟ فقال: أبشر! فإني لم أر مثل حسن الظن بالله شيئاً. ورأى الشيخ/ محمد الصالح -علامة القصيم - شيخه عبد الرحمن بن ناصر السعدي في منامه، فقال له: ما أكثر ما نفعك عند الله تعالى؟ فقال: حسن الخلق. وكان السعدي رحمه الله من المشهورين بحسن الخلق. وهذه قصة تأكدت من صحتها بنفسي، والذي يخبرك به الناس عما رأوه من حال أقاربهم بعد الموت في المنامات أشياء كثيرة جداً، فهذا عالم الأرواح بهذه الأسرار التي لا يعلمها إلا الله، وما علمناه نحن شيء يسير: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [الإسراء:85] وإن ما يحدث لهم الآن تحت الأرض وفي أعلى عليين وفي أسفل سافلين حوادث كثيرة جداً أكثر من الأحداث التي تحدث على وجه الأرض. كم مات من الناس من قبلنا من آدم إلى الآن؟ كلهم لهم قصص وأحداث الآن تدور رحاها، تحت الأرض وفي أعلى عليين وفي أسفل سافلين، أحداث كثيرة جداً تحدث ونحن عنها في غفلة، فاستعدوا يا عباد الله، ولنستعد ولنأخذ العدة بما نحن عليه الآن لما سنكون عليه بعد الموت. نسأل الله السلامة والعافية، ونسأل الله زاداً نافعاً يبلغنا مآلاً صالحاً. اللهم اغفر لنا يا رب العالمين، وتب علينا إنك أنت أرحم الراحمين، اللهم عجل فرجنا، وثبت أمننا، اللهم ارزقنا إيماناً صالحاً، اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم من أراد بلدنا هذا بشر فكده، اللهم من أراد المسلمين وبلادهم بسوء فدمره واجعله عبرة للمعتبرين. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

عبادة المرأة المسلمة في رمضان

عبادة المرأة المسلمة في رمضان على المرأة المسلمة أن تستغل المواسم التي جعل الله فيها خيراً كبيراً في حصاد الحسنات، وإن مما يضاعف الحسنات لدى المرأة المسلمة تقوية عزيمتها في جوانب العبادة والطاعة، وأن تحرص على فعل الخير والطاعة من صدقة وصلاة، ونوافل، وتجنب كل ما يخدش الصيام، فعند ذلك لا يفوت أجرها بإذن ربها.

شكر الله على نعمة الأمن والسلامة

شكر الله على نعمة الأمن والسلامة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أيتها المستمعات المسلمات: السلام عليكن ورحمة الله وبركاته. نحن في هذا اللقاء من وراء حجاب مع موضوع بعنوان "عبادة المرأة المسلمة في رمضان" وقبل أن نتكلم عن جوانب هذه العبادة في رمضان، أود أن أقول في بداية هذا الكلام: إن شهر رمضان لهذه السنة قد جاء بعد ظروف عصيبة، وأيام شديدة مرت علينا، وإن مجيء هذا الشهر بعد هذه المحنة مباشرة، وبعد انقضاء هذه الأيام العصيبة له مدلولات معينة، وإن طعم شهر الصوم بعد هذه الفتنة يختلف عن الرمضانات الماضية. أيتها المسلمات: ينبغي أن نتعلم من مجيء هذا الشهر مباشرة بعد الأزمة شكر الله سبحانه وتعالى على ما منَّ به علينا من السلامة، وعلى ما من به علينا من زوال الخوف الذي سلَّطه علينا في الأيام الماضية، ونتعلم بأن نعم الله يجب أن تشكر، وأن كفران النعم يؤدي إلى مثلما أدت إليه الأحداث الماضية، وما حل بأقوام من حولنا من المصائب العظيمة لهي دليل على أن نقمة الله تحل بالمكذبين والكافرين بنعمته عز وجل: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} [النحل:112]. وهذا الشهر الكريم، شهر تضرع إلى الله ورغبة إليه، فكيف إذا كان بالإضافة إلى الصوم، وبالإضافة لما ينبغي أن يكون في هذا الشهر من التبرع، كيف إذا كان الأمر يوجب تضرعاً خاصاً آخر مما حصل ومن نتيجة ما جرى: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} [الأنعام:43] فينبغي أن تكون العبادة في هذا الشهر وشكر النعمة فيه أعلى بكثير من الأشهر الماضية؛ لأن الله قد هزَّ القلوب، ولأن الله قد ابتلى، ولأن الله قد أحل بأقوام من الكافرين والظالمين أنواعاً من نقمته، ونحن ينبغي أن نخاف الله عز وجل في أن يصيبنا مثلما أصابهم أو أشد. أيتها المسلمات: إن موسم العبادة عندما يأت في هذا الوقت بعد هذه المصيبة التي حصلت والتي لا زالت آثارها تتتابع حتى الآن، إننا نتعلم من خلال هذا أن الله سبحانه وتعالى يبتلينا بالشر كما يبتلينا بالخير، فينظر كيف نعمل، فلذلك إذا كنا نتوب إلى الله في الرمضانات الماضية فإن توبتنا في هذا الشهر ينبغي أن تكون أكثر، وإذا كنا نعبد الله في الرمضانات الماضية ونقوم فإن قيامنا وعبادتنا ينبغي أن تكون أكثر وهكذا.

إخلاص المرأة في رمضان

إخلاص المرأة في رمضان من أوجه العبودية التي تتمثل في حياة المرأة المسلمة في شهر الصيام أنها تتعلم الإخلاص لله عز وجل، كما قال الله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: (إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به)، وقال: (يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي) فتتعلم المرأة أن تحفظ هذا السر الذي بينها وبين الله سبحانه وتعالى بالابتعاد عن هذه المفطرات، وأن ترعى الأمانة والعهد الذي بينها وبين الله في إكمال هذا الصوم من الفجر إلى الغروب، ولا تنقض عهد الله بأي نوع من أنواع المفطرات التي تفسد الصوم. وكذلك فإن تعلم هذا الإخلاص من شهر الصوم وشهر الصبر ينعكس على الأعمال الأخرى التي لا بد أن يبتغى فيها وجه الله، سواءً كانت هذه الأعمال دعوة أو طلب علم أو أعمالٍ خيرية أو نحو ذلك.

المرأة المسلمة وتعلم أحكام الصوم

المرأة المسلمة وتعلم أحكام الصوم ومن الأمور المستلزمة للعبادة في رمضان أن تتعلم المرأة الأحكام الفقهية التي لا تستقيم عبادتها إلا بها، خصوصاً في هذا الشهر وهذه المناسبة التي تجتمع فيها أحكام كثيرة، وخصوصاً بالنسبة للمرأة المسلمة، فهي لا بد أن تتعلم من أحكام الحيض ما تعلم به متى يجب عليها أن تصوم، ومتى يجب عليها أن تفطر، ومتى تطهر من مثل نزول الطهر عليها، أو إذا انقطع الدم أن تحتشي بشيءٍ، فإذا خرج نظيفاً تعلم أنها قد طهرت بذلك، وكذلك أن تعلم الفرق بين الحيض والاستحاضة، وأن ما زاد عن خمسة عشر يوماً من العادة فإنه استحاضة، وأحكام النفاس، وأنه لا حد لأقله، فلو أنها طهرت بعد عشرين يوماً من الولادة فإنها تبدأ في الصيام إذا كانت في رمضان مثلاً، وكذلك لا يجوز الزيادة عن أربعين يوماً على القول الراجح، فإذا انتهت وكانت نهاية الأربعين في رمضان فإنها تغتسل وتصوم. وينبغي عليها أن تعلم أحكام النية، من تبييت نية الصيام من الليل ولو قبل الفجر بلحظة، فإذا طهرت قبل الفجر عليها أن تنوي لكي تأتي للصوم عبادة صحيحة، وتبدأ به كما أمر الله، قال عليه الصلاة والسلام: (لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل). وكذلك فإنه ينبغي عليها أن تتعلم -مثلاً- ماذا يجب عليها أن تفعل إذا حاضت أو طهرت أثناء اليوم في رمضان. وكذلك لا بد أن تعلم أنها لو كانت تتوقع الحيض في اليوم القادم فلا يجوز لها أن تنوي الإفطار غداً؛ لأن الحيض قد يتأخر، فتكون لم تبيت النية فتقع في إشكال كبير، فينبغي لها ألا تقطع نية الصوم حتى ترى الدم، فتعلم أن الصيام قد بطل وأنها الآن يجب عليها أن تفطر، وقد ذكرنا طائفة كثيرة من أحكام الصيام في محاضرة بعنوان "خلاصات لأحكام الصيام" يمكن الرجوع إليها إذا شاءت المرأة المزيد.

امتثال المرأة أوامر الله ورسوله في الصوم

امتثال المرأة أوامر الله ورسوله في الصوم كذلك فإن من العبودية في هذا الشهر أن تعلم المرأة أنها تأتمر بأوامر الله ورسوله في الصوم والإفطار، فإذا قال الله لها: صومي؛ فتصوم، وإذا قال الله لها: أفطري؛ فتفطر، وإذا حاضت -مثلاً- فإن الصيام ينقطع ولها الأجر على ما مضى من الصيام، ولم تذهب القضية هباءً منثوراً، فإن الله لا يضيع أجر المحسنين، ومن الإحسان أن تصوم، فإذا نزل عليها الدم أثناء النهار تفطر، ولذلك فإنها تؤجر على الإحسان في عملها، وبطلان الصوم شيء، وبطلان الأجر شيء آخر، فلا ينبغي عليها أن تخلط بين هذا وهذا، خصوصاً وأن بعض النساء يشعرن بالضيق من مجيء العادة الشهرية أثناء شهر الصوم، وقد تلوم إحداهن نفسها، أو تندب حظها، وتقول: يا ليت هذه العادة لم تكن، أو لماذا كانت؟ ونحو ذلك، ولماذا لا أكون مثل الرجل الذي يصوم الشهر كله، وأنا أضطر للإفطار ثم أقضي؟! فنقول: إن من أنواع الرضا بالقضاء: الرضا بالقضاء الشرعي، والله سبحانه وتعالى قد قدَّر على المرأة أن تحيض، وأوجب عليها أن تفطر، وتقضي بعد ذلك، ورضي لها بهذا ديناً، فينبغي أن ترضى بما رضيه الله لها، وما دامت لم تفعل محرماً فلماذا تلوم نفسها، ولماذا تندب حظها، ولماذا تعنف هذه الخواطر التي تأتيها في نفسها؟ فنقول: ينبغي أن ترضى بما رضي الله لها، وهذه قسمة الله ومشيئته، وله في ذلك حكمة عظيمة سبحانه وتعالى.

حياء المرأة في رمضان

حياء المرأة في رمضان من الأمور المرتبطة بذلك أيضاً أن تعلم المرأة أنه لا حياء في الدين، وأنه لا ينبغي أبداً أن تجعل من الإحراجات التي تحصل لها بسبب الحيض مانعاً لها من أداء الصيام في هذا الشهر العظيم، فمثلاً: بعض النساء تتحرج من إخبار أهلها أنها قد بلغت فتستمر على الإفطار لتثبت لهم أنها لم تبلغ مثلاً، وهذا خطأ عظيم، وجريمة كبيرة، بل يجب عليها أن تصوم في وقت الطهر، وتفطر في وقت العادة. وكذلك أن تستحي فتصوم في وقت العادة أمامهم؛ كي لا يشعروا أن العادة قد جاءتها، فتصوم من حيث يجب عليها أن تفطر؛ فتكون مخالفة لأمر الله سبحانه وتعالى، فالواجب عليها إذاً ألا تتحرج من هذا الأمر؛ لأنه شيء كتبه الله على بنات آدم (وإن حيضتك ليست في يدك). ولذلك نقول لكثير من السائلات اللاتي يسألن عما مضى من الصيام ويقلن: إن الإحراج قد أدى بنا إلى أن نصوم أوقات العادة، ولم نقض فيما مضى من حياتنا المبكرة في فترة البلوغ؟ فنقول: إن هذا ذنب يحتاج إلى استغفار، ويجب المبادرة إلى قضاء ما مضى من أيام العادة التي لم تقض، وإذا مرَّ رمضان الذي بعده ولم تقض فإن عليها بالإضافة إلى قضاء ما مضى كفارة إطعام مسكين عن كل يوم لم تقضه من أيام الرمضانات الماضية التي جاء بعدها شهر رمضان ولم تقض. ومن الأمور المتعلقة بالحيض: أن بعض النساء يعمدن إلى أخذ الحبوب التي تؤخر الدورة لكي يتسنى لهن الصيام، ولكي يشعرن أنه لم يفتهن شيءٌ من شهر الصوم. فنقول: إن هذه الحبوب التي أفتى أهل العلم بأن أخذها جائز إذا لم تكن تضر، وإنني أشك بأنها تضر، والأمر عند الأطباء على العموم أقول: بأن عدم أخذها هو الأولى والأكثر أجراً، وهو اللائق برضى المرأة بحالها، وهذا حال أمهات المؤمنين، ونساء الصحابة والتابعين، فإنهن لم يأخذن شيئاً من الأدوية التي تؤخر الحيض أو تمنعه، وإنما كانت إحداهن إذا طهرت صامت، وإذا حاضت أفطرت، وترضى بذلك وتقضي بعده، والحمد لله رب العالمين. ومن وجوه عبودية المرأة في شهر رمضان ما يحدث من مقاومتها لنفسها لامتناعها عن الطعام والشراب والنكاح، فيكون لهذا منعاً للنفس عن مألوفاتها، وهو تعويد وترويض لكف النفس عن الشهوات المحرمة في ليالي رمضان وأيام الشهور في غير رمضان، وذلك أنها إذا تعودت على الامتناع عن الطعام والشراب والنكاح في نهار رمضان فإنه يجب عليها بالتالي أن تمتنع عن المحرمات الأخرى كالغيبة، والنميمة، والغناء، وأنواع الفسق والفجور، والتكشف، ونزع الحجاب أو التقصير فيه، وسائر المحرمات، فهذا شهر تتعود فيه النفوس، ويسهل فيه ترك ما كان مألوفاً في السابق.

حضور المرأة صلاة القيام في رمضان ومجالس الذكر

حضور المرأة صلاة القيام في رمضان ومجالس الذكر ثم إن من أوجه عبادة المرأة المسلمة في رمضان، ما يحدث من صلاة التراويح والقيام التي تحضر المرأة إلى المسجد للصلاة، وكان عمر رضي الله عنه يخصص إماماً للنساء يصلي بهن، وإذا أتت إلى المسجد فصلت مع المسلمين فهذا أمر حسن، وإذا صلت في بيتها فهذا أحسن، وفي كل منهما خير، وفي حضور المرأة بالشروط الشرعية إلى المسجد من نزول الرحمة، وتغشّي السكينة، وحف الملائكة، ونزول المغفرة التي تحصل للمستمعين، والتأمين على الدعاء، والخشوع أثناء القراءة، وتعلم الصلاة، وتصحيح أخطاء القراءة التي كانت تقع فيها، فلما سمعت الإمام يقرؤها بشكل صحيح تعلمت أن ما كانت تقرؤه خطأ فتصحح الخطأ، أقول: في هذا فوائد، ولكن إذا صلت في البيت، وقرأت في المصحف فإن ذلك لا بأس به، [كان ذكوان مولى عائشة يصلي بها من صحائف في يده] رواه أبو داود في كتاب المصاحف بإسناد صحيح. كذلك يتسنى للمرأة من أنواع العبودية حضور مجالس الذكر في المساجد، فإن كثيراً من المساجد قد يكون فيها أنواع من الدروس التي يكون فيها تعليماً لأمورٍ من الشريعة ما تستنير به في أمور العبادة، وتتعلم به من أحكام الدين، فينبغي أن تحضر تلك المجالس بوعي، وتفتح ذهنٍ، واستعداد للتقبل، حضوراً شرعياً خالياً من الزينة المحرمة، والأطياب المحرمة، وأي مظهر من المظاهر التي لا يرضى الله للمرأة أن تظهر بها أمام الرجال، خصوصاً وأننا نرى من ذلك أموراً كثيرة من حضور بعضهن مع السائق بمفردها، أو أن تكون غير محتشمة معه، فإذا نزلت من السيارة فإنها تلبس وتستكمل حجابها لتدخل المسجد. واعجباً لها! إذا جاءت إلى المسجد فإنها تستكمل الحجاب، وفيما عدا ذلك تراها مقصرة فيه، إضافة لما كان يبدو منها من الزينة والمكياج أو العطورات وهي تسير، خصوصاً وأنه يحصل عند دخول المسجد وعند الخروج منه بالذات نوع من اختلاط النساء بالرجال، فينبغي الحذر من ذلك؛ لأن هذا يسبب فتنة، وقد أخبر عليه الصلاة والسلام أن من أشد أنواع الفتن فتنة الرجال بالنساء. وتتمكن في حضور مجالس الذكر من Q فينبغي عليها أن تهتم به وتوجه ما يدور في ذهنها من الأسئلة إلى الموثوق بهم من أهل العلم وطلبة العلم؛ حتى يجاب عن سؤالها، وتزول حيرتها، وتستطيع كذلك من مجالس الذكر الالتقاء بالأخوات المسلمات الطيبات اللاتي هن زينة في الرخاء، وعدة في البلاء، التقاءً طيباً مفيداً قائماً على التعاون في تلخيص الأشياء المفيدة، وتبادل المنافع الشرعية، وإنني أنبه على ما يحصل في بعض المساجد من التشويش الدائم من قبل النساء في أقسام النساء في المساجد عند التقاء بعضهن ببعض، وكأن المسجد قد جعل مجلساً عاماً تحصل فيه هذه الجلسات التي يدور فيها الكلام بصوت عالٍ يصل إلى الرجال، فأقول: إن هذا الأمر ينافي العبادة المطلوبة من المرأة في رمضان.

الرخص الشرعية للمرأة في رمضان

الرخص الشرعية للمرأة في رمضان وإن من الأمور أيضاً التي تعبد المرأة ربها في رمضان، ما رخص الله من أنواع الترخيصات، وما يظهر من رحمة ربها بها في هذا الشهر كثيرٌ جداً، فمن ذلك: أنها إذا كانت حاملاً أو مرضعاً فيجوز لها الإفطار بعذر الحمل والرضاعة، والله خلق الرحمة في قلب الأم بالولد، ومن علمه سبحانه وتعالى بذلك فإنه قد أباح لها أموراً كثيرة، وخلقها باستعدادات طبيعية لتواجه ما فطرت عليه من الرحمة والشفقة بالأولاد، فإذا كانت حاملاً أو مرضعاً فإنه يجوز له الفطر وليس عليها إلا القضاء على القول الراجح من أقوال أهل العلم، قياساً على المريض الذي يشق عليه الصوم، والذي قال الله بشأنه: {فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة:184]، فإذا كانت لا تستطيع أبداً أن تصوم ففدية طعام مسكين، وإذا كانت تستطيع أن تصوم ولكن الحمل والرضاع عذر مؤقت كالمرض المؤقت فليس عليها إلا القضاء فقط. الخلاصة: أنها إذا كانت لا تستطيع الصوم أبداً كما قرر الأطباء وعلم من حالها ذلك، فإن الآية في حقها تنطبق كما انطبقت في حق المريض الذي لا يرجى برؤه، والكبير في السن، فالكبير في السن العاجز يطعم عن كل يومٍ مسكيناً، كما قال الله: {فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة:184]. وأما المريض الذي يرجى برؤه والحامل والمرضع التي يتوقع زوال عذرها فليس عليهم إلا القضاء فقط، بشرط ألا يتعدى رمضان الذي بعده إلا لعذر، كأن تكون المرأة حاملاً ثم تضع في رمضان وتصبح نفاساً، ثم ترضع وقد تحبل مرة أخرى مباشرة في رضاعها فيكون عذرها مستمراً لأكثر من سنة، فلا تستطيع أن تقضي ما عليها من رمضان الفائت قبل رمضان الآتي، فتكون معذورة في تأخير القضاء من رمضان الماضي إلى ما بعد رمضان الآتي؛ لأن الحمل استمر مرة أخرى، والرضاع الذي بعده قد استمر، وهذا من رحمة الله بها، فتحمد الله عليها. وكذلك فإن هذا التأخير في القضاء الذي وسع لها إلى رمضان القادم يراعى فيه أمر آخر وهو حق الزوج، وحق الزوج عظيم أوصت به الشريعة، وحث على أدائه الله ورسوله، كما حثَّ الله ورسوله على أداء الرجل حق زوجته عليه، ولذلك فإن عائشة رضي الله عنها كانت تؤخر قضاءه إلى شعبان من أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمنعها من القضاء إلا الشغل برسول الله عليه الصلاة والسلام، وهذا يبين الحق العظيم للزوج، فمن مراعاة المرأة لزوجها أن تحرص على خدمته، وعلى تهيئة جو العبادة الطيب في بيته، وأن تعينه على العبادة في ذلك؛ من إيقاظه للسحور، وصنع طعام السحور له، وكذلك تجنيبه نفسها، فإنه يجب عليها أن تمتنع عن زوجها، وأن تحرص على سلامة صومه، ولذلك فإن بعض الرجال يتمادون في الاستمتاع بالزوجات في نهار رمضان، بحيث يؤدي إلى إفساد الصوم من حدوث الإنزال أو الجماع ونحوه، وتكون الكارثة العظيمة والكفارة الشديدة لمن وقع في الجماع، والمرأة عليها من كفارة الجماع مثلما على زوجها إذا كانت مطاوعة له ومختارة، فأما إذا كانت مكرهة أو مهددة تهديداً تعلم أنه سينفذه فيها، فإن الإثم والكفارة عليه، وليس عليها إثم ولا كفارة، ولكنها مسئولة عن التحرز من الأحوال التي يقترب فيها منها زوجها أثناء اليوم من رمضان، ولذلك كان لزاماً عليها أن تتجنب التزين له مثلاً، والاقتراب منه إذا كانت تعلم أن زوجها لا يملك نفسه، وأن تهرب منه إذا حاول إفساد صومه بواسطتها. ولتعلمي -أيتها المرأة المسلمة- أن خدمتك في بيتك أمر عظيم، له أجر جليل، وإنني أعلم أن كثيراً من النساء يتعبن في هذا الشهر كثيراً بسبب حصول العمل الشاق في البيت، فالولد يحتاج إلى خدمة، والبيت يحتاج إلى تنظيف، والأكل والطعام يحتاج إلى طبخ، والزوج يحتاج إلى خدمة أيضاً، ووقت الإفطار قد يحين بسرعة، وهي مسئولة عن تجهيز الطعام للإفطار أو السحور ونحو ذلك. ولذلك فإن المرأة تتعب في شهر الصوم ربما أكثر من غيره من الشهور؛ لكثرة الأعمال المتزاحمة فيه، والمشقة الزائدة والتعب الناتج عن ترك الطعام والشراب، ولذلك: "فإن المعونة تنزل على قدر المئونة" وإن الله يساعد المرأة المسلمة ويعينها سبحانه وتعالى إذا كانت طائعة له في القيام بهذه الواجبات كلها. إن تحمل انفعالات الزوج في رمضان التي تنتج من سوء خلقه وضيق نفسه نتيجة التعب والعمل والصيام، مع أنه يجب عليه أن يضبط نفسه إن تحمل هذه الأمور التي تصدر عنه من العصبية الزائدة مثلاً إنه أمر -فعلاً- محل تقدير، ومحل تسجيل من الملائكة الحفظة لأجر هذه المرأة التي تتحمل كل ذلك.

المرأة في رمضان والاقتصاد في الطعام

المرأة في رمضان والاقتصاد في الطعام إن من أوجه عبودية المرأة في رمضان أيضاً -وقبل أن نقول: الصدقة نقول بالنسبة للطعام ما دمنا قد تكلمنا عن الطعام- إن إطعام الطعام من شعائر الإسلام، (أطعموا الطعام، وأفشوا السلام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام) نقول: إطعام الطعام شيء طيب، ولكننا في نفس الوقت نقول: أولاً: لا يصلح أن تمكث المرأة في المطبخ طيلة الوقت لكي تعد أنواع الطعام والشراب في رمضان، وكأن رمضان هو شهر لاستعراض المهارات المتعلقة بالطبخ، وتنويع المطعومات والمشروبات، فليس لأجل هذا فرض الصوم، فإنما فرض لعل الناس يتقون، فرض: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] وليس: لعلكم تشبعون، أو لعلكم تصابون بالتخمة، ولذلك فعلى المرأة أن تنصح زوجها بعدم التكثير من ألوان الطعام والشراب، وخصوصاً أن بعض الرجال قد لا يهمهم التنويع الشديد، وإنما مصدر التنويع يأتي من المرأة في الغالب، ولذلك نقول: اقتصدي واعملي ما يفي بالغرض، ولا تتعدي الحد، ولا تسرفي فإن الله لا يحب المسرفين. ونقول أيضاً بالنسبة لإطعام الطعام: بعض الناس يطبخون طعاماً فيرسلونه إلى أناس عندهم طعام كثير، ولا يتحرون في إرسال الطعام إلى الفقراء حقاً أو المساكين، أو العزاب الذين لا زوجات يطبخن لهم من الجيران، بعضهم قد يكون أعزباً لا زوجة له، فينبغي أن يتفقد أحوال هؤلاء كالطلاب والموظفين العزاب وغيرهم، هذا أولى من تبادل الأطعمة مع الجارات، وكل واحدة تعرف من ألوان الطبخ ما تعرف، وأنا لا أقول: إن تبادل المطعومات مع الجارات شيء محرم! كلا. إنه أمر ولكن انتبهن إلى إيصال الطعام لمن يستحقه ويحتاج إليه أكثر، بدلاً من إعطائه لأشخاص هم أغنياء عنه، وحرمان الناس الذين يحتاجون إليه حقاً. وكذلك أنبهك -أيتها الأخت المسلمة- بأن حديث: (من فطر صائماً فله مثل أجره) أي: أشبعه، فمن أشبع صائماً فله مثل أجره، أقول: قد تتخيل بعض النساء أن الزوج الذي اشترى الطعام بنقوده هو الذي أخذ الأجر، وأنها مجرد طباخة، فأقول: كلا ألست تعلمين أن الله يدخل في السهم الواحد ثلاثة نفر في الجنة؟ الذي يبريه ويناوله ويرمي به كلهم مأجورون، وأنت تساهمين في تفطير الصائم عندما يحضر لدى زوجك عددٌ من الضيوف، أو يرسل الزوج طعاماً لبعض الفقراء أو المساكين أو الذين ضاقت أمورهم، فتكونين أنت داخلة في هذا الحديث إن شاء الله من جهة عملك وخدمتك في إعداد طعام الإفطار: (من فطر صائماً فله مثل أجره). وكذلك فإنني أقول: إنه لا بد من مراعاة إيقاظه للصلوات، خصوصاً صلاة الظهر وصلاة العصر، وكذلك الفجر لمن ينام متأخراً، وفي رمضان يفوت الناس صلاة العصر أكثر من أي صلاة أخرى، فينبغي عليك -أيتها المسلمة- أن تراعي أهل بيتك من الرجال الذين تجب عليهم صلاة الجماعة في المسجد، أن يخرجوا إلى الصلاة، وأنك راعية في بيت زوجك ومسئولة عن رعيتك، ومن المسئولية حثهم على الصلاة وإيقاظهم لها، وإنني أعلم أن بعض الأزواج من الذين لا يخافون الله تماماً يمنع زوجته من إيقاظه، ويقول لها: اتركيني حتى أستيقظ ولا تقتربي مني أو تزعجيني ونحو ذلك، فنقول: عليكِ بالنصيحة والتلطف، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا تفعلين شيئاً فيه مفسدة أكبر من المصلحة، لكن عليك باستمرار النصيحة، وحثَّ الرجال على العبادة ما استطعت إلى ذلك سبيلاً. وأشدد وأكرر أيضاً على مسألة الإكثار من الطعام، ووضعه ورفعه، طوال الليل والمائدة موضوعة مثل البوفيه، الذي يأتي إليه الناس ويأكلون عدة مرات، كما قال ذلك الرجل معاتباً قومه الذين يكثرون الأكل في رمضان: إنكم تأكلون الأرطال، وتشربون الأسطال، وتنامون الليل ولو طال، وتزعمون أنكم أبطال؟!! كلا، كلا، فليست هذه ببطولة.

صدقة المرأة المسلمة في رمضان

صدقة المرأة المسلمة في رمضان كذلك فإن من أوجه العبودية في رمضان: الصدقة، فإذا كان رسولك صلى الله عليه وسلم قد قال: (يا معشر النساء، تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار) فإذا كان الأمر بالصدقة عاماً، فالأمر به أو فعله في رمضان آكد وأقوم وأكثر أجراً، ولا شك في مضاعفة الأجر في مواسم الطاعة العظيمة كشهر رمضان، فإن الحسنة تتضاعف في المكان الفاضل، والزمان الفاضل. فأقول إذاً: تحركي بما تستطيعين أو تجودين به من الصدقات في أنواع البر المختلفة، والذي حصل من النساء -ولله الحمد- الآن تفتح كبيرٌ لها، وإسهامات عظيمة في التجميع والإيصال والحمد لله، وأنبه في هذه المناسبة إلى أن على النساء تمحيص جمعيات البر؛ لأن بعضها جمعيات سوء، وبعضها جمعيات صلاح وتقوى بعضها أسس على تقوى من الله ورضوان، وبعضها أسس على شفا جرف هار، فعليك بتمييز الجمعيات الطيبة وإشهارها والإعلان عنها، والنصيحة بالتبرع لها، والمساعدة فيها، والتحذير من الجمعيات السيئة، وعدم إعانتهم بشيء إذا كانوا يريدون قصداً سيئاً، أو يخفون أهدافاً سيئة، واحذري من القيل والقال وعليك من التأكد والتثبت {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6]. أيتها الأخت المسلمة! إن زكاة مالك مهم، فإن الناس كثيراً لا يعتادون إخراج الزكاة في رمضان، فعليك بإخراج الأموال الزائدة عندك، وإذا كانت لديك أراضٍ معدة للبيع فأخرجي زكاتها، وإذا كان لك تجارة أو حصة في دكان أو عروض تجارة، فتقوم عروض التجارة عند حلول الحول، ويخرج (2. 5%) من قيمتها الحالية في السوق، وما لديك من الحلي الملبوس والمدخر والمعار وغيره، فأخرجي زكاته على القول الراجح من أقوال أهل العلم المستند للدليل، وهو قوله عليه الصلاة والسلام للمرأة لما قال لها: (أتؤدين زكاة هذا؟ قالت: لا. قال لها: أيسرك أن يسورك الله سوارين من نار يوم القيامة؟) فعليك معرفة ثمن الحلي عند حلول الحول بالتقريب، فأكثر، وكذلك إذا كان عندك حلي للبنات تخرجين زكاة كل بنت على حدة، تعامل كل بنت بنصاب منفصل، فلو كانت البنت عندها أربعين غراماً لا يجب عليها، والبنت الثانية عندها خمسون غراماً لا يجب عليها، لكن لو أن البنت الواحدة عندها تسعين غراماً مثلاً أو مائة يجب عليها، وأنت تلاحظين زكاة ذهب بناتك أنت، وتخرجينها بالنقود أو من نفس الذهب، أو ببيع قطعة منه، أو يتبرع الزوج عنك بعلمك، كل ذلك جائز والحمد لله. وبعض النساء اعتدن على إعطاء أسر قد أغناها الله، كانوا قبل ذلك أيتاماً وأرامل لكن الآن أغناهم الله، فلا يجوز الاستمرار في إعطائهم وقد أعطاهم الله، ولم يصبحوا من أهل الآية الكريمة، {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة:60]، فينبغي البحث عن المستحقين الآخرين.

المرأة واستغلال تعمير الحلقات بذكر الله وإصلاح البيوت في رمضان

المرأة واستغلال تعمير الحلقات بذكر الله وإصلاح البيوت في رمضان كما أن عليكِ -أيتها الأخت المسلمة- في هذا الشهر العظيم أن تجتنبي ما حرم الله من أنواع الحرام، كالغيبة والنميمة، وإنني أحذر من خطورة اجتماعات ما بعد صلاة التراويح، فإنني ألاحظ أنه يحدث في البيوت في الاجتماعات كثيرٌ من اللغط والأمور المحرمة، وقول الزور، وانزلاق اللسان سهل جداً، ولذلك فاجعلي من هذه المجالس مجالس ذكر وطاعة، لقد كثرت الكتيبات الطيبة، والأشرطة الطيبة، فلخصي، وقدمي، وانتقي، وانفعي غيرك، واملئي هذه المجالس بذكر الله عز وجل. وأقول أيضاً: إنه يجب انتهاز فرصة رمضان لإصلاح البيوت، فاستعيني بالله على إخراج وسائل المنكر من البيت، والحث على إخراجها، ومنع دخولها إلى البيت، لكي تكتمل العبادة، لأنه ما معنى أن يطاع الله في النهار ويعصى في الليل وهو رب الليل والنهار؟! ولذلك بما أن النفوس مشحونة بالعبادة وبالإيمان مشحونة بالزاد الأخروي الآن فانتهزي الفرصة في القضاء على وسائل الإفساد في البيت، وعلى تطهير البيت من جميع المحرمات، خصوصاً أن نفس الزوج قد تكون مهيئة، ونفوس الأقارب تكون مهيئة، فانتهزي هذه الفرصة لكي تحافظي على بيتك، وتخرجي ما يمكن إخراجه، أو كل ما هو من أدوات المنكر، وتدخلي فيه كل شيء طيب من الأشياء التي تزيد في إيمان أهل البيت، وتسبب الفقه في الدين، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قال: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين). وأقول كذلك: إن المرأة المسلمة قد تسأل مثلاً عن حكم ذوق الطعام أثناء طبخه في رمضان. أقول: إن ذلك جائز ولكن لا أجيز لك أن تبتلعيه، بمجرد ما تذوقين بطرف اللسان فإنك تلفظيه إلى الخارج. أكتفي بهذه النصائح من بيان بعض أوجه عبادة المرأة المسلمة في رمضان، على أن نتابع الكلام في أمور أخرى تتصل بمواضيع النساء في مرة قادمة إن شاء الله، أسأل الله لي ولكن التوفيق والسداد والإخلاص، والأجر العظيم، والمغفرة والرحمة، والسلام عليكن ورحمة الله وبركاته.

كيف تكون مجالسنا إسلامية؟ [1]

كيف تكون مجالسنا إسلامية؟ [1] إن الناظر إلى مجالس الناس اليوم يجد فيها أنواعاً من المنكرات والمخالفات الشرعية؛ من غيبة ونميمة، واستهزاء بالدين وأهله، وكلام في أعراض الناس، وأكل للحومهم، وهمز ولمز وتنابز بالألقاب، وكذب وبهتان وسخرية، وفسوق وتعيير وسب وشتم، ومدح ومجاملات ونفاق ومداهنة، كل ذلك وغيره موجود في مجالس الناس اليوم. إذاً: لابد من تغييرها إلى مجالس ذكر لله تعالى، ومجالس نصح وإرشاد وتذكير هذا ما تحدث عنه الشيخ حفظه الله، ثم تكلم عن بعض آداب المجالس.

حال مجالس الناس اليوم

حال مجالس الناس اليوم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أيها الإخوة: لو ألقينا نظرة سريعة على مجالس المسلمين اليوم لوجدنا أنها -وبكل صراحة ووضوح- عبارة عن اشتغال بالدنيا وما فيها، فضلاً عن الاشتغال بالمحرمات والآثام وكبائر الذنوب. أيها الإخوة: لا بد من الاهتمام بالمجالس؛ لأنها ذات أثر كبير، ولو ألقيت الضوء على أنواع مجالس الناس اليوم لرأيت الجالسين فيها قد اشتغلوا بالدنيا بتفاصيلها، فهم إن كانوا تجاراً فإنك ترى أخبار المقاولات والبضائع والأسعار والبيع والشراء والزبائن ومشاكل العمل، هذا أمر طاغٍ على مجالسهم، وإذا تأملت في مجالس الموظفين وجدت أمر الدوام ومشاكل المراجعين وأخبار الصحف والأنظمة والترقية والبدلات والتنقلات والعلاوات والانتدابات هي الشغل الشاغل للجالسين فيها. وإذا تأملت في مجالس طلاب المدارس والجامعات؛ وجدتهم مشتغلين بتفاصيل الدراسة والأسئلة والامتحانات والدرجات والشهادات والتخرج والوظائف. وإذا تأملت في مجالس النساء وجدتهن مشتغلات بالموضات والملابس والأكلات والزيجات والحفلات والأعراس، وحال الأسواق والمحلات إلى آخر ذلك من أنواع المجالس اليوم. أيها الإخوة: لقد عم الانشغال بالدنيا والحديث عنها في المجالس حتى قست قلوب المسلمين، فإن من أسباب قسوة قلوب المسلمين اليوم أحوال مجالسهم ومنتدياتهم، والله تعالى قد توعد الذين قست قلوبهم، فقال عز وجل: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:22] (فويل) كلمة تهديد ووعيد، لذلك كان لا بد من البحث عن أسباب قسوة القلوب لعلاجها وإزالتها. هل كان هذا حال مجالس الصحابة؟! هل كانت هذه الأشياء هي التي تشغل نفوس الصحابة ومجالس الصحابة والسلف الصالح؟! كلا أيها الإخوة.

بعض المنكرات الموجودة في المجالس

بعض المنكرات الموجودة في المجالس إننا لا نحرم ولا نتكلم عن تحريم هذه الأمور مطلقاً؛ فإنه لا بأس أن تتكلم النساء في مجالسهن عن أخبار الزيجات مثلاً، أو يتكلم الموظفون عن المشاكل التي تواجههم في وظائفهم، أو يتكلم التجار عن المشاكل التي يواجهونها ويتبادلون الخطرات هذا أمر لا بأس به، وإن الإسلام لم يحرم هذا، ولكن المذموم والمحذور الذي نتكلم عنه هو أن يكون شغل الجالسين من أول المجلس إلى نهايته هو الكلام عن الدنيا، وعن هذه الأشياء، لدرجة أنك لا تسمع في هذه المجالس آية واحدة ولا حديثاً واحداً، ولا حتى كفارة المجلس ولا ذكراً لله بأي صورة من الصور. هذه الحالة الخطيرة التي نتكلم عنها الآن الشغل الشاغل للناس في المجالس هو الدنيا، هذا إذا كان الكلام مباحاً فالاشتغال في هذا المباح من أول المجلس إلى نهايته مذموم شرعاً، فكيف إذا كان الكلام في المجالس عن الأمور المحرمة شرعاً، والوقوع في كبائر الذنوب؟! كيف إذا كانت المجالس مجالس غيبة ونميمة ونهش أعراض الناس وأكل لحومهم؟! قال الله تعالى: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً} [الحجرات:12]. كيف إذا كانت المجالس مجالس كذب وبهتان وسخرية؟! والرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يعضه بعضكم بعضاً) والعضه: هي الكذب والبهتان والنميمة كما ذكر العلماء. كيف إذا كانت مجالسنا اليوم مجالس سخرية بعباد الله عز وجل وتنابز بالألقاب والله يقول: {لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ} [الحجرات:11]؟! ويقول: {وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} [الحجرات:11] كيف إذا كانت مجالسنا اليوم مليئة بالفسوق والتعيير والسباب والشتائم ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (المستبان شيطانان يتهاتران ويتكاذبان) حديث صحيح؟! كيف إذا كانت مجالسنا اليوم مجالس مدح ومجاملات ونفاق ومداهنة ورسول الله عليه الصلاة والسلام يصف مدح الرجل في وجه أخيه بأنه كقطع عنقه، وقال الله تعالى قبل ذلك: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [النجم:32]؟! كيف إذا كانت مجالسنا اليوم مجالس سخرية بالدين واستهزاء بالمتمسكين به، وانتقاص من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مظهره وأخلاقه وآدابه؟! كيف إذا كانت المجالس اليوم مجالس استهزاء بشريعة الإسلام وأحكام الدين؟! يقول أحدهم في مجلس: تريدون أن ترجعوا بنا إلى شريعة العين بالعين والسن بالسن؟! تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً. أيها الإخوة: ما فتئت مجالس المسلمين اليوم تعج بالاستهزاء والانتقاص من دين الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا حول ولا قوة إلا بالله! أيها الإخوة: مجالسنا فيها استهزاء بعباد الله بشتى الصور، فتجد رجلاً يقلد إنساناً في صوته أو عادة من عاداته، فيقول: هذا فلان كأنه كذا هذا فلان كأن كلامه كذا كأن مشيته كذا كأن ثوبه كذا، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ عائشة: (ما أحب أني حكيت إنساناً وأن لي كذا وكذا) لو أعطيت كذا وكذا من الدنيا لا أحكي حال إنسان، قال العلماء في شرحه: أي: لا أذكر إنساناً وأقلده بحركاته وهيئاته على سبيل التنقص. وقصة هذا الحديث أن عائشة لما قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (حسبك من صفية أنها كذا وكذا -تعني: أنها قصيرة- فقال عليه الصلاة والسلام: لقد قلتِ كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته) أي: لخالطته مخالطة يتغير بها طعمه وريحه لشدة نتنها وقبحها، فكيف بالألفاظ اليوم التي تنطلق في مجالس المسلمين؟! أيها الإخوة: مجالسنا فيها كثير من المحرمات والمخالفات للشريعة، فتجد -مثلاً- اثنين يتناجيان وثالث موجود، قال عليه الصلاة والسلام: (إذا كانوا ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث)، وعللها بقوله: (لأجل أن ذلك يحزنه) وتجد اليوم أن المناجاة مرض واقع في مجالس المسلمين، حتى في طريقة الجلوس في المجالس تجد فيها انكشاف العورات، فتجد بعض الرجال الذين لا يلبسون تحت ثيابهم لباساً سابغاً يرفع إحدى رجليه على الأخرى ويجلس جلسة ينكشف منها فخذه، و (الفخذ عورة) كما قال عليه الصلاة والسلام، ثم يأتي هذا الرجل ويجادل، ويقول: متى كان الرجل له عورة؟ هل نحن نساء حتى تنبهونا إلى هذه المسألة؟ سبحان الله على جهل المسلمين بأحكام العورات! والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (يا جرهد! غط فخذك فإن الفخذ عورة). وحتى في طريقة الأكل والشرب في المجالس مخالفات كثيرة في الأكل والشرب باليسرى مثلاً، إلى عدم التسمية إلى غير ذلك، حتى في طريقة النقاش والحديث من الأمور التي تخالف قواعد الإسلام وآدابه من رفع للصوت، وحدة وغلظة، ومقاطعة في الحديث، ويسبق الصغير الكبير في الحديث، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (كبر كبر) أي: ابدأ بالأكبر.

ذكر الله تعالى في المجالس وفضله

ذكر الله تعالى في المجالس وفضله هذه مقتطفات من بعض المنكرات التي تعج بها مجالسنا اليوم، وإذا كان عدم ذكر الله تعالى والصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم في المجلس ففيه وعيد عظيم ولو كان المجلس كله كلاماً مباحاً، لذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (ما اجتمع قوم في مجلس فتفرقوا ولم يذكروا الله ويصلوا على النبي صلى الله عليه وسلم إلا كان مجلسهم ترة عليهم يوم القيامة) أي: حسرة وندامة، وفي رواية صحيحة: (وإن دخلوا الجنة) لما يرون من الثواب الذي فاتهم بعدم ذكر الله والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجالسهم التي كانت في الدنيا. بل قال عليه الصلاة والسلام: (ما اجتمع قوم فتفرقوا عن غير ذكر الله إلا كأنما تفرقوا عن جيفة حمار، وكان ذلك المجلس عليهم حسرة) مثل جيفة الحمار، منتنة مؤذية ورائحة عفنة هكذا يتفرق الناس إذا لم يذكروا الله في مجالسهم، فأعيدوا معي شريط الذكريات -أيها الإخوة- لتسترجعوا حال مجالسكم هل كان في أي منها ذكر الله وصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ كل مجلس يجب أن يكون فيه ذكرٌ لله وهل تسمعون في مجالس اليوم آية أو حديثاً، أو وصية أو حكماً شرعياً أو تذكرة؟ إلا من رحم الله. إذاً: لا بد من الانتباه إلى السلبية الخطيرة اليوم، بل إنك تجد المسلمين يضحكون على أنفسهم في هذه الآيات والأحاديث التي يعلقونها في مجالسهم، تجد لوحات مخطوطة بخطٍ جيد مزخرفة معلقة في المجالس، فيها أمر الله للمسلمين بالتقوى، أو الإخبار بأن الله مطلع ويعلم كل شيء، بل إن بعضهم يعلق كفارة المجلس في مجلسه، وإذا قام لا يذكر هذه الكفارة، ويخالف صراحة هذه الآيات المعلقة على الجدار. أيها الإخوة: أية حالة وصلنا إليها اليوم؟! نعلق الآيات والأحاديث على الجدران ثم نخالفها بتصرفاتنا وأفعالنا وأقوالنا، إذاً: ما هي فائدتها؟! ومن هنا رأى بعض العلماء عدم جواز تعليقها إذا كانت هذه هي حال المجالس، لأن فيه استهزاءً بما ذكر في هذه اللوحات والملصقات، ومن أجل هذا صار بعض العقلاء من المسلمين اليوم ينفرون عن مجالسة الناس، وعن الجلوس والحديث معهم، وترى أحدهم يقول: مالي وللناس، لماذا أجلس معهم وهذه هي أحوالهم وهذه هي أحاديثهم؟ فهذا الرجل على صواب فيما يفعل، إذا لم يكن عنده قدرة على التغيير، فإنه لا بد من هجر أماكن المعاصي والفسوق. بدلاً من أن تكون مجالسنا مجالس ذكر لله، يتحقق فيها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (ما اجتمع قوم على ذكر فتفرقوا عنه إلا قيل لهم: قوموا مغفوراً لكم)، وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (ما جلس قوم يذكرون الله تعالى فيقومون حتى يقال لهم: قوموا قد غفر الله لكم ذنوبكم وبدلت سيئاتكم حسنات). هذا الحديث ليس خاصاً بحلق الذكر في المساجد، وإنما في جميع الحلق في المجالس. ولذلك يعجبك الرجل عندما تجلس في المجلس أن يقول لواحدٍ من أهل الخير: يا فلان، حدثنا عن آية كذا حدثنا عن حديث كذا سمعت مرة حديثاً ما هو هذا الحديث وما معناه؟ ما هي قصة النبي الفلاني؟ ما حكم الشيء الفلاني؟ هؤلاء الناس الذين يصفهم الرسول صلى الله عليه وسلم بأنهم مفاتيح للخير مغاليق للشر، هؤلاء كثير منهم ليس عندهم علم شرعي، لكنهم حريصون على التعلم والاستزادة، وصبغ مجالسهم بالخير والذكر والأشياء التي ترضي الله عز وجل. إنك عندما تسمع هذه الندرة من المسلمين اليوم يسألون في هذه المجالس؛ فإن قلبك يهتز فرحاً من بقية الخير الموجود في الأمة، نسأل الله أن يكثره.

آداب المجالس

آداب المجالس أيها الإخوة: مجالسنا فيها آفات تحتاج إلى إصلاح، ولابد من معرفة الآداب، ومعرفة طرق الإصلاح حتى نتمكن من الوصول بهذه المجالس إلى الجادة المستقيمة، وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم آداباً كثيرة للمجلس منها: قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يحل لرجل أن يفرق بين اثنين إلا بإذنهما) فلا يجوز لك أن تدخل المجلس فتجلس بين اثنين إلا بعد أن تستأذن منهما؛ فإن أذنا لك وإلا فاجلس حيث ينتهي بك المجلس. وكذلك من السنة أن يجلس الإنسان حيث انتهى به المجلس، ولا يأتي ويقيم إنساناً ويجلس مكانه، لأن هذا فيه نهي صريح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: (لا يقيم الرجلُ الرجلَ من مجلسه فيجلس مكانه) لذلك كان ابن عمر -كما ورد في البخاري - إذا قام له إنسان من مجلسه لم يجلس فيه، بل يرفض ويذهب إلى مكان آخر ليجلس فيه. وقال عليه الصلاة والسلام موضحاً أدباً آخر: (المجالس بالأمانات) أحياناً يدعوك إنسان إلى مجلس عنده، ويكون في هذا المجلس كلام خاص أو سر من أسرار هؤلاء القوم، فلا يجوز لك أن تذهب وتفشي أسرارهم، قد يتكلم عن أحوال بيته أو أسرته الداخلية، فلا يجوز لك أن تذهب في مجلس آخر وتفشي سر هذا الرجل وأهل بيته، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (المجالس بالأمانات) فيلزم فيها الستر على ما يقال ما دام لا يضر المسلمين. وكذلك يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (خير المجالس أوسعها) لذلك يستحب توسيع المجلس؛ لأنه أكرم للضيف، وأصون لحاله، وأروح له في قيامه وقعوده وسيره، ويختلف هذا باختلاف أحوال الناس على غناهم وفقرهم، فإنه متى كان مستطيعاً فيستحب له توسعة مجلسه، والتفسح في المجالس أمر مطلوب إذا كان ضائقاً بالرجال وليس فيه مكان لداخل، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ} [المجادلة:11] لا بد من إيجاد الفسحة في القلب قبل إيجاد الفسحة في المكان، ومتى وجدت الفسحة في القلب لأخيك المسلم ومحبته فإنك سوف تفسح له تلقائياً، أما لو أبغضته وأبغضت أن يضايقك نوعاً ما؛ فإنك لن تفسح، ولو أفسحت فلن يكون عن طيب نفس وخاطر منك. كذلك لا بد من ذكر كفارة المجلس إذا قام الإنسان، يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه -حصلت منه أخطاء وزلات في الكلام- فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك) ماذا تريدون أكثر من هذا؟ هذا من رحمة الإسلام أيها الإخوة، يعطيك مجالاً لتصحيح الأخطاء يعطيك مجالاً لغفران الذنوب التي حصلت منك، هذه كلمات قليلة تقولها فتمحى الذنوب لعمر الله إنه لفضل عظيم! {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} [البقرة:243] الله يتفضل علينا بهذه الكفارات البسيطة، ونحن لا نأبه لها ولا نرعوي ولا نهتم بها. وفقنا الله وإياكم للقيام بحقه في المجالس، وأن يجعل من مجالسنا مجالس خير وذكر له عز وجل، وصلى الله على نبينا محمد. الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مالك يوم الدين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى سبيله القويم. أيها الإخوة: ومن آداب المجلس كذلك: ما كان يفعله صلى الله عليه وسلم كما ورد في الحديث الحسن: (كان إذا لقيه أحد من أصحابه فقام معه فلم ينصرف حتى يكون الرجل هو الذي ينصرف عنه، وإذا لقيه أحد من أصحابه فتناول يده ناوله إياها فلم ينزع يده منه حتى يكون الرجل هو الذي ينزع يده منه، وإذا لقي أحداً من أصحابه فتناول أذنه ناوله إياها فلم ينزعها حتى يكون الرجل هو الذين ينزعها عنه) رواه ابن سعد بإسناد حسن عن أنس، وهو في صحيح الجامع. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤدباً غاية الأدب، يحترم ضيوفه ويحترم جلساءه، إذا قام إنسان من المجلس لينصرف يقوم النبي صلى الله عليه وسلم يودعه، ويأخذ بيده ليصافحه، ولا يترك الرسول صلى الله عليه وسلم يد الضيف حتى ينصرف الضيف ويكون الضيف هو الذي ينزع يده من يد النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا كان الرسول جالساً في مجلس فأراد رجل أن يسر إليه بحديث، وأتى ليأخذ بأذن نبي الله صلى الله عليه وسلم، كان رسول الله عليه الصلاة والسلام يعطيه أذنه وينصت حتى يفرغ الرجل، ولا يرجع الرسول صلى الله عليه وسلم رأسه ويبعد أذنه حتى يبعد ذلك الرجل فاه ويبعد رأسه الانتظار من الأدب، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يجب على الأمة كلها أن تتأدب معه، يفعل هذه الأفعال ليعلمنا آداب المجالسة وآداب الحديث. بقي في هذا الموضوع بقية هامة: كيف ننتهز المجالس لتكون مجالس خير؟ ماذا يجب على الدعاة إلى الله وعلى الناس أن يفعلوا لكي يحولوا مجالسهم إلى مجالس خير؟ ما هو الموقف الصحيح للمسلم من المنكرات والاستهزءات وشتم الدين ونحو ذلك مما يحدث في المجالس؟ هذا ما سيكون بإذن الله تعالى موضوع خطبتنا القادمة، لأنني أحس وربما تحسون معي أن الاهتمام بأمر المجالس له دور عظيم، وله خطورة كبيرة، إذا صلح مجلسك صلحت أنت وصلح جلساؤك، وسترجع من المجلس إلى بيتك وأنت ممتلئ إيماناً وفائدة وعلماً خرجت به من ذلك المجلس فينعكس هذا على أهلك؛ لذلك كان لا بد من زيادة التوضيح والتعرض لمسائل هامة في هذا. نسأل الله أن يوفقنا وإياكم لذلك. اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك، واجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين. اللهم ارحم موتانا، واشف مرضانا، وفرج همومنا، ونفس كروبنا، واجعل مجالسنا مجالس خير يا رب العالمين. اللهم إنا نسألك يوماً قريباً تعز فيه دينك، وتقر أعيننا فيه بنشر الإسلام والسنة يا رب العالمين. عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

كيف ينظم المسلم وقته؟

كيف ينظم المسلم وقته؟ الوقت هو الحياة، لكنَّ كثيراً من الناس يقضون هذا الوقت فيما لا نفع منه، أو لا يحسنون ترتيب أوقاتهم وبرمجتها حسب الأولويات والمهمات، وفي هذا الدرس وضع الشيخ النقاط على الحروف، من خلال البرامج والخطط المتبعة في تنظيم الوقت والوسائل المعينة على استغلاله دون أن تذهب دقائقه وساعاته حسرات، إضافة إلى ذكر بعض مضيعات الوقت لتلافيها.

الوقت هو الحياة

الوقت هو الحياة الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلىآله وصحبه أجمعين. وبعد: أحييكم بتحية الإسلام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل مجلسنا هذا مجلس ذكر تحفه الملائكة، وتغشاه الرحمة، وأن يجعلنا وإياكم في ديوان المذكورين عنده. الوقت هو الحياة، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: (لا تزولا قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع) وفي الحديث الآخر: (اغتنم خمساً قبل خمس ومنها حياتك قبل موتك) فبما أن الوقت هو الحياة، فيكون المعنى: اغتنم وقتك هذا الذي هو حياتك قبل أن يأتيك الموت فتنقطع عن الدنيا، ويكون ليس عندك ثمة وقت تشغله في طاعة من الطاعات. ولذلك يجب على المسلم أن تكون عنده غيرة شديدة على وقته، ويجب أن يتضايق جداً إذا ضاع شيء من أوقاته فيما لا ينفع، ويجب أن تظهر عليه علامات الأسى والأسف والندم إذا تفلتت منه أوقات بغير فائدة، وهذا هو شأن عباد الله العقلاء، ولكن من الخلق من يقول: لا ندري كيف نقضي أوقاتنا، ولا ندري كيف نمضي هذا الوقت، ولا ندري كيف نقتله، ولذلك تسمع منهم عبارات زهق وطفش وضيق وملل ونحو ذلك. قال ابن القيم رحمه الله تعالى "الغيرة غيرتان: غيرة على الشيء وغيرة من الشيء، فالغيرة على المحبوب حرصك عليه، والغيرة من المكروه أن يزاحمك عليه، فالغيرة على المحبوب لا تتم إلا بالغيرة من المزاحم" إذا أردت أن تحافظ على وقتك؛ يجب أن تغار على هذا الوقت، وتغار من الأشياء التي تزاحم الاستفادة من هذا الوقت. ثم قال رحمه الله: "وكذلك يغار المسلم على أوقاته أن يذهب منها وقت في غير رضا محبوبه وهو الله عز وجل، فهذه الغيرة من جهة العبد غيرة من المزاحم المعوق القاطع له عن مرضاة محبوبه. إن الزوجة تغار من الزوجة الأخرى؛ لأنها زاحمتها فيه، ويصبح الوقت ذا قيمة عندما يكون هناك هدف، وعندما تكون هناك رسالة يصبح وقت الإنسان ثميناً جداً، والناس الذين ليس لديهم رسالة؛ يعيشون في الدنيا بغير هدف، فأوقاتهم لا قيمة لها، ولذلك لا يشعرون بالوقت وهو يمضي. ونحن المسلمين أصحاب رسالة وهدف، لذلك يجب أن يكون لوقتنا أهمية كبيرة جداً في إحساسنا وشعورنا، أرأيت الطالب عندما يبقى على الامتحانات أسبوع؛ كيف تكون قيمة الوقت عنده كبيرة جداً، لأن هناك هدفاً حاضراً يشتغل من أجله الآن، فإذا انقضت الامتحانات وجاءت العطلة، وجدت الوقت عنده لا يكال بأي كيل، ويذهب هكذا هدراً، وتقفز إلى قائمة أوقاته فترات الراحة والاستجمام والتسلية والنوم. لماذا لا نشعر أننا في سباق نحو الآخرة؟ لماذا لا نستشعر الأهداف والمسئوليات التي أنيطت بنا؟ {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115] وقال الله عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:119]. فلأننا أصحاب رسالة وأصحاب هدف وأصحاب مسئوليات. قد رشحوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل أن تكون مثل هؤلاء الحيوانات الذين يسرحون ويمرحون بلا هدف، أوقاتهم ليس لها أي قيمة، فقد يتساءل كثير من الناس: هذا اليوم وهذه الليلة أربع وعشرون ساعة كيف ننظم هذا الوقت؟ كيف نستغله؟ كيف نوفر الأوقات؟ كيف نحصل على مزيد من الوقت؟ إن المسلم العاقل الفطن يقول: أريد وقتاً زيادة؛ لأن عندي أشياء كثيرة أريد أن أعملها، والفارغ البطال يقول: لا أدري كيف أمضي الوقت، ويتمنى ذلك العاقل لو اشترى وقت البطال بأغلى الأثمان، ويقول: يا ليت عندي وقت فلان لكي أعمل أعمالاً إضافية كثيرة أريد أن أعملها. ويجب أن ينطلق المسلم في تفكيره في استغلاله لوقته من واقعه ووضعه وإمكانياته، وليس بناءً على شطحات من الخيال، ولا على توهمات ولا على أوضاع ماضية، فمثلاً: ليس من الصحيح أن يفكر في الطالب الجامعي وهو يريد أن يجدول وقته بظروف المرحلة الثانوية، أو يفكر في الموظف وهو يريد أن يجدول وقته بناء على معطيات المرحلة الجامعية وهكذا.

أهمية الترتيب والتخطيط وصرف الوقت لذلك

أهمية الترتيب والتخطيط وصرف الوقت لذلك ومن الأساليب التي توفر الوقت: اصرف وقتاً في البداية، ما معنى هذا الكلام؟

الترتيب

الترتيب إن توفير الوقت يتطلب أحياناً صرف وقت كبير في بداية الأمر، ولكن الإنسان سيستريح فيما بعد، ويوفر أوقاتاً كثيرة كان سيقضيها في البحث عن أشياء ضائعة في الأكوام غير المرتبة من الكتب والأغراض الشخصية، فمثلاً: طالب العلم يحتاج في البداية إلى ترتيب مكتبته أو عمل فهرسة لها وتصنيف الكتب ووضعها في أدراج وتقسيمات معينة ويحافظ على هذا الترتيب، ليس أن يرتب في البداية ثم يهمل بل يحافظ على هذا الترتيب، هذه العملية تأخذ وقتاً كبيراً، ولكنها توفر عليه أوقاتاً تضيع عادة في البحث عن كتاب ضائع وسط أكوام الكتب الملقاة بعضها فوق بعض، وكذلك الذين يضعون ثيابهم بعضها فوق بعض ثم يحتار: أين النظيف من المتسخ؟ وبعض الناس من طبيعتهم أنهم لا يحبون الترتيب، ويقولون: نحن ضد الروتين كما يقولون، ولذلك فإنهم غير مستعدين أن يسيروا على أي خطة، ويتضايقون إذا حددوا بأشياء معينة، ولذلك يريد أن يكون الواحد منهم سبهللاً يمشي فارغاً بدون هدف. وبعض الناس يتركون للآخرين ترتيب الوقت لأشياء معينة، فتجد الطالب مثلاً يترك للمدرسة ترتيب جدول الحصص وكذلك في الجامعة، وكذلك الموظف في الشركة وقته محدود بنظام الشركة، لكن اسأل هؤلاء ماذا يعملون في النصف الآخر من يومهم بعد أن يخرجوا من المدرسة أو الجامعة أو الشركة؟ أجبروا على نظام معين وخطة معينة في الجامعة أو في الشركة ولكن في بقية النهار والليل ماذا يفعلون؟

الجدولة والتخطيط وشروطهما

الجدولة والتخطيط وشروطهما لا بد أن يكون المسلم واعياً، لا بد أن يكون مخططاً لكل ما يريد أن يفعله، فعلى سبيل المثال: إن إنفاق عشر دقائق مثلاً في أول كل يوم في كتابة مذكرة صغيرة بما ينبغي أن تفعله في هذا اليوم، أو مثل ذلك في آخر كل يوم بما تنوي أن تفعله في اليوم التالي، يوفر عليك عناءً كبيراً، ويجنبك نسيان ما يجب أن تفعله في المستقبل، وإذا كان بعض الناس ذوي ذاكرة طيبة؛ فلا بأس أن يجدولوا أعمالهم في أذهانهم، ولكن كثيراً من الناس من سريعي النسيان ينبغي أن يعمد إلى الكتابة، ولئن كان وأهل الدنيا يجعلون جداول زمنية لإنهاء مشاريعهم ومقاولاتهم، فتجد المقاول يعمل جدولاً زمنياً دقيقاً ومرتباً لمراحل العمل، فيقسم المراحل ويجعل لكل مرحلة وقتاً معيناً يجب أن تنتهي فيه هذه المرحلة، وتكلفة هذه المرحلة، والعمال في هذه المرحلة، والمواد المستخدمة في هذه المرحلة، وهكذا يعملون بدقة لكي يكسبوا مالاً في النهاية. نحن المسلمين أصحاب الرسالة يجب أن نكون أشد من هؤلاء تخطيطاً ودقة في تصريف أوقاتنا، واسأل نفسك هذين السؤالين قبل أن ترتب أي جدول أو تنظم أي خطة: أولاً: هل هذه الأعمال التي تريد أن ترتبها هي من مرضاة الله؟ ثانياً: كيف تقوم بها على خير وجه؟ بعض الناس يأتون بلائحة من الأعمال، ويتفننون جيداً في الطريقة المثلى للقيام بكل عمل، فعندهم كفاءة عالية في أداء الأعمال، لكنهم لا يسألون أنفسهم قبل هذا: هل هذا العمل أصلاً مجزي ومثمر؟ مثلاً يستطيع إنسان أن يرقص بشكل صحيح وكفاءة عالية ويستطيع أن ينظم جدول طيران إلى مكان من أمكنة الفسق بأقصر وقت وأقل تكلفة، فهذا تنظيم ممتاز وتنفيذ رهيب، لكن هذا العمل أصلاً هل هو من طاعة الله؟ فيحتاج أن نفكر من هذين المنطلقين. وفائدة الجدولة ووضع الجداول كبيرة، وخصوصاً أنها تشعر الشخص الذي ينظم وقته بأي انحراف في صرف الأوقات، وتنبهه لأي ضياع في هذه الأوقات؛ لأنه يسير على خطة، فهو يشعر من خلال تنفيذ الخطة بأي انحراف، بخلاف الذين يسيرون على غير خطة -عشوائياً- لا يشعر بالأوقات الضائعة.

أسباب فشل تنفيذ الخطط والبرامج

أسباب فشل تنفيذ الخطط والبرامج كثير من الإخوان يقول: لقد جربنا فوضعنا، ولكننا فشلنا في تنفيذها، وتحمسنا في بداية الأمر لأيامٍ معدودات ثم تعبنا، فأطلقنا الأمور على عواهنها. لهذا الفشل أسباب: منها: أن بعض الناس يلجأ إلى تخصيص كل دقيقة في اليوم، وهذا مستحيل ولا يمكن، فيكون هذا من أسباب الفشل. لا بد أن يجعل الإنسان في خطته أولاً الأشياء المهمة، وثانياً: يجعل أوقات فراغ للأمور التي تطرأ عليه، وكذلك لا بد من التدرج في تنفيذ هذه الجداول والخطط، وليس بهجمة حماسية تنتهي بالفشل الذريع، ويجب أن يأخذ المسلم بعين الاعتبار وهو ينفذ خطة وضعها أن الأشياء الطارئة المهمة من مرضاة الله وطاعته ليست مضيعة للوقت وليست فشلاً لهذا البرنامج، فمثلاً: قد يسير الإنسان على تخطيط معين في هذا اليوم، فجأة في منتصف الجدول يأتيه أحد إخوانه يقول: سيارتي تعطلت أريد أن تذهب معي إلى الورشة مثلاً، هذا العمل قد يستغرق ساعة من الزمن، وهذه الساعة قد تجعل هذا الجدول مختلاً، وبعض الناس قد يتضايقون ويقولون: فشل الجدول وفشلت الخطة، نقول: كلا. لأن المسلم يعمل الأقرب من الطاعات إلى الله عز وجل، والمثالية الزائدة في جدولة الأوقات قد تجعل الشخص كالآلة لا يتفاعل مع الناس، ولا يحس بكثير من المشاعر النبيلة. والمثالية الصرفة قد تجعل الشخص يتعامل مع الناس بجفاء، فليس المطلوب مثلاً أن يكون الإنسان دقيقاً جداً، فيكون ذلك الشخص الذي طلب مرة منه أحد إخوانه موعداً فقال له هذا الشخص المثالي: كم يستغرق الموعد؟ كم تريد؟ قال: ربع ساعة، قال: حسناً، فلما جاء الوقت المحدد قعد معه فتكلم وتكلم، فلما انتهت هذه الدقائق؛ نظر في ساعته، فلما رآها انتهت قام مباشرة دون كلام ولا سلام وخرج من المجلس وصاحبه لم يكمل كلامه بعد، إن مثل هذه الأشياء المثالية جداً قد تجعل بعض الناس بغيضين إلى بعض. وقد يتساءل كثير من الإخوان: نحن نضع برامج وجداول ولكن تأتينا أشياء طارئة كثيرة فما هو التصور تجاه هذه الطوارئ؟ فنقول: نحن مسلمون لدينا علاقات أخوية وروابط اجتماعية، والأشياء الطارئة في هذه الجوانب موجودة بشكل واضح، ونحن دعاة إلى الله عز وجل، وحياة الداعية وأيامه مملوءة بالمفاجأة والأحداث، ولكن ينبغي أن تعلم أيها الأخ المسلم أن الأشياء الطارئة والمهمة لا تعني أن الخطة والجدول فاشل، فإن المهم إرضاء الله في كل لحظة؛ وتقديم ما يحبه الله وليس المهم هو أن ينجح الجدول (100%) فلو أنك تسير على جدول مثلاً ثم بلغك موت قريب لك فماذا تفعل؟ أو جاءك ضيف مثالي فماذا تفعل؟ يجب أن تقوم بحق الضيف، وتذهب للتعزية وحضور الدفن ونحو ذلك. ومن أسباب الفشل في تنفيذ الجداول: عدم تعود الناس على هذه الأشياء المحددة، فالنفس تكره التحديد النفس تريد الانطلاق بلا حدود، ولذلك فإن النجاح في تنفيذ هذه الخطط يعتمد على تعويد النفس على الالتزام والدقة، وهذا أمر تكرهه النفس، والتعويد أمر صعب، ولكن إذا جاهد الإنسان نفسه من البداية فإن النهاية تكون سعيدة، وإذا جاهد الإنسان نفسه في أن يتعود على أمور معينة، فإن هذه الأمور تصبح طبيعية في النهاية وسهلة، بل إنه يفعلها لا شعورياً دون أن يحس بأي كلفة.

خطوات التعود على العادات الطيبة

خطوات التعود على العادات الطيبة لكي يتعود المسلم على العادات الطيبة فلا بد له من خطوات منها: أن ينطلق في البداية بقوة للتعود على شيء معين وبحكمة، فينطلق بحماس في تنفيذ هذه العادة والتعود عليها وتضبطه الحكمة، وأن ينتهز أقرب فرصة للتعود؛ لأن الإنسان إذا جلس يسوف ويقول: سأتعود في المستقبل؛ فإنه لن يتعود، وقد تضيع الفرصة منه نهائياً، ويكون الفشل أشد مرارة في نفسه من لو أن الفكرة لم تخطر بباله أصلاً. ويمكن للمسلم أن يستعين للتعود على هذه العادات بالآخرين، وهذا ما يؤكد أهمية التربية الجماعية، فإن الإنسان قد يصعب عليه أن يتعود لوحده، لكن إذا التزم مع إخوة له على عادة معينة؛ إن الأمر يصبح سهلاً؛ لأن الجماعة تسهل على الفرد، وقضية أن يلتزم شخص داخل جماعة أسهل من أن يلتزم شخص لمفرده، لأن بعضهم يشجع بعضاً. ومن النصائح في قضية التعود على العادات عدم عمل أي استثناء في البداية حتى تصل العادة، وإلا فإن حليمة سترجع إلى عادتها القديمة، مثلاً: لو شعر الإنسان ببركة الوقت بعد صلاة الفجر وأن الله قد بارك لأمة محمد صلى الله عليه وسلم في بكورها، فأراد أن يتعود على عدم النوم بعد صلاة الفجر وعلى استغلال الوقت بعد صلاة الفجر، قد يتحمس في اليوم الأول فلا ينام بعد الفجر، ويستغل الوقت في قراءة قرآن وذكر ومذاكرة وعمل، لكن الخطر يكمن في أن بعض الناس في اليوم الثاني أو الثالث أو الرابع في التعود في الأيام الأولى المبكرة، قد ينام متأخراً نوعاً ما، فيأتي ويقول: هنا أريد استثناء، اليوم نستثني ننام بعد الفجر، وغداً سيكون هناك استثناء آخر وتتعدد الاستثناءات وهكذا تفشل قضية التعود.

وسائل توفير الوقت

وسائل توفير الوقت

توفير الوقت بتحديد مواعيد الأشياء الثابتة في كل يوم

توفير الوقت بتحديد مواعيد الأشياء الثابتة في كل يوم ومما يعين المسلم على تنظيم أوقاته تحديد مواعيد الأشياء الثابتة في كل يوم، فمثلاً: تحديد موعد النوم موعد الوجبات موعد الزيارات موعد الجلسات موعد المذاكرة وهكذا. إن دين الإسلام يساعد المسلم على تنظيم وقته بشكل عظيم، فانظر مثلاً إلى الصلوات الخمس، فهي عبارة عن خمسة حدود يومياً موضوعة في اليوم خمس محطات تساعدك في تنظيم الوقت، ولذلك تجد مواعيد المسلمين بعد العصر بعد العشاء بعد المغرب بعد الفجر قبل المغرب بكذا، أما مواعيد الكفار فليس عندهم هذه الأشياء التي تساعدهم في تحديد وتنفيذ المهمات، لكن المسلم تعوده الصلوات الخمس أن يذهب إلى المسجد في هذا الوقت وفي هذا الوقت فهناك أوقات ثابتة يومياً، وهذا من فوائد دين الإسلام. كذلك لا بد من تخصيص وقت للمشاوير، نحن نجد أن المشاوير التي نذهب بها يومياً تأخذ وقتاً من حياتنا، ولذلك لا بد أن يفكر الإنسان قبل أن يخرج في مشوار ما ماذا سيفعل؟ وإذا كان عنده أكثر من حاجة يشتريها يفكر قبل أن يخرج ما هي جميع الحاجات، ثم يفكر في الطريقة المثلى التي يسلكها في مشواره حتى يأتي بجميع الحاجات في أقل وقت، بعض الناس لا يفكرون، يذهب يشتري شيئاً ويرجع للبيت ثم يتذكر شيئاً آخر ويذهب ويشتري ويرجع وهكذا، وبعض الناس لا يفكر في الطريق، فيذهب هكذا ويشتري ثم يذهب هكذا ويشتري ثم يرجع إلى المكان الأول ويشتري وهكذا. والتخطيط الجيد عموماً يستلزم ثلاثة عناصر، وهي عبارة عن ثلاثة أسئلة يسألها الإنسان نفسه: ما هي الأشياء التي أشتريها؟ متى أذهب؟ كيف وما هي طريقة المشوار؟

توفير الوقت بتوزيع المهمات

توفير الوقت بتوزيع المهمات من الأمور التي تساعد على توفير الأوقات وإن كان لطبقة معينة من الناس: قضية توزيع المهمات، وخصوصاً المطلعين بالمهام التربوية والعلمية، أو مثلاً الأب مع أولاده، إذا أراد الأب أن يقوم بكل شيء في البيت سيستهلك وقتاً كثيراً، ولكن لو استعان بأولاده مثلاً فوزع عليهم المهام، فإنه سيرتاح إلى حد بعيد، وكذلك المربي فإنه إذا وزع المهمات على إخوانه فإنه سيوفر لنفسه وقتاً كثيراً بالإضافة لما يسببه هذا التوزيع من ازدياد ثقة هؤلاء بأنفسهم وتدريبهم على القيام بالأمور الجديدة، وفي نفس الوقت الذي يفرغ وقتاً يستطيع فيه القيام بأمور أخرى هو، أو يزيد كفاءته في أمور يفعلها أصلاً، فلنفرض أن طالب علم مثلاً يدرس في حلقة تجويد وأخرى في التفسير وثالثة في الفقه وهكذا وهو منشغل، هذا الرجل لو درب أحد إخوانه على القيام بأمر حلقة التجويد مثلاً، فإن هذا سيفرغه للقيام بشيء آخر مهم، أو زيادة تفرغه لتحضير حلقات التفسير والفقه وهكذا. لا بد أن نشير هنا إلى قناعة موجودة عن بعض المعلمين، وهي أنه يريد أن يفعل كل شيء بنفسه، لأنه يعتقد أن الآخرين سيفعلونه بكفاءة أقل أو يفشلون فيه، فلا يوزع المهمات عليهم، ويستشهد بالمقولة المشهورة: "ما حك جلدك مثل ظفرك فتول أنت جميع أمرك". ونحن نقول: هذا المثل قد يكون صحيحاً فيما هو من شئونه الخاصة، أو فيما يجزم أن غيره لن يستطيع القيام به من خلال التجربة مثلاًً، فأما ما كان من الأمور التي يستطيع أن يفعلها الآخرون؛ فلا يمكن الاستشهاد بمثل هذه المقولة.

توفير الوقت بدفع المال

توفير الوقت بدفع المال ومن وسائل توفير الوقت دفع المال، إذا استطعت أن توفر وقتاً بدفع المال فافعل، وفي المثل المشهور: الوقت من ذهب، ولكن هذا المثل خطأ؛ فإن الوقت لا يقدر بأي قيمة، فالذهب لو خسرته يمكن بعد عدة صفقات أن ترجعه أو تسترجع أكثر منه، لكن الوقت إذا ذهب كيف تسترجعه! هيهات هيهات! ولا يمكن رجوع الوقت ولا شراؤه. ولذلك تجد أنت على سبيل المثال أجهزة الهاتف بعضها مثلاً بالأزرار وبعضها مثلاً بالقرص، ولا شك أن الهاتف الذي بالأزرار يأخذ وقتاً أقل في الاتصال إذا كان مصمماً بالطريقة الفورية لدق الأرقام، فإذا كنت تستطيع أن تستعمل هذا فاستعمله؛ فإنه يوفر لك على المدى البعيد وقتاً، وبعض الهواتف فيها أزرار لإعادة المكالمة تلقائياً إذا استطعت أن توفرها فافعل، لا تتوانَ في شراء جهاز لزوجتك في البيت مثل الغسالة أو الموقد أو أي وسيلة من وسائل الراحة العصرية التي توفر لزوجتك وقتاً، إذا استطعت أن تدفع نقوداً لتشتري وقتاً فافعل. فهذا محمد بن سلام البيكندي شيخ البخاري رحمهما الله المتوفى سنة [227هـ] كان في حال طلب العلم جالساً في مجلس الإملاء والشيخ يحدث ويملي، فانكسر قلم محمد بن سلام وهو يكتب، طبعاً الشيخ لن ينتظر واحداً من الطلبة حتى يأتي بقلم، وهذا صاحبنا من الطلبة المواظبين المجدين الذين يعرفون قيمة الوقت، فأمر محمد بن سلام البيكندي أن ينادى: قلم بدينار قلم بدينار، والقلم يساوي أقل من دينار، فتطايرت إليه الأقلام، لأن الناس يريدون الدينار، فدفع مالاً ليوفر وقتاً. وستجد في المقابل من الناس الفارغين البطالين من هو مستعد أن يعطي من وقته ويضيع مالاً لذلك.

قتل مضيعات الوقت في مهدها

قتل مضيعات الوقت في مهدها ومن الأمور التي تساعد على استغلال الوقت والمحافظة عليه: قتل مضيعات الأوقات في مهدها، فهناك أمور تضيع الأوقات. قال ابن القيم رحمه الله: إضاعة الوقت أشد من الموت؛ لأن إضاعة الوقت تقطعك عن الله والدار الآخرة، والموت يقطعك عن الدنيا وأهلها. إذا أنت مت انقطعت عن الدنيا، ولكن إذا اشتغلت بالأشياء التي تضيع الوقت بلا فائدة فإنك تكون قد انقطعت عن الله والدار الآخرة، ولا بد أن يكون عندنا مفهوم واضح للأشياء التي تضيع الوقت، فليس من ضياع الوقت ما كان في طاعة الله، لذلك قد تكون مساعدة الوالدين وشراء الأغراض لهما، أو الذهاب بالولد إلى العيادة ومساعدة أخ في الله في إصلاح سيارته مثلاً لا يمكن أن نعتبره مضيعة للوقت؛ لأنه من طاعة الله. ولذلك بعض الناس عندهم مفاهيم غريبة في خسارة المال أو ضياع الوقت، يقول: والله نحن ضيعنا من وقتنا العام الماضي عشرة أيام في الحج، ونحن خسرنا عشرة آلاف ريال في الحج، فليس هذه خسارة، كيف تسميها خسارة؟! ليس من إضاعة الوقت مثلاً الصبر على التربية اللازمة لإقامة المجتمع المسلم، ومن لا يقبل بذلك فهو متهور، يريد اختصار ما لا يمكن اختصاره؛ لزعمه أن طريق التربية بطيء وهو مضيعة للوقت، ولذا تجد أكثر هؤلاء شعارهم العنف؛ لأنهم يريدون تغيير كل شيء بالقوة وبأسرع طريقة، ولسنا نعني هنا أنه لو حانت فرصة طيبة أن تستغل. إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة فإن فساد الرأي أن تترددا ما هي الأشياء التي تستهلك الأوقات؟ ذكر ابن القيم رحمه الله أشياء الإسراف فيها مضيعة للوقت، وهي: النوم والأكل والكلام، إذا زادت عن حدها صارت مضيعة للوقت.

النوم

النوم النوم مثلاً نعمة من نعم الله لولا النوم لعشنا في شقاء، لأن الإنسان مطلوب منه أن يعطي جسده حقه (وإن لجسدك عليك حقاً) ولكن ليس معنى هذا أن ينام الإنسان الساعات الطويلة المتواصلة، أذكر أنني أيقظت شخصاً في وقت الظهر أو العصر، فقلت له: منذ متى أنت نائم؟ فقال: نمت من قبل مغرب اليوم الماضي وهكذا فإن بعض الناس ينام الساعات الطويلة جداً ويستغل وقته في النوم، وبعض الناس يعتقد أنه لا بد أن ينام ثمان ساعات، مع أن هذه المسألة كما أثبت أهل الطب أن الأجسام تختلف، فبعض الناس يحتاجون ثمان ساعات فعلاً وبعض الناس تكفيهم ست ساعات، وبعض الناس تكفيهم أقل، وبعض الناس تكفيهم أكثر، والمسألة تعتمد كثيراً على التعود وعلى طبيعة جسم الإنسان، وعلى نوع الوظيفة التي يقوم بها وهكذا، وبعض مشاهير الدعاة كانوا ينامون أربع ساعات فقط في اليوم، ليستغل في الأوقات الأخرى في طاعة الله، فهو يعلم أنه يسابق بالخيرات. ومن الأمور المهمة في النوم: القيلولة، لقوله عليه الصلاة والسلام: (قيلوا فإن الشياطين لا تقيل) فالوقت الذي يكون الشيطان فيه سارحاً يمرح المفروض أننا نحن نكون في نوم، ولا نتأخر في السهر؛ فإن الرسول عليه الصلاة والسلام قد كره السهر بعد العشاء الآخرة إلا للعلم أو الأشياء المهمة أو الضيف مثلاً، الآن انعكست عندنا الآية فالوقت الذي يكون المفروض فيه أن ننام نستفيق، والوقت الذي ينبغي أن نكون مستفيقين ننام وهكذا. صحيح أن طريقة الحياة المعاصرة تجبرنا على أشياء من الاستيقاظ، مثلاً: الآن في قضية الدوام والحصص تجد أن الحياة مصممة على أنك تستيقظ في وقت القيلولة، ولكن لو استطعت أن تقيل فافعل، ولو استطعت أن تنظم جدولك بحيث تنام في وقت القيلولة؛ فافعل.

وجبات الطعام

وجبات الطعام من الأمور المضيعة للوقت كذلك: وجبات الطعام، سواء أثناء الوجبات على المائدة كما يحصل عندما يجتمع أناس على طعام فيطول الكلام في أشياء غير مفيدة، والأكل الذي كان يمكن أن يلتهم في عشر دقائق لا يفرغ منه إلا في نصف ساعة أو ساعة إلا ربع أو أكثر، وقد يكون تضييعاً لمواعيد الطعام كما يقع مثلاً لبعض طلاب الجامعات، فإنه لا يلتزم مثلاً بأوقات المطعم؛ فيضطر بعد ذلك أن يذهب بعيداً ليشتري طعاماً وينفق في ذلك وقتاً ومالاً.

الاجتماعات على غير فائدة شرعية

الاجتماعات على غير فائدة شرعية ومن الأمور التي تضيع الوقت وتستهلكه الاجتماعات على غير فائدة شرعية، قال ابن القيم رحمه الله: الاجتماع بالإخوان على قسمين: أحدهما اجتماع على مؤانسة الطبع وشغل الوقت، فهذا مضرته أرجح من منفعته، وأقل ما فيه أنه يفسد القلب ويضيع الوقت. فمن أكبر الأشياء التي تضيع الوقت النقاشات غير المفيدة أو غير الهادفة في بعض المجالس، مثل: النقاش ليثبت كل شخص من المتناقشين أنه على الصواب وأن الآخر على الخطأ من غير أدلة وتجرد، واجتماع الناس هكذا على حب التسلية وتمضية الوقت ينبغي أن ينتبه لها المسلم جيداً، فبعض الشباب لا يرد أحداً طلب منه أي طلب وإن كان تافهاً أو كان سيضيع عليه شيئاً أهم، فيأتي شخص يطرق عليه الباب، ويقول له: تعال معي، نريد أن نذهب فيخرج معه، يتصل له شخص بالهاتف، فيذهب معه وهكذا. والحل: لا بد أن نتعلم الاعتذار المهذب عن كل عمل يصرفنا عن الغاية التي نسعى إليها، ولا بد أن نعتذر بلباقة عن كل انشغال يشغلنا به الفارغون، صحيح أنه قد يأتيك وشخص وتعتذر وقد يضغط عليك ويطلبك عدة مرات، والفوضويون يتخذون القرارات لحظياً ويمرون على من يعرفون ويقولون: تعال معنا وهكذا. فليحذر العاقل هؤلاء البطالين، فما لم تكن تلك الروحة مهمة كشيء طارئ، مثلاً قيل لك: شخص توفي وهو يدفن الآن، فعليك أن تذهب إليه، قيل لك: إن فلاناً في المستشفى الآن وهذا وقت الزيارة، فعليك أن تذهب، فإنه من طاعة الله، كذلك تلبية حاجة الأبوين إذا طلب منك فعل ذلك. يقول ابن الجوزي رحمه الله: لقد رأيت خلقاً كثيراً يترددون معي فيما اعتاده الناس من كثرة الزيارة، ويسمون ذلك التردد خدمة ويطيلون الجلوس، ويدلون فيه أحاديث الناس وما لا يعني، ويتخلله غيبة، فلما رأيت أن الزمان أشرف شيء؛ كرهت ذلك، وبقيت معهم بين أمرين: إن أنكرت عليهم وقلت: لا أذهب معكم، وقعت وحشة، وإن تقبلته منهم ضاع الزمان. فيقول رحمه الله: فصرت أدافع اللقاء جهدي -كلما أتى واحد من هؤلاء البطالين- أؤجل الموعد، فإذا غلبت -صار لا بد أن يدخل عندي- قصرت في الكلام لأتعجل الفراق، وبعضهم قد يلجأ إلى أساليب جيدة، فإذا أتاه شخص وهو مشغول؛ فإنه يقف، فيشعر الآخر بأنه لا يريد أن يقعد؛ فينصرف. ويقول ابن الجوزي رحمه الله متابعاً: ثم أعددت أعمالاً لا تمنع من المحادثة، ولكن لا بد منها لأوقات لقائهم، لئلا يمضي الزمان فارغاً، فجعلت من الاستعداد للقائهم قطع الكاغد -لدى ابن الجوزي كتابات وتصنيفات ومصنفات يريد أن يكتبها- وبري الأقلام، وحزم الدفاتر، فإن هذه الأشياء لا بد منها ولا تحتاج إلى فكر وحضور قلب، فأرصدتها لأوقات زيارتهم؛ لئلا يضيع شيء من وقتي. انظروا كيف يحافظ العلماء على أوقاتهم، ولا بد من تعويد الآخرين على احترام وقتك، بعض الناس لأنه متسيب وليس عنده ثبات؛ فيأتي إليه الأشخاص الآخرون ببساطة وسهوله؛ لأنه ليس عنده ما يوقفهم عند حدهم، وتعويد الآخرين على احترام وقتك يكون بالتلميح أحياناً أو بالتصريح إذا لم يفهموا، وخذ على ذلك هذا المثال: دخل أناس على رجل من السلف فقالوا: لعلنا شغلناك، فقال: أصدقكم كنت أقرأ فتركت القراءة لأجلكم. أي: إذا أردتم الصراحة فقد شغلتموني، لقد كنت أقرأ وعندما أتيتم تركت القراءة لأجلس معكم. وكان ابن المبارك رحمه الله قد افتقده أحد أصحابه مرة، فقال: مالك لا تجالسنا؟ فقال ابن المبارك: أنا أذهب فأجالس الصحابة والتابعين. أي: أنه يقرأ في سيرهم وتواريخهم وهكذا. وعدم الحزم في مواجهة مضيعي الأوقات مشكلة، وبعض المزورين لا يصبر على الوحدة ومتى لأن المزور؛ طمع الزائر، ولذلك تجد بعض الناس يعلقون على أبوابهم، مثلاً: الرجاء ممنوع الإزعاج، لكن هذه اللافتة تصبح ليست ذات معنى؛ لأنه لا يرد أي طارق ويفتح لكل أحد ويضيع الوقت. وهنا ننبه إلى مزلق نفسي خطير، بعض الناس يظهرون الانشغال، وكلما جاء أحد يقول: أنا مشغول لا تكلمني، وهكذا ليس عندي وقت، ويمشي بسرعة في الممرات والطرقات، ويتظاهر أنه إنسان قد بلغ القمة في الانشغال، وإذا حاول أحد أن يستوقفه ابتعد، هذا قد يكون فيه شيء من الكبر والغرور والتظاهر بالانشغال. لقد رأيت من أهل الفضل من أعلم أنه في غاية الانشغال بالعلم وانقطاع عن الناس، لكن إذا أتيته تجده كأنه متفرغ لأجلك، والناس طرفان: منهم من يستقبلك ويلبي طلباتك وهو مشغول على قدر وسعه وطاقته، ومنهم من يظهر نفسه أنه مشغول وهو فارغ، وهذا شيء خطير، فالمتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور، وبعض الناس عندهم عقدة، فيريد أن يظهر أنه منشغل وهو فارغ. كانت الجارية تأتي وتذهب بالرسول صلى الله عليه وسلم ليقضي لها حاجتها، فيذهب معها ويقضي لها حاجتها وهو الرسول صلى الله عليه وسلم الذي كان مشغولاً، ولكن الرسول عليه الصلاة والسلام كان عنده من الوقت ما يداعب به أهله ويلاعب به الصبيان ويقضي حوائج الناس، ولم يقل لأحد إذا أتاه: أنا مشغول، ابعد عني لا تكلمني.

المكالمات الهاتفية

المكالمات الهاتفية ومن مضيعات الوقت المكالمات الهاتفية، فإنها أحياناً تجعل الشخص يستمر في الكلام ساعات أحياناً، وخصوصاً النساء اللاتي لا يجدن سبيلاً في رؤية بعضهن، فيكون الهاتف هو سلوتهن وعزاؤهن في تكليم بعضهن بعضاً، وهناك مشاكل زوجية كثيرة موجودة تحصل بسبب مصروف فواتير الهاتف؛ لأن الزوجة تتكلم كثيراً مكالمات خارجية ثم تقع الخلافات بين الزوجين، فضلاً أن تكون هناك تكليفات مادية، كما يجب أن تنتبه الزوجة إلى أن المسألة فيها ضياع وقت لها.

وسائل اللهو

وسائل اللهو ومن مضيعات الأوقات: وسائل اللهو من البرامج والمسلسلات والجرائد والمجلات والألعاب والمباريات والمسابقات وغيرها، فإنها كثيراً ما توقع في المحرمات ولا حول ولا قوة إلا بالله، وهذا حدث عنه ولا حرج، كيف يضيع مسلسل في تلفزيون أوقات المسلمين، أو كيف تضيع هذه المجلات الفارغة التافهة المنتشرة في الأسواق أوقات المسلمين والمسلمات، هذا شيء في غاية العجب! ولذلك تجد فيها من التنويع والتذليل والتحكيم والزخرفة أشياء تجلب الناس، فيضيع ساعات طويلة وهو ينقل التلفزيون من محطة إلى أخرى، ويفتح الجريدة والجريدة التي تليها والمجلة وهكذا تضيع منهم ساعات طويلة في هذه الأشياء، وهذه مسألة تحتاج إلى كلام منفصل عن الآثار السيئة لهذه الملهيات على الناس حيث إنها تحتاج إلى محاضرات وخطب منفصلة. وبعض الناس تكون هوايتهم تضييع الأوقات في الحمامات عند الاستحمام، فتجده يقضي أوقاتاً طويلة وهو يستحم، مع أن الاستحمام لا يأخذ وقتاً، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع، لم يكن يغتسل بالصاع ساعات! ولكن تجد بعض الناس الآن يمكن أن يجلسوا في دورات المياه والحمامات ساعات طويلة جداً، ورحم الله جد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عندما دخل الخلاء قال لأحد أولاده: اقرأ هذا الكتاب، وارفع صوتك بالقراءة لكي أسمعك. يقول ابن الجوزي: ولقد شاهدت خلقاً كثيراً لا يعرفون معنى الحياة، فمنهم من أغناه الله عن التكسب بكثرة ماله، فهو يقعد في السوق أكثر النهار ينظر إلى الناس، وكم تمر به من آفة ومنكر، ومع ذلك ينظر ويتضرر ولا ينكر، مع أن الله أغناه بما عنده من الملايين وهو يستطيع أن يعيش حتى لو ما فتح دكاناً، وقد تجد معه صبياً في الدكان وعنده من يقوم بأعماله وتجاراته إلا أنه يذهب ويجلس أمام الدكان، مثلما يحدث في بعض المناطق حينما تدخل أسواقهم، فتجد هذا يهش في الذباب وينظر في الغادي والرائح، وذلك الصبي يدير الدكان وهو جالس ينظر. ومضيعات الأوقات كثيرة، ولكن ذكرنا بعضها؛ لكي تجتث من أصلها، وإذا قضيت عليها توفرت أوقات كثيرة.

صفات الوقت الضائع

صفات الوقت الضائع ما هي صفات الوقت الضائع؟ وكيف تحس أن هذا وقت ضائع؟ الوقت الضائع في غير فائدة هو الوقت الذي تحس بعد مضيه بشعور سيئ، مثل: النظر إلى التلفزيون، فأنت قد تكون سعيداً ومبسوطاً وفرحاناً وأنت تنظر وتستمتع إلى هذه البرامج، لكن بعد انتهاء البث وإغلاق هذا الجهاز، سيحدث عندك شعور بالضيق، ولذلك ليست السعادة في أن يتلهى الإنسان. وانظر إلى أحوال الناس الذين يلهون بالنظر إلى التلفزيون ويقرءون هذه المجلات الفارغة التافهة، ويلعب من هنا وهنا، ومع ذلك يفكر إنه مبسوط في أثناء اللعب واللهو، لكنه بعد اللعب واللهو يصبح متضايقاً ولا يدري ماذا يفعل؟ لكن المسلم حاله: (أرحنا بالصلاة يا بلال) لا يرتاح فقط أثناء الصلاة لكنه يرتاح بعد أداء الصلاة، أما أولئك فتجد عندهم من الإمكانيات في بيوتهم وفي سفرياتهم أشياء عجيبة، لكنه يرجع من السفر متضايقاً جداً؛ لأنه انبسط أثناء اللهو لكن بعد اللهو يشعر بالضيق. يقول أحد الكتاب الأمريكيين: إن (95%) من برامج التلفزيون لا يختلف العقلاء أنها مضيعة للوقت، فإن قلت لي: كيف أستغل وقتي؟ أقول لك: هناك بعض المشاوير التي لابد منها، وبعض فترات الانتظار ليس من سبيل إلى التخلص منها، مثلاً: مسافة الطريق أثناء السفر بالطائرة أو بالسيارة والانتظار أمام عيادة الطبيب هذه فترات انتظار ضائعة انتظار لابد منها، فعندما ترى بعض الناس المخلصين الواعين يستغلون أوقات السفر مثلاً في سماع الأشرطة الإسلامية المفيدة؛ فإنك تعرف أن هؤلاء عقلاء يعرفون كيف يستغلون أوقاتهم، يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الحسن: (ما من راكب يخلو في مسيره بالله وذكره إلا كان ردفه ملك، ولا يخلو بشعر ونحوه -من هذه الأهازيج والأغاني- إلا كان ردفه شيطان) معه طيلة الطريق. ويفرح المرء المسلم عندما يركب طائرة، فينظر إلى إخوان له لا يعرفهم، قد فتح بعضهم مصحفاً، وبعضهم يقرأ في كتاب علم، بينما الفساق والبطالون ينظرون إلى المحرمات ويتأففون ويذهبون بأبصارهم يميناً وشمالاً وينظرون في ساعاتهم، انظر هذا يقرأ القرآن ويستغل وقته أثناء السفر في الطائرة أو معه كتاب علم يفتحه، انظر الآن بعض الغربيين عندهم كتاب اسمه كتاب الجيب، فتجدهم دائماً يأخذونه معهم، كذلك نحن المسلمين نحتاج إلى تطوير كتاب الجيب الإسلامي؛ حتى يستغله المسافرون والذين ينتظرون في الأماكن العامة فيستفيدون من وقتهم بالقراءة. وعندما تجد رجلاً عند عيادة الطبيب في المراجعات أو في المطار ينتظر وصول قادم أو ينتظر في صالة المغادرة لمسافر تجده قد فتح كتاباً أو يسمع شيئاً مفيداً؛ فإنك تحس أن هذا الرجل يعرف قيمة الوقت ويحسن استغلاله، أو على الأقل يفتح ورقة يبسطها على طاولة الطائرة مثلاً ويدون فيها أفكاراً مهمة، أو يحضر فيها موضوعاً يريد أن يفيد به مسلمين آخرين، أو على الأقل يدون أسئلة خطرت في ذهنه حتى إذا جلس مع أهل العلم سألهم إياها لئلا تضيع من ذهنه. وأنت يا أخي المسلم تعجب من بعض الكفار حينما تراهم في الصباح يجرون أو يقودون الدراجة، تجده يضع في أذنيه سماعات مشبوكة بمسجل صغير يسمع فيها موسيقى "الإف إم" مستغلين بذلك أوقاتهم. ولقد سمعت مرة من الإخوة يقول: وأنا أقلب المذياع وقعت على جزء من مقابلة مع موسيقار مشهور يقول في المقابلة: إنه تعرض لي أحياناً وأنا أسير في الطريق أو وأنا أركب الحافلة في ذهني لحن معين فيقول: كي لا أضيع هذا اللحن مني أو أنساه؛ فإنني أصطحب معي مسجلة صغيرة في جيبي أسجل ذلك اللحن مباشرة قبل أن أفقده. إذا كان هؤلاء التافهون يصل بهم استغلال الوقت في الأمور السيئة إلى هذه الدرجة؛ فنحن أصحاب الرسالة أولى وأحرى من هؤلاء الفارغين.

حال السلف مع الوقت

حال السلف مع الوقت لقد ضرب سلفنا رحمهم الله تعالى أمثلة عجيبة في الاستفادة من أوقاتهم، فهذا أبو نعيم الأصفهاني المتوفى سنة [430هـ] كان حفاظ الدنيا قد اجتمعوا عنده، وكل يوم نوبة واحد منهم، يقرأ ما يريده إلى قبيل الظهر على الشيخ، فإذا قام إلى داره ربما يُقرأ عليه في الطريق جزءٌ وهو لا يضجر. وكان سليم الرازي شافعياً فنزل يوماً إلى داره ورجع فقال: لقد قرأت جزءاً في طريقي. وقال الحافظ الذهبي رحمه الله في ترجمة الخطيب البغدادي كان الخطيب يمشي وفي يده جزء يطالعه. وكان ابن عساكر رحمه الله كما يقول عنه ابنه: لم يشتغل منذ أربعين سنة إلا بالجمع والتسمية حتى في نزهته وخلواته، يصطحب معه كتب العلم والمصحف يقرأ ويحفظ. وكانوا يحرصون على استغلال الوقت في عمل أكثر من شيء في نفس الوقت، فقد كان بعضهم إذا حفي عليه القلم واحتاج إلى بريه يحرك شفتيه بذكر الله وهو يصلح القلم، أو يردد مسائل يحفظها لئلا يمضي عليه الزمان وهو فارغ ولا دقيقة. وكان أبو الوفاء علي بن عقيل رحمه الله يقول: إنني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري؛ حتى إذا تعطل لساني عن المذاكرة وتعطل بصري عن المطالعة، أعملت فكري في حال راحتي وأنا منصرف، فلا أنهض إلا وقد خطر لي ما أسطره. أي: هو الآن لا يجد كلاماً ولا شيئاً يقرؤه، فيأخذ راحة وفي أثنائها يشغل فكره. يقول ابن القيم رحمه الله: وأعرف من أصابه مرض من صداع وحمى وكان الكتاب عند رأسه، فإذا وجد إفاقة؛ قرأ فيها، فإذا غلب؛ وضعه، انظر حتى حال المرض، إذا وجد خفة؛ فتح الكتاب وقرأ، وإذا اشتد عليه أرجع الكتاب عند الوسادة. وأنتم لو نظرتم إلى حال علمائنا في هذا العصر؛ لوجدتم من استغلالهم لأوقاتهم أموراً عجيبة، فأنت مثلاً عندما تتصل بالشيخ/ ابن عثيمين لتسأله، فإنك تجد أنه يجيب على الهاتف من خلال المكبر ولا يرفع السماعة، وأنت تسأله تسمع صوت الأوراق وهي تقلب، فهو يتكلم ويقرأ ويجيب ويراجع في هذا الوقت، وتجد أيضاً أنهم مع محافظتهم على أوقاتهم يحددون أوقاتاً معينة، فهذا الوقت للقراءة، وهذا الوقت للتدريس، وهذا الوقت للإجابة على الهاتف، وهذا الوقت للنوم، وهذا الوقت للذهاب إلى العمل وهكذا. وعندما تتأمل إلى حياة شيخنا/ عبد العزيز بن باز رحمه الله، هذا الرجل الذي فقد بصره وله من العمر تسعة عشر عاماً، لوجدت في استغلاله لوقته أمراً عجيباً، فإنه يسأل ويناقش حتى على الطعام، بل وحتى عند المغسلة وهو يغسل يديه وفي المجلس وفي الطريق إلى المسجد وبعد الخروج منه، حتى إنه ربما أعاد ذكراً فاته لسؤال أجاب عليه. كان في ذهني مسألة وهي: إذا انتهى الأذان؛ وفاتني متابعته، فماذا أفعل؟ هل فات وقت الترديد أم لم يفت؟ هل أعيد الأذان بعد ما انتهى مع أني ما انتبهت من البداية؟ فكانت المسألة في نفسي ليس عندي فيها جواب، حتى حضرت مرة بجانب الشيخ حفظه الله وهو يجيب على مكالمة، وأثناء الكلام أذن المؤذن، وقريباً من انتهاء المؤذن؛ انتهت المكالمة، فانتبه الشيخ فجلس يردد الأذان من أوله حتى وصل إلى الموضع الذي وقف عنده المؤذن، ثم سألته، فكان هذا العمل جواباً على سؤالي، وهو أن المؤذن لو أذن وانتهى وأنت الآن انتبهت، فإنك تردد الأذان، أو انتبهت في حي على الصلاة؛ فإنك تأتي بها من أولها ثم تقف حيث وصل وتردد معه. وكذلك إذا تأملت في حاله مثلاً وهم يسألونه في الحلقة وبعد الحلقة، حتى إنه لو ركب في سيارته، فإنهم لا يزالون يسألونه والسيارة تتحرك، بل ربما أنه قد أركب معه السائل في السيارة، فيجيب على سؤاله، ويعرض عليه كاتبه الأوراق والمسائل وتقرأ عليه المعاملات والفتاوي في السيارة، وربما سمع شيئاً وهو على الغداء، ويذكر الله حتى بين لقمتين، وشاهدت من علمائنا من يسأل حتى وهو يبحث عن نعاله بين نعال الناس. وكان الشيخ/ محمد بن صالح بن عثيمين في مرحلة الطلب يدرس على شيخه عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي رحمه الله كان وقد يكون الشيخ/ عبد الرحمن مدعو لوليمة أو دعوة فيذهب للدعوة، فيماشيه الشيخ/ ابن عثيمين في الطريق حتى يصل إلى مكان الدعوة ثم قد يدخل معه وقد يرجع، ولكنه لو رجع فقد استفاد استفادة عظيمة. وهؤلاء العلماء محافظون على وقتهم جداً، ومنهم علامة العصر في الحديث الشيخ/ الألباني رحمه الله، فإن بعض الناس قد يقول عن بعض المشايخ وهم يحددون أوقاتهم، يقول: الشيخ ناشف، الشيخ لا يعطينا وجهاً، وفي الحقيقة أن الشيخ يحافظ على وقته، وإلا لو استمر يتكلم مع الناس لذهبت عليه أمور كثيرة.

تنظيم الوقت وقضية التسويف

تنظيم الوقت وقضية التسويف ومن الأمور الضارة بمسألة تنظيم الوقت واستغلاله: قضية التسويف، والتسويف داء كبير يحرم من خيرات كثيرة دنيوية وأخروية، والتسويف عادة يحدث للمهمات الضخمة والصعبة، فالناس يؤجلون ويسوفون عندما تكون المسألة صعبة، فلذلك يجد في نفسه دافعاً للتأخير، والناس أمام المهمات الكبيرة أحد شخصين: يقول: هذه المهمة يجب عملها، ولكنها صعبة وشاقة؛ لذلك سأؤجلها قدر المستطاع. وبعض الناس يقول: هذه مهمة ثقيلة ولكن يجب أن أقوم بها، فلأنفذها الآن وأرتاح، وهذا هو الرجل المضبوط الذي عندما تأتيه مهمة صعبة يقول: هذه صعبة لكن لابد أن أعملها وأرتاح منها. والتسويف عادة يحدث في المهمات التي ليس لها بداية محددة أو نهاية محددة أي: مسألة مفتوحة، ولذلك بعض العوام يخطئون في قضية حكم الحج الآن، فعندهم الحج مسألة صعبة خصوصاً الذي لم يحج، فهو يقول: ماذا سيحدث هناك؟ سوف يتكلف للذهاب للحج شيئاً كثيراً، فلذلك تجد بعض الناس يؤخرون الحج، ويسوفون إلى السنة الآتية إلى التي بعدها وهكذا، فهم يؤخرون الحج لصعوبته هذا شيء، والشيء الآخر: يظنون أن الحج ليس على الفور وإنما هو على التراخي، والحقيقة غير ذلك، فإن الإنسان لو صار عنده استطاعة للحج هذه السنة فإنه يجب عليه أن يحج هذه السنة ولو لم يحج هذه السنة؛ فإنه يأثم؛ لأن الحج ليس على المزاج فمتى ما أردت أن ححجت تحج، لا. إذا ملكت الاستطاعة من الزاد والراحلة وأمن الطريق إلى آخره؛ فيجب عليك أن تحج هذه السنة التي استطعت فيها مباشرة وليس لك أن تؤخر، قال عليه الصلاة والسلام: (عجلوا الخروج إلى مكة، فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له من مرض أو حاجة) وقال: (من أراد الحج فليتعجل؛ فإنه قد يمرض المريض، وتضل الضالة وتعرض الحاجة) حديثان صحيحان. إذا كانت المهمة كبيرة وليست قابلة للتجزئة؛ فلابد من التحمس لفعلها وعدم تسويفها، ومما يعين على ذلك: التفكر في أهمية الأجر والثواب فيه، فمثلاً: عندما تفكر في أجر الحج، فعند خروجك من بيتك تقصد البيت الحرام؛ فإن لك بكل خطوة تخطوها راحلتك حسنة، تمحو سيئة وترفع درجة، وأما حلقك لرأسك فإن لك بكل شعرة تسقط حسنة، وأما رميك الجمار فإنه مذخور لك، وأما مسح الحجر الأسود والركن اليماني فإنهما يحطان الخطايا حطاً، وأما وقوفك بـ عرفة فإن الله يباهي بك الملائكة، وترجع من الحج وقد خرجت من ذنوبك كيوم ولدتك أمك، عندما يتأمل الإنسان هذه المسألة يهون عليه الأمر ولا يسوف المهمات الكبيرة. أما إذا كانت المهمة قابلة للتجزئة، فحاول أن تجزئ العمل الكبير إلى أجزاء صغيرة، وهذا تجده يفي كثيراً، وهو علاج للتسويف بحيث تستطيع أن تعمل عدة خطوات في البداية بسهولة فيسهل عليك الباقي، مثلاً: لو أن إنساناً كلف ببحثٍ في الجامعة مثلاًً وهذا البحث كبير فعليه أن يجزيء هذا البحث إلى أجزاء صغيرة جداً، فيكون: أولاً: إيجاد الموضوع. ثانياً: البحث عن المراجع. ثالثاً: توفير المراجع. رابعاً: قراءة المراجع. خامساً: وضع علامات على الأشياء التي تريد أن تنقلها. سادساً: نقل هذه الأشياء ببطاقات. سابعاً: ترتيب البطاقات. ثامناً: تبييض المسودة. تاسعاً: طباعة البحث وتغليفه وهكذا. هذه المهمة أمكننا أن نجزئها إلى أجزاء، هذه الأجزاء تساعدك وتسهل لك إكمال البحث، لكن لو قلت: هذا البحث سوف أتمه من أوله إلى آخره فقد لا تستطيع، ثم تسوف وتقول: بعد ذلك ويقترب موعد تسليم البحث وأنت لم تعمل شيئاً بعد، وإذا كانت مشكلتك التسويف فلا تسوف في حلها، ولا بد أن تعلم -أيها الأخ المسلم- الفرق بين التسويف والتريث، فالتريث يعني: أن تنتظر الفرصة المناسبة فقد تكون الإمكانات والأدوات غير متوفرة ولم يحن الوقت المناسب بعد، بينما التسويف أن تدفع الأمر مع استطاعتك أن تعمله الآن، والحاجة إليه قد قامت، ووقته قد حان، ولكنك تتعذر بأعذار واهية، تقول: ليس عندي وقت ولا أستطيع أن أفعله لوحدي، سوف أنتظر غيري ليساعدني، سأحاول سأحاول وهكذا، يدفع الناس المهمات التي لا يقومون بها، ومعظم الأزمات في الأوقات تحدث عندما تؤجل الأشياء المهمة إلى آخر لحظة، فيكلف إصلاح الوضع عند ذلك طاقات كثيرة. وبعض الناس يشغلون أنفسهم بقضايا تشعرهم أنهم يستفيدون مع أنهم غفلوا عن أمور أساسية كثيرة، فيتهرب من الشيء المهم ويؤجله ويشغل نفسه بأشياء تافهة وجانبية، فلو أن إنساناً عنده غداً امتحان، فبدل أن ينشغل به مثلاً تجده يرتب الطاولة والخزانة والكتب، وينشغل بهذه الأشياء، ويقنع نفسه بأنه يفعل شيئاً مهماً بينما هو قد غفل عن الشيء الأساسي.

تحديد أوقات نهائية لإنهاء المشروع

تحديد أوقات نهائية لإنهاء المشروع ومن الأمور المساعدة في تنظيم الوقت وعدم التسويف تحديد أوقات نهائية لإنهاء المشروع، كتحديد وقت لقراءة كتاب مثلاً، تقول: لابد أن أنهي هذا الكتاب في تاريخ كذا، لكن هذا التاريخ ينبغي أن يكون مناسباً لطول الكتاب أو قصره وصعوبته وسهولته وهكذا، ولو أن الإنسان عجز عن الالتزام بأوقاته المحددة أمام نفسه، فإن من العلاجات أن يستعين بشخص آخر. إن الشخص قد يصعب عليه أن يلتزم بوقت ما بمفرده، افرض مثلاً أنك قررت أن تحفظ جزءاً من القرآن في خلال أسبوع، لكنك فشلت، حددت وقتاً آخراً، قلت: آخر وقت هو الأسبوع القادم يوم الجمعة، لكنك فشلت، ومددت الوقت ثلاثة أيام وفشلت فمن الأساليب أن تلتزم مع آخرين في هذا الحفظ، وهذا ما يؤكد أهمية التربية الجماعية مرة أخرى، وهناك خدعة إبليسية يقع فيها بعض الناس، فبعض الناس يقول: أعمل الشيء كاملاً (100%) وإلا لا أعمله، ولذلك أحياناً يستطيع أن يعمل (70%) من العمل، لكن بحجة أنه لم يكمله إلى آخره، تراه يترك الموضوع. وبعض الناس يستطيع مثلاً أن يوفر المراجع ويقرأها، ويخطط للأشياء التي يريد أن يكتبها وينقلها، لكن لأنه لم يجد -مثلاً- أدوات معينة أو أوراقاً أو طباعة أو ملفات أو شيئاً من هذا القبيل؛ فتجده يترك العمل، مثلاً: أحدهم يبحث في عشرين مرجعاً فما وجد إلا خمسة عشر مرجعاً يقول: لا يوجد فائدة نقفل، فبعض الناس عندهم هذه المشكلة النفسية يقول: إما أن أعمله كله أو أتركه كله، ونحن نعلم القاعدة: ما لا يدرك كله، لا يترك جله أو بعضه.

استغلال الوقت في النافع والمفيد والأهم

استغلال الوقت في النافع والمفيد والأهم الآن نحن عرفنا كيف نوفر الأوقات، ولكن السؤال الأهم: ماذا نعمل في هذه الأوقات التي وفرناها؟ نقول: أعظم الربح في الدنيا أن تشغل نفسك في كل وقت بما هو أولى بها وأنفع لها في معادها كما قال ابن القيم رحمه الله: إن أفضل العبادة العمل على مرضاة الرب في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته. بعض الناس يقول: هل الأفضل أن أستغل وقتي في الصلاة أو في قراءة القرآن أو حفظ العلم، أو في الدعوة، أو مساعدة أخ مسلم ماذا أفعل؟ أحياناً يضطرب الإنسان في تحديد الشيء الذي يملأ به وقته، فنقول: اسمع هذا الكلام للإمام ابن القيم رحمه الله يقول: فأفضل العبادات في وقت الجهاد الجهاد، وإن آل ذلك إلى ترك الأوراد من صلاة الليل وصيام النهار، والأفضل في وقت حضور الضيف مثلاً القيام بحقه أي: إذا جاء أحدهم ضيف، تجده يقول: والله إنًّ قراءة القرآن أنفع لي، فالحرف بعشر حسنات، وهذا الضيف دعه يذهب إلى الفندق أو المطعم وهذا أحسن له وأحسن لي، نقول: لا. (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه). لو جاء لزوجتك وأولادك حق عليك في شراء حاجيات يريدونها؛ فلا تقل: أريد أن أنزل إلى السوق فإن فيه مفاسد وهذه الأشياء مادية فاتركني أذهب إلى الصلاة أفضل لي. والأفضل في أوقات السَّحَر الاشتغال بالصلاة والقرآن والدعاء والذكر والاستغفار، والأفضل في وقت استرشاد الطالب وتعليم الجاهل الإقبال عليه، فالرسول عليه الصلاة والسلام ترك خطبة الجمعة لكي يعلم أعرابياً جاء يسأل عن دينه، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكرسي، فقعد عليه في أصل المنبر وعلمه. فالأفضل في كل وقت بحسب الشيء القائم في ذلك الوقت. فإذا أذن المؤذن أيهما أفضل قراءة القرآن أو إجابة المؤذن وقراءة القرآن الحرف فيه بعشر حسنات إلى سبعمائة ضعف؟ يبقى الأفضل ترديد الأذان، والأفضل في أوقات الصلوات الخمس إقامتها على وجهها الصحيح، والأفضل في أوقات ضرورة المحتاج المساعدة بالجاه أو البدن أو المال وإغاثة اللهفان ولو أدى ذلك إلى ترك الأوراد والأذكار وقراءة القرآن، وليس الأفضل في وقت الوقوف بـ عرفة شراء البيبسي والبارد والتسكع والتجول في الشوارع وبين المخيمات؛ ليأخذ فكرة عن الحج وعدد الحجاج، يدخل في بعثة الحج الفلانية ويطلع في البعثة الطبية الفلانية ويحضر من هنا، والوقت الآن وقت تفرغ للعبادة والدعاء. والأفضل في العشر الأواخر من رمضان الإقامة في المسجد والخلوة والاعتكاف دون التصدي لمخالطة الناس والاشتغال بهم، حتى لو كان تعلم علم فالاعتكاف أولى. وعند مرض المسلم الأولى عيادته، وعند موته الأفضل حضور الجنازة والتشييع، وعند فساد الناس الأفضل الاشتغال بإصلاحهم ودعوتهم إلى الله عز وجل. إذاً: عرفنا أنه إذا توفرت عندنا الأوقات؛ فإننا نشغلها بالأهم في كل وقت، ومن الأشياء المهمة معرفة الأولويات ما هو الأولى؟ ما هو الذي نقدمه على أي شيء؟ مثلاً في طلب العلم: وإذا طلبت العلم فاعلم أنه حمل فأبصر أي شيء تحمل وإذا علمت بأنه متفاضل فاشغل فؤادك بالذي هو أفضل العلم إن طلبته كثير، والعمر في تحصيله قصير، فقدم الأهم فالأهم، لو أتيت تريد أن تنهي العلم لا يمكن، ينتهي عمرك ولا ينتهي العلم فماذا تفعل؟ تشتغل بالأهم، ومن شغل نفسه بغير المهم أضر بالمهم.

أمثلة على الفوضوية في طلب العلم

أمثلة على الفوضوية في طلب العلم

الاشتغال بعلم الكلام

الاشتغال بعلم الكلام ومن أمثلة ضياع العمر: الاشتغال بعلم الكلام كما ندم على ذلك جماعة من القدماء منهم الرازي الذي يقول: نهاية إقدام العقول عقال وأكثر سعي العالمين ضلال وأرواحنا في وحشة من جسومنا وحاصل دنيانا أذى ووبالُ ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقال في بحثنا: أي في علم الكلام. أنت يمكن أن تندم بسبب انشغالك بالأشعار أو تفاصيل القصص والتواريخ، لكن لا يمكن أبداً أن تندم إذا انشغلت انشغالك بالتفسير أو علوم السنة، ومعرفة معاني الأحاديث، فمعرفة معاني كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم أجل ما صرفت فيه أوقات طلبة العلم.

الاشتغال بالأدوات أكثر من الانشغال بالهدف

الاشتغال بالأدوات أكثر من الانشغال بالهدف بعض الناس يشتغلون بالأدوات أكثر من انشغالهم بالهدف، فيشتغل باللغة أكثر مما يشتغل فيما هو الهدف من دراسة اللغة، وهو الوصول إلى فهم القرآن والسنة، وبعضهم يقول: أنا أستغل وقتي وأقرأ ست ساعات في اليوم، فإذا نظرت في أي شيء يقرأ؛ وجدت أن خطة الشيطان في اشتغاله بالمفضول عن الفاضل قد تحققت، واللازم في طلب العلم طلب المهم، فرب واحد يأتي على حديث يحفظ له اثنا عشر طريقاً أو عشرين طريقاً مثل: (من أتى الجمعة فليغتسل) لكنه ينشغل بذلك عن معرفة آداب الغسل.

عدم إكمال الأشياء

عدم إكمال الأشياء من الفوضوية في طلب العلم عدم إكمال الأشياء، وهذه نقطة مهمة، مثلاً: أحياناً تجد أحدهم يبحث في مسألة: هل الصوم في كفارة اليمين لمن عجز عن الإطعام متتابع أم متفرق؟ فيبحث وأثناء البحث لم يصل للمسألة لكنه وقف على مسألة أخرى، مثلاً النفاس: هل هو أربعون يوماً أو أكثر، فينشغل في هذه المسألة، وبينما هو يقرأ وجد حديثاً فأراد أن يعرف هل هو صحيح أم ضعيف؟ فبحث عنه فلم يجده فتتبع رجال الحديث فإذا به يجد رجلاً لا يدري كيف ينطق اسمه، هل لُهَيعة أم لَهِيعة؟ فذهب يبحث في كتب ضبط الأسماء، وكان الكتاب غير موجود، فيستعيره، وهكذا يظل يتنقل من مكان إلى آخر بدون أن يكمل ولا مسألة من المسائل، وهذه مسألة حاصلة يقع فيها كثير من طلبة العلم.

متابعة جميع الأشياء الجديدة

متابعة جميع الأشياء الجديدة من الفوضوية في طلب العلم متابعة جميع الأشياء الجديدة، فبعض طلبة العلم مغرمون بكل شيء جديد ظهر في السوق، فتراه يتابعه ويقرؤه، لكن متى تقرأ في فتح الباري ومجموع الفتاوي، وتفسير ابن كثير، والمغني إذا أنت كلما ظهر كتاب في السوق ذهبت وراءه.

الانشغال بالفرعيات عن الهدف الأساسي

الانشغال بالفرعيات عن الهدف الأساسي من الفوضوية في طلب العلم الانشغال بالفرعيات عن الهدف الأساسي، فقد يجتمع بعض طلبة العلم لمناقشة موضوع معين في جلسة علمية مثلاً، فيتفرغ هو وأصحابه في مناقشة إحدى المواضيع الفرعية وقتاً غير محدد، فينتهي الوقت ولم يقوموا بمواضيع تلك الجلسة، لذلك ترى بعض العلماء يضعون قوانين في جلسات العلم، مثلاً: تسمع دروس الشيخ/ ابن عثيمين في شرح كتاب النكاح، تجد قانون الشيخ في كل حديث يشرحه ممنوع أكثر من ثلاثة أسئلة، فلو سأل الأول والثاني والثالث وجاء الرابع يسأل يقول: لا. اقرأ الحديث الذي بعده؛ لأنه لو افتتح باب الأسئلة. فإن الشيخ لن يشرح كتاب النكاح ولا في عشرين سنة. فإذاً: ينبغي ألا نتسرع ونحن قد شرعنا في دراسة موضوع أساسي.

عوامل تحديد الأولويات

عوامل تحديد الأولويات مما يساعد على معرفة الأولويات أن تعرف أن الأمور أقسام: هناك أشياء مهمة وملحة، مثل: أحدهم قام من النوم وبقي على انتهاء وقت الصلاة شيء بسيط، فلابد أن يصلي الآن فهو شيء مهم وملح، أو مثلاً: ولدك مريض جداً، لابد أن تذهب الآن إلى الدكتور فهو شيء مهم وملح. وهناك أشياء مهمة لكنها ليست ملحة، مثلاً: شخص يريد أن يقرأ كتاب شرح العقيدة الطحاوية، هذا شيء مهم، لكن ليس عليه أن يقرأه الآن، أو مثلاً: يعمل كشفاً طبياً كل عام على جسمه، هو شيء مهم لكن ليس الآن مهم أن يعمله. وهناك أشياء ملحة لكنها غير مهمة، مثلاً: اليوم خميس وغداً جمعة، فاكتشف أحدهم أن ثيابه كلها متسخة، هذا شيء ليس بمهم، لكنه ملح ولابد أن يغسلها، فأنت إن عرفت هذه الأشياء تعرف كيف تقدم الأولويات، وعندما تزدحم عليك الأعمال والأشغال؛ فهناك نظرية لطيفة تقول: إن من الأشغال لها (80%) هذه نظرية جيدة، أي: إذا صار عندك أشياء كثيرة في ذهنك واضطربت الأولويات عندك وما تدري ماذا تفعل؟! فمن القواعد المهمة أن تتذكر أن (20%) من الأشياء التي في ذهنك هي التي لها (80%) من الأهمية، و (80%) من الأشياء التي تريد أن تفعلها لها (20%) من الأهمية، فقدم الأهم فالمهم. كذلك أن يعرف طالب العلم ماذا يفعل في كل وقت؟ وكيف يخطط في كل وقت لأي وظيفة؟ يقول ابن الجوزي رحمه الله: لما كانت القوة تكل فتحتاج إلى تجديد، وكان النسخ والمطالعة والتخطيط لابد منه مع أن المهم الحفظ، وجب تقسيم الزمان على أمرين: فيكون الحفظ في طرفي النهار وطرفي الليل، ويوزع الباقي بين عمله في النسخ والمطالعة وبين راحة البدن وأخذ لحظة، ولا ينبغي أن يقع الغبن بين الشركاء، فإنه متى أخذهم فوق حقه أثر الغبن وبان أثره. وقد يكون هناك عمل علمي لابد أن ينزل منزلته في الوقت الملائم له، فمن الأعمال العلمية ما يصلح له كل وقت لخفته ويسر القيام به كالفهرسة، فيفهرس في أي وقت، وكذلك القراءة العابرة والكتابة والنقل من مكان إلى آخر، ولكن من الأعمال العلمية ما لا يكتمل حصوله على وجهه الأتم إلا في أوقات تصفو فيها الأذهان، وتنشط فيها القرائح والأفهام، فيحتاج إلى وقت فيه فراغ وسكون المكان. يقول الكناني رحمه الله: أجود الأوقات للحفظ الأسحار، وللبحث الأبكار، وللكتابة وسط النهار، وللمطالعة وللمذاكرة الليل، وأجود أماكن الحفظ الغرف وكل موضع بعيد عن الملهيات، وليس بمحمود الحفظ بحضرة النبات والخضرة والأنهار وقوارع الطرق وضجيج الأصوات؛ لأنها من خلو القلب غالباً. لذلك تجد البعض عندما يذاكر وقت الامتحانات تراه يذهب إلى الحدائق، أو يفرش على قارعة الطريق ويضع الترمس والشاي لكي يذاكر، وهو لا يمكن أن يذاكر في الحديقة وهو يرى الخضرة والمناظر والطيور تغرد، والسيارات في الشارع، فلا يمكن أن تركز، ولابد أن تجلس في مكان يحدك لا تنظر فيه إلى أشياء. وكذلك ينتبه في محاسبة النفس على الأوقات الضائعة، واعلموا أن الوقت لا يضيع بالساعات وإنما يضيع بالدقائق، بعض الناس لو قلت له: تعال نضيع الوقت، يقول: لا. لكن يمكن أن يضيع الدقائق ولو جمع بعضها إلى بعض لصارت في النهاية ساعات، أعطيكم مثالاً: بعض الشباب يقفون خارج المسجد يتكلمون، ولو قال لهم أحد الناس: يا إخوة تفضلوا معنا إلى البيت، قالوا: لا. نحن مشغولون، ويقفون يواصلون الكلام وهكذا تمضي نصف الساعة وهم يتكلمون. ومن هذه المحاسبة تنطلق هذه النقطة الأخيرة في موضوعنا: أن يسأل الإنسان نفسه عن كل وقت ذهب، كيف مضى؟ كيف فعلت فيه؟ ماذا أنتجت؟ فإنه عند ذلك تستبين له الأمور {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18]. أسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد، وأن يحفظ علينا أوقاتنا، وأن نستغلها في طاعته ومرضاته. وصلى الله على نبينا محمد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ماذا تفعل في الحالات التالية؟

ماذا تفعل في الحالات التالية؟ المواقف التي يمر فيها الإنسان كثيرة، منها في أمور دنياه العادية ومنها في أمور عبادته ومعاملاته، ومنها مواقف محرجة تتطلب حسن التصرف. وفي هذا الدرس بيان لتلك المواقف مع الحلول الخاصة بها.

مواقف دنيوية طارئة

مواقف دنيوية طارئة الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد: نسأل الله تعالى أن يجعل لقاءنا لقاءً نافعاً، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه. محاضرة هذه الليلة عن أمور متنوعة من المناسبات والأوقات التي يواجهها المرء المسلم في حياته، ويريد أن يعرف لها جواباً، وكيف يتصرف فيها، فيمكن أن نسمي محاضرتنا هذه بعنوان: ماذا تفعل في الحالات الآتية؟ وأمهد لهذا العنوان بمقدمة من الأمور الدنيوية ولعلكم لا تعجلون عليًّ أو تستغربون من إيراد بعض هذه الأشياء، لكن نريد أن نوضح شيئاً من المقصود، وفيها فائدة أيضاً. أهل الدنيا في الأمور الدنيوية يجيدون كثيراً ويستعدون، ويأخذون الحيطة ويتأهبون لكافة الطوارئ والحوادث، ونحن المسلمون بطبيعة الحال نأخذ الحكمة أنَّى وجدت، لكن الفرق بيننا وبينهم أنهم يهتمون بدنياهم فقط ونحن نهتم بدنيانا وبآخرتنا، وإذا نظرت إلى الحالات الطارئة التي يمكن أن تحدث عند الذين قد تمرسوا بأمور الدنيا، ولنأخذ مثالاً على ذلك: الحالات الطارئة في الإسعافات الأولية ونحوها؛ فإنك ستجد أموراً كثيرة، كل مناسبة وكل حادثة فيها تفصيل وتأصيل وطريقة معينة ووسائل وخطوات تتبع، يحرصون عليها حرصاً كبيراً، فمن ذلك مثلاً: لو أصيب شخص؛ فإنهم يتكلمون عن أسلوب سحب المصاب بواسطة رجل أو اثنين أو ثلاثة بواسطة الكرسي أو النقالة أو البطانية ونحو ذلك. وإذا أصيب بنزيف ظاهري يتكلمون عن أهمية وقف النزيف وسد الجرح، وإذا وجد في حالة إغماء وفي فمه قيء، فيقولون لك: اخفض رأس المصاب، وأدر رأسه يميناً أو يساراً؛ حتى لا تترك للقيء فرصة للدخول في المسالك الهوائية، وتجنب لمس الحرق بأصابع اليد العارية، وتجنب إدخال أمعاء المصاب أو أحشائه داخل البطن إذا كانت بارزة للخارج. وإذا جئت إلى قضية الحريق والحرائق فإنهم يقولون لك: ينبغي على الأسرة أن تتدرب على حالة إخلاء البيت، وإن الإطفائيين كثيراً ما يعثرون على ضحايا أكثرهم من الأطفال رابضين تحت الأسرة أو تحت الخزائن أو وراء الأبواب المقفلة كانوا يحاولون الاختباء من الدخان أو النار. ويقول لك أصحاب الدفاع المدني: ينبغي أن يكون لكل غرفة مخرجان باب ونافذة مثلاً، وأنك لا تضيع الوقت في أمور تافهة عند حدوث حريق كارتداء ملابس أو البحث عن نقود أو ذهب، وأنه ينبغي عليك أن تتحسس الباب في المبنى المحترق قبل فتحه، فإن كان حامياً فتخرج إلى النافذة أو بارداً فتفتحه بحذر، وإذا كان المخرج عابقاً بالدخان؛ فإن عليك أن تزحف على صدرك قريباً من الأرض ويسمونها المنطقة الآمنة، وإذا التقطت النيران ثيابك؛ فانزعها فوراً، وإن لم تتمكن؛ فانبطح على الأرض، والتف حول نفسك حتى تنطفئ، ولا تركض مذعوراً؛ فإن النيران ستنتشر إلى بقية الثياب والجسد. ويقولون لك أيضاً: في حالة حدوث تراشق بالنيران؛ فإن عليك أن تنبطح أرضاً، وأن تلصق جسدك ووجهك ويديك بالأرض، وعند حدوث أعمال عنف ولا يمكنك الفرار؛ فانبطح وغط وجهك ويديك، وابتعد عن النوافذ الزجاجية ونحوها. وإذا ابتلع شخصٌ شيئاً وقف في حلقه، فإنهم يبينون لك كيفية التعامل مع هذه الحالة الطارئة، فإذا علق في حلقه قطعة من الطعام أو سدادة بلاستيكية مثلاً، ولم يستطع السعال لإخراجها أو شرب الماء؛ فإن عليك أن تقف خلفه، وتطوق خصره بذراعيك، وتضع قبضتك من ناحية الإبهام فوق سرته وتحت قفصه الصدري، وتضغط إلى الأعلى بقوة، وتكرر العملية حتى تخرج هذه السدادة، وإذا وقعت لك؛ فإن عليك أن تضغط بطنك إلى زاوية غير حادة تحت عظم الصدر؛ كي تجعل الرئتين تقذفان هذه السدادة. ويقولون لك أيضاً: إذا وجدت شخصاً مختنقاً فعليك أن تنقله إلى مكان متجدد الهواء، وأزل الأربطة، وفك الأزرار حول العنق والصدر، ونظف الفم والأنف والمسالك الهوائية من أي مواد غريبة، وضع وجهه إلى الأعلى ورأسه إلى الخلف، وارفع فكه السفلي، وأغلق فتحتي أنفه بيدك، وخذ نفساً عميقاً، ثم ضع فمك في فم المصاب، وانفخ بقوة بحيث تجعل صدر المصاب يتحرك، ثم ارفع رأسك؛ حتى يتمكن المصاب من رد الهواء بنفسه، وافعل ذلك اثنتي عشرة مرة في الدقيقة حتى يعود إلى تنفسه الطبيعي. وفي حوادث السيارات وغيرها يتعلمون كيف تتلافى شخصاً مسرعاً أمامك؟ وكيف تمسك المقود بقبضتين بيدين متوازيتين وتخفف السرعة؟ وكيف تنحرف إلى الاتجاه الآخر، وتخرج عن الطريق إذا استطعت، وتخفف الصدمة بصدم شجرة أو سياج، وإذا لم تستطع فتدير جانب سيارتك للاصطدام، لأن الصدمة الجانبية أهون من الصدمة الخلفية، وهكذا. وحتى قضايا الطبخ وما يتعلق بحالات الطوارئ لربة البيت، فيعلمونها كيف تفعل إذا زاد الملح في الطعام؛ بأن تقطع قطعاً من البطاطس تجعلها في الطعام لكي يخفف الملح، وهكذا. هذه الأمور الدنيوية لها ترتيب ولها أصول ولها قواعد ولها خطوات معينة تتبع وإرشادات.

مواقف في العبادات والمعاملات

مواقف في العبادات والمعاملات إن المواقف التي يتعرض لها المرء المسلم في عباداته ومعاملاته لكثيرة، فما هو الفقه الذي استعد به المسلمون لمواجهة الحالات التي قد تطرأ لهم في عباداتهم ومعاملاتهم؟

وقوع حائل بينك وبين الحج والعمرة

وقوع حائل بينك وبين الحج والعمرة إذا نظرنا في الشريعة أيها الإخوة! سنجد أن هناك كثيراً من الأمور قد ذكرت في آيات وأحاديث فيها تنبيه للمسلم إذا حدث له الموقف الفلاني ماذا يفعل، وكيفية صلاة الخوف مثالٌ على ذلك، وقول الله سبحانه وتعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196] يدل المسلم على أنه إذا ذهب إلى الحج أو العمرة، ثم لم يستطع الدخول لحائل حال بينه وين الحرم، فماذا عليه أن يفعل وقد أحرم وتلبس بالعبادة؟ يأتي الجواب من لدن حكيم خبير: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196] وتأتي السنة لتبين أن هناك إجراء وقائياً يمكن أن تفعله، بأن تشترط فتقول عند النية في الإحرام: فإن حبسني حابس؛ فمحلي حيث حبستني.

وقوع منكر في مجلس من المجالس بوجودك

وقوع منكر في مجلس من المجالس بوجودك وكمثال آخر ورد في الكتاب العزيز، لو كنت -أيها المسلم- في مجلس من المجالس، ورأيت أمراً منكراً، أو دار النقاش حول قضية تخالف الدين وهي منكر من المنكرات، فما هو موقف المسلم في ذلك المجلس الذي حدث فيه هذا المنكر ويستهزأ فيه بآيات الله؟ يأتيك الجواب والخطوات في هذه الآيات الكريمة، قال الله عز وجل: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:68] وفي آية النساء يأتي التوجيه أشد، فيقول الله عز وجل: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً} [النساء:140]. فإذاً عليك أيها المسلم إذا كنت في مجلس، ودار حديث من بعض الناس فيه لمزٌ للدين واستخفافٌ ببعض الأحكام، أو استهانة واستهزاء، فعليك أن تنكر المنكر وتنهاهم وتنهرهم، فإن استجابوا فالحمد لله، وإن لم يستجيبوا فالواجب عليك أن تقوم من ذلك المجلس، ولا يجوز لك أن تواصل الجلوس فيه.

لو ناب المسلم في الصلاة شيء

لو ناب المسلم في الصلاة شيء وفي الأحاديث الشريفة أمثلة كثيرة نريد أن نستعرض بعضها؛ لنبين ما هو موقف المسلم في الحالات التي تطرأ عليه في عباداته ومعاملاته؟ لو ناب المصلي شيءٌ في الصلاة، فماذا يفعل؟ قال صلى الله عليه وسلم للصحابة لما حصل شيءٌ في الصلاة فصفقوا، قال: (ما لي رأيتكم أكثرتم التصفيق؟ من نابه شيءٌ في صلاته؛ فليسبح، فإنه إذا سبح التفت إليه، وإنما التصفيق للنساء) وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا استؤذن على الرجل وهو يصلي؛ فإذنه التسبيح، وإذا استؤذن على المرأة وهي تصلي؛ فإذنها التصفيق) هذا الإرشاد يبين للمسلم ما يفعله إذا طرأ عليه طارئ في صلاته، ولو لم يكن عنده علمٌ بهذا الأمر لتخبط فيما يفعل.

دخلت المسجد والإمام يصلي

دخلت المسجد والإمام يصلي إذا دخلت إلى المسجد فوجدت الإمام يصلي فهل تدخل معه في صلاته مباشرةً إذا كان في سجود أو جلوس؟ أو أنك تنتظر لترى ماذا يفعل؟ يتخبط بعض الناس في هذا الأمر فيأتي الجواب منه عليه الصلاة والسلام بقوله: (إذا جئتم الصلاة ونحن سجود، فاسجدوا ولا تعدوها شيئاً، ومن أدرك الركعة؛ فقد أدرك الصلاة) وقال: (إذا أتى أحدكم الصلاة والإمام على حالٍ؛ فليصنع كما يصنع الإمام) فيتبين لك أن فعل بعض الناس إذا جاءوا للمسجد؛ فوجدوا الإمام جالس؛ أنهم يقفون ينتظرون ماذا سيفعل الإمام، هل سيكون التشهد الأول أو الأخير؟ إن فعلهم هذا غلط، فينبغي عليهم أن يدخلوا مع الإمام مباشرةً في أي وضع كان عليه الإمام، ثم إن الأجر لم يذهب حتى لو لم تحسب تلك الركعة، لأنهم أدركوا الجزء الأخير منها.

الصلاة بحضرة قضاء الحاجة أو العشاء

الصلاة بحضرة قضاء الحاجة أو العشاء لو أن إنساناً أراد أن يصلي ثم حضره قضاء الحاجة، وأقيمت صلاة الجماعة، هل يضغط على نفسه ويلحق الجماعة؟ أو أنه يذهب إلى الخلاء ولا يبالي، ولو فاتت الجماعة؟ يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا أراد أحدكم أن يذهب إلى الخلاء، وأقيمت الصلاة؛ فليذهب إلى الخلاء) فإذاً يقدم قضاء الحاجة حتى يزول ما في نفسه، ويحضر الصلاة بخشوع ولو فاتته الجماعة. كذلك لو أنه وضع العشاء وأقيمت الصلاة، فالحديث واضح قال صلى الله عليه وسلم: (إذا أقيمت الصلاة وأحدكم صائم؛ فليبدأ بالعشاء قبل صلاة المغرب، ولا تعجلوا عن عشائكم) وقال مبيناً أيضاً: (إذا وضع عشاء أحدكم، وأقيمت الصلاة، فابدءوا بالعشاء ولا يعجل حتى يفرغ منه) وقال: (إذا أقيمت الصلاة وحضر العشاء فابدءوا بالعشاء) وبذلك تعلم أن هذا الحكم هو لمن حضر طعامه وقت الصلاة، وليس بالذي يتعمد تحضير الطعام وقت الصلاة، لكن اتفق أن حضر طعامه وقت الصلاة فماذا يفعل؟ يقدم الطعام حتى يحضر الصلاة وقد فرغ قلبه وحضر باله، فلا يعود متعلقاً بطعام أو شيء من الدنيا سواءً فاتت الجماعة أو لم تفت الجماعة، ولو قال إنسان: آكل لقيمات وألحق، أو يجوز لي أن آكل حتى أنتهي وأفرغ من العشاء ومن طعامي كله؟ فنقول: الحديث واضح في الفراغ من الطعام، وأنه لا يعجل عن عشائه. وترى الناس إذا أقيمت الصلاة؛ يسرعون حتى وهم يعلمون السنة في ذلك، لكن لأن العجلة متأصلة في النفس البشرية عجلةٌ من الشيطان، فهم يخالفون السنة، وهي قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون -في عجلة- وائتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا).

الحدث أثناء الصلاة

الحدث أثناء الصلاة وقد يقع إنسانٌ في أمر محرج في صلاته مثل: أن يحدث وهو في الصلاة، فماذا يفعل في هذه الحالة وقد أحدث في الصلاة في الجماعة؟ قال صلى الله عليه وسلم مبيناً لك أيها المسلم ماذا تفعل في هذه الحالة الطارئة: (إذا أحدث أحدكم في صلاته؛ فليأخذ بأنفه ثم لينصرف) يأخذ بأنفه كهيئة الرعاف، كأنه أصابه رعاف ولينصرف، والناس الذين يعلمون أو لا يعلمون لا يستطيعون القطع بأنه أحدث في المسجد، فهو آخذ بأنفه، حتى الذي يعلم الحديث يحتمل لديه أن يكون هذا الشخص لديه رعاف أو أنه قد أحدث في صلاته وانصرف، هذا لدفع الحرج الذي يحدث للشخص وهو في المسجد.

انقطاع النعل

انقطاع النعل إرشادٌ آخر منه صلى الله عليه وسلم لمن انقطع نعله، لو أن إنساناً يمشي فانقطع نعله، فماذا يفعل يا ترى؟ سبحان الله ما أعظم هذا الدين الذي لم يترك شيئاً إلا وبينه! قال عليه الصلاة والسلام: (إذا انقطع شسع أحدكم؛ فلا يمش في نعل واحدة، حتى يصلح شسعه، ولا يمش في خف واحد، ولا يأكل بشماله الحديث) وقال: (إذا انقطع نعل أحدكم؛ فلا يمش في الأخرى حتى يصلحها، فإما أن يحفيهما جميعاً أو ينعلهما جميعاً) ذلك لأنه قد ورد في الحديث الصحيح: (إن الشيطان يمشي في النعل الواحدة) والمسلم ينبغي عليه أن يخالف الشيطان، ولا ينبغي له أن يشابه الشيطان، فلأجل ذلك لا يمشي في نعل واحدة -في فردة واحدة- إما أن يصلحها فيمشي بهما جميعاً، أو يحفي رجليه جميعاً.

الأكل من طعام الآخرين وخاصة اللحم

الأكل من طعام الآخرين وخاصة اللحم مسألة أخرى: قد يدخل إنسان على أخيه المسلم فيضع له طعاماً، فيدخل حرجٌ في بعض الناس هذا اللحم من أي شيء هو؟ وهذا الدجاج من أي بلد هو؟ فماذا يفعل؟ هل يسأل أو لا يسأل؟ قال صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل أحدكم على أخيه المسلم، فأطعمه من طعامه؛ فليأكل ولا يسأل عنه، وإن سقاه من شرابه؛ فليشرب ولا يسأل عنه) فهو لا يسأل من أين اكتسبت المال الذي اشتريت به هذا الطعام؟ ومن أين أتيت بهذا اللحم؟ وهل هو مذبوحٌ أم لا؟ لأن الأصل في المسلم السلامة، والسؤال يورث الضغينة والشك، وإذا سألته ودققت معه معناها أنك تتهمه وترتاب فيه، ولذلك قمت بالسؤال، فهذا السؤال لا ينبغي إلا إذا قويت الشبهة، فالتحري عند ذلك لا بأس به، وهذا الحديث يحل إشكالات كثيرة ويزيل حرجاً كبيراً يقع في نفوس بعض الناس.

مصلون يأتون مسجدا متأخرا في الصلاة

مصلون يأتون مسجداً متأخراً في الصلاة ومسألة أخرى: وهي أن الإنسان قد يصلي في مسجد، ثم يأتي إلى مسجد آخر فيجدهم قد تأخروا في الصلاة، فهم لا زالوا يصلون وهو يريد حاجة، هل يدخل وينتظر أم أنه ينضم معهم؟ قال صلى الله عليه وسلم: (إذا دخلت مسجداً؛ فصل مع الناس وإن كنت قد صليت) ولما رأى رجلين قد اعتزلا الناس في المسجد لم يصليا مع الناس، قال: (إذا صليتما في رحالكما، ثم أتيتما الإمام؛ فصليا معه، فتكون لكما نافلة والتي في رحالكما فريضة) فيعلم إذاً أن الإنسان إذا جاء إلى مسجد من طريق سفر مثلاً وقد صلىأو لأي أمر من الأمور، فوجد الناس يصلون؛ فليصل معهم ولو كان قد صلى فريضته.

الرؤى والأحلام

الرؤى والأحلام عندما يقوم بعض الناس من النوم وقد رأى بعضهم رؤى وأحلاماً، فإنهم يتحيرون ويضطربون في هذه الرؤى والأحلام، كيف يكون موقفهم وماذا يصنعون؟ هل يتكلمون بها أو لا يتكلمون؟ وهل يعبرونها أو لا يعبرون؟ فيأتي الجواب في هذه الأحاديث، يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا رأى أحدكم الرؤية الحسنة؛ فليفسرها وليخبر بها، وإذا رأى الرؤية القبيحة؛ فلا يفسرها ولا يخبر بها) وقال: (إذا رأى أحدكم الرؤيا يحبها؛ فإنما هي من الله؛ فليحمد الله عليها وليحدث بها، وإذا رأى غير ذلك مما يكره؛ فإنما هي من الشيطان، فليستعذ بالله، ولا يذكرها لأحد؛ فإنها لا تضره) وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا رأى أحدكم الرؤيا يحبها، فإنما هي من الله؛ فليحمد الله عليها وليحدث بها، وإذا رأى غير ذلك مما يكره، فإنما هي من الشيطان، فليستعذ بالله من شرها، ولا يذكرها لأحد، فإنها لا تضره) وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها؛ فليبصق عن يساره ثلاثاً، وليستعذ بالله من الشيطان ثلاثاً، وليتحول عن جنبه الذي كان عليه) وقال: (إن الرؤيا تقع على ما يعبر به، ومثل ذلك مثل رجلٍ رفع رجليه، فهو ينتظر متى يضعها، فإذا رأى أحدكم رؤيا؛ فلا يحدث بها إلا ناصحاً أو عالماً) وقال صلى الله عليه وسلم: (رؤيا المؤمن جزءٌ من أربعين جزءاً من النبوة، وهي على رجل طائر ما لم يحدث بها، فإذا تحدث بها؛ سقطت، ولا تحدث بها إلا لبيباً أو حبيباً) وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا حلم أحدكم؛ فلا يحدث الناس بتلاعب الشيطان في المنام). إذاً: إذا كانت الرؤيا حسنة، فإنك تحمد الله وتفسرها وتعبرها، أو تخبر بها عالماً يفسرها لك، أو ناصحاً يخبرك بوجهها الحسن، ولا تخبر بها حاسداً، وإذا رأيت رؤيا سيئة فعليك بالأمور التالية: أولاً: تتفل عن يسارك ثلاث مرات. ثانياً: تتعوذ بالله من الشيطان الرجيم ثلاث مرات. ثالثاً: تتعوذ بالله من شر ما رأيت ثلاث مرات. رابعاً: إذا أردت أن تواصل النوم؛ فغيّر الجنب الذي أنت عليه، فإذا كنت على اليمين، فانقلب على الشمال. وظاهر الحديث أنه لا ينقلب على ظهره، وإنما ينقلب على الجنب الآخر، ولو كان شمالاً كما فسره بعض أهل العلم. خامساً: لا تخبر بها أحداً من الناس. سادساً: لا تفسرها لنفسك؛ فإنها لا تضرك.

رجل نظر إلى امرأة فأعجبته فوقعت في نفسه

رجل نظر إلى امرأة فأعجبته فوقعت في نفسه إذا مشى إنسان في طريق أو في سوق فوقعت عيناه على امرأة أجنبية، وقد تكون هذه المرأة متبرجة وفيها جمالٌ، ويبقى في نفسه من أثر هذه النظرة، فماذا يفعل الشخص المتزوج؟ يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا رأى أحدكم المرأة التي تعجبه؛ فليرجع إلى أهله؛ حتى يقع بهم فإن ذلك معهم) وقال: (إن المرأة إذا أقبلت؛ أقبلت في صورة شيطان، فإذا رأى أحدكم امرأة فأعجبته؛ فليأت أهله، فإن الذي معها مثل الذي معها) وقال صلى الله عليه وسلم: (إن المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان، فإذا رأى أحدكم امرأة أعجبته؛ فليأت أهله؛ فإن ذلك يرد ما في نفسه). طبعاً إطالة النظر ومواصلته حرام، لكن لو أن إنساناً من نظر الفجأة علق في ذهنه شيء أو في نفسه شيء؛ فعليه أن يأتي أهله فيقع على أهله، فإن هذا الوقوع يرد ما في نفسه، ويقضي شهوته بالحلال ووطره، ويذهب ما علق في نفسه من تلك الرؤية.

الشك في الصلاة

الشك في الصلاة ومن الأمور التي تطرأ على الناس في العبادات: الشك الذي يحدث لهم في الصلاة، فإذا طرأ عليك الشك فقد قال صلى الله عليه وسلم: (إذا شك أحدكم في صلاته، فلم يدر اثنتين صلى أو ثلاثاً؛ فليلق الشك وليبن على اليقين) فإذا شك هل صلى اثنتين أو ثلاثاً؛ فليجعلها اثنتين وليصل الثالثة، وإن شك أنه صلى ثلاثاً أو أربعاً فليجعلها ثلاثاً ويصلي رابعة وهكذا، ثم ليسجد السهو، فإن كانت التي صلاها في الحقيقة هي الرابعة فقد أدى ما عليه، وإن كانت التي زادها هي خامسة؛ فإن ما حصل من سجدتي السهو تكون قد شفعت له صلاته، وهو معذور في هذه الزيادة؛ لأنه شك فبنى على اليقين، وإذا كانت التي صلاها فعلاً هي الثالثة فسجدتي السهو تكونان ترغيماً للشيطان، فعلى جميع الحالات فيها فائدة، أما لو رجح الزيادة؛ فإنه يعمل على ما ترجح لديه، فإن شك شكاً مستوي الطرفين؛ فإنه يبني على اليقين وهو الأقل.

الفزع من النوم

الفزع من النوم وقد يحدث لإنسان أن يفزع من النوم مفجوعاً فماذا يفعل إذا قام مفجوعاً من نومه؟ قال صلى الله عليه وسلم: (إذا فزع أحدكم من النوم؛ فليقل: أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه وشر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون؛ فإنها لن تضره) فهذا الدعاء فيه علاجٌ للفزعة التي تصيب الإنسان إذا قام من نومه (أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه وشر عباده، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون، فإنها لن تضره) وهو موجود في صحيح الجامع حرف الهمزة إذا فزع.

الجلوس بين الشمس والظل

الجلوس بين الشمس والظل قد يكون الإنسان جالساً في مجلس في الشمس أو في الظل، فتأتي عليه الشمس إذا كان جالساً في الظل، فيصبح بعضه في الشمس وبعضه في الظل، أو يكون جالساً في الشمس، فتقلص عنه الشمس ويأتيه الظل، فيصبح بعضه في الظل وبعضه في الشمس، فماذا يشرع له أن يفعل إذا انتبه لنفسه وهو في هذه الحالة؟ قال صلى الله عليه وسلم: (إذا كان أحدكم في الشمس، فقلص عنه الظل وصار بعضه في الظل وبعضه في الشمس؛ فليقم) يقم من هذا المكان لأنه مجلس الشيطان كما ورد في الحديث الصحيح: (الشيطان مجلسه بين الضحى والظل) بين الشمس والظل، فهو يقوم من هذا المكان؛ لأنه مجلس الشيطان وينتقل إلى مكان آخر. لو لم يعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا كيف كنا سنعرفه؟!

الإحساس بالحدث في الصلاة

الإحساس بالحدث في الصلاة ومن الأمور المتكررة عند كثير من الناس أن يطرأ عليه إحساس أنه قد أحدث في صلاته وأنه قد خرج منه ريح، أو يحس بحركة في بطنه فيقلق ويضطرب ولا يدري ماذا يفعل وهو في الصلاة، هل يترك الصلاة لأنه أحدث فعلاً أو أنه يواصل وهذه أوهام؟ فما هو الضابط الذي يضبط لك يا أيها المصلي أمرك فتواصل الصلاة بناءً على أنها وسوسة وأوهام، أو تنصرف بناءً على أنك قد أحدثت فعلاً؟ قال صلى الله عليه وسلم: (إذا كان أحدكم في الصلاة فوجد حركةً في دبره أحدث أو لم يحدث فأشكل عليه فلا ينصرف حتى يسمع صوتاً بأذنه -يسمع صوتاً حقيقياً- أو يجد ريحاً -يجد ريحاً يشمه بأنفه فعلاً-) فعند ذلك يعلم أن صلاته قد فسدت وأن عليه أن يذهب ليعيد الوضوء، لكن لو أنه سمع بتحرك أشياء في بطنه، وشك وشعر بحركة في الدبر، لكنه ما سمع صوتاً بأذنه ولا وجد ريحاً بأنفه، فماذا يفعل؟ عليه أن يواصل صلاته، والشيطان يتلاعب بالشعرات التي في دبر ابن آدم، فهذه حرب من الشيطان على المصلين لكي يوهمه أنه أحدث، ولذلك أرشدنا الشارع إلى أمور نقطع بها هذا الشك وهذه الوسوسة وهو ما جاء في هذا الحديث.

النعاس في المسجد أو أثناء خطبة الجمعة

النعاس في المسجد أو أثناء خطبة الجمعة لو أن إنساناً جالس في المسجد؛ فأصابه نعاس، أو جالس يستمع إلى خطبة الجمعة فنعس، فما هو الإجراء الذي يفعله في هذه الحالة؟ قال صلى الله عليه وسلم: (إذا نعس أحدكم وهو في المسجد؛ فليتحول من مجلسه ذلك إلى غيره) وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا نعس أحدكم يوم الجمعة؛ فليتحول إلى مقعد صاحبه، وليتحول صاحبه إلى مقعده) فيتبادلان الأمكنة، وإذا كان الإمام يخطب فيشير إليه -أي صاحبه- إشارة انتقل إلى مكاني وأنتقل إلى مكانك، وينبغي على الآخر أن يفهم الإشارة وأن يكون فقيهاً في هذه المسألة، وأن يعلم أن أخاه قد أصابه نعاس وأنه يطبق السنة الآن فيفسح المجال له ويتحول صاحبه مكانه، وهكذا يتبادلان المحلات؛ حتى يكون ذلك سبباً في طرد النعاس والمواصلة في الاستماع إلى خطبة الجمعة، هذا إرشاد نبوي وسنة مهجورة عند كثير من الذين ينعسون في خطب الجمعة في المساجد ولا يفطنون لها ولا يطبقونها.

إصابة الأهل بالوعك

إصابة الأهل بالوعك لو أصاب أهلك وعكٌ فماذا كان صلى الله عليه وسلم يفعل في مثل هذه الحالة؟ كان صلى الله عليه وسلم إذا أخذ أهله الوعك؛ أمر بالحساء -المرق المعروف- فصنع ثم أمرهم فحسوا -شربوا من هذا الحساء- وكان يقول: (إنه ليرثو فؤاد الحزين ويسرو عن فؤاد السقيم كما تسرو إحداكن الوسخ بالماء عن وجهها) وهذا من الطب النبوي. ومن إحسانه ومعاملته بالمعروف لأهله صلى الله عليه وسلم، فيصنع لهم هذا الحساء إذا مرضوا.

كذب أحد الأولاد من أهل بيتك

كذب أحد الأولاد من أهل بيتك إذا كذب أحدٌ من الأولاد من أهل بيتك، فما هو الإجراء الذي تفعله؟ قال الراوي: (كان صلى الله عليه وسلم إذا اطلع على أحد من أهل بيته كذب كذبةً؛ لم يزل معرضاً عنه حتى يحدث توبة) فهو يهجره بالكلام ويقاطعه؛ حتى يتوب إلى الله من هذه الكذبة، وهذا يدل على خطورة الكذب، وهذه طريقة لمواجهة هذا الأمر في أهل البيت.

حصول نعمة أو خبر سار

حصول نعمة أو خبر سار لو تجددت لك نعمة، أو أخبرت بخبر سار، أو رأيت منظراً أفرحك، أو جاءتك عطية أو هدية أو ترقية أو زيادة في المرتب، فماذا تفعل؟ لو أنبئت بأنه ولد لك ولد، أو سلم مسافر كنت قلقاً عليه، فماذا تفعل؟ (كان صلى الله عليه وسلم إذا جاءه أمرٌ يسر به؛ خرَّ ساجداً شكراً لله تعالى) وهذه من السنن المهجورة أيضاً، قلَّ من الناس الذين إذا تجددت لهم نعمة أو وصلهم خبرٌ سار يسجدون لله تعالى، سجود الشكر يكون على أي هيئة؟ إلى أي اتجاه؟ بوضوء أو بغير وضوء؟ يشرع أن يسجد شكراً لله تعالى، فإذا توضأ ولبس وسجد للقبلة فهذا أحسن، وتصح كيفما كان، هذه سجدة الشكر التي هي من شكر النعمة.

مجيء مبلغ من المال إليك

مجيء مبلغ من المال إليك قد يأتي لك مبلغ من المال من شخص ما أو جهة، هل تأخذ هذا المبلغ أو لا تأخذه؟ قال صلى الله عليه وسلم: (إذا جاءك من هذا المال شيء وأنت غير مستشرف ولا سائل؛ فخذه) جاءك المال وأنت لا تتطلع إليه ولا تسأله، جاءك هكذا عطية دون أن تبحث عنه أو تتطلع إليه أو تسلك السبل لتحصيله من شخص؛ فخذه، هذه نعمة من الله، ولا يعتبر أخذ المال في هذه الحالة أمراً دنيئاً أو أنه ينزل من قدر المرء، لا، خذ المال، (وما لا فلا تتبعه نفسك) أما إذا كنت إنساناً تسأل وتقدم معاريض، وأعطوني وهاتوا، فهذا من الأمور الدنيئة؛ لأنه لا ينبغي للإنسان أن يذل نفسه بطرق الأبواب، وإنما يكسب رزقه بعمله وتعبه وكده وجهده، ولا يكون من الذين يطرقون الأبواب ويلفون على الناس وعلى فلان وفلان يسأل أموال الناس.

الأوامر من المدير أو الرئيس في العمل أو الأمير

الأوامر من المدير أو الرئيس في العمل أو الأمير لا يخلو إنسان أن يكون مرءوساً بطريقة من الطرق سواءً كان موظفاً أو غير ذلك، فلو أمر بأمر وهو في وظيفته، فما هو موقفه؟ هذه الأوامر التي تأتي في العمل مسألة مهمة جداً ينبغي أن تعرض على الشرع ويكون للإنسان فيها موقف حاسم وحازم، قال صلى الله عليه وسلم: (السمع والطاعة حق على المرء المسلم فيما أحب أو كره، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية؛ فلا سمع عليه ولا طاعة) الأمير الشرعي إذا أمر بأمر؛ وجب تنفيذه إذا كان في غير معصية الله، فإن كان في معصية الله فلا سمع ولا طاعة، ولا يجوز له التنفيذ مطلقاً، ولن ينفعه عند الله عز وجل صاحبه هذا الذي أمره بهذا الأمر، بل إنه سيكفر بعضهم بعضاً ويلعن بعضهم بعضاً.

صعوبة الصلاة في الأماكن المزدحمة

صعوبة الصلاة في الأماكن المزدحمة في الزحام الشديد الذي تتلاصق فيه الأجساد في الصلاة في المسجد مثل المسجد الحرام مثلاً، في حالات الزحام الشديد، لا يتسنى للإنسان أن يسجد؛ لأن المسافة التي بينه وبين الذي أمامه ضيقة جداً، فكيف يفعل؟ قال أهل العلم كما ورد في الحديث الصحيح: يسجد على ظهر صاحبه، أخبر الصحابة أنهم لما كانوا في حال الزحام الشديد كان بعضهم يسجد على ظهر الذي أمامه، ولا يمنعه صاحبه الذي أمامه أن يسجد على ظهره، فإن لم يتمكن، فعليه أن ينتظر حتى يقوم الذي أمامه ثم يتراجع هو ويسجد، ولو فاته مع الإمام ما فاته؛ فإنه معذور بشدة الزحام، فلنفترض أنك تصلي في الحرم في حال زحام شديد، أمامك مباشرة أشخاص ملتصق بعضهم ببعض، كبر الإمام للركوع ولا تستطيع أن تركع، كبر الإمام للرفع من الركوع وأنت لم تركع بعد، كبر الإمام للسجود وأنت لم تستطع أن تسجد، وكبر للرفع من السجود وأنت لم تسجد بعد، وكبر للسجدة الثانية، وكل ذلك وأنت واقف مكانك من الزحام لا تستطيع أن تعمل شيئاً، فماذا تفعل؟ تنتظر حتى يقوم الإمام ويقوم الناس معه، ثم بعد ذلك تتأخر، تركع وترفع وتسجد وترفع ثم تقوم وتتابع الإمام وصلاتك صحيحة.

لو أصبت بمصيبة

لو أصبت بمصيبة لو أصبت بمصيبة، ما هو أول ما ينبغي عليك أن تفعله؟ موت قريب أو عزيز، أو حصول حريق، أو ضياع مال إلى آخره. كثير من الناس تطرأ عليهم الصدمة ولا يتنبهون لما ينبغي عليهم أن يفعلوه في هذه الحالة، وتأخذهم روعة الصدمة فلا يأتون بالأذكار المشروعة، والله سبحانه وتعالى قال: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:156] وفي السنة قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم اؤجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها) هذا ما علم الصحابة. نحن أيها الإخوة نعلم هذه الأشياء تماماً، لكن عند التطبيق، عند حدوث المسألة في الواقع سيتخلف العلم النظري عن المناسبة التي حصلت فيها، فينبغي على المسلم أن يتمالك نفسه وأن يجمع أمره وأن يربط جأشه وأن يأتي بهذه الأذكار الواردة في هذه الأمور، طبعاً هذا الموضوع: ماذا تفعل في الحالات الآتية. يدخل فيه أشياء كثيرة من الأذكار إذا سمعت نهيق حمار وصياح ديك، وإذا نزل مطر أو رأيت برقاً أو سمعت رعداً إلى آخره، لكن هذا موضوع يطول ومحله في كتب الأذكار، ولذلك لم ندرجه في هذه المحاضرة.

أقيمت الصلاة وأنت تصلي سنة أو تحية مسجد

أقيمت الصلاة وأنت تصلي سنة أو تحية مسجد يسأل كثير من الناس يقولون: ندخل المسجد نصلي تحية المسجد أو السنة فتقام الصلاة، فماذا نفعل؟ العلماء لهم في ذلك أقوال وأشهرها وأقواها والله أعلم قولان: الأول: قطع الصلاة في أي مكان أنت فيه لظاهر حديثه صلى الله عليه وسلم: (إذا أقيمت الصلاة؛ فلا صلاة إلا المكتوبة) وأخذ بهذا أهل الظاهر وعدد من أهل العلم. القول الثاني: إذا كنت قد أتيت بركوع الركعة الثانية فلم يبق لك من صلاتك إلا شيء بسيط، لأن الركعة الثانية قد أنهيت ركوعها، فإذاً أتمه بشكل خفيف ثم سلم وادخل مع الإمام. وكلا هذين القولين قد ورد في فتوى سماحة الشيخ جواباً على سؤال لهذا الموضوع، فإما أن تقطع في أي وقت أقيمت الصلاة، أو أنك إذا كنت بعد ركوع الركعة الثانية تتم خفيفة، أو قبل ركوع الركعة الثانية تقطع الصلاة.

نسي الإمام تكملة آية ولم يفتح عليه

نسي الإمام تكملة آية ولم يفتح عليه يقول بعضهم: إذا نسي الإمام تكملة آية ولم يعرف أحدٌ من المأمومين تكملتها ولم يفتح أحد على الإمام، فماذا يفعل الشخص؟ هل يكبر عند هذا الموضع الذي جهله ويركع، أم أنه ينتقل إلى سورة أخرى ويقرأ آيات منها؟ A هو مخير إن شاء كبر وأنهى القراءة في هذا الموضع، وإن شاء انتقل إلى مكان آخر وقرأ آيات من هذه السورة أو من سورة أخرى، ويراعي ترتيب الآيات بطبيعة الحال في السورة الواحدة، فهو مخير إن شاء فعل هذا وإن شاء فعل هذا، كذا أفتى سماحة الشيخ، والفتوى موجودة في كتاب فتاوى إسلامية.

صلاة الوتر أثناء أذان الفجر

صلاة الوتر أثناء أذان الفجر يقع لبعض الناس أنه يصلي الوتر وأثناء صلاة الوتر يؤذن الفجر، فماذا يفعل؟ قال أهل العلم: يتم وتره ووتره صحيح وصلاته صحيحة ولا شيء عليه.

الإمام يغفل عن الفاتحة في إحدى الركعات

الإمام يغفل عن الفاتحة في إحدى الركعات وقد يقع لإمام وهو يصلي بالناس صلاةً سريةً مثلاً أن يغفل عن سورة الفاتحة في أحد الركعات ويقرأ بدلاً منها مثلاً التحيات، وعندما يجلس للتشهد يقرأ بدلاً من التحيات الفاتحة، فينتبه لنفسه أنه قد قرأ في أحد الركعات أو في الركعة الأخيرة بدل الفاتحة التشهد مثلاً، فماذا ينبغي عليه أن يفعل؟ يأتي بركعة، يقوم إلى الركعة الخامسة بالنسبة للناس؟ طبعاً الناس سوف يسبحون، فماذا يفعل؟ يشير إليهم أن يقوموا ليبين لهم بالإشارة أنه لم يخطئ ولم يسه وإنما قام للخامسة لأن هناك ركعة باطلة وقعت له في صلاته، فيشير إليهم ليقوموا معه فيكملوا فيقومون معه، ينبغي عليهم أن يكونوا فقهاء وأن يقوموا معه إذا أشار إليهم ليعلمهم أنه جازم، أو أن المسألة الآن ليست مسألة شك وإنما عنده ركعة فاسدة.

المأموم ينسى قراءة الفاتحة

المأموم ينسى قراءة الفاتحة ويقع الشيء نفسه أحياناً للمأموم وراء الإمام فينسى قراءة الفاتحة ويقرأ بدلاً منها التحيات، ثم ينتبه بعدما يجلس وهو يتابع الإمام، فماذا يفعل؟ A تجزؤه الركعة مادام خلف إمامه، كمن نسي أو جاء والإمام راكعاً فركع مع الإمام، تحسب له الركعة مع أنه ما قرأ فيها الفاتحة، فهذا مثل هذا وهو قول أكثر أهل العلم.

تذكر صلاة فائتة في صلاة حاضرة

تذكر صلاة فائتة في صلاة حاضرة يحدث للإنسان أن يكون في صلاة حاضرة فيتذكر أثناء هذه الصلاة أن هناك صلاة فاتت عليه نسي أن يقضيها وهو أثناء الصلاة، فمثلاً هو يصلي العصر فتذكر أن صلاة الظهر قد فاتت عليه وأنه لم يقضها، فماذا يفعل؟ المسألة فيها أقوال، والأحوط إذا كان الوقت متسعاً أن يتم العصر نفلاً، ثم يصلي الفائتة التي هي الظهر، ثم يصلي الحاضرة وهي العصر لكي يرتب الصلوات؛ لأن الترتيب واجب، فيخرج من الخلاف، وأما إن كان الوقت ضيقاً لا يكفي إلا للصلاة الحاضرة، فعليه أن يصلي الحاضرة ثم يصلي بعدها الفائتة ولا إعادة عليه للحاضرة. ومن صلى صلاة حاضرة وأنهاها وبعدما أنهاها تذكر أن عليه فائتة، فماذا يفعل؟ يكفيه أن يصلي الفائتة ولا يجب عليه إعادة الحاضرة وراءها.

اكتشاف حائل في عضو من أعضاء الوضوء أثناء الوضوء

اكتشاف حائل في عضو من أعضاء الوضوء أثناء الوضوء يحدث لإنسان وهو يتوضأ أن يكتشف أثناء وضوئه وجود حائل في إصبع أو في عضو من الأعضاء، وحك هذا يأخذ وقتاً طويلاً؛ فيذهب لإزالته وربما استعمل مزيلاً حتى ينشف بعض أعضائه السابقة، فماذا يفعل؟ A إذا عرض له أمرٌ وهو في وضوئه مثل اكتشاف طلاء في أحد الأعضاء، فإنه إذا أزاله يواصل الوضوء ولو أخذ وقتاً في إزالته، أو واحد يتوضأ فانقطع الماء من الصنبور فهو ينتظر فترة ليأتي الماء، فأتى الماء فيواصل وضوءه وطهارته صحيحة ولو جفت بعض أعضائه؛ لأنه كان منشغلاً بعملٍ من ضمن الطهارة، لكن لو أنه مثلاً نودي لطعام أثناء الوضوء فترك الوضوء وذهب يأكل، فإذا انتهى يعيد الوضوء من أوله. ومسألة جفاف الأعضاء هذه مسألة نسبية لأن الإنسان قد يكون في جو فيه هواء شديد فتنشف بسرعة، ربما لا يتم غسل الرجلين إلا وقد نشف وجهه، وقد يكون في جو رطب فيبقى الماء عليه فترة طويلة، فيصعب أن يحكم بجفاف الأعضاء في قضية الموالاة.

نسيان التسمية في أول الوضوء

نسيان التسمية في أول الوضوء يحدث لبعض الناس أن ينسى (باسم الله) في أول الوضوء، فلا يذكر إلا في أثناء الوضوء، فماذا يفعل؟ يسمي أثناء الوضوء (باسم الله) فقط، أما (باسم الله في أوله وفي آخره) فهذا في الطعام إذا نسي التسمية في أوله، فلو أنه ما ذكر إلا بعد الوضوء كلياً فإن وضوءه صحيح.

جرح في أحد أعضاء الوضوء

جرح في أحد أعضاء الوضوء يحصل لإنسان أن يطرأ عليه جرح ولا يمكن أن يغسل مكان الجرح، وهذا الجرح في أحد أعضاء الوضوء، وكذلك لا يستطيع أن يضع عليه لاصق؛ لأن الجرح لابد أن يجف مثلاً واللاصق يضر بالجرح، فماذا يفعل؟ لا هو يستطيع أن يمسح عليه، ولا يستطيع أن يغسله، فماذا يفعل؟ يتوضأ ويتيمم عن ذلك المكان الذي لا يستطيع غسله ولا المسح عليه، فإذا كان لا يستطيع أن يمسح عليه؛ لأنه لابد أن يبقى مكشوفاً أو عليه غطاء لكن غير مستمسك لا يستطيع أن يمسح، لو مسح لذهب الغطاء، شيء بسيط مثل الجبيرة غطاء غير مستمسك، فإن عليه أن يتيمم عن هذا المكان مع الوضوء.

حكم تأخير باقي المال عند البائع

حكم تأخير باقي المال عند البائع ذهبت لتشتري سلعة، قال لك البائع: إن ثمنها ثلاثين ريالاً، بحثت في جيبك فلم تجد إلا خمسين ريالاً، ماذا تفعل؟ إذا أعطيته الخمسين وليس عنده صرف فيبقى لك عنده عشرون، فهل يجوز أن تعطيه الخمسين إذا احتجت إلى فكة من شخص؟ بشكل آخر: احتجت إلى صرف وعندك خمسون ريالاً والشخص الآخر ما عنده إلا ثلاث عشرات، هل يجوز لك أن تعطيه الخمسين وتأخذ الثلاثين والعشرين فيما بعد؟ A لا يجوز، هذا من الربا؛ لأن هذا النقد متماثل ولابد أن يكون يداً بيد، خمسون بخمسين، فإذا صرفت خمسين بثلاثين وعشرون إلى مابعد، معناها أنك خالفت شرط التقابض في العقد، وجعلت جزءاً من الصرف متأخراً عن مجلس الصرف، فتقع في الربا، فكيف تفعل في هذه الحالة التي يتعرض لها الناس كثيراً؟ الجواب: يضع الخمسين رهناً عند هذا الرجل الذي عنده الفكة، ويأخذ منه الثلاثين ديناً، ويذهب ويشتري ويقضي أموره، ثم يعود فيسدد الثلاثين التي عليه ويأخذ الخمسين المرهونة، هذا هو الحل الشرعي لهذه القضية، أما أن يدفع خمسين للفكة ويأخذ ثلاث عشرات والعشرين بعدين، فهذا من الربا ولا يجوز.

رجل توفي في سفينة في البحر

رجل توفي في سفينة في البحر رجلٌ في سفينة مع أناس توفي في البحر، فماذا يفعل أهل السفينة وقد توفي صاحبهم؟ قال الإمام أحمد رحمه الله: ينتظرون حتى يجدوا له موضعاً مثل جزيرة يدفنونه فيها أو يقدمون إلى البلد أو الساحل أو الشاطئ، فإن تأخروا وخشي على الجثة أن تتغير؛ غسلوه وكفنوه، وصلوا عليه وثقلوه بشيء ويلقوه في الماء، حتى لا يكون طافياً وإنما يلقى إلى أسفل، فيكون كأنه دفن في قاع الماء.

الشرب وإقامة الصلاة أثناء الطواف والسعي

الشرب وإقامة الصلاة أثناء الطواف والسعي قد يكون الإنسان في حال الطواف أو السعي فيعطش، هل يجوز له أن يشرب؟ وقد يكون في أثناء الطواف والسعي فتقام الصلاة، فإذا صلى من أين يبدأ ويعيد؟ إذا عطشت أثناء الطواف والسعي؛ فإنه يجوز لك أن تتوقف لتشرب الماء وطوافك وسعيك صحيحان، وإن أقيمت الصلاة أثناء الطواف صل مع الجماعة، فإذا انتهت الصلاة تبني على ما تقدم، افرض أنك أنهيت ثلاثة أشواط وأنت في نصف الرابع فابن على ما تقدم أي: أنك تعتبر الثلاثة صحيحة والآن ستأتي بالرابع، فمن أين ستأتي به بعد انتهاء الصلاة؟ من الحجر مرة أخرى، ترجع إلى الحجر وتبدأ من بداية الرابع من جديد، هذا هو الأحوط. وأما بالنسبة لموالاة الطواف فهي شرط من شروط الطواف، لو أن واحداً مثلاً طاف ثلاثة أشواط وذهب للنوم، أو استراح فترة طويلة، أو تحدث مع شخص، فالموالاة شرط لصحة الطواف، وهذه الموالاة لم يأت في الشرع تحديد لها، بربع ساعة أو عشر دقائق، فإذاً هي مسألة عرف علماء البلد الحرام، بعضهم قال: نصف ساعة مثلاً عرفاً أنها لا بأس، أكثر يمكن أنه لابد أن يعيد الطواف كله من جديد، أما السعي فلا يشترط له الموالاة، فلو أنه سعى مثلاً ثلاثة أشواط، ثم استراح فترة ثم واصل السعي، فيبني على ما مضى وسعيه صحيح.

تبين جهة القبلة أثناء الصلاة

تبين جهة القبلة أثناء الصلاة لو أن إنساناً يصلي لوحده أو مع الجماعة، ولنفترض أنه يصلي مع الجماعة إلى جهة يظنونها جهة القبلة، وفي أثناء الصلاة تبين لهم أو لبعضهم أن الجهة التي يصلون إليها ليست هي جهة القبلة، فماذا يفعلون؟ إذا استبان لهم كلهم الاتجاه الصحيح استداروا جميعاً بإمامهم إلى المكان الصحيح والاتجاه الصحيح للقبلة، وما مضى من صلاتهم صحيح، أحدهم مثلاً يصلي إلى اتجاه يظنه القبلة صلى ركعتين وبقي له ركعتان، فتبين له خطأ اتجاهه، يعدل نفسه ويكمل الصلاة على ما مضى من صلاته وتبقى له ركعتان، فإن كانوا جماعة استداروا كلهم، فإن تبين لبعضهم أنه على خطأ والبعض الآخر يظن أنهم على اتجاه صحيح، فماذا يفعلون؟ الذين تبين لهم يستديرون إلى القبلة، والذين تبين لهم أن مكانهم صحيح يبقون على مكانهم، هل يستمر بعضهم بالاقتداء ببعض؟ هذه مسألة محل خلاف، وقد ذكر ابن قدامة رحمه الله في المغني أن اقتداء بعضهم ببعض صحيح على رواية، ولو خالف بعضهم بعضاً في الاتجاه، ونقل رواية أخرى أن الاتجاه لو كان متخالفاً تماماً، فإن الذين يترجح لديهم القبلة هكذا يصلون مع بعض والآخرين يصلون مع بعض ولا يقتدي بعضهم ببعض، فإن كان واحد مقلداً لا يدري، رأى بعضهم اتجه هكذا وبعضهم اتجه هكذا، وهو لا يرجح لا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء، فماذا يفعل؟ هذا يقلد من يثق به، ينظر أي الجماعة أوثق علماً بالقبلة وأعرف بالأحوال والاتجاهات والأماكن وأعقلهم وأشدهم مقدرة على التخيل مثلاً فيقلده في اتجاهه ويتوجه مثلما توجه.

الشك في الإمام هل هو مقيم أم مسافر وأنت تريد الصلاة

الشك في الإمام هل هو مقيم أم مسافر وأنت تريد الصلاة لو أنك دخلت مسجداً في خط سفر في محطة من محطات البنزين مثلاً، فوجدت جماعةً يصلون ولا تدري هل هم من المقيمين في المحطة، أو أن إمامهم مسافر فماذا تفعل؟ تعمل بما ترجح لديك من القرائن مثل: ثياب هذا الإمام هل هو شخص مقيم أو أن هيئته هيئة مسافر، فإذا رجحت أنه مقيم وأنت مسافر ماذا تفعل؟ تأتم وتتم بإجماع العلماء، قال ابن عباس: مضت السنة أن يتم المسافر خلف المقيم. وإن ظننته مسافراً فصليت وراءه قصراً، دخلت معه وصليت ركعتين وبعد الصلاة إن تبين لك أن الركعتين هذه التي صليتها معه هي الثالثة والرابعة وأنه مقيم، فعليك أن تقوم وتأتي بركعتين أخريين لأنه لابد أن تتم الصلاة.

طرأ عليك طارئ وأنت تصلي

طرأ عليك طارئ وأنت تصلي لو طرأ عليك وأنت تصلي طارئ، أنت واقف فعجزت عن القيام، فتقعد أثناء الصلاة وصلاتك صحيحة، ولو كنت مريضاً قاعداً فاستطعت القيام أو الركوع والسجود، ولم تكن تستطيع من أول الصلاة؛ فتأتي بما استطعت الآن وصلاتك صحيحة تبني على أولها.

انقطاع مكبر الصوت وأنت تصلي وراء الإمام

انقطاع مكبر الصوت وأنت تصلي وراء الإمام أنت تصلي وراء الإمام فانقطع مكبر الصوت، أو حصل عندك نعاس مثلاً فسبقك الإمام بركن أو أكثر، ثم انتبهت أو رجع الصوت، وعرفت أن الإمام قد سبقك، فماذا تفعل؟ عليك أن تلحق به، وهذه الحالة يمكن أن يتصورها في عدة أحيان في أن المأموم يتخلف عن إمامه فقد يأخذ وقتاً في خلع الثوب، أو قرأ الإمام آية فيها سجدة ولم يسجد الإمام بل ركع، أو آية فيها كلمة (سجد) لكن ما فيها سجدة في القرآن، فبعض الناس يظنون أن هذه سجدة، فالإمام قال: الله أكبر للركوع، فظن المأموم أنه سيسجد الآن فسجد فلما قال الإمام: سمع الله لمن حمده، انتبه المأموم، فقام فإذا بالإمام يكبر للسجود، فقد فاته مع إمامه الركوع والرفع منه، فماذا يفعل المأموم في هذه الحالة؟ يلحق بإمامه فيركع يقول: سبحان ربي العظيم، ويرفع ثم يسجد ويتابع الإمام وهو معذور في هذا الخطأ الذي حصل، لكن لو أنه تعمد أن يتخلف عن الإمام يقول: أدعو في السجد والإمام يرفع، فهذا قيل إن صلاته باطلة وهو آثم على جميع الحالات.

بقيت في الصف لوحدك لانسحاب صاحبك

بقيت في الصف لوحدك لانسحاب صاحبك لو أنك أحرمت بالصلاة وراء الإمام ومعك شخص بجانبك، فحصل للشخص الذي بجانبك عارض فانسحب من الصلاة بقيت لوحدك في الصف، فماذا تفعل؟ تحاول أن تدخل في الصف الذي أمامك، فإن لم تستطع تحاول أن تتقدم وتصلي عن يمين الإمام، فإن لم تستطع فصلاتك صحيحة ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.

الإمام أحدث في الصلاة

الإمام أحدث في الصلاة إمامٌ يصلي بالناس فأحدث في الصلاة، ماذا يفعل؟ ينسحب ويقدم آخر، فيصلي ويكمل بهم، فإن لم يقدم شخصاً فصلوا كلهم فرادى فصلاتهم صحيحة، فإن قدم بعضهم إماماً صلوا وراءه وصلى الآخرون لوحدهم فصلاة الجميع صحيحة والحمد لله.

تذكر أنه مسح على جوربيه بعد انقضاء مدة المسح

تذكر أنه مسح على جوربيه بعد انقضاء مدة المسح إمام يصلي بالناس فتذكر أنه مسح على جوربيه بعد انقضاء مدة المسح، وهذه مسألة تحدث الآن، يمكن واحد في الصلاة يصلي فيتذكر أنه قد مسح لكن بعد انقضاء مدة المسح، طافت أربعة وعشرين ساعة على أول مسح بعد الحدث، فماذا يفعل؟ يخرج من الصلاة؛ لأنه تبين أن وضوءه غير صحيح.

نزل المطر والناس خارجون لصلاة الاستسقاء

نزل المطر والناس خارجون لصلاة الاستسقاء خرج الناس لصلاة الاستسقاء أو أرادوا الخروج فنزل المطر، فإذا لم يكونوا قد خرجوا فلا يخرجوا؛ لأن الشيء الذي يريدون الصلاة من أجله قد حصل، فإن خرجوا؛ فيصلون شكراً لله تعالى كما ذكر ذلك ابن قدامة رحمه الله في كتابه المغني.

رجل لم يقل: سبحان ربي العظيم في ركوعه

رجل لم يقل: سبحان ربي العظيم في ركوعه رجلٌ ركع ورفع رأسه ثم تذكر أنه لم يقل سبحان ربي العظيم، فهل يعود للركوع أم لا؟ فلا يعود إليه، ولو كان يعلم أنه لا يجوز له العودة وعاد بطلت صلاته، لأنه قد دخل في الركن الذي بعده، وهذا واجب سقط بالنسيان، فتسجد بدلاً منه سجود السهو. وكذلك الإمام لو نسي التشهد الأول وقام إلى الثالثة واعتدل وبدأ في الفاتحة، فقالوا: سبحان الله، فنزل. إذا كان عالماً أن نزوله لا يجوز بطلت صلاته، هذا عند أحمد والشافعي ولذلك إذا استوى وبدأ في الفاتحة لا ينزل، ذلك واجب يجبر بسجود السهو، وأما هو الآن قد شرع في ركن فلا يتركه.

إمام أخطأ في الصلاة ولا يعرف ما هو الخطأ

إمام أخطأ في الصلاة ولا يعرف ما هو الخطأ إمام يصلي بالناس فأخطأ في الصلاة، قالوا: سبحان الله، سجد، اتضح أنها سجود، قام اتضح أنها ليست بقيام، ركع اتضح أنه ليس بركوع، هو نسي الجلسة بين السجدتين مثلاً وهو يقوم ويتخبط ويركع ويسجد، الناس: سبحان الله! سبحان الله! سبحان الله! فكيف تحل هذه المشكلة؟ A ينبه الإمام بذكر الركن الذي تركه، فإن كان نسي السجود وتخبط يقول أحد المأمومين: سبحان ربي الأعلى، فهو قد أتى بذكر من أذكار الصلاة وليس بكلام أجنبي، فيتنبه الإمام إلى أن الذي فاته سجود فيسجد، أو يقول المأموم: رب اغفر لي، فينتبه الإمام إلى أن الذي فاته الجلسة بين السجدتين فيجلس، أو يقول: التحيات لله، فيتبين له مثلاً أنه التشهد الأخير، فيجلس ويأتي به وهكذا.

لبس جورب القدم اليمنى قبل اليسرى

لبس جورب القدم اليمنى قبل اليسرى رجلٌ توضأ للصلاة ويريد المسح على الجوربين، غسل أعضاءه فلما وصل إلى رجله اليمنى غسل رجله اليمنى ولبس الجورب، ثم غسل الرجل اليسرى ولبس الجورب، وهذه رأيناها في المساجد الآن في الشتاء بعضهم يغسل الرجل اليمنى ثم يلبس الجورب ثم يغسل الرجل اليسرى ويلبس الجورب، هل يجوز له المسح على الجوربين؟ لا، لماذا؟ لأنه لم يلبس الأول على طهارة، لأنه لبس الجورب الأيمن على القدم اليمنى ولم ينته بعد من الطهارة؛ لأن رجله اليسرى لم تغسل بعد، فما هو الحل إذاً؟ هل لابد أن يعيد الوضوء أو يعيد نزل كلا الجوربين؟ A لا، وإنما يكفيه بعدما غسل اليسرى ولبس الجورب الأيسر ثم انتبه أو نبه يخلع جورب اليمنى ثم يلبسه مرة أخرى فقط؛ لأنه لما لبسه مرةً أخرى لبسه على طهارةٍ كاملة.

الباب يدق وأنت تصلي

الباب يدق وأنت تصلي قد يطرأ على المصلي شيءٌ في صلاته كدق باب أو مرور حية أو عقرب أو مار بين يديه، فماذا يفعل؟ أما الحية والعقرب فتقتل في الصلاة ولا تبطل الصلاة: (اقتلوا الأسودين في الصلاة الحية والعقرب) رواه أبو داود وهو حديث صحيح. المار بين يديه يدفعه، فإن أبى؛ فليقاتله ولا تبطل صلاته. إذا طُرق الباب وهو في الصلاة يتقدم أو يتأخر لفتحه خطوات ولا تبطل صلاته. سقط رداؤه عليه أن يرفعه ويغطي كتفيه ولا تبطل صلاته، أو انحل مئزره فيتداركه فيعقده ولا تبطل صلاته.

حكم السلام على المصلي ورده

حكم السلام على المصلي ورده لو سلم على المصلي أثناء الصلاة فهل يرد السلام؟ نعم، بالإشارة، وتكون بطن الكف إلى الأسفل.

انكشاف عورة الإمام في الصلاة

انكشاف عورة الإمام في الصلاة رجلٌ رأى إمامه قد انكشفت عورته في الصلاة، أو هناك شق في ثوب الإمام، ماذا يفعل؟ يستره، فإن لم يمكن ستره، فيتكلم في صلاته ويخرج من الصلاة ويقول للإمام: إن العورة مكشوفة، أو إنه يجب عليك أن تغطي ما انكشف منك، يضحي لأجل مصلحة الجماعة ومصلحة الإمام وهو قد رأى هذا الشيء أمامه ولا يمكنه السكوت وهو يعلم أن صلاة الإمام الآن غير صحيحة بالنسبة لهذا المأموم.

مواقف محرجة

مواقف محرجة ونختم هذه الجولة في بعض ما يطرأ على الناس من الأحكام والأشياء بذكر التصرف الشرعي في الحالات التي يحدث فيها إحراج للشخص. فقد يطرأ على بعض الناس ثقلاء أو ظلمة، فيسألونهم أسئلة أو يقومون معهم بأشياء تحرجهم، فما هو الموقف الشرعي في مثل هذه الحالات؟ هل يكذب؟ طبعاً إذا اضطر إلى الكذب ولم يكن هناك مجال غير الكذب فإنه يكذب إذا كان سينقذ معصوماً أو ينقذ مال امرئ معصوم، أو ينقذ نفسه من الهلكة، إذا اضطر إلى ذلك: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً} [النحل:106] ولكن في التعاملات التي هي أدنى من هذا فما هو موقف الإنسان؟ هذه أمثلة من حياة بعض السلف تبين كيف كانوا يتخلصون من الورطات في المواقف التي يكون فيها شيء من المشكلات، تبين سرعة بديهتهم، وتقدم حلول في مثل هذه الحالات التي تحدث وتطرأ على الشخص ولا يريد فيها الكذب، فكيف يفعل؟

رجل يصيب بالعين

رجل يصيب بالعين ذكر ابن القيم رحمه الله أمثلة في كتابه العظيم إغاثة اللهفان، فمن ذلك: أن علي بن سيرين كان رجلاً يصيب بالعين، فرأى بغلة شريح فأراد أن يعينها، ففطن له شريح فقال شريح أمام العائن: إنها إذا ربضت لم تقم حتى تقام، فقال رجل: أف أف، زهد فيها وغير رأيه، وسلمت بغلته وإنما أراد أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يقيمها، يعني: لم تقم حتى تقام: حتى يقيمها الله سبحانه وتعالى.

الإشارة إلى المروحة

الإشارة إلى المروحة وقال أبو عوانة عن أبي مسكين: كنت عند إبراهيم وامرأته تعاتبه في جارية له: أنت جاريتك تعطيها وتعمل معها، وعنده ضيوف وبيده مروحة، فقال إبراهيم: أشهدكم أنها لها، فلما خرجنا قال: علام شهدتم؟ قلنا: أنك جعلت الجارية لها، قال: أما رأيتموني أشير إلى المروحة إنما قلت لكم: اشهدوا أنها لها وأنا أعني المروحة.

أسلوب في صرف الزائر الثقيل

أسلوب في صرف الزائر الثقيل وكان حماد رحمه الله إذا جاءه من لا يريد الاجتماع به وضع يده على ضرسه وقال: ضرسي ضرسي، فيتركه هذا الثقيل أو هذا الإنسان الذي ليس من مصاحبته خير ويخرج من هذا الإحراج.

ترك نعله ثم عاد

ترك نعله ثم عاد وأحضر الثوري إلى مجلس الخليفة المهدي، فأراد أن يقوم، فما رضي له الخليفة أن يقوم حتى حلف بالله أن يعود، فترك نعله وخرج، ثم رجع فلبسها وذهب ولم يعد، فقال المهدي: ألم يحلف أنه يعود؟ فقالوا: إنه عاد فأخذ نعله.

ليس المروزي هاهنا

ليس المروزي هاهنا وسئل أحمد رحمه الله عن المروزي، وقد كان من نجباء تلامذة أحمد، جاء أحدهم يسأل عنه يريد أن يأخذه من المجلس، والإمام أحمد يرى أن من مصلحة التلميذ البقاء الآن لحضور بقية الدرس، فماذا يقول؟ لو قال هنا أخذه وراح، خصوصاً إذا كان من جنود السلطان، وإذا قال: ليس موجوداً كذب، فوضع أحمد رحمه الله إصبعه في كفه وقال: ليس المروزي هاهنا، وما يصنع المروزي هاهنا؟ فذهب السائل، فالحيلة قد تكون حيلة شرعية واجبة أحياناً، وقد تكون مباحة، وقد تكون محرمة، وكثير من الناس يتوصلون بالحيل إلى إبطال حق أو إحقاق باطل، تستخدم تورية في إحقاق باطل أو إبطال حق أو أكل أموال الناس ظلماً، أو يطلب منه القاضي اليمين فيوري في اليمين يقول: أنا حلفت ما كذبت، ويمينك على ما صدقك به صاحبك، فأي حيلة فيها إبطال حق أو إحقاق باطل أو أكل أموال الناس ظلماً أو تضييع واجبات أو ارتكاب محرمات، فهي من حيل اليهود لعنة الله عليهم، يستحلون محارم الله لأجل الحيل، حرم الله عليهم الشحوم فأذابوها وباعوها وأكلوا ثمنها، قالوا: الشحوم إذا أذبناها ما صارت حراماً، وترى اليوم حيل الناس في تحليل الخمور والربا لا تعد ولا تحصى ومنهم الذين يضلون الناس بغير علم في تحليل الربا وما حرمه الله سبحانه وتعالى.

والله ما رأيته ومن حيل أهل اللغة

والله ما رأيته ومن حيل أهل اللغة وقد يقع إنسان مظلوم يضيق عليه في مناسبات محرجة ويريد أن ينجو من الكذب، فماذا يفعل؟ لو حلفك ظالم أنك ما رأيت فلاناً وأنت رأيته، لكن لو أنك اعترفت لربما وصل إليه وبطش به، أو بطش بك أنت، حلفك أنك ما رأيته، فقلت: والله ما رأيته، وأنت تقصد أنك ما ضربت رئته، لأن رأى في لغة العرب تأتي بمعنى نظرت إليه وأبصرته وتأتي بمعنى قطعت رئته، فتقصد أنت المعنى الثاني وهو المعنى البعيد وهو صحيح في اللغة وهذه تورية. فإن حلفك ألا تكلم فلانا، قال: احلف بالله ألا تكلم فلانا، فقل: والله لا أكلمه، وتنوي أي: لا تجرحه، لأن كلم يكلم يمكن أن تكون من الكلام ويمكن أن تكون من الكلم وهو الجرح، كلم أي: جرح، وهو أيضاً معنى بعيد فتقصده أنت وهو صحيح في اللغة من أجل النجاة من هذا الظلم. ولو حلفه واحدٌ ظلماً ألا يطأ زوجته، حلف والله لا أطأها ويقصد ألا يطأها برجله، ولو حلفه ظالم أنه لا يعلم مكان فلان، يقول: لا أعلم، قال: والله لا أعلم، يحلف ويقصد أنه لا يعلم أين هو على وجه التحديد، فإذا كان هو يعلم أنه في بيت فهو لا يعلم في أي غرفة هو، فإذا كان في غرفة هو لا يعلم في أي موضع هو بالضبط، فهو يسأله الآن أين فلان؟ يقول: لا أعلم، وهو يقصد معنى صحيحاً، فهو لا يقول إنه لا يعلم في أي غرفة هو مثلاً.

مخرج لمن أكره على قول: (كفرت بالله)

مخرج لمن أكره على قول: (كفرت بالله) وذكر ابن القيم رحمه الله كذلك مثالاً آخر لمن أكره على الكفر وقيل له: قل كفرت بالله، فيقول: كفرت باللاهي، ويقصد: لها يلهو فهو لاهٍ اسم الفاعل، كفرت باللاهي ليس بالله سبحانه وتعالى، وإنما باللاهي، اللاهي اسم فاعل من لها يلهو، فإن قالوا له: سكن وقل كفرت بالله، فيتأول وجهاً صحيحاً من أوجه اللغة وهو حذف الياء عند السكون على معتل الآخر بالياء مثل قول الله عز وجل: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طه:72] هي أصلها قاضي، لكن يجوز الوقوف عليها مع حذف الياء، فيقصد أيضاً كفرت باللاه أي: الذي يلهو اسم الفاعل من لها يلهو، وبطبيعة الحال فإن الإنسان إذا وصل إلى درجة أنه يعذب ليعترف على فلان أو فلان ممن يؤذون بسببه؛ فإنه يتذكر قصة الراهب مع الغلام، لما قال له في قصة أصحاب الأخدود: فإن ابتليت فلا تدل علي، فينبغي إذاً للإنسان أن يذب عن عرضه وعن إخوانه ما قدر على ذلك وما استطاع أن يدفع عن نفسه وعن غيره الظلم. الحالات الطارئة كثيرة، ونحن قد ذكرنا بعضاً من هذه الحالات تحت عنوان: ماذا تفعل في الحالات الآتية. وهذه أمثلة. والمقصود أن يطلع المسلم على أحكام دينه، وأن يقرأ في كتب العلم، حتى إذا واجهته مسألة يعرف الجواب ويعرف كيف يتصرف، ولا يصلح أن نكون من أهل الدنيا، دائماً نبدع في الأشياء الدنيوية ونعرف المخارج والطرق والأساليب، وإذا جئنا إلى الأمور الشرعية فيحدث الشيء في المسجد فيضطرب كل الناس لا أحد عنده جواب، كل واحد يقول قولاً عن جهل، يقول بغير علم، أو يقع لك شيء في أي محل، في أي مكان، في طهارة، في صلاة، في استقبال قبلة، في بيع، في شراء، في وكالة، في قسم يمين، وأنت لا تعرف كيف تتصرف، فليس هذا من صفات وسمات المسلم الجاد. فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإياكم للفقه في دينه واقتفاء سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يجنبنا الحرام ويباعد بيننا وبينه، وأن يرزقنا الحلال، وأن يغنينا بحلاله عن حرامه وبفضله عمن سواه والله تعالى أعلم.

الأسئلة

الأسئلة

وصول أجر كفالة اليتيم

وصول أجر كفالة اليتيم Q هل يصل أجر كفالة اليتيم إلى الميت؟ A يصل إليه إن شاء الله لأنه من الصدقات.

موقف المسلم مما يحدث لإخوانه المسلمين في العالم

موقف المسلم مما يحدث لإخوانه المسلمين في العالم Q ما الموقف الصحيح للمسلم مما يحدث لإخوانه المسلمين في العالم؟ A لابد أن يتبصر المسلم لما يحدث لإخوانه المسلمين في العالم فينتبه: أولاً: من تضليلات إعلام الكفرة في شأنهم والأخبار المغلوطة المنقولة عنهم، وكثيرٌ من هؤلاء يقولون في أخبارهم: (ومما يجدر ذكره) ويضع وراءها سماً. ثانياً: أن يناصرهم، أو يجمع تبرعات لهم، أو يدعو لهم بظهر الغيب، أو يدافع عنهم في المجالس؛ لأن بعض الناس مضللون، فينبغي إذاً أن يسعى في نصرتهم وأن يرد عن أعراضهم، وأن يدعو الله سبحانه وتعالى أن يظهرهم على أعدائهم. اللهم أظهر أولياءك على أعدائك يا رب العالمين.

حكم الابتسامة لغير المسلمين من الأساتذة

حكم الابتسامة لغير المسلمين من الأساتذة Q هناك أساتذة غير مسلمين ما حكم الابتسامة؟ A لا بأس، لكن لا يكون فيها تنازل عن شيء من دينك.

حكم الضحك لأعمال يقوم بها غير المسلمين على سبيل الضحك

حكم الضحك لأعمال يقوم بها غير المسلمين على سبيل الضحك Q ما حكم الضحك لأعمال يعملونها على سبيل الإضحاك؟ A إذا كان فيها كذب أو فيها استخفاف بالموجودين فلا تضحك؛ لأن المسلم لا يزري بنفسه ولا بإخوانه، فلو استهزأ مدرس كافر بأحد الطلاب المسلمين في الفصل قاموا في وجهه، وبعض ضعاف النفوس من الطلبة المسلمين يضحكون على نكتة المدرس الذي استهزأ بأخيهم، المفروض أن يقوموا بوجه المدرس.

حكم استعمال حبوب منع الحمل

حكم استعمال حبوب منع الحمل Q استعمال حبوب منع الحمل؟ A أجاز العلماء ذلك بثلاثة شروط: أولاً: ألا يكون المانع ضاراً. ثانياً: موافقة الطرفين، عند استعمال حبوب منع الحمل لابد من موافقة الزوج والزوجة، ولا يجوز للزوج أن يجبرها على استعمال المانع وهي لا تريد، ولا يجوز للزوجة أن تستعمل حبوب منع الحمل من حيث لا يعلم زوجها. ثالثاً: ألا تستخدمه أكثر من سنتين، حتى يرضع الأول ويأخذ حقه.

سجلت اسمي في أوراق الكفالة ولم أدفع

سجلت اسمي في أوراق الكفالة ولم أدفع Q وزعت أوراق عن كفالة يتيم سجلت اسمي وعنواني ولم أدفع، هل علي إثم؟ A ما عليك إثم، ولكن الأفضل لك أنك تلتزم بما كتبت إن كنت مستطيعاً، وإن وجدت مجالاً أحسن للإنفاق؛ فأنفق في المجال الأحسن والحمد لله، أنت ما دخلت في دائرة إلزام نفسك بهذا، ما نذرته، إنما هو ملء قسائم (أشياء مبدئية).

العين لا تدمع والبكاء في القلب

العين لا تدمع والبكاء في القلب Q عيني لا تدمع من خشية الله لكن قلبي يبكي من الداخل؟ A هذا طيب! إذا كان قلبك يخشع من الداخل، لكن جرت العادة أن يكون لبكاء القلب أثر على العين، فإذا لم تجدها فاتهم نفسك، فربما تظن أن قلبك حيّ وهو ليس كذلك.

حكم ما أفطرته في رمضان قبل عامين عمدا

حكم ما أفطرته في رمضان قبل عامين عمداً Q أفطرت في رمضان قبل عامين عمداً وهي أيام كثيرة ولا أعرف بالتحديد عددها وقد تاب الله علي، فماذا أفعل؟ A قلت: قد تبت إلى الله، وأسأل الله أن يتوب عليك، فعليك أن تقدر هذه الأيام التي أفطرتها، واقضها قبل مجيء رمضان الآتي، فإن لم تفعل فاقضها وعليك كفارة عن التأخير، وقدرها بما يغلب على ظنك بأنها كذا وليس بأكثر، وأخرج كفارة إطعام مسكين عن كل يوم تقضيه عن التأخير، ولو تكررت رمضانات فكفارة واحدة تكفي.

نقاش حول حكم فقهي

نقاش حول حكم فقهي Q كنت في مجلس دار فيه نقاش حول حكم فقهي، وكان معظم الموجودين يحاولون إقناعي بأن الحكم هو حلال، وكنت أنا ممن يرى أنه حرام وكنت أعرف الدليل فيه، ولكنهم كانوا يقولون: نترك كلام فلان وفلان من العلماء ونأخذ كلامك؟ A إذا كان فعلاً فلان وفلان من العلماء قالوا به؛ فإنك تراجع نفسك؛ لأنك قد تكون مخطئاً أو متصوراً أن هذا الدليل يدل عليها وهو لا يدل، أو قد لا يكون صحيحاً، أو لا تعلم معنى الدليل، فتراجع نفسك، أما لو كانوا يكذبون يضعون أسماء علماء من عندهم، فابق على ما أنت فيه من الذي تعلمه أنه حق.

حكم المنكرات الموجودة في عملي

حكم المنكرات الموجودة في عملي Q في عملي كثير من المنكرات ولا أستطيع تغييرها؟ A إذا كنت تتأثر بذلك وتضعف، فيجب عليك ترك العمل، وإلا فعليك أن تنكر بيدك إذا استطعت، فإن لم تستطع فبلسانك أو بالقلم أو بالرسالة، فإن لم تستطع فبقلبك وذلك أضعف الإيمان.

خروج الريح دائما بعد الوضوء

خروج الريح دائماً بعد الوضوء Q يتكرر معي الريح دائماً وخاصة بعد الوضوء؟ A إذا كان ذلك يستمر فتوضأ وضوءاً واحداً بعد الأذان، وصل به كل ما شئت من الصلوات وقراءة القرآن إلى الأذان الذي بعده، وبعد الأذان الذي بعده تتوضأ مرة أخرى، وهكذا وضوء واحد للصلاة بعد الأذان ولا تبال بما خرج منك.

حضر الطعام وأقيمت الصلاة

حضر الطعام وأقيمت الصلاة Q إذا جاء رمضان وضعت سفرة طويلة وأقيمت الصلاة؟ A طبعاً حسب الحديث ستأكل، ولذلك ننصح إخواننا أن يضع شيئاً لا يعجله من تمر ولبن، أو شيئاً بسيطاً حتى يستطيع أن يفطر ويدرك الصلاة.

مصيبة الدين: الضلال بعد الهدى

مصيبة الدين: الضلال بعد الهدى بدأ الشيخ درسه بقصص أتته على شكل أسئلة فيها برهان كبير على أن السبب الفاعل في الانتكاس هو عدم التخلص من ذكريات الماضي المؤلمة ورواسبه. ثم تحدث عن طائفة من أسباب الانتكاس التي تكون من ذات الفرد أو من المجتمع والوسط الذي يعيش في داخله، وعرض جملة من المظاهر التي تظهر على المنتكس؛ سواء في بداية الانتكاس أو نهايته، ثم بعد ذلك تحدث عن العلاج، وكيف يمكن للشخص أن يبتعد عن هاوية الانحراف عن صراط الله المستقيم. وختم موضوعه بكلمات لابن القيم موجهة إلى كل من يريد العودة ولكنه يسوِّف.

رسائل تثبت أهمية خلع رواسب الجاهلية

رسائل تثبت أهمية خلع رواسب الجاهلية الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أيها الإخوة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد: فهذا هو الجزء الثاني من الكلام على ظاهرة التراجع عن التمسك بشرع الله عز وجل والنكوص عن طريق الله وترك الاستقامة التي يكون عليها بعض المسلمين أحياناً ثم يتركونها. وقد كان الدرس الماضي بعنوان: (لا ترتدوا على أدباركم) وهذا الدرس أو الجزء الثاني من الكلام بعنوان: (مصيبة الدين: الضلال بعد الهدى) لماذا يحدث؟ تكملة الأسباب، وكيف يحدث؟ وما هو العلاج؟ سبق أن تكلمنا أيها الإخوة على بعض الأسباب الذاتية أو الشخصية التي تحمل بعض الناس علىترك لطريق الاستقامة، ومن الأمور التي ذكرناها سابقاً: مسألة أهمية أن يخلع الإنسان على عتبة الإسلام جميع ملابس الجاهلية وهو يدخل طريق الاستقامة، على عتبة هذا الطريق يخلع جميع ملابس الجاهلية وأن يتخلص من كل ما علق به في ذلك المجتمع الآثم الذي كان يعيش فيه، وهاهنا أمثلة واقعية وردت في بعض الأسئلة نؤكد فيها هذا المعنى أو هذه النقطة التي كثيراً ما أودت بتمسك بعض المستقيمين إلى الهاوية، وأسوقها إليكم مختصرة قريباً مما وردت:

شاب يعود للانتكاسة في الصيف

شاب يعود للانتكاسة في الصيف يقول: أنا شاب قد التزمت مع رفقة صالحة ولله الحمد والمنة، ولكنني ألتزم معهم في فترة الدراسة فقط، وفترة العطلة أذهب من المنطقة التي أنا موجود فيها إلى منطقة أخرى حيث أقع في قراءة القصص الغرامية والكتب الجنسية، وذلك لأنني شابٌ قد حببت لي القراءة فأنا أقرأ جميع ما يقع تحت يدي صالحاً كان أو سيئاً، وعندما أعود إلى أصحابي الصالحين أحس بأنني قد أخطأت وأذنبت ولا بد لي من توبة، ولكنني لا أستشعر الندم في قلبي فماذا أفعل؟ إذاً: هذا شخص الآن هو يستقيم فترة معينة من السنة، ثم في نهاية السنة في العطلة الصيفية يترك الاستقامة ويقبل على أشياء من المنكرات مثل قراءة القصص المحرمة.

شاب لم يستطع ترك المسلسلات

شاب لم يستطع ترك المسلسلات وشخص آخر يقول: أنا شاب لم أستطع الامتناع عن مشاهدة المسلسلات اليومية مع أني شابٌ مستقيم ولا أزكي نفسي، ولكني لا أجد أن هناك تحريماً لهذه المسلسلات لأنهم لا يمثلون عراةً يعني: السبب الذي من أجله يبيح لنفسه أن يشاهد هذه المسلسلات أن الممثلين في المسلسلات لا يمثلون عراة. فانظر إلى هذه الشبهة، يعني: كشف المرأة وجهها ورأسها وشعرها وذراعيها ويديها كل هذا ليس بعورة، واختلاط الرجال بالنساء وهذه الأشياء السيئة الموجودة في كثير من المسلسلات ليست حراماً.

شاب لم يفارق رفقة السوء

شاب لم يفارق رفقة السوء ويقول آخر: أنا شاب صالح إن شاء الله تعالى وفي الطريق المستقيم، أذهب مع أصحابي الطيبين إلى الفوائد وغيرها من الأشياء الهادفة، ولكن في حارتنا شبابٌ غير صالحين لهم بعض المعاصي الظاهرة مع أنهم يصلون، أذهب معهم إلى الملعب للكرة وأذهب إلى مجالسهم مجاملة لهم، فانصحوني. فإذاً: هذا رجل مازال على علاقة بأصحابه الأول ويزاول معهم اللعب ويحضر مجالسهم، والمجالس هذه طبعاً فيها أشياء كثيرة لا ترضي الله، لماذا يحضر المجالس؟ مجاملة لهم.

شاب اهتم بغيره وأهمل نفسه

شاب اهتم بغيره وأهمل نفسه ويقول آخر: أنا شاب في الثانية والعشرين من عمري، أدرس في المرحلة الجامعية، أصرف أغلب وقتي في الدعوة إلى الله وأهتم بإخواني وأحاول تقوية إيمانهم وأنسى نفسي، حتى أصبحت ضعيفاً في دراستي وفي إيماني، ماذا أعمل؟ أنا في حيرة من أمري، وأفكر دائماً في ترك زملائي الطيبين وعدم الاهتمام بهم، أرشدوني. هذه المشكلة طبعاً سببها عدم التوازن، إن لنفسك عليك حقاً ولإخوانك عليك حقاً فهذا الشخص لم يستطع أن يوازن بين حق نفسه وحق إخوانه، فهو يصرف كل وقته إليهم، ولا يجد وقتاً يقرأ القرآن مثلاً لنفسه أو يذكر الله لنفسه أو يعمل الطاعات الفردية لنفسه، أو يذاكر، ولذلك فهو مقصر في الدراسة، فلما وجد نفسه على شفا هلكة ومستواه الدراسي قد تردى وجد بأن الحل أن يترك الناس الطيبين؛ لأنه لا بد أن يعدل من وضعه الدراسي، السبب إذاً عدم الموازنة.

شاب وشابة وقعا في المحادثات الهاتفية

شاب وشابة وقعا في المحادثات الهاتفية وهذا آخر يقول: أنا شاب في الثانية والعشرين من عمري، وحدث أني تعرفت على فتاةٍ بواسطة الهاتف، وقد قويت علاقتي بها وأنا معها منذ سنتين وليس بيننا شيءٌ إلا الذي يكون بين الأصدقاء عادة من حديث، كما أنني أقوم على تلبية حاجاتها ومساعدتها في الدراسة وغيرها -يشرح الكلمات الصعبة ويحل لها المسائل- وأنا لا أدري ما حكم عملي هذا؟ وإني أرغب وهي أن ننهي هذه العلاقة لأننا نحس في صدورنا أنها غير صحيحة، مع العلم أن علاقتنا سامية للغاية. المفروض بما أن هذا الإحساس من زمان يحدث أنه لا بد أن تنهى هذه العلاقة، يعني: سبحان الله العظيم! رجل أجنبي يتكلم مع امرأة أجنبية في الهاتف ماذا نتوقع وماذا ننتظر ولمدة سنتين، يعني: كأنه يكلم أخته وهي تكلم أخاها، هذه الأشياء العجيبة التي تقع اليوم في واقع بعض الناس تنبئ عن سطحية في فهم معنى الاستقامة، وأنه لا بأس من إقامة العلاقات مع النساء الأجنبيات في الهاتف، والشيطان يضحك ويلبس ويقول له: العلاقة السامية وأنت تساعد، وهذه أخوة في الله. سبحان الله العظيم! انظر إلى الشيطان كيف يستغل المداخل وكيف يلعب بعقول الكثيرين حتى يوقعهم، ولا نستغرب إذا حدث وكان في بعض الأشياء أن تنتهي المسألة بالعلاقة أو بالملاقاة وما يحدث بعدها من سبل الشيطان، نسأل الله السلامة.

شاب يخشى الوقوع على محارمه

شاب يخشى الوقوع على محارمه وهذا آخر يقول: إنه يحب إحدى محارمه حتى يخاف أنه يقع فيها بالزنا فما هي النصيحة؟ طبعاً هذا أيضاً من ضعف الإيمان، ولذلك كثيراً ما نقول: إنك حتى لو كانت هذه البنت أو هذه المرأة إحدى محارمك وإنك تحس بالفتنة من جلوسك معها فلا تجلس معها، ولا يجوز لك أن تخلو بها؛ لأن بعض الناس قد يحدث معهم مثل هذا الانتكاس الفطري لأن فطرة الواحد مستحيل أن تجعله يميل إلى أخته أو بنت أخيه مثلاً لأنهم من أبٍ واحد أو من أم واحدة أو أشقاء، لكن عندما يصل الانتكاس الفطري إلى هذه الدرجة فيجب عليه أن يعاملها كأنها شبه امرأة أجنبية عنه، لئلا يقع في ورطة.

شباب ما زالت عندهم رواسب من الماضي

شباب ما زالت عندهم رواسب من الماضي وهذا يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: أنا شاب بدأت طريق الالتزام بقوة والحمد لله، ولكن لا زالت عندي بقايا من الماضي وهي خصلة الكذب رغم معرفتي الكبيرة بأحاديث هذا الموضوع، فما هو الحل؟ إذاً: مازالت المشكلة بقاء آثار من الماضي. وهذا آخر يقول: باسم الله والصلاة والسلام على محمد رسول الله وبعد: فإني شاب تبت إلى الله، ولكن أصبحت أمامي مشكلة وهي فتنة النظر، أرجو أن تعلمني الدواء الشافي لهذا المرض؟

خطورة عدم اجتثاث رواسب الجاهلية

خطورة عدم اجتثاث رواسب الجاهلية هذه طائفة من الأمثلة أيها الإخوة ذكرنا في المرة الماضية أن هذه الرواسب التي تبقى في نفس هذا الشخص المستقيم الذي فتح عينيه على النور وسلك الطريق، وأصبح له زملاء طيبون، هذه الرواسب هي التي تثور في المستقبل، تبقى مثل: أرى خلل الرماد وميض جمر وأخشى أن يكون لها ضرام فإن النار بالعودين تذكى وإن الحرب مبدؤها كلام الواحد أحياناً يرى الظاهر طيباً؛ لكن تحت الظاهر هناك أشياء تتفشى وأشياء تنتشر، وأشياء تقوى لأنها لم تجتث من الأصل، هذه مشكلة الكثيرين، وهي مشكلة خطيرة فعلاً أن الداء لم يجتث من الأصل، لم تعالج المشاكل كلها، لم يتخلص الشخص من آثار الماضي، فهو الآن يبدأ الحياة الجديدة ولا زالت معه الآثار السلبية السابقة؛ فلا تلبث بعد فترة من الزمن مع نوعٍ من الفتور والانشغالات الدنيوية والبرود الإيماني ونقص الإيمان أن تظهر هذه الأشياء ظهوراً قوياً مثل البركان، فيتفجر ويكون بداية السقوط وينتهي الشخص. فإذاً: التفتيش عن هذه الأمور من سلبيات الماضي، واجتثاث المنكرات الماضية من جذورها، وألا يبقى في حياتك الجديدة أي أثر من الماضي وأي داء من الماضي هذه المسألة مهمة جداً، ينبغي أن تقف على العتبة وتتخلص وتطرح جميع الأشياء الماضية.

من أسباب النكوص الذاتية

من أسباب النكوص الذاتية

خوض غمار المعركة بدون عدة

خوض غمار المعركة بدون عدة ومن أسباب النكوص أو من أسباب التردي: الوقوف في مواقف صعبة لا يستطيع الإنسان أن يتحملها، وأعني بهذا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيح الذي يقول فيه: (لا ينبغي لمؤمن أن يذل نفسه، قالوا: وكيف يذل نفسه يا رسول الله؟ قال: يتعرض من البلاء لما لا يطيق) فأحياناً الواحد يتخذ شكلاً من أشكال التصادم أو المواجهة أو المجابهة أو الدخول في معمعةٍ لم يعمل لها حساباً ولم يستعد لها ولم يتهيأ بحماسٍ أجوف مجرد عن الإيمان القوي؛ فلا يلبث ألا يتحمل جو الفتنة التي دخل فيها ثم بعد ذلك ينهار لأنه لم يستطع المقاومة. وبعض الشباب والمستقيمين عندهم هذه النفسية؛ نفسية الدخول في أجواء الفتنة، هو يريد أن يلقى العدو، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، ولكن إذا لقيتموهم فاثبتوا) بعض الناس يتعمد أن يلاقي العدو فيعرض نفسه لأجواء من البلاء لا يطيقها، ثم بعد ذلك ينهار، وهذه تجارب كثيرة حدثت في تاريخ الدعوات تبين هذا الأمر الذي كشفه الرسول صلى الله عليه وسلم.

اتهام النفس بالنفاق

اتهام النفس بالنفاق ومن الأسباب الذاتية الداخلية للانهيار والانتكاس والانحراف ما يعبر عنه هذا السائل فيقول: هناك معصية أنا واقع فيها شغلت قلبي وتفكيري حتى شعرت بأني منافق، وهممت بترك الصالحين بسببها، ألا وهي تأخير صلاة الفجر إلى طلوع الشمس -أعاذكم الله- وقد حاولت أن أجاهد نفسي إلا أن النوم أثقل، والنفس أضعف، بماذا تنصحني؟! ويقول آخر: أحمد الله الذي هداني للصراط المستقيم، ولكن يحدث أن تحصل مني بعض المعاصي وأتضايق من نفسي وأتهم نفسي بأني منافق وإلا لما عملت هذه المعاصي، وبعد حينٍ أرجع إلى الله سبحانه وأستغفره ولكن يحصل ذلك مني من فترة إلى أخرى، ماذا أفعل؟! يقول الآخر: إنني شاب هداني الله بعد ما كنت ضالاً وبدأت أعمل الصالحات، ولكني أحيانا أفعل بعض المعاصي والتي تكون في غيابٍ عن أعين الناس، وحينما أذهب إلى الصلاة وأكون في الصف الأول أو أعمل عملاً صالحاً أمام الناس تحدثني نفسي بأني منافق! يقول الآخر: أنا شاب مسلم دخلت مع زملاء مستقيمين قبل ثلاث سنوات ولكن حدثت لي بعض المشكلات جعلتني أنسى الله وأفعل المعاصي بدون إحساس -على حد تعبيره- وأفكر أن أترك الشباب الطيبين لأن حياتي أصبحت حياة لا يعيش فيها شابٌ مسلم، دلني على طريق النجاة؟! فماذا نلاحظ من مجموع هذه الأسئلة أيها الإخوة؟ الذي نلاحظه قضية اتهام النفس بالنفاق، واتهام النفس بالنفاق أحياناً يكون لها أسباب حقيقية وأحياناً يكون لها أسباب وهمية، فمثلاً: أحياناً يقبل الشخص على الله. ويسلك طريق الاستقامة يصاحب الناس الطيبين، وبعد فترة يحصل عنده ضعف إيماني فيقع في معصية من المعاصي، أو يتكرر منه وقوع هذه المعصية وهو لا يزال مع إخوانه الطيبين لا يزال يطلب العلم الشرعي لا يزال يمارس الدعوة إلى الله لا يزال يمارس الواجبات الشرعية، ولكن هذا الوقوع في المعاصي جعله يعيش في جو من التناقض، كيف يكون مع هؤلاء طيباً فإذا خلا بنفسه أصبح إنساناً يقع في المعاصي، كيف يمارس هنا الدعوة إلى الله ويطلب العلم ثم في بيته يقع منه شيء من المنكرات. فإذاً يقول لنفسه: أنا عندي ازدواج في الإيمان بين الطاعة والمعصية، إذاً أنا منافق أظهر شيئاً وأبطن شيئاً آخر، إذاً أنا لا أستحق أن أكون في هذا الوسط الطيب، إذاً أنا لا بد أن أظهر على حقيقتي، هذه الوساوس من الشيطان هكذا يفعل، لا بد أن أظهر على حقيقتي، لا بد أن أكشف أمري للناس، إن هؤلاء الأطهار لا يصلح أن يكون بينهم واحدٌ ملوث من أمثالي، لا بد أن أفارقهم، إنني سبب نكبة وسبب فشل بينهم، إنني عنصر لا بد أن أبتر وهكذا؛ فتكون النهاية ترك الحياة الطيبة والاستقامة. هو يظن أنه يقصد خيراً وأنه يريد أن يظهر على حقيقته وأنه لا ينافق، لكن النهاية ما هي؟ من الذي كسب؟ الذي كسب هو الشيطان؛ لأن الأمور قد تردت، أنت صحيح أنك تعمل المعاصي وأنت ما زلت في الجو الطيب، لكن هذا الجو الطيب يا أخي يساعدك على البقاء إلى مستوى معين وعدم التردي، إذا كان الجو الطيب لا يحملك على ترك المعاصي فهو يحملك على البقاء في مستوى معين من الطاعات، إذاً هذا الجو الطيب له فائدة، ومن الخسارة الكبرى أن تترك هذا الجو الطيب، ولا تترك الشيطان يلعب بك، ويوسوس لك حتى تترك طريق الاستقامة. ومشكلة اتهام النفس بالنفاق مشكلة كبيرة، مع العلم بأن هؤلاء الناس الذين يفكرون لا يفرق بين النفاق الاعتقادي والنفاق العملي؛ هناك أشياء من النفاق العملي كبعض المعاصي: إذا وعد أخلف إذا اؤتمن خان إذا حدث كذب إذا عاهد غدر إذا خاصم فجر، لكن هذا النفاق العملي لا يعني أنك منافق مثل عبد الله بن أبي ومثل غيره من المنافقين، وأنك يجب أن تتميز عن الصف المسلم، لا. الفرق كبير، فإذاً لا بد من أن يعالج الشخص نفسه من هذه الوساوس.

من أسباب النكوص الخارجية

من أسباب النكوص الخارجية الآن ننتقل إلى طائفة من الأسباب الخارجية عن هذا الشخص الذي يسلك طريق الاستقامة، وهي طائفة من الأسباب الخارجية التي تكون سبباً للنكوص والارتداد على الأعقاب، وعندما نسرد هذه الأسباب ينبغي أن تضعوا نصب أعينكم أننا عندما نعرض هذه الأسباب فإننا لا نقدمها كعذر لهذا الشخص المنتكس أو الناكص على عقبيه أو المتردي أو المتراجع، أو التارك للصراط المستقيم، لكن نحن الآن نبين الأسباب سواء كان محقاً أو غير محق، طبعاً هو ليس محقاً؛ لأنه ليس هناك شيء يحمل الإنسان على ترك الاستقامة مهما كان الأمر، كل هذه أسباب من الشيطان ليوقع الذين آمنوا في حباله، فيتركوا طريق الله عز وجل.

من الأسباب: سوء التربية

من الأسباب: سوء التربية ما هو المقصود بقولنا: يكون السبب أحياناً سوء التربية؟ قد يطالب الجديد في عالم الاستقامة بتكاليف عالية ونوافذ شاقة منذ البداية، يعني: مثلاً يطالب بقيام الليل، بصيام النوافل، بقراءة كتب ضخمة ليتناقش مع غيره فيها، فلما يطالب بهذه المستويات العالية من الأداء أو من العبادات لا تستطيع نفسه أن تقوم بها؛ لأنه الآن دخل في طريق الاستقامة فهو لا يزال غضاً طرياً، لا يزال عوده لم يشتد بعد، فإذاً من الخطأ أن يطالب هذا الشخص من البداية بتكاليف عالية، لأنه إذا رأى هذا الأمر من البداية فإنه سيكون سبباً للرجوع وسبباً لترك الطريق المستقيم، وسيقول في نفسه: هذه من البداية هكذا، أنا لا أستطيع أن أستمر بهذا المستوى فيترك. وقد يأخذه الحماس في البداية فيقبل على هذه الطاعات والعبادات والتكليفات، ويركب هذه الموجة العالية، ولكن في منتصف الطريق تخف حماسته ويبرد إيمانه فيرى نفسه لا يستطيع المواصلة فيسقط، يرى أنه لا يستطيع أن يتحمل الأعباء فيقول تبعاً لذلك: ما دام أنني لا أستطيع أن أتحمل هذه التكليفات إذاً أنا لا أستطيع الاستقامة، لأنه عرف الاستقامة وفتح نفسه عليها أنها بهذا المستوى، إذاً مادام أنه لا يستطيع أن يصوم دائماً الإثنين والخميس، ولا يستطيع أن يقوم كل ليلة، ولا يستطيع مثلاً أن يتصدق بجزءٍ من ماله، ولا يستطيع أن يقرأ القرآن في كل سبعة أيام مرة، ولا يستطيع ولا يستطيع فيترك الاستقامة، لأن تعريف الاستقامة عنده هي هذه الأشياء العالية. فإذاً ينبغي مراعاة هؤلاء الجدد في عالم الاستقامة وألا يطالبوا مطلقاً بمثل هذه الأشياء العالية، وأن يترفق معهم ويرفق بهم، ولو أنهم تحمسوا لأدائها من أنفسهم فلا بد أن ينصحوا ويقال له: يا أخي تمهل، لا تقسو على نفسك، لا تكلف نفسك فجأة بكل هذه الأشياء فقد لا تتحمل. ويدخل في ذلك أيضاً المطالبة بمستوياتٍ عالية من الزهد، يعني: مثلاً شخص يعيش في بيئة منعمة، أهله أهل غنى، أو فتاة تعيش في بيئة مرفهة، وعندهم خيرٌ كثير، فهو متعود وهي متعودة على مستويات عالية من الترف والبذخ والإنفاق على النفس، فعندما يأتي هذا الشخص أقول له من البداية: يا أخي لا بد أن تتخلى عن جميع الزينة وعن جميع هذه الملابس، ولا بد أن تلبس لباساً عادياً جداً، ولا بد أن تكون الملابس فيها تواضع، ورثاثة في الهيئة، والبذاذة من الإيمان وو إلخ، وهو الآن قريب الدخول في طريق الاستقامة، فعندما أطالبه بهذا النوع أو هذا المستوى العالي من الزهد، فإنه لن يتحمل وبالتالي سينفض يديه ويترك طريق الاستقامة. إنسان كان في فواحش ومنكرات؛ من غير المناسب أن أطالبه بهذا المستوى من الزهد، لأعلمه أولاً أن الزهد هو ترك الحرام، انتبهوا معي أيها الإخوة، أعلمه في البداية أن الزهد الآن المطلوب منك هو ترك الحرام، فإذا ترك الحرام واستقام على الطريق فبعد ذلك يطالب بمستويات أعلى من الطاعات.

عدم ملء وقت الفراغ بالطاعات

عدم ملء وقت الفراغ بالطاعات وأحياناً يكون سبب النكوص والتراجع: عدم ملء وقت المستقيم بالطاعات والأعمال الشرعية والمهمات المناسبة له؛ فيشعر أنه إنسان عنده فراغ كثير، وأنه غير منتج في المجتمع الإسلامي الذي يعيش فيه، فينسحب منه ويذهب إلى مقبرة الوحدة حيث تكون نهايته هناك وتنتهشه كلاب الشهوات من كل جانب، ما هو الخطأ الذي حصل؟ أن هذا الرجل أو هذه المرأة لم تُشغل في الطاعات، لم تملأ وقتها بأشياء نافعة؛ حلق ذكر، جلسات طلب علم، الذهاب في طاعة الله، الدعوة إلى الله، من بر الأرحام، الصدقات، الذهاب إلى المقابر، صلاة الجماعة في المسجد، أشياء كثيرة جداً، نشاطات إسلامية نافعة تفيد المجتمع، فإذاً عدم ملء واستغلال وقت الفراغ يوجد عن الشخص أوقاتاً كثيرة، لا يجد ما يشغله فيها فيشغلها في معصية الله ثم يسقط.

عدم تفقد الأخوة لأخيهم المستقيم حديثا

عدم تفقد الأخوة لأخيهم المستقيم حديثاً ومن الأسباب الخارجية: عدم تفقد الإخوة في الله لأخيهم المستقيم، وعدم سؤالهم عن حاله وعدم معرفتهم بواقعه، فقد تصيبه مصائب ويقع في مشكلات نفسية أو عائلية أو عاطفية أو مالية، فعندما يرى أنه لا أحد يسأل عنه ولا أحد يهتم به وبأموره يأتيه الشيطان فيقول له: إنه لن ينفعك إلا نفسك ومجهودك الذاتي، ولن ينفعك الآخرون بشيء، هؤلاء الذين تسميهم إخوة في الله لن ينفعوك بشيء، إنهم لا يسألون عنك ولا عن أحوالك، لو أنهم كانوا حريصين عليك لتفقدوك، لم يزرك أحد عندما مرضت في المرة الفلانية والمرة الفلانية، وعندما وقعت في مأزق لم يهب أحد لنجدتك ولم يمد أحدٌ يد العون لك، إنهم يستخفون بك ولا يكترثون، دعك منهم ومن طريقهم، فيترك الاستقامة. وهذه النفسية تكون موجودة عند الكثيرين، وقد تكون موجودة عند النساء لأن المرأة حساسة بشكل أكبر من الرجل، وعاطفية بشكل أكبر، فإذا لم تجد أحداً من أخواتها في الله تسأل عنها وتتحسس واقعها فإنها لا تلبث أن تترك ذلك المجتمع الطيب وتقول: إنهن لا خير فيهن لم يسألن عني، وهذا ليس عذراً، نفترض أن هذا الشيء حصل وهذا الشيء خطأ، لا بد أن يسأل المسلمون عن إخوانهم المسلمين، وأن يتفقد المسلمون أحوال إخوانهم المسلمين، لكن لو حصل لك يا أخي هذا الموقف، لو أن إخوانك من حولك تشاغلوا عنك أو غفلوا عنك وعن مشكلاتك، وغالباً أن بعض الناس لا يصرحون بمشكلاتهم ولا يقول: ساعدوني، وينتظر من الآخرين أن يكتشفوا ذلك بأنفسهم، عند ذلك يقول: إذاً لماذا أبقى مع هؤلاء الناس، كونهم لم يسألوا عنك لا يبرر لك عند الله ترك طريق الاستقامة، يعني: عندما يسألك الله يوم القيامة لماذا تركت الاستقامة وتركت التمسك بالدين فلن يكون جواباً: إن باقي إخواني لم يسألوا عني، هذا ليس بجواب وليس بعذرٍ مقبول.

أخذ الاستقامة جملة واحدة

أخذ الاستقامة جملة واحدة وأحياناً يكون من الأسباب: إرادة بعض الدعاة ممن بدأ الاستقامة أن يلتزم دفعة واحدة، يشترط عليه: أنه من الآن بين يومٍ وليلة لا بد أنه يتغير ويصبح شخصاً مستقيماً، وقد يحصل هذا فعلاً ويستقيم ذلك الشخص من أول يوم أو من أول أسبوع، ولكنه لا يلبث أن ينتكس مرة واحدة كما بدأ مرة واحدة، لماذا؟ لأن نفوس الناس ليست مهيأة إلى الانتقال بسرعة، بل إن مجتمعات المسلمين اليوم تكثر فيها المعاصي، ومن الصعب على الشخص أنه يترك فجأة وينتقل مباشرة بين يومٍ وليلة، فعندما يطالب بترك المنكرات فجأة والاستقامة فجأة، فإنه قد يسقط فجأة كما بدأ فجأة. وقد يستدل البعض على عدم خطأ هذا الأمر؛ لأن هناك أناساً قد استقاموا فجأة وأكملوا الاستقامة، فنقول: إن هذا الاستدلال غير صحيح، والناس مراتب وطاقات وهمم، صحيح أن فلان فجأة استقام وأكمل إلى آخر عمره، لكن لا يعني أن هذا العمل الذي فعله يستطيع الآخرون كلهم أن يفعلوه.

الاعتقاد أن أهم ما في الاستقامة هو الظاهر

الاعتقاد أن أهم ما في الاستقامة هو الظاهر ومن الأخطاء التي تحصل وتسبب الانهيار أو التراجع: أن يظن بعض الدعاة إلى الله أن المهم هو إيصال الشخص رجلاً كان أو امرأة إلى مرحلة الاستقامة الظاهرة، أن يستقيم بشكله، مثلاً المهم أن هذا الرجل يعفي لحيته ويقصر ثوبه، أو أن هذه المرأة تلتزم بالحجاب الكامل، هذا هو المهم، فإذا وصل هذا الرجل أو هذه المرأة إلى هذه المرحلة انتهى المقصود وحصل المأمول وتحقق الهدف، هذا خطأ، وكون هذا الشخص أو هذه المرأة تترك الالتزام بعد أن وصلت أو وصل إلى هذا الالتزام الظاهري غير صحيح؛ لأن هناك أموراً تربوية كثيرة لا بد من تحصيلها ولا بد من تحقيقها وتوفيرها حتى يستقيم الشخص فعلاً، وإلا فإن الأشياء الظاهرة ليست هي كل شيء، كما أنه من غير الأشياء الظاهرة فإن هذا لا يعتبر كمالاً مطلقاً، فإذاً الترك الذي يحصل لمن استقام ظاهرياً؛ لأنه انتهى المقصود من الأمر ومن الدعوة إلى الله خطأ كبير: فالفرد إن يترك يضع في عصرنا ترك الشباب أساس كل الداء إخوانكم لا شيء أغلى منهم لا شيء يعدلهم من الأشياء لا تتركوهم للضياع فريسة ترك الشباب أساس كل الداء

الهجران غير الصحيح

الهجران غير الصحيح ومن الأسباب: الهجر في غير موضعه: أحياناً يحدث هجر لإنسان من الناس له علة معينة في نفسيته قد يكون له فيها يد، وقد يكون لا يد له في إصلاحها، فيترك هذا الشخص ويهجر لهذه العلة أو السلبية التي في نفسه أو يخاف ويخشى على الآخرين منه فيترك ويهجر فتسوء أحواله أكثر وينتقل من الإيمان إلى المعصية، وينقلب حرباً على الدعوة إلى الله ناقماً في نفسه على هؤلاء الذين هجروه وتركوه، وقد يدفعه الشيطان إلى سلوك سبيل الانتقام.

الانتكاس إذا رأى خطأ ممن اتخذه قدوة له

الانتكاس إذا رأى خطأ ممن اتخذه قدوة له ومن الأسباب التي تنبني على أخطاء أساسية في التصورات والتي تسبب الانهيار والانتكاس والتراجع: أن يرى هذا الشخص واقعاً خاطئاً لمن اتخذه قدوة له، إنسان التزم بشرع الله، واستقام على طريق الله، ورأى من جعله قدوة، قال: هذا هو أحسن واحد وهذا الذي أقتدي به، وأتعلم منه وأتشبه به، هذا القدوة في يومٍ من الأيام فعل خطأً أو وقع في منكر أو معصية من المعاصي، أو أخطأ في التعامل معه مثلاً فماذا يحدث؟ يتزلزل كيان ذلك المسكين، لأنه لا يفرق بين الإسلام وبين تصرفات المسلمين، فيقول: هذه هي الاستقامة التي أريد أن أصل إليها، هذه النهاية لا بد من رفض ذلك كله جملة وتفصيلاً، من أين أُتي هذا الرجل؟ أُتي من سوء تصرفه، يتصور أن هذا القدوة أو هذا الشخص أو هذا الشيخ أو هذا المطوع أو هذا الإمام أنه هو الإسلام، فإذا رأى عليه ثغرة أو رأى عليه سلبية من السلبيات أو أنه وقع في منكر فمعنى ذلك أن هذا هو الإسلام، الإسلام في نظره هو ذلك الشخص، فإذا انهار هذا الشخص انهار الإسلام، الاستقامة في نظره يمثلها هذا الرجل، فإذا انهار ذلك الرجل انهارت الاستقامة، فلا بد أصلاً أن يتربى الناس على التفريق بين الإسلام وبين تصرفات المسلمين، لا بد أن يربى الناس على التفريق بين طريق الاستقامة وبين المستقيمين، هؤلاء -رجالاً أو نساء- قد يقعون في أخطاء إذاً هم بالنسبة لي آخذ منهم الحق فقط، وإذا وقعوا في أخطاء أنا ما عليَّ منهم، أنا ما زلت ممسكاً بالطريق أسير عليه.

المعاملة السيئة ممن حوله

المعاملة السيئة ممن حوله ومن الأسباب الخارجية: المعاملة السيئة التي يلقاها ضعيف الإيمان ممن حوله من الوسط الذي يعيش فيه، فيقول: هذه معاملة هذه أخلاق هذا أسلوب أنا أخاطب به؛ فإذاً ليس هذا هو الطريق الصحيح، إذاً هذا هو طريق الاستقامة الذي ألاقي فيه هذه المعاملة، إذاً لا بد أن أتركه لأني لم أرتح فيه. هؤلاء الأشخاص الذين لقيت منهم سوء المعاملة ليسوا هم الصراط المستقيم، وليسوا هم سبيل المؤمنين، هؤلاء ناس يسلكون سبيل المؤمنين، لكن ليس هم الطريق نفسه، فتركك للجميع خطأ ظاهر، وسوء في التصور. ليت هؤلاء الذين تركوا الاستقامة لهذا السبب ولهذا المنطلق يفهمون أن الإسلام لا يتحمل أخطاء المسلمين وليس مسئولاً عنها، وليتهم يعرفون أن الحق لا يعرف بالرجال وإنما يعرف الرجال بالحق، إذاً نعود فنكرر فنقول: إن التربية لا بد أن تكون من البداية على اتباع الحق وليس على اتباع الرجال، اتباع الطريق المستقيم وليس تقليد الآخرين إذا أخطأوا قال: هذا هو الإسلام، وهذا هو الدين، وهذه الاستقامة، ليس فيهم خير.

كثرة رؤيته للمنتكسين

كثرة رؤيته للمنتكسين ومن الأسباب: كثرة رؤية هذا الضعيف للناكصين وانسحابهم من طريق الاستقامة الواحد تلو الآخر، فيشجعه ذلك على أن ينسحب هو أيضاً إن كان في نفسه قابلية لذلك، والطيور على أشكالها تقع، وقد يريد هو أن يتخلص ويترك هذا الطريق، لكن لا يريد أن يتركه لوحده، هو ينتظر من يشجعه فإذا بدأ هذا قد يتفلت واحد آخر وثالث ويحصل هناك تشجع نفسي على الانسحاب، فيقلد الآخرين، وهو أيضاً ينسحب من طريق الاستقامة.

مظاهر من نكص عن طريق الاستقامة

مظاهر من نكص عن طريق الاستقامة هذا الرجل الذي وقع في هذه المشكلة وهو يريد أن يترك طريق الاستقامة وأن يعود إلى الضلال بعد الهدى الذي كان عليه، دعونا الآن نأخذ جولة في أعماق هذا الشخص المتزلزل ما هو وضعه؟ ما هي حالته؟ ما هي أحاسيسه؟ بماذا يفكر الآن وبماذا يشعر؟

إظهار عدم الارتياح من الصالحين

إظهار عدم الارتياح من الصالحين إنه الآن يفكر في التبريرات والأعذار التي يقدمها لترك طريق الاستقامة، ماذا يقول لإخوانه من حوله؟ فبعض هؤلاء يبدأ بافتعال المشاكل وإثارة أجواء من عدم الارتياح مع الآخرين في النقاش وفي غيره، يظهر على سلوكه وعلى نقاشه أنه غير مرتاح، وأنه يتأفف وأنه يتضجر وأنه لا يعجبه شيء، وأن أسلوبهم غريب، وتتعالى أصواتهم ويكون دائماً هو الطرف المشاغب، وهو الذي يثير المشاكل في الأصل؛ لأنه يريد أن يتوصل من خلال إثارة المشاكل وافتعال هذه الأشياء إلى إيجاد المخرج الذي يخرج منه، وقد يصل به الأمر إلى الكذب والادعاء واتهام الأبرياء ليجد لنفسه المخرج المزعوم. والبداية في العادة لمثل هؤلاء الاعتذار عن المشاركة في أعمال الخير، فيتخلف عن حلق الذكر وعن الاجتماعات الطيبة والمناسبات الإسلامية مبرراً ذلك بأشياء، يقول: أنا مشغول مع أهلي، إن والدي يحتاج إلي، أنا عندي مسئوليات أسرية، أنا عندي أعمال تجارية، وأنا عندي انشغالات، تبريرات لترك الأشياء الطيبة، وإذا كان الشاب يظهر تركه للتمسك بالدين أحياناً بأن يقصقص لحيته أو يحلقها مثلاً، أو يسبل ثوبه، فإن الفتاة تظهر ذلك عادة بالتخفف من حجابها أو إظهار زينتها أو شيءٍ من عورتها التي أمرها الله بسترها، هذه البداية. طبعاً البداية أصلاً في القلب حاصلة؛ لأن القرار قد اتخذ بأن يتراجع الشخص عن هذه الأحكام الشرعية وعن هذا الطريق المستقيم، لكن متى يظهر وكيف يظهر؟ يظهر غالباً على الشكل الخارجي، فيبدأ كما ذكرت لكم بأن يخفف من مظهره الإسلامي فيطول ثوبه تدريجياً، وتقصر لحيته تدريجياً، والمرأة تبدأ تخفف من حجابها، يكون مثلاً كذا طاقة فوق بعض، فالآن هو يخف ويصبح شفافاً حتى يزول، كان المكياج من أول لا يظهر، الآن بدأ يظهر، الكعب العالي جداً يلبس، أشياء من الزينة ظاهرة.

الاعتذار عن أفعاله باختلاف العلماء

الاعتذار عن أفعاله باختلاف العلماء ومن مظاهر بداية التفلت كذلك: كثرة الانقطاع عن صلاة الفجر وعدم الحرص على أداء الجماعة في المسجد، وهؤلاء الأشخاص في العادة يحاولون أن يبرروا أفعالهم عن علمٍ أو عن جهلٍ، تبدأ التبريرات والأعذار تنطلق من هذه النفس الأمارة بالسوء فمثلاً يقول: إن العلماء قد اختلفوا في هذا، وهناك آراء أخرى، وهناك من يجيز هذا الأمر، وهذا قال بعض العلماء إنه مكروه، وهذا ليس محرم قطعياً، تبدأ الأعذار الآن تظهر لك. أين كان هذا الكلام من أول، الآن بدأت الأعذار تظهر، وبدأ التأليف على العلماء وأن بعضهم يقول، وأنه قرأ في كذا، واحد ينام عن الصلاة يقول: يا أخي في حديث من نام عن صلاةٍ أو نسيها فوقتها إذا ذكرها، فأنا لا بأس أن أنام عن الصلوات، كيف أنت تجبرني على هذا، انظر كيف يستخدمون الأحاديث على حسب الهوى، وعلى حسب ما تطلبه النفس الأمارة بالسوء.

التهرب من لقاء الصالحين

التهرب من لقاء الصالحين ومن الناس من يجيد التخطيط لترك الوسط الطيب الذي يعيش فيه، ويتسلسل في الانحراف تدريجياً، ويظهر هذا بأن يتحاشى رؤية إخوانه الطيبين المستقيمين، ويتهرب منهم بشتى الوسائل، فهو يتجنب أن يرد على الهاتف إذا شعر بأن الذي يتصل به أحد إخوانه الطيبين، أو يغلقه ولا يرد ولا ينبس ببنت شفة إذا عرف من المتكلم، وإذا طرق طارقٌ بابه يقول لأهله: قولوا له غير موجود، أو هو نائم، أو مشغول، هذا التهرب في كثيرٍ من الأحيان يكون عن تحرج، يعني: كيف يقابل إخوانه السابقين بهذه النفسية المتغيرة، وبهذا الوضع المتغير، وبهذا الظاهر المختلف عن ظاهر الاستقامة، وهذا التحرج هو الذي يدفعه في الغالب إلى التحاشي وعدم مقابلة إخوانه المسلمين. هذا الوضع في الحقيقة مع سوئه إلا أنه أهون من غيره، فبعض الناس يتحاشون أن يرى أي أثرٍ يربطه بواقعه السابق عن عداوة وبغض وكراهية لأصحابه وإخوانه السابقين لشخصياتهم ولما يحملونه من دينٍ وخلقٍ ومبادئ ومثل إسلامية، ولو أنه رضي أن يجلس مع أحد أصحابه الطيبين القدامى فإنه يتحاشى أن يفتح معهم أو يتحدث معهم في أي موضوعٍ يتعلق بمناقشة حالته السيئة وبتردي وضعه ويقطع الطريق على من يريد ذلك، إما بإنهاء المحادثة، أو تغيير الموضوع، أو الانصراف، هذه أشياء قد تقع الآن عملياً. وبالإضافة إلى الانقطاع عن لُقيا إخوانه الطيبين والانقطاع عن الالتزام في شخصه ومظهره، فإنه يبدأ كذلك في ترك أمورٍ أخرى من الدين، فقد يبيع كتب العلم التي كان يمتلكها. سبحان الله العظيم! الواحد لا بد أن يخشى على نفسه؛ لأن هذه أشياء قد تقع ويرى بعينه هذا الواقع، يكون عند الشخص كتب قد اشتراها واقتناها ليتفقه في الدين ويتعلم، فيقول مثلاً: ضعها في المسجد ودع المسلمين يستفيدون منها، وهو الذي كان جديراً وحرياً به أن يقرأ فيها ويستفيد منها، {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة:16] هؤلاء الذين استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير.

تيئيس الصالحين من عودته للاستقامة

تيئيس الصالحين من عودته للاستقامة هذا كله وصف لنفسية هذا الشخص وحالته، وكيف الآن يتردى من مستوى إلى آخر، قد يكون من تصرفاته العجيبة أن ييئس أصحابه الطيبين من عودته إلى طريق الاستقامة، كأن يدخن أمامهم عمداً، أو يتصل بواحدٍ منهم فيقول: حاول أن تنسى رقم هاتف منزلي، وقد تتطور الأمور أكثر، فيجد رفقة سيئة، يلتحق بمعسكر أهل الكفر والفسوق والعصيان، بالإضافة إلى أنهم يسعون أصلاً لضمه إليهم عداء لله ولرسوله ولدينه ولعباده الصالحين، وقديماً أيها الإخوة لما قاطع الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة كعب بن مالك لأنه تخلف عن الجهاد واثنين من الصحابة، فلما عزل ذلك الشخص عن المجتمع المسلم ما الذي حصل؟ سبحان الله! إنك لتعجب وأنت تقرأ رواية كعب بن مالك كيف وصل الخبر إلى ملك الأنباط فأرسل رسولاً إلى المدينة يقول لـ كعب: إنا سمعنا أن صاحبك قد جفاك، وإن الله لم يجعلك بأرض هوان، فالحق بنا نواسك. تستغرب عندما تعلم أنهم قوطعوا خمسين يوماً، قبل فترة جاءت الرسالة من ملك الأنباط إلى كعب بن مالك يقول: سمعنا أنه تغير وضعك وأن أصحابك قد جفوك، تعال عندنا ونحن سنكرمك، فانظر إلى مدى حرص أهل الجاهلية على التقاط هؤلاء الناس، وعلى استغلال وتحين الفرص، وكانت الرسالة تأخذ وقتاً للوصول، ولكن انظر إلى الاستغلال الذي يتم عن طريق أهل النفاق، يوصل الخبر بسرعة وتأتي الرسالة بسرعة. يقول كعب بن مالك: وإذا بسائل من الأنباط يسأل يقول: أين كعب بن مالك، فدلوني عليه، فلما قرأ الرسالة طبعاً الشخص الذي تربى على الأصول الإسلامية الصحيحة يرفض هذه المهاترات ويرفض هذه المساومات الخسيسة، ولذلك قال كعب رضي الله عنه: وهذا أيضاً من البلاء، فرميتها في التنور فسجرتها، قوله: هذا أيضاً من البلاء، أي: من الامتحان الذي يمتحنني الله به، الشيطان يريد أن يرجعني إلى أهل الكفر، أخذ الرسالة وألقاها في الفرن فاحترقت. وبعض هؤلاء المتساقطين يسقط بهدوءٍ دون أن يثير وراءه غباراً فيتوارى وينزوي في عالم النسيان وينتهي أمره، أما بعضهم فإذا أعمى الله قلبه فإنه يسقط وقد أصبح حرباً على الإسلام وأهله، وعلى دين الله، غاية همه الآن أن ينتقم وأن يفرق صف المسلمين، وأن يشكك كل من يريد الاستقامة، ويأخذ على نفسه العهد بهذا، إن من أعمى العمى الضلال بعد الهدى!

أحوال من تاب ثم انتكس

أحوال من تاب ثم انتكس هؤلاء أيها الإخوة! الذين يتخلفون والذين يتركون طريق الاستقامة أحوالهم أحوالٌ وأنواع، فمنهم من يعود فعلاً إلى ما كان عليه، وربما أكثر مما كان عليه؛ لأن التوبة تدفع إلى مزيد من الأعمال الصالحة، ومنهم من يعود ثم يرجع ثم يعود ويرجع وهكذا، ومنهم من يتمنى العودة ولكنه لا يعود، ومنهم من يذهب بغير عودة. وهذا شخص يقول في إحدى أسئلته: لي زميلٌ كان مستقيماً ثم رجع إلى فسقه، فنصحته فيستقيم ولكنه يعود مرة أخرى وينكص ويتردى، ثم ينصحه مرة أخرى فيعود ولكنه لا يلبث أن يتردى، فهناك بعض الناس عندهم قضية (يرجع إذا ذكر، وبعد ذلك ينسى مرة أخرى، ثم يعود وينسى وهكذا). وهذا آخر يقول: شابٌ في الخامسة عشرة من عمره يسير مع إخوة له صالحين؛ لكنه بين حينٍ وآخر تأتيه هفوات حتى أنه يتغير تغيراً مشيناً في مظهره وفي كلامه، ثم يعود ويصبح من أحسن الشباب الموجودين، هذا أحد الأسئلة التي جاءت مرة في مناسبة من المناسبات يقول: ثم يعود ويصبح من أحسن الشباب الموجودين، ثم يعود لأفعاله القبيحة ويتصرف تصرفات كأنه ليس شاباً مستقيماً على الإطلاق. فإذاً هذه المرحلة التي تكون في سن الشباب المبكر، يقع منهم هذا التذبذب كثيراً، وترى أنه يستقيم وينتكس وهكذا، حتى يكبر ويكون عنده نوع من النضج فيستقر على حالٍ معينة، قد يستقر على الاستقامة وقد يستقر على الانتكاس. وهذا آخر يقول: كنت شاباً ضائعاً وكتب الله لي الهداية على يد أحد الإخوان، وبعد مضي فترة من الزمن إذا بهذا الذي كانت هدايتي على يده قد انحرف، وكان السبب أنه قد ارتكب خطأً كبيراً، ولقد حاولت معه كثيراً ولكن دون جدوى، مع العلم أن أخي هذا حافظ لمعظم القرآن، وكان يعلم منه الصدق والإخلاص في دعوته، أرجو النصيحة. وهذا آخر يقول: أحد أصحابي في يوم من الأيام ينصحني بترك المنكرات وعدم إسبال الثوب وغيره حيث إنه كان مستقيماً في ذلك الوقت، وقد تراجع وهو الآن يدخن، ويعزف العود ويغني ويمثل بلحيته، وأود أن أنبهه ليعود إلى الحق، ماذا يفعل؟! واحد يقول: هداني الله على يد هذا الشخص ثم هذا الشخص سافر إلى الخارج ورجع وهو متغيرٌ كلية وتارك للصلاة. الانتقال من داعية إلى الله إلى كافر تارك للصلاة مرتد عن دين الله، ولذلك هذه قضية القلب قضية خطيرة، والله عز وجل مقلب القلوب، وقد ذكرنا لكم قصة ذلك الرجل الذي وصل إلى مستوى كبير من العلم ولكن أضله الله عز وجل على علمه، فإذاً هذا شيء يدفع الإنسان فعلاً أن يفتش في نفسه، وأن يتحسس، وأن يحاول أن يتخلص من جميع هذه الشرور والآفات التي قد تأتي في نفسه، ولذلك كان من الدعاء المأثور: (اللهم إني أعوذ بك من الحور بعد الكور) ما معنى الحور بعد الكور؟ يعني: إني أعوذ بك من النقصان بعد التمام والكمال، وهذا يحدث كثيراً.

علاج الضلال بعد الهدى

علاج الضلال بعد الهدى والآن نبدأ بذكر طائفة من العلاجات التي قد ينفع الله بها إذا ما تنبه إليها:

الوقاية بالتربية خير من العلاج

الوقاية بالتربية خير من العلاج أولاً: عند الأطباء قاعدة تقول: الوقاية خير من العلاج. وهذه القاعدة قاعدة إسلامية، ما هي الوقاية؟ الوقاية طبعاً هي سلوك سبيل التربية الإسلامية القوية الصحيحة، أي واحد لا يتربى على منهج الله تربية صحيحة فإنه معرض بنسبة كبيرة إلى الانهيار؛ لأن نفسه لم تتأسس على تقوى من الله ورضوان، بل إنها مؤسسة على شفا جرفٍ هار قد ينهار به في نار جهنم في أي لحظة. ولذلك أيها الإخوة: لا بد من تربية إيمانية تهتم بأعمال القلب، تهتم بارتقاء القلب إلى مستويات إيمانية عالية عن طريق ذكر الله عز وجل والإقبال عليه بالتوبة والإنابة والاستغفار، والخوف من الله، ومحبة الله، ورجاء الله عز وجل، وغيرها من الأشياء. ولا بد من أن تكون التربية علمية قائمة على منهاجٍ صحيح من الكتاب والسنة، غير قائمة على التقليد، وقد ذكرنا لكم قبل قليل حالات من الانتكاسات التي كان سببها تخريب الرجال، ولا بد أن تكون هذه التربية فيها وعيٌ يستطيع فيها المسلم أن يعرف الشر وأهل الشر ومصدر الشرور حتى يتحاشاها ويتجنبها، لا أن تدخل عليه من تحت ثيابه وهو لا يدري؛ لأنه مغلق العينين فاقد الوعي. ولا بد أن تكون هذه التربية متأنية متسلسلة ترتقي بالمسلم إلى كماله تدريجياً، وكثير من هؤلاء المتراجعين لا تظهر عليهم الأعراض الظاهرة للانتكاس والنكوص والتراجع من البداية لأن البداية كانت في القلب، إنك عندما ترى شخصاً قد تغير شكله وسمته الإسلامي إلى سمتٍ غير إسلامي، لا تظن أن التغير حدث الآن لما رأيت الظاهر تغير، لا، إنه حدث قبل فترة، إن نفسه كانت تراوده إن هذا القرار قد جاء بناء على مقدمات حصلت في نفسه، وتغيرات حصلت في قلبه. فإذاً لا بد أن ينتبه المسلمون لإخوانهم، لا بد من الرصد والتحليل للتصرفات وطريقة الكلام، وخفايا الإشارات والعبارات، فإن الفتنة تكون في البداية بذوراً، وبعد ذلك تنمو وتظهر على سطح الأرض، النبتة أيها الإخوة في بدايتها لا تكون ظاهرة على سطح الأرض، فإذا رويت بذرة الفتنة بماء الشيطان، ووضع لها السماد الشيطاني؛ فإنها لا تلبث أن تظهر على سطح الأرض، وأن تشق طريقها إلى الخارج، فأنت ترى شجرة الفتنة قد ظهرت على سطح الأرض الآن، لكن في الحقيقة أن الأمر من السابق يحدث، وأن المسألة لها وقت، ولها زمن حدثت فيه، ليست وليدة لحظتها وساعتها، وإنما هي نتيجة تفاعلات نفسية، النفس الأمارة بالسوء من السابق. فإذاً من واجب الإنسان المسلم الداعية إلى الله أن يتحسس هذه الأشياء في نفوس إخوانه والناس من حوله قبل أن تحدث وتظهر وتطفح على السطح، لا بد أن يغوص هو إلى الأسفل ليرى ماذا يحدث هناك، لا بد أن ينقب عن الجذور ليرى ماذا يتم هناك، كيف تعالج المشكلة أساساً قبل أن تكبر وأن تستفحل، ولا بد من قلع بذور الفتنة، وإلا فإن هذه الشجرة تنمو في أصل الجحيم ويخرج طلعها كأنه رءوس الشياطين.

التماس الأعذار له حدود

التماس الأعذار له حدود والملاحظ هنا أن بعض الناس إذا طرأ عليه نوعٌ من التغير في سمته الإسلامي فإن بعضاً ممن حوله يلتمسون له أعذاراً شتى بناء على حسن الظن، وأنه ربما كذا وربما لا تقلق يا أخي يمكن أنه مشغول، يمكن فعلاً عنده كذا، الظن الطيب شيء طيب، لكن عندما تكون هناك دلائل قوية فإن إغماض العينين عن المشكلة هو في الحقيقة غفلة عظيمة، وهو في الحقيقة استهتار بما يحدث، والمؤمن موصوف في القرآن والسنة بأنه إنسان ذو بصيرة، من غير المعقول أن هذا الشخص فيه تغيرات شتى وأنت تقول: لعله كذا ولعله كذا، وفي النهاية يسقط سقوطاً ذريعاً وتندم على جميع هذه الأشياء التي كنت تلتمسها له. بعض الناس لا يريدون أن يحسوا بالواقع السيئ، ويعز عليه أن فلاناً من إخوانه يحدث له أشياء، فيبدأ يعتذر له بأعذار ولا يعالجه ولا ينتبه إليه ثم تكون النهاية، فحسن الظن يكون إلى درجة معينة، لكن بعد ذلك لا بد أن تكون المواجهة والصراحة والجدية في العلاج واستدراك ما فات، فليس كل تأخرٍ عن صلاة الفجر سببه النوم الذي لا ذنب للشخص فيه. ليس كل واحد يتأخر مرات عن صلاة الفجر تقول: والله يمكن أنه مسكين معذور نومه ثقيل، قد يكون قد يكون هذه بداية النهاية. وليس كل تخلف عن حلق الذكر والعلم سببه انشغال الشخص بوالديه أو بطاعاتٍ أخرى. وليس كل إسبالٍ في الثوب أو طولٍ فيه سببه عدم انتباه الشخص إلى تفصيل الخياط أو أن الثياب الأخرى كلها متسخة.

تذكيره بالله وبما كان منه في الماضي

تذكيره بالله وبما كان منه في الماضي لنعلم يا إخواني أن علاج هذه المواقف هو في غاية الصعوبة والحساسية، وأنه شديد، لماذا؟ لأنه كما ذكرنا لكم من أعمى العمى الضلال بعد الهدى، ويوجد فرق بين شخصٍ عرف الحق وتركه وشخصٍ لم يعرف الحق أصلاً، أيهما أسهل؟ الذي لا يعرف الحق أصلاً هو في الغالب أسهل، لأنه إذا عرض عليه وأقنع بطريقة صحيحة فإنه يتقبل، لكن واحد عرف الحق وعرف الأدلة ثم استقام عليها فترة من الزمن وتذوق حلاوة الإيمان فترة من حياته، هذا الرجل إذا تراجع كيف السبيل إلى إرجاعه؟ وماذا تقول له؟ الآن لو أنك رأيت عاصياً ما عرف الحق ولا أحد ذكره من قبل فقلت له: يا أخي اتق الله عذاب النار والجنة كذا، وأنت إذا استقمت لك من النعيم كذا وكذا، وإذا فجرت واستمريت على العصيان ينتظرك عذاب القبر، وذكرته بعظمة الله فإن الرجل قد يتفاعل معك ويتغير ويترك المنكر، لكن واحد يعرف هذه الأمور كلها ومرت عليه كلها، بل إنه ربما كان يمارسها في الدعوة إلى الله في يوم من الأيام، ماذا تقول له الآن؟ أنت تقول: كذا، يقول: أنا عارف، وقد يضحك بك ويستهزئ بك وأنت تكلمه، لأنه يعلم هذه الأشياء، وهذه المصيبة، هذه الخطورة؛ ولذلك بعض الناس يستكثرون من حجج الله عليهم، وبعد ذلك ماذا تقول له، وبماذا تذكره؟ بالنار، هو يعرف تفاصيل عذاب جهنم، وربما يعرف أكثر منك، تذكره بعذاب القبر وهو يعرف تفاصيل عذاب القبر، ماذا تقوله له الآن؟ إنه يعرف كل شيء ويفهم كل شيء، وربما كان يجيد الكلام في الماضي عن المواضيع التي أنت تكلمه الآن فيها أكثر منك، فهنا يقع في نفس الشخص المخلص حيرة شديدة، كيف يبدأ؟ وماذا يقول؟ ومن أين تكون نقطة الإصلاح؟ قد يكون من الخير أيها الإخوة أن يركز مع هذا الرجل على جوانب التذكير بالله، وأعمال القلوب، ومحبة الله، وخوف الله، لأنه لن يرده شيء مثلما ترده هذه الأمور، أعني: أن بيان الأحكام ليس فيها رجاء كبير أن ترده لأنه عارف بأدلة الأحكام أكثر منك، لكن ما هو الشيء الذي يمكن أن يؤثر في الناس؟ لا تزال الأشياء الترقيقية والتذكيرية والتي فهيا ربط بالله عز وجل يمكن أن تكون هي الطريق، مع أنه قد يكون يعلمها، لكن {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55] التذكير هو بداية العلاج، فهذا رجل في حالته من الممكن أن نشبهه أحياناً بحالة الشخص الذي قد وقع في غيبوبة بسبب حادث وهو الآن راقد على السرير في المستشفى، وأهله من حوله وهم يحاولون أن يعيدوه إلى وعيه، فأمه تصرخ وتقول: يا فلان فلان! أنا أمك، أنا فلانة تذكرني، أبوه يقول له: يا فلان! يا ولدي! أنا فلان تذكرني، إخوانه يقولون له: نحن فلان وفلان إخوانك ألا تذكرنا؟! أما تذكر خالك فلاناً وعمك فلاناً، بيتنا في المكان الفلاني، أصدقاؤك فلان وفلان في المدرسة، هذا يحدث الآن في مثل حوادث السيارات وغيرها، يقع في غيبوبة ويبدأ يفتح عينيه تدريجياً، وأحياناً يغلقها ويعود للغيبوبة، ثم يفتحها تدريجياً ويعود لغيبوبة، ماذا يفعل من حوله؟ إنهم يحاولون أن يذكروه بأقرب الأشياء إليه، حتى يحاول أن يستعيد وعيه شيئاً فشيئاً، ولذلك يقول الأطباء لمن حوله من أقربائه: داوموا على تذكيره وتنبيهه، داوموا على أن تصل الأصوات إلى أذنيه، ربما أنه يرجع إلى وعيه، يتذكر شيئاً فشيئاً. هذا الشخص ممكن نقول أنه في مثل هذه الحالة، فإنك تهزه وتنبهه على أشياء في الماضي، هذه قضية مهمة، تذكير الشخص بأموره التي كانت في الماضي، ما تذكر كذا، كيف كنت تمارس كذا، تلك الأيام وتلك المجالس، ما حصل في المجلس الفلاني كذا من ذكر الله، ما حصل في المجلس الفلاني من الفوائد، وتحاول بشتى الأشياء أن يستيقظ هذا الرجل من الغيبوبة التي هي فعلاً غيبوبة؛ غيبوبة المعاصي والفسق تحتاج إلى واحد ينفض ويهز هزاً شديداً.

التودد إليه وإزالة شبهته أو شهوته

التودد إليه وإزالة شبهته أو شهوته ومن العلاجات المهمة: أن يقوم عدد محدود من أصدقائه السابقين ممن كان يرتاح إليهم كثيراً بالتودد إليه، ليس بالتردد عليه فقط بل بالتودد إليه وزيارته ومساعدته، وأن يكون كلامهم بعين الشفقة والعطف، لأنه مسكين يحتاج إلى المساعدة ويمر بظرفٍ سيئ. وقد تكون البداية الناجحة: أن يستخرج واحدٌ من هؤلاء الأسباب التي دعت هذا الشخص لأن يتغير، فإن كانت الأسباب شبهة أو شبهات فتزال بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، وإن كانت شهوة من الشهوات فينصح ويوجه بما هو مناسبٌ عن موضوع التوبة، وآداب التوبة، وسعة رحمة الله ومغفرة الله لعله يرجع؛ لأن غالب الناس إما أنه ينكص على عقبيه بسبب شبهة أو بسبب شهوة، فلا بد إذاً من تكملة العلاج واستخراج السبب، لماذا صار كذا؟ وكثير من هؤلاء لا تدري ماذا تتكلم عنه؛ لأنك لا تعرف لماذا حدث لهم هذا الشيء؟ ما هي المشكلة؟ أساس البلاء من أين؟ لا بد من استخراج أساس البلاء. وقد يكون في بعض الأحيان تدخل شخصٍ بعيدٍ نسبياً عن هذا الرجل لكن له مكانة في قلبه ذو فائدة إيجابية، خصوصاً إذا صار هذا المسكين إلى حالٍ لا يطيق فيها رؤية أحدٍ من المقربين إليه في السابق، فقد يشكو إلى البعيد أو يبث إلى البعيد أموراً لقيها من زملائه لا يستطيع أن يشكيها إليهم لأنه يعتبر أو يعتقد أنهم السبب، فلو جاءه شخصٌ آخر ينصحه أو يفتش في قلبه فقد يبوح له بسبب المشكلة التي لا يستطيع هو أن يقولها لهؤلاء الناس المقربين منه. وإذا كان هذا الشخص يرفض المقابلة وجهاً لوجه نهائياً، ويرفض أن يكلمه أحد فربما يكون من المناسب كتابة الرسائل المؤثرة المشحونة بالتذكير بالله، وبأخوته في الله، ومن الأشياء التي قد تعيد إليه وعيه وصوابه. ويستحسن أن تكون مثل هذه الأمور مواضيعٌ مسجلة أو مكتوبة سبق لهذا الشخص أن تأثر بها، فعن طريق هذه الأشياء التي تذكره وتربطه بالماضي، وتصل الخيط مرة أخرى ربما تكون هي بداية الرجوع.

عدم مجابهته على أنه عدو ضال

عدم مجابهته على أنه عدو ضال ومن الأخطاء العظيمة في علاج هذا الأمر: مجابهة الشخص على أنه كافرٌ أو مرتد، لا يسلم عليه، ولا ينظر إليه، وتجب مقاطعته وعدم زيارته، وألا يدعى إلى أية مناسبة، وألا تجاب دعوته، هذه من الأخطاء العظيمة؛ لأن هذا الشخص مسكين، كما يقول أحد السلف: أخي المذنب أحوج إلي من أخي المطيع، ذاك محتاج إليه فعلاً، يحتاج أن أمد إليه يد العون، ولذلك فإننا ننبه إخواننا في الله على خطورة الاستقبال السيئ الذي قد يستقبل به هذا الشخص إذا تغير، فأنت إذا تغير عليك لا تتغير عليه؛ لأن تغيرك عليه قد يقطع الخيط الأخير الذي قد يكون أملاً في رجوعه. وهناك حديثٌ لطيف وجميل جداً: هو أن أحد الأعراب جاء وسأل الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعطيه عطايا والرسول صلى الله عليه وسلم أعطاه شيئاً، فقال له: أحسنت إليك، قال: لا أحسنت ولا أجملت، فالصحابة هموا ليفتكوا به، واحد يقول للرسول صلى الله عليه وسلم هذا الكلام، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: دعوه، فدخل إلى بيته عليه الصلاة والسلام فأخرج عطايا أخرى وأعطاها للرجل، ثم سأله مرة أخرى: أحسنت إليك، قال: نعم جزاك الله خيراً ومن أهل ومن عشيرة. الآن هؤلاء الأعراب هذه أخلاقهم، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم للأعرابي: أنت قلت ما قلت بالأمس وسمعك أصحابي، ولو أنك غداً قلت لهم هذا الكلام الذي قلته لي الآن أمام الناس الذين قلت لهم العكس، هذا طبعاً علاج حكيم من الرسول صلى الله عليه وسلم لنفوس أصحابه حتى يشفي صدورهم من حال أخيهم المخطئ، فمن الحكمة أن يشفي صدورهم من حاله، حتى لا يبقى في نفسهم شيء عليه. ففي اليوم التالي جاء الأعرابي وسأله الرسول صلى الله عليه وسلم فقال الرجل: جزاك الله من خيرٍ ومن أهلٍ ومن عشيرةٍ، أنت أعطيتني وأكرمتني، فالصحابة سروا بهذا الكلام، فقال عليه الصلاة والسلام: (مثلي ومثل هذا كمثل رجلٍ له ناقةٌ شردت عليه) الآن أنت الآن اربط بين الموضوع الذي نتكلم فيه وهذا المثل النبوي، نتكلم الآن في موضوع شخص شرد عن الحق، كيف يرجع، كيف يعاد يقول عليه السلام: (مثلي ومثل هذا كمثل رجل له ناقة شردت عليه فاتبعها الناس فلم يزيدوها إلا نفوراً، فقال لهم: خلوا بيني وبين ناقتي، فإني أرفق بها منكم وأعلم، فتوجه بين يديها -يعني: بحيث أنها تراه- فأخذ من قمام الأرض فردها حتى جاءت واستناخت وشد عليها رحلها واستوى عليها، وإني لو تركتكم حيث قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار) لأنه سب الرسول صلى الله عليه وسلم. فأنتم الآن أيها الإخوة انظروا معي في هذا العلاج الرفيق، وكيف يعاد الشارد، لا يعاد الشارد بالعدو والجري وراءه، والإصرار والرجل لا يريد، وإنما تكون القضية برفق وبهدوء، وبتقديم الأشياء الجذابة التي تعيده، وإذا عاد لا يلقى عليه فجأة هذا الرحل، وإنما يعاد فيبرك ويستريح ويعاد إليه الرحل ويشد عليه، ثم يركبه صاحب الناقة عند ذلك. إذاً: المسألة خطوات وحكمة ورفق وعلم، والرجل قال: فإني أرفق بها منكم وأعلم.

تدارك الشر قبل استفحاله

تدارك الشر قبل استفحاله ومن الإشكالات التي تحدث في هذا الأمر طول المدة، فإن هذا الرجل الذي رجع أو الذي سقط أو هوى في الرذيلة إذا طال عليه الأمد وهو في مرحلة الانتكاس فإنه يستمرئ المعصية ويعتاد جو الفتنة، ويذهب شيئاً فشيئاً تأنيب ضميره له، وكلما استمر الوقت أكثر كلما قلت فرصة الرجوع أكثر، فإذاً لا بد أن يكون العلاج من البداية، وألا يأتي العلاج متأخراً جداً وقد انتهت القضية وصار في نقطة اللا عودة.

استغلال نقطة الحنين إلى الماضي

استغلال نقطة الحنين إلى الماضي ومن الأمور المعينة على العلاج التي يجب أن يتنبه لها: أن كثيراً من هؤلاء المنتكسين في كثيرٍ من الأحيان يكون له نوع حنينٍ من الماضي، مهما كان هذا الرجل، ومهما تغير وساءت أحواله فإنه في الغالب يكون له نوع حنينٍ إلى الماضي وإلى رفقته الطيبة السابقة، وقد يحدث نفسه بالرجوع ولكن قد يسوف يقول: فيما بعد، أنا ناوٍ أن أرجع، أنا سوف أعود أنا سوف، وقد تمنعه اعتباراتٌ شخصية من ذلك، نضرب مثالاً حدث: هذه الرواية الله أعلم بصحتها ولها أسانيد فيها الواقدي، والواقدي متروك عند علماء الحديث، لكن لها أكثر من طريق الله أعلم بصحتها ولكنها مشهورة في كتب التاريخ، وساقها ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية بعدة طرق: هذه قصة جبلة بن الأيهم: وكان من ملوك النصارى في جزيرة العرب، جاء وأسلم ويقال: إنه كان يطوف بالكعبة على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فجاء رجل من فقراء المسلمين فوطئ على إزار أو رداء جبلة بن الأيهم، فـ جبلة ملك هو يرى نفسه ملكاً من الملوك فكيف يطأ هذا الفقير الصعلوك على إزاره، فلطمه لطمة ذهبت بعينه أو بأنفه، فرفع الأمر إلى عمر فقال عمر: لا بد من القصاص لا بد من القصاص، قال: كيف يقتص مني لهذا الصعلوك؟ فـ عمر قال: هذه شريعة الله، قال جبلة: آتيك في الصباح فيقال: إنه في الليل جمع أصحابه وكان أتى في حاشية وسرى بهم في الليل وهرب، وارتد عن دينه وذهب إلى ملك الروم فاستقر عنده، وأكرمه ملك الروم وأغدق عليه وأعطاه أشياء كثيرة، هذا الرجل قيل وردت عنه أبيات تبين لنا نفسية مثل هذا الشخص، لأن تحليل النفسيات وفهم النفسيات في مثل هذه الحالة مهمة جداً، يقول وهو يعترف بخطئه وندمه، يعبر عن حالته بهذه الأبيات: تنصرت الأشراف من عار لطمة وما كان فيها لو صبرت لها ضرر تكنفني فيها اللجاج ونخوة وبعت بها العين الصحيحة بالعور فيا ليت أمي لم تلدني وليتني رجعت إلى القول الذي قاله عمر ويا ليتني أرعى المخاض بقفرة وكنت أسيراً في ربيعة أو مضر ويا ليت لي بـ الشام أدنى معيشة أجالس قومي ذاهب السمع والبصر أدين بما دانوا به من شريعة وقد يصبر العود الكبير على الدبر الرجل هذا يتحسر ويتندم ويقول: يا ليتني كنت راعي غنم، يا ليتني كنت خادماً، يا ليتني كنت ذاهب السمع والبصر، فقط أني أعيش في ديار المسلمين وأدين بما دانوا به من الشريعة، وقد يصبر العود الكبير على الدبر؛ الدبر وهو مرض يصيب الحيوانات في ظهرها، والحيوان الكبير طبعاً ليس له إلا الصبر على هذا المرض الذي إذا جاء في ظهره، يعني يقول: يا ليتني ما فعلت الذي فعلت، وأخذت قول عمر، ويا ليتني رجعت إلى الحق، كثيرٌ من الناس الذين يتراجعون وينكصون نفسياتهم شبيهة جداً بنفسية جبلة بن الأيهم، ولكن يمنعهم من العود اعتباراتٌ شخصية لا بد من مراعاتها وإزالتها، ولو قدر الله سبحانه وتعالى أن هذا الشخص عاد مرة أخرى واستجاب للعلاج فإن من الأمور المهمة في بداية عودته أشياء مهمة جداً: إظهار الفرح باستقباله وعودته، وعودة العلاقات الطبيعية معه إلى الوضع الطبيعي جداً، وعدم إظهار أي نوعٍ من التغيرات، أو إعادة البحث فيما مضى من صفحته السوداء، وذلك كي ينسى تلك الفترة وتطوى طياً بالكامل، ولكن لو قدر الله أن الرجل يستمر في انتكاسته وفي ضلاله ويستمر على الباطل الذي هو عليه ويتردى، فلو قضى الله عليه بذلك فلا يمكن لو حاول جنود الأرض والسماوات أن يعيدوه على ما كان عليه فلا يعود. الله عز وجل يقول: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية:23] قسم الله الخلق إلى أشقياء وسعداء وكتب الكتاب وقدر الأقدار وانتهى الأمر، قد لا يعود برغم جميع الجهود التي تبذل، وهنا يكون وضعه درساً وآية من آيات الله يخوف الله بها عباده المؤمنين على أنفسهم أن ينكصوا وأن يتراجعوا ويسقطوا.

عدم رد السبب في الانتكاس إلى الوسط المعايش

عدم رد السبب في الانتكاس إلى الوسط المعايش وأخيراً: قد يسبب هذا الوضع حالة من حالات الخوف والذعر بين إخوانه أكثر مما ينبغي، قد يسببه زهد من حول هذا الشخص من إخوانه في الله وفي نظرتهم إلى ذلك الوسط الذي يعيش فيه، وقد يستدل البعض بانحراف ذلك الشخص على سوء الوسط الذي يعيشون فيه، ولكن ينبغي أن نعلم أن الله قد كتب على أناس الضلال، وكتب عليهم الشقاوة فماذا نملك لهم؟ بعض الناس يخاف على نفسه، وقد يحدث له من شدة الخوف نفس الشيء. واحد قد يرى هذا فيتملكه الخوف الشديد والذعر ويحس أنه سيسقط وفعلاً يسقط، ولذلك لا بد أن نتأمل هذه الآية: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التوبة:115] قال الشيخ السعدي رحمه الله في التفسير: إن الله تعالى إذا امتن على قومٍ بالهداية وأمرهم بسلوك الصراط المستقيم، فإنه تعالى متمم لهم إحسانه، ويبين لهم جميع ما يحتاجون إليه، وتدعو إليه ضرورتهم، فلا يتركهم ضالين جاهلين بأمور دينهم. ويحتمل أن المراد بذلك: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة:115] فإذا بين لهم ما يتقون فلم ينقادوا له عاقبهم بالإضلال جزاء لهم على ردهم الحق المبين، والأول أولى. وختاماً: فهذه كلمات من كلام ابن القيم أسوقها في ختام هذا الموضوع إلى ذلك الشخص الذي كان مستقيماً فانحرف وتلوث بالمعاصي، فرجع إلى نفسه رجعةً تذكر فيها حلاوة الماضي وطعم الإيمان الذي فقده، فتشوقت نفسه للرجوع، نسوق له كلام ابن القيم رحمه الله، اسمعوا هذا الكلام فهو في غاية الجودة في التعبير عن المقصود، يقول على الرجل الذي انتكس ويريد العودة: وصاحب هذا المشهد يشهد نفسه كرجلٍ كان في كنف أبيه، يغذيه بأطيب الطعام والشراب، ويلبسه أحسن الثياب، ويربيه أحسن التربية، ويعطيه النفقة، وهو القيم بمصالحه كلها، فبعثه أبوه يوماً في حاجةٍ له فخرج عليه في طريقه عدو فأسره وكتفه وشد وثاقه، ثم ذهب به إلى بلاد الأعداء فسامه سوء العذاب، وعامله بضد ما كان يعامله به أبوه، فهو يتذكر تربية والده وإحسانه إليه الفينة بعد الفينة، فتتهيج من قلبه لواعج الحسرات كلما رأى حاله، ويتذكر ما كان عليه وكل ما كان فيه، فبينما هو في أسر عدوه يسومه سوء العذاب، ويريد ذبحه في نهاية المطاف، إذ حانت منه التفاتة نحو ديار أبيه -الآن هذه مرحلة تذكر الشخص المنتكس الماضي ويريد الرجوع- فرأى أباه منه قريباً فسعى إليه وألقى نفسه عليه، وانطرح بين يديه يستغيث: يا أبتاه! يا أبتاه! يا أبتاه! انظر إلى ولدك وما هو فيه، ودموعه تسيل على خديه، قد اعتنقه والتزمه، وعدوه في طلبه حتى وقف على رأسه -الولد الآن عند أبيه والعدو يسعى يطالب به حتى وقف عند رأسه- وهو ملتزمٌ بوالده ممسكٌ به فهل تقول إن والده يسلمه مع هذه إلى عدوه ويخلي بينه وبينه؟! فما الظن بمن هو أرحم بعبده من الوالدة بولدها، ومن الوالد بولده، إذا فر عبدٌ إليه وهرب من عدوه إليه وألقى بنفسه طريحاً ببابه يمرغ خده في ثرى أعتابه باكياً بين يديه، يقول: يا رب يا رب ارحم. وصلى الله على محمد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

مقومات النصيحة الناجحة [2، 3]

مقومات النصيحة الناجحة [2، 3] النصيحة: هي إحسان إلى المنصوح بصورة الرحمة له، والنصيحة قد جاءت الأدلة عليها من الكتاب والسنة، لكن هناك فرق بين النصيحة والتشهير، وبين النصيحة والغيبة، فالنصيحة لها شروط لا بد من تواجدها عند النصيحة، حتى تكون مقبولة ويكون لها أثر في نفس المنصوح.

تعريف النصيحة

تعريف النصيحة الحمد لله، أحمده سبحانه وتعالى وأثني عليه الثناء الجميل بما هو أهل له، وصلى الله وسلم وبارك على محمد عبد الله ورسوله الداعي إلى صراط الله المستقيم، الذي أرسله الله رحمة للعالمين بشيراً ونذيراً، فأدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده. أيها الأخوة: موضوعنا لهذه الليلة موضوع مهم، ويكفي في التدليل على أهميته حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: (الدين النصيحة) يعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم الدين بأنه النصيحة. وهذا الموضوع -أيها الإخوة- يتكون من ثلاثة أركان: 1 - الكلام على الناصح. 2 - الكلام على المنصوح. 3 - الكلام على النصيحة. لأن أركان هذا الموضوع ثلاثة: ناصح، ومنصوح، ونصيحة. وقبل أن نبدأ في الكلام على الأركان الثلاثة لهذا الموضوع فلا بد من مقدمة يكون فيها تعريف النصيحة وأهميتها ومجالاتها. فأقول وبالله التوفيق وأسأله سبحانه وتعالى أن يقينا الزلل ويجنبنا الباطل والوقوع فيه. أيها الإخوة: كلمة نصيحة مأخوذة من الفعل العربي نصح، قال ابن منظور في لسان العرب: نصح أي: خلص، والناصح أي: الخالص من العسل وغيره، العسل إذا كان صافياً يسمى ناصحاً أي: خالصاً، ويقال: نصحاً ونصيحة في المصدر، وتقول: نصحت فلاناً ونصحت له، تقول: نصحته ونصحت له، ونصحت له أفصح؛ لأن القرآن ورد بهذا، فقال عز وجل عن نبيه نوح عليه السلام: {وَأَنْصَحُ لَكُمْ} [الأعراف:62]. ويقال: انتصح فلان أي: قبل النصيحة، وقال ابن حجر رحمه الله: النصح هو تخليص الشيء من الشوائب والغش. فكأنه شبه الناصح بأنه يخلص المنصوح من الغش، ويخلصه من الشوائب التي علقت به وبحاله، كما يخلص العسل من الشمع والشوائب، ومنه قول الله عز وجل: {تَوْبَةً نَصُوحاً} [التحريم:8] ما هي التوبة النصوح؟ التوبة الخالصة من شوائب الرياء، والذنوب، والإصرار، وعدم الندم إلى آخره، فالتوبة النصوح من هذا الباب. النصح هو الخياطة، والمنصحة هي الإبرة، والمعنى: أن الإنسان يلم شعث أخيه يلم ما ظهر من أخيه من عيوب بالنصيحة، كما أن الإبرة تلم الثوب المهتري الذي يراد رتقه، فتأتي هذه الإبرة فتلم شعث هذا الثوب، فكذلك الناصح يلم شعث أخيه وما ظهر منه من العيوب. قال ابن الأثير رحمه الله: النصيحة كلمة يعبر بها عن جملة، وهي: إرادة الخير للمنصوح له، ذكرنا التعريف في اللغة وهذا هو التعريف في الشرع. وقال ابن الأثير رحمه الله: فلا يمكن أن يعبر عن هذا المعنى بكلمة واحدة غير كلمة النصيحة، أي: بلغ من جماع هذه الكلمة وبلاغتها أنه لا يمكن التعبير عن هذا المعنى بكلمة واحدة إلا كلمة النصيحة. وقد جاءت هذه اللفظة في القرآن الكريم بصيغ شتى: جاءت بصيغة الفعل، وجاءت بصيغة الاسم والمصدر، فمن ذلك أن الله ذكر هوداً عليه السلام بصيغة الوصف، فقال: {وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ} [الأعراف:68] بصيغة الوصف، وذكر نوحاً عليه السلام بصيغة الفعل، فقال عز وجل عن نوح عليه السلام: {وَأَنْصَحُ لَكُمْ} [الأعراف:62] أنصح فعل، والفعل يدل على تكرار الحدوث، أي: عندما تقول: أنصح، يعني: أستمر في النصيحة نصيحة بعد نصيحة، وإذا قارنا بين نوح وهود فمن كان أكثر نصحاً لقومه في التكرار؟ نوح؛ لأن الله قال في القرآن: {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً} [نوح:8 - 9] بالليل والنهار سراً وعلانية، فكان دائماً يكرر، فلذلك جاء التعبير عن دعوة نوح ونصيحته لقومه من شأن الدال على تكرار الحدوث، بينما جاء عن هود عليه السلام بالمصدر الدال على حدوثه حيناً بعد حين، وفترة بعد فترة، وهذه المسألة هي من الأهمية بمكان، فإن الله عز وجل أبلغنا أنها كانت وظيفة الرسل، فقال عن نوح عليه السلام: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:62] وظيفة نوح والرسل هي النصيحة بدليل هذه الآية. وكيف استطاع إبليس لعنه الله أن يخدع أبانا آدم وأمنا حواء عن طريق النصيحة، ما هو الدليل؟ {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:21] قال: أنا ناصح وأريد النصيحة هذه {شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} [طه:120] أنا ناصح، فما تبعاه إلا بعد أن قاسمهما {إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:21] فانظر إلى عمق القضية، وكذلك كيف اقتنع فرعون ومن معه في بيته بأن تأتي أخت موسى لهم بأمه؟ لم يقتنع إلا بعدما دخلت عليه الأخت من باب النصيحة، أن هذه المرأة التي ستأتي بها ناصحة، فقالت أخت موسى لما عجزت النساء عن إرضاع موسى عليه السلام فجلس يتلوى ويبكي قالت لهم: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} [القصص:12] فعند ذلك اقتنعوا وأتي بأم موسى فصارت ترضع ابنها وتأخذ الأجر. لقد جعل الله النصيحة حيلة العجزة، وعذر القاعدين للضرورة، ورافعة للحرج عنهم في حالة قعودهم، الناس الذين لم يستطيعوا الجهاد بسبب المرض أو الشيخوخة جعل الله عز وجل النصيحة عذراً لهم في القعود، إذا قعدوا ما عليهم حرج بشرط أن ينصحوا، قال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة:91] ما عليهم حرج في حالة {إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة:91]. وعن أبي رقية تميم بن أوس الداري -وهو صحابي جليل كني بابنته؛ لأنه لم يكن له غيرها- قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) رواه مسلم. لقد عظم الرسول صلى الله عليه وسلم النصيحة فجعلها هي الدين، لماذا؟ لعظمها، قال صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة) عرَّف الدين بأنه نصيحة؛ لأن النصيحة هي جل الدين، كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (الحج عرفة) هل الحج كله عرفة؟ لا. لكن لعظم عرفة في الحج وهو أعظم ركن في الحج، فقال: (الحج عرفة) كذلك هنا قال: (الدين النصيحة) فإن قلت: يا أخي، ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم لما سأله الصحابة: لمن يا رسول الله النصيحة؟ قال: لله، كيف تكون النصيحة لله؟ قد يقول بعض الناس: هل يحتاج الله إلى نصح؟ كيف ينصح العبد ربه؟ فنقول: إن الله تعالى لا يحتاج إلى نصيحة، ولكن النصيحة لله كما قال العلماء: تكون بالإيمان به إيماناً كاملاً بأسمائه وصفاته من غير التعرض لها بأي نوع من أنواع التحريف أو التعطيل أو التشبيه، وطاعة أوامر الله عز وجل والانتهاء عما نهى عنه، وتعظيم حرماته وهكذا، هذه هي نصيحة العبد لربه. فإن قلت: وما نصيحة العبد لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأقول لك كما قال أهل العلم في شرح الحديث: طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وتعظيم حقوق الرسول صلى الله عليه وسلم، والإحسان إلى أهل بيته وإلى ذريته، والقيام بسنته والذب عنها، وتميز صحيحها من سيقيمها، ونشر السنة بين الناس، هذه نصيحة المؤمن لرسوله صلى الله عليه وسلم. فإن قلت: ما معنى قوله عليه الصلاة والسلام: ولكتابه؟ كيف تكون النصيحة للقرآن؟ النصيحة للقرآن هي الإيمان بأنه كلام الله تعالى منزل غير مخلوق، والإيمان بمحكمه ومتشابهه، والعمل بالمحكم وتطبيقه في الواقع، وتلاوته حق التلاوة وهكذا، هذه هي النصيحة للقرآن. أما النصيحة لأئمة المسلمين: فإن كانوا أبراراً يتقون الله عز وجل فإن نصحهم بطاعتهم واتباعهم وتأييدهم، ونصرتهم والجهاد معهم، والقيام بحقوقهم وعدم شق عصا الطاعة عليهم وهكذا. والنصيحة لعامة المسلمين إرشادهم وتعليمهم وتفقيههم بأمور دينهم. فانظر رحمك الله كيف جمع هذا الحديث أمور الدين كله، والآن تعلم -يا أخي- كيف كان الدين والنصيحة.

أثر النصيحة في المجتمع الإسلامي

أثر النصيحة في المجتمع الإسلامي أثر النصيحة في المجتمع الإسلامي أثر عظيم جداً، أولاً: تسقط الواجب عن القائم بالنصيحة، فإن النصيحة واجبة، فإذا قام الإنسان بها فقد سقط الواجب عنه. ثانياً: فيها تحقيق معنى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جزء من النصيحة. ثالثاً: تنظيف المجتمع من المحرمات والمنكرات والسلبيات والموبقات، هذه كلها من نتائج النصيحة. رابعاً: القيام بحقوق الأخوة الإسلامية لا يتحقق إلا إذا قمنا بواجب النصيحة. خامساً: النصيحة تعبر عن تكامل المجتمع المسلم، فهي مظهر من مظاهر المجتمع المسلم، الآن عندما نقول: إن المجتمع المسلم مجتمع عظيم، وعندما نقارن بين المجتمع المسلم والمجتمعات الأخرى، تبرز النصيحة معلماً بارزاً من معالم المجتمع الإسلامي، دلونا على أي مجتمع يطبق النصيحة؟ بالعكس تلقى المجتمعات الأخرى غير الإسلامية مجتمعات أنانية، لا أحد ينصح أحداً، ولا أحد يعلم أحداً، وإذا علم أحد مصلحة في أمرٍ كتمها وأخفاها وصار انتهازياً ينتفع هو منها ويخفيها عن الآخرين، ولا أحد يصلح خطأ الآخر ودعوى الحرية الشخصية تسير في تلك المجتمعات، ولا أحد ينكر على أحد أي شيء؛ لأن كل شخص حر في نفسه، ولهذا استشرى الفساد وعم في المجتمعات الأخرى. أما المجتمع الإسلامي فمن أهم ميزاته وعناصر تكوينه وبروزه وثباته واستمراريته: النصيحة، تصور الآن لو طبقنا النصيحة تطبيقاً صحيحاً، هل يكون هناك منكر في المجتمع؟ لو طبقنا النصيحة تطبيقاً صحيحاً هل يتخلف المسلمون؟ لا يمكن، فما وقع الآن من تقصير وإهمال في النصيحة أدى إلى هذا التخلف الذي عليه المسلمون. النصيحة لا تنطلق إلا بشعور بالمسئولية، أي: متى فرط المسلمون بالنصيحة؟ لما فقدوا الشعور بالمسئولية، وعندما تشعر بالمسئولية عن أفراد المجتمع، وتشعر بالمسئولية عن حقوق الله التي فرضها عليك، عندئذ تقوم وتنصح، لكن إذا لم يكن عندك شعور بالمسئولية فلن تنصح، ولذلك الناس الذين لا يشتغلون بالدعوة ولا بالنصح، مسئوليتهم وشعورهم بالمسئولية ميتان، لذلك لا يقومون بحقوق النصيحة. وانظر معي إلى هذا الحديث العظيم الصحيح عن جرير بن عبد الله قال: (بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم) رواه البخاري، وزاد مسلم في صحيحه: (على السمع والطاعة فيما استطعت، والنصح لكل مسلم) فبايع صلى الله عليه وسلم جرير بن عبد الله، وكان من سادات قومه، كان ملكاً متوجاً فيهم -كبيراً فيهم- جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فبايعه على السمع والطاعة، وهذا شيء عظيم جداً، والصلاة والزكاة من أركان الدين، والنصح لكل مسلم، اشترط الرسول صلى الله عليه وسلم في البيعة النصح، لأهميته، وقرنه بالسمع والطاعة، والصلاة والزكاة دلالة على عظم النصح. ولذلك كان جرير بن عبد الله قد انتصح نصحاً عظيماً من هذه البيعة، فقام بواجب النصيحة على أتم وجه، فكان يكثر النصح كما أشار شراح السير في ترجمة جرير بن عبد الله راوي هذا الحديث، أنه كان يكثر النصح جداً، ويبذل النصيحة لكل أحد، حتى في البيع والشراء، حتى قيل: إن غلامه اشترى له فرساً بثلاثمائة درهم، فذهب جرير بن عبد الله إلى البائع، وقال له: إن فرسك خير من ثلاثمائة فجعل يزيده حتى بلغ به ثمانمائة درهم. ووقع في صحيح البخاري -أيضاً- وخطب جرير، وهو جزء من الحديث، فقال: (أما بعد: فإني أتيت النبي صلى الله عليه وسلم قلت: أبايعك على الإسلام؟ فشرط عليّ النصح لكل مسلم، فبايعته على هذا، ورب هذا المسجد إني لناصح لكم ثم استغفر الله ونزل).

حكم النصيحة

حكم النصيحة إذا أردنا أن نعرف ما حكم النصيحة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حق المسلم على المسلم ست) وذكر منها: (وإذا استنصحك فانصحه) فانصحه: أمر، ضع صيغة الأمر التي تدل على الوجوب أصلاً، ضعها وزد عليها، كلمة (حق) في بداية الحديث: (حق المسلم على المسلم) والحق كما ذكر ابن حجر رحمه الله لا بد أن يؤدى، فرجح ابن حجر رحمه الله أن النصيحة واجبة؛ أولاً: لأن الأمر يقتضي الوجوب. ثانياً: لأن الكلمة في البداية كلمة حق، أي: لا بد أن تؤدى، لأنه حق: (حق المسلم على المسلم)، وقال في دليل الفالحين: "حكمها الوجوب على قدر الحاجة إذا أمن على نفسه". وقال ابن حجر رحمه الله: هل ينصح للكافر؟ فقال: ينصح الكافر بدعوته إلى الإسلام، ويشار عليه بالصواب إذا استشار -مثلاً-: لو جاءك كافر وقال لك: أشتري سيارة كذا أو كذا؟ فيشار عليه بالصواب، لأن هذا من عموم النصيحة، وهذا من باب دعوته إلى الله عز وجل وتأليف قلبه فيما لا يترتب عليه ضرر بالمسلمين، وهذا الشرط واضح.

مجالات النصيحة

مجالات النصيحة هنا يقودنا الحديث إلى الكلام عن مجالات النصيحة، الآن فهمنا من الكلام السابق أن النصيحة في الدين تعني: أن يأتي أحد ينصحك ويقول لك: يا فلان! اتق الله، هذا منكر، هذا لا يجوز، أو يا أخي! أدلك على باب من أبواب الخير: لو تطبع الكتاب الفلاني، أو مثلاً: لو تبني مسجداً في هذا المكان، لو تتصدق بكذا وكذا، أنت ميسور الحال وهكذا، هذه نصائح في الدين.

النصيحة في الأمور الشرعية وتعديها إلى غيرها

النصيحة في الأمور الشرعية وتعديها إلى غيرها هل النصائح فقط في الأمور الشرعية، أم أنها تتعدى إلى أكثر من هذا؟ الحقيقة أنها تتعدى إلى أكثر من هذا، فمن النصيحة للمسلم بالإضافة إلى ما ذُكِرَ سابقاً، نصيحة المسلم بالأخطار التي تحيط به، إذا أحسست بأن أخاك المسلم في خطر فعليك أن تنصحه فوراً، وتنبهه على هذه الأخطار المحدقة به، وكيف السبيل إلى النجاة منها؟ الدليل: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى} [القصص:20] أي: من آخر المدينة مع طول المسافة (يسعى) يشتد بالمشي {قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} [القصص:20] فالنصيحة هنا ماذا ترتب عليها؟ وماذا تطلبت من هذا المؤمن الذي كان يخفي إيمانه لما علم بالمؤامرة وبالتخطيط لقتل موسى؟ ماذا استشعر هذا المسلم الذي يخفي إيمانه من واجب النصيحة؟ أن يأتي من أقصى المدينة مع طول المسافة ويشتد ويسعى في المشي حتى يأتي إلى موسى وينبهه إلى الخطر، يقول له: انتبه احذر {إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ} [القصص:20] دله أولاً على الخطر، ثم دله على السبيل، فاخرج من هذه المدينة ولا تختبئ؛ لأنهم سوف يبحثون عنك ويمسكوك: {فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ} [القصص:20 - 21] وخرج إلى مدين إلخ آخر القصة فانظر رحمك الله إلى الفقه العظيم الذي فقهه أولئك المؤمنون الأوائل من هذه القضية.

النصيحة في الأمور الدنيوية

النصيحة في الأمور الدنيوية كذلك يدخل في مسألة النصيحة نصيحتك لأخيك المسلم في جميع الأمور الدنيوية، كأن يريد أن يشتري سيارة ويستشيرك فتشير عليه بالصواب، أو يريد أن يشتري بيتاً في أي موقع فتشير عليه بالصواب، هل هذا الثمن معقول أو غير معقول؟ تنصحه، أو أنه قال لك: أريد الزواج من فلانة بنت فلان، كيف بيت فلان؟ تنصحه، وهل أدخل في هذه الوظيفة أم لا أدخل؟ أشتري السلعة الفلانية أم لا أشتريها؟ إذاً أيها الإخوة: المسألة واسعة وكبيرة جداً، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح كما في صحيح الجامع: (ومن أشار على أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه) يقول لك شخص: والله أنا أشير عليك يا فلان أنك -مثلاً- تستثمر أموالك في المشروع الفلاني، وهو يعلم أن الرشد في غيره، وهو يعلم أن الصحيح أو الأكثر ربحاً والأنفع أن يستثمر في مجال آخر، فقد خانه، والخيانة عظيمة، والخائن يرفع له لواء يوم القيامة يقال هذا غدرة فلان بن فلان.

الرد على من يقول: إن النصيحة تدخل في الحريات الشخصية

الرد على من يقول: إن النصيحة تدخل في الحريات الشخصية أيها الإخوة: تبرز شبهة، وهي أن بعض الناس يقول: إن النصيحة تدخل في الحريات الشخصية؟ فيقول لك: لماذا يا فلان تطرق بابي؟ أو لماذا توقفني -مثلاً- في المسجد، أو في الطريق أو في الوظيفة وتقول لي: يا فلان! اتق الله لا تفعل هكذا، هذا لا يجوز، هذه حياتك فيها الأمر الفلاني خطأ، وبيتك فيه الأمر الفلاني خطأ، شخصيتك فيها الخلق الفلاني خطأ، يجب أن تغيره، تصورك في القضية الفلانية ليس صحيحاً، فيأتي هذا يقول: مالك ولي؟ هذه حياتي وأنا حر فيها، وبيتي أنا حر فيه، وشخصيتي أنا حر فيها، وأخلاقي أنا حر فيها، وتصوراتي أنا أتصور ما أراه مناسباً وأنا حر في تصوراتي؟! نقول: إن الحرية الشخصية مكفولة في الإسلام، وإلا لماذا جعل القصاص في الإسلام؟ ولماذا جعل حد السرقة؟ ولماذا جعل حد القذف؟ لو قال شخص لشخص: يا زاني! وذاك بريء، يجلد ثمانين جلدة حد القذف، لماذا يجلد علىالقذف؟ لأن هذا من باب احترام وإرساء قواعد الحرية الشخصية في النظام الإسلامي، الإسلام يريد من المسلم أن يكون إنساناً حراً مكفول الحرية، لا أحد يستطيع أن يعتدي عليه، لكن هل يرضى الإسلام أن ينطلق الناس في حرياتهم الشخصية فيتجاوزون الحدود، ويقعون في المحرمات، ويعصون الله تعالى، وينتهك كل واحد حرمات الآخر، ويتلاعب كل شخص على الآخر، وتهدم البيوت بهذه المنكرات بحجة الحرية الشخصية؟ كلا! ولذلك إذا كان هناك شخص مقيم على منكر، وقال: أنا حر في نفسي، نقول له: هذه ليست حرية، وإنما هي عبودية للأهواء، أي: هذا يتبع هواه، وصار عبداً لهواه ولم يصر حراً.

سبب عدم قبول الناس النصيحة

سبب عدم قبول الناس النصيحة Q لماذا لا يقبل الناس النصيحة؟ A بعضهم لا يقبلون النصيحة لهوى، وبعضهم يدعي الحرية الشخصية، وهذا كلام غير صحيح، هل هناك مانع يمنع الناس من قبول النصيحة؟ الحقيقة أن هناك أسباباً كثيرة: منها: أن الناصح لم يحسن في عرض النصيحة، فيمس كبرياء الناس ويواجههم مواجهة عنيفة بأسلوبه الحاد، فيسبب عدم قبول النصيحة، فإذاًً النصيحة تعتمد على شخصية الناصح، وعلى الأسلوب والطريقة التي ينتهجها لإيصال النصيحة. إذاً: لابد من استعراض هذه الأشياء والتركيز عليها، لماذا يرفض كثير من الناس النصيحة؟ أحياناً يُؤلف كتاب وينشر، فيقوم شخص بالرد على أشياء في هذا الكتاب، أو على أشياء في مقالة، حتى هؤلاء السيئين الذين ينشرون المقالات التي فيها خلط السم بالدسم، عندما يرد عليهم وينشر الرد، تجد عناوين الكتب رد على رد، وتقرأ فيها: بالإشارة إلى رد فلان على مقالتي، وبالإشارة على رد فلان على كتابتي أو على كتابي فإني أقول، ويبدأ بالهجوم المعاكس للعملية، فلماذا لا يقبل النصيحة؟ ذكرنا الآن جانب الهوى وهو جانب كبير جداً، وسبق أن تطرقنا إلى هذا الموضوع في درسين سابقين. أفاد رجل مسن بأنه ترك الصلاة في فترة ماضية من عمره، لماذا ترك الصلاة؟ قال: لأني كنت أتوضأ مرة في مواضئ مع الناس، فدخل رجل علي وأنا أتوضأ، وقال لي أمام الناس: أنت يا جاهل! أنت لا تدري ما دينك، هذا وضوء أم إهمال، قال: ففوجئت بهذا الأسلوب، ليس فقط سأترك الوضوء الصحيح بل لا أصلي أيضاً، والحقيقة أن هذه المسألة تقع كثيراً، مثلاً: ينصح شخص آخر في الصلاة فيقول له هذا المنصوح: هل أنا أصلي من أجلك؟ ما رأيك أن أترك الصلاة، ماذا ستفعل؟ الذين يفعلون هذه الأفعال لا يقدرون الحق قدره، لأن من المفروض أولاً: أن يتخلوا عن أهوائهم ويتبعوا الحق، ثانياً: يجب أن يكون الحق عندهم أغلى من الأسلوب، قد يكون الأسلوب التي عرضت به القضية غير صحيح، لكن هنا نقول: أنت تتبع الحق أم تتأثر بالأسلوب؟ هل عندك الأغلى الأسلوب أم الحق؟ الحق أغلى، فلو كان الأسلوب خاطئاً فعليك أن تتبع الحق.

الفرق بين النصيحة والتشهير

الفرق بين النصيحة والتشهير نبدأ بالكلام عن الركن الأول من أركان النصيحة، وهو ما يتعلق بالناصح، كثيراً من الناس تختلط عليهم الأمور، فلا يفرقون بين النصيحة أو التأنيب، وبين النصيحة والغيبة، ويعتدون في أساليبهم على الناس اعتداء سيئاً، فنحن الآن سنتكلم عن الفرق بين النصيحة والتأنيب أو التشهير. ذكر ابن القيم رحمه الله مباحث جليلة في الفروق بين النصيحة والتشهير في كتابه الروح، وهي مهمة ينبغي الرجوع إليها، فمن المباحث الفروقية التي ذكرها في هذا الكتاب، يقول: النصيحة: هي إحسان إلى المنصوح بصورة الرحمة له، أي: أنت تتكلم وأنت تريد أن تتحدث بلهجة الراحم بهذا الشخص، والشفقة عليه، والغيرة له وعليه، فهو إحسان محض، إحسان نقي ليس فيه شوائب، يصدر عن رحمة ورقة، ومراد الناصح بها وجه الله ورضاه. وأما المؤنب أو المشهر فهو رجل ليس قصده الله والدار الآخرة، وليس قصده الإحسان، وإنما قصده التعيير والإهانة وذم من أنبه وشتمه في صورة النصح. أي: هذا شتم لكن نصيحة، فهو يقول: يا فاعل كذا وكذا، يا مستحق للذم والإهانة في صورة الناصح المشفق، كيف تمشي هذه؟ كيف تركب؟ وعلامة هذا الرجل المؤنب -انظر ابن القيم رحمه الله يضع فرقاً دقيقاً- يقول: علامة هذا المؤنب أنه لو رأى عاصياً في معصية فإنه يؤنبه في نفس المجلس ولو رأى عاصياً آخر في نفس المعصية، لكنه يحبه ويحسن إليه -أي: بينه وبينه مصالح مشتركة أو أن بينهم ميول ومحبة وإحسان- فإنه لا يعرض له، ولا ينصحه كما نصح الأول، مع أنها نفس المعصية، لا ينصحه ولا يقول له شيئاً، ويطلب له وجوه المعاذير، يقول: يمكن كذا ويمكن كذا، يلتمس له أعذاراً، فإن غلب ولم يلق عذراً قال: وأنا ضمنت له العصمة؟ أي: ليس هناك أحد معصوم؛ والإنسان معرض للخطأ، ومحاسنه أكثر من مساوئه، عنده حسنات كثيرة والحمد لله، والله غفور رحيم ونحو ذلك، فيا عجباً كيف كان هذا لمن يحبه دون من يبغضه! وكيف كان حظ ذلك منك التأنيب في صورة النصح، وحظ هذا منك رجاء العفو والمغفرة وطلب المعاذير. ومن الفروق بين الناصح والمؤنب: أن الناصح لا يعاديك إذا لم تقبل نصيحته، بعض الناصحين إذا لم يقبل المنصوح نصيحته لا يكلمه ولا يسلم عليه ولا يعرفه، ويشتمه ويسبه ويذكره بالسوء، لماذا لم يسمع كلامي؟ أما الناصح الحقيقي فيقول للمنصوح الذي لم يقبل: وقع أجري على الله قبلت أو لم تقبل، ويدعو له بظهر الغيب، ولا يذكر عيوبه ولا يبينها بين الناس ويشهر به. أيها الإخوة: إن من الصدق في الأخوة أن يقال للرجل في وجهه ما يكره، فإن كان على وجه النصح فهو حسن، فقد قال بعض السلف لبعض إخوانه: إنك لا تنصحني حتى تقول في وجهي ما أكره؛ لأن هذا إحسان أن تخبر أخاك المسلم بالعيب الذي عنده، هذا إن كان على وجه الإحسان، صحيح أن ذاك شيء يكره لكن تنصحه، وإن كان على وجه التوبيخ بالذم فهو قبيح مذموم، وقيل لبعض السلف: أتحب أن يخبرك أحد بعيوبك؟ فقال: إن كان يريد أن يوبخني فلا. ومن الأدلة على عدم جواز التوبيخ في النصيحة من غير حاجة، لأن هناك حالات تكون فيها التوبيح لغير حاجة، قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه البخاري: (إذا زنت الأمة فتبين زناها -بالحمل وما أشبه ذلك- فليجلدها -أي: سيدها- ولا يثرب) لا يثرب، أي: لا يعيب ولا يوبخ ولا يعيرها بذنبها؛ لأن الحد قد أقيم عليها، والحد إذا أقيم على أحد فهو كفارة له، فلماذا بعد ذلك يقال: فلانة زانية، وقد أقيم عليها الحد وطهرت من هذا الذنب؟ يدخل في ضمن التشهير، النصيحة أمام الآخرين، ولذلك قيل: النصيحة بين الملأ فضيحة، ومنها كذلك: أن بعض الناس الذين يؤنبون أبناءهم في المجالس أمام الضيوف، أو المدرس الذي يؤنب الطالب في الفصل أمام الناس، أو الزوج الذي يؤنب زوجته أمام أقربائه أو المحارم، فيقول: أنتِ طبخك فيه كذا وهكذا ينزل فيها تأنيباً وشتماً وتعييراً أمام الناس، هل هذه نصيحة؟ لا يمكن أن تسمى نصيحة، وإنما هذا تشهير وهو محرم، ولذلك قال الشافعي رحمه الله في أبياته المشهورة: تعمدني بنصحك في انفرادي وجنبني النصيحة في الجماعة فإن النصح بين الناس نوع من التوبيخ لا أرضى استماعه فإن خالفتني وعصيت قولي فلا تغضب إن لم تعطَ طاعة انصحني منفرداً لا تنصحني بين الناس، إذا لم أطعك فلا تستغرب، الشافعي رحمه الله يتكلم بلسان عامة الناس وإلا فهو رحمه الله يقبل النصح حتى من الشخص الذي يشهر به، يأخذ النصيحة منه، ولذلك تجنب التشهير في النصيحة أمر مهم، ولهذا كانت النصيحة بالقدوة من أعظم وسائل النصح؛ لأنها خالية من التوبيخ والتشهير، وقد ذكرنا سابقاً هذه القصة اللطيفة، ولو أنه ليس لها إسناد كما ذكر الشيخ الألباني حفظه الله، ولكن لا يؤخذ منها أحكام ولا أشياء شرعية، ولذلك كما ذكر العلماء لا بأس بذكر هذه القصص التي لا يعرف حالها إذا كان فيها فوائد، فتذكر للعبرة والعظة لا لأخذ الأحكام، أما ما عرف كذبه فهذا شيء آخر، القصة هي: أن الحسن والحسين رضي الله عنهما دخلا على رجل يتوضأ، وكان هذا الرجل وضوءه سيء جداً والله لا يقبل الصلاة إلا بوضوء صحيح، فهما الآن في حيرة ينبهون هذا الرجل الذي هو أكبر منهما في السن إلى الطريقة الصحيحة من غير جرح كبريائه أو أحاسيسه أو هو رجل أكبر في السن، فكيف يفعلون؟ فنظر الحسن إلى الحسين نظرة ذات معنى، ثم تقدم من الرجل، فقال له: يا عم! أنا وأخي قد اختلفنا أي واحد وضوءه أحسن، أنا أقول: وضوئي أحسن، وهو يقول: وضوءه أحسن، أنا أقول وضوئي موافق لوضوء النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يقول وضوءه أقرب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من وضوئي، فالآن جئنا إليك تحكم بيننا، فتقدم الحسن فتوضأ وضوءاً كاملاً فأسبغ الوضوء واتبع السنة، فلما انتهى الحسن تقدم الحسين فتوضأ وضوءاً لا يقل حسناً عن وضوء أخيه، ولما رأى الرجل المنظر، قارن بحال نفسه وفهم، قال: والله أنتما على صواب وأنا على خطأ. انظر إلى هذا الأسلوب الحكيم الدقيق الذي ينم عن ذكاء وفطنة لطريقة النصيحة، وقارن بين هذا وبين حال ذلك الرجل الذي ذكرنا قصته سابقاً والذي ترك الصلاة كلها لأن رجلاً شهر به بين الناس وهو يتوضأ. المشكلة أن الناس البعداء عن الإسلام بالذات الواحد منهم كالبالونة، منتفخ ومنتفش، لا يريد أن يقترب أحد منه، له كرامته وهذا شيء تضخم مع الأسف، كرامته ومشاعره وأحاسيسه، ولذلك يريد شيئاً بسيطاً، ويثور عليك ويزبد؛ لأن الناس الذي يعيشون في الجاهلية وهم بعيدون عن شرع الله، الواحد منهم لا يعرف شيئاً اسمه أخوة ولا نصيحة، ولا يعرف شيئاً اسمه قبول الحق أو الابتعاد عن الهوى. أحياناً تكون النصيحة أمام الناس أو بين الجماعة لا بد منها، كأن يكون شخص في ظرف معين، لا يمكن إلا أنك توجه النصيحة أمام المجموعة، ولا يوجد وقت أنسب من هذا الوقت، ولو أنك لم تنصحه فات الوقت، فمثالاً: ما رواه مسلم من حديث سليك الغطفاني: أنه دخل المسجد والرسول صلى الله عليه وسلم يخطب، فجلس من غير أن يصلي ركعتين، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم -والناس جلوس يستمعون إلى الخطبة-: (أركعت ركعتين؟ قال: لا، قال: قم فاركعهما) لماذا لم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم: الآن نتركه يجلس وبعد الصلاة سوف أنصحه بانفراد؟ لأنه لو سكت فعل المحظور، ولو جلس من غير أن يصلي ركعتين فات وقتهما وكيف يقضيهما بعد ذلك؟ لا يمكن، لأن الركعتين وقتهما عند دخول المسجد، فلذلك أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يقوم ويصلي الركعتين. كذلك الرجل الذي كان يتخطى رقاب الناس والرسول صلى الله عليه وسلم يخطب -شخص يؤذي المسلمين ويتخطى رقاب العالم بدون حياء وبدون هيبة وبدون أي شيء- فقال صلى الله عليه وسلم: (اجلس فقد آذيت) قالها أمام الناس، لماذا؟ لأن الجرم فضيع، ولأن هذا الرجل كان يؤذي الناس، ولو سكت عليه وقال: أنصحه بعد الصلاة، ماذا يترتب على هذا؟ أذية للمسلمين. أحياناً -أيها الإخوة- يكون الذنب عظيماً، ويكون لا بد من تعظيمه في عيون الناس، ولا بد من تسليط الأضواء على هذه القضية التي حدثت، مثال: ابن اللتبية رجل من الصحابة، ويخطئ كالبشر، جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بالصدقات والزكوات، فقال: (يا رسول الله! هذا لكم وهذا أهدي إليّ، فغضب الرسول غضباً شديداً وصعد المنبر، وجمع الناس وقال: أفلا قعد في بيت أبيه وأمه فينظر أيأتيه أم لا) فكل ما جاء نتيجة استخدام عامل في شيء من الفوائد أو العوائد فإنه يرجع إلى صاحب الحق أصلاً: (أفلا قعد في بيت أبيه وأمه) هذا تقريع؛ لأن القضية خطيرة، والمسألة تحتاج إلى نشرها بين الناس حتى يتعظوا بها، فقد يكون هناك سلبية في جرح شعور الشخص، لكن المصلحة أكبر من المفسدة، ومع هذا يجب على الإنسان أن يكون حكيماً حتى عندما ينصح بين الناس في المجلس. وقصة عبد الله بن المبارك من أجمل القصص في هذا الموضوع، كان عبد الله بن المبارك جالساً وحوله أصحابه، فعطس رجل في المجلس ولم يقل: الحمد لله، فالآن لو أتى شخص وقال له: أنت ما عندك علم وأنت جاهل، لماذا لا تقول: الحمد لله، تعطس مثل البهيمة، قد يقول قائل هذا، الآن لو سكت عنها ذهب الوقت، فماذا يفعل عبد الله بن المبارك حتى يصل إلى مقصوده من إبداء النصيحة من غير جرح لكبرياء ذلك الرجل؟ فقال عبد الله بن المبارك على هيئة السؤال للرجل الذي عطس، ماذا يقول الرجل إذا عطس؟ فقال الرجل: الحمد لله، فقال ابن المبارك: يرحمك الله، فحصلت القضية وانتهت بسلام، وأدينا الغرض، الرجل حمد الله وشمتناه، وصار المقصود بدون أن تحدث مضاعفات و

شروط الناصح

شروط الناصح أيها الإخوة: لابد لكل ناصح من الشرط الأول والأخير: أن يتجرد في نصيحته لله عز وجل، وألا تكون نصيحته ردة فعل، كأن يقول: أنا والله كرهت هذا الإنسان، أو يقول: أنا بيني وبينه كذا، هل هذا يجعلني أن أجرح فيه على سبيل النصيحة؟ حتى لو ذكرت في وجهه قلت: أنت كذا وأنت كذا، لا نصحاً لله ورسوله، ولا قياماً بحقوق الأخوة وإنما لأني أكرهه وأبغضه، بيني وبينه شيء، فجاءت نصيحتي هنا كردة فعل لما أكنه في قلبي من عداوة وبغضاء لهذا الرجل، هذه ليست نصيحة، فلا بد إذاً من التجرد لله عند النصح، لا أحد معصوم، وكثيراً ما تكون نصائحنا ردة فعل، أي: أنا ليس ببالي أن أكلم فلاناً عن نقطة معينة. أو عيب معين فيه، حتى إذا حدثت مشكلة بيني وبينه وسوء تفاهم، فذاك الوقت أُظهر نصائحي وأستعرض النصائح عليه، لماذا أظهرتها الآن؟ لماذا أخفيتها الوقت ذاك كله؟ لأنه صار بيني وبينه سوء تفاهم، فالآن أنشر معايبه وأنصحه، وأكون الناصح الأمين، والمخلص الغيور. فالدليل على صدق هذا من كذبه، أين كانت هذه الأشياء من قبل؟ هل ظهرت الآن أم أنك متكاسل في النصيحة؟ عندما ظهرت العداوة بدأت الآن تنصح. كذلك يجب أن يكون الهدف من النصيحة هو تعليم المنصوح وتصويبه، وليس أي شيء آخر كتجريحه أو تحطيم نفسيته، ويجب الابتعاد عن أسلوب الأستاذية في النصيحة والتواضع للمنصوح، بعض الناس عندما ينصح ينصح كأنه شيخ كبير، وذاك أصغر تلميذ عنده، فتراه يتعالى ويتعالم ويتعاظم عليه، ويجلس كأنه شيخ وذاك طالب صغير، والآن يوجه إليه من فوق إلى تحت، فمن كانت هذه نفسيته في النصيحة، فإن أسلوبه يكون فظاً جافاً وغليظاً، وليس فيه رقة، لأنه الآن يتعاظم عليه، فينبغي الابتعاد عن أسلوب الأستاذية -إن صحت التسمية والإطلاق- عند تقديم النصيحة، وإنما تقدمها بتقديم أخ ناصح مشفق رحيم، يريد الخير لأخيه، لا يتعاظم ولا يتعالى ولا يتكبر عليه، ولذلك تجد كثيراً من المنصوحين لا يقبلون النصيحة؛ لأنه يشعر بأن الناصح متكبر ومتعالٍ ومتعاظم، فهذا يكون سداً في وجه قبول النصيحة. كذلك أن يكون الناصح عاملاً بما ينصح، ومن الكلام الحسن في هذا ما ذكره ابن حجر رحمه الله في آخر كتاب الإيمان في صحيح البخاري وهو يشرح كتاب الإيمان، قال ابن حجر رحمه الله: ختم البخاري كتاب الإيمان بباب النصيحة، البخاري لما صنف الصحيح بدأ بالوحي، ثم الإيمان، وآخر شيء في كتاب الإيمان: باب النصيحة وجاء فيها أحاديث. طريقة التصنيف عند البخاري رحمه الله لها مدلولات، وهذا من عظمة صحيح البخاري. قال ابن حجر رحمه الله: مشيراً إلى أنه عمل بمقتضاه - البخاري نفسه عمل بمقتضى النصيحة- كيف؟ بالإرشاد إلى العمل بالحديث الصحيح من السقيم، يعني: البخاري ماذا فعل في هذا؟ صحيح البخاري عبارة عن نصيحة يقدمها البخاري للأمة ينصحهم فيها بالمحافظة على الحديث الصحيح وطرح الحديث السقيم، كما أنه جمع الصحيح في جامعه واستبعد الضعيف والموضوع، انظر كيف الفطنة، وانظر إلى الدقة في ترتيب هذا المصنف العظيم، وكذلك عقب باب النصيحة بكتاب العلم، لما دل عليه حديث النصيحة، أن معظمها يقع بالتعلم والتعليم، وهذه مسألة مهمة جداً، يمكن أن يوجد فينا شخص ليس عنده أسلوب، لا يستطيع أن ينصح ماذا يصنع؟ يتعلم كيف ينصح، يسأل ويرى الناصحين كيف ينصحون، وهذا مهم جداً إذا أردت أن تعرف وتريد أن تكون ناصحاً جيداً، فانظر إلى الناصحين الناجحين الذين لاقت نصائحهم قبولاً في أوساط الناس، كيف نصحوا؟ وما هي عوامل النجاح عندهم؟ فالنصيحة تعليم. ومن شروط الناصح: ألا يحتقر أخاه المسلم عند نصحه، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم) يكفي المسلم من الشر احتقار أخيه المسلم، وكثيراً من الناصحين تخرج نصائحهم بقالب الاحتقار للشخص الآخر، فالشخص الآخر عندما يشعر أنه محتقر، ومهان وذليل، يرفض النصيحة وقد يطأطئ ويهز رأسه، يعني: أنه جيد، وبعضهم يقول: جزاك الله خيراً، لماذا؟ نتيجة أسلوب الاحتقار الذي تعرض له. ولذلك فإنه يجب تجنب تجريح الشخص في النصيحة، هذا كلام مهم، مثل الاستهزاء باسم المنصوح، ما علاقة اسمه بالنصيحة وكونه وقع في اسمه -مثلاً- عيب نتيجة جهل من أبيه أو من جده، ما ذنبه في أن تعيب اسمه أو تعيب شيئاً في شخصيته أو طبائعه، أو سجاياه، أو طريقة كلامه ومشيته، أو شكله، أو ملابسه إلى آخر ذلك؟ هذا خلط، عندما تنتقد هذه الأشياء، أنت تخلط النصيحة بأشياء ليس لها علاقة بالنصيحة، شخص -مثلاً- تريد نصحه في قضية الكذب، فتقول: أنت يا صاحب الأنف الطويل، لماذا تكذب؟ ما علاقه أنفه في عملية الكذب، أو أنت يا أعرج فيك كذا وكذا، هذا يقع كثيراً وهو استهزاء بكلام المنصوح، أو طريقة مشيته، أو شكله، أو سجاياه وطبائعه، فهذه من الأشياء التي تسبب رفض النصيحة. كذلك يجب تجنب الكلمات الجارحة التي تخدش كبرياءه وتجرح شعوره، أو أن تستهزئ به وتسخر منه، ويدخل في هذا عدم إطلاق عبارات اليأس، مثل أن تقول لإنسان تنصحه: أنت لا خير فيك، ولا فائدة، أنت لا يفيد النصح معك ونحو هذا يقع كثيراً، هذه العبارات تثبط الشخص، وتكون ذات مردود سلبي على المنصوح، فتجعله لا يقبل النصيحة. كذلك أيها الإخوة: عند النصيحة يتنبه إلى الفرق لماذا وقع في الخطأ؟ أنا أريد أن أنصح شخصاً -مثلاً- يحلق لحيته، أرى قبل أن أنصح، هذا الشخص الذي يحلق لحيته هل هو جاهل بالحكم أم أنه عالم بالحكم ومصر عليه؟ وأنظر إلى هذا الذي يطيل ثوبه هل هو جاهل بالحكم أم أنه عالم بالحكم ويصمم ويصر عليه؟ هذه النقطة أهميتها في درجة الشدة أو اللين في النصيحة، عندما تنصح شخصاً جاهل بالحكم يختلف عندما تنصح شخصاً يعلم بالحكم ويعاند ويصر على خلافه، أما إذا عاملت الناس معاملة واحدة، الجاهل مثل المتعلم، والذي يعرف مثل الذي لا يعرف، يكون عندك اختلال في ميزان النصيحة، فينبغي أولاً أن تقول: يا أخي أنت تعلم حكم المسألة الفلانية؟ هل عندك فكرة عن حكم هذا الشيء؟ فهنا يقول لك: والله ما عندي معرفة، لكن عندي كذا، فهنا يفرق، أما لو كان معانداً فعند ذلك تذكره بآيات فيها مثلاً الشدة والعذاب وعاقبة هؤلاء المعاندين إلى آخره، أما أن تذكر له آيات المعاندين -مثلاً- والأحاديث التي فيها التخويف والتهديد لإنسان ما بدا منه عناد ولا بدا منه شيء وإنما هو رجل جاهل يجهل الحكم فهذا خطأ، فلذلك ينبغي وضع هذه النقطة أمام أذهاننا ونحن ننصح الناس، وهذا من الأهمية بمكان. كذلك أيها الإخوة: عدم المبالغة بالنصيحة، أحياناً يضخم الخطأ، يريد أن ينصح شخصاً في شيء فيضخم الشيء، فتسمعه يقول: هذه كبيرة من الكبائر، وهذه مسألة خطيرة، وأنت ذهبت في ستين داهية، هذا التضخيم أو التهويل له أثر سيئ سلبي؛ لأن الشخص ذاك، إذا نصحه أي ناصح بعدها حتى لو كانت خطيرة أو عظيمة، وهذا كل شيء قال: خطيرة وعظيمة، فإذاً يقول: هذا والله كل شيء عنده خطير وعظيم، أي: كل الأشياء مثل بعض ولا يبالي، وقد يؤدي إلى عدم الاعتراف بالخطأ؛ لأنه فعلاً لا يرى أن الخطأ عظيم، فأنت عندنا تنصحه وتعظم وتكبر الخطأ هو شيء صغير، فيقول: هذا رجل ما عنده ميزان لتقييم الأمور، فينبغي أن يكون النصح على قدر الخطأ، أما تكبير الخطأ وتهويل فهو إما أن يؤدي إلى رفض النصيحة، أو عدم الاعتراف بالناصح، وعدم أخذ كلامه مأخذ الجد، أو تدفع على التمرد على الناصح وعدم الاستجابة له، أو التقاعس أي: كل شيء خطير فيتقاعس عن التغيير وهكذا. كذلك ينبغي للناصح أن يتوخى الأوقات المناسبة للنصيحة، فلا ينصح شخصاً وهو غضبان، أو جيعان أو نحو ذلك ينبغي أن يتوخى الأوقات المناسبة.

اختيار الوسيلة المناسبة للنصيحة

اختيار الوسيلة المناسبة للنصيحة كذلك أيها الإخوة: نذكر نقاط مهمة، أرجو التركيز عليها: لا بد للناصح -أيها الإخوة- أن يختار القنوات المناسبة لإيصال نصيحته، أحياناً لا يكون من المناسب أنك تكلمه شفهياً، نعم. تكتب كتابة حتى لو كان جارك، أو أخوك أو أبوك، أحياناً لا يكون مناسباً أن تكلمه شفوياً لأي علة من العلل، أو مثلاً إذا كلمته شفوياً يمكن أن يثور عليك أو يقاطعك ولا يجعلك تكمل الكلام، أو لا يعطيك فرصة أن تنصح، فإذا كتبت رسالة وأعطيته إياها فسيأخذ الورقة ويقرأها، فحينئذٍ تكون الكتابة أفيد من النصيحة الشفوية، وأحياناً يكون إعطاء كتاب أفيد من أنك تكتب أنت، أو تنصح بنفسك، أحياناً قد يكون من المناسب أن تعطيه شريطاً لواعظ أو خطيب أو محاضر أو فقيه أو عالم، فيأخذه فينتصح به -وسيلة غير مباشرة- وأحياناً لا يكون من المناسب مطلقاً أن يشعر هذا الرجل أن لك ضلع في الموضوع، أو أنك داخل فيه حتى بشيء بسيط؛ لأنه قد يوجد حساسية بينك وبينه، فإذا حس أنك وراء الموضوع يشق الأوراق ويرمي الكتب ويهمل كلامك وهكذا، أو أنك تخشى -من سوء الظن- أنك إذا نصحته، يقول: هذا الآن يتصيد عيوبي، هذا لأننا اختلفنا بالأمس، فيكون من المناسب أن تصل النصيحة عبر شخص آخر، تذهب لشخص فاعل خير، تقول: يا أخي! هذا فلان أريد أن أنصحه في كذا، لكن أخشى أن يسيء الظن أخشى من أشياء، ويمكن أن يسمع كلامك أحسن مني، أو عندك قدرة على التعبير وقدرة على المناقشة أكثر، فأرجو أن تنصحه بكذا وكذا، فيكون وصول النصيحة عبر شخص آخر أكثر تأثيراً وأنفع وأجدى. وبعض الناس مع الأسف الشديد بسبب حساسيات معينة أي شيء يأتيه من شخص المهم أنه فلان بن فلان فلا يهمه الشيء الذي يقوله، وأي شيء يأتيه منه يرميه على جنب، أحياناً تصل العلاقات إلى هذه الدرجة، وإذا لم يعلم بالشخص صاحب النصيحة يكون أولى، وممكن أن تكون النصيحة موقعة باسم فاعل خير، أو ناصح، بعض الناس ليس عنده اتباع للحق أو لا يتبع الحق، عنده من الذي ينصح؟ فلان آخذ منه، وفلان لا آخذ منه، فلذلك يكون ارتباط النصيحة باسم معين عند بعض الناس وسيلة لإسقاطها وعدم أخذها، فيكون تجريده عن الاسم أو أي سمه أو صفة تدل على الناصح مناسب، ففي هذه الحالة تتبع هذه الطريقة. كذلك لا بد أن يضع الناصح نفسه مكان المنصوح قبل أن ينصح، أحياناً الشخص يأخذ أشياء من بعض كتب علم النفس، أو بعض كتب علم التعامل التي يكتبها الغربيون، فيها حكم وأشياء طيبة، والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها، قبل أن تنصح ضع نفسك مكان المنصوح ضع نفسك مكان شخص يسمع الغناء متشبع به، عاش عليه فترة من الزمن، دائماً معه ليلاً ونهاراً، في سيارته وفي البيت، ضع نفسك مكان هذا الرجل، ثم تخيل أنك ألقيت الكلام الذي تريد أن تقوله، فهل يكون هذا الكلام مجدياً أم لا؟ كثير من الأحيان يزور الشخص في نفسه كلاماً -أي: يضمر في نفسه كلاماً- يقول: فلان هذا أريد أن أكلمه بالكلام الفلاني كذا وكذا، والدليل كذا وكذا إلخ، فيذهب سريعاً يهاجم فلان كذا وكذا، ولو أنه وضع نفسه مكان المنصوح لغيَّر أشياء كثيرة في النصيحة، فلذلك من القواعد الأساسية في النصيحة: ضع نفسك مكان المنصوح، قبل أن تنصحه. كذلك أيها الإخوة: أحياناً الناصح يكون له سلطة أو مسئولية على المنصوح، فلا ينبغي هنا أن تحمله سلطته أو مسئوليته على إساءة النصيحة، كالأب الذي عنده ولد، والمدرس الذي عنده طالب، والزوج الذي عنده زوجة؛ والناس الذين عندهم مسئولية وسلطة على من تحتهم، فلا تحملنهم هذه القوة والصلاحية التي عندهم على إساءة النصيحة، الواحد أحياناً تكون عنده قوة ويكون عنده سلطة، فتراه يسيء ولا يفكر بتحسين النصيحة، ولا يفكر بالأسلوب، يقول: هذا فلان هين هذا فلان نقهره هذا اتركه عليّ أنا أكسر رأسه، أنا لماذا هذه الأشياء؟ لأنه يستخدم السلطة أو المسئولية التي لديه في الإساءة، فلا يفكر في شكل النصيحة، كيف ينبغي أن تكون، فلذلك ترى كثيراً من الأبناء يكرهون آباءهم، وكثيراً من الزوجات يكرهن أزواجهن، وكثيراً من الطلاب يكرهون مدرسيهم، لماذا؟ لأن ذاك عنده سلطة يستخدمها ويسيء في النصيحة. على الناصح ألا ييئس من تكرار نصيحته ينصح مرة واثنتين وثلاثاً وعشراً، ويغير في الأسلوب، مرة يأتي من هذا الطريق، وأخرى يأتي من هذا الطريق، وينوع، نفس النصيحة، والقالب، والأسلوب، والكلمات، والألفاظ، فينبغي أن يكرر ولا ييئس، وإذا يئس فشل، الناصح استمر في النصيحة فهذا طريق النجاح، ومتى يئس فشل، وأحياناً يكون ما بينك وبين النجاح إلا آخر محاولة، فأحياناً يقف الناصح قبل النهاية في شيء بسيط فيضيع الجهد كله، مع أنه لو واصل قليلاً لوجد النتيجة، لكن بسبب اليأس القاتل الذي يغرس أحياناً في نفسه نتيجة الصد والابتعاد من قبل المنصوحين، فإنه في النهاية يتثبط وييئس، ولنا عبرة بنبي الله نوح عليه السلام، هذا النبي العظيم الذي ضرب القدوة العظيمة في الدعوة إلى الله تسعمائة وخمسين سنة {أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً} [العنكبوت:14] ليلاً ونهاراً، وسراً وجهاراً، وما ترك وسيلة إلا ونصح بها هؤلاء الناس، مع أنه ما استجاب له إلا أربعون أو سبعون. إذاً النتيجة قليلة ومع ذلك استمر في النصيحة حتى آخر لحظة، وهو مستمر إلى أن قال الله له: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود:36] هنا قال نوح: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} [نوح:26] ودعا عليهم؛ لأن الله أوحى إليه {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود:36]، لم يعد هناك أمل في الاستمرار، لن يؤمن أكثر من الذين آمنوا. وذكرنا أن الله عز وجل لما قص قصة نوح أتى بالنصيحة بالفعل، فقال عن نوح: {وَأَنْصَحُ لَكُمْ} [الأعراف:62] صيغة الفعل الدالة على تكرار الوقوع والحدوث. ويقول ابن القيم رحمه الله في أبيات طريفة يرد بها على هؤلاء الصوفية الذين جعلوا ذكر الله طنطنة ومزامير، فقال: وتكرار ذا النصح منا لهم لنعذر فيهم إلى ربنا أي: حتى نقيم الحجة، وحتى نعذر أمام الله أننا قد قدمنا ما علينا. فلما استهانوا بتنبيهنا رجعنا إلى الله في أمرنا فعشنا على سنة المصطفى وماتوا على تنتنٍ تنتنا لأن هذا شغل هؤلاء الناس. كذلك من الآفات التي تعتري الناصح: أن بعض الناصحين من كثرة ممارسة النصيحة وتعوده على النصيحة تصبح عنده مناعة أنه ينصح من قبل الآخرين. نعم يحصل هذا، فهو الداعية والناصح، وهو الذي يوجه ويعلم، وينبه ويحذر، والذي إلخ، فهذا الرجل باستمراره بهذا العمل -وهو عمل طيب ولا شك- يتكون عنده في نفسه نوع من المناعة ضد النصائح التي توجه له من الآخرين؛ لأنه يرى نفسه أنه الناصح، فكيف يأتي أحد ينصحه؟ أحد الإخوة يحكي لي قصة واقعية حصلت مع أحد أقربائه، أنه رأى شخصاً يغلظ على إنسان في النصح، فقال: يا بن الحلال! أرفق به، فقال: مالك شغل أنا كذا وكذا، فقال له: يا بن الحلال! اذكر الله، قال: أنا أذكر الله، ذاك يقول: أنا الذي أذكر الله؟!! لأنك عندما تقول لشخصٍ: الله يهديك، يقول: أنا الله الذي يهديني؟!! أنت الله يهديك وأنت الذي كذا، أو يقول: تعود أنت غصباً عنك، فهذه العبارة تنطلق منه، يعني: هو ناصح فكيف يأتي أحد ينصحه وينتقده. إذاً ينبغي أن ينتبه خصوصاً في مسألة من المسائل وهي: أن الناصح أو الداعية يكون غالباً إلمامه أو مجال نصحه في الأشياء الشرعية غالباً، فقد يتفوق على عامة الناس في الأشياء الشرعية، لكنه في الأشياء الحياتية أو الدنيوية قد لا يكون عنده خبرة، مثلاً ليست عنده خبرة بالسيارات، ولا بالطرق ولا بالملابس، ولا بالآلات، فنتيجة لهذه النقطة التي ذكرناها آنفاً، يأتي شخص -مثلاً- ويقول للناصح أو للداعية: هذه سيارتك فيها كذا، المفروض أنك تفعل كذا، قال: اذهب، أنت لا تفهم، أو يقول له: هذا الطريق أقصر، ويقول: لا؛ لأنه يظن أنه مادام أنه ينصح في الأشياء الشرعية فالأشياء الأخرى التي عامة الناس يفهمون فيها أكثر منه لا يسمع لهم فيها، وهذه نقطة سيئة قد تؤدي إلى الغرور، صحيح أنك تفهم في أمور الدعوة وفي طرق كسب الناس، وكيف تصل إلى قلوبهم، لكن قد لا تفهم في العلوم، وقد لا تفهم أشياء في حاجات من متاع الدنيا، فإذا جاء شخص يريد أن ينصحك فتقبل نصيحته وافسح له المجال، ولا يلزم أن يكون كل إمام مسجد خبيراً بالميكرفونات أكثر من الناس الذين وراءه، ولذلك تجد بعض هؤلاء ما دام أنه إمام المسجد فهو الذي سوف يتحكم بالميكرفونات وبالصوت، وهو الذي يعلم بالأجهزة أكثر من الموجودين، وهذا غير صحيح. ولذلك كثيراً ما يشتكي بعض الناس من هذه النوعية، يقولون: هذا فلان لم يترك شيئاً، يقول: كل شيء هو يفهمه أكثر منا، عنده علم بالحديث على عيني ورأسي، عنده علم بالفقه ما اختلفنا، عنده كذا، لكن لما آتي على قضية ليست في تخصصه فيقول: لا. أنا رأيي كذا، فهذا من الأشياء السيئة في التربية والدعوة والنصيحة. فنسأل الله تعالى أن يهدينا رشدنا، وأن يلهمنا الحق، وأن يجعلنا من أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم المقتدين به المتأسين به.

شروط النصيحة

شروط النصيحة النصيحة لها شروط وآداب، ومن شروط النصيحة:

من شروط النصيحة: أن تكون مبنية على الدليل

من شروط النصيحة: أن تكون مبنية على الدليل إننا نلاحظ كثيراً من الناس قد ينصح في أمرٍ خطأ، قد يأمر بمنكر أو ينهى عن معروف من باب النصيحة وإنما أتي من جهله؛ لأنه لم يعرف الأمر على وجهه، ولم يعرف دليل ما يأمر به، فالدليل مهم من عدة جهات. أولاً: أنك تعرف أن نصيحتك في محلها أو لا. ثانياً: أنه يدعم نصيحتك عند المنصوح، عندما تقدم الكلام بدليل يكون له من الوزن والقيمة ما لا يكون للكلام عندما يكون خالياً من الدليل، وهذا صحيح وأمر مشاهد ومعروف بالتجربة؛ لأن الناس الذين لديهم عقل ووعي لا يقبلون الأمور بغير أدلة، وقد يناقشون ويعترضون، فإذا لم يكن الدليل فيما تقدمه لهم، فإن هذه النصيحة ستكون نصيحة ناقصة، والدليل بعمومه سواءً كان من الكتاب أو من السنة، أو من أقوال الصحابة، أو من الإجماع أو قياس صحيح إلخ.

من شروط النصيحة: الإيجاز

من شروط النصيحة: الإيجاز أيها الإخوة: إن الناس يملون إذا سمعوا كلاماً مكرراً ومعاداً ومطولاً، فإنهم يحبون في الغالب أن تعطيهم زبدة الكلام كما يقولون، ولذلك تسمع كثيراً من الناس يقولون: فلان الخطيب أو المحاضر أو الناصح تكلم نصف ساعة أو ساعة ولم نعلم ما هي الزبدة، فالإيجاز في النصيحة من الأشياء التي تجعل النصيحة مقبولة ولها أثر في النفوس.

من شروط النصيحة: الوضوح

من شروط النصيحة: الوضوح الوضوح في النصيحة أمر مطلوب؛ لأنك إذا عرضت القضية مشوشة متداخلة لا يعرف أولها من آخرها فإن الناس لن يتأثروا؛ لأنهم لم يفهموا ماذا تقصد، ولذلك إعداد النصيحة قبل عرضها من الأمور المهمة، أن تركز فكرك وتجمع الشتات المبعثر من الأفكار والكلام قبل عرضه على الناس ليكون واضحاً، تقدم شيئاً واضحاً. لقد كانت دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم من أهم صفاتها الوضوح -الكلام الذي كان صلى الله عليه وسلم يقوله للناس من أهم صفاته أنه كان كلاماً واضحاً- لذلك لا تجد الناس انصرفوا من مجلس من مجالسه عليه الصلاة والسلام من غير فهم، وإنما كان صلى الله عليه وسلم أحياناً يطرح عليهم موضوعاً وينتظر منهم السؤال عن هذا الموضوع (الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله؟) وهكذا لكن عندما يفسر الرسول صلى الله عليه وسلم، أو يجيب عن سؤال، أو ينصح إنساناً تكون النصيحة في غاية الوضوح، تصل إلى شغاف القلوب فتمس تلك الضمائر فيحييها الله عز وجل، فتتأثر بهذا الكلام الذي تسمعه. كذلك فإن من الأمور المهمة في النصيحة: أن تكون خاليةً من التكلف والتفاصح والتعاظم، وهذا أمر تطرقنا إليه في كلامنا عن الناصح.

من شروط النصيحة: أن تكون بعيدة عن سوء الظن

من شروط النصيحة: أن تكون بعيدة عن سوء الظن والنصيحة لابد أن تكون بعيدة عن سوء الظن، لأن كثيراً من الناس نصائحهم ليست نصائح، وإنما هي عبارة عن اتهامات مبنية ومؤسسة على سوء الظن، فعندما يحس الشخص الآخر بأنك تتهمه وتسيء الظن به فلن يعتبر هذه نصيحة ولن يستجيب مطلقاً، ولذلك إذا انتقد الإنسان فإنه ينتقد في شيء مؤكد مثبت يبني عليه نصيحته، أما أن يخمن ويظن ويسيء في الظن، ثم يقدم الكلام على أنه نصائح، فإنها أمور تجرح المشاعر وتؤذي الآخرين، ولا يمكن لهذه النصيحة أن تكون ناجحة.

من شروط النصيحة: أن تكون خالية من ألفاظ التفسيق والتجهيل

من شروط النصيحة: أن تكون خالية من ألفاظ التفسيق والتجهيل ينبغي أن تكون النصيحة خالية من ألفاظ التفسيق والتجهيل والتشهير إلا إذا دعت الحاجة إلى ذلك، لأن الإنسان مجرد أن يسمع في نصيحتك: يا فاسق! يا كافر! يا ضال! وتتلو هذه الجمل ألفاظ جارحة، فإنه سيصد تلقائياً عن تقبل نصيحتك، وإن كان ما يفعله حقيقةً فسق أو جهل أو ضلال أو كفر، فإنه ليس من الحكمة أن تتهمه بهذا مباشرة.

من شروط النصيحة: الحكمة عند طرح النصيحة

من شروط النصيحة: الحكمة عند طرح النصيحة لا بد أن يراعي الإنسان الحكمة عند طرح النصيحة؛ لأن النصيحة أحياناً تؤدي إلى تفرق الشمل، أو تؤدي إلى منكر أكبر من المعروف الذي تحمله في طياتها، فلذلك على الإنسان المسلم أن يكون حكيماً ويقدر أبعاد الأمور عندما ينصح، قد يكون من الحكمة أن تؤخر النصيحة إلى مستقبل قريب؛ لأن هذا الوقت ليس وقت طرحها، فمن القواعد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: أن الإنسان لا يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر إذا كان سيؤدي إلى منكر أكبر منه، أو يضيع معروفاً أكبر من المعروف الذي يدعو إليه. ولقد نهى الله عز وجل الصحابة رضوان الله عليهم عن سب آلهة المشركين، مع أن سب آلهة المشركين من الأمور المشروعة؛ لأنها آلهة زائفة، ومع ذلك فقد نهى الله عز وجل صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم في ظرفٍ من الظروف ووقت من الأوقات عن سب آلهة المشركين، لماذا؟ يقول الله عز وجل: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:108] لأن سب آلهة المشركين ستؤدي إلى أن يسب الكفار الله عز وجل، وسب الكفار لله عز وجل منكر عظيم جداً، فلذلك إذا علمت أن الشخص الآخر سيسب الدين، أو يسب الرب عز وجل جراء النصيحة التي ستنصحه بها، فإنه في هذه الحالة لا يستحسن أن تنصح، وتؤخر أو تتخذ وسيلة أخرى تتلافى بها هذه السلبية.

من شروط النصيحة: مراعاة الأسلوب الحسن

من شروط النصيحة: مراعاة الأسلوب الحسن النصيحة من أهم ما فيها هو الأسلوب، وقد ركز القرآن الكريم على الأسلوب في النصيحة تركيزاً كبيراً، فقال الله تعالى لموسى وهارون عندما أرسلهما إلى فرعون: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44] فما هي صفة القول؟ ما هي صفة النصيحة التي أمر الله موسى وهارون أن يقدمانها لفرعون؟ {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44]. والعجيب أن الكثير من المسلمين لا يلتزمون بهذه الصفة القرآنية للنصيحة، في الوقت الذي استفاد منها من أعداء الإسلام، فأنت إذا نظرت -مثلاً- إلى طريقة المبشرين بالدين النصراني المحرف وأسلوبهم، تجد أن الأسلوب يعتمد اعتماداً كبيراً على اللين والعاطفة، واستثارة المكامن الحساسة في النفس المخاطبة، فوصلوا إلى نجاحٍ عظيم بسبب حسن أسلوبهم، فصارت النتيجة إدخال كثير من الناس في النصرانية أو إبعادهم عن الإسلام، يتدسسون إلى المسلمين تدسساً رفيقاً بلين ولطف فيصلون إلى ما يريدون الوصول إليه من الأهداف المدمرة لعقائد المسلمين وأخلاقهم. نحن ورَّاث العلم النبوي والطريقة المحمدية، نحن الأحق والأجدر باتباع اللين في الأسلوب، وإذا نظرت إلى سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وجدت نصيحته عليه الصلاة والسلام تتصف اتصافاً كاملاً بهذه الصفة، نحن الآن نتكلم تحت عنوان النصيحة بين اللين والشدة، وحديث معاوية بن الحكم السلمي في صحيح مسلم معروف، عندما جاء في الصلاة وتكلم وشمت الرجل الذي عطس من الصحابة، والصحابة ينظرون إليه شزراً، ويضربون بأكفهم على أفخاذهم يسكتونه، فماذا قال الرجل رضي الله عنه بعدما دعاه الرسول صلى الله عليه وسلم ونصحه؟ قال: (فوالله ما كهرني -أي: ما نهرني- ولا ضربني ولا شتمني، ثم قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس) وهكذا ولذلك هذاالرجل بقيت مؤثرة في نفسه هذه اللمسة النبوية في النصيحة حتى أخبر بها طائفة من الناس. ومن هنا نعرف مدى نجاح الناصح بأشياء كثيرة: منها: ما هو موقف المنصوح من النصيحة؟ وما هو الأثر الذي تركته النصيحة في نفس المنصوح؟ فهذا الصحابي رضوان الله عليه أثرت نصيحة الرسول صلى الله عليه وسلم في نفسه أثراً بالغاً، لذلك يقول الرجل: فوالله ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه صلى الله عليه وسلم، لماذا؟ لهذا الأسلوب الفذ الذي اتبعه الرسول صلى الله عليه وسلم. أيضاً قصة الأعرابي الذي بال في المسجد. أحياناً يضطر الناصح إلى شيء من الشدة، أو يكون الشخص المنصوح يحتاج إلى شيء من الشدة، وإذا ما شددت عليه في القول قد لا يتأثر؛ لأن بعض النفوس يدخل إليها من باب الشدة والتقريع، ومعرفتها تعتمد على الفقه الذي يتكون عند الناصح -الداعية إلى الله عز وجل- من كثرة مخالطته وخبرته بالناس ومعاشرته لهم. أحياناً تضطر إلى نوع من الشدة؛ كأن تكون النفسية التي أمامك من النوع الذي يتأثر بالشدة، أو يكون الموضوع أو الخطأ الذي حصل خطأً كبيراً لا يمكن للإنسان أن يسكت عنه أو يؤخره، فمثلاً: شخص أمامي يسب الدين ويستهزئ بالإسلام وبصفات الله عز وجل، ويتنقص من الرسول صلى الله عليه وسلم، فهل أقول له: يا أخي! لو سمحت لو تكرمت؟ لا يمكن؛ لأن الموقف لا يسمح باستخدام اللين، اللين هو الأساس والقاعدة، لكن ليس هو المطرد في جميع الأساليب، وإذا اضطر الإنسان أحياناً إلى استخدام الشدة فإنه من المناسب أن يخلط مع أسلوب الشدة شيئاً من اللين، ويستخدم شيئاً من عبارات التلطيف، والناظر في رسائل الشيخ/ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى كالرسائل الموجودة في تاريخ نجد لـ ابن غنام رحمه الله، يجد فيها استخداماً جيداً لأسلوب اللين مع الشدة، فتجد الشيخ في رسائله أحياناً يشتد على المرسل إليه الخطاب أو النصيحة شدةً بالغة في أمر يتعلق بالشرك، أو الموقف من المشركين والمنافقين، أو الموقف من القبور، أو الموقف من غلاة الصوفية، لكنه لا يلبث أن يتبع تلك الجملة الشديدة بجمل تلطيفية جيدة تخفف من وقع الشدة الوقع السلبي على نفس المنصوح، ولو كان الوقت مناسباً لذكرنا لكم أمثلة، ولعل الوقت يتاح إن شاء الله للكلام على رسائل مؤثرة. كذلك النصيحة بين اللين والمداهنة، يفهم الناس أحياناً قول الله تعالى: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً} [طه:44] فهماً معوجاً خاطئاً، كيف؟ يفهمون أن اللين في الأسلوب، أي: اللين في المضمون يفهمون أن اللطف مع الناس، أي: أنك تميع لهم كثيراً من القضايا الإسلامية التي تنصحهم بها، وهذه فكرة خطيرة تؤدي إلى انزلاقات ومنعطفات تجنح بالداعية عن الصراط المستقيم، إذا فهم هذا الداعية أن قول الله عز وجل مثلاً: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً} [طه:44] أي: أنه يلين في الحق، بمعنى: أنه إذا سئل عن حكم شرعي -مثلاً- فتجده يفهم أن من اللين أن يميع الحكم ويفهم الناس بأن المسألة فيها سعة وفيها مجال وهي محرمة بالنص الواضح القاطع، فتجده من فهمه المعوج للين ينحرف في عرض الأحكام والمبادئ والتصورات الإسلامية القاطعة، ويعرضها بأسلوب مهزوز، ركيك أسلوب فيه من التميع ما يشوه المنظر، أو ما يشوه نظرة هذا الشخص لهذه الأحكام وهذه التصورات. وهذه -أيها الإخوة- من المسائل التي تجعل النصيحة قبيحة فعلاً، لأنها تؤدي إلى سلبيات ونتائج عكسية كثيرة، فينبغي أن نفهم أن اللين في الأسلوب لا يعني اللين في الحق، كوني أتلطف مع شخص فأعرض له حكماً شرعياً، حكم الغناء -مثلاً- يمكن أن أعرضه بأسلوبٍ لين، لكن لا يمكن مطلقاً وليس من الصحيح أن أقول: والله يا أخي! عموماً الغناء فيه أقوال، واختلف بعض العلماء فيه، وإذا كانت الموسيقى هادئة فإن الأمر فيه سعة وهكذا بعض الناس يفهم اللين. مثلاً التهاون في الأحكام التي تتعلق بمظهر المسلم، أو الموقف من الكفار، تقول: والله لا بأس إذا كان وإذا كان وإذا كان، وتخرج القضية عن الإطار الإسلامي الصحيح.

النصيحة بين التملق والتشهير

النصيحة بين التملق والتشهير أحياناً تخرج النصيحة عن كونها نصيحة إلى كونها تشهير، فتجد عبارات التجريح منهالة على الشخص المنصوح، وقد نسي الناصح الفكرة تماماً ونسي الموضوع، وبدأ الآن يجرح في الشخص المنصوح، فتخرج النصيحة عن كونها نصيحة إلى أن تصبح تشهيراً وتجريحاً، وأحياناً تخرج النصيحة عن كونها نصيحة إلى أن تصبح تملقاً وتزلفاً، فتجد هذا الشخص عندما يكون مع مديره -مثلاً- في العمل أو مع إنسان مسئول عنه، ويحتاج الوقت إلى نصيحة -يحتاج إلى أن ينصح هذا المسئول أو أن ينصح هذا المدير- فتجد النصيحة فيها من التميع والانحراف في مضمونها لذات الشخص أو لأجل هذا الشخص أو لمنصب هذا الشخص ما يجعلها تملقاً وتزلفاً، وتجد العبارات تنطلق بالمدح والثناء وتصحيح وضع هذا الشخص وتطمينه أنه بخير، مع أنه منغمس إلى آذانه في أوحال المعاصي والأخطاء. فينبغي -أيها الإخوة- أن نعدل: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} [الأنعام:152] وأن نحق الحق وألا نميل يميناً أو يساراً ونحن نعرف دين الله عز وجل وننصح الناس. النصيحة عبادة ومسئولية، فإذا انقلبت إلى تجريح أو تشهير أو تملق أو تزلف فقد خرجنا بدين الله تعالى عن الطريق الصحيح إلى أغراض أخرى شخصية ومطامع دنيوية، لا تلبث أن تميت قلب الناصح.

النصيحة بين التدرج وعدمه

النصيحة بين التدرج وعدمه أحياناً يكون من الحكمة في النصيحة أن تتدرج أثناء عرضها، شخص -مثلاً- يرتكب مجموعة من المنكرات وأنت ترى أن تنصحه في أكبر هذه المنكرات، تبدأ بالمنكر الأكبر مثلاً، لا يعني هذا تدرجك في عرض النصيحة عليك أن تنصحه في هذه المسألة أولاً، وبعد فترة من الزمن تفتح معه موضوعاً آخر، وبعد فترة ثالثة تفتح موضوعاً ثالثاً وهكذا هذا لا ينافي صراحة الإسلام، ولا ينافي عرض الحق على الناس، لأنك لا تلغي هذا المنكر من حسبانك أو تهمله تماماً، وإنما تؤجله إلى وقته المناسب وفي نيتك أنك ستطرحه في يومٍ من الأيام عندما ترى الوقت مناسباً بدون دخول الهوى في الموضوع؛ لأنه إذا دخل الهوى فإن الوقت المناسب لن يأتي أبداً، وأحياناً يتطلب أن تنصح الشخص بجميع ما فيه، مثلاً: أنا وجدت شخصاً في طريق وهو مسافر، ولن أجد هذا الشخص مرة أخرى، أو يغلب على ظني أني لن ألقاه مرة أخرى، ولن يكون عندي الوقت أصلاً حتى أتدرج معه؛ لأني لم أمكث معه فترة طويلة من الزمن، فوجدت عليه منكراً من المنكرات في مظهره، فلا بأس أن أكلمه مباشرة، لأن هذا هو الوقت الوحيد، واتبع قاعدة: قل كلمتك وامشِ، تقول له: يا أخي! هذا الذي تفعله -مثلاً- في مظهرك يخالف الإسلام، فأحياناً يكون التدرج حكمة، وأحياناً يكون تمييعاً للفكرة الإسلامية، وأحياناً يكون عرض النصيحة بشكل يمس جميع الأشياء الواقعة في هذا الشخص من المنكرات تهوراً ومنفراً، وأحياناً يكون حلاً بل هو الحل الوحيد. فإذاً: على الداعية إلى الله الناصح أن يميز في المواقف والأوقات والأحوال، بين ما هو مناسب في التدرج وعدمه.

النصيحة بين التلميح والتصريح

النصيحة بين التلميح والتصريح إن من الحكمة أن تكون النصيحة بأسلوب التلميح وليس بأسلوب التصريح، فأسلوب التلميح من الأساليب الناجحة إذا أحسن استخدامه، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يستخدم هذا الأسلوب، وكان يقول مثلاً: (ما بال أقوامٍ يفعلون كذا وكذا) لم يكن يصرح بأسمائهم، والشخص يعرف بينه وبين نفسه وهو يقارن الكلام المعروض أنه من هذا النوع أم لا، أم أنه مقصود بالكلام أم لا، "ما بال أقوام" من الأساليب المهمة في النصيحة التي فيها تلافٍ كبير لقضية التشهير والتجريح، أو التأثر السلبي من أصحاب النفوس المفرطة في الحساسية. وقد يكون التلميح استعماله خاطئ عندما لا يفهم الشخص الآخر ماذا تقصد، فبعض الناس يلمح ويستخدم شطارته في التلميح، ولكن هذا التلميح يؤدي إلى عدم وضوح الفكرة أبداً عند الشخص المنصوح، لا يفهم ماذا تقصد من كثرة التلميحات صارت النصيحة عبارة عن ألغاز ومعميات لا يمكن فكها ولا حلها ولا فهم المقصود منها، فإذاً لكل ميدان رجال، ولكل مقام مقال، فلا بد من استخدام التلميح لأنه أسلوب جيد في بعض الأحيان، لكن إذا كان الشخص لم يفهم من التلميح، فهنا ينبغي المصير إلى التصريح الذي يوضح القضية؛ لأنه ما فهم ولا تلقى الفكرة ولا وصلت مداركه إلى فهم المغزى، فلذلك يكون استخدام التصريح في هذه الحالة بأسلوبه الشرعي وحدوده وآدابه الإسلامية من الأمور المفيدة. والإكثار من التلميح قد يكون ذو سلبية في بعض الأحيان، فمثلاً تجد في بعض المجالس ناصح يقول: بعض الناس يفعلون كذا، وبعض الناس كذا، وبعض الناس كذا، هذه طريقة ليست ناجحة دائماً، بل إنها قد تسبب كراهية للناصح؛ لأنها عبارة عن لمز من طريق خفي، إذا تكررت تصبح إيذاءً، والمنصوح يشعر بأنك تغمزه بنوع من الإيذاء، ففي هذه الحالة لا يكون من الحكمة في النصيحة استخدام نقطة بعض الناس وبعض الناس، كما يفعل البعض.

النصيحة بين التعميم والتخصيص

النصيحة بين التعميم والتخصيص النصيحة بين التعميم والتخصيص، هذه من النقاط المهمة وقد ذكرنا لها مثالاً قبل قليل وهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما بال أقوام) بأسلوب التعميم، وأحياناً كان الرسول صلى الله عليه وسلم يخصص في النصيحة ويذكر اسم الشخص أو صفاته ويبين ويوضح بحسب ما تقتضيه المصلحة.

أمور تساعد على تقبل النصيحة

أمور تساعد على تقبل النصيحة من الأمور المساعدة على تقبل النصيحة ما يلي:

ذكر إيجابيات الشخص المنصوح

ذكر إيجابيات الشخص المنصوح أولاً: ذكر الإيجابيات والثناء على الحسنات للشخص المنصوح، كل شخص مهما كان شريراً فإن فيه جوانب خير وفيه إيجابيات، فإذا أردت يا أخي الناصح أن تكون نصيحتك ذات وقع حسن، فعليك أن تذكر في ثنايا الكلام وطيات الحديث شيئاً من إيجابيات الشخص الذي يقف أمامك يستمع النصيحة، وشيئاً من مزاياه الطيبة، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يستخدم هذا الأسلوب مع الكفرة، حيث كان يستميل قلوبهم بتلك الألفاظ الحسنة التي فيها ذكر لبعض سجاياهم، حتى مع المسلمين كان صلى الله عليه وسلم يستخدم هذا الأسلوب، كان يقول: (إن فيك لخصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة) لأن هذا الرجل فعلاً فيه هاتان الخصلتان، والرسول صلى الله عليه وسلم قال لـ أشج عبد القيس وكان من عظماء قومه يتألف قلبه ويستميله ويثني على ما فيه من الخصال الحميدة لأهداف متعددة، حتى يستأنس هذا الشخص ويميل قلبه ويقتدي الآخرون بهذه الصفات الحميدة التي عند هذا الرجل. إذاً: استخدام عبارات الاستمالة في النصيحة من الأمور المشجعة على قبولها، فمثلاً عندما تقول: يا أخي! مثلك لا يخفى عليه أن هذا الأمر كذا وكذا، أو تقول مثلاً: أنت يا أخي! في مقام أعلى من أن ترتكب هذا الأمر، أو أنت -مثلاً- أوعى من أن يصدر منك هذا الفعل السيئ، أو تقول له معنى قول الشاعر: ولم أر في عيوب الناس عيباً كنقص القادرين على التمام تقول: يا أخي! أنت الحمد لله عندك ميزات وعندك قدرات وإمكانيات، وعندك كمال في جوانب كثيرة، وعندك استعداد لتكمل النقص في نفسك في الجوانب الفلانية، فهلا أكملت النقص في هذه الأشياء، والحمد لله أن الله أعطاك قدرات ومواهب وأعطاك إمكانية واستطاعة لتتلافى هذه الأشياء، وتؤسس في نفسك الخصال الحميدة الفلانية، وتمنع هذه الأخلاق الرديئة من البروز والظهور بصبرك على نفسك، وبقوة نفسك وشخصيتك تستطيع أن تفعل كذا وكذا، هذه من العبارات التي تستمال بها قلوب الناس. وأحياناً يقول الإنسان: هذه أساليب مكشوفة، أو يقول: هذه كلمات رخيصة وأساليب ممزوجة ومكشوفة وليس هناك داعٍ لاستخدامها. الحقيقة أن هذا ليس بصحيح على إطلاقه، لأنك أحياناً قد تستخدم هذا الأسلوب مع بعض الناس، مثلاً -يا أخي- أنت لا يتناسب مع مكانتك أن تفعل كذا، لكن لو استخدم معه هذا الأسلوب فإنه يتأثر به تأثراً إيجابياً مع أنه هو يستخدمه، هذا يلاحظه الشخص أحياناً على نفسه، فلذلك لا يقول الناصح: والله هذه أساليب مكشوفة، وهذه القضايا مستهلكة، لا. هذه أشياء مهمة، حتى مع أن المنصوح يعرفها لكنها ذات أثر عليه.

ذكر نقاط الاتفاق

ذكر نقاط الاتفاق من الأمور المساعدة على تقبل النصيحة: إذا أردت أن تنصح فتكلم أولاً على نقاط الاتفاق حتى يصل المنصوح معك إلى نوع من الاستئناس يجعله مهيئاً لتقبل النصيحة، مثلاً: أريد أن أكلم شخصاً عن منكر يقع فيه، لو أننا عندما نكلمه نذكر له المنكر مباشرة، أو الشيء الذي نخالفه فيه، نخالفه في فكرة، نخالفه في تصور، شخص يحمل فكرة منكرة أو تصوراً خاطئاً، مثلاً شخص متعصب لرجل من الرجال لو جئته مباشرة وقلت له: التعصب مذموم، وأنت متعصب وتأخذ بأقوال فلان من غير دليل وترمي بأقوال الناس الآخرين ما عندك تمييز، فإذاً: عرض نقطة الاختلاف مباشرة من الأمور التي تصد عن قبول النصيحة، لكن لو عرضت نقاط الاتفاق في البداية يحس الشخص الآخر بأنه قريب منك جداً، فعندما تعرض نقطة الاختلاف فيما بعد يكون وقع العرض عليه وقعاً إيجابياً أو على الأقل فيه مجال للتقبل بخلاف ما لو عرضت نقطة الاختلاف في البداية، وهذا نستفيد منه حتى في المناقشات الفقهية التي فيها اختلاف في الأحكام، هذه من الأمور المهمة، عندما أقول للشخص: يا أخي! إن الله يقول: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال:1] لا يمكن أن يختلف معي في هذه المسألة يا أخي! الله يقول: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:65]، ويقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36] يا أخي! هل أنت تتفق معي في أنه إذا صح الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم يجب المصير إليه وأن هذا الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم حجة؟

معرفة الناس في مراتبهم وطبقاتهم

معرفة الناس في مراتبهم وطبقاتهم من الأمور المساعدة على تقبل النصيحة: معرفة الناس في مراتبهم وطبقاتهم، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة أن ينزلوا الناس منازلهم، فنصح الصغير ليس كنصح الكبير، الصغير أحياناً لو شددت عليه في الكلام يسمع ويطيع، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (واضربوهم عليها لعشر) لكن لا يمكن أن تضرب شخصاً عمره إحدى وعشرون سنة أو ثلاثون سنة على الصلاة، هل تعتقد أن هذا أسلوباً ناجحاً؟ لكن يمكن أن يؤثر الضرب في شخص عمره عشر سنوات إحدى عشر سنة اثنا عشر سنة، يمكن أن يؤثر الضرب فيه ويحمله على الصلاة. فإذاً نصح الكبار ليس مثل نصح الصغار، ونصح أرباب المنزلة أو الجاه أو المال ليس مثل نصح من ليس عنده هذه الأشياء، فإنزال الناس منازلهم ومعرفة طبقاتهم ومراتبهم من الأمور المساعدة على تقبل النصيحة. نصح المثقف ليس مثل نصح العامي، ونصح الجاهل ليس مثل نصح المتعلم وهكذا.

نقد الفكرة دون التعرض لقائلها

نقد الفكرة دون التعرض لقائلها أيضاً من الأمور المساعدة على تقبل النصيحة: نقد الفكرة نفسها دون التعرض لقائلها نقد الفكرة تصويباً أو تخطئة من الأمور المؤثرة بينما لو تعرضت للقائل فإن النفوس ستتجه من محبي هذا القائل إلى الدفاع عنه، فتخرج القضية عن كونها نصيحة في تعديل فكرة من الأفكار إلى كونها تجريح وتعديل فلان من الناس. فإذاً: الناصح عندما ينصح يحاول أن ينقد الفكرة لا أن ينقد الشخص الذي يقول الفكرة بالدرجة الأولى؛ لأن الناس إذا نقدت الأشخاص أمامهم وفيهم حب لهؤلاء الأشخاص فإنهم يرفضون نصيحتك، لكنك لو عرضت الفكرة من دون أن تقول: قال فلان؛ لأن نسبة الكلام إلى القائل من الأمور التي تحمل الشخص على رفض الفكرة أو النصيحة التي توجهها إليه. وسبق أن تكلمنا عن هذا الفرق بين النصيحة والغيبة، ولكن أحياناً يضطر الناصح إلى أن يتكلم على الناس، أو إذا كانت الفكرة لا يمكن تعريفها إلا بذكر الشخص، مثلاً: السلف كانوا يذكرون الجهمية ونقد فكرة الجهمية، هذه الفكرة لا يمكن أن تعرف إلا بهذا الاسم، والجهمية نسبة إلى الجهم بن صفوان الذي اخترع الفكرة وهكذا. فأحياناً يكون ذكر الاسم لتحذير الناس من رجل مبتدع أو منحرف انحرافاً خطيراً، أو يخشى عليه من حب الرئاسة مثلاً، أو أن يتأثروا به تأثراً سلبياً يكون من الأمور المطلوبة. كذلك لا بد أن نعلم أن لكل نفس باباً وإليها طريق، فهذا يدخل إليه من باب الثناء مثلاً، وهذا يدخل إليه من باب العاطفة، وهذا يدخل إليه من باب التسلسل الفكري، وهذا يدخل إليه من باب التهديد والتخويف، وهذا يزعجه التطويل ويحب الاختصار، وهذا يؤثر فيه الشرح والبيان وهكذا فالناس أنواع. وانتقاء الأسلوب المناسب لكل شخص منهم مطلوب، وأحياناً تكون هناك عبارتان تؤديان نفس المعنى، فعبارة تجد لها مكانة في النفس، والأخرى تكون مرفوضة. هذه قصة تروى عن أمير في الماضي رأى رؤيا، فأتى بأحد رعيته أو حاشيته لكي يعبرها له، فقال له: إن تعبير رؤياك أن أهلك سيموتون كلهم، فضربه وحبسه وطرده، ثم عرض الرؤيا على شخص آخر، فقال له: إن معنى هذه الرؤيا: أن الله سيطيل في عمرك حتى تكون آخر أهلك موتاً انظر الفرق! المعنى: أنهم سيموتون قبله، لكن ذاك قال: معناه أن أهلك كلهم يموتون، وهذا قال: إنها ستطول بك الحياة حتى تكون آخر أهلك وفاةً، نفس المعنى، ونفس المؤدى، لكن طريقة التعبير اختلفت، فأكرمه وكافأه وأثنى عليه. قد تكون الكلمة أحياناً لها عكس معناها، ونفس الكلمة لها معنى ولها معنى معاكس، ونعرف هذا باختلاف الأحوال والقرائن التي تقترن بها أثناء عرضها، مثلاً: إذا خرجت مع زميل لك من العمل آخر الدوام وأنت مرهق جداً، فوصلته بسيارتك إلى باب بيته، فإذا نزل من الباب ماذا يقول؟ تفضل معنا، معناها: مع السلامة، صحيح هذا معناها، وأحياناً يكون معناها: تفضل، إكرام صحيح يقصد بها هذه الكلمة، وأحياناً يكون معنى تفضل أي: مع السلامة؟ حسب الواقع. كذلك أحياناً يكون شخص يتكلم فيأتي آخر يريد أن يدخل في العرض بالكلام، فيقول له مثلاً: لا أريد أن أقطع كلامك، ويأتي بالكلام الذي وراءه، كيف وهو قد قطع كلامه؟ انظر العبارات! وأحياناُ يطيل الزائر الزيارة، فجاء صاحب البيت وتململ، فذاك يريد أن يستأذن من أجل أن يمشي، فيقوم صاحب البيت يجامل ويقول: اجلس عندنا، وهو يريد أن يمشي، اجلس عندنا معناها: امش بسرعة. إذاً ينبغي انتقاء الكلمات حتى يكون الأسلوب ناجحاً، هذه النصيحة مثل العرض تعرض بضاعة أو سلعة، لكن هناك فرق بين من يعرض السلع الدنيوية ومن يعرض السلع الأخروية، إذا كان هؤلاء أصحاب علم التسويق يزينون السلعة ويحرصون حرصاً شديداً على أن تظهر السلعة بأجمل منظر للمستهلك، فلماذا نحن الدعاة إلى الله المسئولون عن الإسلام المكلفون من الله سبحانه وتعالى بنشر الدين لا نستخدم أساليب الجذب الشرعية لتسويق الفكرة الإسلامية بين الناس إن صح التعبير؟

اقتران النصيحة بالموعظة

اقتران النصيحة بالموعظة كذلك من عوامل نجاح النصيحة: اقترانها بالموعظة التي فيها تذكير بالله، وتذكير بالجنة والنار لها نماذج كثيرة في عهد السلف رضوان الله عليهم، ومن بعدهم من الصلحاء الناصحين والعلماء. خطاب الحسن البصري إلى عمر بن عبد العزيز، وخطاب سفيان الثوري إلى هارون الرشيد من النصائح المؤثرة جداً، وتجد فيها مواعظ كثيرة وتذكير بالله عز وجل، ولذلك ترى أثر خطاب سفيان الثوري على هارون الرشيد وخطاب الحسن البصري على عمر بن عبد العزيز كان قوياً جداً لاقتران هذه النصائح بالموعظة، وأنا أسوق لكم الآن نموذجاً واحداً من النصائح التي حصلت في بلاد الأندلس. لما بنى عبد الرحمن الناصر مدينته الخالدة الزهراء في الأندلس تفنن في بنائها وجعلها من أعاجيب المدن في العالم، وكان مما بناه فيها الصرح الممرد، اتخذ قبته قراميد من ذهب وفضة حتى أنفق عليها من خزينة الدولة مالاًَ عظيماً، وكان في قرطبة عالمها الفقيه الجريء المنذر بن سعيد، فهاله انهماك الخليفة الناصر في بناء الزهراء وما أنفقه من أموال الدولة عليها، وكان الناصر يحضر صلاة الجمعة في الجامع، ويستمع إلى خطبة قاضيه منذر بن سعيد، فوقف الخطيب يخطب الجمعة، وكان مما بدأه في تقريع الناصر على إنفاقه الأموال وانهماكه في بناء الزهراء أن تلا قول الله تعالى: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء:128 - 135] ثم وصل ذلك بقول الله تعالى: {مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى} [النساء:77] ثم أخذ يذم تشييد البنيان والإسراف في الإنفاق حتى خشع القوم وبكوا وضجوا، ثم التفت إلى الناصر وقال له أمام الناس يومئذ: ما ظننت أن الشيطان أخزاه الله يبلغ بك هذا المبلغ، ما ظننت أن الشيطان يضحك عليك ويوصلك إلى هذه الدرجة، ولا أن تمكنه من قيادتك هذا التمكين، سلمت قيادتك للشيطان مع ما آتاك الله وفضلك به على العالمين، حتى أنزلك الله منازل الكافرين، فاقشعر الناصر من قوله، وقال: انظر ماذا تقول، كيف أنزلتني منازلهم؟ فكر كيف تتحدث، كيف تضعني منازل الكافرين؟ قال: نعم أليس الله تبارك وتعالى يقول: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ} [الزخرف:33 - 34] هذه لمن؟ فوجم الخليفة ونكس رأسه ملياً ودموعه تجري على لحيته خشوعاً لله تبارك وتعالى وندماً على ما فعل، ثم أقبل بعد انتهاء الخطبة والصلاة على قاضيه المنذر بن سعيد، فقال له: جزاك الله خيراً يا قاضي عنا وعن المسلمين، وكثَّر في الناس أمثالك، فالذي قلت والله لهو الحق، وقام من مجلسه ذلك وهو يستغفر الله، وأمر بأن ينقض سقف القبة وأن تكون قراميدها تراباً. فإذاً اقتران النصيحة بالموعظة، كالتذكير بالله عز وجل، وذكر الجنة والنار وعذاب القبر، وذكر الأشياء الإيمانية المؤثرة، والتذكير بعظمة الله وصفاته من الأمور التي تجعل النصيحة ذات وقع على الناس، وتوجيهها إلى الكبار ونصحهم وهزهم بهذه الآيات له أثر كبير أيضاً.

هل يشترط في النصيحة أن تكون شفوية؟

هل يشترط في النصيحة أن تكون شفوية؟ قد يظن الناس أن النصيحة هي النصيحة الشفوية فقط، ولكن كثيراً ما تكون النصيحة المكتوبة أجدى وأنفع من النصيحة الشفوية مثلما وقع في خطاب الحسن البصري وسفيان الثوري رحمهما الله تعالى. أحياناً تكون النصيحة عبارة عن شريط يحمل في طياته تبيين مسائل وتصورات ومفاهيم، وتبيين أخطاء ومنكرات، فيكون هذا الشريط من وسائل النصائح المؤثرة، ويؤثر هذا كثيراً في حالات، منها: أن يكون بينك وبين المنصوح سوء تفاهم أو علاقات غير حسنة، فكونك تأتي وتكلمه شفوياً هذا قد يسبب نوعاً من الأخذ والعطاء والجدل والمراء في الموضوع، فعندما تكتب له كتابة أو تعطيه شريطاً يتضمن ما تريد أن تكلمه عنه فإنه يزيل هذه السلبية، أو إذا كان الشخص من طبيعته المراء والجدال، ولا يمكن أن تكلمه بكلمتين -مثلاً- إلا ويدخل بينهما كلمة من عنده، ففي هذه الحالة يكون نصحه عن طريق الكتابة إليه وهي من الأمور المناسبة، لأنه ليس من المعقول أن شخصاً يأتيه خطاب أو كتاب فيه نصيحة فيقرأ سطرين ويغلق ثم يرد عليهما، لا يمكن أن يفعل هذا، بل تجده يسترسل في القراءة إلى الأخير، فتأتيه الفكرة كاملة واضحة مستتمة، بخلاف ما إذا ناقشته بنفسك وتحول الموضوع إلى جدل وأخذ وعطاء. كذلك يكون استخدام هذا الأسلوب مناسباً إذا كنت لا تريد أن يعرف المنصوح من الذي نصحه، فأحياناً يكون ذكر الاسم فيه حساسية معينة قد لا يقبل الشخص، وإذا لم يعرف اسمك يقبل، فلذلك يكون عدم ذكرك للاسم بطريق الكتابة من الأساليب الطيبة، وهذه الأشياء يكون لها تأثير بإذن الله إذا أخلص الإنسان النية ولو بعد حين، فقد حدث مرة من المرات أن أحد الناس الذين هداهم الله عز وجل كانت له أخت لا تتحجب، فكان مسافراً على عجل فأهدى لها شريطاً عن الحجاب، وكان سفره طويل وبعيد، فرجع بعد فترة طويلة ووجد أن أخته قد تحجبت، فسألها قال: سبق أن تكلمنا في هذا الموضوع تكراراً، لكن ما هو السبب؟ فقالت: أتذكر ذلك الشريط الذي أهديتني إياه مرة من المرات كان هو السبب المؤثر في نفسي فتحجبت، وأحياناً كما تقول الحكمة: وما السيل إلا اجتماع النقط. ومن الأمور التي ينبغي الانتباه لها أنه لا يشترط أن تكون النصيحة مؤثرة، بمعنى أن بعض الإخوة عندما قرأ العنوان قال: النصيحة المؤثرة، بمعنى: كيف نبكي الناس ونجعلهم يتأثرون إلى درجة البكاء، لا. لا يشترط في النصيحة أنك إذا نصحت إنساناً لا بد أن يبكي لا يشترط في النصيحة المؤثرة الناجحة أن يبكي المنصوح، لا. ولكن أن تتبين نجاح النصيحة من عدمها بالأثر الذي لاقته في نفس المنصوح، فبعض الناس يظن أن المنصوح إذا لم يبك ولم تذرف عيناه بالدموع أنه لم يتأثر، لا. قد يكون هناك رجل يملك نفسه ويملك عاطفته ولا يستجيش بسهولة وتنطلق منه العبرات ويتأثر، فإذاً: التأثر الشكلي -البكاء- ليس من علامات النجاح، بل إن بعض الناس قد يبكي عند سماع نصيحة أو موعظة، ولكن إذا فارق المجلس انتهى كل شيء، فالعبرة بالمادة والأسلوب الذي يلقى على نفس ذلك الشخص فيتأثر بإذن الله. كذلك: ينبغي معرفة التوقيت الصحيح للنصيحة وخصوصاً إذا كانت النصيحة تهدف إلى علاج الأخطاء. فينبغي كما يقول بعض الكتاب الإسلاميين ألا تكون النصيحة بعد الخطأ بفترة طويلة، فينسى الشخص المخطئ خطأه ويصبح التعليق بارداً جداً، بل إنه لا بد من الضرب على الحديد وهو ساخن؛ لأن الحديد إذا كان ساخناً فإنه يسهل تشكله، فتأخير النصيحة على الأخطاء إلى أمد بعيد له عدة سلبيات، منها: إشعار المذنب بأن ما فعله كان صحيحاً، وإلا لماذا لم يعترض علي؟ إذا تأخرت النصيحة على الخطأ فترة طويلة فإن الشخص يطمئن إلى واقعه ويرضى بالواقع، ويقول: لو كان خطأ لاعترضوا علي. ثانياً: إذا جاءت النصيحة متأخرة يكون في نفس المنصوح شيء من الشيطان، ما الذي دفع الناصح أن ينصح الآن بعد هذه الفترة هذا بلا شك دافع شخصي، لماذا تأخر وجاء الآن يبلغني النصيحة عن الموضوع؟ هناك حاجة شخصية، لو كان يريد أن ينبه لنبه من قبل، لكن الآن بعد أن صارت مشكلة بيني وبينه ظل يتصيد الأخطاء ويفكر في الماضي، فأخرج لي مجموعة من النصائح. ثالثاً: برود الحدث وعدم وجود القابل النفسي للاستجابة، هذه بعض السلبيات التي تترتب على تأخير النصيحة عن الأخطاء، ولكن قد يكون من المصلحة أحياناً التأخير خاصةً إذا كانت نفس المنصوح أو المخطئ مضطربة جداً بحيث أنه لا يقبل أي كلام، فتأخير النصيحة حتى تهدأ نفسه وتستقر الأمور وتتضح المواقف من الأشياء المهمة.

آداب المنصوح وواجباته

آداب المنصوح وواجباته ننتقل أخيراً إلى المنصوح: (المؤمن مرآة أخيه) كما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم، وصديقك من صدَقك لا من صدّقك، من أعطاك الصدق في نفسه لا من صدّقك؛ الذي كلما أتيت له بكلامٍ قال: صادق، صادق، صادق، فصديقك من صدَقك لا من صدّقك. الحرص من المنصوح على النصيحة أمرٌ مهم، لأن العين كما قال الشاعر: العين تبصر منها ما دنا ونأى ولا ترى نفسها إلا بمرآة فالشخص يرى ما أمامه في الآخرين، سواء كان قريباً أو بعيداً، لكنه لا يرى نفسه إلا بمرآة حقيقية، ولذلك انظر إلى بلاغة الوصف النبوي عندما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (المؤمن مرآة أخيه) لماذا كان مرآة؟ لأنه يعكس له صورته وعيوبه ومحاسنه بالنصائح. قال عمر بن عبد العزيز: [من وصل أخاه بنصيحة له في دينه ونظر له في صلاح دنياه، فقد أحسن صلته وأدى واجب حقه]. وقال بعضهم: من نصحك فقد أحبك، ومن داهنك فقد غشك، ومن لا يقبل بنصحك فليس بأخ لك.

البحث عن الناصح

البحث عن الناصح أيها الإخوة: من الأمور المهمة للمنصوح أن يبحث عن الناصح، يأخذ إخوانه المقربين والناس الذين حوله فيسألهم: يا أخي فلان! ماذا تجد علي؟ بصرني بعيوبي، هل لك ملاحظات؟ إذاً طلب النصيحة يدل عليها قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (وإذا استنصحك) زيادة الألف والسين والتاء تدل في اللغة العربية على الطلب، استنصحك: طلب النصيحة، استكتب طلب الكتابة، استشار طلب المشورة وهكذا. فمن صفات المؤمن أنه يطلب النصيحة من الآخرين، هذا من أول واجبات المنصوح أنه يبحث عن الناصح الأمين.

طلب النصيحة

طلب النصيحة ثانياً: أن يكون هو الذي يطلب النصيحة، لا ينتظر حتى يأتيه الناس وينصحونه، ولو أن كل شخص فينا طلب النصيحة من الآخرين فإن الأخطاء تقل إلى درجات متدنية جداً.

تقبل النصيحة

تقبل النصيحة ثالثاً: تقبل النصيحة من الأمور المهمة، بل هو عماد القضية كلها وأساسها. فهذا موسى عليه السلام لما جاءه الرجل قال له: {إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} [القصص:20] ماذا فعل موسى عليه السلام؟ {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ} [القصص:21] مباشرةً، لم يقل: أنا أستطيع أن أدبر أموري ونفسي، وأستطيع أن أختفي وأنا ماهر: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ} [القصص:21] لأن ذلك الرجل كان قد اطلع على أحوال القوم وتبصر بالأمور التي لم يعرفها موسى عليه السلام، فلذلك قال: {فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ} [القصص:20 - 21] بادر بتنفيذ النصيحة فوراً. وبعض الناس من المنصوحين يتقبلون النصيحة بالقول، يقول: جزاك الله خيراً، ما قصرت، وأنا مخطئ، وإلى آخره، وكلامك صحيح، لكنه عملياً لا يطبق، هذه هي المشكلة. والرسول صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نبحث عن الناصح حتى في الأشياء التي قد تبدو ليست ذات أهمية، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال في الرؤيا -إذا رأى الإنسان رؤيا في المنام- ألا يقصها إلا على واد أو ناصح أو ذي علم، لماذا يقص الرؤيا على الناصح؟ حتى لا يؤول له الرؤيا بتأويل سيئ فتقع كما أخبر، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (الرؤيا على رجل طائر تقع على ما تعبر به) فإن عبرها بسوء وقعت كما أخبر، وإن عبرها بشيء حسن وقعت كما يقول، هذه من العجائب التي أخبر بها الرسول صلى الله عليه وسلم. إذا رأيت رؤيا فلا تقصها إلا على واد -بينك وبينه مودة- أو ناصح، أو إنسان عنده علم يفسر لك الأمور، فنطلب الناصح حتى في تفسير الرؤى. وهناك قصة مهمة جداً لكن لن نستعرضها الآن وإنما سنشير إليها إشارة: ذات مرة في موسم الحج كان عمر رضي الله عنه مع الناس، فقام أحدهم وقال: والله ما كانت بيعة أبي بكر إلا فلتة، والله لئن مات عمر لأبايع فلاناً أو فلاناً، فغضب عمر رضي الله عنه غضباً شديداً لما بلغه الكلام وهمَّ أن يقوم وينصح ويكلم الناس، ويأمر ويؤنب هذا الشخص على فعلته ويبين القضية؛ لأن القضية خطيرة، فجاءه عبد الرحمن بن عوف، قال: يا أمير المؤمنين! انتظر حتى تقدم المدينة فإن فيها من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وعلماء الناس وفقهائهم من إذا سمع الكلام أداه كما سمعه وعرفه وفهمه، فأخذ عمر رضي الله عنه بنصيحة عبد الرحمن وانتظر حتى قدم المدينة فتكلم، فكان لكلامه وقعٌ طيب وأثرٌ كبيرٌ على الناس. والقصة في الصحيح ولعلنا نقف عندها وقفات في المستقبل إن شاء الله. كذلك كان عمر رضي الله عنه يوماً مع أصحابه، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين! اتق الله، فقال بعض الحاضرين لذلك الرجل: أتقول لأمير المؤمنين اتق الله؟! فقال عمر: [دعوه فليقلها، لا خير فيكم إن لم تقولوها ولا خير فينا إن لم نقبلها] عبارة ذهبية. فإذاً: لا يستهين الإنسان أن ينصح من هو أعلى منه، ولا يستهين المنصوح الكبير أن يطلب النصيحة ممن هو أدنى منه، فرب طالب علم أسدى لعالم نصيحة غالية، ورب مربٍ تلقى نصيحة ممن يربيه، وأب تلقى نصيحةً من ابنه لا تقدر بثمن، فإن بعض أذهان الناصحين قد تنقدح على معان وأمور لا تخطر ببال المنصوح أبداً، حتى ولو كان أعلى قدراً وأجل وأعلم، فلذلك لا يحمل المنصوح الأعلى منزلة ومرتبة أن يطلب النصيحة ممن هو أدنى منه. شبهة: بعض الناس المنصوحين يقول: إذا أنا قبلت كلام فلان فهذا يعتبر مطعن في شخصيتي، لماذا؟ يقول: هذا يدل على ضعف شخصيتي. أيها الإخوة: هذا على العكس تماماً، ليعلم كل منصوح بأنه إذا قبل النصيحة فإنه سيكون له في نفس ناصحه مكانةً عظيمة، يقول الشافعي رحمه الله: ما نصحت أحداً فقبل مني إلا هبته -خفت منه وعظم في عيني- واعتقدت مودته، ولا رد أحدٌ علي النصح إلا سقط من عيني ورفضته. إذاً لا بد أن يكون صدر المنصوح واسعاً ويتقبل خصوصاً من الناس الذين يصلون في المساجد، وبعض الناس ينصحون من بعض المصلين، فتجده تأخذه العزة بالإثم ويرفض النصيحة، ويقول: أنت أفهم مني؟ وهذا دين جديد، وأنت مبتدع إلخ بدون أن يقيس ويعرف الكلام وأدلة الكلام. كذلك من آداب المنصوح: أن يتيح الفرصة للناصح لإبداء النصيحة ويشجعه لإكمال كلامه واستفراغ المزيد مما عنده، لأن بعض الناس يقطع الكلام على الناصح ولا يريد أن يسمع أكثر من كذا. من الآداب أن يستزيد ويستفرغ ما عند هذا الناصح ويشجعه على إتمام النصيحة، ويشعره بأنه غير متحرج أبداً، وأن هذا لا يعتبر نقداً ولا تجريحاً وأنه يطلب منه أن يكمل كلامه.

الدعاء للناصح في ظهر الغيب

الدعاء للناصح في ظهر الغيب كذلك من آداب المنصوح: أن يدعو للناصح في ظهر الغيب، وأن يقول له: جزاك الله خيراً، لأن الله قال: {هَلْ جَزَاءُ الْأِحْسَانِ إِلَّا الْأِحْسَانُ} [الرحمن:60] هذا يحسن إليك بالنصيحة فأنت أحسن إليه، (من صنع لأخيه معروفاً فقال له: جزاك الله خيراً، فقد أجزل في الثناء). فإذاً هذا المنصوح إذا سمع النصيحة يقول للناصح: يا أخي جزاك الله خيراً، وواجبك أديته، وأنت مثاب إن شاء الله، وأنت مأجور على نصيحتك لي وهكذا. هذه طائفة من النقاط المتعلقة بالنصيحة، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، لأن استماع القول واتباع أحسنه من صفات المؤمنين، فنسأل الله أن يجعلنا كذلك.

الأسئلة

الأسئلة هذه أسئلة عرضت على سماحة العلامة عبد العزيز بن باز فأجاب عليها جزاه الله خيراً.

حكم التشقير

حكم التشقير Q امرأة تسأل عن التشقير؟ A التشقير هو: صبغ يباع في الأسواق يرشوه على جزء من الحاجب بلون البشرة، بحيث يظهر للذي ينظر في الحاجب أنه نحيف، أي: كأنه منتوف ولكنه ليس كذلك؛ لأنه مصبوغ من الأعلى مثلاً أو من الحواف بصبغ مشابه للون البشرة، فبعض النساء سألن عن هذا، فتوجهت بهذا السؤال للشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله فقال: لا حرج في هذا؛ لأنه ليس نتفاً، إلا أن يكون الصباغ أسود فإنه منهي عنه، أما إذا كان غير ذلك فإنه لا بأس به.

تجميل ما تشوه من الإنسان

تجميل ما تشوه من الإنسان Q امرأة انكسر الجزء الأعلى من أحد نابيها، فتريد حك الآخر ليصبح بنفس الطول؟ A قال الشيخ ابن باز: الظاهر أنه لا بأس به؛ لأنه ليس بتفليج، والتفليج تفريق الأسنان أو وشرها لأجل الحسن، وإنما نهي عنه لأنه نوع من المثلة، أي: الآن صار عندها نوع من التشوه، فهذا ليس تحسيناً وإنما حصل تشويه، وليس من أصل الخلقة، أي: لم يخلق سنه مكسور، فإزالة المثلة في هذه الحالة ليس بداخل في التفليج، ولكن ذكر الشيخ ابن عثيمين عند سؤالي له إضافة أخرى، قال: لكن هنا تلبس المكسور أولى من أنها تزيل من الأسنان، تلبس سنها شيئاً معدنياً بحيث يصبح في نفس الطول.

وضع اليد على الصدر لمن يصلي قاعدا

وضع اليد على الصدر لمن يصلي قاعداً Q المصلي المريض الذي يصلي قاعداً أين يضع يديه؟ A السنة للمصلي قاعداً أن يتربع كما ورد في الحديث الصحيح، فيقول الشيخ عبد العزيز: يضعها مثل الصحيح على صدره قبل الركوع وبعد رفعه من الركوع.

حكم قول كفارة المجلس في الهاتف

حكم قول كفارة المجلس في الهاتف السؤال الثاني: هل يشرع قول كفارة المجلس بالهاتف؟ A إذا تكلم شخصان في الهاتف، فإذا انتهوا هل تقال كفارة المجلس أم لا؟ فكان جواب الشيخ: ما أعلم هذا، أي: لا يعلم بأن هذا يقال في المحادثات الهاتفية، ولكن قال الشيخ: إذا كان لوحده، أي: أنا تكلم عليَّ شخص في الهاتف فرددت عليه ثم أغلقت السماعة، فإذا أردت أن أقوم من المجلس الذي تكلمت فيه فأقول دعاء المجلس ولو كنت وحدي؛ لأني تكلمت وحصل مني كلام في المجلس، فأقول دعاء المجلس: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

حكم الصفرة والكدرة

حكم الصفرة والكدرة Q لو اتصلت الكدرة أو الصفرة بأول الحيض فهل تعتبر منه أم لا؟ A من المعلوم أن الكدرة إذا اتصلت بالحيض من آخره فإنها تعتبر من الحيض، فإذا كانت المرأة يخرج منها كدرة في بداية الحيض قبل الدم متصلاً به، فيقول الشيخ: تعتبر منه كما أنها تعتبر منه في آخر الحيض، كذلك تعتبر من الحيض إن جاءت في أوله. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم الإخلاص في القول والعمل والفقه في الدين. وصلى الله على نبينا محمد. سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

من هم أولياء الله؟

من هم أولياء الله؟ تجد في هذا الدرس تعريفاً بأولياء الله، مع ذكر بعض صفاتهم، فولاية الله لها مقتضيات وثمرات. كما تحدث الشيخ عن الكرامات التي تحدث لأولياء الله سواء في الكتاب والسنة، أو من واقعنا المعاش، كما بين الفرق بين الكرامة التي تحدث لولي الله وبين الخوارق التي تحدث للسحرة والمشعوذين، وذَكَرَ الضابط في ذلك.

تعريف بأولياء الله

تعريف بأولياء الله الحمد لله، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله، محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: يقول الله جل وعلا في تعريف أوليائه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:63] وقد ورد حديث عظيم القدر، شريف المنزلة، قال العلماء: إنه أجل حديث في الأولياء، قالوا: إنه أشرف حديث روي في ذكر الأولياء وهو حديث رواه الإمام البخاري رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه) رواه البخاري رحمه الله تعالى. وفي رواية: (وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته). هذا الحديث العظيم يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيه عن ربه عز وجل: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) ومعنى: (آذنته بالحرب) أي: أعلنت أني محارب له؛ لأنه يحارب أوليائي فأنا أحاربه، وأنا خصمه، وويل لمن كان الله تعالى خصمه، ومن عادى أولياء الله فقد بارز الله تعالى بالمحاربة، والله يحب الأبرار الأتقياء الأخفياء الذين إذا غابوا لم يفتقدوا، وإن حضروا لم يدعوا؛ لهوانهم على الناس، ولم يعرفوا؛ لأنهم ليسوا بأصحاب سمعة ولا شهرة، قلوبهم مصابيح الهدى، يخرجون من كل غبراء مظلمة أنقياء أتقياء؛ لأن قلوبهم منيرة بذكر الله تعالى، فإذا دخلوا في الفتن خرجوا منها أحسن من الذهب الأحمر. أرأيت الخام إذا أريد استخلاص الذهب منه، فإنه يدخل في الفرن ويحمى عليه، وينفخ لتتطاير هذه الشوائب وما غطاه من الخلائف، ثم يصبح ذهباً أحمر نقياً لا شيء فيه، فكذلك أولياء الله، إذا فتنوا خرجوا من الفتنة وهم أقوياء أنقياء، فأولياء الله عز وجل تجب موالاتهم وتحرم معاداتهم، كما أنه يجب معاداة أعداء الله وتحرم موالاة أعداء الله، فكذلك تجب موالاة أولياء الله. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة:1] وقال عز وجل: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:55 - 56] فهم الغالبون باللسان والبيان والحجة، وهم الغالبون بالسيف والسنان ولو بعد حين، والله تعالى وصف أحباءه الذين يحبهم ويحبونه، بأنهم أذلة على المؤمنين، إذا قال قائلهم أولياء الله، نقول: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:63]. من هم أولياء الله؟ {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة:55]. من هم أولياء الله؟ {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54] هؤلاء أولياء الله تعالى، هؤلاء الذين من أهانهم أو أخافهم فقد بارز الله بالمحاربة، وبدأه بالمحاربة، وعرض نفسه لسخط الرب وانتقامه، والله أسرع شيء إلى نصرة أوليائه، أفيظن الذي يحارب الله أن يقوم له ويقاومه؟ أويظن الذي يحارب أولياء الله أن يعجز الله تعالى؟ أويظن الذي يبارز الله أن يفلته ويفوته؟!! كيف والله يثأر له في الدنيا والآخرة، ولذلك لا يكل الله نصرة أوليائه إلى غيره، بل هو الذي ينصرهم عز وجل.

معاداة أولياء الله محاربة لله

معاداة أولياء الله محاربة لله لنعلم -أيها الإخوة- أن جميع المعاصي محاربة لله تعالى، ولذلك قال الحسن البصري رحمه الله: [ابن آدم! هل بمحاربة الله من طاقة؟ فإن من عصى الله فقد حاربه، لكن كلما كان الذنب أقبح كان أشد محاربة لله] ولهذا سمى الله أكلة الربا وقطاع الطريق محاربين لله ولرسوله؛ لعظيم ظلمهم للعباد، وسعيهم بالفساد في البلاد. وكذلك معاداة أولياء الله تعالى، قيل: إن آكل الربا يعطى يوم القيامة سيفاً أو رمحاً ويقال له: حارب ودافع، والله تعالى يحاربه، فكيف وأنّى تكون له الغلبة؟! ولذلك قال الله في أكلة الربا: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا} [البقرة:279] فإن لم تتركوا أكل الربا. {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279] حرب الله عليهم ما يصيبهم به من الآفات وأنواع الانتقام، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الربا وإن كثر فإن عاقبته إلى قل) أي: يصبح في النهاية قليلاً منزوع البركة، تذهب الأموال من حيث لا يدري صاحبها، وآكل الربا لا يبارك له في ماله، فسرعان ما يذهب ويضمحل، والحرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدنيا بما يقام عليه من التعزير والتنكيل، ومن خلفاء النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا وأهل الصلاح من الحكام الذين يحاربون أكلة الربا، {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279]. والذي يعادي الله تعالى يحاربه الله أيضاً، ولذلك فإن أشد الناس محاربة من الله هم الذين يقعون في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هم رأس الأولياء، هم قمة الأولياء، فهم أشد خلق الله بعد الأنبياء ولاءً لله تعالى، والله تعالى يحبهم، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يؤذي أصحابه: (أن عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) وقال عليه الصلاة والسلام: (الله الله في أصحابي) حذرنا من الوقوع فيهم، وقال: (إذا ذكر أصحابي فأمسكوا) لا تتكلموا فيهم، لا تتخذوهم غرضاً، من يؤذيهم يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي يؤذيهم يوشك أن يأخذه الله، وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (من سب أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) ولذلك فإن من أعظم الناس جرماً الذين يقعون في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فيقولون: ارتدوا، ويقولون: إنهم سفكوا الدماء بالباطل، وإنهم غصبوا علياً حقه، وإنهم كفروا بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وإنهم ظلمة وفسقة، ونحو ذلك من الألفاظ البذيئة، والشتائم العجيبة التي يلحقونها بالصحابة، فلا شك أن الذي يسب الصحابة أول واحد ينطبق عليه هذا الحديث وهو قوله تعالى: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب). ولذلك ترى الذين يحاربون الصحابة يحاربهم الله في الدنيا بأن يوقع بأسهم بينهم، وأن يجعل أمورهم فتنة واختلاطاً، وأن يجعل فيهم القتل والحرب، فلا يزال أمرهم في اضطراب ونظمهم في اختلال، وأمرهم إلى زوال، فلا تقوم لهم قائمة، ولذلك لا يستقر لهم حال أبداً؛ لأنهم سبوا أولياء الله تعالى، وهم صحابة النبي صلى الله عليه وسلم. وقوله تعالى: (وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه) لما ذكر الله تعالى أن معاداة أوليائه هي معاداة ومحاربة له، ذكر صفات هؤلاء الأولياء الذين تحرم معاداتهم وتجب موالاتهم، والموالاة هي النصرة والقرب، الولاية هي النصرة والقيام بالحق والدفاع والذب.

أولياء الله على قسمين

أولياء الله على قسمين أولياء الله عز وجل على قسمين: منهم من تقرب إليه بأداء الفرائض، وهذا يشمل فعل الواجبات وترك المحرمات، ومنهم من تقرب إليه بعد الفرائض بالنوافل، فلذلك ارتقى منزلة أخرى بعد منزلته الأولى بأداء الفرائض، ثم صار في هذه المنزلة العظيمة، فإذاً هم على درجتين.

أصحاب اليمين

أصحاب اليمين الأولى: المتقربون إلى الله بأداء الفرائض، وهذه درجة المقتصدين أصحاب اليمين، ولا شك أن أداء الفرائض أفضل الأعمال عند الله كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [أفضل الأعمال أداء ما افترضه الله، والورع عما حرم الله، وصدق النية فيما عند الله عز وجل]. وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: [أفضل العبادة أداء الفرائض واجتناب المحارم، وذلك لأن الله عز وجل إنما افترض على عباده هذه الفرائض ليقربهم منه، ويوجب لهم رضوانه ورحمته]. ولا شك أن هذه الفرائض أنواع، فمنها بدني كالصلاة: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق:19]، (وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد)، (إن الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت). وكذلك عدل الراعي في الرعية، سواء كانت رعية عامة أو خاصة، ومنها الرعية الخاصة: عدل آحاد الناس في أهله وولده، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) والعدل بين الأولاد، وكان السلف يحرصون عليه حتى في القُبَل، إذا قبل هذا الولد يقبل الآخر، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن المقسطين عند الله على منابر من نور على يمين الرحمن وكلتا يديه يمين سبحانه وتعالى) فأيدي البشر تتفاوت بالقوة والعطاء، وتجد أن كثيراً من الناس يمينهم أقوى من شمالهم، وبعضهم شماله أقوى من يمينه، ويعطي بيمينه، والله تعالى كلتا يديه في القوة سواء، وهما سواء في العطاء، والخير كله في يديه، سحاء الليل والنهار؛ والسحاء هو المهطال الذي يهطل ويتواصل في النزول والانصباب، يعطي سبحانه وتعالى، يعطي والخير في يديه، ومنذ أن خلق السموات والأرض وهو ينفق على عباده، منذ أن خلق العباد ينفق عليهم، ومع ذلك لم ينفذ مما عنده شيء، لأن خزائن السموات والأرض بيديه، إنما أمره لشيء إذا أراد أن يقول له: كن، فيكون، هؤلاء المقسطون عند الله على منابر من نور على يمين الرحمن وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم بين أهليهم وما ولوا من أنواع الولايات؛ سواء كان في وظيفة، أو كان في أسرة، أو كان في تجارة، فإنه إذا تولى ولاية صار هناك أناس تحته يعدل بينهم، فاتصف بصفة من صفات أولياء الله تعالى.

السابقون المقربون

السابقون المقربون والدرجة الثانية من أولياء الله: وهي درجة السابقين المقربين، الذين تقربوا إلى الله بعد الفرائض بالاجتهاد في نوافل الطاعات والالتفات عن دقائق المكروهات من خلال الورع الذي يحجبهم عن الشبهات، ولا يظنن الظان أن القيام بالواجبات والامتناع عن المحرمات أمر سهل، فمن هو الذي يفعل هذا الآن؟ من الذي لا يرتكب محرماً من المحرمات؟ ولذلك فإنه لا يمكن الوصول إلى رتبة الأولياء إلا بالإكثار من التوبة، بحيث لو أن الإنسان عمل معصية يسرع إلى التوبة منها، وهذا أمر في غاية الأهمية.

وجوب محبة أولياء الله

وجوب محبة أولياء الله ثم إن من صفاتهم كما تقدم: أنهم أذلة للمؤمنين، يعاملون المؤمنين بالذلة واللين وخفض الجناح، ويعاملون الكفرة بالغلظة والشدة والعزة؛ وذلك لأن أولئك المؤمنين يحبون الله، فهم يحبونهم لأجله، لا يحبون الشخص لشخصه، ولا لشكله، وإنما يحبونه لأجل محبته لله، ولذلك ذكر شيخ الإسلام رحمه الله تعالى قاعدة مهمة في الجمال في كتاب الاستقامة، لعلنا سنأتي إلى تفصيلها إن شاء الله، قال ما معناه: لو أن الشخص يحب لجماله لكان يوسف أفضل من كل الأنبياء، ولكن لا يحب الشخص لشكله ولا لجماله ولا لماله، ولكن الأمر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) فمن صفات هؤلاء الأولياء الذين يدافع الله عنهم، وينصرهم وينتصر لهم، من صفاتهم أنهم أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين. ولذلك فإن هؤلاء لا يغلظون للمؤمنين، ومن الصفات السيئة أن تجد الشخص يقع في أهل الإيمان والتوحيد، ويقع في أعراض الدعاة إلى الله، يقع في أعراض أهل العلم؛ يسب ويشتم، ويرمي بأنواع السباب والمعايب أهلَ التوحيد والدين، والذين قاموا بواجب الدعوة والأمر والنهي، فهذا لا يمكن أن يكون من أولياء الله بحال، بل سرعان ما يخبو أمره وينطفئ، ويحدث انتقام الله منه، ويرى ذلك بأم العين في الدنيا قبل الآخرة. والمتأمل في الواقع يعرف أن هذا أمر حاصل؛ لأن سنة الله تعالى في الحياة ماضية، وقد تكفل الله بالدفاع عن أوليائه، ولذلك فإنك لا تكاد ترى من يقع في أهل الإيمان والدين ونصرة الشريعة إلا والله منتقم منه ولو بعد حين. قال الله عز وجل في صفات الأولياء: {وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54] ما داموا قد أحبوا حبيبهم وهو الله عز وجل فلا يخافون في سبيله شيئاً، فيعملون بمرضاته، رضي من رضي وسخط من سخط، ولذلك فمن الأمور المهمة أن الإنسان يحب أولياء الله، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أتاني ربي عز وجل -في المنام- فقال لي: يا محمد! قل: اللهم إني أسألك حبك، وحب من يحبك، والعمل الذي يبلغني حبك) هذا الحديث رواه الإمام أحمد رحمه الله والترمذي وقال: حسن صحيح. وقال: سألت محمد بن إسماعيل -يعني البخاري - عن هذا الحديث، فقال: هذا حديث حسن صحيح. إذاً إذا كان الإنسان عنده إيمان ويقين ودين، ويريد أن يتصف بصفات الولاية، فعليه أن يسأل الله محبة أوليائه، وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: (اللهم ارزقني حبك وحب من ينفعني حبه عندك) لأن هناك أناساً محبتهم تضر عند الله، وأناساً محبتهم تنفع عند الله، ولذلك يقول: (اللهم ارزقني حبك، وحب من ينفعني حبه عندك، اللهم ما رقتني مما أحب فاجعله قوة لي فيما تحب -الإنسان يحب المال، يحب الزوجة، يحب الشهوات- اللهم ما زويت عني مما أحب -ما حرمتني من النعم- فاجعله فراغاً لي فيما تحب) وهذا الحديث رواه ابن المبارك رحمه الله في كتابه الزهد، وسنده صحيح، وحسنه الترمذي رحمه الله تعالى. وهذه الدرجة التي ليس لأصحابها همٌّ إلا ما يقربهم من محبوبات الله تعالى، ومن الأشخاص الذين يحبهم الله عز وجل، قال بعض السلف: العمل على المخافة قد يغيره الرجاء، والعمل على المحبة لا يدخله الفتور. وهذه عبارة بالغة بليغة، (العمل على المخافة) إذا عملت من أجل الخوف فقط، فقد يعتريك الفتور إذا حصل لك رجاء، فالإنسان الذي يعمل فقط خوفاً من العذاب، هذا إذا جاء يوم من الأيام وتأمل فحصل له شيء من الرجاء أو مر به شيء مما فيه ذكر رجاء الله تعالى وثوابه؛ حصل له شيء من الفتور؛ لأن الدافع للعمل هو الخوف، فإذا حصل شيء من الرجاء خفّ للخوف فإذا كان الدافع للعمل هو الخوف الذي قد خف خفَّ العمل أيضاً لكن إذا كان الدافع للعمل هو محبة الله، فأي شيء يخففها؟ لا شيء، ولذلك كان الدافع للعمل إذا صار فيه محبة أقوى منه إذا صار من الخوف، ولذلك المحبة هي الرأس والخوف والرجاء الجناحان، وإذا قطع الرأس لا يطير الطائر أصلاً ولا يمشي ولا يتحرك. من الناس من يعبد الله خوفاً، ومن الناس من يعبد الله رجاءً، ومن الناس من يعبد الله محبة، والمؤمن ينبغي أن تجتمع فيه هذه الثلاثة بدون أن ينتفي شيء منها، لو انتفى شيء منها معنى ذلك أنه قد وقع في خطر عظيم، فإذا صار الدافع للعمل محبة الله، فلا تخف، فيستمر العمل، إذا كان الدافع هو الخوف، يمكن أن يخف إذا عرض عارض رجاء في الفكر أو السماع، أو قراءة شيء مما فيه سعة الرحمة والتوبة، حصل للخوف نقص، ففتر العمل. وكذلك قال بعضهم: إذا سئم البطالون من بطالتهم فلن يسأم محبوك من مناجاتك وذكرك. فالبطالون الذين يسعون في الدنيا بالبطالة يسأمون ولا بد، فإما أن يحصل عندهم شيء من الملل من كثرة ما يفعلونه ومن تشابه ما يفعلونه؛ لأن هذه الأشياء التي في الدنيا من الملهيات والألعاب والنعيم، لا بد فيها من آفات، فالأكل إذا أكثر منه مرض، والشهوة إذا أكثر الوقوع فيها مرض واضمحلت قوته، وهذه الألعاب الموجودة لو أكثر منها لأصابه الملل، ولكن مناجاة الله تعالى وذكره لا يحصل فيها ذلك إذا كانت موافقةً للسنة، ومن ذلك قال: (فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى). ومن أحب الله لم يكن عنده شيء آثر من هواه، ومن أحب الدنيا لم يكن عنده شيء آثر من هوى نفسه، والمحب لله تعالى أمير مؤمر على الأمراء، زمرته أول الزمر يوم القيامة، ومجلسه أقرب المجالس فيما هنالك، والمحبة منتهى القربة والاجتهاد، ولم يسأم المحبون من طول اجتهادهم لله عز وجل؛ يحبونه ويحبون ذكره ويحببونه إلى خلقه، وهذه الصفة مهمة جداً؛ أعني تحبيب الله إلى الخلق.

طريقة تحبيب الله إلى الناس

طريقة تحبيب الله إلى الناس ليست المسألة فقط أن الإنسان يحب الله، وإنما أيضاً إتقان الصنعة وإتقان العبادة وإتقان الولاية أن يحبب الله إلى الخلق، قد يسهل على الإنسان أن يحب الله، فإذا تأمل في نعم الله أحب الله، لكن أن يحبب الله إلى الخلق فهذه مسألة لا يقوم بها إلا الدعاة إلى الله، وليس كل الدعاة إلى الله، بعض الدعاة إلى الله ينجحون في تحبيب الرب إلى الخلق، ولذلك فالداعية إلى الله عز وجل يمارس هذه الوظيفة فيعمل جاهداً لأجل تحبيب الله إلى خلقه، فإذا أوصلتهم إلى محبة الخالق فاتركهم وهم سيكملون الطريق، فإذاً التحبيب إلى الخلق بالمشي بالنصائح بين العباد، كما قال بعض السلف: يحببونه إلى خلقه، يمشون بين عباده بالنصائح، ويخافون عليهم من أعمالهم يوم تبدو الفضائح، أولئك أولياء الله وأحباؤه وأهل صفوته، أولئك الذين لا راحة لهم دون لقائه. وقبل ذلك فهم في تعب ووصب في مرضاة الله، {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح:7 - 8]. وكيف نحبب الناس إلى الله؟ بأشياء كثيرة: منها: شرح أسمائه وصفاته وربط ذلك بالواقع. ومنها: تعداد نعم الله تعالى وذكر آلائه، فإن الناس قد جبلوا على محبة من أحسن إليهم، وذلك إذا توالت النعم وتفطن الإنسان لها. إن النعم متوالية لكن التفطن للنعم هو الذي يغيب عن البال، فإذا تفطن الإنسان أن نعم الله عليه متوالية فإنه يحبه، أرأيت لو أن شخصاً أعطاك اليوم مائة، وأعطاك غداً ألفاً، وأعطاك بعده عشرة آلاف، وأعطاك بعده مائة ألف، وأعطاك بعده سيارة، وأعطاك بعده بيتاً، وأعطاك وظيفة، أي شعور يكون له في قلبك وقد ازداد إحسانه معروفه إليك، ولا تزال أياديه متوالية في مصلحتك؟ لا شك أن محبته تعظم، إن الناس إذا أحسن إليهم ولو بشربة ماء أحبوا من أحسن إليهم، فكيف إذا تفطن العبد لنعم الله المتوالية؟ الصحة نعمة متوالية حتى يمرض، المال نعمة متوالية حتى يفتقر، الشباب نعمة متوالية حتى يشيخ ويهرم، وهكذا نعمه متوالية، وحتى لو حرم من نعمة فإنها تأتي بدلها نعمة أخرى، فلو حرم من نعمة الصحة فإن نعمة الابتلاء في تكفير السيئات ورفع الدرجات حاصلة، ولذلك فالعبد لا يزال يتقلب في أطباق نعمة الرب عليه ولكن قليل هم المتفطنون لذلك. المحب لا يجد مع حب الله عز وجل للدنيا لذة، ولا يغفل عن ذكر الله طرفة عين؛ لأن غاية مناه أن يجد لذة العبادة، غاية ما يرجو أن يحس بحلاوة الاتصال، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (أرحنا بالصلاة يا بلال) وقال: (وجعلت قرة عيني في الصلاة) قرة العين وراحة البال وهدوء النفس جعلت في الصلاة، لأنها كانت صلة بينه وبين ربه صلى الله عليه وسلم، فكان يقوم ويناجيه، وكلما أحس العبد باللذة ازداد في العبادة وازداد في القيام، وازداد في الركوع والسجود وازداد في الصيام، وهكذا. وقال بعض السلف: لا يكاد يمل القرب إلى الله تعالى محب لله عز وجل، ولا يكاد يسأم من ذلك. وقال بعضهم: المحب لله طائر القلب كثير الذكر متسبب إلى رضوانه بكل سبيل يقدر عليها من الوسائل والنوافل، دوماً دوما وشوقاً شوقاً.

كثرة قراءة القرآن

كثرة قراءة القرآن ومن أعظم ما يتقرب به إلى الله تعالى، لمن يريد الوصول إلى مرتبة الولاية: كثرة تلاوة كلامه، وسماعه بتفكر وتدبر وتفهم، قال خباب رضي الله عنه لرجل: [تقرب إلى الله ما استطعت، واعلم أنك لم تتقرب إليه بشيء هو أحب إليه من كلامه] ألا ترى أن الرجل إذا وصله خطاب ممن يحبه حباً جماً قرأه مرات كثيرة، واحتفظ به، ولا يزال يخرجه بين آونة وأخرى يقرأ فيه لأنه كلام الحبيب، ولذلك فهو إليه باشتياق مستمر، فكيف بكلام الرب إذا كان الإنسان محباً له؟! فإنه لا يزال يقرأ كلام الرب، ويتصفحه ويطالع فيه، ويسمعه ويعرف معناه، وهكذا يبقى القرآن هو لذة قلوب العارفين، وهو محرك ألسنتهم بالتلاوة، ولذلك كان بعض السلف ينعى على من لم يحفظ القرآن، ويقول لصاحب له: أتحفظ القرآن؟ قال: لا. فقال: واغوثاه بالله، مريد لا يحفظ القرآن فبم يتنعم؟! أي: الذي يريد الله تعالى لا يحفظ كلامه فبم يترنم؟ فبم يناجي ربه عز وجل؟ وإذا واطأ اللسان القلب كان ذلك أفضل الأعمال؛ لأن موافقة اللسان للقلب هي حقيقة التدبر والتفكر، قال الله تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً} [المزمل:6] قيل: أشد مواطأة من القلب للسان. وإذا ذكر العبد الله تعالى ولو بغير القرآن، فإنه أيضاً مما يوصله ذلك إلى الولاية، لذلك يقول الله عز وجل: (أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه) وقال الله عز وجل أيضاً: (أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه) رواه الإمام أحمد، وصححه ابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي، هذا معنى قوله الله عز وجل: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152].

مقتضيات ولاية الله

مقتضيات ولاية الله أيها الإخوة! ولاية الله هي المنزلة العظيمة التي يدافع الله عن أصحابها، ولا شك أن لها مقتضيات، فمن مقتضيات الولاية كما قلنا: محبة الله ومحبة أوليائه، والذي يعاديهم ليس من أولياء الله قطعاً، وقد قال بعض السلف: إن الذين يتحابون في الله تعالى يجتمعون على غير أرحام بينهم، ولا على أموال يتعاطونها فيما بينهم، وإنما يجتمعون على طاعة الله، ولذلك ربما يلتقي الواحد بالآخر بمكان في الحرم عند الكعبة أو في المسجد أو في غيره، يحس بانجذاب خاص لهذا الشخص؛ ذلك لأن الصلة بالله تقرب بينهم، ولذلك سرعان ما يتداخلون، والأرواح جنود مجندة، وتجد الشخص إذا أراد أن يتداخل مع آخر ربما يحتاج إلى وقت طويل، من حصول سلام وكلام وموعد ولقاء واستئناس ودعوة على طعام ومشاركة وسفر حتى تحصل الخلطة المؤدية إلى المحبة، أما إذا كان من أولياء الله بمجرد أن يرى الواحد الآخر ما هي إلا كلمات ومجالسة حتى يحس أنه صاحب له منذ زمن بعيد، وهؤلاء لا شك أنهم يكونون يوم القيامة في مجالس عن يمين الرحمن يغبطهم من يغبطهم بقربهم من الرب عز وجل.

من ثمرات الولاية تسديد الله لوليه

من ثمرات الولاية تسديد الله لوليه ومن ثمرات الولاية: أن الله عز وجل يسدد الولي للحق والصواب، وهذا معنى قوله في الحديث: (فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها) لا شك أنه إذا وصل إلى هذه المرتبة فإن الله تعالى يسدده في جميع حواسه، فلا ينظر إلا إلى ما يحب الله، ولا يستمع إلا إلى ما يحب الله، ولا يمشي إلا إلى ما يحب الله، من جلسة ذكر، أو حلقة علم، أو مكان وعظ، أو صلة رحم، أو حج أو عمرة، ونحو ذلك من أنواع المماشي التي هي في طاعة الله عز وجل، وكذلك لا يبطش إلا في مرضاة الله؛ من جهاد، أو إزالة منكر، أو نصرة مظلوم ونحو ذلك، وكذلك يستمع إلى ما يحب الله؛ من كتابه وذكره، وسنة رسوله، وعلم شريعته ونحو ذلك، والنظر في المصحف من العبادات، وكذلك النظر في الأمانات لتمييزها لأصحابها، والنظر في كتب العلم والفقه ونحو ذلك من أنواع النظر الذي هو من العبادات. ولا شك أيضاً أن من أعظم ما تؤدي إليه الولاية: أن يستجيب الله دعاء الولي، وهذا ما سوف نخصص له الدرس القادم إن شاء الله تعالى، وهو: إجابة دعوة الأولياء وكرامات الأولياء عند رب العالمين. ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يسلك بنا سبيل الولاية وأن ينعم علينا بهذه الرتبة الشريفة، وأن يجعلنا ممن دافع عنهم وناصرهم، وأن يجعلنا من المتحابين فيه، والذين يلتقون ويجتمعون على نصرة شريعته.

ولاية الله لها جانبان

ولاية الله لها جانبان فولاية الله سبحانه وتعالى مرتبة في الدين عظيمة، لا يبلغها إلا من قام بالدين ظاهراً وباطناً، ولهذه الولاية -أيها الإخوة- جانبان: جانب يتعلق بالعبد: وهو القيام بالأوامر واجتناب النواهي، ثم التدرج في مراتب العبودية بالنوافل. وجانب يتعلق بالرب سبحانه وتعالى: وهو محبة هذا العبد ونصرته وتثبيته على الاستقامة. وأما ما يظهر على يدي هذا العبد من عجائب الأمور، فهذا شيء إضافي وليس من شروط الولاية، ولذلك يسأل بعض الناس فيقول: هل يشترط أن يظهر على يدي الولي كرامات؟ ف A أنه لا يشترط، فقد يكون ولياً من أولياء الله تعالى ومع ذلك لا يظهر على يديه شيء من الكرامات، ولذلك فإن القرآن قد اشتمل على تعريف الولي في قول الله عز وجل: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62] هذا من جهة الله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [يونس:63 - 64] هذا من جانب الرب، فالعبد الذي آمن بالله عز وجل وصدق به وبما جاء من عنده، والتزم بالشرع باطناً وظاهراً، وداوم على ذلك هو ولي الله عز وجل الذي يحبه وينصره ويبشره برضوانه، وعند فراقه للدنيا، يرتفع عنه الخوف والحزن، والعبد عليه أن يحفظ الله عز وجل بحفظ حقوقه والقيام بأوامره، واجتناب نواهيه، والرب سبحانه وتعالى يحبه على ذلك وينصره ويؤيده ويرعاه، والله سبحانه وتعالى يتولى من تولاه، ولا يتخلى عز وجل عمن نصره ووالاه.

البشرى لأولياء الله

البشرى لأولياء الله والآية تقول إن لأولياء الله بشرى: {لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [يونس:64] فما هي هذه البشرى؟ أولاً البشرى في الحياة الدنيا تكون بأشياء: منها أولاً: إعلام الولي بأن الله معه في نصره وتأييده كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128]، وقال تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51]. ثانياً: إعلام الولي بما أعده الله عز وجل له في الآخرة من النعيم والرضوان، كما قال تعالى: {وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [البقرة:25]. ثالثاً: رعاية الله عز وجل لوليه بتوفيقه وحفظ جوارحه عن المعاصي كما جاء في الحديث: (كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به،) الحديث. رابعاً: تبشير الملائكة له عند النزع الأخير وخروج الروح، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30]. خامساً من البشارات للولي في الدنيا: ما يراه المؤمن في النوم، أو يرى له من الخير، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لم يبق بعدي من النبوة إلا المبشرات، قالوا: وما المبشرات؟ قال: الرؤيا الصالحة) رواه البخاري رحمه الله. وقال عليه الصلاة والسلام في تفسير البشرى: (الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له) هذا تفسير البشرى، رواه الترمذي وهو حديث حسن. سادساً مما أعد الله للولي في الدنيا: استجابة الدعوة، وهذا الذي تضمنه الحديث الذي سبق شرحه: (ولئن سألني لأعطينه). سابعاً: ما يجريه الله عز وجل على يدي الولي من العجائب مما هو فوق قدرة البشر، كما وقع لمريم عليها السلام، وأصحاب الكهف، والغلام مع الساحر، والصبي الذي خاطب أمه في قصة الأخدود إلى غير ذلك، وكما قلنا هذا الأخير لا يشترط للولي بمعنى: ولياً إلا إذا وقع له ذلك، فقد يقع وقد لا يقع. والبشرى للولي في الدنيا بتبشير الملائكة له عند خروج نفسه برحمة الله تعالى قد وردت به آيات، فهذا من معنى قول الله تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس:64].

وقفة مع كرامات الأولياء

وقفة مع كرامات الأولياء وبالنسبة للكرامات التي قد تقطع لبعض أولياء الله تعالى في الدنيا، فإنه لا بد من الحديث عنها؛ لأن بعض الناس لا يستطيع أن يفرق بينما يقع من الخوارق على يد الساحر والكاهن والدجال، وبينما يقع من هذه الخوارق على يدي أولياء الله تعالى. والكرامة يعرفها أهل السنة: بأنها أمر خارق للعادة، يظهره الله عز وجل على أيدي أوليائه، ليست مقرونة بدعوى النبوة، وهي ولا شك خارقة للعادة، وقد ذهب فيها الناس إلى ثلاثة مذاهب: فمنهم من أجاز وقوعها بدون حد، حتى قال قائلهم: كل ما جاز أن يكون معجزة لنبي جاز أن يكون كرامة لولي. وهذا مذهب الأشاعرة وغيرهم، وهذا مذهب باطل، إذ كيف تستوي معجزات الأنبياء مع كرامات الأولياء، ومعلوم أن الأنبياء أفضل وأعلى وأزكى وأرفع عند الله تعالى، ثم إن النبي يحتاج للمعجزة لأجل إظهار الحق وإثباته للكفرة والمعاندين. ومن الناس من ذهب إلى إنكار الكرامات بالكلية. وهذا مذهب المعتزلة وآخرين وافقوهم، ولا شك أن هؤلاء الذين احتكموا إلى عقولهم وأنكروا الكرامات، لا شك أنهم من المصادمين لمذهب أهل السنة وهو القول الثالث الوسط، وهو إثبات وقوع الكرامات للصالحين وجواز وقوعها، لكنها لا تصل إلى درجة معجزة الأنبياء. قال ابن تيمية رحمه الله: ومع هذا فالأولياء دون الأنبياء والمرسلين، فلا تبلغ كرامات أحد قط إلى مثل معجزات المرسلين، كما أنهم لا يبلغون في الفضيلة والثواب إلى درجاتهم. وقال رحمه الله: فإن آيات الأنبياء التي دلت على نبوتهم أعلى مما يشتركون فيه هم وأتباعهم، مثل: الإتيان بالقرآن، ومثل: إخراج الناقة من الأرض، ومثل: قلب العصا حية، وشق البحر، إلى آخر ما قال رحمه الله تعالى. فالخلاصة: إثبات كرامات الأولياء وجواز وقوعها، ولكنها لا تصل إلى درجة معجزات الأنبياء. ولا يعني إثبات الكرامات المبالغة في قبولها والأخذ بها من كل طريق أتت، أو إثباتها للفسقة والمجرمين، ولذلك فلا بد أن نعرف من هم الأشخاص الذين تظهر على أيديهم الخوارق، ومتى تسمى كرامات ومتى لا تسمى، فلا بد من ملاحظة عدة أمور بالنسبة لكرامات الأولياء؛ لأنه ليس كل من ظهر على يده فعل عجيب يدل على أنه ولي. فإذاً الأولياء الذين قد يجري الله على أيديهم بعض الكرامات؛ هم أناس صالحون ملتزمون بالشريعة ظاهراً وباطناً، آمنوا بالله عز وجل وبما أمرهم أن يؤمنوا به، ولا يدعون لأنفسهم مكانة زائدة على أفراد الأمة، ولا يزكون أنفسهم، فلا يقولون: نحن أفضل الناس، ونحو ذلك، وهؤلاء يخفون الكرامات ولا يظهرونها ولا يقولون للناس: حصلت على أيدينا كذا، وحصل على أيدينا كذا، ولا يتفاخرون بها. ومن الناس من يظهر على أيديهم أشياء من العجائب، لكنهم قوم فسقة استخدموا الشياطين واستخدمتهم الشياطين، إما عن طريق السحر أو غير ذلك، ولذلك فإن الله عز وجل عندما وصف المؤمنين بقوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:63] لا شك أن هؤلاء لا يدخل فيهم السحرة، ولا الكهنة، ولا الكفرة، ولا المشعوذون ولا المشركون، لا يدخلون في المؤمنين ولا في الولاية، ولذلك فإن أهل العلم بينوا أنه ليس كل من طار في الهواء أو مشى على الماء يكون ولياً من أولياء الله تعالى، وبعض الصوفية -كما تقدم- ادعوا الكرامات، وألصقوا بأنفسهم أشياء كثيرة من هذا المقام، وكان بعضهم يقول: إن طائراً يحملني في كل ليلة ويدخلني الجنة، ومنهم من كان يدعي علم الغيب، ومنهم من يدعي أنه يذهب ويطوف بالكعبة ويرجع في ليلته، ومنهم من يدعي أنه سقطت عنه التكاليف، ومنهم من يأتي المزابل والنجاسات ويتمرغ بها، ويدعي أشياء من الأحكام الخاصة لنفسه، وقد زعموا للخضر أشياء كثيرة في مقابلاتهم له، وفي عصرنا بالغ بعض الناس الذين لا يحسنون معرفة الأسانيد ولا نقل الأخبار الصحيحة في إثبات قصص في بعض ميادين الجهاد للشهداء ليست بصحيحة بسبب اندفاعهم العاطفي، وعدم معرفتهم لمبدأ التثبت ونقل الأخبار، والتصديق بالشائعات والزيادة عليها، ولا ينكر أن لبعض الشهداء كرامات عند الله ولا شك، وأن بعض الشهداء من أولياء الله تعالى، ولكن فرق بين إمكان حصول شيء وبين وقوعه فعلاً. وكذلك فإنه لا بد أن يعاد القول في ضوابط الكرامات

الضابط في أصحاب الكرامات

الضابط في أصحاب الكرامات أولاً: أن يكون صاحبها مؤمناً وتقياً. وثانياً: ألا يدعي صاحبها الولاية، لا يقول: أنا ولي. وكذلك أن يكون عالماً بالدين وبأحكام الشريعة، عارفاً بالله تعالى وليس جاهلاً، وأن يلازمه الخوف على نفسه، وألا يترك واجبات، ولا يفعل محرمات، وألا تكون الكرامة مخالفة لأمر من أمور الدين، فلو رأى في المنام شخصاً في صورة نبي أو ملك يقول له: قد أبحت لك الخمر، أو أسقطت عنك التكاليف ونحو ذلك فليعلم أنه شيطان. وكذلك فإن منهم من يقول: إنني رأيت النبي عليه الصلاة والسلام في الحقيقة، وصافحته وأخرج يده لي من القبر، ونحو ذلك، فلا شك أن مثل هذا مخرف من المخرفين. لقد وقعت حكايات لبعض السلف والعلماء تدل على وعيهم وفقههم، وعدم انطلاء حيلة الشيطان عليهم، فحكى عياض عن الفقيه أبي ميسرة المالكي أنه كان ليلة في محرابه يصلي ويدعو ويتضرع، وقد وجد رقة فإذا المحراب قد انشق وخرج منه نور عظيم، ثم بدا له وجه كالقمر يقول له: تملأ من وجهي -يا أبا ميسرة - فأنا ربك الأعلى، فبصق فيه وقال: اذهب يا لعين، عليك لعنة الله؛ لأنه يعلم أن الله لا يرى في الدنيا، وأن هذا لا بد أن يكون شيطاناً من الشياطين. وكذلك ما يحكى عن عبد القادر الجيلاني رحمه الله أنه عطش عطشاً شديداً، فإذا سحابة قد أقبلت وأمطرت ونودي: يا فلان! أنا ربك أحللت لك المحرمات، فقال: اذهب يا لعين، فاضمحلت السحابة، فقيل له: بم عرفت أنه إبليس؟ قال: بقوله: قد أحللت لك المحرمات، فبذلك يعلم أن الكرامة التي تدعى وتكون مصادمة للشريعة ليست بكرامة.

كرامات من الكتاب والسنة

كرامات من الكتاب والسنة لكن هل وقعت كرامات صحيحة في الكتاب والسنة وأخبار الصالحين؟ A نعم. فمن ذلك ما أخبر الله تعالى عنه في القرآن الكريم، في سارة زوجة إبراهيم الخليل، قال الله عز وجل: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} [هود:71 - 73]. فهذه المرأة سارة لا شك أنها من أولياء الله قد أكرمها الله بكرامة، وهي أنها حاضت وهي عجوز وولدت، مع أن بعلها شيخ كبير. وكذلك الذي عنده علم من الكتاب في قصة سليمان عليه السلام وكان رجلاً مسلماً عالماً من الصالحين: {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي} [النمل:40] قيل: إنه كاتب لسليمان كان عابداً عالماً من أولياء الله تعالى، وقيل: إنه كان يعلم اسم الله الأعظم، سأل الله به، فبصلاحه وبسؤاله أعطاه الله مطلوبه، ونقل ذلك العرش من اليمن إلى الشام بطرفة عين. وكذلك من الكرمات التي وقعت: ما جاء عن مريم عليها السلام كما قال قتادة في قوله تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً} [آل عمران:37] قال: [حدثنا أنه كان تؤتى بفاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، فعجب من ذلك زكريا] وعلى أية حال كان عندها رزق في المحراب، وجود الرزق في المحراب: {أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران:37] هذه كرامة بحد ذاتها ولا شك. كذلك ما حصل للثلاثة (أصحاب الغار) لما دعوا الله تعالى بأعمالهم، فخرجت الصخرة من موضعها التي انطبقت عليهم فهي كذلك من كراماتهم. وقصة الرجل الذي سمع صوتاً في سحابة، يقول: اسق حديقة فلان، فتنحى ذلك السحاب، فأفرغ ماءه في حرة، فالرجل تتبع السحاب ونظر أين نزل المطر في بستان، فجاء إلى صاحب البستان وسأله عن اسمه؟ فأخبره باسمه، فتطابق عنده الاسم الذي سمعه منه مع الاسم الذي سمعه من السحاب، فسأله عن قصته، فأخبره بأن هذه الأرض يأخذ ثلث ما يخرج منها فيتصدق به، ويأكل هو وعياله الثلث، ويرد الثلث زرعاً وإصلاحاً وبذراً ونحو ذلك. كذلك من الكرامات الثابتة في السنة: الكرامة لـ جريج العابد الزاهد الذي كان يعبد الله في صومعة، فتسلطت عليه زانية فلما أبى أن يستجيب لها أتت راعياً فأمكنته من نفسها، فلما حملت ووضعت اتهمت جريجاً أنه الذي فجر بها، فجاء بنو إسرائيل في عهده فكسروا صومعته بالفئوس والمساحي، ثم لما رأى ذلك مسح رأس الصبي وقال: من أبوك؟ فقال: أبي راعي الضأن، فبهتوا عند ذلك وأرادوا أن يبنوها له ذهباً أو فضة، فقال: أعيدوها طيناً كما كانت. وكذلك سارة حصل لها موقف آخر -زوجة إبراهيم الخليل- لما أخذها الجبار، وأرد أن يؤذيها ويأخذها بالحرام، فأصابه الله بالشلل، فقال: سلِ الله أن يطلق يدي ولا أضرك، ففعلت، فانطلقت يده، فعاد فقبضت يده، ثلاث مرات، حتى قال لمن معه: إنما أتيتني بشيطان ولم تأتني بإنسان، وأعطاها هاجر خادمة لها، وخلَّى سبيلها. وكذلك ما حصل من الرجل صاحب الخشبة الذي أعيته الأمور في الرجوع إلى صاحبه لرد الدين في الوقت المحدد، فأخذ خشبة ونقرها فجعل فيها المال، وألقاها في الماء، ثم جاء إلى صاحبه بعد ذلك، فقال له صاحبه: إن الله قد أدى عنك الذي بعثت به في الخشبة، فانصرف بمالك راشداً. هذا بعض ما حصل لمن قبلنا.

كرامات حدثت للصحابة

كرامات حدثت للصحابة أما ما حصل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه، فقد كان لأصحابه كرامات، فمثل أسيد بن حضير وعباد بن بشر كانا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة ظلماء حندس؛ -يعني: شديدة الظلمة- فلما خرجا أضاءت عصا أحدهما فجعلا يمشيان بضوئها، فلما تفرقا أضاءت عصا الآخر. وهذا الحديث صحيح. جاء عن أنس (أن أسيد بن حضير الأنصاري ورجل آخر من الأنصار تحدثا عند النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة لهما، حتى ذهب من الليل ساعة، وليلة شديدة الظلمة، ثم خرجا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقلبان؛ أي: يرجعان إلى البيت وبيد كل واحد منهما عصية، فأضاءت عصا أحدهما لهما حتى مشيا في ضوئها، حتى إذا افترقت لهما الطريق، كل واحد إلى بيته، أضاءت للآخر عصاه، فمشى كل واحد منهما في ضوء عصاه حتى بلغ أهله). وفي رواية عن أنس: (أن رجلين خرجا من عند النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة، فإذا نور بين أيديهما حتى تفرقا، فتفرق النور معهما). فهذه الأحاديث الصحيحة في كرامة بعض صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، وأسيد بن حضير نفسه هو صاحب كرامة نزول الملائكة: (لما كان يقرأ سورة البقرة وفرس له مربوطة في زاوية البيت، ويحيى ولده مضطجع بجانبها، فجال الفرس جولة حتى خشي على ولده يحيى، فأمسك عن القراءة، ثم قرأ فجالت الفرس فرفع رأسه فإذا بشيء كهيئة الظلة فيها مصابيح، تقبل من السماء فهالني فسكت، قال أسيد: فلما أصبحت غدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: اقرأ أبا يحيى، وهكذا ثلاث مرات، ثم قال عليه الصلاة والسلام: تلك الملائكة دنوا لصوتك، ولو قرأت حتى تصبح لأصبح الناس ينظرون إليهم). وكذلك خبيب بن عدي لما أسروه بـ مكة، رأت امرأة من المشركين بين يديه قطفاً من عنب وما بـ مكة ثمرة، وإنه لموثق في الحديد. وهذا الحديث أخرجه البخاري رحمه الله، فمن كرامات خبيب بن عدي أن الله عز وجل رزقه بهذا الرزق وهو موثق اليدين سجين في مكة ولا يوجد في مكة ثمرة من هذا العنب. وكذلك قصة أويس القرني وما كان من كرامته في إجابة دعوته. وكذلك كان لبعض السلف رحمهم الله تعالى كرامات من جهة إجابات دعوتهم. وكان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه له كرامات في فراسته وصدق ظنه، ومن الكرامات المشهورة لـ عمر رضي الله عنه، أن عمرو بن العاص لما فتح مصر أتى أهلها إلى عمرو بن العاص حين دخل، شهر الأشهر العجم، قالوا: أيها الأمير! إن لنيلنا هذا سُنَّة لا يجري إلا بها، قال: وما ذاك؟ قالوا: إذا كان اثنتي عشر خلون من هذا الشهر عمدنا إلى جارية بكر من أبويها، فأرضينا أبويها أي: أعطيناهم المال وأرضيناهم وجعلنا عليها من الحلي والثياب أفضل ما يكون ثم ألقيناها في هذا النيل، هذا لكي يفيض النيل، وإلا لا يفيض، فقال لهم عمرو: إن هذا مما لا يكون في الإسلام، إن الإسلام يهدم ما قبله، فأقاموا (بؤنة وأبين ومسرى) وهي أشهر كانت عندهم، والنيل لا يجري قليلاً ولا كثيراً، حتى هموا بالجلاء والذهاب من هذه الأرض، فلما رأى ذلك عمرو كتب إلى عمر بن الخطاب، فكتب عمر جواباً إلى عمرو بن العاص يقول فيه: إنك قد أصبت بالذي فعلت، وإن الإسلام يهدم ما قبله، وإني قد بعثت إليك ببطاقة داخل كتابي هذا، فألقها في النيل، فلما قدم كتاب عمر إلى عمرو أخذ البطاقة ففتحها، فإذا فيها من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى نيل مصر أما بعد: فإن كنت إنما تجري من قبلك فلا تجر، وإن كان الله الواحد القهار هو الذي يجريك فنسأل الله الواحد القهار أن يجريك، قال: فألقى البطاقة، فلما ألقى البطاقة أصبحوا يوم السبت وقد أجراه الله ستة عشر ذراعاً في ليلة واحدة، وقطع الله تعالى تلك السنّة عن أهل مصر إلى اليوم، فلم يعودوا أبداً لإلقاء جارية في النيل، وهذه القصة سندها رجاله ثقات، وقد ذكرها الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة. ومن كرامات عثمان رضي الله عنه الخليفة المقتول ظلماً أن جهجاه الغفاري أخذ عصا عثمان التي يتخصر بها فكسرها على ركبته، فوقعت في ركبته الآكلة؛ الآكلة مثل الدود، أكلت ركبته محل الموضع الذي كسر عصا عثمان عليه. وهذا سنده رجاله ثقات أيضاً. وكذلك سعد رضي الله عنه، فإنه كان مجاب الدعوة، ولذلك لما اتهمه رجل قال: أنه لا يعدل في الرعية، ولا يقسم بالسوية، ولا يغزو في السرية -أي: لا يخرج للجهاد- قال سعد: [اللهم إن كان كاذباً فأعم بصره، وعجل فقره، وأطل عمره، وعرضه للفتن]، قال الراوي: فما مات حتى عمي، قال: فكان يلتمس الجدران، وافتقر حتى سأل الناس، وأدرك فتنة المختار الكذاب فقتل فيها. والقصة وردت في الصحيح، كيف أنه كان يغمز الجواري في الطرقات، ويتعرض للنساء في الشوارع، ويقول: مفتون أصابتني دعوة سعد. وكذلك لما ظلمته امرأة في ادعاء أرض دعا عليها أن الله يعمي بصرها ويقتلها في أرضها، فأعمى الله بصرها ووقعت في بئر في أرضها فماتت. وأما خالد بن الوليد رضي الله عنه، فإن من كراماته أنه لما كان في الحيرة، أتي له بسم فقال: ما هذا؟ فقالوا: سم ساعة، تأخذه من هنا وتموت، قال: باسم الله ثم ازدرده. وسنده حسن. وهذه القصة قيل: إنها وردت في تحدٍ حصل بين خالد وأحد المشركين، أو أحد الكفار النصارى، وأن خالداً قد شربه توكلاً على الله تعالى لإظهار اليقين لهم، ولم يضره ذلك. وعمران بن حصين جاء في الأحاديث الصحيحة: (أن الملائكة كانت تسلم عليه) ثبت ذلك في صحيح مسلم، أن الملائكة كانت تسلم على عمران بن حصين. وأما حجر بن عدي فإنه عبر مع جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نهر دجلة بلا سفينة بعد فتح القادسية حتى أن الفرس لما رأوهم يعبرون النهر من غير سفينة قالوا: دبوان، دبوان، أي: شياطين، شياطين، وهربوا، قال: فدخلنا عسكرهم، فوجدنا من الصفراء والبيضاء -يعني: من الذهب والفضة- وأصبنا أمثال الجبال من الكافور، وأصبنا بقراً فذبحناها فجعلناها في القدور، وأخذنا من ذلك الكافور ونحن نحسبه أنه ملح وطرحناه في اللحم، فلما أكلنا وجدناه مراً، فقلنا: ما أمر ملح الأعاجم. فلم يدروا أنه كان كافوراً، لما رأوا هذه الكمية الكبيرة الهائلة، لم يتوقعوا ذلك. ومن كرامات أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الثابتة قصة سفينة مولى النبي صلى الله عليه وسلم، لما ركب في البحر -سمي سفينة لأنه كان يحمل الأمتعة في الأسفار- فركب مرة في البحر فانكسرت، فركب لوحاً منها فطرحه في أجمة فيها أسد -ألقاه في غابة فيها أسد- فقال سفينة رضي الله عنه: يا أبا الحارث -وهي كنية الأسد عند العرب- يا أبا الحارث! أنا سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فطأطأ رأسه وجعل يدفعني بجنبه أو بكتفه حتى وضعني على الطريق، فلما وضعني على الطريق، همهم فظننت أنه يودعني. رجاله ثقات. وممن أثبته الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى في سير أعلام النبلاء. وكذلك فإن زينب بنت جحش رضي الله تعالى عنها لما جيء لها بمال، أمرت أن يصب ويطرح عليه ثوب، ثم قالت للجارية: أدخلي يديك فاقبضي منه قبضة فادفعي بها إلى فلان، وإلى فلان، من أبنائها وذوي رحمها، فقسمته حتى بقيت منه بقية، فقالت لها برزة: غفر الله لكِ، والله لقد كان لنا في هذا حظ، أي: لو تركت لنا شيئاً، قالت: ولكم ما تحت الثوب، قالت: فرفعنا الثوب فوجدنا تحته خمسة وثمانين درهماً، وهذا مع أن المال كان أقل مما أنفقت لما طرح في البداية.

كرامات حدثت للتابعين

كرامات حدثت للتابعين وكذلك فإن السلف رحمهم الله تعالى كانت لهم كرامات مثل أبي مسلم الخولاني رحمه الله، كان إذا استسقى سقي، كان معروفاً بإجابة الدعاء في الاستسقاء، ولذلك فإنهم كانوا يخرجون به فيستسقي لهم، فيسقون. وذكر كذلك من كرامات بعض جيوش المسلمين التي غزت القسطنطينية، كسرت بعض مراكبهم وألقاهم الموج على خشبة في البحر وكانوا خمسة أو ستة، قال: فأنبت الله لنا بعددنا ورقة لكل رجل منها، فكنا نمصها فتشبعنا وتروينا، فإذا أفنينا أنبت الله لنا مكانها أخرى حتى مر بنا مركب فحملنا. ولا شك أن هذه الكرامات تدل على أن هناك من أولياء الله تعالى من يكرمه الله عز وجل بأن يخرق العادة له، ويكون في هذا كرامة له في الدنيا قبل الآخرة، وإلا فما عند الله لا شك أنه أبقى وأعلى، وقد ساق ابن رجب رحمه الله جزءاً من أخبار الكرامات التي حصلت لبعض السلف مما يدل على أن الكرامات ثابتة. ومنها: أن أبا مسلم الخولاني رحمه الله مر به صبيان يطاردون ظبياً، فقالوا: ادعُ الله لنا أن يحبس لنا هذا الظبي، فيدعو الله حتى يمسكوه بأيديهم. ودعا على امرأة أفسدت عشرة امرأة بذهاب بصرها فذهب بصرها في الحال، فجاءته فجعلت تناشده الله وتطلب إليه، فرحمها ودعا الله فرد عليها بصرها. وكذلك وقع رجل في أبي هريرة رضي الله عنه، فنزلت حية من السقف -وهذه القصة التي قالها الحافظ الذهبي رحمه الله إسنادها كالشمس- تطرد وراءه كرامة لـ أبي هريرة بعد وفاته رضي الله عنه لما وقع فيه هذا الرجل بالسوء. وهذه القصص الكثيرة والكثيرة جداً يؤخذ منها أيها الإخوة: أن الله تعالى يبشر أولياءه في الدنيا قبل الآخرة، والمهم أن الإنسان يسلك سبيل الولاية والصراط المستقيم، ومن الكتب المهمة في هذا الموضوع كتاب الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، الذي كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وهو الموجود في المجلد الحادي عشر من مجموع الفتاوى، وأيضاً هو مطبوع مستقلاً. ونسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهل طاعته، وأن يرزقنا التمسك بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً. والله تعالى أعلم.

الأسئلة

الأسئلة

الصوفية وإنشاء الأضرحة

الصوفية وإنشاء الأضرحة Q الجهل يملأ قريتنا بسبب تغلغل الصوفية فيها لدرجة أنه في خلال ثلاث سنوات تم إنشاء أربعة أضرحة لمشايخهم كما يزعمون، وعندما ننصح أهل البلد يكون الرد: لا تحاربوا أولياء الله، ويستدلوا بالآية، وعندما نقف لهم بالمرصاد يهددوننا. فما هو الحل مع هؤلاء المبتدعة؟ A طبعاً هؤلاء الصوفية درجات، أما نسبتهم فقيل إلى نسبة الصوف؛ لأنه كان شعار المتزهدين في ذلك الوقت، وقيل: إنه نسبة إلى الصحراء كما قال ذلك الشاعر: فتى تصافى فصوفي حتى سمي الصوف وقيل غير ذلك، ومهما كان الأمر فإن هذه الطريقة طريقة بدعية، فلم يكن صلى الله عليه وسلم صوفياً ولا أبو بكر ولا عمر ولا الخلفاء الأربعة ولا الصحابة وما كانوا متصوفة ولا صوفية، ولا كان عند الصحابة طريقة قادرية، ولا جيلانية، ولا طريقة عيدروسية، ولا طريقة بدوية ولا رافعية ولا شاذلية، فكل هذه الطرق التي ابتدعها هؤلاء المبتدعة، وأما الصوفية طبعاً درجات في الانحراف، فمنهم: الذين يكون بدعتهم في الأذكار، كأن يقيدوا أذكاراً بعدد معين ما ورد في السنة، أو بمكان معين أو بكيفية معينة ما وردت في الشريعة، فبدعتهم تقف عند حدود الأذكار، مثل: بعض الصلوات، يقولون: هذه الصلاة النارية، ويبتدعون في الصلوات أذكاراً معينة، أو في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم يبتدعون في كيفيات معينة في الأذكار، ويتبعون أذكاراً معينة ويواصلون عليها وهذه الصمدية، ونحو ذلك مما يسمونه، أو مثلاً يذكرون الله بالاسم المفرد كأن يقولون: (الله، الله) (حي، حي، حي) أو (هو، هو، هو). فهؤلاء قوم لا يعقلون، ولذلك فإن الذكر بالاسم المفرد بدعة من البدع، لا يوجد شيء اسمه ذكر باسم مفرد، أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم ما قال (الله، الله، الله) يذكر الله هكذا، كما يقول بعضهم حتى المسجد يقول: الله، والجدار يقول: الله، وكل شيء يقول: الله، والأشجار تقول: الله، ويقول: ما ترى بعينك، يقول: الأشجار تقول: الله، والسماء والأرض تقولان: الله، ويسمع كل شيء، وربما يكون الشيطان فعلاً يسمعهم من هذا حتى يصدق فعلاً أن هذه طريقة، وربما يكون إحياءً نفسياً، وبعضهم يقول: جرب هذا الذكر، ويكتبوا: يا لطيف أربعة آلاف وأربعمائة وأربعة وأربعين مرة، ويقول: اذكر هذا ويقول: هذه وصفة وهذا وكان بعض أهل الدعوة والعلم في عصرنا وهو الشيخ محمد المصري رحمه الله قد سمع بأن أحد الصوفية يزعم أنه يوصل من يريد إلى الله عز وجل مباشرة، يجعله يتصل بالله، فذهب إليه، فقال: أنا سمعت أنك توصل من يريد بالله عز وجل؟ قال: طبعاً هذا أكيد، قال: وما هو المطلوب؟ قال: لا بد أن تجلس عندي أربعين يوماً، قال: أنا مستعجل وعلى سفر ولا يمكن، أنا أكثر شيء أستطيع أن أجلس عندك ثلاثة أيام، فالمهم في الأخير حتى لا يكون هذا ما عنده علاج، وافق له على ثلاثة أيام ثم أعطاه أشياء معينة، أذكاراً معينة، كتب له كتابة فيها البدعي وغير البدعي، وقال: هذه في ثلاثة أيام تواظب عليها في الأوقات الفلانية، وفي الظلمة وفي كذا، وتحت السنة لازم تحت السنة، قال: اكتب لي توقيعك عليها حتى لا يعارضني أحد في أن هذه الأذكار هي من عندك أنت شخصياً، فكتب له توقيعاً عليها، ثم جاءه بعد ثلاثة أيام فقال: ما حصل لي شيء، ما وصلت ولا أحد كلمني ولا فقال: أنت يمكن عندك قسوة قلب، أو أنك ما طبقت الوصفة كما ينبغي ونحو ذلك. فقال: أشهد لله العظيم أنك كذاب، ومثل هؤلاء المقصود كان إثبات عجز هذا الرجل وغيره الذين يقولون أنه يوصل إلى الله تعالى مباشرة، أي: تكلم الله مباشرة، نعطيك أوصافاً وأوراداً وبعضهم كان يدعي الكرامات، واحد منهم كان يلقب بـ الحاروني كان يزعم أنه يتصل بالله، بذكر يرفع السماعة ويكلم فيه، وبعضهم يقول: أن الشيخ الفلاني ضرب الشيخ الفلاني من دمشق إلى بغداد بالحذاء، بينهم ثأر فضربه من هناك. وبعضهم طبعاً يزعم أنه من أهل الخطوة، وأنه ينتقل من بلد إلى بلد، المسافات الشاسعة، لكن فعلاً قد ثبت لدى شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره أن بعض هؤلاء فعلاً يذهبون إلى مكة بالاستعانة بالجن، يذهبون في ليلة من بلد بعيد ويرجعون، وربما حكوا قالوا: رأينا كذا ورأينا كذا، وقال شيخ الإسلام رحمه الله: ومن منكراتهم: أنهم يمرون بالميقات ولا يحرمون منه، الجني لا ينزل في الميقات يحرم، فيأخذه مباشرة. فهؤلاء كما قلنا بدعهم في الأذكار، وبعضهم بدعهم تصل إلى الشرك وادعاء الكرامات والكفر، ووحدة الوجود، وكان بعضهم يقول: كل ما ترى بعينك فهو الله، ليس في الجبة إلا الله، فرعون كان محقاً لما قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24] لكن موسى ما فطن لها؛ لأن كل شيء في هذه الدنيا جزء من الله، تعالى الله عن قولهم. المهم هؤلاء الذين يعملون الأضرحة، هؤلاء طبعاً يؤلهون أصحاب الأضرحة، أي: يثبتون لهم أشياء من التوحيد التي لا تجوز إلا لله، مثل: طلب شفاء المريض، مثل: طلب الزرق، طلب نزول المطر، إذا قحطوا قالوا: عليكم بقبر البدوي، قبر أبي العباس المرسي يعني: مجرب ونافع، وقبر فلان لكذا، وهذه المرأة التي لا تحمل تحمل إذا جاءت عنده، وبعض هؤلاء المشركين كان لهم بدعاً قبيحة، وبعض هؤلاء الذين في الأضرحة على ثلاثة أقسام: إما أناس من أهل التوحيد الذين لا يرضون هذا المنكر أبداً كما عبدت النصارى المسيح والمسيح منهم براء، ومن هؤلاء الشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله تعالى، وهذا من أئمة أهل السنة. وذكر فضله شيخ الإسلام رحمه الله وأثنى عليه، فـ عبد القادر من أئمة أهل السنة لكن الناس غلوا فيه حتى جعلوه إلهاً بعد موته يطلبون منه شفاء المرض، ويطلبون منه المغفرة، ويطلبون منه الشفاعة عند الله، وغير ذلك. وكما فعل الغلاة بـ الحسين، وكما فعلوا بـ زينب، وكما فعلوا بكذا، وحتى ما يفعله كثير من المشركين عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم. ومن المقبورين: من يكون من المشركين الكفار، ولكنهم ألهوهم وجعلوهم أولياء، مثل البدوي الذي كان تاركاً للصلاة، متعاطياً للخمور متعاطياً للمحرمات، وكان أيضاً والغاً في النجاسات؛ لأن بعض هؤلاء الرءوس كانوا لا يتنزهون من النجاسات، وربما لا يغتسلون، طبعاً اتصال برهبنة في النصارى، مسألة الصوفية اتصال بين النصارى والصوفية وموجودة، وصلة بين التصوف المنتشر كذلك قائمة وحقيقية، فبعض هؤلاء كانوا لا يصلون كـ البدوي وربما فعل الأشياء السخيفة كما حدث أنه مرة وقف على جدار فبال على الناس وهم يمشون في الطريق، فهموا به وأخذوه، قال: أنا مالكي، ونحن المالكية نقول: بول كل ما أكل لحمه فهو طاهر، قال: الناس يغتابوني، أي: يأكلون لحمي، إذاً بولي طاهر. ولذلك فإن مثل هذا الرجل الذي يطاف عند قبره بالملايين في السنة، وربما يذبحون، يطوفون بالقبر ويحلقون الشعر ويذبحون الذبيحة، ويأتون من القرية ببقرة يذبحونها عنده، فهؤلاء الذين ذكرهم يبنون المساجد على هذه الأضرحة ويجعلون لها سدنة. النوع الثالث من الذين في القبور: من الدواب، حمار أو كلب أو تيس، يدفنونه مثلما يفعل بعضهم في فتح باب رزق بالنسبة له، كما حصل لأحدهم أنه دفن حماراً ثم هب إلى القرية يقول: الولي فلان مات وأوصاني بقبره، وقد دفنته، وجاءوا إلى القبر وجعلوه هو المسئول عن هذا القبر وما يأتي إليه من أموال. إذاً هؤلاء الناس ماذا يفعل الإنسان بهم؟ إن كان له سلطة أنكر المنكر بيده، وإن لم يكن له سلطة فليس إلا المناصحة وإقامة الحجة والبيان، فإن لم يستطع أنكر بقلبه، وشكى أمره إلى الله تعالى، وحاول أنه يدعو من الناس من يرجى فيهم التقبل؛ لأن بعضهم إذا دعاهم كادوه وضيقوا عليه، يدعو من يرجو فيهم التقبل، حتى إذا زادوا كان هناك تياراً يحارب هذه الشركيات.

حكم احتساب ما يدفعه للمكوس على أنه زكاة

حكم احتساب ما يدفعه للمكوس على أنه زكاة Q ما حكم احتساب ما يدفعه للمكوس على أنه من الزكاة؟ A هذا لا يجوز، وليس بصحيح أنه يدفعه؛ لأنه لم يدفعه إلى أحد من الأصناف الثمانية، فإن الله قال: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ} [التوبة:60] أسلوب حصر: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة:60] فإذا جعلت للمكوس فلا يكون قد أدى الزكاة إلى أهلها، وكذلك لا يجوز أن يستفيد من الربا لدفع المكوس أو الضريبة؛ لأن الربا لا يجوز الاستفادة منه ولو في دفع الشر عن نفسه.

جعل الدين زكاة على المدين

جعل الدين زكاة على المدين Q له دين عند فقير ولا يستطيع أن يرد الدائن عليه. فهل يجوز اعتبار ذلك من الزكاة؟ A لا يجوز إسقاط الدين للزكاة، واحتساب الزكاة من الدين المعدوم؛ لأن هذا مال لا يرجى عودته، فيفتدي نفسه وماله بالزكاة ويقول: أسقطه عنك مقابل الزكاة، لا يجوز فإنه مال رديء، قال الله: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} [البقرة:267] لا تأخذ تمراً رديئاً، تمراً فيه سوس إلا على كراهية وعلى إغماض منك إذا أخذته، فكيف تجعل هذا المال الرديء الشبه معدوم زكاة؟ ثم أنت لما أعطيته المال، أعطيته بأي نية؟ أعطيته بنية قرض، فكيف الآن تجعلها زكاة؟! ولا بد للزكاة من نية عند الإعطاء، ثم إن الله قال: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103] فهي صدقة تأخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

مهلا أيها الزوجان!

مهلا أيها الزوجان! هذه رسالة إلى كل زوج وزوجة فيها حلول كثير من المشاكل الزوجية، وقد ضُمنت عدة أسباب للمشاكل الزوجية منها: الإهمال وعدم الإحساس بالمسئولية حب التسلط سوء الظن الرتابة في الحياة، وكذلك تدخل الأقارب والجيران بين الزوجين بغرض الإفساد إلخ.

مقدمة عن المشاكل الزوجية

مقدمة عن المشاكل الزوجية الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فأحييكم -إخواني- بتحية الإسلام السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ونقول في مطلع هذا الدرس: الحمد لله الذي جعل لنا من أنفسنا أزواجاً لنسكن إليها وجعل بيننا مودة ورحمة، هذا الزواج الذي هو نعمة من الله سبحانه وتعالى أنعم بها على عباده يحصل من ورائها منافع عظيمة ومصالح جمة، ولولاه لوقع الناس في حرج عظيم، بل لربما هلك الجنس البشري بدون هذا الزواج، والله الذي خلق الرجل وخلق المرأة وهو أعلم بهما سبحانه وتعالى شرع هذا الزواج وأمر به وحث عليه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج وعلم الأمة أحكام الزواج وآدابه. سبق لنا -أيها الإخوة- أن تكلمنا في محاضرة سابقة بعنوان: رسالة عاجلة في المشكلات الزوجية عن نصف هذا الموضوع أو عن جزء منه، ونحن نريد أن نكمل -إن شاء الله- هذا الموضوع في هذا الدرس؛ ولأن الموضوع يتكلم عن المشكلات وعما يحدث بين الزوج وزوجته من الأمور التي تعكر صفو الحياة الزوجية ويحدث بسببها شقاء عظيم قلنا: مهلاً أيها الزوجان! ليقف كل واحد منهما متأملاً متدبراً حياته وعيشته مع الطرف الآخر، ويقف وقفة تصحيح وتأمل في وضعه مع زوجته، وتقف الزوجة موضع تصحيح وتأمل لوضعها مع زوجها، ولعل كل واحد إذا سمع عن شيء من المشكلات في هذا الدرس ليست عنده ولا يعاني منها فليحمد الله على العافية، ويسأل الله المزيد من فضله. فإنكم ربما تسمعون -أيها الإخوة- من غرائب الأحداث والأخبار التي تحصل في المجتمع والتي نريد أن نذكرها ونقف عندها ونلقي مزيداً من الضوء عليها؛ لأن المشكلات موجودة بالفعل ولأن هذه المشكلات من الخطورة بحيث تهدد كيان هذا المجتمع. وكثرة حوادث الطلاق وتفشي الأخبار السيئة عن هذا الموضوع هو الذي يجعل لزاماً تكرار الكلام فيه وبسط الكلام والتوسع من أجل لمس الأوتار الحساسة في هذه القضية. فقد تكلمنا في المحاضرة الماضية الجزء الأول عن أمور منها: الموقف من الزوج الكافر المستهزئ بدين الله التارك لفرائض الله الذي يرتكب الفواحش، ومسألة الخيانات، والزوج الذي يقاوم الخير، والزوجة الفاسقة الفاجرة في المقابل، وتكلمنا عن المراحل التي تمر بها العلاقة الزوجية وعن بعض المشكلات مثل: معايرة الزوجة والسب والشتم وقضية العناد والزوج البخيل والمرأة الجبانة وهكذا من المشكلات إنما كان هذا تلخيصاً لبعض النقاط التي أوردناها في المرة الماضية. ونقول إجابة على سؤال طرح في المحاضرة الماضية ما هو الموقف من الزوج الفاجر؟ أما الزوج الكافر فلا يجوز للمرأة المسلمة أن تبقى معه أبداً، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة:10]. وأما الزوج الفاجر الذي يرتكب الكبائر وتسبب هذه الكبائر مشكلات كثيرة للزوجة وشقاءً ونكداً وتعاسة، فإن المرأة تضطر للموازنة بين الأمور ومعرفة المصالح والمفاسد للتقرير في استمرارها مع هذا الرجل الفاجر من عدم الاستمرار، فقد تضطر المرأة لاحتمال أدنى الضررين من أجل درء مفسدة أكبر، هب أن امرأة -مثلاً- اكتشفت أن زوجها له علاقة بالهاتف -مثلاً- ببعض النسوة وعندها منه أولاد، وهذا الرجل بفجوره ينغص حياة زوجته، ولكن هذه المرأة قد توازن فترى أن تركها لزوجها قد يوقعه في فواحش وأن معصيته الآن قد وصلت إلى درجة معينة وقد تزداد سوءاً لو فارقته، وأن الأولاد من جهة أخرى قد يضيعون، ومهما حاولت فيه لم تر تحسناً فماذا تفعل؟ فنقول: ربما كان صبرها عليه ودعائها له مع البلية التي فيه هو أخف الضررين، ومع الألم النفسي الذي يعتري المرأة من سماع أحاديثه وفسقه وفجوره، وهو يواعد هذه ويتكلم مع هذه ويطلب من هذه أن تخرج معه، إن هذا الوضع يشكل ضغطاً نفسياً كبيراً على المرأة ولكن ماذا تفعل؟ وقد يكون السبب أنها انتقلت من بيت دين وخير إلى رجل لم يسألوا عنه ولم يتحروا، فاكتشفت بعد سنوات من الزواج وبعد أن أنجبت أولاداً وبناتاً أن له علاقات معينة، وقد يظلمها ويضربها ولا تطيقه. وهذه امرأة تشتكي من وجع يدها من الضرب ثلاثة أشهر وهي تتحسر ولكن ماذا تملك أن تفعل والمرأة ضعيفة في الغالب، فهذا جواب سريع على السؤال الذي طرح في المرة الماضية عن الموقف من الرجل الفاجر. وأما المشكلات التي سنتكلم عنها في هذه الليلة فإن النظر في أنواع المشكلات يرجعها إلى أسباب عدة: فمن الأسباب ما يكون في الزوج والزوجة داخلياً مثل: أولاً: الإهمال وعدم الإحساس بالمسئولية. ثانياً: التسلط. ثالثاً: التدخل فيما لا يعني. رابعاً: سوء الظن. خامساً: عدم التوافق النفسي. سادساً: اعتقادات فاسدة. سابعاً: وسوسة. ثامناً: فارق التعليم. تاسعاً: فارق الطبقة الاجتماعية. عاشراً: عدم القناعة بالأمور المادية. الحادي عشر: الغيرة المذمومة. الثاني عشر: الرتابة في الحياة. الثالث عشر: عدم الصراحة والصدق. الرابع عشر: فارق السن. وهناك عوامل خارجية تسبب المشكلات، مثل: أولاً: تدخل الأقارب. ثانياً: تأثير الجيران. ثالثاً: الأفلام والمجلات. رابعاً: الجلسات المختلطة المحرمة. فهذه بعض العوامل الأخرى التي تسبب المشكلات الزوجية. وسنضرب لكل واحدٍ من هذه العوامل بأمثلة، ونضيف إليها أيضاً من العوامل: الأول: عدم معرفة الشخص الصحيح الذي يلجأ إليه عند حصول الإشكالات، فيتم الذهاب إلى العرافين والدجالين والسحرة الذين يسرقون أموال الناس وينهبونها، ويغفل عن دور المصلحين والدعاة وأئمة المساجد وغيرهم من طلبة العلم في دورهم في فض مثل هذه المنازعات.

الإهمال وعدم الإحساس بالمسئولية من قبل الزوجين

الإهمال وعدم الإحساس بالمسئولية من قبل الزوجين ونبدأ مستعينين بالله تعالى في تبيان أمثلة لهذه المشكلات وما هي النصائح فيها. تقول امرأة: زوجي يعمل أعمالاً حرة ولا يرجع أحياناً إلا في الساعة الثالثة أو الرابعة ليلاً، ولا يأتي على وجبة الغداء ولا نراه إلا نادراً، ونصحته، فقال: هذا شغلي، فإذا أردتني هكذا وإلا مع السلامة، وهي تقول له: انتبه لأهلك ولأولادك أنا امرأة شابة، إذا مرض الولد ماذا أفعل هل آخذه بسيارة الأجرة لوحدي؟ وهو مع ذلك مهمل في البيت، وتقول: إن بإمكاني أن أطلب الطلاق ولكن ماذا يفعل أطفالي؟ كم إجازة تأتي وتذهب ولم أر أهلي، وإذا ذهبت إلى أهلي فترة لا يسأل عني ولا يأتي لأخذي، وأقول له وأنصحه: نظم وقتك وانتبه لنا ولا أقول لك لا تعمل ولكن بالحدود؛ ولا فائدة. فنقول: هذه المشكلة واضح فيها جانب الإهمال وإن على هذا الزوج أن يتقي الله سبحانه وتعالى في زوجته وأن يعلم بأن هذه المشاغل الدنيوية لن تنفعه عند الله يوم القيامة ما دام على هذا التفريط في حق زوجته، وأنه ينبغي لمثل هؤلاء الأشخاص هزة قوية توقظهم من غفلتهم وسباتهم. وهذه حالة مشابهة: امرأة تقول: لا يهتم بي ولا بابنتي لا يسأل عنا، كل يوم مع أصحابه من الشباب، وربما يحضر حلقات علم -يعني: فيه خير- ويقرأ ويطلع، ولكن معاملته مع الناس غير معاملته معي، بعد زواجنا ذهبنا للعمرة فأخذت عمرة لإحدى قريباتي ولا زال يعيرني بها إلى الآن، هو متدين في نفسه ولكن معاملته شيء آخر، يسجل كل أخطائي ولا ينسى منها شيئاً، أقول له في الإجازة: خذنا مكاناً للترويح أو للعمرة فيرفض، ضربني ثلاث مرات وهو يعلم أنني حامل في الشهر الثاني، وسوء معاملته تزداد ويأخذني إلى أهلي يوماً كاملاً يرميني عندهم، وبعد يومين يرجع لأخذي، وكلما أرجعني أبي إليه أعادني وتركني عند أهلي، ولا يسأل عن ابنته بالأيام إذا صارت عند أهلي، ويترك الناس يصرفون على العائلة، وربما فضحني وتكلم عني ونقل الكلام لأهله، ولا يريد بيتاً ولا يتحمل مسئولية، ويعيش مع أهله الآن تاركاً لي عند أهلي ولا يسأل عن بنته. وربما تهدد أبي وقال: لولا أن المحاكم مقفلة في العطلة لكان لي معكم شأن آخر، وربما نصحه أهله ولكنه لا يستجيب -وهي حامل الآن- وتقول: هل يجوز لي الإجهاض مع هذه الحالة التي أنا فيها. مرة أخرى نقول: إن بعض الناس يظنون أن التدين في جوانب معينة، كأن يكون محافظاً على الصلوات، ملتزماً بالسنن، له أصحاب طيبون وربما يمارس الدعوة إلى الله ويطلب العلم، ولكن الدين -أيها الإخوة- لا بد أن يشمل الجوانب الأخرى الحساسة في الحياة، لابد أن يدخل الدين بنوره وهداه وأحكامه إلى البيت وإلى العلاقة بين الزوجين، وإلى تربية الأولاد وإلى الاهتمام بالأسرة، أما أن يكون مظهراً التدين خارج البيت فإذا رجع انقلب وحشاً كاسراً، أو رجلاً مهملاً شريراً، فهذا ليس من الدين في شيء. فنقص التصور عن الدين ونقص التصور عن وجوب دخول الدين والإسلام في كل صغيرة وكبيرة هو الذي يُبرز لنا هذه المشكلات، ومثل هؤلاء يحتاجون إلى تذكير بالله، وتبيان بأن هذا ظلم والله لا يحب الظلم ولا يرضى به، وربما محقت سيئات عمله هذا كثيراً من أعماله الحسنة التي يعملها خارج البيت. ونذكِّر هنا باعتنائه صلى الله عليه وسلم بأهله، وكيف كان وضعه عليه الصلاة والسلام داخل البيت، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل هو وزوجته كما جاء في صحيح البخاري وصحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء بيني وبينه تختلف أيدينا عليه، فيبادرني حتى أقول دع لي دع لي، قالت: وهما جنبان) فكان يداعب زوجته صلى الله عليه وسلم وهو يغتسل معها في أعمق مكان في البيت وفي أخص شيء، ولا زالت العلاقة موجودة بهذه اللطافة وهذا الحسن في المعاشرة، ضرب لنا مثلاً صلى الله عليه وسلم بحياته، فهلا تأسينا به! ومن أسباب المشكلات كذلك: إهمال الزوج الإصلاحات داخل البيت، فيترتب على ذلك أمور كثيرة من نقص الأشياء المهمة والحاجية وحصول ضيق في العيش بسبب عدم إقدام الرجل على تفقد ما ينقص البيت، وربما جلست ورقة الأغراض في جيبه أياماً ولا يحرك ساكناً، وربما تعطلت أشياء تحتاج إلى إصلاح وهو لا يأتي بمن يصلحها. وهذا لا شك أنه يسبب ضيقاً للزوجة التي تعمل في البيت وتتعطل عندها الأشياء، فكيف إذا كانت الأشياء تسبب روائح كريهة ونحو ذلك من الأمور التي لا تطاق، والزوج خارج البيت يتنقل والزوجة تعاني من هذه المشكلات. وفي المقابل يوجد زوجات ذوات طلبات كثيرة مرهقة للزوج ومزعجة، مرهقة مالياً وجسدياً، فنقول لهؤلاء النساء: اتقين الله سبحانه وتعالى في أزواجكن، ولا تكلف امرأة منكن زوجها مالا يطيق، وإن هذا من الأمور التي تخالف واجب المرأة نحو زوجها، ولنأخذ مثالاً: رجل يعود إلى البيت بعد العمل منهكاً متعباً يريد الراحة ويصعد الدرجات، فإذا بزوجته تقول له: انزل ينقصنا حزمة من الشيء الفلاني، مع أن حسن التصرف يقتضي أن تعد المرأة ما يحتاج إليه البيت وما يحتاج إليه الطعام حتى يأتي بها الرجل في أثناء عودته، أو تتصل به لتخبره بدلاً من أن تنزله أكثر من مرة أحياناً ليشتري الأشياء وقد جاء في حينه من العمل، وهذه من الأمور التي تسبب التضايق، نعم. قد يحدث ذلك أحياناً، ولكن إذا تكرر دائماً بحيث ينزل الرجل ويشتري الأغراض وهو في مثل هذه الحال فهذا يكون شيئاً مزعجاً.

عدم توفير حاجات البيت

عدم توفير حاجات البيت ومن المشكلات أيضاً التي تنتج عن الإهمال وعدم الشعور بالمسئولية، هذه حالة امرأة لا يوفر لها زوجها الطعام في البيت وقد ينام الأولاد على جوع والزوجة توفر من مالها الخاص لشراء الحاجيات ولا يوجد صابون ولا غسيل ولا منظف ولا ملابس كافية للأطفال ولا يشتري للطفل إلا حذاء واحداً في فترة طويلة، وقد تكبر قدم الطفل ويحتاج إلى حذاء ولا يوجد له حذاء، وهو لا يربي أولاده ولا يراقبهم، يأكل ويذهب للعمل وهي تخرج إلى الشارع لمراقبة الأولاد والبحث عنهم، وقد يمنعها الطبيب من الوقاع لمرض أثناء الحمل وهو يرغمها على ذلك ولا يراعي ظرفها الصحي، ويقول لها: إن الملائكة تلعنك، تمشي في البيت ودمعتها على خدها ويقول لها مُهيناً هاتي حذائي وهو تحته، وإذا طلب منها كأس ماء فلا بد لها أن تقف طيلة الوقت حتى يشرب هو من باب الإذلال، وكيف يكون لهذه المرأة نفسية أن تتزين لزوجها، وهذا الإهمال قد يتعدى إلى صحة المرأة، فقد تحتاج إلى عمليات جراحية أو أخذ إلى الطبيبة ونحو ذلك وهو لا يفعل، ومع ذلك يتهددها بالزواج بأخرى، ويقول: أنت امرأة عاقة وعاصية لا تعملين في البيت ولا تقضين الحاجات، وتنعكس هذه المشاكل على الأطفال. وهذا مثل واقعي آخر لما ينتجه الإهمال، إنها مخالفة صريحة لقوله صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي) فهل يكون هذا الزوج متقياً لله سبحانه تعالى وعنده خير لزوجته وهو يتعامل مثل هذا التعامل؟ وماذا يكون الوضع؟ من الأشياء التي تسببها المشكلات الزوجية وسوء المعاملة من قبل الزوج: إعطاء فكرة سيئة عن أهل الدين إذا كان هو ممن ينتسب إلى التدين، فماذا يقول أهل زوجته عندما يرونه -مثلاً- يرميها عندهم ويأخذ نقودها إذا كانت موظفة وربما يتهمها في عرضها وهذا أمر خطير جداً وقذف وأنتم تعلمون حد القذف في الشريعة، وإذا جاءته للتفاهم قال: اذهبي أنا لا أتفاهم معك أنا أتفاهم مع أبيك، وإذا جاء أبوها قال للأب: هذا شيء خصني ما دخلك أنت بيني وبين زوجتي، فلا هو يتفاهم معها ولا هو يتفاهم مع أبيها، وتبقى المسكينة معلقة. فأقول: إن مثل هذه الحالة تسبب ولا شك أخذاً سيئاً لفكرة لا تليق أبداً على المتمسك بدينه، ويحق للناس أن يتكلموا عند ذلك في أشياء، وربما كان هذا الرجل من الذين يصدون عن سبيل الله.

الجفاف والغلظة في معاملة الزوجة

الجفاف والغلظة في معاملة الزوجة وبعض الأزواج يطلب من زوجته عمل المستحيل، فقد يكون ليس له إلا ثوب واحد وبقية ملابسه في الغسيل مثلاً وهو يطلب منها أن يكون هذا الثوب جاهزاً ونظيفاً مع أنه يلبسه هو، وقد يكون من النوع البخيل الذي لا يشتري لنفسه ثياباً، فماذا تفعل المسكينة من أجل إرضائه؟ وبعض الزوجات قد تريد أن تضحك في وجه زوجها أو تلاطفه ولكن سوء المعاملة لا يساعدها على ذلك، وربما اضطرت أن تستخدم حاجيات أختها لعدم توفير الحاجات لها. والجفاف والغلظة في المعاملة الزوجية لا ترضاه الشريعة أبداً، بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر بأن الله إذا أراد بأهل بيت خيراً أدخل عليهم الرفق، والجفاءُ والغلظةُ ينافيان الرفق، وكون الرجل يغلظ تشبهاً بأبيه أحيانا، فبعض الرجال يغلظ مع زوجته، يقول: هكذا يفعل أبي في البيت، فيفعل مثله، فهل كون أبيه قاسياً مع أمه يتعامل معها بغلاظة، هل يكون مبرراً لأن يقلده الولد في المعاملة مع زوجته؟ هذا لعمر الله من التقليد الأعمى المضر: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23] وهذا سبب آخر من الأسباب التي تؤدي إلى تفاقم المشكلات الزوجية. كون الرجل ليس عنده اهتمام بالأطفال فلا يأخذهم في نزهة ولا في ترويح مباح مما يضايق الزوجة ويضايق الأطفال. ومن المشكلات الأخرى أن يكون الرجل قد نُزعت منه الرحمة تجاه زوجته وأولاده، فقد يهينها أمام الناس، بل في السوق والشارع، وقد يضربها وهي حامل، وهذا رجل وقع بينه وبين زوجته خلاف فطردها من البيت الساعة الثانية عشرة ليلا، توسلت إليه وقبلت رجله دون فائدة، مع أنها قد أحسنت إليه وساعدته في شراء أثاث للبيت وسيارة له، وربما باعت ذهبها من أجله ولكنه لا يقدر ذلك. وتوفير الأشياء ينبغي أن يكون باقتصاد، فإن الاقتصاد من النبوة، بعض النساء -مثلاً- تهتم بالتموين في البيت وقبل أن تنفذ الأغراض بقليل تطلب أشياء، وهذه حكمة فإنه ليس من الصحيح أن تنتظر دائماً حتى ينتهي كل شيء ثم تطلب، ويتأخر هو في الطلب ثم يعاني البيت من نقص أشياء، فلا ينبغي للزوج عند ذلك أن يقول لها مثلاً: الشيء موجود عندك، صحيح عندها ولكن الذي عندها لا يكفيها إلا فترة قليلة، فينبغي أن يراعي ذلك، وفي المقابل لا تكون هي من النوع الذي يكثر الطلبات وربما تفسد الأشياء في البيت وهي لا تحسن حفظها ولا طهيها ولا تخزينها، وعدم اكتراث الرجل بالأشياء التي يحتاج إليها بيته كأن يقول: نسيت، لا تكلميني الآن، لا شك أن هذه الأمور منافية للمعروف الذي أمر الله به في المعاشرة فقال: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19]. وبعض الزوجات قد تضطر إلى الذهاب إلى الجيران لاستلاف الأشياء وهذا أمر سيئ، وماذا يقول الجيران عن صاحب البيت الآخر، وبعض الجيران من مضايقتهم لجيرانهم يستلفون منهم كل شيء (يعني: ابتداءً من إلى) تدق الباب عندكم طماط؟ نعم. دق الباب: عندكم خبز؟ نعم. عندكم كذا؟ عندكم كذا؟ ما هو السبب؟ قد يكون السبب سوء إتيان الرجل بأغراضه إلى البيت، وقد يكون السبب طبعاً سيئاً في هؤلاء الناس أنهم يريدون الاعتماد على الآخرين، الرسول صلى الله عليه وسلم علَّم أصحابه أنه لو سقط سوط أحدهم من يده ألا يقول للآخر ناولني إياه، كلما كان الرجل في استغناء عن الناس كلما كان في عز، وفي مكانة محفوظة ومحترمة أكثر.

تسريب الأسرار البيتية إلى الخارج

تسريب الأسرار البيتية إلى الخارج ومن المشكلات المتعلقة بالحياة الزوجية: تسريب الأسرار البيتية إلى الخارج، بعض الناس علاقتهم بإخوانهم أخص من علاقتهم بزوجاتهم، وهذا ليس عليه انتقاد في الظاهر وفي المبدأ، لكن في الأمور الداخلية يجب أن تبقى علاقة الرجل بالرجل كرجل، وعلاقته بزوجته شيء آخر، فلا يصح أن ينشر بين الرجال أو يخبر شخصاً من الأشخاص دون مصلحة شرعية بما يحدث بينه وبين زوجته من أسرار الاستمتاع وغير ذلك، ولا يجوز لها هي أن تخبر أخواتها أو صديقاتها -مثلاً- ما يحدث بينها وبين زوجها من الخصوصيات وأسرار الاستمتاع كذلك، وهذا حرام، بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام مرة وقال: (لعل رجلاً يدخل بيته ويستتر بستر الله؟ قالوا: نعم. ثم لعله أن يأتي الناس فيخبرهم بما يقع بينه وبين زوجته، فسكتوا، وقال للنساء مثل ذلك فسكتن، فقامت امرأة على ركبتيها متطاولة ليسمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله! إنهم ليتحدثون وإنهن ليتحدثن، فنهاهم صلى الله عليه وسلم أن يفعلوا، وأخبرهم أن مثل ذلك مثل شيطان لقي شيطانه في الطريق فقضى حاجته والناس ينظرون إليهما). فأن يكون لك علاقة خاصة مع صديق أو أخ في الله فهذا لا يعني أن تسرب الأسرار الخاصة إليه وتخبره وتبوح له بكل شيء، لكن قد يضطر الرجل أن يسأل عالماً أو طالب علم عن شيء من هذه الأشياء الخاصة في مشكلة لا بد لها من حل، هذا لا بأس به، ولكن أن تأخذنا العلاقات الأخوية الفضفاضة بحيث أنها تستوعب كل شيء حتى القضايا الخاصة والمعلومات الدقيقة والأشياء الحساسة التي من المفترض أن تكون أسراراً، فهذا لا يجوز.

التدخل فيما لا يعني

التدخل فيما لا يعني ومن المشكلات كذلك: عدم معرفة كل من الزوجين لحدوده ووظيفته، فبعض الناس مثلاً يقول: زوجتي شريكتي في الحياة إذاً لا يصح أن أخفي عليها أي شيء، فيخبرها بأسرار له، قد تكون بينه وبين أخ له مسلم، أو بينه وبين أهله لا يصح أن تطلع عليها هي، وهذا عكس الحالة الماضية، وفي هذه الحالة نقول له: إن أسرار المسلمين أمانة عندك فلا يجوز أن تسربها إلى زوجتك بحجة أنها شريكة في الحياة لا يصح أن يخفى عليها شيئاً، فلكل مقام مقال، ولكل حال التصرف المناسب فيه، فأحياناً قد يخبرها عن أمور مالية، إخبارها عنها يسبب مشكلة، وقد يقول واحد: لا بد أن أخبرها إلى أين أذهب دائماً، ومع من أجلس، وماذا أعرف، وماذا أقرأ، أن تخبرها ماذا تقرأ لا يضر، ولكن بعض الناس قد يتعدون ذلك ليخبر زوجته عن كل خصوصية حتى فيما يتعلق بزملائه وأصدقائه مما يسبب حرجاً لإخوانه في الله، ويسبب ثرثرة من المرأة فتخبر صديقاتها الذين لا يخبرهم أزواجهم في المقابل عن مثل هذه الأمور، فيرجع الزوجات إلى الأزواج، فيقلن: سمعنا من فلانة أنك تفعل كذا وكذا -ما شاء الله- ولماذا لم تخبرنا؟ والسبب أن زوجاً من الأزواج قد باح بأسرار أخيه. نوضح الأمر بمثال: نفرض أن مجموعة من الناس اتفقوا على أن يقوموا بأمر معين من الأمور المتعلقة بطلب العلم على سبيل المثال، أو نشاط من نشاطات الدعوة إلى الله، اتفقوا على دعوة شخص أو على القيام بأمر من الأمور في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، ليس من المناسب أن تعرف الزوجة كل تفصيل يتعلق بهذا الأمر، فيأتي واحد ويتوسع ويخبر زوجته بكل شيء يفعله، فهذه الزوجة تخبر صديقاتها، فتذهب صديقتها إلى زوجها فتقول: ما شاء الله! أنت تفعل كذا وكذا ونحن لا ندري، لماذا تخفي عنا؟ ولماذا تفعل كذا؟ وهذا الرجل من باب الإخلاص والرياء كتم المسألة ما أحب أن يقول لزوجته: والله أنا سأدعو فلاناً وفلاناً، وأنا أحفظ كذا وكذا، وأنا أقوم بكذا وكذا، من باب الإخلاص كتم الأمر، وصاحبه سرب القضية، فذهبت امرأته فأخبرت المرأة الأخرى فجاءت المرأة الأخرى لزوجها معاتبة. مثلاً: هل كل ما فعل الزوج في الصدقات يرجع ويقول لزوجته: اليوم والله رأيت واحداً وتصدقت عليه، واليوم أنا فعلت كذا وكذا، لا. في بعض العبادات تخفى حتى على الزوجات، وهناك بعض الأشياء ليس من المناسب إخفاؤها عن الزوجة أبدا، وما الذي يحدد ذلك؟ الحكمة التي ينبغي أن يتمتع بها الزوج وتتمتع بها الزوجة، وحتى الزوجة ليس من المناسب أن تخبر زوجها عن مشكلات عائلية موجودة عندها هي، فتخبر زوجها دائماً عن المشكلات التي تحدث بين أبيها وأمها، ليس من المناسب ذلك. فإذاً يسأل العبد الله أن يرزقه الحكمة في مثل هذه الأمور، وبعض الزوجات تظن أنه بما أن زوجها لا بد أن يعلم أين تذهب هي ومع من تجلس، فهي كذلك لا بد أن تعلم أين يذهب هو بالضبط ومع من يجلس، وهذا قياس مع الفارق، فإن الزوج مسئوليته عن زوجته أكبر من مسئولية الزوجة عن زوجها، والزوج يحق له أن يعرف أشياء عن زوجته في ذهابها ومجيئها ليس بنفس الدرجة التي يحق لها هي أن تعرف عن زوجها؛ إلى أين ذهب وماذا يفعل بالضبط، فالرجل هو المسئول في البيت: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة:228] الرجل هو القوام: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء:34] فلا يصح للمرأة أن تخلط وتقول: لماذا أنا أخبرك بما أفعل؟ وأنت يجب أن تخبرني بماذا تفعل، لماذا يجب أن أستأذنك في الخروج من البيت؟ وأنت استأذني في الخروج من البيت، هذه مهزلة، فهناك فارق بين الرجل والمرأة يجب أن يراعى، فالتي تعاند ولا تبلغ زوجها بهذه الحجة امرأة مخطئة، ينبغي أن تتقي الله سبحانه وتعالى وأن تخبره بما تريد أن تفعل. ومن الأشياء التي تسبب مشكلات أيضاً: عدم مراعاة الأزواج مسألة إتيان الزوجة، فبعضهم إذا تزوج يريد أن يدخل بزوجته من أول يوم ليثبت أنه رجل، أو أن أهله يريدون هذا، وهذه المسكينة ما عمرها تعرفت برجل ولا جلست مع أجنبي، فيكون من الصعوبة بمكان فعل هذا الأمر، وعدم الحكمة فيه يؤدي إلى مشاكل، وربما إلى كره من أول يوم، يستمر الكره طيلة العمر ربما بسبب موقف حصل في أول يوم.

أهمية استئذان الأبناء عند الدخول على الآباء

أهمية استئذان الأبناء عند الدخول على الآباء وأيضاً من الأشياء التي يخطئ بعض الأزواج في موضوع إتيان الزوجة فيها عدم تطبيق قول الله عز وجل: {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ} [النور:58] هذه الثلاث المرات: بعد الفجر، ووقت القيلولة، وبعد العشاء وقت النوم، حتى لا يطلع الطفل على شيء لا يناسب أن يطلع عليه، فلا يجوز أن يهجم على مخدع أبيه وأمه ويدخل دون استئذان، هذا إذا كان مميزاً، أما الكبير فمفروغ منه، لكن الذي لم يبلغ الحلم، بعض الناس من سوئهم أنه ربما يأتي زوجته أمام أولاده المميزين، وربما أتاها في وقت الحيض، وربما أتاها في الدبر وملعون من أتى امرأته في دبرها، وربما أتاها في موضع لا يجوز أن يأتيها فيه أصلاً بسبب مشاهدة بعض الأفلام السيئة والهيئات الشاذة التي لا يجوز لرجل بحال أن يكون وضعه مع زوجته فيها هكذا، والسبب في ذلك تقليد الكفرة وعدم مراعاة حرمات الله عز وجل والنظر إلى ما لا يجوز من هذه الأشياء المنتشرة المرئية والمطبوعة التي سببت كثيراً من مشكلات الحياة الزوجية.

عدم الاهتمام بالجانب التعبدي لكلا الزوجين

عدم الاهتمام بالجانب التعبدي لكلا الزوجين ومن الأمور المهمة أيضا: عدم متابعة الرجل لزوجته والعكس في القضايا التعبدية، وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حث على متابعة الرجل لزوجته في قيام الليل والعكس، فقال: (رحم الله امرأً قام من الليل فأيقظ أهله فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل فأيقظت زوجها فإن أبى، نضحت في وجهه الماء) إذا كان هذا في قيام الليل وهو سنة، فكيف يكون الحال في مسألة المتابعة في قضية الفرائض؟ هذه المسألة ينبغي أن تكون موجودة ويحصل بها اهتمام، بعض الأزواج يذهب إلى صلاة الفجر ويجلس في المسجد بعد الصلاة إلى طلوع الشمس ولم يوقظ زوجته إلى الصلاة. وإنني أذكر بهذه المناسبة أنني سألت قبل فترة بسيطة الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله عن هذه المسألة: رجل ذهب إلى المسجد لصلاة الفجر وبعد الصلاة قعد يذكر الله يريد أن ينتظر طلوع الشمس ليصلي ركعتين ويرجع بأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة كما هو الحديث الحسن في هذا الموضوع، فتذكر وهو جالس في المسجد أنه لم يوقظ زوجته لصلاة الفجر وأنها لم تستيقظ، فكان Q هل يأثم الرجل لو جلس وأكمل إلى ارتفاع الشمس وصلى ركعتين للأجر العظيم يأثم لو جلس؟ فقال الشيخ: نعم. يأثم كيف لا وهو يضيع واجباً من أجل سنة؟ بعض النساء -المرأة بما جعل الله فيها من العطف والحنان- قد تقدم إرضاع الولد وتنظيفه إلى آخره على وقت الصلاة ولا تحس أحيانا. كذلك بعض النساء تأخذها الرحمة بزوجها تقول: دعه جاء من العمل، جاء وقت صلاة العصر لابد أن يستيقظ ويصلي العصر ويذهب إلى المسجد، تقول: لا. دعه ينام، مسكين مسيكين دعه ينام ولا يذهب إلى الصلاة، ولا يستيقظ إلى الصلاة وهذا خطأ، فإن الرحمة أن تأمره بالصلاة وليست الرحمة به أن تتركه ينام عن الصلاة.

عدم مراعاة الزوج لمسألة النظافة الشخصية

عدم مراعاة الزوج لمسألة النظافة الشخصية ومن الأشياء التي تنغص وتكدر صفو الحياة الزوجية أيضاً: عدم مراعاة الزوج لمسألة النظافة الشخصية، فقد يأتي من العمل ورائحة العرق منبعثة من ثيابه وجسده، وبعد ذلك يريد زوجته في الفراش دون أن يتنظف ولا يغتسل ولا يتطيب ونحو ذلك، وقد تكون حاملاً أو فيها وحام وتتضايق من هذه الأشياء، وقد لا تستطيع مصارحته أو لا تجرؤ على أن تقول: قم وتنظف ومع ذلك يقول: أنت ستلعنك الملائكة، لكن هنا أمور لا بد من مراعاتها، فهذه أمثلة على مثل ذلك. ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان يشتد عليه أن يرى منه الريح، أي: كان من أشد الأشياء عليه أن تشم منه الرائحة القذرة أو الوسخة أو الكريهة، كما ورد في الحديث الصحيح: (يشتد عليه أن يرى منه أثر الريح) أثر الريح يعني: الرائحة الكريهة، في العرق أو في الملابس والجسد ونحو ذلك.

إجراءات الزوج التعسفية في عقوبة الزوجة

إجراءات الزوج التعسفية في عقوبة الزوجة ومن الأشياء السيئة في العلاقة الزوجية: الإجراءات التعسفية في عقوبة الزوجة، كيف ذلك؟ هذا رجل إذا حصل خلاف بينه وبين زوجته يقول: اذهبي إلى غرفة نوم الأولاد بسرعة ولا أرى وجهك في الغرفة هنا، وتجلس يوماً يومين ثلاثة أسبوعاً أسبوعين وربما شهراً في غرفة الأولاد، هذا عنده عقاب، وإذا جاءت تسترضيه قال: ما الفائدة أنت دائماً تخطئين وتعتذرين، روحي مع السلامة، سبحان الله! أنت تريدها أن تشعر بالخطأ، فها قد شعرت بالخطأ الآن وجاءت تعتذر إليك وتسترضيك ثم تقول: ما الفائدة واذهبي؟ إذاً: متى ستقبل لها عذراً؟ ومتى ستنتهي هذه العقوبة؟ والله عز وجل لما قال للزوج: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء:34] ماذا قال في آخر الآية؟: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} [النساء:34] فإذا جاءت المرأة إليك طائعة وقالت لك: ماذا تريد، ونفذت كلامك، فهل بقي لك عذر أمام الله لكي تبغي عليها وتستمر في العقوبة معها بعد أن فعلت ما تريده لك؟ ومسألة التعسف والعنف: أريد أن أربيك، أريد أن أعلمكِ، والمرأة قد تكون في وضع من الحمل أو النفاس لا تطيق ذلك، إن هذا مخالف لقول الله عز وجل: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19] وبعض الأزواج قد يصل به السوء أو سلبيته في العقوبة أن يعاقب زوجته بمنعها من طاعات. فأقول: أيها الزوج! إياك أن تعاقب زوجتك المستقيمة على خلاف بينكما بحرمانها من طاعات مثل جلسات العلم أو مركز تحفيظ القرآن، أو القراءة في كتب، أو سماع أشرطة، فهذه ليست عقوبات شرعية على الإطلاق، عاقبها كما أمر الله سبحانه وتعالى، لكن أن تحرمها من طاعات، لا. إلا إذا كان قيامها بأمر من الطاعة يسبب تفويت طاعة أعلى من ذلك، فلنفرض أن زوجة -مثلاً- عندها حلقات علم بلا عدد، حلقة في الصباح وحلقة في المغرب وتحفيظ القرآن وهنا تدريس وعند جاراتها وعند كذا، وترتب على هذا في النهاية عدم القيام بحق الزوج وتضييع الأولاد، البيت غير مرتب الطعام غير جاهز الملابس غير نظيفة، ففي هذه الحالة لا بد أن الزوج يحد من نشاط زوجته ولو كان نشاطاً دعوياً؛ لأنه يترتب عليه من المفاسد تضييع أشياء أهم، والله عز وجل ما كلف المرأة أن تذهب داعية خارج البيت وتدور على بيوت الناس وتأمر وتنهى لا، وإنما عندها أولويات لا بد أن تقوم بها، فمن أولوياتها: القيام بحقوق الزوج الأولاد البيت، قد تطلب العلم في البيت، لا يلزم أن تحضر هنا وهنا وهنا وتذهب في هذه المحاضرات وهذه المراكز وهذه المناسبات وتلك الجلسات في البيوت، ليس مفروضاً عليها هذا، إن حصل فالحمد لله هذا شيء طيب بالحدود المعقولة، ولكن أنها تحضر كل مناسبة ويترتب على ذلك تضييع لحقوق الزوج فليس هذا من قيامها بالحق الذي هو عليها بالإطلاق. ولا بد أن يكون عند الزوج مراعاة لمشاعر زوجته، وأن يكون عنده إحساس مرهف تجاه هذه الأشياء، وإليكم هذا الحديث العظيم! هذا حديث ينبغي أن نتوقف عنده لنتبين كيف كان صلى الله عليه وسلم دقيقاً في مراعاة شعور زوجته، وإننا عندما نسمع هذا الحديث نقف بإجلال واحترام لشخصية هذا النبي العظيم صلى الله عليه وسلم الذي لم تشغله هموم الدولة والغزو والجهاد وتجهيز الجيوش، ونشر الدعوة في العالم، وإرسال الرسائل إلى كسرى وقيصر، ومتابعة الأمور العظيمة لم تشغله عن مراعاة مشاعر أو شعور زوجته بشيء دقيق جداً واسمع معي هذا الحديث. عن عائشة رضي الله عنها قالت: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لأعلم إذا كنتِ عني راضية وإذا كنتِ عليَّ غضبي، قالت: فقلت: من أين تعرف ذلك؟ فقال: أما إذا كنت عني راضية فإنك تقولين: لا ورب محمد -يعني: إذا أتيت لتقسمي قلت: لا ورب محمد- وإذا كنت قلت: لا ورب إبراهيم قالت: قلت: أجل والله يا رسول الله! ما أهجر إلا اسمك) فقط الاسم وإلا المكانة في قلبي ما زالت كما هي فقط الاسم. فهذه الملاحظة الدقيقة تبين ذلك، ومَنْ مثل الرسول صلى الله عليه وسلم في مشاغله ومهماته وواجباته التي عليه؟ لا أحد، لكنه مع ذلك كان يقوم بهذا الدور مع زوجاته رضي الله عنهن.

إهمال الرجل حق زوجته الشرعي في المبيت

إهمال الرجل حق زوجته الشرعي في المبيت ومن المشكلات: عدم إعطاء الرجل زوجته حقها الشرعي في المبيت، وربما هجرها في الفراش سنين طويلة، لا يأتيها ولا ينفق عليها ولا يعفها، والمرأة لها حاجة كالرجل فهذا لا يجوز؛ ولذلك تكلم العلماء عن أكثر مدة يجوز للرجل فيها أن يترك زوجته دون مبيت ودون إتيان، والحق أن ذلك يختلف باختلاف النساء فلسن سواءً في ذلك، وربما كان هذا سبباً من أسباب انحراف النساء، لأنك أحياناً إذا نظرت في امرأة يدخل عليها رجال أجانب -والعياذ بالله- أو تذهب مع رجال أو هكذا، تجد من الأسباب أحياناً أن زوجها لا يعطيها حقها في الفراش، فهي لما عدمت الحق في الحلال ذهبت تبحث عنه في الحرام. وهذا حديث آخر يبين هذا الأمر، عن أبي جحيفة رضي الله عنه قال: (آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء متبذلة أي: في هيئة رثة لا تدل على أنها امرأة متزوجة- فقال لها: ما شأنك؟ فقالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاما، فقال له: كل فإني صائم، قال: ما أنا بآكل حتى تأكل فأكل، فلما كان من الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، فقال سلمان: نم، فنام، ثم ذهب يقوم قال: نم، فلما كان من آخر الليل قال سلمان: قم الآن، فصليا فقال له سلمان: إن لربك عليك حقاً، وإن لنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق سلمان -وزاد الترمذي - وإن لضيفك عليك حقاً) والحديث عند البخاري وغيره. فهذا يبين أن الإخوة في الله يتعاهدون بينهم في التنبيه على النقص الذي يكون عند بعضهم، وأن مبيت الرجل عند أخيه قد يكشف له شيئاً من العيوب التي تحتاج إلى علاج.

تعيير أحد الزوجين للآخر بذنوب الجاهلية

تعيير أحد الزوجين للآخر بذنوب الجاهلية ومن الأمور السيئة في العلاقات الزوجية تعيير أحد الزوجين للآخر بذنوب كان يعملها في جاهليته، هذا رجل يقول: مرة من المرات أخطأت -ما عرف أنه أخطأ إلا بعد ذلك- وصارحت زوجتي بأمور كنت أفعلها أيام الطيش، وبعد مدة حصل خلاف بيننا فذهبت إلى بيت أهلها، وإذا أردت أن أعيدها ترفض وتذكرني بما فعلت بالماضي تقول: أنت عملت كذا وأنت فعلت، الآن هذا رجل تاب إلى الله واستقام وربما وثق فيك وأباح لك بشيء المفروض ألا يقوله لكن قاله لك، فهل هذه الثقة بعد هذه التوبة تكون سبباً أو تؤدي إلى أن تعيريه بشيء فعله؟ ونفس الشيء بالعكس يقال للزوج بالنسبة لزوجته.

سرعة الغضب

سرعة الغضب ومن الأمور المنغصة للحياة الزوجية: سرعة الغضب ودائماً تسمع تقول: فلان عصبي وفلانة عصبية وهكذا، ويتسبب على ذلك إشكالات عظيمة، وإذا كان عصبياً وثار فالله المستعان على ثورانه، وإذا غضب لا يكلمها بالأيام حتى تقبل رجله، ويغضب لأتفه الأسباب، وربما إذا تبول الولد أو أخطأ في دروسه انصب الغضب على الزوجة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول للصحابي: (لا تغضب لا تغضب ردد ذلك مراراً) قال: أوصني، فقال له: لا تغضب، قال: أوصني، فقال له: لا تغضب، قال: أوصني، فقال له: لا تغضب. فكانت هذه الوصية البليغة من الرسول صلى الله عليه وسلم بالامتناع عن الغضب عند حصوله، لو حصل غضب بين الزوجين ماذا يفعل الغاضب؟ يتعوذ من الشيطان ويتوضأ، وإذا كان قائماً فليقعد ويذكر الله حتى يزول عنه هذا الحال.

التهديد بالطلاق باستمرار

التهديد بالطلاق باستمرار ومن المشكلات كذلك: التهديد بالطلاق باستمرار، بعض الأزواج دائماً يهدد زوجته بالطلاق، أي خطأ قال: سأطلقك، سأطلقك، سأطلقك، يا أخي! أنت الآن تذهب إلى أعمق شيء، المفروض أن الواحد يهدد زوجته بالطلاق، إذا استعصت الأمور في النهاية حاول وحاول، أما إذا عصتك في كل شيء وإذا قصرت معك تقول سأطلق سأطلق فهذه مصيبة، وأسوأ من ذلك أن يقول إذا غضب: إذا خرجت من البيت فأنت طالق، إذا رفعت السماعة فأنت طالق، إذا كلمت فلاناً فأنت طالق، إذا أكلت أنت طالق، وبعد ذلك أكيد أنه سيقع الطلاق؛ لأن المرأة إذا قيدت بجميع الأشياء في النهاية ستقع في شيء من هذه الأشياء ويحصل الطلاق. وبالمناسبة: الطلاق المعلق على شرط أسوأ، يعني: في بعض الأحيان هو شيء في حسمه لا يمكن علاجه، لأنه إذا قال: إن خرجت من البيت فأنت طالق، فإذا خرجت تطلق سواءً كانت طاهراً حائضاً حاملاً أتاها ما أتاها في جميع الحالات، بخلاف الطلاق السني الذي لا يقع إلا في طهر لم يجامعها فيه، وكذلك الطلاق المعلق بشرط إن قال: إذا خرجت فأنت طالق لا يمكن أن يسحب كلامه، فإذا واحد قال لزوجته: إن خرجت فأنت طالق، ثم ندم وقال: أنا أسامحها وأسحب الكلمة فقال: سامحتك، ولو سامحها فلو خرجت فهي طالق شرعا، كلمة: إن خرجت فأنت طالق، لا ينفع فيها الرجوع ولا المسامحة، انتهت المسألة وخرجت الكلمة فلا حل، فننبه هؤلاء الأزواج الذين يقولون هذا الكلام إلى أن يترووا ويتقوا الله سبحانه وتعالى في عدم الإقدام على مثل هذه الأشياء ويخربون بيوتهم بأيديهم.

الوسوسة وسوء الظن

الوسوسة وسوء الظن ومن الأمور المسببة للمشكلات في العلاقة الزوجية: الوسوسة، وبعض الناس يبتلون بوسوسة قوية تجعلهم يظلمون الناس، وهذا رجل مصاب بالوسوسة فإذا رجع إلى البيت قال لزوجته: كلمت أحداً في الهاتف؟ من كنت تكلمين؟ ومن الذي واعدته؟ انظروا تصل إلى القذف بأنها واعدت رجلاً، وإذا جاء ينام في الليل يقفز فجأة من الفراش ويقول: مع من كنت نائمة في هذا الفراش قبلي؟ وهي بريئة مسكينة، ثم بعد ذلك يقول: أنا هذه المرة سأستر عليك -انظر اخترق وقذفها- وقال: أنا هذه المرة سأستر عليك وأنا متحملك إلى الآن مع أنك أنت كذا وكذا من الأشياء التي هي منها بريئة، فهذه الوسوسة -والعياذ بالله- مرض لو لم ينج الله منه صاحبه يَهلك ويُهلك. ومن المشكلات كذلك: سوء الظن وشك كل من الزوجين في الآخر، وهذا سيتسبب عنه ولا شك هدم الحياة الزوجية، وينبغي أن تكون العلاقة قائمة على حسن الظن، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12]. وهناك فرق بين الشيء عندما يكون له قرائن وعندما لا يكون له قرائن على الإطلاق، ويُساء الظن، فهذا -والعياذ بالله- من سوء النفس أن يصل إلى هذه الدرجة.

معاقبة الزوج لزوجته أمام الناس

معاقبة الزوج لزوجته أمام الناس ومن الأمور في عدم مراعاة الزوجة أن بعض الناس يعاقب زوجته أمام الخادمة، فيضربها ويشتمها أمام الخادمة ويصل به السوء أنه ربما انتصر للخادمة على زوجته، وقف في صف الخادمة، وكيف يكون شعور الخادمة وهي ترى الزوجة مطرودة من غرفة النوم إلى الصالة، والخادمة معززة مكرمة في غرفة وعندها سرير تنام عليه وهذه الزوجة في الأرض أو على قطعة من الأثاث؟ ومن المشكلات كذلك: أن بعض الناس من تسلطهم يرغم زوجته أن تتناقش معه في موضوع يريده، لا بد أن تتناقشي معي ولو كانت لا تحسن النقاش، فهذا رجل تشاجر مع زوجته بسبب نقاش يتعلق في قضية من القضايا السياسية ثم بعد ذلك ضربها في نهاية النقاش، فأين السياسة إذاً في معاملة الزوجة؟ يزعم أنها لا بد أن تكمل النقاش معه، وهذا هو الاستبداد بعينه. ونسينا أن نذكر نقطة تتعلق بالنقطة التي قبل هذه، وهي قضية أن نضرب مثالاً على سوء الظن، نقول: هذه امرأة تضع يدها في جيب زوجها وتتفقد ما عنده من النقود، فإن كانت النقود التي في جيبه قليلة أخذت من نقودها وأضافت إلى نقود زوجها، في يوم من الأيام دخل البيت فوجد يد زوجته في جيبه، الله أكبر! هنا وقعت الواقعة كيف؟ أخذها واتهمها بالسرقة وأنها سبب نقص النقود في الأيام الماضية، مع أن المسكينة هي قصدها الخير، فنقول هنا: عدم التروي والتفكير في الأمور يوقع في هذه المشكلات، وفي المقابل هناك زوجات عندهن حب استطلاع مذموم، فهي تريد أن تعرف ماذا في جيب زوجها وماذا يوجد في أوراقه الخاصة، وهذا خطأ، فنقول للزوجة: ليس من شأنك أن تعرفي كم أموال الزوج، ليس من حقك أن تعرفي هذا، إذا أخبرك فالحمد لله، وإن لم يقل لك؛ فليس من الضرورة أن تعرفي كم عنده من أموال، وكم يوجد في جيبه، وماذا يوجد في أوراقه الخاصة، وأن تقرئي في مفكرة الهاتف، ليس من شأن الزوجة أن تفعل هذا. فلتتق الله الزوجة في حب الاستطلاع الذي يكون قاتلاً في أحيان كثيرة.

كثرة الشكاية

كثرة الشكاية ومن الأمور التي تتعلق بالزوجة من السلبيات: كثرة الشكاية، والرسول عليه الصلاة والسلام وضح أن من أسباب دخول النساء النار: (أنهن يكفرن العشير ويكثرن اللعن -وفي رواية- وتكثرن الشكاية) التأفف والتشكي باستمرار، وبعض الزوجات قد تتأفف وتشتكي من الأشياء التي يحضرها زوجها، ولا يعجبها شيء، وتنتقد نقداً لاذعاً، وتستقل الأشياء وتعتبر أنها قليلة وأنه ما أعطاها، فهذا ناتج من من عدم القناعة، والقناعة كنز، فلتتق الله المرأة في عدم كثرة التشكي من الأشياء التي لا تستوجب الشكاية. وبعض الناس يقصرون في تعليم زوجاتهم، وربما قال عند الناس: عفواً زوجتي أمية أو جاهلة ونحو ذلك، طيب علمها، قال الراوي قاسم بن محمد: (إن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أنها اشترت نمرقة، فلما رآها صلى الله عليه وسلم قام على الباب فلم يدخل، فعرفت في وجهه الكراهية فقلت: يا رسول الله! أتوب إلى الله وإلى رسوله ما أذنبت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بال هذه النمرقة -ما ضرب ولا قاطع ولا هجر في المضجع، أول شيء أنكر المنكر- ما بال هذه النمرقة؟ فقلت: اشتريتها لتقعد عليها وتتوسدها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة، ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم، وقال: إن البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة، هذه للبخاري وفي مسلم: فأخذته فجعلته مرفقين فكان يرتفق بهما في البيت). يعني: شقت الصورة حتى لم تعد صورة بعد ذلك بهذا الشق، فهذا كان تعليمه صلى الله عليه وسلم. ومن تعليمه: عن عائشة رضي الله عنها قالت: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى القمر فقال: يا عائشة! استعيذي بالله من شر هذا، فإن هذا هو الغاسق إذا وقب) رواه الترمذي وهو حديث حسن صحيح، وأخرجه الإمام أحمد وإسناده قوي، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم زوجته (استعيذي بالله من شر هذا فهذا هو الغاسق إذا وقب) يعلمها التفسير ويعلمها التعوذ والدعاء. ومن تكليف ما لا يطاق: أن يطالب الرجل زوجته بزيارة زوجة صاحبه وقد لا ترتاح لها، فبحكم صداقته هو مع ذلك الرجل فلا بد أن يرغم زوجته على زيارة زوجة الآخر، والأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف، والمرأة طبعاً لا بد أنها تحسن إلى زوجة صديق زوجها قدر الإمكان، ولكن على الزوج ألا يكلفها بزيارة أناس لا ترتاح لهم، والتوسط أمر مهم. ومن المشكلات أيضاً أن بعض العلاقات الاجتماعية بين الزوجة وزوجة صديق تتسبب أن تطلع إحداهما الأخرى على أسرار زوجية، أو تُري كل واحدة صورة زوجها للأخرى فتقع فتنة، أو يقول الرجل لصاحبه إن زوجتي مطيعة وفيها وفيها صفات فيقع في السامع شيئاً تجاه زوجته هو، يقول: يا خسارة على أن زوجتي ليس فيها مثل هذه الصفات! فهذا الحسد الذي يثار من قبل بعض الناس -يدرون أو لا يدرون- ينبغي أن يمتنعوا عنه.

عدم تقدير مستوى الزوج المعيشي

عدم تقدير مستوى الزوج المعيشي ومن الأمور التي ينبغي أن تراعيها الزوجة: أنها تنتقل أحياناً من بيت غنى وتدليل وترفيه إلى بيت زوجها الذي قد يكون قليل ذات اليد، قد يكون طالباً أو موظفاً مستوراً، فيجب على الزوجة أن تراعي الفارق، وهذا قدر الله: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً} [الزخرف:32] فإذاً هذه قسمة الله في هذا الرجل. فكون البنت كانت عند أهلها مدللة وأن أباها كان يشتري لها كل يوم (آيسكريم) وأنه وأنه لا يعني أنها الآن إذا انتقلت إلى بيت زوجها ترهقه شططا، وفي المقابل ينبغي على الزوج أن يقدر أن المرأة كانت في بيت نعمة، فكل ما يستطيع أن يأتي به إليها من الأشياء المباحة شرعاً فليوفره لها. ومن الأمور التي تسيء العشرة: أن بعض الرجال يقول لزوجته: يا ليت عندي زوجة شعرها كذا، يا ليت عندي زوجة لونها كذا، وهذا لا شك من المنكر، فإنه بهذه الطريقة يستثير حفيظة زوجته عليه، ويشعرها بأنه غير مقتنع بها ونحو ذلك. ولنتوقف هنا ونأخذ قصة واقعية عن رجل وقع بينه وبين زوجته خصومة وفراق، فسألت هذا الرجل ما هي سلبياتك أنت في نظرك؟ يعني: بعض الناس الآن يقول: أنا صار بيني وبين زوجتي مشكلة وخلافات وهي فعلت كذا وكذا، والمرأة ستقول نفس الشيء عن زوجها فعل كذا وكذا ولا يمكن أن نعيش مع بعض، طيب السؤال للزوج: ما هي سلبياتك في نظرك؟ فسينتقل ذهنه بهذا السؤال من التفكير في عيوبها هي إلى التفكير في عيوبه هو، وعندما يقال لها نفس الكلام: ما هي سلبياتك أنتِ في نظرك؟ فتنتقل من التفكير بعيوبه هو إلى التفكير بعيوبها هي، وهذه أحدى طرق الإصلاح بين الزوجين المتخاصمين. فقد يقول لك: والله -يا أخي- أنا عندي حدة، أنا إنسان عصبي، أنا إنسان غير مستقر، أرد عليها مباشرة، لا أشاورها على الإطلاق، قلت لها: فقدت ثقتي فيك مرة مثلاً، لا أهتم بنظافتي الشخصية وهكذا، فهذا يسبب أن الرجل يفكر بواقعية أكثر، أن المشكلة إن لم تكن كلها مني فقد يكون نصفها مني، فتعود الواقعية إلى الحياة مرة أخرى.

الاعتقادات الفاسدة

الاعتقادات الفاسدة ومن الأشياء التي تسبب المشكلات أيضاً: الاعتقادات الفاسدة، عند بعض العوام اعتقادات فاسدة في قضايا تتعلق بالأشياء الزوجية أو عادات سيئة، فمثلاً: من الاعتقادات الفاسدة: أن بعض الناس يظن أنه إذا كان الزوج منبطحاً ومرت المرأة من فوقه أنها قد قطعت نسله، فيا ويلها إن خطرت من فوقه مرة وهو منبطح على الأرض، هذا هو المنكر الأكبر بزعمهم، لو فعلت ذلك فسيحصل لها من البلاء ما الله به عليم. ومن بعض عادات الناس مثلاً: أن الرجل لا يأكل مع زوجته، ويرى أنه عيب حتى لو كان لوحده وعليها أن تأكل المخلفات بعده وهو ليس بصحيح، وأحياناً يعيش مع أهله وإخوانه وأبيه في بيت واحد ويكون المطبخ مشتركاً، هذا سيسبب مشكلة لأن المرأة لن تطبخ كما تريد، الشيء الذي في البيت لا بد أن تأكل منه، فليحرص الرجل أن يوفر في هذه الحالة إذا استطاع على الأقل ولو وقت أن تدخل زوجته المطبخ لتطبخ فيه ما تريد، فأقول: من بعض العادات أن بعض الناس يرون أن اجتماعهم عزة، وأن ذبيحتهم واحدة وأنه لا يسمح للأولاد بالاستقلال عن الأسرة، ولا يكون له شيء مستقل حتى المطبخ لا بد أن يكون مشتركاً، وهذا يسبب ضيقاً، الاجتماع طيب وأن يكون أولاد الرجل تحت نظره وأحفاده موجودون، نعم. ولكن لا يمنع أن يكون هناك جزء من البيت مستقل، على الأقل المرأة مستقلة فيه مع زوجها تأخذ راحتها في البيت، بدلاً من أن تقول: لا أستطيع أن أطلع إلا بالحجاب، ولا أستطيع أن أتنقل في البيت لأن إخوان زوجي موجودون دائماً في الصالة وفي المجلس وأنا محبوسة دائماً، صحيح أن ضيق يد الرجل أحياناً يكون سبباً في عدم الاستقلال ببيت، لكن ينبغي للمرأة أن تصبر حتى يفتح الله على زوجها، ولكن إذا كان الزوج يستطيع أن يوفر شيئاً في هذا فليفعل.

غموض الزوج

غموض الزوج ومن الأمور التي تسبب النكد في الحياة الزوجية: صمت الزوج المطبق وغموضه، فبعض الأزواج تعيش معه زوجته في غموض تام طيلة الوقت، لا تدري عن أخباره إلا من خارج البيت، الأطفال يسألون: أين أبونا؟ A لا ندري، لو حدث له شيء لا تعرف أين تسأل عنه، فالرجل يعيش في غموض تام، صحيح أن الواحد قد لا يترك خبراً في البيت إلى أين سيذهب، لكن أن يعيش مع زوجته في غموض دائم هذا خطأ. وكثرة خروجه وغيابه عن البيت من الأمور التي تسبب المشكلات، فبعضهم دائماً في عزائم وولائم ويترك أهله في البيت دون طعام، وأحياناً يأخذ زوجته ويضعها عند أهلها إلى ساعة متأخرة من الليل، وينسى حتى يرجع إلى البيت يريد أن ينام فإذا وضع رأسه تذكر: أين المرأة؟ وهو وضعها في بيت أبيها، نقول: عند بيت أبيها تهون، لكن إذا وضعها عند أناس آخرين قال: لا أتأخر عليك، فتأتي الساعة العاشرة والحادية عشرة إلى الساعة الواحدة ليلاً وهو ما أتى والمرأة متضايقة في بيت أولئك الناس، والناس أيضاً يتضايقون لأنهم يريدون أن يناموا وهو غير مكترث. ومن المسألة التي نفعلها نحن كثيراً ونقر بها ونقع فيها: أننا أحياناً نترك أزواجنا وأولادنا في السيارة ونقف نتكلم مع شخص من الأصدقاء مدة طويلة، والأطفال متضايقون في السيارة ونحن نتكلم ونتكلم، وقد يكون الجو حاراً وغير مناسب، فينبغي أن ننتبه إلى مثل هذه المسائل.

كلام أحد الزوجين في أهل الآخر بانتقاد أو ذم

كلام أحد الزوجين في أهل الآخر بانتقاد أو ذم ومن الأشياء التي تسبب أيضاً الضيق من الطرفين: كلام كلٍّ من الزوجين في أهل الآخر على سبيل الانتقاد، فلا شك أن الزوج إذا تكلم في أهل زوجته قال: أنت أهلك كذا وكذا وأمك كذا وأبوك فلان كذا، وماذا سيحدث؟ لا شك أنه سيوغر صدر زوجته عليه، والمرأة بطبيعة الحال ستدافع عن أهلها وهو سيزداد، أو العكس هي تنزل في أهلك تقول: هؤلاء فيهم وفيهم، نقول: هؤلاء أهله ولا زال بينه وبينهم روابط، ووشائج القربة ما انقطعت، فسيدافع عنهم وكل سيتعصب لأهله؛ هو ينتقد أم زوجته وزوجته تنتقد أمه، وهو ينتقد أخاها وهي تنتقد أخاه وهكذا حتى تصبح المسألة في نكد مستمر.

رتابة الحياة

رتابة الحياة ومن الأشياء التي تسبب المشكلات أيضاً: الأشياء التي تقع فيها مشكلات رتابة الحياة وعدم دخول عناصر التشويق أو التغيير، فأحياناً تكون الزيارات أو بعض السفريات المباحة أو الشرعية من الأشياء التي تجدد العلاقة الزوجية، أو ترك الزوجة تذهب لأهلها فترة من الزمن تجدد وتغير الروح في البيت وفي الحياة الزوجية، وينبغي أن نتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الجانب الترويحي، وإليكم هذا الحديث العظيم وأنتم تعرفونه: عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر وهي جارية حديثة السن، فقالت: (لم أحمل اللحم ولم أبدن، فقال لأصحابه: تقدموا فتقدموا، ثم قال: تعالي أسابقك، قالت: فسابقته فسبقته على رجلي، فلما كان بعد -وفي رواية- فسكت عني حتى إذا حملت اللحم؛ مضت سنوات وبدنت ونسيت ما مضى خرجت معه في سفر مرة فقال لأصحابه: تقدموا فتقدموا، ثم قال: تعالي أسابقك، ونسيت الذي كان وقد حملت اللحم فقلت: كيف أسابقك يا رسول الله! وأنا على هذه الحال؟ فقال: لتفعلن، فسابقته فسبقني فجعل يضحك وقال: هذه بتلك السبقة) صلى الله عليه وسلم. والله إننا إذا تأملنا في حاله عليه الصلاة والسلام مع زوجته لندهش فعلاً من حال هذا النبي الكريم في مشاغله الكثيرة، ثم بعد ذلك يراعي حاجة الزوجة في الترفيه، ويفعل هذا الأمر الذي بعضنا الآن لو ذهب إلى منطقة بر لا يرى أحداً أبداً يقول: لا. كيف أفعل هذه، يا أخي! رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله فهل أنت أفضل أم رسول الله؟ مكان الفتنة لا يجوز -أصلاً- أن تذهب بزوجتك إليه فضلاً عن أن تسابقها فيه أو تضاحكها فيه، وهذا صلى الله عليه وسلم أيضاً من ملاطفته لزوجته تقول عائشة: (كنت أشرب وأنا حائض -أي: من إناء النبي- فيضع فاه على موضع فيَّ فيشرب وأتعرق العرقة من اللحم آكل وأنا حائض، ثم أناوله النبي فيضع فاه على موضع فيَّ) رواه مسلم في صحيحه. بعض الناس يقول: هذه حائض نجسة لا أحد يأكل معها. وهذه عائشة تقول: (كان أناس من الحبشة يلعبون بحرابهم في المسجد، فسترني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أنظر إليهم، سترها بجسده وقال: تريدين أن تنظري؟ قلت: نعم. فما زلت أنظر حتى كنت أنا أنصرف، حتى شبعت بل وقالت: ما بي نظر ولكن ليرى نساءه قدري عنده). قالت عائشة في الحديث الذي رواه البخاري: [فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن] تعني: المرأة تحتاج إلى نوع من الترفيه. وأظن أننا سنتوقف هنا ولم يكتمل الموضوع بعد من أجل الصلاة وبعد الصلاة إن شاء الله بقي موضوع ربما عشر دقائق سنكمله، وإذا توفر وقت سنجيب عن بعض الأسئلة والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد. ونكمل أيها الإخوة! في آخر ما يتعلق بأسباب المشكلات الزوجية ومن ذلك ما يقع بين الزوج وأهل الزوجة، وما يقع بين الزوجة وأهل الزوج.

تحميل الزوجة أخطاء أهلها

تحميل الزوجة أخطاء أهلها فمما يكون أحياناً سبباً للمشكلات الزوجية: أن تقع مشكلة بين الزوج وأهل زوجته، نتيجة علاقات تجارية فاشلة -مثلاً- وحصلت قطيعة بعدها ومخاصمة بين الزوج وأهل زوجته، فينعكس ذلك على العلاقة بينه وبينها وهذا خطأ، فإن الإنسان الملتزم بحدود الله لا يخاصم على الماديات ويوالي ويعادي عليها، ويطالب حقه بالطريقة المشروعة ولا يجعل هذا الأمر ينتقل للعلاقة بينه وبين زوجته.

أهل الزوجة قد يكونون سببا في المشاكل الزوجية

أهل الزوجة قد يكونون سبباً في المشاكل الزوجية ومن الأمور كذلك موقف أهل الزوجة الخاطئ، فإن بعض النساء إذا ذهبت إلى بيت أهلها نتيجة خلاف، فإن من المفروض أن يكون الأب أو الأم أو الإخوة حكماء في استقبال أختهم وبنتهم، فيهدئون الأمور ويطلبون العودة إلى زوجها والصفح عما بدر منه وهكذا، لا أن يزيدوا الأمور تعقيداً فيقولون: لا ترجعي إليه، وهذا لا يستاهل وكذا وكذا إلى آخره، وقد يكون الخلاف من الأشياء العادية التي تحصل بين الزوجين في العادة. وأعرف أباً من حكمته أنه إذا جاءته ابنته إلى البيت سأل عن السبب، فإذا عرف بأن المسألة من الأخطاء المحتملة العادية قال: لا تدخلي بيتي أبداً ترجعين إلى بيت زوجك في الحال، أما أن يكون موقفه فيه من السلبية كما حصل مع بعض الآباء مرة، فإن زوجاً قد تأخر خارج البيت ولم يذهب إلى البيت إلا الساعة الحادية عشرة والنصف ليلاً، فلما طرق الباب رفضت الزوجة أن تفتح له الباب، لماذا؟ لأنه تأخر، لماذا تأتي الساعة الحادية عشرة والنصف ارجع، -سبحان الله! هذا بيته لكن هذا من السفه الذي يكون أحيانا عند بعض الزوجات- وهو يحاول استرضاءها وتهدئة الأمور ومع ذلك ترفع جميع المناشدات، فذهب المسكين إلى أهلها في هذه الساعة المتأخرة وطرق الباب على أبيها، وقال له: الموضوع كذا وكذا فذهب الأب معه إلى البيت فطرق الباب فرفضت البنت أن تفتح الباب وقالت: السبب أنه رجع متأخراً ولماذا يرجع متأخراً؟ فهنا التفت الأب إلى الزوج وقال: نعم. معها حق، لماذا ترجع متأخراً؟ فطبعاً في هذه الحالة يكون الموقف سلبياً لا يؤدي أبداً إلى انفراج في الأوضاع. وأحياناً بعض أهل الزوجة يعبئون الزوجة تعبئة نفسية ضد زوجها، كأن يقول -مثلاً- أخوها: أنت مثل الدجاجة تسمعي كل كلام زوجك حرفياً، لا تسمعي كلامه وخالفيه، وإذا عمل لك شيئاً فنحن بجانبك، فهذا من جنس هاروت وماروت، الذين يريدون أن يفرقوا بين الرجل وزوجته، وبلغ من السوء بامرأة تريد أن تفصل بين أخيها وزوجته أن عرفته بمومسة ليقع في حبالها وتفسد علاقته بزوجته. وهنا قد يسأل البعض سؤالاً فيقول: هل يجوز لي شرعاً أن أمنع زوجتي من الذهاب إلى أهلها إذا كان يحصل من هذه المشكلات، وقد أجاب عن هذا الشيخ محمد بن صالح العثيمين حفظه الله فقال: الأصل أنه لا يجوز للرجل أن يمنع زوجته من أهلها وصلة رحمها، ولكن إذا لاحظ الزوج أن زوجته كلما رجعت إلى أهلها رجعت منقلبة عليه فله أن يمنعها عند ذلك، الآن المفسدة واضحة. وبعض الناس الزوجة أحياناً قد لا يكون عندهم ذوق في التعامل، فيأتون إلى بيت ابنتهم ويأخذون من البيت متاعاً وأكلاً ونقوداً وملابس تضايق الزوج في النهاية؛ فلأنهم يأخذون أغراض بيته ثم يوقعون ابنتهم في مشاكل مع زوجها ويقولون: لا نرضى عنك حتى تعطينا كل ما نطلب، وهي تحت ضغط أمها أو نحو ذلك تعطيها فتعطيهم، فالمرأة تكرم أهلها، نعم. ولكن هي راعية في بيت زوجها ومسئولة عن ماله وعن ممتلكاته، فلا يجوز أن تفرط فيها. وبعض الأحيان يكون من أسباب المشكلات: أن الزوج يهتم بضيوفه ولا يهتم بضيوف زوجته، ومن الأسباب: أن بعض الناس يحتسبون الأجر في إكرام ضيوفهم الرجال، ولا يحتسبون الأجر في إكرام ضيوف نسائهم، مع أن الأمر ربما في إكرام ضيوف زوجتك يكون أقرب إلى الإخلاص من إكرام ضيوفك؛ لأنك لا تظهر في الصورة، فكما أنك تريد إكرام ضيوفك فأكرم ضيوف زوجتك. ومن المشاكل المشهورة: المشكلات بين الزوج وأم زوجته، ودائماً تقع هذه القضايا كثيراً إلا من عصم الله سبحانه وتعالى، فهذه تشتكي من زوج ابنتها، وتغيرت على ابنتها، وتكلم الناس الخارجين عن ابنتها وسيلة للضغط على ابنتها لتخاصم زوجها، وهي تراعي أمها ولا فائدة، والزوج يراعي أم زوجته ولا فائدة، وما حرم زوجته من أمها رغم المشكلات ولا فائدة، ويقبل رأس أم زوجته ولا فائدة، السبب: قد تكون أم الزوجة ليست راضية عن هذا الزوج في مبدأ الأمر، ولكن الأب زوّجه بالبنت وبقي السخط مستمراً إلى آخر الحياة، وهذا حرام لا يجوز. وبعض الزوجات قد يخطئن في تدخيل أمها أو أبيها في كل شيء، فترجع إلى أمها في الأشياء المصيرية والقرارات وتجعل أمها وصية عليها وعلى حياتها وتسرب أسرار البيت ونحو ذلك، فهذا يسبب للزوج تضايقاً كثيراً، وبعض الأزواج سيئو التعامل مع أمهات زوجاتهم، فيتهم عمته بأنها استغلالية وأن الواحد إذا أرخى لها الحبل ركبته، وأن أهلك أيتها المرأة غير ملتزمين، ويقع فيهم في أشياء من الغيبة كثيرا. وفي المقابل هناك مشكلات بين الزوجة وأهل الزوج، فمن المشكلات -مثلاً- أن الإنسان عندما سمى ولده باسم أبيه تبرأت الزوجة من الاهتمام بالولد، كيف تسمي ابني على اسم أبيك أنا لا أقبل، والآن هو يطعمه ويفكه ويغسله ويلبسه ثم جاء الولد الثاني فاهتمت بالولد الثاني، وهذا من الفجور من هذه المرأة. وبعض النساء قد تكون سيئة الخلق مع أهل زوجها، فإذا جاءوا إلى البيت تتركهم وتذهب، أو تطالب بزيارتهم، فإذا قيل لها: هيا لزيارتهم رفضت سبحان الله! أنت التي اقترحت الذهاب، أو تحرض زوجة أخي زوجها وتقول: ما جاءنا من عندكم إلا خراب البيوت ونحو ذلك، وأحياناً تقول الزوجة: أم زوجي تهينني وتريدني أن أخدمها فقد تكون محقة قد تكون أم الزوج المخطئة، وأغسل الملابس وأكنس البيت وأطبخ لضيوفها هي، وأنا عندي ثلاثة أولاد والرابع في بطني وأنا ضعيفة، والمشكلة أن الزوج يقول: أمي فوق كل شيء، وهذا صحيح ولكن بحدود، فلا يعني هذا أن ترهق أمك زوجتك؛ لأن أمك فوق كل شيء، وليست الزوجة شرعاً مكلفة بخدمة أمك، فإذا كانت أم الزوج سيئة تطرد البنت وتلعنها أو تقول: أنت بنت شارع، أنت بنت زنا ونحو ذلك , وهذا شيء موجود في المجتمع ولا حول ولا قوة إلا بالله! وأحياناً قد يكون الاسم سبب مشكلة كما ذكرنا. وتأمل هذه المشكلة: ولد أم الزوج تريد أن تسميه -مثلاً- زيداً، وأم الولد تريد أن تسميه محمداً، والآن الولد له اسمان في البيت، إذا جاءت جدته التي هي أم أبيه قالت: يا فلان! تعال، وأمه تقول: يا فلان! تعال، له اسمان في البيت، وأحياناً يكون النزاع بين الزوجة وأهل زوجها بسبب مشكلات مادية، كبيت ونحوه، وهذه أم زوجة سكنت في بيت زوجها مع أن زوجها له بيتان، فقالت الزوجة: لا أسكن معك حتى تطلع أمك من البيت الثاني، وتركت وهجرت وسافرت، وبقي الأولاد في بلد بعيد عند جدتهم والزوج يعمل في بلد آخر والأم في بلد ثالثة، ويتصل الأب على أولاده يقول: ماذا أحضر لكم معي إذا قدمت؟ يقولون: هات لنا معك دواء القمل لا أحد يعتني، لا الأب موجود ولا الأم موجودة.

الجيران السيئون والمشاكل الزوجية

الجيران السيئون والمشاكل الزوجية والجارات السيئات يكن في بعض الأحيان أيضاً من أسباب المشكلات، فتكون زوجة مطيعة لزوجها في أمان الله مع زوجها تتعرف على جارة سيئة تدخل بيتها فتبدأ المشاكل، تقول هذه الجارة السيئة: أنت ضيعت عمرك، دعيه يشتغل في البنت، دعيه يذوق المعاناة، وإذا سكتت البنت في الليل اقرصيها حتى تستيقظ وتوقظ الأب حتى يسكتها وهكذا، هذا طبعاً من اللؤم والخبث، وتصل المشاكل إلى الخارج أحياناً، هذا أخذ راتب زوجته ما دفع المهر، ردت عليه فأخذت من جيبه، اكتشفها فبلغ الشرطة، اتهمها بالسرقة، وكَّلت محامياً وهكذا. وهذا غيض من فيض، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يجنبنا وإياكم شرور أنفسنا، وأن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته. اللهم اجعلنا من السعداء في الدنيا والآخرة، وأصلح ذرارينا وأهلينا يا رب العالمين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد.

وصايا للأطباء والطبيبات

وصايا للأطباء والطبيبات الطب مهنة إنسانية عظيمة تكتمل صورتها عندما ينظمها الإسلام ويحصنها من المفاسد والعيوب، وهنا وصايا متنوعة لأهل الطب تعالج كثيراً من القضايا المتعلقة بالطب أو الأطباء أنفسهم وكيفية التعامل مع المرضى على نور من الله وبصيرة.

تقوى الطبيب لله سبحانه وتعالى

تقوى الطبيب لله سبحانه وتعالى الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: أيها الإخوة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. هذه فرصة طيبة أن نلتقي في هذا المكان وفي هذا المستشفى لنتحدث عن بعض المسائل التي تهم الطبيب المسلم، هذه الثغرة في المجتمع التي سدها تتطلب إيماناً بالله واحتساباً للأجر، وعلماً شرعياً ودعوةً إلى الله سبحانه وتعالى، وتذكراً وتذكيراً، فالطبيب المسلم صاحب رسالة، ولما ميزناه بقولنا: المسلم؛ علمنا بأنه صاحب رسالة شرعية إسلامية قبل أن تكون مهمةً طبية أو علاجية ونحو ذلك، وقد سبق أن تحدثنا في محاضرة سابقة بعنوان (رسالة إلى الطبيب المسلم) عن بعض الأمور المتعلقة بالطب والأطباء، ونستكمل إن شاء الله الكلام عن بعض هذه الأمور التي تهم الأطباء والطبيبات، وقد ذكرنا في المحاضرة الماضية أموراً منها: أن الطبيب ينبغي أن يتقي الله سبحانه وتعالى في عمله، وتقوى الله عز وجل هي الضمان لعدم انحراف الطبيب عن مهمته، والله عز وجل قد كرر الأمر بالتقوى في آيات كثيرة وهي وصية الله للأولين والآخرين: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131] وتقوى الله سبحانه وتعالى هي التي تدفع الطبيب إلى عدم ممارسة الطب وهو لا يتقنه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من تطبب ولم يعلم منه طب؛ فهو ضامن) وتقوى الله سبحانه وتعالى هي التي تجعل الطبيب يتقن عمله، ولا يقدم وصفةً أو علاجاً إلا وهو متأكدٌ منها، وتقواه تمنعه من أن يجعل نفسه متاجراً مع شركات الأدوية لتجريب الأدوية في مرضى دول العالم الثالث كما يقولون. وتقوى الله سبحانه وتعالى هي التي تجعل الطبيب المسلم لا ينظر إلى المرأة الأجنبية أكثر من نظر الفجأة، إلا إذا دعت الضرورة إلى ذلك في حالات الكشف الطبي والعلاج؛ إذا لم يتيسر من يقوم بذلك من النساء، والله عز وجل قد قال: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30]. وقد ذكر العلماء ترتيباً معيناً للمرأة المسلمة إذا أرادت أن تتطبب، فقالوا: تقدم الطبيبة المسلمة ثم الطبيبة الكتابية فالكافرة ثم الطبيب المسلم ثم الطبيب الكافر، والطبيب المسلم لا يكشف إلا ما تدعو الحاجة إلى كشفه في عورات النساء والرجال، وإذا كشف على امرأة للضرورة فبحضرة محرمها من الزوج أو غيره، وإذا احتاج ولم يوجد؛ فلا يجوز أن يكشف بخلوة إطلاقاً، بل لا يجوز أن يخلو بها حتى لو كان بغير كشف. تقوى الله سبحانه وتعالى هي التي تجعل الطبيب المسلم يحس بالحرج، وهو يأمر بالكشف أو يغض بصره، وليس يتقدم دون حياء ولا خجل طالباً من المريض الكشف وبسرعة، والطبيب المسلم عند فحص مواضع الضرورة من قبل المرأة لمريض من الرجال، أو الرجل لمريضة من النساء؛ فإن أمكن الفحص بالوصف فقط؛ فلا يجوز النظر ولا اللمس، وإذا كان يكفي النظر فلا يجوز اللمس، وإذا كان لابد من اللمس؛ فمن وراء حائل، ولو فرضنا أنه لابد أن يكشف عن الموضع من غير حائل، فإنه لابد أن يقدر الضرورة بقدرها، فلا يتعدى المكان ولا الوقت اللازمين للفحص، ولا يدعها تكشف أمامه حتى تصل إلى مكان المرض، بل تكشف من وراء الستارة حتى تصبح جاهزة للكشف على موضع الضرورة، وهناك أمورٌ لا يصح مطلقاً -يتنافى مع التقوى تماماً- كشفها، مثلما يحدث من التساهل في فحص المرأة لحالة فتاق عند الرجل بموضع العورة المغلظة مثلاً. وهناك كثيرٌ من الحالات التي لا يعتبر الإسلام مسئولاً نهائياً أبداً عن حدوثها؛ لأنها وجدت في حال انحراف، فلابد من تصحيح الأصل، وليس أن نقول: وقعنا في ورطة ونحن في ضرورة، نقول: من قواعد الضرورة أنه يجب السعي إلى إزالتها، وليس أن نبقى باستمرار في حالة ضرورة، وفحص المرأة المتدربة للمرأة المريضة أهون من فحص المرأة المتدربة لرجل مريض، ولذلك نقول ونوصي دائماً: إنه في حالة التدريس؛ يجب السعي باستمرار إلى حصول الفصل التام ما أمكن ذلك بين الرجال والنساء، وينبغي السعي لإيجاد التخصص في علاج النساء من قبل النساء وعلاج الرجال من قبل الرجال، وحالات الضرورة التي تستدعي تدخل الاستشاري مثلاً أو غيره لها أحكامها. ومن الأمور التي تجعل الطبيب المسلم لا يتعدى الضرورة، فيصحب بالقفاز مثلاً إذا لم توجد الحاجة للفحص باليد مباشرةً لاشك أن هذا منبعه تقوى الله سبحانه وتعالى، ولذلك فإننا نشعر بالعار عندما نسمع عن امرأة تُلزم أو طبيب رجل يُلزم طالبات الطب بالكشف على رجل، في أمور يستطيع أن يفعلها رجل آخر، كأخذ درجة الحرارة ونبض القلب ونحو ذلك، مع أن بإمكان المرأة أن تتدرب على امرأة وليس على رجل أجنبي. وهنا يطالعنا بعض الناس في قضية الامتحانات وهل تعتبر ضرورة أم لا؟ فنقول: إن بعض العلماء يرى أنها لا تعتبر ضرورة مطلقاً، وأن المرأة إذا لم تجد امرأة في المستقبل تتعالج عندها، فإنها تتعالج عند رجل للضرورة، فلا الرجل يأثم ولا المرأة تأثم، وكذلك إذا قلنا: إن المرأة تكشف على المرأة وتتدرب عليها؛ سداً للحاجة في المستقبل للرجال؛ فإن هذا أمرٌ وجيه وحسن نستبدل به حالات كثيرة من كشف الرجال على النساء، ولا أقول جميع الحالات؛ لأن الواقع يثبت أن هناك حالات تستدعي تدخل الرجل ونقول: هذه الضرورة والضرورة تقدر بقدرها، على أن بعض أهل العلم يرى أنه في حال الامتحانات إذا اضطرت المرأة أن تكشف على رجل؛ فإنها تكشف بالنظر دون اللمس، وأضافوا قيداً آخر وهو أمن ثوران الشهوة من الفاحص والمفحوص، وهذه مسألة تدرس بالممارسة. ولكننا نعيد الكرة لنقول: لماذا تجعل المرأة المسلمة في حالة حرج عندما تجبر على الكشف على الرجال؟ وما هي الضرورة لاختلاط الطبيبات بالأطباء؟ أو قل طالبات الطب بالطلاب في التدريب العملي إذا أمكن أن يجعل لكل منهم قسم مستقل، والواقع يشهد بأن هناك مفاسد وعلاقات محرمة نشأت بين الطالبات والطلاب، وضبطت أوضاع محرمة بسبب الاختلاط، بل إن بعض طالبات الطب ممن لا يخفن الله تنشأ لهن علاقة خاصة مع بعض الدكاترة مع كثرة المحادثة التي تكون تحت ستار أخذ المعلومات، واختلاط بعض الدارسات مع الدكاترة في أوقات خارج التدريب العملي بزعمها الاستزادة من العلم ونحو ذلك، أو لكي يعرف أنها مهتمة، وأنها تسأل شفوياً بدل أن تتصل بالهاتف، كل هذه المبررات التي تؤدي إلى مفاسد شرعية واضحة، ولو اضطرت الأحوال إلى أن يكون الذكور والإناث في مكان واحد، فلا أقل من أن تكون النساء خلف الرجال مع غاية النقاب والحشمة، وأن يراعي هذا الطبيب أو المتخصص الذي يدرس وجود المرأة في الفصل، فلا يأتي بحالات فيها صور انتصاب ونحوها مما يخدش الحياء ويعرضه على مسامع ومرأى من النساء الموجودات في الفصول الدراسية، وبعض الأحوال التي حدثت تثبت أن الفصل بين النساء والرجال ممكن، لكن الذي يحول بين هذا وحدوثه وجود رجل لا يخاف الله، كمسئول عن الصالات من النصارى ونحوهم من الذين لا يهمهم إحداث الفصل بين النساء والرجال. وتقوى الله سبحانه وتعالى هي التي تجعل الطبيب المسلم لا يخلو بالمرأة أبداً، ولا يقال إن وجود عين سحرية من الخارج يزيل الخلوة، أو أن الباب المفتوح يزيل الخلوة، وهو يجلس في زاوية الغرفة والممر خالٍ والغرفة نائية، بل ينبغي إذا حدثت الحاجة لهذا ولم يوجد شخص ثالث في الغرفة؛ أن يكون الوضع أمام المارين، وإذا كانت الغرفة زجاجية؛ فيكون الزجاج من الأعلى إلى الأسفل بحيث يكون الأمر لا يخفى مطلقاً، ولا يقال أيضاً بالاكتفاء بالكاميرات الإلكترونية للمراقبة، فإنها قد تتعطل لأي سبب، أو لا يكون المراقب حاضراً لأي سبب، أو يكون فاسقاً يريد نشر الفاحشة في الذين آمنوا. وتقوى الله سبحانه وتعالى هي التي تجعل الطبيب المسلم لا يخلو بالمرأة الأجنبية ولو كان لدقائق أو دقيقة أو ثوانٍ في مصعد المستشفى، وهناك حالات تحدث أحياناً، أنه يدخل مجموعة في مقعد ثم يخرج مجموعة في أحد الطوابق فلا يبقى إلا رجل وامرأة في مقعد، وهنا تقوى الله سبحانه وتعالى هي التي تدفع الرجل للخروج من المصعد؛ حتى لا يخلو بالمرأة في هذا الوقت الباقي، ثم يواصل الصعود بعد ذلك. وبعض الناس يظن أن مس يد المرأة الأجنبية من وراء حائل جائز بإطلاق، وهذا لا يجوز بل الأصل أنه حرام، ولا يجوز إلا للضرورة، وتقوى الله سبحانه وتعالى هي التي تجعل الطالبة المسلمة إذا كانت دراستها تفرض عليها ترك الحجاب أن تقدم الدين والحجاب ولاشك في ذلك.

الإخلاص لله سبحانه وتعالى

الإخلاص لله سبحانه وتعالى والطبيب المسلم والطبيبة المسلمة من صفاتهما أيضاً: الإخلاص لله سبحانه وتعالى، والإخلاص لله هو الذي يدفع الطبيب والطبيبة لاحتساب الأجر في العلاج قبل أخذ المال، احتساب الأجر في زيارة المريض لأن فيها أجراً عظيماً، الأجر في زيارة المريض قبل أن يكون الوضع معالجة وواجباً يومياً زيارة مقررة وتفقداًَ روتينياً ونحو ذلك، فالطبيب الذي يخلص لله سبحانه وتعالى يطلب الأجر والاطمئنان على أخيه المسلم، ولذلك فهو يقف ويسأل عن الحال ويلاطف ويرفع المعنويات، ويحتسب الأجر الذي ورد في الحديث الصحيح كما جاء عن سويد عن أبيه قال: (أخذ علي بيدي فقال: انطلق بنا إلى الحسن بن علي نعوده، فوجدنا عنده أبا موسى الأشعري، فقال علي لـ أبي موسى: عائداً جئت أم زائراً؟ فقال: عائداً، فقال علي: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من مسلمٍ يعود مسلماً غدوةً إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، ولا يعوده مساءً إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح، وكان له خريف في الجنة). الطبيب المسلم من إخلاصه أنه يبقى خارج الدوام ويتبرع بوقته ولو بغير مقابل ولا راتب وخصوصاً في الحالات الطارئة، وكذلك في أوقات الكروب والأزمات، ويتقدم ليقدم ما عنده وينفع المسلمين. والطبيبة المسلمة من إخلاصها أنها تحتسب الأجر في المجيء خارج الدوام؛ لتوليد النساء عندما لا يكون هناك إلا طبيب رجل، فتحتسب الأجر وتبتغي وجه الله؛ لإنقاذ أختها المسلمة من الحرج، باطلاع رجل أجنبي على عورتها المغلظة.

حاجة الطبيب للفقه والعلم

حاجة الطبيب للفقه والعلم كذلك فإنه لابد للطبيب المسلم من الفقه والعلم (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) الطبيب المسلم يدرس من أحكام الفقه ما يعينه على أداء رسالته الطبية والعلاجية ولا ينسى عبادته مع الله سبحانه وتعالى، وبعضهم قد يقدم المهنة على العبادة، فيضيع صلوات بدون مبرر شرعي.

تعلم أحكام الصلاة والوضوء والنجاسة

تعلم أحكام الصلاة والوضوء والنجاسة الطبيب المسلم من فقهه أن يعلم أحكام الصلاة وأحكام النجاسات، والوضوء للمس عورة المريض، ويحتاط لنجاسة العينات، وفي حالة الجمع بين الصلاتين لا يفعل ذلك إلا إذا كان مضطراً من حيث توقيت العملية، فإذا كان يمكن أن يوقتها بحيث يصلي كل صلاة في وقتها فلا يجوز أن يجعلها في وقت يضطر فيه لجمع الصلاتين، وإذا كان يمكن لطبيب آخر أن يدخل فيساعده ويسانده ريثما يؤدي الصلاة ثم يرجع لإتمام ما بيده؛ فإنه لا يجوز له أن يجمع الصلاتين وهكذا.

عدم إكراه المريض على الطعام والشراب

عدم إكراه المريض على الطعام والشراب الطبيب المسلم من فقهه أنه لا يكره المريض على الطعام والشراب؛ لأنه يعلم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تكرهوا مرضاكم على الطعام والشراب؛ فإن الله يطعمهم ويسقيهم) وهذا مجرب في الواقع العملي، فإن بعض المرضى يتركون من الطعام ما لو امتنع عنه وهو صحيح لهلك، الله هو الذي يتولى حفظ قواهم ويصبرهم على الجوع والعطش، وهذا لا يعني عدم وضع الأشياء اللازمة للمريض مثل المغذي ونحو ذلك، بل هذا من الأمور المهمة التي يفعلها الطبيب بحسب الحاجة والمصلحة.

تلقين المحتضر الشهادة

تلقين المحتضر الشهادة ومن فقهه أنه يلقن المحتضر الشهادة إذا عرف أنه يحتضر، ويأمره بها قائلاً: قل لا إله إلا الله، فقد عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأنصار، فقال: (يا خال! قل لا إله إلا الله) فإن لم يتأكد الطبيب أن المريض في حالة احتضار، وخشي إن لقنه الشهادة أو أمره بها أن يصاب بإحباط نفسي، أو تزداد حالته سوءاً أو يضيق صدره ونحو ذلك؛ فإنه يردد على مسمعه ذكر الله وسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله، ويأمر المريض بعموم الذكر إذا كان تخصيص أمره بالشهادة يسبب له أضراراً، أو يقول له: اذكر الله، فيقول المريض تلقائياً: لا إله إلا الله. والطبيب من فقهه أنه إذا حدثت الوفاة؛ سعى أولاً: إلى إغماض عيني الميت؛ لأن الروح إذا قبض تبعه البصر. وثانياً: يغطيه بثوب يستر جميع بدنه. وثالثاً: يعجل بتجهيزه ودعوة أوليائه لأخذه، وعدم تأخيره في الثلاجة، وعدم إبقائه على السرير بين المرضى؛ فذلك يؤذيهم، وكذلك أن يخبر بما رأى عليه من علامات حسن الخاتمة كأن مات وهو يذكر الله، أو مات في عمل صالح، أو مات برشح الجبين وتهلل الوجه ونحو ذلك؛ لأن من السنة الثناء على الميت الصالح والشهادة له بالخير.

دراسة الطب النبوي

دراسة الطب النبوي والطبيب المسلم من فقهه وعلمه الشرعي أنه يدرس الطب النبوي؛ لأنه مسلم، ونبيه صلى الله عليه وسلم قد أخبر بأشياء تتعلق بالطب، فلا أقل من أن يلم بأشياء منها، فمن ذلك مثلاً: أنه يعلم الارتباط بين الأسباب والتوكل على الله، وأن الأخذ بالأسباب الشرعية لا ينافي التوكل على الله، وهو لا يعتمد على الأسباب فيقع في شرك الأسباب، ولا يترك الأسباب الشرعية؛ فيقع في التواكل والتفريط، وهو يعلم القواعد في الحمية الشرعية، وتبريد الحمى بالماء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا حم أحدكم، فليرش عليه الماء البارد ثلاث ليالٍ من السحر) ويعلم علاج العسل لاستطراق البطن.

عدم نفي ما وصفه النبي عليه الصلاة والسلام من أمراض

عدم نفي ما وصفه النبي عليه الصلاة والسلام من أمراض والطبيب المسلم من فقهه وعلمه أنه لا ينفي بجهلٍ أثر ما وصفه النبي عليه الصلاة والسلام من أمراض ولو كانت بعض النفوس تتقزز منه، مثل وصف بول الإبل لمرض الاستسقاء، فإنه قد ثبت في صحيح مسلم أنه عليه الصلاة والسلام قد وصف بول الإبل في علاج مرض الاستسقاء كما جاء في رواية مسلم: (فلما أصاب القوم عظمت بطونهم وارتهشت أعضاؤهم) وهذا من أعراض مرض الاستسقاء. وكذلك لا ينفي الطبيب المسلم بجهل أثر الحجامة كما كان النبي عليه الصلاة والسلام يحتجم في الأخدعين والكاهل، وأوصى بالحجامة يوم السابع عشر والتاسع عشر والحادي والعشرين، وإذا كانت يوم الإثنين والخميس فهو أحسن كما جاءت الوصية بذلك في الأحاديث الحسنة والصحيحة، وتكون على الريق وليس على الشبع كما جاءت الوصية بذلك في الأحاديث الصحيحة. والطبيب المسلم يعلم أيضاً أنه يوجد في الطب النبوي علاج لمرض عرق النسا وهو ألية شاة أعرابية تذاب ثم تجزأ ثلاثة أجزاء، ثم يشرب على الريق في كل يوم جزء.

عدم إنكار أثر الرقية الشرعية في الشفاء

عدم إنكار أثر الرقية الشرعية في الشفاء والطبيب المسلم لا ينكر أثر الرقية الشرعية في الشفاء من الأمراض الجسدية والنفسية، ولا ينفي صرع الجن الإنسي، وأثر القرآن في شفاء ذلك، ويعلم أيضاً أهمية العلاجات الدينية الشرعية في الشفاء من الأمراض النفسية كالوسوسة وغير ذلك، وأن من الأذكار الشرعية ما يعالج كثيراً من الأمراض النفسية، ومع الأسف أنه يوجد في كتب الأطباء الكفرة شيء يقال له: (باي بلفافي) ولا يوجد ما يقابل ذلك في الكتب فيما يتعلق بالعلاج بالقرآن والأذكار الشرعية، وكثيرٌ من الأمراض النفسية لها علاقة مباشرة بقضية الإيمان بالقضاء والقدر، بحيث لو أنها شرحت من قبل الطبيب المسلم شرحاً جيداً لتركت آثاراً لا يستهان بها في نفس المريض النفسي، ذلك لأن كثيراً من الأمراض النفسية سببها في الحقيقة المصائب، فبعض الناس نفوسهم ضعيفة لا تقوى أمام المصائب، فإذا حصلت له مصيبة؛ أصيب بالانهيار والإحباط، أو أصابته حالة الاكتئاب والحزن ونحو ذلك من الأمراض النفسية المعروفة لدى الأطباء النفسانيين، فنقول: الطبيب المسلم يعتني بذلك وعلمه وفقهه يقودانه إلى استخدام هذه الأشياء الواردة في الكتاب والسنة واستخدام هذه الأشياء في العلاج.

فقه جراحات التجميل

فقه جراحات التجميل وكذلك فإن من الأمور الشرعية المتعلقة بقضايا العلاج الفقه في قضية جراحات التجميل ما يجوز منها وما لا يجوز، فإن الشيطان من طرقه أنه سيأمرهم ليغيروا خلق الله: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء:119] وتغيير خلق الله من الأشياء المنتشرة في عالم جراحات التجميل. من فقه الطبيب المسلم أنه يفرق بين إزالة عيب حدث لإرجاع ما كان إلى ما كان عليه، مثل جراحات الحروق، ويفرق الطبيب المسلم في عمليات جراحة التجميل بين إزالة الضرر كالإصبع الزائد الذي يمنع الشخص من الكتابة والسلام والتصرف، وبين عمليات أخرى لا يقصد بها إلا التجميل مثل تصغير الثدي والأنف وليس فيها أي مصلحة بدنية. الطبيب المسلم يفرق بين حالات وشر الأسنان وبردها بالمبرد وتفليجها وتفليقها وهو المنهي عنه لما لعن النبي عليه الصلاة والسلام الواشرات والمستوشرات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله، وبين عمليات تقويم الأسنان المباحة التي لا حرج فيها، وهو يفرق بين تفليج الأسنان وبين إزالة سن من الأسنان يسبب ضرراً للشخص.

قواعد شرعية مهمة

قواعد شرعية مهمة وكذلك فإن من القواعد الشرعية أن الطبيب يسعى لإزالة المرض وهذا لاشك أنه بدهي، ومن فقه الطبيب أن يعلم أن الجسد فيه حق لله وحق للعبد، وأنه لا يجوز لأحد أن يتصرف في حق غيره إلا بإذنه، وأنه إذا اجتمع شيء فيه حق لله وحق للإنسان؛ فلا يسقط حق الله بمجرد إسقاط الإنسان لحقه. ومن فقه الطبيب أن يعلم أنه إن أمكن تحصيل المصالح كلها فالحمد لله، فإن تعذر حصل المصلحة الأعلى، وأنه يحصل أعلى المصلحتين إذا تعارضتا، فإذا تعذرت المفاضلة جاز الاختيار، وأن يعلم الطبيب المسلم أنه يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام، وأن الضرر ضرورة تقدر بقدرها، وأن الضرر لا يزال بمثله. وكذلك لا تنقلب الرخصة التي أنشأها الشرع للطبيب أو الجراح لممارسته عمله على أجسام الناس إلى حق إلا برضى المريض، ويستثنى من ذلك حالات الضرورة والاستعجال، يعني: لا يجوز للطبيب أن يتصرف في جسد المريض إلا بإذنه، لكن هناك حالات جراحة تستوجب التدخل كالتصرف في بدن المريض استئصالاً أو عمل شيء معين لا يمكن أخذ موافقة المريض عليها، لأن الحالة تستدعي تدخلاً عاجلاً، ففي هذه الحالة يتدخل وهو محسن، وما على المحسنين من سبيل.

الهدف هو رد الصحة المفقودة ما أمكن

الهدف هو رد الصحة المفقودة ما أمكن كذلك من فقه الطبيب المسلم أن يعلم أن من هدف الصحة الموجودة رد الصحة المفقودة ما أمكن، وإزالة العلة أو تقليلها قدر الإمكان، وتحمل أدنى المفسدتين بإزالة أعظمهما، وكذلك أنه يجب ألا يصل بعلاجه لإزالة علة بأن يوجد علة أخرى أعظم وأكثر، فمن ذلك أن بعض الأطباء قد يفرط في إعطاء المريض مثلاً إبر (المورفين) للتسكين، صحيح أن إزالة الألم شيء طيب، لكن إذا كان يترتب عليه أن يتحول المريض إلى مدمن للمخدر، فإن هذا لا يجوز مطلقاً، وإذا كانت العلة لا يمكن علاجها؛ امتنع الطبيب عن العلاج.

علاج من ليس مريضا

علاج من ليس مريضاً بعض الأطباء يضحكون على المرضى يريدون أخذ المال، فيعلم أنه لا يمكن أن يعالج هذا المرض، فيعالجه لأخذ المال، والقاعدة في هذا أن الطبيب إذا عرف أنه لا يمكنه إزالة العلة بالعلاج؛ فإنه لا يجوز له أن يعالج إلا إذا كان العلاج لشيء نفسي، كأن يرفع معنويات المريض بدلاً من إخباره بأن حالته ميئوس منها مثلاً.

عدم تجريب العلاجات

عدم تجريب العلاجات وكذلك بالنسبة للأدوية لا يجوز للطبيب أن يجرب الأدوية في أجساد الناس، وإنما يعطي الدواء المعروف بأثره الإيجابي، ولا يجوز أن يجرب دواءً بما تخاف عاقبته، وإنما إذا أراد أن يجرب دواءً؛ يجرب دواء ليس له أضرار جانبية سلبية؛ لأنه في بعض الحالات قد لا يوجد لديه علاج معروف للمرض لكنه يجرب علاجاً، فلا يجوز أن يجرب علاجاً إلا وهو متأكد أنه لا يحدث أضراراً سلبية. وكذلك فإن من قواعد الشرع الشرعية في العلاج أن يعالج الأسهل فالأسهل، فلا ينتقل من الدواء البسيط المعتاد إلى الدواء المركب إلا إذا تعذر استعمال الأول، وكذلك لا يقوم بإجراء عملية فيها إيذاء وشق وإيلام وتشويه لما يمكن أن يعالج بالأدوية، ويحدث عند بعض أطباء النساء والولادة من إجراء العمليات القيصرية والتساهل فيها، بعضهم خبثاً حتى لا تكون المرأة المسلمة في إنجاب دائم متواصل، وهذا حصلت له حالات من بعض أطباء الكفار في نساء المسلمين، أو أنه يرى الشق أسهل، أو أنه ينظر إلى أن العملية أقل ألماً، لكن لا ينظر إلى أن العملية تسبب تفويت مقصد من مقاصد الشارع وهو كثرة النسل، فهو من قلة فقهه ينظر إلى الأقل ألماً، ولا ينظر إلى مقاصد الشرع الأخرى في قضية تكثير النسل على سبيل المثال. وينبغي أن يفرق في فشل العلاج بين المجتهد المخطئ وبين المقصر والمهمل، فالطبيب إذا بذل جهده ووسعه ثم فشل العلاج أو مات المريض؛ فإنه لا يتحمل مسئولية لأن الله يقول: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة:91] بخلاف ما إذا كان مفرطاً ومهملاً.

الطبيب من شهداء الله في أرضه

الطبيب من شهداء الله في أرضه يجب أن الطبيب يستشعر مسئوليته في أنه من شهداء الله في أرضه، والله يقول: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق:2] ويقول الله عز وجل: {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلونَ} [الزخرف:19] وسينبني على شهادة الطبيب أشياء عظيمة كترك المريض للصلاة قائماً، أو ترك المريض استعمال الماء في الطهارة، أو ترك المريض للصيام، أو لجوء المريض إلى رخصة للضرورة، أو وضع جبائر، تأمل أنه لو وضع الجبيرة أكثر من موضع الحاجة، فصار المريض يمسح على الجزء الذي لا داعي لوجود الجبيرة عليه وهذا خلل في الطهارة، من الذي يتحمل ذلك إذا غفل المريض؟ إن الطبيب هو الذي يتحمل ذلك، فبضعهم يجعل لفات أو يزيد في وضع الجبيرة أكثر مما يحتاج؛ مما يترتب عليه الإخلال بطهارة المريض، وسيترتب على كلام الطبيب انتقال المريض من الماء إلى التيمم كما قلنا، أو أنه يستعمله في جزء من البدن دون آخر، أو سيترتب عليه أنه يدفع كفارة، وسيترتب على كلام الطبيب ترك الجمعة والجماعة، وسيترتب على شهادته وإجازاته التي يعطيها أن هذا الشخص لا يعمل وعمله فيه أجر، فإذا أعطاه إجازة غير صحيحة؛ فهو متسبب إلى أن يأكل مالاً بغير حل، فالطبيب إذاً شهادته عظيمة. ومن شهادته أشياء ينبني عليها الطلاق بين الزوجين، والتصرفات في مرض الموت، فإذا قرر الطبيب أن هذا المرض مرض موت؛ فإن تصرفات المريض المالية كالهبات مثلاً لبعض الورثة لا تقبل، أو تطليق الزوجة في مرض الموت بقصد حرمانها من الميراث. وسينبني على تقرير الطبيب التفريق بين الزوجين أو منع المعاشرة، أو ثبوت المهر كاملاً وعدم ثبوته، أو رد المهر، وسينبني على تقريره معرفة هل في الرجل عيب يمنع الوطء أو الاستمتاع، كأن يكون عنيناً مثلاً. وسينبني على تقرير الطبيب معرفة هل هذا المرض يمكن علاجه أو لا يمكن علاجه، فلابد من فسخ العقد والنكاح. وسينبني على كلام الطبيب أحقية الزوجة في طلب الطلاق مثل قضايا العقم عند الرجال، ولذلك يقول العلماء: يُسأل طبيب مسلم ثقة خبير بفنه عالم بمجاله وتخصصه.

الطبيب داعية إلى الله

الطبيب داعية إلى الله والطبيب المسلم أيضاً يراعي الله سبحانه وتعالى، فمن وظيفة الطبيب المسلم أنه داعية إلى الله عز وجل، وليس طبيباً فقط، فالطبيب الداعية يعلم الناس الخير، ومن الناس المرضى، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله وملائكته، وحتى النملة في جحرها، وحتى الحوت في البحر، ليصلون على معلم الناس الخير). فالطبيب يعلم المريض أولاً أن الشفاء من الله: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80] وأن الله هو الطبيب كما جاء في الحديث الصحيح، ولا يلتفت إلى دعاوى العلمانيين الذين يقولون: إن تعليمك للمريض أمور الدين هو استغلال للمريض في مرضه لطرح آرائك الشخصية، نقول: هذه ليست آراء شخصية، هذا دين يجب تبليغه على الطبيب المسلم قبل أن يكون طبيباً. ويعلم المريض كذلك عدم الشكاية، لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم على أم السائب قال: (ما لك تزفزفين؟ قالت: الحمى لا بارك الله فيها، فقال: لا تسبي الحمى فإنها تذهب خطايا بني آدم كما يذهب الكير خبث الحديد) رواه مسلم. فيعلمه عدم لعن المرض أو سب الحمى. ويعلمه كذلك الرضى بالقضاء والقدر (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء؛ شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له). الطبيب داعية إلى الله يعلم المريض عدم تمني الموت؛ لأن المريض تحت وطأة الألم قد يتمنى الموت ويدعو به، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لا يتمنين أحدكم الموت، ولا يدعو به من قبل أن يأتيه، إنه إذا مات أحدكم انقطع عمله وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيراً) حديث صحيح، وفي الحديث الآخر يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يتمنين أحد منكم الموت لضر نزل به، فإن كان لابد متمنياً فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي). والطبيب الداعية يعلم المريض ما يحتاج من الأحكام الشرعية، فيبين له من أحكام الطهارة واستقبال القبلة والصلاة، ويعطيه من فتاوى العلماء ما يبين له طريق العبادة، يعينه على التيمم بالتراب؛ إذا لم يوجد الماء، ويعينه على الوضوء والقيام بذلك، وكثيرٌ من المرضى الجهال يتركون الصلاة أثناء مرضهم، فالطبيب يعلم المريض أنه يجب أن يصلي على حسب حاله، ويوجهه للقبلة إن أمكن ذلك، وإذا سألت وقلت: كيف يتوجه المريض إلى القبلة وهو على فراشه؟ فنقول: يكون مستلقياً على ظهره ووجهه ورجلاه إلى القبلة، بحيث لو أوقف لصار متوجهاً للقبلة، هذه طريقة استقبال القبلة للمريض على فراشه، ويأمره بالصلاة في أوقاتها ويذكره بذلك؛ لأن المريض قد تنسيه آلام المرض الصلاة، بل يوقظه للصلاة، وكثير من الأطباء لا يبالون بنوم المريض، حتى لو لم يكن لحاجة وضرورة؛ فإنهم يتركون المرضى ينامون عن الصلوات وعن صلاة الفجر، مع أن بعض المرضى يمكن أن يقوم للصلاة ومرضه ليس بذاك الذي يجعله ينام عن الصلاة. وهو يعلمه كذلك الترتيب في قضاء الصلوات. ويعلمه أن إزالة النجاسة من الثياب بقدر الاستطاعة، فإن لم يكن ممكناً صلى ولو كان في ثوبه نجاسة وعليه آثار الدماء. وكذلك يعلمه أن من أغمي عليه لأيام طويلة؛ فإن الصلاة تسقط عنه. ويعلمه أنه لو لم يتمكن من الصلاة بالوضوء أو التيمم؛ فإنه يصلي بغير وضوء ولا تيمم، لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]. وكذلك فإن الطبيب الداعية إذا أتاه كافرٌ يعالجه؛ فإنه يدعوه إلى الإسلام، وبالذات إذا حضرت الكافر الوفاة كما جاء في حديث أنس رضي الله عنه قال: (كان غلامٌ يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض، فأتاه يعوده، فقعد عند رأسه، فقال: أسلم، فنظر الغلام اليهودي إلى أبيه وهو عنده، فقال له الأب: أطع أبا القاسم صلى الله عليه وسلم، فأسلم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه بي من النار). والطبيب الداعية لا يفصل بين أمور المهنة وواجبات الدين، فهو مسلم قبل أن يكون طبيباً، وإذا كان أصحاب الجمعيات التبشيرية كـ منظمة أطباء بلا حدود وغيرها، يعطون المسلمين الدواء بيد والصليب باليد الأخرى، ويعطونهم مع إبرة تخفيف الألم تأليه يسوع وهم كفار على الباطل، أفلا يكون هذا دافعاً للطبيب المسلم وهو على دين الحق أن يبلغ دين الله سبحانه وتعالى؟ الطبيب الداعية يتخذ المواقف الصحيحة عندما تأتي حالات تكشف عن جرائم أو فواحش، فإذا كانت القضية الشرع فيها أن يستر؛ ستر ولم ينتهك أو يفشي أسراراً أو يشهر، وإذا كانت القضية لابد من تبليغها إلى الجهات المسئولة لأخذ الحق الشرعي وإقامة القضية والدعوى في المحكمة؛ فلابد أن يبين، وفي بعض الحالات يطلع الطبيب على أشياء لابد فيها من تنبيه الزوج على أمور تتعلق بزوجته، فهنا يستخدم الحكمة والكلمات المناسبة في ذلك، ويفرق بين ما إذا كان هذا الذي أمامه تائباً أو مصراً غير مبالٍ بالمعصية. وكذلك من ضمن هذه الأشياء التي ينبغي أن يكون عنده حكمة فيها هذه الحالة: رجل عقيم قام بالتحليل؛ فلم يوجد في مائه حيوانات منوية على الإطلاق، ثم رجع وأخبر الطبيب أن زوجته حامل، وطلب إعادة التحليل، فخرجت نفس النتيجة السابقة وتأكد الطبيب، هل يخبر الطبيب الرجل أم لا؟ سبق أن ذكرنا أنه لابد للطبيب أن يتفقه في دين الله، وأن يرجع إلى أهل العلم والذكر ليسألهم، فهذه حالة من الحالات لابد من الرجوع مثلاً إلى أهل الذكر وسؤالهم، فيقال: إن التحليل يثبت أنه لا يوجد هناك أي احتمال لأن يلقح هذا الرجل وزوجته حامل، فهل يخبر أو لا يخبر؟ أما الدليل الشرعي فيقول: الولد للفراش، ولم أضرب هذا المثال لذات المثال، بل لأقول وأبين وأنبه وأؤكد على أهمية الرجوع إلى أهل العلم في مثل هذه القضايا، وكثير من قضايا الطب من النوازل التي ينبغي البحث فيها ليس لعالم وإنما لمجموعة علماء.

إخلاص الطبيب ومراقبته لله

إخلاص الطبيب ومراقبته لله الطبيب الداعية والمخلص لا يحتاج إلى قسم المهنة؛ ليردعه عن الإخلال بوظيفته ومهمته؛ لأن مراقبة الله هي الضمان، لقد جرت العادة منذ عهد أبقراط أن يبدأ الطبيب حياته المهنية بترديد قَسم يلتزم بآدابه في ممارسة الطب، ونحن نعلم أن قضية السلوك المهني لا تحل بقَسم، وإنما الذي يحلها فعلاً هي مراقبة الله عز وجل، فإذا كان القَسم غير شرعي؛ لا يجوز له أن يقسم أصلاً، ولكن نؤكد على أن مراقبة الله (والإثم ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطلع عليه الناس) هذا هو الضمان الحقيقي لقيام الطبيب بمهمته على الوجه الصحيح. الطبيب المخلص يعمل لمصلحة المسلمين وإن تعارض ذلك مع مصلحته الشخصية، فمثلاً: الطبيب يسعى لمنع الأمراض، وإن نتج عن ذلك قلة المرضى وبالتالي قلة المراجعين لأصحاب العيادات الخاصة، وشعاره هو: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:268] فبعض الأطباء يشعرون بالسرور إذا انتشرت الأمراض في البلد؛ لأن الناس سيراجعونهم ويأخذون الأموال، لكن الطبيب المخلص يشعر بالألم إذا انتشر المرض بين الناس، ولو كان ذلك لا يجر عليهم منافع. كذلك من الإخلاص ألا ينزلق الطبيب المسلم وراء الغرور المهني عند نجاحه في بعض الأعمال؛ لأن ذلك يحبط الأعمال ويزيل الأجر. عن أبي رمثة قال: (انطلقت مع أبي نحو النبي صلى الله عليه وسلم فقال له أبي: أرني هذا الذي بظهرك) أي: خاتم النبوة، خاتم النبوة كان مجموعة عظام على هيئة حلقة بين كتفي النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل فيه أوصاف أخرى (فإني رجل طبيب) طبعاً هذا ما فهم أن هذا خاتم نبوة وليس بعلة ولا مرض، وإنما رأى هذا فقال: أنا طبيب دعني أكشف عليك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم في غاية الحكمة والتوضيح: (الله الطبيب، بل أنت رجل رفيق، طبيبها الذي خلقها) حديث صحيح. لما رأى أبو رمثة خاتم النبوة وكان ناتئاً، فظنه ورم تولد من الفضلات ونحو ذلك، فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم بإخراجه من هذا إلى غيره، يعني: أن يقول: ليس هذا علاجٌ بل كلامك يفتقر إلى العلاج، حيث سميت نفسك طبيباً والله هو الطبيب، وإنما أنت رفيق ترفق بالمريض وتتلطف به، فهذا من الأسلوب الحكيم البديع، وذلك لأن الطبيب الحقيقي هو العالم بحقيقة الداء والدواء والقادر على الصحة والشفاء، والذي يملك ذلك هو الله عز وجل، ففي حالة طلب الشفاء يذكر المسلم نفسه أن الله هو الطبيب المداوي الحقيقي. وكذلك فإن الطبيب من إخلاصه أنه لا يستغل طبه لامتيازات ومنافع شخصية، كأن يحصل على تخفيضات من المحلات، أو أن يأخذ شيئاً ليس من حقه، أو يعتدي على حق غيره، أو يستغل قضية أن الناس يخافون من الطبيب ويخشونه، أو أنه يقول: إذا عالجتك تنشر إعلاناً في الجريدة فيها دعاية لنفسه، أو تقول: اشكر الدكتور فلاناً كما يفعل بعض الناس، لو جاءت من المريض فذلك من عاجل بشرى المؤمن، لكن أن الطبيب يشترط عليه أنه يشكره خطابياً أو يكتب في الجريدة، فليس هذا من الإخلاص في شيء.

الطبيب آمر بالمعروف ناه عن المنكر

الطبيب آمر بالمعروف ناهٍ عن المنكر وكذلك فإن الطبيب آمرٌ بالمعروف ناهٍ عن المنكر، ولذلك فهو ينكر الاختلاط والتبرج المتفشي الموجود الآن في عالم الطب في المستوصفات والكليات وغيرها: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) ونحن ما أوتينا إلا من قضية التواكل وإلقاء المسئولية على الآخرين، وكل واحد يقول: ليس من شأني هذا ولا من تخصصي، أنا مجرد معالج، فيرى المنكر أمامه فلا يغيره، بل ربما يساعد في المنكر، كأن يأتيه شخص يقول: إنني أريد السفر إلى الخارج إلى بلاد الفسق والفجور، وأريد أن تعطيني إبرة مناعية للأمراض الجنسية، فإذا علم الطبيب أن هذا الرجل سيذهب إلى الفجور، فلا يجوز أن يعينه على ذلك بإعطائه مثل هذه الإبر التي يساعده بها على أن يقع في الحرام، ولو جاءه مريض مصاب بمرض جنسي، يساعده ولو كان فاسقاً ويعالجه لأجل عدم انتشار المرض عند الأصحاء والأبرياء، فلو جاءك فاسق أصيب بمرض نتيجة فواحش فلك أن تعالجه، ولكن تنصحه لعله أن يتوب، أما أن تعطيه من الأسباب ما يقويه على الفاحشة ويشجعه عليها، فهذا لا يجوز لك بأي حال من الأحوال.

الطبيب صاحب أمانة

الطبيب صاحب أمانة الطبيب المسلم صاحب أمانة: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72] فقد يخبر الطبيب المريض لأسباب عن أسرار خاصة به، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (المجالس بالأمانة، إذا حدث رجل بحديث ثم التفت فهي أمانة) فلا يجوز له أن يفشي أسرار المريض إلا إذا كانت القضية تستدعي تبليغ الشرع ووصول القضية إلى المحكمة، فهذا أمرٌ آخر، لكن الأشياء التي لا تستدعي ذلك، لا يحوز للطبيب إفشاؤها بأي حال، سواءً كان ذلك متضمناً في قَسم المهنة أو ليس بمتضمن، فإن الطبيب صاحب أمانة، والله عز وجل يقول: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58] وقد يحمله المريض وصايا، أو يحمله المحتضر وصية وهو على فراش الموت، أو يطلب له أن يستسمح له من أشخاص أو يعتذر إليهم، أو يقول: أنا أخذت من فلان كذا، أو لفلان دين، أو لفلان عندي مال ولفلان عندي حق، فعلى الطبيب أن ينقل ذلك بأمانة، وأن يخبر أولياء الميت وورثته بما أخبره به المريض.

الطبيب صاحب خلق حسن

الطبيب صاحب خلق حسن وكذلك فإن الطبيب المسلم صاحب خلق حسن، وأقرب الناس مجلساً من النبي عليه الصلاة والسلام أصحاب الأخلاق الحسنة الذين يألفون ويؤلفون. ومن أخلاق الطبيب الرحمة وهو يرحم خلق الله ويرأف بهم، وهذه الصفة مهمة لأطباء الطوارئ؛ لأن بعضهم من كثرة الحالات يتأفف وربما يقسو على المرضى ويجابههم بوجه خشن، ويضيق صدره بهم، فربما تلفظ على بعض المرضى بألفاظ لا تليق بطبيب مسلم، فينبغي أن نتعامل معهم من دافع الرحمة وهي الخلق المهم من أخلاقيات الطبيب، وإذا حضر الطبيب المريض أو الميت؛ فإنه يدعو له بخير، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا حضرتم المريض أو الميت؛ فقولوا خيراً؛ فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون). ومن أخلاقيات الطبيب أنه لا يظهر الابتهاج، وكذلك طالب الطب لا يظهر الابتهاج إذا جاءت حالة نادرة فرحاً بها أمام المريض المسكين، ومن الرحمة كذلك أن يتجنب دفع المريض للقيام بحركات وتصرفات معينة؛ لأجل أن يبين لطلاب الطب أعراض المرض، كأن يجعله يجري مثلاً في الممر؛ ليظهر لهم أشياء تتعلق بنبضه أو إعيائه ونحو ذلك كما يفعله بعض الذين يدرسون الطب، فيقولون: من أجل تدريس الطلاب يرهقون المريض وربما يؤخرون علاجه، لا، يجب أن يعطيه العلاج الذي يحتاجه الآن، يقول: نستدعي أولاً الطلاب ليرون المريض ثم نعطيه العلاج، والمريض يحتاج إلى العلاج، وهذا ليس من الإنسانية في شيء ولا من الرحمة. وكذلك ينبغي عدم إشعار المريض بأنه حقل تجارب أمام طلاب الطب، ولابد أن يسارع الطبيب إلى النجدة من هذه الرحمة الموجودة لديه. وكذلك من أخلاقيات الطبيب أنه يتلطف في حال الكشف، فعندما يرى المريض أو المريضة متحرجاً من الكشف فلا يقسو عليه أو يأمره بالكشف ونحو ذلك، وإنما يراعيه ويسايسه في قضية الحرج هذه لأنها مسألة شرعية، وليس من شعور أشد على المريض من أن يرى من حوله من طلاب الطب يتناوبون عليه، كل واحد يقول: تفضل اكشف، فيقول له الآخر: تفضل اكشف أنت، ويتعلمون عنده وهو يئن تحت وطأة المرض وألم المرض. وكذلك من حسن أخلاق الطبيب أن يتلطف في إخبار المريض عن مرضه، وإذا لم ير من الحكمة والمصلحة أن يخبره عن الحقيقة؛ فلا بأس أن يكتمها أو يؤخرها، لكن إذا كان المريض على وشك الموت ومرضه مميت، فلابد أن يبين له الطبيب أشياء تتعلق بوضعه حتى يتهيأ للموت، قد تكون عنده وصايا أو أشياء يريد الإخبار بها، فلا يقول: لا نخبره مطلقاً، فيموت المريض فجأة دون أخذ احتياطاته. وكذلك إخبار المرضى بالعمليات الجراحية التي تكون في العادة خبرها شديد الوطأة عليهم. وكذلك من أخلاقيات الطبيب ألا يعطي المريض كومة أدوية لا داعي لها لتكلفه، وإنما يعطيه الدواء النافع الذي يعلمه بخبرته، ولا ينساق وراء إحساس بعض المرضى أن الطبيب ليس بجيد إلا إذا أعطى كومة من الأدوية، ولذلك بعض الأطباء يصفون علاجاً، ثم يقول المريض: عندي حرارة، فيكتب، ثم يقول له: عندي كحة، فيكتب، ثم يقول له: عندي صداع، فيكتب، فأين أنت؟ إما أنك لم تكشف عليه كشفاً جيداً ولم تسأله وهذا تقصير، أو أنك تكتب أشياء لا داعي لها، وينبغي أن يكون الطبيب صريحاً صادقاً مع المريض. ثم إن من إتقان الطبيب أن يكتب الدواء بعناية؛ لأن بعض الصيادلة لا يحسنون قراءة الوصفات، فيعطون المرضى أدوية غير مطلوبة، فلا أقل من أن يحسن الطبيب خطه، ولا نحتج بأن كل الصيادلة يقرءون جميع هذه الخطوط الرديئة التي تعود الأطباء على كتابة الأدوية بها، بل إن بعض من جربوا في الصيدليات، أثبتوا أنهم يعطون الدواء غير الصحيح؛ بسبب جهلهم أولاً ثم بسبب عدم إتقان الطبيب كتابة اسم الدواء ثانياً.

الطبيب صاحب عقيدة صحيحة

الطبيب صاحب عقيدة صحيحة الطبيب المسلم صاحب عقيدة صحيحة وكما قلنا: إنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فإذا رأى بعض المرضى يعلقون تمائم وعزايم، أو يذهبون للعرافين والكهان، من الواجب عليه أن يبين حرمة ذلك: (من علق تميمة فقد أشرك) والذي يأتي الكاهن والعراف لا تقبل له صلاة أربعين يوماً، فإن صدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد. قد تحدث أمام الطبيب منكرات من أهل المريض أو الميت مثل: النياحة، أو شق الثوب وشد الشعر، فلابد من دورٍ في إنكار المنكر والنهي عن النياحة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (النائحة إذا لم تتب قبل موتها؛ تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب) وفي حديث صحيح آخر: (النياحة على الميت من أمر الجاهلية، وإن النائحة إذا لم تتب قبل أن تموت؛ فإنها تبعث يوم القيامة على سرابيل من قطران، ثم يغلى عليها بدروع من لهب النار). كذلك فإن الطبيب المسلم لا ينسى ذكر الله، فعند شروعه بالعلاج يقول: باسم الله، يستعين بالله على العلاج، ويتجنب الأدوية المحرمة مثل التي فيها كحول مسكر، ويتجنب كذلك ما يحبط المريض نفسياً، فلابد أن يأتيه بنفسية التفاؤل كما جاء في الحديث (أصبح بحمد الله بارئاً) فهذا هو التفاؤل للمريض، وكذلك إتيانه بما يشتهيه إن كان لا يضره، وأن يدعو للمريض (اللهم رب الناس أذهب البأس، واشف أنت الشافي، لا شافي إلا أنت شفاءً لا يغادر بلاءً ولا سقما). كذلك من وظائف الطبيب أن يخبر المريض بأضرار ما حرمه الله كأضرار الخمر إن وجده مدمن خمر، أو التدخين إن وجده مدمن تدخين، أو المخدرات إن وجده مدمن مخدرات، وأضرار الفواحش إن وجده صاحب فواحش، وكذلك فإنه إذا قام بعمليات التجميل، كما قلنا: لا يقع في المنكرات، ويعمل عمليات شد الوجه ونحو ذلك، وإنما يصح أن يأتي من عمليات التجميل بما فيه إزالة التشويه الخلقي غير المألوف، أو إزالة ما في بقائه ضرر، أو إزالة ما فيه تشبه بالرجال كاستئصال بصلات شعر اللحية والشارب للمرأة، فهذا لا بأس به، أو إزالة التشويه الحاصل لحادث أو حريق. كذلك فإن من المهم الاعتناء بتثقيف المرضى، والتعاون مع إدارة المستشفى في جعل مكتبات أو رفوف فيها كتب وأشرطة لنفع المرضى بدلاً من تسكعهم في الأسياب.

الحذر من الوقوع في علاقات عاطفية مع المرضى

الحذر من الوقوع في علاقات عاطفية مع المرضى ومن الملاحظات أيضاً: الحذر من وقوع الطبيب في علاقات عاطفية مع بعض المرضى، وفي حالة وقوع المريض في حالة تعلق عاطفي مع طبيب، فمن واجب الطبيب أن يجعل المريض تحت رعاية أحد زملائه الآخرين، وهذه قضية خطيرة قد توصل إلى العشق والهلاك: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً} [النساء:28] ولا ينسى أن يستر عوراته سواءً كانت الأسرار التي أخبر بها أو التي اطلع عليها الطبيب أو العورة، فإذا مر بجانب سريره فوجده مكشوف العورة؛ غطاها وسترها (من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة) والطبيب مستشار مؤتمن، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (المستشار مؤتمن) فلابد له من الإخلاص في بذل المشورة، والمرضى دائماً يستشيرون الأطباء، وهنا لابد أن يشير بالأمانة فيما يراه يُصلح حال المريض.

تجنب تجريح الطبيب لزملائه

تجنب تجريح الطبيب لزملائه كذلك من أخلاقيات الطبيب أن يتجنب تجريح زملائه، فإذا جاءه مريض بدواء لا يقول له: من هذا المجنون الذي وصف لك هذا الدواء؟ أو من هذا الجاهل ونحو ذلك؟ ويشتم ويسب في بقية الأطباء؛ حتى يخبر هذا المريض بأنه هو الطبيب الفاهم المتقن، ولا يترفع الطبيب عن مشاورة زملائه؛ لأن كثيراً من قضايا العلاج تحتاج إلى رأي جماعي. وليس من الأخلاق في شيء أن يتعصب الطبيب للمدرسة التي درس فيها، فبعضهم يتعصب للمدرسة الكندية، وبعضهم يتعصب للمدرسة الألمانية ونحو ذلك، ولاشك أن هذا التعصب أسوأ من تعصب أصحاب المذاهب الفقهية، لأن أصحاب المذاهب الفقهية إذا تعصبوا في قضية شرعية، وهؤلاء يتعصبون في قضايا دنيوية، وأولئك يتعصبون لشيوخ من العلماء وهؤلاء يتعصبون للكفار، وهذه التعصبات للمدارس الطبية تنشئ الفرقة والتعالي، وتحدث الضغائن والأحقاد.

حسن اختيار التخصص الطبي

حسن اختيار التخصص الطبي وينبغي كذلك على طلاب الطب تقوى الله سبحانه وتعالى، وانتقاء التخصصات التي تكون بعيدة عن المنكرات قدر الإمكان والتخصص الذي يحتاج إليه المسلمون أكثر، وانتقاء التخصص ينبغي أن يكون مبنياً على أمور منها: أولاً: التخصص الأبعد عن المنكرات. ثانياً: التخصص الذي يحتاج إليه المسلمون أكثر. ثالثاً: أن يقدم المصلحة العامة على مصلحته الخاصة؛ لأن بعض التخصصات قد لا يكون فيها مناوبات أو فيها رواتب أعلى، لكن يقدم الشيء الذي فيه مصلحة للمسلمين على الشيء الذي فيه مصلحة شخصية له. وكذلك فإن للطبيب إسهامات أكثر من مجرد العلاج، له إسهامات في المجتمع يستطيع أن يحاضر ويخاطب وينصح، بل يستطيع أن يزرع في الأطفال أحياناً مفاهيم إسلامية عليا. وكذلك فإن الطبيب الذي يخشى الله سبحانه وتعالى يسارع ويبادر في إنكار المنكر، والعودة بعالم الطب إلى واقعه الإسلامي الصحيح، وينبغي أن تتكاتف الجهود لأجل ذلك، ويحس كل واحد بمسئولياته بدلاً من حالة الموت التي نعيشها الآن، والتي سوغت استشراء وانتشار هذه المنكرات. وختاماً نسأل الله سبحانه أن يعيننا أجمعين على القيام بأمر الشريعة والدين، وأن يرزقنا سلوك الصراط المستقيم والبعد عن المحرمات، إنه سميع مجيب، وأسأله عز وجل أن يعينكم معاشر الأطباء على القيام بما أمر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وأن يوفقكم لبذل الخير والإحسان إلى الخلق، إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير، والحمد لله رب العالمين.

الأسئلة

الأسئلة

انتقاد الطب النبوي

انتقاد الطب النبوي Q بعض الناس يطرحون هذه الأيام أن ما ورد في الطب النبوي هو آراء خاصة للنبي عليه الصلاة والسلام وليست وحياً؟ A هذا خطأ، الأصل أن ما أخبر به عليه الصلاة والسلام فهو وحي إلا إذا دل الدليل والقرينة على أنه من رأيه الشخصي، وإلا فكل ما يقوله فهو وحي له صلى الله عليه وسلم، ولذلك هذه الدعوة توصل في النهاية إلى عدم اعتماد أحاديث صحيحة واردة في الطب النبوي، والله سبحانه وتعالى رحيم بخلقه، ومن الرحمة أن يخبرهم بعلاج بعض الأمراض في كتابه أو على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم.

حكم النظر إلى وجه الممرضة أو الدكتورة

حكم النظر إلى وجه الممرضة أو الدكتورة Q ما حكم النظر إلى وجه الممرضة أو الدكتورة أثناء الكلام معها في شئون العمل؟ A الأصل أنه لا يجوز ذلك، والأمر بغض البصر واجب، وبعض الناس يقولون: لا يمكن وإحراج، نقول: تحمل الإحراج من أنك لا تتحمل العذاب.

حكم لبس العدسات الملونة للتجميل

حكم لبس العدسات الملونة للتجميل Q ما حكم لبس العدسات الملونة للتجميل؟ A أفتى أهل العلم بعدم جواز ذلك، فإذا احتاجت فلتلبس عدسات شفافة، ولا تلبس العدسات الملونة.

حكم إجراء عمليات قيصرية بدون حاجة

حكم إجراء عمليات قيصرية بدون حاجة Q بعض الأطباء يعمد إلى إجراء عمليات قيصرية لرفع رصيد العمليات التي يقوم بها حتى يكتب له ذلك في مجال الخبرة والترقية؟ A طبعاً هذا من الخيانة كما ذكرت، ومن العمليات المحرمة التي يقوم بها بعض الأطباء ربط المبايض، فإذا كان هذا لغير الضرورة، والضرورة معناها أن المرأة لو حملت تموت، فقيامه بعمليات ربط المبايض حرام؛ لأنه يخالف مقصد الشارع بتكثير النسل، وقد يموت أولادها وقد تطلق أو يؤخذ منها أولادها، فيكون قد جنى عليها ولو وافقت، ما دامت عملية ربط المبايض حرام لغير ضرورة فلا يجوز القيام بها.

دخول المسجد بجهاز النداء

دخول المسجد بجهاز النداء Q بعض الأطباء يدخل بجهاز النداء الفيجر إلى المسجد دون أن يسكته؟ A هذا من إيذاء المصلين وإذهاب الخشوع، فلابد له من أن يجعله على وضعية لا يصدر فيها صوتاً.

حكم الهبة من قبل المخرف

حكم الهبة من قبل المخرف Q إذا أعطى المخرف هبة؟ A لا تقبل هبته.

حكم لمس عورة المرأة للطفل

حكم لمس عورة المرأة للطفل Q لمس عورة المرأة للطفل؟ A لا بأس، فإذا كان الطفل عمره سنتين فإنه لا حكم لعورته؛ بمعنى أن لمس عورته لا يبطل الوضوء.

موت مريض نتيجة خطأ من الطبيب

موت مريض نتيجة خطأ من الطبيب Q إذا مات المريض نتيجة خطأ من الطبيب فما حكم ذلك؟ A إن كان مفرطاً فعليه الدية، والكفارة عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، والدية يسلمها لأهله، ويجب أن يعترف، وليس أن تطوى القضية، وتلملم الأوراق، وتسحب المسألة، لابد أن يؤدي الحق إلى أهله في الدنيا قبل أن تقوم الساعة.

حكم إلزام المريض بعدم الإنجاب لأمراض وراثيه

حكم إلزام المريض بعدم الإنجاب لأمراض وراثيه Q هل يلزم المريض الذي عنده أمراض وراثية بعدم الإنجاب؟ A لا، لا يمكن منعه من ذلك شرعاً.

حكم إخبار بعض الأطباء بنوعية المولود أثناء الحمل

حكم إخبار بعض الأطباء بنوعية المولود أثناء الحمل Q يخبر بعض الأطباء الحوامل بما عندها من ولد أو بنت؟ A أقول: ينبغي ترك ذلك؛ لأجل عدم إيقاع الناس في أوهام تتعلق بتوحيد الربوبية، فتعتدي على توحيد الربوبية، فيظنون أن الطبيب يعلم ما في الغيب، مع أن الطبيب لا يعلمه قبل الزواج ولا يعلمه قبل الوقت ولا يعلمه قبل التخلق، على فرض أنهم استطاعوا أن يعلموه بعد مرحلة معينة من الحمل؛ فإنهم لا يعلمون قبل ذلك، وبناءً عليه يكون علم الأطباء ناقصاً، فالله يعلم ما في الأرحام، ليس فقط في الشهر الرابع أو الخامس، لكن الله يعلم من أول الحمل وقبل الحمل وقبل الزواج، والأطباء لا يعلمون ذلك، الله يعلمه هل هو شقي أم سعيد، والأطباء لا يعلمون ذلك، الله يعلم رزقه والأطباء لا يعلمون ذلك، الله يعلم أجله والأطباء لا يعلمون ذلك. بعض الناس يظن أننا استطعنا أن نصل إلى الذكورة والأنوثة في الشهر الفلاني، نقول: أين أنت من علم ما في الأرحام الذي يشمل هذا كله، فعلم الأطباء قاصر عن هذا ولاشك.

حكم الأذان في أذن المولود

حكم الأذان في أذن المولود Q ما حكم الأذان في أذن المولود؟ A هو لولي الولد، الطبيب يرشده إلى ذلك، ويسلمه الولد؛ لأجل أن يؤذن في أذنه.

حكم إسقاط الجنين

حكم إسقاط الجنين Q ما حكم إسقاط الجنين؟ A إذا كان هناك خشية على حياة الأم فيسقط الجنين، أما شق بطن المرأة الحامل إذا ماتت فقال بعض العلماء: إذا كان يغلب على الظن حياة الجنين فيجوز، وإلا فلا يجوز؛ لأنه اعتداء على الميت، ولا يجوز الاعتداء على الميت.

إخلال النساء بواجبات المنزل

إخلال النساء بواجبات المنزل Q إذا ترتب على بذلنا للوقت في مستشفى النساء الإخلال بواجبات المنزل ماذا يقدم؟ A لاشك تقدم واجبات المنزل.

خلوة في المصعد

خلوة في المصعد Q إذا فوجئت بطبيب داخل المصعد لوحده؟ A لا تدخل المصعد بل تنتظر.

حكم استخدام حبوب منع الحمل

حكم استخدام حبوب منع الحمل Q ما حكم استخدام موانع الحمل؟ A موانع الحمل يشترط فيها ثلاثة شروط: أولاً: ألا تكون ضارة. ثانياً: ألا يزيد استعمالها عن سنتين. ثالثاً: أن تكون بموافقة الزوجين.

خارج المستشفى متحجبة وداخله كاشفة

خارج المستشفى متحجبة وداخله كاشفة Q بعض الممرضات تأتي المستشفى وهي متحجبة ومتنقبة وعليها القفازات والجوارب السود، ثم بعد ذلك ترى في الأقسام وقد كشفت النقاب وهذه الزينة فما حكم ذلك؟ A طبعاً هذا من عدم الخوف من الله سبحانه وتعالى، هل خوف الله فقط خارج المستشفى وداخل المستشفى يتهاون في شرع الله! طبعاً هذا لا يجوز.

كيفية التوفيق بين علم الطب وعلم الشرع

كيفية التوفيق بين علم الطب وعلم الشرع Q كيف يكون التوفيق بين التعمق في فهم علوم الطب والتعمق في الفقه الشرعي؟ A لابد أن تكون للطبيب قراءات خارجية وليس فقط أن يكون مقتصراً على قراءته في كتب الطب، ولتكن هذه القراءات الخارجية هي قراءة في الأمور الفقهية اللازمة التي يحتاجها. ونتوقف عند هذا الحد، والموضوع بقي فيه أشياء وأمور أخرى لعل الفرصة تتاح إن شاء الله للحديث عنها في درس قادم، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يوفقنا وإياكم للخير وأن يأخذ بأيدينا إلى طريق الحق والصواب، وأن يحسن خاتمتنا أجمعين، ويرزقنا الفوز بجنات النعيم والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ولاية الله ومقتضياتها

ولاية الله ومقتضياتها إن مسألة الولاء لله سبحانه وتعالى هي مسألة المسائل ورأس الأحكام، فهي من القضايا الخطيرة في الولاء والبراء بل هي رأسها، وكل مسألة في الولاء والبراء إنما هي فرع هذه المسألة، ولقد تحدث الشيخ عن هذه الولاية لله ومقتضياتها وبعض مسائل الاعتقاد التي أصبحت نسياً منسياً عند كثير من المسلمين.

الولاء لله رأس المسائل والأحكام

الولاء لله رأس المسائل والأحكام الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، قال سبحانه: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأنعام:14] سبحانه وتعالى عما يشركون، سبحانه وتعالى عما يوالون من دونه من أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، سبحانه وتعالى عما يشركون في حكمه، وفي حلاله وحرامه، سبحانه وتعالى عما اتخذ من دون الله ولياً يعادى من أجله، ويوالى فيه. أيها الإخوة: إن الولاء لله سبحانه وتعالى هي مسألة المسائل ورأس الأحكام، وهي قضية خطيرة من قضايا الولاء والبراء وهي رأسها، وكل مسألة في الولاء والبراء إنما هي فرعٌ عن هذه المسألة وهي موالاة الله عز وجل. الولاية لله والخضوع له سبحانه وتعالى هي الأساس الذي تقوم عليه تصرفات المسلمين من عبادات ومعاملات واتخاذ المواقف من الآخرين، وهذه المسألة التي لو تحطمت في نفوس المسلمين؛ لأصبحوا كفاراً مرتدين، ولا ينفعهم عند ذلك عملٌ صالحٌ أبداً. ولما كان من أسباب تقهقر المسلمين في هذا العصر تخلخل العقيدة في نفوسهم، كان لا بد من الكلام باستمرار على قضايا العقيدة الهامة والخطيرة، ومسألة الولاية لله سبحانه وتعالى، لو كانت متحققة فعلاً في نفوس المسلمين اليوم لما وصلوا إلى الحالة التي هم عليها الآن. إن كثيراً من المسلمين قد ارتدوا عن دين الله، ووالوا أعداء الله، وعقدوا معهم الأحلاف، وأطاعوهم في الحلال والحرام، واستوردت القوانين في بلاد المسلمين، يحكمون فيها كفراً ورِدةً عن دين الله؛ بسبب عدم مولاة الله عز وجل. وولاية الله جاءت في القرآن في آياتٍ عديدة: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف:196] {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة:257].

من مقتضيات الولاء لله: اتخاذ الله سبحانه وتعالى حكما

من مقتضيات الولاء لله: اتخاذ الله سبحانه وتعالى حكماً أيها الإخوة: ولاية الله لها مقتضيات: فمنها: اتخاذ الله سبحانه وتعالى حكماً، يقول الله عز وجل: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً} [الأنعام:114] لا يمكن أن أتخذ غير الله حكماً يحكم في الأمور {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف:40] فلمن الحكم؟ لله عز وجل. إن الذين يتحاكمون إلى غير الله ذمهم الله في القرآن ذماً شديداً، ووصفهم بأنهم يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به، فمن الذي يحلل؟ ومن الذي يحرم؟ ومن الذي له هذا الحق؟ كيف كفر اليهود والنصارى؟ أليس لأنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، يطيعونهم في الحلال والحرام؛ ولذلك كان التحاكم إلى شريعة غير شريعة الله من الكفر الصريح البواح، والذي يعتقد أن شرع غير شرع الله أفضل من شرع الله فهو كافر، والذي يعتقد أن شرع الله مساوٍ لشرع غير الله وهو يأخذ بشرع الله فهو كافر، حتى لو حكم شرع الله ما دام يعتقد أن شرع غيره أفضل، أو أن شرع غيره مثل شرع الله وهو يحكم بشرع الله فهو كافر، ومن اعتقد بأن شرع الله أفضل من شرع غيره لكن يجوز الأخذ بالأمرين فهو كافر. هذه المسائل الخطيرة من مسائل الاعتقاد قد أصبحت اليوم نسياً منسياً عند كثير من المسلمين.

من مقتضيات الولاء لله: إفراد الله بالنسك

من مقتضيات الولاء لله: إفراد الله بالنسك من مقتضيات الولاء لله: إفراد الله بالنسك: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ} [الأنعام:162 - 163] فالذي يشرك مع الله في العبادة ليس يوالي الله عز وجل مطلقاً، إذ كيف يشرك معه وهو يواليه، وإفراد الله بالولاية جاء التعبير عنها في القرآن أحياناً بمعنى الاتباع، فقال سبحانه وتعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الأعراف:3] فولاية الله تقتضي اتباع الله عز وجل، وتقتضي -أيضاً- نصرة الله سبحانه وتعالى، قال عز وجل: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً} [الأنعام:14] أغير الله أنصر؟ أغير الله أعلي كلمته؟ لا. فنصرة الله من مقتضيات ولاية الله عز وجل.

من مقتضيات الولاء لله: تولية الله في جميع الشئون والأحوال

من مقتضيات الولاء لله: تولية الله في جميع الشئون والأحوال من مقتضيات ولاية الله إذا كانت ولايتك لله صحيحة فلا بد أن تتمسك بدين الله، وتترك ما أحدث الناس في الدين من البدع. قال ابن القيم رحمه الله: التمسك بالسنة إذا رغب عنها الناس، وترك ما أحدثوه وإن كان هو المعروف عندهم، وتجريد التوحيد. تجريد التوحيد من مقتضيات الولاية لله تجريد التوحيد بجميع أنواعه تجريد التوحيد من جميع أنواع الشرك أكبره وأصغره.

من مقتضيات الولاء لله: الانتساب إلى الله وحده

من مقتضيات الولاء لله: الانتساب إلى الله وحده من مقتضيات الولاية لله: الانتساب لله وحده، وترك الانتساب إلى ما سواه، قال ابن القيم رحمه الله في المدارج، في صفات هؤلاء الذين يوالون الله فأصبحوا غرباء، ومن صفاتهم قال: وترك الانتساب إلى أحدٍ غير الله ورسوله، لا شيخ، ولا طريقة، ولا مذهب، ولا طائفة، بل هؤلاء الغرباء منتسبون إلى الله بالعبودية وحده، لا ينتسبون إلا إلى الله ورسوله فقط، لا ينتسبون إلى أحد من الناس، ولا طريقة من الطرائق، ولا جماعة من الجماعات، ولا طائفة من الطوائف، إنهم ينتسبون لله وحده، يفردون الله بالانتساب إليه.

من مقتضيات الولاء لله: نسف الولايات السابقة

من مقتضيات الولاء لله: نسف الولايات السابقة من مقتضيات هذه الولاية أيضاً: أن تنسف الولايات السابقة التي كانت في عهد الإنسان قبل أن يدخل في ولاية الله، كانت القبائل في الجاهلية كل فرد ينتسب إلى قبيلته، يواليها ويعادي من أجلها، وينصرها وإن كانت ظالمة، فلما أسلم هؤلاء تغيرت ولاياتهم، وصارت ولاية الصحابة لله وحده، ولذلك كان أحدهم يدخل في المعركة ضد قبيلته؛ لأن القبيلة كافرة وقد صار هو في معسكر أهل الإسلام وأهل التوحيد، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشدد ويؤكد في مناسبات كثيرة على نسف جميع الولايات الأخرى وإبقاء الولاية لله وحده، ينسف قضايا التعصب للعرق والنسب والقبيلة والطائفة، وهذا الحديث مثال على ذلك: روى البخاري رحمه الله، عن جابر قال: (غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم وقد تاب معه أناس من المهاجرين حتى كثروا، وكان من المهاجرين رجلٌ لعاب -أي: يجيد اللعب بالحراب- فكسع أنصارياً -ضربه على قفاه- فغضب الأنصاري غضباً شديداً حتى تداعوا -تجمعوا واحتشدوا- وقال الأنصاري: يا للأنصار! وقال المهاجري: يا للمهاجرين -تحزبت كل طائفة، كل واحد يقول: يا أصحابي! يا للمهاجرين! والثاني يقول: يا للأنصار- فخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ما بال دعوى الجاهلية، ثم قال: دعوها فإنها منتنة) فكل ولاية لغير الله نتن وقذارة تلطخ التوحيد وتدمره، وتبعثره وتفرقه: (دعوها فإنها منتنة).

من مقتضيات الولاء لله: محبة أحباب الله

من مقتضيات الولاء لله: محبة أحباب الله من مقتضيات الولاية لله سبحانه وتعالى: أن تحب أحباب الله أن تحب أولياء الله سبحانه وتعالى، وتعادي من عادى الله، ومن أبغض الله، ولذلك عقل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المعنى بشكلٍ عجيب، فكان أحدهم يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول له: يا رسول الله! إنك لأحب إليَّ من نفسي، وإنك لأحب إليَّ من أهلي ومالي، وأحب إليَّ من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتيك. أيها الإخوة: تصوروا مقدار هذه المحبة للرسول صلى الله عليه وسلم محبة أولياء الله على رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كان متمثلاً في الصحابة، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتيك، فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وإني إذا دخلت الجنة خشيت ألا أراك، أنت ترفع مع النبيين وأنا قد لا أراك، ولو أني قد أدخل الجنة، لكن قد لا أراك، أنا أخشى من هذا يا رسول الله! أنا لا أطيق على فراقك حياً وبعد أن يبعثك الله، فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم، لم يكن عنده جوابٌ في المسألة، حتى نزل جبريل بهذه الآية: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ} [النساء:69 - 70] هذا فضل الله، ليست الأموال، ولا السيارات، ولا الأراضي، ولا العقارات، ولا الجاه والمنصب {ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ} [النساء:70] معية الرسول صلى الله عليه وسلم والصالحين في الجنة، هذا الصحابي مثال لبقية الصحابة. ولذلك كان أحدهم يترك أخاه وأباه وعائلته وقبيلته وعشيرته ويلتحق بركب المسلمين، لا يواد الكفار ولو كانوا أقرب الناس إليه، بل كان الأمر يصل ببعضهم أن يقتل أباه الكافر؛ لأنه يعادي الله عز وجل. قال ابن حجر رحمه الله في الإصابة في ترجمة عامر بن عبد الله بن الجراح وهو أبو عبيدة رضي الله عنه، قال: نزلت فيه: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ الآية} [المجادلة:22] قال ابن حجر: وهو فيما أخرج الطبراني بسندٍ جيد عن عبد الله بن شوذب قال: جعل والد أبي عبيدة يتصدى لـ أبي عبيدة يوم بدر، فيحيد عنه -الابن يحيد عن الأب- فلما أكثر من التصدي له، قتله - أبو عبيدة - لأن الأب كافر يعادي الله، وأبو عبيدة مؤمن يوالي الله لا يجتمعان، حتى لو كان هذا من صلب هذا، فقصده فقتله، فأنزل الله هذه الآية: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22]. هذا المستوى الرفيع في الولاية التي تحققت في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي أوصلهم إلى ما أوصلهم إليه من محبة الله لهم، ونصرة الله إياهم، كان أحدهم يترك أهله وأقرباءه، ويؤاخي رجلاً بعيداً عنه بعيداً عن نسبه وبلاده، يؤاخي بلالاً الحبشي، وسلمان الفارسي، يؤاخي هؤلاء يسكن معهم يأكل معهم يجاهد معهم يتعلم معهم، ويترك الكفرة من الأب والابن وغيرهم من أقرب الناس، والمرأة تترك زوجها: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة:10] هذا الحكم مهم جداً في هذا العصر؛ لأنه قد يوجد معك في بيتك مرتدٌ عن دين الله، لما ابتعد الناس هذا الابتعاد الشديد عن الدين، وانسلخوا عن التوحيد، وابتعدوا عن الله عز وجل، لا بد أن نشعر بمعاني المفاصلة التي كان يشعر بها صحابة رسول الله.

من مقتضيات الولاء لله: تحمل الأذى في سبيل الله

من مقتضيات الولاء لله: تحمل الأذى في سبيل الله ومن أجل ذلك -أيها الإخوة- كان من مقتضيات الولاية لله: تحمل الأذى في سبيل الله؛ لأن هذه الولاية ستكلفك أشياء عظيمة؛ قد تكلفك حياتك قد تكلفك مالك وابتعادك عن أرضك، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد والترمذي عن أنس: (لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد -من أجل الله، من أجل الولاية في الله؛ لأني أوالي الله- وأخفت في الله وما يخاف أحد -لا أحد أوذي مثلما أوذي الرسول صلى الله عليه وسلم- ولقد أتت عليَّ ثلاثون من بين يومٍ وليلة، ومالي ولـ بلال طعامٌ يأكله ذو كبدٍ إلا شيءٌ يواريه إبط بلال) شيء يسير جداً، خلال ثلاثين يوماً والرسول صلى الله عليه وسلم لا يجد طعاماً، من أجل ولاية الله حوصر الصحابة في الشعب، كان أحدهم يأكل جلد بعيرٍ قديم قد ارتد رشاش بوله عليه يأخذه فينقعه في الماء يغسله فيأكله، أكلوا أوراق الشجر حتى تقرحت أفواههم وشفاههم لماذا؟ من أجل ماذا؟ من أجل أي شيء؟ من أجل ولاية الله سبحانه وتعالى، هذه المعاني التي تميعت عند المسلمين اليوم. اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، وارزقنا ولايتك ونصرتك يا أرحم الراحمين. وأستغفر الله لي ولكم. الحمد لله الذي لا إله إلا هو سبحانه وتعالى، له الأسماء الحسنى فادعوه بها، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي والى في الله وعادى في الله، وجمع الأمة على سبيل الله، وجاهد في الله حق جهاده، وعلَّمنا معاني الولاء والبراء، حتى تركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك. ومن أجل الولاية في الله تغرب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأوطان، ولاقوا في أسفار الهجرة الأَّمرين، تحملوا ألم الغربة والفقر، وعدم وجود المأوى من أجل الله سبحانه وتعالى، وهذا مثالٌ من الأمثلة: روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي موسى رضي الله عنه قال: (بلغنا مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بـ اليمن في أدنى الجزيرة، فخرجنا مهاجرين إليه أنا وأخوان لي أنا أصغرهم، في ثلاثة وخمسين أو اثنين وخمسين رجلاً من قومي) هجرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أرسله الله عز وجل من اليمن قاصدين الرسول صلى الله عليه وسلم (فركبنا سفينة، فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي في الحبشة) ركوب البحر كان خطيراً في ذلك الوقت، تحملوا هذا الخطر، لعب الموج بهم ثم ألقاهم في أرض الحبشة (فوافقنا جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وأصحابه عنده -وكان جعفر قد هاجر من مكة إلى الحبشة بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم- فقال جعفر لـ أبي موسى) لأخيه في الدين لصاحبه في الطريق الذي لم يره من قبل، جمعه وإياه في أرض الغربة الولاية في الله، ما رآه من قبل، مجرد ما التقى به أحس أنه وإياه شيٌ واحد، هذه الولاية في الله، الانصهار في بوتقة الأخوة التي تجمع الناس على طريق الله. فقال جعفر: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثنا هاهنا وأمرنا بالإقامة فأقيموا معنا، قال: فأقمنا معه حتى قدمنا جميعاً إلى المدينة بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها فوافقنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر فأسهم لنا -أعطانا من غنائم خيبر مع أنهم لم يشهدوا فتح خيبر وكانوا فقراء- فكان أناس من الناس يقول لنا -أي: لأهل السفينة، المهاجرين- نحن سبقناكم بالهجرة، قال: فدخلت أسماء بنت عميس -وهي ممن قدم معنا- على حفصة زوجة الرسول صلى الله عليه وسلم بنت عمر، في يوم من الأيام دخل عمر على حفصة وأسماء بنت عميس عندها، فقال عمر: من هذه؟ فقالت حفصة: أسماء بنت عميس، فقال عمر: الحبشية هذه، البحرية هذه، فقالت أسماء: نعم، فقال عمر: سبقناكم بالهجرة، فنحن أحق برسول الله صلى الله عليه وسلم منكم، فغضبت -وقالت كلمة تركتها الآن- ثم قالت: كلا والله، كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يطعم جائعكم، ويعظ جاهلكم، وكنا في دار أو في أرض البعداء والبغضاء -في أرض الحبشة - وذلك في الله وفي رسوله صلى الله عليه وسلم وأيم والله لا أطعم طعاماً ولا أشرب شراباٌ حتى أذكر ما قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن كنا نؤذى ونخاف -في هذه الهجرة كنا نؤذى ونخاف في أرض بعداء وبغضاء؛ لأن أهل الحبشة كان أكثرهم كفار- وسأذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأسأله ووالله لا أكذب ولا أزيد على ذلك، قال: فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: يا نبي الله! إن عمر قال كذا وكذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس بأحق بي منكم، وله وأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم أصحاب السفينة هجرتان -أجر هجرتين- قالت: فلقد رأيت أبا موسى وأصحاب السفينة يأتونني أرسالاً يسألونني عن هذا الحديث، ما من الدنيا شيءٌ هم به أفرح ولا أعظم في أنفسهم مما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) امرأة تخرج تتغرب في أرض بعداء وبغضاء، تؤذى وتخاف من أجل أي شيء؟ لماذا تعمل هذا العمل؟ ومن الذي يقوى على هذا العمل؟ أيها الإخوة: إنها الهجرة لله سبحانه لتحقيق ولاية الله ومحاولة لتكوين المجتمع الذي يرضاه الله سبحانه.

من مقتضيات الولاء لله: تحديد المواقف من الناس في ذات الله

من مقتضيات الولاء لله: تحديد المواقف من الناس في ذات الله والولاية لله كذلك تعني اتخاذ المواقف في ذات الله، وتحديد المواقف من الناس في ذات الله، ووضع الإمكانيات المادية وغيرها في سبيل الله. مثال: قصة إسلام ثمامة رضي الله عنه، لما أسلم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، يا محمد! ما كان على الأرض وجهٌ أبغض إليَّ من وجهك، فلقد أصبح وجهك أحب الوجوه إليَّ، والله ما كان من دينٍ أبغض إليَّ من دينك، فأصبح دينك أحب الدين إليَّ، والله ما كان من بلدٍ أبغض إليَّ من بلدك، فأصبح بلدك أحب البلاد إليَّ. هذا كله تم في لحظات الإسلام، هذا الفرق بين إسلام الأوائل، وإسلام الناس اليوم في لحظات يدخل في دين الله تقوم مقتضيات الولاء والبراء في نفسه، فيحب رسول الله، ودين رسول الله، وبلد رسول الله أكثر من أي شيءٍ آخر، ثم استأذن رسول الله في العمرة فشجعه عليه الصلاة والسلام عليها، فماذا قال لما ذهب إلى كفار قريش في مكة؟ اتخاذ المواقف، تحديد الموقف من أعداء الله، ووضع الإمكانيات لنصرة الله وولايته لله، قال: ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة، وكانت اليمامة تصدر الحنطة إلى مكة، حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وضع إمكانيات البلد كلها موطنة في سبيل الله، وولايته ونصرته، مَنْ من الناس اليوم يضع إمكانياته في سبيل الله؟ مَنْ من الناس يستشعر هذا؟!

من مقتضيات الولاء لله: عدم اتخاذ أعداء الله أولياء

من مقتضيات الولاء لله: عدم اتخاذ أعداء الله أولياء من مقتضيات الولاية لله: عدم اتخاذ أعداء الله أولياء {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] وهناك كثير من المسلمين اليوم يسارعون في موالاة الكفار ومصادقتهم وعقد الاحلاف للنصرة فكيف يجتمعان في قلب عبد؟ وفي العصر الحديث في بلاد الهند لما أتاها النصارى فاستعمروها وكان فيها كثيرٌ من المسلمين، قال العلامة صديق حسن خان رحمه الله، وكان ملكاً في جزء من أرض الهند أو السند كتب مؤلفاً وهو العبرة فيما جاء بالغزو والشهادة والهجرة، يقول فيه عن شيء من أشكال الولاية للكفرة، قال: وأما القوم الذين في بلاد الإسلام والمسلمين ويدعون أنهم من رعية النصارى، ويرضون بذلك ويفرحون به، وإنهم ليتخذون لسفنهم بيارقة، وهي التي تسمى رايات مثل رايات النصارى، إعلاماً منهم بأنهم من رعاياهم، فهؤلاء قومٌ أشربوا حب النصارى في قلوبهم، ويعتقدون بأن النصارى أقوم للبلاد في حفظها من المسلمين، فإن كان القوم المذكورون جهالاٌ يعتقدون دين الإسلام وعلوه على جميع الأديان، وأن أحكامه أقوم الأحكام وليس في قلوبهم مع ذلك تعظيم للكافر وأربابه، فهم باقون على أحكام الإسلام، لكنهم فساق مرتكبون لخطبٍ كبيرٍ يجب تعزيرهم عليه وتأديبهم وتنكيلهم، وإن كانوا علماء بأحكام الإسلام، ومع ذلك صدر منهم ما ذكر، فيستتابوا، فإن رجعوا عن ذلك وتابوا إلى الله وإلا فهم مارقون، فإن اعتقدوا تعظيم الكفر؛ ارتدوا وجرى عليهم أحكام المرتدين. فهذه المظاهر إظهار شعارات النصارى، والتشبه بهم في ملابسهم وحضور أعيادهم وتهنئتهم بمناسباتهم، دلالة على ولايتهم من دون الله وتوليهم. أتحب أعداء الحبيب وتدعي حباً له ما ذاك في إمكان كيف تحب أعداء الله وتحب الله؟ لا يمكن أن يجتمعان في قلب عبد، وكثير من المسلمين يعظمون اليهود والنصارى، ويعظمون الكفار يعتقدون أن الكفار أحسن من المسلمين، وأنهم أفضل من المسلمين في نواحٍ كثيرة. يقول النووي رحمه الله في الروضة في باب الردة ما لفظه: "ولو قال معلم الصبيان أن اليهود خير من المسلمين بكثير، من أجل ماذا؟ لأنهم يقدرون حقوق معلمي صبيانهم كفر". الذي يقول: إن اليهود أحسن من المسلمين بكثير، لماذا؟ يقول: لأن اليهود يعطون معلمي الصبيان الحقوق والمسلمين لا يعطونهم، فهو كافر. واليوم وُجِدَ من المسلمين من ذهب إلى بلاد الكفار وقال بعد عودته: وجدتُ إسلاماً بلا مسلمين، وجد هناك إسلاماً بلا مسلمين، هو المسكين يظن أن الإسلام هو النظافة والترتيب وتنظيم الأعمال والإنتاج، يظن أن هذا هو الإسلام، لا حول ولا قوة إلا بالله، مسخت العقيدة نسأل الله السلامة. اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى أن ترزقنا ولايتك، اللهم اجعلنا ممن يوالي فيك ويعادي فيك، اللهم اجعلنا ممن يحب أولياءك ويبغض أعداءك، واجعلنا ممن أمرتهم على التوحيد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.

أحوال الناس يوم القيامة

أحوال الناس يوم القيامة هذه المادة وصف متقن تبين حال كل صاحب طاعة، وكل صاحب معصية يوم القيامة، ذلك اليوم الذي نعجز عن وصفه إلا بآيات القرآن وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم.

شدة الموقف يوم القيامة

شدة الموقف يوم القيامة إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإنَّ الله قد أنذرنا يوماً لا ريب فيه، وأنذرنا يوم المعاد، وأنذرنا يوماً يجعل الولدان شيباً، ذلك هو يوم الحشر، ويوم القيامة، ذلك اليوم الذي تبيض فيه وجوهٌ وتسود وجوه، ذلك اليوم المشهود يوم الحسرة يوم تبدل الأرض غير الأرض، {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً} [آل عمران:30] {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18]، إنه يومٌ كان مقداره خمسين ألف سنة، هذا اليوم العظيم أنذرنا الله تعالى به في كتابه، وجاءت الأخبار في سنة النبي صلى الله عليه وسلم بأهواله، قال كما في صحيح البخاري: (يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعاً، ويلجمهم حتى يبلغ آذانهم). وقال النبي صلى الله عليه وسلم مبيناً الشدة في ذلك اليوم وما يصيب الناس، فيذهبون إلى الأنبياء، نبياً بعد نبي، قال عليه الصلاة والسلام: (يجمع الله يوم القيامة الأولين والآخرين في صعيدٍ واحد، فيسمعهم الداعي، وينفذهم البصر، وتدنو الشمس، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون وما لا يحتملون، فيقول بعض الناس لبعض: ألا ترون ما أنتم فيه؟ ألا ترون ما قد بلغكم؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعضٍ: ائتوا آدم، فيأتون آدم) الحديث، وفيه طواف الناس على الأنبياء، وعلى أولي العزم من الرسل بالذات، يرجون الخلاص من تلك الوقفة، {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] والشمس فوق رءوسهم على قدر ميلٍ قد صهرت أجسادهم، وصار العرق يتصبب حتى يذهب في الأرض سبعين ذراعاً، فيغرق الناس من العرق، ويتمنون الفكاك من ذلك اليوم ولو إلى النار، يطوفون على الأنبياء نبياً بعد نبي حتى ينتهي الأمر إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. في ذلك اليوم العظيم (ينادي منادٍ: ليذهب كل قومٍ إلى ما كانوا يعبدون، فيذهب أصحاب الصليب مع صليبهم، وأصحاب الأوثان مع أوثانهم، وأصحاب كل آلهة مع آلهتهم، حتى يبقى من كان يعبد الله من بر أو فاجر، وغبرات من أهل الكتاب، ثم يؤتى بجهنم تعرض كأنها سراب، فيقال لليهود: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد عزير ابن الله، فيقال: كذبتم، لم يكن لله صاحبة ولا ولداً، فما تريدون؟ قالوا: نريد أن تسقينا، فيقال: اشربوا فيتساقطون في جهنم -هذا مأوى اليهود في النهاية- ثم يقال للنصارى: ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: كنا نعبد المسيح ابن الله، فيقال: كذبتم، لم يكن لله صاحبة ولا ولداً، فما تريدون؟ فيقولون: نريد أن تسقينا؟ فيقال: اشربوا، فيتساقطون في جهنم) الحديث رواه البخاري رحمه الله تعالى. في ذلك اليوم العظيم: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه يوم القيامة ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى شيئاً إلا شيئاً قدمه، ثم ينظر أشأم منه فلا يرى شيئاً إلا شيئاً قدمه، ثم ينظر تلقاء وجهه فتستقبله النار، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من استطاع منكم أن يقي وجهه حر النار ولو بشق تمرة فليفعل). لقد بلغ ذلك اليوم من أهواله في نفوس الصحابة مبلغاً عظيماً، حتى قال أنس رضي الله عنه: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم أن يشفع لي يوم القيامة، فقال: أنا فاعل، قلت: يا رسول الله! فأين أطلبك؟ قال: اطلبني أول ما تطلبني على الصراط، قال: قلت: فإن لم ألقك على الصراط؟ قال: فاطلبني عند الميزان، قلت: فإن لم ألقك عند الميزان؟ قال: فاطلبني عند الحوض، فإني لا أخطئ هذه الثلاث المواطن) رواه الترمذي وهو حديث حسن.

أصناف أهل الخير يوم القيامة

أصناف أهل الخير يوم القيامة في ذلك الموقف وفي ذلك اليوم العظيم ينقسم الناس إلى طوائف، ويصنف الناس إلى أصناف، فتعالوا بنا نستعرض بعض أصناف الناس يوم القيامة. قال النبي صلى الله عليه وسلم في حملة القرآن: (يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به، تقدمه سورة البقرة وآل عمران -وضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمثال- كأنهما غمامتان، أو ظلتان سودوان بينهما شرقٌ، أو كأنهما حزقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما) والظلة: السحابة، والشرق: ضياء ونور، ومعنى حزقان من طير: أي جماعتان، قال عليه الصلاة والسلام: (اقرءوا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة) أي: السحرة، رواه مسلم رحمه الله. أما أصحاب الصيام فيقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: (لخلوف فم الصائم أطيب عند الله يوم القيامة من ريح المسك). وأما أهل الحج فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: في رجلٍ كان واقفاً معه بـ عرفة فأوقفته ناقته -أوقعته من فوقها- فمات، فقال عليه الصلاة والسلام: (اغسلوه بماءٍ وسدرٍ وكفنوه في ثوبين، ولا تحنطوه ولا تخمروا رأسه، فإن الله يبعثه يوم القيامة ملبياً). وأما أهل الجراحات في سبيل الله، فيقول عليه الصلاة والسلام: (من قاتل في سبيل الله من رجلٍ مسلم تواق ناقة -ولو مقدار حلب ناقة- وجبت له الجنة، ومن جرح جرحاً في سبيل الله أو نكب نكبةً فإنها تجيء يوم القيامة كأغزر ما كانت، لونها الزعفران، وريحها كالمسك) قال الترمذي: حديث صحيح. وأما المؤذنون فيقول عليه الصلاة والسلام: (المؤذنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة) رواه مسلم (إذا ألجم الناس العرق طالت أعناقهم لئلا ينالهم ذلك الكرب والعرق، هم رؤساء الناس أو من رؤسائهم وسادتهم يوم القيامة أطولهم أعناقاً حساً ومعنى) كما جاء في صحيح مسلم. وعندما يعرق الناس والشمس فوق الرءوس في ذلك الكرب العظيم، يكون هناك أناسٌ في ظل الله تعالى، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما ورد في الصحيح: (سبعةٌ يظلهم الله يوم القيامة في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمامٌ عادل، وشابٌ نشأ في عبادة الله، ورجلٌ ذكر الله في خلاء ففاضت عيناه، ورجلٌ قلبه معلقٌ بالمسجد، ورجلان تحابا في الله، ورجلٌ دعته امرأة ذات منصب وجمالٍ إلى نفسها، فقال: إني أخاف الله، ورجلٌ تصدق بصدقةٍ فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما صنعت يمينه). وكذلك فإن ممن يكون في الظل ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي) رواه مسلم، وكذلك: (من أنظر معسراً أو وضع له، أظله الله يوم القيامة تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله) رواه الترمذي وهو حديثٌ صحيح. ولذلك كان أبو قتادة يطلب غريماً له، فتوارى عنه الغريم هارباً، ثم وجده، فقال الغريم: إني معسر، فقال: آلله، قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة، فلينفس عن معسرٍ أو يضع عنه) رواه مسلم، وكذلك قال عليه الصلاة والسلام: (المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلمٍ كربة فرج الله عنه كربةً من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة) رواه البخاري، من ستره حساً بتقديم اللباس للعاري، وستره معنىً بأن ستر عليه فلم يفضحه، وهو يستحق الستر، وهو له أهلٌ. وكذلك في ذلك الموقف العظيم: (ما شيءٌ أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلقٍ حسن) رواه الترمذي وأبو داود وهو حديثٌ صحيح، أما: (من عال جاريتين -بنتين صغيرتين، أو أمتين مملوكتين- حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو، وضم أصابعه صلى الله عليه وسلم) رواه مسلم. فهذا يا آباء البنات! بعض ما ورد في أجر تربية البنات والإحسان إليهن، فلا تجزع إذا ولدت لك امرأتك بنتاً أخرى، وأنت تشتهي أن يكون المولود ذكراً، وكذلك: (من شاب شيبةً في الإسلام كانت له نوراً يوم القيامة) رواه الترمذي وهو حديث صحيح، فالذي يشيب من المجاهدة يشيب رأسه من عظمة الله يشيب رأسه وهو ملتزمٌ بأحكام الشريعة. وكذلك: (من كظم غيظاً وهو يستطيع أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رءوس الخلائق، حتى يخيره في أي الحور شاء)، وفي رواية: (قادرٌ على أن يُنْفذه دعاه الله عز وجل على رءوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره الله من الحور العين ما شاء) وهو حديث صحيح في الترمذي وغيره، فالذي يكف عن إمضاء الغيظ وهو قادرٌ على إنفاذ وعيده وبطشه، فالله يدعوه على رءوس الخلائق، ويشهر أمره، ويثني عليه، ويباهي به، هذا الذي يقال في حقه كذا وكذا، صدرت منه هذه الخصلة العظيمة، هذا جزاء من يكظم غضبه ونفسه الأمارة بالسوء. أما من ترك اللباس تواضعاً لله وهو يقدر عليه: (دعاه الله يوم القيامة على رءوس الخلائق حتى يخيره من أي حلل الإيمان شاء يلبسها) رواه الترمذي وهو صحيح، الذي يترك لبس الثياب الحسنة المرققة، عظيمة القيمة تواضعاً لله، لا بخلاً ولا رياءً؛ ليقال: زاهد، فإن الله يشهره ويناديه ويخيره من حلل أهل الإيمان أيها شاء، يختار ويلبس، هذه بعض أصناف المؤمنين من أصحاب الأعمال الصالحة.

أصناف أهل السوء يوم القيامة

أصناف أهل السوء يوم القيامة أصناف بعض أصحاب أهل السوء، وأهل الشر من أهل الجرائم والكبائر، ما حالهم يوم الدين؟

حال القاتل يوم القيامة

حال القاتل يوم القيامة قال صلى الله عليه وسلم: (يجيء المقتول بالقاتل يوم القيامة ناصيته ورأسه بيده -القاتل يحمل رأسه بيده، وأوداجه تشخب دماً- يقول: يا رب! هذا قتلني، حتى يدنيه من العرش) يحاكمهم الله يوم القيامة وأول ما يقضي بين الناس يوم القيامة في الدماء، الذي اعتدى على إنسانٍ بقتلٍ أو جراحة، وحديث: (القاتل والمقتول) صحيح رواه الترمذي وغيره.

حال مانع الزكاة يوم القيامة

حال مانع الزكاة يوم القيامة أما مانع الزكاة، فقد قال فيه النبي عليه الصلاة والسلام: (من آتاه الله مالاً فلم يؤدِ زكاته مُثل له ماله يوم القيامة شجاعاً أقرعاً -ثعبانٌ عظيم سقط شعره لكثرة سمه- له زبيبتان يطوقه يوم القيامة، ثم يأخذ بلهجمتيه -أي: بشدقيه- ثم يقول: أنا مالك أنا كنزك، ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} [آل عمران:180] الآية).

حال عاق والديه يوم القيامة

حال عاق والديه يوم القيامة وقال عليه الصلاة والسلام: (ثلاثةٌ لا ينظر الله عز وجل إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه) تأمل في معنى: لا ينظر الله يوم القيامة إليهم! ليسوا محل نظر الرب ليسوا موضع نظر الرب ليسوا بأهلٍ لنظرة من الرب، (لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه) وما أكثر أهل العقوق في هذا الزمان، العاق لوالديه بالباطل، ثم قال: (والمرأة المترجلة، والديوث) والديوث: الذي لا غيرة له على أهله، وما أكثرهم في هذا الزمان، لا غيرة لهم على أهاليهم، لا فيما تخرج به البنات والنساء إلى الشوارع، ولا فيما يلبسون، ولا فيمن يكلمون بالهاتف، ولا مع من يخرجون ديوث يقر الخبث في أهله، لا ينظر الله إليه يوم القيامة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وما من رجلٍ من القاعدين يخلف رجلاً من المجاهدين في أهله فيخونه فيهم -الخائن في أهل المجاهد- إلا وقف له يوم القيامة، فيأخذ من عمله ما شاء، فما ظنكم) رواه مسلم.

حال المرائي يوم القيامة

حال المرائي يوم القيامة وكذلك حدثنا النبي صلى الله عليه وسلم في حديثٍ عظيم: (إن الله تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ليقضي بينهم وكل أمة جاثية، فأول من يدعى به رجلٌ جمع القرآن) وفي رواية مسلم: (تعلم العلم وعلَّمه)، وكذا القرآن: (ورجلٌ يقتتل في سبيل الله، ورجلٌ كثير المال، فيقول الله للقارئ: -يعرف كل واحدٍ نعمته عليه- ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟ قال: بلى يا رب! قال: فماذا عملت فيما علمت؟ قال: كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار -وفي رواية: تعلمت العلم وعلَّمته وقرأت فيك القرآن- فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول الله: بل أردت أن يقال: إن فلاناً قارئ -وفي رواية: تعلمتَ ليقال: عالم- وقرأت القرآن ليقال: قارئ، فقد قيل ذاك، ويؤتى بصاحب المال، فيقول الله له: ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد؟ قال: بلى يا رب! قال: فماذا عملت فيما آتيتك؟ قال: كنت أصل الرحم، وأتصدق، فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت -الرجل يقول: ما تركت من سبيلٍ تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك- يقول الله: بل أردت أن يقال: فلانٌ جوَّاد، فقد قيل ذلك، ويؤتى بالمقتول في المعركة، فيسأله الله ثم يبين نيته، أردت أن يقال: فلانٌ جريء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة) {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16] هذه عاقبة المرائي يوم القيامة.

حال من ادعى إلى غير أبيه يوم القيامة

حال من ادعى إلى غير أبيه يوم القيامة وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح أيضاً: (من ادعى إلى غير أبيه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً) قيل الصرف: الفريضة، والعدل: النافلة، وقيل العدل: الفريضة، وقيل: التوبة، وقيل: الفدية.

حال أهل الغدر يوم القيامة

حال أهل الغدر يوم القيامة وأما أهل الغدر الذين يخونون، قال عليه الصلاة والسلام: (لكل غادرٍ لواء عند استه يوم القيامة) والاست: الدبر، عند دبره في أقبح موضع يرفع له لواء، وفي رواية لـ مسلم: (يعرف به يقال: هذه غدرة فلان بن فلان)، وفي رواية لـ مسلم أيضاً: (يرفع له بقدر غدره) يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا ولا غادر أعظم غدراً من أمير عامةٍ) وذلك لأن غدره عامٌ، فكل من عقد عقداً، ثم خان العقد وغدر بالمعقود له فإنه غادر: (كل من خدع غيره وهو آمن من جهته فإنه غادر) والذين يغيرون عقود العمال بعد وصولهم ويأخذونها منهم فيتلفونها وينقصون قدرها، فهم من هؤلاء الغادرين، (وكذلك من أمنه صاحبه فجاءه من جهته، وهو يأمنه جاءه بشرٍ فهو غادر)، وكذلك الذين يتلاعبون بالأموال العامة ويسرقون منها، ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الغلول فعظمه، وعظم أمره كما في صحيح مسلم، ثم قال: (لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعيرٌ له رغاء، يقول: يا رسول الله! أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك، لا ألفينَ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرسٌ له حمحمة -صوت الفرس- فيقول: يا رسول الله! أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء، يقول: يا رسول الله! أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك، لا ألفينَ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفسٌ لها صياح، فيقول: يا رسول الله! أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاعٌ تخفق -والمراد بها الثياب المغلولة من الغنيمة قبل القسمة- فيقول: يا رسول الله! أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامتٌ -وهو المال من الذهب والفضة- فيقول: يا رسول الله! أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك) هذه عاقبة السرقة من أموال المسلمين العامة، وكذلك يقول عليه الصلاة والسلام في هذا الموضوع أيضاً: (إن رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حق، فلهم النار يوم القيامة) رواه البخاري، وفي رواية للترمذي: (ورب متخوضٍ فيما شاءت به نفسه من مال الله ورسوله ليس له يوم القيامة إلا النار) حديث حسن صحيح. قال الشُّراح: (يتخوضون في مال الله) أي: يتصرفون في مال المسلمين بالباطل، وقوله: (من مال الله) أقيم مقام المضمر إشعاراً بأنه لا ينبغي التخوض في مال الله ورسوله بمجرد التشهي، والتصرف في مال الله بما لا يرضاه، أي: يتصرفون في بيت المال، ويستبدون بمال المسلمين، فيما شاءت أنفسهم، أي: فيما أحبته والتذت به، كما قال المباركفوري رحمه الله في تحفة الأحوذيشرح جامع الترمذي: "فالحذر الحذر رحمكم الله من الاعتداء على مال المسلمين العام، لا تأخذ منه شيئاً فإن الله بالمرصاد يوم القيامة". نسأل الله تعالى أن يسلمنا أجمعين من أهوال موقف ذلك اليوم العظيم، وأن يسترنا بستره، وأن يعفو عنا بعفوه. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

حال مغتصبي الأراضي يوم القيامة

حال مغتصبي الأراضي يوم القيامة الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي المتقين، وأشهد أن محمداً رسول الله الأمين بعثه الله رحمةً للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وذريته أجمعين إلى يوم الدين. عباد الله: إن ذلك الموقف العظيم ينقسم فيه الناس أقساماً، ويصنفون أصنافاً، وقد تقدم لكم بعض أصنافهم وحالهم في ذلك الموقف، ومنهم: الذين يظلمون في الأراضي، قال صلى الله عليه وسلم: (من أخذ شبراً من الأرض ظلماً، فإنه يطوقه يوم القيامة من سبع أرضين) رواه البخاري. يجعل في عنقه طوقٌ عظيم. ولـ أبي يعلى بإسنادٍ حسن: (من أخذ من طريق المسلمين شبراً جاء يوم القيامة يحمله من سبع أرضين) وقال عليه الصلاة والسلام: (أعظم الغلول عند الله يوم القيامة ذراع أرضٍ يسرقه رجلٌ، فيطوقه من سبع أراضين حتى يقضى بين الناس) (يحفره) كما جاء في رواية، وفي رواية (يحمله) يطوقه في عنقه يوم القيامة إلى الأرض السفلى، شبر واحد غصبه إلى الأرض السفلى، كم من الأمتار ذلك العمق يوضع حول عنقه يوم القيامة، يكلف بحفره وحمله، شبر واحد يأخذه من أرض المسلمين، أو من أرض جاره هكذا يكون عقابه يوم القيامة.

حال الحالف بالله كاذبا يوم القيامة

حال الحالف بالله كاذباً يوم القيامة وقال صلى الله عليه وسلم: (ثلاثةٌ لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم، رجلٌ حلف على سلعة لقد أعطي بها أكثر مما أعطى وهو كاذب، ورجلٌ حلف على يمينٍ كاذبة بعد العصر -وهو وقت صعود الأعمال- ليقتطع بها مال رجل مسلم، ورجلٌ منع فضل ماءٍ -عن محتاج إلى الماء وعنده زيادة- فيقول الله يوم القيامة: اليوم أمنعك فضلي، كما منعت فضل ما لم تعمل يداك). وكذلك قال عليه الصلاة والسلام: (من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلمٍ، لقي الله وهو عليه غضبان) فما بالك اليوم بالذين يحلفون عند القضاة بالباطل، يدخلون المحاكم ويحلفون في مجلس القضاء، بالله العظيم، وهو كذاب فيما حلف، ماذا تُرى يكون أمره يوم الدين؟

حال الشحاذين يوم القيامة

حال الشحاذين يوم القيامة وهؤلاء الشحاذين الذين يسألون الناس بغير حقٍ إذا كان لهم ما يغنيهم، كيف يكون حالهم يوم القيامة؟ قال صلى الله عليه وسلم: (ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم)، وقال: (من سأل وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه -كيف تكون؟ - كدوشٍ خدوشٍ -أي: ندب وجراحات في وجهه، مجرحاً في وجهه- مسألته في وجهه يوم القيامة) حديث صحيح.

حال المتكبرين يوم القيامة

حال المتكبرين يوم القيامة أما المتكبرون والمختالون، والذين يرون لأنفسهم فضلاً عظيماً يقول عليه الصلاة والسلام: (يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر) النمل الصغار، الجزاء من جنس العمل، كما انتفخ وانتفش في الدنيا، يأتي يوم القيامة كمثل الذرة: النملة الصغيرة (في صور الرجال، يغشاهم الذل من كل مكان، فيساقون إلى سجنٍ في جهنم يسمى بولس، تعلوه النار يسقون من عصارة أهل النار، طينة الخبال) روه الترمذي وهو حديث حسن صحيح.

حال النائحة يوم القيامة

حال النائحة يوم القيامة أما النائحة التي تصرخ عند المصيبة وتصيح، تشق ثوباً أو تقطع شعراً وتشده، قال صلى الله عليه وسلم: (النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربالٌ ثوب طويل من قطران -مادة سوداء لزجة- ودرعٌ من جرب) يوم القيامة مقداره خمسين ألف سنة، كما ورد في حديث مسلم هذا.

حال لابس ثياب الشهرة يوم القيامة

حال لابس ثياب الشهرة يوم القيامة وأما الذي يلبس ثوب الشهرة لترتفع إليه أبصار الناس، ويشيرون إليه بأصابعهم، فما شأنه؟ قال صلى الله عليه وسلم: (من لبس ثوب شهرةٍ ألبسه الله يوم القيامة ثوباً مثله، ثم تلهب فيه النار)، وفي لفظٍ: (من لبس ثوب شهرةٍ في الدنيا، ألبسه الله ثوب مذلةٍ يوم القيامة، ثم ألهب فيه ناراً) حديث حسن، وقال صلى الله عليه وسلم: (ثلاثةٌ لا يكلمهم الله يوم القيامة: المنَّان -الذي لا يعطي شيئاً إلا منه- والمنفق سلعته بالحلف الفاجر، والمسبل إزاره) أي: الذي تعدى إزاره كعبيه، رواه مسلم رحمه الله، وقال عليه الصلاة والسلام: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذابٌ أليم، فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرار، قال أبو ذر: خابوا وخسروا، من هم يا رسول الله؟! قال: المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب) وما أكثرها في الباعة اليوم، رواه مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه، فإن جر ثوبه خيلاء فقد استحق الوعيد الشديد، بأن لا ينظر الله إليه يوم القيامة، كما جاء في صحيح البخاري وغيره.

حال مصوري ذوات الأرواح يوم القيامة

حال مصوري ذوات الأرواح يوم القيامة أما الذين يصورون الصور ذوات الأرواح سواءً كانت مجسمة أو غير مجسمة، قال عليه الصلاة والسلام: (من صوَّر صورةً في الدنيا كلف يوم القيامة أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ)، وقال عليه الصلاة والسلام في هؤلاء: (إنهم يعذبون -الذين يصورون الصور- يقال لهم: احيوا ما خلقتم) هذا في غير ما صور للضرورة والحاجة الشرعية.

حال شر الناس عند الله يوم القيامة

حال شر الناس عند الله يوم القيامة وقال صلى الله عليه وسلم: (شرّ الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره) اتقاء فحشه ينفر عنه الناس، لا يطيقونه، وكذلك: (إن من أشر الناس عند الله يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته، وتفضي إليه ثم ينشر سرها) ينشر سرها وهو كناية عن الجماع، ويتحدث بما كان بينه وبين زوجته، كما جاء في الحديث الصحيح. وأما الذي لا يعدل بين زوجاته ويجور ويظلم ولا يقسم بالعدل والميزان والقسطاس المستقيم، فقد قال صلى الله عليه وسلم في شأنه: (إذا كان عند الرجل امرأتان، فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقه ساقط) أي: مائل، رواه الترمذي وهو حديث صحيح، والجزاء من جنس العمل. وقال صلى الله عليه وسلم: (تجد من شر الناس يوم القيامة عند الله ذا الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه) خداعاً للإطلاع على أسرار الطائفتين فيما حرم الله، وأما الذي يأتي للإصلاح بينهما فليس داخلاً في هذا الوعيد، والذي يكذب في المنام متوعدٌ بوعيدٍ يوم القيامة. قال صلى الله عليه وسلم: (من تحلم بحلمٍ لم يره كلف أن يعقد بين شعيرتين ولن يفعل) (ومن استمع إلى حديث قومٍ وهم له كارهون أو يفرون منه صب في أذنه الآنك -وهو رصاصٌ مذاب -يوم القيامة-) (ومن صوَّر صورة عذب وكلف أن ينفخ فيها وليس بنافخ) رواه البخاري، فلا تكذب بمنامك، ولا تخبر بخلاف ما رأيت، فإن هذا وعيده عظيمٌ لمن فعل ذلك، (من قام برجلٍ مقام سمعةٍ ورياء فإن الله يقوم به مقام سمعة رياء يوم القيامة) كمن قام إلى رجلٍ من أهل المال والجاه يتظاهر عنده بالصلاح والتقوى، ليعتقد ذلك فيه ويعطيه من المال والجاه، قام الله به يوم القيامة مقام المرائين وفضحه على رءوس الخلائق. عباد الله: اللعانون لا يكونون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة، وما أكثر الذين يذكرون اللعن، وهذا الحرمان لهم كما ورد في صحيح مسلم. إن ذلك الموقف يوم القيامة شأنه عظيم جداً، حتى أن الله يسألنا فيه عن ألوان النعيم، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إن أول ما يسأل عنه يوم القيامة -أي: من النعيم- أن يقال له: ألم نصح لك جسمك ونرويك من الماء البارد) فإذا كان الله سيسألنا يوم القيامة عن الماء البارد فكيف يكون الحال إذاً؟ كل مجلسٍ نجلسه في الدنيا لا نذكر الله فيه يكون على من جلس فيه حسرة يوم القيامة، وما أكثر مجالس لعب الورق اليوم، وما أكثر مجالس اللهو المحرمة، حتى قال صلى الله عليه وسلم: (من تفل تجاه القبلة جاء يوم القيامة وتفله بين عينيه) وأصناف الناس كثيرة، فيما دق من الذنوب وصغر، وفيما عظم وكبر، نسأل الله السلامة والعافية. وهؤلاء المعاندون الجبارون الذين يبطشون ويظلمون، وهؤلاء الذين يتسلطون على عباد الله تعالى هؤلاء الكفرة المجرمون وغيرهم، الذين ينتفشون اليوم في العالم يكونون أخفض عند الله منزلةً يوم القيامة من سائر الناس، (يخرج عنقٌ يوم القيامة من النار يقول: وكلتُ بكل جبارٍ عنيد) فلا يحزننا إذاً ما نراه من تسلط الكفرة اليوم واستيلائهم على مقاليد الأمور في العالم، يفعلون ما يشاءون يسرحون ويمرحون، فإنها دنيا قصيرة، ثم تكون العاقبة يوم الدين. اللهم إنا نسألك أن تأخذهم أخذ عزيزٍ مقتدر، اللهم أفشل خططهم، اللهم فرق شملهم، واجعل بأسهم بينهم، وصب عليهم سوط عذاب، اللهم أفشل ما كادوا به للإسلام وأهله، اللهم اجعلهم عبرةً للمعتبرين يا رب العالمين، انصر الإسلام والمسلمين، انصر في سبيلك المجاهدين، اللهم إنا نسألك أن تجعل فرج المسلمين قريباً، عجل فرجنا يا رب العالمين. اللهم إنا نسألك المغفرة والرحمة للحاضرين، اللهم اكتب مغفرتك ورحمتك لنا أجمعين، واعف عنا في ذلك المشهد العظيم، لا تفضحنا على رءوس الخلائق وأنت الرحمن الرحيم، فإليك اتجهنا، وعليك اعتمدنا، وعليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

اكتسب حسنة بالأخلاق الحسنة

اكتسب حسنة بالأخلاق الحسنة إن هذه التربية التي ننشدها هي سياج أمني يقي الفرد المسلم من الشرور التي تقذف به خارج طريق الاستقامة، وتُزل قدمه عن الصراط المستقيم، هذه التربية التي تخبرنا الأيام والأحداث أنه لابد منها، ولابد أن تكون قائمة على الكتاب والسنة، ومن الأشياء التي تكلم عنها الشيخ: التربية على الأخلاق؛ أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم وأخلاق السلف الصالح.

نماذج من سوء الخلق

نماذج من سوء الخلق الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: أيها الإخوة: سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وتحية طيبة، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلها ليلة خير وبركة. أيها الإخوة: إن هذه التربية التي ننشدها هي سياج آمن يقي الفرد المسلم من الشرور التي تطيح به عن طريق الاستقامة، وتزل بقدمه عن الصراط المستقيم، هذه التربية التي تخبرنا الأيام والأحداث أنه لا بد منها، لا بد أن تكون هذه التربية قائمة على منهاج الكتاب والسنة، تربيتنا على العقيدة الصحيحة، وعلى العبادة والإخلاص، وعلى العلم الشرعي، وعلى الأخلاق الإسلامية، وتربيتنا على المجاهدة والمصابرة، والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى والصبر على الأذى في سبيل الله. ومن هذا المنطلق نتحدث الليلة عن جانب من الجوانب المهمة في التربية، التربية على الأخلاق، الأخلاق الإسلامية، الأخلاق المذكورة في الكتاب والسنة، أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم، أخلاق الأنبياء والسلف الصالح، أخلاق الصحابة والعلماء والصالحين والمجاهدين. إن في واقعنا أزمة أخلاق، وإن كثيراً من المشكلات الموجودة في المجتمع نتيجة سوء الخلق، نعم، هذه ظاهرة واضحة، فأنت ترى -أيها الأخ المسلم- أن سوء الخلق يدمر العلاقات الزوجية، ومنهم من لا تذكره زوجته بخير أبداً، وهو أو غيره لا يشعر بمودة زوجته له على الإطلاق، ومنهم من تذكره زوجته بعد وفاته بالخير العميم، وتشعر نحوه بشعور مكين من الروابط التي قامت بينه وبينها بهذه الأخلاق الإسلامية. وإنني أوقن أنما جاء امرأة مصعب بن عمير لما تبلغت بوفاة زوجها فلم تتمكن من أن تملك نفسها، لقد صبرت على خبر موت الأب والأخ، ولكن موت الزوج كان وقعه عليها عظيماً، ذلك أن مصعباً الداعية المجاهد رضي الله عنه قد ضرب مثلاً عظيماً في تضحيته وجهاده في الدعوة إلى الله، وضرب مثلاً عظيماً في خلقه مع زوجته في بيته، وأكثر المشكلات الزوجية اليوم عائدة إلى سوء الخلق، وأكثر حالات السعادة الزوجية منبعها حسن العشرة والأخلاق الحسنة. سوء الخلق مصيبة كبيرة حتى بين المصلين في المساجد، فإنك ترى في بعض التعاملات وبعض الحركات ما ينبئك أن هذه الجموع من المصلين تحتاج إلى تربية عميقة على هذه الأخلاق الفاضلة، لكي يعرف الناس التعامل مع بعضهم حتى داخل أروقة المساجد. إن بين الطلاب والمدرسين نماذج من سوء الأخلاق، فمن جهة بعض المدرسين تجد تعدياً وظلماً، ومن جهة بعض الطلاب تجد استفزازاً وتحدياً، وقلة أدب ووقاحة، وبين الموظف والمراجع كثير من سوء الخلق، فتجد هذا يضغط عليه أو يعطيه من الكلام السيئ ما يثير حفيظته، وتجد ذاك يسيء في الخدمة أو التعامل، ويرمي المعاملات والأوراق، ويؤخر ويسوف ويظلم ويعذب المراجع، وهكذا. وكثيراً ما تسمع في بعض الدوائر والأماكن من أنواع السباب والمشاتمات بين الموظفين والمراجعين ما ينبئك على أن هناك أزمة أخلاق في المجتمع. وبين الجار وجاره كثير من الحالات التي فيها سوء خلق، من أنواع الأذية من الأصوات العالية، أو رمي القاذورات، ونحو ذلك من الإساءات المتعمدة التي تكون بين شخصيات مختلفة من الجيران رجالاً ونساءً، بين سائقي السيارات في الشوارع تلمح هذا النمط من الأخلاق المتدنية، التي تعبر عن ظلم وتعدٍ وتحدٍ، وكل منهم يريد أن يكسر أنف الآخر بطريقة سياقته لسيارته، وهكذا سوء الخلق، حتى بين بعض الطلبة المنتسبين للعلم، سوء أدب، شيء من سوء الأدب مع العلماء في طريقة الخطاب والسؤال والمناقشة وهكذا أو التهجم والاتهام ونحو ذلك. وكثير ممن انفض عنهم طلبتهم أتوا من هذا الباب، باب سوء الخلق، وإن مخططات أعداء الإسلام تركز على سوء الخلق وإفساد الأخلاق تركيزاً كبيراً، سواء كان هؤلاء من اليهود أو الماسونيين أو المبشرين بدين النصرانية وغيرها، هؤلاء مخططاتهم قائمة على نزع الأخلاق كما قال رئيسهم في مؤتمرهم: إن مهمتكم أن تخرجوا المسلم من الإسلام ليصبح مخلوقاً لا صلة له بالله، وبالتالي فلا صلة تربطه بالأخلاق التي تعتمد عليها الأمم في حياتها، وبذلك تكونون أنتم بعملكم هذا طليعة الفتح الاستعماري في الممالك الإسلامية. ونحن مسلمون لنا منهاج ولنا كتاب ولنا مراجع، لنا أمور نحتكم إليها ونرجع إليها، الكتاب والسنة، وإذا تأملت -يا أخي المسلم- كتاب الله سبحانه وتعالى لوجدته يذكر هذا الجانب بجلاء، الحث على الخلق الحسن ويعدد أنماط الأخلاق الحسنة، التي ينبغي على المسلم أن يتخلق بها، فأنت تجد في كتاب الله مثلاً: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان:18 - 19]، {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} [الضحى:9 - 10]، {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً} [الإسراء:26 - 27]، {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً} [الإسراء:29]. ويقول -أيضاً- في خلق آخر ذميم: {وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً} [الإسراء:37] ومدح الله قوماً فقال: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [الفرقان:63] هذا من حسن أخلاقهم، وقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:1 - 3]، {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134]، {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ} [النساء:148]، {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:22] {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:40]. جمع الله مكارم الأخلاق في آية واحدة موجهة لرسوله صلى الله عليه وسلم: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] قال مجاهد: يأخذ العفو من أخلاق الناس وأعمالهم من غير تخفيف، مثل قبول الأعذار، والعفو، والمساهلة، وترك الاستقصاء في البحث والتفتيش عن حقائق بواطنهم والعرف هو المعروف، وأعرض عن الجاهلين مثل قول الله: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [الفرقان:63].

خلقه صلى الله عليه وسلم

خلقه صلى الله عليه وسلم وأما رسولنا صلى الله عليه وسلم فقد دعا إلى مكارم الأخلاق بقوله وفعله، وكان قدوة حتى إن الله مدحه في كتابه فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] فأكد أنه قد تخلق بالأخلاق الحسنة بهذه المؤكدات في الآية، وإنك: أكدها بإن، لعلى: أكدها باللام، خلق: هذه النكرة تفيد التفخيم، تفخيم شأنه وحاله وخلقه صلى الله عليه وسلم، ثم وصف هذا الخلق بأنه عظيم، وهذا أمر رابع. وفي الصحيحين عن هشام بن حكيم أنه سأل عائشة رضي الله عنها: (كيف كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: كان خلقه القرآن، فقال: لقد هممت أن أقوم ولا أسأل شيئاً) لأن الجواب كان معبراً ودقيقاً، أي أن تصرفاته عليه الصلاة والسلام كانت ترجمة حية لأوامر الله ونواهيه المذكورة في القرآن، وعن سبب بعثته يقول عليه الصلاة والسلام: (إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق) هذه هي الشخصية العظيمة المتصفة بالخلق العظيم ((وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)). قالت عائشة رضي الله عنها: (لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا متفحشاً، ولا صخاباً في الأسواق -لم يكن يرفع صوته في مجامع الناس- ولا يجزي بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح) وقالت: (ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده شيئاً قط إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا ضرب خادماً ولا امرأة) وجاء -أيضاً- في الحديث الصحيح: (ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قط فقال: لا) أي: ما سئل شيئاً من متاع الدنيا المباح، إذا كان ميسوراً أعطى، وإذا كان معسوراً ليس عنده وعد بالخير في المستقبل. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي أف قط، وما قال لشيء صنعته لم صنعته، ولا لشيء تركته لم تركته، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلقاً، ولا مسست خزاً ولا حريراً ولا شيئاً كان ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شممت مسكاً قط ولا عطراً كان أطيب من عرق النبي صلى الله عليه وسلم) حديث صحيح. وعن عمرو بن العاص قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل بوجهه وحديثه على أشر القوم يتألفهم بذلك، فكان يقبل بوجهه وحديثه علي حتى ظننت أني خير القوم، فقلت: يا رسول الله! أنا خير أو أبو بكر؟ قال أبو بكر، فقلت: يا رسول الله! أنا خير أو عمر؟ فقال: عمر، فقلت: يا رسول الله! أنا خير أو عثمان؟ قال: عثمان، فلما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فصدقني، فلوددت أني لم أكن سألته) حديث صحيح. وعن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه، قال: (ما حجبني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت ولا رآني إلا تبسم) وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالوا: (يا رسول الله! إنك تداعبنا، قال: نعم غير أني لا أقول إلا حقاً) هذا نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم في أخلاقه وألفاظه وتعاملاته. أما في تواضعه فكان عجباً من العجب. عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن امرأة من الأنصار ومعها صبي جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت له: إن لي إليك حاجة، فقال: اجلسي في أي طريق المدينة شئت أجلس إليك) وفي رواية لـ مسلم: (فخلا معها في بعض الطريق حتى فرغت من حاجتها) وليس المقصود أنه اختلى بها الخلوة المحرمة، وإنما في الطريق، ابتعد شيئاً ما عن الناس حتى لا يسمعوا كلامها؛ لأنها تريد أن تقول له شيئاً خاصاً. وعن أنس رضي الله عنه: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعى إلى خبز الشعير والإهالة السنخة، ويجيب عليه الصلاة والسلام) والإهالة السنخة هي الدهن المتغير الرائحة من طول المكث، ليس خبيثاً ولا متعفناً، لكن حصل له تغير في رائحته من طول مكثه، ما كان يستحقر هذه الأشياء، ولو كانت بسيطة كان يلبي الدعوة: (لو دعيت إلى كراع لأجبت). جاء أعرابي يوماً يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً فأعطاه صلى الله عليه وسلم ثم قال له: (أحسنت إليك؟ قال الأعرابي: ولا أجملت -لا أحسنت ولا أجملت- فغضب المسلمون وقاموا عليه، ثم قام صلى الله عليه وسلم ودخل منزله فأرسل إليه -إلى الأعرابي- وزاده شيئاً فقال له: أحسنت إليك؟ قال: نعم. فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنك قلت ما قلت آنفاً، وفي نفس أصحابي من ذلك شيء، فإن أحببت فقل بين أيديهم حتى يذهب ما في صدورهم عليك، قال: نعم. فلما كان الغد جاء فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إن هذا الأعرابي قال ما قال فزدناه، فزعم أنه رضي أكذلك؟ -يقول للأعرابي أكذلك؟ أمام الناس- قال: نعم. فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مثلي ومثل هذا كمثل رجل له ناقة شردت عليه فأتبعها الناس فلم يزيدوها إلا نفوراً، فناداهم صاحبها) -الآن لاحظ التطابق بين المثل أو هذه القصة والأعرابي- فقال لهم: (خلوا بيني وبين ناقتي فأنا أرفق بها منكم وأعلم، فتوجه لها بين يديها فأخذ من قمام الأرض فردها حتى جاءت واستناخت، وشد عليها رحلها واستوى عليها، وإني لو تركتكم حيث قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار).

أحاديث في الحث على حسن الخلق والتحذير من سوء الخلق

أحاديث في الحث على حسن الخلق والتحذير من سوء الخلق وهذا القرآن العظيم فيه دستور للأخلاق، وهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها ذكر كثير للأخلاق الحسنة، والتحذير من الأخلاق السيئة، وعلماؤنا قد اهتموا بهذا الموضوع اهتماماً كبيراً، لذلك تجدهم قد أفردوا الأخلاق بمؤلفات مثل كتاب: مكارم الأخلاق لـ ابن أبي الدنيا، ومساوئ الأخلاق للخرائطي، ولا تكاد تجد مصنفاً في الحديث إلا وتجد فيه من أبواب الأدب: الأخلاق والبر والصلة، وأفرد البيهقي رحمه الله الآداب بكتاب مستقل وغيره، وألف ابن عبد القوي منظومة الآداب وشرحها السفاريني في كتابه العظيم: غذاء الألباب شرح منظومة الآداب، وتجد كتباً مستقلة في بيان شمائله صلى الله عليه وسلم، ككتاب الشمائل المحمدية للترمذي، والشمائل المحمدية لابن كثير، وكتاب أخلاق النبي لـ أبي الشيخ، وخصص ابن القيم رحمه الله جزءاً من كتابه زاد المعاد لبيان أخلاقه صلى الله عليه وسلم. وتجد الأحاديث فيها ذكر حسن الخلق والحض عليه والحث، قال صلى الله عليه وسلم: (البر حسن الخلق) ما هو البر؟ تعريف البر: البر حسن الخلق، وقال: (اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن) وقال: (أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: صدق الحديث، وحفظ الأمانة، وحسن الخلق، وعفة مطعم) وقال: (إن الناس لم يعطوا شيئاً خيراً من خلق حسن) وقال: (عليك بحسن الخلق وطول الصمت، فوالذي نفسي بيده ما تجمل الخلائق بمثلهما) وقال: (ما عمل ابن آدم شيئاً أفضل من الصلاة، وصلاح ذات البين، وخلق حسن) وقال عليه الصلاة والسلام: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً الموطئون أكنافاً) الكنف هو الجانب، والمقصود: أن من يصاحبهم لا يناله منهم أذى، (الذين يألفون ويؤلفون) يحبون ويأنسون، (ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف) وقال: (إن أقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً) (إن أحبكم إلي وأقربكم مني في الآخرة مجالس أحاسنكم أخلاقاً، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني في الآخرة أسوأكم أخلاقاً، الثرثارون المتفيهقون - أي: المتكبرون- المتشدقون - الذي يكثر الكلام من غير احتراز-)، وقال: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وخياركم خياركم لنسائهم) وقال: (خيركم إسلاماً أحاسنكم أخلاقاً إذا فقهوا) وقال: (خير الناس ذو القلب المخموم، واللسان الصادق، قيل: ما القلب المخموم؟ قال: هو التقي النقي الذي لا إثم فيه ولا بغي ولا حسد، قيل: فمن على أثره؟ قال: الذي يشنأ الدنيا ويحب الآخرة، قيل: فمن على أثره؟ قال: مؤمن في خلق حسن). والله يحب مكارم الأخلاق ويكره الأخلاق السيئة، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى جميل يحب الجمال، ويحب معالي الأخلاق ويكره سفسافها) وقال: (إن الله كريم يحب الكرم، ويحب معالي الأخلاق ويكره سفسافها). وجاءت أحاديثه عليه الصلاة والسلام بجملة من الأخلاق الحسنة، انظر إليه عليه الصلاة والسلام واستمع لقوله وهو يقول: (صل من قطعك، وأحسن إلى من أساء إليك)، (يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا، وإذا غضب أحدكم فليسكت) وقال: (من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رءوس الخلائق حتى يخيره من الحور العين ما شاء) حديث صحيح. وقال: (من كان سهلاً ليناً حرمه الله على النار) وقال: (المؤمنون هينون لينون كالجمل الألف الذلول -الذي يقاد بسهولة- إن قيد انقاد، وإذا أنيخ على صخرة استناخ) وقال: (من كف غضبه ستر الله عورته). وقال الرسول صلى الله عليه وسلم مبيناً ومؤكداً على أخلاق معينة يركز عليها في حديثه: (إن فيك لخصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة) وقال: (التؤدة في كل شيء خير إلا في عمل الآخرة) وقال: (التؤدة والاقتصاد والسمت الحسن جزء من أربعة وعشرين جزءاً من النبوة) وقال: (التأني من الله والعجلة من الشيطان) وهذا تركيز على خلق التأني. وفي أحاديث أخرى يركز على الحياء، فيقول: (إن لكل دين خلقاً وخلق الإسلام الحياء) (استحيوا من الله حق الحياء) ويقول لأحد الصحابة: (أوصيك أن تستحي من الله تعالى كما تستحي من الرجل الصالح من قومك) وقال: (الحياء خير كله، الحياء من الإيمان) وقال: (الحياء لا يأتي إلا بخير). ويركز على خلق ثالث وهو الرفق فيقول: (إن الله تعالى رفيق يحب الرفق، ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف) وقال: (عليك بالرفق إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه) وقال: (عليك بالرفق وإياك والعنف والفحش) وقال: (ما أعطي أهل بيت الرفق إلا نفعهم) وقال: (من يحرم الرفق يحرم الخير كله). وهناك أخلاق مذمومة نهى عنها وحذر منها، فقد جاء في الحديث الصحيح: (كان أبغض الخلق إليه الكذب) رواه البيهقي وغيره عن عائشة رضي الله عنها، وقال عليه الصلاة والسلام في ذم خلق آخر: (يا عائشة! إن شرار الناس الذين يكرمون اتقاء شرهم) ليس الدافع لإكرامهم إلا أن الإنسان يريد أن يتقي شرهم. وهذا الخلق له أهمية في الأخلاق الاجتماعية، وفي العلاقات الزوجية، وفي تعاملات الناس، وفي كل شيء، حتى إنه عليه الصلاة والسلام قال: (ثلاثة يدعون الله عز وجل فلا يستجاب لهم: رجل كانت تحته امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها) قيل في هؤلاء الثلاثة: لا يستجاب دعاؤهم في خصومهم، وليس المعنى: أنه لا يستجاب دعاؤهم على الإطلاق، وهذا الحديث لا يعني -أيضاً- أنه إذا كانت المفاسد في الطلاق أكثر أنه يطلق، ولكن المرأة إذا ساء خلقها جداً فإن المصلحة في تطليقها؛ لأنها نكد، ولذلك لما جاء إبراهيم عليه السلام إلى بيت ابنه ولم يكن إسماعيل موجودا، ً طرق الباب فخرجت زوجته فسألها عن إسماعيل فقالت: خرج، فقال: كيف عيشكم؟ قالت: نحن بشر وضيق وذمت في عيشها، هذا لمن؟ لرجل غريب لا تدري من هو ذمت زوجها وحياتها معه، فعلم أنها امرأة سوء، فقال لها أن تقول لزوجها إذا رجع: أن يغير عتبة بابه، فعلم إسماعيل أن أباه يوصيه بتغيير هذه الزوجة. وفي المقابل أن من الصفات التي تشترط للموافقة على الزوج أن يكون حسن الخلق، ولذلك يقول في الحديث الصحيح: (من أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه) فخص الخلق حتى لا يتعب زوجته بعدما يتزوجها. أما الأخلاق فهي سجايا وطبائع في النفس، هذه الأخلاق الحسنة عرفها العلماء فقالوا: بذل الندى، وكف الأذى، واحتمال الأذية، وقالوا: بذل الجميل وكف القبيح، وقالوا: التخلي عن الرذائل والتحلي بالفضائل.

أركان حسن الخلق وسوء الخلق

أركان حسن الخلق وسوء الخلق واعلموا -أيها الإخوة- أن حسن الخلق يقوم على أربعة أركان، أي: أن منشأ الأخلاق الحسنة الفاضلة في هذه الأمور الأربعة، ما هي؟ قال ابن القيم: أولاً: الصبر. ثانياً: العفة. ثالثاً: الشجاعة. رابعاً: العدل. فأما الصبر: فهو حبس النفس، بأن يحبس النفس عن الأخلاق السيئة، ويصابر صاحبه على الأخلاق الحسنة. والعفة: تحمل على اجتناب الرذائل والقبائح من الأقوال والأفعال، وتمنع من الفحشاء. وأما الشجاعة: فتحمل على عزة النفس وإيثار معالي الأخلاق والشيم، والبذل وكظم الغيظ، (ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب). وأما العدل: فهو يحمل على اعتدال الأخلاق والتوسط بين طرفي الإفراط والتفريط. وأما الأخلاق السافلة فهي مجتمعة في أربعة أركان: الجهل، والظلم، والشهوة، والغضب. فأما الجهل فيري صاحبه الحسن قبيحاً والقبيح حسناً، وهذا لجهله. والظلم يحمل صاحبه على وضع الشيء في غير موضعه، فيغضب في موضع الرضا ويرضى في موضع الغضب، ويجهل في موضع الأناة، ويبخل في موضع البذل، ويحجم في موضع الإقدام، ويقدم في موضع الإحجام، ويلين في موضع الشدة، ويشتد في موضع اللين، ويتواضع في موضع العزة، ويتكبر في موضع التواضع. وهكذا. وأما الشهوة: فإنها تحمل على الشح والبخل والجشع والنهم والدناءات كلها. وأما الغضب: فيحمل على الحسد والحقد والعدوان، وحب الاعتداء على الآخرين، والكبر. وكل صنفين من هذه الأخلاق الرديئة يتكون منه أخلاق إضافية سيئة، وجماع الأخلاق السيئة على أمرين: إفراط النفس في الضعف، وإفراطها في القوة. فيتولد من إفراطها في الضعف: المهانة والخسة واللؤم والذل، ويتولد من إفراطها في القوة: الظلم والعنف والحدة والطيش، ويتولد من تزوج أحد الخلقين بالآخر أولاد غية كثيرون، فإن النفس قد تجمع قوة وضعفاً، فيكون صحابها أجبر الناس إذا قدر، وأذلهم إذا قُهِر، جبان عن القوي جريء على الضعيف، فالأخلاق الذميمة يولد بعضها بعضاً كما أن الأخلاق الحميدة يولد بعضها بعضاً، ولذلك كل شخص يكتشف خلقاً طيباً فليتوقع أنه سوف ينتقل إلى خلق آخر. وينبغي أن نتنبه -أيها الإخوة- أن الأخلاق مسألة دقيقة، وأحياناً يكون بين الخلق الذميم والمحمود شعرة واحدة، فالخلق المحمود بين طرفين ذميمين، كل خلق محمود في الغالب بين طرفين ذميمين، فالجود: الكرم، بين طرفين ذميمين ما هما؟ بين البخل والتبذير، لاحظ أن الكرم خلق محمود بين خلقين مذمومين وهما البخل والتبذير، فإذا أمسك فهو بخيل وإذا صرف بانفتاح فهو مبذر، والوسط كريم. والتواضع وسط بين الذل والكبر، فالإنسان إذا تواضع لدرجة أنه صار يصبر على الضيم، أو يرضى بالأشياء السيئة، ولا يعترض على أي شيء، فإنه عند ذلك لا يكون متواضعاً أبداً، وإذا زاد تجبر وتكبر، فالتواضع بين الذل والمهانة من جهة، وبين الكبر والعلو من جهة، فهو وسط بينهما. والحياء وسط بين الوقاحة والجرأة من جهة، وبين العجز والخور، فبعض الناس يكون جريئاً وقحاً، ليس عنده حياء، وبعض الناس يظن أن عنده حياء ويستكين لكل شيء فيكون عاجزاً خواراً، يظن أن هذا حياء وهو العجز والخور، وإذا تجرأ وزاد عن الحد دخل في الوقاحة، والحياء رتبة بينهما. والأناة خلق محمود بين طرفين ذميمين ما هما؟ الطرف الأول هو: الاستعجال، والطرف الثاني التفريط والإضاعة، فبعض الناس يظن نفسه متأنياً لكنه في الحقيقة أنه فرط وأضاع وانتظر حتى ذهبت عليه الفرصة، وبعض الناس متعجل جداً ومتسرع، والأناة وسط بينهما فهو لا متسرع ولا هو ينتظر الفرص، يسكت عن الفرص حتى تفوت عليه، فهو يتمهل ويتروى ولكن يقتنص الأشياء المحمودة فلا تفوت عليه. والشجاعة خلق محمود بين طرفين مذمومين، ما هما؟ الجبن والتهور، فهناك أناس متهورون متسرعون إقدامهم غير محمود، وهناك أناس جبناء، والشجاعة بينهما، والسعيد من عرف كيف يسير. والقناعة: خلق بين الشح والحرص من جهة، وبين الخسة والإضاعة من جهة، فبعض الناس يضيق على نفسه وعلى أهله ويظن أنه قنوع، بينما هو يعيش في خسة ويضيع أهله ومن يقوت، وبعض الناس يكون عنده حرص وشح، والقناعة وسط بينهما. والرحمة وسط بين القسوة والضعف، وبعض الناس يكون قاسي القلب (لا يرحم الله من لا يرحم الناس) وبعضهم يكون ضعيفاً ذليلاً، ومن ضعفه يظن أنها رحمة وليست برحمة، فتراه لا يذبح شاة، ولا يؤدب ولداً، ولا يقيم حداً، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أرحم الناس ذبح بيده الشريفة ثلاثاً وستين ناقة، وأقام الحد -قطع اليد- على رجال ونساء سرقوا، ورجم بالحجارة من زنى وهو محصن، ومع ذلك فهو أرحم الناس بأمته. وطلاقة الوجه والبشر، بين التقطيب والتعبيس من جهة وتصعير الخد، وبين إذهاب الهيبة وزوال الوقار، فأنت إذا قطبت وعبست في وجه كل أحد فهذا خلق مذموم، وإذا كنت كلما رأيت أحداً في الشارع تضحك له في كل مكان وكل مجال، فماذا يعني ذلك؟ إذهاب هيبتك وزوال وقارك. ولذلك أيها الإخوة: الإنسان يحتاج إلى عقل حتى يتخلق بالأخلاق الحسنة، وأحياناً يزيد الناس في شيء فيصلون إلى المذموم من جهة، أو ينقصون منه فيصلون إلى المذموم من الجهة الأخرى. وهذه قضايا تلاحظ بالتأمل والتفكير.

كيف نغير أخلاقنا السيئة ونستبدلها بأخلاق حسنة؟

كيف نغير أخلاقنا السيئة ونستبدلها بأخلاق حسنة؟ ونأتي الآن إلى الجزء المهم من الموضوع، أو الجزء الأهم من الناحية العملية، وكل ما فات فهو تقدمة مهمة لهذا الأمر، وهو: كيف نغير أخلاقنا السيئة ونستبدلها بأخلاق حسنة؟ كيف نتخلق بالأخلاق الحسنة؟ للإجابة على هذا السؤال نبدأ بمقدمة: هل الأخلاق مسألة موروثة أم مكتسبة؟ هل الأخلاق تأتي بالوراثة أم يمكن اكتسابها؟ الحقيقة أيها الإخوة: أن الأخلاق موروثة ومكتسبة، هناك أخلاق موروثة يجبل عليها الإنسان، قد يجبل على خصال حميدة أو يجبل على خصال غير حميدة، وقد يكون أبو الإنسان حليماً فيخرج الولد حليماً، وقد يكون والد الإنسان كريماً فيخرج الولد كريماً، وقد يكون الأب بخيلاً فيخرج الولد بخيلاً، يطبع على خصلة موروثة فيه، في جبلته، ونلاحظ على الأطفال أشياء من هذا، تجد ولداً كلما جاء إليه طفل يطلب منه لعبة أعطاه إياها، أي: أنه يعطي ألعابه للأطفال، وطفل كلما جاء مثيل له يأخذ لعبة ضربه وأخذها منه ومنعه من أخذها، فهي قضية موروثة. ولكن هذه الأشياء الموروثة هل هي قابلة للتغير أم أنها طابع قد ختم به على صاحبها فلا يمكن تغييره أبداً؟ A هناك مجال للتغيير في الأخلاق الموروثة، ولذلك أمرنا بالمجاهدة. أما الأخلاق المكتسبة فأمرها سهل، فهي أسهل من الأخلاق الموروثة في كثير من الأحيان، لأنك الآن تتعلم وتتعود وتكتسب، لكن الأخلاق الموروثة والطبائع تغييرها أصعب، والإنسان يصعب عليه أن يغالب طبيعته، ولكننا لا نستسلم لهذه الصعوبة، رغم أن هذه قضية قد تكون موروثة لكن لا بد أن نغير، والله لم يكلفنا بمستحيل. الأخلاق منها ما هو جبلي موروث، ومنها ما هو كسبي يمكن أخذه. فالدليل على أن الأخلاق منها ما هو جبلي ما ورد في الحديث الصحيح: (إن فيك لخلقين يحبهما الله: الحلم والأناة) فهذان الخلقان جبل عليهما هذا الرجل، وهذا رجل جاهلي أصلاً، جبل على هذين الخلقين: الحلم والأناة. وأما الدليل على أن الأخلاق يمكن أن تكون مكتسبة، فهو حديثه عليه الصلاة والسلام (إنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم) وفي حديث آخر: (ومن يتصبر يصبره الله) فدل ذلك على أن الصبر والحلم خلقان يمكن اكتسابهما إذا تعود الإنسان عليهما، ما معنى الحلم بالتحلم؟ يعني أن تعود نفسك على الحلم وتراغم نفسك على الحلم، وتحملها على هذا الخلق، وبعد فترة يصبح هذا الأمر فيك ملكة وسجية، فتكتسب هذا الخلق. وأيضاً في دعاء الاستفتاح يقول عليه الصلاة والسلام: (اللهم اهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت) معنى ذلك: أن الأخلاق المحمودة سؤالها من الله عز وجل ممكن، وكذلك الأخلاق المذمومة يمكن أن يسأل الإنسان ربه أن يصرفها عنه فتصرف. فإذاً: هذه الأخلاق المكتسبة تنال بالتخلق والتكلف حتى تصير سجية وملكة.

وسائل تغيير الأخلاق السيئة واكتساب الأخلاق الحسنة

وسائل تغيير الأخلاق السيئة واكتساب الأخلاق الحسنة ونأتي الآن إلى الجزء المهم من الموضوع، أو الجزء الأهم من الناحية العملية، وكل ما فات فهو تقدمة مهمة لهذا الأمر، وهو: كيف نغير أخلاقنا السيئة ونستبدلها بأخلاق حسنة؟ كيف نتخلق بالأخلاق الحسنة؟ للإجابة على هذا السؤال نبدأ بمقدمة: هل الأخلاق مسألة موروثة أم مكتسبة؟ هل الأخلاق تأتي بالوراثة أم يمكن اكتسابها؟ الحقيقة أيها الإخوة: أن الأخلاق موروثة ومكتسبة، هناك أخلاق موروثة يجبل عليها الإنسان، قد يجبل على خصال حميدة أو يجبل على خصال غير حميدة، وقد يكون أبو الإنسان حليماً فيخرج الولد حليماً، وقد يكون والد الإنسان كريماً فيخرج الولد كريماً، وقد يكون الأب بخيلاً فيخرج الولد بخيلاً، يطبع على خصلة موروثة فيه، في جبلته، ونلاحظ على الأطفال أشياء من هذا، تجد ولداً كلما جاء إليه طفل يطلب منه لعبة أعطاه إياها، أي: أنه يعطي ألعابه للأطفال، وطفل كلما جاء مثيل له يأخذ لعبة ضربه وأخذها منه ومنعه من أخذها، فهي قضية موروثة. ولكن هذه الأشياء الموروثة هل هي قابلة للتغير أم أنها طابع قد ختم به على صاحبها فلا يمكن تغييره أبداً؟ A هناك مجال للتغيير في الأخلاق الموروثة، ولذلك أمرنا بالمجاهدة. أما الأخلاق المكتسبة فأمرها سهل، فهي أسهل من الأخلاق الموروثة في كثير من الأحيان، لأنك الآن تتعلم وتتعود وتكتسب، لكن الأخلاق الموروثة والطبائع تغييرها أصعب، والإنسان يصعب عليه أن يغالب طبيعته، ولكننا لا نستسلم لهذه الصعوبة، رغم أن هذه قضية قد تكون موروثة لكن لا بد أن نغير، والله لم يكلفنا بمستحيل. الأخلاق منها ما هو جبلي موروث، ومنها ما هو كسبي يمكن أخذه. فالدليل على أن الأخلاق منها ما هو جبلي ما ورد في الحديث الصحيح: (إن فيك لخلقين يحبهما الله: الحلم والأناة) فهذان الخلقان جبل عليهما هذا الرجل، وهذا رجل جاهلي أصلاً، جبل على هذين الخلقين: الحلم والأناة. وأما الدليل على أن الأخلاق يمكن أن تكون مكتسبة، فهو حديثه عليه الصلاة والسلام (إنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم) وفي حديث آخر: (ومن يتصبر يصبره الله) فدل ذلك على أن الصبر والحلم خلقان يمكن اكتسابهما إذا تعود الإنسان عليهما، ما معنى الحلم بالتحلم؟ يعني أن تعود نفسك على الحلم وتراغم نفسك على الحلم، وتحملها على هذا الخلق، وبعد فترة يصبح هذا الأمر فيك ملكة وسجية، فتكتسب هذا الخلق. وأيضاً في دعاء الاستفتاح يقول عليه الصلاة والسلام: (اللهم اهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت) معنى ذلك: أن الأخلاق المحمودة سؤالها من الله عز وجل ممكن، وكذلك الأخلاق المذمومة يمكن أن يسأل الإنسان ربه أن يصرفها عنه فتصرف. فإذاً: هذه الأخلاق المكتسبة تنال بالتخلق والتكلف حتى تصير سجية وملكة. ما هي وسائل تغيير الأخلاق السيئة واكتساب الأخلاق الحسنة؟ إليكم -أيها الإخوة- خمس عشرة وسيلة من وسائل اكتساب الأخلاق الحسنة والتخلص من الأخلاق الذميمة، وهذا مبحث مهم وهذا هو لب الموضوع، وهذا هو الأمر الذي لا بد منه، والسعي في فهمه وتطبيقه.

العلم والتأمل بما دل عليه القرآن والسنة

العلم والتأمل بما دل عليه القرآن والسنة أولاً: العلم والتأمل بما دل عليه القرآن والسنة من الأخلاق الحسنة، وما حذر من الأخلاق السيئة. فأول شيء المسألة العلمية: أن تعلم ما هي الأخلاق الحسنة وما هي الأخلاق السيئة؟ وقد ذكرنا طرفاً من هذا أول الدرس، ذكرنا أمثلة من الأخلاق الحسنة التي أمر بها القرآن والسنة، وأمثلة من الأخلاق السيئة التي نهى الله عنها في كتابه ونهى رسوله صلى الله عليه وسلم. لكن لو أن الإنسان تفكر في هذه الآيات: {إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً} [المعارج:19] {وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} [الكهف:54] {وَكَانَ الْأِنْسَانُ عَجُولاً} [الإسراء:11]، {كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6 - 7]، {إِنَّ الْأِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} [العاديات:6] أي جحود وكفور! فيظهر لك هنا أن الله عز وجل ذكر أخلاقاً مذمومة في الإنسان، منها: العجلة، والجدال، والطغيان، والجحد، والهلع، وفسره بقوله: {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً} [المعارج:20 - 21]. لو تأملنا في الأخلاق السيئة وتعرفنا على الأخلاق السيئة اجتنبناها، وإذا تعلمنا الأخلاق الحسنة شرعنا في اكتسابها.

المجاهدة

المجاهدة ثانياً: المجاهدة. إن من أعظم وسائل تغيير الأخلاق السيئة إن لم تكن هي أهمها على الإطلاق، كيف يكتشف الإنسان أن لديه خلقاً سيئاً؟ إذا حصلت حادثة -مثلاً- غضب، وقال كلمة سيئة، أو أتى بتصرف غير صحيح، يعرف أن عنده خلقاً سبباً: سوء غضب، أو فحش في الكلام، فماذا يفعل في المواقف التي يستثار فيها؟ ينبغي أن يكبت نفسه، ويمسك نفسه، ويصبر عن أن يتكلم بكلمة فحش، أو يأتي بتصرف غير لائق بالمسلم. وإذا دعي إلى الإنفاق فإن النفس تقول له: أحجم، اتركها لأولادك، الظروف لا تسمح الآن بالإنفاق، الآن لا بد أن نوفر، فالمجاهدة أن يحمل نفسه على الإنفاق، ويرغمها على الإنفاق، ويعطي بسخاء، فيزول هذا الشح من نفسه ويحل محله الكرم والسخاء والجود، إذا هو أدمن هذه العادة وهي الإنفاق في سبيل الله ومقاومة النفس، فمجاهدة ومقاومة النفس هي الأساس، والله وعد خيراً فقال: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] وكثير من الشباب والناس عموماً يحاولون ويجاهدون أنفسهم، فشخص يقول لك: أنا إنسان حمقي سريع الانفعال، شديد الغضب، وأحاول في نفسي وأجاهد نفسي، لكنني أفشل أحياناً، فهذا الفشل شيء مفهوم؛ لأن هذه الجبلة التي عندك لا يمكن أن تغيرها بين عشية وضحاها، فهي ستنجح أحياناً وسوف تفشل أحياناً، هذا أمر مفهوم واضح. ولذلك فإن اليأس بسبب الفشل في بعض الأحيان لعملية المجاهدة شيء مذموم يحتاج إلى تغيير، ولا بد أن يكون الأمل في نفوسنا ونحن نحاول أن نغير أخلاقنا.

الأخذ بالأسباب الشرعية

الأخذ بالأسباب الشرعية ثالثاً: الأخذ بالأسباب الشرعية لإزالة الأخلاق السيئة، وللحمل على الأخلاق الحسنة. مثال: الرسول صلى الله عليه وسلم أمرنا بأشياء عند الغضب؛ لأن الغضب شيء مذموم، وهناك إرشادات شرعية، في أوامر شرعية: أولاً: أن يسكت، قال: (ومن غضب فليسكت) إذاً إذا غضبت فلتسكت. ثانياً: يتعوذ بالله من الشيطان، كما ورد في حديث المستبان، أو حديث المستبين. كذلك ثالثاً: قال: (ومن كان قائماً فليقعد). ورابعاً: قال: (أمرنا أن نتوضأ). فصار عندك أربعة إجراءات شرعية عند الغضب، ما هي؟ أولا: ً السكوت، ثانياً: الاستعاذة بالله من الشيطان، ثالثاً: تغيير الحالة، فإن كنت قائماً فلتقعد، وإذا كنت قاعداً هل تقوم؟ لا؛ لأن القيام هذا يشجع على الاعتداء وعلى البطش، وإنما تغير من الحالة إلى الحالة التي هي أدنى منها، ورابعاً: توضأ، لأن الغضب حرارة شيطانية فيكسره بالوضوء. إذا غضبت فاعمل الأشياء الأربعة وشرط وعهد أنك تتخلص من الغضب في ذلك الموقف أبداً. ولذلك فمن رحمة الله أن الشريعة جاءت رحمة للعباد ومصلحتنا في اتباع الشريعة، فإذا غضبت فاسكت، واستعذ من الشيطان، هذه إجراءات نبوية وإرشادات ينبغي الأخذ بها.

التدرج

التدرج رابعاً: من وسائل تغيير الأخلاق واستبدالها بأخلاق حسنة: التدرج. فالناس يختلفون في مدى استعدادهم للتغيير، الناس عندهم استعداد للتغيير، لكن أين لب الموضوع؟ النسبة في التغير، فلان يمكن أن يتغير بسرعة، وفلان يمكن أن يتغير ببطء، وهذا أمر ملاحظ في التربية، فهناك أناس يرتقون بسرعة وأناس يرتقون ببطءٍ شديد، والإنسان حتى لا يصاب باليأس لا يقال له: أنت اليوم جبان، غداً نريدك شجاعاً وإلا فأنت فاشل في تربية نفسك، لا. هذه سجايا، إذا أردت أن تغير بين عشية وضحاها فأنت تصادم طبيعة النفس، أنت تصادم قضاء الله في الناس، والله عز وجل من حكمته في خلقه أنه جعل تغيرهم في الأخلاق ليس سريعاً. فإذا أردت التغيير بين عشية وضحاها فأنت تصادم الأمور الطبيعية وستفشل، وهذا لا يعني أنه إذا كان عندك استعداد للتغير السريع ألا تتغير، تغير بسرعة، لكن التدرج في هذه الأمور يختلف الناس فيه سرعة وبطئاً، قال الشاعر: ومكلف الأشياء فوق طباعها متطلب في الماء جذوة نار هل تجد في الماء شعلة نار؟ لا تجد، فعكس طبائع الأشياء، لا يمكن. ولذلك نقول: هذه الفقرة ترك المثاليات، لأن بعض الناس الذين يريدون تغيير الأشياء السيئة قد يكون عنده مثالية في النظرة فيفشلون، ولذلك نحن نطمح للشيء المثالي، ولو لم نصل إليه بسرعة.

عدم إشغال النفس بتتبع الأخلاق السيئة

عدم إشغال النفس بتتبع الأخلاق السيئة خامساً: عدم إشغال النفس بتتبع الأخلاق السيئة فقط. فبعض الناس يقول: أنا الآن سأبحث عن عيوبي، ليس عندي بخل، أو غضب، أو فحش في القول، أو جبن، أو تهور إلى آخره، فهو الآن يريد أن يجتث هذه الأشياء واحدة واحدة، فيشغل نفسه بتتبع الأخلاق السيئة فقط، دون أي شيء آخر، وينسى قضية العبادات التي تزكي النفس، فالعبادات لها أثر، لذلك قال الله: {إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلَّا الْمُصَلِّينَ} [المعارج:19 - 22]، {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون:5]، {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون:8]، {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات:19] فإذاً الصلاة والصدقة، وحفظ الفرج، والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، هذه أشياء تعين على التخلص من الأخلاق السيئة، فبعض الناس أحياناً ينشغل بالأخلاق السيئة فقط، وينسى أن يشتغل بعبادات وأشياء تعينه على التخلص من الأخلاق السيئة. ما مثال هذا؟ ذكر ابن القيم رحمه الله مناقشة لطيفة مع شيخه ابن تيمية، ذكرها في مدارج السالكين، ضمن النقاش يقول: مثال الشخص الذي ينشغل بالأشياء السيئة فقط، ويغفل عن الأشياء الأخرى وأن يسير إلى الله، يقول: مثله مثل إنسان مسافر في طريق سفر، في أرض فيها حيات وعقارب، فإذا قال: أنا أريد أن أبحث عن كل حية وعقرب وأقتلها حتى لا تنهشني، فإذا انشغل في تتبع الحيات والعقارب فقط، فهل سيصل؟ قد لا يصل، وقد يغلب من حية أو عقرب تنهشه فيهلك، لكن ماذا يكون الوضع الصحيح؟ قال: يمشي ويتحاشى الشر، فإن عرض له شيء فليقتله ويواصل المسيرة، وإذا تصدى لك شيء فصار أمامك ولا تستطيع أن تمشي فاقتله وأكمل المسيرة، فإذاًَ الاشتغال بالتنبيش في الأخلاق والعيوب السيئة فقط، هذا يمكن أن يستهلك من الإنسان وقتاً طويلاً جداً فيذهل عن الدعوة وطلب العلم والعبادة والتربية الإيمانية، وأشياء أخرى، تكون مساعدة جداً في التخلص من الأخلاق السيئة، ولذلك يمكن للإنسان أن يتربى تربية إسلامية بالعبادة، فيكتشف أن خلقاً سيئاً قد زال منه دون أن ينشغل أصلاً بتتبع أصل الخلق السيئ ومحوه وإزالته، لكن لو ظهر الخلق السيئ فينبغي عليك أن تجاهد نفسك في تلك اللحظة والحالة للتخلص منه، وهذه مسألة دقيقة تحتاج لشيء من التأمل والتفكير. ولذلك نحن مطالبون بتزكية النفوس، ليس باجتثاث الأخلاق السيئة والبحث عنها فقط، وإنما بالعبادات والتعلم والأشياء الأخرى، وهذا معنى قول الله عز وجل في وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2] هب أن داعي الجهاد قد قام ورفعت راية لا إله إلا الله حقاً حقاً، وقام المسلمون يجاهدون ثق بأن الجهاد إذا حصل سوف يقضي على كثير من الأخلاق السيئة في نفوسنا، وإن لم نتعنَّ نحن التنبيش عنها أصلاً والانشغال باجتثاثها من جذورها. يمكن أن تذهب إلى رحلة حج وترجع وقد تغيرت فيك أخلاق سيئة؛ لأن هناك أشياء مثل المناسك والناس والزحام عندما تراها، ويعلم أن هذا سفر فإنه يصبر على أشياء كثيرة، لكن هذا لا يعني أن الإنسان -مثلاً- لا يبحث عن آفاته مطلقاً، ولكن المقصود ألا ينشغل بذلك عن بقية الوسائل التي تزكي نفسه.

المحاسبة

المحاسبة سادساً: المحاسبة. المحاسبة أمر مهم، والنفس اللوامة التي تلوم نفسها على ما يحصل منها من الأشياء، هذا أمر مهم في التخلص من الأخلاق السيئة واكتشافها الأخلاق السيئة، ولا بد أن يحاسب الإنسان نفسه أشد من محاسبة الشريك لشريكه، كما قال بعض السلف: والمحاسبة ليست مسألة جداول وأرقام كما يفعله بعض المبتدعة في محاسبة النفس، يأخذون جداول وفيها: هل فعلت كذا؟ وهل فعلت كذا؟ وفيها أرقام، ويجمع الأرقام وإذا حصلت على كذا فأنت بخير، وإذا ارتحت فأنت، هذه ليست طريقة السلف في المحاسبة، وليس هو التطبيق الصحيح لقول الله عز وجل: {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر:18]. التعود على محاسبة النفس على المواقف والأخطاء، إذا وقعت في خطأ فتعزم على التصحيح في المستقبل وتستفيد من هذا الخطأ للمستقبل، ولنأخذ لكم مثالاً جيداً: ابن حزم رحمه الله له كتاب جيد، كتاب مختصر ولكن فيه فوائد كثيرة، اسمه: الأخلاق والسير في مداواة النفوس، وهو ليس شيئاً كاملاً لا يمكن أن يوجد فيه ثغرات، لكنه كتاب مفيد وفيه تأملات عميقة، كتاب الأخلاق والسير، الآن نأخذ مثالاً: كيف تكون المحاسبة؟ يضرب مثلاً يقول: العجب خلق سيئ، فكيف تحاسب نفسك محاسبة تخلصك من العجب؟ -اسمع معي ماذا يقول! - يقول: من امتحن بالعجب فليفكر في عيوبه، فإن أعجب بفضائله فليفتش ما فيه من الأخلاق الدنيئة، فإن خفت عليه عيوبه جملة -لم ير عيباً فيه- حتى يظن أنه لا عيب فيه، فليعلم أن مصيبته إلى الأبد، وأنه أتم الناس نقصاً وأعظمهم عيوباً وأضعفهم تمييزاً، وضعيف العقل؛ لأن العاقل هو من ميز عيوبه بنفسه فغلبها وسعى في قمعها، والأحمق هو الذي يجهل عيوب نفسه، قال: واعلم يقيناً أنه لا يسلم إنسي من نقص حاشا الأنبياء، فمن خفيت عليه عيوب نفسه فقد سقط. -لا يمكن أن يوجد فينا نحن المجتمعين هنا شخص لا عيب فيه، هذا مستحيل- وما أدري لسماع عيوب الناس خصلة، يعني: لو أنت فكرت في استماعك لعيوب الناس ما فائدته؟ لا يمكن أن تجد إلا فائدة واحدة، وهي الاتعاظ بما يسمع المرء منها فيجتنبها ويسعى في إزالة ما فيه منها بحول الله تعالى وقوته. ثم يقول للمعجب: ارجع إلى نفسك، فإذا ميزت عيوبها فقد داويت عجبك، لأنك إذا تفطنت في العيوب وظهرت لك أمامك في لائحة العيوب، فكيف ستعجب بنفسك وقد ظهرت أمام عينيك لائحة عيوبك، ولا تمثل بين نفسك وبين من هو أكثر عيوباً منك، هذه مسألة مهمة، أي: لا تقل: هناك أناس أسوء مني وأتعس مني، وأكثر عيوباً مني، يقول: إذا فعلت ذلك فسوف تستسهل الرذائل، وتكون مقلداً لأهل الشر. ثم يقول: فإن أعجبت بعقلك ففكر في كل فكرة سوء تحل بخاطرك، فإنك تعلم نقص عقلك حينئذٍ، ولو كان عقلك كاملاً لما جاءت فيه هذه الخواطر السيئة، وإن أعجبت بآرائك فتفكر في سقطاتك واحفظها ولا تنساها. كل إنسان معه سقطة أو سقطات، وأخطأ أخطاء شنيعة، فكر في هذه الحالات فيزول إعجابك بنفسك فإنك إن فعلت ذلك فأقل أحوالك أن يوازن سقوط رأيك بصوابك، فتخرج لا لك ولا عليك، والأغلب أن خطأك أكثر من صوابك، وهكذا كل أحد من الناس بعد النبيين صلوات الله عليهم، وإن أعجبت بعملك إذا صار الإعجاب من جهة العمل، فتفكر في معاصيك. افرض أنك مثلاً شاهدت إنساناً ملهوفاً محتاجاً يستغيث فأعنته، فقدمت له خدمة عظيمة جداً وقام على رجليه، فقد يدخل في نفسك عجب بالعمل، تقول: أنا اليوم لو مت على هذا العمل فأنا من أهل الجنة، قد يأتي في بالك عجب بالعمل، فماذا تفعل؟ يقول: تفكر في معاصيك وفي تقصيرك، وفي معاشك ووجوهه، فوالله لتجدن من ذلك ما يغلب على خيرك، ويغطي على حسناتك، فليكن همك حينئذ، وأبدل من العجب تنقصاً لنفسك. وإن أعجبت بعلمك، فاعلم أنه لا خصلة لك فيه، فكيف تزيل العجب بالعلم؟ أن تعتقد أنه موهبة من الله وهبك إياها ربك، فلا تقابلها بما يسخطه، فلعله ينسيك ذلك بعلة يمتحنك بها، ولقد أخبرني عبد الملك بن طريف وهو من أهل العلم والذكاء، واعتدال الأحوال وصحة البحث، أنه كان ذا حظ من الحفظ عظيم، لا يكاد يمر على سمعه شيء يحتاج لاستعادته، يحفظ من مرة واحدة، وقيل: إنه ركب البحر فمر به هول شديد في البحر، أنساه أكثر ما كان يحفظ، وأخل بقوة حفظه إخلالاً شديداً. يقول ابن حزم: وأنا أصابتني علة فأفقت منها وقد ذهب ما كنت أحفظ إلا ما لا قدر له، فما عاودته إلا بعد أعوام، أي: ما استرجعت المحفوظات هذه بعد هذا الهم وهذه الكربة أو العلة إلا بعد أعوام. والذي يعجب بعلمه -أيضاً لإذهاب العجب من نفسه- فعليك أن تعلم أن ما خفي عليك وجهلته من أنواع العلوم أكثر بكثير مما تعلم، فالذي أعجبت بنفاذك فيه أكثر مما تعلم منه، فاجعل مكان العجب استنقاصاً لنفسك واستقصاراً لها فهو أولى. وسيلة أخرى: تفكر فيمن كان أعلم منك، تجدهم كثيرين، وشيء آخر: كم علمت من العلم الذي عندك، لو صار عندك عجب، فكر كم في المائة من العلم الذي تعلمته نفذته وطبقته، فيسقط عجبك بالكلية. وإن أعجبت بشجاعتك فتفكر فيمن هو أشجع منك، ثم انظر في تلك النجدة التي منحك الله إياها فيما صرفتها؟ فإن كنت صرفتها في معصية فأنت أحمق، لأنك بذلت نفسك فيما ليس ثمناً لها، وإن كنت صرفتها في طاعة فقد أفسدته بالعجب، فصرت الآن بين النارين، ثم تأمل هذه الشجاعة كيف ستزول عنك إذا بلغت من الكبر عتيا، وصرت من عداد العيال والصبيان في الضعف. وإن أعجبت بجاهك ومنصبك ومكانتك في الشركة والمؤسسة -مثلاً- فتأمل في مخالفيك وأندادك ونظرائك من الناس الذين لهم وجاهات، وتأمل في خستهم وما وصلت بهم وجاهاتهم من معصية الله عز وجل؟ ولذلك لما جلس ابن السماك رحمه الله يعظ الرشيد مرة دعا بحضرته بقدح فيه ماء ليشربه - الرشيد - فقال له: يا أمير المؤمنين! لو منعت هذه الشربة بكم كنت ترضى أن تبتاعها؟ -كم تعطي من ملكك لتبتاع الشربة؟ - فقال الرشيد: بملكي كله -أي: أموت إذا لم أشرب- قال: يا أمير المؤمنين! فلو منعت خروجها منك -أي: أنه صار عندك حصر بول- بكم كنت ترضى أن تفتدي من ذلك؟ قال: بملكي كله، قال: يا أمير المؤمنين! أتغتبط بملك لا يساوي بولة ولا شربة ماء، فعلمه التواضع وعدم العجب بالخلافة والملك. وإذا فكر الإنسان في نفسه وطبائعه وتولد الأخلاق، فإنه سوف يقف على يقين بأن الفضائل هي ما منحه الله للإنسان، وأنه لولا الله لعجز وهلك، ويسأل الله ألا يكله إلى نفسه طرفة عين، يقول: قد تتغير الأخلاق الحميدة بالمرض والفقر والخوف والغضب والهرم، فأنت الآن تلاحظ أن كبار السن يصير عندهم نوع غضب أكثر، وحدة أكثر، وتراه يثور لأتفه الأسباب، تأمل إذاً نعمة الله عليك، يقول: لقد أصابتني علة شديدة وتولدت علي ربواً شديداً في الطحال، وولد علي ذلك من الضجر وضيق الخلق وقلة الصبر أمراً حاسبت نفسي فيه، إذ أنكرت تبدل خلقي، واشتد عجبي من مفارقتي لطبعي، وصح عندي أن هذا المرض يولد من هذه المفاسد أشياء كثيرة. فإذاً: الإنسان بالتأمل والمحاسبة، ومناقشة النفس، يمكن أن يزيل أخلاقاً سيئة من نفسه.

التحويل والتوجيه

التحويل والتوجيه سابعاً من وسائل تغيير الأخلاق: التحويل والتوجيه. مثلاً: شخص عنده غضب أو عنده حدة، أو طمع وفخر وعلو وخيلاء، كيف يحول هذه الأخلاق ويوجهها لكي يستثمرها في الأشياء الطيبة؟ بعض الناس من المشكلات التي يواجهونها في تغيير الأخلاق السيئة أنه يريد أن يجتث الخلق بالكلية، فلا يريد أن يكون عنده خيلاء أبداً، ويكون حاله مثل حال أهل البلدة، أهل بلدة تفجر النهر عليهم وصار يجري باتجاههم وهم يعلمون أنه سوف يغرق زروعهم وثمارهم ومبانيهم فقالت طائفة نبني سدوداً، ونجعل هذا السد يوقف الماء المتدفق، لكن هؤلاء الناس لم يكن على حسبانهم أن يكون الماء متدفقاً بشدة فيهدم السد، وأناس آخرون قالوا: أفضل شيء أن نذهب إلى منبع النهر فنسده، ولا نجعل فيه مجالاً؛ لأن الماء يخرج منه وينبع، ولا خلاص إلا بقطعه من ينبوعه، فلما ذهبوا لسده تعذر عليهم، وأبت الطبيعة النهرية إلا الجريان، فكلما سدوه من موضع نبع من موضع آخر، فأشغلهم منع النهر عن الزروع والثمار والعمران التي كانوا فيها، وفرقة ثالثة رأت ما حل بالأولى من الدمار، وما حل بالثانية من ضياع الأعمال، فأخذوا في حفر مجارٍ للنهر في أماكن يتوجه إليها، فصاروا يحفرون لهذا النهر مجاري وسواقي وفروعاً فتحول النهر عن قريتهم التي كان سيدمرها إلى هذه المجاري ومن المجاري إلى أراضي زراعية قابلة للزراعة، فنبت فيها أشياء كثيرة، فانتفعوا ونجوا من المهالك. ما علاقة هذا بموضوعنا؟ علاقته أن بعض الناس يقولون: لا بد أن نجتث هذا الخلق اجتثاثاً، ثم لا يمكنهم ذلك ويفشلون، وقد ينشغلون بأشياء عن القضايا الأخرى مثل الطاعات، فالحدة -مثلاً- نستخدمها عندما تنتهك محارم الله، لاحظ معي هذا التحويل، يستخدم الحدة عندما تنتهك محارم الله، ويجعل الطمع في الخيرات والمسابقة فيها وتحصيل الثواب، فبدل أن كان طمعه في الدنيا صار في الآخرة، فالطمع لا زال موجوداً لا يمكن اجتثاثه من النفس، لكن حولناه من الطمع في الدنيا إلى الطمع في الأعمال الصالحة. الفخر قد يصعب اجتثاثه من النفس بالكلية، لكن بدلاً أن يكون فخراً بالجاهلية وفخراً بالآباء والأجداد وفخراً بالقبيلة فليكن فخراً بالإسلام: أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم فالفخر لا يزال موجوداً في نفسك، لكن حولته إلى فخر بشيء حسن، وهو الفخر بالإسلام. القهر: الإنسان يحب أحياناً أن يرغم أنوف الناس، يحب أن يكون له العلو والغلبة، فلماذا لا يحول هذا القهر إلى قهر للأعداء، وقهر المنافقين والعلمانيين، وقهر أعداء الله والرد على اليهود والنصارى، والرد على أهل الشبهات فيقهرهم بالحجة، فيصرفه إلى مجرى نافع ومفيد. الخيلاء: أن يكون عندك خيلاء؟ نعم. ممكن، لكن حول الخيلاء إلى الأشياء الطيبة -مثلاً- الخيلاء على أهل الباطل، مثل الخيلاء في الحرب، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أذن بلبس الحرير ومشية الخيلاء في الحرب، وقال: (هذه مشية يبغضها الله إلا في هذا الموطن) وصار الصحابي يتبختر ويتمايل، ويلبس الحرير أمام صفوف الأعداء، فإذاً: حولنا الخيلاء من شيء سيئ على عباد الله المستضعفين إلى الخيلاء على الأعداء وفي الحرب، فإذاً: هناك خيلاء لكنه يرضي الله ورسوله. ومن تأمل هذا الباب وجد أن فيه مواءمة وملاءمة لطبيعة النفس، واستفادة وتحصيل أرباح وعدم انشغال بأمور هي أقل جدوى، وهذه المسألة مهمة في التربية، لا يدركها ولا يتفطن لها إلا من وصل فعلاً إلى قناعة بالطرق السليمة في توجيه الأخلاق وتهذيبها.

التصعيد

التصعيد ثامناً: التصعيد. ما هو التصعيد؟ هو تحويل تطلعات الشخص من الأشياء الدنيئة إلى الأشياء العالية، ومن الأشياء الصغيرة التافهة إلى كبار الأمور، فمثلاً يقول الله عز وجل: {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [طه:131] لا تشغل نفسك بالصغائر والتراهات، وجمع الأموال والركض وراء الدنيا؛ لأن هذه أشياء تبلى، والزهرة تموت وتذبل، هذه فتنة نفتنهم فيها، وقال: {وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:131] صعد في نفسه الاهتمام من الأشياء الدنيئة وهي زهرة الحياة الدنيا، وما متعنا به أزواجاً منهم إلى: ((وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى)) ولذلك التربية من الأشياء التي فعلها عليه الصلاة والسلام في نفوس أصحابه الدالة على عظم تربيته لهم، أنهم كانوا أناساً هممهم تافهة كانوا منشغلين في الجاهلية بالخمر، والنساء، والحروب، ودفن البنات، والنوادي، والمنتديات، والكلام الفارغ التافه، ليس عندهم هدف، فصاروا بعد الإسلام قادة في العالم، فكان منهم الفاتحون والقدوات والعلماء والحكماء، لقد نقل الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابة من اهتمامات دنيئة في الجاهلية إلى معالي الأمور والتطلع نحو قيادة العالم. وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام أنت إذا كان عندك أهداف وطموحات تسعى لها حسب طموحاتك، بعض الناس يقول: أنا أريد أن أكون مدير الشركة، هذه طموحاتي، أنا أريد أن أكون دكتوراً، فتنصرف أعمالهم في هذا الشيء، ولو أنهم وضعوها في طلب العلم وفي الجهاد وفي الدعوة، لاهتدى على أيديهم خلق كثير وحفظ آيات وأحاديث بمعانيها وتعلم أحكام، وجاهد في الله فأبلى بلاءً حسناً، فيكون قد صعدت في نفسه الاهتمامات بالأشياء الدنيئة إلى مستوى عالٍ في الاهتمام بالأمور العظيمة. وهذا الأمر فيه وسائل مثل التشويق والتحبيب والتحسين والتزيين والممارسة، انظر -مثلاً- في قول الله عز وجل لما حدثت حادثة الإفك وتكلم في عائشة من تكلم، وكان ممن تكلم غلام لـ أبي بكر اسمه مسطح بن أثاثة، تكلم في عائشة، وعندما نزلت براءة عائشة غضب أبو بكر ومنع وقطع النفقة عن مسطح عقاباً له، فنزل قول الله عز وجل: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:22] فـ أبو بكر الصديق رضي الله عنه لما رأى المسألة فيها ألا تحبون أن يغفر الله لكم قال: [بلى يا رب! أنا أحب أن تغفر لي] انتقلت القضية في نفسه من الانتقام من هذا الشخص إلى شيء أعلى وهو الحلم والعفو عمن ظلمك والإحسان لمن أساء إليك، فارتفعت المسألة بهذا الأسلوب وهو ألا تحبون أن يغفر الله لكم.

الإبدال

الإبدال تاسعاً: الإبدال. وهو من وسائل تغيير الأخلاق السيئة، انظر إلى كل خلق ذميم وضع بدلاً منه عكسه، كما ذكرنا في الشجاعة والتهور، وكما ذكرنا في التسرع والتأني، وفي البخل والكرم، ومثل إلى آخره، أبدل كل خلق ذميم وحاول أن تأخذ عكسه، فأبدل الجبن ليصبح مكانه شجاعة، والكرم بدل البخل، والتواضع بدل الكبر، والحياء بدل الوقاحة والجرأة غير المحمودة وهكذا.

قراءة سير الصالحين

قراءة سير الصالحين عاشراً: قراءة سير الصالحين في أخلاقهم. أخلاق الأنبياء والصحابة والصالحين والعلماء؛ لأن هؤلاء قدوة حسنة -وهذا جانب القدوة- فأنت إذا قرأت في أخلاقهم عن عالم من العلماء ونظرت إلى ترجمته تجد مثلاً نسبه وولادته ونشأته وطلبه للعلم ورحلاته، ولابد أن تجد جانباً اسمه: أخلاقه، اقرأ هذه الأخلاق، فإنها تحملك على التشبه بهؤلاء الكرام: إن التشبه بالكرام فلاح

ملازمة أصحاب الأخلاق الحسنة

ملازمة أصحاب الأخلاق الحسنة الحادي عشر: ملازمة أصحاب الأخلاق الحسنة من الأحياء والاحتكاك بهم. تخيلوا لو أنا وضعنا جباناً في وسط قوم شجعان ماذا يحصل له؟ ولو وضعنا بخيلاً في وسط قوم كرماء ماذا يحصل له؟ يتأثر من الوسط الذي هو فيه، وهذا يؤكد لنا أهمية التربية الجماعية، وأن الناس الذين يريدون ويتربون داخل بيوتهم دون اختلاط بالطيبين لن يستفيدوا كثيراً.

تكثير الدوافع للتخلق بالخلق الحسن

تكثير الدوافع للتخلق بالخلق الحسن الثاني عشر: تكثير الدوافع لهذا التخلق بهذا الخلق الحسن، والابتعاد عن الخلق السيئ. كلما كثرت دوافعك لشيء تحمست له أكثر، فمثلاً: بعض الناس يعمل عملاً في شفقة، من باب الرحمة، أي أنه صار عنده رحمة بالأمر فتفاعل مع الحدث، وبعض الناس يعمله من باب الإنسانية في التعامل، وبعض الناس يعمل هذا التصرف من باب العادة؛ لأنه متعود على هذا الشيء، وبعضهم يعمله تقليداً للآخرين، وبعضهم يعمله ابتغاء الأجر وابتغاء الجنة، ولتكفير السيئات، ولتعليم الآخرين يكون قدوة {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74] ولتربية نفسه. إذاً: كلما كثرت دوافعك للتخلص من الخلق السيئ صار حماسك لهذا أكثر، فكثر الدوافع وتفطن وأنت تعمل كل عمل، حاول التغيير، وما هي دوافعك لهذا؟ لتنال الأجر ورضا الله والجنة، وتكون قدوة للآخرين، وتربي نفسك على هذا الأمر وهكذا.

التأمل في الحوافز الأخروية

التأمل في الحوافز الأخروية الثالث عشر: التأمل في الحوافز الأخروية في مصير أصحاب الأخلاق الحسنة، ومصير أصحاب الأخلاق السيئة. بمعنى آخر: الترهيب والترغيب، قال عليه الصلاة والسلام: (أثقل شيء في الميزان الخلق الحسن) (أثقل شيء في ميزان المؤمن الخلق الحسن) (إن الله يبغض الفاحش المتفحش البذيء) (إن أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً) (إن حسن الخلق ليبلغ درجة الصوم والصلاة) (إن المؤمن ليدرك بحسن الخلق درجة القائم الصائم) وفي رواية: (القائم بالليل الظامئ بالهواجر) (ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق، وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصوم والصلاة) ماذا تشعر إذا أنت قرأت أحاديث الترغيب هذه؟ تشعر بحافز ودافع لهذا العمل، فيكون هذا لك معين على التخلص من الأخلاق السيئة، مثلاً خذ هذا الحديث: (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً، وبيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، وبيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه) مثلاً حديث: (من كف غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظاً ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رضاً يوم القيامة) هذا في الآخرة. وفي الدنيا من الترغيبات يقول عليه الصلاة والسلام: (صلة الرحم، وحسن الخلق، وحسن الجوار، يعمرن الديار، ويزدن في الأعمار) فإذاً: من باب التكثير والتوسيع عليك في الدنيا أن تحسن الخلق، وإذا أردت وسيلة أو من أسباب زيادة العمر فحسن خلقك؛ لأن حسن الخلق من أسباب زيادة العمر. في المقابل أحاديث الترهيب: (البذاء من الجفاء والجفاء في النار) البذاء: فحش القول، والجفاء: الغلظة وسوء الخلق، (البذاء من الجفاء والجفاء في النار) قال عليه الصلاة والسلام: (وإن سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل) حديث صحيح.

الدعاء

الدعاء الرابع عشر: الدعاء. (اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء والأدواء) حديث صحيح.

جهود المربين

جهود المربين المسألة الخامسة عشرة، وهي الختام في هذا: جهود المربين. إن ما ذكر في الماضي كان تربية فردية، هذه الأشياء التي أنت تفعلها لنفسك، هذه تربيتك الفردية. من وسائل تحسين الأخلاق التربية الجماعية وجهود المربين الموجهة إلى الشخص، وهذا الكلام الآن من صعيد إلى صعيد آخر، لا شك أن تغيير الخلق يعتمد على مجهود الشخص الفردي أصلاً، ولكن هناك -أيضاً- عوامل أخرى خارجية وهي جهود المربين نحو هذا الشخص، فالمربي عليه أن يعطي كل إنسان نفسيته ما يلائمها فتهدأ. انظر مثلاً إلى هذا الجانب التربوي، المربي صلى الله عليه وسلم ماذا فعل لكي يهدئ النفوس ويراعي الجوانب، ففي البخاري عن عمرو بن تغلب: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بمال أو سبي فقسمه، فأعطى رجالاً وترك رجالاً، فبلغه أن الذين ترك عتبوا -الذين ما أعطاهم عتبوا- فحمد الله ثم أثنى عليه ثم قال: أما بعد: فوالله إني لأعطي الرجل وأدع الرجل، والذي أدع أحب إلي من الذي أعطي، ولكني أعطي أقواماً لما أرى في قلوبهم من الجزع والهلع، وآكل أقواماً إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير منهم عمرو بن تغلب). هذا المربي يقول كلاماً له أثر، قال: (عمرو بن تغلب فوالله ما أحب أن لي بكلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم حمر النعم) فأعطى الجزعين مالاً أصلح به نفوسهم، وأعطى عمرو بن تغلب ثناءً كان أحب إليه من عطاء المال الكثير، فأصلح نفسه. نفس الموقف حصل بعد حنين، مسلمة الفتح، الناس الذين أسلموا يعطيهم النبي صلى الله عليه وسلم مائة، مائة من الإبل، يتألف قلوبهم، ويزيل الحواجز والعداوات بالإعطاء، والأنصار الذين جاهدوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم وخرجوا من المدينة وتعبوا ما أعطاهم شيئاً، فتكلم بعضهم، وقالوا: يعطي قريشاً ولا زالت سيوفنا تقطر من دمائهم، أي: يعطي هؤلاء من غنائم حنين مائة، مائة من الإبل ونحن ما لنا شيء، فلما سمع عليه الصلاة والسلام ذلك، بلغته المقولة فجمعهم: فسأل: ماذا حصل؟ وماذا قيل؟ فقال فقهاؤهم: يا رسول الله أما أولو العلم فينا ما قالوا شيئاً، وأما بعض أحداثنا -صغار السن- فقد قالوا هذه الكلمة، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم كلمته المؤثرة جداً لدرجة أنهم قد بكوا حتى اخضلوا لحاهم، (ألا ترضون أن يذهب الناس بالشياء والبعير وترجعون برسول الله إلى رحالكم؟ ثم قال صلى الله عليه وسلم: اللهم اغفر للأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار). هذه كلمات لكن الأنصار طابت أنفسهم، وقالوا: بلى رضينا، أي: رضينا بهذا القسم العظيم بأن يذهب الناس بالشياء والبعير ونحن نرجع بأكبر غنيمة وأعظم شيء معنا في الدنيا وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، نرجع به، رضينا برسول الله حظاً وقسماً ونصيباً. أيضاً من وسائلهم: استغلال الحوادث، فلو رأيت -مثلاً- أمامك ظلماً، يمكن أن تربي ولدك أو صديقك أو متبوعك بهذه الحادثة، فتقول: انظر إلى الظلم ماذا جر من العواقب الوخيمة، هذا الشخص الذي يتربى معك يكره الظلم، لأنك استغللت الحادثة في تفهيمه أن هذا الظلم عاقبته وخيمة، أو رذيلة من الرذائل أو فضيحة من الفضائح. وإذا رأيت مشهداً جيداً، رأيت مشهداً فيه عدل، فلفت نظر من معك إلى هذا المشهد، فاستغليت الحدث والتعليق عليه، ومشاهد الشجاعة أو الجبن. كذلك من وسائل المربين: ضرب الأمثال، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يربي الناس على الكرم وعدم البخل، والإنفاق وعدم التقتير، وعدم المنع والشح، يقول -مثلاً-: يضرب لهم أمثلة، يقول: المنفق عليه درع وكلما أنفق ازداد حتى صار سابغاً لجميع أعضاء جسمه، ومثل البخيل عليه درع، كلما بخل ازدادت الحلقات حبساً على أجزاء جسده، فضرب المثل هذا من عمل المربين، ومن عملهم -أيضاً- ضرب المثل بأصحاب الأخلاق الفاضلة، أما ترى إلى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (أرأف أمتي بأمتي أبو بكر -مثلاً- وأصدقهم حياءً عثمان) فقد لفت نظرنا واستخدم شخصيات تميزت بأخلاق معينة حتى يحمسنا نحن الأمة الذين نتربى على أحاديثه بأن نكون عندنا رأفة، ويكون عندنا حياء، بأن نقتدي بـ أبي بكر في رأفته وبـ عثمان في حيائه. وكان يقول: (إن موسى كان رجلاً حيياً ستيراً لا يرى من جلده شيء إستحياءً منه) يضرب لنا مثلاً من الواقع، شخصية تميزت بالحياء، فتتحمس النفوس. فهكذا تكون جهود المربين. إذاً: من عوامل تصحيح الأخلاق السيئة واستبدالها بأخلاق حسنة -وهذا واجبنا جميعاً- أن نربي أنفسنا ونربي غيرنا. والحقيقة أيها الإخوة أن الكلام في موضوع الأخلاق كلام طويل، ونظراً لكثرة المشاكل الموجودة في الواقع والعلاقات، والإخوة الذين ساءت علاقتهم ببعضهم، والأزواج والناس والجيران، فالأمر يحتاج إلى تأكيد ويحتاج إلى زيادة كلام وعرض وإيضاح، ولذلك يحتمل أن يكون هناك درس آخر بعنوان: شجرة أخلاق المسلم، نذكر فيها ونعدد الأخلاق الإسلامية ما هي؟ وما أدلتها وأمثلتها؟ يعني بأي شيء تتخلق؟ إذا نحن عرضنا الأخلاق وأهميتها في القرآن والسنة، وقدوتنا الرسول صلى الله عليه وسلم وبعض الأخلاق السيئة والمحمودة، وكيفية التخلص من الأخلاق السيئة واكتساب الأخلاق الحميدة. فلعلنا نتبع هذا بموضوع آخر، ما هي الأخلاق التي يجب أن نتخلق بها نظرياً وعملياً؟ وكيف نقلت هذه الأخلاق الحسنة إلى الواقع؟ وكيف طبقها الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والأنبياء والتابعون؟ وهكذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

التحذير من الخدعة الكبيرة

التحذير من الخدعة الكبيرة جبل الناس على حب الدنيا والجري وراءها، فهي حلوة خضرة، والمرء من فتنتها على خطر عظيم، وقد تتغلب عليها الفتن استدراجاً للكافرين، وقد تتغلب المحن تمحيصاً للمؤمنين. وفي هذه المادة تجلية للنظرة الإسلامية إلى الدنيا، وكيف سعى الإسلام لتحرير الناس من أسرها، وربطهم بالآخرة ونعيم الجنة العظيم. كما بينت هذه المادة بعض خصائص الدنيا، فقد أرشدت إلى ما يحتاجه المرء منها، لكي يسعى لتحصيله، بحيث لا يخل بعلاقته مع ربه.

فتنة الدنيا وحقارتها

فتنة الدنيا وحقارتها قال تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً} [الكهف:45] وقال الله عز وجل: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} [الكهف:46] وقال الله تعالى: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة:38]. إنه تحذير من الله تعالى للذين يركنون إلى هذه الحياة الدنيا يقول لهم: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ} [التوبة:38] هل اطمأننتم إليها؟ هل انشغلتم بها؟ هل تظنون أنكم ماكثون فيها أبداً؟! {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:20] {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} [العنكبوت:64] ومعنى لهي الحيوان: يعني هي الحياة المستقرة الدائمة {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ} [القصص:60]. إن ما في هذه الحياة الدنيا من أنواع الزينة هي فتنة للناس فعلاً، إنها تشدهم ببهرجها، إنها تشغلهم بمتعتها ولذتها، قال الله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران:14] المسومة: المعلمة المطهمة، الأنعام والحرث: أي المزروعات.

تحرير الأمة من أسر الدنيا

تحرير الأمة من أسر الدنيا لماذا سميت الدنيا بالدنيا؟ الدنيا من الدنو، الدنيا عكس العليا، ونحن نعيش في هذه الحياة الدنية الناقصة القصيرة الفانية، ولذلك فإن نظر المسلم يتطلع دائماً وأبداً إلى الآخرة ولا ينشغل بما في هذه الدنيا من الزخارف، إن الدنيا حلوة خضرة حتى لا يقول أحد: إن الدنيا ليس فيها متاع ولا بهرج، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الدنيا حلوة خضرة) أي: أن فيها فتناً وملذات وجمالاً وما يشغل ويلهي (إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله تعالى مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء) رواه مسلم. ولقد مثل لنا النبي صلى الله عليه وسلم الحياة الدنيا بالنسبة للآخرة بمثل عجيب، فقال عليه الصلاة والسلام: (ما الدنيا في الآخرة إلا كما يمشي أحدكم إلى اليم فأدخل إصبعه فيه فما خرج منه فهو الدنيا) اغمس إصبعك في البحر ثم أخرجه فما علق به من النداوة هو نسبة الدنيا إلى الآخرة. كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على أن يحرر الأمة من أسر الدنيا ويقول لهم: (إن الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه، وعالماً أو متعلماً) فالذي في الدنيا ملعون لأنه يشغل عن طاعة الله إلا ما كان من طاعة الله، إلا ذكر الله وما والاه ولو كان نكاحاً يستعين به على العفة، أو مالاً يستعين به على الصدقة والصلة والنفقة الواجبة، أو راحة يقوم بعدها للعبادة، إلا ذكر الله وما والاه وما كان تابعاً له وما خدمه، أو عالماً ومتعلماً. وكان النبي عليه الصلاة والسلام يضرب المثل القولي والفعلي للدنيا (فمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة بالعالية -وهي ناحية في المدينة - فمر بالسوق فمر بجدي أسك -صغير الأذن- ميت فتناوله فرفعه فقال: بكم تحبون أن هذا لكم؟ قالوا: ما نحب أنه لنا بشيء وما نصنع به، والله لو كان حياً لكان عيباً فيه أنه أسك فكيف وهو ميت؟! قال عليه الصلاة والسلام: فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم) رواه الإمام أحمد وهو حديث صحيح.

الفرق العظيم بين العبادة وأعمال الدنيا

الفرق العظيم بين العبادة وأعمال الدنيا الدنيا بكل ما فيها من المصانع اليوم والمزارع الضخمة والعمارات الشاهقة والمخترعات أهون على الله من جدي ميت صغير الأذنين على أهله، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب المثال تلو المثال في توضيح هذه القضية إصراراً منه صلى الله عليه وسلم على أن تكون المسألة حية في حس الناس، قال: (إن مطعم ابن آدم قد ضرب مثلاً للدنيا) الطعام الذي نأكله في دخوله وخروجه مثل للدنيا، قال عليه الصلاة والسلام: (وإن قزحه وملحه فانظر إلى ما يصير) فهات أشهى طبق من أطباق الطعام في الدنيا بعد تحسينه وتمليحه ماذا يصير عند خروجه من الآكل، ماذا يصير برائحته وبمظهره ومنظره؟! هكذا الدنيا. وكان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على أن يبين لنا أيضاً أن العبادة أهم من الدنيا وما فيها، وأن الشيء اليسير من الجنة أغلى وأعلى من الدنيا وما فيها فقال صلى الله عليه وسلم: (رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها، وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل الله -في أول النهار- أو الغدوة -في آخر النهار- خير من الدنيا وما عليها) وقال عليه الصلاة والسلام: (لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها ولقاب قوس أحدكم -موضع القوس- أو موضع قدمه في الجنة خير من الدنيا وما فيها، ولو اطلعت امرأة من نساء أهل الجنة إلى الأرض لملأت ما بينهما ريحاً ولأضاءت ما بينهما، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها) رواه الإمام أحمد وهو حديث صحيح.

عظمة نعيم الجنة

عظمة نعيم الجنة من أجل ذلك كان أدنى أهل الجنة منزلة له مثل الدنيا أضعافاً مضاعفة، جاء في الحديث الصحيح (أن موسى عليه السلام سأل ربه فقال: يا رب! ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ قال: هو رجل يجيء بعدما يدخل أهل الجنة الجنة فيقال له: ادخل الجنة، فيقول: أي ربي! كيف وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم؟ فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل ملك من ملوك الدنيا، فيقول: رضيت ربي، فيقول: هو لك ومثله ومثله ومثله ومثله فيقول في الخامسة رضيت ربي رضيت فيقول: هذا لك وعشرة أمثاله، ولك ما اشتهت نفسك ولذت عينك، فيقول: رضيت ربي -هذا أدنى رجل في الجنة، خمسة أمثال ملك من ملوك الدنيا ثم اضرب في عشرة وبالإضافة إلى ذلك له ما اشتهت نفسه ولذت عينه- قال موسى لله تعالى: ربِّ فأعلاهم منزلة -من هو أعلى أهل الجنة إذاً منزلة؟ - قال: أولئك الذين غرست كرامتهم بيدي وختمت عليها، فلم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر) رواه الإمام أحمد وهو حديث صحيح. ولذلك كانت غمسة في الجنة تنسي كل ما مر بالعبد من شقاء الدنيا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار فيصبغ في جهنم صبغة واحدة ثم يقال له: يا ابن آدم! هل رأيت خيراً قط؟ هل مر بك نعيمٌ قط؟ فيقول: لا والله يا رب! ما مر بي نعيم قط ولا رأيت خيراً قط، ويؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة فيصبغ في الجنة صبغة فيقال له: يا ابن آدم! هل رأيت بؤساً قط، هل مرت بك شدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب! ما مر بي بؤسٌ قط ولا رأيت شدة قط) رواه مسلم. فصبغة واحدة في الجنة أنسته كل ما مر به في الدنيا من أكدار وهموم وآلام وفقر ومصائب وعري (ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها) ركعتان فقط خير من الدنيا وما فيها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يضرب المثل لأصحابه، وبالإضافة إلى ذلك يعقد المقارنات، لما وزع الغنائم على المؤلفة قلوبهم بعد غزوة حنين، حزن بعض الأنصار أنه لم يعطهم شيئاً، فجمعهم عليه الصلاة والسلام وألقى فيهم خطبته المؤثرة التي بكوا بعدها حتى بلوا لحاهم، قال لهم في تلك الخطبة: (أما ترضون أن يذهب الناس بالدنيا وتذهبون برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: بلى -وفي رواية للبخاري - أما ترضون أن يرجع الناس بالدنيا وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيوتكم؟ قالوا: بلى) فالدنيا في كفة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في كفة، رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلى المؤمنين من الدنيا وما فيها.

امتحان المؤمن ومحنه في الدنيا

امتحان المؤمن ومحنه في الدنيا لما كانت الدنيا بالنسبة للمؤمنين في الغالب دار مصائب وآلام واختبار وامتحان، لأن الواحد يعاني من الشدة وهو يرى هذه الفتن أمامه ثم يصبر، فالمؤمن إما أن يكون مبتلى بأذى العدو نتيجة للتمسك بدينه، وكذلك يكون مبتلى بوطأة الدنيا على حسه وهو يقاومها ويدافعها. هذا فيه شدة على النفس، لما كانت الدنيا هي كل شيء بالنسبة للكفار ومنتهى أمال الكفار فهم لا يرجون ورائها شيئاً لأجل هذه الأسباب قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر) لما سأل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، الزوج الكريم النبي المعصوم الزيادة في النفقة أنزل الله آية التخيير، وهي قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} [الأحزاب:28] أعطيكن من المال ما شئتن ثم أفارقكن {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب:29] فرضين بقلة النفقة، واخترن الله ورسوله والدار الآخرة، فلذلك هن زوجاته في الآخرة عليه الصلاة والسلام، فلا يحل لأحد أن ينكحهن من بعده. لما كانت الدنيا فتناً، وكانت الدنيا بهرجاً، وكانت الدنيا زينة، أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بالتقلل منها وقال: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) وعد نفسك من أهل القبور، وكان عليه الصلاة والسلام مثلاً في هذا (فلما دخل عليه عمر في قصة الإيلاء وكان عليه الصلاة والسلام على حصير -ما بينه وبين الحصير شيء- وتحت رأسه وسادة من أدم -يعني من جلد- حشوها ليف وإن عند رجليه قرضاً مضبوراً -أي: مجموعاً- وعند رأسه أضباً معلقة -وهو الجلد غير المدبوغ- فرأى عمر أن الحصير أثر في جلد النبي صلى الله عليه وسلم فبكى، فسأله عليه الصلاة والسلام: ما يبكيك؟ فقلت: يا رسول الله! إن كسرى وقيصر فيما هما فيه من النعيم وأنت رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحصير؟ فأجابه صلى الله عليه وسلم بالعبارة الذهبية: أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة) حديث صحيح. وكان عليه الصلاة والسلام يقول: (مالي وللدنيا وما للدنيا ومالي، والذي نفسي بيده ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكبٍ سار في يوم صائف فاستظل تحت شجرة ساعة من النهار ثم راح وتركها) حديث صحيح. كان عليه الصلاة والسلام يرفض وجود الأشياء التي تشغله عن الله وذكره (كان ل عائشة ستر فيه تماثيل طير فلما رآه عليه الصلاة والسلام قال: يا عائشة! حوليه فإني كلما دخلت فرأيته ذكرت الدنيا) حديث صحيح.

صورة مشرقة من زهد الصحابة

صورة مشرقة من زهد الصحابة وكان أصحابه من بعده عليه الصلاة والسلام كذلك في زهدهم وتنازلهم عن الدنيا، ولذلك جاء أن عمر رضي الله عنه أخذ أربعمائة دينار فجعلها في صرة ثم قال للغلام: اذهب بها إلى أبي عبيدة بن الجراح ثم تله ساعة في البيت حتى تنظر ما يصنع، فذهب بها الغلام إليه، فقال: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذه في بعض حوائجك، فقال: وصله الله ورحمه كما وصلنا، ثم قال: تعالي يا جارية اذهبي بهذه السبعة إلى فلان، وبهذه الخمسة إلى فلان حتى أنفذها كلها وانتهت، فرجع الغلام إلى عمر بن الخطاب فأخبره ووجده قد أعد مثلها لـ معاذ بن جبل، فقال: اذهب بها إلى معاذ بن جبل ثم تله في البيت ساعة حتى تنظر ما يصنع، فذهب بها إلى معاذ فقال: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذه في حاجتك فقال: وصله الله ورحمه، يا جارية! اذهبي إلى فلان بكذا وإلى بيت فلان بكذا وأهل بيت فلان بكذا، فاطلعت امرأة معاذ من البيت فقالت: ونحن والله مساكين فأعطنا فلم يبق في الخرقة إلا ديناران فدحا بهما إليها، هذا حظ زوجة معاذ من زوجها، ديناران، فرجع الغلام إلى عمر فأخبره فسر بذلك عمر، وقال: [إنهم إخوة بعضهم من بعض] رواه ابن المبارك في كتاب الزهد. وحتى أغنياء الصحابة كانت لهم وقفات إذا جاءهم شيء من الدنيا، أتي عبد الرحمن بن عوف يوماً بطعام وكان صائماً فلما نظر إلى الطعام أمامه تذكر أشياء فماذا تذكر عبد الرحمن بن عوف؟ قال: قتل مصعب بن عمير وهو خير مني -يقولها تواضعاً- فلم يوجد ما يكفن به إلا بردة إن غطي رأسه بدت رجلاه وإن غطيت رجلاه بدا رأسه، وقتل حمزة وهو خير مني، لقد خشيت أن يكون قد عجلت لنا طيباتنا في حياتنا الدنيا أو قال: ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط وأعطينا من الدنيا ما أعطينا وقد خشينا أن تكون حسناتنا عجلت لنا ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام، رواه البخاري. هكذا كان الموقف من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من هذه الدنيا التي ذكرها الله ورسوله. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يقينا شر الحياة الدنيا، وأن يجعلنا في هذه الحياة الدنيا من السعداء، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، وأن يجعل حياتنا في هذه الدنيا عوناً على طاعته. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الكفاف صورة لوسطية الإسلام

الكفاف صورة لوسطية الإسلام الحمد لله رب العالمين أشهد أن لا إله إلا الله ولي المتقين، أشهد أنه رب الأولين والآخرين، ونور السماوات والأرضين، سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يشاء، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، وعلى آله وأزواجه وذريته إلى يوم الدين. عباد الله: يختلف الناس في عملهم بالدنيا، فمنهم من يرى أن يجمع كل ما يستطيع أن يجمعه، ومنهم من يكسل عن العمل ويترك العمل ويترك الكسب، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد انتقى أمراً وسطاً هو أحب مستويات العيش إليه الكفاف أي: لا لك ولا عليك، لا زيادة ولا نقصان، لا زيادة تشغل ولا نقصان يكون به الإنسان متألماً محموماً منشغلاً. ولذلك دعا النبي صلى الله عليه وسلم ربه أن يجعل رزق أهل بيته كفافاً، وقال عليه الصلاة والسلام مذكراً بنعمة الكفاف: (من أصبح منكم آمناً في سربه معافىً في جسده عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها) رواه البخاري في الأدب المفرد وهو حديث حسن.

علة انتشار الفقر بين المسلمين

علة انتشار الفقر بين المسلمين يقول بعض الناس: لماذا حرم كثير من المسلمين المال؟ لماذا انتشر الفقر بين المسلمين؟ لماذا يعيش كثير من المسلمين تحت مستوى الفقر؟ نقول: بعض هذا مما أصابهم من الذل وتسلط الكفرة عليهم نتيجة تنحية الشريعة والبعد عن الدين، وبعض هذا رحمة من الله في أنه لم يجعل لهم ما يطغون به ويتجبرون، وفقراء المسلمين سيدخلون الجنة قبل أغنيائهم بخمسمائة عام، قال النبي صلى الله عليه وسلم مبيناً السبب الذي يكون وراء حرمان الله لبعض المؤمنين المخلصين من الدنيا، قال عليه الصلاة والسلام: (إذا أحب الله عبداً حماه من الدنيا كما يحمي أحدكم سقيمه الماء) كما يحمي بعضنا المريض من الماء؛ لأن الماء يضره وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليحمي عبده المؤمن من الدنيا وهو يحبه كما تحمون مريضكم الطعام والشراب تخافون عليه) حديث صحيح رواه الإمام أحمد رحمه الله. إذاً: ليس حرمان الله لبعض المؤمنين من الدنيا كرهاً لهم ولا إذلالاً، وإنما يريد الله أن يخفف عنهم وخلق الإنسان ضعيفاً، قلة المال أخف للحساب. وإذا سأل سائل فقال: لماذا إذاً يعطي الله الكفرة المجرمين المتجبرين الطغاة العتاة المتمردين على شرع الله الذين يشتمونه ويسبونه صباحاً ومساءً، الذين يحادونه ويحادون رسله ويعذبون أولياءه، لماذا يعطيهم الدنيا؟ وعندهم زراعات القمح وعندهم القوة وأسبابها، وعندهم الغنى والأموال الطائلة، وعندهم المخترعات والأبنية، لماذا يعطيهم وهم مقيمون على كفرهم؟ يقول النبي صلى الله عليه وسلم مبيناً الحكمة من ذلك (إذا رأيت الله تعالى يعطي العبد من الدنيا ما يحب وهو مقيم على معاصيه فإنما ذلك منه استدراج) (أو في شك أنت يا ابن الخطاب؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا). ما يريد الله أن يجعل للكفرة في الآخرة من نصيب، الجنة سلعة غالية ما في الآخرة من النعيم لا يستحقه الكفار، ولذلك يعجل لهم طيباتهم في الدنيا، وكل كافر عمل معروفاً من صلة أو صدقة أو كلمة طيبة أو معونة فإن الله يعطيه بها في الدنيا صحة وأموالاً وأولاداً، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له فيها نصيب. وكذلك من الأمور العجيبة في الدنيا، ومن حقارتها عند الله أنها لا تساوي جناح بعوضة، وأنه يعطيها من يحب ومن لا يحب، فترى الغنى موجوداً عند الكافر والفاجر، كما يوجد عند بعض المسلمين، يعطيها من يحب ومن لا يحب ولا يعطي الآخرة إلا من يحب.

سنة الله في مداولة الدنيا بين الناس

سنة الله في مداولة الدنيا بين الناس ومن العجائب في الدنيا أن الله تعالى لم يجعل لشيء فيها استمراراً ولا ارتفاعاً متواصلاً، ولا بد أن يخفض ويذل، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن حقاً على الله تعالى ألا يرفع شيئاً من أمر الدنيا إلا وضعه) رواه البخاري رحمه الله. إذاً: لا يدوم في الدنيا سلطان ولا مال ولا عمرٌ ولا حياة ولا قوة، فتجد الناس والمجتمعات إذا ارتفعوا في قوة أعقبها ضعف وتفكك وانهيار، وإذا صحوا في شباب أعقبه أمراض وهرم وموت مفند، وإذا ارتفعوا في مال أعقبه إفلاس وفقر وضياع، فمن رحمة الله ألا يجعل الارتفاع في الدنيا دائماً، وإنما لا بد أن يجعل بعده ضعفاً وهواناً وانخفاضاً، وإلا لكانت الفتنة أعظم بكثير مما هي عليه الآن. ومن تأمل في الواقع عرف تلك الحكمة الربانية العظيمة، فأنت ترى المجتمعات في عنفوانها وقوتها لا يمر عليها سنوات إلا وتصبح في تفرق وتمزق وشقاق، وترى أعظم الناس غنى لا بد أن يعقبه شيء من الفقر والإفلاس، وإلا هرم مفند وموت عاجلٌ يقطعه عن التلذذ بماله وغناه. وهكذا ترى لله تعالى في خلقه عجائب لا يمكن أن يستمر في الدنيا أحد على قوته، ولا أن يستمر أحد في الدنيا على غناه، فإن الأرض لله يورثها من يشاء ولله عاقبة الأمور. الدنيا لا تصفو لشارب، ولا تبقى لصاحب، ولا تخلو من فتنة، ولا من محنة، فأعرض عنها قبل أن تعرض عنك، واستبدل بها قبل أن تستبدل بك، فإن نعيمها ينتقل، وأحوالها تتبدل، ولذاتها تفنى، وآثارها تبقى، لذاتها أحلام، الدنيا مثل الحية، لين مسها، قاتل سمها، النقمة فيها نازلة والنعمة فيها زائلة. وكل هذا الكلام -يا إخواني- إنما هو لنعقل أن السعي للآخرة والمسارعة في العمل للآخرة وأن لا تشغلنا الدنيا بحطامها عن السعي والعبادة. قال بعض السلف: مثل الدنيا والآخرة مثل الضرتين إن أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى، وهذا ينبهنا أيضاً ويوجب علينا الاستعداد ليوم الرحيل. قال سليمان بن عبد الملك لـ أبي حازم: مالنا نكره الموت؟ قال: لأنكم خربتم آخرتكم، وعمرتم دنياكم، فكرهتم أن تنتقلوا من العمار إلى الخراب، وكذلك فإن هذا الكلام يفضي بنا إلى عدم التعلق بزينة الدنيا وزخرفها عندما يعلم العبد أن المتاع زائل وأنه هو زائل إن لم يزل المتاع قبله، وكذلك فإن الدنيا قيمتها عظيمة في وقتها. العمر: فهو محل العمل. الدنيا ساعة فاجعلها طاعة. انتهاز الفرصة. (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ). قال بعض السلف: الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما.

السعي للدنيا والمسارعة للآخرة

السعي للدنيا والمسارعة للآخرة ولا يفهم مما تقدم من الكلام أن الدين يأمرنا بترك الدنيا والأخذ بأسباب الرزق أبداً، بل إنه يأمرنا بالسعي والمشي {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك:15] ولكن المقصود هو تقديم السعي للآخرة على العمل للدنيا، وأن يكون وقتنا في السعي للآخرة أكثر من وقتنا للسعي في الدنيا؛ لأن الله بدأ بالآخرة فقال: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ} [القصص:77] ثم قال: {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77]، وهو يقول في آيات الآخرة: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران:133] {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الحديد:21] ويقول في أمر الدنيا: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} [الملك:15]. فأمر بالمسارعة والمسابقة في الآخرة وبالمشي في الدنيا، ومعلوم أن المسابقة والإسراع أشد من المشي، فعلم أنه لا بد من التزود للدار الباقية في هذه الدار الفانية، وكذلك فإن هذا الكلام لا يعني أبداً أن نترك الكفرة يخوضون فيها كما يشاءون، ويسعون فيها كما يريدون وإنما ننازعهم ونغالبهم، فإن الله أمرنا بمغالبتهم ومنازعتهم وجعل الله التدافع بين الكفرة والمسلمين من أسباب صلاح الأرض، ولولا التدافع لفسدت الأرض {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً} [الحج:40] {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة:251] ولكن الله يسلط من يشاء على من يشاء. وكذلك فإن هذا الموضوع يعيننا على التهوين من أثر المصائب التي تحصل لنا، ويسلينا عما يصيبنا من الضيق في الأرزاق، يسلينا عما يصيبنا من قلة المال وضيق ذات اليد. ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل مدخلنا في الدنيا حميداً، ومخرجنا منها حميداً، وأن يجعلنا ممن جعل حياتهم في الدنيا طاعة له. اللهم ألهمنا رشدنا وقنا شر أنفسنا، اللهم آمنا في أوطاننا، اللهم آمنا في الأوطان والدور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور. اللهم ارزقنا شكرك يا عفو يا غفور، اللهم انصر المجاهدين، واكبت أعداء الدين، وأخرج اليهود من بيت المقدس أذلة صاغرين، يا رب العالمين! سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين. وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.

التحميد في الكتاب والسنة

التحميد في الكتاب والسنة لقد ورد في الكتاب والسنة فضل حمد الله سبحانه وتعالى، وأنه من صفات أهل الجنة عند دخولهم جنة ربهم، وقد كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يحمد الله في كل وقت وحين، وقد ورد عن المصطفى صلى الله عليه وسلم ذكر أوقات يستحب فيها حمد الله، منها: عند الأكل والشرب، ولبس الجديد، والرجوع من السفر، وحال الحج، وإذا جاء أمر محزن أو مفرح، وهكذا نحمد الله حتى ننال الأجر العظيم.

فضل التحميد في القرآن الكريم

فضل التحميد في القرآن الكريم إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. A=6000394> يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. A=6000493> يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. A=6003602> يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار. إخواني: إن هناك أنواعاً من العبادات تفوت على المسلم مع ما فيها من الفضل العظيم، والثواب الجزيل، وقد تكون في غاية السهولة، والله سبحانه وتعالى يعطي الأجر العظيم على العمل القليل، لأن من أسمائه (الكريم والمنان) يعطي ولا ينفد ما عنده سبحانه، ونحن بحاجة دائماً أن نتذكر من العبادات ما يعيننا على بلوغ الدار الآخرة، والوصول إلى بر السلامة، ومن أعظم الأمور ذكر الله تبارك وتعالى، وذكر الله أنواع: الأول: ذكر لساني يرتبط بالقلب، وهذا هو ذكر الله، يرتبط بالمعاني الموجودة في القلب، فكل ذكر وكل نوع من هذا يجري على لسان العبد، وحقيقته قائمة في قلبه، والله سبحانه وتعالى هو المحمود حقاً، وله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد فالق الإصباح، وله الحمد وهو الحكيم الخبير، وله الحمد على ما أعطى، وله الحمد على ما منع، وله الحمد على ما يفعل سبحانه وتعالى. وقد حمد الله نفسه في آيات كثيرة، وأمرنا بحمده سبحانه وتعالى، وأهل الجنة الذين هم أهلها آخر دعواهم: {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس:10] {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} [الزمر:74] {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} [الأعراف:43] {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} [فاطر:34]. فحمد الله عبادة عظيمة، وهي تعني رضا العبد عن أفعال ربه، وتعبر عن تسليم العبد لقضاء ربه. أيها المسلمون: الحمد لله تملأ الميزان، هذه الكلمة العظيمة في ثوابها وثقلها تملأ الميزان، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل الدعاء الحمد لله)، كما قال: (أفضل الذكر لا إله إلا الله) ونبينا صلى الله عليه وسلم هو صاحب لواء الحمد يوم القيامة، فالله سبحانه وتعالى هو المحمود يُحمد على كل شيء، يعطي سيد الأولين والآخرين بيده لواء الحمد، فيقوم به صلى الله عليه وسلم، و (كان النبي عليه الصلاة والسلام يتأول القرآن، فلما نزل قول الله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر:3] قال عليه الصلاة والسلام: سبحانك اللهم وبحمدك). والله قد أمرنا أن نسبحه بحمده، وأن نقول: سبحان الله وبحمده، دائماً نحافظ على هذه الكلمات العظيمة التي يغفل عنها أهل المعصية، لكن المؤمن دائماً يشتغل بذكر الله، ومن أفضله وأعظمه: الحمد لله، ألم تر أن أعظم سورة في القرآن هي سورة الفاتحة كيف ابتدئت؟! تبتدئ بهذه الجملة العظيمة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، قال عليه الصلاة والسلام: (ألا أخبرك بأخير سورة في القرآن {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] إذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] قال الله: حمدني عبدي).

فضل التحميد في السنة النبوية

فضل التحميد في السنة النبوية وقد ورد فضل هذه الكلمة العظيمة مع غيرها، وورد فضلها مستقلاً في عدد من النصوص دلالة على أهميتها، قال صلى الله عليه وسلم: (خذوا جنتكم من النار، قولوا: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فإنهن يأتين يوم القيامة مقدمات، ومعقبات، ومجنبات، وهن الباقيات الصالحات) يأتين يوم القيامة أمام الذاكر، ومن خلفه، وعن يمينه، وشماله يحطنه، هذا إكرام الله للذاكر الذي يكثر من قول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، وقد التقى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بإبراهيم الخليل لما أسري به، فماذا قال له إبراهيم؟ (أقرئ أمتك السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأخبرهم أن غراسها -غراس الجنة- سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر) فهذه وصية من إبراهيم عليه السلام إلينا جاءتنا عبر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أن نقول ذلك دائماً. وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إن الله تعالى اصطفى لكم من الكلام أربعاً: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فمن قال: سبحان الله؛ كتبت له عشرون حسنة، وحطت عنه عشرون سيئة، ومن قال: الله أكبر مثل ذلك، ومن قال: لا إله إلا الله مثل ذلك، ومن قال: الحمد لله رب العالمين من قبل نفسه -خالصاً لله- كتب له ثلاثون حسنة، وحط عنه ثلاثون خطيئة) رواه الإمام أحمد رحمه الله تعالى. وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ به وهو يغرس غرساً، فقال: (يا أبا هريرة! ما الذي تغرس؟ قال: هذه غراس لي أغرسها، قال عليه الصلاة والسلام -الرحيم بأمته الحريص على تعليمهم-: ألا أدلك على غراس هو خير من هذا؟ قال: أجل يا رسول الله! قال: تقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر؛ يغرس لك بكل كلمة منها شجرة في الجنة)، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وما في شجرة في الجنة إلا وساقها من ذهب)، وقال: (من قال: سبحان الله وبحمده؛ غرست له نخلة في الجنة). فاستكثروا يا أيها المسلمون من شجر الجنة، فما أسهل القول! وما أسهل الفعل! وما أسهل هذا العمل! وما أعظم الأجر والثواب! ما أعظم الجزاء من ربٍ كريم يمن على عباده! يقول: خذوا بلا حساب، لكن أين العاملون؟! وأين المشمرون؟! وأين الذاكرون الله كثيراً والذاكرات؟! وقال عليه الصلاة والسلام لـ أبي أمامة معلماً إياه فضل الحمد، قال: (ألا أدلك على ما هو أكثر من ذكرك الله الليل مع النهار؟ تقول: الحمد لله عدد ما خلق، الحمد لله عدد ما في السماوات وما في الأرض، الحمد لله عدد ما أحصى كتابه، والحمد لله عدد كل شيء، والحمد لله ملء كل شيء، وتسبح الله مثلهن، تعلمهن وعلمهن عقبك من بعدك). تعلمهن أيها المسلم! وعلمهن أولادك، وعقبك من بعدك. وعندما تتجدد النعمة يجب على العبد أن يحمد ربه، وإذا علم العبد عظم الحمد بجانب النعمة أسرع لسانه إلى الحمد، قال عليه الصلاة والسلام: (ما أنعم الله على عبد نعمة، فحمد الله عليها؛ إلا كان ذلك الحمد أفضل من تلك النعمة) فالحمد لله على ما أنعم وعلى نعمه: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34]. والحمد سبب لرضا الرب عن العبد، فقال عليه الصلاة والسلام: (إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها)، وقال عليه الصلاة والسلام لما دُخل عليه وبنت له تقضي قال كلاماً عظيماً، وهذه القصة صحيحة رواها ابن عباس قال: (أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بنتاً له تقضي -تحتضر تموت- فاحتضنها فوضعها بين ثدييه فماتت وهي بين ثدييه، فصاحت أم أيمن، فقيل: أتبكي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فقالت: أنت تبكي يا رسول الله! فقال: لست أبكي إنما هي رحمة، ذرفت عيناه عليه الصلاة والسلام، وقال: إن المؤمن بكل خير على كل حال، إن نفسه تخرج من بين جنبيه وهو يحمد الله عز وجل) حتى آخر لحظة من الدنيا والمؤمن تخرج نفسه من بين جنبيه وهو يحمد الله عز وجل، فهو يحمد الله على كل حال، حتى لو كانت روحه تخرج من بين جنبيه، فهو لا يزال يحمد الله، لماذا؟ يحمد الله على الخروج من سجن الدنيا، ويحمد الله على قضائه فيه وأنه الآن يقبض روحه، فيحمد الله على كل شيء، وعلى كل مكروه، وعلى كل قضاء، حتى إن المؤمن يحمد الله وربه يقبض روحه من بين جنبيه، فيحمد الله على قضائه فيه يحمد الله على لذة الحياة ونعمتها التي أفناها في طاعة الله، فهو يحمد الله على أنه أعطاه النعمة التي حيا بها، فذكر ربه وعبده.

أوقات يسن فيها حمد الله

أوقات يسن فيها حمد الله

حمد الله عند القيام من النوم والركوع وعند العطاس

حمد الله عند القيام من النوم والركوع وعند العطاس أيها المسلم: إذا تأملت الحمد في أي شيء ورد من الأذكار الشرعية لتعجبن أشد العجب من عظم هذه الكلمة عند رب العالمين، وتعجب أشد العجب من شدة تفريطنا وغفلتنا عن الإتيان بهذه الكلمة دائماً، فعند القيام من النوم يقول: الحمد لله الذي رد عليَّ روحي، وإذا رأى مبتلى قال: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به، يسر بها. وعند الركوع يقول الإمام: سمع الله لمن حمده، فيقول الناس: اللهم ربنا ولك الحمد، ولما قال رجل: الحمد الله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، تعجبت الملائكة من هذه الكلمة. وإذا عطس الإنسان يقول: الحمد لله، والسبب: أن العطاس من الله، والتثاؤب من الشيطان، فإذا عطس حمد الله سبحانه وتعالى.

حمد الله في أول الخطب والمواعظ وأدبار الصلوات

حمد الله في أول الخطب والمواعظ وأدبار الصلوات كان النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يحصى إذا تكلم وخطب يحمد الله ويثنى عليه. كذلك بعد الصلوات ثلاثاً وثلاثين تحميدة يقولها العبد، وكان عليه الصلاة والسلام إذا أتاه الأمر يسره قال: (الحمد الله الذي بنعمته تتم الصالحات، وإذا أتاه الأمر يكرهه قال: الحمد الله على كل حال) فهو دائماً يحمد الله.

حمد الله عند لبسه للجديد

حمد الله عند لبسه للجديد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا استجد ثوباً ليلبسه يقول: (الحمد الله، أنت كسوتنيه، أسألك من خيره وخير ما صنع له، وأعوذ بك من شره وشر ما صنع له) لأن الثياب فيها خير وشر، فقد يختال فيها ويتكبر، وقد تلبس عند الفجرة ويتزين فيها، وقد يتبرج فيها وبالذات للنساء، فالملابس لها خير ولها شر، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يقول: (أسألك من خيره وخير ما صنع له، وأعوذ بك من شره وشر ما صنع له).

حمد الله بعد الطعام والشراب

حمد الله بعد الطعام والشراب الحمد في الطعام له عبارات عجيبة خرجت من فيِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حفظها الصحابة، ولو تأملت في هذه العبارات -يا عبد الله- لوجدت شاهداً على شدة حمد الرسول لربه، وإخلاصه لله في هذا الحمد، كان إذا قرب إليه طعام قال: باسم الله، فإذا فرغ قال: (اللهم إنك أطعمت وسقيت، وأغنيت وأقنيت، وهديت واجتبيت، اللهم فلك الحمد على ما أعطيت) وكان إذا أكل أو شرب قال: (الحمد لله الذي أطعم وسقى، وسوغ وجعل له مخرجاً) وكان إذا رفعت مائدته قال: (الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، الحمد لله الذي كفانا وآوانا غير مكفي، ولا مكفور، ولا مودع، ولا مستغنٍ عنه ربنا).

حمد الله إذا أوى إلى فراشه

حمد الله إذا أوى إلى فراشه كان إذا أوى إلى فراشه صلى الله عليه وسلم يتذكر نعمة الله عليه، هذا التذكر الذي نفتقده وننساه ونغفل عنه، كان إذا أوى إلى فراشه قال: (الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا، وكسانا وآوانا، فكم ممن لا كافي له ولا مئوي له) فيحمد ربه أنه كفاه وآواه سبحانه وتعالى.

حمد الله إذا قفل من حج أو عمرة

حمد الله إذا قفل من حج أو عمرة وكان إذا قفل من غزو أو حج أو عمرة يكبر الله على كل شرف من الأرض ثلاث تكبيرات، ثم يقول: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، آيبون، تائبون، عابدون، لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده).

حمد الله إذا لبى في الحج

حمد الله إذا لبى في الحج وفي التلبية يقول الحاج والمعتمر: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، وإذا مر المسلم بآية: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:13] من سورة الرحمن قال كما قال المسلمون من الجن: ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب، فلك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت.

حمد الله حال الاستسقاء

حمد الله حال الاستسقاء وفي الموقف العظيم في صلاة الاستسقاء فيما رواه أبو داود قال: (شكا الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم قحط المطر، فوعدهم يوماً، ثم خرج إلى المصلى -لما أمر بالمنبر- فقام عليه، وقال: إنكم شكوتم جدب دياركم، واستئخار المطر عن إبان زمانه عنكم، وقد أمركم الله عز وجل ووعدكم أن يستجيب لكم، ثم شرع صلى الله عليه وسلم بدعاء ربه -فماذا قال؟ - أول ما بدأ بالدعاء قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:2 - 4] لا إله إلا الله يفعل ما يريد، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث، واجعل ما أنزلت لنا قوة وبلاغاً إلى حين) بدأ بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:2 - 4] يقول الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل -ثم شرع في الدعاء- فأنشأ الله سحابة فرعدت وبرقت، ثم أمطرت بإذن الله، فلم يأتِ مسجده حتى سالت السيول، فلما رأى سرعتهم إلى البيوت ضحك صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، فقال: (أشهد أن الله على كل شيء قدير، وأني عبد الله ورسوله). فاللهم لك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، اللهم ارض عنا وارزقنا حمدك وشكرك. أقول قولي هذا، وأستغفر الله فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الحث على حمد الله وشكره في كل وقت

الحث على حمد الله وشكره في كل وقت الحمد لله على كل حال، والصلاة والسلام على محمد والآل، وأشهد أن لا إله إلا الله هو الحميد وهو المحمود سبحانه وتعالى، لا إله إلا الله يفعل ما يريد، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان. أيها المسلمون: لا تغفلوا عن حمد الله، واذكروه سبحانه وتعالى دائماً: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} [البقرة:152]. الحمد لله على كل حال، فهذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم وهذا قوله: (الحمد لله على كل حال) وقد حدثنا النبي صلى الله عليه وسلم عن رجل من بني إسرائيل قال: (لأتصدقن الليلة بصدقة، فأخرج صدقته فوضعها في يد سارق، فأصبحوا يتحدثون تصدق الليلة على سارق، فلما سمع الرجل وعلم قال: اللهم لك الحمد على سارق، لأتصدقن الليلة بصدقة، لأتصدقن الليلة بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية، فأصبحوا يتحدثون: تصدق الليلة على زانية، فقال: اللهم لك الحمد على زانية، لأتصدقن الليلة بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد غني، فأصبحوا يتحدثون تصدق على غني فقال: اللهم لك الحمد على سارق، وعلى زانية، وعلى غني، فأتي الرجل). قال العلماء: أتي في المنام وهذه من الرؤى الصالحة، فقيل له: (أما صدقتك على سارق فلعله أن يستعف عن سرقته، وأما الزانية فلعلها أن تستعف عن زناها، وأما الغني فلعله أن يعتبر فينفق مما أعطاه الله) رواه الإمام البخاري رحمه الله. لما فوض الرجل ورضي بقضاء الله، وقال: اللهم لك الحمد، لأنه يحمد الله عز وجل على كل حال، فجعل الله لهذه الصدقات الثلاث ثواباً عظيماً، والأمور بالظواهر والله يتولى السرائر، ونية المتصدق تنفعه ولو وقعت في غير موقعها، وهذا يدل على فضل صدقة السر، وبركة التسليم لأمر الله. والحمد لله على كل حال حتى على المكروهات، وهذه صفة المؤمنين التي لا تكون للذين يبغضون القضاء ويعترضون عليه، ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى يكافئ الراضي بقضائه الحامد له على قضائه وقدره مكافأة عظيمة، قال صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ولد العبد قال الله تعالى لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم. فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم. فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع -حمدك: أي قال: الحمد لله على كل حال، إنا لله وإنا إليه راجعون- فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة، وسموه بيت الحمد). فالحمد لله أولاً وأخيراً، والحمد لله ظاهراً وباطناً، والحمد لله عدد كل شيء، والحمد لله ملء كل شيء، والحمد لله عدد ما في السماوات وما في الأرض، والحمد لله على كل حال، ما أصابنا من نعمة فالحمد لله، وما أصابنا من نقمة وبلية وعذاب فالحمد لله، الحمد لله على ما أصاب إخواننا المسلمين في أنحاء العالم، والحمد لله على كل مصيبة وقعت بنا، ونحتسب أجرها عند الله، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، الحمد لله على كل حال، وإنا لله وإنا إليه راجعون. فهذه العبادة العظيمة التي نحن عنها غافلون ينبغي أن نتيقظ لها يا عباد الله! اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من الذاكرين الله كثيراً، اللهم اجعلنا من الذاكرين لك كثيراً، واجعلنا لك شاكرين لك عابدين إليك تائبين إليك أواهين منيبين، اللهم لا تسلبنا النعمة، اللهم إنا نعوذ بك من تحول عافيتك، وفجأة نقمتك، وجميع سخطك، اللهم ارفع الظلم عنا وعن المسلمين، اللهم هيئ لنا من أمرنا رشداً. اللهم أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم إنا نسألك أن تنزل علينا غيثاً مغيثاً، اللهم اجعله بلاغاً لنا إلى كل خير، اللهم إنا نسألك أن تصلح شأننا كله، اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.

التساهل في ستر العورة

التساهل في ستر العورة جاءت الشريعة بمحاسن الأمور ومنها ستر العورة، لكن الناس تساهلوا في هذا الأمر بشكل كبير، صغاراً وكباراً، نساءً ورجالاً، وفي هذه الخطبة أتى الشيخ بأدلة ستر العورة من الكتاب والسنة، وتوسع في ذكر الأحكام الشرعية الخاصة بأحكام العورة بين الرجال والنساء والأطفال.

حث الشريعة على غض البصر وستر العورة

حث الشريعة على غض البصر وستر العورة إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار. أيها المسلمون: لقد جاءت الشريعة بمحاسن الأمور، وأمر شرع الله سبحانه وتعالى بكل ما يُصلح البشرية، ولما خالفت البشرية شرع الله؛ عمتها النكبات، وانتشرت فيها الرذائل، وصارت في الهاوية، ونزلت إلى الحضيض، ولا شك أننا في زماننا هذا قد حصل فيه من هذا الشيء الكثير. أيها المسلمون: حديثنا في هذه الخطبة عن أمرٍ مهم أمرت به الشريعة، وجاء به الدين، لكن الناس ضيعوه وترتب على ذلك ما ترتب من انتشار الرذائل والفواحش، ألا إنه حفظ العورة الذي له أحكام كثيرة، وفروع متعددة، وأدلة كثيرة أمرت بستر العورة. العورة التي قال في شأنها أهل العلم: العورة سميت عورة لقبح ظهورها؛ ولأجل غض النظر عنها سمي العور عوراً وهو النقص والعيب، ولذلك فإن العورة هي كل أمرٍ يُستحيا منه، وأما في شريعة الله فهي كل ما يجب ستره من بدن الإنسان. والعورة كما ذكر أهل العلم: عورة نظر، يجب سترها عن عين الناظر، وعورة الصلاة وهو ما يجب على الإنسان ستره حال الصلاة، أما الذي يجب على الإنسان ستره حال الصلاة، فإن أدلته في الشريعة معروفة، لكن الناس ينبغي عليهم ألا يخلطوا بين عورة النظر وعورة الصلاة، حتى لا يحصل عندهم احتجاجات فاسدة، فأنت ترى أنه يجب على الرجل أن يستر منكبيه في الصلاة لما ورد في الحديث الصحيح، لكن لا يجب عليه ستر المنكبين أمام رجال مثله مثلاً. وكذلك المرأة تكشف وجهها في الصلاة، لكن لا يجوز لها كشفه في غير الصلاة، وكذلك تستر ساقيها مثلاً وبدنها في الصلاة، لكن يجوز لها أن تكشفه أمام الزوج، فلا يحتجن محتج بعورة الصلاة على عورة النظر. واعلموا أن الشريعة قد جاءت بالأمر بغض البصر، قال سبحانه وتعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:30 - 31]، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (يا علي! لا تتبع النظرة النظرة؛ فإنه لك الأولى، وليست لك الثانية) (لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة) هكذا جاء عنه صلى الله عليه وسلم، ارتباط مسألة النظر بالعورة، وغض الأبصار عن العورات.

أدلة ستر العورة عن النظر

أدلة ستر العورة عن النظر

أدلة وجوب ستر العورة من القرآن

أدلة وجوب ستر العورة من القرآن فأما الأدلة التي جاءت بها الشريعة على ستر العورة فهي كثيرة، خذ على سبيل المثال قول الله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31] كيف نزلت؟ ومتى نزلت؟ وأين نزلت؟ نزلت في شأن عظيم، كانت المرأة في الجاهلية تطوف بالبيت عريانة، وكان أهل الجاهلية يطوفون عراة، يزعمون أن هذه الملابس التي لديهم قد عصوا فيها، فلا ينبغي أن يطوفوا بها، فأنزل الله عز وجل: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31] وشنَّع الله على أهل الجاهلية فعلهم هذا في آية أخرى كذلك، فقال: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:28]، وقول الله: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30]، وقوله: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:31] دليل على غض البصر عن العورات، وقوله تعالى: {وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30] {وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:31] هذا كذلك دليل على وجوب ستر العورات عن النظر فتأمل محاسن الشريعة كيف أنها أمرت بغض البصر، وأمرت بستر العورة؛ لكي تعالج الموضوع من جميع جوانبه.

أدلة وجوب ستر العورة من السنة

أدلة وجوب ستر العورة من السنة أما سنة النبي صلى الله عليه وسلم فالأحاديث الواردة فيها بستر العورة كثيرة، ومن ذلك ما جاء في الحديث الصحيح قال: (يا نبي الله! عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك، قلت: فإذا كان القوم بعضهم في بعض؟ قال: إن استطعت ألا يراها أحد فلا يراها، قلت: يا رسول الله! فإذا كان أحدنا خالياً؟ قال: فالله أحق أن يستحيا منه من الناس). وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم لما رأى رجلاً من الصحابة قد كشف فخذه، قال: (غط فخذك؛ فإن الفخذ عورة) أمره بالتغطية والستر.

إجماع أهل العلم على وجوب ستر العورة

إجماع أهل العلم على وجوب ستر العورة وكذلك أجمع أهل العلم على أن ستر العورات عن العيون واجب، فإذا قال إنسان: إذا كان الرجل خالياً؛ فهل يجوز له أن يكشف عورته؟ أجاب أهل العلم عن ذلك، فقالوا: إذا دعت الحاجة لذلك مثل قضاء الحاجة من بول أو حلق عانة أو اغتسال أو جماع لزوجته؛ فإنه لا بأس بذلك، أما إذا كان ليس هناك حاجة؛ فإن قوله صلى الله عليه وسلم للرجل لما سأله: إذا كان أحدنا خالياً؟ قال: (فالله أحق أن يستحيا منه) قال أهل العلم: إن الإنسان لا يكشف عورة نفسه إذا لم تدع الحاجة إلى ذلك، وبعضهم أوجب ذلك وغلظ فيه. إذاً: كشفها لغير حاجة حتى لو كان الإنسان خالياً دون حاجة؛ فإنه أمر مذموم. واعلموا -أيها الإخوة- أن الناس تساهلوا في أشياء عجيبة تساهلاً كبيراً جداً، وخصوصاً في مسألة الفخذ بالنسبة للرجال، لأن بعض الناس عندهم منطق جاهلي، يقول: العورة للنساء وليس للرجال عورة، ولذلك تراهم يجلسون في المجالس يرفعون رجلاً على رجل، وقد لا يكون أحدهم لابساً تحت ثوبه سروالاً طويلاً مثلاً فيظهر فخذه، فإذا جئت تنبهه؛ قال لك: الرجل ليس له عورة، كبرت كلمة! رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (غط فخذك؛ فإن الفخذ عورة) وهذا يقول: الرجل ليست عورة.

أحكام العورة

أحكام العورة أيها المسلمون: لقد تكلم علماؤنا في عورة الرجل للرجل، وعورة الرجل للمرأة، وعورة المرأة للمرأة، وعورة المرأة للرجل، وعورة الطفل، وعورة المرأة أمام الطفل، وعورة المرأة أمام المخنث، وعورة المرأة أمام العبد، وعورة الأمة للرجل ونحو ذلك من الأشياء. الخلاصة: أن الرجل والمرأة إذا كانت زوجته أو أمته؛ جاز لهما كل شيء، بما في ذلك الكشف التام.

عورات الرجال

عورات الرجال أما عورة الرجل بالنسبة للرجل؛ فإن العلماء قد اتفقوا على أن عورة الرجل للرجل ما بين السرة إلى الركبة، فلا يجوز له كشف ما بين سرته وركبته. وأما عورة الرجل بالنسبة للمرأة الأجنبية: فإن كل من جاز لك نكاحها في الأصل فإنها امرأة أجنبية عنك، والمرأة تنظر إلى الرجل إذا لم يكن هناك فتنة أو شهوة، أما إذا لم تؤمن الفتنة وثارت الشهوات؛ فيجب عليها أن تغض بصرها كما قال الله في الآية أياً كان، وفي أي مكان كان، وهذا أمر، وكل واحد وكل واحدة أعلم بما في نفسه، والله عز وجل مطلع على الجميع، فاتقوا الله سبحانه وتعالى. أما عورة الرجل بالنسبة لمحارمه؛ والمحارم كل من حرم عليك نكاحها لحرمتها، فإن الرجل والمحرم ومحرمه من النساء يجوز له أن ينظر إليها فيما جرت العادة بظهوره منها على ما سنبين بعد قليل إن شاء الله.

عورات النساء

عورات النساء أما عورة المرأة بالنسبة للرجال الأجانب؛ فإنها على الصحيح كلها عورة، كما قال الله عز وجل: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31] قال أهل العلم: الرداء والثياب لا يمكن إخفاؤه لا يمكن إخفاء العباءة إلا ما ظهر منها وهو الرداء والثياب، وكذلك قال الله: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب:53]. فلا بد من حجاب يحجب المرأة كلها؛ سواء كان جداراً أو باباً أو عباءة أو خماراً ساتراً ونحو ذلك، وقال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59] فالإدناء من الأعلى إلى الأسفل يستر الجسم كله، ولما جاء صفوان بن المعطل السلمي ومر بـ عائشة وهي جالسة واسترجع قائلاً: إنا لله وإنا إليه راجعون، قالت عائشة: [فخمرت وجهي] سارعت رضي الله عنها إلى تغطية وجهها، وهذا الحديث في صحيح البخاري. وقال عليه الصلاة والسلام: (المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان) فقوله: (المرأة عورة) أي: أنها كلها عورة، أما الرجال الأجانب فليس هناك شيء تكشفه، هل ترى استثناءً في الحديث: (المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان) أسماء تقول: [كنا نغطي وجوهنا من الرجل] وعائشة عندما كانت محرمة، كانت كاشفة لوجهها مع النساء، فإذا مر بها الرجال غطت وجهها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لما نهى عن النقاب في الإحرام؛ دل ذلك على أنه كان معروفاً عندهم ومستعملاً، وأما المرأة فكانت تستر وجهها. أيها المسلمون: لو قال قائل: إن هناك أقوالاً أخرى؟ فنقول: ما هو الأليق بعصرنا الذي كثرت فيه الفتن، وعمت فيه الشرور، فأنت تراهن الآن في جميع الأماكن كاشفات عاريات إلا ما كان من أمر لا تستطيع فعله الآن، لكنها لو استطاعت فعله؛ لفعلت ولجرت وراء الكفرة حذو القذة بالقذة. أما المرأة والأطفال فإن هذه من القضايا التي جهلها كثير من الناس، بل وتساهلوا فيها تساهلاً شنيعاً، والخلاصة: أن الله عز وجل يقول في أصناف الناس الذي يجوز للمرأة أن تبدي زينتها عندهم، قال عز وجل: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور:31] فيجوز للمرأة أن تكشف على الطفل الصغير الذي لم يفهم أحوال النساء بنص كتاب الله {لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور:31] لم يفهموا أحوال النساء، ولم يميزوا بين الحسناء والشوهاء، هذا يمكن من الدخول على النساء، لكن إذا كان له التفاف وصار له اهتمام وتمييز؛ فإن النساء يحجبن عنه. والآن في البيوت تساهل عظيم وشنيع، لا سيما في قضية الولد الذي يكون قبيل البلوغ، فإذا بلغ صار رجلاً، لكن قبيل البلوغ، بسبب انتشار الأفلام والمجلات والخنا والفواحش في المجتمع؛ صار الأطفال لهم تمييز في مسائل جمال المرأة، والنساء بالعكس عندهن تساهل وتسيب في هذه القضية، فإذا لوحظ على الطفل التفاف على للمرأة وتمييز لمحاسنها؛ وجب عليها أن تستر نفسها ولا يجوز إدخاله عليها. وأما بالنسبة لعورة المرأة أمام المحارم، فيا أيها الآباء! ويا أيها الإخوان! ويا أيها الأزواج! فإن العلماء قد قالوا في ذلك قولين مشهورين، والذي يدل عليه الدليل -والله أعلم- في قول الله عز وجل: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [النور:31] أن المرأة تظهر أمام المحرم ما يظهر غالباً أمامهم في العادة، كالوجه والشعر والرقبة وما فوق القلادة، وليس ما تحت القلادة، وما تحت الدملج الذي عند العضد وليس ما فوقه، وأسفل الخلخال، هذا الذي تظهره وهذا الذي جرت العادة بإظهاره، أما غير ذلك فإن بعض أهل العلم قد نصوا على أن الظهر والبطن عورة أمام المحرم، لا تظهر ظهرها ولا بطنها أمام المحرم، واستدلوا بقوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [النور:31]. إذاً: الذي يظهر غالباً منها كما بينا، مثل: الوجه والشعر والرقبة وما فوق القلادة وما أسفل الدملج الذي يوضع على العضد، هذا في العادة والخلخال وما تحته القدمين هذا الذي يظهر أمام المحارم، وبعض العلماء شددوا في الخال والعم أكثر من تشديدهم في الأب والأخ والابن، نظراً لأن الآية التي فيها قول الله: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [النور:31] لم يرد فيها ذكر الخال والعم، فلذلك ينبغي التنبه لهذا الأمر، وينبغي عليكم يا معشر الرجال أن تأمروا النساء في بيوتكم بالتستر والحشمة.

عورات الصغار

عورات الصغار أما بالنسبة للصغار، فإن كان الطفل صغيراً أو رضيعاً؛ فإنه لا عورة له ولا حكم لعورته، فإذا كان مميزاً، فينبغي عليه ستر الفرجين على الأقل، ويجب عليه وعلى أولياء الأمور مراعاة ذلك، فإذا بلغت الأنثى تسعاً والذكر عشراً، فينبغي الاعتناء التام باللباس، وعند ذلك تعلم التساهل الذي يحدث عند كثير من الناس، الذين يظهرون بناتهم ذات التسع والعشر السنين بملابس قصيرة فوق الركبة أمام المحارم، ويقول: هذا عمها، وهذا ابن أخيها، وابن أختها، وهذا خالها ونحو ذلك. وعصرنا الآن كما قلنا أيها المسلمون: انتشرت فيه الفواحش وعمَّ فيه الفساد، فينبغي أخذ الحيطة في هذا الأمر، والتشديد في المسائل؛ لأنك تسمع عن جرائم تدل على انتكاسة الفطرة، فلا تتساهلوا رحمكم الله في هذه القضية. ينبغي أن يربى أولادنا ذكوراً وإناثاً منذ الصغر على الستر والحشمة حتى يتعودوا عليه، أما أن نرخي الحبل ثم إذا جاء وقت الحجاب المأمور به شرعاً والواجب قلنا: الآن استصعبت النفوس الأمر، بسبب عدم التعويد. وقضية التساهل في لباس البنات الصغيرات قد حصل فيه جرائم وحصل فيه ما يندى له الجبين؛ بسبب أن الرجل أو الأب أو الأم تساهلوا في لباس البنات الصغيرات.

تغير حكم العورة عند الفتنة

تغير حكم العورة عند الفتنة نحن في عصر انتكست فيه الفطر، وذهبت العفة إلا من رحم الله، ولذلك ينبغي التشديد وعدم التهاون في هذه القضية، ولذلك فإن العلماء بعدما بينوا أن عورة المرأة أمام المرأة من السرة إلى الركبة، وقالوا أقوالاً أخرى في المسألة؛ قالوا: النظر عند خشية الفتنة حرام، حتى للمحارم فيما يجوز لهم النظر إليه من النساء، قالوا: لا يجوز النظر عند خشية الفتنة، فعندما كانت المجتمعات نظيفة في الماضي، عندما كان الصحابة والسلف يعيشون في مجتمعات نظيفة، لم تكن الشهوات تثور؛ لأن المجتمع محتشم، لكن اليوم لأتفه الأسباب تثور الشهوات، ولذلك لا بد من الاعتناء بهذه القضية أشد الاعتناء. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإياكم للخير، وأن يجعلنا من الحافظين فروجهم، اللهم اجعلنا من الذين يحفظون حدودك فلا يتعدونها، واجعلنا من الذين يغضون أبصارهم فلا ينظرون إلى الحرام، اللهم اجعل بيننا وبين الحرام برزخاً وحجراً محجوراً. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

مخالفة البشرية لشرع الله

مخالفة البشرية لشرع الله لا إله إلا الله، وسبحان الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصلى الله وسلم على نبينا المصطفى الأمين، الذي بلغ رسالة ربه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أيها المسلمون: لقد خالفت البشرية اليوم شرع الله في ستر العورات. لقد خالفت البشرية شرع الله لما ابتكروا شوارع وشواطئ للعراة. لقد خالفت البشرية شرع الله لما ظهروا بهذه المايوهات والملابس القصيرة على شواطئ البحار وفي المسابح وغيرها. لقد خالفت البشرية شرع الله في ستر العورات عندما أنتجت وسوقت الأفلام التي تظهر فيها المرأة كاشفة لعورتها، أو لجزء من العورة التي أمر بها الشرع. لقد خالفت البشرية أمر الله في ستر العورات لما قامت الإعلانات التجارية تروج للبضائع، وفي كثير منها صورة امرأة كاشفة عن عورتها أو جزءاً من عورتها، في أمور لا علاقة لها بالنساء مطلقاً كعلب البيبسي مثلاً. لقد خالفت البشرية شرع الله عندما طبعت المجلات، وعلى أغلفة هذه المجلات فتاة الغلاف، الداعية بجمالها الصارخ وزينتها ومكياجها إلى الفحشاء والمنكر. لقد خالفت البشرية شرع الله عندما دخلت النساء في الأسواق متبرجات، وتُرك ستر العورة حتى بالنسبة للرجال، الذين خالفوا شرع الله في هذه الألعاب الرياضية التي يزعمون أنها رياضية، وكشفوا فيها من العورات من الفخذ وغيره ما يندى له جبين المسلم الحر الكريم. لقد خالف الناس شرع الله عندما قام الاختلاط في البيوت بين النساء والرجال الأجانب. لقد خالفوا شرع الله في تساهلهم في ظهور أولادهم وبناتهم بالذات الذين هم في سن البلوغ بثياب قصيرة أمام الضيوف وأمام الأجانب، بل حتى أمام المحارم كشفوا ما لا يجوز كشفه. لقد خولفت الشريعة في قضية سد الذرائع مخالفة شنيعة؛ لأنهم خالفوا الأصل فكيف لا يخالفون قاعدة سد الذرائع، كذلك قاعدة سد منافذ الفتنة غير مراعاة في كثير من الأحوال. لقد خولف الشرع وخولف مراراً ومراراً وتكراراً، وهذه الأشياء الوافدة إلينا والتي نقترفها نحن بأيدينا دليل واضح على تضييع قضية ستر العورة، صارت مسألة ستر العورة الآن من المسائل الضائعة المضيعة في عالمنا وواقعنا؛ لأن من مخططات اليهود إظهار العورات وكشفها؛ لكي يصبح المجتمع مجتمعاً إباحياً، حتى تشغل القضية الأذهان ولا يبقى هناك مجال للعاقل لكي يبصر ما ينقذ به أمته. أيها المسلمون: إن كل شر يحدث في مجتمعنا بسبب مخالفة الشريعة، ونحن الذين تساهلنا في قضايا كثيرة، وتساهلنا في قضية كشف العورات في مسألة السائق الأجنبي والخادمة، وحتى في قضية الممرضات والمضيفات، والذهاب بالنساء إلى المستشفيات، أفلا ترون أن هذه المخالفات تستوجب عقوبة من الله: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} [الطور:7 - 8]. اللهم إنا نسألك رحمتك، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم إنا نسألك أن تطهر قلوبنا، اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا، واحفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا، وعن أيماننا وعن شمائلنا ومن فوقنا، ونعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا، اللهم إنا نعوذ بك من تحول عافيتك، وزوال نعمتك، وفجأة نقمتك، وجميع سخطك. اللهم إنا نسألك أن تنصر الإسلام والمسلمين، وأن تقيم علم الجهاد في ربوع العالمين، اللهم ارفع الظلم عن المستضعفين، اللهم انصر المستضعفين من المسلمين، اللهم إنا نسألك أن تنصر عبادك الموحدين، وتقيم شرعك في الأرض يا رب العالمين. {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90]، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.

الحياء

الحياء الحياء خلق عظيم من أخلاق الإسلام، وهو خلق يبعث على فعل كل جميل ويمنع من فعل كل قبيح، وهو صفة من صفات الله عز وجل، وصفة من صفات أنبياء الله عليهم السلام، وهو أيضاً من صفات أوليائه، وأشد هذه الأمة حياءً هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فقد كان أشد حياءً من العذراء في خدرها.

صور من فقدان الحياء

صور من فقدان الحياء إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار. لماذا تحسر عدد من النساء الحجاب عن وجوههن وشعورهن؟ لماذا يلبسن الثياب الضيقة والشفافة؟ لماذا تنطلق الكلمات البذيئة من ألسنة الكثيرين وتنهال الألفاظ التي تخدش الحياء في المجالس والأماكن العامة، وتسمع هذه الكلمات البذيئة في قارعة الطريق والمحلات؟ لماذا يعامل بعض الذين يستلفون النقود من يستلفون منهم بصلافة ووقاحة، ويرفضون رد الدين، أو يجعلونهم يجرون وراءهم كالشحاذين مع أنهم أصحاب الحق؟ لماذا يقع الاختلاط بين الرجال والنساء ويمضي بشكل طبيعي حتى يحادث الرجل الأجنبي المرأة الأجنبية كأنه محرم لها؟ لماذا تنتشر المعاكسات الهاتفية وخروج المرأة مع الرجل الأجنبي في سيارة أو مكان في خلوة ونحوه؟ لماذا يحسر اللاعبون عن أفخاذهم ولا يتحفظ الناس من ستر عوراتهم؟ لماذا ولماذا من سائر هذه المشاهد والأفعال المتكررة؟ السبب -أيها الإخوان- هو فقدان خلق عظيم من أخلاق الإسلام، ألا وهو خلق الحياء، هذا الحياء الذي يبعث على فعل كل جميل، ويمنع من فعل كل قبيح هذا الحياء قد زال وانعدم من نفوس الكثيرين، وقلَّ وخف واضمحل من نفوس آخرين، ولذلك تجد انتشار المعاصي والجهر بها، وخصوصاً عند من ينبغي أن تكون محتشمة متسترة عند البشر كلهم. فقدان الحياء أدى إلى المآسي حتى ظهرت شواطئ العراة وأنديتهم، وصارت الأفلام الإباحية تعرض وتصور بسبب فقدان الحياء، لم يعد هناك حياء، هذا الخلق الإسلامي الأصيل الذي نفتقده اليوم في نفوس كثير من المسلمين، فما عادوا يتورعون عن أمور كثيرة.

أنواع الحياء

أنواع الحياء حياء الإنسان منه ما هو فطري، ومنه ما هو مكتسب هذا الحياء غريزة خلقها الله في قلب الأبوين: آدم وحواء، ولذلك لما عصيا وأكلا من الشجرة وظهر أثر المعصية بانكشاف العورة، سارعا إلى ستر عوراتهما بأوراق الشجر، بمجرد أن بدت لهما سوءاتهما طفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة، فاستحيا آدم وزوجه لما ظهرت العورة، وأرادا بسرعة أن يسترا العورة بورق الجنة، مسارعين إلى ذلك من خلق الحياء الذي خلقه الله فيهما، وهذا هو الأصل في البشر سلامة الفطرة، كل مولود يولد على الفطرة، كل مولود يولد وحياؤه معه، ولكن يفسد حياؤه من هذه التربية، إنهم يلبسون البنات من صغرهن ملابس فاضحة، وتنشأ البنات على هذه الملابس الفاضحة، وتكبر البنت وهي لا تزال تلبس هذه الملابس أمام إخوانها في البيت، وأمام الجيران والزوار، وتفقد البنت شيئاً من حيائها تدريجياً، والسبب هو التربية الفاسدة. لقد ذكر الله في كتابه قصة المرأة التي تربت تربية صالحة هي وأختها حين كانتا ترعيان الغنم؛ لأن أباهما لا يستطيع العمل، فالمرأة لا تخرج للعمل إلا للحاجة هذا هو الأصل، الأصل: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33] أما الخروج للعمل وللحاجة فيبينه قوله تعالى: {لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص:23] لا يستطيع العمل فلذلك اضطررن وخرجن، لما سقى موسى ورجعت المرأتان أخبرتا الأب، فأراد أن يكافئه، فلما لم يستطع المجيء إليه أرسل ابنته، قال تعالى: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} [القصص:25] هكذا قال الله. قال السلف: ليست بسلفع من النساء خراجة ولاجة، ولكن جاءت مستترة قد وضعت كُمَّ درعها على وجهها تغطيه استحياءً، بل إن تغطية الوجه من أيام الجاهلية، بعض نساء الجاهلية كما كانت امرأة النعمان الرجل الجاهلي تمشي ساترة وجهها، فوقع هذا الغطاء دون تقصد وكانت بحضرة رجال، فقال النابغة من فوره وتوه: سقط النصيف ولم ترد إسقاطه بادرته واتقتنا باليد فغطت وجهها بيد، وسارعت لأخذ الخمار باليد الأخرى. فطر الله سبحانه وتعالى النساء على الحياء، لكن الوضع الحالي للنساء أفسد الكثيرات، ولذلك فهي خراجة ولاجة، لا حياء ولا حشمة ولا حجاب، تقارع الرجال في الأسواق، وتنازل الباعة في الأسعار وتضحك ملء شدقيها أمام الأجانب، وهذه أسواقنا شاهدة على قلة الحياء في هذا الزمن، وقد بلغ من تقدير الإسلام لخلق الحياء أنه بني عليه أحكام، فمن ذلك: ما جاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، قالت: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجارية ينكحها أهلها أتستأمر أم لا؟ فقال لها: نعم. تستأمر، قلت له: إنها تستحي -إذا سألها القاضي أنت موافقة؟ البكر تستحي هذا هو الأصل- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فذلك إذنها إذاً إذا هي سكتت) إذنها صماتها هكذا يعرف إذن البكر إذا استؤذنت، فإذا صمتت فيعني ذلك أنها موافقة.

الأنبياء وشدة حيائهم

الأنبياء وشدة حيائهم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الحياء والإيمان قرنا جميعاً، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر) هذا شأن الحياء وهو شعبة من الإيمان، والله سبحانه وتعالى حيي ستير، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى حيي ستير يحب الحياء والستر، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر) رواه أحمد وأبو داود وهو حديث صحيح. وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله حيي كريم يستحي إذا رفع الرجل إليه يديه، أن يردهما صفراً خائبتين) والعبد عليه أن يتشبه بتلك الأفعال التي أمر الله العباد بأخذها، فعليه أن يستحي، هذا الحياء من الأشياء التي بقيت من النبوة الأولى، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى، إذا لم تستح فاصنع ما شئت) النبوات السابقة حصل لها تحريف وتغيير وتبديل، ولكن بقيت هناك عبارة صحيحة وصلت إلى هذه الأمة بدون تغيير ولا تبديل ولا تحريف، وهي: (إذا لم تستح فاصنع ما شئت) والمقصود تهديد ووعيد للذي لا يستحي، فليفعل ما يشاء، فالله سيجازيه، كما قال الله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت:40] ستجدون هذه الأعمال يوم القيامة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:7 - 8] وكذلك هذا تهديد -أيضاً- من جهة أنه قال له: (إذا لم تستح فاصنع ما شئ) فإنه إذا سقط الحياء فالنتيجة أنه سيفعل ما يشاء، ويعاقبه الله بعد ذلك. إذا لم تخش عاقبة الليالي ولم تستح فاصنع ما تشاء فلا والله ما في العيش خير ولا الدنيا إذا ذهب الحياء يعيش المرء ما استحيا بخير ويبقى العود ما بقي اللحاءُ أنبياء الله كانوا يستحيون غاية الحياء، فهذا موسى عليه السلام كان رجلاً حيياً ستيراً، لا يرى من جلده شيء استحياءً منه، والنبي صلى الله عليه وسلم كان أشد حياءً من العذراء في خدرها هل تعرفون العذراء إذا كانت في جوف الليل التي ليس لها سابق عهد بالرجال ولا تختلط بالأجانب ولم يسبق لها زواج كيف يكون حياؤها؟ لو دخل عليها رجل أجنبي في مخدعها كيف يكون حياؤها؟ كان النبي عليه الصلاة والسلام أشد حياءً من العذراء في خدرها لو دخل عليها أجنبي. وتجلى هذا في مواقف منه صلى الله عليه وسلم، فإنه لما صعد إلى ربه في حادثة المعراج المعروفة والمشهورة، فرض الله عليه خمسين صلاة، والنبي صلى الله عليه وسلم يتردد بين موسى وبين ربه سائلاً التخفيف حتى وصلت إلى خمس صلوات، فقال موسى للنبي عليه الصلاة والسلام: (ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سألت ربي حتى استحييت، ولكن أرضى وأُسلم). كان النبي صلى الله عليه وسلم من حيائه أنه لا يصرح بالألفاظ التي فيها بشاعة أو شناعة، أو تخدش الحياء، أو تكرهها النفوس وتنفر منها، فكان يستخدم الكناية، وكان يعرض في كلامه، بل إنه صلى الله عليه وسلم في أحيان كثيرة كان لا يتكلم بكلمة، ولكن يعرف ذلك بوجهه من حيائه صلى الله عليه وسلم، ولذلك يقول الصحابي أبو سعيد رضي الله عنه: [فإذا رأى شيئاً يكرهه عرفناه في وجهه] يبدي ذلك صفحات وجهه، تنبئ عما يكرهه صلى الله عليه وسلم، ولذلك لما جاءت امرأة تريد منه أن يعلمها كيف تغتسل فعلمها النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: (تأخذ فرصة من مسك فتتطهر بها) قطعة من القطن ونحو ذلك، فيها طيب من المسك وغيره تنظف بها مكان خروج الحيض لأجل الزوج وإزالة الرائحة، فقالت المرأة: كيف أتطهر بها -لم تفهم المقصود- قال: (تطهري بها، سبحان الله! واستتر بيده على وجهه صلى الله عليه وسلم) هنا تدخلت عائشة أم المؤمنين، قالت: (واجتذبتها وعرفت مراد النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: تتبعي بها أثر الدم) أثر الدم الموجود والباقي تتبعيه فأزيليه بهذه الفرصة الممسكة. هذا هو نبينا صلى الله عليه وسلم، هذا نبينا الذي لما تزوج وجاء الناس إلى بيته وطعموا طعام الوليمة، أراد عليه الصلاة والسلام بعد ذلك أن يخلو بأهله، لكن هؤلاء لم يخرجوا، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم ثم عاد إلى البيت رجاء أن يكونوا قد خرجوا -من حيائه، ما قال لهم: اخرجوا- فإذا ثلاثة رهط في البيت يتحدثون، وكان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحياء، فخرج منطلقاً نحو حجرة عائشة، فما أدري أخبرته أو أُخبر أن القوم خرجوا، فرجع حتى إذا وضع رجله في أسكفة الباب -رجل داخلة وأخرى خارجة- أرخى الستر بيني وبينه وأنزلت آية الحجاب، فاستحى صلى الله عليه وسلم أن يطردهم أو يقول لهم: اخرجوا، هكذا كان عليه الصلاة والسلام، هذا هو النبي، وهذا هو الدين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لكل دين خلقاً، وخلق الإسلام الحياء). وبنته صلى الله عليه وسلم كانت تربيتها هكذا، عن أنس رضي الله عنه، أن رسول صلى الله عليه وسلم أتى فاطمة بعبد قد وهب لها، وعلى فاطمة رضي الله عنها ثوب إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها، وإذا غطت به رجليها لم يبلغ رأسها، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما تلقى قال: (إنه ليس عليك بأس، إنما هو أبوك وغلامك) وهكذا كانت الصحابيات رضوان الله تعالى عليهن. لما عرض النبي صلى الله عليه وسلم بيعته -بيعة النساء- تلا الآية عليهن وفيهن هند بنت عتبة، فأخذ عليهن العهد ألا يشركن بالله شيئاً كما في الآية، ولا يسرقن، ولا يزنين، ولما بلغ: ولا يزنين وضعت يدها على رأسها حياءً، وفي رواية قالت: أَوَتزني الحرة؟ -عجيب أو تزني الحرة! هذا الزنا معروف عند الإماء- فنهرتها عائشة وطلبت منها أن تبايع، وقالت: هكذا بايعنا، بايعي على ما بايعنا عليه.

حياء الصحابة رضوان الله عليهم

حياء الصحابة رضوان الله عليهم وعثمان رضي الله عنه أشد الأمة حياءً بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال: (الحياء ملءٌ من الإيمان، وأحيا أمتي عثمان) أشدها حياءً عثمان رضي الله عنه، أمير البررة وقتيل الفجرة، ذو النورين عثمان رضي الله عنه، قال عليه الصلاة والسلام: (ألا أستحي من رجل تستحيي منه الملائكة). وكذلك كان رضي الله عنه إذا اغتسل، يكون في البيت والباب عليه مغلق، فما يضع عنه الثوب ليفيض عليه الماء وإنما يغتسل بثوبه، يمنعه الحياء أن يقيم صلبه، وكان أبو موسى إذا اغتسل في بيتٍ مظلم تجاذب وحنا ظهره، يمشي منحني الظهر حتى يأخذ ثوبه، مع أنه ليس حوله أحد، ولا ينتصب قائماً حياءً. وعن أنس قال: [كان أبو موسى الأشعري رضي الله عنه إذا نام لبس ثياباً عند النوم، مخافة أن تنكشف عورته] هكذا كان الصحابة، جاء أحدهم إلى مجلسٍ ممتلئ، فوجد فرجة فجلس والثاني جلس خلفهم استحيا فاستحيا الله منه. فعلمنا النبي عليه الصلاة والسلام معنى الحياء، فقال صلى الله عليه وسلم: (استحيوا من الله تعالى حق الحياء، من استحيا من الله حق الحياء فليحفظ الرأس وما وعى -ماذا يوجد في الرأس يا عباد الله؟ اللسان والفم والعينين والأذنين- وليحفظ البطن وما حوى -أي: احفظ بطنك من المال الحرام، الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى من هذه الأعضاء المجاورة له والواقعة فيه، واحفظ البطن وما حوى- وليذكر الموت والبلاء، ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء) حديث حسن، هكذا علمنا صلى الله عليه وسلم. وقرب لنا الفكرة كيف نستحي من الله، فقال عليه الصلاة والسلام لرجل قال له وصية: (أوصيك أن تستحي من الله كما تستحي من الرجل الصالح من قومك) هذا للتقريب، كيف تستحي من الرجل الصالح من قومك؟ ينبغي أن تستحي من الله أكثر من هذا. فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا الحياء، وأن يباعد بيننا وبين الفحش والبذاء، وأن يرزقنا التقوى والتقى والعفاف والغنى، إنه سميع مجيب. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

بعض جوانب الحياء المحمود والمذموم

بعض جوانب الحياء المحمود والمذموم إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، وأشكره سبحانه وتعالى وأحمده، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد النبي الأمي، البشير النذير، والسراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أيها المسلمون: (الحياء لا يأتي إلا بخير) -هذه العبارة التي قالها النبي صلى الله عليه وسلم لتوضح ماذا ينطوي عليه هذا الخلق، وماذا يتأتى منه، لقد قالها رجل من الصحابة راوياً هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أحد السامعين وهو بشير بن كعب: مكتوب في الحكمة: إن منه وقاراً ومنه سكينة، يقول الرجل: وجدنا في بعض الصحف عن الأديان السابقة، أن منه وقاراً ومنه سكينة، كأنه يقول: من الحياء ما هو وقار، ومنه ما هو ضعف ومهانة وذل، فقال عمران غاضباً: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحدثني عن صحفك! أي: تباً لك على هذا الخلق وعلى هذا القول، أقول لك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الحياء لا يأتي إلا بخير) وأنت تقول الحياء قسمان، والحياء منه كذا ومنه كذا، لا أحدثك سائر اليوم، حتى تشفع له الناس فرضي بأن يحدثه. وقد مر النبي صلى الله عليه وسلم على رجل وهو يعاتب أخاه في الحياء، يقول: (إنك لتستحي حتى يقول: إنه قد أضر بك) وأخ يعاتب أخاه يقول: أنت دائماً تستحي، هذا الحياء منعك من أخذ حقوقك وألحق الضرر بك، وكأنه يقرعه على استحيائه الدائم والشديد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لما مر بهما: (دعه فإن الحياء من الإيمان) فلا تثريب عليه أنه يستحي، وليس عيباً أنه يستحي، الحياء لا يأتي إلا بخير، هذا هو الحياء. وينبغي هنا أن نعلم الفرق بين الخجل والحياء.

الفرق بين الخجل والحياء

الفرق بين الخجل والحياء الحياء: خلق جميل يبعث على فعل المحمود وترك المذموم، وهو خير كله، لكن إذا كان شيء يؤدي إلى ترك تعلم الدين والأحكام الفقهية التي يحتاج إليها الإنسان أو ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذا مر به الإنسان فهذا لا يسمى حياءً وإنما هو خجل مذموم، ولذلك قال العلماء على هذا: يحمل عبارة من قال: لا يتعلم العلم مستحٍ ولا مستكبر، فليس هذا موضع الحياء، أن تحتاج إلى جواب في مسألة شرعية فتستحي، هذا ليس حياءً شرعياً. عن سعيد بن المسيب أن أبا موسى قال لـ عائشة: (إني أريد أن أسألك عن شيء وأنا أستحي منك، فقالت: سل ولا تستح فإنما أنا أمك -لأنها أم المؤمنين- فسألها عن رجل يغشى ولا ينزل؟ -الرجل يجامع أهله ويطأ لكن من غير إنزال، أي: هل عليه غسل أم لا؟ - فقالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا أصاب الختان الختان فقد وجب الغسل). إذاً: إذا أولج ووطئ ومس الختان الختان فقد وجب الغسل، أنزل أو لم ينزل، فبينت له الحكم. وقالت عائشة رضي الله عنها: [نعم النساء نساء الأنصار، لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين] لكن الإنسان أحياناً لا يستطيع المواجهة لظرف وسبب، فلا يسكت على جهل وإنما يوكل غيره في السؤال، كما فعل علي رضي الله عنه قال: كنت رجلاً مذاءً -أي: كثير المذي- فأمرت المقداد أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم -لأنه كان يغتسل رضي الله عنه من المذي حتى تشقق ظهره من شدة البرد- فقال عليه الصلاة والسلام لما سأله المقداد، فقال: فيه الوضوء، يغسل ذكره وأنثييه، ويزيل ما أصاب الثياب منه ويتوضأ، هذا هو حكم المذي. لماذا استحيا علي من السؤال المباشر؟ قال علي في الرواية: [كنت رجلاً مذاءً، فأمرت رجلاً أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم لمكان ابنته مني]؛ لأن بنت العالم تحته -عنده فاطمة - يستحي أن يقول: إنني امرؤ مذاء من عنده بنت النبي صلى الله عليه وسلم، لذلك استحيا أن يسأل، لكن هل سكت على جهل؟ كلا. وإنما طلب من غيره أن يسأل له وهكذا وقع وأخذ الجواب. وكذلك أيها الإخوة: النهي عن المنكر إذا رأيت منكراً أمامك، كثير من الناس لا ينكر المنكر، ويقول: استحييت وما استطعت أن أتكلم، هذا ليس بحياء، هذا خجل مذموم، وهذا ذل ومهانة وضعف وعجز، هذا يُلام عليه ويؤاخذ به، الله سبحانه وتعالى أحق أن يستحيا منه، ينبغي إذاً أن تجهر بالإنكار وتعلن الإنكار؛ وهكذا كان الأئمة وأهل العلم. قال ابن مهدي رحمه الله عن سفيان الثوري: ما كنت أستطيع أن أنظر إلى سفيان استحياءً وهيبة منه، ومع ذلك فكان في مواقع الحمية والغضب لدين الله لا يعرف الاستحياء من الحق، حتى قال يحيى: "ما رأيت رجلاً قط أصفق وجهاً من الله عز وجل من سفيان الثوري "، أي: إذا صار الجد والإنكار أصفق وجه -أسمك وجه- أمام أهل المنكر. ولذلك أنكر على المهدي أموراً جساماً، حتى قال وزير المهدي: تتكلم على أمير المؤمنين وأنت بحضرته بمثل هذا الكلام، فقال سفيان: اسكت! ما أهلك فرعون إلا هامان، قال: يا أمير المؤمنين! ائذن لي أن أضرب عنقه، قال له الخليفة: اسكت ما بقي على وجه الأرض من يستحيا منه غير هذا.

ارتكاب الحرام باسم الحياء

ارتكاب الحرام باسم الحياء وبعض الناس يرتكبون الحرام باسم الحياء، كيف ذلك؟ يقول رجل: مدت المرأة الأجنبية يدها للمصافحة، قال: استحييت وصافحت، فما شاء الله على هذا الاستحياء! هل هذا حياء أم قلة حياء؟ ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: (لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير من أن يمس امرأة لا تحل له) كيف تقول: مدت يدها فاستحييت وصافحت أين الحياء؟ الحياء ألا تصافح ولا تمد يدك بل تنكر هذا المنكر.

دعوى الاستحياء من الحق

دعوى الاستحياء من الحق وكذلك أيها المسلمون: ينبغي ألا نستحي من الحق، فلو أن إنساناً استدان منك مالاً فأردت أن تثبته أثبته، قال الله: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} [البقرة:282] فلا تقل: استحييت، قل له: إن هذه حياة وموت، وإن هذا أدعى لضبط الحقوق، وقد أمر الله به، أود وأريد وأرغب منك أن نكتبه، لا حرج مطلقاً. الحياء إذاً: فعل المحمود وترك المذموم، الحياء عكس البذاء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، والبذاء من الجفاء، والجفاء من النار) هذا هو البذاء: الكلمات النابية الجافية ونحو ذلك. وكذلك من جوانبه: أن يستتر الإنسان كما قال النبي عليه الصلاة والسلام للصحابي معاوية بن حيدة لما سأله: (قلت: يا رسول الله! عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك، قلت: يا رسول الله! إذا كان القوم بعضهم في بعض؟ قال: إن استطعت ألا يرينها أحد لا ترينها أحد -العورة- قلت: يا رسول الله! إذا كان أحدنا خالياً هل له أن يتجرد؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: الله أحق أن يستحيا منه من الناس) فهذا ندب إلى ستر العورة، حتى لو كان الإنسان خالياً، نعم إنه يحتاج إلى كشفها عند إتيان أهله أو غسله ونحو ذلك، لكن إذا زالت الحاجة ستر العورة.

حياء الصحابة وحياء الناس اليوم

حياء الصحابة وحياء الناس اليوم وقد تقدم فعل بعض الصحابة رضوان الله عليهم عند غسلهم وعند نومهم، قارنوا بين هذا الخلق الآن وبين ما يحدث في المجتمع من السفور والانحطاط الأخلاقي والجرأة على الرجال، وانطلاق النساء في الكلام، واستخدام الألفاظ البذيئة في المجالس العامة، وهذه المسرحيات والتمثيليات التي يعرض فيها الاختلاط، تخرج المرأة سافرة أمام آلاف المتفرجين في القاعة، شيء عجيب لو فكر فيه الإنسان فعلاً يصاب بصدمة من زوال الحياء من المرأة التي ينبغي أن تستحي من الرجل. فنسأل الله سبحانه أن يرزقنا الحياء، ونسأله أن يباعد بيننا وبين الحرام. اللهم أغننا بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك يا رب العالمين. اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل المسلمين، اللهم إن اليهود قد طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد، فعاجلهم بنقمة من عندك، وأنزل عليهم سخطك وعذابك الذي لا يرد عن القوم الكافرين. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

الرحمة

الرحمة رحمة الله واسعة، وكان لابد من الوقوف عند هذه الصفة التي اتصف بها الله جل وعلا، فإن من رحمة الله جل وعلا أن المصائب تكفر السيئات، وأن المؤمن إذا صبر عليها أجر، ومن رحمة الله علينا أيضاً أنه يستر ذنبنا في الدنيا ويغفرها في الآخرة، فيجب على المؤمن ألا ييئس من رحمة الله ولا يقنط.

سعة رحمة الله

سعة رحمة الله إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. وبعد: فإن من أسماء الله سبحانه وتعالى الرحمن والرحيم، فهو أرحم الراحمين، والرحمن صفته، والرحيم يدل على أنه يرحم خلقه، والله سبحانه وتعالى رحمته وسعت كل شيء، وبلغ من رحمته عز وجل أنه خلق مائة رحمة بخلاف صفة الرحمة التي اتصف بها خلق مائة رحمة، فبث بين خلقه رحمةً واحدة فهم يتراحمون بها، وادخر عنده لأوليائه تسعة وتسعين، وفي حديثٍ صحيح آخر: (إن لله مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحوش على ولدها)، وفي رواية: (حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه) وأخر تسعة وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة. ووصف النبي عليه الصلاة والسلام كل رحمة من هذه المائة بقوله: (إن الله تعالى خلق يوم خلق السماوات والأرض مائة رحمة، كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض، فجعل منها في الأرض رحمة، فبها تعطف الوالدة على ولدها، والوحش والطير بعضها على بعض، وأخر تسعاً وتسعين، فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة وجعلها لأوليائه يوم القيامة يرحمهم بها). قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فلو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييئس من الجنة، ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله من العذاب لم يأمن من النار) ورحمته سبحانه وتعالى أشد من رحمة الوالدة بولدها. عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: (قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبيٍ، فإذا امرأة من السعي تسعى، إذ وجدت صبياً في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أترون هذه طارحةً ولدها في النار؟ قلنا: لا والله، وهي تقدر على ألا تطرحه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أرحم بعباده من هذه بولدها)، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله كتب كتاباً قبل أن يخلق الخلق إن رحمتي سبقت غضبي، فهو مكتوبٌ عنده فوق العرش) سبحانه وتعالى. وهذه الرحمة التي تأوى إليها أرواح المؤمنين إذا قبضها ربنا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحدث حين مُرَّ عليه بجنازة، فقال: (مستريح ومستراح منه، قالوا: يا رسول الله! ما المستريح وما المستراح منه؟ قال: العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وأذاها إلى رحمة الله، والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب، كيف لا وفجوره من أسباب منع المطر وأذية العباد والبهائم). ورحمته سبحانه وتعالى للعصاة التائبين إذا أقبلوا على الله وتابوا إليه فإن رحمته واسعة، فإذا أقبل العبد إليه بالتوبة استقبله الله بالرحمة فغفر له ذنبه وستر عليه سبحانه وتعالى. عن ابن عباس قال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه أناسٌ من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وأكثروا وزنوا وأكثروا -أي: من الزنا- فأتوا محمداً صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة -نحن نريد التوجه والتوبة وإصلاح الحال، لكن ماذا نعمل بالماضي؟ وماذا نعمل بالسيئات المتراكمة؟ ماذا نعمل بالقتل الكثير والزنا العظيم؟ فروجٌ انتهكناها ودماءٌ استبحناها، لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة- فنزل قول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلَّا مَنْ تَابَ} [الفرقان:68 - 70]، ونزل أيضاً قول الله عز وجل: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53]). هذه رحمةٌ واسعة من الذي يحجرها؟ ومن الذي يمنعها؟ لما قال الأعرابي: (اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً، قال: لقد حجَّرت واسعاً) من الذي يستطيع أن يمنع رحمة الله؟ هذا في الدنيا برحمته يتوب عليهم، وبرحمته يغفر لهم، وبرحمته يهديهم، وبرحمته يتقبل عنهم أحسن ما عملوا ويتجاوز عن سيئاتهم.

من رحمة الله ستر الذنوب في الدنيا وغفرانها في الآخرة

من رحمة الله ستر الذنوب في الدنيا وغفرانها في الآخرة وأما يوم القيامة فإن العبد يأتي ربه بذنوب، لكن إذا كان للعبد توبة وله استغفار وله أوبة ورجوع، يقول النبي عليه الصلاة والسلام في حاله: (إن الله تعالى يدني المؤمن فيضع عليه كنفه وستره من الناس ويقرره بذنوبه، فيقول: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم أي رب، حتى إذا قرره بذنوبه ورأى -أي: العبد- في نفسه أنه قد هلك، قال الله عز وجل: فإني قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، ثم يعطى كتاب حسناته بيمينه، وأما الكافر والمنافق: ((وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ)) [هود:18]).

من رحمة الله تجاوزه عن الخطأ والنسيان

من رحمة الله تجاوزه عن الخطأ والنسيان ومن رحمته سبحانه وتعالى بنا أنه تجاوز لنا عن الخطأ والنسيان وما استكرهنا عليه كما جاء في الحديث الصحيح، وكذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله تجاوز عن أمتي عما توسوس به صدورهم ما لم تعمل أو تتكلم به، وما استكرهوا عليه) فإذا بقيت الوساوس حبيس النفس لم تخرج، والرغبة في السيئة صارت طي الكتمان لا عمل ولا قول يتجاوز الله عن ذلك.

المصائب والابتلاءات من رحمة الله بنا

المصائب والابتلاءات من رحمة الله بنا ومن رحمته سبحانه وتعالى أنه ينزل المعونة على قدر المئونة، وينزل الصبر على قدر البلاء كما جاء في الحديث الصحيح، فترى بعض الناس نزل بهم من البلاء أمر عظيم جداً، وتوالت عليهم المصائب وهم مع ذلك يعيشون، لماذا؟ لأن الله ينزل المعونة على قدر المئونة، وينزل الصبر على قدر البلاء. ومن رحمته سبحانه أن من مات له ثلاثة من الولد وهو من الموحدين، غفر الله له ولزوجته برحمته للأولاد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلمين يموت لهما ثلاثة أولاد لم يبلغوا الحنث -صغار- إلا أدخلهم الله بفضل رحمته إياهم الجنة، يقال لهم -للأولاد-: ادخلوا الجنة -يوم القيامة- فيقولون: حتى يدخل أبوانا، فيقال: ادخلوا الجنة أنتم وأبواكم). وحتى الأمراض رحمة من الله وتكفيراً وتطهيراً من الذنوب والسيئات، حتى الشوكة التي يشاكها العبد يكفر الله بها من خطاياه. المصيبة التي لا اختيار للعبد فيها والمرض الذي يأتي للعبد دون سعي منه، ومع أن المرض لا نكسبه، لا نعمله بأيدينا ولا نسعى إليه يأتي إلينا رغماً عنا ومع ذلك يكون كفارة، فهل أحدٌ أرحم من الله؟ وبعض الأمراض في تكفيرها للسيئات ورحمة الله بها أشد من بعض، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الطاعون كان عذاباً يبعثه الله على من يشاء، وإن الله جعله رحمةً للمؤمنين، فليس من أحد يقع الطاعون فيمكث في بلده صابراً محتسباً يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتبه الله إلا كان له مثل أجر شهيد).

رحمة الله في قبول توبة التائبين

رحمة الله في قبول توبة التائبين أيها المسلمون: ويوم القيامة يتجاوز الله برحمته عن سيئات لا يعلمها إلا هو، لقد رحم الله أقواماً ورحم أفراداً، وجاءت قصصهم متوالية برحمة الله إياهم رغم عظم ذنوبهم وكثرة سيئاتهم، (يا بن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا -ملء الأرض- ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً أتيتك بقرابها مغفرة). وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان في بني إسرائيل رجلٌ قتل تسعة وتسعين رجلاً، ثم خرج يسأل فأتى راهباً فسأله، فقال له: هل من توبة؟ قال: لا. فقتله، فجعل يسأل، فقال له رجلٌ -وهو أحد العلماء-: ائت قرية كذا وكذا، فأدركه الموت فناء بصدره نحوها -نحو القرية الصالحة- فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فأوحى الله إلى هذه الأرض -التي هي من جهة القرية الصالحة- أن تقربي، وأوحى الله إلى هذه الأرض -التي هي من جهة قرية السوء- أن تباعدي، وأرسل ملكاً يحكم بين ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، وقال: قيسوا ما بينهما، فوجد إلى هذه أقرب بشبر فغفر له) وقد قتل مائة، لكن جاء تائباً مقبلاً على ربه. وفي قصة أخرى يقول صلى الله عليه وسلم: (أسرف رجلٌ على نفسه، فلما حضره الموت أوصى بنيه، فقال: إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني ثم أذروني في البحر، فوالله لئن قدر عليَّ ربي ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً، ففعلوا ذلك به، فقال الله للأرض: أدي ما أخذت، فإذا هو قائم، فقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: خشيتك يا رب، فغفر له بذلك). وعن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ذكر رجلاً فيمن كان سلفا أو قبلكم آتاه الله مالاً وولداً، فلما حضر قال لبنيه: أي أبٍ كنت لكم؟ قالوا: خير أب، قال: فإنه لم يبتئر عند الله خيراً -فسرها قتادة: لم يدخر، ما عمل خيراً قط- وإن يقدم على الله يعذبه -يقول لأولاده وهو على فراش الموت- فانظروا فإذا مت فأحرقوني حتى إذا صرت فحماً فاسحقوني، ثم إذا كان ريحٌ عاصفٌ فأذروني فيها، فأخذ مواثيقهم على ذلك، ففعلوا، فقال الله: كن، فإذا هو رجلٌ قائم، ثم قال: أي عبدي! ما حملك على ما فعلت؟ قال: مخافتك، أو فرقٌ منك، فما تلافاه أن رحمه الله). اللهم اجعلنا ممن رحمتهم، وأدخلنا الجنة بغير حساب، اللهم لا تعذبنا فإنك علينا قادر، اللهم إنا نسألك عافيتك ورحمتك التي وسعت كل شيء، فلا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، تقبل توبتنا، واغسل حوبتنا، وفرج كربتنا يا أرحم الراحمين.

رحمة الله وإنزال النعم علينا

رحمة الله وإنزال النعم علينا الحمد لله الرحمن الرحيم أرحم الراحمين، فبرحمته سبحانه وتعالى أرسل إلينا رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنزل علينا كتابه، وعلَّمنا من الجهالة، وهدانا من الضلالة، كل ذلك برحمته سبحانه. وبرحمته أطلع الشمس والقمر وجعل الليل والنهار وبسط الأرض وجعلها مهاداً وفراشاً وقراراً وكفاتاً لنا أحياءً وأمواتاً. وبرحمته أنشأ السحاب، وأمطر المطر، وأطلع الفواكه والأقوات والمرعى. وبرحمته سخر لنا الخيل والإبل والأنعام وذللها لنا ركوباً نركب ونأكل ونشرب من ألبانها. وبرحمته احتجب عن خلقه بالنور، لو كشف الحجاب لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه. وأنزل علينا الكتاب وسماه رحمة: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:52]، وقال سبحانه: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ} [يونس:58] بهذا التنزيل بهذا القرآن: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58] افرحوا بالقرآن. إن رحمة الله لا ممسك لها: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا} [فاطر:2]، وهو الذي يقسمها لا يتولى قسمتها أحد: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} [الزخرف:32]، وهو الذي: {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [الإنسان:31].

التحذير من القنوط من رحمة الله

التحذير من القنوط من رحمة الله لا يجوز لإنسان أن يقنط من رحمة الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا تسأل عنهم تودع منهم -ما فيهم خير-: رجلٌ ينازع الله إزاره، ورجلٌ ينازع الله رداءه -فإن رداءه الكبرياء وإزاره العز- ورجلٌ في شك من أمر الله والقنوط من رحمة الله) {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر:56]، وقال عليه الصلاة والسلام: (أكبر الكبائر: الشرك بالله، والإياس من روح الله، والقنوط من رحمة الله) القنوط من رحمة الله من الكبائر، ولذلك: (كان النبي صلى الله عليه وسلم -إذا قرأ القرآن- إذا مرَّ بآية خوف تعوذ، وإذا مرَّ بآية رحمة سأل، وإذا مرَّ بآية فيها تنزيه الله سبح) حديث صحيح رواه أحمد ومسلم والأربعة، وأخذ منه أهل العلم: إذا مرَّ الإمام بالقنوت بكلمات فيها تنزيه الله أن يسبح من يسمع ذلك. فهل هناك أرحم وأكرم من الله سبحانه وتعالى؟! لكن أين العمل يا عباد الله؟ وأين التوبة والأوبة إلى الله؟ فإن الله: {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [الإنسان:31]، وقال الله: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [لأعراف:56] فأين الإحسان؟ {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:56]. اللهم إنا نسألك أن ترحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين، وأن تدخلنا برحمتك يا أرحم الراحمين، أدخلنا في رحمتك إنك على كل شيء قدير، أدخلنا الجنة برحمتك وتجاوز عنا يا أكرم الأكرمين.

وقفة مع وصية أحمد خادم الحجرة النبوية

وقفة مع وصية أحمد خادم الحجرة النبوية أيها الإخوة: أريد أن أذكر أمراً وهو ورقةٌ يوزعها بعض الجهلة من الناس فيها وصية من يُزعم أنه أحمد خادم الحجرة النبوية، وفيها أنه رأى رؤيا، وأن النبي عليه الصلاة والسلام قال له أشياء في الرؤيا، وفي آخر الورقة مكتوب يجب أن توزع من هذه الورقة سبع نسخ، وإذا لم تعمل ذلك حلت بك المصائب، وفلان لم يفعل ذلك فمات ولده وخسرت تجارته، وفلان وزعها فربحت تجارته وحصل له من الخير كذا، وهذا دجل وكذب وخرافة وشعوذة تنتشر بين السذج الذين لا عقيدة لهم صحيحة، الذين يخشون من ظلهم، وهذه الأوراق بلغ من جهل بعض الناس أنه يصورها ويوزعها في الأسواق وفي تجمعات الناس، وبعضهم من العجم يسمع ولا علم عنده فيوزع، وبعض الجهلة إذا ما كان عنده استطاعة على نسخها بآلة النسخ كتبها بيده سبع نسخ، يتعب عليه الوزر والغضب من الله إلا أن يتوب إلى ربه، ولذلك أقول: يجب تمزيقها، وهذه الخرافة يروجها الصوفية من أعداء الله الذين يسعون لتخريب الدين بهذه الرؤى الكاذبة والأشياء المفتراة المكذوبة، فيجب مقاومة ذلك والسعي إلى إزالته ونصح الناس وتنبيههم، ولا تخلو سنة من السنوات إلا وهناك موسم لهذه الورقة، هذا الرجل الذي يقال: إنه مات من أكثر من مائتين سنة كذب عليه رؤيا يفترونها ويوزعونها بين الناس، فاحذروا من ذلك يا عباد الله. عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

ألفاظ العامة المخالفة للشريعة

ألفاظ العامة المخالفة للشريعة في هذه الخطبة حذر الشيخ من خطر اللسان وذكر أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم في ذلك، ثم أورد كثيراً من ألفاظ العامة التي تخالف الشريعة، فمنها ما هو لفظ شركي، ومنها ما هو ذريعة للشرك والعياذ بالله.

التحذير من خطر اللسان

التحذير من خطر اللسان إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. إخواني في الله: لقد جاء الإسلام بحفظ اللسان، ونهى القرآن عن أشياء ذميمة، مما تتحرك به ألسنة الناس لفحشها وكبرها عند الله عز وجل، وأمر اللسان من الأمور الخطيرة؛ لأنه أسرع الأعضاء حركة وأسهلها، فإنه لا شيء أسرع ولا أسهل حركة من اللسان، ولهذا كان الزلل بهذا العضو وهذه الجارحة من الجوارح من أعظم الزلل وأكبره عند الله عز وجل. ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما علَّم معاذاً رضي الله تعالى عنه حديثاً جليلاً فيه وصايا جامعة، قال له في آخر الحديث: (وهل يكب الناس في النار على وجوههم -أو قال: على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم) فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أكبر الأسباب التي تكب الناس في النار وترميهم فيها هو حصائد هذه الألسنة، ونتائج الكلام. وقال صلى الله عليه وسلم مهدداً ومتوعداً في الحديث الصحيح الذي رواه مالك رحمه الله والإمام أحمد، عن بلال بن الحارث مرفوعاً: (وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى، ما يظن أن تبلغ ما بلغت -أي: لا يقدر خطورتها، ولا يظن أنها ستبلغ به عذاباً شديداً- فيكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم القيامة) بسبب هذه الكلمة. وأيضاً فإن المسألة أخطر من ذلك، ويبين رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الخطورة بقوله في الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي عن أبي هريرة مرفوعاً: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأساً، يهوي بها سبعين خريفاً في النار) فهذا المتكلم لا يرى فيها بأساً، ويظن أنه لا شيء فيها، ولكنها في الحقيقة تهوي به سبعين خريفاً في نار جهنم، ولذلك كان لا بد من المحافظة على هذا اللسان وجعل المجال الذي يستعمل فيه مجال خير وإصلاح ودعوة إلى الله وطلب العلم وذكر الله عز وجل. نحن -أيها الإخوة- في هذا المقام نتكلم عن قضية مهمة، وهذه القضية لو أنك تأملت معي في ألفاظ العامة اليوم، من الأمثال ونحوها، لوجدت أن في ألفاظ العامة وأمثالهم أموراً مستشنعة، وبشعة، وبعضها يخالف العقيدة ويمسها مساساً سيئاً، وبعض هذه الأشياء ورد فيها النهي الصريح، وبعضها إذا تأملت فيها عرفت مصدر الخطر وعظم الأمر. وسوف نضرب بعض الأمثلة على ما يتداوله العامة اليوم في كلامهم من الأمور المستبشعة المخالفة للعقيدة أو للأدب الإسلامي على الأقل. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (لا يقول أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، اللهم ارزقني إن شئت، وليعزم في المسألة، فإنه يفعل ما يشاء سبحانه وتعالى) ولذلك ما يفعله بعض الناس من قولهم: اللهم اغفر لي إن شئت، فهذا لا يجوز. وكذلك -أيها الإخوة- بعض الناس يقول عند الحلف مثلاً، أو إذا أراد أن يعزم على نفسه في مسألة يقول: أنا بريء من الإسلام لو فعلت كذا، أو يقول: ترى أنا يهودي لو فعلت كذا، أو أنا نصراني أو كافر لو فعلت كذا، يريد أن يمنع نفسه من الوقوع في هذا الأمر بعزم وقوة، وهذا خطير جداً، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح الذي رواه النسائي عن بريدة رضي الله عنه: (من قال: إني بريء من الإسلام، فإن كان كاذباً فهو كما قال، وإن كان صادقاً لم يعد إلى الإسلام سالماً) سيناله شيء من الخدش في العقيدة الذي سببه هذا الكلام؛ ولذلك ينبغي إذا أراد الإنسان أن يعزم في مسألةٍ من الأمور أو يبين للناس بأنه لم يفعل هذا الكلام فإنه لا يستخدم مثل هذه الألفاظ البشعة المخالفة للعقيدة، كونك ترفض أن تعمل أمراً من الأمور هذا لا يعني أن تعرض نفسك للخروج من الدين، أو تقول: بأنك يهودي أو نصراني، من المسميات التي تطلق على الأمم الكافرة.

ألفاظ شركية يقع فيها كثير من الناس

ألفاظ شركية يقع فيها كثير من الناس بعض الناس في حلفهم يحلف بغير الله تعالى، فتجد أن بعضهم يحلف بالأمانة مثلاً، ويقول: والأمانة ما أفعل كذا، أو شخص يحلف الآخر يقول: بأمانتك حصل كذا وكذا، أو بالأمانة حصل كذا وكذا إلخ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح: (من حلف بالأمانة فليس منا) وبعضهم يقول: بذمتك ما حصل كذا وكذا، أو بذمتي ما حصل كذا، أو وحياة أبي ما حصل كذا، أو وحياتي وحياتك ما حصل كذا إلخ. أو يقسم بشرفه هذه كلها من الأمور المحرمة: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) كما قال الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم. وبعضهم يحلف بالنبي فيقول: والنبي أعطني الشيء الفلاني، والنبي ما حصل كذا، فهذا أيضاً حرام لا يجوز، حتى ولو كان نبي الله صلى الله عليه وسلم، لأننا مع احترامنا لرسول الله عليه الصلاة والسلام فإننا لا نرفعه فوق منزلته التي أنزله الله إياها. بعض الناس يقول في عباراته أشياء من الشرك؛ كقوله مثلاً: لولا فلان ما حصل كذا لولا الله وفلان ما حصل كذا، وهذا خطأ، وإنما الصحيح أن يقول: لولا الله ثم فلان، وبعضهم يقول: أنا بالله وبك، أو أنا في جوار الله وجوارك، أو أنا في وجه الله ووجهك، كما يقع من البعض، أو يقول: أنا في حسب الله وحسبك، أو يقول: أنا متوكل على الله وعليك، أو أنا معتمد على الله وعليك، هذا كله محرم، لا بد أن يقول: أنا معتمد على الله ثم عليك، أو يقول: أنا متوكل على الله ثم عليك في فعل القضية الفلانية. وكذلك لما جاء أحد الصحابة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال له (ما شاء الله وشئت، قال: أجعلتني لله نداً -أجعلتني لله شريكاً، أساويت مشيئتي بمشيئة الله- قل: ما شاء الله وحده).

النهي عن سب الدهر

النهي عن سب الدهر كذلك يقع كثير من الناس في عبارات فيها سب الدهر، يقول مثلاً: يا خيبة الدهر، ويقول صلى الله عليه وسلم: (لا يقولن أحدكم: يا خيبة الدهر، فإن الله هو الدهر). وبعض الناس يقول: الله يلعن الساعة التي صار فيها كذا وكذا، ويلعن السنة التي صار فيها كذا وكذا، هذه ساعة سيئة التي حصل فيها كذا وكذا، هذا زمن تعيس الذي حصل فيه كذا وكذا، وهذا يؤدي كله إلى سب الدهر، والله تعالى هو خالق الدهر، فسبُّك للساعة أو اليوم أو السنة أو الدهر أو الزمان، يرجع إلى من؟ يرجع إلى الله الخالق لهذا الدهر وهذه الساعة وهذه السنة، لذلك لا بد من الحذر حذراً شديداً في هذا الأمر.

استغاثات غير شرعية

استغاثات غير شرعية بعض الناس يستغيثون في عباراتهم بالمخلوقين، فيقول مثلاً: بجاه النبي أفعل كذا، أو يسأل الناس يقول: بجاه النبي لا بد أن تتغدى عندي، هذا السؤال بجاه النبي صلى الله عليه وسلم وهو أحد المخلوقين بل هو أعظم المخلوقين قاطبةً منافٍ للسؤال بالله عز وجل، فإن الله تعالى يقول: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف:180]، وقال: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180] لو أردت أن تدعو لا تقل: بحق الولي الفلاني، بحق النبي، بجاه النبي، وإنما قل: اللهم إني أسألك بأنك أنت الله الواحد الأحد، اللهم إني أسألك بأنك أنت الله المنان إلى آخره. تقول هذه الأسماء الحسنى التي وردت لله عز وجل في القرآن والسنة، بأنك على كل شيء قدير، اللهم إني أسألك بأنك رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما ارحمني، إنك أنت الغفار اغفر لي: وهكذا، تسأل الله بأسمائه الحسنى، أما أن تسأل بأسماء المخلوقين أو بحق النبي الفلاني أو الولي الفلاني، أو كما يفعل بعض الجهلة يستغيثون بغير الله، أو بعضهم يستغيث بالجن، ويقع هذا في بعض القبائل وبعض الأماكن أنه يقول: يا جن! افعلوا به كذا وكذا، أو يا جن! خذوه، أو يصرخ في الوادي خذوه، يقصد صاحباً له أو عدواً صارت بينه وبينه مشكلة، فيقول: يا جن! افعلوا به كذا، هذا كله من الأمور المحرمة التي لا تجوز.

حرمة المغالاة في المخلوقين ورفعهم فوق منزلتهم

حرمة المغالاة في المخلوقين ورفعهم فوق منزلتهم كذلك يقع في ألفاظ بعض العامة مغالاة في المخلوقين ورفعهم فوق منزلتهم رفعاً لا يجوز مطلقاً في الشريعة الإسلامية؛ كتسييد بعض الناس، أو كتسييد أي واحد من الناس، كقولهم: سيدي فلان، أو يا سيدي فلان، هذا حرام لا يجوز، وأعظمه عندما يكون نداءً للمنافق أو الكافر أو الفاجر أو المبتدع أو العاصي الفاسق بقولك له: يا سيدي، هذا حرام أيضاً لا يجوز (لا تقولوا للمنافق: يا سيد، فإن قلتم ذلك فقد أغضبتم ربكم). ولذلك ما يقع عند بعض الناس من الكتابة على الرسائل أو الخطابات، السيد فلان، أو في الفواتير التجارية: السادة شركة كذا وكذا، هذا أيضاً منهي عنه، وإنما تقول: المكرم كذا، فلان كذا، حضرة فلان كذا، لكن لا تغال ولا تطلق ألقاب المدح على من ليس بأهل، كأن تخاطب الفاسق بهذه الأشياء، ينبغي أن نبتعد عن هذه الألفاظ.

منهيات شرعية في باب التحية والتهنئة

منهيات شرعية في باب التحية والتهنئة رد الإسلام تحيات الجاهلية وتهنئاتها وتسمياتها ومسمياتها وعاداتها، لأن الإسلام يحرص على تميز المسلم وابتعاده عن مشابهة الكفرة وأحوال الجاهلية. من عقيدة الإسلام التميز عن سائر ألوان البدع والكفر والجاهليات، فالإسلام يحرص على أن يبرز المسلم بين الناس بروزاً صحيحاً لا لبس فيه من شرك ولا بدعة، يحرص الإسلام على أن المسلم يكون متميزاً بأخلاقه وعقيدته وشكله ومظهره عن سائر أمم الكفر وفرق الضلال. ولذلك نهى الإسلام عن التشبه بالنصارى، ونهى عن التشبه بالكفار، ونهى عن التشبه بالأعاجم، ومن ضمن هذه الأشياء نهيه عن تحية المسلمين بعضهم لبعض بتحيات الجاهلية، فلذلك نهى صلى الله عليه وسلم المسلم أن يقول لأخيه: أنعم صباحاً، أو أنعمت صباحاً، وما شابه ذلك من الألفاظ؛ لأنها من تحيات الجاهلية، وإنما يقول الإنسان المسلم: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أو يقول: مرحباً وأهلاً، كما قال صلى الله عليه وسلم: (مرحباً بابنتي فاطمة) إلى آخر ذلك من الألفاظ الحسنة الطيبة التي لا يعلم اختصاص الكفار بها، فمتى علم اختصاص الكفار بهذه الأنواع فلا يجوز حتى وإن كانت حسنة في ظاهرها. ولذلك نهى الإسلام عن أن يهنئ الناس المتزوج بقولهم: بالرفاء والبنين كما يحدث اليوم، وتطبع هذه الكلمة على بطاقات التهنئة ودعوات وولائم الأعراس، فإنهم يقولون: بالرفاء والبنين، أو بالرفاه والبنين، ورسول الله صلى الله عليه وسلم نهى في الحديث الصحيح عن هذا النوع من التهنئة، لماذا؟ أما كلمة الرفاء: فإنها تعني الالتحام والمقاربة والوئام وهذا لا إشكال فيه، أن تدعو للمتزوجين بالمقاربة والوئام والتوافق. ولكن الإشكال في قولهم: بالبنين، لماذا أيها الإخوة؟ لأن العرب كانوا يكرهون البنات، وكانوا يئدون البنات وهن أحياء، وكانوا ينسبون البنات لله عز وجل: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ} [النحل:58] ولذلك كان إذا جاء أحدهم البنت تمنى موتها، وإذا أتى لجاره بنت تمنى له أن تموت البنت وهكذا. ولذلك كانوا يقولون في تهنئتهم بالزواج: بالرفاء والبنين، أي: الذكور وألا يجيئك إناث، ولذلك حرَّم هذا القول في الإسلام ونهي عنه، وإنما تقول مهنئاً للمتزوج أو المتزوجة: (بارك الله لكما، وبارك عليكما، وجمع بينكما في خير) وكم يود الإنسان المسلم إذا فتح بطاقة من هذه البطاقات، أو تهنئة من هذه التهنئات بدلاً من أن يجد بالرفاء والبنين أو بالرفاه والبنين كما هي تهنئة الجاهلية، يجد مثلاً: (بارك الله لكما، وبارك عليكما، وجمع بينكما في خير). لا بد أن نتميز عن الكفار وأهل الجاهلية في ألفاظنا وعباراتنا وتحياتنا وتهنئة بعضنا لبعض.

النهي عن الدعاء بطول العمر والبقاء

النهي عن الدعاء بطول العمر والبقاء يقع أيضاً في ألفاظ العامة الدعاء بطول العمر والبقاء، فتجد أحدهم يقول: أطال الله بقاءك، أو أطال عمرك، أو أدام الله أيامك، أو عشت ألف سنة وهكذا. هذا اللفظ مكروه، ولما سئل الإمام أحمد عن الدعاء بطول العمر؟ كرهه، وقال: إنه أمر قد فرغ منه، أي: أن عمر هذا الرجل قد كتب وهو في بطن أمه، كتب هذا العمر وانتهى وفرغ منه قبل أن يلد الرجل، فما فائدة أن تقول: أطال بقاءك، أو أطال عمرك، أو دامت أيامك، أو عشت كذا آلاف السنين إلى آخر ذلك من الأشياء المستحيلة. أو يقول بعضهم في جواب على كلمة حياك الله، يقول: أبقاك الله، وكلمة أبقاك الله كلمة مكروهة، لماذا؟ لأنه لا بقاء إلا لله، كل الناس سيموتون ويفنون: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن:27] ولذلك يكره أن تقول: أبقاك الله، أو أدامك الله؛ لأن الله لن يديم أحداً ولن يبقي أحداً، كل الناس سيموتون. فلننتبه -أيها الإخوة- لهذه الألفاظ المشكلة أو المكروهة أو المحرمة، وتحذير الناس منها. وكذلك ما يفعل البعض في تعازيهم عندما يقولون: البقية في حياتك! هذه لفظة منكرة، لو كان هناك بقية هل مات الرجل؟ لو كان هناك بقية في عمر الرجل الذي مات هل كان سيموت؟ لا. ولذلك عندما تقول: البقية في حياتك، وهذه العبارة قد يقصد بها بقية عمر ذلك الرجل الذي انقطع، بقيته في حياتك أنت، وهذه لفظة منكرة مستبشعة فلا يقول شخص لآخر: البقية في حياتك، فأما إن قصد: بقية الخير وبقية البركة، فهذا لا إشكال فيه، ولكن كثير من الناس إنما يقصدون بهذه اللفظة بقية عمر الميت في حياتك أنت، وهذه مسألة غير جائزة، والدعاء فيها غير صحيح.

مخالفات شرعية في باب الرجاء

مخالفات شرعية في باب الرجاء ويقع في ألفاظ العامة كذلك: رجاؤهم وتعلقهم بغير الله عز وجل، فتجد أحدهم في لحظة الحرج ولحظة الشدة، واللحظة التي يكون فيها في خطر محقق، يقول للآخر: أرجوك رجاءً حاراً، رجاءً خاصاً كذا وكذا من ألفاظ الترجي ألا تفعل كذا، وافعل كذا، بينما من المفروض أن يتوجه في هذه الحالة إلى الله تعالى لأنه هو الذي يرجى وحده عز وجل؛ لإزالة الضر وكشف الكربة وإزالة الخطر، وإن كان لا بد فيقول: أرجو الله ثم أرجوك، مثلاً. وهذه اللفظة (أرجوك) ليست محرمة إن لم يرجوه في عمل لا يقدر عليه إلا الله، إذا قال: أرجوك يا دكتور أن تشفي مريضي، هذا حرام وشرك؛ لأن الله هو الذي يشفي، أما لو قال: أرجوك -يا فلان- أن تذهب بهذه الحاجة إلى جيراننا، هذا لا إشكال فيه. لكن الرجاء الذي يكون في مجال أو في قضية لا يقدر عليها إلا الله فهو شرك بالله تعالى، ولهذا تجد بعض الأمهات الفارغات قلوبهن من الإيمان والتوحيد، وبعض الآباء الذين استزلهم الشيطان، إذا ذهبوا بولدهم وحالته خطيرة إلى الطبيب، يقول له: يا دكتور! أرجوك أنقذ الولد، فمن الذي ينقذ الولد؟ ومن الذي يشفي الولد؟ إنه الله. أيها الإخوة يقع في ألفاظنا وعباراتنا تساهلات شنيعة تؤدي إلى قضايا خطيرة إذا اعتقدها الإنسان تخرجه من الملة، ونحن عندما نقول هذه التحذيرات لا نقول: إن كل من تلفظ بها كافر. حتى لو كانت العبارة نفسها كفر، لماذا؟ لأن كثيراً من القائلين لا يقصدونها، لا يقصد المعنى، لا يعتقد بقلبه أن الطبيب هو الذي يملك الشفاء من دون الله. يعتقد أن الله يشفي ولكن هذه الأخطاء لا يسكت عنها مع ذلك، كون الناس الآن يقعون فيها بغير قصد أو بنية حسنة لا يعني أن نقول لهم: لا بأس استمروا على هذه الألفاظ لا. لا بد أن نحذر ونصحح هذه الألفاظ، حتى لو ما قصدنا المعنى لا بد أن تكون ألفاظنا صحيحة، لا تكون ألفاظنا شركية أو موهمة أو فيها اشتباه؛ لا بد أن تكون ألفاظاً واضحة دالة على التوحيد. وفقنا الله وإياكم لقول الحق وعمل الحق، وأن نكون من أهل الحق، وصلى الله على نبينا محمد.

ألفاظ في ميزان الشريعة

ألفاظ في ميزان الشريعة الحمد لله لا إله إلا هو وحده لا شريك له الكبير المتعال، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله سيد الأبرار، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.

(حكم مقولة: (شاءت الأقدار أو الظروف

(حكم مقولة: (شاءت الأقدار أو الظروف أيها الإخوة: يقع بعض الناس في ألفاظ مثل قولهم: شاءت الظروف، أو شاءت الأقدار، فتجده يقول: ثم شاءت الظروف أن يحدث كذا وكذا، وشاءت الظروف أن أجد فلاناً في مكتبه وهكذا، وهذا أيضاً من الأشياء المخالفة للتوحيد، فإنك لا بد أن تقول في كلامك: وشاء الله أن أجد فلاناً في مكانه، وشاء الله أن يقف لي على الطريق فلان الفلاني، وشاء الله أن يحدث كذا وكذا، فتنسب المشيئة إلى الله وحده سبحانه وتعالى.

(حكم مقولة: (هذا الطائر وهبته الطبيعة كذا وكذا

(حكم مقولة: (هذا الطائر وهبته الطبيعة كذا وكذا يقع في ألفاظ بعض الناس المثقفين عبارات كفرية مثل قول بعضهم: هذا الطائر وهبته الطبيعة كذا وكذا، وهذا الحيوان وهبته الطبيعة المقدرة الفلانية من الواهب؟ إنه الله عز وجل. أيها الإخوة! عندما ننسب الوهب للطبيعة نكون قد وقعنا في عين ما تكلم به الشيوعيون وأهل الإلحاد الذين يعتقدون أن الطبيعة خلقت هذا الكون وخلقت هذه الحيوانات وخلقت الأرض والسماوات تعالى الله عن هذا القول علواً كبيراً. وهذا يكون من تأثر كثير من هؤلاء المثقفين كما يسمون بكتب الكفار الملاحدة التي كتبت وسبكت عباراتها بألفاظ الإلحاد والشرك، التي انطوت عليها قلوب أولئك الناس الذين لا يؤمنون بالله رباً، ولا بمحمد نبياً، ولا بالإسلام ديناً، ولذلك ينبغي عند نقل عباراتهم من هذه الكتب أن يحرص الإنسان المسلم على أن ينقل العبارات بصيغة إسلامية، وعلى أن يؤديها إلى السامعين تأدية تتقيد بالتوحيد وما يرضي الله عز وجل، وكذلك ما يرد في بعض هذه الكتب التي تسمى كتباً علمية من القوانين والقواعد المخالفة للتوحيد، مثل قولهم: إن المادة لا تفنى ولا تستحدث، هكذا يقولون، في علم الفيزياء مثلاً. وهذه القاعدة مخالفة للتوحيد، ومخالفة لقضية خلق الله للمادة، وأنه لم يكن هناك شيء، فخلق الله تعالى السماوات والأرض وخلق العرش وخلق الحيوانات وخلق الآدميين وخلق سائر ما يدب في الأرض والسماوات، والله تعالى قادر على أن يفني هذه الأشياء كلها ويرجعها إلى العدم إلى لا شيء مرة أخرى كما كانت. فلذلك قولهم: إن المادة لا تفنى ولا تستحدث، إنما هو من الوقوع في هذا الشرك المنافي للتوحيد، وهذا الكفر والضلال، ولذلك يجب على من درس شيئاً من هذه المواد، أن يبين لطلاب المسلمين وأبناء المسلمين خطأ هذه المعتقدات والقواعد الفاسدة.

حكم مقولة: (عباد الشمس)

حكم مقولة: (عباد الشمس) إن التسميات المخالفة للعقيدة قد وصلت إلى حد التسميات حتى تسمية الورود والأزهار، فأنت -مثلاً- إذا نظرت إلى هذا النبات الأصفر الذي يتوجه إلى الشمس، هناك نبات يزرع ويتوجه إلى الشمس إذا أشرقت، ويستدير معها حتى تغرب، فيكون متوجهاً إلى جهة الغرب في المساء وإلى جهة الشرق في الصباح. ماذا يسمي العامة هذا النبات؟ يسمونه: عباد الشمس، أو عبادة الشمس، وهذا اسم خطير، يقولون: إن هذا النبات يعبد الشمس، هذه الألفاظ ليست سهلة، ولكن مع ذلك فهي شائعة حتى في الأشياء الدقيقة، مثل تسمية الأزهار وغيرها. لا بد أن ننتبه إلى هذه القضايا المخالفة للتوحيد.

حكم قول: (مطرنا بنوء كذا)

حكم قول: (مطرنا بنوء كذا) عندما ينزل مطر من السماء تجد بعض العامة يقولون: هذا النجم، طلع النجم كذا، وتتعلق قلوبهم بأن الذي أنزل المطر هو ظهور النجم الفلاني، وليس هكذا أيها الإخوة، لذلك ورد في الحديث الصحيح عن الذين قالوا: مطرنا بنوء كذا وكذا، مطرنا بنجم كذا وكذا، هؤلاء قد أشركوا بالله تعالى: (أصبح اليوم مؤمن بي وكافر بالكوكب، وكافر بي ومؤمن بالكوكب، فأما الذين قالوا: مطرنا بنوء كذا وكذا، فهم مؤمنون بالكوكب كافرون بالله، وأما الذين قالوا: مطرنا بفضل الله وهذا المطر من الله وحده، فهم الذين أصابوا الحق وكانوا على ملة التوحيد). ويقع عند بعض العامة أيضاً، أنه إذا نزل المطر بكثافة وأغرق أشياء يقولون: هذه قطرة ما وزنت، تعال الله عن ذلك، إن الله تعالى يقول: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد:8]، {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [الحجر:21] لا شيء ينزل من السماء بلا حساب ولا وزن، إن الله تعالى عنده خزائن هذه الأشياء ينزلها كيف يشاء، إن حصل غرق فهذا ابتلاء من الله، وعقاب لبعض عباد الله.

حكم قول: (ما صدقت على الله أن يحدث كذا)

حكم قول: (ما صدقت على الله أن يحدث كذا) كذلك يقع في ألفاظ العامة قول بعضهم لبعض، أو قول بعضهم في حكاية يرويها: ما صدقت على الله أن يحدث كذا، أو: ما صدقت على الله أن تنتهي المشكلة، ما صدقت على الله أن أنجو من الحادث، ما صدقت على الله أن أنجو من الإحراج الفلاني وهكذا! هذه العبارات من العبارات المشكلة والموهمة، لماذا؟ لأنه قد يكون معنى ما صدقت على الله مثلاً، يكون معناها: أن هذا القائل يشك في قدرة الله، ما صدقت على الله أن يفعل كذا، كان يشك في قدرة الله ثم حصل، هذا احتمال، واحتمال آخر: أن يكون في هذه العبارة سوء ظن بالله كيف ذلك؟ كأن هذا القائل يقول: ما ظننت أن الله يخلص هذه المشكلة، أو ينهي هذه المشكلة، ولكن حصل، هذا يعني سوء الظن بالله عز وجل، وإن كان كثير من الذين يقولون هذه العبارة لا يعنون المعنى الفاسد والباطل، لكن لا بد من التصحيح، تقول مثلاً: ما صدقت أن يحدث كذا، ما ظننت أن يحدث كذا، لماذا تضيف عليها كلمة (على الله) وتقول: ما صدقت على الله، فتقع في هذه الإشكالات والعبارات الموهمة.

حكم قول: (الله يسأل عن حالك)

حكم قول: (الله يسأل عن حالك) كذلك قول بعض أهل البادية، إذا جئته وقلت له: كيف حالك؟ يقول: الله (ينشد) عن حالك، أو الله يسأل عن حالك! أقول: الله عز وجل يعلم العلم كله، لا يحتاج إلى سؤال عن أحد، وتجد هؤلاء يقولون: الله يسأل عن حالك، كأنها عبارة يريدون أن يكرمون بها الشخص الآخر الذي سأل عن حالهم، وهذه عبارة خاطئة تخالف المفهوم الصحيح للعقيدة.

حكم قول: (الله على ما يشاء قدير)

حكم قول: (الله على ما يشاء قدير) بعض الناس يقول: الله على ما يشاء قدير، من الألفاظ الموهمة التي تؤدي إلى تأكيد مذهب القدرية، الذين يقولون: إن هناك أشياء يشاؤها الله تحدث، وأشياء لا يشاؤها الله لا يستطيع أن يحدثها، ولذلك يقولون: الله على ما يشاء قدير، فهو إذن على ما لا يشاء ليس بقدير. هذه العبارة من الذرائع التي ينبغي أن تسد، وإنما نقول: إن الله على كل شيء -شائه أو لم يشئه-. على كل شيء قدير؛ لأن بعض الناس يفهمون أن الله فيفهم على ما لا يشاء ليس بقدير.

النهي عن اختصار بعض الألفاظ

النهي عن اختصار بعض الألفاظ كذلك يقع في ألفاظ العامة قولهم: لا حول لله، اختصار عبارات، يقع في بعض الأحيان اختصار عبارات، وتغييراً وتحريفاً فيها يؤدي إلى معانٍ قبيحة، مثل قول بعضهم: لا حول لله، أو لاحول الله، والصحيح: لا حول إلا بالله، أو لا حول ولا قوة إلا بالله، أما أن يحدث الاختصار الشنيع: لا حول لله، أي: لا قوة لله، فهذا شيء مستبشع، أو يقول بعضهم عند التكبير: الله أكبار بمد التكبير، وما هو الأكبار أيها الإخوة؟ الأكبار جمع كبر وهو الطبل، فإذا قلت: الله أكبار كأنك تقصد: الله طبول، أو هذا مفهوم كلامك الذي يفهم منه، وإنما تقول: الله أكبر، بالفتحة وليس بالألف أكبار كما يفعل البعض. أو يقولون في الفاتحة: إياك نعبد، لا يقولون: إيَّاك نعبد بالتشديد، وإنما يقول: إياك نعبد، والإياك هو قرص الشمس، معنى ذلك: أننا نعبد قرص الشمس، والصحيح الموجود في كتاب الله: إيَّاك نعبد، بتشديد الياء. أو كما يفعل بعض المؤذنين اختصاراً يقول: حصلاة، بدلاً من: حي على الصلاة وهكذا، أو يقول بعض الناس الذين يحيون بعضهم يقول: كالله بالخير، أو ساك الله بالخير، أو الله بالخير ونحو ذلك، وهذا خطأ لأن هذه الكاف كاف التشبيه، كيف (كالله بالخير) عبارة خاطئة خطيرة لا بد أن نقول: مساك الله بالخير واضحة، ولا داعي للاختصارات، ما وراءك شيء يعجلك عن قول التحية بعبارة صحيحة كاملة، قل: مساك الله بالخير، لا تقل: كالله بالخير.

التحيات لله فقط

التحيات لله فقط كذلك هناك من الأشياء ما هو من الأدب تركه، قد لا يكون حراماً في ذاته، ولكن من الأدب تركه، مثل عبارة: تحياتي لفلان، لا يعلم -كما قال بعض أهل العلم- أن جمعت التحية بالتحيات إلا لله وحده في التشهد: التحيات لله، فلذلك لا يستحب جمعها لأحد غير الله تعالى، فتقول -مثلاً-: تحيتي لفلان، أو أبلغ فلان تحيتي، ولا تقل: تحياتي، أو أبلغ تحياتي لفلان، لأننا نقول في التشهد: التحيات لله، أدباً مع الله. القضية واسعة ومتشعبة، وهناك ألفاظ وأمثال مخالفة للعقيدة مخالفة صريحة، أو فيها سوء أدب مع الله عز وجل على الأقل، ينبغي أن ننقح وندقق في هذه الألفاظ التي تخرج من الألسنة. وفقنا الله وإياكم أن نحصن ألسنتنا من الكذب والشرك والنفاق. اللهم طهر قلوبنا من الرياء، وألسنتنا من النفاق، وأعمالنا من الكذب، اللهم واجعلنا مخلصين العبادة لك، اللهم واجعلنا من أهل ملة التوحيد، أهل لا إله إلا الله، عليها نحيا وعليها نموت، وعليها نلقاك يا رب العالمين. وصلوا على نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإن من صلى عليه صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آله إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آله محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.

الولاية بين المؤمنين

الولاية بين المؤمنين لقد نهى الله عز وجل المؤمنين عن موالاة الكفار والركون إليهم، ولو كان الأب أو الأخ أو القريب عدواً لله فإنه يجب التبرؤ منه، ومعاداته في الله سبحانه وتعالى، وفي المقابل أمرنا الله عز وجل بولاية المؤمنين وبمحبتهم الجالبة لمحبة الله، وكذلك أمرنا بالذل لهم ونصرتهم، وغيرها من الأمور التي يجب أن تكون بين المؤمنين.

التحذير من موالاة الكفار

التحذير من موالاة الكفار إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. A=6000394> يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. A=6000493> يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. A=6003602> يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أيها الإخوة: تكلمنا في الخطبة الماضية عن ولاية المؤمن لربه عز وجل، وأنه ينبغي لكل مسلم أن يتخذ الله سبحانه وتعالى ولياً لا شريك له، ونحن اليوم نذكر ولاية المؤمنين لبعضهم بعضاً. إن الله سبحانه وتعالى وصف المؤمنين والمؤمنات بقوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71]، وحصر الله الولاية فيه عز وجل وفي رسوله وفي المؤمنين، فقال: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة:55]، وأخبر عن عاقبة الولاية بقوله: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:56]، ونهى عن اتخاذ الكفار أولياء، وأمر بجهادهم وقتالهم، فقال: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} [النساء:89]، وكما أن بضدها تتميز الأشياء، فإنه لا يكفي معرفة التوحيد، بل يجب معرفة الشرك، وكما أنه لا يكفي موالاة المؤمنين فإنه يجب معاداة الكافرين، وعندما يأمر الله باتخاذ المؤمنين أولياء ويأمر بمناصرتهم فإنه ينهى عن اتخاذ الكفار أولياء: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [آل عمران:28] قال ابن جرير رحمه الله: "من اتخذ الكفار أعواناً وأنصاراً وظهوراً يواليهم على دينهم، ويظاهرهم على المسلمين فليس من الله في شيء". أي: قد برئ من الله، وقد برئ الله منه. وعندما يأمر الله بالتعاون مع المؤمنين، وأن يكون المؤمنون إخوة يشد بعضهم من أزر بعضٍ، ويركن بعضهم إلى بعض، فإنه ينهى عن الركون إلى الكفار، يقول سبحانه وتعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} [هود:113]، والركون هو الاستناد والاعتماد والسكون إلى الشيء والرضا به، لا توادوهم ولا تطيعوهم ولا تميلوا إليهم، وهذه الآية دليلٌ على وجوب هجر أهل الكفر والمعصية والبدعة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْأِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [التوبة:23] لو كان الأب أو الأخ أو القريب عدواً لله فإنه يجب عليك أن تتبرأ منه، وأن تعاديه في الله سبحانه وتعالى، والذي لا يفعل هذا الفعل فإنه ظالم لنفسه. وموالاة الكفار وأعداء الدين من صفات المنافقين، قال الله سبحانه وتعالى: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} [النساء:138 - 139] يعز من يشاء ويذل من يشاء، وبماذا ذم الله الكفار من بني إسرائيل؟ لما قال: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ} [المائدة:78] قال بعدها: {تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} [المائدة:80 - 81] قال ابن تيمية رحمه الله: "فدل على أن الإيمان المذكور ينفي اتخاذهم أولياء ويضاده، ولا يجتمع الإيمان واتخاذهم أولياء في القلب أبداً". وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51] (ومن يتولهم) يدخل فيها من دخل في دينهم بعد التزام الإسلام، فعندما نقول: من دخل في دينهم، قد يستبعد البعض اليوم أن يدخل مسلمٌ في دين النصارى، ولكن الواقع المؤسف أن كثيراً من المسلمين قد دخلوا في دين النصارى، وقد حدثني بعض الإخوان أن بعض النشرات التبشيرية التي تصل إلى بعض المسلمين عن طريق صناديق البريد قد حرفت بعض المسلمين من أصحاب أسماء الأسر الإسلامية إلى دين النصارى والعياذ بالله! ويدخل في قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51]، أي: ولاية التحالف والتناصر مثلما كان واقعاً قبل الهجرة بـ المدينة، فإنه كان بين بعض الأنصار الذين أسلموا بعد ذلك، وبين جماعاتٍ من اليهود أحلافٌ ومناصرات نتيجةً لتشابك المصالح والأواصر، فنهى الله عن ذلك، وفك جميع هذه الأحلاف والمناصرات، فقال: {لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51].

صور من موالاة المؤمنين بعضهم بعضا

صور من موالاة المؤمنين بعضهم بعضاً لقد سار رسول الله صلى الله عليه وسلم في تربيته لأصحابه على تحقيق مبدأ الموالاة للمؤمنين والمعاداة للكافرين، وكانت هذه التربية تسير بخطىً ثابتة متشابكة، يأخذ بعضها برقاب بعضٍ حتى تؤدي إلى تكوين الشخصية الإسلامية النقية، القائمة على موالاة الله ورسوله والمؤمنين، ومعاداة الكافرين. ومن الأمثلة على ذلك في الواقع المكي: إنشاء دار الأرقم التي كانت محط المسلمين ومقرهم، يتعارفون فيما بينهم، ويتناصرون ويتآخون، ويأخذ بعضهم بيد بعضٍ، حتى تحقق تكوين القاعدة الصلبة التي قام عليها المجتمع الإسلامي الكبير فيما بعد، وأما في المدينة فإن أمثلة موالاة المؤمنين لبعضهم كثيرة، منها: المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار التي أرسى دعائمها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان بعضهم يقول لأخيه: اختر أي زوجتيَّ أحب إليك لأطلقها فتتزوجها أنت، وأشاطرك مالي، وكان بعضهم ممن لا يملك المواساة يترك داره وأهله في المدينة وهو من الأنصار، ويأتي ليقيم بين أهل الصفة؛ في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وأهل الصفة هم: الفقراء القادمون ممن لا أهل لهم ولا عشيرة- فيقيم بينهم، ومنهم الصحابي الجليل كعب بن مالك رضي الله عنه.

مقتضيات الأخوة والولاية للمؤمنين

مقتضيات الأخوة والولاية للمؤمنين اعلموا أيها الإخوة: أن ولاء المؤمنين له مقتضيات كثيرة:

محبة المؤمنين الجالبة لمحبة الله والذل لهم ونصرتهم

محبة المؤمنين الجالبة لمحبة الله والذل لهم ونصرتهم فمنها: محبتهم الجالبة لمحبة الله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} [مريم:96]، وقال عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، وقال: (المرء مع من أحب). ومنها: الذلة لهم المقتضية لين الجانب، وتوطئة الأكناف، قال الله في وصف المؤمنين: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54]. ومنها: نصرة المؤمنين بعضهم بعضاً في حضورهم وفي غيبتهم، ولقد كان هذا المبدأ مستقراً في النفوس لدرجةٍ عظيمة في الصدر الأول من الإسلام، حتى أن أهل العقبة لما بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من ضمن أركان البيعة: موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين ومقاتلتهم، حتى لو وصل الأمر إلى التضحية بالنفس والمال، فقال الله ممتدحاً الأنصار: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال:74] هؤلاء المهاجرين: {وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً} [الأنفال:74] آووا المهاجرين ونصروهم، وقال عليه الصلاة والسلام: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه)، وقال: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً) رواهما البخاري في صحيحه. وقال صلى الله عليه وسلم مبيناً هذا الأمر وأهميته -أعني: الذب عن عرض أخيك المسلم- (ما من امرئٍ يخذل امرأً مسلماً في موطنٍ ينتقص فيه من عرضه، وتنتهك فيه حرمته، إلا خذله الله في موطنٍ يحب فيه نصرته -يكون محتاجاً للنصرة هذا الخاذل ويحب أن يُنصر فيخذله الله؛ لأنه خذل أخاه المسلم- وما من امرئٍ ينصر مسلماً في موطنٍ ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موطنٍ يحب فيه نصرته) حديث حسن، رواه الإمام أحمد وغيره عن جابر رضي الله عنه. فالولاء للمؤمنين وحبهم ومناصرتهم من أي جنسٍ كانوا، وبأي لغةٍ تكلموا ونطقوا، وفي أي مكانٍ حلوا وأقاموا. من مقتضيات ولاية المؤمنين: أن يكون المؤمن مع إخوانه قلباً وقالباً، يفديهم بنفسه وماله، ويذب عنهم بلسانه وسنانه، يألم لألمهم، ويفرح لفرحهم، وقس على ذلك سائر حقوق الأخوة التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم.

عدم تولية غير المسلمين على المسلمين

عدم تولية غير المسلمين على المسلمين ومن مقتضيات الأخوة والولاية للمؤمنين: عدم تولية غير المسلمين على المسلمين، قال ابن تيمية رحمه الله: روى الإمام أحمد بإسنادٍ صحيح عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قلت لـ عمر رضي الله عنه: إن لي كاتباً نصرانياً -وجدت رجلاً يجيد الكتابة والحساب جعلته عندي كاتباً يحسب في أمور المسلمين، ويكتب شئونهم- قال: مالك قاتلك الله -كان عمر شديداً في دين الله- أما سمعت الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:51] ألا اتخذت حنيفاً؟ -أي: موحداً مسلماً، جعلته في هذه الوظيفة- قال: قلت: يا أمير المؤمنين! لي كتابته وله دينه -أنا آخذ منه كتابته وعمله وله دينه، كفره عليه- فقال عمر رضي الله عنه: لا أكرمهم إذ أهانهم الله، ولا أعزهم إذ أذلهم الله، ولا أدنيهم إذ أبعدهم الله. لا يمكن. وكتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله الخليفة العادل إلى بعض عماله يقول: أما بعد فإنه قد بلغني أن في عملك كاتباً نصرانياً يتصرف في مصالح المسلمين، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:57] فإذا أتاك كتابي هذا فادع حسان بن زيد -هذا الكاتب النصراني اسمه حسان بن زيد - إلى الإسلام، فإن أسلم فهو منا ونحن منه، وإن أبى فلا تستعن به ولا تتخذ أحداً على غير دين الإسلام في شيءٍ من مصالح المسلمين، فأسلم حسان وحسن إسلامه. ولقد لعب هؤلاء الكتبة أدواراً في هدم الإسلام عبر التاريخ الإسلامي، فلعب ابن العلقمي الرافضي الخبيث دوراً مهماً في تسليم بغداد للتتر الكفار، ومن الأمثلة الأخرى على ذلك ما حدث في بعض العهود الإسلامية الماضية أن سلطاناً من سلاطين المسلمين اتخذ كاتباً من النصارى، وكان هذا الكاتب يسمى محاضر الدولة أبو الفضل بن دخان، ولم يكن في المباشرين أمثاله، كان من أقرب الناس إلى السلطان، كان قذىً في عين الإسلام، وبثرةً في وجه الدين، بلغ من أمره أنه حكم على رجل نصراني أسلم برده إلى النصرانية، وخروجه عن الملة الإسلامية، ولم يزل يكاتب الإفرنج -النصارى الكفار- بأخبار المسلمين، يرسل إليهم بالأخبار التي يطلع عليها بحكم موقعه، وأعمالهم وأمر الدولة، وتفاصيل أحوالها، وكان مجلس هذا النصراني معموراً برسل الإفرنج النصارى، وهم مكرمون لديه، وحوائجهم عنده مقضية، ويحمل لهم الضيافات، وأكابر المسلمين محجوبون عند الباب لا يؤذن لهم بالدخول، وإذا دخلوا لا يلطفون في التحية ولا في الكلام، حتى صار بعد ذلك أن اجتمع لدى السلطان جماعة من الكتاب والقضاة والعلماء، فبسط بعضهم لسانه في ذكر مخازي النصارى، وكان مما قاله للسلطان: إن النصارى لا يعرفون الحساب، ولا يدرونه على الحقيقة؛ لأنهم يجعلون الواحد ثلاثة والثلاثة واحداً، والله تعالى يقول: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73] ثم قال: كيف تأمن أن يصنع في معاملة السلطان كما صنع في أصل اعتقاده؟ ويكون مع هذا أكثر النصارى أمانة، وكلما استخرج ثلاثة دنانير دفع إلى السلطان ديناراً وأخذ لنفسه اثنين. ثم اتفق بعد ذلك أن ظهرت خيانته فأهريق دمه واستراح المسلمون من شره. ومن مقتضيات موالاة المؤمنين: أن تكون النصرة والحلف مع المؤمنين لا مع الكفار، حتى لو وقع الإنسان في الأزمات وأحاطت به الأخطار، وفي التاريخ الإسلامي في الأندلس عبرة لكل معتبر، ففي نهاية حكم الإسلام لبلاد الأندلس تفرق المسلمون إلى دويلات كثيرة في بلاد الأندلس حتى صار أمرهم كما يصف الشاعر: وتفرقوا شيعاً فكل مدينةٍ فيها أمير المؤمنين ومنبر وصار بعضهم يستعين بالنصارى من الأسبان على إخوانه المسلمين من الدويلات الأخرى، ويذهب بعضهم إلى ملوك النصارى ليعقد معهم الأحلاف ضد إخوانهم المسلمين. وهنا أيها الإخوة: حدثت حادثة مثيرة كتبها التاريخ، كانت ذات أثرٍ عظيم، أخرت سقوط آخر معاقل المسلمين في الأندلس مئات من السنين، عندما تحققت في هذه الحادثة الموالاة للمؤمنين والمعاداة للكافرين، وهذه الحادثة أنه كان على مملكة إشبيليا المعتمد بن عبَّاد كان يحكمها آل عبَّاد، وكان المعتمد على الله ابن عبَّاد من أفاضل حكام تلك الدويلة، فلما سقطت طليطلة في يد الفرس واستالس ملك النصارى، تنبه المسلمون للخطر العظيم، ولاحت طوالع المصير المروع، فبرزت فكرة إلى الأذهان، وهي فكرة استعانة المسلمين في بلاد الأندلس بإخوانهم المسلمين المرابطين في دولة المغرب القريبة منهم، وكان أمير المرابطين في دولة المغرب في ذلك الوقت من أهل السنة والجماعة ممن نصروا مذهب أهل السنة والجماعة في بلاد المغرب، وهو يوسف بن تاشفين رحمه الله، فعقد في قرطبة اجتماعاً حضره الزعماء والفقهاء وكثير من الناس، وعلى رأسهم المعتمد بن عبَّاد، وطرحت فكرة استدعاء المرابطين إلى الأندلس للنصرة ضد الكفار النصارى، واتخذ القرار بذلك، وهنا أشار بعضهم إلى مخاوف، ما هي هذه المخاوف؟ قالوا للمعتمد بن عبَّاد: إذا جاء يوسف بن تاشفين وانتصرنا على النصارى فقد يأخذ هو الدولة منك، وينصب نفسه أميراً على الدويلة التي أنت فيها، فيسلب منك ملكك، فقال ابن عبَّاد كلمة مشهورة سارت بين الناس حتى وصلت إلينا، قال كلمة تدل فعلاً على استقرار عقيدة الولاء للمؤمنين في قلبه، قال: إن رعي الجمال خيرٌ من رعي الخنازير. أي: لئن أكون مملوكاً لـ ابن تاشفين أرعى جماله في الصحراء خيرٌ من أن أكون ممزقاً عند فرتلند وهو الفرس السادس أرعى خنازيره في قشتالة، وكان قد احتلها، وفعلاً جاء يوسف بن تاشفين وانتصر المسلمون في معركة مشهورة وهي معركة الزلاقة. والتاريخ الإسلامي فيه عبرة يجب أن يدرس، ومقتضيات موالاة المؤمنين كثيرة، ونحن إذا انتقلنا إلى واقعنا فإننا سنجد أن ولاية المؤمنين ضاعت مقتضياتها بين المسلمين، فبالله عليكم هل يكون موالياً للمؤمنين من ظلم إخوانه المسلمين وخذلهم، ثم أقبل على الكفار يعاونهم وينصرهم؟

تنبيه وتحذير لمن ترك موالاة المؤمنين

تنبيه وتحذير لمن ترك موالاة المؤمنين هل يكون موالياً للمؤمنين من أهان أخاه المسلم، وأذله واحتقره، ثم عظم الكفار وأطلق عليهم ألقاب العزة والرفعة وألفاظ الثناء والتقدير، ويقوم من مجلسه ليرحب بهم، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام، فإذا لقيتم أحدهم في طريقٍ فاضطروهم إلى أضيقه)؟ هل يكون موالياً للمؤمنين من أبعد المسلمين عن الوظائف الهامة في شركته -مثلاً- واستخدم فيها الكفرة والمرتدين، والله تعالى قد خونهم، فقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} [آل عمران:75] الكفرة من اليهود والنصارى يقولون: ليس علينا حرج من أكل أموال المسلمين، ولذلك ينهبون أموالهم، كيف لو تمكنوا من التسلط على وظائفهم؟ هل يكون موالياً للمؤمنين من ترك زي المسلمين ومظهرهم وهيئتهم ولباسهم، وتشبه بأعداء الله وتزي بزيهم؟ هل يكون موالياً للمؤمنين من ترك بلاد الإسلام ومجتمعات المسلمين، وذهب إلى بلاد الكفار بغير ضرورة، فأقام فيها، يقيم معهم ويسكن بينهم ويكثر سوادهم ويقويهم بإمكانياته المادية والعقلية وغيرها؟ وكثيرون الذين هاجروا إلى بلاد الكفار ليدعموا الكفار بأموالهم، ينشئون في بلاد الكفار الأعمال، ويسخرون أدمغتهم للاكتشافات التي تخدم الكفار، أين هؤلاء من ولائهم لإخوانهم المؤمنين ومجتمعات المؤمنين؟ يقيمون بينهم والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله) حديث حسن. والله تعالى منع الولاية للمؤمنين الذين لم يهاجروا إلى بلاد المؤمنين من بلاد الشرك، فقال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال:72] لا بد أن يهاجروا إلى بلاد المسلمين، ويكثروا سواد المسلمين، ويدعموا المسلمين بالعدد والإمكانيات. هل يكون موالياً للمؤمنين من أطلق لسانه بالسب والشتم والتعيير لإخوانه المسلمين، ثم أقبل على الكفار يثني عليهم وينشر فضائلهم؟ أنت عداء المجرمين سياسةً وأغيض أهلي من بذيء سباب للظالمين تحيتي ومودتي ولأهل ديني طعنتي وحراب هذا جحيمٌ لا يطاق ومنطقٌ يأباه وحشٌ قابع في الغاب يثني بعض المسلمين في كتاباتهم على الكفار، فيقولون مثلاً: بأنهم أصحاب المنهج العلمي السديد، والتجرد بالبحث والكتابة، وينشرون فضائل الغرب ويثنون عليهم، ويطلقون عليهم ألقاب التقدم والحضارة والرقي، ويصفون الإسلام والمسلمين والمنتسبين إلى الإسلام بالرجعية والجمود والتأخر. هل يكون موالياً للمؤمنين من ترك اتخاذ المؤمنين بطانة، يشاورهم ويطلعهم على الأمور، ويتخذ الكفار بطانة، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} [آل عمران:118] يودون هزيمتكم {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران:118] البطانة سميت بطانة تشبيهاً ببطانة الثوب، أي: يتخذون الكافرين بطانة يستبطن الكفار الأمر من المسلمين المنحرفين ويطلعون على أسرار المسلمين؟ هل يكون موالياً للمؤمنين من ترك حزب المؤمنين الموحدين وجماعتهم وحلفهم، وانخرط في الأحزاب العلمانية أو الإلحادية، يبذل الولاء والحب والنصرة لها، وهي تعمل لهدم الإسلام وتعمل ضد إخوانه المسلمين؟ أم أن ذلك ردةٌ عن دين الله، وهدمٌ لشرع الله عز وجل. اللهم إنا نسألك المغفرة والرحمة للحاضرين، اللهم اكتب مغفرتك ورحمتك لنا أجمعين، واعف عنا في ذلك المشهد العظيم، لا تفضحنا على رءوس الخلائق وأنت الرحمن الرحيم، فإليك اتجهنا، وعليك اعتمدنا، وعليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

أين الخلل؟

أين الخلل؟ واقع المسلمين يشهد متناقضات عجيبة، أفرزتها كثرة التصورات والمفاهيم الخاطئة، التي تعمقت في أفراد الأمة، وقد قام الشيخ بالتشخيص الصحيح لهذه الأمراض والأعراض والتصورات الخاطئة من خلال هذا الدرس.

رسالة شيخ الإسلام إلى أهل البحرين

رسالة شيخ الإسلام إلى أهل البحرين الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. إخواني! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فهذه فرصة طيبة أن ألتقي بهذه الوجوه الطيبة في هذه البلدة الطيبة، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من الطيبين، وأن يرزقنا الفوز بدار النعيم، إنه سميع مجيب. أيها الإخوة: لعل لقاءنا في هذا المكان يُذكر بتواصل العهد واتباع السنة والتمسك بحبل الله القويم، والسير على منهاج النبوة، هذا العهد الذي أخذه الله تعالى علينا جميعاً في السير على طريق التوحيد، أخذه الله علينا ونحن في ظهور آبائنا، ونحن في ظهر آدم عليه السلام، استخرج الله ذريته كأمثال الذر وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالوا: بلى، وقد كانت هذه البلاد فيها من أهل الدين والتوحيد والسنة أناس عظماء، ينبغي أن نسير على نهجهم وطريقتهم، ولعلي أستفتح الكلام برسالة لشيخ الإسلام ابن تيمية تؤكد هذا المعنى: بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين، وصلى الله على سيدنا محمدٍ وآله وصحبه أجمعين. من أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية إلى من يصل إليه كتابي من المؤمنين والمسلمين من أهل البحرين -وهذه المنطقة هي المعروفة تاريخياً بـ البحرين - وغيرهم عامة ولأهل العلم والدين خاصة سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد: فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل وهو على كل شيء قدير، وأسأله أن يصلي على خيرته من خلقه محمدٍ عبده ورسوله وخاتم أنبيائه، الذي بعثه بالبينات والهدى ودين الحق؛ ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيداً، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فإن وفداً قدموا من نحو أرضكم، فأخبرونا بنحوٍ مما كنا نسمع عن أهل ناحيتكم من الاعتصام بالسنة والجماعة، والتزام شريعة الله التي شرعها على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ومجانبة ما عليه كثير من الأعراب من الجاهلية التي كانوا عليها قبل الإسلام من سفك بعضهم دماء بعض، ونهب أموالهم وقطيعة الأرحام، وخروج عن ربقة الإسلام، وتوريث الذكور دون الإناث، وإسبال الثياب، والتعزي بعزاء الجاهلية وهو قولهم: يا بني فلان، يا لفلان، والتعصب للقبيلة بالباطل، وترك ما فرضه الله في النكاح من العدة ونحوها، ثم ما زينه الشيطان لفريقٍ منهم من الأهواء التي باينوا بها عقائد السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، وخالفوا شريعة الله لهم من الاستغفار للأولين بقوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10] ووقعوا في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوقيعة التي لا تصدر ممن وقر الإيمان في قلبه، فالحمد لله الذي عافانا وإياكم مما ابتلى به كثيراً من خلقه، وفضلنا على كثيرٍ ممن خلق تفضيلاً، ونسأل الله العظيم المنان بديع السماوات والأرض أن يتمم علينا وعليكم نعمته، ويوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى من القول والعمل، ويجعلنا من التابعين بإحسانٍ للسابقين الأولين، وليس هذا ببدع، فإن أهل البحرين ما زالوا من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل إسلام وفضل، فقد قدم وفدهم من عبد القيس على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيهم الأشج فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مرحباً بالوفد غير خزايا ولا ندامى، فقالوا: يا رسول الله! إن بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر -بيننا نحن في شرق الجزيرة وأنت في غربها هذا الحي من كفار مضر- وإنا لا نصل إليك إلا في شهر الحرام، حيث يتوقف القتال عند العرب، فمرنا بأمرٍ فصلٍ نعمل به ونأمر به مَن وراءنا، فقال: آمركم بالإيمان بالله، أتدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان، وأن تؤدوا خمس ما غنمتم) ولم يكن قد فرض الحج إذ ذاك، وقال للأشج: (إن فيك لخلقين يحبهما الله: الحلم والأناة، قال: خلقين تخلقت بهما أو خلقين جبلت عليهما؟ قال: خلقين جبلت عليهما، فقال: الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله) ثم إنهم أقاموا الجمعة بأرضهم، فأول جمعة في الإسلام بعد جمعة المدينة، جمعة بـ بجواثى قرية من قرى البحرين. ثم إنهم ثبتوا على الإسلام لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وارتد من ارتد من العرب، وقاتل بهم أميرهم العلاء بن الحضرمي -الرجل الصالح- أهل الردة، وله في السيرة أخبار حسان، فالله سبحانه يوفق آخرهم لما وفق له أولهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه إلى آخر الرسالة رحمه الله. ونحن ننطلق من الدعاء الذي دعا به شيخ الإسلام في رسالته، ونقول: نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفق آخرهم لما وفق له أولهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

علاج مرض فساد التصورات

علاج مرض فساد التصورات بعد هذه الرسالة في تبيان ما ينبغي أن يكون عليه الخلف من التمسك بطريقة السلف؛ طريقة وفد عبد القيس الذين اتبعوا السنة، وما كانوا عليه من إقامة الدين وشعائره، ننطلق بعد ذلك إلى هذه المحاضرة. كنت أريد أن أتكلم في موضوع الأمراض، ولكن رأيت أن موضوعها طويل، وأن الكلام يمكن أن يكون أهم إذا تكلمنا في أصل الأمراض ومرض الأمراض؛ لأننا -أيها الإخوة- إذا نظرنا إلى الأعراض المرضية الموجودة لوجدنا أنها منبثقة عن خللٍ في الأساس، فنتكلم في المرض الأساسي وهو مرض الخلل في التصورات؛ لأنه ما من ذنب أو انحراف يقع فيه الناس إلا وهو ناتجٌ عن فساد في التصورات أو خلل فيها أو غيابٍ تغيب عن الأذهان أو جهلٍ بها، هذه التصورات والقواعد الشرعية الجهل فيها هو سبب ما نراه من النفاق والكذب والكبر والعجب والحسد وغير ذلك من الانحرافات الكثيرة الموجودة في الواقع، وكل تصورٍ خاطئ يؤدي إلى سلوكياتٍ منحرفة، والسلوكيات المنحرفة تكون نتيجة غياب التصور الصحيح أو انحراف التصور أو نقص التصور أو الغبش الموجود في التصور في عقول وأذهان كثيرٍ من الناس، ولذلك قبل تغيير السلوك ينبغي أن نغير التصور الذي هو أساس الأمراض.

مكافحة أصل المرض وأساسه

مكافحة أصل المرض وأساسه النبي صلى الله عليه وسلم لما بدأ بالدعوة بدأ بالدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وما من نبي دعا قومه إلا وقال لهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59] هذا هو الأساس وهذه الكلمة العظيمة {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59] وهي كلمة التوحيد التي دعا إليها النبي صلى الله عليه وسلم قومه والعرب كافة والعالمين، قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا، فعارضه عليها قومه. كان العرب يعرفون معنى هذه الكلمة، والآن كثيرٌ من الناس يجهل معنى لا إله إلا الله، لماذا حاربوه ورفضوا أن يقولوها وهي كلمة؟ لأنهم يعلمون أن هذه الكلمة هي عقد وفاء والتزام، وأنه لا بد من الأخذ بمقتضاها والعمل بها، ولذلك رفضوها وهي كلمة. وهم يعلمون أن مقولة: لا إله إلا الله؛ سينبني عليها تغييرات جذرية في حياتهم الاجتماعية والاقتصادية وفي أخلاقهم وعاداتهم، سينبني عليها تغيير جذري للمجتمع. إن الأمراض في المجتمع كثيرة، والإنسان إذا صار يعالج عارض السخونة وعارض الصداع وعارض المغص وعارض الإسهال وعارض القيء، سيتعب، وربما لا يكافح المرض ولا يحاصره ولا يقضي عليه، لكنه إذا اتجه إلى معالجة أصل المرض؛ فإن هذه الأعراض ستختفي، ولذلك يمكن أن نشبه حال الأمة المصابة بالأمراض المتعددة اليوم، بحال رجلٍ فيه أمراضٌ كثيرة، فيه أمراضٌ من السكر والنزيف والسرطان والزكام والحمى وغير ذلك من الأمراض والأعراض، وعندما ينشغل الإنسان بمعالجة الأعراض ويغفل أصل المرض؛ تتفشى الأمراض وربما لا يستطيع السيطرة عليها، أو يتظاهر له أنه سيطر عليها وليس كذلك، لكن إذا انشغل بمكافحة أصل المرض وتقوية الجسم على المرض، واستنبات الخلايا السليمة، وتكثير هذه الخلايا في الجسم، وبناء الجسم بناءً صحيحاً وتغذيته ودفع هذه الأمراض لا بد منهما معاً، ولذلك نحن نقول الآن: كما أننا نذكر علاج الحسد والعجب والكبر مثلاً، ونكافح الكذب والغيبة والنميمة؛ فإننا ينبغي أن نصحح الأصل ونصحح التصورات، ولعلنا نرى من خلال عرض بعض الأمثلة الارتباط بين الانحرافات في الأعمال وانحرافات التصورات الأصلية.

دور القرآن والسنة في تصحيح التصورات الخاطئة

دور القرآن والسنة في تصحيح التصورات الخاطئة كان القرآن الكريم ينزل لتصحيح التصورات وإيجاد التصورات الصحيحة، يقول الله تعالى مثلاً في قصة حاطب رضي الله عنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة:1] قاعدة تبين تصوراً من التصورات الإسلامية العظيمة، إنها قاعدة إسلامية، صحيح أنها جاءت في حدث معين، لكنها قاعدة يجب أن ترسخ. وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يبين لأصحابه عندما تبدر من الواحد منهم بادرة سوء أو خطأ؛ يبين له أصل الداء، فمثلاً حديث أبي ذر رضي الله عنه: (جاء المعرور بن سويد فقال: مررنا بـ أبي ذر في الربذة وعليه برد وعلى غلامه مثله، فقلنا: يا أبا ذر لو جمعت بينهما كانت حلة -استغربوا من البرد الذي على الغلام- فقال أبو ذر رضي الله عنه: إني ساببت رجلاً -كان بيني وبين رجلٍ كلام وهو من إخواني، وفي رواية أنه بلال رضي الله عنه وكانت أمه أعجمية- فنلت منها، وقلت له: يا بن السوداء، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: أساببت فلاناً؟ قلت: نعم، قال: أعيرته بأمه؟ فقلت: من سب الرجال، سبوا أباه وأمه، قال: إنك امرؤ فيك جاهلية) لم تتخلص من آثار الجاهلية بالكلية، فيك شائبة، (قلت على حين ساعتي هذه من كبر السن) -كأن أبا ذر رضي الله عنه تندم، قال: الآن ارتكبت هذه المعصية وأنا على كبر سني ولا يليق بي أن أفعل ذلك- (قال: نعم، هم إخوانكم خولكم -يعني: خدمكم- جعلهم الله تحت أيديكم، فمن جعل الله أخاه تحت يده؛ فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس -ولذلك كان قد كسا غلامه الحلة- ولا يكلفه من العمل ما يغلبه، فإن كلفه ما يغلبه؛ فليعنه عليه) رواه البخاري ومسلم وأبو داود، وألفاظه مجموعة بعضها إلى بعض. فالنبي صلى الله عليه وسلم لما سمع الكلمة أراد أن يعيدها إلى الأصل قال: (إنك امرؤ فيك جاهلية) ولذلك ينبغي علينا أن نتخلص من شوائب الجاهلية في أنفسنا، وأن نخلع على عتبة الإسلام كل أردية الجاهلية، ونغير من أفكارنا التي فيها انحراف أو قصور أو جهل، وينبغي أن نضع بدلاً منها قواعد الدين وأسس الشريعة والتصورات الشرعية.

أنواع الخلل

أنواع الخلل إن القصور في التصورات والجهل بها؛ يؤدي إلى انحرافات في السلوكيات والأعمال، فمثلاً عندما نرى إعراض الناس الآن عن كثيرٍ من الأعمال والفرائض الشرعية، ونناقشهم يقولون لك: يا أخي! نياتنا طيبة، نحن نحب الخير، ونحب الدين، ونحن مسلمون نشهد أن لا إله إلا الله، لكنهم مع ذلك يكذبون، ويغشون، ويتخلفون عن الصلوات، ويكذبون، ويفعلون المنكر ويستمعون إليه، وسبب هذا غياب التصور الصحيح للإيمان، أن الإيمان قول وعمل. كثير من الناس لا يفهمون أن الإيمان قول وعمل، ويظنون أن النية الطيبة وحدها تكفي، ولذلك تراهم قنوعين بهذا الشيء؛ الانتساب العام للإسلام والشهادة اللفظية بلا إله إلا الله، مطمئنين بذلك، قانعين به وراضين، ولذلك لا يضيفون إلى هذا المفهوم القاصر والسطحي شيئاً جديداً ولا يهتمون بالأعمال.

خلل في مفهوم الإيمان

خلل في مفهوم الإيمان إن القصور في التصورات والجهل بها؛ يؤدي إلى انحرافات في السلوكيات والأعمال، فمثلاً: عندما نرى إعراض الناس الآن عن كثيرٍ من الأعمال والفرائض الشرعية، ونناقشهم يقولون لك: يا أخي! نياتنا طيبة، نحن نحب الخير، ونحب الدين، ونحن مسلمون نشهد أن لا إله إلا الله، لكنهم مع ذلك يكذبون، ويغشون، ويتخلفون عن الصلوات، ويفعلون المنكر ويستمعون إليه، وسبب هذا غياب التصور الصحيح للإيمان، أن الإيمان قول وعمل. كثير من الناس لا يفهمون أن الإيمان قول وعمل، ويظنون أن النية الطيبة وحدها تكفي، ولذلك تراهم قنوعين بهذا الشيء؛ الانتساب العام للإسلام والشهادة اللفظية بلا إله إلا الله، مطمئنين بذلك، قانعين به وراضين، ولذلك لا يضيفون إلى هذا المفهوم القاصر والسطحي شيئاً جديداً ولا يهتمون بالأعمال.

خلل في مفهوم السنة والبدعة

خلل في مفهوم السنة والبدعة وفي المقابل أيضاً نجد أناساً واقعين في البدع، وأسباب الوقوع في الابتداع كثيرة، لكن من الأسباب ولا شك: القصور في فهم معنى السنة ومعنى البدعة، ولذلك تجد بعض هؤلاء عندهم صدق وإخلاص، ولكن عندهم جهل، فإذا قلت لأحدهم: يا أخي! هذا الشيء الذي تفعله بدعة، لا دليل عليه بل هو مخالف لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، قال: كيف هو مخالف! ألم يأت في الحديث: (من سن سنة حسنة كان له أجرها) وأنا سنيت سنة حسنة. فتجدهم لا يفهمون ما معنى سنة حسنة ولا يفهمون معنى البدعة، ولذلك يقعون في الحرام والبدعة والمنكر؛ بسبب الجهل بالتصور الصحيح للسنة والتصور الصحيح للبدعة.

خلل في مصادر التشريع

خلل في مصادر التشريع مصادر التشريع عندنا هي القرآن والسنة على فهم السلف الصالح فالقرآن والسنة هما مصدرا التلقي عندنا ونظراً لجهل الناس لقضية مصادر التلقي وأنها فقط الكتاب والسنة وليس شيئاً آخر، لذلك ترى الجهل بهذا التصور المهم جداً ينعكس على حياتهم في أشكالٍ متنوعة من الانحرافات. لأنهم لما غفلوا عن هذا المفهوم؛ صاروا يأخذون من العادات والتقاليد المخالفة للشريعة، والعيب عندهم صار شريعة، وليس العيب هو ما عيب في القرآن والسنة، لكن العيب ما عابوه هم وعابه المجتمع وما نظر إليه أغلب الناس على أنه عيب، أو يقولون: مادام أن هذا موجود في الواقع؛ فإنه الصحيح، أو يقولون: أكيد ما اتفق أكثر الناس عليه إلا وهو صحيح وجائز ومشروع، ولا شك أن هذا مخالف لمسألة مصدر التشريع والتلقي عند المسلمين، ولذلك يقدمون أمور العادة على أمور الشرع. مثلاً: كثير من الناس يقدمون في أمور النكاح والزواج العادة على الشرع، ويأخذون بالعادة ولو خالفت الشرع، فهم يستمدون أمورهم من الواقع الموجود على عجره وبجره، على عيوبه وما فيه من الأخطاء والانحرافات، التي تراكمت بمر السنين والجهل وسير الناس على هذه القواعد التي اختصوها لأنفسهم، ولذلك تجده يقدم الجمال على الدين، وإذا جاءه شخص يقدم الغني الفاسق على الفقير المتدين، فيفعلون ذلك؛ لأن هذه العادات الموجودة عندنا هو ما تعارف عليه المجتمع في النظر إلى شهادته والنظر إلى غناه وماله وهكذا.

خلل في توحيد الأسماء والصفات

خلل في توحيد الأسماء والصفات ولنأخذ مثلاً آخر: عندما نرى كثرة ارتكاب الناس للمعاصي، وإذا ناقشناهم قالوا: الله غفور رحيم، هذه الكلمة التي يحتجون بها على ارتكاب المعصية ناتجة من الجهل بحقيقة توحيد الأسماء والصفات، فهم يعلمون أن الله غفورٌ رحيم، لكنهم ينسون أنه شديد العقاب، وأنه غفور لمن؟ ورحيم بمن؟ هل يغفر للمعاند المكابر المصر أم أن هذا الرجل متوعد؟ فإذاً غياب المفهوم الصحيح لتوحيد الأسماء والصفات الجهل بمعاني أسماء الله تعالى وصفاته يقود إلى نتائج سيئة في الواقع. نحن نقول: إن رحمة الله تعالى قريبٌ من المحسنين، فينبغي أن نكون من المحسنين، أنت تقول له: إن رحمة الله قريب من المحسنين، فأين الإحسان؟ ثم تقول له: إن الله تعالى قال: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر:49 - 50] وقال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:98] فقرن بين شدة العقاب والمغفرة والرحمة، فهو سبحانه شديد العقاب وهو سبحانه غفور رحيم، نعم إن رحمته سبقت غضبه، ولذلك أهل الأعراف الذين استوت حسناتهم وسيئاتهم مصيرهم إلى الجنة في النهاية؛ لأن رحمة الله سبقت غضبه، فلما تساوت حسناتهم وسيئاتهم، ورحمة الله سبقت غضبه؛ كان مصيرهم إلى الجنة، لكن بعد دخول أهل الجنة الجنة، يقفون في ذلك الموقف العظيم، وتصرف وجوههم قبل أصحاب الجنة وأصحاب النار، وتحدث المحاورة التي ذكرها الله تعالى في كتابه في سورة الأعراف، لكن ينبغي ألا يجعل هذا المفهوم وهذه القاعدة أهل الفسق يتمادون في فسقهم ويتكلون على رحمة الله يقولون: الله غفور رحيم، وهم غارقون في المعاصي.

خلل في قضية القضاء والقدر

خلل في قضية القضاء والقدر نظراً للجهل في قضية القضاء والقدر وعدم فهمها فهماً سليماً، وأن الله سبحانه وتعالى هو الذي علم ما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، أي: ماذا كان سيحدث لو لم يحدث الشيء الفلاني، وأن الله عز وجل كتب مقادير الخلائق وهذه الأحداث التي تجري وجرت في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وأنه سبحانه وتعالى له الإرادة والمشيئة النافذة التي لا تقوم لها أي إرادة، ولا يمكن رد ما قضى الله عز وجل، وأنه سبحانه خلق أفعال العباد، فكل عملٍ يعمله العبد فالله خالقٌ له {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96]. إذا استيقن العبد بقضاء الله وقدره وهو من أركان الإيمان؛ فإن كثيراً من الانحرافات التي تقع من الناس لا تقع عنده، فمثلاً: بعض الناس يسرفون على أنفسهم في المعاصي، ويقولون: نحن مجبورون ومرغمون على ذلك، فالإنسان مسير وليس بمخير، وليست القضية طبعاً هل الإنسان مسير وليس بمخير أو هل الإنسان مسير ومخير؟ هذه النقاشات لم تكن موجودة بين السلف، وإنما هي أمرٌ حادثٌ جرى بعد ذلك، والله سبحانه وتعالى قضى الأمر وأعطانا إرادات، ولا تجد أحداً مكرهاً على عمل المنكر، وهو لا يريد، وتجد الناس يستمرئون المعاصي بحجة أنهم مجبرون وأن الأشياء مكتوبة وأن القدر مكتوب، ويحتجون على المعصية بهذا. وفي جانبٍ آخر يعترضون على القضاء والقدر ولا يرضون ولا يسلمون، فما هو السبب؟ قل لي الآن: النياحة وشق الثوب، وتقطيع الشعر هذا معصية وانحراف، لكن مرده إلى أي شيء؟ نحن نعلم أنه معصية لكن حلل موقف النائحة عندما تصيح وتشق ثوبها وتقطع شعرها وتقول: يا ويلي يا ويلي، يا ظلام ليلي، وافلاناه، ما سببه؟ مرده إلى أي شيء؟ نحن نريد أن نكون أكثر عمقاً في النظر إلى الواقع، حتى نوجه الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى أنه لا بد أن ينظروا إلى الواقع ويتلمسوا مواطن الخلل والعلل. A أن مرد هذه المسألة ليس أن المرأة مثلاً عندها قدرة على الصياح، وأن هذا الشخص كان عزيزاً عندها، وأن عندها قدرة على التقطيع، لا، المسألة تتعلق حقيقة بقضية الاستسلام لقضاء الله وقدره، وعقيدة القضاء والقدر، والرضا بما قضى الله وقدر، وأن السخط حرام ولا يجوز، فقضية تقطيع الثياب وتقطيع الشعر والصياح تعبر عن عقيدة مخلخلة في موضوع القضاء والقدر. ويقول: ماذا فعلت لك يا رب؟ أو ماذا فعل فلان لك يا رب؟ أو فلان لا يستحق! نستغفر الله العظيم مما يقول هؤلاء الظالمون، يقول أحدهم إذا أصاب الآخر حادث شنيع: فلان لا يستحق، كيف لا يستحق! حلل العبارات والكلمات، تجد أنها منطلقة من قواعد سيئة أو من جهل أو من غياب التصور أو غبش أو تصور منحرف مستقر في النفس.

خلل في مفهوم التوكل على الله

خلل في مفهوم التوكل على الله إن الخلل في مفهوم التوكل على الله يجعل الشخص يتوكل على الناس وعلى الأسباب وينسى الله تعالى، أو يجعله يتواكل ويهمل الأسباب بحجة التوكل على الله تعالى، فإذاً هؤلاء الناس الموجودون في الواقع ممن يعتمدون على فلان وفلان وهو كل شيء في حياته، أو يعتمدون على الأسباب اعتماداً كلياً وينسون الله تعالى، السبب في هذا الانحراف عدم وضوح قضية التوكل في أنفسهم. مثلاً: إن تصور أن الجنة تنال بمنتهى السهولة، وأن الإنسان سيدخل الجنة بسهولة، هذا من المفاهيم المنحرفة عن التصور الصحيح في أن سلعة الله الجنة غالية، والجنة حفت بالمكاره، فليست جنة عدن التي خلقها الله بيده، وجعل فيها الحور العين في الأنهار والأشجار والثمار والأطيار، ليست هذه الجنة سلعة رخيصة ينالها أي أحد من الناس. هناك شخص مضيع للصلوات، جاءه قريب له ينصحه فقال له: يا فلان! جاء وقت الصلاة وأنت لم تصل، وهذه مسألة عقوبتها كذا، والله يعاقب ويحاسب، قال هذا الرجل: المسألة هي كلام، أي: ظن أن الله يوم القيامة يأخذ الواحد فينا ويحاسبه: أنت لماذا ما صليت الصلاة يوم كذا وما صليت يوم كذا؟ ثم يأتي إلى هؤلاء الذين يقولون: لا إله إلا الله كلكم ادخلوا الجنة، لا يدقق معنا في الصلاة، فاتت صلاة ما فاتت صلاة. عندهم الجنة فوضى، كل الناس داخلون، إذاً أين يذهب الفسقة والفجرة؟ وقد دلت الأدلة الشرعية على أن الذين لن يخلدوا في النار سيمكثون فيها فترة من الزمن، ثم يخرجون وقد احترقوا وانتهشوا ثم ينبتون عندما يلقون في نهر الحياة كما تنبت الحبة في حميم السيل، قل لي من هم هؤلاء؟ إذا لم يكونوا هم المضيعون للصلوات {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً * إِلَّا مَنْ تَابَ} [مريم:59 - 60].

حصر الدين في الشعائر التعبدية

حصر الدين في الشعائر التعبدية بعض الناس تجد عنده تصوراً أن العبادة منحصرة في هذه الشعائر التعبدية ويقولون: صلاة وزكاة وصيام وحج هذا هو الدين. يحصرون الدين في أشياء معينة، هذا من الخلل، فالدين أوسع من ذلك بكثير، (بني الإسلام على خمس) الإسلام بني على خمسة أركان، فإذا كان الإنسان عنده الأعمدة الأساسية للبيت، لكن ليس عنده لا جدران ولا سقوف ولا نوافذ ولا مرافق ولا مطبخ ولا حمام هل يعيش في بيتٍ هذا حاله؟ إذاً بني الإسلام على خمس، يعني: هذا بناء عظيم فيه شعائر كثيرة جداً لكن مبانيه على خمسة أسس، فالناس جاءوا بالأعمدة ونسوا بقية البنيان، فحصر الدين في شعائر معينة من الأشياء التي تجدها موجودة عند العامة. أنت يا أخي الداعية -أيضاً- فكر كيف تعالج هذه القضية، وَسَّع مفهوم الدين، وبحسب ما جاء في الكتاب والسنة تجد أن كثيراً من حجج الناس تتهاوى، وكثيراً من تصرفاتهم تتعرى، ويصبحون على المحك فعلاً، ولا يؤدي هذا في النهاية إلى ما يؤدي إليه غياب التصور الصحيح من عدم الاحتساب على بقية الأعمال، والتهاون في الأحكام الشرعية خارج نطاق الشعائر التعبدية التي حصل بها الدين، وهكذا.

جعل الميزان غير التقوى

جعل الميزان غير التقوى من التصورات والموازين الخاطئة: جعل الميزان غير التقوى، والميزان عند الله هو: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] فلما غاب هذا الميزان وهذا التصور، صار الناس ينظرون إلى الشخص ويقومونه بحسب غناه أو فقره، بحسب نسبه ووظيفته ومرتبته ودرجته في هذه الوظيفة، بحسب نوع السيارة والشهادة العلمية والمنصب والعائلة والجنسية ونحو ذلك، وإذا جاءهم صاحب دين أحواله مستورة أو نسبه ليس برفيع؛ ردوه في الزواج، وإذا جاءهم صاحب نسب أو مالٍ؛ قبلوه وإن كان فاسقاً فاجراً. يقول لي أحد الشباب: تقدمت إلى عائلة، فقالوا لي: ما اسم الأخ؟ فقلت لهم: فلان الفلاني، وبعد فترة عدت إليهم من أجل الجواب فقالوا: والله نحن عندنا تقاليد معينة وأنتم ما نزوجكم؛ لأنكم لستم بأكفاء لنا، قالوا: لأني موظف في نظرهم بسيط. يقول: ثم تقدم ولد عمي من نفس العائلة ومن نفس القبيلة ومن نفس الأسرة، ولكنه تاجر، قال: فقبلوه، وأهلاً وسهلاً وأنت من الأكفاء وعلى الرأس والعين، قال: لقد كنت غير مكافئ ولا أناسبهم، ثم جاء ابن عمي الذي يحمل نفس الاسم ونفس العائلة صار عندهم مكافئاً ومناسباً؟! شخصٌ آخر جاءهم بسيارة الشبح طالباً ابنتهم، فلما جلس في المجلس كان صريحاً فقال: يا جماعة الحقيقة أنا من الأشراف قالوا: ما فيها شيء، أبوها -الله يرحمه- كان نفس الشيء، وطلعت البنت وجلست. إذاً: المسألة الآن أن الناس لا ينظرون إلى دينه ولا إلى خلقه، بل ينظرون إلى سيارته، ووظيفته، وماله، وبيته، وأثاثه، ولباسه، هذا نتيجة اضطراب الميزان الشرعي: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، الميزان الشرعي: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) هذا هو الميزان الشرعي: (إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه؛ فزوجوه، إلا تفعلوا؛ تكن فتنة في الأرض وفسادٌ عريض). مر رجلٌ مسكين بالنبي صلى الله عليه وسلم، فسأل أصحابه عن رأيهم فيه، قالوا: (هذا حري إن نكح؛ ألا ينكح، وإن خطب؛ ألا يزوج، وإن قال؛ ألا يسمع لقوله، وإن شفع؛ ألا يشفع، فلما مر رجلٌ آخر ذو شارة حسنة وذو هيئة وأبهة قالوا: هذا حري إن خطب؛ أن ينكح، وإن قال؛ أن يسمع لقوله، وإن شفع؛ أن يشفع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا خيرٌ من ملء الأرض من مثل هذا) فالميزان الصحيح هو ميزان التقوى.

التقوى في القلب

التقوى في القلب من الفساد المبني على هذه القاعدة: قضية أن التقوى في القلب وليس المظهر هو المهم، فتجد بعض الناس فيهم من الاهتمام بالمظاهر، حتى طال ذلك فئة من الشباب، يهتمون بالنظارات والأقلام والسيارات، وهذه الوجاهة التي يخرجون بها على الناس، يتفاخرون بها أمام الخلق، وتجد الواحد مع الأسف يستلف ويستدين، لكي يشتري شيئاً يظهر به أمام الناس، والسلف والدين صعب وفي الحديث: (صاحبكم مأسور بدينه) ولم يصل صلى الله عليه وسلم عليه صلاة الجنازة، وبردت عليه جلدته حين سدد عنه أخوه المسلم وأوفى بدينه، والشهيد وما أدراك ما للشهيد من أنواع النعيم! يغفر له كل شيء إلا الدين، والآن في عالم الدين الاستلافات المتوالية لأي شيء؟ هل تقول: استلف ليأكل؟ استلف ليلبس من عري، استلف لشيء ضروري؟ لا، ليسدد فاتورة الكهرباء؟ لا، استلف لكي يشتري طقماً جديداً أو يجدد السيارة أو الأثاث أو شيئاً يتمظهر به أمام الناس.

خلل في حقيقة الولاء والبراء

خلل في حقيقة الولاء والبراء من الأخطاء والخلل في عدم وضوح التصور الشرعي في الولاء والبراء المبني على قوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22]، {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة:55] بين الولاية لمن والمعاداة والعداوة لمن، لكن عدم ترسخ هذا المفهوم عند الناس؛ جعل الإقليمية تظهر والقبلية تظهر، والعرقية تظهر، والجنسيات المختلفة يظهر فيها الولاء والعداء عليها، وتزول محبة المؤمنين وتحل محلها محبة الكافرين، وترى الإعجاب بالنصراني الكافر أشد من محبة المسلم وخصوصاً إذا كان من بلدٍ فقير. انظر الآن إلى احتقار الناس للهند والبلقان على مستوى الناس العامة، حتى إنهم يهزءون ويجعلون هذا مثلاً للغباء وللسذاجة، وهكذا يفعلون، والحقيقة إنني أتعجب فعلاً من هؤلاء الهنود المساكين الذين يدخلون المساجد للصلاة، يعني: نحن استهزأنا بهم، وسخرنا منهم وعاملناهم بسائر الإهانات، وهم مسلمون ويعلمون أننا مسلمون مثلهم، ومع ذلك إن دخلوا المساجد وصلوا تجد أحدنا يقول: يا مقرف! يا صاحب الرائحة الكريهة! اخرج. صحيح إن بعضهم ذو روائح كريهة، لكن: ما هكذا يا سعد تورد الإبل، ليست هذه الطريقة، فنحن سواء كانوا مخلين بأشياء أو مستقيمين على أشياء نهزأ بهم باستمرار! كذلك تجد تصرفات لا شعورية من الواحد تخرج أحياناً تجاه عامل مسلم فقير مستضعف وربما أخرنا عليه الراتب وأهناه وخصمنا عليه وهو مظلوم، وربما يقبل قدميك لأجل أن يمسح سيارتك؛ لأن الكفيل يطالب بثلاثمائة ريال في الشهر، لو كان كافراً فإنه يستحق الإذلال والإهانة، لكن الظلم لا يجوز حتى على الكافر، لكن المشكلة أنه مسلم يشهد بأن لا إله إلا الله ويقيم الصلاة ويدخل المسجد. كذلك إذا جئت إلى قضية تقديم الكفار على المسلمين في الوظائف؛ تجد العجب العجاب ونتائج واضحة للانحراف في مسألة الولاء والبراء.

خلل في قضية الخوف

خلل في قضية الخوف المسلم ينبغي أن يخاف من الله، وإذا خاف من شيءٍ آخر خوفاً طبيعياً كالخوف من الأسد والثعبان، فلا شيء في ذلك ما لم يتجاوز الحد، فالخوف من الشيء الذي يدفعك إلى الابتعاد عنه لضرره أو اتقاء ضرره متوكلاً على الله، وموقناً أن الضرر بيد الله والنفع بيد الله؛ هذا لا شيء فيه، لكن القضية هو الخوف الذي استعمر قلوب الكثيرين من المسلمين حتى وقعوا في الشرك في الخوف. بعضهم يعتقد أن فلاناً من الناس يستطيع أن يفعل به ما يشاء كيف يشاء في أي وقتٍ شاء، إذا اعتقدت هذا وقعت في الشرك ولذلك ترى استيلاء الخوف على قلوب الكثيرين سبب إرجافاً وتركاً للمنكر وإنكاره، وذلاً بل وردة عن الدين عند بعض الناس وتركاً للشعائر الإسلامية وإزالة للمظاهر الإسلامية، بسبب الخوف من غير الله، وترك أشياء من الدين خوفاً من غير الله، لو كان مكرهاً مستضعفاً لقلنا معه عذره، لكن لأدنى شيء يترك الالتزام بالإسلام خوفاً. هذه الشخصية الجبانة المترددة التي لا تقوى على مواجهة الباطل ولا على إنكار المنكر، ولا على رفض الباطل. هذا الإنسان الجبان الذي لا يريد الصدع بالحق، ولا عنده جرأة في دين الله، ولا تغيظٌ على أصحاب المنكرات ولا إنكار بسبب خلل في مسألة الخوف من الله تعالى، قال الله عز وجل: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ} [آل عمران:175] ما معنى أن الشيطان يخوف أولياءه؟ يعني: يخوفكم بأوليائه، يجعل أولياءه سبباً لإخافتكم: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} [آل عمران:175] يعني: يخوف المؤمنين بواسطة أوليائه من الطواغيت وغيرهم، فإذا هذه المسألة ينبغي أن ينتبه لها. وبعض الناس يعمل مفاسد متوهمة، ويترك أشياء من الدين لأجلها، ونحن أصلاً لو نظرت إلى معاملتنا وتربيتنا للأطفال تجد أننا ننشئهم على الخوف، ونخوفهم من الجن والبعبع والغول والحرامي، فينشأ الولد خائفاً مذعوراً من الصغر، والتخويف من الصغر حاصل وموجود.

مفاهيم خاطئة في النصيحة

مفاهيم خاطئة في النصيحة

عدم تقبل النصيحة التي تأتي من الأدنى

عدم تقبل النصيحة التي تأتي من الأدنى من التصورات الخاطئة المتعلقة بالدعوة مثلاً: تصور أن النصيحة لا تأتي من الأدنى لا بد أن تأتي من الأعلى، ولذلك لا يقبل الأب من ابنه شيئاً، أو المدير من الموظف شيئاً، أو المدرس من الطالب شيئاً؛ لأن عندهم النصيحة دائماً تأتي من الأعلى، وكذلك أي واحد لا يقبل من الأصغر منه سناً بسبب الخلل في مفهوم النصيحة.

اعتبار النصيحة تدخلا في الشئون الخاصة

اعتبار النصيحة تدخُّلاً في الشئون الخاصة كذلك من الخلل في مفهوم النصيحة اعتقاد أنها تدخُّل في الشئون الخاصة، فإذا جئت تنصح إنساناً؛ يقول: هذا شغلي أنا، ليس شغلك أنت، إذا قلت له: يا فلان! ثوبك مسبل. يقول: هذا ثوبي وإلا ثوبك، لا تتدخل فيما لا يعنيك؛ فتلقى ما لا يرضيك، ويأتي لك بالأمثلة.

خلل في مفهوم الحرية الشخصية

خلل في مفهوم الحرية الشخصية كذلك المفهوم الخطأ لقضية الحرية الشخصية هو الذي يسبب عند الناس رفض الدعوة باعتبار النصيحة وإنكار المنكر تدخلاً في الحرية الشخصية.

تقديم الأسلوب على المحتوى والمضمون

تقديم الأسلوب على المحتوى والمضمون كذلك من الانحرافات في مفهوم النصيحة: تقديم الأسلوب على المحتوى والمضمون، أحدهم يقول: هيا قم صل، فيرد عليه: لست بمصل، لماذا لم يقل لي: لو سمحت؟ لماذا ينفخ علي؟ نحن لا ننكر أن الداعية قد يقع في خطأ، وأن الشخص الذي وجه له النصيحة قد يكون عنده خلل في الأسلوب، لكن الخلل الأكبر عند الذي رفض النصيحة وترك الصلاة؛ لأن الأسلوب عنده أهم من المضمون، ماذا يقول: صلوا أو يقول: صم. أو يقول: لا تفعل كذا من المنكرات، الأسلوب عنده أهم، فانظر كيف يؤثر التصور على قضية ردة الفعل، وتكون منطلقة من تصور خاطئ أن الأسلوب مقدم على المحتوى.

خلل في فعل المباحات

خلل في فعل المباحات تجد شباب الصحوة نتيجة غياب المعنى الحقيقي للزهد يجعل الكثيرين يقعون في الإغراق في المباحات، مما يؤدي إلى وقوعهم في الشبهات، ثم بالتالي الوقوع في المحرمات؛ لأنهم لا يفهمون حقيقةً الموقف الشرعي من المباحات، فلذلك تكون حياتهم في أكثرها ومجملها هي عبارة إغراق في المباحات، وليس في عبادات ولا في أشياء جادة، وإنما يقول الواحد: مادام هذا الأمر جائزاً، لماذا لا أفعله؟!

الخلل في الشعور بالمسئولية

الخلل في الشعور بالمسئولية من الخلل والتصورات الخاطئة أيضاً: الخلل في الشعور بالمسئولية، والنبي صلى الله عليه وسلم قرر المسألة وقال: (كلكم راعٍ، وكلكم مسئول عن رعيته) والخلل في الشعور بالمسئولية يجعل الإنسان لا يؤدي دوره المطلوب منه ولا يقوم بما أوجب الله عليه، حتى في الأعمال الدنيوية تجد الموظف إذا كان لا يشعر بالمسئولية؛ يأتي إلى العمل متأخراً، ويفطر في العمل، وعلى حساب العمل يقرأ الجرائد والشاي، ومع الزملاء ضياع الأوقات في الكلام، وينصرف مبكراً ويترك المراجعين، يعني: حتى على المستوى الدنيوي تجد عدم الإحساس بالمسئولية؛ فينعكس على التصرفات التي تكون سيئة في الواقع ومضرة بالخلق. في نفس الوقت تجد عدم فهم الحدود الحقيقية للمسئولية يجعل الإنسان متسلطاً، فما دام أن لديه هذا القدر من المسئولية؛ فيجب أن يرجع إليه الجميع في كل شيء، يستفتونه ويسألونه ويستشيرونه، ولو أن واحداً منهم ما استشاره -مثلاً- في العلامة التجارية للنعل التي يريد أن يشتريها فهو خارج عن الأدب، لماذا لم يستشره في الذهاب إلى السوق؟ وأي نوع من أنواع الكمبيوتر يشتري وأي علامة؟ إذاً: الخلل في فهم قضية المسئولية إما أن يوقع الشخص في التخلي عن الواجبات المفروضة منه وعدم القيام بالدور وسد الثغرة، أو يوقعه في التسلط والعجرفة وتكليف الناس ما لا يطيقون.

خلل في كيفية الاستفادة من الواقع

خلل في كيفية الاستفادة من الواقع كذلك من الأشياء والأخطاء في التصورات: ماذا يمكن الاستفادة من الواقع، فبعض الناس يقولون: هؤلاء مثلاً أهل الدين ماذا عندهم غير أن الأغاني والتلفزيون حرام؟ ما هو الخطأ؟ تجد الخلل في التصور أنهم لا يعرفون مدى الاستفادة من الشخص، أو يقولون: هذا العالم ماذا عنده غير هذه القضايا الفقهية في الطهارة؟ لا يعلمون أنه يمكن الاستفادة منه في أشياء أخرى كثيرة، وكذلك تجد حتى شباب الصحوة يقولون: هذا الخطيب ماذا عنده؟ ليس عنده شيء جديد، وهذا الكتاب ليس فيه شيء جديد، وهكذا تجد استحقار الأشياء، أنت الآن إذا قرأت القرآن عشرات المرات؛ هل يمكن أن تقول: ليس فيه شيء جديد؟! يمكن الاستفادة من جميع الأشياء، وأخذ الدروس حتى من البهائم، فالعلماء أخذوا دروساً من النمل والنحل، اقرأ ما كتبه ابن القيم رحمه الله في شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة، حتى إنهم لما رأوا طائرين يطيران معاً؛ اتضح أن هذا جناحه مكسور وهذا جناحه مكسور، ولا يمكنهما الطيران إلا بالتعاون معاً جناح من هذا وجناح من هذا. فإذاً: مسألة الاستفادة من الناس والدروس ينبغي أن تكون عائدة إلى تصور صحيح في إمكانية توظيف الحدث واستغلال الفائدة من أي شيء، مَنِ الذي علم أبا هريرة أن آية الكرسي قبل النوم وقاية من الشيطان؟ استفاد أبو هريرة هذه الفائدة من الشيطان نفسه، فهو الذي علمه إياها، لما جاء في صورة رجل يأخذ من الصدقة ويسرق، فأمسكه وقد رآه في المرة الأولى والثانية والثالثة.

خلل الرضا بالواقع

خلل الرضا بالواقع من التصورات الخاطئة الرضا بالواقع وأنه ليس في الإمكان أحسن مما كان، وهذه النظرة القنوعية الخاطئة تجعل الواحد يستسلم ويكون سلبياً ويخمد، ولا يوجد في حياته لا تطوير ولا تحسين ولا إضافات، وهذه المسألة مدخل شيطاني، فالشيطان يوحي إليك أنه ليس بالإمكان أحسن مما كان، وأنك لا تستطيع أن تزيد في ساعات قراءاتك شيئاً، ولا في الأوقات التي تقدمها للدعوة شيئاً، ولا في الجهود التي تقدمها لإخوانك شيئاً ويقول: ليس بالإمكان أحسن مما كان، وبالتالي يبقى الشخص في مكانه لا يتقدم ولا يبذل ولا يعطي.

تضخيم الأنا والذات وسوء الظن بالآخرين والاستهانة بهم

تضخيم الأنا والذات وسوء الظن بالآخرين والاستهانة بهم وكذلك من الأمور الخاطئة تضخيم الأنا والذات، فيعمل لنفسه ولا يقدم للآخرين. كذلك قضية سوء الظن بالآخرين، والافتراء عليهم، فتجده يقول: فلان هذا ما جاء إلا وهو يريد شيئاً، أكيد إنه ما جاء لوجه الله. كذلك ينبغي على الشخص الاستفادة من كل ما هو متاح، وعدم الاستهانة به، ومن ذلك مثلاً أن بعضهم لا يسمع لشخصٍ غير مشهور، أو لا يقرأ شيئاً لشخصية مغمورة، ولو كان مفيداً؛ لأنه ليس بمشهور، أو إذا لم يكن يعطي الدرس الشيخ فلان الفلاني؛ لا أجلس في كل الحلقات الموجودة، أنا أريد شخصاً مشهوراً، وإذا جلس في درس يقول: ما سمعت شيئاً جديداً، هذا الدرس ليس فيه فائدة، فهؤلاء الشباب يفوتهم خيرٌ كثير. أولاً: لا يشترط أن الذي تسمع له يكون شخصاً مشهوراً، مادام أنه من أهل السنة والجماعة، يقول الحق فأنت تستفيد منه، حتى لو كان شخصاً غير مشهور. ثانياً: لو كانت الحلقة ليس الذي يدرس فيها عالم من العلماء، وإنما متوفر طالب علم، لماذا لا يستفاد منه؟ هل لا بد أن يكون أحد المشهورين؟! قد يبسط لك طالب العلم في أغلب الأحيان أكثر مما يبسط الشيخ الكبير. وكذلك قولهم: حضرنا ما سمعنا شيئاً جديداً، أولاً: لماذا ننسى الأجر والفضل الموجود في الدرس من حضور الملائكة ونزول الرحمة والسكينة؟ ثانياً: الاستفادة من الدروس ليست فقط في المعلومات، كان الآلاف يجلسون عند الإمام أحمد رحمه الله، بعضهم يستفيد من معلوماته، وآخرون كثر يستفيدون الأدب من الشيخ، ثم إن الإنسان قد يحضر ويفيد، قد يستدرك شيئاً فيكمل الآية ويصحح خطأً، ومشاركته في الدرس تسبب فاعلية للآخرين، انظر إلى الأدوار التي يقوم بها المخلصون يمكن أنه يجلس وهو يعلم أنه لن يسمع شيئاً جديداً، لكن حضوره تشجيعٌ لغيره، فهو يحضر لتشجيع الآخرين، هذا الرجل رجل عظيم ومخلص، ما يقول: أنا لا أستفيد شيئاً لماذا أحضر الدروس. ثم إنه ينبغي النظر إلى مسألة أخرى: أين يذهب إذا لم يحضر الدرس؟ أي: هل سيقرأ هو في كتابٍ مستواه متقدم في وقت الدرس، أم أنه سيذهب يتجول في الشوارع والمحلات والأسواق، فلو كان عنده شيء مهم أو أكثر فائدة لقلنا: معه عذره، لكن في كثير من الأحيان لا تجد هؤلاء الذين يستهينون بالدروس الموجودة ينطلقون إلى مجالات أرحب وأوسع أو إلى مستويات أعلى، وإنما تضيع أوقاتهم.

النظر إلى الآخرين بعين الازدراء والنقص

النظر إلى الآخرين بعين الازدراء والنقص ومن الأمور التي تسبب انحرافات في التعامل: النظر إلى الآخرين بعين الازدراء والنقص، لقد تقدم شيءٌ من هذا لكنه في الحقيقة راجع إلى عجب في النفس، وهذا العجب هو الذي يدفع الشخص إلى احتقار الآخرين وعدم إنزال الناس منازلهم، وعدم توقير الكبير، وربما يكون غروراً: فهذا طبيب جاءه رجلان شاب وشايب في العيادة، جلس الشاب واضعاً رجلاً على رجل، والطبيب يقول: من المريض؟ فهذا الشاب يشير ويقول: عندك انظر إلى هذا الشايب. ثم إنه لا يساعد أباه في الجلوس على سرير الطبيب، ويترك ذلك للممرضة أو للطبيب وهو جالس متضجر من جلوسه، ويحس بشيء من الكره لهذا الشايب؛ لأنه حرمه من مرافقة أصحابه، وأرغمه أن يأتي به إلى المستشفى، بل ربما لا يذهب به أصلاً ويقول للسائق: اذهب أنت بأبي إلى المستشفى، هذا من القطيعة الموجودة، وربما لا يدري أن أباه مريض أصلاً؛ لأنه لا يوجد هناك ترابط فهذا يدخل إلى الدور السفلي، وهذا يصعد إلى الدور العلوي، هذا يدخل من باب وهذا يدخل من باب آخر، هذا يتغدى في المجلس وهذا يتغدى في الغرفة الداخلية، لا توجد صلات حتى في العائلة الواحدة ولا يعلم بعضهم بأحوال بعض، لقد وصلنا إلى هذه الدرجة، وسبب ذلك ضعف صلة الرحم، وضعف بر الوالدين، وضعف الاهتمام بالمسلمين، وأحياناً يكون فيها شيء من الكبر والترفع، وهو سيئول في النهاية إلى ما آل إليه هذا الشيخ الكبير في السن.

تصور أن ما يصلح لهم يصلح لنا

تصور أن ما يصلح لهم يصلح لنا ومن الأخطاء أيضاً: أن الإنسان يتصور أن كل ما صلح في مكان يصلح أن يطبق في مكان آخر، وأن التجربة الفلانية يصلح أن تطبق في المكان الفلاني، ولو كان هناك اختلاف جذري بين المكانين أو الشخصين، يعني: تعميم التجربة والحدث بغض النظر عن الملابسات والظروف، ولذلك أحياناً تنقل خبرات وتجارب من مكان إلى مكان فتكون مضحكة، مثلاً: لو أن واحداً الآن ذهب إلى البادية وبنى فيها مطعماً وجعل فيه همبرجر، هل يصلح أن يجعل هذا المطعم في هذا المكان؟ فكذلك نرى أحياناً من التشبه بالكفار أن ننقل تجاربهم أو أشياءهم بالدقة والتفصيل إلى أماكننا، ولذلك تجد أحياناً بعض الحمامات فيها أماكن للبول واقفاً بدون ساتر، وبعض الحمامات والمراحيض ليس فيها ماء يستنجى به بعد قضاء الحاجة، لو أن الإنسان أراد أن يبني بيتاً، فإسلامه يفرض عليه أن يبني البيت بطريقة تختلف عما يبني به الكافر، فالكفار يبنون صالات مفتوحة لأنهم مختلطون أصلاً، وبعض تصميمات بيوت المسلمين الآن فيها هذا، حتى رأيت بنفسي في بعض البيوت نفس تصميم الباص، ماذا يتعاطون فيه؟ الله أعلم، لكن التصميم نفس تصميم الباص. كذلك المسلم إذا صمم بيتاً يجعل المرحاض إلى غير جهة القبلة إذا كان يسكن في هذه المنطقة، يجعله (شمال جنوبي) لا يجعل مكان الجلوس لقضاء الحاجة (شرقي غربي) حتى لا يستقبل القبلة، ولا يستدبرها لبول ولا غائط، ويهتم بالفصل بين أماكن الرجال وأماكن النساء على سبيل المثال، ولو أراد أن يبني مجمعاً قبل أن يبني مسبحاً أو صالة -كما يوجد في بعض المجمعات- يبني مسجداً، على أية حال المسألة تستحب هذه، فكثير من القضايا الموجودة في الواقع في حياة الناس مبنية على خللٍ في هذه المسألة وهي قضية التشبه، أو تعميم التجربة وأن ما يصلح لهم يصلح لنا، وهكذا.

قصر الإسلام في بعض الشعائر التعبدية

قصر الإسلام في بعض الشعائر التعبدية وينبغي أيها الإخوة أن تكون نفوسنا طيبة وأن نكون من أصحاب الأريحية والكرم والسخاء وجودة الطباع، وأن نكون لينين هينين؛ حتى يقبلنا الناس ويعم التآلف والتلاحم في المجتمع، وهذه المسألة تعقيب على خلل أحياناً يوجد عند بعض الناس يتعلق بقصر الشعائر في الإسلام في بعض الشعائر التعبدية وهي أنهم يقولون: ما للدين والأخلاق والذوق والأدب، كأن الدين ليس فيه أخلاق ولا ذوق ولا أدب. إن النبي صلى الله عليه وسلم علمنا كما جاء في صحيح مسلم في استخراج نوى التمر إذا أكله أنه كان عليه الصلاة والسلام يلقيه على ظهر كفه الأيسر أو بين أصبعيه، ولا يأخذه بيمينه، فيجعل التمر مع النوى أو يخلط نوى التمر الخارج من فيه بالتمر الذي يأكله الآخرون؛ حتى لا يسبب ذلك تقززاً ممن يأنف مثل هذه الأشياء. إذاً: الإسلام فيه ذوق وآداب وفيه أخلاق، وفي بعض أسواق المسلمين القديمة، كان التاجر في السابق إذا فتح محله في الصباح فجاء رجل يشتري منه ثم جاءه رجل ثان يقول: اذهب إلى جاري التاجر الثاني، أنا استفتحت، اذهب فاشتر منه هو، أين هذه الأشياء الآن؟ صار الناس الآن يبيع الرجل على بيع أخيه، يسوم على سوم أخيه، يشتري على شراء أخيه، ويناديه من بعيد يقول: تعال أعطيك بأقل، وهكذا ويكذبون ويغشون. فإذاً: تصور أن الإسلام فقط عبادات وصلوات وزكوات وصيام وأنه ليس فيه ذوق ولا أخلاق ولا آداب؛ هذا ما يجعل بعض الناس عندهم جفاء الأعراب، حتى بعض المتدينين عندهم جفاء الأعراب، خشونة، وغلظة، وقسوة، وقلة أدب، وعدم احترام الكبير ورحمة الصغير، وهذه مسائل ينبغي أن توسع فيها المدارك، وندرك عظمة شريعة الله، ونلم بما نستطيع الإلمام به من جوانب هذا الدين؛ هذا الدين عظيم جداً ويكفي أننا نأخذ منه بما نطيق، ونسأل الله أن يغفر ويتجاوز عن الباقي، والكلام في هذا يطول، وهناك أمور أخرى من الأخطاء والتصورات، لكن حتى لا نأخذ كل الوقت، فنبقي شيئاً للأسئلة. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يسامحنا وأن يعفو عنا، وأن يغفر زلاتنا، وأن يرزقنا الجنة ويعيذنا من النار، ونسأله سبحانه وتعالى العفو والعافية في الدنيا والآخرة، إنه سميع قريب مجيب.

الأسئلة

الأسئلة

الوقوع في بعض المحرمات

الوقوع في بعض المحرمات Q بعض الشباب يقولون: نحن نحاول التمسك بدين الله سبحانه وتعالى ونشتغل بالدعوة وطلب العلم والقيام بالنوافل ومصاحبة الصالحين، ولكن عندنا مشكلة في الشهوة المحرمة من النظر إلى المحرمات في الأفلام والمجلات والنساء في الأسواق، وما يترتب على ذلك من الوقوع في بعض المحرمات؟ A الشاب لا يقدر تسلط هذه الشهوة المركوزة في نفسه، وهذه من حكمة الله، لو لم يفعل هذه الشهوة؛ ما صار هناك زواج ولا تناسل الناس، فمن حكمة الله أنه ركب الشهوة في الإنسان، والشهوة ليست شراً محضاً أبداً، لكنها إذا صرفت في غير طريقها الشرعي صارت شراً، وقد سبق أن ذكرت بعض الوسائل التي تقي الشاب أو الإنسان من الوقوع في الشهوة المحرمة بعنوان "عوائق في طريق المعصية" أو "حواجز في طريق المعصية" ومن هذه الأمور: أن الشاب إذا أراد أن يعالج موضوع الشهوة ينبغي عليه أن ينظر في المواد التي تشعلها فيخففها، والأشياء التي تقوي الإيمان فيكثر منها، فمما ينظر له في موضوع الأشياء التي تشعل الشهوة: أولاً: موضوع الأكل، الإكثار من الأكل يسبب ولا شك توقد الشهوة، فينبغي عليه أن يحجم ويقلل الأكل، وعلى رأس هذا الصيام، ولذلك نصح به النبي صلى الله عليه وسلم الشباب، وليست نصيحة عابثٍ أبداً وإنما نصيحة من وحي، والله يعلم الطبائع ويعلم ما هو مركب فيها، ويعلم ما الذي يشعل الشهوة وما الذي يطفئها، فدل على قضية التقليل من الطعام. لكن بعض الشباب الآن يقبلون على المطاعم والوجبات، ويأكلون بين كل وجبتين وجبة، وإذا نظرت إلى أسباب اشتعال الشهوة عندهم تجد عدم الاعتناء بتقليل الأكل وبقضية الصيام. ثانياً: من أسباب اشتعال الشهوة قضية النظر، كل شهوة مشتعلة لا بد أن تكون مبنية على خيال شيء مرئي نظر إليه، فاستقرت الصورة في ذهنه، فتخيلها فصار يكرر ويعاود هذا الخيال، فيقع في المحرمات، ولو أنه غض البصر؛ لاستراح، لكنه ما غض البصر، ولذلك لو أن الشاب المسلم يعود نفسه على غض البصر، لا ينظر إلى هذه الصور في المجلات وعلى الأغلفة وفي الأفلام، ولا يرى صور النساء الحقيقية التي تمشي في الشوارع وغير ذلك، وخصوصاً هذا النقاب الذي انتشر الآن الذي يظهر العينين، وفيها الكحل وأدوات الزينة ولو سفرت عن وجهها؛ لصارت أقبح مما يراها وهي مبرقعة، فأقول: إن هذا النظر من الأشياء التي تشعل الشهوة، فينبغي لمعالجة قضية الشهوة التركيز على غض البصر. ثم هناك أشياء كثيرة من ذكر الله تعالى، وتأمل عواقب المعصية الوخيمة، وأن الله ينقله من جوار السعداء إلى جوار الأشقياء، وأنه يخرج من اسم المحسنين المخبتين التائبين الذاكرين الله كثيراً إلى جوار العصاة الفسقة الذين لا يراقبون حق الله تعالى. فأقول: إن هذه الأشياء ينبغي أن يتبصر فيها الشاب حتى يعالج مسألة الشهوة عنده، ولا شك أن قضية التعجيل بالزواج مطلوبة. الآن كثير من الشباب مقبلون على الزواج، لكن العوائق المادية وبعض العادات الاجتماعية السيئة تقف عائقاً، لكن من أراد النكاح فالله يعينه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، والشاب الذي يريد العفاف هو من الثلاثة الذين حقٌ على الله عونهم.

الإخلاص في العبادة

الإخلاص في العبادة Q عن قضية الإخلاص في العبادة، هل إذا دخل عليه شخص وهو يصلي يقصر الصلاة أو يطيل الصلاة أو ماذا يفعل؟ A إذا دخل عليك شخص وأنت تصلي، فالحمد لله أنك ابتدأت صلاتك لله، إذاً أكملها لله، ولا شك أن الشيطان سيلقي في نفسك مراعاة الذي دخل أنه الآن ينظر إليك، ويصبح عندك صراع نفسي، ماذا تفعل؟ هل تفسد الصلاة وتترك أشياء كنت ستفعلها أم ماذا تفعل؟ أكمل الصلاة على ما كنت تريد أن تفعل، وقد يقتدي بك هذا الشخص فيصلي، فتكسب أجره، المهم أن تجعل نيتك لله، قاوم داعي الرياء، وأكمل النية لله، والله يعينك، ولا داعي للوسوسة أو قطع العمل؛ لأن ترك العمل من أجل الناس؛ لا شك أنه وقوع في الشرك، فلا تقصر الصلاة واستمر على ما أنت فيه.

انتكاس صديق

انتكاس صديق Q لي صديقٌ كان ملتزماً ثم فتر التزامه، فركن إلى البيت ولا يصلي مع الجماعة في المسجد، ويشاهد المنكرات. ما هو التوجيه؟ A مرت موجة من انتكاسات الشباب، كانت موجة لا يستهان بها، كما مرت موجة صحوة والتزام للشباب عالٍ والحمد لله، ويبقى ولله الحمد والمنة أن عدد المنتكسين أقل بكثير من عدد المهتدين الجدد، وهذا دال على أن هذا دين الحق، وأنه إذا دخل؛ فإنه يشع فيه النور والإيمان واليقين والحمد لله. لكن ظهرت عندنا أنواع من الالتزام -إن صح التعبير- خطيرة، صار عندنا التزام بارد، يعني لا يريد أن يضحي بشيء، الشيء الذي لا يكلفه يفعله مثل: اللحية والثوب، أما الشيء الذي فيه مقاومة نفس، مقاومة شهوة، قيام لصلاة الفجر، مقاومة نوم، لا يفعل ذلك، فهذا التزام ناقص وبارد، والتزام مؤقت لوقتٍ دون آخر، فتجده في العطلة في مكان فسق، وإذا رجع إلى البلد التزم وأظهر الدين وصار مع الجماعة، وإذا ابتعد عن إخوانه فعل ما فعل، وإذا عاد إليهم رجع مرة أخرى. فينبغي أن نفهم القضية والأشياء الطارئة التي تطرأ الآن مثل ترك الشباب للالتزام لداعي الخوف والجبن الذي حصل عند بعضهم، فينبغي أن يعودوا إلى الله ويصدقوا معه، ولا يخافوا إلا منه سبحانه وتعالى، وإلا فإن مشهد يوم القيامة مشهد عظيم والفزع يوم الفزع الأكبر.

علاج الاستهزاء بالناس

علاج الاستهزاء بالناس Q ما هو الحل في الاستهزاء بالناس؟ A الاستهزاء بالناس وليد العجب، ولا بد لمعالجة العجب من أشياء: أولاً: أن تنظر في الشيء الذي أنت معجبٌ فيه من نفسك، إذا كنت صادقاً من الذي أعطاك إياه؟ أنت معجب بحفظك، أو بذكائك، أو بقدرتك على الخطابة، من الذي أعطاك الموهبة؟ إنه الله، إذاً أنت لم تكتسبها بيدك وعرق جبينك، وإنما الله هو الذي أعطاك الموهبة، فاشكره بدلاً من أن تتكبر على خلقه. ثانياً: انظر في الأشياء التي عندك من الميزات، وتأمل في أحوال الذين يفوقونك تجد أنهم كثر، وأن عندهم أضعاف أضعاف ما عندك، مهما كان عندك من الحفظ، اقرأ سيرة البخاري لتعرف ضعفك بالنسبة للبخاري في الحفظ، ومهما كان عندك من مجهود في الدعوة؛ فاقرأ في سيرة مصعب بن عمير وأنه ليس عندك عشر معشار ما بذله للدعوة، وإذا كان عندك ذكاء؛ فانظر في ذكاء شيخ الإسلام ابن تيمية وذكاء الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد والأئمة رحمهم الله لترى أنه ما عندك عشر معشار ما عندهم فقد كانوا أذكياء للغاية. إذاً: إذا تأملت الذي فاقوك؛ هانت عليك نفسك، ثم انظر إلى هذا المسكين الذي تحتقره، أليس قد يكون عند الله أفضل منك وأعلى منك قدراً؟ وأن هناك من عباد الله من هو تقي نقي خفي مدفوع بالأبواب ذي طمرين لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبره، وأنت لو أقسمت على الله عشرين مرة؛ ما أعطاك وما أنفذ لك ما تريد، عند ذلك تترك الاستهزاء بالناس، ثم إن الإنسان إذا وقع في استهزاء فعليه: أولاً: ينبغي أن يعتذر إلى الله ويتوب. ثانياً: يعتذر إلى الذي استهزأ به قبل أن يكون يومٌ لا دينار فيه ولا درهم.

نصيحة والد زوجتي

نصيحة والد زوجتي Q والد زوجتي رجل يقارب الستين، وهو لا يصلي كما أنه وضع الدش في منزله، وكنت أقلل من زيارتي لمنزله، وإذا حضر أبتعد عن مناقشته نظراً لكبر سنه بالمقارنة بعمري وألاقي إحراجاً، هل علي إثمٌ في ذلك؟ A طبعاً الواجب عليك النصيحة، لكن إذا نصحت واستغرقت في الجهد وما وجدت فائدة، بل وجدت أذىً لا تطيقه، أو ضياع وقت في النقاشات والأشياء التي تقسي القلب، فعند ذلك تكون قد أقمت الحجة عليه، وأديت ما عليك والحمد لله، لكن الإنسان بين الفينة والفينة والمدة والمدة يتعاهدهم بالنصيحة ويتخولهم بها، وليس في كل زيارة ينكر عليه، يمكن بعد زيارتين أو أكثر يقوم فيها بواجب النصيحة، مرة باللين ومرة بالتخويف ومرة بالترهيب ومرة بالترغيب، ومرة بقصة، ومرة بحدث، ومرة بآية ومرة بحديث، وهكذا من الأشياء التي فيها تنويع في الأسلوب، ثم يدعو له الله عز وجل أن يهديه.

شاب ملتزم تزوج من فتاة غير ملتزمة

شاب ملتزم تزوج من فتاة غير ملتزمة Q يقول شاب: تزوجت من فتاة غير ملتزمة، ورضيت بي كزوجٍ لها، فبماذا تنصحني؟ A غريب أنها رضيت بك، المفروض أنك تقول: رضيت بها، لأن الأعلى يرضى بالأدنى، فكونها رضيت بك؛ فليست نعمة تحسد عليها، لكن أنت الآن كيف رضيت بها؟ فناقش نفسك، على أية حال ما دام قد حصل ما حصل، فإن الناس تصرفاتهم تختلف، وردة الفعل تختلف، بعضهم إذا كان رأى أن الفتاة غير ملتزمة أسرع إلى طلاقها، وليس الوقت مناسباً أن يفعل هذا خصوصاً وقد دخل بها، وربما حملت منه، وطلاقها فيه إيذاءٌ لها، وفيه أيضاً تكليفٌ له بمهرٍ جديد مع ما يدفعه من مهرها الذي خسره عليها، وقد يكون هناك مؤخر صداقه يجب دفعه، أي أن هناك اعتبارات تجعل قرار الطلاق ليس قراراً سهلاً، ولذلك ينبغي أن يحاول استصلاحها ما أمكن، ويصبر عليها وعلى أذاها، فربما يجعل الله هدايتها على يده. وكذلك هي لو أنها تزوجت من شابٍ غير ملتزم، وهذا كثير، ثم تقول: عرفت أنه يستعمل مخدرات، يشرب الخمر، يسافر إلى الخارج، يعمل الفاحشة ويأتي معه بصورة، واكتشفت أن له علاقات، وأنه يكلم بناتاً في الهاتف، واكتشفت أنه لا يصلي الفجر، واكتشفت واكتشفت، فنقول: أين السؤال عن الزوج من البداية؟ أين التحري؟ لماذا قصرتم وأهملتم هي وأولياؤها؟ بالذات الولي عليه مسئولية أكبر، فالمرأة ما عندها استطاعة أن تذهب وتسأل وتتحرى مثل الرجل، فقد يجرم الولي في حق وليته جرماً عظيماً بترك التحري والسؤال، فنقول: هذا ما دام قد حصل نقول: هل زوجك مسلم يصلي ليس عنده مكفرات؟ إذا قالت: نعم، قلنا: اصبري عليه عل الله أن يهديه، اصبري على ظلمه، اصبري على سيرته هذه عل الله أن يهديه، ما لم يتعد الأمر إليك، ويسبب ضعفاً في دينك بحيث إنك تقعين في المعاصي، فعند ذلك لا يجوز لك البقاء على هذا الحال، أما إن تحصنتي بالله وكان لديك قدرة على المهاجمة والمقاومة، ولديك قدرة على النصيحة، فعند ذلك من الإحسان إليه وهو زوج أن تستمري في محاولة النصح له، وقد عرفنا شباباً تابوا إلى الله على أيدي زوجاتهم، وهناك أيضاً فتيات تبن إلى الله على أيدي أزواجهن، ويوجد شباب أصروا على الفسق بعد الزواج، وشابات كذلك أصررن على الفسق بعد الزواج، ويوجد شباب انتكسوا بعد الزواج وكانوا من قبل مستقيمين على شرع الله، وطبعاً المسألة يأتي فيها تدرج وتوسع في المباحات، فتجد تغيير الأثاث والاهتمام والمزهريات والنجف والنقوشات وإضاعة الأموال فيها، ثم بعد ذلك يقول: نسافر للسياحة ونذهب إلى تركيا فإن فيها مسلمين، وتتوسع المسألة شيئاً فشيئاً ويبدأ يشاهد المناظر ويقول: أشاهد الأخبار على الشاشة، ثم يشاهد ما قبلها وما بعدها، وبعض البرامج التي فيها أشياء علمية وموسيقية، وبعد ذلك يتوسع في الأشياء شيئاً فشيئاً، وينوع من صداقاته وعلاقاته، حتى يخالط أناساً من غير أهل الدين مخالطة ضارة، ويبدأ عليه الانحراف والتغيب وترك صلاة الفجر وهي أول الصلوات تركاً وبعدها صلاة العصر، وهما البردان اللذان من صلاهما دخل الجنة، وهكذا تقاسي معه المسكينة، وتعتصم أو يقاسي هو معها، فلذلك أيها الإخوة لا بد أن ينشغل الإنسان بتربية نفسه، وإلا فإنه سيضيع، وليس الزواج دائماً يكون خيراً للإنسان إذا لم يتحصن بتقوى الله تعالى. ثم الانزلاق في مجاراة العادات الاجتماعية، أحياناً يكون الشاب في السكن الجامعي مع إخوانه الشباب عنده طريقة معينة لا يخرج عنها، لا يرى محرماً، لا يدخل مع أشخاص في منكرات، ولا يجلس مجالس منكرة، وبعد الزواج تجده لا بد أن يذهب إلى بيت أهلها، وتذهب هي إلى بيت أهله، وتنشأ علاقات، وإذا دخل ضاع نصيبه في بيتٍ غير متدين، يذهب إليهم ولا بد أن يتعرض إلى منكرات، وخالها يعزمه وعمها يعزمه، وعمتها تعزمه، وعمه يعزمها ويعزمهم، وهكذا، فالمسألة تدخل في أشياء، مع أن صلة الرحم واجبة ولا ينبغي قطعهم أبداً، لكن تبدأ تدخل في حياة الشاب أنماط وأشياء اجتماعية فيها منكرات لم تكن معهودة، مما يسبب ضعفاً بدلاً من استمرار المقاومة، وانتقال الدعوة من مجال زملائه الطلاب إلى مجالٍ أرحب أيضاً؛ فبالإضافة إلى الشباب أيضاً يدعو كبار السن والنساء بالطريقة الشرعية طبعاً، كذلك الرجال وأطفال العائلة الأخرى مثل إخوان زوجتك لهم حقٌ عليك أيضاً في التدريس والنصيحة وتحفيظ القرآن، والدلالة على مسجد فيه تحفيظ قرآن أو وسط طيب، أو مكتبة إسلامية تتعهدهم. هناك أناس لما تزوجوا؛ نشروا الدين في البيت الآخر، وهناك أناس تأثروا سلباً من البيت الآخر.

ظاهرة لبس العباءة على الكتف

ظاهرة لبس العباءة على الكتف Q الظاهرة الشائعة بين النساء لبس العباءة على الكتف؟ A أيتها الأخت المسلمة! الله يقول: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59] وإدناء الجلباب كما ذكر العلماء أنه يكون من الأعلى إلى الأسفل، أي من الرأس يكون إدناء الجلباب، فإذاً لبس الكاب هذا، وجعل الخمار المشدود عليه الذي يجسم حجم الرأس وحجم الكتفين لا يجوز، وهذا الكاب أنا أعتبره من المصائب التي ابتلينا بها؛ لأنه بتفصيله المنتشر -قد يكون له تفصيلات أخرى شرعية- فيه إخلال بالحجاب الذي أمر الله به، فلو كانت مثلاً تلبس شيئاً واسعاً ليس له أكمام ضيقة ولا هو ضيق في وسطه، وتلبس عليه خماراً مثلما تلبس بعض المسلمات في بعض البلدان، طويل إلى منتصف الظهر، وخمار فضفاض ليس مشدوداً على الرأس شداً، لقلنا: ما يهمنا شكل الزي المهم أن تتوفر فيه شروط الحجاب وهي: أن يكون فضفاضاً غير ضيق. أن يكون سميكاً غير شفاف. أن يكون طويلاً غير قصير. ألا يكون مطيباً ولا مبخراً، ولا يكون زينة في نفسه، ولا يشبه لباس الرجال، ولا يشبه لباس الكافرات، وهذه الصفات التي يستجمعها حجاب المرأة، وما يهمنا بعد ذلك ما اسم الحجاب الذي ترتديه، المهم أن تنطبق عليه الشروط، ثم بعض الرجال مع الأسف ليس عندهم غيرة ولا عندهم العفة المطلوبة، ولذلك تلبس زوجته ما شاءت، وتجده والله أحياناً بلحيته يمشي معها في السوق، حجابها سيئ وهو ماشٍ بجانبها، يعني: هذا الدين الذي ظهرت عليك آثاره ما تعدى نصف متر إلى التي تمشي بجانبك، لماذا؟! {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6] أختك أمك خالتك ابنتك أين المسئولية أمام الله سبحانه وتعالى؟ وختاماً: أيها الإخوة نسأل الله عز وجل أن يثيبنا جميعاً وأن يرحمنا جميعاً في هذا المجلس، وألا يفرق جمعنا إلا بذنبٍ مغفورٍ وعمل مبرور، ونسأله أن يجمعنا وإياكم في جنات النعيم، وأن يجعلنا إخواناً على سررٍ متقابلين، وألا يجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا وأن يجعل صدورنا سليمة لإخواننا ومشايخنا وعلمائنا، وزملائنا من المسلمين من أهل السنة أجمعين. وأشكركم على حضوركم وإنصاتكم، وأعتذر عن الإطالة عليكم، وأسأل الله أن يجمعنا في المستقبل على خيرٍ وطاعةٍ وعافية، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

تصفية النفوس من الأحقاد

تصفية النفوس من الأحقاد تحدث الشيخ حفظه الله عن عظم خطر الحقد سواء على المجتمعات أو الأفراد فيما بينهم، واستعرض في ثنايا الدرس أمثلة للصحابة وغيرهم تتخذ قدوة لكل من أراد أن يرى كيف كان هؤلاء يصفحون عن غرمائهم، ثم ذكر العلاج الذي به يقضى على هذه الظاهرة التي وصفها الرسول صلى الله عليه وسلم بالحالقة؛ لعظم ما تقوم به من فت في جسم الأمة.

خطر آفة الحقد على المجتمعات

خطر آفة الحقد على المجتمعات اللهم صلِّ على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم لك الحمد بالإيمان، ولك الحمد بالقرآن، ولك الحمد حتى ترضى؛ سبحانك لا إله إلا أنت، اللهم طهر قلوبنا من النفاق والغل والحقد والحسد يا رب العالمين، واجعلنا ممن يأتيك يوم القيامة بقلب سليم. إخواني! إن هناك كثيراً من الآداب المفقودة بين المسلمين، وهذه الآداب المفقودة تسبب أنواعاً من الوقوع في الإثم والعدوان، وكثيراً من الناس يستهينون بباب الأخلاق والآداب؛ مع أن باب الأخلاق والآداب من الأمور العظيمة التي هي من مزايا هذه الشريعة ومن محاسنها، وبعض الناس يهتمون بأمور المعتقد والفقه والعلم، وينسون أن هذا الدين لا بد أن يكون المسلم فيه متخلقاً بأخلاق الإسلام متأدباً بآداب الشريعة. ومن مآسينا في هذا الزمان، وفي ظل دائرة الابتعاد عن الإسلام يوجد هناك كثير من النقص والعيب، ومن ضمنه هذه الأمور المفقودة في باب الأخلاق والآداب، وهذا باب واسع جداً، وسنتكلم إن شاء الله في هذه الليلة عن واحد من هذه الأشياء التي هي مفقودة عند الكثيرين، أو موجود ضدها عند الكثيرين، ونبين إن شاء الله موقف الإسلام من هذه القضية، وكيف ينبغي على المسلم أن يفعل تجاه هذا المرض، وعنوان درسنا لهذه الليلة: تصفية النفوس من الأحقاد. الحقد مرض خطير ومتفش في هذا الزمان، وكثير من الناس يحقدون على بعضهم البعض، والحقد بين المسلمين كما ذكرنا من مآسينا في هذا العصر.

معنى الحقد وما ينبني عليه

معنى الحقد وما ينبني عليه الحقد من معانيه الضِّغْنُ والانطواء على البغضاء، وإمساك العداوة في القلب والتربص لفرصتها، أو سوء الظن في القلب على الخلائق؛ لأجل العداوة أو طلب الانتقام، والغضب إذا لزم كظمه لعجز عن التشفي فوراً رجع إلى الباطل، واحتقن في النفس فصار حقداً. والحقد من مرادفاته: الضغينة، والغل، والشحناء، والبغضاء وغيرها. وموضوع الحقد موضوع خطير جداً؛ لأنه يودي إلى مهالك، الحقد قد يتداخل مع الحسد والغضب، ولكن هناك اختلاف، فالحقد رذيلة بين رذيلتين؛ لأنه ثمرة الغضب، أي: يتولد من الغضب، وهو يثمر الحسد ويؤدي إليه، فاجتمع في الحقد أطراف الشر. والحقد حين تحليله أيها الإخوة يتبين من عناصره ما يلي: أولاً: الكراهية الشديدة والبغض العنيف. وثانياً: الرغبة في الانتقام وإنزال السوء بمن يكرهه الحاقد. وثالثاً: تخزين العنصرين السابقين في قرارة النفس، وتغذيتهما بالأوهام والتصورات والاسترجاعات المختلفة للمشاهد، مع مثيرات جديدة للكراهية والرغبة في الانتقام. تتفاعل هذه كلها تفاعلاً يأكل نفس الحاقد من الداخل، وتتغلغل هذه الدوافع في النفس تغلغلاً يسبب التآكل الداخلي والانهيار في النهاية في نفس الحاقد. ولكي نبين كيف يتولد الحقد من الغضب، نقول: إنك قد تغضب على إنسان، أو إن الشخص قد يغضب على أخيه، أو على إنسان فيريد الانتقام منه، فإذا لم يستطع أن ينتقم منه ليشفي غيظ قلبه ويثأر لنفسه، ولم يستطع أيضاً أن يصفح عنه ويسامحه؛ لأنه لا يقدر على ذلك ماذا يحدث؟

آثار الحقد على الحاقد والمحقود عليه

آثار الحقد على الحاقد والمحقود عليه تتخزن هذه الطاقة الكريهة في النفس، ويحتقن هذا الحقد في النفس، ويظل دفيناً يتحرك ويشتعل داخلياً كلما رأيت الإنسان الذي تحقد عليه، وكلما ذكر اسمه على مسمعك، أو تذكرت شيئاً من أفعاله وأقواله، أو مشهداً من المشاهد التي حصلت فيها لهذا الشخص مواقف معك، فيتفاعل عندك هذا الخلق (الحقد). والمسألة باختصار: اختزان وإمساك العداوة والبغض في القلب واستمرار تفاعلها. وهذا المرض له آثار مدمرة على نفس الحاقد؛ لأنه يشغل القلب ويتعب الأعصاب، ويقلق البال، ويقض المضجع، وقد تظلم الدنيا في وجه الحاقد وتضيق به على سعتها، وتتغير معاملته حتى لأهله وأولاده؛ لأن الحقد يضغط عليه من كل جانب، وقد تتسع دائرة الحقد لتشمل الأبرياء كما لو كرهت امرأة زوجها لإهانته وشتمه لها وتعذيبها فقد تكره جميع الرجال، أو يظلم والد ولده ويذيقه ألوان العذاب ويقسو عليه ويحرمه ألوان العطف والحنان، فيكره الولد كل الآباء وهكذا. والحقد في الغالب يكون بين الأقران، ولذلك فالضرة تحقد على ضرتها، والفقير يحقد على الغني، وكل من سلب نعمة يحقد على من أنعم الله عليه بها وهكذا، وكل صاحب رئاسة يحقد على من ينازعه الرئاسة، وكل إنسان يحقد على من يتفوق عليه بشيء. وإذا كان للحاقد سلطة أو قوة فإنه يسعى للانتقام من كل من يظن أنه عدو له، والحاقد فيه شبه من الكفار الذين قال الله فيهم: {وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران:119] تأمل هذه الصورة الكريهة الشنيعة التي ذكرت في القرآن: {وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ} [آل عمران:119] أي: أن هذا الحاقد المغتاظ يعض أنامله على من يحقد عليه. الحقد داء دفين ليس يحمله إلا جهول مليء النفس بالعلل مالي وللحقد يشقيني وأحمله إني إذاً لغبي فاقد الحيل سلامة الصدر أهنا لي وأرحب لي ومركب المجد أحلى لي من الزلل إن نمت نمت قرير العين ناعمها وإن صحوت فوجه السعد يبسم لي وأمتطي لمراقي الجد مركبتي لا حقد يوهن من سعيي ومن عملي فهذا التبرؤ أو هذا الشفاء من الحقد نعمة من الله سبحانه وتعالى، وليس أهنأ للمرء في الحقيقة ولا أطرد لهمومه ولا أقر لعينه من أن يعيش سليم القلب بريئاً من وساوس الضغينة وثوران الأحقاد، ومستريحاً من نزعات الحقد الأعمى، فإن فساد القلب بالضغائن داء عياء، وما أسرع أن يتسرب الإيمان من القلب المغشوش كما يتسرب الماء من الإناء المثلوم.

حكم الحقد في الشريعة

حكم الحقد في الشريعة أما حكم الحقد في الشريعة فإليكموه من هذه النصوص الشرعية: قال البخاري رحمه الله تعالى في الأدب المفرد: باب الشحناء، والشحناء: هي العداوة إذا امتلأت منها النفس والبغض والحقد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخوانا) وهذا الحديث مشهور موجود في الصحيحين وغيرهما، والشاهد منه قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تباغضوا) وهذا النهي للتحريم، لا يجوز لك وحرام عليك أن تبغض أخاك المسلم. قال ابن رجب رحمه الله في شرح هذه اللفظة: (لا تباغضوا) نهى المسلمين عن التباغض بينهم في غير الله تعالى بل على أهواء النفوس، فإن المسلمين جعلهم الله إخوة، والإخوة يتحابون بينهم ولا يتباغضون. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم: أفشوا السلام بينكم). وقد حرم الله على المؤمنين ما يوقع بينهم العداوة والبغضاء كما قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة:91] وامتن على عباده بالتأليف بين قلوبهم كما قال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانا} [آل عمران:103] ولهذا المعنى حرم المشي بالنميمة، أي: لما فيها من إيقاع العداوة والبغضاء، وكذلك رخصت الشريعة في الكذب في الإصلاح بين الناس، لدفع الحقد والبغضاء وإزالتها من القلوب. قال ابن رجب: ورخص في الكذب في الإصلاح بين الناس، ورغب الله في الإصلاح بينهم كما قال تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:114] ما أعظم الأجر الإصلاح بين الناس، اكذب لكي تزيل الضغينة والبغضاء من القلوب، قل: لم يقل فيك كذا، أنا كنت حاضراً وما ذكر هذه الكلمة، اكذب فإن الكذب هنا حلال. كل ذلك من أجل أن تلتئم قلوب المؤمنين، وأن تتصافى النفوس، وأن يكون المجتمع متآخياً مترابطاً على هدي هذه الشريعة.

عناية الإسلام بإزالة الضغائن من القلوب

عناية الإسلام بإزالة الضغائن من القلوب والإسلام يتعاهد النفوس ليغسلها من أدران الحقد يومياً وأسبوعياً وفي كل عام، أما بالنسبة ليومياً فهناك حديث نذكره هنا مع اختلاف العلماء في صحته لنستشهد به في هذا الباب، وهذا الباب على أية حال ليس من أبواب الاعتقاد ولا الحلال والحرام، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ثلاثة لا ترفع صلاتهم فوق رءوسهم شبراً: رجل أمَّ قوماً وهم له كارهون، وامرأة باتت وزجها عليها ساخط، وأخوان متصارمان) متقاطعان متدابران متهاجران متفارقان متكارهان، رواه ابن ماجة وابن حبان في صحيحه، قال البوصيري في الزوائد: هذا إسناده صحيح ورجاله ثقات، وقال العلامة الألباني: فيه عبيدة، قال ابن حبان في الثقات: يعتبر حديثه إذا بين السماع وهو لم يبين السماع، فهذه العلة التي ذكرها، والشاهد من الحديث: قوله: (أخوان متصارمان) لا ترفع صلاتهم فوق رءوسهم شبراً. أما بالنسبة لأسبوعياً: قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: (تعرض أعمال العباد في كل جمعة مرتين، يوم الإثنين ويوم الخميس، فيغفر لكل عبد مؤمن إلا عبداً بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: اتركوا هذين حتى يفيئا) والآن تصور معي، في كل أسبوع تعرض الأعمال على الله، يغفر الله للمؤمنين إلا من بينه وبين أخيه شحناء فلا مغفرة، لهما، للشحناء. وفي رواية أيضاً لـ مسلم: (تفتح أبواب الجنة يوم الإثنين والخميس، فيغفر فيها لكل عبد لا يشرك بالله شيئاً إلا رجل كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقال: أَنِظروا هذين حتى يصطلحا) فكم يفوته من الأجر العظيم كل أسبوع مرتين! يومان في الأسبوع الإثنين والخميس، يقال: (أنظروا هذين حتى يصطلحا) لا مغفرة لهذين حتى يصطلحا، حتى يفيئا. إذاً: لا يجوز لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث. وبالنسبة للشيء السنوي لموضوع الأحقاد، لاحظ معي الحديث: (إذا كان ليلة النصف من شعبان اطلع الله إلى خلقه فيغفر للمؤمنين ويملي للكافرين، ويدع أهل الحقد بحقدهم حتى يدعوه) ويدع أهل الحقد بحقدهم لا مغفرة لهم حتى يدعوا الحقد، وحتى يخرجوا البغضاء من قلوبهم، حتى يتصافوا ويكونوا إخواناً كما أمر الله، وفي رواية: (فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن) المشرك ليس له مغفرة، والمشاحن ليس له مغفرة، تباً لهم على ما حرموا من هذا الخير العظيم وهذه المغفرة العظيمة بسبب الحقد والشحناء. هذا في الأسبوع يومان وكل سنة، فقضية الأحقاد موقوف أصحابها عند رب العالمين، لا مغفرة لهم، فالمسألة جادة أيها الإخوة.

أثر تفشي الحقد على المجتمع

أثر تفشي الحقد على المجتمع قال النبي صلى الله عليه وسلم مبيناً خطورة الحقد أيضاً: (ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ إصلاح ذات البين) لأن الصيام والصلاة والصدقة عبادات عظيمة، وإصلاح ذات البين نفعه متعد منتشر، وقال: (فإن فساد ذات البين) وتفسد ذات البين بالحقد والبغضاء والشحناء، قال: (إياكم وسوء ذات البين فإنه الحالقة) وفي الرواية الأولى: (فإن فساد ذات البين هي الحالقة) ما هي الحالقة؟ التي تحلق الإيمان كما تحلق الموسى شعر الرأس. وقال أبو الدرداء: [ألا أحدثكم بما هو خير لكم من الصدقة والصيام؟ صلاح ذات البين، ألا وإن البغض هي الحالقة]. الحالقة: هي الماحية للثواب، ولذلك ورد في الرواية الأخرى: (دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء، هي الحالقة؛ حالقة الدين لا حالقة الشعر) على علة في إسناده، فحالقة الدين تحلق الدين كما تحلق الموسى الشعر، وسميت داء لأنها داء القلب، والحقد يؤدي إلى ثمانية أشياء: 1 - تمني زوال النعمة على من تحقد عليه. 2 - الشماتة به إذا أصابه البلاء. 3 - مهاجرته ومصارمته وإن طلبك. 4 - الإعراض عنه استصغاراً له. 5 - التكلم بالكذب والغيبة وإفشاء السر وهتك الستر في حقه. 6 - محاكاته استهزاءً به وسخرية منه. 7 - إيذاؤه وإيلامه بما يؤذي ويؤلم بدنه من ضرب وغيره. 8 - التمنع عن حقه من قضاء دين أو صلة رحم أو رد مظلمة، هذا كله من شؤم الحقد وما يؤدي إليه الحقد. كما جاء في دعاء مأثور: [اللهم إني أعوذ بك من خليل ماكر عيناه ترياني وقلبه يرعاني، إن رأى حسنة دفنها وإن رأى سيئة أذاعها] أما مرفوعاً فلا يصح، ولكن المعنى في هذا [الخليل الماكر عيناه ترياني وقلبه يرعاني إن رأى حسنة دفنها وإن رأى سيئة أذاعها] هذه صفات الحاقد، إذا رأى حسنة كتمها وإذا رأى سيئة نشرها. وصدور المؤمنين يا أيها المؤمنون لا محل لحقد فيها، لأن الأصل في صدورهم أنها سليمة مملوءة بالمحبة وإرادة الخير للآخرين، فلا مجال للغل فيها، وإن مرت الكراهية والبغضاء الموجودة بسبب فإنها تمر مرور عابر السبيل، لا يجد مكاناً يستقر، وهكذا العوارض الغريبة تنطرد من الوسط الذي لا يتقبلها.

نقاء قلوب الرعيل الأول

نقاء قلوب الرعيل الأول تأمل كيف أثنى الله على المهاجرين والأنصار ومن اتبعهم بإحسان قال الله عز وجل: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر:8] هذا الفيء لمن؟ للفقراء المهاجرين الذين أصابهم ما أصابهم في سبيل الله وصبروا أولئك هم الصادقون {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الحشر:9] ما هي الدار؟ المدينة، من الذي تبوأها قبل المهاجرين؟ الأنصار {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا} [الحشر:9] لا يجد الأنصار في صدورهم حقداً ولا حسداً على المهاجرين من الفضل الذي أوتيه المهاجرون، فإن المهاجرين أفضل، لكن الأنصار ما حسدوهم على هذه الأفضلية: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9] والذين جاءوا من بعدهم وساروا على هديهم، الذين جاءوا من بعدهم هم التابعون بإحسان: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ} [الحشر:10] وهنا يأتي الشاهد الآن: {وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر:10] هذا من دعاء التابعين بإحسان، نسأل الله أن يجعلنا منهم (وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر:10] لا تجعل في قلوبنا بغضاء ولا حقداً ولا حسداً ولا غلاً للذين آمنوا: {رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10].

علو أخلاق الأنبياء

علو أخلاق الأنبياء ولقد ضرب يوسف عليه السلام مثلاً عالياً جداً في رفض الحقد من نفسه، تصور وتأمل فيما فعل مما فيه دلالة على عظم خلقه ومنزلته نبوته، لقد ظلمه إخوانه ظلماً بيناً عظيماً، حقدوا عليه فماذا فعلوا به؟ حسدوه على عظم المنزلة من أبيه، ظلموه ظلماً عظيماً، أخذوه من بين أبيه وأمه، وأغلظوا له واجتمعوا حوله في العراء لم يردعهم صغر سنه، ولا الغربة والوحشة التي سيكون فيها، ولا توصية أبيهم لهم، حرموه من أبيه وأمه وأخيه الأصغر وألقوه في غيابة الجب في ظلامته ووحدته ووحشته بلا أنيس، على شفا هلكة، يصرخ ولا يجاب، ما في قلوبهم رحمة في تلك اللحظات، وكانوا سبباً في بيعه واستعباده، صار عبداً ذليلاً وقد كان حراً عند أبيه: وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند وليس من اليسير على النفس أن تنتقل من حال الحرية إلى حال الذل والعبودية، ولكن ألقوه في غيابة الجب، وصاروا سبباً في بيعه في سوق مصر -سوق النخاسة- واشتري عبداً ذليلاً، ثم كانت هذه الغربة سبباً في ابتلائه ووقوعه في السجن؛ لأنه لما وقع في قوم لا يعرفون قدره كادوا له وسجنوه، والمسألة كلها متسلسلة؛ هذه الأذية من الأذية الأولى وهي إلقاء إخوته له في الجب، لما حسدوه حقدوا عليه وفعلوا ما فعلوا، هذه الأفعال في الشخص العادي ماذا تورث؟ المتوقع أن تورث الحقد الأسود الدفين عليهم، لكن نفس النبي تأبى هذا، والقلب الصافي لا يمكن أن يحقد، ولذلك لما قدر عليهم سامحهم، والمتوقع الآن إنزال أقصى درجات العقوبة بهؤلاء، ولكنه لما قدر عليهم قال لهم: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:92] هذه أخلاق الأنبياء. فإذاً: عندما تتوالى دواعي الحقد في نفس الإنسان ويظلم من أقرب الناس إليه، ثم لا يحقد، معناها أنه صاحب دين وإيمان. وسلامة الصدر يا عباد الله! مسألة عظيمة فضلها كبير، وإليكم بعض ما ورد من الأحاديث في مسألة سلامة الصدر: روى ابن ماجة من حديث عبد الله بن عمرو قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (أي الناس أفضل؟ قال: كل مخموم القلب) مخموم القلب: يقال: خممت الشيء إذا كنسته، وخممت البيت إذا كنسته، مخموم القلب أي أنه يزيل ما علق بقلبه أول بأول، مثلما تكنس البيت وتزيل ما به من النجاسات والقاذورات. (كل مخموم القلب، صدوق اللسان، قالوا: صدوق اللسان نعرفه فما مخموم القلب؟ قال: هو التقي النقي لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد) حديث صحيح. وفي رواية: (خير الناس ذو القلب المخموم الذي يَود ويُود، واللسان الصدوق، قيل وما هو؟ قال: التقي النقي الذي لا إثم فيه ولا بغي ولا حسد، قيل: فمن على أثره؟ قال: الذي يشنأ الدنيا ويحب الآخرة، قيل: فمن على أثره؟ قال: مؤمن في خلق حسن) أعلى الدرجات القلب المخموم الذي لا غل فيه ولا حسد.

عظم أجر العبد النقي القلب

عظم أجر العبد النقي القلب وقد بلغ رجل من الصحابة أن يكون مبشراً بالجنة وهو في الدنيا بسبب هذه الخصلة وهي سلامة الصدر، في هذه القصة العظيمة التي رواها الإمام أحمد وغيره رحمه الله وهو حديث صحيح، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كنا جلوساً مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة، فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من وضوئه قد تعلق نعليه في يده الشمال، فلما كان الغد قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى، فلما كان اليوم الثالث قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل مقالته أيضاً، فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأولى، فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص فقال له: إني لاحيت أبي -أي: خاصمت أبي- فأقسمت ألا أدخل عليه ثلاثاً، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي فعلت، قال: نعم، قال أنس راوي الحديث: وكان عبد الله -أي ابن عمرو - يحدث أنه بات معه تلك الليالي الثلاث فلم يره يقوم من الليل شيئاً، غير أنه إذا تعارَّ -استيقظ أثناء الليل- وتقلب على فراشه ذكر الله عز وجل وكبر حتى يقوم لصلاة الفجر، قال عبد الله غير أني لم أسمعه يقول إلا خيراً فلما مضت الثلاث ليالي وكدت أن أحتقر عمله قلت: يا عبد الله! إني لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجر) أي: أني لم أخاصم أبي، ولا لاحيت أبي، وهنا إما أن يكون عبد الله بن عمرو استخدم التورية، أو أنه كذب لتعلم مصلحة شيء، والكذبة ليس فيها ضرر على أحد، المهم لها تخريج. قال: (يا عبد الله إني لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجر، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لنا ثلاث مرار: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة، فكنت أنت في المرات الثلاث، فأردت أن آوي إليك لكي أنظر ما عملك فأقتدي به، فلم أرك تعمل كثير عمل). أي: أنا بصراحة ما رأيت منك زيادة، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال الرجل: قيل إنه سعد بن مالك الأنصاري في رواية في سندها ضعف، فقال الرجل: (ما هو إلا ما رأيت، فلما وليت دعاني فقال: ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشاً، ولا أحسد أحداً على خير أعطاه الله إياه، فقال عبد الله بن عمرو بن العاص: هذه التي بلغت بك، وهي التي لا نطيق). هذه الخصلة التي جعلتك مبشراً بالجنة وأنت في الدنيا ونحن ما نطيق مثل هذا، إذاً رجل لا يبيت إلا وصدره سليم للمسلمين، ما عنده غش ولا حقد على أحد، ولا حسد لأحد من المسلمين.

سلامة صدور الصحابة رغم نزاعاتهم الدنيوية

سلامة صدور الصحابة رغم نزاعاتهم الدنيوية وبقية صحابة النبي عليه الصلاة والسلام مهما حصل بينهم من خلاف كانوا إلى المصافاة مسارعين، وإلى الأخوة وعودتها إليهم كانوا مبتغين، قال علي رضي الله عنه: [إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان ممن قال الله تعالى فيهم: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47]]. وفي رواية: دخل عمران بن طلحة بن عبيد الله على علي، معلوم أن طلحة خرج في الجمل ضد علي، الصحابة اجتهدوا في فتنة نمسك ألسنتنا عنها، بعدما فرغ من أصحاب الجمل دخل ابن طلحة على علي، فرحب به، يقول علي لـ عمران بن طلحة: [إني لأرجو أن يجعلني الله وأباك من الذين قال الله: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47]]. وجاء ابن جرموز قاتل الزبير يستأذن على علي رضي الله عنه فحجبه طويلاً، فكان ابن جرموز يحتج: أما أهل البلاء فتجفوهم، فقال علي: بفيك التراب، لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (بشر قاتل ابن صفية بالنار) فـ ابن جرموز قتل الزبير، مع أن الزبير اعتزل وخرج ما رضي أن يشترك في المعركة، لكن هذا عمد إليه فقتله، فـ الزبير بن العوام حواري النبي صلى الله عليه وسلم قال علي لـ ابن جرموز: [بفيك التراب، إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير ممن قال الله: ((وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ))]. هذه بعض الروايات التي ساقها ابن جرير بأسانيده رحمه الله وفي بعضها انقطاع، والشاهد العام منها يشهد بعضهم لبعض أن علياً رضي الله عنه كان يقول: [إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير ممن قال الله فيهم: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ}] مهما حصل بينهم من خلاف فكانوا يفيئون ويرجعون. وهذا مثل آخر ساقه الذهبي في سير أعلام النبلاء قال زيد بن أسلم: [دخل على أبي دجانة وهو مريض وكان وجهه يتهلل، فقيل له: مال وجهك يتهلل؟ فقال: ما من عمل شيء أوثق عندي من اثنتين كنت لا أتكلم فيما لا يعنيني -والأخرى- وكان قلبي للمسلمين سليماً]. ودرج على هذا الأئمة الأعلام والعلماء العاملون، والصلحاء والأخيار من هذه الأمة، يطهرون قلوبهم من كل حقد وحسد، ولا يجعلون له موضعاً في نفوسهم، مهما حصل فكانوا يسامحون ويغفرون، وهذا مثل من المتأخرين:

الشيرازي وإحسان ظنه بالمسلمين

الشيرازي وإحسان ظنه بالمسلمين قال الذهبي رحمه الله في ترجمة الإمام القدوة المجتهد أبي إسحاق الشيرازي قال: وقيل: إن أبا إسحاق نزع عمامته وكانت بعشرين ديناراً -عمامة نفيسة- وتوضأ في دجلة فجاء لص فأخذها وترك عمامة رديئة بدلاً منها فطلع الشيخ فلبسها وما شعر، حتى سألوه وهو يدرس -أي أنهم أشعروه- فقال بكل بساطة: لعل الذي أخذها محتاج. ولأن الجنة لا يصلح أن يدخلها إلا من كان قلبه سليماً نظيفاً تماماً، فإن الله لا يدخل أهل الجنة الجنة إلا بعد أن ينقوا ويهذبوا وتكون صدورهم سليمة، كما قال الله عز وجل: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ} [الأعراف:43] وفي آية أخرى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47] وذكرنا الآية التي فيها دعاء المؤمنين: {وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر:10]. يقول عليه الصلاة والسلام مبيناً صفة أهل الجنة: (أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والذين على إثرهم كأشد كوكب دري في السماء إضاءة، قلوبهم على قلب رجل واحد لا اختلاف بينهم ولا تباغض ولا تحاسد) أهل الجنة إذاً أيها الإخوة لا اختلاف بينهم ولا تباغض ولا تحاسد، هذا الحديث في الصحيحين وغيرهما. لو واحد قال: هل يمكن ألا يقع بين إنسان مسلم وأخيه أي نوع من أنواع الخصام؟ هذا يؤذيك بكلمة، وهذا يجرحك بتصرف، والإنسان نفسه حساسة تتأثر، نحن بشر نقول: نعم، هذا لا يمكن في الواقع، نعم نحن مطالبون ألا نغضب وأن نكظم الغيظ: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134] لكن لا يستطيع الإنسان في الحقيقة ألا يحزن ولا يغضب من أي تصرف مهما حصل من أي واحد، لا يمكن، بل إن الصحابة رضوان الله عليهم كان بعضهم يجد على أخيه في نفسه، وإليك هذا المثل من صحيح البخاري رحمه الله:

عمر يعرض حفصة للزواج

عمر يعرض حفصة للزواج لما تأيمت حفصة من زوجها بـ المدينة، قال عمر بن الخطاب: أتيت عثمان بن عفان فعرضت عليه حفصة، طبعاً هذا من عادة المجتمع الأول في بساطته ونظافته وسعيهم للعفاف، أن كان الرجل يعرض بنته على من يراه مناسباً، ليس عيباً أبداً وليس فيها شيء مطلقاً، بخلاف حساسية الناس اليوم، يقولون: عيب أن تعرض أختك أو ابنتك على واحد صالح، ويقولون: هل هذه البنت يعني قطعة قماش أو سيارة تعرضها أو سلعة، والحقيقة أنهم لا يفهمون ولا يعقلون. قال: فعرضت عليه حفصة، فقال: سأنظر في أمري، يفكر، فلبثت ليالي ثم لقيني فقال عثمان: قد بدا لي ألا أتزوج يومي هذا، وعمر لا يقول تعال أريد واحد غير متزوج، لا، هو يعرض ابنته على رجل دين فقط، عثمان متزوج قبلها، قال عمر: فلقيت أبا بكر الصديق فقلت إن شئت زوجتك حفصة بنت عمر، فصمت أبو بكر، فلم يرجع إلي شيئاً، قال عمر -وهذا هو الشاهد- وكنت أوجد عليه مني على عثمان، لأنه لا اعتذر ولا وافق هذه القصة لها تتمة مهمة، سوف نذكرها بعد قليل إن شاء الله. لكن الشاهد: أن الصحابة كان يحصل بينهم مواقف، يجد الإنسان فيها على أخيه، لكن ما ينام إلا ونفسه طيبة، لا يدوم غضب الإنسان على أخيه، سرعان ما يفيئون ويتغافرون. فإذاًَ أيها الإخوة، يصعب أن نقول: لا يمكن لإنسان أن يغضب من تصرف أخيه أبداً، هذا شيء غير واقعي، ومهما حاولت فلا بد أن تفاجئ يوماً من الأيام بتصرف يغضبك، أو كلمة تجرحك.

الفرق بين الموجدة والحقد

الفرق بين الموجدة والحقد لكن ما هو الفرق بين الموجدة وبين الحقد؟ ذكر ابن القيم رحمه الله في آخر كتاب الروح في مباحث الفروق، الفرق بين الموجدة والحقد، فقال من الفروق: الأول: الموجدة: الإحساس بمؤلم والعلم به وتحرك النفس في رفعه، فإذا لم تتألم لتصرف يغضبك فليس عندك إحساس، وطبيعي أن تتألم. أما الحقد فهو إضمار الشر وتوقعه في كل وقت، فلا يزايل القلب أثره. الثاني: الموجدة سريعة الزوال والحقد بطيء الزوال لا يكاد يزول. الثالث: والحقد لما يناله منك، أما الموجدة لما ينالك أنت منه. الرابع: والحقد يجيء مع ضيق القلب، واستيلاء ظلمة النفس ودخانها على القلب، وأما الموجدة تجد الإنسان يجرح ويتألم مع قوة قلبه وصلابته ونوره وإحساسه. الخامس: أكثر الفروق وضوحاً: أن الموجدة تأتي في النفس بأثر ثم يزول بسرعة، الحقد أثره يتفاعل ويزيد ويستقر في القلب، هذا الحقد. هنا قد يطرح سؤال، وهو: هل يوجد حقد شرعي؟ A إن تغير نفس المسلم واحتداده عند رؤية منكر أمر مطلوب، وهناك حقد شرعي أيضاً مطلوب من المسلم، أما بالنسبة لتغير النفس والاحتداد عند رؤية المنكر فله شواهد كثيرة، ومن ذلك: ما جاء في صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى نخامة في قبلة المسجد) النخامة والنخاعة إحداهما تنزل من الرأس والثانية تخرج من الصدر، هذا الفرق بين النخامة والنخاعة، ومنه البلغم (رأى نخامة النبي عليه الصلاة والسلام في قبلة المسجد، فتغيظ عليه الصلاة والسلام وقال: إن الله قِبل أحدكم) يعني في الصلاة، الله ينصب وجهه إلى وجه عبده، (فإذا كان في صلاته فلا يبزقن، أو قال فلا يتنخمن، ثم نزل فحتها بيديه) أزالها عليه الصلاة والسلام بيده الشريفة، هذا تواضع منه صلى الله عليه وسلم في إزالة الأوساخ من المسجد، وهذا فيه دليل على إزالة الأوساخ من المسجد، فحتها بيديه. وقال ابن عمر رضي الله عنه: [إذا بزق أحدكم فليبزق عن يساره] إذاً لو إنسان احتاج البصاق في الصلاة يبصق عن يساره لا عن يمينه لأن عن يمينه ملكاً، ولا يبصق أمامه لأن الله ينصب وجهه لوجه عبده في الصلاة، (من تفل تجاه القبلة جاء يوم القيامة وتفله بين عينيه) كما ورد في الحديث الصحيح.

كيفية توجيه طاقة الحقد

كيفية توجيه طاقة الحقد ما هو الحقد الذي يجب علينا أن نحقده ما هو مجاله؟ الحقد أيها الإخوة طاقة في النفس البشرية ينبغي أن توجه، مثل الكره والبغض، والحقد طاقة ينبغي أن توجه إلى وجهتها الصحيحة. فنحن يجب علينا أن نحقد على الكفرة، والذي ما عنده حقد على الكفرة المجرمين الذين يسومون المسلمين سوء العذاب ما عنده إيمان، إي نعم، يجب أن نحقد على الكفرة الذين يحاربوننا في الدين، الله سبحانه وتعالى ذكر من فوائد الجهاد: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} [التوبة:14 - 15] ما ذمهم على أن عندهم غيظاً وحقداً في صدورهم على الكفرة، كفرة قاتلونا وقتلوا منا وارتكبوا الفظائع ثم لا نحقد عليهم، ليس فينا دين إن لم نحقد، عليهم إذاً ليس فينا دين، لا يمكن أن ننسى الحقد على اليهود الذين فعلوا فينا الأفاعيل، وسلبوا مسجدنا، وقتلوا رجالنا، وانتهكوا أعراض نسائنا، وذبحوا أطفالنا، وارتكبوا كل الجرائم، حتى إدخال الفيروسات ونقل الأمراض المعدية السارية وضعت في خزانات المياه التي يشرب منها المسلمون إلى آخره. لا يمكن أن ننسى حقدنا عليهم مطلقاً، لا يمكن أن ننسى الحقد على النصارى الذين يسومون إخواننا ألوان العذاب الآن في بلاد البوسنة وغيرها عندما تسمع أن الصرب قتلوا شوهوا قطعوا الأعضاء واغتصبوا النساء، امرأة تتعرض لثلاثة وثلاثين اغتصاباً في يوم واحد، ويقطعون قطعة من جلد المسلم ويجبرونه على أكلها وهو لا يزال على قيد الحياة، والكروات النصارى الخونة يجبرون العجائز من المسلمين أن يرمين بأنفسهن من الطوابق العليا في المباني ثم يتدربون على إطلاق الرصاص عليهن في الهواء، فإذا وصلت المرأة إلى الأرض جثة هامدة أرغموا طفلها أن يصعد على بطنها ويقفز لتخرج الأمعاء من البطن، وبعد ذلك لا نحقد عليهم، ليس فينا خير ولا دين. وإذا لم نحقد على الهندوس الذين يحرقون إخواننا وهم أحياء، وعلى الشيوعيين في طاجكستان الذين يقطعون آذان المسلمين، هناك مسلمون الآن يمشون بدون آذان، وعشرات آلاف وميت الجثث في النهر حتى صار النهر لونه أحمر، وهلك أعداد من المسلمين في الصقيع، إذا كنا لا نحقد على أمثال هؤلاء فلا خير فينا. فالحقد في نفوسنا على الكفار باق موجود: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} [التوبة:14 - 15] نحن ننتظر يوماً نشفي فيه صدور إخواننا أصحاب هذه المصائب، ونحن إخوانهم في الدين نشاطرهم المصيبة، ونشاركهم الشعور بالمأساة، وإلا فلا دين فينا ولا خير، والذين يدعون اليوم للسلام العالمي ويقولون: نتطلع إلى عالم لا يوجد فيه أحقاد، هؤلاء مجرمون كفرة؛ لأنهم يريدون بذلك إلغاء الجهاد والقضاء عليه، ويريدون منا أن نتسامح مع الكفرة الذين نكلوا بنا وبإخواننا، أسروا من أسروا، وقطعوا عيش من قطعوا، ورملوا نساءنا، ويتموا أطفالنا، وألقوا بالمسلمين في السجون، ثم يقولون: نتطلع إلى عالم لا أحقاد فيه، وينادون بمبدأ الأخوة الإنسانية البشرية، الكفرة المجرمون يريدون هدم الدين والشريعة، متى يحل السلام العالمي؟! متى يحل السلام في العالم؟! متى؟!

متى يحل السلام ويزول الحقد

متى يحل السلام ويزول الحقد والله العظيم لن يحل السلام في العالم إلا عندما ينزل المسيح ابن مريم، وقبل ذلك كله جهاد، ليس هناك شيء اسمه ترك الحقد على الكفار، ما تزول الأحقاد نهائياً من الأرض إلا اسمع معي: (والله لينزلن ابن مريم فليكسرن الصليب، وليقتلن الخنزير، وليضعن الجزية، ولتتركن القلاص فلا يسعى عليها، ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد، وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد) وفي رواية أخرى صحيحة أيضاً: (فيكون عيسى ابن مريم في أمتي حكماً عدلاً وإماماً مقسطاً، يدك الصليب، ويذبح الخنزير ويضع الجزية) لماذا يضع الجزية؟ لأنه ما بقي في الأرض كافر، ما يقبل من اليهود والنصارى وغيرهم إلا الإسلام أو القتل، فلما لا يبقى هناك غير الإسلام وكل الأرض مسلمة، فلا جزية. (ويترك الصدقة فلا يسعى على شاة ولا بعير، وترفع الشحناء والتباغض، وتنزع حمة كل ذات حمة -حتى العقرب ما تلسع، وليس لها سم- حتى يدخل الوليد يده في فيّ الحية فلا تضره، وتضر الوليدة الأسدة فلا يضرها، ويكون الذئب في الغنم كأنه كلبها، وتملأ الأرض من السلم -هذا السلام العالمي متى سيحدث؟ بالنص- وتملأ الأرض من السلم كما يملأ الإناء من الماء، وتكون الكلمة واحدة -لا إله إلا الله- وتضع الحرب أوزارها). هذا السلام العالمي وانتهاء القتال من الأرض وانتهاء الجهاد، بهذه القضية، بعد الدجال ويأجوج ومأجوج وقتال واليهود، بعد انتهاء كل الملاحم وقتال الروم وتصفية كل الكفار من الأرض عند ذلك تضع الحرب أوزارها، أما قبل ذلك فإن الجهاد ماضٍ إلى قيام الساعة، ومبدأ اسمه مبدأ السلام العالمي لا يمكن أن يحصل، والله -غير حانث- لا يمكن أن يحصل، لأن المسلمين قلوبهم على الكفرة مملوءة، والظلم وعلى المسلمين حاصل، والثأر من الكفرة واجب، لا بد أن يحصل، والجهاد ماض إلى قيام الساعة.

علاج الحقد

علاج الحقد أما بالنسبة لنقلة أخرى في الموضوع: إلى معالجة البغض والحقد والشحناء. فإن علاج هذا الداء لا بد أن تكون بقلب المؤمن المستنير بنور ربه على هدي من الكتاب والسنة، مع الأسف عندما ندير رءوسنا ونقلب أبصارنا في بعض مجتمعات المسلمين، حتى المجتمعات التي فيها أشياء من الخير فإن هذه الأوساط لا تخلو من الحقد، ونسمع دائماً وباستمرار عن بعض الذين يدعون الدعوة إلى الله ويدعون العلم وهم يثيرون الفتن والأحقاد في المسلمين على المسلمين، وتسمع الطعن والازدراء والانتقاص والاحتقار من المسلم لأخيه المسلم. وهذا دافعه أمران: التعصب والحسد، واتباع الهوى الرائد والقائد لهذا، نفوس مريضة تثير الأحقاد على المسلمين -مع الأسف- بأسماء المسلمين، يتسترون بلباس الدعوة والعلم وهم ينفثون كيدهم وسمومهم في نفوس أهل المجالس لكي يحملوا النفوس ويشحنوها بالحقد على العلماء وعلى الدعاة إلى الله وطلبة العلم.

حقيقة البغض في الله

حقيقة البغض في الله من أسباب البغضاء في هذه الأوساط، قال ابن رجب رحمه الله في جامع العلوم والحكم: ولما كثر اختلاف الناس في مسائل الدين -هذا نقل مهم- وكثر تفرقهم كثر بسبب ذلك تباغضهم وتلاعنهم، وكل منهم يظهر أنه يبغض لله. ويطيش وينزل على المسلمين ويفت بلسانه في أعراضهم، ويأكل من لحوم المسلمين، ويقول القضية بغض في الله. يقول ابن رجب: ولما كثر اختلاف الناس في مسائل الدين وكثر تفرقهم كثر بسبب ذلك تباغضهم وتلاعنهم، وكل منهم يظهر أنه يبغض لله، وقد يكون في نفس الأمر معذوراً وقد لا يكون معذوراً، بل يكون متبعاً لهواه مقصراً في البحث عما يبغض عليه. أي: لابد أن في تفكر سبب البغض، أنت الآن تبغض فما هو سبب البغض؟ قل لي: إذا كان مجرم فما هو الدليل على إجرامه؟ إذا كنت ترميه بالبدعة ما هو الدليل الشرعي على بدعيته؟ إذا كنت تقول إنه صاحب فواحش وجرائم فأورد جرائمه وفواحشه. قال ابن رجب: فإن كثيراً من البغض إنما يقع لمخالفة متبوع يظن أنه لا يقول إلا الحق، وهذا الظن خطأ قطعاً، وقد يكون الحامل على الميل إليه مجرد الهوى والألفة والعادة. خالفت شيخي أنا أبغضك، لماذا يميل إلى شيخه؟ مجرد الهوى أو الألفة والعادة، وكل هذا يقدح في أن يكون هذا البغض لله، فالواجب على المؤمن أن ينصح لنفسه، وأن يتحرز من هذا غاية التحرز، وما أشكل منه فلا يدخل نفسه فيه. لاحظ معي واحد مثلاً اضطربت به الأمور قال: ما أدرى هذا فلان أبغضه أو لا؟ هذا الأمر يبغض عليه أو لا يبغض عليه؟ قال ابن رجب: فلا يدخل نفسه فيه خشية أن يقع فيما نهي عنه من البغض المحرم. هذا كلامه النفيس ساقه في شرح الحديث الخامس والثلاثين في كتاب جامع العلوم والحكم. إذاً: اسأل نفسك إذا أنت شعرت ببغض لواحد من المسلمين: ما هو سبب بغضي لفلان؟ وما هي شرعية هذا الإحساس؟ وما هي الأسباب؟ ونحن ينبغي أن ننصح أنفسنا أيها الإخوة وخصوصاً الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، قد يظهر منه نوع من التدين لكن عنده بغض أو حقد موجود ومتأصل في نفسه، يمكن أن يمنع نفسه من الزنا ومن الفواحش ولا يمكن أن يمنع نفسه من الحقد والبغض، ونحن نعلم أنه لن ينجو يوم القيامة إلا من أتى الله بقلب سليم؛ سليم من الشرك والشبهات والشكوك والحقد والغل والحسد والبغضاء.

تجنب المجالس التي يدار فيها الحقد

تجنب المجالس التي يدار فيها الحقد ومن الوسائل المعينة على عدم الوقوع في الحقد والحيلولة دون دخوله إلى النفس: تجنب مجالس العناصر الحاقدة التي تثير الحقد على الإسلام وأهله. الذين لا همَّ لهم إلا فري اللسان في أعراض العباد، استهوتهم الشياطين فتركوا اليهود والنصارى وكفرة الديلم والفرس والمرتدين، وأصحاب التغريب والمبتدعة والزنادقة ليقعوا في أعراض المسلمين، فويل لهم مما تلوك ألسنتهم وويل لهم مما يكسبون. ومن العلاجات المهمة والأمور التي ينبغي الحرص عليها: ألا تسمح لمن يتكلم في إخوانك. سد فاه واطرده من المجلس، أو قم عنه، لا تسمح لمن يتكلم في العلماء الثقات، ولحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في الانتقام من منتقصيهم معلومة، ولا تسمح لمن يتكلم في الدعاة إلى الله على المنهج الصحيح، وطلبة العلم الذين يطلبون علم الكتاب والسنة، ولو أخطأ أحد أهل العلم فقل: يغفر الله له، حذيفة لما قتلوا أباه قال: يغفر الله لهم. وكذلك من العلاجات المهمة: ألا تنقل كلاماً على إخوانك في الله. لا تنقل كلاماً من شخص إلى شخص آخر، فهذه نميمة، وقد يكون مخطأ؛ لكن اترك النقل فإنه يضر، وهناك حديث في مسند أحمد وأبي داود والترمذي والبغوي والبيهقي وغيرهم قال عليه الصلاة والسلام: (لا يبلغني أحد عن أحد من أصحابي شيئاً، فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر) قال أحمد شاكر في تحقيق المسند: إسناده حسن على الأقل على بحثهم فيه. وضعفه الشيخ الألباني في ضعيف الجامع.

الزيارات الإيمانية

الزيارات الإيمانية ومن العلاجات التي تساعد على إزالة الأحقاد: إذا حصل بينك وبين أخيك شحناء أو بغضاء أو عداوة؛ أولاً: قم بزيارته. (وجبت محبتي للمتزاورين فيَّ) زره في الله، الزيارة تقرب، ولو ما أزالت الشحناء كلها تزيل بعضها. ثانياً: المصارحة: والمصارحة تحدث بالزيارة واللقاء، إذاً أنت إذا سعيت إلى اللقاء به وزيارته فذلك من علاجات قضية الموجدة التي يجدها أحدنا في نفسه على أخيه. ولنعد إلى قصة أبي بكر وعمر لنرى قضية المصارحة، وكنا قد تركناكم عند قول عمر: (وكنت أوجد عليه مني على عثمان، قال عمر: فلبثت ليالي -بعد كلامه مع أبي بكر الصديق - ثم خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنكحتها إياه، فلقيني أبو بكر -لاحظ الكلام الآن مذهل- فقال: لعلك وجدت علي حين عرضت عليَّ حفصة فلم أرجع إليك، وجدت في نفسي عليك، قال أبو بكر رضي الله عنه: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت إلا أني قد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكرها -أي: وصلني خبر خاص أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر حفصة، أي: أنه يريد أن يتقدم لـ حفصة - فلم أكن لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو تركها لقبلتها) هل بقي في نفس عمر شيء، فالمصارحة مهمة. وكذلك من علاجات إزالة الأحقاد: الاعتذار والمعاتبة وهما علاجان مهمان. المعاتبة ممن أخطأ عليه، يعاتب أخاه، يقول له: يا أخي! أخطأت عليَّ وقد وجدت في نفسي عليك لما فعلت كذا وكذا، وأنا من باب المصارحة والمفاتحة، ولا أريد أن يبقى في نفسي شيء أطلب منك أن تبرر لفعلك، لا تكتم؛ لأن الكتمان باب الحقد، أول ما تكتم هذا في نفسك يزيد مع الزمن ويزيد، وكل تصرف زيادة نقطة في الإناء حتى يطفح قلبك بالحقد على أخيك، لا تكتم المسألة حتى تنفجر، صارح أولاً بأول، وعاتب يا أخي، فالمعاتبة مهمة. وهناك فرق بين العتاب والتوبيخ، لا توبخ وتعنف ولكن عاتب، العتاب: كلام لطيف بأسلوب مؤدب، مفاتحة تبين لأخيك ما وقع منه تجاهك مما لا يرضيه، ومما أغضبك وآلمك. وأما التوبيخ: فهو سب وتعنيف وتشهير وتقذيع في الألفاظ فلا يزيد الأمر إلا تعقيداً، ولا يزيد صدر أخيك عليك إلا إيغاراً، ولا يحل المشكلة.

الاعتذار لمن أخطأ

الاعتذار لمن أخطأ وكذلك من العلاجات: الاعتذار لمن أخطأ. لو أن رجلاً عاتبك وأنت عرفت أنك مخطأ ماذا تفعل؟ اعتذر يا أخي، وقل: سامحني، لعلي أغضبتك فسامحني، لم أكن أقصد إغضابك، إنما هي زلة لسان، والله ليس من قلبي أني فعلت كذا، أو لم أقصد هذا الظن الذي أنت ظننته، لم أقصد بتصرفي هذا كذا، وإذا أنت أخطأت اعتذر وبين موقفك، فالاعتذار مهم. ويوجد فن مهم يذكره العلماء وهو من أبواب الأخلاق والآداب: باب: العفو والاعتذار، وهذا الباب مهم جداً أن يطرح لعلاج الأشياء التي تكون بين الإخوة، لعلنا إن شاء الله نأتي عليه، هذا العفو والاعتذار في محاضرة قادمة، لأن المحاضرة القادمة لعلها تكون عن العفو والاعتذار بين الإخوة، لأن هذا الموضوع حساس ويزيل كثيراً من الإشكالات. ونقول كذلك من العلاجات: قدم هدية وفي الحديث: (تهادوا تحابوا) والمحبة تزيل الحقد وتزيل العداوة والبغضاء. وأخيراً: الدعاء. قال النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه: (ربي تقبل توبتي، واغسل حوبتي، وأجب دعوتي، وثبت حجتي، واهد قلبي، وسدد لساني، واسلل سخيمة قلبي) السخيمة: هي الحقد في النفس، فمن دعائه صلى الله عليه وسلم: (واسلل سخيمة قلبي) ونسأل الله أن يسلّ سخائم قلوبنا، وأن يجعلنا سلماً لأوليائه حرباً على أعدائه، وأن يجعل صدورنا وقلوبنا سليمة للمسلمين، لا غش ولا بغي فيها ولا حقد ولا حسد. اللهم اجعلنا من عبادك الأتقياء الأنقياء الأخفياء، وصلى الله على نبينا محمد.

الأسئلة

الأسئلة

العفو خير من الاقتصاص يوم القيامة

العفو خير من الاقتصاص يوم القيامة Q شخص أخطأ عليَّ وأريد الاقتصاص منه يوم القيامة؟ A إذا كنت لن تحمل في نفسك عليه، نعم. لكن لاحظ يا أخي أنك لو عفوت لكان أجرك أعظم: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:40] بعض الناس يقول: لن أسامحه لآخذ من حسناته، هناك أمر أهم وأعظم وأحسن، إذا عفوت عنه فأجر العفو أكثر من الحسنات التي ستأخذها منه، اعف عنه والله سيعطيك على عفوك من الحسنات أكثر من التي سوف تأخذها يوم القيامة.

الفرق بين حب الرئاسة وطلبها

الفرق بين حب الرئاسة وطلبها Q هل معنى الكلام الذي ذكرته في المحاضرة الماضية أن الشاب الملتزم أو المرأة، أو الشخص المسلم إذا حانت له فرصة رئاسة أو وظيفة فيها رئاسة يستطيع فيها أن يصلح الأوضاع، ويغير المنكرات، ويمنع عدواً للإسلام وأهله من الوصول إلى هذا المركز، هل معنى المحاضرة السابقة أن يترك المنصب من أجل خطورة حب الرئاسة وخطورة الرئاسة؟ A الحقيقة أني قد أجبت على هذا الإشكال أو هذا السؤال في المحاضرة الماضية عندما قلت: إذا كان يخشى أن يدخل في المنصب عدو من أعداء الله يضر المسلمين يجب عليك أن تتقدم أنت إلى المنصب وتقطع عليه الطريق، وقلت أيضاً: إن الذي يستطيع أن ينفع المسلمين بمنصب يصل إليه فيدرأ عنهم شراً ويجلب لهم خيراً، وهو أحسن من يوجد، وممن يمكن أن يصل إلى هذا المنصب، فعليه أن يدخل فيه، وتكلمنا عن قضية يوسف عليه السلام ووضحنا أيها الإخوة، فأرجو أن لا يكون هناك لبس في هذه المسألة أبداً، أنا لا أزهد الإخوان الذين يستطيعون أن يصلوا إلى مناصب ويعملوا فيها الخير، ويدرءوا عنها الشر، ويقطعوا بها الطريق على أعداء الله، لا أزهدهم فيها أبداً، بل أقول: هو من فروض الكفايات، إذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين، وإلا أثمنا كلنا، كل من يستطيع أن يفعل شيئاً ولا يفعله فهو آثم. فإذاً التزهيد في الرئاسة التي تجلب الضرر، والتي يكون فيها ظلم لإخوانك، والتي يكون فيها غمط لأصحاب الحقوق، والتي يكون من هو أفضل منك وتنافسه عليها، اسمع مني هذا الكلام: حب الرئاسة المذموم من أحواله أن يكون هناك من هو أفضل منك وأحسن وأنفع وأعلم وأتقى، فتنافسه عليها، بل يجب أن تقدمه هو، ولا يأخذنك حب الرئاسة فيحملك على منافسته والسعي لأخذ الوظيفة منه أو المنصب أو الدرجة، لو وصل إليها لنفع الإسلام أكثر منك، عنده قدرات وتقوى وعلم أكثر، هذا الذي يقدم، أما لو تنازعت الأمور فصرنا بين تقي ضعيف وفاجر قوي فننظر إذا كانت مصلحة المسلمين في تقديم من فيه فسق لنفسه، وهو قوي ينفع الإسلام، والتقي ضعيف لا ينفع الإسلام، مثل أمير الجهاد. كما تكلم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، إذا كنا مخيرين بين اثنين واحد قوي يكون من أسباب النصر ولكن فيه فسق، والثاني تقي لكنه ضعيف لا يحصل الانتصار به وليس من أسباب النصر، في هذه الحالة مصلحة المسلمين في تقديم الأقوى مع فسقه؛ فإن فسقه على نفسه من أجل مصلحة المسلمين العامة، ولذلك يقول عمر رضي الله عنه: [اللهم إني أعوذ بك من جلد الفاجر وعجز الثقة] يأتي واحد قوي يملأ المكان وثقة عاجز دائماً، الذي يملأ المكان فيه فجور، وهذا الذي عنده تقوى ضعيف، فهنا المسألة مسألة موازنات يصل إليها أولو الألباب.

حكم راتب إمام المسجد

حكم راتب إمام المسجد Q أنا مرشح لإمامة مسجد، وأنا سوف أستلم على الإمامة راتباً؟ A الإمامة أيضاً يدخل فيها حب الرئاسة، فتجد بعض الناس وأحياناً مع الأسف بعض الدعاة إلى الله عز وجل يتنافسون على الإمامة، مع أن الشريعة وضعت ضوابط يقول: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) كيف نتنافس عليها نحن؟ الأعلم والأحفظ هو الذي يتقدم، الذي يعرف كيف يصلي، يعرف أركان الصلاة وواجباتها وشروطها وماذا يفعل، وسجود السهو وغير ذلك، والفتح من المأموم على الإمام، كيف يفعل إذا فتحوا عليه، وهل يلزمه الاستجابة أو المضي؟ هذا إذا كان حافظاً لكتاب الله، الأحفظ والأعلم بأحكام الصلاة الأفقه في الدين، هذان الشخصان عليهما مدار الإمامة. فيأتي واحد أقل حفظاً يتقدم، أو واحد أفل فقهاً يتقدم فهذا حرام، وهذا تنافس مذموم على الإمامة، كيف يتنافسون على الإمامة ويوجد أحفظ منهم وأفقه على خلاف بين العلماء في تقديم الأفقه وتقديم الأحفظ، كيف يتنافسون؟ حرام عليهم، ثم تكون أمام الناس، ماذا يقول الناس عن هؤلاء الدعاة الذين يتنافسون على الإمامة؟ ويتقدم واحد أمام الآخر، وتكون هذه مسألة فيها شحناء وبغضاء، نعوذ بالله من الخذلان. أما بالنسبة لأخذ الراتب لا يجوز أخذ راتب على الإمامة، لكن يعطى مكافأة لتفرغه، الراتب حرام؛ لأن الإمامة من المناصب الدينية التي لا يجوز أخذ المرتب عليها، مثل المفتي، هل يجوز للمفتي أن يأخذ أجراً؟ يقول: يا أيها الناس الفتوى بريال، وإذا كان في مسألة عويصة عشرة ريال، وإذا كانت تريد جلسة طويلة مائة ريال، ويعطيك تسعيرة، لا يجوز أخذ الأجرة على الفتوى كما نص على ذلك علماء الأصول. لكن إذا كان تفرغ شيخ للفتوى فيعطى مقابل التفرغ، ليتمكن من التفرغ للفتوى، فالمال ما أعطي أجراً له على عمله، المال أعطي له لكي يتفرغ للأمر، وهكذا القاضي والمؤذن.

أقل مدة الاعتكاف

أقل مدة الاعتكاف Q هل يجب على المصلي إذا دخل المسجد أن ينوي نية الاعتكاف؟ A لا يجب، بل إن العلماء قد اختلفوا في أقل مدة للاعتكاف، فقال بعضهم ليلة، وقال بعضهم يوم وليلة، ومن أمثل الأقوال التي لها أدلة أحاديث صحيحة، وأما أقل من ليلة لا دليل عليه، ولذلك قد لا يشرع للإنسان أن يعتكف لدخول صلاة واحدة، ولكن إذا نوى أن يدخل المسجد ينتظر الصلاة بعد الصلاة فهو في صلاة.

من أفطر ولم يقض تفريطا

من أفطر ولم يقض تفريطاً Q امرأة أفطرت قبل سنة شهر رمضان كاملاً وجاءها رمضان هذه السنة ولم تقض بعد؟ A إذا كانت لم تقض رمضان الماضي حتى دخل رمضان الجديد وهي مفرطة فعليها كفارة مع القضاء.

عظم أجر بر الوالدين

عظم أجر بر الوالدين Q أنا امرأة في الثلاثينات، ومنذ حوالي تسع سنين حصلت بيني وبين والدي خصومات عديدة، ولكن أغلبها خصومات على أمور مالية، وحيث إن أبي اجتمعت فيه صفتان: البخل والحقد، فقد حقد عليها بدرجة لا توصف حتى إنه لا يطيق أن يراني ويكلمني، ويتمنى من كل قلبه أن أعذب في النار، وأمي مطلقة حاولت جاهدة في كل مناسبة أن أرضيه دون جدوى. فما العمل؟ A لو كان مشركاً وكافراً فإنه يجب بره، كما قال الله عز وجل: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15] فأمر بالمصاحبة بالمعروف رغم الشرك، فأقول: تحملي يا أيتها المرأة ما أصابك من ظلم أبيك واحستبي الأجر عند الله، وحق الأب عظيم، ومهما عمل الإنسان فإنه لن يوفي ما أنفقه عليه أبوه، الأب أنفق عليك كم سنة؟ احسب هذه النفقة.

صوم المريض

صوم المريض Q امرأة مصابة بمرض في الكلى والتهاب وعند الصيام تتعب كثيراً؟ A إذا كان يشق عليها الصيام فيجوز لها الإفطار وعدم الصيام وتنتظر حتى يشفيها الله عز وجل.

حكم الوفاء بالنذر للمعسر

حكم الوفاء بالنذر للمعسر Q نذرت إذا نجحت أن أذبح ذبيحة وحصل ذلك، ولكن لم أتمكن من أن أفي بنذري لضيق حالتي المادية؟ A تنتظر حتى يغنيها الله من فضله وتفي بنذرها.

معنى: السخيمة

معنى: السخيمة Q دعاء: (واسلل سخيمة قلوبنا) ما معنى ذلك؟ A السخيمة: هي الحقد الذي يكون في النفس.

معنى الهجر الشرعي والدنيوي

معنى الهجر الشرعي والدنيوي Q هجرت خالي قرابة سنة؛ لأنه حاول الاعتداء على خادمه؟ A إذا كان الهجر له سبب شرعي فلا بأس به، فلو كان هجره يشعره بخطئه ويرده إلى الصواب فينبغي عليك أن تهجره، أما إذا كان هجر الإنسان لا يزيده إلا بعداً عن الدين، فلا يجوز لك أن تهجره، على قاعدة الهجر الذي ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.

نبذ الاختلاف حول المسائل الدعوية

نبذ الاختلاف حول المسائل الدعوية Q لي بعض الإخوان الصالحين أحسبهم كذلك ولا أزكيهم على الله، تركوني لأني أخالفهم في بعض الأمور الدعوية، وأحياناً أجد في قلبي شيئاً، فما هو الطريق للتخلص من ذلك؟ A يا أخي قضايا الدعوة وأساليب الدعوة اجتهادات، ينبغي ألا يعنف أحدنا الآخر عليها ولا يفارق أحدنا الآخر، وسائل الدعوة الشرعية قضية اجتهادية لا نوالي ونعادي عليها ونتبرأ فيها، العلماء الثقات نجد بعضهم أفتى بجواز مسائل وبعضهم أفتى بمنعها وبعضهم توقف فيها، لا نجعلها مثاراً للتهاجر والتباغض، حرام علينا أن نفعل ذلك، لكن لو أجمع العلماء على أنها بدعة، كل الذي سألناهم قالوا: حرام، لا يجوز لنا أن نفعل ذلك لساغ الهجر، أما الأولويات فقد نختلف في الأولويات، قد ترى أنت الأولوية هذه وأنا أرى الأولوية شيئاً آخر، فلا يجوز أن يحمل أحدنا في نفسه على الآخر من هذا الاختلاف. وأنا أنصح ولو كانوا هم تركوك أن تزورهم، نتزاور حتى ولو اختلفنا في وسيلة من وسائل الدعوة أو كيفية الدعوة، التزاور بين المسلمين حق شرعي، سواء اختلفت وجهات النظر أو اتفقت فإن الزيارة حق شرعي.

حكم قطيعة الرحم

حكم قطيعة الرحم Q لي أقارب كنا نصلهم وهم يصلوننا وهم أبناء عم، والآن لا نصلهم وليس في قلوبنا عليهم غل؟ A ولو لم يوجد غل لكن يوجد قطيعة رحم، لا بد من الوصل، الوصل واجب ولو بالهاتف، وزيارة إذا أمكن.

وجوب مفارقة رفقاء السوء

وجوب مفارقة رفقاء السوء Q هل يجوز مفارقة الصديق إذا كان عاصياً ويمشي مع رفقاء السوء؟ A بل يجب، إذا لم تمكن دعوته فيجب مفارقته؛ لأنك تتأثر به وبعد ذلك تصبح مثله.

علاج الصديق الحاسد

علاج الصديق الحاسد Q معي في الفصل الدراسي زميل لي ومشكلتي أنه يحقد علي ويحسدني ويفتن بيني وبين الآخرين، وحاولت أكثر من مرة أن أصالحه فيصالح لكنه سرعان ما يعود؟ A الله عز وجل يعينك ما دمت على هذه الحال، أنت تصالح وهو يرجع، أنت مأجور وهو مأزور، والله معك، واستمر على هذا العمل.

مجاهدة النفس على إزالة الحقد

مجاهدة النفس على إزالة الحقد Q أنا إنسان غضبي سريع وأصفح بسرعة، وأحمل حقداً على أناس من سنوات طويلة، كلما حاولت أن أتناسى لا أستطيع وأقول: اللهم اغفر لي ولإخوتي ولكن الحقد مازال، وفي بعض الأحيان إذا جلست بمفردي أتحسر وأبكي على هذه العادة المشينة؟ A أولاً: كيف تصفح بسرعة وأنت تحمل حقد على أناس من سنوات طويلة. والله ما دمت تتندم فهذا خير وهذه بداية خير، لكن لا بد من عمل مع هذا الندم، فإذاً لا بد أن تصلهم وأن تزيل ما في نفسك عليهم، هذه عملية مجاهدة لا بد منها.

مقابلة إساءة الحاقد بالإحسان

مقابلة إساءة الحاقد بالإحسان Q لي صديق فضله الله علي في أشياء وفضلني عليه في أشياء، والحمد لله لا أنظر له إلا فيما ليس عنده وعندي، ولكن دائماً ما يتحدث عما فضلني الله فيه حاسداً بالقول واللفظ بدون أدنى حرص منه على عدم الحسد، ودائماً يوجه نظره بطريقة غير مباشرة على الدعاء الذي يقيه من أن يحسد فماذا أفعل معه؟ A هناك شيء مشترك، وهو أننا ينبغي أن نقابل الإساءة بالإحسان، قطعونا وصلناهم، ظلمونا عدلنا فيهم، حسدونا صبرنا على بغيهم، حقدوا علينا حاولنا إزالة ما في النفوس، كن أنت المبادر.

علاج بلاء الحقد

علاج بلاء الحقد Q أنا مبتلي بما في صدري من حقد تجاه بعض إخواني، وأجاهد نفسي بما أستطيع، لكن الشيطان يوغر صدري تجاه بعض تصرفاتهم، مع العلم أني لا أريهم من نفسي إلا خيراً وأدعو لهم بظهر الغيب؟ A الحمد لله! أنت قد قطعت مشواراً لا بأس به، وهو أنك جاهدت نفسك لدرجة أنك تدعو لهم، ولدرجة أنك ضبطت تصرفاتك فلا تريهم إلا خيراً، فباقي الآن أن تجلس مع نفسك جلسة محاسبة لإخراج هذه الأشياء، ولعلك بعد النصيحة هذه التي قدمناها في هذه المحاضرة تكون لك بداية جديدة في أن تطرح هذه الأحقاد من النفس لأنها عظيمة عند الله. والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

خطبة عيد الفطر المبارك

خطبة عيد الفطر المبارك إن الله سبحانه وتعالى قد حرم علينا كل ما يفسد عقولنا، ويخرب مجتمعاتنا وديننا وخلقنا، وأعظم من ذلك الأمور المكفرة كترك الصلاة وغير ذلك، وقد تكلم الشيخ في هذه المادة عن معظم الكبائر المحرمة في دين الله عز وجل، ثم ختم ذلك بالحث على الصدقة، والقيام بالحقوق الزوجية ووصايا متنوعة يحتاج إليها كل مسلم.

محرمات وكبائر نهى الله عنها

محرمات وكبائر نهى الله عنها إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار. الله أكبر شعارنا في هذا العيد! الله أكبر من كل شيء! الله أكبر من كل ظالم وطاغوت! الله أكبر! ولذكر الله أكبر! ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم، فالحمد لله على نعمة إتمام الصيام، وهذا أوان التكبير وذكر الله سبحانه وتعالى. أيها المسلمون! سلامٌ عليكم، كتب ربكم على نفسه الرحمة، هذا عيدنا أهل الإسلام، إن لكل قومٍ عيداً، أعياد اليهود، وأعياد النصارى، وأعياد المشركين، ونحن المسلمين عيدنا هذا، وعيد الفطر من أيام الله المشهودة، هذا يومٌ عظيم من الأيام، أفطر فيه المسلمون بعد شهر الصيام، شرع الله فيه من العبادات ما يعلم به المسلم عظم هذا اليوم، هذا يوم فرحٍ مباح وسرور ينبغي إدخاله على البيوت وأهلها وعلى المسلمين، ولأجل ذلك كان إغناء الفقراء والمساكين بصدقة الفطر قبل صلاة العيد؛ لكي يشاركوا المسلمين فرحتهم وبطونهم غير خاوية ولا جائعة.

الإشراك بالله

الإشراك بالله أيها المسلمون: ذكرنا في خطب العيد شيئاً من جمل الأحكام وآداب الإسلام وأخلاقه، إذ تُستغل هذه المواسم العظيمة في ذكر هذه الأمور والكليات والجزئيات المجموعة؛ ليكون في هذا المحشر الفائدة للمسلمين. إن الله سبحانه وتعالى قد فرض علينا من الأحكام ما شاء، أحل ما شاء وحرم ما شاء سبحانه وتعالى، ومن الأبواب العظيمة في الشريعة أبواب الكبائر (اجتنبوا السبع الموبقات: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات). إن من أكبر الكبائر الشرك بالله، وعقوق الوالدين، واليمين الغموس الفاجرة الكاذبة التي تغمس صاحبها في النار (وما حلف حالفٌ بالله يمين صبرٍ -أي: يستحق بسببها الحبس- فأدخل فيها مثل جناح بعوضة إلا جعلت نكتة في قلبه إلى يوم القيامة). (خمسٌ ليس لهن كفارة: الشرك بالله، وقتل النفس بغير حق، وبهت المؤمن -الافتراء والكذب- والفرار من الزحف، ويمينٌ صابرة يقتطع بها مالاً بغير حق) ليس لها كفارة إلا التوبة. (الكبائر تسع أعظمهن: إشراكٌ بالله، وقتل النفس بغير حق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، والفرار يوم الزحف، وعقوق الوالدين، واستحلال البيت الحرام قبلتكم أحياءً وأمواتاً). (من الكبائر شتم الرجل والديه يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه. (لا تشرك بالله شيئاً وإن قطعت وحرقت، ولا تترك صلاةً مكتوبةً متعمداً، فمن تركها متعمداً فقد برئت منه الذمة، ولا تشرب الخمر؛ فإنها مفتاح كل شر).

تحريم قتل النفس التي حرم الله

تحريم قتل النفس التي حرم الله أبى الله أن يجعل لقاتل المؤمن توبة (أبغض الناس إلى الله ثلاثة: ملحدٍ في الحرم -الذي يرتكب في الحرم ما حرم الله- ومبتغٍ في الإسلام سنة الجاهلية، ومطلبٍ دم امرئٍ بغير حق ليهريق دمه). (إذا التقى المسلمان وحمل أحدهما على أخيه السلاح فهما على جرف جهنم، فإذا قتل أحدهما صاحبه دخلاها جميعاً). (أشد الناس عذاباً يوم القيامة رجلٌ قتل نبياً أو قتله نبي، أو رجلٌ يضل الناس بغير علم -وما أكثرهم في هذه الأيام! - أو مصورٍ يصور التماثيل) (أول ما يحاسب به العبد الصلاة). (وأول ما يقضى بين الناس في الدماء) (لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجلٍ مسلم) لو أن أهل السماء والأرض اشتركوا في دم مؤمن لكبهم الله عز وجل في النار أي: ألقاهم على وجوههم. (يجيء الرجل آخذاً بيد الرجل فيقول: يا رب! هذا قتلني، فيقول الله له: لِمَ قتلته؟ فيقول: قتلته لتكون العزة لك، فيقول: فإنها لي، ويجيء الرجل آخذاً بيد الرجل، فيقول: أي رب! إن هذا قتلني، فيقول الله: لِمَ قتلته؟ فيقول: لتكون العزة لفلان، فيقول: إنها ليست لفلان، فيبوء بإثمه). (يجيء المقتول بالقاتل يوم القيامة ناصيته ورأسه بيده، وأوداجه -عرقان في العنق- تشخب دماً فيقول: يا ربِّ! سل هذا فيما قتلني حتى يدنيه من العرش، فيقول الله: فيم قتلت هذا؟ فيقول: في ملك فلان -من أجل تثبيت ملك فلان من أهل الجاهلية وحكام غير الشريعة- فيبوء بإثمه).

تحريم الانتحار

تحريم الانتحار أما الانتحار فيقول عليه الصلاة والسلام: (من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ -يطعن- بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبدا، ومن شرب سماً فقتل نفسه -وما أكثرهم في هذه الأيام! يبتلعون الحبوب ويتعاطون المخدرات وهذه سموم- ومن شرب سماً فقتل نفسه فهو يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبدا -مرمي في الحمام ومعه إبرة مخدرات ميت بأي وجهٍ يلقى الله- ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبدا).

منكرات يستحق صاحبها اللعن

منكرات يستحق صاحبها اللعن ومن المنكرات التي يستحق صاحبها اللعن ما ذكره صلى الله عليه وسلم: (ملعونٌ من سب أباه، ملعونٌ من سب أمه، ملعونٌ من ذبح لغير الله -الذين يأتون العرافين والكهان فيقول: اذبح ولا تذكر اسم الله حتى تبرأ من السحر والعين- ملعونٌ من ذبح لغير الله، ملعون من غيَّر تخوم الأرض -معالمها وحدودها- ملعونٌ من كمَّه أعمى عن طريق -أضله- ملعون من عمل بعمل قوم لوط).

تحريم أكل الربا

تحريم أكل الربا كقوله: (إذا ظهر الزنا والربا في قرية، فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله). (إن أبواب الربا -يا أصحاب أسهم البنوك- اثنان وسبعون باباً أدناه كالذي يأتي أمه في الإسلام). يا من يزيدون أرصدتهم بالربا في البنوك الربوية! (درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد عند الله من ستة وثلاثين زنية). (لعن الله آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه -يا موظفي البنوك الربوية! - هم فيه سواء) (ما أحدٌ أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قلة) قاله صلى الله عليه وسلم.

ثلاثة لا يكلمهم الله

ثلاثة لا يكلمهم الله ويقول صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم: رجلٌ حلف على سلعته، لقد أعطي بها أكثر مما أعطي وهو كاذب، ورجلٌ حلف على يمين كاذبة بعد العصر؛ ليقطع بها مال رجلٍ مسلم، ورجلٌ منع فضل مائه، فيقول الله: اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك). (من حلف على يمينٍ صبرٍ، يقتطع بها مال امرئٍ مسلم هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان) (من قطع رحماً أو حلف على يمينٍ فاجرة رأى وباله قبل أن يموت) قاله صلى الله عليه وسلم.

تحريم الكذب على رسول الله والشرك الخفي

تحريم الكذب على رسول الله والشرك الخفي ويقول صلى الله عليه وسلم في تحريم الكذب عليه: (إن كذِباً عليَّ ليس ككذب على أحد، فمن كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار). يا من يروي الأحاديث في المجالس دون تثبت ولا معرفةٍ لصحتها!. (شر الناس ذو الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه) (من كان له وجهان في الدنيا؛ كان له يوم القيامة لسانان من نار) (لا تقولوا للمنافق: سيدنا، فإنه إن يك سيدكم فقد أسخطتم ربك). (إذا جمع الله الأولين والآخرين ليومٍ لا ريب فيه نادى منادٍ: من كان أشرك في عملٍ عمله لله أحداً فليطلب ثوابه من عنده، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك) (ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ الشرك الخفي، أن يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل) (الشرك فيكم أخفى من دبيب النمل، وسأدلك على شيءٍ إذا فعلته أَذهب الله عنك أو أُذهب عنك تقول: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم).

عظم انتهاك حرمات الله وتحريم إتيان الكهان والعرافين

عظم انتهاك حرمات الله وتحريم إتيان الكهان والعرافين يقول صلى الله عليه وسلم: (لأعلَّمن أقواماً من أمتي يأتون يوم القيامة بحسناتٍ أمثال جبال تهامة بيضاً فيجعلها الله هباءً منثوراً، أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم قومٌ إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها). (ما كرهت أن يراه الناس منك فلا تفعله بنفسك إذا خلوت) قاله صلى الله عليه وسلم. (لن يلج الدرجات العلى من تكهن، أو استقسم، أو رجع من سفرٍ تطيراً) تشاؤماً. (من أتى عرَّافاً أو كاهناً) وما أكثرهم في هذه الأيام! يتصلون بالهاتف في مكالمات خارجية، ويسافرون لأجل ذلك، أو يأتونه في الداخل. يا معشر النساء! ما أكثره في النساء! (من أتى عرَّافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول؛ فقد كفر بما أنزل على محمد) لا يعلم الغيب إلا الله (من أتى عرَّافاً فسأله عن شيء لن تقبل له صلاة أربعين ليلة) ويجب أن يصلي، وإذا لم يصل كفر، لا تقبل له صلاة ولا ثواب ولا حسنات على صلواته إلا إذا تاب (من أتى كاهناً فصدقه بما يقول أو أتى امرأة حائضاً -أثناء حيضها- أو أتى امرأة في دبرها -في مكان خروج الغائط- فقد برئ مما أنزل على محمد). لا تأتوا الكهان (من علق تميمة فقد أشرك) (أخاف على أمتي من بعدي خصلتين: تكذيباً بالقدر، وتصديقاً بالنجوم) (لا يؤمن عبدٌ حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، وحتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه).

حرمة ترك تغيير المنكر

حرمة ترك تغيير المنكر يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا عمت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها). (إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقابٍ منه) إن الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيرونه أوشك أن يعمهم الله بعقابه (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) (والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر؛ أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً من عنده، ثم تدعونه فلا يستجيب لكم).

تحريم الظلم والرشوة والإقامة في بلاد الكفار

تحريم الظلم والرشوة والإقامة في بلاد الكفار يقول صلى الله عليه وسلم في تحريم الظلم: (اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة) (اتقوا دعوة المظلوم فإنها تحمل على الغمام، يقول الله: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين) (اتقوا دعوة المظلوم فإنها تصعد إلى السماء كأنها شرارة) (إن الله تعالى ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته) (أيما رجلٍ ظلم شبراً من الأرض؛ كلفه الله تعالى أن يحفره حتى يبلغ آخر سبع أراضين، ثم يطوقه يوم القيامة حتى يقضى بين الناس) (من أخذ شيئاً من الأرض ظلماً؛ جاء يوم القيامة يحمل ترابها إلى المحشر) قاله صلى الله عليه وسلم. (من أعان ظالماً ليدحض بباطله حقاً -ليبطل حق امرئٍ مسلم- فقد برئت منه ذمة الله وذمة رسوله) (من أعان على خصومةٍ بظلمٍ؛ لم يزل في سخط الله حتى ينزع) (من ضرب بسوطٍ ظلماً اقتص منه يوم القيامة) (من كانت لأخيه عنده مظلمة من عرضٍ أو مال فليتحلله اليوم قبل أن يؤخذ منه يوم لا دينار ولا درهم، فإن كان له عملٌ صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له عمل أخذ من سيئات صاحبه فجعلت عليه). (لعنة الله على الراشي والمرتشي) وما أكثرهم في هذه الأيام! (أنا بريء من كل مسلمٍ يقيم بين أظهر المشركين، لا تراءى نارهما) يجب أن يكون المعسكران بعيدان كل البعد عن بعضهما.

كفر تارك الصلاة وإثم آكل الربا ومانع الزكاة

كفر تارك الصلاة وإثم آكل الربا ومانع الزكاة يقول صلى الله عليه وسلم: (إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله الصلاة، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر، وإن انتقص من فريضته قال الرب: انظروا هل لعبدي من تطوع؟ فيكمل بها ما انتقص من فريضة، ثم يكون سائر عمله على ذلك) (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر) (الذي تفوته صلاة العصر كأنما وتر أهله وماله) (من ترك صلاة العصر حبط عمله). (ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان، فعليكم بالجماعة فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية) (من سمع النداء فلم يأته فلا صلاة له إلا من عذر). (آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهداه إذا علموا ذلك، والواشمة والموشومة للحسن، ولاوي الصدقة -مانع الزكاة- والمرتد أعرابياً بعد الهجرة ملعونٌ على لسان محمدٍ يوم القيامة). (إن الذي لا يؤدي زكاة ماله يمثل إليه ماله يوم القيامة شجاعاً أقرع له زبيبتان فيلزمه أو يطوقه، يقول: أنا كنزك) ((لم يمنع قومٌ زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا). (تعجلوا إلى الحج فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له) (من أراد الحج فليتعجل، فإنه قد يمرض المريض، وتضل الضالة، وتعرض الحاجة).

تحريم السرق واللواط والزنا

تحريم السرق واللواط والزنا يقول صلى الله عليه وسلم: (عرضت عليَّ الجنة حتى لو مددت يدي لتناولت من قطوفها -عناقيدها- وعرضت عليَّ النار، فجعلت أنفخ خشية أن يغشاكم حرها، ورأيت فيها سارق بدنة رسول الله، ورأيت فيها أخا بني دعدع سارق الحجيج، فإذا فطن له قال: هذا عمل المحج) وفي رواية: (ورأيت فيها صاحب المحجن -وهي عصا ملوية- يجر قُصبه في النار-أمعاءه- كان يسرق الحاج بمحجنه فإن فطن له قال: إنما تعلق بمحجني، وإن غُفل عنه ذهب به، ورأيت فيها امرأةً طويلة سوداء تعذب في هرة ربطتها، فلم تسقها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض، حتى ماتت). (لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده) (إن أخوف ما أخاف على أمتي عمل قوم لوط) (إن الله لا يستحي من الحق، لا تأتوا النساء في أدبارهن) (من أتى بهيمةً فاقتلوه واقتلوها معه) لقد أفسدها إفساداً لا يرجى لها صلاح، ولا خير في حياتها، ولا خير لها في الحياة (لا ينظر الله إلى رجلٍ أتى رجلاً أو امرأة في الدبر) (لا ينظر الله إلى رجلٍ جامع زوجته في دبرها) (إذا استعطرت المرأة فمرت على القوم ليجدوا ريحها فهي زانية) (إذا زنى العبد خرج منه الإيمان فكان على رأسه كالظلة، فإذا أقلع رجع إليه). اللهم إنا نعوذ من الكبائر ما ظهر منها وما بطن، اللهم اجعلنا عاملين بطاعتك، مجتنبين لمعصيتك، وقافين عند حدودك يا رب العالمين! أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. الحمد لله الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، أشهد أنه الحي القيوم الرحمن الرحيم، لا إله إلا هو خلق فسوى، وقدر فهدى سبحانه وتعالى، وصلى الله وسلم على نبينا محمد علمنا فأحسن تعليمنا، وأدبنا فأحسن تأديبنا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أيها المسلمون: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذابٌ أليم: شيخٌ زانٍ، وملكٌ كذاب، وعائلٌ مستكبر) أي: فقير متكبر (ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذابٌ أليم: أشيمط زانٍ، وعائل مستكبر، ورجلٌ جعل الله بضاعته لا يشتري إلا بيمينه ولا يبيع إلا بيمينه). (العينان تزنيان، واليدان تزنيان، والرجلان تزنيان، -بالنظر إلى ما حرم الله، ومس ما حرم الله، والمشي إلى ما حرم الله- والفرج يزني) (لأن يزني الرجل بعشر نسوة خيرٌ له من أن يزني بامرأة جاره، لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر له من أن يسرق من بيت جاره).

تحريم شرب الخمر

تحريم شرب الخمر يقول صلى الله عليه وسلم في تحريم شرب الخمر: (ثلاثة قد حرم الله عليهم الجنة: مدمن الخمر، والعاق، والديوث الذي يقر في أهله الخبث) (ثلاثة لا تقربهم الملائكة السكران) (الخمر أم الخبائث، فمن شربها لن تقبل صلاته أربعين يوماً، فإن مات وهي في بطنه مات ميتةً جاهلية) (شارب الخمر كعابد وثن) (إن على الله لعهداً لمن شرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال، عرق أهل النار) (من شرب الخمر في الدنيا، ثم لم يتب منها؛ حرمها في الآخرة) وهؤلاء سيفجرون بعد رمضان ويسافرون، ويقطعون الجسر لشرب الخمر، فتباً لهم ما قدمت أيديهم، ينهون شهر الصيام بأعمال المنكرات، هل يريدون أن يكفروا عن حسناتهم؟ فيحلوا بدلاً منها السيئات، يسافرون في معصية الله، وينفقون الأموال فيما حرم الله، ويختمون هذا الشهر الكريم الذي انصرم بالكبائر والمحرمات؟

الحث على الصدقة

الحث على الصدقة قال الصحابي: (شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة يوم العيد فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة، ثم قام متوكئاً على بلال، فأمر بتقوى الله، وحث على طاعته، ووعظ الناس وذكرهم، ثم مضى حتى أتى النساء، فوعظهن وذكرهن فقال: تصدقن فإن أكثركن حطب جهنم، فقامت امرأة من سطة النساء فقالت: لِمَ يا رسول الله؟! قال: لأنكن تكثرن الشكاة -الشكاية والتذمر والتأفف- وتكفرن العشير -وهو الزوج، تجحدن نعمته وحقه- قال: فجعلن يتصدقن من حليهن، يلقين في ثوب بلال من أقراطهن وخواتمهن). هكذا كان موقف نساء الصحابة مع أنهن أفضل نساء الأمة، يتصدقن ويلقين بأقراطهن في ثوب بلال والرسول صلى الله عليه وسلم يذكرهن.

عظم حق الزوجين على بعضهما

عظم حق الزوجين على بعضهما وإحياءً لهذه السنة فإن عند النساء من يجمع صدقاتهن في سبيل الله، فعليكن يا معشر النساء! بالصدقة في هذا اليوم؛ فإنها سنة ترجن بها ثواب الله والعتق من النار، وكذلك الرجال يشاركون إن شاء الله. يا أيتها النساء! اذكرن الله في بيوتكن، كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. يا معشر النساء! إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت، فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح، إذا كان بغير عذرٍ، لا مرض ولا عذر شرعي. (اثنان لا تجاوز صلاتهما رءوسهما: عبدٌ آبق من مواليه حتى يرجع، وامرأة عصت زوجها حتى ترجع) (إذا دعا الرجل زوجته لحاجته فلتأته وإن كانت على التنور) لا تنفق امرأة شيئاً من بيت زوجها إلا بإذنه. يا معشر النساء! (إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحصنت فرجها، وأطاعت زوجها، قيل لها: ادخلي من أي أبواب الجنة شئتِ) (انظري أين أنتِ منه فإنما هو جنتك أو ناركِ) (خير النساء التي تسره إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه في نفسها ولا مالها لما يكره) (لو تعلم المرأة حق الزوج لم تقعد ما حضر غداؤه وعشاؤه حتى يفرغ منه) (لا تصم المرأة وبعلها شاهد إلا بإذنه). (ألا أخبركم بنسائكم من أهل الجنة؟ الودود، الولود العئود -التي تعود إلى زوجها إذا غضب- التي إذا ظلمت قالت: هذه يدي في يديك لا أذوق غمضاً حتى ترضى). يا معشر الرجال! رفقاً بالقوارير. يا معشر الرجال! عاشروهن بالمعروف. يا معشر الرجال! لا تضربوهن ضرباً مبرحاً. يا معشر الرجال! قوموا بحق البيت وأعفوا نساءكم. فإن كثيراً من الذين ضيعوا البيوت وقع نساؤهم في الحرام. يا معشر الرجال! أنتم الرعاة وأنتم المسئولون عن الرعية، وإن الله سيوقفكم يوم القيامة، فيسألكم حتى يسأل الرجل عن أهل بيته كما جاء في الحديث الصحيح.

الحث على صيام ست من شوال

الحث على صيام ست من شوال أيها المسلمون: صيام ستة أيامٍ من شوال بصيام شهرين، وصيام رمضان بعشرة أشهر فهذه تمام السنة، يجوز البدء بصيام الست من ثاني يوم بعد العيد، لأن صيام العيد حرام. يا أيتها النساء ويا أيها الرجال الذين عليهم قضاء! قدموا القضاء قبل صيام الست لتحصيل الأجر الوارد في الحديث: (من صام رمضان ثم أتبعه بستٍ من شوال) فأتبعه بستٍ من شوال يعني: أولاً إنهاء رمضان تماماً بما فيه من القضاء، ثم إتباعه بستٍ من شوال، يا أيتها المرأة! اقضيه ولو وقع في الست من ذي القعدة، لا يضرك ذلك إن شاء الله وأنتِ مأجورة.

وصايا متنوعة

وصايا متنوعة يا معشر المسلمين! اتقوا الله ولا تهدموا قصور الحسنات التي بنيتموها في رمضان، اتقوا الله، تناسوا الأحقاد في هذا العيد، ألم تعلموا أن ليلة القدر رفعت بسبب تلاحي رجلين. أيها المسلمون! صِلوا أرحامكم في هذا العيد، كل بيتٍ حلفت ألا تدخله من بيوت أرحامك بسبب غير شرعي كفر عن يمينك وادخل البيت، ولو كفرت عن يمينك بعد دخولك البيت لا حرج عليك. أيها المسلمون! هذا يومٌ نتذكر فيه حال إخواننا في بلدان المسلمين المحاصرة، الأطفال اليتامى، النساء الأرامل، العجزة والمساكين، هؤلاء لهم حقوقٌ علينا، نتذكر حالهم في هذا العيد، في غمرة مشاعر الفرحة والبهجة اذكروا إخواناً لكم، قال قائلهم: لقد انتهت الحيوانات التي في البلد، جميع الأبقار والأغنام والقطط والكلاب والحمير انتهت، ونحن الآن نموت من الجوع، ولا نجد شيئاً نُفطر عليه، من آخر التقارير من بلاد البوسنة، وظلم العالم أجمع للمسلمين واضحٌ جداً في هذه المأساة حتى نقطع الأمل بالكفار، والله لو كان في بلدٍ من بلدانهم لأقاموا الدنيا وأقعدوها، لكنهم يدٌ تنفذ وفمٌ يسكت، والضحية هم المسلمون. اللهم أنج المستضعفين من المسلمين، اللهم ارفع الظلم عن المضطهدين، اللهم إنَّا نسألك أن تفرج كروبنا وكروب المسلمين، يا مفرج الهم فرج همومهم. اللهم ارفع الظلم عن المستضعفين من المسلمين، اللهم إنا نسألك أن تكون معهم يا رحمن! اللهم إنا نسألك أن تطعمهم فإنهم جاعوا، وأن تكسوهم فإنهم تعروا، وأن تحملهم فإنهم لا نعال لهم، اللهم إنا نسألك أن ترفع لواء هذا الدين، وتجعل سراجه وهاجاً، وتدخل الناس في دينك أفواجاً، اللهم قيظ لهذه الأمة من يرفع لواء الدين فيسير به، واجعلنا من الجنود المجاهدين في سبيل ذلك يا رب العالمين! اللهم أبرم لهذه الأمة أمراً رشيداً، تعز فيه أهل طاعتك، وتذل فيه أهل معصيتك، اللهم من أراد ببلدنا هذا أو بلاد المسلمين سوءً فاردد كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء! اللهم اشف مرضانا وارحم موتانا، واقض ديوننا، ورد غائبنا واهد ضالنا وفك أسرانا يا رب العالمين! اللهم أزح الظلم والطغيان عن رقاب المسلمين، اللهم أعتق رقابنا من النار، واجعلنا بعد رمضان خيراً مما كنا قبله، اللهم اجعلنا من المستمرين في طاعتك ولا تجعلنا ممن قطع الطاعات، اللهم اجعلنا ممن يقومون ويصومون من النوافل ولا تجعلنا ممن يقطعونها بعد رمضان. وعودوا من طريقٍ غير الطريق التي جئتم فيها؛ حتى يشهد لكم الطريقان عند الله بالجنة. أقول قولي هذا وأستغفر الله، وأستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

خطورة الولاء الفكري لأعداء الله

خطورة الولاء الفكري لأعداء الله عرض الشيخ -حفظه الله- في هذه المحاضرة الكثير من المبادئ التي تهدم بمعول الإلحاد والزندقة صرح الإسلام ومنارة الدين، والتي قد تلقاها بعض أبناء المسلمين الذين ذهبوا إلى الغرب لتلقي الدراسات العليا، حيث تم دس السم في العسل. وقد فند الشيخ هذه الشبه بعد أن بين مصادرها ودعاتها، سواء كانت في العقائد أو السلوك أو الأدب أو اللغة.

مخططات الغزو الفكري على المسلمين

مخططات الغزو الفكري على المسلمين الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فإن منهج التربية الإسلامية ينبغي أن يكون متكاملاً للفرد المسلم، فيعرف معاني كلام الله ومعاني حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك ينبغي أن يلمَّ بتاريخه الإسلامي، وينبغي أن يكون واعياً لما يدبره أعداء الإسلام من كيد للمسلمين، والذين يغفلون الجانب الأخير من جوانب التربية -وهو تربية الفرد المسلم على الوعي، وعلى ضرورة تتبع مخططات أعداء الإسلام- يخسرون كثيراً؛ لأنهم سيعيشون في زاوية مظلمة لا يشعرون بما يحاك حولهم، وهذا المعنى أيها الإخوة مهم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على فضح مكائد اليهود وخطط المنافقين، وكان القرآن ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم مبيناً هذا الأمر.

السبب في ملاحقة المسلمين لحضارة الغرب

السبب في ملاحقة المسلمين لحضارة الغرب وموضوعنا في هذه الليلة يتصل بهذه القصية اتصالاً وثيقاً جداً، وهو موضوع له خطورة وشأن وحساسية، وهذا الموضوع هو: (خطورة الولاء الفكري لأعداء الله) وبعبارة أخرى: خطورة تبني أفكار الكفار. لقد نشأت أجيال من المسلمين في هذا العصر تتبنى آراء الكفرة وتعتقد بها وتدعو إليها، وحصلت نتيجة هذا ونتيجة نشرهم لأفكارهم في أوساط المسلمين أضرار عظيمة على المسلمين، لا نزال نلمسها بين حين وآخر حتى في بيوتنا. والأخذ من الكفرة وتبني مواقفهم دليل على الزيغ وعلى النفاق والعياذ بالله، والله عز وجل حذرنا أن نتولى الكفار، فقال سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] ومن يتولهم سواء أعانهم أو ناصرهم أو حماهم أو دافع عنهم أو تبنى أفكارهم أو دخل في عقدهم أو أقام بينهم محباً لهم: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51]، وقال عليه الصلاة والسلام: (من تشبه بقوم فهو منهم) أي: تشبه بأفكارهم أو بمظهرهم. وكثير من أبناء المسلمين مع الأسف قد وقعوا فيما حذر الله ورسوله، فتبنى كثير منهم آراء الكفرة ودعوا إليها ونافحوا عنها، وربما كانوا أكثر حماساً من أصحابها الأصليين، وصادف ذلك جهلاً في أوساط المسلمين حملهم على التقليد الأعمى لهذه الشعارات والمذاهب التي طرحت في الساحة، والرسول صلى الله عليه وسلم حذرنا وقال: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة -وفي رواية: حذو النعل بالنعل- حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، وحتى لو أن أحدهم نكح أمه علانية لكان في أمتي من يفعل ذلك) القذة: ريش السهم المجتمعة في النصل، فأنت تراها متتابعة ومتقاربة آخذ بعضها ببعض، وهكذا سيتبع كثير من المسلمين الكفرة كما أخبر عليه الصلاة والسلام متابعة شديدة لصيقة لما عليه الكفار من الآراء والمعتقدات، وهذا ما حصل وبالذات بشكل واضح في هذا العصر، حيث حصل من هذا التشبه وهذه المتابعة للكفرة ما لم يحصل في تاريخ المسلمين في أي زمان مضى. ولذلك نجد أن حال المسلمين اليوم من الضعف والمهانة لم يصلوا إليها من قبل قط، وأحد الأسباب الرئيسية هي قضية (لتتبعن سنن من كان قبلكم) فتابعناهم في الأفكار والمعتقدات والمذاهب السائدة عندهم، وفي أشكالهم وهيئاتهم وملابسهم وطريقة حديثهم وكلامهم وهكذا.

بداية التخطيط للغزو الفكري

بداية التخطيط للغزو الفكري وتبدأ القصة عندما وجد أعداء الإسلام الذين احتلوا بعضاً من بلدان المسلمين أو أجزاء كبيرة جداً من بلدان المسلمين، وجدوا أن القهر بالقوة لا يفيد في مسخ الشخصية الإسلامية، بل إنه سيتولد عنه جهاد إسلامي ضد هؤلاء المحتلين المعتدين، ففكروا مراراً وتكراراً -من يوم أن أسر ذلك الملك الكافر في المنصورة ثم أطلق سراحه- في كيفية وضع منهج يتغلغلون فيه في بلاد المسلمين حتى يطيحوا بعقيدة المسلمين، ويجعلوا أبناء المسلمين تبعاً وأذناباً لهم. وعندما ندرس كيفية انتشار بعض المذاهب الهدامة في بلدان المسلمين كـ القومية مثلاً، فإننا سنجد أيها الإخوة أن المسألة بدأت من بعض الكفار الذين يعيشون في بلدان المسلمين كالنصارى مثلاً الذين لهم اتصال وثيق أصلاً بالكفار، فنقلوا مبادئ الكفار إلى بلدان المسلمين، وساعد هؤلاء -الطابور الخامس- الكفرة على ترحيل أجيال من أبناء المسلمين إلى بلدان الكفار ليتربوا هناك فينشئوا على الكفر ثم يعودوا إلينا. ولذلك عندما تدرس أي مذهب هدام انتشر في بلدان المسلمين كـ القومية أو الشيوعية أو الوطنية أو زمالة الأديان أو المذاهب الأدبية الهدامة أو الدعوة لتحطيم اللغة العربية، تجد أنها نشأت في الأصل من اتصال وثيق بين مرتدين وكفرة يعيشون بين المسلمين وبين الكفرة في بلدان الكفار، ثم بعد ذلك انتقلت محلياً إلى أبناء المسلمين؛ فنشأ الآن جيل من أبناء المسلمين لا يحتاج الكفار بعد ذلك أن يخططوا كثيراً من أجل تقويته ومن أجل النفوذ إلى أوساط المسلمين؛ لأنه قد نشأ بين المسلمين من يحمل هذه الأفكار وينافح عنها ويدعو إليها. وأساس البلاء أيها الإخوة هو مخالفة واضحة لذكر من أذكار الصباح والمساء الذي نقوله يومياً، وعدم اعتراف به، وهذا هو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً) هؤلاء لم يرضوا لا بالله رباً، ولا بالإسلام ديناً، ولا بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبياً، فلذلك استوردوا لنا هذه الأفكار ونقلوها إلينا، وكان بينهم وبين الكفرة اتصال وثيق -كما ذكرت آنفاً- تعبر عنه هذه الآية، يقول الله عز وجل: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} [محمد:26].

تقولات لمن يوصمون بالولاء الفكري

تقولات لمن يوصمون بالولاء الفكري والله يعلم المؤامرات التي حاكوها والدسائس التي دبروها، هؤلاء الذين يعيشون بين المسلمين قالوا للكفار: {سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ} [محمد:26] سنأخذ منكم ونتلقى عنكم ونتبنى مواقفكم وآراءكم ومذاهبكم ومعتقداتكم. فلنأخذ على سبيل المثال بعض الأمور التي انتقلت إلى بلدان المسلمين وصار لها خطورة واضحة جداً فمثلاً: الدعوة إلى الارتماء في أحضان الكفار وأخذ حضارتهم دون وعي ولا تمييز، عندما نأخذ شخصية مثل طه حسين الذي لقبوه بعميد الأدب العربي ورشح يوماً من الأيام لجائزة نوبل، هذا الرجل الذي ذهب إلى فرنسا وتربى هناك ورضع من ألبان الكفرة فكرياً، لما ألف كتابه: مستقبل الثقافة في مصر يقول فيه: بل نحن قد خطونا أبعد جداً مما ذكرت، فالتزمنا أمام أوروبا أن نذهب مذهبها في الحكم، ونسير سيرتها في الإدارة، ونسلك طريقها في التشريع، التزمنا هذا كله أمام أوروبا لأننا حريصون على التقدم والرقي. وهذا سلامة موسى صديق طه حسين يقول متحدثاً عن نفسه: إنه شرقي مثل سائر مواطنيه، ولكنه ثار على الشرق -وهم يعبرون بكلمة الشرق عن بلاد الإسلام ومهبط والوحي وديار الرسالة الخاتمة- عندما أيقن أن عاداته تعوق التقاءه، ودعا إلى أن يأخذ الشرقيون بعادات الغربيين كي يقووا مثلهم. فهو إذاً يدعو صراحة إلى هذا. ومن هؤلاء أيضاً: أحمد لطفي وصهره إسماعيل مظهر وقاسم أمين؛ هؤلاء دعوا إلى نفس الفكرة أن نحذو حذو الكفار، وأن نأخذ الحضارة الغربية بحلوها ومرها، لكي نتقوى مثلهم. هؤلاء هل هم يجهلون أن القوة في التمسك بالإسلام؟! أم أنهم يريدون أن يرسخوا في أذهان أبناء المسلمين هذه الحقيقة الكفرية، وكذلك احتقار الماضي الإسلامي وتربية الأجيال تربية لا دينية؟! ويقول صاحب كتاب: مصر ورسالتها: عندما فتح العرب مصر. انظر إلى الكيفية التي يعبرون بها عن إرادتهم لسلخ أبناء المسلمين عن ماضيهم، وعن تاريخهم الإسلامي، هم يريدون قطع الصلة بين النشء المسلم وبين التاريخ الإسلامي. يقول: عندما فتح العرب مصر عام ستمائة وأربعين للميلاد كانت ولاية بيزنطية تحكم من القسطنطينية، وعندما غزا الفرنسيون مصر عام (1798) وجدوها ولاية عثمانية تحكم من نفس القسطنطينية. فبين عام (640) وبين (1798) تقريباً اثنا عشر قرناً، ألف ومائتا سنة، هذه الفترة التي حكمت فيها مصر حكماً إسلامياً من دخول المسلمين بقيادة عمرو بن العاص إلى مصر وحتى انتهاء سلطة الخلافة العثمانية على مصر باحتلالها. يقول: لم يكن حالها عام (1798) بأحسن من حالها عام (640) كان الناس في بؤس وذل، وكان البلد في خراب، ثم يقول: فكأن اثني عشر قرناً من تاريخ ضاعت سدى، كأن هذه السنوات الكثيرة قد انقضت ونحن نيام بعيدين -هكذا على حد تعبيره- عن الوجود. ثم يقول: شيء لم يحدث في تاريخ بلد مثل مصر أبداً، تصور اثني عشر قرناً ونصف تذهب سدى. معناها: هذه فترة الحكم الإسلامي في مصر كلها كانت هباءً منثوراً، ما استفادت منها البلد ولا شيء، فإذاً يقول: نحن نريد أن نستمر الآن ونبتدئ حياة جديدة بعد عصور الذل التي عشناها. لقد سلخ أبناء الأمة المسلمين عن التاريخ الإسلامي وعن القيادات الإسلامية التي حكمتهم.

كيف حطم الغرب تاريخ المسلمين ودينهم؟

كيف حطم الغرب تاريخ المسلمين ودينهم؟ وسوف أتكلم في محاضرة خاصة عن أهداف المستشرقين في تحطيم التاريخ الإسلامي في أذهان المسلمين، والذين تابعوهم كيف تابعوهم؟ وما هي الآثار التي حصلت من جراء طرح تلك الأفكار الاستشراقية في أوساط المسلمين؟

مخططات الأعداء في التربية والتعليم

مخططات الأعداء في التربية والتعليم أما بالنسبة للتربية والتعليم، فإنك قد تجد أنه قد أوجد هناك بعد كرومر ودنلوب قيادات وقدوات وهمية زائفة في الحقيقة سلمت إليها مقاليد التربية والتعليم في بلدان العالم الإسلامي، ونفذت المخططات التي أمليت عليها في بلدان المسلمين فخرج النشء خراباً، ولذلك يقول أحدهم -بعد دنلوب -: أصبحت كثير من أذهان المسلمين مثل إطارات دنلوب، يعني في الفراغ الذي أحدث فيها. وسلك أعداء الإسلام في تحقيق ذلك سبيلين: الأول: السيطرة على التعليم في الداخل وعلى منهاج التعليم في العالم الإسلامي. الطريق الثاني: مسلك البعثات إلى الدول الكافرة. فأما سيطرتهم على التعليم في الداخل، فيتمثل في استبعاد تعليم العلوم الشرعية كلياً، وفي البعض الآخر من البلدان جعلت دراسة العلوم الشرعية دراسة غير أساسية في مناهج التعليم، بحيث إنه لا يترتب عليها نجاح ولا رسوب، وعندما ينظر الطالب إلى حقيقة الأمر وهو أن المواد الدينية لا يترتب عليها نجاح ولا رسوب، ولا يتقدم ولا يتأخر شأنه في القبول في الكليات العلمية، ماذا سيحدث؟ إن ذلك سيحدث ردة فعل في نفسه، وإهمال هذه المواد، فكيف إذا أضيف إلى ذلك تفاهة تلك المقررات التي تدرس في كثير من بلدان العالم الإسلامي، فكيف إذا أضيف إلى ذلك أن وضع مدرس الدين من ناحية المرتب والمكانة والسمعة وصل إلى الحضيض، فماذا تتوقع بعد ذلك من النشء الذين يدرسون المواد الدينية في المدارس؟ وكذلك حصل في بلدان المسلمين أن وضعت مقررات دينية نصفها إسلامي ونصفها نصراني، بزعمهم حتى تواكب احتياج الطلاب فيما يوجد في المدارس في بلدان المسلمين من نصارى، ففي بعض المقررات تجد نصفها عن الإسلام ونصفها عن النصرانية، هذه مادة العقيدة، أو مادة الثقافة الإسلامية مثلاً. وبالنسبة للتربية والتعليم أيضاً، حصلت هناك مؤتمرات لتنفيذ الخطط التي وضعها أعداء الإسلام، فمثلاً: في نشرة المؤتمر المسمى الحلقة الدراسية العربية الأولى للتربية وعلم النفس، يقول أحد الذين ألقوا كلمة أو قدموا أوراق بحث في هذه المؤتمرات يقول: فالمواطن العربي يجب أن يكون شخصاً تقدمياً يؤمن بفلسفة التغير والتطور، يجب أن يعتبر نفسه مسئولاً عن المستقبل لا عن الماضي. لا حظ العبارة، ما معنى يكون مسئولاً عن المستقبل لا عن الماضي؟ معناها: ينبذ التاريخ الإسلامي وراء ظهره. يقول: ومسئولاً أمام الأجيال القادمة لا أمام رفات الموتى. يعني: محمداً صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان وعلي وعمر بن عبد العزيز والعز بن عبد السلام والنووي وابن حجر وشيخ الإسلام ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب، هذا كله كلام على جنب، يقول: بل إنه عليه أن ينظر إلى المستقبل لا إلى رفات الموتى. ويقول كذلك أحدهم في بحث له في هذا المؤتمر: في تجاربنا الخاصة أن أخطر ما تتعرض له سيكولوجية الأطفال في هذا الصدد هو التعصب الديني. يقول: أخطر شيء في عملية تربية الطفل التعصب الديني. ويشن بعضهم غارات على قضية التلقين، أي: تحفيظ الأطفال القرآن والسنة مثلاً، يقول: هذه تهدم شخصية الطفل وتمسح مواهبه وإمكاناته. هذا كلام التجاني الماحي في الورقة التي قدمها لذلك المؤتمر. وكذلك يقول أحدهم: يرى الكثيرون أن الكتب السماوية ليس من أغراضها أن تكون موسعات يبحث المؤمنون فيها عن مشاكل العصر كي يجدوا فيها حلاً لمشكلة العمال في القرن العشرين على سبيل المثال. يقول: هذا القرآن والسنة ما فيها حل لمشكلات العصر، كيف نجد حلاً لمشكلات العمال في القرن العشرين في الكتاب والسنة؟! هذا كلام كفر بواح؛ لأن الله أنزل هذا الدين ليحكم في جميع نواحي الحياة صغيرها وكبيرها، وفي جميع الطبقات، وفي جميع الأوقات والأزمنة والأمكنة فكتاب الله يحكم على الجميع.

خطر الاقتباس من مناهج الغرب الكفرية

خطر الاقتباس من مناهج الغرب الكفرية ومجال آخر من المجالات التي يتضح فيها خطورة الولاء الفكري للكفار: اقتباس الأنظمة والمناهج اللادينية من الكفرة، فعندما تنظر في الواقع إلى جامعات العالم الإسلامي مثلاً، بعد ثورة سعد زغلول وما قام به أحمد لطفي السيد وزملاؤه، تجد أن المسألة قد وصلت إلى استيراد النظريات لتدريسها في جامعات المسلمين ومدارسهم، فمثلاً: نظرية دارون، بالمناسبة دارون ماذا يقول؟ له كتاب أصل الأنواع، وهي أشياء كثيرة منها أشهر شيء على ألسنة العامة: أن الإنسان أصله من القردة، وبعض الناس يظنون أن دارون يقول: إن الإنسان أصلاً حيوان، ولكن ليس بصحيح لأننا نحن المسلمين نقول: إن الإنسان حيوان، طبعاً ستعترضون عليّ، ولكن لأننا قد لا نعرف كلمة الحيوان في اللغة العربية، فنستنكر هذا القول، الحيوان: هو كل كائن فيه حياة، ولذلك يقول الله عز وجل: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} [العنكبوت:64] ما معنى الدار الآخرة لهي الحيوان؟ يعني هي الحياة الأبدية التامة الكاملة، حياة النعيم والسرور واللذة التي لا تنتهي، هذا بالنسبة للمسلمين، وبالنسبة للكفار: فهي حياة في جهنم، حياة سيئة لدرجة أن صاحبها لا يموت فيها ولا يحيا. فإذا قال شخص: أنت حيوان، فينبغي ألا تتهمه وتسارع إلى اتهامه بأنه قليل أدب؛ لأن المسألة في اللغة العربية صحيحة، حيوان كل كائن حي، لكن الإنسان له تركيب غير تركيب البهائم، لذلك لا تلاحظ في القرآن أنه أطلق على البهائم حيوانات، لاحظ في القرآن تجد بهيمة الأنعام، ما تجد أنه سماها حيوانات، فحيوانات هذه تسمى في كتاب الأحياء الذي درسناه، وإلا كلمة الحيوان لها مدلول غير المستقر في أذهان الناس الآن. فهذه نظرية دارون تدرس في مناهج كثير من المدارس والجامعات على أنها حقيقة علمية في مواد كثيرة كالأحياء والتاريخ الطبيعي وعلم الأرض، مع أنه قد ثبت فشلها حتى لدى الكفار أثبتوا أنها فاشلة، لكن ما زالت تدرس في أوساط المسلمين، ونظرية فرويد المتهافتة نجدها مقررة في أقسام علم النفس قاطبة على أساس أنها نظرية علمية، وفي أقسام الاجتماعيات تدرس نظرية دوركايم، بل يدرس علم الاجتماع بكامله على المنهج الغربي. ونحن نعلم أن علم الاجتماع الموجود الآن كتبه هو كعلم النفس ليس له أسس إسلامية، فللأسف علم النفس وعلم الاجتماع لم يصغ حتى الآن صياغة إسلامية، ولم تؤلف فيه كتب ومراجع إسلامية حتى يعتمد عليها، وبدأت الآن محاولات نسأل الله أن تتم وأن تنتهي إلى خير، لكن لو قلت الآن لواحد من طلاب علم النفس أو علم الاجتماع ما هي مواضيعكم التي تدرسونها وما هي مراجعكم؟ فستجد أن أكثر المواضيع وأكثر المراجع هي مراجع كتبها الكفرة ومن ترجمها من أبناء المسلمين، أو كتبها بعض أبناء المسلمين المتأثرين بتلك الكتب التي كتبها الكفار المستقاة من نظرياتهم التي وضعوها بعيداً عن الدين وعن القرآن والسنة طبعاً، وفي أقسام الكيمياء والفيزياء والفلك والطب تدرس مناهج محشوة بإيحاءات فلسفية وثنية كقولهم مثلاً: المادة لا تفنى ولا تستحدث، مع أن الله خلق السموات والأرض من العدم، (كن فيكون) أو كذلك تجد عبارات: خلقت الطبيعة كذا، وشاءت الطبيعة كذا، ومنحت الطبيعة للكائن الفلاني أو الحيوان الفلاني القدرة على التأقلم مع العوامل الجوية والبيئة إلى آخره، فتجد كلمة (منحت الطبيعة) مبثوثة ومنتشرة، أو تفسير وقوع الزلزال وسقوط النجوم وتكوين الأجنة تفسير مادي صرف لا علاقة له بأن الله قدر ذلك وخلقه وشاءه، وأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يزلزل الأرض، وأن هذه عقوبات من الله عز وجل، لا ذكر لهذه الأشياء مطلقاً. وكذلك تجد عبارات مثلاً: كان الناس قبل ظهور العلم الحديث يعتقدون كذا، فلما جاء العلم الحديث بين المسألة ووضح أنه من قبل كانت خرافات وأوهاماً، أو كانت الكتب القديمة تقول كذا، ثم جاء العلم الحديث وبين المسألة وأظهرها وكشف القضية، وكان الناس قديماً ينسبون ما يعجزون عن تفسيره إلى القوة الغيبية الخفية، ويقولون: آلهه وكذا، فالآن جاء العلم وأثبت أن المسألة لها تفسيرات يفسرها، لكن لا يذكر أن الله قدر ذلك، أو أن كل ما يجري من هذه القوانين في الطبيعة وضعها رب العزة في الكون، وأن هناك سنناً ربانية، لا يوجد أي شيء من التعرض لهذه الأشياء.

هدم الغرب لحقائق التاريخ الإسلامي

هدم الغرب لحقائق التاريخ الإسلامي وعندما تدرس قضية تدريس التأريخ، فإنك تراهم يقسمون التأريخ إلى ثلاثة أقسام: التأريخ القديم؛ العصر الحجري وما إلى ذلك، وتأريخ العصور الوسطى، وعندهم يشمل فترة ما قبل الإسلام بقليل، ثم يدخل فيه الإسلام، والتأريخ الحديث وهو يبدأ من حملة نابليون وهو مستمر إلى الآن وهذا التاريخ الحديث يطلقون عليه ألقاباً مثل: فجر النهضة الحديثة، معنى ذلك: أن ما قبل كان كله تخلفاً وعصور انحطاط، يطلقون على التاريخ الإسلام عصور الانحطاط، فضلاً عما نجد في بعض الكتب التي تدرس التأريخ الإسلامي أن مثلاً سبب غزوة بدر هي رد ممتلكات المسلمين في مكة، وأن غرض عمرو بن العاص من فتح مصر هو خصوبة الأرض، وأن العالم العربي خضع للاستعمار العثماني، وأن حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب أول ثورة عربية ضد الاحتلال التركي وهكذا. وقلت لكم: إننا سنتوسع في هذا الموضع على حدة. وأما لو ذهبت تنظر مثلاً في مواد المطالعة فإنك ترى أنها موجز للغزو الثقافي الغربي، ولا سيما إذا تصفحت الموضوعات التي تطرق إليها في كتب المطالعة، فستجد عناوين مثل: ماجلان قاهر البحار -كيف اكتشفت أمريكا؟ - إبراهيم لنكولن محرر العبيد، تحرير المرأة، ظهور القومية العربية، نابليون فاتح أوروبا، عمر بن أبي ربيعة الشاعر الماجن -ما وجدوا إلا الشاعر الماجن عمر بن أبي ربيعة - الوطنية الصادقة وهكذا.

أفكار استوردت من الغرب

أفكار استوردت من الغرب أتت الأفكار والمذاهب الكفرية أو الغربية التي وضعت في بيئات ليست إسلامية أبداًَ، ولا يمكن أن تناسب البيئة الإسلامية، ولا يمكن أن تنجح في بيئة إسلامية، استوردت فكرياً وثقافياً وامتلأت بها كثيرة من عقول المسلمين، حتى إنك تجد مع الأسف ليس فقط من تعرفهم من المغرضين والمنافقين والمجرمين والمخربين هؤلاء ولكن المشكلة عندما نرى بعض المتحمسين للإسلام على الأقل في الظاهر يكتبون كتابات: اشتراكية أبي بكر، اشتراكية عمر، وتجد حتى العقاد في كتابه التفكير فريضة إسلامية يقول: ما الذي يمنع المسلم أن يعمل للديمقراطية أو يعمل للاشتراكية، أو يعمل للوحدة العالمية؟ وما الذي يمنع المسلم من أن يقبل التطور أو يقبل الوجودية في صورتها المثلى، إلى أن قال: إن عقيدة المسلم لا تمنعه من أن يكون اشتراكياً. قضية تحكيم العقل في كل شيء، هذا مذهب المعتزلة قديماً، ولكن هناك فلسفات غربية مثل: فلسفة كمنت العقلية، نفس المنهج، حتى إن تصور أن بعض المسلمين تأثروا من فلسفة كمنت العقلية في تحكيم العقل في كل شيء أكثر مما تأثروا من فلسفة المعتزلة، مع أن المعتزلة نشأت في أوساط إسلامية، لكن من أرضية بدعية طبعاً، فتجد مثلاً محمد عبده ظاهر في أفكاره جداً تأثره بـ كمنت هذا وبفلسفته وبتحكيم العقل في القرآن وفي السنة. ومع الأسف الشديد تجد أن هذه الجرثومة قد انتقلت إلى بعض المفكرين الإسلاميين مثل ما حصل لـ حسن الترابي في نزول المسيح عيسى بن مريم وقال: أنا لا أناقش الحديث من حيث سنده، وإنما أراه يتعارض مع العقل، ونادى بتجديد بعض كتب أصول الفقه وعنده آراء عجيبة غريبة. وكذلك ما حصل من الغزالي المتأخر المسكين الذي تراجع تحت مطارق أعداء الإسلام وهم يتهمون الإسلام بأشياء، فحاول المسكين أن يدافع عنها بأمور فظهرت حديثاً في كتبه وكان لها أثر سيئ في بعض القراء الذين قرءوا له، وهذا الموضع طويل جداً وإنما كان لهذا الرجل أيضاً نصيب من تحكيم العقل في نصوص الشرع، فتجده يقول في إحدى محاضراته أمام الطلبة: تريدوني أن أذهب إلى بريطانيا لأدعو إلى الإسلام، وعندما يسألوني: هل يجوز للمرأة أن تتولى الحكم؟ أقول لهم: لا. ويحكم عقله في أشياء كثيرة فيقول مثلاً: إن دية المرأة مثل دية الرجل، وأن الأحكام الفقهية أن دية المرأة نصف دية الرجل، هذا كلام مرفوض، يعني كلام طويل جداً وإنما كان هذا الرجل وغيره من الإسلاميين ليسوا من عموم المسلمين بل من الإسلاميين الذين يدافعون عن الإسلام قد تأثروا فعلاً وتشربوا كثيراً من هذا المذهب السيئ وهو تقديم العقل على نصوص الشرع. ولذلك أنكروا أحاديث، كما ذكرت أحاديث نزول عيسى بن مريم الذي أنكره الترابي وكذلك مثل ما أنكر الغزالي حديث لطم موسى لعين ملك الموت، وأحاديث أخرى.

طريقة حصول الاستيراد الفكري الكفري

طريقة حصول الاستيراد الفكري الكفري إن استيراد المذاهب من الكفار وترويجها بين المسلمين حصل من ضمن ما حصل عن طريق الترجمة، ولذلك مثلاً تجد أن نظرية الداروينية نقلت بالدراسة المستفيضة من قبل أشخاص، مثل: شبهي شميل وسلامة مظهر والأولان نصرانيان أشهرا إلحادهما وكفرهما والآخر مسلم الأصل ولكن كلامه لا يدل على أن له صلة بالإسلام ألبتة.

تيارات الإلحاد في عدد من المجالات الشرعية

تيارات الإلحاد في عدد من المجالات الشرعية وكذلك الإلحاد من الموجات أو التيارات التي اكتسحت العالم الإسلامي تيار الإلحاد، إنكار وجود الله والتمرد على كل شيء، وخذ لك مثلاً: إسماعيل أحمد أدهم الذي أتى من تركيا بعد إعلان العلمانية ألف رسالة صغيرة عنوانها: لماذا أنا ملحد؟. وكذلك عندما تنظر حتى في بعض الشعراء المعاصرين كـ الرصافي والزهاوي، من شعراء العراق مثلاً، فإنك تجد بعض دواوينهم مملوءة بالأفكار الإلحادية، فهذا مثلاً الزهاوي يقول في أحد رباعيته: ما نحن إلا أقردٌ من نسل قردٍ هالك فخر لنا ارتقاؤنا في سلم المدارك حتى التيارات الأدبية التي نشأت في بلاد الكفار كان لها أيضاً تغلغل كامل وكبير في أوساط المسلمين الأدبية، في الصحافة وغيرها، وسنعرج على بعض منها بعد قليل.

مجال الحكم والتشريع

مجال الحكم والتشريع وهو من المجالات الخطيرة جداً ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: (لينقضن الإسلام عروة عروة فكلما انتقضت عروة يتشبث الناس بالتي تليها، وأولهن نقضاً الحكم وآخرهن الصلاة). هذا المبدأ، مبدأ الحكم والتشريع، كان له نصيب وافر من دخول الأفكار الغربية إلى بلدان المسلمين، لما أسقطت الخلافة العثمانية الإسلامية وقع المسلمون في صدمة نتيجة إلغاء كمال أتاتورك لهذه الخلافة، وفي أثناء الصدمة ظهر رجل أزهري مع الأسف -كان له فضل كما يقول المستشرق شمدز - في تخفيف وطأة ما فعله أتاتورك على مشاعر المسلمين، وذلك الرجل هو: علي عبد الرازق صاحب كتاب الإسلام وأصول الحكم وهو من أخبث ما كتب في هذا الموضوع، لأنه كان من أوائله، وقد جمع في كتابه بين أسلوب المستشرقين في تحوير الفكرة وبين طريقة الباطنية ليصل في النهاية إلى نتيجة أن الإسلام كالمسيحية المحرفة، علاقة روحية يبن العبد والرب لا صلة لها بالواقع أبداً، هذه خلاصة كتاب الإسلام وأصول الحكم. والغريب أن هذا الشخص لم يحصل على مراجع معتبرة، وإنما ستندهش أنت عندما تسمع مراجعه عندما يقول: وإذا أردت مزيداً في البحث فارجع إلى كتاب الخلافة، من هو مؤلف كتاب الخلافة؟ يقول: فارجع إلى كتاب الخلافة للعلامة السير تومس أرنولد ففي الباب الثاني والثالث منه بيان ممتع ومقنع، هذا مرجع علي عبد الرازق الذي يريدنا أن نتوسع فيه!! ومن الآثار السيئة لهذا الكتاب الإسلام وأصول الحكم وهو فصل الدين عن الحياة: أن الأحزاب العلمانية الكفرية في مصر وجدت مستنداً وقاعدة لها في القيام وإعلان مبادئها الإلحادية بعد أن كانت تتستر من قبل، فعندما وجدت هناك من ينادي بأن الدين شيء والحياة شيء، قامت هذه الأحزاب الكفرية وأعلنت عن برامجها الإلحادية، وعن براءتها من الدين والمتدينين، وفيما كانت مصر مؤهلة لقيادة العالم الإسلامي من جديد، وكان الاستعمار أو الاستخراب يلم شعثه لمغادرتها ثارت زوبعة حول صلة الإسلام بالحكم تزعمها كاتب نصراني آخر أو كتاب بالأحرى أمثال: سلامة موسى ولويس عوض وأناس يدعون إلى الإسلام، ومن بين هؤلاء الناس خالد محمد خالد في كتابه: من هنا نبدأ، كان من الذين تورطوا في قضية الدعوة لفصل الإسلام عن الحياة، وقد رد عليه، حيث استخدم فيه أسلوباً ذكياً وماكراً، وبعض الناس مخدوعون بكتابه رجال حول الرسول. صحيح أن هذا الرجل قد يكون تاب من أفكار كثيرة بل قد يكون بعض الذين نمر بأسمائهم تراجعوا عن أشياء ولكن نحن نعلم هذه قاعدة مهمة جداً: أن التوبة الصحيحة لصاحب الفكر الهدام أن يعلن علناً عن تراجعه عن أفكاره، وليس أن يتراجع فيما بينه وبين نفسه ويقول: لقد تبت، كما أنه سمم عقولاً من خلال كتاباته فيجب أن يعيد الآن ويصحح ويعلن توبته من المبادئ السابقة، لا يكفي أن يقول بينه وبين نفسه: أنا تبت وأنا رجعت، ولذلك نحن نبقى على إدانتهم بكتبهم حتى يظهر لنا منهم تراجع واضح عن كتاباتهم السابقة. وكذلك ما يدعى بالشيخ عبد المتعالي الصعيدي يحاول هدم الحدود الإسلامية، مثل حد الردة والقتل والزنا والخمر، لماذا؟ يقول: هذه أوامر للاستحباب وليست للوجوب، هذا مستنده، ثم يصل في النهاية يقول: ولذلك الحدود ليست مسألة مهمة وليس هناك ما يجبرنا على إقامتها.

الإلحاد في وصف الإسلام بالرجعية

الإلحاد في وصف الإسلام بالرجعية ومن الأمور أيضاً القول: إن الإسلام دين رجعي جامد متأخر لا يصلح للتطبيق اليوم ولا يساير الحياة، والقول بأنه يكبل المرأة. وفي المقابل ظهرت فكرة أخرى من بعض المساكين من أبناء المسلمين مثل الغزالي المعاصر الذي يقول: لا. أنتم تتهمون الإسلام بالجمود والرجعية لا، الإسلام دين متطور، ودين مرن، ودين يقبل، هات أي شيء وأنا مستعد أن أبرهن لك أن الإسلام مرن. هذا ما حصل لبعض الناس المساكين، أي: قد تكون نيته طيبة يريد أن يدافع عن الإسلام، يرى هجوم الكفار والملاحدة الإسلام دين جامد، الإسلام دين لا يقبل التطور، الإسلام دين غير مرن، الإسلام لا يستوعب الحياة والمخترعات الحديثة، فيأتي هذا المسكين يريد أن يدافع فيقع في مزلق خطير جداً، وهو أن يجعل الإسلام فضفاضاً ومائعاً ومستعداً أن يحتوي الذي يعتقد به من الأفكار، ويقول: الإسلام سبق إلى الاشتراكية، هذه فكرة الاشتراكية في محاسن الإسلام، أنتم أيها الغربيون شغلتم المرأة واستفدتم، إذاً الإسلام يدعو إلى تشغيل المرأة وإلى، ماذا تريد المخترعات الحديثة والطيارات؟ الإسلام فيه، انظر سورة الفلق، {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق:4] وهكذا تجد هؤلاء المساكين يميعون الإسلام ويجعلونه رخواً لأنهم يريدون أن يردوا على الكفار الذين يتهمون الدين بالجمود فيميعون الدين ويقولون: هذا دين مرن، دين متطور؛ ولذلك هم يدعون إلى تطوير الفقه.

الإلحاد في الفقه وأصوله

الإلحاد في الفقه وأصوله من الشعارات الهدامة مسألة تطوير الفقه الإسلامي: وهل كان الفقه الإسلامي متخلفاً حتى نأتي الآن في القرن العشرين ونطوره؟! أم أن الآية أو الحديث الذي فيه كيفية الصلاة في البحر هو نفسه الذي ينطبق على كيفية الصلاة في الطائرة، ما نحتاج إلى تطوير شيء، إنها أشياء موجودة، والذكر الذي يقال عند ركوب الجمل (سبحان الذي سخر لنا هذا) هو نفس الذكر الذي يقال عند ركوب السيارة أو المصعد الكهربائي، ولكن المشكلة أن الناس هؤلاء ما عندهم فقه قائم ومؤسس على علم السلف ولكن عندهم ثقافة إسلامية عامة مع جرأة عقلية، فهاتان الدعامتان من أكبر الكوارث التي أدت إلى انحراف كثير من الكتاب الإسلاميين المعاصرين: ثقافة إسلامية عامة وليس علماً شرعياً مؤصلاً ومؤسساً، ثقافة إسلامية عامة زائد جرأة، فتتكون بعد ذلك أفكار عجيبة وغريبة.

مبادئ الحط من قدر الإسلام

مبادئ الحط من قدر الإسلام وكذلك من الأمور التي انتشرت القول: إن الإسلام ليس له نظم، يعني: ليس هناك شيء اسمه نظام اقتصادي في الإسلام، أو نظام اجتماعي، الإسلام عبارة عن مجموعة توجيهات عامة استمد النظم من القانون الروماني والبيزنطيين والفرس، وهذه مجموعة أشياء أتى بها الإسلام. وكذلك نشر مبدأ الخلط بين الإسلام والمسلمين، وهناك فرق بين الإسلام والمسلمين، الإسلام هو الحق، والمسلمون قد يكونون مقصرين، وقد يكونون على الحق، قد يكونوا منتسبين للإسلام بالاسم، ولذلك ما الذي يحول اليوم بين دخول الكفرة في الدين؟ إن من أكبر العوامل عندما يرى الفليبيني أو الكوري المسلم يعمل الموبقات والكبائر، عندما يذهب الفليبيني إلى مانلا فيرى أن هناك واحداً من مكة أو من أي بلد من بلاد المسلمين يفجر ويفسق، هل سيدخل في الدين؟ فإذاً: هناك فرق بين الإسلام والمسلمين، ولذلك تصرفات بعض المسلمين في كثير من الأحيان هي عبارة عن سد منيع ضد دخول الكفار في الإسلام، وهؤلاء الملاحدة يحاولون أن يرسخوا الفكرة في العالم، يقول: الإسلام هو المسلمون، يصورون مثلاً في أفلامهم مناطق من بلدان العالم الإسلامي متخلفة بها جهل وفقر ثم يعرضون عليهم الأفلام ويقولون: هذا هو الإسلام، مع أن هناك فرقاً، لماذا لم يعرضوا صورة الحياة في عهد عمر بن عبد العزيز مثلاً؟

نعرات القومية العربية

نعرات القومية العربية ومن الدعوات الهدامة كذلك التي نفذت إلى بلدان المسلمين: الدعوة القومية، التي يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأنها: (من قاتل تحت راية عُمية أو عَمية -وبعض الذين يضبطون الأحاديث يقول: عِمية- يغضب لعصبة أو يدعو إلى عصبة أو ينصر عصبةً فقتل فقتلته جاهلية) مات ميتة جاهلية. والدعوة إلى القومية أيضاً في الحقيقة بدأت على أيدي النصارى، ومن أوائل من رفعوا لواء القومية العربية وأسسوا لذلك الجمعيات العلمية والأدبية في دمشق وبيروت والقاهرة وباريس وأسسوا التنظيمات السرية التي فجرت ما يسمى بالثورة العربية الكبرى التي كان الضابط لورانس الكافر من أهم قادتها وضمت نصارى العرب، ومن أوائل من قام بهذا ميشيل عفلق الذي يقول: إن الأمة العربية تعبر عن نفسها بأشكال متنوعة، فمرة تعبر عن نفسها بشريعة حمورابي، ومرة تعبر عن نفسها بأشياء من الشعر الجاهلي يأتي بها، ومرة بدين محمد، ومرة بعصر المأمون وهكذا. ويقول محمود تيمور؛ وهو من كبار دعاة القومية: لئن كانت لكل عصر نبوته المقدسة، إن القومية العربية هي نبوة هذا العصر. ويقول الضال الآخر محمد أحمد خلف الله في مقال له: (القومية العربية كما ينبغي أن نفهمها) إن الساسة ينادون بـ القومية العربية، وتحقيق الوحدة العربية أقرب منالاً من تحقيق الوحدة الإسلامية. يقول: لو رفعنا القومية العربية يسهل توحيد هؤلاء العرب، لكن بالإسلام لا يمكن أن نوحدهم. ويقول عمر الفاخوري وهو ضال آخر في كتاب له سماه: كيف ينهض العرب يقول: لا ينهض العرب إلا إذا أصبحت العربية أو المبدأ العربي ديانة لهم يغارون عليها كما يغار المسلمون على قرآن النبي الكريم. انظر يقول: إذا نريد أن نطور وفعلاً نتحد؛ لا بد نغار على القومية مثل ما يغار المسلمون على قرآن النبي الكريم. يقول: ومثل ما يغار المسيحيون والكاثوليك على إنجيل المسيح الرحيم، ومثل ما يغار البروتستانت على تعاليم لوثر الإصلاحية، وهكذا. وقد قيض الله وله الحمد والمنة عدداً من كتاب المسلمين من فضح هذا الاتجاه وعراه ونقده، وهناك مرجع وهو كتاب: نقد القومية العربية. رسالة ماجستير، القومية العربية للشيخ صالح العبود، وهي من الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، وكذلك الأستاذ محمد قطب يقول عن تاريخ هذه القومية: إن أول من نادى بـ القومية العربية هم نصارى لبنان وسوريا، وانضم إليهم المسلمون الذين تربوا في مدارس التبشير، ثم انضم إليهم المستغفلون من المسلمين. ونجح ساطع الحصري وهو علم من أشهر أعلام القومية العربية، وهو رجل أعجمي لا يستطيع الكلام بالفصحى ويضمر عداءً شديداً؛ نجح في نشر فكرة القومية بأبعادها. ونحن نقول: العرب في الجاهلية هل وجد مَن أشد في العروبة منهم؟ لا في شعرهم وقوته وجزالته، ولا في نخوتهم، ولا في شجاعتهم وكرمهم. الإسلام أقر العرب على الأخلاق الحميدة وأتى بزيادة عليها من الخصال الحميدة، لكن لما كانوا عرباً أقحاحاً ماذا كان وضعهم؟ يقتل بعضهم بعضاً، يسبي بعضهم بعضاً، يغير بعضهم على بعض، يئدون البنات، وكان عندهم للمومسات أعلام توضع فوق بيت الزانية ويدخل إليها وينسب الولد، ومشاكل كثيرة جداً، وكانوا نهبة للفرس والروم، ومطمعاً لكل طامع، يأكلون الخنافس والجعلان. فماذا حصل؟ فلماذا يريد هؤلاء المأفونون أن يرجعونا إلى العربية أو إلى مرحلة العرب ما قبل الإسلام؟

الوطنية والشعارات المجوفة

الوطنية والشعارات المجوفة وكذلك من الأفكار الهدامة أيضاً: الدعوة إلى الوطنية، وهي تقديس الوطن بحيث يصير الحب فيه، والبغض لأجله، والقتال من أجله، وإنفاق الأموال من أجله، حتى يطغى على الدين، وتحل الرابطة الوطنية محل الرابطة الدينية، وهذه أيضاً الدعوة من الدعوات الكفرية الإلحادية التي يقصد بها تمزيق العالم الإسلامي إلى قطع، يتعصب كل أصحاب أرض لأرضهم فيحصل الشقاق والتباعد بين أبناء المسلمين، فالكيان الإسلامي الواحد في المجتمع الإسلامي الكبير. والرسول صلى الله عليه وسلم يوضح أن أقوى وأوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله، والموالاة في الله والمعاداة في الله، وعندما تصبح القضية أساسها وطني فإن الإنسان يصل إلى عبودية هذا المبدأ ويصبح قد عبد الوطن من دون الله. وبالمناسبة فإن مصر وهي كبرى أو من أكبر البلاد الإسلامية كانت مستهدفة جداً، ولذلك نشأت فيها التيارات قبل غيرها من البلدان، ثم تلاها بلاد الشام وغيرها، لأن في مصر طاقات هائلة من المسلمين، ولذلك ركز عليها أكثر من غيرها، لأن هذا الجناح لو طاح لا يستطيع الطائر الإسلامي أن يطير أبداً. وبداية نشأة الدعوة إلى الوطنية كانت عندما أرسل اللمبي برقية إلى وزارة الخارجية البريطانية يقول: إن الثورة تنبع من الأزهر، وهذا أمر له خطورته البالغة، أفرجوا عن سعد زغلول وأرسلوه إلى القاهرة. وجاء سعد زغلول وقرت به أعين الإنجليز فصرف الثورة من ثورة دينية تنبع من الأزهر وتنادي بجهاد الكفار إلى ثورة وطنية تنادي بتحرير التراب؛ التراب عندهم أهم من الدين، فقد يعيش فوق التراب ملاحدة، نفس أبناء البلد لكن في إلحاد، ماذا استفدنا من تحرير التراب؟ ولذلك قال سعد زغلول قولته المشهورة: الدين لله والوطن للجميع! ما معناها؟ معناها: ليس لنا علاقة بالدين، فالدين لله وهو من يرفع الدين، وهو الذي يتولى الدفاع عنه، نحن علينا الوطن، وكذلك حتى يحدث له الاتحاد مع الأقباط، فلذلك دخل النصارى مع التيارات الوطنية وتحولت الحركات الجهادية الإسلامية ضد الاستعمار الصليبي إلى حركات وطنية، وسهل الاستعمار أن يتفاهم معها، الاستعمار ما يمكن أن يتفاهم مع الحركات الإسلامية، لكن يمكن أن يتفاهم مع الحركات الوطنية، ولذلك حصل الخلل في تلك الثورة ونحي الإسلام عن الحكم، وقال سعد زغلول قولته المشهورة: الإنجليز خصوم شرفاء معقولون. وقال غيره وهو لطفي السيد الملقب بأستاذ الجيل مع الأسف يقول: إن الإنجليز هم أولياء أمورنا في الوقت الحاضر، وليس السبيل أن نحاربهم، ولكن السبيل أن نتعلم منهم ثم نتفاهم معهم.

الإنسانية الخالية من الإنسانية

الإنسانية الخالية من الإنسانية وكذلك من الدعوات الضالة التي استوردت الأفكار والتي تبناها بعض أبناء المسلمين وهي آتية من بلاد الكفار: الدعوة إلى الإنسانية. وهذا مبدأ هدام وباطل، وهذه الدعوة إلى الإنسانية لها شعارات الحرية المساواة الإخاء، هذه شعارات الماسونية ما معناها؟ معناها كما يعبر محمد قطب جزاه الله خيراً ونفع الله به يقول: الإنسانية كما يدعونها أحياناً: دعوة براقة تظهر بين الحين والحين، ثم تختفي لتعود من جديد. يا أخي كن إنساني النزعة، وجه قلبك ومشاعرك للإنسانية جمعاء، دع الدين جانباً، فهو أمر شخصي، علاقة خاصة بين العبد والرب محلها القلب، ولكن لا تجعلها تشكل مشاعرك وسلوكك نحو الآخرين الذين يخالفونك في الدين، فإنه لا ينبغي للدين أن يفرق بين الإخوة في الإنسانية، تعال نصنع الخير لكل البشرية غير ناظرين إلى جنس أو لون أو دين، ثم هذا معنى العبارة الماسونية: اخلع عقيدتك على الباب كما تخلع نعليك. إذاً: يريدون أن يكون المسلمون والنصارى واليهود والشيوعيون والوثنيون والبهائيون والقديانيون والمجوس كلنا إخوة في الإنسانية. يا أخي! هذه قضية إنسانية، نحن إخوة في الإنسانية، نحن بشر، ليس هناك داعٍ أن تفرق بيننا أديان! هذه من الدعاوي الخطيرة جداً التي بثها اليهود، ولذلك يقولون في بروتوكولاتهم: كنا أول من اخترع كلمات: الحرية والمساواة والإخاء التي أخذ العميان يرددونها في كل مكان دون تفكير أو وعي، وهي كلمات جوفاء، لم تلحظ الشعوب الجاهلة مدى الاختلاف الذي يشيع في مدلوله بل التناقض، إن شعار الحرية والمساواة والإخاء الذي أطلقناه قد جلب لنا أعواناً من جميع أنحاء الدنيا. تصور هذا كلامهم! ومن أشهر الشخصيات التي دعت إلى الإنسانية في حرارة لأجل إماتة الجهاد في سبيل الله في أبناء الهند إبان الاستعمار الإنجليزي هو المدعو سيد أحمد خان باهاجر، وهذه دعوة إلى الإنسانية، دخل في الأنظمة الدولية وقوانين الولايات المتحدة دخولاً عجيباً لتسيطر على أفكار المسلمين، فمثلاً: تجد عندهم في موادهم: يولد جميع الناس أحراراً، وعليهم أن يعامل بعضهم بعضاً بروح الإخاء، وإن غاية ما يرموا إليه عامة البشر انبثاق عالمي يتمتع فيه الفرد بحرية القول والعقيدة، ويتحرر من الفزع والفاقة. بعض الناس يقول: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6] أي: كل واحد على دينه، والله يعينه، أي: ليس هناك إشكال، لكن ما معنى قول الله عز وجل: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6] معناه: أن الله عز وجل يقول للرسول صلى الله عليه وسلم: قل لهم: لا مجال للالتقاء بيننا وبينكم أيها الكفار ألبتة، فإن لنا ديننا ولكم دينكم، ولا يمكن أن نلتقي معكم في منتصف الطريق أبداً، ولا يمكن أن يجمعنا شيء مطلقاً، وليس هناك عوامل مشتركة بيننا وبينكم، لكم دينكم ولنا ديننا، وهذا ديننا سنسعى لنشره والجهاد في سبيله لتكون كلمة الله هي العليا ونسقط أديانكم الكافرة، إن الإسلام ما جاء لصقع معين أو بلد معين أو منطقة معينة، بل أرسلناك للناس كافة، بشيراً ونذيراً للعالمين. فإذاً: يجب أن يعم الإسلام الأرض، فعندما يأتي هؤلاء بدعوة الإنسانية ويقولون في دساتيرهم: لا يجوز استرقاق أي شخص، فإن هذا منافٍ لما أحل الله من أحكام الرق في الجهاد، وله فوائد عظيمة ولا يعرض أي إنسان للتعذيب ولا للعقوبات والمعاملات القاسية والوحشية، ولكل شخص أن يلجأ إلى المحاكم الوطنية، ومعناها: لا تلجأ إلى المحاكم الشرعية، ومعناها لا تلجأ إلى الله ورسوله، ولكل فرد حرية التنقل واختيار محل إقامته، هذا يعني أن قول الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [التوبة:28] معناه لا نطبق هذا الحكم، والحمد لله نجد الآن بعض الحرص على تطبيق هذا المبدأ وعدم إدخال الكفار إلى منطقة الحرم، وإلا فهم عندما يقولون: لكل فرد حرية التنقل دون قيود، معناها أنك تسمح للكفار بالدخول. وكذلك عندما تجد في قوانينهم: لكل فرد أن يغير عقيدته، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من بدل دينه فاقتلوه) فلو أن شخصاً واحد كان مسلماً، ثم قال ما أريد الإسلام وسوف أصير نصرانياً، وأريد أن أصير شيوعياً نقول: تعال فليس الأمر على هواك، هذا الإسلام يسري على الجميع، فعندما تغير دينك يقام عليك حد الردة وتقتل. وهو حديث صريح: (من بدل دينه فاقتلوه) وهؤلاء أدعياء الإنسانية يقولون: كل واحد له حريته أي: يختار من الأديان ومن العقائد ما يشاء، فلا يقيد شخص شخصاً ولا يعتدي أحد على أحد. ولذلك يقولون: كل واحد له حرية، أي: ليس هناك جهاد، فلماذا نجاهد؟ فإذا أردنا تطبيق كلامهم انتهى الجهاد وألغي الجهاد، لأنك لن تنشر الإسلام، كل الناس أحرار، كل واحد يأخذ على هواه، فأين نذهب بقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التوبة:73]. وكذلك يقول أحد أصحاب هذا الاتجاه وهو فهمي هويدي بعنوان: المسلمون والآخرون أشواك وعقد على الطريق، وفي ثنايا كلامه يقول: إنه ليس صحيحاً أن المسلم صادق ومتفوق ومتميز لمجرد كونه مسلماً، وليس صحيحاً أن الإسلام يعطي أفضلية للمسلمين، ويجعل غيرهم في الدونية -أي: بالدون- لأنهم كفار. تصور! يقول: ليس هناك ميزة للمسلمين فكل البشر مثل بعض! وكذلك سعوا إلى هدم دعائم العقيدة، ومن أوثقها: أن يكون الحب في الله والبغض في الله، ولذلك جعل بعضهم الإخاء، يقول التآخي إقامة علاقات المودة، كما ذكر محمد عبده في كتابه الإسلام والنصرانية وكذلك محمد أبي زهرة في محاضرات النصرانية، يصف أقباط مصر بأنهم إخوانه وأبناؤه وأصدقاؤه. وكذلك يجعلون قواعد العلاقات الدولية في الإسلام تدور على نقاط هي: المساواة والتعاون والكرامة الإنسانية والتسامح والحرية والفضيلة والعدالة والمعاملة بالمثل والمودة وهكذا، يقول هذا أبو زهرة تحت عنوان: المودة: إن الأخوة الإنسانية العامة التي أوجب الإسلام التعارف يجب وصلها بالمودة والعمل على الإصلاح ومنع الفساد ولو اختلف الناس ديناً وأرضاً وجنساً، وإن المودة الموصولة لا يقطعها الحرب ولا الاختلاف في الدين، وفتح باب المودة للشعوب ينهي الحرب ويفتح باب السلام العزيز الكريم. انظر ما معنى الكلام، معناها: نود جميع الناس وجميع الشعوب، مودة، وإخاء، حتى نفتح باب السلام العزيز الكريم. معناه: انتهى الجهاد، ولا نشعر بعداء للكفار، بل نشعر أنهم إخواننا مثلنا مثلهم ونأخذ منهم ويعطوننا.

دعوى زمالة الأديان

دعوى زمالة الأديان ومن المبادئ الهدامة كذلك: الدعوة إلى زمالة الأديان، وزمالة الأديان دعا إليها رواد المدرسة العقلية الحديثة مثل: جمال الدين أفغاني ومحمد عبده وغيرهم الذين يقولون: اقتلع الإسلام من قلوب المسلمين جذور الحقد الديني. هذا مع الأسف يقوله شيخ الأزهر مصطفى المراغي، يقول: اقتلع الإسلام من قلوب المسلمين جذور الحقد الديني بالنسبة لأتباع الديانات السماوية وأقر -لاحظ الخطورة في كلامه- بوجود زمالة عالمية بين أفراد النوع البشري، ولم يمانع أن تتعايش الأديان جنباً إلى جنب. فما معنى قول الله عز وجل: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73]، {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ} [التوبة:30] عندما يأمرنا الله عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة:123] ما معنى الكلام إذاً، معناه لا ننصر الدين الإسلامي، وعندما يحكم الله عليهم بالزيغ والكفر في القرآن الكريم ويوضح لنا: {لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] ثم يأتي هؤلاء يقولون: نحن لا ثمة حقد بيننا، انظر يستعمل كلمة حقد ديني حتى يزيل الفاصل الشعوري بين المسلم والنصراني واليهودي حتى يكونوا كلهم إخوة.

الانحراف الفكري في اللغة والأدب

الانحراف الفكري في اللغة والأدب والظاهر: أننا سنختم حديثنا بكلام يتعلق بالأدب واللغة العربية، وبعض الاتجاهات المنحرفة أو الأفكار التي تبناها بعض المسلمين، وهناك مواضيع مثل جعل الكفار أو بعض الأفكار المستوردة والتي اقتنع بها كثير من المسلمين، مثل: أن الجهاد جهاد دفع فقط، الجهاد فقط يدافع به المسلمون ضد الاعتداء فقط، ولا يحاربون غيرهم ولا يجاهدون، هذه من الأفكار الضالة التي انتشرت، وكذلك وسائلهم في إماتة روح الجهاد في الأمة، ربما سوف نرجي الكلام عليها إلى مسألة قادمة.

سبب حرص الأعداء على طمس اللغة

سبب حرص الأعداء على طمس اللغة بالنسبة للغة العربية تعرضت طبعاً لتشويهات ومحاولات في هدمها كثيرة جداً منها: الدعوة إلى العامية، فلما كانت اللغة العربية مما يقض مضاجع الكفار أنهم يرون المسلمين يصلون الصلوات الخمس، ويؤذنون خمس مرات في اليوم بلغة واحدة، يقض مضاجعهم ويؤلمهم ويجعلهم يتحسرون، كيف يقرأ الهنود والأتراك وأهل باكستان وإندونيسيا وماليزيا القرآن بلسان عربي مبين؟ كيف يجتمعون على القرآن بلسان عربي مبين؟ وكيف يحفظ هؤلاء الأعاجم القرآن عن ظهر قلب؟ هؤلاء طبعاً عندما يرون هذا لا بد أن يعملوا شيئاً لتحطيم لغة القرآن. ومن أوائل من قرع ناقوس الخطر لبني دينه وقومه، المستشرق أرنول جوندو في كتابه: الإسلام والغرب، ونشأت بعد ذلك قضايا تحطيم اللغة العربية بوسائل: إضعاف اللغة العربية كلغة رسمية، وعدم الاهتمام بتدريسها، وعدم الاهتمام بمدرسي اللغة العربية، والدعوة إلى اللهجة العامية. وكان مع الأسف ممن فتح الباب محمد عبده ودعا إلى تصحيح الخطأ المشهور من أخطاء النحو والصرف التي كانت تتخلل الكتابة في عصره، ففتح الباب حتى جاءت القاعدة العجيبة: صحيح مشهور خير من فصيح مهجور، لو كان هذا الاستعمال العامي خطأ، فما دام أنه مشهور فإننا نأخذ ولا نذهب إلى فصيح مهجور، بل نستمر على الخطأ المشهور أحسن، وكان عبد الله النديم تلميذ محمد عبده ممن أسهم في الدعوة إلى العامية واستخدامها في لغة الصحافة ولذلك كان يكتب في مجلة الأستاذ، وكان يصدر في كل عدد من هذه المجلة مقالة مكتوبة باللهجة الدارجة. وجاء كذلك معه أحمد لطفي السيد وزميله ورفيق عمره عبد العزيز فهمي وزوج أخته إسماعيل مظهر ثم صديقهم الحميم طه حسين، وأعلنوا عداوتهم للغة العربية والثقافة الإسلامية، وهؤلاء وبالذات أحمد لطفي السيد الذي كان متأثراً جداً بـ دارون ومل ورسو وأضرابهم من الغربيين، الذي دعا إلى التفرنج وتحرير المرأة مع قاسم أمين، كانت لهم مواقف من اللغة العربية، بل إن بعضهم وصل به الأمر إلى أن دعا إلى أن تكتب اللغة العربية بالأحرف اللاتينية، تصور يقول: السلام عليكم تكتب ( ALSSLAM ALYKM) كما تكتب في بعض الكتب التي تعلم غير العرب الكلام العربي ولكن بالأحرف اللاتينية، وصلت المسألة إلى هذه الدرجة، ومن رواد هذه المدرسة كذلك عبد العزيز فهمي الذي دعا بالنزول بالفصحى إلى مستوى العامية، وكذلك مشى معهم توفيق الحكيم الذي وضع قاعدة: (سكن تسلم) حتى يضيع النحو، يضيع الفاعل من المفعول، أي تضيع المسألة، سكن تسلم. وكذلك طبعاً ركزوا على قضية المرأة المسلمة وهذا مجال له بحث خاص، وشجعوا فكرة تحديد النسل، وهذه ليست فكرة إسلامية أبداً، إنما أتتنا من الكفار وتبناها بعض أبناء المسلمين وبعض الأطباء أيضاً مع الأسف وصاروا يروجون لها.

الأدب الخليع

الأدب الخليع بالنسبة للقضايا الأدبية وهي خاتمة المطاف في درس هذه الليلة، فإن الاتجاهات الأدبية المتبناة من بعض أبناء المسلمين المستوردة من الخارج كثيرة جداً، أحياناً تكون إباحية، وأحياناً تكون رومنسية وكلام عن الحب والأدب العاطفي أو أدب الحب، والأدب المكشوف كما يقولون، اتجهت القضية في البداية إلى ترجمة أعمال الأدباء إن صح التعبير، فترجمت أعمال مشاهير الكتاب الغربيين من شكسبير إلى تولستوي وترجمت باللغة العربية، ونشرت بين المسلمين على أنها روائع في الأدب العالمي، وكذلك انتقل الأمر إلى ترجمة القصص الإباحية، كقصص ألكسندر توماس وإميل زولا وأنكول فرناس هؤلاء من الكتاب الإباحيين كتبهم كلها خلاعة وقصص مجون ودعارة، ترجمت أيضاً إلى اللغة العربية حتى يقرأها أبناء المسلمين. ثم أتت حركة اللامعقول والكتابة الأسطورية، وكان على رأسها جان كول سارتر وكامو واستخدموا أسلوب الضياع وفلسفة الضياع والعبث المستقاة من أساطير الرومان، فقلدهم بعض المنتسبين إلى الإسلام مثل طه حسين وتوفيق الحكيم في كتب على هامش السيرة والفتنة الكبرى وأصحاب الكهف، وقلد بعد ذلك الكتاب الذين يعيشون بين المسلمين الحركة الإباحية في كتبهم، فكتب إحسان عبد القدوس ونزار قباني ونجيب محفوظ من الضلال الذين سيحاسبهم الله عز وجل عليه حساباً عسيراً إن لم يشأ أن يتوب عليهم على ما أفسدوا في أجيال المسلمين من هذه القصص الإباحية. وطالب بعضهم مثل سلامة موسى بفصل الأدب عن القيم الدينية، وبرزت الوجودية -اتجاه الوجود- والنظرية الوجودية في كتابات أنيس منصور، والاتجاهات الماركسية في أدب نجيب محفوظ، ونهج لا معقول وهي فكرة الحداثة التي صارت حولها ضجة كما هو في شعر بدر شاكر السياب وأدونيس وغيرهم، هذه الحداثة أو هذه الكتابات الفوضوية التي ليس لها خطام ولا زمام.

نموذج لشعر ساذج

نموذج لشعر ساذج أعرض لكم نموذجاً من هذا الغثاء الذي قلد فيه بعض أبناء المسلمين الكفرة، يقول واحد منهم وهو محمد الكيتوري يقول -هذه قصيدة وتمعن معي وحاول جاهداً وأجهد ذهنك وكده في أن تستخرج شيئاً واحداً مفيداً أو مفهوماً من هذه القصيدة- يقول: نار خطاينا تسيل في حنايانا فلنتكئ على عظام موتانا ولنصمت الآن برج كنيسة قديمة وراهب قلق وغيمة تشد قديمها وتعبر الأفق ورجل بلا عنق وامرأة على الرصيف تنزلق وقطة في أسفل السلم تختنق وصوت ناقوس يدق يرسم دورة في الفضاء ويدق ويدق ويدق أرجو ألا نكون قد فهمنا شيئاً من هذه القصيدة المعلقة المشهورة. فالخلاصة أيها الإخوة: أن هناك اتجاهات رهيبة جداً، وهذا الكلام ينبغي أن يعيه المسلمون جيداً، وأن يقرءوا عنه أكثر وأكثر، وأن يتبصروا فيه، وأن يحذر بعضهم بعضاً من هذه الاتجاهات الخبيثة، وأن يحذروا من تغلغل ونفوذ هذه الأشياء في كلامهم وكتاباتهم، كما وقع بعض المسلمين ولا حول ولا قوة إلا بالله. ونحن على ثقة أيها الإخوة بأن الله ناصر دينه، وقد قال سبحانه وتعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:32] {وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف:9] فإن دين الله باقٍ عزيز، وإن هذه الشعلة لن تنطفئ أبداً بإذن الله العزيز الحكيم، ونحن ننتظر عودة هذا الدين إلى واقع الحياة كما كان في عهد المسلمين الأوائل. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. وصلى الله على نبينا محمد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

دور القرآن في إنشاء تصورات المسلمين

دور القرآن في إنشاء تصورات المسلمين مازال القرآن الكريم كنزاً مدفوناً عند كثير من المسلمين لم يستخرجوه بعد، ولم يطّلعوا على ما فيه من القيم العظيمة التي أودعها الله. فالقرآن الكريم بالإضافة إلى التعبد بتلاوته والعمل بأحكامه يبين لنا ويوضح كثيراً من المفاهيم التي أخطأ فيها كثير من الناس اليوم، فهو يوضح مفهوم الولاء والبراء مفهوم المفاصلة مفهوم العبادة مفهوم سنة التدافع بين الحق والباطل، وكذلك مفهوم التميز في العبادة إلى غير ذلك من التصورات التي ينبغي لجميع المسلمين أن ويعقلوها.

الكنوز العظيمة في القرآن وغفلة الناس عنها

الكنوز العظيمة في القرآن وغفلة الناس عنها إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. إخواني: لا زال هذا القرآن الكريم كنزاً مدفوناً عند الكثيرين من المسلمين لم يستخرجوه بعد، ولم يطلعوا على ما فيه من القيم العظيمة التي أودعها الله في هذا القرآن. من الناس من يقرأ القرآن لينال أجر التلاوة، ومنهم من يحفظ آياته لينال أجر الحفظ، ومنهم من يقرأ القرآن ليذوق حلاوة هذا النظم العجيب ويتعلم من بلاغة القرآن وأسلوبه أموراً كثيرة، ومن الناس من يقرأ القرآن ليبحث عن الأخلاقيات التي تحسن سلوكه، ومنهم من يقرأ القرآن يريد فيه حلاً للمشكلات الاجتماعية، ومنهم من يقرأ القرآن يريد فيه حلاً للمشكلات الاقتصادية، هذا كله أمر مهم، ولكن لا بد أن نقرأ القرآن لهذه الأغراض كلها مجتمعة، ولا بد أن نقرأ القرآن لنستخرج منه التطورات الإسلامية والمكرمات العظيمة التي يجب أن يتربى عليها الفرد المسلم، ولأننا في غمرة تلاوتنا للقرآن ما بين جهل بمعاني ألفاظه وبين مرور سريع يمنعنا من التدبر في أعماقه، فإنه لا زالت هناك كثير من التصورات الإسلامية في هذا القرآن مدلولة للكثيرين. وهذا الكتاب العظيم له أهمية كبرى نريد أن تكون هذه الأهمية واضحة بوعي وليست واضحة بمجرد البركة والتقديس الذي يجده كثير من العوام في أنفسهم تجاه هذا الكتاب العزيز، وحتى أوضح لكم ما أردت أن أشير إليه فإني أستعرض وإياكم طائفة من التصورات القرآنية من أوائل القرآن الكريم في أوائل سوره لعلنا نجد معاً ما هو المقصود بالعمق المطلوب في دراستنا للقرآن الكريم؟

مفهوم العبادة والاستعانة في القرآن

مفهوم العبادة والاستعانة في القرآن لو تأملت -مثلاً- قول الله عز وجل: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] وتتأمل كيف قدم هذه الكلمة: (إياك) على قوله: (نعبد) مع أن الأصل في اللغة أن تقول: نعبد إياك، فتأتي بالفعل ثم تأتي بالفاعل والمفعول، لكنه قدم المفعول أولاً، فقال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5] ولم يقل: نعبد إياك؟ ففي هذا دلالة على تخصيص الله بالعبودية، أليس هذا التقديم والتأخير يجب أن يكون مساراً للانتباه؟! ويجب أن يكون آخذاً باللب حتى يستشعر المسلم ما معنى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5]؟ ما هو الاختصاص الحاصل في هذه الآية؟ لماذا يجب أن يختص الله في العبادة وبالاستعانة، فلا نعبد إلا الله ولا نستعين إلا بالله؟ تأمل كيف ينشئ القرآن هذا التصور العظيم للعبادة التي من أعظم معالمها الإخلاص {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5] ولا نعبد أحداً معه سواك لا مالاً ولا جاهاً ولا منصباً ولا قانوناً وضعياً ولا آراءً بشرية، لا نعبد إلا الله سبحانه وتعالى، ولا نرضخ إلا له، ولا نذل إلا له، ولا نستعين إلا به لا بقوى شرقية ولا غربية، ولا شمالية ولا جنوبية، وإنما فقط إياك نستعين.

تصور وجوب اتباع أوامر الله

تصور وجوب اتباع أوامر الله تأمل مثلاً كيف ينشئ القرآن في نفس المسلم تصوراً عظيماً بوجوب اتباع أوامر الله عز وجل والوقوف عند كلماته، وعدم الاعتداء على ما أنزل الله، لما قال الله لبني إسرائيل: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:58] ادخلوا الباب سجداً شاكرين لله على ما أنعم به عليكم، خالف اليهود هذا الأمر ودخلوا يزحفون على أدبارهم فخالفوا الأمر الإلهي. قال: {وَقُولُوا حِطَّةٌ} [البقرة:58] أي: ادعوا الله أن يحط عنكم، فماذا قالوا؟ زادوا (نوناً) فقالوا: حنطة، أعطنا طعاماً بدلاً من أن يقولوا: حط عنا ذنوباً، لم يقفوا عند كلمات الله، ولا عند أوامره، ولهذا لما شابهت طائفة من هذه الأمة أولئك اليهود فزادوا أحرفاً في تحريف كلمات الله، فقال الجهمي في تفسير قول الله عز وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] قال: الرحمن على العرش استولى. نون اليهودي ولام جهمي هما في وحي رب العرش زائدتان

مفهوم المسارعة في تنفيذ أوامر الله

مفهوم المسارعة في تنفيذ أوامر الله إذاً: لا بد من الوقوف وعدم التعدي عند الأوامر والكلمات الإلهية الواردة في القرآن والسنة، مفهوم عدم التلكؤ وعدم التباطؤ في تنفيذ أوامر الله، والمسارعة فيها مفهوم تشير إليه قصة أمر بني إسرائيل بذبح البقرة، كيف تلكئوا؟ كيف تباطئوا؟ ما هي الأعذار التي افتعلوها؟ لماذا أرادوا التأخر؟ كثير من المسلمين يحذون حذوهم في هذه الأيام: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة) فيضعون المعاذير والعقبات في سبيل تنفيذ أوامر الله، ويعتذرون بأعذارٍ واهية إنما هي من وحي الشيطان.

مفهوم التميز في العبادة

مفهوم التميز في العبادة مفهوم الاختصاص والتميز في العبادة وعدم مشاركة الكفار بأي شعيرة من الشعائر كان النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون يتوجهون في البداية إلى بيت المقدس، ثم نزل تحويل القبلة إلى الكعبة تمييزاً لعبادة المسلمين عن عبادة الكفار، وتمييزاً لتوجههم في العبادة عن توجه الكفار: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:142]، {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ} [البقرة:145]. إذاً: تميز في العبادة مفهوم أصيل من المفهومات الإسلامية وجوب تطبيق جميع الإسلام خذ الإسلام جملة لا تأخذه وتفصل منه ثياباً كما تريد وتهوى، وإنما خذه جملة في جميع النواحي التي نزل فيها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً 2) [البقرة:208] ادخلوا في جميع شعب الإيمان وجميع النواحي التي جاء بها الإسلام.

قاعدة التفاضل بين الناس

قاعدة التفاضل بين الناس قاعدة أخرى من القواعد التي يقرها القرآن: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} [سبأ:37]، {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] هذه القاعدة مهمة حتى نعرف كيف يتفاضل الناس، وبأي شيء يتفاضلون؟ لما غابت القاعدة انظر اليوم إلى تعظيم البشر للبشر، وإلى اتباع البشر للبشر الآخرين ما هي موازين الاتباع والتعظيم؟ الجاه والمنصب والمال والأولاد أشياء من الدنيا. ولذلك اعترض بنو إسرائيل الجهلة منهم على تنصيب طالوت عليه السلام ملكاً عليهم، فماذا قالوا؟ {أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ} [البقرة:247] لماذا؟ {وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة:247] إذا لم يتضح هذا المعيار وهذا الميزان حصل الخبط في الاتباع، وحصل الخبط في النظرة للناس وفي تقديرهم.

مفهوم التدافع في القرآن

مفهوم التدافع في القرآن لابد من تصفية الصف وتنقيته من الدخلاء والمزيفين حتى يكون صفاً إسلامياً يستطيع فعلاً أن يجاهد أهل الشرك والكفر، وينصره الله باستكمال مقومات النصر: {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} [البقرة:249] ماذا حصل؟ {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [البقرة:249] فقط، لم يدخل معهم دخيل آخر. وتمحيص الصف المسلم من حكم الله التي يريد أن تقع في الأرض: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران:179]، {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} [آل عمران:154] مفهوم التدافع بين الحق والباطل يكون لهذا كرة ولهذا كرة أخرى، لماذا؟ ليظهر الحق ويبطل الباطل، وعندما تحتدم المعركة تتميز الأشياء. وبضدها تتميز الأشياء وتحصل منة نصر الله لعباده، ويصلب البناء، ويشتد العود، وتقوم حركة الجهاد بكل إيجابياتها، وإلا لو لم يكن هناك صراع بين الحق والباطل على الأرض هل يكون هناك جهاد؟ هل يكون هناك تنقية وتمحيص وتصفية وأهمية للتربية؟ التدافع بين الحق والباطل: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة:251]، {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً} [الحج:40]. من سنة الله أن المسلمين ينزل أمرهم ويتغلب عليهم الكفار في وقت من الزمن، ومن سنة الله أن هؤلاء يعيدون تربية أنفسهم وصقلها في ظل تلك الظروف التي ينشئها الله سبحانه وتعالى حتى تعود الغلبة للحق والكرة له مرة أخرى، ويتخذ الله من عباده شهداء، حِكَم مترابطة.

الجدال والمناظرة في القرآن

الجدال والمناظرة في القرآن مفهوم الجدال والمناظرة في القرآن الكريم كيفية إفحام الخصوم من أهل الباطل؟ كيفية إسكاتهم؟ كيف تكون الحجة؟ وما هو أسلوب الحوار؟ يعلمنا القرآن هذا المفهوم الأصيل يعلمنا القرآن ما نحتاج إليه في معركتنا مع أهل الباطل، كثيرون أولئك أهل الباطل في المجالس وفي جميع الأمكنة، تجدهم حرباً على الله ورسوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة:258] أتى بإنسان فقتله وأتى بمحكوم عليه بالإعدام فعفى عنه، سذاجة في التصور للإحياء والإماتة، ماذا قال إبراهيم؟ {قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:258].

الدنيا مفهومها وميزانها وقيمتها في القرآن

الدنيا مفهومها وميزانها وقيمتها في القرآن حقيقة الحياة الدنيا مفهومها ميزانها قيمتها! إنك تجد هذا التصور في القرآن في آيات كثيرة، {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران:14] إذاً ماذا نختار؟ وإلى أي جانب نميل؟ متاع الحياة الدنيا أم حسن المآب التي عند الله عز وجل؟ {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل:96] ماذا تختار يا أخي؟ تصور إسلامي مهم يعطيك إياه القرآن، هذا التصور تحتاج إليه كل دقيقة من حياتك.

مفهوم الولاء والبراء في القرآن

مفهوم الولاء والبراء في القرآن مفهوم الولاية للمؤمنين: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} [آل عمران:28] هل تميل إلى الكفار؟ هل تصاحبهم؟ هل تنصرهم؟ هل توادهم؟ هل تجالسهم؟ هل تكون معهم ضد إخوانك؟ حتى في الشركات والأعمال تجد أن هذا المفهوم قد محي محواً تاماً، لا تجد مفهوم الولاية للمؤمنين والمعادة للكافرين حتى في أثناء معاملاتنا اليومية مع هؤلاء وهؤلاء. متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم لما كثر المدعون للمحبة طولبوا بإقامة البينة: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]. تدعي حب الحبيب ثم تخالفه ما ذاك في إمكانِ لا يمكن أن تجتمع المحبة والمخالفة، كثير من المسلمين اليوم يزعمون أنهم يحبون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن يخالفون سنته في تصوراتهم وموازينهم وسلوكياتهم؛ بل وحتى مظاهرهم الشخصية معاملاتهم في البيت لزوجاتهم وأولادهم ولإخوانهم مخالفة لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، بل إن هيئتهم في الصلاة لا تشبه هيئة صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم إطلاقاً، إلا في الأشياء العامة الركوع والسجود والقيام والقعود فقط.

مفهوم الشمولية في هذا الدين

مفهوم الشمولية في هذا الدين شمولية مفهوم الدين لجميع أعمال الخير ليس قاصراً على شيء معين إنما هو عام. المفهوم الشامل للعبادة ضاع في كثير من الأذهان كثيرون اليوم يعتقدون أن الدين في المسجد وأما العبادة فلا تتعدى المسجد، ولو خرج الخارج من باب المسجد لانتهت الصلة بالدين ولجاز له أن يعمل ما يشاء، هذا هو المفهوم الذي يقره القرآن في شمولية العبادة: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:177] رد مفحم على كل رجلٍ متأثر بأهل الزندقة، وأهل الاستشراق، وأهل الغزو الفكري الذين يصورون أن الإسلام في المسجد فقط.

مفهوم المفاصلة في القرآن

مفهوم المفاصلة في القرآن مفاصلة أهل الكتاب طريقة دعوتهم ما موقفنا من اليهود والنصارى؟ {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64].

مفهوم تخليص شخصيات الإسلام من ادعاءات الكفار

مفهوم تخليص شخصيات الإسلام من ادعاءات الكفار مفهوم تخليص رجالات الإسلام من ادعاءات الكفار، حتى هذا ورد النص به في القرآن ما هو؟ ادعت اليهود والنصارى أن إبراهيم منهم، كل طائفة قالت: إبراهيم منا إبراهيم مشهور بالحنيفية بالصلاح والتقوى وامتثال أوامر الله، كل طائفة تريد أن تسحبه إلى جهتها، وتريد أن تتبناه وتجعله من رجالاتها، ولكن كيف واجه القرآن هذا الأمر؟ {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْأِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران:65] انظر إلى القوة في العرض، كيف تجادلون في إبراهيم، وإبراهيم ما نزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده موسى بعد إبراهيم، وعيسى بعد إبراهيم واليهود والنصارى يعلمون هذا التسلسل التاريخي الزمني، كيف يدعون إبراهيم لهم؟ وما أنزلت التوراة ولا صارت اليهودية، وما أنزل الإنجيل ولا صارت النصرانية إلا بعد إبراهيم: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران:67]. إذاً: من أحق الناس بإبراهيم؟ من أحق الناس بهذا الرجل؟ هذا الرجل يكون فرداً في أي حركة؟ {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [آل عمران:68] هؤلاء أولى الناس بإبراهيم، انظر إلى هذا المفهوم في انتزاع وتخليص الشخصيات من الادعاءات الكفرية.

مفهوم توضيح خطط الكفار في القرآن

مفهوم توضيح خطط الكفار في القرآن الموقف من محاولة التشكيك من الكفار كيف تكون؟ إنهم يريدون أن يحرفونا عن ديننا، وأن يبتلونا عن شريعة نبينا صلى الله عليه وسلم، وسائل عجيبة وخبث ومكر ودهاء، ماذا قالوا؟ {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آل عمران:72] خطة خبيثة، ادخلوا في الإسلام صباحاً وإذا جاء المساء خرجوا من الإسلام، حتى يقول الناس: إن هذا ليس بدين صحيح وإلا لثبت الداخلون عليه، لكنهم لما دخلوا فيه ثم رأوه باطلاً خرجوا منه خطة خبيثة، وتزعزع الصف المسلم وتشكك المسلمين في إسلامهم، انظر إلى الخطة العجيبة: {آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آل عمران:72] كشف الله زيف الخطة، وكشف باطلهم في القرآن، وثبِّت المسلمين ووضح كيفية المجابهة.

مفهوم المستقبل للإسلام

مفهوم المستقبل للإسلام مفهوم المستقبل للإسلام، وأن الله لا بد أن يعز هذا الدين وأن ينصره ولو بعد حين: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف:8 - 9] كم نحتاج هذا المفهوم اليوم؟ كم نحتاج التصور أن المستقبل للإسلام في وسط الضعف الذي نعيش فيه في وسط التقهقر الذي نحيا فيه في وسط غلبة الكفار على المسلمين في هذه الأيام، كم نحتاج إلى إشراق وتوهج هذا المعنى الأصيل في نفوسنا: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ} [الصف:8] (لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورين يجاهدون حتى قيام الساعة)؟ نسأل أن يجعلنا وإياكم منهم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

مفهوم الوحدة في القرآن

مفهوم الوحدة في القرآن الحمد الذي لا إله إلا هو، لم يكن له ولي من الذل ولا شريك في الملك وأكبره تكبيراً، لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، واستوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيراً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي أرسله الله رحمة للعالمين بشيراً ونذيراً، وأنزل عليه الكتاب والحكمة وعلمه ما لم يكن يعلم وكان فضل الله عليه عظيماً، وفضل الله على المؤمنين عظيماً لما أنزل عليهم هذا الكتاب المشتمل على هذه القواعد المهمة في التصورات والمفهومات التي تعم جميع نواحي الحياة. مفهوم التوحد وعدم التفرق شيعة وأحزاباً مفهوم يؤكد عليه القرآن، {وَاعْتَصِمُوا} [آل عمران:103]، ثم يقول: {وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103] ما هو موقف المسلمين اليوم من هذا الأمر الإلهي وقد تفرقوا شيعاً وأحزاباً وطوائف وجماعات حتى ما عاد الحق يُعرف لعامة الناس من كثرة هذا التفرق؟ ما هو المفهوم القرآني للاجتماع؟ نجتمع على أي شيء؟ كيف يتوحد المسلمون؟ يتوحدون على أي شيء؟ {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً} [آل عمران:103] أما الاعتصام بحبلٍ من الله وحبل من الناس فلا يكون اعتصاماً ولا يصح أن يتوحد عليه المسلمون، وأي صف توحد على حبل من الله وحبل من الناس فآخرته ونهايته إلى الخسران والانكسار؛ لأن الله لا ينصر صفاً مرقعاً، ولأن الله لا ينصر صفاً تلخبطت فيه الأمور واختلطت من الحق والباطل.

مفهوم الخيرية في هذه الأمة

مفهوم الخيرية في هذه الأمة مفهوم خيرية هذه الأمة: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] بأي شيء كنا خير أمة أخرجت للناس؟ {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] إذا لم نقم بالأمر بالمعروف ولا بالنهي عن المنكر هل يصح أن ندخل أنفسنا في خير أمة أخرجت للناس؟ كلا. إننا حينئذٍ نخرج أنفسنا إذا أسقطنا واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أمة الإجابة إلى أمة الدعوة، نكون من أمة الدعوة الدعوة موجهة إليهم لكن ما أجابوا ولا استجابوا.

مفهوم استعلاء المسلم عن الجاهليين

مفهوم استعلاء المسلم عن الجاهليين مفهوم استعلاء المسلم وارتفاعه عن الجاهليات مهما كادوه وأحزنوه وعادوه وشردوه: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139] كم نحتاج إلى هذا المفهوم في وسط هذا الضيق والاضطهاد الذي يواجهه المسلمون في كل مكان: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} [آل عمران:139] بعقيدتكم أنتم الأعلون بصفاء منهجكم، أنتم الأعلون بسنة نبيكم، أنتم الأعلون بصبركم على كتابكم وسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم.

مفهوم التعلق بالدين

مفهوم التعلق بالدِّين مفهوم التعلق بالدين لا بالأشخاص، فإذا ذهب الأشخاص ذهب المتعلقون بهم، أما المتعلق بالدين فإنه يبقى ولو مات كل الأشخاص الذين تعلق قلبه بهم أو أحبهم: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران:144].

مفهوم طبيعة مواجهة الجاهلية في القرآن

مفهوم طبيعة مواجهة الجاهلية في القرآن طبيعة مواجهة الجاهلية مفهوم قرآني أصيل مبين في القرآن العظيم، ما هو الأذى الذي سيلحقنا من الكفار؟ أذى متعدد الأنواع: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ} [آل عمران:186] فقط: {وَأَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:186] فقط: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً} [آل عمران:186] إذاً: الأذى في الذات في الأجسام في الأموال، والأذى المعنوي سماع الأذى من الكفار جميع أنواع الأذى، ما هو العلاج؟ {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران:186] هذا مهم حتى يستعد المسلم للمواجهة، ويأخذ أهبته للصبر في المعركة على جميع أنواع الأذى.

مفهوم التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله

مفهوم التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله المفهوم العميق في أن جميع الاختلافات والمنازعات لا بد أن ترد إلى الله وإلى الرسول: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء:59]، {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] كم نحتاج إلى هذا المفهوم اليوم، كثرت التنازعات والاختلافات، حتى في الأحكام الفقهية الناس فيها مساكين؛ لأنهم مضطربون ومتحيرون، هذا يقول شيئاً والآخر يقول بخلافه، وهذا يقول أمراً وهذا يقول بعكسه وضده، ما هو الحل؟ ما هو العلاج؟ {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59]. أيها الإخوة: هذا القرآن والله الذي لا إله إلا هو فيه علاج لكل الأسقام المادية والمعنوية فيه علاج لكل أمراض الأمة فيه إيجاد أشياء مهمة للتربية تصورات يجب أن يقوم عليها المجتمع والأفراد المسلمين قد خلت كثيراً من نفوس المسلمين منها. اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم اجعلنا ممن يقتدي بهذا القرآن. اللهم اجعلنا ممن وضع القرآن أمامه فقاده إلى الجنة، ولا تجعلنا ممن نبذ القرآن وراءه فقاده إلى النار. اللهم اجعلنا ممن يحل حلاله ويحرم حرامه ويعمل بمحكمه ويؤمن بمتشابهه. اللهم ذكرنا منه ما نسينا، وعلمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار. اللهم واجعلنا ممن يستمدون تصوراتهم من القرآن، واجعلنا ممن يؤسسون موازينهم من القرآن، واجعلنا ممن يقرءون القرآن تدبراً وخشوعاً، وارزقنا حلاوة الإيمان به والعمل يا رب العالمين.

صور من البيوع المحرمة

صور من البيوع المحرمة أيها الأحبة: هذه رسالة تتحدث عن طائفة من البيوع غير الجائزة في الشريعة، والتي قد اشتهرت بين الناس، مع الكلام عن حكمها استناداً إلى الأدلة من الكتاب والسنة، وبما وضحه أهل العلم الثقات.

حكم بيع التقسيط

حكم بيع التقسيط إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أيها الإخوة: لقد تكلمنا في الخطبة الماضية عن موضوع الربا، وأنه حرام، وأن وضع الأموال في البنوك أو شراء شهادات الاستثمار من البنوك بنسب ثابتة معلومة هو عين الربا الذي يعرفه كل مسلم، عامة المسلمين صغاراً وكباراً يعرفون أنه من الربا، بنص كتاب الله وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك فلا عبرة بقول قائل يقول بخلاف ذلك، سواءً كان كبيراً أم صغيراً، غنياً أو فقيراً، فإن كتاب الله حكم بيننا، فلا يجوز أن يتلاعب به المتلاعبون. لقد سألني بعض الإخوة أن أتحدث عن بعض الصور الغير جائزة في البيع أو التي تتعلق بأمور ربوية، وأنا أعرض لكم أيها الإخوة طائفة من أنواع البيوع التي اشتهرت بين الناس، مع الكلام على حكمها، مستنداً إلى ذلك بالأدلة من كتاب الله وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبما وضحه أهل العلم من العلماء الثقات، وغالب هذه الأنواع التي سأذكرها كلها قد وجهت إلى اللجنة الدائمة للإفتاء أو إلى أحد الثقات من العلماء فأجاب عنها. يسأل كثير من المسلمين عن حكم بيع التقسيط: وهو أن يشتري سلعة بأقساط إلى أجل؟ A هذا البيع كما صدرت الفتوى عن اللجنة الدائمة للإفتاء، أن البيع إلى أجل معلوم جائز إذا اشتمل البيع على الشروط المعتبرة، وكذلك التقسيط في الثمن لا حرج فيه إذا كانت الأقساط معروفة، والآجال معلومة، والدليل قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} [البقرة:282] فإذا تحدد الأجل متى يجب عليه التسديد ونهاية المدة، فهذا من الشروط، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم، أو وزن معلوم، إلى أجل معلوم) ولقصة بريرة الثابتة في الصحيحين: (أنها اشترت نفسها من سادتها بتسع أواق في كل عام أوقية) اشترت نفسها ممن يملكها بتسع أواق في كل عام أوقية -هذا هو بيع التقسيط- ولم ينكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بل أقره، ولم ينه عنه، ولا فرق في ذلك بين كون الثمن مماثلاً لما تباع السلعة نقداً أو أكثر من ذلك، فإذا كان الأجل معلوماً، والأقساط معلومة، وقيمة كل قسط معلومة، فإن البيع جائزٌ إذا توافرت فيه بقية الشروط الشرعية. ولكن من الأمور التي ينبغي الحذر منها: أن ينصرف البائع والمشتري ولم يحددا نوع البيع الذي سيتبايعان به، فلو قال له: أبيعك هذه السيارة بأربعين ألف نقداً أو بخمسين ألف بالتقسيط إلى سنة، ولم يحددا نوع البيع، فقال المشتري: قبلت، وانصرف على أنه مخير بأي نوع بدون أن يحدد النوع هل هو نقد أو تقسيط؟ فإن هذا البيع غير جائز، فلا بد أن يحددا عند البيع هل يريد أن يشتري نقداً أو يشتري تقسيطاً، ولا يجوز أن يتركا مجلس العقد ولم يعينا نوع البيع الذي يريد كل منهما أن يتبايع به. وكذلك لو قال له: بعتك أحد هاتين السيارتين بثلاثين ألف ريال ولم يحددا أية واحدة منهما التي وقع عليها البيع، فإن البيع كذلك غير جائز؛ لأن السلعة مجهولة، ولا بد عند البيع من تعيين السلعة، فلا يجوز أن يقول: بعتك واحدة من هاتين السيارتين، لا بد أن يحدد أي سيارة، وكذلك عندما لا يختار نوعاً من البيع هل هو نقد أو تقسيط، فإن الثمن يكون غير معلوم، وعندما يكون الثمن مجهولاً فإن البيع يكون باطلاً.

النهي عن البيعتين في بيعة

النهي عن البيعتين في بيعة كذلك إذا قال له: أبيعك داري على أن تبيعني دارك، أو أبيعك داري على أن تزوجني ابنتك بمهر كذا فإنه غير جائز؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعة، ومن هذا النوع أن يقول له: أبيعك السيارة بعشرة آلاف على أن تبيعني إياها بعد سنة بمبلغ كذا، فهذا أيضاً غير جائز لأنها بيعتين في بيعة، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة، فلا يجوز أن تشترط عليه عند البيع أن يبيعك شيئاً آخر، سواءً السلعة نفسها أو سلعة أخرى، أو أن يزوجك ابنته مثلاً، فلا يجوز الربط بين هذه الأمور في عقد واحد؛ بل يجب أن يكون كل عقد منفصلاً عن الآخر.

حكم بيع العينة

حكم بيع العينة ومن الأمور التي تحدث في بيع التقسيط وهي غير جائزة: أن يشتري منه بأقساط إلى أجل ثم يبيعها على نفس البائع الأول بثمن أقل، هذا بيع العينة الذي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبر بأنه حرام لا يجوز، فلو أن إنساناً اشترى من الوكالة سيارة بالتقسيط بخمسين ألف ريال إلى سنة بالأقساط أو إلى سنتين لا يجوز أن يأخذها ويبيعها على نفس الوكالة نقداً الآن بأربعين ألف ريال مثلاً فهذا حرام لا يجوز، لكن لو أخذها من المعرض واستلمها من الوكالة ثم ذهب بها إلى مكان آخر إلى الحراج إلى معرض إلى صديق له، وباعها عليه نقداً فلا بأس بذلك، يبقى عليه التقسيط يدفعه للوكالة، والسيارة يبيعها بعد أن استلمها إلى من شاء لكن غير الطرف الأول الذي اشترى منه. ولو جاء رجل وقال: إن تبيعها أنا أشتريها منك نقداً، ويكون هذا المشتري من جهة الوكالة فإن هذا غير جائز، ولكن لو باعها من طرف آخر لا علاقة له بالبيع الأول فلا بأس بذلك وهو حلال إن شاء الله.

عدم بيان الخلل والعيب في المبيع

عدم بيان الخلل والعيب في المبيع كذلك من المنكرات التي تقع في بيع السيارات: أن يعلم البائع أن السيارة فيها العيب الفلاني وفيها الخلل الفلاني، ثم يبيعها على المشتري دون أن يبين له العيب الذي في السيارة، فهذا حرام لا يجوز، وهو آثم، والدليل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (من غشنا فليس منا) ولا يعفيه أن يقول له: أبيعك كومة حديد بكم تشتري، أو يقول له: خذها إلى أي ورشة أو إلى أي مكان وافحصها؟ لا يعفيه؛ لأن المشتري قد لا يعلم العيب، وقد لا يكتشف الذي في الورشة العيب من أول وهلة، لأن بعض العيوب لا تظهر إلا عند الاستعمال على فترة طويلة، ولذلك لا يجوز أن يقول: خذها كومة حديد، أو خذها وافحصها، وأنا لا أقول لك إن فيها شيء، لا بد أن يبين له العيب إذا كان يعلم العيب، والدليل قوله صلى الله عليه وسلم: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما). ولذلك يسأل قائل، فيقول: أنا بعت سيارتي وكان فيها عيوب لم أبينها للمشتري ماذا أفعل؟ أنا أريد أن أتوب إلى الله؟ نقول له: عليك أن تتوب إلى الله توبة صادقة، وألا تعود إلى هذا العمل مرة أخرى، وتندم وتستغفر ربك وتتوب إليه، ثم تذهب إلى من بعت السيارة إليه وتستسمح منه، وتقول له: أنا مستعد أن أرجع لك مقدار العيب الذي كتمته عنك، فإن اصطلح معك على أي شيء، سواءً سامحك، أو أخذ منك قيمة العيب الذي كتمته عنه، أو رجعتم في البيع وفسختموه، فإن ذلك من تمام توبتك، وأنت مأجور عليه إن شاء الله، ولو اختصما فالقاضي بينهما.

حكم بيع ما لم يملك

حكم بيع ما لم يملك ومن البيوع المحرمة أيضاً: أن يشتري البضاعة ويبيعها وهي لا زالت في مكانها من التاجر الأول، كأن يعرف إنسان أن إنساناً يحتاج إلى كفرات سيارات، فيرفع سماعة الهاتف على صديق له يعلم أن عنده كفرات، فيقول له: تبيعني الكفرات التي عندك بمبلغ كذا؟ فيقول: نعم، بعتك، وينعقد البيع ويكون بيعاً صحيحاً، ثم يرفع السماعة على الشخص الثاني الذي يعلم أنه يحتاج الكفرات، فيقول له: عندي لك كفرات تشتريها مني بكذا؟ فيقول: نعم أشتريها منك، فيقول: إذاً اذهب فاحملها من المكان الفلاني -من مكان التاجر الأول- أو تعال بعد فترة وخذها مني، ما حكم البيع الثاني؟ لا يجوز، والدليل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تبع ما ليس عندك) وهذا الشخص باع الطرف الثاني بضاعة ليست عنده؛ لأنها لا زالت في مستودعات التاجر الأول. ودليل آخر: عن زيد بن ثابت، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه نهى أن تباع السلع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم) فلا بد إذا أردت أن تبيع الطرف الثاني أن تتصل بالطرف الأول وتشتري منه السلعة ثم تخرجها من مخازنه وتدخلها مخزنك أنت أو بيتك وتقبضها إليك، ثم ترفع السماعة وتبيع على التاجر الثاني، أما أن تبيع على شخص آخر والبضاعة قد اشتريتها ولا زالت عند التاجر الأول لم تقبضها فالبيع غير صحيح: (لا تبع ما ليس عندك) فإن قلت لي: إن ملايين الناس يفعلون هذا، أقول لك: فكان ماذا؟ وماذا يعني؟ الحكم الشرعي على رءوس الجميع وإن اتفق أهل الأرض على بيع تعاملوا به وهذا البيع حرام فهو لا يزال حراماً، صعدت أو نزلت ذهبت شرقاً أو غرباً فالبيع حرام. ولذلك لو ذهب إنسان إلى السوق فاشترى سلعة من شخص في أرض السوق، ثم أراد أن يبيعها، قال أهل العلم: ينقلها إلى مكان آخر ولو كانت قريبة، يأخذها ويضعها في مكان آخر -ثم إذا أراد أن يبيعها يبيعها- دلالة على أنه قبضها وأخذها واستلمها ثم بعد ذلك يبيعها.

حكم بيع العملات وشرائها

حكم بيع العملات وشرائها وهذا سؤال أجابت عنه هيئة كبار العلماء: عن حكم بيع وشراء العملات؟ فأجابت بما ملخصه: إن بيع وشراء العملات جائز، فإذا كانت العملات من نفس النوع فإنه لا بد من التماثل والتقابض، ولو كانت العملات من أنواع مختلفة كمن يريد أن يشتري دولاراً بريال، فإنه يجوز له أن يشتري كيف شاء دولاراً بأربع ريالات بثلاثة ريالات بأربع ريالات إلا ربع، كل ذلك جائز؛ لأنها نوعين مختلفين من النقد والعملات، ولكن لا بد أن يتم الاستلام والتسليم في مجلس العقد، فلو قال: هات مائة دولار وغداً أعطيك ثلاثمائة وخمسة وسبعين ريالاً فالبيع غير صحيح، لأنه لم يسلم الثمن في مجلس العقد، ولا بد من التسليم يداً بيدٍ، ولذلك -أيها الإخوة- بلغني أن من التعاملات المتحايلة في الربا: أن يكون البنك لتاجر عندك دولارات أنا أشتري منك دولارات، كم عندك؟ مليون دولار؟ أنا أشتري منك مليون دولار، هات المليون الدولار وضعها عندي وأسلمك ثمنها أربعة ملايين ريال ولكن بعد ستة أشهر، يريد البنك أن يتحايل ليقول: ما رابينا، نحن بعنا واشترينا، ولكن يلعبون على من؟ يخدعون من؟ ملك الملوك، الله عز وجل يخادعونه كما يخادعون الصبيان، طفل صغير تلعب عليه، والله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ويعلم بأنها حيلة للربا، فلا بد إذا أردت أن تبيع عملة أن تقبض وتسلم في نفس المجلس لا تتأخر لحظة واحدة.

التجارة بالعملات في الأسواق السوداء

التجارة بالعملات في الأسواق السوداء وهذا سؤال وجه إلى اللجنة الدائمة للإفتاء: ما حكم التجارة بالعملات في بعض البلاد فيما يعرف بالسوق السوداء؟ فكان A يجوز شراء العملة بعملة أخرى من غير جنسها ولو تفاوت السعر يداً بيد، ولا يمنع من ذلك المخالفة للقوانين الوضعية، فلو كانت قوانين وضعية وليس فيها مصلحة للمسلمين فإن هذه القوانين الوضعية لا تمنع بيع العملات ولو فيما يعرف بالسوق السوداء وليسموه ما يسموه، فإذا كان البيع يداً بيد فإن ذلك جائز، وهذه الفتوى برقم: [2010] ونشرت في مجلة الدعوة السعودية في عدد رقم: [844]. وهناك نوع آخر من البيوع وهو: أن يشتري سيارة وكالة (أ) عن طريق وكالة (ب) فما هو الحكم؟ فنقول: إذا كانت الوكالة (ب) عندها السيارة المطلوبة قد استلمتها من الوكالة (أ) ووضعتها عندها في مستودعاتها، ثم أتيت أنت واشتريتها من الوكالة (ب) فلا حرج، لكن أن تأتي الوكالة (ب) وتبيعك سيارة عند الوكالة (أ) فلا يجوز، لا بد أن يستلموها ثم يبيعوك إياها نقداً أو تقسيطاً لا بد أن يستلموها والدليل على ذلك، قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تبع ما ليس عندك).

من الحيل على الربا

من الحيل على الربا وكذلك من الحيل على الربا أن يأتي شخص عنده سيولة ويعلم بأن صاحباً له يحتاج سيارة، فيقول: تعال معي إلى المعرض أو الوكالة وانتقي لك السيارة التي تعجبك، فينتقي السيارة التي تعجبه، فيقول له: أنا أشتريها الآن من مالي بأربعين ألف ريال أدفعها للمعرض أو الوكالة ولا أشتريها باسمك، ثم تعطيني أنت ثمنها بالتقسيط أو بعد سنة خمسين ألف ريال. A هذا البيع حرام، وهو وسيلة إلى الربا بل هو عين الربا، كأنه أقرضك الأربعين ألف بخمسين ألف، ذهب معك إلى الوكالة واشترى لك السيارة التي تعجبك وجعلها باسمك أنت، فهذا حرام، لكن إذا اشتريتها باسمه هو من الوكالة -هو يعلم أنك تحتاج سيارة- وقبضها وأخذ مفتاحها وأخرجها من الوكالة ثم قال: يا صاحبي، أنت تريد سيارة، هذه السيارة، تريد أن تشتري مني بخمسين ألف ريال إلى أجل أقساط؟ أبيعك. فهذا لا حرج فيه؛ لأنه قد أخذها وقبضها واشتراها، وأنت لست ملزماً بها، أنت لو قلت: أنا لا أريد أن أشتري السيارة قد غيرت رأيي، ليس هناك إلزام عليك، ففي هذه الحالة يجوز البيع. أيها الإخوة: هذه المسائل منتشرة بين الناس جداً، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ولا يفقهون، ولا يخافون الله، ليس عنده أي حرج من أي بيع أو شراء ما دام أن فيه ربح، لا يسأل ولا يستفتي عن جوازه، ولا يتفقهون في الدين، قد يكون ربا ولكن لا يهمهم هذا، ما دام أن هناك مكسباً، هذا هو همهم أن يكسبوا لا يبالون من حرام كان أم من حلال.

بيع المحرمات

بيع المحرمات أيها الإخوة: اعلموا أن بيع الأشياء المحرمة لا يجوز؛ كأشرطة الأغاني، وأشرطة الفيديو المحرمة، أو آلات اللهو واللعب، كالكمنجة والعود والمزمار والطبل، كل ذلك حرام بيعه، والله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه، وقد حرم المعازف فلا يجوز بيعها، وكل أولئك الذين يتاجرون بهذه الأشياء آثمون عند ربهم، يأكلون سحتاً في بطونهم يصلون به من نار جهنم يوم القيامة، إذا لم يتوبوا إلى الله ويعفو الله عنهم.

حكم بيع اللحوم المحرمة

حكم بيع اللحوم المحرمة كذلك التاجر الذي يبيع مواد غذائية وهو يعلم يقيناً أن اللحم الذي يبيعه ليس مذبوحاً وإنما هو مصعوقاً أو أن فيه شوائب خنزيرية، أو لحم كلاب أو حمير، ثم يبيعها فهذا حرام لا يجوز؛ لأن هذا الشيء حرام عند رب العالمين، ولو قال: أنا أبيع هذه الأشياء على غير المسلمين، أناس يأكلون لحم الكلاب والقطط والحمير، نقول: لا يجوز؛ لأن الله حرم أكله فيحرم بيعه.

حكم بيع الدم

حكم بيع الدم ومن هذا الباب فإن بيع الدم الذي قال أهل العلم وجمهور العلماء بنجاسته يحرم بيعه، لكن في حالة الضرورة ماذا نفعل؟ هناك فتوى للجنة الدائمة بأن الدم أصلاً نجس، فلا يجوز التداوي به إلا إذا خشي على نفسه الهلاك فيجوز، مثل الميتة، كأن تكون في صحراء وانقطعت وأوشكت على الهلاك وكدت أن تموت، فوجدت ميتة، ما حكم الميتة؟ حرام، ما حكم الأكل منها؟ حرام، لكن للضرورة، يجوز لك أن تأكل ما يبقي على حياتك، ويسد رمقك. وكذلك هنا: الأصل أن الدم نجس، وأنه لا يجوز التداوي به، لكن لو خشينا عليه الموت فيجوز عند ذلك، وفي الفتوى المذكورة، بل ربما يجب التداوي به إبقاءً على حياة الشخص، وأما أخذ العوض على الدم فلا يجوز؛ لأن الله إذا حرَّم شيئاً حرم ثمنه، فإن تعذر حصوله على الدم بلا عوض جاز له أن يشتري ويدفع الثمن للضرورة، لكن الذي يبيع الدم هو الذي يأثم ولا يجوز له أن يأخذ الثمن، فالمشتري للضرورة يجوز له أن يشتري، ولكن الذي يبيع حرامٌ عليه أن يأخذ الثمن، وكذلك فلو أن إنساناً يذهب للتبرع بالدم لأجل المال فلا يجوز، ولكن يتبرع لله ولإنقاذ حياة إخواننا المسلمين هذا الأصل، ولا نكون ممن يبيع جزءاً من جسده، وهذا فيه مشابهة لطبائع اليهود، يبيعون أجزاءً من أجسادهم بمال يأخذونه. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يفقهنا وإياكم في ديننا، وأن يعلمنا ما جهلنا، وأن يجعلنا ممن يحل حلاله ويحرم حرامه. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

حكم أخذ العربون

حكم أخذ العربون الحمد لله وحده، أشهد أن لا إله إلا هو، لم يتركنا هملاً وإنما أرسل إلينا رسولاً، وأنزل علينا كتاباً، فبين لنا الحلال وبين لنا الحرام، وقال سبحانه وتعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف:157] وصلوات الله وسلامه على المبعوث رحمة للعالمين، بشيراً ونذيرا، أرسله الله ليبين لنا ما أنزل إلينا من ربنا، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة صلى الله عليه وسلم. يسأل بعض الإخوة: ما حكم أن يأخذ البائع العربون إذا لم يتم البيع؟ فأجابت اللجنة الدائمة: لا حرج في أخذ العربون في أصح قولي العلماء إذا اتفق المشتري والبائع على ذلك ولم يتم البيع، لو قال له: أريد أن أشتري منك هذا وهذا عربون، واتفقا على أنه إذا لم يتم البيع فإن العربون للبائع، فما دام أنها قد اتفقا فيجوز للبائع أخذ العربون له إذا لم يتم البيع.

وضع النقود في البنوك

وضع النقود في البنوك سأل كثيرٌ من الإخوان: عن حكم وضع النقود في البنوك؟ هذه مسألة مهمة لكثرة الحاجة إليها، والحمد لله أن أهل العلم قد بينوا هذه المسألة، ونختصرها لكم، فنقول: الأصل عدم جواز وضع النقود في البنوك؛ لأن ذلك حرام، والدليل قوله تعالى: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] وأنت عندما تضع النقود تكون بذلك قد ساعدتهم في إقراضها أو الإقراض منها بالربا لأشخاص آخرين، ولكن الله عز وجل رحيم بعباده، والشريعة لا تقول لك: لا تضعها في البنك ولو سرقت أو ضاعت، ولذلك أفتى علماؤنا بجواز وضع النقود في البنوك للضرورة حتى لا تسرق أو تضيع مثلاً، وقالوا: يختار أقل البنوك تعاملاً بالحرام، لأنها كلها فيها حرام، فيختار أقلها تعاملاً بالحرام حسب اجتهاده هو، قد نختلف أنا وأنت أي البنكين أبعد عن الحرام؟ لا بأس، تجتهد في وضع نقودك في أبعد الأمكنة عن الحرام فماذا تفعل بالفائدة؟ سيسجلون لك فائدة، ماذا تفعل بالفائدة؟ يقول الشيخ عبد العزيز حفظه الله: ولا يجوز اشتراط فائدة حتى ولو كان سينفقها في الخير، أنت إنسان تقي لا تريد أن تأخذ الفوائد، لكن تقول: أشترط عليهم فوائد حتى أعطي للفقراء، فلا يجوز لك أن تشترط؛ لأن الشرط حرام أصلاً، والغاية لا تبرر الوسيلة، ويقول الشيخ: فإن دفعت إليه الفائدة من غير شرط ولا اتفاق فلا بأس بأخذها لا له ولكن ليعطيها الفقراء. وملخص الفتوى: أنك إذا دفعت إليه الفائدة من غير شرط، فلا بأس بأخذها لصرفها في المشاريع الخيرية، كمساعدة الفقراء والغرماء المديونين ونحو ذلك، لا ليتملكها أو لينتفع بها، وربما كان الأفضل أخذها وعدم تركها للكفار يستفيدون منها، وأما شراء أسهم البنوك فإنه حرام، والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) [المائدة:2] وأنت عندما تشتري أسهم البنوك فإنك تكون مساهماً ومشاركاً في عمليات البنك التي منها الربا الواضح. فإن قلت لي: ماذا أفعل بأسهم البنوك التي لدي؟ أقول لك: ليس لك إلا رأس مالك، تبيعها وتبيع على البنك الأحوط لا تبيع على مسلم آخر، وتأخذ رأس مالك وتتخلص من الباقي، وأما أسهم الشركات فكانت الفتوى فيها أن الشركة إذا كان عملها مباح كصناعة أو زراعة مثلاً فيجوز المساهمة فيها، لكن إذا اكتشفت أنها تتعامل بالربا فلا يجوز لك أن تساهم، لأن بعض الشركات لا يخاف أربابها من رب العالمين، يضعون أموال الشركة في البنوك ويأخذون الربا ويوزعون منه الأرباح على المساهمين، فإذا اكتشفت ذلك فبع الأسهم ولا تشترك معهم، والعمل في البنوك حرام، والدليل على ذلك: (لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه) والحارس في البنك عمله حرام كما أفتت اللجنة الدائمة للإفتاء والدليل: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] وهو بحراسته يتعاون معهم على الإثم والعدوان.

حكم العمل مع الشركات المتعاملة مع البنوك الربوية

حكم العمل مع الشركات المتعاملة مع البنوك الربوية سأل سائل أهل العلم فقال: إنني أشتغل في قسم محاسبة في إحدى الشركات، وهذه الشركة تقترض من البنك بالربا وأنا آخذ هذا المستند البنكي وأسجله في دفتر مديونيات الشركة، فما حكم عملي؟ فكان A أنه حرام لا يجوز، لأنك فعلاً تكتب الربا، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه).

حكم الراتب المتقاضى من البنوك الربوية

حكم الراتب المتقاضى من البنوك الربوية جاء سؤال إلى اللجنة الدائمة للإفتاء عن رجل يقول: عملت في البنك سبعة أشهر، ثم أخبرني أحد زملائي أن العمل في البنك حرام وأخبرني بالدليل أنه حرام، فتركت البنك والتحقت بالخطوط السعودية، فما حكم الرواتب عن السبعة الأشهر الماضية؟ فأجابت اللجنة بما معناه وملخصه: إذا لم يكن يعلم أنه حرام أصلاً، واشتغل عن جهل في البنك، ثم أتاه إنسان فقال له: يا أخي، هذا حرام والدليل كذا، فلا حرج عليه فيما أخذ؛ لأنه لم يكن يعلم في الرواتب السابقة، ولا يجب عليه التصدق بها، ولو تصدق كان ذلك أفضل، لكن لا يجب عليه، وهذا بخلاف من يعلم سلفاً أن العمل في البنك حرام وهو يعمل فيه.

حكم تحويل الأموال عبر البنوك

حكم تحويل الأموال عبر البنوك وأما تحويل الأموال عن طريق البنوك فكانت الإجابة فيها: إذا دعت الضرورة إلى التحويل عن طريق البنوك الربوية فلا حرج إن شاء الله؛ لقوله سبحانه: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام:119] ولا شك أن التحويل عن طريقها من الضرورات العامة في هذا العصر، والمال الذي يأخذونه على التحويل ليس فائدة ربوية، وإنما هو أجرة التحويل، ثم تقول الفتوى: وإن تمكن من التحويل عن طريقٍ مباح غير البنك لم يجز التحويل عن طريق البنوك الربوية.

مخالفات شرعية في بيع الذهب وشرائه

مخالفات شرعية في بيع الذهب وشرائه وأما مسألة بيع وشراء الذهب، فإنه يحدث فيها من المخالفات الشرعية أشياء كثيرة، فمن هذه المخالفات:

الدين في الذهب

الدين في الذهب أن يأخذ الذهب ويقول له: أسدد لك غداً، فهذا لا يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، يداً بيد، مثلاً بمثل، سواء بسواء) تعطيه خمسة غرام وتأخذ خمسة غرام في نفس المجلس، أو تأخذ الذهب وتعطيه قيمته بالريالات في نفس المجلس، ولا يجوز أن تقول: أعطيك بعد غد. وكذلك سأل بعضهم: إنسان أخذ مني مصاغاً بألف ريال وليس معه ما ينقدني، فقلت له: هذا حرام لا بد أن تعطيني الألف الآن، فقال المشتري للبائع: سلفني ألف ريال من الخزينة، فلما سلفه قال: خذ هذا هو الثمن. فكان A لا يجوز إلا نقداً، فإن قال: سلفني، لا يجوز؛ لأنه احتيال على الربا، وجمع بين سلف وبيع، ولا يجوز الجمع بين سلف وبيع في عقد واحد.

بيع الذهب القديم بالذهب الجديد

بيع الذهب القديم بالذهب الجديد كذلك لا يجوز بيع الذهب القديم بالذهب الجديد مع إعطاء الفرق كما سبق أن بينا، وإنما تبيع الذهب القديم وتستلم الثمن ثم تشتري ذهباً جديداً منه أو من غيره بدون اشتراط. فإن قلت لي: ما هو الفرق؟ أقول لك: اذهب إلى دكاكين الذهب، وعندما تقول له: سأبيعك القديم وآخذ الثمن ثم أشتري منك أو من غيرك سيكون شراؤه منك غير شرائه عندما تقول له: خذ القديم وسأشتري منك جديداً لتعلم أن هناك فرقاً بينهما. الخلاصة أيها الإخوة: الحالات كثيرة جداً والأسئلة لا تنتهي، وحياتنا معقدة، وقد تداخلت الأمور فيها تداخلاً كبيراً، فعليكم بسؤال أهل العلم، وقد نقلت إليكم طائفة من فتاويهم مقرونة بالأدلة. اللهم إنا نسألك أن تطهر أموالنا من الحرام، وأن تجعل مكاسبنا وأموالنا حلالاً، اللهم اجعل ما يدخل بيوتنا حلالاً، اللهم اجعل ما نغذي به أجسادنا وأبناءنا حلالاً، وباعد بيننا وبين الحرام، اللهم أغننا بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك. أيها الإخوة: ونحن نفرح، وقد أذن الله بعقاب المفسدين في الأرض، من اقتص منهم على أفعالهم الشنيعة في العبث بأمن البيت الحرام، فنحمد الله على هذا التيسير لما يسر به سبحانه وتعالى منة وفضلاً منه بالضرب على أيدي أولئك العابثين المفسدين. اللهم اجعل بلدنا هذا آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم من أراد العبث بأمن هذا البلد وأمن المسلمين فاقمعه واقطع يده واقطع دابره، اللهم اجعلنا في أمن في بيوتنا وشوارعنا وأسواقنا، اللهم ونجنا من عذابك.

تربية النفس على العبادة

تربية النفس على العبادة إن الله سبحانه قد امتدح أقواماً بأنهم من العابدين، فأثنى عليهم لاجتهادهم في عبادة ربهم، وجعل الأجر لهم كاملاً موفوراً بما صبروا على عبادة ربهم، وقد ضرب لنا -أيضاً- الأمثال في القرآن من العابدين والعابدات، فحريٌ بالمسلم أن يجتهد في العبادة، وأن يربي نفسه وأهله على العبادة؛ حتى تكون زاداً لهم يوم القيامة.

طرق تربية النفس على العبادة

طرق تربية النفس على العبادة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وتحيةٌ في هذا المجلس الذي نسأل الله سبحانه وتعالى أن يكون زائداً في إيماننا، وأن يجعله حجة لنا لا حجة علينا. أيها الإخوة: موضوعنا الليلة بعنوان: تربية النفس على العبادة. إن الله سبحانه وتعالى قد امتدح أقواماً بأنهم من العابدين، فقال عز وجل: {وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} [الأنبياء:73] فأثنى عليهم لاجتهادهم في عبادة ربهم، وجعل الله الأجر للعابدين كاملاً موفوراً بما صبروا على عبادة ربهم، وضرب الله لنا الأمثال في القرآن من العابدين والعابدات، فذكر لنا من أنبيائه الذين كانوا يسارعون في مرضاته وعبادته رغباً ورهباً وكانوا لله سبحانه وتعالى من الخاشعين، ولو أخذنا مثالاً واحداً على نموذج من النماذج وهو مريم عليها السلام، مريم التي كانت قدوة للعابدين والعابدات في القديم والحديث، التي كانت تقنت وتركع وتسجد، مريم التي وصفها الله بأنها من القانتين: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً} [آل عمران:37] هذه التي اتخذت مكاناً شرقياً، شرق بيت المقدس تعبد الله، وكانت أمها قد نذرتها لخدمة المسجد فقالت: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً} [آل عمران:35] وأعاذتها وذريتها من الشيطان الرجيم. ولذلك، ما أحوجنا إلى التأسي بعبادة العابدين! ولا شك أن العبادة شيء شاق ويتطلب كثيراً من الجهد والتعويد والمجاهدة لحمل النفس على العبادة، وتربية النفس على العبادة نتكلم عنها من خلال بعض نقاط ومنها: أولاً: العلم بها. ثانياً: معرفة فضلها. ثالثاً: المسارعة إليها. رابعاً: الاجتهاد فيها. خامساً: تنويعها. سادساً: الاستمرار عليها. سابعاً: عدم إملال النفس منها. ثامناً: استدراك ما فات. تاسعاً: رجاء القبول مع خوف الرد. وكذلك من تربية النفس على العبادة: تعويدها من الصغر، وقراءة سير العباد والزهاد، والانخراط في الأوساط الإيمانية.

العلم بالعبادة

العلم بالعبادة العلم بالعبادة لا شك أنه ركن مهم لكي تصح؛ لأن العبادة تتحول إلى بدعة إذا كانت بناءً على جهل، فإنه لا يُعبد الله إلا بالعلم، وعلى العلم وبنور من العلم فإذا كانت العبادة من جاهل وقعت في البدع، وهذا هو سبب وقوع الكثيرين ممن أرادوا التعبد لله والتنسك وقعوا في البدع والسبب هو جهلهم. ولذلك يخشى اللهَ من عباده العلماءُ؛ لأنهم علموا الشريعة وعلموا العبادة، وطبقوا ذلك وما رسوه، وهذا أمر بدهي ومعروف، لا يعبد الله إلا بما شرع، ولا يعبد بالبدع.

المسارعة إلى العبادة

المسارعة إلى العبادة وأما بالنسبة للمسارعة إليها فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [آل عمران:133] ومرة قال: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الحديد:21]. فأنت ترى أن لفظة المسارعة والمسابقة وكذلك قول الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] أي: السعي. ووصف الله عباده الصالحين وهم زكريا وأهله بأنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود في سننه: (التؤدة في كل شيء خير إلا في عمل الآخرة) فإنه لا تؤدة ولا انتظار وإنما هو مسارعة ومسابقة، وهذه المسارعة والمسابقة تدل على عمق الإيمان في النفس، فإنه كلما تأصل الإيمان في النفس كان العبد إلى المسارعة في مرضاة ربه أكثر، ولما دنا المشركون من المسلمين في غزوة بدر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض) قال أنس -راوي الحديث والحديث في صحيح مسلم -قال: يقول عمير بن الحمام الأنصاري: (يا رسول الله! جنة عرضها السماوات والأرض؟ قال: نعم. فقال عمير بخ! بخ!) وهذه كلمة تطلقها العرب لتفخيم الأمر وتعظيمه (بخ بخ! فقال رسول الله: ما يحملك على قولك: بخ بخ؟ قال: لا والله يا رسول الله! إلا رجاء أن أكون من أهلها) ما قصدت بهذه الكلمة إلا وأنا أرجو أن أكون من أهل هذه الجنة التي عرضها كعرض السماء والأرض. قال صلى الله عليه وسلم وكلامه وحي يوحى: (فإنك من أهلها، فأخرج تمرات من قرنه، فجعل يأكل منهن، ثم قال: لإن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة) قال: فرمى بما كان من التمر ثم قاتل حتى قتل رضي الله عنه. كانوا يتسارعون إلى طاعة الله، فإذا نادى المنادي وأذن المؤذن وقد رفع أحدهم مطرقته، ألقاها وراء ظهره ثم سارع إلى الصلاة.

الاستمرار على العبادة

الاستمرار على العبادة الاستمرار على العبادة: يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي عن ربه عز وجل: (وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه) وكلمة: (ما يزال) في هذا الحديث تدل على الاستمرارية، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تابعوا بين الحج والعمرة) وهذه المتابعة تفيد القيام بالشيء تكراراً ومراراً وهذا المبدأ -وهو الاستمرار على العبادة- مهم في تقوية الإيمان وعدم إهمال النفس حتى لا تركن وتأسن، والقليل الدائم خير من الكثير المنقطع. ذلك أن بعض الناس إذا سمع خطبة أو شريطاً أو موعظة يتحمس للعبادة، قد يتحمس للعبادة ويستمر في هذا الحماس أياماً، ولكنه بعد ذلك ينطفئ حماسه ويعود إلى سابق عهده من الدعة والكسل عن العبادات والتقاعس عن الأعمال الصالحة. ولذلك، فإن من التربية أن يعود الإنسان نفسه على الالتزام بقدر من العبادة يداوم عليها من الأعمال المشروعة، أما الواجبات فلا بد من القيام بها دائماً، لكن المستحبات مثل: قراءة القرآن، وذكر الله، ونحو ذلك، لا بد أن يعود الإنسان نفسه على القيام بشيء منها، لما (سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: أدومها وإن قل) أي: أن المسلم مطالب بأن يستمر، وهذا معنى المداومة. وروى الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه (أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان إذا عمل عملاً أثبته فداوم عليه واستمر عليه).

الاجتهاد في العبادة

الاجتهاد في العبادة أما الاجتهاد في العبادة: فإن الاجتهاد فيها من سيماء الصالحين وصفات عباد الله المقربين، وقد ذكر الله في كتابه من اجتهاد أوليائه في عبادته أحوالاً عدة، فمن ذلك قوله عز وجل: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً} [السجدة:15 - 16] بالإضافة إلى الصلاة والصيام: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة:16]. وقال الله تعالى عن عباده الصالحين أهل الجنة: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات:17 - 19]. والذي يطلع على حال السلف في تحقيق صفات العابدين، والاجتهاد في العبادات فهو شيء يبعث على العجب والإعجاب، ويقود إلى الاقتداء من أصحاب النفوس السليمة، ألم تر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سأل أصحابه مرة فقال: (من أصبح منكم اليوم صائماً؟ قال أبو بكر: أنا) وجب أن يجيب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سألهم وأبو بكر لا يريد المفاخرة بالأعمال ولا الرياء (من أصبح اليوم منكم صائماً؟ قال أبو بكر: أنا، قال: فمن تبع اليوم منكم جنازة؟ قال أبو بكر: أنا، قال: فمن أطعم اليوم منكم مسكيناً؟ قال أبو بكر: أنا، قال: فمن عاد منكم اليوم مريضاً؟ قال أبو بكر: أنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة). وفي رواية: (ما اجتمعن في امرئ في يوم إلا دخل الجنة) فإذا كنا نستطيع في يوم من الأيام أن نصبح صائمين، ونتبع جنازة، ونطعم مسكيناً، ونعود مريضاً، فإننا في هذه الحال نشعر ولا شك بنوع من السمو في الإيمان والقوة في الدين بسبب اجتماع العبادات والاجتهاد فيها، ولا شك أن الصديق لما سئل لم يكن مخططاً بأن يقوم بهذه الأعمال من أجل السؤال، وإنما كان ذلك يوماً طبيعياً عادياً من أيام الصديق، وما سبق الصديق الأمة وكان في الفضل بعد نبيها إلا بأشياء من هذا القبيل، وقد كان السلف رحمهم الله تعالى، يجتهدون في العبادة ويملئون أوقاتهم بها، وهذه عبارة كانت تقال عن جماعة من السلف، ومنهم حماد بن سلمة على سبيل المثال، قال فيه الإمام عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله: لو قيل لـ حماد بن سلمة: إنك تموت غداً ما قدر أن يزيد في العمل شيئاً، فهو بالغ للغاية والنهاية في أعمال البر والعبادة، ولا يستطيع المزيد، لأنه مشبع، ويومه مشبع بأوقات الطاعات والعبادات. ومن الأمور -كذلك- التي تدل على أن السلف رحمهم الله كانوا مجتهدين في العبادة، ما نقرأ في سيرهم أنهم كان لهم سبع من القرآن يختمونه كل يوم، هذا حال الصحابة يختمون القرآن في أسبوع سبعة أقسام معروفة، وكانوا يقومون الليل وحالهم معروف في قيام الليل وقراءتهم للقرآن القراءة الكثيرة المتواصلة، حتى إن بعضهم ربما إذا أصبح رفع رجليه على الجدار ليعود الدم إلى الجسم من طول القيام، وكانوا يقومون الليل في ليالي الغزو، ففي الصباح قتال وفي الليل صلاة وقيام، يذكرون الله ويتهجدون، حتى في السجن لو أدخلوهم قاموا يصلون، يصفون أقدامهم، وتسيل دموعهم على خدودهم، ويتفكرون في خلق السماوات والأرض. يخادع أحدهم زوجته، كما تخادع المرأة صبيها، فإذا علم أنها نامت انسل من لحافها وفراشها لصلاة القيام، وكان بعضهم يقسم الليل على نفسه وأهله، فيوقظ بعضهم بعضاً متتابعين للصلاة، ونهارهم في الصيام، والتعلم، والتعليم واتباع الجنائز، وعيادة المرضى، وقضاء حوائج الناس. إذاً: أوقاتهم كانت مملوءة بالطاعة وهذا شيء مهم جداً أن تكون الأوقات ممتلئة بالطاعة، لو حصل هذا لو صلنا إلى مراتب عليا، ولوصلنا إلى منازل في غاية الرفعة والسمو، وكان بعضهم يُنفق على عيال أخيه بعد موت الأخ لسنوات، فهؤلاء الذين كانوا يراعون جميع الجوانب من جهاد وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وعبادة وصلاة وقيام، وأمور اجتماعية كالإنفاق على المحتاجين وغيرهم، هؤلاء هم أهل الجنة فعلاً.

عدم إملال النفس

عدم إملال النفس ومن الأمور كذلك: عدم إملال النفس: فليس المقصود من المداومة على العبادات والاجتهاد فيها إيقاع النفس بالسآمة وتعريضها للملل، وإنما المقصود عدم الانقطاع عن العبادة والموازنة بين الأمرين، وذلك بأن يكلف المسلم نفسه من العبادة ما يطيق ويسدد ويقارب فينشط إذا رأى نفسه مقبلة ويقتصد عند الفتور، يقتصد بمعنى: يمسك الواجبات ويعمل ما تطيق نفسه من المستحبات، ولو كان أقل من أيام النشاط؛ لأنها لقط أنفاس ليتابع العمل بعد ذلك. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة) فإذاً: لا بد من مراعاة النفس إذا أقبلت فأعطها المجال للزيادة؛ لأن النفوس لها إقبال وإدبار، لها ارتفاع وانخفاض كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لكل عمل شرة) وفي رواية: (لكل عامل شرة) أي: نهاية عظمى وقمة، (ولكل شرة فترة) تقابلها وتعقبها، وهكذا في ازدياد ونقصان فالإيمان يزيد وينقص، وارتفاع وانخفاض (فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى) فمن كان في حال فتوره متبع للسنة موافق، بحيث إنه قائم بالواجبات ممتنع عن المحرمات فهذا مهتد (فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى) من كان في حال فتوره قائم بالواجبات تارك للمحرمات فهذا على خير عظيم. وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (القصد القصد تبلغوا) الاقتصاد في العبادة، بمعنى: أنه يراعي نفسه، فينشط وقت النشاط ويرتاح في وقت الفتور والتعب؛ لأنه إذا حمل على نفسه حملة واحدة، شق عليها وربما تركت العبادة وانقطع به الحبل، لكن لو أنه يعمل الواجبات ويترك المحرمات، والمستحبات يأخذ ما استطاع منها، إذا نشط زاد، وإذا فتر ارتاح، هذه الطريقة المثلى في العبادة. وقال البخاري رحمه الله: باب ما يكره في التشديد في العبادة: عن أنس رضي الله عنه قال: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم فإذا حبل ممدود بين الساريتين فقال: ما هذا الحبل؟ قالوا: هذا حبل لـ زينب فإذا فترت تعلقت) تقوم وتصلي في الليل، فإذا أصابها الفتور والتعب تعلقت بالحبل لتبقى واقفة وتظل قائمة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا -رفض هذا العمل- ليصل أحدكم نشاطه فإذا فتر فليقعد) حكم وقواعد العبادة مهمة ولا بد من الانتباه لها وإلا فإن عاقبة كثير من الذين يشدون على أنفسهم في فورة الحماس تكون إلى الانقطاع (لا. حلوه، ليصل أحدكم نشاطه فإذا فتر فليقعد). ولما علم النبي صلى الله عليه وسلم أن عبد الله بن عمرو بن العاص يقوم الليل كله ويصوم النهار متتابعاً، سأله فأخبره وأقر أنه هذا ما يفعله، فنهاه عليه الصلاة والسلام وعلل ذلك بقوله: (فإنك إذا فعلت ذلك هجمت عينك، ونفهت نفسك) هجمت عينك أي: غارت أو ضعفت من كثرة السهر، ونفهت نفسك أي: كلت وتعبت وسئمت هذا التواصل المستمر، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم من العمل ما تطيقون، فإن الله عز وجل لا يمل حتى تملوا، وإن أحب الأعمال إلى الله عز وجل أدومه وإن قل). نحن نقول: إننا لا نشتكي من قضية الذين يشددون على أنفسهم في العبادات بقدر ما نشتكي من المفرطين على أنفسهم من الذين قصروا في العبادات. أقول مرة أخرى: في هذا الزمن الواقع الذي نعيش فيه نحن لا نشتكي من الذين يشددون على أنفسهم في العبادات بقدر ما نشتكي من قلة العبادات فينا ومن تكاسلنا عن العبادات، وتراخينا في القيام بها، وتقاعسنا عن أدائها، ورغبتنا عنها وعن مواسمها، وكأننا مستغنون عن الأجر، هذا الذي نشتكي منه أكثر، لكن من باب عرض الموضوع فهذا من الشمولية فيه وإلا فإن التقصير عندنا أكثر من الزيادة، الزيادة مضرة لكن نحن نشتكي من التقصير أكثر، ونشتكي من الكسل.

استدراك ما فات

استدراك ما فات وكذلك من النقاط في هذا الموضوع المهم جداً؛ لأننا لا يمكن أن ننتصر على عدو ولا أن نواجه بدون عبادة، فمن النقاط استدراك ما فات منه، فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نام عن حزبه من الليل أو عن شيء منه، فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كُتب له كأنما قرأه من الليل). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: [كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاة داوم عليها، وكان إذا فاته القيام من الليل -بسبب مثلاً غلبته عيناه بنوم أو وجع- صلى ثنتي عشرة ركعة من النهار] يعني: كان يشفع وتره، أي: يزيد ركعة. وفي رواية: (كان إذا نام من الليل أو مرض صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة) ومن الأدلة كذلك: أن أم سلمة -والقصة في صحيح البخاري - جاءها ضيوف من الأنصار، فدخل النبي عليه الصلاة والسلام وصلى ركعتين، وهي عندها ضيوف، وكانت لا تريد تركهم، فقالت للجارية: اذهبي إليه فقومي بجانبه فقولي له: تقول لك أم سلمة: إنك نهيت عن الركعتين بعد العصر، وأراك تصليهما، فإن أشار إليك فتأخري عنه، فجاءت الجارية ووقفت بجانب النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فقالت له هذا الكلام، فأشار إليها فتأخرت الجارية وذهبت، وبعدما فرغ من صلاته جاء إلى أم سلمة فقال: (يا ابنة أبي أمية! سألت عن الركعتين بعد العصر وإنه أتاني ناس من عبد القيس -أي: بعد الظهر- فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر -السنة الراتبة بعد الظهر- فهما هاتان) هل تركها النبي صلى الله عليه وسلم؟ لا. وإنما صلاها، وفي هذا الحديث فوائد منها: جواز تكليم المصلي لحاجة وأن الذي يكلم المصلي يقوم بجانبه، لا يتقدم ولا يتأخر. وكذلك: جواز الإشارة في الصلاة. وفوائد كثيرة أخرى ذكرها الحافظ رحمه الله في الفتح، الشاهد أنه قال لها: (يا ابنة أبي أمية! سألت عن الركعتين بعد العصر وإنه أتاني ناس من عبد القيس فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر فهما هاتان) وفي رواية: (وكان إذا لم يصل أربعاً قبل الظهر صلاهن بعده) رواه الترمذي وهو حديث صحيح. وهذه الأحاديث تدل على مشروعية قضاء السنن الرواتب، وتدل على مشروعية قضاء صلاة الليل، فقد ذكر ابن القيم رحمه الله في صومه صلى الله عليه وسلم شعبان أكثر من غيره، لماذا كان عليه الصلاة والسلام يصوم أكثر شعبان؟ حتى قالت: بل كله، ذكر ثلاثة أسباب في تعليقه على سنن أبي داود، وابن القيم له تعليق نفيس جداً على سنن أبي داود مطبوع مع شرح الخطابي، يقول: ليس فقه ابن القيم في زاد المعاد فقط، بل في هذا الكتاب فقه عظيم. يقول: من أسباب إكثار النبي صلى الله عليه وسلم من الصيام في شعبان: أنه كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، فكان ربما شغل عن الصيام أشهراً فجمع ذلك في شعبان ليدركه قبل صيام الفرض، كأن يخرج في سفر أو في جهاد أو أنه قد يمرض فلا يصوم ثلاثة أيام من الشهر التي كان يصومها وهو متعود عليها، فكان يقضيها في شعبان. وكان صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان -وهذا معروف- فلما فاته الاعتكاف مرة لعارض السفر، اعتكف في العام المقبل عشرين يوماً، ولذلك عنون عليه البخاري: الاعتكاف في العشر الأواسط، يعني: أن الاعتكاف في العشر الأواسط، من رمضان -أيضاً- مشروع، إذاً: النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا فاته شيء لا يضيعه ويتركه لفواته وإنما كان يستدركه، وهذا الاستدراك مهم في الاستمرار على العبادة، والحمد لله أن الشريعة فتحت لنا باب الاستدراك، حتى يحس الإنسان أنه عوض شيئاً فاته.

رجاء القبول مع الخوف من الرد

رجاء القبول مع الخوف من الرد وكذلك من الأمور المهمة في العبادة وتربية النفس عليها، رجاء القبول مع الخوف من الرد، فإن بعض الناس إذا عملوا أعمالاً وعبادات أصيبوا بنوع من الغرور أو الاغترار بالعبادة، وشعروا أن فيهم صلاحاً عظيماً، وأنهم صاروا من أولياء الله، ولكن المسلم يخشى ألا تقبل عبادته، فهو يجتهد ويلتزم بالسنة ومع ذلك يخشى على نفسه. عن عائشة رضي الله عنها قالت: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون:60] هم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟) -يعني: يعملون أشياء ويخافون من الأعمال السيئة التي فعلوها، يعبدون الله ويتصدقون ويخافون مما عملوا من شرب الخمر والسرقة مثلاً- (قال: لا يا ابنة الصديق ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون ألا يقبل منهم أولئك الذين يسارعون في الخيرات) رواه الترمذي وهو حديث صحيح. لا يا ابنة الصديق! ليس ما ظننتيه ولكنهم الذي يسارعون في الخيرات منهم، ولكنهم: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون:60] ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون ألا يقبل منهم {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [المؤمنون:61] الخشية هذه من رد العمل مهمة، والمؤمن يجب أن يعيش بين الخوف والرجاء، مهما كثرت العبادة يخشى على نفسه لربما وقع في عجب أذهب أجره، أو وقع في شيء من الرياء أو الاغترار، ثم إنه مهما عبد فلا يكافئ نعمة البصر، فأي شيء يظن في نفسه؟ ومن صفات المؤمنين: احتقار النفس أمام الواجب من حق الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد: (لو أن رجلاً يُجر على وجهه من يوم ولد إلى يوم يموت هرماً في مرضاة الله عز وجل لحقره يوم القيامة) كله عبادة متواصلة لا نوم ولا أكل ولا شرب، كله عبادات متواصلة في مرضاة الله عز وجل لحقره يوم القيامة، يعني: بجانب ما يرى من الواجب عليه في النعم وحق الله يرى أن ما عمله طيلة حياته من يوم ولد إلى يوم يموت يراه لا شيء بجانب حق الله، ولذلك لا يمكن أن يكون المسلم مغتراً بالعبادة مهما كثرت عبادته؛ لأن من عرف الله وعرف النفس، يتبين له أن ما معه من البضاعة لا يكفيه ولو جاء بعمل الثقلين، وإنما يقبله الله بكرمه وجوده وتفضله، ويثيب عليه بكرمه وجوده وتفضله. ومن اللفتات الجليلة ما كان يقوله أبو الدرداء رضي الله عنه: [لئن أستيقن أن الله قد تقبل مني صلاة واحدة أحب إلي من الدنيا وما فيها إن الله يقول: ((إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)) [المائدة:27]] لو علمت أن الله تقبل صلاة واحدة، لكان عندي شيئاً عظيماً، ولشعرت بطمأنينة، ونحن نعمل ولا ندري أيقبل منا أو لا يقبل، لكن يجب أن يكون عندنا حسن ظن بالله أنه يقبلها منا، إذا صليت وصمت يجب أن يكون عندك حسن ظن بالله أنه يقبلها منك، لكن هل تقطع لنفسك أنها قبلت؟ لا. حسن الظن بالله أنه يقبل، ورجاءً أن يقبل لا يعني: أنك تقطع لنفسك أنه قبلك، فإذا بقيت على هذا الشعور بين الرجاء وحسن الظن بالله أنه يقبل، وبين الخوف من ردها عليك وعدم قبولها، أو حبوطها، لكان المسلم يعمل ويعمل وهو على خير عظيم.

التنويع في العبادة

التنويع في العبادة وكذلك من الأمور المهمة في تربية النفس على العبادة التنويع في العبادة: التنويع فيها من رحمة الله سبحانه وتعالى بنا، أن نوع علينا العبادات، فمنها ما يكون بالبدن كالصلاة، ومنها ما يكون بالمال كالزكاة، ومنها ما يكون بهما معاً، مثل حج بيت الله الحرام، فإنه تجتمع فيه العبادتان المالية والبدنية، ومنها ما هو باللسان كالذكر والدعاء، وحتى النوع الواحد ينقسم إلى فرائض وسنن مستحبة، والفرائض تتنوع والسنن تتنوع، هذه الصلاة فيها فرائض متنوعة في الوقت، وعدد الركعات، وسنن الصلاة متنوعة، فهناك سنن رواتب وهناك ما هو أعلى منها في قول بعض أهل العلم وهو صلاة الليل، ويوجد ما هو أدنى منه وهو مثل صلاة الضحى والأربع التي قبل العصر أي: بين الأذان والإقامة قال صلى الله عليه وسلم فيها: (رحم الله امرأً صلى قبل العصر أربعاً) فهذه سنة، ولكن دون السنن الراتبة -الاثني عشر- في المرتبة. وإذا التفت إلى هذا النوع من قيام الليل لوجدته أنواعاً متنوعة، فمنه تستطيع أن تصلي واحدة وثلاثاً وخمساً وسبعاً وتسعاً، وإحدى عشرة، تستطيع أن تصلي مثنى مثنى، وفي قول بعض أهل العلم في رواية: (يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاً) ووردت رواية: (أنه يصلي خمساً بتشهد وسبعاً بتشهد واحد وتسعاً بتشهد واحد) فإذاً: الكيفيات تتنوع، فالتحيات -الصلاة الإبراهيمية- صيغها متنوعة، ودعاء الاستفتاح متنوع الصيغ. هذا التنوع يمنع الملل، وهذا من رحمة الله، وكذلك الصيام فيه معنى لا يوجد في الزكاة، والزكاة فيها معنى لا يوجد في الصلاة، والحمد لله أن عبادات هذا الدين ليست نوعاً واحداً ولا متماثلاً وإنما هي متنوعة تنوعاً كثيراً، ولذلك يحصل التجدد في النفس، فلا تمل وتنجذب وتستلذ بالعبادة. وسبحان الذي جعل أبواب الجنة منوعة على أنواع العبادات، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم والحديث في البخاري: (من أنفق زوجين في سبيل الله) -من أي شيء؟ من الإبل أو من البقر أو من الغنم أو من الذهب أو من العبيد- (نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله! هذا خير فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة) الحديث. أبواب الجنة منوعة، ومنها باب الوالد: (الوالد أوسط أبواب الجنة) كما جاء في حديث أبي الدرداء، يعني: أن بر الوالدين باب من أبواب الجنة، فتنوعت أبواب الجنة على أنواع العبادات، وهناك من يدعى من هذه الأبواب، ومنهم: أبو بكر الصديق رضي الله عنه ولعله مما يفسر ذلك الحديث المتقدم، في عيادة المريض والجنازة وإطعام المسكين والصيام، ما المقصود بباب الصيام وباب الصلاة؟ هل معناها أن المصلين يدخلون من باب الصائمين والذين لا يصلون يدخلون من باب آخر؟ كل هؤلاء الذين يدخلون من هذه الأبواب يدعون -حسب الحديث- يدعون من الأبواب المختلفة، كلهم من القائمين بالواجبات الذين يدخلون الجنة ولا شك، لكن الذي يدعى من باب الريان المكثر من الصيام النفل، والذي يدعى من باب الصلاة: الذين يكثرون من صلاة النفل، والذي يدعى من باب الصدقة المكثر من الصدقة النفل، وإلا فإنهم جميعاً يصلون الفرائض، ويصومون رمضان، ويؤتون الزكاة الواجبة. ولكن لأن بعض النفوس تستلذ بعبادة دون أخرى، وتميل إلى نوع دون آخر، وقد تزيد فيه وتكثر منه، فالله جعل لهم باباً يدعون منه على حسب العمل الذي قد استكثروا منه في الدنيا، وإلا فجميع من يدعى ممن أدوا الفرائض بطبيعة الحال، وهناك أناس يتقنون فن الجهاد ويحبون الجهاد ولا يتركون سريةً ولا جيشاً إلا يخرجون فيه، وهكذا وأناس اشتهروا ببرهم لآبائهم وأمهاتهم، ملازمين لهم، طائعين لهم بطاعة الله، هؤلاء لهم باب يدعون منه، لكن الجميع قائمون بالواجبات تاركون للمحرمات، هذا واجب عليهم، لكن المكثر من نافلة من النوافل يدعى من بابه يوم القيامة، وهذا التنوع الاستفادة منه في جذب النفس إلى العبادة، لأن بعض الناس -مثلاً- قد يكون له جسم قوي، ويصبر على الجوع، ولا يشعر بألم الجوع كثيراً، فيجد الصيام سهلاً بالنسبة له، وآخر عنده مال كثير فالصدقة سهلة بالنسبة له، وإنسان لسانه سهل الحركة، وكل الألسنة سهلة الحركة لكن عنده أن الذكر مهم، عنده أن الذكر له مرتبة خاصة، مكانة خاصة في نفسه، فهو يكثر منه، فتراه دائماً يذكر الله ولا يمل لسانه من ذكر الله، ولا يفتر لسانه من ذكر الله، ولا يزال لسانه رطباً من ذكر الله، فهذا النوع عنده سهل، فأقول: لا بأس أن الإنسان إذا وجد نافلة من النوافل سهلة عليه أكثر من غيرها، فالأفضل له أن يستزيد منها وأن يكثر منها وهو مبشر بهذا الأجر، وهو الوارد في حديث دعاء أصحاب النوافل من أبوب الجنة التي خصصت لهم، وهناك عبادات للإنسان فيها طعم خاص، ولها أثر خاص في النفس مثل قوله صلى الله عليه وسلم في الثلاثة الذين يحبهم الله: (الرجل يلقى العدو في الفئة فينصب له نحره حتى يقتل أو يفتح لأصحابه، والقوم يسافرون فيطول سراهم حتى يحبوا أن يمسوا الأرض فينزلون، فيتنحى أحدهم فيصلي حتى يوقظهم لرحيلهم) هذا الرجل أصابه ألم السفر وتعب السفر مثلما أصابهم، لما أحبوا أن يمسوا الأرض، مسوا الأرض ليناموا فإذا به يتوضأ ويقوم للصلاة حتى يوقظهم لرحيلهم، هذا يحبه الله. (والرجل يكون له جار يؤذيه فيصبر على أذاه حتى يفرق بينهما موت أو ضعن) إما أن يرحل هو عن جاره أو أن يرحل الجار عنه، أو يموت واحد منهما، فهو صابر على أذى الجار، هذه عبادة لها لذة في النفس وأثر. أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل يشكو قسوة قلبه، فقال له صلى الله عليه وسلم: (أتحب أن يلين قلبك وتدرك حاجتك؟ ارحم اليتيم، وامسح رأسه، وأطعمه من طعامك؛ يلن قلبك وتدرك حاجتك) فالاعتناء باليتيم عبادة لها أثرها في النفس، ولذلك قال: (أتحب أن يلين قلبك؟ ارحم اليتيم، وامسح رأسه، وأطعمه من طعامك).

الإلمام بنصوص الترغيب في العبادة

الإلمام بنصوص الترغيب في العبادة كذلك من الأمور المهمة في العبادات أو في تعويد النفس وتربيتها على العبادة: الإلمام بشيء من نصوص الترغيب الواردة في العبادة. فالشريعة لما فتحت الباب للعبادات وحثت عليها، كان من وسائل الحث -أيها الإخوة! - ذكر الأجور، أجور معينة للعبادات؛ لأن النفس تتحمس إذا ذكر الأجر، فلنأخذ على سبيل المثال بعض الأحاديث الواردة في أجور مرتبة على أداء بعض العبادات، ونتمعن فيها لنجد أن ذكر الأجر يحمس النفس ويشجع على العبادة، قال عليه الصلاة والسلام: (لأن أقعد مع قوم يذكرون الله من صلاة الغداة حتى تطلع الشمس أحب إليّ من أن أعتق أربعة من ولد إسماعيل، ولأن أقعد مع قوم يذكرون الله من صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس أحب إليّ من أن أعتق أربعة) أي: من صلاة الفجر إلى طلوع الشمس، تجلس معهم يذكرون الله، ويقرءون القرآن، ويقرءون العلم، هذا أحسن من أن يعتق أربعة رقاب، مع أن عتق الرقبة فيه فضل عظيم. (من أعتق رقبة أعتق الله بكل عضو منها عضواً منه من النار، حتى الفرج بالفرج) فقال: (لأن أقعد مع قوم يذكرون الله من صلاة الفجر حتى تطلع الشمس أحب إليّ من أن أعتق أربعة من ولد إسماعيل، ولأن أقعد مع قوم يذكرون الله من صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس أحب إليّ من أن أعتق أربعة) وقال عليه الصلاة والسلام: (من توضأ فقال بعد فراغه من وضوئه: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك) هذه كلمة مثل كفارة المجلس (كتب في رق، ثم جعل في طابع، فلا يكسر إلى يوم القيامة) يجعل في مظروف مختوم لا يكسر إلى يوم القيامة. وقال عليه الصلاة والسلام لإحدى زوجاته: (لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلت منذ اليوم) -لأنها من الفجر، وهي جالسة في مكانها تذكر الله حتى طلع النهار- قال: (لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله وبحمده عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته). وفي فضل حفظ القرآن يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لو جمع القرآن في إهاب ما أحرقه الله بالنار) الإهاب هو الجلد، ويقصد به جسد الحافظ للقرآن (يأتي القرآن يوم القيامة فيقول: يا رب حله، فيلبس تاج الكرامة، ثم يقول: يا رب زده، فيلبس حلة الكرامة، ثم يقول: يا رب ارض عنه، فيرضى عنه، فيقول: اقرأ وارق، ويزاد في كل آية حسنة). ومن الأحاديث: الاستعداد ليوم الجمعة، وهذا أمر فرطنا فيه كثيراً يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من غسل يوم الجمعة واغتسل، ثم بكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام واستمع وأنصت ولم يلغ كان له بكل خطوة يخطوها من بيته إلى المسجد عمل سنة أجر صيامها وقيامها) تكبيرة الإحرام مع الإمام التي تفوت كثيراً من الناس (من صلى لله أربعين يوماً في جماعة، يدرك التكبيرة الأولى، كتب الله له براءتان، براءة من النار، وبراءة من النفاق). الجهاد: (لقيام رجل في الصف في سبيل الله عز وجل ساعة أفضل من عبادة ستين سنة) ويقول صلى الله عليه وسلم: (موقف ساعة في سبيل الله خير من قيام ليلة القدر عند الحجر الأسود). إماطة الأذى عن الطريق: (لقد رأيت رجلاً يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق، كانت تؤذي الناس). عيادة المريض: (ما من امرئ مسلم يعود مسلماً إلا ابتعث الله سبعين ألف ملك يصلون عليه في أي ساعات النهار كان حتى يمسي، وأي ساعات الليل كان حتى يصبح) السواك والقيام من الليل: (إذا قام أحدكم يصلي من الليل فليستك فإن أحدكم إذا قرأ في صلاته وضع ملك فاه على فيه) - فم الملك على فم القارئ- (ولا يخرج من فيه شيء إلا دخل فم الملك) احتساب الأجر في الخطوات إلى المسجد والتبكير إلى المسجد: قال عليه الصلاة والسلام: (إذا تطهر الرجل ثم مر إلى المسجد يرعى الصلاة - من أجل الصلاة- كتب له كاتبه بكل خطوة يخطوها إلى المسجد عشر حسنات، والقاعد يرعى الصلاة كالقانت، ويكتب من المصلين من حين يخرج من بيته حتى يرجع إليه) يعني: لا تحسب الخطوات في الذهاب فقط بل حتى في العودة، الذي ينتظر بنفسه يرعى الصلاة، ينتظر كالقانت ويكتب من المصلين من حين يخرج من بيته حتى يرجع إليه.

البدء في التعود منذ سن مبكرة

البدء في التعود منذ سن مبكرة ومن الأمور كذلك: البدء في التعود منذ سن مبكرة للسهولة والاستمرارية؛ لأن الإنسان كلما كبر كثرت شواغله وعمت الصوارف، فإذا تعود من الصغر فإنه يسهل عليه، والآن هناك من كبار السن يعملون أنواعاً من العبادات كالقيام الطويل، والتبكير إلى المسجد ونحو ذلك، ولو نظرت في تاريخهم لوجدت أنهم قد تعودوا على هذه العبادة من سن مبكرة، وهذا ينادي علينا بأن نعود أطفالنا على العبادة منذ الصغر حتى يألفوها، وتستمر معهم سهلة إذا كبروا، وكذلك الشاب عندما يكون طري العود حدث السن، فإن تشكيل نفسه سهل، فإذا تعود العبادة منذ بدء حياته صارت سهلة عليه في المستقبل.

الانخراط في الأوساط الإيمانية

الانخراط في الأوساط الإيمانية وكذلك من الأمور: الانخراط في الأوساط الإيمانية، دع عنك قساة القلوب وشلل الأنس، ولكن عليك بالذين امتلأت قلوبهم إيماناً، فإذا ذكر الله وجلت قلوبهم، يحبون القراءة في المصحف، شعارهم قيام الليل، قال عليه الصلاة والسلام: (إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين) -وأفصحها بضم الراء رُفقة- (بالقرآن حين يدخلون بالليل) إذا دخلوا إلى بيوتهم من المسجد أو من شغل خارج البيت إذا دخلوا يعرفهم بأصواتهم بالقرآن (وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل، وإن كنت لم أر منازلهم بالنهار) رواه البخاري، وهذا في فضل الأشعريين. ومن الأمور كذلك: إذا أذن المؤذن أوقفوا أعمالهم وأنهوا ما لديهم وهرعوا إلى الصلاة، إن بقاء الإنسان فيها لا شك أن فيه تربية لنفسه على العبادة، أما أن يكونوا من المتخلفين عن صلاة الجماعة، وبالذات كانوا دعاة فإنها نقيصة وعيب من العيوب.

تخصيص وقت من اليوم للعبادة والأذكار

تخصيص وقت من اليوم للعبادة والأذكار ومن الأمور كذلك ونختم به: أنه لا بد من وجود أوقات للعبادة والأذكار في اليوم، لا تُشغل بأي شيء آخر ولا تزاحم، ولا يصلح الاعتذار بأعمال الدعوة وإنكار المنكر وطلب العلم عن هذه الأوقات ولا يصلح أن نزاحم الأذكار والمواسم بأعمال أخرى هي من العبادة، لكنها تؤدي إلى إسقاط الأذكار والنوافل بالكلية، وقد يطرأ على الإنسان في بعض الأحيان شيء يشغله عن أذكار ما بعد الصلوات أو أذكار النوم أو يفوته شيء من قيام الليل، لكن أنه يشتغل بأشغال ولو كانت من باب الدعوة، أو القراءة بحيث إنها تشغله دائماً عن النوافل والعبادات والأذكار، فتجده دائماً منشغلاً عن الأذكار ليس عنده وقت للدعاء. فهذا شيخ الإسلام رحمه الله كان يخرج بطلابه إلى السوق لإنكار المنكر، ويكسرون آلات اللهو ويشقون جرار الخمر، ويخرج لتنظيم العساكر والجهاد، ويعلم ويعمل أشياء كثيرة، لكن الأمر في حياته كما يقول تلميذه رحمه الله: وحضرت شيخ الإسلام ابن تيمية مرة ثم جلس يذكر الله تعالى إلى قريب من انتصاف النهار، ثم التفت إليّ وقال: هذه غدوتي، ولو لم أتغد هذا الغداء سقطت قوتي. وقال لي مرة: لا أترك الذكر إلا بنية إجمام نفسي وإراحتها لأستعد لتلك الراحة إلى ذكر آخر. هذه غدوته، ولو لم أتغد هذا الغداء، ما هو الغداء؟ من صلاة الفجر إلى أن ينتصف النهار ذكر لله، قراءة وذكر ودعاء، لو لم أتغد هذا الغداء سقطت قوتي، ولا يصلح إشغال أوقات العبادات المشروعة بأمور أخرى دائماً، أن يقول إنسان: بعد كل صلاة سأشتغل بشيء آخر، أقرأ في كتب، وينسى أن يقرأ الأذكار، ووقت ورد القرآن لا يصلح أن يُترك ويُشغل بشيء آخر لا بد أن نحافظ على هذه الثوابت في حياتنا، وأقول لشباب الصحوة: لا ينبغي أن تشغلنا الأحداث المتلاحقة عن أداء العبادات، ألم تر أن علياً رضي الله عنه ما ترك الأذكار في ليلة صفين، قالوا ولا ليلة صفين؟ فالنبي صلى الله عليه وسلم أوصاه هو وفاطمة أن يسبحا الله ثلاثاً وثلاثين، ويحمدا الله ثلاثاً وثلاثين، ويكبرا الله أربعاً وثلاثين. قالوا ما تركتها ولا ليلة صفين؟ -ولا في معركة- قال: ولا ليلة صفين، فبعض الشباب إذا طرأت عليهم أحداث وأحوال ينسون الأذكار وينسون الأدعية والصلوات، أقول: إذا حصل يحصل أحياناً، فقد يطرأ على الإنسان طارئ. فقد قام النبي عليه الصلاة والسلام مرة مسرعاً من بعد الصلاة مباشرة لأنه تذكر شيئاً، أما أن الإنسان يكون دائماً في طوارئ وأشياء تشغل عن العبادات، ولا يصبح هناك في اليوم متسع لأذكار الصباح والمساء والنوم وورد القرآن والأدعية، فهذا خطأ. فهذه -أيها الإخوة- بعض النقاط في موضوع تربية النفس على العبادة. ونقول مرة أخرى: لا بد من العلم بها، ومعرفة فضلها، والمسارعة إليها، والاجتهاد فيها، والتنويع والاستمرار عليها، وعدم إملال النفس ورجاء القبول مع خوف الرد، واستدراك ما فات منها، وقراءة سير العباد والزهاد، والتعود عليها منذ سنٍ مبكرة، والانخراط في الأوساط الإيمانية، وعدم إشغال أوقات الأذكار والأدعية بأمور أخرى ولو كانت من الصالحات، لأجل ألا تضيع هذه العبادة.

الأسئلة

الأسئلة

مراجع المحاضرة

مراجع المحاضرة Q ما هي المراجع لهذه المحاضرة؟ A المراجع هي كتب الحديث، وكتب ابن القيم رحمه الله وليست مأخوذة من مرجع واحد.

المقصود بالعلماء في قوله تعالى: (إنما يخشى الله من عباده العلماء)

المقصود بالعلماء في قوله تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) Q يقول الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] من هم العلماء المقصودون، هل هم علماء الفيزياء والكيمياء؟ A لا. المقصود علماء الشريعة، وهذا معروف، راجع التفاسير وكلام العلماء.

دلائل قبول العمل

دلائل قبول العمل Q هل هناك دلائل على قبول العمل؟ A إن من علامة الحسنة الحسنة بعدها، إذا أحسست نفسك بعد العمل أنك مندفع للعمل الآخر، وصلحت أمورك واقتربت إلى الله أكثر، فهذا دليل على قبول العمل.

موقف الإسلام من المتصوفة

موقف الإسلام من المتصوفة Q ما موقف الإسلام من جماعة المتصوفة الذين يهتمون بالأذكار والأوراد؟ A هؤلاء قد لا يقترب منهم الشيطان، ماذا يفعل الشيطان بالبيت الخرب؟ أذكار مبتدعة، يقولون: الصمدية، وهي: (قل هو الله أحد) تسعمائة وتسعة وتسعون ألفاً وتسعمائة وتسعة وتسعون مرة، تقول: أحد هؤلاء المتورطات مع هذه الطرق الصوفية: أنا إلى الآن أربع سنين كل يوم أقرأ (قل هو الله أحد) ثلاث مرات مع الصمدية، ومسبحة بألف عقدة، وقس على ذلك من الأذكار المبتدعة ذات الأرقام المكررة، أربعة آلاف وأربعمائة وأربعة وأربعون، وأنت لو نظرت إلى الأذكار في السنة لا تجد فيها عدداً أكثر من مائة، وهؤلاء يعملون أشياء مبتدعة، فعملهم مردود عليهم. لما ذهب أحد الصحابة إلى المسجد وجد عجباً، فرجع إلى ابن مسعود وقال: دخلت المسجد فرأيت فيه حلقاً حلقاً، ورجل قائم عليهم يقول: سبحوا مائة فيسبحوا مائة، احمدوا مائة فيحمدوا مائة، هللوا مائة فيهللوا مائة، كبروا مائة فيكبروا مائة، قال: وماذا قلت لهم؟ قال: أنتظر أمرك، أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم؟ وأنا ضامن لهم أي: أن تزيد حسناتهم ثم تقنع فخرج ثم دخل المسجد فكشف اللثام عن وجهه، وأخبرهم عن نفسه أنه عبد الله بن مسعود صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: [ويحكم يا أمة محمد! ما أسرع هلكتكم، هذه ثياب نبيكم لم تبل وآنيته لم تكسر، ما انقضى على وفاته زمن طويل، ما أسرع البدع إليكم] فهؤلاء عملهم حابط مردود عليهم؛ لأنهم فقدوا شرطاً مهماً جداً من شروط العمل وهو متابعة النبي صلى الله عليه وسلم.

لا يشترط النوم قبل قيام الليل

لا يشترط النوم قبل قيام الليل Q هل قيام الليل يجب أن يكون قبله نوم؟ A لا. هذا اعتقاد شائع عند بعض الناس، أنه لا يسمى قيام ليل إلا إذا كان قبله نوم، وهذا خطأ فإن الإنسان لو أنه سهر إلى الساعة الواحدة ليلاً، والثلث الأخير قد بدأ، فصلى قيام ليل بالثلث الأخير من الليل، فهو أجر عظيم في وقت فضيل وعبادة رفيعة، ولذلك لا نشترط أن يكون قبله نوم.

قراءة الحفظ في قيام الليل

قراءة الحفظ في قيام الليل السؤل: أقوم الليل وأحياناً لا أقوم، وأحفظ من كتاب الله الكثير فما هي الطريقة؟ A اقرأ الذي تحفظه في قيام الليل.

من أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه

من أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه Q لي أصحاب فيهم عادات سيئة وإذا تركتهم غضبوا؟ A من أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس، ولا طاعة لبشر في معصية الله عز وجل.

ساعة وساعة

ساعة وساعة Q يصيبني فتور متواصل وملل متنامٍ لا أستطيع كسره إلا بمصاحبة الأبرار وحضور الدروس والمحاضرات، لكن طبيعة عملي وأموري العائلية تمنعني من ذلك فأشعر بتدهور؟ A نعم -يا أخي- هذه ظاهرة، الآن إذا التفت إلى الناس في أعمالهم لوجدت أنه يأتي إلى المسجد فيتغير عليه الجو تماماً، لماذا؟ لأنه ماذا يوجد في العمل؟ رجل يردد كلمات أغنية وآخر يدخن وثالث يغتاب، ورابع في أخبار المباريات، وخامس يقلب مجلة ماجنة، وهكذا هذا حالهم، هذا حال المكاتب في وقت الدوام، الذي يكون في هذه الحالة من الكيفية كيف يكون إيمانه؟ يقسو قلبه لا شك، ولا بد أن يعمل ليكسب رزقه، ولذلك لا بد أن يطهر قلبه بأن يداوم الحضور في مجالس الذكر ومرافقة الطيبين، قال حنظلة رضي الله عنه: (لقيني أبو بكر فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قلت: نافق حنظلة، قال: سبحان الله! ما تقول؟ قال: قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنها رأي عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات) -الضيعات: هي المعاش من المال والحرفة والصنعة- (فنسينا كثيراً، قال أبو بكر: فوالله إنني لألقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: نافق حنظلة يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما ذاك؟ قلت: يا رسول الله! نكون عندك فتذكرنا بالنار والجنة حتى كأنها رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات ونسينا كثيراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لو تدومون على ما تكونون عندي في الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة! ساعة وساعة). لا بد أن نطهر ما علق في قلوبنا من الصدأ ودخان أنفاس بني آدم نطهرها بمجالسة الأخيار والأبرار وحضور مجالس الذكر، هذا هو الحل، لأن انقطاعنا عن المجتمع بالكلية، ليس أمراً عملياً، فهذا هو الحل، وقد ثبت عن معاذ رضي الله عنه أنه كان يقول لرجل: [اجلس بنا نؤمن ساعة] مجالس الذكر يمكن أن تتكون من شخصين، فالمسألة ليست صعبة.

نهي النبي لزينب عن الاستعانة بالحبل

نهي النبي لزينب عن الاستعانة بالحبل Q ما هي الحكمة في رفض النبي صلى الله عليه وسلم الاستعانة بالحبل؟ A لأن معنى ذلك أنها تكلف نفسها ما لا تتحمل؛ وهذا يؤدي إلى السآمة في النهاية والنفور من العبادة.

لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق

لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق Q أنا شاب استقمت على طاعة الله، وتزوجت امرأة رقيقة القلب، وطلبت وألحت عليّ إدخال جهاز التلفاز في المنزل، فأتيت به بعد إلحاح متواصل وأصبحت أشاهده معها، فلاحظت نقصاناً عجيباً في إيماني وقسوة في قلبي وتأخراً عن بعض الصلوات، وارتكاباً لبعض الصغائر، فلما عرفت أن السبب هو ذلك البلاء أصبحت أنصحها فلم تنته وترفض بشدة إخراجه من البيت، فما هو الحل؟ A أن تأخذ هذه المصيبة والبلية -بارك الله فيك- من بيتك فتتلفها وتخرجها، هذا لا بد منه، سواء رضيت أو سخطت لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ثم أنت تقول: تزوجت من امرأة رقيقة القلب وطلبت وألحت علي بإدخال جهاز التلفاز، فما هو وجه رقة القلب هنا؟ هل هو في طاعة الله، أو أنها امرأة تجيد التوسل والاستعطاف، أم أنك أنت صرت رقيق القلب بمعنى أنك صرت متخاذلاً جباناً عن موقف الحق، وهنا -يا أخي- أقول: تعس عبد الزوجة، لا يمكن لإنسان أن يطيع في هذا بمعصية الله، مادام أنك جربت بنفسك وأنت تعترف وتقول: نقصان في الإيمان، وقسوة في القلب، وتأخير عن الصلاة، وارتكاب للصغائر، فلا بد من إخراجه بسرعة ولو سخطت ولو طلبت الطلاق، المسألة أعظم من ذلك، هذه دياثة، يعني: أنت تقر الخبث في أهلك.

لا يأثم من ينشط في العبادة بسبب خطبة أو موعظة

لا يأثم من ينشط في العبادة بسبب خطبة أو موعظة Q هل يأثم من ينشط في العبادة بسبب خطبة أو موعظة؟ Aلا. ولو عاد بعد فترة إلى الفتور، لا يأثم، وحتى لو رأى إنساناً يعبد الله فتحمس لأجل الإنسان هذا أي: متأثراً به، لا أنه صلى من أجله، لا. لكن تأثر به فصلى فهو مأجور.

استحباب أن يكون للمسلم عمل يداوم عليه

استحباب أن يكون للمسلم عمل يداوم عليه Q ألا ترى معي أنه ينبغي للملتزم أن تكون له عبادة معينة يتمسك بها حتى يلقى الله عز وجل، مثل حديث بلال رضي الله عنه؟ A نعم. إذا كانت العبادة مشروعة قال: [ما توضأت إلا وصليت ركعتين].

علاج الخوف من الرياء

علاج الخوف من الرياء Q أنا طالب من طلاب الجامعة، ونحن نصوم أحياناً صيام تطوع ولكن أخاف من الرياء؟ A جرد لله النية ولا تهم، ولو كان يصوم معك مجتمع من الناس.

الاكتفاء بالقيام بالواجبات وبعض المستحبات وترك المحرمات في حال الفتور

الاكتفاء بالقيام بالواجبات وبعض المستحبات وترك المحرمات في حال الفتور Q ذكرت أنه في حالة عدم النشاط ووجود الفتور يكفي للعبد أن يقوم بالواجبات ويترك المحرمات؟ A لا. أنا قلت: يترك المحرمات ويقوم بالواجبات، ويأتي بما يستطيع من المستحبات، ولو كان أقل من وقت نشاطه.

سبب التقصير في العبادة

سبب التقصير في العبادة Q لي سنوات طويلة مع الشباب الطيبين، ومع ذلك فالأمور العبادية أنا فيها ضعيف جداً، مما يؤدي إلى فعل الكبائر؟ A ينبغي أن تراجع نفسك، وتنظر في وضعك لماذا يحصل هذا؟ والعلة لا شك أنها منك، مادام أنهم شباب طيبون كما تقول فإذاً العلة منك أنت، فينبغي أن تنظر في أمرك، تذهب تأتي بعمرة، وتجدد العهد مع الله ألا ترجع إلى المعصية، ربما يكون وضعك في السكن خطأ، فتنتفل من مكان سكنك، أو ربما يكون عندك منكرات في بيتك، فتخرجها، أو ربما يكون لك أصدقاء سوء قدامى لا زلت على علاقة معهم فتقطعها، وهكذا.

في حالة الطاعة يغلب جانب الرجاء وفي حالة المعصية العكس

في حالة الطاعة يغلب جانب الرجاء وفي حالة المعصية العكس Q هل الأفضل على المسلم في حالة الطاعة أن يغلب جانب الخوف أم جانب الرجاء؟ A ذكر العلماء في ذلك أشياء فقالوا: المؤمن بين الخوف والرجاء، يغلب جانب الرجاء في حال ويغلب جانب الخوف في حال، مثلاً: إذا كان يرتكب المعاصي فإنه يغلب جانب الخوف، فيذكر ما أعد الله للعصاة من العذاب والنكال، وإذا كان تائباً مقبلاً على الله يغلب جانب الرجاء حتى لا يقع في اليأس، وعند الموت يغلب جانب الرجاء ليحسن ظنه بربه.

الحذر من الترف الزائد

الحذر من الترف الزائد Q ألا ترى الاهتمام بأمور الدنيا الزائدة من المثبطات كالقيام بالكثير من العبادات ولو كانت بسيطة؟ A لا شك في ذلك، أنت ترى الناس يخفقون في الأسواق وبعضهم مع الأسف قد يكونون من الدعاة إلى الله المشتغلين بالدعوة، الخفق بالأسواق ليس لشراء الأشياء التي يحتاجون إليها والضروري منها وإنما تحسينات وكماليات وجرياً على عادة الناس، والسوق فيه مغريات، وفيه فتن، وفيه نساء متبرجات، وفيه صخب ولغط أهل السوق، وسباب وشتائم ولعن وغفلة عن ذكر الله وأيمان كاذبة، كل هذا بالسوق، وهذا إنسان يتضرر، ادخل من أول السوق واخرج من آخره ثم اذهب إلى المقبرة، ولا حظ ماذا يقع على نفسك من التغيير، فأقول: إن هذه عملية التوسع، وكذلك أن يأتي بمن يعمل له في بيته الزينة، أو للسيارة، ويشتغل في الزخارف، ويبذر الأموال، وإخوانه المسلمون يحتاجون إلى القرش ولا يجدون التمرة، هذا سوف يحاسبنا الله عليه ولا شك في ذلك، كوننا موجودين في مجتمع فيه ثراء وفيه مال وثروات جيدة ودخول عالية لبعض الناس، هذا لا يمكن أبداً أن يكون سبباً للطغيان عند المسلم، وأحياناً تكون الزوجة السبب، وأحياناً تكون المنافسة في الدنيا سبباً، وحب تقليد الآخرين سبب، يدخل بيت جاره ومن أين اشتريت هذا وكيف ركبت هذا في السقف؟ ومن أين اشتريت هذه؟ ويدله عليها، ولو كان شيئاً نافعاً جيداً، لا بأس وكذلك لو كان شيئاً يحتاج إليه البيت، هل من الصحيح أن المسلم يأخذ كل شيء أعجبه؟! يجب أن يفطم نفسه عن شراء هذه الأشياء، وينفق قيمتها في سبيل الله، والله سبحانه وتعالى حذرنا من فتات الدنيا: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً} [الحديد:20] ذابل زائل. فالدنيا مثل الأكل الذي يأكله الإنسان، منه كيف يخرج؟ كيف تخرج أشهى أكلة من الإنسان، كيف تخرج من دبره؟ هكذا ضرب لنا النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إن مثل مطعم ابن آدم ضرب مثلاً للدنيا، وإن قزحه وملحه فلينظر إلى ما يصير).

تخصيص وقت للعبادات

تخصيص وقت للعبادات Q أخرج من عملي الساعة الثانية ظهراً، فأكون في هذا الوقت حتى المغرب مع العائلة وبعد الظهر يوجد معي عمل أخرج الساعة العاشرة إلى الثانية؟ A وبعد ذلك ماذا بقي، يعني: دور العمل الإضافي والثاني، والعائلة، لم تذكر لنا وقتاً جعلت فيه شيئاً من قيام الليل أو طلب العلم، على الأقل ما قلت: أحضر درساً في الأسبوع، لا أقل من أن يكون عندك درس علمي في الأسبوع، بالنظر إلى العلم الكثير الذي نحن مطالبون به، بتحصيله، والجد المطلوب في طلب العلم، وأيضاً ليس قراءات فردية، ولا ورداً من القرآن تقرؤه في اليوم.

علاج الفتور في العبادة

علاج الفتور في العبادة Q ما علاج الفتور الذي ينتاب المرء بعد الاجتهاد في العبادة؟ A يأخذ راحة بسيطة وينتقل إلى عبادة أخرى.

معنى: (ما سبقكم أبو بكر بكثير صلاة ولا عمل)

معنى: (ما سبقكم أبو بكر بكثير صلاة ولا عمل) Q ما معنى (ما سبقكم أبو بكر بكثير صلاة ولا عمل، ولكن سبقكم بشيء وقر في قلبه)؟ A هذا ليس حديثاً مرفوعاً، لكن المقصود: أن بعض الناس يعتقدون أن أبا بكر سبق الأمة فقط لشيء وقر في قلبه وهذا شيء خطأ، الرجل له أعمال، أعمال عظيمة وجليلة، وما سردنا في المحاضرة من أعمال أبي بكر فيه توضيح، شيء وقر في قلبه بالإضافة إلى الأعمال التي كان يقوم بها، لا شك في ذلك.

مقدار الزمن الذي يختم فيه القرآن

مقدار الزمن الذي يختم فيه القرآن Q كم يجب علينا القراءة من القرآن يومياً؟ A ليس هناك حد معين، فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (في كل شهر مرة) ومرة قال: (في أربعين مرة) ولا أقل من ثلاثة أيام، عندك ثلاثة أيام، وأكثر ما ورد في الحديث أربعين يوماً، فأنت مخير، بحسب عملك وظروفك.

ضعف الإيمان الأسباب والعلاج

ضعف الإيمان الأسباب والعلاج Q إني شاب أشكو إلى الله قسوة قلبي أسمع القرآن وآيات العذاب، أبحث عما يلين قلبي؟ A ستكون هناك رسالة -قريبة إن شاء الله- بعنوان: ظاهرة ضعف الإيمان المظاهر والأسباب والعلاج، فيها جواب على هذا، وبالنسبة للرياء يجب أن تدعو الله سبحانه وتعالى فتقول: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً أعلمه، وأستغفرك مما لا أعلمه، هذا الدعاء يجب أن يواظب عليه الإنسان.

حكم النزول عن الحد الأدنى للعبادات

حكم النزول عن الحد الأدنى للعبادات Q هل يجوز للإنسان أن ينزل عن الحد الأدنى للعبادات؟ A يجب على الإنسان أن يجتنب المحرمات ويأتي بالواجبات، والمستحبات لا شك أن الإيمان يزيد وينقص، لا يوجد أحد في الدنيا المستحبات عنده في درجة واحدة.

حكم محاسبة النفس على صيغة جدول

حكم محاسبة النفس على صيغة جدول Q هل يجوز وضع جدول على صيغة أسئلة مقسمة على عدد أيام الشهر؟ A هل صليت الفجر في الجماعة؟ وهل؟ وهل؟ أشار العلماء إلى أن هذه بدعة من البدع، سلوك سبيل الجدول في المحاسبة والصح والخطأ والأرقام، والعلامات هذه من البدع، فلا يجوز عملها ولا القيام بها، ولا توزيعها على الناس، هذه طريقة صوفية ليست من طرق أهل السنة في محاسبة النفس عمل الجداول والعلامات والإجابة بنعم أو لا. ليست هذه حسابات وكشوفات تقدم للميزانية، الإنسان يستحضر تقصيره في نفسه، ويندم ويتوب إلى الله ويعزم أن يواصل النشاط ويجتهد هذا هو المطلب، يتذكر ذنوبه أما كتابة الجداول فلا، وممن أشار إلى بدعية الجداول الشيخ/ محمد بن صالح بن عثيمين نفع الله بعلمه.

استدراك ما فات

استدراك ما فات Q إذا فاتني حزبي من الليل بعد شروق الشمس وكنت مشغولاً بعمل لم أنته منه إلا بعد العصر؟ A لا بأس أن تقضيه فهذا جائز.

لذة المناجاة في الخلوة

لذة المناجاة في الخلوة Q عند الخلوة أجد للعبادة لذة أكبر وخصوصاً في الدعاء لا أجد ذلك بين الناس؟ A هذا طبيعي أن الإنسان إذا ناجى الله بمفرده في خلوة فهو ألذ، ولذلك الخلوة للمناجاة من أعظم العبادات.

الحذر من الانشغال بالأعمال عن الطاعات

الحذر من الانشغال بالأعمال عن الطاعات Q العمل الدعوي فيه أشياء تتعلق بالتربية وأعمال تأخذ وقتاً في إدارة الأمور، وهذا قد يقسي القلب ما هي النصيحة؟ A سبق أن ذكرت نصيحة قلت: ينبغي ألا يشغلنا هذا النوع من الأعمال عن الأذكار والأوراد والأدعية وقراءة القرآن هذا مهم جداً، وكذلك أن يكون العمل لله، فإذا لم يكن العمل لله تكون هذه الترتيبات في الدعوة مثلها مثل أي شركة أو مصنع، ولذلك ينبغي على الدعاة والمربين أن يذكروا الله دائماً في أعمالهم، ولا شك أنها أعمال إدارية.

يقدم في الأعمال الأهم فالأهم

يقدم في الأعمال الأهم فالأهم Q يتعارض عندي عملان أو أكثر كلهم مطلوب؟ A انظر أيهما الأقرب إلى الله، وأيهما الأحب إلى الله، والأنفع إلى الناس، وما هو الأشق على النفس الذي فيه مخالفة هذه النفس، هذه دلائل.

المباحات قد تصبح عبادة

المباحات قد تصبح عبادة Q هل المباحات تكون عبادة إذا صدق الإنسان نيته؟ A نعم وقد تصبح عبادة مثل النوم والأكل، لكن لا ينبغي أن تكثر من هذه، تنام عشر ساعات ثم تقول أنام وآكل.

الخير مطلوب من الإنسان أن يقوم به

الخير مطلوب من الإنسان أن يقوم به Q هل يطلب مني أن أعمل بعض الجوانب التي فيها خير؟ A نعم، الإنسان المطلوب أن يعمل في كل جانب من الجوانب التي يستطيعها.

كيفية التخلص من الوساوس في الصلاة

كيفية التخلص من الوساوس في الصلاة Q يحدث لي وساوس تأمرني بالمعصية وتفسد العبادات؟ A إذا جاءك في الصلاة فتعوذ بالله من الشيطان واتفل عن يسارك ثلاثاً، ريق مع الهوى عن اليسار دون أن يحدث إيذاء للذي بجانبك أو توسيخ للسجاد في المسجد مثلاً، وإنما هو شيء من الريق مع الهوى، ثلاث مرات تعوذ بالله من الشيطان في الصلاة.

كتاب سير أعلام النبلاء

كتاب سير أعلام النبلاء Q ما هو أفضل كتاب يبين أحوال السلف؟ A هناك مجموعة من الكتب ذكرنا بعضها في المحاضرة، ولا شك أن كتاب سير أعلام النبلاء من الكتب العظيمة جداً.

الفهم الصحيح لحديث: (أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل)

الفهم الصحيح لحديث: (أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل) Q بعض الناس يفهم الحديث: (أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل) التلازم بين المداومة والقلة؟ A لا. هذا خطأ، قال: (أدومها وإن قل) يعني: إذا كان أدومها وكان كثيراً فهو أفضل، لكن لو كان مقارنة بين كثير منقطع، وقليل دائم فأيهما الأفضل؟ القليل الدائم.

الابتعاد عن أوساط المعصية

الابتعاد عن أوساط المعصية Q من أسباب نقص العبادة تبدل أحوالنا وتغيير أوقاتنا عما كان عليه السلف؟ A لا شك في ذلك، ولذلك ينبغي للإنسان أن يجتنب أوساط المعصية ويحتك بأوساط أهل الخير حتى يكون أقرب إلى واقع السلف.

قرب التوبة من صاحب المعاصي القليلة

قرب التوبة من صاحب المعاصي القليلة Q أنا شاب ملتزم، أحضر الدروس وأذهب إلى المحاضرات، واستمع الأشرطة ولكني أفعل بعض المعاصي مثل رؤية التلفاز؟ A هذا إن شاء الله رجوعه سهل وتوبته قريبة، مادام أنه يفعل هذه الطاعات فتوبته قريبة، فما عليه إلا أن يزيد في المجاهدة، ويعزم على أن يترك هذه الأشياء وهو إن شاء الله سيفعل ذلك.

الجمع بين الحديث الذي فيه دخول الصائم من باب الريان وحديث فتح أبواب الجنة

الجمع بين الحديث الذي فيه دخول الصائم من باب الريان وحديث فتح أبواب الجنة Q كيف نجمع بين دخول الصائم من باب الريان، وبين حديث فتح أبواب الجنة؟ A فتح أبواب الجنة عندما يُذكر الذكر بعد الوضوء، دليل على قبول العمل ورفعه إلى الله سبحانه وتعالى، وليس المعنى أنه إذا ذكر الذكر بعد الوضوء يدخل الجنة، وهو في الدنيا، لا.

حكم المداومة على صلاة الضحى

حكم المداومة على صلاة الضحى Q هل يجوز المداومة على صلاة الضحى؟ A هذا فيه خلاف بين العلماء، ولكن إذا داوم عليها -إن شاء الله- فالصحيح أنها سنة؟

حكم قول: (لو)

حكم قول: (لو) Q يقول ما حكم قول بعض الناس: لو كان كذا ما صار كذا؟ A إذا كان على سبيل التعليم فلا بأس: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} [النساء:66] أما إذا كان على سبيل التحسر والتندم الذي لا يفيد، فهذا من عمل الشيطان الذي تفتحه لو.

الخوف من الفتور

الخوف من الفتور Q يجد الإنسان حلاوة في قلبه في الصلاة فيتذكر الفتور فيضيق صدره؟ A صحيح هذه ظاهرة، أول هذا الشيء معروف، لكنه يستعيذ بالله، لا يعني أنه سيفتر بعد السلام من الصلاة، لأنه بعد السلام يقول: أستغفر الله، أستغفر الله، عبادة خلف عبادة. وختاماً: نسأل الله سبحانه وتعالى أن يهدينا سبيلنا وأن يقينا شر أنفسنا، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

طفولة النبي عليه الصلاة والسلام

طفولة النبي عليه الصلاة والسلام حياة النبي صلى الله عليه وسلم حافلة بالأحداث العظيمة: (المولد، البعثة، الهجرة) وللمولد أهمية ينبغي استشعارها بعيداً عن الاحتفالات البدعية التي لم يفعلها السلف في خير القرون، وينبغي أيضاً إدراك أن أحداثاً أخرى كالبعثة تفوق أهمية على المولد، فهي أحق بالاحتفال لو أنزل الله به سلطاناً. وهذه المادة تسلِّط الأضواء على المراحل الأولى من حياة النبي صلى الله عليه وسلم: من رضاعته وانتقاله إلى بني سعد، ووفاة أمه، وانتقال كفالته إلى جده ثم إلى عمه، متضمنة لقصته مع الراهب بحيرا، وفوائدها، ومشاركته صلى الله عليه وسلم في حلف الفضول. فهذه المادة تتميز بوفرة الأدلة، مع النظر إلى جانب العظة والعبرة في الأحداث والوقائع.

بدعية الاحتفال بالمولد

بدعية الاحتفال بالمولد إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، أما بعد: فقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الإثنين فقال: (ذاك يومٌ ولدت فيه، ويومٌ بعثت أو أنزل علي فيه) رواه الإمام مسلم رحمه الله تعالى. وكذلك فقد جاء عن ابن عباس وجابر رضي الله عنهم أنهما قالا: [ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل يوم الإثنين الثاني عشر من ربيع الأول، وفيه عرج به إلى السماء، وفيه هاجر وفيه مات] هذا هو المشهور عند الجمهور، وقد رواه ابن أبي شيبة في مصنفه ورجاله رجال الصحيح. فإذاً، هو قد ولد يوم الإثنين، ومات يوم الإثنين، وبعث وأنزل عليه يوم الإثنين صلى الله عليه وسلم، وأيضاً هاجر يوم الإثنين. ومع كون ولادته يوم الإثنين الثاني عشر من ربيع الأول، فإن ذلك لا يعني بأي حالٍ من الأحوال جعل ذلك اليوم مولداً يحتفل به فيه، فإن هذه بدعة من البدع ما فعلها صلى الله عليه وسلم ولا أحدٌ من أصحابه ولا أحدٌ من السلف رحمهم الله تعالى في القرون الثلاثة، فلم يعرف عنهم الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم.

وجود أيام أهم من يوم المولد

وجود أيام أهم من يوم المولد وإذا كان قد حدث في يوم الإثنين أحداث كثيرة تتعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم فليس يوم مولده بأحق من بقية الأحداث، بل إننا لا شك لو سألنا سؤالاً وقلنا: أيهما أعظم يوم بعثته أم يوم مولده؟ ما هو الحدث الأهم للبشرية: يوم ولادته أم يوم بعثته؟ يوم بعثته أهم، لا شك في ذلك، هو اليوم الذي صار فيه نبياً، هو اليوم الذي نزل عليه فيه الوحي، هو اليوم الذي أعلن فيه ميلاد هذا الدين؛ وشريعة محمد صلى الله عليه وسلم. وإذا عرفنا كذلك أنه هاجر يوم الإثنين فأيهما أعظم بالنسبة للإسلام والمسلمين، وأكثر أثراً وظهوراً: يوم ولادته أم يوم هجرته؟ لا شك أن الهجرة أعظم، فإن الولادة لا تقارن بالنسبة للهجرة، ذلك اليوم الذي كان إيذاناً بانتقال الدين والمسلمين من مرحلة الاستضعاف إلى مرحلة القوة، من مرحلة الإيذاء والاضطهاد إلى مرحلة قيام الدولة، ولا شك أن الهجرة إذاً حدثٌ عظيم مبارك، ومن أجل ذلك جعله عمر بن الخطاب رضي الله عنه بداية التاريخ الإسلامي. المناسبة الحقيقة التي كانت فيها بداية الانطلاقة الكبرى في التاريخ الإسلامي هي الهجرة، لأن ما بعد الهجرة كان قيام الدولة والانتصارات والفتوحات والجهاد، وما بعد الهجرة كانت الانطلاقة في أرجاء الجزيرة العربية في نشر الدين وخارج الجزيرة العربية، ولذلك لا يمكن أن نقارن يوم الهجرة بيوم المولد ولا يوم البعثة بيوم المولد، فإن يوم الهجرة أعظم من يوم المولد، ويوم البعثة أعظم من يوم المولد، ولكن كثيراً من المبتدعة لا يفقهون ذلك، فيحتفلون بميلاده ويفضلونه على الأيام الأخرى، وليس يوم ولادته بأحق من يوم بعثته ولا هجرته، بل وقد مات في يوم الإثنين. ونقول لهم: إذا كنتم ستجعلون احتفالاً بمولده يوم الإثنين فلماذا لا تجعلون مأتماً في يوم وفاته، فإن البدعة واحدة؟ ما دمتم ستفرحون بيوم الإثنين فلتجعلوه مأتماً أيضاً، فإذاً يتبين لك أن القوم لا يسيرون على هدى ولا على طريقٍ مستقيم، وأن الاحتفال بالمولد النبوي إنما هو بدعة من البدع.

ارتكاب المنكرات في الاحتفال بالمولد

ارتكاب المنكرات في الاحتفال بالمولد ونحن قد قرأنا وعرفنا من أخبار الناس في هذه الأيام ما يفعلونه من بدع، حتى وصلت المسألة إلى جعل الرقص -رقص النساء- وبعض الملاهي تعمل حفلات في يوم المولد، حفلة المولد والميلاد، ويجعلون فيه من ألوان الفساد ما الله به عليم، وأخطر من ذلك ما يقرأ من قصائد الشرك في هذا اليوم مثلما تقرأ قصيدة البردة التي فيها الشرك الكبير الأكبر، كما يقول القائل فيها: فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم ما هي ضرة الدنيا؟ الآخرة، يقول القائل: فإن من جودك يعني: يا رسول الله، الدنيا والآخرة، ومن علومك: من للتبعيض، من علومك يا رسول الله علم اللوح والقلم، إذاً ماذا بقي لله عز وجل؟! ولذلك يتبين لك أنما يقرأ في كثيرٍ من الموالد من القصائد إنما هو شركٌ أكبر، الشرك بالله بعينه، وإذا قال قائل: نستفيد بالسيرة ونذكر أحداث السيرة، فنقول: هانحن نذكر أحداث السيرة في غير يوم المولد، ولن يضيرنا أن نذكرها في غير يوم المولد، ولا يعني أن الإنسان إذا أراد أن يعرف سيرة النبي عليه الصلاة والسلام لا بد من يوم المولد ليعرف السيرة فيعرف السيرة في كل السنة.

رضاعة النبي صلى الله عليه وسلم

رضاعة النبي صلى الله عليه وسلم ثانياً: مرضعاته صلى الله عليه وسلم.

رضاعته صلى الله عليه وسلم من ثويبة

رضاعته صلى الله عليه وسلم من ثويبة من مرضعاته عليه الصلاة والسلام ثويبة مولاة أبي لهب مولاة بني هاشم، كما جاء في حديث زينب بنت أبي سلمة: أن أم حبيبة رضي الله عنها أخبرتها أنها قالت: (يا رسول الله! انكح أختي بنت أبي سفيان، فقال: أو تحبين ذلك؟ أم حبيبة اقترحت عليه أن يتزوج أختها- فقالت: نعم لست لك بمخلية -يعني: أنا قطعاً لست بزوجة وحيدة، لا بد أن يشاركني فيك غيري، وأحب من شاركني في خيرٍ أختي، ما دمت أنه سوف يكون لي ضرائر فلتكن أختي إذاً- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن ذلك لا يحل لي، قلت: فإنا نحدث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة، قال: بنت أم سلمة؟ -يتأكد- فقلت: نعم، فقال: لو أنها لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي، إنها لابنة أخي من الرضاعة، أرضعتني وأبا سلمة ثويبة) وهذا موضع الشاهد، ثويبة مولاة أبي لهب مولاة بني هاشم هي إحدى مرضعات النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (فلا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن) والحديث رواه البخاري رحمه الله في كتاب النكاح، باب: أمهاتكم اللاتي أرضعنكم، وكذلك رواه مسلم في كتاب: الرضاع، باب: تحريم الربيبة وأخت المرأة، وكذلك رواه أبو داود في كتاب: النكاح، باب: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، ورواه كذلك النسائي في كتاب: النكاح، باب: تحريم الجمع بين الأختين. إذاً، لا يجوز للإنسان أن يجمع بين زوجته وأخت زوجته؛ لأن الله نهى عن ذلك: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء:23] إلا إذا فارق إحداهما بموتٍ أو طلاق فعند ذلك يجوز أن يتزوج بالأخت الأخرى. أما الربيبة وهي: ابنة المرأة التي تزوج بها من غيره، فهي أيضاً محرمة لا يجوز للرجل الزواج بها، وهي تكشف عليه لأنها من محارمه.

قدوم حليمة إلى مكة تلتمس رضيعا

قدوم حليمة إلى مكة تلتمس رضيعاً ومن مرضعاته صلى الله عليه وسلم: حليمة السعدية، فقد جاء في حديث عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما قصة عجيبة فيها عبر في رضاع النبي عليه الصلاة والسلام، قال: لما ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم قدمت حليمة بنت الحارث في نسوة من سعد بن بكرٍ يلتمسن الرضعاء بـ مكة، قالت حليمة: فخرجت في أوائل النسوة على أتان لي قمراء. قمراء: اللون الأبيض المائل إلى الخضرة. خرجت حليمة التماس الرضعاء في مكة، وكان أهل مكة يرغبون في جعل أولادهم في البادية حيث يرتضعون من نسائها، ويمكثون فترة في ذلك الجو النقي فيصلب عودهم ويشتد، ويرتضعون من نسائها المعروفات بجودة الحليب واللبن، فلذلك كانوا يرغبون فيه، وكان النساء في البادية يبتغين أجراً من وراء إرضاع الأولاد الصغار لمثل أهل مكة التجار، فجاءت حليمة السعدية مع نسوة لها من أوائل من خرجن من مكة لابتغاء الرضعاء فيها. قالت: "فخرجت في أوائل النسوة على أتان لي قمراء، ومعي زوجي الحارث بن عبد العزى -أحد بني سعد بن بكرٍ- ثم أحد بني ناظرة قد أدمت أتاننا". الأتان طبعاً هي أنثى الحمار، ومعنى أدمت: يعني حدث في ركب الدابة جروحٌ دامية باصطكاكها، إذاً الأتان الدابة فيها جراح. "ومعي بالركب شارف والله ما تبض بقطرة لبن". والشارف: هي الناقة المسنة لا يسيل منها قطرة لبن، لا يخرج منها شيء من اللبن أبداً. "في سنة شهباء". يعني: مجدبة لا خضرة فيها ولا مطر، فخرجت حليمة بأسوأ حال من مضارب قومها في البادية إلى مكة، أتانٌ قد تجرحت أرجلها من اصطكاكها ببعضها من الهزال والضعف، وناقة مسنة ما يخرج منها قطرة لبن واحدة، في سنة مجدبة قد جاع الناس حتى خلص إليهم الجهد. "ومعي ابن لي والله ما ينام ليلنا". طيلة الليل يبكي؛ لأنه جائع. "وما أجد في يدي شيئاً أعلله به، إلا أنا نرجو الغيث، وكانت لنا غنمٌ فنحن نرجوها، فلما قدمنا مكة، فما بقي منا أحدٌ إلا عرض عليها محمد فكرهته". كل النساء مع حليمة عرض عليهن محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم؛ لكن كل واحدة تأبى أن تأخذه من هؤلاء المرضعات من أهل البادية، لماذا؟ - فقلنا: "إنه يتيم، وإنما يكرم الظئر ويحسن إليها الوالد" -فهذا يتيم وأبوه ميت وإذا أخذناه فمن يعطينا؟! فقلنا: "ما عسى أن تصنع بنا أمه أو عمه أو جده -إذا كان الأب ميتاً- فكل صواحبي أخذ رضيعاً -كل واحدة أخذت ولداً آخر- فلما لم أجد غيره رجعت إليه وأخذته، فوالله ما أخذته إلا أني لم أجد غيره". وليست رغبة في الولد بل لأنه لا يوجد غيره- فقلت لصاحبي -وهو زوجها الذي معها، والعرب تطلق على الزوج صاحباً، قال الله تعالى: {وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ} [المعارج:12] فالصاحبة أيضاً الزوجة. "فقلت لصاحبي: والله لآخذن هذا اليتم من بني عبد المطلب فعسى الله أن ينفعنا به، ولا أرجع من بين صواحبي ولا آخذ شيئاً -أرجع إلى البادية بدون ولد أرضعه أمام الناس- فقال: قد أصبت، قالت: فأخذته، فأتيت به الرحل، فوالله ما هو إلا أن أتيت به الرحل فأمسيت وقد أقبل ثدياي باللبن" -هذا أول شيء، مجرد ما أتت به رحل قومها (المكان الذي نزلوا به) أقبل الثديان باللبن. حتى أرويته وأرويت أخاه الذي جئت به يبكي، وقام أبوه إلى شارفنا -أبوه صاحب اللبن، قام إلى تلك الناقة المسنة يلمسها- فإذا هي حافل باللبن -مليئة- فحلبها فأرواني وروي، فقال: يا حليمة تعلمين والله لقد أصبنا نسمة مباركة، ولقد أعطى الله عليها ما لم نتمن -ما لم يكن يدور بالبال أعطانا أكثر- قالت: فبتنا بخير ليلة شباعاً، وكنا لا ننام ليلنا مع صبينا. يعني: من قبل ما ننام الليل من بكاء الصبي الذي معنا، الآن هذا الصبي المبارك جاء وأشبعني وأشبع زوجي، وأشبع الولد وأشبع الناقة، وجاء الخير والبركة. "ثم اغتدينا راجعين إلى بلادنا أنا وصواحبي، فركبت أتاني القمراء -أنثى الحمار التي أصابتها الدماء من اصطكاك رجليها- فحملته معي، فوالذي نفس حليمة بيده لقطعت الركب حتى أن النسوة ليقلن: أمسكي علينا، أهذه أتانك التي خرجت عليها؟ فقلت: نعم، فقالوا: إنها كانت أدمت حين أقبلنا فما شأنها؟ قالت: فقلت: والله حملت عليها غلاماً مباركاً". لاحظوا أيها الإخوة النبي صلى الله عليه وسلم منذ صغره، حتى ولادة النبي عليه الصلاة والسلام ملفتة للنظر، وطفولته ملفتة للنظر، الله عز وجل يقيض من الأحداث ما يسلط به الضوء على النبي عليه الصلاة والسلام منذ طفولته كأن هذا الغلام سيكون منقذ البشرية.

أحداث عام الفيل

أحداث عام الفيل ولذلك متى ولد عليه الصلاة والسلام ولد في عام الفيل الذي حدثت فيه المعركة العظيمة بين الله عز وجل وأبرهة، وانهزم جيش أبرهة وولوا الأدبار، وتسامعت العرب أجمعين في كل الجزيرة بل وخارج الجزيرة بالكارثة العظيمة السماوية التي أصابت أبرهة وجيشه، وحجارة من السماء لا شك أنه شيء مستغرب للغاية وعجيب، فاتجهت أنظار العالم إلى المكان الذي حدثت فيه هذه القارعة، وهو مكة، وصارت الأضواء متجهة إلى مكة والكعبة وقريش في عام الفيل، فالله عز وجل جعل أنظار الناس تتجه إلى مكة في عام الفيل؛ لأن هناك حدثاً آخر سيتم في هذا العام وهو ولادة النبي عليه الصلاة والسلام. فصارت ولادته في عام الفيل الذي اتجهت أنظار العالم كله إلى مكة بسبب حادثة أبرهة؛ لأن حادثة أبرهة كانت شيئاً فوق الوصف، كانت شيئاً عجيباً، طير تحمل حجارة ترجم أفيالاً وتهلك الأفيال ومن عليها، ولذلك كان شيئاً قيظه الله تعالى لتأتي الأضواء والناس يعظمون الكعبة، وتصبح لقريش مكانة؛ لأن من قريش سيبعث النبي الذي سيدعو قريشاً ويدعو العرب وفي مكة، ولذلك كانت بداية توجيه الأنظار توطئة لحادثة الفيل لكي يولد النبي عليه الصلاة والسلام في ذلك العام، ويحفظ الناس ذلك العام جيداً وكل أحداث العام، وفيه الولادة النبوية، ثم بعد ذلك تأتي حليمة لتأخذه، وتأتي هذه الخيرات والبركات، ويصبح أمره عليه الصلاة والسلام منتشراً منذ صغره، هكذا يسير الله تعالى الأحداث لكي تتركز الأذهان، والأنظار تتجه إلى الأحداث المتعلقة بهذا النبي الكريم وتاريخ النبي الكريم منذ ولادته.

حلول البركة بحليمة وأسرتها

حلول البركة بحليمة وأسرتها قالت حليمة: فخرجنا فما زال يزيدنا الله في كل يومٍ خيراً، حتى قدمنا والبلاد سنة -يعني قحط- ولقد كان رعاتنا يسرحون ثم يريحون فتروح أغنام بني سعدٍ جياعاً، وتروح غنمي شباعاً بطاناً حفلاً. أي: كانت سنة قحط لكن لما جئنا بالمولود كان رعاة بني سعد يذهبون كلهم ويرجعون جياعاً، ما وجدوا خيراً ولا كلأ ولا شيئاً، وأغنامي ترجع شباعاً بطاناً حفلاً، أي: شبعانة سمينة، الثدي محمل باللبن. فنحتلب ونشرب، فيقولون: ما شأن غنم الحارث بن عبد العزى؟ -وهو زوج حليمة - وغنم حليمة تروح شباعاً حفلاً وتروح غنمكم جياعاً، ويلكم اسرحوا حيث تسرح غنم رعائهم، اجعلوا غنمكم تذهب مع المكان الذي تسرح فيه غنمهم، ربما يصير لكم مثلما حصل لهم، فيسرحون معهم فما تروح إلا جياعاً كما كانت وترجع غنمي كما كانت حفلاً سمانا. قالت: وكان النبي صلى الله عليه وسلم يشب شباباً ما يشبه أحدٌ من الغلمان، يشب في اليوم شباب الغلام في الشهر يعني: ينمو ويزيد في اليوم ما ينموه الغلام العادي في شهر، ويشب في الشهر شباب السنة، فلما استكمل سنتين أقدمناه مكة أنا وأبوه فقلنا: والله لا نفارقه أبداً ونحن نستطيع. يعني: انتهت مدة الرضاعة سنتين حيث كان أهل البادية يأخذون غلمان أهل مكة إلى البادية سنتين للرضاعة؛ ويشب الغلام قوياً في ذلك الجو الصافي النقي. ومع انتهاء السنتين تعلقت حليمة بالولد تعلقاً شديداً، وقالت هي وزوجها: والله لا نفارقه أبداً ونحن نستطيع، فلما أتينا أمه قلنا: أي ظئر! والله ما رأينا صبياً قط أعظم بركة منه، وإنا نتخوف عليه من وباء مكة وأسقامها فدعينا نرجع به حتى تبرئي من داءك، فلم نزل بها ملحين مقنعين حتى أذنت، فرجعنا به فأقمنا أشهراً ثلاثة أو أربعة، بعد هذه الأشهر الثلاثة أو الأربعة حدثت حادثة غريبة للغاية.

حادثة شق الصدر

حادثة شق الصدر قالت حليمة: فبينما هو يلعب خلف البيوت هو وأخوه من الرضاعة في بهمٍ له، النبي عليه الصلاة والسلام نشأ مع الغنم منذ صغره يلعب مع البهم، إذ أتى أخوه يشتد، جاءنا أخوه الذي كان يلعب معه، وأنا وأبوه في البدن؛ مع الجمال، فقال: إن أخي القرشي أتاه رجلان عليهما ثيابٌ بيض فأخذاه وأضجعاه فشقا بطنه، فخرجت أنا وأبوه يشتد لإدراك الغلام الذي شق بطنه، فوجدناه قائماً قد امتقع لونه -تغير- فلما رآنا أجهش إلينا وبكى، قالت: فالتزمته أنا وأبوه، فضممناه إلينا، فقلنا: مالك بأبي أنت؟ فقال: أتاني رجلان وأضجعاني فشقا بطني وصنعا به شيئاً ثم رداه كما هو، فقال أبوه: والله ما أرى ابني إلا وقد أصيب، أي: حدث له شيء مكروه، الحقي بأهله فرديه إليهم قبل أن يظهر له ما نتخوف منه، قالت: فاحتملناه فقدمنا به على أمه، فلما رأتنا أنكرت شأننا، لأنهم ألحوا عليها وطلبوا منها في البداية ولما سمحت لهم يرجعون بعد ثلاثة أو أربعة أشهر بهذه السرعة وقالت: ما أرجعكما به قبل أن أسألكماه وقد كنتما حريصين على حبسه؟ فقلنا: لا شيء إلا أن قد قضى الله رضاعه وسرنا ما نراه، وكنا نئويه كما تحبون أحب إلينا، فما اقتنعت آمنة فقالت: إن لكما شأناً فأخبراني ما هو؟ فلم تدعنا حتى أخبرناها، لما رأى الصبي الآخر من قدوم اثنين وشق صدره وبطنه وصنعا به شيئاً ورداه كما هو، فقالت: كلا والله، لا يصنع الله ذلك به، إن لابني شأناً أفلا أخبركما خبره؟ إني حملت به فوالله ما حملت حملاً قط كان أخف عليَّ منه، ولا أيسر منه، ثم أريت حين حملته أنه خرج مني نورٌ أضاء منه أعناق الإبل بـ بصرى -قصور بصرى البعيدة عن مكة - نور عظيم أضاء أعناق الإبل بـ بصرى، ثم وضعته حين وضعته فوالله ما وقع كما يقع الصبيان، لقد وقع معتمداً بيديه على الأرض رافعاً رأسه إلى السماء، فدعاه عنكما، فقبضته وانطلقنا. الحديث رواه ابن حبان والطبراني والبيهقي وأبو يعلى من طريق ابن إسحاق وقد صرح ابن إسحاق بالسماع في رواية السيرة، وقال الهيثمي في المجمع: رواه أبو يعلى والطبراني بنحوه، ورجاله ثقات، ولكثير من مقاطع الحديث شواهد تقويها فلعله يكون حسناً بشواهده. وأما حادثة شق الصدر فقد جاءت من أحاديث أخرى، ومن ذلك حديث عتبة بن عبد السلمي رضي الله عنه: (أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كيف كان أول شأنك يا رسول الله؟ قال: كانت حاضنتي من بني سعد بن بكر، فانطلقت أنا وابن لها في بهمٍ لنا ولم نأخذ معنا زاداً، فقلت: يا أخي اذهب فائتنا بزادٍ من عند أمنا، فانطلق أخي ومكثت عند البهم فأقبل طيران أبيضان كأنهما نسران، فقال أحدهما لصاحبه: أهو هو؟ قال: نعم، فأقبلا يبتدراني فأخذاني فبطحاني إلى القفا، فشقا بطني، ثم استخرجا قلبي، فشقاه فأخرجا منه علقتين سوداوين، فقال أحدهما لصاحبه: ائتني بماءٍ وثلج، فغسلا به جوفي، ثم قال: ائتني بماء برد، فغسلا به قلبي، ثم قال: ائتني بالسكينة، فذراها في قلبي، ثم قال أحدهما لصاحبه: خطه، فخاطه وختم عليه بخاتم النبوة، فقال أحدهما لصاحبه: اجعله في كفه، واجعل ألفاً من أمته في كفة، فإذا أنا أنظر إلى الألف فوقي، أشفق أن يخر علي بعضهم -يعني هو رجح بهم وصاروا فوقه- فقال: لو أن أمته وزنت به لمال بهم، ثم انطلقا وتركاني، وفرقت فرقاً شديداً، ثم انطلقت إلى أمي فأخبرتها بالذي لقيته، فأشفقت علي أن يكون ألبس بي -جن تلبس بي- قالت: أعيذك بالله، فرحلت بعيراً لها فجعلتني أو فحملتني على الرحل وركبت خلفي، حتى بلغنا إلى أمي -التي هي آمنة - فقالت حليمة: أديت أمانتي وذمتي، وحدثتها بالذي لقيته فلم يرعها ذلك، فقالت لي: رأيت خرج مني نورٌ أضاءت منه قصور الشام) الحديث رواه أحمد والحاكم في المستدرك، والطبراني في الكبير، والدارمي في المقدمة باب: كيف كان أول شأن النبي صلى الله عليه وسلم، جميعاً من طريق بقية حدثني بحير بن سعد عن خالد بن معدان عن ابن عمرو السلمي، وبقية صرح بالتحديث، وإذا روى عن بحير فهو معتدٌ به ومقبول وموثق، وقال الحاكم: حديثٌ صحيح على شرط مسلم وأقره الذهبي، وقال الهيثمي في المجمع: إسناد أحمد حسن، والحديث لا زال له شواهد. حادثة شق الصدر وقعت مرة أخرى في الإسراء والمعراج فكانت هذه من الصغر تمهيداً للرحلة السماوية، إعداداً أرضياً للرحلة السماوية، حادثة شق الصدر إذاً حدثت مرتين. وهذا الحديثٌ رواه مسلم في صحيحه في كتاب الإسراء، ورواه غيره أيضاً من حديث أنس: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان فأخذه فصرعه فشق عن قلبه، فاستخرج القلب فاستخرج منه علقة، فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طستٍ من ذهب بماء زمزم، ثم لئمه -الخياطة وهذه هي العملية الجراحية القديمة- ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه فقالوا: إن محمداً قد قتل، فاستقبلوه وهو ممتقع اللون، قال أنس: وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره) الحديث رواه مسلم. وهذا أيضاً يثبت قصة شق الصدر في صحيح مسلم والنبي عليه الصلاة والسلام صغير، ولما كان يلعب مع الغلمان حدث له حادثة شق الصدر، ولما كان قبل الإسراء والمعراج حدثت حادثة الشق الثانية.

وفاة آمنة بنت وهب على الشرك

وفاة آمنة بنت وهب على الشرك نعود إلى قصة وفاة أم النبي صلى الله عليه وسلم التي رواها ابن إسحاق وقال: إن أم النبي صلى الله عليه وسلم توفيت وهو ابن ست سنين بـ الأبواء بين مكة والمدينة، كانت قد قدمت به على أخواله من بني علي بن النجار تزيره إياهم، فماتت وهي راجعة به من مكة، لكن مع الأسف ماتت على الشرك. ولذلك جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، فقال: استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكر الموت) رواه مسلم رحمه الله في صحيحه. طبعاً حاول بعض الوضاعين والكذابين أن يفتعلوا حديثاً فيه: أن النبي عليه الصلاة والسلام طلب من ربه أن يحيي أمه وأباه، فأحياهما له، ثم عرض عليهما الإسلام فأسلما ثم ماتا. وحاول الصوفية وغيرهم أن يروجوا لهذا الحديث، ولكن ينبغي أن يعلم أن الميزان عند الله ميزان العقيدة، وأن النبي عليه الصلاة والسلام مع عظم مكانته لكن ما نفع أباه ولا أمه وقد ماتا على الشرك، ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام لما جاءه أعرابي قال: (أين أبي؟ قال: في النار، فولى الأعرابي منزعجاً، فدعاه فقال: أبي وأبوك في النار) رواه أبو داود وهو حديث صحيح. معناه: أن أباه عليه الصلاة والسلام مات في الجاهلية على الشرك، فهو في النار، وأمه استأذن ربه أن يستغفر لها فلم يؤذن له؛ لأنها ماتت على الشرك، ونحن عواطفنا تهفو إلى أن تكون آمنة في الجنة، وأنها آمنت وأسلمت، لكن العواطف شيء والحقائق العلمية شيءٌ آخر، فـ آمنة ماتت على الشرك، والنبي عليه الصلاة والسلام لأنها أمه استأذن الله عز وجل أن يدعو الله بأن يغفر لها، فلم يقره على ذلك، ولم يأذن له به. فهذا فيه أن مسألة العقيدة ليست واسطة، وأن الإنسان لا ينفعه إلا دينه وتوحيده، وإلا فلو كان ولده أعظم نبي فإنه لا ينفعه، فهذا ولد نوح مات كافراً، وهذا أبو إبراهيم مات كافراً، وهذه أم النبي عليه الصلاة والسلام وأبوه ماتا على الكفر، فلا مجاملات في مسألة التوحيد والشرك.

كفالة عبد المطلب للنبي صلى الله عليه وسلم

كفالة عبد المطلب للنبي صلى الله عليه وسلم وبعد موت أمه وكان أبوه قد مات من قبل كفله جده عبد المطلب، وكان يحبه حباً شديداً، وجاء في حديث قنديل بن سعد: (حججت في الجاهلية، فإذا رجلٌ يطوف بالبيت وهو يبتدر ويقول: رب رد راكبي محمداً رده لي واصطنع عندي يدا قلت: من هذا؟ قال: عبد المطلب بن هاشم، ذهبت إبلاً له فأرسل ابن ابنه في طلبها فاحتبس عليه ولم يرسله في حاجة قط إلا جاء بها -يعني: من بركة النبي عليه الصلاة والسلام ما أرسل في شيء، في ضالة، في إبل تائهة، في مالٍ مفقود، إلا ووجده ورجع به- قال: فما برحت حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم وجاء بالإبل معه، فقال عبد المطلب: يا بني لقد حزنت عليك كالمرأة، حزناً لا يفارقني أبداً) والحديث رواه الطبراني وغيره، وقال الهيثمي: رواه أبو يعلى والطبراني وإسناده حسن.

دروس من رعي الأغنام في حياة الأنبياء

دروس من رعي الأغنام في حياة الأنبياء وكان عليه الصلاة والسلام في صغره أيضاً قد رعى الغنم تهيئة للرعي الأكبر بعد ذلك، وتمهيداً لسياسة الرعية الأعظم، فهو تعلم في سياسة الغنم تمهيداً لسياسة الرعية الكبرى بعد ذلك، فقد جاء من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم، فقال أصحابه: وأنت يا رسول الله؟ فقال: نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة) رواه البخاري. فالنبي عليه الصلاة والسلام اشتغل وهو صغير، وأجر نفسه، وكان يأخذ قراريط من أهل مكة أجرةً مقابل أن يرعى أغنامهم. ومن حديث جابر رضي الله عنه قال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بـ مر الظهران نجني الكباث فقال: عليكم بالأسود منه فإنه أطيبه) وهذا النوع من الثمار لا يعرفه إلا من كان يرعى الغنم؛ لأنه من الأشياء التي تنبت في البراري وفي الأماكن التي ترعى فيها الأغنام، ولذلك قالوا له: (وكنت ترعى الغنم يا رسول الله؟ قال: نعم، وهل من نبي إلا رعاها؟!). وهذا من إعداد الله للأنبياء، لأن سياسة الغنم ورعي الغنم تتطلب المحافظة عليها وصونها وحراستها عن الذئاب، وإيرادها المراعي الحسنة، والذي يتأمل يجد تشابهاً كبيراً بين رعي الغنم وسياسة الرعية يكون فيه إعداد الراعي في محافظته وحراسته، وجلب المنافع للغنم، وهذه تحتاج إلى علاج، وهذه تحلب، وهذه فيها جرب، وهذه عرجاء، وهذه ضعيفة وهزيلة، ولذلك رعاية الغنم فيها إعداد للاهتمام بالرعية والإشفاق على الرعية وحراستهم، وأن يأتي بالرعية إلى المكان الذي فيه فائدة لها، ويحرس الرعية عن كل ضار، وفيه تعليم وتحمل المسئولية.

حفظ النبي صلى الله عليه وسلم من قبائح أهل الجاهلية

حفظ النبي صلى الله عليه وسلم من قبائح أهل الجاهلية وقد جاء من حديث علي رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما هممت بقبيحٍ مما كان أهل الجاهلية يهمون به إلا مرتين من الدهر، كلتيهما يعصمني الله منهما، قلت ليلة لفتى كان معي من قريش بأعلى مكة في أغنام ٍ لأهله يرعاها: أبصر إلى غنمي حتى أسمر هذه الليلة بـ مكة كما يسمر الفتيان، قال: نعم -وافق- فخرجت فجئت أدنى دارٍ من دور مكة، سمعت غناءً وضرب دفوفٍ ومزامير، فقلت: ما هذا؟ فقالوا: فلانٌ تزوج فلانة، رجل من قريش تزوج امرأة من قريش، فلهوت بذلك الغناء وبذلك الصوت حتى غلبتني عيني، فما أيقظني إلا حر الشمس، فرجعت فقال: ما فعلت؟ فأخبرته، نام في الحفلة، ثم قلت له ليلة أخرى مثل ذلك ففعل، فخرجت فسمعت مثل ذلك، فقيل لي مثلما قيل لي، فلهوت بما سمعت حتى غلبتني عيني فما أيقظني إلا مس الشمس، ثم رجعت إلى صاحبي فقال: فما فعلت؟ قلت: ما فعلت شيئاً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فوالله ما هممت بعدها بسوء مما يعمل أهل الجاهلية حتى أكرمني الله بنبوته) والحديث رواه أبو نعيم في الدلائل والبيهقي وابن حبان، وقال البوصيري: رواه إسحاق بن راهويه بإسنادٍ حسن، وقال ابن حجر: هذه الطريق حسنة جليلة، وما روي في شيء من المسانيد الكبار إلا في مسند إسحاق هذا وهو حديث حسن متصل ورجاله ثقات، قال الهيثمي في المجمع: رواه البزار ورجاله ثقات. إذاً، كان فتيان مكة، يسمرون على خمر وعلى فواحش، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام لما ذهب ليرى سمرهم وهو صغير قبل البعثة، انشغل بحفلة زفاف والتهى بها حتى نام، والمرة الثانية نفس الشيء دخل مكة فحفلة زفاف دخل بها فالتهى بها، ولم يذهب إلى حيث يذهب فتيان مكة، ولم يكن يتعاطى ما كانوا يتعاطون ويفعل ما كانوا يفعلون.

قصة بحيرا الراهب

قصة بحيرا الراهب ثم حدثت بعد ذلك قصة مهمة جداً ألا وهي قصة بحيرا الراهب، وقد جاءت هذه القصة من حديث أبي موسى الأشعري قال: (خرج أبو طالب إلى الشام وخرج معه النبي صلى الله عليه وسلم في أشياخٍ من قريش، فلما أشرفوا على الراهب هبطوا، فحلوا رحالهم، فخرج إليهم الراهب، وكانوا قبل ذلك يسيرون فلا يخرج إليهم ولا يلتفت، قال: فهم يحلون رحالهم فجعل يتخللهم الراهب حتى جاء فأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هذا سيد العالمين، هذا رسول رب العالمين، يبعثه الله رحمة للعالمين، فقال له أشياخ من قريش: ما علمك؟ فقال: إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق شجرٌ ولا حجر إلا خر ساجداً، ولا يسجدان إلا لنبي، وإني أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة، ثم رجع فصنع لهم طعاماً، فلما أتاهم به وكان هو في رعية الإبل، قال: أرسلوا إليه، فأقبل وعليه غمامة تظله، هو يمشي والغمامة فوقه صلى الله عليه وسلم فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه إلى فيء الشجرة -النبي عليه الصلاة والسلام لما دنا من الجماعة لأن الراهب طلب أن يستدعوا هذا الغلام الذي معهم، جاء عليه الصلاة والسلام فإذا هم قد سبقوه الكبار إلى فيء الشجرة- فلما جلس مال فيء الشجرة عليه، فقال: انظروا إلى فيء الشجرة مال عليه، فبينما هو قائمٌ عليهم وهو يناشدهم ألا يذهبوا به إلى الروم فإن الروم إذا عرفوه فسيقتلونه، فالتفت فإذا سبعة قد أقبلوا من الروم فاستقبلهم بحيرا الراهب هذا، فقال: ما جاء بكم؟ قالوا: جاءنا أن هذا النبي خارجٌ في هذا الشهر، فلم يبق طريقٌ إلا بعث إليه بأناس، وإنا قد أخبرنا خبره فبُعثنا إلى طريقك هذا، فقال: هل خلفكم أحدٌ هو خيرٌ منكم؟ قالوا: إنما اخترنا خيره لطريقك هذا، قال: أفرأيتم أمراً أراد الله أن يقضيه هل يستطيع أحدٌ من الناس رده؟ قالوا: لا، قال: فبايعوه وأقاموا معه، قال: أنشدكم الله أيكم وليه؟ قالوا: أبو طالب، فلم يزل يناشده حتى رده أبو طالب وبعث معه أبا بكر وبلالاً وزوده الراهب من الكعك والزيت) الحديث أخرجه الترمذي وابن أبي شيبة وغيرهم، ورواه الحاكم، وقال الذهبي: أظنه موضوعاً وبعضه باطل، وقال في مكانٍ آخر: منكرٌ جداً، وقال ابن حجر في الإصابة: رجاله ثقات، وذكر أبي بكر وبلال فيه غير محفوظ، بحيث تنازع العلماء في ثبوته، الذهبي أنكره، ولكن ابن حجر قال: ليس كله منكراً، فقط ذكر أبي بكر وبلال غير محفوظ، ونقل الشيخ الألباني تصحيحه ومال إلى تصحيحه في تعليقه على فقه السيرة وقال: وسنده صحيح ورجاله ثقات، وذكر بلال وأبي بكر فيه غلطه واضح كما قال ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد، ولعلها مدرجة فيه ووهم من أحد الرواة كما قال الحافظ ابن حجر رحمه الله.

فوائد من قصة بحيرا

فوائد من قصة بحيرا لكن قصة بحيرا الراهب هذه فيها فوائد: أولاً: أن النبي عليه الصلاة والسلام كان مكتوباً عندهم في الكتب المتقدمة، وأن بحيرا الراهب عرفه بسيماه وذهب بنفسه ودخل بينهم حتى رأى الغلام قال: هذا رسول الله يعني: في المستقبل. وأن سجود الشجر والحجر استرعى انتباه الراهب لما جاءت القافلة التي فيها النبي صلى الله عليه وسلم. ودفاع بحيرا الراهب عن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء جنود الروم وقد عرفوا أنه سيخرج في هذا الشهر، وسيكون في هذا الطريق وسيأتيهم في هذا المكان، فدافع عنه حتى ردهم.

بطلان استغلال المستشرقين لهذه القصة

بطلان استغلال المستشرقين لهذه القصة لكن هذه القصة قد استغلها بعض المستشرقين ليقولوا: إن النبي عليه الصلاة والسلام علمه القرآن بحيرا الراهب، قالوا: هذا الذي أوحاه يعني: الوحي هذا قرآن جاء من بحيرا الراهب لما التقى به. نقول: أولاً القصة عرفنا ماذا قيل في ثبوتها، لكن لنقل أنها ثابتة، هل يمكن لغلام التقى بهذا الراهب مدة وجيزة جداً أن يتعلم منه قرآناً كاملاً يحفظه ويسكت عنه، لا يعرف له أثر حتى يبلغ أربعين سنة ثم يقسطه عليهم على ثلاثة وعشرين سنة؟! وهل كان الراهب سيعلم بحديث قصة خولة بنت ثعلبة مع زوجها أوس بن الصامت {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة:1] قبل حصول الظهار وقبل حصول حادثة خولة بنت ثعلبة بأكثر من أربعين سنة يعلمها بحيرا الراهب يقولها له في قرآن كامل يحفظه منه في فترة وجيزة، التقى به فيها لما اطلع قال: أروني غلامكم، ويحفظه القرآن ثم يسكت عنه أربعين سنة ما يجيب آية واحدة ثم يقول: اقرأ سنعلم عند ذلك أن هذا الكلام الذي قالوه هراء، ولكنهم قالوه من عداوتهم للمؤمنين قالوا: هذا القرآن كله من بحيرا الراهب. ويعرف طبعاً بحيرا الراهب قصة بدر وأنهم سينتصرون، ويعرف قصة أحد وأنهم سينهزمون، ويعرف الأحزاب وأن بني قريظة والمنافقين سيتحالفون، ويعرف قصة وقصة وقصة، طبعاً هذا الهراء لا يمكن أن يصدقه أحد.

مشاركة النبي صلى الله عليه وسلم في حلف الفضول

مشاركة النبي صلى الله عليه وسلم في حلف الفضول هذه بعض الأحداث التي حصلت في طفولته عليه الصلاة والسلام نختم الكلام فيها بحادثة أخيرة وهي مشاركة النبي صلى الله عليه وسلم في حلف الفضول، فقد جاء في حديث عبد الرحمن بن عوف قال عليه السلام: (شهدت حلف المطيبين مع عمومتي وأنا غلام، فما أحب أن لي حمر النعم وأني أمكثه) طبعاً سمي بحلف المطيبين؛ لأنهم وضعوا الطيب في إناء ووضعوا أيديهم فيه، غمسوا أيديهم في الطيب وتعاهدوا على نصرة المظلوم، ولذلك سمي بحلف المطيبين. وحلف الفضول كما قال محمد بن إسحاق: وتداعت قبائل من قريش إلى حلفٍ فاجتمعوا له في دار عبد الله بن جدعان لشرفه وسنه، وكان حلفهم عنده بنو هاشم وبنو عبد المطلب وبنو أسد بن عبد العزى وزهرة بن كلاب وتيم بن مرة، فتعاهدوا وتعاقدوا على ألا يجدوا مظلوماً من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا كانوا معه هذه خلاصة حلف الفضول- وكانوا على من ظلمه حتى يردوا عليه مظلمته، فسمت قريشاً ذلك الحلف حلف الفضول. وحديث: (شهدت حلف المطيبين مع عمومتي وأنا غلام فما أحب أن لي حمر النعم وأني أمكثه) رواه أحمد وأبو يعلى والبزار وقال الهيثمي: رجال حديث عبد الرحمن بن عوف رجال الصحيح. فهذه أبرز الأحداث التي كانت في طفولة النبي صلى الله عليه وسلم من ولادته، وقلنا: كيف أن الله سبحانه وتعالى قيظ الأحداث التي ركز فيها على مكان ولادته وسنة ولادته، وكيف كان الغلام مباركاً لأول أمره كما دلت على ذلك قصة حليمة، وكيف أن الله رعى نبيه من الصغر، ووقعت حادثة شق الصدر لإعداده للمستقبل، ونزع من قلبه حظ الشيطان منه، وكيف أن النبي صلى الله عليه وسلم صار في كفالة جده بعد أمه.

عبر من سيرة سعد بن معاذ

عبر من سيرة سعد بن معاذ إن هذه الأمة لن تنتصر على الأعداء حتى ترجع إلى ما كان عليه السلف رضوان الله عليهم، وإن مما يعين على شحذ الهمم، وقوة الحق، والانتصار لهذا الدين- النظر في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وصحابته الكرام، وقوتهم في الصدع بالحق، وجرأتهم في الدعوة إلى الله وصبرهم على الأذى فيه، وقد تناول الشيخ في هذا الدرس سيرة صحابي جليل ألا وهو سعد بن معاذ، ووقف في سيرته على بعض العبر والعظات المستفادة.

سبب اختيار الحديث عن سعد بن معاذ

سبب اختيار الحديث عن سعد بن معاذ الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على الصراط المستقيم، ليله كنهاره، لا يزيغ عنه إلا هالك، فصلاة ربي وسلامه عليه إلى يوم الدين. أيها الإخوة: إن لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم حقاً عظيماً علينا، فهم أبر هذه الأمة نفوساً، وألينها قلوباً وأرقها، حملوا لواء الدعوة والجهاد حتى انتشر الإسلام في الأرض، وبنوا تلك القاعدة العظيمة للإسلام والمسلمين في أرجاء العالم، وهم المشكاة التي انبثق منها نور الهدى، وهم القدوة الذين نقلوا إلينا حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم نقلوا إلينا أحاديثه، فكل حديث نسمعه فنحن مدينون فيه لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ديناً عظيماً، لأنهم هم الرواة العدول الذين نقلوا لنا هذه الأحاديث، فلو لم ينقلوها فعمن كان سنعرف سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؟ رضي الله عنهم وأرضاهم، تلك الصفوة المختارة من عباد الله، التي خصها الله تعالى بتلك الأفضلية العظيمة التي لو أنفق أحدنا مثل أحد ذهباً ما بلغ ملء كف أحدهم أو نصيفه؛ لأن الله تعالى قد خصهم بهذه العناية العظيمة، واصطفاهم ليكونوا جند رسوله صلى الله عليه وسلم، يسيرون معه على الحق، ويطبقونه ويتخذونه ويعتمدونه شرعةً ومنهاجاً. ولهذا كان لا بد من العناية بدراسة سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم هم القدوة التي تحتذى، وهم الذين ينيرون لنا الدرب في ظلام الجاهلية، وهم الذين إذا اقتدينا بهم فنصل إلى الفوز بجنات النعيم، ونحن اليوم مع موعد مع صحابي جليل من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذلكم الرجل الفذ الذي هو سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه، ولا أخفي عليكم أيها الإخوة فقد تتساءلون: ما الذي دفعني لاختيار حياة هذا الرجل لعرضها في مثل هذا المقام؟ والحقيقة أن السبب كان حديثاً من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، شيءٌ إذا دققت النظر فيه لاندهشت جداً، ولذهلت تماماً وأنت تتأمل في ذلك الحديث، إنه الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: (اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ)، وقال عن سعد بن معاذ: (هو الذي اهتز له عرش الرحمن سبحانه وتعالى) فإذا علمنا أن السماوات السبع، والأرضين السبع بالنسبة للكرسي -وليس للعرش- مثل الحلقة التي ألقيت في صحراء من الأرض، هذه السماوات كلها بنجومها وأفلاكها، والسبع الطباق، وما فيها من المخلوقات، وهذه الأرضين السبع كلها بالنسبة للكرسي مثل حلقة من حديد ألقيت في فلاة، وفضل العرش على الكرسي، نسبة العرش إلى الكرسي كنسبة الفلاة إلى تلك الحلقة. تأمل هذا المخلوق العظيم من مخلوقات الله عز وجل، هذا العرش العظيم الذي هذه صفته ونسبته اهتز لوفاة رجل من الناس إنه سعد بن معاذ، فلماذا اهتز العرش لوفاة سعد بن معاذ؟ هذا ما سنحاول الإجابة على شيء منه بعون الله وتوفيقه.

قصة إسلام سعد بن معاذ

قصة إسلام سعد بن معاذ فأما سعد بن معاذ فكما يقول مؤرخ الإسلام الحافظ الذهبي رحمه الله: فإنه السيد الكبير الشهيد أبو عمرو سعد بن معاذ بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل الأنصاري الأوسي الأشهلي البدري. هذا الذي قال الشاعر تعظيماً لشأنه، في رفعة الإسلام: فإن يُسلم السعدان يُصبح محمد بـ مكة لا يخشى خلاف المخالف كان الشاعر يتوقع ويتمنى أن يسلم السعدان: سعد بن عبادة وسعد بن معاذ. قال الذهبي رحمه الله: أسلم سعد بن معاذ على يد مصعب بن عمير، وكانت وفاة هذا الرجل في أواخر شهر ذي القعدة من سنة خمس للهجرة، وعندما نتتبع الروايات عن حياة سعد بن معاذ، فإن هناك مشكلة تواجه الذين يتتبعون الأحاديث في سير الصحابة؛ لأنك ستجد كثيراً من الأحاديث من رواية ابن إسحاق مثلاً، أو ليس لها سند وهي مشهورة في الكتب، فنحن سنعتمد في رواياتنا للأحاديث على الصحيح منها، مما حققه لنا أهل العلم بالحديث. ولكن هناك بعض المواقف قد لا يجد فيها الباحث حديثاً صحيحاً مع شهرتها في كتب السير والمغازي، وهنا أذكر لكم ما ذكره شيخ المحدثين في هذا العصر، الشيخ/ ناصر حفظه الله، يقول لما سئل عن حكم استخراج الفوائد التربوية والعبر والعظات من مثل هذه الأسانيد التي قد تكون مرسلة أو ضعيفة؟ فقال: الشرط ألا يستخرج منها حكم شرعي، لأن الأحكام الشرعية أو ما كان في العقيدة فإنه لا يؤخذ إلا من الحديث الصحيح، أما استخراج العظات والعبر، فإنها تتفاوت بحسب الأحاديث، فإن بيَّن المتكلم ضعف الحديث فإنه لا بأس بعد ذلك أن يتكلم بما شاء، ونحن سنمر في بداية الحديث عن هذا الصحابي بقصة إسلامه، وهي قصة مشهورة رواها ابن إسحاق رحمه الله تعالى في حديثٍ مرسل، وكذلك رواها أبو نعيم في دلائل النبوة وبعض من ناقشتهم في شأن هذين الحديثين، قال: إن هذا الحديث يتقوى، وبعضهم قال: لا يتقوى، وعموماً فإن هذه القصة قد رويت عند ابن إسحاق وأبي نعيم بأسانيد مرسلة، فلعله يعتضد بعضها ببعض، ونحن من خلال كلامنا عن هذه الرواية لن نتطرق إلى الأحكام الشرعية، وإنما سوف نتطرق إلى بعض العظات والفوائد، فيقول ابن إسحاق رحمه الله تعالى بعد ما ذكر قصة بيعة أهل العقبة من الأنصار للرسول صلى الله عليه وسلم: (بعث النبي صلى الله عليه وسلم مصعب إلى الأنصار لدعوتهم -أناس من أهل المدينة بايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم، واستجابوا بعد أن رفضته سائر القبائل، وبعد أن امتنع عليه جميع العرب- قال: ثم بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ابعث إلينا رجلاً من قِبلك فيدعو الناس بكتاب الله فإنه أدنى أن يتبع). فهؤلاء أهل المدينة يطلبون من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليهم رجلاً يدعوهم بماذا يدعوهم؟ يدعوهم بكتاب الله، فإنه أدنى أن يتبع. كان الوحي في نفوس الصحابة له منزلة عظيمة، وكانوا يقدرونه تقديراً كبيراً، فلذلك طلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم رجلاً شخصية يدعو الناس في المدينة يدعوهم بأي شيء؟ بالقرآن الكريم؛ لأنه أحرى أن يتبع، فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير أخا بني عبد الدار. أيها الإخوة: إذا نظرنا إلى قيمة القرآن في نفوس الصحابة، وتقديرهم له لوجدت البون شاسعاً جداً بين نظرة المسلمين اليوم إلى القرآن الكريم وبين نظرة أولئك الصحابة أولئك الصحابة كانوا يأخذون القرآن الكريم معيناً أساسياً للتربية الإسلامية الصحيحة. كانوا يحتكمون إليه، ويرجعون فيما شجر بينهم من الخلاف إلى القرآن الكريم كانوا يأخذونه عشراً عشراً لا يتجاوزون العشر حتى يتعلموها ويعملوا بها كانوا يجلون هذا القرآن، أما المسلمون اليوم فإنك تجدهم إذا اعتنى أحدهم بالقرآن فإنه يعتني به كمصحف يضعه في سيارته كي لا تتعرض سيارته لحادثٍ، أو يضعه فوق رف من الرفوف ليزين به بيته، أو يتبرك به، أو تعلقه بعض الجهلة من النساء في أعناق أولادهن وأطفالهن ليحفظ الأولاد والأطفال من العين أو الحسد بزعمهم، هذا هو مقدار القرآن اليوم في نفوس الناس، إلا من رحم الله من بقايا الطائفة المنصورة الذين اعتمدوا كتاب الله شرعةً ومنهاجاً، وأخذوا منه واستقوا وانتهلوا، يعلمون الناس منه ويتعلمون، وهكذا يجب أن يكون القرآن، يجب أن نُقْبِل على كتاب الله عز وجل أكثر من أي كتاب آخر. كثير من الناس اليوم يقرءون كتباً كثيرة، وقد يتأثرون بها أكثر مما يتأثرون من القرآن، وتجد أحدهم يبكي في الدعاء في الصلاة ما لا يبكي إذا تليت عليه آيات القرآن، بينما كان الصحابة يبكون وينشجون وهم يستمعون إلى القرآن، وكانت آيات من كتاب الله سبباً في هداية قطاع طرق ولصوص وفسقة ومجرمين في الصدر الأول من الإسلام. آيات من كتاب الله تهز مشاعر الناس هزاً لتخرجهم من الظلمات إلى النور، هذا الكتاب العزيز الذي جُهلت قيمته من قبل أبناء المسلمين اليوم لا بد من العودة إليه عودة تبنٍّ لما فيه من الأحكام والمواقف، واستفادةٍ واتعاظٍ بما فيه من العبر والمواعظ، وسلوك سبيل التربية لما فيه من المواقف الإيمانية التي تحدد موقف المسلم من الأحداث الجارية، والكلام في هذا طويل، ويكفي هنا هذه التذكرة، نسأل الله أن ينفعنا وإياكم بهدي كتابه.

موقف أسيد بن حضير مع مصعب بن عمير وأسعد بن زرارة

موقف أسيد بن حضير مع مصعب بن عمير وأسعد بن زرارة بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأنصار مصعب بن عمير أخا بني عبد الدار، أرسل إليهم رجلاً واحداً، سنرى الآن في طيات هذه القصة ماذا سيفعل هذا الرجل، أرسل رجلاً واحداً إلى مدينة بأكملها، ولذلك كما قال ابن القيم رحمه الله في الزاد: ومدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم: فتحت بالقرآن ولم تفتح بالسيف. القرآن مع رجل يعرف قيمته يفتح مدينة بأكملها، لا بد من تقدير هذا القرآن، وتقدير الرجال الأفذاذ الذين يحملون هذه الآيات، ليبلغوا الناس ما أنزل إليهم من ربهم، فنزل في بني غنم على أسعد بن زرارة فجعل يدعو الناس سراً فيفشو الإسلام ويكثر أهله، وهم في ذلك مستخفين بدعائهم، ثم إن أسعد بن زرارة خرج بـ مصعب بن عمير يريد به دار بني عبد الأشهل، وهم قوم سعد بن معاذ وكان رئيسهم، وكان سعد بن معاذ ابن خالة أسعد بن زرارة الذي أسلم مع مصعب بن عمير فكان مرافقاً له في رحلته الدعوية، فدخل به حائطاً من حوائط بني غفر على بئر يقال لها: بئر مرق، فجلسا في الحائط، واجتمع إليهما رجال ممن أسلموا، وسعد بن معاذ وأسيد بن الحضير يومئذٍ سيدا قومهما، وكانا على الشرك، سعد بن معاذ كان رجلاً مشركاً جاهلياً لا يعرف الله عز وجل، ويخوض في أوحال الجاهلية كما يخوض غيره. كيف سيقوم هذا الرجل إلى المقام الذي اهتز له عرش الرحمن؟ وكلاهما مشرك على دين قومه، فلما سمعا به قال سعد لـ أسيد: لا أبا لك! انطلق إلى هذين الرجلين اللذين قد أتيا دارينا ليسفها ضعفاءنا فانهرهما وانههما أن يأتيا دارينا، فإنه لولا أسعد بن زرارة مني حيث قد علمت كفيتك ذلك، هو ابن خالتي ولا أجد عليه مقدماً. يقول سعد بن معاذ لـ أسيد بن حضير: هذا أسعد بن زرارة ابن خالتي، وله مكانة في نفسي لا أستطيع أن آتي إليه وأنهره وأعنفه، فاذهب أنت واكفني هذه المئونة، فأخذ أسيد بن حضير حربته ثم أقبل إليهما فلما رآه أسعد بن زرارة قال لـ مصعب: هذا سيد قومه وقد جاءك، فاصدق الله فيه. أخلص لله وأنت تنصح هذا الرجل لأنه سيد قومه؛ فإذا هداه الله هدى به قوماً بأكملهم على يد هذا الرجل، انظروا -أيها الإخوة- كيف يتواصى الدعاة فيما بينهم، يتواصون بالإخلاص لأنه عصب الدعوة، وهو السلاح الفعال الذي يفتح الله به مغاليق القلوب، فيدخل نور الإيمان إخلاص الداعية هو سلاحه الأعظم وهو الواجب وهو يواجه الناس، وكثير من الدعاة الذين لا ينقصهم علم ولا جرأة ولا قوة في الشخصية أو جودة في أسلوب العرض يفشلون فشلاً ذريعاً، لماذا؟ لأنهم يفتقدون هذا العنصر الأساسي في دعوتهم إلى الله وهو عنصر الإخلاص، فلذلك يقول أسعد بن زرارة لـ مصعب بن عمير: هذا سيد قومه وقد جاءك، فاصدق الله فيه، قل كلمة الحق ولا تخف، قال مصعب: إن يجلس أكلمه، قال: فوقف عليهما متشتماً يشتم، فقال: ما جاء بكما إلينا؟ تسفهان ضعفاءنا، اعتزلانا إن كان لكما بأنفسكما حاجة. قال ابن إسحاق: فقال له مصعب: أوتجلس فتسمع؟ فإن رضيت أمراً قبلته، وإن كرهته كففنا عنك ما تكره، قال: أنصفت، قال: ثم ركز حربته وجلس إليهما، فكلمه مصعب بالإسلام وقرأ عليه القرآن، فقال فيما يذكر عنهما: والله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم من إشراقته وتهلله، ثم قال: ما أحسن هذا وأجمله! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ قال له: تغتسل، فتطهر، وتطهر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي، فقام فاغتسل، وطهر ثوبيه، وتشهد شهادة الحق، ثم قام فركع ركعتين. ثم قال لهما: إن ورائي رجلاً إن اتبعكما لم يتخلف أحد من قومه، وسأرسله إليكما الآن، سعد بن معاذ. من المدهش -أيها الإخوة- أن ترى هذا الصحابي عندما دخل في الإسلام أول ما فهم كان من بدائيات وبدهيات الفهم، أن يفهم أنه لا بد أن يدعو للإسلام، ولا بد أن يشارك في الدعوة إلى الله، ولا بد أن يأتي لـ مصعب برجل آخر يفتح الله قلبه؛ حتى يهدي الله القوم على يدي هذا الرجل، رجل من المشركين يشهد شهادة الحق، ويصلي ركعتين، ثم يساهم مباشرة في الدعوة إلى الله، كيف كان الصحابة الأوائل يفهمون الدين؟ كانوا يفهمونه فهماً يختلف كثيراً عن فهم المسلمين اليوم لدين الإسلام. كثيرٌ من المسلمين اليوم لا يفهمون من الدين إلا تلك الركيعات التي يركعونها بغير خشوع في المساجد أو في البيوت، ويخرجونها في كثير من الأحيان عن وقتها، أصبح الدين مجموعة من الرموز التي تؤدى بغير خشوع لله وخشية، فقد الدين حركيته واندفاعيته في قلوب كثير من المسلمين. إن فقه الدعوة اليوم في خطر عظيم من تلك الانحرافات الكبيرة التي تعج بها أذهان المسلمين وقلوبهم، لا بد من إحياء فقه الدعوة في نفوس الناس؛ حتى ينطلقوا بهذا الدين إلى الناس كافة لا بد من إزالة هذا الجمود الذي سيطر على مشاعر المسلمين فجعلها متجمدة لا تتحرك ولا تحس فيها دفئاً وحرارة، لا بد أن تنطلق لتصدع بكلمة الحق مبلغة تلك القلوب الخاوية، فقد يفتح الله عليهم، فيدخل الناس في دين الله أفواجاً.

موقف سعد بن معاذ مع أسعد ومصعب

موقف سعد بن معاذ مع أسعد ومصعب ثم أخذ أسيد بن حضير حربته وانصرف إلى سعد وقومه وهم جلوس في ناديهم، فلما نظر إليه سعد مقبلاً، قال: "أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به" انظروا -أيها الإخوة- كيف يغير الإيمان وجه الرجل الذي ينتقل من الجاهلية إلى الإسلام، فيعلو وجهه نور الهدى، فيتبين الناس تغيراً كبيراً في ملامح هذا الرجل وهو لم يتغيب عنهم إلا ساعة من الزمن، يختلف وجهه وتختلف التقسيمات والنظرات والإشراقات والتعبيرات على ذلك الوجه، إنه الانفعال والتفاعل مع هذا المنهج الذي يؤدي إلى إنشاء هذه النماذج التي تؤثر في الناس بشكلها ومضمونها، التي تؤثر في الناس بالقدوة قبل أن تؤثر فيهم بالكلام، فلما وقف على النادي قال له سعد: ما فعلت؟ قال: كلمت الرجلين، فوالله ما رأيت بهما بأساً وقد نهيتهما، فقالا: نفعل ما أحببت، وقد حُدثت -بلغني من الأخبار- أن بني حارثة -أناس آخرون من أهل المدينة - خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه - أسيد بن حضير الآن يريد أن يستجيش مشاعر سعد بن معاذ؛ ليشعر بشيء من الحمية تجاه هذا الرجل من بني قومه ليذهب ويحميه- وذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالتك ليحقروك، قال: فقام سعد بن معاذ مغضباً -وكان أهل الجاهلية فيهم حمية- مبادراً للذي ذكر له من بني حارثة، وأخذ الحربة في يده، ثم قال: والله ما أراك أغنيت شيئاً، ثم خرج إليهما سعد، فلما رآهما مطمئنين عرف أن أسيداً إنما أراد أن يسمع منهما، عرف أن هذه خطة من أسيد حتى يذهب سعد ويسمع من هذين الرجلين المسلمَين. فوقف عليهما متشتماً، ثم قال لـ أسعد بن زرارة: والله يا أبا أمامة لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني، أتغشانا في دارنا بما نكره، وقال مشيراً لـ مصعب بن عمير: علام تأتينا في دورنا لهذا الوحيد الطريد الطريح الغريب؟ يسفه ضعفاءنا بالباطل، ويدعوهم إليه، ولا أراكم بعدها بشيء من جوارنا؟ فرجعوا مرة أخرى مصعب وصاحبه مرة أخرى، ثم إنهم عادوا ثانية لبئر مرق أو قريب منها؛ رجاء أن يأتي سعد مرة أخرى، فأُخبر بهم سعد بن معاذ فتواعدهم توعداً دون الوعيد الأول، فلما رأى أسعد بن زرارة منه ليناً قال له وقال مصعب له: أوتقعد فتسمع فإن رضيت أمراً -رغبت فيه- قبلت، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره، قال سعد: أنصفت، ثم ركز الحربة وجلس، فعرض عليه الإسلام وقرأ عليه القرآن، وذكر موسى بن عقبة رحمه الله في مغازية أن مصعب قرأ على سعد بن معاذ أوائل سورة الزخرف، قال: فعرفنا والله في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم فيه من إشراقته وتهلله، ثم قال لهما: كيف تصنعون إذا أسلمتم ودخلتم في هذا الدين؟ قالا: تغتسل، وتطهر، وتطهر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي ركعتين، قال: فقام فاغتسل، وطهر ثوبيه، وشهد شهادة الحق، ثم ركع ركعتين، ثم أخذ حربته فأقبل عائداً إلى نادي قومه ومعه أسيد بن حضير، فلما رآه قومه مقبلاً، قالوا: نحلف بالله لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، فلما وقف عليهم سعد بن معاذ بعد أن رجع إلى قومه مسلماً- قال: يا بني عبد الأشهل! كيف تعملون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا رأياً وأعيننا نقيبةً، بعدما عرف واستيقن منهم عن صورته وقررهم على سيادته عليهم، قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم عليّ حرام؛ حتى تؤمنوا بالله ورسوله. والله لا أكلم أحداً فيكم حتى تؤمنوا بالله ورسوله، بهذه القوة يعرض سعد بن معاذ دعوته على قومه، وبهذه الجرأة يصارحهم مصارحةً شديدة تناسب قوة هذا الدين وعظمته. إن الجرأة في عرض الدعوة، وقوة الكلام حولها أمام الناس هو الذي يؤثر في نفسياتهم، ولذلك يقول الراوي: فوالله ما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلماً أو مسلمة، مقام واحد، كلمات جريئة مندفعة من قلب مؤمن مستمدٍ من الله العون والتوفيق، يسانده الإخلاص، يؤدي إلى إسلام القوم بأكملهم، فأقام مصعب بن عمير وأسعد بن زرارة عند سعد بن معاذ يدعوان الناس إلى الإسلام، فلم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون. وفي رواية أبي نعيم في دلائل النبوة: فرجع سعد وقد هداه الله تعالى، ولم يظهر لهم الإسلام حتى رجع إلى قومه، فدعا بني عبد الأشهل إلى الإسلام، وأظهر إسلامه، وقال: من شك فيه من صغير أو كبير أو أنثى أو ذكر فليأتنا بأهدى منه، يقول لقومه: الذي يشك منكم في صحة هذا الدين فليأتنا بأهدى منه، حتى نتبعه، فوالله لقد جاء أمر لتحزن فيه الرقاب، ما تعلم سعد بن معاذ من الإسلام إلا الشهادتين، وكلمات بسيطة يسمعها من مصعب، ماذا فهم؟ فهم أن هذا الدين لا بد أن تحز فيه الرقاب، أي: لا بد فيه من الجهاد، ولا بد فيه من البلوى، ولا بد فيه من الفتن والقتل والمقاتلة، انظروا إلى عمق الوعي الذي ارتكز في ذهن سعد بن معاذ عندما دخل في الإسلام، ما حجم الوعي الذي يدخل في عقول الناس اليوم عندما يهدي الله رجلاً واحداً منهم مثلاً؟ هل يفقهون من شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله أنه لا بد من نصر الإسلام، والدعوة إلى الله، والجهاد في سبيله هل يفهم الناس؟ فكانت أول دار من دور الأنصار أسلمت بأسرهم، وانتقل مصعب بن عمير إلى حماية سعد بن معاذ.

موقف سعد بن معاذ مع أبي جهل في مكة

موقف سعد بن معاذ مع أبي جهل في مكة ننتقل الآن إلى موقف آخر هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وأرسى دعائم المجتمع الإسلامي، وكان بعض الصحابة يستأذنون رسول الله صلى الله عليه وسلم في العمرة فيأذن لهم، ولذلك قال ابن حجر رحمه الله: والظاهر أن العمرة كانت مباحة للصحابة حتى لو لم يعتمر معهم الرسول دون الحج فإنهم منعوا من الحج، هكذا يقول ابن حجر رحمه الله في فتح الباري، ففي مرة من المرات استأذن سعد بن معاذ من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يذهب للعمرة في مكة، وهي لا زالت خاضعة للمشركين. قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه وساق بإسناده إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: إنه حدث عن سعد بن معاذ أنه قال: أنه كان صديقاً لـ أمية بن خلف، أمية بن خلف كان مشركاً في الجاهلية كان سعد بن معاذ سيداً في المدينة في يثرب كان صديقاً لسيد من سادات مكة وهو أمية بن خلف، وكان أمية إذا مر بـ المدينة نزل على سعد، وكان سعد إذا مر بـ مكة نزل على أمية، وكان هذا في الجاهلية، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انطلق سعد معتمراً، فنزل على أمية بـ مكة، فقال لـ أمية: انظر لي ساعة خلوة لعلي أن أطوف بالبيت، فخرج به قريباَ من نصف النهار، ونصف النهار هو أهدأ الأوقات التي يقيل فيها الناس، فلقيهما أبو جهل لعنه الله، فقال: يا أبا صفوان! من هذا معك؟ فقال: هذا سعد، فقال له أبو جهل: ألا أراك تطوف بـ مكة آمناً، وقد آويتم الصباة وزعمتم أنكم تنصرونهم وتعينونهم، أما والله لولا أنك مع أبي صفوان ما رجعت إلى أهلك سالماً، أبو جهل لعنه الله يقول لـ سعد بن معاذ. الآن سعد بن معاذ وحيد في مكة، والرجل المسلم المتميز بعقيدته في وسط قوم مشركين لا بد أن يخاف على نفسه، خصوصاً أمام هذا الوعيد الذي يأتي من عظيم قريش أبو جهل، لو كان الواحد منا يا ترى في ذلك الموقف ماذا كان سيرد على أبي جهل؟ أو هل كان سيرد عليه أصلاً، أو يبادر بسلوك سبيل الهزيمة، ويعتبرها غنيمة؟ فقال له سعد ورفع صوته عليه: أما والله لو منعتني هذا لأمنعنك ما هو أشد عليك طريقك إلى الشام، وسأغير على قوافلك وأنت ذاهب إلى التجارة، فقال له أمية وقد أشفق: لا ترفع صوتك يا سعد على أبي الحكم سيد أهل الوادي، قال سعد: دعنا عنك يا أمية! فوالله لقد سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنه قاتلك). أيها الإخوة: إن قوة الشخصية والجرأة من العوامل التي توفرت في شخصيات صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتي نفتقدها اليوم في شخصيات المسلمين، كثير من المسلمين اليوم يفتقدون الجرأة في عرض الدعوة، بل إنهم يشعرون بالذل والخزي وهم يواجهون بأدنى كلمات الهجوم من الأعداء، وقد ينكصون على أعقابهم فلا يصمدون أمام الهجوم الجاهل، أما سعد بن معاذ فقد كان جريئاً لا تأخذه في الله لومة لائم، عندما يدخل الإسلام في النفس فإنه يغيرها فتتغير الموازين، كان أبو جهل عند سعد بن معاذ قبل أن يسلم رجل له شأن عظيم محترم، أما وقد دخل سعد في الإسلام فقد أصبح هذا الكافر الحقير لا يسوى شيئاً. لذلك قام سعد في وجهه فهدده وتوعده بأشد مما تكلم به أبو جهل، ولذلك سعد رضي الله عنه لم يرض أن يسب إخوانه المسلمين أمامه ويقول أبو جهل عنهم: إنهم صباة خرجوا عن الدين، بل رد على أبي جهل مقولته ودافع عن إخوانه، كثير من المسلمين اليوم لا يدافعون عن إخوانهم إذا اغتيبوا في مجلس، فكيف سيدافعون عنهم لو وجهت إليهم سهام النقد والتجريح من أعداء الإسلام الأقوياء؟ إن قوة الشخصية لها دور كبير في إقناع الناس بالإسلام قوة الشخصية تنشأ من الإيمان الذي يقذفه الله في النفوس، لا تنشأ من الفراغ لا تنشأ من لا شيء، إنها تنشأ من الإيمان الذي يغير الشخصيات، ولذلك يكون التغير الحاصل في شخصية كل إنسان هداه الله بحسب مقدار الإيمان الذي دخل في نفسه، فمن الناس من تجده قوياً في عرض دعوته، جريئاً مقداماً، ومن الناس من تجده يعرض الدعوة بشكل هزيل كأنه يربط على أكتاف الناس، ويقول لهم: أرجوكم وأتوسل إليكم أن تقبلوا بهذا الذي أقول، لم يكن الصحابة يدعون الناس هكذا، ولسنا نقصد بهذا الكلام أن يقوم الإنسان يسب ويشتم ويرغي ويزبد على الناس ويرفع صوته مهدداً ومتوعداً، كلا! ليست هذه هي الجرأة في الدعوة إلى الله، لا بد أن توافق الجرأة حكمة، أما أن يقوم الإنسان يلعلع في صوته، ويسب، ويلعن، فليست هذه بدعوة إلى الله، بل إن هذه من أكبر وسائل التنفير والصد عن سبيل الله، فأربأ بنفسي وبإخواني عن اتخاذ سبيل الشدة والعنف مع الناس؛ فإنها منفرة وسلبية جداً، وهناك فرق بينها وبين الجرأة في عرض الدعوة والقوة والوضوح في تكليم الناس عن مبادئ الإسلام، وهذا الفرق لا يعيه إلا رجل آمن بالله وصدق المرسلين وانتهج سبيل المؤمنين، ثم إن سعد بن معاذ ما اكتفى بهذا، بل جلس يخذل في أمية بن خلف، ويقول له خبراً سمعه من الرسول صلى الله عليه وسلم يقول له: يا أمية! فوالله لقد سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (إنه قاتلك) فقال أمية: بـ مكة؟ قال: لا أدري، ففزع لذلك أمية فزعاً شديداً، فلما رجع أمية إلى أهله قال: يا أم صفوان! ألم تري ما قال لي سعد؟ قالت: وما قال لك؟ قال: زعم أن محمداً أخبرهم أنه قاتلي، فقلت له: بـ مكة؟ قال: لا أدري، فقال أمية: والله لا أخرج من مكة أبداً، فلما كان يوم بدر استنفر أبو جهل الناس وأخرج أمية بالقوة بعد أن أحرجه، فخرج أمية وهو يقول: أخرج معهم مسافة وأرجع، فمازال أبو جهل يوصل أمية من منزل إلى منزل حتى أهلك الله أمية في معركة بدر، فقتلته أسياف المسلمين مصداقاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم.

موقف سعد بن معاذ المشرف يوم بدر

موقف سعد بن معاذ المشرِّف يوم بدر لما كان يوم بدر وقف سعد بن معاذ رضي الله عنه موقفاً مشرفاً في لحظة من لحظات الحرج، أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم العهد والميثاق من الأنصار أن ينصروه في المدينة، ولم يأخذ منهم العهد والميثاق أن ينصروه عندما يخرج من المدينة، فلما خرج الرسول صلى الله عليه وسلم بهؤلاء النفر الذين معه لاعتراض قافلة، تحولت الأمور فتغيرت من اعتراض قافلة إلى معركة مع جيش قدره ألف رجل من المشركين، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يريد أن يعرف ما في نفوس الناس الذين معه، كان يريد أن يتأكد من الأنصار هل سيقفون معه خارج المدينة، أم أنهم واقفون معه وناصروه داخل المدينة فقط؟ فوردت روايات عن ابن مردويه من طريق محمد بن عمر بن علقمة بن وقاص الليثي، ومرسلٌ آخر عند ابن عائد، ومرسلٌ آخر عند ابن أبي شيبة يقوي هذه الأسانيد بعضها بعضاً، وقد صحح الشيخ/ ناصر هذا الموقف، فقال الراوي: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر حتى إذا كان بـ الروحاء خطب الناس، فقال: (كيف ترون؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله! بلغنا أنهم بكذا وكذا قال: ثم خطب الناس، فقال: كيف ترون؟ فقال: عمر مثل قول أبي بكر، ثم خطب الناس، فقال: كيف ترون؟ -الرسول يريد الأنصار أن يتكلموا، الرسول يعرف أن المهاجرين عندهم استعداد للقتال- فقام سعد بن معاذ فقال: يا رسول الله! إيانا تريد؟ فوالذي أكرمك، وأنزل عليك الكتاب، ما سلكتها قط ولا لي بها علم، ولئن سرت حتى تأتي برك الغماد من ذي يمن لنسيرن معك، ولعلك أن تكون خرجت لأمرٍ وأحدث الله إليك غيره، فانظر الذي أحدث الله إليك، فامض، فصل حبال من شئت، واقطع حبال من شئت، وعاد من شئت، وسالم من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت) فنزل القرآن على قول سعد {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ} [الأنفال:5]. وذكر الأموي هذه الرواية وزاد فيها: "ما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت" تصور! الذي تأخذ منا أحب إلينا من الذي تتركه لنا، وما أمرت به من أمرٍ فأمرنا تبعٌ لأمرك، فوالله لئن سرت حتى تبلغ البرك من غمدان لنسيرن معك، موقف جريء في لحظة حرجة، سعد بن معاذ يقرر الموقف الآن ويقول للأنصار الذين معه: إن هذا الموقف يجب أن يكون موقفهم جميعاً، فيقول عن نفسه ونيابةً عن قومه: إننا خارجون معك يا رسول الله. كان لهذا الموقف أثر عظيم من آثار الصمود والانتصار لدين الله تعالى؛ مما نتج عنه انتصار المسلمين في غزوة بدر التي سماها الله تعالى يوم الفرقان، فرق الله بها بين الحق والباطل.

موقف سعد بن معاذ مع بني قريظة حلفائه

موقف سعد بن معاذ مع بني قريظة حلفائه نأتي إلى موقف النهاية في حياة سعد بن معاذ موقفه مع بني قريظة وإصابته التي أدت إلى وفاته.

إصابة سعد بن معاذ في الخندق

إصابة سعد بن معاذ في الخندق أخرج الإمام أحمد رحمه الله تعالى، عن محمد بن عمر، عن أبيه، عن علقمة بن وقاص -وهذا الإسناد قال عنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة: إن سنده جيد، وكذلك قال ابن كثير رحمه الله تعالى- قال: قالت عائشة: [خرجت يوم الخندق أقفو آثار الناس، قالت: فسمعت وئيد الأرض ورائي -أي: حس الأرض- فالتفت فإذا أنا بـ سعد بن معاذ ومعه ابن أخيه الحارث بن أوس يحمل مجنه يتقى بها من الضربات -الترس- فجلست إلى الأرض، فمر سعد وعليه درع من حديد قد خرجت منها أطرافه، وكان من أعظم الناس وأطولهم، فقالت عائشة: فأنا أتخوف على أطراف سعد] فأنا خفت على أطراف سعد التي برزت من هذا الدرع الذي يلبسه، خفت عليها أن يصيبها سوء، فمرَّ فحصل ما كانت تخشى منه عائشة رضي الله عنها، ما الذي حدث؟ قالت: [ويرمي سعداً رجل من المشركين من قريش يقال له ابن العرقة -لأن أمه كانت تسمى العرقة - فقال المشرك: خذها وأنا ابن العرقة، فقال له سعد: عرق الله وجهك في النار]. القوة في الرد على المشركين، فأصاب هذا السهم العرق الذي في وسط الذراع يسمى الأكحل، فدعا الله عز وجل سعد بن معاذ، فقال: [اللهم لا تمتني حتى تُقر عيني من قريظة، أو حتى تَقر عيني من قريظة]. بنو قريظة خانوا العهد، وضربوا المسلمين من الخلف، الأحزاب من المشركين من أمام الخندق، وبنو قريظة خانوا العهد من الخلف، ويريدون أن يطبقوا على المسلمين، فوقع المسلمون بين نارين خانت بنو قريظة العهد الذي كتبوه من الرسول صلى الله عليه وسلم خيانة عظمى استحقوا بها ما سيأتي. كان سعد بن معاذ حليفاً لهم في الجاهلية، فقال سعد لما أصيب: [اللهم لا تمتني حتى تُقر عيني من قريظة] قالت عائشة: [وكانوا حلفاء مواليه في الجاهلية]. وقفة بسيطة عند هذا الدعاء! كان الصدر الأول من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم إذا دعوا الله تعالى تحس أن لدعائهم معنىً عظيماً، لا يدعون الله بأمور تافهة وأشياء بسيطة، ولكن يدعون الله بما يجيش في نفوسهم من علو الهمة، وما يفكرون فيه وما يهتمون به حقيقة. الناس الواحد منا اليوم إذا اهتم بالمال قال: يا رب! لا تخسرني في الفلوس، يا رب! ربحني، يارب! أعطني كذا وكذا من الأموال، لماذا؟ لأنه يهتم بهذا الأمر وأصبح هذا هو شغله الشاغل، وترى الطالب في المدرسة هكذا، وترى الرجل، وترى الناس الذين يدعون الله، نحن لا نتكلم الآن عن الذين لا يدعون الله، هؤلاء أمرهم منتهٍ، نحن نتكلم اليوم عن المسلمين وهم يدعون الله الذين يدعون بماذا يدعون؟ هل نحن اليوم ندعو الله من قلوبنا إذا خلا الإنسان بنفسه في السجود؟ بعض الإخوان اليوم يدعو في التشهد أو يدعو مثلاً بعد الصلاة، ماذا يقول الواحد منا في دعائه؟ الغالب من الناس يدعو لنفسه يدعو أن يرزقه الله مالاً يدعو لأبنائه وزوجته، يدعو هذا شيء طيب وحسن، ونحن لا نقول: إن هذا الشيء حرام، لا، بل هو قربة وطاعة، ولكن أن يخلو دعاؤنا من أمر المسلمين هذه هي المآخذ التي نأخذها على أنفسنا، هل اليوم نحن ندعو إذا دعا الواحد منا ربه أن يرزقه مالاً أو صحة أو الولد هل يدعو الله أن ينصر عقيدة التوحيد، أو أن يرفع البلاء عن المسلمين المضطهدين في أنحاء العالم، أو ينصر المجاهدين في سبيل الله، أو أن يجمع كلمة المسلمين على السنة الصحيحة وعلى العقيدة الصحيحة؟ هل نحن اليوم ندعو الله عز وجل بالأمور العظيمة التي يجب أن تكون هي شغلنا الشاغل، أم أننا نقتصر في الدعاء على طلب المال وطلب العافية والصحة؟ الحقيقة أيها الإخوة أن الإنسان إذا كان منشغلاً بقضية يتابعها ويصرف لها جهده ووقته فإنها ستظهر حتى في دعائه، أما إذا كان منشغلاً بأشياء أبسط من هذا بكثير فإنها ستظهر في دعائه أيضاً، فهل نحن نسأل الله عز وجل أن يحقق الأمور العظيمة التي هي اليوم البلوى التي وقعت في المسلمين، هذه نقطة ينبغي الانتباه إليها. ثم بعد ذلك بعث الله عز وجل ريحاً على المشركين وكان الجرح الذي حصل في يد سعد بن معاذ اقترب من الشفاء واندمل إلا شيئاً يسيراً وبعث الله الريح على المشركين، {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً} [الأحزاب:25] فلحق أبو سفيان ومن معه بـ تهامة ولحق عيينة ومن معه بـ نجد، ورجع بنو قريظة فتحصنوا في صياصيهم، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع السلاح وأَمر بقبة من أدمٍ فضربت على سعد في المسجد. الآن سعد جريح تنزف منه الدماء، والرسول صلى الله عليه وسلم يعتني بإخوانه المسلمين عناية كبيرة، وأمر المسلمين فضربوا خيمة في ساحة المسجد لـ سعد بن معاذ، يوضع فيها حتى يداوى من جراحه التي حصلت له. وبعد ذلك جاء جبريل عليه السلام وإن على ثناياه لنقع الغبا، رفقال: أوقد وضعت السلاح، والله ما وضعت الملائكة السلاح، قال النبي صلى الله عليه وسلم: فأين؟ فأشار إلى بني قريظة، فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلبس رسول الله صلى الله عليه وسلم لامته، وأذن في الناس بالرحيل أن يخرجوا فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحاصر بني قريظة حصاراً شديداً حتى طلبوا الصلح، قالوا: نستسلم لكن نريد أن تُحكم فينا واحداً منا من هو الشخص الذي رشحوه للحكم؟ إنه سعد بن معاذ؛ لأنهم كانوا حلفاء له في الجاهلية، فظنوا أن سعد بن معاذ سيرأف بهم، ويحكم فيهم حكماً معتدلاً، لأنه كان حليفاً لهم في الجاهلية وصديقاً لهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: انزلوا على حكم سعد بن معاذ، فنزلوا وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد فأتي به على حمار وقد حمل عليه، وحث به قومه، فقالوا لـ سعد بن معاذ: يا أبا عمرو! حلفاؤك، ومواليك، وأهل النكاية، وهم من قد علمت، أي: ارأف بهم، هؤلاء كانوا معنا أصلاً وأموالنا وأموالهم سواء، فلم يلتفت إليهم - سعد - ولا كلمهم أبداً، حتى إذا دنا من بئرهم التفت إلى قومه الذين قد أحاطوا به، فقال لهم: قد آن لي ألا تأخذني في الله لومة لائم؛ فلما قال هذه الكلمة، بعض الرجال الذين معه رجعوا إلى قومهم من بني عبد الأشهل فنعوا رجال بني قريظة قبل أن يحكم سعد عرفوا من هذا الكلمة: [لقد آن لـ سعد ألا تأخذه في الله لومة لائم] فرجعوا وهم يزفون خبر إعدام رجال بني قريظة إلى قومهم من بني عبد الأشهل قبل أن يتكلم سعد بشيء.

قدوم سعد بن معاذ إلى الرسول صلى الله عليه وسلم

قدوم سعد بن معاذ إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قال أبو سعيد: فلما طلع على رسول الله صلى الله عليه وسلم - طلع عليه سعد بن معاذ محمولاً- قال: (قوموا إلى سيدكم فأنزلوه) وهنا -أيها الإخوة- نقف وقفة فقهية، اشتهر هذا الحديث بلفظ (قوموا إلى سيدكم) وهذه الزيادة جاءت في طرق قليلة، زيادة (فأنزلوه) ومن هذه الطرق طريق أحمد الذي نحن بصدده الآن والذي سنده جيد. قال ابن كثير في البداية والنهاية: أمر عليه الصلاة والسلام من هناك من المسلمين بالقيام له، قيل: سبب القيام لينزل من شدة مرضه، لأنه لا يستطيع أن ينزل لوحده، فلا بد أن يقوم له أناس وينزلوه، وقيل: توقيراً له بحضرة المحكوم عليهم ليكون أبلغ في نفوذ حكمه. السبب الثاني للقيام: أنه ربما أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقوم هؤلاء الناس حتى يُظهر مكانة سعد، فعندما يحكم سعد يكون حكمه نافذاً، فقال: أنزلوه فأنزلوه، قال الشيخ/ ناصر في تعليقه على هذا الحديث في السلسلة الصحيحة في المجلد الأول: اُشتهر رواية هذا الحديث بلفظ: (لسيدكم) أي: قوموا لسيدكم، والرواية في هذا الحديث كما رأيت (إلى سيدكم) ليس (قوموا لسيدكم) وهناك فرق بين (قوموا لسيدكم) و (قوموا إلى سيدكم). ولا أعلم للفظ الأول أصلاً (قوموا لسيدكم) وقد نتج منه خطأ فقهي وهو الاستدلال به على استحباب القيام للقادم كما فعل ابن بطال وغيره، واشتهر الاستدلال بالحديث عموماً (قوموا لسيدكم) على مشروعية القيام للداخل، فإذا تأملت السياق تبين لك أنه استدلال ساقط لوجوه أقواها قوله: (فأنزلوه) الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقل لهم: قوموا لمجرد القيام، قال لهم: (قوموا إلى سيدكم فأنزلوه) نصٌّ قاطع على أن الأمر بالقيام لأجل إنزاله لكونه مريضاً، قال الحافظ: وهذه الزيادة (فأنزلوه) تخدش في الاستدلال بقصة سعد على مشروعية القيام المنازع فيه، وقد احتج به النووي كما في كتاب القيام، وكل من الفقهاء يصيب ويخطئ، ونحن ندور مع الدليل حيثما دار. إذاً: القيام ينقسم إلى ثلاثة أنواع: 1 - قيام إليه، قيام الرجل إلى الرجل. 2 - وقيام له. 3 - وقيام عليه. فأما القيام له: قيام الرجل للرجل إذا دخل واحد المجلس قام الناس يسلمون عليه ويرحبون به، هذا القيام للداخل، ممنوع شرعاً، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار) حديث صحيح. وما كان قوم يحبون صاحبهم كحب أصحاب محمد محمداً، ولكنهم كما ثبت عنهم في الحديث الصحيح أنهم كانوا لا يقومون له لما يعلمون من كراهيته لذلك، هل هناك أعظم من الرسول؟ هل هناك أعلم من الرسول؟ لا. مع ذلك كان الصحابة لا يقومون للرسول إذا دخل عليهم، فلذلك الآن لا ينبغي القيام للداخل إذا جاء يسلم بل يسلم الناس عليه قعوداً لهذه الأحاديث التي عرفتموها الآن، ومن احتج بحديث سعد (قوموا إلى سيدكم فأنزلوه) فالرد عليه من وجهين أو أكثر. الأول: أنه عليه الصلاة والسلام قال: (قوموا إلى سيدكم) ولم يقل قوموا لسيدكم. الوجه الثاني: أنه قال: (فأنزلوه) ولم يقصد القيام مطلقاً. فإن سألتني: ما هو الفرق بين (قوموا له) (وقوموا إليه)؟ ف A أن القيام للشخص إذا دخل عليك وقمت له كما يفعل كثير من الناس اليوم، فهذا هو الممنوع، أما القيام إلى الرجل فهو أن تقوم للشخص الداخل لتفتح له الباب مثلاً، أو تأخذ له طريقاً في البيت حتى يدخل مثلاً، أو أن يكون الرجل قادماً من سفر فتقوم إليه لتعانقه، لأنه لا يمكن أن تعانقه وهو قائم وأنت جالس، لا بد أن تقوم إليه لتعانقه وهو قادم من السفر، فهذا يسمى: القيام إلى الرجل، وكذلك قيام المرأة إلى المرأة، أما الأول الذي يحصل في المجالس اليوم فيسمى القيام للداخل وليس إلى الداخل. إذاً: إذا قمت إلى الداخل فقيامك صحيح مشروع بأدلة، منها: فعل طلحة بن عبيد الله في حديث توبة كعب بن مالك في البخاري ومسلم أن الراوي قال: [فقام إليه طلحة] طلحة لما دخل كعب المسجد، قام طلحة ليمشي إلى كعب ليهنئه بالتوبة، فقام إليه ولم يقم له. وأما القيام عليه وهو النوع الثالث فهو محرم أيضاً، وهو قيام العبد على رأس سيده، أو الموظف على رأس رئيسه، يقوم عليه مثل الصنم أو التمثال؛ لأن هذا فيه زيادة تعظيم غير مشروعة، ولا ينبغي القيام إلا لله عز وجل: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6]، ولا أقصد وقوف العارض، كأن يأتي يعطي معاملة لرجل فيقف عنده حتى ينتهي، لا، إنما أقصد قيام التعظيم، رجل يقف هكذا مثل الصنم، فهذا لا يجوز، إلا كما ورد في استثناء قيام الناس أو المسلمين على رأس خليفتهم أمام الكفرة؛ حتى يظهروا للكفار عظمة خليفة المسلمين كما فعل الصحابة وهم واقفون على رأس الرسول صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية أمام الرجل الكافر. هناك فتوى لـ شيخ الإسلام رحمه الله لما سئل عن القيام للداخل؟ فقال: أن الأصل عدم القيام، ولكن لو أن الرجل من الناس خاف، إذا دخل رجل ولم تقم أن يكون عدم قيامك سبباً في إيقاع العداوة والبغضاء بينك وبينه، يقول شيخ الإسلام: فإذا خشيت وقوع العداوة والبغضاء بينك وبين هذا الرجل فإنك تقوم اضطراراً وليس اختياراً، من باب الضرورة، مثل: أكل الميتة في الصحراء، ومن باب ارتكاب أدنى المفسدتين، قيامك له مفسدة لا يجوز، وعدم القيام إذا كان سيأخذ عليك في نفسه وتقع العداوة والبغضاء بينك وبينه مفسدة أكبر فيها تفرقة بين المسلمين فعند ذلك تقوم له، ولكنك تعلمه السنة بأنه لا ينبغي القيام. مراعاة أحوال الناس مهمة، تطبيق الأحكام الشرعية يجب أن يكون من حال الناس وواقعهم، ولا يصح أن يكون تطبيق الأحكام بعيداً عن أحوال الناس، ولذلك كان من القواعد الأصولية المهمة أن الفتوى تتغير باختلاف الأحوال والأشخاص والأزمنة والأمكنة والعوائد والنيات.

حكم سعد بن معاذ على بني قريظة

حكم سعد بن معاذ على بني قريظة لما أصيب سعد رضي الله عنه في يده قال ابن سعد رحمه الله في الطبقات الكبرى: أخبرنا وكيع بن الجراح، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة، قال: رمي سعد بن معاذ في أكحله فلم يرقأ الدم، حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم فحسمه، أي: كياً بالنار كوى له الجرح، فارتفع الدم إلى عضده، قال: فكان سعد يقول: [اللهم لا تمتني حتى تشفني من بني قريظة] قال: فنزلوا على حكمه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (احكم فيهم، قال: إني أخشى يا رسول الله! ألا أصيب فيهم حكم الله) انظر تحرز سعد رضي الله عنه قال: يا رسول الله أنت تحكمني فيهم أنا أخشى ألا أصيب فيهم حكم الله، تورع، وليس كما هو حال المتفيقهة اليوم الذين لم ترسخ أقدامهم في العلم فإنهم يسارعون إلى الفتيا بغير دليل بغير سلطان بغير أثر من كتاب الله ولا من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لا يخشون الله تعالى فيما يصدرونه من فتاوي أو أحكام، فإن أخذ الدين يجب أن يكون عن الخبراء به، قال تعالى: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} [الفرقان:59] {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء:7]، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (احكم فيهم) قال: فحكم أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أصبت فيهم حكم الله) ثم عاد الدم فلم يرقأ حتى مات رضي الله عنه. وهناك رواية أخرى صحيحة عن رجل من الأنصار قال: (لما قضى سعد بن معاذ في بني قريظة رجع، فانفجرت يده دماً، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأقبل في نفر معه، فدخل عليه فجعل رأسه في حجره، فقال: اللهم إن سعداً قد جاهد في سبيلك، وصدق رسلك، وقضى الذي عليه، فاقبل روحه بخير ما تقبلت به الأرواح).

وفاة سعد بن معاذ واهتزاز عرش الرحمن

وفاة سعد بن معاذ واهتزاز عرش الرحمن وهناك حديث آخر ساقه الذهبي في سير أعلام النبلاء، قال المعلق: رجاله ثقات، وأخرجه ابن سعد في الطبقات، عن شعبة، عن سماك أنه سمع عبد الله بن شداد يقول: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على سعد وهو يكيد نفسه فقال: (جزاك الله خيراً من سيد قوم، فقد أنجزت ما وعدتهم، ولينجزنك الله ما وعدك). وقد جاء عند الإمام أحمد رحمه الله والحديث الصحيح: (لما أصيب أكحل سعد يوم الخندق فثقل، حولوه عند امرأة يقال لها: رفيدة، وكانت تداوي الجرحى). أيها الإخوة: إن للنساء في المجمع الإسلامي دور عظيم لا يجب أن يغفل عنه، وحتى النساء أنفسهن لا يصح أن يغفلن عن دورهن أبداً، هذه المرأة رفيدة يقول ابن إسحاق عنها: كانت تداوي الجرحى، وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين. هذه المرأة التي يقال لها: رفيدة كانت تحتسب الأجر عند الله عز وجل في خدمة من نزل به مصيبة من المسلمين، رجل جريح يحتاج إلى مداواة، أو أيتام يحتاجون إلى رعاية، أو أسرة تحتاج إلى معين، كانت هذه المرأة تتدخل، تحتسب بنفسها عند الله عز وجل خدمة لهذه الأسر المسلمة المنكوبة. إذاً: ينبغي على نسائنا اليوم أن يقمن بدورهن في خدمة المجتمع المسلم والقيام على أحواله، بإصلاح ذات البين بين المتخاصمين، وهذه نقطة مهمة، فإن كثيراً من النساء يشعلن الفتنة بدلاً من أن يخمدنها بالنميمة ونقل الكلام من طرف إلى آخر، بينما يجب عليهن أن يقمن بدور المصلحات بين المتخاصمين والمتخاصمات، فإذا كان رجل وامرأة بينهما مشكلة، على النساء الخيرات اللاتي يخفن من الله أن يقمن بدور الإصلاح، المرأة مع المرأة، والرجل مع الرجل يُصلح ذات البين حتى يعاد عود الأسرة قائماً، فلا تنهار الأسر ويتشتت الأطفال. النساء اليوم يعرفن عن خبايا البيوت أكثر من الرجال، يعرفن عن أيتام، ويعرفن عن أرامل، ويعرفن عن فقراء ما لا يعلمه كثير من الرجال، فيجب على النساء أن يقمن بدورهن في إبلاغ من له أمر في هذه الأمور، أن ينقذ هؤلاء البؤساء من الفقر المدقع، والهلكة المحققة: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد:14 - 16]. المرأة لها دور عظيم ليس هذا موقف الاستطراد فيه، ولكن الإشارة من خلال قصة هذه المرأة رفيدة التي كانت تداوي الجرحى، فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا مر به يقول: (كيف أمسيت؟ وإذا أصبح قال: كيف أصبحت؟) فيخبره سعد بحاله، حتى كانت الليلة التي نقله قومه فيها، فثقل فاحتملوه إلى بني عبد الأشهل، وكانت حالته خطيرة جداً، و (جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان يسأل عنه، وقالوا: قد انطلقوا به، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرجنا معه، فأسرع المشي حتى تقطعت شسوع نعالنا) الرسول صلى الله عليه وسلم يسرع يريد أن يدرك سعد بن معاذ قبل أن يموت، وسقطت أرديتنا عن أعناقنا، فشكا ذلك إليه أصحابه، قالوا: يا رسول الله! تسرع بنا سرعة شديدة، يا رسول الله! أتعبتنا في المشي، فقال: (إني أخاف أن تسبقنا الملائكة إليه فتغسله كما غسلت حنظلة) فانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البيت وهو يغسل وأمه تبكيه، وهي تقول: ويل أمك سعداً، حزامة وجداً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل نائحة تكذب إلا أم سعد) ثم خرج به، قال: يقول القوم أو من شاء الله منهم: (يا رسول الله! ما حملنا ميتاً أخف علينا من سعد -مع أن سعداً كان عظيم الجسم بديناً- فقال: ما يمنعكم من أن يخف عليكم وقد هبط من الملائكة كذا وكذا -يقول الراوي: سمى عدة كثيرة لم أحفظها- لم يهبطوا قط قبل يومهم، قد حملوه معكم) الملائكة تحمل الجنازة، لذلك صارت جنازة سعد خفيفة على المسلمين، قال الألباني: وإسناده صحيح، ورجاله كلهم ثقات، ومحمود بن لبيد صحابي صغير. وورد في حديث صحيح آخر في صحيح الجامع أخرجه النسائي: عدد الملائكة الذين نزلوا من السماء لتشييع جنازة سعد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (هذا العبد الصالح الذي تحرك له العرش، وفتحت له أبواب السماء، وشهده سبعون ألفاً من الملائكة، لم ينزلوا إلى الأرض قبل ذلك لقد ضم ضمة - أي: في قبره- ثم أفرج عنه) سبعون ألف من الملائكة ما نزلوا من قبل، نزلوا لتشييع جنازة سعد بن معاذ، وفتحت له أبواب السماء، واهتز له عرش الرحمن، وقد ورد في رواية صحيحة سبب اهتزاز عرش الرحمن، وهذه مسألة قد يفكر فيها الكثير، وفي السلسلة الصحيحة المجلد الثالث بإسناد جيد من حديث الإمام أحمد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اهتز العرش لموت سعد بن معاذ من فرح الرب عز وجل) الله عز وجل إذا قدم عليه أحد من عباده الصالحين الذين أبلوا في الله بلاءً حسناً، فإن الله عز وجل يفرح فرحاً شديداً بقدوم عبده عليه، يفرح بقدوم عبده أشد مما يفرح أحدنا بقدوم الغائب العزيز عليه من مكان بعيد، وقد طالت فترة الغياب، إن الله يفرح بقدوم عبده عليه، لماذا أيها الإخوة؟ لكي يجازيه الجزاء الأوفى. هؤلاء المسلمون الصادقون الأوفياء يتعبون في الدنيا، وينصبون كثيراً، يتعبون كثيراً ويؤذون في الله، والله عز وجل ينتظرهم بفرح شديد لكي يكافئهم فيستريحوا من عناء الحياة الدنيا، ويستريحوا من لأوائها ونصبها وتعبها، يستريحوا عند الله تعالى، هذا الفرح ليس لأي أحد! إنه لأناس آمنوا بالله وصدقوا المرسلين، أبلوا في الله بلاءً حسناً، وقالت عائشة رضي الله عنها تبين الفراغ والقيمة، قيمة فقد سعد بن معاذ، والحديث في فضائل الصحابة من تأليف الإمام أحمد قال المحقق: إسناده حسن عن عائشة رضي الله عنها، قالت: (ما كان أحد أشد فقداً على المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه أو أحدهما من سعد رضي الله عنه) ما شعر المسلمون بمصيبة في فقد أحدٍ منهم بعد الرسول وأبي بكر وعمر بعدهم مباشرة كـ سعد بن معاذ رضي الله عنه. إن رحيل الأخيار عن الأرض وعن المجتمع المسلم يترك فراغاً مؤثراً في الأمة إن رحيل الكبار يترك فراغاً في النفوس، وألماً لفقد هؤلاء الذين كانوا في حياتهم مشعلاً يستضيء به الناس، وقدوة يحتذي بها المسلمون، فلذلك فإن إحياء ذكراهم، ونشر سيرتهم العطرة من أقل الواجبات تجاههم، ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغل وفاة سعد بن معاذ حتى في توضيح نعيم الجنة، فانظر معي إلى هذا الحديث الذي رواه الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه، عن أبي إسحاق، قال: سمعت البراء رضي الله عنه يقول: (أُهديت إلى النبي صلى الله عليه وسلم حلة حرير فجعل أصحابه يمسونها ويعجبون من لينها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتعجبون من لين هذه؟! لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير من هذه وألين).

حال الصحابة بعد موت سعد بن معاذ رضي الله عنه

حال الصحابة بعد موت سعد بن معاذ رضي الله عنه لقد كان صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم إذا ذكروا سعداً بكوا بكاءً شديداً على تلك السيرة التي فقدت، فهذا الحديث الذي يرويه الإمام أحمد في كتاب: فضائل الصحابة بإسنادٍ صحيح، عن واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ، حفيد سعد بن معاذ قال: دخلت على أنس بن مالك، فقال لي: من أنت؟ قلت: أنا واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ، وكان واقد من أحسن الناس وأعظمهم وأطولهم، الحفيد كان يشبه جده، فقال أنس: إنك لـ سعد لشبيه، ثم بكى وأكثر البكاء، ثم قال: رحمة الله على سعد! كان من أعظم الناس وأطولهم، ثم قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وساق قصة هذه الجبة من الحرير، وأخبر بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مناديل سعد في الجنة أعظم من هذا الحرير بكثير. وهنا أيها الإخوة! أختم لكم بوصف عائشة رضي الله عنها لحال الصحابة عند موت سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه بين أيديهم. تقول عائشة: قال سعد بعد ما حكم في بني قريظة: [اللهم إن كنت أبقيت على نبيك من حرب قريش شيئاً فأبقني لها، وإن كنت قطعت الحرب بينه وبينهم فاقبضني إليك، قالت: فانفجر كلمه] هذا ليس دعاء على نفسه بالموت، لأنه قال في إحدى الروايات: [فافجر جرحي هذا] أو [افجر هذه واجعل موتتي فيها] سعد رضي الله عنه جرح في المعركة، فأراد ألا يفوته أجر الشهادة في سبيل الله، فدعا الله أن يميته من هذا الجرح الذي حصل له وهو يقاتل في سبيل الله، فانفجر كلمه وكان قد برئ حتى لا يرى إلا مثل الخدش. لما قضى سعد في بني قريظة وقتلوا، ودعا سعد الله قال: [اللهم إن كان بقي من حرب قريش شيء فأبقني لهم] لكن لم يبق شيء من الحروب التي كان سيكون للمشركين فيها شأن، وما بقي من الحروب كان كله انتصارات للمسلمين. [فاستجاب الله دعاءه؛ فانفجر كلمه، ورجع إلى قتبه الذي ضرب عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، قالت عائشة: فحضره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر، قالت: فو الذي نفس محمد بيده إني لأعرف بكاء عمر من بكاء أبي بكر وأنا في حجرتي -هي في حجرتها والخيمة في المسجد في الساحة- وكانوا كما قال الله عز وجل: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29]. قال علقمة: قلت: أي أمه! فكيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع؟ قالت: كانت عينه لا تدمع على أحد ولكنه إذا وجد فإنما هو آخذ بلحيته] كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا وجد أمراً حزيناً كان يأخذ بلحيته كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتمالك نفسه، وهذا الحديث في السلسلة الصحيحة في المجلد الأول. إذاً: أيها الإخوة! هذا الموقف يعكس لنا حب الصحابة لبعضهم يعكس لنا تماسك المجتمع الإسلامي يعكس لنا أثر الفرد في المجتمع الإسلامي يعكس لنا رحمة الصحابة فيما بينهم، هذا المثل الذي يجب أن يكون قدوة لنا نحن الآن ونحن نعيش في مجتمع، نحاول أن نعيش في مجتمع من الأخوة الإسلامية، كثيرٌ من الناس اليوم فقدوا معاني الأخوة الإسلامية فقدوا الترابط فقدوا الحنان والعطف فيما بينهم فقدوا حسن الأخلاق والمعاملة فقدوا سؤال بعضهم عن بعض، فقدوا أشياء كثيرة. إن هذه القصص كفيلة إن شاء الله بأن تعيد إلينا جميعاً روح الأخوة الإسلامية الصحيحة التي تربط بين أفراد المجتمع المسلم حتى تجعله جداراً صامداً أمام سهام الأعداء ومخططاتهم وفقنا الله وإياكم لهدي كتابه وأن نسير عليه سيراً حسناً. اللهم واجعلنا ممن يقتفون آثار نبيك وصحبه عليهم رضوان الله تعالى، ونسأل الله عز وجل أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعل هذه الكلمات عوناً لنا في درب طاعته، وصلى الله وسلم على نبينا محمد. سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

عبر من قصص النساء في القرآن

عبر من قصص النساء في القرآن أورد الشيخ -حفظه الله- قصصاً لنساء وردت قصصهن في القرآن، وذكر العبر المستفادة من هذه القصص، وما يجب على المرأة المسلمة عمله تجاه هذا المجتمع، فإن أسلافها قد قمن بالكثير من الأدوار عبر العصور المختلفة، فهي على ثغرة من ثغرات الدين، فالله الله أن يؤتى الإسلام من قبلها.

ما يتطلبه الواقع من المرأة المسلمة

ما يتطلبه الواقع من المرأة المسلمة الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: أيتها الأخوات المستمعات! السلام عليكن ورحمة الله وبركاته وبعد: فهذه فرصة طيبة أن نلتقي من وراء حجاب لنتدارس وإياكن بعض الأمور التي تهم المرأة المسلمة، والمرأة المسلمة أصبح ما يطلب منها في هذا الزمن كثيرٌ جداً، وما يُتوقع منها أكثر، ونسأل الله أن يعيننا أجمعين على مواجهة مسئولياتنا. وما يتطلبه الواقع الإسلامي اليوم من المسلمين رجالاً ونساء أن يكونوا على مستوى الأحداث، وأن يكونوا على مستوى الواقع الذي نحيا فيه، هذا الواقع الذي يعيش فيه المسلمون غربتهم الثانية وهم ينتظرون فرج الله عز وجل بعودة الحياة الإسلامية إلى بلاد المسلمين، هذه العودة التي تتطلب جهوداً كبيرة وسعياً حثيثاً سيسألنا الله عز وجل عنه يوم القيامة، سيسألنا عن هذا الكتاب، وسيسألنا عن هذا النبي، وسيسألنا عن هذا الدين ماذا عملنا من أجله؟ وماذا ضحينا في سبيله؟ وهل سعينا لنصرته وإقامة هذا الشرع المطهر؟ ولأجل ذلك صار الواقع يتطلب أن تقوم المرأة المسلمة بمجهود كبير في مواجهة هذه الحياة من القيام بالواجبات إحياء الشريعة الالتزام بإحكام الدين مواجهة الانحرافات المتفشية، خصوصاً وأن المرأة المسلمة واقعها صار مخترقاً من كثير من أعداء الدين في قضايا الحجاب والفواحش وضياع الأوقات، وكثير من المعاصي التي حصلت ممن انحرفن من الكثيرات من المسلمات عن شرع الله. والآن تشهد الساحة الإسلامية ولله الحمد عودة مباركة طيبة إلى هذا الدين؛ لم تقتصر على مجال الرجال أبداً، بل إن العودة في مجال النساء قد تفوق في بعض المواقع الرجال ولله الحمد والمنة، ولا بد في هذه الصحوة من تقديم المنهج الصحيح للمرأة المسلمة حتى تسير عليه ويبين للمرأة المسلمة ما هو المطلوب منها في هذا الوقت. وشخصية المرأة المسلمة من الأمور المهمة التي يجب تكوينها، وعند تكوين شخصية المرأة المسلمة لا بد من الرجوع في هذا التكوين إلى المراجع الأصيلة، وعلى رأس هذه المراجع -ولا شك- كتاب الله عز وجل، ومن هذا المنطلق سنتكلم في هذه الليلة في حديث عن المرأة في القرآن الكريم. لقد وردت أيتها الأخوات الكريمات سيرة المرأة في القرآن الكريم في عدة مواضع دالة على ما أولاه هذا الدين لهذه المرأة وعلى ما أعطاها من الرعاية والاهتمام البالغين، انظرن مثلاً في هذه القصص التي نسردها الآن مع بعض تحليلات وذكر للعبر منها.

امرأة عمران تبني بيتها

امرأة عمران تبني بيتها إن على رأسها قصة امرأة عمران التي تطالعنا في سورة آل عمران، شخصية المرأة المسلمة المرأة المؤمنة التي تبدأ في تكوين البيت المسلم بداية من الحمل. إن رعاية هذا الطفل والقيام عليه من الأمور المنوطة بالمرأة ولا شك، وتحتاج إلى جهد بالغ؛ ولذلك فإن امرأة عمران قالت: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [آل عمران:35]. ثم لما وضعت حملها، قالت: {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران:36]. أولا: ً ملاحظة كيف أن هذه المرأة المسلمة رضيت بما آتاها الله عز وجل، لم تسخط أن آتاها أنثى كما تفعل كثير من النساء، تريد ذكراً لأن زوجها يريد ذكراً؛ لأن المجتمع يطلب منها أن تأتي بذكر؛ لأن أمها وأباها وأم زوجها وأبا زوجها والجميع ينتظرون ذكراً، ولكن ليس دائماً تأتي الأمور بما تشتهي النفوس، وبذلك فإن امرأة عمران قد وضعت أنثى ولكنها امرأة تعرف ربها، وتعرف بأنه يجب عليها أن ترضى بالقضاء والقدر وبما قسم الله لها، ولذلك قالت: {إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} [آل عمران:36] والصحيح أنها تعترف بالقاعدة تعترف بقضية ليس الذكر كالأنثى، ولكن هذا قدر الله، ماذا تفعل؟ أتمسكه على هون؟! أتدسه في التراب؟! كلا.

حسن اختيار الاسم للمولود

حسن اختيار الاسم للمولود انتقت الاسم المناسب، {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} [آل عمران:36] الاسم الجيد لهذه المولودة. وإنني أقول لكن أيتها النساء: إنه قد حدث من الخلط في قضية التسمية من البعد عن شريعة الله أمورٌ كثيرة في المجتمع، فقد رأينا نساءً سمين بناتهن بأسماء أجنبية، رأينا من سمت ابنتها: سوزان، ورأينا من سمت ابنتها: مايا، ورأينا من سمت ابنتها: ليندا، ورأينا من سمت ابنتها: سالي، وغير ذلك من الأسماء التي جاءت من بلاد الكفار، ورأينا من انتقت لابنتها اسماً تافهاً يدل على تفاهة ما تفكر به هذه المرأة من الواقع، اسماً مقتبساً من كثير من المسلسلات والمسرحيات التي تذكر فيها أسماء الدلع لكثير من النساء فيها، وبعد ذلك تكبر هذه البنت لكي تنادى وهي جدة بذلك الاسم التافه الذي ألصق بها. إن الجرائم والذنوب من الممكن أن تمحى ومن الممكن أن يزول أثرها، ولكن الاسم باقٍ ومشهور، فإذا تفشى بين الناس وانتشر فكيف يُغير؟! لا يُغير بسهولة، فلا بد من البداية أن يحصل رفع شعار الإسلام بتسمية المواليد تسمية إسلامية.

دعاء الوالد لولده

دعاء الوالد لولده ثم الدعاء لهذه المولودة: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران:36] ليس الدعاء لها هي فقط وإنما الدعاء لذريتها، هل تفقه الأم المسلمة في هذا الزمان أهمية تعويذ الطفل من الشيطان والدعاء له حتى لا يتسلط عليه الشيطان؟ فإذا أخلصت الأم المسلمة فإن الله سيتقبل وليدها بقبول حسن، ألم يقل الله عن امرأة عمران: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً} [آل عمران:37]. بعض النساء تظن أن الأخذ بالأسباب البشرية في التربية كافية، ولا لجوء إلى الله، وهذا جهل فظيع، فإن بعض الناس يبذلون من الأسباب الكفيلة لصلاح الأولاد شيئاً عظيماً ومع ذلك لا يصلح الأولاد، لماذا؟ لم يكن هناك لجوء إلى الله بالدعاء، فما معنى قوله عز وجل: {وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} [آل عمران:37]؟! إن الله سبحانه وتعالى قد رعى هذه البنت وجعلها تنبت في منبت حسن، جعلها تنشأ على طاعته عز وجل متمسكة بشرعه، حفظها من السوء ومن أهل السوء، بل إن الله قيَّض لها رجلاً كريماً شريفاً عفيفاً إنه نبيٌ وهو زكريا عليه السلام، صار يكفلها، كفلها زكريا وجعل أمر رعايتها إليه، ألقوا الأقلام، وجعلوا يستهمون من يكفل مريم، فكانت من حظ ونصيب زكريا عليه السلام: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً} [آل عمران:37].

شخصية مريم المؤمنة العابدة

شخصية مريم المؤمنة العابدة ننتقل الآن إلى شخصية أخرى من الشخصيات، وهي: مريم المسلمة المؤمنة العابدة القانتة الطائعة لربها، التي جعلت لها محراباً تصلي فيه وتعبد ربها، ومحراب المرأة أيتها النساء في قعر بيوتهن، كلما كان أعمق في البيت كلما كان أفضل، تصلي فيه الفرائض والنوافل تجلس لتقرأ القرآن، وتحاول أن تقوم بهذه العبادات لله عز وجل كما أمرها الله سبحانه وتعالى، ولذلك يقول الله: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:42]. مسألة الاصطفاء بين النساء تحتاج إلى دراسة ونظر، هناك من النساء كافرات ولا شك، فأنت أيتها المسلمة بالنسبة لتلك الكافرة في نعمة وهذا اصطفاء من الله، وعندما تكون المرأة المسلمة طائعة لله فإنها قد اصطفيت على تلك المسلمة العاصية، وعندما تكون المرأة المسلمة متعلمة العلم الشرعي تكون مقدمة ومصطفاة على بقية النساء اللاتي عندهن خير وصلاح ولكن ليس لهن نصيب من العلم الشرعي فلا يعرفن أحكام العبادات، وعندما تكون المرأة تدعو إلى الله على بصيرة بين بنات جنسها تتنقل وتعظ وتنصح وتبين وتوجه وترشد وتسدد، تقدم الخير في كل مكان كما أمر الله، دون تكشف أو تبرج أو كثرة الخروج من البيت، إنما إذا كانت طالبة تنصح في وسط الطالبات، وإذا كانت مدرسة تنصح وسط المدرسات والطالبات، وإذا كانت إدارية في جميع المدرسة تقوم بالنصح، وإذا كانت أُمّاً فهي القائمة بأمر البيت وهكذا فهي تستغل المناسبات، والمناسبات النسائية كثيرة تستغلها في الدعوة إلى الله، وتقديم الكتيبات الإسلامية، وإيصال الشريط الإسلامي النافع، وينبغي أن يوصل إلى المرأة المسلمة كثيراً من العلم الموجود في هذه الوسائط التي تنقل العلم، لأن هناك جهلاً كبيراً لا يمحوه إلا نشر العلم الشرعي بين النساء، نشر فتاوى أهل العلم، ثم انظرن أيتها الأخوات الكريمات لمريم التي دعت لها أمها، ودعاء الوالدة مستجاب ولا شك، فثلاث دعوات مستجابات ومنهن (دعوة الوالد لولده)، وفي رواية: (دعوة الوالد على ولده) سواء دعا له بالخير أو دعا عليه بالشر، فإن دعاءه مقبول لعظم منزلته. أيتها الأمهات! لماذا تدعين على أولادكن بالشر؟! لماذا تدعين عليهن وعليهم بأن يأخذهم الله، أو يريح منهم أو يخزيهم ونحو ذلك مما نسمع كثيراً من دعاء بعض الأمهات على أبنائهن؟ لا تدعين على أنفسكن ولا على أولادكن إلا بالخير، لأن الملائكة تؤمِّن على دعاء الوالدين، ولذلك نشأت هذه البنت التي دعت لها أمها طائعة، انظروا إلى قوله تعالى: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران:43] فلما أحصنت فرجها، وابتعدت عن الحرام من ناحية التكشف والتبرج ابتعدت عن الحرام من ناحية الاختلاط بالرجال الأجانب ابتعدت عن الحرام من ناحية الكلام مع الرجال الأجانب دون داع ابتعدت عن الحرام بكافة صوره وأشكاله، عند ذلك حدثت الكرامة من الله: {إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [آل عمران:45]. كثيرٌ من النساء يهبهن الله أولاداً صالحين بسبب صلاح الأم. إذاً: المرأة المسلمة تحتاج إلى عبادة المرأة المسلمة تحتاج إلى الإكثار من الصلوات، والنوافل، والصيام وبالذات عندما تكون في فترة الطهر، ينبغي للمرأة أن تستغل فترة طهرها بالإكثار من العبادات، لأنها تعلم أنه يأتي عليها وقت حيض لا تستطيع فيه الصلاة ولا الصيام، ولذلك فهي تقدم لنفسها خيراً فتنتهز هذا الوقت لاستغلاله في طاعة الله في هذه الفروض، ولو أنها حاضت وأتتها الدورة فهذا لا يعني أن تكف عن العبادة ولا أن تتوقف عنها، فإن الله قد شرع من الأذكار المختلفة والأعمال الصالحة غير الصلاة والصيام ما تستطيع المرأة أن تقوم به ولو كانت في فترة العادة، ولذلك لا تنقطع المرأة عن العبادة مطلقاً.

مواجهة يوسف لفتنة امرأة العزيز

مواجهة يوسف لفتنة امرأة العزيز لننتقل إلى قصة أخرى من قصص النساء في القرآن الكريم، وهي قصة مختلفة نوعاً ما إنها قصة المرأة التي راودت يوسف عن نفسه، هذه المرأة التي حصل أن خانت زوجها ورأت في ذلك الخادم مليح الوجه حسن الشكل جميل الصورة، إنه كان بالنسبة لها فتنة، ولذلك فقد أعدت العدة لجعل المكان ملائماً ومناسباً للوقوع في الفاحشة ولا حول ولا قوة إلا بالله، ولذلك لما فتنها هذا الغلام في بيتها فإن إيمانها قد تلاشى في تلك اللحظات وخططت للجريمة وللفاحشة. إننا أيتها الأخوات يجب أن نفرق بين الشر العشوائي الذي أتى هكذا وبين الشر الذي جاء نتيجة تخطيط وترتيب، إن الشر الذي يأتي نتيجة تخطيط وترتيب ليدل على أن صاحبته عندها من البعد عن شريعة الله وقسوة القلب ما يجعلها تخطط للشر سلفاً ما يجعلها تهيئ للأمر سلفاً ما يجعلها تعد العدة لمعصية الله، كما يفعل كثيرٌ من السفهاء عندما يسافرون إلى الخارج في العطل ونحن مقدمون على عيد، والناس في العادة يسافرون في هذا العيد إلى البلدان المجاورة، إلى أين يذهبون؟ إلى مساجد إلى مراكز إسلامية إلى دروس إلى زيارة أناس في الله إلى زيارة أقاربهم؟! كلا. إن الأمر مختلف، إنهم كثيراً ما يذهبون لمعصية الله، والتجول هنا وهناك، سياحة زعموا! وهي مليئة بالمنكرات. إنني أقول: إن التخطيط للفساد الموجود عند بعض الأسر وبعض النساء مصيبة عظيمة ينبغي أن يُقضى عليه، وينبغي أن تستبدل المعاصي بطاعات يخطط لها، بدلاً من أن نخطط لسفرية فيها من المعاصي ما لا يعلمه إلا الله نخطط لرحلة حج، لرحلة عمرة، لزيارة أرحام، لزيارة أقرباء، لا بأس أن نذهب للفرجة والترويح عن النفس أو التسلية، لكن إلى أماكن ليس فيها منكرات إلى أماكن ليس فيها تبرج إلى أماكن ليس فيها اختلاط، قد تقولين لي: إن هذه الأماكن نادرة؟ أقول لكِ: نعم: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} [الطلاق:2].

جرأة امرأة العزيز على الفاحشة

جرأة امرأة العزيز على الفاحشة هذه المرأة في سورة يوسف لما افتتنت بهذا الغلام الجميل، ماذا فعلت؟ إنها غلقت الأبواب، وأخلت المكان وتفردت بهذا، ثم قالت له: هيت لك. عجباً! إن الرجل في العادة هو الذي يدعو المرأة إلى الفاحشة، ولكن الذي حصل في هذه القصة أن المرأة هي التي دعت هذا الذكر للفاحشة ليفجر بها. إذاً: هذا دال على زوال الحياء بالكلية، وعلى مدى ما وصل إليه الأمر من الافتتان، ولذلك فإننا نقول: ما ترك صلى الله عليه وسلم بعده فتنة أضر على الرجال من النساء. والمسألة لا يمكن حلها إلا بالعمل على جهتين: إصلاح الرجل، وإصلاح المرأة. الرجل لو صلح لم يدع المرأة إلى الفاحشة، ولم يختلِ بها أصلاً، والمرأة لو صلحت لن تخلو به ولن تستجيب له ولو دعاها، ولذلك فإن الإصلاح لا بد أن يسير على محورين اثنين: إصلاح المرأة، وإصلاح الرجل، يسير الإصلاحان جنباً إلى جنب، المهم أنها لم تكتفي بأن أخلت المكان وغلقت الأبواب، وخانت زوجها، ودعت يوسف إلى السوء والفحشاء، ولكن لما رفض يوسف هل ارعوت؟ هل أنزجرت؟ كلا. إنه صار يهرب منها وهي تطارده، ولما طاردته وجاء زوجها ووصل، هل اكتفت بما فعلت؟ كلا. بل إنها أضافت إلى جرمها وجرائمها جرماً آخر، ألا وهو الافتراء على الأبرياء والقيام بالبهتان ما هو البهتان؟ إنه إلصاق تهمة ببريء إنه نسبة جرم إلى شخص هو منه بريء، ولذلك فإن هذه المرأة بلغ بها الكيد أن قلبت المسألة في الحال واللحظة، زوجها داخل من الباب وهي تطارد يوسف، فجأة توقفت وغيرت الموضوع، فقالت: {مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يوسف:25] فوضعت التهمة على يوسف وهو البريء، ولذلك فإن القذف من أخطر الأمور، ورمي الرجل بجرم وهو منه بريء من قبل امرأة هو عبارة عن ذنب واضح كما فعلت امرأة هذا العزيز بيوسف عليه السلام. صحيح أن المرأة يُفترى عليها أيضاً كما حصل لـ عائشة عندما افترى عليها المنافقون، ولكن نأخذ الدرس نحن في هذا المقام من هذا التلفيق الحاصل الذي هو نتيجة لكيد النساء أحياناً إذا لم يتقين الله. يا ترى! هل اكتفت المرأة بهذا الأمر؟ كلا. لما سمعت النسوة في المدينة يتبادلن الأحاديث وتشيع الشائعات عنها وعن يوسف وقد شغفها حباً، وقول النساء: {إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يوسف:30] أرادت بحيلة ماكرة خبيثة أن تستعين بالنساء على يوسف، فجمعتهن وأخرجته عليهن، وحصلت القصة المعروفة، ثم قالت متبجحة: {وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} [يوسف:32] اعترفت، هل توقفت؟ كلا. لم تستعن فقط بكيد النسوة، وكيد النسوة كان عظيماً على يوسف، حتى قال لربه: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ} [يوسف:33] جميعاً، أي: صار الكيد مجتمع على يوسف، هل اكتفت؟ كلا. بل إنها هددته بالسجن إذا لم يفعل بها الفاحشة -والعياذ بالله- فماذا قالت للنسوة: {وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلِيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ} [يوسف:32] وفعلاً دخل يوسف البريء السجن مظلوماً بافتراء امرأة عليه.

فضيلة رجوع المرأة عن خطئها

فضيلة رجوع المرأة عن خطئها نقول: درس مهم جداً في تحصين المرأة نفسها من الرجال الأجانب، هناك خدم في البيوت وكثيرٌ من السائقين، وهؤلاء مصدر فتنة، وينبغي للمرأة أن تعلم جيداً أن المحافظة على العرض سواء كان للزوج أو على عرضها أن هذا من أساسيات الأمور، ولكن ينبغي ألا نقف عند هذا الحد، بل ينبغي أن نستعرض ما وصل حال المرأة إليه، لأن الله سبحانه وتعالى قد يغير الأحوال، ويبدل الضلال بهدى، وقد يأتي بعد الضلال بهدىً من عنده سبحانه وتعالى، ولذلك فإن هذه المرأة قد منَّ الله عليها بنوع من الهداية والصدق، وذلك أنها اعترفت وقالت في نهاية القصة لما حصل الاستجواب من الملك: {الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف:51]. إذاً: أيتها المرأة المسلمة! إن رجوعك عن الخطأ والاعتراف بالخطأ وقول الصدق هو من الأخلاق. كلنا خطاءون ولكن خير الخطائين التوابون، ولذلك فلا يكفي عندما يُتهم بريء من قبل امرأة أن البريء يخرج بريء، ولكن لا بد أن تعين المرأة التي اتهمته بتبرئته، وكثيراً الآن ما نلاحظ اتهامات من قبل النساء لأناس أبرياء سواء لنساء أخريات، أو سواء للرجال، وأعراض تلاك بالألسن ولا يعلم الإثم المترتب على حصائد هذه الألسن إلا الله عز وجل، واعتراف المرأة بأن الله مطلع عليها وبأن الله معها في كل وقت: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} [يوسف:52] ثم تقول: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف:53] لا أبرئ نفسي أبداً، إنني أخطأت: (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [يوسف:53]. لو أخطأت امرأة من النساء هل أغلق باب العودة؟ لو أخطأت امرأة بارتكاب ذنب أو جرم هل يعني أنها قد دخلت في عالم من الظلمة لا رجعة فيه أبداً إلى نور الحق؟ كلا. إنك أيتها الأخت المسلمة إذا تبت إلى الله تاب الله عليك.

جدية التوبة بين صفوف النساء

جدية التوبة بين صفوف النساء نحن نلحظ الآن في المجتمع كثير من النساء يتبن إلى الله باستمرار وهذه حركة طيبة مباركة نسأل الله أن تستمر. نساء تبن من ترك الصلوات فانتظمن عليها، ونساء تبن من ترك الصيام فانتظمن عليه. وكنَّ في الماضي نساء يصمن وقت الدورة ولا يقضينها حرجاً من أهلهن، الآن يسألن ويقلن: ماذا نفعل؟ وكنَّ نساء في الماضي لا يقضين ما فاتهن من الصيام، ويسألن: ماذا نفعل؟ وكنَّ نساء لا يخرجن الزكاة ويسألن الآن: ماذا نفعل؟ وكنَّ نساء قد تركن الحجاب وتبرجن تبرج الجاهلية الأولى، وأظهرن أذرعتهن ووجوههن وطائفة من الشعر والقدم والخلاخيل والزينة بالثياب والحلي أمام الرجال الأجانب، وهن الآن يسألن: أين الطريق؟ وكيف نعود إلى الله؟ وهذا شيء يجب أن نكبره ونعظمه ونثني عليه ونمدح فاعلته، ما هو هذا الشيء؟ المرأة إذا تركت الحجاب ليس من السهل عليها أن ترجع إليه المرأة إذا تعودت على التكشف والتبرج ليس من السهولة أن تعود إلى الحجاب الكامل بعد ذلك، ولذلك فإن الحركة التي نشهدها الآن من كثير من النساء وحتى الشابات منهن في قضية ترك التبرج مع ما فيه من الاستمتاع المحرم الذي كان يحدث في الماضي، والعودة إلى ستر الأجزاء من البدن التي كانت تكشف من الماضي، أقول: إن هذه مسألة ينبغي أن نعظمها وأن نثني على فاعلاتها؛ لأن الحقيقة تدل على مجاهدة للنفس ليست بسيطة. وكنَّ نساء على علاقة خاطئة بكثير من الشباب الطائشين الماجنين بالهاتف أو غيره، فتبن إلى الله وجئن يسألن: أين الطريق؟ وكيف نعود؟ ونساءٌ كنَّ يقرأن في المجلات ويشاهدن المسلسلات التي تحرف المسلم وتدمر العقيدة والأخلاق وتنشئ الذهن على تقبل الاختلاط وتقبل ما يسمى بالحب البريء -والإسلام من هذا بريء- صرن يسألن الآن: كيف نستبدل أشرطة الأغاني والأفلام بالأشياء الإسلامية المفيدة؟ إنني أجد من خلال الصلاة في المسجد صفوفاً تتزايد من النساء في صلاة التراويح، وهذا دليل آخر على أن هناك في المجتمع كثيراً من النساء يردن العودة إلى الله فعلاً، وأظن أن هذه خطوة مباركة بدأت تؤتي ثمارها في هذا الزمان ولله الحمد والمنة، وقد كان في الماضي ليس على الاستقامة إلا عدد قليل من النساء مضطهدات يسخر منهن من بنات جنسهن. إن كثيراً من المظاهر الخاطئة بدأت تتلاشى ولله الحمد والمنة.

مريم واجتنابها للشبهات

مريم واجتنابها للشبهات ننتقل الآن إلى قصة أخرى، وهي استمرار لقصة مريم السابقة، إنها قصتها في سورة سميت باسمها إنها سورة مريم، لماذا سميت؟ لأن المرأة إذا تمسكت بمنهج الله فقد ترتفع فوق مستوى كثير من الرجال المسلمين (كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا أربع: مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام) مريم عليها السلام لا شك أنها أفضل من كثير من الرجال الصالحين، وأن منزلتها عند الله عالية يا ترى! بسبب أي شيء؟ إن الله قد أرسل إليها جبريل فنفخ في جيب درعها، فنزلت النفخة إلى فرجها فدخلت فصار هذا الحمل المبارك في بطنها رحمها الله ورضي عنها وأرضاها، ولكن هذه المرأة تواجه الآن مشكلة عويصة، إنها ليست متزوجة -كما يظهر للناس- وكذلك هي في الحقيقة، والناس قد لا يفهمون أن هذا خلقٌ خلقه الله في بطنها، بل إن الناس سيتبادر إلى أنفسهم ظن السوء، وسيقولون لمريم: أنت زنيتِ وفعلتِ الفاحشة، ولذلك فقد فرت مريم في البداية من الأمر وحاولت أن تتخفى عن الناس، {فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً} [مريم:22]، لأنها لا تريد الكلام من الناس، وهذا صحيح. ينبغي على المرأة المسلمة أن تبتعد عن مجالات التهمة، وإذا وجدت طريقاً تستطيع بواسطته حماية نفسها من كلام الناس ينبغي عليها أن تسلكه، لا يصلح للمسلم ولا للمسلمة أن يضع نفسه مواضع التهم وإنما يحاول أن يبرئ نفسه من كل ما يُلصق به. هذه مريم عليها السلام حاولت أن تتفادى نظر الناس: {فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم:22 - 23] وهنا تقول بكلمات منبعثة من نفس متأسفة من نفس تتحرك، وتخشى من كلام الناس عليها، فقالت: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً} [مريم:23] لماذا تمنت الموت؟ لأن الموقف شديد عليها، امرأة في بطنها ولد وهي ليست متزوجة، هنا الدرس: مريم بريئة وتتمنى الموت مع ذلك، وتقول: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً} [مريم:23] فماذا يكون الحال بالنسبة لبعض النساء -والعياذ بالله- اللاتي وقعن في الفاحشة وفي هذا الأمر المنكر وهن لا يشعرن بأدنى درجة من الندم؟ كيف ينبغي أن يكون الحال؟ والله سبحانه رحم مريم ونوديت من تحتها: {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً} [مريم:24 - 26] هذه نِعم من الله، ولذلك قال بعض أهل التفسير: إن الرطب من أنفع الطعام للمرأة النفساء. ثم أتت به قومها تحمله وهي صائمة عن الكلام كما أمرت فاتهموها: {مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} [مريم:28] من أين خرجت؟ هذا يدل على أن الناس يحكمون على المرأة من خلال البيت الذي تعيش فيه، فأشارت إليه، وعند ذلك تكلم عيسى عليه السلام وشهد ببراءة أمه، ولذلك نحن الآن نعلم أيتها الأخوات عظم الفرية التي يفتريها اليهود على مريم، فإنهم يقولون: إن مريم زانية، وإن عيسى ولد زنا، نستغفر الله العظيم من هذا البهتان، لنعلم ولتعلمن مدى ما وصل إليه ٍاليهود من الخبث والكيد لأنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

إيمان بلقيس ورجاحة عقلها

إيمان بلقيس ورجاحة عقلها ثم ننتقل أيتها الأخوات إلى قصة أخرى من القصص، وهي قصة ملكة كانت كافرة وكان عقلها راجحاً، فملَّكها قومها عليهم حتى صارت تحكم الرجال، فأرسل لها سليمان عليه السلام يدعوها إلى الله عز وجل، فاستشارت قومها: {أَفْتُونِي فِي أَمْرِي} [النمل:32] المرأة العاقلة لا تقطع أمراً بمفردها وإنما تحاول أن تستشير، تستفتي من حولها من أوليائها من أهلها من أقربائها من أهل العقل الراجح، خصوصاً عندما تقدم على أمرٍ مهم، فأشاروا عليها بأمرٍ لكن خالفتهم لما رأت أن ما يأمرونها به من استعمال القوة ليس راجحاً. وقد جعل الله لسليمان عليه السلام من القوة وأسبابها ما أتى بعرشها من بلدها حتى وصل إلى قصره فأدخل حتى رأته، {قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ} [النمل:42] قال المفسرون: هذا يدل على كمال عقلها، فهي لم تنفي، قالت: ليس هو، لأنه يشبهه حقيقة، ولم تقل: إنه هو لأنه متغير، فدل كمال عقلها على أن قالت: كأنه هو، والحقيقة أن هذه المرأة يقول الله: {وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ} [النمل:43]. كثير من النساء الآن يعشن في بيوت وفي مجتمعات وعندهن عقل راجح، ونفس طيبة وفطرة، لكن طمست أنوار هذه الفطرة بالبيئة السيئة التي يعشن فيها، هناك نساء يعشن فيما يشبه القصور يعشن في أنواع من الترف، وأنواع من النعيم، وأنواع من المعاصي والمنكرات الكثيرة، هذه المعاصي والمنكرات الأب السيئ والأخ الفاجر والبيت الفاسد، هذه العوامل تكون عقبة، تكون حجر عثرة أمام هداية المرأة إلى الطريق الصحيح، لذلك يقول الله: {وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ} [النمل:43] لماذا لم تهتدِ هذه المرأة في البداية؟ لماذا كانت تسجد للشمس كما أخبر الهدهد سليمان؟ بسبب وجودها في مجتمع كافر فاجر، لذلك أيها الأخوات ينبغي أن تعيش المرأة في واقعٍ طيب في مجتمع طيب، ينبغي أن يكون بيتها طيباً، البيت الطيب يخرج نباته بإذن ربه، والذي خبث لا يخرج إلا نكداً، لذلك كيف نتوقع أن تكون هناك نساء ملتزمات في بيوت فاسدة؟! لكن عندما تنتشر الدعوة، تتحول البيوت شيئاً فشيئاً. إنني أقول: إن كثيراً من النساء -ولله الحمد- كن سبب هداية أزواجهن أو إخوانهن أو آبائهن أو أمهاتهن وكثيرٌ من أقربائهن، وكم من امرأة كانت سبباً للخير والبركة في بيتها. الشاهد من الكلام: أن النساء يجب أن يوفر لهن الأجواء الطيبة، وهذا كلام يهمس في آذان الداعيات إلى الله، ينبغي أن يفهم لماذا لا يلتزمن النساء بالإسلام؟ ما هي العوامل التي تصد المرأة عن التمسك بالحجاب؟ لماذا المرأة المسلمة عندما يقدم لها شريط إسلامي قد لا تسمعه؟ لماذا عندما يقدم لها كتاب إسلامي تقول من قدمته لها: اتركيه عندكِ وفريه لنفسك؟ لماذا يقال هذا الكلام؟ بسبب معيشة المرأة في وسط فاسد وبيئة سيئة المعاصي من كل جانب، كيف ستهتدي؟! ولذلك هذه تصد. قال تعالى: {وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ} [النمل:43] لكن عندما يكون العقل وافراً، ماذا يحصل؟ إنها تهتدي إلى الحق عندما يعرض عليها، ولذلك سليمان عليه السلام لما وضع لها هذا الصرح من الزجاج الممرد من القوارير، وشيده له، وأمرها أن تدخل {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً} [النمل:44] ماء لُجَّةً، (({وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرًَ} [النمل:44] قيل: إنه أراد أن يخطبها فنظر إليها بهذه الحيلة، ولكن الله أعلم بما كان، وهذه من قصص السابقين، ونحن لنا شرعنا الذي نعمل به. ماذا حصل عندما كانت المرأة ذات عقل؟ قال الله -اعترفت-: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل:44] لذلك أقول لكن أيتها الأخوات: من كانت منكن عندها عقل راجح فلا بد أن يهديها الله إذا استعملت عقلها للوصول إلى الحق ولو كانت في منبت سوء، أو بيئة فاسدة، أو في وسط مظلم، إذا استعملت وحكمت عقلها، والعقل في القلب: {لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} [الحج:46] فإذا عقلت عن الله مراده، فإنها ستنتشل من هذا الوسط لتدخل في بيئة السعداء.

ثبات أم موسى أمام الابتلاءات

ثبات أم موسى أمام الابتلاءات ننتقل إلى قصة أخرى من قصص النساء في القرآن الكريم: ألا وهي قصة أم موسى صلى الله عليه وسلم هذه المرأة التي ربط الله على قلبها هذه المرأة التي أوتيت خيراً كثيراً هذه المرأة بلغ بها الخير أن الله أوحى إليها وحياً من نوع خاص، ليس من وحي الأنبياء، لما ولدت يوسف وأرضعته أوحى إليها إذا خافت عليه من جند فرعون الذين كانوا يذبحون أولاد بني إسرائيل أن تلقيه في اليم.

عظم توكل أم موسى وتفويض أمرها إلى الله

عظم توكل أم موسى وتفويض أمرها إلى الله هنا مسألة مهمة: التوكل على الله واليقين بالله، هذه من الأشياء الأساسية التي ينبغي أن تتوفر في شخصية المرأة المسلمة، الآن أسألكن أيتها الأخوات عندما تخشى المرأة على ولدها عادة ماذا تفعل به؟ إنها قد تهرب به وتخبئه في مكان آمن، لكن يقول الله لأم موسى {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} [القصص:7] سبحان الله! يأمرها بأمر بعكس ما هو جار في الأسباب العادية، إلقاء الولد في البحر شيء خطير، لأنه يتعرض للغرق، ولكن الله له إرادة وحكمة ومشيئة سبحانه وتعالى، وهو {خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:64]، ولذلك أمرها بأن تفعل ما هو عادة من أسباب الهلاك وهو إلقاء الولد في البحر، ولكن الله يريد بحكمته أن إلقاء موسى سيذهب به إلى بيت الطاغية فرعون ليتربى في ذلك البيت ويكبر، ويحصل ما كان يخشى منه فرعون، ويكون موسى الذي تربى في بيت فرعون هلاك فرعون على يديه، ولذلك فإن أم موسى عندها يقين بالله، هذا هو الدرس: اليقين بالله سبحانه، عندما نتأكد أن الله أمرنا بأمرٍ فإننا ننفذ ونعلم أنه لن يضيعنا سبحانه وتعالى، وخافت فعلاً أم موسى لما جاء جنود فرعون يطلبون أبناء بني إسرائيل يقتلونهم، فألقت ولدها في النهر، فماذا قال الله؟ أمرها بأمرين: {أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص:7] و {أَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} [القصص:7]، ونهاها نهيين: {َلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي} [القصص:7]، وبشرها بشارتين: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ} [القصص:7] هذه البشارة الأولى، والثانية: {وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7] ولذلك فإنها ألقته، ولكن الأم قلبها يبقى قلب أم؛ ولذلك: {أَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ} [القصص:10] أوشكت أن تظهر أمره: {لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص:10]. فاعلمي أيتها المرأة أن الله سبحانه وتعالى إذا ربط على قلبك واستعنت به فإنه يعطيك قوة ورباطة جأش، وزيادة ثبات، والثبات من الله ونحن لا نستطيع أن نثبت أنفسنا بأنفسنا، ولكن نسأل الله الثبات لكي يثبتنا.

أخت موسى وتنفيذها أمر أمها

أخت موسى وتنفيذها أمر أمها هنا تظهر شخصية نسائية أخرى في هذه القصة وهي شخصية أخت موسى التي نفذت أمر أمها فخرجت تتبعه عن بعد بحذر أخت موسى الذكية التي ما فضحت القصة وما فضحت القضية وإنما قالت لأخته: {قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ} [القصص:11] صارت تراقب المهد يتهادى على سطح الماء من طرف عينها، هذا معنى عن جنب {فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ} [القصص:11] فتظاهرت أنها لا تنظر إليه ولكن بطرف عينها تنظر وتلحظ إليه، إنها عين الأخت الساهرة على أخيها الصغير، وهكذا ينبغي أن يكون دور الأخوات في البيت تجاه إخوانهن الصغار الذين يحتاجون إلى الرعاية، فإن الأم قد تنشغل أحياناً فنقول لهذه الأخت في البيت: إن عليك واجباً تجاه أخيك الصغير من ناحية العناية به، والحرص عليه، والخوف من الأسباب التي تهلكه، ومساعدة الأم في القيام بشئون هذا الولد الصغير، فكوني أيتها الأخت المسلمة عوناً لأمكِ في رعاية هؤلاء الأولاد الصغار في البيت، وتشبهي بأخت موسى وهي ترعى أخاها الصغير وهو يتهادى على سطح الماء، والله سبحانه وتعالى إذا أراد شيئاً هيأ له أسبابه، كيف يرجع الولد إلى أمه؟ دخل قصر فرعون وأخذوه ولداً لهم، كيف يرجع؟ إن الله يخلق أشياء تجعل البشارة تتحقق حرم الله عليه المراضع، مهما عرضوه على ثدي لا يقبله، وهنا تدخلت أخت موسى لتقول لهم ولهن: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} [القصص:12] طبعاً عجلي، من هي هذه المرأة؟ نريد أي امرأة ترضع الولد إن فرعون وزوجته قررا أن يكون لهما ولداً فإذاً لا بد من حماية الولد، عجلي بهذه المرأة التي ترضعه، فصارت أم موسى تأتي لترضع ولدها وتأخذ أجرها، تضمه إلى صدرها تتظاهر أنه ليس ولدها، لكن عندما تضمه إلى صدرها تشعر بحنان الأم وهي ترضع ولدها الصغير، وتأخذ أجراً على ذلك بأي شيء حصل لها اطمئنان الولد والأجر؟ إنه بسبب اليقين بالله والصبر على أوامر الله عز وجل.

شخصية خولة بنت ثعلبة في القرآن

شخصية خولة بنت ثعلبة في القرآن ننتقل إلى قسم آخر من الشخصيات النسائية التي ورد ذكرها في القرآن الكريم، إنها شخصية المرأة المسكينة المظلومة، إنها خولة بنت ثعلبة رضي الله عنها، التي قال لها زوجها كلاماً منكراً مشيناً محرماً: أنتِ علي كظهر أمي، أنتِ محرمة علي مثل أمي، صارت لا هي مطلقة ولا زوجة إنما صارت معلقة، فظاهر منها فظلمها زوجها، فجاءت تشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهنا لا بد أن تأخذ النساء درساً في أن التوجه يكون إلى أهل العلم شكوى الحال طلب الحل طلب الفتوى جواب السؤال حل المشكلة يكون بسؤال أهل العلم، إلى من ذهبت خولة رضي الله عنها؟ ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تطلب الحل تطلب الحكم: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة:1] محاورتها مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو عليه الصلاة والسلام ما عنده جواب، ولكن الله الرءوف الرحيم يرعى المرأة، والله سبحانه وتعالى قد سمع قولها بسمعه سبحانه وتعالى، فلم يرض عز وجل أبداً بالظلم، ولا يرضى سبحانه وتعالى مطلقاً بالظلم، وإنما حرمه على نفسه وعلى العباد، فأنزل من أجل هذه المسكينة آيات تتلى إلى يوم القيامة لكي تحل المشكلة لكي تزول. تقول: يا رسول الله، نثرت له بطني حتى إذا كبر سني ورق عظمي ظاهر مني، أشكو إلى الله، والله إذا لجأ إليه الضعيف فإنه ينصره، ألم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم: (دعوة المظلوم ترفع إلى الله على الغمام، يقول الله: لأنصرنك ولو بعد حين) (دعوة المظلوم تصعد إلى السماء كشرارة) كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح، تصعد مثل الشرارة سريعة جداً لذلك نزل الجواب، تقول عائشة: [سبحان الذي وسع سمعه الأصوات! إني في ناحية البيت ما أسمع ما تقول] تجادل الرسول صلى الله عليه وسلم، لكني لا أسمع تفاصيل القصة، لا أسمع تفاصيل الحوار، وإذا بالآيات تنزل مباشرة: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة:1]. إنني أقول بهذه المناسبة: أيتها الأخوات الكريمات! إلى من يجب الذهاب في حل المشاكل؟ إلى من يجب اللجوء في الاستفتاءات لأهل العلم الثقات؟ إنني أنعي وأقول بأسف: إن بعض النساء يذهبن في حلول المشكلات إلى أصناف من البشر الله حسيبهم على ما خربوا ولوثوا وأفسدوا وأضلوا من جمهور المسلمين، يذهبون إلى من يعتبرونهم شيوخ، وأنهم علماء وعندهم علم، وهم جهال ربما يكون الواحد منهم أجهل من سائله في هذه المسألة التي يسأله عنها، فيفتيه بغير علم، فيَضل ويُضل ويحمل أوزار من أضله على ظهره يوم القيامة، ولذلك بعض النساء تكتب إلى أناسٍ أو تتصل بأناس تظنهم شيوخاً وليسوا بشيوخ، أو بعض النساء تكتب مشكلتها إلى محرري المجلات والصحف، وهذه قضية خطيرة جداً، ولقد اطلعت على قصص كتبت فيها بعض البنات والفتيات مشكلاتهن، يردن الخلاص من المشكلة لكن تظن الواحدة منهن أن الحل عند محرر الجريدة وعند كاتب الصحيفة، وهو خبيث رجس نجس يريد أن يتسقط هؤلاء البنات، لكي يصل إلى مآرب من وراء نشر رسائلهن في هذه الجريدة أو تلك المجلة، ولذلك فإنني أتعجب جداً عندما أقرأ في بعض المجلات أو الجرائد أو يصل إلى علمي مثلاً أن بعض النساء يكتبن إلى أولئك القائمين على تحرير تلك الصحف، مع أنهن يعلمن جيداً بأن تلك الصحف والمجلات تنشر الأمور السيئة وتنشر الفجور والخنا والخبث بين الناس وتفسد المجتمع، وينطبق عليهم قول الله: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا} [النور:19]. أقول: كيف بالله عليك تلجئين إلى مثل هؤلاء، ألم يقل الله: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]؟ لماذا لا نتصل بالثقات من العلماء نكاتبهم نراسلهم نكلمهم هاتفياً؟ لماذا لا نلجأ إلى كتب العلم؟ لماذا لا نلجأ إلى طلبة العلم؟ نقول: ابحثوا لنا في الكتب، هاتوا لنا الأجوبة؟ لماذا لا نستمع إلى البرامج الإسلامية المفيدة، مثل برامج الفتاوى، أشرطة الفتاوى؟ يمكن أن هذه المسألة التي يسأل عنها الآن أو مسجلة في الشريط قد تتعرضين أنت لها في المستقبل، فإذاً يكون عندك الجواب. فهذا درس آخر يؤخذ من قصة خولة بنت ثعلبة رضي الله تعالى عنها.

فاسألوا أهل الذكر

فاسألوا أهل الذكر إنني أقول بهذه المناسبة: أيتها الأخوات الكريمات! إلى من يجب الذهاب في حل المشاكل؟ إلى من يجب اللجوء في الاستفتاءات لأهل العلم الثقات؟ إنني أنعي وأقول بأسف: إن بعض النساء يذهبن في حلول المشكلات إلى أصناف من البشر الله حسيبهم على ما خربوا ولوثوا وأفسدوا وأضلوا من جمهور المسلمين، يذهبون إلى من يعتبرونهم شيوخ، وأنهم علماء وعندهم علم، وهم جهال ربما يكون الواحد منهم أجهل من سائله في هذه المسألة التي يسأله عنها، فيفتيه بغير علم، فيَضل ويُضل ويحمل أوزار من أضله على ظهره يوم القيامة، ولذلك بعض النساء تكتب إلى ناس أو تتصل بناس تظنهم شيوخ وليسوا بشيوخ، أو بعض النساء تكتب مشكلتها إلى محرري المجلات والصحف، وهذه قضية خطيرة جداً، ولقد اطلعت على قصص كتبت فيها بعض البنات والفتيات مشكلاتهن، يكون عندهن إخلاص فعلاً يردن الخلاص من المشكلة لكن تظن الواحدة منهن أن الحل عند محرر الجريدة وعند كاتب الصفحة، وهو خبيث رجس نجس يريد أن يتسقط هؤلاء البنات، لكي يصل إلى مآرب من وراء نشر رسائلهن في هذه الجريدة أو تلك المجلة، ولذلك فإنني أتعجب جداً عندما أقرأ في بعض المجلات أو الجرائد أو يصل إلى علمي مثلاً أن بعض النساء يكتبن إلى أولئك القائمين على تحرير تلك الصحف، مع أنهن يعلمن جيداً بأن تلك الصحف والمجلات تنشر الأمور السيئة وتنشر الفجور والخنا والخبث بين الناس وتفسد المجتمع، وينطبق عليهم قول الله: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا} [النور:19]. أقول: كيف بالله عليك تلجئي إلى مثل هؤلاء، ألم يقل الله: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]؟ لماذا لا نتصل بالثقات من العلماء، نكاتبهم، نراسلهم، نكلمهم هاتفياً، لماذا لا نلجأ إلى كتب العلم؟ لماذا لا نلجأ إلى طلبة العلم، نقول: ابحثوا لنا في الكتب، هاتوا لنا الأجوبة؟ لماذا لا نستمع إلى البرامج الإسلامية المفيدة، مثل برامج الفتاوي، أشرطة الفتاوي؟ يمكن أن هذه المسألة التي يسأل عنها الآن أو مسجلة في الشريط قد تتعرضين أنت لها في المستقبل، فإذاً يكون عندك الجواب. فهذا درس آخر يؤخذ من قصة خولة بنت ثعلبة رضي الله تعالى عنها.

أثر فساد المرأة حتى على الأنبياء

أثر فساد المرأة حتى على الأنبياء اعلمي بأن الله سبحانه وتعالى قد ضرب مثلاً في القرآن الكريم لامرأة نوح وامرأة لوط، زوجتان كافرتان، أما زوجة نوح فكانت -فيما ذكر في التفسير- تخبر الكفار من قومها بأسرار نوح والمسلمين معه إنها الجاسوسة إنها الخائنة التي توصل الأخبار إلى أعداء الله فيبطشوا بالمسلمين الذين كانوا مع نوح. وأما امرأة لوط فإن خيانتها ليست خيانة زوجية في العرض والشرف، فإن نساء الأنبياء لا يخن ولو كن كافرات، كما قال أهل التفسير، ولذلك فإن خيانتها كانت بأن دلت قومها الذين كانوا يقعون في الفاحشة ويستعلمون الفاحشة على ضيوف لوط، فجاءوا إليه يهرعون، يقولون: هات ما عندك، يريدون الضيوف الذين عند لوط ليفعلوا بهم الفاحشة. وكان الأمر بعد ذلك من إهلاكهم وهلكت امرأة نوح في الطوفان وولد نوح الكافر، وهلكت امرأة لوط بهذه الحجارة والصيحة، وقلب عالي القرية سافلها، وطمس الأعين الذي أرسل الله به الملك فطمس أعينهم، فنجى الله لوطاً إلا امرأته. الشاهد: أنه قد يوجد في المجتمع رجال صالحون ولهم زوجات فاجرات، وقد يوجد في المجتمع رجال فجار ولهم زوجات صالحات، ولو المسألة عندنا في الإسلام بالنسبة للكفر واضحة، إذا كان الرجل مسلم وزوجته كافرة، لا يجوز له أن يتزوجها، ولا يجوز أن يبقيها عنده إذا كفرت ويجب أن يفارقها، والمرأة إذا كان زوجها كافراً فإنه لا يجوز أن تبقى تحت كافر تفارقه ويبطل العقد، وينفسخ تلقائياً بكفر أحد الزوجين إذا بقي الآخر مسلماً، وتدخل المرأة في العدة، وتعتد وتنتهي، وتتزوج ممن تشاء إذا بقي زوجها على كفره، ما هو الدليل؟ يقول الله تعالى: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة:10] لا تحل المرأة الكافرة لرجل مسلم، ولا يحل الرجل الكافر لامرأة مسلمة، هكذا قضى الله، إلا الاستنثاء في أهل الكتاب من اليهوديات والنصرانيات بشرط أن يكن محصنات، وأما الفاجرات فلا يجوز الزواج منهن، أي: من اليهوديات والنصرانيات.

مشكلة صلاح أحد الزوجين وفساد الآخر

مشكلة صلاح أحد الزوجين وفساد الآخر الآن عندنا مشكلة في المجتمع حقيقية وهي: ماذا نفعل عندما يكون هناك رجل فاجر تحته امرأة متدينة؟ هذه الحالة لها احتمالات، أحياناً يكون الرجل فاجر متستر بالدين، والمرأة تقصر في السؤال عنه، لا تسأل جيداً، وبعد ذلك تقع الطامة الكبرى، والكارثة العظيمة، فتكتشف المرأة بعد الزواج وبعد فوات الأوان بأن الرجل يهمل الصلوات ويتعاطى أشياء محرمة، ويتصل بنساء أجنبيات، وله سفريات يرتكب فيها المحرمات، وتكتشف عنده من أدوات اللهو المحرم أشياء كثيرة، وعند ذلك ماذا يكون وقد فات الأوان؟ السبب هو عدم السؤال الجيد قبل الإقدام على الزواج من جهة المرأة بواسطة أهلها، ومن تثق بهن من أخواتها الذين يأتونها بالخبر عن طريق أزواجهن مثلاً. أقول: هذا سبب من أسباب حدوث المشكلة، والسبب الآخر: أن تكون المرأة مقصرة مثل زوجها، ثم بعد ذلك يحدث أن تلتزم المرأة بالدين وزوجها ما زال مصراً على فجوره وضلاله وعصيانه، فماذا تفعل المسكينة؟ إنني أقول: إن هناك في الواقع حالات كثيرة، المرأة تريد أن تتحجب والرجل يقول: لا تتحجبي، وينزع الحجاب من رأسها المرأة لا تريد الاختلاط بأصدقاء الزوج، وهو يضربها ويقول: اخرجي قدمي الأكل للرجال واجلسي معنا، لا تريد الكشف على إخوانه، وهو يقول: إذا لم تكشفي الحجاب على إخواني سأطلقك ولكِ مهلة أسبوع، أصبح الفجور إلى درجة أن يعطي الرجل مهلة لكي تخالف المرأة ربها، ومهلة لكي تنفذ المعصية وتقوم بها، ماذا يكون عند ذلك الحل؟ المرأة ضعيفة المرأة أسيرة، ما هو الحل؟ الحل صعب ينبغي على المرأة أن تصبر وتتدارك نفسها، وتحاول بشتى الوسائل أن تتمسك بشرع الله وهديه وأحكامه، فإذا أكرهت بالقوة بالضرب باستخدام اليد من الزوج مثلاً، والتهديد المستمر اليقيني عند ذلك تعذر عند الله، ولو أنه أرغمها على شيء بالقوة، وفعله بها عمداً، فهو الآثم وهي البريئة، حتى يحكم الله بينها وبينه، فيتوسط أهل الخير إما أن يلتزم الزوج أو يعطيها الحرية في دينها، إذا كان الرجل عاصياً إذا كان كافراً لا يجوز أن تبقى معه، وعليه أن يسرحها بإحسان. والشاهد: أن الواقع والحاصل أنه يوجد كثير من التفريط الحادث ومن المتناقضات التي تحتاج إلى حل.

أهمية كتمان الزوجة لأسرار الزواج وفوائد ذلك

أهمية كتمان الزوجة لأسرار الزواج وفوائد ذلك موقف أخير أيتها الأخوات أذكره لكن من سورة التحريم في بعض القصص المتعلقة بشخصيات نسائية في القرآن الكريم. إن بعض نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دفعتهن الغيرة لأن يقمن بمحاولة للإيقاع بينه وبين بعض زوجاته الأخريات لما كان بينه وبينهن صلة معينة، وميزة عند إحداهن ليست موجودة عند الأخريات، ولذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسر إلى بعض أزواجه حديثاً، قال لها كلاماً وطلب منها أن تكتمه ولكنها نبأت به، فأطلع الله رسوله أنها قد قالت: {فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا} [التحريم:3] لما كشف لها القضية، قال: {نَبَّأَنِي الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [التحريم:3]، ماذا قال الله: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:4] وأقف عند هذه القصة لأقول بعض الفوائد: أولاً: إن من واجب المرأة المسلمة أن تكون وفية لزوجها، لا تؤذيه بالكلام، ولا تنشر أسراره، لأن الزوج أحياناً يقول لزوجته بعض الأسرار، ويطلب منها ألا تبوح لأحد، وبعض النساء لا يكتمن شيئاً، فبمجرد أن يقول لها الزوج: إن هذا شيء خاص اليوم، إذا به غداً منتشر عند النساء عن طريق المرأة، لا تستطيع أن تمسك لسانها في كثير من الأحيان، فتظن أن ما قاله لها زوجها شيء مهم، وإنها تقول للناس: إن زوجها عنده أشياء مهمة، وأن هذه أسرار مهمة، وأنه استودع الأسرار عندي، ولو لم أكن أهلاً للثقة لما قالها لي، فهي تحب أن تظهر ميزتها عند زوجها للناس، ويترتب على ذلك شرور ومفاسد، ويحرج الزوج إحراجات كثيرة، لذلك إذا استكتم الرجل زوجته أمراً فلا يجوز لها أن تظهره مطلقاً، إلا إذا كان كتمه شيئاً محرماً. ثانياً: المرأة المسلمة راعية في بيت زوجها، والمفروض أن تحوطه من ورائه وأن تسعى بذمته وتأخذ بيده وتساعده، والرجل المسلم وبالذات الداعية وطالب العلم يحتاج إلى جو هادئ وإلى جو سكينة، لا يحتاج إلى باب مشاكل يفتح عليه من جهة زوجته. إن الزوجة عليها أن تقوم بدور تستلهم فيه دور خديجة، فمثلما كانت خديجة رضي الله عنها تشد من أزر زوجها وتعينه وتشجعه وتقول له: والله لا يخزيك الله أبداً، وتعينه، وتدفعه إلى الخير، وإلى الدعوة، ينبغي أن تكون المرأة معينة لزوجها على الطاعة وليست سبباً من أسباب المشاكل، إذا رأته نائماً عن صلاة الفجر توقظه، إذا جاء من الدوام بعد الظهر ونام عن الصلاة وجاء وقت العصر توقظه، لا تقول: أتركه، أرحمه ولا أوقظه للصلاة، كلا؛ إن الرحمة به أن توقظه للصلاة، إذا رأت عليه منكراً تنصحه، كيف تفعل هذا؟ هذا شيء ليس بجائز، تحثه على حضور مجالس الخير، تعينه على ضيافة إخوانه الذين يحضرون إلى بيته، ولسنا الآن بصدد الكلام عن حقوق الزوج على زوجته أو حقوق الزوجة على زوجها، سيكون له مناسبة منفصلة إن شاء الله تعالى. لكن الشاهد: أن طالب العلم والداعية لديه من المشكلات ما يكفيه وليس بحاجة لأن ينفتح عليه باب مشكلات من جهة زوجته، ولذلك فإن الزوجة الصالحة معينة الزوجة الصالحة تسرك إذا نظرت إليها، وإذا غبت عنها حفظتك في عرضها ومالك. ولذلك فإنني أقول ختاماً: إن هذه القصص التي ذكرها الله تعالى في القرآن عن المرأة المسلمة ينبغي أن تكون مثلاً حياً في أنفسكن أيتها الأخوات المسلمات، ينبغي أن تضعن نصب أعينكن أن المرأة المسلمة كان لها دور عبر العصور المختلفة المرأة المسلمة كانت مؤثرة، ليست المرأة المسلمة هامشية إنها حارسة القلعة إنها على ثغرة من ثغرات الدين، فالله الله أن يؤتى الإسلام من قبلك. والسلام عليكن ورحمة الله وبركاته.

الأسئلة

الأسئلة

المرأة وظاهرة التدخين

المرأة وظاهرة التدخين Q ما حكم التدخين للمرأة في الإسلام؟ A إن المرأة المسلمة تطيع ربها، وربها يقول: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157] فقسم الله الأشياء في الدنيا من المطعومات والمشروبات إلى قسمين لا ثالث لهما: طيب وخبيث، فما لم يكن طيباً فإنه خبيث، والدخان هل هو طيب؟ هل هو مفيد للصحة؟ الأموال التي تنفق فيه هل تنفق في وجهها الشرعي الصحيح؟ هل يريح الناس ويريح الملائكة؟ كلا. فإذاً المرأة تعصي ربها عدة مرات عندما تدخن تعصيه مرة عندما تنفق الأموال في طريق محرم، وهذا تبذير، وتعصيه مرة أخرى عندما تضر بصحتها فتدخن، وتعصيه مرة ثالثة عندما تؤذي الملائكة الذين معها بهذا التدخين، وتعصيه مرة رابعة عندما تؤذي أخواتها أيضاً، وتعصيه خامسة بإلقاء نفسها للتهلكة، وبإدخال هذا الضرر على نفسها، ولذلك فالحكم واضح جداً وهذا من نتيجة التحلل والتفسخ الذي حل في المجتمع، فمن كان يصدق أن المرأة في يوم من الأيام ستدخن لكن حصل فعلاً!!

حكم الأمور التي تفعل في القرقيعان

حكم الأمور التي تفعل في القرقيعان Q ما حكم ما يفعل في القرقيعان من أمور مباحة؟ A هذا من عادات المسلمين موجودة عند بعض المسلمين، الأصل في العادات أنها جائزة إلا إذا اقترن بها منكر من المنكرات، وقد سبق أن ذكرت إذا اعتقدوا فيها فضلاً معيناً، أو أجراً معيناً، أو اعتقدوا أن في يوم (15رمضان) أجراً معيناً، فتتحول إلى بدعة، لكن لو صاروا جارين على العادة من إعطاء الأولاد الحلويات والمكسرات في هذا اليوم لا بأس، لكن أحب أن أنبه إلى مسألة تربوية وهي: أن دوران الأطفال على بيوت الجيران يطرقون الأبواب، ويقولون: أعطونا الله يعطيكم، أو أعطونا من مال الله، لا أدري الكلام الطويل، أقول: إن بعض هذا الكلام فيه نوع من تعويد الولد على التسول والشحاذة وإراقة ماء الوجه، ولا نستحب ذلك، لكن لو أنهم قرقعوا كما يقولون في بيوتهم، وأعطوا للأطفال مكسرات وحلويات في البيوت، فإن شاء الله لا بأس في ذلك.

حكم قيء الطفل الرضيع

حكم قيء الطفل الرضيع Q ما حكم قيء الطفل الرضيع؟ A حكمه حكم بوله، فإذا كان ذكر قد أكل الطعام واستقاء فحكمه حكم بوله، أي: نجس، وإذا كان الذكر لا يزال يرضع ولم يأكل الطعام فحكم قيئه حكم بوله، وأما البنت الصغيرة فإن بولها نجس حتى لو كانت في الرضاع.

استحباب الوضوء بعد تنظيف الولد

استحباب الوضوء بعد تنظيف الولد Q هل تنظيف الولد من منقضات الوضوء؟ A الظاهر أنه لا يبطل الوضوء، ولكن الأحسن أن تتوضأ.

حكم زكاة الحلي

حكم زكاة الحلي Q ما حكم زكاة الحلي؟ A زكاة الحلي واجبة سواء كان مستخدماً أو غير مستخدم، والدليل على ذلكم ما رواه أبو داود بسند حسن (أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يد ابنتها مسكتان من ذهب -أي: سواران من ذهب- فقال لها عليه الصلاة والسلام سائلاً: أتؤدين زكاة هذا؟ -فكانت المرأة لا تعلم الحكم- قالت: لا. قال: أيسرك أن يسورك الله بهما سوارين من نار يوم القيامة؟ قالت: هما لله ورسوله) لو كانت الزكاة في الحلي غير واجبة، لماذا يهددها الرسول صلى الله عليه وسلم بالنار؟ ما هددها بالنار إلا والزكاة في الحلي واجبة، كم مقداره؟ (2. 5%) من قيمة الحلي عندما يحول عليه الحلول.

حكم أولاد زوج البنت من امرأة أخرى

حكم أولاد زوج البنت من امرأة أخرى Q ما حكم الكشف على أبناء زوج البنت؟ A أولاده من امرأة أخرى لا علاقة لها بهم، ولو تزوج رجل ابنتك وعنده أولاد من زوجة أخرى غير ابنتك، وهؤلاء الأولاد ليس لهم علاقة فيك، لا من رضاع ولا من نسب، ولذلك لا يوجد محرمية، بخلاف زوج البنت الذي ثبتت محرميته بالمصاهرة.

نزع المرأة ملابسها في غير بيتها

نزع المرأة ملابسها في غير بيتها Q يقول الرسول صلى الله عليها وسلم: (أيما امرأة وضعت ثيابها في غير بيت زوجها هتكت ستراً بينها وبين الله) ما المقصود بهذا الحديث؟ A سألت الشيخ/ عبد العزيز بن باز عن هذا الحديث؟ فقال: المقصود فيه الوعيد والتحذير من التبرج أمام الأجانب، كشف المرأة لشيء من جسدها أمام الأجانب، لكن لو أن المرأة ذهبت إلى بيت أهلها فلا يجوز أن تضع ثيابها؟ أحياناً تذهب إلى دورة المياه فتضع ثيابها، أو تذهب إلى بيت أختها وزوج أختها غير موجود فلا يجوز أن تزيل خمارها عن رأسها، فإذا صارت في بيتٍ آمنة على نفسها من نظر الأجانب فلا بأس عند ذلك بأن تضع عن وجهها وشعرها الحجاب.

مخاطبة المرأة المحادة للرجال

مخاطبة المرأة المحادة للرجال Q ما حكم مخاطبة المرأة المحادة للرجال الأجانب بهاتف أو غيره؟ A إذا كان لضرورة فلا بأس بذلك، وإنني أقول بهذه المناسبة: إنني وجدت أن البدع في مجال العدة قد لا يفوقها بدع أخرى، فوجدنا أشياء الله عز وجل أحلها، وهؤلاء يحرمونها ببدعهم، يقولون بزعمهم الكاذب: المرأة المحادة لا تكلم الرجال الأجانب لا بالتلفون ولا من وراء الباب، ولا تكلم الولد البالغ، ولا الصغير، ولا تسلم على زوج بنتها ولا تسلم على امرأة متزوجة ولا تنظر إلى المرآة، ويحرمون عليها الاغتسال، والاغتسال مباح، وعليها إذا انتهت من العدة أن تذهب مغمضة العينين إلى البحر وتفتح عينيها عند البحر، ثم تذهب إلى المسجد وتصلي فيه ركعتين، وأشياء ما أنزل الله بها من سلطان. المرأة المحادة ماذا تفعل؟ أول أمر: أن تلزم البيت الذي كانت فيه عندما مات زوجها، أربعة أشهر وعشرة أيام، وتمتنع من الزينة، لا تلبس ذهباً ولا حلياً، ولا أساور، ولا خواتم، ولا قلائد، ولا حلق في الآذان، ولا تمس الطيب، ولا تلبس ملابس مزينة ومزخرفة ومزركشة، كملابس حفلات وملابس الأعراس، وإنما تلبس المتيسر، والذين يوجبون لباس السواد عليها بدعة من البدع، تلبس أزرق، بني، أخضر، المتيسر لا بأس بذلك، ولكن لا تلبس ملابس زينة، ولا تضع الكحل، أو الحناء، أو الزينة، أو العطورات أو صابونات معطرة هذه قضية. أما أنهم يوجبون عليها أشياء ما أنزل الله بها من سلطان فهذا لا يجوز وهو من البدع. هذا ما تيسر من الإجابة على الأسئلة التي وردت، وأسأل الله سبحانه وتعالى لي ولكن الفقه في الدين، وأن يرد بنا خيراً، وأن يحسن عملنا أجمعين، وأن يتوب علينا إنه هو التواب الرحيم، وأن يدخلنا الجنة برحمته إنه أرحم الراحمين. وصلى الله على نبينا محمد، والله تعالى أعلم.

قرة العينين في بر الوالدين

قرة العينين في بر الوالدين بر الوالدين من أعظم الأعمال الصالحة بعد توحيد الله سبحانه وتعالى، وفي الشرع الحنيف من الآيات والأحاديث ما يدل على هذا الأمر وفضله، وفي قصص السلف أمثلة رائعة للبر بالوالدين، وفي الإسلام تتعدد صور البر وأشكاله للوالدين قبل الوفاة وبعدها، لكن تطل علينا في هذا العصر بعض التصرفات والصور المخالفة لبر الوالدين فتجد العقوق والإيذاء. مواضيع كثيرة طرحها الشيخ في محاضرته هذه، إضافة إلى بعض الأحكام الفقهية التي يحتاج إليها كثير من الناس.

بر الوالدين في القرآن

بر الوالدين في القرآن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،، هذه المحاضرة عن بر الوالدين وهي بعنوان: (قرة العينين في بر الوالدين). ولا شك أن قرة العينين في بر الوالدين فعلاً، كيف لا وقد جاءت الآيات والأحاديث تبين هذا، وسنتعرض إن شاء الله لهذا الموضوع في عدد من النقاط، منها: 1 - بر الوالدين في القرآن. 2 - بر الوالدين في السنة. 3 - بر الوالدين عند الصحابة والسلف. 4 - فوائد من بر الوالدين. 5 - صور البر وأشكاله قبل الوفاة وبعد الوفاة. 6 - إيذاء الوالدين وعقوبة العقوق. 7 - الموقف من الأب المشرك والأم الكافرة. 8 - الوالد الفاجر والوالدة العاصية. 9 - أحكام فقهية تتضمن: أ- حكم المال إذا أخذه الأب. ب- الاستئذان في السفر. جـ- قطع الصلاة لهما. د- تعارض بر الأب مع بر الأم. 10 - ماذا يفعل الولد إذا أمراه بترك الواجبات أو فعل المحرمات أو الوقوع في المشتبهات؟ 11 - وأخيراً: الشباب والدعوة وبر الوالدين. بين الله سبحانه وتعالى أهمية بر الوالدين، لما عطف الأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك على بر الوالدين، فقال عز وجل: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [النساء:36]، وقال عز وجل: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء:23]، وقرن شكره بشكرهما، فقال الله: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان:14]، وبين الباعث على البر تهييجاً للنفوس، فقال عز وجل: {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان:14]، وامتدح الله عبده يحيى، فقال: {وَكَانَ تَقِيّاً * وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيّاً} [مريم:13 - 14]، وكذلك حدّث عيسى عن نفسه في المهد بأن الله عز وجل جعله مباركاً، فقال: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً * وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً} [مريم:31 - 32]. وقال سبحانه وتعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء:24] فيه بيان أن بر الوالدين أعظم من بر الأصحاب؛ لأن الله قال في الأصحاب: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:215]، وقال في بر الوالدين: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء:24]، ولا شك أن خفض جناح الذل من الرحمة أبلغ من مجرد خفض الجناح. ولذلك فإن هذه الآيات في سورة الإسراء: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء:23] حتى هذه الكلمة اليسيرة التي تعبر عن الزجر لا تقلها، أو لا تقل أي عبارة تدل على الاستقذار والاحتقار، فأخذ الله علينا ألا نؤذي الآباء ولا الأمهات بأقل القليل ولا بكلمة (أف) {وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء:23] فلا يزجرهما بكلام، ولا ننفض اليد في وجوههما بأي طريقة تؤذي: {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً} [الإسراء:23] فلا تسمِ وتقل: يا فلان، ولا تغلظ عليهما بالقول فضلاً عن السب والشتم، وإنما تناديهم بالقول اللطيف، قال ابن المسيب رحمه الله في قوله تعالى: {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً} [الإسراء:23] قال: هو قول العبد المذنب للسيد الفظ الغليظ فكيف يكون حاله.

بر الوالدين في السنة

بر الوالدين في السنة أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموضوع كثيرة، فقد بين النبي عليه الصلاة والسلام أن للجنة أبواباً، وأن أوسط أبواب الجنة هو طاعة الوالد، فقال عليه الصلاة والسلام: (الوالد أوسط أبواب الجنة)، وقال عليه الصلاة والسلام: (رضا الرب من رضا الوالدين، وسخطه في سخطهما) وقد دعا الرسول صلى الله عليه وسلم على من يدرك والديه فلا يبرهما، فقال: (رغم أنفه، ثم رغم أنفه، ثم رغم أنفه من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كلاهما، ثم لم يدخل الجنة)، وكذلك أمن على دعاء جبريل لما قال: (يا محمد! من أدرك أحد أبويه فمات فدخل النار فأبعده الله، قال: قل: آمين فقلت: آمين)، وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الجنة تحت رجل الوالدة، فقال للصحابي: (الزم رجلها، فثمّ الجنة)، وقال: (الزمها؛ فإن الجنة تحت أقدامها) يعني: الوالدة. وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن الذي يخرج من بيته يسعى على والديه فإنه في سبيل الله، أجره مثل أجر الخارج في سبيل الله، كما في حديث كعب بن عجرة عند الطبراني وهو حديث صحيح، قال صلى الله عليه وسلم: (إن كان خرج يسعى على صبية صغاراً فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله).

بر الوالدين عند الصحابة والسلف

بر الوالدين عند الصحابة والسلف وأما سلفنا فإن الأنبياء قد ضربوا المثل وكذلك الصحابة والتابعين، فهذا نبي الله إسماعيل ابن نبي الله إبراهيم {فلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات:102] فلما أطاق الفعل والمساعدة، فرأى إبراهيم الرؤيا ورؤيا الأنبياء حق، صبر هو وأبوه، وصبر الولد على رؤيا الأب التي هي وحي، مع أن العلاقة بينهما كانت شديدة جداً، ألا ترى أنه قال في صحيح البخاري: (لما جاء إبراهيم ليرى إسماعيل بعد فترة طويلة من الغياب، فصنعا كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد)، وكذلك فإنه قد ساعده في بناء الكعبة وهو من أعظم الأفعال على مر التاريخ. كذلك إسحاق مع إبراهيم، ويعقوب مع إسحاق، ويوسف مع يعقوب {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران:34]، وكذلك لقمان مع ولده. وكذلك الصحابة رضوان الله عليهم ضربوا الأمثال، فهذا ابن عمر وعمر وبره به معروف، وابن عمرو وعمرو بن العاص وبره به معروف، وهذه عائشة وأبوها، وجابر وأبوه، كل واحد من هؤلاء له قصص تدل على بره بأبيه، وقيس بن سعد بن عبادة وأبوه سعد بن عبادة، والحسن والحسين وأبوهما علي، ومحمد بن طلحة بن عبيد الله سمي بـ السجاد من كثرة عبادته هو وأبوه، والزبير وابنه عبد الله، وعبد الله بن عباس وأبوه العباس، وغيرهم من الصحابة آباء وأبناء كانوا بررة رضي الله تعالى عنهم. وقد كان الصحابة يُفَدون النبي صلى الله عليه وسلم بآبائهم وأمهاتهم، دلالة على أن من أغلى الأشياء عندهم الآباء والأمهات. وهؤلاء التابعون الذين ساروا على منوالهم، فهذا أويس القرني الذي حبسه اشتغاله بأمه وبره بها عن السفر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ففاتته الصحبة، لكنه كان مقيماً على طاعة أمه وبره بها، وقد احتبس معها في اليمن قائماً عليها، وهو الذي مدحه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (خير التابعين أويس) (يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد اليمن من مراد ثم من قرن، كان به برص فبرئ منه إلا موضع درهم -الله عز وجل يذكره به حتى لا ينسى نعمة الله عليه- له والدة هو بها بر، لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل) فطلب منه عمر أن يستغفر له، وطلب منه الناس، فلما أحس بذلك هرب منهم، رحمه الله تعالى. وهذا ابن عمر كان باراً بأبيه بعد موته، أعطى حماره وعمامته لأعرابي كان أبوه صديقاً لـ عمر. وأيضاً كان السلف من التابعين لهم مواقف، فهذا مسعر بن كدام رحمه الله كانت أمه عابدة، وكان يحمل لها لداً -شيئاً مثل البساط تصلي عليه- ويمشي معها حتى يدخلها المسجد، فيبسط لها اللد، فتقوم فتصلي ويتقدم إلى مقدمة المسجد فيصلي ثم يجلس، ويجتمع إليه من يريد فيحدثهم، كان من العلماء، لكن هذا العالم كان يأتي بأمه معه إلى المسجد، فيفرش لها السجادة تصلي ثم ينصرف إلى درسه، فإذا انتهى حمل لدها وانصرف معها. وكان زين العابدين -من سادات التابعين- كثير البر بأمه، حتى قيل له: إنك من أبر الناس بأمك، ولسنا نراك تأكل معها في صحفة؟ فقال: أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها، فأكون قد عققتها. وعبد الله بن عون نادته أمه من بعيد، فأجابها من بعيد، فعلى صوته صوتها -صار أرفع- فأعتق رقبتين. وكان هؤلاء رحمهم الله يحتسبون الأجر في برهم لآبائهم وأمهاتهم، قال محمد بن المنكدر: بت أغمز رجل أمي، وبات عمي يصلي ليلته فما تسرني ليلته بليلتي، ولا أظن أني أستبدل عملي هذا ولو بقيام الليل. وكان حيوة بن شريح وهو من كبار العلماء يجلس في حلقته يعلم الناس، فتقول له أمه: قم يا حيوة! فألقي الشعير للدجاج، فيقوم فيطعمهم، ثم يرجع. وكان عروة بن الزبير يقول في سجوده: اللهم اغفر للزبير بن العوام وأسماء بنت أبي بكر. وكان أبو يوسف الفقيه يقول: اللهم اغفر لأبوي ولـ أبي حنيفة. وكان طلق بن حبيب يقبل رأس أمه، وكان لا يمشي فوق ظهر بيته وهي تحته إجلالاً لها. ودخل أحدهم مع أبيه السجن، فاحتاج الأب لماءٍ مسخن، فمنعه السجان من الحطب، فقام الولد إلى إناء، فأدناه من المصباح، فظل واقفاً حتى الصبح؛ كي يجهز لأبيه ماءً دافئاً.

فوائد من بر الوالدين

فوائد من بر الوالدين أما عن فوائد بر الأبوين فإنها كثيرة ولا شك:

من فوائد بر الوالدين: نيل مرضاة الله سبحانه وتعالى

من فوائد بر الوالدين: نيل مرضاة الله سبحانه وتعالى على رأسها مرضاة الله سبحانه وتعالى، والدخول من ذلك الباب العظيم من أبواب الجنة وهو باب الوالد، وكذلك كسب بر الأبناء في المستقبل؛ لأن من بر بأبيه وأمه بر به أبناؤه.

من فوائد بر الوالدين: إجابة الدعاء

من فوائد بر الوالدين: إجابة الدعاء ومن أعظم فوائد بر الوالدين: إجابة الدعاء، كما عنون الإمام البخاري في صحيحه: باب: إجابة دعاء من بر والديه، ثم ذكر حديث الثلاثة أصحاب الغار: (قال أحدهم: اللهم إنه كان لي والدان شيخان كبيران وامرأة، ولي صبية صغار أرعى عليهم، فإذا أرحت عليهم حلبت لهما، فبدأت بوالدي فسقيتهما قبل صبيتي، وإنه نأى بي ذات يوم الشجر، فلم آتِ حتى أمسيت، فوجدتهما قد ناما، فحلبت كما كنت أحلب، فجئت بالحِلال وقمت عند رءوسهما أكره أن أوقظهما من نومهما، وأكره أن أسقي الصبية قبلهما، والصبية يتضاغون عند قدمي -يصيحون ويبكون من الجوع- فلم يزل ذلك دأبي ودأبهم حتى طلع الفجر، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا منها فرجة نرى منها السماء، ففرج الله منها فرجة فرأينا منها السماء).

من فوائد بر الوالدين: كفارة عظيمة للذنوب

من فوائد بر الوالدين: كفارة عظيمة للذنوب كذلك فإن بر الوالدين كفارة عظيمة للذنوب، عن ابن عمر: (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إني أصبت ذنباً عظيماً فهل لي من توبة؟ قال: هل لك من أم؟ قال: لا. قال: فهل لك من خالة؟ قال: نعم. قال: فبرها) أخرجه الترمذي ورجاله ثقات. وكذلك جاء عند البخاري في الأدب المفرد وإسناده صحيح على شرط الشيخين: [أن ابن عباس أتاه رجل، فقال: إني خطبت امرأة، فأبت أن تنكحني، وخطبها غيري، فأحبت أن تنكحه، فغرت عليها فقتلتها، فهل لي من توبة؟ قال: أأمك حية؟ قال: لا. قال: تب إلى الله عز وجل، وتقرب إليه ما استطعت، فذهب الرجل، فسألت ابن عباس: لم سألته عن حياة أمه؟ فقال: إني لا أعلم عملاً أقرب إلى الله عز وجل من بر الوالدة] هذا قاتل. وكذلك جاء عن عائشة في قصة المرأة التي عملت السحر في دومة الجندل، وقدمت المدينة تسأل عن توبتها، تقول عائشة: [فرأيتها تبكي حين لم تجد رسول الله صلى الله عليه وسلم] لأنها جاءت على وقت وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فجاءت تستفتي عن الكفارة، تقول عائشة: [لم تجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيشفيها -أي: بالجواب- حتى إني لأرحمها تبكي، فروت قصة السحر وهي تقول لـ عائشة: إني لأخاف أن أكون هلكت، سُقِطَ في يدي وندمت، والله يا أم المؤمنين! ما فعلت شيئاً قط ولا أفعله أبداً، فسألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حداثة وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يومئذٍ متواترون، فما دروا ماذا يقولون لها، وكلهم هاب وخاف أن يفتيها بما لا يعلم، إلا أنهم قالوا: لو كان أبواك حيين أو أحدهما لكانا يكفيانك] وجوّد ابن كثير إسناده عند ابن أبي حاتم.

صور بر الوالدين وأشكاله

صور بر الوالدين وأشكاله وأما صور البر وأشكاله فإننا معشر المسلمين نبر بآبائنا وأمهاتنا دائماً هكذا يجب علينا، أما الكفرة فإنهم قد اخترعوا عيداً بدعياً محرماً هو عيد الأم، ويقدمون فيه لأمهاتهم علبة من الحلوى أو هدية يوماً في السنة، ثم يهجرونها ويعصونها في سائر الأيام، وليس عندنا ولله الحمد عيداً يسمى عيد الأم، وإنما نحن نبر بالأم طيلة العام وكل أيام السنة ولا نحتاج إلى عيد. وصور البر وأشكاله كثيرة، فمن ذلك:

صور بر الوالدين قبل وفاتهما

صور بر الوالدين قبل وفاتهما إحسان القول الذي يدل على الرفق والمحبة، وتجنب غليظ القول، وعدم رفع الصوت فضلاً عن ترك السباب والشتائم، والمناداة بأحب الألفاظ إليهما، ولا يناديهما باسمهما، يقول: يا فلان أو يا فلانة، بل يقول: يا أبي! يا أبت! يا أمي! وكذلك تعليمهما ما يحتاجان من أمور دينهما ودنياهما، وطاعتهما فيما يأمرانه به، فإن كان ما أمراه به واجباً؛ فإنه يزداد وجوباً، وإن كان مستحباً؛ يصير واجباً، وكذلك إن كان مباحاً في الشريعة؛ لا يحصل فيه ضرر واجب؛ فعليه أن يطيعهما، ولا يحاذيهما في المشي بل يتأخر عنهما إلا في حالة الظلام وخشية الأذى، فإنه يمشي أمامهما؛ ليستكشف الطريق، ويستأذن عند الدخول وعند الخروج وعند الجلوس. وعندما يطعنان في السن ويكبران؛ ينبغي أن يزداد الرفق بهما لحاجتهما إلى المساعدة، وكم من عائلة فيها أب كبير أو أم مشلولة تحتاج إلى تغيير، ويحتاج الأب إلى إزالة نجاسة ونحو ذلك، فعند ذلك لا يثبت على هذه الخدمة إلا من عصم الله قلبه وثبته؛ لأن كثيراً من الناس يأنفون ويتأففون، وهي قد كانت تزيل الأذى والنجاسة عنك وأنت صغير وهي فرحانة، وأنت لو أزلت النجاسة عنها وهي كبيرة فإنك تزيله وأنت قرفان، فشتان شتان بينها وبينك. وكذلك لا يحد النظر إليهما، ما بر بأبويه من أحد النظر إليهما، وأن يكون عندهما خاشعاً ذليلاً، وكذلك يستأذنهما في السفر، ويقوم لهما لو دخلا عليه، ويقبل اليد والرأس ويدعو لهما حيين وميتين، وكما قال الله عز وجل {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء:24]، وكما قال نوح عليه السلام: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح:28]. وينبغي عليه أن يسعى في إرضائهما وأن يتحمل المشاق في ذلك، وأن يجاهد نفسه، فقد روى البخاري في الأدب المفرد بإسناد صحيح، عن أبي بردة قال: [سمعت أبي يحدث أن ابن عمر شهد رجلاً يمانياً يطوف بالبيت؛ يحمل أمه وراء ظهره، يقول: إني لها بعيرها المذلل، إن أذعر ركابها لم أذعر، ثم قال لـ ابن عمر: أتراني جزيتها؟ قال: لا. ولا بزفرة واحدة]، وفي رواية: [شهد ابن عمر رجلاً يمانياً يطوف بالبيت حمل أمه وراء ظهره، يقول: إني لها بعيرها المذلل، إن أذعرت ركابها لم أذعر، الله ربي ذو الجلال الأكبر، حملت أكثر مما حملت، فهل ترى أني جازيتها يا بن عمر؟ قال: لا. ولا بزفرة واحدة]، وفي رواية: [لا. ولا بطلقة واحدة، ولكن أحسنت، والله يثيبك على القليل كثيراً]. فهذه آلام الطلق التي تعرضت لها الأم من يجازيها عليه. وكان هناك رجلان من الصالحين في الطواف فإذا أعرابي معه أمه يحملها على ظهره ويرتجز، ويقول: أنا لا أزال مطيها لا أنفر وما حملتني ووضعتني أكثر وإذا الركائب ذعرت لا أذعر لبيك اللهم لبيك فقال أحدهما: نرمي وندخل في الطواف لعل الرحمة تنزل فتعمنا. وقال أبو بكر رحمه الله في زاد المسافر: من أغضب والديه وأبكاهما فيجب عليه أن يرجع فيضحكهما كما أبكاهما، وذلك لحديث عبد الله بن عمرو قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فبايعه، فقال: جئت لأبايعك على الجهاد وتركت أبوي يبكيان، قال: ارجع إليهما، فأضحكهما كما أبكيتهما). ولأجل هذا أيضاً في قصة كلاب المشهورة وهو ولد أمية بن أشكر، وهذا رجل أدرك الجاهلية والإسلام، وابنه كلاب من وجهاء وسادات المسلمين، وقد استعمل عمر رضي الله عنه كلاباً على أيلة، وكان قد خرج مع المسلمين في الجيش، وصار أميراً على أيلة لـ عمر، فاشتاق الأب لـ كلاب يوماً من الأيام، فقال: لمن شيخان قد نشدا كلاباً كتاب الله لو عقل الكتابا يناديني فيعرض في إباءٍ فلا وأبي كلاب ما أصابا إذا سجعت حمامة ببطن وادٍ إلى بيضاتها أدعو كلابا تركت أباك مرعشة يداه وأمك ما تسيغ لها شرابا فإنك والتماس الأجر بعدي كباغي الماء يلتمس السرابا ثم سمع عمر بالقصة فاستنشد الشعر منه، فأنشده له، فرق للأب، وأنفذ خلف كلاب أن يقبل، فقدم ووصف بره لأبيه، وأنه كان يحلب له في الإبل، وكان الأب غير موجود، فقال له عمر: احلب لبناً، فحلبه الولد، وحضر أمية وكان لا يرى الولد، فسقاه عمر من الإناء الذي حلبه ولده في غيبته وهو لا يراه، فقال الأب: إني لأشم رائحة يدي كلاب، فبكى عمر، وقال: هذا كلاب، فضمه إليه. وقال عمر: جاهد في أبويك. قال ابن عبد البر: هذا الخبر صحيح. وبر الوالدين مراتب، وقد ضرب بعض العلماء مثلاً، قال: لو أن الولد أحضر في بيته طعاماً مستلذاًَ يشتهيه وأبوه غائب، فأرسل الولد خلف أبيه يدعوه إلى الطعام؛ كان براً شاكراً، ولو أرسل خلفه دابته لكي يأتي الأب عليها، كان في الشكر منه أدخل، ولو ذهب خلفه بنفسه كان في البر أجزل، فإن أمر الغلام بطرح الماء على يديه ليغسل فقد بره وشكره، وإن كان بنفسه طرح الماء على يده ليغسل الأب كان أبر وأشكر وهكذا. صحيح أن الولد قد لا يأثم بإهمال هذه الأشياء مثلاً، لكن الذي يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب.

صور بر الوالدين بعد وفاتهما

صور بر الوالدين بعد وفاتهما وأما بعد الوفاة فإن ما يمكن عمله للأب والأم كثير جداً، ومن أهم ذلك: الاستغفار والدعاء، كما في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل لترفع درجته في الجنة، فيقول: أنى لي هذا؟ فيقال: باستغفار ولدك لك) رواه أحمد وغيره وهو حديث صحيح. فتأمل ربما تكون أنت سبباً في رفع درجة أبيك في الجنة. وكذلك الصدقة، فعن ابن عباس رضي الله عنها، أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (إن أمي توفيت، أينفعها إن تصدقت عنها؟ قال: نعم. قال: فإن لي مخرفاً -فستان- فأنا أشهدك أني قد تصدقت به عنها) وعن عائشة رضي الله عنها، (أن رجلاً قال: إن أمي افتلتت نفسها ولم توص، وأظنها لو تكلمت تصدقت، فهل لها أجر إن تصدقت عنها ولي أجر؟ فقال: نعم. فتصدق عنها) رواهما البخاري، وبوب للأخير باب: ما يستحب لمن توفي فجأة أن يتصدقوا عنه، طبعاً هذا بالإضافة إلى إنفاذ الوصية وإحسان التجهيز والكفن والصلاة والدفن والدعاء، والحج عنه إذا لم يحج والعمرة عنه إذا لم يعتمر، وحتى لو حج واعتمر؛ فإنه يشرع له أن يحج عنه ويعتمر، ولا بأس بذلك. وبالإضافة إلى ذلك يقضي دينه، وهذا من أعظم ما يقدمه الأبناء نحو آبائهم وأمهاتهم، أن يبادروا إلى قضاء ديونهم. ومن الأمور كذلك: صلة أصدقاء الأبوين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه بعد وفاة الأب)، وقال عليه الصلاة والسلام: (من أحب أن يصل أباه في قبره فليصل إخوان أبيه من بعده)، فإذا أردت صلة لأبيك المتوفى فصل أقرباءه أو صل أصحابه وأصدقاءه بعد موت الأب، زرهم وتفقدهم ولو بهدية. وعن أبي بردة قال: (قدمت المدينة، فأتاني عبد الله بن عمر فقال: أتدري لم أتيتك؟ قلت: لا. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أحب أن يصل أباه في قبره فليصل إخوان أبيه من بعده، وإنه كان بين أبي عمر وأبيك إخاء وود، فأحببت أن أصل ذلك) حديث صحيح. وهذا أمر يكاد أن يكون مفقوداً؛ لأن الشباب والأولاد يصلون ويزورون أقرانهم، وينسون أصحاب الأب وأقرباءه، وكذلك صاحبات الأم يمكن أن يتفقدها بهدية، أو إرسال سلام ونحوه.

إيذاء الوالدين وعقوبة العقوق

إيذاء الوالدين وعقوبة العقوق أما عقوق الوالدين فهو شنيع شنيع شنيع، وإيذاء الوالدين من أعظم الكبائر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله من لعن والديه) ولو بطريق غير مباشر؛ كأن يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه، فيكون هو المتسبب في إعادة اللعنة والسب على أبيه وأمه؛ لأنه عندما سب أبوي الآخر أخذت الآخر العزة بالإثم فسب أبويه، فهذا الساب أعاد السب على أبويه بسببه هو. وبعض الناس لا يكتفي بالعقوق أو معصية الأبوين، وإنما يجاهر بالسوء والفحشاء، فيقنط ويقهر أبويه، ويرفع الصوت ويتأفف، ويقول لأحدهما: أراحنا الله منك، وأخذ بعمرك، وعجل بزوالك يا شيبة النحس! ويا عجوز الويل! وحاله وحال أبيه كما قال الشاعر: أريد حياته ويريد موتي وربما يصل العقوق إلى درجة أن يتمنى الوالد أنه لم يلد له هذا الولد، وربما لو كان عقيماً كان أحسن، وقد ينهب بعضهم مال أبيه، وربما طرد أباه من البيت، ويمنع عنه النفقة، وقد يلطمه، وقد يحجر عليه، وقد يقول لأبيه: قد أخذت حقك، واستوفيت أجلك، وسئمتك الحياة، وملَّك الزمان، يا ليتك تموت ولم تحمل. قال الحسن: انتهت القطيعة إلى أن يجابي الرجل أباه عند السلاطين. أي: يخاصمه في المحاكم، وخصوصاً إذا كان بغير حق، وهذا العقوق لو صادف دعوة من الأب أو من الأم على الولد فإن دعاء الأب على ولده ودعاء الأم على ولدها مستجاب، ما بينها إلا مسافة تقطع في لمح البصر، تصعد دعوة المظلوم إذا كان أباً أو أماً إلى السماء، فيجيب الله عز وجل. ذكر أن شاباً كان مكباً على اللهو واللعب لا ينفك عنه، وكان له والد صاحب دين، كثيراً ما يعظ هذا الابن، ويقول له: يا بني! احذر هفوات الشباب وعثراتهم، فإن لله سطوات ونقمات ما هي من الظالمين ببعيد، وكان إذا ألح عليه زاد له في العقوق، وجار على أبيه، ولما كان يوم من الأيام؛ ألح على ابنه في النصح على عادته، فمد الولد يده على أبيه، فحلف الأب بالله مجتهداً ليأتين بيت الله الحرام فيتعلق بأستار الكعبة ويدعو على ولده، فخرج حتى انتهى إلى البيت الحرام، فتعلق بأستار الكعبة وأنشأ يقول: يا من إليه أتى الحجاج قد قطعوا عرض البسيطة من قرب ومن بعد إني أتيتك يا من لا يخيب من يدعوه مبتهلاً بالواحد الصمد هذا منازل لا يرتد من عقق فخذ بحقي يا رحمان من ولدي وشل منه بحول منك جانبه يا من تقدس لم يولد ولم يلد فقيل: إنه ما استتم كلامه حتى يبس شق ولده الأيمن: (ثلاث دعوات مستجابات: دعوة الوالد على ولده) (ثلاث دعوات لا ترد: دعوة الوالد لولده) حديثان صحيحان، فيستجاب دعاء الأب والأم على الولد أو للولد، فكن باراً تنل دعوة مستجابة، ولا تكن عاقاً فتنل دعوة عليك مستجابة، والذي يعق والديه لا شك أنه لا يقدر ما حصل منهما تجاهه، وليس عنده عرفان ولا شكر جميل ولا اعتراف بالنعمة، كما قال أحد الآباء معبراً في عتاب ولده: غذوتك مولوداً وعلتك يافعاً تعل بما أحنو علي وتنهل إذا ليلة ضافتك بالسقم لم أبت لسقمك إلا ساهراً أتململ كأني أنا المطروق دونك بالذي طرقت به دوني فعيناي تهمل تخاف الردى نفسي عليك وإنني لأعلم أن الموت وقت مؤجل فلما بلغت السن والغاية التي إليها مدى ما كنت فيك أؤمل جعلت جزائي غلظة وفظاظة كأنك أنت المنعم المتفضل فليتك إذ لم ترع حق أبوتي فعلت كما الجار المجاور يفعل ليتك فعلت مثل الجار، لو كان يدري الابن أية غصة قد جرعت، هذا لو أن إنساناً فارق أباه وذهب عنه. بعض الأبناء والأولاد لا يقدرون مشاعر الأبوين إذا سافر الولد، مع أنه يعتري نفوسهما كثير من الأثر النفسي؛ لأن الولد له فنون وأصدقاء وعالم آخر، فهو يذهب ويسافر ولا يفكر في استئذان أبويه: لو كان يدري الابن أية غصة قد جرعت أبويه بعد فراقه أم تهم بوجده حيرانة وأب يسح الدمع من آماقه يتجرعان لبيِّنه غصص الردى ويبوح ما كتماه من أشواقه ذرفا لأم سل من أحشائها وبكى الشيخ هام في آفاقه ولبدل الخلق الأبي بعطفه وجزاهما بالعدل من أخلاقه ونحن الآن مع قرب قيام الساعة زيادة في عقوق الأبناء لآبائهم، فيقدم رجل زوجته على أبيه وأمه، ويبر صديقه ويجفو أباه، ولا حول ولا قوة إلا بالله. ولكن اعلموا أن هذه المسألة دين ووفاء، وأن من عق أباه وأمه أرسل الله عليه من أبنائه من يعقه ويعاقبه، كما ذكر أن عاقاً كان يجر أباه برجله إلى الباب، فعاقبه الله بأن كان له ولد يجره برجله إلى الشارع، فيقول الأب: حسبك! ما كنت أجر أبي إلا إلى الباب، فيقول الولد: هذه الزيادة صدقة مني عليك. وبعضهم يتكبر على أبويه خصوصاً إذا كان صاحب شهادة علمية أو جامعية، والأب فلَّاح أو فقير أو عامي أو أمي ومثل ذلك، ولما جاء رجل من الخارج معه شهادة عليا وجاءه أصحابه يزورونه في البيت في بلده، وكان أبوه مزارعاً فقيراً، وهيئته هيئة فلاح فقير، فلما دخلوا عليه في البيت خجل أن يقول لهم هذا القروي هذا أبي، فقال: هذا خادم عندي. وهذا إنسان -هذه قصص واقعية- أخذ من أمه عشرين ألفاً لم يرجعها، والثاني أخذ اثنا عشر ألفاً ولم يرجعها، فلما طالبت الأول قال: أنتِ سكنتِ في البيت عندي ثلاث سنوات تأكلين وتشربين، اعتبري العشرين ألفاً هذه إيجار ثلاث سنوات ونفقة الأكل والشرب. وهذه بنت تطلب منها أمها نقوداً، تقول: لا أعطيك، ولو سألتيني مرة ثانية لا أدخل بيتك. ولذلك يروى في الأمثال ما يقارب القصص والأخبار أشياء من الأمور المعبرة: هذا رجل متزوج قالت له زوجته: لا بد أن تذهب بأبيك خارج البيت، لا نستطيع أن نتحمل هذا الطاعن في السن هذا أخلاقه لزقة هذا وهذا، لا بد أن تخرجه، فهمّ أن يخرج به إلى كهف ومغارة ويضعه هناك، فأخذ الزوج أباه الطاعن في السن، وفي الطريق قال الأب لابنه: أتطرحني في الكهف وهناك برد، هلَّا أتيت لي بلحاف، وكان لهذا الابن ابن وهو حفيد الجد المأخوذ إلى الغار، فقال الأب لولده الصغير: اذهب وهات لحافاً لجدك، وكان هذا الولد الصغير ذكياً، فذهب وجاء بنصف لحاف، فأعطاه لأبيه، وقال: هذا لجدي الذي طلبت، فقال: هذا نصف لحاف، فأين النصف الآخر؟ قال: خبأته لك يا أبي. وهؤلاء المتزوجون لا يحترمون أمهاتهم في كثير من الحالات، فتراه يبتعد عن أمه، مع أنه قد لا يكون له حاجة للذهاب، وإذا سألته: إلى أين تذهب؟ قال: مالكِ؟ ماذا تريدين؟ ونهرها، ولا يأتيها ولا يسألها ولا يقول: ماذا في خاطرك؟ وماذا تريدين؟ ولا يبدي استعداده لعمل الأشياء لها. هؤلاء الذين يخرجون من البيوت ينشغلون بزوجاتهم، ويبتعدون عن آبائهم وأمهاتهم وتحس الأم بفراغ كبير من جهة ولدها، وتحس بأن الزوجة قد أخذت ولدها عليها بالكلية، وهذا يسبب الغيرة بين الأم وزوجة الابن. ومجتمعنا فيه آفات وشرور كثيرة، وبعد الناس عن الدين سبب مآسٍ، تقول إحدى الأمهات: إني أصيح عند ربي، وربما يصل الحال بي من عقوق ولدي أن أدعو على نفسي وعلى بطني الذي حمله وعلى الثدي الذي أرضعه، قالوا لي: اشتكي عند الجهات الرسمية يسحبون جوازه، وأنا لا أريد لولدي الفضيحة، لكن لا يسأل عني وراتبه كبير، وبالشحاذة أخرج منه بمائة ومائتين، وإذا كلمته عن السفر إلى الخارج للعلاج، قال: أنت رجعية. تقول: جلست في المستشفى ثمانية أيام لم يسأل عني إلا مرة، ويكذب علي، تقول: أنا يمكن أقف أمام الله وأصيح وأطلب ربي وأدعو عليه دعوة لا يردها الله، لكن لا أريد الضرر لولدي ولا الأذية، وعنده زملاء في العمل عندهم عوائل يسافرون إلى الخارج، أمه تقول: انظر إلى أقربائك المستقيمين يقول: لا تقولي: انظر إلى فلان وفلان، كل واحد له طبيعته، تقول: تعبت عليه وربيته وهو الآن يغلق الباب ويمشي إذا ما أعجبه الكلام. وهذه تقول: ولدها لا يصلي ويسكر، ويرفع يده على أمه وهي ربته وتعبت عليه، وهو يتيم وأنفقت عليه ولا يعطيها قرش واحد، ويصرف راتبه على أصحاب السوء وفي المخدرات. وبعضهم لا يكون عنده لطافة ولا حسن أدب حتى في الاتصال بأهله، فيجعل زوجته تذهب إلى بيت أبيه وتزورهم بالنيابة عنه، وتتصل عليهم بالهاتف، وتقول: خذ كلم أباك. لا نريد -يا أيها الإخوة- أن نكون مثل الكفار الذين اشتدت عندهم المآسي من هذا النوع، وتقرأ: هذه قتلت أباها، وهذه طعنت أمها عدة طعنات، حتى ظنت أنها ماتت وأخذت النقود وهربت مع عشيقها، أولئك الكفرة وضعوا آباءهم وأمهاتهم في مصحات ودور الرعاية، حتى صار الحال أن يفتخر الأب أمام الآباء الآخرين في دار الرعاية أن ابنه يزوره مرة في الشهر، وأنه إذا ما استطاع أن يزوره مرة في الشهر يتصل به هاتفياً. وذلك الذي رضي بعد التوسل أن يبقي أمه عنده شريطة أن تعمل في كنس البيت والزبالة وجلب الأغراض للمنزل، ويعطيها أجرة مقابل خدمة السكن. وأنتم تسمعون عن الجرائم الكثيرة التي تحصل، ومنها: من قتل أمه واستعمل سكيناً، أو استعمل قالباً من الأسمنت، وتعاون على قتلها هو وزوجته، وغير ذلك من القصص في الواقع؛ لأننا نحن نقلد الكفرة ونسير وراءهم حذو القذة بالقذة، وينبغي أن ينتبه حتى الشباب المتدين إلى برهم بآبائهم وأمهاتهم، فبعضهم يستخدم الشدة في الكلام، وصفق الأبواب، ورفض الخدمة وجلب الأغراض، فضلاً عن أولاد السوء الذين يعملون أكثر من هذا بكثير كما ذكرنا. وبعض الأولاد يقاطعون آباءهم لأمورٍ دنيوية، فإذا رفض الأب أن يشتري له سيارة فإنه يقاطعه ولا يكلمه.

الموقف من الأب المشرك والأم الكافرة

الموقف من الأب المشرك والأم الكافرة أما بالنسبة للموقف من الأب المشرك، فإن الآيات والنصوص قد جاءت في تبيان هذا، وعلى رأس الأمثلة فصة إبراهيم عليه السلام مع أبيه: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً * {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً * {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً * {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً * {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً} [مريم:41 - 45] بالرغم من صلافة الأب وشدته، قال: {أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً} [مريم:46] بالرغم من هذا كان موقف الابن إبراهيم عليه السلام في غاية اللطافة {قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً} [مريم:47] وهذا إبراهيم اهتم بأبيه وتلطف معه في الخطاب وهو كافر، وهو يقول: يا أبت! في غاية التأدب، ولم يقل له: أنا أعلم منك، وأنت جاهل وأنا عالم، وإنما قال: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ} [مريم:43] وهو النبوة. وكذلك بيَّن له بالحجة والدليل، ولم يقل: افعل ولا تسأل: لماذا؟ {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً} [مريم:42] وهو يبدي شفقته على أبيه في أثناء الخطاب والدعوة، ويقول: ((يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ)) [مريم:45] فتأمل في هذا الخطاب ما أحسنه! وما ألطفه! مع كون الأب كافر من أعداء إبراهيم. وهذه قاعدة المعاملة قد جاءت بها النصوص الشرعية عندما قال الله عز وجل: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [لقمان:15] أي: ليس فقط إذا كان كافراً أو مشركاً، وإنما حتى لو أمرك بالشرك ماذا تفعل؟ {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} [لقمان:15] لأن طاعة الله مقدمة {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15] مع أنهما يأمران بالشرك ويأمران بالكفر. وفي صحيح مسلم، عن مصعب بن سعد، عن أبيه، أنه نزلت فيه آيات من القرآن، قال: (حلفت أم سعد ألا تكلمه أبداً حتى يكفر بدينه ولا تأكل ولا تشرب، قالت: زعمت أن الله أوصاك -انظر إلى الحرب النفسية من الأم المشركة لولدها المسلم- بوالديك وأنا أمك وأنا آمرك بهذا، قال: فمكثت ثلاثاً حتى غشي عليها من الجهد، فقام ابن لها يقال له عمارة فسقاها، فجعلت تدعو على سعد، فأنزل الله عز وجل في القرآن هذه الآية) وكانت تريد أن يعير بها، فيقال: يا قاتل أمه! بقيت لا تأكل ولا تشرب، لكنه بيّن ثباته على العقيدة، وأنه لن يتزحزح عن دينه. وكذلك من الأصول الشرعية في معاملة الوالدين إذا كانا على الكفر قول الله عز وجل: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8]. ولذلك جاء في صحيح البخاري، عن أسماء قالت: (قدمت أمي وهي مشركة في عهد قريش ومدتهم، إذ عاهد النبي صلى الله عليه وسلم مع أبيها، فاستفتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: إن أمي قدمت وهي راغبة في صلتي -راغبة في زيارتي أن أكرمها- وهي مشركة، أفأصلها؟ قال: نعم. صِلي أمك) لا يمنع ذلك، فالوالدان لهما أحكام واستثناءات خاصة. وقال ابن جرير رحمه الله: بر المؤمنين للكافرين للقرابة لا يحرم؛ إذا لم يكن فيه التقوية على الحرب بكراع أو سلاح، أو دلالة على عورة أهل الإسلام لحديث أسماء، فهذا هو الموقف من الأب والأم الكافرين والمشركين.

الموقف من الوالد الفاجر والوالدة العاصية

الموقف من الوالد الفاجر والوالدة العاصية إذا كان الأبوان فاجرين أو فاسقين -قد يوجد للإنسان أب فاسق أو أم فاجرة ونحو ذلك- فعليه أن يدعوهما إلى الله ويأمرهما بالمعروف وينهاهما عن المنكر. قال الإمام أحمد: يأمر أبويه بالمعروف وينهاهما عن المنكر، إذا رأى على أبيه أمراً يكرهه يعلمه بغير عنف ولا إساءة، ولا يغلظ له بكلام وإلا تركه، وليس الأب كالأجنبي، وقال: إذا كان أبواه يبيعان الخمر؛ لم يأكل من طعامهم ويخرج عنهم. وسأل رجل أبا عبد الله: إن أباه له كروم -بساتين عنب- يريد أن يعاونه على بيعها؟ قال: إن علمت أنه يبيعها ممن يعصرها خمراً فلا تعاونه. إذاً: الأب والأم إذا كانا فاجرين فاسقين عاصيين، لا يعينهما الولد في المعصية، وأحياناً يصل الأمر ببعض الحالات أن يكون الأمر في غاية الوقاحة، وهذه قصة واقعية: بنت اكتشفت أن أمها -والعياذ بالله- تفعل الفاحشة، فنبهتها ووعظتها، والأم تقول: لا تغضبيني، وتؤلف من عندها كلاماً تقول: الأم إذا كانت زانية، تغسلها بنتها من جنابة الزنا -أي: إنه يجب عليكِ أن تبري- فعليها أن تعظها وتذكرها بالله وتبين لها بالأدلة. والآن الفساد في المجتمع له حالات كثيرة، فتجد فسق الأبوين مع صلاح الأولاد، فتداخلت الأمور والأشياء، واختلف الأمر عما كان في الزمان الأول، والهداية إذا شملت كثيراً من الشباب والحمد لله فإنه قد ينتج أنه يكون هناك مفارقات في البيت، فينبغي أن يكون الموقف حكيماً والتبيان حاصل، ولو استدعى الأمر واستعان بأقرباء أو التنبيه؛ لأنه قد يكون واجباً تبليغ زوج هذه المرأة بحالها حتى يقوم عليها، فعند ذلك يبلغ ولا يعتبر من العقوق.

بعض المسائل الفقهية المتعلقة ببر الوالدين

بعض المسائل الفقهية المتعلقة ببر الوالدين أما بالنسبة لبعض المسائل الفقهية المتعلقة بالبر فهي كالتالي:

حكم المال إذا أخذه الأب

حكم المال إذا أخذه الأب أولاً: يجوز للأبوين أن يأخذا من مال ولدهما ما شاءا، بشرط ألا يضرا بالولد وألا يعطيا المال لولد آخر، كأن يأخذا بيته الذي هو سكنه، ويأخذا ثوبه الذي هو ملبسه، ويأخذا مركبه الذي يركبه ويبقى بدون شيء، لا مال ولا بيت ولا سكن ولا دابة، فهذا لا يمكن، لكن ما زاد عن حاجة الولد ومصاريف عائلته وأولاده ونفقته، فيجوز للأبوين أن يأخذا منه ما شاءا. بل إن الشريعة قد جعلت (أنت ومالك لأبيك) هو السبب في وجودك، فصار مالك ملكاً له: (أنت ومالك لأبيك) وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن من أطيب ما أكل الوالد من كسب ولده؛ لأن ولده من كسبه. فإذاً: يشترط ألا يضراه وألَّا يأخذا من ولد فيعطيا ولداً آخر. وتجب النفقة للأبوين المحتاجين شرعاً، والأم إذا كانت متزوجة من رجل آخر فإن زوجها ينفق عليها، لكن لو احتاجت فيجب على الولد أن ينفق على أمه إذا لم تجد طريقاً. ولا يحق للولد أن يمنع أمه من الزواج ما دامت ترغب في ذلك وهو متيسر، ويبلغ العقوق ببعضهم أن يعير أمه بالنكاح إذا تزوجت، أو البنت تقول: تزوجت على أبي وأنت فيك كذا وكذا، هذا حرام عليها ولا يجوز.

استئذان الوالدين في الهجرة والجهاد

استئذان الوالدين في الهجرة والجهاد ومن الأحكام أنه يجب استئذانهما في الهجرة، جاء رجل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: (جئت أبايعك على الهجرة، وتركت أبواي يبكيان، فقال: ارجع إليهما، فأضحكهما كما أبكيتهما). ويجب استئذانهما في الجهاد كما ثبت عند أبي داود: (أن رجلاً هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليمن، فقال: هل لك أحد في اليمن؟ قال: أبواي، قال: هل أذنا لك؟ قال: لا. قال: فارجع فاستئذنهما، فإن أذنا لك فجاهد وإلا فبرهما) وهذا إذا لم يكن الجهاد فرض عين، وكان النفير عاماً، فإن كان النفير عاماً؛ فإنهما لا يطاعان في الجلوس. وينبغي أن يعلم أن الجهاد قد يكون فرض عين، وطاعة الوالدين فرض عين كذلك، فلا يجب نسيان فروض الأعيان الأخرى والاحتجاج بأن هناك فرض عين، علماً أنه في كثير من الحالات يكون المستند الشرعي في إيجاب الجهاد على شخص بعينه غير وارد بأمور تتعلق بحال المسلمين، فإنه لا يجوز للمسلمين إعلان الجهاد إذا لم يكونوا على استعداد، وليست المسألة إلقاء المسلمين كالشياة لتذبح، وإنما إذا صارت المسألة مسألة دفاع عن النفس فإن المسلم يدافع عن نفسه، فالمسلم إذا دوهم في بيته أو عرضه وماله؛ يباح له أن يقاتل ويرفع السلاح ويدافع عن نفسه، ويجب على المسلمين دعمه وتقديم كل أشكال المساعدة الحربية والمالية والاقتصادية والمعنوية والدعوة والتعليم ونحو ذلك. وقال الإمام أحمد في الرجل يغزو وله والدة، قال: إذا أذنت له وكان له من يقوم بأمرها يجوز له أن يجاهد. وقال في رواية أبي داود: يظهر سرورها. قال: هي تأذن لي. قال أحمد: إن أذنت لك من غير أن يكون في قلبها، وإلا فلا تذهب. قال الإمام أحمد: ينبغي أن تكون راضية قلبياً مطمئنة ومقتنعة، وجاء كلام المفسرين في أصحاب الأعراف أن منهم أناساً غزوا بغير إذن والديهم ولا رضا الوالدين فقتلوا، فمنعهم القتل في سبيل الله من دخول النار، ومنعهم عصيانهم لآبائهم دخولهم الجنة، فهم على جبل بين الجنة والنار.

استئذان الوالدين عند السفر

استئذان الوالدين عند السفر السفر لطلب الرزق والمعيشة وسؤال يرد من الكثيرين، يقول: إنني وجدت عقد عمل في بلد آخر، وأريد أن أسافر لكسب الرزق، فماذا أفعل وأبواي في البلد عندي؟ نقول أولاً: إذا كان عندك مجال لطلب الرزق في بلدك بما يكفيك، فبقاؤك عندهما واجب البر بهما، وإذا كان لا مجال عندك والحالة ضيقة وأنت محتاج ولا بد أن تذهب إلى بلد آخر؛ فإنك تترفق وتستأذن بالكلام الطيب، حتى تستغني فترجع إليهما. وكذلك السفر لطلب العلم، فإنه يستأذن والديه، فقد روي أن الفقيه نصر بن أبي حافظ المقدسي لما رحل من بيت المقدس لطلب العلم إلى الفقيه الكازروني من أرض العراق، قال له الكازروني لما قدم عليه: ألك والدة؟ قال: نعم. قال: فهل استأذنتها؟ قال: لا. قال: فوالله لا أقرأتك كلمة حتى ترجع إليها، فتخرج من سخطها، قال: فرجعت إليها، فأقمت معها إلى أن ماتت، ثم رحلت في طلب العلم. وأما إن كان لتحصيل علم يحتاج إليه، فإنه لا بأس له بالسفر، مثل: أن ينوي طلب العلم، ولا يجد مجالاً إلا في الدراسة في كلية شرعية في خارج البلد ولا مجال لطلب العلم في بلده، والعلم الذي يريد طلبه يحتاجه أو يحتاجه البلد، فإنه يخرج ولو بغير إذنهما، مع غاية التلطف وتكرار المزاورة والإقامة عندهما ما أمكن ذلك.

حكم قطع صلاة النافلة للوالدين

حكم قطع صلاة النافلة للوالدين ومن المسائل الفقهية التي تكلم عنها العلماء في بر الوالدين، قطع صلاة النافلة من أجلهما عند النداء إذا خشي الغضب، واستدلوا بحديث جريج: (كان رجل في بني إسرائيل تاجراً، وكان ينقص مرة ويزيد أخرى، فقال: ما في هذه التجارة خير، لألتمسن تجارة هي خير من هذه، فبنى صومعته وترهب فيها، وكان جريج يصلي، فجاءته أمه فدعته -وفي رواية- كان جريج يتعبد في صومعته، فأتته أمه ذات يوم، فنادته: أي جريج! أشرف عليَّ أكلمك أنا أمك، وكان يصلي، فقال: أجيبها أو أصلي؟ -وفي رواية- فصادفته يصلي، فوضعت يدها على حاجبها - جريج في الصومعة- فقالت: يا جريج! فقال: يا رب! أمي أو صلاتي، فاختار صلاته ثلاث مرات، ترجع فتأتيه، فغضبت، ومن شدة الغضب قالت: اللهم لا تمته حتى تريه وجوه المومسات -وفي رواية- فغضبت فقالت: أبيت أن نطلع إلى وجهك، لا أماتك الله حتى تنظر في وجهك زواني المدينة). فحصلت بعد ذلك القصة المعروفة من هذه المرأة التي زنت بالراعي واتهمت جريجاً، وجاء بنو إسرائيل فكسروا صومعته وضربوه، ثم توضأ وصلى ركعتين ثم دعا الله سبحانه وتعالى وجاء للغلام، فقال: من أبوك؟ قال: الراعي، فبعد ذلك عرفوا شأنه، وسبح الناس وعجبوا، وأرادوا أن يعيدوا بناء الصومعة من الذهب، فقال: أعيدوها طيناً كما كانت. فالمهم أنه إذا ناداك أحد الأبوين وأنت تصلي صلاة النافلة، فإن كنت تعلم أنك لو ما أجبت الآن يغضبان عليك فعليك أن تقطع صلاة النافلة وتجيب، وإن كانت فريضة تخفف الصلاة.

تعارض بر الأب مع بر الأم

تعارض بر الأب مع بر الأم إذا تعارض بر الأب مع بر الأم، فنحن نعلم أن طاعة الزوج مقدمة على طاعة الأبوين بالنسبة للمرأة إذا تزوجت، لكن بالنسبة للأحوال الأخرى إذا تعارضت طاعة الأب مع طاعة الأم، نظرنا: إن كان أحدهما يأمر بطاعة والآخر يأمر بمعصية؛ قدمنا صاحب الطاعة، وإن تعارض أمرهما وكلاهما يأمران بمعصية؛ عصيناهما كليهما، مثل أن يقول الأب: لا تكلم أمك، وتقول الأم: لا تكلم أباك، كل منهما يأمر بمعصية، وكل منهما يأمر بأمرٍ فيه خلاف لأمر الآخر، فما هو الحل؟ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وكذلك لو قال لك أبوك مثلاً: لا تكلم خالك أو عمك، أو قالت لك أمك: لا تكلم خالتك، ماذا تفعل؟ تكلم خالتك سراً وتكلم عمك سراً، فتصل الرحم ولا تعصيها في ظاهر الأمر، أي: يسهل عليك ألا تغضبها. وإذا تعارضا تعارضاً ليس فيه معصية، لكن لم تستطع أن تصلهما جميعاً مثل الإنفاق، ما عندك إلا مال قليل لا يكفي إلا لواحد منهما، فالأم مقدمة على الأب في البر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بها ثلاثاً ويحاول التوفيق ما أمكنه. كذلك إذا كان كل واحد منهما أمراه بأمرٍ في نفس الوقت، فإنه يحاول التوفيق ما أمكنه ذلك بكل طريقة يفرغ وسعه وجهده لهذا الأمر، كما قال رجل لـ مالك: والدي في السودان كتب لي أن أقدم عليه، وأمي تمنعني من الذهاب، تقول: ابق عندي، فقال الإمام مالك: أطع أباك ولا تعص أمك، معناه: أن يجتهد في إقناع أحد الطرفين أو ماذا يفعل؟ يأخذ أمه ويذهب إلى أبيه، ومعنى كلام مالك رحمه الله: المبالغة في إرضاء الطرفين، والأم لها ثلثي البر. وكذلك من المسائل التي تكلم فيها العلماء: لو أن الأم أرادت الولد شاهداً، أو يترافع عنها في المحكمة ضد الأب؛ لأن الأب يقصر مثلاً في النفقة ونحو ذلك، فقال بعض العلماء: لا يترافع الابن وإنما يبقى خارج النوبة، وبعضهم قال: إذا كانت مظلومة يترافع لها ضد أبيه مع الإحسان للأب، وإنما المعاملة من باب أنها تمشي الأوراق.

حكم طاعة الوالدين في ترك الواجبات وفعل المحرمات وفي المشتبهات

حكم طاعة الوالدين في ترك الواجبات وفعل المحرمات وفي المشتبهات

حكم طاعة الوالدين في ترك الواجبات

حكم طاعة الوالدين في ترك الواجبات بالنسبة لطاعة الوالدين في ترك الواجبات فإن العلماء قالوا: إنه لا يُطاع الوالدان في ترك الواجبات مطلقاً، مثلاً: لو أمراه بترك فريضة، أو قالا له: أخر الحج؛ فأنت صغير الآن، عمرك خمس عشرة سنة أو سبع عشرة سنة، فلا يطيعهما، أو إذا ملك الزاد والراحلة والقدرة فلا يطيع؛ لأن الحج واجب على الفور، فإذا استطاع الحج لا يطيعهما مع لينه لهما. وكذلك سئل الأوزاعي: عن رجل تمنعه أمه عن الخروج إلى الجماعة والجمعة؟ فقال: ليطع ربه وليعص أمه في ذلك. وروى البخاري عن الحسن قال: من منعته أمه عن العِشاء في الجماعة شفقة عليه فلا يطعها. لو قالت: يا ولدي! برد، والمسجد بعيد، فصلاة الجماعة واجبة، والولد بقدرته أن يذهب وليس هناك خوف عليه لا من اختطاف ولا من قتل ولا من حرب ولا من سباع، فإنه يذهب إلى الجماعة.

حكم طاعة الوالدين في فعل المحرمات

حكم طاعة الوالدين في فعل المحرمات أما بالنسبة إذا أمراه في فعل المحرمات فإنه لا يطيعهما في ذلك؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. سمعت هارون بن عبد الله يقول: جاءني فتى، فقال: إن أبي حلف عليَّ بالطلاق أن أشرب دواءً مع مسكر، قال: فذهبت به إلى أبي عبد الله -الإمام أحمد - فأخبرته أن هذا الأب يأمر ولده بأن يشرب الدواء مع مسكر، فقال الإمام أحمد: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل مسكر حرام) ولم يرخص له. وقال الإمام أحمد في رواية الحارث: في رجل تسأله أمه أن يشتري لها ملحفة للخروج؟ قال: إن كان خروجها في بابٍ من أبواب البر كعيادة مريض أو جارة أو قرابة لأمر واجب لا بأس، وإن كان غير ذلك فلا يعينها على الخروج. فلو قالت: خذني على حفلة لفتاة وأنت تعلم أن فيها منكرات؛ فإنه لا يجوز لك أن تذهب بها مع التلطف، ولو دعت عليك. وفي رواية عن الإمام أحمد: أنه سئل عن رجل يكون له والد يكون جالساً في بيت مفروش بالديباج -يعني: الحرير والحرير حرام- الأب يقول للولد: ادخل عليَّ، والأب جالس على الأريكة وأمامه بساط من الحرير؟ قال الإمام أحمد: لا يدخل عليه، قلت: يا أبا عبد الله! والده، قال: إلا إذا دخل يلف البساط من تحت رجليه ويدخل، المهم ألا يطأ الحرير. ومن الدقائق التي ذكرها أهل العلم كذلك ما ذكره الملا علي قاري في شرح الفقه الأكبر قال: لو كان لمسلم أم أو أب ذمي، فليس له أن يقودهما إلى البيعة، لأن ذهابهما إلى البيعة معصية، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. لكن لو قالا له: إذا كانت لا تريد أن تأخذنا، فنحن نذهب في سيارة أجرة، لكن ارجع لنا عند موعد الخروج من الكنيسة، هل يذهب ويأتي بهما أم لا؟ A أما إيابهما منها إلى منزلهما فأمر مباح، فيجوز له أن يساعدهما، ولعل آخر رجوعهما عن البيعة إلى المنزل يوفق الله للتوبة وحسن الخاتمة.

حكم طاعة الوالدين في المشتبهات

حكم طاعة الوالدين في المشتبهات أما بالنسبة للمشتبهات فكان كلام أكثر العلماء: أن طاعة الوالدين واجبة في الشبهات إن لم تجد فيه حراماً محضاً. لكن لو أنهما أمراك أن تأكل معهما، وإذا ما أكلت معهما يغضبان عليك، والطعام الذي يأكلانه فيه شبهة، ماذا تفعل؟ بناءً على قول الأكثرين: فإنك تأكل معهما فإن ترك الشبهة مستحب، وطاعة الوالدين واجبة، فيقدم الواجب على المستحب، فإن كان الأب مكسبه من حرام أو الأم مكسبها من حرام أيضاً، فإذا علمت أن هذا حرام معين؛ لا تأخذه ولا تأكل منه، وإذا اختلط الحرام بالحلال، وليس فيه تمييز؛ فإنك تأكل إذا أمراك بذلك، فإن كان حراماً خالصاً؛ فإنه لا يأكل، وإن كان مختلطاً فإنه يأكل. وسئل الإمام أحمد رحمه الله: عن رجل مات أبوه وعليه دين وله مال فيه شبهة، فهل يجوز لي أن آخذ مال الأب وأستوفيه لأقضي به الدين؟ قال: تدع ذمة أبيك مرتهنة أي: اقض الدين لأن قضاء دين أبيك واجب، وتحصيل الأموال التي فيها شبهة ليس بحرام، فتسدد دين أبيك.

حكم طاعة الوالدين في ترك النوافل

حكم طاعة الوالدين في ترك النوافل أما بالنسبة لترك النوافل مثل نافلة الحج والعمرة، فقد قال ابن قدامة رحمه الله: للوالد في حج التطوع منع الولد من الخروج إليه؛ لأن له منعه من الغزو وهو من فرض الكفايات والتطوع أولى. وقال في مسألة: لا يجاهد من أبواه إلا بإذنهما. أي: جهاد التطوع، ويروى ذلك عن عمر وعثمان وهو قول مالك والشافعي وسائر أهل العلم، واحتجوا بالأحاديث؛ ولأن بر الوالدين فرض عين والجهاد فرض كفاية وفرض العين مقدم، فإن تعين عليه الجهاد سقط إذنهما، وكذلك ما وجب كالحج وصلاة الجماعة والجمعة والسفر للعلم الواجب لأنه فرض عين، هذا عرفناه سابقاً أنهما لا يطاعان في تركه. لكن بالنسبة للنوافل فإذا أمراه بترك النافلة مطلقاً لا يطاعان، لو قالا له: لا تصل صلوات نافلة أبداً، لا نسمح لك أ، تصلي إلا الفريضة، فماذا يفعل؟ لا يجيب. إن قالا له: لا تصوم صيام تطوع نهائياً وليس عليه ضرر في الصيام، فإنه لا يجب عليه الامتثال، فليس لهما منعه من الأشياء النافلة مطلقاً، والسنن الراتبة إذا دعياه لحاجتهما المرة بعد المرة فليطعهما، أي لو قالا: لا تصل السنة، تعال نريدك في مشوار، يذهب معه هذه المرة، صلاة الليل تعال أريدك في قضية، ليس فيها شيء، لكن دائماً يقول له: لا تصل ولا نافلة ولا سنة راتبة ولا قيام ليل، فلا يطاعان في هذا، لأن هذا ليس من حقهما. هذه قاعدة: إذا كان النهي عن النوافل على سبيل الدوام واللزوم فلا طاعة لهما؛ لأن فيه إماتة لشعائر الإسلام. وذكر بعض أهل العلم: أن الوالد لا يجوز له منع ولده من السنن الراتبة، وكذلك الزوج لا يمنع زوجته من السنن الراتبة، والسيد لا يمنع عبده من السنن الراتبة، وصاحب الشركة لا يجوز له منع الموظفين من السنن الراتبة بالكلية، فكل ما تأكد شرعاً لا يجوز منع الولد منه، وكذلك النفل المؤكد كطلب العلم إذا كان لا يضرهما، قال بعض العلماء: إنه لا يطاع في مثل ذلك. وكذلك تطليق الزوجة برأي مجرد: طلق زوجتك لماذا؟ لا يوجد سبب، طلق، هذا لا يطاعان فيه حيث لا ضرر ولا ضرار، فإذا أمراه بطاعة الزوجة لمجرد هوى وهذا يحصل عليه ضرر فلا يلزمه الطاعة. وسئل الإمام أحمد رحمه الله: عن رجل يصوم التطوع، فسألاه أبواه أو أحدهما أن يفطر؟ قال: يروى عن الحسن أنه يفطر وله أجر البر وأجر الصوم، وقال: إذا أمراه أبواه ألا يصلي إلا المكتوبة يداريهما ويصلي. قال الشيخ تقي الدين رحمه الله: ففي الصوم كره الابتداء فيه إذا نهاه، واستحب الخروج منه، وأما الصلاة فقال: يداريهما ويصلي. وقد نص أحمد على خروجه من صلاة النفل إذا سأله أحد والديه. إذاً: إذا كان النهي عن النافلة مطلقاً لا يطاعان، أما إذا كان مرة بعد مرة سألاه أشياء كثيرة؛ فيطيعهما. إن نهياه عن طاعةٍ لهوى وتحكم ليس فيه أي مصلحة لهما، مثل لو قالا له: لا تحلق رأسك في الحج والعمرة، لماذا؟ قالا: لأنك سوف تصير أصلع وشكلك قبيح، لا نسمح لك أن تحلق رأسك في الحج والعمرة، فهذا تحكم ولا طاعة لهما في هذا مع التلطف والمداراة.

حكم طاعة الوالدين في الزواج والطلاق

حكم طاعة الوالدين في الزواج والطلاق وأما بالنسبة للزواج قال الإمام أحمد رحمه الله: إن كان له أبوان يأمرانه أن يتزوج، أو كان شاباً يخشى على نفسه العنت وأمراه ألا يتزوج، قال: الزواج أوجب له من طاعة الوالدين. وسئل أحمد في رجل لا يخشى على نفسه العنت؟ فقال له: لا تتزوج، قال أحمد في رواية المروذي: إن كان رجلاً يخاف على نفسه ووالداه يمنعانه من التزوج فليس لهما ذلك، ولا يطيعهما. لكن إن قالا له: تزوج لكن نريدك أن تتزوج فلانة، ولا نرضى لك غيرها، قال الشيخ تقي الدين رحمه الله: ليس لأحد الأبوين أن يلزم الولد بنكاح من لا يريد، وأنه إذا امتنع لا يكون عاقاً، وإذا لم يكن لأحد أن يلزمه بأكل ما ينفر منه مع قدرته على أكل ما تشتهيه نفسه فإن النكاح أولى، فإن أكل المكروه مرارة ساعة وعشرة المكروه من الزوجين على طول تؤذي صاحبه ولا يمكنه فراقه، وبناءً على ذلك لو قالا له: لا تتزوج إلا فلانة وهو لا يريدها؛ فإنه لا يجب عليه الطاعة في هذه؛ لأن هذه عشرة عمر، والضرر فيها واضح جداً. وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية: عن رجل متزوج وله أولاد، ووالدته تكره الزوجة وتشير عليه بطلاقها، فهل يجوز له طلاقها؟ فأجاب: لا يحل له أن يطلقها لقول أمه، بل عليه أن يبر أمه، وليس تطليق امرأته من برها، والله أعلم. وسئل رحمه الله: عن امرأة هي وزوجها متفقان، وأمها تريد الفرقة، فلم تطاوعها البنت، فهل عليها إثم في دعاء أمها عليها؟ فأجاب: الحمد لله، إذا تزوجت لم يجب عليها أن تطيع أباها ولا أمها في فراق زوجها ولا في زيارتها، ولا يجوز في نحو ذلك، بل طاعة زوجها عليها إذا لم يأمرها بمعصية الله أحق من طاعة أبويها، وأيما امرأة ماتت وزوجها عليها راضٍ دخلت الجنة، وإذا كانت الأم تريد التفريق بينها وبين زوجها فهي من جنس هاروت وماروت لا طاعة لها في ذلك ولو دعت عليها، اللهم إلا أن يكونا مجتمعين على معصية، أو يكون أمره للبنت بمعصية الله، والأم تأمرها بطاعة الله ورسوله الواجبة على كل مسلم، فإذا كانت الزوجة تعيش بطاعة الله؛ فلا يحق لأحد أن يتدخل. ووردت هناك أحاديث في طلاق الزوجة إذا أمرها الأب، ففي الحديث الصحيح عند ابن حبان: (أن رجلاً أتى أبا الدرداء، فقال: إن أبي لم يزل بي حتى زوجني، وإنه الآن يأمرني بطلاقها، قال: ما أنا بالذي آمرك أن تعق والديك، ولا بالذي آمرك أن تطلق امرأتك، غير أنك إن شئت حدثتك بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعته يقول: الوالد أوسط أبواب الجنة، فحافظ على ذلك الباب إن شئت أو دع) فكيف يطبق هذا، وعمر قد أمر ولده بطلاق المرأة، فطلقها. A إذا كان تطليقه للمرأة فيه مصلحة للولد بسبب عصيان الزوجة وأنها فاجرة ومقصرة وفيها سوء في الدين والخلق، فيجب على الولد أن يطيع أباه وأمه في تطليق الزوجة إذا ما انصلحت، بل يجب عليه. وسأل رجل الإمام أحمد، فقال: إن أبي يأمرني بطلاق امرأتي. قال: لا تطلقها. قال: أليس عمر أمر ابنه عبد الله أن يطلق امرأته؟ قال: حتى يكون أبوك مثل عمر عنده حكمة عمر ونظر عمر. ونص أحمد أيضاً أنه لا يطلق لأمر أمه، فإن أمره الأب بالطلاق ينظر إذا كانت الزوجة مقصرة عاصية طلق، وإذا كانت الزوجة مطيعة؛ لا يجب عليه الطلاق ويهدم بيته. قال شيخ الإسلام رحمه الله: يبر في جميع المباحات، فلو أمراه بأمر مباح يجب عليه طاعتهما فيما أمراه ونهياه، وهذا ما إذا كان فيه منفعة لهما ولا ضرر عليه. إذاً: إذا كان عليه ضرر وليس فيه مصلحة لهما فلا تجب عليه الطاعة. والذي ينتفعان به ولا يتضرر هو به؛ هذا يجب عليه أن يطيعهما فيه، فإذا كان ينتفعان به ولا يضره؛ فإنه لا يشترط في وجوب طاعتهما فيه فإن كان يضره طاعتهما فيه؛ لم تجب طاعتهما فيه، لكن إن شق عليه ولم يضره -أي: يمكن أن يتحمل مع شيء من المشقة- وجب عليه الطاعة لعظم حق الوالدين.

الشباب والدعوة وبر الوالدين

الشباب والدعوة وبر الوالدين نأتي في نهاية المطاف إلى موضوع علاقة الشباب بآبائهم وأمهاتهم في مجال الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى. نقول أيها الإخوة: لا شك أن الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى فيها متطلبات، وتحتاج إلى تضحيات وتقديم أوقات وأموال، وكذلك الأبوان يحتاجان إلى بر، ويجب ألا يفصل الشاب بين بر الوالدين والدعوة إلى الله، ويقول: أنا نذرت نفسي للدعوة وطلب العلم، يعني أن الوالدين ليس لهما حق في هذا، هذا خطأ، ويجب أن يكون بر الوالدين داخل في ضمن الدين والعبادة، بل هو كذلك ومنه فلماذا يفصل؟ وبعضهم يقدم طاعة إخوانه والشباب من أصحابه على طاعة والديه في جميع الأحوال وهذا خطأ، ولذلك فإن طاعة الوالدين مقدمة ولا شك. ونأتي هنا إلى مسألة: إذا قال الأب لولده: لا تطلب العلم، ولا تحضر ولا حلقة؟ فهل يطاع لا شك أن هذا لا يطاع؛ لأن هذا تحكم بلا دليل، وفيه ضرر على الولد بحيث يمنعه من حضور حلق العلم بالكلية، لكن لو قال: اليوم لا تحضر، تعال أريدك؛ يذهب مع أبيه، أما أن يمنعه من طلب العلم بالكلية؛ فهذا لا يطاع. كذلك لو قال: لا أريدك أن تدعو إلى الله سبحانه وتعالى أبداً؛ فأيضاً لا يطاع فيه. لكن لو كان له مشوار مع شخص من المدعوين، وحضرت حاجة للأب فيقدم الأب فإن له الحق الشرعي. كذلك إذا قال له: لا تصحب إخوانك في الله، ولا بد عليك أن تعتزلهم، فهذا الأمر الكلي بالاعتزال لا يطاع فيه؛ لأن فيه ضرر على الولد وفقد الرفقة الصالحة، وربما حصل للولد فيه انتكاسة، ولذلك لا يطاع في هذا. لكن لو قال: أنت إلى أين ذاهب؟ قال: أذهب مع إخواني في الله. قال: أحتاجك في الذهاب معي إلى السوق؛ يقدم الأب ويذهب معه إلى السوق، لكن أن يقول: لا تذهب معهم مطلقاً فلا يطاع في هذا. وينبغي على الشباب والدعاة إلى الله سبحانه وتعالى أن يرفقوا بآبائهم وأمهاتهم، وألا يضغطوا عليهم الضغط الذي يسبب لهم كسر الخاطر، ويسبب لهم الضيق، ولا يفرض عليهم الأمر فرضاً، يقول: ارض بالواقع وإلا أعصيك، إما أن تعطيني الموافقة وإلا أعصيك، فهذا لا يصح أن يفعل مع الأب أو الأم. ويجب أن نفرق بين رفض الأب والأم شيئاً ضرورياً للابن شرعاً، كطلب العلم والزواج، وبين أن يرفض له أموراً يمكن للابن أن يستغني عنها دون ضرر عليه في الدين، أي: هناك فرق بين أن يرفض للابن أو يأمر الابن بشيء فيه ضرر على نفسه ودينه، وبين أن ينهاه عن شيء فيه مشقة عليه، لكن يمكن أن يتحمل ولا يتأثر منه، فيطاعان فيه. وعند النظر في أمور الدعوة والتربية؛ فإنك تنظر هل هذا الأمر ضروري بالنسبة لك، وهل إذا لم تفعله تأثم مثلاً أو تتضرر في دينك أو يحصل لك انتكاسة؟ فإذا كان يحصل وليس للأب منفعة أو الأم بأمرهما؛ إذاً لا يطاعان، وتعمل هذه العبادة، وإذا كان لا يحصل عليه ضرر في دينه، ولا يأمرانك أمراً نهائياً كلياً عاماً، وإنما المرة بعد المرة قد تفوت عليك مناسبة حلقة، درس، مرة فهنا تلزم الطاعة. ويجب أن نفرق كذلك بين أسباب مواقف الآباء إذا منعوا أولادهم من مرافقة أهل الخير، إذا منعه عداءً للدين وأهله قال: أنا لا أحب المتدينين أبداً، لا تمشِ معهم. هذا ليس له طاعة، قد يخاف على ولده من أمور متوهمة، فهنا الابن يراعي المقصد الحسن للأب؛ لأنه يخاف عليه، يراعي ذلك ما استطاع، وأحياناً يفعل ذلك الأب والأم تحكماً، يقول: لا تفعل كذا لا تذهب مع فلان لا تذهب مع هؤلاء لا تحضر درساً في كذا افعل نفذ، فهذا ذكرنا فيه أن هذا المنع بالكلية لا وجه له شرعاً. وأحياناً يظن الأب أن المصلحة الدراسية للولد أن يدرس طيلة الوقت وألا يخرج مع إخوانه في الله وألا يحضر مجلس علم ونحو ذلك، قصد الأب ألا يضيع الولد الدراسة، فعلى الولد أن يثبت للأب أنه ليس بمضيع للدراسة، وأنه يقوم بها حتى يتشجع الأب على السماح لولده. وختاماً: فإنا نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم البر بآبائنا وأمهاتنا، وأن يجعلنا من القائمين بحقوقهما والعاملين على إرضائهما في طاعته سبحانه. والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

قصة طالوت وجالوت

قصة طالوت وجالوت لقد قصَّ الله علينا في كتابه الكريم قصصاً كثيرة لأجل العبرة والعظة، ولحكم منها: تثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين على الحق، وحثهم على الصبر على دين الله عز وجل، وقد ذكر الشيخ من ضمن هذه القصص قصة طالوت وجالوت، ثم استطرد في ذكر الفوائد المستفادة من هذه القصة العظيمة.

بنو إسرائيل مع نبيهم وملكهم طالوت

بنو إسرائيل مع نبيهم وملكهم طالوت الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمْ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنْ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنْ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ * تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ} [البقرة:246 - 252].

بنو إسرائيل في حالة الاستضعاف

بنو إسرائيل في حالة الاستضعاف تشير هذه الآيات الكريمة إلى قصة وقعت لبني إسرائيل في فترة من فترات حياتهم في الأرض المقدسة، كانوا مضطهدين مهزومين أمام أعدائهم، وقد سلب أعداؤهم منهم التابوت الذي فيه سكينة من الله وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون، وقد شعر القوم بالذل ومرارة الهزيمة والهوان، وكان هذا الشعور عند العامة والملأ، فأرادوا أن يغيروا واقعهم الذليل وأن يبدلوا ذلهم عزة، وهزيمتهم نصراً، وعلموا أن السبيل الوحيد لذلك هو الجهاد في سبيل الله.

مطالبة بني إسرائيل نبيهم بالجهاد واختباره لهم

مطالبة بني إسرائيل نبيهم بالجهاد واختباره لهم هذه إذاً قصة بداية الصحوة في هذه الفترة، استيقظت العقيدة في نفوس وجهائهم، وكانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما مات نبي خلفه نبي، ولا شك أن شدة الذل والاستضعاف يولد في النهاية التحدي، وإرادة التغلب والإنقاذ من هذه الورطة التي يعيش فيها المستضعفون، وهذا النبي الذي لا نعلم اسمه كان معهم في فترة الاستضعاف، وليس من المهم معرفة اسمه ولذلك أبهم في الكتاب العزيز فقال الله: {إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ} [البقرة:246] ليس المهم ما هو اسم النبي، المهم أنهم قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله، أرادوا أن يقاتلوا مع ملك ولم يريدوا أن يقاتلوا مع النبي. ولما كان النبي فيهم -هذا- يعلم طبيعتهم المائعة، وهمتهم الرخوة، وأنهم لو أمروا بالقتال فسوف يرتدون عنه، وينكصون ويقعدون، قال لهم يريد التأكد منهم: {هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا} [البقرة:246]؟ يريد التأكد من هذه الهمة وهذه الروح الجهادية التي استيقظت الآن؛ لأنهم قالوا: {ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة:246] يعني: القوم يريدون الجهاد، وهذا النبي الكريم يريد أن يتأكد من حالهم، فقال: {هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا} [البقرة:246]؟ فأظهروا الإيمان، وحب الجهاد، وإرادة الخلاص من الذل والصغار، ولكنهم في أول اختبار ظهرت طبائع نفوسهم التي امتلأت بحب الدنيا والظهور فيها، وعدم التسليم لأمر الله تعالى. هم طمأنوا نبيهم أنهم سوف يقاتلون ولا يتخلفون، وإنما فقط الذي يمنعهم من عدم الجهاد هو عدم وجود ملك، فلو وجد ملك سيسارعون للقتال، وبينوا له الباعث القوي للقتال وقالوا: إنه الذل الذي يعيشونه: {وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا} [البقرة:246]. فلما سمع نبيهم بذلك، ولاحظ حماستهم، واندفاعهم، جاء الوحي من الله تعالى بأن الملك الذي عينه الله لقيادتهم في الجهاد هو طالوت، وأنه هو الذي سيقودهم إلى النصر والعزة وتحرير أرضهم من المغتصبين، لكن هؤلاء القوم لم يتخلصوا من حب الدنيا أبداً، ولذلك في أول اختبار بمجرد أن أعلمهم باسم الملك الذي سيقودهم قالوا: أنى يكون له الملك علينا؟ اعتراض أولي وفوري، اعتراض على اسم القائد، لماذا فلان؟ بدلاً من أن يسلموا لأمر الله جاءت الطبيعة اليهودية -كما مر معنا في قصة البقرة- لتعترض: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ} [البقرة:247]. بعد أن استعدوا قبل قليل للقتال إذا بهم يعترضون على القائد الذي عين من عند الله تعالى لأنه قال: {إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً} [البقرة:247] فلم يكن منتخباً منهم أو معيناً من نبيهم فقط وإنما كان من الله، وهذا الاعتراض ولا شك كان دليلاً واضحاً على تلكؤ القوم في تنفيذ الأوامر. وتمضي القصة لتبين بأنهم فوجئوا إذ كانوا يتوقعونه ملكاً قادماً من بيت الملك، وأن طالوت ليس من بيت الملك، ثم إنه فقير، وبين القوم تعلقهم بالدنيا بقولهم: {وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} [البقرة:247] فعجب النبي لموقف القوم الذين كانوا يريدون ملكاً يقاتلون وراءه، فبين لهم نبيهم المواصفات التي تؤهله للملك، وأنه أنسب الناس حسب الميزان الرباني: ((إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ)) تمكناً منه ((وَالْجِسْمِ)) يعني: قدرة على القيادة وتحمل أعباء القتال: {وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:247] وأراد نبيهم أن يبين لهم بالتأكيد آية وعلامة على صحة تولي هذا الملك عليهم فقال لهم: {إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ} [البقرة:248] يأتيهم التابوت بدون قتال ولا حرب، ستحمله الملائكة وتأتي به إليهم، وهذا دليل على أن طالوت هو الملك من عند الله، والسكينة: هي الراحة والرضا واليقين، وفي هذا التابوت أشياء مادية ورثوها عن آل موسى وآل هارون.

خروج طالوت بقومه للقتال واختباره لهم

خروج طالوت بقومه للقتال واختباره لهم ولما جاءت الآية سلم القوم مكرهين ووافقوا على تملك طالوت، وتسلم الملك والسلطان، وعبأ قومه للقتال وجهزهم لمحاربة الأعداء، ولما خرج بهم للمعركة الفاصلة أراد أن يختبر حماستهم وطاعتهم، وأن يبلو هذا الفورة التي حصلت في البداية؛ لأنه لا بد قبل المعركة من اختبارات للتأكد من حماسة الجند واستعداداتهم للمواجهة، لا بد من اختبارات صغيرة قبل الاختبار الكبير، فلما فصل بهم وغادر البنيان والعمران قال: {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ} [البقرة:249] فعندما تمرون عليه لا تشربوا منه، فمن خالف أمري فليذهب عني وليس من جيشي ولا يتبعني؛ لأنه ليس جندياً يستحق أن يكون في هذا الجيش، لكن الذي لم يشرب والتزم الأمر وأطاع فإنه يبقى معي ويقاتل. ثم إنه أراد أن يجعل فرجة وفسحة في الأمر لأن في القوم عطشى قال: {إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} [البقرة:249] يبل بها فمه ويطفئ عطشه، ولما وصلوا النهر عصوا طالوت وشربوا منه إلا قليلاً منهم التزموا الأمر وأطاعوه.

الاختبار الثاني لأصحاب طالوت

الاختبار الثاني لأصحاب طالوت ترك طالوت جموع العصاة المخالفين وسار بالقلة الباقية المطيعة حتى وصل بهم إلى أرض المعركة، فلما نظر جنوده إلى جنود الأعداء خافوا قتالهم، وجبنوا عن مواجهتم، وكان أعداؤهم الكفار بقيادة جالوت الكافر، وكانوا أكثر عدداً منهم، فهنا حصل امتحان آخر قبل أن تنشب المعركة وهي أن بعضهم قالوا: {لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} [البقرة:249] وهم الأكثرية، ولا قدرة لنا على حربهم، وبعضهم -هؤلاء الخائفون- جبنوا عن المعركة، وبقي مع طالوت من القليل الأول قلة وهم الذين يظنون أنهم ملاقو الله، وهؤلاء القلة: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً} [البقرة:249] دخلوا المعركة مؤمنين بالله، صابرين على بلواه، وبدأت المعركة، فطلبوا النصر من الله واستغاثوا به وتضرعوا إليه وقالوا: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة:250] وحقق الله وعده، وأنزل نصره، فهزموهم بإذن الله، وبرز في المعركة داود عليه السلام ولم يكن نبياً ولا ملكاً وقت ذاك، برز بقوته وشجاعته وقتل جالوت وآل إليه الأمر بعد طالوت، ومن الله على داود بالملك والحكمة، وعلمه مما يشاء.

فوائد قصة طالوت مع قومه في قتال جالوت

فوائد قصة طالوت مع قومه في قتال جالوت

مرحلة الاستضعاف تولد التحدي وقوة الإيمان

مرحلة الاستضعاف تولد التحدي وقوة الإيمان وبعد هذا الملخص للقصة نأتي إلى ذكر بعض الفوائد والدروس المأخوذة منها: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة:246] كما قلنا في البداية: إن مرحلة الاستضعاف تولد التحدي، وإن شدة الطغيان من الأعداء لا بد أن يوقظ أشياء في بعض النفوس، وتنتفض العقيدة في القلوب، ويستيقظ الإيمان، وهذا ما هو موجود الآن في المسلمين، فإن المسلمين اليوم يعيشون -ولا شك- مرحلة استضعاف كبرى، فقد تسلط عليهم الأعداء من كل جانب، ولا شك أننا في هذه المرحلة ينبغي أن نستلهم بعض ما في هذه القصة من الفوائد التي تعين على مواجهة الاستضعاف الذي نعيشه في هذه المرحلة. لا شك أن التحدي يجب أن يكون موجوداً في نفوسنا، وينبغي علينا ونحن نعيش في هذا الذل الذي فرضه علينا أعداؤنا أن نسعى للخلاص منه، لا يصح أن نستسلم للواقع بأي حال، ولذلك قالوا: {ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة:246] فإذا وضحت النية، ووضح الطريق من أن الجهاد في سبيل الله هو سبيل الخلاص من الذل، عند ذلك ينقطع نصف الطريق إلى النصر، فإن الهدف لابد أن يكون واضحاً فلا يغشاه الغبش الذي لا يدري معه الشخص أين يسير.

الاعتداد في الملك والقيادة بالعلم والقدرة

الاعتداد في الملك والقيادة بالعلم والقدرة ولما أنهكت الحروب وقهرت الأعداء أولئك القوم، سألوا نبيهم رجلاً يقاتلون وراءه، وعندما قال لهم نبيهم: {هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة:246] ما الذي يمنعنا من القتال ونحن نعيش في غاية الذل، وما فائدة العيش؟ فنلاحظ هنا -أيها الإخوة- أنهم أول ما تولوا عندما أنكروا إمرة طالوت، كانوا يتوقعون شخصاً، وإذا بشخص آخر يخرج، وأظهروا التولي عن طاعته من البداية {أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا} [البقرة:247] ولذلك لا بد أن يتأسس في النفوس الميزان العقدي الإيماني الرباني للاصطفاء، ولا يجوز أبداً أن ننظر إلى قضية المال على أنه ميزان أو على أنه ميزة: {وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} [البقرة:247] إذاً هو فقير، قال: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:247] طعنوا في طالوت لأمرين: الأمر الأول: أنه ليس من بيت ملك. والثاني: لأنه فقير. والله تعالى رد هذه الشبهة بقوله: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ} [البقرة:247] وقوله: {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة:247] بينت الآية أن للقائد صفتين مهمتين: الأولى: العلم. والثانية: القدرة: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة:247] فأول صفة من صفات القائد: العلم، والصفة الثانية: القدرة، ولا يستحق أن يكون قائداً ملكاً عليهم إلا إذا جمع بين العلم والقدرة. هذا العلم والقدرة أهم من الجاه والمال، لكنهم اعترضوا وقالوا: هذا ليس بذي جاه: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ} [البقرة:247] والاعتراض الثاني: أنه فقير: {وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} [البقرة:247] فرد الله عز وجل عليهم بصفتين أهم من الصفتين اللتين اشترطوهما هم وفكروا فيهما فقال لهم: {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة:247] فلماذا كان العلم والقدرة أهم من الشرف والمال، وأهم من النسب والمال، وأهم من الجاه والمال؟ لأسباب: أولاً: أن العلم والقدرة من باب الكمالات الحقيقية، فهما: كمال حقيقي أن يوجد في الشخص علم وقدرة بخلاف الجاه والمال. وثانياً: أن العلم والقدرة من الصفات الذاتية للشخص، بخلاف الجاه والمال الذي هو أمر منفصل عن الإنسان، فإن الإنسان قد يكون بغير جاه ولا مال ثم يكتسب جاهاً ومالاً، يكتسبه من شيء خارجي، لكن العلم والقدرة صفات ذاتية في الشخص لا تنفك عنه. ولذلك من الأسباب أن العلم والقدرة لا يمكن سلبهما عن الإنسان، لكن المال والجاه يمكن سلبهما عن الإنسان. وكذلك فإن العالم بأمر الحروب القوي الشديد على المحاربة، يحصل الانتفاع به في حفظ البلد ودفع شر الأعداء أكثر من الانتفاع بصاحب النسب والغني إذا لم يكن عنده علم ولا قدرة على دفع الأعداء.

الله خالق أعمال العباد

الله خالق أعمال العباد وقوله تعالى: {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة:247] يدل على خلق الله لأعمال العباد وأنها من عنده، الله خلق فيه العلم، وخلق فيه البسطة في الجسم، قال بعضهم: إن المراد بالبسطة في الجسم طول القامة، وأنه سمي طالوت لأنه كان طويلاً وأن (طالوت) مبالغة من الطول، ولكن هذا ليس صحيحاً فإن طالوت اسم أعجمي وليس مشتقاً من الطول، ولذلك فإن القول الراجح في البسطة التي آتاها الله طالوت أنها القوة والشدة، فالمراد بها القوة ليس الطول ولا الجمال وإنما القوة. ولا شك أن العلم والقوة أجل صفات القائد، والله يؤتي ملكه من يشاء ولا يعترض عليه أحد: {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:247] وتأمل كيف ختمت الآية بصفتين من صفات الله مناسبة لما في الآية فقوله: {وَاللَّهُ وَاسِعٌ)) [البقرة:247] هذا مقابل لقولهم: إنه فقير ولم يؤت سعة من المال فقال: الله واسع الفضل، أنتم طعنتم فيه لكونه فقيراً والله واسع الفضل والرحمة، والله يعلم أن القيادة لا تتأتى بالمال، والله قادر أن يفتح عليه من أبواب الخير والسعة ما يريد، والله عليم فعلم هذا الشخص، وعليم في من يصلح للقيادة، وعليم باصطفائه واختياره سبحانه وتعالى.

أخذهم الجلال والهيبة والوقار من التابوت

أخذهم الجلال والهيبة والوقار من التابوت وفي قوله: ((وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ)) يعني: علامة ملكه: ((أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ)) وهو صندوق التوراة: ((فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ)) الجلال والوقار والهيبة: ((وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ)) لا يهمنا ما هي هذه البقية، هل هي عصا موسى؟ هل هي بقية الألواح التي تكسرت؟ ما هي هذه البقية؟ الله أعلم: {تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ} [البقرة:248] في هذه الخارقة التي هي علامة ملكه.

النصر يكون ببذل الأسباب الشرعية

النصر يكون ببذل الأسباب الشرعية وكذلك فإن في قوله: {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ} [البقرة:249] قد ورد في الحديث عدد هؤلاء، فقد روى البخاري رحمه الله تعالى عن البراء، وروى ابن جرير أيضاً عنه قال: (كنا نتحدث أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الذين كانوا معه يوم بدر ثلاثمائة وبضعة عشر على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر، وما جازه معه إلا مؤمن) فإذاً كم عدد الذين جاوزوا مع طالوت النهر؟ ثلاثمائة وبضعة عشر شخصاً مثل عدد المسلمين في بدر. ولما غلبت الفئة القليلة في بدر الفئة الكثيرة وهم المشركون كان هذا مثالاً آخر مضافاً إلى الأمثلة التي سبقت مثل قصة طالوت على القاعدة العظيمة التي ذكرها الله بقوله: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:249] وانكسر العدد الكبير أمام العدد اليسير، وفي هذا دليل على أن الإيمان في المعركة هو المرجح، وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: [إنما تقاتلون بأعمالكم] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم) فإذا كانت الأعمال فاسدة، والضعفاء مهملون، والصبر قليل، والتوكل ضعيف، والتقوى زائلة فلا سبيل إلى النصر البتة فإن الله ذكر أسباب النصر فقال: {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ} [آل عمران:200] وقال: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا} [المائدة:23] وقال: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128] وقال: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج:40] وقال: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:45] فهذه أسباب النصر وشروطه لما كانت معدومة، وضعيفة وضئيلة لذلك لم يأت النصر، وانحسر سلطان المسلمين. قال القرطبي رحمه الله في وقته -وكان وقت قوة للنصارى، في أواخر العهد الأندلسي- قال: فإنا لله وإنا إليه راجعون على ما أصابنا وحل بنا، بل لم يبق من الإسلام إلا ذكره، ولا من الدين إلا رسمه لظهور الفساد، ولكثرة الطغيان، وقلة الرشاد، حتى استولى العدو شرقاً وغرباً، براً وبحراً، وعمت الفتن، وعظمت المحن، ولا عاصم إلا من رحم.

العبرة ليست بكثرة العدد

العبرة ليست بكثرة العدد وفي قوله تعالى: {لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} [البقرة:249] أراد عز وجل أن يقوي قلوب هؤلاء الذين قالوا هذه الكلمة بقوله: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:249] فالعبرة ليست بكثرة العدد ولكن بالتأييد الإلهي، ولذلك إذا جاءت الهزيمة فلا ينفع كثرة العدد، وإذا جاء النصر فلا يمنعه قلة العدد.

قيمة اللجوء إلى الله ودعائه

قيمة اللجوء إلى الله ودعائه وفي قوله تعالى: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً} [البقرة:250] فائدة بلاغية بليغة وهي: أنهم طلبوا من الله أن يفرغ عليهم الصبر أي: يغمرهم به من فوقهم؛ فتستقر قلوبهم ولا تقلق، وأن يثبت أقدامهم من الأسفل، أفرغ علينا صبراً من فوقنا، يعني: أنزله علينا كثيراً عامراً كما يفرغ الإنسان الإناء كله: {أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} [البقرة:250] فسألوا الله تثبيت الظاهر والباطن، فإذاً إذا جاء الصبر من فوق، وثبات الأقدام من الأسفل جاء النصر. {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} [البقرة:250] المبارزة: أن يبرز كل واحد منهم لصاحبه في وقت القتال، نلاحظ هنا دور العلماء والأقوياء إيمانياً لما قالوا: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً} [البقرة:249] ونلاحظ تضرعهم إلى الله بإفراغ الصبر، وإنزال النصر، كما قال الله في آية أخرى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:146 - 147] وكان النبي صلى الله عليه وسلم يلجأ إلى ربه في هذه المواطن الشديدة، ويجأر إليه، ويلح عليه إلحاحاً شديداً، ولذلك كان يقول في معركة بدر: (اللهم بك أصول) كان يستنجز نصر الله وموعوده ويقول إذا لاقى العدو: (اللهم إني أعوذ بك من شرورهم، وأجعلك في نحورهم) وكان يقول: (اللهم بك أصول وبك أجول). فالإفراغ: هو الصبر وإخلاء الإناء مما فيه: {أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً} [البقرة:250] المبالغة في طلب الصبر من وجهين: الأول: أنه إذا صب الشيء في الشيء فقد أثبت فيه بحيث لا يزول عنه: {أَفْرِغْ عَلَيْنَا} [البقرة:250] يعني: صبه علينا صباً بحيث لا يخرج بل يبقى مستقراً في أنفسنا. والثاني: إفراغ الإناء هو إخلاؤه، معنى ذلك: صب كل ما فيه، ولذلك سألوا صبراً كثيراً وداخلاً ولذلك قالوا: {أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً} [البقرة:250] وهذا أبلغ من قولهم: صبرنا فالإفراغ إذاً طلب الكثرة من الصبر، وأن يكون فيه -داخله- ممتلئاً بحيث إنه لا يخرج منه.

الصبر واتخاذ الأسباب المادية عند لقاء العدو

الصبر واتخاذ الأسباب المادية عند لقاء العدو وكذلك فإنه يتبين أن من الأمور المطلوبة عند المحاربة: أولاً: أن يكون الإنسان صبوراً. كذلك أن يكون قد وجد من الآلات والأدوات ما يعينه على المواجهة. ثالثاً: أن تزداد قوته على قوة عدوه؛ فيحصل عند ذلك الانتصار، فأما الأولى فهي المذكورة في قوله تعالى: {أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً} [البقرة:250] والثانية: {وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} [البقرة:250] والثالثة: {وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة:250] فإذا تحقق الصبر وثبات الأقدام والغلبة -الزيادة- على العدو -الزيادة العامة- يحصل الانتصار.

فضل داود عليه السلام

فضل داود عليه السلام وقوله تعالى: {فَهَزَمُوهُمْ} [البقرة:251] يعني: هزم هؤلاء الأقلون أولئك الكثيرين: {بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:251] يعني: ليس بقوتهم ولا بعددهم، وإنما بإذن الله فهو الذي شجع القليلين وخذل الكثيرين: {وَقَتَلَ دَاوُدُ} [البقرة:251] وهو واحد وفرد من جنود طالوت: {جَالُوتَ} [البقرة:251] وهو عظيم الكفار ومقدمهم وقائدهم: {وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة:251] وقلنا المُلك: صار مَلك بني إسرائيل، والحكمة: هي النبوة، وعلمه مما يشاء: صناعة الدروع من الحديد ونحو ذلك. ولا شك أن في ذلك دليلاً على شجاعة داود عليه السلام، وأنه قتل جالوت قتلاً أذل به جيشه وكسره وهزمه، فإنه إذا قتل ملك الجيش وقائدهم فإن ذلك أدعى لفرارهم وانحسار أمرهم، وهذه غنائم كثيرة ساقها الله تعالى بعد أن قتل جالوت ورزقها المسلمين.

في هذه الآيات تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم

في هذه الآيات تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وفي قوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ} [البقرة:252] تلك: إشارة إلى ما سبق ذكره في الآيات من إماتة الألوف منهم ثم إحياؤهم، وتمليك طالوت، وإتيان التابوت، وانهزام جالوت وقتل داود له، وتملك داود، هذه آيات الله، أخبار غيب أخبرنا بها الله عز وجل: {نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ} [البقرة:252] ليس بالباطل: {وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [البقرة:252]. هذه الآيات تنزل على النبي صلى الله عليه وسلم، وفيها تسلية له، ومواجهة لأعدائه من الكفار والمنافقين، فكأنه يقول له: هذه آياتنا وهكذا نصرنا أولياءنا فاصبر يا محمد -صلى الله عليه وسلم- وإنك لمن المرسلين المنصورين بإذننا.

ما ورد من الإسرائيليات لا يستند إليه

ما ورد من الإسرائيليات لا يُستند إليه وما ورد في الإسرائيليات في قصة طالوت وجالوت أشياء كثيرة جداً ولكنها رجم بالغيب، والله أعلم بصحتها، مذكور فيها أسماء، ومذكور فيها أشياء عجيبة، كما أنهم قالوا في إسرائيلياتهم أن داود رمى جالوت بحجر واحد كسر الخوذة التي على رأسه، ودخلت رأسه، وفتتت دماغه، وخرجت من الخلف، وأصابت وراءه ثلاثين رجلاً فقتلتهم، ثم تفتت الحجر، وأصابت كل قطعة من الحجر المفتت جندياً من جنود جالوت فقتلته، هذا شغل الإسرائيليات؛ ولذلك لا يعول عليها البتة. ثم إن من الإسرائيليات الخطيرة جداً الموجودة عندهم في هذه القصة أنهم يقولون: إن طالوت بعد عدة محاولات حسد داود، قالوا: طالوت حسد داود وكاد له بعدة محاولات لقتله ولكنها فشلت كلها إلى آخر القصة الباطلة، فلذلك لا يعول على الإسرائيليات البتة. ثم إن هذه القصة التي فيها مبهمات يعني مثلاً: متى حدثت؟ وهو قال: {مِنْ بَعْدِ مُوسَى} [البقرة:246] لكن بعد موسى بكم سنة؟ الله أعلم، ما اسم هذا النبي؟ الله أعلم. ما تفصيلات السكينة والبقية التي ستكون في التابوت من آل موسى وآل هارون؟ لم يذكر. ما اسم النهر؟ كم عدد الذين خالفوا وشربوا؟ كيف كانت نهاية طالوت؟ طالوت ماذا حصل له بعد ذلك؟ لم تذكر. فإذاً كل شيء لم يذكره الله عز وجل فليس فيه فائدة لنا ولو كان فيه فائدة لذكره، وما ذكره يغني عما لم يذكر من التفصيلات.

فوائد للقصة ذكرها محمد رشيد رضا

فوائد للقصة ذكرها محمد رشيد رضا وذكر العلامة/ محمد رشيد رضا رحمه الله من فوائد هذه القصة أشياء كثيرة:

القائد قد يكون مغمورا فتظهره الأحداث

القائد قد يكون مغموراً فتظهره الأحداث فمن الفوائد قال: إن الأمم إذا اعتدي على استقلالها، وأوقع الأعداء بها فهضموا حقوقها، تتنبه مشاعرها لدفع الضيم، وتتوجه إلى شخص يقودها للخلاص. فتطلع الأمة لقائد يقودها في مرحلة الذل التي مرت بها هذا هو الطبيعي هذا هو الشيء المفترض أن يحصل؛ ولذلك فإن كثيراً من الناس ينتظرون الخلاص على يد قائد، وأنه لا بد من قائد يقود، وأن عدم وجود القائد مشكلة كبيرة، لكن هل نقف مكتوفي الأيدي حتى يظهر قائد يقودنا؟ A لا. لابد من أخذ العدة والاستعداد، وقد يكون القائد واحداً من هؤلاء المسلمين الذين يقودهم إلى النصر؛ ولذلك قد يكون القائد مغموراً، فهذا طالوت أول الأمر ما كان ذا ملك ولا من سبط النبوة، ولا كان صاحب مال، كان رجلاً مغموراً بين الناس؛ لذلك فوجئوا، ولذلك يمكن أن يكون الذي يقود الأمة رجلاً من أغمار الناس يظهره الله تعالى في حادثة أو مناسبة فيعظم أمره ويقود الأمة. فداود برز في المعركة، وعظم شأنه لما قتل جالوت، فالأحداث تظهر الأشخاص، وتظهر القادة، وهذا درس آخر فإن القادة والذين يتولون الأمة ويقودونها لا يظهرون من كسل، لا يظهرون من فراغ، لا يظهرون بدون خلفية، يظهرون من الأحداث، فهي التي تظهرهم؛ ولذلك فإن أحداث المعركة هي التي أظهرت داود عليه السلام لما قتل جالوت شجاعته وشكيمته أبرزته، وتطلعت الأنظار إليه.

البلاء إذا نزل أدركه الناس كلهم

البلاء إذا نزل أدركه الناس كلهم وكذلك فإن من فوائد هذه القصة: أنه عندما يحدث البلاء بالأمة فإن الخطر يدركه الكبير والصغير، والخاص والعام؛ ولذلك قال الملأ من بني إسرائيل: {ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً} [البقرة:246] فالملأ هم الذين يريدون الخلاص أيضاً وليس فقط العامة، وأنه متى عظم الشعور بوجوب دفع الظلم والقيام على الأعداء فإنه لا يلبث أن يسري إلى العامة حتى يكون شعوراً عاماً.

القائد ينتخبه أهل الحل والعقد

القائد ينتخبه أهل الحل والعقد وكذلك فإن الاختلاف على مقدم القوم وقائدهم من شأن الأمم، ولذلك جعل الإسلام انتخابه إلى أهل الحل والعقد والناس تبع لهم، وليس للغوغاء والعامة أن يرشحوا أحداً أو ينتخبوه كما هو شأن الديمقراطيات الغربية، فإنهم قد يكون عندهم شواذ كثر، وغوغاء وهمج، ومع ذلك يشتركون في انتخاب رئيس لهم فقد ينتخبون شاذاً أو عربيداً مثلهم أو شخصاً يحقق لهم أهواءهم، ولا يهم هؤلاء الشواذ أن يكون عالماً أو حكيماً أو تقياً أو يعرف المصلحة، ولذلك تنطلي كثير من حملاتهم الانتخابية على هؤلاء الناس في الشارع فيرشحونهم، ولذلك في الإسلام معروف كيف يكون انتخاب الإمام، وكيف يكون إظهاره لأهل الحل والعقد وليس لعامة الناس.

الجهل سبب في فقد الموازين الشرعية

الجهل سبب في فقد الموازين الشرعية وكذلك فإن الأمم في طور الجهل تتغير عندها الموازين وتضطرب، ولذلك هؤلاء كانوا يرون أن أحق الناس بالملك والزعامة أصحاب الثروة الواسعة، ولذلك قالوا: {وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} [البقرة:247] لكن الميزان الرباني يختلف، ولذلك فإن التجهيل الذي يصيب الأمة خطير في إفقادها الموازين الشرعية، وهذه قضية مهمة، فإنه يجب أن تبين الموازين الشرعية للناس الذين يعيشون في طور الجهل؛ لأنهم في طور القدرة على التمييز، والعمل بحسب الموازين الشرعية، ولذلك قال لهم نبيهم: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة:247] فبين الشروط التي تبين اختيار القائد: {وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:247].

طاعة القائد سبب في النصر

طاعة القائد سبب في النصر وكذلك يتبين من القصة أن طاعة الجنود للقائد في كل ما يأمر به وينهى عنه مما هو من طاعة الله هو شرط للنصر واستقامة الأمر، ولذلك الرماة في أحد لما عصوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم، كان سبباً في الهزيمة، ولذلك كان لا بد من تجريد الجيش من هؤلاء المنهزمين وهؤلاء العصاة قبل دخول المعركة، لأنه لو دخل بهم المعركة فسيكونون من أول الفارين، وسيشيعون روح الهزيمة في بقية الجيش، ولذلك لأن يكونوا قلة ثابتين أحسن من كثرة ينهزم أكثرهم فيتبعهم البقية، إذا صارت هزيمة صارت فوضى، وإذا صارت فوضى ما عاد من الممكن ترتيب الصفوف ولا توزيع الجيش ولا المقاومة؛ ولذلك كان من الحكمة أن يقول: {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي} [البقرة:249] فليخرج عني وعن جيشي، لا أريده أن يقاتل معي. ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ العهد عليهم أن يطيعوه في منشطهم ومكرههم؛ ولذلك كان لا بد أن يطاع القائد في طاعة الله تعالى.

أن التوجه إلى الله مهم جدا حال القتال

أن التوجه إلى الله مهم جداً حال القتال ومن فوائد هذه القصة كذلك أن التوجه إلى الله في القتال مهم في النصر، ومفيد جداً؛ ولذلك بعد أن سألوا الله قال: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:251] وجاءت عاطفة على آية الدعاء: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:250 - 251] إذاً الفاء هذه التي تفيد التعقيب معناها: أن الله يستجيب الدعاء بسرعة، لكن المهم أن يكون الدعاء من قلب خالص.

سنة التدافع بين الناس

سنة التدافع بين الناس وكذلك فإن في قوله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} [البقرة:251] بيان لسنته العامة عز وجل، وهذه التي يعبر عنها علماء الاجتماع المتأخرين بتنازع البقاء، وأن هناك مصادمات تفيد في النهاية بقاء هذا وزوال ذاك، وقوله عز وجل: {لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة:251] فيه دليل على السنة الربانية أن البقاء للأصلح، وأن الأمثل هو المستحق لأن يستمر، ولذلك يقول الله عز وجل: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد:17] فلذلك الحوادث ونيران التنازع هذه تطير زبد الباطل وتقشعه؛ ليبقى إبريز الحق واضحاً متلألئاً يحصل في ظله الأمان والنمو. ولا شك أن هذه القصة في ضمن ما تبرز أن بعد مرحلة الاستضعاف التي تكون فيها الصحوة والانتفاضة على الواقع الباطل يأتي التمكين، فإن أعلى قمة وصلت إليها دولة بني إسرائيل في الأرض في عهد داود وسليمان، وكانت هذه الفترة الذهبية لهم بعد مرحلة المحنة التي حصلت فيها الفورة والحماس لإنهاء هذا الوضع -وهو وضع الذل- ولذلك التمكين لا يأتي إلا بعد الاستضعاف، هذه من آيات الله وسننه الكونية، التمكين لا يأتي إلا بعد الاستضعاف، يكون قوم مستضعفون فيمكن الله لهم، ولذلك فنحن نتفاءل من الواقع الموجود أن التمكين سيكون حليف الإسلام وأهله بإذن الله تعالى.

الحنكة والحكمة في القيادة الصالحة

الحنكة والحكمة في القيادة الصالحة وكذلك تبرز من هذه القصة حكمة القيادة الصالحة المؤمنة التي تخبر النفوس، ولا تغتر بالحماسة الظاهرة، فإن طالوت لم يغتر بهذه الكمية من الناس التي خرجت معه وبهذا العدد، وإنما ابتلاهم وخبرهم، والتجربة الأولى لما كتب عليهم القتال تولوا، هم قالوا: نريد أن نقاتل؛ فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلاً منهم، فأخذ طالوت القليل وسار بهم، وابتلاهم واختبرهم في قصة النهر، فتولوا إلا قليلاً، ساروا للقاء الأعداء، لما رأوا كثرة الأعداء وقلتهم قالوا: لا طاقة لنا اليوم بـ جالوت وجنوده، البقية هم الذين كتب الله النصر على أيديهم. إذاً: التمحيص يمر بفترات لأن الإنسان قد ينجو في اختبار ويتعداه، لكن يسقط في الاختبار الثاني أو الثالث، لكن في النهاية الذين تبقوا بعد التمحيص هم الذين ينتصرون مهما كانوا قلة.

عدم ضعف طالوت عند تخاذل قومه

عدم ضعف طالوت عند تخاذل قومه وكذلك فإن هذا الملك العظيم وهو طالوت لم يضعف وينكمش عندما رأى جنوده يتخاذلون ويتساقطون في موقف بعد آخر، تضاءلوا في تجربة بعد تجربة ولم يثبت معه في النهاية إلا قلة، فئة مختارة خاض بها المعركة ثقة بالله تعالى، وهذه الفئة الصغيرة القليلة هي التي تلقت النصر واستحقته من الله تعالى.

أهمية وجود الأمير والقائد في الجيش

أهمية وجود الأمير والقائد في الجيش وكذلك فإن في هذه القصة -كما ذكر القاسمي رحمه الله في تفسيره - أن الأمير يُحتاج إليه في أمر الجهاد لتدبير أمور الجيش، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث سرية أمر عليها أميراً، وأنه لا بد منه ولولا ذلك لانفرط عقد الجيش، وتنازعوا، وكل واحد ادعى الرئاسة، فلا بد من واحد يقود، ولا بد للبقية من السمع والطاعة له فيما هو من طاعة الله حتى يحدث النصر.

إذا عظم الأمر عظمت الإمرة

إذا عظم الأمر عظمت الإمرة وكذلك فيه أنه كلما عظم الأمر كان أمر الإمرة أخطر، ولذلك فإن إمرة الجيش أخطر من إمرة السفر، وإمرة المسلمين أخطر من إمرة الجيش، فكلما عظم الأمر كانت الإمرة أعظم، ولا بد أن تكون الشروط فيه أدق وأشد؛ لأن هذه مسئوليات كلما عظمت لا بد أن يعظم الرجال المنتخبون لحملها.

في هذه القصة عزاء للصحوة الإسلامية

في هذه القصة عزاء للصحوة الإسلامية وكذلك فإن في هذه القصة عزاء لهذه الصحوة الإسلامية المعاصرة، فإن بني إسرائيل هم الذين قالوا: سمعنا وعصينا، وهم الذين قالوا: اذهب أنت وربك فقاتلا، فهؤلاء بعد فترة من الزمن نصرهم الله، فإذا كان المسلمون الآن ليس عندهم هذه البذاءة وليس عندهم هذا الحد من التردي فإنهم أقرب إلى نصر الله، ولذلك قُرب النصر من المسلمين الآن أقرب إليهم من بني إسرائيل على ما فعلوه من تقتيل الأنبياء وقالوا: حنطة، وسمعنا وعصينا، ويد الله مغلولة، واذهب أنت وربك فقاتلا إلى آخره، ففيه شيء من العزاء لأبناء المسلمين في هذا الزمان، وأن الله تعالى يكلل جهود الساعين بالنجاح، وعمل العاملين بنصرة الدين ولا شك.

الابتلاء للمؤمنين حاصل

الابتلاء للمؤمنين حاصل وكذلك فإننا نلاحظ أيضاً أن الله سبحانه وتعالى يبتلي عباده، ويختبرهم في الأعداء، ويختبرهم في أنفسهم فإنه ابتلى بني إسرائيل بـ طالوت، وابتلاهم بالعدو الذي لاقاهم، فيكون الابتلاء من الداخل والخارج.

لا ينبغي الاغترار بالحماسة

لا ينبغي الاغترار بالحماسة وكذلك في هذه القصة درس عظيم: أنه لا يصلح الاغترار بالحماسة أبداً، فإن الحماسة الجماعية قد تخدع، ويقوم جمهور من الناس يهتفون ويقولون: سنفعل ونفعل، لكن القيادة الإسلامية لا تغتر بهذه الحماسة أبداً، وإذا كان هؤلاء بنو إسرائيل بمجرد أن كتب عليهم القتال تولوا قبل أن يقاتلوا، بمجرد فرض القتال تولوا! وسقط كثير منهم في امتحان شرب النهر، وكذلك كثير منهم عندما رأوا الجيش تخاذلوا وقالوا: لا طاقة لنا اليوم بـ جالوت وجنوده، فإذاً الحماسة لا يجوز أن تخدع المسلم، وإنما العبرة بالحقيقة، وكذلك فإن مصير المعركة ينقلب، والموازين تنعكس بإرادة الله عز وجل {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:249].

اختلاف الناس في التقليد

اختلاف الناس في التقليد وكذلك فإن في هذه القصة: أن الناس لا يتفقون في التقليد، فكل واحد يفكر حسب مصلحته، ولذلك لما قيل لهم: إن طالوت ملك عليكم تنازعوا الأمر واختلفوا على نبيهم، كل واحد ينظر من جهة المصلحة، ينظر من جهة الدنيا؛ ولذلك فلا بد من التوعية، فإذا كان الناس همجاً ورعاعاً وجهلة فإن الاختلاف فيهم أسهل ما يمكن، أما إذا كان عندهم وعي وعلم تتحد قلوبهم على الاختيار ويتفقون، ويعلمون مضرة الاختلاف، لكن إذا كانوا جهلة غوغاء ما يعلمون مضرة الاختلاف فيختلفون؛ فيتفرقون فينهزمون.

الأيام دول بين الناس

الأيام دول بين الناس وكذلك أن الله سبحانه وتعالى يداول الأيام بين الناس، فبينما كانت القوة لـ جالوت وجنوده فإذا بها تصبح لـ طالوت ومن معه، ويزول سلطان الظالمين، ويورث الله الأرض للصالحين، وهذه مشاهد متكررة ومواقف متعددة عبر التاريخ. وكذلك فإن بقاء الكفار مسلطين على المسلمين فيه فساد للأرض؛ ولذلك لم يشأ الله ذلك ولم يقدره، وإنما قدر الله أن تكون المعركة والأيام مداولة بين الناس: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140]، {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة:251] إذاً سنة التدافع مهمة لتصحيح الأوضاع، والله قادر أن ينزل النصر بلا جهاد، لكن لا بد من الجهاد لإزالة ما في النفوس من الشوائب، ويعلم الله الصابرين، ويتخذ شهداء، ويعلم المنافقين.

لو بقيت الأرض تحت سلطان الكافرين ما عبد الله سبحانه

لو بقيت الأرض تحت سلطان الكافرين ما عُبِد الله سبحانه وكذلك فإن قوله تعالى في آية أخرى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً} [الحج:40] دليل على أن الأرض لو بقيت تحت سلطان الكافرين ما عبد الله، ولهدمت كل أماكن العبادة من الصوامع والبيع والصلوات والمساجد؛ ولأجل هذا فإن الله لم يقدر أن الكفار يستولون على الأرض دائماً وأبداً، بل إنه عز وجل يداول الأيام بين الناس، والدول تكون مرة لأهل الحق، ومرة لأهل الباطل، وكل ذلك فيه فائدة للمسلمين، فإذا كانت الدولة لأهل الصلاح والغلبة لهم؛ طبقوا شرع الله وفتحوا الفتوحات وجيشوا الجيوش، وحكم الناس بشريعة الله، وعدلوا وأقاموا العدل، واستقرت الأحوال، وظهرت البركة في الأرض، وزال الفقر والجهل، وعندما تكون الغلبة لأهل الباطل ينكشف المنافقون، ويظهر إخلاص المخلصين، ويشتد السعي والحماسة؛ لأن هناك تحدياً يوجب المداومة في الأعمال، والمواصلة عليها، ومضاعفة الجهود لأننا في ضعف، ويتخذ الله شهداء، ويَظهر علم الله في الواقع من الذي يثبت ومن الذي لا يثبت، ولا شك أنه عندما يكون في محنة يزداد الذين آمنوا أجراً، للصابر فيها أجر خمسين.

مضاعفة الأجر للقابض على دينه

مضاعفة الأجر للقابض على دينه كذلك فإنه يأتي على الناس زمان القابض على دينه كالقابض على الجمر، ويكون لهم الأجر العظيم بثباتهم وقبضهم هذا، فسواء كنا في محنة أو في نعمة، سواء كان المسلمون في انتصار أو كانوا يعيشون تحت قهر العدو فإنه فيه خير في كِلا الحالتين للمسلمين، والدفاع عن الحق لا يكون إلا إذا صار هجوم، وأن الشهادة والقتل في سبيل الله لا يكون إلا إذا صار هناك قتال مع الكفار، إظهار غلبة الدين على المبادئ الأخرى عندما يكون هناك مناقشات ومحاجات ومصادمات فكرية وعقدية.

تعليم الخبرات في مواجهة المواقف الجديدة

تعليم الخبرات في مواجهة المواقف الجديدة وكذلك فإن الله يعلمنا بهذه القصة خبرة يضيفها إلى خبراتنا: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ} [البقرة:246] وهذا التعليم مهم جداً إضافة الخبرات لكي نواجه المواقف الجديدة بخبرات قديمة، ومواجهة المواقف الجديدة بخبرات قديمة يثمر النجاح في المواجهة.

فراسة نبي بني إسرائيل

فراسة نبي بني إسرائيل وكذلك فإن قوله عز وجل: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ} [البقرة:246] يظهر فراسة النبي الذي قال لهم: {هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا} [البقرة:246] لأنه لما كتب عليهم القتال قال الله: {تَوَلَّوْا} [البقرة:246] فكانت فراسة نبيهم فيهم صحيحة، فالفراسة من طبيعة المؤمنين وشيء يجعله الله تعالى في نفوسهم فيستشفون بها شيئاً مما يمكن أن يحدث في المستقبل ويتوقعونه، وهي ليست علماً غيبياً، فعلم الغيب لله، فأنت إن تقدم على الشيء وأنت تتوقعه أهون من أن تفاجأ به، ولذلك هذا النبي بالتأكيد ما فوجئ عندما تولى بنو إسرائيل عن القتال؛ لأنه توقعه من أول الأمر وأعرب لهم عن ذلك، فقال: {هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا} [البقرة:246]؟ وفعلاً ما توقعه حصل، فإنهم عندما كتب عليهم القتال تولوا.

الأمة المنعمة تنهزم حال الحرب

الأمة المنعمة تنهزم حال الحرب كذلك فإن الأمم التي تعيش متنعمة تميل إلى الدعة قد يأتي عليها وقت تتمنى الحرب، لكن إذا حضرت الحرب انهزمت، كان بعض المسلمين يتمنون الجهاد فلما فرض الجهاد ماذا حصل؟ قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى} [النساء:77] وهذا يعلمنا ألا نكثر من الوعود والأمنيات الجهادية، ولا نسرف في إظهار الرغبة في القتال، بل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس! لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف) أما أن نتوعدهم وأن نظهر أننا سنفعل ونفعل ونفعل ونرمي بهم في البحر فهذا كله هراء؛ لأن العمل الحقيقي عند اللقاء وليس قبل.

الإمامة ليست موروثة

الإمامة ليست موروثة وكذلك فإن الناس الذين قالوا: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ} [البقرة:247] ذكر بعض المفسرين أن فيها دلالة على بطلان قول من يقول: إن الإمامة موروثة، الإمامة ليست موروثة وإنما هي من أهل الحل والعقد بناءً على العلم والقوة.

المظهر ليس دليلا على الجوهر

المظهر ليس دليلاً على الجوهر وفيه أن المظهر ليس دليلاً على الجوهر فقد يكون الشخص نحيلاً لكنه قوي، ولذلك قال الشاعر: ترى الرجل النحيف فتزدريه وفي أثوابه أسد هصور ويعجبك الطرير فتبتليه فيخلف ظنك الرجل الطرير وقد عظم البعير بغير لب فلم يستغن ذي العظم البعير فزيادة الجسم كانت في كثرة معاني الخير والشجاعة، وليست فقط أنه طويل وعريض ومفتول العضلات.

إثبات قاعدة: إذا أردت أن تطاع فمر بما يستطاع

إثبات قاعدة: إذا أردت أن تطاع فمر بما يستطاع وفي إباحة طالوت لجيشه أن يشربوا غرفة فيه دليل على قاعدة: إذا أردت أن تطاع فمر بما يستطاع، وأن من حكمة القائد ألا يمنعهم من شيء يحتاجون إليه منعاً باتاً، وإنما يبقي لهم فرصة لإزالة ما يحتاجونه من الحاجة؛ ولذلك فإن طالوت لم يقل: لا تشربوا أبداً ولو متم من العطش لا تشربوا، بل قال: إلا من اغترف غرفة بيده؛ ولذلك لا بد أن يكون القائد حكيماً في أمره ألا يكون تعسفياً، لأن التعسف يؤدي إلى النفور والخروج عن طاعته، وإذا منعهم عن شيء مباح لفائدة فإنه لا يمنع منعاً نهائياً وإنما يبقي فيه بقدر الحاجة، ولم يشتط عليهم في التكليف ويغلق كل الوسائل، وإنما لما منعهم من شيء أباح لهم شيئاً آخر؛ وهذا يدل على حنكته وسياسته وخبرته بالنفوس وأنه -فعلاً- أهل لما أعده الله له، ونزله فيه وهو منزلة قيادة الجيش. ولا شك أن هناك فرقاً بين من يشرب ويعب عباً وبين من يغترف غرفة بيده يروي بها ظمأه، ويقتل بها عطشه.

الشراب يقوم مقام الطعام إذا عدم

الشراب يقوم مقام الطعام إذا عدم وفي قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} [البقرة:249] عبر عن الشرب بالطعام لأنه في حال شدة العطش يكون كالطعام، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في ماء زمزم: (إنها طعام طعم) وقيل لـ أبي ذر: فمن كان يطعمك؟ -لما جاء مكة وجلس- قال: [ما كان لي طعام إلا ماء زمزم فسمنت حتى تكسرت عكن بطني، وما أجد على كبدي سخفة جوع] فهذا من بركة ماء زمزم أنه سمن حتى تكسرت عكن بطنه، يعني: سمن سمناً حتى صار شحم البطن طبقات، صار بعضه فوق بعض، وهذا خاص بماء زمزم ولا شك، لكن الذي عطش ولم يجد إلا الماء فإنه يقوم مقام الطعام بالنسبة له.

عدم الهجوم على الماء حال العطش

عدم الهجوم على الماء حال العطش ثم إن الحكمة أن الإنسان إذا عطش جداً ألا يهجم على الماء هجمة واحدة فربما يهلك، ولذلك لو وجد الإنسان في متاهة -في صحراء- وصار له فترة طويلة ما شرب فإنه يعطى قليلاً من الماء ولا يمكن من شرب الكثير فربما يموت. وكذلك فإن على القائد أن يكون موضوعياً في تكليفاته ليس بتعسفي ولا مرهق، ولا يستغل الإمرة في إذلال من تحته أو التحكم به بتجبر، ولكنه يأمر بما فيه الحكمة.

شدة يقين الذين بقوا في النهاية

شدة يقين الذين بقوا في النهاية وكذلك فإن هذه القصة تبين شدة يقين الذين بقوا في النهاية؛ ولذلك معنى قول الله عز وجل قال: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ} [البقرة:249] الظن ليس هنا الشك وإنما هو اليقين؛ لأنه يأتي بمعنى اليقين، ويأتي بمعنى الشك، ففي هذه الآية قال: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ} [البقرة:249] يعني: يعتقدون اعتقاداً جازماً أنهم ملاقو الله.

المواهب تنبع من ميادين القتال

المواهب تنبع من ميادين القتال وكذلك فإنه يتبين أيضاً من هذه القصة أن الأدوار العظيمة لا تأتي من الفرش الدافئة، ومن بيئات الترف والنعومة والراحة، وإنما تأتي من ميادين المعركة، فالميدان هو الذي يكشف على المواهب، ولذلك برزت حكمة طالوت من خلال القيادة، وبرز موقع داود من خلال المعركة، فهذا الذي يؤهل الشخصيات، أما الذي يظن أنه يمكن أن يكون داعية عظيماً وقائداً مرموقاً، وهو جالس على أريكته، متكئ، فهذا إنسان مسكين لا يدري من أين يبدأ الطريق. هذه بعض الفوائد، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يبصرنا بكتابه، وأن يرزقنا ما ينفعنا، وأن يجعلنا من الذين يتعلمون كتابه عز وجل، ويستفيدون من العبر التي قصها علينا في هذا الكتاب، والله تعالى أعلم.

الأسئلة

الأسئلة

المراد بالنصارى الأقرب مودة للمؤمنين

المراد بالنصارى الأقرب مودة للمؤمنين Q في الآية التي قرأت في صلاة التراويح تشير إلى أن أقرب الناس إلى المسلمين هم النصارى، فكيف نوفق بين هذا وبين عداوة النصارى للمسلمين في الوقت الحاضر؟ A أن الناس الذين ذكر الله في القرآن أنهم أقرب مودة إلينا ليسوا هم النصارى بإطلاق، وإنما هم النصارى الذين جاءت صفاتهم في الآيات: {مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة:82] هذه أول صفة: أنهم لا يستكبرون، ثاني صفة: أنهم كما قال تعالى: {إِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا} [المائدة:83] فإذاً يؤمنون ويدخلون في ديننا، فليس النصارى الذين أقرب مودة إلينا هم النصارى هؤلاء، لا، هم طائفة معينة من النصارى، نوعية معينة، وهم الذين إذا سمعوا ما أنزل إلى رسولنا دخلوا في الإسلام: {وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [النحل:49] عندهم تواضع، أما هؤلاء الذين يشربون من دماء المسلمين فلا يمكن أن يكونون أبداً أقرب مودة إلينا.

حكم تحليل الدم في نهار رمضان

حكم تحليل الدم في نهار رمضان Q ما حكم تحليل الدم في نهار رمضان؟ A تحليل الدم في نهار رمضان لا يفطر؛ لأنه شيء يسير.

المقصود بعلم طالوت في الآية

المقصود بعلم طالوت في الآية Q ما المقصود بالعلم هنا: العلم الشرعي أو علم الأمور العسكرية؟ A كلاهما، كلام المفسرين يدل على الأمرين.

حكم استنشاق رائحة ملطف الجو

حكم استنشاق رائحة ملطف الجو Q ما حكم استنشاق رائحة الملطف الذي يستخدم لتلطيف الجو؟ A هذا من ضمن العطورات وله رائحة؛ ولذلك الإنسان يجتنب أن يستنشقه مباشرة، لكن لو دخل إلى غرفة قد رش فيها هذا وبقيت رائحته في الجو فإنه لا يضر.

الخلوة بالمرأة للقراءة عليها

الخلوة بالمرأة للقراءة عليها Q هل يجوز للقارئ أن يخلو بالمرأة بدون محرم للقراءة عليها أو الرقية؟ A لا. هذا حرام، فلا يخلو بامرأة ولو كان يعلمها القرآن، فإذا كان معها غيرها من النساء إذا كان ثقة مأموناً فلا بأس؛ لأن بعض من يتولى هذا قد لا يكون فيه دين، وقد يتخذها طريقة للتكسب، وقد يتخذها طريقة للوصول إلى مآرب خبيثة والعياذ بالله.

حكم التسمي بـ (علا)

حكم التسمي بـ (عُلا) Q ما رأيك في اسم "عُلا"؟ A لا بأس به إن شاء الله.

حكم نصارى اليوم في تعازيهم

حكم نصارى اليوم في تعازيهم Q هل نصارى العصر الذين يعيشون معنا هم كفار أم أهل كتاب؟ A هم كفار وأهل كتاب، لا شك في ذلك. تعزيتهم جائزة لكن بغير الدعاء لهم بالرحمة.

جواز صلاة الفريضة وراء المتنفل

جواز صلاة الفريضة وراء المتنفل Q هل يجوز لمن دخل المسجد ووجد الإمام قد شرع في التراويح أن يدخل معه بنية العشاء؟ A نعم.

بطلان دعاء: اللهم إني صائم على رضاك عند الإفطار

بطلان دعاء: اللهم إني صائم على رضاك عند الإفطار Q ما صحة هذا الدعاء أثناء الإفطار " اللهم إني صائم على رضاك، مفطر على عطية من عطاياك"؟ A هذا مؤلف تأليفاً، ليس بدعاء من النبي صلى الله عليه وسلم.

حكم من أسلم في رمضان

حكم من أسلم في رمضان Q إذا أسلم الكافر في رمضان هل يقضي ما فاته من الشهر؟ A لا، لم يكن مكلفاً.

معنى الحجامة وحكمها في رمضان

معنى الحجامة وحكمها في رمضان Q ما معنى الحجامة. A الفصد، إخراج الدم من موضع معين بمصه وشفطه، وتفعل لأجل التداوي، وقد فعلها النبي عليه الصلاة والسلام، وحث عليها، ونصح بها، حتى إن الملائكة أوصته في المعراج أن يوصي أمته بالحجامة، ولذلك فهي مفيدة للغاية، وتفعل في السابع عشر، والتاسع عشر، والحادي والعشرين أحسن شيء، والأفضل أن تكون في يوم الخميس، يعني: لو كان الخميس وافق 17 أو 19 أو 21 فهو من أنفع الأيام للحجامة. وأما حكمها فقد اختلف العلماء هل تفطر أم لا، فذهب الذين يقولون بعدم التفطير إلى حديث البخاري (أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم) وهذا قول جمهور أهل العلم، وذهب الذين يقولون بالتفطير إلى حديث (أفطر الحاجم والمحجوم) وغيره من الأشياء التي تدل على أنها تفطر، وقالوا: إن اللفظة التي في البخاري غير ثابتة، وأن اللفظة الثانية (احتجم وهو محرم) أم لفظة (احتجم وهو صائم) فليست بثابتة. ولذلك يقولون بالتفطير، وذهب إلى هذا الإمام أحمد رحمه الله، وشيخ الإسلام، وتلميذه ابن القيم ونصره نصراً مؤزراً في شرحه على أبي داود.

حكم الاشتراك في بطاقة الفيزا

حكم الاشتراك في بطاقة الفيزا Q هل الاشتراك في بطاقة الفيزة جائز؟ A هذه البطاقات فيها عدة محاذير شرعية، المحذور الأول: أنهم يقولون: إنك إذا اشتريت بالمبلغ وتجاوزت رصيدك نغطي لك بفائدة. ويقولون كذلك: إذا تأخرت عن موعد التسديد لشركة الفيزة فإننا نرتب على تأخيرك فائدة، يعني: ربا، وهذان كلاهما حرام، وهذه من الشروط الموجودة في الفيزة. ثالثاً: أن الفيزة عقد كفالة، وعقد الكفالة في الشريعة من عقود الإرفاق والإحسان لا يجوز أخذ مقابل عليه، فرسوم الإصدار والرسوم السنوية في الفيزة لا تجوز، وهذا ملخص فتوى الشيخ: عبد العزيز في هذه المسألة.

حكم من ينتظر في التراويح حتى إذا ركع الإمام ركع معه

حكم من ينتظر في التراويح حتى إذا ركع الإمام ركع معه Q ما حكم الذي ينتظر في صلاة التراويح الركوع ثم إذا ركع الإمام يركع مع المصلين؟ A النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (فمن وجدني قائماً أو راكعاً أو ساجداً فليكن معي أو يدخل معي على الحالة التي أنا عليها) أو كما قال صلى الله عليه وسلم، وبناءً على ذلك فإن الذي ينتظر حتى يركع الإمام ثم يأتي ويدخل معه في الصلاة أنه مخالف للسنة، لكن إذا كان قصد السائل: أنه دخل في التراويح من أولها، لكن قعد لأجل أنه تعب، فلما أراد الإمام أن يركع قام وركع، فلا بأس بذلك؛ لأن صلاة التراويح نافلة يجوز أن تصلى في الجلوس، والنبي عليه الصلاة والسلام جاء عنه أنه جلس في قيام الليل، فلما كان قبيل الركوع قام وقرأ آيات ثم ركع، فإذا احتاج إلى ذلك فلا بأس، أما أن يأتي شخص كسلان في سن الشباب يريد أن يجلس فهذا عيب.

حكم صبغ الشعر بغير الأسود

حكم صبغ الشعر بغير الأسود Q هل يحرم صبغ الشعر بغير الأسود؟ A لا يحرم بغير الأسود، لكن إذا صبغه على جهة التشبه بالكفار بألوان معينة، أو أخلاط من الألوان، فهذا لا يجوز للتشبه.

حكم المرأة تشم النساء

حكم المرأة تشم النساء Q هل يجوز لامرأة أن تشم النساء؟ A إذا كان المقصود: الوشم المعروف الذي هو غرز الألوان في الجلد بالإبر فهذا حرام، ولذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه لعن الواشمة والمستوشمة) الواشمة: التي تقوم بالوشم، والمستوشمة التي تطلب منها ذلك، وإذا كان السؤال هو عن جواز إمامة المرأة للنساء فالجواب: نعم. يجوز لها، وتقف في وسط النساء.

حكم تعلم المواد غير الشرعية

حكم تعلم المواد غير الشرعية Q هل تعتبر دراسة الرياضيات، والفيزياء، والطبيعة، والكيمياء من العلوم الشرعية؟ A لا. لأن كلمة "الشرعية" معناها: علم الكتاب والسنة، لكن أنها تدرس لفائدة المسلمين فنعم، لا شك في ذلك.

بيان بطلان أحقية اليهود لبيت المقدس

بيان بطلان أحقية اليهود لبيت المقدس Q لقد ذكرت في بداية الحديث على أن اليهود قد استوطنوا في الأرض المقدسة منذ زمن طويل، فهل هذا دليل على صحة ادعاء اليهود في الوقت الحاضر بأن لهم الحق في الأرض المقدسة؟ A لا. لأنه نحن نعلم أنهم كانوا في أرض فلسطين قبل العرب هذا ليس فيه شك، والعرب دخلوها في الفتوحات مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لكن لأننا -المسلمين- وُرَّاث النبوة، ديننا هو الدين السائد والنهائي، وهو الذي يجب على جميع الناس اتباعه، ونحن مأمورون بتحكيم شرع الله في الأرض، ولأن هذه الأرض أرض إسلامية لأن المسلمون هم الذين فتحوها، فإنه لا حق لليهود فيها مطلقاً لا من قريب ولا من بعيد، لأننا ورثناها عن المسلمين أولاً. وثانياً: لأن الذي يجب أن يحكم فيها هو الإسلام. وثالثاً: لأن هؤلاء لما كانوا فيها كان يحكمهم الأنبياء وأما هم الآن فهم على الكفر فكيف يمكنون من حكمها بالكفر؟

حكم شراء أوراق أسئلة المسابقة

حكم شراء أوراق أسئلة المسابقة Q المسابقة التي يدفع فيها نقود لتشترى بها صفحات المسابقة أو الجرائد، ثم يتسابق فيها؟ A هذه صورة من صور الميسر الذي لا يجوز.

حكم من نوى الإفطار ثم لم يفطر

حكم من نوى الإفطار ثم لم يفطر Q ما حكم من نوى أن يفطر في نهار رمضان ثم توجه إلى المطبخ ووجد أمه فيه فلم يستطع أن يأكل وأكمل إلى غروب الشمس؟ A هذا فيه خلاف بين أهل العلم هل يفطر أم لا، فقال بعضهم: إنه إذا أفسد النية أفطر، وقال بعضهم: إنه لا يفطر حتى يتناول مفطراً من المفطرات، وهذا هو الراجح، لكن الأحوط له أن يقضي.

بيان أقل مدة للاعتكاف

بيان أقل مدة للاعتكاف Q ما هو أقل مدة الاعتكاف؟ A أقل مدة للاعتكاف ورد في حديث عمر ليلة: (إني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام، قال: أوف بنذرك).

حكم المحرم إذا تعطر ناسيا

حكم المحرم إذا تعطر ناسياً Q قمت بعمرة وبعد أن انتهيت من السعي خرجت من الحرم متجهاً إلى السيارة، وفي الطريق شاهدت محل عطور، فدخلت وسألت عن نوع من أنواع العطور، فأخذت منه قليلاً ووضعته على يدي حتى أجربه، وفي هذه اللحظة تذكرت أنني لا زلت محرماً، ثم انصرفت بعد هذا كله وأنا لم أحلق رأسي؛ مع العلم أني كنت ناسياً؟ A إذا كنت ناسياً تذهب وتغسل يدك مباشرة، تغسل يدك وتحلق رأسك، فإن فعلت جهلاً فلا شيء عليك.

حكم وضوء النائم

حكم وضوء النائم Q هل النوم يبطل الوضوء؟ A إذا كان النوم مستغرقاً بحيث يغيب عما حوله فإنه يبطل الوضوء.

حكم من صلى العصر بغير وضوء

حكم من صلى العصر بغير وضوء Q ما حكم من صلى العصر بغير وضوء؟ A يعيد صلاة العصر التي صلاها بغير وضوء.

حكم من نوى صلاة الفجر ثم نام عنها

حكم من نوى صلاة الفجر ثم نام عنها Q ما حكم من كانت نيته أن يصلي الفجر فغلبه النوم؟ A يؤجر على نيته إذا كان غير مفرط.

حال حديث (لا تظهر الشماتة بأخيك)

حال حديث (لا تظهر الشماتة بأخيك) Q ما حال حديث: (لا تظهر الشماتة بأخيك فيعافيه الله ويبتليك)؟ A هذا حديث ضعيف، لكن معناه صحيح.

حكم الجلوس مع مشاهدي المسلسلات المحرمة

حكم الجلوس مع مشاهدي المسلسلات المحرمة Q ما حكم الجلوس مع من يشاهد المسلسلات المحرمة تحتوي على موسيقى؟ A لا يجوز أن تجلس معهم.

حكم رفع اليدين في الدعاء

حكم رفع اليدين في الدعاء Q ماذا عن التأمين؟ هل يجب رفع اليدين فيه؟ A إذا كان في الدعاء فإنه يرفع يديه لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت أنه رفع يديه، وهذا دعاء فترفع فيه اليدين، ويكون كالذي يسأل شيئاً فيمد الكفين ويلصقهما ويدعو، كالذي يسأل شيئاً يقول: أعطني، يعني: هات، فإنه يمد يديه يجمعهما ويدعو. نكتفي بهذا القدر من الأسئلة لطول الوقت، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

قواعد في علاقة الداعية بالمدعو

قواعد في علاقة الداعية بالمدعو إن الله عز وجل ما أرسل رسله وشرع دينه إلا لتبليغه للناس، ورسل الله هم أئمة هذا المجال وحائزي قصب السبق فيه؛ لذا وجب أخذ العبرة والعظة منهم، والاستفادة مما قاموا به من جهود؛ سواء كانت أخلاقية أو علمية أو غيرها، لنشر دين الله في الأرض. وقد استعرض الشيخ حفظه الله تبعاً لذلك قواعد مستنبطة من كتاب الله وسنة رسوله في كيفية معاملة الداعية لمن يدعوه ويريد أن يهديه لدين الله سبحانه وتعالى. ثم ختم حديثه باغتنام فرصة الفراغ قبل الشغل ليدعو إلى الله تعالى.

عهد الله إلى أنبيائه ورسله بالتبليغ

عهد الله إلى أنبيائه ورسله بالتبليغ إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن محاضرتنا في هذه الليلة ستكون في موضوع الدعوة إلى الله عز وجل. أيها الإخوة: الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى وظيفة الأنبياء والمرسلين، الدعوة إلى الله هي أشرف وظيفة: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]. ويدلك على حسن هذه الوظيفة قول الله عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33] أمر الله عباده بالدعوة، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم بذلك، والأمر للرسول أمر للأمة فقال عز وجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] هذه الوظيفة التي لا خيار لنا فيها ولا بد من القيام بها، إذ القيام بها واجب تكليفي، ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى أخبر عن وظيفة المؤمنين بقوله: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} [الأحزاب:39] وقد أخذ الله العهد على الأمم من قبلنا أن يبلغوا وأن يدعوا إلى الله فقال عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران:187] وأمرنا صلى الله عليه وسلم بالتبليغ: (بلغوا عني ولو آية) وقال: (نضر الله امرأ سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلغه غيره، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه). وعدم القيام بواجب الدعوة يعني السكوت عن نشر العلم وتبليغه للناس، وهذا التفريط يوقعنا في محظور عظيم، يقول صلى الله عليه وسلم: (من تعلم علماً فكتمه ألجمه الله سبحانه وتعالى بلجام من نار). والداعية إلى الله عز وجل ينطلق من سمو الهدف، وينطلق من عظم الأجر الوارد في حديثه صلى الله عليه وسلم: (لئن يهدي بك الله رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم) خير لك من الدنيا وما فيها.

الدعوة أمر واجب على كل مسلم

الدعوة أمر واجب على كل مسلم أيها الإخوة: إن موضوع الدعوة إلى الله موضوع طويل ومتشعب، فمما ينبغي طرقه: بيان وجوب الدعوة إلى الله، وأجر الدعوة إلى الله، وأهمية الدعوة إلى الله، وثقافة الداعية وعلمه، وأساليب الدعوة، ونحو ذلك، ولكننا سنتكلم في هذه الليلة في زاوية معينة من هذا الموضوع الواسع، وهي: قواعد في علاقة الداعية بالمدعو. هذه العلاقة الحساسة التي ينبني عليها نقل الدعوة، ونقل الدين، والشريعة، ونقل أوامر الله ونواهيه من الداعية إلى المدعو. وينبغي أن نكون أيها الإخوة جميعاً دعاة إلى الله، الدعوة إلى الله ليست وظيفة أشخاص معينين، بل هي وظيفتنا كلنا، كلنا ينبغي أن نكون دعاة، كلنا ينبغي أن نبلغ، كلنا ينبغي أن نستشعر المسئولية، كلنا ينبغي أن نقوم بالواجب، كلنا يبلغ ما يستطيع أن يبلغه من هذا الدين، كلنا ينبغي أن نكون هكذا. ولكن الناس في غفلة، وكثير منهم يحتاجون إلى دعوة لإيقاظهم، فمن هنا انقسم الناس بين داعية ومدعو، وإلا فالواجب على أفراد الأمة أن يكونوا كلهم دعاة، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، يطبقون شرع الله عز وجل، ويبلغون الدين إلى الناس كافة، وهذا الدين مهيمن على سائر الأديان، ويجب على أتباعه وحملته أن يكونوا دعاة إلى هذا المنهج. وإن ما تجمع لدى كثير من أهل الإسلام من رصيد علمي وعملي قد بلغ بكل تأكيد عند الكثيرين حد النصاب الذي تجب الزكاة فيه، الزكاة للفقراء في العلم، والمساكين في العمل، الذين تنوعت بهم دروب البدع والمعاصي. إن أفراد هذا المجتمع من المستحقين للزكاة، فهلا قام دعاة الإسلام بواجبهم وأخرجوا زكاة هذا العلم الذي يحملونه. وكنت أريد أن أقول كلمة مختصرة تجمل هذا الموضوع (علاقة الداعية بالمدعو) فخطر في بالي عبارة نقرأها أحياناً في الشوارع، في اللافتات تقول: القيادة فن وذوق وأخلاق، فوجدت بعد نوع من التأمل أن استعارتها هنا مناسبة، أن الدعوة إلى الله عز وجل: فن وذوق وأخلاق، وأن قيادة البشر أصعب من قيادة السيارات وأحوج إلى الفن والذوق والأخلاق من تلك، الدعوة إلى الله علم وتطبيق لا بد من اقترانهما، تعلم واقتداء وخبرة وممارسة. ونحن إذ نقدم هنا الجانب النظري لنؤكد على أنه سيبقى كلاماً مطوياً ما لم يتحول إلى واقع، وما لم يتبلور إلى أمور محسوسة ومرئية في هذا الواقع الذي نعيش فيه.

عناصر المحاضرة

عناصر المحاضرة وسوف نتطرق خلال حديثنا عن هذه العلاقة بين الداعية والمدعو إلى الأمور التالية: -علاقة الداعية بالمدعو ينبغي أن تكون خالصة لوجه الله. -يجب أن يشعر المدعو أنك حريص عليه يا أيها الداعية وتحب له الخير. -وهذه العلاقة لا بد أن تكون علاقة هداية وتعليم. -ولا بد أن تكون قائمة على تحبيب الخير إليه وتبغيض الشر. -ولا بد أن تكون هذه العلاقة قائمة على الإشفاق والرحمة، وليس على التكبر والقسوة والاحتقار. -ولا بد أن تكون هذه العلاقة قائمة على مراعاة الأولويات. -ولا بد أن تكون قائمة على الرفق. -ولا بد أن يكون فيها تدرج. -ولا بد أن تكون قائمة على الحكمة. وهذه أمور بعضها من بعض، ولكن تفرد للدلالة على أهميتها فيكون ذكر بعضها قبل بعض من باب ذكر الخاص قبل العام لأهميته ونحو ذلك. -وينبغي أن تكون هذه العلاقة قائمة على مراعاة الأحوال، ولا بد أن تكون هذه العلاقة كذلك قائمة على الصبر على هذا المدعو، وهي قائمة أيضاً على مراعاة المصالح والمفاسد، وتقوم كذلك على الاحترام المتبادل والمحافظة على المشاعر، وهي كذلك محتفظة بدرجة من الجدية والوقار. -وهذه العلاقة أيضاً ذات نفع متعد لأقرباء المدعو وأصدقائه. -وينبغي أن تكون كذلك قائمة على نفعه وخدمته، وليس على انتظار النفع منه. -وأن تكون هذه العلاقة بعيداً عن العواطف الهوجاء. وإليكم الآن تفصيل هذه الأمور، نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بما نسمع، وأن يجعل فيما نسمع حجة لنا لا حجة علينا، وأن يرزقنا علماً نافعاً وعملاً صالحاً إنه سميع قريب.

أولا: ينبغي أن تكون هذه العلاقة خالصة لوجه الله عز وجل

أولاً: ينبغي أن تكون هذه العلاقة خالصة لوجه الله عز وجل ولذلك جاءت الآيات بتحديد هذا وتوضيحه أيما توضيح، فقال الله تعالى على لسان أنبيائه إذا أرسلوا لأقوامهم، كل منهم يقول: {مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [الفرقان:57] ويقول عليه الصلاة والسلام لما أمر أن يقول لقومه ما سألتكم من أجر فهو لكم: {وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} [هود:29] فإذاً الدعوة من الداعية للمدعو شيء لوجه الله، لا يراد منه في الدنيا جزاء ولا شكورا. وكذلك فإن هذه الدعوة لله خالصة، ليست دعوة لحزب ولا لعصبية ولا لطائفة، وإنما دعوة إلى المنهج، دعوة إلى الدين، دعوة إلى الإسلام، دعوة إلى الحق ودعوة إلى الشريعة، دعوة لهداية الناس، دعوة للبلاغ، دعوة لإقامة الحجة، ومن الطبيعي أنك إذا دعوت شخصاً فإنك ستقوم بمهمة تعليمه وتثقيفه وتربيته، فسيكون معك أو مع وسط صالح من إخوانك في الله، ولكن هذا شيء والتعصب والتحزب شيء آخر، ونسيان أن الدعوة للمنهج وللدين وليست للشخصيات ولا للطوائف هذا أمر في غاية الأهمية، وهو الذي يدل على إخلاص الداعية من عدمه. ولذلك فإن الداعية يذكر نفسه دائماً أنه لا يدعو لنفسه وإنما يدعو لله عز وجل، ولسان حاله يقول: لو رأيت داعية غيري يفيد هذا المدعو أكثر مني من دعاة أهل السنة لتركته له، فهي بعيدة عن العصبية والحزبية.

أمور تقدح في إخلاص الداعية

أمور تقدح في إخلاص الداعية من الأمور التي تقدح في الإخلاص: أن يشعر بعض الدعاة أو يشعرون المدعو بأنهم أصحاب فضل عليه، وأنه لا بد أن يشكرهم على ما أسدوا إليه من المعروف العظيم، أو يحاول داعية أن يستغل مدعواً في أموره الدنيوية، من أمواله أو سيارته ونحو ذلك، وبالتالي يشعر المدعو أنه محل مطمع أو مطامع فيهرب. وإذا كانت الدعوة لله والعلاقة بين الداعية والمدعو مبنية على الإخلاص لله، فإن الداعية يتحرك مع هذا المدعو يبتغي الأجر والثواب من الله، وهو يعلم تماماً أنه لا يصلح له أن يتوقف عن الدعوة، ولا يصلح له أن يدعو ساعة وساعتين أو يوماً ويومين ثم يترك الدعوة. فهي ليست على التفرغ وإنما هي مهمة مستمرة، وإحساسه بهذا الأجر والثواب يدفعه للمواصلة وعدم التوقف، وهو يتذكر حديثه عليه الصلاة والسلام في شأن اليهود الذين عملوا من أول النهار إلى الظهر على أجر معلوم، ثم قالوا لصاحب العمل: لا نريد أن نعمل ولا نريد أجراً، فقام النصارى فعملوا من الظهر إلى العصر ثم قالوا لصاحب العمل: مللنا، لا نريد مالاً ولا أجراً ولا نريد العمل، ثم قام المسلمون، فعملوا من العصر إلى آخر النهار -إلى موعد استيفاء الأجر؛ لأن الأجر سيحل في آخر النهار؛ إذ الأجرة على من أكمل العمل إلى آخر اليوم فأخذوا أجر الفرق جميعاً. والشعور بأن المسألة فيها حسنات، ورفع درجات، واقتداء بالأنبياء، وأنك ستحصل على مثل حسنات هذا المدعو لو اهتدى، وأن كل عمل سيقوم به هذا المدعو نتيجة دعوتك، فإن لك من الأجر مثلما يعمل، هذا هو الذي يحركك وهو الذي يدفعك ويكون عندك اندفاعاً ذاتياً، ولن تقول: تعبت أو يئست، ولن تترك شخصاً إلا لمصلحة شرعية. وهذا الشعور هو الذي سيدفع الداعية للصبر على الصدمات والانتكاسات، قد يرجع إليه المدعو بعد إجازة وقد غير شيئاً من السنن التي كان قد تمسك بها، أو ترك واجبات أو وقع في محرمات، فيكون الصدر فسيحاً متسعاً للتلقي وهو يعلم هذا الداعية بأن هذا المدعو لم ينضج بعد: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14].

ثانيا: إشعار الداعية للمدعو بالحرص عليه

ثانياً: إشعار الداعية للمدعو بالحرص عليه ثانياً: ينبغي أن يكون من نتائج هذه العلاقة: أن يكون شعور المدعو أنك حريص عليه، تحب الخير له، ولذلك تأمل في سير الدعاة القدماء الأولين من الأنبياء والصالحين، هذا نبي يقول لقومه: {إنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأعراف:59] وهذا مؤمن آل فرعون يقول لقومه: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:38] أنا حريص عليكم يا قوم، أنا أريد منفعتكم: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} [غافر:41]، ثم يقول: {فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} [غافر:29] {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ} [غافر:30]. فإذاً: عندما يشعر المدعو أنك تريد الخير له فإن هذا مفتاح من مفاتيح استجابته لك، وتأثره بدعوتك إياه، وإيصال الخير إلى الآخرين. يقتضي أن يذهب الداعية إلى المدعوين، لا أن ينتظرهم كي يأتوا هم، فإنهم قد لا يأتون على الإطلاق، ولا يقولن داعية أبداً: ما جاءني أحد يسأل عن هذا الدين وأنا في انتظار، نقول: اذهب إليهم في أماكنهم، نغشاهم في أعمالهم، في المساجد، في المحافل، في المساكن، في المصانع، في المزارع، في المدارس، في الجامعات وهكذا، وأنت تتذكره صلى الله عليه وسلم في سيرته الذي قال الرواة وأخبروا بأنه كان يذهب إلى أماكن القبائل في المواسم وفي الحج وفي الأسواق يعرض عليهم الدعوة، ويتنقل كما قال الصحابي: كنت مع أبي في الموسم فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذهب إلى القبائل، إلى أماكن تجمعاتهم، ويعرض عليهم الدعوة، يمر عليهم واحدة واحدة، ويكلمهم ويدعوهم إلى لا إله إلا الله، ويقول: يا أيها الناس من يمنعني حتى أبلغ رسالة ربي، ووراءه رجل أحول وضيء يقول لهم: لا تصدقوه إنه كذاب، من هو؟ عمه أبو لهب. وذهب عليه الصلاة والسلام إلى الطائف فماذا يفعل اليوم بعض المتكاسلين الذين يقولون: نحن ننتظر ونقعد فإذا جاءنا أحد دعوناه، وإذا لم يأت أحد، فالحمد لله نحن في سعة وراحة.

ثالثا: ينبغي أن تكون هذه العلاقة علاقة هداية وتعليم

ثالثاً: ينبغي أن تكون هذه العلاقة علاقة هداية وتعليم إن الداعية الحريص على المدعو يقتدي بحرص رسول الله صلى الله عليه وسلم الداعية العظيم الذي يقول الله في شأنه: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] وهذا إبراهيم عليه السلام لما جاءته الملائكة يبشرونه بإسحاق وهم في طريقهم إلى قوم لوط لإهلاكهم، ما نسي إبراهيم قوم لوط: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} [هود:74] يجادل الملائكة في قوم لوط، لو فيهم كذا مسلمين تهلكونهم {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود:75] صلى الله عليه وعلى نبينا وسلم تسليماً كثيراً. وهذا الحرص يقتضي أن يحس الداعية أنه ينبغي أن يحاول في هذا الرجل أو هذه المرأة إذا كانت امرأة تدعو امرأة أخرى مثلاً أن تهتدي إلى الحق، وأن تبصر الحق مثلما أبصره هذا الداعية. ثم تكون هذه العلاقة فيها تعليم؛ لأن الحرص معناه أنك ينبغي أن تثقفه وتزوده وتبصره وتقدم له المفهومات الإسلامية والتصورات الدينية التي يحتاجها هذا المدعو، ولذلك فإننا نذكر هؤلاء الناس الذين يشتغلون في الدعوة، ولكن إذا تأملت في علاقتهم بالمدعوين، وجدت علاقة استئناس وقصص وسوالف، ويظنون أنهم يقومون بالدعوة، ولو سألت هذا المدعو: ماذا استفدت من هذا الشخص الذي جلس معك؟ لما استطاع أن يأتي إلا بأمور يسيرة جداً لا تكاد تذكر، ذلك أن هذا الداعية يخدع نفسه، فيظن أنه يدعو، والحقيقة أنه يقيم علاقات اجتماعية فقط، يتداخل مع الناس، لكن في النهاية ماذا استفاد الناس؟ لا شيء. ولأجل ذلك ينبغي أن يعد كل داعية في نفسه قبل أن يذهب إلى المدعو، ماذا يريد أن يقول له؟ ما هو المفهوم الذي سيوضحه؟ وما هو التصور الذي سيقدمه؟ وما هي الأحكام التي سيبينها؟ فإذا رجع من عنده حاسب نفسه، فقال في نفسه: يا ترى ماذا أفدته؟ ماذا قدمت له؟ هل قمت بما كنت أفكر القيام به قبل أن أزوره؟ وهكذا. ثم على الداعية أن يتأمل ماهي هذه التصورات التي من المهم أن ينقلها إلى هذا المدعو، مثلاً: لا بد أن يكلمه عن الإيمان وأركانه، وأن يشرح له شيئاً عن الإسلام وأركانه، ومعنى الشهادتين والتوحيد وأنواعه، والمفهوم الواسع للعبادة واليوم الآخر، وتفصيلات اليوم الآخر والقيامة وما فيها، وتغيير العادات القبيحة والطباع السيئة، واتباع السنة وترك البدع، وترك تقليد الآباء والأجداد على الباطل، يذكره بعظمة الله ومراقبته، يذكره بحاجته إلى الهداية، ثم يبين له مفهوم العمل الصالح، ما هي أركان العمل الصالح، وأهمية التفقه في الدين، ويبين له أشياء عن أعمال القلوب، وصنائع المعروف، وشعب الإيمان، وحب الخير وبغض الشر، والورع وترك الشبهات، ويبين له كيد أعداء الإسلام وسعيهم لهدم هذا الدين، وهذا الضياع والتيه الذي تعيش فيه الأمم اليوم من أصحاب الحضارات الكفرية، وكيف يتخبطون، حتى لا يفتن هذا المدعو بها، ويزول إعجابه بهؤلاء الكفرة أو الفسقة المجرمين المخربين. وهكذا يستمر في التفكير: ماذا يقدم؟ ما هي التصورات اللازمة أن تعطى لهذا المدعو؟

رابعا: تكون العلاقة قائمة على تحبيب الخير

رابعاً: تكون العلاقة قائمة على تحبيب الخير رابعاً: لا بد أن تكون هذه العلاقة قائمة على تحبيب الخير وتبغيض الشر إلى المدعو، فبعض الناس يتصور أن الدعوة هي عبارة عن إعطاء المدعو كتباً وأشرطة ليستمع إليها ويقرأ في تلك الكتب وهكذا، من غير مقدمات في التشويق والتحبيب لهذا العلم وهذا الخير، دون ترغيب أو ترهيب، ترغيب في العلم والحرص عليه، وترهيب من الجهل وعاقبة صاحبه. وبعض الدعاة أيضاً قد يظن بأن أمر المدعو بالأوامر الرسمية والإلزام يظنه من الدعوة، دون تقديم هذا التحبيب وتقديم هذا التشويق، وهذا الترغيب والترهيب، وهذا صلى الله عليه وسلم يعلمنا فيقول: (نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم الليل) فكان هذا مثلاً، لم؟ لكيفية عرض الأمر ودعوة رجل إلى قيام الليل كيف تكون: (نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم الليل). فإذاً: لا يصلح هذا الجفاء في العرض، ولا يصلح هذا النمط من الجمود في تقديم الأمور وإلا فمتى يتأثر المدعو إذا كانت الدعوة بهذه الطريقة.

خامسا: تكون العلاقة قائمة على الإشفاق والرحمة

خامساً: تكون العلاقة قائمة على الإشفاق والرحمة خامساً: ينبغي أن تكون العلاقة بين الداعية والمدعو قائمة على الإشفاق والرحمة، ولا على التكبر والقسوة والاحتقار، فإن بعض الدعاة إذا نظر إلى المدعو وما هو فيه من المعاصي والآثام وما هو واقع فيه من محادة الله عز وجل، وكم أطاع الشيطان في أموره، فقد يبدأ في معاملته باحتقار وقسوة؛ لأنه فاسق، منافق، فاجر، لا يستحق ابتسامة، ولا كلمة طيبة، ولا معاملة حسنة واقعه سيئ، لا بد أن أغلظ عليه وهكذا، وينسى أن دعاة الرسول صلى الله عليه وسلم ما كانوا هكذا يدعون الناس، هل كان مصعب بن عمير عندما بدأ في دعوة سادات الأوس والخزرج عمل بهذه الطريقة؟ الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يدعو الكفار كيف كان يدعوهم؟ وهم مشركون نجس: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة:28]. كان يجلس معهم، ويعرض عليهم الأمر، ويقرأ عليهم القرآن، ويقول: يا فلان كم إلهاً تعبد؟ فيقول: ستة في الأرض وواحد في السماء، فيقول: وأيهم الذي تدخره لرغبتك ورهبتك؟ فيقول: الذي في السماء، فعرض الأمر عليه بهدوء وتؤدة، فكان في ذلك استجابة هذا الرجل وإعلانه بالشهادة ونطقه بها ودخوله في دين الإسلام. وأما إذا كان الداعية ينظر بنظرة احتقار واستعلاء إلى هذا المدعو وانعكس هذا على التصرف، فليس إلا البغض والنفور من هذا المدعو، وليتذكر الداعية إذا قام في نفسه شيء من ذلك قول الله عز وجل: {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا} [النساء:94] إذا جاء في نفسك كره أو بغض لهذا الشخص، أو احتقار له، إنه إنسان يتعاطى ويشرب ويعمل ويعمل وبدء الأمر يتحول إلى استعلاء وتكبر عليه، وأنك ترى نفسك عالياً وهذا الآخر في أسفل سافلين، وانعكس ذلك إلى معاملة سيئة، فتذكر قول الله: {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ} [النساء:94] كثيراً من الدعاة ماذا كانوا قبل أن يصبحوا دعاة، وقبل أن يلتزموا بهذا الدين؟ {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ} [النساء:94] كانوا عصاة وفجرة، كانوا بعيدين عن شرع الله، حتى مَنَّ الله عليهم فهداهم، فالمنة من الله إذن فلماذا احتقار الناس؟ فتقديم الدعوة بقالب التواضع، وتقديم الأفكار والمفاهيم والتصورات بقالب حسن الخلق هو الذي يؤثر فعلاً. أما أن نقول للناس: أنت يا فاسقاً في سلوكك، ويا مبتدعاً في عملك، ويا كافراً في معتقدك، ونصنف ونسب، ونكيل ألوان وأصناف الألفاظ البذيئة للناس، فإننا لا نساهم بشيء في تقدم مستواهم، ولا في تركهم لشركهم أو بدعتهم أو معصيتهم.

سادسا: لا بد أن تكون هذه العلاقة قائمة على مراعاة الأولويات

سادساً: لا بد أن تكون هذه العلاقة قائمة على مراعاة الأولويات رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن قال له: (إنك ستأتي قوماً من أهل الكتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) أول ما يعرض على الشخص التوحيد. (فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم؛ وإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب). فإذن الأصول قبل الفروع، المبادئ العامة قبل التفصيلات، وهكذا يكون الأمر، وسيأتي مزيد من ذكر هذه الأشياء حينما نتكلم عن التدرج، لأن الأولويات والتدرج والرفق أشياء متداخلة في عالم الدعوة إلى الله.

سابعا: أن تكون العلاقة قائمة على الرفق

سابعاً: أن تكون العلاقة قائمة على الرفق ولا أحلى من الرفق وسيلة يركبها الداعية للدخول إلى قلب من يدعوه، وقصصه عليه الصلاة والسلام مع الناس في الدعوة تنبئك عن أمر عجيب من الرفق.

رفق الرسول صلى الله عليه وسلم بالناس

رفق الرسول صلى الله عليه وسلم بالناس قصة الرجل الذي بال في المسجد معروفة لديكم، وقصة الرجل الذي تكلم في الصلاة، وقصة الرجل الذي قال له: لا أحسنت ولا أجملت، والرجل الذي جذبه بحاشية ردائه -أي: البرد -حتى أثر ذلك في صفحة عنقه صلى الله عليه وسلم، ماذا كان موقفه؟ وزيد بن سعنة الذي جاء وقال: إنكم يا بني عبد المطلب قوم مطل، أنا أعطيتك وأقرضتك وأنت ما وفيت، وأغلظ عليه، فما زاده صلى الله عليه وسلم شدة الجهل عليه إلا حلماً. حتى لقد كان ذلك اليهودي يترقب أن يظهر منه عليه الصلاة والسلام هذا الأمر فظهر على حقيقته، ونهى عمر عن التغليظ على هذا الرجل، وأمر بوفاء الدين، وأمر بأن يعطى عشرين زيادة على ما اقترضه منه مقابل الترويع، وهذا الحديث الذي أخرجه أبو الشيخ في أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم وغيره، وقد ذكر الحافظ رحمه الله في الإصابة أن رجاله ثقات وفي أحدهم اختلاف بين ابن المديني وابن معين وابن أبي حاتم رحمه الله تعالى، ولكن له شاهد آخر. والشاهد من الكلام كله: أنه صلى الله عليه وسلم في دعوته للناس كان رفيقاً رحيماً، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن شر الرعاء الحطمة) أخرجه أحمد ومسلم. والحطمة هو العنيف، والرعاء جمع راعي {لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} [القصص:23] الذين يرعون الغنم أو الإبل، (إن شر الرعاء الحطمة) من هو الحطمة الذي هو شر الرعاء؟ قال شراح الحديث: هو العنيف برعاية الإبل في السوق والإيراد والإصدار، إذا أوردها الماء وأصدرها عنه وساقها إلى مكانها أو رعاها، ويلقي بعضها على بعض يعسفها ويشتد عليها ويقسو، هذا شر الرعاء. ضربه الرسول صلى الله عليه وسلم مثلاً لوالي السوء، هذا الحديث له قصة: دخل عائض بن عمرو على عبيد الله بن زياد، وكان عبيد الله بن زياد ظالماً شديداً على الناس، وعائض بن عمرو صحابي رضي الله عنه فقال: (يا بني! إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن شر الرعاء الحطمة، فإياك أن تكون منهم -هذا الوالي ظالم قليل أدب- قال له: اجلس إنما أنت من نخالة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم) قال: أنت من النخالة، لماذا؟ لأن الصحابي هذا تأخر إسلامه، قال: أنت ما صاحبت أنت من النخالة، سوء أدب مع الصحابي. فقال عائض رضي الله عنه: (وهل كان لهم نخالة؟ إنما كانت النخالة بعدهم وفي غيرهم). فالداعية لا يكون حطمة مع المدعوين، لا يعسفهم ولا يشتد عليهم، وإنما يكون رفيقاً بهم.

ومن أمور الرفق: الرفق في التعرف على المدعو

ومن أمور الرفق: الرفق في التعرف على المدعو فإن بعض الناس قد يدخلون في مدعو دخلة شديدة غير لائقة، تثير الاستغراب والدهشة، وربما أثارت النفرة من هذا المدعو -في هذا الرجل الذي جاء يتعرف عليه بهذا الأسلوب المستغرب- فينبغي أن يكون الإنسان رفيقاً وحليماً، فإذا لم ينجح في التعرف على المدعو في المرة الأولى، فليرجئ ذلك إلى المرة الثانية والثالثة، حتى يصادف وضعاً مناسباً وهكذا.

أمور تنافي الرفق

أمور تنافي الرفق من ضمن الأشياء المنافية للرفق أيضاً: أن يكثر ملازمة المدعو جداً بحيث يضيق منه ولا يطيق الجلوس معه، ويريد مفارقته، الآن صار مثل هذه اللاصقة التي لا تنفك وهو يريد الفكة لأنه قد طفح به الكيل من كثرة هذه الملازمة وكتم الأنفاس. وكذلك فإن من الأمور التي تنافي الرفق في علاقة الداعية بالمدعو: الاشتداد في الإنكار عليه والإغلاظ له إذا عمل معصية، بحيث ينفر هذا المدعو منه، وهذه قصة لطيفة تبين ذلك: قال حماد بن سلمة: إن صلة بن أشيم رحمه الله مر عليه رجل قد أسبل إزاره، وهذا صلة بن أشيم كان له تلاميذ وأصحاب، فهم أصحابه أن يأخذوه بشدة، فقال: دعوني أنا أكفيكم، فقال صلة للرجل: يا بن أخي إن لي إليك حاجة، قال: وما حاجتك يا عم؟ انظر الشيخ الكبير يقول للرجل: يا بن أخي لي إليك حاجة، أنا أريد منك حاجة، خدمة، قال: وما حاجتك يا عم؟ قال: أحب أن ترفع إزارك، قال: نعم وكرامة. فرفع إزاره، فقال صلة لأصحابه: لو تركتموه أو قرعتموه لقال لا ولا كرامة وشتمكم. فالأسلوب الحسن يأتي بالمردود الحسن، وهذا مثل آخر: خرج محمد بن عبد الله بن عائش رحمه الله ليلة من المسجد يريد منزله، وإذا في طريقة غلام من قريش سكران قد قبض على امرأة فجذبها فاستغاثت فاجتمع الناس عليه يضربوه وهو سكران لا يحس، فقال للناس: تنحوا عنه، ثم أخذه فقال: امض معي، فمضى معه حتى صار إلى منزله، فأدخله، فقال لبعض غلمانه: بيته عندك، فإذا أفاق من سكره فأعلمه بما كان منه، ما فعل في الشارع أمام الناس ولا تتركه ينصرف حتى تأتيني به، فلما أفاق الرجل من سكره ذكر الغلام له ذلك، فاستحيا استحياءً شديداً وهمَّ بالانصراف فقال الغلام: قد أمر أن أدخلك عليه، فقال له ابن عائش لما دخل عليه: أما استحييت لنفسك، أما استحييت لشرفك، أما استحييت من ولدك، فاتق الله وانزع عما أنت فيه، فبكى الغلام منكساً رأسه، ثم رفع رأسه وقال: عاهدت الله عهداً يسألني عنه يوم القيامة، أني لا أعود إلى الشراب ولا لشيء مما كنت فيه، وأنا تائب، فقال: أحسنت يا بني، فكان الغلام بعد ذلك يلزمه ويكتب عنه الحديث. ومن الأمور المنافية للرفق في الدعوة: أن ينسى بعض الدعاة أنه داعية في بعض المواقف، فيخطئ المدعو ويعنفه، فلنفرض مثلاً أنه ذهب معه في نشاط ترويحي، لنفترض أنه مثلاً في لعب كرة، من باب التداخل والتجديد والترويح، فنسي الداعية نفسه أثناء اللعب، وكلما أخطأ هذا المدعو في نقل الكرات نزل عليه بالتعنيف وباللوم الشديد ونسي واجبه الدعوي، وصار همه الآن فقط في الكرات ونقلها والتسديدات والإصابات ونحو ذلك، فهذا من الأخطاء الشائعة. وكذلك ما يحدث من بعض الدعاة من جدل عقيم في أمر دنيوي ينزل إلى مستوى المدعو، وقد يتجادل معه أي السيارتين أحسن، وأي السلعتين أجود، وهذه ليست من الدين في شيء، وينسى أنه داعية، وفي الأمور الدنيوية يتصرف مع المدعو كعامة الناس وربما جهل ونسي، ولا يتذكر أنه داعية إلا إذا طرح موضوعاً شرعياً فيه قال الله وقال رسول الله، فهذا من الانفصام النكد بين الحالتين، ولا يصلح ذلك في تصرف داعية مع مدعو. ومما ينافي الرفق أيضاً: أن يطبق الداعية مع المدعو ما حصل معه هو شخصياً في مبدأ أمره، وقد لا يكون ذلك مناسباً للمدعو أبداً، فلنفرض أن داعية وفق برجل انتشله انتشالاً عميقاً وأحسن إليه إحساناً عظيماً ونفعه نفعاً كبيراً، وسهل له الأمور في طلب العلم والدعوة والتخلص من منكرات كثيرة، ونصحه بنصائح، فالآن هذا الداعية يريد أن هذا المدعو يقفز مثلما قفز هو، وقد لا تلائم الظروف، قد تختلف الشخصيات ويختلف الأشخاص الذين نقلوا، والذين دعوا في الأصل، والفرق بين الداعية الأول والداعية الثاني قد يكون أكبر مما يفعله هذا الداعية الجديد مع المدعو. فلا بد من مراعاة هذه الأمور، وما كان سهلاً بالنسبة لك قد يكون شاقاً بالنسبة له، فلا تحمله ما لا يطيق. ومن الرفق كذلك: تشجيعه في العمل وتكليفه بالأمر اليسير حتى إذا نجح فيه شعر بحماس، وشعر هذا فعلاً بقيمة العمل، وأنه أنتج وأثمر فتشجع على مزيد من السؤال.

ثامنا: لا بد أن تكون العلاقة قائمة على التدرج

ثامناً: لا بد أن تكون العلاقة قائمة على التدرج ولهذا أمور كثيرة: فمنها: ألا يطالب الداعية المدعو فوراً بطلب العلم، وبالمنهجية فيه، أو بحفظ النصوص، وهو إلى الآن (خام) لم يتعود بعد على مثل هذه الأشياء، أو أن يطالبه بالارتقاء إلى مستويات عالية في الأمور الإيمانية، فيطالبه بقيام الليل وبصيام النافلة، وهكذا، والمدعو بعد لم يتعود على القيام بالفرائض، ولم تستقر نفسه وترسخ قدمه في سبيل الإسلام أو فرائض الإسلام الأساسية، فيكون مطالبته بهذه الأمور من النافلة شاقاً عليه منافياً للتدرج، وقد يفعل ذلك فترة ثم يترك الفرض والنفل. ومن الأمور كذلك: عدم تكليف المدعو بأن يشتغل مباشرة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو أن يحوله إلى داعية بطريقة قسرية، أو يدفعه دفعاً في قفزة محطمة لمثل هذه الأعمال الكبيرة التي تحتاج إلى تهيئة وتدريب ومراس ومران وهكذا. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا) وهذا لا يعني بأي حال من الأحوال أن تبدل أحكام الإسلام لتريح الذي يستمع إليك من المدعوين، لكن أن تعلم أن هذا الدين متين، فتراعي حسن المدخل على المدعو، وأن تختار أيسر الأمرين ما لم يكن إثماً. ومن التدرج مع المدعو: مخاطبته على قدر عقله، فإن على الداعية أن يخاطب المدعو من حيث انتهى علم هذا المدعو لا من حيث انتهى علم الداعية، من حيث انتهى فهم المدعو لا من حيث انتهى فهم الداعية. فإن بعض الدعاة قد يتخيل أو يتصور أن المدعو الآن لا بد أن يفهم مثلما يفهم هو، ويستوعب مثلما يستوعب هو، وأنه سريع الاستنباط، وسريع الوصول إلى الأمر وفهم القضية مثله، وليس الناس بمستويات متشابهة أو متقاربة، ولذلك يقول علي رضي الله عنه كما روى عنه البخاري في صحيحه: [حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله]. ولذلك من الفوائد التي يرشد إليها كلام علي رضي الله عنه أيضاً من باب التدرج: تأليف قلب المدعو ربما يعرف من الإسلام أولاً، وعدم مخاطبته بغرائب العلم، والأشياء التي لا يطيق فهمه استيعابها، أو لا يطيق عقله فهمها. قال ابن مسعود: [ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم، إلا كان فتنة لبعضهم] وقد ضرب سلفنا رحمهم الله مثلاً عظيماً في هذا. قال الشافعي: لو أن محمد بن الحسن كان يكلمنا على قدر عقولنا، ومحمد بن الحسن عالم عظيم من العلماء وفقيه، وعقله جبار، عقله طاقة هائلة، وهو من شيوخ الشافعي. قال الشافعي: لو أن محمد بن الحسن كان يكلمنا على قدر عقله ما فهمنا شيئاً، ولكنه كان يكلمنا على قدر عقولنا فنفهمه. وهذا التبسيط في الأمور وحسن العرض من الحكمة في الدعوة، وقال النضر بن شميل: سئل الخليل عن مسألة - الخليل معروف من كبار علماء اللغة والقرآن والسنة أيضاً- فأبطأ في الجواب فيها، فقلت ما في هذه المسألة، وما كل هذا النظر، قال الخليل رحمه الله: فرغت من المسألة وجوابها، ولكني أريد أن أجيبك جواباً يكون أسرع إلى فهمك، يقول: أنا الآن لا أفكر في الجواب، الجواب انتهى عندي من زمان، لكني أفكر في الطريقة السهلة الميسورة التي إذا عرضتها عليك فهمت الأمر.

تاسعا: أن تكون العلاقة قائمة على الحكمة

تاسعاً: أن تكون العلاقة قائمة على الحكمة والحكمة والتدرج والرفق كما ذكرت شيء واحد تقريباً، ولكن من الحكمة اجتناب ما يسرع الناس إلى إنكاره، فإن بعض الأشياء والتصورات الكبيرة في العلم إذا عرضتها على الشخص أنكرها وقال: أنت إنسان لا تفهم الواقع، أو لا تفهم شيئاً، وأنت إنسان عندك شطحات، ولا يقبل منك أمراً، ولكن من الحكمة أن ترجئ ذلك حتى يستوي نضجه ويكبر فهمه فتعطيه من هذه المسائل. فتألف قلوب الناس بما يعرفون، وعدم إتيانهم بغرائب العلم من الحكمة، والتبسيط وعدم التعقيد كذلك، وتشجيع المدعو على السؤال من الأمور المهمة حتى يكون ذلك طريقاً إلى فهمه وحرصه على العلم. ومن هذه الحكمة وداخلة في التدرج أيضاً: ما بينته عائشة رضي الله عنه فقالت: [أول ما نزل من القرآن سور المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام]. ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبداً، ولو نزل لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبداً، وهكذا. فلا بد من تغيير النفوس شيئاً فشيئاً وإعدادها لتقبل الأوضاع الجديدة، وفطام الطفل يكون على مراحل، وهكذا يكون وضع هذا المدعو، فلا بد أن تكون الأمور إذن فيها تدرج، ولا بد أن يكون فيها الأولويات التي أشرنا إليها، وأول ما يبدأ مع مدعو عاصٍ وفاسق لا يبدأ معه بالحلال والحرام، وإنما يبدأ معه بعرض حقائق الإيمان، ووجوب طاعة الله؛ الحساب، الجزاء، الجنة، النار، ما أعد الله لأوليائه وما أعد لأعدائه، ماذا أعد للعصاة وماذا أعد للطائعين، وما يعوض الله الذين يتركون شيئاً في الدنيا من أجل الله، وهذه الأحاديث الترغيبية الترقيقية التي فيها إيراد للآيات والأحاديث الصحيحة والكلام الجيد المنتقى من أقوال أهل العلم في المواعظ، هذه أمور يجب أن يبدأ فيها قبل عرض الأحكام وأمر الناس بالحلال والحرام مباشرة.

الحكمة في مراعاة الأحوال والمواقف

الحكمة في مراعاة الأحوال والمواقف نعم. نحن نراعي الأحوال والمواقف، قد يكون الشخص أمامك دقائق فقط، وبعد ذلك سيغادرك ويترك، فعند ذلك تقول: اتق الله ولا تفعل كذا، وتكون عبارة مجملة، فيها تذكير بتقوى الله وتبيين الحكم الشرعي، لأنه لا وقت عندك للتدرج، تراعي الحال، ولكن تبدأ بهذا الأمر: اتق الله ولا تفعل كذا، راقب الله وهذا حرام، تذكر ربك وتذكر الآخرة، ثم تقول: وهذا الذي تفعله يجب أن تنتهي عنه، وهكذا. ومن الحكمة: ما عنون عليه البخاري رحمه الله في صحيحه في عنوان يدل على فقه عظيم: جواز النهي عن المستحبات إذا كان ذلك يفضي إلى السآمة والملل. والحديث المأخوذ منه هذا الاستنباط حديث عظيم جداً، حديث تربوي، ينبغي أن يقبل عليه المشتغلون بالتربية فيفهموا هذا، قصة سلمان مع أبي الدرداء. أبو الدرداء كان رجل مقبل على العبادة جداً، حتى إنه ما كان يعطي زوجته حقها، حتى اشتكت، فـ سلمان أراد أن يقوم بدور تربوي مهم مع أبي الدرداء، فزاره فصنع أبو الدرداء له طعاماً فلما قدم له الطعام، قال له سلمان: كل معي، قال: إني صائم، قال: لا أذوق طعامك حتى تأكل، فأكل معه، ثم جاء وقت النوم فذهب سلمان لينام وذهب أبو الدرداء ليقوم الليل، فقال سلمان: تعال فنم، فنام أبو الدرداء، ثم ذهب ليقوم، فقال سلمان: نم، فنام أبو الدرداء، فلما كان آخر الليل قال سلمان: قم الآن، فصليا، ثم علمه: إن لربك عليك حقاً، وإن لجسدك عليك حقاً، وإن لأهلك عليك حقاً فأعط كل ذي حق حقه. فهذه المعايشة التربوية هي التي تؤدي إلى تصحيح الأوضاع، وأما الكلام النظري من بعيد فإنه لا يساهم تلك المساهمة الكبيرة، ولذلك لو رأى الداعية المدعو قد نشط في أعمال نوافل جداً وخشي عليه أن يكون هذا الحماس الآن غير متزن، أو أنه سينقطع به الحبل بعد قليل، فعليه أن يذكره بالاقتصاد في النوافل حتى يتعود عليها، وحتى يشتد عوده، حتى لا تكون هذه طفرة، ثم بعد ذلك يقع وينهار، وليفعل مثلما فعل سلمان مع أبي الدرداء رضي الله عنهما.

ومن الحكمة كذلك: الحكمة في التعرف على المدعو

ومن الحكمة كذلك: الحكمة في التعرف على المدعو وقد ذكر لنا عليه الصلاة والسلام أموراً تساعدنا على هذا الأمر، فقال: (ابتسامتك في وجه أخيك صدقة) بالابتسامة رسالة ومظروف يذهب إلى قلب هذا المدعو فيعطي نوعاً من الألفة وتهيئة الجو من هذا التعارف، وكذلك يقول صلى الله عليه وسلم: (ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم) فإفشاء السلام أيضاً يهيئ الأمور للتعارف، وكذلك الدعوة إلى الوليمة والطعام وصنع المعروف مهيء للتعارف، وهكذا. وأريد أن أذكر لكم قصة طريفة بهذه المناسبة وهي قصة واقعية: أراد شخص أن ينصح شخصاً، فقبل أن ينصحه قال: لا بد أن أتعرف عليه، كيف أدخل عليه هكذا، وأقول لا تفعل وأنت طيب، لا بد أن أتعرف عليه، كيف أتعرف عليه؟ لو قلت له الآن: ما اسمك؟ مستغربة، ماذا أفعل؟ هل أذهب وأدوس على قدمه وأقول آسف ثم أتعرف عليه؟ طريقة سخيفة، هل أقول له: الجو اليوم حار؟ سؤال مكشوف، هل ألبس حذائه مدعياً أني لبسته بالخطأ ثم أعتذر وأقول: ما اسمك وأين تسكن وما؟ فيها حرج شرعي، واحتار هذا الداعية، وفي النهاية قرر أن يسلك سبيل الصراحة فذهب إلى ذلك الرجل وقال له: يا أخ (شوف) أنا أريد أن أنصحك نصيحة وأريد أن أتعرف عليك ولكني فشلت ولم أجد سبيلاً للتعرف عليك، وأنا أريد أن أقول لك شيئاً فهلا عرفتني بنفسك، فكانت هذه الطريقة نافعة وليس على جميع الحالات ولكن الإنسان يقدر الأمور ولا يأتي بالأشياء التي تنافي الحكمة، ثم سارت الأمور سيراً حسناً.

من الحكمة تقدير رغبة المدعو

من الحكمة تقدير رغبة المدعو ومن الحكمة كذلك في علاقة الداعية بالمدعو: أن يقدر الداعية رغبة المدعو في الأشياء التي ينجذب إليها وينفر منها، فإن بعض الدعاة يريدون تحبيب المدعوين إلى أمور من الشريعة عن طريق أشياء من الترفيه. فقد يعمل برنامجاً مثلاً فيه فقرة ترفيهية وفقرة تعليمية شرعية، فبعض المدعوين في البداية يأتي ويحضر الفقرة الترفيهية وإذا انتهت السلام عليكم ويمشي ويترك الفقرة التعليمية، وصاحبنا يقع في حيرة من أمره، ويفكر ويضرب أخماساً في أسداس ماذا يفعل الآن، وفي النهاية قد يبلغ به السيل الربا، ويمسكه ويقول: تلعب وتمشي، لابد أن تلعب وتجلس وتسمع الكلام وإلا لا تأتي أصلاً، فهذه الطريقة التي فيها شدة منافية للحكمة، لا يصلح أن يفعلها هذا الداعية مع المدعو. يؤخذ الناس بالترفق شيئاً فشيئاً، يألف المنظر في البداية، وقد يرى حلقة العلم وينصرف ثم يتأخر قليلاً في ارتداء ملابسه ويسمع كلمة أو كلمتين، ثم قد يحب أن يشارك إذا ارتاح إلى الناس وأحبهم، فيريد أن يسمع كلامهم فيجلس ربع ساعة ويمشي. وبعض الدعاة يستعجلون النتيجة، كيف يجلس عشر دقائق ويمشي لا بد أن يجلس كل الوقت، كيف وهو لا يدرك أو يدرك أو يتغافل وينسى بأن هذا إنسان قد صاغته الجاهلية، وأن المجتمع قد ألقى إلينا من خلال الرحم أو الأرحام بنماذج مشوهة مليئة بالتحريف، مليئة بالمعاصي والشهوات، مليئة بالانحرفات، هذه النماذج التي ألقى بها إلينا رحم المجتمع المنحرف عن منهج الله عز وجل تحتاج إلى طول عناية ودعوة وترفق حتى تبدأ بالتقبل، هذا شخص له سنين في الانحراف تريد أنت الآن أن تسمعه الكلام كله في جلسة أو في ساعة أو موعظة وتريد أن يطبق فوراً، إذا كانت الجاهلية قد صاغته سنوات يفعل المعاصي ويغرق في الشهوات إلى أذنيه والآن أنت تريده بسرعة أن يفعل كل ما تريد منه، إن ذلك الأمر مناف للطبيعة البشرية ومناف للواقع، وأي شيء ينافي الواقع لن يصمد ولن يستمر وسيكون مشروعاً فاشلاً. وفي الغالب لو أنك نفرته بهذه الطريقة فقد يتركك ويذهب ليلعب مع أناس آخرين من أهل الشر الذين لا يستفيد منهم على الإطلاق، على الأقل إذا قضى معك وقتاً في الترفيه فإنه لا يكون واقعاً في المعاصي، يفعل مباحات ولكن بعيداً عن المعاصي، ولكن إذا ذهب يرفه عن نفسه مع غيرك، فإنه سيقع في منكرات ومعاصي.

عاشرا: مراعاة الأحوال

عاشراً: مراعاة الأحوال لا بد أن تكون العلاقة قائمة بين هذا المدعو والداعية على مراعاة الأحوال، والأحوال تختلف اختلافاً كبيراً، فالأمر يختلف إذا كان هذا الداعية طالباً والمدعو طالباً، ويختلف إذا كان الداعية مدرساً والمدعو طالباً أو العكس، ويختلف إذا كان الداعية موظفاً والمدعو مدير والعكس، ويختلف إذا كان الداعية يعمل في الطب والمدعو مريضاً أو العكس، ويختلف إذا كان الداعية طياراً أو مضيف طائرة أو العكس، ويختلف إذا كان الداعية مثلاً نقيباً في السلك العسكري والمدعو رائداً أو العكس، ويختلف إذا كان الداعية نقيب والمدعو عقيداً أو عميداً أو لواءً ونحو ذلك من الرتب، وكلما تباعدت الرتب صعب الأمر من الأسفل إلى الأعلى وسهل من الأعلى إلى الأسفل. فإذا كان نقيباً يدعو رائداً فهو أسهل من نقيب يدعو مقدماً أو يدعو عميداً أو عقيداً، وبالعكس إذا كان عميد يدعو نقيباً فهو أسهل من دعوته لشخص قريب من رتبته، وهكذا، وكذلك يختلف الوضع إذا كان الداعية قريباً للمدعو أو الداعية غريباً عن المدعو. الواحد يمكن أن يدخل مع ناس من أقربائه بشيء من التقدم السريع لأنه لا يحتاج إلى أن يتعرف عليه لأنه يعرفه منذ سنوات وبينهما صلة رحم ووشائج قربى، وعلى العموم فإن الدعوة تكون أسهل إذا كان الداعية في الرتب الدنيوية أعلى من المدعو، وتكون أصعب إذا كان الداعية في الرتب الدنيوية أنزل من المدعو، وهذه المسألة تحتاج إلى مراعاة أحوال، وفيها مراعاة حال كبيرة. وفي بعض المهن أو بعض الوظائف يكون صاحبها أسهل في المهمة الدعوية، فالطبيب مثلاً يسهل عليه أن يدعو جميع طبقات المجتمع، لأنه إنسان يحتاج إليه الكل، وإذا مرضوا ما عاد يميز بين الراتب، فهذا طبيب الناس يستوون عنده في المسألة الآن، ولذلك كان المنصرون يعتمدون على الأطباء في نشر دعوتهم الكفرية الإلحادية أكثر من غيرهم، ولذلك تسمع الآن عن بعض الجمعيات مثلاً: جمعية أطباء بلا حدود، هذه جمعية عالمية مشهورة جداً فرنسية تبشيرية، لها ميزانية ومعتمدات ومخصصات وتبرعات تأتيها من جميع أنحاء العالم، تكون فرقاً وتعبر الحدود، أطباء بلا حدود. وكذلك رجل الأعمال (التاجر) له مكانة مرموقة في المجتمع، تصور لو أن رجلاً مثل هذا هداه الله عز وجل، فهذا يؤثر على غيره تأثيراً كبيراً لأن عنده من الموظفين والعمال والمستخدمين تحته ما يستطيع أن يؤثر على طوائف وأمم من الناس. وبعض الناس من أصحاب المراكز إذا هداهم الله وأصبحوا دعاة سمع لهم الناس أكثر، وهكذا. فمراعاة الأحوال إذاً بين الداعية والمدعو في الأمور الدنيوية من الأشياء المهمة. ومن مراعاة الأحوال كذلك: العوامل التي تتحكم في لهجة الخطاب ونوع الكلام، هناك أشياء تتحكم في لهجة الخطاب، وهي أنواع المدعوين، فهناك فرق بينما إذا كنت تخاطب وتدعو ملحداً، وما إذا كنت تدعو رجلاً من أهل الكتاب، وما إذا كنت تدعو رجلاً من ديانات أخرى كـ البوذية مثلاً والهندوسية، وفرق أن تدعو رجلاً مرتداً عن الدين، وفرق أن تدعو رجلاً منافقاً أو علمانياً، أو تدعو رجلاً من عصاة المسلمين أو تدعو رجلاً من عامة المسلمين. فإذن الناس يتفاوتون، وهذا التفاوت ينبغي أن ينعكس على العلاقة بين الداعية والمدعو؛ لأنه لا يمكن أن نخاطب المرتد مثلما نخاطب رجلاً من عامة المسلمين، لا يمكن أن نخاطب منافقاً علمانياً مثلما نخاطب رجلاً من عصاة المسلمين، وهكذا. وهذا الأمر إذن ينعكس على لهجة الخطاب ونوع الكلام. من مراعاة الأحوال: تقدير المستوى العقلي للمدعو، أو الانشغال العائلي، أو العامل النفسي، فقد يكون هذا المدعو رجلاً يحب العزلة أو امرأة تحب العزلة، فيريد الداعية أن يضعه في وسط اجتماعي بالقوة، وأن يجعله منفتحاً، وأن يجعله منسجماً مع الوسط، وأن يجعله، وهذا الإنسان ليس متعوداً على مخالطة هذا العدد الكبير من الناس، وفتحه بالقوة بهذه الطريقة سيسبب مشاكل كثيرة، وبعض الدعاة قد يتعسف في التداخل والدخول مع المدعو لدرجة تشعر المدعو بالنفور، وفي الصباح يلتقي المدعوون في فصولهم الدراسية وفي الفسحة يتجاذبون أطراف الحديث، ويحكي كل منهم معاناته من الداعية الملازم له، فقال أحدهم يوماً: ألا تعلمون ما فعل صاحبي معي في الليلة الماضية، قالوا: ماذا فعل؟ قال: لقد نام عندي، يا للهول! جاء ونام عندي، هذا إنسان غير متعود أن يظهر أمام الناس بثوب النوم أبداً، لابد أن يظهر (بالسكفة) الكاملة، فالآن عندما جاء هذا الرجل وزاره، وقال: الوقت تأخر ما رأيك أنام عندك، وهو إنسان غير متعود أن ينام عند الناس ولا الناس ينامون عنده. وهذا صاحبنا الداعية يريد أن يتداخل بأسرع وقت فيحدث بعد ذلك مثل هذه الأمور المضحكة، ومن مراعاة الحال في علاقة المدعو بالداعية: أن يراعي الداعية حجم العائلة عند المدعو، ونوع العمل ووقت الدوام، فلا يطلب منه ما يشق عليه ولا يطلب من المدعو الموظف مثلاً دواماً قصيراً مثلما يطلب من الموظف دواماً طويلاً، أو مثل الذي يعمل في نوبات ونحو ذلك، ولابد من مراعاة صعوبة الدراسة، فإن الطالب في دراسة معينة في تخصص معين لا يكون عليه من الصعوبة في الدراسة مثلما عند الآخر، وكذلك لا بد من مراعاة المستوى الذهني والفروق العقلية، وظروف الشخص، قد يكون عنده اختبارات في المدرسة، أو أعمال وانتدابات وجهد شاق في عمله، فعدم المراعاة تأتي بالنتائج العكسية. حكي أن مدعواً كان يتعامل مع الداعية من نافذة الحجرة، أو من شرفة المنزل، أو من سماعة جرس الباب، والسبب أن الداعية لم يكن يعلم كيف يتعامل مع هذا الشخص وكيف يراعي ظروفه، فلما أثقل عليه وجد أن الرجل بسببه ستضيع الدراسة والمستقبل، وصار إذا جاءه أحد يصرفه من النافذة أو يكتب له على الباب ممنوع الإزعاج. ومن الأشياء كذلك مراعاة الأحوال: مراعاة الطبائع والعادات، مراعاة العادات القبلية والفروق في المناطق التي يتجمع منها الأشخاص ويأتون. وخذ على سبيل المثال: لو أن رجلاً يريد أن يدعو في أهل البادية، فأهل البادية إن لم تكن فقيهاً في الأعراف وقعت في إشكالات، فمثلاً بعض الناس لو أنك سكبت له باليسار فإنها تعتبر عنده طامة كبرى، أو مثلاً لقيته ظهرك في المجلس، فهذه تعتبر مصيبة عظمى، أو مثلاً لو تخطيته في فنجان فأعطيت من قبله ومن بعده ولم تعطه لعدها من الأشياء القاصمة للظهر. وحتى المرأة مع زوجها إذا أرادت أن تدعو زوجها فلابد أن تراعي الفروق بين أن تكون الداعية هي الزوجة أو الزوج، لأن هذه أيضاً تفرق في مسألة الدعوة، بعض الناس عندهم من العادات أو يعتقدون أن المرأة إذا تخطت فوق الرجل وهو مستلقٍ معنى ذلك انقطع نسله، ولذلك يقوم عليها ويمكن أن يضربها ضرباً مبرحاً، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يراعي عادات القبائل، وأحياناً تجد في بعض النصوص من كلام القبائل اليمانية، وكلام من قبائل نجد، وكلام من قبائل حبشية فكان الرسول عليه الصلاة والسلام يراعي ذلك ويراعي عادات القوم. وطبعاً لا بد للداعية أن يكون على شيء يقبله الناس سواء في هندامه أو نظافته أو طيبه، فلا يكون له رائحة كريهة ولا تقعر في الكلام، ولا هندام سيئ وعدم اهتمام بالنظافة، والرسول صلى الله عليه وسلم قد حبب إليه من دنيانا الطيب.

حادي عشر: من علاقة الداعية بالمدعو أن يصبر عليه

حادي عشر: من علاقة الداعية بالمدعو أن يصبر عليه يصبر عليه في أشياء كثيرة، يصبر على هذه النفسية المعقدة، ويصبر على هذه الشخصية التي امتلأت شهوات وتمردت على شرع الله، وطال عليها الأمد وقسى القلب والداعية يريد التغيير، وهو لا يتعامل مع أحجار صلدة ولا ملائكة بررة، فينبغي أن يراعي ذلك، فيصبر على تعليم المدعو ويصبر على أذاه وعلى انحرافاته والتوائه، قال الله لرسوله: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل:127] {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ} [الأنعام:34]. فالداعية قد يواجه من المدعو شروداً، وقد يواجه منه كلاماً مؤذياً وتصرفات سخيفة، فيجب أن يصبر عليه أو أن يحفظ ما يستطيع حفظه من ماء الوجه واحترام شخصيته، ولا يعني الصبر الرضا بالذل والمهانة أبداً، ولكن شيء من سعة الصدر وشيء من التقبل، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يتقبل الأذى وصدره رحب لهذا الأذى. فالمدعو قد يكون عنده أخلاق سيئة، قد يكون متعجرفاً متكبراً مغروراً، عنده عجب، فعلى الداعية أن يصبر عليه، وأن يعالج الأخلاق السيئة بالأساليب الحكيمة فيداري هذا الشخص ويكرمه، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ائذنوا له بئس أخو العشيرة) ويوجه التوجيه المتواري بغير الأمر. كيف تدعو متكبر شخصاً؟ لا يصلح أن توجه له الأمر قال له: من أنت حتى تأمرني أصلاً، لكن لو قلت له: إنك فعلت كذا وأليس من الأحسن أنك تفعل كذا، والنصيحة له سراً حتى لا يشعر أنك فضحته في الملأ، ويستعلي عليك، وأن تظهر له أنه ليس المقصود بذاته في النصح، وأن النصح عام له ولغيره، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يجاهر فيقول: ما بال أقوام، ويعطي له فرصة اكتشاف الخطأ بنفسه، لأنك لو أوقفته على خطئه لازداد عتواً وتمرداً وغروراً، بينما لو تركت له الفرصة يتكشف خطأه بنفسه لربما تخطيت له عقبات من الكبر والغرور. والمناقشة مع غيره أمامه في موضوع يهمه دون الإشارة إليه وهو يسمع، وتعليمه التواضع، والقدوة، وداعية آخر غيرك يواجهه بدائه لو استدعى الأمر المصارحة ولو كرهه، فتنجو أنت فلا يكره الأول، وأعداء الإسلام إذا كانوا يعتمدون التوجيه غير المباشر فدعاة الإسلام أولى به وأحرى، وتذكر هذه الجملة: التوجيه غير المباشر. ومن الصبر: الصبر على صدود هذا المدعو، قد تأتي وتمر لإنسان وتقول له: نصلي، يقول لك: إن شاء الله، نمشي سوياً، قال: اسبقني إلى المسجد، انتهت الصلاة ورجعت ووجدته مكانه، صليت معنا، قال: لا صليت في مسجد يصلي بسرعة، الحل: اصبر على ما يقولون، والمدعو قد يظن أن للداعية مطامع دنيوية، فينبغي للداعية أن يبين له ويقول: ما سألتكم عليه من أجر، والصبر أيضاً على تغيير واقعه السيئ، وتحمل ما يصدر منه من التصرفات.

ثاني عشر: أن تكون العلاقة قائمة على مراعاة المصالح والمفاسد

ثاني عشر: أن تكون العلاقة قائمة على مراعاة المصالح والمفاسد فلو كان الداعي إذا أمره بأمر تأكد نفوره، أو إذا ألزمه بأمر فوق طاقته لو داوم عليه لانقطع، فيكون لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى، فإنه يراعي المفاسد التي قد تنشأ عن هذه الأمور، وهذه المسألة قد تدخل في بعض الأشياء التي سبق أن ذكرناها، وكذلك من مراعاة المفاسد ما سبق أن ذكرناه في موضوع التدرج من تحديثه بشيء لا يفهمه أو لا يعقله. ومن مراعاة المفاسد أيضا ًأن بعض الدعاة قد يرى أنه لا فائدة من هذا المدعو، وقضاء الوقت معه مضيعة للوقت، فلا بد أن أتركه، فهنا لا بد أن يكون تركه له بحكمة، حتى لا ينقطع عنه بالكلية، فيصبح عدواً له، أو يشوه صورته، ويتكلم عليه في المجالس، فالترك بالتدريج وبحكمة، ولا يتركه فجأة فيكرمه ثم لا يجد هذا منه كرماً أبداً، ويكون يزوره فلا يجد منه زيارة أبداً، ويهتم به ثم لا يجد اهتماماً أبداً، وهكذا يحصل ما يحصل من الانعكاسات والسلبيات والمفاسد، ثم ليس من المصلحة قطع الخير عن هذا الشخص أبداً ولو أن الإنسان وجدت أن قضاءك للوقت معه مضيعة للوقت، فلا بد من الكلمة والكلمتين والزيارة والزيارتين، والإيقاظ للصلاة، على الأقل على أشياء لا تأخذ منك وقتاً ولا تستهلك منك جهداً. ومن مراعاة المصالح في الدعوة: أن الداعية ينبغي أن يتفطن لتمييز الناس وانتقاء من يصلح لخدمة هذا الدين أكثر من غيره، فإن بعضهم يخطئ فينتقي الأسهل ولا يفكر بالأجود، وقد يكون الشخص الأحسن نفعاً للإسلام أصعب وقد يكون أشق، ولكنه إذا اهتدى يكون فيه نفع عظيم للإسلام والمسلمين، فعلى الداعية أن يتذكر. عمر بن الخطاب رضي الله عنه كم كان فيه من العتو ومن التمرد، كان شخصية صعبة جداً، لكن عندما هداه الله، انتفع به الإسلام أيما انتفاع، ولذلك فالتفكير في المصالح في هذه القضية، وتحمل المدعو جيد المزايا حسن الشخصية وقاد الذهن، ولو كان صعب المراس أو صاحب معاصي ما لم تغلب مفسدة يكون أيضاً من مراعاة المصالح. واعلموا أيها الإخوة أننا عندما نشتغل في الدعوة إلى الله لا نهمل الناس بأن نقول: هذا غارق في المعاصي لا نقترب منه، فإن الذين يستمعون (الدسكو) أو يستخدمون استشوار من الذكور في تصفيف شعورهم، لا ينبغي إلغائهم من قائمة الدعوة بالكلية فيمكن أن يكونوا من نجباء الدعوة في المستقبل.

ثالث عشر: أن تكون العلاقة قائمة على الاحترام المتبادل والمحافظة على المشاعر

ثالث عشر: أن تكون العلاقة قائمة على الاحترام المتبادل والمحافظة على المشاعر فاحترام وجهة نظره ورأيه بل والأخذ به إذا لم يكن هناك حرج، كاختيار المطعم، أو أدوات اللعب، أو مكان الدراسة ونحو ذلك، وبعض الدعاة يخطئون ويعاملون المدعو كأنه طفل فلا يقيمون لرأيه وزناً، وينصب نفسه ولياً لأمره ويريد منه ألا يقطع أمراً دونه، أو يشعر المدعو بأنه مراقب ومتتبع، وأن تصرفاته محسوسة وأنفاسه معدودة، وأنني أعرف ماذا تفعل، هذا يضايق كثيراً من الناس المدعوين، أو أن يزوره زيارة مفاجئة لم يكن مستعداً لها، أو أن يعمل له في عرض الكلام نغزات وقفشات ربما تسبب له نفوراً كبيراً، بينما يظن الداعي أن هذا من الحكمة، وأن هذه دقات مناسبة، فيتباهى، أو أنه يتخذها له تخصصاً في الكلام مع المدعو فيفسد إفساداً كثيراً. ومن الأمور المضايقة: المحاسبة غير الشرعية، مثل أن يقول له: تعال، ماذا صليت اليوم من السنن؟ وكم سبحت؟ وهل تركت وهل فعلت؟ لست رقيباً على الناس بهذا، فالله رقيبهم وحسيبهم، ولكن أنت تدعوهم إلى الإسلام وإلى الإيمان وإلى شعائر الخير، والله يحصي أعمالهم ولست أنت الذي تحصي أنفاسهم. والإنسان بطبعة مفطور على النفور من الإكراه والإلزام، وكل أحد يحب أن يفكر بحرية، ويختار بحرية، ويعمل بحرية، وحين يشعر أن الأفكار أو الأعمال تملى عليه إملاءً قسرياً دون أن يكون هناك اختيار؛ تصد نفسه ويحجم عن قبول الفكرة أو الاستجابة لأمر الداعية أو نهيه، قبل أن يفكر حتى في سلامة الفكرة أو صحتها ونفعها. ولكن عندما تتسلل إليه الفكرة تسللاً يتوهم المدعو منه أنه هو صاحب الفكرة، تكون دوافعه ذاتية وتطيب نفسه بالتطبيق وتسمح بالاستجابة، فالإقناع والترغيب والترهيب وإيضاح الاختيار، حتى الله عز وجل يقول في القرآن: {مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} [الفرقان:57]، {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير:28]. فتقول له: أنا لا أكرهك، أنا لا أجبرك، أنا لا أقسرك، يقول الله: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس:99] وهذا نوح يقول لقومه: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} [هود:28].

رابع عشر: أن تكون العلاقة محتفظة بدرجة من الجدية والوقار

رابع عشر: أن تكون العلاقة محتفظة بدرجة من الجدية والوقار فبعض الدعاة قد يستخدم مزحاً مشيناً كثيراً، أو مفرطاً، أو ثقيلاً، أو يأتي بحركات قد تغضب المدعو، أو تسقط الهيبة فيما بينه وبينه، ويفترض بعض الدعاة أحياناً أن هذه دماثة خلق، وأن المزح طيب لتأليف القلوب، أو أن العلاقة قوية تسمح بمثل هذه التجاوزات مع أن الأمر ليس كذلك عند المدعو، فهو يعتبره كلاماً ثقيلاً سمجاً وتصرفاً سخيفاً، فإذاً ينبغي على الداعية أن يحاسب نفسه على مثل هذه التصرفات. وتميز شخصية الداعية وعدم تميعها مع المدعوين هذا أمر واجب، فلا يجوز أن يشاركه في أمر محرم، مثل: رجل أخذ له شيشة يقول: داعية، قال: الشباب يشيشوا وأنا أشيش ونطلع، أو ألعب معهم ورق مثلاً، أو نشاهد معهم مباريات بحجة التداخل، وما شابه ذلك من وساوس الشيطان.

خامس عشر: أن تكون العلاقة ذات نفع متعد لأقرباء المدعو وأصدقائه

خامس عشر: أن تكون العلاقة ذات نفع متعد لأقرباء المدعو وأصدقائه فبعض الدعاة إذا أراد أن يدعو شخصاً في أسرة أو بيت مثلاً لا يسأل إلا عنه، ويطرق الباب بدون سلام أو كلام، فلان موجود، فقد يخرج أبوه أو أخوه أو زميله، فيتضايق من هذا الأسلوب، وأنك أنت فقط لا تريد إلا فلان، وماذا تريد منه؟ وماذا تقصد؟ وماذا تريد أن تفعل به؟ وهكذا. فيكون الداعية قد اكتسب بذلك استنكاراً وإقامة حواجز بينه وبين أقرباء المدعو أو أصدقائه، وكذلك يتصرف بعض الدعاة مع بعض المدعوين بشيء يشعر المدعو أن هذا الداعية يريد خطفه من بين أقرانه أو زملائه القدامى، أو يذم أصحابه وزملائه ذماً شديداً فينفر هذا المدعو، لأنه يقول: لا يستاهلون هذا الذنب، لماذا يحمل عليهم هذا الداعية هذه الحملة الشعواء؟ فيصور لهم كأنهم من أصحاب المخدرات واللواط وهكذا، مع أن معاصيهم قد تكون أقل من ذلك مثل استماع الأغاني ولعب الورق والمسلسلات مثلاً، فينبغي أن يبين ويوازن الكلام ويكون لكل واحد نصيبه. وكذلك يضع المدعو في موقف محرج فيقول له: إما أصدقاؤك أو أنا، فيضعه في زاوية ضيقة، وقد يكون هذا المدعو عاطفياً متشبثاً بأصحابه القدامى لا يريد تركهم. ومن الأدلة على أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يوسعون العلاقة وما كان الرجل للرجل والشخص لزميله فقط أو قرينه، هذا أبو هريرة رضي الله عنه كم اهتدى على يديه من الناس لكن يقول في الحديث: (كنت أدعو أمي إلى الإسلام وهي مشركة، فدعوتها يوماً فأسمعتني في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أكره، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي فقلت: يا رسول الله! إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام فتأبى علي، فإني دعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادع الله أن يهدي أم أبي هريرة، فقال صلى الله عليه وسلم: اللهم اهد أم أبي هريرة) وهذا الداعية لا يجب أن يغفل عن الدعاء في الدعوة ولا يظن أن المسألة كلها أسباب فقط، وإنما يلجأ إلى الله سبحانه وتعالى قال: (فلما جئت قصدت إلى الباب فإذا هو مجاف مغلق، فسمعت أمي حس قدمي، فقالت: مكانك يا أبا هريرة، وسمعت حصحصة صوت الماء، ولبست درعها وأعجلت خمارها، وفتحت الباب وقالت: يا أبا هريرة، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، قال: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فحمد الله وقال خيراً). إذن: إذا كنت تهتم بشخص اهتم بأقربائه وأصدقائه وزملائه على الأقل ولو جزئياً.

سادس عشر: أن تكون العلاقة قائمة على نفع المدعو وخدمته وليس انتظار النفع منه

سادس عشر: أن تكون العلاقة قائمة على نفع المدعو وخدمته وليس انتظار النفع منه والنفع قد يكون نفعاً دينياً للمدعو أو دنيوياً له كسد جوعة، أو قضاء دين، أو حل مشكلة، أو شرح درس، وانتبه أن لا تشرح إلا وأنت تفهم ما تشرح، وأبوه قد يكون مغرق في الديون، وهذا الرجل مهموم يفكر في ترك الدراسة من أجل مساعدة أبيه المديون، فإعطاؤه الرأي السديد والإشارة عليه يفرج الكثير من همومه. وقد يفترض بعض الدعاة في مرحلة من المراحل أن المدعو الآن يجب عليه أن يقدم ولا بد أن تستخدم سيارته لمنفعة الدعاة وإمكانياته، مع أن المدعو الآن في مرحلة لا تمكنه من هذا، بل إنه يخدم ويعطى ولا يطلب منه شيئاً، وعند ذلك تحصل مشكلة.

سابع عشر: أن تكون العلاقة بعيدة عن العواطف الهوجاء

سابع عشر: أن تكون العلاقة بعيدة عن العواطف الهوجاء فالعلاقة بين الداعية والمدعو لا بد أن يكون فيها نوع من العاطفة والجمود من الخلل، لكن ما يحدث في بعض الأحيان من انقلاب العلاقة عن حد الاعتدال والوقار لتنقلب إلى سعار لا يهدأ من العواطف الجياشة المتلفة لنفسية الطرفين، فهذه ألفاظ تهدر بغير حساب، وهذه أحاسيس تنقل ومشاعر تسطر وأبيات من الشعر وإعجابات مكتوبة، وأحلام يعقبها حسرة وآلام، حتى إنه ربما يفكر إذا تركه المدعو أن يذهب وراءه إلى آخر الأرض. فهذا الداعية تذهب نفسه حسرات وتتقطع، وعند ذلك نقول: صحح نفسك يا أخي، لا تقصر نفسك على شخص معين، أو تقيم هذه العلاقة الهوجاء غير الشرعية التي ربما تؤدي إلى أمور غير محمودة العواقب من الأمور المحرمة. وإن الدعوة إلى الله عز وجل أيها الإخوة شيء ممتع ولذيذ جداً، وهو من أشوق ما يمارس الإنسان في حياته، وهذا لعله من الأشياء التي جعلها الله سبحانه وتعالى للقائمين بهذه الوظيفة العظيمة. وإن نسيت لا أنسى تلك الأيام المحبوبة إلى النفس التي لا يعرف قدرها إلا من فقدها، ولا أكتمكم أن الإنسان عندما يكون طالباً تكون الدعوة متيسرة أكثر في مجتمع الطلاب لسهولته وانفتاحه، ولا تفقد متعته إلا إذا فارقته، وستذكر غداً عندما تصبح بين طلبات الزوجة وصياح الأطفال وهموم الوظيفة كيف كنت في نعمة عظيمة لم ترعها، يا من تعيش وسط الطلاب أو العزاب، فإن بعض العمال مثلاً يعيش مع بعض العمال الآخرين تكون أيام جميلة وفي تآلف، فيندم إذا تركها بغير أن يطبع بصماته الدعوية على تلكم الأقران. فلتعلم إذا كنت متفرغاً قدر هذه النعمة ولا تضيع الفرصة، وصحيح أنك ستجد مجالات كثيرة للدعوة في المستقبل بين الأقارب والجيران، وستصبح بزوجتك وأولادك أكثر قدرة على التداخلات الاجتماعية ولكن متعة الدعوة في الوسط المدرسي أو الجامعي لا تكاد تنسى. نسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يجعلنا دعاة إلى سبيله، أن يجعلنا عاملين بالعلم، وأن يجعلنا مستبصرين بالسنة مستمسكين بها، وأن يجزل لنا الأجر العظيم.

100 فائدة في الصوم

100 فائدة في الصوم اختص الله الصيام لنفسه، وهو يجزي به، فجعل للصائمين باباً يدخلون منه إلى الجنة، وجعل دعوة الصائم مستجابة. وهنا أحكام كثيرة متعلقة بالصيام، تزيد عن المائة، سماها الشيخ فوائد، تتضمن تعريف الصيام وأركانه، ومفسداته وآدابه، وما يجب منه وما يستحب وما يحرم، وغير ذلك من المسائل الموشاة بالأدلة والنقاش، وعموماً فهذه المادة من الأهمية بمكان؛ لأنها جامعة لأحكام الصيام، نافعة للأنام.

الاستعداد لرمضان بمعرفة أحكام الصيام

الاستعداد لرمضان بمعرفة أحكام الصيام هذا الصيام تطهير وتكفير ورفعة، وهو من مصلحة العباد في دنياهم وآخرتهم، فلله الحمد على هذه النعمة، وله سبحانه وتعالى المنة والفضل بما شرع لنا من الأمور التي تطهر نفوسنا وتزكيها، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، المبعوث رحمة للعالمين، الذي عبد الله فأحسن عبادته، وصام لربه كما أمره عز وجل وعلمنا أحكام الصيام، وشرح لنا في سنته ما أنزل علينا في كتابه، وهذا الدرس عن أحكام الصيام لأن من جملة الاستعدادات المهمة بل هو أهم ما يستعد به لرمضان معرفة أحكامه، فإن الناس أيها الإخوة يستعدون لرمضان بأنواع مختلفة من الاستعدادات، فمنهم من يكدس الأطعمة والأشربة، سواء التجار أو الذين يشترونها فيجعلونها في بيوتهم وغير ذلك من أنواع الاستعدادات الدنيوية، والمسلم يقدم الاستعداد الديني على الاستعداد الدنيوي، فمن ضمن الاستعداد الديني لرمضان معرفة أحكام الصيام، وهذا الدرس بعنوان: مائة فائدة من أحكام الصيام، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من الذين يتعلمون العلم النافع ويطبقون ذلك وممن رزقهم الله الفقه في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فإن من يرد الله به خير يفقهه في الدين.

تعريف الصيام وحكمه

تعريف الصيام وحكمه الفائدة الأولى في تعريف الصيام: الصيام لغة: الإمساك. وشرعاً: الإمساك عن المفطرات من الفجر إلى مغرب الشمس بالنية. فائدة في حكم الصيام، أجمعت الأمة على أن صوم شهر رمضان فرض والدليل على فرضيته من الكتاب قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] ومن السنة حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال، قال صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان) رواه البخاري. فائدة في حكم جاحد الصيام: لا يجحد الصيام إلا كافر، ومن أصر على الإفطار في نهار رمضان يدعي إلى الصيام، فإن أصر على ذلك جاحداً لوجوبه فإنه كافر بالله العظيم.

فضل الصيام والحكمة منه

فضل الصيام والحكمة منه فائدة في فضل الصيام: وردت في فضل الصيام آيات وأحاديث، فمن ذلك أنه شرع للتقوى ومن الأحاديث: (أن من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) (وإن في الجنة باباً يقال له الريان يدخل منه الصائمون لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد) (وأن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك) وأن الصوم هو الذي اختصه الله لنفسه وأنه هو الذي يجازي به، وأن الصوم جنة ووقاية من النار، (للصائم فرحتان، إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه) (وأن الصيام يشفع للعبد يوم القيامة) (وأن من صام يوماً ابتغاء وجه الله وختم له به دخل الجنة) (وأن الصوم لا عجل له، وأن من صام يوماً في سبيل الله باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفا) وفي رواية: (مسيرة مائة عام) (وأنه تصفد فيه الشياطين وهم مردة الجن) وأن هناك ثلاث دعوات مستجابات: (دعوة الصائم، ودعوة المظلوم، ودعوة المسافر) فهنيئاً للصائمين. فائدة في الحكمة من الصوم: في الصوم حكم كثيرة يعلمها الله سبحانه وتعالى ومنها: أنه وسيلة إلى التقوى؛ فإن النفس إذا امتنعت عن الحلال طمعاً في مرضاة الله تعالى وخوفاً من عقابه فأولى أن تنقاد إلى الامتناع عن الحرام. ومنها: أن الصوم موجب للرحمة والعطف على الفقراء والمساكين، فإن الإنسان إذا جاع بطنه علم حال الفقراء في جوعهم فيرحمهم ويعطيهم ما يسد به جوعهم، إذ ليس الخبر كالمعاينة ولا يعلم الراكب مشقة الراجل إلا إذا ترجل. وأن الصوم فيه قهر الطبع وكسر الشهوة، فهو يربي الإرادة عن اجتناب الهوى وترك المعاصي، وكذلك فإن النفس تتهيأ للعبادة إذا صار القلب فارغاً من الطعام الذي يجلب الخمول والنوم. وفيه فوائد اجتماعية عديدة. ومن الفوائد الدينية: أن الناس يشعرون بأنهم أمة واحدة يأكلون في وقت واحد ويصومون في وقت واحد ويشعر الغني بنعمة الله سبحانه وتعالى عليه.

آداب الصيام ومستحباته

آداب الصيام ومستحباته فائدة في عدم نسيان آداب الصيام عند الكلام عن أحكامه: ينسى كثير من الناس إذا أراد البحث في موضوع الصيام آداب الصيام وينشغل بمعرفة الحلال من الحرام وأحكام الصيام، فينسى أن له آداباً وأن له مستحبات منها ما يتعلق بحفظ اللسان وترك السب والشتم، والكذب والغيبة والنميمة، والغش وآلات اللهو والمعازف ولعب الورق، فلا شك أن هذه المحرمات وإن لم تكن مفسدة للصيام ومفطرة للصائم وموجبة للقضاء إلا أنها تكسب الإنسان إثماً، ورب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش. كما أن له مستحبات مثل: الإكثار من قراءة القرآن وذكر الله، والدعاء والصلاة والصدقة، والجود بالمال، والجود بالعلم والجود بالنفس أعلى الجود، ليس الصيام من الأكل والشرب إنما الصيام من اللغو والرفث، فإن سابك أحد أو جهل عليك فقل: إني صائم إني صائم، تذكر به نفسك وتذكر به الآخرين.

تقسيمات الصيام

تقسيمات الصيام فائدة في أنواع الصيام: ينقسم إلى صوم عين وصوم دين كما ينقسم إلى متتابع وغير متتابع.

صيام العين وصيام الدين

صيام العين وصيام الدين فصوم العين ما له وقت معين إما بتعيين الله كصوم رمضان، أو بتعيين العبد، كمن نذر صوماً في وقت معين فإنه يتعين صيامه في ذلك الوقت، وأما صوم الدين فليس له وقت معين كصوم قضاء رمضان فإنه يصومه كما شاء، قبل رمضان الجديد، وصوم كفارة القتل والظهار واليمين، وصوم متعة الحج إذا لم يجد ثمن الهدي فإنه يصوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع متى أراد، وجزاء الصيد، والنذر المطلق عن الوقت كمن نذر أن يصوم شهراً أو أسبوعاً ولم يعين أي شهر أو أي أسبوع فإنه يلزمه الصيام في أي وقت كما نذر.

الصيام المتتابع والصيام غير المتتابع

الصيام المتتابع والصيام غير المتتابع فائدة هل يجب التتابع في الصيام؟ A منه ما يجب التتابع فيه كصوم رمضان لقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185] والشهر متتابع لتتابع أيامه، فلما قال: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ} [البقرة:185] أي: المعين والشهر أيام متتابعة فيلزمنا التتابع وكذلك صوم كفارة القتل الخطأ وصوم كفارة الظهار، وصوم كفارة الجماع في نهار رمضان فهذه صيام شهرين متتابعين في كلٍ منها وكذلك إذا نذر صوماً متتابعاً لزمه. فائدة فيما لا يلزم فيه التتابع كقضاء رمضان على الراجح وهو قول جمهور العلماء لقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] ولم يشترط الله عز وجل التتابع، وكذلك الصوم في كفارة اليمين على الراجح إذا لم يجد عتق رقبه ولا إطعام عشرة مساكين ولا كسوتهم فإنه ينتقل إلى صيام ثلاثة أيام فهي لا يشترط فيها التتابع، وكذلك كفارة الحلق لو حلق رأسه محتاجاً ففدية من صيام أو صدقة أو نسك إما أن يذبح شاة أو يطعم ستة مساكين أو يصوم ثلاثة أيام لا يشترط فيها التتابع، وكذلك صوم النذر المطلق إذا لم يشترط التتابع كمن نذر أن يصوم ثلاثة أيام وليس في نيته أنها متتابعة فيجوز أن يصومها غير متتابعة.

أنواع الصيام من حيث السنية والكراهة والحرمة

أنواع الصيام من حيث السنية والكراهة والحرمة فائدة: هل يجوز قضاء ما أفطره من صيام التطوع؟ الراجح عدم وجوب إتمام نافلة الصوم، وعدم وجوب قضائها وهذا هو قول كثير من أهل العلم ومن الأدلة على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (الصائم المتطوع أمير نفسه إن شاء صام وإن شاء أفطر) لكن كره العلماء قطع صيام النافلة لغير عذر، ومن العذر أن يعز على ضيفه امتناعه عن الأكل وإن أفطر بدون عذر فلا يثاب على ما مضى من صيامه وإن أفطر لعذر في صيام النافلة أثيب على ما مضى من صيامه. فائدة في أمثلة صيام التطوع: هي كثيرة قد ندب إليها الشرع كعاشوراء، وعرفة، والإثنين والخميس، وأيام البيض، وست من شوال، والإكثار من صيام شعبان، والمحرم، وغير ذلك.

الصيام المكروه

الصيام المكروه فائدة في الصيام المكروه: إفراد الجمعة بالصوم لحديث: (لا تصوموا يوم الجمعة إلا وقبله يوم أو بعده يوم) رواه البخاري. صوم السبت وحده لحديث: (لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم) الترمذي وحسنه وغيره. صيام يوم الأحد: وهو عيد النصارى. الوصال في الصوم وهو ألا يفطر بعد الغروب حتى يتصل صوم الغد بصوم الأمس. وكذلك صيام الدهر وغيرها.

الصيام المحرم

الصيام المحرم فائدة: الصيام المحرم: صوم عيد الفطر وعيد الأضحى وأيام التشريق الثلاثة بعده لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام يومين: يوم الفطر ويوم النحر، وحديث: (أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل) ويستثنى صيام أيام التشريق على من كان عليه دم التمتع أو القران ولم يجد هديا.

ما يشترط في الصيام

ما يشترط في الصيام فائدة في ثبوت دخول شهر رمضان: يثبت دخول شهر رمضان بأحد أمرين: أولاً: إكمال شعبان ثلاثين يوما. ثانياً: رؤية هلال رمضان.

شروط وجوب الصوم

شروط وجوب الصوم فائدة في شروط وجوب الصوم: الإسلام والعقل؛ فلا يجب الصوم على مجنون، والبلوغ، فلا يجب على الصغير، والعلم بالوجوب، فإن الجاهل لا يجب عليه ما جهل. فائدة: متى يؤمر الصبي بالصيام: يؤمر الصبي بالصيام لسبع كالصلاة إذا أطاق الصيام، ويضرب على تركه لعشر كالصلاة ولأن الصوم أشق اعتبرت فيه الطاقة لأنه قد يطيق الصلاة ولا يطيق الصوم.

شروط وجوب الأداء

شروط وجوب الأداء فائدة في شروط وجوب الأداء في الصيام، الأداء وليس القضاء: أولاً: الصحة والسلامة من المرض لقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184]. وثانياً: الإقامة وعدم السفر للآية السابقة فيسقط وجوب أداء الصيام عن المريض والمسافر يسقط عنهما وجوب الصوم وعليهما القضاء. ثالثاً: خلو المرأة من الحيض والنفاس لحديث عائشة لما سألتها المرأة، قالت: [كنا نؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة].

بيان اشتراط النية في الصيام

بيان اشتراط النية في الصيام فائدة في حكم النية في صيام الفرض: تشترط النية في صيام الفرض لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل) ويصح أن تكون في أي جزء من الليل ولو قبل الفجر بلحظة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له) فيجب أن تكون نيةً مجزوماً بها هذا قول جمهور العلماء وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى أنه لو قال في نفسه إن كان غداً رمضان فأنا صائم أنه يصح، ولكن جمهور العلماء على خلاف هذا لأن هذه نية غير مجزوم بها ويشترط الجزم بالنية. فائدة في النية للصيام الواجب غير رمضان: تشترط النية في كل صيام الواجب كالقضاء والكفارة. فائدة في نية صيام النفل: يجوز صوم النفل عند جمهور العلماء بنية قبل الزوال لحديث عائشة رضي الله عنها: (دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: هل عندكم شيء، فقلنا: لا، قال: فإني إذاً صائم) رواه مسلم. أما النفل المعين كعاشوراء وعرفة فاشترط بعض أهل العلم النية من الليل. فائدة في كيفية النية: النية: عزم القلب على فعل الشيء وهي مرتبطة بالعلم، وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن كل من علم أن غداً رمضان وأراد صيامه فهذه نية وهذا فعل عامة المسلمين؛ كل من علم أن غداً رمضان وأراد صومه فهذه نية. فائدة في حكم التلفظ في النية: النية محلها القلب والتلفظ بها بدعة؛ فلا يجوز لإنسان أن يتلفظ بنية الصيام وإنما يعزم في قلبه على الصيام غداً إذا علمه من رمضان، والنية تتبع العلم فمتى علم وأراد الصيام فإنها نية صحيحة. فائدة فيمن نوى الإفطار في أثناء النهار لكنه لم يفطر: اختلف أهل العلم في ذلك والراجح أنه لا يفطر وإن قضى فهو أحوط، قال الحنفية والشافعية: إنه لا يفطر كمن نوى التكلم في صلاته ولم يتكلم، وقال المالكية والحنابلة: يفطر لأنه قطع نية الصوم بنية الإفطار، فلو أنه نوى الإفطار في النهار ولكنه لم يفطر فالراجح والله أعلم عدم وجوب القضاء وإنه قضاه فهو أحوط. فائدة في صوم المغمى عليه: المغمى عليه إذا طرأ عليه الإغماء من قبل الفجر إلى المغرب فالجمهور على عدم صحة صومه من قبل الفجر إلى المغرب وإذا أفاق في أي جزء من النهار صح صومه سواء كان في أوله أو في آخره، إذا أفاق في أي جزء من النهار صح صومه سواءً كان في أول النهار أفاق أم في آخره. الفائدة الخامسة والعشرين: لو ارتد بعد نية الصوم فإنه تبطل نيته بلا خلاف، وكثير من الناس مع الأسف أيها الإخوة يسبون الله سبحانه وتعالى أو دينه أو كتابه إذا انفعلوا وحصل بينهم خصومة أو مشاجرة ونحو ذلك، وبعضهم يفعل ذلك إثباتاً لرجولته، ولا شك أن سب الله أو رسوله أو دينه كفر، وأن من فعله فهو مرتد خارج عن ملة الإسلام، ومن فعل ذلك في أثناء النهار وجب عليه التوبة والإمساك بقية اليوم والقضاء والرجوع إلى الإسلام مرة أخرى بالدخول فيه وشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.

سنن الصوم

سنن الصوم فائدة في سنن الصوم: له سنن كثيرة منها: السحور لحديث (تسحروا فإن في السحور بركة) رواه البخاري. وكذلك تأخيره وتعجيل الفطر لحديث: (لا يزال الناس في خير ما عجلوا الفطر). وكذلك الاستحباب أن يكون الإفطار على رطبات، ما لم تكن فعلى تمرات كما جاء في حديث أنس: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يفطر قبل أن يصلي على رطبات فإن لم تكن رطبات فتميرات فإن لم تكن تميرات حسا حسوات من الماء) رواه الترمذي وقال حديث حسن. فائدة في الدعاء عند الإفطار: لم يثبت الحديث الذي ورد عند الإفطار وإنما ثبت حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم رواه ابن عمر أنه كان صلى الله عليه وسلم إذا أفطر، قال: (ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إنشاء الله تعالى) رواه أبو داود وحسنه الدارقطني رحمهما الله تعالى.

مفسدات الصيام

مفسدات الصيام فائدة في مفسدات الصوم: يفسد الصوم بشكل عام كلما انتفى شرط من شروطه أو اختل أحد أركانه: كالردة، وظهور الحيض والنفاس، وكل ما ينافيه من أكل أو شرب ونحوهما، ودخول شيء من خارج البدن إلى جوف الصائم.

دخول المفطر إلى الجوف

دخول المفطر إلى الجوف فائدة في متى يفطر إذا دخل إلى جوفه شيء: اشترط بعض العلماء أن يكون الداخل من الجوف من المنافذ الواسعة كما هو عند المالكية، وقال الشافعية المنافذ المفتوحة أي: المخالق الطبيعية الأصلية في الجسم والتي تعتبر موصلة للمادة من الخارج إلى الداخل كالفم والأنف والأذن، فأما إذا كان من غير هذه المنافذ فإنه لا يفطر كمن اغتسل بماء فوجد برده في باطنه، ومن طلى بطنه بدهن فوصل إلى جوفه بالتشرب فإنه كذلك لا يفطر، واكتفى بعض أهل العلم بتحقق وصوله إلى الحلق والجوف واعتبروا أن الدماغ من الجوف فإن كان الداخل إلى الجوف مما يمكن الاحتراز منه كدخول المطر والثلج فإنه إذا لم يدفعه وابتلعه تعمداً؛ أفطر فإن لم يمكن الاحتراز منه كالذباب الذي يطير إلى الحلق وغبار الطريق لم يفطر إجماعاً، وقال النووي رحمه الله: جعلوا الحلق كالجوف في بطلان الصوم بوصول الواصل إليه. فائدة في مسألة المغذي وغير المغذي: لا يشترط جمهور أهل العلم أن يكون الداخل إلى الجوف مغذياً فيفسد الصوم بالدخول إلى الجوف مما يغذي أولا يغذي كما لو ابتلع حصاة أو أكل تراباً ونحوه، فإنه إذا فعل ذلك متعمداً فإنه يفطر ولو كان غير مغذٍ. فائدة: في كون الصائم قاصداً ذاكراً لصومه عندما يتعاطى شيئاً من المفطرات، أما لو كان ناسياً أنه صائم فلا يفسد صومه عند جمهور أهل العلم لحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه) رواه البخاري. فائدة: أن الصائم المختار هو الذي يفطر عند تناوله شيء من المفطرات، فأما المكره فإنه لا يفطر فمن أُوجِر الماء يعني: صُبَّ في حلقه رغماً عنه أو صَبَّ الدواء في حلقه مكرهاً لم يفطر عند جمهور أهل العلم من الشافعية والحنابلة وبعض الحنفية؛ لأنه لم يفعل ولم يقصد ولو أكره على الإفطار فأكل أو شرب استدل أهل العلم على عدم إفطاره بأن الله وضع عن الأمة الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، فإذا أكره على الإفطار فإن صومه صحيح كمن أفطر ناسياً أو أكل ناسياً ونحو ذلك.

إفساد الصوم بالإنزال

إفساد الصوم بالإنزال فائدة في إفساد الصوم بالإنزال: إذا تعمد الإنزال بلا جماع كالاستمناء بالكف أو باللمس والتقبيل ونحوها، فإنه يوجب القضاء عليه دون الكفارة عند جمهور الفقهاء مع التوبة إلى الله سبحانه وتعالى، ويمسك بقية اليوم مع التوبة ويقضي بدلاً منه. فائدة في الإنزال بالتفكير: عند بعض أهل العلم إذا أمنى بالنظر فإنه يفسد الصوم لأنه أنزل بفعل يتلذذ به ويمكن التحرز منه فهو كالإنزال باللمس، هذا بالنظر وأما الفائدة المتعلقة بالإنزال بالفكر فإن الإنزال به لا يفسد الصوم عند بعض أهل العلم لحديث أبي هريرة رضي الله عنه: (إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم) وقالوا النظر واللمس وغيرها يمكن دفعه ويمكن اجتنابه أما الفكر فإنه قد لا يستطيع؛ لكن عليه أن يجاهد نفسه وأن يطرد الأفكار الرديئة من ذهنه وأن يراعي حق الصيام.

حكم استنشاق الصائم للبخور والدخان

حكم استنشاق الصائم للبخور والدخان فائدة في استعمال البخور: قال بعض العلماء وصول الدخان إلى الحلق يفطر كمن استنشق بخوراً مقرباً إلى فيه، أما لو شم رائحته بلا وصول دخان فإنه لا يفطر لأن الرائحة لا جسم لها، والذين يعملون في المصانع أو غيرها عليهم اجتناب شم الدخان فأما إذا وصل إلى الحلوق بدون تعمد فإن صيامهم صحيح كمن وصل الغبار إلى حلقه دون تعمد. فائدة في المرأة التي تطبخ ودخان القدر ينبعث: إذا تعمدت استنشاقه أوجب القضاء لأنه يتقوى به أي: ببخار الطعام، أما إذا وصل بغير اختيارها فلا قضاء عليها، والعادة أن كثيراً من النساء لا يتعمدن تقريبه واستنشاقه والمداومة على ذلك فذلك صيامهن صحيح والحمد لله.

حكم ما يدخل من غير المنافذ الطبيعية

حكم ما يدخل من غير المنافذ الطبيعية فائدة في التقطير في الأذن: ذهب جمهور العلماء إلى فساد الصوم بتقطير الدهن أو الماء في الأذن وقال شيخ الإسلام رحمه الله: إن قطرة الأذن لا تفطر، قال: لأنها ليست من المنافذ الطبيعية لدخول هذه الأشياء إلى الجسم. فائدة في الحقنة الشرجية: الاحتقان بالماء في الشرج يفسد الصوم ويوجب القضاء عند جمهور العلماء؛ قال الشافعية والحنابلة ما يدخل إلى الجوف من الدبر بالحقنة يفطر لأنه وصل إلى جوفه باختياره، وعندهم الجوف شيء أوسع من المعدة ليس الجوف هو المعدة إنما هو شيء أوسع من ذلك، وعند شيخ الإسلام رحمه الله أن الحقن الشرجية لا تفطر، ونحن نقول أن الإنسان بالأحرى ألا يستعملها، وعند الحاجة إذا استعملها لا بأس لأن هذا دواء يحتاج إليه والأحوط أن يقضي.

حكم من أفطر لجهله بالوقت

حكم من أفطر لجهله بالوقت فائدة فيما لو تسحر أو جامع ظاناً عدم طلوع الفجر ولكن الحال أن الفجر قد طلع. فمذهب جمهور أهل العلم أن عليه القضاء، واختار تقي الدين ابن تيمية أنه لا قضاء عليه، وقال: ما دام لم يعلم أن الفجر قد طلع فله أن يأكل ويشرب، وأما الجمهور فإنهم ذهبوا أنه لو أكل وشرب ثم تبين له أن الفجر قد طلع فإن عليه القضاء، فالأحوط إذاً أن يقضي، وطالب العلم إذا اقتنع بقول بدليله بفهم من عالم معتبر فإن له أن يأخذ به ولا يلزم بشيء آخر. فائدة فيمن أفطر يظن الغروب ولكن الحال أن الشمس لم تغرب: فهذا عليه القضاء ولا كفارة لأن الأصل بقاء النهار، وينبغي ألا يخرج منه إلا بيقين والقاعدة تقول: اليقين لا يزول بالشك، فإذاً من أكل أو شرب ظاناً أن الشمس قد غربت ثم اتضح أنها لم تغرب فإنه يقضي.

حكم من يجهل الصيام

حكم من يجهل الصيام فائدة فيمن جهل الصوم في رمضان كالمسلم في دار الحرب: فجمهور العلماء على إعذار حديث العهد بالإسلام أو المسلم في دار الحرب الذي يجهل الشرائع؛ فهذا يعذر بجهله في مدة جهله، أو من جهل تحريم الطعام أو الوقت بأن كان قريب عهد بالإسلام أو نشأ بعيداً عن العلماء كبعض الناس الذين ينشئون في البادية بعيداً عن أي طرف للعلم فجمهور أهل العلم على إعذارهم وأنه ليس عليهم القضاء، لكن إذا كان يستطيع الوصول إلى العلماء ويستطيع السؤال ولكن قصر وما سأل وقال: أنا جامعت زوجتي ولم يكن عندي علم، فنقول: هل كان يمكنك الوصول إلى أحد من أهل العلم، فإن كان بإمكانه الوصول فهو مفرط وعليه القضاء مع الكفارة عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً وهذه المسائل لا تلاعب فيها، وبطبيعة الحال أنه لابد من التفريق بين الذين ينشئون في مجتمعات المسلمين التي يوجد فيها علماء أو طلبة علم أو كتب يمكن الرجوع إليها، وبين الذين ينشئون في بلاد الكفر أو بين الكفار أو حديث العهد بالإسلام فنقول: إن الأحوال لابد أن تراعى.

بيان المرض المبرر للإفطار

بيان المرض المبرر للإفطار فائدة في المرض الذي يجوز لصاحبه الفطر: المرض هو كل ما خرج به الإنسان عن حد الصحة من علة قال ابن قدامة رحمه الله: أجمع أهل العلم على إزاحة الفطر من مريض والأصل فيه قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] فالمريض الذي يخاف زيادة مرضه أو إبطاء برئه أو إفساد عضو من أعضائه له أن يفطر. فائدة في الصحيح الذي يخاف الشدة أو التعب: هذا لا يجوز له الفطر إذا حصل له في الصوم مشقة أو تعب، أما إذا خاف الصحيح المرض بغلبة الظن أو للتجربة، هو صحيح بدون صيام إذا صام مرض، هو صحيح بدون صيام إذا صام أغمي عليه، أو قال له الأطباء الثقات: إنك لا تتحمل الصوم، فهذا وهو صحيح إذا علم أنه لو صام مرض فإنه لا يجب عليه شيء ويجوز له أن يفطر أما إن خاف بمجرد الوهم فليس له أن يفطر. فائدة في حالات المريض: المريض له حالات فمنها: ألا يقدر على الصوم أو يخالف الهلاك من المرض إن صام فهذا الفطر عليه واجب. ثانياً: أن يقدر على الصوم بمشقة فهذا الفطر له مستحب ويكره له الصيام لأنه ترك تخفيفاً من الله. ثالثاً: ألا يشق عليه ولا يخاف زيادة المرض هو مريض فيجوز له الصوم والفطر وله تفصيلات أخرى. فائدة: هل يجب على المريض أن ينوي الصيام بالليل لاحتمال أن يصبح صحيحا؟ A إذا كان المرض مطبقاً فإنه لا يجب عليه أن ينوي من الليل لأجل احتمال أنه ثاني يوم الصباح يصبح صحيحاً لا يجب عليه. فائدة في أصحاب المهن الشاقة، كالخبازين ونحوهم من الذين يتعرضون للحرارة حرارة الأفران وعمال البناء ونحوهم: لا يجوز لأصحاب المهن الشاقة الإفطار بل يجب عليهم نية الصيام والصيام فإذا وصل أحدهم إلى حال خشي على نفسه جاز له الإفطار. فائدة في مريض الكلى الذي يتطلب غسيل كليته لخروج الدم لغسلها ثم رجوعه مرة أخرى: فأفتى بعض أهل العلم من المعاصرين بأن الدم إذا كان يخرج ويدخل هو دمه لا يضاف إليه شيء فإنه لا يفطر

شروط الإفطار للمسافر

شروط الإفطار للمسافر فائدة في شروط الفطر للمسافر لقد علمنا أن المسافر يجوز له الفطر فما هي الشروط: أن يكون سفراً بالمسافة أو بالعرف على اختلاف أهل العلم في ذلك، فإذا كان سفراً جاز له أن يفطر وألا يعزم على الإقامة أكثر من أربعة أيام بلياليها في المكان الذي يصح للإقامة، فإذا سافر إلى بلد ونوى أن يقيم فيه أكثر من أربعة أيام فإنه عند جمهور العلماء يعتبر مقيماً ولا يفطر من أول يوم يصل، بعض الناس يظن أنه إذا أراد أن يذهب إلى بلد يقيم فيها أياماً كثيرة يقولون: أول أربعة أيام نفطر والباقي نصوم، نقول: خطأ، منذ أن وصلتم إلى تلك البلد وأنت تعلمون أنكم ستمكثون أكثر من أربعة أيام فعلى قول جمهور أهل العلم يلزمكم الصيام منذ وصولكم إلى ذلك المكان. وكذلك من شروط الإفطار للمسافر أن يجاوز البلد وما اتصل بها من بناء، فإن النبي عليه الصلاة والسلام لما صار في عسفان خارج المدينة شرب. فإذاً قد خرج من البنيان هذا هو القول الراجح والأحوط عند جمهور العلماء أنه لا يفطر إلا إذا خرج من البنيان، وذهب بعض أهل الظاهر إلى الإفطار في البلد واحتجوا بأحاديث مثل حديث أنس، ولكن حديث الصحيحين أقوى منه وهو القول الأحوط والأرجح إن شاء الله تعالى أنه لا يفطر إلا إذا خرج عن البلد وغادر بنيان البلد وانتقل عن البلد وغادر بنيان البلد.

حكم من أدرك رمضان وهو مسافر

حكم من أدرك رمضان وهو مسافر فائدة فيمن أدرك رمضان وهو مسافر. ذهب عامة الصحابة إلى أن من أدرك هلال رمضان وهو مقيم ثم سافر جاز له الفطر لأن الله تعالى جعل مطلق السفر سبباً للرخصة فما دام أنه سافر سواءً كان حاضراً من أول النهار في البلد أو سافر من الليل فإنه يجوز له الإفطار لأن بعضهم يرى أنه إذا طلع عليه النهار وهو في البلد ثم سافر لا يفطر تغليباً لحال الحضر لكن ليس هذا الراجح بل الراجح أنه يجوز له الفطر.

الحالات التي تكون للمسافر

الحالات التي تكون للمسافر الفائدة الخمسون في الحالات التي تكون للمسافر: أن يبدأ السفر قبل الفجر ويطلع الفجر وهو مسافر فهذا يفطر إجماعا. ثانياً: أن يبدأ السفر بعد الفجر ويطلع الفجر وهو مقيم في بلده ثم يسافر خلال النهار فهذا الذي ذكرنا قبل قليل أن الراجح جواز الإفطار بالنسبة له، وذهب الحنفية والمالكية إلى أنه يجب عليه إتمام ذلك اليوم وأصح الروايتين عن أحمد وبعض الشافعية: أن من نوى الصوم في الحضر ثم سافر في أثناء اليوم طوعاً أو كرهاً فله الفطر بعد خروجه ومفارقة بيوت قريته العامرة، أي: المأهولة بالسكان، واستدلوا بظاهر الآية وبحديث جابر رضي الله عنه: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة عام الفتح حتى بلغ كراع الغميم وصام الناس معه فقيل له: إن الناس قد شق عليهم الصيام وإن الناس ينظرون فيما فعلت، فدعا بقدح من ماء بعد العصر فشرب والناس ينظرون إليه فأفطر بعضهم وصام بعضهم فبلغه أن الناس صاموا، فقال: أولئك العصاة) رواه مسلم والترمذي واللفظ له. والحالة الثالثة: أن يفطر قبل مغادرة البلد وقد منع من ذلك جمهور العلماء وقالوا: إن السفر لم يتحقق بعد بل هو مقيم وشاهد وقد قال تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185] ولا يوصف بكونه مسافراً حتى يخرج من البلد، ومهما كان في البلد فله أحكام الحاضرين ولذلك لا يقصر الصلاة. فائدة للذين يسافرون من المطارات: إن كان المطار بينه وبين البلد فضاء منفصل عن بنيان البلد فإنه يجوز له أن يفطر في المطار ففي مثل ذلك الحال مثلاً مطار الرياض يعتبر خارج البلد فإنه لو أراد أن يسافر من الرياض فركب سيارة إلى المطار فإنه يفطر في المطار؛ لكن لو كان المطار داخل البلد وعند حدود البلد ملتصقاً به؛ فإنه لا يفطر في المطار وإنما يؤخر الفطر حتى تقلع به الطائرة وتبتعد به عن البنيان.

الخلاف في تفضيل الصيام في السفر

الخلاف في تفضيل الصيام في السفر فائدة في الصيام في السفر: ذهب الأئمة الأربعة وجماهير الصحابة والتابعين إلى أن الصوم في السفر جائز منعقد، ثم اختلفوا أيهما أفضل أو هما متساويان فذهب جمهور العلماء إلى أن الصوم أفضل في السفر إذا لم يجهده الصوم ويتعبه، وذهب بعضهم إلى أن الفطر أفضل، لكن على أية حال يكره له الصوم إذا وجد مشقة، وحمل بعضهم حديث: (ليس من البر الصوم في السفر) على ما إذا وجد المشقة، وقالوا: إنه إذا صام في سفره فهو أبرأ لذمته، لكن يوجد في بعض الحالات الصوم في السفر أهون كما إذا سافر الإنسان قرب المغرب، هو في البلد مقيم من الفجر إلى قرب المغرب والطائرة ستقلع به قبل المغرب هذا لو أقلعت به الطائرة قبل المغرب وأفطر ما بقي عليه شيء كثير، وهو يحتاج أن يقضي يوماً بدلاً منه، ولذلك ربما كان إكمال الصيام في السفر أهون معه، فعلى أية حال إذا كان يوجد مشقة فالأفضل له أن يأخذ بالرخصة، وألا يصوم، وإذا كان يريد الإسراع في براءة ذمته والسفر متيسر فصام فصيامه صحيح مجزئ.

انقطاع رخصة الإفطار في السفر

انقطاع رخصة الإفطار في السفر الرخصة في السفر متى تنقطع؟ تسقط بأمرين: إذا عاد المسافر إلى بلده وهو محل إقامته. إذا نوى الإقامة في المكان الذي وصل إليه وكان صالحاً للإقامة ليس كالمفازة أو دار الحرب ولا كالسفينة، فإنه إذا وصل إلى مكان صالح للإقامة فنوى الإقامة فيه فإنه تنقطع الرخصة ويصير مقيماً بذلك، فيتم الصلاة ولا يفطر في رمضان، فإن ذهب إلى بلد وهو لا يدري كم يجلس بها يقول: أجلس حتى تنقضي حاجتي، وربما تنقضي في يوم وربما في يومين وربما في أسبوع ربما في شهر فهذا له أن يفطر إلى ما شاء الله لأنه لم ينو الإقامة ولم يعلم أنه يجلس في البلد أكثر من أربعة أيام كمن ذهب في متابعة معاملة أو نحوها وربما قالوا له: ارجع غداً أو ارجع بعد غد فهذا له أن يفطر ولو بقي مدة طويلة.

حالات أخرى يرخص لها بالإفطار

حالات أخرى يرخص لها بالإفطار فائدة في رخصة الحامل والمرضع: لهما أن تفطرا لقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة وعن الحامل والمرضع الصوم) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن، فالحامل تشبه المريض فإن لها أن تفطر ولو حملت سفاحاً، وكذلك المرضع يجوز لها أن تفطر ولو كانت مستأجرة مكلفة بهذا الولد، واشترط بعض الفقهاء أن تخافا على نفسيهما وولديهما، والصحيح أنه لا يشترط فالحامل مطلقاً ضعيفة لها أن تفطر مطلقا. فائدة فيما يجب عليها وعلى المرضع: اختلف أهل العلم في ذلك فمنهم من فرق بينما إذا خافت على نفسها أو خافت على ولدها وقال بعضهم: ولدها كجزء من أجزائها وعضو من أعضائها فإذا خافت عليه فإنها تكون كمن خافت على عضو من أعضائها، ولذلك فالراجح والله أعلم أن الحامل والمرضع ليس عليهما إلا القضاء ولا كفارة عليهما. فائدة في حكم الصيام للهرم ومن أصابته الشيخوخة. الشيخ الفاني الذي فنيت قوته وأصبح كل يوم في نقص إلى أن يموت، وكذلك المرأة العجوز لا يلزمهما الصيام ولهما أن يفطرا ما دام الصوم يجهدهما ويشق عليهما، فهما يدخلان في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة:184] وقال ابن عباس في هذه الآية: ليست منسوخة؛ هي للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان الصيام فيطعمان مكان كل يوم مسكيناً كبير السن الذي لا يستطيع الصيام يفطر ويطعم عن كل يوم مسكيناً. فائدة: يجوز له أن يطعم قبل بداية الشهر أو بعد نهايته أو خلال الشهر دفعة واحدة أو على دفعات. فائدة فيما يطعم: نصف صاع من قوت البلد وهو مقدر بكيلو ونصف من الأرز أو كيلو غرام ومعه شيء من الإدام، وهي طعام وليس مالاً فإنه لا يجزئ إخراج المال على الصحيح لأن الله قال: {فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة:184] فلما نص الله على الطعام وجب إخراج الطعام. فائدة: بأنه إذا كان غير مطبوخ فهو نصف صاع وإذا كان مطبوخاً فهو وجبة مشبعة، وجبة غداء لو اشتراها من المطعم أرز ولحم أو أرز ودجاج يعطي هذه الوجبات بعدد الأيام التي يفطرها لعذره، هذا عذره مستمر فعليه الفدية وهو أن يطعم من الحبوب إذا استطاع والمطبوخ وجبة مشبعة. فائدة في حكم صيام المقاتل: من قاتل عدواً أو أحاط العدو ببلده والصوم يضعفه عن القتال ساغ له الفطر بدون سفر، وكذلك لو احتاج للفطر قبل القتال أفطر، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالفطر قبل القتال لأن الفطر أقوى لهم، فإذاً مثل بعض ساحات الجهاد وبعض المدن المحاصرة فك الله أسرها، أو هؤلاء المقاتلون الذين يقاتلون اليوم في ربوع بلاد البوسنة وغيرها إذا احتاجوا إلى الفطر فإنهم يفطرون والقتال قد يطول، فإذا احتاجوا للفطر فإنهم يفطرون ثم يقضون بعد ذلك. فائدة فيمن اضطر لإنقاذ معصوم واحتاج للفطر: كرجال المطافئ أو الذي يريد أن ينتشل غريقاً، فهذا يفطر إن احتاج إلى الإفطار بل قد يجب عليه أن يفطر لأجل إنقاذ المعصومين، فإن رجال الإطفاء أو رجال الإنقاذ إذا احتاجوا للفطر أفطروا ثم قضوا.

حكم الجماع في نهار رمضان

حكم الجماع في نهار رمضان فائدة فيمن جامع في نهار رمضان: ذهب جمهور العلماء إلى أن جماع الصائم في نهار رمضان عامداً مختاراً، بأن يلتقي الختانان وتغيب الحشفة في أحد السبيلين مفطر يوجب القضاء والكفارة أنزل أو لم ينزل، والدليل حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل، فقال: يا رسول الله هلكت، قال: ما لك؟ قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تجد رقبة تعتقها؟ قال: لا، قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا، قال: فهل تجد إطعام ستين مسكينا؟ قال: لا) الحديث رواه البخاري. فائدة: أن الحكم واحد في الزنا واللواط وإتيان البهيمة: فكل من وطأ في فرج قبل أو دبر من إنسان أو بهيمة فإن عليه الكفارة المغلظة عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يجد فإطعام ستين مسكينا، ولا يجوز التلاعب بأن يقول: شهرين طويلة وما أستطيع وعندي عمل، بل يجب عليه أن يقوم بالكفارة مع التوبة إلى الله وقضاء اليوم الذي أفسده مع الكفارة.

حكم صيام المرأة إذا جامعها زوجها

حكم صيام المرأة إذا جامعها زوجها فائدة في حكم صيام المرأة إذا جامعها زوجها: إن كانت موافقة مواتية فإن عليها الكفارة مثلما هي عليه، وإن كانت مكرهة غير راضية فليس عليها الكفارة ولكن الأحوط أن تقضي ذلك اليوم وقال ابن عقيل رحمه الله عن جماع المرأة في نهار رمضان إن غصبت أو أتيت نائمة فلا كفارة عليها، وهل يفسد صومها، الفقهاء على فساد صومها وشيخ الإسلام على عدم فساده لأنها مكرهة والمكره غير مؤاخذ والأحوط أن تصوم ذلك اليوم.

هل يقاس الأكل والشرب بالجماع

هل يقاس الأكل والشرب بالجماع فائدة من أكل أو شرب عامداً في نهار رمضان بدون عذر: لا خلاف في وجوب التوبة والقضاء عليه، وذهب الحنفية والمالكية إلى أن عليه الكفارة بالإضافة إلى القضاء، وذهب الشافعية والحنابلة إلى عدم وجوب الكفارة، قالوا: دليلهم أن النص، ورد في الجماع وما عداه فليس في معناه يعني: الطعام والشراب لا يقاس على الجماع، ولذلك من أكل أو شرب عامداً في نهار رمضان عليه التوبة والإمساك بقية اليوم وقضاء ذلك اليوم فقط.

جواز الادهان والاختضاب للصائم

جواز الادهان والاختضاب للصائم فائدة في الدهان: للصائم أن يدهن رأسه أو شاربه أو يختضب بالحناء فإنه لا يفسد صومه ولا يجب عليه القضاء ولو وجد طعمه في حلقه هذا هو قول جمهور أهل العلم لأنه لم يدخله في جسمه ولا في المداخل وإنما وضعه على الجلد فهذا لا يفسد صومه.

حكم احتلام الصائم في منامه

حكم احتلام الصائم في منامه فائدة في الصائم إذا احتلم وهو نائم: لا يفسد صومه إجماعاً بل يتم الصيام، وكذلك من أجنب ليلاً فأصبح صائماً فصومه صحيح، أما حديث: (من أصبح جنباً فلا صوم له) وهو في البخاري ومسلم فإنه محمول إما على النسخ أو على الإرشاد إلى الاغتسال قبل الفجر فلوا احتلم وأصبح في الصباح طلع الفجر وهو على نيته السابقة في الصوم فهذا صيامه صحيح.

صحة صيام من أصبح جنبا

صحة صيام من أصبح جنباً فائدة إذا جامع أهله ثم أصبح جنبا: جامع في الليل وقبل الفجر نزع فطلع عليه الفجر وهو جنب وصار اغتساله بعد طلوع الفجر فصيامه صحيح لحديث عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما قالتا: (نشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كان ليصبح جنباً من غير احتلام ثم يغتسل ثم يخرج) يعني: من الجماع، وأخبرت عائشة رضي الله عنها فيما معناه أنه كان يغتسل من الجنابة بعد الفجر، فإذاً الجنابة لا تؤثر في الصيام ما دام أنه قد نزع قبل الفجر أو احتلم وهو نائم هذه لا تؤثر في الصيام.

أحكام بعض ما يدخل الجوف من المدخل الطبيعي

أحكام بعض ما يدخل الجوف من المدخل الطبيعي فائدة في حكم الصوم مع الطعام الباقي بين الأسنان والفم: إذا كان قليلاً لا يمكن التحرز منه فهو تبع لريقه فلا يفسد به الصوم ولا يفطر، وشرط بعض أهل العلم ألا يقصد ابتلاعه وأن يعجز عن تمييزه ومجه فإذا استطاع أن يميزه ويمجه فإنه يجب عليه ذلك ولا يبتلعه أما إن ابتلعه رغماً عنه وكان شيئاً قليلاً لا يمكن تمييزه بل هو مختلط في اللعاب فابتلعه بدون قصد فصيامه صحيح. فائدة في البلل الذي يبقى في الفم بعد المضمضة: إذا ابتلعه الصائم مع الريق لا يفسد صومه بشرط إخراج الماء بعد المضمضة، والبلل والرطوبة الباقية لا يمكن التحرز منها لكن في الصيام لا يبالغ في المضمضة والاستنشاق كما جاء بذلك الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم.

حكم بلع الدم أو النخامة

حكم بلع الدم أو النخامة فائدة: فيما إذا كان في اللثة قروح أو دميت بسواك أو غيره فدخل ريقه حلقه مخلوطاً بالدم، فهذا إذا لم يمكن الاحتراز منه فإنه لا يفطر فإن كثيراً من الناس قد يبتلى بتشققات في اللثة أو الشفة ويدخل الدم مخلوطاً بلعاب لغير قصد فهذا لا يفطر، لكن إذا علم أن الدم موجود فإنه يخرجه قدر استطاعته لأن الدم نجس ولا يجوز ابتلاعه أصلا. فائدة في النخامة والنخاعة: أما النخامة: فهي المخاط النازل من الرأس، والنخاعة: البلغم الصاعد من الباطن بالسعال والتنحنح وكلاهما يصل إلى الحلق فإذا وصلت إلى الفم أخرجها، فإذا وصلت إلى الفم ثم أعاد ابتلاعها عمداً أفطر، لكن إذا لم يمكنه التحرز فكثير من الناس الذين يبتلون بالتهاب في الجيوب وغيره أو بعض العلل التي توجب تجمع البلغم وتجمع النخامة والنخاعة فهذا ما يدخل في جوفه بغير قصد فإنه لا شيء عليه وصيامه صحيح؛ خصوصاً أنه يشق التحرج منه في بعض الحالات. فائدة: في رجل حشا أسنانه بحشوة طبية ودخل نهار رمضان فأحس بطعم المر: أجاب الشيخ/ عبد العزيز بن باز عن هذا السؤال أنه لا يضر مثل طعم الماء.

حكم من ذرعه القيء

حكم من ذرعه القيء فائدة في حكم من ذرعه القيء: الحديث يفصل هذا وهو قوله صلى الله عليه وسلم (من ذرعه القيء فليس عليه قضاء ومن استقاء عمداً فليقضِ) رواه الترمذي وهو حديث صحيح، والتقيؤ عمداً بوضع إصبعه أو عصر بطنه، أو تعمد شم رائحة كريهة أو مداومة النظر إلى منظر فظيع وهو يعلم أنه يوجب له القيء يفطر، لكن لو أنه قاء بغير تعمد فإنه لا يفطر وليس عليه شيء ولا يجب عليه إمساك الباقي في معدته، واحد ذرعه القيء بدون فعل منه هل نقول: أمسك الباقي مع أن إمساكه يضر به؟ A لا، بل إنه يرتاح والذي يخرج بشكل طبيعي منه أثناء التقيؤ لا يمسكه ويخرجه ما دام ليس متسبباً فيه، وإذا خرج إلى حلقه شيء فإنه يخرجه ولا يعاود ابتلاعه.

لفظ الطعام إذا طلع الفجر

لفظ الطعام إذا طلع الفجر فائدة إذا طلع الفجر وفي فيه طعام أو شراب: اتفق أكثر العلماء على أنه يلفظه ويصح صومه، وكذلك الحكم فيمن أكل أو شرب ناسياًَ ثم تذكر الصوم فهذا يبادر إلى لفظه، لو أنه أكل وشرب ناسياً ثم تذكر فجأة هل يكمل ما بقي في يده أو يبلع ما في فمه؟ لابد أن يخرجه؛ لكن إذا كان يتسحر وأذن الفجر وهي الفائدة السادسة والسبعون، وهو يتسحر فإنه ينبغي عليه أن يمسك وقد ورد حديث في أنه لو كان بيده كأس ماء فإنه لا يضعه بل يشربه، ولكن العلماء اختلفوا في صحة هذا الحديث فقال بعضهم: إنه حديث شاذ لا يصح الأخذ به، وأنه ما دام قد طلع الفجر فلا طعام ولا شراب وأن هذا الحديث يخالف نص الآية والآية فاصلة، فلذلك لا يأكل ولا يشرب شيئاً، لكن الاعتماد على التقويمات وليس على الرؤية العينية والتقويمات الحسابية شيء ظني ولذلك نقول: الأحوط أن يكف عن الطعام والشراب إذا أذن المؤذن، لماذا قلنا الأحوط؟ لأن العمل بالأذان على التقويمات، ولو أن إنساناً كان في البر وهو ينظر إلى جهة المشرق ولا زال الظلام دامساً والفجر لم يطلع فإنه يأكل ويشرب ولو أذن عشرات المؤذنين؛ لأن العبرة بطلوع الفجر وليس بالتقويم، هذه الخانة التي يضعونها في بعض التقويمات قبل الفجر بعشر دقائق يكتب الإمساك بدعة من البدع لا أصل لها، وهي مخالفة للكتاب والسنة ولإجماع علماء المسلمين في أن للمسلم أن يأكل وأن يشرب حتى يطلع الفجر، فمن زعم أنه يمسك قبل عشر دقائق ويزعمون أن هذا وقت الإمساك فهو بدعة، ولذلك ينبغي على أصحاب المحلات التجارية الذين يطبعون الدعايات وعلى أصحاب المطابع الذين يطبعون لهم الدعايات الانتباه إلى حذف هذه الخانة بالكلية لأنها بدعة من البدع ما أنزل الله بها من سلطان.

حكم تذوق الطعام

حكم تذوق الطعام فائدة في حكم ذوق الطعام: يكره بلا عذر لما فيه تعريض الصوم للفساد أما إن كان بعذر إذا احتاجت المرأة وهي تطبخ مثلاً أو الرجل إلى ذوق الطعام لينظر اعتداله فإنه لا بأس به، قال الإمام أحمد: أحب إلي أن يجتنب ذوق الطعام فإن فعل فلا بأس به، هذا الذوق باللسان أما إذا وصل إلى الحلق أفطر. وذكروا من الأعذار أن تمضغ المرأة الطعام للولد الصغير إذا لم تجد الأم منه بداً، فإذاً يجوز ذوق الطعام فقد ورد عن بعض الصحابة أو عن ابن عباس أنه كان إذا أراد أن يشتري شيئاً احتاج إلى تذوقه ذاقه بطرف لسانه ثم يلفظه بطبيعة الحال، فعلى الإنسان أن يحتاط ولا يتساهل في الذوق أو التذوق حتى لا يفسد صومه.

حكم مضغ العلك

حكم مضغ العلك فائدة في حكم مضغ العلك: العلك إذا كان يتحلل منه أجزاء فيحرم مضغه وإن تفتت فوصل منه شيء إلى الحلق والجوف أفطر، وإذا كان له طعم مضاف مثل السكر فوجده في حلقه أفطر، وإن لم يكن له طعم ولا يتحلل منه شيء ولا يدخل شيء البتة فيكره ذلك؛ لأن صاحبه يتهم بالإفطار كما قال بعض السلف: إياك وما يسبق إلى العقول إنكاره وإن كان عندك اعتذاره، وأكثر العلك الموجود إما أن يتفتت من أجزاء أو فيه طعم سكر أو ما شابه ذلك فهذا لا يجوز بطبيعة الحال. فائدة في هذه الأسوكة الجديدة التي طلعت في هذه السنة: وهي أن بعضها بنكهة الليمون وبعضها بنكهة النعناع فاستفتيت بعض أهل العلم في هذا فقال: إنها تفطر إذا وصل طعمها إلى الحلق، ولذلك لا تستخدم هذه الأسوكة التي فيها طعم الليمون أو النعناع أو ما شابه ذلك، وعليكم بالسواك الطبيعي. وفائدة: أن السواك لا يشترط أن يكون جافاً عند استعماله للصائم بل يجوز استعمال السواك ولو كان رطباً.

حكم مقدمات الجماع

حكم مقدمات الجماع فائدة في حكم التقبيل للصائم والمباشرة والمعانقة واللمس: أما الذي لا يملك نفسه فإنه لا يجوز له أن يفعل ذلك لأنها ذريعة إلى إفساد صومه، فإن كان يملك نفسه فقبل ولم يخرج منه شيء فصيامه صحيح، فعلى الصائم أن يجتنب التقبيل وغير ذلك من مقدمات الجماع إذا لم يأمن على نفسه وقوع ما يفسد صيامه مثل الإنزال والجماع فيبتعد، وقال بعض أهل العلم بالتفريق بين الشيخ والشاب ولكن هذا التفريق ليس بمطرد؛ فقد يوجد شاب يملك نفسه وكبير لا يملك نفسه وإن كان الغالب العكس ولكن التحرز مهم.

حكم الحجامة والاكتحال للصائم

حكم الحجامة والاكتحال للصائم فائدة في حكم الحجامة للصائم: اختلفوا فيها اختلافاً كثيراً ومذهب جمهور العلماء أنها لا تفطر لكنهم كرهوها، وقال الشافعي رحمه الله: لو ترك رجل الحجامة صائماً للتوقي كان أحب إليه ولو احتجم لم أره يفطره، وذكر الخطابي رحمه الله بأن المحجوم قد يضعف فتلحقه مشقة فيعجز عن الصوم فيفطر بسببها، والحاجم قد يصل إلى جوفه شيء من الدم لأنه يمص، وذهب الحنابلة إلى أن الحجامة تفطر واختار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إفطار المفصود دون الفاصد إلا إذا وصل إلى حلقه وقد وردت في المسألة أحاديث كثيرة وبحث المسألة ابن القيم بحثاً لا مثيل له في شرحه على مختصر سنن أبي داود، فإن شئت فراجع هذا البحث لتتعلم كيف يوفق العلماء بين الأحاديث المتعارضة، وفي هذا البحث يتجلى فقه الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى، فالأحوط الابتعاد عن الحجامة، وإن احتاج إليها فعلها والأحوط أن يقضي. فائدة في حكم الاكتحال للصائم: جائز بلا كراهة وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه لا يفطر. فائدة في قطرة العين ودهن الجفن: لا يفسد الصيام، وذهب إلى هذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وأن العين ليست منفذ اعتيادياً، وذهب المالكية والحنابلة إلى أنه يفسد الصوم إذا وصل إلى الحلق فعندهم العبرة بالوصول إلى الحلق عن أي طريق كان الدخول. فائدة: في حكم الاغتسال والانغماس في الماء للتبرد، أو التلفف في ثوب مبتل للتبرد فكل ذلك جائز ولا حرج فيه. فائدة في حكم الغوص: وبعض الناس يعملون في الغوص كالذين يعملون في شركات استخراج النفط، أو يبحثون عن اللؤلؤ ونحوه إذا لم يخف دخول الماء في مسامعه فلا بأس به، وكرهه بعض الفقهاء في حال الإسراف والتجاوز والعبث، كأن يقول: أنا أريد أن أمارس رياضة الغوص في رمضان، نقول: ما وجدت إلا رمضان في النهار تمارس رياضة الغوص، مارسها في الليل مارسها في غيره.

أحكام صيام السجين والمحبوس

أحكام صيام السجين والمحبوس فائدة في صيام السجين والمحبوس: ذهب جمهور العلماء إلى أن من اشتبهت عليه الشهور وهو في السجن لا يسقط عنه صوم رمضان بل يجب بقاء التكليف عليه، فماذا يفعل؟ إذا أخبره الثقات في دخول الشهر عن مشاهدة أو علم وجب عليه العمل بخبرهم ولو كان واحداً ثقة، وإذا لم يخبره ثقة بعلم أو مشاهدة وإنما المسألة اجتهادات فإنه يجتهد لنفسه في معرفة الشهر ويصوم بما يغلب على ظنه مع النية، فإذا استمر الإشكال ولم ينكشف له فهذا يجزئه صومه لأنه بذل وسعه ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، وأما إن علم بعد ذلك ماذا كان فله حالات: أولاً: أن يوافق صوم المحبوس رمضان، فيعلم أن صيامه كان صحيحاً وأنه وافق رمضان فهذا مجزئ عند جمهور العلماء. ثانياً: أن يوافق صوم المحبوس ما بعد رمضان، يعني: أنه اتضح أنه صام بعد رمضان فهذا يجزيه عند جمهور العلماء، لأن صومه يعتبر قضاءً، وقال بعض أهل العلم: إن وافق صومه أياماً يحرم صومها كالعيدين والتشريق قضى، أما إذا اتضح أنه صام قبل رمضان فلا يجزيه عن رمضان هذه الأيام التي صامها، ويجب عليه قضاؤها، ولو وافق صوم المحبوس بعد رمضان دون بعض أجزائه ولم يجزئه ما لم يوافقه. وإذا اشتبه عليه الليل والنهار لأنه في زنزانة مظلمة فذهب النووي رحمه الله، وهذه مسألة مهمة قل من تكلم فيها إلا أنه إذا اجتهد فصيامه مجزئ. فائدة في المرأة التي تأخذ الدواء لأن عادتها مضطربة ولا تحمل، أخبرها الأطباء أنه لا يمكنها أن تحمل حتى تنتظم العادة، ولا تنتظم العادة حتى تستعمل دواءً ينزل العادة، فهل يجوز أن تأخذ هذا الدواء في رمضان وهي تعلم أنها تنزل العادة؟ أجاب أهل العلم من المعاصرين: لا حرج في ذلك إذا احتاجت للتداوي لأجل الحمل.

الأسئلة

الأسئلة وهذه أسئلة نكمل بها الفوائد:

حكم هبوط الطيار إلى مستوى لا يرى فيه الشمس

حكم هبوط الطيار إلى مستوى لا يرى فيه الشمس Q هل يجوز للطيار أن يهبط بالطائرة إلى مستوى لا يرى فيه الشمس لأجل الإفطار؟ A هذا لا يجوز وفيه تحايل لكن إن نزل لمصلحة الطيران وغابت الشمس فلا بأس وإلا فلا.

حكم من أفطر ثم ارتفع فرأى الشمس

حكم من أفطر ثم ارتفع فرأى الشمس Q إذا أفطر المسافر على أرض المطار لغروب الشمس ثم ارتفعت الطائرة فرأى الشمس هل يمسك؟ A لا يمسك ما دام قد أتم نهاره بشكل صحيح.

إفطار الصائم إذا غابت الشمس

إفطار الصائم إذا غابت الشمس Q إذا غاب جميع القرص فهل ينتظر حتى تغيب الحمرة الشديدة أو يسمع الأذان؟ A لا، إذا غاب جميع القرص أفطر الصائم ولا عبرة بالحمرة الشديدة في الأفق ولا ينتظر أذاناً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم). فائدة في دواء الغرغرة: لا يفطر الصوم إذا لم يبتلعه لكن لا يفعله إلا إذا دعت الحاجة إليه.

تأثير سحب الدم على الصوم

تأثير سحب الدم على الصوم Q هل يؤثر سحب الدم للتحليل على الصيام؟ A أجاب الشيخ/ عبد العزيز بن عبد الله بن باز مثل هذا التحليل لا يفسد الصوم لأنه يعفى عنه؛ لأنه مما تدعو الحاجة إليه وليس من جنس المفطرات المعلومات من الشرع.

حكم السفر لأجل الإفطار

حكم السفر لأجل الإفطار Q ما حكم من أراد أن يواقع زوجته في نهار رمضان فسافر من أجل ذلك؟ A لا يجوز له ذلك، وهذا تحيل على الشريعة.

حكم من أفطر بالأكل ثم الجماع

حكم من أفطر بالأكل ثم الجماع ما حكم من أراد أن يواقع زوجته في نهار رمضان فأفطر بالأكل ثم جامع: قال شيخ الإسلام رحمه الله: يتعين عليه الكفارة في هذا الموضع أشد؛ لأنه عاص، ولا يمكن أن تقول الشريعة لرجل إذا أردت أن تتجنب كفارة الجماع كل واشرب ثم جامع، بل هذا عليه الكفارة وهو أشد ممن لم يتحايل في الإثم.

الإكراه المعتبر الذي يسقط الكفارة عن المرأة

الإكراه المعتبر الذي يسقط الكفارة عن المرأة Q متى تكون المرأة مكرهة في الجماع؟ A إذا أكرهت بالقوة أو الضرب كما إذا أمسكها أو ضربها أو هددها بوعيد تظن أنه يوقعه بها كالطلاق، فإنها تكون مكرهة لا كفارة عليها، ويجب عليها أن تدفعه بالقوة وإلا فهي مثله.

فائدة في الجروح أو الرعاف

فائدة في الجروح أو الرعاف Q ما تأثير خروج الدم على الصيام؟ A إذا أصاب الإنسان ما دام بغير اختياره فإنه لا يضر بصومه.

فائدة في الإبر

فائدة في الإبر Q ما حكم إعطاء الإبر للصائم؟ A ذهب بعض أهل العلم إلى أن الإبر المغذية تفطر والإبر غير المغذية لا تفطر، وقال بعضهم: الإبر التي في الوريد تفطر والتي في العضلات لا تفطر، ولعل الأقوى والله أعلم أن الإبر إذا كانت مغذية فإنها تفطر لأنها بمعنى الطعام والشراب فهي تقوي كما لو أكل وشرب، ويلحق بها حقن الدم فإذا نقل إليه دم فهو من قبيل التغذية فإنه يفطر.

كيفية معرفة الحائض أنها قد طهرت

كيفية معرفة الحائض أنها قد طهرت Q متى تعلم الحائض أنها قد طهرت لكي تصوم؟ A إما بنزول الطهر وهو القصة البيضاء، أو أن تحتشي بقطن ونحوه فإذا رأته نظيفاً عرفت أنها قد طهرت كما ورد في حديث عائشة رضي الله عنها فتصوم.

نية المرأة صيام اليوم الذي ستبدأ فيه عادتها

نية المرأة صيام اليوم الذي ستبدأ فيه عادتها Q أن المرأة تعرف أن عادتها تأتي غداً في نهار رمضان هل يجب عليها مواصلة نية الصيام؟ A نعم، يجب عليها أن تنوي الصيام ولا تفطر إلا إذا رأت الدم.

حكم من أسقطت في نهار رمضان

حكم من أسقطت في نهار رمضان Q إذا كانت المرأة أسقطت في نهار رمضان فما حكمها؟ A إذا أسقطت شيئاً فيه تخليق لأحد أعضاء الجسم أو للجسم كيد أو رجل أو رأس وظهر تخطيطه في هذا الذي نزل منها وسقط فإنها نفساء؛ لأن التخطيط بعد الثمانين؛ أربعون يوماً نطفة وأربعون يوماً علقة، ثم بعد ذلك يبدأ التخليق، فبعد الثمانين يوماً إذا أسقطت فهي نفساء، وإذا ظهر التخطيط أو التخليق في الجنين النازل فهي نفساء ويكون الدم نفاساً، وأما إذا كان قبل ذلك فإنها استحاضة وتصوم، وبذلك تكتمل الفائدة مائة وما بقي نعرضه بسرعة.

فائدة في بنت بلغت ولم تخبر أهلها خجلا وكانت تفطر

فائدة في بنت بلغت ولم تخبر أهلها خجلاً وكانت تفطر Q ما حكم من بلغت ولم تلتزم بالصيام خجلاً من أهلها؟ A يجب عليها التوبة وقضاء ما تركته من الصيام في وقت تكليفها، وكذلك لا حياء في هذه المسائل وهي إذا بلغت فإنها لا يجوز لها أن تصوم في أيام الحيض، يحرم على الحائض الصيام ويجب عليها القضاء.

فوائد في صيام المسافر إذا أقام

فوائد في صيام المسافر إذا أقام Q ماذا يفعل المسافر إذا قدم في أثناء نهار رمضان؟ قال شيخ الإسلام ابن تيمية في وجوب الإمساك عليه نزاع مشهور بين العلماء؛ لكن عليه القضاء أمسك أو لم يمسك، ولكن الأحوط له أن يمسك. وفائدة: فالمسافر إذا مر ببلد فليس عليه أن يمسك إلا إذا كانت إقامته فيه أربعة أيام فأكثر، مثلما سبق البيان، لكن لو كانت البلد بلده فإن كان ينوي الإقامة والمكث فيها لا يجوز له أن يفطر، وإن كان مر بها مروراً لا ينوي الإقامة بها ولا الجلوس كرجل يسكن في الرياض وهو الآن في المنطقة الشرقية يريد الذهاب إلى مكة فذهب إلى المنطقة الشرقية ودخل الرياض وخرج منها قاصداً مكة وهو من سكان الرياض فهذا لا يعتبر مقيماً لما دخل الرياض ولذلك يستمر في الرخصة. فائدة المسافر للخارج الذي سيقيم سنوات الدراسة وغيرها: اختلف أهل العلم في حاله، فالجمهور ومنهم الأئمة الأربعة على أنه في حكم المقيم يلزمه الصيام، وذهب آخرون إلى أنه ليس بمقيم لكن الأحوط له أن يصوم ثم إننا إذا قلنا له يجوز لك أن تفطر وهو سيمكث سنوات طويلة في الخارج فمتى يقضي وقد توالت عليه رمضانات؟

علامات البلوغ

علامات البلوغ Q متى يحصل البلوغ؟ A يحصل البلوغ في واحد من أمور ثلاثة عند الذكر وهي: إنزال المني باحتلام أو غيره. نبات شعر العانة الخشن حول القبل. بلوغ تمام خمسة عشر عاماً، وتزيد الأنثى أمراً رابعاً وهو: الحيض، فتكلف إذا نزل منها دم الحيض.

حكم من يفقد عقله مؤقتا

حكم من يفقد عقله مؤقتاً Q ما حكم المجنون إذا كان يجن أحياناً ويفيق أحياناً وكذلك الهرم الذي ذهب عقله فيأتي عقله أحياناً ويذهب أحياناً: A أن المجنون إذا أفاق والكبير في السن إذا عاد إليه عقله يلزمهم الصيام، فإذا ذهب عقله فإنه لا صيام عليه. السؤال: المجنون في حالة جنونه هل عليه فدية؟، والذي ذهب عقله في أثناء ذهاب عقله هل عليه فدية؟ لا، لأنه ليس من أهل التكليف لا صيام ولا فدية، فلو قال: عندنا في البيت هرم ذهب عقله لا يميز شيئاً ولا عنده إدراك ولا يدري من هو ولا يدري من أهله ولا من حوله، فنقول: لا يجب عليه الصيام ولا الفدية ولا يجب عليكم القضاء عنه لأنه ليس من أهل التكليف. فائدة في المغمى عليه: المغمى عليه إذا أغمى عليه من يوم إلى ثلاثة أيام قضى على قول بعض أهل العلم قياساً على النوم، وإذا أغمي عليه فوق أكثر من ثلاثة أيام لا يلزمه القضاء ولا الفدية قياساً على المجنون.

فائدة في المريض الذي مرضه مزمن

فائدة في المريض الذي مرضه مزمن Q ماذا يفعل من مرض مرضاً مزمناً؟ A يخرج الفدية نصف صاع من قوت البلد، فإن كان يرجى برؤه لا يخرج شيئاً بل ينتظر حتى يبرأ ويلزمه القضاء. فائدة فيما لو مات وهو ينتظر البرء: مريض قالوا له: يرجى برؤك فمات وهو ينتظر البرء؟ ليس عليه ولا على أوليائه لا كفارة ولا قضاء، ولا يخرج من تركته شيء.

حكم من صام في بلد وذهب إلى أخرى صامت بعدهم

حكم من صام في بلد وذهب إلى أخرى صامت بعدهم Q من صام في بلد ثم ذهب إلى بلد أخرى قد صاموا بعدهم، فماذا يفعل؟ قال الشيخ/ عبد العزيز بن عبد الله بن باز: إذا صمتم في هذه البلد ثم صمتم بقية الشهر في بلادكم فأفطروا بإفطارهم ولو زاد ذلك على ثلاثين يوماً لقوله صلى الله عليه وسلم: (الصوم يوم تصومون والإفطار يوم تفطرون) لكن لو حصل العكس مثلاً صام في الباكستان الذين صاموا بعدنا ثم جاء إلى هذه البلد فصار العيد بعد سبعة وعشرين من صيامه، فماذا يجب عليه؟ إكمال يومين لأن الشهر لا يكون أقل من تسعة وعشرون، هذا طبعاً سيصلي العيد مع المسلمين لكن عليه أن أن يصوم يومين تكملة لعدة الشهر لأن الشهر لا ينقص عن تسعة وعشرين، لكن لو حدث العكس بأن صمنا قبلهم فصام هنا ثم ذهب إلى تلك البلد فحكمه حكم من ذهب إليهم لا يفطر إلا إذا أفطروا ولو زاد عن ثلاثين يوماً.

فائدة في الصيام إذا طال النهار

فائدة في الصيام إذا طال النهار Q ما حكم الصيام في البلاد التي يطول فيها النهار جداً أو الليل فيها جداً؟ A مادام عندهم ليل ونهار يتميز ليلهم من نهارهم فإنه يجب الصيام، لو قال: نهارنا عشرون ساعة، نقول: لابد من الصيام لابد أن تنوي الصيام وتقوم لكن لو خشي على نفسه؛ أفطر اضطراراً وإلا يصوم لابد من الصوم.

فائدة في صيام أصحاب السفر الدائم

فائدة في صيام أصحاب السفر الدائم Q كيف يصوم أصحاب سيارات الأجرة والجلابين والذين يسافرون في مصالح المسلمين؟ A قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ويفطر من عادته السفر إذا كان له بلد يأوي إليه كالتاجر الجلاب الذي يجلب الطعام وغيره من السلع والمكاري الذي يكري دوابه، وصاحب سيارة الأجرة مثلاً، وكالبريد الذي يسافر في مصالح المسلمين ونحوهم، وكذلك الملاح الذي له مكان في البر يسكنه مثل الطيارين مثلاً هؤلاء يفطرون ولو كانوا يسافرون أياماً كثيرة جداً، ولو كان عادتهم السفر يجوز لهم الإفطار، قال رحمه الله: فأما من كان معه في السفينة امرأته وجميع مصالحه ولا يزال مسافراً فهذا لا يقصر ولا يفطر لأن السفينة صارت بمثابة البيت بالنسبة له، قال: وأهل البادية كأعراب العرب والأكراد والترك وغيرهم الذين يشتون في مكان ويصيفون في مكان إذا كانوا في حال ضعنهم من المشتى إلى المصيف ومن المصيف إلى المشتى فإنهم يقصرون ويفطرون، وإما إذا نزلوا بمشتاهم ومصيفهم لم يفطروا ولم يقصروا وإن كانوا يتتبعون المراعي، والله أعلم.

فائدة في تطعيم الصائم

فائدة في تطعيم الصائم Q هل يؤثر التطعيم على الصيام؟ A أفتى الشيخ/ محمد إبراهيم لما سئل عن التطعيم ضد الجدري أنه لا يفطر.

حالة أخرى تجب فيها الكفارة المغلظة

حالة أخرى تجب فيها الكفارة المغلظة Q رجل أصبح لا يدري أن رمضان قد دخل فأكل وشرب ثم علم أنه رمضان فجامع أهله فماذا عليه؟ A فتوى الشيخ/ عبد العزيز: عليه الكفارة المغلظة مع القضاء.

تأثير الشروع في الاستمناء

تأثير الشروع في الاستمناء Q من شرع في الاستمناء ولكنه لم ينزل هل يفطر؟ A أجاب الشيخ حفظه الله: الظاهر أنه لا يفطر، لكن هذا ينتهك حرمة الشهر فعليه التوبة إلى الله سبحانه وتعالى، شرع في مفطر من المفطرات ولو كان ما وصل إلى الدرجة التي تفطر لكنه يجب عليه أن يحفظ نفسه. فرق بعض أهل العلم بين الكافر إذا أسلم والصبي إذا بلغ والحائض والنفساء إذا طهرت، وبين المريض إذا شفي والمسافر إذا قدم والمجنون إذا أفاق عند بعضهم أنهم كلهم عليهم القضاء وإمساك اليوم، وقال بعضهم بالتفريق: المجنون إذا أفاق والصبي إذا بلغ والكافر إذا أسلم يمسكون بقية اليوم لأنهم صاروا من أهل الوجوب ولا قضاء عليهم، بخلاف الحائض إذا طهرت والمسافر إذا أقام فهؤلاء يلزمهم القضاء ومنهم من رأى الإمساك والقضاء على الجميع.

المعصية ليست عذرا

المعصية ليست عذراً Q رجل عليه صيام شهرين قال: أنا لا أستطيع أن أصومها بسبب ابتلائي بالتدخين، هل ينتقل إلى الإطعام؟ A أجاب الشيخ/ عبد العزيز بن باز لا يجوز له ذلك ولا عذر له بمعصية.

صيام الزوجة بدون إذن زوجها

صيام الزوجة بدون إذن زوجها Q هل يجوز أن تصوم الزوجة بدون إذن زوجها إذا كان عند زوجته الثانية وهو لا يسمح؟ A قال الشيخ/ عبد العزيز: لا تصوم بغير إذنه إلا رمضان إلا إذا سافر.

بطلان اعتماد الحسابات في دخول الشهر

بطلان اعتماد الحسابات في دخول الشهر Q ما حكم العمل بالحسابات في دخول الشهر الذي يكون موجوداً في كثير من البلدان. A هذه بدعة ولا يجوز العمل بالحسابات، والحديث نص في الموضوع: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته).

فائدة في شرط الشاهد الذي يقبل خبره

فائدة في شرط الشاهد الذي يقبل خبره Q ما هي شروط من يشهد برؤية الهلال؟ A أن يكون بالغاً عاقلاً مسلماً موثوقاً بخبره لأمانته وبصره.

فائدة في نزول المطر وقت المغرب

فائدة في نزول المطر وقت المغرب Q هل نجمع ونصلي تراويح أو نجمع مع العشاء ونؤخر التراويح أم لا نجمع؟ A قال الشيخ/ عبد العزيز: الأمر واسع إن شاء الله، الجمع يفوت به مصالح كثيرة للناس، يعني: لو قلت: تعالوا نجمع العشاء ونصلي بعده التراويح وهم الآن قد أفطروا على تمرات وأشياء أخرى، لكن لو فعلنا ذلك لشق علينا، فلو تركنا الجمع وقلنا: مصلحتكم أننا لا نجمع فنصلي المغرب الآن ثم نصلي العشاء والتراويح في وقت العشاء فلا حرج في ذلك ما دامت هذه مصلحة الناس.

حكم من أخذ منوما في المستشفى

حكم من أخذ منوماً في المستشفى Q وضعوا له منوماً في المستشفى لمصلحته، فإذا أفاق هل يقضي؟ A هو باختياره ليس طارئا، الإغماء تقدم حكمه، لكن هذا منوم باختياره، قال: نعم ما دمت أحتاج العملية نوموني بمخدر، فأفتى الشيخ إذا كان ثلاثة أيام فأقل فيقضي قياساً على النائم، وأكثر لا يقضي قياساً على المجنون.

فائدة في صيام الفرض بدون نية

فائدة في صيام الفرض بدون نية Q امرأة كشفت فرأت أن الدورة لا تزال يعني: قبل الفجر فلم تنو الصوم ثم أفاقت في الصباح فوجدت نفسها طاهرة هل يصح هذا اليوم صيام فرض أو لا؟ A لا يصح لأنها لم تنو، فلو قالت: أنا سأنويه نفلاً ما دام أنه لا فائدة من الفرض وأصوم نفلاً في نهار رمضان. فالجواب: قال العلماء: لا يقع صوم نفل في رمضان البتة. ومما يتعلق بصلاة التراويح عند الثناء على الله في مطلع الدعاء هل يرفع الإمام والمأمومين أيديهم؟ الجواب نعم يرفعون أيديهم ولو كانت مقدمة لأن الثناء على الله جزء من الدعاء.

مجلة المرأة المسلمة

مجلة المرأة المسلمة هذه المادة عبارة عن منوعات: من عبر ومواعظ، وقصص وطرف، وألغاز ومقالات يستهدف فيها الشيخ تصحيح بعض الأخطاء والمعاصي الموجودة عند كثير من النساء، ثم يلفت انتباههن إلى حسن التربية والتعامل مع الأولاد والخادمات، وكمال العشرة مع الزوج وغير ذلك.

قبس من كتاب الله

قبس من كتاب الله الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فربما تستمعين أيتها المرأة المسلمة لهذه المحاضرة، وهي عبارة عن مجلة بعنوان: "مجلة المرأة المسلمة" وهذه المجلة تتكون من صفحات، فمن ضمن صفحاتها: "قبس من كتاب الله" ثم "من مشكاة النبوة" ثم يكون لك موعد مع مقال بعنوان: "يا إلهي ماذا أفعل". ثم قصة أو حدثٍ وموعظة بعنوان: "كان لي مع النار موعد" وبعد ذلك مقالة بعنوان: "واجبنا نحو العائدات إلى الله عز وجل". ويلي ذلك: فتاوى المجلة أسئلة وأجوبة، ويليها بعد ذلك مقال بعنوان: "الحجاب ليس عقبة" من كلام فتاة أمريكية أسلمت. وبعد ذلك ستستمعين إلى فقرة بعنوان: "نماذج ومعاني" ثم مقالة بعنوان: "وجلست في البيت" وبعد ذلك "مشهد وتعليق". وتستمعين كذلك إن شاء الله في هذه المجلة إلى قصة مؤثرة بعنوان: "سيدة نصرانية يبكيها القرآن الكريم" وبعد ذلك "لغز العدد" ثم "طرفة العدد"، ونختم بذلك هذه المجلة لنجيب على ما تيسر من الأسئلة الواردة من قبلكن. الصفحة الأولى: قبس من كتاب الله لما خرج موسى من بلده مصر فاراً إلى مدين بعدما قتل القبطي الفرعوني، وعلم أنهم سيقتلونه هرب بعد نصيحة الرجل: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:20 - 21]. ولما توجه تلقاء مدين دعا موسى ربه فقال: {عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} [القصص:22]. {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ} [القصص:23] وهو بئر في بلدة مدين بين الشام والحجاز: {وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ} [القصص:23] يسقون أغنامهم، مجموعة من الرعاة معهم مجموعة أغنام يسقونها {وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ} [القصص:23] تكفكفان غنمهما عن بقية الرعاة، وتبعدان الغنم عن غنم الآخرين: {قَالَ مَا خَطْبُكُمَا} [القصص:23] رق لهما ورحمهما لماذا هما واقفتان تنتظران وتذودان الغنم: {قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص:23] لا نستطيع السقي حتى ينتهي الرعاة من السقي، ولا نريد أن نزاحم الرعاة، إنه ذلك المشهد الممتاز لحال المرأة الصالحة التي لا تريد مزاحمة الرجال، ولذلك قالتا: لا نسقي حتى يصدر الرعاة وينتهوا، وبعد ذلك نحن نذهب لنسقي. قارني بين هذا المشهد الرائع وبين حال المرأة المسلمة اليوم التي تنزل إلى الأسواق وتزاحم الرجال، وتدخل في الزحام في أي مكان كان، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ليس للنساء وسط الطريق (ليس لكن أن تحققن الطريق) يعني: تسرن في وسطه، كان النساء يمشين في جنبات الطريق، والرجال يمشون في الوسط، لم يكن هناك اختلاط بين النساء والرجال حتى في مكان المشي. {قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص:23] نريد أن نجلس في البيت بدلاً من هذا العناء والتعب، ليس عندنا رغبة في العمل لكننا مضطرتان للعمل؛ لأن أبانا شيخ كبير لا يستطيع أن يذهب لرعي الأغنام، ولا للقيام بشئون هذا الرزق الذي عندنا، فنحن مضطرتان للعمل، قارنوا بين ذلك وبين تهافت النساء بحاجة وبدون حاجة على العمل، وكأنها تريد أن تثبت ذاتها بالعمل، وكأنها ليس لها قيمة في المجتمع إلا إذا عملت، أما أن تجلس ربة بيت، تطيع زوجها، وتربي أطفالها، وتقوم بشأن بيتها، وهذه القلعة الحصينة التي هي موجودة فيها فذلك لا يمكن في عرف نساء اليوم إلا من رحم الله، لأنها تنظر إلى البيت على أنه سجن، وأن الوظيفة هي حلم المستقبل الذي يداعب خيالها باستمرار، فهي تدرس لأجل أن تثبت ذاتها في المستقبل، لا بد أن تخرج إلى المجتمع كما يقولون وتبرز ما عندها. نعم. لو كانت محتاجة أو كان المجتمع محتاجاً لقلنا إن لها عذراً، فإذا خرجت بالشروط الشرعية من الحجاب الشرعي، وعدم الزينة، وعدم الاختلاط بالرجال ولا الخلوة بهم، لكن مع الأسف صارت المسألة الآن مسألة خروج، لأن الموضة تقول للمرأة: الخروج الخروج من هذا السجن يا أيتها المرأة! والله عز وجل يقول: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:33]. ولما خرجت المرأة في أوروبا إلى العمل اضطراراً بعد الحرب العالمية الأولى والثانية، وفقد عدد كبير من الرجال، واحتياج بلدانهم إلى إعادة البناء، خرجت نساء المسلمين إلى العمل ولو لم يكن هناك حروب ولا قتل لعدد كبير هائل من الرجال، وإنما لأجل الفتنة والإغواء، فلذلك أنت ترينها في مختلف الأماكن لا تكاد تتمسك بالحجاب الصحيح منهن إلا من رحم الله. {قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا} [القصص:23 - 24] موسى عليه السلام، وتيقظت حاسة الشهامة في نفسه إنه لا بد من عمل شيء لإنقاذ هاتين المرأتين الضعيفتين، لا يمكن أن يدعهما تنتظران هكذا فسقى لهما، قال عمر رضي الله عنه: [لما ورد ماء مدين موسى وجد عليه أمة من الناس يسقون، فلما فرغوا أعاد الصخرة على البئر ولا يطيق رفعها إلا عشرة من الرجال، فإذا بامرأتين تذودان قال: ما خطبكما؟ فحدثتاه، فأتى الحجر فرفعه لوحده، ثم لم يستق إلا دلواً واحداً حتى رويت الغنم] رواه ابن أبي شيبة وإسناده صحيح. لما سقى لهما موسى عليه السلام الغنم كلها، ورفع الصخرة لوحده، وبعد هذا المجهود الجبار، بالإضافة إلى تعب السفر الأصلي، تولى إلى الظل لكي يستريح وهو يدعو ربه قائلاً: {فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص:24] هكذا أهل الخير، يفعلون الخير، يغيثون الملهوف، يساعدون الضعيف، ولا يطلبون أجراً، ولا يشترطون ذلك: {فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص:24] إنني محتاج إلى خيرك يا رب مفتقر إليه، كان بطنه لاصقاً من الجوع، وكان محتاجاً إلى شق تمرة، تولى إلى الظل وجلس تحت شجرة، ودعا الله بهذه الدعوة: {فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص:24]. فجاء الجواب بسرعة من مدد الله السميع العليم، السميع دعاء عباده، العليم بأحوالهم، يدل على ذلك هذه الفاء التعقيبية التي جاءت في مطلع الآية: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} [القصص:25] جاءته وجاء معها الفرج، جاءته إحدى البنتين تمشي على استحياء، لم تأت متميعة متكسرة في مشيتها كحال كثير من البنات اليوم، وإنما جاءت تمشي على استحياء، وصف عمر بن الخطاب رضي الله عنه مشيتها فقال: [جاءت تمشي على استحياء، قائلة بثوبها على وجهها] يعني: رفعت الثوب على الوجه، فأين فتاة الإسلام اليوم عن هذا الحجاب المعروف وهو غطاء الوجه من ذلك الزمن القديم، زمن القرية التي كان فيها موسى قبل آلاف السنين؟! قال عمر رضي الله عنه: [جاءت تمشي على استحياء قائلة بثوبها على وجهها ليست بسلفع خراجة ولاجة] وهذا إسناد صحيح، ليست بسلفع يعني: ليست جريئة سليطة، لأنها تربية رجل صالح في بيئة صالحة جاءت تمشي على استحياء وتقول له: إن أبي يدعوك، لست أنا الذي أدعوك، وإنما أبي الذي يدعوك، وتوضح الهدف من الدعوة لكي تزول كل ريبة من هذه الدعوة، ما هو الغرض منها؟ {لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص:25] وهذا أدب في العبارة ليثيبك ويكافئك على سقيك لغنمنا. {فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:25] لما أخبره بقصة قتله للرجل القبطي وهربه، قال له ذلك الرجل الصالح: لا تخف، طب نفساً، وقر عيناً، فقد خرجت من مملكتهم فلا حكم لهم في بلادنا، ولهذا قال: {نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:25]. وهنا تسر إحدى البنتين لأبيها كلاماً مهماً تقول له: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ} [القصص:26] أرحنا من العمل وعنائه، أرحنا من التعرض للرجال، أرحنا من المواقف المحرجة، أرحنا من البهذلة والانتظار في الشارع، يا أبت! استأجره لنرتاح، يرعى الغنم حتى نقعد نحن في البيت متسترات بدلاً من هذا الخروج المشين: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص:26]. قيل: إن أباها قال لها: وما يدريك أنه قوي؟ وما يدريك عن أمانته؟ فأخبرته عن قصة رفعه الصخرة التي لا يطيق حملها إلا عشرة رجال؛ وهذا دليل على قوته، وأنها لما جاءت تمشي تقدمت أمامه فقال لها: كوني ورائي فإذا اجتنبت الطريق -أخطأت- فاحذفي بحصاة أعلم بها كيف الطريق لأهتدي إليها، أي: أنه لا يريدها حتى أن تتكلم، ولا تمشي أمامه حتى لا يراها، وإنما تمشي خلفه وهو يمشي أمامها، فإذا أخطأ حذفت الحصى يميناً أو شمالاً فيعلم من أين يتجه وإلى أين يسير فهو أمين. وهنا يتدخل الأب فعلاً ويلبي طلب ابنتيه فيقول لموسى منتهزاً الفرصة: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} [القصص:27] سبحان الله! ليس من العيب أن يعرض الأب ابنته على الرجل الصالح، وليس من الغضاضة في شيء أن ينتهز ال

من مشكاة النبوة

من مشكاة النبوة ولننتقل أيتها الفتاة المسلمة إلى المقالة الثانية في هذه المجلة وهي بعنوان: "من مشكاة النبوة" لقد أخرجت كتب السنة حديثاً عجيباً فيه ذكر حال المرأة المسلمة في حرصها على الدين، ورغبتها في الخلق، وصبرها على الابتلاء، ومواجهتها للواقع والأحداث بجناب ثابت، وعقل ناضج، إنها قصة المرأة الصالحة المرضية رضي الله عنها أم سليم أم أنس بن مالك، تلك المرأة التي تركها زوجها الكافر لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة؛ لأنه لا يصبر عن شرب الخمر والإسلام يحرم الخمر، ولذلك انطلق إلى الشام وترك المرأة والأولاد لأجل الخمر، وهذا ما يفعله كثير من الفسقة والعصاة، يتركون أهاليهم بالأيام والأسابيع ليسافروا إلى بلاد الفسق والمجون ليشربوا الخمر، ويتعاطوا المخدرات، ويقعوا في الفجور والفسق، وذهب ذلك الرجل المسخوط عليه، وبقيت أم سليم مع أولادها وهي المسلمة التي آمنت بالنبي صلى الله عليه وسلم، ترعى أولادها صابرة على قضاء الله. فجاء أبو طلحة يخطبها، فكلمها، وأبو طلحة رجل غني مشهور، لكنه كان كافراً غير مسلم، فقالت: يا أبا طلحة! ما مثلك يرد ولكنك امرؤ كافر وأنا امرأة مسلمة، لا يصلح لي أن أتزوجك، فأغراها بالذهب والفضة قالت: فإني لا أريد صفراء ولا بيضاء، أريد منك الإسلام، فإن تسلم فذلك مهري ولا أسألك غيره، وبالفعل أسلم أبو طلحة عند النبي صلى الله عليه وسلم وتزوج أم سليم، قال الراوي: فما بلغنا أن مهراً كان أعظم منه أنها رضيت الإسلام مهراً، فتزوجها وولد له منها ولد كان أبو طلحة يحبه حباً شديداً، وحسن إسلام الرجل لأنه دخل في البداية الإسلام من أجل الزواج، وبعد ذلك دخل الإيمان في قلبه، فكان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم كل يوم مرتين. وكان يحب ولده حباً شديداً؛ حتى تألم أبو طلحة جداً، وفي يوم من الأيام ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فمات الولد في غياب أبيه، فماذا فعلت المرأة الصابرة المصابرة المجاهدة؟ قالت: لا ينعين إلى أبي طلحة أحد ابنه حتى أكون أنا الذي أنعاه له، فسجت عليه، ووضعته في جانب البيت، الله أكبر ما أقوى جنابها، وأثبت فؤادها، وأعلى إيمانها! فإنها هيأت الصبي يعني: غسلته وكفنته بعدما طيبته، وغطته ووضعته في جانب البيت، جاء أبو طلحة ومعه ضيوف، طبخت الطعام للضيوف حتى أكلوا، سأل الرجل عن ولده قالت بالتورية دون كذب: هو الآن أسكن ما يكون، أو أرجو أن يكون قد استراح، ففهم أنه: استراح من المرض، وهي تقصد استراح من الآلام والدنيا، وذهب إلى الله، تعشى القوم وخرجوا وهي تطيبت لزوجها، فبات معها تلك الليلة وأتاها، ثم قالت له بعد ذلك في آخر الليل: يا أبا طلحة! أرأيت لو أن قوماً أعاروا قوماً عارية لهم فسألوهم إياها أكان لهم أن يمنعوهم؟ فقال: لا. قالت: فإن الله عز وجل كان أعارك ابنك عارية ثم قبضه إليه فاحتسب واصبر، غضب أبو طلحة لكنه استرجع وحمد الله. وفي الصباح اغتسل وذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بالخبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بارك الله لكما في غابر ليلتكما) يدعو لهما بالبركة مما حصل في تلك الليلة فحملت المرأة بإذن الله. وكان أبو طلحة وأم سليم يخرجان مع النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد إلى المعارك، وهي تسعف وتنقذ وتقوم بالأدوار لخدمة الإسلام وأهله، حتى ضربها المخاض قبل أن يصلوا إلى المدينة، تقول: يا أبا طلحة! ما أجد الذي كنت أجد، تقول: ما أحس بآلام مثل العادة في المخاض، وهذا من بركة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، فولدت غلاماً فقالت لابنها أنس (يا أنس! لا يطعم شيئاً -ما أرضعت الولد، ولا وضعت في فمه شيئاً- حتى تغدو به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعثت معه بتمرات يقول أنس: بات يبكي، وبت مجنحاً عليه، أرعاه إلى الصباح، ثم ذهبت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذ بعض التمر فمضغهن، ثم جمع بساقه المبارك صلى الله عليه وسلم، ثم فغر فاه -يعني الصبي- فأوجره إياه -جعله في فم الصبي- فجعل يحنك الصبي -وهذه سنة عند الولادة أن يحنك الصبي بالتمر، بأن تؤخذ تمرة وتعجن بين الأصابع وتلين ثم تمرر على حنك الصبي من الأعلى والأسفل- وجعل الصبي يتلمظ، ويمص بعض حلاوة التمر، وريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أول ما فتق أمعاء ذلك الصبي ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: انظروا إلى حب الأنصار التمر، قال قلت: -يعني أنس - يا رسول الله! سميه، قال: فمسح وجهه وسماه عبد الله فما كان في الأنصار شابٌ أفضل منه)، قال: فخرج منه رجال كثير يعني: من صلبه خرج رجال كثيرون، وقتل عبد الله هذا مجاهداً في سبيل الله بعد ذلك، فما أجمل تلك السيرة العطرة لـ أم سليم رضي الله عنها، وما أحسنه من مثال ضربته لنسائنا عل الله أن يهديهن للاقتداء بها.

يا إلهي ماذا أفعل؟

يا إلهي ماذا أفعل؟ والآن إلى الفقرة الثالثة: "يا إلهي ماذا أفعل" دائماً كانت تقول هذه العبارة، فما إن تبدأ بالصلاة حتى تبدأ معها الوساوس، الطعام احترق، نسيت أن تغلقي باب المنزل جيداً، يجب أن تحادثي عمتك اليوم، اتفقي مع زوجك بالذهاب إلى السوق غداً، وضوؤكِ ناقص، لم تسجدي في الركعة الأولى، وأخيراً تصرخ: يا إلهي ماذا أفعل؟ وأقول لك ماذا تفعلين: إن حالة الوسواس تصيب كثيراً من الناس في الصلاة، لأن الشيطان يريد أن يصرف العبد عن صلاته حتى لا يخشع فيها فلا يكون فيها أثر عليه، ولذلك يجب عليك إذا جاءك الشيطان بالوساوس أن تتعوذي من الشيطان الرجيم ثلاث مرات، وتتفلي عن يسارك ثلاث مرات تفلاً خفيفاً، هواء مع قليل من الرذاذ، هذا هو التفل وليس البصاق عن يسارك ثلاث مرات، وهذا هو العلاج الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم الصحابي لما اشتكى إليه الوسواس في الصلاة. وأقول لك: يا أُخيَّه! إن الوساوس التي تعرض عن الله يتخلص منها بالاستعاذة بالله من الشيطان، وأن تقرئي سورة قل هو الله أحد، وتقولي: آمنت بالله ورسله، وتكفي عن التفكير، وأما بالنسبة لوساوس الطهارة والصلاة ما مسحتِ الرأس ما سجدتِ في الركعة الأولى، ما فعلتِ ما كبرتِ الإحرام ما قرأتِ الفاتحة إذا كنت متأكدة من أنك قمت بالعمل، الرأس مبلول فكيف لم تكوني مسحتيه؟ إنه مبلول وتكبيرة الإحرام كبرتيها كيف يقول لك الشيطان: إنك لم تكبريها، فماذا عليك أن تفعلي؟ أهملي ذلك تماماً، ولا يجوز لك أن تعيدي العبادة إذا كنت قمت بها بشكل صحيح، تذكري ذلك، إذا قمت بالعبادة بشكل صحيح لا يجوز لك إعادتها؛ لأن إعادتها طاعة للشيطان.

موعظة بعنوان: كان لي مع النار موعد

موعظة بعنوان: كان لي مع النار موعد والآن إلى هذا الحدث والموعظة كنت يوماً واقفة أمام المرآة لأعتني بشعري، كما هي عادة كل بنت في مثل سني، إلا أنني والحمد لله لا أبالي في ذلك كثيراً، وكان كل فرد من أفراد الأسرة منشغلاً بنفسه، وأنا الأخرى كنت منشغلة بنفسي، حيث الضيوف سيأتون إلينا بعد صلاة الجمعة ويا له من موعد، ولكنه موعد من النوع الآخر، لم أكن قد تهيأت لهم، أي موعدٍ هذا؟ قبل أن أضع قدمي على عتبة المطبخ ذهبت ثانية إلى المرآة لأتأكد من تصفيف شعري ولكن ليس للضيوف إنما هو لشيء آخر لم أكن أعلمه، دخلت إلى المطبخ لإعداد وجبة الغداء، وفي نفس الوقت لم يكن عندي أحد، أمسكت بيدي اليمنى الزيت، وبيدي اليسرى باب الفرن لأفتحه، وضغطت على الزيت وإذا بالنار تخرج من داخل الفرن وكأنها عدو يتربص بي، والنار تلفح وجهي ويدي وشعري الذي اعتنيت به قبل قليل، وما إن أحسست بحرارة اللهب حتى خرجت من المطبخ بسرعة وأنا رافعة صوتي، ولا أدري ماذا أقول، وإذا بأختي تأخذني وأنا في تلك الساعة نسيت كل شيء، وتذكرت النار يوم تلفح الوجوه، نسيت المرآة ونسيت شعري، ونسيت كل شيء. أما أمي جزاها الله عني كل خير فكانت تصلي، فما إن سمعت صوتي المرتفع إلا وقطعت صلاتها وخرجت وهي لا تدري ماذا حصل، وعندما رأيتها دفنت وجهي في صدرها وشعرت بدفء حنانها، إلا أنها دفعتني قليلاً حتى لا تؤلمني بقايا الحروق التي رسمت في وجهي درساً لي ولأهلي عن اليوم الآخر، وراحت أمي تبكي بكاءً قطع نياط قلبي، وفي ظنها أن عقلي قد ذهب من شدة المصيبة، وكل من حولي قد تأثر من هذا الموقف وكان درساً كما ذكرت. وذهبت أخاطب نفسي يا نفس! كيف هي إذاً نار الآخرة، وأنت لم تتحملي هذا اللهب؟ يا نفس يا نفس وبقيت في وجهي آثار الذكرى أراجعها على المرآة، ويحفظها أهلي عن ظهر قلب، وشاء الله أن أذهب في ذلك اليوم إلى مكتبة المنزل، وتقع يدي على كتاب عن النار وما فيها من الأهوال، وأنها سوداء مظلمة يركب بعضها بعضاً، وأنها تكاد تميز من الغيظ، وأن لها زفيراً وشهيقاً تكاد تنخلع من هولهما أقسى القلوب، وفيها مقامع من حديد، مطارق وملابس من نار من قطران -النحاس المذاب- وشراب الحميم والغسلين، وطعام الضريع، شوك لا يسمن ولا يغني من جوع، وشجرة الزقوم التي طلعها كأنها رءوس الشياطين، وفيها من الأهوال ما لا يخطر ببال إنسان حي، فيها من الأهوال ما يشيب له الولدان. وتذكرت ما ينبغي علي أن أفعله للنجاة من هذه النار، أنني لم أتحمل هذه اللحظات من نار الدنيا التي هي جزء من سبعين جزءاً من نار الآخرة، فكيف سيكون الحال إذا وقعت فيها يوم القيامة وماذا سيكون الشأن؟! وأقول أخيراً: أختي المسلمة! أنت دائماً قريباً من نار الدنيا في مطبخك، فهذا القرب من النار واعظك لتكوني أشد الناس خوفاً من نار الآخرة، أنجانا الله وإياكن منها.

واجبنا نحو العائدات إلى الله

واجبنا نحو العائدات إلى الله والصفحة التي تليها بعنوان: "واجبنا نحو العائدات إلى الله" لا ريب أن ظاهرة عودة الفنانات التائبات إلى الله، تمثل قلقاً كبيراً لدى أعداء الله، ولا ريب أن اتجاه العديد من الفنانات الأخريات إلى تأمل حياتهن وواقعهن، ومقارنته بواقع المرأة المسلمة السوية، وإظهار ترددهن في العمل المخل، يشكل حرجاً بالغاً لتجار الغرائز الذين يسعون إلى الكسب الحرام، ويعتمدون على جسد المرأة بوصفه السلعة التي تدر كثيراً من الربح والمال، سواءً في السينما أو البناء أو الرقص أو غير ذلك. وهذه ظاهرة عجيبة -أيتها الفتاة المسلمة- أن تحدث التوبة في أوساط أفجر النساء، وأشقاهن وأبعدهن عن الله سبحانه وتعالى، النساء اللاتي غرقن في مستنقعات الرذيلة إلى الآذان المرأة التي كانت تعرض جسدها في ثياب رقيقة قصيرة شفافة في الرقص، وتمثل مع الرجال أدوار الحب والغرام، التي كانت تخوض في بحار الرذيلة، ترجع إلى الله؟! إنه لعجب ولكن الله غالب على أمره، وإذا أراد الله أن يهدي شخصاً فلا مضل له، وإذا أراد الله أن يضل إنساناً فلن تملك له من الله شيئاً، وهذه شمس البارودي وشادية وغيرهن من النسوة الفنانات تحجبن وتركن مجال الفن الحرام ليسددن بذلك ضربة قاصمة إلى المخرجين الذين صاروا يبحثون عمن يقوم بأداء الأدوار، وصار هناك مبكى في سوق الفن، واضطر بعضهم إلى الاستعانة بممثلات من الدرجة الثانية أو محاولة إظهار ممثلات من فئة الكمبارس كما يقولون إخفاقاً وإفلاساً. ولكن هل تركت الفنانات التائبات على حالهن لكي يعشن الحياة التي يردنها؟ A كلا كلا، فإن شياطين الإنس بالمآزرة مع شياطين الجن لا يمكن أن يتركوا إنساناً في حاله يريد الله، يريد التوبة، يريد الحجاب، ولذلك سارعوا إلى طرح أسوأ إنتاج الفنانات التائبات في الأسواق، وترويج الأفلام في محاولة للضغط على الفنانات، والحرب النفسية لمحاولة إرجاعهن إلى طريق الرذيلة مرة أخرى، في نوع خسيس من الابتزاز، ثم انطلقوا في ترويج الشائعات والزعم بأن هؤلاء النساء تلقين الملايين من أجل الحجاب، سبحان الله! إنها تتلقى الملايين من الأفلام فلماذا تتلقى الملايين الآن؟ وممن تتلقى؟ ومن هو الذي يعطيهن هذه الملايين؟ يريدون إشاعة أن وراء هذا الحجاب أموالاً مغرية، ولكن يأبى الله إلا أن يتم نوره، وتثبت بعض هؤلاء التائبات، وتجبر المجلات الماجنة أمام هذه الظاهرة العجيبة التي لم تصدق على عرض بعض قصص التائبات على صفحات المجلات الماجنة السيئة فرضت القضية نفسها عليهن، وأبلسوا وأسقط في أيديهم، وهو دليل على أن دين الله ينتشر، وأن هذه الصحوة تدخل جميع المجالات، إنه فعلاً النور الذي أنزله الله لتحيا به القلوب، لقد كان حدثاً جللاً، وأمراً عظيماً توبة عدد من رءوس الفن، واعتزال الشر، فما هو موقفك أنت أيتها الفتاة المسلمة؟ لا أقل من الدعاء لهؤلاء بالثبات، فإنهن يحتجن إلى الدعاء فعلاً من كثرة الضغوط والإغراءات، والإرهاب الذي يتعرضن إليه من أجل الرجوع مرة أخرى إلى عالم الفسق والمجون. وينبغي عليك كذلك بطبيعة الحال أن تقلعي أنت عن مشاهدة هذه الأفلام السيئة، والأغاني الماجنة، والرقصات الهابطة، كيف تنظرين إليها في الفلم وهي قد تابت؟! وبأي حق تستبيحين مشاهدة الأفلام والرقصات وصاحبتها قد تابت إلى الله ورجعت وأنت لم ترجعين؟! أفلا يكون ذلك درساً لك أن تتركي ذلك، وتشعري بالحياء من النظر إلى هذه الأفلام، والسماع لتلك الأغاني، والنظر إلى تلك الراقصات وصاحبة الفيلم والمغنية قد تابت؟! أفلا يكون درساً لك أنت حتى تتوبي أيضاً من سماع الأغاني ورؤية الأفلام الهابطة، وهذه المسلسلات المختلطة؟! نسأل الله التوفيق للجميع.

فتاوى المجلة

فتاوى المجلة

الفرق بين دم الحيض والاستحاضة وما يجوز وما لا يجوز على الحائض

الفرق بين دم الحيض والاستحاضة وما يجوز وما لا يجوز على الحائض Q كيف نفرق بين دم الحيض ودم الاستحاضة؟ وماذا يجوز للحائض وماذا يحرم عليها؟ وكيف يغسل ويطهر دم الحيض؟ A إن الله سبحانه وتعالى خلق في المرأة دماً يتغذى عليه الجنين، فإذا حملت المرأة انقطع خروج هذا الدم لأجل انصرافه إلى تربية الجنين، فإذا كانت في حالتها بغير حمل وهي بالغة كان دم الحيض يخرج منها، وهو دم يرخيه الرحم في أيام معلومة يعتاد المرأة، وهذا الدم من الحيض أحمر يغلب عليه السواد، وهو دم غليظ لذاع كريه الرائحة. وأما دم الاستحاضة فإنه دم أحمر مشرق ليس لونه مثل لون دم الحيض، ولا رائحته كرائحة دم الحيض، وهو دم فساد ونزف أو شيء يخرج من عرق، والتوضيح والتفريق بينهما مهم بالنسبة للمرأة لما يترتب على ذلك من الأحكام؛ لأن الحائض لا يجوز لها أن تصلي، ولا يجوز لها أن تصوم، بخلاف المستحاضة التي يجب عليها الصلاة ويجب عليها الصيام، فأما الحائض إذا حاضت امتنعت عن الصلاة وعن الصيام، والمستحاضة إذا أصيبت بالاستحاضة فإنها تغتسل لكل صلاة بعد دخول وقتها وتصلي، وكذلك فإن الاستحاضة لا تمنع من الصيام.

العادة الشهرية لا تمنع عقد النكاح

العادة الشهرية لا تمنع عقد النكاح وهنا يأتي سؤال يتردد عند الكثيرات هل دم الحيض أو العادة الشهرية تمنع عقد النكاح أم لا؟ هل يجوز أن يعقد على الفتاة وهي حائض؟ A نعم. فإن الحيض لا يمنع العقد، وإنما يحرم على الرجل أن يأتي زوجته في وقت الحيض، فالجماع هو المحرم، أما عقد النكاح فليس في ذلك بأس أبداً خلافاً لما تعتقده بعض النساء، فيجوز أن يعقد عليها العقد الشرعي وهي حائض، كما أنه يجوز للحائض أن تعقد الإحرام وهي حائض، فإذا مررت بالميقات من الطائرة أو غيرها فيجب عليك أن تحرمي إذا كنت ناوية الحج والعمرة، ولا يجوز لك أن تجاوزي الميقات بغير إحرام خلافاً لما تفعله كثير من الزائرات فإنها تقول: مررت بالميقات لكني كنت حائضاً فلم أحرم، نقول: هذا من الجهل، فإن الذي يحرم على الحائض هو الطواف بالبيت، ودخول الحرم، أما الإحرام، والسعي، والرمي، وعرفة، ومزدلفة وغير ذلك من المشاعر فإنه لا علاقة له، ولا تتوقف صحته على الحيض، فلو كانت حائضاً فإنه يجوز سعيها، ورميها، وقص شعرها، وغير ذلك من أعمال الحج أو العمرة، والذي يحرم عليها فقط هو الطواف بالبيت ودخول الحرم. وهذا هو الجواب على سؤال يرد عند بعض النساء: هل يجوز للمرأة أن تدخل المسجد وتسمع المحاضرة ونحو ذلك؟ فنقول: قد اختلف أهل العلم في هذا، والأحوط ألا تدخل المسجد وهي حائض، ويمكنها أن تسمع المحاضرة من الشريط ونحو ذلك، والحيض تترتب عليه أحكام كثيرة كعدة المرأة، وفي ذلك ينبغي ضبطه ومعرفته.

حكم العادة إذا طالت عن وقتها المعلوم

حكم العادة إذا طالت عن وقتها المعلوم سؤال هنا يقول: العادة عندي سبعة أيام، فصارت في أحد الشهور عشرة فهل هذه الزيادة حيض أم لا؟ A كل بلل يأتيك في وقت العادة فهو حيض، وكل كدرة أو صفرة في وقت العادة فهي حيض، فإذا كانت الكدرة أو الصفرة بعد الطهر فليست بشيء، الكدرة والصفرة إذا اتصلت بالحيض من أوله أو بآخره فإنها حيض، أو جاءت في وقت العادة بدلاً من الدم، رأيت صفرة أو كدرة تعتبريه حيضاً، أما إذا طالت العادة عن وقتها فإنها عادة ما لم تصل إلى خمسة عشر يوماً، لأن أكثر مدة للحيض خمسة عشر يوماً، فإذا طالت عن ذلك فإنها استحاضة، فهناك قاعدة مهمة ينبغي أن تحفظيها لأنها تنقذك من كثير من الإشكالات، "العادة معرضة للزيادة والنقصان، والاتصال والانقطاع، والتقديم والتأخير" فقد تتأخر عادة المرأة وقد تتقدم، وقد تطول وقد تقصر، وقد تكون متقطعة وقد تكون متصلة، بعض النساء قد تكون عدتها سبعة أيام متواصلة، وفي إحدى المرات يأتيها ثلاثة أيام دم ثم ينزل عليها الطهر، وبعد فترة يأتيها دم الحيض مرة أخرى، فماذا نقول؟ نقول: كل دم في وقت الحيض فهو حيض، أما إذا جاء بعد الحيض نظرنا فيه، فإن كان يشبه دم الحيض في صفاته من ناحية اللون والرائحة والأوجاع المصاحبة ونحو ذلك عرفنا أنه دم حيض، وأما إذا كان دماً مشرقاً أحمر في غير وقت الحيض فهو استحاضة، أو إذا زاد عن خمسة عشر يوماً فهو استحاضة، فهذه بعض الأسئلة المتعلقة بالطهارة بالنسبة للمرأة المسلمة.

الحجاب ليس عقبة

الحجاب ليس عقبة والآن إلى مقالة بعنوان: "الحجاب ليس عقبة" هي فتاة أميركية يميزها الحجاب الشرعي الذي ترتديه، وكذلك حرصها على حضور الحلقات التي تعقد في مسجد المدينة الأمريكية التي تقطنها باستمرار، تستعير كتباً دينية من مكتبة المسجد، فهي حريصة على العلم، وكم تتمنى أن تدرس في كلية الشريعة، كيف أسلمت؟ وما حالها قبل الإسلام وبعده؟ نقرأ سوياً ما تقوله أختنا المسلمة ليزبت التي أسلمت بعد ذلك. تقول: نشأت في بيئة نصرانية، ولكن هذه البيئة لم يكن فيها حرص على ممارسة الطقوس الدينية؛ نتيجة التفلت والضياع الذي نعيشه في أوروبا وأمريكا عموماً، ومنذ وعيت على الحياة لم أكن أرتاح إلى هذا الدين الذي أدين به وأفكر دائماً بموضوع صلب المسيح، وكذا التثليث -وهنا آخذكِ في منعطفٍ لتستمعي إلى هذه الطرفة- جاء أحد المبشرين إلى قرية إسلامية، فألقى عليهم محاضرات التبشير والنصرانية والمسيح، ويصلي للمسيح، وقدرة المسيح ونحو ذلك وفقرات من الإنجيل المحرف، وأخبرهم أن المسيح صلب وقتل، وأنه بقي معلقاً على الصليب المصلوب عليه فترة ثلاثة أيام، ثم قام ودخل في السماء، ونحو ذلك من الخرافات والهراء الذي يقولونه، والله عز وجل قال: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:157]. ألقي الشبه على أحد الخونة فظنوه عيسى فأخذوه وصلبوه وقتلوه، أما عيسى الحقيقي فإن الله قد رفعه إلى السماء وأنقذه من بين أيديهم، هذه عقيدتنا في عيسى، وأنه عبد كريم نبي من أولي العزم من الرسل، وإنه لم يمت وإنما سينزل في آخر الزمان، وقد آن الأوان وقرب الوقت -والله المستعان- لفساد الزمان، فينزل عيسى، ويحكم بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ولا يقبل من الكفرة إلا الإسلام أو القتل. وبعد نهاية المحاضرة قال له أحد الفلاحين البسطاء من المسلمين: يا أيها القسيس! أنت تقول: إن المسيح كان يتنقل من الناصرة إلى القدس وغيرها على الحمار ثم أخذوه وصلبوه على الصليب، هل كان عيسى على الصليب مرتاحاً لما كان مربوطاً عليه على تلك الخشبة القاسية ثلاثة أيام، قبل القتل صلبوه على هذه الخشبة التي على شكل الصليب كان مرتاحاً عليها أو لا؟ فقال القسيس: لا. ما كان مرتاحاً عليها؛ لأنها خشبة صلبة، وهو مربوط عليها هذه الفترة. فقال الفلاح المسلم: الحمار الذي كان يتنقل عليه المسيح كان يرتاح عليه أو ما كان يرتاح عليه؟ فقال: كان مريحاً. فقال الفلاح المسلم: فلماذا لا نعبد الحمار بدلاً من أن نعبد الصليب وقد كان الصليب يؤلم عيسى والحمار يريح عيسى، فبهت الذي كفر وأسقط في يده. فعلاً إنهم يقدسون الصليب، ويجعلونه معهم، ويقولون: نصاب بالبركة، ويصلون به، ويعلقونه في رقابهم وو إلى آخره، مع أنه كان مؤلماً لعيسى كما يقولون، وكان مربوطاً عليه، فينبغي كرهه ونبذه، وليس أن يأخذوه ويجعلوه سبب البركة، فما أقبح تلك العقول! وأقبح تلك الأفكار! على أية حالة تقول هذه المرأة التي كان اسمها ليزبت سابقاً: كنت دائماً أفكر في صلب المسيح، وكذلك التثليث في أن هذا الكلام لا يعقل، وكيف أن الإنسان يعمل الجرائم المختلفة، ولمجرد الإيمان بالمسيح يدخل الجنة، أليس هناك فروض وواجبات يتحتم على النصارى اتباعها؟ هذه الأسئلة جعلتني أشعر بالضياع، فجعلت أبحث عن دين آخر أجد فيه الراحة، أخذت أسأل كل شخص عن دينه لأعرف مبادئه وتعاليمه، وكلما رأيت إنساناً سألته عن دينه، فرأيت عدة من المسلمين سألتهم عن الإسلام، ثم إن بعض المسلمين دلوني على القرآن الكريم المترجم، فقرأت ثلثه؛ فوجدت فيه الراحة التامة، وأصبحت أحرص على تأدية الصلاة، وأذهب يوم الجمعة إلى مسجد المركز الإسلامي الموجود في منطقتنا، وامتنعت عن أكل لحم الخنزير وأنا لم أسلم بعد، ولكن أجرب الشعائر هذه في هذا الدين، وفي يوم من الأيام ذهبت لوليمة كان فيها بعض المسلمين في مكان، وزوجاتهم أيضاً في مكان، فسئلت: هل أنت مسلمة؟ قلت: لا. فسئلت لماذا لم أسلم بعد؟ فقلت: إنني خائفة من الحجاب، فقيل لي: تخيلي لو أنك خرجت وصار لك حادث، هل تحبين أن تكون نهايتك طيبة فتموتين وأنت مسلمة وتدخلين الجنة أم يذهب بك إلى مكان آخر؟ فأثرت فيَّ تلك الكلمة، وأسلمت بالفعل، وعندما نطقت بالشهادة وبعد عدة أيام، أقامت لي إحدى المسلمات حفلة بسيطة وقدمت لي هدية، حينما فتحتها كانت حجاباً، كنت خائفة جداً من الحجاب، شأني شأن الكثيرات من الأمريكيات وذلك أنه في نظري يسلبنا الحرية، وبعد أن اعتدنا على ارتداء ما نريد من الملابس يكون من الصعب ارتداء الحجاب، المهم ارتديت الحجاب في اليوم الثاني وذهبت به إلى الجامعة، ولم أجد أي صعوبة تذكر، فبدأت أعتاد على الأمر ووجدت فيه الراحة التي أنشدها، والآن أحاول أن أسهل أمر الحجاب على صديقة اقتنعت بالإسلام لكنها خائفة من الحجاب. أما عن ردة فعل أبوي فإن أبي لم يبال؛ لأنه شعر بأن الأمر ليس بيده، أما أمي فهي إنسانة اعتادت على احترام آراء الآخرين وتقبلها، ولذلك فهي لم تعر إسلامي شيئاً، لكنها كانت خائفة عليَّ من الحجاب، وعندما رأت إصراري راعت شعوري، بل إنها أصبحت تشتري لي الحجاب وتهديني إياه. ومن الطرف التي واجهتني أن ابن خالي جاء لزيارتنا ذات يوم، فأمرته والدتي أن ينتظر في حين أن تعطيني خبر قدومه حتى أضع الحجاب، وذات مرة زارنا عمي، فأسرعت لتناولني الحجاب حتى أضعه قبل أن يدخل، فضحكت وشرحت لها الأمر، وأن عمي من المحارم الذين لا يجب علي الحجاب أمامه. وأنقلك الآن من هذه القصة المؤثرة عن حجاب المرأة الأمريكية المسلمة هذه إلى هذا المشهد، تقول إحدى النساء: ذهبت إلى بعض المستشفيات لعمل فحوصات، فلما دخلت العيادة رأيت منظراً يندى له الجبين، ويتقطع له القلب حسرة، رأيت منظر الطبيبة بنت البلد وهي تلبس البنطال والقميص، وقد أظهرت زينتها الكاملة، واستبدلت غطاء رأسها بقبعة بلاستيكية صغيرة، ولبست من الحلي ما يزينها، ولم تأبه بالرجال سواء الأطباء أو العاملين، فهل هذا منظر يرضي الله عز وجل؟ ألا يصلح أن تلبس الطبيبة النقاب والخمار بدلاً من هذا اللباس المخزي، سبحان الله! النصرانية تسلم وتتحجب وتتعود على الحجاب، والمسلمة تفسق وتعصي، وتتحلل من الحجاب، فسبحان من هدى وأضل!! امرأة أمريكية أخرى أسلمت، وسمت نفسها (فاطمة) أسلمت بسبب الحجاب، كانت تعمل على جهاز المحاسبة في إحدى المحلات، فاستوقفتها مشاهد من بعض النساء من زوجات الطلاب الذين يدرسون في الخارج، بعض النساء المحجبات، فكانت تسألهن على الجهاز عن هذا الحجاب، ولماذا هذا الحجاب؟ وما هذا الدين الذي يلزمكم به؟ وما هي تفاصيله تقول: اشتد شوقي للحجاب على الرغم من صعوبته، وحينما عدت للبيت أخذت قطعة قماش ووضعتها على رأسي، ولبست ملابس ذات أكمام طويلة فأعجبني شكلها، وخرجت بها في اليوم التالي إلى مركز إسلامي قريب؛ بحثاً عن مراجع عن الإسلام؛ فأخذتها وتفرغت لقراءتها، فتأثرت، ثم ذهبت إلى المركز مرة أخرى وأعلنت إسلامي هناك. إذاً: الحجاب سبب لهداية بعض الكافرات، الحجاب هو دعوة عملية، فما أكثر أجر التي تتحجب فتكون قدوة لغيرها، عندما تلبس الجوارب التي تستر القدمين، والقفازات التي تستر الكفين، والغطاء السميك الذي يستر الوجه، إنها فعلاً دعوة صامتة للغيرة، وكم من الأجر يكون لهذه المرأة.

نماذج ومعان

نماذج ومعانٍ والآن إلى فقرة بعنوان: "نماذج ومعاني" المشهد الأول: بعدما انتهت من التنظيف رمى ابنها ابن العام الواحد قطعاً من البسكويت على الأرض؛ فلما رأتها ارتفع صوتها: الله يلع يا ولد. المشهد الثاني: كانت مشغولة بإعداد طعام الوليمة فاحترق جزء منه، فتمتمت الله يلع كيف حصل هذا؟! المشهد الثالث: وقفت الخادمة ولم تتحرك، فتذمرت سيدتها؛ لأنها أعادت على مسمعها الكلام مراراً وتكراراً ولكنها لم تفهم، فقالت: أنت لا تفهمين يا مل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لعن المؤمن كقتله) وقال عليه الصلاة والسلام: (لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة) ولما سئل النبي عليه الصلاة والسلام لماذا النساء أكثر أهل النار؟ ماذا أجاب عليه الصلاة والسلام قال: (لأنكن تكثرن اللعن، وتكفرن العشير) الزوجة تجحد حق الزوج ولا تقوم به، والشاهد (تكثرن اللعن) على ألسنة النساء، والرجال أيضاً في هذا الزمان. فينبغي عليك أيتها المرأة المسلمة أن تهذبي لسانك من اللعن، ما أكثر اللعن بين الطالبات! ما أكثر لعن الطالبة للمدرسة! ما أكثر اللعن الذي تقوله الأم لولدها! وما أكثر هذه اللعنات التي تنطلق من ألسنة بعض العاصيات لله في هذه المسألة! ثم إنه لا يحق لأحد أن يدعو على أحد بإخراجه من رحمة الله وهو لا يستحق ذلك، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه في هذه الحالة ترجع اللعنة على اللاعن فتصيبه لعنته، فيكون كأنه دعا على نفسه.

وجلست في البيت

وجلست في البيت والآن إلى فقرة أخرى في الصفحة التالية وهي: (اسأل مجرب) بعنوان: "وجلست في البيت" مر عام ونصف على زواجي وما زلت متمسكة بهذه العادة السيئة، زوجي يعمل في المطار، وهذا يتحتم أن يغير دوامه كل شهرين فتارة الصباح، وأخرى في العصر، وأخرى في الليل، وقد اعتدت أن أخرج معه كلما خرج للدوام أذهب إلى بيت أهلي لأنني أخاف إن جلست في البيت لوحدي، وهذه العادة جعلتني أعيش في معمعة شديدة، فأحياناً أضع طعام الغداء وعندما يخرج زوجي للدوام أخرج معه وأترك المطبخ غير مرتب، وأعود لأجد البيت منقلباً رأساً على عقب، وأستحي أن أنظر لوجه زوجي لشعوري الكامن بالتقصير التام، الغسيل، الكي، التنظيف، الطهي، كله ليس على الأمر المطلوب، وهذا أمر طبيعي فأنا أخرج معه وأعود معه، إذاً متى أعمل؟ حينما يكون موجوداً أتمكن من إنجاز العمل الضروري، والآن أصبح لدي طفل وازدادت المسئوليات، وازدادت معها المعمعة، وأحياناً آخذ الغسيل معي لبيت أهلي، وأحياناً أخرج وأنسى بعضه، حدثت صديقة لي، فضحكت مني وقالت: أتخافين من "الغول" أن يأتي ليأكلك، اجلسي في بيتك ولن يأتيك إلا الخير، اقرأي بعض السور القرآنية، وحافظي على الأذكار، واستعيني بالله وجربي، والأصلح للمرأة أن تجلس في بيتها. أخذت بنصيحتها -وسط اضطراب شديد من زوجي- وجلست، ثم فتحت شريط قرآن، وشمرت عن ساعدي، وبدأت بالتنظيف تنظيفاً دقيقاً وكاملاً، وأديت أعمالي، وأعددت طعام العشاء، وجاء زوجي ووجهه فرح مستبشر للمرة الأولى، وقال بالحرف الواحد لما رأى منظر البيت من الداخل والطعام جاهز: الآن أصبح لي بيت أتشوق للعودة إليه. وهكذا أصبحت ربة بيت وأماً وزوجة ناضجة، ولهذا تمكنت من الاستفادة، ففي وقت الفراغ أجلس لأقرأ، أو استمع شريطاً، كما أن أهلي أصبحوا يشتاقون إلي أكثر من ذي قبل، فأنا لم أعد كل ساعة عندهم، وإنما أذهب لزيارتهم من وقت لآخر، أو عندما يكون دوام زوجي ليلاً أحياناً.

مشهد وتعليق

مشهد وتعليق والآن إلى "مشهد وتعليق". الزمان: الساعة الثانية عشرة ليلاً، المكان: صالة الطعام بإحدى قاعات الفنادق للأفراح، المشهد: تدخل جموع كثيرة من النساء ويتجهن صوب مكان الصحون، فتأخذ كل واحدة صحناً وتبدأ تلف على طاولة الطعام فتأتي البوفية لتأخذ ما تريد، هذه تضع كمية من الرز واللحم، وقطعتين سنبوسة، وحبتين من كل نوع من أنواع الفطائر، لحم، وجبن، وسبانخ، وتضع ثلاثة أسياخ من اللحم المشوي، وقطعتين من الدجاج، وقطعتين من الكباب، ومن الكبة، وجزء من التنبولة والفتوش إلى آخره. تجلس كل امرأة على كرسيها تتناول الطعام، وكل واحدة تأكل قليلاً من الرز، وحبة سنبوسة، وفطيرة ونحو ذلك ثم تشعر بالشبع، مع أنها لم تتناول سوى شيء بسيط من الصحن، ثم تقوم هي والتي معها تاركة صحنها آخذة صحناً آخر أصغر قليلاً إلى قسم الحلويات، فتعبئ كل واحدة صحناً كبيراً مملوءً بشتى الأصناف، وتجلس لتتناوله ويتكرر المشهد السابق. التعليق: لا أظن أن هناك امرأة حضرت أي حفل عرس ولم تشهد مثل هذا المشهد، وقد أصبح مألوفاً في حفلات الأعراس، والغريب حقاً أن الناس حينما وضعوا نظام البوفية لتناول الطعام، أرادوا منه الاقتصاد وعدم التبذير والإسراف، ولكن ما وقع كان العكس لسوء الفهم والتصرف، فأنتِ فعلاً تشعرين بالضيق حينما تدخلين قاعة الطعام بعد انصراف النساء، لتجدي الصحون مليئة بالمأكولات، مرمية على الطاولة، وقد تركها أصحابها في حين قد يوجد بعض الأشخاص لا يجدون ما يتناولونه؛ مما يشعر أهل الحفل بالحرج، مع أنهم قد قاموا بما عليهم من توزيع الطعام الكافي، ولكن سوء تصرف كثير من النساء وضعهم بهذا الموقف المحرج، لماذا لا تأخذ كل امرأة قدر ما تريد أكله؟ وإذا أرادت المزيد فبالإمكان أخذ ما تريد، وهكذا تنظم العملية، والمسألة كلها تعود إلى مخالفة قول الله تعالى وإلى مخالفة ما أبغضه الله: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام:141].

أية جرأة هذه؟!

أية جرأة هذه؟! وهذه الفقرة القصيرة بعنوان: "أية جرأة هذه؟! ". فعلاً أمرهن عجيب، وحقاً شأنهن غريب، أتجرؤ إحداهن على أن تكتب قصيدة غزل تمتلئ بألفاظ الحب والغرام، ومن ثم تنشرها على الملأ في إحدى الصحف موقعة باسمها الكامل؟! أتجرؤ إحداهن أن تكتب رسالة للاعب أو فنان أو لفوز المنتخب فيها كثير من عبارات المديح والثناء، ومن ثم تعمد إلى نشرها بإحدى الصحف وقد زينتها باسمها الحقيقي أين دينها؟ أين حياؤها؟ أليس لديها أهل؟ أين هم؟!

امرأة نصرانية أبكاها القرآن

امرأة نصرانية أبكاها القرآن وآخر قصة في هذا العدد عن امرأة نصرانية أبكاها القرآن، وهذه قصة مؤثرة حكاها أحد الدعاة إلى الله تعالى وقال: كنا ستة نفر من المنتسبين إلى الإسلام على ظهر سفينة مصرية تمخر بنا عباب المحيط الأطلسي إلى نيويورك من بين عشرين ومائة راكب وراكبة أجانب، ليس فيها مسلم، وخطر لنا أن نقيم صلاة الجماعة في محيط على ظهر السفينة، وقد وافق قائد السفينة أن نقيم صلاتنا وكان كافراً، وسمح للبحارة والطهاة والخدم وكلهم من المسلمين، وكانوا من الليبيين المسلمين أن يصلوا معنا، وقد فرحوا بهذا فرحاً شديدا؛ ً إذ كانت المرة الأولى التي تقام فيها صلاة الجمعة على ظهر السفينة. وقمت بخطبة الجمعة، وإقامة الصلاة، والركاب الأجانب معظمهم متحلقون يرقبون صلاتنا، وبعد الصلاة جاءنا كثيرون منهم يهنئوننا على نجاح القداس، ظنوه القداس وأن المسألة مثل مسائل النصارى، وهذا ما فهموا عن صلاتنا، ولكن هناك امرأة من الحشد تعرفنا فيما بعد أنها أوربية، كانت شديدة التأثر والانفعال، تفيض عيناها بالدمع ولا تتمالك مشاعرها، جاءت لتهنئنا بحرارة وهي لا تملك نفساً من التأثر العميق، وليس هذا موضع الشاهد من القصة، ولكن ذلك كان في قولها، أية لغة هذه التي يتحدث بها قسيسكم؟ وهذا تصورها، وقد صححنا لها الفهم بأنه ليس هناك قسس في الإسلام، وأجبناها على سؤالها على اللغة التي كان يتحدث بها الخطيب، فقالت: إن هذه اللغة التي تحدث بها لها إيقاع عجيب، وشعور في النفس غريب، وإن كنت لم أفهم منها حرفاً واحداً، ثم كانت المفاجئة الحقيقية لنا وهي تقول: لكن ليس هذا هو الموضوع الذي أريد أن أسأل عنه، إن الموضوع الذي لفت حسي هو أن الإمام كانت ترد في أثناء كلامه فقرات من نوع آخر غير بقية كلامه، نوع أكثر تأثيراً، وأعمق إيقاعاً، هذه الفقرات الخاصة كانت تعمل في نفسي رعشة وقشعريرة، إنها شيء آخر يختلف عن كلام الخطيب، وتفكرنا قليلاً ثم أدركنا أنها تعني الآيات القرآنية التي وردت في أثناء خطبة الجمعة وفي أثناء الصلاة، وكانت مفاجأة لنا تدعو إلى الدهشة من امرأة لا تفهم شيئاً مما نقول، فسبحان الذي أنزل الكتاب وجعل له هذا السلطان والتأثير.

هي القاتلة

هي القاتلة فقرة بعنوان: "هي القاتلة" عندما يعلو كلامها مع البائع في محل هي القاتلة، عندما تكشف وجهها للأجانب هي القاتلة، عندما تعلو كلماتها المبتذلة في سماعة الهاتف هي القاتلة، وعندما تتهجم على المتدينات إذا قدمن لها نصيحة هي القاتلة، نعم إنها قاتلة الحياء، وإن الله سينفذ فيها حكمه إذا لم تتب إلى الله.

فطنة قاض

فطنة قاض والفقرة قبل الفقرتين الأخيرتين بعنوان: "فطنة قاضٍ" اشتكى أحد القرويين إلى القاضي أن أحد الناس يسرق منه الدجاج والأوز، وأنه لم يهتد إليه، فحضرت الصلاة بعد ذلك فقام القاضي وخطب بهم وقال في خطبته: وإن أحدكم ليسرق أوز جاره، ثم يدخل المسجد والريش على رأسه، فمسح رجل من الحضور رأسه، فقال القاضي: خذوه فهو صاحبكم.

لغز العدد

لغز العدد وإلى الفقرة قبل الأخيرة وهي: لغز العدد، وهي بيتان من الشعر ذكرهما أحد الشعراء يصف فيهما شيئاً، والمطلوب منك أن تتعرفي على هذا الشيء، يقول هذا الشاعر: ما اسم لشيء حسن شكله تلقاه عند الناس موزونا تراه معدوداً فإن زدته واواً ونوناً صار موزونا فما هو؟ A إنه الموز.

طرفة عن أحد النحويين

طرفة عن أحد النحويين والآن إلى آخر فقرة ونهاية المطاف في هذه المجلة مجلة الفتاة المسلمة، وهي طرفة عن أحد النحويين، وكان مشهوراً بالألفاظ الصعبة، كان يستخدم في كلامه الألفاظ الصعبة وكان يتقعر فيها كثيراً، دخل أبو علقمة النحوي على الطبيب، فقال له: أمتع الله بك -الآن النحوي يشكو حاله من المرض الذي أصابه- قال: أمتع الله بك! إنني أكلت من لحوم هذه الجوازم -أي: فرخ الحمام قبل أن ينبت ريشه- فطفئت طفأة فأصابني وجع ما بين الوابلة إلى دأنة العنق، فلم يزل يربو وينمو حتى خالط الخلب والشراتيت، فهل عندك دواء؟ فقال الطبيب: نعم. خذ خربقاً وشلفقاً وشذرقاً فزهزقه وزقزقه واغسله بماء روث واشربه، فقال أبو علقمة: لم أفهم عنك، فقال الطبيب: أفهمتك كما أفهمتني. وأخيراً: أيتها الفتاة المسلمة! أيتها المرأة المسلمة! نسأل الله سبحانه وتعالى أن نكون قد انتفعنا بما سمعنا، وأن يجعل ما سمعنا حجة لنا لا حجة علينا، وأوصيك في نهاية المطاف بتقوى الله عز وجل في السر والعلن، وأسأله أن يجعل لك الطريق نوراً، ويأخذ بيدك فيه ويسلك بك الصراط المستقيم، وأن ينجينا جميعاً من نيران جهنم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكن، وإلى لقاء آخر والسلام عليكن ورحمة الله وبركاته.

مقومات النصيحة الناجحة [1]

مقومات النصيحة الناجحة [1] للنصيحة في الإسلام شأن عظيم، فالدين النصيحة كما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن واقع النصيحة بين المسلمين ليس له ذلك الأثر المطلوب شرعاً؛ بسبب الأخطاء الواقعة من الناصح والمنصوح، وعدم وجود القدوة في أفعال الناصح قبل أقواله.

الدين النصيحة

الدين النصيحة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله؛ فلا مضل له، ومن يضلل؛ فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار. إخواني في الله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح كلمتين موجزتين، تعبران عن ركن عظيم من أركان الدين، وأركان الأخوة الإسلامية، وهذا الحديث الصحيح هو قوله صلى الله عليه وسلم بأبلغ عبارة وأوجز لفظ: (الدين النصيحة) يعرف الدين بأنه هو النصيحة كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الآخر: (الحج عرفة) فجعل عليه الصلاة والسلام النصيحة هي الدين كما جعل عرفة هي الحج، ليس لأن الدين كله هو النصيحة، ولا أن الحج كله هو عرفة، ولكن لما كانت عرفة أعظم ركن من أركان الحج وهي الموقف الأكبر؛ كان ذلك دلالة على أهميتها وعظمها، كذلك يومئ عليه الصلاة والسلام لأمته بأن النصيحة هي من أعظم الأشياء في الدين.

عاقبة ترك النصيحة

عاقبة ترك النصيحة أيها الإخوة: لما وقع الإهمال بين المسلمين في النصيحة؛ رأيت الانحرافات الكثيرة في العقائد والسلوكيات؛ نظراً لأن هذه المسألة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل إن النصيحة أعم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن النصيحة تدخل حتى في الأشياء الدنيوية، وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم النصيحة من أركان بيعته لبعض الناس، فقد أخبر الصحابي في الحديث الصحيح: (أنه بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة -وعلى أشياء- فذكر منها: والنصح لكل مسلم) فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشترط في البيعة النصح لكل مسلم. أيها الإخوة: إن النصيحة معلم بارز من معالم المجتمع الإسلامي ومن أساسيات الأخوة، ولما غابت النصيحة؛ فقدنا أشياء كثيرة، لما تواكل كل إنسان على غيره في إسداء النصيحة؛ عم الفساد وطمت الشرور، لما أهملنا النصيحة وتقاعسنا عن أدائها ودخل الشيطان على كل إنسان فقال له: عليك نفسك لا توجه نصائح للناس؛ حصلت هذه المفاسد التي ترونها اليوم والانحرافات العامة في حياة المسلمين التي أدت إلى غياب وضوح صورة الإسلام الصحيحة في أذهان كثير من المسلمين اليوم. أيها الإخوة: النصيحة جعلها عليه الصلاة والسلام ركناً من أركان الأخوة، فقال في حق المسلم على المسلم: (وإذا استنصحك؛ فانصحه) قال العلماء ومنهم ابن حجر رحمه الله في شرح الحديث: إن هذا الأمر للوجوب، فتجب النصيحة لعموم الأدلة الأخرى الدالة على أهميتها والتشديد في أمرها.

نظرة الناس إلى النصيحة

نظرة الناس إلى النصيحة أيها الإخوة: صار الواحد منا اليوم إذا رأى أخاه على منكر، أو رآه واقعاً في خطأ ما؛ يستحي أو بعبارة أدق يخجل أن يوجه إليه النصيحة، وصارت النصيحة عند بعض الناس اليوم عيباً لا ينبغي ذكره ولا إسداؤه أو التوجه به. سيقول السفهاء من الناس: إن النصيحة تعتبر تعدياً على الحرية الشخصية للإنسان، وهذه فكرة قائمة في أذهان الكثير، فإنك ترى أحدهم اليوم إذا جئت توجه إليه نصيحة في أمر من الأمور؛ قال لك: وما دخلك أنت، وما حشرك في الموضوع، أنا حر فيما أفعل، هذه هي الحرية الشخصية، الحرية المزعومة التي ادعاها هؤلاء تقليداً للكفرة من الغربيين والشرقيين؛ الذين جعلوها صنماً يعبد من دون الله، فأدت إلى ما أدت إليه من الشرور والمفاسد. أيها الإخوة: الحرية مكفولة للمسلمين -والحمد لله- في هذا الدين، ولا يحتاج المسلم لضمان حريته إلى أكثر من التقيد بشرائع الإسلام. إن الإسلام يضمن لكل مسلم حريته بالأشياء التي جاء بها في إقرار حقوق المسلم وتحريم التعدي عليه، والذي يزعم أن الحرية مطلقة؛ فإن كلامه يؤدي إلى نسف عبودية الإنسان لله بالكلية؛ لأنك إذا عممت هذا المفهوم كما يراه بعض الناس اليوم؛ فإنك ستقول: أنا حر أن أؤدي الصلاة أو لا أؤديها، وأنا حر أن ألتزم بالزكاة أو لا ألتزم بها، أو أنا حر أن أصوم أو أحج إلى غير ذلك، فتصير الحرية بهذا المفهوم وبالاً شديداً ومطعناً عظيماً في دين الإسلام، فإن الإنسان عبد لله عز وجل شاء أم أبى، فيجب أن يقدم حقوق هذه العبودية، ولهذا ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن الإنسان لا يمكن أن يعيش من غير عبودية مطلقاً، لا بد أن يعبد شيئاً ما، فإما أن يكون عبداً لله تعالى، أو عبداً لأهوائه أو شهواته، أو غيرها من طواغيت الإنس، أو الأصنام وما شابهها. لذلك -أيها الإخوة- لابد أن يستقر في عقول هؤلاء الناس أن النصيحة ليست تعدياً على الحرية الشخصية مطلقاً، وهذه القصة أو الحوار الذي سمعته يوماً ما من أحد الإخوان -والعهدة على الراوي- تبين حال الناس في قضية النصيحة: فإن إنساناً أتى لرجل من المسلمين فقال له: يا أبا فلان! إن ثوبك طويل يسحب، هلا رفعته وقصرته كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقد رأى مسلماً واقعاً في منكر؛ فأسدى إليه نصيحة، فقال له الشخص المخاطب بلهجته: يا فلان! هذا ثوبي وإلا ثوبك؟ قال: لا. ثوبك، قال: فما دام أنه ثوبي؛ فأنا حر أفعل به كما أشاء، فانطلت هذه الكلمة على ذلك الرجل الناصح المسكين فقال: إي والله صدقت. أيها الإخوة: هذا مثل بسيط من الأمثلة التي تعبر فعلاً على أن الناس اليوم يرون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإسداء النصيحة لهم هو تدخل في حرياتهم ومظاهرهم الشخصية، لذلك لا يرون التقيد أو قبول النصيحة أصلاً، وقد أتى الخلل من كون بعض المسلمين يرون بأنه لا علاقة للإسلام وأحكام الإسلام في مظاهرهم الشخصية، فلذلك هو حر في مظهره الشخصي، وهذه نقطة خطيرة؛ لأن المظهر -أيها الإخوة- من شعارات الإسلام، وقد اهتم الإسلام بالباطن كما اهتم بالظاهر؛ ولأن اللباس والهيئة والمظهر من شعارات المسلمين الدالة على تميزهم عن غيرهم من الأمم الكافرة، ولذلك أمر الإسلام بمخالفة أعداء الدين وأصحاب الملل الأخرى من اليهود والنصارى والمجوس وغيرهم، فأمر بإرخاء اللحى، وقص الشوارب، وتقصير الثياب، وغير ذلك من الأشياء تظهر المسلم متميزاً متفرداً في مظهره وهيئته.

شروط النصيحة

شروط النصيحة النصيحة لها شروط في الناصح والمنصوح والنصيحة في ذاتها، ولا يسعنا الوقت للكلام عن هذه الأشياء جميعها. ولكن لا بد للناصح أن يكون -يا إخواني- رفيقاً بمن ينصح، وألا يكون متعالياً عليه بنصيحته، أو ينصب نفسه أستاذاً له في إلقاء النصيحة؛ لأن هذا الأمر يسبب نفور الشخص المقابل؛ لأنه يشعر بأنك تتعالى عليه وتتكبر عليه أثناء نصحه، وقد جبلت النفوس على رفض مثل هذه الطرق التي تؤدي إلى إهانتها في الظاهر، لذلك كان لا بد من الرفق بالناس، وعدم التكبر أو التعالي عليهم أثناء إسداء النصح لهم، وتجنب الألفاظ الجارحة التي تؤدي إلى صدود كثير من المسلمين عن تقبل النصيحة. بعض الناس عندما يرى شخصاً لا يطبق شيئاً من شرائع الدين في مظهره أو أعماله، فقد يقول له: أنت فاسق، أنت فاجر، أنت كذا، أنت كافر، أنت لا تفعل كذا، أنت عاصٍ، أنت مرتد، أنت خارج عن الدين، أنت كذا وأنت كذا، من هذه الألفاظ التي تنفر الناس بظاهرها، وقد يكون الحق مع هذا الرجل الناصح أن هذا الأمر الذي ينصح به هو حقيقة إذا لم يطبقه الشخص المقابل فإنه قد يكون فاسقاً؛ لأن الفسق معناه: الخروج عن طاعة الله عز وجل، ومعصية الله، فلذلك سميت الثمرة إذا انشقت عن قشرتها أنها فسقت كما تقول العرب، فإذاً الخروج عن طاعة الله ومعصيته فسق، هذا لاشك فيه مطلقاً، ولكن يا أخي عندما تقول للشخص الآخر مباشرة قبل أن تقيم عليه الحجة، تقول: أنت فاسق، أنت كذا، أنت مرتد، أو أنت كافر، أو أنت عاصٍ، مثلاً، هل حلت المشكلة؟ A كلا، لم تحل المشكلة مطلقاً، لذلك كان لا بد من الترفق في النصيحة. لقد حدثت في عهده صلى الله عليه وسلم من الأحداث التي هيأها الله حتى نرى بها الطريقة الصحيحة في إسداء النصيحة، حدثت أشياء عظيمة كان موقفه عليه السلام منها مدعاةً ومثاراً للتعجب والاندهاش من حلم ذلك الرجل العظيم صلى الله عليه وسلم. هل هناك ذنب أقبح من أن يبول إنسان في المسجد أمام الناس؟! كلا، وربما لا يكون هناك في ذلك الموضع ما هو أقبح من ذلك، أفترى رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف عالج الأمر؟ لما همَّ الصحابة بذلك الرجل الأعرابي الجاهل الذي أتى ليبول، قال: (لا تزرموه، تقطعوا عليه بوله) وبعدما انتهى الرجل؛ ناداه عليه الصلاة والسلام وعلمه حق المساجد وواجب المسلم نحو المسجد، وأن هذا الأمر لا يجوز وذلك بكل رفق وتؤده. كذلك الصحابي رضي الله عنه الذي تكلم في الصلاة جاهلاً بحكم الكلام في الصلاة، ماذا قال بعدما نصحه عليه الصلاة والسلام؟ قال: (فبأبي هو وأمي! ما رأيت معلماً قط قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، والله ما كهرني ولا نهرني ولا ضربني ولا شتمني، وإنما قال لي: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتهليل وقراءة القرآن). فإذاً أيها الإخوة، هذا الأسلوب الجذاب في النصيحة هو الذي يحمل الناس على قبول النصيحة، وهذه المسألة فيها خطورة كبيرة؛ لأن كثيراً من الناصحين يقولون كلاماً حقاً، فالحق معهم في كل كلمة يقولونها، فالحكم الذي أمروا به صحيح والدليل صحيح، والمنكر الذي نهوا عنه فعلاً منكر، وقامت الأدلة من الكتاب والسنة على أنه منكر، وتوجيههم للناس أن هذا طريق الحق صحيح، والمعالم التي في هذا الطريق صحيحة، لكن المشكلة أن أسلوبهم يعمي على الناس قبول هذا الحق. أيها الإخوة: هذه مسألة خطيرة؛ أن نعرض على الناس حقاً، ولكن لا يقبلونه بسبب أسلوبنا نحن، هذا يؤدي إلى نكوص الناس عن شرع الله وارتدادهم عن دين الله واتباع الباطل، إذا كان معك الحق يا أخي كما أنه حسن في ذاته؛ فكن أنت حسناً في تأديته إلى الناس، ولذلك نجح كثير من أهل الباطل في إيصال باطلهم للمسلمين مع أنه باطل بسبب حسن الأداء، فأنت ترى كثيراً من المبشرين النصارى قد نجحوا في إدخال كثير من المسلمين في دين النصرانية أو إبعادهم عن دين الإسلام، هل كان ذلك بسبب أن الأشياء التي عرضوها على المسلمين صحيحة أو حق أو حسنة أو طيبة؟ كلا، إنها شرك أو كفر أو ردة عن دين الله أو فسق أو معصية، ولكن نجحوا في ذلك بسبب الأسلوب الحسن الذي استطاعوا به أن ينفذوا إلى قلوب الناس، فمن أشد الأمور ألماً أن ترى أهل الباطل يصلون إلى قلوب الناس بحسن تخطيطهم، وجودة أسلوبهم، ورقة ألفاظهم، وجمال حديثهم وكلامهم، وما هم عليه باطل، وترى أصحاب الحق الصحيح أصحاب الحنيفية السمحة لا يستطيعون أن يوصلوا ما لديهم إلى قلوب الناس. هذه أيها الإخوة من أشد ما في واقع المسلمين ألماً، هذه واحدة، ومع ذكرنا لهذا الجانب فإننا لابد أن نعرج على أولئك المنصوحين الذين توجه إليهم النصيحة، فأقول لكل واحد أسديت إليهم نصيحة صحيحة تيقن أنها حق: يا أخي! لا يحملنك شيء من فضاضة أخيك المسلم أو تعديه عليك بجزء من اللفظ أو خشونة في الأسلوب -لو حدث هذا- لا يحملنك هذا على رفض ما لديه من الحق؛ لأن هذه من أعظم المنكرات أن ترفض الدليل وترفض نص الكتاب والسنة، وترفض الحق؛ لأن فلاناً قد قسا عليك شيئاً ما في الأسلوب، لأن هذا استبدل الحسنة بالسيئة، ألأنه قسا عليك قليلاً في الأسلوب ترفضه؛ وترفض ما لديه من الحق العظيم الذي أتى من عند الله؟! ترفض أحكام الدين وترفض أحكام المنكر الذي أنت مقيم عليه؛ بسبب خطأ في الأسلوب، هذه رعونة وطيش وحمق، لا ينبغي مطلقاً أن يحصل، نرفض الحق لمجرد أنه أسيء إلى شخصياتنا في طريقة عرضه، كلا يا إخواني، لنكن أصحاب حق ومبدأ وإن واجهنا شيئاً من الخشونة أو القسوة، فالحق عندنا أعلى وأعظم وأغلى من الأسلوب، وإن كان الأسلوب مهماً ولكن الحق أهم، وإذا استطعنا فهم هذين الجانبين زال الإشكال واقترب الناس من الدين وسمع كل منصوح لناصحه. ومن الأمور التي ينبغي عقلها وفهمها وفقهها للناصح: أن يعرف الفرق بين النصيحة والتعيير، أن يعرف الفرق بين النصيحة والتشهير، لأن الناس لهم كرامة، والناس لهم مشاعر وأحاسيس، ولذلك لا بد من احترام أحاسيسهم ومشاعرهم. أيها الإخوة: النصيحة تسدى بقالب حسن سراً بين الناصح والمنصوح؛ لأن الناس لا يريدون بطبيعتهم أن تقرأ على الآخرين أخطاءهم وعيوبهم، ففي المجالس تقول: يا فلان! لماذا فعلت أمس كذا؟ ولماذا قلت كذا؟ أنت مخطئ وأنت كذا وكذا، هذا تشهير لا يصح أبداً، لا بد أن نحفظ حقوق الناس وكرامتهم، لا بد أن نصون مشاعرهم وأحاسيسهم. لكن يحصل أحياناً أن الشيء الذي تنصح به لو أخرته يفوت وقته، فلا بد أن تنصح به الآن قبل أن يفوت وقته، كما لو أنني قلت لهذا الأخ: قم واركع ركعتين، فإن هذا لا يعتبر تجريحاً ولا تشهيراً؛ لأنه لو ما قام الآن وصلى فإن وقتها يفوت، ولأن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أمر المسلم إذا دخل المسجد والإمام يخطب أن يصلي ركعتين، تحتم عليه أن ينفذ الأمر الآن، فإذا تركته ونصحته بعد الصلاة مثلاً؛ فإن هذا الأمر يفوت عليه، ولذلك فإن سليكاً الغطفاني لما دخل المسجد والرسول صلى الله عليه وسلم يخطب كما ورد في صحيح مسلم جلس سليك مباشرةً، فقال له عليه الصلاة والسلام: (أركعت ركعتين؟ قال: لا. قال: قم فاركع ركعتين) هذا أمام الناس لا يسمى تشهيراً ولا تعييراً، لأن هذا وقته وإذا ترك؛ يفوت الوقت، ولكن لا يمكنك أن تؤجل النصيحة إلى ما بعد انفضاض المجلس وانتهاء هذه الجلسة التي يجلسها الناس، ومع ذلك تنصح الرجل أمام الآخرين، هذا غير صحيح.

بعض الأسباب الحاملة على سوء النصيحة

بعض الأسباب الحاملة على سوء النصيحة ومن الأسباب الحاملة على سوء النصيحة أمام الناس عاملٌ مهمٌ جداً وهو: أن يكون بيد الناصح سلطةٌ أو معه مسئوليةٌ على المنصوح قوية كمسئولية أو سلطة الوالد على ولده، أو المدرس على الطالب، أو الزوج على الزوجة، هذه السلطة أو المسئولية تحمل هؤلاء الناس إلا من رحم الله منهم على سلوك سبلٍ سيئة في النصيحة، يقول: عندي مسئولي أستطيع أن أقهره وأجبره، لذلك لا يفكر مطلقاً في تزيين النصيحة ولا في أسلوبٍ حسن، لأنه أب يقهر الولد، لأنه مدرس يقهر الطالب؛ لأنه زوج يقهر زوجته، فلذلك لا يفكر في تحسين النصيحة مطلقاً؛ لأن عنده من السلطة والمسئولية ما يخوله للفرض أو القهر والجبر، ولذلك نشأت اليوم أجيال من المسلمين ضعيفة في شخصياتها محطمةٌ في معنوياتها، لا تكاد تجد عندها معلماً واحداً من معالم العزة أو القوة أو الجرأة، لأن تربيتها كانت من هذا النوع. أيها الإخوان: يدخل الواحد أحياناً بيتاً من البيوت، ويجلس في مجلس من المجالس، فيرى الأب يهين الابن أمام الضيوف الجالسين، يهينه وينتقده ويذله ويسبه ويقول: هذه طريقة في الضيافة! هذه طريقة في حمل القهوة! هذه كذا! استحي على وجهك، وينتقده حتى في طريقة وضعه للطعام، مع أنه كان من الممكن أن يخرج إلى خارج المجلس وينادي الولد، ويسر إليه سراً بهذه النصيحة وهذا التعليل، وأحياناً تكون الأشياء غير ذات أهمية، ولكن حب التسلط يحمل الأب أو المدرس أو الزوج على أن ينال من ابنه أو من تلميذه أو من زوجته في كرامته ومشاعره وأحاسيسه في أشياء تافهة بدافع حب السيطرة وإبراز الشخصية، وهذه -أيها الإخوة- من مداخل الشيطان. لا تحملنك يا صاحب المسئولية مسئوليتك ولا سلطتك على أن تخون آداب النصيحة، وتسيء إلى إخوانك المسلمين في طريقة النصح، ولذلك تجد الأولاد الآن كثيراً منهم لا شخصية لهم ولا جرأة عندهم ولا عزة ولا كرامة، في غاية الذل والإهانة لا يجرءون على مواجهة الناس خارج سور البيت؛ لأن طريقة إسداء النصح له في المجالس في غاية السوء؛ لأن طريقة تربية الآباء أو تربية المدرسين أو معاملة الزوج مع زوجته في غاية السوء، فترى تلك المسكينة قابعة في بيتها جريحة مهيضة الجناح؛ لأن زوجها ذلك الجبار المتغطرس لا يعرف أن ينصحها مطلقاً، فتراه يهين زوجته أمام أمه أو أخته أو أحد محارمه، وإذا اجتمعوا في البيت يسيء إليها؛ ويغلظ عليها في طريقة نصحها، ويلومها على طريقة الطبخ أو على أي شيء في الأكل ويجرح شعورها وكبرياءها، وترى ذلك الطالب المسكين يقف في الفصل محرجاً وجهه قد اسود أمام زملائه؛ بسبب الطريقة السيئة التي نصحه بها المدرس. نقول هذا أيها الإخوة تسليطاً للضوء على هذه المشكلة التربوية المتعلقة بالنصيحة والتي تتداخل يومياً في تصرفاتنا الحياتية. الإسلام أيها الإخوة أخلاق وسلوك وآداب، كما أنه عقائد وسنن وأوامر وتشريعات وأحكام ومناسك، فينبغي الأخذ به كله، ينبغي أن نأخذ بالإسلام جميعه، خذوا الإسلام جملةً ولا تدعوا منه شيئاً على قدر الطاقة والسعة. فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإياكم للطريقة الصحيحة في إسداء النصيحة لإخواننا المسلمين، وأن ينعم علينا وعليكم بإصابة الحق وحسن الألفاظ وجودة التعبير في نصح إخواننا المسلمين. وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه، وصلى الله على نبينا محمدٍ، والحمد لله أولاً وآخراً.

النصيحة بالقدوة

النصيحة بالقدوة الحمد لله الذي لا إله إلا هو، لم يتخذ صاحبةً ولا ولداً، أحمده سبحانه وتعالى، وأثني عليه الثناء الحسن لما هو أهله، المستحق لكل مدح وكل حمد، وأصلي وأسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم معلم الناس الخير. أيها الإخوة من أعظم طرق النصيحة وأجلها على الإطلاق: النصيحة بالقدوة من غير كلام، أن ينصح الإنسان من غير كلام، تقول لي: كيف هذا؟ أقول لك: إن المسلم مطالب بأن يكون قدوة أمام المسلمين، ولذلك كان من دعاء عباد الله الصالحين الذين أثنى الله عليهم في آخر سورة الفرقان أنهم قالوا: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74] اجعلنا أئمة يقتدي بنا المتقون: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74] فانظر إلى شرف المنزلة وعلو الدرجة التي يطلبونها من الله عز وجل، أن يكون الإنسان إماماً للمتقين قضية خطيرة وعظيمة لا يصل إليها إلا من وفقه الله تعالى فبذل الأسباب وأخلص لله عز وجل. النصيحة بالقدوة -أيها الإخوة- يراك الناس تتصرف التصرف الصحيح في موقف من المواقف، فينتصحون بفعلك وعملك، فيقلدونك ويتابعونك، وهذه القصة المشهورة وإن كان المحدث الشيخ/ أبو عبد الرحمن ناصر الدين قد أخبر مشافهةً بأنه ليس لها سند يعرف للحكم عليها، ولكن فيها مغزى وفيها عبرة عظيمة وفيها تعليم جميل، وهذا الحدث ليس بمستبعد أبداً على أناس وردوا حوض التربية النبوية، فتضلعوا منه وشربوا منه شربةً عظيمة، إنهما الحسن والحسين رضي الله عنهما، ذكر في مرة من المرات بأنهما دخلا مكاناً للوضوء، فوجدا رجلاً من المسلمين يسيء الوضوء، أي: لا يتوضأ وضوءاً طيباً، فيهمل الوضوء كما يفعل كثير من المسلمين اليوم، تجد أحدهم يغسل يده، فلا يصل إلى المرفق مطلقاً، ويغسل قدمه، فلا يصل إلى العقب مطلقاً، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (ويلٌ للأعقاب من النار). دخل الحسن والحسين على هذا الرجل وهو يتوضأ، فرأيا سوء وضوئه، وهما يعلمان بأن الله لا يقبل صلاة بغير وضوء صحيح. ما هي الطريقة الآن لنصح الرجل؟ ما هي أمثل طريقة لتعليم الرجل من غير جرح لكبريائه وهو شيخ يفوقهما سناً، والكبير عادةً لا يتقبل من الصغير. فنظر الحسن والحسين إلى بعضهما نظرةً ذات مغزى، ثم اقتربا من الرجل، فقالا له: يا أبانا أو يا شيخ! إني أنا وأخي قد اختصمنا أينا أحسن وضوءاً، أنا أقول أنا أحسن وضوءاً من أخي، وأخي يقول: هو أحسن وضوءاً مني، فأردنا أن نحتكم إليك لتحكم بيننا أينا أحسن وضوءاً من الآخر، فتقدم الحسن فتوضأ وضوءاً نبوياً كاملاً، وأسبغ الوضوء، ما ترك شيئاً من سننه، ثم تقدم الحسين لما فرغ الحسن، فتوضأ وضوءاً نبوياً كاملاً، وأسبغ الوضوء، ما ترك شيئاً من سننه، ثم التفتا إلى الرجل ينتظران منه الحكم، فوقع هذا العمل في قلب الرجل أشد موقع، وقال لهما بلسان معترف مستجيب: بل أنا والله الذي لا يحسن الوضوء، وأنتما علمتماني كيف أحسن الوضوء. أيها الإخوة: هذه العناصر ما نشأت من فراغ، هناك قصص صحيحة ثابتة كثيرة تبين كيف كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أئمة يقتدي به عامة الناس، هذه الشخصيات ما نشأت من فراغ، وإنما نشأت من تربية صحيحة قائمة على قواعد الإسلام وأصوله، محكمة من جميع أطرافها، أنتجت هذه النماذج التي صارت قدوة يقتدي بها الغادي والرائح والمتقدم والمتأخر من أبناء المسلمين، لذلك كان لا بد أن يجعل كل إنسانٍ منا من نفسه قدوةً ينصح الآخرين بأفعاله قبل أن ينصحهم بأقواله. نسأل الله أن يوفقنا وإياكم لأن نتقي الله عز وجل حق التقوى، وأن نتمسك بالعروة الوثقى، وأن يجعلنا على الملة الحنيفية واتباع سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. اللهم إنا نسألك بأنك أنت الله الذي لا إله إلا هو، الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، أن تحيينا على ملة الإسلام، وتميتنا على ملة الإسلام، وأن تجعل خروجنا من الدنيا على شهادة التوحيد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. اللهم ارزقنا حبك وحب من يحبك، اللهم اجعلنا من الدعاة العاملين المجاهدين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم دمر أعداء الدين أجمعين في برك وبحرك وجوك، اللهم لا تجعل لهم قائمةً، اللهم إن اليهود قد حرمونا من شد الرحال وأجر الصلاة في المسجد الأقصى، اللهم فأحنهم الغداة، واجعل بأسهم بينهم يا رب العالمين، اللهم شردهم وفرق جمعهم، واجعل دائرة السوء عليهم، اللهم إنهم قتلوا أبناءنا ويتموا أطفالنا ورملوا نساءنا، اللهم لا تبق منهم على الأرض ديارا، اللهم إنك أنت المنتقم الجبار، اللهم اجعل بأسهم بينهم، وسلط عليهم بأسك وجنداً من عندك، فلا تقم لهم قائمة أمام المسلمين. اللهم وألف بين قلوب المسلمين، واجمعهم على كلمة الحق المبين، واجعلهم صفاً واحداً بالعقيدة متمسكين ولسنة نبيك متبعين، وحرباً على أعدائك، وسلماً لأوليائك يا أرحم الراحمين.

من جهود السلف في الدعوة

من جهود السلف في الدعوة إن الدعوة إلى الله من أجَلِّ الوظائف والأعمال وأرفعها، فأجرها عظيم ودرجتها رفيعة، فهي وظيفة الرسل. ولقد ذكر الشيخ في هذه المادة فضل الدعوة وأهميتها وصوراً من حياة الأنبياء ومواقف السلف في الدعوة إلى الله.

أهمية الدعوة إلى الله تعالى وفضلها

أهمية الدعوة إلى الله تعالى وفضلها إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد: أيها المسلمون: إن الدعوة إلى الله أجرها عظيم وهي وظيفة الرسل، يقول النبي صلى الله عليه وسلم لـ علي يوم خيبر: (أنفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم) خير لك من هذه الإبل العظيمة عند العرب. ويكفي الداعية إلى الله تعالى أن له مثل أجور من اتبعه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من دل على خير فله مثل أجر فاعله) رواه مسلم. وروى أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً) وهذا ترغيب وحث ودفع للدعوة إلى الله. وكذلك فإن الله وملائكته وأهل السموات والأرض، حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير، فماذا نريد من الأجر أكثر من هذا يا عباد الله؟! ونحن قد أصبنا فيما أصبنا بالتقصير في الدعوة إلى الله، وعدم الحرص على هداية الناس، مع عظم هذه العبادة. لما تركت الدعوة تفشت المنكرات والمحرمات، وصار كثير من الناس في عمى وضلال، لقد كان أنبياء الله في غاية الحرص على هداية الناس إلى السبيل القويم.

صور من دعوة الأنبياء إلى الله سبحانه وتعالى

صور من دعوة الأنبياء إلى الله سبحانه وتعالى إن الدعوة إلى الله دليل على إخلاص الإنسان لمبادئه، فإذا كنت تحب دينك فعلاً فستكون حريصاً على الدعوة إليه، إذا كنت معتنقاً لمبادئ الإسلام حقاً فستكون حريصاً أشد الحرص على منادات غيرك إليه.

دعوة نوح عليه السلام لقومه

دعوة نوح عليه السلام لقومه ولذلك كان نوح عليه السلام في غاية الحرص على دعوة قومه: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً} [العنكبوت:14] يدعوهم إلى الله من غير فتور ولا توانٍ مستخدماً بجميع الأساليب الممكنة: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلَّا فِرَاراً * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً} [نوح:5 - 7] هل صده ذلك عن الدعوة؟ هل منعه إعراض المعرضين عن الاستمرار في العمل؟ كلا والله قال الله: {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً} [نوح:8 - 9] فنوع أساليب الدعوة، ودعاهم بالليل والنهار، ودعاهم جهرة ثم أسر لهم سراً، وجمع لهم بين الأسلوبين في غاية الجد والنصح وتبليغ الرسالة.

يوسف عليه السلام في الدعوة إلى الله

يوسف عليه السلام في الدعوة إلى الله وهذا يوسف عليه السلام لما أدخل السجن لم ينس في كربة السجن وغربته وظيفته ومهمته، بل شرع يمارس ذلك بسرعة وفي أقرب فرصة، قال تعالى: {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:36] على محياه سيما الصلاح، إنا نراك من المحسنين، كان داعية بعمله وبسمته: {قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا} [يوسف:37] ثم ذكر مباشرة الدعوة إلى التوحيد: {ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ * يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف:37 - 39]. شرع في الدعوة إلى الله في ذلك المكان، في ضيقه وكربته، ووحشته وظلمته، قائماً بأمر الله، داعياً إلى الله عز وجل، حريصاً على هداية هذين الرجلين الكافرين.

قصة الرجل الساعي من أقصى المدينة

قصة الرجل الساعي من أقصى المدينة ألم يأتكم نبأ الرجل المسلم الذي قال الله في شأنه: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً} [يس:20 - 21] وسارع يدعوهم إلى التوحيد: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ} [يس:23] أي: هذه الأوثان المعبودة، والأصنام المقصودة: {لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ * إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} [يس:23 - 25]. إن كل كلمة في هذه الآية لها معناها ومدلولها، وجاء رجل، أي: تحققت فيه صفات الرجولة بأجمعها: {مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ} ليس من مكان قريب، لم يحضر عندهم وإنما جاءهم من أقصى المدينة، وكيف جاءهم؟ هل جاءهم ببطء؟! جاءهم يسعى سعياً حثيثاً. فلأي شيء جاء من أقصى المدنية وأتعب نفسه؟ جاء ليبلغ قومه دين الله عز وجل، يقول: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} كان حريصاً على هداية قومه، ولما مات تتابع حرصه عليهم بعد موته، سبحان الله! ولذلك قال لما قتلوه بعدما لقي الله: {قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس:26 - 27] لا زال حريصاً عليهم، بعد موته وبعد انقطاعه عن الدنيا لا زال يتمنى أن قومه يعلمون ما لقيه من الله، وما غفر الله له، والإكرام الذي وجده عند ربه، إنه الحرص في قلب هذا الرجل على هداية قومه.

النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته لقريش والعالم أجمع

النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته لقريش والعالم أجمع عباد الله: لقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم المثل في حرصه على هداية قريش والعرب؛ بل والناس أجمعين، وكان يدعو فوق الجبل، وفي المسجد والطريق وأسواق العرب، ومنازل الناس، وفي مواسم الحج، يقوم بالدعوة إلى الله في الحضر والسفر، وفي الأمن والقتال، والصحة والمرض، وعندما يزور أو يزار، وكان يوجه دعوته إلى من أحبوه وإلى من أبغضوه، ولذلك كان يذهب إلى منازل الناس للدعوة في منى، إذا نزلت القبائل فيها في موسم الحج، ولذلك يقول ربيعة بن عباد الدؤلي: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في منى في منازلهم قبل أن يهاجر إلى المدينة يقول: يا أيها الناس! إن الله أمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، ووراءه رجل وضيء أحول يقول: يا أيها الناس! إن هذا يأمركم أن تتركوا دين آبائكم). النبي عليه الصلاة والسلام يدعو إلى الله ووراءه رجل من الكفار يثبطه ويثبط الناس عن قبوله، النبي عليه الصلاة والسلام يكلمهم وهذا الرجل يصدهم، فسألت عن هذا الرجل؟ فقيل لي: أبو لهب، عمه، يمشي وراءه يثبط الناس عن الدعوة، والنبي عليه الصلاة والسلام لا يفتر عنها، ويقول للناس في أسواق الموسم، في مجنة وعكاظ، من يؤويني ومن ينصرني حتى أبلغ رسالات ربي؟ حتى أكرمه الله بذلكم النفر الكرام من الأنصار الذي بايعوه في العقبة وكان ذلك فتحاً وانطلاقةً عظيمة في الدعوة إلى الله عز وجل. كان النبي صلى الله عليه وسلم يذهب ليدعو حتى عبد الله بن أبي المنافق الكافر الذي صد عن الدين، ويركب حماراً وينطلق المسلمون يمشون معه في أرض سبخة مالحة، لا تنبت الأرض من ملحها، فلما أتاه النبي صلى الله عليه وسلم قال المنافق: إليك عني! والله لقد آذني نتن حمارك، ومع ذلك يقوم النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة، ولما سمع أن رجلاً من اليهود -شاباً- مرض، حرص على زيارته والاهتمام بدعوته، وكان قد دعاه إلى الإسلام فعاده، كما روى البخاري في صحيحه عن أنس قال: (كان غلاماً يهودياً فمرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، فقعد عند رأسه فقال له: أسلم، فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال له: أطع أبا القاسم -صلى الله عليه وسلم- فأنقذه الله به من النار). وحضر أبا طالب حين نزل به الموت يدعوه إلى الله يقول: (يا عمِ! قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله) ولكن غلبت على أبي طالب الشقوة وأطاع أصحاب السوء ورفقاء السوء الذين قالوا له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزالوا به حتى مات على الشرك، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول له إلى آخر لحظة: قل لا إله إلا الله، قل لا إله إلا الله، كان حريصاً على أن تختتم حياة أبي طالب بالتوحيد، الحرص هو الذي جعله يذهب هذا المذهب ويجهد هذا الجهد رضي الله تعالى عن أصحابه الذي حملوا لواء الدعوة من بعده. النبي صلى الله عليه وسلم دعا، ولقي الأذى. النبي صلى الله عليه وسلم يذهب إلى الطائف للدعوة، يذهب إلى جبالها وأهلها يدعوهم إلى الله، يرجع وقد أصابه من الغم ما أصابه؛ لأنهم صدوه ورفضوه، حتى بلغ به الهم أنه يمشي لا يدري أين مقصده، ولم يستفق صلى الله عليه وسلم إلا وهو بـ قرن الثعالب؛ وهو موضع قريب من مكة، وهو قرن المنازل ميقات أهل نجد، وقف عنده صلى الله عليه وسلم، وكان في غاية الغم، لا يدري إلى أين يمشي، فلماذا كان مغموماً؟ لأنهم صدوه ولم يقبلوا دعوته، ولذلك فإن من صدق الداعية أن يحزن إذا رفض الناس دعوته، لكنه لا يهلك نفسه عليهم: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:3] أي: لعلك مهلك نفسك من أجل أنهم لم يؤمنوا، ما دام أن الله كتب عليهم الشقوة فإنك لا تهدي من أضل الله، لكن بذل الأسباب والقيام بالأمر وإبلاغ الدين والذهاب إلى الناس في أماكنهم وبلدانهم يدعوهم إلى الله. ولما كانت هناك بلاد بعيدة يشق عليه صلى الله عليه وسلم أن يذهب إليها، ولا يمكنه ترك الناس لأجل ذلك أرسل الرسائل، لم يقل: بلاد بعيدة لا أستطيع الذهاب والسفر إليها وإنما أرسل الرسائل، لكسرى وقيصر، يرسل إلى النجاشي، يرسل إلى المقوقس ملك الإسكندرية، يرسل إليهم يدعوهم إلى الله: (من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بداعية الإسلام -أي: بدعوة الإسلام- أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين) إثم العمال والزراع والناس في بلدك؛ لأنك قد صددتهم: (وختم له بالآية: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64]). أرسل عليه الصلاة والسلام الرسائل مع أصحابه، عبد الله بن حذافة ينطلق إلى كسرى، وسليط بن عمرو ينطلق إلى هوذ بن علي في اليمامة، والعلاء بن الحضرمي ينطلق إلى المنذر بن ساوى بـ هجر، وعمرو بن العاص إلى جيح، وأبو عباد بن الجلندي بـ عمان، ودحية إلى قيصر، وشجاع بن وهب إلى شمر الغساني، وعمرو بن أمية إلى النجاشي، وهكذا يرسل صلى الله عليه وسلم الرسائل من أجل الدعوة إلى الله، والحرص على هداية الناس، والسعي في غرض الإسلام؛ علّ الله تعالى أن يخرج أولئك الناس من الظلمات إلى النور.

هدي السلف في الدعوة إلى الله

هدي السلف في الدعوة إلى الله أيها المسلمون: لقد كان أصحابه صلى الله عليه وسلم من بعده وفي حياته قائمين بأمر الدعوة إلى الله، حريصين على هداية الناس كل الحرص، ولذلك كانوا قبل القتال -حتى في المعارك- وهم يهاجمون فارس والروم وفي حروب المرتدين يعرضون عليهم الإسلام أولاً قبل القتال، لأنهم أصحاب رسالة رحمة، يريدون قبل أن تراق دماء القوم ويقتلوا ويرسلوا إلى جهنم وبئس المصير، يريدون المحاولة الأخيرة علَّ الله أن يهديهم، ولذلك كتب أبو بكر إلى جميع المرتدين، يأمرهم بالرجوع إلى الإسلام، يقول لهم: [إني بعثت إليكم فلاناً في جيش من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان، وأمرته أن لا يقاتل أحداً ولا يقتله حتى يدعوه إلى داعية الله، فمن استجاب له وأقر وكفّ وعمل صالحاً قبل منه وأعانه عليه، ومن أبى أمرت أن يقاتله على ذلك] الدعوة قبل القتال، ولذلك كتب إلى سعد بن أبي وقاص الخليفة الثاني من بعده، الفاروق رضي الله عنه يقول: [وقد كنت أمرتك أن تدعو من لقيت إلى الإسلام قبل القتال، فمن أجاب إلى ذلك قبل القتال فهو رجل من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم، وله سهم في الإسلام]. وكذلك فإن هذه الدعوة قد آتت بعض ثمارها، فقد عاد مع عدي بن حاتم الطائي الذي دعا قومه قبل القتال، رجع معه خمسمائة مقاتل إلى الإسلام، وكان خالد يهم بقتالهم ولكن وجه إليهم عدياً يدعوهم أولاً. وفي جبهة فارس دعا خالد بن الوليد رضي الله عنه أشراف الحيرة قبل القتال؛ فأسلم بعضهم. وكتب خالد إلى ملوك فارس يقول: [بسم الله الرحمن الرحيم من خالد بن الوليد إلى ملوك فارس، أما بعد: فالحمد لله الذي حل نظامكم إلى أن قال: فادخلوا في أمرنا ندعكم وأرضكم ونجوزكم إلى غيركم، وإلا كان ذلك نأخذها وأنتم كارهون على غلب، وبالإكراه والقوة على أيدي قوم يحبون الموت كما تحبون الحياة] ودعا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أهل القصر الأبيض إلى الإسلام بواسطة سلمان الفارسي الذي يعرف لغة القوم رضي الله عنه، يدعوهم إلى الإسلام والتوحيد. وكذلك قام المسلمون في الجبهات الأخرى، فهذا عمرو بن العاص في الجبهة المصرية، لما تصافّ المسلمون وأهل مصر للقتال قال عمرو بن العاص رضي الله عنه: [لا تعجلوا حتى نعذر، ليبرز إليّ أبو مريم وأبو مريام راهبا هذه البلاد، فبرزا إليه، فقال لهما عمرو بن العاص: أنتما راهبا هذه البلاد فاسمعا. إن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق، وأمره به وأمرنا به محمد صلى الله عليه وسلم، وأدى إلينا كل الذي أمر به ثم مضى وتركنا على الواضحة، وكان مما أمرنا به الإعذار إلى الناس، فنحن ندعوكم إلى الإسلام فمن أجابنا إليه فمثلنا، ومن لم يجبنا عرضنا عليه الجزية وبذلنا له المنعة] أي: الحماية في مقابل دفع الجزية. وكان الرجل عندما يسلم يفرح به المسلمون فرحاً شديداً، ولذلك دعا أبو عبيدة رضي الله عنه رسول الروم، السفراء كانوا يدخلون في نطاق الدعوة، فلما أسلم فرح المسلمون بإسلامه وصافحوه ودعو له بخير، وقالوا له: [ما أعزك علينا وأرغبنا فيك، وأكرمك علينا، وما أنت عند كل امرئ منا إلا بمنزلة أخيه لأمه وأبيه] احتفاء بالمسلم الجديد، حتى قال الرومي: فإنكم نِعْمَ ما رأيت. هذا هو الانطباع الذي يكون عند المسلمين بفرحهم بدخول شخص جديد في الإسلام. وعندما دعا خالد رضي الله عنه بعض الكفرة إلى الإسلام أو الجزية أو القتال، فاختاروا أداء الجزية لم يفرح خالد رضي الله عنه بذلك، رغم أن مبلغ الجزية كان كبيراً باعتبار أن عددهم كان مائة وتسعين ألفاً، بل ضاق صدره وتأسف على إعراضهم عن الإسلام وقال: [تباً لكم، ويحكم إن الكفر فلاة مضلة، فأحمق العرب من سلكه] لم يفرح بالعوائد المالية؛ لأنه كان يريد فرحة أكبر بإسلام أولئك القوم، كان الحرص من الداخل على الهداية لدرجة أن الرجل الكافر إذا أسلم تحصل فرحة عظيمة، وإذا رفض الإسلام يحصل اهتمام واغتمام، ولذلك روى زياد بن جزء الزبيدي الذي كان في جند عمرو بن العاص لما ألقوا القبض على أسرى الروم، يقول: جعلنا نأتي بالرجل ممن في أيدينا، ثم نخيره بين الإسلام والنصرانية، فإذا اختار الإسلام كبرنا تكبيرة هي أشد من تكبيرنا حين تفتح القرية، ثم نحوزه إلينا، وإذا اختار النصرانية نخرت النصارى ثم حازوه إليهم، ووضعنا عليه الجزية، وجزعنا من ذلك جزعاً شديداً، حتى كأنه رجل خرج منا إليهم، مع أنه كافر أصلي، لكنه الحرص على الدعوة والفرح للإسلام، والحزن على إصراره على الكفر ولو كان يدفع الجزية؛ لأن الله بعثهم دعاة ولم يبعثهم جباة. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم ممن يقوم بأمره، اللهم اجعلنا ممن يقومون بالحق وبه يعدلون، يا رب العالمين. اللهم ارزقنا السداد في القول والعمل، واهد قلوبنا، وطهر أنفسنا، وحصن فروجنا إنك سميع الدعاء. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

طرق انتشار الإسلام في المناطق النائية

طرق انتشار الإسلام في المناطق النائية الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي أنزل علينا الكتاب والحكمة وأرسل إلينا رسولاً منا، الحمد لله الذي شرع الشرائع، الحمد لله على كل حال، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً رسول الله، إمام الدعاة إلى الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، صلى الله وسلم عليه بما علمنا وهدانا، وصلى الله على أصحابه الغر الميامين الذين قاموا بأمر الدعوة إلى الله وكانوا حريصين على هداية الخلق أجمعين. أيها المسلمون: قولوا لنا كيف انتشر الإسلام في تلك الجزر النائية؟ في الصين وأندونيسيا؟ كيف انتشر الإسلام في عدد من أقطار الأرض؟ إنما انتشر بالدعوة إلى الله تعالى، وكانت المدن الهندية الواقعة على ساحل بحر العرب مما استهدفه التجار المسلمون بالدعوة إلى الله، ولذلك لا زالت آثارهم موجودة في بونبي وغيرها من هذه البلدان الساحلية التي قصدها المسلمون بالتجارة، وشهد بجهدهم في الدعوة أعداء الله، فهذا آرلند يقول في كتابه: ولكن الكثير من أعمال الدعوة في الأسواق إنما يقوم بها أشخاص يشتغلون في مهنة أو عمل في أثناء ساعات النهار، ويخصصون أوقات فراغهم في المساء لهذا العمل الديني، فكان الواحد منهم إذا انتهى من عمله لا يذهب إلى الفرجة والفسحة، لا يذهب إلى مجالس ضياع الأوقات والألعاب وإنما كان يذهب بعد انتهاء العمل والدوام، يطوف للدعوة إلى الله عز وجل. وقال في موضع آخر: وأغلب الظن أن الإسلام قد عبر من مليبار إلى جزر لكديك وملديك في خليج البنغال، التي كافة أهلها مسلمون، ويدين سكان هذه الجزر بدخولهم في الإسلام إلى تجار العرب الذين استوطنوا هذه البلاد، وتصاهروا إلى الأهالي ومهدوا ذلك بذلك السبيل؛ لنشر تعاليم الدعوة في نشاط وقوة، وقالوا أيضاً: إن أولئك الدعاة إلى الله دخلوا فاتحين أجزاء الصين وأفريقيا الوسطى وروسيا، وتم اعتناق هذه الملايين للإسلام طوعاً لا كرهاً، ولم يسمع أن الضرورة قضت بإرسال جيوش مع هؤلاء المبشرين لمساعدتهم. وهكذا قام المسلمون بالدعوة إلى الله، إلا رجلاً ممن سرق حُراً فبيع عبداً في بلد من بلاد المسلمين واسمه دارثي يقول: لما سئل وقد سرق في طفولته فبيع رقيقاً قيل له: ألا تزال تضمر السخط نحو هؤلاء الذين سرقوك وأسلموا حياتك للعبودية في أقاصي الأرض؟ فأجاب: إن شيئاً واحداً قد عوضني وهو أني لم أعد غارقاً في الجهل بين عباد الأوثان. إذاً الذي عوضه عما حصل له من الجريمة في حقه من هؤلاء المعتدين الذين اعتدوا عليه أنه صار موحداً ولو كان عبدا، ً يختار ذلك على أن يكون حراً في بلاد عبدة الأوثان. وكان المسلمون إذا جاءوا بلاداً بنوا المساجد فيها، وكانت صروح العبادة دعوة إلى الله بحد ذاتها، حتى قال بعض الكفرة: ما دخلت مسجداً قط دون أن تهزني عاطفة حادة، ودون أن يصيبني أسف محقق على أنني لم أكن مسلماً، وهذا مما يراه ويشاهده في مكان العبادة هذه. وقال بعض الكفار: كلما جاء ستة أو نحو ذلك من الرجال المسلمين إلى بلد سارعوا إلى بناء مسجد، لأجل أن يكون منارة للدعوة إلى الله عز وجل، كانت الحماسة والإخلاص في الدماء تسري، حتى إن رجلاً من الذين كانوا يشتغلون في دعوة النصارى إلى الإسلام، لما حضرته الوفاة في آخر لحظة من حياته وهو يحتضر سمعه بعض الناس يقول وهو على فراش الموت: اترك دينك وصر مسلماً، اترك دينك وصر مسلماً، فلما سئل من حوله عن ذلك قالوا: إنه يتحدث إلى النصراني، هذا الذي كان يشغل قلبه في حياته برز على لسانه حين وفاته. الدعوة إلى الله، الهم الذي في قلبه الدعوة إلى الله، الحرص على هداية الناس. أيها المسلمون كم قصرنا؟ كم يوجد عندنا من العمالة الأجنبية من الكفار؟ كم عدد الموظفين والسائقين والخدم وأصحاب المهن والحرف والفنيين وغيرهم وماذا فعلنا لهم؟

الحث على الدعوة إلى الله

الحث على الدعوة إلى الله نحن نصادفهم ونواجههم ونحتك بهم يومياً فماذا قلنا لهم؟ وهل تظنون أن الله سيتركنا يوم القيامة، أو أنه سيغفلنا عز وجل، أو أنه لن يسائلنا عما قدمنا وفعلنا؟ وقد حلوا بينكم فماذا أنتم فاعلون؟ وماذا ستجيبون الله تعالى يوم الدين؟ العتب العتب على من كان عنده كافر لماذا جلبه؟ ثم العتب العتب العتب لما صار معه فلم يكلمه عن الإسلام ولا مرة، وما هي الجهود التي بذلناها؟! أين الحرص على هداية الخلق؟ أين السعي إلى الدعوة إلى الله؟ إذا كنا مسلمين حقاً أفلا ينبغي أن تتحرق نفوسنا لنشر هذا الدين وتقديمه للناس؟! وهؤلاء الذين يذهبون ليصطافوا في بلدان متفرقة ماذا فعلوا للدعوة إلى الله؟ العتب العتب على السياحة في أرض الكفار، والعتب العتب أنهم لا يكلفون أنفسهم بدعوة، بكلمة، بعبارة يحاولون بها إدخال الناس في دين الله.

نشاط الكفار في العمل لدينهم

نشاط الكفار في العمل لدينهم إن الكفار يعملون الأعمال المختلفة، ويجمعون الأموال الطائلة، ويجهزون البرامج المتنوعة لأجل التنصير في ديار المسلمين، فماذا فعلنا نحن لإنقاذ إخواننا أيضاً؟! ماذا فعلنا من أجل المحافظة على رأس المال؟! وماذا فعلنا من أجل جلب الأرباح لا لجيوبنا ولكن للإسلام؟! بوضعه في خزائن تفتح يوم الدين، فيجازى من أخلص لله وقام بالواجب في ذلك اليوم. إن مذابح المسلمين التي تحصل الآن ينبغي أن تكون دافعاً لنا في الدعوة إلى الله، إن الدماء التي تقطر ينبغي أن يعتصر منها قلب المسلم أسى على ما يحصل. ليست البوسنة إلا مذبحة مما أعدت وسيأتي بعده في ذبحنا ما لا يعد وسيأتي الدور على المتقاعسين، ولا زال أولئك يفعلون في المسلمين الجرائم، يتركون القافلة تمضي في الطريق ثم يفتحون النار على الأطفال والنساء والعجائز الحفاة العراة فيتساقطون في الصراخ والنحيب، ثم يتوجهون لإكمال القتل والجرم في النصف الآخر، ويخرج الصرب من أماكن السجن التي سجنوا فيها المسلمين وهذا يحمل رأس امرأة، وهذا يحمل أعضاءً وهذا يحمل أشلاء مقطعة من أجساد المسلمين، ونحن لا زلنا في أكل وشرب ولهو ولعب وسياحة وإضاعة أوقات، وصفق في الأسواق في الحرام وفي غيرها وكأن القضية لا تعنينا، كيف يكون للمسلم شهوة إلى هذه الأشياء وإخوانه يفعل بهم ما يفعل؟!! ثم لا هو يقوم بدعوة، ولا بتعلم دين، ولا حتى يحرك شفتيه بدعوة إلى الله لإنقاذ أولئك المساكين، أين الصدق في الانتماء للدين؟ أين الصدق في الانتساب إلى الإسلام؟ نسأل الله أن يغفر لنا ما فرطنا وأن يتجاوز عنا إسرافنا في أمرنا. اللهم اغفر لنا ذنوبنا يا غفور رحيم، وكفر عنا سيئاتنا يا أكرم الأكرمين. اللهم إن نسألك الغوث العاجل لإخواننا المستضعفين، اللهم أغثهم يا أرحم الراحمين، عجل فرجهم وأنزل نصرك عليهم، وأغثهم ببركات من عندك، اللهم اشف جرحاهم، اللهم ارحم موتاهم، وأطعم جائعهم، واكس عاريهم، واحمل حافيهم، آمنهم في أوطانهم وفي دورهم، وادفع عنهم كيد عدوهم. اللهم شتت شمل الصرب واليهود وسائر النصارى ومن مالأ على ذبح المسلمين يا رب العالمين. اللهم اجعل بأسهم بينهم واجعل تدبيرهم تدميراً عليهم. اللهم أحصهم عدداً واقتلهم بدداً ولا تغادر منهم أحداً، اللهم دمرهم تدميراً، وزلزل الأرض من تحت أقدامهم، وأنزل عليهم عذاباً من فوقهم، أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اجعلها عليهم سنين كسنين يوسف، اللهم خذهم أخذ عزيز مقتدر، اللهم إنا نسألك في هذا اليوم العظيم في هذه الساعة المباركة أن تعجل بنصر إخواننا وأن تعجل بتدمير أعدائهم، إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير. اللهم آمنا في الأوطان والدور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور، اللهم اجعلنا في بلدنا هذا آمنين مطمئنين. اللهم اجعلنا سلماً لأوليائك حرباً على أعدائك، اللهم أصلحنا وأصلح أهلينا وذرياتنا، وأصلح بيوتنا ومجتمعاتنا ومجتمعات المسلمين. عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

نيران الدنيا [الزنا]

نيران الدنيا [الزنا] إن الله سبحانه وتعالى حرَّم المحرمات وجعلها على مراتب، فجعل منها الصغائر والكبائر الموبقات، وهذه المادة بصدد الحديث عن إحدى هذه الموبقات ألا وهي فاحشة الزنا الذي ذمها الله سبحانه وتعالى في جميع الأديان والشرائع، وسد جميع الأبواب الموصلة إليها ورتب على ارتكابها العقوبات العديدة في الدنيا، والعذاب الأليم في الآخرة.

الزنا إحدى الموبقات

الزنا إحدى الموبقات إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار. الحمد لله الذي أحل لنا النكاح وحرم علينا السفاح، الحمد لله الذي أباح لنا كل ما يصلح حالنا وحرم علينا كل ما يشيننا ويفسد حالنا. أيها الناس: إن الله سبحانه وتعالى حرم المحرمات التي فيها ضرر على العباد سواء كان الضرر في أديانهم أو في أبدانهم أو في نفوسهم أو في أحوالهم عامة، وجعل الله الحرام مراتب، فجعل منه الكبائر التي لا بد لها من التوبة فلا تكفرها الأعمال الصالحة بخلاف الصغائر، فتحتاج هذه الكبائر إلى توبة مخصوصة، وجعل من الكبائر موبقات، فالكبائر كثيرة منها: ما توعد الله عليه بلعنة أو غضب، أو نار أو طرد وإبعاد عنه سبحانه وعن رحمته أو عدم تكليم صاحبه، ومن هذه الكبائر الموبقات التي توبق صاحبها في النار وتهلكه فيها؛ نظراً لكثرة شرها واتساعه، وعموم ضررها وشموله، ومن هذه الموبقات: الزنا الذي حرمه الله سبحانه وتعالى ومقته وأبغضه، وأمرنا بالابتعاد عنه وعن أسبابه، وقال الله عز وجل: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:32] وهو قبيح عقلاً وشرعا.

ذم الزنا في شريعتنا وشرائع من قبلنا

ذم الزنا في شريعتنا وشرائع من قبلنا قال عثمان رضي الله عنه: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: رجل زنا وهو محصن فرجم، أو رجل قتل نفساً بغير نفس، أو رجل ارتد بعد إسلامه) قال عثمان: [فوالله ما زنيت في جاهلية ولا في إسلام، ولا قتلت نفساً مسلمة، ولا ارتددت منذ أسلمت] قال ذلك لما حاصره الفجرة الذين أراقوا دمه على المصحف. أيها المسلمون: نفس عثمان وفطرته السليمة تأبى الزنا حتى لما كان في الجاهلية، لما بايع النبي صلى الله عليه وسلم النساء في بيعة النساء المعروفة التي أمره الله بها بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرُجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ} [الممتحنة:12] قال: ولا يزنين، ثم قال: ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيدهن وأرجلهن، وفيه معنى الزنا أيضاً، فوضعت هند بنت عتبة يدها على رأسها، وجاء في رواية أن امرأة قالت: [أوتزني الحرة؟!] مستغربةً لهذا، فالفطرة السليمة تأباه، والنفوس الأبية ترفضه؛ لما انطوى عليه من الشناعة والقبح ومعاني الرذيلة التي اجتمعت فيه، وهو حرام في الأديان والشرائع من قبلنا، هو حرام عند بني إسرائيل، هو حرام في التوراة والإنجيل، وقد جاء في صحيح الإمام مسلم رحمه الله عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (مر على النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي محمماً مجلوداً -يعني: مسود الوجه مجلوداً- فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قالوا: نعم -كذبة- فدعا رجلاً من علمائهم، فقال: أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى -ولم يقل أنشدك بالله الذي أنزل القرآن- أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قال: لا. ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجده الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، فقلنا: تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلنا التحميم والجلد نسود وجه الزاني ونجلده فقط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم -لما قال اليهودي جعلنا التحميم والجلد مكان الرجم، حرفوا دين الله-: اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه فأمر به فرجم) فأنزل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ الآية} [المائدة:41] وفيها قول الله: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} [المائدة:41].

الزنا في الإسلام

الزنا في الإسلام وفي شريعتنا ذمه الله أشد الذم، وقال الله: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} [الفرقان:68] فجعله بعد الشرك والقتل، فليس بعد الكفر أعظم من قتل بغير حق ثم الزنا، وقال الإمام أحمد رحمه الله: ليس بعد قتل النفس أعظم من الزنا، بل قدمه في آية على القتل، فقال تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً * {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الإسراء:32 - 33] وذلك لأن الزنا يؤدي إلى القتل، ويتبع الزنا في الغالب الرغبة من التخلص من آثاره بقتل الجنين وإزهاق روح ولد الزنا في بطن الزانية أو بعد ولادته، أو إهماله ووضعه في المرحاض أو رميه في الزبالة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم مبيناً خطره: (تفتح أبواب السماء نصف الليل فينادي منادٍ: هل من داع فيستجاب له، هل من سائل فيعطى، هل من مكروب فيفرج عنه، فلا يبقى مسلم يدعو بدعوة إلا استجاب الله عز وجل له، إلا زانية تسعى بفرجها أو عشَّارا) امرأة جعلت فرجها مصدراً للكسب، زانية تسعى بفرجها، أو عشَّاراً يأخذ الضرائب ظلماً، وقال النبي صلى الله عليه وسلم مبيناً صورةً كريهةً من صور الزاني: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم: أشيمط زانٍ، وملك كذاب، وعائل مستكبر) فقير مع ذلك متكبر، والأشيمط الزاني الذي لم يردعه الشيب في شعره، لم يرتدع وقد اشتعل بالشيب رأسه أن يتعدى حدود الله، وأن يظلم نفسه وأن يقع في الفاحشة، مع أن الدواعي لديه أضعف من الشاب وكلهم ملعون، ولكن من كان هذا حاله فكيف يرجى له الخير ولم يفكر في اقتراب أجله ودنو موته، ولم يكن عنده رغبة في التوبة وقد وصل إلى ما وصل إليه في هذه المرحلة من العمر، وقد أعذر الله إلى امرئ بلغ الستين، ولما بلغ نبي الله أربعين: {قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} [الأحقاف:15] قال العلماء: تجديد التوبة بعد الأربعين، وعند الستين يتفرغ للعبادة، وهذا أشيمط زانٍ. وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا زنا العبد خرج منه الإيمان فكان على رأسه كالظلة فإذا أقلع رجع إليه) فهو ليس بمؤمن حين زنا، لا يخرج من الدين بالكلية ولا يكفر، فلا يزال إيمانه متعلق به، لكن يكون كالظلة على رأسه، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقي ماءه ولد غيره) وهذا الزاني الذي يطأ المتزوجة وفيها جنين غيره وربما تكون حاملاً من زوجها فلا يتورع أن يضع ماءه في هذا الرحم المحرم والفرج المحرم، فتختلط الأنساب وتتداخل المياه والعياذ بالله.

عقوبات الزنا

عقوبات الزنا

عقوبات جماعية

عقوبات جماعية أما عقوبة الزنا فهي جماعية وليست فردية فقط، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا ظهر الزنا والربا في قرية فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله) استحقوا العذاب فليرقبوه، فليرقبوا إتيانه فهو قريب منهم إلا أن يحجب عنهم برحمةٍ من الله، وقيام المصلحين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (خمس بخمس: ما نقض قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر) وبلدان العالم الإسلامي اليوم من أفقر البلدان؛ نظراً لأنها لا تحكم شرع الله سبحانه وتعالى، ولذلك نشأ فيهم الفقر، والفقر متوقع ازدياده فيهم: (ولا ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت) حديث حسن. سبحان الله! ما أصدق هذا الوحي! انظروا في الواقع، واعلموا أن من أعظم أسباب الموت هذه الأمراض الناشئة من الزنا ومن الفاحشة، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (يا معشر المهاجرين! خصال خمس إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن -ما هي؟ - لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا) حديث صحيح. فانظر الآن في الواقع، وقل بلسان الحال: صدق الله ورسوله، وبقلبك صدق ما أخبر الله ونبيه عنه في هذا الوحي وأنت ترى أخبار هذه الأوبئة والأمراض في نشرات الأخبار لعظمها وخطرها، ويقولون: دخلت فيروسات الإيدز في الطور الثالث ونحن لم نكتشف بعد علاجاً للطور الأول، والمرض يزداد تعقيداً ويكتشفون أن بعض الأدوية التي كانت تعطى لمرضى لا تنفع، وهكذا عقاب الله لهذه البشرية الضالة التي تاهت عن أمر الله ورسوله.

عقوبات فردية

عقوبات فردية وقد عاقب الله على الزنا الزاني والزانية بأشنع العقوبات، فجعل المحصن منهما عقوبته أشنع قتلة، رجماً بالحجارة حتى يموت، حتى يجد الألم في جميع الجسد الذي تلذذ بالحرام، يجعل أمام الناس يرجمونه بالحجارة حتى يموت، قال عليه الصلاة والسلام: (وللعاهر الحجر) وإذا كانا غير محصنين زجرهما بإيذاء البدن بأعلى أنواع الجلد، مائة جلدة ردعاً عن المعاودة إلى الاستمتاع المحرم: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور:2] لا تقل ضحية للمجتمع، ولا تقل مسكين غلبته نفسه وشهوته: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النور:2] وأضاف إلى ذلك عقوبة التشهير فقال: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2] فلا يجوز جلدهما سرا، وأضاف إلى ذلك عقوبة التغريب فأمر بتغريب الزاني سنة، نفيه إلى مكان نظيف آخر يذوق ألم الغربة عن بلده ولعله يبدأ حياة جديدة. وكذلك حرمت الشريعة مناكحة الزناة والزواني، فقال الله: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور:3] فلا تجوز مناكحة الزانية من قبل عفيف فهذا حرام، ولا يجوز للعفيفة أن تنكح زانياً فهو حرام، ومن فعل ذلك فإن كان يعلم بطلان العقد فهو زانٍ، وإن قال: لست مقتنعاً بحكم الله فهو مشرك، والغالب أن الزاني لا ينكح إلا زانية مثله، والزانية لا ينكحها إلا زانٍ مثلها، وهذا التحريم نوعٌ من عزل الزناة والزواني عن المجتمع، {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور:3]. ورد الله شهادة الزاني والزانية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تجوز شهادة خائنٍ ولا خائنة، ولا زانٍ ولا زانية، ولا ذي غمرٍ على أخيه في الإسلام) يعني: حقد على أخيه، لأنه إذا شهد عليه جار عليه، كان تهمة، فرد شهادة الزاني والزانية.

العقوبة في الآخرة

العقوبة في الآخرة وأما في الآخرة وبعد الموت، فقد ورد في صحيح الإمام البخاري رحمه الله عن سمرة بن جندب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتاني الليلة آتيان وإنهما ابتعثاني وإنهما قالا لي: انطلق، فانطلقت معهما فإذا بيت مبني على بناء التنور -الفرن العظيم- أعلاه ضيق وأسفله واسع يوقد تحته نارٌ فيه رجال ونساء عراة، فإذا أوقدت ارتفعوا حتى يكادوا أن يخرجوا -إذا أتاهم اللهب من أسفل ضوضوا وصاحوا وارتفعوا؛ رفعتهم ألسنة اللهب- فإذا خمدت رجعوا فيها) وهكذا في ارتفاع وانخفاض بألسنة اللهب، والذي يظهر من هذا الحديث أنه في البرزخ كما يتضح من سياقه لكن إذا قامت القيامة ودخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار في آخر يوم القيامة وختامه، فبعد ذلك لا تتصور ولا تستطيع أن تتخيل عقوبة الزناة والزواني، التنور في البرزخ وبعد ذلك يكون العذاب أشد والعقاب أكثر ألماً، ولا تسل عن عذابهم، وشراب أهل النار عصارة فروج الزناة والزواني. أيها المسلمون: إن الله عاقب هذه البشرية في هذا القرن وفي هذا الزمان على مرأى ومسمع منا ونحن نقرأ أخبار هؤلاء السفلة -ومجتمعات المسلمين تمشي على آثارهم وتقفوا نهجهم في الانحطاط والسفالة- وهم يخرجون الإحصائيات، يموت في فرنسا أكثر من ثلاثين ألف نسمة بالأمراض الجنسية، وفي أمريكا أكثر من ستمائة وخمسين مستشفى خاص لعلاج الأمراض الجنسية، وفي السويد ولد زنا من كل أربعة مواليد، هذه إحصائية عام 1977م والآن نحن بعدها بهذه السنوات الطويلة ستة عشر عاماً كيف حالهم؟ والإحصائيات عندهم موجودة، وبالرغم من تحسن الخدمات الطبية واكتشاف العقاقير والأدوية الأمراض آخذة في الانتشار والازدياد والتعقد إنها عقوبة الله، وقد وجد بين المسلمين كثير من آثار هذه الجريمة. ليعلم الزاني خطر الجريمة وهو يساهم بنشر الأمراض، وبعضها تنتشر إلى الأبرياء، وفي تقارير بعض الأطباء: ليس هناك شك في إمكانية وجود مرض الزهري في ثلاثة أجيال متعاقبة لعائلة واحدة، هذه اللعنة تسري في الأجيال، وكيف لا يأثم وهو ينقله إلى بريء أو بريئة؟ ومشكلة أولاد الحرام وما يظهر من الانحراف؛ لأنهم ينشئون في الغالب دون رعاية، اختلاط الأنساب، إدخال الوبال والعار على العوائل والأسر المحترمة، قتل الأجنة، ومن أكثر الأدوية تصنيعاً في العالم أدوية منع الحمل، ومن أكثر العمليات إجراء في العالم الإجهاض وإسقاط الأجنة، وهذه أحوال دور الرعاية شاهدة على آثار جرائم الزناة والزواني في المجتمع. اللهم سلم سلم، اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، اللهم إنا نسألك العفو والعافية في ديننا ودنيانا وأهلنا وأموالنا، اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا، واحفظنا من كل شر ومكروه، وباعد بيننا وبين الحرام، اللهم طهر قلوبنا وحصن فروجنا وسدد ألسنتنا يا رب العالمين.

تحريم الوسائل المفضية إلى الزنا

تحريم الوسائل المفضية إلى الزنا أيها المؤمنون: إن الشريعة لما حرمت الزنا حرمت الوسائل المفضية إليه وسدت الذرائع المؤدية إلى طريقه، ولما قال الله: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:32] ما قال: ولا تقعوا في الزنا، أو قال لا تزنوا، وإنما قال: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:32] أيضاً نهى عنه وعن قربه، فالقبلة للأجنبية والغمزة والنظرة حرام، النهي عن قربان الزنا وعن قرب الزنا أبلغ من النهي عن مجرد فعله، وإن هذه الشريعة جعلت من الأسباب ما يكفل الحياة النظيفة لمتبعيها، لقد شجعت على الزواج وأمرت به وأخبرت بأنه من سنن المرسلين، وأمرت بالتبكير إليه وأعانت على من سعى فيه، وأجازت دفع الزكاة لمن خشي على نفسه العنت وأراد أن يتزوج، وحرمت على الولي أن يتكسب من مال المهر؛ لأنه حق للمرأة الزوجة، وحاربت الشريعة الإسراف في الولائم والمغالاة في المهور، واشترطت الولي سداً لذريعة الزنا ولولا ذلك لقالت أي امرأة لرجل هات اثنين من أصحابك وقل تزوجتك وأقول قبلت، وأمر بإعلان النكاح كي يكون فرقاً بينه وبين السفاح، ولا تكره الفتاة على من لا تريده، لأنها قد تقع في الفاحشة بعد ذلك في جو رجلٍ لا ترضى به، ودعت الشريعة إلى رؤية المخطوبة كي لا يتورط أي من الطرفين في رجل لا يريده، وحرمت نكاح المتعة لأنه مما يشبه الزنا، وحرمت نكاح التحليل كذلك، ومنعت الزواج من الزانية والزاني، ومنعت الزوج من الغياب عن زوجته فترة طويلة لأنه من طرق الزنا، وحدد العلماء فترة للمفقود إذا لم يظهر بعدها اعتدت المرأة أربعة أشهر وعشرا حكم المعتدة من الوفاة، ثم ولي المفقود يطلق وتذهب فتتزوج، وحددت مرات الطلاق بثلاث فلا يستطيع الزوج أن يطلق ويبقيها عنده ويطلق ويبقيها فربما أيضاً وقعت في الفاحشة، فإذا حصل عدم التوافق تفرقا ويغني الله كلاً من سعته، ونهت الشريعة عن التحدث بما يقع بين الرجل وأهله، ونهت عن وصف المرأة المرأة لزوجها فلا يبقى في ذهنه صورة لامرأة تهفو نفسه إليها، فربما يكون من وسائل الوقوع في الفاحشة، وأباحت تعدد الزوجات كذلك، وحرمت الخمر لأنها من مفاتيح الزنا، وحرمت الغناء والمعازف لأن الغناء والمعازف بريد الزنا، ودقق لكلمات الأغاني تجد الدعوة إلى الفاحشة إما علانية أو من وراء ستار خفي، ودعت إلى الصوم إذا لم يجد، وشددت في عقوبة القذف حماية للأعراض وحتى لا تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وأعلنت عقوبة السفاح، وأمرت المرأة بالقرار في البيت، وأمرت بالاستئذان عند الدخول، وحرمت الخلوة بالأجنبية، وحرمت سفر المرأة بغير محرم، وحرمت على المرأة إبداء الزينة للأجانب والتعطر عندهم، وحرمت كذلك عليها الخضوع بالقول حتى لا يطمع الذي في قلبه مرض، وأمرت بغض البصر وعدم جواز لمس المرأة الأجنبية، كل هذه الاحتياطات والإجراءات والتشريعات حماية للأعراض، لأن حماية العرض من مقاصد الشريعة، ومع ذلك هذه المجتمعات المنحرفة اليوم -ومجتمعات المسلمين أعني بالذات- تسير بخلاف ما أمرت به الشريعة، النهج الموجود خلاف ما أمرت به الشريعة، حياة الناس بخلاف ما أمرت به الشريعة، فنحن على العكس كثيرٌ من الناس يغلقون منافذ الخير ويفتحون منافذ الشر، وكل ما أمرت به الشريعة مما سبق يخالفونه، فيؤخرون الزواج ويغالون في المهور ويتهمون الإسلام بالرجعية في تعدد الزوجات، وتخرج نساؤنا إلى الأسواق متعطرات متبرجات، ويخلو السائق بالمرأة، وتسافر المرأة بغير محرم، ويحدث ما يحدث من جميع المنكرات. أغلقنا أبواب الخير المؤدية للطهر والعفاف وفتحنا أبواب الشر، فهذه أفلام ومسلسلات وبث مباشر تحوي الحب والغرام والعشق الموقع في الزنا، وهذه المكالمات الهاتفية كثيراً ما تنتهي بالزنا، وتعطي مفتاح بيتها لهذا الشاب ويأتي بالليل هذا الفاجر إلى بيت أهلها ربما ويحدث، وأخبار المجتمع كثيرة، ومجاورة الفسقة ويزني الجار بحليلة جاره، والنبي عليه الصلاة والسلام يصف هذه الخيانة بقوله: (لأن يزني الرجل بعشر نسوة خير له من أن يزني بامرأة جاره) فبعد الشرك بالله وقتل ولدك مخافة أن يطعم معك من الكبائر أن تزاني حليلة جارك، ويذهب هذا الرجل في نوبة ليلية في العسكرية أو في غيرها من الشركات ليخونه ذلك الآثم الفاجر مع هذه المرأة التي لم تتربّ على الإسلام ولم تعرف رائحة الطهر والعفاف فتقع المصائب، وعصابات الدعارة والفساد في بعض البلاد بطاقة البغاء رسمية، والقانون يقول: إذا زنيا برضاهما فلا شيء، وفي الأماكن الأخرى شقق الدعارة منتشرة وهؤلاء المطلقات والعوانس والتي هجرها زوجها وبعض الفجرة يفضل الزنا بالمتزوجات؛ لأنه لا يكتشف أمره وأبعد عن المشاكل، والفساد في مدارس البنات والذهاب إلى الأسواق والمستشفيات ثم تركب مع من واعدته والسفر إلى الخارج، ووضع العراقيل في طريق الزواج الشرعي، ثم تأخير الزواج بغير عذر للقادر عليه، وبعد ذلك من حصنه الله كثيرٌ منهم يقع في الفاحشة مع ذلك، قال أحد الفرنسيين وهو بول فيورو: إن عامة الشباب يريدون بعقد النكاح عندهم استخدام البغايا أيضاً وذلك أنهم يضلون مدة عشر سنين أو أكثر يهيمون في أودية الفجور أو أحراراً طلقاء في أودية الفجور، ثم يجيء عليهم حين من دهر يملون تلك الحياة الشريرة المقلقة فيتزوجون بامرأة بعينها حتى يجمعوا بين هدوء البيت وسكينته واللذات المحرمة خارج البيت، دقق الآن واسمع من أخبار المجتمع ما تسمع لترى أننا على الطريق سائرون ولنهجهم مقتفون ولا حول ولا قوة إلا بالله، نسأل الله السلامة. يا أيها الناس: هذه شريعتكم فما بال العدول عنها؟! أيها المسلمون: يوجد عافية في المجتمع والحمد لله، يوجد أطهار وشرفاء، يوجد أناس عندهم عفة، لكن السكوت عن الجريمة جريمة، والامتناع عن إنكار المنكر جريمة أيضاً، وماذا ننتظر والحرائق بين بيوتنا؟ ماذا ننتظر؟ كيف نتقاعس عن الدعوة إلى الله؟ وكيف نتقاعس عن إنكار المنكر؟ كيف نتقاعس عن نشر الفضيلة؟ كيف نتقاعس عن التوفيق بين النساء والرجال في الزواج والدلالة على الخير وتقليل المهور وتيسير الأمور؟ يا عباد الله! إنها مسئولية والله سائلنا عما حل بالمجتمع، فليقم الأطهار منا بالواجب، وليرجع أولئك الذين يقعون في الفجور عن فجورهم قبل أن يأتي يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون. وسيقف الزاني والزانية أمام الله بفجوره ونجاساته وأرجاسه وأنجاسه، فيحاسبهم الله على ما عملوا، ثم يكون القصاص العاجل عند رب العالمين، ويكون في البرزخ أفران من النار وفي جهنم نيران جنهم: {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} [فاطر:36] وهؤلاء يصطرخون فيها: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر:37] لكن قال الله: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْه} [الأنعام:28] فلا يخرجهم العليم الخبير من النار؛ لأنه لو أخرجهم لعادوا، وقال مصداقاً لهذا في كتابه: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْه} [الأنعام:28] فليرجع إلى الله من وقع في الفاحشة، وليتذكر من وقع ذنبه فيتوب قبل أن يأتي الموت، فالموت قريب والأجل عاجل والله يمهل ولا يهمل، وسيرى عقوبة فعله ربما في أهله وبناته، فليتق الله قبل الفضيحة في هذه الدار ويوم يقوم الأشهاد. اللهم إنا نسألك أن تغنينا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك.

وكونوا مع الصادقين

وكونوا مع الصادقين إن منزلة الصدق في الدين عظيمة، فهو أساس بناء الدين وعمود فسطاط اليقين، وهذه رسالة يتحدث فيها الشيخ عن هذا الخلق العظيم، فذكر تعريفه ومراتبه ومواقف السلف معه، ثم بين مجالاته وأماراته ودواعيه. ثم انتقل الشيخ إلى الحديث عن ضد هذا الخلق وهو الكذب، وبين أضراره وأخطاره وعواقبه ودواعيه وبعض مسائله.

الصدق من منازل إياك نعبد وإياك نستعين

الصدق من منازل إياك نعبد وإياك نستعين الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، إياك نعبد وإياك نستعين. أما بعد: أيها الإخوة: من منازل إياك نعبد وإياك نستعين: منزلة الصدق، وهو منزل القوم الأعظم الذي منه تنشأ المنازل كلها، والطريق الأقوم الذي من لم يسر عليه فهو من المنقطعين الهالكين، به تميز أهل النفاق من أهل الإيمان، وأهل الجنان من أهل النيران، وهو سيف الله في أرضه الذي ما وضع على شيء إلا قطعه، ولا واجه باطلاً إلا أرداه وصرعه، من صال به لم ترد صولته، ومن نطق به علت على الخصوم كلمته، هو روح الأعمال ومحك الأحوال، والحامل على اقتحام الأهوال، وهو الباب الذي يدخل منه الواصلون إلى حضرة ذي الجلال، وهو أساس بناء الدين وعمود فسطاط اليقين، ودرجته تالية على النبوة التي هي أرفع درجات العالمين، ومن مساكن النبيين تجري العيون والأنهار إلى مساكن الصديقين، كما كان من قلوبهم إلى قلوبهم في هذه الدار مدد متصل ومعين. وقد أمر الله سبحانه وتعالى أهل الإيمان أن يكونوا مع الصادقين، وخص الله المنعم عليهم بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119] وقال: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} [النساء:69]. وقد أخبر الله سبحانه وتعالى عن أهل البر وأثنى عليهم بأحسن أعمالهم من الإيمان والإسلام، والصدقة والصبر بأنهم أهل الصدق، فقال تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:177] وهذا صريح في أن الصدق في الأعمال الظاهرة والباطنة وأنه هو الإيمان والإسلام. وأخبر سبحانه وتعالى أنه في يوم القيامة لا ينفع العبد وينجيه من عذاب الله إلا صدقه، قال تعالى: {هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [المائدة:119]. وعقد البخاري رحمه الله تعالى في كتابه الجامع الصحيح باباً بعنوان: باب قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119] وما ينهى عن الكذب.

تعريف الصدق

تعريف الصدق وننطلق في هذا الدرس أيها الإخوة: مع الصدق وضده الكذب، أما الصدق فأصل الصدق والكذب في القول ماضياً كان أو مستقبلاً، فيمكن أن يصدق الإنسان في حديثه عما مضى ويمكن أن يصدق في وعده للمستقبل إذا وعد وكذلك يمكن أن يكذب، فأصل الصدق والكذب في القول ماضياً كان أو مستقبلاً وعداً كان أو غيره. والصدق هو: مطابقة القول الضمير والمخبر عنه، فإذا طابق قولك ما في ضميرك والشيء الذي تخبر عنه فأنت صادق، والعكس بالعكس، فإذا انخرم شرط لم يكن صدقاً، بل إما أن يكون كذباً أو متردداً بينهما -يعني بين الصدق والكذب- كقول المنافق: محمد رسول الله، فهو من جهة المطابقة للمخبر عنه وهو النبي عليه الصلاة والسلام كذلك فإنه رسول الله حقاً، لكن من جهة ما يعتقده المنافق في ضميره فهو كذاب، ويصح أن يقال كذب؛ لمخالفة قوله لضميره. وقد يستعمل الصدق والكذب في الاعتقاد وفي الفعل كما قال الصحابي للنبي صلى الله عليه وسلم: [إنا قوم صدق في القتال] في الحرب، ومنه قوله تعالى: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا} [الصافات:105] عملنا بمقتضاها إذاً: هو قول الحق المطابق للواقع والحقيقة.

مراتب الصدق

مراتب الصدق والصدق على مراتب، والصادقون على مراتب، فالصديق أبلغ من الصدوق، والصدوق أبلغ من الصادق، فأعلى مراتب الصدق هي مرتبة الصديقية التي أشار الله إليها بقوله: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ} [النساء:69] وسمي أبو بكر الصديق صديقاً لكثرة تصديقه للنبي صلى الله عليه وسلم.

من أقوال السلف في الصدق

من أقوال السلف في الصدق ومن عبارات السلف في الصدق، قال عبد الواحد بن زيد: [الصدق الوفاء لله بالعمل]. وقيل: هو موافقة السر النطق. وقيل: استواء السر والعلانية. وقيل: الصدق القول بالحق في مواطن الهلكة. وقيل كلمة حق عند من تخافه وترجوه وقال بعضهم: لا يشم رائحة الصدق من داهن نفسه أو غيره. وقال بعضهم: الصادق لا تراه إلا في فرض يؤديه أو فضل يعمل فيه. وقال الجنيد: حقيقته أن تصدق في موطن لا ينجيك منه إلا الكذب. والصدق هو من صميم دعوة النبي عليه الصلاة والسلام، فكان يدعو إلى الأسس ولم يكن في دعوته في مكة الفروع ولا التوسع في الأحكام من الحلال والحرام، فإذا عرفنا أن الصدق من أسس دعوته عليه الصلاة والسلام وهو في مكة؛ علمنا منزلة الصدق من الدين وأنه مما يبدأ به في الدعوة إلى أي شيء ندعو الناس إليه كالتوحيد وأشياء كثيرة، منها ما جاء في حديث هرقل مع أبي سفيان والحديث في البخاري قال له: سألتك ماذا يأمركم فزعمت أنه أمركم بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة، قال وهذه صفة نبي. فبعد الصلاة مباشرة أمرهم بالصدق.

حث الشريعة على التحلي بالصدق

حث الشريعة على التحلي بالصدق وقد حثت الشريعة على التحلي بهذا الخلق العظيم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم موضحاً ما أمر الله: {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119] قال النبي عليه الصلاة والسلام: (اضمنوا لي ستاً من أنفسكم أضمن لكم الجنة: اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدوا إذا ائتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم) يعني عن الحرام، وفي رواية: (اكفلوا لي ستاً أكفل لكم الجنة: إذا حدث أحدكم فلا يكذب، وإذا ائتمن فلا يخن، وإذا وعد فلا يخلف، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم، واحفظوا فروجكم) حديث صحيح. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: صدق الحديث، وحفظ الأمانة وحسن الخلق، وعفة مطعم) حديث صحيح. وقال النبي صلى الله عليه وسلم مجيباً على سؤال من هو خير الناس؟ قال: (خير الناس ذو القلب المخموم واللسان الصادق، قيل: ما القلب المخموم؟ قال: هو التقي النقي الذي لا إثم فيه ولا بغي ولا حسد) إذاً: صاحب اللسان الصادق والقلب المخموم، السليم من الإثم والبغي والحسد هو خير الناس. وقد كان أحب الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم أصدقه، وورد ذلك في صحيح البخاري: لما جاء وفد هوازن مسلمين فسألوا النبي عليه الصلاة والسلام أن يرد إليهم أموالهم وسبيهم؛ لأن أموالهم وسبيهم قد أخذت من قبل المسلمين في المعركة، لكن القوم الكفار أسلموا بعد ذلك، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (معي من ترون وأحب الحديث إليَّ أصدقه فاختاروا إحدى الطائفتين، إما السبي وإما المال) إلى آخر الحديث الذي فيه تنازل المسلمين عن السبي لصالح وفد هوازن الذين جاءوا مسلمين.

شرح آية: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين)

شرح آية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) وتعالوا لنشرح آية من كتاب الله وحديثاً من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بالصدق: قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119] الأمر بالكون مع أهل الصدق حسنٌ بعد قصة الثلاثة الذين خلفوا، هذه الآية قال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119] كانت بعد ذكر قصة الثلاثة الذي خلفت التوبة عليهم وأرجأ الله أمرهم امتحاناً لهم ولبقية المؤمنين، وجاء المنافقون من الأعراب يعتذرون ويكذبون، وهؤلاء الثلاثة صدقوا الله ورسوله فأرجأ الله التوبة عليهم وسموا بالمخلفين وكان مما أمر الله به في الآيات التي جاءت تعقيباً على تلك القصة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119]. قال القرطبي رحمه الله: الأمر بالكون مع أهل الصدق حسنٌ بعد قصة الثلاثة الذين خلفوا حين نفعهم صدقهم وذهب بهم عن منازل المنافقين. قال مطرف: سمعت مالك بن أنس يقول: [قل ما كان رجل صادقاً لا يكذب إلا متع بعقله ولم يصبه ما يصيب غيره من الهرم والخرف] هذا من فوائد الصدق. وقوله تعالى: {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119] اختلف فيهم: فقيل خطاب لمن آمن من أهل الكتاب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119] أي: المؤمنين والصادقين قيل: خطاب لمن آمن من أهل الكتاب، وقيل: هو خطاب لجميع المؤمنين أن اتقوا مخالفة الله وكونوا مع الصادقين الذي خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم لا مع المنافقين، وقيل: كونوا على مذهب الصادقين وسبيلهم، وقيل: هم الأنبياء، أي: كونوا معهم بالأعمال الصالحة فتدخلوا الجنة بسببها فتكونوا معهم أيضاً.

ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا

ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً والحديث العظيم المشهور في الصدق الذي يبين فيه النبي صلى الله عليه وسلم الصدق ويوصيهم به: (فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً). والكذب -أيضاً- (لا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور والفجور يهدي إلى النار). قال النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الآخر: (عليكم بالصدق فإنه مع البر وهما في الجنة، وإياكم والكذب فإنه مع الفجور وهما في النار، وسلوا الله اليقين والمعافاة). وهذا الحديث الذي فيه قوله: (عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنة) عليكم بالصدق أي: الزموه، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق -يعني- في قوله وعمله ويبالغ ويجتهد حتى يكتب عند الله صديقاً، فهذا يعني أن الصدق لا يصل إليه الإنسان إلا بالمجاهدة، ولا يزال يصدق ويتحرى الصدق، يتعمد ويتحرى ويقصد الصدق، ولا يزال ديدنه وعادته حتى يصل إلى المرحلة العظيمة وهي أنه عند الله صديقاً، يكتب أي: يثبت عند الله. قال الإمام النووي معلقاً على الحديث: فيه فضيلة الصدق وملازمته وإن كان فيه مشقة فإن عاقبته خير. (حتى يكتب عند الله صديقاً) فيه إشارة إلى حسن خاتمة هذا الرجل؛ لأنه قال: (ولا زال يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً) فإذا كتب عند الله صديقاً فهذه إشارة إلى حسن خاتمته، وإشارة إلى أن الصدق مأمول العواقب.

صور من حياة الأنبياء والصالحين مع الصدق

صور من حياة الأنبياء والصالحين مع الصدق والجولة الآن مع الأنبياء والصالحين في الصدق كما حكى الله تعالى عنهم. أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يسأله أن يجعل مدخله ومخرجه على الصدق: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً} [الإسراء:80]. وأخبر عن خليله إبراهيم أنه سأله أن يهب له لسان صدقٍ في الآخرين، فقال: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [الشعراء:84]. وبشر الله عباده بأن لهم قدم صدق عند ربهم، وأنه لهم مقعد صدق، فقال تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [يونس:2] وقال: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:54 - 55]. قال ابن القيم رحمه الله: وهذه خمسة أشياء: مدخل صدق، ومخرج صدق، ولسان صدق، وقدم صدق، ومقعد صدق، فأما مدخل الصدق ومخرج الصدق بأن يكون دخوله وخروجه حقاً شرعياً موافقاً للكتاب والسنة في أي أمر من الأمور، وهو ضد مخرج الكذب ومدخل الكذب الذي لا غاية له يوصل إليها، فمخرج النبي صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه في غزوة بدر هو مخرج صدق، ومخرج الأعداء من كفار قريش إلى غزوة بدر هو مخرج كذب، ومدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كان مدخل صدق في الله وابتغاء مرضاة الله، هاجر وترك الوطن والأهل ابتغاء مرضاة الله؛ فاتصل به التأييد والظفر والنصر، بخلاف مدخل الكذب الذي رام أعداؤه أن يدخلوا به المدينة يوم الأحزاب فإنه لم يكن لله ولا بالله، بل كان محاداً لله ورسوله فلم يتصل به إلا الخذلان والبوار. وفسر مدخل الصدق ومخرجه بخروجه صلى الله عليه وسلم من مكة ودخوله المدينة وهذا مثال على ذلك وليس هو كل مدخل الصدق ومخرج الصدق وإنما هو مثال عليه. والنبي عليه الصلاة والسلام مداخله ومخارجه كلها كانت مداخل صدق ومخارج صدق، لا يخرج من المدينة ويدخل بلداً، أو يدخل في أمرٍ أو يخرج من أمرٍ إلا لله وبالله، وما خرج أحدٌ من منزله ودخل سوقه أو مدخلاً آخر إلا بصدقٍ أو كذب، فمدخل كل واحد منا ومخرجه لا يعدو الصدق والكذب، كلنا الآن نغدو ونذهب، ندخل في أمر ونخرج من آخر، ندخل في مكان ونخرج من آخر، ولذلك الدعاء بأن يدخلنا الله مدخل صدق ويخرجنا مخرج صدق هو في الحقيقة دعاء لله أن يسددنا في جميع أقوالنا وأعمالنا، وأن يكون إقدامنا على الأمور وخروجنا من الأمور موافقاً للكتاب والسنة. أما لسان الصدق الذي جاء في دعاء الخليل إبراهيم فهو الثناء الحسن عليه من سائر الأمم صدقاً لا كذباً، وقد استجاب الله له فصار الناس يثنون على إبراهيم بعد موت إبراهيم بآلاف السنين، يثنون عليه ويذكرون سيرته ويتأسون به. وأما قدم الصدق الذي وعد الله به المؤمنين فقد فسر بالجنة، وحقيقة القدم ما قدموه في الدنيا من الأعمال والإيمان، وما يقدمون عليه في الآخرة وهي الجنة التي هي جزاؤهم وهو مقعد الصدق {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ} [القمر:54 - 55] أي: هي الجنة عند الرب تبارك وتعالى.

النبي صلى الله عليه وسلم من صفاته: الصادق الأمين

النبي صلى الله عليه وسلم من صفاته: الصادق الأمين النبي صلى الله عليه وسلم كان من صفاته الصادق الأمين وساعده ذلك في دعوته لما قام يدعو الكفار، كما جاء في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لما نزلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا فجعل ينادي يا بني فلان! يا بني عدي! ينادي بطون قريش حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر ما الأمر؟ فجاء أبو لهب وقريش، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً في الوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم ما جربنا عليك إلا صدقاً ما جربنا عليك كذباً أبداً). تاريخ الرجل يساعد في نشر دعوته قال: (فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تباً لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟ فنزلت: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} [المسد:1 - 5]). وكان من الأشياء التي استدلت بها خديجة على صدق النبي عليه الصلاة والسلام في بعثته وأن الله لم يتخل عنه أنه بعدما جاءه الملك في غار حراء وقال له: اقرأ فرجع خائفاً مضطرباً، فقالت له خديجة لما قال لها لقد خشيت على نفسي، قالت: [كلا فوالله لا يخزيك الله أبداً، والله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق]. إذاً: هذا الصدق منه صلى الله عليه وسلم كان معيناً له في دعوته، وكان من أدلة صدقه في بعثته وفيما أخبر به عن نبوته.

يوسف عليه السلام يوصف بالصدق

يوسف عليه السلام يوصف بالصدق ويوسف عليه السلام كان صادقاً؛ لذلك اعترف له الرجل الذي جاء يستفتيه فقال: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ} [يوسف:46] فأرسلوا أحد السجينين اللذين كانا مع يوسف إلى يوسف في السجن ليسأله لأنه قال لهم: أنا آتيكم بالجواب، ذهب إليه فقال: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ} [يوسف:46] وصفه بالمبالغة في الصدق حسبما علمه وجربه من أحواله في مدة إقامته في السجن، وفي هذا إشارة إلى أنه ينبغي للمستفتي أن يعظم المفتي: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ} [يوسف:46].

أبو بكر الصديق مع الصدق

أبو بكر الصديق مع الصدق وصاحب النبي صلى الله عليه وسلم الأول ورفيقه في الغار، أبو بكر الصديق سمي صديقاً لكثرة تصديقه للنبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت في أول الأمر، وقال أبو بكر صدقت، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟ فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟ فما أوذي بعدها) رواه البخاري.

أبو ذر مع الصدق

أبو ذر مع الصدق ومن الصحابة المشهورين بالصدق أيضاً أبو ذر رضي الله تعالى عنه، فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام فيه: (ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء -لا الأرض ولا السماء- من ذي لهجة أصدق من أبي ذر وهو شبيه عيسى بن مريم) أبو ذر شبيه بعيسى بن مريم.

كعب بن مالك وصدقه في حادثة تبوك

كعب بن مالك وصدقه في حادثة تبوك وكذلك من الصحابة المشهورين بالصدق كعب بن مالك رضي الله عنه، قال حين تخلف عن تبوك: (والله ما أنعم الله علي من نعمة بعد إذ هداني أعظم من صدقي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أكون كذبت فأهلك كما هلك الذين كذبوا حين أُنزل الوحي: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [التوبة:95]) الحديث في البخاري. وفي البخاري أيضاً عن عبد الله بن كعب بن مالك وكان قائد كعب بن مالك لما عمي قال: [سمعت كعب بن مالك يحدث فينا حين تخلف عن قصة تبوك فقال: والله ما أعلم أحداً أبلاه الله في صدق الحديث أحسن مما أبلاني، ما تعمدت منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا كذباً أبداً] سنوات طويلة، وأنزل الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:117 - 119].

مجالات الصدق

مجالات الصدق وللصدق مجالات عديدة منها:

أولا: الصدق في الأقوال

أولاً: الصدق في الأقوال الصدق يكون في الأقوال كما قلنا سابقاً، وهو: استواء اللسان على الأقوال كاستواء السنبلة على ساقها، فحق على كل عبد أن يحفظ ألفاظه ولا يتكلم إلا بالصدق. وصدق اللسان أشهر أنواع الصدق وأظهرها، وأن يتحرز من الكذب ومن المعاريض التي تجانس الكذب، وينبغي أن يراعي معنى الصدق في ألفاظه التي يناجي بها ربه كقوله: وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض، فإن كان قلب العبد منصرفاً عن الله منشغلاً عن الدنيا وهو يقول: وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض في الصلاة في الاستفتاح فهو كاذب. ومن الأقوال التي ينبغي الحرص على الصدق فيها: الحلف والقسم، فقد ورد عن ابن عمر رضي الله عنه قال: (سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يحلف بأبيه فقال: لا تحلفوا بآبائكم، من حلف بالله فليصدق ومن حلف له بالله فليرضَ ومن لم يرض بالله فليس من الله) حديث صحيح. ويمينك على ما صدقك به صاحبك لا يجوز لك أن توري فيه، ولا تجوز التورية في القسم عند القاضي أو عند الشخص الذي تريد أن تقسم له إذا كان صاحب حق، فلا تنفعك توريتك في اليمين، وهي حرام والواجب أن تكون يمينك على ما يصدقك به صاحبك ويفهم من كلامك، فلو حلف أنه -مثلاً- لم يأخذ منه مالاً ونوى في نفسه أنه لم يأخذ منه مالاً في هذا المجلس فلا ينفعه ذلك ولا يجعل المال حلالاً له، يمينك على ما صدقك به صاحبك، والحقوق لا يجوز لك أبداً التورية فيها.

ثانيا: الصدق في الأفعال

ثانياً: الصدق في الأفعال ومن مجالات الصدق: الصدق في الأفعال: وهو استواء الفعل على الأمر والمتابعة كما فعل النبي عليه الصلاة والسلام وكما أمر، كاستواء الرأس على الجسد، وهو أن تصدق السريرة العلانية حتى لا تدل أعمالهم الظاهرة من الخشوع ونحوه على أمر في باطنه، والباطن بخلافه، فالمراءون أعمالهم الظاهرة بخلاف بواطنهم، فلذلك ليسوا بصادقين في أعمالهم، بل هم من الكذابين وإذا استوت علانية العبد وسريرته قال الله: هذا عبدي حقاً. والأعمال منها ما يكون أعمال قلب ومنها ما يكون أعمال جوارح. والأمثلة في الصدق مع الله والإخلاص لله كثيرة ومنها: قصة الثلاثة الذين أطبق عليهم الغار فقال بعضهم لبعض: إنه والله لا ينجيكم إلا الصدق فليدع كل رجل منكم بما يعلم أنه قد صدق الله فيه، توسلوا إلى الله بصالح أعمالكم، فكان كل واحد يذكر أرجى ما عمل في حياته لله وأصدق ما حصل منه لله حتى كان السبب في انفراجها ذلك الرجل الذي وفر أجرة الأجير وحفظها كأمانة ونماها له -أيضاً- حتى صارت وادياً من المال وجاء الأجير فصدقه في هذا المال المحفوظ عنده وأعطاه إياه وسلمه كاملاً بعد تنميته. هل أخذ أجرة على التنمية؟ بل هل التنمية واجبة عليه؟ لا. لكنه نماه مجاناً ولم يأخذ أجرة على التنمية ولم يذكر في الحديث أنه قال له: جزاك الله خيراً أو أثنى عليه، فاستاقه فلم يبقِ منه شيئاً، حتى ما قال: خذ نصفه أو خذ أرباحه وأعطني أجرتي فقط، أخذه فلم يبقِ منه شيئاً فكان الفرج بسبب الدعوة الأخيرة مع الدعوات السابقة. وبعض الناس قد يصدقون في تعبيراتهم الفعلية وقد يكذبون، وقد يفعل الإنسان فعلاً يوهم به حدوث شيء لم يحدث أو يعبر به عن وجود شيء غير موجود وذلك على سبيل المخادعة، فالمخادعة مثلما تكون بالقول تكون بالفعل أيضاً، وربما يكون الكذب في الأفعال أشد خطراً وأقوى تأثيراً من الكذب في الأقوال. من أمثلة الكذب في الأفعال ما فعله إخوة يوسف: {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ} [يوسف:16] هذه بكاء كذب ليس ببكاء حقيقي ولا صحيح: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} [يوسف:18] جعلوا في القميص دماً، ذبحوا شاة فصبغوها فجعلوا الدم في هذا القميص، ليقولوا: إن الذئب قد أكله، ولكن نبي الله يعقوب بفطنته وفراسته عرف أن هذا القميص مصبوغ بدم كذب، فليس فيه تشقيق ولا آثار مخالب ولا أنياب، فاستغرب من كلامهم واستعجب وقال: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً} [يوسف:18] ما أعجب هذا الذئب الذي يخلع القميص عن الولد ثم يأكل الولد وليس في القميص آثار مخالب ذلك الأسد أو أنياب الذئب ولذلك جاءوا على قميصه بدم كذب، وجاءوا أباهم عشاءً يبكون بكاء كذب، إذاً: الكذب يكون في الأقوال ويكون في الأفعال وقالوا -كذباً-: {يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ} [يوسف:17] فجمعوا بين الكذب في القول والكذب في العمل. وكذلك فإن الأعمال التي يقوم بها المراءون ولو شيدوا مساجد وطبعوا كتباً وعملوا صدقات، إذا كانوا يقصدون الرياء فإنها أعمال كذب وليست بصدق. وقد يكون الكذب في الحركات التعبيرية، كإشارات اليد والعين، والحاجب والرأس، فإن كانت مطابقة للواقع فهي صدق وإن كانت مخالفة فهي كذب، فلو سئل إنسان مثلاً: هل أودع فلان عندك مالاً؟ فهز برأسه نافياً دون أن يتكلم وقد أودع صاحبه عنده المال فعلاً فإن هذه الحركة كذب.

ثالثا: الصدق في النية والإرادة

ثالثاً: الصدق في النية والإرادة ومن مجالات الصدق: الصدق في النية والإرادة كما ذكرنا المثال عليه سابقاً وهو الإخلاص في قصة أصحاب الغار الثلاثة. ولنعلم أن أول من تسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة: عالم وقارئ ومجاهد، لأنهم ما أرادوا وجه الله. أما الصادقون في النية والعمل، الذين يصدقون الله فإن الله يصدقهم ويصدقهم ويأتي لهم بالنتائج التي يحبها سبحانه وتعالى، ومن الأمثلة التي وردت في السنة ما جاء في حديث شداد بن الهاد: (أن رجلاً من الأعراب جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه، ثم قال: أهاجر معك، فأوصى الرسول صلى الله عليه وسلم به بعض أصحابه، فلما كانت غزوة خيبر غنم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها شيئاً، فقسم وقسم للأعرابي، فأعطى أصحابه ما قسم له لكي يوصلوه إلى الأعرابي، وكان يرعى ظهرهم -ذلك الأعرابي المسلم- فلما جاءوه دفعوا إليه نصيبه، فقال: ما هذا؟ قالوا: قسم لك النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذه فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذا؟ قال: قسمته لك، قال: ما على هذا تبعتك ولكن اتبعتك على أن أرمى إلى ها هنا -وأشار إلى حلقه- بسهم فأموت فأدخل الجنة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن تصدق الله يصدقك -إن كانت فعلاً هذه نيتك صدقت الله فالله يصدقك- فلبثوا قليلاً ثم نهضوا في قتال العدو فأتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم قد أصابه سهم حيث أشار -في نفس المكان الذي أشار إليه- فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أهو هو؟ قالوا: نعم، قال: صدق الله فصدقه، ثم كفنه النبي صلى الله عليه وسلم في جبته صلى الله عليه وسلم، ثم قدمه فصلى عليه فكان فيما ظهر من صلاته: اللهم هذا عبدك خرج مهاجراً في سبيلك فقتل شهيداً أنا شهيد على ذلك). وكذلك الصدق يكون فيما يريد العبد أن يعزم عليه في المستقبل كما هو حال هذا الصحابي، فبعض الناس يقول: إن آتاني الله مالاً لأتصدقن ولأفعلن، هذه عزيمة لشيء في المستقبل، وقد تكون حقاً: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:23] وقد تكون كذباً: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ} [التوبة:75 - 77]. وكذلك فإن الصدق يكون في الأحوال كلها وهذه رتبة الصديقين الذين يصدقون في الأقوال والأعمال والنيات والعزائم.

دواعي الصدق

دواعي الصدق والصدق له دواعٍ كثيرة منها: أولاً: العقل السليم، فإن العقل الصحيح يدفع إلى الصدق. ثانياً: الشرع المؤكد: الفطرة التي فطر الله الناس عليها والعقول السليمة تحب الصدق وتميل إليه وتنفر من الكذب، والدين يرد فيصدق العقل الصحيح، فالدين لا شك أنه ورد باتباع الصدق وحظر الكذب، لكن الدين يزيد أشياء على الفطرة، والفطرة السليمة لا تعطي التفصيلات لكن تميل إلى الحق، فالعقل قد يقول بجواز الكذب إذا كان فيه مصلحة أو لدفع مضرة؛ لكن يأتي الدين فيقول: إن الكذب كله حرام لا يجوز، إلا في حال الضرورة والقلب مطمئن بالإيمان. ثالثاً: المروءة: فهي خلق مانع من الأخلاق المشينة كالكذب. رابعاً: حب الاشتهار بالصدق عود لسانك قول الصدق تحظ به إن اللسان لما عودت معتاد موكل بتقاضي ما سلمت له في الخير والشر فانظر كيف ترتاد إذاً: الصدق عادة إذا كان الرجل لا زال يصدق ويتحرى الصدق يكون الصدق له في النهاية سجية وعادة ويكون سهلاً، أما في أول الأمر فيكون صعباً يحتاج إلى مجاهدة؛ لأن النفس أمارة بالسوء، تقول: اكذب فالكذب فيه منفعة، اكذب فالكذب يرفع عنك المضرة ونحو ذلك، ولكن إذا جاهد العبد نفسه فإنه يصل إلى مرتبة الصدق.

علامات الصدق

علامات الصدق وللصدق علامات، منها: أولاً: اطمئنان القلب له، يحدثك الشخص أحياناً بحديث فترتاح إليه نفسك وتطمئن، كما أن من علامات الكذب حصول الريبة والشك، يخالج نفسك الشعور بأن هذا ليس بصحيح وهذا المعنى موجود في حديث الترمذي الذي رواه الحسن بن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصدق طمأنينة والكذب ريبة). لو قال واحد: كيف نستدل على الصدق؟ نقول: من علامات الصدق: أن تطمئن نفسك للكلام، ومن علامات الكذب أن لا تطمئن نفسك للكلام، وهذه نفس المؤمن طبعاً، أما نفس الإنسان العاصي قد تطمئن للكذب وتشك في الصدق. ثانياً: كتمان المصائب والطاعات، وكراهة اطلاع الخلق على ذلك، فهو يصبر لله على الطاعة وعلى المكروه، ونحن -أيها الإخوة- في موضوع الصدق لنا الظاهر، قد يخبرك أشخاص بأشياء وأنت لا تدري عن حقيقتها فلك ظاهر حالهم، فإن كان الذي يظهر لك من حاله الصدق فاقبل كلامه، وإن كان الذي يظهر لك منه الكذب والفسق والفجور فاتهمه. وقد روى الإمام البخاري رحمه الله تعالى عن عمر بن الخطاب أنه قال: [إن أناساً كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم -كان الوحي يفضح الكذابين- وإن الوحي قد انقطع وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيراً أمنّاه وقربناه وليس إلينا من سريرته شيء، ومن أظهر لنا سوءاً لم نأمنه ولم نصدقه لم نأمنه ولم نصدقه وإن قال إن سريرته حسنه] وهذه مقولة عظيمة من عمر رضي الله عنه والحديث عن عمر رواه البخاري رحمه الله تعالى. انظر إلى حال الرجل من بني إسرائيل لما جاءه صديق له يستسلفه ألف دينار، قال صاحب المال: ائتني بالشهداء أشهدهم، قال: كفى بالله شهيداً، قال: فائتني بالكفيل لو هربت يكون بدلاً منك، ولو عجزت يسدد عنك، قال: كفى بالله كفيلاً، قال: صدقت، ظهر له من حال صاحبه الصدق، فدفعها إليه وحصلت القصة بعد ذلك، حيث ذهب الرجل وتاجر وعبر البحر وجاء الموعد المحدد ولم يجد سفينة ليرجع بها؛ ليعطي المال لصاحبه فما عنده حيلة، فأخذ خشبة ونقرها ووضع فيها الألف دينار، ودعا الله عز وجل فقال: هذه حيلتي فأوصل هذه الأمانة ورمى الخشبة في البحر، وخرج صاحبه في الشاطئ الآخر على الموعد يتلمس هذا الرجل على الموضع المضروب بينهما ليأتي، لكنه لم يجد سفينة ولم يأتِ أحد ووجد خشبة تتهادى على الماء فقال: آخذها حطباً لأهلي، فأخذها فنشرها فإذا فيها الألف دينار والرسالة من صاحبه، فأدى الله الأمانة عن ذلك الرجل.

أمور مهمة في الصدق وأهله

أمور مهمة في الصدق وأهله

الاستدلال على الصدق من مظانه

الاستدلال على الصدق من مظانه يستدل على الصدق من أهله ومظانه، كما حصل في قصة الإفك التي اتهمت فيها عائشة رضي الله عنها، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يبحث عن الحقيقة ويسأل ويتحرى يسأل من؟ (أشار علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال له: وسل الجارية تصدقك، - بريرة جارية عند عائشة معروفة بالصدق والأمانة، تاريخها صدق وأمانة وهي ملازمة لـ عائشة، وتعرف سرها وتطلع في بيتها على الأمور الكثيرة- فقال النبي عليه الصلاة والسلام لـ بريرة، ولم يسأل الناس الآخرين البعيدين، الإنسان عندما يريد الصدق يتحرى الصدق من مظانه، هل رأيتِ من شيء يريبك؟ قالت: ما رأيت أمراً أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن -يعني الشاة- فتأكله).

تصديق الحق

تصديق الحق ومن الأمور المهمة أن نصدق الحق، لذلك تجد كثيراً من الأحاديث فيها صدقت صدقت صدقت، صدق فلان صدق فلان، وأعلى أنواع التصديق ما يصدق الله به عبده ونبيه محمداً صلى الله عليه وسلم. فيخبر النبي صلى الله عليه وسلم بشيء فيأتي الوحي تصديقاً لكلام نبيه صلى الله عليه وسلم، كما حصل في خيبر، قال أبو هريرة والحديث في البخاري (شهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل ممن معه يدعي الإسلام: هذا من أهل النار، فلما حضر القتال قاتل الرجل من أشد القتال، وكثرت به الجراح فأثبتته وعجز عن الحركة، فجاء رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أرأيت الرجل الذي تحدثت أنه من أهل النار قد قاتل في سبيل الله من أشد القتال فكثرت به الجراح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما إنه من أهل النار، فكاد بعض المسلمين أن يرتاب، فبينما هو على ذلك إذ وجد الرجل ألم الجراح فأهوى بيده إلى كنانته فانتزع منها سهماً فانتحر به، فاشتد رجال من المسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! صدق الله حديثك قد انتحر فلان فقتل نفسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بلال قم فأذن، ألا يدخل الجنة إلا مؤمن، وإن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر). لو قال واحد: كيف يقاتل مع المسلمين؟ نقول: إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر، وهذا له أمثلة كثيرة في الواقع، فتجد الرجل ينشر العلم ويطبع الكتب ويبني المساجد، ويفعل أشياء ينتفع بها المسلمون وهو فاجر، نقول: هذا لا يجعل فجوره صلاحاً إذا كانت نيته ليست لله لكن هذا مصداق ما أخبر به عليه الصلاة والسلام: إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر. وقد صدق الله صحابة من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، فمن ضمن تلك الأمثلة ما روى البخاري رحمه الله عن زيد بن أرقم قال: (كنت مع عمي فسمعت عبد الله بن أبي بن سلول يقول: {لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا * لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون:7 - 8] فذكرت ذلك لعمي، فذكر عمي ذلك للنبي عليه الصلاة والسلام فدعاني، فحدثته بالذي سمعت فأرسل إلى عبد الله بن أبي وأصحابه فحلفوا ما قالوا، وكذبني النبي صلى الله عليه وسلم وصدقهم بما ظهر من حلفهم، فأصابني غمٌ لم يصبني مثله قط، فجلست في بيتي وقال عمي: ما أردت إلا أن كذبك النبي صلى الله عليه وسلم ومقتك فأنزل الله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون:1] الآيات وأرسل إلي النبي صلى الله عليه وسلم فقرأها، قال: قد صدقك الله يا زيد) نزلت الآية تصديقاً للصحابي. ونحن نأخذ الحق ونصدقه ولو كان مصدره رجلاً كافراً، ولو كان مصدره الشيطان، إذا كان حقاً نصدق به ولا يمنعنا جرم الكافر أن نصدق كلامه إذا كان حقاً، وبعض أهل الكتاب كانوا يخبرون بأشياء من الصدق والنبي صلى الله عليه وسلم يصدقهم، مثل المرأتان اليهوديتان اللتان جاءتا إلى عائشة يخبرانها عن عذاب القبر، فجاء النبي عليه الصلاة والسلام فصدق كلام اليهوديتين بعذاب القبر. من الأمثلة عن جابر رضي الله عنه قال: (لما رجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرة البحر الذين ذهبوا إلى الحبشة - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم لما رجعوا: ألا تحدثوني بأعاجيب ما رأيتم بأرض الحبشة، قالت فتية منهم: بلى يا رسول! بينا نحن جلوس مرت بنا عجوزٌ من عجائز رهبانهم تحمل على رأسها قُلَّةً من ماء فمرت بفتىً منهم فجعل إحدى يديه بين كتفيها، ثم دفعها فخرت على ركبتيها فانكسرت قلتها، فلما ارتفعت العجوز التفتت إليه فقالت: سوف تعلم يا غُدر -يعني يا غادر- إذا وضع الله الكرسي وجمع الأولين والآخرين، وتكلمت الأيدي والأرجل بما كانوا يكسبون كيف أمري وأمرك عنده غداً، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: صدقت صدقت، كيف يقدس الله أمة لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم؟) حديث حسن حسنه الألباني في مختصر العلو. وكذلك فإن النبي عليه الصلاة والسلام قد صدق كلاماً قاله الشيطان لما وكل أبا هريرة بحفظ بيت المال وجاء الشيطان بهيئة رجل يحثو منه، فألقى أبو هريرة القبض عليه في أول ليلة وثاني ليلة وثالث ليلة وفي النهاية قال له: إني أعلمك آية إذا قلتها قبل النوم حفظك الله لا يقربك شيطان، قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) [البقرة:255] وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح. أبو هريرة حريص على الخير، أطلق الرجل لأجل هذه الفائدة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أما إنه قد صدقك وهو كذوب! تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليالٍ يا أبا هريرة؟ قال: لا. قال: فذاك شيطان) إذاً: قد يصدق الكذوب، فإذا قال صدقاً فإننا نقبله ولا نقول: لا؛ لأنهم يكذبون أو فجرة لا نقبل منهم شيئاً ولا نصدقهم، بل نصدق ما قالوه إذا وافق الدين. والنبي عليه الصلاة والسلام صدق أحد أحبار اليهود، قال: (يا محمد! إنا نجد أن الله يجعل السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلائق على إصبع فيقول: أنا الملك، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر -صدقه بالضحك الذي هو كناية عن الرضا والإقرار بما قاله- ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67]).

الصدق المذموم

الصدق المذموم هل هناك صدق مذموم؟ A نعم، من الصدق المذموم: الغيبة والنميمة والسعاية، ولو ذكره بما ليس فيه، لكان هذا بهتاناً، لكن لو ذكرته بما فيه وقلت أنا صادق فربما عذر المغتاب نفسه بأنه يقول حقاً لكن هذا بعيد عن الصواب ومخالف للأدب؛ لأنه ولو كان في الغيبة صادقاً فقد هتك ستراً كان صونه أولى، وجاهر من أسر وأخفى، وربما دعا المغتاب وهذه نكتة لطيفة يشير إليها الماوردي رحمه الله في كتاب أدب الدنيا والدين، يقول: فلان فيه كذا وفعل وفعل فهذا الرجل إذا كان مصراً على فسفه وأنت تأتي وتعلن ما فعل الرجل، ربما دعا المغتاب ذلك إلى إظهار ما كان يستره والمجاهرة بما كان يخفيه، يقول: مادام أن الأمر يفتضح بين الناس، سأبهى بالفسق وأعلن به ما دمت قد افتضحت، فهل الذي ذكره وأفشى أمره ساعده على الخير؟ لا. لم يفده إلا فساد أخلاقه بدون صلاح.

صدق النمام

صدق النمام وكذلك النمام والقتات، النمام يمكن أن يكون في نقل الكلام في غاية الأمانة لا يزيد ولا ينقص من الكلام، يذهب للشخص الآخر يقول: فلان قال عنك في المجلس الفلاني كذا وكذا وكذا، عابك وقال عنك كذا وكذا وكذا، ونقل الكلام بأمانة وبصدق ما كذب ولا افترى، فما حكم هذه النميمة ما حكم هذا الصدق في النقل؟ حرام، نميمة، النمام الذي يكون مع القوم يتحدثون فينم حديثهم وينقله. ما هو الفرق بين النمام والقتات؟ النمام عرفناه فمن هو القتات؟ النمام الذي يكون مع القوم فيسمع الكلام وينقله للإفساد، والقتات الذي يسمع إليهم وهم لا يعلمون فينقل خبرهم، أي: يتجسس عليهم ويسمع كلامهم وينقله ولا يكذب، ولا يزيد ولا ينقص، ينقل بدقة لكن لأجل الفساد، فهذا من المتجسسين وكلاهما لا يدخلان الجنة لأن الحديث جاء: (لا يدخل الجنة قتات) وكذلك: (لا يدخل الجنة نمام).

صدق الوشاية

صدق الوشاية أما السعاية فهي الوشاية: أن يشي بإنسان عند صاحب سلطان أو منصب لكي يوقع به، وهذه السعاية والوشاية هي شر الثلاثة؛ لأنها تجمع إلى مذمة الغيبة، ولؤم النميمة، التغرير بالنفوس والأموال، ووردت أمثلة وقصص لهذا فمما ذكره ابن عبد البر في بهجة المجالس قال: استراح رجل إلى جليس له في السلطان، يعني: رجل تكلم مع رجل في المجلس فوقع في السلطان فاستراح ووثق بالذي أمامه فتكلم في السلطان -هذا الآخر كان غير ثقة ولا يحفظ الحديث- فذهب إلى السلطان وقال: فلان قال عنك كذا وكذا وكذا، فرفع ذلك عليه، فلما أوقف السلطان ذلك القائل فقال له: أنت الذي قلت عني كذا وكذا وكذا، فأنكر أن يكون أحد سمع ذلك منه، فقال السلطان: بل فلان سمع ذلك منك هل ترضى به؟ قال: نعم. على أساس أنه صديق وصاحب، فكشف الستر عن الرجل، وكان قد خبأه عنده فقال: بلى أنت قلت ذلك لي، فسكت المرفوع عليه ساعة ثم أنشأ يقول: أنت امرؤ إما ائتمنتك خالياً فخنت وإما قلت قولاً بلا علم فأنت من الأمر الذي قلت بيننا بمنزلة بين الخيانة والإثم إما أنك خائن أو آثم. وسعي بأحدهم إلى سلطان وكان السلطان عاقلاً فقال للساعي والواشي: أتحب أن نقبل منك ما تقول فيه على أن نقبل منه ما يقول فيك؟ قال: لا. قال: فكف عن الشر يكف عنك الشر.

تصديق العرافين والكهان

تصديق العرافين والكهان ومن التصديق المحرم تصديق العرافين والكهان وهذا أعظم الأشياء وأخطرها؛ لأنه يتعلق بالتوحيد، وهو يقدح فيه قدحاً بليغاً، بل إن الذي يصدق العرافين والكهان يكون مشركاً بالله العظيم؛ لأنه يعتقد أن هناك من الناس من دون الله من يعلم الغيب، والله يقول: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل:65] ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: (من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد) فلو ذهب رجل إلى الكاهن وقال انظر لي فلانة هذه التي أنا مقدم على زواجي منها، اكشف لي المستقبل، اقرأ الكف والفنجان، اضرب بالودع، انظر لي هل هي خير أو شر في المستقبل، إلى غير ذلك، وذهب الكاهن وادعى النظر ثم قال له: إنها خير لك في المستقبل فصدق السائل الكاهن فإذا صدقه فقد كفر ولا شك في ذلك. وكثير من الناس يأتون إلى الكهان لهذه الأسباب فيكفرون، وإن قال أنا أذهب وأجرب، آخذ كلامه وأجرب، فنقول: مجرد ذهابك إليه حرام وإن فعلت فإنك لا تكفر لكن لا تقبل لك صلاة الأربعين يوماً، هذه هي العقوبة. الكهان قد يصدقون ويأتيهم خبر موثوق، ثقة ثقة فكيف ذلك؟ روى البخاري رحمه الله تعالى عن عائشة: (سأل أناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكهان، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليسوا بشيء قالوا: يا رسول الله! فإنهم يحدثونا بالشيء أحياناً يكون حقاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقرها في أذن وليه قر الدجاجة فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة). ويوضح هذا حديث آخر في صحيح البخاري، يقول أبو هريرة: (إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا قضى الله الأمر في السماء) بأمر معين، بقبض روح فلان، بمرض فلان، بشفاء فلان، بولد فلان وولادة فلان ونحو ذلك: (إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله كأنه سلسلة على صفوان) مثل جر سلسلة على الصخر، فكذلك صوت أجنحة الملائكة الخاضعة لأوامر الله النازلة إليهم والتي لابد لهم من تنفيذها: (فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال: الحق وهو العلي الكبير، فيسمعها مسترق السمع) الجن يركب بعضهم فوق بعض إلى السماء يسترقون السمع، ومسترقو السمع هكذا بعضهم فوق بعض، ووصف سفيان بكفه فحرفها وبدد بين أصابعه بعضه فوق بعض: (فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها فأحرقه) فأحرقه وما معه من الخبر، وربما ألقاها قبل أن يدركه فيصل الخبر إلى الكاهن ويكون هذا فعلاً خبر ثقة صحيح مؤكد؛ لأنه مصدره من السماء عن طريق هؤلاء الجن المسترقين، لكن هذا الكاهن يعمل هذا الخبر الواحد الصحيح وسيلة لكي يدخل الناس في الشرك ويوقعهم في الكفر- فيكذب معها مائة كذبة، فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا كذا وكذا فيصدق بتلك الكلمة التي سمع من السماء. أي: الكاهن يقول: سوف يحدث كذا يوم كذا، ويحدث كذا يوم كذا، وواحد من هذه الكذبات الكثيرة صدق، ومشكلة الناس أنهم لا يتذكرون إلا الصدق، وأما كذبات الكاهن الأخرى فلا يتذكرونها، يقولون: فعلاً فلان قال لنا يوم كذا سيحدث كذا وحدث فعلاً، هذا رجل مجرب فعلاً يعلم ما في الغيب فاذهبوا إليه. والله عز وجل قادر على أن يحرق الجن مسترقي السمع قبل أن يصلوا إلى السماء أصلاً، لكن الله عز وجل شاء أن يجعل هذا الحدث فتنة ليرى من يثبت على الدين والتوحيد ومن لا يثبت.

تصديق أمراء السوء

تصديق أمراء السوء ومن التصديق المحرم: ما ورد في الحديث الصحيح الذي رواه ابن ماجة عن كعب بن عجرة قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعيذك بالله يا كعب بن عجرة من أمراء يكونون من بعدي، فمن غشي أبوابهم فصدقهم في كذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه ولا يرد عليّ الحوض -إذاً تصديقه هذا حرام- ومن لم يغش أبوابهم ولم يصدقهم في كذبهم، ولم يعنهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه وسيرد علي الحوض). والصدق -أيها الإخوة- نافع جداً في أشياء كثيرة: فهو ينفع الداعية إلى الله عز وجل؛ لأن الناس يتأثرون بالصادق ويرثر صدق الداعية في وجهه وصوته، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يتحدث إلى أناس لا يعرفونه فيقولون: والله ما هو بوجه كذاب ولا صوت كذاب، ولا شك أن ظهور أثر الصدق في وجه الداعية وصوته يؤثر على المخاطب ويحمله على قبول القول واحترام ما يصدر من الداعية، إلا إذا كان أعمى القلب، ومهما يكن من أمر فإن الصدق ضروري لكل مسلم.

الحث على الاهتمام بتربية الأولاد على الصدق

الحث على الاهتمام بتربية الأولاد على الصدق وكذلك من الأمور المهمة في التربية: تربية الأولاد على الصدق، لابد أن يتربى المسلمون جميعاً على الصدق، لكن من الأشياء المهمة تربية الأولاد على الصدق، فالإسلام يوصي أن تغرس فضيلة الصدق في نفوس الأطفال حتى يشبوا عليها وقد ألفوها في أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم، وقد ورد عن عبد الله بن عامر قال: (جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيتنا وأنا صبي صغير، فذهبت لألعب فقالت أمي: يا عبد الله تعال أعطيك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما أردت أن تعطيه؟ قالت: أردت أن أعطيه ثمراً، قال: أما إنك لو لم تفعلي كتبت عليك كذبة). فهذه الحركة التي تفعلها بعض الأمهات تقبض يدها وتقول للولد: تعال أعطيك، لو كانت يدها فارغة فهي كاذبة، وتكتب عليها كذبة، وقد صحح هذا الحديث الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة بشواهده، ومن الشواهد التي ذكرها: (من قال لصبي: تعال هاك، ثم لم يعطه فهي كذبة). فانظر كيف يعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم الآباء والأمهات أن ينشئوا أولادهم نشأة يقدسون فيها الصدق، ويتنزهون عن الكذب، ولو تجاوز الآباء والأمهات عن هذه الأمور وقالوا: هذه توافه وهينة؛ فإن الأطفال سيكبرون وهم يعتبرون الكذب هيناً وهو عند الله عظيم. أما الكذب فلا شك أنه جماع كل شر، وقبل أن ندخل في موضوع الكذب إذا كان الوقت سيسعفنا في ذلك، فإن هناك بعض الأمور السريعة عن الصدق وهي:

أمور عن الصدق

أمور عن الصدق أولاً: من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه. ثانياً: من الأمور التي يكون فيها التصديق له أجر عظيم، تصديق المؤذن، فإن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إن الله وملائكته يصلون على الصف المقدم، والمؤذن يغفر له مد صوته، ويصدقه من سمعه من رطب ويابس، وله مثل أجر من صلى معه). ثالثاً: وكذلك من الأمور المهمة: أن القاضي ينبغي أن يتحرى صدق أصحاب الأقوال، وأن المدعين لا يجوز لهم أن يكذبوا، وبعض المدعين قد يخدعون القاضي فيوهمونه بقول الصدق وهم يكذبون فلا يحسب هؤلاء أنهم قد نجوا أو غنموا شيئاً (فإن النبي صلى الله عليه وسلم سمع مرة خصومة بباب حجرته فخرج إليهم فقال: إنما أنا بشر، وإنه يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض -في الكلام بلاغة وفصاحة- فأحسب أنه صادق فأقضي له بذلك، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار، فليأخذها أو ليتركها) رواه البخاري رحمه الله تعالى. وكذلك الطيرة من الشرك؛ لكن أصدق الطيرة الفأل كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أصدق الطيرة الفأل) فالطيرة تشاؤم وهو حرام، أما التفاؤل فهو أصدقها وهو مباح وجائز، وقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم. وكذلك ينبغي أن يستعمل لمعرفة الصدق الأدلة وأقوال الثقات، فلو أخبر إنسان بشيء، فنأتي بالشهداء المعروفين بالصدق، فإن أقروا ما قاله قبل قوله، كما قال البخاري رحمه الله: باب إذا حاضت في شهر ثلاث حيض -أي: لو أن امرأة طلقها زوجها فعدتها ثلاث حيض، فلو حاضت في شهر ثلاث حيض تخرج من العدة، لكن ينبغي أن تثبت أنها حاضت في الشهر ثلاث حيض- ولذلك قال: ولا يصدق النساء في الحيض والحمل فيما يمكن من الحيض، لقوله تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة:228] ويذكر عن علي وشريح: أن امرأة جاءت ببينة من بطانة أهلها ممن يرضى دينه أنها حاضت ثلاثاً في شهر فصُدقت، وقال عطاء: [أقراؤها ما كان] وبه قال إبراهيم. إذاً: بعض أهل العلم يأخذون بذلك لكن بشرط أن تثبت هذا ممن يعرف حقيقة أمرها من الثقات. مسألة: لو أنها أخذت دواءً لإنزال الحيض، ثم أخذت دواءً لرفعه، ثم أخذت دواءً لإنزاله، ثم أخذت دواءً لرفعه، ثم أخذت دواءً لإنزاله، ثم أخذت دواءً لرفعه، هل تخرج من العدة؟ لا. هذا تلاعب وتحايل واضح جداً. وكذلك فإن الإنسان المسلم إذا اشتبه عليه أمر أخيه المسلم، فإن جاءه عنه خبر؛ فإنه يحمل أمر أخيه على أحسنه، وإذا كان هذا الأخ معروفاً بالصدق قبلناه، والناس الذين وشوا به وتكلموا عنه إذا كانوا من المجهولين لا نقبل كلامهم. جاء أناس ادعوا على سعد بن أبي وقاص فقال عمر لـ سعد: لقد شكوك في كل شيء حتى الصلاة، قالوا: لا يحسن يصلي. قال سعد: [أما أنا فأمد في الأوليين وأحذف في الأخريين، ولا آلو أن أجتهد ما اقتديت به من صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم] قال عمر: [صدقت! ذلك ظني بك] هذا معروف بالصدق والمتهمون له مجهولون، أو معروفون بالفسق والكذب فلا يمكن أن نقبل قول الفاسق الفاجر في الثقة الصادق.

الصدق في البيع والشراء

الصدق في البيع والشراء وكذلك فإن من المجالات المهم فيها الصدق: البيع والشراء. وما أكثر الكذب -الآن- في البيع والشراء؛ فإن الصدق في البيع والشراء سبب للبركة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا -أو قال حتى يتفرقا- فإن صدقا وبيَّنا -بين البائع السلعة هل فيها عيب أم لا؟ - فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما) والآن الناس يغشون في الحراج وفي أسواق السيارات وغيرها، ولذلك كثير منهم لا بركة في مكاسبهم، وخصوصاً الذين يشتغلون في معارض السيارات من هؤلاء الدلالين وغيرهم، يقولون: (سكر في مويه) (ملح في مويه) و (كومة حديد) وسيارة لا تفتح ولا تغلق، لا تمشي إلى الخلف ولا إلى الأمام، ثم يقولون: برئت الذمة، وهم يعلمون الخلل الذي فيه، فهذا حرام، ولو رضي المشتري فهو حرام. ونحن في هذا الزمان وهو آخر الزمان، أخبرنا النبي عليه الصلاة والسلام أن الكذب سيفشو فيه، والصدق سيقل، وأن الصادقين سيضطهدون، فقال في الحديث الصحيح: (سيأتي على الناس سنوات خداعات يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة قيل: وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة) في أمر عامة الناس، وكل أهل البلد، يتكلم في أمرهم الرجل التافه، فما أشبه زماننا هذا بما أخبر به صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وغيره. إذاً: هذا عصر يفشو فيه الكذب ويقل الصدق، ولذلك المؤمنون يتحرون الصدق ولا يدفعهم ألم الغربة إلى أن يكونوا مع الكذابين ولو كثر الكذب، ولقد أصبح الكذب -الآن- من أهون الأشياء عند الناس، تجد السنترال في الشركة أو الذي يرد على الهاتف في البيت يكذب، فلان موجود؟ لا. غير موجود، ويحلف على هذه الأشياء، فنسأل الله السلامة والعافية.

الكذب أضراره وعواقبه

الكذب أضراره وعواقبه والكذب -أيها الإخوة- جماع كل شر، وأصل كل ذم وما ذاك إلا لسوء عواقبه وخبث نتائجه وما شيء إذا فكرت فيه بأذهب للمروءة والجمال من الكذب الذي لا خير فيه وأبعد بالبهاء عن الرجال والنبي عليه الصلاة والسلام كان يحارب الكذب محاربة شديدة، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان صلى الله عليه وسلم إذا اطلع على أحد من أهل بيته كذب كذبة لم يزل معرضاً عنه حتى يحدث توبة.

عقوبة الكذب

عقوبة الكذب وعقوبة الكذاب شديدة بعد الموت كما قال النبي عليه الصلاة والسلام في الرؤيا الصادقة التي رآها، وأخبر عنها لما سأل الملكين فقالا: (أما الرجل الذي أتيت عليه يشرشر شدقه إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه، ثم ينتقل إلى الجانب الآخر ويعملون به مثل ذلك، فإنه الرجل يغدو من بيته فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق) فهذه عقوبته. وقال في رواية أخرى: (رأيت الليلة رجلين أتياني قالا: الذي رأيته يشق شدقه فكذاب يكذب بالكذبة تحمل عنه حتى تبلغ الآفاق، فيصنع به هكذا إلى يوم القيامة) والشق عذاب الكذاب في البرزخ، لكن يوم الدين العذاب أشد وأنكى. قال الحسن البصري عن هذه النوعية: [خرج عندنا رجل في البصرة فقال: لأكذبن كذبة يتحدث بها الوليد، قال الرجل: فما رجعت إلى منزلي حتى ظننت أنها حق لكثرة ما رأيت الناس يتحدثون بها] هو الذي كذبها يقول: ما رجعت إلى منزلي حتى ظننت أنها حق لكثرة ما رأيت الناس يتحدثون بها. فهؤلاء الذين يروجون الإشاعات، ويختلقون الأخبار، ويستغلون الوسائل المختلفة لنشرها؛ فتعم المجتمع لأنها تسمع بجميع الوسائل المسموعة، لا شك أن عذابهم يوم البرزخ أليم، وعذابهم يوم القيامة أشد ألماً وأنكى وأخزى، ولا يقول الناس: هؤلاء أعداء الله ينشرون الأكاذيب ويخونون الأمين ويزعمون أن فلاناً صادق وهو خائن، ويروجون الإشاعات، ويغيرون الواقع، ويتهمون الأبرياء، والناس يروج عليهم هذا الكذب؛ لأنهم ليس عندهم هذه الوسائل التي أمامهم، نقول: رويداً سيأتي موعدهم عند الله، فإن الله عز وجل لا يضيع عنده حق وستكون عقوبة هؤلاء أليمة. الواحد قبل مجيء هذه الوسائل الحديثة التي تنشر الأخبار وتذيعها كان يكذب، وتنتشر الكذبة في الحي أو في البلد؛ لكن الآن عبر هذه الوسائل صار الكذب ينتشر في أقطار الأرض، فكيف يكون العذاب؟ أشد وأنكى.

حذر السلف من الكذب

حذر السلف من الكذب ولما علم الصالحون خطورة الكذب وأنه ثلث النفاق، وأنه يهدي إلى الفجور؛ خافوه على أنفسهم. عندما حضرت الوفاة عبد الله بن عمر قال: [إنه كان خطب إلي ابنتي رجل من قريش، وقد كان مني إليه شبه الوعد، وأخاف أن ألقى الله بثلث النفاق أشهدكم أني زوجته]. وكان الأئمة يستدلون بحركات الناس وأفعالهم وكلامهم على صدقهم، والبخاري لما خرج يطلب الحديث من رجل فرآه يشير إلى دابته برداء كأن فيه شعيراً وليس فيه شيء رجع وقال: لا آخذ الحديث عمن يكذب على البهائم. وقال الأحنف بن قيس: ما كذبت من يوم أسلمت إلا مرة واحدة. وكان السلف يدققون فيه جداً، لقي أحمد رحمه الله بعض أصحابه فقال: كيف حال أولادك؟ فقال الرجل: يقبلون يديك، قال الإمام أحمد: لا تكذب.

دواعي الكذب

دواعي الكذب والكذب له دواع كثيرة منها: أن يجلب لنفسه مغنماً أو يدفع عن نفسه ضرراً، أو أن يقول: الناس لا يقبلون حديثي ويقبلون عليّ إلا إذا كذبت، ولأني لا أجد من الأخبار الصحيحة ما أطرفهم به ويستظرفون به حديثي، فيستحل الكذب ويأتي بعجائب وغرائب من أجل أن يضحك الناس ويجمعهم حوله. وقد يكون الكذب من أجل التشفي بالخصم فيكذب عليه لأجل تشويه سمعته مثلاً وهكذا. وهذا الكذب خلق ذميم من اعتاده صعب عليه جداً أن يتخلص منه، لأن العادة طبع ثانٍ، إنسان فيه طبع يولد من بطن أمه فيه، والعادة التي يتعود عليها الإنسان طبع ثانٍ ويصعب جداً تغيير الطباع. قال بعض السلف: من استحلى رضاع الكذب عسر عليه الفطام. وقال بعضهم لولده: يا بني! احذر الكذب فإنه شهي كلحم العصفور من أكل منه شيئاً لم يصبر عنه. وقال الأصمعي: قيل لكذاب: ما يحملك على الكذب؟ قال: أما إنك لو تغرغرت بمائه ما نسيت حلاوته. وقيل للكذاب هل صدقت قط؟ فقال: أخاف أن أقول لا فأصدق.

الكذب في المزاح

الكذب في المزاح وبعض الناس يستسهلون الكذب في المزاح ويحسبون أنه مجال للهو، ويختلقون الأخبار من أجله، والإسلام أباح الترويح عن القلوب لكن ليس بالكذب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا زعيم بيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب ولو مازحاً) (ويل لمن يحدث بالحديث ليضحك منه القوم فيكذب ويل له ويل له) والشاهد أن الناس يطلقون الأعنة لأخيلتهم في تلفيق الأضاحيك ولا يحسون حرجاً في إدارة الحديث المفترى المكذوب، ليتندر بالخصوم ويسخر منهم أو بخلق الله، وهذا اللهو بالكذب حرام ولا شك فيه، فقد يلجأ الإنسان للكذب للتملص من خطأ وقع فيه، وهذا غباء وهوان، وهو فرار من شر إلى شر أشد منه، فالواجب أن يعترف بخطئه فلعل صدقه ينجيه ويكون سبباً في مسح هفوته، ومما يروى عن الحجاج هذا الظالم الباغي الفاجر أنه كان إذا صدقه الخصم عفا عنه. ومن الأسباب التي تدفع إلى الكذب: الديون، ولذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام يدعو في الصلاة: (اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا ومن فتنة الممات، اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم) هذا الحديث كان يدعو به النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة: أعوذ بك من المأثم والمغرم، فقال له قائل: ما أكثر ما تستعيذ من المغرم، فقال: (إن الرجل إذا غرم حدث فكذب ووعد فأخلف) وهذا حال المديونين من الناس، فإنهم يقولون: غداً سوف أعطيك، وهو كذاب ويعده إلى الوقت الفلاني وهو كذاب. وكذلك فإن من أعظم الكذب: الكذب على الله بتحليل ما حرمه أو بتحريم ما أحله، أو إسقاط ما أوجبه وإيجاب ما لا يجب، أو كراهة ما أحبه واستحباب ما كرهه، هذه من أعظم الكذب، وكذلك الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم: (إن كذباً عليَّ ليس ككذب على أحد، فمن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) هذه خطورة الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم.

علامات الكذب

علامات الكذب وكذلك فإن للكذب علامات وأمارات كما قلنا في الصدق، فمن علامات الكذاب: أولاً: أنك إذا لقنته حديثاً تلقنه ولم يكن بينه وبين ما حكيته فرق عنده، وأخذ مباشرة أي شيء تقوله. ثانياً: أنك إذا شككته فيه تشكك حتى يكاد يرجع عنه. ثالثاً: إنك إذا رددت عليه قوله، حصر وارتبك ولم يكن عنده نصرة المحتجين، ولا برهان الصادقين، إذا رددت عليه أبلس، أما الصادق إذا رددت عليه قوله ثبت عليه. رابعاً: وكذلك ما يظهر عليه من الريبة والتخبط في الكلام؛ لأن هذا لا يمكن أن يدفعه عن نفسه، كما قالوا: الوجوه مرايا تريك أسرار البرايا. وقال الشاعر: حسب الكذوب من البلية بعض ما يحكى عليه فإذا سمعت بكذبة من غيره نسبت إليه من أضرار الكذب أن الكذاب ينسب إليه حتى الأشياء التي لم يكذب فيها، فيكذب على الكذاب، ولو تحرى الصدق يبقى متهماً، إذا عرف الكذاب بالكذب لم يكد يصدق في شيء وإن كان صادقاً، ومن آفة الكذاب نسيان كذبه؛ ولذلك فإن الكذاب يكون في منزلة وضيعة بين الناس.

مواطن جواز الكذب

مواطن جواز الكذب وهل هناك أمور يجوز فيها الكذب؟ A نعم يجوز الكذب في الحرب، وإصلاح ذات البين، وبين الزوجين، والنبي عليه الصلاة والسلام قد استخدم التورية، ولذلك نقول: الكذب يجوز في حالات لكن اللجوء إلى التورية أحسن، وأبو بكر الصديق رضي الله عنه قد استخدم التورية فسئل عن النبي عليه الصلاة والسلام ومن معه فقال: هذا هادٍ يهديني السبيل فظنوا أنه على هداية الطريق وهو على هداية سبيل الخير. ومن الأشياء التي يجوز الكذب فيها: بين الزوجين، ليس الكذاب الذي ينمي خيراً أو يقول خيراً، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام، ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيراً أو يقول خيراً، أو ليصلح ما بينه وبين زوجته لو كذب عليها فإنه لا يعتبر بذلك كاذباً ولكن الإنسان يستخدم المعاريض كما ذكرنا. كان إبراهيم إذا طلبه إنسان لا يحب لقاءه خرجت الجارية فقالت: اطلبوه في المسجد، وهذا من المعاريض. وقال إسحاق بن هانئ: كنا عند أحمد بن حنبل في منزله ومعه المروذي أحد طلبته ومهنا طالب آخر، فدق داق الباب فقال: المروذي هنا؟ فكأن المروذي كره أن يعلم موضعه، فوضع مهنا إصبعه في راحته وقال: ليس المروذي هاهنا، والطارق يسمع، وما يصنع المروذي هاهنا، فضحك أحمد ولم ينكر. أما أهل الكتاب فإنا لا نصدقهم ولا نكذبهم فإذا وافق ما ورد عنهم الكتاب والسنة أقررنا وإذا خالف الكتاب والسنة رفضناه، إذاً لا نوافق ولا نخالف ولا نصدق ولا نكذب، لأنه إما أن يكون حقاً فنكذب به أو باطلاً فنصدق به، فنكون قد وقعنا في محذور. ومن الكذب الذي يقع: ما أخبر به عليه الصلاة والسلام: (لا تجمعن جوعاً وكذباً) مخاطباً به بعض النساء، قدم لبن فأمر بتقديمه لبعض النساء فقلن لا نشتهي فقال: (لا تجمعن جوعاً وكذباً) وهذه حال كثير من الناس يأتيك في البيت تريد أن تضيفه فيقول: لا أشتهي ولا أريد, وهو يشتهي لكن يعتبر أنها من الحرج أو شيء من هذا القبيل فيكون قد وقع في الكذب، إما أن يقول لا أريد لكن يقول لا أشتهي وهو يشتهي فهذا من الكذب. هذه بعض الأمثلة التي تقع، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من الصادقين، وأن يباعد بيننا وبين الكذب، وأن يحفظ ألسنتنا وقلوبنا منه، إنه سميع قريب مجيب، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد.

آداب الضحك

آداب الضحك ما هي صفة ضحك النبي صلى الله عليه وسلم؟ وما هي السنة فيه؟ ما هي المواقف التي ضحك فيها النبي صلى الله عليه وسلم، أو ضحك فيها الصحابة؟ وما هو ضحك الأنبياء والصالحين؟ وما هو قرين الضحك؟ وما هو ضده؟ وكيف يتخلص منه؟ وبماذا وصفه أهل العلم؟ وما هي أسباب الضحك؟ وما هو حكمه لا سيما في الصلاة؟ أسئلة كثيرة جاءت إجاباتها مفصلة ضمن هذه المادة.

معنى الضحك ومراتبه

معنى الضحك ومراتبه الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فأحييكم -أيها الإخوة- بتحية الإسلام، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وموضوع درسنا في هذه الليلة في سلسلة الآداب الشرعية هو (آداب الضحك) الضحك الذي خلقه الله سبحانه وتعالى، فقال عز وجل: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم:43] أي: أنه خلق في النفس صفة الضحك وصفة البكاء، فيضحك الإنسان ويبكيه، وكل ذلك مما ركبه الله سبحانه وتعالى في طبعه. أما بالنسبة للضحك فهو في اللغة: مصدر ضحك، وتعريفه: انبساط الوجه وبدو الأسنان، والفرق بينه وبين التبسم، أن التبسم هو مبادئ الضحك، فأول الضحك يكون تبسماً، ويكون غالباً للسرور، كما قال الله سبحانه وتعالى في الضحك: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ} [عبس:38 - 39] والضحك أعم من التبسم، فكل تبسمٍ ضحك، وليس كل ضحكٍ تبسماً. ولذلك قال ابن حجر رحمه الله: فإن كان بصوتٍ بحيث يُسمع من بعدٍ فهو القهقهة، وإلا فهو الضحك؛ وإن كان بلا صوتٍ فهو التبسم، وتسمى الأسنان في مقدم الفم الضواحك، وهي الثنايا والأنياب وما يليها، وتسمى النواجذ وهي التي تظهر عند الضحك. إذاً: عندنا في المسألة التفصيل على ثلاث مراتب: المرتبة الأخف: وهي التبسم، إذا كان بلا صوت، انفراج الفم تبسمٌ، وإن كان بصوتٍ فهو الضحك، وإن كان بحيث يسمع هو وجيرانه ومن بَعُدَ فهو القهقهة. إذاً يُطلق على التبسم ضحك، وما كان ضحك النبي صلى الله عليه وسلم إلا تبسماً، فالضحك أعم من التبسم، وهو نوعٌ منه.

الضحك من صفات الله وتأويله بالرضا تأويل باطل

الضحك من صفات الله وتأويله بالرضا تأويل باطل أما بالنسبة للضحك فهو صفة لله تعالى، فإنه عز وجل يضحك، كما جاء في أحاديث كثيرة، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة، يقاتل هذا في سبيل الله فيقتل، ثم يتوب الله على القاتل فيسلم فيقاتل في سبيل الله فيستشهد) رواه البخاري ومسلم وأحمد وغيرهم. وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد: (أفضل الشهداء الذين يقاتلون في الصف الأول فلا يلفتون وجوههم حتى يُقتلوا، أولئك يتلبطون في الغرف العلا من الجنة، يضحك إليهم ربك، فإذا ضحك ربك إلى عبدٍ في موطن فلا حساب عليه). كذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الله ضحك من صنيع فلانٍ وفلانة لما آثرا الضيف فقدما له طعام الأطفال، وباتا هما وأولادهما جائعين) إلى غير ذلك من النصوص الشرعية التي فيها إثبات الضحك، وهو صفة لله عز وجل نثبتها له كما يليق بجلاله وعظمته، ولا نحرفها ولا نلعب بها، ولا نقول: الضحك بمعنى الرضا، صحيح أن الله إذا ضحك من شيء فهو يدل على رضاه سبحانه وتعالى، لكن ليس الضحك هو الرضا، وإنما من آثار صفة الضحك الرضا. فإذا رأيت في كلام بعض المؤلفين تفسير ضحك الله عز وجل بأنه الرضا فاعلم بأنه تأويلٌ منبوذ، وأنه تحريفٌ في الواقع، وقد جاء في الحديث الصحيح أيضاً: (إن الله سبحانه وتعالى ينشئ السحاب، فينطق أحسن النطق، ويضحك أحسن الضحك) وقد فسَّره ابن كثير رحمه الله في تفسيره لما تعرض للحديث الذي رواه أحمد هذا بأن نطق السحاب وضحكه هو البرق والرعد.

حكم الضحك

حكم الضحك أما بالنسبة للضحك فلا شك أن الإكثار منه مذموم شرعاً، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث الكسوف: (ما أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته، يا أمة محمد! والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً). إذاً: حال المؤمن الجاد المتصل قلبه بالله، المستحضر لعظمته سبحانه وتعالى، الذي يتذكر ما في اليوم الآخر وما يحدث يوم القيامة من الأهوال، ويعرف شدة عذاب النار لا يكثر من الضحك، فإننا ما خلقنا للضحك واللهو واللعب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم مبيناً حكم كثرة الضحك وهو يوصي أبا هريرة: (كن ورعاً تكن أعبد الناس، وكن قنعاً تكن أشكر الناس، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمناً، وأحسن مجاورة من جاورك تكن مسلماً، وأقلّ الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب). هذا الحديث يبين حكم الضحك، حتى ذكر ابن النحاس رحمه الله في كتابه العظيم تنبيه الغافلين عن أعمال الجاهلين، قال في تعداد الصغائر -لأنه ذكر فصلاً يتعلق بالكبائر وفصلاً يتعلق بالصغائر- ومنها -من الصغائر-: كثرة الضحك بلا سبب، كذا عدها العلماء من الصغائر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي ذر: (إياك وكثرة الضحك! فإنه يميت القلب)، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو خير البشر متصلاً قلبه بربه، فكان لا يُكثر من الضحك، ولا يقهقه كما يفعل كثيرٌ من الناس، بل كان عليه الصلاة والسلام وقوراً متزناً هادئاً، فقد جاء في صحيح مسلم، عن جابر بن سمرة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان طويل الصمت، قليل الضحك) وهاتان صفتان ينبغي أن يتخلق بهما المسلم الجاد، ولا شك أن هذا يعود إلى تقدير وتذكر ما خلق الإنسان من أجله: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115] وتصف عائشة رضي الله عنها ضحك النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في صحيح الإمام البخاري، قالت: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضاحكاً حتى أرى منه لهواته، وإنما كان يتبسم). وجاء في رواية أخرى: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعاً ضاحكاً قط حتى ترى لهواته). واللهاة: شيء في الفم، تظهر إذا أغرق الإنسان في الضحك، فانفتح فمه من شدته، فتظهر هذه اللهوات، ولذلك فإن الإقلال منه والاقتصاد وجعل أكثره تبسماً هو السنة. وكذلك فإن الضحك منه ما يكون كفراً كما إذا اشتمل على استهزاءٍ بشيءٍ مما أنزله الله سبحانه وتعالى، فإذا ضحك سخرية مما أنزله الله، أو من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، أو من شخص النبي صلى الله عليه وسلم فلا شك أنه كافر، وقد أتاك نبأ الكفار من قريش لما اجتمعوا عند الكعبة والنبي صلى الله عليه وسلم قائمٌ يصلي، قال قائلٌ منهم: ألا تنظرون إلى هذا المرائي -انظر كيف يصفون النبي صلى الله عليه وسلم- أيكم يقوم إلى جزور آل فلان فيعمد إلى فرثها ودمها وسلاها فيجيء به، ثم يمهله حتى إذا سجد وضعه بين كتفيه؟ فانبعث أشقاهم -أشقى القوم- ابن أبي معيط، فلما سجد النبي صلى الله عليه وسلم وضعه بين كتفيه، وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ساجداً، فضحكوا حتى مال بعضهم على بعضٍ من الضحك. وفي رواية للبخاري أيضاً: فجعلوا يضحكون ويحيل بعضهم على بعض حتى جاءت فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم فأزالته عن ظهره، ثم أقبلت عليهم تسبهم من شجاعتها بالرغم من صغرها رضي الله عنها. ومن الأمور المتعلقة بآداب الضحك: أنه لا يجوز الكذب لإضحاك الناس، كما يفعل كثيرٌ من المضحكين الذين همهم إضحاك القوم، فإنهم يكذبون لأجل ذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الحسن الذي رواه أحمد والترمذي وغيرهما: (ويلٌ للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم، ويلٌ له ويلٌ له). وبهذا تعلمون شيئاً من الأضرار الشرعية الناجمة عما يسمونه اليوم في عالم الفن والمسرحيات (بالكوميديا) الذي من أجله يعملون الأفلام والمسرحيات المضحكة، والغرض منها إضحاك الناس؛ فيكذبون لأجل ذلك، وكثيراً ما يستهزئون بالدين، أو بأسماء الله سبحانه وتعالى، يحرفون فيها، أو يلمزون المطوعين من المؤمنين من عباد الله الصالحين، ولا شك أن هذا كفر. كثير من المسرحيات التي صدرت مؤخراً فيها هذا الكفر وهي في قالب (الكوميديا)، ثم لو قلنا: إنها لا تشتمل على الكفر فهي تشتمل على الكذب، فإن فيها كثيراً من الكذب، ثم إن قلنا: إنها سالمة من الكذب، فإن مبناها على إضحاك الناس ضحكاً متوالياً حتى أن بعضهم من شدة الضحك قد يُلقى على الأرض، وتعلو أصوات القهقهات من المتفرجين، فهي تقسي قلوب جميع الناظرين إليها، ولا شك أن كثرة الضحك تميت القلب. وبذلك نعلم مخالفة هذه المسرحيات والأفلام الكوميدية لآداب الشريعة الإسلامية، ولذلك يقوم القائم منها وبطنه موجوعٌ من شدة الضحك، وقد علا قلبه غلاف سميكٌ من الران والغفلة التي نجمت عن مشاهدة هذا الفيلم أو المسرحية، وما عُهد أن النبي صلى الله عليه وسلم أو أحداً من أصحابه كانوا يجلسون مجلساً كله ضحك، من أوله إلى آخره، يجمعون به سائر الطرف وسائر الأشياء المضحكة ويعملون مجلساً للضحك، فبهذا يُعلم بأن هذه الأشياء كثيرٌ منها محرم والباقي مكروه.

صفة ضحك النبي صلى الله عليه وسلم

صفة ضحك النبي صلى الله عليه وسلم الآن نتعرف على صفة ضحك النبي صلى الله عليه وسلم، فقد جاء في الحديث الصحيح عن عبد الله بن الحارث بن جزء رضي الله عنه أنه قال: (ما رأيت أحداً أكثر تبسماً من رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ومن طريقٍ أخرى عنه قال: (ما كان ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تبسماً)، وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (ما حجبني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت، لا رآني إلا ضحك) أي: تبسم، لأن تبسمك في وجه أخيك صدقة، وقد قلنا سابقاً: إن الضحك يُطلق على التبسم، وإن كل تبسمٍ في اللغة هو ضحك، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أفصح خلق الله، وأعذبهم كلاماً، وأسرعهم أداءً، وأحلاهم منطقاً، قال ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد في فصلٍ يتعلق بهديه صلى الله عليه وسلم في كلامه وسكوته وضحكه: "وكان يضحك مما يُضحك منه، وهو مما يُتعجب من مثله ويستغرب"، كان يضحك من الشيء الذي يدعو للضحك، لكن كان غالب ضحكه عليه الصلاة والسلام تبسماً، والأشياء التي يُضحك منها فسرها رحمه الله بقوله: "وهو مما يتعجب من مثله ويستغرب"، وستأتي شواهد لهذا. وعقد الترمذي رحمه الله في كتاب الشمائل المحمدية: باب ما جاء في ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم ذكر بعض الأحاديث الصحيحة منه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم مما جاء عنه أنه ربما جلس في مجلسٍ وفيه بعض أصحابه، فذكروا أشياء مما يُضحك منها فتبسم صلى الله عليه وسلم، كما جاء في صحيح مسلم: عن سماك بن حرب قال: قلت لـ جابر بن سمرة: (أكنت تجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم كثيراً، كان لا يقوم من مصلاه الذي يصلي فيه الصبح أو الغداة حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت الشمس قام، وكانوا يتحدثون) أي: حصل في بعض المجالس أنهم كانوا يتحدثون فيأخذون في أمر الجاهلية فيضحكون ويتبسم. مثال على هذه الأشياء: أنه ربما ذكروا قصة الرجل الذي كان يجعل صنماً من تمرٍ يزعم أنه إلهه فأينما حل وارتحل جعله معه، وأنزله معه يسجد له، فإذا جاع أكل منه، فهذا مما كان يتبسم منه صلى الله عليه وسلم، وربما كان في بعض أصحابه أناس من الظرفاء الذين عندهم طبعٌ فيه مزاحٌ وظرفٌ، فكان عليه الصلاة والسلام يضحك مما يحصل منهم من هذه الظرف، كما جاء في صحيح البخاري من حديث عمر بن الخطاب على عهد النبي صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً كان اسمه عبد الله وكان يلقب حماراً، وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم) فإذا وجد في طلاب أو جلساء العالم من عنده روح الدعابة والطرفة، فإذا حصل عند العالم أو هذا الشخص القدوة شيءٌ من الضيق أدخل على نفسه شيئاً من السرور بإضحاكه بحق، وهذا لا بأس به.

أسباب الضحك

أسباب الضحك قال ابن القيم رحمه الله تعالى في زاد المعاد: وللضحك أسبابٌ عديدة هذا أحدها وهو الضحك مما يتعجب منه ويُستندر. الثاني: ضحك الفرح: وهو أن يرى ما يسره أو يباشره -وسيأتي أمثلة لهذا إن شاء الله-. والثالث: ضحك الغضب: وهو كثيراً ما يعتري الغضبان إذا اشتد غضبه، وسببه تعجب الغضبان مما أورد عليه الغضب، وشعور نفسه بالقدرة على خصمه، وأنه في قبضته، وقد يكون ضحكه لملكه نفسه عند الغضب وإعراضه عمن أغضبه، وعدم اكتراثه به، ومن الأشياء التي كان النبي صلى الله عليه وسلم في المناسبات يتبسم فيها تبسم المغضب قصة كعب بن مالك رضي الله عنه لما جاءه متخلفاً بعدما رجع النبي عليه الصلاة والسلام من الغزو، قال كعب: (فلما رآني تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ المغضب) فإذاً: التعبير عن الغضب يكون أحياناً بالابتسامة. وهذه بعض أسباب التبسم أو الضحك، وهي: مما يتعجب منه، وللفرح، وتبسم المغضب، وقد يكون -كما ذكرنا- ضحك سخرية واستهزاء وقد يكون كفراً، وقد يكون من قلة الأدب إذا كان ضحكاً بلا سبب. ومن الأمور التي جاءت الشريعة فيها بالندب إلى المضاحكة: ملاعبة الزوجة، والبكر بالذات، كما جاء في صحيح البخاري في عدة مواضع من حديث جابر لما تزوج ثيباً، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تزوجت يا جابر؟ فقلت: نعم. فقال: بكراً أم ثيباً؟ قلت: بل ثيباً، قال: فهلا جارية تلاعبها وتلاعبك، وتضاحكها وتضاحكك؟) الحديث وهذا هو الشاهد منه، أن ملاعبة الزوجة ومضاحكتها لا شك أنها من الشرع الحنيف، ومن الأمور المحمودة.

بعض كلام العلماء في الضحك

بعض كلام العلماء في الضحك ومما أورده أهل العلم في الضحك:

كلام الإمام الماوردي في الضحك

كلام الإمام الماوردي في الضحك ما قاله الإمام الماوردي رحمه الله في كتاب: أدب الدنيا والدين تحت عنوان: (آفة الضحك) قال: "وأما الضحك فإن اعتياده شاغلٌ عن النظر في الأمور المهمة"، أي: أن الإنسان الذي يكثر الضحك إنسان غير جاد، وكثرة الضحك من علامات عدم الجدية المطلوبة من المسلم. وقال في مفاسد الضحك: "والإكثار منه مذهلٌ عن الفكر في النوائب الملمة"، أي: إذا نزل بالإنسان نائبة ملمة وصار يُكثر من الضحك، لم يستطع فكره أن يجتمع لأجل مواجهتها، "وليس لمن أكثر منه هيبةٌ ولا وقار"، وهذه مضرة ثانية، فالشخص المكثر من الضحك يزول وقاره وهيبته من نفوس الناس، ولذلك يجترئون عليه، لما صار مكثراً للضحك، وتسقط هيبته من قلوب الناس، ولا شك أن هذه السلبية قاتلة لأثر الداعية على الآخرين، فإن الداعية لا ينبغي أن يكون من المكثرين من الضحك، فإن كثرة الضحك منه تزيل أثر كلامه أو لا تجعل لكلامه أثراً ووقعاً في قلوب الناس، وغاية ما يكون مع المدعو أنه يتندر معه ويأتي بالطرف ونحو ذلك. نعم! إن الإتيان بالطرف أحياناً بأدبٍ وحكمة لها فوائد، منها: إيناس الشخص الآخر، وملاطفته للدخول إلى قلبه، لكن إذا كان الهدف إنما هو ضحك في ضحك، فأي شيءٍ هي الدعوة؟ هذا ما صار عبوراً إلى قلبه، بل صار كل شيءٍ هو الضحك. ولذلك تجد بعض الذين يؤدون الأدوار الهزلية حتى من بعض المنتسبين إلى التدين يَسقط شيءٌ من هيبتهم من قلوب المشاهدين والحاضرين، لأجل أن الدور الهزلي لا يناسب الشخصية الجادة. قال: "وليس لمن أكثر منه هيبة ولا وقار، ولا لمن وسم به خطر ولا مقدار"، لأن الناس يقولون: هذا مضحك القوم، اذهب إلى فلان يضحكك، اذهب إلى فلان تجلس إليه يوسع صدرك بالنكت والطرائف، ويا ليتها نكتاً يستفاد منها. روى أبو إدريس الخولاني، عن أبي ذر الغفاري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إياك وكثرة الضحك فإنه يميت القلب ويذهب بنور الوجه)، وروي عن ابن عباس في قوله تعالى: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف:49] قال: [الصغيرة الضحك، والكبيرة القهقهة]. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [من كثر ضحكه قلت هيبته]. وقال علي بن أبي طالب: [إذا ضحك العالم ضحكة مج من العلم مجة]، وقيل في منثور الحكم: ضحكة المؤمن غفلة في قلبه. والقول في الضحك كالقول في المزاح: إن تجافاه الإنسان بالكلية -لا يضحك أبداً- نُفر عنه وأُوحش منه، وإن ألفه دائماً يضحك، كان حاله ما وصفناه، أي: من عدم الهيبة والوقار، وعدم اجتماع الفكر للأشياء المهمة، وأنه يلهي عن الأشغال والأمور المهمة. قال: "فليكن بدل الضحك عند الإيناس تبسماً وبشرة، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [التبسم دعابة]، وهذا أبلغ في الإيناس من الضحك -لأن التبسم يؤنس الشخص أكثر من الضحك- الذي قد يكون استهزاءً وتعجباً، وليس ينكر منه المرة النادرة"، كمن يضحك نادراً، لا بأس لطارئٍ استغفل النفس عن دفعه، فبعض الأحيان تهجم الضحكة فلا يستطيع مدافعتها فهي تأتي فجأةً. وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أملك الخلق لنفسه قد تبسم حتى بدت نواجذه، وإنما كان ذلك منه صلى الله عليه وسلم على الوجه الذي ذكرناه.

كلام صاحب المنهج المسلوك في سياسة الملوك في الضحك

كلام صاحب المنهج المسلوك في سياسة الملوك في الضحك قال صاحب المنهج المسلوك في سياسة الملوك: "اعلم أن كثرة الضحك تضاهي المزاح في المذمة والقبح، ولا تقتضيه حال الملوك وأرباب المناصب؛ لما به من زوال الهيبة، وذهاب الوقار، وقلة الأدب، ومن أكثر من شيءٍ عُرف به، ولكن لا بد أن يرى الإنسان أو يسمع ما يغلب عليه الضحك منه، أو تمسه الحاجة إليه، لإيناس الجليس، فينبغي إذا طرأ شيءٌ من ذلك أن يجعله تبسماً"، إذا جاء الضحك وطرأ عليك فاجعله تبسماً من غير قهقهة واسترسال، وبالنسبة للذي لا يضحك أبداً أو يتطرف في القضية ويقول: ينبغي علينا ألا نضحك ألبتة، ولذلك دائماً يكون عبوساً وكالحاً، ويكون دائماً ممن لا يلقى الناس بوجهٍ سهلٍ لينٍ، ولا يتبسم مطلقاً، ويعتبر ذلك من علامات الجدية، وأنه من الوقار ومن السمت، هذا كله من تسويلات الشيطان.

كلام الإمام الذهبي في الضحك

كلام الإمام الذهبي في الضحك هناك تعليق لطيف للذهبي رحمه الله في سير أعلام النبلاء في ترجمة يحيى بن حماد رحمه الله تعالى، قال: قال محمد بن النعمان بن عبد السلام: لم أر أعبد من يحيى بن حماد وأظنه لم يضحك، قلت - الذهبي -: الضحك اليسير والتبسم أفضل، وعدم ذلك من مشايخ العلم على قسمين، فالمشايخ الذين لا يضحكون ويتبسمون: أحدهما: يكون فاضلاً لمن تركه أدباً وخوفاً من الله، وحزناً على نفسه المسكينة، فإذا كان هذا لا يضحك خوفاً من الله وحزناً على نفسه المسكينة فهذا معه الحق. والثاني: مذموم لمن فعله حمقاً وكبراً وتصنعاً. إذاً: الذي يتصنع عدم الضحك ويريد بذلك وقاراً دائماً ونحو ذلك، وربما صنعه كبراً، أي أنه لا يضحك مما يضحك منه الناس، ومما يتندر منه، ومن الأشياء الطريفة بالحق، ويزعم أنه لا يتأثر بها فلا يبدي أي نوع من أنواع الابتسامة فهذا إنسان متصنع للهيبة والوقار، وتصنعه ممجوجٌ مذمومٌ. إذاً: التكلف الموجود في بعض النفوس من عدم الضحك زعماً للوقار تطرفٌ مقيتٌ، كما أن من أكثر الضحك استخف به -ما صار له قيمة عند الناس- ولا ريب أن الضحك في الشباب أخف منه وأعذر في الشيوخ، هذه فائدة أخرى، أي: أنه ينبغي على من تقدمت به السن أن يراعي سنه وقربه من القبر، وأن الشاب ربما كان فيه من المرح وطبيعة روح الشباب ما يجعله يقع في هذا، لكن الشيخ الكبير لا ينبغي له الإكثار مثلما يقع من الشاب، ليس بنفس الدرجة هذا حكم السن. قال: "وأما التبسم وطلاقة الوجه فأرفع من ذلك كله"، أي: التبسم وطلاقة الوجه لا علاقة لها بمسألة القهقهة والإغراق في الضحك، التبسم وطلاقة الوجه سنة، وإدامة التبسم سنة، "قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تبسمك في وجه أخيك صدقة)، وقال جرير: (ما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تبسم) فهذا هو خُلق الإسلام، فأعلى المقامات من كان بكَّاءً بالليل، بسَّاماً بالنهار"، هذه عبارة في غاية الجودة، فأعلى مقامات المسلم من كان بكَّاءً بالليل بسَّاماً بالنهار، هذا هو المطلوب. وقال رحمه الله: "إذا كان الإنسان طبعه مرح -طبعه أنه يكثر من الضحك- ينبغي أن يقصر من ذلك"، لا يقول هذا طبعي اقبلوني على ما أنا عليه، ولا تلوموني، لا. بل ينبغي عليه أن يعالج نفسه ويجاهدها ينبغي لمن كان ضحوكاً بساماً أن يقصر من ذلك ويلوم نفسه حتى لا تمجه الأنفس، وينبغي لمن كان عبوساً منقبضاً أن يتبسم، هذه عبارات تربوية من الإمام الذهبي رحمه الله. إذا وجدنا إنساناً مفرطاً في المسألة نقول: جاهد نفسك ولومها حتى لا تمجك الأنفس، ونقول للشخص العابس المنقبض: تبسم وأحسن خُلقك "وينبغي لمن كان عبوساً منقبضاً أن يتبسم ويحسن خُلقه ويمقت نفسه على رداءة خلقه، وكل انحرافٍ عن الاعتدال فمذموم كما قال الشاعر: كلا طرفي قصد الأمور ذميمُ " القصد: الوسط، وكلا الطرفين مذموم؛ الإكثار من الضحك مذموم، ودوام العبوس مذموم، "ولا بد للنفس من مجاهدة وتأديب". انتهى كلامه رحمه الله، كانت هذه عبارة نفيسة علقها الذهبي في ترجمة يحيى بن حماد رحمهما الله تعالى. وينبغي أن يعذر من كان عنده شيءٌ من هذه الجبلة أكثر من الذي يتصنع الضحك ويقهقه، فبعض الناس وصل بهم التقليد إلى درجة من السوء أنه صار يقلد في ضحك الممثلين، وينظر من أعلى الناس صوتاً في الضحك فيقلده، وكيف يقهقه فلان فيقهقه مثله!! وهذا لا شك أنه من الأمور المذمومة، وقد ذكر الذهبي رحمه الله في ترجمة أبي الوليد الباجي في كتاب فرق الفقهاء، قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن علي الوراق -وكان ثقةً متقناً- أنه شاهد أبا عبد الله الصوري وكان فيه حسنُ خلقٍ ومزاحٌ وضحكٌ، لم يكن وراء ذلك إلا الخير والدين، ولكنه كان شيئاً جبل عليه -أي: هذا العالم كان عنده شيءٌ من هذه الجبلة فهو مرحٌ أو يغلب عليه الضحك، لكنه لا يتقصد ذلك أو يتكلفه أو يكثر منه رغبة، لا. لكن قد يكون عنده شيءٌ من هذه النفسية التي يهجم عليها الضحك هجوماً قوياً يصعب مدافعته- وكان فيه حُسن خلقٍ ومزاح وضحك، لم يكن وراء ذلك إلا الخير والدين، ولكنه كان شيئاً جُبل عليه، ولم يكن في ذلك بالخارق للعادة، فقرأ يوماً جزءاً على أبي العباس الرازي وعَنَّ له أمرٌ ضَحَّكَهُ، وكان بحضرة جماعة من أهل بلده فأنكروا عليه، وقالوا: هذا لا يصلح ولا يليق بعلمك وتقدمك أن تقرأ حديث النبي صلى الله عليه وسلم وأنت تضحك وكثّروا عليه، وقالوا: شيوخ بلدنا لا يرضون بهذا، فقال: ما في بلدكم شيخٌ إلا يجب أن يقعد بين يدي ويقتدي بي، ودليل ذلك: أني قد صرت معكم على غير موعد، فانظروا إلى أي حديث شئتم من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقرءوا إسناده لأقرأ متنه، أو اقرءوا متنه حتى أخبركم بإسناده -أي: الإكثار عليه والتشنيع والتعنيف من أجل هذه الخصلة الجبلية وأنه حصلت منه مرة بمجلس ونجعل من الحبة قبة هو أيضاً أمر مجافٍ للعدل- ثم قال الباجي: لزمت الصوري ثلاثة أعوام فما رأيته تعرض لفتوى، أي: كان ورعاً عن الفتوى، قلت - الذهبي رحمه الله في ترجمة أبي عبد الله الصوري -: كان من أئمة السنة وله شعرٌ رائق، وقد مات الصوري سنة (441هـ).

أحاديث تبين هديه عليه الصلاة والسلام وأدبه في الضحك

أحاديث تبين هديه عليه الصلاة والسلام وأدبه في الضحك والآن لنتجه إلى أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في مسألة الضحك في مناسبات جاء فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ضحك، وننظر من خلال هذه الأحاديث هديه عليه الصلاة والسلام وأدبه في ذلك. 1 - عقد البخاري رحمه الله في كتاب الأدب فصلاً بعنوان: باب التبسم والضحك، وقالت فاطمة عليها السلام: (أسر إلي النبي صلى الله عليه وسلم فضحكت). وقال ابن عباس: [إن الله هو أضحك وأبكى] أي: أن الله أنشأ هذا في الإنسان، وأنه قد يضحك اليوم ويبكي غداً، بل إنه يضحك في لحظة ويبكي في أخرى بعدها، أو العكس بحسب الدواعي والدوافع كما حصل لـ فاطمة رضي الله عنها كما سيأتي، يضحك الإنسان أحياناً في اليوم الواحد ويبكي، فالمشاعر والأحاسيس تتغير. قال: عن عائشة رضي الله عنها: (أن رفاعة القرظي طلق امرأته فبت طلاقها، فتزوجها بعده عبد الرحمن بن الزَبِير فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت عائشة: يا رسول الله! إنها كانت عند رفاعة فطلقها ثلاث تطليقات فتزوجها بعده عبد الرحمن بن الزَبِير، فقالت: وإنه والله ما معه -يا رسول الله! - إلا مثل هذا الهدبة هذبة أخذتها من جلبابها، قال: وأبو بكر جالسٌ عند النبي صلى الله عليه وسلم، وعمرو بن سعيد بن العاص جالسٌ بباب الحجرة ليؤذن له، فطفق خالد ينادي أبا بكر ألا تزجر هذه عما تجهر به عند رسول صلى الله عليه وسلم وما يزيد رسول الله صلى الله عليه وسلم على التبسم، ثم قال: لعلكِ تريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا. حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك). فالنبي صلى الله عليه وسلم عندما جاءت هذه المرأة وذكرت هذا الكلام ومقصود المرأة أنه لا يجامعها وأنه ليس له قدرة على الجماع، وأن ما معه إلا مثل هدبة الثوب، فهو غير قادر على الجماع. ثم جاء الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إنها تكذب، وإنه ينفضها نفض الأديم، المهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سمع تعبير المرأة ضحك وتبسم، لأنه فَهِمَ مقصودها، وأنه ضحك ليبين أنه يفهم ماذا تريد؟ ولذلك قال: (لا. حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك) أي: تريدين الطلاق من زوجك الجديد لترجعي لزوجك الأول، لا. حتى يقع الجماع في الزواج الجديد، لأنه لا يجوز العودة إلى الزوج الأول الذي طلق ثلاثاً وبعده تزوجت ثانٍ إلا إذا حصل وقاعٌ من الثاني في الزواج الثاني. 2 - ذكر البخاري في هذا الباب أيضاً حديث عائشة أنها قالت: (ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم مستجمعاً قط ضاحكاً حتى أرى منه لهواته إنما كان يتبسم)، وهناك أحاديث: (فضحك حتى بدت نواجذه) والنواجذ: جمع ناجذة وهي الأضراس التي لا تظهر إلا إذا كان الضحك فيه شيءٌ من السعة، لكن هل هناك تنافي بين حديث عائشة: (ما رأيته مستجمعاً قط ضاحكاً حتى أرى منه لهواته)، وبين هذا الحديث: (ضحك حتى بدت نواجذه)؟ A إن المثبت مقدم على النافي، هذا من جهة، وأقوى من ذلك كما رجح ابن حجر رحمه الله أن الذي نفته عائشة غير الذي أثبته أبو هريرة، فضحك حتى بدت نواجذه لا يصل إلى درجة القهقهة، مستجمعاً ضاحكاً -أي: يقهقه- ربما ينقلب منها الشخص، لا. وقال ابن حجر بعد أن استعرض عدداً من الأحاديث -كما سنمر عليها إن شاء الله- قال: "والذي يظهر من مجموع الأحاديث أنه كان في معظم أحواله لا يزيد على التبسم، وربما زاد على ذلك فضحك، والمكروه من ذلك إنما هو الإكثار منه، أو الإفراط لأنه يُذهب الوقار. وقال ابن بطال: والذي ينبغي أن يُقتدى به من فعله ما واظب عليه في ذلك". 3 - وأتى البخاري رحمه الله كذلك في هذا الباب بحديث أم سلمة: (أن أم سليم قالت: يا رسول الله! إن الله لا يستحي من الحق، هل على المرأة غسلٌ إذا هي احتلمت؟ قال: نعم. إذا رأت الماء، فضحكت أم سلمة، فقالت: أتحتلم المرأة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فبم شبهها الولد؟!). إذاً: المرأة تحتلم ويكون لها ماء، وإلا كيف يكون الشبه لها؟ يخرج الرجل لأعمامه إذا لم يكن لها ماء يعلو ماء الرجل أو يسبق ماء الرجل، فيحصل التذكير أو التأنيث أو يحصل أن يخرج لأعمامه أو لأخواله، فإذاً لا يُقال لها: فضحتِ النساء لإنها جاءت تسأل، وهنا ضحكت أم سلمة، قال ابن حجر: "والغرض من إيراد البخاري لهذا الحديث؛ لوقوع ذلك بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليها ضحكها، وإنما أنكر عليها إنكارها احتلام المرأة، فأثبت أنها تحتلم". وأما حديث عائشة: (ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم مستجمعاً قط ضاحكاً حتى أرى منه لهواته) فذكر رحمه الله تعالى في شرح هذا الحديث أن اللهوات جمع لهاة: وهي اللحمة التي في أعلى الحنجرة من أقصى الفم، أي: لا يكون ضحكاً تاماً، مقبلاً بكليته على الضحك بحيث تبدو اللهاة التي في آخر الفم. 4 - ومن الأحاديث التي كان فيها ضحك النبي صلى الله عليه وسلم معبراً عن شيءٍ عظيم هذا الحديث، وهو آخر رجل يدخل الجنة، قص النبي صلى الله عليه وسلم قصة آخر رجل يدخل الجنة، يأتي وقد أخذ الناس أماكنهم، ويأتي ويقول: قربني إلى الجنة أبعدني عن النار اجعلني عند الباب أدخلني قال: (فيسمع أصوات أهل الجنة، فيقول: أي رب! أدخلنيها، فيقول: يا بن آدم! ما يَصْرِيْنِي منك أيرضيك أن أعطيك الدنيا ومثلها معها؟) الناس قد أخذوا أخذاتهم واعطياتهم، وهذا الرجل لم يكن عنده أمل أن يدخل الجنة، وإنما يسأل الله، والله يقربه خطوة بعد أخرى حتى يدخله الجنة، ويقول له: تريد أن أعطيك ملكاً مثل الدنيا مرتين؟ (قال: يا رب! أتستهزئ بي وأنت رب العالمين؟) فهذا الرجل ما ظن أنه يصل ويحصل على هذا الكرم، فيقول لله: (أتستهزئ بي وأنت رب العالمين؟ فضحك ابن مسعود -راوي الحديث- فقال: ألا تسألوني مم أضحك! فقالوا: ممَّ تضحك؟ قال: هكذا ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: مم تضحك يا رسول الله؟ قال: من ضحك رب العالمين حين قال: أتستهزئ بي وأنت رب العالمين؟ فيقول: إني لا أستهزئ منك، ولكني على ما أشاء قادر). فالله عز وجل ضحك من حالة عبده، والنبي صلى الله عليه وسلم ضحك لأن الله ضحك، وأثبت ضحك الله عز وجل، وابن مسعود ضحك، وهناك أحاديث اسمها (الأحاديث المسلسلة) وهذا مسلسل بالضحك، مثل حديث علي بن أبي طالب في ركوب الدابة فإنه ضحك. 5 - وكذلك من الأحاديث التي كان الضحك فيها معبراًُ عن شيءٍ مهم، ولم يكن ليضحك النبي عليه الصلاة والسلام عبثاً، ما جاء في صحيح البخاري في كتاب التوحيد: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (جاء حبر من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إنه إذا كان يوم القيامة جعل الله السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والماء والثرى على إصبع، والخلائق على إصبع، ثم يهزهن، ثم يقول: أنا الملك أنا الملك فلقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يضحك حتى بدت نواجذه تعجباً وتصديقاً لقوله) لقول هذا الحبر اليهودي. فكان ضحك النبي عليه الصلاة والسلام هنا تعجباً وتصديقاً للحبر، ونفاة الأصابع نفاة الصفات يقولون: ضحك سخرية من هذا النقص الذي ألحقه الحبر بالله، والحديث يقول: تصديقاً لقول الحبر، كيف نقول: إنه ضحك منه لأنه نسب لله الأصابع، كما يقول نفاة الصفات؟! 6 - وكان النبي صلى الله عليه وسلم يضحك من الفرح والاستبشار، فإذا بُشر بشيءٍ حسن ضحك، كما جاء في صحيح البخاري في كتاب الجهاد والسير، من حديث أم حرام بنت ملحان: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخل عليها فتطعمه -وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت - فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطعمته، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم استيقظ وهو يضحك -وغالب ضحكه عليه الصلاة والسلام تبسم- فقلت: وما يضحكك يا رسول الله؟ قال: ناسٌ من أمتي عرضوا عليّ غزاة في سبيل الله، يركبون ثبج هذا البحر ملوكاً على الأسرة فقلت: يا رسول الله! أدع الله أن يجعلني منهم، فدعا لها رسول صلى الله عليه وسلم أن يجعلها الله منهم). 7 - ومن البشائر التي أضحكت النبي عليه الصلاة والسلام قصة الإفك، بعد الغم العظيم، والهم الطويل، والعذاب والأذى الذي لقيه النبي صلى الله عليه وسلم من قبل المنافقين شهر كامل هو وأهل بيته يعيشون في شدة وغم، أخذه ما كان يأخذه من البرحاء لما نزل الوحي حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق -اللؤلؤ- في يومٍ شات، فلما سُري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك، وهذا ضحك استبشار وفرحة بالوحي الذي جاء مفرجاً للهم العظيم الذي تراكم طيلة هذه الفترة على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آل بيته، فكان أول كلمةٍ تكلم بها أن قال لـ عائشة: (احمدي الله، فقد برأك) الحديث. 8 - وضحك النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً لما بشره الله سبحانه وتعالى بنهر الكوثر، ولذلك جاء عن أنس قال: (بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا إذ أغفي إغفاءة، ثم رفع رأسه متبسماً، فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: أنزلت علي آنفاً سورةٌ، فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَر

ضحك الأنبياء والصالحين

ضحك الأنبياء والصالحين الأنبياء عليهم السلام كان لهم أدبٌ في الضحك، (رأى النبي عليه الصلاة والسلام آدم وعن يمينه أسودة وعن يمينه أسودة، فسأل عن ذلك؟ فقال جبريل: هذا آدم وهذه الأسودة عن يمينه وشماله نسم بنيه، فأهل اليمين منهم هم أهل الجنة والأسودة التي عن شماله أهل النار، فإذا نظر عن يمينه ضحك، -أي: أن آدم مسرور أن هناك من ذريته بعض العدد يدخلون الجنة- وإذا نظر قبال شماله بكى). وكذلك الرجل الصالح الذي يضربه الدجال فيفلقه نصفين، وهو رجل مؤمن، شاب من أهل المدينة، من خيرة أهل الأرض، ومن أفضل الشهداء في ذلك المشهد، فإذا أرجعه الدجال مرة أخرى يُقبل ووجهه يتهلل ضاحكاً.

مواقف من ضحك الصحابة

مواقف من ضحك الصحابة ومما حصل للصحابة أيضاً من المناسبات التي ضحكوا فيها، وهو ضحك يدل على معنى، ويدل على مغزى، وله فائدة: 1 - ما جاء في صحيح مسلم في كتاب الحج، قال زيد بن ثابت لـ ابن عباس: تُفتي أن تصدر الحائض قبل أن يكون آخر عهدها بالبيت؟ -أنت يـ ابن عباس تفتي أن الحائض تعود دون طواف الوداع؟ - فقال: إن لم تصدق فسل فلانة الأنصارية: هل أمرها بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: فرجع زيد بن ثابت إلى ابن عباس يضحك، وهو يقول: ما أراك إلا قد صدقت، أي: تعجب منه رغم صغره كيف أصاب الحق! أو أنه كان يقول: كلامك صحيح وأنا لم أكن أعلم به. 2/ وكذلك ما كان من ضحك بعض الصحابة الذين يحدثون بأحاديث من عجلة بعض طلابهم: قلنا: يا أبا سعيد، جئناك من عند أخيك أنس بن مالك فلم نر مثلما حدثنا في الشفاعة، فقال: هي هي -أي: هاتوا الحديث، ما الذي فعل؟ - قالوا: فحدثناه بالحديث، فانتهى إلى هذا الموضع، فقال: هي هي، فقلنا: لم يزد لنا على هذا، فقال: لقد حدثني وهو جميعٌ منذ عشرين سنة فلا أدري أنسي أم كره أن تتكلموا، قلنا: يا أبا سعيد! فحدثنا، فضحك وقال: خلق الإنسان عجولاً ما ذكرته إلا وأنا أريد أن أحدثكم، وحدثهم بالحديث. 3/ ولما استغرب بعض الناس من عائشة لما قالت: (كنا نرفع الكراع فنأكله بعد خمسة عشر يوماً -يدخرون الكراع إلى وقت الجوع- قيل: ما اضطركم إليه؟ فضحكت -لعدم تصورهم للموقف- قالت: ما شبع آل محمدٍ صلى الله عليه وسلم من خبز بر مأدومٍ ثلاثة أيام حتى لحق بالله). 4 - وهذه فاطمة رضي الله عنها بكت وضحكت، أسر لها النبي عليه الصلاة والسلام حديثاً فبكت لما أخبرها أن أجله قريب، وضحكت لما أسر لها أنها سيدة نساء العالمين، وسيدة نساء أهل الجنة، وأنها أول أهل بيته لحوقاً به، فضحكت فرحاً رضي الله عنها. 5 - وحدثت عائشة رضي الله عنها ذات مرة بحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل بعض نسائه -أبهمت- ويخرج إلى الصلاة بدون أن يتوضأ، فقيل لها: ما هي إلا أنت هذه المرأة -التي أبهمتها هي أنت- فضحكت عائشة رضي الله عنها) والحديث رواه أبو داود وهو حديثٌ صحيح. 6 - وكذلك ما حصل من ضحك الصحابة لما رأوا حماراً وحشياً وهم محرمون ومعهم أبو قتادة غير محرم، قال أبو قتادة: [فنظرت فإذا أنا بحمارِ وحشي، فحملت عليه فطعنته فأصبته واستعنت بهم أن يمسكوه معي فأبوا أن يعينوني فأكلنا من لحمه معاً إلخ] وقد عنون له البخاري، فقال: بابٌ إذا رأى المحرمون صيداً فضحكوا ففطن الحلال، أي: أن المحرم إذا نبه الحلال بالضحك أو التبسم على صيدٍ موجود لم يره الحلال، فصاده الحلال فأكل منه المحرم فلا بأس بذلك. 7/ ومن المواقف الطريفة التي حصلت في السنة: ما جاء في صحيح مسلم في كتاب الأشربة: لما كان النبي عليه الصلاة والسلام والمقداد وآخر -ثلاثة- مشتركين في إناءٍ من لبن يحلب لهم فيشرب كل واحد منهم الثلث، يقول المقداد: فأتاني الشيطان ذات ليلة وقد شربت نصيبي، فقال: محمدٌ يأتي الأنصار فيتحفونه، ويصيب عندهم، ما به حاجة إلى هذه الجرعة، فأتيتها فشربتها -قضى على نصيب النبي صلى الله عليه وسلم- فلما أن وغلت في بطني وعلمت أنه ليس إليها سبيل، قلت: ندمني الشيطان -هكذا الشيطان يفعل، يسول القضية ثم يُنَدِّم الشخص على الوقوع فيها، فقال: ويحك! أشربت شراب محمدٍ فيجيء فلا يجده فيدعو عليك فتهلك، فتذهب دنياك وآخرتك، وعلي شملةٌ إذا وضعتها على قدمي خرج رأسي، وإذا وضعتها على رأسي خرجت قدماي وجعل لا يجيئني النوم، وأما صاحباي فشربا نصيبهما وناما، ولم يصنعا ما صنعت، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فسلم كما كان يسلم، ثم أتى المسجد فصلى، ثم أتى شرابه فكشف عنه فلم يجد فيه شيئاً، فرفع رأسه إلى السماء، فقلت: الآن يدعو عليّ فأهلك، فقال: (اللهم أطعم من أطعمني واسق من سقاني) قال: فعمدت إلى الشملة فشددتها عليّ وأخذت الشفرة وانطلقت إلى الأعنز أيها أسمن فأذبحها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هي حافل وإذا هن حفلٌ كلهن، ووجدتها كلها مليئة فعمدت إلى إناءٍ لأهل محمدٍ صلى الله عليه وسلم ما كانوا يطمعون أن يحتلبوا فيه، فحلبت فيه حتى علته رغوة -امتلأ- فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أشربتم شرابكم الليلة؟ قال: قلت: يا رسول الله! اشرب فشرب ثم ناولني، فقلت: يا رسول الله! اشرب فشرب ثم ناولني، فلما عرفت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد روي وأصبت دعوته ضحكت حتى ألقيت على الأرض، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إحدى سوءاتك يا مقداد!) الحديث. فيكون هذا لو حصل مثل هذا الأمر الذي لا يتمالك فيه الإنسان نفسه، وهو خلاف الأولى أن يحدث، لكنه لم يكن في هذه الحالة يرتكب أمراً محرماً.

النهي عن الضحك من الضرطة

النهي عن الضحك من الضرطة وكذلك فإن الضحك قد يكون لتأليف الشخص أو إيناسه، وينبغي أن نعلم هنا أدباً هاماً جداً من آداب الضحك، وهو ما جاء في صحيح البخاري في حديث عبد الله بن زمعة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم وعظهم في ضحكهم من الضرطة، وقال: لم يضحك أحدكم مما يفعل؟)، وجاء في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الضحك من الضرطة) والضرطة: هي ما يخرج من الشخص من الفساء بصوت، فلو أن شخصاً سبقه الحدث في مجلس ولم يملك نفسه وتحرك بحركة، كان في بطنه شيء فخرج وله صوت، هل نضحك منه؟ لا. كل الناس معرضون لذلك، أنت، وهو فيا أيها الضاحك! يمكن أن يقع منك هذا فلم تضحك من هذا الشخص الذي حصل منه؟ خصوصاً عندما يأتي من غير قصد، تحرك حركة فخرج منه أو تكلم كلمة، أو تنحنح فخرجت منه الضرطة، فلا ينبغي الضحك من هذا الشخص.

حكم الضحك في الصلاة

حكم الضحك في الصلاة وأخيراً: نختم الكلام في موضوع الضحك بمسألة فقهية وهي: الضحك في الصلاة. إن الضحك بصوتٍ يفسد الصلاة عند جمهور الفقهاء إن ظهر حرفان فأكثر على مذهب كثيرٍ منهم، وقال بعضهم: إنها لا تبطل لأنها ليست بكلام، أما التبسم فلا يفسد الصلاة عند جمهور الفقهاء لأنه ليس بكلام. أما بالنسبة للوضوء من الضحك فقد جاء حديثٌ ضعيفٌ جداً: (الضحك ينقض الصلاة ولا ينقض الوضوء)، وحديثٌ ضعيفٌ آخر: (من ضحك في الصلاة فليعد الوضوء والصلاة) لكن الصحيح وإن كان بعض الأحناف يقولون إلا أن الضحك لا ينقض الوضوء. وإعادة الوضوء من القهقهة ومن الضحك لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبذلك نعلم أن الضحك لا ينقض الوضوء ولا القهقهة، لكن إذا قهقه الإنسان فجمهور الفقهاء على أن صلاته تبطل إذا صدر الصوت.

علاج كثرة الضحك

علاج كثرة الضحك علاج كثرة الضحك يكون بأمور، منها: أولاً: الإكثار من ذكر الله عز وجل. ثانياً: تذكر عظمته. ثالثا: تذكر اليوم الآخر. رابعاً: أن يجاهد نفسه في كتم الضحك. خامساً: ألا يكثر من مخالطة الشخصيات الهزلية. سادساً: أن يساعده أصحابه على ذلك، لا يقولون: يا فلان، ما هي آخر نكتة؟ وأطرفنا، أو أضحكنا، وماذا عندك اليوم؟ بل عليهم أن يساعدوه على أن يكون جاداً، هذا ما ينبغي أن يكون. ولعل تذكر الموت وما بعده من الأهوال مما يُعين على ذلك، والمسألة مسألة مجاهدة. هذا ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا هادين مهديين، وأن يهدي بنا، وأن يتوب علينا أجمعين. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

كمل شخصيتك

كمِّل شخصيتك إكمال شخصية المسلم مطلب شرعي دلت عليه الدلائل من الكتاب والسنة. وأحوال السلف الصالح، وتميزهم في ذلك واضح وجلي، لكن الواقع يشهد كثيراً من العيوب والنقائص لدى كثير من أفراد الأمة، وفي هذا الدرس بيّن الشيخ أهمية إكمال شخصية المسلم، كما تحدث عن ظاهرة ضعف الرجولة، إضافة إلى حاجة المسلم إلى التفاعل مع الواقع، مع بيان حاجة شخصية المسلم إلى العلم والعبادة والأخلاق.

إكمال الشخصية المسلمة مطلب شرعي

إكمال الشخصية المسلمة مطلب شرعي الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: إخواني: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. فهذه فرصة طيبة أعبر لكم فيها عن سروري بلقائكم والحديث إليكم، وأنتم في هذه المدينة أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل مجلسنا هذا مجلساً نافعاً مباركاً، وأن يجعلنا ممن يذكرهم سبحانه وتعالى فيمن عنده، وأن يجعلنا من المتواصين بالحق والصبر، وأن يجعلنا من الصابرين والشاكرين والذاكرين الله كثيراً. أيها الإخوة: هذا الحديث إليكم عن موضوع مهم، ولعل أهميته تكمن في الحاجة إليه في هذا العصر والزمان، الذي تدعو الحاجة فيه للتملي والتريث والتمعن في هذا الموضوع، والموضوع عن تكميل الشخصية الإسلامية.

كمال الشريعة الإسلامية

كمال الشريعة الإسلامية الشخصية الإسلامية كاملة كما ورد في هذه الشريعة، والله سبحانه وتعالى أنزل هذا الدين كاملاً، وقال الله عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3] فقد كمل الله هذا الدين، والحمد لله أن شريعتنا شريعة كاملة. ومن نعمة الله عز وجل علينا أننا وجدنا في هذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس، ودينها أتم الأديان، وشريعتها أكمل الشرائع، وشرائع الأنبياء من قبلنا بالنسبة إلى شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم شرائع ناقصة، وهي بالنسبة لكل أمة من الأمم كاملة لهم، لكن شرائعهم بالنسبة إلى شرائعنا ناقصة كما ذكر ذلك شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، وهذا هو المعنى المتضمن في حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (مثلي في النبيين كمثل رجل بنى داراً، فأحسنها وأكملها وأجملها، وترك فيها موضع لبنة لم يضعها، فجعل الناس يطوفون بالبنيان، ويعجبون منه، ويقولون: لو تم موضع هذه اللبنة. فأنا في النبيين موضع تلك اللبنة) رواه الإمام أحمد وغيره، ورواه البخاري رحمه الله تعالى بلفظ: (إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي، كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة. قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين) صلى الله عليه وسلم، فصارت هذه الشريعة هي أكمل الشرائع قاطبة من وجوه كثيرة ومتعددة، وشرائع الأنبياء من قبلنا منها ما كان فيها التركيز على الحلال والحرام كشريعة موسى، ومنها من كان فيه التركيز على أعمال القلوب كشريعة عيسى، لكن هذه الشريعة كاملة مكملة من جميع الجهات، فهي في الإيمان والعبادات والأعمال والمعاملات فيها ذكر وتبيان لكل شيء، والمسلم منا مطالب أن يتشبه بهذه الشريعة في كمالها، فيكمل شخصيته مما جاءت به هذه الشريعة. وهذا المفهوم -مفهوم التكميل والإتمام- مفهوم إسلامي وشرعي، والنبي عليه الصلاة والسلام قد قال: (إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق) فنحن إذن مطالبون بصياغة شخصياتنا على ضوء هذه الشريعة، وأن نتمم شخصياتنا من الوحي الذي جاء في هذا الدين، وقد جاء في الحديث الذي رواه أبو نعيم رحمه الله عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يقوم بدين الله إلا من حاطه من جميع جوانبه).

تميز شخصية المسلم

تميز شخصية المسلم الله سبحانه وتعالى أمرنا أن ندخل في السلم كافة، وأن نأخذ بجميع شرائع الإسلام وشعب الإسلام والإيمان، وأن نتمثل هذه الشريعة بجميع أبوابها، ولسنا مطالبين بالعلم فقط ولا بالعبادة فقط ولا بحسن الخلق فقط ولا بمعرفة الآداب والتمسك بها فقط، وإنما نحن مطالبون ومتعبدون بكل ذلك. ينبغي أن تكون شخصية المسلم متميزة بالعلم والعبادة والخلق والأدب، وجميع هذه الأشياء موجودة متمثلة فيه، وانظر مثلاً إلى إخفاء ذكر بعض شعب الإيمان في الأحاديث، على أي شيء يدل؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون شعبة: فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان) رواه مسلم وغيره. وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أربعون خصلة أعلاهن منيحة العنز) إذا أعطيت شاة عندك لرجل ليحتلبها وينتفع بها فترة من الزمن ثم يردها إليك، هذه تسمى منيحة العنز، وهي من أنواع الصدقات ومن أبواب الخير. (أربعون خصلة أعلاهن منيحة العنز ما من عامل يعمل بخصلة منها رجاء ثوابها وتصديق موعودها إلا أدخله الله بها الجنة) ذكر ابن حجر رحمه الله في شرح الحديث نقلاً عن ابن بطال رحمه الله: ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم كان عالماً بالأربعين المذكورة، وإنما لم يذكرها لمعنى هو أنفع لنا من ذكرها؛ وذلك خشية أن يكون التعيين لها مزهداً في غيرها من أبواب الخير، فإذاً ما ذكرت الأربعين لكي تحرص على تلمس الأربعين فتحرص على هذا الباب من أبواب الخير، وعلى هذا النوع من أنواع الصدقة، وعلى هذا المجال من مجالات العمل الصالح، رجاء أن تدرك هذه الأربعين، وهذا يدل على أنه ينبغي عليك أن تضرب بسهم في كل واد من أودية الخير، وأن تحرص على تكميل نفسك من جميع شعب الإيمان التي هي بضع وسبعون شعبة، ذكر لنا أعلاها وأدناها وعلينا أن نبحث عن الباقي ونتلمسه في النصوص الشرعية ونعمل به. وهذه الأربعون كذلك مع أنها ليست من الأشياء الكبيرة كالصلاة والزكاة، لكن الذي يعمل بواحدة يرجو ثوابها عند الله، يصدق بموعودها يوعد بالجنة، إذاً المسألة مهمة، وسلعة الله غالية.

كمال الشخصية في شخصيات الإسلام

كمال الشخصية في شخصيات الإسلام إننا نجد كمال الشخصية موجوداً في شخصيات هذا الدين وعلى رأسهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ثم صحابته، أما كمال شخصيته عليه الصلاة والسلام فهو مشهور ومعلوم، والنصوص كثيرة فيه، كيف كان النبي عليه الصلاة والسلام قائماً بأعمال الخير والبر، كيف كانت شخصيته عليه الصلاة والسلام كاملة علماً وعملاً. وكذلك شخصيات أصحابه أخذت من هذا التمام والكمال، فهذا أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، لما سأل النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه (من أصبح اليوم صائماً؟ قال أبو بكر: أنا) لا يريد أن يبين عمله، لكن لا بد من الإجابة، ولم يقلها رياءً ومفاخرة، وإنما قالها إجابة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام سأل (من عاد منكم مريضاً؟ قال أبو بكر: أنا. من تبع منكم جنازة؟ قال أبو بكر: أنا. من أطعم منكم اليوم مسكيناً؟ قال أبو بكر: أنا) فإذاً هو رضي الله عنه قد كمل نفسه من خصال الخير، وأبواب الخير كثيرة.

نقص الشخصية عيب وشين

نقص الشخصية عيب وشين وهذا الموضوع مهم -أيها الإخوة- أن نكمل فيه شخصياتنا؛ لأن النقص عيب وشين، وإذا نظرت في الواقع فنظرت إلى بعض الناس وجدت عنده جوانب من الخير فتراه: يصلي مع الجماعة، يقرأ القرآن، يذهب للعمرة والحج، يصوم، يتصدق، لكن في جوانب المعاملة مع الخلق تجده صاحب مثالب ومعايب، وعنده نقائص، وهذا المعنى موجود في حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (أتدرون من المفلس؟) يسألهم عليه الصلاة والسلام، يلفت نظرهم إلى هذا الموضوع (أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا دينار، قال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة -لاحظ ماذا عند الرجل، هذا الرجل عنده صلاة وصيام وزكاة، ومع ذلك يصفه عليه الصلاة والسلام بأنه مفلس، كيف يكون صاحب الصلاة والزكاة والصيام مفلساً؟! - يقول: ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا) كم خصلة نحن مشتركون فيها من هذه الخصال الذميمة؟ قد يقول البعض: ما سفكنا دماء، نقول: لكن انظر في الواقع، كم شتمنا، كم قذفنا، كم ضربنا! فأقول -أيها الإخوة- نظرة محاسبة لأنفسنا: كم عملنا من هذه المعايب والذنوب؟ وهل سنكون يوم القيامة في عداد المفلسين؟ نسأل الله السلامة، ماذا سيحصل؟ (فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته -يعطى للمظلوم من الظالم، صاحب الصلاة والزكاة والصيام- فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه؛ أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار) إذاً: النقص عيب، لا بد أن نكمل شخصياتنا لأن هذه الأشياء تورد المهالك، ويمكن أن يدخل الإنسان النار بسببها، فينبغي أن نكمل شخصياتنا.

تكامل شخصية المسلم عند السلف

تكامل شخصية المسلم عند السلف إن السلف رحمهم الله لما شرحوا الدين أتوا بهذا المفهوم واضحاً في كلامهم، مأخوذاً من الكتاب والسنة والأدلة الشرعية، فما نقله الإمام ابن بطة رحمه الله تعالى في كتاب الإبانة الكبرى نقل عبارات عن بعض السلف، فمنها في هذا الجانب قوله: " إن من أخلاق المؤمنين: قوة في الدين، وحزم في لين، وإيمان في يقين، وحرص في علم، وقصد في غنى، وتجمل في فاقة، ورحمة للمجهود -المتعب- وعطاءٌ في حق، ونهي عن شهوة، وكسب في حلال، وتحرج عن طمع، ونشاط في هدى، وبر في استقامة، لا يحيف على من يبغض، ولا يأثم في الحب -لا يتجاوز- ولا يدعي ما ليس له، ولا ينابز بالألقاب، ولا يشمت بالمصاب، ولا يضر بالجار، ولا يهمز، في الصلاة متخشع، وإلى الزكاة متسرع، إن صمت لم يغمه الصمت، وإن ضحك لم يعل صوته، في الزلازل وقور، وفي الرخاء شكور، قانع بالذي له، لا يجمح به الغيظ، ولا يغلبه الشح، يخالط الناس ليعْلم أو ليعَلم، ويصمت ليسلم، وينطق ليفهم، إن كان مع الذاكرين لم يكتب مع الغافلين، وإن كان مع الغافلين كتب من الذاكرين، وإن بغي عليه صبر حتى يكون الله هو الذي ينتقم له يوم القيامة ". إذن: فهمهم لسمات الشخصية الإسلامية، لصفات الإنسان المسلم متكامل، صلاة وزكاة، وحلم وعلم، ويقين وصبر وشكر، تعلم وتعليم، وقار، إذاً المسألة متكاملة.

آثار النقص في الشخصية

آثار النقص في الشخصية أيها الإخوة! إذا نظرنا في الواقع وفي أنفسنا وفيمن حولنا وجدنا أن النقائص الموجودة في شخصياتنا لها آثار سلبية علينا وعلى غيرنا، فمثلاً: صاحب الشخصية الناقصة نقصها سلبي عليه، فقد يكون النقص في شخصيته نقصاً في الإيمان، يسبب الوقوع في المعاصي، يسبب شقاء النفس، يسبب قلة التوفيق، وإذا كان هذا مرضاً صار مرض قسوة القلب. النقص في الشخصية ينعكس علينا حتى في بيوتنا، لا معاشرة بالمعروف، ولا رحمة بالصبيان، ولا رفق بالبيت، والله سبحانه وتعالى إذا أراد بأهل بيت خيراً أدخل عليهم الرفق، فإذا وجدت البيت فيه شدة وعنت ومعاملة جافية وغليظة؛ فاسأل الله أن يرزقك خيراً وأن يمنحك الرفق، فإنه يخشى منك ألا تكون ممن أراد بهم خيراً وممن أراد الله ببيوتهم خيراً. ثم إن النقص في شخصياتنا ينعكس أيضاً على علاقاتنا بإخواننا، النقص في الآداب يسبب البغض والقطيعة، والكره والتنافر، لا تضحية ولا إيثار، ولا سعة صدر وحسن استقبال. ثم إنه ينعكس أيضاً على الناس عموماً، تأمل لو أن هناك إنساناً صلى في الجماعة، واجتنب بعض المحرمات، وقام ببعض الواجبات، والتزم ببعض الأشياء في ظاهر شخصيته مثل إطلاق لحيته ونحو ذلك من السنن والأشياء الواجبة، ثم صار عنده نقص في شخصيته: غلظة في التعامل، خشونة، إخلاف مواعيد، عدم صدق في الحديث ماذا سيكون أثر هذا على العامة؟ سيلوم الناس أصحاب اللحى، ويكون هذا ظلماً للغير، وفتح باب ينقد الآخرون من خلاله أهل الخير، وقد يصبح هذا الشخص بنقائصه من الذي يصدون عن سبيل الله، نحن بنقصنا وتصرفاتنا الخاطئة نعكس صورة مشوهة عن الإسلام في أعين غير المسلمين، ونعكس صورة مشوهة لمفهوم الالتزام بالدين في أعين غير الملتزمين بالدين.

أهمية تكميل الشخصية الإسلامية

أهمية تكميل الشخصية الإسلامية إن تكميل الشخصية الإسلامية مهم؛ لأننا من المفترض أن نرث عن الأنبياء دورهم في إصلاح المجتمع، فنذكّر الناس إذا غفلوا، ونعلمهم إذا جهلوا، ونقيم الحجة عليهم إذا عاندو، بالوسائل السلمية، وكذلك بالوسائل العملية كالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

حاجة الوقت إلى شخصية إسلامية قائدة

حاجة الوقت إلى شخصية إسلامية قائدة وتكميل الشخصية مهم؛ لأننا في هذا الزمان نحتاج إلى شخصيات إسلامية تقود، والناس بالتدريج سئموا من قيادة الغرب الكافر، وغيرهم لا يصلحون لقيادة العالم؛ فتجد كبيرهم واقعاً في الفواحش والزنا والسرقات والاختلاسات والسكر والخمور، وهمه في اللهو واللعب، وعزف القيثارة والمعازف، فمثل هذه الشخصيات لا تصلح لقيادة العالم، وإذا كانوا قد تحكموا في الناس بالقوة والسلاح لكن قيادتهم فارغة من مضامين الخلق والأدب الحسن والعدل؛ لأن العدل لا ينتج إلا باتباع الشريعة، وإذا زالت الشريعة حل الظلم، ولذلك فقيادتهم للعالم ظالمة، وهذه الرموز التي تقود لا بد أن تفلس، بل قد أفلست، والسقوط وشيك، وبمرور الزمن سيتهيأ المجال لأن تشغل مراكز التوجيه والتأثير في العالم شخصيات أخرى، والشخصيات الإسلامية هي المرشحة للقيادة في المستقبل، فلا بد أن يوجد من الشخصيات المكملة من إذا أتيح لها المجال لمنصب أو مركز إذا تبوأته أن تؤثر وتقوم بالعدل والإحسان: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ} [النحل:90] ولا بد أن يوجد الاستعداد عند المسلمين لهذا الأمر، وهذه مسألة فيها عمق، وقد يتخيل أن فيها بعداً، لكن الله غالب على أمره والله متم نوره ولو كره الكافرون. إننا نجد في الواقع القريب، أن أصحاب الشركات والموظفين فيها يترقون، فأنت تجد أنك تترقى في سلم الوظيفة وترشح لمنصب ولوظيفة أعلى من وظيفتك الحالية، وهكذا تتدرج في المستقبل، ولو كانت شخصيتك الإسلامية صحيحة ناضجة، لصار أثرك في منصبك ومركزك ووظيفتك أثراً إيجابياً إسلامياً نافعاً مباركاً، لكن لو كنت صاحب شخصية هزيلة وناقصة، وعندك من المعايب والمثالب والمعاصي والآثام؛ فإن هذا المركز سيكون وبالاً عليك، وسيظلم الناس من تحتك ولا شك، وسيكون كلام الناس عنك -أحياناً- كلام عن الدين نفسه الذي أنت تمثله، أو عن الالتزام الذي أنت تمثله ظاهرياً. ولذلك أقول: إن هذا الموضوع مهم من جهة المستقبل للإسلام، من جهة أن الظرف الحالك الذي نمر به يحتاج إلى شخصيات قوية كاملة تقود، اذكر أبا بكر الصديق في زمن الردة، وكيف كانت شخصيته حازمة ومهمة في الخروج بالمسلمين من ذلك المضيق، اذكر شخصية الإمام أحمد رحمه الله في المحنة لما ثبت فثبت بثباته ملايين الناس، كانوا ينتظرون ماذا يقول الإمام أحمد ليكتبوا ويعملوا، اذكر ابن تيمية رحمه الله لما ثبت بشخصيته المتميزة بالعلم والحلم، بما جاء على ضوء هذه الشريعة، قيظه الله عز وجل لما ثبت في زمن التتر والمتصوفة والمتكلمين والفلاسفة؛ فأنقذ الله به فئاماً من الناس. واذكر شيخ الإسلام المجدد/ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله لما صار الشرك عاماً في أنحاء العالم الإسلامي إلا من رحم الله، حتى في هذه الجزيرة عبدت الأصنام والأوثان، واضطربت أليات نساء بني دوس حول ذي الخلصة، والذي يقرأ تاريخ دعوة الشيخ يعرف أن بعض أصنام الجاهلية الأولى أعيدت، وبنيت القباب على القبور، وطاف الناس حول الأضرحة، وعبد الموتى من دون الله، فصارت تلك الشخصية العالمة المجاهدة إنقاذاً للناس ورحمة من رب العالمين. إذاً: الظرف الذي نعيش فيه الآن من تسلط الكفار، ومظاهر الاستسلام التي تعم العالم الإسلامي والقنوط من رحمة الله، والخزي الموجود، والاستخذاء والضعف يحتاج إلى شخصيات قوية تنقذ الموقف، وهذه الشخصيات لا يصلح أن تكون شخصيات ناقصة مهلهلة مشوهة، ينبغي أن تكون شخصيات إسلامية، والتغيير حاصل حاصل، والله سبحانه وتعالى يداول الأيام بين الناس، وكما أن الغلبة اليوم للكفار ظاهرياً {يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ} [غافر:29] ماذا قال مؤمن آل فرعون؟ {فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} [غافر:29] فبأس الله سيأتيهم سيأتيهم، فمن سيملأ المواقع، ومن سيخلفهم، الله سبحانه وتعالى لا يؤتي النصر الذين لم ينصروه، وإنما ينصر من نصره وجاهد في سبيله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] سيحدث التغيير وسيبرق ضوء الفجر، لكن إذا صرنا على مستوى التغيير والمواجهة والجهاد، والقيام بأمر الله سبحانه وتعالى علماً وعملاً، عند ذلك ينصرنا الله عز وجل.

الرد على من يهينون الدين وأهله

الرد على من يهينون الدين وأهله كذلك تكميل الشخصية مهم في الرد على الذين يسمون المسلمين وأهل الدين بالصفات السيئة، فيسمونهم بالتخلف والرجعية والانتهازية والإرهابية ونحو ذلك، فمن الذي يمحو هذه الصورة السيئة عن المسلمين التي يعممها أعداء الإسلام في الأرض إعلامياً؟ يعممون سمة المسلم بأنه رجعي متخلف، وأنه إنسان همجي متوحش وغرضه السلب والنهب والإغارة والإرهاب، ما الذي سيغير هذه الفكرة؟ ما هي الشخصيات التي ستغير هذه الفكرة؟ إنها الشخصيات الإسلامية التي يسعى أصحابها إلى تكميلها، وليست الشخصيات الهزيلة والمهلهلة. وكذلك فإننا لا نريد أن نكون أولاً وأخيراً من الذين يصدون عن سبيل الله بتصرفاتنا المنحرفة، حتى عند الخادمة والسائق الموجود في البيت فكثير من الناس صدوا الخادمات عن سبيل الله، وصدوا السائقين عن سبيل الله؛ لأن الخادمة والسائق رأوا من رب البيت فسقاً ومجوناً وخلاعةً، رأوا منه ظلماً وعتواً ونفوراً ووحشيةً، ورأوا منه قهراً وإذلالاً؛ فلذلك كيف يفكر أن يسلم ويدخل في الدين وهو يرى هذا النموذج أمامه؟ كذلك الذي جاء من بلاد بعيدة مثل الهند وباكستان ليعمل وهو مسلم، ثم يجد أمامه هؤلاء الناس وفيهم هذه النقائص والمعايب والمثالب وهو يظنهم في هذا المكان عند الحرم، وفي المكان الذي هبط فيه الوحي فيظنهم أولاد الصحابة، فإذا جاء وجدهم بهذه الحالة من اتباع الهوى والشهوات والجهل. بعض المستقدمين علموا أهل البيت أشياء يجهلونها، صحيح أن الأكثر العكس؛ لأنه يوجد عندنا من العلم ما ليس موجوداً عند الآخرين بالنسبة والكثرة، لكن الأمثلة في المقابل موجودة، فهناك خادمة مصحفها على رف المطبخ لكن صاحبة البيت كل يوم في سوق، وكل مرة في حفلة وسهرة، فماذا يعني هذا عند غير العرب من الأعاجم المستوردين؟ نحن مخاطبون بالشريعة قبلهم والذي نزل عندنا قبلهم، فنحن من المفروض أن نكون قدوة للآخرين، لكن أصبح البعض بسلبياته من العوائق التي تصد عن دين الله!

إزالة القدوات السيئة من المجتمع

إزالة القدوات السيئة من المجتمع كذلك فإن تكميل الشخصية الإسلامية مهم في إزالة القدوات السيئة من المجتمع؛ لأن الناس يقتدون بشخصيات المغنين والمطربين والفنانين والرياضيين ونحو ذلك، وكثير منهم فسقة ومجرمون، ولا بد من إحلال شخصيات الشهداء والصالحين والصديقين؛ حتى يقتدي الناس بهؤلاء ويتركوا أولئك، حتى يكون هناك نجوم يقتدى بها بدلاً من هذه النجوم الوهمية. أيها الإخوة! إن المسخ الذي حصل لكثير من شخصيات الناس خصوصاً الذين سافروا إلى الخارج ورجعوا بأفكار غربية غريبة، ورجعوا بأمور مخالفة للدين والشريعة بحكم الواقع الذي ضغط عليهم أو رباهم هناك، إن هذا يجعلنا نفكر مراراً وتكراراً في قضية تكميل الشخصية الإسلامية. ولما نقول: يا مسلم يا عبد الله كمل شخصيتك؛ نذكر شخصيات الصحابة رضي الله تعالى عنهم، الله سبحانه وتعالى قص علينا أشياء كثيرة في الكتاب {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ} [مريم:56] {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ} [مريم:16] ذكر رجالاً ونساءً، وذكرهم بصفات في شخصياتهم من القنوت والعبادة وكثرة الذكر، والحكمة، وأنه لم يكن جباراً شقياً، ولم يكن عصياً إلى آخر تلك الصفات التي وردت لشخصيات الأنبياء. وصحابة النبي عليه الصلاة والسلام الآخذون من تلك الشخصيات اقتدوا بهم وكملوا شخصياتهم من تلك السير، فجاءت تلك النماذج عطرة، جيدة للغاية، فأنت يا أخي المسلم! يا عبد الله! عندما تريد أن تكمل شخصيتك بمسألة العلم مثلاً، تذكر ابن عباس وابن مسعود، وتذكر معاذ بن جبل الذي يأتي وقد سبق العلماء يوم القيامة برمية سهم، وهو أعلم الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم بالحلال والحرام كما قال النبي عليه الصلاة والسلام عن معاذ، وتذكر علم زيد بن ثابت في الفرائض، وإذا جئت في الحفظ تذكر حفظ أبي هريرة رضي الله تعالى عنه. وإذا جئت في جانب التضحية التي لا بد أن تكمل شخصيتك بها؛ تذكر تضحية مصعب بن عمير، الشاب الذي ترك جو النعومة والغنى والثراء والترف، وصار صاحب أطمار وأكسية بالية، مطارداً، مشرداً، غريباً في المدينة عن أهله وعن وطنه، لكنه كان من الذين فتحوا المدينة بالقرآن ولم تفتح بالسيف، وهو الذي وطد وهيئ للنبي عليه الصلاة والسلام الأجواء قبل مقدمه إلى المدينة. وتذكر في الشجاعة حمزة، وتذكر في الجرأة في قول الحق أبا ذر رضي الله تعالى عنه، وتذكر في تحمل المسئولية أبا دجانة الذي حمل السيف بحقه، وتذكر في الثبات خبيب بن عدي الذي ثبت حتى آخر قطرة من دمه، وتذكر في العمل للإسلام حتى آخر لحظة عمرو بن الجموح، الذي أصر أن يطأ بعرجته في الجنة، وخرج وهو في الثمانين إلى الجهاد. وإذا تفكرت في مسألة استخدام المنصب والمركز لخدمة الدين؛ فإنك تذكر النجاشي وتذكر سعد بن معاذ ورئاسته فيهم، وإذا جئت لجانب الإيثار تذكر سعد بن الربيع الذي طلب من أخيه المهاجري أن يختار إحدى زوجتيه فيطلقها ليتزوجها هو ويشاطره في ماله، وتذكر في الجود والبذل -وهي خصلة مهمة يجب أن تكون في شخصيتك- أبا طلحة الأنصاري لما نزل قول الله: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] تبرع وتصدق بأحسن ما عنده وهو بيرحاء، بستان عظيم كان قريباً من المسجد النبوي، يدخل النبي عليه الصلاة والسلام إليه فيشرب من مائه أحياناً. وأنت تذكر في كتم السر حذيفة، وألا تكون مهذاراً ولا كثير كلام ولا مفشياً للأسرار، المجالس بالأمانة، وكثير من الناس عندهم هذه الخصلة الذميمة وهي إفشاء أسرار الآخرين والكلام فيما يخص الآخرين، ينبغي أن يكون مستوراً فيعلنه، وأنت تذكر في حسن العبادة أبا موسى الأشعري رضي الله عنه، الذي كان بعض الصحابة يجتمعون في الليل يسمعون صوته وهو يقوم الليل، ذلك الذي أوتي مزماراً من مزامير آل داود. وهكذا في سائر الصفات والخصال التي من المفترض أن تكون في الشخصية الإسلامية منها: التواضع والبعد عن الظهور، شخصية أويس القرني وهو خير التابعين، وهكذا من بعدهم، نحن نقتبس وينبغي علينا أن نأخذ ونكمل شخصياتنا من سير السلف، بالإضافة إلى الشيء الأول وهو القرآن والسنة.

نقائص وعيوب في الشخصيات (ضعف جانب الرجولة)

نقائص وعيوب في الشخصيات (ضعف جانب الرجولة) أيها الإخوة! يوجد في شخصياتنا نقائص وعيوب، فمن ذلك بالنسبة للرجال: ضعف جانب الرجولة، جانب الرجولة من الخصال المهمة، والله سبحانه وتعالى وصف خيرة عباده بأنهم رجال {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ} [يوسف:109] والذين اتصفوا بالصفات الحميدة يصفهم سبحانه وتعالى بأنهم رجال: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108] وقال الله عن الذاكرين في المساجد؟ {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ * {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور:36 - 38] كان أحدهم إذا رفع المطرقة، فأذن المؤذن ألقاها وراء ظهره. قال أحد السلف: كانوا يبيعون ويشترون، ولكن كان أحدهم إذا سمع النداء وميزانه في يده يزن للناس خفضه -خفض الميزان، ترك البيع والشراء- وأقبل إلى الصلاة. قال عمرو بن دينار: كنت مع سالم بن عبد الله ونحن نريد المسجد، فمررنا بسوق المدينة وقد قاموا إلى الصلاة، وخمروا متاعهم -يعني: غطوا المتاع- فنظر سالم إلى أمتعتهم -دكاكين مغطاة، وأكوام البضاعة مغطاة- فنظر سالم إلى أمتعتهم ليس معها أحد، متاعه في السوق لوحده، الناس في المسجد، فتلا هذه الآية {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور:37] ثم قال: هم هؤلاء.

الرجولة من أسباب الثبات

الرجولة من أسباب الثبات قال تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} [الأحزاب:23] {قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ} [المائدة:23] {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} [يس:20] أنت تقرأ الآية وتتأمل وتتملى في هذا الرجل الذي وصف بالرجولة جاء يسعى {قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [يس:20 - 21] أما في قصة موسى: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} [القصص:20] من هو الرجل الذي يكون من صفاته الشخصية إغاثة الملهوف والسعي إلى نصرة المظلوم وإنقاذ الآخرين -الذين هم في خطر- فذهب إليه خفية مع المشوار بعيد؛ لأنه جاء من أقصى المدينة {قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} [القصص:20] فإغاثة الملهوف ونصرة المظلوم، وإنقاذ حياة الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى، والسعي في تخليصهم وإبعاد الأذى والشرور والأخطار عنهم، هذه من صفات الرجولة التي ينبغي أن تتصف بها شخصياتنا، الرجولة التي تسبب القيام لله بالحق، وغضبة لله في أماكن المنكرات وإذا انتهكت محارم الله، فإن الرجل يغضب لله، والمرأة كذلك تغضب لله سبحانه وتعالى فتغير في مكانها.

معاني الرجولة عند الناس

معاني الرجولة عند الناس مع الأسف إن كثيراً من معاني الرجولة قد فقدت بين الناس، وظن بعضهم أن الرجولة هي تطويل الشوارب وحلق اللحى، أو الأخذ بالثارات وقتل الأبرياء، وبعض الناس يظن أن الرجولة هي التدخين، وبعضهم يظن أن الرجولة هي رفع الصوت والصياح وفرض الرأي بالقوة أو البطش بالعضلات، لكن الرجولة شيء آخر، هذه قضايا ضعف ومعاصي وآثام، فالمهم أن الإسلام يحتاج إلى رجال شخصياتهم قوية، قال عمر: تمنوا. فتمنى كل واحد شيئاً، قال: لكني أتمنى ملء هذه الحجرة رجالاً أمثال أبي عبيدة، أخوض بهم الغمار، وأحمل بهم الأمم على الإسلام، فالرجولة ليست سناً أكثر مما هي صفات وشمائل وسجايا وطباع. وماذا نفعت الرجولة الذين قال الله فيهم: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} [الجن:6]؟ وكأني بهذا الدين في هذا الزمان يهتف بأبنائه: أليس منكم رجل رشيد يحملني ويقوم بأمري؟

تكميل الشخصية المسلمة بالتربية والصقل

تكميل الشخصية المسلمة بالتربية والصقل شخصياتنا -أيها الإخوة- تحتاج إلى صقل وتربية وتكميل، وتكميلها بتربيتها، فتنظر إلى الجهل الذي في شخصيتك فتحل محله العلم، تنظر إلى القسوة والجفاف الموجود وتحل محله الإيمان والتقوى التي طريقها العبادة وممارسة الشعائر التعبدية والإقبال على الفرائض أولاً (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه) وإتباع ذلك بالمستحبات والنوافل ثانياً (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه) وهذا هو أشرف حديث في الأولياء، وقد رواه الإمام البخاري رحمه الله تعالى معلقاً في صحيحه، وهو صحيح بمجموع طرقه.

تكميل الشخصية المسلمة بالتأثر والتفاعل مع الواقع

تكميل الشخصية المسلمة بالتأثر والتفاعل مع الواقع شخصياتنا إذا أردنا أن نكملها فينبغي أن نحرص على أن تكون هذه الشخصيات شخصيات متأثرة ومتفاعلة، والتأثر والتفاعل ميزة مهمة ينبغي أن توجد في شخصياتنا؛ لأن التفاعل مع الواقع يؤدي إلى الاستفادة والأخذ والتلقي، والتلمذة والتقبل والاقتداء، وهذا مهم في تقدم الشخصيات. بعض الناس الآن إذا نظرنا في الواقع -وهم قلة- إذا جئته سنة بعد سنة وجدت التغير ملموساً، التقدم حاصل، إجازة بعد إجازة وجدت الرجل علمه زاد، عبادته زادت، أخلاقه ارتفعت وارتقت، وبعض الناس مثلما هو، (مكانك قف!) ما زالوا في نفس المكان، لم يتقدموا في شيء، لا علمهم زاد، ولا أخلاقهم تحسنت، ولا عبادتهم كثرت، فهم لا زالوا في نفس المستوى الذي عهدتهم فيه، كما خبرتهم، هم هم ما تغير فيهم شيء! واعلموا -رحمكم الله- أن وجوه أهل الإيمان والعبادة تزدان وتزداد حسناً وبهاءً، ووجوه أهل الشر والمعصية تسوء وتزداد قبحاً ودمامة، وقد نص على ذلك شيخ الإسلام رحمه الله في كتابه العظيم الاستقامة فقال: وأنت ترى وجوه أهل الطاعة إذا تقدموا بالسن وكبروا ازدادت نظرة وجمالاً وعليها نور، وترى أهل المعصية والشر والبدعة يكون أحدهم في مقتبل عمره شاباً وسيماً أو أمرداً جميلاً، لكن لا يزال يواقع الفواحش ويقع فيها ويزاول المنكرات أو يستمر على البدع فيقبح وجهه في الكبر، تراه قبيحاً ذميماً، مع أنك لو رأيت صورته في شبابه ومقتبل عمره؛ لوجدته ربما يكون جميل الخلقة، فهكذا الطاعة تحسن المظهر، والمعصية تشوه المظهر. ولذلك ترى أكثر أهل البدع حالهم في القبح والدمامة معروف، وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى منهم في هذا الكتاب أهل الرفض قال: هم أقبح الناس منظراً، بل أثبت في كلامه أن بعضهم قد مسخوا قردة وخنازير، فقد مسخ الله اليهود قردة وخنازير من آثار المعاصي، وقبح حتى صورهم الظاهرة، ومسخهم في أسوء البهائم منظراً: قردة وخنازير. نحن نحتاج -كما قلت- إلى قضية التأثر والتفاعل حتى نتقدم، يا أخي! عائشة رضي الله عنها لما حاضت في الحج تأثرت، تظن أنه الأجر فاتها حتى بكت، ودخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبكي، وسألها فأخبرته أنها حاضت، فقال: (إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم، إن حيضتك ليست بيدك) والآن تجد الكثير من الناس يظنون أن الحيض يمنع الإحرام، يقولون: وصلنا الميقات وما أحرمت المرأة التي معنا لماذا يا عباد الله؟ قال: لأنها حائض، لكن الحيض لا يمنع الإحرام. وكثير من العامة يظنون أن عقد النكاح في الحيض لا يصلح، ولذلك يقولون: هل يجوز أن تعقد وعليها العادة الشهرية؟ نقول: نعم، وما المانع؟ الله سبحانه وتعالى حرم الوطء لكن ما حرم العقد، حرم الوطء في الحيض ولم يحرم العقد. على أية حال تأثرت عائشة رضي الله عنها لهذا، انظر الآن تأثرت بأمر ليس بيدها وليس بتقصير منها، لكن انظر الآن إلى هذه الشخصيات الموجودة في المجتمع، تخرج أوقات العبادات وتفوت مواسم الخيرات، وتذهب فرصة ثمينة للأجر ولا تجد في نفوسهم تأثراً أو ندماً أبداً، مع أن التفريط منهم وما هم مثل عائشة، تلك رضي الله عنها تأثرت وبكت على شيء ليس بيدها، وهؤلاء لا يتأثرون ولا يبكون على تفريط وتضييع واضح مع أن الفرص بأيديهم. وكذلك الإنسان إذا كانت شخصيته فيها تأثر وتفاعل إذا نبه للخطأ، إذا علم أنه أثم يستحي من الله، يرجع لأن عنده تأثراً، يتفاعل مع الكلام، يتأثر بالنصيحة، بالتوجيه، بالإنكار، لكن الناس إحساساتهم متبلدة، هذا أسامة بن زيد، ذهب يجاهد ويقاتل بسيفه مع صغر سنه رضي الله تعالى عنه، أدرك رجلاً من الكفار، فرفع عليه السيف، فقال الرجل: لا إله إلا الله، لكن أسامة طعنه، فشعر بشيء من الحرج، وحاك في نفسه شيء، ذهب إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقص عليه القصة، فقال له: (قال: لا إله إلا الله وقتلته؟ قلت: يا رسول الله! إنما قالها خوفاً من السلاح، قال: أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟ فما زال يكررها حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ) أي: لأن الإسلام يجب ما قبله، قال: تمنيت أنني دخلت الإسلام بعد الحادثة. قال له في رواية: (فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟ قلت: يا رسول الله! استغفر لي. قال: فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟ قال: فجعل لا يزيد على أن يقول: فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟). هذا رجل خارج في الجهاد ظن أن فعله صحيح، هذا رجل كافر أنكى بالمسلمين، فرفع عليه السيف قال: لا إله إلا الله، فقتله. وبعض الناس الآن إذا عاتبته على منكر واضح لم يفعله باجتهاد خاطئ لا، وإنما منكر واضح جلي، حكمه وفتاوى العلماء معروفة عنده، لكن تجد أنه لا يتحرك فيه شيء ولا يتأثر، بل قد يستهزئ، وعلى أحسن الأحوال يأتيك باعتذارات باردة أو يقول لك: هذا ليس شأنك هذا هو حالهم إذا أنكرت عليهم منكراً الآن. فنقول: إن شخصياتنا يجب أن تكون متأثرة، جانب الاستقبال فيها قوي حتى نتقدم ونتفاعل، النبي عليه الصلاة والسلام لما جاءه قوم من الأعراب مجتابي النمار، مقطعة ثيابهم، ورأى ما بهم من الفاقة والفقر المدقع؛ تأثر صلى الله عليه وسلم وحزن وقام خطيباً بالناس، وأمر بلالاً فأذن وجمع الناس، ثم أمرهم بالصدقة وحثهم عليها، فجاء الناس بصدقاتهم، منهم من جاء بصرة كادت يداه أن تعجز عنها، بل قد عجزت، ومنهم من جاء بما عنده حتى أن بعض الصحابة قالوا: كنا نحامل، أي: يذهبون إلى السوق يشتغلون حمالين -كما ثبت في الحديث الصحيح- واحد ما عنده صدقة، ما عنده مال، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (تصدقوا) أمرهم بالصدقة، وهذا ما عنده مال، من أين يأتي بالمال؟ وهو لا يريد أن يفوت الأجر، يريد أن يتصدق وأن يلبي رغبة النبي عليه الصلاة والسلام وطلبه، فيذهب إلى السوق ويشتغل حمالاً ويأخذ الأجرة ويتصدق منها أو يتصدق بها! فكان عندهم تأثر لو نصحوا، لو قيل لهم: قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض، انفروا خفافاً وثقالاً للجهاد في سبيل الله؛ لرأيت الاستجابة حاصلة، لكن نحن المشكلة في شخصياتنا أن جانب التأثر والتفاعل ضعيف، وعليه فالاستقبال ضعيف، فمهما جاءت موجات النصائح والإنكار والتعليم لا تجد أثراً، أو أن الأثر ضعيف والموجة مشوشة، فلا نعمل إلا شيئاً يسيراً، وقد نبخل بالأموال مع أن أحدنا إذا أحيل إلى التقاعد، وصار يأخذ راتباً أقل مما كان يأخذه وهو على رأس العمل، أو فصل من وظيفته أو استغني عن خدماته وذهب إلى وظيفة ثانية راتبها أقل؛ يصير مهموماً وحزيناً، ولا بد أن يعمل عملاً آخر لماذا؟ قال: لا أريد زوجتي وأولادي يعلمون أن هناك تغيراً في المستوى المعيشي. أجل والفقراء والمسلمون والمجاهدون والمنكوبون الذين ليس عندهم مستوى معيشي أصلاً ما هو دورك بالنسبة لهم؟ هذا مستعد أن يعمل عملاً ثانياً وثالثاً، وإضافياً، يفتح مؤسسة ويشتغل من أجل ألا يتغير المستوى المعيشي، هو أصلاً ما ربى أهله على الزهد؛ ولذلك لما اختلف المستوى المعيشي صار عنده نكبة في البيت ومصيبة، وقامت الزوجة والأولاد عليه من جميع الجهات، كيف تخرج الولد من مدرسة خاصة وتدخله مدرسة حكومية؟ كيف تأتي لنا بسلعة من كذا وكذا وأين الذي كنت تأتي به من قبل؟ كيف نشتري تايوانياً وكنا نشتري أمريكياً؟ كيف نفعل فالآن طبعاً الخطأ منه أصلاً؛ لأنه ما عودهم على شيء دنيوي ولا رباهم على الزهد، ولذلك لما تغيرت الأحوال صار هناك ضائقة ومشكلة. على أية حال أنا أقول: نحن في الأمور الدنيوية نعطي لأنفسنا أحسن الأشياء، ونأكل في أفخر المطاعم، ونطبخ الولائم في المطاعم، نفعل أشياء، نشتري، نبذخ على أنفسنا، لكن إذا دعا داعي الصدقة لغيرنا من المسلمين؛ رأيت الإمساك والشح! معاوية بن الحكم السلمي صحابي جليل، كان في البادية، وجاء ليتعلم عند النبي صلى الله عليه وسلم، وقص عليه قصة، قال: (يا رسول الله! كانت لي جارية ترعى غنماً لي قبل أحد والجوانية -موضع بقرب المدينة - فاطلعت ذات يوم، فإذا الذئب قد ذهب بشاة من غنمها، وأنا رجل من بني آدم آسف كما يأسفون -أغضب- لكنني صككتها صكة- رأيت الشاة نقصت من الغنم؛ فضربت الجارية- فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعظم ذلك علي، قلت: يا رسول الله! أفلا أعتقها؟ قال: ائتني بها، فأتيته بها فقال لها: أين الله؟ قالت: في السماء. قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال: أعتقها؛ فإنها مؤمنة). هذا الصحابي تأثر لما لامه الرسول عليه الصلاة والسلام على ضرب الجارية، والناس اليوم يضربون الخدم. يحدثني أحد الأطباء في مستشفى من المستشفيات يقول: يا شيخ! تكلموا في خطبة الجمعة، انصحوا الناس إن عندنا حالات محزنة، خادمات تأتينا فيها كسور، وهذه فيها جروح، والتي تأتي وقد أوشكت على الموت والهلاك مما يفتري بها رب البيت، يعني في الإذلال والإهانة والضرب. فالشاهد -أيها الإخوة- أن هذا الصحابي الجليل تأثر، واليوم نحن نعتدي ونقسو ونفعل ونفعل، ذلك بلا شك لخلل في شخصياتنا.

تكميل الشخصية المسلمة بالعلم والعبادة والأخلاق

تكميل الشخصية المسلمة بالعلم والعبادة والأخلاق الشخصية الإسلامية تكميلها -كما قلنا- بالعلم والعبادة والأخلاق والآداب، والعلم كثير، وعلى رأسه العلم بالله وأسمائه وصفاته وتوحيده سبحانه وتعالى، العلم بالإيمان، العلم كيف نعبد الله؟ إذا عرفنا الله بالتوحيد فكيف نعبده؟ فنحتاج إلى تعلم الفقه، فإذا أردنا بعد ذلك أن نعامل الخلق فنحتاج إلى معرفة أحكام البيوع، ومن اغتنى احتاج إلى معرفة أحكام النكاح؛ لأنه سيتزوج. ولذلك العلماء لما رتبوا أبواب الفقه؛ رتبوها ترتيباً موضوعياً فبدءوها بالإيمان والعقيدة، ثم قالوا: إذا عرف الله؛ يحتاج أن يعرف كيف يعبده، فوضعوا كتاب الصلاة والزكاة والصيام والحج، ثم قالوا: إذا عرف العبادات؛ يحتاج أن يعرف المعاملات، فوضعوا البيوع، ثم قالوا: إذا اغتنى من البيوع؛ إنه يحتاج أن ينكح؛ فوضعوا النكاح بعد البيوع، ثم قالوا: إذا نكح؛ فإنه ربما يطغى ويضرب ويقتل ويجرح؛ فوضعوا كتاب القصاص والحدود والشهادات وما يتبع ذلك. فالمهم شخصياتنا فيها جهل وتحتاج إلى تكميل بالعلم، فيها قسوة تحتاج إلى أن نهذبها بالعبادات، وفيها اعوجاجات تحتاج إلى تقويم بالأخلاق الحسنة، والآداب في التعامل مع الناس، فإذا كملت الشخصية وصارت شخصية لها هيبة، وهذه الهيبة ضرورية في الدعوة وإنكار المنكر، جاء في صحيح مسلم عن سعيد بن جبير قال: (مر ابن عمر بفتيان من قريش قد نصبوا طيراً وهم يرمونه، وقد جعلوا لصاحب الطير كل خاطئة من نبلهم) يعني: كل سهم خطأ يعطوه لصاحب الطير، طبعاً لا يجوز اتخاذ شيء فيه روح غرضاً وهدفاً (فلما رأوا ابن عمر قادماً تفرقوا، فقال ابن عمر: من فعل هذا؟ لعن الله من فعل هذا، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من اتخذ شيئاً فيه الروح غرضاً). فالآن شخصية ابن عمر المتكاملة بالعلم والعبادة والدين والأخلاق صار لها هيبة، أي أن تكميل الشخصية يسبب هيبة، هذه الهيبة مهمة في الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والموضوع سيطول بنا إذا جلسنا نتكلم في تكميل الشخصية الإسلامية، وقد سبق محاضرة بعنوان "وسائل تكوين الشخصية الإسلامية" تكمل هذا الموضوع.

جوانب يغفل عنها بعض الناس

جوانب يغفل عنها بعض الناس بعض الناس كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ينتهون عن المحرمات لكن يفرطون في الواجبات، يقول: ما يزني ولا يأكل الربا ولا يشرب الخمر ولا ولا ولكن هناك واجبات مثل صلة الرحم، وحقوق الجار مفرط فيها، هذه من النقائص الموجودة في كثير من الشخصيات، حتى أن بعض المحسوبين على الالتزام تجده لا ينظر إلى النساء، لا يشاهد الأفلام، لا يسمع الأغاني، لا يسبل الثياب، فهو في المحظورات عنده شيء من الاهتمام، لكن في الواجبات مثل صلة الرحم، وبر الوالدين، وحقوق الأخوة، هناك تفريط واضح. ولذلك أقول: ليس تكميل الشخصية فقط في مسألة الامتناع عن المحظورات وأخذ النقاط القوية، بعض الناس يظن أنه لا بد أن تكون الشخصية فيها نقاط قوة، فيظن أن الرحمة والشفقة والرقة واللين ليست من ضمن نقاط القوة في الشخصية الإسلامية، مع أنها في الحقيقة من ضمن نقاط القوة العظيمة في الشخصية الإسلامية، ولنأخذ عدداً من الأمثلة نختم بها الموضوع، وهذه أشياء نقلها ابن رجب رحمه الله في كتابه العظيم جامع العلوم والحكم: كان عند العرب الأوائل عيب على المرأة أن تحلب الشاة، وكان يستقبحون ذلك، ويحلبها الرجل، وإذا غاب الرجل الزوج أو الأب يحلب لهم الجار، فكان أبو بكر الصديق يحلب لأهل الحي أغنامهم، فلما استخلف وصار أمير المؤمنين قالت جارية منهم -يعني من نساء الحي- بعد أن صار أبو بكر خليفة: الآن لا يحلبها. تقول: لقد صار قائد الدولة وأمير المؤمنين يسير الجيوش ويتحمل المسئوليات هل يلتفت إلى غنمنا ويحلبها؟ الآن لا يحلبها، فسمع بذلك أبو بكر رضي الله عنه فقال: بلى، وإني لأرجو ألا يغيرني ما دخلت فيه عن شيء كنت أفعله. وكان عمر رضي الله عنه يتعاهد الأرامل، فيسقي لهن الماء بالليل، رآه طلحة بالليل يدخل بيت امرأة، فدخل طلحة إلى بيت هذه المرأة نهاراً، فإذا هي عجوز عمياء مقعدة، فسألها: ما يصنع هذا الرجل عندك؟ قالت: هذا له منذ كذا وكذا يتعاهدني، يأتيني بما يصلحني ويخرج عني الأذى! صار الواحد الآن إذا وجد أباه أو أمه أو جده مشلولاً لا يزيل عنه الأذى؟ وهذا عمر رضي الله عنه يزيل الأذى عن امرأة عجوز مقعدة عمياء ويأتي لها بما يصلحها، فقال طلحة لنفسه: [ثكلتك أمك يا طلحة! عثرات عمر تتبع!!]. وكان أبو وائل رحمه الله يطوف على نساء الحي وعجائزهم كل يوم، فيشتري لهن حوائجهن وما يصلحهن. وقال مجاهد: [صحبت ابن عمر في السفر لأخدمه فكان يخدمني] فقضية الرفق والشفقة واللين وخدمة الآخرين بعض الناس يغفلون عنها، ويظنونها ليست من نقاط القوة في الشخصيات، وبالعكس فإنها من نقاط القوة العظيمة في الشخصية. السلام على الصبيان، في البخاري عن أنس رضي الله عنه أنه مر على صبيان فسلم عليهم وقال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله. فأين هذه الشخصيات التي فيها هذا الجانب المتكامل في العلم والعبادة والأخلاق والآداب، وحتى جوانب الرفق واللين والعطف والشفقة والرحمة بالصبيان موجودة؟ فإذاً -أيها الإخوة- هذه الشخصية الإسلامية تحتاج إلى تكميل، وقد ذكرنا أهمية الموضوع وبعض الجوانب التي نحتاجها لتكميل شخصياتنا، واستعرضنا بعض قصص السلف في الموضوع، والجوانب المشرقة في ذلك التاريخ العظيم الذي جله مشرق ونور وضاء، منارات يهتدي بها الخلف من تاريخ وشخصيات السلف. إن الواقع الموجود الآن -واقع المسلمين- يحتاج في بعض الجوانب والأحوال إلى تخصص، أي: كثرت الثغرات، من جهة العلم هناك نقص في العلم، يحتاج هذا النقص إلى شخصيات تتفرغ للعلم، من جهة الإغاثة هناك حاجة ماسة للإغاثة لدرجة أنها تستدعي تخصص أناس في هذا الجانب، في قضايا الجهاد الحاجة تستدعي لتخصص أناس في هذا الجانب، حتى مساعدة الشباب في الزواج على النساء الخيرات يحتاج إلى تخصص أناس في هذا الجانب، البحث عن عوائل فقيرة، وإنكار المنكر الخ، والسؤال هو: هل التخصص الذي يفرضه وتدعو إليه الحكمة يتنافى مع التكامل المطلوب؟ طبعاً A لا يتنافى، والسبب: أن المسلم ينبغي أن يكون عنده حد أدنى في كل شيء، فمثلاً: ما يمكن واحد أن يقول: أنا ما علي من العلم، سأشتغل بالإغاثة أو الجهاد أو مساعدة الفقراء خطأ، يجب أن يكون هناك حد أدنى من العلم وهو ما تصح به عباداتك ومعاملاتك، إذا أردت أن تنكح فإنك تحتاج إلى أن تعرف أحكام النكاح، وإذا أردت أن تبيع؛ ينبغي أن تعرف أحكام البيوع، أما الصلاة فلا بد أن تعرف أحكام الصلاة والطهارة والزكاة، هذه أشياء فيها ممارسة دائمة، وإن كنت قادراً وكان عندك مال؛ تحتاج أن تعرف أحكام الحج، هناك أشياء لا بد أن تعرفها الآن، وهناك أشياء يمكن أن تعرفها في المستقبل إذا احتجت إليها، إذا أردت أن تنكح، إذا أردت أن تطلق، إذا أردت أن تبيع، فتوفر الحد الأدنى في كل جانب مهم، وبذلك تبقى الشخصية الإسلامية في نوع من التكامل، لا يقول أحدنا: أنا أطلب العلم وما علي من الصدقات ولن أتبرع بشيء. نقول: هذا الذي تقوله خطأ واعوجاج، أين إخراج الشح من نفسك ببذل الصدقات، صحيح أنك لا تذهب للعوائل وتبحث عنها وتوصل الأشياء بنفسك، لكن قدم. فإذاً: وجود الحد الأدنى يبقي التكامل مع وجود التخصص المطلوب. ثانياً: لا بد أن نقر بالجوانب الأخرى، يعني صاحب التخصص يقر بالحاجة إلى الأشياء الأخرى، ولا يقول: أنا مجالي فقط ومجال غيري ليس مهماً، لا. كل واحد يبدع في مجاله بحسب إمكاناته وقدراته التي أعطاها الله إياه، وكذلك يشارك بما يستطيع في الجوانب الأخرى، فمثلاً: المشتغل بالجهاد أو غيره قد توجد لديه أوقات للتعلم فهل يقول: ما دام ليس هناك قتال، فأنا لا أتعلم لأنه ليس من اختصاصي ولا هو من شئوني، هذا شغل العلماءـ لا. هذا خطأ وانحراف، فنقول: أنت يا صاحب التخصص! ينبغي عليك أن تشتغل في المجالات الأخرى ما دام عندك إمكانية، وما دامت الفرصة متاحة لك، وبذلك نحافظ على أكبر قدر من التكامل المطلوب مع الاختصاص المطلوب.

الأسئلة

الأسئلة

علاج الشخصيات الهزلية

علاج الشخصيات الهزلية Q أنا شاب عرف عني الهزل بين الشباب، فما جلست مجلساً إلا ابتليت بداء التعليق، وقد حاولت جاهداً أن أزيلها ولكني وجدت أن الأمر أصبح عادة ولا أستطيع تركها فأرشدني؟ A الشخصيات الهزلية دليل على خلل في الشخصية، وهذه الطبيعة لها أسباب منها: أن يكون قد نشأ على ذلك في بيته وأهله، فهم كلهم هزليون، وكل مسألة فيها ضحك ونكت، وما هي آخر نكتة؟ إضافة إلى تربية المدارس والفصول والطلاب مع بعضهم البعض، والناس في الدوائر والوظائف فتجدهم يبحثون عن آخر نكتة، فهذا مما يربي الهزل، وكذلك بعض النفوس -لهذه الشخصيات- عندها قدرة على إضحاك الآخرين، فبعض الشباب -مع الأسف- بدلاً من أن يساعدوا أخاهم الهزلي على أن يتخلص من هزليته، يجعلون الفرصة متاحة له أن يكمل فيها هزليته أكثر؛ ولذلك كلما جاء بحركة ضحكوا، كلما جاء بنكتة ضحكوا، وكلما جاء بتعليق أغرقوا في الضحك، فيحس أن له قبولاً بينهم، ولذلك فهو يكثر منها، ثم إن بعضهم قد يقصده للضحك، يذهب إليه يقول له: ما عندك آخر شيء وآخر كذا، وهذا من هنا ينغز، وهذا من هنا، أي: يجعلون فيه مداخل من أجل استجلاب ما عنده من الحركات المضحكة والكلام المضحك، وهذا من خطأ الذين حوله، فهناك مسئولية ملقاة عليه وهي: أولاً: ألا يكذب؛ لأنه ويل لمضحك القوم (ويل لمن يكذب ليضحك به القوم). وثانياً: ألا يتخذ الإضحاك نفسه ميزته وأن يكون مضحك القوم، فهذه ميزة سخيفة وليست في الحقيقة تقضي على كل جانب جدي في شخصيته، وكيف يتقبل الناس منه علماً حتى يقول: واحد هذا إذا نصحني، والله ما أدري هذا فعلاً سامعها من شيخ أو هذه من ألاعيبه؛ بسبب أنه تكونت عنه فكرة أنه شخصية هزلية. فإذاً لا يكذب ولا يجعل وظيفته مضحكة قوم. ثالثاً: أنه لا يقهقه أو يأتي بما يجعل الآخرين يكثرون الضحك فيجعل قلوبهم ميتة؛ لأن كثرة الضحك تميت القلب، وعليه أن يجاهد نفسه ويكون جاداً، ويتجنب أن يتصدر المجالس ويتكلم، وما دام أنه لن يقول خيراً ولكن سيضحك الناس فليسكت، وعلى إخوانه ممن حوله أن يساعدوه على التخلص من هذا، ولا أقصد -طبعاً- أن يصل من مرحلة الهزل والضحك إلى مرحلة العبوس، والجمود والتكشير، وإن كان التكشير صار الآن مفهومه بعكس المعنى "إنا نكشر في وجوه أقوام" أي: يتبسم. على أية حال لا نريد هذه النقلة المعيبة لكن نريد الاعتدال.

دعائم الشخصية الإسلامية في هذا العصر

دعائم الشخصية الإسلامية في هذا العصر Q ما هي دعائم الشخصية الإسلامية في هذا العصر الذي صارت الأمة فيه مهزومة ويذبحون ذبح النعاج؟ A أولاً: قضية الوعي لا بد أن تكون متوفرة في الشخصية الإسلامية، وكذلك معرفة ما يدور وما يحاك. ثانياً: قضية العزة، لا بد أن تكون الشخصية الإسلامية عزيزة، لا تلين لأهل الكفر، ولا تخنع وتذل لأهل بدعة أو تلاطف وتجامل على حساب الدين، لا بد أن يكون هناك عزة، قضية الولاء والبراء من المفاهيم العقدية التي تصون الشخصية الإسلامية وتجعل الإنسان داعية بشخصيته وبأفعاله.

أسباب الملل والكسل السريع

أسباب الملل والكسل السريع Q كثير من الناس يسعى لتكميل شخصيته؛ لكن ما يلبث أن يدب فيه الملل والكسل؟ A من الأسباب: أنه هجم هجمة واحدة قوية أكثر مما يتحمله بدون فترات راحة وتخفيف، وإنما أخذها شدة واحدة، فهو في هذه الحالة سينقطع به الطريق؛ لأنه حمل نفسه أشياء لا تطيقها، فالنفس تتحمل يوماً أو يومين، أسبوعاً أو أسبوعين، شهراً أو شهرين ثم تمل النفس، ولذلك لو أن واحداً لا يقوم الليل أبداً وأراد أن يقوم الليل من هذه الليلة، فأحسن شيء أن يصلي إحدى عشرة ركعة، وبالنسبة للقرآن الصحابة كانوا يختمونه في أسبوع، فيقول: أنا سأنهيه في أسبوع، ممكن أن يكون مع الحماس والكلام الذي سمعه في الموضوع أو قرأ في الفضائل أن يفعل ذلك في الليلة الأولى، لكن هل تتحمل نفسه هذا؟ لا تتحمل نفسه، ولا تطيق ذلك. أو يقول: ما هو أفضل الصيام؟ صيام داود، أصوم يوماً وأفطر يوماً، من غد أصوم يوماً وأفطر يوماً، هو ما تعود على الصيام، يريد أن ينتقل إلى هذه المرحلة مباشرة، طبعاً نحن لا نريد أن نميت الهمم ونقول: يا فلان! إن كنت تستطيع أن تفعل فلا تفعل لا. المستطيع يفعل، النبي عليه الصلاة والسلام قال لـ عبد الله بن عمرو بن العاص: (فإنك إن فعلت ذلك؛ نفهت نفسك) تعبت عينك، ونفهت نفسك، أي: كلت وملت. ولكن يرفق ما دمنا في النوافل، أما الواجبات فليس فيها تنازل أبداً ولا تساهل ولا شيء اسمه تدرج بمعنى: أول شيء نصلي العشاء في المسجد وبعد ذلك نصلي المغرب ثم نصلي العصر ثم نصلي الفجر في الخطة الخمسية إن شاء الله، هذا الكلام لا يصلح، هذه واجبات لا بد من اليوم أن يقوم الإنسان بها، نحن نتكلم عن النوافل ونقول: يرفق الشخص بنفسه ويتدرج.

حكم طاعة الكافر في مجال العمل

حكم طاعة الكافر في مجال العمل Q هل يجب على الإنسان المسلم طاعة الرجل الكافر في مجال العمل؟ A نقول: يجوز ذلك إذا كان في مجال العمل، وليس له علاقة في التنازل عن الدين، افرض أنك ابتليت برئيس كافر فقال لك مثلاً: اضغط الزر، اكتب هذا التقرير، احضر اجتماع العمل. كذلك ليس هناك ارتكاب لمحرم، مثل أن يقول لك: احضر اجتماعاً مختلطاً أو اسمع هذا المقطع الموسيقي، أو مثلاً اكتب هذا الشيء الذي فيه ضرر بالناس أو المسلمين، ففي هذه الحالة يكون هذا حراماً. نعم أن تسعى لأن تكون أحسن منه أو تكون أنت في مكانه هذا مهم، لكن إلى ذلك الوقت؛ فإن التعامل معهم في حدود العمل المباح جائز.

حكم الإعجاب بالكفار

حكم الإعجاب بالكفار Q بعض الناس أصيبوا بالمسخ في الشخصيات نتيجة الإعجاب بالكفار؟ A صحيح أن بعض شبابنا صار معجباً بالكفار والفسقة، والناس يعجبون بهم، لأنه ليس هناك قدوات بارزة في الساحة، ثم الناس أنفسهم شخصياتهم هزيلة، فصار كل فاسق يعجب به، يسهل عليهم أن ينخدعوا بالفاسق والماجن والمطرب مع أنه إنسان تافه، حتى لو قرأت كلامه أو سيرته الذاتية لوجدته فاشلاً، لماذا دخل الفن والموسيقى لأنه فاشل، لا يستطيع أن يدخل الطب ولا الهندسة ولا العلوم ولا الصيدلة ولا كذا، فاتجه إلى معهد الفن والموسيقى، فصارت حركاتهم ترفع وكلامهم يعرض، فصار الناس لهزالة شخصياتهم يتبعون ذلك. ثم إني قلت: إن كثيراً من الناس الذين سافروا إلى الخارج والبعثات مسخوا مسخاً، وصاروا خلقاً آخر. أحدهم ذهب إلى ألمانيا وعاش هناك وتزوج ألمانية، ثم جاء أهله ليزوروه -أمه وأبوه- في ألمانيا بعد سنين طويلة، فقالت له زوجته: اسمع، إذا جلسنا مع بعض؛ فممنوع تتكلم مع أهلك بالعربي، تكلم بالألماني، تسمع أو لا؟ -طبعاً هي قالتها بالألماني تسمع أو لا- فلما حضروا، جاء واستقبلهم في البيت بالألماني، وجلس يحييهم بالألماني، وكان هناك واحد يترجم؛ لأنه مسكين، شخصيته هزيلة ومهزوزة أمام هذه المرأة الكافرة التي تسلطت عليه، فصار المجلس من أضحك ما يكون، هذا يتكلم بالألماني وقريبه يترجم، ثم يرد عليه الأب والأم بالعربي ويترجم المترجم هذا من الأمثلة. وبعضهم يذهب ثم بعد سنوات يرجع فيقول له الناس: هاه يا فلان! أين صلاة الفجر، الصيام، السحور؟ يقول: لا، أنتم ما عرفتم أن هذا يضعف الخلايا، نحن عرفنا أشياء، هذا الصيام يعمل كذا وكذا، فنقول: صار المسخ في العبادات وكذلك في اللغة، فتراهم يستخدمون لغة الكفار حتى في محادثاتهم الشخصية، لا يوجد كافر في مجلس، فتجد اثنين من الشباب جالسين في المكتب يرطنون بلغة الأعاجم لماذا؟ ما هي المصلحة؟ ما هي الحاجة؟ وكثير منهم يلبس عليه بقضية دعوة الكفار، يقول: لا بد أن نطور لغتنا ونحسن، سأسمع إذاعة كذا وأسمع كذا، وأقرأ آخر كورس لغة، وأقرأ في كتب، وليس هناك شيء من الدعوة. بعض الناس والله من إخلاصهم ربما يسلم ناس على أيديهم وهم لا يعرفون لغة القوم، لكنه جاء بهذا الكافر إلى إمام المسجد أو على شخص يعرف لغة، أو على مركز توعية الجاليات مع أنه لا يعرف لغة هذا، لكن من إخلاصه أسلم ناس، فهو بلغة الإشارات والكلمات التي يعرفها تسبب في إسلام ناس، وهذا الأخ الذي جاء هنا جالس يقول: أتعلم لغتهم وأسافر إلى الخارج وأتحدث مع الكفار. يقول: لأن هذه الأشياء "الأكسنت" ما اسمها؟ هل هي هكذا أو لا؟ عندما يقولون اللغة، لا بد أن نكتسبها. لماذا يا أخي؟ هم يتكلمون بالعربي معنا؟ وإذا تكلموا يتكلموا الفصحى؟ لماذا نحن لا بد أن نتعلم اللكنة ونتكلم مثلهم؟ فالمهم أنا أقول: إنها من جوانب مسخ الشخصية الحاصلة.

معاملة الكفار بالحسنى والتضييق عليهم

معاملة الكفار بالحسنى والتضييق عليهم Q كيف نجمع بين قول النبي عليه الصلاة والسلام: فاضطروهم إلى أضيقه، وبين معاملتهم بالحسنى؟ A طبعاً هذا يشير إلى حديث (فاضطروهم إلى أضيقه) يعني: إذا مشيت أنت وهو في الطريق، ولا تقول للكافر: تفضل أنت تدخل قبلي أو اخرج قبلي أو يقدم له شيئاً، لا، أنت لا تقدمه في شيء، يقول: كيف نجمع بين هذا وبين معاملتهم بالأخلاق الحسنة؟ نقول: أولاً: إذا كنا نريد أن نعاملهم بالأخلاق الحسنة؛ لا بد أن يكونوا من غير المعادين لنا والمحاربين في الدين {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} [الممتحنة:8] فإذاً الإحسان إليهم ومعاملتهم بالحسنى عندما لا يكون محارباً لنا في الدين. ثانياً: لا ينبني على ذلك إذلال للمسلم؛ لأن بعض الناس يجعل الإحسان في المعاملة إذلالاً له، يصبح ذلاً للإسلام، يذل الدين في عين الكافر بسبب هذه المعاملة، ليست معاملة بالحسنى. ثالثاً: أن تعامله بالحسنى في مجال الدعوة؛ لتكسب قلبه، لكن أن تقول: أزوره في بيته، وأحضر معه في مناسباته حتى أكسب قلبه، هذا شيء خاطئ إذا كنت تظن أن هذه المعصية ستؤدي إلى طاعة وهي دعوة، يجب أن تكون وسيلتك في الدعوة شرعية كلين الكلام، تبسمك في وجهه صحيح، وتقديم الحجج والبراهين والمنطق في الكلام الشرعي طبعاً هذا مطلوب. ثم إكرامه بوليمة أو شيء تدعوه إليه لتكسب قلبه نعم، لكن بعض الناس يفعلون ذلك دون أن يكون له قصد في الدعوة، يا أخي بدل أن تدعو هذا الكافر وتعمل له وليمة انظر إلى إخوانك المسلمين الذين يحتاجون إلى كل قرش فما بالك ترغب عنهم لتعطي ذاك؟ والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد. سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

مجالات لخدمة الإسلام

مجالات لخدمة الإسلام إن دين الله سبحانه وتعالى منصور، لكنه يحتاج إلى بذل الأسباب الشرعية القولية والفعلية من قبل الدعاة إلى الله، فلابد لكل داعية وطالب علم أن لا يحتقر نفسه وأن يعرف ما يصلح أن يخدم به الدين، فالدعوة إلى الله لها مجالات متعددة منها ما هو فرض كفائي، ومنها ما قد يتعين على بعض الناس في بعض الأوقات والأماكن وهكذا.

طاقات معطلة عن العمل للدين

طاقات معطلة عن العمل للدين الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الحمد لله الذي هدانا إلى الإسلام، هو دين الله القويم، ومنَّ علينا بإرسال أفضل الأنبياء والمرسلين، بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، وداعياً إلى الله بإذنه، فتركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. إخواني! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وانقضت معظم أوقات المسلمين في البحث عن اللذات، والعمل للدنيا، وانشغل جمهور المسلمين عن الآخرة بأنواع من الملاهي، والشُغل بالنفس، فصار العمل لدين الله قليلاً أو نادراً، فلا شك أن هذه علامة ضعف وخطر، وهي من أسباب تقهقرنا وتخلفنا نحن المسلمين، إننا لا نرى جمهور المسلمين يعملون للإسلام، ولا يحملون هم الإسلام. ثم إننا إذا نظرنا إلى واقع الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى أو المحسوبين على قطاع الدعوة إلى الله، والمتمسكين بالإسلام أو الذين ينتسبون إلى التمسك بالدين؛ لوجدنا أن هناك خللاً كبيراً أيضاً وتفريطاً عظيماً، وكما أن هناك غثاء في الأمة فهناك غثاء أيضاً في هذا القطاع الذين ظاهرهم التمسك بالدين. وذلك أن كثيراً من الشباب قد اتجهوا في الآونة الأخيرة لأنواع من الملاهي والانشغال عن العمل للدين، وصار همهم هو أنفسهم، وعملهم للدنيا، ودراستهم للدنيا، وسعيهم للوظائف، وبناء البيوت وتحصيل الأموال وغير ذلك، والانشغال بالأثاث والمتاع والرياش، وحتى الأماكن التي يذهب كثير منهم إليها، ويسافرون إليها ليست لتحصيل مصلحة في الدعوة لدين الله ولا لتحصيل علم شرعي، ولا لتربية النفس على الطاعة وإنما هي أشياء من ضياع الوقت واللذات، حتى أن كثيراً منهم يذهبون في رحلات للصيد ويصيدون من الدواب أحقرها وأسوأها. فصارت الهمة متدنية حتى فيما يصيدون، لم تعد كثير من تلك الجموع همها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو الدعوة إلى الله أو طلب العلم، وتراخى كثير من الذين كانوا من القدوات والعاملين للإسلام في يوم من الأيام حتى صاروا في آخر الركب في مؤخرة الناس، وتحول كثير من الطيبين إلى طاقات معطلة، لا تستفيد منها الأمة ولا تعمل لرفع شأن الدين، وأصيب عدد آخر منهم بالإحباط، وهم يقولون: ما هو السبيل وماذا عسانا أن نفعل؟ وعدد منهم قد أشغلتهم الأحداث عن التمعن في الدين والتفكر فيه وانساقوا وراء أغراض لأعداء الإسلام، انشغال عن حقيقة الدين واتباع للتوافه أو لأشياء يحسبونها عظيمة، وهي عند الله هينة لا خطر لها. وانطلت خدع أعداء الدين على عدد من هؤلاء؛ فصاروا يهتمون لا أقول بالقشور أو تحسبون أني أتكلم عن السنن؟ لا. معاذ الله، فإن من صلب ديننا التمسك بالسنة والعمل من أجلها، لكن المسألة -أيها الإخوة- صارت عند كثير من المسلمين وعند كثير من هؤلاء الذين كانوا يعملون للإسلام ويضحون من أجله، صار الانشغال بالتوافه واللعب واللهو، أو الدخول في أشياء من النقاشات والجدل العقيم الذي لا يسمن ولا يغني من جوع. وصارت حتى المجتمعات والأندية التي يجلسون فيها خالية من ذكر الله، ومن العلم الشرعي وطرح الأفكار الجادة والأطروحات التي من شأنها رفع شأن الدين، وصارت القضية خلافات وجدل وأخذ ورد، وتفسخات في الجسد الإسلامي الذي ينبغي أن يكون جسداً واحداً إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى. إن الذي يبحث وراء انشغال الكثيرين بالأمور التافهة أو بالأمور الدنيوية والمتاع الزائل، يجد أنهم لا يشعرون بالواجبات الشرعية التي أوجب الله عليهم القيام بها، الواجبات الدينية غير سائرة في الدماء، وليست خاطرة على البال في الوقت الحاضر، بل كانت تخطر في وقت عند البعض ثم أزيحت الآن، وليس هناك قلق يزعج نفوس هؤلاء وعقولهم إلى التفكير في وسائل جادة لخدمة الدين، ولا شك أن الواجبات الدينية والوظائف الشرعية كثيرة، لكنها غائبة عن أذهان الكثيرين، فمثلاً: من الوظائف الشرعية الإمامة والخطابة، والأذان، والقضاء، والفتيا، والجهاد، وكشف سُبل العدو، والحسبة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله عز وجل، والقيام على سد حاجات الفقراء، وإغاثة المنكوبين من المسلمين، فالواجبات الشرعية كثيرة جداً في هذا الزمن؛ لأن الثغرات المفتوحة في المجتمعات الإسلامية عموماً متعددة وواسعة، وتحتاج إلى همم كثيرة وجهود متظافرة للقيام بسد الخلل وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ودفع عجلة العمل الإسلامي إلى الأمام، والنهوض بشأن هذا الدين ليعود إلى ممارسة دوره في الواقع.

فروض الكفاية واهتمام العلماء بها

فروض الكفاية واهتمام العلماء بها وهذا يقودنا أيها الإخوة! إلى مسألة مهمة ومفهوم مهم جداً؛ ألا وهو قضية فروض الكفاية، إن كثيراً من الشباب لا يدركون لهذا المفهوم حقه، وربما لم يطلعوا أصلاً على كلام العلماء في هذه القضية، هناك واجبات كثيرة في المجتمع الإسلامي وبلدان المسلمين، كلنا آثمون بتركها جميعاً إلا من سعى للقيام بها، وكأن الواحد يظن أن صلاحه في نفسه أو بعده عن بعض المنكرات والمعاصي هو الواجب عليه، وأنه لا يجب عليه أكثر من ذلك، لا يجب عليه أكثر من الامتناع عن سماع الأغاني، والامتناع عن الإسبال، والامتناع عن بعض المنكرات والمعاصي التي كان يفعلها في السابق، هذا كل ما من شأنه، والمداومة على صلاة الجماعة ومصاحبة بعض الأخيار ممن هو على شاكلته فقط. لكن المسألة أعمق من هذا بكثير، وكما قال ذلك الرجل الصالح: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ} [يس:26] يا ليت قومي يعلمون بالثغرات الموجودة والواجبات الشرعية في سدها، يا ليت قومي يعلمون بمعنى: فرض الكفاية الذي دندن حوله العلماء كـ ابن تيمية رحمه الله والشاطبي والقرافي والموقري والعز بن عبد السلام ونحوهم، هؤلاء العلماء الذين عاشوا في فترة أو في أزمة صار فيها شأن المسلمين إلى تضعضع وانحسار، وشعروا بالثغرات الموجودة فتكلموا في كتبهم، وبالذات مواضع أصول الفقه من كتبهم على هذه الواجبات الشرعية، فروض الكفاية، الذي دعا العلماء إلى توضيحها شعورهم بوجود العجز في الأمة، وشعورهم بوجود الثغرات التي ليس هناك من يقوم بتغطيتها. ولذلك تكلموا في مسألة فروض الكفاية، والكلام عنها الآن في هذا الوقت من الأشياء المهمة والمهمة جداً؛ لأن الكلام عن فروض الكفاية هو الذي يشعرنا بتخاذلنا، وهو الذي يشعرنا بضعفنا وتقصيرنا فلعلنا نتحمس للقيام بالدور المطلوب.

تعريف العلماء لفرض الكفاية

تعريف العلماء لفرض الكفاية العلماء يُعرفون فروض الكفاية: بأنها إيقاع الفعل مع قطع النظر عن الفاعل، المهم أن الفعل يقع، بغض النظر عمن أنجزه، ويقولون: فعل البعض يكفي في سقوط الإثم عن الباقين. فرض الكفاية: إذا فعله البعض كفى وسقط الإثم عن الباقين، وإلا أثموا كلهم، والذي يقوم بفعل فرض الكفاية مأجور، ويُسقط الإثم عن الباقين.

أمثلة على فروض الكفاية

أمثلة على فروض الكفاية ومن الذين تكلموا عن موضوع فروض الكفاية الشافعي رحمه الله واستدل بقوله تعالى: {إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [التوبة:39] النفير للجهاد والقيام به واجب، هذا فرض على الأمة يجب أن تقوم به لحماية الثغور ونشر الدين، وتحطيم الطواغيت ومقارعة جيوش الكفر لئلا يكون هناك فتنة ويكون الدين كله لله، ولئلا يوجد عوائق تحول دون انتشار الدين. الجهاد واجب إذا قام به البعض سقط عن الباقين، استدل الشافعي بقوله تعالى {إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [التوبة:39] أي: أنه إذا لن تنفر الأمة أثمت كلها، ويعذبهم الله عذاباً أليماً، فهو فرض على الأمة -فرض الكفاية- فرض عام على الأمة يجب أن تقوم به, فإذا قام به بعضهم بكفاية سقط الإثم عن الباقين وثبت الأجر لمن انتدب لإيقاعه وإلا أثم، من الذي يأثم؟ أثم من كان يستطيع القيام به فلم يفعل، لأن بعض فروض الكفاية يوجد من المسلمين أناس عجزة لا يستطيعون القيام بها، فإذا لم تقم الأمة بها أثم الجميع، ولكن من المقصود بالجميع؟ المقصود القادر على أن يقوم بالعمل ولم يقم به، وليس المشلول والأعمى، فإنهما لا يأثمان إذا تركوا الجهاد لأن الله عذرهم، وإذا نفر الكفاية حصل المطلوب وأنُقذت الأمة من الإثم، ومن كلام العلماء في فرض الكفاية: أنه ليس فرض الكفاية أن يقوم به البعض كما اتفق أي: على أي صورة حتى لو لم تكون صحيحة مجزئة، وإنما يجب أن يكون هذا البعض قادراً على تحقيقه، فيمكن مثلاً أن يقوم بعض الناس بإنكار المنكرات، لكن عددهم قليل جداً لا يكفي، فهل يكون الإثم قد سقط عن الباقين؟ A لا. ليس القضية أن يقام به بأي طريقة، بل لا بد أن يقام به بطريقة صحيحة كافية تغطي العجز وتقوم بالمطلوب، إن لم يحصل فإن البعض الذين قاموا بالجزء من العمل لا يُسقطون الإثم عن الباقين، هم مأجورون ولكن لأنه مازال يوجد عجز فالباقون كلهم آثمون حتى يقوموا بهذا الواجب. ومن أمثلة فروض الكفاية التي ضربها أهل العلم مثلاً: صلاة الجنازة، إذا قام بها البعض سقطت عن الباقين، رد السلام إذا رد السلام واحد أجزأ عن الجماعة، وقال الإمام أحمد رحمه الله عن فرض الكفاية: واجب على الجميع، ويسقط إذا قام به من تقوم به الكفاية ويأثمون إذا تركوه جميعاً، وهذا الإثم مقيد بالاستطاعة والطاقة فغير المستطيع والقادر لا يأثم، ونص على ذلك ابن تيمية رحمه الله تعالى. ومن القواعد المهمة في فروض الكفاية -هذا الكلام مقدمة قبل الدخول في مسألة المجالات أو الحقول لخدمة الإسلام- لأن المسألة الآن مهمة في تنشيط الكسالى، وإعادة الذين انحرفوا عن جادة العمل وركنوا إلى الدعة والكسل إلى حقل الدعوة والعمل مرة أخرى، وهذه مسألة مهمة.

قواعد فروض الكفاية

قواعد فروض الكفاية قواعد فروض الكفاية:

سقوطه عن العاجز

سقوطه عن العاجز الأول: أن العاجز يسقط عنه.

أن فروض الكفاية تتعين على البعض

أن فروض الكفاية تتعين على البعض الثاني: أن فروض الكفاية تتعين على بعض الناس في بعض الأوقات، وذكر شيخ الإسلام رحمه الله في المجلد التاسع عشر في: مجموع الفتاوى قال: وفروض الكفايات تتنوع تنوع فروض الأعيان، يعني مثل الفروض التي فيها صلاة وصيام وحج مثلاً، كذلك فروض الكفايات تتنوع بتنوع فروض الأعيان، ولها تنوع يخصها وهو أنها تتعين على من لم يقم بها غيره، إذا وجد أحد في موقع ورأى ثغرة في المسلمين يجب عليه أن يقوم بها إذا لم يكن هناك من يقوم بها غيره، ربما تجد منكراً أمامك أنت الذي رأيته، سيفوت لو ذهبت تستدعي غيرك مثلاً، يجب عليك أن تنكر أنت بالقواعد والضوابط الشرعية ما لم يترتب عليه منكر أكبر إلى آخر ذلك، المهم أنه في بعض الأحيان والأوقات يكون فرض الكفاية متعيناً على هذا الشخص المعين في الوقت المعين في المكان المعين. قال شيخ الإسلام: فقد تتعين في وقت ومكان وعلى شخص وطائفة، قد تكون متعينة على شخص، قد تكون متعينة على طائفة وفي وقت آخر أو مكان آخر على شخص آخر أو طائفة أخرى كما يقع مثل ذلك في الولايات والجهاد والفتيا والقضاء وغير ذلك. وذكر شيخ الإسلام رحمه الله بعده كلاماً في المستحبات، وأنها تتنوع بشكل أبلغ، وأنه قد يستحب في حق فلان شيء أكثر مما يستحب في حق فلان، الذي صوته جميل يستحب في حقه الأذان أكثر من غيره، صاحب الحفظ والإتقان في القراءة ومراعاة أحكام الصلاة يتعين في حقه الإمامة أكثر من غيره، وصاحب الفصل بين المتخاصمين والعلم بالقضاء والقدرة على تمييز الحق من الباطل فهذا متعين عليه القيام بالقضاء أكثر من غيره. الشخص الذي عنده قدرة على الحفظ والفهم يتعين عليه التفرغ لطلب العلم أكثر من غيره، صاحب الرأي السديد في القتال وصاحب النجدة والمروءة والمسارعة والقوة الجسدية والعقلية والمهارات القتالية يستحب في حقه الجهاد أكثر من غيره وهكذا، وحتى صاحب القدرة على التجارة الذي ينفع المسلمين وليس الذي يغوص في التجارة وينسى العلم والدعوة، وينسى الدين! لا. وإنما صاحب القدرة على القيام بسد حاجة المسلمين من المال بأن يكون ماهراً بالتجارة قادراً عليها مثلاً، فهذا يتعين في حقه أكثر من غيره، من غير المجربين والذين ليس لهم سابق خبرة بالتجارة. ومن الكلام الذي ذكره شيخ الإسلام رحمه الله: الجهاد واجب على الكفاية، لكن وجوبه على المرتزقة الذين يُعطون مال الفيء للجهاد أوكد، الجيوش النظامية الإسلامية التي تُعطى من مال الفيء يعطون مرتبات من بيت المال، لأجل التفرغ للقتال، الجهاد عليهم أوكد هذا كلامه رحمه الله. فإذاً القضية تتعين على طائفة أو على شخص في زمان أو مكان، هذه القضية تختلف باختلاف الأحوال، وقال رحمه الله: وكذلك أهل العلم الذين يحفظون على الأمة الكتاب والسنة صورة ومعنى، صورة: أي: يحفظون النصوص، القرآن والأحاديث، والمعنى: الفقه في النصوص، وأهل العلم الذين يحفظون على الأمة الكتاب والسنة صورة ومعنى، مع أن حفظ ذلك واجب على الأمة عموماً على الكفاية، واجب عيني على كل مسلم أن يعلم كيف يحج إذا أراد الحج، وكيف ينكح إذا أراد الزواج، وكيف يطلق إذا أراد الطلاق، وكيف يبيع إذا أراد التجارة، هذا واجب عيني على كل واحد أن يعلم، لكن على أصحاب العلم الذين لهم نظر ثاقب وفهم وفقه ودقة وحفظ الإلمام بالأشياء العلمية والتبحر في العلم هذا عليهم أوجب من غيرهم، وجوب ذلك عيناً وكفاية على أهل العلم الذين رأسوا فيه، أو رزقوا عليه أوجب منه على غيرهم، لأنه واجب بالشرع عموماً، وقد يتعين عليهم لقدرتهم عليه وعجز غيرهم، وهذا من أوجه التعيين. ويدخل في القدرة استعداد العقل وسابقة الطلب. وقال شيخ الإسلام رحمه الله: فروض الكفاية قد يتعين على بعض الناس في بعض الأوقات، ومن قواعد فروض الكفاية: أنه يلزم السلطان ما لا يلزم غيره بشأن فروض الكفايات، أي: واحد عنده قدرة وقوة يلزمه من فروض الكفايات مالا يلزم غيره، هذا شيء طبيعي بدهي، فإن لم يقم به صاحب القدرة أو السلطان وجب على غيره من المسلمين القادرين أن يقوموا به. ولذلك ابن تيمية رحمه الله في وقت غزو التتار قام بعدد من فروض الكفاية مثل إقامة بعض الحدود هو وتلاميذه رحمه الله، كانوا يجلدون شُرَّابَ الخمور، أقاموا الحدود لما لم تقم في البلد وصارت فوضى؛ نتيجة هجوم التتار وذعر الناس وخوفهم واضطربت الأمور. كان هو وتلاميذه رحمه الله تعالى ممن يقيمون شرع الله في البلد، وكانوا يقومون بوظيفة السلطان في الحدود؛ لأن أمر الحدود إلى السلطان، لكن لما ذهبت مع ذلك الواقع المختل قام بها شيخ الإسلام رحمه الله وتلاميذه، وأقاموا بعض الحدود.

إذا تزاحمت الفروض قدم أوكدها

إذا تزاحمت الفروض قدم أوكدها وكذلك فإن فروض الكفايات إذا تزاحمت فما هو الحل؟ قال شيخ الإسلام رحمه الله: إذا ازدحم واجبان لا يمكن جمعهما في الوقت نفسه فيقدم أوكدهما إذا صار هناك فرضا كفاية لا تستطيع أن تجمع بينهما أو واجبان عموماً لا تستطيع الجمع بينهما فأنت تقوم بالأوكد والأوجب منهما في هذه الحالة، ولايكون الآخر عليك واجباً، ولذلك لا تأثم بتركه، وكذلك إذا اجتمع محرمان لا بد من ارتكاب أحدهما، فإنك ترتكب الأدنى لدفع الأسوأ، ترتكب المحرم الأخف لدفع المحرم الأثقل والأسوأ، وفي هذه الحالة لا تكون آثماً بارتكاب المحرم الأخف.

متى يسقط فرض الكفاية

متى يسقط فرض الكفاية متى يسقط فرض الكفاية؟ ذكر القرافي رحمه الله تعالى: أنه لا يشترط في فرض الكفاية تحقق الفعل ولكن غلبة الظن تكفي، أي: إذا غلب على ظنك أن هناك طائفة قد قامت به أو شخص آخر قام به سقط عنك، وإذا غلب على ظنك أنه لم يقم به أحد وهذا مفيد في علاج قضايا المنكرات، بعض الناس يقول: ربما يوجد غيري يقوم بها، ربما غيروه وأنا ما أدري، ربما قام به أحد وغيره، نقول: ما الذي يسقط عنك المسئولية أمام الله عز وجل؟ إذا غلب على ظنك أن طائفة أو شخصاً قد قام به سقط عنك، وإذا غلب على ظنك أنه لم يقم به أحد فإن التعيين باقٍ عليك، يتعين عليك القيام به.

أن فرض الكفاية حسب الاستطاعة

أن فرض الكفاية حسب الاستطاعة وكذلك من قواعد فروض الكفايات: أن فرض الكفاية حسب القدرة والاستطاعة، بعض الناس عنده قدرة أكثر من غيره، ولذلك فإن بعض أصحاب الاستطاعة أو القوة والقدرة يكون إثمهم عند الله ومسئوليتهم أشد من غيرهم من الضعفاء، والدخول في المجالات التي تمكن من القيام بفرض الكفاية إذا تعين طريقاً واجب، يجب الدخول فيها لأجل القيام بفرض الكفاية، وكان هناك عدد من العلماء لهم وجهة نظر في تولي الولايات، مثل: إسماعيل بن علية رحمه الله فإنه أخذ ولاية الصدقات، تولى ولاية الصدقات وظيفة في بيت المال، يجمع الصدقات ويصرفها في مستحقيها، هذا اجتهاده رحمه الله وإن أنكر عليه من أنكر لكن رأيه دخل فيها لأجل إقامة هذا الفرض، وكذلك خالد بن الوليد لما قُتل الثلاثة الأمراء الذين عينهم النبي صلى الله عليه وسلم تقدم هو لسد الثغرة وحمل اللواء كل على حسب طاقته وكل بحسب موقعه. من الأشياء اللطيفة التي أشار إليها الشاطبي رحمه الله في المسألة الحادية عشرة في المجلد الأول من كتاب: الموافقات في مسألة فروض الكفاية، بعد أن ساق الأدلة في قضية فروض الكفاية: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة:122] {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:104] على أحد المعنيين في تفسير الآية ذكر أن القيام بالشيء هو بحسب القدرة والاستطاعة، وأن الذي يأثم هو صاحب القدرة والاستطاعة إذا لم يقم، واستدل بحديث أبي ذر: (يا أبا ذر! إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي لا تأَمَرَنَّ على اثنين، ولا تولين على مال يتيم) وقال الشاطبي رحمه الله: وكلا الأمرين من فروض الكفاية، ومع ذلك فقد نهاه عنها، أي: تولي مال اليتيم من فروض الكفاية لئلا يضيع، وكذلك الإمارة من فروض الكفاية، لا يصبح الناس فوضى لا سراة لهم. قال: ومع ذلك فقد نهاه عنه، لأنه يعلم أنه لا يطيق القيام بهذه المسئولية، فلو فرض إهمال الناس لهما لم يصح أن يقال بدخول أبي ذر في حرج الإهمال ولا من كان مثله، يعني: إذا لم يقم بهما العجزة أصلاً على القيام ليس عليهم حرج ولا يدخلون في الحرج، قال: وعلى هذا النهي جرى في تقليل كثير من فروض الكفايات فقد جاء عن مالك أنه سئل عن طلب العلم أفرض هو؟ قال: أما على كل الناس فلا، أي: الزائد عن الفرض العين، كل واحد عليه أن يعلم إذا أراد أن يطلق كيف يطلق، إذا أراد أن يبيع كيف يبيع، لكن طلب العلم كله والتفقه في الدين ليس بفرض، لما سُئل مالك قال: أما على كل الناس فلا، وقال أيضاً: أما من كان فيه موضع للإمامة فالاجتهاد في طلب العلم عليه واجب. عموماً: الشاطبي رحمه الله أشار إلى نكتة بديعة في القضية وهي مسألة تهيؤ الناس لأداء فروض الكفاية، قال: الذين ليس عندهم قدرة للقيام بها يجب عليهم أن يدفعوا غيرهم على القيام، وأن يساعدوا غيرهم للقيام بها، قال: ومن لا يقدر عليها مطلوب بأمر آخر وهو إقامة ذلك القادر وإجباره على القيام به. أبٌ ما يستطيع أن يطلب العلم ولمس في ولد من ولده القدرة، إذاً يجب عليه أن يدفعه لهذا لأجل سد الثغرة الموجودة عند الناس في قضية الإمامة في العلم والفُتيا والتعليم، ولذلك قال رحمه الله: فإذا فُرض أن واحداً من الصبيان ظهر عليه حسن إدراك، وجودة فهم، ووفور حفظ لما يسمع، ميل به نحو ذلك القصد الذي هو طلب العلم، وجهنا الصبي هذا لطلب العلم، وهذا واجب على الناظر فيه من حيث الجملة؛ مراعاة لما يرجى فيه من القيام بمصلحة التعليم، إذاً يجب على ولي الصبي أن يوجهه لهذا المجال إذا أَنَسَ من الولد القدرة، يجب أن يدفعه إلى هذا المجال أو إلى هذا الحقل لأجل أن يغطي في المستقبل، إذاً هذه قضية بعض الأشياء المتعلقة بفروض الكفاية. وقد كان السلف رحمهم الله قد قاموا بذلك خير قيام، وكان كل واحد يقوم على قدر طاقته، هذا شبير في معركة القادسية واحد من المسلمين قزم قصير كانوا ربما استهزءوا به، تقدم واحد من فرسان الفرس للمبارزة والتحدي ما خرج إليه أحد، فهذا المسلم القصير قام وخرج حتى ضحك به ذلك الرجل وأمسكه وأنزله من الفرس ودقه في الأرض، ولكن تعلقت قدم ذلك الفارس بشيء فسقط على الأرض فقعد عليه شبير فذبحه بسيفه والناس ينظرون بين تكبيرة المسلمين وتأوهات الفرس الملاعين، كانوا يستشعرون أهمية القيام بالقضية، هذا كان على مستوى الضعفاء. أما على مستوى الوزراء: انظر مثلاً في ترجمة الوزير ابن هبيرة رحمه الله يحيى بن محمد بن هبيرة بن سعد بن الحسين هذا الرجل العظيم ولد في ربيع الآخر سنة (499هـ) وكان معاصر لـ نور الدين الشهيد، والرجل هذا نشأ فقيراً محتاجاً فدخل في بعض أعمال الخليفة حتى صار وزيراً، لكن الرجل هذا ما ضاع في متاهات المناصب والقصور والغنى والثراء، وإنما حافظ على دينه. ولذلك لما تولى الوزارة مازال يطلب العلم وقد كان يطلبه وهو شاب، وتخرج على عدد من العلماء، صنف كتاباً وهو في الوزارة، وهذا الكتاب المشهور باسم: الإفصاح عن معاني الصحاح، اعتنى به وجمع عليه أئمة المذاهب وأوفدهم من البلدان إليه لأجله، بحيث أنفق على ذلك مائة وثلاثة عشر ألف دينار، وحدث به واجتمع خلق عظيم لسماعه عليه، وبُعث إلى الأطراف بنسخ منه حتى السلطان نور الدين الشهيد واشتغل به الفقهاء في ذلك الزمان على اختلاف مذاهبهم يدرسون منه في المدارس والمساجد، ويعيده المعيدون ويحفظ منه الفقهاء. لكنه ما غصبهم عليه أو أنه استغل منصبه لفرض كتابه بالقوة أبداً، لكن كان يستعين بحكم منصبه بالفقهاء ويستقدمهم على نفقته ويتيح المجال لمناقشة ما في الكتاب والتصحيحات، وهو رجل عالم قبل أن يكون وزيراً، وكان هذا الرجل من فقهه يقول: لا تقولوا في ألقابي سيد الوزراء فإن الله سمى هارون وزيراً، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أن وزيريه أبو بكر وعمر، وقال: (إن الله اختارني واختار لي أصحاباً فجعلهم وزراء وأنصاراً) ولا يصح أن يقال عني: أني سيد فهؤلاء السادة. وهذا الشخص لما ولي الوزارة وكنيته أبو المظفر ابن هبيرة رحمه الله، بالغ في تقريب خيار الناس من الفقهاء والمحدثين والصالحين، واجتهد في إكرامهم وإيصال النفع إليهم، وارتفع به أهل السنة غاية الارتفاع، وقال مرة في وزارته: والله لقد كنت أسأل الله تعالى الدنيا لأخدم بما يرزقنيه الله منها العلم وأهله، فسعيه للمال أو المنصب من أجل خدمة أهل العلم، وكان مع كونه وزيراً يُنفق أمواله في سبيل الله. ولذلك قال مرة: ما وجبت عليَّ زكاة قط، وقال ابن الجوزي: كان يتحدث بنعم الله عليه ويذكر في منصبه شدة فقره القديم فيقول: نزلتُ يوماً إلى دجلة وليس معي رغيفٌ أعبر به، وكان من ورعه لا يلبس ثوباً فيه الإبريسم وهو الحرير على القطن ولو كان مخلوطاً بالقطن، فإن شك في ذلك سل طاقته ونظر في نسجه هل دخل فيه الحرير أم لا! ونظر هل القطن أكثر أم الإبريسم، إذا دخل فيه شيء من الحرير نظر أيهما أكثر، فإن استويا لم يلبسه. قال: ولقد ذكر يوماً في بعض مجالسه فقال له بعض فقهاء الحنابلة: يا مولانا! إذا استويا جاز لبسه في أحد الوجهين عند أصحابنا، قال: إني لا آخذ إلا بالأحوط، والشاهد أنه كان مُكرماً لأهل العلم ويقرأ عنده الحديث، وعلى الشيوخ في حضوره ويجني من البحث والفوائد ما يكثر ذكره، وكان مقرباً لأهل العلم والدين كريماً طيب الخلق، وكان شديد الإيثار لمجالسة أرباب الدين والفقراء، بحيث كان يقول لبعض الفقراء: لأنت أخي والمسلمون كلهم إخوة، وكان أكثر ما يحضره الفقراء والعميان إذا مد السماط، فلما كان ذات يوم وأكل الناس وخرجوا بقي رجل ضرير يبكي، ويقول: سرقوا مداسي ومالي غيره، والله ما أقدر على ثمن مداسي، وما بي إلا أن أمشي حافياً وأصلي، فقام الوزير من مجلسه ولبس مداسه وجاء إلى الضرير فوقف عنده وخلع مداسه والضرير لا يعرفه وقال: إلبس هذا وأبصره على قدر رجلك؟! فلبسه وقال: نعم. لا إله إلا الله كأنه مداسي قال: خذه، فأعطاه إياه. الرجل هذا لما مات رحمه الله تعالى من شدة كرمه وحلمه وخُلقه الحسن وخِدمته للمسلمين غُلقت أسواق بغداد وخرج جمع عظيم في الأسواق وعلى السطوح وعلى شاطئ دجلة وكثر البكاء عليه رحمه الله. الشاهد من الكلام: أنهم كانوا يبذلون للدين على قدر طاقاتهم ومناصبهم وولاياتهم واستطاعتهم وأموالهم، وربما يكون الواحد ما عنده شيء فكان يوقف نفسه لأحد العلماء، كما جاء في سيرة القرافي أنه لما دخل بلداً جاءه شاب قال: وقفت نفسي عليك هذا اليوم، ماذا تريدني أن أفعل فعلت، كانوا يعملون ولو لخدمة العلماء إذا لم يجد ما يقدمه قام في خدمة أهل العلم، فهذا يكون مبلغاً في حلقة حديث لأنه صاحب صوت قوي مشترك في التبليغ، الأعرابي يشترك في تثبيت الإمام أحمد، حتى اللصوص في السجن سعوا في تثبيته رحمه الله تعالى، كل واحد كان يبذل ما يستطيع، هذه القضية الغائبة الآن عنا، كل واحد يبذل ما يستطيع. ابن أم مكتوم الأعمى رضي الله عنه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج في غزوة قال: أقيموني مع السارية وأعطوني العلم لأني أعمى ما أفر، ما أرى ما حولي أمسك لكم العلم، والشاهد -أيها الإخوة- أننا نحن الآن في مشكلة كبيرة وهي قضية عدم خدمة الإسلام من المواقع التي نحن فيها، والواحد إذا كان في موقع صغير احتقر نفسه قال: مالي شيء ولا أستطيع أن أخدم الإسلام في شيء، احت

إشارات في بعض مجالات خدمة الإسلام

إشارات في بعض مجالات خدمة الإسلام والآن ندخل في موضوع: فرص لخدمة الإسلام ولنسم هذا الدرس: فرص لخدمة الإسلام. إشارات سريعة لبعض المجالات التي يمكن للإنسان أن يقدم فيها خدمات للدين، أن يخدم الدين ويقوم بحمل الدين، مع التذكير مرة أخرى.

طلب العلم

طلب العلم أيها الإخوة! لئلا نحقر أنفسنا الآن لا شك أن أعظم مجالات خدمة الدين طلب العلم، وقد تكلمنا سابقاً في موضوع طلب العلم، وطرق تحصيله والمنهج في ذلك، والحفظ والرحلة وبعض آداب الطلب، ولا شك أن تحصيل الدين والعلم من أعظم الخدمات التي تقدم لدين الإسلام، لأن المسلمين لا يمكن لهم الانتصار مطلقاً وهم يعيشون حالة جهل عام بدينهم، وهناك الملايين الملايين من المسلمين الذي يجهلون أبسط الأشياء والأساسيات في الدين الإسلامي. فيجب على كل واحد منا أن يقوم بما يستطيع القيام به في التعلم وتعليم الغير، وربما يكون طالب علم في مكان فإذا انتقل إلى قرية صار شيخاً، لما يُوجد من التقصير عندهم. فعلى الإنسان أن يقدر الأمر حق قدره، وأن يقوم بالمسئولية، وهناك أشياء كثيرة يمكن معرفتها بالكتب، الواحد إذا لم يكن عنده فقه أو لم يكن عنده طاقة في الحفظ، فيمكن أن يعمل أشياء كثيرة يخدم بها العلماء، كما حصل لذلك الشاب مع القرافي رحمه الله حيث وقف نفسه عليه، خدمة العلماء، القيام بشئونهم سواء ما يتعلق بالعلم أو بتوفير الوقت لهم لأجل تحصيلهم للعلم والتعلم، وكفايتهم الأرزاق مثلاً أو القيام بشئونهم الخاصة حتى يتوفر لهم الوقت. وكان مع الإمام أحمد رحمه الله محمد بن نوح شاب ما عنده فقه، ليس ذا فقه وعلم كبير، لكن كان مع الإمام أحمد في محنته، كان يصبره ويصبر معه، محمد بن نوح رحمه الله، ولما مات في طريقه إلى المأمون صلى عليه الإمام أحمد ودفنه، وأثنى عليه ثناءً عاطراً، فالقيام مع أهل العلم في أحوالهم وفي شئونهم فضيلة.

مساعدة أهل العلم وطلابه

مساعدة أهل العلم وطلابه كذلك مساعدة طلبة العلم وأهل العلم -مثلاً- يمكنك يا أخي المسلم! أن تجرد بعض المطولات في الكتب قراءة، ما تحتاج إلى قضية فقه وتثقيف وحفظ لا تطيقه إذا قلت أنني لا أطيقه، واستخراج العبر والعظات وجمعها في أوراق مستقلة وتقديمها لطلبة العلم، يمكنك أن تحضر خطبة أو عناصر موضوع تفيد به طالب علم أو محاضراً أو خطيباً من الخطباء، ألا تستطيع ذلك؟ بلى ولا شك، استخرج القصص في الصدق، القصص في ذم الكذب، القصص في الزهد، القصص في العبادة على سبيل المثال، قصص في تربية الأولاد من سيرة السلف هذا تستخرجه من كتب السير وغيرها. انظر -مثلاً- إلى الفهرس الموجود في آخر كتاب: نزهة الفضلاء مختصر كتاب: سير أعلام النبلاء، وسر على منواله في تجميع هذه القصص والشواهد والأشياء الجيدة التي تساعد بها غيرك من المفوهين أو القادرين على الإلقاء إذا لم تكن أنت صاحب قدرة على الإلقاء. وإذا كنت صاحب قدرة على الترجمة من لغة إلى أخرى، فإن عليك القيام بترجمة بعض الرسائل الصغيرة إلى الأعاجم الذين يتكلمون باللغات المختلفة، إذا استطعت، هناك أشرطة عند بعض الجاليات لما راجعها بعض طلبة العلم وجدوا فيها بدعاً وخرافات وشركيات، وتوزع عليهم وتعطى لأجل أنه لا يوجد غيرها، ويأتيكم الحجاج كل سنة مئات الألوف من أنحاء العالم، ماذا فعلنا من أجلهم؟ ماذا قدمنا لهم؟ ماذا خدمناهم في قضية تعليم الدين؟ وهم قد جاءوا إليك لا تكلف أنت بالنفقة للذهاب، حضروا عندك، لو أردت أن تكلمهم تزورهم، ربما تنفق الآلاف المؤلفة والأوقات لتلف حول العالم من أجل أن تزورهم، وهم قد حضروا عندك فماذا فعلنا إذاً لتعليمهم ولتثقيفهم؟ زيارتهم، معرفة ظروفهم، تقديم النصائح التي تصلح شأنهم، مراسلتهم ومواصلتهم بعد الحج. هناك أيضاً من المجالات العلمية بعض الكتب العلمية التي ليس لها فهارس يمكنك عمل فهارس لها، وهذه قضية لا تحتاج إلى مزيد من العلم أو الفقه حتى تقوم بها، ثم توزع على طلبة العلم الذين عندهم مثلاً هذه الكتب حتى يستفيدوا منها، وأشرطة بعض المشايخ التي شرحوا فيها المتون الفقهية هذه لو أنك قمت بتفريغها وإصلاح شأنها، وعرضها على الشيخ، ولسنا ندعو أبداً إلى قضية تسرع الشباب في التأليف، هذه من الأشياء التي فيها خطر عظيم، أو نقول: أنزلوا إلى ميدان تحقيق الأحاديث والتخريخ، فتخرج علينا بعد ذلك كميات من الأوراق الغثائية المملوءة بالأشياء العجيبة؛ نتيجة لتسرع بعض هؤلاء الشباب في التأليف والكتابة والتحقيق والتخريج وهم ليسوا بأهل ولا درسوا قواعد الجرح والتعديل، ولا تخرجوا على علماء هذا الشأن، علماء الحديث، ثم بعد ذلك يكتب عليه تخريج وتحقيق فلان، فهذا من المصائب، وتكثير الأغلفة والعناوين دون فائدة، وينتج من المفاسد إضاعة كتب كثير من أهل العلم الحقيقية، فنحن نقول: خدمة كتب العلماء أو السعي إلى خدمة العلماء أنفسهم أو طلبة العلم. هناك مشاريع علمية كثيرة لو أراد الشخص أن يعمل مشاريع علمية يمكن أن يدل عليها، سواء كان طالب علم أو كان إنساناً ما عنده علم لكن يريد أن يخدم في مجال طلب العلم. وكذلك ترجمة بعض المقالات التي تفيد المسلمين من العلوم الأخرى الطبية أو الإنسانية أو الإدارية التي يسمونها العلوم الإنسانية مثلاً، دون أن يضطر الإنسان إلى الوقوع في معاصي أو يدخل في متاهات، لأن بعض الذين يراجعون هذه الكتب يطلعون على صور منحرفة وسيئة أو مقالات منحرفة، ربما تنطلي عليهم، فيحتاج الإنسان إلى شيء من الثقافة الإسلامية التي تبين له حكم الإسلام في هذه النظريات الوافدة أو الحديثة.

المشاركة في الدورات العلمية

المشاركة في الدورات العلمية والمجالات كثيرة إذا أردنا أن نسرد من غير ترتيب، فنقول: المشاركة في الدورات العلمية التي تقام مثل فصل الصيف تقام فيه دروس ودورات علمية، يأتي مشايخ أو علماء إلى المنطقة أو بعض المساجد في بعض المناطق، فأين الناس الذي يزعمون الاهتمام بطلب العلم؟! وأنهم يريدون المنهج لطلب العلم! وأنهم حريصون على طلب العلم! فإذا جاء الشيخ أو العالم وبدأ في تدريس الكتاب رأيت هؤلاء يصدون عنك صدوداً، وقد تبخروا كما يتبخر الماء فوق النار، ويختفي هؤلاء الأشخاص فجأة بعد ما كانوا يطالبون ويلحون يقولون: نريد حِلق علم، نريد مشايخ، نريد علماء يأتون وبعد ذلك يهربون إذا جاء هؤلاء الصادقون المخلصون أو طلبة العلم. الإنسان يتتلمذ على طلبة العلم إذا ما وجد العلماء، فيحصل خيراً كثيراً، وربما يكون عند بعض طلبة العلم من القدرة على الشرح أكثر مما عند بعض العلماء الكبار، أو ربما يستطيع أن يبسط القضية للمبتدئين بتبسيط جيد، فعند ذلك التخرج على هؤلاء يكون من الأفكار أو الأشياء الصائبة، وتقوم كثير من الهيئات الخيرية الإغاثية أو التي تساعد الفقراء في البلد، يحتاجون إلى تجميع الصدقات وتجميع الطعام من الولائم، والذهاب به إلى هؤلاء الفقراء، وإلى بيوتهم والتعرف على بيوت الفقراء، والقيام بإعانة الهيئات الرسمية في كل ما من شأنه دعم الإسلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

خدمة الحجاج

خدمة الحجاج وكذلك كما سبق أن أشرنا في قضية خدمة الحجاج حتى في غير القضايا العلمية، لما صار هناك زحام في عرفة انتدب بعض الشباب أنفسهم بتوزيع بعض العصير والماء البارد على الحجاج، الحجاج كثيرون جداً، فكان لذلك أثر كبير على الناس، ليست القضية فقط تقديم العلم وإنما حتى تقديم الأشياء الأخرى التي فيها سد جوعة وزوال عطش.

إهداء الهدايا وتوزيع الكتيبات

إهداء الهدايا وتوزيع الكتيبات وإهداء الهدايا الجميلة كثير من هؤلاء الذين قلنا: أنهم يخرجون إلى البر، ولو كانوا يخرجون لضياع الوقت ولتزجية الوقت ماذا عليهم أنهم لو اصطحبوا معهم من هذه الأشياء الموجودة في المكتبات والمطبوعة ما يفيد الناس في دينهم، وما يستمعون به إلى الدروس المفيدة والمحاضرات القيمة؟ أين هؤلاء الذين يقيمون الدروس لأهلهم في البيت ويشرحون لهم الأحكام المتعلقة بالعبادات كالطهارة والصلاة، ويشرحون لهم شيئاً مبسطاً في العقيدة الإسلامية، ويذكرونهم من خلالها بالتوحيد وما يناقضه من الشرك، ويذكرونهم أيضاً باليوم الآخر؟!! لأنه لا يمكن فصل قضية البعث والنشور والتذكير باليوم الآخر عن مسألة العقيدة فهي من صلب العقيدة، فلا ينصرف الذهن إلى مسائل الأسماء والصفات ونترك قضايا اليوم الآخر لا نذكر بها الناس، لا شك أن هذا قصور كبير في تعليم الناس العقيدة.

السفر إلى الخارج للدعوة وغير ذلك

السفر إلى الخارج للدعوة وغير ذلك كذلك بعض الذين يسافرون إلى الخارج لنقل: إنهم عصاة يسافرون إلى بلاد الكفار للسياحة، لو أنه صنع أشياء لتكفير ذنوبه مثلاً، ونحن لا نحثه على الذهاب أصلاً لكن من باب تكفير بعض الذنوب على الأقل أن يشارك في شيء من دعم المسلمين هناك، أو اصطحاب بعض ما ينفعهم إلى هناك، ثم لو خرج مضطراً لعلاج أو خرج لمصلحة شرعية كدعوة إلى الله مثل بعض الذين يذهبون ليؤمون المساجد في المراكز الإسلامية في رمضان أو في غيرها؛ أو يذهبون مع البعثات العلمية التي توفدها بعض الجامعات في هذا البلد، تقوم جامعة الإمام مثلاً بدور مشكور وعظيم جداً في إرسال البعثات إلى بلاد المسلمين مثل الجمهوريات الإسلامية في الاتحاد السوفيتي سابقاً أو غيرها. وأنشطة كثيرة تقوم بها بعض الهيئات الخيرية كما قد تقوم به في ألبانيا وغيرها، وهذه لا شك تحتاج إلى سواعٍ وإلى جهود وطاقات إدارية، وطاقات تنظيمية، وطاقات تجمع التبرعات وتقوم بالاتصالات، وهذه أشياء ينبغي أن يكون هناك شباب يقومون بها، وحتى لو رافق الإنسان أهله في رحلة داخل البلد وذهب معهم للصيد في الطائف أو أبها أو الباحة أو المناطق التي يغشاها الناس لاعتدال الجو فيها فسيلاقي هناك من المصطافين الكثير، وحتى الذين يأتون هنا في أوقات الإجازات إلى الشواطئ يجب أن نستشعر دورنا تجاههم، وأن نقوم بدورنا في النصح والتوجيه وإقامة الصلاة لهم مثلاً بأماكن قد لا توجد فيها مساجد، أو القيام بنصحهم إذا ارتكبوا منكرات، أو ارتفعت الأصوات في الغناء ونحو ذلك، وعقد درس لهم قد يستفيدون منه في تبيان بعض أحكام السفر أو غير ذلك من الأشياء الوعظية.

سد الثغرات والقيام بالواجب

سد الثغرات والقيام بالواجب المسلم خير أينما حل انتفع به، وهو كالشجرة إذا رمي رمى بالتمر، فهو صابر على ما يصيبه من البلاء والأذى من الناس السفهاء من أجل تعليم الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهناك كثير من القرى والهجر محتاجة إلى إقامة المواعظ والدروس، وهناك مجال للتعاون مع كثير من الهيئات لأجل القيام بما يحتاج إليه هؤلاء، والمساجد قد تحتاج إلى عناية وصيانة، تحتاج إلى تنظيف وإصلاح أشياء، ينبغي أن يكون هناك في كل حي وفي كل مسجد من الناس ممن حوله من يقوم بهذه المهمات، ويوجد هناك حلقات تحفيظ قد يغيب مدرس التحفيظ، يكون هناك من يقوم مقامه، إذا غاب الإمام يكون هناك من يقوم مقامه، إذا غاب الخطيب يكون هناك من يخطب بدلاً منه. إذاً: سد الثغرة والقيام بما يجب، ومن الخطأ أننا نسمع أحياناً أن جماعة من الناس في مسجد لم يحضر الخطيب، فصلوا صلاة الظهر ما فيهم واحد يستطيع أن يمسك مصحفاً ويصعد المنبر، ويحمد الله ويثني عليه ويتشهد بالشهادتين، ويقرأ آيات من المصحف ويجلس، ويقوم الخطبة الثانية يفعل شيئاً مشابهاً ويدعو للمسلمين وينزل، ومع ذلك تجد تراجعاً عن القيام بمثل هذه الأدوار؛ والسبب ولا شك أنها هزيمة نفسية وعدم جرأة مطلوبة ومحمودة في هذا الموطن، وتخاذل عن القيام بفرض الكفاية. مسجد في البلد كيف لا تصلى فيه صلاة الجماعة؟ وهناك كثيرون من غير المسلمين من العمال الأجنبيين الموجودين يحتاجون إلى من يكلمهم بلغتهم، ويتحرك بينهم لتوعيتهم، وخصوصاً أنه يوجد عندهم كثير من التقبل، وكذلك المستشفيات التي فيها أصحاب الأمراض المزمنة الذين يحتاجون إلى مزيد من التصبير كأصحاب العاهات والشلل، العاهات المزمنة أو الدائمة، وكذلك ربما يكون هناك مجال للتعاون مع مستشفيات الأمل أو غيرها.

زيارة الإخوان وطلاب العلم

زيارة الإخوان وطلاب العلم ماذا بالنسبة للزيارات الأخوية؟ زيارة الإخوان في الله حتى لو كانوا في بلد آخر والتعرف عليهم والتعاون معهم والتناصح، وزيارة المشايخ وطلبة العلم في بيوتهم أو في مكاتبهم، لا شك أن مثل هذه الأشياء مما يُملأ به الوقت وهي فرص لعمل الخير.

المراسلة عبر الكمبيوتر

المراسلة عبر الكمبيوتر وكذلك فإننا نحتاج أيها الإخوة! إلى سد عدد من الثغرات مثل مراسلة بعض الذين يكتبون في ركن التعارف، ونصحهم خصوصاً أنهم في الغالب يريدون تعرف الشاب بالفتاة أو الفتاة بالشاب، وقد آتت كثير من الثمار الدعوية في هذا المجال أكلها، ووجد هناك من الناس من جرب الاتصال بالكمبيوتر عبر جهاز الموديم في بعض الأجانب الذين عندهم أجهزة في بلدان أخرى، ودعوتهم إلى الإسلام وقد أثمرت بعض هذه الجهود. يوجد أيضاً أيها الإخوة! ثغرات في الأحياء، التعرف على الجيران، جذبهم إلى المساجد، نصحهم وتقديم ما ينفعهم وينفع أسرهم.

تصميم أشياء شرعية وإخراجها

تصميم أشياء شرعية وإخراجها وعندنا إشكالات في قضايا تحتاج إلى تصميم وإخراج، ما أكثر المنكرات الموجودة في ألعاب الأطفال، وفي أفلام الكمبيوتر، ألا يكون هناك من أولي الألباب من أصحاب القدرة والطاقات المكدسة الموجودة التي تسرح وتمرح وتلعب بالألعاب من يصمم أشياء تنفع أطفال المسلمين من شرح العبادات مثلاً؟ أو عرض تفسير سور قصيرة ونحو ذلك من الأشياء، بدلاً من ترك هذه الأشياء تغزو عبر الأجهزة أدمغة أطفالنا.

دعوة الأعاجم والتجمعات

دعوة الأعاجم والتجمعات وكذلك فإن الإنسان المسلم يمكن أن يُوصل خيره إلى مجموعات كبيرة من العمال الأعاجم إذا أتاهم بواحد فقط منهم، يستطيع أن يتفاهم معه، قد اصطحبه وعقد معه آصرة الأخوة الإسلامية، وقام بتعليمه وإيصال الخير له، وهذا الرجل يكون رسولاً إلى بني قومه، وقد يأتيك بأسئلة من عندهم، وأنت بدورك تتصل بأهل العلم للمجيء بالإجابات عليها، ألا يكون هناك ممن ينتدب نفسه للإتيان إلى محلات الانتظار كصالونات الحلاقة والمستوصفات وأماكن النقل الجماعي والدوائر التي يكون فيها كثرة مراجعين ينتظرون؛ مستشفيات جوازات وغير ذلك، ويقوم بالإتيان بهذه الكتب التي طبعت ورخصت رسمياً، لكي تعطى لهؤلاء الأشخاص ليستفيدوا منها، فيكون هناك نشر عظيم للخير. هناك من العوائل من يكون لهم ديوانيات أو مجتمعات خاصة للأسرة خاصة بالعائلة، ألا يكون هناك من ينتدب نفسه لعمل مجلة لهذه العائلة، فيها أخبار العائلة والأسرة، ومن سار ومن حضر ومن تزوج ومن توفي ونحو ذلك، ومن سافر ومن رجع ومن تخرج ثم تطعم هذه المجلة بالفتاوى والمقالات المناسبة وأشياء مفيدة وخيرة؟!

استغلال المناسبات الاجتماعية

استغلال المناسبات الاجتماعية وهناك أيضاً مجال للمشاركة في المجلات، كتابة المقالات الإسلامية وإرسالها، هذه أشياء وأشياء كثيرة جداً، وهناك مجال أيضاً لقضية استغلال المناسبات الاجتماعية، كالعقيقة وغيرها وإذا حضر الإنسان يكون مفيداً في المجلس. بعض الناس إذا أتوا إلى مجلس يكونون في غاية التقوقع، ما يقدم شيئاً ويترك المجال للعابثين لاستلام وإدارة زمام هذا المجلس، وهو قادر على أن يقوم بإلقاء كلمة أو فتح حوار مناسب. أيها الإخوة! إن هناك عدداً من المناسبات الاجتماعية التي يمكن استغلالها لخدمة الدين وتعليم الناس وعلى الأقل إزالة ما فيها من المنكرات، كولائم الأعراس أو دعوة العقيقة وغيرها، كم نحن نهدي هدايا بمناسبات مختلفة، إذا جاء إنساناً مولود أهديناه هدية، وإذا نزل إنسان بيتاً جديداً أهديناه هدية، وإذا تزوج أهديناه هدية، وإذا رجع من سفر قد تخرج مثلاً أهديناه هدية، لماذا لا نرفق مع الهدية شيئاً مفيداً يقرؤه أو شيئاً طيباً يستمع إليه؟ ويمكن كذلك أن تؤخذ هذه الكميات من الأشياء التي سبقت وأن قرئت، والأشياء التي سبق وأن سمعت وصارت مستخدمة وهي عرضة للتلف لأن تؤخذ ويعاد توزيعها إلى من يستمع إليها ويقرأ فيها، وكذلك فإن الشاب الداعية إلى الله سبحانه وتعالى ينبغي أن لا تخلو سيارته أو جيبه من شيء يقدمه لغيره، إذا التقى مفاجأة في مناسبة من المناسبات أو سوق أو دكان ونحو ذلك بما يفيد الآخر، وهذا يعتمد ولا شك على حنكة هذا الداعية وتقديره للواقع، فإنه إذا ذهب إلى مكان يتوقع أن يوجد فيه منكر من المنكرات اصطحب معه فتوىً لأهل العلم في الموضوع نصح بها ذلك الشخص أو قدمها إليه، أو دلالة على خير يدل بها بعض الناس إلى خير، كما إذا زار بعض أرباب الأموال مثلاً قدم إليهم نصيحة عن المجالات التي يمكن أن يضعوا فيها أموالهم في خدمة الدين، والأماكن الموثوقة التي يمكن أن يعطوا تبرعاتهم وزكواتهم وصدقاتهم إليها.

أصحاب الوظائف ودورهم في الدعوة

أصحاب الوظائف ودورهم في الدعوة ولا ننسى أن هناك كثيراً من الأماكن التي لا يصل إليها النصر ولا يصل إليها الخير، وكأنها موقوفة على أهل الرذيلة والفساد، ولكن إذا كان الإنسان مجتهداً في الدعوة إلى الله فيمكن أن يصل إليها، وأن تكون بؤرة خير، والمدرس في مدرسته يستطيع أن يعمل للإسلام وهو في فصله يعمل للإسلام، والطبيب في عيادته يعمل للإسلام، ويستطيع الموظف في الدائرة أن يعمل للإسلام يستطيع الإنسان في أي موقع من المواقع أن يعمل للإسلام، وأصحاب الوظائف الدينية عليهم المسئولية الكبرى كأئمة المساجد والخطباء الذين لا بد أن يقدموا للناس ما يفيدهم، حتى من الأشياء التي ربما لا تكون شرعية بحتة، وإنما هي داخلة في الدين، لكن ليست مما يتعلق بالعلم الشرعي، كبعض النصائح أو الأشياء المفيدة طبياً واقتصادياً أو اجتماعياً مثلاً. وكذلك هناك أشياء تحتاج إلى تجارة وضبط كأوقاف المسلمين التي ضاعت في كثير من المحلات والأماكن، وعندنا مجالات واسعة للعمل للدين حتى في الورش والمحلات التي ربما لا يغشاها إلا بعض الناس من أصحاب الأجور المتدنية، أو يعملون فيها، هؤلاء لنا واجب معهم، يذهب الواحد منا لإصلاح سيارته في الورشة أو يشتري طعاماً من المطعم، ونحو ذلك ربما يرى منكراً أو فرصة للخير والأمر بالمعروف يسأل هذا العامل عن اسمه، أمسلم أو كافر، فإن كان مسلماً نصحه بنصيحة أو علمه شيئاً أو سأله عن بعض أحوال بلده. فربما قال له شيئاً فيه بدعة فعلمه أنها بدعة مثلاً، أو إذا كان كافراً دعاه إلى الإسلام ألقى كلمة: (لا يسمع بي يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار) على الأقل يقيم الحجة.

المجالات النسائية

المجالات النسائية وعندنا مجالات كثيرة منها المجالات النسائية، النساء عليهن أيضاً مسئوليات عظيمة، المرأة تعلم المرأة التي لا تجيد تلاوة القرآن، وتعلم المرأة الأخرى تلاوة القرآن حتى لا نقع في حرج أن تجلس أو تتعلم امرأة عند رجل أجنبي ولو من وراء حجاب ثم تزين صوتها وتجوده، نقول: عندنا من النساء من يكون عندها علم بالتجويد وإتقان للتلاوة، على هؤلاء النساء فرصة ومسئولية كبيرة في تعليم النساء الأخريات. وكذلك الرجال كل واحد يعلم النساء من محارمه طريقة التلاوة الصحيحة وأحكام التلاوة التي لا بد منها، أما أن يوجد عند أمك وأختك وخالتك لحن جلي في القراءة يُفسد المعنى ويغيره، وأنت لا تغير شيئاً ولا تحرك ساكناً فلا شك أن هذا من العجز والتفريط العظيم جداً. وهؤلاء النساء في مراكز تحفيظ القرآن عليهن واجبات كثيرة، وداخل الأسر والعوائل، يمكن أن تلقى المرأة المتعلمة الملتزمة بالدين درساً لقريباتها، ونشر الحجاب. المدرسات في المدارس نصائح مهمة جداً ربما تكتشف طالبة عندها عن منكر كصور، مراسلات، معاكسات هاتفية وأشياء من هذا القبيل، يجب عليها أن تقوم بواجب النصح والتحذير وتأليف القلوب على الدين، وأن إهمال القضيةلمجردإلقاء المنهج وأخذ الراتب لا شك أنه قصور عظيم في فهم مسئولية المرأة المسلمة، المسئولية عن هذا الدين: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ} [الزخرف: 4].

السفر إلى بلاد أخرى ومجال الدعوة فيها

السفر إلى بلاد أخرى ومجال الدعوة فيها ونحن ندخل المحلات التجارية وقد يكون فيها أشياء كثيرة تحتاج إلى نصح أصحابها أو استبدالها بأشياء طيبة فلا نتكلم ولا ننبس ببنت شفة، لا شك أن ذلك من الأشياء التي تُوجع القلب، عندما تحين الفرصة للسفر إلى بلاد أخرى فيها جاليات إسلامية لنصحهم، وهذه مهمات فبعض الناس عنده هواية للسفر، نقول: هناك مجالات للسفر إلى بلاد المسلمين فيها جهل عظيم تحتاج إلى إغاثة وعمل مشاريع ولو صغيرة، تحتاج إلى إقامة دروس، الذين طافوا تلك البلدان تأثروا جداً باستقبال أهلها لهم عندما علموا أنهم من بلاد الحرمين ومهبط الوحي، وتأثروا لما قدموا لهم من النصائح وتجمعوا عليهم بأعداد كبيرة يسألون عن أشياء في أساسيات الدين. فإذا كان هؤلاء عندهم قدرة وعندهم رغبة في الإفادة فعلاً، ويقولون: لابد من السفر نقول: إذاً اذهبوا إلى تلك الأماكن فإن في العمل فيها خير عظيم جداً، ولو اصطحب معه بعض التبرعات لإقامة مسجد أو حفر بئر أو عمل شيء، المشاركة مع غيره في خدمة طبية أو علاج اصطحب معه من الأدوية المتداولة التي لا شك أن الناس يحتاجون إليها في كل مكان، كأدوية الحرارة والصداع مثلاً وغير ذلك. ألا يكون في تقديمها أيضاً أجر ومساعدة وسبق لنشاط الجمعيات التنصيرية في بلدان المسلمين؟!! هذه الجهود ولو كانت بسيطة وفردية، لكن الله سبحانه وتعالى يبارك فيها ولا شك أيها الإخوة. وكذلك فإن الإنسان المسلم يحاول دائماً أن يبرز الخير، وأن يعلن عن دين الإسلام وعن الأحكام الشرعية، إذا جاءت مناسبات عشر ذي الحجة، رمضان، عاشوراء، يوم عرفة، أشياء فيها فضائل يحتاج الناس فيها إلى تذكير في المساجد أو غيرها، وإعطاء الناس ما كتبه أهل العلم في فضائل هذه الأيام مثلاً، نحن الآن مقبلون على عشر ذي الحجة، إشاعة أهمية عشر ذي الحجة بين الناس، وأجر العمل في هذه العشر، والناس كثير منهم فيهم خير أو رغبة في الخير أو على الأقل يفتحون لك المجال للكلام، يستمعون إليك. فأين عملك أنت في هذه المناسبة؟! كل واحد في موقعه، نكون في مواقع مختلفة، يمكن أن نذكر في تلك المواقع أناساً يحتاجون للسؤال عن أشياء من الدين لا يجدون، لكن أنت لو فتحت المجال وسألوا وأنت تنقل لهم فتاوى أهل العلم.

لا تحتقر الجهود والدعوات العامة

لا تحتقر الجهود والدعوات العامة وأعود وأقول أيها الإخوة! لا يصح أن نحتقر أنفسنا أو مجهوداتنا، ويجب أن نقدم، وهذه قصة شاب أبكم لا يتكلم، قصة لا شك أن فيها عبرة، كان يذهب إلى أماكن الورش، الأماكن التي فيها الصناع والعمال من هؤلاء المسلمين الذين كثير منهم لا يعلمون أشياء كثيرة عن الدين، فيعطيهم ما تيسر من الأشياء المقروءة والمسموعة التي فيها مواعظ والتي فيها تذكير وتعليم، وفي يوم من الأيام ذهب إلى ذلك المكان؛ ليقدم ما عنده فخرج إليه عامل ذو لحية واعتنقه وقبله وقال: ألا تعرفني ألا تذكرني أنت مررت بي ذات يوم وأعطيتني شريطاً قبل فترة طويلة، وكان سبب هدايتي، وهذا شاب أبكم كلامه عسير لا يتكلم، لكن شعوره بواجب التبليغ وواجب الدعوة دفعه إلى أن يقدم شيئاً. نعود للمسألة ونقول: ماذا قدمنا للإسلام؟ هل قيامنا بهذه الفروض الكفائية موجود؟ وقد رغب في عرض بعض الأصول الشرعية للمسألة حتى لا يظن بعض الناس أن المسألة كلام، أو أن المسألة مجرد عرض للمجالات ليس لها مستند على أصل شرعي نقول: إنها مستندة على أصول شرعية موجودة في كتب العلماء، هناك وظائف إسلامية وشرعية يجب أن نعد أنفسنا للقيام بها، وتغطية هذه الثغرات الموجودة في المدن والقرى والأحياء والمساجد وأماكن الناس، وأن نعلمهم دين الله سبحانه وتعالى، نحن رسل خير وهداية، ونقفو آثار الأنبياء وهكذا ينبغي أن نكون. أما أن تذهب أوقات الشباب سدى وتذهب في مجالس الغيبة والنميمة، والشجار والعراك، والجدل العقيم والتقوقع بدون فائدة، تكديس طاقات بدون أن تنطلق في خدمة هذا الدين، وكذلك فإننا نذكر أنفسنا بقضية المسئولية في العمل، نذكر أنفسنا أن هناك واجبات كفائية لا بد من القيام بها، ونذكر أنفسنا أن الدعوة إلى الله أياً كان مجالها وأياً كانت الوسيلة التي تسلك فيها، هي مسئولية سنسأل عنها، كما قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ} [الزخرف:44] سنسأل عن هذا، صحيح أن هذا شرف، الانتساب إلى الإسلام شرف عظيم، كثيرون يعبدون البقر وآخرون يعبدون الجواميس ويعبدون تمثال بوذا، ويعبدون الشيطان وبعضهم يعبدون المال، ويعبدون أهوائهم وشهواتهم، فضلك الله عليهم بأن جعلك مسلماً توحد الله عز وجل، لكن هذا الشرف له تكليف، لا بد للتشريف من تكليف، إذا شرفك الله بأن كنت من أهل الدين فماذا قدمت لرفع شأن الدين إذاً؟! فانقسم الكلام في موضوعنا السابق عن واجبات كفائية يجب السعي لسدها والإعداد، لأن السبق قد لا يكون حاصلاً الآن، لكن الإعداد لسد الثغرات. وكذلك تنبيه على بعض الوسائل التي تستخدم في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى التي تعين على سد بعض الثغرات، لكن القضية الأساسية قضية تحقيق فروض الكفاية، على أن لا يعيب المسلمون على بعضهم، ولا يحتقر بعضهم بعضاً في المجهودات التي يقدمونها، طلبة العلم لا يحتقرون الذين يقومون مثلاً بدعوة العامة ووعظهم، مع أن الذي يقدم المواعظ ما عنده علم، لكن يستطيع بهذا التقديم بفضل الله عز وجل أن ينقل أناساً من معسكر أهل الشر والضلال إلى طريق الهداية، ولا يعيب طلبة العلم ولا الوعاظ مثلاً على من يشتغل في خدمة قضايا المسلمين، وقضايا الجهاد وقضايا الإغاثة مثلاً. الثغرات كثيرة جداً، ونحن نحتاج إلى عمل متكامل، المسلمون يكمل بعضهم بعضاً، ولا يعيب بعضهم على بعض، هناك حد أدنى من العبادة يجب أن يكون موجوداً، هناك حد أدنى من العلم، ما يصلح إغاثي ولا مجاهد أن يعمل لهذا الدين وهو ما عنده الأساسيات التي يعبد الله سبحانه وتعالى بها، يصلي ويصوم ويحج وينكح ويبيع خطأ لا يجوز له ذلك حتى لو كان مشتغلاً بعمل آخر غير قضية العكوف على طلب العلم. فإذاً: أهل الحسبة والجهاد والعلم والوعظ والإغاثة، هذه الفروض الكفائية يجب أن تسد وأن يقوم لكل ثغر منها من يطيق القيام به، ويكون صاحب خبرة فيه ويستطيع أن يقدم فيه، ولا يعيب بعضهم على بعض، فبهذه الطريقة تجتمع الجهود، والقضية في النهاية نصرة الإسلام والعمل لدين الله سبحانه وتعالى.

الأسئلة

الأسئلة

الجمع بين طلب العلم والدعوة

الجمع بين طلب العلم والدعوة Q إذا رأى الإنسان أن موقعه يستطيع من خلاله خدمة الإسلام ولكن نفسه تتوق لطلب العلم، فهل الأفضل له ترك موقعه والتفرغ لطلب العلم؟ A كيف كان العلماء يفعلون؟ أي: ابن المبارك ما كان يذهب للمرابطة في الثغور؟ ما فائدة طلب العلم أليس التبليغ وتعليم الناس؟!!. فإذاً: لماذا الفصل المقيت بين المهمات المختلفة؟ ونقول: طالب العلم هذا لا يصح له مطلقاً أن يجمع تبرعات لعائلة فقيرة لماذا؟ هذا فصل مذموم، ولذلك ينبغي علينا أن نرتقي بهممنا حتى نستطيع الجمع بين أكثر من باب من أبواب الخير.

خدمة الإسلام في المدارس والجامعات

خدمة الإسلام في المدارس والجامعات Q كيف نقوم بخدمة الإسلام في المدارس والجامعات؟ A نقول: لا شك أن المدارس والجامعات هي مجمع يجمع أعداداً من الطلاب، ولا شك أنه يحصل في هذه الأماكن اجتماع بهم لفترات طويلة خصوصاً عندما يكون هناك سكن داخلي مثلاً في الجامعة، فأنت لا تلتقي بهم فقط في الفصل الدراسي، تلتقي بهم في السكن وتلتقي بهم في المطعم وتلتقي بهم في أماكن مختلفة. إذاً لا أقل من كلمة خير؛ نصيحة عابرة لهذا الشخص، فأقول: إن الشخص مادام موجوداً في مجمع من الناس، فإنه ينبغي أن يقدم ما يستطيع تقديمه في هذا المجال، ولا شك أن هذا الاحتكاك ينبغي أن يستثمر لصالح الإسلام، بأن تكون مصاحبة هذا الشخص في المدرسة والجامعة طريقة للدعوة إلى الله سبحانه وتعالى وهدايته أو إنقاذه من أهل الشر، ربما يكون جلوسك عنده مانعاً لأصحاب السوء من الإتيان إليه لأنهم إذا رأوك موجوداً عنده في مسكنه ما جاءوا إليه، مرة ومرتين وثلاثاً وفي النهاية يتركونه، فأنت تكون قدمت خدمة غير مباشرة عن طريق منع المنكر هذا.

عوائق في طريق خدمة الدين

عوائق في طريق خدمة الدين Q إنني معلمة وأريد أن أخدم الدين في هذا المجال، فإذا كان يوجد لدي عوائق من إدارة المدرسة فماذا أفعل؟ A أقول: لا أقل من الصلة الشخصية بالطالبات، لو لم تستطيعي أن تقدمي لهن شيئاً لا في الحصة ولا في الفسحة، فلا أقل من أن يكون هناك ارتباط شخصي، والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى -أيها الإخوة- هي تأثير شخصي، في كثير من الأحيان النجاح يكون وليد التأثير الشخصي؛ علاقات تقوى، إكرام الشخص، الدخول إلى قلبه، كسب محبته هذا هو الطريق للتأثير، بحيث في النهاية إذا قلت له الحكم نفذ، وإذا قلت له نصيحة قبل واستمع.

لا إيثار في القرب

لا إيثار في القرب Q إذا تساويت أنا وشخص في الطاقة أمام مجال من مجالات خدمة الإسلام، هل أتقدم لأنال الأجر أم أوثره لغيري؟ A لا، تقدم يا أخي تقدم أنت، لماذا تترك الأجر هذا ربما يكون دليلاً على عدم الحرص.

الدعوة في الأهل والأقارب أولى

الدعوة في الأهل والأقارب أولى Q كثير من الشباب فاشل في أسرته وتراه كالنحلة مع إخوته؟ A صحيح وهذا مثل جيد وتشبيه واقعي لعدد من الناس الذين عندهم هذه القضية وهي: أنهم فاشلون مع آبائهم وأمهاتهم وإخوانهم وأخواتهم، وأعمامهم وعماتهم، وأخوالهم وخالاتهم، وأجدادهم وجداتهم، أقرب الناس: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] هذا لا يعمل معهم شيئاً البتة، لو أنه جرب وقال: ما ما استطعت وقال: هم أكبر مني سناً ما تقبلوا، طردوني وأغلقوا فمي، وأسكتوني واحتقروني، لقلنا: أنت قمت بالواجب وبلغت وما تقبلوا منك فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد، لكن أنت مجهوداتك مع إخوانك وتنسى أهلك وأسرتك، وهذا لا ينبغي مطلقاً لشاب يفقه دين الله سبحانه وتعالى.

الدعوة بالمراسلة

الدعوة بالمراسلة Q ما رأيك في المراسلة لدعوة بعض الشباب المنحرفين؟ A وسيلة مجربة وناجحة، والشخص يمكن إذا ناقشته أن يجادلك وأن يضيع وقتك، وأن يسكتك وربما يفحمك إذا كان هو أقوى بالجدل، لكن إذا أرسلت له برسالة فإنه لن يقوم بهذا الجدال والمراء لأنه يقرأ شيئاً جامداً لا مجال للاعتراض، فربما تكون الرسالة أكثر تأثيراً مع بعض الأشخاص.

سبب موت الهمم وعلاجه

سبب موت الهمم وعلاجه Q هل ترى أن قلة التوجيه وانعدامه عند بعض الدعاة هو السبب الرئيسي في موت الهمم والانشغال بالصغائر عن معالي الأمور؟ A نعم، لا شك في ذلك، لكن كونه ما وجد أحداً يُوجهه هل نعفيه من المسئولية؟ الجواب: لا. ينبغي هو أن ينصح نفسه بنفسه، وأن يدل نفسه على الخير وأن يبحث عن أبواب الأجر وأن يقوي همته، ما معنى هذا الرجل الذي ذكر الله خالياً ففاضت عيناه؟ هل أحد وعظه؟ هل أحد ذكره بالله؟ هل أحد تلا عليه آيات العذاب؟ لا، هذا رجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، فنريد نحن من الشباب أن يذكروا الله وهم في خلواتهم، ويذكروا أنفسهم بالمسئولية تجاه الدين، فربما يحيا في أنفسهم واعظ الله عز وجل فيقومون للعمل بدلاً من الجلوس والكسل وتعطيل الطاقة.

تسخير الشعر في نصرة الإسلام

تسخير الشِّعْر في نصرة الإسلام Q أنا شاعر فكيف أجعل شعري لنصرة الإسلام؟ A وجه شعرك بأن تكتبه، تجعل هذه الأوزان والقوافي محملة بالمعاني الدينية والشرعية، وبالأحكام وبالأخلاق، وبالرقائق وبالآداب وبالذب عن الدين وبمهاجمة أعداء الدين (اهجهم وروح القدس معك) هكذا كان حسان بن ثابت يهجو كفار قريش، وكان شعره أشد عليهم من بعض سهام وسيوف المسلمين، عرض المآسي، استدرار العواطف، إيقاظ الهمم، إلهاب المشاعر، هذه أشياء يطيقها الشعراء. فإذا وجه هذا إليهم بعض القصائد المؤثرة عن التوبة كان لها الأثر في نفوس الناس، قصائد عن التوبة وقصائد عن الموت واليوم الآخر والزهد في الدنيا وقصر الأمل، هذه كان لها آثار كبيرة على النفس، هي أبيات شعرية لكن آثارها كبيرة على النفس، بدل من الانشغال بألوان الجناس والطباق والبديع والأشياء التي هي أشبه ما تكون بالطرف الشعرية، والألغاز والأحاجي الشعرية، بدلاً من هذه لنسكب هذه المعاني الإسلامية في أشعارنا لمن كان يعمل الشعر.

إقامة الحجة واجبة

إقامة الحجة واجبة Q أنا طالب جامعي أعيش في مدينة تكثر فيها البدع والمعاصي، وأنا شخص ليست لدي حجة وبيان، ولا أستطيع النصح والدخول في مناقشات مع بعض السفهاء؟ A لا بد أن نقوم لله بالحجة، أن نتكلم فإذا اعترض واحد وسفه الآخر، واستهزأ الثالث يكون قد قمت بالواجب، ثم ماذا لقي الأنبياء من أقوامهم؟ هل لقوا الكلام الجميل والثناء العاطر والشكر الجزيل والإكرام؟ لا. أكثرهم لقي الصدود والإعراض والاستهزاء، وقالوا عنه شاعر ومجنون وأفاك وبه جنة، قالوا عنهم أشياء كثيرة جداً، فإذا كان هذا سيتوقع أنه إذا نصح وعلم أنه سيقابل بالإكرام والحفاوة والترحاب، فلا شك أنه قد غابت عن باله دعوة الرسل، ثم إذا كنت لا تستطيع الكلام مطلقاً قدم شيئاً مسموعاً أو مكتوباً يستفيد منه وتقام به الحجة عليهم.

كيفية الدعوة في الدول الأجنبية

كيفية الدعوة في الدول الأجنبية Q أنا شخص أدرس في آخر السنة ومسافر إلى أمريكا فما هي المجالات التي أفعلها هناك؟ A أولاً: ينبغي أن تتأكد من شرعية ذهابك إلى بلاد الكفار، وأن هناك حاجة للمسلمين في ذلك، وأن عندك عقلاً تدفع به الشهوات، وعلماً تدفع به الشبهات، وبعد ذلك تسافر فإذا سافرت فلا شك أنك ستجد من الأقليات الإسلامية هناك من تتعاون وتتناصر معهم، وتصطحب معك من الأشياء المفيدة ما يحتاجون إليه هناك، ولا شك أنك ستكون واحداً في خلية من المسلمين الذين يحمون أنفسهم من التأثيرات الكفرية في تلك البلاد، ولا شك أنك ستذكر نفسك كثيراً بقضية غض البصر عن الأشياء الموجودة هناك.

بعض الثغرات التي لم تسد

بعض الثغرات التي لم تسد Q معلوم أن من فروض الكفاية دعوة أهل الكتاب، وبحكم وجود بعض النصارى فقد تجرد بعض الشباب لدعوتهم للإسلام، فهل تظن أن هذه الثغرة قد سدت؟ A لا. لأنهم أكثر بكثير من هؤلاء الشباب الذين يدعونهم إلى الإسلام. هذا عن بعض الفرص الدعوية، ذكرت أشياء وهناك أشياء أيضاً موجودة في كتاب كتبه بعض الأفاضل وهو إبراهيم بن عثمان الفارس عن اثنين وتسعين وسيلة أو طريقة دعوية، فأيضاً يمكن الرجوع إليه، وعنه نقلت بعض النقاط.

معنى التفرغ لطلب العلم

معنى التفرغ لطلب العلم Q التفرغ لطلب العلم ماذا تعني هذه الكلمة؟ A إذا ذهب الإنسان إلى جامعة شرعية، تكون دراسته واختباراته مذاكرته وواجباته وبحوثه كلها شرعية، فهذا نوع من التفرغ، وإذا كان يأخذ مكافأة شهرية فماذا يريد أكثر من ذلك، لكن لو قال: وترك الدعوة إلى الله هل تعني ترك إنكار المنكر؟ الجواب: لا. بطبيعة الحال، وإلا صار العلم الذي تتعلمه وبالاً عليك، ماذا استفدت من العلم إذا كنت ستترك الواجبات الشرعية.

كيفية المحاسبة للنفس

كيفية المحاسبة للنفس Q هل يشترط في معاتبة النفس أن يتحدث الإنسان مع نفسه بصوت مسموع، أم يكفي التفكير والمعاتبة داخل النفس؟ A يكفي التفكير والمعاتبة داخل النفس ولا يشترط أن يكون الكلام مسموعاً، وخصوصاً إذا كان حوله أشخاص فإنه لا يكون من الإخلاص في المحاسبة أن يرفع صوته.

أهمية التقيد بالأذكار الشرعية

أهمية التقيد بالأذكار الشرعية Q هل يجوز أن يقول الإنسان بعد الأكل أو الشرب: اللهم جزاؤك الحمد والشكر، بدلاً من قولك: لك الحمد والشكر؟ A جزاؤك الحمد والشكر؛ بعض العبارات قد تكون صحيحة من ناحية المعنى، لكن لم ترد عن النبي صلى الله عليه وسلم، فمثل هذه الأذكار أذكار الطعام والشراب، والعطاس والسلام وغيرها، ينبغي أن تكون مقيدة بما ورد في السنة، وقد ذكر ابن حجر رحمه الله بحثاً في الاستعاذة من الشيطان عند التثاؤب في كتاب الأدب من صحيح البخاري فليرجع إليه.

حكم دخول الحائض المسجد

حكم دخول الحائض المسجد Q هل يجوز للحائض أن تدخل المسجد لسماع المحاضرة؟ A قد اختلف أهل العلم في دخول الحائض إلى المسجد، الأحوط للحائض أن لا تدخل المسجد، وهذا المشهور من فتاوى علمائنا.

صلاة النافلة في المسجد من أجل الأذان

صلاة النافلة في المسجد من أجل الأذان Q أستيقظ مبكراً لكي أصلي من الليل فلا أستطيع، ولكي أتمكن من أداء أذان صلاة الفجر أضطر للذهاب للمسجد، وأصلي هناك لكي أسبق غيري بالأذان، فهل أصلي في بيتي؟ A لا بأس أن يذهب إلى المسجد ليصلي ما تبقى له من قيام الليل لكي يكون هو الذي يؤذن.

طريقة السؤال في الدرس

طريقة السؤال في الدرس Q أحضر حلقة تجويد ولا أجيد فهم الدرس، وأخشى أن أسأل الشيخ فأعطل زملائي وأضيع وقتهم؟ A أقول: اجعل السؤال في آخر الدرس بعد انتهاء الدرس، اسأل الشيخ حتى لا تعطل الزملاء من القراءة وحتى لا تفوت عليك الفائدة.

بدعية محاسبة النفس بالكتابة

بدعية محاسبة النفس بالكتابة Q ما حكم محاسبة النفس بالكتابة على ورقة وعمل جدول يومي؟ A هذا الجدول المعمول عند بعض الناس في بعض الأوراق ومكتوب فيه (صح وخطأ) وعلامات أو أرقام ليس من فعل السلف، وهو طريقة مبتدعة للمحاسبة، لكن الإنسان يذكر نفسه بما فعل من التقصير الذي حصل، أو بالذنوب، أو بما ترك من الواجبات، أو بما ترك من الأوراد المستحبة لكي يأتي بعوض عنها.

تقديم شارب الدخان في الإمامة

تقديم شارب الدخان في الإمامة Q إذا اجتمع شخص يشرب الدخان وآخر يحلق لحيته فمن يتقدم لصلاة الجماعة؟ A إذا فرض أنه لا يوجد إنسان مطبق للسنة بهم، فإن الذي يتقدم هو الذي أطلق لحيته ولو كان مدخناً لأن منكره غير مستمر، بخلاف الذي حلق لحيته.

كل ما خرج من السبيلين ناقض للوضوء

كل ما خرج من السبيلين ناقض للوضوء Q هل كل خارج من السبيلين يعتبر ناقضاً للوضوء ولو حصاة صغيرة؟ A هذا المشهور من كلام الفقهاء، أن كل خارج من السبيلين فهو ناقض للوضوء حتى لو كان شعراً أو حصىً أو دوداً أو دماً فإنه يعتبر ناقضاً للوضوء.

مس حلقة الدبر لا ينقض الوضوء

مس حلقة الدبر لا ينقض الوضوء Q هل إذا لمس الإنسان دبره ينقض الوضوء؟ A هذه المسألة اختلف فيها أهل العلم فقال بعضهم: إنه ينقض لأنه فرج، وتعريف الفرج: أنه ما انفرج وأن فتحة الدبر مما انفرج، وقال في الحديث (من مس فرجه فليتوضأ) لكن الراجح والله أعلم أن لمس حلقة الدبر لا ينقض الوضوء وأن الفرج قد ورد مشروحاً ومبيناً في حديث آخر بقوله: (مس ذكره) فإذاً الراجح أن لمس حلقة الدبر لا ينقض الوضوء.

الفرج بعد الشدة

الفرج بعد الشدة الابتلاء والمحن والشدة خاصية وميزة من ميزات هذه الحياة الدنيا، فلا يكاد يوجد إنسان يسير على هذه الدنيا إلا وقد أصابه ابتلاء أو شدة أو محنة. فالأنبياء ومن تبعهم قد ابتلوا وأصابتهم الشدائد، ثم جاءهم الفرج، لكن مع ذلك هناك فوائد للشدائد، وقد وجه الشيخ عدة نصائح لعدة شرائح في المجتمع المسلم وأوصاهم بالصبر والمصابرة، مبيناً أن بعد الشدة فرحاً، وأن مع العسر يسراً، إلخ.

تفريج الكروب

تفريج الكروب إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أيها الإخوة: حديثا اليوم عن موضوع من مواضيع الإيمان وأعمال القلوب، التي لا يستشعرها ولا يعيش لحظاتها إلا من أوقد الله قلبه بحرارة الإيمان، وعمَّره برياض ذكر الله سبحانه وتعالى والإقبال عليه، وخشيته في السر والعلانية. إنه موضوع فيه احتساب للأجر، وفيه صبر لله وفي ذات الله عزَّ وجلْ، وصبر على أقدار الله سبحانه، يقول الله عزَّ وجلَّ في محكم تنزيله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل:62] فمن الذي يجيب المضطر إذا رفع يديه إلى الله سبحانه وتعالى يطلب منه المدد؟ ومن الذي يجيب المسلم في لحظات الكرب والشدة وهو يهتف داعياً ربه منيباً إليه طالباً منه العون وتفريج تلك الهموم؟ وقال الله تعالى: {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} [الشرح:6] فهذا العسر معرفة، واليسر نكرة في الآية، ولذلك قال ابن عيينة رحمه الله: أي: إن مع ذلك اليسر يسراً آخر، كقوله سبحانه: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} [التوبة:52] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ضحك ربنا من قنوط عباده وقرب غِيَرِه)، إن العباد إذا نزلت بهم الشدائد فإنهم سرعان ما يقنطون، والله سبحانه وتعالى جعل لكل أجل كتاباً، وجعل لهذا الهم نهاية ولهذا الكرب تفريجاً، ولكن العباد يستعجلون، والله سبحانه وتعالى يعجب ويضحك من قنوطهم ومن قرب فرجه. وكتب عمر إلى أبي عبيدة يقول: [مهما ينزل بامرئ من شدة يجعل الله له بعدها فرجاً، وإنه لن يغلب عسر يسرين].

تفريج الكروب عن الأنبياء والصالحين

تفريج الكروب عن الأنبياء والصالحين وتأمل في أحوال الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم؛ فهذا يوسف لما صار في غيابة الجب، ثم في ضيق السجن، كرب على كرب، وهَمٌ على هَمْ، فماذا حصل بعد ذلك؟ تداركته رحمة الله عزَّ وجلَّ، وهي قريب من المحسنين، فأخرجته من ظلامة الجب ومن ضيق السجن إلى سعة الملك وبسط في العيش، وجمع بأهله في حال الرخاء بعد الشدة. وهذا يعقوب عليه الصلاة والسلام عمي من كثرة البكاء والحزن على فقد ولديه، {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف:84]، ثم تداركته رحمة الله بعد سنوات من الشدة ومفارقة الأولاد الأحباء إلى نفسه، فجمعه الله سبحانه بهما على غير ميعاد منهم. وهذا يونس في بطن الحوت، لما نزل به البلاء دعا ربه في مكان ما دعا به أحد من الناس ربه، في جوف البطن المظلم، فاستجاب الله دعاءه. وهذه سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فيها شدائد وأهوال وكرب وهموم، ومنها شدائد المواطن التي نصره الله بها في معاركه ضد المشركين. وهذه عائشة رضي الله عنها، لما نزل بها من الضيق الشديد عندما اتهمها المنافقون، وردد ذلك معهم الذين لم يعوا الأمور من المسلمين ولم يتثبتوا فيها، فاتهموا تلك المسلمة العفيفة زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنها قد وقعت في الفاحشة، وهي منها بريئة، فصار رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل عليها فلا يكلمها ولا يتلطف معها كما كان يتلطف، واشتعلت الفتنة من حولها، والألسن تلوك في عرضها، وهي البريئة، حتى بكت الدموع أياماً متواصلة، حتى انقطع دمعها وكان لا يأتيها النوم، ثم جاءها فرج الله بتبرئتها من فوق السبع الطباق، وفرَّج الله همها وأذهب كربها. وهؤلاء الثلاثة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين خُلِّفوا فضاقت عليهم الأرض بما رحبت، بعد أن عزلهم الرسول صلى الله عليه وسلم عن المجتمع المسلم، ونهى الناس عن تكليمهم، فصاروا غرباء في أهلهم وذويهم، حتى وصل الحال إلى أن أمر زوجاتهم بفراقهم، فصاروا كالمبتوتين من المدينة الذين لا يتصل بهم أحد ولا يكلمهم أحد، حتى نزل فرج الله سبحانه وتعالى بالتوبة عليهم، فوسَّع الله عليهم بعد أن كانوا في ضيق، ونفس عنهم بعد أن كانوا في كربة. وهؤلاء الثلاثة من بني إسرائيل الذين دخلوا في الغار، فانطبقت عليهم الصخرة، ثم فرج الله سبحانه وتعالى عليهم بعد أن أيقنوا بالموت والهلاك. وهذا إبراهيم وسارة نجاهما الله من الجبار الكافر الذي كان يريد أن يأخذهما. بل إن رحمة الله واسعة تشمل الكافر لو كان في كربة عندما تنزل به إذا شاء ربك أن يفرج عنه. فقد روى البخاري رحمه الله في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها: أن وليدة كانت سوداء لحي من العرب فأعتقوها، فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت، فكان لها خباء في المسجد أو حفش -وهو البيت الصغير في ناحية من نواحي المسجد- قالت عائشة: فكانت تأتيني فتتحدث عندي فلا تجلس مجلساً عندي إلا قالت: ويوم الوشاح من تعاجيب ربنا ألا إنه من بلدة الكفر أنجاني فقلت لها: ما شأنك لا تقعدين معي مقعداً إلا قلت هذا؟ قالت: خرجت جويرية -أي: صبية- لبعض أهلي، وعليها وشاح من أدم -وهذه القصة في الجاهلية قبل أن تسلم هذه المرأة- فخرجت صبية من الأهل الذين كانت تعيش معهم هذه الخادمة، وخرجت معها خادمتها، وكان على هذه الصبية وشاح من أدم أي: من جلد لونه أحمر، وفي الطريق وضعته هذه الصبية أو وقع منها، فمرت به حدأة فحسبته لحماً فخطفته، قالت: فالتمسوه فلم يجدوه، جاء أهل البنت الصغيرة فبحثوا عن الوشاح فلم يجدوه، قالت: فاتهموني به، فطفقوا يفتشون، فعذبوني حتى بلغ من أمرهم أنهم طلبوه في قبلي -فتشوا قبلها- قالت: والله! إني لقائمة معهم وأنا في كربي إذ مرت الحديات حتى وازت رءوسنا، فألقته، فوقع بينهم فأخذوه، فقلت: هذا الذي اتهمتموني به وأنا منه بريئة وهو ذا، ثم كان من أمرها بعد ذلك ما كان من إسلامها. فتأمل حال تلك المرأة المسكينة -مع أنها كانت كافرة- كيف لما نزل بها الكرب فعذبت تداركتها رحمة الله بحادثة عجيبة، ليست بمعهودة؛ أن يأتي ذلك الطائر فيلقي بالقطعة التي خطفها، والله لطيف بعباده لطفه واسع ورحمته واسعة، فإنه ينقذ العباد من الضيق، ولو كان في أعتى صوره، ولا يتخلى سبحانه عن المخلوقين. وهذه قصة نسوقها، وقد ذكرها القاضي بهاء الدين بن شداد -رحمه الله- في كتابه: النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية، وهو كتاب يحكي تاريخ معارك المسلمين بقيادة صلاح الدين مع النصارى. قال رحمه الله في وقعة الرمل الذي على جانب عكا، يقول: ومن نوادر هذه الوقعة أن مملوكاً كان للسلطان يدعى سراسنقر، وهو من المسلمين، وكان شجاعاً قد قتل من أعداء الله خلقاً عظيماً وفتك بهم، فأخذوا في قلوبهم من نكايته بهم، فمكروا به وتجمعوا له وكمنوا له، وخرج إليه بعضهم، وتراءوا له يستدرجونه ليخرج من عسكر المسلمين ليقاتلهم، فحمل عليهم -وكان شجاعاً لا يخاف- حتى صار بينهم فوقع في الكمين، ووثبوا عليه من سائر جوانبه فأمسكوه، وأخذ أحد من النصارى بشعره، وضرب الآخر رقبته بسيفه، وهم يحيطون به من كل جانب، والآخر رفع سيفه فضرب رقبة المسلم؛ لأن هذا المسلم كان قد قتل قريباً لهذا الكافر، فرفع سيفه ليضربه فماذا تظن يا أخي أن يفعل الله في تلك اللحظات؟ ماذا تظن وتحسب أن يحدث وكيف ينقذ الله رجلاً في هذا الموقف؟ يقول: فوقعت الضربة في يد الماسك بشعره، فقطعت يده وخلى عن شعر المسلم فاشتد هارباً حتى عاد إلى أصحابه، وأعداء الله يشتدون عدواً خلفه، فلم يلحقه منهم أحد، وعاد سالماً ولله الحمد {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً} [الأحزاب:25] فتأمل لطف الله الذي أوقع ضربة الكافر على يد الماسك بشعر المسلم حتى قطعت فاستطاع أن يفلت منهم. وهؤلاء الذين يركبون البحر فيسافرون كان لهم في الماضي شأن عظيم، وكانت تحل بهم النكبات والعواصف، حتى تكاد أن تغرقهم، يقول العلامة: صديق حسن خان -رحمه الله- في كتابه رحلة الصديق إلى البيت العتيق: ولما سار المركب من الحديدة سكن الهواء إلى ثلاثة أيام، ولم يتحرك المركب خطوة من محل القيام، وبعد ذلك هبت الريح الأزيز وجاء الغيل والمطر بالليل، ورجع المركب إلى عقبه، وسار إلى غير صوبه، فمكثنا بهذه الحالة في البحر إلى أيام، آيسين من الوصول إلى المأمول، وضاقت علينا الأرض بما رحبت من طول الركوب، ومخالفة الهواء وقلة المطعوم والمشروب، وبلغت الأنفس التراقي، وكانت الأيدي إلى السماء مرفوعة، فقلنا: سمع الله دعاء الآيسين، وهبت لنا ريح طيبة من رب العالمين إلى يومين، وكانت ضعيفة ولكنها أخرجت المركب من مجمع الجبال المستغرقة في الماء إلى ساحل النجاة، ولما قربنا من جدة قرب المركب ليلاً إلى جبل في الماء، ومن أخطر الأمور أن يقترب المركب إلى جبل في الماء، فاضطرب له المعلم اضطراباً شديداً، وربط أشرع السفينة، وعمل كل تدبير خطر له في البال، وأنزل الملاحون قوارب السفينة، وسعوا إلى جوانبه، وعلموا أن المركب لو سار قريباً لتصادمت بالجبال، فمضى هذا الليل في غاية الاضطراب، وتمت تلك الليلة بالاستغفار وإخلاص النية والتوبة، وكلمة الشهادة على الألسن، وسلموا أنفسهم للموت، ومنَّ الله علينا بالسلامة حتى طلع الفجر، وشاهدنا ذلك الجبل في ضوء النهار.

فوائد الشدائد

فوائد الشدائد وهذه الشدائد التي تصيب المسلم في حياته بشتى الصور، لا بد لها من فوائد، فإن للشدائد فوائد بالرغم من أنها مكروهة للنفس، فمنها: أولاً: أن الله يكفر بها الخطايا، ويرفع بها الدرجات، ويدفع الكربُ المكروبَ إلى التوبة، ويلجأ إلى الله وينكسر بين يديه، وهذا الانكسار أحب إلى الله من كثير من العبادات؛ أن ينكسر المخلوق لله سبحانه، وأن يشعر بذله أمام الله، وأن يشعر بحاجته إلى ربه وافتقاره إلى خالقه، فينقطع إلى الخالق ويترك المخلوق، وهنا يتحقق التوحيد ويتنقى من أدران الشرك بأنواعها، ويخلص الإنسان لربه. وقد علّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أدعية إذا نزل بنا الكرب واشتدت الأمور وضاقت علينا الأرض بما رحبت، فقد جاء في الصحيحين عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب: (لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض رب العرش الكريم) وكان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر قال: (يا حي يا قيوم! برحمتك أستغيث) وقال عليه السلام لـ أسماء بنت عميس: (ألا أعلمك كلمات تقولينهن عند الكرب: الله ربي لا أشرك به شيئا) وقال عليه الصلاة السلام: (من أصابه هم أو غم أو سقم أو شدة فقال: الله ربي لا شريك له، كشف ذلك عنه) وعن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (دعوة المكروب: اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دعوة ذي النون إذ دعا بها في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، لا يدعو بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له). وهذه ألطاف الله قد تخفى على الكثيرين. وكم لله من لطف خفي يدق خفاه عن فهم الذكي وكم يسر أتى من بعد عسر وفرج لوعة القلب الشدي وكم هم تساء به صباحاً فتعقبه المسرة بالعشي إذا ضاقت بك الأسباب يوماً فثق بالواحد الأحد العلي وقال أبو الحاكم علي السجستاني رحمه الله: إذا اشتملت على اليأس القلوب وضاق بما به الصدر الرحيب وأوطأت المكاره واطمأنت وأرست في أماكنها الخطوب ولم تر لانكشاف الضر وجهاً ولا أغنى بحيلته الأريب أتاك على قنوط منك خوف يمن به اللطيف المستجيب وكل الحادثات إذا تناهت فموصول بها فرج قريب اللهم فرج كرباتنا، وفرج همومنا وأحزاننا، اللهم واجعل لنا من رحمتك نصيباً موفورا، اللهم واجعلنا من عبادك الصلحاء الأتقياء الأخفياء، وصلِّ اللهم على نبينا محمد، وأستغفر الله لي ولكم.

نصائح لبعض شرائح المجتمع المسلم

نصائح لبعض شرائح المجتمع المسلم الحمد لله على إحسانه، وهو المتنعم على عباده بأفضاله، وأشهد أن لا إله إلا هو سبحانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. كيف نستفيد من هذا الموضوع في حياتنا العملية؟ وما هي الجوانب التي قد تحدث لنا فيها الكروب؟ وماذا يكون موقفنا فيها؟

نصيحة للباحثين عن الحق

نصيحة للباحثين عن الحق أخي طالب الحق الباحث عنه! قد يتعبك البحث، وتمضي عليك الأوقات والأحداث وأنت لم تصل بعد إلى ما تطمئن إليه نفسك، فلا تيأس وواصل البحث وادع الله وقل: اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف منه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم. ولا يزال هذا ديدنك وأنت تدعو ربك حتى يكشف الله لك الحق، ويضيء لك الطريق الذي تسير فيه.

نصيحة لطالب العلم

نصيحة لطالب العلم أخي طالب العلم! قد يطول بك البحث في مسألة حتى يكاد صبرك ينفد، وتحس بالضيق، فاعلم أن بعد الهم فرجاً، وكان شيخ الإسلام إذا استعصت عليه المسألة يكثر من ذكره لربه ويقول: يا معلم إبراهيم علمني، ويا مفهم سليمان فهمني. حتى ينبلج له فجر الصواب في تلك المسألة، فلا تضق يا طالب العلم إذا ضاقت بك الأحوال في بداية طلبك، فتشعر أنك تقرأ بلا فائدة ولا مردود، وتشعر بالسآمة والملل يدفعانك لترك القراءة وإغلاق الكتاب، اصبر فلن تلبث المعلومات أن تأخذ مكانها في ذاكرتك، وتتلاقى أطراف المسائل في ذهنك، فيبدأ عطاؤك بإذن الله كالغيث نافعاً مباركاً ينفع الله به نفسك والعباد.

نصيحة للداعية إلى الله

نصيحة للداعية إلى الله أخي الداعية إلى الله! قد توصد بعض قلوب المدعوين أبوابها في وجهك، وقد تحاول وتحاول دون ما فائدة، فتصاب بضيق شديد وإحباط كبير، فلا تحزن إن الله معك ما دمت تدعو إلى سبيله، وذلك ما استقمت على الجادة، وتذكر صبر نوح على قومه، ينوع عليهم وسائل الدعوة ليلاً ونهاراً تسعمائة وخمسين عاماً وهو يدعوهم إلى الله. أخي يا من تحاول أن تكون ربانياً تربي الناس بصغار العلم قبل كباره! قد تستغلق عليك بعض الأذهان، ولا تفهم المراد ولا تعي المطلوب، أو يذهب ما تريد أن ترسخه سريعاً، وقد تقع الأخطاء المخالفة لبعض أساسيات المنهج والتصور الصحيح في نفوس من تعاشرهم، وقد تواجه حالات من الاستعصاء في الانقياد وتتكرر الأخطاء في مسائل طال عليها التنبيه، وتكرر فتحس باليأس ولا جدوى، فلا يركبنك الهم، واعلم أن مع العسر يسراً، وأن فرج الفهم والتطبيق قريب، وتذكر موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة حاطب وكعب

نصيحة للتاجر والموظف

نصيحة للتاجر والموظف أخي التاجر! قد تحل بك خسارة في تجارتك، أو كساد في بضاعتك، وتتراكم عليك الديون، ويطالبك التجار الآخرون، وينزل بك من الهموم والأحزان خطوب جسام، والخسارة تلو الخسارة، ولا تدري أين تذهب بوجهك من الديانة، فلا تحزن وإن صبرت واتقيت فسيفرج الله همك، ويذهب حزنك وغمك، ويجعل لك من الضيق مخرجاً، ويبدل حالتك بعد العسر يسراً. قال الشافعي رحمه الله: صبراً جميلاً ما أقرب الفرجا من راقب الله في كل الأمور نجا أخي العامل أو الموظف! قد تمر بك ساعات شدة، قد تفصل من عملك، أو تفقد وظيفتك فينزل بك الكرب ويركبك الهم، وأسئلة تدور في خلدك: ماذا ستفعل؟ وكيف تعيش؟ ومن أين تكسب اللقمة التي تضعها في أفواه أولادك؟ وما مصيرهم؟ ولكن اعلم أن الله هو الرزاق ذو القوة المتين، وأنه يرزق الطير في جوها، والنملة في جحرها، وأن الله لا يضيع عباده، واتق الله في جميع أمورك حتى يجعل الله لك فرجاً ويرزقك من حيث لا تحتسب. وأنبه هنا -أيها الإخوة- وأقول لبعض الناس الذين تركوا أعمالاً محرمة مثل بعض أعمال البنوك ووظائفها ولم يعثروا على وظائف، وبقوا فترات طويلة بدون عمل، حتى وقع بهم الشك والحيرة: أين قول الله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3]؟ ويقول: إني اتقيت الله فخرجت من العمل المحرم ولكني لم أجد عملاً. يا أخي! إنك اتقيت الله في عمل واحد من أعمال حياتك وهو خروجك من العمل المحرم، ولكنك ربما لا تزال مقيماً على أعمال كثيرة محرمة، ربما أنك تمشي إلى معصية الله، وتنظر إلى ما حرم الله، وتسمع ما حرم الله، فكيف بعد ذلك تقول: إن الله يقول: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} [الطلاق:2] وأنا ما جعل الله لي مخرجاً؟! أنت لم تتق الله إلا في شيء واحد، أين تقوى الله في بقية الأشياء؟! إذاًَ: أخلص لله واترك جميع المعاصي، والله لا بد أن يجعل لك مخرجاً وفرجاً؛ لأنه وعد في الآية، لكن تقوى الله واسعة وعامة

نصيحة للشباب

نصيحة للشباب أخي أيها الشاب الذي تتعرض للفتن من كل جانب، وتتلقى العنت والمشاق في الصبر على الشهوات، وأنت تصبر عن الحرام وتدافع تلك الخطوات، ويحيط بك هم الحصول على الفتاة الملتزمة، وهم توفير المهر والزينة، اصبر فإن الله مع المحسنين، وكما فرج الله لغيرك فسيفرج لك، ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32]

وصايا متفرقة

وصايا متفرقة أخي، يا من اضطر لطلاق زوجته في ذات الله وإرضاءً لله! قد يجتمع عليك جيش الهموم، فهمٌ يحيط بك مما خسرت وتكلفت في ذلك الزواج، وهمٌ يحيط بك: هل ستجد امرأة صالحة أخرى تتزوجها؟ وهمٌ يحيط بك: هل كانت المطلقة قد خلفت لك أولاداً من يعتني بهم؟ وهمٌ يحيط بك من موقفك أمام الناس وإذا هم همزوك ولمزوك وأساءوا القول في جانبك، فلا تحزن ما دمت قد فعلت ذلك إرضاءً لله، فإن الله يقول في سورة الطلاق في نهايات الآيات: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} [الطلاق:1] {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} [الطلاق:7] {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3] {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً * وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} [الطلاق:3 - 4] نهايات عجيبة تنتهي بها آيات الطلاق لماذا؟ لأن الطلاق شيء كبير، وفيه هَمٌ عظيم لمن اتخذ ذلك القرار إرضاءً لله عزَّ وجلَّ، إن الله سيجزيه على عمله ذلك ويعوضه خيراً. أخي، يا من وقعت في ورطة فلم تعرف كيف الخلاص، وحاولت الفكاك ولكن ولات حين مناص! تذكر في لحظاتك هذه قوله تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:87 - 88]. أخي، يا من ابتلاه الله في جسده! فهو يئن تحت وطأة المرض، ويتلوى من الوجع على فراش الإصابة، تحيط بك هموم الآلام بأنواعها. ويا من ابتلاه الله في حبيبه أو ولده فهو يحس حرارة الابتلاء في كبده، لا تيأس فإن فرج الله بالشفاء لآت، وإن لم يحصل الشفاء فهو ابتلاء ترفع به الدرجات في الجنات، وتضاعف الحسنات {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء:83 - 84]. ومن رحمة الله أن جعل طعم البلاء يخف على الإنسان كلما امتد زمن البلاء، فأنت ترى المريض المزمن في مرضه اللحظات التي يعيشها الآن أهون عليه من اللحظات التي كانت عندما بدأ المرض؛ لأنه قد تعود مع أن المرض لم يخف بل إنه ربما يشتد؛ لكن الله يصبره، وعلى قدر البلاء تنزل المعونة. تعودت مس الضر حتى ألفته وأسلمني طول البلاء إلى الصبر ووسع صدري للأذى كثرة الأذى وكان قديماً قد يضيق به صدري وكذلك الداعية إلى الله عندما يبتلى بأذى الناس ربما يجزع في المرات الأولى، ولكن يوسِّع صدره على الأذى كثرة الأذى، وعلى قدر البلاء تنزل المعونة

إن النصر مع الصبر

إن النصر مع الصبر وأخيراً! معشر المسلمين المخلصين، الذين تعملون لإعلاء دين الله وكلمته: لقد طال هذا الليل واسود جانبه، وأرقنا فعل الجاهليات بأهل الإسلام، لا تيأسوا، فإن النصر مع الصبر، وإن مع العسر يسرا يقول الله عزَّ وجلَّ: {وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ * {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} [يوسف:109 - 110] فهذه سنة الله في الدعوات؛ أن الخطوب تشتد عليها والأخطار من كل جانب، حتى يفعل جميعهم كل الإمكانيات فلا تفيد، وبعد أن يفقدوا الأمل ويصلوا إلى نقطة يحسون ألا نصر عندها إذا بنصر الله يأتي، قال تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} [يوسف:110]. متى أتى النصر؟ أتى النصر عندما اشتدت الأمور، وظنوا أنه لن يأتي {جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} [يوسف:110]، وهكذا لكي لا يكون النصر رخيصاً، فلو كان النصر رخيصاً لقام في كل يوم دعيٌ بدعوة لا تكلفه شيئاً، ودعوات الحق لا يجوز أن تكون عبثاً ولعباً، فإنما هي قواعد في حياة البشر ومنهاج لهم. يا فارج الهم عن نوح وأسرته وصاحب الحوت مولى كل مكروب وفارق البحر عن موسى وشيعته ومذهب الحزن عن ذي البث يعقوب وجاعل النار لإبراهيم باردة ورافع السقم من أوصال أيوب إن الأطباء لا يغنون عن وصب أنت الطبيب طبيب غير مغلوب اللهم إنا عبيدك بنو عبيدك بنو إمائك، نواصينا بيدك، ماضٍ فينا حكمك، عدل فينا قضاؤك، نسألك اللهم بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا، اللهم ذكرنا منه ما نسينا، وعلمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيك عنا. وصلى الله وسلم على النبي الأمي محمدٍ، صلاة وسلاماً دائمين إلى يوم الدين.

اليهود خونة العهود

اليهود خونة العهود اليهود شر وأبغض أمة على مر التاريخ، وقد لعنهم الله جل وعلا في كتابه، وعلى ألسنة رسله عليهم السلام، وهنا عدة وقفات مع فلسطين الجريحة وما يجري بها من أحداث، مع بيان لموقف الأطفال وشجاعتهم ورباطة جأشهم. فيجب أن تعلم الأمة أن ما أخذ بالقوة لا يرجع إلا بالقوة، فالجهاد هو الوسيلة الوحيدة لاستعادة الأقصى. وقد نبه الشيخ على أهمية الإعلام الإسلامي، وتساءل عن دوره في هذه القضية، وحذّر الأمة من الغفلة، ودعاهم إلى الاستيقاظ، وحث على تربية الأبناء على الجهاد وكره اليهود الأوغاد.

اليهود في القرآن

اليهود في القرآن إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم العن اليهود {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:88]. اللهم العن اليهود {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ} [البقرة:89]-أي: محمد صلى الله عليه وسلم- {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:89]. اللهم العن اليهود {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:46]. اللهم العن اليهود {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} [النساء:47]. اللهم العن اليهود {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ} [المائدة:13]. اللهم العن اليهود {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة:60]. اللهم العن اليهود {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [المائدة:64]. اللهم العن اليهود {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى بن مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [المائدة:78]. كم مرةٍ لعنهم الله في كتابه، وكم مرةً لعنهم النبي صلى الله عليه وسلم؟: (لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد). (لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها).

عداوة اليهود للأمة الإسلامية

عداوة اليهود للأمة الإسلامية عباد الله: هذه الأمة الملعونة في كتاب الله، وعلى لسان رسول الله من قبل، هي الأمة التي تعتدي اليوم على مقدسات المسلمين، وعلى دمائهم وبيوتهم وأولادهم، هي الأمة الملعونة التي لا ترقب في مؤمنٍ إلاّ ولا ذمة اليهود خونة العهود: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ} [المائدة:13]، {وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ} [المائدة:13] اليهود ليست لهم عهود اليهود خونة العهود، هؤلاء هم اليهود لمن لم يعرف اليهود. إن القضية قضية تاريخية، والمسألة مسألة شرعية، والقضية قضية عقدية إن اليهود لا يمكن مسالمتهم أبداً وليس لهم عهد ولا ميثاق رغم أنف الذين يريدون أن يعقدوا معهم عهداً وميثاقاً، فهم يهود مثلهم. اليهود لا يؤمن شرهم ولا يؤمن مكرهم اليهود خلق نجس ورجس شيطاني اليهود أعوان إبليس اليهود سبب شقاء البشرية مع غيرهم من ألوان الكفر والشرك في الأرض، يقودهم إبليس إلى جهنم وبئس المصير اليهود أعداؤنا، كرههم في قلوبنا، وجهادهم عبادتنا وقربتنا إلى الله اليهود: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217] هؤلاء الذين أظهر الله مكرهم وأظهر بغضهم، وكشف سترهم وسرهم، وجعلهم باستمرار أعداءً للمسلمين.

وقفات مع فلسطين الجريحة

وقفات مع فلسطين الجريحة وتثبت الأحداث التي يقدرها رب العالمين استمرار عداوة اليهود للمسلمين، وكلما قارب السلم المزعوم على الانعقاد يجري الله حدثاً، فيقدم هؤلاء على إطلاق النار على المصلين في المسجد الأقصى بعد صلاة الجمعة الماضية كان المسلمون في بني خزاعة لما أغارت بنو بكر -المشركة- عليهم، استغاثوا بالله ربهم، وتوجهوا لنبيه في المدينة يطلبون المدد ويقولون: هم بيتونا بالوتير هجداً وقتلونا ركعاً وسجداً فَجَيَّشَ النبي عليه الصلاة والسلام عشرة آلاف مقاتل للانتقام لهم، وكان هذا سبب فتح مكة، فمن ذا الذي ينصر المسلمين في المسجد الأقصى واليهود يطلقون النيران على المصلين؟ ولا ندري ماذا سيحدث في هذه الجمعة؟

اعتداء اليهود الأنذال على المسلمين

اعتداء اليهود الأنذال على المسلمين أيها الإخوة: إن الله سبحانه يقول: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة:251] ولما صار هذا التدافع بين المسلمين واليهود ظهرت أمور كثيرة؛ فكان قتل سبعين من المسلمين، وجرح أكثر من ألف وخمسمائة مسلم بكل أنواع الأسلحة، لم يوفر اليهود سلاحاً عندهم للمجابهة إلا واستخدموه حتى الصواريخ؛ فقد قتل مسلمٌ بصاروخ، فتشتت لحمه وتبعثر جسمه وتفرق دمه، حتى لم يعد أهله يستطيعون أن يتعرفوا عليه، وهكذا رصاص طائرات الهيلوكبتر التي تطلق على المسلمين في أرض فلسطين، فيتساقطون -فيما نرجو- شهداء عند الله عزَّ وجلَّ. إنزال مظلي، وفرق متخفية، وكذلك دبابات وتعزيزات وتحصينات وهكذا يخترق الجيش اليهودي أراضي المسلمين ليعلم أهل النفاق أنه ليس لليهود أمان، وأنهم لا يحترمون عهداً ولا ميثاقاً، إن التشوهات التي أصابت أجساد المسلمين من رصاص الدمدم والقنابل الانشطارية، والأشياء التي يزعمونها محرمة دولياً، والله عزَّ وجلَّ حرم الاعتداء وسفك الدماء بأي وسيلة كانت. ثم يحدث هذا -أيها الإخوة- في شهر رجب الذي نعيش أيامه هذا الوقت، هذا الشهر الحرام سفكوا فيه دماءنا، وهو أحد أربعة شهور هي الأشهر الحرم التي هي أعظم الشهور عند الله، هكذا لم يوقر شهر حرام، ولا دم حرام، وهكذا حصلت الاعتداءات.

أمور مستفادة من الحدث

أمور مستفادة من الحدث لقد أظهر هذا الحدث بشهادة الجميع حتى الكفار أموراً متعددة، لقد صرحوا بأنه فاجأ العالم بأمور كثيرة، ومن ذلك أيها الإخوة: البطولة العجيبة التي أظهرها المسلمون في أرض فلسطين، فيتصدى المسلمون لليهود المتترسين المتصفحين الذين يطلقون الرصاص الحي وغيره على المسلمين فأي شجاعة وأي جرأة تلك التي انبعثت في المسلم الذي يتصدى للرصاص بالحجارة؟! ولو كان -يا ترى- عند المسلمين سلاح فكيف سيكون الأمر؟! إذاً: هذه الأمة قابلة للعمل والإحياء، وقابلة للتصدي والجهاد، وفي أفرادها جرأة وشجاعة تنقصهم قيادة راشدة، وخطة حكيمة، وإعداد جيد، واستعداد على منهج الآية: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] المسلمون لم يهربوا عندما أطلق اليهود الرصاص عليهم، بل بقوا في الشوارع يذهبون يجرون ويركضون ويغيرون مواقعهم، ويصعدون الأسطحة، يرشقون الحجارة بالمقلاع بقذائف المولوتوف بما تيسر، تقدم الأسر القتلى تلو القتلى ويصعدون الأسطحة لقلع الأعلام الإسرائيلية. لقد ظهرت أمور عجيبة، ومن ذلك: شجاعة الصبيان، وهذه قضية بالتأكيد قد فاجأت اليهود أنفسهم، فلا ينسى العالم مشهد ذلك الصبي ذي الأربعة عشر عاماً الذي صعد السطح لكي يقلع العلم اليهودي الإسرائيلي، وطائرات الهيلوكبتر تلاحقه، وزخات الرصاص تحاصره، والقناصة الإسرائيليون من النوافذ يطلقون النار عليه، ويمضي وهو مصاب بعدما اقتلع العلم ليرقد خمساً وأربعين دقيقة في الشارع حتى يتم إنقاذه إلى المستشفى وهو ينزف.

الجهاد هو الحل لاستعادة فلسطين

الجهاد هو الحل لاستعادة فلسطين أيها الإخوة: لقد ظهرت شجاعة الأطفال، فإذا كان هذا شأن الأطفال، فما هو شأن الرجال؟ ولو وجدت راية إسلامية وسلاح بأيديهم ماذا كانوا سيفعلون إذاً؟! لقد ظهر التلاحم بين المسلمين، وكان اليهود ليحسبوا حساب عرب إسرائيل في حدود ثمانية وأربعين -كما يسمونها- أن يقوموا بمثل هذا العمل! فإذا بهم يتصاعدون لمؤازرة إخوانهم وراء الخط الآخر المزعوم؛ لإثبات أن الإسلام هو النسيج الذي يربط بين هؤلاء جميعاً، وهكذا قدموا أيضاً قتلى، وظهر أن الهوية الإسرائيلية التي منحها اليهود لعرب الثمانية وأربعين لم تجدِ في تغيير ولائهم، بل تصاعد المجد الإسلامي بينهم ليكونوا لحمةً مع المسلمين في الطرف الآخر، وهكذا قام المسلمون في عدد من البلدان يتظاهرون تأييداً لإخوانهم المسلمين في الداخل، وسمع كلامٌ لم يكن يسمع من قبل في قضية إعلان الجهاد، وأنه الحل الوحيد، ونبذ الاستسلام والسلام الموهوم، والعودة إلى أن الذي أُخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة. أيها الإخوة: إن هذا التخطيط المسبق من اليهود لهذه القضية التي حصلت، وهذه الجرائم التي صارت؛ أيقظت في نفوس المسلمين الحمية. إن هذه الأمة التي جرى تنويمها بالأفلام والملاهي والألعاب وغير ذلك من ألوان الترف، والتي جرى تخديرها بالمغنين والمغنيات، والراقصين والراقصات، والممثلين والممثلات، والسياحات والسفريات، وغير ذلك من أنواع الملهيات، إنها لتستيقظ اليوم وهي ترى هذه الدماء في أرض فلسطين، حتى اضطرت بعض جهات الفسق إلى تغيير برامجها مواكبةً للحدث، ومراعاة لمشاعر الجماهير كما يقولون، فأصبحت -بزعمهم- أكثر جدية من ذي قبل، وهذه ملاحظة مهمة: أن تكون القضية فرضت نفسها؛ بحيث إنهم اضطروا إلى أمور من تغيير البرامج مواكبةً للحدث. أيها الإخوة: إن مشاركة المسلمين لإخوانهم في المشاعر، والتعبيرات التي ظهرت في الشارع الإسلامي جميعه، تدل على أن مفهوم الجسد الواحد يمكن أن يعود، وكذلك فإن ارتفاع الأصوات التي تدعو إلى الجهاد تثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن الخطوة القادمة لهذه الأمة أنه لامناص منها إطلاقاً، وأن الجهاد أمرٌ يفرض نفسه؛ لأن هذا الاحتلال لأرض الوقف الإسلامي أرض فلسطين، التي لا يجوز التنازل عن شبر منها؛ لا يمكن إزالته إلا بالجهاد، وبالانتقام لله من هذه الشرذمة الذين قالوا: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة:64]. وليست القضية قضية قديمة؛ فهذا موفادي يوسف كبير حاخاماتهم وأحبارهم، يقول: إن الله ندم على خلق الفلسطينيين!! فسب الله مستمر من اليهود قديماً وحديثا، فهم أمةٌ واحدةٌ ملعونة، وخط ملعونٌ مستمر في التاريخ من أول ظهورهم، هكذا كانوا يقتلون الأنبياء، ويعيثون في الأرض فساداً، ويسبون الله تعالى. وضعوا السم للنبي عليه الصلاة والسلام، وتآمروا عليه وعلى المسلمين، واشتركوا في المؤامرة مع كفار قريش والمنافقين، والخيانة مستمرة والقضية مستمرة، وكما حُلَّت بالجهاد في الماضي فإنها لا تحل إلا بالجهاد في الحاضر. أيها الإخوة: لقد رأينا وقاحتهم وهم يطلبون من الفلسطينيين الكف عن إطلاق النار، وضبط النفس، أي ضبط للنفس في هذا الموضوع؟! وكيف يملك أن يضبط نفسه من يرى أفراد أسرته يقتلون، ومنزله وغرف بيوته تهدم بقذائف صاروخية؟! ثم يقولون: ضبط النفس!! ورأينا -أيها الإخوة- كيف يتآمر الإعلام الغربي النصراني الحاقد مع الإعلام اليهودي وبينهما نسب كبير في قضية طمس الصورة الحقيقية وتشويه الأحداث، فالتركيز -مثلاً- على صورٍ لفلسطينيين قلة وندرة يطلقون رصاصاً من مسدس أو بندقية؛ لكي يظهروا للعالم ويوهموا الناس أن القضية قضية حرب جيشين أي جيشين؟! ومن هو الجيش الآخر؟ معظم الناس الذين اشتركوا من المسلمين بالحجارة وبأيديهم، ولو كانت الأسلحة موجودة فعلاً بأيدي مؤمنين حقاً لتغيرت النتيجة منذ أيام، وانقلبت القضية.

أهمية الإعلام الإسلامي في القضية الفلسطينية

أهمية الإعلام الإسلامي في القضية الفلسطينية أيها الإخوة: إن هذه الفضائع التي حدثت كان لها أثر في النفوس، ونقول دائماً: ليس في أفعال الله شر محض، فلابد أن يوجد فيه خير بوجه من الوجوه، قد يقول الناس: الخسائر ضخمة، سبعون قتيلاً وألف وخمسمائة جريح، ومنازل متهدمة، لكن نقول: الوعي الذي أحدثته هذه الدماء في الأمة كبير جداً، المكسب في الوعي وإيقاظ الإيمان والنفوس المتخدرة أكبر بكثير من الخسارة التي حصلت، والله غالب على أمره، والله عزَّ وجلَّ يحدث في الواقع من المفاجئات ما تربك اليهود {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} [الأنفال:30] {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142] بالتأكيد إنهم لن ولم يكونوا قد حسبوا لهذه المسألة تلك الحسابات، ولذلك هنا يبرز أهمية الإعلام الإسلامي الحقيقي عندما يقدم الصورة للناس. تأملوا -أيها الإخوة- في كاميرا ذلك الفلسطيني الذي صوبها بمهارة على محمد جمال الدرة وهو يقتل بجانب والده، ووالده يتوسل لهم، لقد أقضت الصورة مضاجع العالم، لكن هذه صورة فأين بقية الصور؟ صورة واحدة فعلت هذا الفعل في العالم، والشجب والاستنكار والغثيان والاشمئزاز من أفعال اليهود، وهناك صبيان آخرون قد قتلوا مثله، لكن لم تدركهم الكاميرات، فإذا كانت هذه اللقطة التي كان اليهود سيدفعون مبالغ طائلة جداً جداً لمنع انتشارها، ومنع عرضها لو استطاعوا، فعلت هذا الفعل، فكيف كان سيحدث إذاً لو صورت المناظر الباقية؟!

الانتقام من اليهود قضية متأصلة عند المسلمين

الانتقام من اليهود قضية متأصلة عند المسلمين أيها الإخوة: إن اليهود يراهنون على أن القضية ستكون زوبعة في فنجان، وأننا لا نلبث أن نهدأ وننام، وأن يقوم القوم لمصافحتهم وتقبيل شواربهم، وتوقيع اتفاقية السلام، لكننا نؤمن بالله، وأنه على كل شيء قدير، وأن الله يقلب عليهم مخططاتهم، وأن الله قادر على إيقاظ الأمة التي يراهنون على عودتها للنوم من جديد. أيها المسلمون: لقد أيقظ الحدث في نفوسنا أمراً مهماً جداً، أيقظ أمراً مهماًَ في نفوس المسلمين، وهو الرغبة في الانتقام، وهذه قضية يخشاها اليهود جداً أن يوجد عند المسلمين رغبة حية متصاعدة متدافعة للانتقام إنهم يريدون السلام لكي لا يحصل الانتقام؛ لأن دولتهم لا يمكن أن تواجه الانتقام، ولكن الانتقام رغبة متحققة متجذرة متأصلة في نفوسنا، ونفوس المسلمين الذين عرفوا الأحداث وشهدوها. وسيستغل القضية المنافقون والعلمانيون والمشركون والباطنيون والقوميون، وأصحاب البدع الكفرية، سيستغلون قضية الحدث، وما صار في المسجد الأقصى، فهؤلاء يجب إسكاتهم، وعدم الالتفات إليهم، وإنما الالتفاف حول من يتكلم عن إسلامية القضية؛ لأن القضية لا يمكن أن توصف إلا بأنها إسلامية، وأي شعار آخر للقضية فهو كاذب؛ لأنك لو قلت: إن القضية قضية عرب، فالعرب فيهم نصارى، وفيهم كفار، ومرتدون، وزنادقة، وملاحدة واشتراكيون، فما علاقتهم بالمسجد الأقصى؟ قال تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} [التوبة:17]. لقد تعالت أصوات المسلمين وهي تدعو للعمل قائلةً: طلقوا الكلام ودعوا القرطاس فكلامهم قذائف وأقلامهم رصاص

تربية الأبناء على الجهاد وبغض اليهود

تربية الأبناء على الجهاد وبغض اليهود إذاً أيها الإخوة: لقد أحسسنا فعلاً بأجواء جهادية، وقد طار النوم عن كثيرين، واستيقظت مشاعر دفينة، وتأججت مشاعر في النفوس كانت مطموسة، وكانت مغلقاً عليها بالشهوات، وهذا هو الذي نريده؛ أن يزيل المسلمون غبار النوم عنهم. وأن يتركوا الانغماس في الشهوات، ويقوموا لتربية أولادهم على الجهاد، هذه هي الفائدة الكبيرة من الموضوع: تربية الأولاد على الجهاد، وكره اليهود والنصارى والكفار، تربية الأولاد على الجهاد، وإحياء جذوته في نفوسهم، هذا هو المطلوب الآن، والاستعداد لما سيجد في المستقبل. اللهم إنا نسألك أن تخزي اليهود والنصارى، اللهم إنا نسألك أن تنصر الإسلام والمسلمين، اللهم إنا نسألك أن تحفظنا بالإسلام قائمين وقاعدين وراقدين يا رب العالمين. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

استيقاظ الأمة عقب الأحداث

استيقاظ الأمة عقب الأحداث عباد الله: إن الشعار العظيم الذي يرفعه المسلمون، ويتأجج من حناجرهم: خيبر خيبر يا يهود جيش محمد سوف يعود هو الذي يرهب اليهود حقاً. إن اليهود لا يريدون -إطلاقاً- أن يتحول الحدث إلى عاصفة توقظ الأمة من رقادها، إنهم لا يريدون إطلاقاً أن تتعالى صيحات الجهاد، إنهم لا يريدون أبداً أن يكون المسلمون يداًَ واحدة، فقد فاجأهم الحدث حقاً في نتائجه، وما يترتب عليه. إنني أجزم -أيها الإخوة- أنهم لم يكونوا يحسبون حساباً لتلك اللقطة التي حصلت لذلك الطفل الذي قتل بجانب أبيه، ولا لتلك الطفلة ذات الثمانية عشر شهراً التي تعمد مستوطن مجرم يهودي أن يطلق عليها الرصاص وهي في مقعد سيارة أبيها!! فماذا تفعل بنت رضيعة عمرها ثمانية عشر شهراً؟! وهل تملك أن تجري وأن تهرب أو أن تدافع عن نفسها؟! لكن هذه طبيعة اليهود، أرانا الله إياها، هذه طبيعتهم وهذا غدرهم، ثم يقولون: إن المستوطنين في كفر قاسم غير قادرين على التجول، والخروج إلى وظائفهم! مساكين!! وأما هؤلاء الذين يصلون نار الرصاص فلا عليهم شيء ولا بأس بزعمهم. محمد أي ذنب جئت تحمله حتى قتلت على عين الملايين يا درة المجد قد فجرت في شرف شرارة الثأر في وجه الشياطين محمد أي جرح صغت في كبدي وما الذي بعد هذا الخطب يبكيني كأنما طلقات الحقد في جسدي والهم يفتك بي فتك السكاكين يا للأبوة والأشجان تخنقها والموت يبرق من أنياب تنيني ماذا أثرت على الوجدان من شجن والقدس قبلك مغلول الذراعين وخلف صوتك أصوات معذبةٌ من ليل صبرا وذكرى دير ياسين وفي جفونك أحزانٌ مسطرةٌ للأرض والعرض والإحراق والهون دموع عينيك تحكي ألف مجزرةٍ من صنع جولدا ومن أيام شارون وفي المحيا سؤالٌ حائرٌ قلقٌ أين الفداء وأين الحب في الدين؟ أين الرجولةُ والأحداث داميةٌ؟ أين الفتوح على أيدي الميامين؟ ألا نفوسٌ إلى العلياء نافرةٌ؟ تواقةٌ لجنان الحور والعين؟ كرامة الأمة العصماء قد ذبحت وغيبت تحت أطباق من الطين لكنها سوف تحيا من جماجمنا وسوف نسقي ثراها بالشرايين نفديك بالروح يا أقصى وحيَّهلا بميتةٍ في سبيل الله تحييني تهون للقدس أرواح وأفئدةٌ وكل حبة رمل من فلسطين لكل خطبٍ عزاءٌ يستطب به لكن إذا ضاع قدسي من يعزيني أيها الإخوة: لقد كانت حادثة قتل الطفل شرارةً فعلاً، وكذلك الأطفال الذين قتلوا، والأرواح التي أزهقت، والدماء التي سالت، والبيوت التي خربت، هكذا توقظ أقدار الله التي يجريها في الواقع القلوب الميتة، وتحيي النفوس التي طال صدؤها في مستنقع الرذائل، وتقول للمسلمين: انهضوا من الشهوات يا أيها الناس، تجرون وراء الشهوات والأقصى يحدث ما يحدث فيه من قتل المصلين!! وتنتهون بالمحرمات خمر وزنا، وفضائيات عاهرة، وأفلام، ومسرحيات، ومسلسلات، وملاهي، وهكذا يفعل بالمسلمين! فأين الخير فيكم إذاً؟!! هكذا تهتف الأحداث بنفوس المسلمين. نسأل الله عز وجل أن يجعل من هذا الشهر العظيم شهر نصر للإسلام والمسلمين، اللهم أرنا في اليهود بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم أنزل عليهم عذاباً من فوقهم، وزلزل الأرض من تحتهم، وائتهم من حيث لا يحتسبون اللهم يتم أطفالهم، ورمل نساءهم، وخرب بيوتهم، ودمر اقتصادهم، وعطل أسلحتهم إنك أنت القوي العزيز. اللهم اجعلها عليهم ناراً ودماراً وشدةً وحصاراً. اللهم أيقظ في نفوس المسلمين الحمية لقتالهم، واجمع كلمة المسلمين على جهادهم اللهم أفشل خطط المنافقين، ودمر النصارى والمشركين الذين يؤازرون اليهود الملاعين، اللهم شردهم وشرد بهم من خلفهم إنك يا جبار على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، اللهم آمنا في أوطاننا وسائر المسلمين يا رب العالمين، واجعلنا مدداً للجهاد يا حي يا قيوم، إنك على كل شيء قدير. وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

انتشار مسألة الحلف بالله تعالى بالحق والباطل

انتشار مسألة الحلف بالله تعالى بالحق والباطل لقد انتشر الحلف بالله تعالى انتشاراً كبيراً في أوساط المسلمين، فترى أحدهم يحلف بالله تعالى في كل شيء، في الأمر المهم والأمر الحقير، وفي الأمر الحلال والأمر الحرام، ترى أحدهم تسبق شهادته يمينه ويمينه شهادته غير مبال بالله تعالى، هكذا حال كثير من الناس، كالتجار وغيرهم، فيا ترى ما هي أسبابه؟ وما هي أحكامه وأنواعه؟ هذا ما تكلم عنه الشيخ حفظه الله، ثم تحدث عن كفارة اليمين وأحكامها، وبين خطورة هذا الأمر وعدم جواز التمادي فيه.

انتشار الحلف بالله تعالى وأسبابه

انتشار الحلف بالله تعالى وأسبابه إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. إخواني المسلمون: إن من أهداف خطبة الجمعة إيضاح المشاكل التي وقع فيها الناس مما يمس الإسلام بصفة عامة والعقيدة السمحة بصفة خاصة، ونحن اليوم إذا دققنا النظر في أحوال المجتمع وجدنا بأن الآفات التي تنخر في عقيدته كثيرة، وبأن الظواهر المحرمة قد انتشرت وعمت، ومن هذه الظواهر التي سنتكلم عنها إن شاء الله، ونبين علاقتها بالعقيدة الإسلامية، واستهان الناس بهذا الأمر الخطير ونبين جزءاً من أحكامه الفقهية بشكل مبسط؛ لعل الأمر يتضح عند الكثيرين إن شاء الله، وهذه القضية -أيها الإخوة- هي انتشار مسألة الحلف بالله تعالى بالحق والباطل. فأنت ترى ألسنة الناس منطلقة بالقسم بالله عز وجل، بالأمر المهم وفي الأمر الحقير، وفي الأمر الحلال وفي الأمر الحرام، ترى أحدهم تسبق شهادته يمينه ويمينه شهادته غير مبالٍ بالله تعالى، وترى التجار يحلفون بالله تعالى أنهم قد أعطوا في السلعة كذا وكذا، وأن مشتراهم كذا وكذا، وأن ربحهم كذا وكذا، وهم مع ذلك غير صادقين، بل إن المسألة -أيها الأخوة- قد تطورت حتى صار الحلف بالله عز وجل في الأمور المهانة والحقيرة، فترى كثيراً من اللاعبين يقولون: والله هذا هدف، والآخر يقول: والله ليس بهدف، وهكذا فأصبح الله عز وجل في نفوس هؤلاء الناس ليس له وزن ولا قيمة، ولا حول ولا قوة إلا بالله! وإذا حلَّلت معي -يا أخي المسلم- الأسباب التي أدت إلى انتشار الحلف بالله تعالى والاستهانة بهذه القضية الخطيرة عند الناس اليوم لوجدت لها عدة أسباب، منها: أولاً: أن عظمة الله تعالى في نفوس كثير من المسلمين قد تلاشت أو قاربت، أصبح الله عز وجل ليس له مهابة في قلوب كثير من المسلمين، فهم يحلفون به في أي ساعة من ساعات الليل والنهار، سواء كان الأمر يستحق الحلف أو لا يستحق الحلف، وهذه قضية خطيرة لها مساس مباشر بالعقيدة الإسلامية إن من أسماء الله تعالى -أيها الإخوة- أنه العظيم، هذا الاسم العظيم الذي جهلته قلوب كثير من المسلمين، وهذا الجهل هو الدافع لانطلاق الحلف على ألسنة الناس. ثانياً: انعدام ثقة الناس بعضهم ببعض. ومن أسبابه: فشو الكذب بين الناس، فترى هذا لا يصدق هذا إلا بالحلف، ويقول له إذا قال له خبراً بقضية عادية بأسلوب عادي: اقسم بالله إن هذا صحيح، لأن الثقة بين الناس قد انعدمت، وفشا الكذب حتى لم يميز الصادق من الكاذب والأمين من الخائن، ومع انتشار القسم صار حتى القسم شيئاً عادياً، لا يصدق من يقسم. هذه المسألة الخطيرة -أيها الإخوة- تحتاج إلى علاج، وتحتاج إلى تبيين شيء من أحكامها؛ لعل الله تعالى يوقظ تلك الأفئدة النائمة وتلك العقول الخامدة، التي سيطر عليها تبلد الإحساس، وانعدمت عظمة الله سبحانه وتعالى بين جنبتي نفوس كثير من الناس. واعلموا -يا إخواني- أن الإفراط بالحلف أصلاً مذموم؛ لأن الله تعالى قال في القرآن العظيم: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} [القلم:10] وحلاَّف صيغة مبالغة وهو الرجل الذي يحلف كثيراً، وقال عز وجل: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} [البقرة:224]، وقال تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة:89] لا تقسم عند أي شيء، احفظ اليمين، ادخر اليمين للأمر العظيم، لا تجعله ألعوبة كما جعله اليوم كثير من المسلمين.

أنواع اليمين وبعض أحكامه الفقهية

أنواع اليمين وبعض أحكامه الفقهية واعلموا يا إخواني أن اليمين ثلاثة أنواع: ما يجري على ألسنة الناس دون قصد فترى أحدهم يسأل: هل فلان موجود؟ فيقول له بعض الناس: والله غير موجود، أو والله ذهبت البارحة للمكان الفلاني، هذا النوع من القسم لا يعتبر قسماً، ولا تنعقد به اليمين، ولا تجب فيه الكفارة، لأن المتكلم ما قصد الحلف وإنما جرى على لسانه بغير قصد، وهذا هو معنى قول الله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة:225] هذا هو معنى اللغو في اليمين، وهذه اليمين غير منعقدة. أما النوع الثاني من اليمين فهو اليمين الغموس الكاذبة هذه اليمين التي يراد منها اقتطاع مال امرئ مسلم، أو أخذ حقه والاستيلاء عليه ظلماً وعدواناً اليمين الكاذبة التي قال العلماء بالإجماع: إنه ليس لها كفارة مطلقاً، لأنها أعظم بالذنب، لأن ذنبها عظيم لا يكفره كفارة مادية اليمين الغموس الكاذبة هي في عظمة ذنبها أكبر من أن تكفرها أية كفارة، ولذلك قال العلماء: إنه لا كفارة لها مطلقاً من أنواع الكفارات المادية، ولا يكفرها إلا التوبة والاستغفار، استغفار الله تعالى من هذا الجرم العظيم. وكذلك هي التي ذكر الله تعالى أنها من صفات المنافقين الذين قال الله عنهم: {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [المجادلة:14] يحلف على الكذب وهو يعلم أن يمينه كذب، وهذه الخصلة صارت خلقاً لكثير من المسلمين اليوم. أما النوع الثالث فهي اليمين الشرعية التي يحلف بها الإنسان بالله عز وجل على أمر مباح أو مشروع أو غير محرم هذه اليمين يشرع استخدام جزء منها -أيها الإخوة- كما كان صلى الله عليه وسلم يستخدمها -مثلاً- في التأكيد على الحقائق الإيمانية، من خلال الدعوة إلى الله عز وجل، فالداعية -أحياناً- يحتاج -لكي يقوي أسلوب العرض ويؤكد ويجزم بما يقول- إلى الحلف بالله بأن هذا الأمر حق، كعذاب القبر مثلاً، أو الصراط أو المحشر أو الحساب، إلى غير ذلك من أمور العقيدة؛ فإن الحلف في أثناء دعوة الناس إلى الإسلام بعرض حقائق الإيمان عليهم لا حرج فيه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قد استخدمه.

الحلف لا يجوز إلا بالله تعالى أو أسمائه وصفاته

الحلف لا يجوز إلا بالله تعالى أو أسمائه وصفاته واعلموا -أيها الإخوة- أنه لا يجوز الحلف إلا بالله وصفاته، فإذا حلفت بالله أو بعلم الله أو قدرة الله أو عزة الله أو عهد الله تعالى لأن العهد من كلامه عز وجل، قال الله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [يس:60] أو حلفت بآيات الله تعالى؛ فإن الحلف بها جائز؛ لأن آيات الله هي كلامه، والكلام صفة من صفاته، والحلف بالله أو بصفاته جائز، أما الحلف بالمخلوقات فإنه لا يجوز مطلقاً، كالحلف بالكعبة مثلاً، أو الحلف بالأب، أو الحلف بالأمانة، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من حلف بالأمانة فليس منا) حديث صحيح. كثير من الناس اليوم تجده يقول: والأمانة، وأختم بأمانتي، أو وأقسم بالأمانة أنه كذا، يقول عليه الصلاة السلام: (من حلف بالأمانة فليس منا) وبعض الناس تتطور بهم أمور خطيرة تؤدي إلى الشرك والعياذ بالله، عندما تجد أحدهم يقسم بالولي الفلاني أو العبد الفلاني، وهؤلاء -أيها الإخوة- استحوذ عليهم الشيطان لدرجة أن أحدهم عندما تقول له: احلف لي بالله، يحلف لك بالله كاذباً، لكن إذا قلت له: احلف بحياة شيخك فلان، أو احلف برأس البدوي أو غيره من الأولياء، فإنك تجده لا يحلف بهذا الولي إلا إن كان صادقاً هذا شائع في بعض أمصار المسلمين، نسأل الله السلامة والبراءة من الشرك فإذا حلف إنسان بمخلوق من المخلوقات كما يجري على ألسنة كثير من المسلمين اليوم الذين يقولون في حلفهم: والنبي، مثلاً، يقولون: والنبي. والنبي صلى الله عليه وسلم مخلوق من المخلوقات التي خلقها الله، فالحلف به لا يجوز مع عظم منزلته التي أنزله الله إياها، لأن الحلف -أيها الإخوة- عبادة لا يجوز صرفها إلا لله، لا يجوز القسم إلا بالله، إن الله يقسم بما شاء من مخلوقاته: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة:75] لكن العبيد لا يجوز لهم أن يقسموا إلا بالله، فإذا أقسم إنسان بغير الله فإن قسمه لا ينعقد، لا يعتبر يمينه يميناً، ولو حنث فيه فلا تجب الكفارة، أما اليمين الشرعية فهي التي لا يحلف فيها إلا بالله، ويؤكد عليه الصلاة والسلام خطورة هذا الأمر فيقول: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) حديث صحيح.

حكم الحلف بغير الله تعالى

حكم الحلف بغير الله تعالى وكذلك -أيها الإخوة- فإنك إن سألتني عن هذا الحالف بغير الله، كالذي يحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم -مثلاً- ما حاله؟ هل هو مشرك كافر خارج عن ملة الإسلام؟ أم هو باق على إسلامه؟ فأقول لك: إن الجواب في هذا فيه تفصيل: فإن هذا الحالف إن قصد أن النبي صلى الله عليه وسلم، أو هذا الذي يحلف به كمن حلف بالكعبة أو حلف بأبيه أو حلف بشرفه إن قصد أن هذه المحلوفات أعظم من الله أو مساوية لله بالعظمة أو ما شابه ذلك، فهو كافر مرتد مشرك خارج عن ملة الإسلام، وإن لم يقصد هذا وإنما حلف بها لجهله أو سبق لسانه لأن مجتمعه كان متعوداً عليها؛ فهذا لا نخرجه عن ملة الإسلام ولا يعتبر كافراً. ولكن من حلف بغير الله فعليه كفارة، يقول صلى الله عليه وسلم: (من حلف منكم فقال في حلفه: واللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله) من حلف بولي من الأولياء، أو بالشرف، أو بالأمانة، أو بصنم، أو بما سوى ذلك مما يسبق على لسانه ويجري؛ فعليه أن يقول: لا إله إلا الله، من قال: والنبي، ما هي كفارة هذا الحلف المحرم؟ أن يقول بعد أن يتذكر مباشرة: لا إله إلا الله، كما ورد في الحديث الصحيح. وكذلك -أيها الإخوة- لقد كان صلى الله عليه وسلم يحلف بالله وصفاته، ومن صفات الله أنه يقلب القلوب، فكان عليه الصلاة والسلام يقول: (لا ومقلب القلوب) وكان يقول: (والذي نفسي بيده) وكان يقول: (وأيم الله) وهكذا من صفات الله تعالى وأسمائه.

التكفير عن اليمين وفعل الذي هو خير

التكفير عن اليمين وفعل الذي هو خير وبعض الناس -أيها الإخوة- يقع عندهم إشكال فيما إذا حلفوا على أمر ليس من البر، فأحياناً يحلف إنسان فيقول: والله لا أدخل بيتك والله لا أطأ عتبة دارك والله لا آكل من طعامك أو أشرب من شرابك والله لا آخذ منك قرشاً أو والله لا أعطيك قرشاً، كمن يحلف ويقول لزوجته: والله لا أعطيك ريالاً أو فلساً، أو يقول لولده: والله لا أعطيك بعد الآن ريالاً واحداً هذا الحلف -أيها الإخوة- إذا جئت تنصح الحالف وتقول له: اتق الله في أهلك، أنفق عليهم، أعط أولادك النقود التي يحتاجونها، ادخل بيت فلان هذا، كيف تقطعه وتقطع صلته؟ فبعض الناس يقولون: ولكني حلفت، إنني حلفت ألا أفعل هذا الأمر، فكيف أفعله الآن وقد أخذت ميثاقاً غليظاً على نفسي وأقسمت بالله ألا أفعله؟ هذا الإشكال حله بسيط، مع التنبيه بأن الحلف -أصلاً- بمثل هذه الأشياء لا يرضاه الله تعالى، كيف تقسم بأن تمنع النفقة عن زوجتك؟! وكيف تقسم ألا تدخل بيت جارك؟! كيف تفعل هذا؟! هو أصلاً لا يرضاه الله، لكن وقد حدث فلا تقل إذا دعيت إلى الخير والبر لقد أقسمت، والموضوع خرج من يدي، ماذا أفعل؟ يقول الله تعالى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ} [البقرة:224] الآية والمعنى الذي قصد بهذه الآية: إذا دعيت إلى دخول بيت قد حلفت على عدم دخوله فلا تجعل الحلف بالله تعالى هو الذريعة أو ذريعة لا تجعل الحلف بالله هو عذر أو ذريعة لعدم دخول البيت وتحتج وتقول: لقد حلفت فما هو الحل؟ الحل أن تكفر عن يمينك وتدخل هذا البيت، وتكفر عن يمينك وتعطي المال للزوجة والولد، وما شابه ذلك؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لأن يلجّ أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يعطي كفارته التي افترض الله عليه) متفق عليه. أي: إن تمادي الإنسان في الحلف من هذا النوع، الحلف على ألا يفعل شيئاً من الخير، تماديه في الحلف وإصراره عليه آثم له عند الله من إخراج الكفارة وكسر اليمين، وإخراج الكفارة وفعل هذا الخير الذي منع نفسه منه بالحلف التمادي في اليمين آثم عند الله كما يقول صلى الله عليه وسلم، فالحل إذاً -يا أخي المسلم- أن تكفر عن يمينك، ثم تفعل هذا الشيء الذي منعت نفسك منه وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها -خلاف اليمين الذي حلفت عليه- خيراً منها فائت الذي هو خير وكفر عن يمينك).

حكم من فعل المحلوف عليه ناسيا

حكم من فعل المحلوف عليه ناسياً وكذلك -أيها الإخوة- لو أن إنساناً حلف بالله على ألا يفعل أمراً ثم فعله ناسياً، فهل تجب عليه الكفارة؟ A لا تجب عليه الكفارة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه).

حكم من حلف على شخص أن يفعل كذا فلم يفعله

حكم من حلف على شخص أن يفعل كذا فلم يفعله وكذلك لو أن إنساناً أقسم بالله على إنسانٍ آخر أن يفعل أمراً ما، فقال إنسان مثلاً: أقسمت بالله عليك ألا تخرج من بيتك، أقسمت بالله عليك أن تتغدى عندي، هذا يعتبر يميناً، فلو أن الرجل الآخر خرج من بيتك، أو لم يتغدَّ عندك؛ فيجب عليك الكفارة، لو قلت: أقسمت بالله عليك يا فلان ألا ترفع هذا الشيء، فرفعه وخالف أمرك، فيجب عليك أنت الحالف الذي أقسمت بالله يجب عليك الكفارة ولذلك أوصى صلى الله عليه وسلم بإبرار المقسم، لو أن أخاك أقسم بالله عليك في أمر ما، وقال: أقسمت عليك بالله، أو حلفت عليك بالله يا فلان أن تفعل كذا، فالسنة والمستحب في حقك كواجب من واجبات الأخوة الإسلامية أن تبر بقسم أخيك، ولا تحرجه ولا تجعله يقع في الحنث الذي يوجب الكفارة، ولكن إن حصل الأمر وخالف المحلوف عليه؛ فإنه يجب على الحالف الكفارة.

حكم تكرار اليمين على شيء واحد والعكس

حكم تكرار اليمين على شيء واحد والعكس وكذلك لو أن إنساناً حلف بالله وأسمائه وصفاته على شيء واحد، فهل يعتبر أكثر من قسم، أم يعتبر قسماً واحداً؟ لو قال إنسان: أقسم بالله وآياته وعزته وعهده وقدرته وعلمه أنني لن أفعل كذا، ثم إنه فعل، فإن هذا الحلف يعتبر يميناً واحداً يجب فيه كفارة واحدة؛ لأن موضوع الحلف واحد، وتلك إنما جاءت من باب التأكيد، فمهما أتبع القسم بالله أو آياته وصفاته وحلف على شيء واحد فإنه يعتبر يميناً واحدة، إذا حلف به تجب فيه كفارة واحدة، أو كرر اليمين على شيء معين، فقال: والله ثم والله ثم والله إنني لن أفعل كذا ثم فعله، فيجب فيه كفارة واحدة. ولو حلف يميناً واحدة على أشياء مختلفة فقال: والله لا آكل ولا أشرب ولا أدخل بيتك، فقال (والله) مرة واحدة، فإنها تجب كفارة واحدة حتى لو كانت عدة أشياء، أما لو قال: والله لا أدخل بيتك والله لا آكل من طعامك والله لا أقعد في بيتك فصار اليمين "والله" متعدداً في العبارات، فعند ذلك تجب الكفارة في كل حلف، أما لو أقسم يميناً واحدة على عدة أشياء فإنه لو فعلها كلها فتجب فيها كفارة واحدة. أعيد حتى لا يحدث الالتباس: لو أنه أقسم بيمين واحدة على عدة أشياء فقال: والله لا آكل في بيتك ولا أشرب ولا أقعد، فإن حنث بها كلها فقعد وأكل وشرب، فما دام قال: (والله) مرة واحدة، كان بداية الحلف مرة واحدة؛ فعليه كفارة واحدة، أما لو قال: والله لا آكل في بيتك والله لا أدخل بيتك والله لا أقعد في بيتك فعلى كل واحدة منها كفارة، فلو حنث فيها كلها فتجب عليه ثلاث كفارات.

جواز إخراج الكفارة قبل الحنث وبعده

جواز إخراج الكفارة قبل الحنث وبعده وكذلك -أيها الإخوة- لو أن إنساناً حلف بالله تعالى ألا يفعل أمراً، أو حلف أن يفعل أمراً ما فهل يجوز له أن يخرج الكفارة قبل الحلف أم لا؟ لو قال: والله لا أدخل بيت فلان، فهل يجوز أن يخرج الكفارة قبل أن يدخل؟ رجع إلى نفسه وقرر أن يدخل؟ فهل يخرج الكفارة قبل أو بعد الدخول؟ قبل الحنث أو بعده؟ A كلاهما مشروع وكلاهما صحيح، فيجوز أن يخرج الكفارة قبل أن يحنث في اليمين إذا كان يريد أن يحنث، أو بعد أن يحنث فيه.

حكم من أتبع اليمين بقوله: إن شاء الله

حكم من أتبع اليمين بقوله: إن شاء الله وكذلك فإن حلف إنسان وقال في حلفه: إن شاء الله، فإن اليمين لا تنعقد، فلو قال: والله لا أفعل الشيء الفلاني إن شاء الله، فإن أتبع الحلف مباشرة بقوله: إن شاء الله؛ فإنها لا تعتبر يميناً، ولا تجب فيها الكفارة، وهذا خاص بما إذا كان قد أتبع الحلف مباشرة بقوله: إن شاء الله، أما لو قال أحد: والله لا أفعل كذا، وبعد ساعتين أو بعد يومين قال: إن شاء الله؛ فهذه لا تؤثر، ويعتبر يميناً، ولو حنث فيه وخالف ما أقسم عليه تجب عليه الكفارة والدليل على هذا الكلام قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من حلف فقال: إن شاء الله فقد استثنى) فلاحظ أنه عليه الصلاة والسلام قال: (من حلف فقال) والفاء تقتضي المباشرة: (من حلف فقال: إن شاء الله) وكان الخليفة أبو جعفر المنصور يأخذ برأي ابن عباس: بأن الإنسان إذا قال: إن شاء الله بعد سنة يكفي، فقال له أبو حنيفة: يا أمير المؤمنين! أترضى أن يبايعك الناس ويعاهدوك على الخلافة ثم إذا خرجوا من عندك قال الإنسان منهم: إن شاء الله؛ فلا يلزمه شيء؟ فرجع أبو جعفر عن رأيه لما رأى عظم الأمر. فهذا -أيها الإخوة- خلاصة بعض الأحكام المتعلقة باليمين، قصد منها ومن عرضها تنبيه الناس إلى خطورة هذا الأمر، وأن فيها الكفارة، كما سنفصل إن شاء الله في الخطبة الثانية. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

كفارة اليمين وأحكامها

كفارة اليمين وأحكامها الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى سبيله القويم. ولما كان أمر الحلف بالله عظيماً فقد شرع الله تعالى صيانة لجنابه عز وجل، واحتراماً للحلف به، أوجب الكفارة على من يخالف الأمر الذي حلف عليه ويحنث في يمينه، فقال تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة:89] كلها بمنزلة واحدة، أنت مخير بين الإطعام أو الكسوة أو عتق رقبة، {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} [المائدة:89] فمن لم يستطع الإطعام أو الكسوة أو تحرير رقبة، فينتقل إلى الدرجة الثانية من الكفارة وهي صيام ثلاثة أيام، وهو مخير إن شاء أطعم وإن شاء كسا، فإن أطعم خمسة وكسا خمسة أجزأ ذلك باتفاق العلماء، ويشترط لمن يطعمهم أو يكسوهم أن يكونوا: أولاً: فقراء، فلا يجوز إعطاء الطعام الغني أو كسوة غني والفقير هو الذي لا يجد حاجته، ولا يجد ما يسد خلته وعوزه. ثانياً: أن يكون من المسلمين بعض الناس يخرج كفارة فيلقى أقرب عامل بلدية في الشارع ويعطيه وهو لا يعرف إن كان هذا الرجل بوذياً أو هندوسياً أو مسلماً أو نصرانياً، فلا بد أن يتحرى لمن يعطي الكفارة، فيجب إعطاؤه للمسلمين. ثالثاً: أن يكون هؤلاء قد أكلوا الطعام، ما معنى أكلوا الطعام؟ أي: أن يكونوا في سن يأكلون فيه الطعام، فمثلاً: لو وجدت عائلة فيها عشرة أشخاص كباراً فقراء، فيجوز إعطاؤهم الكفارة، لكن لو كان أحدهم طفلاً رضيعاً صغيراً، عمره شهر لا يأكل الطعام وإنما يرضع، فعند ذلك تكون قد أعطيت الكفارة لتسعة فقط والعاشر لا بد أن تبحث عنه حتى تكمل العشرة، فلا بد أن يكونوا قد أكلوا الطعام؛ لأن الله قال: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة:89]. وكذلك يتصدق الإنسان بحاجة الفقير ما يشبعه غداءً أو عشاءً، ما يشبع شخصاً واحداً، يتصدق على عشرة أشخاص بما يشبعهم، وليست صدقة وإنما هي كفارة، تجب عليه وجوباً وليس مخيراً فيها. ويجوز أن يكون العشرة في عائلة واحدة أو في عدة عوائل، ويستحب طبخ الطعام لهم حتى لا يجدوا عناء في طبخه، ويجوز إعطاء الفقير الواحد حظه من كفارتين، لكن لا يجوز إعطاء طعام العشرة لشخص واحد أو لخمسة أشخاص، الكفارة الواحدة يجب أن تصرف لعشرة مختلفين، لكن لو كان عندك ثلاث كفارات فيجوز أن تعطي فقيراً واحداً ثلاثة أنصبة: الأولى عن الكفارة الأولى، والطعام الثاني عن الكفارة الثانية، والطعام الثالث عن الكفارة الثالثة لشخص واحد، أما لو كانت كفارة واحدة فيجب أن تبحث عن عشرة مختلفين لتعطيهم، ولا يجوز أن تعطي الواحد أكثر من نصيبه من الكفارة الواحدة. وكذلك فإنه لا يجوز إعطاؤهم نقداً وإنما يجب إطعامهم طعاماً؛ لأن الله نص عليه فقال في القرآن: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة:89] ولم يقل: التصدق على عشرة مساكين، وإنما قال: فإطعام فلا بد من الالتزام بالنص والوقوف عنده وإعطائهم طعاماً، وقد يكون رب الأسرة بخيلاً، فيأخذ المال إليه ويحرم عياله من الأكل، أما عندما يكون الطعام مطبوخاً فماذا سيفعل به؟ لا بد أن يطعمهم إياه، ثم إن الله جعل للنقد مصارف أخرى على الفقراء وهي الزكاة، فلا حاجة لجعل كفارة اليمين نقداً وقد جعل الله أبواباً أخرى فيها النقد وهي زكاة الأموال. وكذلك -أيها الإخوة- لا يجوز الانتقال من الإطعام إلى الصيام إلا بعد العجز عن الإطعام، فبعض الناس يقول: أنا أريد أن أوفر على نفسي، لماذا أخرج طعاماً لعشرة أشخاص بمائة ريال كل واحد أشتري له طعاماً بعشرة ريالات مثلاً وتكلفني مائة ريال؟ سوف أصوم ثلاثة أيام أرخص لي! هذا لا يجوز، لأن الله قال: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة:89] فعلَّق الصيام على عدم الوجود، سواء عدم وجود الفقير، أو عدم وجود المال الذي تشتري به الطعام، أو عدم وجود الطعام لديك، فكثير من الناس يصومون ثلاثة أيام وهو يستطيع أن يطعم، هذا غير جائز ومحرم ولا تقبل كفارته، ولا بد أن يعيدها، فإن عجز فعند ذلك ينتقل إلى الصيام. انظروا -أيها الإخوة- هذه الآلاف الأيمان التي تنطلق من الناس يومياً ليست سهلة، وإنما فيها أحكام كثيرة، وفيها كفارة، تصور اليوم كم من المسلمين يهملون في هذه القضية العظيمة! وكم من الآثام تتراكم فوق ظهورهم وهم يحلفون بالله مستهينين به عز وجل ليلاً ونهاراً، في الأمور الحقيرة وغيرها! وفقنا الله وإياكم لهدي كتابه والالتزام بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والوقوف عند حدوده عز وجل، وتعظيمه حق العظمة، التي هو لها أهل سبحانه وتعالى. واعذروني في إطالتي أيها الإخوة، ولكن انتشار الموضوع عند الناس اليوم وخطورته تستوجب ما قلنا وأكثر من هذا، نسأل الله المغفرة في التقصير. وصلى الله على نبينا محمد.

تربية الزوجة

تربية الزوجة إن القيام بتربية الأهل وتعليمهم من أوجب الواجبات على المسلم، فالأهل أمانة عظيمة ومسئولية يجب القيام بها وعدم التفريط فيها، والزوجة تعتبر من الأهل الذين يجب تربيتهم وتعليمهم، وقد تحدث الشيخ عن تربية الزوجة، ذاكراً هديه صلى الله عليه وسلم في تربية نسائه وتعليمهن أمور دينهن، ثم تكلم عن الغيرة وعلاج النبي صلى الله عليه وسلم لها.

أمانة القيامة برعاية الأهل وتربيتهم

أمانة القيامة برعاية الأهل وتربيتهم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. عباد الله: يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] ما هو وقود النار وبأي شيء تسعر؟ ما هو حطبها وبأي شيء توقد؟ إنها توقد بالناس والحجارة، إن الناس الذين يشتعلون هم وقود جهنم وحطبها. وقد أمرنا الله تعالى في هذه الآية برعاية الأهل والقيام عليهم، وأن القيام عليهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر هو وقاية لهم من عذاب الله، وأهلك -يا عبد الله- مسئولية، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله سائل كل راع عما استرعاه، أحفظ ذلك أم ضيعه، حتى يسأل الرجل عن أهل بيته) فأهل بيتك إذاً مسئولية ستسأل عنها يوم القيامة وتحاسب، وأهل بيتك هم أمانة في عنقك، أمانة من الأمانات التي حملنا الله إياها وناءت عن حملها السماوات والأرض والجبال وأبين أن يحملنها وأشفقن من حملها، لكننا حملناها نحن، ويجب علينا أن نقوم بأداء الأمانة.

هديه صلى الله عليه وسلم في تعليم نسائه وتربيتهن

هديه صلى الله عليه وسلم في تعليم نسائه وتربيتهن وفي هذه الخطبة نتحدث عن موضوع مهم يتعلق بهذا، وهو تربية الزوجة؛ نظراً للتفريط فيه، وكثرة الإهمال، حتى شاعت الفواحش في الزوجات، وانتشرت المنكرات في حياتهن، بسبب تفريط الرجال، وعم الجهل أوساط كثير من الزوجات؛ لتقصير الأزواج في تعليمهن، وسيسألون عنهن يوم القيامة. ما هو هديه صلى الله عليه وسلم في تربية زوجته؟ وماذا كان يفعل مع زوجاته؟ وكيف كان يقوم بأمر تعليمهن وتأديبهن وأمرهن بالمعروف ونهيهن عن المنكر بل حتى ملاطفتهن صلى الله عليه وسلم؟

تعليمه صلى الله عليه وسلم لنسائه أمور العقيدة

تعليمه صلى الله عليه وسلم لنسائه أمور العقيدة لقد كان عليه الصلاة والسلام يعلم زوجاته أمور العقيدة، ويخبرهن بتوحيد الله وعظمته سبحانه وتعالى كان شرح الأسماء والصفات يأتي في خلال الأحاديث التي يعظ بها النبي صلى الله عليه وسلم أهل بيته، وكان عليه الصلاة والسلام يقول فيما يقول لـ عائشة: (من حوسب يوم القيامة عذب، قالت عائشة: أوليس يقول الله: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} [الانشقاق:8] كيف تقول -يا رسول الله- من حوسب يوم القيامة عذب والله يقول عن صاحب اليمين الذي يؤتى كتابه بيمينه {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} [الانشقاق:8]؟ فيقول النبي صلى الله عليه وسلم -موضحاً ومعلماً وشارحاً لهذا الأمر من أمور العقيدة لزوجته عائشة وواعظاً لها أيضاً-: ليس ذلك بالحساب، إنما ذلك العرض، ولكن من نوقش الحساب يهلك). إذاً: الحساب اليسير ليس هو الحساب الذي إذا نوقشه العبد فإنه يعذب، ولكن من نوقش الحساب ومن حوسب عذب، وإنما يتجاوز الله عن المقربين وأهل اليمين فينجيهم بفضل منه وكرم، وحسابهم يسير لا يسمى حساباً، أي الذي يؤدي إلى العذاب.

تعليم النبي صلى الله عليه وسلم لزوجته الأذكار والاستعاذة من الشرور

تعليم النبي صلى الله عليه وسلم لزوجته الأذكار والاستعاذة من الشرور والنبي صلى الله عليه وسلم كذلك يعلم زوجته أذكار الصباح والمساء، وكيف تستعيذ بالله من الشرور، لما رأى القمر قد طلع قال: (يا عائشة! استعيذي بالله من شر هذا؛ فإن هذا هو الغاسق إذا وقب) لقد فسر لها تلك الآية من سورة الفلق: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} [الفلق:2 - 3] وقد فسرها تفسيراً عملياً، ووضح لها المراد لما أشار إلى هذا القمر، وهو آية الليل لما ظهر في السماء، وأخبرها وأمرها أن تستعيذ بالله من شره؛ فإن الشرور تحدث في الليل وفي النهار، فهي تستعيذ بالله من شر هذا الغاسق إذا وقب، ومن شر ما يحدث في الليل من الفتن، والإثم والفواحش، والشرور والآفات بأنواعها، حتى لدغ الحية والعقرب.

تربيته صلى الله عليه وسلم لنسائه على الخوف من الله

تربيته صلى الله عليه وسلم لنسائه على الخوف من الله وكان صلى الله عليه وسلم إذا ظهر سحاب في السماء أو ظهرت ريح أقبل وأدبر ودخل وخرج منزعجاً مما يرى، فكانت عائشة تقول: (الناس يستبشرون إذا رأوا السحاب، وأنت أراك تفعل ما تفعل!!) فبماذا أجابها النبي صلى الله عليه وسلم؟ لقد انتهز هذا السؤال ليخوفها بالله، ويبين لها كيف يكون المؤمن في عدم أمنه من مكر الله قال: (يا عائشة! ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب، قد عذب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب فقالوا: هذا عارض ممطرنا) أرسل الله عليهم سحاباً وعليه ضلة، فظنوه مطراً ففرحوا واستبشروا، ولكن كانت ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شيء بأمر ربها وهكذا يكون تخويف الزوجة بالله، وتوضيح عذاب الله، وأن المسلم لا يأمن مكر الله سبحانه وتعالى.

تربيته صلى الله عليه وسلم لزوجته على عدم جواز القول على الله بغير علم

تربيته صلى الله عليه وسلم لزوجته على عدم جواز القول على الله بغير علم وكذلك قد تستعجل الزوجة في الإجابة عن شيء أو تتسرع في الحكم على شيء، وهنا يعلم الزوج زوجته مفهوماً مهماً من المفهومات الإسلامية، وقاعدة عظيمة، وهي: عدم جواز القول على الله بغير علم، وعدم جواز الحكم على الأشياء بغير دليل شرعي، وعدم جواز التسرع في الإجابة عن عائشة رضي الله عنها قالت: (أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بصبي ميت من صبيان الأنصار، فصلى عليه صلاة الجنازة، قالت عائشة: فقلت: طوبى لهذا، عصفور من عصافير الجنة، لم يعمل سوءاً ولم يدركه) حكمت بأنه عصفور من عصافير الجنة، فإما أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن قد أوحي إليه بشيء في أطفال المؤمنين، أو أنه أراد أن يؤدبها على تسرعها وأن يلفت نظرها لذلك، فقال لها: (أو غير ذلك يا عائشة! خلق الله عز وجل الجنة وخلق لها أهلاً، وخلقهم في أصلاب آبائهم، وخلق النار وخلق لها أهلاً وخلقهم في أصلاب آبائهم) رواه الإمام مسلم وغيره. فهذا من الأمور المهمة في المنهج العلمي الذي يقوم الرجل بتعليمه لزوجته.

تربيته صلى الله عليه وسلم لنسائه على حفظ اللسان

تربيته صلى الله عليه وسلم لنسائه على حفظ اللسان ونظراً لكثرة آفات اللسان عند النساء؛ فإن على الزوج المسلم أن يراعي ذلك في زوجته، فإن الله تعالى قد ذكرهن داخلات في القوم وذكرهن منفصلات عنهم في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ} [الحجرات:11] فهؤلاء النساء داخلات في القوم، لكن مع ذلك كرر التنبيه سبحانه وتعالى، وخصصهن بالنهي أيضاً، ولذلك ترى -يا عبد الله- الغيبة والنميمة في أوساط النساء كثيرة، فماذا فعلت أنت في موعظة ومقاومة هذه الأخلاق الرديئة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ليرضى من زوجاته شيئاً ولو كان قليلاً يسيراً فقد جاء في الحديث الصحيح عن عائشة رضي الله عنها، التي نقلت بأمانة حتى ما كان عليها، وما كان من أخطائها نقلته لتتعلم الأمة، عن عائشة قالت: (قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: حسبك من صفية كذا وكذا) دافع الغيرة عند النساء قوي، ربما انزلقت في شيء من الغيبة، قالت: يكفيك من زوجتك هذه صفية أنها قصيرة، كذا وكذا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته) لمزجته وطغت عليه من شدتها وعظمها قالت رضي الله عنها: (وحكيت له إنساناً -مثلت له حركة أو قولاً- فقال: ما أحب أني حكيت إنساناً وأن لي كذا وكذا) فلا يجوز أن تمثل فعلاً لشخص، أو تحكي قولاً له على سبيل الاستهزاء والتنقص، مهما أوتيت لا تفعل ذلك، فهذا النبي صلى الله عليه وسلم ينكر ذلك على زوجته ويوقفها لما قالت تلك الكلمة. وروى النسائي -رحمه الله تعالى- بإسناد صحيح في كتاب عشرة النساء، عن أنس قال: بلغ صفية أن حفصة قالت: ابنة يهودي - صفية بنت حيي بن أخطب بنت زعيم اليهود قتل زوجها، قتله المسلمون في المعارك التي دارت والحصارات بين المسلمين واليهود، فتزوج النبي صلى الله عليه وسلم صفية تأليفاً لها ولقومها، ورعاية لها لما صارت عنده مسلمة من أمهات المؤمنين، فهي أمنا وإن كانت من أصل اليهود؛ لأنها أسلمت والمسلمون إخوة والمؤمنون إخوة، لا يضر ما يكون من أصلهم، قالت حفصة عن صفية: بنت يهودي. فبكت صفية لما سمعت ذلك تأثراً، فدخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبكي، فقال: ما يبكيك؟ قالت: قالت لي حفصة: ابنة يهودي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنك لابنة نبي، وإن عمك نبي، وإنك لتحت نبي) إنك من سلالة موسى وهارون، فجدك موسى نبي، وأخوه هارون عمك نبي، وإنك لتحت نبي، فهذا شرف فبم تسخر عليك؟ ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اتقي الله يا حفصة -ذهب إلى حفصة توجه إليها بالكلام مذكراً بالله- كيف تقولين هذا؟!) هكذا يكون الموقف ممن زل لسانها في حق أختها، ولو كان الدافع قوياً، ولو كانت الغيرة عند النساء، لكن المنكر يبقى منكراً وينبغي إنكاره رضي الله عن أمهاتنا، فهن أمهاتنا كلهن رضي الله عنهن.

إنكاره صلى الله عليه وسلم لما يراه من المنكرات عند نسائه

إنكاره صلى الله عليه وسلم لما يراه من المنكرات عند نسائه ومما ينبغي على الزوج المسلم في تربية زوجته: مقاومة ما يحصل لديها من المنكرات، مما تتخذه من اللباس أو الزينة ونحو ذلك، فقد روى البخاري رحمه الله تعالى عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم: أنها اشترت نمرقة فيها تصاوير -مثل الستارة- فلما رآى رسول الله صلى الله عليه وسلم الستارة وفيها تصاوير ذوات الأرواح منقوشة عليها، وهذه ليست أصناماً، وإنما هي صور ذوات أرواح منقوشة ومرسومة على الستارة، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على الباب فلم يدخل، لقد كان وعظه قوياً، لم يدخل البيت، قام على الباب ولم يدخل، هكذا التربية بالفعل والقول معاً قالت عائشة: (فعرفت في وجهه الكراهية، فقلت: يا رسول الله! أتوب إلى الله وإلى رسوله، ماذا أذنبت؟ قال: ما بال هذه النمرقة؟ فقالت: اشتريتها لتقعد عليها وتتوسدها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة، ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم، وقال: إن البيت الذي فيه صور لا تدخله الملائكة) فبالفعل والقول يكون الإنكار على الزوجة، وليس دائماً بالضرب كما يفعل بعض الناس، ولا بتقبيح الوجه، ولا بالفحش، وإنما بالموعظة. أيها المسلمون: قارنوا -بالله عليكم- بين هذه التصرفات النبوية، وبين ما يفعله الناس اليوم، عندما يذهبون بزوجاتهم إلى السوق فيتركون الزوجات في السوق ويعطونهن الأموال، بناءً على طلبهن أو غير ذلك، ثم تشتري المرأة ما تشتري من غير رقيب ولا حسيب، من الأمور التي فيها منكرات ومحرمات أو غير ذلك، من هذه الألبسة التي فيها تصاوير، أو صلبان، أو الآنية المطلية بالذهب والفضة، أو التماثيل التي توضع في البيوت من ذوات الأرواح للزينة، أو غير ذلك من الأمور المحرمة، التي قد تزين بها المرأة بيتها، والزوج ساكت، بل إنه لا ينتبه فضلاً عن أن يدقق، وليس هناك متابعة ولا محاسبة. والآن القضية ليست قضية تصاوير منقوشة أو مرسومة فقط، المسألة تعدت إلى أمور محرمة تدخل البيوت، أمور فيها إهدار للعرض الذي صانه الله، والشرف والكرامة التي جاءت بهما الشريعة أمور فيها إفساد للأولاد والبيت عموماً أشياء من اللهو المحرم الذي يبعث عليه الشيطان الرجيم، كل ذلك يدخل بيتك -يا عبد الله- عن طريق الزوجة أو غيرها، وأنت لا تحرك ساكناً، ولا تمنع منكراً، فما هذه العيشة؟! أي حياة هذه؟! وعلى أي شيء تقوم؟ {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} [التوبة:109].

تربيته صلى الله عليه وسلم لنسائه على العبادة

تربيته صلى الله عليه وسلم لنسائه على العبادة كان النبي صلى الله عليه وسلم يربي زوجاته على العبادة، وعلى قيام الليل، كان يوقظهن صلى الله عليه وسلم (أيقظوا صواحب الحجرات، أيقظوهن، رب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة) هكذا كان ينذر عليه الصلاة والسلام وكان يخوف، كان بيته شعلة من النشاط الدائم في طاعة الله ذكر بالنهار، وقيامٌ بالليل {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34] وكانت المتابعة على العبادة، سواء كانت بدنية أو كانت مالية، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (يا عائشة! لا تحصي فيحصي الله عليك) لا تبخلي بالصدقة، لا تمنعي الصدقة، لا تقتري فيها، أطلقي يدك في الصدقة، ما بقي إلا كتفها، ما بقي إلا هذا، أما الباقي فإنه ذاهب، لكن عند الله الذي تصدقت به هو الذي يبقى ما بقي منها إلا الكتف، كان يقول لها: (لا تحصي فيحصي الله عليك ولا توكي فيوكي الله عليك) فإذاً: كانت المتابعة حتى في قضايا المستحبات، وليس فقط قضية الواجبات أو النهي عن المحرمات.

مراعاته صلى الله عليه وسلم فلتات اللسان حتى على الأعداء

مراعاته صلى الله عليه وسلم فلتات اللسان حتى على الأعداء وكان النبي صلى الله عليه وسلم يراعي فلتات اللسان -كما قلنا- وأمور اللسان، حتى قضايا الفحش في الأعداء كان يراعي ذلك، كما جاء في الحديث المعروف عن عائشة قالت: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم ناس من اليهود، فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم! -السام أي: الموت- فقال: وعليكم، ولم يزد، قالت عائشة: فقلت: وعليكم السام واللعنة وغضب الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عائشة! لا تكوني فاحشة. قالت: فقلت: يا رسول الله! أما سمعت ما قالوا؟ لقد قالوا: السام عليك. قال: أليس قد رددت عليهم الذي قالوا؟ قلت: وعليكم، إن الله عز وجل لا يحب الفحش ولا التفحش). حتى في الأعداء لا يكون الإنسان فاحشاً ولا متفحشاً إلا فيما دعت إليه المصلحة الشرعية الواضحة، كما حصل في بعض المواقف، أما أن يطلق الإنسان لسانه بكل شيء حتى في العدو، فهذا أمر ينبغي أن ينتبه له حتى لا يتعود اللسان على هذا. تقول عائشة: (استأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عنده، فقال: بئس أخو العشيرة -أي: هذا الرجل فيه شر، فذمه النبي عليه الصلاة والسلام قبل أن يرى وجهه ويدخله عليه- تقول: ثم أذن له فألان له القول، فلما خرج قلت: يا رسول الله! قلت له ما قلت ثم ألنت له؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا عائشة إن من شر الناس من تركه الناس أو ودعه الناس اتقاء فحشه) إذاً: انتبهي يا أيتها الزوجة، لا تكوني فاحشة فتكوني مذمومة، أو تكوني مكروهة مبغوضة من خلق الله منبوذة، وإنما هو طيب اللسان وحسن المعشر. اللهم اجعلنا من القائمين بحقوق أهليهم، واجعلنا ممن ينقذون أهليهم من نار وقودها الناس والحجارة، اللهم كف عنا نار جهنم، وباعد بيننا وبينها كما باعدت بين المشرق والمغرب. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

عاقبة إهمال تربية الأهل

عاقبة إهمال تربية الأهل الحمد لله الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى آله وأزواجه الطيبين الطاهرين، وعلى من تبعه بإحسان وسار على سنته إلى يوم الدين. أيها المسلمون: إن هذا التقصير الذي يوجد من قبلنا في حقوق أهلينا أمر مؤسف، يعود ضرره ووباله علينا نحن، فكم من إنسان أردته زوجته المهالك! وكم من إنسان قد جره أهله إلى الفتن والمحرمات! يقولون له في كل إجازة: إلى أين ستأخذنا؟ وأين ستذهب بنا هذه السنة؟ وقد لا يرضون إلا بالذهاب إلى بلاد الكفر وأماكن المعصية، والرجل ينجر إلى المهلكة ويكون عبداً لزوجته، فتعس ذلك العبد. لا نقول -يا عبد الله- كن قاسياً فظاً غليظاً، ولا نقول: اضرب واكسر العظم وأخرج الدماء، كلا والله! لكن هذه سنة نبيك، وهذه معالم الهدى ظاهرة بينة، فعليك الاتباع، والأخذ بهذه السنن، والقيام على الأهل، والاحتساب عليهم في المنكرات، وأمرهم بالمعروف والعبادة والتقوى والطاعة، والحج والعمرة والصدقة، ومتابعة المرأة في صلاة الفجر وغير ذلك من الواجبات الشرعية.

الغيرة وعلاج النبي صلى الله عليه وسلم لها

الغيرة وعلاج النبي صلى الله عليه وسلم لها لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتني في ظل ما يعتني به علاج الغيرة، والغيرة أمر طبعي عند النساء، والغيرة هي: الحمية والأنفة، أمر معلوم ومشاهد، ومعروف ومنتشر، فإن من طبيعة النساء الغيرة صحيح أن التي تغار أو عندها هذه الغيرة الشديدة يحتمل منها ما لا يحتمل من غيرها من النساء اللاتي ليس عندهن هذه الغيرة، لكن لا بد من موقف، وقد كانت تربيته صلى الله عليه وسلم لزوجاته في قضية الغيرة تربية عظيمة، تدل على حكمته صلى الله عليه وسلم، وعلاجه للأمور بالرفق والتأني. هذه المرأة التي خلقت من ضلع أعوج، إن جئت تقيمه كسرته وكسرها طلاقها، فعن أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم عند إحدى أمهات المؤمنين، فأرسلت إليه أخرى بقصعة فيها طعام، قيل إنها صفية وكان طبخها جيد للغاية، فأرسلت بصحفة من طعام إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم وكان عند عائشة، فضربت عائشة يد الرسول الذي أتى بها وهي الجارية التي أتت بالصحن، ضربت يدها فسقطت القصعة فانكسرت من غيرتها، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الكسرتين بغاية الهدوء فضم إحداهما إلى الأخرى، فجعل يجمع فيها الطعام الذي انسكب على الأرض، أو ألقي على الأرض، جمعه في الصحفة، بعد أن لم الكسرتين بعضهما إلى بعض، ويقول عليه الصلاة والسلام لمن معه: (غارت أمكم، كلوا). هذا تعليقه صلى الله عليه وسلم، أمكم أم المؤمنين غارت فكلوا، فأمرها حتى جاءت بقصعتها مكان التي كسرت، فدفع القصعة الصحيحة إلى الرسول -الجارية الصغيرة التي جاءت- وترك المكسورة في بيت التي كسرتها، غاية العدل والهدوء والاتزان منه صلى الله عليه وسلم في علاج هذا الأمر. وفي رواية عن أم سلمة أنها أتت بطعام في صحفة لها إلى النبي صلى عليه وسلم وأصحابه، فجاءت عائشة مؤتزرة بكساءٍ ومعها فهر -وهو حجر ملء الكف- ففلقت به الصحفة، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم بين فلقتي الصحفة وهو يقول: (كلوا غارت أمكم) مرتين. وعن عائشة في رواية قالت: ما رأيت صانعة طعام مثل صفية، أهدت إلى النبي صلى الله عليه وسلم إناءً فيه طعام، فما ملكت نفسي أن كسرته، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن كفارته -ندمت ورجعت- فقال: (إناء كإناء وطعام كطعام) أن تردي لها إناءً كإنائها وطعاماً كطعامها، كالطعام الذي أفسدتيه.

معرفته صلى الله عليه وسلم بأحوال نسائه

معرفته صلى الله عليه وسلم بأحوال نسائه ثم إنه صلى الله عليه وسلم كان يراعي زوجاته، وكان يدقق في الملاحظة والعبارة والكلمات، كان يراعي مشاعر الزوجة ويعرف هل الزوجة راضية عليه أم ساخطة، هل هي متضايقة أو مسرورة، لم يكن عليه الصلاة والسلام من نوع الرجال الذي لا يبالي بزوجته، أرضيت أم سخطت، أفرحت أم أنها اغتمت، كلا! بل إنه صلى الله عليه وسلم كان يتابع كل هذا فيقول لـ عائشة رضي الله عنها: (إني أعلم إذا كنت عني راضية وإذا كنت علي غضبى. قلت: بم تعلم يا رسول الله؟! قال: إذا كنت علي غضبى فحلفت قلت: كلا ورب إبراهيم، وإذا كنت عني راضية قلت: كلا ورب محمد) والقسم في الحالين بالله سبحانه وتعالى، لكن إذا كان بينها وبينه شيء فإذا أرادت أن تحلف بأي مناسبة قالت: لا ورب إبراهيم، وإذا كانت راضية ومسرورة قالت: لا ورب محمد قالت: (صدقت يا رسول الله، ما أهجر إلا اسمك) وهي باقية على محبتها له، لكنها لا تهجر إلا اسمه، لا تهجره هو صلى الله عليه وسلم، وهذا أيضاً من لطيف عبارتها، وتدليل المرأة نفسها عند زوجها.

مواقفه صلى الله عليه وسلم في مراعاة أحوال نسائه

مواقفه صلى الله عليه وسلم في مراعاة أحوال نسائه وكان النبي عليه الصلاة والسلام له مواقف طريفة مع زوجاته في هذه المراعاة أيضاً، كما حدَّث النعمان بن بشير قال: استأذن أبو بكر على النبي صلى الله عليه وسلم، فسمع صوت عائشة عالياً وهي تقول: والله لقد علمت أن علياً أحب إليك من أبي، فأهوى إليها أبو بكر أبوها ليلطمها وقال: يا ابنة فلانة! أراك ترفعين صوتك على رسول الله صلى الله عليه وسلم! فأمسكه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرج أبو بكر مغضباً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا عائشة! كيف رأيت؟ أنقذت من الرجل) أمسك بأبيها قبل أن يضربها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا عائشة كيف رأيت؟ أنقذت من الرجل) ثم استأذن أبو بكر بعد ذلك وقد اصطلح رسول الله صلى الله عليه وسلم وعائشة، فقال: (أدخلاني في السلم كما أدخلتماني في الحرب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد فعلنا) هكذا روي الحديث في كتاب عشرة النساء للنسائي رحمه الله.

إباحته صلى الله عليه وسلم للهو البريء والمتعة المباحة

إباحته صلى الله عليه وسلم للهو البريء والمتعة المباحة وقد كان من مراعاته لزوجته عليه الصلاة والسلام: إباحة اللهو البريء والمتعة المباحة للزوجة ولذلك يقول في الحديث: (كل شيء ليس من ذكر الله فهو لهو ولعب إلا أربعة: ملاعبة الرجل امرأته) فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلاعبهن، وكان يسرب إلى عائشة جواري صغيرات السن في مثل سنها، فقد تزوجها وهي صغيرة، فيلعبن معها باللعب، وكان عليه الصلاة والسلام يتحاشا تنفير هؤلاء الضيوف من عند زوجته، وسابق زوجته صلى الله عليه وسلم، تقول عائشة: (خرج معي مرة وكنت خفيفة اللحم في أول عمري فنزلنا منزلاً، فقال لأصحابه: تقدموا، ثم قال لي: تعالي حتى أسابقك. فسابقني فسبقته، ثم خرجت معه في سفر آخر بعد مدة وقد حملت اللحم، فنزلنا منزلاً، فقال لأصحابه: تقدموا ثم قال لي: تعالي أسابقك. فسابقني فسبقني، فضرب بيده كتفي وقال: هذه بتلك). هكذا كانت ملاطفته عليه الصلاة والسلام لزوجته، وهي جزء من تربيته عليه الصلاة والسلام، كان يراعي كل ذلك، وهذا باب طويل له شواهد كثيرة ومتعددة في كتب السنة تدل على عنايتة صلى الله عليه وسلم بأهله. فنسأل الله أن يوفقنا أجمعين للقيام بحق أهالينا وإحسان تربيتهم، اللهم قنا وأهلينا ناراً وقودها الناس والحجارة، اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من أهل بيوت الطهر والعفاف، وأن تطهر بيوتنا من المنكرات والسيئات، اللهم اجعلنا ممن يقيم حدودك في بيوتهم، اللهم اجعلنا ممن أقاموا شريعتك في مساكنهم، اللهم طهر بيوتنا ومجتمعاتنا من النفاق والرياء والكذب والفحش يا رب العالمين، واجعلنا من عبادك الأخيار، اللهم ارحمنا برحمتك إنك أنت أرحم الرحمين، واغفر لنا يا غفار إنك أنت الغفور الرحيم. اللهم انصر إخواننا المجاهدين في كل مكان، وارفع عنهم الظلم والاعتداء يا رب العالمين. اللهم انشر السنة والتوحيد في أرجاء الأرض إنك أنت أكرم الأكرمين، وأقر أعيننا بنصرة دينك يا رب العالمين. وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

جوانب القدوة في شخصية الإمام أحمد

جوانب القدوة في شخصية الإمام أحمد دراسة سير العلماء والأئمة مدعاة إلى الاطمئنان، لأن الله سبحانه يقيض لهذا الدين من ينصره، وهي كذلك مهمة نظراً لحاجة النشء والشباب إلى القدوة، التي لا توجد إلا عند أولئك العمالقة، أمثال الإمام أحمد بن حنبل، الذي تميز بصموده وبذل جهده، وصبره وزهده، ونصرته للحق. وهذه المادة محاولة جادة لاستكشاف جوانب القدوة في شخصية هذا الإمام وحياته، في طلبه للعلم ومواجهة الباطل والطغيان، وفي تعامله مع أصناف الناس، وأصناف المغريات والفتن، كما أوردت هذه المادة نبذة عن نسبه وحياته ونشأته ووفاته.

نسب الإمام وعناية العلماء بتدوين حياته

نسب الإمام وعناية العلماء بتدوين حياته الحمد لله الذي جمعنا وإياكم في هذا المكان؛ في بيت من بيوته عز وجل، نسأله سبحانه وتعالى أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوما، وأن يجعل تفرقنا بعده تفرقاً معصوما، وألا يجعل فينا ولا منا ولا معنا شقياً ولا محروما، وأن يجعل خروجنا من هذا المجلس بفوائد جمة، وأشياء تذكرنا بالله عز وجل واليوم الآخر. أيها الإخوة: موضوعنا في هذه الليلة يدور حول جوانب من حياة الإمام أحمد رحمه الله عز وجل، الذي كانت حياته بما فيها من أحداث وتفاصيل تصلح أن يجعلها المسلم قدوة يقتدي بها في كثير من جوانبها، ولعلنا نستعرض وإياكم في هذه الليلة بعض الجوانب التي يسمح الوقت بها، والتي سيلمح الأخ المستمع فيها فعلاً أشياء عظيمة من حياة هذا الإمام. وهذا الإمام أيها الإخوة صحيح أن شهرته قد طبقت الآفاق، وأن الكثيرين من الناس يعرفون شخصيته، ولكن كثيراً من الناس لا يعرفون تفاصيل حياته، ولا يعرفون أحداثاً كثيرة جداً من حياة الإمام أحمد لو عرفها الإنسان فعلاً لدهش، يعني: بعض الناس الشهرة العامة موجودة لكن التفاصيل غير موجودة، لعل الإمام أحمد واحد من هؤلاء الناس. وقد اعتنى علماء الإسلام بحياة الإمام أحمد عناية كبيرة، وألفت في حياته مجلدات، فمنها ما كتبه ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية، ومنها ما كتبه الذهبي رحمه الله في كتابه السير، وفي كتابه تأريخ الإسلام، ومنها ما كتبه ابن الجوزي في مجلد مستقل عن حياة الإمام أحمد رحمه الله، وغيرهم من أهل العلم، دلالة على عظمة مكانة هذا الرجل في قلوب العلماء فضلاً عن قلوب عامة الناس. وقال الذهبي رحمه الله في السير: هو الإمام حقاً وشيخ الإسلام صدقاً أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن إدريس الشيباني، يرجع نسبه إلى بكر بن وائل قبيلة معروفة من العرب، وقد مات أبوه في سن الشباب، وربي الإمام أحمد يتيماً، وقد ولد الإمام رحمه الله تعالى في ربيع الأول سنة (164هـ) وقد ضبطت سنة وفاة الإمام أحمد وسنة ولادته ولم يختلف فيهما أحد. والإمام أحمد رحمه الله من رجال السنة، وينبغي أن ننبه قبل أن نبدأ إلى كلمة الإمام. كلمة الإمام كلمة عظيمة وكبيرة، ولذلك لا يصلح أن تطلق على أي واحد من الناس، ولو ارتفع كعبه في العلم أو الدعوة إلا إذا وصل إلى مرحلة عظيمة أصبح فيها فعلاً يأتم به العالم من المسلمين، يأتمون به عن صدق وحق؛ لأنه يصلح أن يكون أهلاً للإمامة، ولذلك ما أطلق هذا اللقب على كثيرين من السلف إلا على أنفار معدودين مثل الإمام أحمد رحمه الله، فهذا اللقب لا يُعطى جزافاً، ولا يصلح أن يطلق جزافاً على أي شخصية من الشخصيات النابغة المشهورة. وقد رحل الإمام أحمد رحمه الله إلى البصرة والكوفة وحج خمس مرات، وكان شيخاً مخضوباً طوالاً أسمر، حسن الوجه معتماً، عامة جلوسه متربعاً خاشعاً.

صور من ثناء العلماء على الإمام

صور من ثناء العلماء على الإمام يقول إبراهيم الحربي رحمه الله: يقول الناس أحمد بن حنبل بالتوهم، والله ما أجد لأحد من التابعين عليه مزية، ولا أعرف أحداً يقدر قدره، ولقد صحبته عشرين سنة صيفاً وشتاءً، وحراً وبرداً، وليلاً ونهاراً، فما لقيته لقاة في يوم إلا وهو زائد عليه بالأمس. هذا شيء عظيم، وهذه فعلاً قدوة عظيمة أن الإمام أحمد رحمه الله كان يزيد يومياً على ما هو عليه، والواحد منا الآن قد يزيد في يوم وينقص في أيام، وقد يرتفع في أيام ويتدهور حاله في أيام أخرى، ولكن أن تجد الرجل يزيد يوماً بعد يوم معنى هذا أن الرجل يربي نفسه تربية عظيمة، ولذلك ينبغي أن يضع الواحد منا نفسه تحت المجهر، وأن يضع لنفسه خطة معينة بحيث أنه يرتقي يومياً إذا استطاع وقد لا يستطيع، لكن يحاول أن يكون خط سيره إلى الأعلى، وليس أن يتدهور ويتقلب ويتذبذب كما هو واقع الكثيرين، وهذا شيء فعلاً قدوة أن الإمام أحمد يومياً يزيد عن الأيام السابقة. وقال علي بن المديني رحمه الله: إن الله عز وجل أعز هذا الدين برجلين ليس لهما ثالث: ب أبي بكر الصديق يوم الردة، وأحمد بن حنبل يوم المحنة، وقد كان ل أبي بكر الصديق أصحاب وأعوان، وأحمد ليس له أعوان ولا أصحاب. لما وقعت المحنة ما وقف إلى النهاية إلا الإمام أحمد رحمه الله فقط، هناك من وقفوا وقتلوا، ومن وقفوا ثم انتكسوا، وهناك من تخاذلوا أصلاً عن الوقوف، وهناك من تراجعوا وغيروا عقيدتهم، والذي ثبت إلى النهاية هو الإمام أحمد فقط في محنة خلق القرآن، قال الشاعر: أضحى ابن حنبل محنة مرضية وبحب أحمد يعرف المتنسك وإذا رأيت ل أحمد متنقصاً فاعلم بأن ستوره ستهتك وعن الحسين الكرابيسي قال: مثل الذين يذكرون أحمد بن حنبل -يعني بسوء- مثل قوم يجيئون إلى أبي قبيس -وهو جبل في مكة - يريدون أن يهدموه بنعالهم. وكان أحمد رحمه الله عظيم الشأن، رأساً في الحديث وفي الفقه وفي التألف، أثنى عليه خلق من خصومه فما الظن بإخوانه وأقرانه، وكان مهيباً في ذات الله حتى قال أبو عبيد: ما هبت أحداً في مسألة ما هبت أحمد بن حنبل. حتى إذا جاء يسأله يهاب، يخاف، ألقى الله عليه هيبة الإسلام. وعن علي بن شعيب قال: لولا أن أحمد قام بهذا الشأن لكان عاراً علينا أن قوماً سبكوا فلم يخرج منهم أحد. يعني: حتى موقف الإمام أحمد رحمه الله رفع رأس العلماء كلهم، الحمد لله أنه خرج منا واحد. وقال أبو عبيد عن الإمام أحمد: ذاك رجل من عمال الله، نشر الله رداء عمله، وذخر له عنده الزلفى، أما تراه محبوباً مألوفاً، ما رأت عيني بـ العراق رجلاً اجتمعت فيه خصال هي فيه، فبارك الله له فيما أعطاه من الحلم والعلم والفهم. وقال آخر: قام أحمد مقام الأنبياء، وأحمد امتحن بالسراء والضراء، وتداولته أربعة خلفاء، بعضهم بالضراء وبعضهم بالسراء، كلهم بلاء على الإمام أحمد، ولكن طبعاً المأمون والمعتصم والواثق هم الذين عاملوه بالضراء، أما المتوكل الذي رفع الله به علم أهل السنة ورجع إلى عقيدة أهل السنة، فقد ابتلي الإمام أحمد في عهده بالسراء؛ لما أنعم عليه المتوكل به من الأموال الجزيلة التي رفضها كلها ولم يأخذ منها شيئاً. وقال بعض السلف: أحمد بن حنبل قرة عين الإسلام. وسئل أحد العلماء عن الإمام أحمد فقال: أنا أسأل عن أحمد بن حنبل!! إن أحمد أدخل الكير فخرج ذهباً أحمر. وقال إسحاق بن راهويه: ما رأى الشافعي مثل أحمد، ولولا أحمد وبذل نفسه لذهب الإسلام. يريد المحنة. وقال الشافعي: خرجت من بغداد فما خلفت بها رجلاً أفضل ولا أعلم ولا أفقه ولا أتقى من أحمد بن حنبل. هذه شهادة الشافعي. وعن المروذي قال: لم أر الفقير في مجلس أعز منه في مجلس أحمد؛ كان مائلاً إليهم، مقصراً عن أهل الدنيا، وكان فيه حلم ولم يكن بالعجول، وكان كثير التواضع تعلوه السكينة والوقار، وإذا جلس في مجلسه بعد العصر للفتيا لا يتكلم حتى يُسأل، وإذا خرج إلى مسجده لم يتصدر، وكان كثير التواضع حسن الخلق، دائم البشر لين الجانب ليس بفظ، وإذا كان في أمر من الدين وتعرض للدين بحضرة الإمام أحمد كان يغضب في ذات الله عز وجل غضباً شديداً، وكان يحتمل أذى الجيران، وكان يجيب الدعوة في الأعراس والختان ويأكل، وربما استعفى من إجابة الدعوة، وكان إذا رأى إناءً من فضة أو منكراً في الوليمة خرج. ومرة من المرات واحد من الناس كان عنده وليمة ختان، فدعى أهل العلم فدعى منهم الإمام أحمد، فجاء الإمام أحمد متأخراً مع صاحبٍ له والناس قد اجتمعوا للطعام، ولما يأكلوا بعد، فقيل للإمام أحمد: إن في البيت آنية من فضة، فنظر إليها، فلما رآها خرج من المنزل، فخرج الضيوف كلهم وراءه، ما بقي في البيت أحد، قال الراوي: ونزل بصاحب البيت أمر عظيم، وأرسل وراء الإمام أحمد يحلف له أنه لم يقصد، وأنه لم يكن يعلم، فلم يرد عليه الإمام أحمد بشيء، يعني: كان الإمام أحمد من القدوة بحيث يتابعه عامة الناس، ولذلك سنعلم عند وفاته ماذا حصل، وفاة الإمام أحمد تبين فعلاً مكانته بين الناس. وقال إسحاق بن إبراهيم: ما رأيت أحداً لم يداخل السلطان ولا خالط الملوك مثل أحمد بن حنبل، ما كان أحد أثبت قلباً منه وما نحن في عينه إلا كأمثال الذباب. وكانت وفاة الإمام أحمد في (12) ربيع الأول، في يوم الجمعة، (سنة:254هـ) فرحمه الله عز وجل. وبالنسبة لجوانب تهم طالب العلم والداعية إلى الله والمسلم عموماً في حياة الإمام أحمد فنحن نعرض لبعضها الآن.

طلب العلم في حياة الإمام

طلب العلم في حياة الإمام أما بالنسبة لطلب العلم الذي يدعيه الكثيرون اليوم، ويذهبون إلى المكتبات ومعارض الكتب ويشترون كتباً بالأكوام، ثم يكدسونها في بيوتهم، ويضعونها في رفوف مكتباتهم يعلوها الغبار، أو يخزنوها في كراتين تبقى عندهم لا يفتحونها يزعمون أنهم طلبة علم، إلى هؤلاء نسوق لهم هذه الأحداث: بالمناسبة الإمام أحمد ما كان يتكلم عن نفسه بقليل ولا كثير، لذلك ما رويت لنا أخباره إلا من الناس المقربين إليه جداً مثل أولاده، وخاصة تلاميذه، وبقية الأخبار شائعة عند الناس معروفة من حال الإمام، وما وصل إلى الناس من أخباره في المحنة وعند وفاته وغير ذلك. قال عبد الله: سمعت أبي يقول: ربما أردت البكور في الحديث -يعني أذهب مبكراً في طلب العلم- فتأخذ أمي بثوبي وتقول: حتى يؤذن المؤذن، وكنت ربما بكرت إلى مجلس أبي بكر بن عياش. سبحان الله! كان يخرج قبل صلاة الفجر، تقول له أمه: لا، اجلس حتى يؤذن المؤذن!! ومرة نزل في بيت رجل وأمه موجودة في الدار -أم الرجل- فذهب أحمد يطلب الحديث، فجاء سارق فسرق أمتعة البيت ومن بينها أمتعة الإمام أحمد، فلما رجع إلى البيت قالت المرأة: دخل عليك السراق فسرقوا قماشك، فقال: ما فعلت الألواح؟ فقالت له: في الطاق، وما سأل عن شيء غيرها، ما سأل إلا عن الألواح التي كتب فيها العلم. وقال أحمد: كتبت عن ابن مهدي نحو عشرة آلاف حديث. وعن عبد الله بن أحمد قال: قال لي أبي: خذ أي كتاب شئت من كتب وكيع من المصنف، فإن شئت أن تسألني عن الكلام حتى أخبرك بالإسناد، وإن شئت بالإسناد حتى أخبرك أنا بالكلام. يعني: أعطني الإسناد أعطيك الكلام، أو أعطني الكلام أعطيك الإسناد؛ من حفظه للأحاديث التي كان يكتبها. وقال أبو زرعة ل عبد الله (ولد الإمام أحمد): أبوك يحفظ ألف ألف حديث -يعني: مليون حديث- فقيل له: وما يدريك؟ قال: ذاكرته فأخذت عليه الأبواب فعرفت أنه يحفظ هذه الأحاديث. قد يقول قائل مستغرباً: وهل هناك مليون حديث في الدنيا فعلاً؟!! فقال الذهبي رحمه الله معلقاً: فهذه حكاية صحيحة في سعة علم أبي عبد الله، وكانوا يعدون في ذلك المكرر والأثر، وفتوى التابعي، وما فسر، ونحو ذلك -هذه داخلة في المليون- وإلا فالمتون المرفوعة القوية لا تبلغ عشر معشار ذلك، المرفوعة القوية تكاد تبلغ عشرة آلاف حديث. وعن أبي زرعة قال: حزرت كتب أحمد يوم مات فبلغت اثني عشر حملاً وعدلاً ما كان على ظهر كتاب منها حديث فلان، ولا في بطنه حدثنا فلان، كل ذلك كان يحفظه.

المواصلة في طلب العلم

المواصلة في طلب العلم وأما بالنسبة لمواصلته في طلب العلم، فآفة بعض طلبة العلم الآن أنه ربما يشتغل في الطلب فترة من وقته، وبعد زمن يتكاسل ويقعد عن الطلب ويقول: يكفيني ما حصلت في الأيام أو السنوات الماضية، ولكن الإمام أحمد رحمه الله رآه رجلٌ ومع الإمام أحمد محبرة، فقال له: يا أبا عبد الله! أنت قد بلغت هذا المبلغ، وأنت إمام المسلمين -يعني: أنت تحمل المحبرة، وأنت بلغت هذا المبلغ- فقال الإمام أحمد: مع المحبرة إلى المقبرة. يعني: لا أزال أكتب وأطلب وأدون حتى أموت، فالاشتغال بالعلم إذاً ليس فترة محدودة من الزمن، وإنما هي حياة متواصلة ومستمرة.

تضحية الإمام في طلب العلم

تضحية الإمام في طلب العلم وقال المروذي: قلت ل أحمد: أكان أغمي عليك أو غشي عليك عند ابن عيينة؟ قال: نعم، في دهليزه زحمني الناس فأغمي عليَّ. يعني: تكاثر الناس عند سفيان بن عيينة وأحمد منهم في الزحام وليس المقصود بالمزاحمة أن يضرب بعضهم بعضاً، المزاحمة تعني الإقبال بكثرة، بعض الناس قد يرى حول العالم زحاماً فيقول: كيف نسأله ثم يذهب، ما عنده صبر، بعض الناس يصبرون حتى يصل العالم ليسأل، الإمام أحمد رحمه الله أغمي عليه في الزحام، وهو ينتظر كيف يدخل على سفيان. وقال أحمد الدورقي: لما قدم أحمد بن حنبل من عند عبد الرزاق -الإمام أحمد رحمه الله رحل إلى عبد الرزاق في اليمن - رأيت به شحوباً بـ مكة، وقد تبين به النصب والتعب، فكلمته -يعني كأنه قال له: أتعبت نفسك في ذهابك إلى اليمن - فقال أحمد: هين فيما استفدناه من عبد الرزاق. أي: هذا شيء يهون في سبيل الفائدة التي حصلناها من عبد الرزاق.

شمول علم الإمام

شمول علم الإمام قال أبو الوفاء بن عقيل رحمه الله: ومن عجيب ما تسمعه من هؤلاء الأحداث الجهال أنهم يقولون: أحمد ليس بفقيه لكنه محدث -هذه فرية اتهمه بعض الناس بها، قالوا: هذا أحمد يجمع أحاديث، وليس بفقيه- فيقول أبو الوفاء: وهذا غاية الجهل؛ لأنه قد خرج عنه اختيارات بناها على الأحاديث بناءً لا يعرفه أكثرهم. يعني: الفقه يأتي من أين؟ أليس من الأحاديث والآيات؟! فقال: عند أحمد اختيارات، وآراء فقهية بناها على أحاديث جمعها ما وصلت إلى كثير من هؤلاء. وخرج عنه اختيارات من دقيق الفقه ما ليس نراه لأحد منهم. وقد ذكر ابن الجوزي رحمه الله طائفة من عمق أو دقائق فقه الإمام أحمد رحمه الله. هل كان الإمام أحمد رجلاً يحفظ العلم ثم يتلوه على الناس تلاوة، أو أنه كان أكبر من ذلك؟ مشكلة طلبة العلم، أو بعض أهل العلم في هذه الأيام، أن وظيفته فقط مقتصرة على الحلق، وعلى التعليم، وسرد الأحاديث أو سرد أقوال العلماء وسرد الآراء فقط، يعني: وظيفته فقط كأنه مسجل يتكلم، وبقية من بقي من أهل العلم ليست مهمته فقط سرد العلم على الناس، لا. عن الحسين بن إسماعيل عن أبيه قال: كان يجتمع في مجلس أحمد زهاء خمسة آلاف أو يزيدون، نحو خمس مائة يكتبون، والباقون يتعلمون منه حسن الأدب والسمت. فإذاً هذا هو التكامل المطلوب في صاحب العلم ليس فقط أن يعلم، وإنما يكون قدوة يأخذ الناس من أخلاقه، ومن سيرته، ومن مواقفه، ومن ورعه، ومن زهده، ومن عبادته، وتقواه، وخشوعه لله عز وجل، وهذه خصلة نفتقدها كثيراً في حلق العلم، أنك تجد الواحد يسرد عليك، لكن شخصيته في بيته مع أهله، أو في العمل الذي يعمل فيه مختلفة تماماً.

صور من تواضع الإمام وعدم تطلعه إلى ما مع الناس

صور من تواضع الإمام وعدم تطلعه إلى ما مع الناس وأما تواضعه فكان شيئاً عجيباً، قال يحيى بن معين: ما رأيت مثل أحمد صحبناه خمسين سنة ما افتخر علينا بشيء مما كان فيه من الخير أبداً. وقال عبد الله: كان أبي إذا خرج يوم الجمعة لا يدع أحداً يتبعه. والمشهور أن العالم إذا ذهب إلى مكان سار الناس وراءه، لكن أحمد رحمه الله من تواضعه كان لا يرضى أن يسير وراءه أحد. وربما وقف حتى ينصرف الذي يتبعه. يعني: لو رأى واحداً يتبعه، أو أحس به، فإنه يقف حتى يمضي ذلك الرجل، ثم يمشي بعده، لأن قضية الاتباع تؤثر في نفس المتبوع، ولذلك يقول ابن مسعود رحمه الله ورضي عنه وأرضاه لطائفة من الناس كانوا يتبعونه: [ارجعوا فإنها ذلة للتابع وفتنة للمتبوع]. وكان أيضاً غنياً عما في أيدي الناس، لما خرج إلى عبد الرزاق انقطعت به النفقة، فأكرى نفسه من بعض الجمالين؛ يشتغل عند أصحاب الجمال الذين ينقلون حتى يحصل نقوداً، إلى أن وصل صنعاء وعرض عليه أصحابه المواساة فلم يأخذ منهم شيئاً. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان قال: بلغني أن أحمد بن حنبل رهن نعله عند خباز بـ اليمن. يقول إسحاق بن راهويه زميله في الرحلة: كنت مع أحمد عند عبد الرزاق، وكانت معي جارية وسكنا في الأعلى، وأحمد أسفل البيت، قال: وكنت أطلع فأراه يعمل التكك -وهي الأشياء التي تربط الأزار أو السراويل حتى لا تقع، يعملها ويبيعها ليتقوى بها- ولما وصل إلى عبد الرزاق اطلع على فقر الإمام أحمد، فدمعت عيناه، فقال: بلغني أن نفقته نفذت، فأخذت بيده، فأقمته خلف الباب وما معنا أحد، فقلت له: إنه لا تجتمع عندنا الدنانير إذا بعنا الغلة أشغلناها في شيء، وقد وجدت عند النساء عشرة دنانير فخذها، وأرجو ألا تنفقها حتى يتهيأ شيء -يعني: لعلك ما تصرفها حتى يأتينا شيء آخر نعوضك إذا صرفتها- فقال لي: يا أبا بكر! لو قبلت من أحدٍ شيئاً قبلت منك -يعني: انظر إلى لطافة الرد، كيف يرد، يقول: لا أريد، لكن قال: لو قبلت من أحد شيئاً قبلت منك. وكان ربما أخذ القدوم وخرج يعمل بيده ويبيع. وقال صالح ولده: ربما رأيت أبي يأخذ الكسر ينفض الغبار عنها ويصيرها في قصعة ويصب عليها الماء، ثم يأكلها بالملح، وما رأيته اشترى رماناً ولا سفرجلاً ولا فاكهة، إلا أن تكون بطيخة فيأكلها بخبز وعنب وتمر، وقال لي: كانت والدتك في الظلام تغزل غزلاً دقيقاً فتبيع الأستار بدرهمين أو أقل أو أكثر، فكان ذلك قوتنا. وقضية الاستغناء الآن ليست حاصلة عند الكثيرين، بل إن كثيراً من النفوس اليوم تتطلع وتتشوق إلى ما في أيدي الناس، وصحيح أن عصرنا يختلف عن عصر أولئك الناس في متطلبات المعيشة، ولذلك لا بأس أن يحرص الإنسان على الكسب، وأن يحرص على المعاش، وإذا كان به طاقة على الصبر على حالات الشدة قد يكون الأفضل الصبر، لكن قد لا يكون للإنسان صبر وقد تكون تعقيدات الحياة كثيرة، والاهتمام بالكسب الشخصي مهم، ولذلك يقول ابن المبارك رحمه الله وكان يشتغل في التجارة فسئل عن سبب اشتغاله، فقال: حتى لا يتمندل بنا هؤلاء. يقصد لو أن الإنسان احتاج وما عنده ولا يصبر فلا بد أن يلجأ إلى غيره، فقد يستغل حاجته بعض السفهاء، وخصوصاً إذا كان يشتغل في وظيفة من الوظائف فيصبح كأنه عبد ذليل للشخص الذي يعمل عنده، أو أنه عبد ذليل ينتظر ماذا يعطى من الراتب مثلاً، ويخشى أن يقطع عنه الراتب، ولذلك التحرر في كسب العيش أمر مهم، وكلما استطعت أن تتحرر ولا ترتبط بالآخرين في كسب العيش، حتى أن الآخرين يحتاجون إليك لا أنت تحتاج إليهم فهذا أحسن، ولكن هذا الوضع صعب الآن، وليس كل الناس يستطيعون الاشتغال بالتجارة، بل قسم كبير منهم في الوظائف، لكن حاول قدر الإمكان حتى لا يتمندل بك أهل السوء، وإذا تمندل بك أهل السوء فإنهم لا بد أن يفرضوا عليك أشياء فيها تنازل عن دينك، أو مواقف مخزية قد تقفها مضطراً لأنك محتاج إلى المال، وكثير من الناس وقعوا في مواقف مخزية بسبب الحاجة.

عظمة أدب الإمام

عظمة أدب الإمام وأما أدبه رحمه الله مع الناس فقد كان عظيماً، قال حنبل: رأيت أبا عبد الله إذا أراد القيام قال لجلسائه: إذا شئتم. يعني: مع أنه الآن هو الشيخ وهو العالم، لكن إذا أراد أن يقوم قال لجلسائه من التلاميذ: إذا شئتم تسمحوا لي فأمشي. وقال الميموني: كثيراً ما كنت أسأل أبا عبد الله عن الشيء، فيقول: لبيك لبيك. لبيك يعني: المسارعة في الاستجابة للسؤال، مع أن ذلك السائل هو المحتاج، ولكن الإمام أحمد هو الذي يقول: لبيك لبيك، كأنه خادم مطيع عند ذلك السائل.

الحرص على تربية الأولاد

الحرص على تربية الأولاد وكان الإمام أحمد رحمه الله لما كان مستغنياً عما في أيدي الناس حريصاً على أن يربي أولاده على هذا الأمر، وهذا شيء قد لا تجده في عامة المشايخ اليوم فضلاً عن عامة الناس، قد يكون الشخص قدوة لكن أهله لا يتأثرون به، ولم يقتبسوا منه هذه الأشياء الإمام أحمد رحمه الله كان حريصاً على أن يلقن أولاده مبادئ الاستغناء عن الناس. الإمام أحمد جاءت له فرصة الأموال، وصارت تأتيه من كل حدب وصوب، وصار الناس يعطونه أشياء، حتى لما كان في وقت الشدة كانت تأتيه هدايا من أناس مخلصين، وكانوا يؤكدون له أنها من مال حلال ويقول أحدهم: هذا من إرث أبي، ويقول آخر: عندي اثنا عشر ألف درهم أعطيتك منها كذا (شيء بسيط) فكان يرفض. ومرة كانوا يضعون له شيئاً في البيت، كصرة مال يضعها زائر خفية، فإذا اكتشفها الإمام أحمد أرجعها إليه، وإذا لم يعرف صاحبها فرقها على الفقراء، ومرة دق الباب، يقول ولد الإمام أحمد: دق الباب فتحت الباب فإذا بقصعة من الطعام مملوءة وضعها الرجل ومشى بسرعة، والإمام أحمد كان يجوع في فترات حتى لا يجد شيئاً، حتى أنه ربما اضطر إلى مواصلة الصيام، ما عنده شيء يأكله، فلما أدخل القصعة فرآها الإمام أحمد وقد امتلأت بأنواع الطعام قال: فمكث ساعة يفكر كيف يصنع؟ ثم قال: اذهبوا بهذا إلى بيت عمي، وأعطوا أولاد صالح، وكان أولاد صالح قد أتت له ذرية وكان فقيراً، فقال: وأعطوا ولد صالح هذا وهذا وزعه وما أكل منه شيئاً. وجاءته بعد ذلك أموال في أيام المتوكل الذي رفع المحنة عن الإمام أحمد فكان يرجعها ولا يقبل منها شيئاً، ولو أدخلت عليه بالقوة فرقها. ومرة جاءه مالٌ فرده، بعد سنة واحد من أولاده الذين عاشوا في الفقر، يقول: يا أبتِ لو أخذنا ذلك المال -يعني: لو كنا أخذنا ذلك المال الذي جاءنا قبل سنة- فقال أحمد: لو كنا أخذناه لكان الآن قد فني. وقال صالح: قلت لأبي: إن أحمد الدورقي أعطي ألف دينار، فقال: يا بني! ورزق ربك خيرٌ وأبقى. إذاً الإمام أحمد قدوة في تعليم الأولاد، قدوة في تربية الأهل، بعض الناس قد يكون عفيفاً متعففاً، صابراً على الشدة، لكن أهله بخلافه، وما أكثرهم! هو قد يصبر، وقد يحرم نفسه من أشياء كثيرة من متاع الحياة الدنيا، لكن أهله بخلافه لا يصبرون، فإذاً المسألة ليست أن تصبر أنت وأن تعف نفسك فقط، المسألة أن تربي من حولك وخصوصاً الأهل والأولاد على هذه الخصلة.

لطف الإمام مع الصبيان

لطف الإمام مع الصبيان وأما لطفه مع الصبيان ومع أهل بيته واهتمامه بهم فكان كبيراً، قال الخلال: قلت ل زهير بن صالح: هل رأيت جدك؟ قال: نعم، مات وأنا في عشر سنين، كنا ندخل إليه كل يوم جمعة أنا وأخواتي وكان بيننا وبينه باب، وكان يكتب لكل واحد منا حبتين حبتين من فضة في رقعة إلى فامي يعامله. كان هناك بائع ثوم، كان الإمام أحمد يتعامل معه، وكان أحمد ربما رهن عنده أشياء حتى يأخذ منه أموالاً يعطيها للصبيان فيفرحوا بها، ثم إذا فتح الله عليه بشيء رد المال إلى بائع الثوم.

حرص الإمام على حسن المظهر

حرص الإمام على حسن المظهر ومع فقره رحمه الله كان نظيف الهندام، قال عبد الملك بن عبد الحميد الميموني: ما أعلم أني رأيت أحداً أنظف بدناً ولا أشد تعاهداً لنفسه في شاربه وشعر رأسه وشعر بدنه، ولا أنقى ثوباً بشدة بياض من أحمد بن حنبل رحمه الله. قارن هذا وبين واقع الناس اليوم الذين قد يدعون التدين ولكنهم من ناحية النظافة الشخصية في أسوأ الحالات، وربما نفروا من حولهم بسبب عدم اعتنائهم بأنفسهم، وبثيابهم، وبشخصياتهم، فسبَّب ذلك عند الكثيرين انطباعاً سيئاً عن الدين، ولذلك يجب أن يؤخذ الإسلام جملة بلا تفريط وخصوصاً ما يصد عن سبيل الله، هذا ينبغي أن تحافظ عليه على أن تمنع الأشياء التي تصد عن سبيل الله، خصوصاً إذا كنت أنت السبب لا بد أن تراقب نفسك مراقبة شديدة.

محبة الإمام لخمول ذكره

محبة الإمام لخمول ذكره وكان رحمه الله يحب الخمول جداً. والخمول ليس الكسل، وإنما خمول الذكر، أي: لا يحب أن يشتهر بين الناس، وأن يتناقل الناس ذكره أبداً، وكانت مواقفه شديدة من هذا، مع كثرة الإنجازات التي قدمها لهذا الدين. قال المروذي: رأيت طبيباً خرج من عند أحمد ومعه راهب -راهب نصراني- فقال: إنه سألني أن يجيء معي ليرى أبا عبد الله -انظر بلغت منزلة الإمام أحمد أن النصارى تشوقوا لرؤيته- وقال: وأدخلت نصرانياً على أبي عبد الله فقال له النصراني: إني لأشتهي أن أراك منذ سنين، ليس بقاؤك صلاحاً للمسلمين وحدهم بل للخلق أجمعين، وليس من أصحابنا أحدٌ إلا وقد رضي بك، فقلت لـ أبي عبد الله: إني لأرجو أن يكون يدعا لك في جميع الأمصار، فقال: يا أبا بكر إذا عرف الرجل نفسه فما ينفعه كلام الناس. انظر! سبحان الله العظيم! يقول: إذا كنت أعرف قدر نفسي فماذا ينفعني كلام الناس وأنهم يدعون لي ويذكروني، وأنا أعرف نفسي أني لست بهذه المنزلة؟! وهو أعلى من هذه المنزلة. وقال عباس الدوري: حدثنا علي بن أبي فزارة جارنا قال: كانت أمي مقعدة نحو عشرين سنة، فقالت لي يوماً: اذهب إلى أحمد بن حنبل فسله أن يدعو لي، فأتيت فدققت عليه وهو في دهليزه، فقال: من هذا؟ قلت: رجل سألتني أمي وهي مقعدة أن أسألك الدعاء، فسمعت كلامه كلام رجل مغضب، فقال: نحن أحوج أن تدعو الله لنا، فوليت منصرفاً، فخرجت عجوزٌ فقالت: قد تركته يدعو لها -رأته ذهب غاضباً، فقالت: قد تركته يدعو لها- انظر الآن واحد يقول للناس ويعلمهم يقول لهم هذا ولكنه في نفس الوقت يدعو لها (من استطاع أن ينفع أخاه بشيء فلينفعه) بدعاء، برقية، فجئت إلى بيتنا ودققت الباب، فخرجت أمي على رجليها تمشي!! استقبلته!! وبالمناسبة فإنه يجب أن نكون حذرين في الروايات، فنحن لا نريد أن نرفع الناس فوق المنزلة التي أنزلهم الله إياها، ونبالغ، والمبالغة خطيرة جداً؛ لأنها تفقد واقعية الشيء، خصوصاً من الناس المفكرين، إذا أنت الآن جلست تسرد على الناس أحاديث ضعيفة مقتوك، لذلك الحافظ الذهبي رحمه الله كان ينقد الروايات مثلاً في رواية تقول: لما مات الإمام أحمد أسلم يوم موته من اليهود والنصارى عشرون ألفاً. لما تقول هذا الكلام قد يقول الناس: يا الله! إعجاباً، لكن الإمام الذهبي رحمه الله يقول: وهذه الحادثة لا يمكن أن تكون قد وقعت، ولم يروها إلا شخص واحد، ولو كانت وقعت لتوافرت الهمم والدواعي على نقلها، فلما لم ينقلها إلا واحد شككنا في صحتها، مع إعجاب الذهبي الشديد بالإمام أحمد، فأنا أنبه أثناء العرض هنا أن ليس المقصود أن نأتي بأشياء نهول فيها ونضخم ونكذب، ولكن الأشياء التي أتى بها النقاد فأقروها وسكتوا عليها ولم يتعقبوها تذكر، والإمام أحمد لا يستبعد منه أبداً أن يحصل هذه الكرامة، لا يستبعد أبداً أن يكون مجاب الدعوة وحياته هذه الحياة. وقال المروذي: قلت لـ أبي عبد الله: ما أكثر الداعي لك، ما أكثر الناس الذين يدعون لك، قال: أخاف أن يكون هذا استدراجاً. وقلت له: قدم رجل من طرسوس فقال: كنا في بلاد الروم في الغزو إذا هدأ الليل رفعوا أصواتهم بالدعاء، وكنا نمد المنجنيق ونرمي به عن أبي عبد الله -يعني: لا ينسون من محبة الناس للإمام أحمد، حتى المجاهدين يرمون المنجنيق ثم يقولون: هذه رمية عن الإمام أحمد - ولقد رمي عنه بحجر والعلج على الحصن متترس بدرقة فلما رموا الحجر فذهب برأسه وبالدرقة، قال: فتغير وجه أبي عبد الله وقال: ليته لا يكون استدراجاً. أي: ليت هذا لا يكون استدراجاً حتى أنا أغتر من هذا الكلام وأخرج عن التقوى. وعن عبد الله بن أحمد قال: حدثنا أبي وذكر عنده الشافعي رحمه الله فقال: ما استفاد منا أكثر مما استفدنا منه. أحمد يقول عن الشافعي: ما استفاد منا أكثر مما استفدنا منه، نحن استفدنا منه أكثر، ومع ذلك عبد الله ولد الإمام أحمد يقول: كل شيء في كتاب الشافعي حدثنا الثقة فهو عن أبي. هذه قضية مهمة في كتاب الشافعي. الشافعي له مسند إذا قال: حدثنا الثقة -يعني أحمد بن حنبل - ما استعمل لفظ الثقة بدون اسم إلا للإمام أحمد. وقال المروذي: وذكر ل أحمد أن رجلاً يريد لقاءه، فقال: أليس قد ذكره بعضهم أليس اللقاء شيء بغيض يتزين لي وأتزين له؟ وقال: لقد استرحت ما جاءني الفرج إلا منذ حلفت ألا أحدث، وليتنا نترك، فقلت له: إن فلاناً قال: لم يزهد أبو عبد الله في الدراهم وحدها وإنما زهد في الناس أيضاً، قال: ومن أنا حتى أزهد في الناس؟ الناس يريدون أن يزهدوا فيَّ.

هروب الإمام من الشهرة

هروب الإمام من الشهرة وقال: أريد أن أكون في شعب ب مكة حتى لا أعرف، قد بليت بالشهرة، إني أتمنى الموت صباحاً ومساء. انظر الإمام أحمد يقول: بليت بالشهرة على أساس، والآن بعض الناس ابتلوا بالشهرة على غير أساس، فعلاً، الآن بعض الناس تسلط عليهم الأضواء، وقد يفتون في الصحف وفي الجرائد وفي المجلات، تطلع أصواتهم أنهم على شيء من الدين، وأنهم من أهل الفتوى، ويتصدرون ولكن على غير أساس، فهذا الإمام أحمد يقول: ابتلينا بالشهرة، ويعتبر أن هذا ابتلاء من الله، وهو الرجل الذي يستحق أن يشتهر، فكيف ببعض الناس اليوم الذين ابتلوا بالشهرة على غير أساس. والشهرة مشكلة؛ لأنها تعدم الإخلاص إعداماً، فإنك: عندما ترى الناس يسيرون بذكر فلان وقصة فلان، وبعضهم يؤلفون القصص لرفعه، فيقولون مثلاً: فلان يحفظ كذا وكذا، فلان تتلمذ على يد فلان وفلان من العلماء، هو إذا سمع بذلك قد يسر ولا ينفي مع أن هذا كذب ويشتهر، ولكن هؤلاء سرعان ما يأفل نجمهم سريعاً، ولكن لا يبقى على مر العصور وعلى مر الأزمان إلا الناس الذين اشتهروا فعلاً على أساس من تقوى الله ورضوانه. الواحد قد يضيق ذرعاً ببعض الأسماء اللامعة في الأفق وهي على غير شيء، ويقول: إنهم يذكرون صباحاً ومساء، ولكن يا أخي تخيل بعد مائتي سنة أو ثلاثمائة سنة كيف يكون؟ اقرأ التاريخ، بعض الناس في وقت من الأوقات كانوا مشهورين جداً لكن بعد ذلك طوى الدهر صفحاتهم بعض الناس تقال لهم عبارات المديح ويسكتون وهم لا يستحقونها، الإمام يقال له عبارات الثناء وهو يستحق أكثر منها وكان لا يسكت، يقتدي به الإنسان، فيعرف إذا أثني عليه ماذا يقول، وكيف يكون موقفه، بل إن الواحد ليستحقر نفسه وهو لم يبلغ مبلغ شيء في الدين ويثنى عليه، ومن هو بجانب الإمام أحمد؟ وهذه فائدة تربوية مهمة، فمن أخطر الأشياء أن تثني على شخص في وجهه، حتى لو كان رجل دين تقياً وورعاً، إذا أثنيت عليه في وجهه فكأنك قطعت عنقه، ولذلك نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن المدح في الوجه، وقد تفسد نيته وإخلاصه بمدحك له، ولذلك يا أخي وفر مدحك قليلاً، وفر الثناء قليلاً، اثن عليه إذا كان من أهل الخير لكن ليس في وجهه، وكثير من الناس وصلوا إلى الغرور ووقعوا في الهاوية، لأنه يثنى عليه في وجهه، فيصيبه الغرور ويدخله الكبر، ويقول: أنا أذكر، وأنا شأني مشهور، وأنا يعرفني فلان وفلان، وأنا كلماتي وصلت إلى تلك الأنحاء، فلذلك احذر من الثناء على واحد في وجهه. وقال الخلال: أخبرنا علي بن عبد الصمد الطيالسي قال: مسحت يدي على أحمد بن حنبل وهو ينظر فغضب وجعل ينفض يده ويقول: عمن أخذتم هذا؟ أي: ممن تعلمتم هذه التصرفات؟ وقال المروذي: سمعت أبا عبد الله ذكر أخلاق الورعين، فقال: نسأل الله ألا يمقتنا أين نحن من هؤلاء؟! والإمام أحمد من أورعهم. وقال المروذي: أدخلت إبراهيم الحصري على أبي عبد الله، وكان رجلاً صالحاً، فقال: إن أمي رأت لك مناماً وهو كذا وكذا وذكرت الجنة. يقول: أمي رأت لك مناماً يا أحمد في أشياء وذكرت الجنة، فقال: يا أخي إن سهل بن سلامة كان الناس يخبرونه بمثل هذا فخرج إلى سفك الدماء، كان الناس يخبرونه بمثل هذا فصار أمره إلى أن سفك الدماء. الرؤيا تسر المؤمن ولكن لا تغره.

حرص الإمام على التربية الإيمانية

حرص الإمام على التربية الإيمانية وقد كان الإمام أحمد رحمه الله بالإضافة إلى ذلك حريصاً على تربية طلبة العلم على الإيمان، وعلى تعويدهم على الطاعات بالإشارة. فأن ترتقي بشخص مثلاً في إيمانه، وكيف تجعله أخشى لله وأتقى وأورع، هذه مسألة صعبة جداً؛ لأن الخشية في القلب بالقدوة لا بالقول، ولذلك الناس لا يصلحون في هذا الجانب إلا بالتربية وبالقدوة، وهذا مثال كيف كان الإمام أحمد رحمه الله يربي الناس على هذا عن عاصم بن عصام البيهقي قال: بت ليلة عند أحمد بن حنبل، فجاء بماء فوضعه، فلما أصبح جاء الإمام أحمد ونظر إلى الماء بحاله فقال: سبحان الله رجل يطلب العلم لا يكون له ورد بالليل!! فهو قد وضع له الأداة التي يقوم بها الليل، فلما رآه لم يقم عاتبه بلطف. وكان الإمام أحمد رحمه الله شديد الاتباع للسنة جداً، حتى أنه مرة احتجم وأعطى الحجام ديناراً، وقال: لأنه بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى الحجام ديناراً. وعن إبراهيم بن هانئ النيسابوري قال: كان أبو عبد الله حيث توارى من السلطان عندي. الإمام أحمد جاءت عليه فترة في زمن الواثق اختبأ فيه من السلطان، فاختبأ عند إبراهيم بن هانئ النيسابوري، ولما يكون الإنسان له أصدقاء في الخير وله أعوان في الخير فإنه يستفيد منهم في لحظات الشدة، ولذلك اختبأ عنده الإمام أحمد رحمه الله في وقت الشدة، فذكر من اجتهاده في العبادة أشياء، وقال: وكنت لا أقوى معه على العبادة، وأفطر يوماً واحداً واحتجم. وقال عبد الله بن أحمد ذاكراً عبادة أبيه: كان أبي يقرأ كل يوم سُبعاً -يعني: يختم القرآن في سبعة أيام- وكان ينام نومة خفيفة بعد العشاء، ثم يقوم إلى الصباح ويصلي ويذهب، ويقول: ربما سمعت أبي في السحر يدعو لأقوام بأسمائهم، وكان يكثر الدعاء ويخفيه، ويصلي بين العشائين، فإذا صلى عشاء الآخرة ركع ركعات صالحة، وكانت قراءته لينة، ولا يترك صوم الإثنين والخميس وأيام البيض. وقال زهير بن صالح: حدثنا أبي قال: سمعت أبي كثيراً يتلو سورة الكهف، وكثيراً ما كنت أسمعه يقول: اللهم سلم سلم. والدعاء باللهم سلم سلم ورد في دعاء الأنبياء عندما يجوز كل نبي بأمته على الصراط المضروب على متن جهنم، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ودعاء الأنبياء يومئذٍ: اللهم سلم سلم) وقد بلغ من عبادته أنه ما تركها وهو في السجن، بل إنه قال: كنت أصلي بأهل السجن وأنا مقيد. وقال المروذي: كان أبو عبد الله إذا ذكر الموت خنقته العبرة، وكان يقول: هان علي كل أمر الدنيا إذا ذكرت الموت إنما هو طعام دون طعام، ولباس دون لباس، وإنما هي أيام قلائل، ما أعدل بالفقر شيئاً، ولو وجدت السبيل لخرجت حتى لا يكون لي ذكر.

سبب ترك الهجران والاعتزال

سبب ترك الهجران والاعتزال الإمام أحمد رحمه الله كان يمكن أن يخرج حتى لا يكون له ذكر ويختفي عن أعين الناس كما يفعل كثير من المتصوفة، كما كان ابن القيم رحمه الله في بادئ الأمر، ابن القيم رحمه الله يقول: استأنست عند الذئب إذ عوى، وإذا صاح صائح طرت مع الصيحة فرحاً. يعني: يذكر حاله يقول: أني كنت أستأنس بصياح الذئاب؛ لأنه كان رحمه الله في بادئ أمره متصوفاً من المتصوفة، وكان يخرج إلى الفلوات والبراري مثل الصوفية، ويعتزل الناس، والصوفية كانوا يستأنسون بعواء الذئب إذا ذهب واحد منهم في البرية وجلس بعيداً عن الناس وخلا، وإذا صاح الصائح بالذكر في حلق الذكر المبتدعة التي عندهم طار قلبه من الصيحة، ولكن بعد ذلك قيظ الله له شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فاهتدى على يديه، فرحمه الله به وهداه إلى الشريعة. لماذا كان الإمام أحمد لم يخرج إلى خارج البلاد ويسكن في الصحراء ويعتزل الناس؟ هو يتمنى هذا الكلام، لماذا لم يفعله؟ لأن الناس يحتاجون إليه، لأن موقعه بين الناس موقع مهم، لأن عزلته عن الناس فيها ضرر على نفسه وعلى الناس، والإنسان المؤمن كما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أحسن وأفضل من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم) والاعتقاد الموجود عند البعض بأن على الإنسان أن يخرج عن المجتمع ويعتزل الناس أحسن له في الدين اعتقادٌ خاطئ؛ لأنه سيضعف، لكن الذي يعيش المحنة يقوى عوده ويصمد، إلا في حالة واحدة، إذا كان آخر الزمان، وصارت الفتنة شديدة جداً بحيث أن الرجل لا يحتمل القعود، ولو قعد لفتن في دينه، فعند ذلك لا بد من الخروج، وقد يحصل حالات من هذا في بعض البلدان، فيترتب على المسلم أن يخرج؛ لأنه لو جلس واستقر لفتن في دينه، ونكص وارتد على عقبيه، فتكون السلامة في الخروج. قال أبو داود: كانت مجالس أحمد مجالس الآخرة، لا يذكر فيها شيء من أمر الدنيا، ما رأيته ذكر الدنيا قط. وعن المروذي قال: قلت ل أحمد: كيف أصبحت؟ قال: كيف أصبح من ربه يطالبه بأداء الفرائض، ونبيه يطالبه بأداء السنة، والملكان يطالبانه بتصحيح العمل، ونفسه تطالبه بهواها، وإبليس يطالبه بالفحشاء، وملك الموت يراقب قبض روحه، وعياله يطالبونه بالنفقة؟!!

عفو الإمام عمن ظلموه

عفو الإمام عمن ظلموه وقال ابن أبي حاتم، هذا الإمام أحمد رحمه الله كان من الأشياء التي اشتهر بها أن يعفو عمن ظلمه، والذين ظلموا الإمام أحمد كثيرون جداً، وظلمهم ليس بالسهل، وكان ممن ظلمه المعتصم، حتى أنه كان يأتي بالجلاد والإمام أحمد ممدود على الأرض قد علق، ويقول للجلاد: اضرب، ثم يقول: شد قطع الله يدك، يقول للجلاد، فيضربه سوطين بقوة، ثم يأتي الذي بعده يقف الجلادون صفاً يضربون الإمام أحمد، قال أحدهم: لقد ضربت أحمد ثمانين سوطاً لو ضربتها فيلاً لهدته. الإمام أحمد رحمه الله مع كل هذا الظلم، قال ابن أبي حاتم: بلغني أن أحمد بن حنبل جعل المعتصم في حلٍ يوم فتح عاصمة بابك وظفر به أو في فتح عمورية. لأن من حسنات المعتصم أنه فتح عمورية، فلما فتح عمورية عفا عنه الإمام أحمد، ولما أمسك بـ بابك، وهذا بابك زعيم الخرمية طائفة من الملاحدة وكان لهم عاصمة وصارت لهم شوكة، لما قاتلهم المعتصم وظفر بهم قال الإمام أحمد: هو في حل من ضربي. مع أنكم ستسمعون بعد قليل كيف ضربه. وقال ابن جماعة: سمعته يقول؛ الإمام أحمد: كل من ذكرني ففي حل إلا مبتدعاً -المبتدع لا أحله- حتى يرجع من البدعة. وقال: وقد جعلت أبا إسحاق المعتصم في حلٍ ورأيت الله يقول: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:22] وما ينفعك أن يعذب الله أخاك المسلم يوم القيامة بسببك؟! والناس اليوم حتى من طلبة العلم وبعض الدعاة قد يظلمون، وقد يساء إليهم جداً، ولكنهم قد يحملون في أنفسهم حقداً وغلاً، يحملون في أنفسهم أقل شيء سخطاً على من ظلمهم، ولكن المقتدي المتأسي بالإمام أحمد رحمه الله يرى العفو عن الظالم إذا رجع عن ظلمه للناس وعن بدعته، والعفو عند المقدرة من الأشياء التي تؤثر في الظالم جداً، وتجعله في صفوف الصلحاء، وكثيرٌ من الناس الذين عفا عنهم الإمام أحمد قد تحسنت أحوالهم جداً. وقد كان الإمام أحمد رحمه الله ورعاً غاية الورع، ما أحوجنا إلى الورع في هذا العصر الذي كثرت فيه الشبهات، في الأموال والرواتب، وكثير من الوظائف، وكثير من المدخولات، كثر فيها الحرام وكثرت فيها الشبه، والمأكولات كثرت فيها كثيراً. قال بعضهم: لقد حضرت من ورعه شيئاً بـ مكة أنه أرهن سطلاً عند فامي -بائع الثوم- فأخذ منه شيئاً ليقوته -أعطاه السطل رهناً وطلب شيئاً ليأكله - فجاء يوماً من الأيام فأعطاه فكاكه، فأخرج إليه الفامي سطلين فقال: انظر أيهما سطلك؟ فقال الإمام أحمد: لا أدري، ثم إن الإمام أحمد قال: أنت في حل منه -لأنه يخشى لو أخذ واحداً منهما ألا يكون سطله- وما أعطيتك الآن من المال فكاك السطل هو لك، قال الفامي: والله إنه لسطله وإنما أردت أن أمتحنه فيه، ولكن مع ذلك لما أخبره رفض الإمام أحمد أن يأخذه. وقال: قال أحمد بن محمد الدستوري: ذكروا أن أحمد بن حنبل أتى عليه ثلاثة أيام ما طعم فيها، فبعث إلى صديق له فاقترض منه دقيقاً فجهزوه بسرعة، لاحظ الإمام أحمد أن الخبز جهز بسرعة فقال: كيف ذا؟ قالوا: تنور صالح مسجر -ولده صالح كان عنده تنور، وكان التنور هذا ساخن أصلاً، ولذلك نضج الخبز بسرعة- فخبزنا فيه، فقال: ارفعوا، وأمر بسد بابٍ بينه وبين صالح، قال الذهبي: لكون صالح قد أخذ جائزة المتوكل. وكان قد أعطى أحمد وأولاده، فالإمام كان متورعاً عن المال الذي جاء من المتوكل في يد ولده صالح، حتى أنه ما رضي أن يأكل من الخبز الذي خبز في تنور ولده.

شهادة الإمام على الناس بالحق

شهادة الإمام على الناس بالحق ونأتي الآن أيها الإخوة إلى نقطة مهمة من النقاط؛ وهي أن الإمام أحمد على ورعه وعلى خوفه من الظلم كان إذا طلبت منه الشهادة في أشخاص معينين أتى بها، وبعض الناس اليوم قد يسأل عن فلان من الناس، وهذا فلان قد يكون ذائع الصيت وقد يكون مشهوراً، وفلان هذا له أخطاء، وقد يتأثر السائل بأخطائه، يقول: لا، أنا أتحرج أن أتكلم، ولا أستطيع أن أطعن بأناس عظماء، هؤلاء ناس منهم من عذب في ذات الله، ومنهم من ابتلي، أنا لا أستطيع أن أتكلم فيهم، الإمام أحمد رحمه الله كان لا يمنعه ورعه أن يشهد بالحق على الناس، ولما طلب منه تعيين أسماء للقضاء هل تصلح أو لا تكلم عليها بما تستحقه. سئل أحمد بن حنبل عن أحمد بن رباح فقال فيه: جهمي معروف بذلك، وإنه إن قلد شيئاً من أمر المسلمين كان ضرراً على المسلمين؛ لما هو عليه من مذهبه وبدعته، وسئل عن ابن الخلنجي فقال فيه أيضاً مثلما قال في أحمد بن رباح، وذكر أنه كان من شرهم وأعظمهم ضرراً، وسألته عن شعيب بن سهل، فقال فيه: جهمي معروف بذلك، وسألته عن المعروف ب أبي شعيب فقال فيه: إنه جهمي معروف بذلك، وسألته عن ابن الثلجي فقال: مبتدع صاحب هوى، وابن الثلجي هذا حنفي دافع عنه زاهد الكوثري في بعض كتبه، وزاهد الكوثري من أعيان المبتدعة في هذا العصر، وقد مات، وتأثر به كثيرون، فدافع عن ابن الثلجي وقال: لعل طعن أحمد فيه مشكوك فيه، ولعل الرواية فيه غير صحيحة وهذا ليس بكذا لماذا؟ دفاعاً عن المبتدعة، والإمام أحمد يقع فيهم. فإذاً، منهج الورع لا يمنع أن يقول الإنسان بالعدل {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} [الأنعام:152] والإنسان إذا طَلَبَ رأيك في شخص وأنت تخاف أن يتأثر به هذا السائل فلا بد أن تبين له السلبيات التي هي فيه، وهذه المسألة فيها مزلقٌ خطير، يعني: بعض الناس يُسأل عن شخص، وهذا الشخص فيه عيب لكن لا يتأثر به كأن يكون عيباً خفياً، يعني: واحد عنده أخطاء لكن لا يتأثر الناس بها؛ لأن أخطاءه في بيته أو في شخصه، فيأتي واحد يقول: فلان فيه كذا وكذا وكذا، تقول: يا ابن الحلال اتق الله لماذا تطعن في فلان؟ يقول: الجرح والتعديل، فصار باب الجرح والتعديل مفتوحاً على مصراعيه كل واحد يتكلم كيف يشاء، وأحياناً تجد الناس بين إفراط وتفريط، إما أن تجده يطعن في أناس صالحين، أو يذكر سلبيات لا داعي لذكرها ولا حاجة لذكرها، أو تجد واحداً يسكت على فلان وعلى أخطائه ولا يغير، ولا يعترف بخطئه؛ لأنه يقدس ويعظم هذا الشخص، كلاهما بلية ابتلي بها كثيرٌ من المسلمين، وحتى من الناس الذين يدعون القيام بدين الله وحمل لواء الإسلام. وعن عبد الله بن محمد الوراق قال: كنت في مجلس أحمد بن حنبل فقال: من أين أقبلتم؟ قلنا: من مجلس أبي كريب، فقال: اكتبوا عنه الحديث فإنه شيخ صالح، فقلنا: إنه يطعن فيك -يعني يتكلم عليك- قال: فأي شيء حيلتي شيخ صالح قد بلي بي، أي: ابتلاه الله عز وجل بأن يطعن علي ماذا أفعل له، لكن اكتبوا حديثه، هل هناك عدل مثل هذا؟ مقارنة بكثير من المسلمين اليوم قد تجد اليوم واحداً من الناس إذا سئل عن فلان وقد يكون عالماً، أو من أهل العلم، أو طالب علم ينفع الناس، فيقول: لا، لا تأخذ عنه حرفاً، ولا تحضر مجالسه، ولا تستمع له! وذلك لأن بينه وبينه خلافات شخصية! نقول: حتى لو كنت محقاً في خلافاتك الشخصية مع هذا الرجل، لكن العدل أن تقول للناس: اسمعوا له، واحضروا له، حتى لو كان بينك وبينه خلاف شخصي، ما دام أنه لا يقول ببدعة، ولا يدعو الناس إلى بدعة، وليس عنده أخطاء في الأصول، أو ليس عنده أشياء يضل الناس بها، أو يفتي بغير علم.

صورة من فقه الدعوة والحركة

صورة من فقه الدعوة والحركة وكان من طريقة الإمام أحمد رحمه الله في باب الدعوة إلى الله، ما قاله أبو بكر المروذي قال: كان الإمام أحمد رحمه الله إذا بلغه عن شخص صلاحٌ، أو زهد، أو قيام بحقٍ، أو اتباع للأمر -يعني للسنة والجماعة - سأل عنه، وأحب أن يجري بينه وبينه معرفة، وأحب أن يعرف أحواله. وهذا المنهج من الإمام أحمد رحمه الله في الدعوة والحركة مهم جداً، مهم جداً أن الإنسان المسلم إذا سمع بشخص فيه صلاح وتقوى، واتباع للسنة أن يتعرف عليه، وأن يستفيد منه، ونظم هؤلاء في سلك واحد مما يقوي دين الإسلام جداً؛ لأنه يجمع الجهود ويوجهها، ولذلك فإن كثيراً من الناس فيهم من الصلاح أشياء كثيرة، لكنهم متفرقون لا ينظمهم سلكٌ واحد، لو جاء إنسانٌ قدوة، فجمع هؤلاء ووجه طاقاتهم إلى الخير، واستثمر ما لدى هذا ولدى هذا من الأشياء لانتفع الإسلام جداً، الإمام أحمد رحمه الله كان يحاول أن يعرف أصحاب الطاقات في المجتمع الذين فيهم خير وصلاح، وفيهم دين، واتباع للسنة، يجري بينه وبينهم معرفة، فيستفيد الإسلام من هذه الجهود المتكاتفة. وكان رحمه الله يعمق التصورات الإسلامية المهمة في الناس، فمثلاً: يدعو الناس إلى اتباع الكتاب والسنة، والإقبال عليهما، ويبين للناس خطورة رد أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، بل إنه بلغ من أمره في هذا أنه نهى الناس عن كتابة الرأي، يعني: كتابة الآراء، وأمرهم أن يقتصروا على الآثار، لخوف الإمام أحمد رحمه الله أن يترك الناس الكتاب والسنة ويتعلقوا بأقوال الرجال، ولذلك كان كتب أقوال بعض الرجال ثم تخلص من كتبه، وسأله رجل: أكتب كتب الرأي؟ قال: لا، قال: ف ابن المبارك قد كتبها، قال: ابن المبارك لم ينزل من السماء، إنما أمرنا أن نأخذ العلم من فوق. يعني: القرآن والسنة؛ لأنه وحي من عند الله.

تخفي الإمام وفقا للسنة

تخفي الإمام وفقاً للسنة وكان من شدة اتباعه للسنة ما قاله إبراهيم بن هانئ: اختفى أبو عبد الله ثلاثاً، ثم قال: اطلب لي موضعاًُ وأتحول إليه، قلت: لا آمن عليك، قال: افعل، فإذا فعلت أفدتك، فطلبت له موضعاً، فلما خرج قال: اختفى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار ثلاثة أيام ثم تحول، فأنا أختبئ عندك ثلاثة أيام ثم أتحول. طبعاً هذا الشيء يعتمد على الظروف والمناسبات؛ لأنه قد لا يجد الإنسان مكاناً آخر، ولكن إذا وجد وهو في جو المحنة فيكون من المناسب أن لا يمكث في مكان واحد فترة طويلة؛ لئلا يكتشف أمره فيتحول، لو جلس الرسول صلى الله عليه وسلم في الغار مدة طويلة ربما اكتشفوا أمره، فهو جلس المدة التي خف فيها الطلب ثم تحول.

تعامل الإمام مع أهل البدع

تعامل الإمام مع أهل البدع وكان الإمام أحمد رحمه الله حريصاً على أن يعرف أهل البدع ويكتشف أمرهم بنفسه، من باب التثبت ليحذر الناس منهم، وهذه القصة دليل على ذلك، وهذه القصة مهمة ينبغي أن تعقلوها جيداً، وأن نفكر فيها يا إخواني جميعاً: سمعت إسماعيل السراج يقول: قال لي أحمد بن حنبل يوماً، أي: قال الإمام أحمد لـ إسماعيل السراج: بلغني أن الحارث يكثر الكون عندك -يأتيك كثيراً- فلو أحضرته منزلك وأجلستني من حيث لا يراني، فأسمع كلامه فقلت: السمع والطاعة لك يا أبا عبد الله، وسرني هذا الابتداء من أبي عبد الله -انظر الآن الإمام أحمد هو الذي يبحث، وهو الذي ينقب، هو الذي يتثبت، ما يأتي واحد يقول له: عندي مبتدع فأخبرني رأيك فيه، بل هو الذي يبحث- ففعل الرجل ودعا الحارث المحاسبي وجماعة من المعجبين بـ الحارث المحاسبي، فحضر الإمام أحمد وصعد في غرفة في الدار، واجتهد في ورده إلى أن فرغ، وحضر الحارث وأصحابه فأكلوا، ثم قاموا لصلاة العتمة -العشاء- ولم يصلوا بعدها وقعدوا بين يدي الحارث وهم سكوت لا ينطق واحد منهم إلى قريب من نصف الليل، فابتدأ واحد منهم وسأل الحارث المحاسبي، فأخذ الحارث في الكلام وأصحابه يستمعون كأن على رءوسهم الطير، فمنهم من يبكي، ومنهم من يحن، ومنهم من يزعق في كلامه -وهذا شأن بعض المتصوفة - ولم تزل تلك حالهم حتى أصبحوا، فقاموا وتفرقوا، فصعدت إلى أبي عبد الله وهو متغير الحال، فقلت: كيف رأيت هؤلاء يا أبا عبد الله؟ فقال: ما أعلم أني رأيت مثل هؤلاء القوم، ولا سمعت في علم الحقائق مثل كلام هذا الرجل، وعلى ما وصفت من أحوالهم فلا أرى لك صحبتهم، ثم خرج. ناس يجلسون بعد العشاء ما يصلون الليل يزعمون أنهم يذكرون الله، يجلسون صامتين هكذا إلى نصف الليل، وبعد ذلك واحد يذكر ويتكلم وناس يزعقون، والزعق هذا ما كان عند الصحابة ولا عند التابعين، فالإمام أحمد قال: ما أرى لك صحبتهم مع أن ظاهرهم الخير، لذلك كثير من الناس في هذه الأيام يخدعون ببعض المبتدعة من أهل الشر، لأنهم يرونهم يبكون، ويكثرون من ذكر الهل ويزعقون، فيقول: هذا من أولياء الله، وهو في الحقيقة من المبتدعة في دين الله، فإذاً التثبت في أحوال هؤلاء أمر مهم، أمر مطلوب حتى يعرف حالهم فيجتنبوا، وحتى يكون الإنسان على بصيرة. ومن منهج الإمام أحمد رحمه الله اعتزال أهل البدع، وهذه قضية مهمة، تمس الحاجة إليها في هذه الأيام؛ قال المروذي: لما أظهر يعقوب بن شيبة الوقف حذر منه أبو عبد الله وأمر بهجرانه، أمر الناس بتركه، أي: الوقف في قضية خلق القرآن بعض الناس قالوا: القرآن مخلوق، بعض الناس قالوا: لفظي بالقرآن مخلوق، وهؤلاء أيضاً مبتدعة، وبعضهم قالوا: لا أقول مخلوق ولا غير مخلوق؛ هؤلاء الواقفة، فالإمام أحمد بدع الواقفة، ونهى عن الصلاة وراءهم، وأمر بهجرهم، ولا عليه فلان كبير صغير، مشهور مغمور؛ ما دام أنه وقع في البدعة وما رجع منها حذروا الناس منه.

تعامل الإمام مع أهله

تعامل الإمام مع أهله ومن الأمور المهمة التي يقتدى فيها بالإمام أحمد رحمه الله علاقته بأهله، فقد كانت علاقته بهم طيبة جداً، فقال المروذي: سمعت أبا عبد الله ذكر أهله فترحم عليها -لأن زوجته ماتت قبله- فقال: مكثنا عشرين سنة ما اختلفنا في كلمة. رجل يجلس مع زوجته لا يختلف معها في كلمة، هذا شيء ليس سهلاً، ولكن هذا الرجل رحمه الله بلغ عدله ورفقه حتى في أهل بيته حتى ما اختلف معهم في كلمة.

صمود الإمام في وجه الطغيان

صمود الإمام في وجه الطغيان ومن أشهر الأشياء: صموده في وجه الطغيان، الإمام أحمد رحمه الله الشيء الذي فعله في وجه الطغيان ليس بالأمر السهل. قال صالح: قال أبي: لما جيء بالسياط نظر إليها المعتصم، فقال: ائتوني بغيرها -هاتوا أشد منها- ثم قال للجلادين: تقدموا، فجعل يتقدم إلي الرجل منهم فيضربني سوطين، فيقول له: شد قطع الله يدك، ثم يتنحى ويتقدم آخر فيضربني سوطين، وهو يقول في كل ذلك: شد قطع الله يدك، فلما ضربت سبعة عشر سوطاً قام إليَّ المعتصم، فقال: يا أحمد! علام تقتل نفسك؟ انظروا الآن الفتنة عن الدين كيف تكون بالترهيب والترغيب، أول شيء حملوه فرفض، سجنوه رفض، ضربوه، ثم قال له المعتصم: لماذا تقتل نفسك؟ واحد يقول: شد قطع الله يدك، ثم يأتي ويقول: لماذا تقتل نفسك؟ إني والله عليك لشفيق، وجعل عجيف -وهو رجل من أعوان الظلمة- ينخسني بسيفه، وقال: أتريد أن تغلب هؤلاء كلهم؟ في وجود المعتصم وأعوانه وجنوده وعساكره وأحمد بن أبي دؤاد ومن معه من المعتزلة يناظرون الإمام أحمد وهو يرد عليهم، وجعل بعضهم يقول: ويلك! إمامك على رأسك قائم يقصد الخليفة، وقال بعضهم: يا أمير المؤمنين! اقتله ودمه في عنقي، وجعلوا يقولون: يا أمير المؤمنين! أنت صائم وأنت في الشمس قائم أرح نفسك منه، فقال لي: ويحك يا أحمد ما تقول؟ فأقول: أعطوني شيئاً من كتاب الله أو سنة رسوله أقول به، فرجع فجلس، ثم قال للجلاد: تقدم وأوجع قطع الله يدك، ثم قام الثانية وجعل يقول: ويحك يا أحمد أجبني، فجعلوا يقبلون عليه ويقولون: يا أحمد إمامك على رأسك قائم، وجعل أحدهم يقول: من صنع من أصحابك في هذا الأمر ما تصنع؟! حتى يخذلونه، يقولون: من الذي من أصحابك وقف مثل موقفك؟! لا أحد وقف فلماذا أنت تقف؟ والمعتصم يقول: أجبني إلى شيءٍ لك فيه أدنى فرج حتى أطلق عنك بيدي، ثم رجع وقال للجلاد: تقدم، فجعل يضربني سوطين ويتنحى، وهو في خلال ذلك يقول: شد قطع الله يدك، فذهب عقلي، ثم أفقت بعد ذلك، فإذا الأقياد قد أطلقت عني، فقال لي رجل ممن حضر: كببناك على وجهك، وطرحنا على ظهرك بارية -يعني حصيراً- ودسناك، قال أبي: فما شعرت بذلك -لأنه كان قد أغمي عليه- وكاد أن يموت من هذا الدوس على جسده، ولكن الله أنجاه. فإذاً تعرض الإمام أحمد أيها الإخوة لشتى أنواع الطغيان، ضرب، جلد، حبس، داسوه، سبوه، لعنوه، شتموه، جمعوا عليه الأجناد والحراس، حتى في منظر قال: لما دخلت قصر المعتصم رأيت أجناداً قد أشهروا السلاح ما رأيتهم من قبل، ولكن مع ذلك صمد صموداً ما صمده أحدٌ ولذلك صار إمام أهل السنة، واستحقها بلا منازع.

قوة حجة الإمام في فتنة خلق القرآن

قوة حجة الإمام في فتنة خلق القرآن وكانت حجته قوية، وهذا شيء مهم جداً للذي يواجه في خط النار، الذي في خط المواجهة لا بد أن يكون عنده حجة، وهذا يبين أهمية العلم في وقت المحنة، قال صالح بن أحمد: قال أبي: كان يوجه إلي كل يوم برجلين أحدهما يقال له: أحمد بن أحمد بن رباح، والآخر أبو شعيب الحجام فلا يزالان يناظراني في السجن حتى إذا قاما دعي بقيد فزيد في قيودي، فصار في رجلي أربعة أقياد، فلما كان في اليوم الثالث دخل علي فناظرني فقلت له: ما تقول في علم الله؟ قال: مخلوق، قلت: كفرت بالله، فقال الرسول الذي كان يحضر من قبل إسحاق بن إبراهيم الوالي: إن هذا رسول أمير المؤمنين كيف تكفره؟ فقلت: إن هذا قد كفر، فلما كان في الليلة الرابعة وجه المعتصم ببغى الكبير إلى إسحاق فأمره بحمله إليه، فأدخلت على إسحاق، فقال: يا أحمد! إنها والله نفسك، إنه لا يقتلك بالسيف، إنه قد آن إن لم تجبه أن يضربك ضرباً بعد ضرب، وأن يقتلك في موضعٍ لا يرى فيه شمس ولا قمر، أليس قد قال الله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} [الزخرف:3]-انظر الآن يحتجون على الإمام أحمد، يقولون: الله يقول جعلناه قرآناً عربياً، وجعل بمعنى خلق، جعل الأرض وجعل السماوات- فإذا كان مجعولاً أفلا يكون مخلوقاً؟! فقلت: قد قال الله تعالى: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:5] أفخلقهم؟! فجعل ليست دائماً بمعنى خلق، قد تكون بمعنى صير، فكانت حجته قوية، ثم قال له المعتصم: ناظروه وكلموه، يا عبد الرحمن كلمه! فقال: ما تقول في القرآن؟ قلت: وما تقول أنت في علم الله؟ فسكت، فقال لي بعضهم: أليس قد قال الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16] والقرآن أليس شيئاً؟! قلت: قال الله: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} [الأحقاف:25] أفدمرت كل شيء موجود؟ ما دمرت إلا ما أراد الله، فقال بعضهم: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء:2] أفيكون محدثاً إلا وهو مخلوق؟ فقلت: قال الله: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} [ص:1] فالذكر المقصود به القرآن فيه ألف ولام وتلك ليس فيها ألف ولام، والمقصود بمحدث يعني لأنه كان ينزل حديث عهدٍ بربه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وذكر بعضهم حديث عمران بن حصين عن الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله خلق الذكر) فقال الإمام أحمد: هذا خطأ حدثنا غير واحد: (إن الله كتب الذكر) انظر حتى يكتشف التحريفات، يحرفون الأحاديث، ولكن يقول: هذا خطأ، الصحيح: (إن الله كتب الذكر) واحتجوا بحديث ابن مسعود: (ما خلق الله من جنة ولا نار ولا سماء ولا أرض أعظم من آية الكرسي) وهذا طبعاً حديث موضوع فبينه لهم وهكذا قال صالح: جعل ابن أبي دؤاد ينظر إلى أبي كالمغضب، قال أبي وكان يتكلم هذا فأرد عليه، ويتكلم هذا فأرد عليه، فإذا انقطع الرجل منهم اعترض ابن أبي دؤاد فيقول: يا أمير المؤمنين! هو والله ضال مضل مبتدع -يعني: لما يفحمهم الإمام أحمد يطلع رئيسهم ويقول: هذا ضال وما عندهم إلا هذه الكلمة، وهذه حال بعض الناس، تناقشه وترد عليه وإذا أفحمته، قال: أنت غلطان أنا لا أسمع منك، أنت على باطل أنت كذا، وما عنده حجة، اتهامات فقط حتى يسكت- وكلما ناظروه يقول: أعطوني شيئاً من كتاب الله أو سنة رسول الله حتى أقول به، حتى قال أحمد بن أبي دؤاد: أنت لا تقول إلا ما في الكتاب والسنة؟ -يعني يريد ابن أبي دؤاد أن يقول: ما عندك إلا الكتاب والسنة ما عندك غيرها؟ وكان يبصر الناس بالحق ويثبتهم عليه، سمعت ابن أبي أسامة يقول الراوي: حكي لنا أن أحمد قيل له أيام المحنة: يا أبا عبد الله! أولا ترى الحق كيف ظهر عليه الباطل؟ قال: كلا، إن ظهور الباطل على الحق أن تنتقل القلوب من الهدى إلى الضلالة، وقلوبنا بعد لازمة للحق -يعني: هذا الظهور لأهل البدعة ظهور ظاهري في قضية السلطة والسلاح، لكن ما زالت القلوب مطمئنة بذكر الله، فإذاً ما ظهر الباطل على الحق-.

موقف الإمام من فتنة السراء

موقف الإمام من فتنة السراء وأما موقفه من فتنة السراء لما أعطوه الأموال في عهد المتوكل، رفع المحنة المتوكل وأغدق على الإمام أحمد الأموال، فبكى الإمام أحمد وقد وجه إليه بمائتي دينار، وقال: سلمت منهم -طول المدة الماضية- حتى إذا كان في آخر عمري بليت بهم، عزمت عليك أن تفرقها غداً، فلما أصبح جاءه حسن بن البزار فقال: جئني يا صالح! بميزان وجهه إلى أبناء المهاجرين والأنصار وإلى فلان حتى فرق كل المال الذي أتاه، يقول ابنه: ونحن في حالة الله بها عليم. وأعطي ثياباً فجعل يبكي ويقول: سلمت من هؤلاء منذ ستين سنة، حتى إذا كان في آخر عمري بليت بهم، وما أحسبني سلمت من دخولي على هذا الغلام فكيف بمن يجب علي نصحه، يا صالح! وجه هذه الثياب إلى بغداد تباع ويتصرف بثمنها، ولا يشتري أحد منكم منها شيئاً، فباعها وتصدق بثمنها. وكان مع ذلك يخرج ويرابط، ولما صارت المحنة قالوا لـ أبي عبد الله: التقية، شرع الله التقية فقال: ما تقولون في حديث خباب؟ (إن من كان قبلكم كان ينشر بالمنشار لا يصده ذلك عن دينه) وقال: لست أبالي بالحبس ما هو ومنزلي إلا واحد، ولا قتلاً بالسيف إنما أخاف فتنة السوط فأتراجع. فسمعه بعض أهل الحبس، فقال: لا عليك يا أبا عبد الله، فما هو إلا سوطان ثم لا تدري أين يقع الباقي. فكأنه سري عنه وانبسط، يعني: ما دام أنه سيغيب عن الوعي بعد السوطين يتحمل السوطين وخلاص. وكان قد استفاد من أحد السراق كان محكوماً عليه عند المعتصم بالسجن وكان يضرب، فقال: يا أحمد! إني أصبر على الضرب وأنا على الباطل، أفلا تصبر عليه وأنت على الحق؟! فقال الإمام أحمد: فثبتني كلامه. الآن تصور كم الناس الذين اهتدوا في السجن على يد الإمام أحمد؟! جلس في السجن يصلي بالناس ويعلمهم.

وفاة الإمام وعظمة جنازته

وفاة الإمام وعظمة جنازته وختاماً أيها الإخوة: فإن الإمام أحمد رحمه الله في سنة (241هـ) أصابته الحمى، وصار يتنفس تنفساً شديداً، وكان ولده يمرضه فقال يوماً لولده: خذ بيدي، فأخذ بيده، فلما صار إلى الخلاء ضعف وتوكأ عليَّ، وكان يختلف إليه غير متطبب، ووصفت له وصفات، ثم بعد ذلك صار الناس يأتون إليه فيدخلون عليه أفواجاً حتى يملئوا الدار، فيدعون له ويخرجون، ويدخل أفواجٌ آخرون، وجاء رجل لنا قد خبض -يعني بالحناء- فقال الإمام أحمد وهو يحتضر: إني لأرى الرجل يحيي شيئاً من السنة فأفرح به. واشتدت علته يوم الخميس ووضأته فقال: خلل الأصابع. انظر ما نسي السنة وهو على فراشه، قال: خلل الأصابع، فلما كانت ليلة الجمعة ثقل وقبض صدر النهار، والذي يموت يوم الجمعة من أهل الصلاح ماذا له؟ يؤمن من عذاب القبر كما ورد في الحديث الصحيح، فلما مات صاح الناس وعلت الأصوات بالبكاء حتى كأن الدنيا قد ارتجت، وامتلأت السكك والشوارع، وصلى عليه الناس، وحزر الذين صلوا على الإمام أحمد ما بين سبعمائة ألف وألف ألف وستمائة ألف، اختلفت الإحصائيات، وهذا غير الناس الذين صلوا على ظهور السفن على شاطئ بغداد، وحتى بلغ الزحام أن الناس قد فتحوا بيوتهم للذين يريدون أن يتوضئوا لصلاة الجنازة، وتعطلت الأسواق ب بغداد، وأغلقت الدكاكين، واجتمع الناس من كل حدب وصوب، فصلوا عليه، اجتمعوا في فلاة فصلوا عليه فتقدم فجأة واحد من أعوان السلطان أمير البلد ليصلي حتى يظهر أمام الناس، والناس ما دروا من الذي كبر، فلما درى الناس بعد ذلك ذهبوا إلى المقبرة فأعادوا الصلاة أفواجاً، انظر ثقة الناس بالإمام أحمد ونصرتهم لماذا؟ لأن الإمام أحمد هو الذي علمهم بنفسه كيف ينفروا من الظلمة. وقال أحمد قبل أن يموت رحمه الله: قولوا لأهل البدع: بيننا وبينكم يوم الجنائز. وفعلاً صار يوم موت الإمام أحمد آية من آيات الله البينات. يقول عبد الوهاب الوراق: ما بلغنا أن جمعاً في الجاهلية ولا الإسلام شهد الجنازة مثل جنازة أحمد، حتى بلغنا أن الموضع مسح وحزر على الصحيح فإذا هو نحو من ألف ألف، وأظهر الناس في جنازة الإمام أحمد السنة والطعن على أهل البدع، فسر الناس بذلك والمسلمون على ما عندهم من المصيبة لما رأوا من علو الإسلام. قال الذهبي رحمه الله: وكذا استفاض وثبت أن الغرق الكائن بعد العشرين وسبعمائة بـ بغداد عام على مقبرة أحمد وأن الماء دخل في الدهليز علو ذراع ثم وقف بقدرة الله وبقيت الحصر حول قبر الإمام بغبارها، هذا الإمام الذهبي يقول: وكذا استفاض وثبت، لما جاء الطوفان في بغداد وقف عند مقبرة أحمد حولها الماء وهي ما جاء لها الماء، وبقيت بغبارها، كرامة من الله لهذا الرجل. وختاماً أيها الإخوة! فإن دراسة سير هؤلاء العلماء الأجلاء يطمئنك أن الله يقيظ لهذا الدين من ينصره، وأنه مهما كان ليل الجاهلية فإن الله يظهر أقواماً يقيمون هذا الدين. اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم وابعث في المسلمين من يجدد لهم دينهم، ويعيدهم إلى الملة السمحاء. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

عقيدتنا

عقيدتنا تحدث الشيخ في خطبته عن عدد من الأمور المتعلقة بالعقيدة، من حيث أثرها على حياة الفرد المسلم، مبيناً أن العقيدة كاملة لا تحتاج إلى بدعة العصرنة المزعومة، ثم قام بعرض جملة من الأصول الواجب على المسلم أن يعتقدها ويدين الله عز وجل بها. وفي خطبته الثانية تكلم عن الواجب الذي أهملناه تجاه عقيدتنا، من تعليم الناس لها، وتبليغ الناس الدعوة، ونشر دين الله في الأرض.

العقيدة وأثرها على حياة المسلم

العقيدة وأثرها على حياة المسلم إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أيها المسلمون: لا بد أن يعلم المسلم عقيدته التي جاء بها القرآن الكريم وجاءت بها سنة النبي صلى الله عليه وسلم. هذه العقيدة التي يعتقدها القلب وينعقد عليها. هذه العقيدة التي يقاتل من أجلها المسلمون. هذه العقيدة التي تحميهم من الانحرافات. هذه العقيدة التي يوالى من أجلها، ويعادى من أجلها. هذه العقيدة التي لما خفيت أمورها؛ صرت تجد من كل حدب وصوب سهاماً طائشة أو مستهدفة لدين الإسلام وللمسلمين. أيها الناس! أيها المسلمون! لا بد أن نعلم أن مصدر هذه العقيدة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإجماع سلفنا الصالح. هذه العقيدة موجودة في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما صح منها يجب قبوله. هذه العقيدة مرجع فهمها إلى الكتاب والسنة والنصوص الشرعية الواردة فيهما، وفهم السلف الصالح رحمهم الله، هذا الفهم الذي يحمينا عن الأخذ بكل فهم جديد، فإذا أردت معرفة شيء عن الإسلام فاقرأ ماذا قال السلف والعلماء الثقاة الذين يسيرون على نهجهم، فإنك تترك بذلك كل انحراف يمكن أن يأتيك.

بدعة عصرنة الإسلام

بدعة عصرنة الإسلام أيها المسلمون: هذه العقيدة تضبط أفهامنا، تضبط مفاهيمنا وتصوراتنا، وعندما نقول: إن المرجع في فهم الكتاب والسنة هو النصوص المبينة لها وفهم السلف الصالح، فإننا بذلك نقطع الطريق على دعاة التجديد للإسلام بزعمهم، الذين لا يريدون إحياء ما اندرس كما هو معنى التجديد، وإنما يريدون تغيير الحقائق وقلب الأمور، يريدون الإتيان بأشياء جديدة بزعمهم، ولذلك فإن كل من حرم شيئاً أحله الله، أو أحل شيئاً حرمه الله، أو جاء بكلام يخالف فهم علماء الأمة، وفهم سلفها، فإننا نرده عليه. وأنت ترى من ذلك الكثير في الواقع ممن يحلون على سبيل المثال: الفوائد الربوية، التي سموها فوائد، والتي حرمها الله ورسوله، ويضعون فهماً جديداً لنصوص الكتاب والسنة، لم تأت به الشريعة، ولم يقله أحد من علماء السلف، ولا من العلماء الثقاة، فيقولون على سبيل المثال: إن الربا الذي حرمته الشريعة هو ما كان بين الغني والفقير، وأما إذا كان بين غنيين أو أنه يقبضه كجزء من الأرباح التي ينمي المال بها صاحب المال الذي اقترضه أو استودع عنده، هذه الأفهام الجديدة ما الذي يحمي المسلم من عدم الركون إليها والانخداع بها، إنه الفهم الصحيح الناتج من تفسير الكتاب للكتاب، ومن تفسير السنة للكتاب، ومن كلام أهل العلم، فاحذروا يا أيها المسلمون كل جديد على الكتاب والسنة، أي أنه مبتدع، ولا يغرنَّكم تلك الأقاويل والأراجيف. ولا يعارض الكتاب والسنة بأفهام أناس يريدون عصرنة الإسلام بزعمهم، ويريدون تطوير الشريعة بكذبهم على الله ورسوله، وكثير مما يكتب في الجرائد والمجلات الآن في هذا الوقت هو من هذا الباب، فارجعوا إلى تفسير السلف رحمهم الله للكتاب والسنة، لا عليكم من هؤلاء الجدد الذين يريدون إدخال البدع في دين الله.

من أصول عقيدتنا

من أصول عقيدتنا

التسليم لله ولرسوله ظاهرا وباطنا

التسليم لله ولرسوله ظاهراً وباطناً فلا يعارِض المسلم شيئاً من الكتاب ولا من السنة لا بأقيسة عقلية ولا بقول شيخ أو كشف أو ذوق ونحو ذلك، ولا يكون المرجع إلا إلى الله ورسوله، وكلام العلماء الثقاة، وكلام السلف لا نعترض ولا نخصص شيئاً عممه الله ورسوله أبداً. أيها المسلمون: إن الدين كامل ولا يجوز لأحد إحداث شيء فيه، ومن أحدث فيه فقد ابتدع وأمره عليه رد.

النقل الصحيح لا يخالف العقل الصريح

النقل الصحيح لا يخالف العقل الصريح من أصول عقيدتنا: أن نصوص الكتاب والسنة لا يخالفان العقل الصريح الصحيح أبداً، ولذلك فلو جاء متهافت فقال: إن عقلي لا يقبل هذا النص من القرآن أو من السنة، ولو كان في صحيح البخاري قلنا له: اخسأ فلن تعدو قدرك، وأمرك مردود عليك، يا صاحب العقل المريض. كثير من الذين يكتبون الآن يكتبون بهذا الدافع، ويقولون: لا يمكن عقلاً أن يكون معنى الآية كذا، لا يمكن عقلاً أن يكون الحديث صحيحاً، إن هؤلاء يفترون على الله الكذب فاحذروا منهم معشر المسلمين.

الالتزام بالألفاظ الشرعية

الالتزام بالألفاظ الشرعية من أصول عقيدتنا: الالتزام بالألفاظ الشرعية وتجنب الألفاظ البدعية، فدعوا ما استحدثه العوام من الألفاظ المخالفة للكتاب والسنة، وتجنبوا رحمكم الله الألفاظ التي توهم حقاً وباطلاً في نفس الوقت، واحرصوا على الألفاظ الواضحة التي لا لبس فيها ولا غموض.

العصمة للرسول في التبليغ

العصمة للرسول في التبليغ من أصول عقيدتنا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم معصوم في تبليغ الوحي، لا يمكن أن يخطئ في تبليغه، وأن ربه أمره بالتبليغ، وتوعده إذا لم يبلغ، وأن آحاد الأمة لا عصمة لواحد منهم فلا يوجد إنسان معصوم في أقواله الدينية، وآرائه الشرعية إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الأمة، ولذلك فإننا نعلم أن الأئمة قد يخطئون ولكننا نعذر المخطئ باجتهاده ونرجو له أجراً عند الله، ونتبع المصيب باجتهاده ونرجو له أجرين عند الله.

في هذه الأمة أناس ملهمون

في هذه الأمة أناس ملهمون من أصول عقيدتنا: أن في هذه الأمة أناس ملهمون يريهم الله الحق عند اشتداد الأمور، لهم فراسة لكن من هم؟ إنهم الصالحون الذين يظهر على أقوالهم التمسك والرجوع إلى الكتاب والسنة، ويظهر على أفعالهم الالتزام بالكتاب والسنة، هؤلاء الذين لهم عبادة وورع وصلاح وتقوى، لم تشغلهم الدنيا ولم تلههم عن ذكر الله وإقامة الصلاة.

الحذر من البدع

الحذر من البدع من أصول عقيدتنا أيها المسلمون: أن نحذر من البدع، وأن نرد على البدعة ببيان السنة، وألا نرد على البدعة بالبدعة، ولا نقابل الانحراف بانحراف مثله، ودع قول من قال: إن هذه بدعة حسنة، فليس في الإسلام بدعة حسنة، قال صلى الله عليه وسلم: (كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار) فيا أيها الناس! لا تغرنكم هذه الفكرة الشيطانية التي يأتي بها إلى الشيطان الرجيم عقول بعض الناس. فإذا نصحه ناصح قال: هذا أمر حسن، لا أريد إلا الإصلاح، نقول له: يجب أن يكون طريقك لتحقيق الهدف الطيب وسيلة طيبة أيضاً، فإن طيبة الهدف لا يشفع لك في أن تكون وسيلتك غير شرعية.

الإيمان بأسماء الله وصفاته

الإيمان بأسماء الله وصفاته أيها المسلمون: من أصول عقيدتنا: الإيمان بأسماء الله وصفاته، وعدم التلاعب بها أو تحريفها، ومعرفة المعاني والتطبيق، فلا يكفي فقط العلم، فإذا لم يعمل الإنسان المسلم بمعنى كلمة الرزاق مثلاً وصار يقول ويعتقد أن فلاناً يقطع رزقه، أو أن فلاناً يقطع رزق فلان، وهكذا دل ذلك على أنه لا يعلم معنى كلمة الرزاق. وإذا كان يخشى من عدو دنيوي يظن أن بإمكانه أن يقول للشيء كن فيكون، فهذا يعني أنه ما فقه معنى كلمة البارئ ولا الخالق ولا أن الله على كل شيء قدير.

الإيمان بانقطاع الوحي

الإيمان بانقطاع الوحي ومن أصول عقيدتنا أيها المسلمون: الإيمان بانقطاع الوحي بعد محمد صلى الله عليه وسلم، وأن من ادعى خلاف ذلك فهو كافر، فلا نقبل شيئاً جاء من غير طريق الوحي كما عليه بعض أئمة الضلال من الزعم بأنه قد جاءتهم نصوص جديدة بعد الوحي من طرق أو أئمة علويين كما يقولون.

الإيمان باليوم الآخر

الإيمان باليوم الآخر ومن أصول عقيدتنا: أن نؤمن باليوم الآخر إيماناً يدفعنا إلى العمل ويمنعنا من الوقوع في المحرمات، إيماناً نشعر به أن عذاب القبر وفتنته حق، فنتوقى أسباب عذاب وفتنة القبر. وإيماناً نعلم به أن الحشر والحساب حق، فنتوقى الأشياء التي سوف تهلكنا يوم الحساب. إيماناً باليوم الآخر يشعرنا أن الجنة والنار حق، فنسعى لكل أمر يدخلنا الجنة ونتجنب كل أمر يوصلنا إلى النار. هذا الإيمان باليوم الآخر الذي فقد طعمه اليوم لدى الكثير من المسلمين. فقد طعمه، فإذا ذكرت الجنة أو النار لم تتحرك القلوب. فقد طعمه فإذا ذكرت الشفاعة لم تهف إليها النفوس. تجمدت القلوب فإذا ذكر الحوض لم تتطلع إليه النفوس. فإذا ذكر تطاير الصحف! وتفصيلات المحاسبة! ودنو الشمس من الخلائق! وظل الرحمن! لم تتشوق القلوب إلى هذا الظل ولم تخش النفوس تلك الشمس الساطعة بإحراقها فوق الرءوس. إن هذه المعارف الباردة لا يمكن أن تغير واقعاً، ولذلك لم يكن لمعاني نصوص اليوم الآخر الأثر المطلوب في نفوس المسلمين.

الإيمان بالقدر خيره وشره

الإيمان بالقدر خيره وشره من أصول عقيدتنا: أن نؤمن بقدر الله خيره وشره، وأن كل شيء يحدث بإذن الله سبحانه، وأنه لا يوجد هناك شر محض لأفعاله، ومهما كان الشر قد حصل فله جوانب خير. ولذلك: تفيد هذه النقطة في إقناع اليائسين الذين لما رأوا تواصل الأحداث وجريان الأمور قالوا: لا قائمة للإسلام، لقد سيطر الكفر ولا أمل، نقول: أيها اليائسون المثبطون! لا بد أن تعلموا أن كل قضاء حدث ففيه خير من وجه من الوجوه، وإن كنا قد لا نفهمه أو لا نستوعبه الآن، لكن ستظهر الأيام أن فيما حصل خير للإسلام والمسلمين. بعض الناس يظنون أن المسألة شر محض، نقول لهم: كلا ليس من عقيدتنا أن هناك في أفعال الله وقدره شر محض. مهما حصل من نكبات للمسلمين ومن نكسات للمسلمين، فهناك خير ما موجود في هذه الأحداث: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص:88] ولا بد أن نعلم أن قدر الله عجيب في خلقه، وأن الناس تأتيهم أشياء من حيث لا يحتسبون، ولذلك أيها الإخوة فإننا لا نجزع ولا نيأس عند حصول أي أمر من الأمور، نواصل طريقنا ودربنا مهما أرجف المرجفون، ومهما خوف المخوفون، لكن المهم أن نموت على العقيدة الصحيحة وعلى الطريق الصحيح. هب أن الدنيا أظلمت في أعين المسلمين المخلصين الصادقين. هب أن النصر تباعد بمزيد من سيطرة الكفرة. فإنه يكفينا أن نموت على المنهج الصحيح، وأن نعلم أن المهم هو انتصار المبادئ أكثر من الانتصار بالأشياء الأخرى، ألم يأتك نبأ أصحاب الأخدود، ألم يأتك نبأ المجتمع المسلم الصغير الذي أحرق أصحابه بالأخاديد، هل انتصروا بقوة السلاح؟ كلا. لأنهم أحرقهم الملك الكافر في الأخاديد كما في قصة أصحاب الأخدود في سورة البروج، والحديث الصحيح الذي جاء في تفسيرها، ورواية القصة، فإذاً من الذي انتصر؟ انتصرت المبادئ، يكفيهم أن ماتوا على الملة الصحيحة وعلى العقيدة الصحيحة، وأي نصر أكبر من هذا؟! ولذلك فإننا نناشد نفوس هؤلاء الذين حصل عندهم كثير من اليأس والقنوط، نقول لهم: تمهلوا تمهلوا يا عباد الله، يكفيكم أن تعبدوا الله كما أمر، وتدعوا إلى الشريعة، وتموتوا على ذلك، مرابطين في المنافحة عنها، فتفوزوا بجنة عرضها السماوات والأرض، فماذا تريدون أكثر من ذلك؟ وإذا جاء نصر الله في المستقبل، فالحمد لله هذه البشرى الثانية والحسنى الثانية: {نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} [الصف:13].

الإيمان بالغيب

الإيمان بالغيب ومن أصول عقيدتنا: أن نؤمن بالمغيبات ولا ننكرها، ولا نقف إثر الزاعم الذي يقول: شيء لا أراه لا أؤمن به.

صرف العبادة لغير الله شرك

صرف العبادة لغير الله شرك ومن أصول عقيدتنا: أن صرف نوع من العبادة لغير الله نوع من الشرك، وأن هذا الشرك قد يكون شركاً أكبر أو شركاً أصغر بحسب حال هذا المشرك، فمنهم من يشرك في بعض الألفاظ شركاً أصغر، ومنهم من يشرك بها شركاً أكبر حسب حالهم والله حسيبهم. والواجب تغيير ذلك، وألا تكون هذه كلمة، والمهم الفعل، وكون الكلمة والمظهر والفعل والظاهر والباطن اهتمت بها الشريعة، فلا بد من إنكارها.

الحكم لله وحده

الحكم لله وحده من أصول عقيدتنا: أن نعلم أن الحكم لله، وأن الحكم بغير ما أنزل الله كفر أكبر إذا اعتقد صاحبه أنه يجوز العدول عن شرع الله، أو أخذ شرعاً غير شرع الله، أو أن شرع غير الله أحسن من شرع الله، أو أن شرع غير الله مثل شرع الله، أو أن شرع الله أحسن لكن يجوز الأخذ بذاك، أو أن شرع الله أحسن ولكن يجوز الأخذ بالقوانين الوضعية، من اعتقد ذلك كفر كفراً أكبر وصار خارجاً به عن ملة الإسلام.

الغيب لله وحده

الغيب لله وحده أيها المسلمون: من أصول عقيدتنا: الاعتقاد بأن الله وحده يعلم الغيب، وأنه قد يطلع بعض خلقه على الغيب كالأنبياء، ولذلك لا يجوز الذهاب إلى المنجمين أو الكهان، لا يجوز إتيانهم كما يفعل كثير من الناس؛ يسافرون إلى الدول القريبة والبعيدة من أجل أن يأتي كاهناً أو عرافاً فيسأله أو يصدقه أو يعمل بقوله، ويقول لك: جربنا القرآن ما نفع، ذهبنا إلى الشيوخ ليقرءوا ما نفع، لا بد من الحل الأخير أن نذهب إلى هؤلاء. اتق الله، اعتبره ابتلاء من الله، تخسر عقيدتك من أجل هذا الأمر، اعتبره ابتلاء واصبر عليه إذا لم ينفع بزعمك، مع أن الغالب أنه ينفع لكن متى؟ إذا استخدم بالطريقة الصحيحة.

التوسل إلى الله بأسمائه وصفاته

التوسل إلى الله بأسمائه وصفاته من أصول عقيدتنا: أننا نتوسل إلى الله بأسمائه وصفاته، ولا نتوسل إلى الله بذوات الأنبياء ولا نقول: بجاه نبيك اغفر لنا، ولا نقول: بحق الولي الفلاني افعل لنا كذا وكذا، ولا بحرمة نبيك أعطنا كذا وكذا، هذا من التوسل البدعي وقد يكون شركياً إذا نادى الأموات وطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله.

البركة من الله

البركة من الله ومن أصول عقيدتنا: أن البركة من الله يختص بها من يشاء من عباده، وهي تكثير الخير وزيادته ولزومه وثبوته، فلا ندعي ببركة أشياء لم ترد الشريعة ببركتها، ونعتقد ببركة الأزمنة التي جاءت الشريعة ببركتها كليلة القدر، وببركة الأمكنة التي جاءت الشريعة ببركتها كالمساجد الثلاثة، وفي الأشياء التي جاءت الشريعة ببركتها كماء زمزم، وفي الأعمال التي جاءت الشريعة ببركتها كالأعمال الصالحة، وفي الأشخاص المباركين كالأنبياء، ولا يجوز التبرك بهم إلا بذات النبي صلى الله عليه وسلم وآثاره، وبما أن آثاره قد انقطعت وخفيت فلا يجوز التبرك بشيء من ذلك الآن. أما على عهده صلى الله عليه وسلم كان التبرك ببصاقه ووضوئه وشعره ولباسه حاصلاً، أما الآن وقد خفيت فلا يجوز لأحد أن يتبرك بشيء يزعم أنه من آثاره صلى الله عليه وسلم، كما هو شأن الصوفية الضلاَّل، يضع أحدهم يده على لحيته المزعومة، ثم يمسحها ليخرج منها شعره يعطيها لواحد يضعها في فنجان بماء فيشربه، لأنه يقول: هذا من السلالة النبوية، يستشفي بريقه وشعره ونتبرك بتمسيحه، فليس من ديننا ولا من عقيدتنا هذا الأمر.

عدم الابتداع عند القبور

عدم الابتداع عند القبور ومن أصول عقيدتنا أيها الإخوة: عدم الإتيان بالأمور المبتدعة والشركية عند القبور، نزورها ونتذكر الآخرة ونسلِّم على أهلها وندعو لهم، أما أن نقصد التبرك بها وإهداء الثواب عندها، والبناء عليها، وتجصيصها واتخاذها مساجد، وشد الرحال إليها، فهذه بدعة تنافي كمال التوحيد، وإذا صرف شيء لصاحب القبر صار شركاً بالله تعالى.

الإيمان قول وعمل يزيد وينقص

الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ومن أصول عقيدتنا: أن الإيمان قول وفعل، يزيد وينقص، ولا يمكن أن يكون الإنسان عاصياً مقيماً على المعاصي وإيمانه كامل أبداً. وبذلك نتجنب المزالق التي أرادت المرجئة أن توقع الأمة فيها عندما قالوا: إن إيمان العاصي مثل إيمان الطائع، وإن الإيمان في القلب فقط، ولا يحتاج إلى أعمال، فظهرت عندكم هذه النماذج المشوهة التي ترونها في المجتمع، تعصي الله وتقول: نحن مؤمنون بقلوبنا، تعصي الله وتقول: متكلون على رحمة الله ومغفرته، تعصي الله وتفعل وتفعل ويقولون: نحن نقول: لا إله إلا الله، وهم لا يفهمون أو يفهمون ويغالطون أنفسهم: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل:14] الإيمان: قول وعمل، والعمل يؤكد صحة القول، إذا ادعيت أن في قلبك إيماناً فهات الدليل على ذلك: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31]. إن أصول عقيدتنا أيها المسلمون ثابتة ولله الحمد، تحمينا من الوقوع في انحرافات كثيرة، فينبغي على المسلمين أن يعلموا ما هي عقيدتهم، وأن يدعوا الناس إلى التمسك بهذه العقيدة، وأن يلتزموا بها قولاً وعملاً وأن يجتمعوا عليها فقط، لا يدخلوا فيها أجنبياً ولا غريباً، وأن يحذروا ممن يتشدقون بالتمسك بالعقيدة وليسوا من العقيدة في شيء، فأرونا الأعمال التي تبين وتثبت أن العقيدة عمل قلبي يؤدي إلى عمل الجوارح في الواقع، وإلا فإن العقيدة منخورة مشوشة، لا حقيقة للقائل بها. نسأل الله العظيم رب العرش العظيم، أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن يقيمنا على الملة الحنيفية، وألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

تقصير المسلمين تجاه عقيدتهم

تقصير المسلمين تجاه عقيدتهم الحمد لله الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم، سبحانه وتعالى لا إله غيره، ولا مالك إلا هو، مالك الملك يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء ويذل من يشاء. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة ونصح الأمة. أيها المسلمون: من واجباتنا التي قصرنا فيها: الدعوة لهذه العقيدة والالتزام بها، ونشرها بين الناس، والتزامها قولاً وعملاً لنكون قدوات تدعو إليها. كثير من الناس في العالم لا يعلمون عن الإسلام شيئاً، وقد يكون هؤلاء من أقرب الناس إليك، فما هي الجهود التي بذلناها من أجلهم، يوجد مسلمون في العالم لا يعلمون عن الإسلام إلا أشياء طفيفة. وبعد كل عطلة يسافر فيها أناس إلى بلدانهم أو بلدان أخرى، وتقابل بعضهم إذا رجعوا يقولون لك: إن الناس في تلك البلدان مساكين، فلا يعرفون عن الإسلام إلا أشياء بسيطة جداً، ويقعون في منكرات وترهات لجهلهم بها. أُتي المسلمون من داء اليهود والنصارى، فداء اليهود علموا الحق ورفضوه، وداء النصارى أضلهم الله فجهلوا فوقعوا بجهلهم فيما حرم الله، نفس الأدواء هذه الموجودة بين المسلمين الآن إنسان يعرف الحق فيرفضه، أو إنسان جاهل فيقع في الحرام بجهله، ما هو واجبنا أيها المسلمون؟ والله عندما نسمع أخبار المسلمين في العالم المفروض أن يستشعر المسلم المسئولية على الأقل في واجبه نحو المسلمين في كل مكان، وأن يحاول بأي طريق أن يهدي أولئك الناس الذين ضلوا أو جهلوا، ونحن الآن نشهد عودة عالمية للإسلام، وما أدراك ما يحدث اليوم في الجمهوريات الروسية التي يقتل فيها المسلمون؟ فيها مسلمون ما هي أحوالهم وقد قطعوا عن العالم الإسلامي عشرات السنين. قبل ثلاث جمع في بلاد القرن من بلاد روسيا، أقيمت لأول مرة صلاة الجمعة في ذلك المكان، قبل ثلاث جمع من الآن أقيمت صلاة الجمعة لأول مرة في ذلك المكان، ووقف شيخ يعلم الناس الصلاة -في مسجد فتح الذي بناه أجدادكم- فازدحموا عليه، وفتحت النوافذ الجانبية في المساجد وأطلوا ليعرفوا كيف الصلاة، ما يعرفون الصلاة، والآن يتعلمون ما هي الصلاة، إسلام بالاسم، والآن عودة إلى الهوية الأصلية التي كانت مفقودة يريدون العودة. وفي مدينة تيرانا عاصمة ألبانيا أقيم في مسجد كان مغلقاً مترباً صلاة الجمعة منذ فترة وجيزة جداً لأول مرة منذ سبعين عاماً، في ميدان مشهور في العاصمة التي أغلب الناس فيها مسلمون، أكثر من تسعين في المائة، ثمانية وتسعون في المائة منهم مسلمون في الأصل، والآن تقام صلاة الجمعة لأول مرة منذ سبعين عاماً. وقف شيخ مسن طاعن في السن يبكي لذلك المشهد عند سماع نداء صلاة الجمعة وهو يقول: الحمد لله الذي أحياني -عمره أربع وتسعون سنة- الحمد لله الذي أحياني هذه الحياة، لأرى وأسمع هذا النداء بعد سبعين عاماً، سمعته منذ كان عمري أربعة عشر عاماً آخر مرة، والآن عمري أربعة وتسعون سنة، الآن أسمع النداء بعد ذلك الوقت وقد كان عمري أربعة عشر، والآن أسمع النداء بعد سبعين عاماً في هذا المكان، من هو المسئول أيها الناس؟ من هو المسئول؟ ماذا سيكون جوابنا لرب العالمين عندما يسألنا عن الشريعة التي أضعنا معانيها، والجهل في كل مكان، وفي أقرب الناس إليك أناس يجهلون الإسلام، ويجهلون أحكامه، من المسئول عن هذه القضية؟ ويا ترى ما هي الأشياء التي قمنا بها في بيوتنا، وأقربائنا، وجيراننا، يوجد أناس يجهلون أشياء كثيرة عن الصلاة، وأحكام الإسلام. من المسئول عن تعليمهم؟ ليس هناك هيئة عامة مختصة عليها الإثم والوزر، نحن المسئولون عن هذا التخلف وعن هذا الجهل. ألم يقل نبيكم: (بلغوا عني ولو آية) أين الآية التي بلغناها؟ (بلغوا عني ولو آية) نحن دعاة وكلنا دعاة، كلنا رجال لهذا الدين نبلغه، (بلغوا عني ولو آية) ما هي الآية التي بلغناها؟! كل واحد منا يستطيع أن يبلغ آية، فما هي الآية التي عرفنا معناها وبلغناها يا أيها المسلمون. احرصوا رحمكم الله على فهم الدين وتطبيقه قولاً وعملاً، دعوا المنكرات وحاربوها، نحن المسئولون عن المنكرات، والمنكرات تعج في الأماكن والأسواق وأنت تراها، بكرة وعشية فماذا فعلنا من أجلها؟ هل ننتظر عقوبة ثانية من الله، ولم تكفنا الدروس العظيمة التي جاءتنا من بين أيدينا ومن خلفنا؟ هل ننتظر عذاباً أشد وعقوبة أعظم؟! واحرصوا على سنة نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم وطبقوا ذلك في كل شيء. ويسأل بعض الإخوان فيقول: نريد أن نصوم ستة شوال، في بعض الأيام الفاضلة، ليحصل لنا الأجران فهل يحصل لنا الأجران أم لا؟ نريد مثلاً هذا اليوم الإثنين القادم سيكون فاضلاً لأنه يوم إثنين مستحب فيه الصيام وسيكون فاضلاً لأنه أحد الأيام البيض، وسيكون فاضلاً إذا صامه على أنه ستة من شوال مثلاً، فتجتمع فيه ثلاثة فضائل، إن الله واسع الفضل ذو الفضل العظيم، فنعم. تحسب ولماذا لا تحسب؟ ولكن اعملوا فسيرى الله عملكم، ولذلك فلو صام هذه الأيام الفاضلة على أنها ستة شوال أو غيرها، وصامها وقد أنهى الست وصامها فيحصل له الأجر العظيم إن شاء الله تعالى. إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

تلبيس إبليس

تلبيس إبليس إبليس وطرق كيده لابن آدم حتى يوقعه في غضب الله ويدخله جهنم والعياذ بالله، هذا الموضوع هو الذي تحدث عنه الشيخ في هذا الدرس، وقد تكلم عن كثير من طرق الشيطان في إضلال الإنسان ومنها: الوسوسة في الطهارة والصلاة محاولة تخويف الشيطان للمؤمنين تزيين الذنوب والمعاصي التسويف إدخال الإنسان في مخادعة الله إلخ. وبين الشيخ من خلال ذكر المكائد كيفية مواجهة مكائد هذا اللعين؛ لأن كيده في الحقيقة ضعيف.

وقفة مع إبليس اللعين

وقفة مع إبليس اللعين الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. وبعد: فقد خلق الله سبحانه وتعالى خلقه، وابتدأ خلق البشر بخلق أبيهم آدم عليه السلام، وكان من خلقه عز وجل الجن ومردتهم الشياطين وعلى رأسهم إبليس لعنه الله، واقتضت حكمته سبحانه وتعالى أن يخلق إبليس ليبلو عباده بهذا الشيطان فينظر كيف يعملون، فمن أطاع إبليس ذهب معه إلى دار العقاب، ومن عصاه نجا بنفسه إلى دار الثواب، ولقد أخذ إبليس العهد على نفسه منذ أن خلق الله أبانا آدم بإضلال البشر وإضلال سلالة آدم عليه السلام، فقال الله سبحانه وتعالى عن هذا العدو الخبيث {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:16 - 17] وقال الله سبحانه وتعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَاناً مَرِيداً * لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ} [النساء:117 - 118] أي إبليس {وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً * وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً * يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً} [النساء:118 - 120]. وفي المقابل فإن الله سبحانه وتعالى تكفل من تاب بأن يتوب عليه، ولمن اعتصم به أن ينجيه من شر إبليس، فلم يتركنا هملاً ونهباً للشياطين، وإنما أعطانا من الأسلحة ما ندافع به عن أنفسنا شر هذا الشيطان الرجيم، وقد جاء في الحديث الحسن الذي رواه الإمام أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الشيطان قال: وعزتك يا رب! لا أبرح أغوي عبادك مادامت أرواحهم في أجسادهم، فقال الرب: وعزتي وجلالي لا أزال اغفر لهم ما استغفروني). ولقد تنوعت طرق إبليس في إغواء البشر وصار يقعد بكل صراط يصد عن سبيل الله من آمن، ويريده أن يعوج، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه فقعد له بطريق الإسلام، فقال: تسلم وتذر دينك ودين آبائك وآباء آبائك فعصاه فأسلم، ثم قعد له في طريق الهجرة فقال له: تهاجر وتدع أرضك وسماءك، فعصاه فهاجر، ثم قعد له في طريق الجهاد، فقال: تجاهد فهو جهد النفس والمال، فتقاتل وتقتل فتنكح المرأة ويقسم المال، فعصاه فجاهد، فمن فعل ذلك كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، ومن قتل كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، وإن غرق كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، وإن وقصته دابته كان حقاً على الله أن يدخله الجنة) رواه الإمام أحمد وهو حديث صحيح.

الشيطان وكيده لابن آدم

الشيطان وكيده لابن آدم وإذا تأملت -أيها الأخ المسلم- في الأحاديث الصحيحة التي جاءت عن أنواع إيذاء إبليس لبني البشر لوجدتها شيئاً كثيراً جداً، وهاك طائفة منها ملخصة من الأحاديث الصحيحة الثابتة في ذلك: إن الشيطان يحاول أن يأكل مع الإنسان وأن يشرب معه وأن يدخل بيته، ويبيت على خيشومه، ويدخل مع التثاؤب، ويتلعب بابن آدم في منامه، ويوسوس له في صلاته، ويذكره بما يلهيه عنها، ويدفع المار للمرور بين يدي المصلي، ويؤذي الصبيان عند المساء، ويدل الفأرة على السراج فتحرق على أهل البيت بيتهم، ويتخلل صفوف المصلين في الصلاة، ويتخبط الإنسان عند الموت، ويشكك المرء في ربه فيقول له: من خلق الله؟ ويقعد للإنسان بأطرق الخير المختلفة، ويحرش بين المصلين. ويجري من ابن آدم مجرى الدم، ويزين المرأة في أعين الرجال إذا خرجت، ويدعو للتفرق ويكون مع الواحد ويهيج الغضب ويدعو إلى العجلة، ويسير مع الراكب المنفرد والراكبيْن في السفر، وهو مع من فارق الجماعة، ويسترق السمع لإغواء بني آدم، وينخس المولود فيصيح، ويضر الولد إذا لم يسم أبوه عند الجماع، ويكون على ذروة كل بعير، ويشارك ابن آدم في متاعه الزائد في البيت، ويستحوذ على الثلاثة فصاعداً في أي بلد لا يقيمون فيها صلاة الجماعة، ويكون مع المسافر إذا خلا بالشعر المذموم ونحوه. ويجلس بين الظل والشمس، ويختلس من صلاة العبد بالالتفات، ويتعاظم إذا سبه ابن آدم، ويحضر البيع، ويعقد على قافية الإنسان ثلاث عقد يخذله عن القيام للصلاة، ويضع عرشه على الماء ويرسل سراياه يفتن الناس، ويدني من فرق بين الرجل وزوجته، وهو السبب في إخراج أبينا آدم من الجنة، لعنه الله وقاتله. والأبواب التي ينفذ منها الشيطان على ابن آدم كثيرة وللشيطان فيها مراتب يتدرج فيها بالإغواء، فأول ما يهتم من إغواء ابن آدم بإغوائه بالشرك والكفر، ثم إذا لم يستطع فيحاول إغواءه بالبدعة، فإذا لم يستطع يحاول إغواءه بالكبائر بأنواعها، فإن لم يستطع أغواه بالصغائر، فإن عجز أشغله بالمباحات، فإن لم يتمكن أشغله بالمفضول عمن هو أفضل منه، فإن عجز مع ذلك كله سلط على هذا الإنسان المستقيم الرافض لسبل الشيطان سلط عليه حزبه من الإنس والجن بأنواع الأذى ليشوش عليه ويشغله ويحزنه ويخذله ولكن: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم:27]. نعوذ بالله من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه، نعوذ بالله من الشيطان الرجيم من إغوائه وإضلاله وسُبُلَه، ونعوذ بالله من الشيطان الرجيم من كيده وعدائه لنا. وفي هذه الليلة -أيها الإخوة- سنتعرض لبعض المكائد من تلبيس إبليس، هذا الكيد الذي يكيد به الشيطان للإنسان له أنواع متعددة وأبواب متفرقة وسنعرض في هذه الليلة -إن شاء الله- لعشر من هذه المكائد، نختصر في بعضها ونتوسع في البعض الآخر، وإن كنا لا نريد الإطالة في هذا الوقت الذي يقصر فيه الليل.

تخويف الشيطان للمؤمن

تخويف الشيطان للمؤمن أولاً: من مكائده أنه يخوف المؤمنين من جنده وأوليائه، يجعل المؤمن يخاف من جند الشيطان، الشيطان يجعل المؤمن يخاف من جند الشيطان وأوليائه، فلا يجاهدهم ولا يأمرهم بمعروف ولا ينهاهم عن منكر، كما قال الله عز وجل: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} [آل عمران:175] يعني: يخوف المؤمنين من أوليائه، هو من أولياء الشيطان {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175]. ولذلك تجد كثيراً من المخلصين لا يقومون بما أمر الله به من الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو الجهاد في سبيل الله، ذلك أن الشيطان عظم في أنفسهم شأن هؤلاء الأعداء والفسقة والمجرمين، الذين يريد أولياء الله أن يدعوهم إلى الله، ويأمروهم بالمعروف وينهوهم عن المنكر، ويجاهدون في سبيل الله، ولذلك تجد كثيراً من هؤلاء يحجمون في كثير من الأحيان عن سبل الخير مع هؤلاء الناس؛ لأن الشيطان يخوفهم ويقول لهم: ستقتلون؛ ستسجنون؛ ستؤذون، سيفعل بكم كذا وكذا، فلا يزال يهون شأن الأعداء في نفس المسلم حتى يقعد المسلم عن مقاومة الأعداء. ويقول له: إن هؤلاء الأعداء كثيرون عدداً أقوياء في العدة لا قبل لكم بمجابهتهم، فيشعر المسلم بالإحباط واليأس فيقعد عن القيام الواجب. والحقيقة -أيها الإخوة- أن أذى الشيطان في هذا الباب وفي هذا الزمان قد كثر جداً، ولذلك فقد حل اليأس في قلوب وعقول الكثيرين، فلا يريدون أن يقوموا لله بالواجب ويخافون من سطوة أهل الشر، ويخافون من كيد الأعداء والمنافقين في الداخل والخارج، يخاف الواحد على نفسه أو على أولاده أو على وظيفته أو على أمواله، فيقعد بسبب تخويف الشيطان. وهذا التعظيم من الشيطان لأوليائه في نفوس المسلمين إذا عرف المسلم الصادق حقيقة الأعداء وأنهم جبناء فإنه سيمضي وسيثبت له أثناء هذا المضي أنهم جبناء فلا يخاف منهم ولا يخشى سطوتهم ويستعين بالله عليهم.

تزيين الشيطان للذنوب والمعاصي

تزيين الشيطان للذنوب والمعاصي ومن كيد الشيطان أنه يزين الفعل الضار للإنسان حتى يخيل إليه أنه أنفع الأشياء، وينفره من الفعل الذي هو أنفع الأمور حتى يخيل إليه إنه يضره، فكم جلى الشيطان من الباطل وأبرزه في صورة الحق، وكم شنع الحق وأخرجه في صورة مستهجنة، لقد زين للمشركين عبادة الأوثان وقطيعة الأرحام ووأد البنات ونكاح الأمهات. لقد زين للقاعدين عن الأعمال الصالحة المتواكلين الذين يظنون أن رحمة الله ستدركهم ولا بد، زين لهم المعاصي والكفر والفسوق والعصيان ووعدهم بجنات عرضها السموات والأرض، وزين ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في قالب التودد إلى الناس وحسن الخلق معهم، وزين ذلك بقوله عز وجل: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [المائدة:105] فهو يقول للمسلم إذا أراد أن يتحرك: عليك نفسك لا تتحرك، هذا هو الدليل، وقد زين العشق في قالب الأخوة في الله، وزين وزين من الأمور الكثيرة جداً، فأخرج الباطل بصورة الحق، ويخرج الحق بصورة الباطل، فينصرف كثير من الناس عن الحق بسبب هذا التزيين ويقعون في الباطل بسبب تزيين الباطل.

الشيطان يزين للإنسان التفريط أو الإفراط في أوامر الله

الشيطان يزين للإنسان التفريط أو الإفراط في أوامر الله ومن كيد الشيطان أنه يتحسس نفس الإنسان وهذا من خبثه وكيده ليعلم هذا الشخص إلى أي الأمرين هو أقرب إلى الإقدام أو الإحجام، وإن نفوس الناس طبائع، النفوس بين هذين الأمرين، بعض النفوس مقدمة تحب الإقدام، وبعض النفوس محجمة تتراجع، والشيطان يتحسس طريقه ويتلمسه في نفس ابن آدم لينظر أهو من النوع المقدم أو من النوع المحجم، فإذا رأى الغالب على النفس الإحجام زاد في تثبيطها وتخذيلها وإضعاف همتها، وثقَّل عليها الأوامر، وهون عليها ترك هذه الأشياء من الواجبات التي أوجبها الله والتقصير فيها، وإذا رأى في المقابل أن النفس تريد الإقدام وتحب المضي، وعلو الهمة أخذ يقلل الأمور على صاحبها ويقول: إنما تفعله قليل لا بد أن تزيد، ويوهمه أن ما يفعله لا يكفيه، وأنه يحتاج إلى الزيادة، فماذا يفعل العبد، يقع في البدعة. يقول له: إن هذه الأعداد التي جاءت في الصلوات والتسبيحات وغيرها من أنواع العبادات هذه أشياء قليلة عليك، أنت صاحب مطامح صاحب همة عليا، لا بد أن تزيد، لماذا ترمي الجمرة سبعاً؟ ارم تسعاً عشراً، وهكذا، فيدخل عليه عندما يحس أنه يحب الزيادة والإقدام من هذا الباب فيوقعه في البدعة. ولذلك يقول بعض السلف: ما أمر الله سبحانه بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان إما إلى تفريط وتقصير وإما إلى مجاوزة وغلو، ولا يبالي بأيهما ظفر؛ لأنه سيحقق هدفه في الحالتين، فهلك الناس بين التفريط وبين الغلو إلا من عصم الله من المؤمنين الذين اعتصموا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، هلك الناس في وادي التقصير وفي وادي المجاوزة والغلو، وثبت القليلون على الأمر الوسط، سنة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وإليكم أمثلة: فقد دفع بعض الناس إلى التقصير بواجبات الطهارة، فترى أحدهم لا يستتر من بوله مثلاً، ولا يتعاهد المرفقين والكعبين عند الوضوء، وجاوز بقوم الحد فوقعوا في الوسوسة، وقصر بقوم في تناول ما يحتاجونه من الطعام والشراب حتى أضروا بأبدانهم، وتجاوز بقوم حتى أخذوا فوق الحاجة فأضر بقلوبهم وأبدانهم، وقصر بقوم في خلطة الناس، حتى اعتزلوهم في الطاعات كالجمعة والجماعات والجهاد وتعلم العلم، وتجاوز بقوم حتى خالطوهم في الظلم والمعاصي والآثام، وقصر بقوم حتى امتنعوا عن ذبح عصفور أو شاة ليأكلوها، وتجاوز بآخرين حتى جرأهم على الدماء المعصومة. وقصر بقوم حتى منعهم من الاشتغال بالعلم الذي ينفعهم، وتجاوز بآخرين حتى جعلوا العلم وحده هو الغاية دون العمل به، وقصر بقوم حتى أطعمهم من العشب والنباتات البرية زهداً بزعمهم وعبادة دون غذاء بني آدم الآخر، وتجاوز بآخرين حتى أطعمهم الحرام الخالص، وقصر بقوم حتى زين لهم ترك سنة النبي صلى الله عليه وسلم في النكاح فرغبوا عنه بالكلية، وتجاوز بآخرين حتى ارتكبوا أنواع الحرام في هذه المسائل، وقصر بقوم في حق الأنبياء والصالحين حتى قتلوهم، وتجاوز بآخرين في مسألة الأنبياء والصالحين حتى عبدوهم. وقصر بقوم حتى منعهم قبول أقوال أهل العلم بالكلية وعدم الالتفات إليها قاطبة، وتجاوز بآخرين حتى جعلوا الحلال ما أحله هؤلاء الرجال، والحرام ما حرموه فقدموا أقوال متبوعيهم على أدلة القرآن والسنة، وقصر بقوم حتى قالوا: إن إيمان أفسق الناس كإيمان جبريل وميكائيل وهم المرجئة، وتجاوز بآخرين حتى أخرجوا من الإسلام بالكبيرة الواحدة مثل الخوارج، وقصر بقوم حتى نفوا حقائق أسماء الرب تعالى وصفاته وعطلوها، وتجاوز بآخرين حتى شبهوه بخلقه ومثلوه بهم، وقصر بقوم حتى نفوا الأسباب والطباع والغرائز وقالوا: لا وجود لذلك البتة، وتجاوز بآخرين حتى جعلوها أمراً لازماً لا يمكن تغييره بل ربما جعلوها مأثرة بنفسها من دون الله. فأنت ترى الآن -أيها الأخ المسلم- أن الشيطان إذا رأى الإنسان يريد الإحجام ويميل إلى الدعة والكسل ثبطه وزاد في تكسيله وتثبيطه، فوقع في التقصير وترك الواجبات وفعل المحرمات، وإذا رأى إنساناً يحب الإقدام ويحب العمل دفعه إلى الزيادة ولكن في مجالات بدعية، حتى أوقعه في الغلو ومجاوزة الحد فوقع في محرمات عظيمة من جهة أنه ظن أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم لا يكفيه ولا بد من الزيادة عليه، ووقع في هذا الخطأ كثير من الزهاد، الذين تركوا أموراً من المباحات من أجل العبادة بزعمهم وأن هذه زيادة في العبادة فتركوا النكاح والملذات وصاموا الدهر، وفي الجانب المقابل قعد بكثير من أصحاب الشهوات في مستنقع المآثم والمحرمات فعصوا الله سبحانه وتعالى.

تسمية المحرمات بأسماء أخرى

تسمية المحرمات بأسماء أخرى رابعاً: من كيد إبليس وتلبيسه أنه يحمل العبيد على اقتراف المحرمات بطريقة تسمية هذه الحرمات بغير أسمائها، إبليس لما خدع آدم وحواء في الجنة ما هي طريقته في خداعهم؟ لقد سلك عدة سبل، حلف بالله أنه ناصح وأنه يريد لهما الخير، ومن ذلك أنه سمى لهم الشجرة التي نهاهم الله عنها سماها شجرة الخلد: {قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} [طه:120] هذه الشجرة نهاه الله عنها لكي يوقع إبليس آدم في المعصية غير له اسم الشجرة، قال: هذه شجرة الخلد، فكان هذا من الدواعي إلى وقوع آدم في المعصية والأكل من الشجرة التي نهاه الله عنها، ويحدث بالضبط من هذا الباب أمور كثيرة، فيسمي الشيطان الأمور المحرمة بأسباب تحبها النفوس. فيسمى الخمر أم الأفراح والمشروبات الروحية، كما يسميها اليوم شياطين الإنس، وأوقع بعض الخلق في تسمية الربا فوائد واستثمارات أو بيع أو معاملة ونحو ذلك، وفوائد كما يسمونها اليوم في كثير من البنوك التي تحارب الله ورسوله، ودفع أقواماً إلى تسمية المكوس -وهي الضرائب المحرمة قطعاً- إلى تسميتها بالحقوق السلطانية وأن من حقوق أو حق السلطان أن يأخذها، وهي حرام لا يجوز أخذها وهي ظلم للعباد، وسمى الناس الآن الغناء والرقص والطرب فناً وسموا الرشاوي أتعاباً، وهكذا. فقلب الأسماء التي ذكرها الله بالنص عليها ربا، زنا، خمر، رشوة، هذه أمور قد تتقزز النفوس السليمة من سماعها، لكن الشيطان يوحي إلى أوليائه أن يغيروا أسماء هذه الأشياء، فالبسطاء والسذج من الناس وأصحاب الشهوات وأصحاب الأغراض الدنيئة يعجبهم تغيير الاسم فيقعون في هذا الأمر المحرم، وإذا جئت تناقشهم في الربا يقولون: هذه فوائد استثمار بيع وشراء، والموسيقى والمعازف ونحت الأصنام فنون جميلة هكذا يسمونها. ولاشك أننا أهل الإسلام لا نرضى بذلك ولا نقره، بل يجب علينا أن نفضحه وأن نبينه وأن نرد على قائله، وأن نقول له: كذبت، الحلال ما حلله الله، والحرام ما حرمه الله، وأن السكر لا ينقلب ملحاً إذا كتبت على كيس السكر: ملح، فإن الجوهر والحقيقة تبقى هي هي، وإن زخرفوه وقلبوا لك الأمور حتى تظن أن الأمر بخلاف ما هو عليه في الحقيقة.

التسويف

التسويف خامساً: من كيد إبليس التسويف، فكلما جاء طارق الخير إلى نفس المسلم أرسل إبليس بواباً ليصرف هذا الطارق، فمن هو البواب؟ إن اسمه بواب لعل وعسى، في المستقبل، إن شاء الله، سيأتي الوقت، سوف، لعلني في المستقبل، وقد يكون من تلبيس إبليس في هذه المسألة، أنه يجعل الإنسان عائقاً، يقول له: إذا زال العائق افعل هذا الفعل. فمثلاً: يأتي إلى الإنسان طارق طلب العلم، فيأتي إبليس يقول لهذا الشخص: أنت الآن منشغل بالدراسة هذه الدارسة وتحصيل الشهادة اجعل طلب العلم الآن على جنب، إذا انتهت الدراسة تطلب العلم إن شاء الله، فإذا انتهت الدراسة أتى له بعائق آخر، قال له: أنت الآن سوف تبحث عن وظيفة انتظر حتى تبحث عن وظيفة ثم تطلب العلم، فإذا وجد الوظيفة وجد له عائقاً آخر فقال له: ثبت نفسك أولاً فأنت الآن جديد في الوظيفة وهم سيجربونك في الوظيفة وبعد ما تثبت جدارتك وتشتغل ليلاً ونهاراً اطلب العلم، وهكذا. وإذا جاءه الإنسان مثلاً: طارق الدعوة إلى الله يقول له: قم ادع إلى الله، فيقول له الشيطان: أصلح نفسك أولاص وتخلص من عيوبك ثم تشتغل بالدعوة، فينشغل الإنسان ويظن أنه على خير وأنه الآن يخلص نفسه من العيوب والزلات والآثام والمعاصي ثم يقول له إذا وصل إلى مستوىً يرضى بنفسه منه، يقول له: لا بد أن تطلب العلم أولاً، فإذا طلبت العلم وحفظت أشياء كثيرة من الكتاب والسنة بعد ذلك تدعو، فيقول العبد في نفسه: صحيح، أنشغل بهذا فإذا أتممت قسطاً وافراً من العلم أبدأ في الدعوة. وهكذا يتدرج في وضع العوائق في طريقه كلما أتى ليعمل شيئاً وضع له عائقاً، إذا جاء ليتصدق قال: أولاً وفر مهر الزواج، ووفر أثاث البيت وهكذا، فيشغله بعائق عن العمل وعن الوصول لهذا الأمر المشروع، ولا شك أن ذلك من كيد إبليس وتلبيسه، والعاقل من عرف أنه لا بد أن يضرب في كل حقل بسهم مما يستطيع من طاعة الله سبحانه وتعالى، وأنه لا يشغله خير عن خير فهو يعمل في أبواب الخيرات ما استطاع، ويكمل نفسه بمرور الوقت، يكمل نفسه ويعمل للإسلام، يكمل نفسه ويتصدق ويجاهد ويتعلم ويدعو ويعمل ما يستطيع من أبواب الخير. سادساً: أنه يأتي أحياناً للإنسان، فيقول له: إن هذا الجانب الذي أنت فيه جانب عظيم من الخير، فعليك به واهتم بهذا الأمر، فينشغل العبد بهذا الجانب عن بقية الأشياء، فمثلاً يقول له: أليست النفقة على المال والأهل عبادة؟ إذاً أنت اعمل الآن في هذه الوظيفة واشتغل هذه تجارة أعطها جهدك وضع فيها تركيزك؛ لأنها عبادة وسوف تستفيد منها أموالاً وسوف تنفق على أهلك وأولادك، وكفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول، فيضخم له جانب العمل والوظيفة على أنها عبادة، يضخمها له حتى يظن الشخص فعلاً أنه الآن يؤدي خدمة عظيمة للإسلام بهذا الجانب، فينشغل عن بقية الجوانب، فينشغل عن الدعوة وعن طلب العلم، ينشغل عن أمور كثيرة من أمور الخيرات، بل قد ينشغل بها عن العبادة والشعائر التعبدية. ونفس الشيء يقال له في الدراسة الدنيوية: أليست الدراسة عبادة؟ ألست تدرس لتكون طبيباً ينفع المسلمين؟ ألست تدرس لتكون مهندساً ينفع المسلمين؟ ألست تدرس لتكون إدارياً يدير مشاريع المسلمين؟ وهكذا وهكذا، إذاً: أنت في حقل عظيم عليك بهذا الحقل ركز فيه، اجعل فيه جهدك، فينسى العبد حتى العبادات وينسى أموراً مهمة في الدعوة إلى الله وطلب العلم بهذه الأضحوكة الشيطانية، وهذه اللعبة العفريتية.

سماع المكاء والتصدية والغناء

سماع المكاء والتصدية والغناء سابعاً: ومن مكايد الشيطان ومصايد عدو الله التي كاد بها من قل نصيبه من العلم والعقل والدين، وصاد بها قلوب الجاهلين والمبطلين، سماع المكاء والتصدية والغناء بالآلات المحرمة، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى كلاماً مهماً جداً في هذا الموضوع، وأبلغ في العبارة غاية البلاغة، حتى إنني لأقول: لعله أي: ابن القيم من أعدى أعداء الشيطان من علماء المسلمين، فإنه قد بين وفصل في كتبه رحمه الله من وسائل الشيطان في الكيد والإضلال وخداع البشر، وبيَّن طريقة المواجهة وكيفية صد هذه الغارات الشيطانية ما نرجو به عند الله أجراً عظيماً ومثوبة جليلة، على ما بين ونفع، وخصوصاً في كتابه العظيم الذي ننقل منه أطرافاً بالنص إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان، وهذا الكتاب العظيم يصد كثير من الناس عن قراءته لطوله، وتفرع ابن القيم رحمه الله في ذكر مباحث يتوسع فيها في هذا الكتاب، بحيث قد يمل القارئ من القراءة فيها، كأبواب الحيل والطلاق بالثلاث وهكذا مسائل الطلاق بالثلاث حتى إن الشخص الذي ليس عنده رسوخ قدمٍ في العلم يمل من القراءة إذا وصل إلى استطراد معين، فتفوته أشياء كثيرة جداً من الأشياء الموجودة في هذا الكتاب. ولذلك أنصح من يتعرض للقراءة فيه أنه إذا وصل إلى مبحث طويل فيه أحكام فقهية وتفصيلية كثيرة مثلاً، ليتجاوز ذلك إلى الموضع الذي يرى أن نفسه يسهل عليها القراءة فيه، فيحصل شيئاً كثيراً من الخير في هذا الكتاب العظيم. لقد خدع إبليس بعض العباد والزهاد في الماضي من المتصوفة بقضية الغناء، ولا زال خداعه سارياً في أجيال من البشر في هذه القرن ممن وصل إلى قناعة شيطانية بأن الغناء من العبادة، وأن بعض أصحاب الطرق الصوفية كما هم موجودون الآن بكثرة ولكن قد لا نشاهدهم في هذه البلاد، ولكنهم يشاهدون في أقطار إسلامية بكثرة، والذي يكون من تلك الأقطار أو يتجول فيها يعرف ذلك جيداً، يعملون حلق السماع فيها موسيقى وفيها أشعار وطرب، يقولون: إن هذا ذكر، وعند بعض الناس الذين يقيمون الموالد النبوية بزعمهم أشياء من هذا القبيل، طرب وألحان يتقربون بها إلى الله.

كلام ابن القيم في الغناء

كلام ابن القيم في الغناء وذكر ابن القيم كلاماً جميلاً نسوقه بنصه لجماله، يقول رحمه الله عن الغناء: فهو قرآن الشيطان والحجاب الكثيف عن الرحمن، وهو رقية اللواط والزنا، وبه ينال العاشق من معشوقه غاية المنى، كاد به الشيطان النفوس المبطلة وحسنه لها مكراً منه وغرورا، وأوحى عليها الشبه الباطلة على حسنه فقبلت وحيه واتخذت لأجله القرآن مهجوراً، فلو رأيتهم عند ذياك السماع وقد خشعت منهم الأصوات وهدأت منهم الحركات، وعكفت قلوبهم بكليتها عليه، وانصبت انصبابة واحدة إليه، فتمايلوا له كتمايل النشوان، وتكسروا في حركاتهم ورقصهم، أرأيت تكسر المخانيث والنسوان؟! ويحق لهم ذلك وقد خالط خماره النفوس ففعل فيها أعظم ما يفعله حمي الكئوس فلغير الله بل للشيطان، قلوب هنالك تمزق، وأثواب تشقق، وأموال في غير طاعة الله تنفق، حتى إذا عمل السكر فيهم عمله، وبلغ الشيطان منهم أمنيته وأمله، واستفزهم بصوته وحيله، وأجلب عليهم برجله وخيله، وخز في صدورهم وخزة وأزهم إلى ضرب الأرض بالأقدام أزاً، فطور يجعلهم كالحمير حول المدار، وتارة كالذباب ترقص وسط الديار، فيا رحمة للأرض والسقوف من دك تلك الأقدام، ويا سوأتاه من أشباه الحمير والأنعام! ويا شماتة أعداء الإسلام! فأعداء الإسلام إذا رأوا هذه الطرق الصوفية قالوا: هذا الدين؟! ولذلك في دعايات أعداء الإسلام عن الإسلام يعرضون أفلاماً فيها لقطات من هذه الطرق الصوفية والمذاهب البدعية التي فيها هذا الطرب والأغاني، ويعرضونها على أنها من الدين ويقولون لشعوبهم: هذا هو الإسلام الذي يريد دعاته أن يدعوكم إليه. يزعمون أنهم خواص الإسلام، قضوا حياتهم لذة وطرباً، واتخذوا دينهم لهواً ولعباً، مزامير الشيطان أحب من استماع سور القرآن، ولو سمع أحدهم القرآن من أوله إلى آخره لما تحرك له ساكن، ولا أزعج له قاطنا، ولا أثار فيه وجدة، ولا قدح فيه من لواعج الشوق إلى الله زندة، حتى إذا تلي عليه قرآن الشيطان وولج مزموره سمعه تفجرت ينابيع الوجد من قلبه على عينيه فجرت، وعلى أقدامه فرقصت، وعلى يديه فصفقت، وعلى سائر أعضائه فاهتزت وطربت، وعلى أنفاسه فتصاعدت، وعلى زهراته فتزايدت، وعلى نيران أشواقه فاشتعلت. فيا أيها الفاتن المفتون، والبائع حظه من الله بنصيبه من الشيطان صفقة خاسر مغبون! هلا كانت هذه الأشجان عند سماع القرآن، وهذه الأذواق والمواجيد عند سماع قراءة القرآن المجيد، وهذه الأحوال السنيات عند تلاوة السور والآيات، ولكن كل امرئ يصبو إلى ما يناسبه، ويميل إلى ما يشاكله، والمشاكلة سبب الميل عقلاً وطبعاً، فمن أين هذا الإخاء والنسب، لولا التعلق من الشيطان بأقوى سبب، ومن أين هذه المصلحة التي أوقعت في عقد الإيمان وعهد الرحمن خللا: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} [الكهف:50].

أبيات شعرية فيمن لبس عليه سماع الغناء

أبيات شعرية فيمن لبس عليه سماع الغناء ثم قال رحمه الله في شأن هؤلاء المخدوعين بخدعة إبليس، ولقد أحسن القائل: تُلِيَ الكتاب فأطرقوا لا خيفة لكنه إطراق ساه لاهي وأتى الغناء فكالحمير تناهقوا والله ما رقصوا لأجل الله دف ومزمار ونغمة شادن فمتى رأيت عبادة بملاهي ثقل الكتاب عليهمُ لا رأوا تقييده بأوامر ونواهي سمعوا له برقاً ورعداً إذ حوى زجراً وتخويفاً بفعل مناهي ورأوه أعظم قاطع للنفس عن شهواتها يا ذبحها المتناهي وأتى السماع موافقاً أغراضها فلأجل ذاك غدا عظيم الجاه أين المساعد للهوى من قاطع أسبابه عند الجهول الساهي إن لم يكن خمر الجسوم فإنه خمر العقول مماثل ومضاهي فانظر إلى النشوان عند شرابه وانظر إلى النسوان عند ملاهي واحكم فأي الخمرتين أحق بالتحريم والتأثيم عند الله فخمرة الغناء أعظم من خمرة السكر بأنواع الخمور، وقال آخر: برأنا إلى الله من معشر بهم مرض من سماع الغنا وكم قلت يا قوم أنتم على شفا جرف ما بها من بنى شفا جرفٍ تحته هوة إلى دركٍ كم به من عنا وتكرار ذا النصح منا لهم لنعذر فيهم إلى ربنا فلما استهانوا بتنبيهنا رجعنا إلى الله في أمرنا فعشنا على سنة المصطفى وماتوا على تنتنا تنتنا ولئن كانت هذه الطائفة -ولله الحمد- في انقراض في العالم الإسلامي الآن مع انتشار هذه الصحوة المباركة وطريقة السلف الصالح، إلا أنه لا يزال فيهم في أنحاء العالم الإسلامي من هؤلاء الذين يعبدون الله بالرقص والأغاني والمواجيد والتمايل والمدائح النبوية وغيرها، التي يلحنونها تلحيناً مطرباً يزعمون أنهم يؤجرون على هذه المجالس، لا زال فيهم من يعيش بين أظهرنا، لا زال فيهم من هؤلاء النفر من يحتاجون إلى مجاهدة ومصابرة.

الحيل والخداع

الحيل والخداع ثامناً: ومن مكائد الشيطان التي كاد بها الإسلام وأهله: الحيل والخداع، فإن الشيطان يتسلل إلى بعض نفوس بني آدم بأشياء من الحيل والمخادعات لله، يزينها لهم على أنها حيل شرعية ولا بأس بها وهي تتضمن إحلال الحرام وإسقاط الفرائض، هؤلاء الناس الذين يستجيبون للشيطان قال الله فيهم: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142] {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة:9] هذه من صفات المنافقين. ومن الأمثلة على ذلك: نكاح التحليل، فإنه إذا طلق امرأته ثلاثاً منفصلة بانت منه، ويريد الرجوع إليها استأجر تيساً مستعاراً بعشرة دراهم أو أكثر ليتزوجها زواجاً صورياً لا يريدها ثم يطلقها ليرجع إليها الزوج الأول، هذا الذي وصفه عليه الصلاة والسلام بالتيس المستعار: (لعن الله المحلل والمحلل له) هذه حيلة خبيثة شيطانية. ومن أمثلة ذلك مثلاً: بيع العينة، بأن يبيع الإنسان شخصاً شيئاً، فيشتري من شخص إلى أجل بعشرة آلاف -مثلاً- إلى سنة، يسددها بعد سنة عشرة آلاف ثم يبيعها على نفس الشخص الذي اشتراها منه فوراً نقداً بثمن أقل بتسعة آلاف أو ثمانية آلاف مثلاً، فهذا هو بيع العينة، لكنه في الحقيقة هو ظاهره بيع وشراء إني أنا اشتريت منه بنقد إلى أجل بعشرة آلاف نسيئة إلى أجل عشرة آلاف ثم بعتها عليه نقداً بثمانية آلاف، ظاهرها أنها بيع وشراء ولكنها في الحقيقة حيلة إلى الربا. ولذلك يعمد كثير منهم في خداعهم لله سبحانه وتعالى أن يذهب إلى دكان ويأتي بطرف ثالث عنده البضاعة والشخص الذي يريد أن يقرض ويقترض، فيضع يده على كومة الرز إلى آخر الحيلة المعروفة، يخادعون الله كأنما يخادعون الصبيان، ولو أتوا الأمر على وجهه لكان أهون، لأنه عندما يخادع ويرتكب المحرم يكون عليه إثمان، إثم الحرام وإثم المخادعة، لكن لو فعل الحرام دون خداع لكان عليه إثم الحرام فقط، لو أتوا الأمر على وجهه لكان أهون. ومن ضمن الحيل كذلك: حيلة اليهود عندما حرم الله عليهم الصيد يوم السبت، فماذا فعلوا؟ نصبوا الشباك يوم الجمعة ورفعوها يوم الأحد وقالوا: لن نصيد يوم السبت، اتخذوا آيات الله هزوا. ومنهم أقوام يشربون النبيذ المحرم، والآن هناك أنواع من الأشربة في السوق مسكرة لو شربت كثيراً لسكرت، وهي كثيرة جداً وتتنوع وهي تسكر، بل قد تكون أشياء جامدة، لكنها تسبب السكر، يسمونها بغير اسمها، وهي مسكرة، وهؤلاء الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم: (ليشربن أناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها) وقد حصل في هذا الزمان عياناً بياناً، مبيناً في الواقع كما نراه ونسمعه مشاهداً، شربوها وسموها بغير اسمها. ومثل ذلك مثلاً: أنهم يستحلون الغناء، وإذا جئت تجادلهم قالوا لك: أليست أصوات الطيور مثل النغمات الموسيقية، فلماذا تبيح أصوات الطيور وتحرم النغمات الموسيقية كلامها سواء، والغناء نص الله على تحريمه في الكتاب والسنة، وأصوات الطيور أمر سكت عنه الشرع فهو مباح، فأين هذا من هذا؟! وهذا القياس الفاسد يستحلون محارم الله بهذه الخدع. مثال آخر: استحلال الربا على أساس أن الربا المحرم هو ما بين الغني والفقير، فإذا استغل الغني الفقير هذا هو الحرام، لكن لو كان بين غني وغني فلا بأس بذلك، يقولون: تاجر يستلف من البنك -مثلاً- مليون ريال، يعمل بها مشروعاً تجارياً، يستلفها بفائدة خمسة عشر في المائة، يسمونها فائدة، ويعمل نسبة الأرباح بعد سنة يربح المشروع عشرة في المائة، يسدد جزءاً من الفوائد، بعد سنتين يربح المشروع أكثر ويسدد بقية فوائد الربا الذي عليه ثم هو يمتلك المشروع، إذاً: الغني استفاد، والبنك استفاد وليس هناك أحد خسران، إذاً هذا ليس ربا، هكذا يقولون تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً، وهم يعلمون من الواقع أن البنوك سبب من أكبر أسباب نكبة كثير من التجار والمقاولين في هذا الزمان، الذين لم يستطيعوا تسديد المستحقات للبنوك في الأوقات المحددة بسبب أنهم لم يستطيعوا أخذ حقوقهم من الجهات الأخرى ومن الناس، فما استطاعوا تسديد هذه الفوائد التي يسمونها فصاروا رصيدهم بالناقص وبالسلب ثم أفلسوا وباعوا كل شيء، بل إن هذا الربا يفقر دولاً، وما لعبة صندوق النقد الدولي ببعيدة عن الحذقة من المسلمين الذين يعرفون أن هذه الفوائد المركبة تأخذ أموال ونعم ومقدرات شعوب بأكملها. ولذلك فهؤلاء الذين يطنطنون اليوم في الجرائد والمجلات يقول قائلهم: إنه حلال وأنا أتحمل عنكم مسئولية هذه الفتوى عند الله يوم القيامة، ويبيحها لهم بأنها سندات استثمار وسندات وما شابه ذلك، وأن الذي يسلف يعطي نقوده إلى البنك ويأخذ سندات إنسان محسن إلى جهة أخرى تستفيد من الأموال التي في البنك، ولا بد أن يحسن إليه بأخذ فوائد، وهكذا يزخرفون القول زخرفة مما يوحي إليهم الشيطان الرجيم. ومنهم أناس يظنون أن الربا حرام أكله وشربه، بمعنى: أنه لا يجوز أن تشتري به طعاماً، لكن لو اشتريت به بيتاً فهذا حلال، أو اشتريت به سيارة فهذا جائز، أو دفعت منه ضرائب -الضرائب حرام- ندفع من الربا للضرائب فهذا حلال، يالله! ومعلوم أن الربا لا يجوز الاستفادة منه أبداً، حتى في دفع الظلم عن نفسك. لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود وتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح، فاليهود لما حرم الله عليهم الشحوم، أذابوها، قالوا: الأشياء الجامدة هي الحرام لكن لو جعلناها مائعة وأذبناها، فالحرام دون المذاب، فأذابوها فباعوها وأكلوا ثمنها، فاستحقوا لعنة الله ومسخهم قردة وخنازير. وقد ذكر أهل العلم في كتبهم من أنواع الحيل المحرمة أشياء منكرة، ذكر بعضهم: امرأة تريد أن تفارق زوجها فيرفض الطلاق والخلع ويرفض ويرفض، فذهبت إلى بعض هؤلاء المتلاعبين من أصحاب الحيل، فقال لها: لو ارتدت عن الإسلام انفسخ العقد وبانت منه ففعلت، فلما سمع الإمام أحمد هذا القول: (اكفري بالله تصيرين كافرة ثم ينفسخ العقد لأنه لا تحلي له لأنه مسلم وأنت كافرة ثم تسلمين بعد ذلك) فلما سمع الإمام أحمد قال: من أفتى بهذا أو عمل أو رضي به فهو كافر. فانظر إلى أي درجة يستدرج الشيطان هؤلاء الناس بمسألة الحيل، قال ابن المبارك رحمه الله تعقيباً: ما أرى الشيطان يحسن مثل هذا، حتى جاء هؤلاء فتعلم الشيطان منهم. والشريعة تعاقب على الحيل المخالفة لها، فالقاتل إذا قتل يحرم من الميراث في الشريعة، ولو عفا عنه أولياء المقتول وقالوا: لا نريد قصاصاً، لا يرث، والمريض في مرض الموت إذا طلق امرأته ليحرمها من الميراث ترث رغماً عنه، ومن سافر في الصيف إلى البلدان الباردة لا لأجل أنه يريد سفراً فليس عنده تجارة ولا علاج ولا شيء، لكن فقط لكي لا يصوم في الحر في الصيف، قال: أسافر حتى أفطر؛ لأني مسافر فأفطر، ثم أصوم في الشتاء، فهذا آثم بفعله ولا شك. وكذلك فقد ضرب الله سبحانه وتعالى أمثلة من الأمور المحرمة، قال الله: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء:19] فلو أن إنساناً لا يريد زوجته، لكن لا يطلقها لكي تطلب هي الفسخ، فيمسكها ويحبسها ولا يعاشرها معاشرة الأزواج لأنه لا يرغب بها، فيمسكها حتى تطلب الطلاق وتطلب الخلع وتدفع من المهر الذي أعطاها أو كل المهر، فيذهب بما آتاها من قبل، فإذا حبسها لكي تفتدي نفسها وهو لا يريدها فهو ظالم وما أخذ فهو حرام. ولما قصد أصحاب الجنة حصد محاصيلهم بالليل في سورة القلم لحرمان الفقراء عاقبهم الله عز وجل: قالوا: نصرمها مبكرين أو في الليل حتى لا يكون هناك وجود وحضور للفقراء فلا يأخذون شيئاً، ومثل هذه الحيل المحرمة الشيطانية أن بعض الناس إذا جاء قبل الحول بقليل ملك ماله لزوجته، قال: ملكتك مالي فإذا عدا الحول وانتهى استرد المال منها، قال: ما كان عندي ما ملكته، وبعضهم لكي ينجو من الزكاة كلما قاربت النصاب باع منها وغير أشياء بحيث إنها لا تكتمل نصاباً ويحولها إلى أنواع أخرى من الأموال لينجو من الزكاة، وهذا حرام ولا شك. ومثل إخراج المكوس في قالب إعانة المجاهدين وسد الثغور وعمارة الحصون كما ذكر أهل العلم، وبالخلاصة فإن الذي يريد أن يتحايل على الله فإن الشيطان سوف يفتح له أبواباً واسعة جداً جداً، ولكنه يوم القيامة سيكشف أمره ويهتك ستره على رءوس الخلائق يفضحه الله سبحانه وتعالى، نسأل الله السلامة.

الوسواس في النية والطهارة والصلاة وغيرها

الوسواس في النية والطهارة والصلاة وغيرها تاسعاً: ومن كيد الشيطان وتلبيس إبليس: ما بلغ به من الوسواس الذي أوقع فيه كثيراً من الخلق، وكادهم به كيداً عظيماً، فمرض الوسواس من الشيطان ولا شك، الوسواس كادهم به في الطهارة، وفي النية، وفي الصلاة، وحتى في قراءة القرآن، وفي الطلاق وغير ذلك، وألقاهم في الآصار والأغلال، وأخرجهم عن اتباع سنة محمد صلى الله عليه وسلم، حتى يخيل إلى أحدهم أن ما جاءت به السنة لا يكفيه، حتى إن أحد هؤلاء الموسوسين ليرى أنه لو توضأ وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم أو اغتسل كاغتساله عليه الصلاة والسلام لم يطهر، ولم يرتفع حدث، وكيف يطاوع الموسوس نفسه أن يغتسل هو وامرأته من إناء واحد يغمسان أيديهما فيه، غسل الجنابة ويفرغان عليهما، فالموسوس يشمئز من ذلك كما يشمئز المشرك إذا ذُكِر الله وحده، مع أن من الذي فعل ذلك هو الرسول صلى الله عليه وسلم. ويزعم له الشيطان أن هذا من الاحتياط في الدين، ومن باب دع ما يريبك إلى مالا يريبك، وإذا مس الصبي أو ولده الصغير فإنه يجب أن يغسل يديه باستمرار وبعض الموسوسات، وهؤلاء يغسل أحدهم يده غسلاً يشاهده ببصره وربما قاله بلسانه، بعض الموسوسين من عذابهم يغسل يديه ويشك حتى يضطر أن يقول بلسانه: الآن أغسل يدي غسلت يدي، ويسمعه بسمعه وربما سمعه جاره ولا يصدق نفسه. وربما أضر بجسده كالغوص في الماء البارد وكثرة استعماله وإطالة العرك والفرك وربما صار إلى حال يسخر منه الصبيان، ويستهزئ به من يراه، وذكر ابن الجوزي رحمه الله عن أبي الوفاء بن عقيل: أن رجلاً قال له: أنغمس في الماء مرات كثيرة وأشك هل صح الغسل أم لا، فما ترى في ذلك؟ فقال له الشيخ: اذهب فقد سقطت عنك الصلاة، قال وكيف؟ قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رفع القلم عن ثلاثة: المجنون حتى يفيق، والنائم حتى يستيقظ، والصبي حتى يبلغ) ومن ينغمس في الماء مراراً ويشك هل أصابه الماء أم لا فهو مجنون! وربما شغله الوسواس حتى تفوته الجماعة، وربما فاته وقت الصلاة بالكلية.

الوسوسة في الصلاة

الوسوسة في الصلاة وقد يشغله الشيطان بوسوسته في النية عند الصلاة في المسجد في الصف، حتى تفوت عليه التكبيرة الأولى، وربما فاته ركن أو أكثر، ومنهم من يحلف بالله ألا يعود إلى هذا ويكذب ويعود. وقد كان هناك رجل شديد التنطع في التلفظ بالنية والتقعر في ذلك، فاشتد به التقعر والتنطع إلى أن قال مرة وهو حاضر في الصف، حيث كبر الناس وهو حاضر الآن يجمع النية، ويقول: أصلي أصلي أصلي ويعيدها عدة مرات، صلاة صلاة صلاة الظهر الظهر الظهر، جماعة جماعة جماعة، أداءً -يعني: ما هو قضاء- لا بد هذه العبارة تأتي بالكامل عند هؤلاء المبتدعة الذين يتلفظون بالنية وإذا صار موسوساً بعد فكيف ستكون العبارة، تكون شبراً فتصبح ذراعاً، فقال: أصلي أصلي أصلي، صلاة، صلاة، صلاة، الظهر، قال: أداءً بدأ يقول أداءً قال: فأعجم الذال وضع عليها نقطة قال: أذاءً، ولا بد أن يقول أداءً لله، وكان يصلي بجانبه شخص فما تمالك نفسه فقطع الصلاة فقال: إيذاءً لله ولرسوله وملائكته وجماعة المصلين. وقد بلغ الشيطان منهم أن عذبهم في الدنيا وأخرجهم عن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم فعلى من أراد النجاة من هذه الوسوسة أن يسلك سبيل رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدع سبيل الشيطان، قال أحد السلف يوماً لابنه: يا بني! اتخذ لي ثوباً ألبسه عند قضاء الحاجة، فإني رأيت الذباب يسقط على الشيء ثم يقع على الثوب، نخصص ثوباً خاصاً بالمرحاض، إذا جاء الذباب على هذا الثوب وكان قد وقع على العذراء نفسخ الثوب بعد المرحاض ونصلي في ثوب نظيف، ما عليه من آثار الذباب، ثم انتبه فقال: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ما كان لهم إلا ثوب واحد يقضون به حاجتهم ويصلون. فتبين أن التفكير في قضية النجاسة التي يأخذها الذباب برجليه عندما يسقط على الثوب، ويضع فاصلة صفر صفر واحد من النجاسة أن هذا لا شك من أنواع الوسوسة الواضحة. قال ابن القيم رحمه الله: قال شيخنا ابن تيمية: ومن هؤلاء من يأتي بعشر بدع لم يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه واحدة منها -عند النية في الصلاة- فيقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، نويت أصلي صلاة الظهر فريضة الوقت أداءً إماماً -أو مأموماً- أربع ركعات مستقبل القبلة ثم يزعج أعضاءه ويحني جبهته ويقيم عروق عنقه، ويصرخ بالتكبير كأنه يكبر على العدو، ولو مكث أحدهم عمر نوح يفتش هل فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أحد من أصحابه شيئاً من ذلك لما ظفر به، فأهل الوسواس قرة عين خنزب وأعوانه، وخنزب هو شيطان الصلاة. وكذلك الوسواس في انتقاض الطهارة، فإن الشيطان يشكك الإنسان خرج منه ريح، خرج، ما خرج، خرج شيء بسيط، خرج لكن فيه ماء، وهكذا قال صلى الله عليه وسلم مبيناً العلاج: (إذا وجد أحدكم في بطنه شيئاً فأشكل عليه أخرج منه شيء أو لا فلا يخرج من المسجد حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً) رواه مسلم. والشيطان يتلاعب بالشعيرات في مقعدة ابن آدم ليوهمه أنه خرج منه شيء وليس كذلك، فقد أخبر عليه الصلاة والسلام بهذا التلاعب وأن هذا من كيد الشيطان، ومن علاج الوسواس في الطهارة أن ينضح فرجه وسراويله مما يلي الفرج بالماء إذا بال، كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وسوسة في الطهارة

وسوسة في الطهارة هذا في الوسوسة في الطهارة، أما ما يفعله الشيطان بالموسوسين بعد البول فحدث ولا حرج، قال ابن القيم رحمه الله تعالى: يفعلون عشرة أشياء: السلت والنتر والنحنحة والمشي والقفز والحبل والتفقد والوجور والحشو والعصابة والدرجة. أما السلت فهو عصر الذكر ليخرج منه البول، يقول لا بد أن نفعل هذا الإجراء حتى نتأكد أنه ليس هناك نجاسة، والنتر وهو نفضه ليخرج ما بداخله بزعمهم بعد الاستنجاء هذا إجراء ثانٍ، والنحنحة: بأن يتنحنح لإخراج الفضلة الباقية بزعمهم، والقفز: أن يرتفع على الأرض ويهبط عليها لكي يفرغ ما كان عالقاً، والحبل يتخذه بعض الموسوسين فيتعلق به حتى يكاد يرتفع ثم يتخرط فيه ويقع على هذا لكي ينزل ما بقي، والتفقد: هو النظر في المخرج هل بقي فيه شيء أم لا، والوجور: هو فتح الثقب وصب الماء فيه، والحشو: إدخال قطن ونحوه، والعصابة: أن يعصب المخرج بخرقة لئلا يخرج منه شيء، والدرجة: أن يصعد في السلم قليلاً ثم ينزل بسرعة، أو يمشي خطوات ثم يعيد الاستنجاء. قال ابن تيمية رحمه الله: وذلك كله وسواس وبدعة، فتبين بذلك أن ما يقضيه البعض من الأوقات الطويلة جداً داخل المراحيض يضيعون بها تكبيرة الإحرام والصلاة، هو من الأمور المحرمة ومن كيد إبليس وتلبيسه، ويكفي الإنسان بعد انتهائه من قضاء حاجته أن يستنجي ويغسل بالماء ويرش ما أمام المخرج من الثوب بالماء حتى يقطع على الشيطان طريق الوسوسة، وإذا كان صاحب سلس ويعرف نفسه صاحب سلس، إذا انتهى من قضاء الحاجة يغسل ويرش بالماء، وإذا وضع أمام المخرج لئلا تنتشر النجاسة في الثوب كمنديل بشكل عادي يشده عليه بلباسه العادي، ثم بعد ذلك يتوضأ ويصلي ولا يبالي بعد ذلك بما خرج منه لا بعد الاستنجاء ولا أثناء الوضوء، ولا بعده ولا قبل الصلاة ولا أثناء الصلاة وصلاته صحيحة، والحمد لله، لا يكلف الله نفساً إلا وسعها. ولا فرض الله على الخلق أن يقضوا ساعات في دورات المياه لكي يتأكدوا أنه ما بقي قطرة، وهذا السلس هو داء منتشر عند كثير من الناس، وهذه عيادات المسالك البولية تشهد بذلك، وإذا لم يكن هناك في الدين مثل هذه الرخصة المباحة الشرعية لهلك الناس: (بعثت بالحنيفية السمحة). وهؤلاء الموسوسون لا يرضون بأمور كثيرة مما كان صلى الله عليه وسلم يفعله، فقد كان عليه الصلاة والسلام وأصحابه يخوضون في الطين والوحل وماء المطر وهم يأتون إلى المساجد، ويأتون المسجد ولا يغسلون أرجلهم، وهذه فتاوى الصحابة فيمن وطئ العذرة بقدمه إن كانت يابسة فليست بشيء، وإن كانت رطبة غسل ما أصابه، لا انتقض الوضوء ولا شيء من ذلك، بل يغسل ما أصاب جلده من النجاسة فقط، إذا كانت رطبة، وهذا الخف والحذاء يدلك في الأرض ثم يصلى فيه سنة ثابتة كما قال صلى الله عليه وسلم (إذا جاء أحدكم المسجد فليقلب نعليه ثم لينظر فإن رأى خبثاً فليمسحه بالأرض ثم ليصل فيهما) والموسوسون أكثرهم لا يرضون بالصلاة في النعال إذا كان الوضع مناسباً وكان المسجد مفروشاً بالحصى والرمل، ونحو ذلك. وذيل المرأة، قالت امرأة لـ أم سلمة: (إني أطيل ذيلي وأمشي في المكان القذر، فقالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يطهره ما بعده) هي تسحب على الأرض، لو سحبت على نجاسة يطهره ما بعده، وقد رخص للمرأة أن تطيل حجابها ذراعاً وراءها حتى إذا هبت الريح لا تنكشف عورتها وأكثر من ذلك يعتبر إسبالاً في حق النساء، وكان صلى الله عليه وسلم يصلي في مرابض الغنم، ونهى عن الصلاة في أعطان الإبل، فأين هذا ممن لا يصلي إلا على سجادة، تفرش فوق البساط أو فوق الحصير، وربما وضع عليها منديلاً ولا يمشي على البساط مكان المصلى إلا نقراً كالعصفور إذا اضطر، ووضع السجادة على السجادة الطاهرة من البدع والوسوسة. وبعض الناس هذه عادتهم إذا دخل مكاناً مع أن البساط نظيف طاهر لا يعلم أن عليه نجاسة لا بد أن ياتي بمفرش الصلاة ليصلي، لماذا؟ وقد قال عليه الصلاة والسلام: (جعلت لي الأرض مسجداً وطهورا فأي رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل) فإذاً وضع السجاجيد على السجاجيد نص أهل العلم ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية أنها من البدع، إذا كانت السجادة نظيفة وطاهرة، فلا يوضع عليها شيء ويصلي. وبعضهم يقول: لا بد أن نضع للإمام سجادة خاصة لماذا؟! إن مثله مثل المسلمين، يصلي على بساط المسجد مثله مثل المسلمين، فلماذا توضع له سجادة منفصلة، وكان صلى الله عليه وسلم يصلي وهو يحمل أمامة بيده، فإذا ركع وضعها وإذا قام حملها، وإذا قال قائل: كيف يصح هذا وفيها نجاسة قد تكون في هذه الحفاظة نجاسة، نقول: قد فعله من هو خير منك محمد صلى الله عليه وسلم فإذا رفع وضعها وإذا قام حملها، وكان يصلي في الليل وكان بجانبه عائشة وهي حائض، وربما لامس جسده جسدها. وكان الصحابة يتوضئون من الحياض والأواني المكشوفة، لا يسألون هل أصابتها نجاسة أم لا، [مر عمر يوماً مع صاحب معه تحت ميزاب فسقط عليهما شيء من الميزاب، فقال صاحب عمر: يا صاحب الميزاب! ماؤك طاهر أو نجس، فقال عمر: يا صاحب الميزاب! لا تخبرنا، ثم مضى]. وكان صلى الله عليه وسلم يصغي الإناء للهرة حتى تشرب ويشرب هو منه صلى الله عليه وسلم ويتوضأ منه، وقال: (إنها من الطوافين عليكم والطوافات)، يقول ابن القيم رحمه الله: والمراضع -المرأة التي ترضع- المراضع لا زلن من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى الآن يصلين في ثيابهن والرضعاء يتقيئون ويسيل لعابهم على ثياب المرضعة وبدنها، ولا تغسل شيئاً من ذلك -هذا على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم- ما يخرج من الطفل طاهر من القيء لصعوبة وتعذر التحرز من قيء الولد على المرضعة وهي ترضعه وتحمله وتضعه باستمرار. ونص الإمام أحمد رحمه الله على أن حبل الغسال إذا نشر عليه ثوب نجس ربما جففته الشمس، أي: جففت حبل الغسال، ثم نشر عليه ثوب طاهر رطب، قال: لا بأس به، وكان صلى الله عليه وسلم يشرب من موضع فيّ عائشة ويتعرق العرقة فيضع فاه على موضع فيها وهي حائض ويأكل وراءها صلى الله عليه وسلم. والوسوسة أشكالها كثيرة جداً مثل الوسوسة في مخارج الحروف والتنطع فيها قال ابن الجوزي: ولقد رأيت من يخرج بصاقه عند إخراج الضاد لقوة تشديده، والوسوسة في الطلاق فإنه يقول: طلقت أو ما طلقت، إذا فكر في الطلاق يوسوس ربما حتى في النهاية تلفظ بالطلاق.

عشق الصور المحرمة

عشق الصور المحرمة وأخيراً: فإن من مكايد الشيطان ومصايده ما فتن به عشاق الصور، والمقصود بالصور هي أشكال بني آدم، أجسادهم وأشكالهم ومناظرهم، والذين يعشقون الصور -أي: صور البشر وأشكالهم ومناظرهم وأجسادهم- هذا كيد عظيم من كيد إبليس فيه استعباد النفوس لغير الله، وتمليك القلوب لمن يسومها سوء العذاب، العاشق المتيم بمن عشقه، معذب القلب قد سلم قلبه إلى معشوقه يسومه سوء العذاب، ويسعى في رضا المعشوق والمحبوب وإن عارض رضا الله، ويتحرك عند سماع صوت محبوبه ما لا يتحرك عند سماع العلم وشواهد الإيمان ولا عند تلاوة القرآن، حتى إذا ذكر معشوقه اهتز وربا وتحرك باطنه وظاهره شوقاً إليه وطرباً. وهؤلاء يقول الله في شأنهم من ضمن الذين يدخلون في قوله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} [البقرة:166] أين هؤلاء العشاق الذين عشقوا الصور ومالوا بعواطفهم ميلاً شديداً وانغلقوا على هذه الأشكال وأقاموا هذه العلاقات المحرمة؟ أين هم من قوله صلى الله عليه وسلم في دلائل الإيمان: (أن يحب المرء لا يحبه إلا الله)؟ ومن كيد الشيطان وتلبيس الشيطان أنه يوهم هذا المتعلق بصاحبه أنه يحبه لله، وربما قال له: إنك تشاركه في الطاعات، وربما حمله أن يحضر معه بعض مجالس العلم، ويحفظ بعض آيات القرآن أو الأحاديث وهكذا، حتى يلبس عليه أن العلاقة علاقة شرعية، وحفظ قرآن وحضور مجالس علم ودعوة إلى الله مثلاً. وقد ذكر ابن القيم في كتابه العظيم الجواب الكافي، وكتابه العظيم إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان في علاج العشق والتعلق بالمحبوب أموراً عظيمة ينبغي الرجوع إليها، ونذكر بعضاً منها فإن هذا الدرس ليس موضع استقصاء علاج عشق أو علاج المحبة مع الله، وإن كانت هذه المسألة قد تفشت بحيث صار لا بد أن توضح لها العلاجات حتى لا يقع بعض الناس فيها، قال ابن القيم رحمه الله: ووصل الأمر ببعضهم أن يؤاخي امرأة أجنبية في الله، كان مما ذكره أن وصل الأمر السوء بتلبيس إبليس أن يؤاخي امرأة أجنبية في الله لهذا الغرض، وقد حدث وربما يتصل بها ويقول: أنا أناقش معك مسائل فقهية وأنصحك وتنصحيني وهذا موجود ووصل إلينا وسمعنا أطرافاً منه عن أناس يتصلون بنساء أجنبيات يقولون: هذه محبة في الله وإني أحبك في الله، كيف يقول رجل أجنبي لامرأة أجنبية: إني أحبك في الله؟! أم كيف تقول له هي هذا الكلام؟! هو رجل شاب وهي امرأة شابة، أليس هذا من تلبيس إبليس ومن مداخله؟! قال ابن القيم رحمه الله: وبعضهم جعل الاتصال بالمردان من عبادة الله، وأنها قربة وطاعة، بل زعموا أيضاً أنها تزكي النفس وتخلصها من الشوائب، وجعل التلذذ بهم عبادة، وقد يقولون: تزوج فلان بفلان يستهزئون بآيات الله ودينه، قال ابن القيم: وقد آل الأمر بكثير من هؤلاء إلى ترجيح وطء الولدان على نكاح النسوان، وقالوا: هو أسلم من الحبل والولادة ومؤنة النكاح والشكوى إلى القاضي وفرض النفقة. سبحان الله العظيم! انظر إلى أي درجة يمكن أن يستجري الشيطان ابن آدم عندما يوهمه فعلاً بهذه القضية، فيوقعه في الفواحش ويظن هذا أنه الآن يتقرب إلى الله، سبحان الله العظيم! لا شك أن من هؤلاء ضلال، إذ كيف تروج هذه البضاعة الشيطانية على هؤلاء، إن في المسألة هوى، وما راجت بضاعة الشيطان إلا وفيها هوى واضح، وماذا تفعل بمن زين له سوء عمله فرآه حسناً، فقد تلاعب الشيطان بأكثر هذا الخلق كتلاعب الصبيان بالكرة، وأخرج الكفر والفسوق والعصيان في كل قالب من قوالب الخير والبر والأعمال الصالحة.

كلام ابن القيم في خطر العشق

كلام ابن القيم في خطر العشق قال ابن القيم في خطر العشق: فإذا شغف الإنسان بمحبة صورة -يعني: إنسان آدمي ذكر أو أنثى- لغير الله، بحيث يرضيه وصوله إليها وظفره بها ويسخطه فواته ذلك، كان فيه من التعبد لها بقدر ذلك -غصباً عنه ورغماً عنه يعبدها من دون الله- ثم قال: والزنا بالفرج وإن كان أعظم من الإلمام بالصغيرة، كالنظرة والقبلة واللمس، لكن إصرار العاشق على محبة الفعل مع معشوقه وتوابعه ولوازمه وتمنيه له ولو لم يفعل، وتمنيه له وحديث نفسه به ألا يتركه واشتغال قلبه بالمعشوق قد يكون أعظم ضرراً من فعل الفاحشة مرة، بشيء كثير فإن الإصرار على الصغيرة قد يساوي إثم الكبيرة أو يربو عليها. وأيضاً: فإن تعبد القلب للمعشوق شرك، وفعل الفاحشة معصية ومفسدة الشرك أعظم من مفسدة المعصية، وأيضاً: فإنه قد يتخلص من الكبيرة بالتوبة والاستغفار، وأما العشق إذا تمكن من القلب فإنه يعز عليه أن يتخلص منه، بل يصير تعبداً لازماً للقلب لا ينفك عنه، ومعلوم أن هذا أعظم ضرراً وفساداً من فاحشة يرتكبها شخص وهو عالم بتحريمها وقلبه غير معبد لمن فعل بها الفاحشة التي ارتكبها معها. أما هذا العاشق فقلبه معبد ولو لم يفعل فاحشة. وذكر كلاماً مهماً معبراً عن حال العاشق أو هذا المتعلق قلبه بهذه الصورة، قال: فأصحاب العشق الشيطاني لهم من تولي الشيطان والإشراك به بقدر ذلك، لما فيهم من الإشراك بالله، ولما فاتهم من الإخلاص له، ففيهم نصيب من اتخاذ الأنداد، ولهذا ترى كثيراً منهم عبداً لذلك المعشوق، متيماً فيه يصرخ في حضوره ومغيبه أنه عبده، فهو أعظم ذكراً له من ربه، وحبه في قلبه أعظم من حب الله فيه، وكفى به شاهداً على ذلك بنفسه: {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة:14] فلو خير بين رضاه ورضا الله لاختار رضا معشوقه على رضا ربه، ولقاء معشوقه أحب إليه من لقاء ربه، وتمنيه بالقرب من معشوقه أعظم من تمنيه للقاء ربه وقربه، وهربه من سخطه عليه أشد من هربه من سخط ربه عليه، يسخط ربه بمرضاة معشوقه، ويقدم مصالح معشوقه وحوائجه على طاعة ربه، فإن فضل من وقته فضلة وكان عنه قليل من الإيمان صرف تلك الفضلة في طاعة ربه، وإن استغرق الزمان حوائج معشوقه ومصالحه صرف زمانه كله فيها وأهمل أمر الله. يجود لمعشوقه بكل نفس ونفيسة، ويجعل لربه من ماله إن جعل له كل رذيلة وخسيس، فلمعشوقه لبه وقلبه وهمه ووقته، وخالص ماله وربه على الفضلة، قد اتخذه وراءه ظهريا، وصار لذكره نسياً، إن قام في خدمته في الصلاة فلسانه يناجيه -يعني: يناجي الله- وقلبه يناجي معشوقه، ووجه بدنه إلى القبلة ووجه قلبه إلى المعشوق، ينفر من خدمة ربه حتى كأنه واقف في الصلاة على الجمر من ثقلها عليه وتكلفه لفعلها، فإذا جاءت خدمة المعشوق أقبل عليها بقلبه وبدنه فرحاً بها ناصحاً له فيها، خفيفة على قلبه لا يستثقلها ولا يستطيلها، ولا ريب أن هؤلاء من الذين اتخذوا من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حباً لله. أما سبب هذه المصيبة العظيمة فهو سبب نقص محبة الله؛ لأن القلب لو امتلأ بمحبة الله ما كان له مجال أن يحب أشخاصاً وأشكالاً بهذه الطريقة المحرمة.

فروق بين المحبة في الله والمحبة مع الله

فروق بين المحبة في الله والمحبة مع الله ومحبتنا لإخواننا المسلمين نابعة من محبة الله، لا معارضة لها ولا مزاحمة لها، محبة الإنسان لأخيه في الله ليست مزاحمة لمحبة الله، بل هي نابعة من محبة الله، ولذلك كلما كان الشخص أكثر عبادة كنا أكثر محبة له، وكلما كان أكثر إخلاصاً وعملاً لله زادت محبتنا له، بغض النظر عن شكله ولونه ووسامته ودمامته ونحو ذلك. ولذلك فإنه لا بد للإنسان أن يفرق بين العشق وبين المحبة في الله، فأما المحبة لله فهي محبة خالصة قوية، بغض النظر عن شكله ولونه وعاهته، بل ربما أحب أجذع أفطس أعرج أشل أعمى لأنه قريب من الله، ويكره جميلاً وسيماً فاتناً لأنه عدو لله، أما العشق فإنه انتقاء من الأشكال ما يوافق الهوى. ثانياً: المحبة في الله تقرب إلى الله، أما العشق والمحبة مع الله فإنها تبعد عن الله سبحانه وتعالى بل تقطع الطريق على محبة الله، فهي محبة مع الله، ومحبة ما يبغض الله، ومحبة من تقطع محبته عن محبة الله. ثالثاً: الذي يحب في الله ينفتح على إخوانه المسلمين جميعاً، فيقيم العلاقات معهم جميعاً، ولا يستثني أحداً يستطيع أن يستفيد منه دون أحد، بينما هذا العاشق أو المتعلق قلبه بمن معه ينغلق عليه فينفرد له ويكون خالصاً له ولا يرضى أن يقيم علاقات، أو لا يعطي إخوانه الآخرين إلا النزر اليسير. رابعاً: إن هذه المحبة في الله تقود إلى استشعار لعظمة الله، وخشوع لله، أما المحبة مع الله فهي هيام وهموم وآلام عند الفرقة والابتعاد، المحبة في الله إذا خلا الإنسان عن الناس ففكره في طاعة الله، أما المحبة مع الله إذا خلا ففكره في معشوقه ومحبوبه، المحبة في الله تجعل الذي تحبه في الله يعينك على الابتعاد عن المعاصي، أما المحبة مع الله فإن هذا المعشوق والمحبوب يوقع في المعصية وربما في الفواحش. خامساً: المحبة في الله ألفاظ شرعية مجردة عن العلاقات الدنيوية، إني أحبك في الله، أما المحبة مع الله أو العشق فهي ألفاظ غرام وكتابات ورسائل وهواتف وربما كتب له أو ناداه أو ناداها بما لا يصلح إلا بين الرجل وزوجته. وهذا المجال الكلام فيه طويل وكثير وخصوصاً عند استشراء هذا الداء الذي ألم بكثير من بني البشر في هذا الزمان، حتى بين بعض الذين يظهر عليهم سيما الخير والصلاح، ولذلك كان لا بد من وقفة حازمة في قطع دابر هذا الشر بإخلاص العبادة لله سبحانه وتعالى والإقبال عليه، والانطراح بين يديه أن يخلص قلبه مما علق به من محبة المحبوبين من البشر أو عشقهم، وكذلك الابتعاد عمن هو سبب للداء، وسبب لهذا العشق، وألا تقع عينه على أثر، ولا يسمع له حس ولا خبر قدر الإمكان، بحيث يتنقى قلبه تدريجياً من هذا الداء العضال. ولعل هذا الموضوع يحتاج إلى مزيد من البيان والإيضاح، ولكن لعل فيما ذكر كفاية لأولي الألباب ومكائد الشيطان كثيرة في الحقيقة، والكلام عنها لا ينتهي، والرجوع فيها إلى أهل العلم الذين يبينون المكائد، ويبينون كيفية الصمود والمواجهة في وجه هذا العدو المبين الذي قال الله في شأنه: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} [فاطر:6] فلا زالت العداوة بيننا وبينه قائمة منذ أن آذى أبانا آدم عليه السلام وزوجته حواء. نسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يخلصنا وإياكم من كيد إبليس، وأن يقينا وساوسه وخطواته، وأن يجعلنا من جند الله وحزبه المفلحين، لا من جند إبليس وحزبه الخاسرين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.

الباقيات الصالحات

الباقيات الصالحات بدأ الشيخ حفظه الله درسه بذكر أقوال أهل العلم في معنى (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ) وثنى بذكر أجور هؤلاء العاملين للصالحات من كتاب الله عز وجل، ثم عدد أعمالاً كثيرة يبقى أجرها لفاعلها في حياته وبعد مماته، وأجاب في نهاية المحاضرة عن مجموعة من الأسئلة المتعلقة بالصيام وغيره من الأحكام الشرعية.

أقوال المفسرين في المراد بالباقيات الصالحات

أقوال المفسرين في المراد بالباقيات الصالحات الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فهذه أيام عشر ذي الحجة قادمة علينا، وليس هناك من أيام العمل الصالح أحب إلى الله تعالى فيهن من هذه الأيام. وحول العمل الصالح والباقيات الصالحات يدور درسنا هذه الليلة. يقول الله سبحانه وتعالى في سورة الكهف: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} [الكهف:46]. ويقول سبحانه وتعالى في سورة مريم: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَرَدّاً} [مريم:76] مرداً، أي: عاقبة ومرداً على صاحبها. أما بالنسبة للباقيات الصالحات فهذه طائفة من أقوال المفسرين في تفسير هذه الكلمة: قال ابن الجوزي رحمه الله: والباقيات الصالحات فيها خمسة أقوال: أحدها: أنها (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر). والثاني: أنها (لا إله إلا الله والله أكبر والحمد لله ولا قوة إلا بالله). والثالث: أنها الصلوات الخمس. والرابع: أنها الكلام الطيب. والخامس: جميع الأعمال الحسنة. وقال الشيخ صديق حسن خان رحمه الله في تفسيره فتح البيان: {الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} [مريم:76] أي: أعمال الخير التي تبقى لها ثمرتها أبد الأبد وهي ما كان يفعله فقراء المسلمين من الطاعات. وقال في البحر المحيط: {الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} [مريم:76] قال الجمهور: هي الكلمات المأثور فضلها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وقال ابن عباس وابن جبير وأبو ميسرة عمرو بن شرحبيل: [هي الصلوات الخمس] وعن ابن عباس: [كل عمل صالح من قول أو فعل يبقى للآخرة] ورجحه الطبري. وعن قتادة: كل ما أريد به وجه الله. وعن الحسن وعطاء: إنها النيات الصالحة، فإن بها تقبل الأعمال وترفع. ومعنى: {خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ} [مريم:76] أنها دائمة باقية وخيرات الدنيا منقرضة فانية، والدائم الباقي خير من المنقرض المنقضي. وقال القرطبي رحمه الله عن ابن عباس: [إنها كل عملٍ صالح من قول أو فعل يبقى للآخرة]. وقال ابن زيد ورجحه الطبري وهو الصحيح إن شاء الله: بأن كل ما بقي ثوابه جاز أن يقال له هذا، أي: إنه من الباقيات الصالحات. وقال علي رضي الله عنه: [حرث الآخرة الباقيات الصالحات] وقد قيل: إن الباقيات الصالحات هي النيات والهمات؛ الهمة الحسنة والنية الحسنة؛ لأنه بها تقبل الأعمال وترفع. قاله الحسن. وقال عبيد بن عمير -وهو قول فيه غرابة- في تفسير {الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} [مريم:76]: هن البنات، يدل عليه أوائل هذه الآية، قال الله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} [الكهف:46] أي: البنات الصالحات هن عند الله لآبائهن خيرٌ ثواباً وخيرٌ أملاً في الآخرة لمن أحسن إليهن. ثم استدل القرطبي رحمه الله بحديث عائشة في المرأة التي دخلت عليها وهي مسكينة ومعها ابنتان لها، فأعطتها عائشة تمرة كانت عندها، فقسمتها بين ابنتيها ولم تأكل منها شيئاً، ثم أخبرت النبي صلى الله عليه وسلم، فامتدح هذا الفعل وأخبر أن من عال هؤلاء البنات وابتلي بشيء منهن فصبر فإن الجنة ثوابه. وقال الألوسي رحمه الله في حديثٍ فيه أن الباقيات الصالحات هن بعض الأذكار، قال: وهن الباقيات -هذه الأذكار- المفيد للحصر بعد التنصيص على ما لا عموم فيه، وأياً ما كان فالباقيات صفة لمقدر كالكلمات أو الأعمال، أي: الأعمال الباقيات الصالحات، أو الكلمات الباقيات الصالحات، فما هي الباقيات الصالحات؟ الباقيات صفة، والموصوف محذوف تقديره: الكلمات أو الأعمال، وكذا تدخل أعمال فقراء المؤمنين الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه دخولاً أولياً، فإن لهم من كل نوع من أنواع الخيرات الحظ الأوفر. أما ابن كثير رحمه الله تعالى فكان من أكثر المفسرين نقلاً للآثار والتفسير في هذه الكلمات في سورة الكهف {الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} [الكهف:46] وبعد أن ساق أقوالاً كثيرةً وآثاراً في هذا، ساق رواية الإمام أحمد رحمه الله عن الحارث مولى عثمان رضي الله عنه قال: جلس عثمان وجلسنا معه، فجاءه المؤذن فدعا بماءٍ في إناءٍ أظنه سيكون مداً -وهو كيل عند أهل الحجاز - فتوضأ ثم قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ نحو وضوئي هذا، ثم قال: من توضأ نحو وضوئي هذا ثم قام فصلى صلاة الظهر غفر له ما كان بينها وبين الصبح، ثم صلى العصر غفر له ما بينها وبين الظهر، ثم صلى المغرب غفر له ما بينها وبين العصر، ثم صلى العشاء غفر له ما بينها وبين المغرب، ثم لعله يبيت يتمرغ ليلته، ثم إن قام فتوضأ وصلى صلاة الصبح، غفر له ما بينها وبين العشاء، وهي الحسنات يذهبن السيئات. قالوا: هذه الحسنات، فما الباقيات الصالحات يا عثمان؟ قال: هي: لا إله إلا الله، وسبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله) قال الهيثمي رحمه الله في مجمع الزوائد: رجاله رجال الصحيح، غير الحارث بن عبد الله مولى عثمان وهو ثقة. وختم ابن كثير كلامه في هذه الآية بقوله: وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هي الأعمال الصالحة كلها، واختاره ابن جرير رحمه الله تعالى. وقد ثبت حديثٌ مرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم في الباقيات الصالحات، وهو ما رواه النسائي والحاكم عن أبي هريرة قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (خذوا جنتكم من النار) في رواية الحاكم قالوا: (من عدوٍ يا رسول الله؟ قال: بل من النار، قولوا: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فإنهن يأتين يوم القيامة مقدماتٍ ومعقبات ومجنبات، وهن الباقيات الصالحات) وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير. وقال الشوكاني رحمه الله -بعدما نقل آثاراً وأخرجها ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة - قال: كل شيء من طاعة الله فهو من الباقيات الصالحات. وقال الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان: وأقوال العلماء في الباقيات الصالحات كلها راجعة إلى شيء واحد، وهي الأعمال التي ترضي الله، سواء قلنا: إنها الصلوات الخمس كما هو مروي عن جماعة من السلف، منهم ابن عباس وسعيد بن جبير وأبو ميسرة عمرو بن شرحبيل، أو أنها سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وعلى هذا القول جمهور العلماء، وجاءت أحاديث مرفوعة عن أبي سعيد الخدري وأبي الدرداء وأبي هريرة والنعمان بن بشير وعائشة رضي الله عنهم ثم قال الشنقيطي: قال مقيده عفا الله عنه -يعني نفسه-: التحقيق أن الباقيات الصالحات لفظ عام يشمل الصلوات الخمس والكلمات الخمس -والكلمات الخمس: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم- وغير ذلك من الأعمال التي ترضي الله تعالى؛ لأنها باقية لصاحبها غير زائلة ولا فانية كزينة الحياة الدنيا؛ لأنه قال في سورة الكهف: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:48] لكنها تفنى وتبيد: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} [الكهف:46] لأنها باقية لصاحبها غير زائلة ولا فانية كزينة الحياة الدنيا، ولأنها أيضا صالحة لوقوعها على الوجه الذي يرضي الله تعالى. وقال القاسمي رحمه الله في تفسيره محاسن التأويل: وقع في كلام السلف تفسير الباقيات الصالحات بالصلوات وأعمال الحج والصدقات والصوم والجهاد والعتق وقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر والكلام الطيب وبغيرها: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} [الكهف:46] أي: والأعمال التي تبقى ثمراتها الأخروية، من الاعتقادات والأخلاق والعبادات الكاملات، خيرٌ عند ربك من المال والبنين في الجزاء والفائدة، وخيرٌ مما يتعلق بهما من الأمل؛ لأن الإنسان في الدنيا عنده آمال، لكن الأمل في هذه الأعمال الصالحة خير من الأمل في الدنيا، فإن ما ينال بهما من الآمال الدنيوية أمرها إلى زوال، وما ينال من الباقيات الصالحات من منازل القرب الرباني والنعيم الأبدي لا يزول ولا يحول. وقال العلامة الشيخ/ عبد الرحمن السعدي رحمه الله في تفسيره تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان: وإن الذي يبقى للإنسان وينفعه ا

أجور الذين آمنوا وعملوا الصالحات

أجور الذين آمنوا وعملوا الصالحات والملفت للنظر في الذي يقرأ القرآن الكريم أن الله سبحانه وتعالى كثيراً ما يذكر الذين آمنوا وعملوا الصالحات ذكراً كثيراً جداً، وكذلك من عمل صالحاً، ورتب للذين آمنوا وعملوا الصالحات والذي عمل صالحاً أجوراً عظيمة ومكافآت جزيلة جداً، فمن ذلك: قوله سبحانه وتعالى في القرآن -وينبغي أن تحرك هذه الآيات النفوس وتحدوها إلى هذه الأعمال الصالحات-: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [البقرة:62]. {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [المائدة:69]. {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97]. {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى} [الكهف:88]. {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً} [مريم:60]. {إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ} [سبأ:37] {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} [غافر:40] وقال للنسوة: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً} [الأحزاب:31] {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ} [التغابن:9]. هذه بعض الآيات التي فيها ذكر جزاء العمل الصالح، أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فحدث عنهم في أجورهم وثوابهم مما ذكره الله في كتابه، ومن ذلك قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [البقرة:25]. {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [البقرة:82]. {وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ} [آل عمران:57]. {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [المائدة:9]. {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} [الرعد:29]. {وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} [الإسراء:9]. {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} [مريم:96]. {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى} [طه:75]. {فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الحج:50] وفي آية أخرى: {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [فصلت:8] وفي آية: {فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ} [الشورى:22] يدخلهم ربهم برحمته. {لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ} [العنكبوت:9]. {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً} [العنكبوت:58]. {فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} [الروم:15] يسمعون الغناء اللذيذ. هذا بعض ما ذكره الله في كتابه في أجر الذين يعملون الصالحات ومن عمل صالحاً، وهذه الأعمال الصالحة هي الباقيات الصالحات التي يبقى أجرها عند الله ذخراً لصاحبها، يحفظ حتى إذا جاء يوم القيامة وجده عنده، فيؤتى كتابه بيمينه، ويدخل الجنة برحمة الله سبحانه وتعالى جزاءً لهذه الأعمال الصالحة.

بعض الأعمال الصالحة وما ورد فيها من ثواب وجزاء

بعض الأعمال الصالحة وما ورد فيها من ثواب وجزاء أما الأعمال الصالحة فهي كثيرة جداً، والذي يستعرض القرآن وأحاديث النبي عليه الصلاة والسلام يجد من الأعمال الصالحة ما لا حصر له أبواب مختلفة، وأعمال متنوعة، وأجور عظيمة لهذه الأعمال الصالحة، وسنذكر -إن شاء الله- في هذا الدرس طائفة من الأعمال الصالحة في أبواب متنوعة من العبادات والمعاملات وغيرها، والأخلاق والآداب، ولكي تهفو النفوس إلى هذه الأعمال وتتحمس وتتوقد الهمم والعزائم لمواقعتها وفعلها. فهذه الأحاديث التي سنذكرها -إن شاء الله- فيها ذكر للجزاء والثواب، والله سبحانه وتعالى ذكر الجزاء والثواب لكي يتحمس العباد، وما عيشنا في هذه الدنيا -أيها الإخوة- إذا لم يكن لأجل الأعمال الصالحة؟! وما قيمة أعمالنا وأوقاتنا إذا لم تكن مملوءة بالأعمال الصالحة؟! وبأي شيء ندخل الجنة بعد رحمة الله إلا بسبب أعمالنا الصالحة؟! وما الذي ينجينا من نار جهنم التي حرها شديد وقعرها بعيد إلا الأعمال الصالحة؟! وما الذي يثبت أقدام المؤمنين على الصراط فلا تزل ولا تقع في النار إلا الأعمال الصالحة؟! وهذا العمل هو مقتضى الإيمان، فلا إيمان بغير عمل، والله سبحانه وتعالى ذكر لازم الإيمان بعد ذكر الإيمان كثيراً جداً في القرآن؛ فقال: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة:25] وهذا كثير جداً في القرآن، فلابد من الأعمال الصالحة. وهذه الأحاديث التي سنذكرها من أقواله صلى الله عليه وسلم مما ذكر أهل العلم صحته، وهي من الأحاديث الصحيحة التي صححها أهل العلم، وعلى الأقل سيكون فيها دافع وباعث وتحميس لفعل هذه الأعمال والقيام بها.

الطهارة والوضوء وبعض ما ورد فيهما

الطهارة والوضوء وبعض ما ورد فيهما فمما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في الأعمال الصالحة: الطهارة والوضوء قال النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (وأيما رجل قام وهو يريد الصلاة فأفضى الوضوء إلى أماكنه؛ سلم من كل ذنب وخطيئة هي له، فإن قام إلى الصلاة رفعه الله تعالى بها درجة، وإن رقد رقد سالماً) الوضوء لقيام الليل والوضوء للصلوات. وروى البخاري رحمه الله عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ بلالٍ عند الفجر: (يا بلال! حدثني بأرجى عملٍ عملته في الإسلام؛ فإني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة -أمام النبي عليه الصلاة والسلام- فقال بلال رضي الله عنه: ما عملت عملاً أرجى عندي من أني لم أتطهر طهوراً في ساعة من ليل أو نهارٍ إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي) فهذا أجر الطهور والصلاة. وأما السواك وفي قيام الليل بالذات فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا قام أحدكم يصلي من الليل فليستك -يستعمل السواك ويتسوك- فإن أحدكم إذا قرأ في صلاته وضع ملك فاه على فيه، ولا يخرج من فيه شيءٌ إلا دخل فم الملك) يطوف الملك بالمصلي، فإذا قرأ القرآن وضع الملك فمه على فم المصلي المتسوك المتطهر، فلا تخرج آية من فم المصلي إلا دخلت في فم الملك.

فضل الأذان

فضل الأذان وأما الأذان فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول المقدم، والمؤذن يغفر له مد صوته، ويصدقه من سمعه من رطبٍ ويابس، وله مثل أجر من صلى معه) وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأحد الصحابة: (إني أراك تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك أو باديتك فأذنت للصلاة فارفع صوتك بالنداء؛ فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جنٌ ولا إنس ولا حجر ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة) فمن أذن ولو أذاناً واحداً يحصل له هذا والمؤذن المحتسب لوجه الله لا يحتسب أجراً على الأذان الأمين على الوقت، الذي يوقظهم لصلاتهم الذي يخبرهم بوقت إفطارهم إذا صاموا ووقت إمساكهم، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من أذن ثنتي عشرة سنة وجبت له الجنة، وكتب له بتأذينه في كل يوم ستون حسنة، وبإقامته ثلاثون حسنة).

فضل المشي إلى الصلاة

فضل المشي إلى الصلاة أما المشي إلى الصلاة؛ فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أعظم الناس أجراً في الصلاة أبعدهم إليها ممشى -كلما مشى من بعيد استفاد- والذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام أعظم أجراً من الذي يصليها ثم ينام) وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا توضأ أحدكم فأحسن الوضوء ثم خرج إلى الصلاة لم يرفع قدمه اليمنى إلا كتب الله عز وجل له حسنة، ولم يضع قدمه اليسرى إلا حط عنه سيئة، فليقرب أحدكم أو ليبعد، فإن أتى المسجد فصلى في جماعة غفر له، فإن أتى المسجد وقد صلوا بعضاً وبقي بعضٌ صلى ما أدرك وأتم ما بقي، فإن أتى المسجد وقد صلوا فأتم الصلاة كان كذلك). وقال عليه الصلاة والسلام مبيناً أجراً عظيماً في حديث صحيح رواه أبو داود: (من خرج من بيته متطهراً إلى صلاة مكتوبة فأجره كأجر الحاج المحرم -والله واسع الفضل- ومن خرج إلى تسبيح الضحى لا ينصبه إلا إياه فأجره كأجر المعتمر، وصلاة على إثر صلاة لا لغوٌ بينهما كتابٌ في عليين) كتاب يكتب في عليين. أما الذي يصلي أربعين يوماً في جماعة، ويكون واقفاً في الصف عندما يكبر الإمام تكبيرة الإحرام، فيقول في شأنه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الحسن الذي رواه الترمذي: (من صلى لله أربعين يوماً في جماعة يدرك التكبيرة الأولى كتب له براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق) فيحافظ على أربعين يوماً في جماعة، أن يكون واقفاً في الصف عندما يكبر الإمام تكبيرة الإحرام. فهنيئاً لمن كان له براءات كثيرة.

فضل إطالة الصلاة والأذكار بعدها

فضل إطالة الصلاة والأذكار بعدها أما إطالة الصلاة وأجر ركوعها وسجودها فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن العبد إذا قام يصلي أُتي بذنوبه كلها فوضعت على رأسه وعاتقيه، فكلما ركع أو سجد تساقطت ذنوبه) فإذا كان الركوع طويلاً والسجود طويلاً كان تساقط الذنوب أكثراً. وأذكار الصلاة منها ثلاث وثلاثون سبحان الله، ومثلها الحمد لله، ومثلها الله أكبر، وتمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. ومن أذكار الصلوات التي بعد الصلاة: سبحان الله خمساً وعشرين، والحمد لله خمساً وعشرين، ولا إله إلا الله خمساً وعشرين، والله أكبر خمساً وعشرين. ومن أنواع الأذكار التي بعد الصلاة: سبحان الله عشر مرات، والحمد لله عشر مرات، والله أكبر عشر مرات، فلو كان هناك شخص مستعجل يقول هذه، وهذه أقصر صيغة، ومع هذا انظر إلى الأجر الوارد فيها:- روى الإمام أحمد والأربعة والبخاري في الأدب المفرد: عن ابن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خصلتان لا يحافظ عليهما عبدٌ مسلم إلا دخل الجنة، ألا وهما يسير، ومن يعمل بهما قليل) كثير من الناس بعد الصلاة يقومون ويمشون مسرعين بدون تسبيح وتحميد وتكبير من غير حاجة، والنبي عليه الصلاة والسلام قد قام مسرعاً بعض المرات ولكن لحاجة، وكثير من الناس اليوم يقومون بعد الصلاة دون هذه التسبيحات، يقول: (ومن يعمل بهما قليل، يسبح الله في دبر كل صلاة عشراً، ويحمده عشراً، ويكبر عشراً فذلك خمسون ومائة باللسان، وألف وخمسمائة في الميزان) هذا بالنسبة لبعد الصلاة، خمسون ومائة باللسان وألف وخمسمائة في الميزان؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها.

الذكر عند النوم

الذكر عند النوم الذكر عند النوم: سبحان الله ثلاثاً وثلاثين، والحمد لله ثلاثاً وثلاثين، والله أكبر أربعاً وثلاثين، قال في فضلها عند النوم: (إذا أخذ مضجعه يكبر أربعاً وثلاثين، ويحمده ثلاثاً وثلاثين ويسبحه ثلاثاً وثلاثين فتلك مائة باللسان وألف في الميزان) يكرر سبحان الله ثلاثاً وثلاثين، والحمد لله ثلاثاً وثلاثين، صاروا ستة وستين، والله أكبر أربعاً وثلاثين صاروا مائة باللسان، لكن في الميزان ألف، فأيكم يعمل في اليوم والليلة ألفان وخمسمائة سيئة؟ يعني: عندك الآن ألف وخمسمائة ترتبت بعد الصلوات وألف قبل النوم هذه ألفان وخمسمائة حسنة، فهذه كافية لأن تكفر ألفان وخمسمائة سيئة، فمن الذي يعمل في اليوم ألفان وخمسمائة سيئة، وهذه في الحساب.

صلاة الضحى وما تجلبه من أجر

صلاة الضحى وما تجلبه من أجر قال النبي صلى الله عليه وسلم في شأن صلاة الضحى وهي من الصلوات النافلة: (يصبح على كل سلامى من أحدكم في كل يوم صدقة) والسلامى هو عظم المفاصل، فكم في الإنسان من مفصل؟ فيه ثلاثمائة وستون مفصلاً في الإنسان، كل مفصل من هذه المفاصل له حق ينبغي عليك أداؤه، يجب أن تتصدق بصدقة عن كل مفصل، يعني: تأتي في اليوم بثلاثمائة وستين صدقة: (يصبح على كل سلامى من أحدكم في كل يوم صدقة) فمن أين نأتي بهذه الصدقات؟ قال: (فله بكل صلاة صدقة، وصيام صدقة، وحج صدقة، وتسبيح صدقة، وتكبير صدقة وتحميد صدقة) فلو قال شخص: أنا ما أظمن أن آتي بثلاثمائة وستين صدقة عن المفاصل، قال: (ويجزئ عن أحدكم من ذلك ركعتا الضحى). ووقت صلاة الضحى من بعد ارتفاع الشمس إلى قبيل صلاة الظهر، وأفضل وقتٍ لها حين ترمض الفصال ويشتد الحر، ويرفع البعير رجليه عن الأرض لاشتداد الحر، فتجده يرفع ويضع، فهذه صلاة الأوابين. وصلاة الضحى تصلى ركعتان اثنتان أو أربعاً وثمان، فصلها على أي عدد وردت فيه السنة، فهو يجزئ عن ثلاثمائة وستين صدقة في اليوم. وأما في شأن الصلاة عموماً قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ما من عبد يسجد لله سجدة إلا كتب الله له بها حسنة، وحط عنه بها سيئة، ورفع له بها درجة، فاستكثروا من السجود) فهذا فضل السجود في أي صلاة.

ما ورد في الصيام من أجر

ما ورد في الصيام من أجر أما الصيام الذي له باب مخصوص وهو باب الريان، فمنه ما هو فرض معروف أجره، وهو صيام رمضان، ومنه ما هو نفل ورد ذكر أجره في الأحاديث الصحيحة، وصيام النفل مراتب: فهناك صيام عرفة، وصيام عاشوراء، والأيام البيض، والإثنين والخميس، والأيام الأخرى التي لم ينه عنها إذا صامها يكون له أجرٌ عظيم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من صام يوماً في سبيل الله باعد الله بذلك اليوم حر جهنم عن وجهه سبعين خريفاً) وفي رواية: (باعد الله وجهه من جهنم سبعين عاما) وفي رواية: (باعد الله عنه جهنم مسيرة مائة عام) وكلها أحاديث صحيحة. أما يوم عرفة -ونحن مقبلون عليه- وصيامه لغير الحاج؛ لأن الحاج له شيء آخر، فأجر الحاج في عرفة شيء آخر، ويكفي أن الله يباهي بهم الملائكة، فلا يستحب له الصوم؛ لأنه يستعين بقوته في الحج وأعمال الحج وأعمال عرفة، أما المقيم فإنه يصوم، قال عليه الصلاة والسلام: (صوم يوم عرفة كفارة السنة الماضية والسنة المستقبلة) وقال صلى الله عليه وسلم: (صيام يوم عرفة إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده، وصيام يوم عاشوراء إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله) فصيام عرفة أعظم من صيام عاشوراء، وفي كل أجر. وبعض الناس لا يكتفي بأن يصوم، بل يريد أجراً إضافياً، وبعض الناس لا يستطيع أن يصوم لمرضٍ مثلاً ويريد أجر صائم فلم تحرمه الشريعة، ولم يحرمه الله الرحيم الرءوف من الأجر، فقال عليه الصلاة والسلام: (من فطر صائماً فله مثل أجره) من فطره فأشبعه فله مثل أجره، فلو دعا عدداً من الصائمين، ففطرهم فله مثل أجورهم، مع أنه هو واحد لكن حصل أجوراً عن صائمين، لا ينقص من أجر الصائم شيء ولا من أجر المفطر شيء فله مثل أجره.

ما ورد في فضل الحج والعمرة

ما ورد في فضل الحج والعمرة أما الحج والعمرة فإنهما من سبيل الله، الحاج والمعتمر وفد الله دعاهم إلى البيت العتيق فأجابوه، وإذا سألوه أعطاهم، والحج والعمرة فيها عدد من الأعمال: إحرام وسفر وتلبية وطواف وسعي وحلق الشعر، وفي الحج أيضاً وقوف بـ عرفة ورمي وذبح، وكلها فيها أجر. وانظر إلى التلبية مثلاً: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يلبي إلا لبى ما عن يمينه وشماله من حجرٍ أو شجر أو مدر -الطين اليابس- حتى تنقطع الأرض من هاهنا وهاهنا) عن اليمين وعن الشمال. أما الطواف فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من طاف بهذا البيت أسبوعاً -يعني: سبعة أشواط- فأحصاه كان كعتق رقبة لا يضع قدماً ولا يرفع أخرى إلا حط الله عنه بها خطيئة، وكتب له بها حسنة). يقول بعض الناس: نحن نذهب في رمضان إلى العمرة ونأتي بالعمرة فهل نأتي بعمرة أخرى؟ نقول: لا، المشروع لك أن تأتي بعمرة في السفرة الواحدة، يقول: فماذا نفعل إذا بقينا في مكة؟ افعل أشياء كثيرة من الطاعات والحسنات؛ لأن مكة المكان فاضل يضاعف لك فيه الأجر، ثم إنك تطوف في البيت سبعة وتصلي ركعتين في كل طوافٍ، وسبعة أشواط ليست عمرة، بل هو طواف نفل، فكل طواف سبعة ثم سبعة ثم سبعة، كل طواف له ركعتان، يكتب لك بها هذا الأجر (من طاف بهذا البيت أسبوعاً فأحصاه كان كعتق رقبة) كل طواف نفل مثل عتق رقبة. وأما استلام الحجر الأسود في الطواف وما أدراك ما استلامه! يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (والله ليبعثنه الله يوم القيامة -يعني: الحجر الأسود- له عينان يبصر بهما ولسان ينطق به، يشهد على من استلمه بحق) رواه الترمذي وهو حديث صحيح. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليأتين هذا الحجر يوم القيامة له عينان يبصر بهما -والله على كل شيء قدير- ولسان ينطق به يشهد على من استلمه بحق) (وفي مسحه هو والركن اليماني ياقوتتان من يواقيت الجنة -كما في الحديث الصحيح- طمس الله نورهما، ولو أن نورهم لم يطمس لأخذ الأبصار) وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد: (إن مسح الحجر الأسود والركن اليماني يحطان الخطايا حطاً). أما أجر أعمال الحج وثواب الحج، فقد جاء عند الطبراني بسندٍ حسنٍ عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأحد الصحابة: (أما خروجك من بيتك تؤم البيت الحرام فإن لك بكل وطأة تطؤها راحلتك يكتب الله لك بها حسنة، ويمحو عنك بها سيئة). وأما وقوفك بعرفة فإن الله ينزل إلى السماء الدنيا فيباهي بهم الملائكة، فيقول: (هؤلاء عبادي جاءوني شعثاً غبراً من كل فجٍ عميق، يرجون رحمتي ويخافون عذابي ولم يروني فكيف لو رأوني؟ فلو كان عليك مثل رمل عال -صحراء رملها كثير- أو مثل أيام الدنيا، أو مثل قطر السماء ذنوباً غسلها الله عنك) وأما رميك الجمار فإنه مدخور لك، فلم يذكر أجره. وأما حلقك رأسك فإن لك بكل شعرة تسقط حسنة، فإذا طفت بالبيت خرجت من ذنوبك كيوم ولدتك أمك.

قراءة القرآن وما فيها من أجر

قراءة القرآن وما فيها من أجر وأما كتاب الله سبحانه وتعالى فإن تلاوته من أعظم أبواب الخير ومن أجلِّ الأعمال الصالحة، فإنه كلامه سبحانه، والله قد امتدح الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة، والذين يذكرون الله وأعظم الذكر قراءة القرآن، الذي يُكتب له بكل حرف عشر حسنات، والحسنة بعشر أمثالها (لا أقول: ألم حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف) ومع كثرة التلاوة تكثر الحسنات، فيقول النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الحسن الذي رواه الترمذي وغيره: (يجيء القرآن يوم القيامة فيقول: يا رب حله -لصاحب القرآن- فيلبس تاج الكرامة، ثم يقول: يا رب زده، فيلبس حلة الكرامة، ثم يقول: يا رب! ارض عنه، فيرضى عنه، فيقول: اقرأ وارق ويزاد بكل آية حسنة) كل الآيات التي قرأها في الدنيا يرقى بها مراتب ويزاد حسنات في الآخرة. وسجود التلاوة ترغيم للشيطان، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد، اعتزل الشيطان يبكي، يقول: يا ويله أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فعصيت فلي النار) رواه مسلم.

ذكر الله وما لفاعله من عطايا جزيلة

ذكر الله وما لفاعله من عطايا جزيلة وبعد قراءة القرآن يكون ذكر الله تعالى من الدعاء والاستغفار والتحميد والتهليل والتكبير والتسبيح والاسترجاع، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في فضل التسبيح: (أيعجز أحدكم أن يكسب كل يوم ألف حسنة؟! يسبح الله مائة تسبيحة فيكتب الله له بها ألف حسنة، ويحط عنه بها ألف خطيئة) رواه مسلم. وقال النبي صلى الله عليه وسلم في فضل الأربعة: (إن الله اصطفى من الكلام أربعاً: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، فمن قال: سبحان الله كتبت له عشرون حسنة، وحطت عنه عشرون سيئة، ومن قال: الله أكبر مثل ذلك، ومن قال: لا إله إلا الله مثل ذلك، ومن قال: الحمد لله رب العالمين من قبل نفسه خالصاً لله كتبت له ثلاثون حسنة، وحط عنه ثلاثون خطيئة). وأما التهليل: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، من قالها في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر -كأنما أعتق عشراً- رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحدٌ بأفضل مما جاء به إلا أحدٌ عمل عملاً أكثر من ذلك). وأما إذا قال في الصبح: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير مائة مرة كان له عتق رقبة من ولد إسماعيل، وكتبت له بها عشر حسنات، وحط بها عنه عشر سيئات ورفع له بها عشر درجات، وكان في حرزٍ من الشيطان حتى يمسي وإذا قالها إذا أمسى كان له مثل ذلك حتى يصبح). وأما الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فهي من أجل الأذكار وأعظم ما يشتغل به، حتى إن الله يكفي العبد إذا جعل دعاءه صلاة على النبي عليه الصلاة والسلام من الهم والغم، ويبلغ الله هذه الصلاة لنبيه بملكٍ مخصوص، قال النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الحسن: (إن الله تعالى وكل ملكاً أعطاه سمع العباد، فليس من أحدٍ يصلي علي إلا أبلغنيها، وإني سألت ربي ألا يصلي علي عبدٌ صلاة إلا صلى عليه عشر أمثالها) صلى الله عليه وسلم.

حلق الذكر والفضل الوارد لمرتاديها

حِلق الذكر والفضل الوارد لمرتاديها ومن أعظم العبادات وأبواب الطاعات الباقيات الصالحات: حلق الذكر. نسأل الله أن يجعلنا من أهلها، وأن يجعلنا من المكتوبين فيمن يذكرهم سبحانه وتعالى، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لأن أقعد مع قومٍ يذكرون الله تعالى من صلاة الغداة حتى تطلع الشمس أحب إلي من أن أعتق أربعة من ولد إسماعيل، ولأن أقعد مع قومٍ يذكرون الله من صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس أحب إلي من أن أعتق أربعة) رواه أبو داود. وإذا كان مجلس علم وذكر ما قام أهله إلا وقد قالت لهم الملائكة: (قوموا مغفوراً لكم قد بدلت سيئاتكم حسنات). وإذا كان مجلس العلم في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام فأنعم به من أجر، قال عليه الصلاة والسلام: (من جاء مسجدي هذا) الناس إذا راحوا المدينة يقولون: ماذا نفعل في المدينة، لنذهب إلى الحرم؟ يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (من جاء مسجدي هذا لم يأته إلا لخير يتعلمه أو يعلمه فهو في منزلة المجاهد في سبيل الله، ومن جاءه لغير ذلك -ينظر إلى المنقوشات والزخارف- فهو بمنزلة الرجل ينظر إلى متاع غيره) فالنية هي التي ترفع صاحبها. أما مسجد قباء فيقول النبي عليه الصلاة والسلام: (من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه كان له كأجر عمرة). وتعليم العلم ممن يعلمه قربة عظيمة وفضل كبير، قال صلى الله عليه وسلم: (من علم علماً فله أجر من عمل به لا ينقص من أجر العامل) والدلالة على الخير أياً كان هذا الخير من الباقيات الصالحات، قال صلى الله عليه وسلم: (من دل على خيرٍ فله مثل أجر فاعله) والذي يدل الناس على حلق العلم ويدل الناس على العلماء، أو أعطيته رقم هاتف عالم يتصل به، والذي يدل الناس على سبيلٍ وطريقة ييسر لهم بها أمر الحج فله أجر.

الجهاد وفضل المجاهدين في سبيل الله

الجهاد وفضل المجاهدين في سبيل الله ولا شك أن من أعظم القرب الجهاد في سبيل الله؛ لأن الجهاد فيه إراقة دماء وذهاب أموال وتيتم أطفال وترمل النسوة، فقد جاء فيه من الأجر العظيم ما تواردت به الآيات والأحاديث، وهي الصفقة التي عقدها الله مع المجاهدين في أعظم كتابٍ وفي أعظم كتب: التوراة والإنجيل والقرآن: {يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} [التوبة:111] وجعل الثمن الجنة، وجعل ما يقدم لنيل الجنة الأنفس والأموال، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في أجر المجاهد: (من قاتل في سبيل الله فواق ناقة فقد وجبت له الجنة) (ومن سأل الله القتل في سبيل الله من نفسه صادقاً ثم مات أو قتل فإن له أجر شهيد، ومن جرح جرحاً في سبيل الله أو نكب نكبةً فإنها تجيء يوم القيامة كأغزر ما كانت لونها لون الزعفران وريحها ريح المسك، ومن خرج به خراجاً في سبيل الله كان عليه طابع الشهداء) رواه أحمد والثلاثة وابن حبان والحديث صحيح. وقال النبي صلى الله عليه وسلم مبيناً أجر الوقوف في ساحة المعركة: (موقف ساعة في سبيل الله خيرٌ من قيام ليلة القدر عند الحجر الأسود) وقال عليه الصلاة والسلام: (مُقام الرجل في الصف في سبيل الله أفضل من عبادة ستين سنة) رواه الطبراني وهو حديث صحيح. وأما الرباط والسهر لحراسة المسلمين في الثغور التي هي متاخمة لبلاد العدو الذين يتربصون بالمسلمين الدوائر ويريدون الإيقاع بهم والإغارة عليهم، فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من رابط يوماً وليلة في سبيل الله كان له كأجر صيام شهرٍ وقيامه، ومن مات مرابطاً جرى له مثل ذلك من الأجر في قبره -لا ينقطع العمل بل يجري عليه- وأجري عليه الرزق وأمن الفتان) الذي يكون في القبر. أما الرمي في سبيل الله فقد قال صلى الله عليه وسلم: (أيما مسلم رمى بسهمٍ في سبيل الله فبلغ مخطئاً أو مصيباً فله من الأجر كرقبة أعتقها من ولد إسماعيل) هذه الرمية الواحدة؛ سهم رصاصة قذيفة صاروخ.

فضل تجهيز المجاهدين والاستعداد للغزو

فضل تجهيز المجاهدين والاستعداد للغزو والإعداد للجهاد واحتباس الفرس استعداداً للمعركة إذا قامت، قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد والبخاري: (من احتبس فرساً في سبيل الله إيماناً بالله وتصديقاً بوعده، كان شبعه وريه وروثه وبوله حسنات في ميزانه يوم القيامة). وقد يتعذر على بعض الناس الجهاد أو لا يجدون سبيلاً للجهاد وهم يتوقون للجهاد وللاستشهاد، فلهذه النفوس المتحرقة للجهاد والاستشهاد الطامعة في بلوغ منازل الشهداء لا يحرمهم الله من الأجر إذا كانوا صادقين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من سأل الله الشهادة بصدقه بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه) ولذلك من المستحبات في الدعاء أن نسأل الله القتل في سبيل الله، اللهم اجعل قتلتنا في سبيلك يا رب العالمين، اللهم اجعلنا شهداء في سبيلك يا أرحم الراحمين. وأما الذين يجهزون الغزاة وينفقون على جيوش المسلمين ويتصدقون لدعم المجاهدين فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عن أجرهم: (من جهز غازياً في سبيل الله كان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجر الغازي شيئاً) يحتاج إلى تذكرة سفر وإلى ملابس وإلى عتاد وسلاح، فهو يزوده بما يحتاج فيكون له مثل أجره. وعندما يخرج الغازي من بلده ويترك زوجة وأولاداً، ماذا له؟ لما شجع الإسلام على الجهاد جعل في إخلاف الغازي في أهله أجراً، فالذي يرعى له أهله وأولاده في غيبته قال النبي صلى الله عليه وسلم عنه: (أيكم خلف الخارج في أهله وماله بخير) يعني: حتى لو نمى له ماله، مجاهد عنده مال فهو ينميه له والمجاهد غائب، وخلفه في أهله، أي: يتفقد أحوالهم وينفق عليهم ويقضي حوائجهم: (كان له مثل نصف أجر الخارج) فما بالك لو خلف اثنين أو ثلاثة؟! رواه الإمام مسلم.

كفالة الأيتام والسعي على الأرامل

كفالة الأيتام والسعي على الأرامل ومن أنواع الجهاد: كفالة الأيتام والسعي على الأرامل، فهذا المجتمع يموت فيه الرجال ويخلفون أيتاماً وأرامل، وهذه الشريعة تكفل وتحمس الناس على رعاية الضياع؛ والضياع هم الأيتام، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا وكافل اليتيم كهاتين) (الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله) يكفل اليتيم ويسعى على الأرملة (أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين) من قربه من النبي عليه الصلاة والسلام.

فضل رعاية البنات

فضل رعاية البنات ومن الباقيات الصالحات وأبواب الخير رعاية البنات، والله سبحانه وتعالى: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً} [الشورى:49 - 50] يعني: يعطيه إناثاًَ وذكوراً، هذا القسم الثالث: {وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً} [الشورى:50] لا إناث ولا ذكور وهو القسم الرابع، والنفوس قد تتسخط البنات، لما في البنت من النفقة عليها وهي لا تساعد؛ لأنها ضعيفة تحتاج إلى رعاية وقد يلحق به عارٌ بسببها، فقد تأنف النفوس البنات وتكره البنات، لكن لا يجوز في الشريعة تسخط البنات، فهذا عطاء الله. ورعاية البنات فيه أجر عظيم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان له ثلاث بنات فصبر عليهن وأطعمهن وسقاهن وكساهن من جدته) يعني: من ماله، فكساهن مما عنده ومما أعطاه الله (كن له حجاباً من النار يوم القيامة) فهو يصبر عليهن، يعني: يربيهن على الشريعة، ويتعاهدهن في الصلوات والصيام والزكاة، ويتعاهدهن في أمور العبادات والطاعات والتخلق بالأخلاق الحسنة ويتعاهدهن بالحجاب والعفة.

الأخوة الإيمانية وفضل المحافظة عليها

الأخوة الإيمانية وفضل المحافظة عليها أما الأخوة وهي العبادة العظيمة والوشيجة بين المؤمنين فينبغي أن نكون كما في الحديث: (كونوا عباد الله إخوانا) والأخوة لها حقوق وواجبات ومستحبات وآداب. فمما تتضمنه الأخوة الزيارة في الله، يقول النبي عليه الصلاة والسلام في فضل الزيارة في الله: (زار رجلٌ أخاً له في قرية فأرصد الله له ملكاً على مدرجته -في طريقه- فقال: أين تريد؟ قال: أخاً لي في هذه القرية، فقال: هل له عليك من نعمة تربها؟ قال: لا، إلا أني أحبه في الله، قال: فإني رسول الله إليك أن الله قد أحبك كما أحببته) رواه أحمد ومسلم. فبمجرد الالتقاء بالإخوان والمصافحة؛ ووضع سطح اليد في سطح اليد لله، يأخذ بيده لا يأخذها إلا لله، فيه أجر عظيم، فانتبه يا من تفرط في المصافحة أو لا تصافح، بعضهم يسلم عليك برءوس أصابعه، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (ما من مسلمين يلتقيان فيسلم أحدهما على صاحبه ويأخذ بيده لا يأخذ بيده إلا لله فلا يفترقان حتى يغفر لهما) وقال صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غُفر لهما قبل أن يتحركا). وقد يمرض الأخ المسلم فزيارته فيها أجر مضاعف أكثر من أجر زيارة الأخ العادي غير المريض، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من زار أخاه المسلم) تعرفه أو لا تعرفه، مادام مسلماً فهو أخوك (عائداً مشى في خرافة الجنة حتى يجلس) أي: ثمر الجنة وجني الجنة (فإذا جلس غمرته الرحمة، فإن كان غدوة) أي: زاره في الصباح (صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن كان مساءً صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح) وقال عليه الصلاة والسلام: (ما من مسلمٍ يعود مسلماً غدوة إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن عاده عشية صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح، وكان له خريف في الجنة) ثمر في الجنة. وقد يموت فيكون في غسله أجر، وتكفينه أجر، والصلاة عليه أجر، واتباع جنازته أجر؛ أما غسله فيقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (من غسَّل ميتاً فستره ستره الله من الذنوب، ومن كفنه كساه الله من السندس) وهو حرير الجنة، رواه الطبراني وهو حديث حسن. واتباع جنازته يقول صلى الله عليه وسلم فيه: (من تبع جنازةً حتى يصلى عليها ويفرغ منها فله قيراطان، ومن تبعها حتى يصلى عليها) فقط دون اتباعها إلى المقبرة (فله قيراط، والذي نفس محمدٍ بيده لهو أثقل في ميزانه من أحد) وهذا القيراط من قيراطي الذي يتبعها حتى تدفن ويفرغ منها ويهال عليها التراب أثقل في ميزانه من جبل أحد، فكم وزن الجبل؟!! وقد يُغتاب أخوك المسلم في مجلس ويوقع فيه، فما هي مسئوليتك؟ يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة) وقال: (من رد عن عرض أخيه كان له حجاباً من النار) فإذا وقعوا فيه لا تسكت، يجب أن تتكلم، فيرد الله عنك النار بدفاعك عن أخيك المسلم، وذبك عن عرضه، وإسكاتك للذي يغتاب. وإلقاء السلام على المسلمين فيه أجر، قال صلى الله عليه وسلم: (السلام اسم من أسماء الله وضعه الله في الأرض فأفشوه بينكم، فإن الرجل المسلم إذا مر بقومٍ فسلم عليهم فردوا عليه كان له عليهم فضل درجةٍ بتذكيره إياهم السلام) إذا مر بقومٍ فسلم عليهم فردوا عليه كان له عليهم فضل درجة بتذكيره إياهم السلام. والآن نحن نعلم أن الذي يقول: وعليكم السلام له عشرة، ورحمة الله له عشرون، وبركاته له ثلاثون، فما للمُسَلِّم الذي سلّم؟ بعض الناس يعرف أجر رد السلام لكن لا يعرف أجر المسلِّم، في هذا الحديث: (إذا مر بقومٍ فسلم عليهم فردوا عليه، كان له عليهم فضل درجة -زيادة- بتذكيره إياهم السلام، فإن لم يردوا عليه -فبعض الناس تسلم عليه فلا يرد عليك، فتحزن، لكن إذا علمت الأجر الذي لك لا تحزن- رد عليه من هم خيرٌ منهم وأطيب من خلق الله من الملائكة) فلا تحزن إذا لم يردوا عليك، فقد رد عليك من هو خيرٌ منهم وأطيب. والناس في المجتمع يحتاج بعضهم إلى بعض، وقد تنزل فاقة بأحدهم ويحتاج أن يستلف، وقد يقولون: الآن لا أحد يسلفنا، فهذه بنوك الربا ليس إلا هي، فنقول: الشريعة جعلت بدل الربا حسناتٍ كثيرة لمن يسلف أخاه المسلم أو يدينه، ويقرضه، بل لمن ينظره إذا حل الأجل ولم يستطع الوفاء، قال عليه الصلاة والسلام: (من أنظر معسراً فله بكل يومٍ مثله صدقة، قبل أن يحل الدين) يعني: سلفه المال إلى آخر السنة ففي كل يوم صدقة (فإذا حل الدين فأنظره) يعني: جاء آخر السنة فلم يوفه، فأمهله أيضاً (فله بكل يومٍ مثلاه صدقة).

إماطة الأذى عن الطريق

إماطة الأذى عن الطريق وإماطة الأذى عن الطريق وهي مسألة قد يستحقرها كثير من الناس ويأنف منها أو يتركها، قال عليه الصلاة والسلام في أجر ذلك: (مر رجل على غصن شجرة في الطريق فقال: والله لأنحين هذا عن المسلمين لا يؤذيهم، فأُدخل الجنة) رواه مسلم، وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم أيضاً: (لقد رأيت رجلاً يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي الناس). وحتى قتل الوزغ -هذا الحيوان الكريه- الذي كان ينفخ النار على إبراهيم عليه السلام، وهو يخرج في أيام الحر قتله صدقة، قال عليه الصلاة والسلام: (من قتل وزغة في أول ضربة كتب له مائة حسنة، ومن قتلها في الضربة الثانية فله كذا وكذا حسنة، وإن قتلها في الضربة الثالثة فله كذا وكذا حسنة) رواه مسلم رحمه الله. والذين لهم بساتين أو حدائق أو مزارع أو يزرعون في بيوتهم إذا قصدوا وجه الله بزراعتهم وما قصدوا إضاعة المال ولا قصدوا المباهاة والمفاخرة وإنما زرعوا لله، يقول عليه الصلاة والسلام: (ما من مسلم يغرس غرساً) وهذا الحديث يشجع على غرس الأشجار، ويشجع على البذر والرعاية للزرع: (ما من مسلم يغرس غرساً إلا كان ما أُكل منه له صدقة، وما سرق منه صدقة، وما أكل السبع فهو له صدقة، وما أكلت الطيور فهو له صدقة، ولا يرزأه أحد -يعني: ينقص منه- كان له صدقة) رواه مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه.

مجموعة من الأجور الدائمة بعد الموت

مجموعة من الأجور الدائمة بعد الموت وقد جاء في الشريعة أبواب كثيرة للخير، فمنها: الأشياء التي تنفع الإنسان بعد موته، والصدقات الجارية، ومن ذلك ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علماً نشره، وولداً صالحاً تركه، ومصحفاً ورثه) أقرأ واحداً وعلمه القرآن (أو مسجداً بناه) ولو كان صغيراً (أو بيتاً لابن السبيل بناه) يعني: على قارعة طريق السفر ينزل فيه المسافرون مجاناً (أو نهراً أجراه) يشرب منه المسلمون (أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته) وهذه أنواع الصدقات الجارية التي يجري ثوابها لابن آدم في قبره. وهذه طائفة من الأعمال الصالحة وغيرها كثير مما ذكر أجره في النصوص ومما لم يذكر أجره وحثت عليه الشريعة، لقد صنف العلماء في هذا مصنفات، فمن ذلك: كتب الترغيب والترهيب ككتاب الترغيب والترهيب للحافظ المنذري رحمه الله، ومما صنف في هذا الحافظ المقدسي في كتاب فضائل الأعمال، ومما صنف في ذلك أيضاً الدمياطي رحمه الله في المتجر الرابح أو في ثواب العمل الصالح، ولا تكاد تجد مصنفاً من مصنفات العلماء المحدثين إلا وتجد أبواباً في أعمال الخير وثوابه، وكل هذا مما تحث به الشريعة على فعل الخيرات، وعمل الصالحات وهن الباقيات للإنسان بعد رحيله من هذه الدنيا. فنسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا وإياكم من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وأن يضاعف لنا الأجور، وأن يعلي لنا الدرجات، ونسأله سبحانه وتعالى أن يجعل في حياتنا عوناً لنا على طاعته، وأن يجعل أعمارنا مملوءة بذكره وشكره وحسن عبادته، والحمد لله رب العالمين.

الأسئلة

الأسئلة

حكم السحب على الجائزة الموجودة في بعض البقالات

حكم السحب على الجائزة الموجودة في بعض البقالات Q يوجد في بعض البقالات سحب على المشتروات وأرقام توزع لمن اشترى بمبلغ معين أو لمن اشترى أي سلعة، فما حكم ذلك؟ A كما ذكرنا سابقاً أن هذا نوع من أنواع الميسر، فهو حرام، أي لا يجوز، أي محل يقول لك: اشتر مني وأعطيك رقماً سواء سلعة أو بمبلغ معين أعطيك رقماً ثم يجرى عليه السحب ويعطى جوائز فهو ميسر، فلا يجوز، وفيه أضرار كثيرة: من ذلك إغراء الناس بشراء أشياء لا يحتاجون إليها، وهذا الذي يدفع مبلغاً ثم قد يأخذ وقد لا يأخذ وقد يكسب وقد لا يكسب وقد يربح وقد لا يربح، فهذه مقامرة محرمة لا تجوز. أما إذا جعل لكل شخص يشتري هذه السلعة يعطى الهدية الفلانية المعينة فهذا جائز، وليس فيه مقامرة وإنما هو هدية معينة معروفة لمن يشتري السلعة الفلانية.

صفة قيام الليل

صفة قيام الليل Q ما هي صفة قيام الليل؟ A قيام الليل له صفات كثيرة من أفضلها مثنى مثنى ويوتر بواحدة، ويكون عددها إحدى عشرة ركعة، فهذه أفضل كيفية لصلاة الليل، وسواء سردها أو أنه قام ثم نام ثم قام وأكمل، فهو أيضاً طيب.

كيفية قضاء الصوم لمن لا يعلم عدد الأيام التي أفطرها

كيفية قضاء الصوم لمن لا يعلم عدد الأيام التي أفطرها Q أفطرت في بعض أيام رمضان منذ عدة سنوات ولا أدري كم عدد الأيام؟ A اعمل بما يغلب على ظنك، فتقدرها تقديراً واقضها وأطعم مسكيناً عن كل يوم، ويدخل التأخير إذا كان مضى عليها أكثر من سنة.

صفة المسكين

صفة المسكين Q ما صفة المسكين؟ A الفقير الذي لا يجد أي شيء، والمسكين الذي يجد بعض الشيء: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف:79] لكن لا يكفيهم دخلهم وما يأتيهم من السفينة لذا سماهم الله مساكين، فقد يكون لا يعمل وما عنده مصدر أبداً، وقد يكون عنده مصدر لكن لا يكفي، فإذا كان لا يكفي فهو مسكين، أما من ليس عنده مصدر أصلاً فهو فقير.

ما يفعله من يضحي عن آخر

ما يفعله من يضحي عن آخر Q شخص يريد أن يضحي عن ميت بموجب وصية هل يمسك عن الشعر والأظفار؟ A لا؛ لأنه مجرد منفذ في المال عن الميت، وهو منفذ وصية ليس المال منه ولا الأضحية أضحيته، فهو لا يمسك، فهو مجرد وكيل أو منفذ، أما إذا تبرع من ماله عن ميت فيلزمه أن يمسك، أو ضحى هو فيلزمه أن يمسك عن الشعر والأظفار.

ما تفعله من تريد أن تضحي

ما تفعله من تريد أن تضحي Q هل المرأة التي تريد أن تضحي تتزين وتتجمل لزوجها وتتعطر؟ A نعم؛ لأنها ممنوعة عن الشعر والأظفار والبشرة فقط، لكن أخذ الجلد، أو القشور والبقية فلا بأس.

حكم الجماع لمن أراد أن يضحي

حكم الجماع لمن أراد أن يضحي Q ما حكم الجماع لمن أراد أن يضحي؟ A لا بأس من ذلك، وليس بممنوع.

حكم تساقط الشعر غير المتعمد لمن أراد أن يضحي

حكم تساقط الشعر غير المتعمد لمن أراد أن يضحي Q امرأة تريد أن تضحي ولكنها حائض وطهرت أثناء العشر وهي تعلم أنها إذا اغتسلت سيتساقط بعض الشعر؟ A لا حرج عليها؛ لأنها ليست بمتعمدة وقاصدة لتساقط الشعر وإنما لابد من الغسل لأجل الصلاة، ولذلك لا حرج عليها.

استعمال الصابون المعطر لمن يريد الأضحية

استعمال الصابون المعطر لمن يريد الأضحية Q ما حكم استعمال الصابون المعطر والشامبو لمن أراد أن يضحي؟ A لا بأس به.

حكم زيارة المرأة لقبر النبي صلى الله عليه وسلم

حكم زيارة المرأة لقبر النبي صلى الله عليه وسلم Q ورد في الحديث النهي عن زيارة القبور للنساء، فما حكم زيارتها لقبر النبي صلى الله عليه وسلم؟ A قال أهل العلم: إذا كانت في المسجد النبوي فمرت بالقبر سلمت وإلا لا تتقصد القبر، فإذا كان طريقها من هناك تسلم وتمشي.

ائتمام المرأة بإمام مسجد وهي في بيتها

ائتمام المرأة بإمام مسجد وهي في بيتها Q ما حكم صلاة المرأة في بيتها حيث إنها تتابع إمام المسجد الذي يجاور المنزل؟ A لا يجوز؛ لأن الصفوف لم تتصل وبين المنزل والمسجد شارع يمر فيه الناس والدواب، فإذاً لا يصح والائتمام غير صحيح.

حكم صلاة ذوات الأسباب في أوقات الكراهة

حكم صلاة ذوات الأسباب في أوقات الكراهة Q هل فعل بلال في الصلاة بعد كل وضوء يشمل أوقات الكراهة؟ A صلاة ركعتين بعد الوضوء لها سبب، وصلاة ذوات الأسباب في وقت ذات الكراهة لا بأس بها، والصلوات التي ليس لها أسباب لا هي استخارة ولا هي كسوف وإنما هي من النفل المطلق، فهذه ينهى عنها.

حكم قول: (صدق الله العظيم) بعد الانتهاء من القراءة

حكم قول: (صدق الله العظيم) بعد الانتهاء من القراءة Q ما حكم (صدق الله العظيم) بعد قراءة القرآن؟ A لم يرد في السنة ولم يثبت، ولذلك المداومة عليه من البدع، ولا شك في ذلك، ولو تتابع عليه الناس والقراء والإذاعات فإنه يبقى بدعة من البدع، لم يرد في السنة، فهو عبادة وليس عادة ولا سيارة ولا اختراع، بل هو عبادة، والأصل في العبادة المنع حتى يرد الدليل، وليس هناك دليل إذاً لا تفعل.

حكم تعليق الإعلانات في المساجد

حكم تعليق الإعلانات في المساجد Q ما حكم تعليق الإعلانات داخل المساجد؟ A إذا كانت إعلانات تجارية لا تعلق داخل المساجد وإنما تعلق خارج المساجد، وأما إعلانات المحاضرات والدروس فلا بأس بتعليقها في المساجد، وكل أعمال الخير والمراكز الصيفية التي فيها استفادة من الأوقات وغير ذلك من البرامج النافعة فهذه لا بأس.

حكم إطعام نفس المسكين في كل الأيام

حكم إطعام نفس المسكين في كل الأيام Q هل يجوز لك إطعام مسكين واحد لكل الأيام؟ A نعم؛ لأنه لا يشترط أن يكون عدد المساكين بعدد الأيام، وإنما إطعام مسكين عن كل يوم أخره، فهو لو أعطاها لمسكين واحد جاز ذلك، هب أنه ترك صيام شهر فإنه يقضيه، وعن اليوم الواحد كيلو ونصف من الرز في ثلاثين تساوي خمسة وأربعين كيلو، فيخرج خمسة وأربعين كيلو من الرز مع ذبيحة مثلاً ويعطيها لعائلة من الفقراء.

حكم ترك الصلاة في المسجد القريب للذهاب إلى البعيد

حكم ترك الصلاة في المسجد القريب للذهاب إلى البعيد Q يوجد في منطقة سكني مسجد قريب والآخر بعيد هل أذهب إلى البعيد؟ A لا بأس في ذلك إذا كان لا يؤدي ترك القريب إلى وحشة بينك وبين الإمام أو اتهامٍ له أو إفراغ القريب من المصلين.

حكم التسبيح بعد الخروج من المسجد للمستعجل

حكم التسبيح بعد الخروج من المسجد للمستعجل Q هل يجوز تأخير التسبيح بعد الصلاة إلى خارج المسجد في السيارة أو في الطريق إذا كان الإنسان مستعجلاً؟ A الأفضل أن يقوله وهو جالس بعد الصلاة، لكن لو كان مستعجلاً فقالها في الطريق وهو خارج فلا بأس، وهو مأجور إن شاء الله، لكن أجره في قعوده للذكر بعد الصلاة هو السنة.

حكم إسبال الملابس بغير خيلاء

حكم إسبال الملابس بغير خيلاء Q ما حكم إسبال الملابس بغير خيلاء؟ A لا يجوز؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (ما تحت الكعبين -من الإزار- ففي النار) (ومن جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه) فرتب على عملين مختلفين جزاءين مختلفين، مجرد كونه تحت الكعب فهو في النار، وأما إذا جره خيلاء فله عقوبة أعظم، وهي أن الله لا ينظر إليه.

حكم خروج المرأة إلى السوق بغير محرم

حكم خروج المرأة إلى السوق بغير محرم Q هل خروج المرأة في الأسواق من غير محرم جائز؟ A إذا كان بغير فتنة وهي متحجبة الحجاب الكامل ولا يؤذيها الفساق؛ لأنه إذا كان الفساق يؤذونها لابد أن تخرج مع من يحميها، ولا تتعرض للفتنة، فإذا لم توجد هذه المحاذير فلا بأس.

حكم الاستهزاء بالملتزمين

حكم الاستهزاء بالملتزمين Q ما حكم الاستهزاء بالملتزمين بأوامر الله ورسوله؟ A إذا كان الاستهزاء لالتزامهم فهو كفر، وإذا كان الاستهزاء بأشخاصهم أو ألوانهم أو أشكالهم فهو فسق.

حكم الكشف على زوجة العم وتعزيتها

حكم الكشف على زوجة العم وتعزيتها Q هل يجوز أن أكشف على زوجة عمي؟ وهل لي أن أعزيها بالهاتف؟ A لا، ليست من المحارم، ولا بأس بالكلام الطيب بالمعروف.

حكم وضوء من انتصب ذكره

حكم وضوء من انتصب ذكره Q هل الانتصاب ينقض الوضوء؟ A لا. لا ينقض إلا إذا أنزل شيئاً أو خرج منه شيءٌ مثل المذي.

جمع النية في الصوم بين القضاء والنفل

جمع النية في الصوم بين القضاء والنفل Q امرأة عليها قضاء وتريد أن تصوم ذي الحجة لما له من فضل، هل يجوز جمع النية؟ A نعم، هي تنوي القضاء، والله سبحانه وتعالى يعطيها.

حكم المطالبة بزيادة المرتب

حكم المطالبة بزيادة المرتب Q هل المطالبة بزيادة المرتب يكون ظلماً؟ A يجوز للإنسان أن يطالب بزيادة المرتب، لكن إذا كانت المطالبة مقابل عمل من أعمال الخير فقد أخذ أجره في الدنيا.

حكم صلاة الضحى في وقت الدوام الرسمي

حكم صلاة الضحى في وقت الدوام الرسمي Q ما حكم صلاة الضحى في وقت الدوام الرسمي؟ A إذا كان يوجد عمل فلابد أن يؤدي العمل، وإذا كان لا يوجد عمل، وهو جالس هكذا فارغ فلو صلى فلا بأس.

حكم قول: اللهم أجرني من النار بعد الفجر والمغرب

حكم قول: اللهم أجرني من النار بعد الفجر والمغرب Q ما صحة قول الإنسان بعد صلاة الفجر: اللهم أجرني من النار؟ A ثبت في الحديث (اللهم أجرني من النار سبع مرات) بعد المغرب والفجر.

حكم الإفطار في يوم القضاء

حكم الإفطار في يوم القضاء Q إذا كان على شخصٍ قضاء وبعدما نوى القضاء أفطر؟ A لا يجوز الإفطار في القضاء، بل يجب عليه أن يتمه، ولو أفطر فعليه أن يتوب ويقضي مكانه يوماً فقط.

القضاء عمن مات في مرضه

القضاء عمن مات في مرضه Q رجل لم يصم رمضان منذ سنتين لمرضٍ عضال ومات، فماذا عليه؟ A إذا كان المرض عضالاً لا يرجى شفاؤه فليس عليه شيء، إذا كان يرجى شفاؤه فعليه الكفارة أو الورثة يقضون عنه.

كيفية ملء وقت فراغ الشباب

كيفية ملء وقت فراغ الشباب Q عندنا مجموعات من الشباب في الأنشطة الإسلامية فكيف تملأ الأوقات؟ A أولاً: هذه المراكز وغيرها من الأشياء التي فيها منافع يجب أن تملأ بأشياء من الطاعات والقربات، فمثلاً: يجب أن يكون فيها حلق علم، وتدريس لعلوم شرعية، وحفظ قرآن وإلا تكون فائدتها لا تذكر. ثانياً: لا بد أن يكون هناك تربية على الآداب والأخلاق الإسلامية ومتابعة للأخطاء وتنبيه عليها والنصح لله، ويجب أن تظهر أجواء الأخوة من الإيثار والتضحية وتقديم الغير على النفس، ويجب أن يكون فيها قدوات يتربى الشباب بأفعالهم حيث يرون منهم خيراً، وكذلك يجب أن يكون لهذه الأنشطة إسهامات في المجتمع مثل البحث عن الفقراء وإيصال الصدقات إليهم، وتنظيف المساجد المتسخة وتوزيع الكتب والأشرطة النافعة، ودعوة أولياء الأمور ونصح الآباء، ولكن من أعظم ما صرفت فيه هو طلب العلم والتربية، وجذب الشباب التائهين بدعوتهم إلى الله عبر هذه المجتمعات، لأنهم يتأثرون بها كثيراً.

حكم فضلات ما أكل لحمه

حكم فضلات ما أكل لحمه Q كنت ماشياً فنزل علي فضلة من طائر فوق شجرة، ثم نشف؟ A كل ما أكل لحمه فبوله وروثه طاهر.

كيف يتصرف من كان له أسهم في بنك ربوي

كيف يتصرف من كان له أسهم في بنك ربوي Q ورثنا أسهماً من البنك الأمريكي وبنك الرياض حيث إن هذه الأسهم تضاعفت فماذا نفعل؟ A أولاً: تسأل الله المغفرة لهذا الذي اشتراها إذا كان من المسلمين؛ لأنه ارتكب إثماً عظيماً. ثانياً: عليكم التوبة إلى الله إذا كنتم تستطيعون التخلص منها قبل ذلك ولم تتخلصوا. وثالثاً: تعرّفوا على رأس المال وبكم اشتراها الميت فتأخذونه وتجعلونه في التركة والباقي تتخلصون منه، سواء كان زيادة في السعر في السوق أو أرباحاً، أو بأي وجه من الوجوه، ويتخلص منها في وجوه الخير.

الأفضل لمن وصل إلى مكة في اليوم الثامن

الأفضل لمن وصل إلى مكة في اليوم الثامن Q سأذهب إلى الحج وسيكون وصولي إلى مكة يوم الثامن، فما هو النسك الذي تنصح به؟ A إذا كنت تستطيع أن تأتي بالعمرة وتتحلل وتحرم بالحج ولو بعدها مباشرة ولو بساعة، ولو ما غيرت المناشف، وأحرمت بالحج ففعلك صحيح.

درجة الأحاديث المذكورة في المحاضرة

درجة الأحاديث المذكورة في المحاضرة Q الأحاديث التي ذكرتها في المحاضرة ما درجتها؟ A على أية حال هذه بعضها مما صححه المنذري رحمه الله، وبعضها مما صححه ابن حجر رحمه الله، ولكن ليس هناك إلا حديث قد صححه واحد على الأقل من أهل العلم، وتجد معظم هذه الأحاديث في كتاب صحيح الجامع الصغير وزياداته للعلامة الألباني نفع الله به.

حكم من يخلط عملا صالحا بآخر سيئا

حكم من يخلط عملاً صالحاً بآخر سيئاً Q ما رأيك في رجل كبير السن عليه آثار الخير وهو معفٍ لحيته ولكنه يشرب الدخان؟ A هذا يؤجر على حسناته، ويأثم على سيئاته، وهي شرب الدخان؛ لأن الله يقول: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157] وهذا من الخبائث.

حكم من أفطر في يوم عرفة

حكم من أفطر في يوم عرفة Q إنسان صام يوم عرفة فلم يكمله، هل يحسب له أجر الصيام علماً أنه أفطر بسبب مرض؟ A يرجى له ذلك إن شاء الله؛ لقول الله للملائكة: (اكتبوا لعبدي مثلما كان يعمل صحيحاً مقيماً).

حكم الفصل بين المضمضة والاستنشاق

حكم الفصل بين المضمضة والاستنشاق Q ما حكم الفصل بين المضمضة والاستنشاق؟ A إذا كان يسيراً فلا يضر، واليسير وغير اليسير عرف.

وقت صلاة الضحى

وقت صلاة الضحى Q أصلي صلاة الضحى قبل أن أذهب إلى الدوام ويكون ذلك في الساعة السابعة والنصف، فهل هذا الوقت صحيح؟ A نعم، إذا كان بعد ارتفاع الشمس.

حكم أخذ الأجرة على لقاح الحيوانات

حكم أخذ الأجرة على لقاح الحيوانات Q هل يجوز أخذ أجر على لقاح الحيوانات؟ A نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن عسب الفحل، فلا يجوز أن يعطي فحله ويأخذ أجراً، عسب الفحل أو منيه لا يجوز بيعه ولا تأجير الفحل. وهذا مما ينبغي أن يعطى للناس عارية ويوسع الناس فيه بعضهم على بعض، ولا يأخذ عليه أجرة.

ضرورة نصح الأصدقاء الذين لا يؤدون الصلاة

ضرورة نصح الأصدقاء الذين لا يؤدون الصلاة Q يوجد لدي بعض الأصدقاء لا يؤدون الصلاة وحيلتي قليلة معهم، فماذا أفعل؟ A أعط من هذه الحيلة القليلة وانصحهم وأقم عليهم الحجة {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:20].

ما يفعله من أتى والإمام في التشهد الأخير

ما يفعله من أتى والإمام في التشهد الأخير Q دخل المأموم الصلاة وكان الإمام في التشهد الأخير هل يجب عليه أن يكبر تكبيرة الإحرام ثم يدعو دعاء الاستفتاح أو يكبر تكبيرة واحدة ويجلس؟ A يكبر تكبيرة واحدة ويجلس؛ لأنه إذا كبر فلابد أن يتابع الإمام فلماذا يقف؟!

حكم الجهر لمن فاتته الركعتان من صلاة جهرية

حكم الجهر لمن فاتته الركعتان من صلاة جهرية Q إذا فاتت المأموم ركعتان جهريتان كصلاة العشاء فهل يجهر بالأخرتين؟ A الراجح أن الأخيرتين بالنسبة له هما الأخيرتان، وليستا قضاءً يعني على الترتيب، لحديث: (وما فاتكم فأتموا) وهي أرجح من رواية: فاقضوا، كما قال بعض أهل العلم.

حكم الطهارة في الطواف والسعي

حكم الطهارة في الطواف والسعي Q هل يجب على الحاج والمعتمر التطهر عند الطواف والسعي؟ A يجب للأول ولا يجب للثاني، يعني: يجب على الحاج والمعتمر الطهارة للطواف ولا تجب للسعي.

الحالات التي يجوز فيها الكذب وحكم مس المصحف بلا طهارة

الحالات التي يجوز فيها الكذب وحكم مس المصحف بلا طهارة Q ما هي الحالات التي يجوز فيها الكذب؟ وما حكم مس المصحف بلا طهارة؟ A الإصلاح بين الناس، والحرب، وما يكون بين الرجل وزوجته، أما الكذب في الدعوة، فلا، بل قل الحق. وأما الراجح من أقوال أهل العلم في مس القرآن فإن هذه خلافية شديدة فالأحوط أن يتطهر.

أداء الحج يجب على الفور

أداء الحج يجب على الفور Q هل أداء الحج على الفور؟ A لا شك في ذلك.

حكم من دخل المسجد في التشهد الأخير

حكم من دخل المسجد في التشهد الأخير Q كما هو معلوم أن من لم يدرك ركعة تفوته الجماعة فهل إذا وصلنا المسجد وقد فاتت الركعة الأخيرة ننتظر أو نصلي مع الإمام؟ A هذه مسائل اجتهاد كما قال شيخ الإسلام، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام أمر بأن الإنسان إذا دخل المسجد يدخل مع الإمام في الحالة التي عليها الإمام.

جواز الاعتداد بما زاد الإمام من ركعات لمن فاتته ركعات

جواز الاعتداد بما زاد الإمام من ركعات لمن فاتته ركعات Q أتيت مرة إلى صلاة الظهر وقد فاتتني ركعة، لكن الإمام سها وصلى خمساً فزاد ركعة؟ A للعلماء فيها قولان بعضهم يقول: أنه يعتد بالزائدة، وبعضهم يقول: لا يجوز أن يعتد بالزائدة لأنها باطلة، وقد ذكر ابن قدامة رحمه الله أنه يعتد بها.

حكم من يقتل عند رمي الجمرات

حكم من يَقْتُلُ عند رمي الجمرات Q هناك بعض المسلمين عند رمي الجمرات يقتلون بعض الناس؟ A حرام.

كيفية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة

كيفية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة Q هل يكفي في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، أن أقول صلى الله عليه وسلم، أم آتي بالصلاة الإبراهيمية؟ A الصلاة الإبراهيمية أفضل، لكن لو اكتفيت بهذا فلا بأس.

حكم الصلاة على الجنازة في المقبرة

حكم الصلاة على الجنازة في المقبرة Q توفيت والدتي وكان هذا اليوم غزير المطر لدرجة أنه كان يستحيل وصول الجنازة إلى المسجد، فاضطر لصلاة الجنازة في المقبرة ونحن نرتدي الأحذية؟ A لا يشترط أن تصلوا عليها في المسجد، ولو صليتم عليها في أي مكان آخر جاز ذلك، أما في المقبرة فالصلاة عليها بعد دفنها.

حكم النية لمن يريد أن يقضي

حكم النية لمن يريد أن يقضي Q هل يجب على من يريد أن يقضي الصيام أن يبيت نية الصيام؟ A نعم، القضاء لا بد له من نية قبل الفجر.

حكم تأخير سنة العشاء إلى الوتر

حكم تأخير سنة العشاء إلى الوتر Q ما حكم تأخير سنة العشاء إلى الوتر؟ A إذا كان يصلي الوتر قبل منتصف الليل، فنعم، لكن إذا كان يصلي الوتر بعد منتصف الليل فإنه في خارج الوقت، يعني: تصليها قضاءً.

حكم الكذب في الدعوة

حكم الكذب في الدعوة Q لدي زميل في العمل وأريد أن يلتزم ويحب الخير فهل يجوز أن أكذب عليه في سبيل أن يلتزم؟ A لا، لا تعود نفسك هذا. نريد أن نكتفي بهذا القدر من الأسئلة، ونسأل الله أن يجمعنا وإياكم على طاعته وأن يجعل مجتمعنا هذا مجتمعاً مرحوما، وأن يكفر عنا سيئاتنا وأن يتوفانا مع الأبرار، والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد.

غض البصر

غض البصر إن الله عز وجل رحيم بعباده، ومن لوازم رحمته عز وجل أنه لا يشرع إلا ما ينفعهم، ومن رحمته جل وعلا بهم أن حرم عليهم إطلاق البصر في الحرام، وما ذلك إلا لفتكه بالقلوب كما تفتك الأمراض المزمنة بأجساد أصحابها. وقد ذكر الشيخ أدلة غض البصر من الكتاب والسنة، وفند شبه الداعين إلى الانحلال والتفسخ، ووضح هدف الشرع من الأمر بغض الأبصار، وأنهى حديثه بذكر أحوال السلف وكيف أنهم صمدوا أمام الشهوات بقوة الإيمان الذي وقر في قلوبهم.

تفسير آية غض البصر وأحكامها

تفسير آية غض البصر وأحكامها الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول الله تبارك وتعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:30 - 31] توجيهات علوية من الله سبحانه وتعالى لما فيه صلاحنا وفلاحنا وطهارتنا وعفتنا، جاء بها الله العليم الخبير ببواطن العباد، البصير بهم وبما يصلح لهم سبحانه وتعالى، وهذه التوجيهات ينبغي أن يكون لها في نفوسنا الأثر العظيم. أيها المسلمون: إن هذا البصر سنسأل عنه يوم القيامة: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} [الإسراء:36]. هذا البصر نعمة من الله وفقده قد يكون عقوبة: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ} [الأنعام:46] ففقده قد يكون بعقوبة من الله على ما أحدث العباد، وقد يكون نعمة من الله سبحانه يبتلي بها من يشاء فيصبر فله الجنة. قال الله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30] ولم يقل: (يغضوا أبصارهم)؛ لأن هناك نظراً جائزاً كنظر الرجل إلى زوجته، ونظر القاضي إلى الشاهد، ونظر الخاطب إلى المخطوبة، ونظر الطبيب إلى المريضة عند الحاجة، فهذا من النظر الجائز المباح استثناه الله تعالى، وقال: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30]. وليس الرجال فقط مأمورون بغض البصر وإنما النساء أيضاً فقال: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:31] وذلك عند خشية الفتنة وثوران الشهوة فلا يجوز لها حتى هي النظر إلى الرجال، أدبٌ نفسي واستعلاءٌ على الشهوات، واستعلاءٌ على النفس التي تريد الاطلاع على المحاسن والمفاتن في الوجوه والأجسام. {ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور:30] حتى لا تتلوث نفوسهم بالانفعالات الشهوانية المحرمة: {ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور:30] أطهر للجماعة والمجتمع عموماً: {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور:30] هو العليم بحركات النفوس والجوارح.

فائدة قوله (من أبصارهم)

فائدة قوله (مِنْ أَبْصَارِهِمْ) وتأمل يا عبد الله! لماذا قدم غض البصر على حفظ الفرج، فقال في الآية: {يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30]. ذلك لأن النظر بريد الزنا وهو الذي يوصل إليه، ولذلك أمر بغضه أولاً، والعين تزني وزناها النظر إلى ما حرم الله. وقد قال الله تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19] وخائنة الأعين: اختلاس النظر إلى المحرم من غير أن يفطن إليه أحد، فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال في هذه الآية: [يعلم خائنة الأعين: هو الرجل يكون في القوم فتمر بهم المرأة فيريهم أنه يغض بصره عنها، فإن رأى منهم غفلة نظر إليها، فإن خاف أن يفطنوا إليه غض بصره وقد اطلع الله عز وجل على قلبه أنه يود لو نظر إلى عورتها] يعلم خائنة الأعين فيه وعيدٌ لمن يخون بعين بالنظر إلى ما لا يحل له وقد جاءت الأحاديث موافقة للكتاب العزيز ومؤكدة لما اشتمل عليه من غض البصر فعن جرير رضي الله عنه قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة فأمرني أن أصرف بصري) رواه مسلم، وفي رواية: (نظر الفجاءة) وهو أن يقع النظر على الأجنبية بغير قصد، فإذا جاءت فجأةً أمام ناظريه فعليه أن يغض بصره ولا يديم النظر ولا ينظر المرة الأخرى، وهذا معنى حديث ابن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وليست لك الآخرة) رواه أبو داود وهو حديث حسن. لا تتبعها، أي: لا تعقبها ولا تجعلها تأتي بعدها بعد الأولى، لك الأولى لأنها بغير قصد وليست لك الآخرة والثانية والثالثة لأنها باختيارك فتكتب عليك، قال قيس بن حازم رحمه الله: [النظرة الأولى لا يملكها صاحبها ولكن الذي يدس النظر دساً].

هدف الإسلام من غض البصر والأمر بالاستئذان

هدف الإسلام من غض البصر والأمر بالاستئذان أيها المسلمون: إن الإسلام يهدف إلى إقامة مجتمع نظيف لا تهاج فيه الشهوات في كل لحظة ولا تستثار فيه هذه الأمور المحرمة، ولذلك جاء بأمور وتوجيهات فمنها قوله صلى الله عليه وسلم: (إياكم والجلوس على الطرقات، فقالوا: ما لنا بد إنما هي مجالسنا نتحدث فيها) كانت البيوت ضيقة، غرفة للرجل وزوجته، غرفة وحجرة فليست كل البيوت كانت متسعة لا يجدون مكاناً واسعاً للجلوس إلا على حافة الطريق، قال: (فإذا أتيتم إلى المجالس فأعطوا الطريق حقها، قالوا: وما حق الطريق؟ قال: غض البصر- فبدأ به أولاً- وكف الأذى، ورد السلام، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر). إذاً: غض البصر لمن يكون في الطريق. وكذلك جعل الله الاستئذان إجراءً احتياطياً وأمراً احترازياً من أجل عدم النظر إلى العورات، ولذلك فإنه صلى الله عليه وسلم كان إذا جاء باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر وذلك لأن الدور لم يكن عليها ستور وحتى لو كان لها أبواب فإن الباب إذا فتح فجأة قد يقع النظر على شيء من عورات أهل البيت، ولذلك يكون من طرف الباب الذي إذا فتح لم يقع النظر على شيء ولا يواجه الباب مباشرة. فهو إجراء احترازي من أجل عدم وقوع البصر على الحرام. أيها المسلمون: إن الاستئذان يكون حتى داخل البيوت، وقد علمنا الله في كتابه أن نؤدب أولادنا بألا نجعلهم يداهمون غرفة نوم الأبوين مداهمة وإنما لابد من الاستئذان في الأوقات التي يغلب فيها كشف العورة {ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ} [النور:58]، وحتى المحارم في البيوت، الأم في حجرتها والأخت في غرفتها لابد من الاستئذان عليهن قبل الدخول، فقد أخرج البخاري في الأدب المفرد عن نافع كان ابن عمر إذا بلغ بعض ولده الحلم لم يدخله عليه إلا بإذن. وجاء رجل إلى ابن مسعود فقال: أستأذن على أمي؟ فقال: [ما على كل أحيانها تريد أن تراها]. وكذلك سأل رجلٌ حذيفة أستأذن على أمي؟ فقال: [إن لم تستأذن عليها رأيت ما تكره]. ومن طريق ابن طلحة [دخلت مع أبي على أمي فدخل فاتبعته فدفع في صدري، وقال: تدخل من غير إذن!]. ومن طريق عطاء سألت ابن عباس [أستأذن على أختي؟ قال: نعم، قلت: إنها في حجري، قال: أتحب أن تراها عريانة؟] وأسانيد هذه الآثار كلها صحيحة. فحتى المحارم في البيوت وفي غرف النوم كل ذلك من أجل ألا يقع البصر على شيء لا يجوز أن يقع عليه، وألا تكون اللقطات والمناظر محفوظة في الأذهان، وإنما ينشأ الأطفال منذ نعومة أظفارهم على النظافة والسلامة وليس على الصور العريانة.

الرد على شبهة المروجين للانحلال

الرد على شبهة المروجين للانحلال قد شاع في وقت من الأوقات أن النظر المباح، والحديث الطليق، والاختلاط الميسور، والدعابة بين الجنسين، وإقامة العلاقات، والتعارف أمور تزيل الكبت، وتجنب العقد النفسية، وتخفف من الضغط الجنسي ونحو ذلك، ولكن الناظر إلى مجتمعات الانحلال وما عند الغربيين المحدثين وجد أنهم غرقوا في هذه الشهوات حتى الثمالة رشفوا من كأسها، هؤلاء الذين ليس عندهم حجاب ولا غض بصر ما عندهم إلا الانحلال ومطلق الحرية في إقامة علاقات هل حصل عندهم تهذيب الدوافع الجنسية؟ ما حصل عندهم إلا السعار المجنون الذي لا يرتوي ولا يهدأ وإنما يعود إلى الظمأ والاندفاع، وعندهم الأمراض النفسية والبدنية من البرود وغيرها، وأنواع العقد والشذوذ الجنسي، والتلهف على الجنس الآخر، وشيوع الاغتصاب بالرغم من كافة أنواع الحريات المطلقة في تلك المجتمعات؛ مما يدل دلالة على أن الله حكيم خبير وأنه سبحانه وتعالى لما شرع غض البصر، وأمر بالحجاب، ونهى عن الخلوة وسائر الإجراءات والاحترازات، إنما هو لمصلحة الناس أجمعين. إن الإسلام يهمه أن يمنع المنكر من جميع جهاته، فليست القضية في غض البصر فقط وإنما أيضاً في تغطية العورة، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان) يعني: زينها في أعين الناظرين، ولذلك كانت عورة كلها من أعلى شيء في رأسها إلى أخمص قدميها. المرأة عورة بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا احتجبت المرأة وراء الثياب أو الجدران فإلى أي شيء ينظر الناس، ولو كان عند بعضهم رغبة في النظر. إذاً: فهذه إجراءات متكاملة واحترازات عظيمة من الشارع سبحانه وتعالى، وحتى الرجال لهم عورة يجب عليهم تغطيتها، وكذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ولا المرأة إلى عورة المرأة) مما يدل على أن لكل من الجنسين أمام بني جنسه عورة لا يجوز النظر إليها. وكذلك أمر بالزواج ورغب في الصيام لمن لم يستطعه، وحتى المتزوج إن له إجراءً إذا وقع على شيء مما يثير الشهوة في نفسه ولذلك (كان صلى الله عليه وسلم جالساً في أصحابه فدخل ثم خرج وقد اغتسل، فقلنا: يا رسول الله قد كان شيء؟ قال: أجل مرت بي فلانة فوقع في قلبي شهوة النساء فأتيت بعض أزواجي فكذلك تفعلون فإن من أماكن أعمالكم إتيان الحلال) وللحديث شاهد من حديث أبي الزهير عن جابر (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى امرأة فأتى زينب وهي تمعس منيئة -يعني: تدبغ أديماً أو جلداً فقضى حاجته- وقال: إن المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان، فإذا رأى أحدكم امرأة فأعجبته فليأت أهله فإن ذلك يرد ما في نفسه). ونظره صلى الله عليه وسلم لم يكن عمداً إلى حرام أبداً وإنما حصل فجأة، ثم إنه صلى الله عليه وسلم أنزه من أن تثور في نفسه شهوة لأمر محرم وإنما فعل ذلك لكمال إعفاف نفسه وتعليم الأمة ماذا يفعل أحدهم إذا وقع بصره فجأة على امرأة فأعجبته أو رأى منظراً فجأة فثارت في نفسه الشهوة، فَعَلَّم الأمة.

الوقاية بالغض من البصر خير من العلاج

الوقاية بالغض من البصر خير من العلاج ثم أيها الإخوة: إن الشارع قد منع إتيان أماكن الفساد والمحرمات بالإضافة إلى ذلك، وأمر بغض البصر عند دخول الأسواق وغيرها من المجامع التي فيها مظنة النظر إلى ما حرم الله أو شيء من انكشاف العورات. ونحن اليوم ما أحوجنا إلى غض البصر أمام هذا الكم الهائل من الأجساد التي تعرت عما أوجب الله ستره، والتي كشفت بقصير أو ضيق أو شفاف أو برقع فاتن أو نقاب واسع أو عيون قد غشاها الكحل ونحو ذلك من وسائل الفتنة! ما أحوجنا إلى غض البصر في هذا العصر الذي شاعت فيه الصور في المجلات! ادخل أي مكان فيه مجلات فإذا نظرت إلى زخرفها هل تكاد ترى مجلة ليس على غلافها صورة امرأة؟ إنه أمر من الصعوبة بمكان، وهذه الدعاية التي تعرض فيها صور النساء للجذب بزعمهم حتى ولو لم يكن هناك علاقة بين المنتج والمرأة حتى في المبيدات الحشرية وغير ذلك، وقد بلغت بهم الدناءة أنهم يضعون صور الرجال في المنتجات الخاصة بالنساء عند الدعاية لها، وعكس ذلك أيضاً وصورة المرأة طاغية غالبة، وربما وقفت ساعات تتثاءب أمام سيارة ونحوها لعرض السيارات لابد من النساء. وهكذا أيها المسلمون تقوم الدعاية المحرمة، أكثر من تسعين في المائة من أنواع الدعاية والإعلام في هذا الزمان محرمة، ومن أسباب التحريم غير الكذب والغش والتزوير أنهم يجعلون صور النساء فيها. ما أحوجنا إلى غض البصر في هذا العصر الذي انتشرت فيه هذه الصور الفاتنة التي تنتقى فيها أجمل النساء للعرض وتوضع في المجلات والدعايات وهذه الأفلام والشاشات! ولذلك كانت فتاوى العلماء واضحة جداًَ في قضية النظر إلى صور النساء في المجلات أو الأفلام، ولو قال من قال: إن هذه الصور ليست حقيقية إنما هي صور ليست المرأة التي نراها تلمس أو يذهب معها، نقول: إن ذلك وسيلة للفتنة وثوران للشهوة، وقد أتى هذا الصحن الذي يلتقط الموجات ليكمل ما نقص من مسلسل إثارة الغرائز حتى صار الناس إلى الفساد جملة. يا عباد الله! يا أمة الإسلام! يا أيها العقلاء! يا معشر المسلمين! يا أصحاب الغيرة! انظروا ماذا حصل في حالنا وكيف تبدلت الأمور، منذ سنتين كان يقال: في بيت فلان (دش) لقلته يشير الناس إلى بيته من بين البيوت في الحارة أو الشارع، الآن يدخل بعضهم إلى بيت أناس فيقول لهم: أنتم ما عندكم (دش) ما بعد اشتريتم (الدش)؟ مع أنه قبل فترة قصيرة كان نادراً وقليلاً، ولكن الآن صار من النقص في البيت ألا يكون فيه هذا الصحن، وصار أهل العمارة يشتركون في دفع المبالغ لشرائه، ويصطحب في المخيمات، وتجد صندقة من الصنادق التي يسكن فيها الفقراء (الدش) الذي فوقه أغلى منه، ماذا يعني ذلك؟ بيوت كالخرابات فيها هذه الصحون بأي شيء تأتي؟ إذاًَ: أيها المسلمون: اعلموا بأنه لما أمر الشارع بغض البصر كان حكيماً سبحانه وتعالى وهو يعلم ماذا سيخترع الناس وبأي شيء سيأتون. عباد الله: لابد من إعادة النظر في البيوت، وإخراج المنكرات منها وسائر المحلات والمستشفيات والشركات. وغض البصر أمر مهم جداً وإلا فالهلاك والدمار وشيوع الفاحشة والانحلال؛ هذه هي العاقبة التي لابد منها للمجتمع إذا انحرف عن شريعة الله. وبعض الناس يستحي أن يغض البصر عندما يكلم امرأة أو ممرضة ويرى أن ذلك من العيب ألا ينظر إليها، ومن قلة الأدب ألا ينظر إليها وهو يكلمها، لو فرضنا أن الكلام للحاجة فأي حاجة في رفع البصر إليها، وهل قلة الأدب إلا في النظر إلى المرأة المتبرجة، وُوضعت الأحاديث منذ القديم: ثلاثة يجلون البصر: الماء والخضرة والشكل الحسن، فإذا قصد به النظر إلى الصورة الجميلة المحرمة فلا شك أنه حرام يستدل به الذين لا أدب عندهم اليوم في المجالس يتسكعون وينقلونه ويقولونه نسأل الله السلامة والعافية. اللهم حصن فروجنا وطهر قلوبنا وارزقنا غض الأبصار والبعد عن الحرام، أغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك إنك على كل شيء قدير وبالإجابة جدير. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه الغفور الرحيم.

ما حرم الله إطلاق البصر إلا لمصلحتنا

ما حرم الله إطلاق البصر إلا لمصلحتنا الحمد لله رب العالمين، الحمد لله رب الأولين والآخرين، الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض بالحق وجعل الظلمات والنور، الحمد لله الذي استوى على عرشه، الحمد لله كما ينبغي له سبحانه وتعالى، له الحمد في الأولى والآخرة وهو الحكيم الخبير. أشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، صلى الله عليه وعلى من تبعه بإحسان إلى يوم الدين. عباد الله: إن العاقل يناظر الشيطان ويقول: لماذا أنظر فإن كان قبيحاً أو كانت قبيحة أغتم وتأسف وآثم بالقصد إلى النظر لأنه قد اتضح بأن المسألة لا تساوي، وإن كانت حسنة جميلة فكيف أنظر وليس بالحلال فأبوء بعاجل الإثم والحسرة؟! وكذلك فإن كل نظرة يهواها القلب لا خير فيها، ولنعلم بأن النظرة سهم مسموم يسري السم إلى القلب فيعمل في الباطن قبل أن يرى عمله في الظاهر. فاحذر يا عبد الله من النظر فإنه سبب الآفات، وعلاجه سهل في أول الأمر صعب جداً في منتهاه. وخذ هذا المثل: لو كنت على دابة فدخلت الدابة في زقاق ضيق لا تتمكن من الدوران فيه، فإن صحت بها في أول الأمر وزجرتها رجعت بسهولة قبل أن تكمل الدخول، وأما إذا أكملت دخولها وصارت داخل السرداب والزقاق الضيق فكيف تخرجها فلا يمكن الاستدارة ولا الرجوع ولا شدها من ذنبها، فكيف الخروج؟ وهكذا الأمر إذا غض الإنسان البصر من أول أمره، أما إذا تساهل وأطلق وكرر فعند ذلك الهلاك ولابد الهلاك ولابد. أيها المسلمون: إن النظر أصل لعامة المصائب التي تصيب الإنسان من هذه الشهوات المحرمة، فالنظرة تولد الخطرة، والخطرة تولد الفكرة، والفكرة تولد الشهوة، والشهوة تولد الإرادة، والإرادة تصبح عزيمة، والعزيمة تولد الفعل وتجعله واقعة: يا رامياً بسهام اللحظ مجتهداً أنت القتيل بما ترمي فلا تصب يا باعث الطرف يرتاد الشفاء له احبس رسولك لا يأتيك بالعطب كمن أرسل لحظات فما أقلعت إلا وهو يتشحط بينهن قتيلاً النظر يورث الحسرة لأن الإنسان يرى ما ليس قادراً عليه ولا صادراً عنه، وهذا من أعظم العذاب أن ينظر إلى صورة امرأة ليس قادراً عليها، قد تكون متزوجة قد لا يمكنه أن يقربها ولا أن يخطبها ثم بعد ذلك لا يصبر عنها فأي عذاب أعظم من هذا؟ وكنت كلما أرسلت طرفك رائداً لقلبك يوماً أتعبتك المناظر رأيت الذي لا كله أنت قادرٌ عليه ولا عن بعضه أنت صابر لا قادر ولا صابر وهذا هو العذاب الذي يأتي به النظر إلى الصور المحرمة، ولذلك يتعب القلب من كثرة النظر، واسأل المجربين في هذا المجال لتستمع إلى قصص عجيبة من العذاب الذي ابتلوا به نتيجة عدم غض البصر، وقد يعاقب الله عليه في الدنيا وهذا أسهل. جاء رجل إلى أحد الصالحين وفي وجهه جرح، فقال: ما لك؟ قال: مرت بي امرأة فنظرت إليها فلم أزل أتبعها بصري فاستقبلني جدار فضربني فصنع بي ما ترى، فقال: إن الله إذا أراد بعبدٍ خيراً عجل العقوبة له في الدنيا. أيها المسلمون: إن الله تعالى إذا حرم أمراً فامتنع العبد عنه فلابد أن يأتيه الله تعالى بخير منه: (ما ترك عبدٌ شيئاً لله إلا عوضه خيراً منه) خيراً منه بسعادة في القلب، خيراً منه بأجر يوم القيامة، خيراً منه بأن يكون من أصحاب الفراسة؛ لأن إصابة الحق لا تكون للواقعين في المعاصي: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ} [النور:35] يعني: في قلب عبده المؤمن {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} [النور:35] يورثه الله تعالى ويعوضه عز وجل عن غض بصره بشجاعة وقوة قلبه، ويجمع الله عليه أمره، وينور له بصيرته، ويسد عليه طرق الشيطان، فإن الشيطان يزين الصورة في القلب ويجعلها صنماً يعكف عليه القلب، ثم يعده ويمنيه ويوقد على القلب نار الشهوة، ويلقي عليه حطب المعاصي، فيصير القلب في اللهب، فمن ذلك اللهب تلك الأنفاس التي فيها وهج النار. اسأل العشاق الذين وقعوا في عشق الصور، اسأل الذين ابتلوا بهذه الأدواء، وهجٌ كوهج النار وتلك الزفرات والحرقات فإن القلب قد أحاطت به النيران من كل جانب فهو وسطها كالشاة في وسط التنور، ولهذا كان عقوبة أصحاب الشهوات بالصور المحرمة أن جُعل لهم في البرزخ تنور من نار تودع فيه أرواحهم إلى حين حشر أجسادهم يعذبون في ذلك كما جاء في الحديث الصحيح. إن القلب الذي فيه خواطر حسنة، القلب الذي فيه استنباطات فقهية، القلب الذي يعرف المصلحة، القلب الذي يختار الحق ليس قلباً مليئاً بالصور المحرمة الناتجة عن النظر إلى الحرام.

موقف السلف من إطلاق النظر

موقف السلف من إطلاق النظر يا عباد الله: لا تجتمع الصور المحرمة والفراسة الصادقة في قلب عبد مسلم، ولذلك لابد أن نحذر من هذه الأمور وأن نغض البصر في الطائرات والمطارات والفنادق والأسواق والمستشفيات والمنتزهات والمجمعات السكنية والعمارات والشواطئ ومدارس البنات والبيوت المختلطة وأسوار البيوت والشبابيك المطلة والصور والمجلات والأفلام والمسلسلات وحتى عند الكعبة في الحج والعمرة في أشرف مكان وأقدسه لابد من غض البصر وحتى الأقارب، وكثير من الناس من يبتلى بالنظر إلى وجوه بعض الأقارب من غير المحارم فيفتن أيضاً لابد من حفظ البصر، وكثير من وقع في الحرام بسبب ذلك، ولنتذكر حال سلفنا الصالح رحمهم الله. جاء الربيع بن خثيم إلى علقمة فوجد الباب مغلقاً فجلس في المسجد، فمرت نسوة فغمض عينيه، ليس الواجب تغميض العينين إنما الواجب غض البصر، لكن الربيع فعل ذلك احتياطاً رحمه الله. وعن سفيان قال: كان الربيع بن خثيم يغض بصره فمر به نسوة فأطرق وغمض عينية حتى ظن النسوة أنه أعمى فجعلن يتعوذن بالله من العمى ويحمدن الله على البصر. وخرج حسان رحمه الله إلى صلاة العيد فقيل له لما رجع: يا أبا عبد الله! ما رأينا عيداً أكثر نساءً منه، قال: ما وقع بصري على امرأة ولا نظرت على امرأة، فجعل يتعجب من كلامهم. وقال سفيان الثوري لما خرج من صلاة العيد: أول ما نبدأ به في يومنا هذا غض أبصارنا. غض البصر عن صورة جميلة محرمة؛ فإن الشخص قد يفتن بصورة امرأة أو أمرد جميل، ولذلك لما رأى بعضهم إنساناً يقرئ غلاماً جميلاً وهو يضحك إليه فقام إليه وجلس إلى جنبه فقال: يا أخي! أما سمعت الله تعالى يقول: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ} [الحديد:16]؟ قال: بلى، قال: أفما سمعته تعالى ذكره يحذر من فعل قوم اغتروا بحلمه وأنسوا إلى كرمه، فقال: {وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16]؟ قال: بلى، قال: فما بالك لا تخشاه عند قوله تعالى ولا ترجع عند تحذيره وما نزل في كتابه؟! إني رأيتك مغرقاً في الضحك إلى هذا الذي يقرأ عليك كأنك لا تُسأل عن ضحكك ولا توقف على فعلك، وبالله الذي لا يحلف المؤمنون إلا به لئن أخذك على ريب يكرهه ليجعلنك عبرة للعاقل ومذمة للجاهل فنكس الرجل رأسه وأقبل يبكي وقام وتركه. وهكذا ينبغي الحذر من أي صورة جميلة ومن أي شخص يفتن به فإن العاقبة شنيعة، ولابد أن يكون العاقل وقافاً عند حدود الله مفكراً في العاقبة في الدنيا والأخرى. هذا الإجراء البسيط -غض البصر- سببٌ في السلامة العظيمة، وما أكثر الحاجة إلى مثل هذا في هذا الزمان! نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يجنبنا مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن. اللهم جنبنا الهوى، اللهم جنبنا النظر الحرام، اللهم جنبنا المعاصي، اللهم جنبنا الفتن يا رب العالمين. اللهم ارزقنا العفة والعفاف إنك أنت السميع البصير. اللهم انصر إخواننا المجاهدين، اللهم انصر المجاهدين واجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين، اللهم من أراد خدمة دينك والسعي إلى الدعوة في سبيلك فوفقه يا رب العباد، وافتح له قلوب العباد، ونور بصيرته، وأجزل له الأجر الكثير إنك أنت الكريم. اللهم من أراد دينك بسوء فأشغله في نفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً عليه، اللهم من أراد بلدنا هذا أو بلاد المسلمين بسوء فاجعله عبرة للمعتبرين يا رب العالمين. اللهم وفق من ولي من أمر هذه الأمة شيئاً للعمل بكتابك وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم، اللهم اجعلنا في بلادنا آمنين مطمئنين واغفر لنا ذنوبنا أجمعين، ارحم موتانا، واشف مرضانا، واقض ديوننا، واستر عيوبنا يا أرحم الراحمين. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

معاتبة النفس

معاتبة النفس هذه المحاضرة تتحدث عن كثير من السلبيات التي نقع فيها، والتي لابد أن نراجع ونعاتب أنفسنا عليها، ومن هذه السلبيات: عدم الانقياد للحق بسهولة، وكذلك التجرؤ في الفتوى بدون علم، وعدم تعظيم كلام الله إلخ. كما بين الشيخ الفرق بين السلف والخلف في حب المال، وحب الرئاسة، وكذلك حب الظهور. وحث الشيخ على مراجعة أخلاقنا مع الأهل والأقارب والأصدقاء

حاجتنا إلى معاتبة النفس

حاجتنا إلى معاتبة النفس الحمد لله رب العالمين، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله محمد وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجه واقتفى أثره إلى يوم الدين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر:18 - 19]. {وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16]. أيها الإخوة تعالوا نعاتب أنفسنا، هذا هو موضوعنا في هذه الليلة، ما أشد حاجتنا إلى معاتبة النفس ومحاسبتها، إن هذه المعاتبة والمحاسبة هي التي تجعل النفس تتحرر من أسر الشهوات، وتتحرر من الظلمات، وبالمعاتبة والمحاسبة تقام النفس على الصراط المستقيم، فإن الله سبحانه وتعالى ندبنا إلى ذلك فقال: {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر:18] وقد قال أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه: [حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا، فإن أهون عليكم في الحساب غداً أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأكبر: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18]]. وكان رضي الله عنه يحاسب نفسه وهو أمير المؤمنين كما جاء عن أنس رضي الله عنه قال: [سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوماً وخرجت معه حتى دخل حائطاً فسمعته يقول وبيني وبينه جدار وهو في جوف الحائط: عمر بن الخطاب أمير المؤمنين بخٍ بخ، والله لتتقين الله يا بن الخطاب أو لعيذبنك] رجاله ثقات. وقال مالك بن دينار رحمه الله تعالى: [رحم الله عبداً قال لنفسه النفيسة: ألست صاحبة كذا؟ ألست صاحبة كذا؟ ثم ذمها ثم خطمها ثم ألزمها كتاب الله فكان لها قائدا]. وقال ميمون بن مهران رحمه الله: [التقي أشد محاسبة لنفسه من شريك شحيح] الذي يحاسب شريكه. وكانوا رحمهم الله تعالى يحاسبون أنفسهم، ونحن -أيها الإخوة- فينا عللٌ كثيرة، وفي أنفسنا أمراضٌ كثيرة تحتاج إلى علاج وإذا استمرت الأحوال دون تصحيح فإنه يخشى علينا -والله- من الهلكة. وإذا نظرت -أيها المسلم- فيما حولك تجد في بعض هذه الجموع التي جاءت إلى طريق الحق تريد الاستقامة خيراً كثيراً ولا شك، ولكننا -أيها الإخوة- لا نعتبر بالكثرة وإنما بالحقيقة، والحقيقة أنه يجب علينا أن نحاسب أنفسنا، وأن نعاتبها، هل فينا خوف من الله كما ينبغي؟ هل يوجد عندنا شيء مما كان يوجد عند السلف من البكاء من خشية الله تعالى؟ هل إذا تليت آيات الله حركت في أنفسنا ما يجب أن يتحرك، واقشعرت الجلود والنفوس والقلوب لذكر الله عز وجل ثم انقادت إلى طاعته ومرضاته؟: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ} [الرعد:28] {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:23]. عن القاسم بن محمد قال: كنا نسافر مع ابن المبارك فكثيراً ما كان يخطر في بالي فأقول في نفسي: بأي شيء فضل الرجل علينا حتى اشتهر في الناس هذه الشهرة؟! إن كان يصلي إنا لنصلي، ولئن كان يصوم إنا لنصوم، وإن كان يغزو فإنا لنغزو، وإن كان يحج فإنا لنحج؟ حتى كنا في بعض مسيرنا في طريق الشام ليلة نتعشى في بيت إذ طفئ السراج فجأة، فقام بعضنا فأخذ السراج وخرج يبحث عن شيء لإصلاحه وإيقاده، فمكث هنيهة ثم جاء بالسراج، فنظرت إلى وجه ابن المبارك ولحيته قد ابتلت من الدموع، فقلت في نفسي: بهذه الخشية فضل هذا الرجل علينا، ولعله حين فقد السراج فصار إلى الظلمة ذكر القيامة. وقال المروذي لـ أحمد رحمه الله: كيف أصبحت؟ قال: كيف أصبح من ربه يطالبه بأداء الفرائض، ونبيه يطالبه بأداء السنة، والملكان يطالبان بتصحيح العمل، ونفسه تطالبه بهواها، وإبليس يطالبه بالفحشاء، وملك الموت يراقب قبض روحه، وعياله يطالبونه بالنفقة؟ وكم مرة يأتي ذكر النار علينا، ونسمع ذلك كثيراً، فماذا حرك ذلك في أنفسنا؟ أليس فيها من الأهوال وأنواع العذاب ما لو نزل ذكره على جبل لصار خاشعاً متصدعاً من خشية الله؟! عبد الله بن مسعود يقول في قوله تبارك وتعالى: {زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ} [النحل:88] [عقارب أنيابها كالنخل الطوال] إسناده صحيح، وقد جاء مرفوعاً عن البراء بن عازب: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن قول الله تبارك وتعالى: {زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ} [النحل:88] قال: عقارب أمثال النخل الطوال تنهشهم في جهنم) فإذاً هذا عذاب فكيف بالعذاب الأصلي؟! فلا شك أن المؤمن يعاتب نفسه على عدم تحرك الخشية أو الخوف من الله عز وجل في نفسه إذا تليت مثل هذه الآيات، وإذا حصل من التذكير بالله عز وجل، فلم تحرك في نفسه شيئاً فلا شك أنها تحتاج إلى معاتبة، لا شك أن نفوسنا من كثرة المعاصي والانشغال بالدنيا وكثرة الوقوع في الآفات قد قست.

الفارق بين السلف والخلف في حب الظهور

الفارق بين السلف والخلف في حب الظهور نحن -أيها الإخوة- ما هو حالنا ونحن نعاتب أنفسنا؟ ما هو حالنا في إخفاء العمل؟ العمل واجب ومطلوب ولا شك في ذلك، لكن هل حاولنا إخفاء العمل كما كانوا -رحمهم الله- يخفونه؟ أليس الواحد منهم كان يحمل جراب الدقيق على ظهره ليعطيه فقراء أهل المدينة؟! أليس الواحد منهم كان إذا نشر مصحفه فدخل عليه رجل غطاه بثوبه حتى لا يراه وهو يقرأ؟! ما رئي الربيع متطوعاً في مسجد قومه قط إلا مرة واحدة، كان يجعل تطوعه كله في البيت حتى لا يرى، أما نحن فنحب الشهرة ونتطلع إليها، ونريد أن نذكر وأن يعلو اسم الواحد منا بين الناس، على عكس ما كانوا عليه رحمهم الله تعالى. خرج ابن مسعود ذات يوم فتبعه الناس فقال لهم: [ألكم حاجة؟ قالوا: لا. ولكن أردنا أن نمشي معك؟ قال: ارجعوا فإنها ذلة للتابع، وفتنة للمتبوع] نحن نرى لأنفسنا حقاً وشأناً ومكانة وهم كانوا رحمهم الله تعالى يغمطون أنفسهم ولا يرون لها حقاً، بل كانوا يحتقرونها حتى قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: [لو تعلمون ما أعلم من نفسي لحثيتم على رأسي التراب] وكان بكر بن عبد الله المزني إذا رأى شيخاً كبيراً في السن، قال: هذا خير مني، عبد الله قبلي، وإذا رأى شاباً قال: هذا خير مني ارتكبت من الذنوب أكثر مما ارتكب. فعندنا -أيها الإخوة- طربٌ إذا سمعنا ثناء الناس بخلاف السلف رحمهم الله تعالى. محمد بن واسع دخلوا عليه يعودونه وهو يقول: ما يغني عني ما يقول الناس إذا أخذ بيدي ورجلي فألقيت في النار. وكان يقول لجلسائه: لو كان للذنوب ريح ما قدر أحد أن يجلس إلي. نحن أصحاب المجاملات، ونحن الذين يتزين بعضنا لبعض ويخفي بعضنا عن بعض أشياء كثيرة، نحن لو قارنا حالنا بحال السلف الذين كان يقول قائلهم هذا الكلام لأفلحنا، ولكن نفعل أشياء من الذنوب كثيرة، ثم نتجمل أمام الناس بالمظهر الحسن ونتظاهر بلباس التقوى، وفي أحدنا من الذنوب ما الله به عليم. وقال رجل لـ ابن عمر: [لا نزال بخير ما أبقاك لنا الله، قال: ثكلتك أمك، وما يدريك ما يغلق عليك من أخيك بابه]. وإذا كان الواحد منا إذا أثني عليه في مجلس انتفش وانتفخ وأحس بنشوة وطرب فإنهم رحمهم الله كانوا بخلاف ذلك. قال أحدهم: رأيت أثر الغم في وجه أبي عبد الله -يعني الإمام أحمد - وقد أثنى عليه شخص وقيل له: جزاك الله عن الإسلام خيراً، قال: بل جزى الله الإسلام عنا خيراً، ومن أنا؟ وما أنا؟ وفي أنفسنا نحن عجب كثير، يعجب الواحد بعمله، ويعجب برأيه، مع أن الإعجاب بالرأي مصيبة، وقد لا نفكر بالخوف على أنفسنا من هذا العجب رغم أنه يورد المهالك: (الشح المطاع، والهوى المتبع، وإعجاب كل ذي رأي برأيه) قال رجل لـ ابن عمر: [يا خير الناس وابن خير الناس! فقال: ما أنا بخير الناس ولا ابن خير الناس، ولكني عبد من عباد الله أرجو الله وأخافه، والله لن تزالوا بالرجل حتى تهلكوه]. كان الواحد منهم يرفض أن يثنى عليه، والواحد منا اليوم إذا سمع ثناءً لسان حاله يقول: هات الزيادة، وليثن غيرك ونحو ذلك، وهم رحمهم الله كانوا لا يرون أنفسهم شيئاً، يحتقرون أنفسهم غاية الاحتقار حتى كان الواحد منهم يقف في عرفة يُسمع بغير قصد وهو يقول: اللهم لا ترد هذا الجمع من أجلي، بل كانوا إذا لم يعرفوا سروا بذلك، كان للواحد منهم سمعة بغير قصد، فكان إذا جهل حاله في مكان أو بلد قدم إليه سراً في ذلك. قال الحسن: كنت مع ابن المبارك يوماً فأتينا على سقاية والناس يشربون منها، فدنا منها ليشرب ولم يعرفه الناس، فزحموه ودفعوه، فلما خرج لي قال: ما العيش إلا هكذا، يعني: حيث لم نعرف ونوقر. وبينما هو بـ الكوفة يقرأ عليه كتاب المناسك انتهى إلى حديث وفيه قال عبد الله بن المبارك وبه نأخذ، مكتوب تعليق على الكتاب قال عبد الله بن المبارك وبه نأخذ، فقال: من كتب هذا من قولي؟ قلت: الكاتب الذي كتبه، فلم يزل يحكه بيده حتى درس وذهب، ثم قال: ومن أنا حتى يكتب قولي، هذا وهو من السلف رحمهم الله تعالى. إنهم كانوا حريصين على كسر الفخر وإذهاب العجب والرياء من أنفسهم، لا يمكن للواحد منهم أن يختال وأن يزدري الناس.

فرق بين السلف والخلف في حب المال

فرق بين السلف والخلف في حب المال وكذلك فإننا إذا نظرنا إلى أنفسنا في مسألة حرصنا على المال، نجد الواحد منا يفرح به فرح الأشرين، وربما حصل في نفسه الفرح في الدنيا والتعلق بها، والواحد منهم كان يأتيه المال فيفرقه يميناً وشمالاً، لما أرسل عمر رضي الله عنه إلى أبي عبيدة أربعمائة دينار، قال للغلام: [اذهب بها إلى أبي عبيدة ثم تله ساعة -تشاغل في البيت ساعة- حتى تنظر ما يصنع، قال: فذهب بها الغلام فقال: يقول لك أمير المؤمنين: خذ هذه، فقال: وصله الله ورحمه، ثم قال: يا جارية! اذهبي بهذه السبعة إلى فلان، وهذه الخمسة إلى فلان حتى أنفذها، فرجع الغلام إلى عمر فأخبره، فوجده قد أعد مثلها لـ معاذ بن جبل فأرسل بها إليه، فقال معاذ: وصله الله، يا جارية! اذهبي إلى بيت فلان بكذا، ولبيت فلان بكذا، فاطلعت امرأة معاذ فقالت: ونحن والله مساكين فأعطنا! ولم يبق في الخرقة إلا ديناران فدحى بهما إليها، ورجع الغلام فأخبر عمر فسر بذلك وقال: إنهم إخوة بعضهم من بعض] كيف لا يكونوا بعضاً من بعض قد رباهم النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك خرجت هذه النماذج -أيها الإخوة- متشابهة، زهدهم في الدنيا موجود، خوفهم من الله موجود، ليس في واحد منهم ما يقدح في إخلاصه أو في تقواه رضي الله تعالى عنهم، ولذلك أخبر الله أنه رضي عنهم: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة:119]. ولو نظرنا -أيها الإخوة- إلى ما أصاب الناس اليوم من جراء الاشتغال بالتجارة والبيع والشراء، دخل عددٌ من الناس في التجارات، دخلوا في أنواع من البيوع والشراء لكن دخولهم ما كان لله، أو أنهم دخلوا في البداية يحدثون أنفسهم أن دخولهم لله فإذا به ينقلب ويصبح انشغالاً بالدنيا فتعسوا فعلاً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم). الواحد من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم لما كان يحتاج إلى العمل ويحتاج إلى الشغل، يحتاج عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يعمل في مزرعة، هل كان عمله في المزرعة شهوة للدنيا؟ A كلا. وإنما كان يعمل للحاجة، لا بد أن يكسب قوته وأن يكسب حاجته، ولكن هل كان عمله في الدنيا يمنعه أو يشغله عن طلب العلم؟ كلا. ولما عقد البخاري رحمه الله تعالى باباً في كتاب العلم بعنوان: التناوب في العلم، أتى بقصة عمر رضي الله عنه: [كنت أنا وجار لي من الأنصار] وذكر القصة وفيها أن واحداً منها كان يبقى ليعمل والثاني يذهب إلى المسجد، ليسمع الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم فيرجع إلى صاحبه فيخبره بما حصل وبما قيل، وبما حدث به النبي صلى الله عليه وسلم، طالب العلم لا يغفل عن النظر في أمر معاشه، ليستعين به على طلب العلم وغيره، ولكنه يأخذ بالحزم بالسؤال عما يفوته في يوم غيبته، هذه الفائدة العظيمة التي ذكرها ابن حجر رحمه الله تعالى. الآن بعض الشباب ربما جاءتهم بعض الخواطر للاشتغال في التجارة، فدخلوا فيها، وفتحوا محلات، وذهبوا يعملون في صفقات، ويذهبون في سفريات، ويستوردون البضائع، ويحضرون المعارض، ويأخذون وكالات ويشتغلون، وهذا أمر جيد إذا ما قيد بالضوابط الشرعية، لكن أيها الإخوة! هؤلاء الذين فتحوا المحلات وجلسوا يبيعون فيها أو راحوا في السفريات والأعمال كيف أصبح حالهم؟ لقد تدهور الكثيرون منهم تدهوراً شنيعاً، لقد اشتغلوا بالدنيا فقست قلوبهم، لقد أعرضوا عن مجالس ذكر كانوا يحضرونها، لقد تركوا كتب علمٍ كانوا يقرءون فيها، ولذلك باع بعضهم كتبه، أو قال: أهبها على استحياء، أو أجعلها وقفاً أو أجعلها في مسجد ونحو ذلك، تخلصوا من الكتب التي كانوا يقرءون فيها، وكان لهم صحبة طيبة يجلسون إليهم يتعلمون منهم ويستفيدون منهم فتركوا ذلك كله. كنت أحادث شخصاً قبل يومين بالهاتف وقد دخل في تجارة من هذه الأنواع، وكان الرجل من قبل من المبكرين إلى الصلاة في المسجد، الذين يحافظون على الجماعة، ويحضرون حلق العلم والذكر، وفيه شيء من الرقة، ثم ذهب الرجل في شيء من التجارة وسافر، ودخل في وكالات واستثمارات، واشتغل في أنواع من هذه الصفقات، فقلت له: هل لا زلت تحضر درساً في الأسبوع؟ قال: لا وللأسف، ما عدت أحضر شيئاً مطلقاً من الدروس، لا مع أصحابي ولا في المسجد؛ ولذلك فإن هؤلاء الذين ينزلقون في متاهات الاشتغال بالتجارة ولا يقدرون أنفسهم حق قدرها، ولا ينضبطون بالضوابط الشرعية يكون ذلك وبالاً عليهم، ربما يدخل في التجارة يقول: أنا غرضي إفادة الإسلام، وسأجعل جزءاً من أرباحي في سبيل الله، وفعلاً قد يجعل أشياء من الصدقات، لكن لو نظر في النهاية إلى ما آل إليه أمره من قسوة القلب والابتعاد عن طلب العلم وعن الدعوة إلى الله وعن الأخوة الصالحة لوجد الفرق شاسعاً والبون عظيماً بين حاله الآن بعد اشتغاله وقبل ذلك. وما أحد يقول: إنه لا يمكن الجمع بين التجارة والعبادة والطاعة، لقد كان هناك من أهل العلم من يشتغل في التجارة، ومن أشهرهم ابن المبارك رحمه الله تعالى، قيل له: أنت تأمرنا بالزهد والتقلل والبلغة ونراك تأتي بالبضائع كيف ذا؟ فقال: يا أبا علي! إنما أفعل ذا لأصون وجهي، وأكرم عرضي، وأستعين به على طاعة ربي، قال: يا بن المبارك! ما أحسن ذا! وكان بعضهم يشتغل بالتجارة يقول: لولا المال لتمندل بنا هؤلاء. يعني: لتلاعب بنا السلاطين وأذنابهم، وصاروا يذهبون بنا يميناً وشمالاً، واحتجنا إليهم في طلب الأموال، ولذلك كانوا يستقلون بالتجارة، لكن هل كانوا ينغمسون فيها بالكلية؟ أو يقول الواحد كما يقول الواحد في هذا الزمان: أنا أحتاج فترة تأسيس، أنا أحتاج تفرغاً للعمل سنتين أو ثلاثاً ثم بعد ذلك أرجع إلى ما كنت فيه؟ ولكن في الحقيقة ينغمس ويتدرج في الانغماس حتى تذهب السنوات الثلاث والسبع والعشر وهو يتردى من أسفل إلى أسفل، وهكذا حال كثير منهم.

طلب الرئاسة بين السلف والخلف

طلب الرئاسة بين السلف والخلف وفينا من العيوب أيضاً أيها الإخوة: طلب الرئاسة، والحرص عليها، والسعي إليها، وتمنيها، وبذل الغالي والنفيس من أجلها، ولا شك أن الذي يحرص على الرئاسة دون أن يكون هناك تقوى من الله فإنه يفسد دينه، فإن الحرص عليها يفسد الدين كما يفسد الذئب في زريبة الغنم إذا أفلت فيها وهو جائع كما دل عليه في حديث: (ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه) ما أفسد منها للدين، ما أفسد للدين من حرص الشخص على المال والشرف. عن يوسف بن أسباط سمعت سفيان يقول: ما رأيت الزهد في شيء أقل منه في الرئاسة، ترى الرجل يزهد في المطعم والمشرب والمال والثياب فإن نوزع الرئاسة حامى عليها وعادى. صارت هي المطمع، صار السعي إلى المنصب هو المطمع، حتى لو بذل دينه، حتى لو تنازل عن أشياء من الإسلام، حتى لو عمل مخالفات شرعية، همه الوصول إلى المنصب، حتى لو نافس غيره ممن هو أحق منه من المسلمين، يفعل ذلك، وليس الكلام موجهاً إلى من يتوجه لسد ثغرة يدرأ بها عن الإسلام وأهله شراً، ومن كان عنده استعداد لهذا النوع فهو مأجور إذا كان يعلم من نفسه القدرة والحكمة لفعل هذا ولا يطلبه للدنيا ويسعى إليه للفخر، ولكن كثيراً من الناس سعيهم ومسابقاتهم في الوظائف هي من جنس حب الرئاسة المذموم.

عدم الانقياد للحق بسهولة

عدم الانقياد للحق بسهولة من العيوب التي فينا أيها الإخوة: أننا لا ننقاد إلى الحق بسهولة، وربما لا ننقاد إلى الحق أبداً، نبصر بعيوبنا فنكابر، والواحد ينصح فيدافع عن نفسه ويقول: ليس فيما تقول لي، لست بكذا ولست بكذا، ما قصدت هذا القصد، وهو في نفسه وفي قرارة نفسه يعلم يقيناً أن هذا قصده وهذه نيته، ولكنه يكابر ويأبى ويصر على تبرئة نفسه، وحتى في النقاشات العلمية بعضنا في المجالس إذا تبين له الدليل وعرف أنه ليس على شيء أصر على رأيه، إما تعصباً أو مكابرة أو حتى لا يقال إنه تراجع، ويعتبر أن التراجع ضعف ومهانة وذلة، فتقول له النفس الأمارة بالسوء: كيف تتراجع بالمجلس أمام فلان وفلان، لو تراجعت فقلت يا فلان جزاك الله خيراً بينت لي الحق أنا رجعت، أو يسكت لكن يعتبر أن السكوت أو التراجع ذل وأنه لا يصلح له أن يفعل ذلك فيكابر ويصر بغير دليل، ولا عنده حجة ولا برهان. عن أبي حنيفة عن ابن سماك وحدثه ابن أبي ذئب وكان من كبار الفقهاء بالحديث، فقال له: أتأخذ بهذا الحديث؟ فضرب صدري وصاح كثيراً ونال مني، وقال: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: تأخذ به، نعم آخذ به، وذلك الفرض علي وعلى كل من سمعه. وقد مضى قول الشافعي رحمه الله: ما كابرني أحد على الحق ودافع إلا سقط من عيني، وما قبله أحدٌ إلا هبته واعتقدت مودته. وقد ناظر الشافعي رحمه الله رجلاً من أهل العلم، انتهت المناظرة بأن رجع كل منهما إلى قول صاحبه، الشافعي ترك قوله واقتنع برأي الآخر، والآخر ترك قوله واقتنع برأي الشافعي، يعني: أنهم رضي الله تعالى عنهم ما كان التعصب رائدهم، ولا كانوا يتناقشون ويتجادلون لإظهار النفس، أو أن ينتصر الشخص في المجلس أو يفحم الخصم أو يسكته، بل إنهم كانوا يتناظرون للوصول إلى الحق.

الفتوى السريعة في هدم الشريعة

الفتوى السريعة في هدم الشريعة ومن البلايا التي فينا -أيها الإخوة- والطامات: تسرعنا في الكلام في الدين، والإفتاء، والإخبار بأن هذا حلال وهذا حرام، مخالفين أمر الله عز وجل أو نهي الله عز وجل: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} [النحل:116] فترى الواحد منا في المجلس إذا طرحت مسألة علمية أو قضية سارع بالكلام فيها والجزم والإخبار عن الحكم مع أنه بعيد كل البعد عن المعرفة به، ولا عنده فيه لا دليل ولا قول عالم، لا عنده فتيا عالم ولا دليل، ومع ذلك يسارع إلى الجزم بالحكم والكلام به عن رأيه المجرد دون أن يكون عنده قاعدة أو يكون عنده أهلية للكلام في مثل هذه المسائل، هذه الجرأة على دين الله مذمومة، لو كانت المسألة في آلة من الآلات أو دواء من الأدوية لهان الخطب، ولكن المسألة في الدين ومع الأسف صار دين الله في المجالس عرضة لأن يدخل فيه كل الناس ويدلون بآرائهم، ولكن إذا صارت القضية في مسألة اقتصادية أو طبية سكتوا إلا أهل القراءة والخبرة أو العلم بهذا الفن، فصار دين الله عند الناس أرخص من الدنيا، صار يتكلم في دين الله كل واحد من أوساط المتعلمين والمثقفين والجهلة والعامة. عن نافع أن رجلاً سأل ابن عمر عن مسألة فطأطأ رأسه ولم يجبه، حتى ظن الناس أنه لم يسمعه فقال له: [يرحمك الله أما سمعت مسألتي؟ فقال: بلى. ولكنكم كأنكم ترون أن الله ليس بسائلنا عما تسألونا عنه، اتركنا يرحمك الله حتى نتفهم في مسألتك، فإن كان لها جواب عندنا وإلا أعلمناك أنه لا علم لنا بها] كانوا يتدافعون الفتيا كل واحد يدفعها إلى الآخر ويقولون: اسأل فلاناً حتى تعود إلى الأول، تدور الفتوى على عشرة أو أكثر ويأبون الكلام فيها للتحرج بأن الواحد منهم يعلم الإثم المترتب على أن يفتي بشيء لا علم له به: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:169] هذا من أكبر الجرائم، (ومن أفتي بفتيا غير ثبت فإنما إثمه على من أفتاه) الإثم على من أفتاه كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم.

عدم تعظيم كلام الله

عدم تعظيم كلام الله ومن عيوبنا أيضاً التي نعاتب أنفسا فيها: عدم احترامنا لكلام الله تعالى، لا يظهر على الواحد منا أثر الحفظ، الآن الحمد لله انتشر حفظ القرآن، وصار هناك أعداد من الذين يحفظون القرآن الكريم، وهذا شيء طيب ولا شك، ويثلج الصدر، ويشعر الإنسان ببرد في نفسه مما يرى من كثرة الحفاظ وتوالي المتخرجين من حلق التحفيظ. ولكن أيها الإخوة! هل ظهرت آثار هذا القرآن المخزون، أو هذا القرآن المحفوظ في النفس أو في القلب، هل ظهرت على نفوس الحفاظ وعلى محياهم؟! هل ظهرت في تصرفاتهم وأفعالهم؟! هل كان كلام عبد الله بن مسعود رضي الله عنه واقعاً فينا، وفي الذين يحفظون كتاب الله أو أجزاء كثيرة من كتاب الله؟! قال عبد الله بن مسعود: [ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون, وبنهاره إذا الناس مفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخلطون، وبخشوعه إلى الناس يختالون]. وينبغي لحامل القرآن أن يكون باكياً محزوناً، حليماً حكيماً سكيتاً، ولا ينبغي لحامل القرآن أن يكون جافياً ولا غافلاً ولا صخاباً -ليس بذيئاً- ولا صياحاً -غير مرتفع الصوت بالصياح- ولا حديداً -لا يكون وقحاً ولا يكون جلفاً- وإنما يكون سهلاً ليناً ينقاد، المؤمن كالجمل المربوط إذا أقيد انقاد، وإذا أنيخ على صخرة استناخ، المؤمن يألف ويؤلف، فهل ظهرت آثار حفظ القرآن على الذين يحفظونه؟ وهل ظهر الأدب الذي يتأدب به عليهم؟ هذا مما ينبغي أن نعاتب أنفسنا به كذلك.

قسوة القلوب

قسوة القلوب من الأمراض التي أصبنا بها: قسوة القلب، عدم النشاط في العبادة، الفتور والتكاسل عن الطاعات، هذه ولا شك من عيوبنا، وإذا جاء الملك للإنسان منا بخاطرة عبادة، ولا شك أن كل خاطرة عبادة مبعثها الملك؛ لأن الشيطان مع الإنسان موكل به يأمره بالشر والملك يأمره بالخير، ما من خاطر خير في نفسك إلا ومبعثه من هذا الملك الذي هو معك مقترن بك، وخاطر الشر من الشيطان المقترن بك، كلما جاء الملك إلى الواحد منا بخاطرة من صدقة أو صلاة أو صيام أو تلاوة أو دعاء أو ذكر واستغفار ونحو ذلك من أنواع الطاعات والعبادات كالعمرة أو الحج، إلا وتجد النفس الأمارة بالسوء تتثبط وتثبط، وتأتي قضية لعل وعسى والتسويف، بخلاف ما كان عليه السلف رحمهم الله تعالى من النشاط في العبادة والمسارعة فيها. عن أسد بن الوداع عن شداد بن أوس أنه كان إذا دخل الفراش يتقلب على فراشه لا يأتيه النوم، فيقول: اللهم إن النار أذهبت مني النوم فيقوم فيصلي حتى يصبح، وكان الواحد منهم يطيل الصلاة ويطيل العبادة مما نتبرم منه نحن اليوم، نحن لو أطلنا شيئاً من إطالتهم لسئمنا أشد السأم وتبرمنا أشد التبرم. قالت بنت لجار منصور بن المعتمر: يا أبت! أين الخشبة التي كانت في سطح منصور قائمة لم أعد أراها؟ قال: يا بنية! ذاك منصور كان يقوم الليل ليس بخشبة، ذاك منصور كان يقوم الليل رحمه الله تعالى، لكن من قيامه وسكونه وخشوعه رضي الله تعالى عنه ورحمه حسبته البنت الصغيرة أنه خشبة، ونحن لا نصدق متى ننتهي من الركعات حتى نذهب ونندس للنوم، ولا شك -أيها الإخوة- أن هذا الداء الذي فينا أصابنا بسبب المعاصي والانغماس في الدنيا والبعد عن الله عز وجل، هذا من الصدأ الذي أصاب قلوبنا من دخان أنفاس بني آدم، ومن كثرة الأكل والنوم والخلطة والضحك والاهتمام بالدنيا، لا شك أن لهذه الأشياء آثاراً سلبية على النفوس. قال عاصم بن عصام البيهقي: بت ليلة عند أحمد بن حنبل فجاء بماء فوضعه لي، فلما أصبح نظر إلى الماء بحاله ما تغير، فقال: سبحان الله! رجل يطلب العلم لا يكون له ورد في الليل كيف يتفق هذا؟! فكان الحث منهم على العمل والنشاط والمسارعة؛ لأنهم امتثلوا أمر الله: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران:133] {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الحديد:21] عرضها كعرض السماء والأرض، هذا العرض فما بال الطول؟ يا جماعة! العرض كعرض السماء والأرض، ومعروف أن الطول أطول من العرض، الجنة عرضها كعرض السماء والأرض فما بالك بطولها؟! كان مطرف بن عبد الله يقول: يا إخوتاه! اجتهدوا في العمل فإن كان الأمر كما نرجو من رحمة الله وعفوه كانت لنا درجات الجنة، وإن يكن الأمر شديداً كما نخافه ونحذر لم نقل: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر:37] نقول: قد عملنا فلم ينفعنا ذلك، على الأقل ما نتندم ونقول: أرجعنا نعمل صالحاً، المهم أن نعمل.

دوام المحاسبة

دوام المحاسبة ومن الأشياء أيضاً التي نحن في سهو عنها: مسألة المحاسبة التي تنتج العمل، فإن مجرد أن يتذكر الإنسان بعض الأشياء دون أن يكون بعدها للعمل ليس أمراً مفيداً بالغاية المطلوبة، ونحن مع كثرة الخلطة ما صار الواحد فينا يجد مكاناً أو مجالاً لمحاسبة نفسه، صرنا في حال الخلطة مع الأصدقاء والأقرباء والزملاء في العمل وفي الدراسة وغيرها، ما عندنا مجال للخلوة بأنفسنا، فالواحد منا يكون مع أصحابه وكان مع أقربائه، أو كان مع أهله، أو كان مع جيرانه، كان مع الناس في الدكاكين، كان في الأسواق، وهذه الخلطة التي تمنع الإنسان من أن يجد لنفسه وقتاً يحاسب نفسه فيها لا شك أنه يخسر بذلك خسراناً عظيماً، وكانوا -رحمهم الله- لهم لحظات ساكنة يحاسبون فيها أنفسهم. قال إبراهيم التيمي: مثلت لنفسي في الجنة آكل من ثمارها، وأشرب من أنهارها، وأعانق أبكارها، ثم مثلت نفسي في النار آكل من زقومها، وأشرب من صديدها، وأعالج سلاسلها وأغلالها، فقلت لنفسي: أيْ نفس! أيُّ شيء تريدين؟ قالت: أريد أن أرد إلى الدنيا فأعمل صالحاً قال: فقلت: فأنت في الأمنية فاعملي. أنت الآن في الأمنية وهي أنك في الدنيا فاعملي. وكانت هذه المحاسبة مستمرة عندهم بحيث أنهم -رحمهم الله تعالى- كانوا يذكرون من فضلهم ومن سبقهم، كما مر بعضهم على خباب رضي الله عنه وهو يبني حائطاً له، خباب اكتوى سبع مرات، مما أصابه من العذاب في مكة، اكتوى سبع مرات يعالج نفسه بعد ذلك والله سبحانه وتعالى مد له في الأجل، وجاءت الفتوحات ففتحت عليهم الدنيا، قال قيس: [أتيت خباباً وهو يبني حائطاً له، فقال: إن أصحابنا الذين مضوا لم تنقصهم الدنيا شيئاً، وإنا أصبنا من بعدهم شيئاً لا نجد له موضعاً إلا في التراب]. هذا المال نبني به شيء نجعله في التراب. وعن أبي وائل قال: [عدنا خباباً فقال: هاجرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نريد وجه الله، فوقع أجرنا على الله تعالى فمنا من مضى لم يأخذ من أجره شيئاً، منهم مصعب بن عمير، قتل يوم أحد وترك نمرة فإذا غطينا رأسه بدت رجلاه، وإذا غطينا رجليه بدا رأسه، فأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نغطي رأسه ونجعل على رجليه من الإذخر، ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها] مع أنهم كانوا يعملون في الحلال ولا أشغلتهم الدنيا عن طاعة الله، وإنما كانوا إذا نودي للجهاد قاموا وواصلوا الجهاد، مع أنهم قسموا الغنائم في المعركة التي قبلها، وعندهم أشياء كثيرة من الدنيا، لكن الدنيا ما قعدت بهم عن الجهاد في سبيل الله أبداً. كان عبد الرحمن بن عوف لا يعرف من بين عبيده من تواضعه، لباسه مثل لباس عبيده، ليس له فضل عليهم، فهذا العمل منه يذكر إخوانه الذين سبقوه بالإيمان وأنهم أفضل منه لأنهم ما أخذوا من الدنيا شيئاً. ولما قدم طعام الإفطار لأحدهم ذكر من مات من إخوانه الذين سبقوه أنهم ما أخذوا شيئاً، فبكى حتى ترك الطعام وقام عنه. إذاً هذه النفسية التي يحاسب الإنسان بها نفسه ويذكر أن هناك من إخوانه من ذهب وما أخذ شيئاً من الدنيا، فيحصل في نفسه من هذه الأشياء التي تنفعل في نفسه وتعتمل في نفسه ما يجعله يذكر الله عز وجل ويحاسب نفسه على هذه الأموال التي بين يديه، إن هذه النفسية لا تكون إلا وليدة كثرة العبادة وذكر الله والتضحية في سبيل هذا الدين، والتربية على هذا الدين هي التي تنتج هذه النماذج.

خطر السكوت عن المنكر

خطر السكوت عن المنكر من العيوب التي فينا أيها الإخوة ونحن نعاتب أنفسنا عليها: قضية السكوت عن المنكر، وعدم التغيير، رغم أننا نرى أمامنا المعصية تفعل، نرى أن المنكر قائم، نرى أمامنا حدود الله تنتهك، نعلم يقيناً أن هذا حرام، نعلمه يقيناً بالأدلة وبفتاوى العلماء ثم لا نغير شيئاً، ولا يلتفت أحدنا أو يهمس ببنت شفه في سبيل تغيير هذا المنكر، وربما لا يفكر أصلاً، أو لا يختلج في نفسه شيء من قضية التغيير، حتى التردد ربما لا يحصل، ويمر أمام المنكر وكأن شيئاً لم يكن. قال أبو عبد الرحمن العمري: إن من غفلتك وإعراضك عن الله بأن ترى ما يسخطه فتجاوزه، ولا تأمر ولا تنهى خوفاً ممن لا يملك ضراً ولا نفعاً. وقد ضرب السلف رحمهم الله المثل الأعلى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر والجرأة في الحق، فهذا الأوزاعي لما بعث به إلى عبد الله بن علي وكان من كبار السفاكين والسفاحين اشتد ذلك عليه، وقدم ودخل عليه والناس سماطان -فريقان- هناك حصل كلام واختلاف في قضية خروج عبد الله بن علي هذا وسعيه في الحكم والإمارة، فقال عبد الله بن علي للأوزاعي: ما تقول في مخرجنا وما نحن فيه؟ قال: فتفكرت ثم قلت: لأصدقن واستبسلت للموت؛ لأن هذا الشخص سفاح ليس عنده شيء أسهل من سفك الدماء وأن تطير الرءوس عن أجسادها، ثم رويت له عن يحيى بن سعيد حديث الأعمال: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئٍ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله الحديث) كأنه يقول له: إن كان خروجك لله فأنت على خير، وإن كان طلباً لملك أو طلباً لإمرة أو طلباً لدنيا فأنت ولك، وبيده قضيب ينبذ به، ثم قال: يا عبد الرحمن! ما تقول في قتل أهل هذا البيت؟ قلت: حدثني محمد بن مروان عن مطرف بن الشخير عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل قتل مسلم إلا في ثلاث وساق الحديث) فقال: أخبرني عن الخلافة وصية لنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقلت: لو كانت وصية من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ترك علي رضي الله عنه أحداً يتقدمه. وهذا فيه رد على أهل البدع الذين يقولون: إن علياً عنده عهد من النبي عليه الصلاة والسلام في الخلافة من بعده، قال الأوزاعي لذلك الرجل: لو كانت وصية من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ترك علي أحداً يتقدمه. قال: فما تقول في أموال بني أمية؟ قلت: إن كانت لهم حلالاً فهي عليك حرام، وإن كانت عليهم حراماً فهي عليك أحرم -إن كانت لهم حلالاً لا يجوز لك أن تأخذها فهي عليك حرام، وإن كانت عليهم حراماً أخذوها بغير وجه حق فهي عليك أحرم؛ لأنك ستأخذ المال الحرام وتضيف إليه إثماً آخر وهو الغصب- فأمر بي فأخرجت، قال الذهبي: قد كان عبد الله بن علي ملكاً جباراً سفاكاً للدماء صعب المراس، ومع هذا فالإمام الأوزاعي لصدعه بمر الحق كما ترى لا كخلق علماء السوء الذين يحسنون السوء للحكام فيقتحمون الظلم والعسف لأهل الجور، ويقلبون له الباطل حقاً قاتلهم الله، أو يسكتون مع القدرة على بيان الحق.

إهمالنا لأهل بيوتنا

إهمالنا لأهل بيوتنا كذلك -أيها الإخوة- من الأشياء والعيوب التي عندنا مما يتعلق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: إهمالنا لأهل بيوتنا، إهمالنا للزوجات وعدم تعليمهن، إهمالنا للأولاد وعدم تربيتهم، ربما يكون أولاد الواحد يخرجون إلى الشوارع ويتعلمون الألفاظ البذيئة، وربما يمارسون الفواحش، ويكون المسئول عنه واحد ممن يظهر عليه آثار الالتزام والتدين، ومع ذلك هذا حال أولاده وإخوانه الصغار، فأين الإحساس بالمسئولية؟ وأين أثر قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ} [التحريم:6]؟ أين هذا من إهمالنا نحن لحال أهلينا وحال أولادنا وزوجاتنا بل وآبائنا وأمهاتنا؟ وقد كانوا -رحمهم الله- يهتمون بذلك اهتماماً عظيماً، قال عبد الرحمن بن رستة: سألت ابن مهدي عن الرجل يبني بأهله -واحد يدخل بزوجته- هل يترك الجماعة أياماً -هل يجوز له ترك صلاة الجماعة؟ هل يجوز للعريس أن يترك صلاة الجماعة أياماً؛ لأنه إذا دخل بها فانشغل بزوجته وهو حديث عهد بها وبشهوته فربما تفوت عليه الصلوات ويصعب عليه إدراك الجماعة، هل ترخص لهذا العروس الجديد إذا دخل بزوجته أن يترك الجماعة أياماً؟ وهذا تراه شائعاً عند بعض الناس يقولون: أول فجر وأول جمعة وأول ثلاثة أيام يبتدعون من عندهم مقادير معينة للصلوات أنه لا يأتيها ولا يصليها ولا يركعها في جماعة، وهذه رخصة، يؤكدون أنها رخصة وأنه ليس عليه إثم إذا فعل ذلك، فيترك الجماعة أياماً- قال: لا. ولا صلاة واحدة. الآن العلاقة بقضية الأهل والأولاد، وحضرته صبيحة بنى بابنته، ابن مهدي يفتي أنه لا يجوز لهذا الشخص أن يتخلف عن صلاة الجماعة، بني في ابنته في الصباح خرج فأذن ثم مشى إلى بابهما؛ باب البنت وزوجها، فقال للجارية: قولي لهما يخرجان إلى الصلاة، الرجل في المسجد والمرأة تقوم تصلي في البيت، فخرج النساء والجواري فقلن: سبحان الله! أي شيء هذا؟ هذه أول ليلة وهذا أول فرض، فقال: لا أبرح حتى يخرجا إلى الصلاة. النبي صلى الله عليه وسلم كان يطرق بيت فاطمة وعلي ليلاً على صلاة النافلة، على الصلاة المستحبة، ويأمرهما بالصلاة، فكيف بقضية إهمال الأهل والأولاد في الأمر بالصلاة الواجبة: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه:132]؟ الحقيقة أننا كثيراً ما نقصر في أمر أهالينا بالصلاة، وهذا أمرٌ مما نعاتب أنفسنا به أشد المعاتبة، ذلك لأننا سنشترك الإثم لو سكتنا عن القضية. لو سكتنا عن محاربة المنكرات في البيوت سنأثم ولا شك، والآن المنكرات تزداد وتتنوع وتتشعب وتكثر، أصناف ألوان من المنكرات تغزو البيوت غزواً استعمارياً شديداً، وتسيطر على الأفكار، وتوقظ الشهوات في النفوس، وتلقي بضلال الشبهات في القلوب، هذه قضايا واقعة فما هو موقفنا تجاهها؟ أو ماذا فعلنا لأهلينا وأولادنا؟ هذه من الأشياء التي قصرنا فيها، ونعاتب أنفسنا فيها. ما هو موقفنا من الجهاد؟ هل يوجد واحد منا يتمنى أن يجاهد؟ هل الواحد منا يتمنى الشهادة؟ هل الواحد منا يحدث نفسه بالغزو؟ وجد أعذاراً في وضعه وحاله أنه لا يجب عليه الجهاد، ولكن هل يحدث نفسه بالغزو أو الشهادة، أو أن القضية بعيدة المنال بحيث أنها لا تخطر له على بال، ولا تأتي له على قلب مطلقاً؟ لو كنا صادقين في موقفنا من الجهاد لكنا نحدث أنفسنا على الأقل بفرضيته وأهميته وأجر الشهادة وفضل الشهادة ونتمنى الشهادة حتى إذا مات الواحد منا على فراشه نال أجر الشهادة، هذا خالد بن الوليد لما حضرته الوفاة رضي الله عنه قال: [لقد طلبت مظانه فلم يقدر لي إلا أن أموت على فراشي، وما من عمل شيء أرجى عندي بعد التوحيد من ليلة بتها وأنا متترس والسماء تهلني ننتظر الصبح حتى نغير على الكفار] يقول: هذا أرجى عمل، أحرس أنتظر والسماء تمطر وأنا أنتظر الصباح لنغير على الكفار، ثم قال: [إذا مت فانظروا إلى سلاحي وفرسي فاجعلوه عدة في سبيل الله]. وابن أم مكتوم وهو أعمى معذور قال: [أي رب! أنزل عذري، فأنزلت: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء:95] فكان بعد يغزو ويقول: ادفعوا إلي اللواء فإني أعمى لا أستطيع أن أفر وأقيموني بين الصفين]. يقول: أنتهز فرصة أني أعمى فلا أفر فضعوا اللواء عندي. حتى نساؤهم رضي الله عنهن، أم سليم اتخذت خنجراً يوم حنين، فقال أبو طلحة: (هذه أم سليم معها خنجر، فقالت: يا رسول الله! إن دنا مني مشرك بقرت به بطنه، من أجل ذلك وضعت عندي هذا الخنجر). أبو طلحة قرأ قول الله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} [التوبة:41] فقال: [استنفرنا الله وأمرنا شيوخاً وشباباً جهزوني، فقال بنوه: يرحمك الله إنك قد غزوت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر ونحن نغزو عنك الآن، قال: فغزا في البحر فمات، فلم يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد سبعة أيام فلم يتغير] ما يتغير مثلما يتغير الموتى.

السلبية القاتلة

السلبية القاتلة ومن الأشياء التي نعاتب فيها قضية السلبية، السلبية القاتلة التي تمنعنا عن القيام بالأعمال، السلبية القاتلة التي تقعد بنا عن ممارسة الأدوار الإسلامية المطلوبة في الواقع، السلبية القاتلة التي تمنعنا حتى من تثبيت إنسان مسلم يتعرض لفتنة، الآن إخواننا الذين يتعرضون لفتن كثر، واحد يتعرض لفتنة المال، وواحد يتعرض لفتنة المنصب، وواحد يتعرض لفتنة النساء، وواحد يتعرض لمحنة اضطهاد، ما هو دورنا؟ ولا شك أن كل واحد فينا يعلم على الأقل ممن يبتلى أو يتعرض لفتنة أو محنة، ما هو دورنا في تثبيته؟ هل قمنا بأشياء في تثبيتهم؟ هل مددنا لهم يد العون الإسلامية بالتذكير والموعظة؟ كانت أبواب التثبيت متداولة في العصر الأول، لو واحد تعرض لمحنة يجد من إخوانه من يقف بجانبه، لو تعرض لشدة وكربة يجد من إخوانه من يساهم في تفريجها عنه، يجد الواحد على الحق أعواناً، والآن يتعرض الإنسان لمحن وأنواع من الفتن فلا يجد ممن حوله من يقف، ولو حتى بكلمة ينصحه بها ويثبته، ولذلك تكثر حالة الانتكاس. ومن أسباب الانتكاس: أن هناك سلبية من المحيطين بالشخص المنتكس، لقد أحسوا بتقهقر، لقد رأوا بوادر الشر، لقد لمسوا مواطن ضعف الشخص، لكنهم ما فعلوا شيئاً، ولذلك لو ناقشت بعض هؤلاء المنحرفين لقال لك: إن جزءاً من المسئولية يقع على عاتق أصحابي الأول، إنهم ما كانوا حولي لما حصل لي ما حصل من الضعف، ولا أحد جاء ونصحني ولا ثبتني ولا لازمني، هم يعرفون أنني أنحدر فما لازموني بل تركوني أنحدر إلى الهاوية لوحدي. الإمام أحمد رحمه الله لما حمل إلى المأمون أُخبر أبو جعفر رحمه الله قال: فعبرت الفرات مع أنه الإمام أحمد لكن ما قال: هذا الإمام أحمد لا يحتاج إلى تأثير ولا يحتاج نصراً، لا. لا بد من ممارسة دور حتى لو كان الإمام أحمد، فإذا هو جالس في الخان فسلمت عليه، فقال: يا أبا جعفر! تعنيت -أتعبت نفسك- فقلت: يا هذا! أنت اليوم رأس والناس يقتدون بك، فوالله لئن أجبت إلى خلق القرآن ليجيبن خلق، وإن أنت لم تجب ليمتنعن خلق من الناس كثير، -أي: كلهم ينتظرون كلمتك- ومع هذا فإن الرجل -يعني: الخليفة- إن لم يقتلك فأنت سوف تموت، فاتق الله ولا تجب، فجعل أحمد يبكي ويقول: ما شاء الله، ثم قال: يا أبا جعفر! أعد علي فأعدت عليه وهو يقول: ما شاء الله ما شاء الله. حتى أن أعرابياً ممن كانوا يعملون الشعر في البادية لما سمع أن الإمام أحمد متوجه ومحمول إلى المأمون، ذهب من مكان إلى مكان حتى وصل إلى مكان الإمام أحمد وهو أعرابي، وجلس يقول له كلاماً بالثبات على الحق، مع أنه أعرابي وهذا الإمام أحمد، لكن ما منعه ذلك من أن يؤدي دوراً في الموضوع. حتى اللصوص في السجن كان أحدهم يقول للإمام أحمد: يا أحمد! إني أصبر على الضرب وأنا على الباطل، أفلا تصبر عليه وأنت على الحق؟! ويقول واحد من أهل السجن للإمام أحمد: إنما هي ضربة أو ضربتان بالسوط ثم لا تدري أين يقع الباقي، قال: فسري ذلك وخفف عني. فالواحد عندما يكون في محنة ويجد من إخوانه من يقف بجانبه يسر بذلك، ويشعر بشعور عظيم ويشعر بتثبيت، واليوم نحن نتخلى عن أدوار مهمة جداً يمكن أن ينقذ الله بها أقواماً من الناس بسبب سلبيتنا القاتلة.

التساهل في فتنة النساء

التساهل في فتنة النساء ومن الأمور -أيها الإخوة- التي نعاتب أنفسنا فيها في موضوع الفتن، هذا التساهل الذي يحدث منا في فتنة النساء، من النظرة المحرمة، مخالفين قول الله عز وجل: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30] ومخالفين قول حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تتبع النظرة النظرة) ولا شك أن النبي عليه الصلاة والسلام قد حذرنا من فتنة النساء، وقال: (ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء) وقال: (فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء). واليوم بفعل هذا التبرج الشائع، وهذه الملابس التي هي زينة في نفسها والتي جعلت الأمر أشد، وهذه الروائح والأطياب التي شاعت وانتشرت ووضعت مما جعل الأمر أنكى وأسوأ، وهذا الخروج من البيوت وأماكن الاختلاط وموضوع التصوير، وشيوع الأفلام جعلت من فتنة النساء اليوم أمراً عظيماً لا يثبت أمامه إلا من عصمه الله. ولا شك أننا في وضع لا نحسد عليه في هذه القضية، وكثيرون هم اليوم الذين يطلقون أبصارهم إلى ما حرم الله، ويقولون: نحن لم نفعل الفواحش، نعم لكنهم مصرون، لو فرضنا أن النظر من الصغائر فهم مصرون على الصغيرة والإصرار قد حولها إلى كبيرة. كان أحد السلف في بعض المغازي فتكشفت جارية فنظر إليها فرفع يده فلطم عينه وقال: لحاظة إلى ما يضرك؟ وقال عمرو بن مرة بعدما عمي: ما يسرني أني بصير، قد كنت نظرت نظرة وأنا شاب. وهو شاب حصل أنه نظر نظرة. وعن سعيد بن المسيب قال: [ما يئس الشيطان من شيء إلا أتاه من قبل النساء]. وقال لنا سعيد وهو ابن أربع وثمانين سنة قال: علي بن زيد وقد ذهبت إحدى عينيه وهو يعشو بالأخرى: ما من شيء أخوف عندي من النساء. هذا عمره أربعة وثمانون سنة، واحدة ذهبت والأخرى يعشو بها ويقول هذا! ونحن اليوم يحصل عندنا من التساهل في موضوع النساء أمر عظيم جداً، سواء في قضية أمرهن بالتستر والحجاب، أو التساهل في إخراجهن إلى أماكن الاختلاط والفساد، أو التساهل في النظر إليهن سواء كانت صوراً حية واقعية تتحرك في الشوارع والأسواق وعلى أبواب مدارس البنات والكليات وغيرها، أو كانت صوراً متحركة في أفلام، أو كانت صوراً مطبوعة في مجلات وأوراق، أقول: إن ما حصل من التساهل في هذا أمر عظيم جداً، قد جعل الكثيرين يقعون في المعاصي، وأمور تحركها الشهوات بسبب عدم غض البصر، ولربما وقع الواحد في فاحشة -والعياذ بالله- نتيجة تساهله، هذا التساهل الموجود عند بعض الناس في بعض القطاعات كما يوجد عند بعض الأطباء تساهل في النظر إلى المريضات، كما يحدث من تساهل بعض الباعة في النظر إلى النساء، وهم يعيشون بيئة من أسوأ البيئات، الباعة الذين هم في المحلات من كثرة ما يرون من الأجناس والأخلاط من هؤلاء المتبرجات أو السافرات المتعطرات الملعونات اللاتي لعنهن النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (العنوهن فإنهن ملعونات) والمقصود لعن الجنس وليس لعن المعين، لعن هذا الجنس: المائلات المميلات؛ رءوسهن كأسنمة البخت، هؤلاء الكاسيات العاريات؛ بأن تكون لابسة شيئاً قصيراً أو شفافاً أو ضيقاً، وهذا هو حال كثيرٍ من النساء، وهن متوعدات باللعنة وهي الطرد من رحمة الله، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (العنوهن فإنهن ملعونات). هذا التساهل الحاصل من قبل بعض هؤلاء الأطباء أو الباعة وغيرهم من الذين يتعاملون في أوساط فيها نسوة، أو الموظفين في بعض الشركات، أو بعض الذين يتساهلون فيمن يعمل بجانب سكرتيرة أو امرأة، ثم يقع بعد ذلك ما يقع، وهي تأتي في الصباح إلى العمل متبرجة متعطرة. كان يونس بن عبيد من السلف يقول: لا يخلون أحدكم مع امرأة ولو كان يعلمها القرآن، ولو كانت القراءة منه وليست منها فإنه لا يجوز له ذلك. لا يخلون أحدكم مع امرأة يقرأ عليها القرآن، فكيف بهؤلاء الذين يفعلون ما يفعلون من انتهاك المحرمات؟! فهذه قضية مهمة من القضايا التي تنبئ عن عيوبٍ خطيرة في أنفسنا.

فلنراجع أخلاقنا

فلنراجع أخلاقنا وإذا انتقلنا إلى مسألة الأخلاق، وجدنا أن عندنا تقصيراً عظيماً، وأننا نعاني من عيوب كبيرة في مسألة الأخلاق، فتجد الجبن والكذب والبخل؛ هذه ثلاثة من أسوأ الأخلاق، موجودة عند الكثيرين، أو يكون في النفوس نصيب من كل خلق سيئ من هذه الأخلاق. النبي عليه الصلاة والسلام في غزوة حنين أو بعد غزوة حنين لما جاء هوازن يطلبون نساءهم وأبناءهم وأموالهم قال: (يا أيها الناس! ردوا عليهم نساءهم وأبناءهم الحديث) ثم ركب راحلته وتعلق به الناس يقولون: اقسم علينا فيئنا حتى ألجئوه إلى سمرة فخطفت رداءه عليه الصلاة والسلام، فقال: (يا أيها الناس! ردوا علي ردائي، فوالله لو أن لي بعدد شجر تهامة نعماً لقسمته عليكم، ثم لا تلقوني بخيلاً ولا جباناً ولا كذوباً) حديث صحيح رواه أحمد والنسائي عن ابن عمرو رضي الله عنهما. فإذاً هذه ثلاثة من أسوأ الأخلاق: الجبن والبخل والكذب، وهي موجودة ومنتشرة ومتفشية. وكذلك فإن مما يبلغ بالسوء غايته أن يجعل الإنسان شعار التدين، ويكون في حال من التمسك بالظاهر لبعض السنن وتحدث منه أو تبدو منه هذه الأخلاق التي تدل الناس على شيء من الازدواجية التي يعاني منها هذا الشخص، أو مظهر من مظاهر النفاق ولا شك. قضية الكلام الفاحش من سوء الخلق، ولعن من لا يستحق اللعن، وهذه قضية منتشرة، والغيبة والنميمة التي صارت فاكهة المجالس، وكثير من الذين يعظون في الغيبة يقعون فيها، والسلف رحمهم الله كانوا يحاسبون أنفسهم على الكلمات، التي قد تبدو عادية لبعض الناس فكانت عندهم ذات شأن. عن مالك بن ضيغن قال: جاء رباح القيسي يسأل عن أبي بعد العصر، فقلنا: إنه نائم، فقال: أنوم هذه الساعة؟ ثم ولى منصرفاً، فأتبعناه رسولاً يذهب وراءه فقلنا: قل له: ألا نوقظه لك؟ فأبطأ علينا الرسول، ثم جاء وقد غربت الشمس، فقلنا: أبطأت جداً، فقال: هو أشغل من أن يفهم عني شيئاً، أدركته يدخل المقابر وهو يعاتب نفسه ويقول: أقلت: أنوم هذه الساعة؟ أفكان هذا عليك؟ ينام الرجل متى شاء وقلت هذا وقت نوم؟ وما يدريك أن هذا ليس بوقت نوم؟! ثم قال مخاطباً نفسه: تسألين عما لا يعنيك وتتكلمين بما لا يعنيك. هذا على كلام يبدو عادياً جداً عند بعضنا، ومع ذلك كانوا يحاسبون أنفسهم على هذه الأشياء.

صلة الرحم وبر الوالدين

صلة الرحم وبر الوالدين مما نعاتب به أنفسنا تقصيرنا في صلة الرحم، زيارة الأقرباء، وبر الوالدين على رأس صلة الرحم، بل أهم شيء في صلة الرحم بر الوالدين، ومع ذلك قصرنا فيه كثيراً، فالذي يكون والداه معه في البيت فهو في شيء من سوء الخلق وعصيانه، وعدم تلبية رغباتهم، وعدم الإحسان إليهم، وكلمة (أف) عنده عادية، مع أن الله سبحانه وتعالى قال: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء:23] نهى عن الأذى بالكلام: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء:23] ونهى عن الأذى بالفعل: {وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء:23] وأمر بضد ذلك: {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً} [الإسراء:23] بدلاً من (أف) {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء:24] بدلاً من: {وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء:23] فاكتمل للأبوين الفعل الطيب والكلام والطيب والنهي عن الفعل السيئ والكلام السيئ كما أمر الله عز وجل. والذي يكون معه والداه في البيت يفعل أشياء مشينة في هذا، وربما نفض يديه في وجههما، نفض الدين في الوجه، هذا يعتبر من أنواع العقوق، ولو كان الوالدان في بلد آخر لكان السؤال قليلاً والتفقد نادراً والوصل بهدية أو مال أو شيء أيضاً أمراً قليلاً، وربما قال: أنا أولى بذلك ونحو ذلك، وصار يجادل أباه على مال أو بيت ونحوه، ويفاوضه كأنه إنسان غريب أجنبي. عن ابن عون قال: دخل رجل على محمد بن سيرين عند أمه فقال: ما شأن محمد يشتكي شيئاً؟ فقالوا: لا، ولكن هكذا كان عند أمه مثل المريض. وعن ابن عون: أن أمه نادته فأجابها، فعلا صوته صوتها، فأعتق رقبتين، كيف يعلو صوته على صوتها؟ وكان الهذيل بن حفصة يجمع الحطب في الصيف فيقشره ويأخذ القصب فيفلقه، فإذا كان الشتاء جاء بالكانون قالت أمه: فيضعه خلفي وأنا في مصلاي ثم يقعد فيوقد بذلك الحطب المقشر وذلك القصب المفلق لا يؤذي دخانه ويدفئني، نمكث بذلك ما شاء الله، قالت: وعنده من يكفيه لو أراد ذلك، أي: هناك خادم لو أراد يأتي بخادم، لكنه يمارس ذلك بنفسه، قالت: وربما أردت أنصرف إليه فأقول: يا بني! ارجع إلى أهلك ثم أذكر ما يريد فأدعه. وكان واحد من كبار العلماء في المجلس تقول له أمه: يا فلان! وهو في المجلس وعنده طلبة العلم، وعنده ناس يكتبون الحديث، قم فألق الشعير للدجاج، فيترك الحلقة ويقوم ليلقي الشعير للدجاج، ويقوم ولا يقول: سكتوها، أو يتبرأ منها، ولست أنا المقصود. من قضايا الأخلاق والبر والصلة: معاملاتنا مع إخواننا، يوجد من الصدود والنفرة والشحناء والبغضاء والقطيعة والهجران والمعاملة السيئة والألفاظ الخشنة والتعامل الخشن مع إخواننا، ولا شك أن هذا منافٍ للبر، وهو من الأشياء التي نعاني منها كثيراً، كل واحد يعاني من الثاني، وكل واحد يشتكي من الآخر، والعيب مشترك، الخلل فينا جميعاً وليس أحدٌ مبرأ إلا من أبعده الله عز وجل عن هذه الأخلاق. حتى قضية الإنفاق على الإخوان من الأشياء التي صارت عزيزة، والواحد صار يؤثر نفسه على إخوانه بدلاً من أن يؤثر إخوانه على نفسه، كما قال الله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9]. وابن المبارك رحمه الله كان يأخذ الاشتراكات من أصحابه عند السفر، ثم ينفق عليهم طيلة الطريق، وإذا وردوا البلد يشتري لهم هدايا لأولادهم مما يشتهون ويتمنون، ويقول: ما أمرك عيالك أن تشتري لهم يا فلان ويا فلان ويشتري الهدايا، فيرجعون إلى أهليهم ثم يعيد إليهم نفقات الاشتراكات ويكون المال الذي صرفه عليهم في الرحلة كله من ماله، وهداياهم من كيسه، وهدايا أولادهم من كيسه. وكان ابن عمر يخدم أصحابه، وكان يرحل رواحل أصحابه، البعير إذا صار وقت المسير يحتاج إلى تجهيز، فكان يفعل ذلك، وكان يفعل ذلك لخدمه أيضاً. وكان بعض السلف يواسي أخاه في الحفاء، لما تنقطع نعله يحمل هو نعليه أيضاً ويمشي حافياً فيقول له صاحبه: ما حملك على ذلك رحمك الله؟ قال: أواسيك في الحفاء، أي: مادام أنك لا تريد أن تأخذ نعلي فسأمشي معك في الحفاء، فكان حسن التعامل موجوداً وقائماً. من الأشياء التي نعاني منها في علاقتنا الأخوية: سوء الظن، إذا رأى من أخيه تصرفاً حمله على أسوأ المحامل، وأول ما يتبادر للذهن الاحتمال السيئ، وليس الاحتمال الحسن، ولا نطبق القاعدة السلفية التي يقولها أبو قلابة: إذا بلغك عن أخيك شيئاً تكرهه فالتمس له العذر جهدك، فإن لم تجد له عذراً فقل في نفسك: لعل في أخي عذراً لا أعلمه. وكثيراً ما تكون هذه الصدامات بين الإخوان وبين الشباب سبباً لتفرقهم، والأشياء التي تزرع الشحناء والبغضاء في نفوسهم بسبب أن الواحد لا يعذر الآخر ويتصيد أخطاءه، ويقول الواحدة بالواحدة ويعامل بالمثل، مع أن الآخر ربما ما قصد الشر، لكن هذا يحملها على أنه قصد الشر ثم يعامله بالمثل، ويقول له: وجزاء سيئة بمثلها، من لم يؤاخِ إلا من لا عيب فيه قل صديقه، من الذي لا يوجد فيه عيب، ومن لم يرض من صديقه إلا بالإخلاص له دام سخطه، ومن عاتب إخوانه على كل ذنب كثر عدوه، وهذه من الآفات. إن بعضنا يعاتب أخاه على كل شيء، أي تصرف خاطئ لا يمره، لا بد أن يوقفه عند كل واحد، أنت فعلت كذا وأنت آذيتني بكذا، وضايقتني بكذا ونحو ذلك من الأشياء، ونتصيد ونجمع الأخطاء ثم تعتمد في نفوسنا وتتحول إلى شحناء وبغضاء، وإذا صار الانفجار يكون دفعة واحدة، ونسرد الأشياء سرداً، ولا عندنا صدر متسع لكي نتحمل أخطاء إخواننا علينا. وحتى اختلاف الرأي، كم يتسع الصدر منا للخلاف مع إخواننا؟ الخلاف في الرأي لا الخلاف المذموم كأن تكون على سنة وهو على بدعة، أو أنت على علم وهو على جهل؟ لا. الخلاف في الرأي. قال يونس الصدفي: ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يوماً في مسألة ثم افترقنا، ولقيني فأخذ بيدي ثم قال: يا أبا موسى: ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة؟! لا يمكن أن يكون الناس على قلب رجل واحد في جميع الآراء.

تضييع الأوقات

تضييع الأوقات ثم -أيها الإخوة- من الأشياء التي نعاتب أنفسنا فيها جداً: قضية تضييع الأوقات، وتضييع الأوقات قد صار شعاراً لكثير من الناس، يضيعون الأوقات في التوافه، مع أن الوقت هو مخلوق لكي نملأه بالطاعات: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} [الفرقان:62] فالله جعل الليل والنهار لكي نملأه بالطاعات: {خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} [الفرقان:62] الليل وراء النهار والنهار وراء الليل، يختلفان لكي نعمرهما بالطاعات، فماذا فعلنا في ذلك؟ قال الحسن: أدركت أقواماً كان أحدهم أشح على عمره منه على درهمه. كان هذا سيماهم رحمهم الله تعالى، يستغلون الأوقات بالعبادات أولاً، وبطلب العلم، يقول الرقاق: سألت عبد الرحمن بن أبي حاتم عن اتفاق كثرة السماع له وسؤالته لأبيه، فقال: ربما كان يأكل وأقرأ عليه، ويمشي وأقرأ عليه، ويدخل الخلاء وأقرأ عليه، ويدخل البيت في طلب شيء وأقرأ عليه، يستغل كل وقت وكل دقيقة يقرأ على أبيه ويستفيد منه ومن علمه، والآن تضيع الأوقات فلا طلب علم ولا شيء، ويصبح الجهل متفشياً. الشباب كانوا في سفر فجاءوا وقت صلاة المغرب لجمع المغرب مع العشاء فاختلفوا: هل تقصر صلاة المغرب أو لا؟ ثم استقر الرأي على أن تقصر وصلوا المغرب ركعتين، كيف يكون هذا؟ هذه من أبسط الأشياء، قصروا المغرب وصلوا ركعتين. وآخرين نزل المطر في جماعة في مسجد صلوا ركعتين في البلد، جمعوا وقصروا في المطر في البلد. وآخرون تأخر الخطيب فصلوا ظهراً أربع ركعات مباشرة، واحد يمسك مصحف ويخرج على المنبر ويقرأ آيات، يقول الشافعي: يقرأ آيات ويدعو. ما أحد يحسن أن يفعل هذا؟ ما أشد جهل الناس، وما أجبنهم في الحق! ولكن إذا صارت الدنيا قام كل واحد ينافح عن ماله وعن نفسه. فتضييع الأوقات بالأشياء التافهة، حفظ القصائد والأشعار ليست من الملح، كان بعض المحدثين يختم حلقته بملحة أو بطرفة، لكن اليوم صار كل الحلقة وكل المجالس في طرف ونكت وفوازير وصوت صفير البلبلِ، وهذا شغلهم عن حفظ الأهم، وليس أنهم يحفظون ليتهم يحفظون متوناً في طلب العلم أو الحديث أو الفقه، ونحو ذلك. صارت الأوقات تضيع بالخلطة وكثرة النوم والسهر على غير منفعة، وكثرة الكلام وهكذا، وتضيع أيضاً بطلب الدنيا، هذا معجب بالكفار، وهذا ينزل قبل الدوام ويطلع بعد الدوام بساعات ويفخر بأنه نشيط في العمل، ونحو ذلك: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم) إنما يكفي أحدكم ما كان في الدنيا مثل زاد الراكب، لا نقل: تأخر عن الدوام، واخرج قبل الدوام، لا. اجعل راتبك حلالاً لكن أن تكون عبداً للدنيا، تخرج من الصباح ولا ترجع إلا في الليل، وأعمال إضافية ما هذا؟ وكذلك هذه الزيارات الفارغة التي ليس فيها ذكر لله تعالى، مجالس ليس فيها صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ولا حتى كفارة المجلس، تضيع الأوقات بمرور هذا على هذا وهذا على هذا وجلوس هذا عند هذا والإسراف بالمال في الاهتمام بالمظهر وإنفاق الأموال فيه. ونجد عندنا كذلك مقابل الإسراف البخل بالصدقة، لو دعا داعي الصدقة تصدقنا بريالات، لكن لو دخل الواحد منا مطعماً أنفق العشرات، لا يحاسب نفسه عند الإنفاق في سوق ونحوه على ما ينفقه من المبالغ، لكن إذا أتت الصدقة وأخرج من جيبه بالغلط عشرين أرجع واحدة ووضع واحدة. فنحن عندنا إذاً -أيها الإخوة- شيء من البخل والشح ينبغي أن نحاسب أنفسنا عليه. عندنا توسع في الترفيه يصل إلى استخدام الأشياء المحرمة، عندنا مجاراة للأهل والأولاد إذا طلبوا منا أشياء محرمة كأنواع من الأفلام أو الألعاب المحرمة، إذا اشتهى شيئاً أعطيناه إياه، وجلبناه له، عندنا محبة للراحة والدعة والكسل، وانقلبت نقاشاتنا من أشياء مفيدة في طلب العلم إلى أشياء فيها أنواع من المباراة والمجادلة، لا يوجد شيء مبني على قراءة كلام العلماء، وإنما قضية ظنون وآراء شخصية. وكذلك فإننا نعاني من إنفاق الأموال في غير طاعة الله، والسفر إلى بلاد الكفار في السياحة، صار هذا ديدن كثير حتى من المنسوبين إلى الخير، يسافر في السياحة إلى بلاد الكفار، لا ضرورة ولا حاجة شرعية، لو أنه يقيم فيها هارباً مثلاً، أو يقيم فيها مؤقتاً للحاجة كعلاج أو نحوه لقلنا: ذلك متوجه، لكن يذهب للسياحة وإنفاق الأموال، وهو لا يعطي في سبيل الله إلا النزر اليسير، فهل يكون هذا شأن المسلم الجاد؟! وكذلك فإننا نحتاج إلى سؤال أنفسنا عن هذه الأموال التي ننفقها من أين اكتسبناها وفيم أنفقناها؟ ونحن من خلال عرض هذه الأشياء -أيها الإخوة- لا نريد القول بأنه ليس في أحد خير، كلا والله، بل إن هناك كثيراً من الناس واقعهم طيب، وكثيراً من المجالس فيها خير كثير وفيها ذكر وعلم، وهناك كثير من الناس يبذلون في سبيل الله ويعطون وينفقون، وآخرون من المسلمين حريصون على طلب العلم، ويجتهدون فيه، ويحفظون القرآن، ويحفظون من السنة، ويحفظون متون العلماء أشياء لا بأس بها، وهناك الكثيرون عندهم سخاء وعندهم حسن خلق وعندهم تعهدٌ لأولادهم وبعضهم أنجز إنجازات كبيرة جداً في بيوت من إخلائها من المنكرات، أو من جمع الأهل على طاعة الله، ونجح بعض الدعاة إلى الله في تغيير بيوت وليس بيتاً واحداً، وأثروا في جيرانهم وأهل حيهم، وجماعة مسجدهم، بل وصل بهم الأمر لتعدي النفع إلى البعيدين من مراسلة هؤلاء الذين يرسلون بالرسائل التافهة إلى ركن المعرفة أو التعارف في المجلات، فأرسلوا لهم الكتب النافعة، والأشرطة الطيبة، وصار ذلك من أسباب هداية الخلق ممن كانوا بعيدين عن شرع الله. أقول: إن هناك خيراً ولا شك من ذلك، ولا يمكن أبداً أن يكون الكلام السابق معناه الخروج بنظرة سوداوية عن الواقع، كلا والله، بل المقصود -أيها الإخوة- أن نعاتب أنفسنا، والإنسان إذا عاتب نفسه ذكر معايبها، ليست القضية الآن تقييماً للواقع، كان الكلام هو بعنوان: تعالوا نعاتب أنفسنا، أي: عن التقصيرات الموجودة عندنا، إذاً نحن نركز على السلبيات والمعايب، وننظر إليها لنصلح من شأنها، ونحن المقصودون بالكلام، وليس الكلام لغيرنا أو لأناس من غير الموجودين، إن المؤمن كما قال النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذُكَّر ذَكَر، ونحن إذا ذكرنا أنفسنا يجب أن نتذكر كلنا وأنا أولكم، ينبغي أن نحمل أنفسنا على الحق، وأن ننظر إلى العيوب التي عندنا فنشتغل بتصحيحها، وإلى الخلل فنشتغل بتسديده، ولا يصلح أبداً أن يبقى الإنسان المسلم على معصية، أو يبقى على عيب مع أنه قد وجه إليه وعرف به وهو مصر على إبقاء ما هو عليه. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

يا باغي الخير! أقبل [2]

يا باغي الخير! أقبل [2] لقد يسر الله لهذه الأمة العمل، وضاعف لها الأجر، وفتح لها من أبواب الخير أموراً كثيرة، وفي هذه الخطبة يواصل الشيخ الكلام عن هذه الأعمال التي قد سبق ذكر شيء منها في خطبة سبقت.

خلاصة الكلام في حكم أعياد الكفار

خلاصة الكلام في حكم أعياد الكفار إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالة في النار. تكلمنا في الخطبة قبل الماضية عن بعض أبواب الخير التي فيها أجر عظيم يجهلها أو يهملها كثير من المسلمين، وكنا نُريد إكمال تلك الخطبة بخطبةٍ أٌخرى كما فعلنا في المنكرات التي استهان بها الناس، وقطعنا بين ذلك، وهذه خطبة عن حكم مشاركة الكفار في أعيادهم لمناسبة تلك الخطبة في ذلك التاريخ، ومعلوم ما شاهدناه أيها الاخوة! من مشاركة كثير من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها للكفرة، وشاهدنا بأعيننا ما أخبرنا عنه صلى الله عليه وسلم عن هذه الأمة من أنها ستتبع سنن من كان قبلها حذو القذة بالقذة. بل وجدنا بعض أبناء المسلمين يتحمسون لأعياد الكفار أكثر من تحمس الكفار أنفسهم، وأشرنا إلى أن الأعياد التي ابتدعها الكفرة كلها محرمة في دين الله وإن كان ظاهرها الخير والفائدة، فمثلاً: لا يجوز الاحتفال معهم ولو كان الاحتفال بعيد ميلاد المسيح، كما لا يجوز لنا أن نحتفل بميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم ولا أن نعمل بدعاً وموالد، وكذلك لا يجوز الاحتفال بسائر الأعياد، كعيد الأم أو عيد الأب، أو الطفولة، أو المعلم، أو عيد الوطن، أو عيد الثورة أو عيد العمال، أو عيد الربيع إلى آخر هذه البدع التي جاءتنا من الكفرة. وقد آلمني قصة نقلها إليَّ بعض الإخوان، فقال: إن رجلاً من المسلمين دخل على أٌمه قبل فترةٍ من الزمن، فقالت له: أين هديتي؟ فقال لها: وأية هدية؟ فقالت: ألا تعلم بأن اليوم عيد الأم، وهذا فلان صاحبك أو قريبك قد أهدى لأمه هدية بهذه المناسبة، فلماذا لا تهدي إلي؟! تغلغلت البدع حتى عند بعض العجائز، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وأولئك الكفرة المجرمون يبرون بأمهاتهم يوماً من السنة ويعقونهن بقية الأيام، فأي برٍ هذا؟! وديننا يأمرنا أن نبر أمهاتنا وآباءنا كل يوم وساعة، فأيهما أعظم؟ وتحويل البر وسائر الأنواع من الخيرات إلى مناسبات معينة يحتفل بها في السنة ثم تُنسى هذه الأمور في بقية السنة، فهذا ليس من العقل والدين في شيء.

أبواب من الخير غفل الناس عنها

أبواب من الخير غفل الناس عنها نعود أيها الاخوة! في هذه الخطبة إلى إتمام الكلام عمَّا سبق أن بدأناه بأبوابٍ من الخير استهان بها الناس أو غفلوا عنها:

الحب في الله

الحب في الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد ومسلم عن أبي هريرة مرفوعاً: (زار رجل أخاً له في قريةٍ فأرصد الله له ملكاً على مدرجته -على طريقه- فقال: أين تريد؟ قال: أخاً لي في هذه القرية، فقال: هل له عليك من نعمةٍ تردها؟ -هل أنعم عليك بشيء فتريد أن تقابله- قال: لا. إلا أني أحبه في الله، قال الملك: فإني رسول الله إليك أن الله أحبك كما أحببته) إنه حديث عظيم في فضل السفر وشد الرحال لزيارة الإخوة في الله. وهذه سنة ضائعة؛ إذ قلما يُسافر أناسٌ في هذا الزمان سفراً نيتهم فيه زيارة إخوانهم في الله في الأماكن الأخرى، وهذا أمر لو تحقق لساعد في إقامة العلاقات والروابط بين المسلمين، ولو تناءت ديارهم، وتباعدت أقطارهم، وعندما يُسافر المسلم بمشقة السفر ليزور أخاً له في الله، فإنه يُدلل على قيام أركان الأخوة الإيمانية في قلبه.

نصرة المسلم والذب عنه

نصرة المسلم والذب عنه وقال صلى الله عليه وسلم: (ما من أحدٍ ينصر مسلماً في موطنٍ يُنتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته، إلا نصره الله في موطنٍ يُحبُّ فيه نصرته) حديث حسن، وقال: (من ذبَّ عن عرضِ أخيه بالغيبة كان حقاً على الله أن يُعتقه من النار) رواه أحمد وهو حديث صحيح. فانظر الآن كم من إخوانك المسلمين يتعرضون للغيبة ونهش اللحوم في المجالس أمامك وأنت تسمع! ثم قل لي بربك: ماذا فعلت أمام هذا الهجوم من هؤلاء آكلي لحوم البشر كما شبههم الله عز وجل؟! هل قمت بحق الدفاع عن أخيك المسلم -على الأقل- حتى يُكتب لك هذا الأجر؟! وزد على ذلك حتى لا تكون ساكتاً في هذا المجال، والساكت عن الحق شيطان أخرس. ثم إننا قد استسهلنا -أيها الاخوة- غيبة إخواننا المسلمين في المجالس حتى كانت هذه الانتقادات والغيبات ديدن الكثيرين في مجالسهم بحيث لا يستطيعون الانفكاك عنها، ولو كان من عقلاءِ عبادِ الله من يقوم في المجالس ويعظهم، ويقول: يا فلان! أمسك عليك لسانك لمَا حصل هذا الاستشراء الشيطاني لهذه الغيبات للمسلمين في المجالس، وإنك تجد أن المغتاب يأتي إلى المجلس فيشترك هو ومن اغتابه قبل قليل في غيبة شخصٍ ثالث وهكذا.

زيارة المسلمين

زيارة المسلمين وقال صلى الله عليه وسلم: (ما من امرئٍ مسلمٍ يعود مسلماً -عندما يمرض- إلا ابتعث الله سبعين ألف ملك يُصلون عليه ويدعون له، في أي ساعات النهار كان حتى يمسي، وإذا زاره في الليل ابتعث الله سبعين ألف ملك يُصلون عليه تلك الليلة حتى يصبح) حديث صحيح، وفي رواية أخرى: (إذا عاد الرجل أخاه المسلم مشى في خِرافة الجنة) وخِرافة الجنة هي: الثمر الذي يُجتنى منها، فكأنه يمشي وتتساقط عليه ثمار الجنة، ويكون له مثل هذه الثمار في الجنة بحجم وبمدى ما مشى لزيارة أخيه المسلم سواء بعدت المسافة أم قصرت، قال: (فإذا جلس غمرته الرحمة، ثم ابتعث الله له هؤلاء السبعين ألفاً من الملائكة يدعون له) فانظر -رحمك الله- كم جمع هذا الحديث من الأجر والثواب المرغب للزيارة؟ ثم قل لي بربك: كم من المسلمين اليوم يهتمون بزيارة إخوانهم المرضى في المستشفيات وفي بيوتهم؟ وإننا لنسمع أن فلاناً مرض ثم قام من مرضه ولم يره أحد، أو عاده نفرٌ يسير من أقربائه، زوروا مرضاكم! وادعوا لهم عند حضوركم فرشهم، فإن الملائكة تؤمن والله يستجيب، وقد يُشفى من مرض خبيث ببركة دعائك أنت يا أيها الأخ المسلم. ولا تصطحب معك ورداً ولا تشابه الكفرة، بل سن في زيارة المرضى سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فهو بحاجةٍ شديدة إلى دعائك وسؤالك واهتمامك وليس إلى باقات وردك.

اتباع الجنائز

اتباع الجنائز وقال عليه الصلاة والسلام: (من تبع جنازة مسلمٍ إيماناً واحتساباً، وكان معها حتى يُصلى عليها، ويفرغ من دفنها -من البداية إلى النهاية- فإنه يرجع من الأجر بقيراطين، كل قيراط مثل أحد) مثل جبل أحد من الأجر، هل رأيتم جبل أحد؟! إنه جبل عظيم مثله أجرٌ لمن يتبع جنازة أخيه حتى يصلى عليه ثم يدفن، (ومن صلى عليها ثم رجع إلى بيته فإنه يرجع بقيراط من الأجر مثل جبل أحد أجراً) فهل نريد بعد ذلك من المرغبات أكثر لكي نتبع جنائز إخواننا المسلمين، ونشهد الصلاة عليهم ودفنهم، ونتعظ بحضور ذلك الدفن وبشهود المقابر.

صلة الوالدين بعد موتهما

صلة الوالدين بعد موتهما وقال صلى الله عليه وسلم: (من أحبَّ أن يصل أباه في قبره فليصل إخوان أبيه من بعده) حديث صحيح، وكثير من المسلمين إذا مات آباؤهم أو أمهاتهم انقطعت الصلة بين الأولاد وبين أصحاب الأب، ويتعذرون بفارق السن ونحو ذلك، والبر بالأب يقتضي أن تزور إخوانه وزملاءه وتصلهم بشتَّى أنواع الصلات والتحيات، حتى تكون باراً بأبيك ويصل برك إلى أبيك في قبره. أنتم يا من تسألون: مات الأب ماذا نفعل له من القرب؟ أخبرنا ماذا نفعل له من الطاعات؟ إحدى الأشياء التي تستطيعون فعلها أن تصلوا إخوان آبائكم وزملاءهم وأصدقاءهم بعد أن يُولي الأب.

ترك اللباس تواضعا لله

ترك اللباس تواضعاً لله وقال صلى الله عليه وسلم: (من ترك اللباس تواضعاً لله وهو يقدر عليه دعاه الله يوم القيامة على رءوس الخلائق حتى يخيره من أي حلل الإيمان شاء أن يلبسها). بعض الناس يتركون اللباس لعدم القدرة على شرائه، وبعض الناس يتركون اللباس بخلاً على أنفسهم، لكن إذا تركت اللباس والمقصود اللباس غالي الثمن، فإذا تركته تواضعاً لله لا لشيء آخر وأنت قادر عليه فإن الله يُعوضك يوم القيامة على رءوس الخلائق حلل الإيمان في الآخرة، تلبسها تواضعاً لله، ولا يعني هذا أن نلبس الثياب المتسخة التي تنفر الملائكة وعباد الله المسلمين منا. وأيضاً لا يعني هذا أن نترك التزين لمجالس العلم والوعظ والخطب في المساجد! كلا. بل هذه هي السنة، ولكن انظر اليوم إلى حجم المصروفات التي ينفقها الناس على ثيابهم، وكم تبلع الأسواق التجارية ومحلات الملابس من أموال المسلمين، والملابس التي تجدد كل موسم بدون حاجة بل لمجرد أن الموضة قد بطلت كما يزعمون! لتعلم بعد ذلك كم من الأموال تذهب هدراً والمسلمون في أقطار الأرض يحتاجون إليها.

الاستياك قبل قيام الليل

الاستياك قبل قيام الليل ويقول صلى الله عليه وسلم: (إذا قام أحدكم يُصلي من الليل فليستك -ليستعمل السواك- فإن أحدكم إذا قرأ في صلاته -بعد استعماله السواك في الليل- وضع ملكٌ من الملائكة فاه على فيه -فم الملك على فم العبد المصلي- ولا يخرج من فيه شيءٌ -من فم العبد آيةٌ- إلا دخل فم الملك) لأنه استاك، فيضع الملك فاه على فيِّ العبد، فلا تخرج آيةٌ من المسلم إلا دخلت في فم الملك. والحديث صحيح. وفي حديث آخر مرسل صحيح رواه محمد بن نصر المروزي في كتاب تعظيم قدر الصلاة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قام الرجل يتوضأ ليلاً أو نهاراً فأحسن الوضوء واستن، ثم قام فصلَّى، أطاف به الملك ودنا منه حتى يضع فاه على فيه، فما يقرأ إلا في فيه، وإذا لم يستن أطاف به ولا يضع فاه على فيه) فانظروا! إلى فائدة هذا السواك في قيام الليل كيف أجلَّ الله صاحبه بإرسال هذا الملك المخصص لهذا الغرض؟!

المكوث في المساجد والخروج إلى الصلاة

المكوث في المساجد والخروج إلى الصلاة وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد: (إذا تطهر الرجل ثم مرَّ إلى المسجد يرعى الصلاة ما أخرجه إلا الصلاة كتب له كاتبه بكل خطوةٍ يخطوها إلى المسجد عشر حسنات، والقاعد يرعى الصلاة -أي: ينتظر إقامة الصلاة- كالقانت -في الليل- يكتب من المصلين من حين يخرج من بيته حتى يرجع إليه). فهذا إخلاص النية في إتيان المساجد لشهود صلاة الجماعة، ونحن نهدي هذا الحديث إلى المتأخرين عن الصلوات الذين لا يحتسبون أجراً ولا ثواباً اللهم إلا العادة في الخروج، ونهديه كذلك إلى الذي إذا تأخرت إقامة الصلاة شيئاً فإنهم يتململون في مجالسهم، ويتلفتون يميناً وشمالاً، وينظرون في ساعاتهم كأن خطباً جللاً ومصيبةً حلَّت بهم، ينتظرون متى يخرجون؟ {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} [المدثر:50 - 51] مع أن جلوسهم في المسجد ينتظرون الصلاة له أجر كأنهم في الصلاة، بل كأنهم من القانتين، فهل ترى بعد ذلك سيستعجلون وليس وراءهم حاجة تلجئهم إلى الاستعجال.

التسبيح والتحميد والتكبير عقب الصلوات وقبل النوم

التسبيح والتحميد والتكبير عقب الصلوات وقبل النوم وقال صلى الله عليه وسلم: (خصلتان لا يُحافظ عليهما عبد مسلم إلا دخل الجنة، ألا وهما يسير، ومن يعمل بهما قليل، يسبح الله في دبر كل صلاة عشراً، ويحمده عشراً، ويكبره عشراً، فذلك خمسون ومائة باللسان) كيف صارت خمسين ومائة؟ ثلاثون بعد الصلاة في خمس صلوات في اليوم مائة وخمسون، عشر باللسان في ثلاثة بثلاثين بعد كل صلاة، في خمسة بمائة وخمسين في اللسان، وألف وخمسمائة في الميزان؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها، وهذه إحدى كيفيات الذكر بعد الصلاة، فقد ورد التسبيح ثلاثاً وثلاثين والتحميد ثلاثاً وثلاثين، والتكبير ثلاثاً وثلاثين، وتمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. وورد: سبحان الله خمساً وعشرين، والحمد لله خمساً وعشرين، ولا إله إلا الله خمساً وعشرين، والله أكبر خمساً وعشرين، فهذه مائة. وورد كيفية ثالثة: سبحان الله عشراً، والحمد لله عشراً، والله أكبر عشراً، فهذه كيفية أخرى، فتنوعت الكيفيات، وإن كان الأكثر التسبيح ثلاثاً وثلاثين كما هو واضح من الروايات. ثم ذكر عليه الصلاة والسلام الخصلة الثانية (ويكبر أربعاً وثلاثين إذا أخذ مضجعه، ويحمد ثلاثاً وثلاثين، ويسبح ثلاثاً وثلاثين) فصار المجموع مائة: أربعة وثلاثون تكبيرة، وثلاث وثلاثون تحميدة، وثلاث وثلاثون تسبيحة قبل النوم، فتلك مائة باللسان، وألف في الميزان، فأيكم يعمل في الليلة ألفين وخمسمائة سيئة، يقول عليه الصلاة والسلام: (أيكم يعمل ألفين وخمسمائة سيئة في اليوم) {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:22] ألفين وخمسمائة حسنة بهذه الأذكار بعد كل صلاة وقبل النوم، حديث صحيح.

الصوم واغتنام الشتاء لذلك

الصوم واغتنام الشتاء لذلك وقال صلى الله عليه وسلم: (الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة) غنيمة تٌجر إليك وتساق مهداة بغير تعب، لأن النهار قصير وعدد ساعات الصيام فيه قصيرة، ولأنه لا جوع فيه ولا عطش ولا شمس ولا حر، فقال: (الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة) تٌهدى وتقدم بلا تعب كبير، ونحن الآن في فصل الشتاء ينبغي الاستكثار من الصوم. وأقول أيها الإخوة: أرجو أن تعتبروا أن هذا الكلام الذي تسمعونه وكأنكم تقرءونه من كتاب، فإن مسئوليتي والله عظيمة، وأنا لا أرى أنني أقوم بهذه الأمور ثم أنصحكم بها، بل إنني أتواصى وإياكم -إن شاء الله- بالحق والصبر، فاعتبروها كأنكم تقرءونها في كتاب.

كف الغضب وكظم الغيظ ونفع الناس بقضاء دين أو طرد جوع أو غيره

كف الغضب وكظم الغيظ ونفع الناس بقضاء دين أو طرد جوع أو غيره وقال صلى الله عليه وسلم: (أحب الناس إلى الله أنفعهم، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرورٌ تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربةً، أو تقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعاً، ولئن أمشي مع أخي المسلم في حاجته أحب إلي أن من أن أعتكف في المسجد شهراً، ومن كفَّ غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظاً ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رضاً يوم القيامة) أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. الحمد لله الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، سبحانه وتعالى جلَّ شأنه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد الذي هدى الله به الناس وأرسله رحمةً للعالمين، فبيَّن لنا أبواب الخير وأمرنا أن نلجها، وبيَّن لنا أبواب الشر وحذَّرنا من ولوجها. قال صلى الله عليه وسلم: (أحب الناس إلى الله أنفعهم) من الأعمال -أيها الإخوة- ما يقتصر نفعه على الشخص، ومنها ما يعم اثنين أو ثلاثة، ومن الأعمال ما يعم نفعها خلقاً كثيراً من الناس، فكلما كانت المنفعة لعباد الله أكثر كلما كان أجرك أكثر. ويقول: (وأحب الأعمال إلى الله -عز وجل- سرورٌ تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعاً) بعض الناس يذبحون للضيوف، لكنه قد لا يعزم إلا كبار القوم ويترك الضعفاء والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (شر الطعام طعام الوليمة يُدعى إليها الأغنياء، ويترك الضعفاء والفقراء)، وأيضاً تجد الأغنياء عندما يذبحون قد لا يدور في بالهم النية الحسنة بإطعام الناس الطعام، وإنما العادات تقتضي ذلك، ولا يدور في باله الأجر المترتب على إطعام الطعام وهذه غفلة عظيمة، يقول: (ولئن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في المسجد شهراً) هذا الأجر وزد على ذلك ما تنشئه هذه الأعمال في نفس الأخ المسلم الآخر. ذكر لي أحدهم قال: رأيت رجلاً قد تغير عليه إطار سيارته في الطريق. وهو واقف يؤشر للسيارات، فنزلت إليه فأخذت هذا الإطار وليس عنده إطار احتياطي، ثم أخذنا الإطار بسيارتي، وذهبنا إلى الورشة البعيدة وأصلحناه ورجعنا إلى السيارة، وركّبت له الإطار وهو قائم لا يتحرك، ثيابه ناصعة البياض وصاحبنا قد اتسخت ثيابه، يقول: هذا الرجل كان مندهشاً طيلة الوقت، كيف؟! السبب في عدم المشاركة أنه مندهش، كيف أقف؟ ثم آخذه إلى المكان البعيد ثم أرجعه ثم اشتغل له بنفسي؟! فانتهزتها فرصةً لأدعو الرجل إلى الله وأذكره، وإذا به يقول: إن لي ولداً متديناً مثلك، لكني في الحقيقة أقوم عليه وأنتقده وأظن أنه يضيع نفسه ودراسته بهذا التدين، والآن من تصرفك بانت لي حقيقة الأمر. وهذا -أيها الإخوة- من فوائد مساعدة الناس، أن يقوم المستقيمون بتقديم الخدمات للناس، عسى الله أن يهدي الله بهم هذه الفرق والطوائف. وقال عليه الصلاة والسلام: (ومن كف غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظاً ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رضاً يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه المسلم في حاجته حتى يثبتها له أثبت الله تعالى قدمه يوم تزل الأقدام، وإن سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل).

لا تحقرن من المعروف شيئا

لا تحقرن من المعروف شيئاً وقال صلى الله عليه وسلم: (بينما رجل يمشي بطريقٍ اشتد عليه العطش، فوجد بئراً فنزل فيها فشرب منها ثم خرج، فإذا هو بكلبٍ يلهث -يأكل الثرى من العطش- فقال في نفسه: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي بلغ بي -كبد رطبة- فنزل البئر فملأ خفه ماءً ثم أمسك بفيه ثم رقى، فسقى الكلب، فشكر الله فغفر له) فالله شكر له صنيعه فغفر له كما قال صلى الله عليه وسلم: (في كل ذات كبدٍ رطبةٍ أجر) بل إنَّ بغياً من بغايا بني إسرائيل -زانية- (كان كلب يطوف بركيةٍ كاد يقتله العطش؛ إذ رأته بغي من بغايا بني إسرائيل فنزعت لوقها -خفها- فاستقت له به فغفر لها) بأي شيء؟ برحمة هذا الحيوان. قال صلى الله عليه وسلم: (اتق الله! ولا تحقرن من المعروف شيئاً، ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي، وأن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط) كم يأخذ من الوقت إذا أتى إنسان بشيءٍ فارغ فتملأ له ثم تملأ لنفسك؟ لا شيء! لكن لا تحقرن من المعروف شيئاً، فقد تكون هذه مرجحةً لكفة حسناتك يوم القيامة. وقال عليه الصلاة والسلام: (أتحب أن يلين قلبك وتدرك حاجتك؟ ارحم اليتيم، وامسح رأسه، وأطعمه من طعامك، يلن قلبك، وتدرك حاجتك) مسح رأس اليتيم عمل يلين القلب، فإذا رأيت -أيها المسلم- يتيماً فامسح على رأسه، ومن مات أبوه ولم يبلغ سن الحُلم فإنه يتيم، فامسح رأسه، وأطعمه من طعامك، فإن الله يلين قلبك، ويأجرك على هذا أجراً عظيماً. وقال عليه الصلاة والسلام: (من كَظَم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رءوس الخلائق حتى يخيره من الحور العين يزوجه منها ما شاء) أي: غضب وكظم الغضب، وتوقف ولم ينتقم، دعاه الله على رءوس الخلائق حتى يٌخيره من الحور العين يُزوجه منها ما شاء. أبواب الخير كثيرة، ولكن أين الوالجون؟ أبواب الخير أجورها كثيرة ولكن من الذي يعمل؟ ومن رحمة الله أن عدَّد لنا أبواب الخيرات، وضاعف الحسنات، ولكن أيها الإخوة! نحن في كسل وخمول، انشغال بالمعاصي، وغفلة عن الخيرات. نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يُحبب إلينا الإيمان وأن يزينه في قلوبنا، وأن يكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، وأن يجعلنا من الراشدين. اللهم ليِّن قلوبنا وثبتها يا مقلب القلوب، اللهم هيئ لنا من أمرنا رشداً، اللهم انصر إخواننا المسلمين في كل مكان، اللهم أهلك اليهود وأعداء الدين، اللهم واجعلهم غنيمةً للمسلمين، اللهم قنا شر أنفسنا، اللهم أصلح نياتنا وذرياتنا، إن الله يأمر بالعدل والإحسان، وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

كيف تتعامل مع والديك؟

كيف تتعامل مع والديك؟ إن موضوع بر الوالدين موضوع عظيم جداً، فينبغي على المسلم أن يعيره الاهتمام الكبير، وقد حكم الله عز وجل بالبر ونهى عن العقوق؛ فكان لزاماً علينا طاعته سبحانه. التعامل مع الوالدين أدباً وفقهاً هو ما تحتويه هذه المادة، فإن هناك آداباً للتعامل مع الوالدين، وهناك أحكاماً فقهية تتعلق بهذا الأمر.

أدلة وجوب بر الوالدين وفضل برهما

أدلة وجوب بر الوالدين وفضل برهما الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على محمد بن عبد الله المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه الذين ساروا على هديه. أما بعد: فإن موضوع بر الوالدين موضوعٌ عظيمٌ جداً ينبغي على المسلم أن يهتم به وأن يعيره الاهتمام الكبير، والله عز وجل قد حكم بالبر ونهى عن العقوق، فكان لزاماً علينا طاعته سبحانه وتعالى. والتعامل مع الوالدين أدباً وفقهاً هذا هو موضوعنا، فهناك آدابٌ للتعامل مع الوالدين، وهناك أحكامٌ فقهية تتعلق بهذا الأمر.

الأدلة من القرآن الكريم

الأدلة من القرآن الكريم جاء في القرآن الكريم آياتٍ في وجوب بر الوالدين وعظيم فضل البر، فقال عز وجل: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء:23]. كما قال في الآية الأخرى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [النساء:36]. وقال: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً} [الإسراء:23]. فأمر بالقول الحسن، والفعل الحسن، بعدما نهى عن القول السيئ، والفعل السيئ. فقال: (لا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ) وهي أدنى كلمة تدل على التضجر والاستثقال، أو تقال للاستقذار لما شمه الإنسان، ولو توجد كلمة أدنى منها لذكرها الله محذراً منها، فلا يؤذى الوالدان ولا بأقل القليل، ولا يسمعهما كلاماً سيئاً. (وَلا تَنْهَرْهُمَا) لا تزجرهما بالكلام، ولا تنفض يدك في وجهيهما تبرماً. (وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً) لا تسميهما باسميهما ولا تكنيهما، وإنما تقول: يا أبي! أو يا أبت! ويا أمي! وكذلك تقول لهما قولاً كريما، وهو قول العبد المذنب للسيد الفظ الغليظ. وقد بين الله عز وجل الباعث على البر تهييجاً للنفوس، فقال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان:14]. قال ابن كثير رحمه الله: وإنما يذكر تعالى تربية الوالدة وتعبها ومشقتها في سهرها ليلاً ونهاراً؛ ليذكر الولد بإحسانهما، المتقدم إليه كما قال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء:24]، ولهذا قال: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان:14] أي: فإني سأجزيك على ذلك أوفر جزاء. ولقد امتدح عبده يحيى عليه السلام بأنه كان تقياً وباراً بوالديه ولم يكن جباراً عصياً، فكان مسارعاً لطاعتهما عليه الصلاة والسلام، ولم يكن مستكبراً لا عن طاعة ربه، ولا عن طاعة والديه، وحدثنا عن عيسى عليه السلام كذلك بقوله: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً * وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً} [مريم:31 - 32]. وحدثنا عن بر إسماعيل عليه السلام بأبيه، وأن الله لما أوحى لإبراهيم عليه السلام أن يذبح ولده إسماعيل استجاب الولد، وأذعن لأمر الله، وتواضع للأب، وقال: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات:102 - 105]. هذا الولد الصالح البار قام يساعد أباه في بناء البيت العتيق، وقاما ببناء الكعبة معاً، {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:127] وكذلك تحلق أولاد يعقوب عليه السلام حوله عند موته وهو يوصيهم: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:133]. وحتى في القرآن ضرب الله لنا المثل بالبنتين الصالحتين اللتين خرجتا تسعيان على أبيهما الكبير العاجز عن العمل، وهما تذودان الغنم عن الرعاة الأجانب، حتى لا تختلط بغنم أولئك القوم، وتقفان حتى يفرغ الناس من السُقيا؛ ليسقيا، فيسر الله لهما موسى. هاتان البارتان يسر الله لهما نبياً كريماً يسقي لهما، ويتزوج إحداهما، ويكفيهما مئونة العمل، ويقوم هو بالسُقيا عشر سنين، فإن نبي الله إذا قال فعل، هل سقى ثمانية أو عشرة؟ عشر سنين، فقضى أتم الأجلين وأوفاهما أو أكملهما.

الأدلة من السنة النبوية

الأدلة من السنة النبوية ومن السنة النبوية قال عليه الصلاة والسلام لما سأله عبد الله بن مسعود: (أي العمل أفضل؟ قال: الصلاة على وقتها، قال: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قال: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله) رواه البخاري ومسلم. معنى ذلك: أن بر الوالدين مقدم على الجهاد في سبيل الله، بل الخروج سعياً على الوالدين، والعمل لأجل الإنفاق على الوالدين، وتحصيل ما ينفق عليهما، ويسد حاجتهما هو نوعٌ من الجهاد، لذلك قال عليه الصلاة والسلام: (إن كان خرج يسعى على ولده صغاراً فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبويه شيخين كبيرين فهو في سبيل الله) والحديث صحيح. ولا يمكن لشخص أن يجزي أباه حقه إلا أن يجده مملوكاً فيعتقه، كما قال عليه الصلاة والسلام. وهناك نموذج من البشر دعا جبريل عليه السلام عليه وأمن النبي عليه الصلاة والسلام: (رغم أنفه، ثم رغم أنفه، ثم رغم أنفه -من هو هذا؟ - قال: من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كليهما ثم لم يدخل الجنة) رواه مسلم. (رغم أنفه) ذل، وحل به الخزي، والتصق أنفه بالتراب رغماً عنه، وهذا دليلٌ على حقارة هذا الإنسان. إن بر الوالد والوالدة باب عظيم من أبواب الجنة، كما قال عليه الصلاة والسلام: (الوالد أوسط أبواب الجنة) يعني: خير الأبواب وأعلاها، وهناك أبواب للجنة. وجعل الله رضاه في رضا الوالدين، وسخطه في سخط الوالدين، ما لم يأمره بمعصية. وقال عليه الصلاة والسلام يوصي معاوية بن جاهمة بوالدته: (الزمها فإن الجنة تحت رجليها) (الزم رجلها فثم الجنة) وهما حديثان كلاهما حسن، وقوله: الزم رجليها ورجلها يعني تواضع، فهو لم يقل: رأسها، بل قال: (رجلها) يعني: تواضع للوالدة، وأن الجنة عند رجلها، وأن الجنة لا تنال إلا برضاها. ولذلك -أيها الإخوة! - يجب أن تكون معاملتنا لوالدينا أعظم من معاملتنا لأصحابنا، لماذا؟ لأن الله قال عن الوالدين: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء:24] وقال عن الأصحاب: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:215]. انتبهوا معي! أيهما أعظم؟ {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:215] أم {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء:24]؟ {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء:24] معناها: لا بد أن تعامل والديك أعظم من معاملتك لأصحابك المتدينين؛ لأن الله قال: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:215] وقال عن الوالدين: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء:24]. وكذلك قال عليه الصلاة والسلام، لما قال الرجل: (من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، فكررها الرجل ثلاثاً والنبي صلى الله عليه وسلم يجيبه الإجابة نفسها، ثم قال: ثم أبوك). إذاً المعاملة الحسنة تكون للوالدين مقدمة على الإخوان والأصحاب.

بر الوالدين عند السلف

بر الوالدين عند السلف كيف كان بر الوالدين عند الصحابة؟ كيف كان عند السلف؟ كان شيئاً عظيماً، كان عروة بن الزبير يقول في سجوده: [اللهم اغفر للزبير بن العوام، وأسماء بنت أبي بكر] فهو في سجوده يدعو لوالديه. كان هناك رجل من التابعين هو خير التابعين أويس القرني، وقد أخبر عنه النبي عليه الصلاة والسلام أنه خير التابعين، وذكر من أسباب ذلك أنه: (له والدةٌ هو بها بر، لو أقسم على الله لأبره) والحديث في صحيح مسلم. ويقول محمد بن المنكدر: "بت أغمز رجل أمي، وبات أخي يصلي ليلته، فما تسرني ليلته بليلتي". أي: لو قال: بادلني لا أبادله، ولا يسرني أن أقوم الليل وأمي تحتاج إلى أن أغمز رجلها لأجل الألم. وكان زين العابدين -من سادات التابعين- كثير البر بأمه، حتى قيل له: [إنك من أبر الناس بأمك، ولسنا نراك تأكل معها في صحفة؟ قال: أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها فأكون قد عققتها]. عبد الله بن عون نادته أمه فأجابها، فارتفع صوته فوق صوتها فأعتق رقبتين. أبو يوسف الفقيه الذي تتلمذ على يد أبي حنيفة، وانتفع بـ أبي حنيفة جداً، كان يقول: "اللهم اغفر لأبوي ولـ أبي حنيفة ". طلق بن حبيب كان يقبل رأس أمه، وكان لا يمشي فوق ظهر بيتٍ هي تحته إجلالاً لها. مسعر بن كدام له أمٌ عابدة، كان يحمل لها اللبد إلى المسجد، فيدخله، ويبسطه، ويصلي عليه، ثم يتقدم هو لمقدمة المسجد يصلي، ثم يقعد ويجتمع الناس فيحدثهم، وهو شيخ عالم معروف، ثم بعد ذلك ينتهي مجلس الحديث، فيقوم فيطوي لبدة أمه ويرافقها إلى البيت. حيوة بن شريح من كبار العلماء، كان يقعد في حلقة الدرس يعلم الناس، وعند مضي بعض الوقت تأتي أمه وتقول: يا حيوة! قم ألقِ الشعير للدجاج، فيقوم ويقطع الدرس! الشيخ العالم الكبير حيوة يقطع الدرس وهو يدرس الطلاب؛ ليضع الشعير للدجاج، ثم يرجع يكمل الدرس، وهكذا فالوالدة حقها عظيم، وبأي شيء يجزيها الإنسان؟ هؤلاء الذين يحملون أمهاتهم، ويأتون بهم من أماكن بعيدة، هذا الحمل هل يجزيها عن حملها الذي حملته لما كان في بطنها؟ يقول ابن أبي بردة: [سمعت أبي يحدث أنه شهد ابن عمر ورجل يماني يطوف بالبيت قد حمل أمه وراء ظهره يقول: إني لها بعيرها المذلل إن أذعرت ركابها لم أذعر فقال: يا بن عمر! أتراني جزيتها؟ قال: لا. ولا بزفرةٍ واحدة] إسناده صحيح. وفي رواية يقول: [الله أكبر! الله أكبر! ذو الجلال الأكبر! هل ترى جازيتها يا بن عمر؟! قال: لا. ولا بطلقة واحدة] فالأم عند الولادة لها طلقاتٌ، قال: [ولا بطلقة واحدة، ولكن أحسنت، والله يثيبك عن القليل كثيراً]. هناك رجلان صالحان كانا في الطواف، فإذا أعرابيٌ معه أمه يحملها على ظهره، وهو يرتجز ويقول: أنا لا أزال مطيتها لا أنفر وإذا الركائب ذعرت لا أذعر وما حملتني ووضعتني أكثر لبيك اللهم لبيك فقال أحدهم للآخر: تعال بنا ندخل في الطواف، لعلَّ الرحمة تنزل فتعمنا؛ لأجل هذا المشهد الذي رأياه. قالوا في تعريف بر الوالدة: حملها عند ضعفها، والإنسان قد يرى أحياناً أبواباً من الخير فيأتيها، ويغفل عن بر الوالدين، وربما يعاني الوالد والوالدة نفسياً من غياب هذا الولد -ولو كان صالحاً- عنهما. وقد كان أمية رجل أدرك الجاهلية والإسلام، وله ابن اسمه كلاب، فاستعمل عمر كلاباً على الأيلة، وأرسله إلى هناك أميراً عليها -كان رجلاً أميناً صاحب دين، فاستعمله عمر - وهذا الرجل أمية اشتاق إلى الولد، فمن الحنين أنشد يقول: لمن شيخان قد نشدا كلاباً كتاب الله لو عقل الكتابا أناديه فيعرض في إباءٍ فلا وأبي كلابٍ ما أصابا إذا سجعت حمامة بطين وادٍ إلى بيضاتها أدعو كلابا تركت أباك مرعشةً يداه وأمك ما تصيغ لها شرابا فإنك والتماس الأجر بعدي كباغي الماء يلتمس السرابا أنشدها عمر فرق له، وأرسل خلف كلاب ليأتي من الأيلة، فقدم وسأله عمر: ماذا كان يفعل بأبيه؟ ولماذا يقول هذه الأبيات؟ فقال: إنه كان يحلب له، فقال عمر لـ كلاب: احلب لبناً، فحلب واختفى -أخفاه- ثم استدعى الأب فجاء أمية، فقدم له عمر الإناء، فقال الأب: إني لأشم رائحة يدي كلاب، فبكى عمر وقال: هذا كلاب، فخرج فضمه إليه، وقال: جاهد في أبويك وأعفاه. يقول ابن عبد البر عن الخبر: إنه صحيح. لماذا كان الصحابة يقولون للنبي عليه الصلاة والسلام: فداك أبي وأمي؟ لو كان عندهم شيء أغلى من أمور الدنيا لقالوه، لكن ما عندهم، لقد ضربوا لنا أمثلة رائعة، ابن عمر مع عمر ابن عمرو مع عمرو بن العاص عائشة مع أبيها جابر مع أبيه سعد بن عبادة ولده قيس علي وأبناؤه الحسن والحسين والزبير وابنه عبد الله العباس وعبد الله بن عباس، وهناك أمثلة كثيرة جداً تترى من واقع الصحابة رضوان الله عليهم.

فوائد بر الوالدين

فوائد بر الوالدين إن سأل سائلٌ فقال: ما هي فوائد بر الوالدين؟ وما هي النتائج الطيبة التي تترتب على بر الوالدين؟ نريد أن نتحمس لأجل أن نعمل بهذا الأدب العظيم، وهو بر الوالدين؛ لأن الإنسان إذا عرف أن الفائدة طيبة تشجع للقضية. أولاً: هو من أسباب إجابة الدعاء، وأنتم تذكرون قصة أصحاب الغار، وكيف أن أحدهم كان له أبوان شيخان كبيران يسعى عليهما، وقدمهما على أولاده، وهم يتضاغون عند قدميه طيلة الليل، حتى استيقظ والداه فشربا قبل أولاده، ففرج الله شيئاً من الصخرة بسبب هذا. ثانياً: ثم بر الوالدين يكفر الكبائر، والدليل على ذلك: أن رجلاً أتى النبي عليه الصلاة والسلام، فقال: (يا رسول الله! إني أصبت ذنباً عظيماً، فهل لي من توبة؟ قال: هل لك من أم؟ قال: لا. قال: هل لك من خالة؟ قال: نعم. قال: فبرها) حديثٌ صحيح رواه الترمذي. وهذا الرجل لما أذنب الذنب العظيم والكبيرة ماذا رأى له عليه الصلاة والسلام لتكفيرها؟ بر الوالدة. وجاء رجل إلى ابن عباس فقال: [إني خطبت امرأة فأبت أن تنكحني، وخطبها غيري فأحبت أن تنكحه، فغرت عليها فقتلتها، فهل لي من توبة؟ قال: أمك حية؟ قال: لا. قال: تب إلى الله عز وجل، وتقرب إليه ما استطعت] فذهب، قال الراوي: فسألت ابن عباس: لم سألته عن حياة أمه؟ فقال: [إني لا أعلم عملاً أقرب إلى الله عز وجل من بر الوالدة] رواه البخاري في الأدب المفرد، وإسناده على شرط الشيخين. وروت عائشة أيضاً أن امرأةً كانت تعمل السحر بـ دومة الجندل، قدمت المدينة تسأل عن توبتها، قالت: فرأيتها تبكي، لما لم تجد النبي عليه الصلاة والسلام فيشفيها، حتى قالت: إني لأرحمها، فسألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم يومئذٍ متوافرون -هذه المرأة جاءت تسأل عن التوبة، والنبي عليه الصلاة والسلام قد مات، فحزنت أنها لم تدركه، فجاءت تسأل الصحابة-: إني كنت أعمل السحر، فكيف أتوب؟ فما دروا ماذا يقولون، وكلهم هاب وخاف أن يفتيها بما لا يعلم، إلا أنهم قالوا: لو كان أبواكِ حيين أو أحدهما لكانا يكفيانكِ. جود إسناده ابن كثير رحمه الله تعالى. ثالثاً: بر الوالدين سبب البركة وزيادة الرزق، أوليس هو من صلة الرحم؟! (من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه). رابعاً: من بر أباه وأمه؛ بره أبناؤه، ومن عقهما؛ عقه أولاده، وهكذا قال ثابت البناني: رأيت رجلاً يضرب أباه في موضعٍ، فقيل له: ما هذا؟ فقال الأب: خلوا عنه، فإني كنت أضرب أبي في هذا الموضع، فابتليت بابني يضربني في هذا الموضع، بروا آباءكم تبركم أبناؤكم. خامساً: ثم رضا الله في رضا الوالدين، وسخط الله في سخط الوالدين.

صور البر

صور البر فإذا قال قائل: عرفنا الأمر وأدلته وفوائده، فنريد أن نعمل ببر الوالدين، فما هي صور البر؟ أو كيف نبرهما فعلاً؟ فنقول: البر قولي وبدني ومالي، فيه رفقٌ ومحبة، وتجنب غليظ القول، وعدم رفع الصوت، فضلاً عن السب والشتم واللعن المناداة بأحب الألفاظ وليس بالاسم المجرد تقبيل اليد والرأس الإنفاق عليهما تعليمهما ما يحتاجان إليه في أمور دينهما ودنياهما طاعتهما فيما أمرا في غير معصية الله إدخال السرور عليهما. لو أغضبت والدك أو والدتك وما أكثر ما يقع، فكيف تكفر؟ تكفر بإضحاكهما لحديث: (ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما) هذه هي الكفارة، فتضحكهما كما أنك أبكيتهما، وتجعل السرور يدخل عليهما كما جعلت الحزن يدخل عليهما أولاً. لا تتقدم عليه في المشي إلا لضرورة، كظلامٍ وخوفٍ ونحوه. لما مات عمر بن ذر قال أبوه: اللهم إني قد غفرت له ما قصر فيه من واجب حقي، فاغفر له ما قصر فيه من واجب حقك، قيل له: كيف كانت عشرته معك؟ قال: ما مشى معي قط بليلٍ إلا كان أمامي، وما مشى معي في نهارٍ إلا كان ورائي، ولا ارتقى سقفاً كنت تحته. على الابن ألا يستنكف عن عسل البول والنجاسة التي تخرج من الوالدين عند كبر السن والإصابة بمرض السلس وعدم القدرة على التحكم في البول ثم عليه أن يساعدهما في الوضوء، كل ذلك أخذاً من قوله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء:23]. لا يحد النظر إليهما، قال بعضهم: ما بر أباه من سدد النظر إليه. ثم يدعو لهما أحياءً وأمواتاً، فالله عز وجل قال في كتابه مرشداً إلى هذا: {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء:24] وقال نوح: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح:28]. إذا احتاج للطعام تطعمه، والكسوة تكسوه، كله من قوله تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15]، إذا احتاجا إلى الخدمة تخدمهما، إذا دعواك فأجبهما فوراً، إذا أمراك بأمرٍ فأطعمهما ما لم يكن معصية خطابك لهما بلين بدون عنف ترضى لهما ما ترضى لنفسك تنفذ عهدهما تكرم صديقهما تستغفر لهما. بر الوالدين مراتب: أنت الآن لو حضرك طعامٌ لذيذ فأرسلت أحداً يدعو أباك لحضور الطعام فأنت بار، وأعظم منه أن تذهب أنت بنفسك لتدعو أباك، فأنت ممكن تقول للخادم أو العامل: اسكب الماء على يد أبي للتنظيف، لكن لو سكبت أنت بنفسك بدلاً من الخادم فهذا أبلغ في البر.

أنواع البر التي تصل الأبوين بعد الموت

أنواع البر التي تصل الأبوين بعد الموت هل بر الوالدين مقتصر على حياتهما؟ نحن نعلم هؤلاء الذين عندهم عقوق, ومات الأب وماتت الأم، هل يمكن أن يتدارك ما فات؟ وما هي أنواع البر التي تصل الأبوين بعد الموت؟

الدعاء لهما

الدعاء لهما أعظمها على الإطلاق الدعاء، وأعظم الدعاء للوالدين الدعاء بالمغفرة والرحمة؛ لأن الله أوصى به في القرآن: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} [نوح:28] وأيضاً: {رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء:24]. إذاً: أعظم شيء الدعاء للوالدين بالمغفرة والرحمة، (إن الله عز وجل يرفع درجة العبد الصالح في الجنة، فيقول: يا رب! أنى لي هذه؟ فيقول: باستغفار ولدك لك) حديث صحيح.

الصدقة عنهما

الصدقة عنهما والصدقة عن الوالدين تصل، فقد قال رجل للنبي عليه الصلاة والسلام: (إن أمي توفيت، أينفعها إن تصدقت عنها؟ قال: نعم. قال: فإن لي مخرافاً -يعني: بستاناً يخرف الثمر فيه، أي: يجنى- فأشهدك أني قد تصدقت به عنها) وقال رجل للنبي عليه الصلاة والسلام: (إن أمي سلبت نفسها ولم توصِ، وأظنها لو تكلمت تصدقت، فهل لها أجرٌ إن تصدقت عنها ولي أجر؟ قال: نعم. فتصدق عنها).

صلة أصدقاء الوالدين والإحسان إليهم

صلة أصدقاء الوالدين والإحسان إليهم صلة أصدقاء الوالدين والإحسان إليهم، لقوله عليه الصلاة والسلام: (إن أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه بعد أن يولي الأب) رواه مسلم، ولذلك حدث أن كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما راكباً على حماره في الطريق، فرأى رجلاً من الأعراب في الطريق، فسلم عليه عبد الله بن عمر، وحمله على حماره وأعطاه عمامة كانت على رأسه، فقال ابن دينار: أصلحك الله، إنهم الأعراب، وأنهم يرضون باليسير -ما يحتاج كل هذا- قال عبد الله: (إن أبا هذا كان وداً لـ عمر بن الخطاب، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن أبر البر صلة الولد أهل ود أبيه) ومعنى: "إن أبا هذا كان وداً لـ عمر " أي: صديقاً من أهل مودة عمر، ولذلك فعل لأجله هذه الأشياء. وقال عليه الصلاة والسلام: (من أحب أن يصل أباه في قبره، فليصل إخوان أبيه من بعده).

إنفاذ وصيتهما

إنفاذ وصيتهما وطبعاً لو كان له وصية يجب إنفاذها، ويجب تطبيقها.

العقوق وخطره

العقوق وخطره أما العقوق فتداركه ليس بالأمر الهين، وقد سئل النووي رحمه الله: إذا كان الإنسان عاقاً لوالديه، وماتا ساخطين عليه، فما طريقه إلى إزالة ذلك، وإسقاط مطالبتهما له في الآخرة؟ فأجاب: أما مطالبتهما له في الآخرة، فلا طريق إلى إبطالها. ولكن ينبغي له بعد الندم على ذلك أن يكثر من الاستغفار لهما والدعاء، وأن يتصدق عنهما إن أمكن، وأن يكرم من كانا يحبان إكرامه من صديقٍ لهما ونحوه، وأن يصل رحمهما، وأن يقضي دينهما، أو ما تيسر له من ذلك. ما حكم الحج عن الوالدين والعمرة عنهما؟ لو كانا حيين عاجزين لم يحجا الفريضة جاز الحج عنهما، وكذلك العمرة. قارن بين من عق والديه وماتا ساخطين عليه، وبين من يموت أبوه وأمه راضيين عنه، قال رجل: عزيت شخصاً في أمه، فقال: لكن الذي يخفف عني، أن أمتي ماتت بين يدي وأنا أحملها، وهي تقول: أموت وأنا راضية عنك، وتشهدت وماتت. وإيذاء الوالدين -أيها الإخوة- وعقوقهما أمر سيئ جداً ذكره الله في كتابه، وقد ذكر صورة شنيعة، فقال: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} [الأحقاف:17 - 18]. فهذا نعت عاق الوالدين، وهما يجتهدان له في النصيحة، ويدعوانه إلى الله، فلا يزيده ذلك إلا عقوقاً، ونفوراً، وعتواً، وتمرداً، وتمادياً في الجهل، وما قصة ولد نوح عنا ببعيدة، {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ} [هود:41 - 43] الأبوة الملهوفة تهتف بالولد الشارد، ولكن البنوة العاقة، والفتوة المغرورة تأبى هذا، والأبوة المدركة ترسل النداء الأخير، (لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) والمغرور يأبى الإجابة، والموجة تحسم الموقف، ولما هدأت العاصفة، وسكن الهول، استيقظت لهفة الوالد المفجوع {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} [هود:45] فجاء الرد بأن الأهل عند الله ليسوا قرابة الدم واللحم، وإنما هم قرابة العقيدة، {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود:46] انقطعت العلاقات لأجل التوحيد والشرك. لقد حرم الله العقوق، وجعله من أكبر الكبائر، (إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات) والله لا ينظر إلى العاق يوم القيامة، كما جاء في الحديث الصحيح: (ثلاثةٌ لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، ومدمن الخمر، والمنان عطاؤه) وفي رواية: (لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والديوث، والرجلة من النساء) وفي رواية: (ثلاثةٌ لا يقبل الله عز وجل منهم صرفاً ولا عدلاً: عاقٌ، ومنان، ومكذب بالقدر) وإسناده حسن. وجاء رجل إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقال: (يا رسول الله! شهدت أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وصليت الخمس، وأديت زكاة مالي، وصمت رمضان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من مات على هذا كان مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة هكذا -ونصع بإصبعيه- ما لم يعق والديه) رواه ابن خزيمة وابن حبان، وأخرجه أحمد والطبراني بإسنادين أحدهما صحيح، والحديث: (ملعون من عق والديه).

تعزير من أصر على عقوق والديه

تعزير من أصر على عقوق والديه فهذا الجزاء في الآخرة، فهل هناك شيء في الدنيا يعاقب به من عق والديه؟ ماذا يفعل القاضي لو أن هناك شخصاً متمرداً عق والديه، وأصر على العقوق، وارتفعت القضية إليه؟ قال العلماء: أما جزاؤه في الدنيا فهو من باب التعزير، ويختلف قدره باختلاف حاله وحال فاعله، فإن تعدى على أبويه أو أحدهما بالشتم، أو بالضرب -مثلاً- عزراه، أو عزره الإمام بطلبهما -والقاضي نائب عن الإمام- إن كانا مشتومين، أو مضروبين معاً، أو بطلب من كان منهما معتدى عليه بذلك، فلو اشتكت الأم على الولد عند القاضي فإنه يعزره، إذا ثبت عليه العقوق بالشتم أو الضرب أو غيره، فإن عفا المشتوم أو المضروب كان ولي الأمر بعد عفوه على خياره، في فعل الأصلح من التعزير تقويماً، أو الصفح عنه عفواً، فإن تعافوا عن الشتم والضرب قبل الترافع للإمام سقط التعزير. لكن كيف يكون التعزير؟ شخص عاق رفع أمره إلى القاضي ماذا يفعل فيه القاضي؟ يكون تعزيره بالحبس على حسب الذنب والهفوة، أو بالضرب، أو التأنيب بالكلام العنيف، أو بغير ذلك مما به ينزجر ويرتدع، ومن الممكن أن يكتب لمرجعه في العمل في القضية، ليعزر بما يردعه.

صور واقعية من عقوق الوالدين

صور واقعية من عقوق الوالدين وبعض الناس مع الأسف يطيع زوجته ويعق أمه، ويبر صديقه ويجفو أباه، ويجاهر بالسوء والفحشاء لأبويه ويقهر وينهر، ويرفع الصوت ويحتج على أبويه بالكلام، ويصفق الأبواب، ويرفض الخدمة، ولا يجلب الأغراض لهما، وربما يقاطع أبويه لأمور دنيوية، ولا يكلم أباه، ولا يكلم أمه، وإذا رفض أبوه أن يشتري له سيارة لا يتكلم مع أبيه، أو رفض أن يسمح له بالخروج للعب بالنادي قاطع أمه، مهمل في الدراسة وإذا قال له أبوه: ممنوع الخروج هذا الأسبوع لأجل الدراسة، فإنه لا يكلمه، وربما يتأفف ويقول: أراحنا الله منك وأخذ عمرك، وعجل بزوالك يا شيبة النحس، ويا عجوز الويل!! وحاله وحال أبيه كقول الشاعر: أريد حياته ويريد موتي والأب ربما يتمنى أنه لم يولد له هذا الولد، وأنه لو كان عقيماً كان أحسن. كان هناك شاب مكب على اللهو واللعب لا يفيق عنه، وكان له والد صاحب دين، وكان كثيراً ما يعظ هذا الابن، ويقول: يا بني! احذر هفوات الشباب وعثراته، فإن لله سطوات ونقمات ما هي بالظالمين ببعيد، وكلما ازداد عليه بالنصيحة ازداد ذاك في العقوق وجار على أبيه، وفي يوم من الأيام، وهو ينصحه على حسب العادة وإذا بالولد يمد يده على أبيه ويضربه، فحلف الأب بالله مجتهداً ليأتين بيت الله الحرام ويتعلق بأستار الكعبة ويدعو على ولده، فخرج حتى أتى بيت الله الحرام، وامسك بأستار الكعبة وقال: يا من إليه أتى الحجاج قد قطعوا عرض المهامه من قربٍ ومن بعد إني أتيتك يا من لا يخيب من يدعوه مبتهلاً بالواحد الصمد هذا منازل لا يرتد عن عققي فخذ بحقي يا رحمن من ولدي وشل منه بحولٍ منك جانبه يا من تقدس لم يولد ولم يلد فما استتم كلامه حتى يبس شق الولد الأيمن. وهذا ينهب مال أبيه، وهذا يطرد أباه من البيت، وهذا يمنع عنه النفقة، وهذا يرفسه، وهذا يطالب بالحجر على أبيه، وهذا يقول لأبيه: أنت أخذت حقك من الدنيا فيكفيك، قد مَلَّكَ الزمان، وسئمتك الحياة، فيكفي ما أخذت. ويذكر أن أباً كان له ولد يضربه، فيقول: دعوة والد، لقد ضربت أبي في هذا الموضع. ثلاث دعوات مستجابات -يا إخوان! - لا شك فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده. فليحذر الأبناء من دعوة الآباء والأمهات، فقد تكون ساعة إجابة وحينئذٍ لا ينفع الندم. وبعضهم يتكبر على أبويه؛ لأنه صاحب شهادة جامعية، وهما أميان، وعندما جاء مع بعض أصحابه الذين يدرسون معه في الخارج خجل أن يقول لهما: هذا القروي أبي، فقال: هذا الخادم الذي ينظف البيت، ماذا تتصورون موقف أبيه لو علم بذلك؟ ولا يستحي أن يقول لزملائه في المجلس وهو يشير إلى أبيه الطاعن في السن، خفيف السمع: هذا (اكس فاير) وهو قد أتى من الخارج متعلماً الإنجليزية، يقول: هذا (اكس فاير) وهي كلمة بالإنجليزي معناها انتهت صلاحيته. يأخذ المال من أحد أبويه ويقول: أعطني سلفة وأنا أرجعها لك، ثم لا يردها، ويغافل أمه المسكينة، ليستلف منها ثم لا يردها، وهناك شخص استلف من أمه عشرين ألفاً ولم يرجعها، وآخر أخذ من والده اثنى عشر ألفاً ولم يرجعها، ولما طالبت الأم الأول قال: أنتِ ساكنة معي في البيت ثلاث سنين، تأكلين وتشربين، اعتبري العشرين ألفاً إيجار حق الثلاث السنوات، ليس لكِ شيء. وبعض الأبناء لا يلبون احتياجات آبائهم، ولو طُلب منه شيء جلس يتهدد ويتوعد، وبنت تقول لأمها: إذا طلبتِ مني شيئاً زيادة لا أدخل بيتكِ، ولا أسمح لكِ أن تدخلي بيتي. قال لي شخص يعمل في الإسعاف في ليلة الأحد: طلبنا مرةً إلى أحد البيوت، وهو بيت كبير عظيم، فدخلناه، فقادنا الذي فتح لنا وقال: تعالوا ورائي، فهنا حالة مرضية، وأخذنا إلى غرفة صغيرة موجودة في البيت، يقول: نظنها مخزن أو غرفة غسالة، وعندما فتحنا وجدنا عجوزاً على سرير، في غرفة منتنة، قذرة، رائحتها عفنة، وعرفنا بعد ذلك أنه أبوه، قال: عالجوه، وانظروا وضعه فإنه إذا مات علينا تصير مشكلة، قالوا: هذا البيت الكبير ما وسع هذا الأب، ضاق هذا البيت الكبير عن هذا الأب. وآخر ذهب وقال لزوجته: اركبي معي، قالت: أين ستذهب بي؟ قال: اركبي، وأخذها إلى المحكمة. قالت: ماذا تريد؟ قال: أريد أن أسجل لك البيت باسمك. فهو عنده قصر كبير، قالت: ما يحتاج، أنا وعيالي لن نختلف، قال: لا. أسجله باسمك أحسن، فسجل البيت باسم زوجته، فما مر على الزوج عشرة أيام إلا واختاره الله ومات، وأول ما مات جاء الأولاد، وقالوا لأمهم: هذا البيت كبير علينا، وما في داعي لكل هذا، فنحن نريد أن نبيعه ونأخذ لك شقة صغيرة على قدرك، وهذا البيت ما تحتاجينه، قالت في نفسها: الله يرحم الشيخ -زوجها- فعلاً حسب للمستقبل. قالت لهم: الآن فترة العدة، وتعرفون أن في العدة يجب على الزوجة أن تعتد في بيت الزوج، اتركوا لي البيت حق عشرة أيام وإذا انتهت العدة تعالوا إليَّ. وفي اليوم العاشر على الموعد جاءوا، قالوا: موضوع البيت، قالت: موضوع البيت، انظروا الورقة هذه؟ هذه صورة العقد وعندي عشر صور، وعندي الأصل في مكان غير البيت هذا، هذا البيت سجله أبوكم -يا عاقين- باسمي قبل وفاته رحمه الله، فهو يعلم هذه الخلفة التي خلفها قبل أن يموت، فهو حسب حسابكم، فكل واحد يأخذ أثاثه ويخرج خارج البيت، ما أحد له حق في البيت. هذا بيتي، اطلعوا من البيت. فأخذ كل واحد أثاثه وطلع مدحوراً مقبوحاً. وهذا كله في الوفاء، وهذا شيء من الأمثلة الكثيرة التي تحدث في هذا الزمن. وآخرون أبوهم عنده عمارة، وهم يريدون أن يأخذوا العمارة، وأبوهم صار يخرف في آخر عمره، وصار يفقد الذاكرة أحياناً، فقالوا له: أنت تحب البر، فلذلك سوف نخرج إلى البر، ففرح وظن أن أولاده في النهاية سيعملون له رحلة، فهو يطالبهم بها منذ زمن وهم يرفضون بحجة أنهم مشغولون، فأخذوه إلى البر في مكان بعيد في الصحراء، ونصبوا الخيمة وجلسوا، إلا أن الرجل هذا جاءت له الحالة المعروفة التي يغيب فيها عقله، ويدخل في حالة الخرف هذه، فقال أحدهم: أنتم تقدموا وأنا ألحق بكم، ولما اطمأن أن الأب هذا لن يعود إلى عقله بسرعة، ترك أباه ومشى، وبقي الأب مرمياً بالصحراء وحده، فقدر الله أن يعود إلى عقله قبل أن يموت، فقام يمشي في الصحراء هائماً على وجهه، لا يدري أين يذهب، فهام على وجهه، لكن قدر الله أن يصل إلى الطريق الرئيسي بعد مدة، ليراه صاحب سيارة فيركبه، وفي الطريق بدأ الأب يستوعب، ويعود إليه عقله، وصاحب السيارة يقول: أين تريد؟ فقال: أوصلني إلى البلدة الفلانية، فأول ما وصل وجد صاحب المكتب العقاري الذي قال له: إن أبناءك قالوا أنك تريد تبيع العمارة، فأخذ أوراق العمارة وذهب إلى ملجأ العجزة، ودخل على مدير الملجأ وقال: اسمع! أنا لم يعد لي مكان خارج الملجأ هذا، وقد ضاقت عليَّ الدنيا، وحدَّثه بالقصة، فهذه العمارة وقف على الملجأ، ومن الآن فصاعداً أنا سأسكن فيه، وأنا والذين معي في الملجأ نستفيد من إيراد هذه العمارة. فهذا نتيجة العقوق الذي يفعله هؤلاء، وهم من المسلمين وموجودون بين المسلمين، هكذا يفعلون، وربما لا يقدر الولد أنه ربما يسقى بالكأس نفسه، وأن تكون أشد قسوة. هذا عاق كان يجر أباه برجله إلى الباب، فجاء له ولد أعق منه، فكان يجره برجله إلى الشارع، فيقول: حسبك ما كنت أجر أبي إلا إلى الباب، فقال: الزائد صدقة مني عليك، أنت كنت تجر أباك إلى الباب، وأنا أجرك إلى الشارع صدقة. أراد ولد أن يذهب بأبيه إلى مغارة ليتخلص منه؛ لأن زوجته تقول: هذا العجوز مللنا منه، فقد وسخ علينا البيت، ونجاساته في كل مكان، أخرجه وإلا لن أجلس معك. فأخذ أباه يريد أن يذهب به إلى كهف، وقال لولده -حفيد الجد-: هات لحافاً لجدك، والولد كان ذكياً فشق اللحاف نصفين، وأخذ نصفه، فانتبه الأب فقال: لماذا أتيت بنصف اللحاف فقط؟ قال: أنا مخبي لك النصف الثاني في المستقبل. في بعض حالات العقوق يكون زواج الابن هو السبب، فما أن تزوجه أمه حتى ينقلب رأساً على عقب، بعد أن كان باراً بأمه، ومتفقداً لاحتياجاتها أصبح الآن بعيداً عنها، لا يخدمها، ولا يستمع لنصحها، ولا يسأل عن حاجتها، ولا يتفقدها، فهو قد انشغل بالزوجة، وأخذت عليه حياته، فتشعر الأم بفراغ كبير من جهة الولد، وتزداد الغيرة، وتحس أن الزوجة أخذت ولدها عنها بالكلية، وربما تأتي زوجة الابن إلى أم زوجها في زيارة خاطفة، للمجاملة وتكلم زوجها من بيت أمه، تقول: خذ كلِّم أمك وسلم عليها، أي: هو ما عنده وقت ليزورها، فيرسل مندوبة خمس دقائق للمجاملة وانتهى الأمر. وبعض الأبناء ينشغلون عن آبائهم باللهو مع أصدقاء السوء، والسفر إلى خارج البلاد، وينفقون أموالهم على متعهم وملذاتهم الشخصية، وإذا احتاجت الأم أو الأب نفقة تذمروا. أنت الآن تضيع الآلاف المؤلفة في السفريات المحرمة، ولما يجيء أبوك ويقول: أعطني خمسمائة ريال، أو الأم تقول: أعطني خمسمائة، تقول: ليس عندي انتهى الراتب، وربما يلقي عليه بالفتات اليسير، والأم تبكي، ومن المعاناة ربما تدعو على نفسها، وعلى البطن الذي حمل الولد، وعلى الثدي الذي أرضع الولد، والولد هذا راتبه كبير ومع ذلك لا يعطي أباه، ويجعله واقفاً كالشحاذ على الباب!! اعترضت أم على ابنها في استعمال المخدرات، قال: هاتي مالاً، فرفضت إعطاءه المال، وهي تعرف أنه يريد يشتري مخدرات، فأخذ السكين وجلس يطعن فيها حتى ظنها أنها ماتت، فأخذ النقود وهرب، فالأم صاحت وجاء الجيران والشرطة، وأمسكوا بالابن الجاني، وكان المنظر المؤثر أمام القاضي في المحكمة أن الأم تتوسل إليه ألا يوقع العقاب بالولد. لكن لو قال شخص: لماذا لا نصلح القضية هذه بعيد الأم، وهو عيد لطيف، فنقول: هذا العيد الذي اخترعوه الكفار وأحدثوه لما رأوا الأمومة المنسية، وأرادوا أن يذكروا أبناءهم وبناتهم المهملين لآبائهم وأمهاتهم، هل يحتاجه المسلمون؟ المسلم كل يوم يقبل رأس أبيه وأمه، ويستأذنهما في الدخول والخروج، وذاك يأتي يوماً في السنة ليرمي لها هدية ويذهب! فهم اخترعوه لقلة الوفاء، يعصي أحدهم أمه في السنة كلها ثم يأتيها يوماً في الس

تعريف العقوق وضابطه

تعريف العقوق وضابطه أيها الإخوة: نريد أن نعرف ما هو تعريف العقوق وضابطه. العقوق: كل فعلٍ يتأذى به الوالد -الأب والأم- تأذياً ليس بالهين، والعقوق أن يؤذي الولد أحد أبويه بما لو فعله مع غير أبويه لكان من جملة الصغائر، فيكون في حق الأبوين من الكبائر. أنت الآن لو قطبت وعبست في وجه صديقك، قد لا يكون حراماً، أليس كذلك؟ لكن لو فعلت هذا العبوس في وجه أبيك أو أمك، لعد ذلك عقوقاً.

من أحكام بر الوالدين

من أحكام بر الوالدين والبر واجب ولو كان الأب مشركاً كافراً، وكذلك الأم لو كانت مشركة كافرة، وقد ضرب لنا ربنا في القرآن أمثلة: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً} [مريم:41 - 42] انظر إلى التأدب معه في الكلام، فقد أتى له بهذه اللفظة الرقيقة: (يا أبتِ) استعطافاً له، وقال: {إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ} [مريم:43] لم يقل: إني أعلم منك وأنت جاهل، ثم بيَّن له الحجة والدليل: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً} [مريم:42] فهو يقول: أنا وإن كنت أصغر منك، وأنا من صلبك، لكن الله أطلعني على علم لم تطلع عليه أنت ولم تعلمه، ولم يقل له: يا جاهل! وأبدى الشفقة على أبيه والخوف عليه، قال: {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} [مريم:45] ولم يقل من الجبار، لاحظوا! إبراهيم عليه السلام ما قال: إني أخاف أن يمسك عذابٌ من القوي العزيز الجبار، وإنما قال: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} [مريم:45]، يعني: حتى الأسماء الحسنى ينتقي منها ما يناسب الحال، وهذا أبوه العنيد يقول: {أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً} [مريم:46] وهو يقول: {سَلامٌ عَلَيْكَ} [مريم:47]، يعني: قابله بغاية الأدب مع أن ذاك قابله بغاية الصلافة والجبروت والعناد، {سَلامٌ عَلَيْكَ} [مريم:47] يعني: لا ينالك مني مكروه ولا أذى لحرمة الأبوة، وسأسل الله أن يهديك. وماذا قال الله: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} [لقمان:15] ومع ذلك قال: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15]. سعد بن أبي وقاص نزلت هذه الآية فيه، فقد حلفت أم سعد ألا تكلمه أبداً ولا تأكل ولا تشرب حتى يكفر بدينه، قالت: زعمت أن الله أوصاك بوالديك، وأنا أمك فأنا آمرك أن ترجع عن دينك، فمكثت ثلاثاً حتى غشي عليها من الجهد، فقام ابنٌ لها فسقاها، فجعلت تدعو على سعد، فأنزل الله هذه الآية: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي} [لقمان:15] وفيها: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15] لا يمكن أن يقدم رضا أمه على العقيدة والدين إطلاقاً: [لو كان لكِ مائة نفسٍ فخرجت نفساً نفساً ما تركت ديني]. أبو هريرة كانت أمه مشركة، وقد دعاها مرة ً إلى الإسلام فوقعت في النبي عليه الصلاة والسلام فذهب يبكي إلى النبي عليه الصلاة والسلام ويقول: (يا رسول الله! إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام فتأبى عليَّ فدعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادع الله أن يهدي أم أبي هريرة، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: اللهم اهد أم أبي هريرة) فـ أبو هريرة من اليقين بأن النبي عليه الصلاة والسلام مستجاب الدعوة، قال: (فخرجت مستبشراً بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما جئت فصرت إلى الباب فإذا هو مجافى -مغلق- فسمعت أمي خشف قدميَّ -صوتهما- فقالت: مكانك يا أبا هريرة! وسمعت خضخضت الماء، فاغتسلت ولبست درعها وعجلت عن خمارها ففتحت الباب، ثم قالت: يا أبا هريرة! أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي من الفرح، -وكان قبلها يبكي من الحزن- فقلت: يا رسول الله! أبشر، فإن الله قد استجاب دعوتك وهدى أم أبي هريرة، فحمد الله وأثنى عليه، وقال خيراً، قلت: يا رسول الله! ادع الله أن يحببني أنا وأمي إلى عباده المؤمنين ويحببهم إلينا، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم حبب عُبيدك هذا -يعني: أبا هريرة - وأمه إلى عبادك المؤمنين وحبب إليهم المؤمنين، يقول أبو هريرة: فما خلق مؤمنٌ -ليس رافضياً ولا باطنياً- يسمع بي ولا يراني إلا أحبني) رواه مسلم. أسماء جاءت تستفتي النبي عليه الصلاة والسلام في أمها المشركة، فقد جاءت أمها من مكة راغبة في صلتها، فخشيت أسماء إذا وصلت أمها أن تكون قد أخطأت في عقيدة الولاء والبراء، فجاءت تستفتي، تقول: (يا رسول الله! قدمت عليَّ أمي وهي مشركة وهي راغبة في صلتي، أفأصل أمي؟ قال: نعم. صلي أمك) {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة:8] فالرحم الكافرة توصل من المال ونحوه. وبعض العلماء فهموا وجوب النفقة على الأبوين الكافرين، فقالوا: الأبوان الكافران لهما نفقة، وعليه أن يجتنب غليظ القول معهما، ويناديهما بالكلام الطيب، ولا يتبرم بهما مع أنهما كافران، أما الاستغفار لهما بعد الممات فممنوع؛ لأن الله قال: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} [التوبة:113]. ونحن عندنا الآن في المجتمع مع انتشار الفجور والعياذ بالله هناك آباء فجرة وأمهات فاجرات، فالمعاصي قد دخلت على الكثيرين، حتى الآباء والأمهات، فقد يأتي شخص ويقول: أمي تعمل بالسحر والكهانة، وعندها ثلاث عمارات بنتها من أجرة السحر والكهانة. والذي أبوه مرتد يسب الدين صباح مساء، ويسخر من أهل الدين، ومن الأحكام الشرعية، أو أن أباه يسكر، أو قد يجلب أدوات السكر إلى البيت، ماذا يفعل مع أبيه أو أمه في هذه الحالة؟ يقول الإمام أحمد رحمه الله: "يأمر أبويه بالمعروف وينهاهما عن المنكر -إذا رأى أباه على أمرٍ يكرهه يكلمه بغير عنفٍ ولا إساءةٍ- ولا يغلظ له في الكلام وإلا تركه -إذا ما استجاب يتركه- ويدعو له، ليس الأب كالأجنبي" هذه كلمة الإمام أحمد، قال: إذا كان أبواه يبيعان الخمر، لم يأكل من طعامهم، وخرج عنهم. وسأل رجلٌ أبا عبد الله: إن أباه له كرم -يعني: أشجار عنب- يريد أن يعاونه على بيعها، قال: "إن علمت أنه يبيعها ممن يعصرها خمراً فلا تعاونه". وإذا قال: فإذا اشتغلت -والعياذ بالله- أمه في أمور الدعارة، هل يبلغ عنها؟ A يبلغ عنها، وتقوم البنت بوعظ أمها الزانية، وتصبر على ما تلاقيه منها نتيجةً لذلك، وإن هددتها أنها ستغضب عليها، ولو دعت عليها صباح مساء، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولا يقبل الله هذا الدعاء؛ لأنه اعتداء والله لا يحب المعتدين، ولا يقبل دعاء المعتدين. ولو رأى أباه يضرب أمه هل يتدخل أم لا؟ نقول: يتدخل، وإن كان قد يستعمل القوة مع أبيه، لكن يبدأ يدفع بالأسهل فالأسهل، ولو أدى ذلك إلى استعمال القوة.

حق الوالدين في المال

حق الوالدين في المال ما هو حق الوالدين في المال؟ نأتي الآن إلى بعض المسائل الفقهية: ما هو حق الوالدين في المال؟ مال الولد حلال للأب وأطيب ما أكل الوالد من مال ولده؛ لأن ولده من كسبه كما قال عليه الصلاة والسلام: (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم وإن أولادكم من كسبكم) حديث حسن صحيح. ولما جاء رجل يقول للنبي عليه الصلاة والسلام: (إن أبي يريد أن يجتاح مالي، قال: أنت ومالك لأبيك) والعلماء أخذوا منه وجوب الخدمة على الولد من قوله: (أنت) فمالك لأبيك واضح، لكن ما معنى: أنت لأبيك؟ أنت لأبيك يعني تخدمه، وتقوم عليه. وهذه أقوال العلماء في مسألة أخذ الأب من مال الابن: القول الأول: قالوا يد الوالد مبسوطة في مال ولده يأخذ منه ما شاء، سواءً أذن الولد أم لا، ما لم يكن على وجه السرف والسفه، يعني: يضيع المال في المعاصي، والتافهات. القول الثاني وهو قول الجمهور: لا يأخذ من ماله إلا عند الحاجة. فالنفقة واجبة للأبوين المحتاجين، فلو كانت الأم متزوجة فلا يجب على الابن أن ينفق عليها؛ لأن عندها زوجاً ينفق عليها، لكن لو كان ليس لها نفقة فيجب عليه أن ينفق عليها. ولا يحق للابن أن يمنع أمه من الزواج، وهذه مهمة، حيث إنه قد يكون بعض الناس عندهم عادات مخالفة للشريعة، فيمنع أمه من الزواج إذا طلقها أبوه أو مات، وربما يعيرها إذا تزوجت، وهذا حرام لا يجوز، أليس من شرع الله أن تتزوج بعد انقضاء العدة؟! فلماذا يمنعوها؟! إذاً: حديث: (يا رسول الله! إن لي مالاً وولداً وإن أبي يريد أن يجتاح مالي، قال: أنت ومالك لأبيك) يدل على وجوب إعطاء الأب. وقد علق الخطابي رحمه الله على حديث: (إن أبي يريد أن يجتاح مالي) فقال: يشبه أن يكون ما ذكره السائل من اجتياح والده ماله إنما هو بسبب النفقة -يعني الأب محتاج للنفقة عليه- وإن مقدار ما يحتاج إليه للنفقة عليه شيءٌ كثير لا يسعه عفو ماله -يعني مال الوالد- والفضل منه، إلا أن يجتاح أصله ويأتي عليه، فلم يعذره النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يرخص له في ترك النفقة وقال له: (أنت ومالك لوالدك) على معنى: أنه إذا احتاج إلى مالك أخذ منك قدر الحاجة كما يأخذ من مال نفسه، وإذا لم يكن له مال وكان له كسبٌ لزمه أن يكتسب وينفق عليه. يعني: لو كان الأب محتاجاً والولد ما عنده، الأب قال: أنا بيتي كبير، وعندي زوجتان، وعندي أولاد، وعندي فواتير الكهرباء والهاتف وأجرة الخادمة والسائق، هذا مصروفي. والابن عنده دخل لكنه محدود يكفيه فقط هو، لكن الابن يستطيع أن يعمل عملاً إضافياً ويصرف على الأب، فهل يلزم الولد أن يعمل عملاً إضافياً وينفق على الأب؟ A نعم. يلزمه ذلك. قال: "فأما أن يكون أراد به إباحة ماله واعتراضه حتى يجتاحه ويأتي عليه لا على هذا الوجه، فلا أعلم أحداً من الفقهاء ذهب إليه والله أعلم". إذاً: أخذ الأب من مال الابن بسبب النفقة. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وقوله عليه الصلاة والسلام: (أنت ومالك لأبيك) وأمثال ذلك مما جاءت به اللام للإباحة، يعني: يباح لك أن تأخذ منه، وليست اللام للملك، ولذلك يقول ابن القيم: واللام في الحديث ليست للملك قطعاً، ومن يقول: هي للإباحة أسعد بالحديث، وإلا تعطلت فائدته ودلالته.

شروط جواز أخذ الوالد من مال ولده بغير إذنه

شروط جواز أخذ الوالد من مال ولده بغير إذنه فإذا قلت: هل هناك شروط لأخذ الأب من مال ولده؟ قال ابن قدامة: فصلٌ: ولأبٍ أن يأخذ من مال ولده ما يشاء ويتملكه مع حاجة الأب إلى ما يأخذه ومع عدمها، وهذا رأي الحنابلة، صغيراً كان الوجه أم كبيراً بشرطين: أحدهما: ألا يجحف بالابن ولا يضر به، ولا يأخذ شيئاً تعلقت به حاجته. الثاني: ألا يأخذ من مال ولده فيعطيه الآخر، نص عليه أحمد. فإذاً: ما هي الشروط؟ أولاً: أن يكون فاضلاً عن حاجة الولد، فلا يجوز للأب أن يقول للولد: اخرج من بيتك واجلس في الشارع، هات سيارتك واذهب على رجليك مسافة ساعتين حتى تصل إلى مكان العمل، أو هات ملابسك ويتركك عارياً. فالابن يحتاج لأولاده وزوجته مبلغاً معيناً، وما فضل عن حاجة الولد وحاجة زوجته وأولاده فللأب أن يأخذ منه. لا ضرر ولا ضرار. وكذلك من الشروط: ألا يأخذ من ولد ويعطي للولد الآخر. فالأب واجب عليه أن يعدل في العطية لأولاده من ماله هو، فمن باب أولى ألا يأخذ من ولد ويعطي للثاني، فهذا يوغر صدور الأولاد على بعض. وكذلك ألا يكون في مرض موت أحدهما. وكذلك ألا يكون الأب كافراً والابن مسلماً؛ لأنه إذا كان الأب كافراً فلا يمكَّن في مال الولد، فالإسلام يعلو ولا يعلى كما قال العلماء. وكذلك أن يتملك عيناً موجودة، فلا يتملك دين ابنه، فالابن إذا أقرض شخصاً لا يجوز للأب أن يقول: أنا تملكت الدين الذي لك عند فلان. إذاً: ينبغي أن يكون عيناً موجودةً. فإذاً: بعض العلماء قالوا: الأب يأخذ على حسب الضرورة والحاجة، وبعضهم قال: حتى بغير حاجة، لكن من الشروط أن يكون فاضلاً عن نفقة الولد وما تقدم من الشروط أيضاً.

حكم مطالبة الابن لأبيه بدين عليه

حكم مطالبة الابن لأبيه بدين عليه فهل يجوز للابن أن يطالب الأب بالدين؟ أي: أب استلف من ابنه، فهل للابن أن يطالب أباه بالدين، يقول: اقترضت مني فأعد إليَّ مالي. ذهب أبو حنيفة ومالك والشافعي أن له ذلك؛ لأنه دينٌ ثابت، فجازت المطالبة به كغيره، وأما الحنابلة فقد قال ابن قدامة رحمه الله: ليس للولد مطالبة أبيه بدينٍ عليه، وهو مقتضى قول سفيان بن عيينة، واحتجوا بحديث: (أنت ومالك لأبيك). لكن لو فرضنا أنه يريد أن يطالبه فلا يكون برفع دعاوى عند المحاكم، وإنما يقول: يا أبتِ أنا أحتاج إلى المال الذي اقترضته مني إذا أمكن، أي: بكل لطف يطالب به، فحتى على القول بجواز المطالبة فليس معنى ذلك أن يرفع عليه دعاوى ويشهر به ويؤذيه، ويلاحقه في بيته والأماكن التي يذهب إليها. لذلك -أيضاً- لا تقطع يد الأب فيما أخذ من الولد، ولو بغير علم الولد، وهذا أجمعوا عليه.

حكم إنفاق الولد الموسر على أبيه وزوجته

حكم إنفاق الولد الموسر على أبيه وزوجته وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن رجلٍ عجز عن الكسب وليس له شيء، وله زوجة وأولاد ماذا على ولده الموسر، الذي عنده زوجة وأولاد؟ فقال: على الولد الموسر أن ينفق على أبيه وزوجة أبيه. يعني: حتى الابن مكلف أن يعطي أباه نفقته ونفقة زوجته التي ليست أمه، وعلى إخوته الصغار ولو كانوا من أم ثانية، وإن لم يفعل ذلك كان عاقاً لأبيه، أليس الولد ميسراً؟ إذا لم يفعل ذلك كان عاقاً لأبيه، قاطعاً لرحمه، مستحقاً لعقوبة الله تعالى في الدنيا والآخرة. وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن رجلٍ له ولد وطلب منه ما يمونه، قال: إذا كان موسراً وأبوه محتاج فعليه أن يعطيه تمام كفايته، وكذلك إخوته إذا كانوا عاجزين عن الكسب فعليه أن ينفق عليهم إذا كان قادراً على ذلك، ولأبيه أن يأخذ من ماله ما يحتاجه بغير إذن الابن وليس للابن منعه. إذاً: أجمع العلماء على أن نفقة الوالدين الفقيرين اللذين لا كسب لهما ولا مال واجبة في مال الولد.

شروط وجوب الإنفاق على الوالدين

شروط وجوب الإنفاق على الوالدين ما هي شروط وجوب الإنفاق؟ أولاً: أن يكونوا فقراء لا مال لهم، ولا كسب يستغنون به. وثانياً: أن يكون ما ينفقه عليهم فاضلاً عن نفقة نفسه. وثالثاً: أن يكون المنفق وارثاً.

حكم إنفاق الابن الموسر على أبيه الفقير القادر على العمل

حكم إنفاق الابن الموسر على أبيه الفقير القادر على العمل مسألة: إذا لم يكن للأب مال، لكنه ما يزال فيه قوة وهو قادر على العمل فهل يقال للأب: لا تطلب من ولدك، بل اذهب اعمل واشتغل، أو أنه يجب على الابن أن ينفق على أبيه إذا كان الأب ليس عنده مال ولو كان الأب قادراً على العمل؟ A يجب أن ينفق عليه ولو كان الأب قادراً على العمل. قال ابن قدامة رحمه الله: ولا يشترط في وجوب نفقة الوالدين نقص الخلقة ولا نقص الأحكام، قال: وهذا ظاهر كلام الخرقي: فإنه أوجب نفقته مطلقاً إذا كانوا فقراء وله ما ينفقه عليهم. فإذاً: لو كان الأب ليس عنده مال وكان قادراً على العمل يجب على الابن أن ينفق عليه. لكن لو كان له عقارات تكفيه، هل يجب على الابن أن ينفق عليه؟ لا. لا يجب عليه.

حكم استئذان الوالدين في السفر

حكم استئذان الوالدين في السفر

حكم استئذان الوالدين في السفر للجهاد

حكم استئذان الوالدين في السفر للجهاد وكذلك من أحكام بر الوالدين قضية السفر للجهاد، فقد صرح الحديث الصحيح بوجوب إذن الوالدين للجهاد. فقد جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد، قال: (أحيٌ والداك؟ قال: نعم. قال: ففيهما فجاهد) رواه البخاري ومسلم. وفي حديثٍ آخر: (أقبل رجلٌ إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد أبتغي الأجر من الله، قال: فهل من والديك أحدٌ حيٌ؟ قال: نعم، بل كلاهما، قال: فتبتغي الأجر من الله؟ قال: نعم. قال: ارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما) رواه مسلم. قال النووي رحمه الله: هذا كله دليلٌ لعظيم فضيلة برهما، وأنه آكد من الجهاد، وفيه حجة لما قاله العلماء: إنه لا يجوز الجهاد إلا بإذنهما إذا كانا مسلمين، أو بإذن المسلم منهما، فإن كانا مشركين لم يشترط إذنهما عند الشافعي ومن وافقه. وسألت الشيخ ابن باز رحمه الله، قلت: يا شيخ! إذا كان أبوه كافراً تاركاً للصلاة بالكلية، قال: هذا مرتد ليس له إذن ولا يستأذنه، وإذا كانت أمه مسلمة تصلي يجب عليه أن يستأذن أمه. هذا كله إذا لم يحضر الصف ويتعين القتال، لكن إذا التقى الصفان أو استنفر الإمام الناس للخروج، أو دهم العدو البلد، لم يعد هناك استئذان للأبوين، بل يخرج للدفاع وللجهاد. وما معنى الإذن؟ لأن بعض الأبناء يريدون الجهاد فيظل يلح على والديه حتى يملا منه، ويقولا له: اذهب، فتجده يقول: أنا فرحان؛ لأنهم وافقوا. ماذا قال العلماء في هذا؟ قال الإمام أحمد رحمه الله: إن أذنت لك من غير أن يكون في قلبها حرجٌ أو كراهةٌ وإلا فلا تغز -انتبه معي- لأن بر الوالدين فرض عين. وكنت يوماً واقفاً عند باب الحرم فجاء رجل يقول للشيخ ابن عثيمين: يا شيخ! أنا أريد أذهب أجاهد، فهل يجب أن أستأذن أبواي؟ قال: نعم. قال: أليس الجهاد فرض عين؟ فقال الشيخ ابن عثيمين: أليس بر الوالدين فرض عين؟ ولا ننس قبل ذلك أن أهل الأعراف قيل فيهم: إنهم أناس خرجوا إلى الجهاد بغير إذن آبائهم وأمهاتهم فماتوا في الجهاد، فمنعهم القتل في سبيل الله من دخول النار، ومنعهم عقوق آبائهم من دخول الجنة، فوقفوا على الجبل بين الجنة والنار، هذا جبل الأعراف.

حكم استئذان الوالدين في السفر لطلب الرزق

حكم استئذان الوالدين في السفر لطلب الرزق ماذا بالنسبة للسفر في طلب الرزق؟ إذا كان في سفره مصلحة للإنفاق على نفسه وعياله لا يمكن تحصيلها في البلد، أي: بحث عن وظيفة في البلد فلم يجد وظيفة مطلقاً، وعنده زوجة وأولاد، فجاء يريد السفر لطلب الرزق ببلد ثانية فقال أبوه: لا تسافر، فعند ذلك لا تجب طاعتهما، فهذا المضطر لا بأس، ويمكث فقط قدر الحاجة. أما إذا وجد في البلد عند أبويه ما يغنيه فلا يجوز الخروج بغير إذن أبويه. ولو قال: في البلد أجد آلافاً وهناك أجد ملايين، فنقول: إذا كانت تكفيك الآلاف فلا يجوز أن تسافر إلى الملايين، وإنما يبقى عند أبويه إذا منعاه من السفر والخروج.

حكم استئذان الوالدين في السفر لطلب العلم

حكم استئذان الوالدين في السفر لطلب العلم ماذا بالنسبة للسفر في طلب العلم؟ نقول: طلب العلم الذي لا يتحصل إلا بالسفر، وهو يحتاجه -لاحظ هذين الشرطين- يخرج بغير طاعتهما، أما إذا كان يستطيع تحصيله في البلد فلا يجوز الخروج بغير إذنهما. والآن فيه كتب، وأشرطة، ونشرات، وهاتف، ويمكن للإنسان أن يسأل. إذاً: لا بد أن تدقق في شرط عدم إمكانية تحصيله في البلد. قال النووي: وقد قال الشيخ الإمام أبو محمد بن عبد السلام رحمه الله: وقد حَرُم على الولد الجهاد بغير إذنهما لما شق عليهما من توقع قتله أو قطع عضو من أعضائه، ولشدة تفجعهم على ذلك، وقد ألحق بذلك كل سفرٍ يخافان فيه على نفسه أو عضوٍ من أعضائه. إذاً: كل سفر لا يؤمن فيه الهلاك -انتبه معي، هذا الضابط مهم في قضية أسفار الولد بغير إذن الوالدين- ويشتد فيه الخطر، لا يحل للولد أن يخرج إليه بغير إذن والديه، لماذا؟ لأنهما سيخشيان ويشفقان ويتضرران ويقلقان عليه إذا خرج. أما إذا كان السفر لا يشتد فيه خطر يحل له الخروج إذا لم يضيعهما، فإذا كان له حاجة، والسفر غير خطير، والأبوان عندهما ما يكفيهما، وعندهما من يخدمهما، والسفر غير خطير، ليس سفر الجهاد -مثلاً- فيجوز له الخروج بغير إذنهما، كما ذكر في بدائع الصنائع. ماذا بالنسبة لمنع الوالدين ولدهما من الطاعات؟ مثلاً: شخص يريد أن يحفظ القرآن، فقالا له: لا. أو يريد أن يدرس في مسجد فقالا له: لا. أو قال: أريد أن أصبح إماماً، فقالا: لا. أو يريد أن يصحب الأخيار، فقالا: لا، فما هو الموقف؟ سأل الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله سائلٌ فقال: إنني أشتغل منذ عدة سنوات بتحفيظ القرآن الكريم في مكان بعيد عن المدينة التي يسكن فيها والداي، ولهذا يطلبان مني أن أترك التدريس وأعمل مع أحد إخواني الذين يسكنون عندهما، وأنا متردد في هذا الأمر؛ لأنني أخشى أن أترك التدريس، فيضيع الطلاب وينسوا ما حفظوه من القرآن الكريم، فما تنصحونني جزاكم الله خيراً؟ فأجابه رحمه الله: ننصحك بالاستمرار في تحفيظ القرآن الكريم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) أخرجه الإمام البخاري في صحيحه، ولما في ذلك من المصلحة العامة للمسلمين -طبعاً ما في سفر خطير هنا- ولا تلزمك طاعة والديك في ترك ذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الطاعة في المعروف) ويشرع لك الاعتذار إليهما بالكلام الطيب والأسلوب الحسن، وبالله التوفيق. وسئل الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: إذا أمرني والداي بأن أترك أصحاباً طيبين وزملاء أخياراً وألا أسافر معهم لأقضي عمرة، مع العلم بأني في طريقي إلى الالتزام، فهل تجب عليَّ طاعتهما في هذه الحالة؟ فأجاب: -هذا سؤال يعرض لكثير من الشباب الآن- ليس عليك طاعتهما في معصية الله، ولا فيما يضرك، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الطاعة في المعروف) وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) فالذي ينهاك عن صحبة الأخيار لا تطعه، لا الوالدان ولا غيرهما، ولا تطع أحداً في مصاحبة الأشرار أيضاً، لكن تخاطب والديك بالكلام الطيب وبالتي هي أحسن، كأن تقول: يا والدي! كذا، ويا أمي! كذا، هؤلاء طيبون، وهؤلاء أستفيد منهم، وأنتفع بهم، ويلين قلبي معهم، وأتعلم العلم، وأستفيد، فترد عليهم بالكلام الطيب، والأسلوب الحسن، لا بالعنف والشدة. وإذا منعوك فلا تخبرهم بأنك تتبع الأخيار وتتصل بهم -اكتم الأمر- ولا تخبرهم بأنك ذهبت مع أولئك إذا كانوا لا يرضون بذلك، لكن عليك ألا تطيعهما إلا في الطاعة والمعروف، وإذا أمروك بمصاحبة الأشرار، أو أمروك بالتدخين، أو بشرب الخمر، أو بالزنا، أو بغير ذلك -طبعاً لا تستغربوا؛ لأن هناك آباء فسقة، قد يقول أحدهم لولده: لماذا لم تتعرف على بنت إلى الآن؟! ويقول للبنت: لماذا تتحجبي عند الخروج؟ ويشد الحجاب عنها وهي في الشارع، فهذه حال بعض البنات المسكينات، أو يريد من ابنته أن تذهب وتتعرف وتختلط، ويغضب إذا لم تختلط بالرجال الأجانب، وهذا من الفسق والفجور، والعياذ بالله-. قال: فلا فلا تقطعهما ولا غيرهما في ذلك للحديثين المذكورين آنفاً، وبالله التوفيق. فإذاً: عرفنا الآن ما هي الفتوى في قضية منع الولد من مصاحبة الأخيار، ومن حضور حلق العلم، وتحفيظ القرآن، ورحلة العمرة إلخ. قال بعض العلماء: فإن كان في بلده من يفيده -يعني: هذا العلم- فلا يخرج إلا بإذنهما. وأجاز بعض العلماء للطالب الذي عنده أهلية، وقدرة على أن يصبح مفتياً -مثلاً- أو مجتهداً ولا يستطيع تحصيل درجة الفتوى والاجتهاد إلا بالسفر من البلد، أن يخرج بغير إذنهما إذا كان السفر غير خطيرٍ، وكان عندهما ما يكفيهما، ومن يقوم عليهما بالخدمة.

حكم طاعة الوالدين في مخالفة الأحكام التكليفية

حكم طاعة الوالدين في مخالفة الأحكام التكليفية فلنقسِّم الموضوع في النهاية إلى طاعة الوالدين في ترك الواجب، وفعل المحرم، وفي المباحات، وفي ترك المستحبات، وفعل المكروهات.

حكم طاعة الوالدين في ترك الواجبات

حكم طاعة الوالدين في ترك الواجبات أما بالنسبة لترك الواجبات، فقد روى البخاري عن الحسن قال: [إن منعته أمه عن العشاء في جماعة شفقةً عليه فلا يطعها] لأن صلاة العشاء في الجماعة من الواجبات. وسئل الأوزاعي رحمه الله عن رجل تمنعه أمه من الخروج إلى الجمعة والجماعة؟ قال: ليطع ربه وليعص أمه. إذاً: لا يجوز طاعة الوالدين في ترك واجب. وإذا كان الأب والأم في بلاد الكفر، ولا يستطاع إقامة شعائر الدين فيها، والولد قد كبر ومن الممكن أن ينفصل عن الأبوين، ويستقل بنفسه، وعنده قدرة على الوظيفة، قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله في هذه المسألة: الواجب على المسلم أن يحذر الإقامة في بلدٍ يدعوه إلى ما حرم الله، أو يلزمه بذلك ترك الصلاة، أو حلق اللحى، أو إتيان الفواحش مثل الزنا والخمور، فيجب عليه ترك هذه البلاد والهجرة منها؛ لأنها بلاد سوء، فلا يجوز الإقامة فيها أبداً، بل يجب أن يهاجر منها، وأن خالف وعصى والديه؛ لأن طاعة الله مقدمة، وطاعة الوالدين إنما تكون في المعروف، فكل بلدٍ لا يستطيع إظهار دينه فيه أو يجبر على المعاصي فيه يجب أن يهاجر منها. ما حكم منع الأب ولده من حج الفريضة؟ قال ابن مفلح الحنبلي رحمه الله: لا يجوز لوالدٍ منع ولده من حجٍ واجب، ولا تحليله منه، فإذا قال له تحلل وارجع، فإنه لا يجوز له ذلك، ولا يجوز للولد طاعته فيه. وقال ابن قدامة: ليس للوالد منع ولده من الحج الواجب، ولا تحليله من إحرامه. وقد سألت الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله فقلت: يا شيخ! هذا شاب يسأل ويقول: إن أباه هدده وقال: لو ذهبت إلى الحج -وهو حج الفريضة- لأعاقبنك بعد رجوعك وأضربنك ضرباً مبرحاً، وهدده وتوعده بالعقوبة الشديدة. فقال الشيخ رحمه الله: العقاب ظني فيذهب، ويكفيه الله شره.

حكم طاعة الوالدين في ترك المستحبات

حكم طاعة الوالدين في ترك المستحبات وننتقل إلى قضية طاعة الوالدين في ترك المستحبات. المستحبات متعددة، فهناك سنن راتبة، وهناك صلوات نافلة أخرى، وصيام نفل، وحج نفل، فما هو الحكم في هذه القضية؟ أما السنة الراتبة مثل حضور الجماعات في المساجد، وركعتي الفجر، والوتر وما أشبه ذلك، فإن دعواه لحاجتهما المرة بعد المرة فليطعهما، يعني: مرة دعواه وهو يصلي سنة راتبة، فعليه أن يقطع ويطيع، لكن لو قالا له: ممنوع أن تصلي السنن الرواتب أبداً، فلا يلزمه طاعتهما. قال الطرطوشي رحمه الله: وأما إن كان ذلك على الدوام واللزوم فلا طاعة لهما فيه؛ لأن فيه إماتة لشعائر الإسلام، وسئل الإمام أحمد عن رجلٍ يصوم التطوع فسأله أبواه أو أحدهما أن يفطر، قال: يروى عن الحسن أنه قال: -طبعاً الإمام أحمد كان يفتي بأقوال التابعين كثيراً-: [يفطر وله أجر البر وأجر الصوم]. وقال: إذا أمره أبواه ألا يصلي إلا المكتوبة -هذه حالة أخرى- فقال: يداريهما ويصلي. قال الشيخ تقي الدين: ففي الصيام كره الابتداء فيه إذا نهاه، واستحب الخروج منه، وأما الصلاة، فقال: يداريهما ويصلي. أما الخروج من الصلاة أثناء الصلاة فإنه يقطع الصلاة، فإذا كان يصلي صلاة نافلة فنادته أمه إذا كان في نهاية الصلاة أنهاها بسرعة وأجاب والدته، لكن إذا كان في أول الصلاة، وخشي أن تغضب أمه، حيث أنها نادته مرة وثنتين وثلاثاً، وهو في أول الصلاة، فإنه يقطع الصلاة النافلة ويجيبها لحديث جريج. فبالجملة منع الولد من المستحبات عموماً كالسنن النوافل، وعلم النافلة، وحلق الرأس في الحج والعمرة، ليس لهما حقٌ في ذلك، ولا يلزم طاعتهما مع المدارة.

حكم طاعة الوالدين في فعل المشتبهات

حكم طاعة الوالدين في فعل المشتبهات قال الطرطوشي: لا طاعة لهما في ترك سنة راتبة، وترك ركعتي الفجر والوتر إذا سألاه ذلك على الدوام. أما فعل المشتبهات، فقد يكون أبوه عنده كسب فيه شبهة، والابن يأكل منه، فقد قال العلماء: الأولى أن يتورع ويداريهما، فإن أكل أو أخذ فلا حرج عليه إن شاء الله. فإن كان تركه لأكل الطعام، وتركه لأخذ المال مؤثراً فيهم، -يعني: الأب كسبه مشبوه، والابن لو امتنع لتأثر الأب وترك الكسب المشبوه- يجب على الابن الامتناع والترك حتى يجعل الأب يترك المشبوه، لكن لو كان لا يترك ويأمر ولده بالأكل، قال بعض العلماء: يأكل. الآن المشبوه ممكن ينتج من اختلاط الحلال بالحرام، أبوه يضع الأموال في البنك ويأخذ ربا ويخلطها بالإيجارات تبع العقارات، فدخل أبيه فيه الحلال والحرام متداخل، والآن يعطيه نفقة، ويعطيه مال من هذا ويقول: كل من طعامي هذا. فماذا يفعل؟ قال بعض العلماء: لا يجوز، وقال بعضهم: إذا زاد الحرام على الثلث لا يجوز، وقال بعضهم: إن كان الأكثر الحرام لا يجوز. وقال بعضهم: جائز مطلقاً ولعله هو الأقوى في المذهب، لكن يكره، وتقوى الكراهة وتضعف بحسب كثرة الحرام وقلته. وهذه المسألة الإمام أحمد رحمه الله تردد فيها، ورفض أن يفتي وقال: ما أحسن أن يداريهم، يعني: ما يأكل ويحاول أن يداريهم، قال السفاريني رحمه الله: والذي استقر عليه المذهب عدم الحرمة، بل يكره ذلك، يقول: الكسب المختلط من الحلال والحرام الذي استقر عليه المذهب عدم الحرمة، بل يكره ذلك، وقوة الكراهة فيه وضعفها بحسب كثرة الحرام أو قلته. وإذا كان الولد له كسب مستقل فليأكل من كسبه، وإذا كان لا كسب له فليأكل من كسب أبيه. لكن إذا كان كسب الأب كله حرام؟ وكان الولد محتاجاً وليس له نفقة إلا من مال أبيه، فإنه يأخذ وليس عليه إثم، لكن لا يتوسع كما قال علماؤنا، بل يأخذ الكفاية فقط، وإذا علم الحرام بعينه يجتنبه ويأخذ من الآخر، قد يقول لك: أخذته رشوة من الحرام، ويقول: خذ يا ولد المصروف فالابن إذا عرف أن هذا بعينه الحرام لا يأخذه، بل يأخذ من مالٍ آخر.

حكم طاعة الوالدين في فعل المباحات وتركها

حكم طاعة الوالدين في فعل المباحات وتركها طاعة الوالدين في المباحات، ما حكمها؟ مثلاً: قال: يا ولد! يجب أن تأكل هذا النوع من الأكل، ويجب أن تتزوج هذه المرأة، فلا يجب الطاعة في هذه الحالة، ولا التزوج ممن لا يرغب، وإذا كان الشخص لا يجب عليه أن يطيع في أكلةٍ تنغصه ساعة، فكيف يجب عليه أن يطيع في الزواج بامرأةٍ لا يريدها تنغص عمره كله؟! قال الإمام أحمد رحمه الله: إن كان الرجل يخاف على نفسه، ووالداه يمنعانه من التزوج فليس لهما ذلك. لو قال: يا ولد! لا زواج إلا بعد التخرج، والولد يستطيع أن يتزوج قبل التخرج، وهو يخشى على نفسه الحرام فلا تلزم طاعة أبويه. قال الشيخ تقي الدين: ليس لأحد الأبوين أن يلزم الولد بنكاح من لا يريد، وإذا امتنع لا يكون عاقاً. وإذا قال له: يا ولد! طلق زوجتك، لماذا؟ قال: هي لم تأتِ لي بالحذاء إلى عندي، قلت لها: هاتي الحذاء فلم تأتِ به، فخلاصة مسألة طلاق الزوجة: أنه إذا كان الأب عدلاً، وكانت المرأة فيها سوء في الدين أو الخلق فيلزمه طاعة أبيه، فـ عمر أمر ولده بطلاق زوجته، وأمره عليه الصلاة والسلام أن يطيع أباه عمر؛ لأن عمر عدل، ليس عنده هوى في القضية هذه، لكن إذا كان الأب صاحب هوى، والزوجة صاحبة دين وخلق حسن فلا يلزمه الطلاق. وإذا أصرت عليه أمه يطلق زوجته للغيرة والزوجة حسنة الدين والخلق، يقول ابن تيمية: هذه من جنس هاروت وماروت في السعي في التفريق بين الزوجين، فلا يطعهما، ولا يحل له أن يطلقها لقول أمه، بل عليه أن يبر أمه وليس تطليق امرأته من برها. إذاً: هذا بالنسبة لقضية طلاق الزوجة، وقد سئل ابن تيمية عن امرأة وزوجها متفقين، وأمه تريد الفرقة، فلم تطاوعها البنت، فهل عليها إثم في دعاء أمها عليها؟ قالت: يا بنت! تطلقي من زوجك، واطلبي الخلع، أو نكدي عليه إلى أن يطلقك. فأجاب ابن تيمية رحمه الله وقال: إذا كانت الأم تريد التفريق بينها وبين زوجها فهي من جنس هاروت وماروت، فلا طاعة لها في ذلك، ولو دعت عليها. اللهم إلا إذا كانا مجتمعين على معصية، أو يكون أمره للبنت بمعصية الله، فالأم تتدخل تريد أن تطلق البنت؛ لأن زوجها يأمرها بالمعصية.

حكم طاعة الوالدين في فعل المحرمات

حكم طاعة الوالدين في فعل المحرمات إذا كان الوالدان يأمرانه بالخروج لشراء منكر، فقد أفتى الإمام أحمد في رواية الحارث في رجل تسأله أمه أن يشتري لها ملحفة للخروج، تقول: اذهب اشترِ لي عباية، قال: إن كان خروجها في بابٍ من أبواب البر، كعيادة مريض أو قرابة أو لأمرٍ واجب لا بأس، وإن كان في غير ذلك فلا يعينها على الخروج. وسئل الإمام أحمد سؤالاً لطيفاً: أب يقول لولده: ادخل عليَّ الغرفة، والغرفة مفروشة حريراً، فقال: يلف البساط من تحت رجليه ويدخل. فيلف البساط ولا يطأ عليه إذا كان من حرير ويدخل. وأفتى الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله بعدم جواز طاعة الوالدين في حلق اللحية.

إذا تعارض بر الأب مع بر الأم فما الحل؟

إذا تعارض بر الأب مع بر الأم فما الحل؟ إذا تعارض بر الأب مع بر الأم ماذا يفعل؟ يحاول التوفيق بشتى الوسائل، لكن لو قالت أمه: لا تبر أباك، فإن أباك طلقني، ولو زرته فإني سأدعو عليك إلى قيام الساعة، فيزوره ويخفي الزيارة، أو قال الأب للابن: لو زرت أمك وخالك وجدك وجدتك أغضب عليك إلى قيام الساعة، فيزورهم ويخفي أمر الزيارة. لكن إذا كان لا يستطيع الإنفاق إلا على الأب أو الأم؛ لأن المال قليل عند الولد، فمن يقدم؟ يقدم الأم، فإذا أراد أن يحج عن أبيه وأمه اللذين ماتوا من غير حج الفريضة يقدم الحج عن الأم. وهكذا في هذه المسألة. وقد أفتى الشيخ ابن عثيمين رحمه الله فقال: لا نرى أن يتوكل لأمه على أبيه، أي: في المحاكم، فإذا قالت أمه له: وكلتك في المحكمة تترافع ضد أبيك بطلب نفقة أو كذا، فنقول: لا نرى أن يتوكل لأمه ولو كانت أمه مظلومة، ولكن يشير على أبيه في دفع الضرر. إذاً: لا يتوكل عنها في المحاكم. بهذا انتهى الوقت وقد وصلنا تقريباً إلى نهاية الموضوع. ونسأل الله تبارك وتعالى أن يغفر لنا ولآبائنا وأمهاتنا.

لماذا نحب الرسول [2]؟

لماذا نحب الرسول [2]؟ إن الناس تجاه محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم واتباع هديه وسنته قد انقسموا إلى أقسام عدة؛ فمنهم المستهزئ بسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومنهم المتبع لبعض هديه التارك للهدي الآخر وهلم جرا، وإن من علامة حب الرسول صلى الله عليه وسلم ذكره بالصلاة عليه في المواطن المستحب ذكره فيها.

أحوال الناس تجاه رسول الله وسنته وهديه

أحوال الناس تجاه رسول الله وسنته وهديه إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أيها الإخوة! إن لرسول الله صلى الله عليه وسلم حقاً عظيماً علينا، رسول الهدى الذي أرسله الله رحمة للعالمين، فبلغ رسالة الله للناس، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وأقام الملة العوجاء بأن يقولوا: لا إله إلا الله، فاعتدلت الملة على الصراط المستقيم بعد أن كانت عوجاء، فتح الله به قلوباً غلفا، وآذاناً صما، وأعيناً عميا، ما ترك خيراً إلا ودلنا عليه، وما ترك شراً إلا وحذرنا منه، وكان صلى الله عليه وسلم أعظم الأمة أجراً؛ لأن الدال على الخير كفاعله، ولا يعمل منا أحدٌ اليوم عملاً صالحاً إلا ولرسول الله صلى الله عليه وسلم أجر المثل، بالإضافة لأجره هو صلى الله عليه وسلم. هذا الرسول -أيها الإخوة- كما ذكرنا في مناسبة سابقة، لابد أن نحبه حباً عظيماً، وطريقة أهل السنة والجماعة في محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم حقٌ بين باطلين، طريقة الوسط بين الغلو ورفعه فوق المنزلة التي أنزله الله إياها، وبين الجفاء وهو: قسوة القلب وعدم محبته صلى الله عليه وسلم المحبة الكافية، فضلاً عن كرهه أو سبه كما يفعل اليوم كثير من الناس، ولا حول ولا قوة إلا بالله. لقد كافأ الناس -أيها الإخوة- رسول الله صلى الله عليه وسلم مكافأة شنيعة، فمنهم من يستهزئ به أو بشخصه، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ومنهم من يستهزئ بمظهره أو لباسه صلى الله عليه وسلم، فأنت تذكر للناس صفة مظهره أو لحيته أو ثوبه عليه الصلاة والسلام، فتجد ألسنة المستهزئين قد انطلقت بلا عنان، تكيل الشتائم والسباب بشكل مباشر أو غير مباشر لصفة هذا النبي الكريم، وبعض الناس بلغ من تقصيرهم أنهم أخذوا أطرافاً من سننه وتركوا الباقي، فقالوا: هذه سنن أساسية، وهذه لبابٌ يجب أن نأخذ بها، وتركوا أشياء كثيرة مما سوى ذلك، وزعموا أنها قشور لا يجب على المسلم أن يأخذ بها، خالفوا قول الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]. مظهر المسلم اليوم يختلف اختلافاً كبيراً عن مظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخلاق المسلمين اليوم، وعقائد المسلمين اليوم، وسير المسلمين اليوم تختلف اختلافاً كلياً عن سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخلاقه وشمائله، وقع التقصير -أيها الإخوة- بشكل يدعو إلى الأسى والأسف، هل هذه هي المكافأة التي يكافئ بها المسلمون نبيهم صلى الله عليه وسلم على تلك الخدمات الجليلة التي أداها عليه السلام لهم ولدينهم؟!

فضل الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم

فضل الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم إننا -أيها الإخوة- نحتاج إلى مراجعة حساباتنا وتصرفاتنا تجاهه صلى الله عليه وسلم، ونحن قد ذكرنا في درس ماض محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم والطريق إليها، ونخصص هذه الخطبة إن شاء الله لبيان حق واحد من حقوقه عليه السلام وهو: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فضلها وأهميتها ومواطنها، وقبل أن نبدأ -أيها الإخوة- أذكركم بأن من آداب خطبة الجمعة، الإنصات للإمام، وعدم رفع الصوت من قبل المأمومين حتى ولو كان الرفع بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، وإنما تكون الصلاة عليه إذا ذكر في النفس، سراً كما قال العلماء. قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56]، فأمر الله سبحانه وتعالى بالصلاة والسلام، ولهذا قال النووي رحمه الله: والمشروع الجمع بين الصلاة والسلام معاً، وعدم إفراد كلٌ منهما لوحده، هذا هو المستحب مصداقاً لما جاء في الآية، إلا ما ورد الدليل بتخصيص أحدهما، وصلاة الله تعالى على نبيه عليه الصلاة والسلام، كما قال أبو العالية فيما جاء عنه بإسناد حسن: هو ثناؤه عليه عز وجل، الصلاة من الله: ثناء الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم، ومن الملائكة ومن المؤمنين الدعاء له عليه الصلاة والسلام. وقد عد رسولنا صلى الله عليه وسلم الذي يترك الصلاة عليه بخيلاً، فقال: (البخيل من ذكرت عنده فلم يصلِّ علي). رواه أحمد، وهو حديث صحيح، ولذلك قال العلماء: بأن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم واجبة لابد منها، وأتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا محمد! أما يرضيك أن ربك عز وجل يقول: إنه لا يصلي عليك من أمتك أحد صلاة، إلا صليت عليه بها عشراً، ولا يسلم عليك أحد من أمتك تسليمة إلا سلمت عليه بها عشراً، فقلت: بلى أي ربي) رواه أحمد وهو حديث صحيح. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتاني آت من عند ربي عز وجل، فقال: من صلى عليك من أمتك صلاة، كتب الله له بها عشر حسنات، ومحا عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات، ورد عليه مثلها) أربع مكافآات لمن يصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، عشر حسنات تكتب، وعشر سيئات تمحى، وعشر درجات ترفع، ويرد عليه بمثل ما صلى على رسوله صلى الله عليه وسلم. رواه أحمد وهو حديث صحيح. ولأجل هذه النعمة التي أنعم الله بها على نبيه صلى الله عليه وسلم، فقد سجد عليه السلام شكراً لربه على هذه النعمة كما جاء في الحديث الصحيح، وأخبر عليه السلام أيضاً، بقوله: (ما من عبدٍ يصلي عليّ إلا صلت عليه الملائكة، مادام يصلي علي، فليقِل العبد من ذلك أو ليكثِر) ولابد من الإكثار، وهذا حديث حسن. بل إن الله قد خص ملائكة معينين وظيفتهم السياحة في الأرض لتبليغ الرسول صلى الله عليه وسلم سلام أمته عليه، فقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي يرويه الإمام أحمد وغيره: (إن لله تعالى ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني من أمتي السلام) بل إنه أكثر من ذلك، يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الحسن الذي رواه الطبراني عن عمار بن ياسر مرفوعا: (إن لله تعالى ملكاً معيناً أعطاه الله سمع العباد، فليس من أحد يصلي عليّ إلا أبلغنيها، وإني سألت ربي ألا يصلي عليّ عبد صلاة إلا صلى الله عليه عشر أمثالها). وقال عليه الصلاة والسلام موضحاً أكثر: (أكثروا الصلاة عليّ، فإن الله وكل بي ملكاً عند قبري، فإذا صلى علي رجل من أمتي قال لي ذلك الملك: يا محمد! إن فلان بن فلان صلى عليك الساعة) ملك أعطاه الله أسماء العباد يبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم سلام كل واحد باسمه، وهذا حديث حسن. وقال عليه الصلاة والسلام: (ما من واحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي، حتى أرد عليه السلام) حديث حسن، رواه أبو داود رحمه الله تعالى. فترد الروح إليه صلى الله عليه وسلم لكي يرد على المصلي منا عليه صلاته وسلامه، فأي أجر وأي فضل أعظم من هذه الأشياء. ولقد بلغ من فضل الله علينا أنه جعل صلاتنا على رسوله صلى الله عليه وسلم تبلغ الرسول صلى الله عليه وسلم أينما كان المصلي عليه في أي مكان من أقطار الأرض، فقال عليه الصلاة والسلام: (حيث ما كنتم فصلوا علي، فإن صلاتكم تبلغني) سواء كنت عند قبره أو كنت في هذا المكان، أو كنت في أقصى الأرض، فإذا صليت على رسول الله بلّغ الله تعالى صلاتك لرسوله صلى الله عليه وسلم.

المواطن التي يشرع فيها الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

المواطن التي يشرع فيها الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم إننا -أيها الإخوة- نحتاج إلى مراجعة حساباتنا وتصرفاتنا تجاهه صلى الله عليه وسلم، ونحن قد ذكرنا في درس ماض محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم والطريق إليها، ونخصص هذه الخطبة إن شاء الله لبيان حق واحد من حقوقه عليه السلام وهو: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فضلها وأهميتها ومواطنها، وقبل أن نبدأ -أيها الإخوة- أذكركم بأن من آداب خطبة الجمعة، الإنصات للإمام، وعدم رفع الصوت من قبل المأمومين حتى ولو كان الرفع بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، وإنما تكون الصلاة عليه إذا ذكر في النفس، سراً كما قال العلماء. قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56]، فأمر الله سبحانه وتعالى بالصلاة والسلام، ولهذا قال النووي رحمه الله: والمشروع الجمع بين الصلاة والسلام معاً، وعدم إفراد كلٌ منهما لوحده، هذا هو المستحب مصداقاً لما جاء في الآية، إلا ما ورد الدليل بتخصيص أحدهما، وصلاة الله تعالى على نبيه عليه الصلاة والسلام، كما قال أبو العالية فيما جاء عنه بإسناد حسن: هو ثناؤه عليه عز وجل، الصلاة من الله: ثناء الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم، ومن الملائكة ومن المؤمنين الدعاء له عليه الصلاة والسلام. وقد عد رسولنا صلى الله عليه وسلم الذي يترك الصلاة عليه بخيلاً، فقال: (البخيل من ذكرت عنده فلم يصلِّ علي). رواه أحمد، وهو حديث صحيح، ولذلك قال العلماء: بأن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم واجبة لابد منها، وأتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا محمد! أما يرضيك أن ربك عز وجل يقول: إنه لا يصلي عليك من أمتك أحد صلاة، إلا صليت عليه بها عشراً، ولا يسلم عليك أحد من أمتك تسليمة إلا سلمت عليه بها عشراً، فقلت: بلى أي ربي) رواه أحمد وهو حديث صحيح. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتاني آت من عند ربي عز وجل، فقال: من صلى عليك من أمتك صلاة، كتب الله له بها عشر حسنات، ومحا عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات، ورد عليه مثلها) أربع مكافآات لمن يصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، عشر حسنات تكتب، وعشر سيئات تمحى، وعشر درجات ترفع، ويرد عليه بمثل ما صلى على رسوله صلى الله عليه وسلم. رواه أحمد وهو حديث صحيح. ولأجل هذه النعمة التي أنعم الله بها على نبيه صلى الله عليه وسلم، فقد سجد عليه السلام شكراً لربه على هذه النعمة كما جاء في الحديث الصحيح، وأخبر عليه السلام أيضاً، بقوله: (ما من عبدٍ يصلي عليّ إلا صلت عليه الملائكة، مادام يصلي علي، فليقِل العبد من ذلك أو ليكثِر) ولابد من الإكثار، وهذا حديث حسن. بل إن الله قد خص ملائكة معينين وظيفتهم السياحة في الأرض لتبليغ الرسول صلى الله عليه وسلم سلام أمته عليه، فقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي يرويه الإمام أحمد وغيره: (إن لله تعالى ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني من أمتي السلام) بل إنه أكثر من ذلك، يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الحسن الذي رواه الطبراني عن عمار بن ياسر مرفوعا: (إن لله تعالى ملكاً معيناً أعطاه الله سمع العباد، فليس من أحد يصلي عليّ إلا أبلغنيها، وإني سألت ربي ألا يصلي عليّ عبد صلاة إلا صلى الله عليه عشر أمثالها). وقال عليه الصلاة والسلام موضحاً أكثر: (أكثروا الصلاة عليّ، فإن الله وكل بي ملكاً عند قبري، فإذا صلى علي رجل من أمتي قال لي ذلك الملك: يا محمد! إن فلان بن فلان صلى عليك الساعة) ملك أعطاه الله أسماء العباد يبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم سلام كل واحد باسمه، وهذا حديث حسن. وقال عليه الصلاة والسلام: (ما من واحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي، حتى أرد عليه السلام) حديث حسن، رواه أبو داود رحمه الله تعالى. فترد الروح إليه صلى الله عليه وسلم لكي يرد على المصلي منا عليه صلاته وسلامه، فأي أجر وأي فضل أعظم من هذه الأشياء. ولقد بلغ من فضل الله علينا أنه جعل صلاتنا على رسوله صلى الله عليه وسلم تبلغ الرسول صلى الله عليه وسلم أينما كان المصلي عليه في أي مكان من أقطار الأرض، فقال عليه الصلاة والسلام: (حيث ما كنتم فصلوا علي، فإن صلاتكم تبلغني) سواء كنت عند قبره أو كنت في هذا المكان، أو كنت في أقصى الأرض، فإذا صليت على رسول الله بلّغ الله تعالى صلاتك لرسوله صلى الله عليه وسلم.

الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم آخر التشهد في كل صلاة

الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم آخر التشهد في كل صلاة ومن المواضع التي يشرع فيها الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، الموضع الأول: وهو أهمها وآكدها في الصلاة عليه في آخر التشهد، وهي الصلاة الإبراهيمية المعروفة: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، ولهذه الصلاة صيغ كثيرة، يستحب للإنسان المسلم أن ينوع في ذكرها في صلاته، فمن هذه الصيغ قوله عليه الصلاة والسلام: (صلوا عليّ واجتهدوا في الدعاء، وقولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل ومحمد، وبارك على محمد وآل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد) ومن هذه الصيغ قولوا: (اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وعلى أزواجه وذريته، كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد) والصيغ كثيرة ذكرها أهل العلم في موضعها.

الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأول من كل صلاة

الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأول من كل صلاة والموضع الثاني أيها الإخوة: الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في التشهد الأول من الصلاة، بعد التشهد الأول من الصلاة يسن الصلاة على رسول الله كذلك، ليس فقط في التشهد الأخير كما يعلمه عامة الناس، وإنما حتى في التشهد الأول للحديث الوارد عند أبي عوانة والنسائي: أنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي على نفسه في التشهد الأول وغيره، الفرق بينهما أن الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير واجبة، أما الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم بعد التشهد الأول فهي سنة، إن تركها الإنسان فلا حرج، ولكن يسن له أن يصلي على رسول الله عليه الصلاة والسلام حتى بعد التشهد الأول قبل أن يقوم إلى الركعة الثالثة.

الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء القنوت

الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء القنوت وكذلك من المواضع: الصلاة عليه في آخر دعاء القنوت في صلاة الوتر أو غيره إذا قنت الإنسان، لما جاء في حديث عبد الرحمن بن عبد القاري، أنهم كانوا على عهد عمر يلعنون الكفرة في النصف من شعبان، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم الإمام، ويدعو للمسلمين بما استطاع من خير، ثم يستغفر للمؤمنين، وذكر بعض العلماء أن هذه الصلاة مقيدة بقول الراوي أو بقوله أحياناً، أي: قوله في النصف الثاني من هذا الشهر.

الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الجنازة

الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الجنازة وكذلك يستحب الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو قل: هي جزء من صلاة الجنازة، وهو الموضع الآخر، فإنه قد قال الزهري رحمه الله: سمعت أبا أمامة سهل بن حنيف يحدث سعيد بن المسيب -وأبو أمامة صحابي صغير- إن السنة في صلاة الجنازة أن يقرأ بفاتحة الكتاب، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يخلص الدعاء للميت. ففي التكبيرة الثانية من صلاة الجنازة يصلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإسناده صحيح.

الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد إجابة المؤذن

الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد إجابة المؤذن والموطن الخامس أيها الإخوة: بعد إجابة المؤذن، فقد روى مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول، ثم صلوا عليّ، فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة الحديث) بعد الانتهاء من الترديد مع المؤذن يصلى على النبي صلى الله عليه وسلم.

الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند الدعاء

الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند الدعاء ومن الأماكن والمواطن كذلك: الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم عند الدعاء، وقد بلغ من خطورة هذه المسألة أنه عليه الصلاة والسلام قال في الحديث الحسن المروي عن أنس مرفوعاً: (كل دعاء محجوب-لا يقبل- حتى يصلى على النبي صلى الله عليه وسلم) يحجب الدعاء، يعلق بين السماء والأرض، كما ذكر ابن القيم رحمه الله في جلاء الأفهام، حتى يصلي الداعي الذي يدعو ربه على رسوله صلى الله عليه وسلم. ولذلك كان للصلاة عليه في الدعاء مراتب، فمنها: الصلاة عليه قبل الدعاء، وبعد حمد الله، بعدما تحمد الله وتدعوه بأسمائه الحسنى، وقبل أن تسأل حاجتك تصلي على الرسول صلى الله عليه وسلم، لقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد الله تعالى والثناء عليه، ثم ليصل على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ليدع بعد ما شاء). والمرتبة الثانية: أن يصلي عليه في أول الدعاء وأوسطه وآخره، والمرتبة الثالثة: أن يصلي عليه في أول الدعاء وآخره، ويجعل حاجته متوسطة بينهما، المهم أنه لابد من قرن الدعاء بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم.

الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند الهم والشدائد

الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند الهم والشدائد ومن المواطن كذلك: الصلاة عليه عند الهم والشدائد وعند طلب المغفرة، فعن أبي بن كعب قال: (قلت: يا رسول الله! إني أكثر الصلاة عليك، فكم أجعل لك من صلاتي؟) قال ابن القيم رحمه الله: وقد سئل شيخنا أبو العباس ابن تيمية رحمه الله عن هذا الحديث، فقال: كان لـ أبي دعاء يدعو به، دعاء خاص، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! أنا أدعو وأثناء دعائي أصلي عليك، فكم النسبة التي أخصص لك الصلاة عليك فيها في دعائي؟ فكم أجعل لك من صلاتي؟ فقال: ما شئت، فقلت: الربع؟ قال: ما شئت، فإن زدت فهو خير، قلت: النصف؟ قال: ما شئت، فإن زدت فهو خير لك، قلت: فالثلثين؟ قال: ما شئت، فإن زدت فهو خير لك، قلت: أجعل لك صلاتي كلها، قال: إذاً يكفى همك ويغفر لك ذنبك). فإذاً: هذا الصحابي أبي بن كعب صار دعاؤه كله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام له: أنه إذا فعل هذا يكفى الهم، ويغفر له ذنبه، فصار إذا نزل بالإنسان هم يستحب له الإكثار من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند دخول المسجد والخروج منه

الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند دخول المسجد والخروج منه ومن المواطن المعروفة كذلك: عند دخول المسجد والخروج منه، فقد كان صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد قال: (بسم الله، اللهم صل على محمد-ويضيف إليها- اللهم افتح لي أبواب رحمتك)، وإذا خرج قال: (بسم الله، اللهم صل على محمد-ويضيف إليها- اللهم إني أسألك من فضلك).

الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند اجتماع القوم وقبل تفرقهم

الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند اجتماع القوم وقبل تفرقهم وعند اجتماع القوم وقبل تفرقهم، قال صلى الله عليه وسلم: (ما اجتمع قوم ثم تفرقوا عن غير ذكر لله، وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم إلا قاموا على أنتن جيفة) خذ أكثر جيفة نتناً وأشدها تعفناً، ثم تصور أنك إذا جلست في أي مجلس، وقمت من ذلك المجلس بغير ذكر الله وصلاة على نبيه صلى الله عليه وسلم، فإنك تقوم على هذا النتن الصادر من هذه الجيفة، وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح أيضاً: (أيما قوم جلسوا فأطالوا الجلوس، ثم تفرقوا قبل أن يذكروا الله تعالى أو يصلوا على نبيه، كانت عليهم ترة من الله -حسرة- إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم) عذاب من الله، إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم. أيها الإخوة! فكروا في مجالسنا اليوم التي نجلس فيها، كم من المجالس التي نجلس فيها ونقوم من غير ذكر لله ولا صلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم، وإنما تكون مجالسنا غيبة ونميمة، وتفكهاً في أعراض الناس، والجهر بالسوء من القول، والنكت والضحك، والاستهزاء بعباد الله الصالحين، والكلام في أخبار فلان وفلان من الناس، أو الكلام في عروض التجارة وأنواعها، ولكننا قلما نقوم من مجلس فنذكر الله تعالى ونصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم. لو لم نخرج من هذه الخطبة أيها الإخوة إلا بهذه الفائدة لكانت فائدة عظيمة، نتواصى فيما بيننا يا إخواني، أننا إذا جلسنا في أي مجلس كان، جلس الإنسان مع أهله، أو أصدقائه، أو مسئول، أو موظف، أو فصل دراسي، أو في دكانه، ألا يقوم من ذلك المجلس إلا وقد ذكر الله وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم، ولو مرة على الأقل، هذه سنة لابد أن تحيا، ولابد أن يذكر بها بعضنا بعضا. وقال عليه الصلاة والسلام مبيناً خطورة ترك الصلاة عليه: (من ذكرت عنده -في مجلس، أو حتى ولو قراءة- فخطئ الصلاة عليّ، خطئ طريق الجنة) حديث صحيح رواه الطبراني عن الحسين رضي الله عنه. ولذلك جاء في حديث جبريل لما قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (ومن ذكرت عنده يا محمد! -صلى الله عليه وسلم- فلم يصل عليك، فمات فدخل النار فأبعده الله، قل: آمين، فقلت: آمين). ولذلك قال أبو جعفر الطحاوي رحمه الله: تجب الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم كلما ذكر اسمه، شفهياً أو تحريرياً، وهذه مسألة وقع فيها تقصير عند كثير من المسلمين، فإنهم إذا جاءوا يكتبون اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم لا يصلون عليه عند الكتابة، ولا يكتبون الصلاة عليه، وبعضهم يكتب بين قوسين صاد، وبعضهم يكتب صلعم، هذه لا تغني شيئاً مطلقاً، كأنها غير موجودة، لابد كما ذكر العلماء أنك عندما تكتب اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تصلي عليه عند كتابتك فتكتب: صلى الله عليه وسلم، أو عليه الصلاة والسلام ونحو ذلك من الألفاظ. بل لقد بلغ من دقة بعض العلماء، وهو عبد الرحمن بن مهدي من المحدثين أنه قال: كنا في عجلة من أمرنا ونحن نكتب الحديث، ولم يكن عندنا وقت لكتابة صلى الله عليه وسلم لأننا نكتب عن الشيخ، والشيخ يسرع في الحديث فتركنا فراغاً بيضنا له، فإذا انتهى مجلس الإملاء ذهبنا فملأنا الفراغات كلها صلى الله عليه وسلم، وقال سفيان الثوري رحمه الله تعالى: بحسب أهل الحديث خيراً أنهم كلما كتبوا حديث رسول الله صلوا عليه وسلموا. فكان أهل الحديث -أيها الإخوة- المشتغلين بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم تقع لهم هذه الفائدة أكثر مما تقع لغيرهم، جعلنا الله وإياكم من أهل الحديث وأتباع السنة، وصلى الله على نبينا محمد.

الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصباح والمساء

الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصباح والمساء الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله رب الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الصادق الأمين. فإكمالاً لما كنا نتكلم عنه، فإن من أذكار الصباح والمساء -أيها الإخوة- الصلاة على رسولكم صلى الله عليه وسلم؛ لأنه عليه الصلاة والسلام قال في الحديث الحسن الذي يرويه الطبراني عن أبي الدرداء مرفوعاً: (من صلى علي حين يصبح عشراً، وحين يمسي عشراً، أدركته شفاعتي يوم القيامة).

الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في كل اجتماع

الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في كل اجتماع ومن المواطن كذلك: كل اجتماع فيه ذكر لله، سواء كان تفسيراً أو حديثاً أو فقهاً وما شابه ذلك، لابد أن يقرن بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم كغيره من المجالس، بل إنه في هذا المجلس يكون التكرار فيه أكثر.

الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في تكبيرات صلاة العيد

الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في تكبيرات صلاة العيد ومن المواطن التي يصلى فيها عليه صلى الله عليه وسلم: الصلاة عليه في تكبيرات صلاة العيد، لما روي عن عبد الله بن مسعود في صفة صلاة العيد، لما جاء يعلمها للوليد بن عقبة، وكان عنده صحابيان جليلان، قال ابن مسعود وهو يعلم هذا الرجل -وكان أميراً على بلده-: كيف يؤم الناس في صلاة العيد؟ يقول له: تبدأ فتكبر تكبيرة تفتتح في الصلاة وتحمد ربك، وتصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم تدعو وتفعل مثل ذلك، ثم تكبر وتفعل مثل ذلك، إلى آخر الحديث، فقال حذيفة وأبو موسى رضي الله عنهما: صدق أبو عبد الرحمن، الكلام كما قال أبو عبد الرحمن ابن مسعود، قال المخرّج لكتاب فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، الجهضمي: إسناده حسن. فإذاً أيها الإخوة! إذا صففنا في صلاة العيد التي فيها تكبيرات، فإذا كبرنا الأولى والثانية والثالثة، بين كل تكبيرة وتكبيرة يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم، ويدعون ما شاءوا.

الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا والمروة

الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا والمروة ومن المواطن كذلك: الصلاة عليه فوق الصفا والمروة؛ لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: [إذا قدمتم فطوفوا بالبيت سبعاً، وصلوا عند المقام ركعتين، ثم أتوا الصفا، فقولوا: من حيث ترون البيت -تقف وأنت تنظر إلى البيت- فكبروا سبع تكبيرات بين كل تكبيرتين حمد لله وثناء عليه، وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ومسألة لنفسك، وعلى المروة مثل ذلك]. قال المخرِّج في المصدر السابق: إسناده صحيح.

الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند قبره

الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند قبره ومنها كذلك أيها الإخوة: الصلاة والسلام عليه عند قبره، إذا جاء الإنسان ليزور القبر إذا كان في المدينة دون شد الرحال والسفر من أجل القبر، نذهب للصلاة في المسجد، ونية السفر الذهاب للصلاة في المسجد، فإذا وصلنا إلى هناك، وكنا على مقربة من قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه يستحب لك يا أخي المسلم أن تأتي قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتقف أمامه وتفعل كما فعل ابن عمر، عن عبد الله بن دينار قال: [رأيت عبد الله بن عمر يقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فيصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر]، أخرجه في الموطأ، قال في المصدر السابق: إسناده صحيح. وعن عبد الله بن دينار قال: [رأيت ابن عمر إذا قدم من سفر دخل المسجد فقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتاه] هذا الحديث قال عنه في المصدر السابق: إسناده صحيح. هذه من المواطن التي ورد فيها الصلاة على نبي الله صلى الله عليه وسلم، فكثرة الصلاة وتعددها وتنوعها واختلافها يدل على دخولها أي: الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم في أمور كثيرة من الدين، نظراً لأهميتها وعظمها وفضلها. فنسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلنا وإياكم من أهل الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، وأن يرزقنا وإياكم شفاعته، واتباع سنته ظاهراً وباطناً في الصغيرة والكبيرة. اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم يا مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك، اللهم واجعلنا من المسلمين لك المخبتين لك، الأوابين الأواهين التوابين، وارزقنا ذكرك آناء الليل وأطراف النهار، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح ذات بيننا، اللهم واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين.

جنة الدنيا [2]

جنة الدنيا [2] الإيمان مصدر سعادة المؤمن، كما أن الكفر أصل شقاء الكفار، فمع الإيمان أمان ورزق، وطمأنينة وسكينة، وصبر على البلاء مع الرضا بالقضاء، ومع الكفر شقاء وجزع، وحيرة وقلق وهلم جرا، وهذا تجده واضحاً مبيناً في هذه المادة فتابعها لترى الفرق بين المؤمن والكافر.

أثر الإيمان في حياة الإنسان

أثر الإيمان في حياة الإنسان إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإنه لعظيم حقاً أثر الإيمان في حياة الإنسان، وكيف يغير الإيمان مسار الإنسان ليخرجه خلقاً آخر متمتعاً بصفات عالية وأخلاق سامية، إنه يحتوي على مواصفات عظيمة وقد سبق أن ذكرنا -أيها الإخوة- بعضاً من هذه الصفات التي يتصف بها المؤمن عند إيمانه وماذا يفعل الإيمان للإنسان، ومن ذلك الأمن النفسي الذي قال الله تعالى فيه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82] فكما لا يتحسر المؤمن على الماضي باكياً حزيناً، ولا يلقى الحاضر جزوعاً ساخطاً، ولا يواجه المستقبل خائفاً وجلاً، ولا يعيش في فزع ورهبة وغموض وتوجس من المستقبل كأنه عدو شرير، بل إنه يعيش آمن النفس مطمئناً؛ لأن الإيمان مصدر أمنه. والأمن من ثمرات الطمأنينة والسكينة التي وهبها الله للمؤمنين، ولا عجب أن جعل الله الجنة دار أمن وسلام، فأهلها في الغرفات آمنون لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، تتلقاهم الملائكة منذ دخولهم قائلة لهم: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ} [الحجر:46]. إن أهل الجاهلية البعيدين عن الدين يعيشون في خوف وقلق وهم لازم، إنهم يخافون من المستقبل خوفاً عظيماً، فلا ترى أحدهم مرتاحاً في عيشته ولا آمناً باله، ولا مطمئنة نفسه، كما يقول الواحد منهم معبراً عن نفسه: إنني أعيش في خوف دائم في رعب من الناس والأشياء ورعب من نفسي لا أغنت عني الثروة التي أملكها، ولا المركز الممتاز الذي أتبوءه، ولا السهرات الحمراء ولا غير ذلك من مباهج الدنيا الحلال والحرام؛ فإنني أرى الأشباح من حولي وأرى الخوف فاتحاً فاه ليلتهمني، إنني تائه في الحياة مع أنني بلغت قمتها، إنها صارت عدوي رغم كل ما أملكه فيها، إنني أخاف من الحياة ذاتها هكذا يعيش الواحد من البعيدين عن الدين في ضيق الصدر، {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:124]. فهذا الضنك في المعيشة والضيق في العيش يذيقه الله للبعيد عن دينه المعرض عن شرعه، رغم كثرة ماله وفسحة بيته إلا أن الفسحة الحقيقية في الصدر -أيها الإخوة- لا في البيوت ولا في السيارات الفارهة. ولذلك يعيش المؤمن آمناً مطمئناً في سلام وسكينة وأمن نفسي رغم أن بيته ضيق، ورغم أن سيارته قديمة، ورغم أن ملابسه بالية؛ لأن السعادة الحقيقية ليست في المظاهر وإنما هي في الحقائق. وهذا الأمن الذي يوفره الإيمان للإنسان، فقد ضرب لنا القرآن الكريم نموذجاً حياً لأم مؤمنة صار إيمانها مصدر أمنها رغم أنها في حال خوف وقلق، ولكنها لم تخف؛ لأن الله ثبتها: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} [القصص:7] إذا خافت؛ ألقته في اليم مع أن إلقاءه في اليم بحد ذاته مصدر خوف عظيم {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} [القصص:7] ألقيه في البحر امرأة تلقي ولدها في البحر! {وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ * فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ} [القصص:7 - 8] هذا المؤمن النبي ليكون لهم في المستقبل {عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} [القصص:8] واستجابة الأم لصدق موعود الله الذي وعدها، والله لا يخلف الميعاد: {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [القصص:13]. إن الناس -أيها الإخوة- يخافون من أشياء كثيرة وأمور شتى، ولكن المؤمن سدت أبواب الخوف عنده فلم يعد يخاف إلا الله وحده؛ يخافه أن يكون فرط في حقه، أو اعتدى على خلقه، أما الناس فإنه لا يخافهم؛ لأنهم لا يملكون له ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً، ولا حياة، ولا نشوراً {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175]. ولما دعا أبو الأنبياء إلى توحيد الله وقام بتحطيم الأصنام وخوفه قومه من آلهتهم قال لهم متعجباً: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنعام:81] وقرر الله الحقيقة بنفسه قائلاً {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82] وفسر النبي صلى الله عليه وسلم الظلم بالشرك، ففسره بقوله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]. فيتبين لنا أن أساس الأمن، ومنبع الأمن هو التوحيد والإيمان الخالص لله تعالى، وأن الشرك هو مصدر الخوف ومصدر القلق ومصدر الهم بكل نوع من أنواعه، والكفر بالله تعالى هو القلق والهم والغم والصعاب النفسية، وهو أهم أسباب الخوف والاضطراب والرعب، ولذلك قال الله تعالى: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} [آل عمران:151] أي: بسبب شركهم سنلقي في قلوبهم الرعب.

الفرق بين المؤمن والكافر في مسألة الرزق

الفرق بين المؤمن والكافر في مسألة الرزق أيها المسلمون: إن الناس يتكلمون عن الرزق، وعن الرواتب، وعن الوظائف، وعن التجارات، وعن الأرباح، وعن الأسهم، وعن المشاريع، وعن الخاسر منها وغير الخاسر، إن الناس في قلق في القضية المادية في قضية الدخل الطرد من الوظيفة إيجاد وظيفة؛ ولكن المؤمن آمن حتى من جهة رزقه؛ فهو يعلم أن رزقه لن يفوت، وأن الأرزاق في ضمان الله الذي لا يخلف وعده، ولا يضيع عبده، وقد خلق الأرض مهاداً، وفراشاً وبساطاً، وبارك فيها، وقدر أقواتها وجعل فيها معايش، وتكفل بأرزاق العباد، وكرر وأقسم ووعد سبحانه وتعالى، {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} [الروم:6] قال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:58] وقال تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الذاريات:22 - 23] فهو يحلف بنفسه سبحانه: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات:23]. إن المؤمن يعلم أنه ما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها، وإن المؤمن يعلم أن الله يرزق كل أحد {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} [العنكبوت:60] وأنه مهما كان له رزق فسيأتيه ولا ينافي ذلك سعيه، فهو من الأسباب، والأسباب من التوحيد، ولكن مع الإيمان بالمسبب وخالقها، والاعتماد على خالق الأسباب، وأن الإنسان سيأتيه رزقه قل أو كثر؛ لكنه إذا قل لا يسخط من ربه، وإذا كثر لا يطغى على شريعة ربه. إن المؤمن يعيش بالضمانات التي ذكرها الله تعالى في كتابه من أنه هو الرزاق والعالم اليوم يريدون في اتفاقياتهم ضمانات ويبحثون عن ضمانات وهم دائماً يطلبون الضمانات؛ لأنهم خائفون من نقض العهود والمواثيق والمستقبل. فإذا كان المؤمن عنده الضمانات في هذه الآيات من ربه؛ فمم يخاف؟ وعلى أي شيء في رزقه يخشى وهو يعلم أن الله رزق الطير في أوكارها، والسباع في فلواتها، والأسماك في البحار، والديدان في الصخور؟ ولذلك كان المؤمن يذهب إلى ساحات الجهاد حاملاً رأسه على كفه متمنياً الموت في سبيل عقيدته، من خلفه ذرية ضعافاً يخشى عليهم . وأفراخ زغب الحواصل لا ماء ولا شجر ومع ذلك هو يوقن أنه تركهم في رعاية رب كريم حقاً. أيها الإخوة! إنه لموقف صعب أن يطلب من أحدنا أن يذهب إلى ساحات الجهاد وعنده أطفال صغار!! فمن الذي يفعل ذلك ويضحي ويقدم؟! إنه الإنسان الذي يوقن بأن هناك رباً رحيماً أمره بالجهاد فهو يطيع، وتكفل له برعاية أولاده ورزقهم فهو لأجل ذلك يغادرهم، وإلا ما غادر مؤمن أولاده إلى ساحات الجهاد قط، وتقول الزوجة عن زوجها وهو ذاهب في سبيل الله: إني عرفته أكالاً وما عرفته رزاقاً، ولئن ذهب الأكال لقد بقي الرزاق.

الفرق بين المؤمن والكافر في مسألة الأجل

الفرق بين المؤمن والكافر في مسألة الأجل والمؤمن آمن على أجله، فإن الله قدر له ميقاتاً مسمى، وأياماً معدودة، وأنفاساً محدودة لا تملك قوة في الأرض أن تنقص منها، قال تعالى {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34] {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} [المنافقون:11] {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [نوح:4] {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} [فاطر:11]. أيقن المؤمن أن الله فرغ من الآجال والأعمار وكتب ذلك قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، فما الذي يغيرها الآن؟ ومن الذي يغيرها؟ وكتب على كل نفس متى تموت، وأين تموت. ومن كانت منيته بأرض فليس يموت في أرض سواها وبهذه الحقيقة ألقى المؤمن عن كاهله هم التفكير في الموت والخوف على الحياة. وبعض الناس يحتاطون لأجل الموت، يشترون القبر، ويعمرونه، ويزينونه، ويفعلون ويفعلون ثم يموتون بأرض أخرى! إن التجهز للموت حق ولكن بالحق، باليقين بأن الإنسان ربما يموت في غير البقعة التي توقع أن يموت فيها، وأن علم ذلك مما انفرد به الله تعالى. لما هدد الحجاج سعيد بن جبير بالقتل قال له سعيد: "لو علمت أن الموت والحياة في يدك ما عبدت إلهاً غيرك". المؤمن لا يخاف الموت فهو يعلم أنه زائر لا بد من لقائه، وقادم لا ريب فيه، لا يرده الخوف منه ولا يثنيه الجزع: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ} [الجمعة:8] {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:78] {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران:54] أي: إلى الموضع الذي قدر الله أن يقتلوا فيه. ويهون الموت على المؤمن إذا عرف أنه سبيل أفضل الناس من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، فلا عليه إذن إذا اقتفى أثرهم وسار في دربهم. إن الموت خطبٌ قد عظم حتى هان، وخشن حتى لان، إنه بلية عمت والبلايا إذا عمت هانت {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30] هذا من جهة الحس في المؤمن. أما من جهة الاستعداد له فالموت خطب عظيم في نفسه، فهو يستعد له، ولكن هل يخاف من الموت خوفاً سلبياً يقعد به عن العمل كما يشتكي عدد من الناس؟ يقول: إن زوجتي تخاف من الموت ولا تنام بالليل، ولا لها طعام، ولا ذاقت شيئاً، وإنها قد مرضت ونحل عودها، فإذا كان الخوف من الموت خوف سلبي قعد بالإنسان عن ممارسة أي شيء. وهناك خوف إيجابي: وهو الذي يدفع للاستعداد للموت، ونحن نريد الخوف الثاني فنعظمه في أنفسنا، وأما الخوف الأول فنهونه في أنفسنا؛ لأن الموت طريق لا بد أنه مسلوك. ومتاع الدنيا أهون عند المؤمن أن يأسى على فواته، لماذا يخاف أهل الدنيا الموت؟ لماذا إذا قلت لأحدهم: فلان مات قال: أعوذ بالله؟! تعوذ بالله من الموت وهو آتيه آتيه. لماذا يخافون الموت؟ لأنه سيحرمهم من المخططات، والأرباح، والنعيم، وكل الآمال التي يأملونها سيحرمون منها، ولذلك يكرهونه ويخافونه، والمؤمن يود أن يفسح له في الحياة لا لأجل أن يعمر قصراً، أو يشتري سيارة، لكن لأجل أن يستكثر من الأعمال الصالحة، وأن يتوب توبة أخرى. الموت -أيها الإخوة- ليس عدماً محضاً ولا فناءً صرفاً، بل هو انتقال من حياة إلى حياة، ومن طور إلى طور. وما الموت إلا رحلة غير أنها من المنزل الفاني إلى المنزل الباقي إنها انطلاقة من قفص الجسد لتعود إليه يوم الدين، وقد كتب أحد الصالحين في وصيته أبياتاً يبين هذه الحقيقة لإخوانه بعد موته: قل لإخوان رأوني ميتاً فبكوني ورثوني حزنا أتظنون بأني ميتكم ليس هذا الميت والله أنا أنا في الصور وهذا جسدي كان ثوبي وقميصي زمنا أنا عصفور وهذا قفصي طرت عنه وبقي مرتهنا أنا عصفور وهذا قفصي: الجسد الذي ترونه ممتداً أمامكم على الفراش. لا تظنوا الموت موتاً إنه ليس إلا نقلة من هاهنا أيها الإخوة: إذا نظرنا إلى جسد الشيخ الكبير الذي تقدمت به السن، ونظرنا إلى تجاعيده وترهل هذا الجسد ولين العظام، إذا نظرت جيداً إلى جسد العجوز الفاني لعلمت أن خلقان الثوب الذي بداخله الروح لا بد أن يعنيه أن هناك انتقالاً؛ لأن هذا الثوب وهذا الجسد بعد هذا الترهل والتجاعيد لا بد أن ينتقل؛ لا بد أن يكون هناك انتقال فإذا رأيت بيتاً يهدم ويخرب فاعلم أن هناك تصميماً جديداً وبناء جديداً. ولعل من حكمة الله أن يجعل جسد الإنسان يهترئ ويذبل؛ ليتمعن المتمعنون بأن هذا الجسد الآن بعد اهترائه في سن الشيخوخة لم يعد يصلح أن يستمر ثوباً للبدن، وأن هناك تغيراً واضحاً من حال العجوز الفاني والشيخ الكبير، وأن هذا الجسد لم يعد يتحمل الاستمرار؛ فلا بد من التغيير والتغيير بالموت، ولكن الموت ليس هو الفناء وإنما تنتقل الروح من عالم إلى عالم آخر.

الأمل في حياة المؤمن

الأمل في حياة المؤمن أيها الإخوة: إن من مصادر الأمن والسكينة لدى المؤمن الأمل الذي يضيء له الظلمات، وينير له المعالم، ويهديه السبيل وتنمو به شجرة الحياة، ويرتفع به صرح العمران، فهو قوة دافعة تشرح للعمل وتخلق دواعي الكفاح من أجل الواجب وتبعث النشاط في الروح والبدن. فالإيمان يولد الأمل والأمل مهم في الحياة ما الذي يدفع الزارع إلى الكدح والعرق إلا أمله في الحصاد؟ وما الذي يغري التاجر بالأسفار والمخاطر إلا الأمل في الربح؟ وما الذي يبعث الطالب على الجد والمثابرة إلا الأمل في النجاح؟ وما الذي يحبب إلى المريض الدواء المر إلا الأمل في الشفاء؟ وما الذي يدعو المؤمن إلى أن يخالف طبيعته وهواه ويتحمل المشاق في هذه الدنيا؟ إنه الأمل في جنة الفردوس، فهذا الأمل هو الذي يهون هذه الصعاب، فهو دافع النشاط ومخفف الويلات وباعث البهجة: ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل إذا يأس التلميذ من النجاح -أيها الإخوة- نفر من الكتاب والقلم، وضاق بالبيت والمدرسة، ولم يعد ينفعه درس خاص ولا عام، ولا نصح يسدى ولا تهيئة المكان ولا الجو المناسب ولا ولا إلا أن يعود إليه شيء واحد يحل له كل هذه المشكلة، ألا وهو الأمل، فإذا رجع الأمل انحلت المشكلة. وإذا يأس المريض من الشفاء كره الدواء، وكره الطبيب، والعيادة، والصيدلية، وضاق بالحياة والأحياء، ولم يعد يجديه العلاج إلا أن يعود إليه الأمل، وهكذا إذا تغلب اليأس على إنسان اسودت الدنيا في وجهه، وأظلمت في عينيه، وأغلقت أمامه أبوابها، وتقطعت دونه أسبابها، وضاقت عليه بما رحبت. اليأس سم بطيء لروح الإنسان، وإعصار مدمر لنشاطه، ولا إنتاج ولا إحساس حينئذٍ. واعلموا أن اليأس ملازم للكفر، كما أن الأمل ملازم للإيمان، وليس بعجيب أن تجد أصناف اليائسين بغزارة وكثرة بين الجاحدين لله البعيدين عن شرع الله، {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87] {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر:56] يتجلى هذا اليأس في الشدة ونزول الشر كما ذكر الله: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُوسٌ كَفُورٌ} [هود:9] {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤُوساً} [الإسراء:83] {وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ} [فصلت:49] لكن استثنى الله صنفاً واحداً فقال: {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [هود:11] فلو خسر في تجارة، أو رسب في مدرسة، أو حصل له فشل في شيء فإنه لا ييئس ولا يقنط؛ لأن أمله مستمر برب رءوف رحيم، ليس اليأس فقط من الدنيا وإنما -أيضاً- السخط على الرب كما قال المعري: هذا ما جناه أبي عليَّ وما جنيت على أحد ولكن المؤمن أوسع الناس أملاً. لماذا أيها الإخوة؟ ما هو السر في أن المؤمن عنده أمل والكافر والضال يائس وقانط؟ السبب: أن المؤمن يؤمن بأن هناك إلهاً رحيماً قديراً يجيب المضطر إذا دعاه، ويكشف السوء، ويمنح الجزيل، ويغفر الذنوب، ويقبل التوبة، ويعفو عن السيئات، أرحم من الوالدة بولدها، وأبر بخلقه من أنفسهم، يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، يفرح بتوبة عبده أشد من فرحة من أضل شيئاً إذا وجد ضالته، والغائب إذا وفد، والظمآن إذا ورد. إله يجزي الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف ويزيد، ويجزي السيئة بمثلها أو يعفو، إله يدعو المعرض عنه من قريب، ويتلقى المقبل عليه من بعيد، ويقول: (أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني؛ إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة) إله يداول الأيام بين الناس؛ فيبدل من بعد الخوف أمناً ومن بعد الضعف قوة، ويجعل من كل ضيق فرجاً، ومن كل هم مخرجاً ومع كل عسر يسراً، فلذلك يأمل المؤمن فيه. هذا مبعث الأمل وهذا هو السر: الاعتصام بالإله البر الرءوف الرحيم العزيز الكريم الفعال لما يريد، يعيش المؤمن على أمل لا حد له، ورجاء لا تنفصم عراه، إنه دائماً متفائل، ينظر إلى الحياة بوجه غير الذي ينظر إليها الكافر، لا ينظر إلى الحياة بوجه عبوس قمطرير، فهو إذا حارب فهو واثق بالله أنه سينصره؛ لأنه مع الله والله معه {إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُم الْغَالِبُونَ} [الصافات:172 - 173]. إذا مرض لم ينقطع أمل المؤمن أبداً من العافية {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:78 - 80]. إذا اقترف ذنباً أو جرماً المؤمن لم ييئس من المغفرة، ومهما كان الذنب عظيماً فإن عفو الله أعظم {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]. والمؤمن إذا أعسر وضاقت ذات يده أمل في الله ولم يزل إيمانه فيه عظيماً لقوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} [الشرح:5 - 6] ولن يغلب عسرٌ يسرين ولو دخل العسر جحراً لدخل اليسر حتى يخرجه. والمؤمن إذا انتابته كارثة من كوارث الزمن ووقعت به المصيبة؛ فإن أمله في الله مازال موجوداً، كيف يكون موجوداً والولد قد مات؟ كيف يكون موجوداً والبيت قد احترق، والمال قد ذهب؟ إنه موجود في رجاء الأجر على احتساب المصيبة بالصبر {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:156]. نسأل الله تعالى أن يجعلنا بإيماننا آمنين مطمئنين وأن يغفر لنا ذنوبنا أجمعين, وأن يتوب علينا إنه هو البر الرءوف الرحيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

اختلاف أثر المصيبة على المؤمن عن الكافر

اختلاف أثر المصيبة على المؤمن عن الكافر الحمد لله إله الأولين والآخرين، ورب السماوات والأرضين، لا إله إلا هو يفعل ما يشاء سبحانه وتعالى خلق فسوى، وقدر فهدى، لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون، فعال لما يريد سبحانه وتعالى، يحكم ما يشاء، ويفعل ما يريد، وصلى الله وسلم على نبينا محمد الرحمة المهداة، والسراج المنير، والبشير النذير، وأشهد أنه رسول الله حقاً والداعي إلى سبيله صدقاً صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. عباد الله: إن أثر وقوع المصيبة على المؤمن يختلف تمام الاختلاف عن الكافر، ولنأخذ حال امرأة كانت في جاهليتها كافرة وقعت عليها مصيبة، ولما صارت مؤمنة في الإسلام وقعت عليها مصائب فاختلف حالها في إسلامها عن حالها لما كانت كافرة، تلك المرأة هي الخنساء؛ التي فقدت في جاهليتها أخاها لأبيها فقط وهو صخر فملأت الآفاق عليه بكاء وعويلاً، ونياحة وشعراً حزيناً حتى قالت: يذكرني طلوع الشمس صخراً وأذكره بكل غروب شمس ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي هذه المرأة هي نفسها المرأة التي أسلمت وحضرت حرب القادسية مع أبنائها الأربعة فجلست إليهم في تلك الليلة الحاسمة تقول لهم: يا بني! إنكم أسلمتم طائعين وهاجرتم مختارين، والله الذي لا إله إلا هو إنكم لبنو رحم واحد، كما أنكم بنو رجل واحد، ما خنت أباكم ولا فضحت خالكم، ولا غيرت نسبكم وقد تعلمون ما أعد الله للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين، واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية والله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200] فإذا أصبحتم غداً إن شاء الله سالمين فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين، وبالله على أعدائكم مستنصرين، فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها فتيمموا وطيسها، وجالدوا رئيسها تظفروا بالغُنم في دار الخلد. فلما أصبحوا باشروا القتال بقلوب فتية، وأنوف حمية، تدفعهم وصية أمهم بموعود ربهم إذا فتر أحدهم ذكره إخوته وصية العجوز فزأر كالليث، وانطلق كالسهم، وانقض كالصاعقة حتى استشهدوا واحداً بعد واحد، فبلغ الأم نعي أولادها الأربعة فلم تلطم خداً، ولم تشق جيباً، ولم تطلق صيحة، ولا نياحة، ولكنها استقبلت النبأ بإيمان الصابرين وفضل المؤمنين فقالت: الحمد لله الذي شرفني بقتلهم وأرجو من ربي أن يجمعني معهم في مستقر رحمته. أيها أشق على النفس: الأخ لأب أم الأولاد الأربعة؟ الواحد أم الأربعة؟ ومع ذلك كان للمرأة موقف آخر يختلف تمام الاختلاف عن الموقف السابق. فما الذي تغير أيها الإخوة؟ تغير شيء واحد -أيها الإخوان- إنها النقلة من الكفر إلى الإسلام، ومن الجاهلية إلى الإيمان، ولذلك كان الكفر يأساً وكان الإسلام أملاً. الإيمان أمل بالله تعالى وهو الذي يجعل المسلم يطلب من ربه ويرجو رحمة ربه. نسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهل الإيمان، اللهم زد إيماننا، اللهم زدنا إيماناً وتقى وتوكلاً عليك يا رب العالمين، اللهم إنا نسألك الأمن يوم الوعيد، اللهم إنا نسألك دخول جنة الخلود، اللهم اجعلنا يوم القيامة من الآمنين الركع السجود، اللهم إنا نسألك أن تقضي ديوننا، وتفرج همومنا، وتشفي مرضانا، وترحم موتانا، وتستر عيوبنا، اللهم إنا نسألك أن تكبت عدونا، اللهم دمر اليهود والنصارى واجعلها عليهم ناراً ودماراً، اللهم إنهم تمالئوا على حرب الإسلام فاكبتهم واجعل تخطيطهم تدميراً عليهم، اللهم قيض لهم من عبادك المسلمين من ينصر المسلمين عليهم يا رب العالمين، اللهم قيض من عبادك الأخيار من يقود المسلمين لجهاد الكفار ويحقق النصر يا أرحم الراحمين، اللهم عجل فرجنا يا رب العالمين. إخواني: إذا كنا مقبلين على عيد من أعياد الكفار، فإننا نذكر أنفسنا بعدم جواز مشاركتهم مطلقاً، لا الهلوين ولا الكرسمس ولا غيرها فإنها من عقيدتهم ونحن لنا عقيدتنا وإذا كان لهم دينهم فلنا ديننا {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6]. ومن قدر الله أنه سيوافق دخول رمضان هذه السنة عيدهم الأكبر الذي سيكون، فسننظر كيف يعمل المسلمون حين يتعارض دخول رمضان في عبادته وجلاله مع ما يفعلونه من الكفر والفسق في عيدهم. وهذه مناسبة تمحيص كما قلنا في الخطبة الماضية، فلننظر إلى أي الفريقين سيميل المائلون.

حكم الجمع بين الصلاتين في المطر

حكم الجمع بين الصلاتين في المطر ومن الأحكام -أيها الإخوة- التي يحتاج التنبيه إليها في هذا الوقت الجمع في المطر: فاعلموا رحمكم الله أن الجمع في المطر رخصة جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالذات جمع العشاء إلى المغرب جمع تقديم عند نزول المطر ويشترط للجمع بين الصلاتين شرطان: الأول: أن يكون المطر مستمراً من الصلاة الأولى إلى الصلاة الثانية. الثاني: أن يكون مطراً حقيقياً، أي: مطراً يبل الأرض والثياب؛ فإذا كان مطراً يبل الأرض والثياب، وكان مطراً مستمراً ساغ الجمع للصلاتين، ذلكم تخفيف من ربكم ورحمة. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

التأثر والتفاعل

التأثر والتفاعل في هذه المادة بيان لما كان عليه الصحابة من تأثر بمواعظ النبي صلى الله عليه وسلم وتفاعل معها، أو دعائه أو عتابه، كما أنهم كانوا يتأثرون عند حدوث الخطأ منهم فيتراجعون عن ذلك ويتوبون إلى الله عز وجل.

الصحابة وشدة تأثرهم بالآيات والمواعظ والمواقف

الصحابة وشدة تأثرهم بالآيات والمواعظ والمواقف إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. في وسط هذه الجاهلية التي يعيشها المسلمون اليوم ضاعت هوية الشخصية الإسلامية، وانعدمت ميزاتها إلا من رحم ربي عز وجل، والبحث عن سمات الشخصية الإسلامية من الأمور المطلوبة لكل مسلم يريد أن يسير إلى ربه على نور من الله في صراط مستقيم، وللشخصية الإسلامية -أيها الإخوة- سمات بارزة، وعلامات مميزة، ونحن في هذه الخطبة سنتعرض لواحد من سمات هذه الشخصية. إن الشخصية المسلمة سريعة التأثر والانفعال من أدلة القرآن والسنة سريعة التأثر مع المواقف التي جاء في القرآن والسنة ذكر لها سريعة التأثر والانفعال إذا ما حدث خطأ من الأخطاء سريعة التأثر والانفعال إذا ما وقع المسلم في ذنب من الذنوب سريعة التأثر والانفعال عند رؤية أحوال المسلمين سريعة التأثر والانفعال لمواعظ الله ورسوله، ونحن اليوم نذكر أمثلةً لهذا التأثر والانفعال في عصر صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، تلك الشخصيات التي رباها رسول الله صلى الله عليه وسلم على منهج الله، فمشت بخطىً ثابتة مستقيمة على منهج الله ورسوله، نذكر هذه الأمثلة في وقت تبلدت فيه إحساسات المسلمين، وانعدم التأثر والانفعال لكثير من المواقف التي ينبغي أن يقف المسلم حيالها وقفة التأثر والانفعال الدافعة إلى العمل لا عند حدود البكاء وذرف العين فقط.

تأثر الصحابة من قوة بلاغة رسول الله صلى الله عليه وسلم

تأثر الصحابة من قوة بلاغة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أول تأثر صحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام عندما عرض عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الدعوة، عندما عرض عليهم نصوص القرآن والسنة، ولذلك كانت الصفوة المختارة عندما تسمع كلام الله تتأثر مباشرةً؛ فترق القلوب؛ وتدخل تلك النفوس في دين الله. وهذه الأحاديث التي سأتلوها الآن هي في الصحيحين أو أحدهما عن ابن عباس أن ضماداً قدم مكة فقيل لـ ضماد: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مجنون أو دخل فيه جن أو مصاب بمرض، وكان هذا الرجل طبيباً يداوي الناس من الأمراض فقال: لعل الله أن يشفيه على يدي، فلما جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ عليه صلى الله عليه وسلم هذه الكلمات الجامعات: (إن الحمد لله؛ نحمده، ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله أما بعد، فقال ضماد: أعد كلماتك هؤلاء. فأعادهن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، فقال: لقد سمعت قول الكهنة، وقول السحرة، وقول الشعراء، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء، ولقد بلغن ناعوت البحر -يعني: وسط البحر وعمقه من شدة تأثيرهن- ثم قال: هات يدك أبايعك، فبايعه ثم قال له عليه السلام: وعلى قومك؟ قال: وعلى قومي). يذهب إليهم داعية إلى الله. أيها الإخوة تأثر هذا الصحابي من أي شيء؟ ما هي الكلمات التي نقلته من ظلمات الجاهلية إلى نور الإسلام؟ إنها كلمات جامعات لكنها وجدت في قلبه مكاناً فتأثر لها، فدخل في دين الله، اعتنق الإسلام بعد الكفر. عتاة اليوم من الكفرة والمرتدين الذين يتسمون بالإسلام لو عرضت عليهم مثل هذه الكلمات يا ترى هل سيستجيبون ويتأثرون أدنى تأثر؟! وعند سماع المواعظ كانت نفوس صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ترق رقة عجيبة لكلمات يسمعونها من رسول الله على المنبر. مثلاً: عن أنس رضي الله عنه قال: (خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبةً ما سمعت مثلها قط! قال: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً) لو تعلمون ما أعلم من عذاب الله، وتفاصيل العذاب كيف يعذب أهل النار وكيف يحرقون؟! لو تعلمون ما أعلم من أهوال المحشر ومن شدة الحساب لو تعلمون ما أعلم من عظمة الصراط وشدة المشي عليه والكلاليب التي تتخطف الناس فيهوون في جهنم لو تعلمون ما أعلم. يقول عليه الصلاة والسلام: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً) الرسول صلى الله عليه وسلم أراه الله جهنم بعينه، ما اطلع على هذا من الصحابة أحد، فقال لهم هذه الكلمات التي يعبر فيها عما رآه: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً) ماذا فعل الصحابة؟ هل قالوا: ما دمنا لم نر ما رآه عليه الصلاة والسلام فلماذا نتأثر كما تأثر؟ لا، هذه الكلمة دفعتهم إلى التأثر حالاً، فقال أنس رضي الله عنه: (فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم ولهم خنين) ذلك الأزيز: الصوت الذي يرتفع من الصدر بالبكاء، صوت يتأزز من الصدر من البكاء لهذه الكلمة التي أخبرهم بها عليه الصلاة والسلام. يا إخواني عندما نسمع المواعظ اليوم هل نتأثر بها كما كان صحابة رسول الله يتأثرون؟! هل نغطي وجوهنا كما غطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم؟! هل تنخنق العبرات، وتذرف الدموع، وتخرج الأصوات كالأزيز الذي يغلي به المرجل من الصدور للتأثر من هذه المواعظ؟! لقد تبلدت إحساساتنا والله، إن على قلوبنا غلافاً سميكاً لا تنفذ من خلاله آيات الله وحديث رسوله صلى الله عليه وسلم في المواعظ، يجب أن نرقق هذه القلوب -أيها الإخوة- بشتى أنواع المرققات حتى نصل إلى الدرجة التي إذا سمعنا فيها المواعظ تأثرنا.

تأثر الصحابة بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم

تأثر الصحابة بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أصحاب رسول الله إذا سمع أحدهم دعاءً طيباً ولو لميت تأثر به. يقول الراوي: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنازة، فحفظت من دعائه وهو يبكي: (اللهم اغفر له، وارحمه، وعافه، واعف عنه، وأكرم نزله، وأوسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه، وأدخله الجنة، وأعذه من عذاب القبر أو من عذاب النار -ماذا قال الصحابي لما سمع هذه الدعوات؟ هي لميت مات، ماذا قال الصحابي- حتى تمنيت أن أكون ذلك الميت) يقول الصحابي: تمنيت أن أكون ذلك الميت. لماذا تمنى أن يكون ذلك الميت؟ لأنه تأثر -أيها الإخوة- من هذه الأدعية التي دعا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك الميت، يتأثرون حتى من الدعاء ولو لميت يتمنى أن يكون مكانه لهذه الأدعية التي دعا بها عليه الصلاة والسلام.

تأثر الصحابة عند حثهم على الصدقة والإنفاق

تأثر الصحابة عند حثهم على الصدقة والإنفاق الصحابة رضوان الله عليهم كثير منهم كانوا فقراء لا يملكون شيئاً خصوصاً في بداية الدعوة، عندما يسمع الصحابة الأوامر التي تحث على أفعال الخير وهم لا يملكون شيئاً، عندما يسمعون الأحاديث تحث على الصدقة وهم لا يملكون دنانير يتصدقون بها، كيف كانوا يتصدقون؟ كان تأثرهم -يا إخواني- من الأحاديث وهذه الكلمات التي تحث على الصدقة يحملهم على فعل أمر عجيب حتى يدركوها، ماذا كانوا يفعلون؟ قال الصحابي: [أمرنا بالصدقة. قال: كنا نحامل -أي: يؤجر أحدنا نفسه لرجل عنده متاع ليحمله له- فإذا حمله له أخذ أجرة التحميل فتصدق بها] ما عنده دنانير ماذا يفعل؟ يذهب يؤجر نفسه فيحمل هذه الأحمال، يأخذ أجرة التحميل فيتصدق بها! أناس تأثروا من هذه الأحاديث التي تدفع إلى الصدقة، ما عندهم شيء، هكذا كانوا يفعلون.

تأثر الصحابة بعد ارتكاب خطأ ما

تأثر الصحابة بعد ارتكاب خطأ ما وإذا اعتدى أحدهم على مسلم، ضعفت نفسه في موقف، عن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه قال -في حديث طويل يرويه الإمام مسلم منه-: (وكانت لي جارية ترعى غنماً لي قبل أحد، فاطلعت ذات يوم فإذا الذئب قد ذهب بشاة من غنمها، وأنا رجل من بني آدم آسف كما يأسفون، لكني صككتها صكةً -ضربها بكفه على صفحة وجهها، تأثر كيف يذهب الذئب بغنمة! بشاة! كيف يذهب بها؟ أين أنتِ؟! أين حراستكِ؟! أين رعايتك للغنم؟! تأثر فضربها بيده على صفحة وجهها، فماذا كان موقف الصحابي لما أخطأ في حق هذه المرأة المسلمة؟ - فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم -هذه الضربة كما أثرت في وجه المرأة أثرت في نفس الضارب- فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعظم ذلك علي -كيف تفعل هذا الفعل؟ كيف تضرب على الوجه؟! كيف تضرب أصلاً؟ ماذا فعل الصحابي عندما عظم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الأمر؟ - قلت: يا رسول الله! أفلا أعتقها؟ -أيهما أغلى: الشاة أم المرأة الراعية، الأمة عند الرجل؟ الأمة عند الرجل أغلى، وفائدتها عنده عظيمة، لكن لما تأثر ما صار عنده مانع أن يعتقها- قال: أفلا أعتقها؟ قال: ائتني بها، فأتيته بها فقال: أين الله؟ قالت: في السماء. قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال: اعتقها فإنها مؤمنة). كثير من المسلمين اليوم يعتدون بالضرب على إخوانهم المسلمين الآخرين المستضعفين من الخدم، وحتى إخوانهم الصغار، يا ترى هل إذا أخطئوا يتأثرون مثل تأثر هذا الصحابي؟ هل إذا أخطئوا تنطلق منهم كلمات التأسف، الاعتذار، أم أن أحدهم تأخذه العزة بالإثم فيرفض أن يتفوه بكلمة واحدة يعتذر بها عما فعله؟

خوف الصحابة من فوات الطاعة عليهم

خوف الصحابة من فوات الطاعة عليهم الصحابة حتى النساء كانوا يتأثرون إذا خافوا أن تفوتهم الطاعة، عن جابر بن عبد الله قال في الحديث الطويل في الحج: ثم أهللنا يوم التروية، ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة فوجدها تبكي، فقال: (ما شأنك؟ قالت: شأني أني قد حضت وقد حل الناس ولم أحلل، ولم أطف بالبيت، والناس يذهبون إلى الحج الآن) الناس يذهبون إلى الحج، أنا لا أستطيع أن أذهب، أنا حائض. هذا الحيض خوفها فوات العبادة، خوفها فوات موسم الحج، موسم الفضل العظيم، عائشة رضي الله عنها تبكي في بيتها، تخاف أن يفوتها هذا الموسم، ماذا تفعل؟ حاضت، لا تعلم الحكم، فبكت تأثراً وخوفاً من فوات الطاعة، فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بكلمات المربي الذي يعالج الحرج في نفوس أتباعه، قال لها: (إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم فاغتسلي ثم أهلي بالحج) أعطاها الحكم، فرج الهم الذي كان بها، خافت عائشة. اليوم -أيها الإخوة- كم من مواسم الطاعات تفوتنا؟ صغيرها وكبيرها، تفوتنا مواسم الطاعات، هل نحدث أي نوع من الأسف؟ هل نبكي على فوات صلاة الجماعة؟

تأثر الصحابة من عتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم

تأثر الصحابة من عتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعاتب أصحابه على الخطأ كانوا يتأثرون من المعاتبة أشد التأثر لدرجة عظيمة. عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: (بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية فصبحنا الحرقات من جهينة -قوم من الكفار- فأدركت رجلاً، فلما رفع أسامة عليه السيف قال: لا إله إلا الله، فطعنته - أسامة يظن أن الرجل قال: لا إله إلا الله؛ اتقاء السيف، فقال: وماذا تنفعه؟ فطعنه فقتله- فوقع في نفسي من ذلك -هذا الفرق أيها الإخوة بين كثير من المسلمين اليوم وبين الصحابة- فوقع في نفسي من ذلك -كانوا إذا صار لهم أمر شك أنه خطأ يأتي فوراً ويعاتب نفسه إذا ظن أن الأمر فيه شيء، الناس اليوم تمر عليهم أمور وهو متأكد من تحريمها ولا يحدث في أنفسهم شيء مطلقاً، وقع في نفسه شيء، ربما أنه أخطأ، ماذا يعمل؟ إلى المرجع مباشرةً: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]- قال أسامة: فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال لا إله إلا الله وقتلته؟! قال: قلت: يا رسول الله! إنما قالها متعوذاً، قال: أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟) أقالها خوف السلاح أم لشيء آخر؟ فما زال يكرر ذلك، وفي رواية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أقتلته؟ قال: نعم. قال: فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟ فيقول أسامة: يا رسول الله! استغفر لي. قال: فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟ فيقول أسامة: يا رسول الله! استغفر لي. فجعل لا يزيده على أن يقول: فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟) ماذا حدث -أيها الإخوة- في هذا الموقف؟ لما عاتبه على خطئه وبخه توبيخاً شديداً، وذكره بالحساب، ماذا تمنى الصحابي؟ ماذا قال؟ ما هي الكلمات التي عبر بها عن الحرج العظيم في نفسه؟ قال: (فما زال يكررها حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ) تمنيت أني ما دخلت في الإسلام إلا بعد هذا الخطأ؛ لأن الإسلام يجب ما قبله، تمنيت أني ما أسلمت إلا في ذلك اليوم؛ لأنه عظم عليه هذا جداً. اليوم كثير من المجرمين يفعلون جرائم متعددة، وكبائر كبيرة جداً، لو سمعوا وعظم ذلك عليهم وقرعوا على أفعالهم، وأقيمت عليهم الأدلة على شناعة ما فعلوا ماذا يحدث لديهم من التأثر؟ أي تأثر يحدث في نفوسهم؟ فرق أيها الإخوة، هذه النفسيات اختلفت، فالناس نفوسهم اختلفت تماماً. اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم واجعلنا من أهل العزة والبصيرة، من الذين يتأثرون إذا تليت عليهم آيات الله، وتزيدهم إيماناً. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه غفور رحيم.

رجوع السلف عن الخطأ بعد التبيين لهم

رجوع السلف عن الخطأ بعد التبيين لهم الحمد لله الذي لا إله إلا هو لم يتخذ صاحبةً ولا ولداً، ولم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له ولي من الذل وأكبره تكبيراً، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ووعظ الأمة فأثر فيها، وجاهد في الله حق جهاده، فصلوات الله وسلامه عليه. وعندما تقام الحجة على أناس ممن أخطئوا في تصوراتهم، وتقام الحجة على أهل الشبهات كانوا يرجعون، وكانوا يفيئون، حتى أهل البدع منهم، من أراد الله به خيراً كان يتأثر من كلام الصحابة، ورجوع ثمانية آلاف من الخوارج لما بين لهم ابن عباس رضي الله عنه الحجة دليل على هذا. وروى مسلم رحمه الله عن يزيد الفقير قال: [كنت قد شغفني رأي من رأي الخوارج فخرجنا في عصابة ذوي عدد نريد أن نحج ثم نخرج على الناس هذا هو منطوق الخوارج ومفهومهم، نريد أن نحج -نأتي بالعبادة- ثم نخرج على الناس بالسيف ونقتل المؤمن والصالح والمحسن هذا المنطق الأعوج. قال: فمررنا على المدينة فإذا جابر بن عبد الله يحدث القوم وهو متكئ على سارية، فقال: فإذا هو قد ذكر الجهنميين. قال: فقلت له: يا صاحب رسول الله! ما هذا الذي تحدثون والله يقول: {إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} [آل عمران:192] و {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا} [الحج:22]-لأن الجهنميين قوم يخرجون من النار بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما هذا الذي تقولون؟ - قال: أتقرأ القرآن؟ قلت: نعم. قال: فهل سمعت بمقام محمد عليه السلام الذي يبعثه الله فيه؟ المقام المحمود، قلت: نعم. قال: فإنه مقام محمد المحمود الذي يخرج الله به من يخرج -يعني: من النار- قال: ثم نعت وضع الصراط ومر الناس عليه إلى أن قال: فرجعنا فقلنا: ويحكم! أترون الشيخ يكذب على رسول الله؟ فرجعنا -فرجعنا عن رأينا الفاسد، ورجعنا عن تلك المصيبة العظيمة التي وقعنا فيها- فلا والله ما خرج منا غير رجل واحد] أو كما قال أبو نعيم. فإذاً كان هؤلاء إذا أقيمت عليهم الحجة وأزيلت الشبهة، من أراد الله به الخير منهم كانوا يرجعون، وكثير منهم رجعوا، الأكثرية رجعوا، المسلمون اليوم ممن ينتسبون إلى الإسلام من أصحاب الشبهات لو أقيمت عليهم الحجة، هل يرجعون؟ الأكثرية رجعوا في عهد الصحابة، اليوم القلة، قلة جداً هي التي ترجع وتتأثر من الحجة عندما تقام عليها، عندما تسمع يا أخي الحجة أقيمت عليك ماذا يبقى لك بعد ذلك؟ وعندما كانت المرأة تجهل شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم ثم تعرف تلك الشخصية وقد أخطأت في حقها تتأثر تأثراً عظيماً. أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم على امرأة تبكي على صبي لها، فقال لها: (اتقي الله واشكري) فقالت: وما تبالي بمصيبتي؟ فلما ذهب قيل لها: إنه رسول الله، ما كانت تعلم أنه رسول الله، فألقت كلمة: وما تبالي بمصيبتي؟ فلما ذهب قيل لها: إنه رسول الله، فأخذها مثل الموت، كيف تكون علامات الميت من الاصفرار والذبول؟ هذه العلامات أخذت المرأة، أخذها مثل الموت، لماذا أخذها مثل الموت؟ لأنها عرفت هذه الكلمة العظيمة أمام من ألقتها، استعظمت الكلمة التي ألقتها. اليوم تقول للناس شيئاً فيستهزئون به وينكرونه، فإذا قلتم لهم: يا جماعة إن هذا حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ماذا يحدث لهم؟ هل يتأسفون؟ هل يأخذهم مثل الموت أو أدنى من ذلك؟ إذا عرفوا كلام من الذي استهزئوا به، ولا نقول أيها الإخوة: إن التأثر يقتصر على الحزن وذرف الدموع فقط، بل كان تأثرهم في أحيان فرحاً، يتأثرون من الفرحة، والحديث الصحيح لما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فرح الناس بمقدمه فرحاً عظيماً حتى جعلت الولائد والإماء يقلن: جاء رسول الله، جاء رسول الله. جاء المربي، جاء المعلم، جاء صاحب الوحي الذي سينقل لهم مباشرةً وحي الله عز وجل، فرحوا بمجيء المعلم، فرحوا بمجيء الواعظ. اليوم الناس في مجالسهم لو جاءهم واعظ أو معلم هل يفرحون بمقدمه؟ هل يفرحون بمجيئه؟ هل تشتعل أنفسهم سروراً وغبطةً ويقولون في أنفسهم: الحمد لله، جاء من يرشدنا ويعلمنا. أم تعلوا وجوههم قترة وغبرة، ويتوارون من المجلس من سوء ما رأوا، ويريدون اللهو؟ إذاً -أيها الإخوة- الانفعال من سمات الشخصية الإسلامية، هذا الإحساس المرهف، هذه النفسية الرقيقة التي تتأثر لأدنى المواقف وأدنى الكلمات، حال إخواننا المسلمين اليوم في العالم يرثى له من التشريد والتقتيل والسجن والمجاعات، وأنواع الأوبئة والأمراض والاضطهاد، وأحوال الأقليات الإسلامية في العالم، من الذي يتأثر لها التأثر العملي -أيها الإخوة- الذي يؤدي إلى الدعم وإلى الإنفاق في سبيل الله؟ أشياء وأمور كثيرة جداً. نسأل الله -سبحانه وتعالى- بأسمائه الحسنى أن يجعلنا وإياكم ممن يتأثرون بالوحي، وممن ينتفعون بهذا التأثر إلى أعمال البر وأعمال الخير بجميع أنواعها. وصلوا على نبيكم صلى الله عليه وسلم فإن الله تعالى أخبر أنه من صلى عليه فإنه عز وجل يصلي عليه بتلك الصلاة عشر مرات، وأخبر عليه الصلاة والسلام أن من صلى عليه في يوم الجمعة وليلة الجمعة فله أجر عظيم، فصلوا عليه -أيها الإخوة- سائر هذا اليوم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.

المرأة المسلمة على عتبات الزواج [1 - 2]

المرأة المسلمة على عتبات الزواج [1 - 2] يتحدث الشيخ في هذه المادة عن المشاكل والعقبات التي تحدث للمرأة وهي على عتبة الزواج، ومن ذلك: تظاهر المتقدم للزواج بالالتزام ثم يتبين العكس، وكذلك تحدث عن البحث عن زوج أو زوجة بطريقة صحيحة، وحذر من انفتاح المرأة عبر الهاتف بالكلام مع الرجال، كما تكلم عن المفاسد التي تحدث بعد الزواج من الرجل الفاجر، وفي الأخير ذكر وصية أمامة بنت الحارث لابنتها عند زفافها.

مشكلة عدم قناعة الزوج بزوجته وكذا العكس

مشكلة عدم قناعة الزوج بزوجته وكذا العكس الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً وبعد: فهذه فرصة طيبة أن نلتقي من رواء حجاب لنتذاكر سوياً في مسألة من المسائل المهمة التي تحتاج إليها المرأة المسلمة، وسيكون حديثنا - إن شاء الله - عن المرأة المسلمة على عتبة الزواج، وهذا موضوع عبارة عن جزء من موضوعٍ أطول منه وهو الكلام عن العلاقات الزوجية في الإسلام، وعن أسباب السعادة الزوجية، ولكن سنخصص هذه الليلة بالحديث عما قبل الزواج. لقد جعل الله عز وجل الزواج نعمة من النعم التي أنعم بها علينا، فكان من آياته سبحانه وتعالى أن جعل لنا من أنفسنا أزواجاً لنسكن إليها، وجعل بين الزوج وزوجته مودة ورحمة سبحانه وتعالى، حتى تتكون الأسرة المسلمة التي يتألف منها المجتمع المسلم، ولقد كان الإسلام ديناً عظيماً عندما شرع الله فيه من الأسباب التي تكفل الاستقامة والإنتاج في الأسرة المسلمة، وحمى الله هذا المجتمع الذي يقوم على الكتاب والسنة من الرذيلة والفواحش بأنواعها، وأوجد العلاج للمشاكل أو المشكلات التي تحدث، وقبل ذلك شرع من أسباب سد الذرائع ما يمنع وقوع هذه المشكلات أصلاً، والمرأة المسلمة تحتاج إلى الزواج لعفاف نفسها، والقيام بدورها في إنجاب الأولاد وتربيتهم، والقيام بشأن الزوج والبيت، والتقرب إلى الله عز وجل بهذه الأمور جميعاً، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:31] وهذا الأمر منه عز وجل مفيدٌ جداً في حماية المرأة المسلمة من أنواع الانحراف. ولذلك نجد أن من أسباب المشكلات الحادثة في الحياة الزوجية مشكلة معينة؛ وهي قضية عدم قناعة كلٌ من الزوجين بالآخر، نجد أن من أسباب هذه المشكلة عدم غض البصر، فإذا داومت المرأة على النظر إلى الرجال الأجانب حتى انطبعت في مخيلتها صورٌ كثيرة للرجال، فأنَّى لها أن تقنع بمن يتقدم إليها أو بزوجها إذا كانت متزوجة؟! وقل العكس بالنسبة للرجل أيضاً، عندما يفتح الرجل بصره على أشكال متنوعة من النساء، في مسلسلات وعلى صفحات المجلات، وفي الشارع وفي الطريق والأماكن العامة فإنه لا بد أن يحصل عنده نوعٌ من عدم القناعة بزوجته في الغالب، أو إذا أراد أن يتقدم لخطبة امرأة فإنه لا يزال يقارن بين الصور التي نظر إليها وبين الصورة التي يراها أمامه، وفي الغالب فإن الصور التي رآها ستتميز بوجه من الوجوه عن الصورة التي ينظر إليها بعد زواجه أو أثناء خطبته، ولذلك كان من حكمة الله ومن رحمته أن جعل غض البصر أمراً واجباً حتى تسد جميع منافذ الشيطان. ومن صفات المرأة المسلمة المتعلقة بمرحلة ما قبل الزواج: الحياء، وهو لازم ومطلوب للمرأة في جميع أوقات حياتها، ولكنه مهمٌ جداً خصوصاً للفتاة في سن الشباب، فإن الإسلام يكره المرأة الخراجة الولاجة المزاحة المتبذلة التي لا تقر في بيتها، كما قال الله عز وجل: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:33] ولذلك عندما وُصِف صلى الله عليه وسلم في حيائه بأنه أشد حياءً من العذراء في خدرها، وهذا دالٌ على شدة حيائه صلى الله عليه وسلم؛ لأن المرأة في تلك الحالة تكون في أشد درجات الحياء، وبعض الفتيات قد تحاول إظهار نفسها أمام بنات جنسها بشخصية غير شخصيتها الحقيقية بنوع من التبذل لتشتهر بينهن، ولكن هذا الظهور بهذا المظهر المتكلف يساعد أو يسبب زوال أو تخفيف الحياء في نفسها، ولا بد أن تحافظ المرأة المسلمة على غض بصرها وعلى حيائها، حتى تهدى إلى الزوج المسلم وهي في كامل درجات الصيانة والعفاف، ولا يكون عندها دافعٌ أصلاً لمد عينيها إلى أمور أخرى. كثيرٌ من الفتيات يتقن للزواج ولكن الذي يحصل عند البعض إضاعة الأوقات بالأماني، وإشغال الذهن بفارس الأحلام، فيضيع وقت ثمين من غير طائل، والإنسان مسئول عن تفكيره مسئول عن الأمور التي يشغل بها ذهنه، ولذلك يكون إشغال المرأة نفسها بدعاء الله أن يرزقها زوجاً صالحاً هذه عبادة، بدلاً من أن تضيع الوقت وتسرح في الأفكار وهي تفكر في طبيعة القادم الجديد، وهذا أمر نجده في الواقع موجوداً يسبب تشتت الفكر، وانشغال المرأة بالخيال عن الواقع الذي تعيش فيه، وتنشغل بالخيالات عن التفكيرات الجادة التي من المفروض أن تكون منشغلة بها، ومن التبذل الذي ذكرته أن تكون الفتاة في نوع من الصيانة، فمثلاً: لا تعرض نفسها على الرجال، ونجد في سيرة الصالحات أن هناك وسائط تتم بين المرأة والرجل المتقدم، ومسألة تخطي الأبوين من المسائل التي لا تحمد عقباها في العادة، والزوج في العادة هو الذي يبحث عن زوجة. وأما الزوجة فلا مانع من أن يبحث وليها عن زوج صالح لابنته أو لأخته، وهذا واقع في سير الصحابة رضوان الله عليهم، وأن يعرض الرجل ابنته أو أخته على الرجل الصالح هذا كان من سنن السلف، لكن لا أن تعرض المرأة نفسها. ولا داعي للاستدلال بالواهبة نفسها للرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم له خصوصيات.

مأساة امرأة مسلمة مع زوج فاجر

مأساة امرأة مسلمة مع زوج فاجر السبب الذي من أجله نطرق هذا الموضوع وهو موضوع " المرأة المسلمة على عتبة الزواج " لأننا نسمع قصصاً كثيرة في الواقع تدل على أن هناك نقصاً في الوعي من بعض النساء في موضوع اختيار الزوج أو الموافقة عليه. فمثلاً أذكر لكن -أيتها الأخوات الكريمات- نموذجاً أو أكثر من أمور واقعية حصلت عند بعض النساء اللاتي تزوجن، حتى يتضح لكن ما أريد الوصول إليه من وراء عرض هذا الموضوع، امرأة تقول: تزوجت من رجل كان يظهر في البداية الخير والاستقامة، قدم إلي هدايا، لاطفني ولاطف أهلي، سألنا عنه قالوا: إنه إنسان طيب وأخلاقه طيبة، وبعد الزواج تبين ما يلي: تارك للصلاة، يستهزئ بي وبديني وحجابي، أعطاني مهلة لأنزع الحجاب وأكشف وجهي على إخوانه، وأقدم الضيافة لأصحابه الرجال الأجانب، يقوم بنزع الحجاب عن رأسي بالقوة، حرمني من المناسبات الطيبة ولقاء أخواتي في الله، وحضور المحاضرات الإسلامية، مزق كتبي، وكسر الأشرطة الإسلامية التي لدي، يضربني باستمرار ويشتمني ويهينني حتى أمام أهله، ويقول: أنا أخذتك من الشارع، ومرة انفرد بي في غرفة وضربني حتى سال الدم، أسقطت مرتين أحدهما طفل له أربعة أشهر دفناه، الإسقاط كان نتيجة الضرب، يسافر إلى الخارج - بانكوك - لديه خطابات من نساء هناك، وصور بين أوراقه، يسافر للبلاد البعيدة للفاحشة، وللبلاد القريبة لشرب الخمور، ويتذرع بأن لديه أعمالاً تجارية، وهو يتعاطى المخدرات، لا ينفق علي وأعطاني مرة مائة ريال وقال: هذا مصروف السنة، اشتريت كثيراً من أغراض البيت من مالي الخاص حتى الحلويات أوفرها مما يضيفني إياه الناس من أجل الأولاد، يستهزئ بالدين ويقول: ما عليك مني، إذا أراد ربي أن يهديني هداني لا دخل لك بي، أنا ربي يحاسبني، أنا قلبي نظيف، (البيرة) التي أشربها فيها (1%) كحول، وإذا سألته: لماذا كنت سكراناً الليلة الماضية؟ قال: كنت أمثل عليك، إذا رآني أصلي وأدعو ربي قال مستهزئاً بي: أنت شحاذة ما عندك إلا الشحاذة من الله، يطلق في كل حين، أنا أظن أني أعيش معه في الحرام. هذا نموذج من النماذج الموجودة في المجتمع نسأل الله العافية، لكن نقول: أيتها الأخوات! كيف وصل الأمر أصلاً إلى هذه الدرجة، وكيف حصل هذا أصلاً؟ ما حصل إلا لنتيجة نقص الوعي لدى مثل هذه المرأة المسكينة، طيبة متدينة لكن ليس هناك أسس تنظر من خلالها عند الموافقة على الزوج، ليس هناك وعي في البحث والسؤال، ليس هناك طرق صحيحة يعمل بها، ولذلك تكون النتيجة كوارث مدمرة، واكتشافات لمصائب، ولكن بعد فوات الأوان، اكتشافات في مراحل متأخرة جداً وكثير من الأحيان يريد أهل الفتاة أن يستمر الوضع لكي يستروا على ابنتهم ولا يريدون المشاكل وقد لا يكون الوضع في بيتهم مهيأ أصلاً لرجوع الفتاة وهم أرادوا أن يزوجوها، وينتهي هذا العبء والحمل، فيكون الرجوع مسألة صعبة جداً وقد تستمر المسكينة في هذه الحياة والسنوات تمضي وهي في هذا الذل والبؤس. بعض النساء لا يعرفن أضرار الزواج من الشخص الفاسق الفاجر، ويكتفين بالسؤال الأول من أول وهلة، فقد يكون الشخص المسئول هو قريب لهذا المتقدم، وقد تكون خالته أو عمته وبالطبيعي فإنهن سيثنين عليه، فليست الأقارب الخلّص هنّ اللاتي تعتمد شهادتهن أصلاً في الرجل. وأضرار الزواج من الكافر المرتد تارك الصلاة المستهزئ بالدين لا تحصى ولا تعد، وهذه نماذج ذكرناها نتيجة طبيعية حتمية لمن تتزوج برجل لا يخاف الله، ولو كان الشخص ذا أخلاق طيبة، ولكن يكون لديه انغماسٌ في الحرام كأن يعمل بوظائف محرمة كوظائف البنوك مثلاً، فهل يكون من الأمر المحمود أن تأكل من الحرام، وأن تطعم أولادها من الحرام، وتشرب من الحرام، وتلبس من الحرام وهكذا؟ وأي خيرٍ وأي بركة يكون في حياتها وحياة أولادها وبيتها وهي أهملت عندما عرفت بأن هذا وضع الزوج ولكن قالت: أقدم عليه؟! يجب أن تكون المحاولة قائمة، والجهد مستمر لكشف المزيفين، وهذه طائفة من الناس يعلمون أن المرأة في الغالب تريد المتدين، ولذلك قد يظهرون التدين والالتزام لأجل الزواج فقط، قد يصلي في المسجد لأجل الزواج فقط، وينبغي أن يكون سؤال المرأة عبر أوليائها، أو عبر نساءٍ أخريات حتى تصل المسألة إلى أناس ثقات عندهم معلومات كافية عن وضع هذا الرجل، وقضية التحري مطلوبة ومهمة في هذا العصر الذي اختلط فيه الحابل بالنابل، وأصبح الوصول إلى معلومات صحيحة أمراً متعسراً، لذلك كان لا بد من دراسة الموضوع دراسة كافية، وعدم التسرع، وكثيراً ما تكون المرأة هي الخاسرة في مثل هذه القضايا. هناك خطأ يحصل أحياناً لا بد من الإشارة إليه، وهو: أن بعض النساء قد يحصل عندها جرأة في السؤال عن الشخص، فتتصل هي مباشرة بمديره في العمل، أو تتصل مباشرة بأصدقائه، وتسأل بنفسها تريد أن تصل إلى معلومات، ولكن هذا الأمر ينافي مسألة الحياء التي سبق أن ذكرناها في البداية، وليس من المناسب أن تقوم المرأة بسؤال الرجال، يمكن أن تصل إلى الرجال عن طريق أوليائها، أو عن طريق صاحباتها المتزوجات من أزواج ثقات، فإنها تستطيع أن تصل في النهاية للمعلومات لكن بطريقة سليمة، ومسألة انفتاح المرأة على الرجال في الهاتف والكلام في الاجتماعات مسألة لا تحمد، وكثيراً ما كان لها نتائج سلبية جداً.

مسألة تظاهر الرجل بالالتزام قبل الزواج

مسألة تظاهر الرجل بالالتزام قبل الزواج أريد أن أقول أيضاً: إن المتقدم أحياناً قد يزور أهل الفتاة، فإذا أذن المؤذن انطلق إلى المسجد ويريهم أنه يصلي، فعندما يدخل بها يظهر على حقيقته ويظهر على تركه للصلاة، ثم تقول إحدى النساء المسكينات: لا يصلي ويقول: ما عليك مني أنا سأعاقب بالنار لوحدي، أو يقول: لا يدخل النار أحد إلا أنا؟! ويقول متباهياً لزملائه في العمل: إذا أذن المؤذن فسوف أذهب إلى النوم أو أنشغل بأي شيء. ولا يحصل هذا الانشغال إلا إذا جاء وقت الصلاة، وهنا ينبغي عدم الانخداع بالمظاهر، أو الأشياء التي تبدو للوهلة الأولى، لا بد أن يكون هناك وعي في مسألة البحث في حال المتقدم، أحياناً يحصل المحذور ويصبح ويصير العقد على شخص، وبعد العقد يتبين حال الشخص، ولكن قبل الدخول هنا لا بد أن تكون المرأة لها موقف، وكونه حصل العقد هذا نصف المشوار، والرجوع في هذا الوقت أسهل بكثير جداً من الرجوع بعد الدخول، اسمعن إلى هذه القصة: امرأة ملتزمة في الدين عقدت على شخص، ظهر لهم في البداية أنه إنسان متدين، وكانت تخرج معه أحياناً ولاحظت مرة من المرات أن الرجل إذا ظهر صوت الموسيقى في السيارة لا يهتم بخفض الصوت، فبدأت تخاف أن هذا الرجل غير متدين، الحسن البصري رحمه الله يقول: [ما أخفى إنسان شيئاً في صدره إلا وأظهره الله على صفحات وجهه أو فلتات لسانه] هذه قاعدة مهمة جداً أرجو أن تنتبهن لها أيتها الأخوات، لذلك فإن مثل هذا الشخص قد يُكشف وهذه المرأة لما رأت الشخص عنده نوع من التهاون بهذه الأشياء أرادت أن تستدرج الرجل وكان لديها شيء من الذكاء واستطاعت أن تصل به إلى النتيجة، فسألته: ما رأيك بالمغني الفلاني؟ ثم قالت له: أنا أحب أغاني فلان، وسردت له ما تعرفه عن هذا المغني في جاهليتها، وهذا الرجل كان طبعاً في البداية مستغرب من الحديث، ولما حصل الاسترسال في الكلام عن أمور من الجاهلية وقع الرجل ثم انفتح، وقال: الحمد لله، أنا كنت أظنك متشددة ومتزمتة ولكن -الحمد لله- أخيراً ظهرنا مثل بعض، وانفتح الرجل وصار يتكلم عن المعاصي والمنكرات، والأغاني والمسلسلات، وعما يراه ويسمعه، وظن بأن المرأة مثله وهي تقول وتومئ برأسها تستدرجه: نعم ثم. وبعد ذلك أوصلها إلى البيت فاتصل أهلها بعد ذلك، وقالوا للرجل: إن البنت لا تريدك. ولكن الوصول إلى هذه المرحلة أصلاً خطر، لكن نقول للمرأة وللفتاة: لو حصل هذا لا يعني إكمال المشوار وقد تبين لك بعد العقد أن الرجل ليس من أهل الدين، وأنه لا يكافئك بالدين، فإذاً ليس من الخير الاستمرار معه، وطلب الفسخ والطلاق في هذه الحالة هو الشيء الذي من المفروض أن يحصل. هناك بعض النساء يقلن في أنفسهن أمراً وهو أنها تقول: أنا معتادة الآن على عيوبه وسأحاول أن أهديه إن شاء الله، ولعل الله أن يهديه على يدي، ولعله يهتدي ويتأثر مني، هذا الكلام في الغالب لا يحصل لأسباب، منها: أن الرجل هو الأقوى، وهو المؤثر، وهو صاحب الشخصية وصاحب القوامة على المرأة، ولذلك من الصعب أن يتأثر الرجل بالمرأة، نحن لا ننكر أن هناك حالات متعددة يتأثر فيها كثيرٌ من الرجال بنسائهم، وكانت المرأة سبب هداية الرجل، وتأثر رجالٌ من تدين نسائهم، وكانت المرأة فاتحة خير كبير على الرجل، لكن أقول: إن المرأة عليها ألا تتساهل، ولا تقدم على مثل هذا إلا إذا كانت القرائن قوية جداً في إمكان إصلاح هذا الرجل، كأن يكون رجلاً مؤدٍ للواجبات على خلق حسن رجل عفيف، لكن قد يكون عنده بعض المعاصي البسيطة أقصد بالنسبة لغيره، كأن يستمع الغناء لكنه ليس متعلقاً به، إنسان قد يكون في ثوبه شيءٌ من الإسبال لكنه يقبل النصيحة، إذا توفرت القرائن على أن الرجل من الممكن إصلاحه، وتبين من مناسبات كثيرة أنه لين العريكة، وأنه يتقبل، وأنه إنسان على بداية الالتزام، فعند ذلك نستطيع أن نقول لهذه المرأة: توكلي على الله، واعزمي واستخيري الله في هذا الشخص ولا مانع من الإقدام عليه ما دام أنه يتأثر ويقبل النصيحة، وليس معانداً ولا متعجرفاً، فعند ذلك قد يكون هذا القرار فيه شيء كبير من الصواب.

البحث عن زوج بطريقة صحيحة

البحث عن زوج بطريقة صحيحة هناك مشكلات كثيرة تحدث الآن في موضوع الزواج منها: كيف يتم الربط بين الشاب الصالح والفتاة الصالحة؟ طبعاً أهل الزيغ والضلال عندهم أساليب عجيبة في تعرف الفتيات على الرجال ولذلك تجدين -أيتها الأخت المستمعة- صفحات بعض المجلات عبارة عن صفحات للتعارف، وتنشر في بعضها الصور أو بدون صور مربع خالٍ وتحته بيانات ومعلومات: فلانة الفلانية العمر كذا البلد كذا المستوى التعليمي كذا وتريد رجلاً كذا، وكذلك رجال يكتبون في (صفحات التعارف) كما يسمونها، وهذه طريقة من أفشل الطرق، وكون هذه المرأة تعرض نفسها بهذا الشكل شيء مزرٍ، وكون الواسطة أو الوسيلة التي يتم بها هذا هي وسيلة من وسائل الفساد والمجون؛ مجلات سيئة وتافهة هي التي تصل الرجال بالنساء وهذه لا شك أنها وسيلة من وسائل الفساد. والحقيقة أن كثيراً من النساء لا يعرفن إلى أين يتوجهن بحل لمشاكلهن، ولذلك نجد كثيراً من الفتيات خصوصاً في مرحلة المراهقة يتصلن لمحرري الصحف، أو بمحرري بعض الزوايا، أو بعض الصفحات في بعض المجلات والجرائد، وأحياناً ينطلقن من إخلاص ومن إرادة لمعرفة الحل ولكن يتجهن إلى الفسقة من أمثال هؤلاء المحررين طالبات حل مشاكلهن، وأنَّى لهذا الفاسق وأنَّى لهذا المفسد الذي يكتب بيده ما يغضب الله في صفحات الجرائد والمجلات أنَّى له أن يقدم الحل الشرعي لمثل هذه الفتاة الواقعة في مشكلة؟! ويجب على المرأة أن تتجه لأهل الخير والصلاح، ويجب أن يقوم الصالحون والصالحات بدور الدلالة على الخير، يجب -مثلاً- أن يقوم بعض الأزواج وزوجاتهم بعمل حلقات للوصل بين الصالحين والصالحات، فمثلاً: يقوم الزوج من جهته بجلب المعلومات عن رجال صالحين يريدون الزواج، وتقوم الزوجة بحلقة الوصل مع النساء، فإذا عرف الزوج أن أحد إخوانه يبحث عن زوجة يخبر زوجته وهي تبحث له فيمن تعرف، هذه من الطرق الطيبة التي يجب أن تشجع وأن تكثر. أما ما يحدث من بعض الفتيات اللاتي لا يتقين الله في مسألة البحث عن الزوج بطريقة غير شرعية، مثل: الهاتف، فيتصلن بالرجال الأجانب، أو يقبلن من الرجال الأجانب الاتصال بهن وتستمر الفتاة في الكلام في الهاتف، وترتبط بعلاقة مع هذا الشخص عبر الهاتف، وكثيراً ما يكون هذا الرجل لعاباً مستهزئاً متحايلاً يريد أن يوقع هذه المسكينة فريسة له، ويؤمنها في الزواج منها، وبأنه يحبها حباً شريفاً عفيفاً، وأن آخر هذه العلاقة التلفونية ستنتهي بزواج سعيد، هذا الكلام المعسول ينطلق من الكثيرين من الفجار عبر أسلاك الهاتف، وكثير من الفتيات خصوصاً في المراحل المبكرة من العمر ينخدعن بمثل هذا الكلام فتنجر للكلام مع الرجل، وتفتح صدرها له، وتفشي له بالمعلومات الخاصة عن أهلها وبيتها، وعن شخصيتها، وعن رغباتها وأحلامها، وعن تفكيرها، ويلعب بها ذلك الخبيث بالهاتف. وفي كثير من الأحيان بل هو الأكثر وهو الغالب أن هذه العلاقات تنتهي نهاية مأساوية، ويلعب بها ثم يتركها فتتورط وقد عرف اسمها، ورقم هاتفها وعنوان بيتها، وما كان الهاتف في الغالب أبداً وسيلة خيرٍ مطلقاً للتزويج. شوهد رجل متزوج لكن فيه فسق وفجور تزوج امرأة متحجبة، وكان يبحث عن المتحجبة، فاندهش أحد الناس ممن يعرفه وقال له: عجباً لك يا فلان! أنت إنسان غير معروف بالاستقامة والصلاح، فلماذا تحرص على المرأة المحجبة؟ ولماذا تريد الزواج بامرأة متدينة؟ فقال: أنا أريد إذا ذهبت إلى البيت أن أجد زوجتي في البيت، وليست خارجة مع شخص آخر، وهذا شيء حقيقي، كثير من الناس يريدون الاستقرار في البيت مع أنهم يقومون بعمل المعاصي والمنكرات، ولذلك الرجل الذي يستخدم الهاتف في إقامة الاتصالات والعلاقات هذا في داخله يحتقر تلك المرأة التي يتصل بها وتستجيب له، وهو يعلم -فعلاً- بأن هذه المرأة لا تصلح أن تكون زوجة، ولا تصلح أن تكون ربة أسرة وربة بيت؛ لأنها ليست أمينة، لو كانت أمينة لما حصل هذه الاستجابة منها، ولذلك فإن الورطات الحاصلة كثيرة في موضوع قضايا الاتصال بالهاتف.

رؤية الخاطب لمخطوبته والعكس

رؤية الخاطب لمخطوبته والعكس هناك أيضاً فيما يتعلق بموضوع المرأة المسلمة على عتبة الزواج موضوع رؤية الخاطب للمخطوبة والمخطوبة للخاطب، ورؤية الخاطب للمخطوبة والمخطوبة للخاطب من سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأمر عليه الصلاة والسلام ذلك الرجل، فقال: (اذهب فانظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما) وفي رواية: (اذهب فانظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئاً) وكان في أعين الأنصار شيءٌ من الصغر فأمره أن يذهب فينظر حتى يرتاح لها ويطمئن لشكلها؛ لأن هذا الزواج ليس لعباً وله ما بعده. وأحياناً تتحكم بعض العادات الاجتماعية في تطبيق هذه السنة، وتصبح الرؤية مستحيلة عند بعض الناس الذين لديهم عادات عجيبة، وتقاليد ليست من الإسلام، فإننا نرى بعض الآباء -مثلاً- مع الأسف لا يمكن أن يسمح للخاطب أن ينظر إلى ابنته أبداً، لكن في نفس الوقت ليس عنده أي مانع أن يأخذ البنت بالسيارة إلى السوق لتمشي في السوق متبرجة أو بغطاء شفاف ينظر إليها الغادي والرائح، سبحان الله! في الحرام لا مانع عندهم أن يرى الرجال الأجانب بناتهم أو أخواتهم، لكن إذا جئنا للحلال وإذا جئنا إلى السنة يقولون: لا يمكن أن ينظر، هذه عاداتنا، وهذه تقاليدنا. فإذا تأكد الأب أو الولي بأن الخاطب جادٌ وأنه من أهل الصلاح والاستقامة، فإنه لا بد له أن يمكنه من تطبيق هذه السنة ومن تطبيق الأمر الذي جاءت به السنة وهو نظر الخاطب إلى المخطوبة، وعلى فرض أن هذا الأمر لم يتم وأن الأب ظل مصراً على رأيه فلا أقل من أن تأخذ المخطوبة وصفاً كاملاً ودقيقاً للمتقدم كما يأخذ هو ذلك عن طريق أمه أو خالته أو عمته من النساء اللاتي ذهبن يخطبن هذه المرأة له، وهنا يباح من الأمور في الوصف ما لا يباح في غيره، هنا موضوع زواج وموضوع ارتباط بين شخصين، لا بد أن يكون هناك بينة قبل الإقدام عليه، وهذا عمر وهذه معيشة، وزمن طويل. وهذا حديث يبين كيف كانت استجابة الصحابة رضوان الله عليهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم في قضايا التزويج، كانت الأنصار إذا كان لأحدهم أيمٌ لم يزوجها حتى يعلم هل للنبي صلى الله عليه وسلم فيها حاجة أم لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل من الأنصار: زوجني ابنتك، فقال: نعم يا رسول الله! وكرامة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونعم عينه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لست أريدها لنفسي، قال: فلمن يا رسول الله؟ قال: لـ جليبيب وجليبيب رجل من الصحابة لكنه لم يكن غنياً، ولا وجيهاً، فقال الرجل: يا رسول الله! أشاور أمها، وهذا يعني أن الأم لها رأي في الموضوع، فأتى الرجل لزوجته الأم، فأتى أمها فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب ابنتك، فقالت: نعم، ونعمت عينه، فقال: إنه ليس يخطبها لنفسه إنما يخطبها لـ جليبيب، فقالت: أجليبيب؟! لا لعمر الله لا نزوجه، فلما أراد أن يقوم ليأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره بما قالت أمها، قالت الجارية: من خطبني إليكم؟ فأخبرتها أمها، قالت: أتردون على رسول الله أمره؟! ادفعوني فإنه لن يضيعني، فانطلق أبوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره قال: شأنك بها. فزوجها جليبيباً، ثم خرج جليبيب رضي الله عنه في غزوة فاستشهد، فكانت هذه المرأة من النساء الخيرات اللاتي عرف عنها الخير قبل زواجها وبعد زواجها، وهذا الحديث صحيح رواه الإمام أحمد في المسند. والشاهد هو قبول إشارة الرجل الطيب الخبير الصالح بالرجل المناسب للزوجة، هذا مما يوفر كثيراً من العناء، ولا بد للفتاة -عندما يتقدم إليها رجل- من أمرين: الاستشارة والاستخارة، والاستشارة هي مرحلة قبل الاستخارة، فإن معرفة المرأة للرأي ومعرفة ماذا يقول الناس الثقات في أمرها وأمر المتقدم إليها تساعد كثيراً في توضيح الرؤيا وفي اتخاذ القرار، ثم تكون الاستخارة في اللجوء إلى الله عز وجل. بعض النساء تقول: هل أصلي صلاة الاستخارة مرة واحدة فقط أم أستطيع أن أصلي أكثر من مرة؟ فنقول: ذكر أهل العلم أنك تستطيعين أن تصلي أكثر من مرة صلاة الاستخارة حتى يحصل الارتياح أما ما يقوم به بعض الناس أو بعض الفتيات من أن تستخير لأختها أو البنت تستخير لأمها فلا أصل له في السنة، والاستخارة تكون من المرأة صاحبة الأمر، لا يستخير أحد عن أحد، وإنما يقوم بالاستخارة الرجل أو المرأة صاحبة الشأن: (إذا هم أحدكم بأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة) الحديث.

التفاؤل عند الدخول في الحياة الزوجية

التفاؤل عند الدخول في الحياة الزوجية ولا بد من الدخول في الحياة الزوجية بنفسية التفاؤل، لا نفسية الخوف والتشاؤم، وهنا نريد أن نذكر مشكلة بسيطة تحدث أحياناً وهي: أن هذا الخاطب أو هذه المخطوبة يكون ماضيها ليس بالحسن، ماضٍ فيه بعض المعاصي والمنكرات، وهنا تتحرج المرأة أو قد يتحرج الرجل: هل يجب عليه أن يخبر الفتاة أو أهل الفتاة بماضيه؟ ثم تقول هي في نفسها: هل يجب علي أن أخبر هذا الرجل بأنني كنت مثلاً أعاكس بالهاتف؟ فنقول: لا يشترط ذلك أبداً، وما دام ستره الله وسترها فليستر ولتستر على نفسها هذا إذا حصلت التوبة إلى الله، وانقطع ذلك المنكر، وتبدلت تلك الحياة السيئة بحياة طيبة صالحة، فما دامت التوبة حصلت فإنه لا يصلح أبداً ولا يشترط مطلقاً أن يصارح كلٌ منهما الآخر بما كان منه في الماضي، شيء حصل وانتهى والله يغفر ويتجاوز. وهو عليه ألا يسمع كلام الناس فيها خصوصاً عن الماضي إذا تابت إلى الله، وهي كذلك إذا تأكدت من صلاحه واستقامته الآن، وأنه قد تاب توبة صالحة فإنها لا تسمع لكلام المجرحين فيه. وهناك أمور قبل الزواج تكون أحياناً عقبات، مثل: المرأة الموظفة ما هو رأي الزوج في الوظيفة؟ هل يريد منها أن تترك الوظيفة أو أنه يسمح لها بالاستمرار في الوظيفة؟ المرأة تدرس في الكلية أو في الثانوية: هل يسمح الزوج لها بالاستمرار في التعليم أم لا؟ أولاً: هذه المسألة لا داعي لأن توضع وكثير من الناس يخطئون فيضعون شرط إكمال المرأة للوظيفة أو التعيين أو الدراسة قبل صلاح الرجل وتدينه، قبل التأكد من أي شيء، أول شيء يقال للرجل: المرأة تريد أن تعمل في الوظيفة أو تريد أن تستمر في التعليم وهكذا. ولكنني أقول في نفس الوقت: إن الأمور ينبغي أن تكون واضحة من البداية، فبعض الناس يقولون: نتزوج وبعد ذلك لا نختلف، أو نزوجه ثم لا نختلف، أو هو يقول: أتزوج ثم لا أختلف. لا، ينبغي أن تكون الأمور واضحة من البداية، قد يتفق هو وإياها مثلاً على ترك الوظيفة، أو يتفق هو وإياها على الاستمرار في الوظيفة، وتفادياً لحصول الاختلافات في مسألة الراتب فإنه لا بد أن تكون الأمور واضحة أيضاً، فهو قد يتفق معها على أن تستمر في الوظيفة على أن تعطيه جزءاً من الراتب مقابل عدم تفرغها التام لشئون البيت، وإذا اصطلحت هي وإياه على أي شيء كان طيباً، وإذا شترطت هذا الشيء في العقد كان لازماً للرجل، فإذا لم تشترطه في العقد فإنه ليس بلازم، فإن له أن يمنعها من الدراسة أو الوظيفة إذا لم يكن ذلك شرطاً في العقد. المقصود هو أن تكون المسائل واضحة حتى لا تحدث مشاكل في المستقبل، وفي الوقت الذي نقول فيه للمرأة: المهم الزواج، قدمي الزواج على أي شيء، وما دام الرجل صالحاً نقول للرجل: لا تجعلها عقبة، تزوجها ثم حاول أن تقنعها بالحسنى والتجربة -تجربة الحياة الزوجية- ستبين لها على أية حال ما هو الأصلح، وإذا كان الزوج عاقلاً والزوجة عاقلة فإنهما -إن شاء الله- لن يختلفا على أي مسألة من هذه المسائل في الغالب.

عقبات في طريق الزواج

عقبات في طريق الزواج

رفض الزواج برجل قد تزوج ثم طلق أو رجل عنده أولاد

رفض الزواج برجل قد تزوج ثم طلق أو رجل عنده أولاد أحياناً يتقدم المرأة رجل سبق له الزواج، فبعض الناس يجعلون هذا عقبة، يقولون: سبق لك الزواج وطلقت! يمكن أنك إنسان سيئ؛ لماذا طلقت؟ ولماذا لم تكمل الحياة مع زوجتك الأولى؟ ولماذا ولماذا؟ لكن الحقيقة أن الرجال يختلفون فمنهم -فعلاً- من يكون طلق زوجته لأنه إنسان سيئ لا يمكن أن تعيش معه وطلبت الطلاق وطلقها، وفي بعض الأحيان يكون الرجل هو المظلوم وتكون المرأة لا يمكن أن يُعاش معها وأن يصبر عليها فطلقها لسوء في خلقها أو في دينها، فيجب هنا أن يتأكد لماذا طلق الرجل؟ فإذا كان رجلاً معروفاً بالصلاح معروفاً بالاستقامة وسبب الطلاق هو أنه لم يصبر منها على السوء في دين أو خلق، أو لم يتفاهما بدون أسباب شرعية، لم يحصل اتفاق، أو تقابل نفسي، فعند ذلك لا يصح أن تجعل قضية أن الرجل سبق له الزواج، وتجعل هذا الأمر عقبة في طريق قبول هذا الشخص في تقدمه لإحدى النساء، وتزداد المشكلة عندما يكون للرجل أولاد من امرأة سابقة، فبعض النساء تقول: لا أريد الرجل لا يمكن أوافق عليه، لماذا؟ تقول: عنده أولاد، أنا ما عندي استعداد أن أربي أولاد غيري، نقول: التكافل من دين الإسلام، وإذا كان الرجل طيباً وصالحاً لم يتقدم أحسن منه أو لم يتقدم أحد والمرأة قد تكون في سن متقدمة نوعاً ما، فلماذا ترفض؟ لأن عنده أولاد، أليست تؤجر على تربية أولاد زوجها ولو من امرأة أخرى؟ صحيح أن المسألة فيها إشكالات اجتماعية، صحيح أن القضية ليست مثل أن يتقدم إنسان لم يسبق له الزواج ولا يوجد عنده أولاد، لكن لا يعني أن الإنسان الذي يأتي وعنده أولاد يشطب عليه ويوضع في القائمة السوداء لمجرد أنه سبق له الزواج أو مجرد أن عنده أولاداً.

موافقة المرأة الزواج برجل عنده عيوب خلقية ثم ترفضه

موافقة المرأة الزواج برجل عنده عيوب خَلْقية ثم ترفضه كذلك من الإشكالات التي تحدث أن المرأة قد توافق على الرجل في البداية وفيه بعض العيوب -مثلاً- تكون امرأة متحمسة وتطلب صاحب الدين -مثلاً- فيكون الرجل فيه بعض العيوب الخلقية على سبيل المثال، قد يكون فيه عيب في خلقته قد يكون إنسان ضعيف ذات اليد ليس ميسوراً وهي من عائلة غنية، وقد تكون أيضاً جميلة وهو فيه عيب، ففي البداية بعض الفتيات يتحمسن فيوافقن، نقول: إذا كان الحماس صادقاً فإن الله سيوفقها وإياه، ولكن أحياناً يكون حماساً في القبول لكن دون مصارحة حقيقية للنفس، فإذا خف حماس المرأة بعد الزواج بدأت تنظر لماذا أغفلته سابقاً، وبدأت تقول: هاه هذا غير مكافئ لي، هذا غير مساوٍ لي، أنا أستحق أحسن من هذا الرجل وهكذا، فيجب أن تصدق المرأة مع نفسها قبل الموافقة. والرجل ما دام صالحاً وذا دين وخير فإن الدين والصلاح والخلق الحسن أهم من بعض العيوب الخَلْقِيَّة، ولكن مع ذلك نقول للمرأة: أنت أعرف بنفسك، إذا كنت تعرفين بأنك لن تصبري على الحياة معه في المستقبل فلا بد من اتخاذ الموقف الصحيح من الآن.

رفض المرأة الزواج برجل متزوج

رفض المرأة الزواج برجل متزوج هناك أمر آخر وهو أن لدى بعض النساء موقف معين من زواج الرجل بامرأة أخرى، ونحن نقول: ما دامت المرأة تقر بما أنزل الله وتعترف به فهذا هو الأساس، أما كونها يوجد عندها غيرة فهذا شيء طبيعي وقد حصل مع نساء الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن ينبغي ألا تتراجع المرأة تحت مصارف الغيرة فتنكر شرع الله أو تبغضه، فإن المسألة إذا وصلت إلى هذا الحد فإنه يخشى عليها من الكفر والعياذ بالله، وبعض النساء يتحمسن في البداية وتقول: أنا راضية بقضاء الله، وإذا أردت أن تتزوج أنا ما عندي مانع إلخ، فإذا تزوج حصلت المشاكل بعد ذلك، فيجب أن تنطلق المرأة من الإيمان بما أنزل الله في كتابه، وليقينها بأن ما فرض الله هو الخير للناس، وينبغي ألا تكون الدعوة القائمة عند البعض بأننا لا نرى مانعاً من الزوجة الثانية، وأننا لا نرى إشكالاً فيه، وأننا وأننا وبعد ذلك يحصل شيء آخر. أحياناً يكون من المشاكل التي توجد على عتبة الزواج أن يتقدم شخص متزوج بامرأة أخرى، وقد يكون المتقدم إليها بلغت سناً لا بأس به، وامرأة بنصف رجل خير من امرأة بلا رجل، وامرأة بربع رجل خير من امرأة بلا رجل، ولذلك بعض الأشياء الاجتماعية الموجودة الآن مما تأثرنا به من الكفار ينبغي أن يزال، وينبغي أن تكون الحياة طبيعية كما كانت عند القدامى، ينبغي أن تكون حياة طبيعية في حالة إقدام الرجل على الزواج بامرأة أخرى، كذلك عندما يتقدم لامرأة وهي تحتاج إلى رجل ويكون عنده زوجة يجب ألا تكون الزوجة الأولى عائقاً أيضاً، ويرفض الشخص لمجرد أنه متزوج، إذا كانت المرأة المتقدم لها لم يتقدم لها شخص آخر نحن نقول: لا يشترط وليس بلازم أن كل امرأة يتقدم لها إنسان متزوج عنده زوجة لا بد أن توافق عليه، نقول: هي حرة، هي لا تريد رجلاً متزوجاً ليس هناك إشكال، لكن أحياناً لا يتقدم أحد، لا يوجد إلا هذا الرجل، فهل يُرفَض لأنه متزوج بامرأة أخرى؟ خصوصاً وأنه لا يجوز في الشرع أن تسأل الزوجة أو المخطوبة، تقول للخاطب: لا أتزوجك حتى تطلق زوجتك، هذا الشرط حرامٌ؛ لأنه عليه الصلاة والسلام نهى عن هذا، ونهى أن تسأل المرأة طلاق أختها لتكفأ ما في صفحتها، ولذلك المسألة هذه مع ما فيها من الدقة والحساسية لكن الرضا بما أنزل الله عامل مهم في حل كثير من المشاكل.

تكبر الزوجة على الزوج

تكبر الزوجة على الزوج كذلك من الإشكالات التي تحصل في البداية قضية التكبر، المرأة قد تتكبر أحياناً على الرجل بسبب علمها، قد تكون أعلم منه حتى في الأمور الشرعية، وهذا ليس بعيب في الرجل أن تكون زوجته أعلم منه، هذا شيء حصل في التاريخ الإسلامي، شيء طبيعي أن تكون بعض النساء عندهن قدرة علمية، واستيعاب وحفظ، وجلد في القراءة بما يجعلها أعلم من الزوج، لكن الخطأ والمصيبة أن يحصل عندها الكبر نتيجة لإحساسها بأنها أعلم منه، وقد يكون أحياناً بسبب نسبها، ترى أنها أنسب وأرفع وأحسب منه فيحصل عندها كبر في هذا الجانب، وقد يكون بسبب ثراء أهلها ومحدودية دخله هو، وقد يكون بسبب جمالها وترى أنه إنسان غير مكافئ لهذا الجمال، وأنه إنسان فيه نوع من الدمامة فتتمرد عليه وتقع في المحرمات من عصيان الزوج ورفض طلباته ونحو ذلك، وهنا تكون المسألة قد وصلت إلى حد المعصية والمخالفات الشرعية، وبعض النساء اللاتي تكون عندها شهادة وزوجها ما عنده شهادة جامعية مثلاً؛ يحصل عندهن هذا النوع من الكبر ومن التعالي ومن شوفة النفس أو الحال، وتبدأ في التمرد وإملاء رغباتها على زوجها. نحن الآن نتكلم مع النساء ولو تكلمنا مع الرجال لقلنا كلاماً مشابهاً في تكبر الرجل على زوجته، أو ظلمه لها. من الأمور المهمة في هذا الجانب في قضية ما قبل الزواج أو على عتبة الزواج: لا بد أن تكون المرأة المسلمة عاملاً مساعداً في تيسير الزواج وتسهيله، فمثلاً: الأهل قد يطلبون مهراً عالياً وثياباً وذهباً وخدامة ونحو ذلك، ينبغي أن تكون الفتاة المسلمة المتدينة عاقلة، فتقنع أهلها بأنه لا داعي لكل هذه الطلبات، وأنها لا تريد كل هذا المهر، ولا كل هذا الذهب، ولا كل هذه الثياب، خصوصاً إذا كان الزوج ليس بمستطيع ولا مقتدر، بل إنه سيستدين لأجل الوفاء بهذه الطلبات. وهذه قصة جميلة سمعتها من رجل عن زوجته قال: في بداية الزواج عندما تقدمت طلبوا ذهباً بكذا وكذا، فقلت: لها أن تنزل إلى السوق وتختار ما تشاء، هذه الفتاة العاقلة لما نزلت إلى السوق وأهلها يقولون لها: تريدين هذا الطقم؟ فتنظر في ثمنه، فإذا كان مرتفعاً تقول: لا يعجبني، ثم يرونها طقماً آخر فتنظر في ثمنه فإن كان مرتفعاً تقول: هذا ما أعجبني وهكذا، حتى تصل إلى طقم معقول القيمة لا بأس بثمنه تقول: نعم، هذا هو الذي أريده، فهنا تكون الحكمة، لا بد أن تكون الفتاة عاملاً مساعداً في تيسير الزواج، الأهل لهم ضغط صحيح، وإذا صمموا ولا بد فهي قد توافق ظاهرياً وبعد الزواج تتنازل لزوجها عن أشياء مما غرمه من الديون ودفعه إليها فيرد به دينه، هذا أيضاً من العقل والحكمة.

رفض الزوج بسبب تعلق المرأة بصديقاتها

رفض الزوج بسبب تعلق المرأة بصديقاتها ومن المشاكل أيضاً التي تحدث على عتبة الزواج أن بعض الفتيات عندما يعقدن على أزواج يبدأ عندهن شعور في كره الزوج؛ لأنه يكون لها أحياناً أخوات ملتزمات وهي متعلقة بهن تذهب معهن وتأتي إليهن زيارات متبادلة وحلقات علم ارتباط قوي وتعاون وثيق وهكذا، فيأتيها الشيطان ويحسسها بأن هذا الزوج سيأخذها عن صويحباتها، ثم تبدأ تفكر وتقول: كيف أعيش بدونهن؟ كيف سأبتعد عنهن؟! كيف سأبتعد عن فلانة وفلانة؟ كيف سيحدث في هذه العلاقات الحميمة؟ كيف كيف؟ فتبدأ تكره الزوج وتكره الزواج وتقول: لا أريده، هذه المشكلة ناشئة من أسباب، منها: عدم تقدير أبعاد الأمور، وعدم الإحساس بالمسئولية، تقديم استئناس سنة أو سنتين على حياة كاملة، وأولاد وعفة، وإنشاء بيت إلخ، هي الآن عاشت معهن هذه الفترة فهل تضمن أنها ستعيش معهن إلى النهاية؟ ألسن سيتزوجن وينشغلن بالزوج والبيت؟ وما هو الأهم؟ هذا التفكير هو الذي يجعل الأمور ترجع وتستقر في الميزان الصحيح. ثم إننا نقول للزوج: إن عليه ألا يقطع زوجته عن صويحباتها، ولا يحرمها من زيارتهن وصلتهن، وهو عليه الصلاة والسلام كان يسرب إلى عائشة صديقاتها يلعبن معها في بداية الزواج ليراعي نفسية زوجته. وسبق أن تكلمنا عن موضوع التعلق الذي يحصل بشكل غير طبيعي وقد يصل إلى حدٍ غير شرعي من بعض الفتيات بزميلاتهن، فبقاء هذا التعلق يؤدي إلى كره الزوج في المستقبل؛ لأن قلبها ما زال متعلقاً بشخصيات أخرى، بشكل غير طبيعي ينتج عنه كره للزوج، وهذه حالة عسى ألا تكون ظاهرة ولا كثيرة.

اشتراط المرأة أن يكون الزوج عالما

اشتراط المرأة أن يكون الزوج عالماً من الأشياء التي ينبغي أن تذكر هنا أن بعض الفتيات المتدينات يشترطن في الأزواج شروطاً عجيبة، فنسمع مثلاً أن فتاة تريد أن يكون الشخص حافظاً للقرآن الكريم، أو لـ صحيح البخاري، أو العقيدة الطحاوية إلخ. طبعاً الرجال الذين يحفظون القرآن أو يحفظون صحيح البخاري أو إلخ، هؤلاء ليسوا كثيرين، وإنما هم قلة، وكونك تشترطين مثل هذه الشروط تقولين: لا أتزوج إلا طالب علم حقاً، وينبغي أن يكون قد قرأ كذا وكذا وأن يكون حفظ كذا وكذا هذا يعني أنه يمكن ألا تتزوجي نهائياً؛ لأن المتدينين أصلاً الآن ليسوا كثيرين جداً، فكيف وأنت تشترطين بالإضافة إلى الالتزام والتدين شروطاً عالية في قضايا العلم والحفظ، وبعضهن تقول: تصور! أنا بعد ما تزوجت اكتشفت أن زوجي ما سمع أشرطة كذا وكذا للشيخ فلان الفلاني، ولا قرأ كتاب كذا وكذا، تصور! أنه لا يدري شيئاً عن مسألة الذهب المحلق، تصور! تصور وبعضهن قد تلجأ إلى إعطاء الرجل المتقدم أسئلة مثل المسابقة لكي يحلها ويتبين مدى علمه. طيب هذا الرجل يمكن أن يذهب إلى أي شخص آخر ليحلها له مثلاً، وكونه قد يبحث في بعض الكتب ليأتي بالحل، هذه طريقة عقيمة وطريقة لا تدل على وعي جيد، ونقول: بعض الفتيات عندهن فرصة للقراءة والاطلاع أكثر من الرجال، فهي تمكث في البيت لفترة طويلة تتمكن فيها من القراءة واستماع الأشرطة، التلخيص، الحفظ إلخ. أما الشاب فقد يكون مشغولاً بالدعوة، يخرج من البيت كثيراً، لا يجلس مثلما تجلس هي، فإذاً لا داعي للشروط التعجيزية التي تدل على أن هذه الفتاة تعيش في جهة والواقع في جهة أخرى، بعض الشباب قد لا يحفظ الأربعين النووية، وهي تقول: أريد كذا وكذا، والخلاصة أن بعض الفتيات تريد رجلاً على شرط البخاري ونحن نقول: يكفي أن يكون زوجاً على شرط الحديث الصحيح. نعم، لا بأس باستطلاع رأي الشخص المتقدم عن طريق الثقات، مثلاً: كيف عقيدته؟ ما مدى التزامه بالسنة؟ ما مدى تمسكه بالدليل، ما مدى علمه مثلاً؟ لا بأس أن يُسأل عن هذه الأمور، لكن أنه يحصل تدقيق شديد جداً في قضايا عميقة لا تقدح في التزام الشخص ولا في تدينه فهذا ليس من الحكمة في شيء.

جهل المرأة ببعض الأحكام الشرعية

جهل المرأة ببعض الأحكام الشرعية من الأمور المطلوبة أيضا على عتبة الزواج أن تعرف المرأة شيئاً من الأحكام الشرعية في الزواج، كحقوق الزوج، وأحكام العشرة الزوجية، وتقرأ مثلاً في شروط النكاح، وآداب الخطبة وما يجوز للرجل أن ينظر إلى المرأة، وآداب الزفاف ونحو ذلك هناك جهلٌ عند كثير من الفتيات في الأحكام الشرعية مما يجعل أموراً كثيرة يقع فيها الحرج بسبب الجهل، فينبغي قبل الإقدام على الزواج أن تعرف المرأة أموراً تتعلق بهذا الجانب، وينبغي أن ننبه إلى مزلق الخوض في بعض الأشياء التي تتعلق بكيفية معاشرة الزوج لزوجته قبل أن تصل المرأة إلى مرحلة الزواج أصلاً، فإن التعمق في هذه المسائل غير محمود العواقب إذا لم يأت وقته المناسب.

حكم عقد النكاح للمرأة وهي حائض

حكم عقد النكاح للمرأة وهي حائض من الاعتقادات الشائعة عند الناس عدم جواز عقد نكاح الحائض، فترد أسئلة تقول: هل إذا كانت المرأة عندها الدورة أو العادة هل يجوز عقد النكاح؟ نقول: نعم، لا بأس بعقد النكاح وهي حائض ولكن عندما يدخل بها زوجها يستحسن وينبغي أن تكون طاهراً.

المرأة ودورها في البيت

المرأة ودورها في البيت كذلك دور المرأة في البيت فيه غبش عند الكثيرات، ما هو دور المرأة الحقيقي؟ بعض الفتيات قبل الزواج تكون في مجال دعوة وطلب للعلم بكثافة ثم تتزوج وليس في ذهنها دورٌ واضح فيما ينبغي أن تكون عليه الزوجة، فعندما تبدأ في حقوق الزوج والبيت والطبخ والتنظيف والحمل والولادة والرضاع تتأفف، وتشعر أنها تقوم بأشياء تافهة، وأنها ليس عندها وقت للدعوة وطلب العلم، لكن عندما تنظر المرأة في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحصنت فرجها، وأطاعت زوجها قيل لها: ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئت) حديث صحيح. انظري -أيتها الأخت- ما نبه عليه هذا الحديث، بعض النساء لا يقمن وزناً للصبر على آلام الحمل والولادة، هذه أمور أجرها عند الله عظيم، لماذا الاستخفاف بها؟ وللأسف أن بعض النساء لا يصبرن على آلام الحمل والولادة وبعضهن تأخذ حبوب منع الحمل تقول: لا أريد آلاماً، لا أريد مشقات، وبعضهن تريد أن تلد بالعملية، ولو لم يكن هناك سبب لذلك مع ما فيها من المخاطر تقول: لا أريد آلاماً، هذه الأشياء التي دخلت علينا من الكفار وهي قضية أن المرأة لا تريد أن تتحمل أي ألم وهذا خطأ، المرأة خلقت لهذا، والله عز وجل يقول: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ} [لقمان:14] فهو مقرر في الكتاب العزيز بأن هذا الحمل وهذه الولادة فيها ضعف وفيها مشقة، والصبر على الآلام فيه أجر عظيم، والله يعلم كم يحطُّ عن المرأة من السيئات بآلام الطلق وحده لو احتسبت ذلك عند الله الله أعلم كم يحطُّ عنها من السيئات وكم يكتب لها من الحسنات إذا هي احتسبت ذلك عند الله.

وصية أمامة بنت الحارث لابنتها

وصية أمامة بنت الحارث لابنتها نختم كلامنا بوصية أمامة بنت الحارث رحمها الله تعالى لابنتها حين زفت إلى زوجها، هذه الوصية العظيمة الجامعة التي تدل على حكمة هذه المرأة وعلى بعد نظرها، وعلى تجربتها وخبرتها رحمها الله. تقول: أي بنية إن الوصية لو كانت تترك لفضل أدب أو لتقدم حسب لزويت ذلك عنك ولأبعدته منك، ولكنها تذكرة للغافل، ومعونة للعاقل. انظرن إلى هذا المدخل الجميل الذي فيه فتح النفس لتدبر الكلام. أي بنية! لو أن امرأة استغنت عن زوجٍ لغنى أبويها وشدة حاجتهما لها كنت أغنى الناس عن ذلك، ولكن النساء للرجال خلقن، ولهن خلق الرجال. أي بنية! إنك قد فارقت الحِمَى الذي منه خرجت، وخلفت العش الذي فيه درجت إلى وكر لم تعرفيه، وقرين لم تألفيه، فأصبح بملكه عليك مليكاً فكوني له أمة يكن لك عبداً، واحفظي له خصالاً عشراً تكن لك ذخراً. أما الأولى والثانية: فالصحبة بالقناعة، والمعاشرة بحسن السمع والطاعة -بعض الرجال لا يصبر على المرأة لكثرة طلباتها، ولا يحتملها لكثرة عصيانها- تقول: فإن في القناعة راحة القلب، وفي حسن المعاشرة مرضاة الرب. وأما الثالثة والرابعة: المعاهدة لموضع عينيه، والتفقد لموضع أنفه، فلا تقع عيناه منك على قبيح، ولا يشم منك إلا أطيب ريح. فإذاً تحرص المرأة على تجميل نفسها لزوجها، وعلى تطييب رائحتها له مما يجذب الرجل كثيراً إليها. وأما الخامسة والسادسة: فالتعاهد لوقت طعامه، والتفقد لحين منامه، فإن حرارة الجوع ملهبة، وتنغيص النوم مغضبة، ولذلك المرأة العاقلة تحسن وضع الطعام لزوجها في المواعيد، يكون طعامها جاهزاً، وإذا كان مرهقاً يكون فراشه معداً، وتأخذ الأولاد وتشغلهم حتى يستريح الزوج وينام. وأما السابعة والثامنة: فالاحتراس بماله، والإرعاء على حشمه وعياله، وملاك الأمر في المال حسن التقدير، وفي العيال حسن التدبير. الله أكبر! على هذه الوصية الثمينة، تدبير البيت والمال، وحسن التدبير في العيال. وأما التاسعة والعاشرة: فلا تفشين له سراً، ولا تعصين له أمراً، فإنك إن أفشيت سره لم تأمني غدره، وإن عصيت أمره أوغرت صدره، واتقي مع ذلك كله الفرح إن كان ترحاً، والاكتئاب إن كان فرحاً، فإن الأولى من التقصير، والثانية من التكبير. يجب أن تشارك المرأة زوجها في شعوره. وإنكِ أشد ما تكونين له إعظاماً أشد ما يكون لك إكراماً، وأشد ما تكونين له موافقة أطول ما يكون لك مرافقة، واعلمي -يا بنية- أنك لا تقدرين على ذلك حتى تؤثري رضاه على رضاك، وتقدمي هواه على هواك فيما أحببت أو كرهت، والله يضع ويصنع لك الخير، وأستودعك الله. والسلام عليكن ورحمة الله وبركاته.

أنواع الشهداء

أنواع الشهداء للشهيد في سبيل الله أعظم الرتب وأعلاها عند الله، وأنفس المقامات وأبهاها، وهم أنواع؛ شهيد الدنيا والآخرة، وشهيد الدنيا، وشهيد الآخرة، وشهداء الآخرة أنواع ذكرها الشيخ وفصل في ذلك تفصيلاً جميلاً، وتحدث أيضاً عن أحكام شهداء الآخرة في الدنيا من حيث التغسيل والتكفين.

الشهداء ثلاثة أنواع

الشهداء ثلاثة أنواع إن الحمد لله؛ نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلى الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُون) َ) [آل عمران:102]. ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن الشهادة من أعظم الرتب وأعلاها، وأنفس المقامات وأحسنها وأبهاها، ذلك لما لأهلها عند الله تعالى من الأجر العظيم، والثواب الجزيل، والدرجة العالية. والشهيد -أيها المسلمون- على ثلاثة أقسام: الأول: شهيد الدنيا والآخرة، والثاني: شهيد الدنيا، والثالث: شهيد الآخرة. فشهيد الدنيا والآخرة: هو الذي يقتل في قتال مع الكفار مقبل غير مدبر؛ لتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، دون غرض من أغراض الدنيا. جاء عن أبي موسى رضي الله عنه قال: (إن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال مستفهماً: الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكر، والرجل يقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ قال عليه الصلاة والسلام: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله). أما شهيد الدنيا فهو من قتل في قتال مع الكفار وقد غل في الغنيمة أو قاتل رياءً أو عصبية عن قومه، أو لأي غرض من أغراض الدنيا ولم يكن قصده إعلاء كلمة الله، فهذا وإن طبقت عليه أحكام الشهيد في الظاهر من دفنه في ثيابه ونحو ذلك لكنه ليس له في الآخرة من خلاق، ونحن نعامل الناس على حسب الظاهر في الدنيا، والله الذي يعلم الحقائق وهو الذي يتولى حسابهم يوم القيامة.

أنواع شهداء الآخرة

أنواع شهداء الآخرة شهيد الآخرة الذي يكون له أجر شهيد في الآخرة لكنه في الدنيا يطبق عليه ما يطبق على الميت العادي فهذا أصناف منهم المقتول ظلماً من غير قتال، وكالميت بأنواع من الأمراض ونحو ذلك، وكالغريق في البحر الذي ركبه وكان الغالب فيه السلامة بخلاف من ركبه وكان الغالب عدم السلامة، أو ركبه لإتيان معصية من المعاصي ونحو ذلك، فأما الاستشهاد في ساحة القتال فإن أجره عظيم جداً، وهو قمة مراتب الشهادة، ولا يمكن لأي نوع آخر من الشهداء أن يصل إلى هذا المقام، قال الله تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:170 - 171] وقال صلى الله عليه وسلم: (للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة من دمه، ويُرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن الفزع الأكبر، ويحلى حلية الإيمان، ويزوج من الحور العين، ويشفع في سبعين إنساناً من أقاربه). وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد؟ قال: كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة) رواه النسائي وسنده صحيح، فترجى هذه الشهادة لمن سألها مخلصاً من قلبه ولو لم يتيسر له الاستشهاد في المعركة لقوله صلى الله عليه وسلم: (من سأل الله الشهادة بصدق؛ بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه) ولذلك كان لا بد من سؤال الله الاستشهاد في سبيل الله بصدق لتحصيل هذا الأجر العظيم، ولو مات الإنسان حتف أنفه. - وكذلك من أنواع شهداء الآخرة: الموت غازياً في سبيل الله لقوله صلى الله عليه وسلم: (ما تعدون الشهيد فيكم قالوا: يا رسول الله! من قتل في سبيل الله فهو شهيد. قال: إن شهداء أمتي إذاً لقليل، قالوا: فمنهم إذاً يا رسول الله؟ قال: من قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد). - عباد الله ومن أنواع شهداء الآخرة: الموت بالطاعون، قال صلى الله عليه وسلم: (الطاعون شهادة لكل مسلم) وقال -أيضاً- لما سئل عن الطاعون: (إنه كان عذاباً يبعثه الله على من يشاء فجعله الله رحمة للمؤمنين، فليس من عبد يقع الطاعون فيمكث في بلده صابراً يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر الشهيد) وقال عليه الصلاة والسلام: (يأتي الشهداء والمتوفون بالطاعون فيقول أصحاب الطاعون: نحن شهداء. فيقال: انظروا فإن كانت جراحهم كجراح الشهداء تسيل دماً، ريح المسك، فهم شهداء، فيجدونهم كذلك). وكذلك فإن من أنواع شهداء الآخرة من مات بداء البطن لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم: (إن شهداء أمتي إذاً لقليل -ثم ذكر أنواعاً- ومن مات في البطن فهو شهيد) وعند عبد الله بن يسار قال: كنت جالساً وسليمان بن صرد وخالد بن عرفطة فذكروا أن رجلاً مات ببطنه، فإذا هما يشتهيان أن يكونا شهداء جنازته، فقال أحدهما للآخر: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يقتله بطنه فلن يعذب في قبره، فقال الآخر: بلى، وفي رواية: صدقت). - وكذلك من أنواع شهداء الآخرة الموت بالغرق والهدم لقوله صلى الله عليه وسلم: (الشهداء خمسة: المطعون -الذي أصيب بالطاعون- والمبطون -الذي قتل بداء البطن ومات بسبب مرض في بطنه، وأمراض البطن كثيرة ومنها: الكوليرا- والغرق -الذي مات غريقاً- وصاحب الهدم -الذي انهدم عليه بيته، الذي يسكن فيه، أو وقع عليه جدار أو حائط، مات بسبب الهدم، وكثير من الذين يموتون في الزلازل كذلك- وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله). - ومن أنواع شهداء الآخرة موت المرأة في نفاسها بسبب ولدها لحديث عبادة بن الصامت: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد عبد الله بن رواحة فما تحوز له عن فراشه -أي: تنحى- فقال: أتدري من شهداء أمتي؟ قال: قتل المسلم شهادة. قال: إن شهداء أمتي إذاً لقليل، قتل المسلم شهادة، والطاعون شهادة، والمرأة يقتلها ولدها جمعاء -التي تموت وفي بطنها ولد- والمرأة يقتلها ولدها جمعاء شهادة يجرها ولدها بسرره إلى الجنة) والسرة: ما يبقى بعد القطع مما تقطعه القابلة، هذا هو السرر، الحبل السري يجرها به ولدها إلى الجنة، وهذا مخصوص بالمسلمة التي تموت في حمل صحيح، ولذلك استثنى العلماء من هذا الحديث من ماتت بحمل من زنا والعياذ بالله. - وكذلك من شهداء الآخرة الموت بذات الجنب كما قال صلى الله عليه وسلم: (وصاحب ذات الجنب شهيد) وهو ورم يعرض في الغشاء المستبطن للأضلاع، أورام في الجانب يموت بسببها الإنسان، ونرجو -إن شاء الله- أن يكون كل مسلم مات بالسرطان من شهداء الآخرة الذين لهم أجر شهيد، الميت من ذات الجنب شهيد. - وكذلك من أنواع شهداء الآخرة الموت بداء السل لقوله صلى الله عليه وسلم: (القتل في سبيل الله شهادة، والنفساء شهادة) قال في الحديث: (والسل شهادة، والبطن شهادة) فالذي يموت بالسل شهيد إن شاء الله. وكذلك الموت في سبيل الدفاع عن المال المراد غصبه قال صلى الله عليه وسلم: (من قتل دون ماله فهو شهيد) وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: فلا تعطه مالك، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: قاتله -وليس الأمر للوجوب- قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: فأنت شهيد، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: هو في النار) رواه مسلم. وعن مخارق رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: الرجل يأتيني يريد مالي؟ قال: ذكره بالله، قال: فإن لم يذكر؟ قال: فاستعن عليه من حولك من المسلمين، قال: فإن لم يكن حولي أحد من المسلمين؟ قال: فاستعن عليه السلطان، قال: فإن نأى السلطان عني وعجل علي؟ -هذا اللص قاطع الطريق عجل علي ولم يكن هناك وقت للاستنجاد- قال: قاتل دون مالك حتى تكون من شهداء الآخرة أو تمنع مالك). - ومن الشهداء -أيضاً-: الموت في سبيل الدفاع عن الدين والنفس، قال صلى الله عليه وسلم: (من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد -الذي يقتل دفاعاً عن عرضه- ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد) وقال عليه الصلاة والسلام: (من قتل دون مظلمته فهو شهيد). والموت في الرباط في سبيل الله من أعظم الميتات وأطيبها، قال عليه الصلاة والسلام: (رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله وأجري عليه رزقه، وأمن الفتان). وأما من مات على عمل صالح قبض عليه فإنه من علامات حسن خاتمته، قال صلى الله عليه وسلم: (من قال لا إله إلا الله ابتغاء وجه الله ختم له بها دخل الجنة، ومن صام يوماً ابتغاء وجه الله ختم له بها دخل الجنة، ومن تصدق بصدقة ابتغاء وجه الله ختم له بها دخل الجنة). - أيها المسلمون وإن من أعظم أنواع الشهادة -أيضاً- الموت بالحرق لقوله صلى الله عليه وسلم: (الشهداء سبعة سوى القتل في سبيل الله) وقال: (والحرق شهيد) فالذي يموت محترقاً فهو من أنواع الشهداء، ولا يصح التساهل في إطلاق لفظ الشهيد على الأشخاص، فالله أعلم من الذي يموت شهيداً في سبيله. نسأل الله تعالى أن يحسن خاتمتنا، وأن يتوب علينا، وأن يوفقنا لعمل الصالحات وترك المنكرات، وحب المساكين. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

أحكام شهداء الآخرة في الدنيا

أحكام شهداء الآخرة في الدنيا الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، أشهد أن لا إله إلا الله رب الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً رسول الله خاتم الأنبياء وسيد المرسلين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. عباد الله إن النبي صلى الله عليه وسلم حذرنا وهو يحذر أمته من كل شر من خطورة النار، فقد روى البخاري رحمه الله عن أبي موسى قال: احترق بيت بـ المدينة على أهله، فحدثت النبي صلى الله علي وسلم بشأنهم، فقال: (إنما هذه النار عدو لكم، فإذا نمتم فأطفئوها عنكم) ونظراً لشناعة الاحتراق كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ من الموت بها، لا لأنه ليس له أجر شهيد بل لشناعتها في الدنيا، فكان رسول الله صلى الله علي وسلم يقول في دعائه: (اللهم إني أعوذ بك من التردي والهدم والغرق والحريق، وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت، وأعوذ بك أن أموت في سبيلك مدبراً، وأعوذ بك أن أموت لديغاً) رواه النسائي وأبو داود وهو حديث صحيح، لكن إن حصل ومات بالحرق فإن له أجر شهيد كما تقدم، والله يفعل ما يشاء، وهو أعلم بمصائر العباد، وهو مقدر الأقدار سبحانه وتعالى. وهؤلاء الأصناف الذين تقدم ذكرهم من شهداء الآخرة ماذا يفعل بهم من جهة الأحكام في الدنيا؟ قال العلماء: لا يغسل الشهيد -أي: قتيل المعركة مع الكفار- سواء كان مكلفاً أو غير مكلف إلا إن كان جنباً أو امرأة حائضاً، أو نفساء طهرت من حيضها أو نفاسها، وإن سقط من دابته، أو وجد ميتاً، أو سقط من شاهق في القتال، أو رفسته دابة في القتال، أو عاد إليه سهمه الذي أطلقه بالخطأ فالصحيح أنه يغسل إذا لم يكن ذلك من فعل العدو، لكن إن قتله العدو فلا يغسل ويبقى أثر الشهادة عليه، ومن قتل مظلوماً بأي سلاح كقتيل اللصوص ونحوه يلحق بشهيد المعركة في أصح الروايتين في مذهب الإمام أحمد رحمه الله، وقال بعض العلماء بتغسيله، وكذلك الغريق والمبطون والمرأة التي ماتت في الولادة فإنهم شهداء في الآخرة يغسلون باتفاق الفقهاء. وأما الميت المحترق فقد ذهب العلماء إلى أن من احترق بالنار يغسل كغيره من الموتى إن أمكن تغسيله؛ لأن الذي لا يغسل إنما هو شهيد المعركة، ولو قتل في المعركة محترقاً أو أحرق العدو حصناً للمسلمين ونحو ذلك كان شهيداً لا يغسل، أما المحترق خارج المعركة فهو من شهداء الآخرة لا تجري عليه أحكام شهداء الدنيا فإنه يغسل، فإن خيف تقطعه بالغسل يصب عليه الماء صباً ولا يمس، فإن خيف تقطعه بصب الماء لم يغسّل، ولكن ييمم إن أمكن كالحي الذي يؤذيه الماء، وإن تعذر غسل بعض دون بعض غسل ما أمكن غسله، وييمم الباقي كالحي سواء. وهذا المحترق يصلى عليه صلاة الجنازة، لأنه لا وجه لترك الصلاة عليه فإنه يصلى عليه ولو صار رماداً، يجمع رماده ويصلى عليه، وقال بعض أهل العلم بعدم الصلاة عليه واشترطوا حضوره أو حضور أكثره فإنه إذا صار رماداً لا يصلى عليه، ومذهب الإمام أحمد -رحمه الله- الصلاة عليه وإن صار رماداً. عباد الله إذاً الذي يموت محترقاً له أجر شهيد، ويغسل إن أمكن وإلا ييمم ويصلى عليه. وكل ما تقدم من الكلام كما يظهر لكم كانت مناسبته حضور هذا الحريق الذي سمعنا عنه في منى، وقد احترق أكثر خيامها بسبب ذلك الحريق، والله يقدر ما يشاء ويفعل ما يريد، ولا شك أن المصاب الذي حصل إنما هو مصاب لكل مسلم قلبه حي، فأما المسلم الذي في قلبه دغل فلا يكاد يكترث، وأما المسلم الذي قلبه حي فإنه يحس أن المصيبة مصيبته هو، وعزاؤنا فيهم أمور منها: أنهم ماتوا محترقين، ومن مات محترقاً له أجر شهيد. وثانيا: أنهم ماتوا محرمين في عبادة وعمل صالح، فاجتمع لهم علامة من علامات حسن الخاتمة، والله تعالى يصطفي من عباده ما يشاء، وإن كان الأمر في الظاهر شراً بالنسبة إلينا فإنها إن شاء الله نعيم لهم في قبورهم، ورحمة لهم من ربهم، وثواب جزيل يكتب في صحائف أعمالهم، وخاتمة حسنة نرجو لهم بها الشهادة عند ربهم، فالحمد لله على كل حال، والحمد لله على ما قضى وقدر، ونسأل الله لهم الرحمة والمغفرة. اللهم ارحم شهداء حريق الحج، اللهم ارحم شهداء حريق الحج، اللهم ارحم شهداء حريق الحج، اللهم أعظم لهم الأجر والثواب، اللهم ثقل موازينهم، اللهم وآتاهم أجر حجهم الذي قصدوه، اللهم إنا نسألك لهم الرحمة والمغفرة، ولأهليهم الصبر على مصابهم فيهم، اللهم إنا نسألك حسن العزاء فيهم، اللهم إنا نسألك قبول حج من حج من المسلمين، ونسألك أن تخلف بخير للقاعدين من المسلمين، اللهم إنا نسألك رفع الدرجات، وزيادة الحسنات، وتكفير السيئات. اللهم إنا نسألك النصر للإسلام والمسلمين، اللهم عجل فرج المسلمين، اللهم عجل فرج المسلمين، اللهم عجل فرج المسلمين يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك الأمن في أوطاننا ودورنا، اللهم إنا نسألك النصر على أعدائنا، اللهم إنا نسألك قضاء ديوننا، اللهم إنا نسألك أن تغفر لنا حقوقك التي علينا يا رب العالمين! سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.

أهمية الإيمان باليوم الآخر

أهمية الإيمان باليوم الآخر إن الإيمان باليوم الآخر ركن من أركان الإيمان، والبشر لا يمكن أن تستقيم لهم حياة أو نظام أو علاقة أو أعمال إلا بالإيمان باليوم الآخر؛ وهنا يتحدث الشيخ عن أهمية الإيمان باليوم الآخر وآثاره على حياة المسلم، مع ذكر فوائد الإيمان به.

الإيمان باليوم الآخر

الإيمان باليوم الآخر إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُون) َ) [آل عمران:102]. ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. إخواني: جعل الله اليوم الآخر بعقابه وثوابه نهايةً لهذا العالم الذين نعيش فيه، والله عز وجل حكمٌ عدلٌ لا يظلم أحداً، جعل الجنة أهلاً لمن أطاعه، وجعل النار عقاباً لمن عصاه، وأخذ العهد على نفسه أن يثيب من أطاعه وألا يظلمه شيئاً، وأخذ العهد على نفسه أن يجعل الكفار المشركين في النار خالدين مخلدين، فقال سبحانه وتعالى: {فَحَقَّ وَعِيدِ} [ق:14]. أيها الإخوة: واليوم الآخر نعمة عظيمة من نعم الله، والإيمان به ركن من أركان الإيمان، وهو أن تؤمن بالله واليوم الآخر وبالرسل والكتب والنبيين وبالقدر خيره وشره، والذي لا يؤمن باليوم الآخر عاقبته سوداء، ومصيره إلى جهنم -والعياذ بالله- وقد كابر في هذه المسألة المشركون كثيراً، وناقشوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها طويلاً، وكان أحدهم يأتي بالعظم البالي فيفته بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول: أتزعم أن ربك يعيد هذا؟ {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24] {وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [الأنعام:29] فأنكر الكفار اليوم الآخر. إن الكفرة العصاة لا يستطيعون أن يتحملوا التفكير في أن هناك يوماً آخر، وأن هذه الأعمال التي تعمل في الدنيا لا بد من الجزاء والحساب عليها، وأهل الشهوات لا يستطيعون أن يتحملوا في أدمغتهم وأذهانهم شيئاً اسمه اليوم الآخر؛ ولذلك فهم يسارعون إلى نفيه ويتكبرون ويستكبرون في الاعتراف به، وبعضهم يتناساه ويتغافل عنه ولا يفكر به نهائياً؛ لأن التفكير في المصير أمر مؤلم خصوصاً بالنسبة لأولئك العصاة الذين حادوا عن منهج الله عز وجل، والله الحكيم العليم يعلم أن البشر لا تسمح حواسهم أبداً على هذه الأرض، ولا يستقيم لهم نظام، ولا تحكم أمورهم وعلاقاتهم وأعمالهم إلا باليوم الآخر الذي يكون وراء هذه الحياة الدنيا. وبدون اليوم الآخر فإن هؤلاء البشر -كما هو حادث الآن- سينطلقون في شهواتهم في كل اتجاه، ويتكالبون على المتاع المحدود -متاع الحياة الدنيا- وترى المصارعة والتصارع بين الأفراد والأنظمة، والأجناس والطبقات يغير بعضهم على بعض، وينطلق الكل في الغابة كالوحوش الكاسرة يأكل القوي الضعيف، والظالم يأكل المظلوم وهكذا، لشيء واحد وهو أنهم لا يؤمنون باليوم الآخر، والله عز وجل يبتلي البشر ليعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو في شك.

انعكاسات وآثار الإيمان باليوم الآخر في حياة المسلم

انعكاسات وآثار الإيمان باليوم الآخر في حياة المسلم أيها الإخوة: إن الإيمان باليوم الآخر له انعكاساته وآثاره في حياة المسلم، الإيمان باليوم الآخر هو الذي يهيئ الاهتمامات، ويجعل التعلق بالدنيا أمراً لا مجال له عندما يعلم الإنسان أن هذه الدنيا زائلة، وأن الآخرة مقبلة، وأن هذه الأيام والأنفاس ستنقضي لا محالة، وأنه سيقدم على الله في يوم يعرض فيه على ربه لا تخفى منه خافية؛ فنتيجة للإيمان بهذا اليوم، وبأن هناك حشراً وحساباً وصراطاً وجنةً وناراً، عذاباً وجزاءً، نتيجةً لهذا ستنشأ سلوكيات لم تكن لتنشأ لولا الإيمان باليوم الآخر، وستنشأ هناك أعمال لله عز وجل لم تنشأ لو لم يكن هناك إيمان بالله واليوم الآخر. وسيتسع تصور المسلم للحياة وللكون عندما يؤمن ويوقن بأن هناك يوماً آخر، وسيعلم بأن الموت في هذه الحياة ليس نهاية كل شيء، وأن هناك أشياء أخرى أعظم مما يجري الآن بكثير، ولا يمكن المقارنة أبداً، ستنفتح عيناه عليها في اليوم الآخر. وأما أولئك الكفرة الذين لا يؤمنون باليوم الآخر فإنهم يحشرون تصوراتهم وأنفسهم وقيمهم في جحر ضئيل ذليل حقير هو الحياة الدنيا، فالكفار -الآن- يعملون وينشطون ويجدون ويخترعون، ويبنون ويعمرون، ويعملون متناوبين آناء الليل وأطراف النهار؛ لأنهم يظنون أن هذه الحياة هي الحياة فقط، وأنه لا شيء بعد ذلك، وأن هذا العمر هو العمر فقط، وأنه لا عمر بعد ذلك، فلأجل ذلك هم يستغلون كل لحظة من هذه الحياة وهذه الأيام وهذا العمر؛ لكي يتمتعوا ويتقدموا، ولكي يأخذوا حظهم من هذه الحياة الدنيا، ولذلك ليس عندهم أي تفسيرٍ فيما وراء هذه الحياة الدنيا: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} [العنكبوت:64] لهي الحياة الحقيقة كما أخبر الله عز وجل، وهي الحياة الدائمة، وحياتنا هذه لا تساوي شيئاً بالنسبة للحياة في اليوم الآخر. هذا اليوم الذي يبدأ بانقلابات في هذا الكون {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق:1] {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْْ * وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْْ * وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير:1 - 6]. {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً} [طه:105]. {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} [الرحمن:37]. {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكّاً دَكّاً} [الفجر:21]. ولما تقع الواقعة: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ * إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجّاً * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثّاً} [الواقعة:2 - 6] وفي ذلك اليوم: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [الفجر:22] فيقدم الله سبحانه وتعالى ويجيء مجيئاً يليق بجلاله وعظمته إلى ساحة القضاء للفصل بين العباد، فيُحاكمون بين يدي الجبار، والملائكة صفوفاً صفوفاً في عظم خلقتهم التي خلقهم الله عليها، فيكون الموقف عظيماً، ويكون المشهد جسيماً، وتكون العاقبة هناك فعلاً لأهل الإيمان وأهل الكفران. أيها الإخوة: نحن لم نر الجنة ولا النار، ولا الصراط، ولا الشمس وهي تدنو من رءوس الخلائق، لم نر هذه الأشياء؛ فهي لذلك بعيدة عن الحس، ولكن حس من؟ حس الذي لا يؤمن بالله واليوم الآخر، أما حس المؤمن فهو عندما يقرأ هذه الآيات في القرآن، وعندما تتلى على مسامعه أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم فإنه يحس أن الجنة والنار فعلاً أقرب إليه من شراك نعله، يحس أنها قريبة جداً وأن الآزفة قد أزفت، وأن الموعد قد اقترب؛ فهو لأجل ذلك يعمل لآخرته ويكدح ويجد أكثر مما يعمل أهل الدنيا لدنياهم، فإذا كان أهل الدنيا يجعلون هذا اليوم الأربعة والعشرين ساعة يجعلونه على مراحل ومراتب؛ لكي لا يخلو يوم من العمل ولا ساعة من الساعات، حتى في الليل فهم يعملون في نوبات متواصلة لأجل البناء والتعمير كما يزعمون في الدنيا. بالمقارنة أهل الآخرة يقول الله عز وجل في شأنهم، هم يعملون -أيضاً- في نوبات ليلية: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ} [الزمر:9] ساجداً وقائماً لأي شيء؟ {يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9] والله مدح المؤمنين بأنهم يصدقون بيوم الدين، ومدحهم فقال: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [النمل:3].

فوائد الإيمان باليوم الآخر

فوائد الإيمان باليوم الآخر الإيمان باليوم الآخر -أيها الإخوة- له فوائد عظيمة جداً ونتائج باهرة، فمن فوائده:

من فوائد اليوم الآخر: أن النفس إذا علمت العوض استعدت للبذل

من فوائد اليوم الآخر: أن النفس إذا علمت العوض استعدت للبذل النفس عندما تعلم ضخامة العوض، وأن طاعة الله عاقبتها جنة عرضها السماوات والأرض، نعيمها لا يفنى، وعيشها دائم، أكلها وظلها دائمان، وما فيها من أنواع النعيم، فإن هذا الجزاء العظيم ينسي المسلم تعب العمل وكده لله عز وجل؛ لأنه يتطلع إلى الأمام، يتطلع إلى الآخرة، فنعيم الجنة ينسيه ما في طاعة الله من المشقة والتعب. والعبادة لله تكاليف فيها مشقة على العبد، في الصيام، أو في الحج، وحتى في إخراج زكاة المال فيها تكاليف شاقة لكن العباد يستطيعونها، والله لا يكلف نفساً إلا وسعها، لكن هل فيها مشقة؟ نعم، هل فيها جهد؟ نعم، هل فيها عمل؟ نعم، لا جنة بلا عمل أو تعب أو جهد أو مشقة يقوم بها العبد فكيف إذاً سيتحمل العباد المشقة والجهد في طاعة الله؟ وكيف سيتخلون عن هذا النعيم؟ كيف سيقوم المصلي لصلاة الفجر من دفئ الفراش والنوم الهانئ؟ كيف سيقوم منه إلى صلاة الفجر بتلك المشقة والتعب؟ إذا لم يكن هناك عوض ولم يكن هناك جزاء هل كان سيهجر مضجعه ليقوم إلى المسجد لصلاة الفجر؟ وقل مثل ذلك في جميع الأعمال التي يقوم بها العباد لرب العالمين، فاليوم الآخر إذاً هو المتنفس هو الأمل هو النعيم الحقيقي الذي ينسي المسلم التعب الذي يتعبه في الدنيا، وهو النعيم الذي يعوض المؤمن عما يفوته الآن من نعيم الدنيا؛ لأنه يعمل لله رب العالمين. إن النفس إذا علمت عظم العوض استعدت للبذل، ما الذي يجعل المقاتل المجاهد في سبيل الله يدفع روحه ونفسه وماله لله رب العالمين؟ إذا لم يكن هناك عوض أكبر من التضحية بالنفس والمال هل كان سيضحي بنفسه وماله؟ والكفار على النقيض من المؤمنين لا يفكرون في اليوم الآخر مطلقاً، ولا يحسبون له أي حساب: {إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} [الإنسان:27] الدنيا، ولكنهم: {وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً} [الإنسان:27] ثقيلاً عليهم بطوله، كان مقداره خمسين ألف سنة، ثقيلاً عليهم بتبعاتهم لأنهم سيحملون أوزارهم على ظهورهم وينتظرون في ذلك الموقف العظيم تحت الشمس الدانية من رءوسهم والعطش الكبير، ثم يقولون: عطشنا ربنا فاسقنا؛ فإذا جهنم يحطم بعضها بعضاً، فيساقون بالسلاسل والأغلال إلى النار {فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} [غافر:72] فهو يوم: {وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً} [الإنسان:27] هؤلاء الكفرة الذين لم يكونوا في الدنيا يفكرون بهذا اليوم، سيصبح هذا النسيان وبالاً عليهم يوم القيامة.

من فوائد اليوم الآخر: ظهور آثار أسماء الله وصفاته

من فوائد اليوم الآخر: ظهور آثار أسماء الله وصفاته ومن أعظم فوائد هذا اليوم: ظهور آثار أسماء الله وصفاته؛ فإن الله عز وجل رحيم، غفور، شديد العقاب، جبار، يوم القيامة ينادي الجبار في السماوات عندما يقبضها بيمينه والأرض معها، فيقول: (أنا الجبار، أين ملوك الأرض؟ أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟) فلا يجيبه أحد، فيظهر عند ذلك أثر عظيم من آثار أسماء الله وصفاته، عندما يفنى كل شيء: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27] فيظهر ذلك الأثر ويعلن في السماوات والأرض أن لا إله إلا الله، وأن كل من عليها فان، وأن الباقي وجه ربك سبحانه وتعالى. ويظهر أثر اسم الله (الرحيم) عندما يدخل الجنة أناساً برحمته، وعندما يستر على المؤمنين ذنوباً كانوا يخافونها ويتوقعون أن يشاهدوها في سجلات أعمالهم. ويظهر أثر صفة الله بأنه (شديد العقاب) عندما يلقي الكفار والعصاة في النار فيحترقون فيها فيكونون هم حصب جهنم، وهم وقود النار. ويظهر كذلك أثر اسم الله (الجبار المتكبر) عندما يحشر المتكبرون كأمثال الذر -مثل النمل على صورة الرجال- يطؤهم الناس بأقدامهم.

من فوائد اليوم الآخر: شفاء صدور المؤمنين والمظلومين

من فوائد اليوم الآخر: شفاء صدور المؤمنين والمظلومين وفي هذا اليوم شفاء صدور المؤمنين شفاء صدور المظلومين، يأتي المقتول يجر القاتل، فيقول: يا رب! انظر هذا فيمَ قتلني؟ يأتي الذين قد عذبوا في الدنيا من المؤمنين فينتقم الله لهم من الكفرة الذين عذبوهم {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المطففين:34 - 36]. وهذا اليوم يقام فيه ميزان العدل: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} [الأنبياء:47] وتوزن الأعمال بالدقة، بالشعرة، لا يخفى شيء ولا يفوت منها شيء، فيكون العدل الحقيقي، الآن في الدنيا المحاكم أكثرها على شريعة لم ينزلها الله عز وجل ولم يأذن بها، فهي تحكم بغير ما أنزل الله، وقد يوجد محاكم على الشريعة ولكن القاضي جائر لا يحكم بما أنزل الله، ويأتيه الهوى وتأتيه الرشاوي فتجعله يحيد عن شرع الله أما يوم القيامة فسيعاد الحق إلى نصابه، وسيقام العدل في أرض المحشر في أرض الحساب، فلا يفوت شيء أبداً، وتظهر عزة المؤمنين وذلة الكفار. في الدنيا قد يسام المؤمنون أنواع العذاب، وقد يظهر المتمسكون في أعين العامة أنهم أذلاء، وأن السيطرة والقوة للجبابرة العتاة المسيئين، ويوم القيامة يوم تبيض فيه وجوه وتسود وجوه، تبيض فيه وجوه أهل السنة، وتسود فيه وجوه أهل البدعة؛ فيرى الناس جميعاً أهل المعاصي والكفر والشرك والبدعة والظلم وجوههم قد اسودت، فينادى على رءوس الأشهاد أن لعنة الله على الظالمين، فيظهر عند ذلك العز الحقيقي والذل الحقيقي في ذلك اليوم الذي يكسي الله به وجوه أهل السنة ويذل وجوه أهل البدعة. وإن كان المسلمون المؤمنون الصادقون في الدنيا فقراء محتاجون، لكن قد لا يعطف عليهم أحد، فإن الله يجعل الكفار في الآخرة يمدون أيديهم يناشدون المؤمنين: {أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [الأعراف:50] هذا من فوائد اليوم الآخر.

من فوائد اليوم الآخر: أن المسلم لا يندم على كل عمل عمله ولم ير ثمرته في الدنيا

من فوائد اليوم الآخر: أن المسلم لا يندم على كل عمل عمله ولم ير ثمرته في الدنيا ومن فوائده: أن المسلم العامل لدين الله لا يندم على كل عمل عمله ولو لم ير ثمرة عمله في الدنيا. إن الذين يريدون إقامة منهج الله في الأرض، ويشتغلون بالدعوة إلى الله والتربية على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، هؤلاء الناس الذين اصطفاهم الله من بين البشر للقيام بهذه المهمة قد لا يأتي عليهم اليوم الذي يرون فيه ثمرات أعمالهم يانعة، أو يرون فيه قيام المنهج الصحيح كما أراده رب العالمين على الأرض، وقد لا يأتي عليهم اليوم الذي يرون فيه سراج الدين وهاجاً، وقد لا يأتي عليهم اليوم الذي يرون الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، ولكنهم بسبب إيمانهم أن هذه الأعمال لن تضيع، وأن أجرها عند رب العالمين فهم لذلك يعملون مع طول الليل الحالك، ولو لم يروا بزوغ الفجر؛ لأنهم يعلمون أين الفجر الحقيقي، ولأنهم يعلمون أن كل هذه الأعمال لن تذهب سدىً أبداً، وأنهم سيجزون بها عند الله الجزاء الأوفى؛ فيهون على هذا المسلم الصادق طول الطريق والمشقات والعقبات الموجودة في هذا الطريق؛ لأنه يعلم متى وأين سيلقى هذا الجزاء عند رب العالمين. ولا يقلق على الأجر وإن كان العمل صغيراً، فهو يعلم أن هناك رجلاً دخل الجنة بسبب جذع أزاحه من الطريق كان يؤذي المسلمين، يعلم هذا فهو لا يتهاون بأي عمل: (اتقوا النار ولو بشق تمرة) وعندما يعلم الإنسان أنه حتى شق التمرة يأخذ عليها أجراً؛ فإنه لن يتهاون بالأعمال الصالحة ولو كانت قليلة، بعكس المتهاونين المفرطين الذين يقولون: وماذا ستغني عنا هذه الأمور؟ ولماذا نتمسك بهذه القشور؟ وما تغني عنا هذه التوافه؟ وليس لنا شأن بالمظاهر، علينا باللب والجوهر؛ فيضيع عليهم هذا الأجر العظيم: (اتقوا النار ولو بشق تمرة).

من فوائد اليوم الآخر: أن الحساب فردي

من فوائد اليوم الآخر: أن الحساب فردي ومن فوائد هذا اليوم: أن الحساب فيه فردي وليس جماعي، والله عز وجل لا يحاسب بالقوائم وإنما يحاسب كل فرد بما كسبت يداه: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} [النحل:111]: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38] مرتهنة، مقيدة، محاطة بما كسبته. بعض الناس يقول: الموت مع الجماعة رحمة، وما دام الناس يعصون أنا مثلي مثلهم، فيكون إمعةً، ويزين له الشيطان اجتماع الناس على المعاصي، فيقول: أنا واحد مثل هؤلاء، فيعصي مثلهم وكأنه يظن أن هؤلاء الناس سيشفعون له عند الله، وأن الناس ما دام أنهم تابعوا فلاناً وفلاناً؛ فإنهم عند الله معذورون بهذه المتابعة، ولكن {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:166 - 167]. بعض الناس يقول: أسأل شيخ علم أو إمام مسجد وآخذ بفتواه وأنا أعلم أنها مخالفة للشرع، وهو يكون ستراً بيني وبين النار، أجعل بيني وبين النار شيخاً أو مطوعاً كما يقولون، كل هذه الهراءات تنسفها هذه الآية من كتاب الله عز وجل: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان:33]. {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [فاطر:18]. {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم:94 - 95]. بعض الناس الذين يقولون: نحن نقلد تقليداً أعمى، يقلد من يثق به تقليداً أعمى، ما دام يأمرنا فنحن نطيع، وهو يقول وليس علينا شيء، التبعة عليه إن أساء. نقول لهم: إن الله سيحاسب التابع والمتبوع، ولن يعذر الله التابع بسبب ضلال المتبوع، لماذا لم تفكر؟ لماذا لم تتدبر وتقول في نفسك: هل هذا الذي أمرني به فلان طاعة لله أم لا؟ لماذا التقليد الأعمى؟ إن الذين يحملون قياداتهم مسئوليات أنفسهم في الخير والشر هؤلاء لا يعذرون أمام الله أبداً، وسوف يقف القائد والمقود، والتابع والمتبوع، والمقلَّد والمقلِّد عند الله فيحاسبهم سبحانه وتعالى حساباً فردياً، كل واحد يحاسب بما فعل وبما عمل، فليست المسألة -أيها الإخوة- تقليداً أعمى وأننا نجري وراء فلان وفلان والإثم عليهم كلا. أسأل الله العلي القدير أن يجعلنا وإياكم ممن يخشى هذا اليوم، ويعمل له الأعمال الصالحة، وأن يجعلنا سبحانه وتعالى ممن يخشاه في الغيب والشهادة. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

من فوائد اليوم الآخر: إرجاع الحق إلى نصابه

من فوائد اليوم الآخر: إرجاع الحق إلى نصابه الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة، وله الملك وإليه ترجعون، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله دعانا إلى كتاب ربنا وبيَّن لنا الحلال والحرام، وبيَّن لنا سبيل الهدى وسبل الضلال حتى نجتنبها، فصلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين. أيها الإخوة: من فوائد اليوم الآخر إرجاع الحق إلى نصابه، وقد ذكرنا هذا قبل قليل، ولكن لأهمية هذه المسألة لا بد أن نركز عليها -أيضاً- الناس اليوم كما يصف الكثيرون -حتى من العامة- في غابة يأكل القوي الضعيف؛ بسبب البعد عن منهج الله عز وجل، ولكن هذا المقبور وهذا المظلوم المغلوب الذي يقع تحت نيل الظلم والغلبة بأولئك الجبارين المتكبرين في الأرض، هذا الرجل أو هذه المرأة سيتكفل الله بإرجاع الحق له يوم القيامة، وربما يكون من الخير له أن ظلم الآن حتى يأخذها يوم القيامة بالحسنات والسيئات، يأخذ من حسنات ظالمه فإذا فنيت حسنات الظالم أخذ من سيئات المظلوم فطرحت على الظالم ثم طرح في النار. هذا الظلم لا يرضاه الله عز وجل: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا) ينهى سبحانه وتعالى عن الظلم، وهذه قصة مما حدث في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تبين لنا كيف كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأثرون بهذا المفهوم. عن عائشة رضي الله عنها قالت: (جاء رجل فقعد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إن لي مملوكين يكذبونني ويخونونني ويعصونني، وأشتمهم وأضربهم. فكيف أنا منهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا كان يوم القيامة يحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك في كفة وعقابك إياهم في الكفة الأخرى، فإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم كان كفافاً لا لك ولا عليك، وإن كان عقابك إياهم دون ذنوبهم كان فضلاً لك، وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم -عاقبتهم أكثر مما يستحقون- اقتص لهم منك الفضل -أخذوا منك الفرق- فتنحى الرجل وجعل يهتف ويبكي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما تقرأ قول الله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47] فقال الرجل: يا رسول الله! ما أجد لي ولهؤلاء شيئاً خيراً من مفارقتهم، أشهدك أنهم كلهم أحرار) رواه أحمد والترمذي وهو حديث صحيح. فالصحابة رضي الله عنهم كانت عندهم شفافية في النفس تجاه الظلم، كانوا يتحرون أشد التحري في قضية الظلم، فهذا الصحابي أعتق العبيد كلهم؛ لأنه خشي أن يكون قد ظلمهم أو عاقبهم أكثر مما أساءوا إليه كل هذا يوم القيامة: {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47]. أيها الإخوة: ما الذي يضمن عدم ظلم الزوج لزوجته أو العكس؟ ما الذي يضمن عدم ظلم المدرس لطلابه؟ ما الذي يضمن عدم ظلم المدير لمن تحته من الموظفين والعمال؟ وقس على ذلك، ما الذي يضمن لنا في النظام الإسلامي هذا الأمر؟ قد تقول: المحكمة. المحكمة قد يوجد في الأرض محاكم تحكم بشريعة الله، وهذا نادر الآن، وقد يوجد محاكم تحكم بالظلم، وقد يكون القاضي صاحب ذمة وضمير متصل بالله عز وجل وقد لا يكون، قد يقبل الرشوة، قد يكون المشتكى عليه قريباً له فيحكم له ويزور القضية، قد يكون المدرس له واسطة عند المدير فلو جاء الطالب يشتكي عند مدير المدرسة لبرأ سماحة المدرس وربما عاقب الطالب، وقد يكون للمدير الفلاني واسطة ونحو ذلك إذاً: ما الذي يضمن؟ ما هو الضمان الحقيقي؟ إنه اليوم الآخر أيها الإخوة!! بعض العمال قد لا يعلم أن من مستحقاته كذا وكذا فيصفي له صاحب العمل حساباته ويعطيه إياها دون أن ينبهه على أن من حقه كذا وكذا، فهو أصلاً لم يشعر أنه مظلوم حتى يشتكي، هذه الدريهمات التي أكلها صاحب العمل عليه أين ستذهب؟ والذين أكلوا حقوق الأجراء والعمال ولم يعطوهم إياها، أو أعطوهم نصفها أو ربعها أين سيذهب الباقي؟ قد لا يجد العامل المسكين مجالاً ليحصل على حقه، أين الضمان الحقيقي في أرجاء الأرض كلها مشارقها ومغاربها؟ أين سيكون هذا؟ قد يوجد ظلمة يحكمون الناس فيقتلون ويسجنون ويعيثون في الأرض فساداً ثم يموتون وهم على عظمتهم وعلى كراسيهم، هل ستنتهي القضية بهذه السهولة؟ بعض أرباب الأعمال يموت وهو غني ثري وقد أكل أموال كثير من الناس ويموت وهو في أوج غناه وثرائه، أليس كذلك؟ بلى. هل ستنتهي المسألة بهذه البساطة؟ إذاً: هناك لا بد أن يأتي يوم يرجع فيه الحق إلى نصابه، ويقتص للمظلوم من الظالم. اليوم الآخر مهم ليحجم أهل الكبائر عن كبائرهم، عندما يعلم الزاني أن هناك فرناً في جهنم للزناة فقط، ويعلم المرابي أنه سيسبح في بحر من الدم ويلقم حجراً في فمه، ثم يعود ويسبح ثم يأتي ويلقم أحجاراً، وعندما يعلم الغادر أن له لواءً ينصب يوم القيامة، وعندما يعلم ويعلم ويعلم إلى آخر أصحاب الكبائر، أليس هذا رادعاً لهم، ما الذي سيحل القضية حلاً جذرياً مثل اليوم الآخر؟!! ويوم القيامة يرفع أهل الحديث أعناقهم؛ لأن الله يقول: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} [الإسراء:71] فيأتي الإمام ووراءه المأمومون الذين يأتمون به، فيكون أسعد الناس حالاً هم أهل الحديث؛ لأنهم تابعوا قدوتهم وإمامهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

من فوائد اليوم الآخر: أن المسلم يعمل بجد لهذا اليوم

من فوائد اليوم الآخر: أن المسلم يعمل بجد لهذا اليوم ومن فوائد هذا اليوم أيضاً: أن الصالح عندما يعلم أن النعيم لا حدود له وأنه سيثاب ويثاب فإنه سيعمل ويعمل، يقال لصاحب القرآن يوم القيامة: (اقرأ وارتق ورتل فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها) عندما يعلم أنه كلما قرأ تزداد مرتبته في الجنة، وكلما قرأ سيعلو ويعلو، أليس هذا حافزاً له؟ هناك كثير من أصحاب المصائب حتى في الأبدان، هناك كثير من أصحاب العاهات المستمرة، من الناس الذين أصابهم سرطانات -عافانا الله وإياكم- أو أمراض خبيثة لا علاج لها، وهم يعيشون في غرف الإنعاش أو يعيشون على سرر جثة هامدة يسحب منه الأذى ويعطى له الطعام بهذا الشراق الذي يوضع في أفواههم، لا يستطيعون حركة، أولئك المشلولون أصحاب العاهات، اليوم الآخر مهم بالنسبة لهم، ما الذي يصبرهم؟ إنه حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (لو يعلم أهل العافية في الدنيا ما لأهل البلاء في الآخرة عند الله لتمنوا أن جلودهم قرضت بالمقاريض) فانظر كيف يدخل الإيمان باليوم الآخر حلاً لجميع المشكلات! هذا -أيها الإخوة- دين عظيم، لكن نحن المسلمين قد يخفى علينا جوانب من عظمة هذا الدين. اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم واجعلنا ممن يخافك ويتقيك، ويتبع منهجك الذي أنزلت يا رب العالمين.

أي الناس أنت؟

أي الناس أنت؟ خلق الله الناس وقسمهم على الخير والشر درجات مختلفة، وقد بين الله أصناف الناس في القرآن، وذلك في مختلف المواقف، فما عليك إلا أن تتبع القرآن لتنظر من أي الناس أنت، أو فطالع هذه المادة تفتح لك الطريق في ذلك.

أصناف الناس في القرآن والسنة

أصناف الناس في القرآن والسنة الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. وبعد: فأي الناس أنت؟ هذا سؤال سألنا أنفسنا فيه: من أي أنواع الناس نحن؟ وقد ذكر الله عز وجل أنواعاً من الناس فقال سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:8]. وقال جل وعلا: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة:165] وقال جل شأنه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة:204]. وقال سبحانه وتعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} [الحج:3]. وقال جل وعلا: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11]. وقال سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت:10]. وقال جل وعلا: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [لقمان:6]. وهناك في الجانب المقابل يقول الله جل وعلا: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201] {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة:207] إذاً هناك من الناس ألوان وأنواع وأصناف وأجسام وأشكال ذكرها الله عز وجل في كتابه، وهذا التنويع في الناس يجعلنا نلتفت -أيها الإخوة- إلى هذه الأقسام، ثم نحن نتعرف على حال أنفسنا من خلال هذه الأقسام المذكورة في الكتاب والسنة. فمثلاً: الله -سبحانه وتعالى- قال: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر:32] فجعل الله -سبحانه وتعالى- الأمة على هذه الأصناف الثلاثة، فالمسلم الذي لم يقم بواجب الإيمان هو الظالم لنفسه، والمقتصد: هو الذي يؤدي الواجبات ويترك المحرمات، والسابق بالخيرات: هو المحسن الذي يعبد الله كأنه يراه فيزيد في المستحبات ويتقرب إلى الله بالنوافل بالإضافة للفرائض فهذه ثلاثة أقسام -أيضاً- من الناس ذكرها ربنا عز وجل، قسم هذه الأمة إلى هذه الأقسام الثلاثة: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر:32]. وقد ذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم سراً من الأسرار في أصل تكوين الناس وأصل خلقتهم، وكيف كان هناك ارتباط بين أصل الخلقة والتكوين من تربة الأرض وبين الطبائع والدين الموجود في النفوس، فقال عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث: (إن الله عز وجل خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر هذه القبضة المأخوذة من جميع الأرض، جاء منهم الأبيض، والأحمر، والأسود -هذا من جهة الألوان: جاء من الناس أبيض وأحمر وأسود- وبين ذلك، والخبيث، والطيب، والسهل، والحزن وبين ذلك، فهذه القبضة التي أخذها ربنا من جميع الأرض جاءت فيها اختلاف الألوان والطباع). يقول المبارك فوري في شرح الحديث: هذه الثلاثة هي أصول الألوان، وما عداها مركب منها، هذه الثلاثة أصول الألوان: الأبيض، والأحمر، والأسود، والألوان الأخرى إذا خلطت بنسب مختلفة جاءت الألوان الأخرى. ثم بالنسبة للطبائع قال: وجاء منهم السهل: اللين، والحزن: الصعب الشرس الغليظ، والخبيث: خبيث الخصال، والطيب: بحسب الأرض التي خلقوا منها، لوناً وطبعاً وخلقاً، وهكذا تجد الناس باختلاف الطبائع يرجع اختلاف طبعهم إلى اختلاف الأرض، هناك أرض سبخة مالحة ما ينبت فيها شيء، وهناك أرض صخرية ليس فيها أي لين ولا سهولة، وهناك أرض لينة طيبة، وهكذا نفوس الناس من هذه القبضة، وهذا سر من الأسرار وقد اطلعنا عليه من حديث النبي صلى الله عليه وسلم. وكذلك فإنه عليه الصلاة والسلام قد أخبرنا عن أنواع من الناس من جهة عطاء الدنيا والآخرة فقال في حديث الإمام أحمد: (الناس أربعة، والأعمال ستة، فالناس: موسع عليه في الدنيا والآخرة، وموسع له في الدنيا مقصور عليه في الآخرة، ومقصور عليه في الدنيا موسع عليه في الآخرة، وشقي في الدنيا والآخرة) أي: لا دين ولا مال. وأما الأعمال فقد قال عليه الصلاة والسلام: (الأعمال موجبتان، ومثل بمثل، وعشرة أضعاف، وسبعمائة ضعف. فالموجبتان: من مات مسلماً مؤمناً لا يشرك بالله شيئاً فوجبت له الجنة -وما هي الموجبة الثانية؟ - من مات مشركاً بالله عز وجل كافراً وجبت له النار، ومن هم بحسنة لم يعملها علم الله أنه قد أشعرها قلبه وحرص عليها كتبت له حسنة، ومن هم بسيئة لم تكتب عليه، ومن عملها كتبت واحدة ولم تضاعف عليه، ومن عمل حسنة كانت له بعشر أمثالها، ومن أنفق نفقةً في سبيل الله كانت له بسبعمائة ضعف). الآيات والأحاديث تتكلم عن أنواع من الناس، تقسم الناس إلى أنواع باعتبارات مختلفة، وهذا التقسيم -أيها الإخوة- يفيدنا في فهم الطبائع والأحوال، حتى إذا عرضنا أنفسنا عليها عرفنا أين نحن؟ ما هو نوعنا؟ ما هو جنسنا نحن؟

أصناف الناس في الدين والدنيا عند العلماء

أصناف الناس في الدين والدنيا عند العلماء بالرجوع إلى كلام العلماء -أطباء النفوس- يتبين أن هناك أنواعاً -أيضاً- من الناس باعتبارات كثيرة، ومن هؤلاء العظماء: شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وتلميذه ابن القيم، اخترت لكم من كلامهما هذه الأنواع: الناس في الدين والدنيا أقسام، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: منهم أصحاب دنيا محضة ما عندهم إلا الدنيا، أما الآخرة فهم معرضون عنها وليس لهم في الآخرة نصيب، ما لهم نصيب إلا في الدنيا، ومنهم أصحاب دين فاسد وهم الكفار والمتبعة الذين يتدينون بما لم يشرعه الله من أنواع العبادات من جنس الصابئة والهند وغيرهم. الشيخ العالم/ محمد أمين المصري رحمه الله، ذهب يدرس في بريطانيا فنزل في عمارة وسكن فيها، وكان له جار بروفيسور هندوسي، فاشترى الشيخ لحماً لبيته -لحم بقر مفروماً- فلما جعله على النار يطبخه مر ذلك الجار به وهو يطبخ اللحم، فنظر إليه فذرفت عيناه وجعل يبكي، فتعجب وقال: ما لك؟ ما الذي يبكيك؟! قال: لا تدري لماذا أبكي؟ قال: لا، لحم مفروم يطبخ قال: إني أرى إلهي يقلى في المقلاة ولا أبكي؟!! لأنه هندوسي من عباد البقر هذا شغلهم. وبعض هؤلاء يتدينون بترك اللحم، من هذه التدينات من جنس تدين الرهبان ما أنزل الله بها من سلطان كما يقول شيخ الإسلام رحمه الله: مثل بعض الجهال يمزح يقول: فلان ما نكح ولا ذبح. يعني: أنه زاهد في الدنيا، لا زواج ولا لحم، وهذا زهد فاسد؛ لأن هدي النبي صلى الله عليه وسلم: (أتزوج النساء، وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني). فإذاً قال: الناس في مسألة الدين والدنيا أقسام: منهم أصحاب دنيا محضة، غارقون في الدنيا يعبدون الدرهم والدينار فقط، ومنهم أصحاب دين فاسد، مثل هؤلاء الهندوس وغيرهم، وقسم ثالث وهم: أهل الدين الصحيح، أهل الإسلام المستمسكون بالكتاب والسنة والجماعة، إمامهم محمد صلى الله عليه وسلم، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.

أقسام الناس باعتبار الحسنات والسيئات ونسبتها إلى الله

أقسام الناس باعتبار الحسنات والسيئات ونسبتها إلى الله تقسيم آخر للناس باعتبار الحسنات والسيئات ونسبتها إلى الله عز وجل، الناس -أيضاً- يتفاوتون، يقول شيخ الإسلام: فشرهم الذي إذا أساء أضاف ذلك إلى القدر، واعتذر بأن القدر سبق ذلك وأنه لا خروج له عن القدر، فركب الحجة على ربه في ظلمه لنفسه، وإن أحسن أضاف ذلك لنفسه ونسي نعمة الله في تيسيره لليسرى، فإذا عصى قال: شيء مقدر ومكتوب، ولماذا تلومونني على ما قدر الله علي من المعصية؟ وإذا أحسن قال: أنا فعلت، أنا أنا ولم ينسب إلى الله أن يسره لهذا العمل، يسره لليسرى، كما قال الشيخ أبو الفرج ابن الجوزي: أنت عند الطاعة قدري، وعند المعصية جبري، أي مذهب وافق هواك تمذهبت به. الآن لو أن شخصاً أعطى شخصاً مالاً لكي يضارب به قال: هذه مائة ألف شغلها لي. جاء في آخر السنة قال: يا فلان المبلغ خسر. قال: ماذا؟! قال: والله قضاء وقدر. ماذا سيفعل؟ يناقشه، تعال قضاء وقدر! ماذا فعلت، ولماذا خسرت؟ رجل أعطى شخصاً من رأس ماله يفتح متجراً، كل يوم يمر أمام المتجر، ومرة جاء الشخص متأخراً قال: اليوم شمسك مرتفعة. يعني: معناها أنك متأخر عن المتجر -فتحه متأخراً- فإذا جاءه في الدنيا لا يقبل قضاء ولا قدراً، لا، يناقشه في قضية الأسباب ولماذا ما فعل كذا؟ ولماذا ما فعل كذا؟ وإذا صارت المعصية قال: قضاء وقدر! تلومونني على القضاء والقدر؟ فهؤلاء شر الناس. قال: وخير الأقسام -وهو القسم المشروع الذي جاءت به الشريعة- إذا أحسن شكر نعمة الله عليه، وحمده إذا أنعم عليه أن جعله محسناً ولم يجعله مسيئاً، فإنه فقير محتاج إلى الله، وإذا أذنب تاب واستغفر، وهذا هو حال المؤمن.

أقسام الناس في المحبة والقدرة

أقسام الناس في المحبة والقدرة تقسيم آخر: الناس في المحبة والقدرة -يقول شيخ الإسلام - أقسام: فمنهم من لهم قدرة وإرادة قوية، عندهم عزم وتصميم وجهد كبير، لكنهم -قال شيخ الإسلام - يستعملون جهدهم وطاقتهم لا في سبيل الله بل في سبيل آخر، إما محرم كالفواحش ما ظهر منها وما بطن، والإثم والبغي بغير الحق، والإشراك بالله، وإما في سبيل لا ينفع عند الله مما جنسه مباح لا ثواب فيه، لكن الغالب أن مثل هذا كثيراً ما يقترن به ما يجعله في سبيل الله أو في سبيل الشيطان، أي: مباح لا ثواب فيه ولا عقاب، لا يستمر، لا يصفو إما أن يصير في النهاية إلى طاعة الله وإما إلى معصيته. فيقول شيخ الإسلام: هناك أناس عندهم قدرة، وإرادة، وعمل، وعزيمة قوية؛ لكن يسخرونها في الشر، أو في مباحات ليس منها نتيجة في الآخرة، ولا فائدة له قال: ومن الناس مؤمن قوي، قوم لهم إرادة صالحة، ومحبة كاملة لله، فهؤلاء سادة المحبين المحبوبين المجاهدين في سبيل الله، لا يخافون لومة لائم، كالسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الذين عملوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في رفعة شأن الدعوة، والذين جاهدوا، وعملوا لله تعالى، وحملوا راية الإسلام، دعوا إلى الله، فتحوا البلاد، ذهبوا شرقاً وغرباً، ضحوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، عندهم همة وعمل وجهد فرغوه، وأين وضعوه؟ وضعوه لنصرة دين الله عز وجل. قال: والقسم الثالث: قوم فيهم إرادة صالحة ومحبة لله، لكن قدرتهم ناقصة، من ناحية القدرة على نصرة الدين ناقصة، لكن نيته طيبة، عنده إرادة حسنة. قال: هؤلاء يأتون بمحبوبات الحق من مقدورهم لكن قدرتهم قاصرة، وما زال في المؤمنين على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده من هؤلاء خلق كثير، منهم الذين قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم: (إن بـ المدينة رجالاً ما سرتم مسيراً ولا سلكتم وادياً إلا كانوا معكم وهم بـ المدينة، قالوا: وهم بـ المدينة؟! قال: هم بـ المدينة حبسهم العذر) وهؤلاء لهم فائدة عظيمة وهي التي قال النبي صلى الله عليه وسلم فيها: (وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم). هتلر كان عنده مبدأ، هتلر يقول: كيف يكون في المجتمع أناس أصحاب عاهات؟ أي: صاحب عاهة لابد أن نعدمه، نقتله؛ لأنه عالة على المجتمع، فنخلص من ميزانية العجزة الكبار والمرضى! هؤلاء النبي صلى الله عليه وسلم والمبدأ الإسلامي ماذا يقول فيهم؟ (هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم؟) هذه النوايا الحسنة التي عند هؤلاء لها فائدة عظيمة في المجتمع، تمكين النصر، النصر يأتي من الله لسببين: بسبب الضعيف الخيِّر، هذا الضعيف الخيِّر، أما الذي يلام من هو؟ الذي عنده مشكلة في نيته أو عنده قدرة على نصرة الدين ولا ينصره، عنده قدرة ولا يستعملها.

أقسام الناس في مسألة الغضب للرب والغضب للنفس

أقسام الناس في مسألة الغضب للرب والغضب للنفس تقسيم آخر: الناس أنواع في مسألة الغضب للرب والغضب للنفس، قال شيخ الإسلام رحمه الله: والناس في هذا المقام أربعة أقسام: منهم من يغضب لربه لا لنفسه وهذا أعلى نوع، ومنهم بالعكس يغضب لنفسه ولا يغضب لربه، ومنهم من يغضب لهما -يغضب لله ويغضب لنفسه- ومنهم الذي ما من ورائه رجاء، لا يغضب لنفسه ولا لربه. قال: فأعلاهم حال النبي صلى الله عليه وسلم ومن اتبعه، يصبرون على أذى الناس ويجاهدون في سبيل الله، وينتقمون لله لا لنفوسهم، ويعاقبون لله لا لأشخاصهم، وهكذا في جهاد الكفار وإقامة الحدود. قال شيخ الإسلام: وأدناهم عكس هؤلاء، يغضبون وينتقمون ويعاقبون لنفوسهم، إذا أخذت ريالاً من دراهمه ثارت ثورته، إذا آذيت ولده ثارت ثورته، ولكن إذا انتهكت محارم الله؟ قال شيخ الإسلام: فإذا أوذي أحدهم أو خولف هواه غضب وانتقم وعاقب، ولو انتهكت محارم الله أو ضيعت حقوقه لم يهمه ذلك، وهذا حال الكفار والمنافقين. وأما الذي لا يغضب لا لله ولا لنفسه فهذا إنسان جبان ضعيف، خائر القوى، لا دين ولا دنيا، لا عنده قدرة في الانتصار للدين ولا في الانتصار للنفس، ومن الناس من تجده يغضب لنفسه ويغضب لربه لكن ما هو الأفضل؟ أن الإنسان يسامح في حق نفسه ولا يسامح في حق الدين، إذا انتهكت حرمات الدين يقوم لله، إذا اعتدي عليه هو يسامح في حق نفسه وأجره على الله {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّه} [الشورى:40]. قريب منه -أيضاً- تقسيم آخر ذكره رحمه الله في موضع آخر في مسألة الانتقام، وأن النبي صلى الله عليه وسلم ما قال لأنس عشر سنين: (أف) أبداً، ولا قال له لشيء فعله: لم فعلته؟ ولا لشيء لم تفعله: لِمَ لم تفعله؟ مع أنه خادم عنده. أيها الإخوة هذه قضية صعبة جداً، شخص عنده خادم، تصور أن عندك خادمة في البيت عشر سنوات لا تقول لها: لماذا لم تعملي كذا؟ لماذا عملت كذا؟ انظروا! هذا أنس خدم عند رسول الله عشر سنوات ما قال له لشيء فعله: لم فعلت؟ ولشيء ما فعله: لِمَ لمْ تفعله؟ وهذه قدرة عجيبة على ضبط النفس تخلق بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أقسام الناس في مسألة العبادة والاستعانة

أقسام الناس في مسألة العبادة والاستعانة تقسيم آخر في مسألة العبادة والاستعانة: يقول شيخ الإسلام رحمه الله: الناس في عبادتهم واستعانتهم على أربعة أقسام: فالمؤمنون المتقون له وبه، أي: العبادة له -لله- والاستعانة بمن؟ بالله، هذا معنى: له وبه، هؤلاء المؤمنون المتقون له وبه، يعبدونه ويستعينون به، وطائفة تعبده من غير استعانة ولا صبر، فتجد عند أحدهم تحرياً للطاعة والورع ولزوم السنة، انظر هذه نوعية موجودة من الناس، لكن أحياناً ما نتفطن، وما نربط الأشياء ببعضها ربطاً جيداً، يقول شيخ الإسلام: هناك أناس عندهم تحرٍ للطاعة والورع ولزوم السنة، لكن ليس لهم توكل واستعانة وصبر بل فيهم عجز وجزع، أي: أنك قد تجد شخصاً في الصف الأول في صلاة الفجر في المسجد، ويجلس إلى طلوع الشمس، ويصلي الضحى، ويأتي بالأذكار والأدعية وقراءة القرآن والأوراد والمحافظة عليها وعبادات، لكن إذا مات ولده سقط وانهار انهار!! إذا صار لزوجته حادث انهار! إذا ذهب ماله انهار! يعني: عنده عبادة لكن ليس عنده صبر وتوكل، فهذا الشخص إذاً هو ناقص من هذه الجهة. وطائفة ثالثة فيها الاستعانة والتوكل والصبر لكن على غير استقامة ولا متابعة للسنة، عندهم صبر وعندهم الاستعانة لكن على غير متابعة للسنة، ولذلك تجد بعض الكفار إذا مات ولده يتجلد ويصبر لفقد الولد، ويوجد شخص مؤمن يموت ولده ولا يصبر لماذا؟ هذا الكافر عنده صبر وتجلد لكن لا يؤجر عليه؛ لأنه لم يفعله لله وتجلدي للشامخين أريهمُ أني لريب الدهر لا أتضعضع دخلوا عليه فتجلد عند المصيبة، قالوا: لماذا تجلدت؟ ما شاء الله صبرت، قال: من أجل ألا يشمت الناس بي. ما صبر لله، فيوجد أناس عندهم صبر وعندهم -كما يقولون- صبر كصبر الحمار، لكن ليس لله، فهناك أناس عندهم صبر وتجلد لكن ما عندهم لزوم السنة ولا استقامة على الدين، توجد نماذج من هذا في المجتمع؟ موجودة، ما يقوله شيخ الإسلام موجود، بعض الكفار عنده قلب أجرأ من بعض المسلمين، وبعض الناس عندهم توكل في المعصية، شخص ذهب لبلد من بلاد الفحش يفعل الفاحشة، فواحش، جاء شخص وقال له: يا أخي اتق الله، وهذه فيها أمراض، فيها أشياء يصيبك إيدز، يصيبك مرض وبلاء. قال: أنا متوكل {لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة:51] أنا ذاهب، لن يصيبني إلا المقدور، وهذا شيء مكتوب، وإذا عزمت فتوكل على الله، فبعض الناس -ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في كلام له- آخر قضية توكل بعض قطاع الطرق، إن بعض قطاع الطرق عندهم توكل عجيب، وأنهم بسبب هذا التوكل يتجاوزون عقباتٍ وأخطاراً ومفازاتٍ، ويقطعون صحاري وينجون ويسلمون ويسرقون ويهربون، عندهم هذه القضية، لكن على ماذا؟ على إجرام، وعلى فساد. فالمقصود: لا نستغرب إذا وجدنا تجلداً وصبراً عند أهل المعاصي، وبعض هؤلاء عندهم توكل في الأشياء وهم على جريمة، وينجحون في أشياء بسبب ما عندهم من هذه الاستعانة وهذا التوكل، وقد يكونون من أصحاب البدع، كثير منهم أصحاب بدع لكن عندهم توكل، لكن على بدعة. فإذاً من هم الطائفة؟ ومن هو القسم الناجي؟ ومن هو الذي عنده الاستعانة والتوكل مع العبادة والطريقة الصحيحة، {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]؟! من كان على سنة محمد صلى الله عليه وسلم لكن بصبر واستعانة وتوكل.

أين السفر في الإجازة؟

أين السفر في الإجازة؟ إعلانات الإجازة الصيفية تطرق الأبواب وتفتحها على مصراعيها للخير والشر، فنشاهد ونسمع الكثير من الدعايات والعروضات البهلوانية، فما هو موقف المسلم من هذا؟ وكيف يقضي إجازته؟

العروضات البهلوانية في الإجازة الصيفية

العروضات البهلوانية في الإجازة الصيفية الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين. أما بعد: فإن البهلوانية وعروض المصارعة الحرة، ومسابقة كمال الأجسام، وملاعب التنس المفتوحة، وكذلك كرة الطائرة الشاطئية، والتزلج على الماء، ومسابقة القوارب الشراعية، ومسابقة بناء القلاع الرملية في المنتزهات البحرية والشواطئ وغير ذلك، من مسرح العرائس، وأضخم الفنادق والمطاعم، والأطعمة الفرنسية الممزوجة بالذوق السويسري، وما شابهه من الدعايات إن هو إلا ضحك على الذقون يبلعون فيه الأموال، وإلا لو تأملت في هذه الأطباق التي تقدمها تلك المطاعم وما تحتوي عليه لوجدت أن في كثير منها تلبيس وغش وتدليس، يسمونها كذلك ولكن في الحقيقة نصب واحتيال بهذه المبالغ الطائلة التي تصرف في فنادق ومطاعم الخمس نجوم، وغيرها، ونحن مسئولون عن الأموال التي ننفقها -أيها الإخوة- في هذه الأشياء. إذاً: هذه الأمور من الأشياء البهلوانية، فالدلافين، والمراكب الشراعية، والقوارب المائية، والسباقات وغير ذلك إذا لم يكن فيها إضاعة أموال ففيها -أيضاً- اختلاط، فتجد بناتك وزوجتك وأسرتك تقف مع شباب آخرين، وأسرهم وبناتهم في أماكن متقاربة وضيقة ومتراصة ومزدحمة، وكذلك أماكن جلوس متقاربة، وكراسي متجاورة في مسارح ومعارض ولوحات فنية ونحو ذلك، تزجية الأوقات، وإضاعة الأموال، وتقريب الزوجات والنساء من الشباب، وكذلك الذكور الآخرين الموجودين في نفس المكان فما حكم ذلك شرعاً؟ وعندما تنسف الريح تلك العباءات التي تركب هذه المراكب البحرية ما هو الحكم شرعاً؟ لو أن الناس قالوا: نريد أن نذهب إلى أماكن نقية صافية، إلى جبل أو بر أو وادٍ أخضر أو شاطئ نظيف إذاً لقلنا: ترويح، وأمر حسن. ولو قال: أصيد سمكاً أو غيره. فنقول: لا بأس بذلك، لكن عندما تكون القضية اختلاط وسفور وتبرج في تلك الأماكن، فما هو حكم الذهاب وحكم الإنفاق؟ إن الله سائل كل راع عما استرعاه أحفظ ذلك أم ضيع، حتى يسأل الرجل عن أهل بيته.

الحث على قضاء الإجازة في الدعوة إلى الله

الحث على قضاء الإجازة في الدعوة إلى الله أيها الإخوة: إنا نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجنبنا الحرام، وأن يرزقنا الحلال، وأن يجعلنا في حلنا وترحالنا طائعين له، مخبتين له ومنيبين، وأن يجعلنا ممن عبدوه حضراً وسفراً، واجتنبوا المحرمات ظاهراً وباطناً. أيها الإخوة: عندما نسافر لو نتذكر فقط إلا طلائع دعاء السفر: (نسألك البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى) لكفى ذلك؛ اجعلوها عبادات في عمرة أو غيرها، واجعلوها طاعات في صلة رحم وغيرها، واجعلوها قياماً بواجب الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما كان أسلافكم من هذه الأمة يسافرون طلباً للعلم، حضوراً عند العلماء في حلق الذكر، يجمعون الأحاديث والمسائل، ويعثرون على عيون هذا العلم فيسطرونه وينشرونه، دعوة، نشر للدين، إمامة بقوم جهال، إلقاء الكلمات، المواعظ، الدروس، وغير ذلك من أنواع البر، نشر الخير، إغاثة الملهوف، إقامة المدارس في هذه الأماكن من بلاد المسلمين المجهولة، التي تستحق أن يذهب إليها الدعاة بعيداً عن خطر الفتنة، وإذا كانت فتنة فسلامة النفس أولى، وحفظ رأس المال مقدم على جلب الأرباح. أخي: اجعل عنوانك في سفرك أن تحفظ أهلك -زوجتك وبناتك- أن تحفظهن من كل منكر، ولو اجتذبوك وضغطوا عليك وأغروك، وطلبوا منك، وقالوا: نريد المكان الفلاني، نريد الملهى الفلاني، نريد المتحف الفلاني، والشاطئ الفلاني، والمدينة السياحية الفلانية، ونحو ذلك، ذكرهم بالله عز وجل، واذهب بهم إلى أماكن تكون أبعد ما يكون عن التبرج والاختلاط. واعلموا -أيها الإخوة- أن المحافظة على أوامر الدين في هذا الزمان لا شك أن فيها صعوبةً بالغة، ولكن ليس لنا خيار آخر، وإذا كان القابض على دينه كالقابض على الجمر في آخر الزمان فلنفز نحن بهذه المرتبة، ولنكن نحن الأخيار في زمن كثرة الشر؛ فإن الله يعطي من الأجر على الغربة -غربة الدين- شيئاً عظيماً، إذا تمسكت بدينك في وقت غربة الدين أجر عظيم لك جداً، فهنيئاً لمن فاز به! أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم، وأوسعوا لإخوانكم وتقاربوا يوسع الله لكم.

ضرورة قضاء الإجازة مع الأهل والأولاد

ضرورة قضاء الإجازة مع الأهل والأولاد الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً رسول الله النبي الأمين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أيها الإخوة: عباد الله! إن الموظف إذا أخذ إجازته فإنه يكون له مع أهله وأولاده وقفة، في زيادة التداخل معهم، وكسب قلوبهم بعد أن كان منشغلاً في هم الوظيفة وأوقاتها، ومزيد من التعليم لهؤلاء الأهل والأولاد بعد أن كان منشغلاً عن تعليمهم، وكذلك القيام بحقهم وشراء حاجاتهم وهداياهم ومكافأة المتفوقين من أولاده، وغير ذلك من الأمور الطيبة. إن دفع الأولاد في الإجازات إلى مراكز تحفيظ القرآن الكريم، وكذلك دفع النساء إلى مراكز تحفيظ القرآن للنساء خير عظيم جداً، وثمار قد ظهرت والحمد لله تعالى، وليس كل الناس يسافرون ولا في كل الأوقات حتى ولو كانوا في إجازة. إذاً: ينبغي أن تغتنم هذه الإجازة، وهذا الفراغ الذي حل محل الدوام المدرسي بما يرضي الله تعالى، وينبغي الانتباه الشديد للأولاد ذكوراً وإناثاً في قضية ما يسمعونه وما يتفرجون عليه، وأنت مسئول عن ثغر سمعه وثغر بصره، فانظر -رحمك الله- ماذا يسمع ولدك وماذا يرى وإلى أي شيء ينظر؟! وهذا التعليم وبذل الأوقات لإصلاح الأولاد وملاعبتهم له أجر عظيم، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يلاعب أولاده، وكان يشبع الرغبة النفسية للطفل في اللعب، لكنه كان لعباً مباحاً، ليس بالضرورة أن نأخذه إلى مدينة ملاه فيها فسق، أو فيها تبرج واختلاط، أو فيها موسيقى وأمور محرمة، وإنما ملاعبة الوالد لولده ومشاركته له تكون علاجاً نفسياً وهدوءاً وطمأنينةً وإشباعاً لغريزة الطفل بأمور كثيرة قد تكون أبسط وأرخص مما يتصوره البعض. لقد جن هؤلاء الأطفال بهذه الألعاب الإلكترونية فلم يعد يلعب إلا مع الجهاز، ولا يرى إلا الجهاز، يعكف عليه الساعات الطويلة، فأي شيء يبني هذا من العلاقة بين الوالد وولده أو الأم بولدها؟ أيها الإخوة: لقد غزانا أولئك الكفار بهذه الألعاب، وقلما تجد ولداً ليس في بيته أو لا يطلب من أبيه (سوني بلاير ستيشن) أو غير ذلك من أنواع الألعاب التي ربما تشتمل على نساء بملابس فاضحة من اللاعبين واللاعبات، وأشكال مخزية مما فيه موضات وتقليعات للكفار في شعورهم وأخراصهم في آذانهم، ونحو ذلك، وكذلك صلبان كثيرة في هذه الألعاب، يدخل اللاعب في الصليب ليكسب قوةً إضافية، أو يأخذ روحاً ثانياً وثالثاً، وليس له إلا روح واحدة إذا خرجت من الإنسان مات وهكذا مما تنطوي عليه من المخاطر العقدية. وأما مسألة سباحة أو رمي أو ركوب خيل ونحو ذلك من الأشياء التي تقوي بدنه فقل ما يحدث ذلك، أو مشاركة فعلية من الوالدين للولد في الألعاب فقل ما يحدث ذلك. أيها الإخوة: إننا فعلاً ينبغي أن ننتبه لأبنائنا في هذه الإجازات، وأن نراعي مستوياتهم في السن عندما نريد أن نرفه عنهم، وأن نجلب لهم ما يتسلون به، إن هناك الكثير من الألعاب العائلية التي تحصل فيها المشاركة من عدة أطراف تربي الولد على التعاون، وأن يكون جزءاً من كل، وأن يكون حلقةً في سلسلة، وهكذا من الأشياء التي تربي روح الجماعية وليس روح الفردية القاتلة المملوءة بها مثل هذه الألعاب العصرية الحديثة. أيها الإخوة: اهتمامنا بتحفيظ أولادنا للقرآن، وقص القصص النبوية وسير الصحابة عليهم، والإتيان بالكتب المفيدة لهم، بدلاً من هذه القصص الماجنة، والقصص المصورة التي فيها كثير من الغث والرديء، بل والمنكر والمحرم، إن المسلم يجب أن يكون مفتشاً دقيقاً لما يطلع عليه أولاده فيسمح بالخير ويمنع الشر وهذا من مسئوليته. اللهم إنا نسألك ذريةً طيبةً تقر بها أعيننا، اللهم إنا نسألك أن تصلح أولادنا وذرياتنا، وأن تجعلنا للمتقين إماماً، وهب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين، اللهم أصلح أزواجنا وبيوتنا يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن تجعلنا مفاتيح للخير مغاليق للشر. اللهم أهلك اليهود ومن شايعهم، اللهم أهلك اليهود ومن شايعهم، اللهم أهلك اليهود ومن شايعهم، اللهم أقر أعيننا بنصرة أهل السنة والتوحيد على اليهود يا رب العالمين! اللهم أقر أعيننا بنصرة أهل السنة والتوحيد على اليهود يا رب العالمين! وأخرجهم من بيت المقدس أذلةً صاغرين.

فرح المسلم بما يصيب عدوه الكافر

فرح المسلم بما يصيب عدوه الكافر إن المسلم ليفرح ولا شك بأي مصيبة تصيب الكفار وخصوصاً اليهود الذين هم ألد أعدائنا: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ} [المائدة:82] ولكن لا تنس قول الله بعد اليهود: {وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة:82] والذين أشركوا، ولو أن الله ضرب يهودياً بمشرك وألقى بينهم العداوة لفرحنا بهلاك الفريقين جميعاً وما يصابان به، ولا يمكن لمسلم أن يوالي ولا أن يفرح بانتصار مشرك على نصراني أو يهودي، فهو يفرح لهزيمة اليهود، ولكن لا يفرح لانتصار مشرك ولا من خرج من الدين بالردة واعتناق كل كفر أو إلحاد أو شرك أو بدعة مخرجة عن الملة. وعندما تتأمل في تخلي اليهود عن أوليائهم ستجد العجب العجاب كما قال ذلك النصراني ممن كان يوالي اليهود: تركتمونا خلفكم مثل الحيوانات. يقول لليهود: تركتمونا خلفكم مثل الحيوانات، وخدعتمونا وكنتم تقولون لنا: كل شيء على ما يرام هكذا يقول: أنا غاضب ومصاب بخيبة أمل، كل شيء انتهى، وهكذا قال أولياء اليهود ممن تساقطوا. فالعبرة إذاً -أيها الإخوة- أن هؤلاء اليهود لا يرقبون عهداً ولا ذمة، قال الله في وصفهم من قديم: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} [البقرة:100] فإذا تخلوا عن أوليائهم النصارى فما بالك بما سيفعلونه بالمسلمين؟! ولذلك فقوم أثبتوا عملياً وأمام مرأىً من العالم سمعاً وبصراً تخليهم عن أوليائهم الكفار، فأي عهد فيهم وأي ميثاق يرجى، وأي أمانة لأولئك القوم. إن ما رأيناه -أيها الإخوة- كان درساً عظيماً، وكان كشفاً إلهياً لهذه الحقيقة المستقرة في نفوس اليهود منذ القدم، إذا تخلوا عن أوليائهم فما بالك بغيرهم؟! اللهم أخزهم والعنهم لعناً كبيراً، واجعل هزيمتهم عاجلةً يا رب العالمين! اللهم انصر المجاهدين في الشيشان وكشمير والفليبين وسائر الأرض يا رب العالمين! اللهم اجعل بلدنا هذا آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، رب اجعل هذا البلد آمناً وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.

بدعة المولد ومحنة مقدونيا

بدعة المولد ومحنة مقدونيا يا مدعي حب طه لا تخالفه الخلف يحرم في دنيا المحبين وقد طرأ على المسلمين في القرون المتأخرة من المحدثات ما هي مخالفة لهدي النبي صلى الله عليه وسلم مع ادعاء كمال محبته، ولاندري كيف استطاعوا الجمع بين محبته ومخالفة هديه المخالفة التامة، وإذا أردت معرفة ذلك ففي هذه المادة بيان لما ذكرت، ما بيان لمحنة مقدونيا أحد الجروح النازفة في أمة الإسلام.

تعظيم الصحابة ومحبتهم للرسول صلى الله عليه وسلم

تعظيم الصحابة ومحبتهم للرسول صلى الله عليه وسلم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفتح:8 - 9] وهكذا أمرنا الله سبحانه وتعالى بتعظيم نبينا صلى الله عليه وسلم وتضمنت الشهادة التي يدخل بها الإنسان الإسلام توحيدين: الأول: توحيد العبادة لله سبحانه وتعالى. والثاني: توحيد الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم فينبغي أن نؤمن به وأن نتبعه وأن نوقره وأن ننصره صلى الله عليه وسلم فحرمته عظيمة، ومحبته من أركان الدين، وهذه المحبة التي تسابق الصحابة لبذلها لنبيهم حتى قال علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن حبه: [كان والله أحب إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا، ومن الماء البارد على الظمأ] وخبيب رضي الله عنه لما سئل: هل يسرك أن محمداً عندنا الآن مكانك وأنت في أهلك -وكان مصلوباً أمامهم ليقتلوه- قال: [والله ما أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأنا جالس في أهلي] فشهد أبو سفيان بعد ذلك عند ملك الروم بقوله: ما رأيت من الناس أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمدٍ محمدا، وهكذا بذلوا النفوس لحمايته، وكانوا يتسابقون للموت بين يديه كما مات منهم تسعة متتاليين في غزوة أحد، وهكذا حكموه في أنفسهم وأموالهم، وقالوا: هذه أموالنا بين يديك، فاحكم فيها بما شئت، وهذه نفوسنا بين يديك لو استعرضت بنا البحر لخضناه نقاتل بين يديك ومن خلفك وعن يمينك وعن شمالك، فنشهد أن لا إله إلا الله ونشهد أن محمداً رسول الله، كيف كانت محبتهم رضوان الله عليهم لنبيهم؟ قدموه على كل أحدٍ من البشر وكان الواحد يقول: فداك أبي وأمي. إن الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم -أيها الإخوة- شيء عظيم، وخصوصاً عندما نثني عليه ونصلي إذا ذكر؛ لأن البخيل من ذكر عنده النبي عليه الصلاة والسلام فلم يصلِّ عليه، والإكثار من ذكره والتأدب معه عند ذكره، وحتى في مسجده وعند قبره وتوقير حديث النبي صلى الله عليه وسلم كما كان المحدثون يجلسون في مجالس الحديث على وضوء تامٍ ونظافة وطهارة خشعاً؛ لأجل التحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. ومر مالك بن أنس على أبي حازم وهو يحدث فجازه وقال: إني لم أجد موضعاً أجلس فيه، فكرهت أن آخذ الحديث حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا قائم. وكان محمد بن سيرين يتحدث فيضحك فإذا جاء الحديث خشع. وكان مجلس عبد الرحمن بن مهدي مملوءاً بالوقار، لا يبرى فيه قلم، ولا يبتسم فيه أحدٌ، ولا يتكلم أحدٌ؛ لأجل الحديث الذي يقوله عن النبي صلى الله عليه وسلم.

بيان المحبة والتعظيم الحقيقي للنبي صلى الله عليه وسلم

بيان المحبة والتعظيم الحقيقي للنبي صلى الله عليه وسلم أيها المسلمون! إن المحبة الحقيقية في تصديقه صلى الله عليه وسلم بما أخبر وعدم الشك فيما جاء به واتباعه وطاعته والتأسي بسنته، وليس ترك السنة ولا الإعراض عنها ومخالفتها، فالعجب كل العجب من هؤلاء الذي يزعمون محبة النبي عليه الصلاة والسلام في الموالد ثم ترى أشكالهم لا تتفق مع سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وترى أفعالهم فيها من المعاصي والمخالفات لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم. عباد الله: إن التحاكم إلى السنة أمرٌ مهم جداً، والرضوخ لحديث النبي عليه الصلاة والسلام أمرٌ مهم جداً، والذب عن سنة النبي عليه الصلاة والسلام واجب علينا، والذب عن أصحابه من محبته: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29] وهكذا الترضي عنهم: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ} [الحشر:10] والاهتداء بهدي الصحابة من توقير النبي صلى الله عليه وسلم والذب عن زوجاته عليه الصلاة والسلام من محبته: {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور:26] نخل السنة مما علق بها من الأحاديث الموضوعة، وكذلك التنبيه على الأحاديث الضعيفة ونشرها نقية بين الناس، وعقد الدروس لأجل ذلك من حق النبي صلى الله عليه وسلم علينا. أيها الإخوة! إن الاتباع الحقيقي للنبي صلى الله عليه وسلم الاتباع فيما جاء به وعدم الابتداع ولتعلم أن الحذر من الخروج عن السنة، وعن المخالفة أمرٌ في غاية الأهمية، فلذلك لا نزيد عليها لا قدراً ولا كماً ولا كيفاً ولا عدداً. أيها الإخوة! إننا نرضى بحكم رسول الله عليه الصلاة والسلام، وإننا كذلك نحترم نصوصه التي جاء بها من الله تعالى ولا نعتدي عليها بتحريفٍ ولا تعطيل ولا نطعن فيها، ولا نقول: إن العقل لا يقبل هذا، أو لا يقبل هذا، فلا يمكن أن نقدم عقلاً على سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك فإننا لا يمكن أن نقدم كلام رجلٍ من الرجال على محبة النبي صلى الله عليه وسلم أبداً.

بدعة احتفال المولد

بدعة احتفال المولد ولما ثقلت السنة على بعض الناس وخالفت أهواءهم أرادوا من منطلق الانسحاب النفسي وإراحة أنفسهم بزعمهم أن يكون لهم رمزٌ يعبرون به عن محبتهم هذه المزعومة دون أن يتمسكوا بالسنة الثقيلة على أنفسهم، وتداخلت قضية الابتداع بالدين، مع شيء من الرغبات النفسية المنحرفة، مع شيءٍ من التشبه بالنصارى، مع شيءٍ من مكائد الباطنية الذين كانوا في بعض بلاد المسلمين وأرادوا إلهاء المسلمين بمناسبات ابتدعوها، تداخلت هذه الأمور لتولد في القرن السادس أو السابع الهجري بدعة وهي بدعة الاحتفال بمولده عليه الصلاة والسلام، فجاءت هذه البدعة لتغطي على تقصير أولئك في السنة بزعمهم، ولكي تريحهم شيئاً ما نفسياً من تقصيرهم طوال العام بهذه الحفلة التي يعملونها، كما يعمل الكفار اليوم في عيد الأم فيقذفون على أمهاتهم بهدية في يومٍ في السنة وهم يعقونها بقية العام ويريحون ضمائرهم بزعمهم بعيد الأم ثم يعصونها ويهجرونها بقية العام فلا يتذكرونها إلا في ذلك اليوم يوم الأم وعيد الأم كما يزعمون. وهكذا قام المبتدعة في المسلمين بإحياء هذه الاحتفالات نتيجة لهذه العوامل المتداخلة، وخرجوا علينا بأن هذا الاحتفال عبادة يعظمون به النبي عليه الصلاة والسلام؛ لكن أيهم أشد تعظيماً للنبي عليه الصلاة والسلام أهؤلاء أم أصحابه؟! هل احتفلوا إذاً بمولده أصحابه؟ ولماذا لم يحتفلوا بما هو أعظم كالبعثة والهجرة؟ أليست البعثة والهجرة مناسبتين أعظم من المولد؛ لأن التغيير الذي ترتب على البعثة والهجرة في التاريخ أشد بل لا يقارن بالتغيير الذي حصل بمجرد مولده، بل إنك لا تكاد تجد تغييراً واضحاً بمجرد مولده، لكنك تجد التغيير بهجرته وبعثته، فلماذا إذاً جعلوها في مولده بالذات؟! لما احتفل النصارى بميلاد عيسى واتبع هؤلاء ملة النصارى في هذه القضية مصداقاً لما أخبر به عليه الصلاة والسلام: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة) وأقام هؤلاء الموالد واحتجوا بأن أكثر المسلمين يفعلونها، فمتى كانت الأكثرية دليلاً على الحق؟ وقد قال الله: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116] وقالوا: نحيي ذكراه، فنقول: هو حيٌ في قلوب المؤمنين الصادقين على مدار العام، فكل يومٍ يذكرونه ويصلون عليه، ويسمعونه في النداء، وقد قرن الله اسمه باسمه في الأذان للصلاة: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:4] وهكذا يحيون سنته ويروون أحاديثه يومياً، فمتى كان جعل يوماً في السنة مغنياً؟ ومتى كان إحداث هذا العيد دليلاً على المحبة؟ إذا كانت المحبة واجبة في جميع أيام السنة، وإذا نظرنا فلم نجد في أصحاب النبي عليه الصلاة السلام ولا في السلف من فعل ذلك وإنما هي على أحسن الحالات استحسانات قام بها بعض الجهلة. عباد الله: لا شك أن معرفة سيرة النبي عليه الصلاة والسلام أمرٌ مهمٌ جداً، ولكن لماذا تخصيص قراءة السيرة في هذا اليوم بالذات يوم المولد؟! أليس الصادق في المحبة يقرأ سيرته ويتداول سيرته على مدار العام صلى الله عليه وسلم؟! إذاً ينبغي أن تكون الذكرى حية على مدار العام وليس أن تحصر في يوم من أيام العام.

مفاسد الاحتفال بالمولد

مفاسد الاحتفال بالمولد لقد صار الاحتفال بالمولد فيه من المفاسد الأمور العظيمة، ومن ذلك ما يرتزق به تجار الحلوى، ومؤجرو الألعاب والملاهي، والباعة الجوالون، والقصاصون والمداحون والمغنون، وأخيراً الراقصون والراقصات، والمغنون والمغنيات في إقامة الحفلات الغنائية، وربما أحياناً بالمجان صدقة لأجل المولد ومشاركة بالأغاني والمعاصي والمحرمات مشاركة وهبة لأجل المولد، وأتيحت الفرصة أمام الفساق والفجار وصارت التعمية على بعض المهرجانات والممارسات المعادية للدين الحق. إن نابليون -أيها الإخوة- قد أمر بإقامة الاحتفال بالمولد وأعطى شيخاً ثلاثمائة ريال فرنسي وأمره بتعليق الزينات وحضر حفل المولد من أوله إلى آخره، وكشف أحد مؤرخي مصر العظماء وهو عبد الرحمن الرافعي حيلة نابليون وقال عن ذلك: إنه يريد أن يعلن للعالم الإسلامي أنه صديق للإسلام والمسلمين خدعة وكذباً ليتوصل من وراء احتلاله إلى توطيد أركان ذلك الاحتلال بين المسلمين، ودغدغة عواطفهم، هكذا إذاً يشارك حتى الكفرة في هذه القضية ويعلنونها ويشجعون عليها ويحضرونها وينشرونها ويطالبون بها. فالسنة السنة يا عباد الله، والحرص الحرص على توحيد الله، وكذلك المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم. اللهم اجعلنا من أهل سنتك، واجعلنا ممن يحب صاحبها ويقدم محبته على كل بشر إنك سميع مجيب. اللهم اجعلنا من أهل شفاعته يوم الدين، واجعلنا ممن رافقه في يوم الدين؛ إنك سميع مجيب. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم؛ فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

محاربة أهل الزندقة للنبي صلى الله عليه وسلم

محاربة أهل الزندقة للنبي صلى الله عليه وسلم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً رسول الله البشير والنذير والسراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأتباعه وأزواجه وذريته الطيبين الطاهرين إلى يوم الدين. عباد الله: إن مما يثير الحمية في النفس لسنة النبي عليه الصلاة والسلام ولشخصه الكريم ما يراه المسلم من هجمات أهل الكفر والزندقة والانحلال، والنفاق في هذا العصر على النبي عليه الصلاة والسلام وسنته، وقد صارت هناك موجة وموضة من حرية الكفر لا حرية الفكر في كثير من الأماكن بين المسلمين، عندما يخرج الواحد تلو الواحد لأجل المس بهذا الدين والشريعة والسنة ويكتب من يكتب الكتب التي تلقي الشبهات حول نبينا صلى الله وسلم ونبوته كما فعل واحدٌ منهم في هذه الأيام. وإن من العلامات التي تدل على صدق محبة الإنسان لنبي الله صلى الله عليه وسلم المنافحة عنه وعن سنته ويغلي الدم في العروق وأنت تسمع يا عبد الله تلك الشاعرة التي تلقي قصيدة في مناسبة عيد المرأة، وهذا من فوائد الأعياد المبتدعة إن صح أن يكون لها فوائد، وكلها أضرار، لكن حتى نعلم هذه المبتدعات تقود إلى ماذا؟ في عيد المرأة تحدثت عبر الهواء امرأة في قصيدة لها تقول فيها: ملعون يا سيدتي من قال عنك أنك من ضلع أعوجٍ خلقتِ ملعون يا سيدتي من أسماك علامة على الرضا بالصمتِ من هو الذي قال ذلك؟ من هو الذي قال: (إن المرأة خلقت من ضلع أعوج فإن ذهبت تقيمه كسرته وقال: كسرها طلاقها) ومن الذي قال لما سئل عن البكر إذا استحيت أن تقول عند عقد النكاح صراحة بالنطق نعم، أو تظهر الموافقة بالكلام فقال: (إذنها صماتها) من هو القائل؟ هو النبي عليه الصلاة والسلام، ففي عيد المرأة تخرج هذه الشاعرة التي ارتدت بالنص، وتكفر على الملأ في هذه الموجات البثية الإذاعية، لتعلن الردة عن الإسلام على رءوس الأشهاد، وعندما يقوم بعض المسلمين للإنكار والمطالبة بالدعوى عليها وإقامة الحد الشرعي وهو حدٌ مهم منسي، حد الردة، تقوم منادية الشرفاء للتصدي للاتهامات الباطلة. وامرأة أخرى أنالها الله الخزي في الحياة الدنيا والآخرة تقوم أيضاً لتقول في مقابلة صحفية: إن الحج مظهر من مظاهر الوثنية وكذلك تقبيل الحجر الأسود ومسحه، وإن عقلها لا يقبل ذلك، وقالت: الحجاب غير إسلامي، هذه الموضة -أيها الإخوة- من إعلان الكفر على الملأ، هذه الموضة والانحلال من الدين الذي نسمع عنه، إنه فعلاً دليل على وجود صف للمنافقين يعمل داخل هذه الأمة، وأن فيها من المرتدين من يجب إقامة حد الله عليه بضرب رقبته بالسيف حتى يبرد. ونعلم أيضاً أن المحبة الحقيقية للنبي عليه الصلاة والسلام تكون بإقامة الحد على هؤلاء، وليس بإقامة الاحتفالات بالمولد، فإذا رأيتهم يسكتون عن هذه الأقوال ويقيمون الاحتفالات فتعلم وتفهم أي شيء؟ ماذا تستنتج يا عبد الله؟ إقامة البدعة وترك الكفرة والمنافقين والمرتدين يسرحون ويمرحون، أين المحبة المزعومة للنبي عليه الصلاة والسلام في نفوس هؤلاء؟! أيها الإخوة! إننا نوقن أنه ليس في أفعال الله شر محض، وأن الله عز وجل بعث نبيه صلى الله عليه وسلم ليبتليه ويبتلي به وقد ابتلى به هؤلاء، ابتلى به، فمنهم من آمن ومنهم من كفر. أيها الإخوة! تتزامن الأحداث ليكتشف المسلم أين هي المحبة للنبي عليه الصلاة والسلام حقيقة والدفاع عنه وعن دينه وعن سنته وعن شخصه الكريم صلى الله عليه وسلم؟ ولا شك أن المسلم لا بد أن يغار على الدين ولا بد أن يكون له موقفٌ من بطش أولئك المجرمين، ولا بد أن يعلم بأن هذا الكفر الذي ينشر على الملأ وخصوصاً المقابلات في تلك الفضائيات مع هؤلاء الزنديقات والمنحلات وغيرهن من المنحلين -أيضاً- من الدين، أن ذلك مما خطط له الكفار في نشر الردة والكفر علناً حتى تستمرئ أسماع المسلمين سماع مثل تلك العبارات الشنيعة، فيعتادوا عليها مع الوقت، ولكن في نفوس المسلمين حمية للدين لم تمت بعد، وعندهم غيرة لم تضمحل بعد، ولذلك يقوم المخلصون منهم برفع دعاوى الاحتساب، وعمل ما يمكن عمله والمطالبة ورفع الصوت لأجل أخذ الحق للنبي عليه الصلاة والسلام من هؤلاء المردة من شياطين الإنس. أيها الإخوة! نحتاج فعلاً إلى دعوة صادقة وتعليم للسنة، وبيان لمعاني الخروج عن الدين والردة؛ لأنها أمرٌ قد تفشى وأذيع وأعلن، فلا بد إذاً من الحذر والعلم والبيان، وهذه وظيفة أهل العلم.

محنة المسلمين في مقدونيا

محنة المسلمين في مقدونيا ونحن -أيها الإخوة- كذلك نعيش هذه الأيام مع محنة إخواننا في مقدونيا، ذلك الشعب المسلم الذي يشكل قريباً من نصف سكان مقدونيا (45%) ولا يشكل النصارى الأرثوذكس الذين يمسكون بزمام الأمور في مقدونيا إلا الثلث فأقل، فهم أقل من المسلمين، ومع ذلك يتحكمون في رقابهم، يغلقون جامعاتهم، وقد نصبت هذه الطغمة الأرثوذكسية في تلك البلاد صليباً طوله اثنا عشر متراً ضمن احتفالات الألفية، وهو واحدٌ من عدد من الصلبان التي زرعت في أنحاء البلاد كان أكبرها صليب بطول مائتي متر على قمة أعلى جبل، صمم بحيث يضيء في الليل ليراه الجميع، رفعوا ذلك الوثن، ولوثوا به الهواء والفضاء، ولكن ضاقت أنفسهم بمآذن أحد أعرق المساجد في مقدونيا فأمروا بإغلاقه ومنع إقامة شعائر الدين فيه، وهكذا حُرم المسلمون في مقدونيا من عدد كبير من ميزاتهم وحرياتهم الدينية وحقوقهم، فقاموا يطالبون بلا فائدة، وهكذا لما نفذ صبرهم وقاموا للمطالبة بحقوقهم جند أولئك النصارى جنودهم لكي يكتسحوا قرى المسلمين التي يتحصن فيها أولئك المدافعون؛ ليصبوا عليها جام غضبهم بنيران أسلحتهم، وتقصف المساجد قبل البيوت كما أوضحت ذلك صور الأحداث المنقولة في الوسائل العالمية، تستهدف المساجد أولاً، وهكذا تصب حمم السلاح على رءوس المسلمين فيقتل المدنيون ويشردون بالآلاف المؤلفة وفيهم -الآن- من نتيجة الحصار من الجوع والتشرد ما الله به عليم. فإلى الله نشكو أمرهم وأمرنا وأمر المسلمين، ونسأله سبحانه وتعالى أن يعجل بكشف الغمة، وإنقاذ تلك الأمة المسلمة إنه سميع مجيب. وقد تحالف الصرب مع المقدون النصارى ومع غيرهم من الأحلاف الأخرى الموجودة في الأرض على أولئك النفر القلة من المسلمين في مقدونيا، وجاء الدور على مقدونيا وكان ذلك معلوماً من قبل، بعدما صارت المذابح في البوسنة وكوسوفا جاء الدور على مقدونيا. أيها الإخوة! ولا ننسى أيضاً أن إخواننا في فلسطين يعيشون تحت أنواع الحصار الذي يفرضه أولئك اليهود عليهم، يقللون من غاراتهم العسكرية تارة ويكثفونها أخرى، ويقتحمون ديارهم تارة وينسحبون أخرى، وهكذا في عمليات مدروسة لليهود ضد إخواننا. وإننا لنعجب فعلاً من بطولات ذلك الشعب الأعزل المسلم في فلسطين المحتلة، ذهب أحد الذين يوزعون المساعدات يمشي في طريق من الطرق في تلك البلاد المحتلة بين المسلمين فاندلعت الاشتباكات فجأة في مكان قريب فدخل هذا مسرعاً إلى مكان يلتجئ فيه فقال له أحد المسلمين في فلسطين متأملاً ومتفرساً فيه: أنت لست من أهل هذه البلد، أليس كذلك؟ فقال: نعم، كيف عرفت؟ قال: لأنه عندنا إذا حدثت الاشتباكات من كان بالداخل يخرج إلى الخارج، وليس الذين في الخارج يدخلون إلى الداخل، ولذلك فإننا نعجب فعلاً من ثبات إخواننا العزل تقريباً في تلك الديار، ونحن ندعو لهم بأن يرزقهم الله مزيداً من الثبات، ومزيداً من القوة على مواجهة أعدى أعدائنا وهم اليهود، وندعو الله بأن ينصرهم وهم يقاتلون بالنيابة عن المسلمين في أرض فلسطين ولا نبخل بما نستطيع لأجل نصرتهم. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوحد المسلمين على توحيده، وأن يجمع صفهم وأن ينزل عليهم نصره وأن يسدد رميتهم، وأن يجعلهم حرباً على أعدائه سلماً لأوليائه إنه سميع مجيب. اللهم عليك باليهود والنصارى والصليبيين، اللهم عليك باليهود والصليبيين، وسائر المشركين والمنافقين المرتدين يا رب العالمين، اللهم العنهم لعناً كبيرا، اللهم أحصهم عددا، واقتلهم بددا، وأخزهم في الدنيا والآخرة وصب عليهم سوط عذاب، اللهم فرق شملهم، وشتت جمعهم، واجعل دائرة السوء عليهم، وائتهم من حيث لا يحتسبون، زلزل الأرض من تحتهم، وأسقط عليهم عذاباً من فوقهم، اللهم عطل أسلحتهم وخيب رميتهم، واجعل تدبيرهم تدميراً عليهم، اللهم أسقط دولتهم ومزقهم كل ممزق يا رب العالمين اللهم عجل بنصر المسلمين، عجل فرجنا يا أرحم الراحمين؛ سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

برنامج دين ودنيا حقوق الأبناء على الآباء

برنامج دين ودنيا حقوق الأبناء على الآباء يتحدث الشيخ في هذه المادة عن حقوق الأبناء على الآباء، ومن ذلك: اختيار أفضل الأسماء التنشئة الإسلامية العدل بين الأبناء تزويجهم متابعتهم ومراقبتهم إلخ. كما حذر من أخطاء كثيرة يرتكبها الآباء في حق الأبناء.

حقوق الابن قبل ولادته

حقوق الابن قبل ولادته الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أيها المشاهدون الكرام! أينما كنتم وحيثما كنتم؛ أحييكم بتحية الإسلام، فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته. وأهلاً ومرحباً بكم معنا إلى لقاءٍ جديد من برنامجكم دين ودنيا. الذرية بلا شك عزيزة غالية، فهي قطع الأكباد وثمار القلوب، وعماد الظهور وقرة العيون وزينة الحياة، ثم هي بعد ذلك أمانة من الله سامية يضعها بين أيدي العباد ليرعوها حق رعايتها، ويصونها حق صيانتها، ولكن الآباء في العهود الأخيرة أهملوا أبناءهم إهمالاً شنيعاً، لا نقول: أهملوهم في الطعام والثياب والفراش والسكن، فذلك قدر من العيش ميسور للناس مع اختلاف في الأحوال والأشكال، ولكنهم أهملوهم فيما هو أهم وأعظم وأخطر وأكبر؛ أهملوهم في تقويم نفوسهم وتطهير أرواحهم وتدعيم أخلاقهم، في تنشئتهم على الدين والعبادة، وفي ضرب القدوة الصالحة لهم، وفي تحديد الطريق المستقيم أمامهم، ومن هنا خرج الأولاد بلا هدفٍ ولا إيمان، وبلا رصيد من عزيمةٍ أو أخلاق، فتفرقت بهم السبل وتوزعتهم الأهواء، وتقسمتهم الأخطاء وعاشوا في دنياهم بأفئدة هواء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]. أيها الإخوة! كم يطيب لنا وكم يسرنا أن يكون معنا في هذه الحلقة أو الندوة المباركة صاحب الفضيلة الشيخ/ محمد بن صالح المنجد إمام وخطيب جامع عمر بن عبد العزيز بـ الخبر نتلقى اتصالاتكم ورسائلكم عبر هاتف البرنامج وناسوخه، والذي يظهر بين الفينة والأخرى، وأذكر هنا برقم الناسوخ (4425016). أرحب بك صاحب الفضيلة فمرحباً بك في برنامج دين ودنيا. الشيخ: حياكم الله، أهلاً وسهلاً. المقدم: بارك الله فيك. الشيخ: الله يحييك. المقدم: أقول: من ثمرات الزواج إنجاب الأولاد، والذين هم -أعني: الأولاد- قبل ذلك نعمة من الله سبحانه وتعالى يمن بها على من يشاء من عباده، يقول الله عز وجل: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً …) [الكهف:46] أقول: ولا ريب أن هذه النعمة إنما تثمر ثمرتها، وتؤتي أكلها بإذن ربها متى ما قام الآباء بالحقوق الواجبة تجاه أبنائهم، فهل لنا صاحب الفضيلة أن نتعرض على طبيعة تلك الحقوق، مثلاً: حقوق الأولاد عند الولادة كيف تكون حقوقهم؟ الشيخ: الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين، أيها الإخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأحييكم في هذه الحلقة، وأسأل الله تعالى أن يرزقنا جميعاً الإخلاص والعلم النافع والعمل الصالح. وقد سبق الحديث عن حقوق الوالدين ونتحدث -أيضاً- عن حقوق الأولاد كما تفضل أخي حفظه الله، وحق الولد على أبيه حقٌ عظيم وعندما نقول: الولد، فإنه يشمل الذكر والأنثى، إنه حقٌ من قبل الولادة بل من قبل الزواج عندما يختار له أمه التي ستربيه: (فاظفر بذات الدين تربت يداك) (تزوجوا الودود الولود) ودعاء: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران:38] وعند إتيان الزوجة يسمي الله سبحانه وتعالى، الولد له حق في الحياة فهو يخرج من بطن أمه ولذلك لا يجوز إسقاطه ولا قتله، لا قبل الولادة ولا بعد الولادة {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء:31] أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك من أكبر الكبائر: {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:8 - 9] الجاهلية التي كانت تأخذ الأم عند الولادة إلى حفرة فالقابلة تستلم المولود، فإن كان ذكراً أبقوه وإن كانت أنثى طموا عليها التراب، عوضتنا الشريعة بشيء عظيم في استقبال البنات: (من كان له ثلاث بنات فصبر عليهن وأطعمهن وسقاهن وكساهن من جزته -أي: من غناه وماله- كن له حجاباً يوم القيامة من النار). من حقوق الولد في بطن أمه أنه لا يجوز للحامل أن تتناول أي شيء يضعفه أو يشوهه، بل ينبغي أن تتقوى لتغذيته. هذه المرأة التي أتي بها لما ثبت عليها الزنا لترجم، النبي عليه الصلاة والسلام لأجل حق الولد أبقاها ولم يرجمها حتى تضع، ثم حتى ترضع، وحتى فطمته، وفي يده كسرة خبز، ثم بعد ذلك كان الرجم، هذا الجنين إذا سقط له دية عند الاعتداء عليه. هذه الزوجة التي ينبغي أن تراعى عند الحمل لأجل المولود، فعليك -يا أيها الزوج- بمراعاتها عند الوحام وغيره، إنها قضية مهمة، النسب من حقوق الولد. إن إثبات النسب حقٌ لله، وحقٌ للطفل وللأب والأم، هذا النسب الذي يصونه عن الضياع والتشرد، الولاية، الإرث في الصغر، له حقوق كثيرة بسبب النسب، فلا يجوز لأب مسلم أن ينفي ولده دون بينة. من الأمثال القبيحة التي توجد عند بعض العامة أن يقول: هذا ولدي إن صدقت أمه. ما هذا الكلام؟ كذلك لا يجوز للإنسان أن يدعي من ليس ولداً له ويضيفه إلى نسبه، ثم يستقبل المولود استقبالاً كريماً بالبشارة وكذلك يؤذن في أذنه اليمنى، فيسمع الولد شهادة التوحيد، يحنك بالتمر المعجون، يحلق رأسه، يدهن بالزعفران.

حق الابن في تسميته وعقيقته وختانه

حق الابن في تسميته وعقيقته وختانه إن من حقوق الابن أن يسمى اسماً حسناً، النبي عليه الصلاة والسلام سمى الحسن والحسين، وحسَّن على التسمية بعبد الله وعبد الرحمن وسمى بنتاً جميلة، وأخرى حسانة، هذه التسمية في اليوم الأول أو في اليوم السابع كلاهما لا بأس به وفي أي يومٍ آخر، وهنا نرى يا أخي الكريم، والإخوة المشاهدين أشياء عجيبة تحدث في قضية التسمية عندما يسمي بعض الناس أولادهم من ذكور وإناث أسماء عجيبة أسماء جاهلية أسماء مبغوضة شرعاً، ودعنا الآن من قضية الأسماء المعبدة لغير الله المنتشرة، وأشياء لا تليق بالله عند بعض الأعاجم كعاشق الرحمن ونحوه! والأسماء المكروهة شرعاً مثل: فتنة فاتن هيام، هذا اسم مرض يصيب الإبل، واحد اتصل على الخطوط ليحجز؛ قال: عندي امرأة، قال: ما اسمها؟ قال: لحظة، فانتظر موظف الخطوط، ثم قال: ما اسمها يا أخي، قال: لحظة، فانتظر مرة أخرى، ثم قال الموظف: عندنا ناس، قال: يا أخي اسمها: لحظة. ثم آخر يقول: ما اسم الراكبة؟ قال: اسمها فضيحة، قال: يا أخي! تكلم، لا حرج، قال: اسمها فضيحة، قال: نحن إخوان ثم تبين أن اسم البنت فضيحة، وهذا شخص جاءته خمس بنات، فجاءه توأم بنات، ماذا سماهما؟ اسم الحدث الريح الذي يخرج من الدبر فعله وفعيلة، على وزن فعلة وفعلية. المقدم: هذه أسماء غريبة جداً، وحتى يحاول أن يجعل لها أصلاً ويقول: هذه موجودة في اللغة العربية ارجع إلى القاموس. الشيخ: ولو رجع إلى القاموس ربما لا يعرف شيئاً ولا يعرف كيف يستخدم القاموس أصلاً، وآخر من كرهه للبنات توعد زوجته لما جاءت بالبنت السادسة سماها مغضوبة. واحد يسمي فوطة ومسفوطة، وهذه أسماء حقيقية. ثم بعد ذلك نسمع ونقرأ في الجرائد واحد من كرهه لزوجته لما جاءه ذكر وأنثى سمى البنت جهنم والابن عزرائيل، ثم يقولون: ما وجدنا في القانون ما يمنع التسمية بهذا إذا كان القانون لا يحمي المغفل، الشريعة تحمي المغفل، عندنا خيار الغبن، وخيار العيب، الشريعة تحمي الولد والمولود والوالدة والأب، الشريعة تحمي الناس، الله سبحانه وتعالى أنزلها هكذا، ثم قضية التشبه بأسماء الكفار في بعض الأسماء: روزا، كريستين، ليندا، ديانا، جاكلين، ماري، مادونا، هذه أسماء موجودة، وقد كنت ألقيت محاضرة في مدرسة خاصة للبنات، أعطيتهم أسئلة جاءت الإجابات وكل واحدة مكتوب الاسم الأول، تصور يا أخي بنت مسلمة مكتوب نانسي، لماذا هل الأسماء الإسلامية، عائشة، هل سمعنا أن الكفار يسمون أولادهم عائشة وفاطمة، وحفصة، مثلاً، ونورة وجوهرة، هل يسمون بالأسماء الإسلامية، انتهت الأسماء الطيبة حتى نسمي بأسماء القوم، {هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ} [آل عمران:119] فلما تسمون بأسمائهم، ثم أسماء رخوة، بدلاً من زينب زيزي، بدلاً من فاطمة فيفي، وهكذا أسماء أعجمية مثل: نيفين ناريمان، لماذا لا نسمي الأسماء الصحيحة؟ هناك ارتباط بين الاسم والمسمى، أسماء عباد الله الصالحين، أسماء الأنبياء. أيها الإخوة! الأب عندما يسمي لابد أن يقلب الاسم من جميع الوجوه وينظر هل يليق الاسم بالمولود، وإذا كبر هل يليق به إذا صار به جداً أو صارت جدةً. المقدم: الحقيقة أن الأسماء -ولله الحمد- مجاناً وليست بمال، فوسع الله عز وجل دائرة الأسماء قال: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} [النجم:23] فهي كثيرة، لكن دعني أطرح هذا التساؤل يا شيخ محمد: هل التسمية من حق الأب أم أنها من حق الأم؛ لأننا لربما أحياناً يلوح في سماء البيت سحابة غضب وزمجرة لماذا لم تسم على اسم أمي؟ والثاني يقول: لماذا لم تسم على اسم والدتي، أنا أحق وهكذا؟ الشيخ: أما التسمية شرعاً فإنها من حق الأب لأنه سيضاف إلى اسمه وينسب إليه كما نص على ذلك العلماء، ولذلك الأم لا تنازع الأب حقه، وعلى الأب ويستحب للأب وينبغي على الأب أن يشاور الأم في هذه القضية، ويأخذ رأيها، هي حملته وتعبت فيه، وتحملت آلام المخاض والوضع فيراعي أيضاً حالها. ومن الطرائف أن أباً أصر على اسم ابنه فيصل، والأم أصرت على طلال، وأهله معه، وأهلها معها، والولد يعيش إلى الآن باسمين فيصل وطلال، يجب أن نعلم أن هذه التسمية حق للأب شرعاً وهو يراعي زوجته. قضية العقيقة؛ العقيقة سنة مستحبة من فوائدها فك ربطة الشيطان، تسلط الشيطان على المولود لحديث: (كل غلام مرتهن بعقيقته) مرتهن، فهو مربوط، الشيطان عليه تسلط فإذا ذبحت العقيقة، وإذا لم يكن الأب قادراً -الحمد لله- هي سنة وليست بواجبة، ثم الحلق وبعض الناس ربما يقول: هذه المنطقة لينة في رأس الولد أنا أخشى عليه من الضرر، فنقول: انتق حلاقاً جيداً. الختان من حق الولد فيترتب له عليه مصالح كثيرة في صغره وفي كبره. ومن القضايا التي تكون في مسألة الصغر الرضاع الذي ينبغي للأم ألا تهمله، لا بحجة أن شكلها سيسوء، والمحافظة على شكل الصدر، تهمل الرضاع، وتنتقل بالولد إلى ما يضره، وكذلك بعض الآباء ربما الأم ترضع الولد الآن وفي وقت رضعته يقول: اتركي الولد وتعالي إلي، وهذا من حق الولد أن يرضع، فهذه مسائل مهمة عند الولادة ينبغي مراعاتها من حقوق المولود في الإسلام.

حق الابن في التنشئة الصالحة

حق الابن في التنشئة الصالحة المقدم: أحسن الله إليكم، أحياناً يتفق الزوجان فتقول المرأة الزوجة: أنا أسمي البنات، ويقول هو: أنا أسمي الأولاد، وهذا حل وسط كما يقولون، طيب ماذا عن حقوق الأولاد عند النشأة يعني: لربما يتساءل البعض يقول: لي أولاد كيف أنشئهم التنشئة الصالحة وما حقوقهم عليَّ؟ الشيخ: أما بالنسبة لهذه القضية الخطيرة والمهمة التي نهمل فيها كثيراً -أيها الإخوة! والأخوات- أن هذا الولد من ذكر وأنثى أمانة بيد الأبوين، هذه نفس تحتاج إلى صيانة، 90% من التعليم بالعادات يكتسب في الصغر، في الخمس السنوات الأولى تكتسب أشياء كثيرة {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6]. إن الغصون إذا قومتها اعتدلت ولا يلين إذا قومته الخشبُ قد ينفع الأدب الأحداث في مهلٍ وليس ينفع في ذي الشيبة الأدبُ يجب أن تكون القضية منذ البداية، تعليم ومراعاة الحاجات العبودية والحاجات النفسية، وأيضاً قيامٌ بحق هذه الروح في التهذيب والتربية إيمانياً وصلة بالله {ُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ} [لقمان:13] {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ} [لقمان:17] يا بني {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان:17] وهكذا يعلمه التوحيد وضده الشرك، والصلاة والعبادات، لقمان يعلم ولده وهذا النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (يا غلام! احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة) وهكذا يقول للآخر عندما يرى يده تطيش في الصحفة: (يا غلام! سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك). ينبغي -أيها الإخوة- أن نقوم بقضية التعليم والتربية والتأديب للأولاد، في قديم الزمان كان عند الناس رجل اسمه مؤدب، يؤدب الأولاد، يرتاد الأب المساجد مع الأولاد، يقوم معهم بصلة الرحم، يعلم البنت الحجاب منذ الصغر، وليس إذا بلغ تفاجأ بالأوامر، الأذكار يقولها بصوت مسموع ليحفظه الأولاد: اصطحابهم عند أفعال الخير إلحاقهم بتحفيظ القرآن التحدث أمامهم بالعربية الفصحى توطيد العلاقات بالعائلات الطيبة لإيجاد بيئة ينشأ فيها أولاد المتدينين معاً ويتأثرون بالجو الذي لا بد أن يكون لهم. أصدقاء الأولاد من هم؟ من يعاشرون؟ تعزيز العلاقات الطيبة، يدربون على الأعمال النافعة وعلى العادات الطيبة، يعودون على الأكل مما هو موجود، لماذا يكون عند الأولاد ترفٌ قاتل؟ يمنعون من السهر الأخلاق الحميدة تغرس فيهم كيف يكرم الضيف الشجاعة، بعض البادية عندهم أشياء قد تكون أفضل من المدينة. أب يريد أن يعلم أولاده الشجاعة فقال: أنتما تسابقا إلى حوض السيارة، وقد وضع في حوض السيارة ثعباناً ميتاً، فأسرعا معاً فقفز الكبير في داخل السيارة فرأى الثعبان فخاف ورجع وهو يصرخ، الصغير وقف هنيهة ثم قلب الثعبان فوجده ميتاً فجلس وأخذ الجائزة، ثعبان كان قد قتله ووضعه، وأنا أضرب مثال فقط، ويعود الولد ألا يخشى الظلام، لا يخشى قول الحق، وأنا ذكرتها طرفة؛ لأن الثعبان مقتول. القضية في العبادة الاهتمام بالعبادات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الصبر وعدم الشكوى الشكوى لله. اهتمام بإقامة حلق العلم في المنزل ربط القلب بالله عز وجل، كلما صارت حادثة تربط بالله يحبب الولد بالله عز وجل من خلال ذكر النعم. إذا أمرت الابن في شيء تابعه في تنفيذه، قضية المشاعر توجه مشاعر الولد الغضب الفرح الحزن لتكون أشياء شرعية، تربط العبادات بالله عز وجل أنها ليست قضية عادة وليس لأنك رأيت أباك يصلي، إحضاره مجالس الكبار، يعلم عادة شكر الناس، كيف يثني عليهم، يعاملهم بالأمر الطيب والكلام الطيب، نرى في بعض المجتمعات الإسلامية الولد الصغير يقول كلاماً طيباً، لأن أباه رباه هكذا، يقول للضيف الواحد يقول: أنتم تريدون الشاي بسكر أم بغير سكر، يخاطبه بلفظ الجماعة، لأنه هكذا علم، فرق أن يقول أنت يا كذا، أنت يا كذا ويخاطب الضيف بطريقة ساخطة، يعلمه حسب السن، لاعبه سبعاً، أدبه سبعاً، صاحبه سبعاً.

قصة والد اهتدى على يد طفله

قصة والد اهتدى على يد طفله من حق الولد أن يجد أباً مربياً ناصحاً معلماً موجهاً قدوة في الخير وفي الصلاة وفي البر. يا أخي! هذه قصة سمعتها من ولد صغير -في الأولى أو ثانية ابتدائي- أبوه لا يعرف القبلة في البيت، ولذلك الابن هذا ما رأى أباه يصلي أبداً، لما ذهب الابن إلى المدرسة رزقه الله بمدرس في الفصل، إنسان متدين يخاف الله، ويعرف أمانة الطالب الذي بين يديه، فدعاهم إلى صلاة الجماعة، حببها إليهم، وفضل صلاة الفجر، والمشي في الظلمة إلى المسجد، الولد صار عنده إقبال وانجذاب إلى الصلاة، فلما رجع للبيت، ضبط الساعة المنبه على صلاة الفجر كما علمه المدرس، فلما قام وتوضأ وذهب وفتح باب الشارع وجد في الطريق ظلاماً فخاف، ورجع، يفتح الباب ويغلقه متردد يفتح الباب ويغلقه -وهذا طبيعي في الولد يهاب الظلمة- حتى سمع شيئاً يطرق على الرصيف، إنه عكاز جد صاحبه أحمد في الحارة يمشي يذكر الله، فمر من أمام باب البيت، فتشجع الغلام وخرج مع هذا الشايب ورافقه كظله إلى المسجد وصلى ثم انتظر الشايب حتى يرجع فرجع معه، ثم توالت الأيام على هذا الحال. في يوم من الأيام أبو الولد دخل البيت ووجد الولد يصرخ ويبكي بكاءً حاراً قال: ما لك يا ولد؟ فسكت، ما لك يا ولد؟ يلح عليه، في النهاية الابن تكلم، قال: جد جارنا أحمد مات، قال: وماذا يعني أن جد جارك مات؟ من يكون جد جارك؟ لماذا تبكي عليه؟! الولد سكت، قال أبوه: أهو أبوك؟! قال: يا ليت الذي مات أنت وليس هو -تجرأ الولد- الأب انصدم من هذه الكلمة، قال: يا ولدي! ماذا تقول؟ قال: هذا العجوز كنت أذهب معه إلى المسجد، هذا كان نعم الرفيق لي في الظلمة، أنت ما رأيتك في البيت تركع لله ركعة. فكانت كلمة هذا الصغير سبباً في هداية أبيه لطريق الحق والمحافظة على الصلاة. من حق الولد أن يجد في البيت أباً يعقل، وليس أباً ذاهب العقل بالمسكرات والمخدرات، والأم المسكينة تداري الموضوع، والولد يقول: ماذا يشرب أبي؟ ولماذا يشرب كثيراً؟ وما هذا؟ وتقول له: ماء، ويقول: والدي يحب الماء؟! والأسئلة تتوالى، يدخل وهو سكران، يسب ويلعن ويشتم الزوجة والأولاد، كم مرة طلق الأم المسكينة وهي لا تدري تعيش معه بالحلال أم بالحرام؟ وهذا الآخر السكران الذي يخرج أغلب الأوقات ما يغيب عن عقله أكثر مما يفيق، الأولاد محرومون من رؤيته، هو ينزوي في الغرفة يشرب، الأولاد يضيعون، عندنا في الحي أولاد لأب من هذا النوع يمشون يطوفون على البيوت يسألون الناس، بنت عمرها اثنا عشرة سنة بشكلها تطرق الباب تسأل الناس يمدون أيديهم للناس؛ لأن أباهم يشرب الخمر، المال كله ذهب في المسكرات والسفريات القريبة والبعيدة، سألت الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله قلت: يا شيخ! الآن المجاهرة بالمعصية إثمها عظيم، الذي يسر غير المجاهر، قلت له: الأب إذا جاهر داخل البيت، إذا عمل المنكر أمام أولاده عمل أي منكر أمام أولاده، هل يعتبر مجاهراً أم لأنه داخل البيت يعتبر مسراً، قال الشيخ: أعوذ بالله! أعوذ بالله! هذه أعظم من المجاهرة، هذه مجاهرة وإساءة تربية، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين).

حق الولد في اللعب

حق الولد في اللعب من حق الولد أن يلعب، تصور أن طفلاً يقول: أبي لا يشتري لنا ألعاباً، لماذا؟ أبوه في شركة محترمة وراتبه كبير، لكن تذهب في المسكرات في المحرمات في السفريات، والنبي صلى الله عليه وسلم قبَّل الحسن والحسين، ترك ابنه يرتحله كما ترتحل الدابة، والآخر يلعب فوق ظهره، حتى في السجود ترك لهم المجال، يذهب خصيصاً لزيارة ولده الرضيع إبراهيم، عندما كان يرتضع يذهب لزيارته، ويذهب خصيصاً لزيارة الحسن، ويطرق الباب ينتظر حتى فاطمة تلبس الحسن، ويخرج إليه يمد يده، فالحفيد يمد يده، فيحضنه في حجره ويقبله ويجلع له لسانه علاقة عاطفة محبة حتى عائشة لما انتقلت إلى النبي عليه الصلاة والسلام بألعابها سمح لها أن تلعب؛ لأنها كانت صغيرة في السن، تلبية حاجة الولد في الألعاب، لكن أي ألعاب؟ البلاستيشن ألعاب صلبان! أي ألعاب؟! الفئة السحرة! وتطير على مكنسة! الموسيقى! أي ألعاب؟! التي فيها نساء بملابس شبه عارية! أي ألعاب التي يلعب بها؟! ألعاب هادفة وليست ألعاباً مدمرة للنفس والأخلاق.

بعض سلبيات الآباء

بعض سلبيات الآباء المقدم: الله يبارك فيكم أنا قلت: كم من أناس كانت هدايتهم على أيدي أبنائهم، ولله در بعض الآباء الواعين الفاضلين يأتي إلى غرفة أبنائه في الليل ويصلي فيها ركعتين أو ما كتب الله عز وجل فينظر الأبناء إلى أبيهم وقد ركع في غرفتهم يعني ممارسة عملية تطبيقية، فيكون هذا أدعى إلى الاقتداء به. هذا الأخ يوسف الحيدان يقول: ما رأيكم يا شيخ محمد بما نعايشه ونشاهده في ميدان التربية والتعليم حينما ندرس حالة طالب بئيس حزين هزيل نجد أن أمه مطلقة، ويعيش مع والده، ووالده يمنعه من مشاهدة أمه إذا لم يحقق كذا وكذا في الدراسة، فهل من توجيه لهذا النوع من الآباء؟ أيضاً تساؤل جيد من أبي نواف يقول: أنا شاب متزوج وعندي أطفال، ولقد رزقني الله بطفلٍ ولكن أبي أجبرني على أن يكون اسم الطفل مثل اسمه، رغم أن اسم والدي فيه شيء من الغلظة والقسوة، أنا أحياناً أرفض وإذا صرحت في الرفض يقول أبي: أنت عاق، فهل هذا من العقوق وما نصيحتك لوالدي، وإذا لم أسم وهجرني ما الحكم في ذلك رغم أني أريد أن أسمي أسماءً جيدة مثل عبد الله وغيره من الأسماء التي فيه تعبيد لله تعالى، ويقول: والأسماء التي عندنا مثل: مطعش اشبيد سدك مسرف؟ أنا معي إبراهيم الطلحة ثم أعود إليك لتعلق، وأيضاً لنأتي على قضية النفقة وحقوق النفقة وما يتعلق بها؛ لأن هناك أناس ربما يفهمون موضوع النفقة مائة وثمانين درجة، أفهام متخالفة ومتباينة. الأخ إبراهيم! السلام عليكم. السائل: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. المقدم: حياكم الله السائل: مساكم الله بالخير جميعاً المقدم: مساك الله بالخير أهلاً وسهلاً. السائل: أشكرك -يا شيخ عبد المحسن - على هذه الجودة المباركة. المقدم: الله يبارك فيك. السائل: نحن في مستشفى الأمل بحكم أني رئيس الشئون الدينية فيه، فهناك نعاني بشدة من إهمال الآباء في أبنائهم، حتى أوقعتهم في شباك المخدرات، وأصبح الكثير من الشباب يعاني أو يكل السبب الكبير للآباء، وهناك بعض العناصر من جراء الجلسات الفردية مع بعض المدمنين أو بعض الشباب، هناك بعض الأمور التي أوقعت بعض الشباب في المخدرات وقد جلست مع أحد الشباب وعمره تقريباً سبعة عشر عاماً، فتكلمت معه بخصوص كيف وقع في المخدرات، فيذكر لي أن سبب وقوعه في المخدرات أول وقت كان في الابتدائية -في سادس ابتدائي- بدءوا وقعوا بالمخدرات من سادس ابتدائي، فسألته عن والده ما كان يراقبك؟ كيف كنت تخرج؟ قال: والله كان هناك إهمال كبير من الوالد، وعدم المراقبة من المنزل هذه أيضاً من الأسباب التي أوقعت كثيراً من الشباب في المخدرات، أيضاً أب من الآباء يقول: أنا السبب في إدمان ابني قلت: كيف ذلك؟ قال: أنا أعطيه المال ولا أراقبه، وكل ما أراد من مال أعطيته، والآن هذه هي النتيجة؛ الوقوع في المخدرات. أيضاً من السفر للخارج وهذه النقطة مهمة -يا شيخ عبد المحسن - وخاصة أنها تكثر في الإجازات الصيفية فبعد الإجازات الصيفية نستقبل أكبر عدد من المدمنين فهذه من أهم النقاط أيضاً: التفرقة بين الأبناء هذه التفرقة بين الأبناء يصاب الابن بأمراض نفسية تقوده إلى الوقوع في المخدرات أيضاً. أيضاً الدعاء على الأبناء هذه قضية يجب الانتباه لها. الإهمال من الصغار الآن بعض الآباء يأتينا -يا شيخ عبد المحسن - ويقول: أتمنى أن يهتدي ابني وأن يترك هذه المشاكل، فإذا هو من الصغر مهمل، فكيف يريد النشء الآن وفي هذا السن أن يلحق به أيضاً: ممارسة المعاصي أمام الأبناء وهذه ذكرها الشيخ وهي مهمة أيضاً. آخر شيء -يا شيخ! -: منظر عجيب في أحد أقسام الشرطة، امرأة طردها ابنها وهي كبيرة في السن، والضابط تكلم مع ابنها في الهاتف قال: لا أريدها، وهي أيضاً رفضت أن تذهب إليه قالت: إنه يضربني!! وهي امرأة كبيرة في السن!! أسأل الله جل وعلى أن يبارك فيكم جميعاً. المقدم: شكراً جزاك الله خيراً. المقدم: السؤال طبعاً يقول الأخ يوسف الحيدان: إن هناك ما نعايشه في ميدان التربية والتعليم حينما ندرس حالة طالب بئيس لأن أمه مطلقة وهو يعيش مع والده ووالده يمنعه من مشاهدة أمه إذا لم يحقق كذا وكذا في الدراسة. الشيخ: بالنسبة للسؤال الأول هذا ليس من حق الأب أن يمنع الابن من رؤية أمه حتى لو اختار، قال العلماء: لو أن عند الطلاق في الذكر إذا بلغ سبع سنين يخير بين أبيه وأمه، والبنت طبعاً ستذهب إلى أبيها؛ لأنها طبعاً ستخطب منه، لو أن الابن اختار الأب والابن غير رأيه إلى الأم يجوز أن يذهب إليها، لو اختار الأم ثم غير رأيه إلى الأب، يجوز أن يذهب إليه، ولو اختار الأب لا يجوز أن يمنعه من زيارة أمه، ولو اختار الأم لا يجوز أن تمنعه من زيارة أبيه، وهذه من المشكلات الكبيرة حتى القضاة يعانون منها مع بعض الناس. وأما بالنسبة لقضية تسمية الأب لابنه باسم أبيه، فهذا طيب إذا كان اسم الأب طيباً، أما إذا كان اسم الأب قبيحاً فالابن ليس ملزماً أن يضع عنواناً لولده عنواناً قبيحاً إلى أن يموت؛ لأن الاسم هذا يلصق بالولد حتى يموت. أما بالنسبة لقضية حقوق الولد في العاطفة والرحمة كنت قد تكلمت عن موضوع النبي صلى الله عليه وسلم مع الحسن والحسين، والأطفال عموماً وكيف النبي عليه الصلاة السلام قصر الصلاة مراعاة لمشاعر الأم ومراعاة للطفل كذلك، ينبغي أن يكون هناك عاطفة.

أهمية الحنان للطفل

أهمية الحنان للطفل من الأشياء المفقودة -أيها الإخوة والأخوات- في علاقة الآباء والأمهات في الأولاد قضية العاطفة، العاطفة مفقودة لا يوجد الحنان الكافي، الولد مع الخادمة، الولد يسكت على يد الخادمة، ولا يسكت إذا حضنته أمه، من كثرة الإهمال وترك الأم للأولاد، والأب كذلك مشغول وحتى لو جاء يمكن أن يقتصر كلامه على الزجر والتهديد والوعيد. هناك أبيات لطيفة قالها أحد الشعراء المسلمين يعبر فيها عن هذه العاطفة لما ودع أسرته وأولاده؛ سافروا في الصيف وبقي هو في البيت ورجع بعد وداعهم، يقول الشاعر رحمه الله: أين الضجيج العذب والشغبُ أين التدارس شابه اللعبُ أين الطفولة في توقدها أين الدمى في الأرض والكتبُ أين التشاكصٌ دونما غرضٍ أين التشاكي ما له سببُ أين التسابق في مجاورتي شغفاً إذا أكلوا وإن شربوا يتزاحمون على مجالستي والقرب مني حيثما انقلبوا فنشيدهم "بابا" إذا فرحوا ووعيدهم "بابا" إذا غضبوا وهتافهم "بابا" إذا ابتعدوا ونجيهم "بابا" إذا اقتربوا بالأمس كانوا ملء منزلنا واليوم ويح اليوم قد ذهبوا إني أراهم أينما التفتت نفسي وقد سكنوا وقد وثبوا في كل ركنٍ منهم أثرٌ وبكل زاوية لهم صخبُ في النافذات زجاجها حطموا في الحائط المدهون قد ثقبوا في الباب قد كسروا مزالجه وعليه قد رسموا وقد كتبوا في الصحن فيه بعض ما أكلوا في علبة الحلوى التي نهبوا في الشطر من تفاحة قضموا في فضلة الماء التي سكبوا إني أراهم حيث ما اتجهت عيني كأسراب القطا سربوا دمعي الذي كتمته جلداً لما تباكوا عندما ركبوا حتى إذا ساروا وقد نزعوا من أضلعي قلباً بهم يجبُ ألفيتني كالطفل عاطفة فإذا به كالغيث ينسكبُ قد يعجب العذال من رجلٍ يبكي ولو لم أبك فالعجبُ هيهات ما كل البكا خورٌ إني وبي عزم الرجال أبُ القضية في الاهتمام بالأولاد، قضية النزهة إلى الأماكن الحلال المباحة، هذا يشتكي يقول: أبي لا يأخذنا إطلاقاً، لا إلى فسحة ولا إلى نزهة، أمي مرة سألته قالت له: إلى أين تذهب يا أبا فلان؟ قال: أنفه الغنم وأطلق أرجلها، الآن أطلق أرجل الغنم وهو إذا سأله ثم قال: سمعنا مرة -عنده بقر في مزرعة- أنه أتى بطبيب بيطري للبقر بأربعمائة ريال قال: ونحن نحيا ونموت ونمرض ونقوم، ولا يذهب بنا ولو مرة إلى المستشفى، يقول: دبروا أنفسكم!!

التحذير من التدليل الزائد للأبناء

التحذير من التدليل الزائد للأبناء العاطفة -يا إخوان ويا أخوات- لا تعني التدليل الزائد؛ لأن من المصائب التي نحن فيها الآن قضية التدليل الزائد للأولاد، أي شيء يريد أعطيته، ما معنى أن تذهب بنت إلى طبق خيري أو يوم مفتوح في المدرسة معها ثلاثمائة ريال، تشتري بها الطبق الخيري أو اليوم المفتوح، هذا كم ستصرف البنت في العادة، ولو اشترت قوالب الكيك فأين ترمى؟! ثم كسر نفوس الطالبات اللاتي ليس عندهن هذه القدرة، هذا التدليل الزائد {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء:5] ثم نكسر بها قلوب الفقراء. هذا شخص عنده خمس بنات، سبحان الله! تولد له البنت تحمل الأم تضع ذكراً يموت، ثم تلد بنتاً ثم تحمل بذكر ويموت، خمس مرات، لما جاءه الذكر الأخير وعاش؛ فتن به أعطاه كل شيء أعطاه الأموال، حتى قال ذات مرة لمن حوله: أي شيء تريدونه عن طريق ولدي هذا، الذي يأتي عن طريق ولدي هذا أنا أنفذ مباشرة، وفي النهاية الولد فسد، سرق من مال أبيه أخذ من هنا، نهب منه، الأب الآن يشتكي يعض أصابع الندم على هذه التربية التي حصلت، وعقوق، وارتفع ضغط أبيه وأصيب بالأمراض وشاب رأسه من وراء هذه القضية. إذاً قضية كل شيء نعطي الأولاد، أي شيء نعطي الأولاد، يا أخي دعهم مرة يتعلمون العمل، إذا كنت ستعطيهم قل لها: إذا نظفت المطبخ وغسلت الأواني أعطيتك كذا، دربها قليلاً يمكن أن تذهب إلى زوج وما عنده خادمة، وهي لا تعرف شيئاً في البيت أبداً، ويعطيها مكافأة مالية، قل له: قص الزرع واغسل الحوش، وأعطه مالاً، درَّب الأولاد على قضية العمل ويأخذون مقابلاً عليها، لا مانع.

الحذر من الشدة في التأديب

الحذر من الشدة في التأديب المشكلة في قضية التأديب -يا شيخ عبد المحسن - هنا بعض الآباء والأمهات يسرفون يعني: يمكن أن يقشر سلك الكهرباء ويضرب فيه، يقول لي ولد من الأولاد: أنا أبي لا يضرب بسلك عادي، بل يقشره ويضربني به، أو يضعني على غرفة على السطح في البرد وما عندي لحاف ولا يوجد أكل. طبعاً لماذا؟ لأن أمه تطلقت وتزوج بأخرى وامرأة الأب اضطهدت. واحد آخر يقول: أنا أكبر أولاد أبي وأمي مطلقة، وأبي أبيض وتزوج امرأة بيضاء وجاء له أولاد بيض وأنا أمي سمراء وجئت أنا أسمر والآن لا يكاد يتعرف عليَّ ولا يعترف بي، لماذا؟ يقول: لماذا لونك أسمر؟ يا أخي! سبحان الله! الله الذي خلقه هكذا، يعني: ما ذنب الولد في قضية اللون، ينبغي ألا نمزق الأولاد عاطفياً، فتمزيق الأولاد عاطفياً من المصائب. المدرسة في رياض الأطفال تقول: تكلمت عن موضوع ففوجئت ببنت صغيرة في الروضة تقول لي: هل يصح أن الأب يضرب الأم؟ فقلت لها: لا. لكن هي تسرعت في الجواب، فقالت: لكن أنا (بابا) يضرب (ماما) دائماً في البيت. فإذاً تمزيق الولد عاطفياً يحدث نتيجة الصراع بين الأبوين العلني الذي يمكن أن يكون ضرباً، كذلك من التمزيق العاطفي أن الولد لا يجد أمه في البيت، بل يجدها خراجة ولاجة. هي الأخلاق تنبت كالنبات إذا سقيت بماء المكرماتِ تقوم إذا تعاهدها المربي على ساق الفضيلة مثمراتِ ولم أر للمكارم من محلٍ يهذبها كحضن الأمهاتِ وهل يرجى لأطفال كمالٌ إذا ارتضعوا ثدي الناقصاتِ من حق الابن أن يرى أباه وأمه أمامه. ليس اليتيم من انتهى أبواه من هم الحياة وخلفاه ذليلا إن اليتيم هو الذي تلقى له أماً تخلت أو أباً مشغولا

الأبناء بين معاصي الأب وشرور الفضائيات

الأبناء بين معاصي الأب وشرور الفضائيات المقدم: يا شيخ محمد! هذه أم معاذ، وتساؤلها طيب تقول: كلامكم عن أهمية النزهة وعلى الأخلاق الحسنة والاستفادة والتربية على شرع الله تعالى، لكن إذا كان الأب غير صالحٍ والأم مستقيمة على شرع الله؛ فماذا تعمل؟ تقول: فقد لاحظت أن أبنائي بدت تصرفاتهم تكون طبقاً لتصرفات أبيهم، فهل أبين لهم خطأ أبيهم؟ أم أنفصل عنه أنا وأبنائي؟ وهذه يبدو أنها أيضاً كذلك، تقول: بعض الأمهات تتدخل في شئون ابنتها الخاصة، بحجة أنها أمها، وتدخل الأم في هذه الأمور قد يسبب للبنت بعض الإحراج، فهل هذا من حق الأم؟ وهل يجب على البنت إخبار أمها بذلك؟ بعض الأمهات -هداهن الله- تكون أخلاقها مع الناس طيبة ولسانها عذباً، ولكن مع أبنائها على العكس من ذلك، أرجو توجيه نصيحة لمثل هذه الأم؟ بعض الأمهات حينما تحدثها ابنتها بحديث تحدث به جدتها أو عمتها، رغم أن هذا الحديث قد يكون مشكلة بينها وبين زوجها، أو شيئاً من أمورها الخاصة، فما موقف الابنة في هذه الحالة؟ إذا سمحت لي معي عبد العزيز الحسن الزهراني من مكة وقد عودنا بمداخلات طيبة. السائل: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته المقدم: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. السائل: تحية ببراعة الكبار تشوبها براعة الصغار تنطلق إلى العاصمة الحبيبة الرياض. المقدم: الله يبارك فيك ويحييك. السائل: أستاذي الكريم موضوعكم جد طويل ولا أظن أن حلقة واحدة أو حلقتين ستكفي هذا الموضوع الطويل والهام في مجتمعنا، لكنني أسأل وبسرعة حول التنشئة على كتاب الله ومرة في الواقع حدث هذا الأمر أمامي حينما سأل أحد الضيوف ابنة صغيرة عن سورة قصيرة، فقالت: لا أحفظ هذه الأغنية!! أيضاً الجرأة العجيبة على الآباء وتعليم الأبناء الجرأة على الآباء حتى أنهم يقولون: قم اضربني!! أو قم تكلم عليَّ! أو قم ابصق في وجهي!! وهذه أشياء فعلاً تعود الطفل على العقوق منذ نعومة أظفاره. ما نراه الآن على القنوات الفضائية الغريبة من برامج خاصة تحث على طرائق غريبة وعجيبة في تربية الأطفال تبث باللغة العربية، وربما ببعض اللهجات المحببة، وتحث على ما يسمى بالتربية الجنسية، أريد من الدكتور أن يقدم لنا نصيحة في مثل هذه المواضيع وشكر الله لكم المقدم: شكر الله لك وجزاك الله خيراً على هذه الإطلالة الطيبة.

حكم بقاء الزوجة مع زوجها الفاسق

حكم بقاء الزوجة مع زوجها الفاسق المقدم: السؤال الماضي، أم معاذ تقول: لاحظت أن بعض أبنائي تكون تصرفاته تطابق تصرفات أبيه، فهل أبين لهم أخطاءه؟ الشيخ: نعم. السؤال بالنسبة لقضية الأب إذا كان فاسقاً مقصراً في أموره الدينية ما دام الأب مسلماً لم يرتكب ناقضاً من نواقض الإسلام كسب الدين أو الاستهزاء ببعض أحكام الشريعة أو ترك الصلاة بالكلية ونحو ذلك، فيجوز للمرأة أن تبقى معه، وهنا تواجه المرأة بين بقائها مع هذا الزوج الفاسق بما فيه وبين قضية الطلاق، لا بد بالحكمة ودراسة وتأخذ رأي أهلها والعقلاء في العائلة لكي تقرر هل تستمر أو تبقى، فإذا وجدت أن مفاسد الطلاق أكبر بقيت تتحمل وتذود أطفالها ما استطاعت عن هذا الفساد، وتعلمهم الحق ولو قالت لهم: أبوكم مقصر وانصحوه، لا مانع، لكن لابد أن ينصحوه بأدب؛ لأنه وإن كان مشركاً فإن له حقاً كما تقدم. وأما بالنسبة لتدخل الجدة في تربية الأحفاد أو تدخل الجد في تربية الأحفاد هذه قضية مشاهدة، التدخل أحياناً قد يكون حميداً وهنا في هذه الحالة نقره ونفرح به والجد والجدة لهما مسئولية وليس فقط مسئولية، بل أحياناً بعض المشكلات -يا إخوان- بعض مشكلات الجد والجدة يتقنان حلها في الأحفاد أكثر من الأبوين، وخصوصاً في قضية التعامل مع الولد، أحياناً إذا بلغوا استمالة الولد عن قرناء السوء ونحو ذلك، وأحياناً تكون العاطفة والعلاقة تجذب الولد عن شرور إلى جده وجدته فينبغي أن تغتنم هذه العلاقة بالتوجيه الجيد. وأما إذا كان التدخل تدخلاً غير جيد من الجد والجدة وهذا يحدث ويقول: أبي يخرب عليَّ تربيتي لولدي، والبنت تقول: أمي تخرب علي تربيتي لولدي، فهنا ينبغي مراعاة الأمر؛ لأنه أب وأم، وهنا في هذه الحالة أحياناً قد لا يستطيع الأب أن يخطئ الجد أمام الحفيد، لكن إذا رجع إلى البيت حاول أن يتدارك الموضوع ويتلافاه، يعني: العملية عملية مداراة، لأن هذا أبوه وهذه أمة.

خطورة مشاهدة الفضائيات

خطورة مشاهدة الفضائيات النقطة التي أشار إليها الأخ الكريم الذي اتصل من مكة، وهو في الحقيقة أثار نقاطاً مهمة جداً وخصوصاً أثر الفضائيات والبرامج المدبلجة والأشياء المترجمة، والأشياء الغربية، يعني: من حقوق الولد على الأب أن يجنبه الشرور، ولا أعظم من أن تضع له دشاً أو تضع له هذه الأطباق يا أخي! الآن أبلغونا أن بعض القنوات انفك تشفيرها، صارت قضية الزنا علانية، ثم ماذا نتوقع؟ أن يقع الأخ على أخته، ماذا نتوقع؟ أن يتجهوا إلى الفواحش، الجريمة الكبيرة في تركهم هكذا، ثم قال: أنا أعطيتهم كل المحتاج، أو وضعت جهاز تلفزيون لكل ولد في غرفة ووضعت هاتفاً لكل بنت في غرفتها، يعني: شاشة بهذه الطبق وهاتف وجوال. إذاً ماذا نتوقع، إلى أين تتجه؟ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كلكم راعٍ وكلكم مسئول) والله قال قبل ذلك: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:6] صار هذا لا يقي أهله ولا نفسه ناراً، هذا يجلب النار لنفسه ولأولاده، أنريد أن نتجه إلى الغرب بما فيه من القرف وجميع الرذائل؟! قننوا ستة عشر سنة إباحة الشذوذ، يعني إلى أين سنصل؟ لم يعد هناك خوف من الله، ولا مراقبة لله!! أين الذين يرجون الله واليوم الآخر؟

قضية العدل بين الأبناء

قضية العدل بين الأبناء بالنسبة لقضية العدل بين الأبناء؛ فإن هذه المسألة في غاية الأهمية؛ لأنها داخلة في التربية أيضاً والنبي صلى الله عليه وسلم أمر بها: (اعدلوا بين أبنائكم، اعدلوا بين أبنائكم) أمر بها وكرر الأمر في ذلك. ولما جاءه أب يقول: نحلت ابني غلاماً -وهبه عبداً- والأم طلبت أن أشهدك عليه يا رسول الله، اشهد لي يا رسول الله! قال: (أله إخوة؟ قال: نعم. قال: أفكلهم أعطيت مثلما أعطيته؟ قال: لا. قال: فليس يصلح هذا، إني لا أشهد إلا على حق) وفي رواية: (إني لا أشهد على جور) وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم سماه جوراً، إنه ظلمٌ إذاً الذي يحدث هذا وقال: (أشهد على هذا غيري) ورفض أن يشهد، هذه قضية العدل بين الأولاد. وهناك قصة لطيفة رواها البيهقي في شعب الإيمان: أن رجلاً كان جالساً مع النبي صلى الله عليه وسلم فجاء ابن له ذكر، فقبله وأجلسه في حجره، ثم جاءت ابنته -بنت نفس الأب هذا- فأخذها فأجلسها إلى جنبه. إذاً الابن في حجره والبنت إلى جنبه، والابن قبله والبنت لم يقبلها بل أجلسها إلى جنبه فقط، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فما عدلت بينهما) والحديث صححه الألباني رحمه الله. السلف يستحبون العدل بين الأولاد حتى في القبلات، العدل مأمورٍ به يؤتى يوم القيامة مغلولاً يفكه عدله، أو يوبقه جوره وظلمه. قضية العدل التي تجعل تسوية الأعطيات في العيديات موجودة، وللذكر مثل حظ الأنثيين على ما رجحه عددٌ من أهل العلم كـ ابن القيم رحمه الله تعالى، والتفضيل في الزيادة إذا كانت لسبب شرعي فلا بأس، هذا الولد تفوق في الدراسة، هذا الولد حفظ السور وما حفظها الآخر فيعطى جائزة والآخر لا يعطى، لكن لأجل السبب، لكن الأشياء التي ليس لها سبب لا يجوز فيها التفضيل وإعطاء واحد أكثر من الآخر قال: (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم) ويؤدي عدم العدل إلى الكره بين الإخوة، إلى عقد نفسية، إلى إتاحة الفرصة لأصدقاء السوء ليعطوا هذا الشخص المبخوس حقه ويجروه إلى عالم المخدرات والرذائل، قضية عدم العدل التي تسبب ألا يضروه، لا يضروا أباهم، ولذلك قال له في الحديث: (أيسرك أن يكونوا إليك في البر سواء؟) يبروك معاً. وبعض الآباء -هداهم الله- يفاضلون بدون أسباب شرعية، فيقول: هذا يشبهني، فيعطيه زيادة، هذا يشبه أخواله هذا ليس تابعاً لنا، سبحان الله العظيم! ولكن يقول: هذا يطيعني يخدمني، ذاك لا يخدمني، هذا ليس سبباً للمفاوتة، بل المساواة تؤدي إلى أن الآخر يخدمك كما خدمك ذاك، وهكذا -أيها الإخوة والأخوات- ينبغي أن نتحرى العدل في أولادنا ذكوراً وإناثاً، ونسأل الله سبحانه التوفيق.

حرمان الابن من الزواج بعد البلوغ

حرمان الابن من الزواج بعد البلوغ المقدم: الله يبارك فيك، ربما يتساءل بعض الأبناء يقول مثلاً: أصل إلى سن الزواج وأجد أن أبي لا يزوجني، بل ربما أنه زوج أخي الأكبر وتركني بحجة أنه نفذ المال وما عنده شيء، فهل فقهاً وشرعاً يجب على الأب تزويج ابنه؟ الشيخ: نعم، ذهب عدد من أهل العلم إلى أن الابن إذا خشي على نفسه الحرام فيجب على الأب أن يزوجه إذا كان الأب مقتدراً، إذا كان الأب مقتدراً والابن يخشى على نفسه الحرام يجب عليه أن يزوجه يجب، وعلى الأب إعفاف ابنه -هكذا نصه على ذلك- لكن طبعاً بعض الآباء الآن يقول يأتيه الولد ويقول: يا أبي! أنا أخاف الحرام، وأنا كذا وطبعاً العصر الذي نحن فيه لا يتحمل تأخير الزواج إطلاقاً، في الواقع الآن لا يتحمل التأخير إطلاقاً يقول: يا أبي أعطني يا أبي! زوجني، يقول: أنت ليس لك مصروف، ولا دخل، من أين ستنفق على نفسك؟! فإذا كان الابن يستطيع أن يدبر النفقة اليومية، فأنا أقترح أن الأب يتحمل النفقات الأساسية الكبيرة التي لا يطيقها الشباب والأولاد والأبناء في أول أمرهم في الغالب، فمثلاً: المهر، وليمة الزفاف فرش البيت، ثم يقول له: اشتغل واصرف على نفسك، حي وإذا لمس الأب -فعلاً- أن الابن يريد لكن ما وجد عملاً فإذا كان مقتدراً لماذا لا يعطيه مرتباً شهرياً، يعيش معه في البيت يأكل ما يأكلون منه ويشرب مما يشربون وصحيح أن الابن لا يجوز أن يعود على الاتكالية، وهذه المسألة كثير من الزوجات تقول: زوجي عالة على أهله زوجي لا يعمل زوجي كسلان زوجي شله البلوت زوجي سهرات في القهاوي، لماذا؟ أهله يصرفون عليه هذه المسألة تحتاج إلى علاج يمكن يهدده يقول: دبر نفسك!! نعم في هذه الحالة لكي يعمل، لكن عندما تلمس -مثلاً- ولداً متديناً يريد العمل ولم يجد وظيفة ساعده وأعطه.

حق الابن في اختيار زوجته

حق الابن في اختيار زوجته المقدم: أحياناً ربما يرضخ الأب ويوافق ويقول: أنا سأزوجك، لكن ما في إلا بنت عمك، فما أدري هل هذا الشرط والقيد يستساغ شرعاً؟ الشيخ: هذه البنت ستعيش مع زوجها، أو هذا الابن سيعيش مع زوجته، الأصل في النكاح الاستدامة والدوام، فهل من الحكمة أن تزوجه امرأة لا يطيقها وسيجلس معها إلى آخر العمر؟ ليس من الحكمة لكن لو كانت البنت غير معيبة وجيدة، نعم ممكن أن تطلب منه أن يتزوج بنت عمه، قد تكون الأمور أيسر ولا يطلبون مهراً كثيراً بحكم القرابة، وتكون القضية ملمومة محدودة ما فيها إسراف ولا تبذير، فإذا كان يرغب نعم، وأما إذا كان لا يرغب، رآها فلم يردها، قال: أنا لا أطيق هذه البنت، فليس من الحكمة إطلاقاً أن تغصبه وربما يطلقها وربما رجعت لأهلها ومعها ولد أو ولدان، وليس هذا من الحكمة.

حكم بعض الأسماء وأهمية متابعة الابن بعد زواجه

حكم بعض الأسماء وأهمية متابعة الابن بعد زواجه المقدم: هذا الأخ أبو مشاري من الباحة يريد أن يردنا إلى قضية الأسماء وأنا أعده أن أضع عن الأسماء -إن شاء الله- حلقة خاصة وقد سبق أني وضعت، يقول: هل يجوز التسمية بمثل هذه الأسماء: روز، جلنار وهي بمعنى: زهرة الرمان، كذلك مطحس وصحن ونجل ومرشوش وحطيف ومحجن يقول: كلها أسماء متداولة ومعروفة؟ هل ينتهي دورنا بتزويج أبنائنا؟ يقول: أنا لا دخل لي به أنا قمت بتزويج ابني، فماذا تريدون مني بعد ذلك، صار الولد رجلاً؟ الشيخ: أما بالنسبة للأسماء التي طرحها الأخ فهي تتفاوت، مثلاً: محجن غير حطيف، هذا حطيف من الأسماء القبيحة جداً يعني أن يسمى حطيفاً كيف يعيش؟ كيف ولد في الفصل ينادى عليه: حطيف تعال، حطيف اقعد، حطيف موجود، حطيف حاضر، بعض البنات لم تستطع أن تواصل في دراستها لأن اسمها وحش، بنت! هذه بنت يعني غداً عندما يتزوجها رجل والعلاقة بين الزوجين كيف يناديها، وحش!! ما هذه؟ ولذلك من القرارات الجيدة الجميلة التي اطلعنا عليها قرار بمنع التسمي بأسماء لكن طبعاً أناس يرتكبون خارج اللائحة، ولذلك الموظف يجب أن يكون حكيماً في هذه القضية وينصح، واحد ذهب يسمي ولده همام، قرر أن يسميه همام، في الطريق همام همام وصل الموظف قال الموظف: أيوه؟ نسي الاسم، قال: نريد أن نكتب وما تذكر إلا هيام، قال الموظف: أسرع خلفك أناس، قال: هيام، ولد اسمه هيام، ذكر اسمه هيام! فإذاً ينبغي على الموظف فعلاً هذه مسئولية الموظف الآن أنا أرى أنه يتحمل جزءاً من المسئولية أنه إذا رأى من الأسماء القبيحة هذه أن يرده يقول: ارجع اختار اسم آخر أما بالنسبة لقضية المتزوجين فلا تنتهي في نظري مسئولية الأب بعد تزويج الولد، بل عليه أن يتابع؛ لأن لديه خبرة، الآن هنا عامل الخبرة هناك فرق كبير، الأب عنده خبره في الحياة والابن ما عنده، والابن في أول الأمر ممكن مع زوجته تصير مشكلات تؤدي إلى أن تتفاقم وممكن يفكر في الطلاق بسرعة فالأب دوره دور المساندة يعني: التفقد والدليل على ذلك هذا الحديث أن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: [أنكحني أبي عمرو بن العاص رضي الله عنه امرأةً ذات حسب فكان يتعاهد كنته] لاحظ الحديث، عمرو بن العاص يتعاهد كنته في فترة يمر هاه كيف ولدنا، كيف الأمور؟ هل ينقصكم شيء؟ [فيسألها عن بعلها، فتقول: نعم الرجل من رجل لم يطأ لنا فراشاً ولم يفتش لنا كنبا منذ أتينا] ما فتش عنا، فلما طال ذلك عليه، لماذا طبعاً؟ لأن عبد الله بن عمرو بن العاص منشغل بالعبادة، شاب نشيط في العبادة فكان منصرفاً عن شهوة النساء لأجل العبادة فأبوه لما طال الأمر ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم اشتكى للعالم -تدخل العالم مهم الآن- فقال: (القني به -شوف النبي صلى الله عليه وسلم إمام الأمة يريد أن يساهم في حل المشكلة، حل مشكلة- قال: القني به فلقيته بعده، فقال: كيف تصوم؟ قلت: كل يوم، قال: كيف تختم؟ قلت: كل ليلة -هذا الاجتهاد- فقال: صم في كل شهرٍ ثلاثة، واقرأ القرآن في كل شهر الحديث). إذاً: الشاهد -أيها الإخوة والأخوات- الاهتمام بالولد بعد الزواج، أكمل المعروف يا أخي، أكمل من الإحسان.

وقفة مع مشكلة العضل

وقفة مع مشكلة العضل المقدم: والحقيقة أن نحن الذين نخرب أبناءنا، كما في التدليل أو ترك المسئولية عند تزويجه، مشكلة العضل يا شيخ محمد، ماذا نقول فيها؟ الشيخ: أما بالنسبة لقضية العضل فإنها من الأمراض الاجتماعية المزمنة مع الأسف، العضل: الحبس، حبس البنت عن الكفء هذا هو العضل، أن يحبس الولي موليته عن النكاح بدون سببٍ شرعي، يأتي لها الكفء فيرده، قال بعض العلماء: إذا رد الكفء ثلاث مرات تسقط ولايته، ثم قال بعضهم: القاضي يزوجها، وقال بعضهم: ينقلها إلى الولي الذي بعده بترتيب الولاية، ينقلها إلى الولي الذي بعده ويزوجها، والله سبحانه وتعالى قد حرم العضلة وقال: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة:232] ولو كانت انفصلت عنه ثم أرادت أن ترجع إليه بعقد جديد؛ لأنها ما زالت الطلقة الأولى أو الثانية فلا يجوز له أن يقول: ما دام طلقك وأهانك ما لك رجعة، والدليل على ذلك أن معقل بن يسار كانت أخته تحت رجل، فطلقها ثم خلا عنها حتى انقضت عدتها ثم خطبها فحمي معقل -حمي يعني: جاءته النخوة الآن، جاءت النخوة كيف نطلقك ثم نعيدك إليه أبداً؟ - فقال: خلا عنها، وهو يقدر عليها ثم يخطبها!! أبداً فأنزل الله: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة:232]. إذاً قضية العضل هذه قال بعض العلماء: إنها من الكبائر والشيخ رحمه الله في فتاويه قال: لا يصلي إماماً -العاضل- ويفسق، وترد شهادته، إنها قضية خطيرة، ولذلك بغض البنات تدعو على أبيها، بل عندي قصة أن بنتاً تأخرت في الزواج ومرضت مرضاً خطيراً على فراش الموت وخطر على بال الأب أن يستسمح البنت قال: سامحيني، قالت: الله لا يسامحك وماتت، وأخرى سامحت أباها عند وفاته، فالشاهد أن البنت التي تقول: بأي حق أحبس؟ ثم يتقدم السن ثم تتعدى سبعة وعشرين يقول: لا يهم فخذ القبيلة نكتفي أن يكون من بطنها، حتى تبلغ ثلاثين عاماً، ثم يقول: لا نسأل من بطون القبائل، بل نكتفي بالقبيلة، حتى تصل إلى سن الأربعين، ثم يقول: أي واحد ثم بعد ذلك يقول: كيف يتجرأ ويطرق بابي وهو ليس من قبيلة كذا، كيف يتجرأ يطرق، يا أخي! النبي صلى الله عليه وسلم زوج أسامة لمن؟ وتزوج هو من؟ يعني: يجب أن نفكر، صحيح أنك تختار من جماعتك، لكن إذا لم يوجد تبقى البنت حتى تصبح عانساً تتعرض للفتن والزنا! نسأل الله سبحانه وتعالى السلامة والعافية المقدم: الله يبارك فيك، وأحسن الله إليك، والحقيقة إن كان هناك من كلمة أختم بها فهو يجب على الآباء أن يتنبهوا بأن الأبناء قد يشبهوا زمانهم أكثر من شبههم بآبائهم وهذه كلمة عظيمة يقولها الفاروق عمر رضي الله عنه: [الناس بزمانهم أشبه منهم بآبائهم]. لا يسعني إلا في هذه العجالة إلا أن أتقدم بالشكر الجزيل بعد شكري الله تعالى إلى صاحب الفضيلة الشيخ: محمد بن صالح المنجد إمام وخطيب جامع عمر بن عبد العزيز بـ الخبر ويمتد الشكر إلى مخرج هذه الحلقة الأستاذ هزاع الشيري وكافة زملائه الكرام لغة الإشارة الأخ الأستاذ عبد الرحمن الفهيد، تنسيق البرامج الدينية الأخ الأستاذ عبد الله السبيعي، إلى الملتقى بكم في حلقة قادمة أستودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

بطولات نادرة ترفع المعنويات

بطولات نادرة ترفع المعنويات في هذه المادة قصص من البطولات والتضحيات لرجال باعوا أنفسهم لله جل وعلا، ومن أولئك الرجال: أنس بن النظر طارق بن زياد ابن فتحون ابن الجزري ألب أرسلان الذي باع ملك الروم بأبخس ثمن، وغيرهم ممن صدقوا ما عاهدوا الله عليه.

شراء الله من المؤمنين أنفسهم وأموالهم

شراء الله من المؤمنين أنفسهم وأموالهم الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، وبعد: هناك آياتٌ عظيمة يخبر الله تعالى فيها أنه عاوض من عباده المؤمنين، فباع واشترى عن أنفسهم وأموالهم إذا بذلوها في سبيله بالجنة، وهذا من فضله وكرمه وإحسانه، قال الحسن رحمه الله: [بايعهم والله فأغلى ثمنهم] قال بعض السلف: ما من مسلمٍ إلا ولله عز وجل في عنقه بيعة وفىَّ بها أو مات عليها، ثم تلا هذه الآية: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [التوبة:111] فهذا هو المبيع {بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111] وهذا هو الثمن: {يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} [التوبة:111] وهذه شروط العقد: {وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ} [التوبة:111] وهذا الضمان لأجل العقد: {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} [التوبة:111] فلا أحد أوفى بعهده من الله، ثم طلب الاستبشار من المؤمنين: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:111]. قال عبد الله بن رواحة للنبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة: (اشترط لربك ولنفسك ما شئت، فقال: أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأشترطُ لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم، قالوا: فما لنا إذا فعلنا ذلك؟ قال: الجنة، قالوا: ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل، فنزلت: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [التوبة:111]) وقول الله تعالى: {يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} [التوبة:111] أي سواءً قُتِلُوا أو قَتَلُوا، أو اجتمع لهم هذا وهذا، فقد وجبت لهم الجنة، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تكفل الله لمن خرج في سبيله، لا يخرجه إلا جهادٌ في سبيلي وتصديق برسلي، بأنه إذا توفاه الله أن يدخله الجنة أو يرجعه إلى منزله الذي خرج منه نائلاً ما نال من أجرٍ أو غنيمة). وهذا البيع العظيم وصفه الله بالفوز العظيم، وعلى ذلك دارت رحى المعارك.

بطولات وتضحيات خلدت في التاريخ

بطولات وتضحيات خُلِّدت في التاريخ قام المسلمون يبذلون أنفسهم في سبيل الله، وضرب الصحابة المثل العظيم للتضحية بالروح في سبيل الله، والهجوم على الأعداء، ونقض النحر للعدو، والانغماس في جيشهم، والقتال حتى الموت، حتى أن جثة أنس بن النضر لم تعرف إلا من بنانه فقط، أما بقية الجسد فقد صار أشلاء، وجدوا فيه أكثر من سبعين ضربةً من سيفٍ ورمحٍ وسهمٍ، معنى ذلك أنه ظل يقاتل ويقاتل بالرغم مما أصابه حتى تلاشى ذلك الجسد، وتحول إلى أشلاء في سبيل الله، وصار التابعون ومن بعدهم على هذا المنوال، وقدمت الأمة شهداء، وأثبتت أنها أشجع أمة في العالم، ولم يوجد فدائيون مثلما وجد في هذه الأمة؛ لأنه لا يوجد محرك عند غيرهم يحركهم للشهادة كما يوجد في هذه الأمة، وهذا أمرٌ واضح، وقضية مفهومة، وجود الباعث على الشهادة، أن الحياة ستنتهي وتمضي، وأنها لذة عابرة، فلماذا لا تنفق من أجل شيء ثمين باقٍ وهو الجنة، لأجل تلك السلعة ضحى المضحون بأنفسهم وأموالهم، وأثبت المسلمون الشجاعة الفائقة في الحروب، لقد ردت هذه الآية أشخاصاً عن الهزيمة، وشجعت أشخاصاً على تقديم الروح في سبيل الله، فكان قائد المسلمين يتلوها وهو ذاهب إلى ميدان المعركة، ومن صدق مع الله صدقه الله.

طارق بن زياد ودخوله الأندلس

طارق بن زياد ودخوله الأندلس وقد دخل طارق بن زياد إلى الأندلس في ألف وسبعمائة رجل وقاتل جنود اللذريق ملك النصارى والذي جاءهم في تسعين ألف فارس يقاتلون المسلمين ثلاثة أيام واشتد في المسلمين البلاء فقال طارق: إنه لا ملجأ لكم بعد الله غير سيوفكم، أين تذهبون وأنتم في وسط بلادهم، والبحر من ورائكم محيطٌ بكم؟! وأنا فاعلٌ شيئاً إما النصر وإما الموت فقالوا: وما هو؟ قال: أقصد طاغيتهم -أي: ناحيته- فإذا حملت فاحملوا بأجمعكم معي، ففعلوا ذلك فقتلوا اللذريق وجمعاً كثيراً من أصحابه، وهزمهم الله تعالى، وتبعهم المسلمون ثلاثة أيام يقتلونهم قتلاً ذريعاً، ولم يقتل من المسلمين إلا نفر يسير.

عبد العزيز بن زرارة وقتاله في سبيل الله

عبد العزيز بن زرارة وقتاله في سبيل الله لما غزا المسلمون القسطنطينية سنة خمسين للهجرة جعل عبد العزيز بن زرارة يتعرض للشهادة، والتحمت الحرب، واشتدت المقارعة فشد على من يليه، وانغمس في جمهورهم؛ فشجرته العلوج برماحها، أي: اشتبك الجسد برماحهم، فاستشهد -رحمه الله- من كثرة رماح العدو في جسده واختلافها فيه.

علي بن أسد يطلب الشهادة فينالها

علي بن أسد يطلب الشهادة فينالها علي بن أسد كان رجلاً مسرفاً على نفسه بالمعاصي، قتل حراماً، وصنع أموراً عظاماً، فمر ليلةً بـ الكوفة، فإذا برجل مسلم يقرأ القرآن في جوف الليل: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] فقال علي: أعد، فأعاد، ثم قال: أعد، فأعاد، ثم قال: أعد، فأعاد، فعمد فاغتسل ثم غسل ثيابه فتعبد حتى عمشت عيناه من البكاء، وصارت ركبتاه كركبتي البعير أي: من كثرة سجوده، فغزا في البحر وهو كهل يظن بأنه لا يذهب إلى الجهاد، فلقي الروم مع المسلمين فقال: لا أطلب الجنة بعد اليوم أبداً، هذا هو اليوم الذي أطلب فيه الجنة، فاقتحم بنفسه في سفنهم فما زال يضربهم وينحاز، ويضربهم وينحاز، عندما اقتحم السفينة جعل يضربهم فيهربون من موضعٍ إلى موضع، يخشون جرأته وبأسه وشجاعته؛ يقتل من يقتل، ويهرب الباقي إلى طرفٍ في السفينة، حتى انكفأت السفينة فانقلبت؛ فغرق وعليه أدراع الحديد فمات شهيداً في البحر يرحمه الله. ورمى العدو جند المسلمين بالنصل فقال معاوية رضي الله عنه: [أما إذا فعلوها فافعلوا، فكانوا يترامون بها، فتهيأ روميٌ لرمي سفينة أبي الفادية من المسلمين -سفينة عليها قائد هو: أبو الفادية - جعل هذا الرومي نصلاً مشتعلاً في طنجرة ليرميه على سفينة المسلمين، فرماه أبو الفادية بسهمٍ فقتله قبل أن يقذف الطنجرة؛ وخرت الطنجرة المشتعلة في سفينة النصارى فاحترقت بأهلها وكانوا ثلاثمائة] فكان يقال: رمية كرمية أبي الفادية قتلت ثلاثمائة نفر.

ابن الجزري وقتاله لعلج من النصارى

ابن الجزري وقتاله لعلج من النصارى الحرب كانت بين الروم والمسلمين يوماً، وكان من النصارى رجلٌ مبارزٌ قال: يا معشر العرب! ليخرج منكم عشرون فارساً أبارزهم، فهابه الناس، وكان في عسكر المسلمين رجلٌ يعرف بـ ابن الجزري معروف بالنجدة، موصوفٌ بالشجاعة، فقال: أنا أخرج إليه وأستعين بالله عليه، وأعطي فرساً وسلاحاً فقال: لا أريد -أي: إلا ما معه- فانحدر بعد أن ودعه الرشيد ودعا له، ونزل معه عشرون فارساً ليودعوه، فلما صار في بطن الوادي قال الرومي: غدرتم يا مسلمون! طلبت عشرين فنزل واحدٌ وعشرون، فقالوا: ما يبارزك غير واحد، ونحن مودعوه وراجعون، فقال العلج: سألتك بالله أنت ابن الجزري؟ قال: نعم. قال: كفء كريم، فرجع المسلمون، وتطاعنا حتى كلاَّ، واشتد الحر عليهما، والمسلمون والمشركون ينظرون إليهما فولى ابن الجزري كأنه منهزم فعطعط المشركون -أي: صاحوا إعجاباً- وضج المسلمون والعلج في أثره، ثم عطف ابن الجزري على العلج فجأة فاختطفه من سرجه، وما أوصله إلى الأرض إلا بعد أن حز رأسه عن جسده، فكانت مكيدة: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ} [الأنفال:16] فكبر المسلمون تكبيرة واحدة، وزجوا في القتال ففتح الله عليهم.

ابن فتحون بطل من أبطال المسلمين

ابن فتحون بطل من أبطال المسلمين وكان ابن فتحون من أشجع المسلمين وكان المستعين يرى له ذلك المكان ويعظمه لشجاعته، حتى عرفت النصرانية بأسرها مكانته حتى أن النصراني كان إذا سقى فرسه فلم يشرب يقول له أصحابه النصارى: ما بك اشرب لماذا تخاف؟ اشرب أو رأيت ابن فتحون في الماء؟ فكان يضرب به المثل، فيخافه الأعداء، فغزا المستعين بلاد الروم، وتوافق المسلمون والمشركون صفوفه، فبرز علجٌ وسط الميدان ينادي هل من مبارز، فخرج إليه فارسٌ من المسلمين فتجاولا ساعةً فقتل المسلم؛ فصاح الكفار سروراً، وانكسرت نفوس المسلمين، ثم برز له آخر فقتل المسلم فجعل الرومي يكر بين الصفين ويقول: هل من مبارز واحد لاثنين؟! واحد لثلاثة؟! فضج المسلمون، فقيل للمستعين ما له إلا ابن فتحون، فدعاه وقال: ما ترى يصنع هذا العلج، قال: هو بعيني، قال: فما الحيلة فيه؟ قال أبو الوليد ابن فتحون: ماذا تريد؟ قال: أن يكفى المسلمون شره قال: الساعة يكون ذلك إن شاء الله، فلبس قميص كتان واسع الأكمام، وركب فرساً بلا سلاح، وأخذ بيده سوطاً طويل الطرف، وفي طرفه عقدة معقودة، ثم برز إليه، فعجب النصراني منه يخرج إليه دون سلاح ومعه هذا السوط فقط، فحمل كل منهما على صاحبه، فلم تخطِ طعنة النصراني سرج ابن فتحون، فتعلق ابن فتحون برقبة فرسه لما قطع سرجه، ونزل إلى الأرض ثم استوى على سرجه، وحمل على النصراني فضربه بالسوط على عنقه فالتوى السوط على عنق النصراني، فأخذه بيده فاقتلعه وجاء به إلى المستعين، فألقاه بين يديه.

بطولات صاحب النقب

بطولات صاحب النقب وهكذا لما حاصر المسلمون حصناً في إحدى غزواتهم فاستعصى على المسلمين، وكثر الأذى فيهم من رمي النصارى لهم، حتى قال قائلهم مسلمة بن عبد الملك: من يدخل النقب -وهو فتحة تلقى منها الفضلات والقاذورات- فإن كتبت له الشهادة فاز بالجنة، وإن كتبت له النجاة ذهب لباب الحصن ففتحه؟ فخرج رجل ملثم قال: أنا من سيدخل النقب، فدخل وكبر وقاتل، فسمع المسلمون صوته، فاقتحمه، فقاتل حتى وصل الباب ففتحه، وسمع المسلمون صوت التكبير فهجموا على الباب فدخلوا؛ ففتحوا الحصن؛ وانتهت المعركة على يد ذلك الرجل، ولكنه لم يعرف، فاشتهى مسلمة أن يعرفه ليكافئه، فنادى في جيش المسلمين بعد المعركة أين صاحب النقب؟ فلم يجبه أحد، فعاد الكرة فلم يجبه أحد، فقال في النهاية: إني أمرت حاجبي بإدخاله عليَّ حين يأتي، فعزمت عليه بما لي عليه من الحق -أي: الطاعة في الإمرة، حقي عليه الطاعة- فحلف عليه إلا أن يأتيه في أي وقت شاء من ليل أو نهار، فجاء رجل ذات ليلة إلى حاجب مسلمة، فقال: استأذن لي على الأمير، قال: أنت صاحب النقب؟ قال: أنا أخبركم عنه، فلما صار بين يدي مسلمة قال: إن صاحب النقب يشترط عليكم ثلاثاً: ألا تبعثوا باسمه في صحيفةٍ إلى الخليفة، وألا تسألوه من هو، وألا تأمروا له بشيء، قال مسلمة: فذلك له، فقال الرجل باستحياء: أنا صاحب النقب، اتقِ الله -يا مسلمة - أحرجتني فأخرجتني، ثم انطلق مسرعاً فلم يدر من هو، فكان - مسلمة - لا يصلي بعدها صلاة إلا دعا فيها اللهم اجعلني مع صاحب النقب يوم القيامة.

عبد الله بن المبارك وجهاده

عبد الله بن المبارك وجهاده عبد الله بن المبارك رحمه الله كان من أولئك المجاهدين الذين كانوا لا يريدون أن يعرفوا في الغزو، مع شدة بلائهم في المعارك، فعن عبدة بن سليمان المروزي قال: كنا في سرية مع ابن المبارك في بلاد الروم؛ فصادفنا العدو، فلما التقى الصفان خرج رجلٌ من العدو فدعى إلى البراز؛ فخرج إليه رجل فقتله، ثم آخر فقتله، ثم آخر فقتله، فصعب ذلك على المسلمين وشق عليهم، ودعى النصراني للبراز فخرج إليه رجل من المسلمين ملثم، خرج إليه رجل من المسلمين يتخفى، فطارده ساعة فطعن المسلم النصراني فقتله، فازدحم المسلمون على أخيهم يريدون أن يعرفوا من هو الذي أنهى هذا الطاغية، قال: فنظرت إليه فإذا هو عبد الله بن المبارك وإذا هو يكتم وجهه بكمه، فأخذت بطرف كمه فمددته فإذا هو هو، فقال: وأنت يا أبا عمرو ممن يشنع علينا؟!

عبد الوهاب بن بخت وإقدامه في المعركة

عبد الوهاب بن بخت وإقدامه في المعركة وكذلك كان عبد الوهاب بن بخت رحمه الله لما انهزم الناس وانكشفوا جعل يكر على فرسه ويقول: ما رأيت فرساً أجبن منه، وألقى بيضته عن رأسه وصاح: أمن الجنة تفرون؟ يريد المسلمين، ثم تقدم في نحور العدو فمر برجل من المسلمين يقول: واعطشاه -يريد الماء- فقال عبد الوهاب: تقدم الري أمامك -إذا أردت الارتواء فإلى الأمام- يعني: في الجنة إذا قتلت، فخالط القوم فقتل وقتل فرسه.

نبذة من بطولات القائد ألب أرسلان

نبذة من بطولات القائد ألب أرسلان وكان المسلمون مع قلة عددهم أمام الكفار يثبتون في معارك كثيرة، وكانت أكثر معارك المسلمين فيما مضى ضد النصارى، وحفظ التاريخ لنا موقفاً عظيماً لقائدٍ مسلمٍ سلجوقي تركماني هو ألب أرسلان الملك العادل أبو شجاع من عظماء المسلمين، خرج إليه طاغية الروم أرمانوت في جحافل أمثال الجبال، في نحوٍ من مائتي ألف مقاتل، لا يدركهم الطرف، ولا يحصرهم العدد، كتائب متواصلة، وعساكر متزاحمة، كلما مر ببلدٍ من بلاد المسلمين أقطعها بطارقته وقال: هذه لك يا فلان، وهذه لك يا فلان، يوزعها عليهم حتى وزع بغداد عاصمة الخلافة، وقال للنصراني الذي وهبه البلد هو يأمل أن ينتصر فيوزع البلاد كما وعد وقال لمن جعل له بغداد: استوصِ بالخليفة خيراً، استوصِ بالشيخ، ارفق بذلك الشيخ -يزدري المسلمين- فخرج إليه ألب أرسلان رحمه الله في خمسة عشر ألف فارس فقط، فقال لجنده: أنا صابرٌ في هذه الغزاة صبر المحتسبين، وملاقيهم وحسبي الله عز وجل، فلما التقى الجمعان، ورأى ألب أرسلان كثرة جند الروم، ورأى ما يحير الألباب، ويطير الصواب؛ فأرسل يطلب الهدنة، وفي النهاية عزم على القتال، وكان اليوم يوم جمعة، يريد أن تكون المعركة يوم الجمعة لالتماس دعاء الخطباء، فلما زالت الشمس صلى وقال: ليودع كل واحدٍ صاحبه، فودع كل واحد من جيش المسلمين صاحبه، وتواعدوا على الموت، ولما تواجه الفريقان، نزل السلطان فصلى وسجد لله وعفر وجهه في التراب، ودعا واستنصر، وابتهل وتضرع، وبكى ثم قال: يا أمراء! من أحب أن ينصرف فلينصرف فما هاهنا سلطان يأمر، ولا عسكرٌ يؤمر، فإنما أنا اليوم واحدٌ منكم، وغادٍ معكم، فمن تواضعه لله أعلن تخليه عن الملك في ميدان المعركة تواضعاً لملك الملوك، قالوا: نحن معك تبعناك وأعناك فافعل ما تريد، فلبس الكفن الأبيض وتحنط -أي: وضع من الطيب ما يوضع للميت- ثم قال: إني عازمٌ على الحمل فاحملوا معي، فحملوا معه حملةً صادقة، فوقعوا في وسط العدو فألقى الله في العدو الرعب، فجعلوا يقتلون منهم كيف شاءوا، فلم ينج من النصارى إلا شريدٌ أو أسير، وأنزل الله نصره على المؤمنين، وأسر طاغية الروم أرمانوت، أسره مملوكٌ من مماليك المسلمين، فلما جيء به إلى ألب أرسلان وفي عنق النصراني حبل ملك النصارى، وقائد الجيش الذي كان يوزع بلاد المسلمين وهو يسير إلى المعركة جيء وفي رقبته حبل، فقال: ما تصنعوا بي؟ قال ألب أرسلان: ما تظن أني صانعٌ بك؟ قال: لا أشك أنك تقتلني، قال: أنت أقل في عيني من أن أقتلك، اذهبوا به فبيعوه، فطافوا به جميع العسكر والحبل في عنقه ينادى عليه بالدراهم والفلوس فما يشتريه أحد من المسلمين، حتى انتهوا في آخر العسكر إلى رجل من المسلمين قال: إن بعتمونيه بهذا الكلب الذي معي اشتريته، فجاءوا بالجندي ومعه الكلب الثمن، وبملك النصارى إلى ألب أرسلان مجروراً بالحبل، فأخبروه بأن هذا يريد شراءه بالكلب، فقال ألب أرسلان: الكلب خير منه؛ لأنه ينفع، وهذا لا ينفع، لكن خذوا الكلب، وادفعوا له هذا الكلب، ثم أمر بعد ذلك بإطلاقه وجعل الكلب قريناً له مربوطاً في عنقه وأوصله إلى بلاده؛ فلما رأى الروم ما حل بملكهم عزلوه عن الملك وكحلوا عينيه -أي: غوروهما وأذهبوهما- بعد أن رأوا أنه لا يساوي شيئاً، وهكذا كان حفظ الله للمسلمين عظيماً.

أبطال من جيش صلاح الدين

أبطال من جيش صلاح الدين سرى سنقر من جيش صلاح الدين كان شجاعاً يقتل من أعداء الله، ويفتك فيهم، وفيه نكايةٌ عظيمة في النصارى، فمكروا به وتجمعوا له، وكمنوا له، وخرج إليه بعضهم وتراءوا له -أي: إغراءً- فحمل عليهم سرى سنقر رحمه الله حتى صار بينهم فوثب عليه بقية الكمين وأمسكوا به، وأخذ واحدٌ بشعر المسلم ورفع الآخر سيفه ليضرب رقبة المسلم؛ لأنه كان قد قتل قريباً له، فأراد الله أن تقع الضربة في يد الماسك بشعره فقطعت يده؛ فاشتد يعدو حتى عاد إلى أصحابه المسلمين، وأعداء الله يشتدون خلفه فلم يدركوه. ومرةً من المرات في قتال صلاح الدين مع النصارى قال بعضهم لما طال القتال: إلى كم يتقاتل الكبار، وليس للصغار حظ؟ نريد أن يصطرع الصبيان، صبيٌ منا وصبيٌ منكم، فأخرج المسلمون صبياً منهم، وأخرج النصارى صبياً منهم، واشتد الحرب بين الصبيان، فوثب الصبي المسلم على الكافر فجأةً فاختطفه ورفعه وضرب به الأرض وقبضه أسيراً، وأخذه يشتد به، فلحقه الإفرنج يشترونه، فباعه بدينارين فأطلقه، وكانت تلك من نوادر المعركة. وكانت أقدار الله عز وجل حافلةً بالأمور العجيبة في جهاد المسلمين، فجهاد المسلمين الصادقين عجائب وملاحم وأمور عظام، وكان في المسلمين في عهد صلاح الدين رجل يستعمل ما وهبه الله من البراعة في الغطس لنصرة دين الله، كان يقال له: عيسى العوام، وفي حصار عكا كان هذا الرجل يأخذ نفقات من الذهب للمسلمين، وخطابات توجيهية وعسكرية من صلاح الدين فيغوص بها قبل مراكب النصارى ثم يخرج بعد أن يغطس من الجانب الآخر إلى ساحل البلدة المحاصرة فيسلم ذلك، فخرج مرة وقد شد على وسطه ثلاثة أكياس فيها ألف دينار وكتبٌ للعسكر، وعام في البحر، فقدر الله أن يجري عليه ما أهلكه فأبطأ الخبر، وكانت عادته أنه إذا دخل البلد طار طيرٌ يعرفهم بوصوله، فأبطأ الطير؛ فاستشعر المسلمون هلاك الرجل، ولكن بعد أيام بينما الناس على طرف البحر ينتظرون قذف إليهم البحر ميتاً غريقاً فافتقدوه فوجدوه عيسى العوام، ووجدوا على وسطه الذهب وشمع الكتب، وكان الذهب نفقة للمجاهدين، فما رُؤي من أدى الأمانة في حال حياته وبعد وفاته إلا هذا الرجل في ذلك الموقف. كانت تلك جولة في عالم الجهاد وفي معارك المؤمنين، وكيف صدقوا مع الله عز وجل وباعوا واشتروا: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111]. عباد الله إننا نتضرع إلى ربنا في هذا اليوم أن ينصر المجاهدين، وأن يعلي كلمة الدين، وأن يخذل المشركين، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير. أقول قولي هذا وأستغفر الله، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

بطولات من أرض المقدس

بطولات من أرض المقدس الحمد لله وحده، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أيها الإخوة لا أكتمكم أن مما بعث على النظر في هذه البطولات، والإتيان بها، والتفكير فيها قصة ذلك المسلم الفلسطيني العجيبة التي حدثت في الساعة السادسة وأربعين دقيقة من صباح الأحد الماضي، عندما قام ذلك القناص المسلم بفتح النار على حاجز عسكري إسرائيلي من جهة الشمال من مدينة رام الله وقريبة من مستوطنة عوقرا، لتسفر العملية عن قتل عشرة من اليهود، وإصابة ستة، ثلاثة منهم جراحاتهم خطيرة، أصيبت المؤسسة الأمنية الإسرائيلية بعدها بالذهول في أعقاب التحقيق الذي أجراه الجيش، إذ تبين أن الذي نفذ عملية الإطلاق قناص واحد استخدم بندقية قديمة من طراز كارين، وحتى التحقيق فإن هذا المجاهد المسلم قد أطلق خمس عشرة طلقة بمعدل طلقة كل دقيقة بحيث أن إطلاق خمس عشرة رصاصة أسفرت عن مقتل وإصابة خمسة عشر جندياً ومستوطنٍ يهودي. ونقلت إذاعة إسرائيل باللغة العبرية عن عدد من المستوطنين الذين كانوا في مكان الحادث ونجوا من الإصابة أن ذلك المسلم الذي اعتلى رأس تلة تشرف على الحاجز بـ وادي الحرامية، الذي يمر به الشارع الذي يربط جنوب الضفة الغربية بشمالها، فأطلق رصاصتين أولاً على جنديين كانا في الحاجز فقتلهما فوراً، ثم أطلق ثلاث رصاصات على سيارة للمستوطنين فقتل الثلاثة الذين كانوا بداخلها، ثم توقف، فلما جاء البقية لإسعافهم شرع مرة أخرى يطلق النار عليهم حتى نفذت ذخيرته، واستمرت العملية عشرين دقيقة، وقتل أربعة آخرين، وأصيب البقية الجرحى، ثم قام ومشى على قدميه، واختفى في الجبال المحيطة بالحاجز. إنها عملية عجيبة، ذكرتنا -فعلاً- بتلك القصص التي كانت في ماضي هذه الأمة، التي أحدثت جرحاً غائراً في معنويات اليهود، وكانت فضيحة كبيرة، وعاراً على القوات اليهودية، إن ذلك يذكرنا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من بلغ بسهم في سبيل الله فهو له درجة في الجنة) رمى بسهم في سبيل الله بلغ العدو أصاب أو أخطأ المهم أن يبلغ العدو فهو له درجة في الجنة، أبو نجيح السلمي لما سمع الحديث قال: بلَّغتُ يومئذٍ ستة عشر سهماً، ماذا لدى المسلمين من القوة؟ ماذا لديهم من الإمكانات؟ يقارعون الدبابات، والأباتشي، والإف ستة عشر بالبنادق والرشاشات، هذا ما لديهم، لكن إذا صدقوا مع الله تأتي نتائج عجيبة لا تخطر بالبال. من الذي يخطر بباله أن تقع مثل هذه العملية؟ إنها شيء من الأحلام، هذا رجل يقتل كل هؤلاء ثم ينفذ بجلده ويسلم إنه شيء عجيب! لو صدق المسلمون مع الله فماذا ستقع من المصائب على رءوس اليهود وغيرهم من أعداء المسلمين؟ ثم هؤلاء اليوم يفعلون الأفاعيل بإخواننا، ويستهدفون طواقم الإسعاف، وصبية المدارس، ويقتل أكثر من مائة وخمسين تلميذاً داخل المدارس وحولها في المدة الأخيرة، وفي الأيام الأخيرة معدل القتل في المسلمين إحدى عشر قتيلاً يومياً، هذا في الأيام الأخيرة؛ لأن الكلب شارون يريد أكبر عدد من القتلى في المسلمين، وهذه الأمة المسكينة المغلوبة الضعيفة فيها من روح البذل والفداء، وفيها أمثلها، واتصال بالماضي، وفيها بقية من خير نريده أن يتعاظم، فيها بقية خير لا بد أن يكثر ليتحقق النصر، والنماذج التي نراها أدلة واقعية على تحقق النصر لو صدق المسلمون مع الله، وعلى أن الله يسدد عباده، وعلى أن الله عز وجل يرمي {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17] ويبلغ العدو رصاص المسلمين. عباد الله: لا زلنا مع إخواننا قلباً وقالباً، ونسأل الله تعالى أن ينصرهم على عدوهم، وأن يجمع كلمتهم على الحق، وأن يهديهم سبل السلام، ويخرجهم وإيانا من الظلمات إلى النور، وأن يجعلنا من المجاهدين الصادقين العاملين لدينه، الناصرين لشريعته. اللهم ثبت أقدام إخواننا المسلمين، وانصرهم على القوم الكافرين، اللهم ألف بين قلوبهم، وسدد رميتهم، اللهم أيدهم بنصرك وكن معهم ولا تكن عليهم، وانصرهم ولا تنصر عليهم، اللهم أيقظ في قلوب المسلمين الحمية لجهاد اليهود، واجمع كلمة المسلمين على قتال إخوان القردة والخنازير، يا سميع الدعاء! اللهم كن مع إخواننا في الهند يا رب العالمين. اللهم صبرهم على ما أصابهم، اللهم ارزقهم الصبر على مصابهم، اللهم اجبر مصابهم يا رب العالمين! اللهم اخذل أعداء الدين، واجعل بأسهم بينهم يا رب العالمين! اللهم اجعل تدميرهم في تدبيرهم، اللهم احصهم عددا، واقتلهم بددا. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

تتمة نواقض الإيمان [1 - 2]

تتمة نواقض الإيمان [1 - 2] إن الله سبحانه وتعالى خلقنا لعبادته، وأمر بتوحيده، وحذر من الوقوع في الشرك بأي شكل من أشكاله، ومع ذلك ترى أناساً في هذه الأمة يأتون بأمور تناقض هذا الدين وتنافي التوحيد، وقد تطرق الشيخ في هذه المادة بشيء من البسط إلى نواقض الإيمان.

إقامة الحجة في باب التكفير

إقامة الحجة في باب التكفير قال تعالى: {فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} [النساء:99]. القسم الثاني: وانظر التقسيم الدقيق لـ ابن القيم رحمه الله لقضية أتباع طريقة كفرية ما. أولاً: الجهال بدينهم ثانياً: المتمكن من السؤال وطلب العلم ومعرفة الحق، ولكنه يترك ذلك اشتغالاً بدنياه ورئاسته ولذته ومعاشه وغير ذلك، فهو مفرط مستحق للوعيد آثم بترك ما وجب عليه من تقوى الله، فهذا حكمه حكم أمثاله من تاركي بعض الواجبات، فإن غلب ما فيه من البدعة والهوى على ما فيه من السنة والهدى ردت شهادته، وإن غلب ما فيه من السنة والهدى قبلت شهادته، ولاحظ ما قاله فلم يقل: عرف الحق ورفض لا. إنما قال: يتمكن من البحث والتعلم، يتمكن عنده كتب، عنده مصادر، عنده مشايخ، عقل، لكنه ترك البحث في الحق وعن الحق وقال: أنا أقلد هذا وأنتهي لماذا ترك البحث والتعلم؟ للاشتغال بالدنيا، وهذا فاسق. القسم الثالث: أن يسأل -انظر كل الكلام عن الأتباع- ويطلب ويتبين له الهدى ويتركه تقليداً أو تعصباً أو بغضاً أو معاداةً لأصحابه، فهذا أقل درجاته أن يكون فاسقاً، وتكفيره محل اجتهاد وتفصيل. فمما سبق يتبين لنا إعذار الأئمة لمن وقع في الكفر تقليداً إن كان جاهلاً لا بصيرة له ولا فقه، أما من كان قادراً على فهم الحجة وفرط في طلبها فإنه يأثم، ولكنه لا يكفر إلا بعد قيام الحجة عليه. وقد قلنا سابقاً: إن قيام الحجة مسألة نسبية، وإنها تختلف باختلاف الأحوال والأزمنة والأمكنة والوسائل، وقلنا: بعض البلدان قد يكون فيها مقرر التوحيد في المدرسة الابتدائية والمتوسطة والثانوية على جميع الطلاب والطالبات مأخوذ من الكتاب والسنة، قائم على الطريقة السلفية الصحيحة، ومفند للمذاهب الباطلة، مثل مقرر التوحيد الموجود عندنا الآن هنا هذه إذا كان أهل البدع قد درسوها وعرفوا ما فيها وعندهم عقول، فبعض المقررات الدراسية قد تكفي في إقامة الحجة عليهم، بينما بلدان أخرى يمكن أن يقرر عليه الكفر ولا يدري، يقول: هذا هو العقل. وكذلك هناك وسائل -مثلاً- يمكن الآن في الإنترنت إقامة الحجة على أناسٍ في أقصى العالم لا يمكن للإنسان إقامة الحجة عليهم من قبل، أنت الآن ممكن أن تقيم الحجة على شخصٍ ما في نيودلهي أو البرازيل أو الأرجنتين أو أستراليا وفي آخر الدنيا، يمكن أن تقيم عليه الحجة في الإنترنت. إذاً هناك وسائل وأشياء من الممكن أن تستعمل في إقامة الحجة، وقلنا: الدعاة مطلوب منهم جداً قضية الاشتغال بإقامة الحجة؛ لأن الله يريد إقامة الحجة على الناس {لأَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165] واشتغال الدعاة بذلك تحقيق مقصد شرعي ومطلب رباني من الأمة أن تقوم بإقامة الحجة على الخلق ويكونوا شهداء على الناس. وبعد أن عرفنا موانع التكفير ندخل الآن في المكفرات (نواقض الإيمان) في الكفر بأنواعه، والشرك بأنواعه، ونتحدث عن هذه القضايا العظيمة.

من نواقض الإيمان: كفر الجحود والتكذيب

من نواقض الإيمان: كفر الجحود والتكذيب كفر الجحود والتكذيب وكذلك الاستحلال أمر معلوم تحريمه من الدين بالضرورة. أما مسألة: كفر الجحود والتكذيب من جهة، والاستحلال والإنكار من جهة أخرى فلعل التفريق بين هذا وهذا ليس بكبير، ولذلك من المحال أن تجد هذا في كلام الأئمة. قال الإمام ابن بطة رحمه الله: "فكل من ترك شيئاً من الفرائض التي فرضها الله في كتابه أو أكدها رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته على سبيل الجحود لها والتكذيب بها فهو كافر بين الكفر". وقال القاضي عياض: "وكذلك نقطع بتكفير كل من كذب وأنكر قاعدة من قواعد الشرع وما تواتر، كمن أنكر وجوب الصلوات الخمس". وكذلك يقول ابن قدامة رحمه الله: "وأما إذا كان الجاحد لها ناشئاً -هذا الكلام على فريضة الصلاة- في الأمصار بين أهل العلم فإنه يكفر بمجرد جحودها" لا يقال: عندك علماء عندك عذر. كما أسلفنا وقلنا: إنسان نشأ بين مسلمين، خطباء، وأئمة، وكتيبات، وأشرطة، ومطويات، وإذاعة القرآن الكريم، والدعاة إلى الله يتكلمون، ويدرس التربية الإسلامية في المدارس، ثم يأتي يقول: أنا ليس عندي علم أن الصلوات الخمس واجبة؟ ونقول: معذور بجهله؟ لا يمكن أبداً. على أنه أيضاً -أضيف نقطة- بعض الذين ينشئون في الطبقات في بعض البلدان والمجتمعات ربما لا يمرون على ما يمر عليه غيرهم من عامة الناس من جهة التعرض للعلم والمعلمين، فيمكن أن يكون معزولاً تماماً بمربٍ أو مربية في بيئة محاصرةٍ لا يصل إلى سمعه الدين بالشكل الصحيح، أو بعض تفاصيل الدين بالشكل الصحيح؛ ولذلك قضية إطلاق التكفير قضية اجتهادية، تقول: فلان أقيمت عليه الحجة أو لم تقم عليه الحجة؟ أنت ممكن أن تقول: أقيمت. وأنا ممكن أن أقول: ما أقيمت. أنت ممكن أن تقول: والله وصلت إليه، وغالب الظن أنه سمع، معقول هذا ما سمع؟! وأنا أقول: والله إن كان سمع قد يكون سمع بشكل مشوه، لا نعلم يقيناً أن أحداً ناقشه أو كلمه أو أقام عليه الحجة. وهذا يقول: لا، أكيد الآن في الآفاق العلم منتشر في بعض البلدان، وإن كان قليلاً، فيه نشر كبير واضح للدعوة، أكيد أنه سمع وعرف، وأين يعيش هذا؟ معزول بالمرة؟ لا يصلي الجمعة؟ لا يسمع من الخطباء؟ فالقضية إذن قد يكون فيها خيار في الاجتهاد بالتكفير هل أقيمت الحجة أم لا؟ وهناك قضايا واضحة لا ينبغي النقاش فيها. قال ابن قدامة في مسألة جاحد الصلاة: "وأما إذا كان الجاحد لها ناشئاً في الأمصار وبين أهل العلم فإنه يكفر بمجرد جحوده". ثم قال: "ومن اعتقد حل شيء أُجمع على تحريمه، وظهر حكمه بين المسلمين، وزالت الشبهة فيه للنصوص الواردة فيه كلحم الخنزير". ما هي الشبهة لو قال شخص عنده شبهة في لحم الخنزير؟ وقد تذكرت رجل عنده شبهة في لحم الخنزير قال لشخص: لحم الخنزير الآن ليس بحرام. قال: نعم! لماذا؟ قال: لحم الخنزير كان حراماً في الماضي؛ لأنه كان يأكل القاذورات، أما الآن فالخنزير أكله نظيف، فليس بحرام. وهذا من الاستهزاء أصلاً، يعني: يصعب أن تقول: إن هذا عنده عذر فعلاً، قاذورات وما قاذورات، أنت أمامك نص: لحم الخنزير حرام، حتى لو يأكل جوافة ودرر. فإذاً: يقول كما قال ابن قدامة رحمه الله: "وزالت الشبهة فيه للنصوص الواردة فيه كلحم الخنزير والزنا وأشباه هذا مما لا خلاف فيه كفر". إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى.

الفرق بين التكذيب والجحود

الفرق بين التكذيب والجحود لو قال إنسان: ما هو الفرق بين التكذيب والجحود وبين الاستحلال والإنكار؟ فيمكن أن يقال: إن التكذيب أعم من الجحود، إذ الجحود يكون باللسان، والتكذيب يكون بالقلب واللسان والعمل، فيقال: كل جحود تكذيب وليس كل تكذيب جحود، لكن كلها كفر، هذا كفر وهذا كفر، ولكن ليعلم أن ما يقولون من كفر التكذيب وكفر الجحود، قلنا: إن بعض التفريقات فنية، يعني: تسمية اصطلاحات وتقسيمات فنية؛ لتسهيل الفهم وإلا قد تكون النتيجة واحدة، لكن لتسهيل الفهم. قال الشيخ حافظ الحكمي رحمه الله: أنواع الكفر لا تخرج عن أربعة: كفر جهل وتكذيب، وكفر جحود، وكفر عناد واستكبار، وكفر نفاق. وقال -أيضاً-: وإن انتفى تصديق القلب مع عدم العلم بالحق فكفر الجهل والتكذيب، قال تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} [يونس:39] وإن كتم الحق مع العلم بصدقه، فهذا كفر الجحود والكتمان، قال الله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل:14] والجحود كثيراً ما يقترن بالعناد.

تعريف كفر الاستحلال

تعريف كفر الاستحلال وبعد أن عرفنا التكذيب والجحود، فما هو الاستحلال؟ هو: اعتقاد أن الله لم يحرم شيئاً حرمه تعالى، واعتقاد أن الله أباح الشيء الذي حرمه الله عز جل، فهذا إذاً كفر اعتقادي مختص في مخالفة النواهي باستحلالها. ونذكر هنا: أن الإنسان قد يكفر باستحلال الحرام حتى لو لم يعمله، فلو قال: أنا أعتقد أن الزنا حلال وأنا ما زنيت ولا مرة. فنقول: أنت كافر ولو لم تزنِ ولا مرة. وذاك الذي زنا وهو معتقد بتحريم الزنا لا يكفر، وإنما مرتكب كبيرة، مستحق للعذاب لكنه لا يكفر.

تعريف كفر الإنكار

تعريف كفر الإنكار وأما الإنكار فهو يقابل المعرفة كما أن التكذيب يقابل التصديق، وأما كلام الأئمة حول كفر الجاحد والمكذب والمنكر فقد أجمعوا على كفر من أنكر فريضةً من الفرائض الظاهرة المتواترة، أو كذب حكماً من أحكام الله الظاهرة المتواترة، وكلامهم هذا منتشر في كتب العقائد والأحكام. وطرح هذه القضية في هذا الزمان مهم جداً جداً؛ لأن سوق التكذيب والجحود الآن، وسوق استحلال الحرام ومعاندة الله في أحكامه سوق رائجة، وأصبح إعلان الكفر -الآن- على الملأ في الروايات والكتب وغير ذلك أمر مشاهد وهذا شيء كبير وخطير، فلا بد من توضيح قضية أنواع الكفر للناس؛ لأنهم قد يسمعونها صباحاً ومساءً، كالذي ينكر تحريم الربا وغيره من الأحكام، والمسألة الآن مسألة لها أهمية بالغة. قال القاضي عياض رحمه الله: ونقطع بتكفير كل من كذب وأنكر قاعدة من قواعد الشرع، وما عرف يقيناً بالنقل المتواتر من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، ووقع الإجماع المتصل عليه كمن أنكر وجوب الصلوات الخمس أو عدد ركعاتها وسجداتها. وقال -أيضاً-: وكذلك من أنكر القرآن أو حرفاً منه أو غيَّر شيئاً منه أو زاد فيه، وكذلك من أنكر شيئاً مما نص فيه القرآن بعد علمه أنه من القرآن الذي في أيدي الناس، وهو صاحب المسلمين، ولم يكن جاهلاً به، ولا قريب عهد بالإسلام، وكذلك من أنكر الجنة أو النار أو البعث أو الحساب أو القيامة، كافر بإجماع النص عليه وإجماع الأمة على صحة نقله متواتراً. وكذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ومن جحد وجوب بعض الواجبات الظاهرة المتواترة أو جحد تحريم بعض المحرمات الظاهرة المتواترة كالفواحش وظلم الخلق والميسر والزنا وغير ذلك، أو جحد حل بعض المباحات الظاهرة المتواترة كالخبز واللحم والنكاح، فهو كافر مرتد يستتاب فإن تاب وإلا قتل. إذاً: لو جحد تحريم الزنا أو جحد حل الخبز يكفر. أيها الإخوة: إن القضية ليست قضية أكل الخبز واللحم، يعني: هذه المسألة مسألة مبدأ: أن الله أحل هذا أم لا؟ بغض النظر ما هو الخبز، فإذا جاء إنسان وقال: لا، حرام. هذا معاند، ومكذب لله، الله يقول: حلال. ثم يأتي ويقول: حرام. إذاً: هذا كافر، فليست القضية قضية خبز ولحم، فالقضية قضية المعاندة وإنكار الأحكام الشرعية، والإصرار على مضادة حكم الله ورسوله، وهذا التكذيب يكفر من هذا الباب.

أنواع كفر الجحود

أنواع كفر الجحود قال ابن القيم رحمه الله: وكفر الجحود نوعان: كفر مطلق عام، وكفر مقيد خاص. فالمطلق: أن يجحد جملة ما أنزله الله، كأن يقول: كل هذه الشريعة لا تصلح، هذا تخلف، وهذه شريعة زمان مضى، والآن الناس طلعوا القمر وهذه تقال كثيراً، وتجد أصحاب الأدب المعاصر وغيرهم يصرخون: الشريعة موضة قديمة، انتهت. فكفر الجحود نوعان: كفر مطلق عام، وكفر مقيد خاص. فالمطلق: أن يجحد جملة ما أنزله الله، أو يجحد إرسال الرسول صلى الله عليه وسلم، يجحد السنة كلها والقرآن. والخاص المقيد: أن يجحد فرضاً من فروض الإسلام أو تحريم محرم من محرماته أو صفة مما وصف الله بها نفسه أو خبراً أخبر الله به، عمداً أو تقديماً لقول من خالفه عليه لغرض من الأغراض كأن يأتي إنسان ويختار شيئاً من الإسلام ويقول: هذا أنكره أنا من رأيي. أو يقول: متابعةً للشيخ الفلاني: أو لفلان الفلاني أو لأي غرض من الأغراض. وكفر من استحل المحرمات الظاهرة المتواترة قضية خطيرة جداً كما قال القاضي عياض رحمه الله: "وكذلك أجمع المسلمون على تكفير كل من استحل القتل أو شرب الخمر أو الزنا مما حرم الله بعد علمه بتحريمه كأصحاب الإباحة من القرامطة وبعض غلاة المتصوفة ". وقال ابن قدامة رحمه الله: "من اعتقد حل شيء أجمع على تحريمه، وظهر حكمه بين المسلمين، وزالت الشبهة فيه للنصوص الواردة فيه كلحم الخنزير والزنا وأشباه هذا مما لا خلاف فيه كفر" لكن الأئمة وإن قالوا: إن مستحل الكبائر كافر، لم يقصروا التحريم على مستحل الكبائر فقط، بل لو استحل من الصغائر ما تواتر النقل في تحريمه يكفر. ولذلك قال صاحب نهاية المحتاج فيما يوجب الردة: أو كذَّب رسولاً أو أحل محرماً بالإجماع وقد علم تحريمه من الدين بالضرورة، ولم يجز خفاؤه علينا كالزنا واللواط وشرب الخمر، أو نفى مشروعية مجمع على مشروعيته معلوماً ولو نفلاً كالرواتب. إنسان يعرف أن الله شرع الرواتب فليس فيها نقاش فيجحد مشروعيتها يكفر، فالآن لا تنظر قضية كبائر وصغائر، وقضية مستحبات وواجبات، قضية مبدأ: أن الله شرع هذا، شرعه مستحباً أم واجباً وحلله أم حرمه؟ في عبادة أو في قضية خبز ولحم؟ مبدأ المضادة والمعاندة لله. وكصلاة العيد، لو أن إنساناً أنكر صلاة العيد وهو يعلم أنها مستقرة في الشريعة تماماً، ولو كانت صلاة العيد غير واجبة على قول الجمهور يكفر، كما صرح به البغوي. ولا بد أن نعلم أن المتواتر على نوعين: أولاً: ما علمه العامة مع الخاصة كمثل كلمة التوحيد وأركان الإسلام فيكفر جاحده مطلقاً؛ لأنه قد بلغه التنزيل. ثانياً: ما لم يعرف تواتره إلا الخاصة وهناك أحكام في المواريث نقل فيها التواتر، لكن لا يعرفها العامة، فلو أنكرها العامي وهو لا يعلم أنها متواترة فلا بد من التفريق، فقضية التكفير ليست سهلة. وما لم يعرف تواتره إلا الخاصة، فلا يكفر مستحله من العامة؛ لأنه لم يبلغه، وإنما يكفر من استحله وهو يعلم حرمته بالضرورة، مثل: تحريم الصلاة على الحائض إلى غير ذلك من الأمثال الكثيرة فهذا بين التواتر لا يكفي وإنما لا بد أن يكون العامي أو الشخص الذي ينكر يعلم أنه متواتر، ويعلم أنه شيء مستقر في الشريعة، وليس عنده شك أنه مشروع وموجود في الدين، ولذلك أمور الإسلام الظاهرة التي يشترك في معرفتها الخاص والعام كالصلاة مثلاً فهذا من أنكرها فهو كافر. لكن لو جاء إنسان وجحد أن بنت الابن تستحق السدس مع البنت، أو جحد تحريم نكاح المعتدة وهو لا يعرف، وهذه مجمع عليها في الشريعة ومتواترة، لكنه أنكرها، فليس بكافر. وخلاصة ما سبق: أن من أنكر أو جحد أو كذب خبراً من الأخبار الظاهرة المتواترة كالإيمان بعذاب القبر أو بوجود الجن -وليس تلبس الجني بالإنسي، فلو قال: الجن ليسوا موجودين، أنا أنكر وجود الجن. معناه أنه مكذب بسورة الجن وبسورة الرحمن وسورة طه، وقد قاله الله -أيضاً- في الأحقاف، إذاً: المسألة أنه يكذب بما قال الله- كالإيمان بعذاب القبر أو بوجود الجن أو برؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة ونحو ذلك، أو أنكر حكماً من الأحكام الظاهرة المتواترة، سواء كان هذا الحكم واجباً أو محرماً أو مستحباً كقضية الصلاة والزكاة وبقية الأحكام، أو وجوب بر الوالدين، وصلة الأرحام، وما يشبه ذلك، أو تحريم الخمر والسرقة والربا إلى آخره، أو أنكر سنية الوتر أو الأضحية أو السنن الرواتب إلى آخره فإنه يكفر إذا قامت عليه الحجة، ومثله من استحل محرماً من المحرمات الظاهرة المتواترة سواء كان هذا من الصغائر أو من الكبائر كاستحلال الغيبة، واستحلال النظر إلى النساء، ونحو ذاك والله أعلم.

من نواقض الإيمان: الشك في حكم من أحكام الله

من نواقض الإيمان: الشك في حكم من أحكام الله أيضاً من المكفرات العظيمة: الشك في حكمٍ من أحكام الله عز وجل أو خبرٍ من أخباره، فمن شروط لا إله إلا الله: اليقين المنافي للشك. وحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، لا يلق الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة) لاحظ قول: (غير شاك فيهما) وحديث أبي هريرة: (اذهب بنعلي هاتين، فمن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة). وقول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات:15]. وقوله: {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ} [التوبة:45] واضح جداً أن من شروط الإيمان: اليقين وعدم الشك والارتياب. إذاً: الذي يشك في هذا الأمر يكفر، ويناقض لا إله إلا الله. قال ابن القيم رحمه الله: كفر الشك ألا يجزم بصدقه ولا يكذبه بل يشك في أمره. ونوضح ذلك بمثال: قال القاضي عياض: ولهذا نكفر من دان بغير ملة المسلمين من الملل أو وقف فيهم -يا أخي! اليهود والنصارى كفار أم لا؟ قال: والله أنا أتوقف- أو وقف فيهم أو شك -يقول: أنا أشك، ولست متأكداً أنهم كفار، فمن دان بملة غير ملة المسلمين أو وقف فيهم أو شك أو صحح مذهبهم -قال: هم على حق ونحن على حق- وإن أظهر مع ذلك الإسلام والشهادتين وصلى وصام وزكى فهو كافر. إذاً: المسألة مسألة خطيرة والقضية مهمة، وقد ذكر شيخ الإسلام حكم من يكفر الكافر سواء كان كافراً أصلياً كاليهود والنصارى، أو ثبت كفره يقيناً كـ الباطنية، فقال في الرد على أهل الحلول والاتحاد، وأقوال هؤلاء، يعني: أهل الحلول والاتحاد يقولون: إن الله حل في كل المخلوقات، كل ما تراه بعينك فهو الله، تعالى الله عن قولهم، قال شيخ الإسلام: "وأقوال هؤلاء -جماعة ابن عربي وابن سبعين وابن الفارض - وأقوال هؤلاء شر من أقوال النصارى" النصارى يقولون بالتثليث، أما هذا فكل شيء عنده هو الله، يعني ملايين الأصوات بل بلايين. إذاً: النصارى أعقل منهم. قال: وفيها من التناقض من جنس ما في أقوال النصارى، وبذلك يقولون بالحلول تارة، وبالاتحاد أخرى، وبالوحدة تارة، فإنه مذهب متناقض في نفسه، ولهذا يلبسون على من لم يفهمه، فهذا كله كفر باطناً وظاهراً بإجماع كل مسلم، ومن شك في كفر هؤلاء بعد معرفة قولهم، ومعرفة دين الإسلام فهو كافر كما يشك في كفر اليهود والنصارى أو المشركين. كذلك قال الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: الثالث: من المكفرات: من لم يكفر المشركين أو شك في كفرهم أو صحح مذهبهم كفر إجماعاً، وقال حفيده الشيخ سليمان: فإن كان شاكاً في كفرهم أو جاهلاً بكفرهم بينت له الأدلة. قلنا: النصارى يقول الله عنهم: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73] فإن قال: أنا لا أستطيع أن أكفر النصارى، أنا متوقف، أنا لا أدري هم كفار أم لا، فإن شك بعد ذلك وتردد فإنه بإجماع العلماء على أن من شك في كفر الكفار فهو كافر. إذ كيف تشك بكفر الكافر؟ وكذلك فإن الشك في أصول الدين كفر، فلو أن إنساناً قال: أنا أشك في الجنة والنار، أنا أشك في البعث، فقد يكون هناك بعث وقد لا يكون، تصور شخصاً من أبناء المسلمين في جامعة، قال ذات مرة: أنا أصلي احتياطاً. قلت: كيف تصلي احتياطاً؟ قال: إذا صح أن هناك يوماً آخر وهناك حساباً نكون قد صلينا، أي: وإذا لم يصح فما خسرنا شيئاً. هل تعرف ما معنى هذا؟ معناه أن هذا إنسان كافر بالله العظيم، خارج عن ملة الإسلام، لا تنفعه صلاته ولا صيامه ولا زكاته ولا حجه ولا شيء، وشهادته التي يقولها حبر على ورق، لأنه شك في قضية أصلية هي قضية الدين، شك فيها، وأكثر منه ذلك الأب الذي قام ينصح ولده - له ولد وعلى كلام العامة صار مطوعاً متديناً ومجتهداً في العبادة- قال: يا ولد! قال: نعم يا أبي. قال: لا تتعب نفسك كثيراً، لا تجتهد كثيراً لماذا؟ قال: يمكن يطلع ما في شيء وهذا أكفر من الأول. فلذلك الشك هو التردد بين شيئين، كالذي لا يجزم بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم ولا بكذبه، ولا يجزم بوقوع البعث ولا عدم وقوعه ونحو ذلك، فالذي لا يعتقد وجوب الصلاة ولا عدم وجوب الصلاة، أو لا يعتقد تحريم الزنا ولا عدم تحريم الزنا، وهذا كفر بإجماع المسلمين وقد قاله شيخ الإسلام رحمه الله.

وسوسة الشيطان بالكفريات مع عدم الاقتناع بها

وسوسة الشيطان بالكفريات مع عدم الاقتناع بها وهنا مسألة دقيقة: لو قال قائل: يا أخي، لا يخلو الإنسان من الوساوس، أي: يأتينا الشيطان ويوسوس لنا ويقول: يمكن الله موجود أو غير موجود واليوم الآخر وهكذا فهل نحن كفار وخارجون عن الملة؟ فنقول: فرق بين الشك المنافي لليقين وبين الوسوسة، فالوسوسة مما يهجم على الإنسان بغير اختياره، فإذا كرهها ونفاها كان ذلك صريح الإيمان عنده، فلو جاءك الشيطان وقال لك يمكن يوجد ويمكن لا. وتقول: والله لئن ألقى من جبل ولا أن أقول الشيء الذي يوسوس به الشيطان، أنا كاره، يوسوس لي بأشياء أعوذ بالله، أشياء فظيعة. معناه: أنت كاره لهذه الوسوسة. إذاً: ما عليك شيء، وبالعكس هذا صريح الإيمان، اطمئن، لكن الذي يشك بدون وسوسة، هكذا عقيدته يقول: أنا أعتقد أن هذا غير موجود ويمكن أن يكون موجوداً، هذا إنسان عنده شك في قلبه، ولذلك لو وسوس الشيطان فكره ذلك فليس عليه شيء إطلاقاً، وأما إذا استكان لوسوسة الشيطان وصدقها وبنى عليها فقد كفر. إذاً: المسألة الآن لا تحتاج إلى قضية قلق وإزعاج؛ لأن بعض الناس يأتيهم من هذه القضية فيعتبر نفسه كافراً، وهذا لا يجوز، اطمئن، ما دمت موقناً بالله وأنه الخالق الرازق المحيي والمميت، ويجب عبادته وحده لا شريك له، موقناً بالجنة وأن الله خلقها من زمان، وأن الله خلق النار من زمان، وأن البعث والجنة حق والنار حق والحساب حق وعذاب القبر حق والساعة آتية وأن الله يبعث من في القبور، ما دمت جازماً بهذا فلا يضرك لو أن الشيطان جاء وألقى لك بعض الأفكار الخبيثة التي أنت تقاومها وتكرهها وتطردها، وتقول: أعوذ بالله من الشيطان وتتفل عن يسارك ثلاث مرات، فهذه لا تضرك إن شاء الله.

من نواقض الإيمان: الشرك في الربوبية

من نواقض الإيمان: الشرك في الربوبية ومن نواقض الإيمان -أيها الإخوة- ولا شك: الشرك بالله عز وجل، ومن ذلك الشرك في الربوبية وهو أن يوصف أحد من الخلق بأي صفة من صفات الله عز وجل الذاتية أو الفعلية المختصة به سبحانه وتعالى كالخلق أو الرزق أو علم الغيب أو التصرف في الكون، حتى ولو أثبت هذه الصفات لله، فلو قال: الله يعلم الغيب وفلان يعلم الغيب مثلاً؛ فإن ذلك يعتبر من المخالفة للتوحيد مخالفة أساسية ناقضة للإيمان، وهذا الشرك يكثر لدى الفرق المنحرفة كغلاة الصوفية والباطنية حيث يعتقد أهل الرفض مثلاً في أئمتهم المعصومين الاثني عشر بزعمهم أنهم يعلمون الغيب، وتخضع لهم ذرات الكون ونحو ذلك. وهذا ولا شك شرك في الربوبية، فمن اعتقد أن الأئمة يعلمون الغيب فهو مشرك كافر خارج عن الملة، ونوع الشرك بالتحديد والتوصيف شرك في الربوبية.

الشرك في الخلق والرزق

الشرك في الخلق والرزق وأما شرك الخلق والرزق فيقر به عامة الصوفية، وكذلك المشركون الأوائل يعتقدون بأن الله عز وجل هو الخالق الرازق لكن يدعون ويستغيثون بالأولياء من دون الله؛ لزعمهم أنهم يقربونهم إلى الله زلفى، ولذلك اقتصر مفهومهم بالشرك باعتقادهم أن الأولياء يخلقون أو يرزقون من دون الله، أو باعتقاد تصرفهم في الخلق باستقلالهم.

الشرك في علم الله

الشرك في علم الله ومن الشرك في الربوبية -أيضاً- الشرك في العلم، بأن يعتقد أن بعض الناس يعلمون مثل علم الله أو يشاركون الله في العلم الذي هو مختص به عز وجل كما جاء في كتاب المجالس المؤيدية قال -وهذا في عقيدة الإسماعيلية، والمؤلف هبة الله الشيرازي - يقول: الأئمة يعلمون من أمر المبدأ والمعاد ما حجبه الله عن كافة العباد. وكذلك يقول الكليني في الكافي وهو من أهل الرفض وفيه تدليل على أن القوم مشركون شرك الربوبية في قضية علم الله، يقول وقد نسب الكلام إلى جعفر الصادق، وجعفر الصادق من أئمة أهل السنة وهو بريء من هذا الكلام، يقول: إن جعفراً قال: ورب الكعبة، ورب البيت لو كنت بين موسى والخضر لأخبرتهما أني أعلم منهما؛ ولأنبأتهما بما ليس في أيديهما؛ لأن موسى والخضر عليهما السلام أعطيا علم ما كان ولم يعطيا علم ما يكون وما هو كائن حتى تقوم الساعة، وقد ورثناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وراثةً! وينسبون إلى الحسن بن علي رضي الله عنه أنه قال: إنا نعلم المكنون والمخزون والمكتوم الذي لم يطلع عليه ملك مقرب ولا نبي مرسل غير محمد وذريته. وهذه الفكرة -أيضاً- موجودة عند الصوفية الغلاة، ولذلك بينهم وبين أهل الرفض قرابة المذهب، أولاد عم في الأفكار والمعتقدات. وهذا عبد الكريم الجيلي الصوفي صاحب كتاب " الإنسان الكامل " يزعم أنه كشف له عن حقائق الأمور من الأزل إلى الأبد، وأنه رأى جميع الأنبياء والمرسلين والملائكة. وهذا الشعراني صاحب الطبقات الكبرى ينقل عن شيخه الخواص أنه كان يعلم ما يكتب في اللوح المحفوظ ساعة فساعة. ومما قاله المتصوفة: وينبغي لمن يريد: أن يعلم أو أن يعتقد بشيخه أنه يرى أحواله كلها كما يرى الأشياء في الزجاجة، وهذا الكلام في كتب التيجانية مثل كتاب " رماح حزب الرحيم في نحور حزب الرجيم ". وكذلك فإن أهل السنة والجماعة يعتقدون أنه لا يعلم الغيب إلا الله، وهذا واضح من خلال الآيات: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ} [هود:123]. {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الكهف:26] ما الفرق بين غيب السماوات والأرض له وبين له غيب السماوات والأرض؟ التخصيص، له غيب السماوات والأرض اختص به سبحانه وتعالى: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} [الأنعام:50] وأولئك يقولون: ورثناها وراثة عنه، عن محمد صلى الله عليه وسلم! كذباً، ينسبون إلى الأئمة الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم أنهم ورثوه منه وراثة: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل:65] والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله) لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم ما في الغيب إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر أحدٌ إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله. وكذلك لما قال عز وجل: {عَالِمُ الْغَيْبِ} [الجن:26] قال عن نفسه: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن:26 - 27] فإذاً: هذا بين أن الله عز وجل جعله خاصاً مختصاً بعلم الغيب، وأنه إذا أطلع رسولاً على شيء من الغيب لحكمة، مثلما أطلع الرسول صلى الله عليه وسلم مثلاً على بعض ما يكون عند قيام الساعة، فحدثنا به عليه الصلاة والسلام فيما يعرف بأشراط الساعة، وأطلعه على صنف محدود على شيء معين {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن:26 - 27] فيطلعه على أمرٍ معين وليس على كل شيء: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة:109] وقال عن نبيه: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} [الأنعام:50]. فإذاً: من ادعى علم الغيب لنفسه أو لغيره فهو كافر مكذب بالقرآن، وقد قال الله لنبيه: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} [الأحقاف:9] فهذه الأخبار قد جاءت في القرآن الكريم بهذا عن سائر الأنبياء، وأن إبراهيم عليه السلام لم يعلم بأنه يولد له ولد من زوجته سارة إلا بعد أن جاءته الملائكة في صورة بشر فلم يعرفهم، فذبح لهم عجلاً، ولم يكن يعرف مقصدهم حتى أخبروه أنهم يريدون أن يذهبوا لتدمير قرية قوم لوط، ولما جاءوا لوطاً ساءه ذلك ولم يعلم حق هؤلاء، وظن أنه قد ابتلي بهؤلاء الأضياف وكيف يدافع عنهم، ثم ما عرف الحقيقة إلا بعد أن أخبروه أنهم ملائكة، وأنهم جاءوا لإنجائه وإنجاء أهله من قومه. إذاً: هو المختص بعلم الغيب عز وجل، ولو قيل: إنه سبحانه وتعالى قال: {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن:27] فنقول: هذه في أمورٍ معينة، عند الله تعالى علم الغيب وحده، وبيده طرق الغيب لا يملكها إلا هو، فإذا شاء إطلاع أحد من خلقه من الرسل مثلاً على شيء من الغيب أطلعه عليه كأشراط الساعة، وأن بعض الصحابة في الجنة، وأحوال بعض أهل النار وأهل الجنة كما أطلعه عليها وقال: (رأيت صاحبة الهرة التي حبست هرتها في النار) أخبرنا بأمور من الغيب عن ربه عز وجل. وأما بالنسبة للغيب فكل ما غاب عنك فهو غيب، فقد يكون في الماضي وقد يكون في الحاضر، مثل أشياء -الآن- في قاع المحيطات، وقد يكون في المستقبل، وهو الذي لا يعلمه إلا الله، فالماضي قد يعلمه بعض الناس، والحاضر يعلمه بعض الناس، ولذلك قضية الغيب للماضي والحاضر قضية نسبية، فبعض الناس يعلمون أشياء لا يعلمها آخرون من أخبار الماضي أو من أخبار الحاضر، أما المستقبل فلا يعلمه إلا الله عز وجل. ولذلك لا بد من تمييز هذه القضايا لئلا يتسرع بعض سيئي الحكم على أشخاص آخرين بالكفر دون أن يكون هناك بنية شرعية؛ ولذلك الإمام ابن العربي المالكي رحمه الله لما علق على قضية مقامات الغيب للخلق التي لا يعلمها إلا الله، وأنه قد تفرد بعلمها، وأن من قال: إنه يعلم ما في الأرحام فهو كافر. وعلم ما في الأرحام يشمل أنه يعلم هل هو شقي أو سعيد، ويعلم عمله ومتى يولد، وكم يوم بالضبط، هل يجهض؟ هل يموت؟ هل يولد ناقصاً أم يكمل المدة أو أنه لا يكمل المدة، أو يسقط جنيناً قبل أن يكتمل؟ كل ذلك لا يعلمه على الحقيقة إلا الله. وبقيت قضايا معينة: مثلاً: هل هو ذكر أو أنثى مثلاً؟ هذه المسألة إذا كان فيها تجربة وقال الإنسان فيها بخبرته وتجربته، قال: من خبرتي وتجربتي أنها تحمل ذكراً. فإن كان لهذا سبب واضح فلا نقول: هذا كافر يقول ابن العربي رحمه الله: والتجربة منها أن يقول الطبيب إذا كان الثدي الأيمن مسود الحلمة فهو ذكر، وإن كان ذلك في الثدي الأيسر -أي: مسود الحلمة- فهو أنثى، المهم عند بعض الأطباء تجربة وقد تكون صحيحة وقد تكون خطأ، وإن كانت المرأة تجد الجنب الأيمن أثقل فهو ذكر، وإن وجدت الجنب الأيسر أثقل فهو أنثى، فإذا ادعى أن هذه عادة وردت له من خلال تجربته، قال: لم نكفره ولم نفسقه، وأما من ادعى العلم في مستقبل العمر فهو كافر. وكذلك الآن لو صورناه في الآلات بعد عمر معين ورأينا كذا لا يقال: هذا كافر؛ لأنه لا يخبر عن المستقبل إلا الله فإنه يخبر عما يراه بالأجهزة الآن، ثم قد يكون صادقاً وقد لا يكون، وقد حدث أن أخبروا رجلاً أن زوجته ستضع أنثى فذهب واشترى ملابس أنثى، ويوم ولدت جاء ذكراً، وكل الملابس التي اشتراها أصبحت لا تفيده. إذاً: حتى هذه القضية ليس بالضرورة أنهم يخبرون بها على الوجه الدقيق، قد يخطئون وقد يقولون: لاف رجل على رجل، لم نعرف ما هو. هذا عند الذين يصورون بجهاز الموجات. قال صديق حسن خان رحمه الله: فمن اعتقد في نبي أو ولي أو جن أو إمام أو ولد الإمام أو شيخ أو شهيد أو منجم أو رمال أو جفار أو فاتح فأل أو برهم أو خبيث أن له مثل هذا العلم وهو يعلم الغيب فهو مشرك بالله، وعقيدته من أبطل الباطلات وأكذب المكذوبات. وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله: والمقصود من هذا أن يدعي معرفة علم الشيء من المغيبات، فهو إما داخل في حكم الكاهن وإما مشارك له في المعنى فيلحق به.

الشرك في التصرف

الشرك في التصرف هناك أيضاً مما يخرج من الملة وينقض الإيمان وينافي توحيد الربوبية منافاةً أساسية قضية الشرك في التصرف: الشرك في التصرف من ضمن ما تقول به بعض الفرق كـ الباطنية وتأليههم لبعض الأشخاص، فيؤوله بعض فرق الباطنية علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكذلك يؤلهون الحاكم بأمره، وهؤلاء لهم غلوٌ ظاهر، فمثلاً يعتقد بعض الباطنية أن الله يحل في الأشخاص، وأن آخر حلول له كان في علي بن أبي طالب، ذهبوا إلى ما يشبه عقيدة التثليث عند النصارى، إذ أنهم ألفوا ثالوثاً يتكون من علي ومحمد وسلمان الفارسي، ويزعمون أن العلاقة بين أطراف هذا الثالوث علاقة إيجاد، فـ علي خلق محمداً، ومحمد خلق سلمان، وسلمان خلق الأيتام الخمسة، وهم: المقداد بن الأسود، وأبو ذر الغفاري، وعثمان بن مظعون، وعبد الله بن رواحة، وقنبر بن كادان مولى علي رضي الله عنه وأنه أوكل لهؤلاء الخمسة -الأيتام الخمسة- مسئولية الكون والتصرف فيه وتصريف أموره، فـ المقداد إليه الرعد والصواعق والزلازل، وأبو ذر موكل إليه الرياح وقبض أرواح البشر، وقنبر موكل إليه نفخ الأرواح في الأجسام، وعلي بن أبي طالب وسلمان والأيتام الخمسة يتفردون بتصريف أمور الكون من الخلق والموت والحياة وهذا من أخص صفات الربوبية. فإذاً: من يعتقد هذا فلا شك أنه كافر كفراً أكبر. كذلك تقدم أن الإمامية الاثنا عشرية ينسبون إلى علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- من رواية جعفر بن محمد قوله: انتقل النور إلى غرائزنا، ولمع في أئمتنا، فنحن أنوار السماء وأنوار الأرض، فبنا النجاة ومنا مكنون العلم، وإلينا مصير الأمور، وبمهدينا تنقطع الحجج. وكذلك ينسبون إليه أنه قال: انظر الاعتقاد هذا الذي يقول: كيف يكفر؟ يكفر وإذا كان هناك أكثر من الكفر شيء فهو من صاحبه. يزعمون أن علياً قال عن الأئمة: ونحن الذين بنا تمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذننا، وبنا تمسك الأرض أن تميد بأهلها، وبنا ينزل الغيث وتنشر الرحمة. وكذلك قالوا: إن لأئمتنا درجة سامية وخلافة تكوينية تخضع لها جميع ذرات الكون. وهذا شرك في الربوبية. وكذلك المتصوفة جعلوا بعض أئمتهم أو الولي عندهم أو الغوث الأعظم مساوياً لله عز وجل في بعض صفاته، يرون مثلاً: أن الولي الفلاني يخلق ويرزق ويحيي ويميت ويتصرف في الكون، ولهم تقسيمات لهذه الولاية، فالولي: يعني الولاية، والولي طبقات وأنواع: فهناك الغوث المتحكم في كل شيء في العالم، والأقطاب الأربعة الذين يمسكون الأركان الأربعة في العالم بأمر الغوث، والأبدان السبعة الذين يتحكم كل واحد منهم في قارة من القارات السبع -جيد عندهم علم في الجغرافيا- وكذلك النجباء كل واحد منهم يتصرف في ناحية تتحكم في مصير الخلق، بل يزعم بعض المتصوفة أن من كرامات أوليائهم أنهم يحيون الموتى، وأن أحمد البدوي جاءته امرأة تستغيث بولدها الذي مات، فمد البدوي يده ودعا له فأحياه الله تعالى، ويزعمون أن البدوي يميت من يتعرض له من الأحياء كما فعل مع معارضيه في العراق، فقال لهم: موتوا. فوقعوا على الأرض قتلى. ثم قال: قوموا بإذن من يحيي الأموات ويميت الأحياء. فقاموا.

الاعتقاد بالأنواء والكواكب

الاعتقاد بالأنواء والكواكب ومما يدخل تحت دعوى تصرف المخلوقات بشئون الكون من دون الله: ما يدعيه أهل الجاهلية ومن تبعهم من الاعتقاد بالأنواء والنجوم والكواكب، وأنها تنشئ السحاب وتنزل الغيث، وأن هذه النجوم لها تأثير مباشر على الحوادث الأرضية، وأن بسببها يموت فلان ويحيا فلان، ويحدث كذا، وتقوم حرب وهكذا، فهؤلاء أيضاً مشركون شرك الربوبية. أما أهل السنة والجماعة -المسلمون- يعتقدون أن الله سبحانه وتعالى مختص بهذه الأشياء، وأن النفع والضر، والخير والشر والخلق والرزق والإحياء والإماتة، والتصرف في شئون العالم كله بقضائه وقدره ومشيئته وأمره عز وجل، وأنه يأمر ملائكته بالأوامر المختلفة فينفذون، وقال عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعراف:188] وقال عز وجل: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً} [الجن:21] {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران:126] وقال سبحانه وتعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سبأ:22]. {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ} [سبأ:22] ما لهم نصيب ولا مشاركة ولا تصرف، والحديث: (اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت) وحديث: (وإن اجتمع الخلق على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد قدره الله لك) وكذلك في الضر، قال عز وجل عن نفسه: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْر} [الأعراف:54] سبحانه وتعالى. فإذاً: ليس لأحد من مخلوقاته شيء ما بوجه من الوجوه من ناحية التدبير والتصريف، فالكل تحت ملكه سبحانه وقهره إماتةً وخلقاً ورزقاً وغير ذلك، ونحن نعرف حديث النبي صلى الله عليه وسلم لما قال بعض الناس على إثر سماء أمطرت: مطرنا بنوء كذا. فنقل لنا عن ربه عز وجل حديثاً قدسياً: (أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي وكافر بالكوكب، ومن قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب) رواه البخاري.

من نواقض الإيمان: الشرك في الألوهية

من نواقض الإيمان: الشرك في الألوهية وكما أن هناك شركاً في الربوبية فهناك شرك في الألوهية، على هذا قاتلت الأنبياء، فاعتقاد ألوهية غير الله عز وجل يناقض قول القلب، وينقل صاحبه من الإسلام إلى الكفر، وصرف أي نوع من أنواع العبادة لغير الله شرك في الألوهية، وابن القيم رحمة الله عليه عند كلامه عن الشرك، قال: الشرك شركان: شرك يتعلق بذات المعبود وأسمائه وأفعاله، وهذا شرك الربوبية، وشرك في عبادته ومعاملته، وهذا شرك الألوهية، وإن كان صاحبه يعتقد أنه سبحانه لا شريك له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، والشرك الأول -وهو الشرك الذي يتعلق بالمعبود في ذاته وصفاته- نوعان: شرك التعطيل: وهو أقبح أنواع الشرك كشرك فرعون، قال: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:23] لا يوجد: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24]. والنوع الثاني: شرك من جعل معه إلهاً آخر ولم يعطل أسماءه وربوبيته وصفاته، ما عطلها تعطيلاً كما يفعل الملاحدة والجاحدون لله كفرعون، لكن يشركون معه كشرك النصارى الذين جعلوه ثالث ثلاثة، فجعلوا المسيح إلهاً وأمه إلهاً، وكذلك شرك المجوس الذين يسندون حوادث الخير إلى النور وحوادث الشر إلى الظلمة، وكذلك شرك القدرية الذين يقولون: كل يخلق أفعاله بنفسه، الله لا يخلق أفعال العباد، من الذي يخلقها؟ قالوا: كل شخص يخلق أفعاله بنفسه، فهؤلاء مشركون أيضاً بالربوبية. كذلك مشركو الصابئة الذين يشركون بالكواكب العلويات، وأن لها أشياء في التدبير، فهؤلاء مشركون شركاً أكبر في الربوبية. النوع الثاني: شرك الألوهية الذي يتعلق بالعبادة، وهو صرف العبادة لغير الله تعالى. وقلنا سابقاً: إن أكثر البشر لم ينكروا توحيد الربوبية -أي: أنكروا وجود الله- لكن أشركوا معه غيره. قال شيخ الإسلام رحمه الله: ولم نعلم أن أحداً من الخلق لم يزعم أن الأنبياء والأحبار والرهبان أو المسيح بن مريم شاركوا الله في خلق السماوات والأرض، ولا زعم أحد من الناس أن العالم له صانعان متكافئان في الصفات والأفعال، لكن أين حصل الشرك؟ في الألوهية، أكثر الشرك حصل في الألوهية، ولكن ينبغي أن نعلم أن هناك شركاً في الربوبية ضربنا له أمثلة حتى لا يعلم فقط أن القضية في صرف سجود أو نذر أو خوف أو رجاء لا، والمسألة فيها حتى في الربوبية أنواع من الشرك.

من نواقض الإيمان: كفر الإعراض

من نواقض الإيمان: كفر الإعراض هناك أنواع أخرى من نواقض الإيمان تنافي عمل القلب، أي: هناك أشياء تنافي قول القلب وأشياء تنافي عمل القلب، فمثلاً: كفر الإعراض: هو الإعراض عن دين الله لا يتعلمه ولا يعمل به، فما هو الإعراض؟ الإعراض عن الشيء: الصد عنه: (ثم أعرض عنها) أي: تركها، ترك القبول، وقد ذكر الله عز وجل الإعراض في آيات كثيرة من كتابه: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [القيامة:31 - 32]، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} [الأحقاف:3]. وكفر الإعراض له مظاهر، فقد يكون أحياناً عدم الاستماع لأوامر الله عز وجل وعدم المبالاة بها وعدم التفكر فيها وهو الغالب، فغالب كفر الإعراض أنه لا يسمع للشريعة أبداً، يقول: الدين على جنب، أو أبسط كلمة يقول: دع الدين على جنب. أي مناقشة في أي قضية اقتصادية أو حياتية أو اجتماعية، قال: دع الدين على جنب. وهذا إعراض واضح يمارسه بعض العامة: لا يدخل الدين في حياتنا ولا في عاداتنا، وكأن الدين هذا لأهل السماوات ولا ندري نحن أهل الأرض ما لنا منه؟! ثانياً: يأتي الإعراض بمعنى عدم القبول، فشيء عدم الاستماع وعدم المبالاة وشيء عدم القبول. ويأتي بمعنى الامتناع والتولي عن الطاعة، وهذا يكون بعد الاستماع والقبول لكن يقول: لا يطيع ولا يفعل، ولذلك يأتي الإعراض -أيضاً- بمعنى ترك العمل بالكلية، وكذلك يأتي بمعنى الصدود وأيضاً ترك التحاكم إلى الله. فإذاً: شيء يتعلق بالعلم وهو قول القلب من عدم الاستماع وعدم المبالاة، وشيء يتعلق بعدم العمل -أي: عمل القلب والجوارح- مثل عدم القبول وعدم الاستسلام، وهذا منافٍ لعمل القلب، ألَّا يعمل بالدين نهائياً ولا بشيء من الدين هذا ترك لعمل الجوارح وهذا كله إعراض.

الإعراض المكفر والإعراض غير المكفر

الإعراض المكفر والإعراض غير المكفر ينبغي أن نفرق في مسألة الإعراض المكفر والإعراض غير المكفر؛ لأن بعض الناس يعرضون عن مسألتين: عن أشياء معينة يتولون عنها، لا يعملون بها، هل هؤلاء كفار؟ من الكافر؟ من يكفر في الإعراض؟ عرفه ابن القيم فقال: أما كفر الإعراض كأن يعرض بسمعه وقلبه عن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يصدقه ولا يكذبه، ولا يواليه ولا يعاديه -إهمال- ولا يصغي إلى ما جاء به ألبتة. وفي موضع آخر قال: العذاب يستحق بسببين: أحدهما: الإعراض عن الحجة، وعدم إرادتها والعمل بها وبموجبها، والحجة: هي الكتاب والسنة. الثاني: العناد لها بعد قيامها، وترك إرادة موجبها. فالآن لو جاء شخص تتناقش معه وتورد عليه شيئاً من القرآن والسنة يقول: لا، لا، لا تسمع لي ولا أسمع لك، لا تقل لي شيئاً، معرض لا يريد الاستماع أصلاً، يقول: أي شيء فيه دين لا أقبله ولا أسمع، معرض. وهناك أناس يسمع لك لكن بعدما يسمع يرفض ولا يقبل، وأناس قد يسمع ولكن {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} [النساء:46]. والإعراض المكفر على حسب ما ذكر لنا ابن القيم رحمه الله من نوع اللامبالاة، لا يسمع الحجة ولا يبحث عنها ولا يفكر فيها، وليس هذا فقط هو الإعراض المكفر، لكن هذا الذي ينافي قول القلب وإلا قد سبق الكلام على الإعراض من أنواع أخرى يتعلق بعمل القلب وعمل الجوارح ومكفر. من صور الإعراض المكفر: الإعراض عن حكم الله عز وجل ورسوله: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور:47 - 51]. إذاً: نستخلص من كلام العلماء في مسألة كفر الإعراض: أن الإعراض الناقض للإسلام على الأقل أن يعرض الإنسان عن مسألة.

الإعراض الناقض للإسلام

الإعراض الناقض للإسلام ما هو الإعراض الناقض للإسلام؟ هو إعراض العقل عن الإيمان، إما أن يعرض إعراضاً تاماً عن تعلم أصول الدين مع قدرته على ذلك، يقول: لا أريد أن أتعلم الدين ولا أريد أن تسمعني آية، ولا يريد أن يتعلم درساً واحداً، الإعراض عن أصل الإيمان إعراضاً تاماً عن تعلم أصوله مع القدرة، أو عدم قبولها والانقياد لها، يقول: لا أنقاد لحكم شرعي أبداً. سواءً قاله بلسان الحال أو بلسان المقال، أو يعرض عن العمل تماماً، كأن يقول: أنا لا أعمل شيئاً البتة، وهذا الذي يسمونه كفر التولي وترك العمل بالكلية؛ لأننا نعلم -أيها الإخوة- أن مذهب أهل السنة والجماعة في الإيمان: أنه قول القلب -وهو المعرفة- وقول اللسان وعمل القلب وهو القبول والتسليم، وعمل الجوارح. إذاً: أربعة أشياء يتكون منها حقيقة الإيمان، قول القلب: وهو المعرفة والتصديق، وقول اللسان: وهو نطق الشهادتين، وعمل القلب: وهو القبول والتسليم والاستسلام والانقياد، وعمل الجوارح: وهو التطبيق العملي للعبادات وما شابه ذلك. فإذاً: لو أن إنساناً أعرض عن هذا بالكلية، عن أي واحد منها يكفي أن يعرض عنه بالكلية يكفر وينقض إيمانه. قال الشافعي رحمه الله: "وكان الإجماع من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ومن أدركناهم يقولون: الإيمان قول وعمل ونية، لا يجزئ واحد من الثلاث إلا بالآخر". وقال حنبل: حدثنا الحميدي وأخبرت أن أناساً يقولون: من أقر بالصلاة والزكاة والصوم والحج ولم يفعل من ذلك شيئاً حتى يموت ويصلي مستدبراً القبلة حتى يموت فهو مؤمن ما لم يكن جاحداً، إذا عُلم أن تركه ذلك فيه إيمان إذ كان مقراً باستقبال القبلة -الآن هذا الزعم- فقلت: هذا الكفر الصراح، هذا الكفر الصراح. لأنه لا يعمل شيئاً، تولى عن العمل بالكلية، مثل الذين يعيشون في الخارج مسلمون بالاسم فقط لا يعرفون مسجداً ولا قبلة ولا صلاة ولا يزكون ولا يصومون ولذلك رأينا في الإنترنت أن أحدهم يقول: أنا مسلم بالاسم فقط. فهذا الذي يقول: أنا مسلم بالاسم كافر، لماذا؟ لأنه تولى عن الدين لا يعمل بشيء منه أبداً، لا يعرف أي عبادة، لا صلاة ولا زكاة ولا صيام ولا حج، فهذا الذي يسمي نفسه مسلماً بالاسم فقط هذا إنسان متولٍ عن العمل، وهذا إنسان كافر، وقد قال الإمام أبو ثور رحمه الله لما سئل عن الإيمان: هل يزيد وينقص؟ فقال: فأما الطائفة التي زعمت أن العمل ليس من الإيمان فهؤلاء على مذهب المرجئة، ونحن نقول: الذي لا يعمل عمل الجوارح أبداً ليس بمسلم؛ لأن هذا من أنواع الإعراض الذي ذكر الله عز وجل في القرآن عند تكفير المعرضين، ونحن لا نقول: أعرض عن شيء واحد، أعرض عن صيام يوم من رمضان فلم يصمه لا. إنما أعرض عن العمل بالكلية، ولا يعمل شيئاً، هذا إنسان غير مسلم وإن ادعى الإسلام. فيقول: أما الطائفة التي زعمت أن العمل ليس من الإيمان فيقال لهم: ما أراد الله عز وجل من عباده لما قال لهم: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] أبو ثور ذكي يعرف كيف يناقش، يقول: يقال للذين يقولون العمل ليس شرطاً في الإيمان، ماذا أراد الله من عباده لما قال لهم: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] الإقرار فقط أم الإقرار والعمل، ماذا؟ فإن قالوا: إن الله أراد الإقرار ولم يرد العمل فقد كفروا، فإن قالوا: أراد منهم الإقرار والعمل، قيل: فإذا أراد منهم الأمرين جميعاً فلمَ زعمتم أنه يكون مؤمناً بأحدهما دون الآخر وقد أرادهما جميعاً؟؟ أرأيتم لو أن رجلاً قال: أعمل جميع ما أمر الله ولا أقر به -انظر إلى النقاش- لو أن رجلاً قال: أنا أعمل جميع ما أمر الله لكن لا أقر به، مثل ذاك الذي يقول: أنا أصلي احتياطاً أو يقول: يمكن يمكن. فهذا قال: أنا أعمل كل شيء لكن لا أقر به، أيكون مؤمناً؟ فإن قالوا: لا يكون مؤمناً؛ لأن أعماله ليس لها أساس، والعمل بدون إقرار عمل باطل، قيل لهم: فإن أقر بجميع ما أمر الله به وقال: لا أعمل منه شيئاً. أيكون مؤمناً؟ انظروا ولاحظوا! الله أراد إقراراً وعملاً، يقول: يقر أن الله أوجب هذا وحرم هذا، ثم أعمل. فإن قالوا: إنه أراد الأمرين جميعاً فيقال: لو أن رجلاً قال: لا أقر لكن أعمل كل شيء. يقال له: هذا كافر. وإذا قال: أقر لكن لا أعمل شيئاً أيكون مؤمناً؟ فإن قالوا: نعم. قيل لهم: فما الفرق وقد زعمتم أن الله أراد الأمرين جميعاً؟! ومثل الأعمال في الإيمان كمثل القلب في الجسم لا ينفك أحدهما عن الآخر، لا يكون ذو الجسم الحي لا قلب له، ولا ذو القلب بغير جسم، فهما شيئان منفردان، وهما في الحكم والمعنى متصلان، فلا إيمان إلا بعمل ولا عمل إلا بعقل، ومثل ذلك العلم الظاهر والباطن، أحدهما مرتبط بصاحبه من أعمال القلوب وأعمال الجوارح، فمثل العلم من الإيمان كمثل الشفتين من اللسان، لا يصح الكلام إلا بهما، تخيل لو أن رجلاً ليس له شفتين عنده لسان وليس عنده شفتين، لا يستطيع الكلام، لأنه بدون شفتين! وكذلك لأن الشفتين تجمع الحروف واللسان يظهر الكلام، وفي سقوط أحدهما بطلان الكلام، وكذلك سقوط العمل بطلان الإيمان احفظوا هذا المثل: (العمل مع الإيمان مثل الشفتين مع اللسان). فيمتنع أن يكون الرجل لا يفعل شيئاً من أمور الدين، من الصلاة والزكاة والصيام والحج ويفعل ما يقدر عليه من المحرمات، أي محرم يتاح له لا يقصر فيه -هذا كلام ابن تيمية - مثل الصلاة بغير وضوء وإلى غير القبلة ونكاح الأمهات، وهو مع ذلك مؤمن في الباطن. هذا الكلام يتصور؟ أبداً. وسئل الشوكاني رحمه الله: ما حكم أعراب البادية الذين لا يفعلون شيئاً من الشرعيات إلا مجرد التكلم بالشهادتين هل هم كفار أم لا؟ وهل يجب على المسلمين غزوهم أم لا؟ فقال: من كان تاركاً لأركان الإسلام وجميع فرائضه ورافضاً لما يجب عليه من ذلك من الأقوال والأفعال ولم يكن لديه إلا مجرد التكلم بالشهادتين فلا شك ولا ريب أن هذا كافر شديد الكفر حلال الدم والمال. إذاً الخلاصة التي نستنتجها مما سبق: أولاً: أن وجود جنس العمل شرط لصحة الإيمان، وإذا لم يوجد العمل معناه لم يوجد الإيمان، ويكون صاحبه معرضاً ناقضاً لأصل الإيمان. ثانياً: أن الكلام عن مسألة ترك العمل بالكلية متعلق بكلام السلف عن الإيمان أنه قول وعمل لا يغني أحدهما عن الآخر. ثالثاً: أن هذا دليل على ارتباط الظاهر بالباطن والباطن بالظاهر، وأنه لا يوجد باطن صحيح بدون ظاهر صحيح، كما أنه لا يوجد ظاهر صحيح ومقبول عند الله إلا إذا كان يوجد باطن صحيح. انظر الذي يقول: الذي لا يعمل أبداً هذا دليل على أنه ليس في قلبه إيمان بالله، الذي لا يعمل شيئاً من الدين ماذا يوجد في قلبه؟ لو كان في قلبه إيمان لظهر في التطبيق، ولو كان التطبيق ناقصاً لكان هناك شيء اسمه عمل، أما إذا لم يكن هناك عمل بالكلية فدليل أن داخل القلب لا يوجد فيه شيء بالكلية، وإنما هو ادعاء كاذب. إذاً: تصور الآن ما ينتج عن القول بأن الإيمان هو مجرد التصديق القلبي، وأن الكفر هو التكذيب والجحود فقط، وهذه مصيبة المرجئة، وهذه معركتنا معهم، يقولون: الإيمان هو التصديق، والكفر هو الجحود والتكذيب. وما حال المعرض عن العمل بالكلية وما شابه ذلك؟ إذاً: هنا يتبين الفرق بين مذهب أهل السنة والجماعة ومذهب المرجئة.

حكم تارك الأركان الأربعة

حكم تارك الأركان الأربعة أيها الإخوة: إن مذهب المرجئة يناسب حال الكفرة -الآن- في هذا العصر، فهم يحبونه جداً؛ لأنه يتوافق مع أهوائهم، ويجعلهم مؤمنين وليس لهم من الإيمان نصيب، وهذا الكلام يقودنا إلى مسألة وهي قضية تارك الأركان الأربعة. الآن عرفنا أن ترك العمل بالكلية كفر، فهل هناك أعمال معينة تركها كفر؟ لو أن رجلاً قام بأشياء أخرى، كبر الوالدين وصلة الرحم والصدقة على الفقراء، صادق ملتزم بالمواعيد، هل هناك أعمال معينة تركها كفر؟ نجد في كلام العلماء أنهم قد قالوا: إن تارك الأركان الأربعة كافر، ولم يخالف في مسألة ترك جنس العمل أحد -كما قلنا- وأما قضية الأركان الأربعة فإن تاركها كافر، وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الأقوال في المسألة، وقال عن الإمام أحمد رواية أنه يكفر بترك واحد من الأركان الأربعة حتى الحج حتى مع الإقرار بالوجوب، وفي رواية أخرى أنه لا يكفر إلا بترك الصلاة وهي رواية عن أحمد وكثير من السلف وطائفة من أصحاب مالك والشافعي. إذاً: ترك الأركان الأربعة بالكلية يكفر كما أن ترك العمل كله يكفر، أما لو ترك الصيام فالراجح أنه لا يكفر بترك الصيام، أو ترك الحج فالراجح أنه لا يكفر. أما ترك الصلاة فالمسألة فيها خلاف كبير، والراجح أن تارك الصلاة بالكلية كافر حتى لو كان تكاسلاً؛ لأجل النص: (بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة، فمن تركها فقد كفر) ولا يوجد شيء آخر منصوص على أن تركه كفر من الأعمال -لاحظ- إلا هذا ولذلك قلنا به، قال: (فمن تركها فقد كفر) والراجح -أيضاً- أن أي صلاة يتركها فهو كافر، أو ترك الصلاة في يوم أو يومين أو أسبوع؟ الحديث الراجح والله أعلم كما هو نص الحديث (فمن تركها) أي: الترك الكلي، يعني تارك الصلاة بالكلية كافر ولو أقر، لأنه قال: (فمن تركها) ولم يفرق بين الجحود وعدمه: (فمن تركها فقد كفر). وتارك الزكاة -أيضاً- فيه نقاش كثير وخلاف كبير في قضية، وقد ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى أن تارك الزكاة لا يكفر إلا إذا قاتل، كأن يقول: لا أؤدي وقاتل فهذا كافر. فهذه هي الخلاصة في قضية ترك الأعمال. إذاً: ترك جنس العمل كله كفر، ومن الأعمال الأخرى ترك الصلاة بالكلية -هذا وحده- كفر، والزكاة يكفر إذا قاتل؛ لأن معناه أنه مستعد أن يموت ولا يزكي، معنى هذا أين الإيمان الذي عنده؟ بعض الناس يقول: إن الجمهور يقولون: إن تارك الصلاة لا يكفر، وهذه حقيقة لا ننكرها، لا يقولون: إن ترك أصل العمل لا يكفر، فحتى الذين يقولون بعدم كفر تارك الصلاة من علماء السلف لا يقولون: إن ترك العمل بالكلية لا يكفر لا. ترك العمل بالكلية كفر، لكن حصل خلاف في ترك الصلاة وترك الزكاة.

اعتقاد أن بعض الناس لا يجب عليهم متابعة النبي صلى الله عليه وسلم

اعتقاد أن بعض الناس لا يجب عليهم متابعة النبي صلى الله عليه وسلم ومن الأمور التي توجب الكفر أيضاً: اعتقاد أن بعض الناس لا يجب عليهم اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه كارثة ومصيبة عظيمة، وذهب إلى هذا غلاة الصوفية والباطنية. يقول الداعي الإسماعيلي طاهر بن إبراهيم الحارثي اليماني في كتابه " العقد الشريف " وقد حقق كتاب العقد الشريف المفضل الجعفي، يقول -وهو واحد من دعاة الإسماعيلية - حُجج الليل -الإسماعيليون يعتقدون أن هناك حجج الليل- هم أهل الباطن المحض المرفوع عنهم في أدوار الستر التكاليف لعلو درجاتهم. وكلام رءوس الباطنية والإسماعيلية أشبه بالألغاز؛ لأنهم يخفون عقيدتهم عن الناس، ولذا تجد فيها غموضاً، لكن هذا النص واضح في قضية اعتقاد إسقاط التكاليف، وأن هناك أناساً من أهل الباطن، مثلا: ً العامة من أهل الظاهر وهناك مشايخ من أهل الباطن، هؤلاء المشايخ من أهل الباطن تسقط عنهم التكاليف لعلو درجاتهم، وينسبون إلى جعفر بن محمد الباقر قوله: من عرف الباطن فقد سقط عنه عمل الظاهر، ورفعت عنه الأغلال والأصفاد وإقامة الظاهر. ويقول أحد دعاة الباطنيين: من عرف الباطن فقد عمل الظاهر، وإنما وضعت الأغلال والأصفاد على المقصرين. وسمى التكاليف أصفاداً وأغلالاً، وقال: هذه علينا نحن العامة المقصرين، أما من بلغ وعرف هذه الدرجات التي قرأتها عليك فقد أعتقته من الرق ورفعت عنه الأغلال والأصفاد وإقامة الظاهر. وعند هؤلاء أيضاً أن المحرمات عليَّ وعليك نحن العامة مثل الزنا وغيره، أما هم أهل الباطن -هؤلاء المشايخ الكبار- ليس عليهم بحرام، وحتى نكاح الأم ووطء الأخت ليس فيها شيء. وقالوا بالنص: إذا وصلت إلى مقام اليقين سقطت عنك العبادة، ودليلهم قوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ومن هؤلاء من يستحل بعض الفواحش كاستحلال مؤاخاة النساء الأجانب والخلوة بهن، زعماً منه أنه يحصل لهن البركة مما يفعله معهن، وإن كان محرماً في الشريعة، وكذلك يستحل المردان والتمتع بالنظر إليهم ومباشرتهم. يقول: يرتقي من محبة المخلوق إلى محبة الخالق، ويأمرون بمقدمات الفاحشة الكبرى وقد يستحلون الفاحشة الكبرى، ويحتجون بقوله: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] ويقولون: اليقين هذا العلم والمعرفة، فإذا حصلت سقطت العبادة. ولو تقرأ كلام بعض الصوفية في هذا الموضوع مثلما ذكره الشعراني صاحب طبقات الأولياء، والنبهاني صاحب جامع كرامات الأولياء سترى العجب العجاب، فمن ذلك ما ذكره العطار عن ذي النون المصري أنه نصح أحد مريديه بترك الصلاة، والعطار الآن ينقل القصة يقول: رجل مصري -وهو من الصوفية - نصح بعض مريديه عنده مشكلة كذا وكذا بأن يترك الصلاة، والعطار يريد أن يوقعها فقال: لو سأل الثاني: ما الحكمة في الأمر بترك الصلاة؟ ف A إن الطريق أحياناً -أي: الموصلة إلى الله- تخالف ظاهر الشريعة، كقتل الخضر الولد بدون سبب ظاهر. إذاً: لا إنكار بالطريقة على مثل هذه الأمور. يقول: لو قال لك شيخ الطريقة: اعمل محرماً أو اترك واجباً فلا تستغرب، لأنه يمكن أن يكون وصل إلى الله بشيء غير الذي أنت تعرف، فإذا قلت: لماذا؟! قال: الخضر قتل الولد، نقول: الخضر قتل الولد بناء على: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف:82] لأنه نبي يوحى إليه، الله الذي أمره بقتله، وأنت من الذي أمرك بترك الصلاة؟ أنت الله أمرك أن تصلي لا أن تترك الصلاة. وحكي عن العطار -نفسه هذا الصوفي- أنه كان تاركاً للصلاة، وكان يقول: إن الله رفع عني فريضة الصلاة، والشعراني في آخر كتابه الطبقات الكبرى لما ذكر مشايخه في القرن العاشر قال: وفيهم سيدي بركات الخياط رضي الله تعالى عنهم، كان رضي الله عنه من الملامتية والملامتية يظهرون المحرمات ليلوموهم بينما هم في الحقيقة يقصدون إخفاء الولاية. فمثلاً: عندما يحلق الولي لحيته يلومه الناس، وقصد الولي أن يخفي الولاية عن الناس بلومهم، حتى لا يرائي يرتكب الزنا، أو يشرب كأس خمر، حتى لا يرائي، يخبئ الولاية عن الناس. فيقول: وفيهم سيدي بركات الخياط رضي الله عنه، وكان من الملامتية، وقد مدحته للشيخ جمال الدين الصائغ مفتي الجامع الأزهر وجماعته فقالوا لما سمعوا مدح الشيخ هذا: لابد أن نزوره، وكان يوم جمعة، فكبر المؤذن على المنارة، فقالوا: نصلي الجمعة. فقال: ما لي عادة بذلك. أعاذنا الله! أنا ما لي عادة أن أصلي الجمعة، فأنكروا عليه، فقال: نصلي اليوم لأجلكم، ومنهم سيدي الشريف المجذوب -والجذبة هذه عند الصوفية شيء أساسي، أنه إذا أصابته الجذبة فهذه كرامة- رضي الله عنه كان يأكل في نهار رمضان، ويقول: أنا معتوق أعتقني ربي. وكان يرى حلال زينة الدنيا كالحرام في الاجتناب، وكانت الخلائق تعتقده -يأتون إليه- ويعدون رؤيته عيداً. وهذا موجود في العالم الإسلامي، يعني: الشيوخ من هذا النوع. أيها الإخوة! التكاليف الشرعية مشروطة بالعلم والقدرة، فمتى تحقق العلم والقدرة وجب العمل، ولذلك الذي لا يستطيع لا يكلف كالطفل والمجنون. ثم أعظم الناس درجة عند الله من هم؟ الأولياء أم الأنبياء؟ أليسو الأنبياء؟ فهل رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في يوم من عمره ترك صلاةً واحدة أو ترك صوم يومٍ دون عذر؟ ألم يكونوا أشد الناس في الشعائر والنوافل، ومن المعلوم عند العلماء أن من استحل الحرام كفر، فكيف بمن يستحل جميع المحرمات ويترك جميع الواجبات؟؟ ثم الولاية، والولاية بيننا وبين الصوفية ميدان للمعركة، الولاية متى تنال؟ وبأي شيء تنال؟ {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62 - 63] لا يفعلون المحرمات ويؤاخون النساء الأجانب والمردان. {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] ما هو اليقين في تفسير السلف؟! قال الحسن البصري: إن الله لم يجعل لعمل المؤمن أجلاً دون الموت. إذاً: اليقين هو الموت باتفاق المسلمين والمفسرين. ثم قالوا: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:42 - 43] أي: أن هذا سبب لدخول جهنم: {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} [المدثر:45 - 47] ما هو اليقين؟ الموت {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:48].

من نواقض الإيمان: النفاق

من نواقض الإيمان: النفاق أيها الإخوة! من نواقض الإيمان النفاق، والنفاق: إظهار القول باللسان أو الفعل، بخلاف ما في القلب من القول والاعتقاد، بأن يستر كفره ويظهر إيمانه. وكلمة "النفاق" اسم إسلامي لم يعرفه العرب من قبل، فالإسلام هو الذي جاء بكلمة النفاق ومعناها هذا، فلم تكن موجودة عند العرب ولا يعرفونها من قبل، والنفاق كالكفر يوجد نفاق مخرج من الملة ونفاق غير مخرج من الملة. قال شيخ الإسلام رحمه الله: فمن النفاق ما هو أكبر يكون صاحبه في الدرك الأسفل من النار كنفاق عبد الله بن أبي وغيره؛ بأن يظهر تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا ضرب النفاق الأكبر. أما النفاق الأصغر فهو النفاق في الأعمال ونحوها. إذاً النفاق المخرج من الملة لا شك أن النفاق الاعتقادي داخل فيه، لكن ليس هو نفاق تكذيب فقط، فمن حصر النفاق المخرج من الملة بالنفاق الاعتقادي فلعله قصد نفاق التكذيب وهو أن يظهر الإيمان وهو مكذب بقلبه، والأقرب والله أعلم تقسيم النفاق إلى أكبر وأصغر، وأن النفاق الأكبر لا يسقط بالجانب الاعتقادي فقط، وهذه مسألة مهمة؛ لأن بعض الناس يعتقد أن النفاق الأكبر الذي يخرج عن الملة فقط هو النفاق الاعتقادي (إظهار الإسلام وإبطان الكفر) فيقال: إن الله ذكر في القرآن خصالاً عن المنافقين تكفرهم -وهي أعمال- مثل: تنقيصهم للرسول صلى الله عليه وسلم وسخريتهم بالمؤمنين: {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) [التوبة:66] ومناصرتهم للكفار، ومناصرة الكفار عمل. إذاً: نعرف أن النفاق الأكبر الذي يخرج من الملة ليس فقط أن الإنسان يظهر الإسلام والقلب مكذب، فقد يكون منافقاً نفاقاً أكبر يخرج عن الملة بأشياء يعملها، مثل: مناصرة الكفار على المسلمين، فلو أن إنساناً ناصر الكفار على المسلمين فهذا كافر وعمله كفر. أيضاً ليس كل نفاق اعتقادي مخرجاً عن الملة، أليس الرياء قلبياً؟ الرياء أليس عملاً قلبياً؟ وليس من الأشياء العملية، ليس نفاقاً عملياً كالكذب وإخلاف الوعد، ومع ذلك إذا كان الرياء يسيراً لا يكفر صاحبه. إذاً: لابد أن ننتبه في قضية النفاق الاعتقادي والنفاق العملي إلى أنه ليس كل نفاق اعتقادي متعلق بالقلب يكفر صاحبه كيسير الرياء، وليس كل النفاق العملي لا يكفر صاحبه، فبعض النفاق العملي يكفر صاحبه هذه الخلاصة. إذاً: النفاق ينقسم إلى قسمين: نفاق أكبر ونفاق أصغر، والنفاق الأصغر معروف كما جاء في الحديث: (آية المنافق ثلاث: إذ حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان) والنفاق الأصغر نوعاً من الاختلاف بين السريرة والعلانية لكن لا يصل إلى الكفر، وذلك كالرياء الذي لا يكون في أصل العمل، ومثال ذلك: إظهار مودة أخ والكيد له بالسر، هذا نوع من النفاق لكنه ليس مكفراً، اللهم إلا إذا كان يكيد للنبي صلى الله عليه وسلم أو للمسلمين لأنهم مسلمون. والنفاق الأكبر يدخل فيه كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن صاحبه مخلد في النار في الدرك الأسفل مثل نفاق عبد الله بن أبي وغيره بأن يظهر تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم أو جحود بعض ما جاء به، أو بغضه. ما الفرق بين الكافر والمنافق؟ إذا كان الكافر يظهر تكذيب الرسول وأنت تقول: إن المنافق يظهر تكذيب الرسول! ممكن يظهر يعتبر من المنافقين، ف A أن الكافر لا ينطق بالشهادتين، ولا يقول أنا مسلم، ولا يدعي الإسلام، ولا يصلي مع المسلمين، لكن المنافق يقول: أنا مسلم، وينطق بالشهادتين ويصلي مع المسلمين. كيف صار منافقاً نفاقاً أكبر؟ بأمور كثيرة: منها: أن يظهر تكذيب الرسول عليه الصلاة والسلام، وعبد الله بن أبي قال شيئاً من هذا، ولذلك لا يشترط عندما نقول: منافق أكبر أنه لا يظهر منه شيء البتة، يمكن أن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله أمام الناس، ويصلي مع المسلمين، ويقول: أنا مسلم. لكن عمله وما يظهره فيه أشياء كفرية واضحة مخرجة عن الملة، فهذا يسمى منافقاً لماذا؟ لأنهم يدعون الإسلام وفي محافل ومناسبات ومحلات ومواضع يظهرون الكفر، ماذا تسميه؟ نسميه منافق، في تصريح ومقالات، وأشياء مكتوبة، وقصائد يظهر الكفر، ولما تأتيه يقول لك: أنا مسلم، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأنا أصلي. والظاهر أن بعض العلمانيين الذي يقوم الليل، أقرباؤه يقولون: يقوم الليل، ما رأيك؟ المنافق نفاقاً مخرجاً من الملة لا يشترط أن يكون مستوراً لا يعرف عنه شيء، يظهر الإسلام ويخفي الكفر لا، وحال المنافقين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أنه ظهر منهم أشياء لكن لأنهم يقولون ويدعون الإسلام، ينطقون بالشهادتين، ويصلون مع المسلمين، ويصلون العيد، ويحضرون الجمعة لكن عبد الله بن أبي هذا، يفعل ذلك كله، لكن ظهر منه أشياء في تخذيل المسلمين، ونصرة الكفار عليهم، وتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم، والطعن فيه، والطعن في رسالته، والكيد له، والكيد لجماعة المسلمين كلهم، وتخذيل المسلمين في أحد وهكذا. إذاً: النفاق الأكبر المخرج عن الملة، مثل: إنسان يدعي الإسلام وعنده أقوال وأفعال أخرى تناقض ما يقول فيعتبر منافقاً، ومن باب أولى الذي ما أظهر شيئاً أبداً، مثل رجل يبطن الكفر ويظهر الإسلام، ولم نضبط عليه لا كلمة ولا فعلاً، لكنه في الحقيقة عند الله زنديق، ولذلك قال بعض العلماء: إذا اطلع على الزنديق يقتل ولا يستتاب؛ لأننا لو استتبناه سيقول: أشهد أن لا إله إلا الله وهو يقولها أصلاً! فنقتله، وإذا كان صادقاً في التوبة تنفعه الشهادة عند الله، وهذا عند الإمام مالك يقول: الزنديق يقتل. لماذا؟ يقول: إذا اكتشفنا وعثرنا على زندقته نقتله. وإذا قال: أنا أقول لا إله إلا الله. نقول: نقتلك وإذا كنت صادقاً تنفعك عند الله. لماذا قال مالك ذلك؟ لأننا إذا قلنا: نستتيبك سيقول أشهد أن لا إله إلا الله، وهو أصلاً يقولها. وقال آخرون: الزنديق يستتاب، فإن تاب يكف عنه، وابن تيمية رحمه الله ذكر في النفاق الأكبر قال: كنفاق عبد الله بن أبي بأن يظهر تكذيب الرسول أو جحود بعض ما جاء به، أو بغضه، أو عدم اعتقاد وجوب اتباعه، أو المسرة بانخفاض دين الرسول. إذا انهزم المسلمون في معركة أظهر السرور؛ لأن المسلمين انهزموا، أو المساءة بظهور دين الله، لو قيل له: دخل اليوم في الإسلام ألف من الكفار. ينغص هذا الخبر عليه، أو يقال: انتصر المسلمون في البلد الفلانية تراه ينغص، هذا منافق لماذا؟ لأنه ساءه ظهور الإسلام وانتصار المسلمين. ونحو ذلك مما لا يكون صاحبه إلا عدواً لله ورسوله، وهذا القدر كان موجوداً في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما زال بعده، بل هو بعده أكثر منه في عهده -انظر كلام ابن تيمية الخبير في الواقع، الإنسان المعايش للناس العارف بطبقات المجتمع- يقول: بل هو بعده -النفاق بعد النبي صلى الله عليه وسلم- أكثر منه على عهده. وهذا واضح في عصرنا جداً، فالعلمانيون هؤلاء هم المنافقون يظهرون الإسلام، لكن انظر إلى المقالات والأفعال. إذاً: يتبين لنا أن أي مظهر من مظاهر النفاق الأكبر يحكم على صاحبه بالنفاق الأكبر ولو كان يدعي الإسلام مثل تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم، أو بغض الرسول صلى الله عليه وسلم أو بغض بعض ما جاء به من الشريعة، المسرة بانخفاض دين الرسول صلى الله عليه وسلم أو كراهية انتصار دين الرسول صلى الله عليه وسلم، وعدم اعتقاد وجوب تصديقه فيما أخبر، وعدم اعتقاد وجوب طاعته فيما أمر، وإيذاؤه أو عيبه أو لمزه صلى الله عليه وسلم والآن بعض الذين يكتبون في الأدب يأتي بقصيدة أو قصة ويلمز دين الإسلام ويلمز نبي الإسلام، وعندما تأتيه وتقول: أنت كذا، أنت كذا أنت كذا، هذا كفر. يقول: أنا مسلم، انظر إلى إثباتي. نقول: لقد أظهرت الكفر، وهذا العمل لا يحتمل، يعني: يأتي إنسان مثلاً يسب النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: أنا لا أعرف أن هذا كفر؟ أنا لم أكن أعرف أن هذا كفر؟ فإذا كانت المسألة واضحة جداً، وليس لها تبرير ولا له عذر، فهذا لا يتردد في كفره إذا كان بهذه الطريقة.

من نواقض الإيمان: مظاهرة الكافرين ومناصرتهم على المسلمين

من نواقض الإيمان: مظاهرة الكافرين ومناصرتهم على المسلمين وكذلك مظاهرة الكافرين ومناصرتهم على المؤمنين، أو الاستهزاء والسخرية بالمؤمنين لأجل إيمانهم لا لشيء شخصي بينهم وبينه، وإنما يستهزئ بهم لأجل إيمانهم، والتولي والإعراض عن حكم الله وحكم رسوله. كل هذه الأشياء حصلت من المنافقين، يقولون عن النبي صلى الله عليه وسلم كما قال الله: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ} [التوبة:61]. فرد الله عليهم: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة:58] فإن أذاهم قد عم المسلمين في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، وإذا دعوا إلى الله ورسوله يتولون ولا يأتون، ولا ينقادون، ويظاهرون الكافرين ويعاونونهم على المؤمنين، والله قال: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] والموالاة للكفار منها ما يصل إلى درجة الكفر الأكبر، ومنها ما هو دون ذلك، فإذا كانت موالاة تامة، ورضاً بدين الكفار، وتصحيحاً لمذهبهم كما قال ابن جرير الطبري في تفسير قوله تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:28] قال: لا تتخذوا أيها المؤمنون الكفار ظهراً وأنصاراً توالونهم على دينهم، وتظاهرونهم على المسلمين من دون المؤمنين، وتدلونهم على عوراتهم -أي: على عورات المسلمين- وثغور المسلمين، فإنه من يفعل ذلك فليس من الله في شيء، برئ من الله وبرئ الله منه بارتداده عن دينه ودخوله في الكفر. وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في نواقض الإسلام: الثامن: مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين، والدليل قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51]. والشيخ ابن السعدي رحمه الله قال: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [التوبة:23] قال في تعليقه على الآية: وذلك الظلم بحسب التولي، فإن كان تولياً تاماً كان كفراً مخرجاً عن دائرة الإسلام، وتحت ذلك من المراتب ما هو غليظ وما هو دونه، مثل شخص لو تشبه بهم أليس نوعاً من التولي لهم؟ تشبه باللباس، لكن قد لا يكفر به، ويعتبر فسقاً وكبيرة ومعصية، لكن لا يعتبر كفراً. فإذاً: التولي درجات، إذا كان التولي عاماً فهو كفر، وتحت ذلك درجات. وكذلك المسرة بانخفاض دين النبي صلى الله عليه وسلم واضح من قوله تعالى في وصف المنافقين: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ} [التوبة:50] ماذا؟ {تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ} [التوبة:50] وعملنا الاحتياطات، وما خرجنا، والذي خرج هو الذي أكلها: {وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ} [التوبة:50] {لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة:48] هؤلاء الذين وصفهم الله تعالى بهذه الصفات لا شك أنهم منافقون، وكذلك هم الذين يكرهون ما أنزل الله، {كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:9] {وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [المؤمنون:70] {وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة:54] {وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:81].

الفرق بين ما كره شرعا وما كره طبعا

الفرق بين ما كره شرعاً وما كره طبعاً لو أن إنساناً قال: نفسي عندما تأتي إلى صلاة الفجر والتكاليف الشاقة، أو لو قيل الآن: جهاد فنفسي لا تحب وتعشق هذا، بل هناك نفور، وعندي شيء في قلبي، مثلاً: أحس بثقل وبمشقة في التكاليف، فالسؤال هو: هل الإحساس بالثقل والمشقة في التكاليف يُعتبر كرهاً لما أنزل الله، ومحبطاً للعمل، ونفاقاً أكبر أم لا؟ A الكره والمشقة التي تنال الإنسان من خارج فيما يحمل عليه بإكراه، والكره ما يناله من ذاته، وهو يعاف على ضربين: الأول: ما يعاف من حيث الطبع، والثاني ما يعاف من حيث العقل والشرع، ولهذا يصح أن يقول الإنسان في الشيء الواحد: إني أريده وأكرهه، أي: أريده من حيث الطبع وأكرهه من حيث الشرع، أو أريده من حيث العقل والشرع وأكرهه من حيث الطبع. ونأخذ مثالاً: قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ} [البقرة:216] ماذا؟ {كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة:216] فالآن خاطب الله الصحابة، قال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة:216] هو يثبت أن بعضهم يكرهونه، لكن يكرهونه من ناحية الطبع، وأما من ناحية الشرع فهم يحبون أن يفرض الجهاد، وهذه خذها على مسألة الزوجة الثانية؛ لأن بعض النساء عندهن مشكلة في هذه القضية، لو قلت للزوجة: ما رأيك لو أن زوجك تزوج عليك؟ ما رأيك في الزوجة الثانية؟ تكرهين ذلك أم تحبينه؛ لأن بعض الأزواج يذهب يلبس ليوقع زوجته في مشكلة شرعاً، يقول: يا ويلك إذا كرهت زوجتي فأنت كافرة؛ لأن الله قال: {كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:9] وعملك حابط. فنقول: إن كرهته طبعاً فلا شيء عليها، وإن كرهته شرعاً كفرت. فإذاً لو قالت: أنا لا أقول شيئاً فهذا شرع الله، لكني بطبعي أكرهه، هذه غيرة. فلا تكفر المرأة، وهذا وضع طبيعي وشيء عادي عند النساء. إذاً: إذا كان الإنسان كره شيئاً طبعاً كأن يكره أن يقوم لصلاة الفجر؛ لأجل النوم ولذة الفراش، لكنك لو قلت له: تحب صلاة الفجر أم لا؟ يقول: أحب صلاة الفجر، لكن نفسي عليها مشقة، نقول: ما عليك شيء، إذا اقتصرت على الكره الطبيعي، وإذا قال لك: أنا عقلي وقلبي يؤمن، لكن نفسي من ناحية التعب البدني، أو الغيرة -مثل ما قلنا في قضية النساء- وبذلك يا أخي يزول الإشكال -إن شاء الله- في هذه القضية مثل قضية الزوجة الثانية، والفرق بين ما كره شرعاً وما كره طبعاً، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد.

تذكرة في الحر وفصل الصيف

تذكرة في الحر وفصل الصيف لقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن لجهنم نفسين: نفس في الشتاء ونفس في الصيف، وبيَّن أن شدة الحر من فيح جهنم، مذكراً العباد بشدة حرارة جهنم وشدة استعارها، وفي هذه المادة يتحدث الشيخ عن شدة فيح جهنم، ويذكر الأسباب التي تساعد على الوقاية من النار وحرها.

شدة الحر من فيح جهنم

شدة الحر من فيح جهنم ذإن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. عباد الله: إن الله سبحانه وتعالى يذكر عباده في الدنيا ببعض ما يكون في الآخرة، كما يذكرهم في الصيف حرارة جهنم، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن شدة الحر من فيح جهنم، وهذا حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم يثبت ويبرهن أن ما نحس به من حرارة في هذا الصيف إنما مصدره ومبعثه جهنم، ولا شك أن هذا شيء حقيقي ليس بمجاز؛ فإنه حديث الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم الذي قال: (إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة؛ فإن شدة الحر من فيح جهنم) ومعنى أبردوا عن الصلاة، أي: أخروا صلاة الظهر عن أول وقتها حتى تنكسر شدة الحر الذي يكون من أسباب التشويش على المصلي وقلة الخشوع. وكذلك فإنه عليه الصلاة والسلام قد أخبر في الحديث الصحيح أن لجهنم نفسين: نفس في الشتاء ونفس في الصيف، كما استأذنت ربها، وأخبر أن ذلك أشد ما نجد من الحر وأشد ما نجد من الزمهرير؛ ولذلك فإن من عذاب جهنم شدة البرد كما أن من عذابها شدة الحر، وهذا من العجائب، لكن الغالب عليها الحر ولا شك، فإنها كما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري رحمه الله: (قالت النار: ربِ أكل بعضي بعضاً، فائذن لي أن أتنفس، فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء ونفس في الصيف، فما وجدتم من برد أو زمهرير فمن نفس جهنم، وما وجدتم من حر أو من حرور فمن نفس جهنم) رواه البخاري. وشدة الحر من فيح جهنم، وفيحها: سعة انتشارها وتنفسها، وهذا يدل على شدة استعارها، وأنه يأكل بعضها بعضاً، وأن لها وهجاً عظيماً، وأن وهج جهنم يسطع على الأرض ويصل إليها، وكيف يكون علاقة ذلك بالشمس؟ هذا علمه عند الله تعالى، ولكننا نصدق بما أخبرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم، فإن شدة الحر من فيح جهنم، والشمس ستكون في النار عذاباً لعابديها يوم القيامة كما جاء ذلك في الأثر. أيها المسلمون: إن هذا التذكير من الله سبحانه وتعالى مما نجده من شدة الحر حري بالمؤمن أن يتفكر فيه، وأن يقوم بالأسباب التي تنجيه من عذاب النار.

وجود العذاب بالنار في البرزخ

وجود العذاب بالنار في البرزخ أيها المسلمون: إن عذاب النار ليس خاصاً بالآخرة وإنما جزء منه ولا شك في البرزخ -أيضاً- كما أنه في الدنيا، في الدنيا يصلنا من حرارتها، وفي البرزخ يكون هناك من الحرارة في القبر على المعذبين، كما جاء في حديث البراء بن عازب الذي رواه أحمد وأبو داود وهو حديث صحيح، قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار، فلما قعدوا حول القبر وعظهم النبي عليه الصلاة والسلام في حال المؤمن وفي حال الكافر والفاجر، فقال في الثاني وذكر موته، قال: وتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان: من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فينادي منادٍ من السماء: أن كذب فأفرشوه من النار، وألبسوه من النار، وافتحوا له باباً إلى النار. قال: فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه، ثم يقيض له أعمى أبكم معه مرزبة من حديد لو ضرب بها جبل لصار تراباً، قال: فيضربه ضربةً يسمعها ما بين المشرق والمغرب إلا الثقلين، ثم تعاد فيه الروح ويضرب هكذا فيصير تراباً، ثم يعاد فيضرب إلى قيام الساعة). لقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن حرارة النار تصل إلى الفاجر والكافر في قبره عبر هذه النافذة المفتوحة كما قال: (وافتحوا له باباً إلى النار)، هكذا كان عليه الصلاة والسلام يعظ أصحابه ويذكرهم، وقد قال الله سبحانه وتعالى مذكراً أنه لا يستوي الظل ولا الحرور، قال: {وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ} [فاطر:21] فبين أن الأشياء المتباينة كالأعمى والبصير والظلمات والنور والظل والحرور هذه أشياء لا تستوي، وكذلك لا يستوي الكفر والإيمان، وكذلك لا تستوي السنة والبدعة، وكذلك لا يستوي صاحب الدين والخارج عن الدين: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً} [هود:24] وهكذا الظل والحرور. فأما الجنة فإن فيها ظلاً ظليلاً لا ينحسر، بخلاف ظل الدنيا فإنه ينحسر بحسب حركة الشمس، ولكن ما هو ظل جهنم؟ إنه ظل من يحموم كما أخبر الله سبحانه وتعالى، فأولئك لهم ظل ظليل وهؤلاء لهم ظل من يحموم، وكذلك فإن شرابهم حار غاية الحرارة، كما قال تعالى: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد:15] فهم يجدون في النار حراً من وهجها ولهيبها، وكذلك الظل الذي فيها إنه من يحموم، إنه لا يفيد شيئاً، إنه لا يخفف عمن استظل به؛ لأنه من يحموم.

أسباب تساعد على الوقاية من حر النار

أسباب تساعد على الوقاية من حر النار هكذا يذكرنا ربنا لنتعظ ونأخذ بالأسباب التي تساعد على الوقاية من حر النار:

الأول: الاستعاذة من حرها

الأول: الاستعاذة من حرها ولذلك فإنه صلى الله عليه وسلم قد أرشدنا إلى أمور نتقي بها حرارة النار، فقال صلى الله عليه وسلم مذكراً بالاستعاذة من حرها، وهو من أسباب الوقاية منها كما جاء في حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في صلاته: (اللهم إني أعوذ بك من فتنة القبر، ومن فتنة الدجال، ومن فتنة المحيا والممات، ومن حر جهنم) رواه النسائي رحمه الله هذا في الاستعاذة من حرها، فماذا أيضاً؟

الثاني: الصوم في سبيل الله

الثاني: الصوم في سبيل الله والصيام كذلك، كما جاء عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صام يوماً في سبيل الله باعد الله بذلك اليوم حر جهنم عن وجهه سبعين خريفاً) رواه النسائي وكان أبو سعيد لأجل هذا الحديث ينتقي اليوم الشديد الحرارة فيصومه مع طوله وشدة حره، فمن صام يوماً في سبيل الله باعد الله بذلك اليوم حر جهنم عن وجهه سبعين خريفاً، وربما صام صلى الله عليه وسلم لأجل ذلك -أيضاً- صام في يوم شديد الحر، كان يجعل الإنسان يده على رأسه من شدة الحر، صامه هو وعبد الله بن رواحة رضي الله عنه.

الثالث: الجهاد في سبيل الله

الثالث: الجهاد في سبيل الله وكذلك فإن من الأمور العظيمة التي تعين على الوقاية من حر النار: الجهاد في سبيل الله، ولو كان ذلك في فصل الصيف شديد الحرارة فإنه يجاهد ويخرج للجهاد، ولذلك فإن المنافقين لما قالوا: {لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ} [التوبة:81] رد الله عليهم بقوله: {وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً} [التوبة:81] ولذلك فإن الجهاد في سبيل الله ماض صيفاً وشتاءً كما كان المسلمون يفعلون (وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الكسوف في يوم شديد الحر، فأطال القيام حتى جعل أصحابه يخرون من شدة الحر، فأطال الصلاة والركوع والسجود، ثم أخبرهم أنه رأى أثناء صلاته النار وفيها امرأة تعذب في هرّة ربطتها، لم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض، قال: ورأيت أبا ثمامة عمر بن مالك يجر قتبه في النار، وقد كانوا يقولون: إن الشمس والقمر لا يخسفان إلا لموت عظيم، فقال: وإنهما آيتان من آيات الله) الحديث أخبرهم بما رأى في النار، بل إنه جعل ينفخ حرها عن أصحابه خشية أن تأكلهم، وأخبرهم بما رأى فيها، فخر الصحابة وراءه من شدة الحر في الصلاة التي صلاها صلى الله عليه وسلم. إننا -أيها الإخوة- إذا ذكرنا حال المسلمين كيف كانوا يصبرون على لأواء المدينة وحرها وشدتها، ومن يصبر على حرها فإنه يؤجر من الله أجراً عظيماً، إنهم كانوا يصلون وراءه صلى الله عليه وسلم، ويعانون معاناةً شديدة، كان الرجل يأتي معه بكف من حصباء من حصى يبردها في يده، يأتي بها المسجد ليضعها موضع سجوده! ونحن تحت الأسقف وفي هذه المكيفات لا بد أن نذكر نعمة الله سبحانه وتعالى علينا، والله عز وجل قد امتن على عباده بأن جعل لهم من الأسباب ما يقيهم الحرارة فقال سبحانه: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} [النحل:81] هذه الآية في سورة النعم، وهي سورة النحل التي عدد الله فيها على عباده أنعاماً كثيرة، فإن الثياب ولا شك منها ما يقي الحر كالذي يلبس على الجلد، وكذلك يلبس على الرأس لتغطيته، ولو لم يغطِ رأسه في الحر الشديد أو لم يغطِ جسمه لاحترق جلده، وهذا مشاهد معروف، أو أصيب بضربة شمس، فإذا جعل الملابس تقي الحر فكذلك تقي البرد من باب أولى، وإنما خاطب العرب بذلك لأنهم كانوا أصحاب حر في الغالب، فجعل الله الظلال وجعل الله اللباس، وجعل لنا في هذا العصر المكيفات {وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل:8] وهذه نعمة من نعم الله سبحانه وتعالى ينبغي أن تذكر فلا يكفر عز وجل، بل يحمد سبحانه على ما جعل لعباده من الوسائل الواقية. عباد الله: إننا وفي الجمع وغيرها من مواسم الازدحام في الحر نذكر كيف كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يصلون معه، فيضع أحدهم طرف الثوب من شدة الحر في مكان السجود، وأخذ العلماء من ذلك جواز أن يسجد الإنسان على طرف ثوبه، وأنه لا بأس ولو كان هذا اللباس عليه أن يضع طرفاً منه على الأرض، وأنه لا يشترط أن يكون منفصلاً، ويؤخذ كذلك من تأخير الصلاة والإبراد بها في الظهر المحافظة على أسباب الخشوع.

الرابع: الصدقات

الرابع: الصدقات وكذلك فإننا لا ننسى في هذا الحر الذي نذكر به حر جهنم الصدقات التي تقي حر النار، قال صلى الله عليه وسلم: (اتقوا النار ولو بشق تمرة). ومن كرامات بعض الصالحين ما يذكرنا به هذا الحر، فقد روى ابن ماجة وأحمد عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه كان يلبس ثياب الصيف في الشتاء، وثياب الشتاء في الصيف، فسأله أحد من التابعين عن ذلك، فقال: [إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلي وأنا أرمد العين يوم خيبر فقلت: يا رسول الله! إنني أرمد العين، فتفل في عيني فقال: (اللهم أذهب عنه الحر والبرد) فما وجدت حراً ولا برداً منذ يومئذ، وقال: (لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، ليس بفرار) فأعطاها علياً رضي الله تعالى عنه، قال: ما رمدت ولا صدعت منذ مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهي وتفل في عيني يوم خيبر وأعطاني الراية]. رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وأعلى منزلته. اللهم إنا نسألك أن تقينا حر جهنم، اللهم اجعلنا ممن أعتقت رقابهم من النار إنك أنت الرحيم الغفار. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الإصابة بالحمى مما يذكر بعذاب النار

الإصابة بالحمى مما يذكر بعذاب النار الحمد لله الواحد القهار، وأشهد أن لا إله إلا هو العزيز الغفار، وأشهد أن محمداً رسول الله سيد الأبرار، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الطيبين الأطهار. عباد الله: إن من أعراض الجسم ما يذكرنا بحرارة جهنم -أيضاً- ألا وهي الحمى، التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنها بأن شدتها من فيح جهنم، كما جاء ذلك في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري رحمه الله: (إن الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء)، وهذا يبين أن هناك أموراً غيبية لا تصل إليها عقول العباد، وأن الناس فسروا الأمور بالظواهر، فسروا الأمور بالأسباب الدنيوية فقط، فإنها نظرة قاصرة، فيعتمل في الجسم من أنواع العوامل المؤدية إلى رفع الحرارة ما يرفعها، ولكن هناك ارتباط كذلك (إن الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء). وقد حصل للنبي صلى الله عليه وسلم من ذلك شيء عظيم، فقد روى أبو سعيد الخدري قال: (دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوعك، فوضعت يدي عليه فوجدت حره بين يدي فوق اللحاف، فقلت: يا رسول الله، ما أشدها عليك! قال: إنا كذلك يضاعف لنا البلاء ويضاعف لنا الأجر، قلت: يا رسول الله، أي الناس أشد بلاءً؟ قال: الأنبياء، قلت: يا رسول الله، ثم من؟ قال: ثم الصالحون، إن كان أحدهم ليبتلى بالفقر حتى ما يجد أحدهم إلا العباءة يحويها، وإن كان أحدهم ليفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء). وقد أصيب الصحابة لما وصلوا المدينة بالحمى، فوعك أبو بكر وبلال، ودخلت عائشة على أبيها فقالت: يا أبت، كيف تجدك؟ ويا بلال، كيف تجدك؟ وكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول: كل امرئ مصبح في أهله والموت أدنى من شراك نعله وكان بلال إذا أقلعت عنه الحمى يرفع عقيرته ويقول: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلةً بواد وحولي إذخر وجليل يتذكر حشائش مكة ونباتاتها وجبالها وهل أردن يوماً مياه مجنة وهل يبدون لي شامة وظفيل فقالت عائشة: فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: (اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، وصححها -أي: اجعلها جواً صحياً- وصححها، وبارك لنا في صاعها ومدها، وانقل حماها فاجعلها بـ الجحفة)، فاستجاب الله دعاء نبيه صلى الله عليه وسلم، ونقلت الحمى التي كانت من الأمراض المشهورة في المدينة تعتري من فيها خصوصاً الغرباء، نقلت منها فجعلت في الجحفة، حتى أنه قال القائل: إنه إذا نزل بها البعير ربما أصابته بـ الجحفة، فأما المدينة، طيبة مدينة النبي صلى الله عليه وسلم فنقلت الحمى منها، وكان المولود يولد بـ الجحفة فلا يبلغ الحلم حتى تصرعه الحمى، كما روى ذلك البيهقي في دلائل النبوة. وهذه الحمى مكفرة للذنوب، فلا يسبها الإنسان، وليس كما يفعله بعض الناس عندما يسبون الحرارة والسخونة من الحمى، وهي حظ المؤمن من نار جهنم، وتكفر عنه سيئاته، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن سبها كما ورد ذلك في الأحاديث الصحيحة، ومنها قوله عليه الصلاة والسلام لأحد الصحابة: (لا تسبها فإنها تمحي الذنوب)، وذكر ابن القيم رحمه الله في علاج الحمى من الطب النبوي الآثار في علاجها، ومنها: الماء البارد على الذي أصابته الحمى في وقت السحر ثلاثة أيام متوالية، والعلاج بالتبريد معروف عند الأطباء. ثم ذكر قصة شاعر أصابته الحمى، فلما أوشكت أن تقلع عنه قال: زارت مكفرة الذنوب وودعت تباً لها من زائر ومودع قالت وقد عزمت على ترحالها ماذا تريد فقلت ألا ترجعي قال رحمه الله: تباً له؛ إذ سب ما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبه، ولو قال: زارت مكفرة الذنوب لصبها أهلاً بها من زائر ومودع قالت وقد عزمت على ترحالها ماذا تريد فقلت ألا ترجعي

مراعاة المسلمين في كف الروائح الكريهة عنهم

مراعاة المسلمين في كف الروائح الكريهة عنهم كذلك فإننا نتذكر في هذا الفصل -أيضاً- مراعاة المسلمين لإخوانهم في كف الروائح الكريهة عنهم، فإن العرق الذي يكون من الجسم في وقت الحر رائحته شديدة في الملابس كالجوارب، وفي الجسد في الآباط وغيرها، وقد جاء في الحديث الذي رواه أبو داود عن عكرمة: أن أناساً من أهل العراق جاءوا فقالوا: يا ابن عباس، أترى الغسل يوم الجمعة واجباً؟ قال: لا، ولكنه أطهر وخير لمن اغتسل، ومن لم يغتسل فليس عليه بواجب، وسأخبركم كيف بدأ الغسل كان الناس مجهودين، يلبسون الصوف، ويعملون على ظهورهم، وكان مسجدهم ضيقاً مقارباً السقف، إنما هو عريش، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم حار، وعرق الناس في ذلك الصوف، حتى ثارت منهم رياح آذى بذلك بعضهم بعضاً، فلما وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الريح قال: (أيها الناس: إذا كان هذا اليوم -يعني: يوم الجمعة- فاغتسلوا، وليمس أحدكم أفضل ما يجد من دهنه وطيبه). ومن هنا ذهب بعض أهل العلم إلى إيجاب غسل الجمعة على من له رائحة كريهة تؤذي المصلين؛ فإنه يجب عليه أن يغتسل قبل إتيانه إلى المسجد وإلا أثم بذلك، ورأى بعضهم أن الغسل واجب في كل حال، يجب عليه الاغتسال لإتيان الجمعة. وكان أهل العلم -أيضاً- يطلبون العلم صيفاً وشتاءً لا يصدهم الحر عن طلب العلم، فإذا كان يؤذيك حر المصيف وبرد الشتاء فمتى تطلب العلم؟ وحكي في سيرة ابن المظفر سبط ابن الجوزي رحمه الله الذي ألف الكتاب العظيم في التاريخ مرآة الزمان، كان حسن الصورة، طيب الصوت، حسن الوعظ، حتى أن أهل دمشق كانوا يخرجون إليه في يوم وعظه يوم السبت بكرة النهار، كانوا يبيتون بالجامع لتحصيل حلقة العلم ويتركون البساتين في الصيف حتى يسمعوا ميعاده، ثم يحضرون الدرس، ثم ينصرفون إلى بساتينهم، وكانوا يخرجون من البلد إلى بساتينهم في وقت الصيف لاتقاء حر الصيف، فكان إذا صار موعد الدرس رجعوا من البساتين إلى البلد، وبات بعضهم في المسجد لأجل حضور الدرس من كثرة ما يزدحمون عليه! ومما يراعى في الصيف -أيضاً- مراعاة البهائم، كيف لا وقد جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم (أن امرأةً بغياً رأت كلباً في يوم حار يطوف ببئر، قد أدلع لسانه من العطش، فنزعت له بموطها -أي: الماء- فغفر لها) رواه مسلم رحمه الله تعالى.

إن الله على كل شيء قدير

إن الله على كل شيء قدير وأقدار الله عجيبة؛ فإنه قادر على الإتيان بالبرد في عز الصيف، وقد حكى ذلك المؤرخون من أهل الإسلام في عدد من المناسبات، قال في المنتظم: وفي اليوم التاسع من ذي الحجة صلى الناس العصر في زمن الصيف وعليهم ثياب الصيف، فهبت ريح باردة جداً حتى احتاج الناس إلى الاصطلاء بالنار، ولبسوا الفراء والمحشوات، وجمد الماء كفصل الشتاء، والله على كل شيء قدير -سبحانه وتعالى- والحمد لله الذي جعل الإسلام في العرب الذين قطنوا هذه الجزيرة التي يغلب عليها الحر، فأجسادهم تطيق الحر وتطيق البرد، ولذلك لما انطلقوا في الفتوحات ما أعجزهم الوصول إلى البلاد الحارة والبلاد الباردة، ولو كانوا من أهل البرد لربما ما أطاقوا الجهاد في بلاد الحر، وأنتم تسمعون ماذا يحصل في بلاد الغرب إذا ارتفعت الحرارة عندهم ارتفاعاً أقل مما عندنا بكثير ماذا يحصل لهم، فالحمد لله رب العالمين. وكذلك فإن بعض السلف قد كره أن يقال: هذا يوم حار، وهذا يوم بارد ونحو ذلك؛ لأنه كلام لا فائدة منه، كما يقول بعض الناس: شيء غير معقول، أو يتأفف، فهذا لا يغير شيئاً، ولن يخبر بجديد، ولذلك كرهوا فضول الكلام، وهذا من الأمثال التي ضربوها إنما هو من المباحات على أية حال، ولكنها تذكرة للناس أن يكفوا ألسنتهم عن بعض المباح خشية الوقوع في أمور محظورة، وألا يتكلم الإنسان إلا فيما يفيد، وإنه مما لا يفيد أن يخبر عن شدة الحرارة ونحو ذلك، وهذه تذكرة أنه إذا كان بعض الكلام المباح يمسك عنه الإنسان فكيف إذا كان الكلام محظوراً ومحرماً كالغيبة والكذب والسب والشتم والفحش ونحو ذلك؟ اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى أن تبلغنا جنة النعيم، اللهم حاسبنا حساباً يسيراً، اللهم واجعل سعينا في الدنيا سعياً مشكوراً، وذنبنا مغفوراً، اللهم إنا نعوذ بك من جهنم وحرها، اللهم قنا عذاب النار، اللهم قنا عذاب النار، اللهم قنا عذاب النار {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} [الفرقان:65 - 66] اللهم إنا نسألك في هذا اليوم العظيم النصر للإسلام والمسلمين، اللهم ارفع البأساء عن إخواننا في كوسوفو وفي كشمير، وفي سائر بلاد المسلمين يا رب العالمين، اللهم ارفع الضر عنهم، اللهم قهم شر عدوهم، اللهم إن بهم من البأساء ما لا يشكى إلا إليك وأنت على كل شيء قدير، اللهم إنا نسألك لهم النصر والتمكين على العدو الغاصب يا رب العالمين. اللهم حرر المسجد الأقصى من أيدي اليهود العابثين، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، اجعل بأسهم بينهم، واجعلهم وأموالهم غنيمةً للمسلمين، اللهم خالف بين قلوب اليهود والنصارى، اللهم اجعل بأسهم بينهم، اللهم اجعل ما مكروه بالمسلمين شراً ووبالاً عليهم إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، والحمد لله رب العالمين، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.

تشريعات إلهية في النكاح

تشريعات إلهية في النكاح إن الله سبحانه وتعالى حث على الزواج وأمر به في أكثر من موضع من كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وذلك لما له من فضل وطمأنينة وأمان وأسرار أودعها الله فيه، وجعل الله أحكاماً لهذا الأمر حتى ينضبط، وفي هذه المادة يتحدث الشيخ عن بعض الأمور والأحكام في الزواج.

الحث على الزواج والأمر به

الحث على الزواج والأمر به إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فقد أمر الله سبحانه وتعالى عباده بالنكاح في عدة آيات فقال: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا * وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} [النساء:3 - 4]، وقال تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً * وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} [النساء:20 - 21]. وقال عز وجل: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء:19]. دلت هذه الآيات على الأمر بالتزوج وجوباً أو استحباباً بحسب الأحوال.

الحث على تخير النساء الصالحات

الحث على تخير النساء الصالحات وقد جاء الحث على تخير النساء الكمّل، كما جاء في الآية الأخرى: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء:34] فهو يرشد في سورة النساء إلى توجيه الاهتمام لهذه الطائفة من النساء بقوله: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء:34] فهي تحفظ نفسها إذا غاب زوجها، وتحفظ نفسها إذا غابت عن العيون. وقال عليه الصلاة والسلام: (فاظفر بذات الدين تربت يمينك) وذلك لنفعها زوجها في دينه ودنياه، ولحفظها نفسها وماله وحسن تدبيرها، ولأنها تحفظ نفسها وماله وتحسن التدبير وتنفع العائلة وتربي الأولاد تربيةً دينية.

فساد نظرية (تعدد الزواج للمرأة الواحدة بأكثر من رجل)

فساد نظرية (تعدد الزواج للمرأة الواحدة بأكثر من رجل) لقد أباح الله للرجل أن يتزوج إلى أربع من الحرائر، ومن الإماء ما شاء بملك اليمين، فلو أنه ملك ألف امرأة ملك يمين لكان ذلك جائزاً له شرعاً لا حرج عليه فيه، وأما عندما تتزوج المرأة أكثر من رجل في وقت واحد كما يقول بعض دعاة تحرير المرأة، عندما يتشدقون بمقولتهم: إذا أبحتم للرجل أكثر من امرأة فأبيحوا للمرأة أكثر من رجل فلا شك أن هذا من فساد عقولهم وفطرهم وظلمهم وجورهم، وكل عاقل يعلم بأن هذه الحالة تؤدي إلى اختلاط الأنساب، ويجتمع في المرأة الواحدة في رحمها ماء رجل وماء رجل ثان وماء رجل ثالث وماء رجل رابع ولا يدرى لأيهم الولد، وقد أثبتت الأبحاث الطبية الحديثة أن اجتماع أكثر من ماء رجل في رحم امرأة واحدة يسبب عدة أمراض خطيرة التي تكون نتيجة لاجتماع أكثر من ماء رجل واحد في رحم امرأة واحدة، ولذلك كانت العدة أمراً مهماً للمرأة قبل الزواج الثاني بعد طلاقها، وكذلك عدة الوفاة، ولحق الزوج الميت -أيضاً- والمهم أن تتم براءة الرحم وينتهي أثر ماء الرجل الأول لكي تتزوج برجل ثانٍ، فانظر إلى حكمة العليم الخبير سبحانه وتعالى!

الحث على العدل في الزواج والتزويج

الحث على العدل في الزواج والتزويج وحث الله عباده الرجال على الاقتصار على امرأة واحدة عند الخوف من الظلم، أما عند التحري في العدل والرغبة فيه فإنه أباح لهم إلى أربع من النساء، وأمر بإيتاء النساء صدقاتهن، وأن المهر يصلح بالقليل والكثير والأموال والمنافع، وبين أن من عنده يتيمة وهو وليها ألا يظلمها، وأنه إذا رغب في نكاحها أن يقسط لها في مهرها -أي: يعدل فيه- فلا ينقصها عما تستحقه، وعما يكون لغيرها في مثل حالها. وكذلك لا يعضلها فيحبسها عن الرجال الأكفاء، وأن المرأة الرشيدة إذا طابت نفسها له بشيء من صداقها فله أكله بلا حرج إن لم يكن بسبب حبسه لها وعضله؛ لأن عضلها ظلم، فإن بعض الرجال الظلمة يفعلونه لكي تفتدي منه بما أعطاها أولاً أو ببعضه، فيكون قد أتى إثماً عظيماً، وقد بين تعالى أن الحكمة في ذلك أنه كيف يأخذه وقد استوفى المنفعة؟ يتزوج المرأة ويدخل بها، وتكون ثيباً بعد أن كانت بكراً بسبب دخوله، ثم يريد أن يضيق عليها لتطلب هي الخلع حتى يأخذ المهر، وليس له فيها حاجة وإنما يريد أن يأتي الخلع منها هي، هو في باطن الحال يريد الطلاق لكن لكي لا يدفع شيئاً، ولكي يسترجع ما فاته يريد أن يأتي الخلع منها لكي تعطيه المال الذي أخذته منه أولاً، أخذته منه مقابل أي شيء؟ الميثاق الغليظ، الميثاق الغليظ المؤكد: {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} [النساء:21] فكيف يسترجع المهر الذي أعطاها وقد أتاها وصارت ثيباً بعد أن كانت بكراً، أو صارت زوجةً ثانيةً بعد أن كانت لقبله لمن قبله؟ وهكذا إذاً: الميثاق الغليظ يجب احترامه؛ وهو التزام الزواج المتضمن القيام بجميع الحقوق التي أولها إيفاء الصداق، وإنما يدفع الإنسان نصف الصداق إذا عفا الطرف الآخر -الزوجة- عن النصف، وكذلك إذا طلقها قبل الدخول وقد سمى لها مهراً، فدلت الآيات على أن الصداق ملك للزوجة وحق لها، وأنه يتقرر كله بالدخول، وكذا بالموت لتمام وقته، فلو أنه كان موظفاً في شركة فعقد على امرأة ولم يدخل بها، ثم مات في حادث سيارة -مثلاً- فإن للمرأة الإرث من زوجها بلا شك، وعليها العدة لأجل الميثاق الغليظ المؤكد وهو عقد النكاح.

المعاشرة بالمعروف

المعاشرة بالمعروف وقد أمر تعالى كلاً من الزوجين أن يعاشر الآخر بالمعروف؛ من الصحبة الجميلة اللائقة بحالهما، وكف الأذى، وألا يماطل أحد منهما الآخر بحقه، ولا يتكره لبذله، ويدخل في المعاشرة بالمعروف أن النفقة والكسوة والمسكن وتوابع ذلك راجع إلى العرف إذا اختلفا في تقديره وتحديده، وأنه تابع ليسر الزوج وعسره؛ لأن الله قال: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7]، وقد أرشد الله وحث على الصبر على الزوجات ولو كرهها الزوج، فقد يبدل الله الكراهة محبةً، وقد تتبدل طباعها، أو يرزق منها أولاداً صالحين بررة يكون فيهم خيرٌ كثير. وقوله عز وجل: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً} [النساء:20] يدل على جواز كثرة المهر مع أن الأولى السهولة فيه؛ لأن (خير النساء أسهلن مئونة) كما جاء في الحديث الصحيح، لكن قد يسهل على الغني دفع مهر لا يسهل على الفقير فعله ودفعه.

حرمة نكاح المسلم للكافرة أو الكافر للمسلمة

حرمة نكاح المسلم للكافرة أو الكافر للمسلمة وقد بين سبحانه وتعالى حرمة نكاح المسلم للكافرة والإمساك بعصمتها إلا المحصنات من أهل الكتاب وهن العفيفات، وحرم إنكاح المسلمة للكافر، ومنه المستهزئ بالدين أو الذي يسب الله ورسوله ودين الإسلام، أو الذي يستهزئ بشرع الله تعالى، أو الذي يترك الصلاة تركاً بالكلية لا يركعها أبداً فهؤلاء كفرة لا يجوز لك يا مسلم أن تزوج ابنتك من واحد منهم، وينبغي أن تتقي الله في البحث عن حاله، ونحن مقدمون على موسم زواج في الإجازات، فينبغي إتمام البحث والتقصي حتى لا تسلم امرأةً مسلمةً مصلية لرجل كافر مرتد لا يصلي، أو أنه إنسان خارج عن الدين بأحد المكفرات التي سبق بيانها في خطبةٍ ماضية.

حكم الزواج من الزاني والزانية

حكم الزواج من الزاني والزانية ولما شاع الفساد وانتشر بين الناس، وأدت هذه المفسدات الكثيرة في الجو والأرض إلى انتشار الرذيلة والفاحشة فيما بينهم، حتى كثر السؤال عن الحمل من الزنا وما يفعل به، وهذه من الورطات العظيمة التي تؤدي إليها المعصية، ثم قام الكلام والهمس في كثير من المجالس الخاصة في قضية هذه الفتاة التي فقدت عذريتها بسبب هذه العلاقة من رجل قابلها في السوق أو على باب المدرسة أو على باب الكلية، أو أخذها من مكان واعدها فيه ونحو ذلك، صارت هذه القضية مما كثر الكلام حوله؛ ولذلك فليعلم الجميع بأن الله سبحانه وتعالى قد حرم نكاح الزانية حتى تتوب، وحرم نكاح الزاني حتى يتوب، فلا يجوز للزاني أن يتزوج امرأةً مسلمة عفيفة، ولا يجوز للزانية كذلك أن تزوج بمسلم عفيف، ولا يجوز للزاني أن يتزوج زانية حتى يتوب كل واحد منهما، لا بد أن يتوب الأطراف أولاً، وثانياً: لا بد أن يتأكد من براءة الرحم وأنه ليس فيها جنين حتى لو كان منه؛ لأن ما كان من الزاني قبل الزواج لا يجوز أن ينسب إليه، بل ينسب إلى أمه. وهؤلاء في هذه الحالات يتحدثون عن ستر الفضيحة بسرعة العقد عليها، ولما تتبين براءة الرحم، وليعلم المسلمون بأن الله لما حرم شيئاً علم سبحانه وتعالى أن فيه من الأضرار الأمور الكثيرة، وهذا واحد منها، فهذه العلاقات المحرمة خربت بيوتاً، وشوهت سمعةً، ونشرت رذيلةً، وأفقدت عذريةً، وأنجبت للحرام أولاداً، وهكذا صارت الفضيحة بسبب الفاحشة وشيوعها، والسبب: عدم الخوف من الله، والتساهل مع البنات في خروجهن وعدم متابعة أولياء الأمور، وهذه القضية التي صارت باجتراء هؤلاء الفسقة من الشباب على حدود الله، وانتهاك الحرمات؛ حتى لربما ضاعت الغيرة على أخته من كثرة ما ولغ في الحرام!

حكم زواج الهبة لغير النبي صلى الله عليه وسلم

حكم زواج الهبة لغير النبي صلى الله عليه وسلم عباد الله: لقد حرم الله النكاح لطرفي الزنا حتى التوبة، وكذلك فإنه سبحانه وتعالى بين أن الهبة خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، كما في قوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:50]، فهذا صريح على أنه ليس للمؤمنين أن ينكحوا إلا بمهر مسمى أو مفروض بعد ذلك، ولذلك فإن فعل بعض الزانيات في بعض الجامعات عندما تهب نفسها لرجل أو طالب جامعي وتقول: وهبت نفسي لك على نكاح الهبة ليعلم أن ذلك عقد باطل، ونكاح باطل ليس في شرع الله أبداً، بل هو زناً محرم. وكذلك فإنه لا بد من موافقة الولي، وهذا العقد الذي يكون من طرفه بقوله: زوجتك. ففعل هذه الزانية عندما تقول: وهبت نفسي لك، ونحو ذلك من الكلام التافه الذي لا يغني ولا يقام له وزن في هذه الشريعة، كل هذا -أيها الإخوة- من تسويلات الشيطان، ورغبة بعض الناس -بزعمهم- في العثور على القضية بسهولة، وقضاء الشهوة والوطر ولم يعقدوا عقداً شرعياً، ولذلك فإن هذا النكاح باطل كما يسمونه في بعض الأماكن "نكاح الهبة" ونكاح الشغار -أيضاً- بأن يزوج كل واحد لآخر موليته، ومهر كل واحدة بضع الأخرى. إذاً: لا يجوز أن تكون هذه مقابل هذه، ولا أن تكون هذه شرطاً لهذه، وإنما لكل واحدة مهر مستقل، وعقد مستقل، وزواج مستقل وهكذا.

حكم زواج الرجل امرأة تبقى في بيتها

حكم زواج الرجل امرأة تبقى في بيتها ثم إن بعض الناس يتساءل عن حكم أن يتزوج امرأةً تبقى في بيتها أو في بيت أهلها يأتيها متى شاء، فنقول: الجواب على هذا: متى تم الزواج والنكاح بالشرط الشرعي بالإيجاب والقبول من ولي الزوجة مع الزوج مع الشاهدين، وعقد هذا النكاح وأشهد عليه وأشهر فإنه نكاح صحيح، وتنازل المرأة عن النفقة أو عن السكن أو عن ليلتها هو أمر يعود إليها، فلو أنها تنازلت عنه أو عن بعضه فهو أمر يعود إليها، ولا يبطل النكاح ولا يؤثر في صحته إذا تنازلت عن مسكن أو عن ليلة من الليالي، إذا كان الرجل متزوجاً بأخرى فرضيت أن يأتيها مرةً أو مرتين في الأسبوع مثلاً، فإن هذا لا يبطل النكاح ولا يؤثر في صحته، فهي صاحبة الحق، وهي التي رضيت بأن يعطيها بعض الحق، ولذلك يبقى النكاح صحيحاً. أما نجاحه وفشله فهذه قضية أخرى، فقد يكون اجتماعياً يكثر فيه الفشل، أما بالنسبة للحل والحرمة في عقد النكاح فإذا استوفى شروط العقد الشرعي فإنه نكاح صحيح.

تمتيع الزوجة المطلقة

تمتيع الزوجة المطلقة وقد ذكر الله في كتابه أنه لو تزوجها ولم يفرض لها صداقاً ثم طلقها قبل المساس بها أن لها المتعة على الموسع قدره وعلى المقتر قدره؛ أن يمتعها وجوباً إذا لم يسم لها صداقاً وطلقها قبل المساس بها، يمتعها ويعطيها مالاً على حسب حاله. وأما تمتيع الزوجة المطلقة في غير هذه المسألة فإنه سنة مؤكدة، لكل إنسان مسلم زوج إذا طلق زوجته أن يعطيها غير المهر متاعاً، قال الله تعالى عن هذه السنة المهجورة من كثير من المطلقين، بل لا تجد في المطلقين من يطبق هذه السنة إلا القليل جداً والنادر، قال الله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة:241]، {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ} [البقرة:241] حتى التي دخل بها، حتى لو بقيت عنده عشرين سنة {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة:241]، فمع أنه أوفاها مهرها في الأول وأعطاها نفقتها كاملة طيلة عشرين عاماً، ثم طلقها فإن التمتيع بالمعروف هو سنة مؤكدة جداً؛ لأن الله قال: {حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة:180]، فإذا كنت تقياً يا أيها المطلِّق فلا تنس أن تعطيها مما أعطاك الله في وداعها بعد الطلاق، وأن تقدم لها ما يجبر خاطرها الذي انكسر بالطلاق. هذا المتاع وهذا التمتيع الذي ندر من يفعله في هذا الزمان هو شيء يدل على الوفاء، ويدل على المفارقة بإحسان؛ لأن كثيراً من حالات الطلاق تنتهي بالمضاربات والمشاتمات واللعنات والمسبات بدلاً من أن تنتهي بهذا المتاع الذي ذكره الله في كتابه فقال: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة:241] فأين المتقون الذين يؤدون المتاع إذا طلقوا فترجع المرأة إلى بيت أهلها إذا طلقت وفي نفسها ما يطيبها على ذلك المطلق من جبران شيء من الكسر الذي حصل للخاطر بسبب الطلاق؟

بيان معاملة الزوجة الناشز

بيان معاملة الزوجة الناشز أيها المسلمون: شرعنا -والحمد لله- شرع شامل كامل، فيه مراعاة للنفوس والخواطر، وفيه إرضاء ومراضاة، ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى أباح أن يأخذ الرجل من مهر الزوجة إذا رضيت، وأن تسقط المرأة من المهر إذا رضيت، فقال تعالى: {إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:232]، دليل على اعتبار رضا الزوجين، وأن ذلك التراضي مقيد بالمعروف {إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:232] وقد أمر الله الزوج إذا نشزت زوجته بإجراءين: الأول: إجراء على ثلاث مراحل: أن يعظها، ويهجرها في المضجع، فإن لم تعتدل ضربها ضرباً غير مبرح، يجتنب الوجه ولا يجرح ولا يكسر عظماً. والإجراء الثاني: إذا خيف الشقاق بينهما، وخيف ألا تقبل الحالة الالتئام ولو بهذه الإجراءات الثلاثة السابقة والخطوات الثلاث والدرجات الثلاث السابقة إذا خيف ألا تقبل الحال الالتئام أن يجتمع حكمان: واحد من أهل الزوج وواحد من أهل الزوجة، فينظران في الاجتماع بينهما، إن أمكن بطريقة من الطرق إما ببذل عوض، أو إسقاط حق من الحقوق، أو بغير ذلك، فلا يعدلا عن ذلك، ولكن إذا تبين أنه لا يمكن الاستمرار في الحياة الزوجية، فلهما التفريق بينهما بخلع من الزوجة أو بتطليق من الزوج، بحسب ما يقتضيه الحال، وما يقتضيه العدل والتجرد والإنصاف من النظر من قبل هذين الحكمين. اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من الوقافين عند حدودك، المطبقين لشرعك، اللهم اجعلنا ممن أحل الحلال وحرم الحرام إنك سميع مجيب، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم أوسعوا لإخوانكم يوسع الله لكم.

صراع مع الشهوات [1 - 2]

صراع مع الشهوات [1 - 2] الشهوة والشبهة هما طريقا جهنم، وفي هذه المادة تحدث الشيخ عن الشهوة وخطرها، فذكر أولاً العقوبات المترتبة على الشهوة المحرمة؛ من بعد عن الله، وسوء الخاتمة إلخ. ثم بيَّن أن هناك قواعد وطرقاً لمواجهة الشهوة المحرمة، مع الاستدلال من القرآن والسنة على ذلك، ثم انتقل إلى ذكر نماذج لأهل العفة ونماذج لأهل الفجور ومصير الفريقين.

تحذير من خطورة الشهوة

تحذير من خطورة الشهوة الحمد لله، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله، وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد: أيها الإخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وحيا الله هذه الوجوه وحرمها على النار، ونضرها بالنظر إلى المليك الغفار، في جنة المأوى ودار الأبرار، حياتنا فتن ومجاهدة وشهوات ومعركة، ميدان الشهوات كبير والصراع فيه خطير، إنها معركة الإنسان مع غريزته المستترة في أغوار نفسه، والهالكون في أغوار هذه المعركة من البشر كثير، والناجون قليل قليل، يجتمع للمنتصر في معركته إقامة المروءة صون العرض وحفظ الجاه راحة البدن قوة القلب طيب النفس إقامة الفؤاد على الدين انشراح الصدر قلة الهم والغم والحُزن عز المكانة نضرة الوجه مهابة في قلوب العباد زوال الوحشة قرب الملائكة بعد الشياطين ذوق حلاوة الطاعة طعم حلاوة الإيمان زيادة في العقل والفهم وهكذا فضائل الدنيا وعظيم فضائل الآخرة. لقد حذرنا سلفنا من خطورة الشهوة، قال يحيى بن معاذ: "من أرضى الجوارح باللذات فقد غرس لنفسه شجر الندامات". وقال عبد الصمد: "من لم يعلم أن الشهوات فخوخ فهو لعاب". وقال ابن القيم رحمه الله: ولما كانت طريق الآخرة وعرة على أكثر الخلق لمخالفتها لشهواتهم، ومباينتها لإراداتهم ومألوفاتهم؛ قل سالكوها، وزهدهم فيها قلة علمهم، وما هيئوا له وما هيئ لهم فقل علمهم بذلك، واستلانوا مركب الشهوة والهوى على مركب الإخلاص والتقوى، وتوعرت عليهم الطريق، وبعدت عليهم الشقة، وصعب عليهم مرتقى عقباتها وهبوط أوديتها وسلوك شعابها، فأخلدوا إلى الدعة والراحة، وآثروا العاجل على الآجل، وقالوا: عيشنا اليوم نقد وموعودنا نسيئة، فنظروا إلى عاجل الدنيا وأغمضوا العيون عن آجالها، ووقفوا مع ظاهرها ولم يتأملوا باطنها، ذاقوا حلاوة مبادئها وغاب عنهم مرارة عواقبها، اشتغلوا عن التفكر وقال مغترهم بالله وجاحدهم لعظمته: خذ ما تراه ودع شيئاً سمعت به. وقد حذرنا الله تعالى من خطر الشهوات، فقال: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ} [آل عمران:14] الآية، وقال عليه الصلاة والسلام: (ما تركت بعدي فتنةً أضر على الرجال من النساء) وقال: (اتقوا النساء فإن فتنة بني إسرائيل كانت في النساء). وهنا يأتي السؤال ويقول: لماذا خلقت الشهوة أصلاً؟ ما هي الحكمة من وجودها؟ قال شيخ الإسلام ابن تيمية مجيباً: إن الله خلق فينا الشهوات واللذات لنستعين بها على كمال مصالحنا، فخلق فينا شهوة الأكل واللذة به، فإن ذلك في نفسه نعمة، وبه يحصل بقاء جسومنا في الدنيا، وكذلك شهوة النكاح واللذة به هو في نفسه نعمة، وبه يحصل بقاء النسل، فإذا استعين بهذه القوى على ما أمرنا كان ذلك سعادة لنا في الدنيا والآخرة، وكنا من الذين أنعم الله عليهم نعمةً مطلقة، وإن استعملنا الشهوات فيما حظره علينا بأكل الخبائث في نفسها، أو كسبها كالمظالم، أو بالإسراف فيها، أو تعدينا أزواجنا أو ما ملكت أيماننا؛ كنا ظالمين معتدين غير شاكرين لنعمته. قال تلميذه ابن القيم: اقتضت حكمة اللطيف الخبير أن جعل فيها -أي: في النفس- بواعث ومستحثات تؤزه أزاً إلى ما فيه قوامه وبقاؤه ومصلحته، فلو لم يوجد شهوة هل كان هناك زواج وأولاد وبقاء النسل البشري؟ وقال مذكراً ليتأمل المسلم كيف جمع الله -سبحانه وتعالى- بين الذكر والأنثى وألقى المحبة بينهما، وكيف قادهما بسلسلة الشهوة والمحبة إلى الاجتماع الذي هو سبب تخليق الولد وتكوينه قال: جعل الله فينا أمرين: الشهوة والعقل، الشهوة لهذه الحكم، والعقل ليتحكم في الشهوة، ويصرفها فيما أراد الله.

الوعيد لمن صرف الشهوة في الحرام

الوعيد لمن صرف الشهوة في الحرام إذاً: الشهوة نعمة أنعم الله بها على المخلوق، وهي ابتلاء يبتلي الله بها عباده لينظر أيطيعونه أو يطيعون الشهوة، وإنما المحظور صرف الشهوة في الحرام ما هو الوعيد على صرف الشهوة في الحرام؟ ما هي الأشياء التي تجعل الإنسان يخاف من الحرام؟ لقد توعد الله تعالى أهل الفجور والفساد بالعذاب الشديد يوم القيامة، فقال: {وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً} [الفرقان:68]، وقبل هذا العذاب في النار يتعرض الزناة والزواني للعذاب في القبر، ويحدثنا صلى الله عليه وسلم عن شيء مما يعذب به هؤلاء في قبورهم: (فقال لي الملكان: انطلق انطلق؛ فانطلقنا فأتينا على مثل التنور أعلاه ضيق وأسفله واسع، فإذا فيه لغط وأصوات، فاطلعنا فيه فإذا فيه رجال ونساء عراة، وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم -من مكان الجريمة، أين مكان الجريمة؟ الأعضاء التناسلية، أين هي؟ تحت، من أين يأتيهم؟ من تحت- فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضوا -أي: صاحوا- وارتفعوا حتى كادوا أن يخرجوا، فإذا خمدت رجعوا فيها، فقلت له: وما هؤلاء؟ قال: أما الرجال والنساء العراة الذين في مثل بناء التنور فإنهم الزناة والزواني) هذا بعض ما يتعرض له الزناة من العقوبة، فمن يطيق ذلك؟! وليعلم الشباب والفتيات الذين لم يصلوا إلى ممارسة الفاحشة أن المقدمات من النظر والكلام واللمس هي الخطوات الأولى في طريق الفاحشة، وأن الجرأة عليها تقود إلى ما بعدها تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها من الحرام ويبقى الوزر والعار تبقى عواقب سوء في مغبتها لا خير في لذة من بعدها النار كل شهوة تستدعي ما دونها حتى يهلك الإنسان، لقد أقسم الشيطان أمام الله تعالى أن يسعى لإغواء عباده جاهداً في ذلك، قال تعالى عنه: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:16 - 17] إنه يسعى بكل وسيلة لإضلالنا وإغوائنا وإيقاعنا في الصغائر والكبائر. لقد أخبرنا الله عن الذين فروا في أحد أنه استزلهم الشيطان، قال تعالى: {إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ} [آل عمران:155] وهكذا الذين يسقطون في فخاخ الشهوة إنما استزلهم الشيطان، يستدرجك لإيقاعك في الصغيرة نظرة كلمة مغازلة ثم يقول بعد ذلك لك: استمر، ثم تقع الخسارة الكبرى ويقع الانحراف.

سوء الخاتمة من عقوبات الشهوة المحرمة

سوء الخاتمة من عقوبات الشهوة المحرمة من عقوبة الشهوات المحرمة: سوء الخاتمة، قال صلى الله عليه وسلم: (فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها). كان السلف يخشون سوء الخاتمة، بكى سفيان الثوري ليلةً إلى الصباح، فقيل له: أكل هذا خوفاً من الذنوب؟ قال: [الذنوب أهون! إنما أبكي خوفاً من الخاتمة] إن التعلق بالشهوات واستيلاؤها على القلب من أكبر أسباب سوء الخاتمة؛ فإن هذه الأشياء التي تشغل بال الإنسان من الحرام، وانشغاله بها وانهماكه، إذا نزل به الموت سيطفو على السطح، وسيظهر على لسانه، وحين تخونه قواه وتخور يطفو ما كان مخبأً من هذه الشهوات المحرمة. يروى أن رجلاً عشق فتى واشتد كلفه به، وتمكن حبه من قلبه حتى مرض ولازم الفراش بسببه، حتى أوشك على الهلاك، وأراد أن يراه فلم يستطع، فأسقط في يده وانتكس، وبدت عليه علامات الموت، فجعل يقول والموت نازل به: أسلم يا راحة العليل ويا شفاء المدنفِ النحيل رضاك أشهى إلى فؤادي من رحمة الخالق الجليل فقيل له: يا فلان! اتق الله. قال: قد كان. فما أن جاوز باب داره حتى سمعوا صيحة الموت. وآخر كان واقفاً بإزاء داره، فمرت به فتاة لها منظر جميل، فقالت: أين الطريق إلى حمام منجاب؟ وكانوا من قديم يغتسلون في الحمامات العامة، فأغواه الشيطان فقال: هذا حمام منجاب، وأشار إلى باب داره، فدخلت المسكينة وهي لا تدري ما الأمر، فأغلق الباب فأسقط في يدها، لكنها كانت ذكية، فأظهرت البشر والسرور، وقالت: يصلح أن يكون معنا ما يطيب عيشنا من طعام، فخرج وترك الدار ولم يغلقها فهربت بذكائها وحسن تدبيرها، وهكذا الفتاة لو تآمروا عليها فهي صالحة وإيمانها يدفعها للنجاة، فلما رجع ووجدها قد هربت هام وأكثر الذكر لها، وجعل يمشي في الطريق كالمجنون، ويقول: يا رب قائلة يوماً وقد تعبت أين الطريق إلى حمام منجاب فبينما هو يوماً على ذلك إذ سمع صوتاً يقول له: هلا جعلت سريعاً إذ ظفرت بها حرزاً على الدار أو قفلاً على الباب فازداد هيامه حتى حضرته الوفاة، فكان آخر كلامه من الدنيا: يا رب قائلة يوماً وقد تعبت أين الطريق إلى حمام منجاب ولم ينطق بالشهادة، حمانا الله من مثل هذا المصير!

الشهوة المحرمة سبب في إخراج العبد من محبة الله

الشهوة المحرمة سبب في إخراج العبد من محبة الله إن هذه الشهوات المحرمة تخرج العبد من محبة الله، وتخرج محبة الله من قلب هذا الضال، والضدان لا يجتمعان: محبة الشهوات ومحبة الرحمن، فإذا امتلأ القلب من محبة الشهوات فماذا يبقى له نصيب من محبة الرحمن؟ إنه خيار واحد، حدد مصيرك واختر طريقك، وإذا أردت محبة الله ولذة الإيمان فلن تحصل إلا بطرد نصيب الشيطان. إن الذين تستغرقهم الشهوات المحرمة ويتحولون إلى عبيد لها تأمرهم فيطيعون، وتنهاهم فيخضعون، وإذا رأى الواحد هذه المرأة التي هام بها وأحبها يفعل مثلما فعل ذلك الذي أحب عزة فقال فيها شركاً وكفراً: رهبان مدين والذين عهدتهم يبكون من حذر العقاب قعوداً لو يسمعون كما سمعت حديثها خروا لـ عزة ركعاً وسجوداً نعوذ بالله من الخذلان! قال ابن القيم رحمه الله في حال هؤلاء: فلو خُيِّر بين رضاه -رضا المعشوق- ورضا الله لاختار رضا المعشوق على رضا ربه، ولقاء معشوقه أحب إليه من لقاء ربه، وتمنيه لقربه أعظم من تمنيه لقرب ربه، يسخط ربه بمرضاة معشوقه، ويقدم مصالح معشوقه وحوائجه على طاعة ربه يجود لمعشوقه بكل نفيسة ونفيس، ويجعل لربه من ماله إن جعل له كل رذيلة وخسيس، فلمعشوقه لبه وقلبه وهمه ووقته، وخالص ماله، وربه على الفضلة إذا زاد شيء. قد اتخذه وراءه ظهرياً، وصار لذكره نسياً إن قام في الصلاة فلسانه يناجيه وقلبه يناجي معشوقه، ووجه بدنه إلى القبلة ووجه قلبه إلى المعشوق، ينفر من خدمة ربه حتى كأنه واقف في الصلاة على الجمر من ثقلها عليه، فإذا جاءت خدمة المعشوق أقبل عليها بقلبه وبدنه وفرح بها، خفيفةً لا يستثقلها ولا يستطيلها، ولو نظرت في أشعار العاشقين والعاشقات وما يغني به المغنون والمغنيات لترى الأدلة على ذلك، اقرأ ما يكتبه هؤلاء من الأبيات والعبارات، وتأمل واعتبر بما يصنع الشيطان في أهل العشق والشهوة المحرمة هل يستحق هذا الهوى والغرام أن تختصر فيه الحياة كلها؟

العقوبات الدنيوية لأهل الشهوة المحرمة

العقوبات الدنيوية لأهل الشهوة المحرمة مخاطر الأمراض والأوجاع في الدنيا إن من سنة الله تعالى -أيها الإخوة والأخوات- معاقبة من عصاه في الدنيا قبل الآخرة، ولمن يأتون الفواحش عقوبة من النوع الخاص، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا) حديث صحيح وقد تحققت هذه السنة الربانية في عصر الفحش والفجور الذي نعيش فيه، فهؤلاء مصابون بالزهري والسيلان، ثم بالأخطر من ذلك بالهربز والإيدز، أعاذنا الله من هذا! يبلغ الذين ينقل إليهم مرض الإيدز يومياً على مستوى العالم عشرة آلاف، في كل دقيقة يصاب ستة دون سن الخامسة بالمرض، وفي عام ألفين لقي ما يقارب ثلاثة ملايين شخص من حاملي المرض مصرعهم، وتسبب الإيدز في إضافة ثلاثة عشر مليوناً ومائتي ألف طفل إلى قائمة الأيتام، وعدد الذين أصيبوا به في عام ألفين أكثر من أربعة وثلاثين مليون شخص، أما الآن فقد وصلوا إلى خمسين مليوناً من الأشخاص، ثلثهم من الشباب بين الخامسة عشرة والرابعة والعشرين بقي أن تعلم أن ثلاثةً (73%) من هؤلاء من الذين يعملون عمل قوم لوط! وها هو أحد المصابين به وهو السينمائي الأمريكي روك هيدسون، يقول على فراش مرض الإيدز، فراش الموت: أنا في انتظار القدر، إنه يدق بابي، أستمع إلى صوته من أعماقي، لم أكن أود أن أتعذب هكذا وأنا في هذا المرض سرطان العصر، ورغم ابتسامات الكثيرين وتهنئتي بالتماثل للشفاء، ومحاولاتهم رفع معنوياتي، إلا أنني على موعد مع القدر، إنه يدق بابي في اللحظات الأخيرة. وها هو أحد الشباب الذي كان يعاشر أحد الفتيات بالحرام خارج البلاد، لما أراد أن يعود وجد ورقةً قد كتب عليها: مرحباً بك عضواً في نادي الإيدز. فضاق عليه الأمر وصعق، يعودون من الإجازات فيعانون الأوجاع والالتهابات، فيعملون التحليلات ويكتشفون النتائج الفاجعات؛ فيعتزلهم الناس أشد من اعتزال الأجرب، نعوذ بالله من هذا المسلك وهذا المصير!

الجزاء من جنس العمل

الجزاء من جنس العمل من عقوبة الشهوات المحرمة والولوغ فيها: أن الجزاء من جنس العمل، وهذه قاعدة شرعية وسنة ربانية لا تتخلف أن يجزي الله العامل من جنس عمله، انظر إلى من يطلق العنان لشهوته دون وازع أو ضابط، أتظنه يسلم؟ لا، فجزء يسير من عقوبته أن يدخل في هذه القاعدة، كما قال الشافعي: عفوا تعف نساؤكم في المحرم وتجنبوا ما لا يليق بمسلم إن الزنا دين فإن أقرضته كان الوفا من أهل بيتك فاعلم من يزن يزنَ به ولو بجداره إن كنت يا هذا لبيباً فافهم وفي رواية: يا هاتكاً حرم الرجال وقاطعاً سبل المودة عشت غير مكرمِ لو كنت حراً من سلالة ماجدٍ ما كنت هتاكاً لحرمة مسلمِ من يزن يزن به ولو بجداره إن كنت يا هذا لبيباً فافهمِ إذاً: من يتجرأ على انتهاك عرض الآخرين معرض أن يرى ذلك في ابنته أو أخته، ومن لا يبالي بمحارم الله قد تخونه زوجته، ومن تتجرأ على ذلك معرضة أن تراه في بناتها ونسلها جنبنا الله كل مكروه! فحافظ أخي وحافظي أختي على هذا العرض، واعلموا أنه قد يجازى الإنسان من جنس عمله فيقع لأهله ما أوقعه بالناس.

من مضار الزنا

من مضار الزنا أما قبح الفاحشة وخطرها وعظيم ضررها فقد قال ابن القيم رحمه الله في فصل جامع لمضار الزنا: والزنا يجمع الشر كله؛ من قلة الدين، وذهاب الورع، وفساد المروءة، وقلة الغيرة، فلا تكاد تجد زانياً معه ورع، ولا وفاء بعهد، ولا صدق في حديث، ولا محافظة على صديق، ولا غيرة على الأهل، فالغدر والكذب والخيانة وقلة الحياء وعدم المراقبة وعدم الأنفة للحرام، وذهاب الغيرة من القلب من شعبه وموجباته. ومن موجباته غضب الرب بإفساد حرمه وعياله، ولو تعرض رجل إلى ملك من الملوك بهذا لقابله أسوأ مقابلة. ومنها: سواد الوجه وظلمته، وما يعلوه من الكآبة والمقت الذي يبدو عليه للناظرين. ومنها: ظلمة القلب وطمس نوره، فتذهب حرمة الفاعل، وتسلب أحسن الأسماء من أسماء العفة والبر والعدالة، ويتصف بعكسها كاسم الفاجر، والفاسق، والزاني، والخائن، يسلب اسم المؤمن (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، فإذا زنا العبد خرج من الإيمان ولم يخرج خروجاً كلياً إلا بالكفر، ويعرض نفسه لسكنى التنور، يفارق الوصف الطيب {والطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ} [النور:26] ويلزمه الوصف الخبيث {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} [النور:26]، وقد حرم الله على الجنة كل خبيث، وجعلها مأوى الطيبين، فقال: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ} [النحل:32] {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر:73] والزناة من أخبث الخلق، وقد جعل الله جهنم دار الخبثاء، ويوم القيامة يميز الخبيث من الطيب، ويجعل الخبيث بعضه فوق بعض فيركمه في جهنم. ومن عقوبات الزاني والزانية: الوحشة التي يجعلها الله في هذه القلوب الموحشة، فتعلو الوجه، ويزول الأنس هذه الوحشة التي يراها حتى أقرب الناس إليه تفوح رائحة الزنا منه ضيق الصدر وما يحصل له من الغم والهم بسبب هذه المعصية معذب يقول: في بطنها، في أحشائها ولد مني، ما هو واجبي؟ ماذا علي؟ هل علي نفقته؟ هل علي تربيته؟ هل علي أن أضيفه لاسمي؟ ماذا أفعل؟ لقد تورطت، ويعرض نفسه لفوات الاستمتاع بالحور العين في المساكن الطيبة في جنات عدن، وإذا كان الله يعاقب لابس الحرير في الدنيا بأن يحرمه منه في الآخرة، وشارب الخمر في الدنيا بأن يحرمه منه في الآخرة إلا إذا تاب، وكذلك الزاني معرض للحرمان من الحور العين. هذا الزنا يجرئ على قطيعة الرحم وعقوق الوالدين، وكسب الحرام، وظلم الخلق، وإضاعة العيال هناك أناس ضيعوا الزوجات والأولاد بسبب السفر إلى أماكن الحرام، زوجته تستغيث وتقول: هل يجب علي أن أطلب الطلاق؟ هل يجوز لي الفراق؟ لم أعد أتحمل أأسكن؟ أأعاشر شخصاً في الفراش وأنا لا أعلم هل ينقل إلي مرضاً في هذا الوقاع أم لا؟ ما حال أولادي؟ هل انتقل إليهم المرض أم لا؟ وهكذا يكون العذاب {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الأنفال:53].

الإباحية في أمريكا

الإباحية في أمريكا أيها الإخوة نحن الآن في عصر الشهوات، نحن الآن في عصر تفجر الشهوات، نحن الآن في عصر الإباحية، الحياة الغربية التي طغت في هذا الزمان، تجارة الدعارة والإباحية في أمريكا رائجة جداً ثمانية مليار دولار لها أواصر قوية تربطها بالجريمة المنظمة، تجارة الدعارة بالكتب والمجلات، وأشرطة الفيديو، والقنوات الفضائية، ومواقع الإنترنت، والنوادي الليلية، وغير ذلك، تجارة الدعارة ثالث أكبر مصدر للجريمة في أمريكا، في الوقت الحاضر يوجد أكثر من تسعمائة دار سينما متخصصة للأفلام الإباحية، وأكثر من خمسة عشر ألف مكتبة ومحل فيديو تتاجر بالأفلام والمجلات الإباحية. بعد القمار والمخدرات الفاحشة، أماكن الحرام في أمريكا أكثر من مطاعم ماكتونلد بثلاثة أضعاف، كانوا فيما مضى يحاربونها بالقوانين، لكن نجحت الاستديوهات في تخفيف المراقبة على الأفلام وتغيير مفاهيم الإباحية؛ حتى صارت كثيرٌ من الأفلام التي كانت تحت بند " X" قد أعيد تقويمها اليوم لتصبح تحت بند " R" الأخف؛ وبذلك تعرض على الكبار والصغار، وإلغاء قانون العفة في الاتصالات مما نجحوا به أولياء الشهوات هناك؛ فزالت كثير من القيود القانونية. أمريكا أول دولة في العالم في إنتاج المواد الإباحية، تصدر سنوياً مائة وخمسين مجلة إباحية بثمانية آلاف عدد، تجارة تأجير الأفلام زادت من خمسة وسبعين مليون دولار في عام (1985م) إلى ستمائة وخمسة وستين مليون دولار في عام (1996م)! هؤلاء الناس الذين اتبعوا الشهوات وأرادوا نشرها في العالم، وترسل هذه المغلفات بألوان معينة -بزعمهم- للحماية، أنشئت هذه المواقع العجيبة، حتى أن إحدى شركات الإباحية تدعي أن أربعة ملايين وسبعمائة ألف زائر يزور موقعهم أسبوعياً!! قامت بعض الشركات بدراسة عدد الزوار في صفحات الدعارة والإباحية في الإنترنت، ففي شركة " ويب سايد ستوري" بعض هذه الصفحات يزورها مائتان وثمانون ألفاً وأربعمائة وثلاثون زائراً في اليوم الواحد حسب إحصائيات هذه الشركة المسئولة عن الإحصائيات، وهناك أكثر من مائة صفحة مشابهة تستقبل كل صفحة أكثر من عشرين ألف زائر يومياً، وأكثر من ألفي صفحة مشابهة تستقبل أكثر من ألف وأربعمائة زائر يومياً. هناك أحد المواقع استقبلت خلال سنتين ثلاثةً وأربعين مليوناً وستمائة وثلاثة عشر ألفاً وخمسمائة زائر، وواحدة من هذه الجهات تزعم أن لديها أكثر من ثلاثمائة ألف صورة خليعة تم توزيعها على الشبكة أكثر من مليار مرة، وقام باحثون في جامعة "كارنيجي ميلُن" بإجراء دراسة إحصائية على تسعمائة وسبع عشرة ألف وأربعمائة وعشر صور من الصور استرجعت ثمانية ونصف مليون مرة من ألفي مدينة في أربعين دولة، نصف الصور المستعادة هي صور إباحية، ثلاثة (83%) من الصور المتداولة في المجموعات الإخبارية "نيوز جروبز" في الإنترنت صور إباحية، مؤسسة "زوجبي" في مارس عام (2000م) وجدت أن أكثر من (20%) من سكان أمريكا -وليس من المستخدمين في أمريكا - يزورون المواقع الإباحية. المواقع الإباحية لا تمثل إلا (1%) من عدد المواقع الكلية في الإنترنت، لكن نحو (90%) من المشتركين في الإنترنت يدخلون على هذا الـ (1%). مواقع الحرام تبدأ -كما يقولون هم- بفضول بريء، ثم تتطور إلى إدمان مع عواقب وخيمة؛ كإفساد العلاقات الزوجية وتبعات الشر، يغلقون الأبواب على أنفسهم الزوجات يشتكين من الأزواج، وتنتهي العملية بشراء الدش واقتناء القنوات الخليعة، وهذه الرسيفرات المبرمجة والمشفرة، والبطاقات، هذه القضية التي وجدت اليوم طريقاً للربح بثمانية عشر مليار دولار التجارة الإلكترونية (8%) منها دعارة تسعمائة وسبعون مليون دولار حجم التجارة يتوقع أن يرتفع إلى ثلاثة مليارات دولار في عام (2003م) حجم التجارة الإباحية على الشبكة لم يسبق في فترة من تاريخ العالم أن وصلت القضية إلى هذه الدرجة (63%) من المراهقين يرتادون صفحات وصور الدعارة ولا يدري أولياؤهم عنهم بأنهم يدخلون إليها أكثر مستخدمي المواد الإباحية تتراوح أعمارهم ما بين سن اثنتي عشرة سنة وسبع عشرة سنة! ثم يصدرون الإباحية إلينا {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور:19]، الغرب في زماننا بقيمه الفاسدة وأمراضه الخبيثة ومبادئه الذميمة لم يكتفِ بإفشاء الرذائل والمنكرات واستدعاء غضب الجبار، لكن يتمادى إلى محاولة تصدير هذه المصائب إلينا؛ ولذلك نجد جمعية مراقبة حقوق الإنسان "هيومن رايتس ووتس" تذم وتنكر أية محاولات لدول الخليج العربي لحجب الإنترنت، ويدعونها إلى الانفتاح والحرية!! أما القنوات الفضائية الإباحية التي تعرض الأفلام والأغاني الجنسية، وتعرض الدعايات الجنسية والاتصالات الهاتفية المباشرة المصورة، وما يسمى بخطوط الصداقة، والغرف الجنسية، وأفلام محاكاة الواقع بالمناظير، والغرف المظلمة، والمسارح، وحفلات الفنادق، وغرف التأجير، والشقق المفروشة، وسفن الدعارة، اليخوت الراسية على الموانئ العائمة؛ شيء هائل وشر مستطير، زد على ذلك أسطوانات الليزر المدمجة، والمجلات، وما يتبادله الطلاب في المدارس من الدسكات، وما يرسل بالبريد الإلكتروني النكت القذرة رسائل الجوال المهيجة للغرائز الكلام الفاحش لقد صار البلاء عاماً أيها الإخوة!! وما حول الشباب والصغار والكبار اليوم جنس في جنس؛ عورات مكشوفة أعمال محرمة أوحال قاذورات مستنقعات عفن قرف أشياء تدعوا أصحاب الفطر السليمة للتقيؤ والمرض والهم والغم لما آل إليه الأمر وصار إليه الحال، والله المستعان وإليه المشتكى وعليه التكلان!

قواعد الصراع والمواجهة مع الشهوات

قواعد الصراع والمواجهة مع الشهوات وهنا يأتي السؤال الكبير: كيف الخلاص من هذا الفساد الهائل والحرام الخطير والشر المستطير؟ و A إن شريعتنا وإسلامنا وديننا الحنيف فيه العلاج لكل مشكلة ومرض ومعضلة، وهذه نصوص الكتاب والسنة وأقوال أهل العلم، فتعالوا نتعرف على قواعد المواجهة، قواعد الصراع مع الشهوات، كيف نتغلب وكيف نفوز:

القاعدة الأولى: مراقبة الله تعالى

القاعدة الأولى: مراقبة الله تعالى القاعدة الأولى: {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ} [يوسف:23] إني أخاف الله. إن الإيمان بالله والخوف منه صمام الأمان العاصم للعبد من مواقعة الحرام والانسياق وراء الشهوات {مَعَاذَ اللَّه} [يوسف:23] قالها يوسف عليه السلام فأعاذه الله وصرف عنه الكيد إني أخاف الله، يقولها الذين يستظلون بظل العرش في يومٍ لا ظل إلا ظل الرحمن (ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله) قال الحافظ ابن حجر: والظاهر أنه يقول ذلك بلسانه؛ إما ليزجرها عن الفاحشة، أو ليعتذر إليها ويقيم الحجة، ويحتمل أن يقولها بقلبه. وقال القرطبي: إنما يصدر ذلك عن شدة خوفٍ من الله تعالى ومتين تقوى وحياء، ولا تصدر مثل هذه الكلمة وما كان من جنسها: {مَعَاذَ اللَّه} [يوسف:23] في ذلك الموطن إلا ممن راقب الله في سره وفي علانية أمره، وخافه في الغيب والشهادة {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ} [ق:31 - 33] أين؟ أين خشي الرحمن؟ {بِالْغَيْبِ} [ق:33] إذا غاب عن الناس {وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ} [ق:33 - 34]. فالمؤمن إذا تربى على مراقبة الله، ومطالعة أسرار أسمائه وصفاته كالعليم والسميع والبصير والرقيب والشهيد والحسيب والحفيظ والمحيط والمهيمن؛ أثمر ذلك خوفاً من الله في السر والعلانية، وانتهاءً عن المعصية، وصدوداً عن الشهوة المحرمة قال الشعبي رحمه الله في معنى "المهيمن": المطلع على خفايا الأمور وخبايا الصدور، الذي أحاط بكل شيء علماً. ويجب على العبد أن يتذكر لحظة عرض الشهوات عليه هذه النصوص التي جاءت في رقابة الله عليه، قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [البقرة:235] {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً} [الأحزاب:52] {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4] {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:14] {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19]. وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى العصيان فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني أيها المسلم: إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما تخفي عليه يغيب فالمؤمن إذا تربى على معاني هذه الآيات السابقة وعمل بمقتضاها أصبح إنساناً سوياً، ونشأ شاباً تقياً، لا تستهويه مادة ولا تستعبده شهوة، ولا يتسلط عليه الشيطان، ولا تعمل النفس الأمارة بالسوء فيه، بل يصرخ إن دعته الشهوة: إني أخاف الله، وإذا وسوس إليه الشيطان صرخ فيه: إنه ليس لك علي سلطان. وإذا زين له قرناء السوء شيئاً في هذا من الفاحشة أسكتهم بقوله: لا أبتغي الجاهلين. من فوائد قول الله عن يوسف: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً} [القصص:14] قال: إنما أعطاه ذلك إبّان غلبة الشهوة لتكون له سبباً للعصمة. إن هذا العبد المتربي على الخوف من الله جل وعلا هو الذي تؤثر فيه كلمة "اتق الله" إذا قارب الحرام يوماً وجاءت "اتق الله" أثرت ونفعت، تأمل ذلك الرجل في قصة الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة الذي قال: اللهم كانت لي ابنة عم أحب الناس إلي -لكن ما أرادته وتزوجت غيره- فأردتها عن نفسها فامتنعت مني حتى ألمت بها سنة من السنين -قحط وجوع- فجاءتني، فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها، ففعلت، حتى إذا قدرت عليها قالت: لا يحل لك -رمت بآخر سهم في جعبتها، المرأة تحت ضغط الحاجة ولا يجوز لها أن تفعل ذلك، لكن تحت ضغط الحاجة جاءت، فلما قعد بين رجليها قالت آخر شيء يمكن أن تبذله في ذلك الحال- اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه - (اتق الله) كلمة كبيرة- قال: فتحرجت من الوقوع عليها، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي، وتركت الذهب الذي أعطيتها كم أعطاها حسب الحديث؟ مائة وعشرين ديناراً، والدينار كم يبلغ غراماً من الذهب؟ أربعة وربع، مائة وعشرون في أربعة وربع يساوي قرابة نصف كيلو من الذهب، وإذا قلت: إن كيلو الذهب بحوالي أربعين ألفاً، فيكون أعطاها عشرين ألف ريال، وقام عنها وهي أحب الناس إليه وترك المال! قال: اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فأفرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة شيئاً. بسبب هذا الرجل الذي عمل هذا العمل، هذه كلمة "اتق الله" أثرت فيه، ما الذي أثر فيه؟ مراقبة الله والخوف منه (اتق الله) صار لها معنى. لا خير فيمن لا يراقب ربه عند الهوى ويخافه إيماناً حجب التقى سبل الهوى فأخو التقى يخشى إذا وافى المعاد هواناً ولذلك يقوم عن الحرام ولا يأتيه، ومتى أصلح العبد قلبه وعمره بالتقوى دخل في زمرة عباد الله المخلصين، هؤلاء يحفظهم الله {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24] والشيطان ممنوع من غوايتهم، لا تعمل فيهم حيله وتلبيساته؛ لأن الله قال عنه: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص:82 - 83] وهو الذي قال: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر:39 - 40] إذاً من أراد النجاة من مستنقع الشهوات فعليه أن يربي نفسه تربية إيمانية متكاملة يضمنها معاني التقوى والمراقبة والخوف من الله ورجاء الله ومحبته وهكذا، ثم يحاسب نفسه ويسائلها ويعاتبها، يتفقد قلبه ويفتش عمله، يستعرضه، ما نصيب الذكر من يومه؟ ما نصيب القرآن من قراءاته؟ ما نصيب الرقائق من مسموعاته؟

القاعدة الثانية: احذر خائنة الأعين

القاعدة الثانية: احذر خائنة الأعين القاعدة الثانية في مواجهة الشهوات في إدارة الصراع: احذر خائنة الأعين، قال تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19] قال ابن عباس: [هو الرجل يدخل على أهل البيت بيتهم وفيهم المرأة الحسناء أو تمر به، فإذا غفلوا لحظ إليها، وإذا فطنوا غض بصره عنها، فإذا غفلوا لحظ فإذا فطنوا غض وهكذا]. قال سفيان الثوري: [الرجل يكون في المجلس في القوم يسترق النظر إلى المرأة تمر بهم، فإذا رأوه ينظر إليها اتقاهم فلم ينظر، وإن غفلوا نظر هذه خائنة الأعين]. {وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19] قال: ما يجد في نفسه من الشهوة، قال العلامة الأمين الشنقيطي: فيه الوعيد لمن يخون بعينه بالنظر إلى ما لا يحل له، والعبد موقوف بين يدي الله، مسئول عن حواسه: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36] إنها النظرة، السهم المسموم، رائد الشهوة، النظر المحرم يثمر في القلب خواطر سيئة، وأفكاراً رديئة، تتطور لتصبح عزائم وإرادات وأعمال، وتأمل الآية كيف ربطت بين أول خطوات الحرام وآخره، ذلك في قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30] فيه ربط بين أول خطوات الحرام وهو النظر، وآخر ذلك وهو الوطء، قال ابن كثير: أمر الله عباده المؤمنين أن يغضوا من أبصارهم عنما حرم عليهم، فلا ينظروا إلا إلى ما أباح لهم النظر. مشكلتنا في النظر مشكلتنا في الصور مشكلتنا في تتبع هذه الأشياء الإدمان على النظر إلى الحرام في الأسواق في المستشفيات في المكاتب الشركات على أبواب مدارس البنات في الشاشات في المجلات وهكذا، إدمان، نظر وراء نظر، والعقل يخزن في ذاكرته الصلبة، فماذا تتوقع أن تكون المستعادات إذا فتح الجهاز؟! أيها الإخوة النظر أصل عامة الحوادث التي تصيب الإنسان، النظرة ألم ما بعده ألم كل الحوادث مبدؤها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر لا تستهن بالنظر كم نظرة فعلت في قلب صاحبها فعل السهام بين القوس والوتر والعبد ما دام ذا طرف يقلبه في أعين الغيد موقوف على الخطر يسر مقلته ما ضر مهجته لا مرحباً بسرور عاد بالضرر يورث الحسرات والزفرات والحرقات، يرى العبد ما ليس قادراً عليه ولا صابراً عنه، وهذا من أعظم العذاب وكنت متى أرسلت طرفك رائداً لقلبك يوماً أتعبتك المناظر رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر فترى المرأة المتزوجة في الشارع تسير، وتقلب فيها النظر، فيتعلق بها القلب، ولا يستطيع الانصراف عنها ولا التقدم لخطبتها لأنها مشغولة بزوج، ولذلك يسعى كثير من الفساق إلى تطليق المعشوقات من أزواجهن، وفي هذا قصص متعددة. ثم مرسل النظرات يقع صريعاً لها يا ناظراً ما أقلعت لحظاته حتى تشحق بينهن قتيلاً ومن العجب أن لحظة الناظر سهم لا يصل إلى المنظور إليه حتى يتبوأ مكاناً في قلب الناظر! يا رامياً بسهام اللحظ مجتهداً أنت القتيل بما ترمي فلا تصب وباعث الطرف يرتاد الشفاء له احبس رسولك لا يأتيك بالعطب وأعجب من ذلك أن النظرة تجرح القلب جرحاً فيتبعه جرح على جرح، ثم لا تمنعه آلام الجراحة من استدعاء تكرار النظر! ما زلت تتبع نظرة في نظرة في إثر كل مليحة ومليح وتظن ذاك دواء جرحك وهـ ـو في التحقيق تجريح على تجريح فذبحت طرفك باللحاظ وبالبكا فالقلب منك ذبيح أي ذبيح حبس اللحظات أيسر من دوام الحسرات احبس نظرك أولاً أسهل من المعاناة بعدها، وتأمل في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (زنا العين النظر، وزنا اللسان المنطق، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك كله ويكذبه) رواه البخاري تأمل التقبيح بوصف هذه النظرة للحرام بالزنا، الشارع يريد أن يكرهنا في النظرة المحرمة، فقال: (زنا العين النظر) حتى نكره النظر إلى الأشياء المحرمة، وحتى نكره النظر إلى ما حرم الله. إن حال من ينظر إلى الحرام كحال من يشرب من ماء البحر المالح، أفتراه يروى؟ لا، بل لا يزداد مع الشرب إلا عطشاً، فهو بهذا النظر لا يزيد شهوته إلا تأججاً وشدة، بعض الناس المساكين يظنون أن النظر يخفف من غلواء الشهوة، يظنون أن متابعة النظر تسكن من آلام النفس كلا والله! وكنت متى أرسلت طرفك رائداً لقلبك يوماً أتعبتك المناظر رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر يقول ابن الجوزي: فاحذر يا أخي -وقاك الله- من شر النظر، فكم قد أهلك من عابد، وفسخ عزم زاهد، فاحذر من النظر فإنه سبب الآفات، غير أن علاجه في بدايته قريب وسهل، فإذا كرر تمكن الشر فصعب العلاج. إنه كأس مسكر، فاحذر هذا السهم من سهام إبليس؛ في المجلات والجرائد ومواقع الإنترنت وخادمات في البيوت. هناك نظر يقع فجأةً، نحن الآن نعيش في مجتمع فيه كثير من التبرج والسفور، وأكثر الناس ولو حرصت ليسوا بمؤمنين، وأكثر النساء ولو حرصت لسن بمتمسكات بالحجاب، يقع النظر على الصور الواقعية الموجودة التي تمشي على الأرض، وعلى الشاشات، قال عليه الصلاة والسلام لـ جرير بن عبد الله عندما سأله عن نظر الفجأة، قال: (فأمرني أن أصرف بصري) والفجأة: البغتة، أن يقع البصر على الأجنبية من غير قصد، فلا إثم في أول الأمر، لكن يجب أن يصرفه في الحال وإلا أثم، من استدام النظر عوقب (يا علي، لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى وليست لك الآخرة) حديث صحيح والإتباع: أن يعقبها إياها، لا تجعل نظرةً بعد نظرة، الأولى ليست باختيارك، فجأةً، لكن الثانية حرام عليك، وبهذا يظهر لك فساد قول بعض الهازلين اللاعبين الذين يقولون: يجوز لك استدامة النظرة الأولى ما لم ترمش العين. وليحذر العاصي المصر على المعاصي من بطش الله وأخذه الأليم الشديد؛ لأن الذي أعطى الحواس قادر على سلبها والمعاقبة بحرمانه {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ} [الأنعام:46] فهدد بهذا، فالبصر نعمة من الرب، وينبغي على العبد أن يخشى الرب ولا يصرف هذه النعمة في الحرام، استعمل النعم في شكر المنعم. وغض البصر فيه فوائد كثيرة: امتثال أمر الرب جل وعلا يمنع وصول السهم المسموم إلى قلبك يورث قلبك أنساً بالله ولذةً لا تجدها ولا يجدها من أطلق بصره في الحرام، ويقوي القلب ويفرحه، كما أن إطلاق البصر يضعفه ويحزنه، وغض البصر يكسب البدن والقلب نوراً، كما أن إطلاق البصر يكسبه ظلمة وغض البصر يورث العبد فراسةً صادقة، ويورث القلب شجاعة، ويجمع الله لصاحبه بين سلطان البصيرة والحجة وسلطان القدرة والقوة، ويسد أبواب الشيطان، ويفرغ القلب للأفكار الصالحة، لتدبر مسائل العلم. لو أن شخصاً دائماً ينظر ويفكر، ودائماً يتصور ويتخيل، إذا رأى امرأةً في الطريق تصورها عارية، هكذا يصور له الشيطان، كيف شكلها من تحت هذا الجلباب؟ هذا كيف يفكر في مسائل العلم؟ أو كيف يدعو إلى الله؟ أو كيف يتفكر في عيوب نفسه؟ أو كيف يفكر حتى في مصالحه الدنيوية؟ هؤلاء طلاب يذاكرون في الاختبارات ويفتحون الكتب، كيف يركزون في الفصول الدراسية؟ إذا كان كل الشغل النظر وتخزين الصور في الذهن، واستعادة المناظر، قال عليه الصلاة والسلام مبيناً المنفذ بين العين والقلب، وأن الجنة لمن صدق في غض البصر (اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدوا إذا اؤتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم) حديث صحيح.

القاعدة الثالثة: مدافعة الخواطر السيئة

القاعدة الثالثة: مدافعة الخواطر السيئة القاعدة الثالثة في الصراع مع الشهوات: مدافعة الخواطر السيئة الخواطر تهجم، وليس لك حيلة في منع هجومها في البداية، إنها تتسلل تسللاً وتأتيك على حين غرة فتفاجأ، بأن عندك خاطرة محرمة، ماذا تفعل؟ إذا انساق العبد معها تطورت وصارت الخاطرة فكرة، ثم تتطور الفكرة فتصير هماً وإرادة، ثم تتطور الإرادة فتصير عزيمة، ثم تتطور العزيمة فتصير إقداماً فصارت فعلاً، فتكرر فعلها فصار عادةً وكيف التخلص من العادات؟ من أصعب الأشياء. مبدأ الخير والشر خواطر، ترتقي بعد ذلك في القلب، أول ما يطرق القلب الخاطرة، فإذا دفعها استراح، وإذا لم يدفعها قويت، وصارت وسوسة، وصار دفعها أصعب، هذه الخطرات تتردد على القلب حتى تصير مُنى باطلة {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} [النور:39] خطرات تتحول إلى إرادات محرمة تحول بينك وبين العفة بينك وبين الطاعة بينك وبين التفكر في أسماء الله وصفاته وآياته وآلائه. الخواطر رحمانية وشيطانية ونفسانية، شيء من الله؛ تفكر في آياته، وشيء من الشيطان؛ تفكر في الحرام، وشيء عادي؛ تفكر في هموم الدنيا، ولا بد من العلاج من المبدأ، ولا بد من استدراك القضية من البداية، أنت لم تعط إماتة الخواطر لكن أعطيت القدرة على المجاهدة ودفع هذه الخواطر، أنت إذا تأذيت منها وكرهتها فأنت بخير، ولكن إذا استروحت إليها، هذه هي المشكلة مع الخواطر -يا إخوان- إذا استروح العبد إليها صار ينساق معها هذه هي المشكلة، ولذلك اطردها من البداية، استعذ بالله من الشيطان، أشغل نفسك بالمفيد، فكر في الأشياء المفيدة، دافع الخطرة، دافعها! أصلح الخواطر، أقبل على الله وأخلص النية له. وهكذا؛ فإنه رأس الأمر -يا إخوان- أن الإنسان يصلح خواطره، ويجعل هذه الخواطر مع الله سبحانه وتعالى عش مع ربك مع القرآن مع سيرة نبيك صلى الله عليه وسلم، يا أخي! عش مع مآسي المسلمين في فلسطين وغير فلسطين، إذا استحييت من الله ستطرد الخواطر الرديئة، إذا أجللته وخفته وآثرت الله لن تسكن قلبك هذه الخواطر الرديئة، كل قضايا الحرام والشهوات والفواحش تبدأ بخواطر، تبدأ بأفكار فدافعها، وتأمل أن الرقيب على الخواطر هو الحي القيوم الرقيب سبحانه وتعالى.

القاعدة الرابعة: الزواج

القاعدة الرابعة: الزواج القاعدة الرابعة: (فاظفر بذات الدين تربت يداك) (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج) مئونة النكاح القدرة على الجماع القدرة على النفقة الوجاء بالصيام إذا عجز عن النكاح. هذا النكاح مأمور به، قال عليه الصلاة والسلام: (النكاح من سنتي، فمن لم يعمل بسنتي فليس مني، وتزوجوا -هذا أمر- فإني مكاثر بكم الأمم، ومن كان ذا طول فلينكح -هذا الأمر الثاني، أي: ذا قدرة- ومن لم يجد فعليه بالصيام؛ فإن الصوم له وجاء) صحيح سنن ابن ماجة. لا تتم عبادة الشاب حتى يتزوج كما قال العلماء، والزواج نصف الدين، قال عليه الصلاة والسلام: (من رزقه الله امرأةً صالحة فقد أعانه على شطر دينه، فليتق الله في الشطر الباقي) وحسنه الألباني في صحيح الترغيب. شهوة الفرج لا تتحصن إلا بالمرأة الصالحة، احرص عليها، خير متاع الدنيا على الإطلاق المرأة الصالحة، إنها مصالح عظيمة، يحصل بالنكاح الأجر، قال صلى الله عليه وسلم: (وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر). المباحات تصير طاعات بالنيات الصادقات، والجماع مع تصحيح النية إذا نوى به قضاء حق الزوجة ومعاشرتها بالمعروف وإعفاف نفسه وابتغاء الولد، هذه حسنات في ميزانه يوم القيامة، وقد وعد الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أن الناكح الذي يريد العفاف معان من ربه، قال عليه الصلاة والسلام: (ثلاثة حق على الله عونهم) حق على الله، هو الذي جعله حقاً على نفسه (المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء) المكاتب الذي يكاتب سيده، يدفع له أقساطاً ليحرر نفسه (والناكح الذي يريد العفاف) حديث حسن. وعدك الله بالمعاونة يا أيها الشاب إذا أردت إعفاف نفسك بالزواج، ويا أيتها الشابة إذا قلتِ: كيف أطبق حديث (من استطاع منكم الباءة فليتزوج)؟ التطبيق: ألا تحولي بينك وبين الذي يتقدم إليك إن كان صاحب دين وخلق، وألا ترفضي لا لأجل إكمال دراسة، ولا لأجل شهادة، ولا لأجل وظيفة، ولا لأجل لهو ولعب في مقدم العمر، وبعد ذلك نتفرغ للجد كما يقول العابثون والعابثات!! يقول: خذها أول سهالة، استمتع بحياتك، العب قليلاً، بعد ذلك لاحقين على الهم سبحان الله! وإذا نصحت بعض الناس بتزويج أبنائهم قالوا: لا يزال صغيراً، لن يتحمل المسئولية! إن نقص تحمل المسئولية عنده مفسدة، لكن تركه هكذا مفسدة أكبر، أو هذه التي يتعلمها بالتدريج، إذا تزوج الشخص في بداية الزواج هناك مصاعب دائماً في الغالب، لكن تحمل المصاعب والتغلب عليها أسهل أم معاناة الحرام أسهل؟ يجب على الأب القادر مالياً أن يزوج ولده العاجز مالياً. ثم -يا أيها المتزوج- العلاجات الآن في قضية الصراع إذا لم تندفع الشهوة بزوجة واحدة فالتعدد، والمرأة يعرض لها ما يمنع الرجل من وطئها كالحيض والحمل وغير ذلك، فالسبيل الشرعي لتسكين الشهوة هو التعدد هذا الحل، ثم هناك قضية أخرى مهمة، وهي: أن من رأى امرأةً أعجبته في الشارع في الشاشة في الإنترنت في الصورة، في أي مكان وهو متزوج فعليه أن يأتي أهله هذه وصية مهمة، عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى امرأةً فأتى امرأته زينب، مع أنه عليه الصلاة والسلام منزه عن هذه الشهوات المحرمة، لكن ليعلم العباد، وإذا وقع نظره على شيء فهو نظر فجأة، أتى زينب وهي تمعس منيئةً لها، أتى وزينب رضي الله عنها تدبغ جلداً لها، فقضى حاجته ثم خرج إلى أصحابه، فقال: (إن المرأة تقبل في صورة شيطان، وتدبر في صورة شيطان، فإذا أبصر أحدكم امرأة فليأت أهله فإن ذلك يرد ما في نفسه) رواه مسلم. وفي رواية لـ أحمد عن أبي كبش الأنماري قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً في أصحابه، فدخل ثم خرج وقد اغتسل، فقلنا: يا رسول الله! قد كان شيء؟ قال: أجل، مرت بي فلانة فوقع في قلبي شهوة النساء -وليس شهوة هذه المرأة- فأتيت بعض أزواجي فأصبتها، فكذلك فافعلوا فإنه من أماثل أعمالكم إتيان الحلال) قال الألباني: في السلسلة الصحيحة: إسناده حسن. الله يعلم ما يصلح النفس البشرية، وهذا وحي منقول إلينا الآن بالكتاب والسنة، المرأة الأجنبية يصورها الشيطان بأجمل مما هي عليه، ولو كانت قبيحة يراها الناظر جميلة، ولذلك قال: (تقبل في صورة شيطان، وتدبر في صورة شيطان) ولذلك عدد من الزوجات العفيفات اللاتي ابتلين بأزواج فسقة، إذا رجع الزوج من السفر ورأت صورة هذه التي عاشرها بالحرام وكان معها، ربما رأت صورتها أقبح من الزوجة بكثير، حتى تقول له: أف لك، هذه المرأة التي ذهبت معها بالحرام؟ قارن بيني وبينها، فالشيطان يزين الحرام، فلو كان فيه قبح ستر قبحه وجمله، وهذا معنى الحديث: (إن المرأة تقبل في صورة شيطان) وإذا كانت جميلةً زادها جمالاً، وإذا كانت عادية أظهرها بأنها جميلة؛ ولذلك لا مفر من غض البصر والتحصن إلا بالزواج. إن قال قائل: هل من العلاج أن يأخذ دواءً لكي يقلل الشهوة؟ قال الحافظ ابن حجر في الفتح: واستدل به الخطابي -أي: بحديث: (فعليه بالصوم) - على جواز المعالجة لقطع شهوة النكاح بالأدوية، وحكاه البغوي في شرح السنة، وينبغي أن يحمل -أي: كلام الخطابي - على دواء يسكن الشهوة دون ما يقطعها أصالةً. إذاً: لا يجوز تعاطي دواء يقطع الشهوة بالكلية، وإذا كان هناك دواء يجب ألا يكون له أضرار؛ لأن بعض الأدوية لها أضرار جانبية، وقد صرح الشافعية بأنه لا يكسرها بالكافور ونحوه، وعندنا علاج أفضل من هذا وهو الصيام (فإنه له وجاء) وهذه هي القاعدة التي بعدها

القاعدة الخامسة: الصوم

القاعدة الخامسة: الصوم عليك بالجنة الحصينة قد لا يتيسر للعبد الزواج، فماذا يفعل؟ يؤمر بالاستعفاف، قال تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:33] وفي أثناء البحث عن النكاح عليك بالصوم؛ لأن البحث عن امرأة سيأخذ وقتاً، العقد وتجهيز البيت سيأخذ وقتاً {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:33] الصيام جنة يقيك ألم الشهوة (يا معشر الشباب قال: ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) قال ابن القيم: فأرشدهم إلى الدواء الشافي الذي وضع لهذا الأمر، وهو النكاح، ثم نقلهم عنه عند العجز إلى البدل وهو الصوم؛ فإنه يكسر شهوة النفس ويضيق عليها مجال الشهوة، فإن هذه الشهوة تقوى بكثرة الغذاء والطعام، وكيفيته وكميته إن ابن القيم طبيب يقول: الشهوة تزيد بكيفية الطعام وكميته، فالذي يريد أن يعالج من هذه الجهة فعليه أن يراعي قضية الطعام، وعدم الإكثار منه وهو أعزب شاب لئلا يزيد في توليد الشهوة وبالتالي يعاني. قال القرطبي: كلما قلَّ الأكل ضعفت الشهوة، وكلما ضعفت الشهوة قلت المعاصي قال عليه الصلاة والسلام: (الصوم جُنة) وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي: (يدع شهوته من أجلي) فالصيام جنة ووقاية من النار وعبادة عظيمة الإثنين والخميس أيام البيض شعبان محرم صيام يوم وإفطار يوم، وهو صيام داود عليه السلام.

القاعدة السادسة: الفرار من أهل الفحش والتفحش

القاعدة السادسة: الفرار من أهل الفحش والتفحش حذارِ من أهل الفحش والتفحش، لقد حرم الله البذاءة ومنع الفحش، كما قال تعالى: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء:148] وقال عليه الصلاة والسلام: (ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا بالفاحش البذيء) إن الأشياء التي تثير الشهوات هي الألفاظ الغزلية، كلمات الأغاني، الألفاظ الفاحشة، تثير الساكن، وتحرك الكامن، تسمعها بالهاتف، بالرسائل، رسائل الجوال، نكت -بزعمهم- ما هي هذه النكت بزعمهم؟ يرسلونها بالجوال، نكت بذيئة، تثير الشهوة، وتحث على الفاحشة الحب أول شيء يهيم به قلب المحب فيلقى الموت كاللعب يكون مبدؤه من نظرة عرضت ومزحة أشعلت في القلب كاللهب كالنار مبدؤها من قدحة فإذا تضرمت أحرقت مستجمع الحطب

القاعدة السابعة: الفرار من أماكن الفتن

القاعدة السابعة: الفرار من أماكن الفتن القاعدة التي تليها: عليك بالفرار من أماكن الفتن لا يخفى أننا نعيش اليوم -أيها الإخوة- في مجتمع مليء بالفتن إعلانات، مجلات، معاكسات، فضائيات، شبكة الإنترنت، ماذا تفعل؟ فروا إلى الله {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ} [يوسف:25] هرب! هرب من المعصية، إن هذه الشهوة إذا تعرضتَ لما يثيرها فينبغي الهرب، اهرب بنفسك، طبّق القاعدة {فِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات:50] {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ} [يوسف:25] نجِّ نفسك.

القاعدة الثامنة: أشغل نفسك بالطاعات

القاعدة الثامنة: أشغل نفسك بالطاعات أشغل نفسك بالطاعات نفسك إن لم تشغلها بالطاعة شغلتك بالمعصية (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ) لا تغبن {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [التغابن:9]، المؤمن لا يتحسر على شيء يوم القيامة إلا على ساعة مرت به لم يذكر الله فيها، فاحرص على ذكر الله، ما من مجلس إلا وصلِّ تصلي فيه على النبي صلى الله عليه وسلم، لا تجعل بيتك قبراً من القبور، مارس فيه العبادة. يا أيها الطالب الجامعي غرفتك غرفتك! اجعل فيها نصيباً من صلاتك افتح مصحفك أقبل على الله استغفر بالأسحار واصل الدعاء (لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله). عمرك ستسأل عنه سؤالاً عاماً (وعن عمره فيما أفناه) وسؤالاً خاصاً (وعن شبابه فيما أبلاه) بماذا أبليت الشباب؟ إن الفراغ مفسد للنفس إفساد الطاقة المختزلة بلا ضرورة، إن الولد إذا اختلى إلى نفسه وقت فراغه ترد عليه الأفكار الحالمة، والهواجس السارحة، والتخيلات الجنسية المثيرة، فلا يجد نفسه إلا وقد تحركت شهوته وهاجت غريزته أمام هذه الموجات من التأملات والخواطر، فعندئذ لا يجد بُداً من أن يلجأ إلى الحرام ليخفف من طغيان شهوته ويحد من سلطانها هذه هي العادات السيئة السرية. إذاً: لا بد من إشغال النفس بالطاعات بكر إلى الصلوات حافظ على الجماعات دائماً انقل نفسك من عبادة إلى عبادة؛ قراءة كتاب حفظ سورة مذاكرة مادة زيارة أخ في الله حضور درس حفظ حديث دعوة إلى الله كتابة مقالة إعداد برنامج دعوي زيارة مقبرة محاسبة نفس تبكير إلى صلاة قراءة طيبة ونافعة صلة رحم زيارة الجيران، أشغل نفسك بالطاعة. ثم الترهيب من استرسال الرجل مع شهوته، قال عليه الصلاة والسلام: (إن مما أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم، ومضلات الهوى) حديث صحيح وقال: (حفت النار بالشهوات) النار حفت بالشهوات، ليس هناك طريق إلى النار إلا بالشهوات، فإذا أردت دخول النار فأطلق لنفسك العنان وارتع في الشهوات، لا بد أن يعظ الإنسان نفسه، ولا بد أن يقاوم داعي العودة إلى الجاهلية، قاوم العودة إلى الجاهلية بعض الشباب تاب الله عليهم لكن تركوا آثاراً من الجاهلية؛ مفكرات فيها أرقام هواتف أرقام مخزنة في الجوال لا زالوا يحتفظون بها عناوين للحرام، أتلف كل شيء يتعلق بالماضي. ثم قد تتعرض لموقف محرج تذكرك فيه امرأة بعلاقة محرمة، فماذا تفعل؟ اسمع معي هذه القصة الصحابة الذين كانوا في الجاهلية يفعلون ما يفعلون، ولما نور الإسلام قلوبهم استعلوا على شهواتهم، واستجابوا لأمر ربهم، وهذا سبب نزول قوله تعالى: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} [النور:3] روى الترمذي وهو حديث صحيح أن رجلاً من الصحابة يقال له: مرثد بن أبي مرثد الغنوي، كان مُهرباً في الإسلام لكن ماذا كان يهرب؟ كان يحمل الأسرى من مكة حتى يأتي بهم المدينة، يذهب إلى مكة دار الحرب في ذلك الوقت ليهرب إخوانه المستضعفين من المسلمين واحداً وراء الآخر، يهربهم إلى المدينة، وفي ليلة من الليالي بينما كان متسللاً إلى مكة مواعداً رجلاً مسلماً ضعيفاً ليحمله ويهربه إلى المدينة، وفي ظل القمر، في الظلام، رأى امرأةً بغياً يقال لها: عناق، وكانت صديقةً له -هذه في الرواية، هذه " Girlfriend" معروفة عندهم في الجاهلية- كانت صديقةً له، وكان قد وعد رجلاً أن يحمله من أسرى مكة، وإن عناقاً رأته فقالت له: هلم فبت عندنا الليلة على العادة التي كانت في السابق، فقال: يا عناق قد حرم الله الزنا. فقالت: يا أهل الخيام، هذا الذي يحمل أسراكم. هذه المرأة إذا دعت إلى الحرام وأبى الرجل يمكن بمكرها وكيدها -إن كيدهن عظيم- أن تنتقم من الرجل الذي يرفض دعوتها إلى الحرام. قالت: يا أهل الخباء، هذا الذي يحمل أسراكم. والرجل غامر بنفسه فقام الكفار في الليل يبحثون عنه، قال: فأعماهم الله ما رأوه ولا رأوا الرجل الذي كان يهربه، فلما ذهبوا حمل صاحبه وذهب به، قال: فلما قدمت المدينة أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: (يا رسول الله، أتزوج عناقاً؟ فلم يرد حتى نزلت الآية: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} [النور:3] فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تنكحها). إذاً: أيها الإخوة: لو دعا شخصاً داعٍ من الجاهلية لا يستجيب، عليه أن يصبر.

القاعدة التاسعة: البعد عن أسباب الوقوع في الحرام

القاعدة التاسعة: البعد عن أسباب الوقوع في الحرام ومن القواعد في مواجهة الشهوة المحرمة: تجنب سائر الأسباب الأخرى التي توقع في الشهوة المحرمة أصدقاء السوء: (المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل) جاء في جريدة الأنباء الكويتية، يقول الشاب وعمره سبع عشرة سنة: في أول مرة شاهدت فيها هذه الأفلام كان منذ سنين حين كنت في زيارة لأحد أصدقائي، وكان في غرفته فيلم فقام بتشغيل الفيلم. إذاً القضية هؤلاء قرناء السوء، أعطه دسكاً وأسطوانة ليزر مدمجة وفيلماً وشغل له، واستئجار استراحة، وشقق مفروشة، ويجتمعون في المقاهي، وما أدراك ما المقاهي! وهناك وهناك سهر في الليل على قنوات الإباحية، يمسك كل واحد منهم زاوية من زوايا المجلس ويجلس يرتكب الحرام، ويرى الحرام، والله مطلع عليه، لا يستحي لا من الله ولا من الناس. إياك والتساهل في الحرام! إياك ومثيرات الشهوة! إياكم والجلوس على الطرقات! لماذا؟ يقال في حق الطريق: غض البصر؛ لأنه يمر النسوة منه، انتبه إذا دخلت البقالة، قال أحدهم: رأيت الشاب في البقالة يقلب المجلات، وينظر في صور النساء وينظر حوله، فإذا اطمأن نظر في صور المجلات ثم نظر حوله، انظر إلى ربك ستراه في قلبك إذا كنت مؤمناً لا لمجالس الاختلاط، لا للمتزوجين ولا لغير المتزوجين، لا للسفريات المحرمة، لا للذهاب إلى الحفلات الماجنة، ولا لعبور الجسر، ولا لحضور حفلات هناك. والنساء وما أدراك ما النساء! حتى عندما تأتي للعبادة يجب عليها أن تتقي ربها؛ فلا تضع طيباً، ولا تتبرج، وصفوف النساء خلف الرجال لا للمعاكسات الهاتفية، ولا للاستجابة لهذا الغثاء، ولا للغناء الذي ينبت النفاق في القلب والشهوة انتبهوا لخطورة الخادمات، ولج علينا من باب الخادمات شر كثير، وكثير من الناس لا ينتبهون، وإذا انتبهوا لا يتعظون، وربما لدغ أحدهم مراراً من جحر واحد ولا يتألم، ويسمع أن قارعةً حصلت قرب داره ولا يتعلم بلادة حس عدم مراقبة لله ترك الخادمة الشابة الجميلة مع هؤلاء الشباب في البيوت ما معناه وهي متبرجة؟ يخرج أهله ويتركونه في البيت مع الخادمة، تخرج الزوجة وتترك الزوج مع الخادمة، ما معنى ذلك؟ ثم لا نشتكي إلا بعد ذلك، نشتكي من ماذا؟

القاعدة العاشرة: الدعاء

القاعدة العاشرة: الدعاء أيها الإخوة لابد من الإعداد بالسلاح في هذا الصراع، وسلاح المؤمن هو الدعاء، لا يخونك في النوائب والملمات، في كل وقت وحين استعمله {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:186] هل قال: وإذا سألك عبادي عني فقل: إني قريب؟ لكن ما قال: فقل؛ ليبين شدة القرب {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:186] ادع ربك أن يصرف عنك السوء والفحشاء، أيهما أبلغ: {لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ} [يوسف:24] أو: لنصرفه عن السوء والفحشاء؟ الأولى: الفحشاء والسوء مصروفة، والثانية: يوسف هو المصروف، أيهما أبلغ؟ الأولى أو الثانية؟ الأولى، وهي التي في التنزيل؛ لأن الله إذا صرف عنك السوء والفحشاء لو بحثت عنها فلن تحصلها، لكن إذا صرفك الآن قد لا يصرفك مرة أخرى إذا عرض لك السوء والفحشاء، ولذلك يوسف دعا ودعا {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ} [يوسف:33 - 34]. ما هي الأدعية؟ اللهم ثبت قلبي على دينك (اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى) رواه مسلم (اللهم إني أعوذ بك من شر سمعي، ومن شر بصري، ومن شر لساني، ومن شر قلبي، ومن شر منيي) دعاء نبوي في سنن أبي داود، وهو حديث صحيح. ولا تأمن مكر الله، بعض الناس يقولون: نحن شباب ملتزمون ودعاة، ونحن طلبة علم لا أحد فوق مستوى الشهوات، يتطرق إلى الجميع، إبراهيم عليه السلام لم يأمن على نفسه: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم:35] إبراهيم يخشى أن يعبد الأصنام، يقول: {وَاجْنُبْنِي} [إبراهيم:35] إبراهيم {وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم:35] {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً} [الإسراء:74]. إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده

القاعدة الحادية عشرة: عدم اليأس من عفو الله

القاعدة الحادية عشرة: عدم اليأس من عفو الله ثم من القواعد: لا تيئس، قد يكون الشاب أو الفتى مارس الحرام ووقع في الرذيلة، فجرته نفسه الأمارة بالسوء إلى مقارفة الفاحشة، فلا يصاب باليأس والإحباط؛ لأن الله قال: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53]. انتبهوا -يا إخواني- لهذا المزلق، إنه مزلق خطير جداً، يرتكب العاصون معصية واثنتين وثلاثاً، ثم تتابعوا في الحرام، وكلما خطر لأحدهم خاطرة توبة قالت له نفسه الأمارة بالسوء: إنها توبة فاسدة وكذلك الشيطان يا أخي! هذا المبدأ دمر كثيراً من الشباب لماذا تصاب باليأس والإحباط؟ لماذا تقول: فاسدة فاسدة؟ لو حصل الحرام عشرين مرة أليس هناك رب غفور رحيم؟ أليس هناك باب للتوبة مفتوح؟ البغي من بني إسرائيل غفر الله لها بسقيا كلب. إن الشيطان يحرص على أن تيئس من روح الله، فلا تيئس مهما تكررت المعاصي، كل مرة تب إلى الله، فإن قائل قال: العادة السرية كل مرة أقع فيها، قلنا: كل مرة تب إلى الله يا أخي، ولا تيئس أبداً. لنطبق المنهج الإسلامي في المجتمع وفي قضية علاج الشهوات أما وضع حداً للزنا؟ أما قبحه وقال: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:32]؟ أما قال: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2]؟ أما قال: (الثيب بالثيب رجم بالحجارة)؟ أما حرَّم القذف وجعل الذي يقذف بالزنا ويشيع الفاحشة في المؤمنين عليه حد ثمانين جلدة؟ أما شرع الاستئذان حتى للصغار؟ أما شرع غض البصر؟ أما شرع الحجاب؟ لماذا أمر المرأة بالقرار في البيت؟ لماذا حرم الخلوة بها؟ لماذا حذر من الدخول على النساء؟ لماذا حرم على المرأة السفر من غير محرم؟ لماذا شرع النكاح وحث عليه؟ لماذا أمر بالاستعفاف؟ إجراءات يجب أن تطبق في المجتمع.

نماذج مشرقة في العفة والعفاف

نماذج مشرقة في العفة والعفاف تعالوا إلى نماذج مشرقة من قصص الأولين في الصبر على الشهوة قال الله تعالى عن يوسف عليه السلام: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف:23] عندما كان صادقاً أراه الله البرهان،: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ} [يوسف:24] ودعا ربه فخلصه. كم سبب ليوسف في الوقوع في الحرام؟ أولاً: رجل؛ والشهوة مركبة في الرجال للنساء، وشاب؛ وداعي الزنا عند الشاب أكبر من الصغير والكبير، وأعزب؛ وداعي الشهوة عند الأعزب أكثر من المتزوج، وغريب لا يستحي مثل ما يستحي ابن البلد الذي يخاف الفضيحة، والمرأة ذات منصب وجمال، والعزيز لا يختار في العادة إلا أجمل النساء، والمرأة ليست آبية ولا معترضة، بل هي التي دعته وألحت وقالت: هيت لك، وأسقطت كل الحواجز النفسية، ثم هو في دارها وتحت سلطانها، ثم تهددته بالسجن، ثم لا يُشك فيه لو دخل أحد؛ لأنه عبد عندها وخادم، واستعانت بكيد النسوة، وهو مملوك عندها، ودياثة الزوج سبب، ومع ذلك ما زنا يوسف ولا وقع في الحرام لماذا؟ كان يخاف الله، والله وفقه وأعانه {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف:24] همه هذا هم وخاطرة، أما همها فهو فعل، وهناك فرق بين همها وهمه، ثم إن الله تعالى أعانه، فر من المعصية، استبقا الباب، شرد منها ودعا ربه واستجاب الله له، وهو صاحب دين وتقوى، ولذلك لما دخل السجن لاحظ عليه أهل السجن أنه من عباد الله المخلصين: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:36]. والثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة مثال آخر، ذاك الذي هرب من الحرام لكلمة "اتق الله". جريج العابد تعرضت له هذه الزانية المومسة وكلَّمته فأبى، فانتقمت منه لإبائه وصبر على الأذى حتى تبينت البراءة. الربيع بن خثيم كان يغض بصره فمر به نسوة، فأطرق حتى ظن النسوة أنه أعمى، وأمر قوم امرأة ذات جمال بارع أن تتعرض للربيع بن خثيم فلعلها تفتنه، وجعلوا لها إن فعلت ألف درهم -عصابات- فلبست أحسن ما قدرت عليه وتطيبت، ثم تعرضت له حين خرج من المسجد، فأسفرت عن وجهها، فراعه ذلك المنظر، فقال لها الربيع: كيف بك لو قد نزلت الحمى بجسمك فغيرت ما أرى من لونك وبهجتك؟ أم كيف بك لو قد نزل بك ملك الموت فقطع منك حبل الوتين؟ أم كيف بك لو قد ساءلك منكر ونكير؟ فصرخت صرخةً سقطت مغشياً عليها، فوالله لقد أفاقت يوم أفاقت فبلغت من العبادة حتى ماتت يوم ماتت وإنها لجذع محترق، أثرت فيها الموعظة. قال ابن القيم: ذكر أبو الفرج أن امرأةً جميلةً كانت في مكة وكان لها زوج، فنظرت يوماً إلى وجهها في المرآة، والمرآة والمرأة متصاحبتان، فقالت لزوجها هذه المغرورة: أترى أحداً يرى هذا الوجه ولا يفتتن به؟ قال: نعم. وهذه مصيبة! قالت: من؟ قال: عبيد بن عمير. قالت: فائذن لي فلأفتننه -الزوج الديوث- قال: قد أذنت لك. فأتته كالمستفتية، دخلت المسجد وهو في ناحية المسجد، ولما اقتربت منه ظنها تستفتي، فأسفرت عن وجه كفلقة القمر، فقال: يا أمة الله، استتري. قالت: قد افتتنت بك. قال: إني سائلك عن شيء، فإن أنت صدقتني نظرت في أمرك. قالت: لا تسألني عن شيء إلا صدقتك. قال: أخبريني لو أن ملك الموت أتاك ليقبض روحك، أكان يسرك أن أقضي لك هذه الحاجة؟ قالت: اللهم لا. قال: صدقت، قال: فلو دخلت قبرك وأُجلست للمساءلة، أكان يسرك أني قضيتها لك؟ قالت: اللهم لا. قال: صدقت، قال: فلو أن الناس أعطوا كتبهم ولا تدرين أتخذين كتابك بيمينك أم بشمالك، أكان يسرك أني قضيتها لك؟ قالت: اللهم لا. قال: صدقت، قال: فلو أردت الممر على الصراط ولا تدرين أتنجين أو لا تنجين، أكان يسرك أني قضيتها لك؟ قالت: اللهم لا. قال: صدقت، قال: فلو جيء بالميزان وجيء بك فلا تدرين أيخف ميزانك أم يثقل، أكان يسرك أني قضيتها لك؟ قالت: اللهم لا، قال: صدقت، قال: اتق الله فقد أنعم الله عليك وأحسن إليك. فرجعت إلى زوجها فقال: ما صنعت؟ قالت: أنت بطال ونحن بطالون. فأقبلت على الصلاة والصوم والعبادة فتفرغت للعبادة وانشغلت عن الزوج، فكان زوجها يقول: ما لي ولـ عبيد بن عمير أفسد علي امرأتي، كانت في كل ليلة عروساً فصيرها راهبة. أما عطاء بن يسار فقد خرج مع أخيه سليمان بن يسار ومع أصحابهما من المدينة، ونزلوا بـ الأبواء وضربوا الخيام، وكان هناك امرأة من الأعراب جميلة أرادت أن تفتن عطاء بن يسار الزاهد العابد، فدخلت عليه في خيمته لما ذهب أصحابه وبقي وحيداً، وكان في صلاة، فأوجز لأنه ظنها محتاجة، ثم قال: ألك حاجة؟ قالت: نعم. قال: ما هي. قالت: قم فأصب مني، وقد تقت ولا بعل لي. قال: إليك عني لا تحرقيني ونفسك بالنار. وجعل يبكي، وغشي عليه من البكاء، فرأت المرأة الرجل يبكي فتأثرت من هذا الذي وعظها وجلست تبكي، والرجل يبكي وهي تبكي، فجاء أخوه سليمان بن يسار فوجد الاثنين يبكيان ولا يدري ما القضية، فغلبته نفسه فتأثر وانخرط في البكاء، وجاء بقية أصحابهما، ودخلوا الخيمة، فرأوا عطاء يبكي، وسليمان يبكي، والمرأة تبكي، فتأثروا من المشهد، ولا يدرون ما القصة، فانخرطوا جميعاً في البكاء، وجلس الجميع يبكون ولا يدرون ما القضية! إلى أن سكنوا وهدءوا فقامت المرأة وانسحبت، وقام أولئك وانسحبوا، وآوى كل إلى فراشه تهيب سليمان أن يسأل أخاه عطاء ما السبب، ومضت الأيام، وسافرا إلى مصر، فلما ناما ليلةً بـ مصر في غرفة واحدة استيقظ عطاء يبكي، فقام سليمان على بكاء أخيه، قال: ما يبكيك يا أخي؟ فاشتد بكاؤه، قال: ما يبكيك يا أخي؟ قال: رؤيا رأيتها الليلة. قال: وما هي؟ فأصر عليه حتى يخبره بها، فأخذ عليه عهداً من الله ألا يحدث بها في حياته، قال: رأيت يوسف النبي في النوم، فجعلت أنظر إليه، فلما رأيت حسنه بكيت -في المنام- فنظر إلي وقال: ما يبكيك أيها الرجل؟ فقلت: بأبي أنت وأمي يا نبي الله، ذكرتك وامرأة العزيز، وما ابتليت به من أمرها، وما لقيت من السجن، وفرقة يعقوب، فبكيت من ذلك، وجعلت أتعجب منه. فقال له في المنام: فهلا تعجبت من صاحب المرأة البدوية بـ الأبواء؟ -يقول له في المنام- فعرفت الذي أراد، فبكيت واستيقظت باكياً. وقص عليه قصة المرأة التي كانت بـ الأبواء؛ وحفظ سليمان السر، ولما مات عطاء نشره، فكانت القصة مشهورة في المدينة. وكان سليمان بن يسار من أحسن الناس وجهاً، دخلت عليه امرأة بيته فسألته نفسه، فامتنع عليها، فقالت: إذاً أفضحك، فخرج هارباً عن منزله وترك المنزل لها. وكان السري بن دينار بـ مصر، وفيه امرأة جميلة تفتن الناس، فجاءته وكشفت نفسها له، فقال: ما لك؟ قالت: هل لك في فراش وطيء وعيش رخي. فأقبل عليها وهو يقول: وكم بي معاصٍ نال منهن لذة ومات فخلاها وذاق الدواهيا تصرم لذات المعاصي وتنقضي وتبقى تباعات المعاصي كما هيا فوا سوءتاه والله راء وسامع لعبد بعين الله يغشى المعاصيا أبو بكر المسكي، قيل: إن سبب تسميته بهذا الاسم أن امرأة استدرجته إلى بيتها وكان يبيع، فدخل، ثم أرادته بالحرام، فأغلقت الأبواب، ماذا يفعل؟ قال: أريد دورة المياه. فدخل الخلاء، قيل: إنه لطخ نفسه بالقاذورات، فلما خرج قرفت منه، وفتحت الباب، ومشى، فقيل: كان رائحته مسكاً بعد ذلك. وهذه المرأة في عهد عمر بن الخطاب، كما أن الرجال يصبرون على الحرام، كذلك النساء يصبرن، قال سعيد بن جبير: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا أمسى أخذ درته ثم طاف بـ المدينة، فإذا رأى شيئاً ينكره أنكره، فبينما هو ذات ليلة يعس إذ مر بامرأة على سطح وهي تقول: تطاول هذا الليل واسود جانبه وأرقني ألا خليل ألاعبه فوالله لولا الله لا رب غيره لحرك من هذا السرير جوانبه مخافة ربي والحياء يصدني وأكرم بعلي أن تنال مراكبه ثم تنفست الصعداء، وقالت: هان على عمر ما لقيت الليلة. لأنه أرسل زوجها في الجهاد، فضرب باب الدار، فقالت: من هذا الذي يأتي إلى امرأة مغيبة هذه الساعة؟ قال: افتحي. فأبت، فلما عرفت أنه عمر وجهر لها بصوته، قال: أعيدي علي ما قلتِه. فأعادت عليه، فقال: أين زوجك؟ قالت: في بعث كذا وكذا. فأرسل إلى الأمير فرده إلى المدينة، ثم دخل عمر على حفصة، فقال: أي بنية، كم تصبر المرأة عن زوجها؟ قالت: شهراً واثنين وثلاثة، وفي الرابع ينفد الصبر. فجعل عمر أربعة أشهر وفي رواية: ستة أشهر الأمد النهائي، لا أحد يتغيب ويرسل للجهاد إلا ويرجعه مرةً أخرى.

نماذج مظلمة من الفحش

نماذج مظلمة من الفحش كما أن هناك نماذج مضيئة فهناك أيضاً نماذج مظلمة، وقصص فيها عبر حصلت في الماضي يقول ابن كثير: في عام (278هـ) توفي عبدة بن عبد الرحيم قبحه الله - ابن كثير يدعو عليه- ذكر ابن الجوزي أن هذا الشقي كان من المجاهدين كثيراً في بلاد الروم، فلما كان في بعض الغزوات والمسلمون محاصرو بلدة من بلدان الروم إذ نظر هذا المجاهد المفتون إلى امرأة من نساء الروم في حصنها في العلو فهويها، بسبب نظرة، فراسلها: ما السبيل إلى الوصول إليك؟ قالت: أن تتنصر وتصعد. فأجابها، لأجل امرأة يترك دينه! فما راع المسلمين إلا وصاحبهم عندها، فاغتم المسلمون غماً شديداً، وشق عليهم مشقةً عظيمة، فتركوا الحصار بعد ذلك وذهبوا، فمروا عليه مرة أخرى على الحصن هذا فوجدوه مع المرأة، شاهدوه من بعد، فقالوا: يا فلان ما فعل قرآنك؟ ما فعل علمك؟ ما فعل صيامك؟ ما فعل جهادك؟ ما فعلت صلاتك؟ قال: اعلموا أني أنسيت القرآن كله إلا قوله تعالى: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} [الحجر:2]. وذكر ابن النجار في تاريخه أن رجلاً كان يطلب العلم يقال له: ابن السقة، كان عند الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، فسأل الشيخ مسألة وأساء الأدب مع الشيخ، فقال أبو إسحاق: اجلس فإني أجد من كلامك رائحة الكفر هذه فراسة، ما تؤول إلا فراسة، فاستغرب الحاضرون؛ طالب علم يسأل شيخاً، والشيخ يقول: اجلس إني أرى منك رائحة الكفر! وكان حافظاً للقرآن، حصل أن خليفة المسلمين أرسل هذا الرجل بعد ذلك برسالة إلى ملك الروم، فذهب وافتتن ببنت ملك الروم وطلب زواجها، وامتنعوا إلا أن يتنصر فتنصر، ورئي في القسطنطينية مريضاً وبيده مروحة يذب بها الذباب عن وجه، فسئل عن القرآن فذكر أنه نسيه إلا آية واحدة: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} [الحجر:2]. قال ابن القيم: وكان بـ مصر رجل يلزم الأذان والصلاة، صعد المنارة يوماً على عادته وكان تحت المنارة دار لنصراني فاطلع فيها فرأى بنت صاحب الدار، فافتتن بها وترك الأذان، ونزل إليها وطرق الباب، فقالت: أنتم لستم من أهل هذه الأمور، أنتم مسلمون. النصارى يعرفون أحوال المسلمين في الغالب. قال: أريدك. قالت: لماذا؟ قال: لأنك سلبتِ لبي. قالت: لا أجيبك إلى ريبة أبداً. انظر النصرانية لا تقول بالحرام، قال: أتزوجك؟ قالت: أنت مسلم وأنا نصرانية وأبي لا يزوجني منك. قال: أتنصر. قالت: إن فعلت أفعل. فتنصر ليتزوجها، وصعد سطح الدار فزلت قدمه، فوقع على عنقه فمات. أيها الإخوة إن الذي يصبرنا أشياء: الفلاح، وابتغاء رضا الله، وابتغاء الأجر: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون:5] ثناء الله يكفينا، الجنة والنعيم المقيم {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون:10 - 11] خذ الدليل، الجنة مقابل حفظ الفرج: (من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة) رواه البخاري وهكذا اسأل هؤلاء الذين يريدون العبادات ما هي الغاية؟ الجنة ووجه الله طمأنينة وراحة البال إلى صبرنا لذة الانتصار على النفس، إذا كان أهل الحرام يجدون لذة بالحرام فأصحاب الإيمان والعبادة يجدون لذة أكبر صبرت عن اللذات لما تولت وألزمت نفسي صبرها فاستمرت وما المرء إلا حيث يجعل نفسه فإن طمعت تاقت وإلا تسلت إذا صبرتها صبرت، وإذا أطلقت لها العنان انطلقت رب مستور سبته شهوة فتعرى ستره فانتهك صاحب الشهوة عبد فإذا غلب الشهوة أضحى ملكاً أي عبادة شاقة لو مارستها فترة ارتحت، وذهب عناء العبادة أي شهوة محرمة مهما كانت لذيذة لو مرت ماذا يحدث؟ تنسى لذتها، إذاً هذا ينسى وهذا ينسى، لكن ما الذي يبقى في الصحائف؟ أجر ذاك ووزر هذا، لذلك شعارنا "الموت ولا الحرام". جاء رجل إلى الشافعي برقعة كتب فيها: سل المفتي المكي من آل هاشم إذا اشتد وجد بامرئ كيف يصنع فكتب له الشافعي تحته: يداوي هواه ثم يكتم وجده ويصبر في كل الأمور ويخضع فأخذها وذهب بها، ثم ردها للشافعي وكتب عليها: فكيف يداوي والهوى قاتل الفتى وفي كل يوم غصةً يتجرعُ فكتب الشافعي A فإن هو لم يصبر على ما أصابه فليس له شيء سوى الموت أنفعُ إذاً أيها الإخوة: لا بد أن نعظ أنفسنا بالموت وما بعده قد كان عمرك ميلاً فأصبح الميل شبرا وأصبح الشبر عقداً فاحفر لنفسك قبرا اللهم أغننا بحلالك عن حرامك، وارزقنا العفة والعفاف والصبر عن المحارم والمحرمات، واجعل بيننا وبين الحرام برزخاً وحجراً محجوراً. والحمد لله، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

من رحاب الشريعة

من رحاب الشريعة في هذه المادة تم الإجابة عن عدة أسئلة عبر قناة اقرأ الفضائية، أجاب عنها فضيلة الشيخ محمد بن صالح المنجد.

توبة فتاة كانت تخرج مع الشباب

توبة فتاة كانت تخرج مع الشباب المقدم: الحمد لله والصلاة السلام على رسول الله. أما بعد: المشاهدون الكرام: السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته. نرحب بكم مرة أخرى في برنامجكم (في رحاب الشريعة) من قناتنا الفضائية: اقرأ، مجلس علم آخر، نجلس وإياكم فيه مع مضيفنا لهذه الأمسية المباركة؛ لتطرحوا الأسئلة والاستفسارات، وعلى فضيلته الإجابات والتوجيهات، نسأل الله التوفيق حياكم الله، فلنبدأ على بركة الله. ضيفنا لهذه الأمسية المباركة فضيلة الشيخ/ محمد بن صالح المنجد، الداعية الإسلامي المعروف، باسمكم جميعاً نرحب بفضيلة الشيخ محمد، حياكم الله يا شيخ محمد. الشيخ: الله يحييكم. المقدم: يا شيخ محمد في الحقيقة وقتنا نعتبره ضيقاً، وأسئلة المشاهدين الكرام كثيرة، سواء عبر الفاكس أو الهاتف وما إلى ذلك، وسنجتهد وإياكم -يا فضيلة الشيخ- على الإجابة على أكبر قدر ممكن إن أذنتم بذلك جزاكم الله خيراً. ولعلنا نبدأ بأسئلة وردتنا، وهي في الحقيقة مجموعة أسئلة في أحد هذه الفاكسات وكلها مهمة، ولكن سنأخذ بعضها ونستأذن السائل عن البعض الآخر. السؤال يقول: يا شيخ: هل يغفر الله لفتاة تعودت على الخروج مع الشباب، وهي الآن تريد أن تمتنع عن ذلك، وطلبت من الله عز وجل المغفرة، ولبست الحجاب، هل لها من توبة يا شيخ محمد؟ الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا إنك أنت السميع العليم، اللهم إنا نسألك الإخلاص والسداد في القول والعمل إنك سميع مجيب. أيها الإخوة والأخوات: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وهذه فرصة طيبة أن نلتقي في هذا البرنامج، وبالنسبة للسؤال الذي طرح قبل قليل فأقول: الحمد لله التواب، الهادي إلى سبيل الصواب، هذه الفتاة المسلمة التي تسأل هذا السؤال، استيقظ ضميرها لتجد نفسها غارقة في معصية وكبيرة من الكبائر وهي تخرج مع من حرم الله الخروج معهم، وقد قال الله سبحانه وتعالى: {غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} [النساء:25] واتخاذ الأخدان هو ما يسمونه في هذا العصر بـ (واي فرند) أو الصديق، والخروج معه حرام ولا شك، بل إن مكالمته سواء كانت بالهاتف أو (التشاتنج) الذي يكون في الإنترنت هو نوع من الاتصال المحرم بين المرأة الأجنبية والرجل الأجنبي، ولذلك فإن على هذه المرأة بعدما عرفت طريق الحق أن تثبت عليه، وأن تصدق في توبتها، وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [التحريم:8] وإذا حسنت توبتها فندمت على ما فات، وأقلعت عن الذنب، وعزمت على عدم العودة، ومزقت دفتر هذه الأرقام المكتوبة عندها، وتخلصت من كل أثر؛ فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، والله عز وجل أفرح بتوبة عبده من أحدنا إذا ضلت ناقته وعليها زاده وطعامه، ثم وجدها وقد يئس وشارف على الهلاك، وهذه المرأة والفتاة المسلمة ننصحها باتخاذ رفيقات طيبات، وصديقات يهدينها سبيل الصواب، والإقبال على الله، والانطراح بين يديه، والانكسار وإعلان التوبة والاستغفار، والإكثار من الحسنات: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114]. المقدم: جزاكم الله خيراً يا شيخ وشكر الله لكم، ونسأل الله عز وجل أن يقبل توبة أختنا التائبة، ويوفقنا وإياها للالتزام بهدي الكتاب والسنة.

حكم كشف المرأة لوجهها

حكم كشف المرأة لوجهها المقدم: الأخت أم محمد من المدينة المنورة لها ثلاثة أسئلة لعلنا نجيب عليها سريعاً ما استطعنا. Q تقول في سؤالها الأول: إنها سيدة التزمت منذ عام بالحجاب -ونحن نقول: بارك الله لها في ذلك- تقول هي: هناك من يقول بأن كشف الوجه جائز، وأنا حائرة؛ خصوصاً أنني مقدمة على السفر وهم يقولون: إن كشف الوجه في السفر إلى خارج المملكة جائز؟ A الشيخ: مسألة كشف الوجه لا يمكن أن ننكر أنه قد حصل فيها خلاف بين أهل العلم، ومعروف الفرق بين مذهب ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما، ولكن الراجح من قولي أهل العلم وجوب ستر المرأة وجهها لعدة أدلة منها: أولاً: قول الله عز وجل: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [النور:31] وأعظم ما في المرأة من الزينة هو الوجه ولا شك، وبه تعرف المرأة الجميلة من القبيحة، وعندما ينظر الخاطب إلى المخطوبة ينظر إلى وجهها. ثانياً: كذلك فإن الله سبحانه وتعالى لما قال: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59] فإن الإدناء يكون من أعلى شيء إلى أسفل شيء، وهذا يستلزم الستر أيضاً، وكذلك قالت عائشة: [فخمرت وجهي عندما حضر صفوان بن المعطل السلمي رضي الله عنه] في حديث الإفك، وهذا التخمير عندما قالت: أنها تكون مع النساء في طريق الحج كاشفات وجوههن، فإذا أقبلن على الرجال سترن وجوههن، فهذه أدلة على وجوب تغطية الوجه، خصوصاً في هذا الزمان الذي عمت فيه الفتنة وشاعت، والواجب أن نتقي الله في ذلك خاصة في السفر، فإن ربنا هنا في المملكة هو ربنا هناك خارج المملكة، قال تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} [الأنعام:3].

حكم الزينة وتحديد الحاجب

حكم الزينة وتحديد الحاجب Q المقدم: السائلة تقول: يا شيخ! منذ أن التزمت أقوم بتحديد حاجبي بالتشقير أو بالحف، أي: بالحلق دون النتف أو النمص وهم يقولون: إن هذا أيضاً حرام، أفتونا جزاكم الله خيراً؟ الشيخ: A أما بالنسبة للزينة فإن المرأة يباح لها اتخاذ الزينة المباحة، فإذا كانت الزينة لا يتبرج بها عند الأجانب، وإذا كانت ليست مصنوعة من مواد محرمة أو مشتقاتها، وإذا كانت لا تضر بالجلد ولا بالبشرة، ولا بجسد الإنسان، فإن هذه الزينة الأصل فيها الإباحة، ومن هذه الزينة التلوين كالحناء، وأحمر الشفاة، وصبغ وتكحيل الحاجب ونحو ذلك، ولذلك فإنه يجوز لها أن تلون وتتزين وتضع الحلي كما كانت تضعه النساء الأول، فقد كن يضعن الحناء ويلبسن الحلي من الذهب والفضة، والأحجار التي يسمونها كريمة وغير ذلك، ولكن بالنسبة لأمور معينة جاء الشرع بمنعها مثل الوشم، وبرد الأسنان، والتفليج: وهو التفريق ما بين الأسنان، والنمص: وهو نتف شعر الحاجب قصاً أو حلقاً أو حفاً بالخيط أو بغيره، وكذلك الوشم فإن هذه الأمور قد لعن صلى الله عليه وسلم من فعلتها ومن ساعدت عليها حتى الواصلة شعرها والموصولة لها، والتي تصل شعر غيرها، والتي وصلت شعرها وطلبت ذلك. فأما بالنسبة للتشقير فقد سألنا عنه علماءنا، وسألت عن هذا شيخنا عبد العزيز بن باز رحمه الله وشيخنا: الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله فأجازا ذلك وقال الشيخ محمد: إن التشقير تلوين. أما بالنسبة لتحديد الحاجب بالمقص أو بالحلق فإن هذا لا يجوز، وكذلك بالمنقاش الذي تنتف به شعرها فهذا لا يجوز، وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم من فعل ذلك. أما بالنسبة لقص الشعر فإن قص الشعر جائزٌ على الراجح، وقد منعه بعض أهل العلم لكنه جائز على الراجح، ونساء النبي صلى الله عليه وسلم كن يأخذن من رءوسهن حتى يكون كالوفرة، والوفرة ما يجاوز الأذنين من الشعر، فهذا يجوز قصه، قال النووي رحمه الله: وفيه دليل على جواز تخفيف الشعور للنساء، ولكن بشرطين: أولاً: ألا تتشبه بالرجال في قصه حتى يكون قصيراً جداً. وثانياً: ألا تتشبه بالكافرات في قصة معينة كما يسمونها -الآن- كقصة الأسد، والفأر ونحو ذلك، كما أنه لا يجوز للمرأة أن تحلق شعرها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك اللهم إلا لمداواة أو شيء خطير في البشرة يستوجب ذلك. وأما أخذ بقية الشعر فإن الشعر الذي ينبت في مكان لا ينبت فيه عادة للمرأة كالشارب واللحية فيجوز لها أخذه على الراجح من أقوال أهل العلم، وأما شعر اليدين والرجلين مثلاً فإنه مسكوت عنه فيجوز لها أخذه أيضاً، لكن لا يجوز أن يطلع على عورة المرأة لا الكوافيرة الكافرة ولا الكوافيرة غير الكافرة، كما يفعل بعضهن من إزالة الشعور من مناطق لا يجوز إلا للزوج الاطلاع عليها.

حكم الوشم

حكم الوشم المقدم: الله المستعان يا شيخ: فيما يتعلق بهذه المسألة والكلام عن الزينة وما يعده الناس زينة وهو أحياناً ليس بزينة، كما تفضلت وذكرت بعض قصات الشعر المختلفة، هناك الوشم -الآن- أنا ألاحظ كثيراً من شباب وشابات المسلمين مع الأسف الشديد قد أصبح الوشم نوعاً من الزينة، ويبدو أن هناك غبش في مسألة جواز هذا من عدمه، فما هي حدود الجواز إذا كان هناك شيء جائز أو ليس بجائز، هلا تحدثت قليلاً عن هذه المسألة يا شيخ محمد؟ الشيخ: أما بالنسبة للوشم فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد لعن الواشمات والمستوشمات. والوشم: هو غرز لون تحت الجلد بإبرة ونحوها، وقد تطورت الآن صوره وأشكاله ويسمونه الآن على التسمية الغربية (بالتاتوك) وهذا الوشم له صور كثيرة المقدم: أنا رأيت بعضها ممكن أن نعرضها عبر صفحات الانترنت. الشيخ: ولعل هذه بعض المواقع التي تعرف في الإنترنت، هذا ولعل الأخ المخرج يبين الآن عبر هذه الشاشة بعض أشكال الوشم على الذراع، وهذا شكل آخر، ونرى النقوش من ذوات الأرواح فهذا أولاً وهو منكر يضاف إلى منكر الوشم، وهذا أيضاً أشكال التنين. المقدم: تحول إلى لوحة. الشيخ: نعم تحول إلى لوحة أشكال التنين، وبعضها مما لا يجوز وضعه أيضاً؛ لأن فيه شعارات لأديان الكفار، وقد سألني شخص مرة ما حكم أنني وشمت صليباً على ذراعي وكيف أتخلص منه الآن وقد تبت إلى الله؟ وهذا بطبيعة الحال هذه كلها أشكال لأشياء تتعلق بمعبودات الكفار أو أديانهم تنقش، وبعضهم قد ينقش صورة المسيح مثل النصارى، وبعض عباد القبور، وعباد الكواكب قد ينقشون أيضاً ما يعبدونه، وبعض جهلة المسلمين يقلدهم وينقش أشياء منها وهذه صورة نراها -الآن- نقش عليه صليب في وسط النقش وهذا واضح، فهذه الأشياء غرز اللون بالإبرة تحت الجلد وانحباس الدم تحته، هذه من الأشياء (المقرفة) التي يفعلها هؤلاء بزعمهم أن هذه الأمور من الزينة. ونحن مقيدون بالالتزام بالشريعة ولذلك لا يجوز أن نتزين بما خالف الشريعة، ثم نرى الآن ألوان وأشياء جديدة خرجت، فمثلاً تجد من تغيير خلق الله ما نراه هنا أيضاً في قضية حلق الشعر من القفا والرسم عليه، هذه وجوه -الآن- يعني: مما يرى يعرض الآن وجوه مرسومة على خلفية الرأس. المقدم: هذا الآن الرأس من الخلف وليس وجه. الشيخ: هذا وجهه مثل قفاه، شيء واحد، وهذا نقش صورة لبعض الساسة المعروفين أو رسمها على هذا المنوال، وهذه التقليعات التي يفعلها بعض المسلمين تشبهاً بالكفار، ولا شك أنها تدل على ذوبان وفقدان الشخصية الإسلامية، ويجب علينا أن نكون نحن مسلمين، يجب أن نأخذ من الكتاب والسنة، وأن نتميز بشخصياتنا عن الكفرة، كيف يجوز لمسلم أن يفعل مثل هذا بنفسه؟! ثم أي شيء نجده من الزبالات نأخذه ونفعله ويتفاخر به شبابنا وشاباتنا مع الأسف الشديد يعتبرونها موضة وتقليعة، وتنتشر انتشار النار في الهشيم، فلعلهم يرجعون إلى الله ويتركون التشبه والحديث: (من تشبه بقوم فهو منهم) وظاهره كفره كما قال بعض أهل العلم. المقدم: يا شيخ أنا أريد فقط أن أنبه على مسألة وردت أثناء حديث فضيلتكم أن بعض الناس ينقشون صورة المسيح عليه السلام، وهي الصورة المزعومة وليست حقيقة صورة المسيح عليه الصلاة والسلام، وإنما صورة مزعومة في أذهان الذين يزعمونها. ثانياً: إذا تاب تائبٌ من شباب المسلمين بعد أن كان وضع هذه النقوش على جسده ماذا يفعل هل يجب عليه أن يزيلها أو ماذا يفعل؟ الشيخ: يجب عليه أن يزيلها إذا لم يكن ضرراً عليه، ومن المعلوم أن إزالة مثل هذه الأشياء تستوجب عمليات جراحية كثيراً من الأحيان، وهذه العمليات قد تكون مؤلمة جداً ويستمر الألم، ولذلك لما سألنا علماءنا عن هذه القضية كان الجواب باختصار يلزم إزالتها إذا لم يكن هناك ضررٌ على الإنسان، فإذا كان يتضرر يغطيها ويتوب إلى الله.

مرض الإيدز سببه وبعض الأحكام المتعلقة به

مرض الإيدز سببه وبعض الأحكام المتعلقة به Q المقدم: لعلنا ننتقل إلى سؤال آخر من الأسئلة المهمة والحساسة نسأل الله العافية، مرض الإيدز انتشر -مع الأسف الشديد الآن- في بقاع كثيرة من العالم، وأصيب به رجال ونساء وأطفال لأسباب لا تخفى على الناس اليوم، وهناك بعض الأسئلة تتعلق بهذا الموضوع مثل: تزويج مريض الإيدز هل يزوج أو لا يزوج، وإجهاض الطفل أو حضانة الطفل المصابة أمه بالإيدز هل يجوز إجهاضه أو لا؟ مريض الإيدز الذي وقع في هذه المصيبة من خلال ممارسات محرمة ثم تاب إلى الله عز وجل هل توبته مقبولة؟ تفضلوا بشيء من التعليق حول هذه المسألة يا شيخ محمد. الشيخ: أولاً: نسأل الله السلامة والعافية، وألا يبتلينا عز وجل بهذه القاذورات، وأن يباعد بيننا وبين أسبابها إنه سميع مجيب. أقول: أيها الإخوة والأخوات: ولما صارت الشهوات ترتع، ولما حصل تقليد الكفار في الأشياء الكثيرة، وحصل التشبه بمن أهلكهم الله عز وجل من الأمم السابقة، ومنهم قوم لوط الذين بعث الله إليهم لوطاً عليه السلام لكي يدعوهم إلى التوحيد وإلى ترك هذه الرذيلة الشنيعة وهذه القاذورة، وقال لهم موبخاً كما نسمع: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} [الشعراء:165 - 166] فصار إتيان الذكران من العالمين في هذا الزمان شيئاً له حقوق عند الغربيين، وهناك زواج الذكر بالذكر ومحاكم تقضي بهذا، وقوانين تسن لهذا، وأناس يدخلون في البرلمانات ينتخبون لتشجيعهم لهذه الرذيلة والفاحشة الكبرى، ولما سرت هذه الفواحش في الناس في هذا الزمان ابتلاهم الله عز وجل -عقوبة لهم- بهذه الأمراض الشنيعة ومنها هذا المرض (مرض الإيدز) الذي لم يعرفوا له علاجاً وحتى الآن وهو يستشري استشراء النار في الهشيم، فأكثر من ستة وثلاثين مليوناً في القارات والبلدان قد تناولهم هذا المرض الخطير، ولذلك الآن صار عندنا أشياء جديدة لم تكن توجد عندنا من قبل، وأسئلة فقهية تتعلق بهذا الموضوع، منها: قضية تزويج مريض الإيدز، وبعض الناس الذين يفسقون، والآن في الصيف يذهبون إلى الخارج وسيرجعون، خمسة مليون سائح، يرجعون، بعضهم لم يكن فيه المرض سيرجع ويحمله كما رجعوا في السنة الماضية والتي قبلها والتي قبلها، لا يخافون الله، يذهبون إلى القاذورات يعملونها، وينظم الواحد إلى نادي الإيدز كما جاء في عمل بعضهم الذي دخلت عليه إحدى المومسات ولما بات معها قام من النوم ولم يجدها، فدخل دورة المياه ووجد بطاقة تقول له: مرحباً بك عضواً جديداً في نادي الإيدز، ثم يرجعون فيدخلونه على زوجاتهم البريئات، وهذا المرض ينتقل بالاتصال الجنسي، ثم يكون من نتيجة الجرائم أن يوجد ذلك في الأولاد، وأن يوجد من هو مصاب ومن هو حاضن للفيروس ويظهر في أولاده هو وذلك بسبب هذه المعصية، وهذا من شؤم المعصية، ينتشر في الزوجة وفي الأولاد وفي الرجل نفسه، ولذلك من الأشياء التي نشرت قريباً جداً في الحقيقة قصة مؤثرة حصلت لشاب يقول: إنه كان يعمل في إحدى الدول، جاء ليعمل وأراد المال، يريد الأجرة، يرجع إلى بلده يبني بيتاً، ذات يوم دخل عليه صديق معه امرأة قال: ظننتها زوجته من لباسها والعباءة، ثم لما خلعت العباءة وصارت تعمل الحركات القذرة عرفت أنها ممرضة في مستشفى من إحدى بلاد جنوب شرق آسيا، قال: وأغراني بالمبيت معها، ولما وقعت الكارثة، وحصلت المصيبة قامت وذهبت ولم أشعر بشيء في البداية، ثم صارت الأوجاع تنتابني، وصارت الآلام تأتيني، وصار عندي انتفاخات في أماكن معينة، فراجعت الطبيب ليتم الفحص ويتبين أنه مصاب بهذا المرض، بعد ذلك يقول: رجعت مغموماً فالمال الذي جمعته أفنيته في العلاج، نفسيتي تكدرت، يقول: الآن أنا لا أعرف ماذا أفعل وأنا أعلم أنني أقترب من الموت وقالوا لي: معك سنوات كذا كذا متوقعة، ثم يقول: تمنيت أني تزوجت وأنجبت لكن في نفسي أقول مرة أخرى وأعود ما ذنب المسكينة التي سأتزوجها؟ كارثة من جميع الجهات. فعودة إلى السؤال مرة أخرى هذه القضية قضية تزويج المريض بالإيدز. أولاً: إذا كان مريضاً فيجب عليه شرعاً أن يبين لهم حاله. ولا بد أن يصارح ويقول: أنا مريض عندي كذا وكذا، فإن وافقوا فإنه يجوز أن يتزوج وإلا فلا يجوز له إخفاء أمره؛ لأن في هذا غش وتدليس للمسلمين، وهذا ينقل المرض لزوجته، فلذلك كتمان أمره غشٌ للمسلمين، ويجب أن يلجأ للعلاج؛ لكي لا يعدي وينقل المرض مرة أخرى. المقدم: هذا حكم التزويج؟ الشيخ: نعم.

حكم إجهاض الطفل إذا كانت أمه مصابة بالإيدز

حكم إجهاض الطفل إذا كانت أمه مصابة بالإيدز المقدم: إجهاض الطفل المصابة أمه بالإيدز؟ الشيخ: أما بالنسبة للإجهاض فإن الجنين إذا نفخت فيه الروح فإنه لا يجوز إجهاضه؛ لأنه قتل نفس حتى ولو عرفنا أنه مصاب بالإيدز، هذا ابتلاء من الله ويصبر عليه، وبعض الناس يجهضون أولادهم بعد نفخ الروح؛ لأن الطبيب قال له: إن فيه العلة الفلانية أو المشكلة الفلانية، يا أخي أولاً: قد يكون كلام الطبيب غير صحيح فتقتل نفساً بدون شيء، هذه امرأة كانت لا تريد بنات قالوا لها بالتصوير: عندك بنت وعندها بنات من قبل، فلما جاءها الخبر اغتمت غماً شديداً، نتيجة الغم عند الولادة الرحم لم يعمل في الطلق، فخرج الولد مختنقاً، اختنق عند الولادة لما ولد وكان ذكراً، فإذاً الشخص قد يكون خاطئاً. ثانياً: إذا نفخت فيه الروح فنصبر عليه وعلى البلوى والأجر على العلاج، والأجر على تربيته والعناية به وهو مريض، نحن لسنا على مذهب هتلر النازي الذي كان يقتل أي إنسان مريض في المجتمع ويقول: هذا عبء على المجتمع، عبء مالي وعبء صحي نقتله، هذا قد يدخل الجنة بسببه. فإذاً هذا بالنسبة لإجهاض الذي نفخ فيه الروح وغالباً لا يعرفون الإصابة إلا بعد مضي أربعة أشهر أن هذا مصاب في الغالب. أما بالنسبة للحضانة فالأم المصابة بهذا المرض إذا كانت الحضانة لا تنقل المرض إلى الولد، وإذا كان الولد سليماً فلا سبب لمنعها من الحضانة، وأما بالنسبة لطلب الزوجة الفرقة من زوجها المصاب أو العكس خصوصاً أن بعض النساء تفاجأ الآن أن زوجها لوث نفسه ورجع، وتكتشف من ملابسه قبل فترة تسأل جاء السؤال تكتشف ذهب إلى بلاد أوروبا الشرقية هذه الرخيصة، هي رخيصة في كل شيء يعني، حتى في عقائدها، ثم يرجع وتكتشف من خلال الملابس آثاراً نسائية على الأشياء، بعد ذلك الرجل أٌعلنت إصابته بالمرض فيحق لها شرعاً طلب فسخ النكاح منه؛ لأن هذا سبب يبيح فسخ النكاح، هذا ضرر عظيم أن ينتقل إليها المرض.

حكم توبة المصاب بمرض الإيدز

حكم توبة المصاب بمرض الإيدز المقدم: إنسان علم أنه مريض بهذا المرض ثم انكسر ورجع وتاب إلى الله عز وجل هل توبته مقبولة؟ الشيخ: لا شك أن الله سبحانه وتعالى يقبل التوبة عن عباده، فإذا تاب قد يقول قائل: هذا الآن في مرض الموت ما ينفعه شيء، لكن هذا كلام غير صحيح، ما دام أن الروح ما بلغت الحلقوم فإن التوبة تنفعه ما لم يغرغر، توبة العبد تقبل ما لم يغرغر: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82] فلماذا لا يغفر الله له؟ (يا عبادي إني أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم).

حكم اشتراط الربا والتعامل به

حكم اشتراط الربا والتعامل به Q المقدم: جزاكم الله خيراً، نأخذ هذا الفاكس قبل أن نستقبل المكالمات، وقبل أن نجيب على الفاكس نأخذ عبد الرزاق من بلجيكا لكي لا نبقيه على الهاتف المقدم: الأخ عبد الزاق! السلام عليكم. السائل: وعليكم السلام ورحمة الله. المقدم: الله يحييك يا أخي. السائل: جزاكم الله خيراً. المقدم: ولك بالمثل. السائل: يا أخي أنا لي سؤال؟ المقدم: تفضل يا أخ عبد الرزاق. السائل: أنا أقطن في بلجيكا، وعندي نقود في بنك، والبنك ليس بنكاً إسلامياً، وما يؤدى لي من ربا أرسله إلى إخوتي وإخواني في أفغانستان، فهل يمكنني ذلك أم ماذا أفعل؟ المقدم: سنرى الإجابة إن شاء الله ونسمعها من الشيخ السائل: جزاكم الله عنا خيراً. المقدم: حياك الله أهلاً وسهلاً يا أخي. المقدم: فضيلة الشيخ: الأخ عبد الرزاق من بلجيكا كان قد سأل سؤالاً يقول: إن عنده نقوداً موضوعة في بنك ربوي وأن المبالغ التي تحصل من الربا لهذه النقود هو يرسلها إلى إخوانه في أفغانستان كما ذكر فما حكم هذا الفعل؟ الشيخ: لا يجوز لمسلم أن يطالب بالربا، ولا أن يشترطه، فلا يجوز أن يشترطه ولا أن يطالب به والمرابي ملعون، الآكل والمؤكل، وكل من يعين على هذه العملية كالكاتب. وأما بالنسبة لرجلٍ وضع ماله في بنك ربوي لم يجد إلا هو، لم يجد لحفظ المال من الضياع والسرقة إلا هذا البنك فما حكم وضعه فيه؟ ضرورة، والضرورة تقدر بقدرها، إذا لم يوجد مكان آخر حلال ولو تجارة حلال متيسرة يضعه، وأصلاً حتى بعض التجار يحتاجون إلى السيولة لدفع الرواتب وغيرها للموظفين، فإذا اضطر إلى وضعه في البنك الربوي فهذه الضرورة لا يجوز أن يأخذ ربا ويقبضه ويستلمه ويتصرف فيه، فالآن هو جعل المال في هذا المصرف الربوي إعانة لهذا البنك على الربا، ومعروف أن البنوك الربوية تقرض من أموال الناس للناس الآخرين، وتأخذ النسب الأكثر وتسلف بالنسب الأكثر وهكذا، ولذلك لو قلنا الآن وضعه في المصرف الربوي ضرورة، فأخذ -المال عليه- الربا عليه لا يجوز، فلو وضعوه له ولم يشترطه ولم يطالب به، جاء إلى الحساب فوجد الحساب زائداً على المبلغ الأصلي ماذا يفعل؟ يأخذه ويتخلص منه ولا يدخل في جيبه شيئاً ولو يسيراً من هذا المال، لا يدفع به الضرائب، ولا يدفع به الظلم عن نفسه، ولا يشتري كما يقول بعضهم يقول: نحن الربا ما نأخذه للأكل لكن للملابس والبنزين والمحروقات سبحان الله العظيم! من أين يفلسفون لأنفسهم هذه الأشياء؟! وبعض المتساهلين المفسدين يشجعونهم على هذا فيقول: شيء بسيط (5%) لا يضر. شخص قال: هذا مصرف فيه مسلمون وكفار فقال: أنا آخذ نصف الربا، الذي هو تبع الكفار، وتبع المسلم هذا، سبحان الله العظيم! من الذي أفتاهم في هذا؟ الربا لا يجوز لا مع المسلم ولا مع الكافر فالشاهد إذا أخذه يتخلص منه بأي طريقة، وبالنسبة للمعطى له هو مالٌ ضائعٌ لا صاحب له، الحرام على الآخذ أما إذا تخلص لغيره فإن هذا بالنسبة لغيره مالٌ ضائع لا صاحب له.

مشكلة أسرية بسبب الفهم الخاطئ للطهارة

مشكلة أسرية بسبب الفهم الخاطئ للطهارة المقدم: نأخذ هذا الفاكس سريعاً؛ لأنه يبدو أن هناك أسرة مهددة بالانهيار بسبب عجيب سيسمعه المشاهدون الكرام من خلال سؤال هذا السائل يقول: زوجتي لم تقتنع حتى الآن بأن الطهارة من الحدث الأصغر والأكبر في غاية البساطة، وهي تجلس مدة لا تقل عن خمسة وعشرين دقيقة متواصلة بعد قضاء الحاجة حتى تتطهر، وفي حالة الطهارة من الحدث الأكبر ثلاث ساعات، فيقول: أرجو التوجيه والتشديد عليها؛ لأن هذا الأمر يجعلني في حيرة هل أستمر معها أم ماذا أفعل، عندي منها ثلاثة أطفال فأحياناً لا تعمل شيئاً سوى الطهارة، ويقول كلاماً كثيراً: البيت مهدد بالانهيار بسبب سوء فهم هذه المرأة لمعنى الطهارة ماذا نقول لها يا شيخ محمد؟ الشيخ: الحمد لله. أولاً: هذه المرأة لماذا تصر على هذه الفترة الطويلة؟ A لإزالة النجاسة؛ لأنها تخشى ألا يقبل الله صلاتها ولا يقبل طهارتها وهكذا. فنقول: بماذا كلفنا الله في النجاسة؟ أن نزيلها، والإزالة بأي وسيلة على الراجح وعلى رأس ذلك الماء، فإذا كان يكفي ثلاث غسلات لا نلجأ للرابعة والخامسة؛ لأن هذا إسراف وضياع للماء وضياع للوقت أيضاً، وإذا كان لا يحصل إلا بخمس فبخمس وهكذا، فإذا زالت عين النجاسة، ولم يعد هناك لون ولا جرم لها، ومعلوم أن علامات النجاسة: اللون، والرائحة، والطعم، لم يعد هناك جرمٌ وزال أثر النجاسة أكدنا أن العضو كله قد بلل بالماء، ماذا بقي؟ الذي يبقى تعذيب النفس، وطاعة إبليس، والله عز وجل نهى عن طاعة إبليس، ونهى أن تتبع سبل الشيطان: {لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [النور:21] وهذا الشيطان يوسوس لها أن طهارتها غلط وصلاتها غلط وإلخ. ثم هذه قضية لا تقف عند حد إزالة النجاسة والقعود فيها ساعات، بل ربما تدخل أشياء في المخرج وتعذب نفسها، ثم تعيد غسل العضو عشرات المرات، ثم تخرج من الحمام وتقف في الصلاة فتكبر عشرات المرات، وتقرأ الفاتحة عشرات المرات، وهكذا تعيش في الوسوسة، ولذلك نقول: كفى تعذيباً للنفس وتعذيباً للزوج وإهمالاً للأولاد في هذه القضية، ماذا تريد؟ طاعة الله؟! تطيعه بإزالة النجاسة على الوجه الذي أمر به سبحانه وتعالى، وقد جاء واحد من الناس وقال لعالم من العلماء: أنا أنغمس في الماء وأشك في أني قد اغتسلت، فما حكمي؟ قال: لا صلاة عليك اذهب، قال: ولم يا شيخ؟ لماذا لا صلاة عليَّ فأنا مسلم؟! قال: الذي ينغمس في الماء ينغمس من رأسه إلى قدمه ثم يشك أنه قد اغتسل فهذا مجنون؛ والمجنون مرفوع عنه القلم، وبالتالي لا صلاة عليك، فنقول: يكفي إزالة النجاسة والوضوء، والرسول عليه الصلاة والسلام ماذا قال في الطهارة وفي الوضوء؟ قال: (الوضوء ثلاثاً، فمن زاد فقد أساء وتعدى وظلم) ثلاثة أشياء: أساء، وتعدى، وظلم، والواجب إهمال الوسواس ولا بأس أن تعرض نفسها على طبيبة نفسانية تعالج لها شيئاً من هذا.

حكم التطيب بالزعفران حال الإحداد وحكم صلاة السنن في السفر

حكم التطيب بالزعفران حال الإحداد وحكم صلاة السنن في السفر المقدم: بارك الله فيكم. نأخذ الأخ أبي ثنيان من السعودية حتى لا نبقيه على الهاتف تفضل يا أبا ثنيان! السلام عليكم. السائل: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. كيف الحال يا شيخ مسعود؟ المقدم: الله يحييك يا أخي. السائل: مساك الله بالخير يا شيخ محمد. الشيخ: حياك الله يا أخي. السائل: عندي ثلاثة أسئلة يا شيخ مسعود: سؤالي الأول: المرأة التي تحد ما حكم استعمال الزعفران بالنسبة لها؟ السؤال الثاني: بالنسبة للسنن الرواتب في السفر ماذا ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم فيها هل تصلى في السفر السنن الرواتب؟ والسؤال الثالث يا شيخ: بالنسبة للمحلات التجارية إذا أجرتها على نفس العامل بنسبة معينة طبعاً أعطيه ثلاثة أشهر مدة للتجربة فيقول: أنا والله أعطيك كل شهر أربعة آلاف ريال فما أدري هل فيها شيء؟ المقدم: سنسمع إن شاء الله. السائل: جزاك الله خيراً يا شيخ. سؤال الحلقة التي فاتت يا شيخ مسعود أنا سألت الشيخ عبد الله بالنسبة للوفاء بالوعد وبالنسبة لإكرام الضيف؟ فقال: إكرام الضيف سنة فما أدري هل الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه) يدل على الوجوب؟ فلو يتفضل الشيخ محمد يفصل لنا في المسألة لأن الخط في الأسبوع الماضي انقطع عني. المقدم: هذه لعلي آخذ الوقت المحدد من الإخوان وأعطيكم خبر إن شاء الله. السائل: جزاك الله خيراً يا شيخ. السلام عليكم. المقدم: حياك الله يا أخي. وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. الأخ أبو ثنيان من السعودية كان قد سأل ثلاثة أسئلة: سؤاله الأول المرأة التي في فترة الإحداد هل لها أن تستعمل الزعفران؟ الشيخ: المرأة في الإحداد تجتنب الزينة كالحلي بجميع أنواعه، والحناء، والمكياجات طبعاً، وكذلك تجتنب الخروج من البيت إلا لحاجة، وتجعل خروجها نهاراً إذا احتاجت، مثل المستشفى والمحكمة مثلاً. والزعفران هو من الطيب وذات الحداد لا تتطيب، ولذلك قال ابن مفلح رحمه الله في الفروع: وتجتنب الزعفران كطيبٍ. ومعنى ذلك أن الزعفران العلماء يعدونه من الطيب، والطيب كلما يتطيب به عادة مثل العود وغيره، وليس كل ما له رائحة طيبة؛ لأن النعناع وقشر البرتقال والليمون له رائحة طيبة لكنه لا يستعمل في الطيب، إنما ما يتطيب به هو الطيب، طبعاً ما يستعمل في الطيب عند العقلاء، لأنه -الآن- يوجد طيب برائحة شمام، وطيب بروائح البطيخ وما أدراك! على أية حال كل ما عده الناس طيباً في العرف عند العقلاء فهو طيب، والزعفران عند العلماء من الطيب، ولذلك تجتنب الزعفران. سؤاله الثاني: عن السنن الرواتب في السفر هل يصليها الإنسان؟ من السنة أن يترك الإنسان السنن الرواتب في السفر إلا سنة الفجر وقيام الليل، فإنه يصليها، أما سنة الظهر القبلية والبعدية، وسنة المغرب البعدية، وسنة العشاء البعدية فإنه يتركها ولا يصليها، لكن هذا لا يعني أنه لا يصلي أي نوافل، كتحية المسجد وصلاة الاستخارة، وركعتي الوضوء، وبين الأذان والإقامة ركعتان، فإذا دخل المسجد وكان مسافراً يصلي ولا مانع، لكن هذه السنن الرواتب بالذات غير سنة الفجر الراتبة يتركها، هذه السنة.

قصر الصلاة في السفر

قصر الصلاة في السفر المقدم: جزاكم الله خيراً، معنا الأخ عبد الله القحطاني من السعودية السلام عليكم يا أخ عبد الله. السائل: السلام عليكم. المقدم: وعليكم السلام ورحمة الله. السائل: ممكن أسأل يا أخي؟ المقدم: تفضل حياك الله. السائل: أخي الحبيب أريد أن أسأل الشيخ محمد -الله يحفظكم- في رجل مسافر من الدمام إلى الطائف في خمسة أيام أقل أو أكثر وسيذهب بعدها إلى جدة، أي: لديه إجازة حوالي عشرين يوماً تقريباً سيكون في سفر؟ فهل يقصر أم ماذا يفعل؟ المقدم: سنسمع الجواب إن شاء الله. السائل: يا شيخ مسعود أريد منك ربع دقيقة بالنسبة للفتاة التي سألتك عن التوبة يا حبذا الشيخ يوجهها إذا كان لها قريب أو أحد تثق به أن يكون على علم ببعض الأمور، مثل هؤلاء الفتيات يكون قد تم تسجيل أشرطة كاسيت، أو أشرطة فيديو أو من هذا القبيل، فعندما يكون لها قريب إما أخت أو أخ قريب منها. حتى لا تكون تحت ظرف التهديد الله يحفظك. المقدم: جزاك الله خيراً. السائل: بارك الله فيكم. المقدم: جزاك الله خيراً يا أخ عبد الله، شكر الله لك يا أخي. المقدم: جزاكم الله خيراً، الأخ عبد الله القحطاني يا شيخ محمد سؤاله شبيه بسؤال الأخ أبي ثنيان الذي سأل عن السنن قبل قليل لكنه عن الصلاة بشكل عام يقول: رجل مسافر إلى الطائف سيبقى في الطائف خمسة أيام ثم يذهب إلى جدة عنده إجازة سيوزعها بين المدن، كيف يصلي هذا الصلاة يقصر أم ماذا يفعل؟ الحمد لله عند جمهور أهل العلم مالك والشافعي وأحمد وبه كان يفتي شيخنا عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله أن المسافر إذا نوى الإقامة أكثر من أربعة أيام وعند الإمام أحمد (إحدى وعشرين صلاة) إذا نوى الإقامة أكثر من أربعة أيام في بلد يذهب إليه فإنه في حكم المقيم، وبناءً عليه فإنه يتم الصلاة لا يجمع ولا يقصر، وأما إذا سيجلس أربعة أيام أو أقل من أربعة أيام فإنه يجوز له أن يقصر، والأفضل ألا يجمع فإذا جاء إلى بلد يجلس فيه يوماً يومين ثلاثة يقصر بغير جمع، ولو جمع جاز ذلك على الراجح، وله دليل من السنة. المقدم: جزاكم الله خيراً، إذاً: سمع الأخ عبد الله ووفقه الله في سفره وجميع المسلمين.

الحلف بالطلاق

الحلف بالطلاق الأخ أحمد إبراهيم من الشارقة معنا على الهاتف نقول: السلام عليكم يا أخ أحمد. السائل: السلام عليكم. المقدم: وعليكم السلام ورحمة الله. السائل: كيف حالك يا مولانا؟ المقدم: حياك الله وأهل الشارقة جميعاً. السائل: يعطيكم العافية. المقدم: ممكن ترفع لنا الصوت قليلاً يا أخ أحمد. السائل: هناك مشكلة عائلية: رجل حلف على زوجته لأنها تكثر الخروج من باب البيت، فحلف عليها بنية التهديد بالطلاق إذا خرجت من دون إذنه، فهل إذا خرجت تعتبر طالق أم أنه على حسب النية؟ المقدم: هل تذكر اللفظ ماذا قال؛ لأن هذا مهم جداً؟ السائل: إذا خرجت من البيت بدون إذني فأنت طالق. المقدم: طيب لعلنا نسمع الإجابة إن شاء الله. شكراً يا أخ أحمد، نجيب على الأخ أحمد يا شيخ، تفضل في الإجابة على سؤال الأخ أحمد الذي هو رجل حلف على زوجته الذي سمعناه الآن قال: إذا خرجت من البيت بدون إذني فأنت طالق هل يقع عليها الطلاق لو خرجت؟ الشيخ: أما بالنسبة للمسألة مجملة عموماً فإن قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في هذه المسألة ملخصه: أن الحالف بالطلاق على شيء معين أن يقع أو لا يقع يرجع الأمر فيه والحكم إلى نيته، فإن قصد إيقاع الطلاق أنها طالق لو فعلت أو أنها طالق إذا لم تفعل، ثم لم تفعل أو فعلت على المسألتين، فإذا نوى المنع ولم ينو الطلاق ولم يدر في باله عندما تكلم فإنه يمين تجب فيه الكفارة، وإذا نوى أنها لو خرجت بغير إذنه فهي طالق فخرجت بغير إذنه فهي طالق تقع طلقة. أما بالنسبة لهذا الأخ المعين الذي سأل فيرجع إلى القاضي الشرعي في الشارقة ويعرض عليه مسألته ويأخذ الجواب؛ لأن المسائل المعينة لا بد فيها من الرجوع إلى القاضي. أما بالنسبة لفائدة في ذكر الحكم أو رأي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فهو هذا، ثم إن خرجت ناسية للفائدة أيضاً لا يقع الطلاق، ثم أيضاً إن أراد أن يخرج نفسه من هذا المأزق فيمكن أن يأذن لها بالخروج مستقبلاً، وأما إذا خرجت يرجع إلى القاضي لينظر نتائج ما فعل، والنصيحة: ألا يلجأ الأزواج إلى هذا الأسلوب في منع زوجاتهم، عنده الموعظة بالحسنى، والشرع علمه ماذا يفعل: {فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء:34]؛ لأن تعليق الأسرة في مهب الريح بمثل هذه العبارات مصيبة كارثة.

التفصيل في تحري دخول رمضان في البلاد الغربية

التفصيل في تحري دخول رمضان في البلاد الغربية المقدم: معنا الأخ عبد العزيز من أمريكا السلام عليكم. السائل: وعليكم السلام يا شيخ. المقدم: حياك الله يا أخ عبد العزيز. السائل: الله يحييك ويهديك. المقدم: الحمد لله تسرك. السائل: أخبارك يا شيخ محمد. الشيخ: الحمد لله حياك الله يا أخي. السائل: أنا أحد طلابك في المرحلة الابتدائية. الشيخ: حياك الله. السائل: أخبارك طيبة؟ المقدم: الله يحييك تفضل يا أخ عبد العزيز. السائل: يا شيخ محمد بعض الطلاب المبتعثين في أمريكا هنا، يقولون: هل نصوم رمضان كل واحد تبعاً للبلد الذي ينتمي له أم هل نتحرى الهلال أو ماذا؟ ما الحكم في المسألة هذه وأشكل علينا هذا الموضوع؟ وهناك موضوع آخر بالنسبة لبعض الشباب الله يهديهم ويهدينا يأتون هنا إلى أمريكا يقعون في بعض المعاصي التي توجب النصيحة، ويعملون أعمالاً ليست من ديننا، ولا من تقاليدنا، ولا من آدابنا فنرجو منك توجيهاً ونصيحة للشباب. المقدم: بارك الله فيك يا أخ عبد العزيز، وشكر الله لك يا أخي، ولو أنك أنت قلت: ما أنت مبسوط إلا لما رأيت الشيخ محمد. السائل: لا انبسطنا زيادة. المقدم: شكراً أخي عبد العزيز. المقدم: يا شيخ محمد عندنا حوالي دقيقتين أو ثلاث نجيب خلالها على الأخ عبد العزيز والأخت أم عمر إن أذنتم الله يجزيكم الخير ويعنيكم يا شيخ. الأخ عبد العزيز يقول: في رمضان هل يصوم الناس هناك كل مع بلده أم ماذا يفعلون؟ الشيخ: إذا كانت لديكم رؤيا شرعية فأنتم تتحرون الهلال وتثبتونه شرعاً وتسيرون على هذه الرؤية، وإذا لم يكن لديكم رؤية شرعية في البلد الذي أنتم فيه فتصومون على أوثق بلد فيه رؤيا شرعية، فمثلاً يرى هنا في المملكة يتقدم الرائي لإثبات الرؤية الشرعية، ويثبت ذلك بالطريقة المعروفة المعتمدة فبناءً عليه إذا ثبت شرعاً فيلزم المسلمين الصوم عند جمهور العلماء يلزمهم جميعاً، برؤية الرجل الثقة يدخل الشهر عند كل المسلمين. وأما باعتبار اختلاف المطالع وهو رأي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: لكل قوم رؤيتهم، ففتوى الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله وكذلك هيئة كبار العلماء أنه إذا كانت لديهم رؤية شرعية في بلدهم ساروا عليها، وإلا ساروا على الرؤيا الشرعية في البلد الذي يثبت فيه بالطريقة الموثوقة المعروفة، وهناك يا شيخ مسعود من يروج الآن من هؤلاء المتعفنين والمتعفنة عقولهم الذين يسمون أنفسهم بالمستنيرين لقضية أنه لا رؤية، وأن العمل بالحساب، ويخالفون نصاً واضحاً عن النبي صلى الله عليه وسلم: (صوموا لرؤيته) ويقولون: الرؤية فيها أخطاء والحساب ليس فيه أخطاء، والرؤيا رؤي البشر وهذه شغل أجهزة، وكأن أجهزتهم معصومة، هذا حديث عن النبي عليه الصلاة والسلام في صحيح البخاري: (صوموا لرؤيته) تضربون به عرض الحائط لأجل الأجهزة؟! سبحان الله!! وأظن قبل عامين ثبتت الرؤية شرعاً والحسابات قالت خلاف ذلك، وهذا في القرن الحادي والعشرين وليس في العصر القديم فالأولى أن نسير على الدليل.

حكم جمع الجمعة إلى العصر والتبرع بثواب الصلاة لشخص حي

حكم جمع الجمعة إلى العصر والتبرع بثواب الصلاة لشخص حي المقدم: معنا الأخت أم عمر من السعودية السلام عليكم يا أم عمر. السائلة: السلام عليكم. المقدم: وعليكم السلام ورحمة الله. السائلة: ممكن أسأل فضيلة الشيخ. المقدم: تفضلي. ارفعي صوتك قليلاً من أجل أن نسمع، لو سمحتي. السائلة: أول Q نحن النساء هل يمكن أن نجمع صلاة العصر مع صلاة الجمعة حال السفر، ونقصر الصلاة أم لا؟ المقدم: سنسمع الإجابة إن شاء الله. السائلة: سؤال ثاني: هل يمكن أن يصلي الإنسان صلاة نافلة وغيرها لشخص من الأحياء كالأقارب أو الأصحاب، يعني: كصلاة المسجد الحرام والمسجد النبوي ويهديها لشخص من الأحياء. السؤال الثالث: المرأة المتوفي عنها زوجها وهي في عدة فهل من الضروري أنها تقضي العدة في منزلها ولا تخرج، أم هل يباح لها أنها تخرج في أوقات الضرورة. المقدم: سنسمع إن شاء الله. السائلة: جزاك الله خيراً. المقدم: بارك الله فيك وحياك الله. المقدم: الله يجزيك خيراً. أختنا أم عمر تقول في سؤالها الأول: هل يمكن جمع العصر مع الجمعة في السفر؟ الشيخ: مذهب جمهور العلماء أنه لا يجمع العصر إلى الجمعة قالوا: لأن الجمعة ليست ظهراً والجمع قد ثبت في السنة بين الظهر والعصر، والجمعة تختلف عن الظهر في عدد الركعات، والجهر بالصلاة والخطبة، والوقت أيضاً على الراجح إذاً: لا يجمع العصر إلى الجمعة. المقدم: بقي عندنا أقل من دقيقة نقول: إذا صلى الإنسان في مكان فاضل في الحرمين مثلاً وأهداها لشخص حي أو ميت هل يجوز هذا؟ الشيخ: هذا عمل غير مشروع أن الإنسان يصلي ويهدي ثواب صلاته إلى حي آخر، والإنسان ليس بغني عن الحسنات، ما هذا الدافع العجيب عند بعض الناس يريد يفعل ويهدي كأنه مستغنٍ هو، وأن حسناته كالجبال وما عنده سيئات، هو أحوج إليها، ويدعو للميت كما علمنا النبي عليه الصلاة والسلام: (أو ولد صالح يدعو له). المقدم: الله يحفظكم، الحقيقة سؤال أخير المتوفى زوجها هل لا بد أن تبقى في البيت فترة العدة. الشيخ: سبق A أنها تبقى في البيت أربعة أشهر هجرية وعشرة أيام، ولا تخرج إلا لحاجة، وتجعل خروجها نهاراً. المقدم: شكر الله لكم يا شيخ محمد، باسم المشاهدين الكرام نشكر فضيلة الشيخ محمد بن صالح المنجد على هذه الجلسة.

مفسدات القلوب واتباع الهوى [1 - 2]

مفسدات القلوب واتباع الهوى [1 - 2] إن اتباع الهوى مفسد للقلب فهو عن الخير صاد، وللعقل مضاد؛ لأنه ينتج من الأخلاق قبائحها، ومن الأفعال فضائحها، ويجعل شر المروءة مدلوكاً، ومدخل الشر مسلوكاً. وفي هذه المادة يتحدث الشيخ عن اتباع الهوى وجهاده، وأقوال العلماء فيه، وأسبابه وأضراره وعواقبه وعلاجه.

جهاد الهوى

جهاد الهوى الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: الهوى وما أدراك ما الهوى، المفسد العظيم من مفسدات القلوب، هو عن الخير صاد، وللعقل مضاد؛ لأنه ينتج من الأخلاق قبائحها، ويظهر من الأفعال فضائحها، ويجعل ستر المروءة مدلوكا، ومدخل الشر مسلوكا، والهوى مطية الفتنة، والدنيا دار المحنة، فانزل عن الهوى تسلم، وأعرض عن الدنيا تغنم، ولا يغرنك هواك بطيب الملاهي، ولا تفسدنك دنياك بحسن العوافي، فمدة اللهو تنقطع، وعارية الله ترتجع، ويبقى عليك ما ترتكبه من المحارم وتكتسبه من الجرائم. والهوى حجاب بين العبد وربه، فيه حطت النار، واستحق به غضب الجبار، وحرم أتباعه منازل الأبرار، ولهذا عظمت منزلة مخالفته، فلم يجعل الله للجنة طريقاً غير مخالفته، ولم يجعل للنار طريقاً غير اتباعه، قال الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:37 - 41] قيل: هو العبد يهوى المعصية فيذكر مقام ربه عليه في الدنيا ومقامه بين يديه في الآخرة فيتركها -أي المعصية- لله. بل شرع الله له -للهوى- الجهاد، فجهاد الهوى إن لم يكن أعظم من جهاد الكفار فليس بدونه، قال رجلٌ للحسن: يا أبا سعيد! أي الجهاد أفضل؟ قال: جهادك هواك. قال ابن القيم رحمه الله: وسمعت شيخنا يقول: جهاد النفس والهوى أعظم من جهاد الكفار والمنافقين، فإنه لا يقدر على جهادهم حتى يجاهد نفسه وهواه أولاً؛ حتى يخرج إليهم -أي: للكفار- وبدون جهاد الهوى والنفس لا يمكن الخروج إلى جهاد الكفار، فلا بد أن ينتصر عليها أولاً. فإذا كان هذا شأن الهوى فلابد من معرفته ليحذر ومعرفة أسبابه وطرق التخلص منه، وهذا موضوع الحديث في هذه الليلة بمشيئة الله: معنى الهوى لغةً واصطلاحاً والآيات والأحاديث الواردة فيه، وموقف التشريع من الهوى، وخطر الهوى، وما يتعلق باتباع الهوى والأهواء في التشريع وفي العقائد مما يضاد التشريع ويضاد العقائد ويضاد الأحكام الفقهية أيضاً، ونتحدث كذلك عن علاج الهوى. ولقد تحدث الشاعر عن قوم رأى معاشرهم جنحوا بـ طبيعتهم في كل تيار في اتباع الهوى وقال عنهم: تهوى نفوسهم هوى أجسامهم تهتك بكل دناءة وصغارِ تبعوا الهوى فهوى بهم وكذا الهوى ملئ الهوان بأهله فحذارِ فانظر بعين الحق لا عين الهوى فالحق للعين الجلية عاري عار: يعني ليس عليه غطاء. قاد الهوى الفجار بل قالوا له دأبت عليه مقادة الأبرار

تعريف الهوى لغة واصطلاحا

تعريف الهوى لغة واصطلاحاً الهوى في اللغة: مصدر هويه يهواه، من باب علم أي: أحبه واشتهاه. والهوى في الأصل: العشق في الخير أو الشر، وما تريده النفس، وجمعه: أهواء، وهوي إذا أحب. قال ابن القيم رحمه الله في تعريف الهوى: الهوى ميل الطبع إلى ما يلائمه، وهذا الميل خلق في الإنسان لضرورة بقائه، فإنه لولا ميله إلى المطعم والمشرب والمنكح ما أكل ولا شرب ولا نكح، فالهوى مستحس لما تريده هذه النفس كما أن الغضب دافع عنه ما يؤذيه فلا ينبغي ذم الهوى مطلقاً، ولا مدحه مطلقاً، كما أن الغضب لا يذم مطلقاً ولا يحمد مطلقاً، وإنما يذم ما فيه إفراطٌ من النوعين، وهو ما زاد على جلب المنافع ودفع المضار، وهناك غضب لله وهناك غضب للنفس، ذاك محمود وهذا مذموم، وكذلك الهوى هناك هوى فيما يحبه الله عندما تصبح النفس تهوى ما يحبه الله هذا هوى محمود: (ما أرى ربك إلا يسارع في هواك) لكن الهوى المذموم أكثر، والمقصود أن الهوى من جملة السلوك الفطرية عند الإنسان، وهذا أمرٌ ضروريٌ وملازم وليس مكتسباً، ولذلك لا يذم مطلقاً ولا يمدح مطلقاً، وهنا يأتينا إشكال؛ وهو أننا وجدنا آيات في القرآن الكريم مفادها ذم الهوى مطلقاً فما هو وجه التوفيق بين هذا وبين ما تقدم؟ قال تعالى: {فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} [النساء:135] وقال تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص:26] وكذلك ما جاء في السنة وكلام الصحابة والعلماء كما سيأتي. قال ابن القيم رحمه الله في كلام له في رفع هذا الإشكال: ولما كان الغالب على متبع هواه وشهوته أنه لا يقل فيه عن حجم المنتفع به -يعني: المنتفع بهواه، أي أن الإنسان يمكنه أن يوجه الهوى توجيهاً ينتفع به منه- لكن لما كان الغالب على متبعي الهوى أنهم لا يقفون عند حد الانتفاع بل يتعدون -أطلق ذم الهوى؛ لأن الغالب هو استعماله واتباعه فيما يضر، ولذلك أطلق في عدد من النصوص ذمه بدون تفصيل لعموم غلبة الضرر، مثل الشهوة والغضب، فأنت ترى في كثير من النصوص ذم الشهوة مطلقاً، وهناك شهوة مباحة ومستحبة وهناك غضب محمود وذلك لأنها غالباً لا تنفع وإن لم تكن كلها أضرار، وبهذا يحصل التوفيق وتفهم القضية ويندر من يقصد العدل في هذه الأمور ويقف عندها؛ ولذلك لا تكاد تجد الهوى في الكتاب والسنة إلا مذموماً، وعندما ذكر الهوى في السنة بذم جيء به مقيداً، كما جاء في الحديث الذي صححه بعض أهل العلم وضعفه بعضهم: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) فإذا كان هواك تبعاً لما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام كان هوى محموداً.

الهوى في الكتاب والسنة

الهوى في الكتاب والسنة وعندما كان صاحب الهوى منه إما محباً للخير حاضاً عليه، وإما مريداً للشر حاضاً عليه، وتجد أن الله عز وجل يصف الهوى في أكثر الآيات للكفار: {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا} [الأنعام:150] {قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [الأنعام:56] {وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة:77] والمقصود بهذه الآيات نوع من الكفار هم أهل الكتاب: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} [المائدة:48] {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [الشورى:15] {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} [الفرقان:43]. وقد جاء في الحديث نسبة الهوى إلى صاحبه كما قال: (والعاجز من أتبع نفسه هواها) مع تقصيره في طاعة الله واتباعه للشهوات لا يستعد ولا يعتذر ولا يرجع بل يتمنى العفو والجنة، مع الإصرار وترك التوبة والاستغفار. (العاجز من غلبت عليه نفسه فأعطاها ما تشتهيه). قال الحسن: [إن قوماً لهتهم الأماني حتى خرجوا من الدنيا وما لقوا حسنة، ويقول أحدهم: إني أحسن الظن بربي، وكذب فإنه لو أحسن الظن أحسن العمل. {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت:23]] وجاء في الحديث الصحيح في الحوار بين حذيفة وعمر لما روى حذيفة رضي الله عنه حديث عرض الفتن على القلوب عوداً عوداً، وكيف يصبح قلب المؤمن في النهاية بعد التمحيص أبيض مثل الصفا لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والقلب الآخر الذي نكتت فيه نكتة من المعصية على نكتة أخرى من معصية أخرى على ران يعلو القلب، قال: (والآخر أسود مرباداً كالكوز مجخياً، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه) فأضاف الهوى إلى القلب، وأضاف الله عز وجل الهوى دون أن ينقصه إلى الكفار لأن أهواءهم ليست على الحق بخلاف المؤمن فإن هواه موافق للحق، وهذا هو الفرق بين المؤمن والكافر، فالكافر هواه كله باطل، والمؤمن قد يرتقي هواه حتى يصير تابعاً لما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام، فإذا مال إلى شيء كان ذلك الشيء سنة وطاعة وعلى أدنى الأحوال مباح فهوى المؤمن إذا ارتقى يصبح موافقاً لما في الكتاب والسنة. ومما ورد من استعمالٍ في الهوى الذي لا يذم ما تقدم كما في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (كنت أغار على اللاتي يهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأقول: أتهب المرأة نفسها؟ فلما أنزل الله تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ} [الأحزاب:51] وأيضاً قال الله له: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:50] قالت عائشة: ما أرى ربك إلا يسارع في هواك). وفي صحيح مسلم في قضية الأسرى بعد معركة بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر وعمر -لوزيريه- مستشيراً: (ما ترون في هؤلاء الأسارى؟ فقال أبو بكر: يا نبي الله! هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ بهم الفدية فتكون لنا قوة على الكفار فعسى الله أن يهديهم للإسلام، فقال رسول الله عليه وسلم: ما ترى يا بن الخطاب؟ قلت: لا والله يا رسول الله! ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكني أرى أن تمكنا فنضرب أعناقهم، فتمكن علياً من عقيل فيضرب عنقه، وتمكني من فلان -نسيب لـ عمر - فأضرب عنقه، فإن هؤلاء قمة الكفر وصناديدها، قال عمر: فهوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت). إذاً: مال إلى قول الصديق، وسماه هوى مع أنه أخذ به لمصلحة الإسلام في ظنه، وليس لأجل اتباع الهوى المخالف للحق، فكان ذلك الاجتهاد من النبي عليه الصلاة والسلام وصاحبه: نأخذ ما ننتفع به من المال منهم ليس لجيوبنا بل لمصلحة الإسلام، ولعل الله أن يهديهم فيموتوا على الإسلام بدلاً من أن نقتلهم على الكفر، هوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر الصديق، فنزل القرآن مصوباً لرأي عمر رضي الله عنه؛ لأنه ليس له أي مدخل في الدنيا، وإنما ضرب الرقاب إثخاناً لهؤلاء الكفار لتنكسر شوكتهم، وقدم على أخذ الأموال وإطلاق هؤلاء الذين ربما يعودون في الجيش القادم ضد المسلمين وتأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة: (كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة، فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخطى، والقلب يهوى ويتمنى ويصدق ذلك الفرج ويكذبه) فقوله صلى الله عليه وسلم: (والقلب يهوى ويتمنى) ليس في الشر فقط بل في الخير أيضاً، ولهذا قال بعده: (ويصدق ذلك الفرج ويكذبه) ما هو المنهي عنه بالنسبة لنا الآن وأي هوى الذي ننهى عنه؟ لو نظرنا في المواضع التي نزلت في الكتاب العزيز لعرفنا أننا نهينا عن اتباع الكفار كما تقدم، وقال تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد:14] هل هذا مثل الذي يتبع هواه؟ {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف:28] وهذا الاتباع فيه التقصي للشيء من كل وجه؛ لأن الاتباع في الأصل المشي خلف الشيء، فالذي يكون متبعاً لهواه يتأمل دقة العبارة في القرآن وبلاغة القرآن: {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [الكهف:28] إذا قلت: فلان اتبع فلاناً، أي: مشى وراءه، واحدة واحدة، حذو النعل بالنعل، فقول الله تعالى: {وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد:14] فكأن الهوى هو القائد وهم يسيرون خلفه فيتبعونه، فحيثما مال بهم الهوى مالوا، وحيثما قادهم انقادوا وهكذا. وقد جاءت السنة بهذا التعبير عن أبي أمية الشعباني قال: (سألت أبا ثعلبة القشري فقلت: يا أبا ثعلبة! كيف تقول في هذه الآية: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [المائدة:105]؟ قال: أما والله لقد سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بل ائتمروا بالمعروف) هل قوله: (عليكم أنفسكم) يعني: عليه نفسه وما له دخل في الناس إذا رأى منكراً أو خطأ؟ هل هذا معنى الآية؟ كلا، ولذلك قال: (إني سألت النبي عليه الصلاة والسلام عنها -فقال: بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً وهوىً متبعاً ودنياً مفترةً -تقدم على الآخرة- وإعجاب كل ذي رأيٍ برأيه -لا أحد يرضخ لأحد، كل واحد يرى نفسه أنه شيخ المشايخ وأعقل العقلاء وأحكم الحكماء وأذكى الأذكياء، ولا أحد يتنازل عن ذلك- فعليك بنفسك ودع عنك العوام) الآن يطبق عليك عندما لا يوجد مجال إلا هذا فسدت الدنيا وفسد الجو المحيط والبيئة وكل واحد متبع هواه والشر منتشر والدنيا مقدمة، وكل إنسان معجب برأيه فلا فائدة إذاً من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أغلقت الأبواب سيأتي وقت يمر على البشرية بهذه الطريقة وبهذه الصفات، فعليك نفسك عندئذٍ، فنحن الآن نقترب من هذه المرحلة؛ لكن -الحمد لله- ما وصلنا إليها ولا زلنا نرى نتيجة من الدعوة، ونتيجة من النصيحة، ونتيجة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهناك تأثر من بعض الناس وإن كانوا أقلية؛ لكن هذا موجود، وهناك أناس من المؤمنين سيصلون إلى مرحلة هذه حالها، قال: (فإن من ورائكم أيام صبر، الصبر فيها مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم، قالوا: يا رسول الله! أجر خمسين منهم؟ قال: أجر خمسين منكم). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن مما أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم ومضلات الهوى) وهو حديث صحيح فقيد الهوى بمضلات. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ونفس الهوى والشهوة لا يعاقب عليه، كل إنسان في نفسه هوى وشهوة، فهل يعاقب لأن في نفسه هوى وشهوة؟ هل يطلب من كل إنسان أن يستخرج الهوى والشهوة من نفسه وينبذها خارجاً؟ A لا. ولا يستطيع، يعني: لا يأثم على وجودها وليس مطالباً بإخراجها لأنه لا يمكن انتزاع الهوى والشهوة من النفس وإسقاطهما، ولذلك قال شيخ الإسلام: "ونفس الهوى والشهوة لا يعاقب عليها، بل على اتباعه والعمل به" إذا صار يتبع شهوته في كل شيء، ويتبع الهوى في كل شيء فالعقوبة على الاتباع لا على نفس الشهوة، وهذا كلام دقيق موزون، فإذا كانت النفس تهوى وهو ينهاها كان نهيه عبادة لله وعملاً صالحاً، وكان في جهاد: {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40 - 41] ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث مهلكات: شحٌ مطاع، وهوىً متبع، وإعجاب المرء

موقف الشريعة من الهوى

موقف الشريعة من الهوى ما هو موقف الشريعة من الهوى؟ عندما خلقت النفس في الأصل جاهلة ظالمة، قال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72] فلجهلها تظن أن شفاءها في اتباع هواها، وإنما هو أعظم داءٍ فيه تلفها، وتضع الداء موضع الدواء، والدواء موضع الداء، وكله بسبب الظلم والجهل والهوى فيتولد بذلك عللٌ وأمراض، كيف لو أن إنساناً داوى نفسه بشيء ٍيجلب له المرض، وداء المنية كانت هي الداءُ، كيف سيكون حاله؟ فيتولد من ذلك عللٌ وأمراض، وهي مع ذلك تبلغ نفسها وتلوم ربها عز وجل بلسان الحال، وقد تصرح باللسان ولا تقبل النصح في ظلمها فتقول النفس لله: أنت قدمت علي، وأنت كتبت، وأنت كذا وأنا بريئة، وأنا مغصوبة وأنا مجبورة مع أنها تملك الإرادة في الاختيار وفيها قوة الممانعة والمداهنة. فهاتان الخصلتان: الظلم والجهل هما أساس كل شرٍ عند الإنسان، ولا يظن ظان أن ظلم الإنسان وجهله يكون في حق غيره بل إن أول من يتضرر بهذا هي نفسه التي بين جنبيه، والتشريع إنما جاء لإصلاح الإنسان في دنياه وآخرته ولصلاحه كذلك، وأما هواه المبني على الظلم والجهل فلا يمكن أن يحقق له سعادة في الدنيا ولا في الآخرة، فإذا علمت حقيقة التضاد بين الهوى والشرع، وحقيقة الظلم والجهل في النفس، وأن والهوى مركب فيها، وأن التشريع جاء لإصلاحها فمن المتوقع أن يحدث هناك تعارض بين الشرع وبين النفس، لأنك تهوى وتجهل وتظلم، والشرع يريد صلاحاً وإصلاحاً وعدلاً فمن المتوقع أن يحدث اصطدام بين الشرع والنفس، وهذا الحق والشرع واتباع الهوى نقيضان لا يجتمعان، فحيث يأتي الأمر باتباع الشرع، يأتي النهي عن اتباع الهوى، هاتوا دليلاً من القرآن الكريم نجد فيه أن الأمر باتباع الشرع جاء مقروناً بالنهي عن اتباع الهوى، هاتوا دليلاً من القرآن الكريم؟ وهنا تصريح باتباع الشرع وأعقبه بالنهي عن اتباع الهوى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الجاثية:18]. والشرع يأتي مناقضاً للهوى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة:49] وجاء هذا التحذير للأنبياء السابقين: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص:26] قال الشاطبي: "حصر الأمر في شيئين: الوحي وهو الشريعة، والهوى، فلا ثالث لهما". يعني: لا يوجد إلا شريعة وهوى ولا يوجد شيء ثالث، وإذا كان كذلك فهما متضادان، وحين تعين الحق في الوحي توجه للهوى ضده وهو الباطل، فاتباع الهوى مضاد للحق. وقال شيخ الإسلام رحمه الله في فصل تعارض العقل والنقل في الوجه السادس والستون: أخبر سبحانه أن كل حكم خالف حكمه الذي أنزله على رسوله فهو من أحكام الهوى لا من أحكام العقل، وهو من أحكام الجاهلية لا من أحكام العلم والهدى، فقال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:49 - 50] فأخبر سبحانه وتعالى: أنه ليس وراء ما أنزله إلا اتباع الهوى، فإذا رغب عن اتباع ما أنزله الله سيقع حتماً في اتباع الهوى، وإذا تعدى ما أنزل الله؛ حتماً سيقع في اتباع الهوى الذي يضل عن سبيله وليس وراء حكم الله إلا حكم الجاهلين -وقد كان شيخ الإسلام يحارب في جبهة المنطق وعلم الكلام يحاربهم ويقف ضدهم فكان يقنعهم يقول يعني: غير النصوص الشرعية اتباع الهوى- فهذه الأشياء التي تخالفون إنما هي قواعد فلسفية بل هي اتباع هوى ضلال، وكل هذه الآراء والمعقولات المخالفة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم هي من قضايا الهوى وأحكام الجاهلية وإن سماها أربابها بالقواطع العقلية والبراهين اليقينية -كما فعل الأشاعرة - وتحاكموا إليها، والنص إذا خالف القواطع العقلية والبراهين اليقينية يؤول ويسمى بغير اسمه. كتسمية المشركين أوثانهم وأصنامهم آلهة، وتسمية المنافقين السعي في الأرض بالفساد، وصد القلوب عن الإيمان إصلاحاً وإحساناً وتوفيقا. وقال الشيخ ابن باز رحمه الله في نصيحة له لعموم المسلمين قال في أولها: من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى من يرى هذا الخطاب من المسلمين سلك الله به السبيل إلى المسلمين، وأعاذني وإياكم من طريق المغضوب عليهم والضالين آمين، قال في نصيحته: وكل من أعرض عن القرآن والسنة فهو متابعٌ لهواه عاصٍ لمولاه، مستحقٌ للنقد والعقوبة كما قال تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} [القصص:50] وقال تعالى في نقص الكفار: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم:23].

اتباع الهوى يطمس نور القلب ويصد عن الحق

اتباع الهوى يطمس نور القلب ويصد عن الحق واتباع الهوى -والعياذ بالله- يطمس نور القلب ويصد عن الحق، كما قال تعالى: {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص:26] فاحذروا -رحمكم الله- من اتباع الهوى والإعراض عن الهدى وعليكم بالتمسك بالحق والدعوة إليه، والحذر ممن خالفه لتفوزوا بخيري الدنيا والآخرة. وهذه القضية -أيها الإخوة- متفقة مع فطرة الله تعالى التي فطر الناس عليها، وبدون مخالفة الهوى تفسد السماوات والأرض، ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن ولهذا كان من مقاصد الشرع تعبيد الناس لرب العالمين وتخليصهم من رق الهوى وأسره. قال الشاطبي رحمه الله: المقصد الأصلي من وضع الشريعة في هذه الأحكام، إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبداً لله اختياراً كما هو عبدٌ لله اضطراراً. الآن نحن هل نستطيع الخروج عن الكون إطلاقاً؟! لا. فنحن عبيد غصباً عنا من هذه الناحية، فهل يمكن أن تخرج عن نواميس الله الكونية؟ لا يمكن، فأنت رغماً عنك عبد، لكن ممكن أن تعصي الله وممكن أن تفعل المنكرات والمحرمات، والشرع جاء ليجعلك متبعاً لهدى الله اختياراً كما أنك عبدٌ له اضطراراً، فالآن الكفار عبيد لله بالاضطرار، فإذا أراد أن يمرضهم أمرضهم رغماً عنهم، وإذا أراد أن يحضرهم أحضرهم غصباً عنهم، وإذا أراد أن يميتهم قبض أرواحهم رغماً عنهم، فهم عبيدٌ رغماً عنهم، من هذه الجهة جهة اضطرار، لكن الشريعة لا تريد العبودية من جهة الاضطرار فقط، بل تريد أيضاًَ أن تكون عبداً من جهة الاختيار، فيصلي لله بنفسه، ويزكي بنفسه، ويذكر بنفسه، ويدعو بنفسه، ويترك الحرام اختياراً منه، فيؤجر، حتى يعبد الله اختياراً كما أنه يعبده اضطراراً. فالشريعة جاءت بتعبيد النفس لله، ولذلك تجد أن الشريعة لا تأمر بأشياء تهواها النفس أصلاً، ليس هناك أوامر كثيرة في القرآن الكريم والسنة تقول: لا تنسوا الأكل، عليكم بالأكل والمأكولات، وعليكم بالشرب، يا أيها الناس! الشرب والشراب، من شرب فله كذا كذا حسنة، انكحوا ومن نكح فله كذا كذا، اشتروا وحصلوا الأموال، من حصل الأموال فله كذا، لماذا لم تأت الشريعة بنصوص من هذا النوع؟ وإنما تجد شيئاً شاقاً وثقيلاً على النفس؛ فكم من نصٍ ورد في الصلاة وكم من نص ورد في الجهاد! لأنها ثقيلة على النفس، لكن الأشياء الخفيفة التي تهواها النفس بطبيعتها هل تجد فيها آيات كثيرة؟! هل تجد آيات كثيرة تحث على الأكل والشرب والنوم والنكاح والبيع والشراء؟ لا. لماذا؟ لأن هوى العبد معه، فلا يحتاج إلى مؤكدات ومحفزات ومرغبات فيه، لكن الأشياء التي تخالف حظ النفس كالصلاة والجهاد والصيام وإخراج الأموال والصدقات والبذل والتضحية وردت فيها النصوص الكثيرة والمرغبات؛ لأن الشريعة تريد أن يكون العبد متبعاً لمولاه لا متبعاً لهواه، وأن يكون عبداً اختياراً كما هو عبدٌ اضطراراً.

أقوال العلماء في الهوى

أقوال العلماء في الهوى قال ابن القيم رحمه الله: ولما امتحن المكلف بالهوى من بين سائر البهائم، وكان كل وقتٍ تحدث عليه حوادث جعل فيه حاكمان: حاكم العقل، وحاكم الدين، وأمره أن يرفع حوادث الهوى دائماً إلى هذين الحاكمين، وأن ينقاد لحكمهما. والمقصود العقل المتبع الموافق للشرع وليس العقل المخالف للشرع، فالمخالف للشرع ليس بعقل في الحقيقة، وإنما سمي العقل عقلاً؛ لأنه يعقل صاحبه عما يضره. وقال الماوردي رحمه الله في كلام نفيس له: فلما كان الهوى غالباً، وإلى سبيل المهالك مورداً؛ جُعل العقل عليه رقيباً مجاذباً، يلاحظ عثرة غفلته، ويدفع ذاكرة خطوته، وخداع حيلته؛ لأن سلطان الهوى قوي، ومدخل مكره خفي، ومن هذين الوجهين يؤتى العاقل حتى تنفذ أحكام الهوى عليه؛ قوة السلطان وخفاؤه. أما الوجه الأول: فهو أن يقوى سلطان الهوى بكثرة دواعيه حتى يستولي عليه -أي: على العقل- مغالبة الشهوات، فيكل العقل عن دفعها، أي: أن أي إنسان واحد يمكن أن يكون عنده عقل يدفع به الشهوة، لكن إذا كثرت الشهوات سيتعب العقل من الدفع والدرء فيخف سلطانه ويقوى الهجوم فيضعف عن المنع فيقع، مع أنها واضحة في العقل أنها غلط، قال: وهذا يكون في الأحداث أكثر، وعلى الشباب أغلب، لقوة شهواتهم، وكثرة دواعي الهوى المتسلط عليهم، وإنهم ربما جعلوا الشباب عذراً لهم، وفعلاً تجد بعض الناس يقول: يا أخي! نحن شباب، وبعض الآباء أيضاً يعذرون أبناءهم الشباب بهذه فإذا عوتب بتصرف ولده الخطأ قال: هذا شاب مراهق، هذه الفترة لا بد منها، وماذا يعني لا بد منها؟ كأن يقول: لا تؤاخذ هذا الولد الشاب، فيقول الماوردي إنهم ربما جعلوا الشباب عذراً لهم، كما قال محمد بن البشير: كلٌ يرى أن الشباب له في كل مبلغ لذةٍ عذرا كلما أراد أن يتبع لذة محرمة هونت عليه القضية أنه شاب، يقول: مازال شاباً صغيراً اصبر عليه، الآن يلعب ويلهو في الحرام لأنه شاب. قال: وحسم ذلك أن يستعين بالعقل على النفس النفورة. أي: نحن في تربية الشباب لا بد أن نقوي عندهم داعي العقل الذي يعني: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10] أي: طريق الخير وطريق الشر، فيعرف الحق والباطل، الطاعة والمعصية، يعرف ما يضره وما ينفعه، على الأقل يعرف الشيء الذي يضر والشيء الذي ينفع، هذا الميزان والقوة التي في النفس، وقوة العقل إذا نميناها عند الشباب يصير عنده مركز تحكم قوي وعنده مقاومة قوية، أما إذا كان داعي العقل عنده ضعيف ولا يميز بين ما يضره وينفعه وليس عنده تلك القوة والسلطان، فعند ذلك إذا اجتمعت عليه الشهوات غلبت عقله الضعيف المسكين. قال: وحق ذلك أن يستعين بالعقل على النفس النفورة، فيشعرها ما في عواقب الهوى من شدة الضرر، وقبح الأثر، وكثرة الإجرام، وتراكم الآثام، أي: يقال له: فكر! أنت الآن عندما تذهب تتابع الفتيات بالحرام ثم تقع في الزنا والفاحشة، أليس ذلك ضرراً عليك؟ هتكت عرضاً والله يغار أن تنتهك حرماته فتسببت في إنجاب ولد حرام فضيحة عليك وفضيحة عليها، وسمعتك تتلوث، وتجلب لنفسك المرض، وتفعل وتفعل، يعني: هذه الأشياء فيها تربية، وداعي العقل، هي أن تفكر وتستعمل العقل، فكر ما حالك في القبر؟ يوم القيامة وأنت في تنور من نار، وفي عذاب الزناة، فماذا تختار؟ لقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات) وأخبر أن الطريق إلى الجنة احتمال المكاره، لا يمكن اختراق الجنة إلا عبر المكاره، ولابد أن تتحمل لتصل، والطريق إلى النار اتباع الشهوات، لا أحد يصل إلى جهنم إلا على جسرٍ من الشهوات؛ لأنه قال: (حفت النار بالشهوات) الذي يدخل النار لابد أن يكون متبعاً للشهوات، حفت الجنة بالمكاره، ولن تنال إلا على جسر من التعب باتباع الهدى وترك الهوى واجتنابه. إذاً: لابد أن نركز على هذا حتى يثمر العقل، فنقول للشباب والشابات ذكوراً وإناثاً: فكر بالعواقب والنتائج والمآلات، هذه المسألة فإذا انقادت النفس للعقل بما أُشعرت من عواقب الهوى لم يلبث الهوى أن يصير العقل مشهوراً وفي النفس مقهورا، ثم له الحظ الأوفر في الثواب الصالح وثناء المخلوقين، فالشاب يقول: أنا لو اتبعت الهدى فسأنال ثواب الله وثواب المخلصين، وإذا اتبعت الهوى يحصل علي كذا، في الدنيا فضيحة ومرض الخ، وفي الآخرة سخط الله والعذاب الأليم. قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40 - 41]. وقال الحسن البصري: أفضل الجهاد جهاد الهوى. وقال بعض الحكماء: أعز العز الامتناع من ملك الهوى. وقال بعض البلغاء: خير الناس من عصى هواه بطاعة ربه. وقال بعض الأدباء: من أمات شهوته أحيا مروءته. وطبعاً ليس المقصود بإماتة الشهوة المباحة والمستحبة، كلا، هي توجيه وعملية تنظيم وضبط الغريزة. وقال بعض العلماء كلاماً بليغاً: ركب الله الملائكة من عقل بلا شهوة، وركب البهائم من شهوة بلا عقل، وركب ابن آدم من كليهما فمن غلب عقله على شهوته فهو خير من الملائكة، ومن غلبت شهوته على عقله، فهو شر من البهائم. وقيل لبعض الحكماء: من أشجع الناس وأحراهم في الظفر في مجاهدته؟ قال: من جاهد الهوى طاعة لربه، واحترس في مجاهدته من ورود خواطر الهوى على قلبه. قد يدرك الحازم من رأى المنى بطاعة الحزم وعصيان الهوى قال الماوردي: وأما الوجه الثاني: فهو أن يخفي الهوى مكره حتى تتموه أفعاله على العقل، يعني: ليس كل حرام يأتي إلى الإنسان واضحاً وصريحاً، الهوى يستعمل أسلوب اللف والدوران والإخفاء والتدبير والتمويه والتغريب في قالبٍ يحبه الناس. والهوى يموه فيتصور القبيح حسناً، والضار نفعاً، وهذا يدعو إليه أحد شيئين: إما أن يكون للنفس ميلٌ إلى ذلك الشيء، فيخفى عنها القبيح لحسن ظنها، وتتصوره حسناً لشدة ميلها، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حبك الشيء يعمي ويصم) أي: يعمي عن الرشد ويصم عن الموعظة، وضبطها شيخٌ لي في النحو قرأت عليه: يعمي ويصمي. وقال علي رضي الله عنه: الهوى عمى. وأما السبب الثاني: فهو اشتغال الفكر في تمييز ما اشتهى، فيطلب الراحة في اتباع ما تسهل حتى يظن أن ذلك أوثق الأمرين، وأحمد الحالين، اغتراراً بأن الأسهل محمود والأعسر مذموم، فلا يعدم أن يتورط بخدع الهوى، وريبة المكر، في كل حسن ومكروه. ولذلك قال عامر بن الطلق: الهوى يقظان والعقل غلب فهذا سبب نجاح عملية التمويل، فالهوى يقظان والعقل راقد والنفس تطلب الأسهل. وقال سليمان بن وهب الهوى أمنع، والرأي أنفع. وقيل في المثل: العقل الوزير الناصح، والهوى وكيل فاضح. كيف نتغلب على السبب الأول وعلى السبب الثاني؟ التغلب أن يجعل فكر قلبه حكماً على نظر عينه، فإن العين رائد الشهوة، والشهوة من دواعي الهوى، والقلب رائد الحق، والحق من دواعي العقل. وقال بعض الحكماء: نظر الجاهل بعينه، ونظر العاقل بقلبه، يعني أن الجاهل يبنى أنه حسن أو لا بالشيء السطحي الظاهر أمام العين، العاقل أو الذي سوف ينجو ينظر بعقله لا بعينه، ولذلك ممكن يكون أعمى وهو نادر، ثم يتهم نفسه في فوات ما أحبت وتشتيت ما اشتهت، إذاً من الطرق الكبيرة لمعالجة الهوى أن تنظر أين ميل نفسك، إذا رأيتها تميل في اتجاه معين اتهم نفسك وشك فيها أنها تريد هذا وهو محرم، أو فيه أمر لا يرضاه الله، ولذلك مالت إلى نفسك، فخالف الأصل فاتهم نفسك فيما أحبت وما اشتهت. ثم انظر إذا صرت بين أمرين أيهما أثقل على النفس، فإن النفس عادة تريد الأسهل؛ لأن النفس عن الحق أنفر، وللهوى آثر؛ ولذلك قال العباس: إذا اشتبه عليك أمران فدع أحبهما إليك وخذ أثقلهما عليك، والثقيل يبطئ النفس وتظهر القضية بشكل أوضح مع البطء. وقال علي رضي الله عنه: [من تفكر أبصر، والمحبوب أسهل شيء تسرع النفس إليه، وتعجل بالإقدام عليه، فيكون استدراك ولا ينفع التفكير بعد العمل، ولا الاستبانة بعد الفوز -إذاً: خرجنا الآن بأمرين فانظر ما تميل إليه نفسك فخالفه- وإذا تعرضت لأمرين فانظر أثقلهما عليك فرجح أن يكون فيه الصواب وأخفهما على نفسك فشك ورجح أن هذا فيه الخطأ والباطل]. إذا نظرنا إلى قول الله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:23] أي: اتخذ دينه هواه، لا يهوى شيئاً إلا ركبه، فهؤلاء الكفار لا يؤمنون بالله، ولا يحرمون ما حرمه، ولا يحللون ما أحله، إنما دينهم اتباع الهوى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:23] ذلك الكافر اتخذ دينه بغير هدى من الله ولا برهان: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:23] لا يهوى شيئاً إلا ركبه، ولا يخاف الله، هذه بعض عبارات المفسرين في تفسير هذه الآية، حتى كان الواحد من العرب الكفار يعبد حجراً، فإذا رأى حجراً أحسن منه طرح الأول وعبد الثاني، لماذا؟: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:23] أفرأيت -يا محمد- من اتخذ معبوده هواه فيعبد ما هوي من شيء دون إله الحق الذي له ملكية كل شيء {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية:23] فليس في علمه طريق حقٍ يسير فيه. وحق الهوى أن الهوى سبب الهوى ولولا الهوى في القلب ما وجد الهوى ألا ترى علم الله بالأشياء ما أكمله، ألا ترى أنه جعل الضلالة والحيرة فيمن أضله عن علم: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية:23] وهذا أشد شيء، ألا ترى أن العاشق من شدة إعجابه يكاد يعبد المعشوق. ألا ترى أن أهل البدع لبس عليهم وأضلهم الله وبعضهم على علم، هل تظن أن شيوخ أهل البدع لم يطلعوا على كلام أهل الس

التوحيد والهوى متضادان

التوحيد والهوى متضادان التوحيد والهوى متضادان، كما قال ابن القيم: فإن الهوى صنم ولكل عبد صنم في قلبه حتى في هواه، وإنما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لكسر الأصنام وعبادة الله، وليس مراد الله سبحانه وتعالى كسر الأصنام المجسدة وترك الأصنام التي في القلب، بل المراد كسرها من القلب أولاً -لاحظ العبارة- الرسول عليه الصلاة والسلام بعث لكسر الأصنام، هناك أصنام في القلب، وأصنام في الواقع، فمن القصور الشديد تكسير الأصنام التي في الواقع وفي الخارج وترك الأصنام التي في الداخل، وكل واحد عنده هواه صنماً في قلبه يعبده ويتبعه، يتبع هواه، ولذلك قالوا: صنم كل إنسان هواه، وتأمل قول الخليل لقومه: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء:52] كيف تجده مطابقاً للتماثيل التي يهواها القلب؟ {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ} [الفرقان:44] وقال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف:175 - 176] وسنأتي على شرح هذا المثل إن شاء الله. فاتبع هواه في إيثار الدنيا واسترضاء قومه وأعرض عن مقتضى الآيات والنذر فمثله في الخسة كمثل الكلب في أخس أحواله، وفي عدم التأثر بالمواعظ والبقاء على الضلالة، إن تحمل عليه وتزجره يلهث، أو تتركه من غير زجر يلهث، ولذلك قيل: كل حيوان يلهث من تعبٍ أو عطشٍ سوى الكلب فإنه يلهث بكل حال من الراحة والشدة والعطش والشبع والري والجوع، الكلب يلهث في كل حال، قال: وكذلك متبع هواه يلهث على غرض نفسه، ويتعطش إلى الدنيا وإلى الحظ العاجز ولا يلتفت إلى الوعظ ولا إلى غيره, فانظر حب الدنيا ما يفعل بالعلماء: {آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا} [الأعراف:175] عالم {فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ} [الأعراف:175 - 176] نزول هائل جداً، من عالم إلى كلب. كيف ولماذا؟ آتيناه آياتنا لكنه أعرض عنها وانسلخ، والسلخ الفصل التام وانظروا إلى التعبير القرآني! انسلخ بحيث لا تقع مماسة مع أي شيء انسلخ {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ} [الأعراف:176] هذا الانحدار كيف يصبح قبيحاً جداً، فعلى الإنسان ألا يختار لنفسه أن يكون الحيوان البهيم أحسن حالاً منه، فإن الحيوان يميز بطبعه بين مواقع الضرر ومواقع المنجى، وترى بعض الحيوانات لا يأكل أشياء؛ لأنه يعلم أن هذا ضرر عليه إن أكله، والإنسان قد أعطي عقلاً فالواجب عليه أن يميز بين ما يضره وما ينفعه، وكيف يكون الحيوان البهيم أحسن حالاً منه؟ والبهيمة تصيب من لذة المطعم والمشرب والمنكح ما لا يناله الإنسان مع عيشٍ هنيءٍ خالٍ عن الحزن والهم، البهيمة لا تصوم في الحقيقة، ولا تعاني من هم ولا غم، ولذلك تساق إلى منحرها وهي منهمكة على الشهوات لفقدان العلم بالعواقب، ولا تعرف ماذا يحدث بعد الذبح؟ والآدمي لا يناله ما ينال الحيوان لقوة الفكر الشاغل، فلو كان نيل المشتهى فضيلة لما بخس منه حق الآدمي الذي هو خلاصة العالم ولأعطي الإنسان من القوة للشهوات كالبهيمة وأكثر من ذلك. ثم لنتأمل حديث الصحيحين في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله نحن نتكلم عن الهوى في النصوص الشرعية في الكتاب والسنة، وعرفنا ماذا قال تعالى في موضوع الهوى وعرفنا قول الله: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان:43] ثم عرفنا من مثال الذي أخلد إلى الأرض واتبع هواه، نأتي على حديث في الصحيحين في موضوع الهوى ونتأمل الأحوال التي تتعلق بالهوى، وموقع ابن آدم منها: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله) إذا تأملت السبعة كما يقول ابن القيم رحمه الله الذين يظلهم الله في العرش يوم لا ظل إلا ظله، وجدتهم نالوا ذلك الظل بمخالفة الهوى فإن الإمام العادل صار عادلاً عندما خالف هواه، وإلا لبطش وسرق ونهب وضرب، والشاب المؤثر لعبادة الله نشأ في طاعة الله، وما استطاع أن يصل إلى هذا إلا بمخالفة هواه، والرجل الذي قلبه معلق بالمساجد لولا مخالفة هواه لصار قلبه معلقاً بالمسارح والأغاني والأسواق، وصور النساء والأشكال الجميلة، وكذلك المتصدق لولا مخالفة هوى النفس الداعية للشح والبخل ما أخرج، فكيف وقد أخرج إخفاءً حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، وذلك الذي دعته المرأة الجميلة فخالف هواه مخافة لله، وهذا الذي ذكر الله خالياً ففاضت عيناه إنما أوصله إلى هذه المرحلة التي يخشع بها لهذه الدرجة مخالفة الهوى. فلذلك كان حر الموقف بعيداً عنه، وشدة الموقف زائلة عن هؤلاء.

أسباب اتباع الهوى

أسباب اتباع الهوى

التربية من الصغر على اتباع الهوى

التربية من الصغر على اتباع الهوى هناك أسباب تنشأ منذ الصغر وتكبر مع الإنسان، فعدم التعود على ضبط الهوى من الصغر سبب في التمادي في اتباع الهوى؛ لأن الإنسان قد يلقى من أبويه صغيراً حباً مفرطاً وحناناً زائداً؛ بحيث يطغى هذا الحب والحنان على تنمية الضوابط الفطرية والشرعية التي لا بد منها لتنظيم الضرائر والنوافع ومقاومة الهوى، وكثير ما يلاحظ تفريط بعض الآباء والأمهات في هذا، من حيث ترفيه الولد وجعله يفعل ما يشاء ويرخي له العنان ليختار ما يشاء، وتلبى كل رغباته، وهذه تربية فاسدة. يا أخي: إذا لم نحرم الأولاد من شيء أبداً، ولم نقف في طريقهم لنيل مطلوب نفسي عندهم أبداً، ونلبي كل ما يطلبون، ولا نقف عائقاً في طريق ما يشتهون، نكون قد أضررنا بهم، وربيناهم على اتباع الهوى منذ الصغر، ولذلك القضية في اتباع الهوى تنشأ منذ أن يقوم الأب بترفيه الولد وإعطائه ما يريد من البداية، يريد مالاً أعطيناه، يريد جوالاً أعطيناه، يريد دشاً ركبناه له، يريد سيارة أعطيناه، والبنت نفس الشيء تريد أن تتسلى على الدش ورسيفر والجوال، نحن تحت الخدمة. إذاً: نحن منذ أن ننشئ أطفالنا ويكبروا ويصبحوا شباباً على مبدأ: (خذ) وبالذات إذا كان الأب مقتدراً وغنياً، بل يقول لك: أنا أقطع لقمتي لأعطي ولدي، جزاك الله خيراً، لكن ماذا تعطيه؟ لقمة يأكلها بالحلال فهذا حسن، لكن إذا قلت: أعطيه أي لعبة، فهل فكرت هل هذه اللعبة حلال أو حرام؟ يريد أن يعمل شيئاً، هل فكرت أن هذا الشيء حلال أم حرام؟ وإذا نام عن صلاة الفجر قالوا: دعوه يرتاح مسكين تعبان، فنحن الذين ربيناهم على اتباع الهوى في ذلك، وجعلناهم يمشون على هذا المبدأ منذ الصغر. قال الشيخ محمد قطب في منهج التربية الإسلامية: والأم التي ترضع طفلها كلما بكى لكي يسكت، أو لأنها لا تطيق أن تسمعه يبكي تضره بذلك؛ لأنها لا تعينه على ضبط رغباته، ولا تعوده على ذلك الضبط من صغره فلا يتعود في كبره، ومن منا تتركه ظروفه الصعبة في حياته لرغباته يشبعها كما يشاء، وذلك فضلاً عن أن المسلم بالذات ينبغي أن يتعلم الضبط، ويتعوده منذ باكر عمره؛ لأن الجهاد في سبيل الله لا يستقيم بالنفس التي لا تستطيع ضبط رغباتها فتنساق معها، وكيف يمكن الجهاد بغير ضبط الشهوات والرغبات، حتى وإن كانت في دائرة المباح الذي لا حكم فيه في ذاته؛ لكنه قد يصبح إثماً فيما يشغل عن الجهاد المباح يصبح إثماً حينما يشغل عن الجهاد: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:24] فكل ما ذكرته الآية ليس محرماً في ذاته، فالمساكن ليست حراماً في ذاتها، وتجارة تخشون كسادها ليست حراماً في ذاتها، كلا، لكنه صار فسقاً وحراماً حين أصبح سبباً في القعود عن الجهاد في سبيل الله، وحين رجحت كفته في ميزان القلب على حب الله ورسوله والجهاد في سبيله، فما الوسيلة للاستقامة على دين الله إلا ضبط هذه الرغبات والاستغناء عنها حين تحول بين الإنسان وبين سبيل الله. ألا ترون أن صحابية جليلة أخبرتنا بأنهم كانوا يُصوِّمون صبيانهم الرضع في عاشوراء، أي: على أقل يوم في السنة وإذا بكوا أعطيناهم اللعب من العهن ينشغلوا بها حتى وقت المغرب. حتى الرضع كانوا يصومونهم في عاشوراء. قال: والضبط مقدرة يتدرب الإنسان عليها، وعادة يتعلمها، وكلما تدرب عليها وهو صغير كان أقدر عليها، وأكثر تمكناً منها فيجدها حاضرة في أعقابه حين تفجعه الأحداث؛ لأنه متدرب، كما قال بعضهم: إنه كان يرافق شيخاً فأراد في طريقه أن يشرب من بئر فقال: اصبر إلى البئر التي تليه، فلما وصل البئر التي تليها أراد أن يشرب قال: اصبر إلى البئر التي تليها، وهكذا ثم تركه يشرب في النهاية وقال: عود نفسك أنه ليس كل ما دعت النفس مباشرة تستجيب، أحياناً احرمها من بعض الأشياء بما لا يضرها، لكن بحيث يرق ذلك في نفسك قدرة على الاستغناء عن الشيء المباح في حالة عدم وجوده. ومن أسباب فشل أولادنا في المجتمع أنه متعود أن يلبى له كل طلب، إذا خرج المجتمع ووجد الحياة صعبة وأنه في الوظيفة يحرم من أشياء، ويخصم منه أشياء، ويطرد من أشياء ويجد كلمة غليظة فلا يتحمل العمل؛ لأنه تعود على إعطاء كل شيء على هواه، وكذلك تجد بعض أولاد الأغنياء إذا افتقر أبوه فجأة أو مات وضاعت الأموال لا يستطيع أن يعيش، متعود على مستوى ثانٍ، والبنت إذا خرجت من عند أبٍ يدللها بأي شيء إلى زوج قليل ذات اليد لا تستطيع أن تعيش، فتطلق بعد وقت قصير، لنفس السبب.

مجالسة أهل الأهواء ومصاحبتهم

مجالسة أهل الأهواء ومصاحبتهم ثانياً من أصل أسباب اتباع الهوى: مجالسة أهل الأهواء ومصاحبتهم، ذلك أن العواطف والدوافع تنمو بالمجالسة وطول الصحبة، فمن لزم مجالسة أهل الهوى، وأدام صحبتهم فلا بد أن يتأثر منهم، لا سيما إن كان ضعيف الشخصية وعنده قابلية للتأثر بمن حوله دون تساؤل، ولذلك كان السلف ينهون عن مجالسة أهل الأهواء، والمقصود بهم أهل البدع الذين يتبعون أهواءهم في العبادة، وأهل البدعة أناس أصحاب عبادة لكن يتبعون أهواءهم في العبادة فلا ينضبطون بأدلة الشريعة ويخترعون عبادات ويضلون بها. قال: أبو قلابة: لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم أو يلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون. وقال الحسن بن سيرين: لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم ولا تسمعوهم.

ضعف اليقين والمعرفة بالله

ضعف اليقين والمعرفة بالله ثالثاً: من أسباب اتباع الهوى: ضعف المعرفة الحقة بالله والدار الآخرة، فإن الله أسرع الحاسبين وله الحكم عز وجل والذي لا يقدر ربه حق قدره، لا يبالي إذا أغضبه وإذا عصاه وإذا خالف أمره، ليس توقير الله وتعظيمه في قلب هذا الشخص كبيراً، ولذلك لا يبالي بمخالفته، ولذلك فإن الله عز وجل وعظ هؤلاء فقال: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام:91] لو قدروا الله حق قدره ما اتبعوا الكفر والهوى وخالفوا وعصوا: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67].

التقصير في دعوة أهل الأهواء إلى الله

التقصير في دعوة أهل الأهواء إلى الله رابعاً: تقصير الآخرين بالقيام بواجبهم نحو صاحب الهوى يؤدي إلى المزيد من اتباعه؛ لأن صاحب الهوى إذا رأى استحساناً ممن حوله وسكوتاً، وعدم إنكار، وعدم اعتراض، فإنه يلجأ لذلك تماماً، ويزيد ويمضي حتى يتمكن الهوى من قلبه ويسيطر على سلوكياته وتصرفاته، ولذلك جاء الإسلام بالأصل العظيم في النهي عن المنكر وقول كلمة الحق، وأن الإنسان لا يبالي في الله لومة لائم، وأن يقول الحق ولو على نفسه: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104] {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] {وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً} [النساء:63] فلما يرى المبتدع أن الناس يقولون للمنكر: لا فإنه يرتدع ويكف ويخفف أو يختفي. أما إذا جاهر وانتشر فإن البعض يتبعه، وخاصة حب الدنيا والركون إليها مع نسيان الآخرة، كما قال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يونس:7 - 8].

الجهل بالعواقب المترتبة على اتباع الهوى

الجهل بالعواقب المترتبة على اتباع الهوى خامساً: الجهل بالعواقب المترتبة على اتباع الهوى.

أضرار اتباع الهوى وعواقبه

أضرار اتباع الهوى وعواقبه ماذا سيترتب من الأضرار والعواقب على اتباع الهوى فلابد من إدراك ذلك فإن قال قائل: ما هي أضرار الهوى وأخطاره حتى نعرف هذه العواقب؟

اتباع الهوى أصل الضلال

اتباع الهوى أصل الضلال فالجواب أولاً: إنه أصل الضلال {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} [النجم:23] وفي هذا ظن.

الصد عن فهم القرآن

الصد عن فهم القرآن الثاني: أن الهوى من موانع الانتفاع بالقرآن، ولذلك قال الله عن متبعي الأهواء {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد:16].

مشقة التخلص منه

مشقة التخلص منه ثالثاً: والهوى يعمي ويصم، والتخلص منه صعب. قال الشاطبي في الموافقات: مخالفة ما تهوى النفس شاقٌ عليك، وصعبٌ خروجها عنه، ولذلك بلغ الهوى في أهله مبالغ لا يبلغها غيره، وكفى شاهداً على ذلك حال المحبين، أي: صار العشاق مثل المجانين، عندما اتبعوا أهواءهم فلو تنظر في كتاباتهم وأفعالهم تجدها كأفعال المجانين، وكذلك حال من بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشركين فقد أصروا على باطل حتى قدموا نفوسهم وأموالهم في بدر قتلاً وفي غير بدر!! لهذه الدرجة مستعدين أن يقدموا نفوسهم وأموالهم ضد الحق؛ لأن الحق يخالف أهواءهم: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} [النجم:23] {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد:14].

فساد القلب

فساد القلب رابعاً: اتباع الهوى يفسد القلب، ويحول بينه وبين السلامة. قال ابن القيم رحمه الله: إن سلامة القلب لا تتم إلا لخمسة أشياء، يعني: لا ينجو يوم القيامة إلا من أتى الله بقلب سليم، فما هو القلب السليم؟ وسليم من ماذا؟ سليم أي: سالم، قال: حتى يسلم من شرك يناقض التوحيد، وبدعة تخالف السنة، وشهوة تخالف الأمر، وغفلة تناقض الذكر، وهوى يناقض الاتباع، وهذه الخمسة حجبٌ عن الله، وتحت كل واحد منها أنواع كثيرة لا تحصى أفرادها، ولذلك اشتدت حاجة العبد بل ضرورته إلى أن يسأل الله أن يهديه الصراط المستقيم.

إفساده لما قاربه

إفساده لما قاربه وخامساً: أن الهوى ما قارب شيئاً إلا أفسده، فإن وقع في العلم أخرجه إلى البدعة، أي: إذا وقع الهوى في العلم صار طالب العلم مبتدعاً، وصار صاحبه من أهل الأهواء، وإن وقع الهوى في الزهد أخرج صاحبه إلى الرياء ومخالفة السنة، وإن وقع في الحكم أخرج صاحبه إلى الظلم والصد عن الحق، وإذا وقع الهوى في الحكمة خرج ذلك إلى الجور، وإن وقع في الولاية والعدل -أي: الهوى- أخرج صاحبه إلى خيانة الله والمسلمين، فيولي بهواه ويعدل بهواه، وإن وقع في العبادة خرجت عن كونها طاعة، فما قارن الهوى شيئاً إلا أفسده.

الانسلاخ من الإيمان

الانسلاخ من الإيمان وسادساً: أنه يخاف على من اتبع الهوى أن ينسلخ من الإيمان وهو لا يشعر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خشي علينا من مضلات الهوى كما في الحديث المتقدم وكذلك أخبرنا عن الذي انسلخ من آياته واتبع هواه كيف هلك.

أنه من المهلكات

أنه من المهلكات وسابعاً: أن اتباع الهوى من المهلكات، ولذلك قال: ثلاث ملهيات، وثلاث مهلكات. ومن المهلكات هوى متبع، إذاً اتباع الهوى يؤدي إلى الهلاك.

غلق باب التوفيق

غلق باب التوفيق وثامناً: يغلق عن العبد أبواب التوفيق، ويفتح عليه أبواب الخذلان، فتراه يلهج بأن الله لو وفقه لصار له كذا وكذا، وقد سد عن نفسه طرق التوفيق باتباع الهوى. قال الفضيل بن عياض: [من استحوذ عليه الهوى واتباع الشهوات انقطعت عنه موارد التوفيق]. لكن اتبع هواه فصرف الله عنه التوفيق، لا يوفقه باتباع الهوى. وقال بعض العلماء: الكفر في أربعة أشياء: في الغضب، والشهوة، والرغبة، والرهبة، ثم قال: رأيت منهن اثنتين: رجلٌ غضب فقتل أمه -يقول: أنا اطلعت على قصة واقعية أن رجلاً وصل به الغضب لدرجة أنه قتل أمه- ورجلٌ: عشق فتنصر. أي: وقع في الشهوة والهوى حتى أخرجه ذلك عن الإسلام إلى النصرانية، مثلما حصل لذلك الذي كان مجاهداً مع الجيش الإسلامي وهم يحاصرون حصناً للكفار، فاطلعت امرأة من الحصن نصرانية فعشقها من أول نظرة، فدعته فطلب الدخول فأدخلته، فطلب أن يتزوجها، قالت: حتى تتنصر، فتنصر ودخل في النصرانية. قال: وكان رجلٌ يطوف بالبيت فنظر إلى امرأة جميلة فمشى إلى جانبها ثم قال: أهوى هوى الدين واللذات تعجبني فكيف لي بهوى اللذات والدينِ يقول: أهوى هوى الدين أحب الدين، وفي نفس الوقت واللذات تعجبني، فكيف لي بهوى اللذات والدين؟ كيف أجمع بينهم، المشكلة أن بعض الناس يتصور أنه ممكن الجمع بينهما، وهذا من المحال، لا يمكن؛ لأنها متضادة كما قلنا في أول الدرس أهوى هوى الدين واللذات تعجبني فكيف لي بهوى اللذات والدينِ والمرأة تسمع فقالت: دع أحدهما تنل الآخر.

التكبر عن الطاعة

التكبر عن الطاعة وتاسعاً: النقصان والتلاشي في الطاعة، تلاشي الطاعة من النفس باتباع الهوى؛ لأن صاحب الهوى يعز عليه ويكبر في نفسه أن يطيع غيره، حتى لو كان خالقه، وبعض الناس الذي أوقعه في الكفر أنه لا يريد أن يستمع أي أمر ولو من الخالق، استكباراً؛ لأن الهوى تمكن من قلبه وملك عليه نفسه، فصار له أسيرا، وموقعاً له في الغرور، والإنسان ليس له قلبان في جوفه، بل إما أن يطيع ربه وإما أن يطيع نفسه وهواه والشيطان.

الاستهانة بالذنوب والمعاصي

الاستهانة بالذنوب والمعاصي عاشراً: الاستهانة بالذنوب والآثام، فإن المتبع للهوى يقسو قلبه، وإذا قسا القلب استهان واستهتر بالذنوب والآثام، ولذلك قيل: إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعدٌ تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذبابٍ مر على أنفه فقال به هكذا.

البعد عن الحق وقبوله النصيحة

البعد عن الحق وقبوله النصيحة الحادي عشر: يبعد عن قبول الحق والاستماع للنصيحة.

الابتداع في الدين

الابتداع في الدين والثاني عشر: الابتداع في دين الله، وذلك أن صاحب الهوى يميل إلى ما ابتدع وما استحسن ولذلك قال حماد بن سلمة: حدثني شيخٌ لهم تاب -يعني الرافضة - قال: كنا إذا اجتمعنا فاستحسنا شيئاً أو فهوينا شيئاً جعلناه حديثاً. والابتداع هو الضلال وكل ضلال في النار، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم.

التخبط وعدم الهداية إلى الطريق المستقيم

التخبط وعدم الهداية إلى الطريق المستقيم الثالث عشر: التخبط وعدم الهداية إلى الطريق المستقيم، فصاحب الهوى لا يوفق للحق؛ لأنه أعرض عن مصدر الهداية والتوفيق، وصار مستمعاً لهواه لا للكتاب والسنة، فكيف يوفق للطريق الصحيح؟ {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية:23].

إضلال الآخرين

إضلال الآخرين والرابع عشر: أن من أضرار اتباع الهوى ما يتعدى للآخرين وليس فقط على النفس، ولذلك فهو يضل الآخرين ويبعدهم عن الطريق، ولذلك قال عز وجل: {وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:119] ليضلون يعني يضلون غيرهم. إذاً: هذا من أضرار اتباع الهوى أنه يتعدى إلى الآخرين.

فساد العقل والرأي

فساد العقل والرأي والخامس عشر: أن من نصر هواه فسد عقله ورأيه؛ لأنه خان الله فأفسد عليه عقله. قال المعتصم يوماً لبعض أصحابه: يا فلان! إذا نصر الهوى ذهب الرأي. وقال ابن القيم: وسمعت رجلاً يقول لشيخنا -يعني ابن تيمية رحمه الله- إذا خان الرجل في نقص الدراهم سلبه الله معرفة النقد. الآن هناك أناس يميزون بين الدراهم الزائفة والدراهم الصحيحة، وكان الواحد منهم يأخذ دينار الذهب أو درهم الفضة بمجرد مسكه ووزنه في يده وصوته وهو يضرب في بعضه يعرف هل هذا صحيح أم مزور، وهذه خبرة؛ فقال: إذا خان الرجل في نقد الدراهم سلبه الله معرفة النقد. فقال الشيخ: هكذا من خان الله تعالى ورسوله في مسائل العلم واتبع هواه فإن الله عز وجل يسلبه المعرفة والعلم.

التضييق في القبر

التضييق في القبر والسادس عشر: أن من فتح لنفسه في اتباع الهوى ضيق عليه في قبره وفي معاده، وقد نبه الله عز وجل إلى هذا في قوله عن الذين تجردوا للحق: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً} [الإنسان:12] فلما كان في الفضل الذي هو حبس النفس عن الهوى خشونة وتضييق في الدنيا جازاهم على ذلك نعومة الحرير وسعة الجنة، ولذلك قال أبو سليمان الداراني في الآية: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً} [الإنسان:12] أي: بما صبروا عن الشهوات.

الصرع عن النهوض يوم القيامة

الصرع عن النهوض يوم القيامة والسابع عشر: أن اتباع الهوى يصرع العبد عن النهوض يوم القيامة إلى السعي مع الناجين، كما صرعته الدنيا بمرافقته لأهل الأهواء. قال محمد بن أبي الورد: "إن لله عز وجل يوماً لا ينجو من شره منقادٌ لهواه" ما هو هذا اليوم؟ إنه يوم القيامة، والدليل على أن يوم القيامة له شر قوله تعالى: {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ} [الإنسان:11] {يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} [الإنسان:7] فالذي يتبع الهوى لا ينجو من شر ذلك اليوم. قال محمد بن أبي الورد: إن لله عز وجل يوماً لا ينجو من شره منقادٌ لهواه، وإن أبطأ الصرعى نهضة يوم القيامة صريع شهوته أي: أن صريع شهوته أبطأ الناس قياماً من الصرع.

ضعف العزيمة

ضعف العزيمة والثامن عشر: أن اتباع الهوى يحل العزائم ويوهنها، ومخالفته تشد العزائم وتقويها، والعزيمة هي مركب العزم إلى الله والدار الآخرة، فمتى تعطل المركوب تعطل المسافر. قيل لـ يحيى بن معاذ: من أصح الناس عقلاً؟ قال: الغالب لهواه. ودخل خلف بن خليفة على سليمان بن حبيب بن مهلب وعنده جارية يقال لها البدر من أحسن النساء وجهاً، فقال له سليمان: كيف ترى هذه الجارية؟ فقال: أصلح الله الأمير ما رأت عيناي أحسن منها قط، فقال له: خذ بيدها، فقال: ما كنت لأفجع الأمير بها وقد رأيت شدة إعجابه بها، قال: ويحك خذها على شدة عجبي بها ليعلم هواي أني له غالب. هذا الأمير كان عاقلاً، قال: خذها على شدة عجبي بها ليعلم هواي أني له غالب فأخذ ذلك بيدها وهو لا يكاد يصدق، أنه وهب هذه الأمة، وخرج وهو يقول: لقد حباني وأعطاني وفضلني عن غير مسألة منه سليمان أعطاني البدر قوداً في محاسنها والبدر لم يعطه إنس ولا جان ولست يوماً بناسٍ فضله أبداً حتى يغيبني لحدٌ وأكفانُ

السير إلى الهلكة

السير إلى الهلكة والتاسع عشر: أن مثل راكب الهوى كمثل راكب فرس حديدٍ صعبٍ جموح لا لجام له، راكب فرس منطلق بدون لجام، فيوشك أن يصرعه فرسه خلال جريه أو يسير به إلى مهلكة. قال بعضهم: أسرع المطايا إلى الجنة الزهد في الدنيا، وأسرع المطايا إلى النار حب الشهوات، ومن استوى على متن هواه أسرع فيه إلى وادي الهلكات. وقال بعضهم: أشرف العلماء من هرب بدينه من الدنيا، واستصعب قياده على الهوى. وقال عطاء: من غلب هواه عقله وجزعه صبره افتضح، أي: يوم الفضيحة الكبرى. من غلب هواه عقله: يعني الهوى تغلَّب على العقل فصار العقل فيه الفضيحة، ومخالفة الهوى مخرجة للداء عن القلب والبدن، ومتابعة الهوى مجلبة للداء في القلب والبدن، وأمراض القلب كلها إذا فتشتها كلها وجدتها من متابعة الهوى.

العداوة بين الناس

العداوة بين الناس والعشرون: أن أصل العداوة والشر والحسد الواقع بين الناس من اتباع الهوى، فمن خالف هواه أراح قلبه وبدنه وجوارحه فاستراح وأراح. قال أبو بكر الوراق: إذا غلب الهوى أظلم القلب، وإذا أظلم ضاق الصدر، وإذا ضاق الصدر ساء الخلق، وإذا ساء الخلق أبغض القلب.

تمكين العدو من النفس

تمكين العدو من النفس الحادي والعشرون: تمكين الإنسان لعدوه منه، وأعدى عدوٍ للمرء شيطانه وهواه، وأصدق صديقٍ له عقله الناصح له، والملك الذي يذهب به إلى الخير، فإذا اتبع هواه أعطى بيده لعدوه، واستأسر له، كأنه سلم نفسه للعدو وصار عنده أسيراً، وهذا بعينه جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء.

الذل والصغار والحرمان

الذل والصغار والحرمان والثاني والعشرون: أن لكل عقل بداية ونهاية، فمن كانت بدايته اتباع الهوى كانت نهايته الذل والصغار، والحرمان والبلاء بحسب ما اتبع من هواه، بل يصير له ذلك في نهايته عذاباً يعذب به في قلبه، كما قال الشاعر: مآرب كانت في الشباب لأهلها عِذاباً وصارت في المشيب عَذاباً مآراب كانت في الشباب لأهلها عذاباً: جمع عذب وهو ماء طيبٌ وما يستساغ من الشراب. مآراب: أغراض نفسية وشهوات. مآرب كانت في الشباب لأهلها عِذاباً وصارت في المشيب عذاباً فلو تأملت كل صاحب حال سيئة لرأيت بدايته الذهاب مع هواه، وإيثار الهوى على العقل، ومن كانت بدايته مخالفة هواه كانت نهايته العز والشرف والغنى والجاه عند الله وعند الناس. قال أبو علي الدقاق: من ملك شهوته في حال شبيبته أعزه الله في حال كهولته، ومن ملكته شهوته في حال الشباب أذله الله في حال الكهولة. وابن جرير الطبري رحمه الله كان من أصحاب السمت الحسن، والعبادة والطاعة والدين، وكان يغلب ويقهر هواه، ولذلك بلغ عمره الثمانين بل أكثر من الثمانين، فكان مرة في مجلس علم مع طلابه والناس، وفجأة قام قومة شديدة كأنشط ما يكون، فاستغربوا أن ابن الثمانين يقوم هذه القومة، وكأن بعضهم قال: هذا الشيخ لا تليق به هذه القومة، قال: تلك جوارحنا حفظناها في الصغر فحفظها الله لنا في الكبر. وقيل للمهلب بم نلت ما نلت؟ يعني وصلت إلى هذه الدرجة والمستوى، قال: بطاعة الحزم وعصيان الهوى. هذا في الدنيا لكن في الآخرة جعل الله الجنة نهاية عظيمة لمن خالف هواه، والنار نهاية شنيعة لمن اتبع هواه. قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:37 - 41]. وهذه أقوال لبعض السلف في ذم الهوى لكي تعلم كيف كان موقفهم منه. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [اقدعوا هذه النفوس عن شهواتها] والقدع: هو الكف والمنع: [اقدعوا هذه النفوس عن شهواتها] أي: كفوها وامنعوها من الشهوات. [فإنها طلاعة تنزع إلى شر غاية، وإن هذا الحق ثقيل مريء، وإن الباطل خفيفٌ وبيء، وترك الخطيئة خيرٌ من معالجة التوبة، ورب نظرة زرعت شهوة، وشهوة ساعة أورثت حزناً طويلا]. وقال عبد الله بن مسعود: [إذا رأيت الناس قد أماتوا الصلاة، وأضاعوا الأمانة، واستحلوا الكذب، وأكثروا الحلف، وأكلوا الربا، وأخذوا الرشا، وشيدوا الزنا، واتبعوا الهوى، وباعوا الدين بالدنيا، فالنجاة ثم النجاة ثكلتك أمك!] انج بنفسك، لا يعاش بينهم. قال أبو الدرداء: [إذا أصبح الرجل اجتمع هواه وعمله، فإن كان عمله تبعاً لهواه فيومه يوم سوء، وإن كان هواه تبعاً لعمله، فيومه يومٌ صالح] قال الزبير بن عبد المطلب: وأجتنب الكبائر حيث كانت وأترك ما هويت لما خشيتُ أي: فأنا مستعد أن أترك ما يدعوني إليه الهوى لأجل خشيتي لله عز وجل. وعن علي رضي الله عنه قال: [إنما أخشى عليكم اثنتين: طول الأمل واتباع الهوى، فإن طول الأمل ينسي الآخرة، وإن الدنيا قد ترحلت مدبرة، وإن الآخرة مقبلة، ولكل واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة؛ فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حسابٌ ولا عمل]. وقال رضي الله عنه: [إياكم وتحكيم الشهوات على العقول؛ فإن عاجلها ذميم، وآجلها وخيم، فإن لم ترها -يعني النفس- تنقاد بالتحذير والإرهاب فسوفها بالتأنيب والإرغاب فإن الرغبة والرهبة إذا اجتمعا على النفس ذلت لهما وانقادت]. وعن ابن عباس قال: [ليأتين على الناس زمانٌ يكون همة أحدهم فيه بطنه، ودينه هواه] مثل أهل البدع، دينهم أهواء، يهوى شيئاً فيتبعه ويجعله ديناً. وعن أبي الدرداء كان يقول: [من كان الأجوفان همه خسر ميزانه يوم القيامة]. وقال رجل: العقل والهوى يصطرعان فأيهما غلب مال بصاحبه. وقال ابن جريب: وآفة العقل الهوى فمن علا على هواه عقله فقد نجا والفعل علا، والفاعل عقله. وقال عمر بن عبد العزيز: أفضل الجهاد جهاد الهوى. وقال سفيان الثوري: أشجع الناس أشدهم من الهوى امتناعاً، ومن المحقرات التي يحقرها الناس تنتج الموبقات. ويقولون: إن هشام بن عبد الملك لم يقل بيت شعر قط إلا هذا البيت: إذا أنت لم تعصِ الهوى قادك الهوى إلى بعض ما فيه عليك مقالُ قال ابن عبد البر: لو قال: إلى كل ما فيه عليك مقال، كان أبلغ وأحسن، قال ابن مفلح: وما قاله ابن عبد البر متوجه. وقال بعض الحكماء: إنما يحتاج اللبيب ذو الرأي والتجربة إلى المشاورة ليتجرد له رأيه من هواه، يعني: لو قيل هذا حكيم كبير في السن، فلماذا يشاور؟! يقال: حتى يتجرد رأيه عن هواه. وقال بعضهم: اعص النساء وهواك واصنع ما شئت. قال ابن عبد البر: لو قال اعص الهوى لاكتفى، لا يوجد داعي لذكر النساء، قال: اعص الهوى، ثم إن الهوى قد يأتي من رجل وقد يأتي من امرأة، قال ابن مفلح: وصدق ابن عبد البر وكان أوجز. لأن الهوى هو كل شيء، إذا عصيت الهوى خلصت، وقد امتدح بعضهم جماعة من الحكماء لتركهم الهوى. وللشافعي: إذا حار وهمك في معنيين وأعياك حيث الهوى والصواب لم تستطع أن ترجح أيهما، ولم تعرف أيهما الهوى وأيهما الصواب فدع ما هويت فإن الهوى يقود النفوس إلى ما يُعاب كان يقال: إذا غلب عليك عقلك فهو لك، وإن غلب هواك فهو لعدوك. قال عمر لـ معاوية: من أغضب الناس؟ قال: من كان رأيه رداً لهواه. قال أعرابي: أشد جولة الرأي عند الهوى، وأشد فطام النفس عند الضبط. وقال قائل: إن المرآة لا تريك خدوش وجهك في صداها -إذا صار فيها صدى- وكذلك نفسك لا تريك عيوبك في هواها. قال الشعبي: [إنما سمي الهوى؛ لأنه يهوي بصاحبه]، وقال الأوزاعي: [قال إبليس لأوليائه: من أي شيء تأتون بني آدم؟ فقالوا: من كل شيء، قال: فهل تأتونهم من قبل الاستغفار؟ قالوا: هيهات ذاك شيء قُرن بالتوحيد، قال: لأبثن فيهم شيئاً لا يستغفرون الله منه، قالوا: فبث فيهم الأهواء]. هل الأهواء هم أهل البدع، وأصحاب الطرق البدعية. سواءً كانت بدعهم في القضاء والقدر كـ الجبرية والقدرية، أو كانت بدعهم في الأسماء والصفات كـ المعتزلة والأشاعرة والجهمية قبلهم، أو كانت بدعتهم في الإيمان كـ الخوارج والمعتزلة والمرجئة، وأصحاب هؤلاء الفرق هل كل واحد منهم كل يوم يتوب إلى الله من بدعته؟ هل يستغفر الله من بدعته؟ لا، لماذا؟ لأنه يرى نفسه على حق: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف:103 - 104] ولذلك تعهد إبليس أن ينشر في البشر اتباع الأهواء حتى يرى الواحد منهم نفسه على الحق، فلماذا يستغفر؟ فيستمر؛ لكن لو أن إبليس اكتفى بإيقاع الناس في الزنا والخمر والربا فقط فإن الناس سيعرفون أنها حرام، وقد يوفق أناس للتوبة، لكن إذا أوقعهم في البدع والأهواء فكل واحد يرى نفسه على صواب فلا يستغفر، إذا نصحته يقول: استغفر لنفسك أنت! وعن جعفر بن الجمرخان قال: بلغني عن أبي منبه أنه قال: إن من أعوان الخلائق على الدين الزهاد في الدنيا، وأوشكها رداً اتباع الهوى، ومن اتباع الهوى الرغبة في الدنيا، ومن الرغبة في الدنيا حب المال والشرف وإن من حب المال والشرف، استحلال الحرام وغضب الله. وقال أبو سهل: سمعت عبد الله بن أحمد يقول: سئل أبي ما الفتوة؟ فقال: ترك ما تهوى لما تخشى لأجل خشية الله، والآخرة تترك الهوى. وقال أبو حازم: قاتل هواك أشد مما تقاتل عدوك. وقال ابن المبارك: ومن البلاء وللبلاء علامة ألا ترى لك عن هواك نزوعُ العبد عبد النفس في شهواتها والحر يشبع مرة ويجوعُ إذا غلبت أمواج الهوى يصبح العالم مفتوناً بالدنيا، يبيع ما يدعيه من العلم، والجاهل عاشقٌ له، مستمد لفتنة عالمه، فالمقل لا يقنع، والمكثر لا يشبع، فكل قد شغله الشيطان بخوف الفقر، وقد كان من عادة السلف -هذه سنة مفقودة- المراسلة فيما بينهم، كل واحد يوصي الثاني كل فترة يرسل رسالة لأخيه يوصيه، كل واحد يوصي الآخر بالحق والصبر، وهذه من الممكن أن تحصل اليوم في بعض الناس الذين يرسلون رسائل في الجوالات، يتفقد فيها أخاه برسالة قصيرة ونصيحة موجزة. فهذا إسحاق بن عبد المرسل الدمشقي يرسل إلى أحمد بن عاصم الأنطاكي في أنطاكيا وذاك في دمشق. فكان في كتابه: إذا أصبحنا في جهل حيرة تضطرب علينا أمواج الهوى، فالعالم منا مفتون بالدنيا ليبيع ما يدعيه من العلم، والجاهل منا عاشقٌ لها مستمدٌ من فتنة عالمه، فالمقل لا يقنع، والمكثر لا يشبع، فكلٌ قد شغل الشيطان قلبه بخوف الفقر، فأعاذنا الله و

اتباع الهوى في المسائل الفقهية والأحكام الشرعية

اتباع الهوى في المسائل الفقهية والأحكام الشرعية ونريد أن نعرج قليلاً على موضوع اتباع الهوى في المسائل الفقهية والأحكام الشرعية؛ لأن هذه بلية عظيمة انتشرت في أنف هذا الزمان، فتأتي تقول للناس: هذه المسألة لا تجوز، أفتى فلان من العلماء بعدم جوازها، يقولون لك: أو لا يوجد علماء غيره؟! تقول: قال مشايخنا وعلماؤنا أن الحكم في المسألة كذا وكذا. يقولون: هناك علماء في بلاد أخرى. وإذا قلت: هذه المسألة لا تجوز، وقد أفتى العلماء بتحريمها، يقولون: أو لا يوجد علماء أفتوا بجوازها؟! ابحث. ويستفتي بعضهم شيخاً فإن لم يعجبه الجواب ذهب إلى آخر يستفتيه وهكذا حتى يعثر على من يقول له: افعل ولا حرج. والمتبرعون بالفتيا التي ترضي أهواء الناس متواترون، وهذا من البلاء، ويظن البعض أنه إذا وضع بينه وبين النار شيخاً -بزعمه- نجا، بل هو هالك وشيخه معه؛ لأنه اتبعه لما يرضي هواه؛ ولأن فتواه وافقت هواه اتبعه، ولو أنها لم توافق هواه لواصل البحث عن شيخٍ آخر وهكذا

اتباع الهوى في الفتاوى

اتباع الهوى في الفتاوى ومسألة اتباع الهوى في الأحكام والفتاوى صارت الآن منتشرة في عصرنا، وصار هناك ممن توسد الأمر من غير أهله، وبرز على الناس، وظهر في الصحف والشاشات من يفتي للناس على هواه، فصار هناك فساد كبير، وشرٌ مستطير. وإذا ذكر الهوى تبادر إلى الذهن أنه يتعلق بالأمور العملية من الشهوات واللذات، بينما إذا نظرنا إلى الشريعة وجدنا أن الهوى يجمع كل مخالفة في الكتاب والسنة، وقد جعل الله تعالى الهوى مضاداً للشرع، فأي شيء مضاد للشرع فهو هوى، وفي باب العلميات من العقائد بعضهم لا يشعر بأنه يخالف أصلاً، بل ربما يشعر أنه على الحق وأنت على الباطل، ولذلك سبق الكلام بأن إبليس دخل عليهم من باب اتباع الأهواء. قال شيخ الإسلام رحمه الله: "ولهذا كان من خرج عن وجه الكتاب والسنة من المنسوبين إلى العلماء والعباد يُجعل من أهل الأهواء" كما كان السلف يسمونهم أهل الأهواء، وذلك أن كل من لم يتبع العلم فقد اتبع هواه، والعلم بالدين لا يكون إلا بهدى الله الذي بعث به رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم تحدث عن الطرق المبتدعة وأن أصحابها أتباع الهوى، وأن أتباع السنة أصحاب العلم والعدل والهدى، ومخالفو السنة أصحاب هوىً وجهل وظلم. وقد قال عز وجل: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} [الجاثية:18 - 19] فالشريعة معلومة وكل ذوق ووجد وتفكير ووجهة لا تشهد لها الشريعة فهي من أهواء الذين لا يعلمون، ولهذا كان السلف يعدون كل من خرج عن الشريعة في شيء من الدين من أهل الأهواء، ويجعلون أهل البدع هم أهل الأهواء، ويذمونهم، ويأمرون بأن لا يغتر بهم، وهكذا. قال يوسف بن عبد الأعلى: قلت للشافعي: تدري يا أبا عبد الله ما كان يقول فيه صاحبنا -يريد الليث بن سعد - كان يقول: لو رأيته يمشي على الماء لا تثق به ولا تعبأ به ولا تكلمه، فقال الشافعي: فإنه والله ما قصر. هؤلاء المبتدعة مثل بعض الصوفية يدعون كرامات وهم على ضلال، فقال الليث رحمه الله: لا تثق به ولا تعبأ به، ولو رأيته يمشي على الماء ويطير في الهواء. لماذا؟ لأن الشياطين تساعدهم على مقاصدهم السيئة وتجعل الناس معجبين بهم، ولذلك كان شيخ الإسلام رحمه الله يذهب لمناظرتهم، يقول: كنت أدخل على الواحد منهم حوله الناس وهو في الهواء معلق، وشيخ الإسلام يعرف أن هذا تحمله الشياطين فيقول له أتباع هذا: انظر إلى شيخنا وكراماته هاهو في الهواء -مع أنه شيخ صوفي مبتدع منحرف- قال شيخ الإسلام: فأقرأ آية الكرسي فيسقط، ولذلك وإن رأيته يطير في الهواء ويمشي على الماء فلا تغتر بخوارقه، فالعادة تنخرق للمشرك والمسلم والكافر والموحد والمبتدع والمتبع، والعادة من الممكن أن تنخرق للولي وللكافر، وترى في الهند بعض الهندوس أو بعض البوذيين أو بعض السيخ أو بعض الكفرة المشركين يحصل لهم شيء عجيب، يدخل سيفاً من البطن ويخرجه من الظهر، ويدخل خنجراً في دماغه ولا يسيل منه قطرة دم، كيف هذا؟ تعينهم الشياطين، فالجني الذي كان مستعداً ليأتي بعرش ملكة سبأ من داخل قصرها، ويعبر به الجدران والنوافذ والأبواب، ويطير به من اليمن إلى الشام إلى سليمان عليه السلام، أيعجز أن يدخل السيف من البطن ويخرجه من الظهر؟! والجن عندهم قدرات. فهؤلاء مثل أصحاب الطرق الرفاعية وغيرهم الذين تكلم عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية كـ البطائحية الذين يلفون الخرق الخضراء وغيرها، وأصحاب الطرق الذين يدعون أن عندهم كرامات، يقولون: انظروا هذا يخرق بطنه بالسيف ويضع الخنجر في دماغه ولا تحدث مشكلة، ويدخل سيخاً من جهة ويخرجه من الجهة الأخرى ولا يصير به شيء، ويمكن أن يصعد في الهواء كأنه يصعد على سلم، بل ويذهب في نفس اليوم إلى مكة ويرجع، ويقول الحُجَّاج الذين رجعوا بعد شهر وشهرين رأيناه في عرفة وفي مكة ورأيناه في الحرم. قال شيخ الإسلام: ومن منكراتهم أنهم يمرون بالميقات ولا يحرمون منه، لأن الجني مستعجل، لا يقف لهم حتى يحرموا يذهب بهم بسرعة ويرجعهم، فيمرون بالميقات دون إحرام. فإذاً: يقول الليث بن سعد رحمه الله: لو رأيته يمشي على الماء لا تثق به ولا تعبأ به، ولا تكلمه. قال الشافعي: فإنه والله ما قصر. وقال عاصم: قال أبو العالية: [تعلموا الإسلام فإذا تعلمتموه فلا ترغبوا عنه، وعليكم بالصراط المستقيم فإنه الإسلام، ولا تحرفوا الإسلام يميناً وشمالاً، وعليكم بسنة نبيكم والذي كان عليه أصحابه، وإياكم وهذه الأبواق التي تلقي بين الناس العداوة والبغضاء، فحدثت الحسن -يعني: بكلام أبي العالية - فقال: صدق ما نطق، فحدثت حفصة بنت سيرين فقالت: أنت حدثت محمداً بهذا؟ قلت: لا. قالت: فحدثه إذاً] تقول: هذا كلام نفيس انقله. وقال أبي بن كعب: [عليكم بالسبيل والسنة، فإنه ما على الأرض عبدٌ على السبيل والسنة ذكر الله ففاضت به عيناه من خشية الله سيعذبه -يعني: إذا فعل هذا لا يمكن أن يعذب- وما على الأرض عبدٌ على السبيل والسنة ذكر الله في نفسه فاقشعر جلده من خشية الله إلا كان مثله كمثل شجرة قد يبس ورقها فهي كذلك -يعني على هذه اليبوسة- إذا أصابتها ريحٌ شديدة فتحات عنها ورقها ولتحط عنه خطاياه كما تحات عن تلك الشجرة ورقها، وإن اقتصاداً في سبيل وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة، فانظروا أن يكون عملكم إن كان اجتهاداً أو اقتصاداً أن يكون على منهاج الأنبياء وسنتهم]. وكذلك قال عبد الله بن مسعود: [الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة] وقيل لـ أبي بكر بن عياش وهو رجل فاضل من المقرئين الكبار في هذه الأمة، لما حضره الموت قال لابنه: يا بني لا تعص الله في هذه الحجرة فإني ختمت القرآن فيها ثمانية عشر ألف ختمة. هذا عند الموت، فهو يريد أن يعظ ولده، قال: لا تعص الله في هذه الغرفة. وقيل لـ أبي بكر بن عياش: يا أبا بكر من السني؟ قال: الذي إذا ذكرت الأهواء لم يغضب لشيء منها، وهذا أصلٌ عظيم، فالسني إذا ذكرت عنده الأهواء والبدع لا يدافع عنها إطلاقاً، بل إنه يغضب منها ولا يغضب لها، وهذا أصلٌ عظيم من أصول سبيل الله وطريقه. وكذلك فإن شيخ الإسلام قد تحدث عن بعض أهل الأهواء الذين جعلوا رسوماً وألواناً وملابس معينة، وخطوات معينة، وأشكالاً معينة لهم، وقالوا: هذه أشكال الصالحين، وابتدعوا في دين الله ما لم يأذن به الله، مثل: حلق الرأس في غير الحج والعمرة. -وطبعاً تعود حلق الرأس في غير الحج والعمرة مكروه- وهو من فعل الخوارج سيماهم التحليق. ولذلك قال: اتخذ طوائف من فقراء الصوفية ديناً، جعلوه شعاراً وعلامة على أهل الدين والنسك والخير؛ من شكل معين وملابس معينة وأكل معين، وقالوا: هذا هو الطريق. وذات مرة ذهب أحد علماء هذا العصر وكان في بداية أمره يبحث عن الحق -وكان شاباً- فوجد في البلد رجلاً يدعي المشيخة ويدعي أنه من الصالحين، وأنه من أولياء الله، فقال: ماذا عندك؟ قال: أنا أوصلك إلى الله في أربعين يوماً، قال: كيف؟ قال: تأخذ هذه الأذكار وتقرؤها كل يوم، وتأكل سبع حبات عدس وتفعل كذا كذا، وبعد أربعين يوماً تصل إلى الله قال: اكتب لي بهذا ورقة؛ فكتب، قال: اختمها لي فوقع عليها، ووقع عليها، ثم ذهب ورجع بعد أربعين يوماً وقال: أنا جربت هذه الطريقة وما وصلت إلى الله، وهذا يزعم أنه يكلم الله -تعالى الله عن ذلك- يكلم الله بحبل سرواله ثم قال ذلك الشاب: أيها الناس هذا ضلال شيخكم المزعوم كتب في أوراق وقال: توصلك إلى الله في أربعين يوماً.

اتباع الهوى بما يسمى حرية الفكر

اتباع الهوى بما يسمى حرية الفكر ومن البدع التي خرجت في عصرنا من اتباع الهوى ما يعرف بحرية الفكر، وحرية العقيدة، وحرية الأديان، وحرية الاختيارات وهكذا، وهؤلاء أتباع هذا الفكر المنحرف والعقيدة الفاسدة الضالة (كل من على دينه الله يعنيه) ليس عندهم أي تمييز بين عقيدة صحيحة وفاسدة، وإسلام وكفر، وحق وباطل، وينادون بما يسمونه التعايش السلمي، فيقولون: أصحاب الأديان كل واحد يحترم الثاني، وكيف لهم ذلك والجهاد مأمور به؟ أين الجهاد في سبيل الله؟ أين إنكار المنكر؟ أين الدعوة إلى الله لتخطئة أهل الباطل؟ أين الرد على اليهود والنصارى وحلفائهم؟ وهذه البدع الجديدة لا شك أنها من اتباع الهوى، ويحتجون على ذلك بقوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256] والاحتجاج بهذه الآية يرد عليه بأحد جوابين كبيرين أشار إليهما أهل العلم: الأول: أن الآية منسوخة بآية السيف: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة:36]. الرد الثاني لمن استدل بالآية هذه: أنها خاصة بأهل الكتاب إذا رضوا بدفع الجزية، فإذا وصلنا إلى بلد في الجهاد ووجدنا أناساً من أهل الكتاب وقالوا: لا نقاتلكم وادخلوا إلى بلدنا واحكموا بشريعة الإسلام، لكن نريد البقاء على ديننا، وندفع لكم الجزية، نقول: قد أجاز لكم ديننا هذا ما دمتم حكمتمونا في بلادكم، وفتحتم لنا طريقها لتحكم بالإسلام ولتدفعوا الجزية لقاء بقائكم تحت حماية المسلمين، فهذا حق لكم: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256] وهذه أقوى الأجوبة على من احتج بهذه الآية؛ لأن كثيراً من أصحاب حرية العقيدة أول ما يذكر هذه الآية ويشرحها ينطلق منها بالضلال والهوى. وقد أحدث الناس صنوفاً من الأهواء المعارضة للكتاب والسنة سموها تارة بحرية الرأي، أو حرية الفكر، وإن شئت فقدم الكاف على الفاء لتكون حرية الكفر، وهي في الحقيقة كافها قبل الفاء (كفر وليس فكر) وتارة يدخلون من باب سماحة الدين الإسلامي ونحو ذلك، ولقد رفعوا لواء حرية العقل والرأي وحرية العقيدة بهدم الدين الإسلامي، فماذا تعني حرية الرأي، أليست الإذن بقول كلمة الكفر؟! أليس حرية الرأي السماح بالطعن في الإسلام؟! أليس من حرية الرأي الاعتراض على حكم الله ورسوله؟! أليس من حرية الرأي التشكيك في دين الله عز وجل؟! كل هذه من باب حرية الرأي وليقل من شاء ما شاء، فالمجال مفتوح، والطريق واسع، والصدر رحب، ونحن نستوعب الرأي والرأي الآخر، وقد يكون الرأي الآخر كفراً وردة، وبدعة، وظلماً، وحراماً، وانحرافاً عن الدين، ويقولون: حرية الرأي، ولقد جاء الإسلام بالدعوة إلى دينٍ واحد وعقيدة واحدة، وجاء الإسلام بالجهاد في سبيل الله، وجاء الإسلام بمحو الكفر: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39] فهذا الذي يدعو إليه الإسلام ولا يدعو الدين أبداً إلى إبقاء الكفرة على ما هم عليه وترك الكفر يسرح في الأرض، وإلا فما معنى أن الله عز وجل أنزل هذا الدين؟ {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85] وحينما نستعير مصطلحات الشرق والغرب ثم نلصقها بدين الله تكون مصيبة، فالمصيبة أن يأتي أناس من بني جلدتنا ويتكلمون بلغتنا ويقولون: حرية الرأي، حرية الفكر، ويأتون بأدلة من القرآن والسنة على حرية الرأي وحرية الفكر: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256] ونحوه. فمن المؤسف أن نستعير مصطلحات الشرق والغرب ثم نلصقها بدين الله ونأتي عليها بأحاديث وأدلة. وتحت ضغط الواقع المنحرف يشتد هؤلاء على المسلمين، ويرفعون لواء هذه الجريمة المسماة: بحرية الرأي، ويفتحون الطريق للمنافقين وللمرتدين وللكفار ليطعنوا في الإسلام، وليعلنوا المخالفة لدين الله سبحانه وتعالى، وهذه انهزامية مقيتة، وبدعة جديدة، وكأن هؤلاء لم يقرءوا قول الله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36] فظهر جيل لا يقر من الدين إلا بما يوافق هواه، وغزيت البيوت بهذه الموجات، وقيل: إن كل شيء معرض للنقد، وإنه ليس هناك مسلمات.

اتباع الهوى بما يعرف بالوسطية

اتباع الهوى بما يعرف بالوسطية ومن البدع الجديدة التي ينادي بها تيار ما يعرف بالوسطية -الآن- أنه ليس هناك شيء اسمه مسلمات، فكل شيء يمكن النقاش فيه، حتى لو كان في الرفض، وهذا ما ينادي به اليوم تيار الوسطية المزعوم، فكل شيء عندهم قابل للنقاش، والميدان مفتوح، فارفع لواء الكفر والزندقة ونتناقش، ويسمحون بهذا، اطرح ما عندك، صدري يتسع للرأي والرأي الآخر، نحن نتقبل أن يقول من شاء ما شاء، وذاك الزنديق يقول على الملأ والمجال مفتوح، وقد يكون أفصح وأبلغ من الذي يرد عليه، وهذا هو التيار الوسطي. ولذلك ما تراه اليوم من الحوارات في القنوات كله مبني على هذا، قنوات الفضائية الآن هي التي تعرض هذا الفكر، الرأي والرأي الآخر، حوار مفتوح يناقش، هذا زنديق مرتد يعرض شبهاته على العامة باسم الرأي والرأي الآخر، باسم حرية الرأي، باسم كل شيء قابل للنقاش، فماذا يبقى لنا من مقدسات؟ وأي أحكام ثابتة بقيت في الدين؛ فكل شيء معرض للنقاش، فيقولون: تحريم الخمر قابل للنقاش، تعدد الزوجات قابل للنقاش، الربا قابل للنقاش، نتناقش يمكن نتوصل إلى نتيجة، هذا كله على العامة: النساء والصغار، والكبار، والمثقفين وغير المثقفين، والذين عندهم علم والجهلة يشاهدون، فهذا باب الفتنة الكبرى التي فتح بالقناة الفضائية في هذا العصر، هذا الهوى واتباع الهوى. ولماذا كان السلف ينهون عن مجالسة أهل البدع، ولا يقبلون بذلك. جاء رجل يقول لـ أيوب: كلمة! قال: ولا نصف كلمة، لا تعطى الفرصة للمبتدع وإذا نوقش يناقش في مجلس خاص، وقد يقول: أنتم لا تثقون بأنفسكم، نقول: بلى نثق بالله تعالى، لكن لا نرى من الحكمة أن يسمع الجهلة والعوام شبهاتك يا أيها الزنديق، نحن نخاف على دين العامة ما نخاف على أنفسنا نحن، نحن أعلم منك وأقدر منك على الجواب، لكن ليس من الحكمة أن نعرض دين العامة للفتنة؛ ولذلك هذا الطرح الذي يحدث الآن مخطط له، يؤدي بالنهاية إلى تشكيك العوام بأحكام الإسلام. والاستفتاء حول تعدد الزوجات، كم الذين قالوا نعم، وكم الذين قالوا: لا. اطرح أي شيء في الاستفتاء، نعم، لا، لا أدري، أؤيد، لا أؤيد، متوقف، استفتاء!! قال عبد الله بن مسعود: [من أراد أن يكرم دينه فلا يدخل على السلطان، ولا يخلون بالنسوان، ولا يخاصمن أصحاب الأهواء]. وعن مجاهد قال: [ما أدري أي النعمتين عليَّ أعظم: أن هداني للإسلام أو عافاني من هذه الأهواء]. ودخل رجلان من أصحاب الأهواء على ابن سيرين فقالا: يا أبا بكر نحدثك بحديث؟ قال: لا. قالا: فنقرأ عليك آية من كتاب الله؟ قال: لا. لتقوما عني أو لأقومن، فخرجا فقال بعض القوم: يا أبا بكر وما كان عليك أن يقرأا عليك آية من كتاب الله؟ قال: إني خشيت أن يقرأا عليَّ آية من كتاب الله فيحرفانها فيقر ذلك في قلبي. وعن سلام بن أبي مطيع أن رجلاً من أصحاب الأهواء قال لـ أيوب: يا أبا بكر أسألك عن كلمة، فولى وهو يشير بإصبعه ولا نصف كلمة، وأشار لنا سعيد بخنصره اليمنى.

اتباع الهوى في فقه التيسير

اتباع الهوى في فقه التيسير ثم نأتي إلى مسألة فقه التيسير ومتابعة أهواء العامة ومجاراة أهوائهم. من البدع العصرية التي خرجت ما يعرف بفقه التيسير، وفقه التيسير هو: عبارة عن اتباع الهوى، وجمع الرخص واختراعها، وهم لا يكتفون فقط بجمع الرخص التي هي زلات العلماء، فهناك -الآن- مدرسة فقه التيسير، هذه المدرسة القائمة على الحوارات على الفضائيات، وفقه التيسير يحاول أن يجمع لك أية رخصة أفتى بها، أو قالها عالم أو أحد في كتاب سابق من أي مذهب كان، وتجمع في قاموس فقه التيسير وإذا لم يجد يخترع فتوى جديدة، تناسب العصر -بزعمهم- توافق هوى الناس وتخالف الكتاب والسنة، فيقولون مثلاً: يبحث مثلاً من الذي قال: إن ربا النسيئة ربا الفضل؟ قال: هناك بعض العلماء، قبل أن يعلم الحكم يفتي بأحد نوعي الربا أنه جائز، وكان فلان يجيز أكل البرد في نهار رمضان، وكان فلان يرى بإباحة نكاح المتعة، لم يصل إليه التحريم، وكان فلان يبيح الغناء، وكان فلان كذا، فيجمعون لك هذه كلها ويجعلونها في قاموس يسمى: فقه التيسير، وإذا وردت مسألة عصرية جاء أناس فقالوا: نحن في الغرب نريد أن نشتري بيوتاً ولا يمكن أن نشتري إلا عن طريق البنوك الربوية، فالبنك يمول شراء البيت ونحن نقسط بزيادة، وهذا ربا واضح، فيقولون: هذه ضرورة عصرية، يعني: أيبقى الناس مستأجرين؟! نقول: هناك مدراء شركات مستأجرين، بل تجد (70% أو 80%) مستأجرين أين هم؟ هل كل هؤلاء مساكين يستحقون الزكاة، كل هذه البنايات والعمارات هل كل هؤلاء من أهل الزكاة؟ يقول: هذه ضرورة عصرية: الشراء عن طريق تمويل البنوك وجعلها في قاموس التيسير، وهكذا كثرت الأهواء في اتباع الرخص، ومن تتبع رخص العلماء تزندق وخرج من دينه، فإنه ما من عالم إلا وله سقطة أو زلة واحدة على الأقل؛ فإذا تتبع الإنسان هذه الرخص اجتمع فيه الشر كله، ومع طول عهد الناس بعصر النبوة والبعد عن وقت النبوة زادت الأهواء، واستولت الشهوات على النفوس، ورق الدين لدى الناس، وزاد الطين بلة ارتباط المسلمين بالغرب الذي استولى على مادياتهم وصدر إليهم الفكر الذي يعتنقونه ويرضخون له، وترك هذا الأمر أثره -مع الأسف- حتى على بعض الدعاة، أو الذين يزعمون نصرة الإسلام، ويتصدرون المجالس في الكلام، فصاروا يريدون إعادة النظر في بعض الأحكام الشرعية، يقولون: ثقيلة على الناس، الناس لا يطيقونها، ماذا تريدون؟ قالوا: نخفف، نرغب الناس في الدين، فنقول لهم: أنتم تريدون إدخال الناس من باب ثم إخراجهم من الدين من باب آخر! أنتم تريدون إدخال الناس في دين ليس هو دين الله، أنتم تريدون أن تنشروا على الناس إسلاماًَ آخر غير الذي أنزله الله، أنتم تريدون أن تقدموا للناس أحكام غير أحكاماً الشريعة التي أتى بها رب العالمين، ماذا تريدون؟ ما هو نوعية الإسلام الذي تريدون تعليمه للناس؟ وأي شريعة هذه؟ وأي أحكام؟ ومن الناس من يتطوع لمتابعتهم، ولا شك أن الناس فيهم أهل هوى وأتباع كل ناعق، يريدون يسراً ولا يريدون مشقة، ويريدون سهولة ولا يريدون تكاليف صعبة، فنقول: أفتهم بعدم صلاة الفجر؛ لأن صلاة الفجر فيها مشقة، وأفتهم بعدم الصوم في الصيف الحار؛ لأن الصوم في الصيف الحار مشقة، أفتهم بالفطر والقضاء، وأفتهم بصلاة الفجر الساعة الثامنة، فما دمت تريد أن تخفف على الناس خفف، وقل إن الربا ضرورة عصرية، وهكذا صار الإسلام الذي يقدم للناس غير الإسلام الذي أنزله الله. لكن كيف يعني: (القابض على دينه كالقابض على الجمر) هذا الحديث ما معناه؟ إذاً: ماذا بعد أن نلغي أي أحكام ونقول: هذه يعاد النظر فيها؟ فكيف يحس الواحد أنه قابض على الجمر؟ كيف يحس أن هنا فتنة وابتلاء من الله، الله ابتلى الناس بالتكاليف وابتلاهم بالمشاق، ماذا يعني إسباغ الوضوء على المكاره؟ ماذا يعني حفت الجنة بالمكاره؟ إذا كنت تريد إلغاء المكاره من الدين، فأين الجنة هذه التي تريدون دخولها؟ الجنة حفت بالمكاره فأين المكاره؟ أنتم تريدون إلغاء المكاره كلها بحجة التخفيف على الناس وترغيبهم في الإسلام، أنتم ترغبونهم في شيء آخر غير الإسلام، ترغبون في دين آخر تشرعونه من عندكم، وهذا التمادي يجعل الداعية هذا أو المتصدر المتزعم المدعي للعلم عبداً لأهواء البشر. يا شيخ هذه ثقيلة. يقول: (خلاص بلاش) يا شيخ والله ما قدرت، قال: هذا مباح، وهكذا يصبح الشرع وفق أهواء الناس وشهواتهم ويعاد تشكيل دين جديد، وأحكام جديدة وفقه جديد، اسمه: فقه التيسير، وهو قائم على تمييع الشريعة ومراعاة أهواء الناس، ماذا يقول الناس؟ ما هو رأي الأغلبية؟ يجوز. ويجب أن يقوم الدعاة إلى الله بمقاومة داعي الهوى، فالشريعة جاءت لمقاومة الهوى، وتربية الناس على تعظيم نصوص الشرع والتسليم لها وترك الاعتراض عليها، وأن النص الشرعي حاكم لا محكوم، وأنه غير قابل للمعارضة ولا للمساومة ولا للرد ولا للتجزئة ولا للتخفيض، وليذكّر العامة والخاصة بقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} [الأحزاب:36] فلابد من تربية الناس على التعلق بالآخرة، وأن الدنيا دار شهوات وأهواء وظل زائل، وأن الجنة قد حجبت بالمكاره، والنار قد حجبت بالشهوات، وأن اليقين ما دل عليه الشرع، وما جاء به الشرع هو مصلحة الناس ولو جهلوا، ولو قالوا: ليس في هذا مصلحتنا، وأن من مقاصد الشريعة تعبيد الناس لرب العالمين، وأن الواحد يركب المشاق حتى يتعبد ويذلل نفسه لله. قال الشاطبي: المقصد الشرعي من وضع الشريعة؛ إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبداً لله اختياراً كما هو عبد له اضطراراً. إذاً: ما هو المقصد الشرعي من وضع الشريعة؟ لماذا ألزم الله الناس بالشريعة؟ الغرض من وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبداً لله، وليتذكر هؤلاء القوم أن مجاراة الناس في الترخص والتيسير لا تقف عند حد، فماذا نفعل بمن تتبرم من لبس الحجاب؟ ومن يتبرم من صيام الحر في رمضان؟ ومن يتثاقل من السفر للحج لما فيه من المشقة والأمراض المعدية؟ وماذا نصنع بالجهاد الذي فيه تضحية بالنفس والمال؟ فإذا كنا نريد أن ننسلخ من أي شيء فيه ثقل فأي دين هذا الذي نريد اتباعه، والتيسير الذي يسره الله للناس ورخص فيه -هذا الشرعي أما الآخر فتيسير بدعي- التيسير الشرعي، كالمسح على الخفين والجورب للمقيم يوم وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام، هذا تيسير شرعي: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] هذا تيسير شرعي، أما أن تأتي وتقول: الربا ضرورة عصرية، فهذا كلام فارغ.

علاج الهوى

علاج الهوى وختاماً لهذا الموضوع فإننا نريد أن نعرف ما هو علاج الهوى؟

الرجوع إلى الله

الرجوع إلى الله يعالج الهوى بعدة أمور: أولاً: الرجوع إلى الله سبحانه وتعالى بدعائه عز وجل أن يوفق العبد ويقيه شر هذه الأهواء، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: (اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء) رواه الترمذي وهو حديث صحيح، وكان إبراهيم يدعو فيقول: [اللهم اعصمني بكتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، ومن اختلاف في الحق، ومن اتباع الهوى بغير هدى، ومن سبيل الضلال، ومن شبهات الأمور، ومن الزيغ واللف والخصومات].

منع القلب مما يشتهي

منع القلب مما يشتهي ثانياً: لا بد من منع القلب مما يضاد الهوى من محبة الله والقرب منه عز وجل، وداء اتباع الهوى والإعجاب بالنفس لا يلائمه كما قال ابن القيم كثرة قراءة القرآن، واستفراغ الإنسان العلم والذكر والزهد وإنما يلائمه إخراجه من القلب بضده. وفي كتاب روضة المحبين لـ ابن القيم ذكر فصلاً في علاج الهوى، قال فيه: فإن قيل كيف يتخلص من هذا من قد وقع فيه؟ فالجواب بأمور: أحدها: عزيمة حر يغار لنفسه وعليها؛ حتى تتخلص من الهوى وتقاوم الهوى، فإنك تحتاج إلى عزيمة حرٍ يغار لنفسه وعليها. ثانياً: بجرعة صبرٍ يصبر نفسه على مرارتها تلك الساعة.

قوة النفس

قوة النفس الثالث: قوة نفس تشجعه على شرب تلك الجرعة، والشجاعة كلها صبر ساعة، وخير عيش أدركه العبد بصبره.

ملاحظة حسن العاقبة

ملاحظة حسن العاقبة الرابع: ملاحظته حسن موقع العاقبة والشفاء بتلك الجرعة.

الندم والألم على ترك الطاعة

الندم والألم على ترك الطاعة الخامس: ملاحظته الألم الزائد على نبذ الطاعة في اتباع هواه.

المداومة على الطاعات

المداومة على الطاعات السادس: إبقاؤه على منزلته عند الله وبقلوب عباده، وهو خيرٌ وأنفع له من لذة موافقة الهوى. فكر كيف تحفظ منزلتك عند الله وقدم هذا على لذة الهوى.

إيثار العفة على المعصية وحلاوتها

إيثار العفة على المعصية وحلاوتها السابع: إيثار لذة العفة وعزتها وحلاوتها على لذة المعصية.

الفرح بغلبة الشيطان وكبحه

الفرح بغلبة الشيطان وكبحه الثامن: فرحه بغلبة عدوه وقهره له، ورده خائباً بغيظه وهمه حيث لم ينل منه، والله تعالى يحب من عبده أن يراغم عدوه ويغيظه، فإبليس عدو لله، والله يحب أن تغيظ عدوه عز وجل وترده خاسئاً وهو حسير، كما قال تعالى: {وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} [التوبة:120] وعلامة المحبة الصادقة مغايظة أعداء المحبوب ومراغمتهم.

معرفة الغاية من الحياة

معرفة الغاية من الحياة التاسع: التفكر في أنك لم تخلق للهوى، وإنما خلقت لأمر عظيم لا ينال إلا بمعصية الهوى، كما قيل: قد هيئوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل

التأمل في عواقب الهوى

التأمل في عواقب الهوى العاشر: أن ينظر بقلبه في عواقب الهوى فيتأمل كم أفاتت معصيته من فضيلة، وكم أوقعته في رذيلة، وكم أكلة منعته أكلات، وكم من لذة فوتت لذات، وكم من شهوة كسرت جاهاً ونكست رأساً، وقبحت ذكراً، وأورثت هماً، وأعقبت ذلاً، وألزمت عاراً لا يطفئه الماء غير أن عين صاحب الهوى عمياء.

التأمل في الحال بعد قضاء الشهوة

التأمل في الحال بعد قضاء الشهوة الحادي عشر: أن يتصور العاقل انقضاء غرضه ممن يهواه، ثم يتصور حاله بعد قضاء الوطر وما أفاده وما حصل له، فالآن لو دعا داعي الهوى للزنا بامرأة أو لذة محرمة مع أمرد، فليتخيل هذا المدعو إلى الحرام نفسه بعد المعصية، فليتخيل نفسه بعد الزنا وبعد الفاحشة كيف سيكون حاله، سيكون نادماً حزيناً كئيباً ضيق الصدر، يكره نفسه، فما دام أن النهاية سيئة فأنت ممكن أن تتدارك نفسك. فأفضل الناس من لم يرتكب سبباً حتى يميز بما تدني عواقبه الثاني عشر: أن يتصور ذلك في حق غيره حق التصور ثم ينزل نفسه تلك المنزلة.

مخالفة النفس

مخالفة النفس الثالث عشر: أن يتفكر فيما تخالفه نفسه من ذلك ويسأل عنه عقله ودينه. من العلاجات ما ذكره ابن مسعود: من أنه إذا دعاه داعي الهوى وقال اذهب للزنا بامرأة، قال ابن مسعود: إذا أعجب أحدكم امرأة فليذكر مناتنها. تذكر ما في مناتنها من البول، وما في أنفها مما تعافه النفس، وهذا أحسن من قول أحمد بن الحسين: لو فكر العاشق في منتهى حسن الذي يفديه لم يفده لو فكر العاشق في هذا الشخص الذي عشقه وشكل المعشوق بعد سبعين سنة. لو فكر العاشق في منتهى حسن الذي يفديه لم يفده

الأنفة من ذل الهوى

الأنفة من ذل الهوى الرابع عشر: أن يأنف لنفسه من ذل طاعة الهوى؛ فإنه ما أطاع أحدٌ هواه قط إلا وجد في نفسه ذلاً، ولا يغتر بصولة أتباع الهوى وكبرهم فهم أذل الناس، قد جمعوا بين فصيلتي الكبر والذل، فلو قال: هؤلاء أتباع الهوى يسافرون بسيارات (شبح) وأنا قبل يومين جاءني واحد في سيارة اسمها (فياجرا) ويقال: هذه من المستجدات، فالآن يركبون هذه بثياب فخمة وشكل حسن، ويذهبون إلى أماكن المعصية، وبعض الناس يفتن بهذا فنقول: لا يضرك صولة أهل المعصية. أن يأنف من ذل نفسه من ذل طاعة الهوى، ولا يغتر بصولة أتباع الهوى وكبرهم فهم أذل الناس، قد جمعوا بين فصيلتي الكبر والذل.

الموازنة

الموازنة الخامس عشر: أن يوازن من تدعوه نفسه للهوى بين سلامة الدين والعرض والمال والجاه، ونيل اللذة المطلوبة. فإنه لا يجد بينهما لذة البتة، فليعلم أنه من أسفه إذا باع هذا بهذا.

الابتعاد عن قهر الشيطان

الابتعاد عن قهر الشيطان السادس عشر: أن يأنف لنفسه أن يكون تحت قهر عدوٍ؛ فإن الشيطان إذا رأى من العبد ضعف هزيمة وهمة، وميلاً إلى هواه طمع فيه وصرعه، وألجمه بلجام الهوى وساقه حيث أراد.

أن يعلم مكائد الشيطان

أن يعلم مكائد الشيطان السابع عشر: أن يعلم أن الشيطان ليس له مدخل على ابن آدم إلا من باب هواه، فإنه يضيق به من أين يدخل عليه حتى يفسد عليه قلبه وأعماله، فلا يجد مدخلاً إلا من باب الهوى، فيسري معه سريان السم في العظم.

أن يعلم أن الهوى سور جهنم

أن يعلم أن الهوى سور جهنم الثامن عشر: أن الهوى هو سور جهنم المحيط بها، فحول جهنم هوى، فمن وقع فيه وقع فيها، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (حفت النار بالشهوات) ولما خلق الله جهنم قال لجبريل: اذهب فانظر إليها. قال في الحديث: (اذهب إلى النار فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها، فجاء فنظر إليها وإلى ما أعد الله لأهلها فيها فإذا هي يركب بعضها بعضا، فقال: وعزتك لا يسمع بها أحدٌ فيكفر، فأمر بها فحفت بالشهوات، وقال لجبريل: ارجع فانظر إليها، فرجع إليها فإذا هي قد حفت بالشهوات، فرجع إليه فقال: وعزتك لقد خشيت أن لا ينجو منها أحد) قال الترمذي: حديث حسن صحيح.

أن يعلم أن مخالفة الهوى تورث القوة

أن يعلم أن مخالفة الهوى تورث القوة التاسع عشر: إن مخالفة الهوى تورث العبد قوة في بدنه وقلبه ولسانه. قال بعض السلف: الغالب لهواه أشد من الذي يفتح المدينة وحده، وفي الحديث الصحيح: (ليس الشديد بالصرعة ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) وكلما تمرن العبد على مخالفة هواه اكتسب قوة إلى قوته.

تغليب العقل على الهوى

تغليب العقل على الهوى والعشرون: أن الله سبحانه وتعالى جعل في العبد هوى وعقلاً، فأيهما ظهر توارى الآخر. كما قال أبو علي الثقفي: من غلبه هواه توارى عنه عقله. فانظر عاقبة من استتر عنه عقله وظهر عليه خلافه. العقل والهوى يتنازعان، فالتوفيق قرين العقل، والخذلان قرين الهوى، والنفس واقفة بينهما فأيهما غلب كانت النفس معه، النفس تتفرج على حلبة الصراع بين العبد والهوى وتتبع الغالب.

المحافظة على سلامة القلب

المحافظة على سلامة القلب الواحد والعشرون: أن الله سبحانه وتعالى جعل القلب ملك الجوارح، ومعدن معرفته ومحبته وعبوديته، وامتحنه بسلطانين وجيشين وعونين وعدتين، فالحق والزهد والهدى سلطان، وأعوانه الملائكة، وجيشه الصدق والإخلاص، ومجانبة الهوى، والباطل سلطان، وأعوانه الشياطين، وجنده وعدته اتباع الهوى، والنفس واقفة بين الجيشين ولا يسلم جيش على الباطل إلا من ثغرة القلب، فهي تعاكس القلب وتصير مع عدوه.

أن يعلم أن اتباع الهوى رق وغل

أن يعلم أن اتباع الهوى رق وغل الثاني والعشرون: أن الهوى رقٌ في القلب، وغلٌ في العنق، وقيد في الرجل، ومتابعه أسير؛ لأنه يكون في رقه، فمن خالف الهوى عتق من الرق وصار حراً، وخلع الغل من عنقه، والقيد من رجله، وصار بمنزلة رجل شاهدٍ لرجل بعد أن كان فيه شركاء متشاكسون. رب مستور فدته شهوة فتعرى جسره فانتهكا صاحب الشهوة عبدٌ فإذا غلب الشهوة أضحى ملكا وقال ابن المبارك: ومن البلاء وللبلاء علامة أن لا ترى لك عن هواك نزوعُ العبد عبد النفس في شهواتها والحر يشبع مرة ويجوعُ

إجابة الدعوة

إجابة الدعوة والثالث والعشرون: أن مخالفة الهوى تقيم العبد في مقام من لو أقسم على الله لأبره، فيقضى له من الحوائج من رب العالمين أضعاف أضعاف ما فاته من هواه، فهو كمن رغب عن بعرة وأعطي بدلاً منها ذُرة، ومتبع الهوى يفوته من مصالحه العاجلة والآجلة، والعيش الهنيء الشيء الكثير لو تركه للهوى؛ فإن ترك الهوى كان أسهل بكثير، وما يفوت بالهوى ليس بشيء بالنسبة لما يبقى من عز الطاعة، وتأمل يوسف عليه السلام لما قوت على نفسه لذة الحرام مع امرأة العزيز، وخالف هواه، ماذا أعقبه الله؟ بسط الله تعالى له نساءً وخدماً ومجداً وعزاً في السلطان بعد خروجه من السجن، لما قبض نفسه عن الحرام بسط الله له يده في السلطان فصار عزيز مصر. ومن الرؤى والمنامات الصالحة لـ سفيان الثوري ما رآه عبد الرحمن بن مهدي بعد موت سفيان الثوري -وهم علماء من زمان العلماء، وهؤلاء طلاب عند العلماء وأهل العبادة والزهد والورع والعلم والدين إخوة في الله، الواحد يشتاق للآخر جداً، وإذا مات صعب عليه وتمنى لو يراه في المنام، تمنى لو يكون له خبراً عن حاله- وعبد الرحمن بن مهدي لما مات سفيان الثوري رآه في المنام فقال له: ما فعل الله بك؟ قال: لم يكن إلا أن وضعت في لحدي حتى وقفت بين يدي الله تبارك وتعالى، فحاسبني حساباً يسيراً ثم أمر بي إلى الجنة، فبينا أنا أجول بين أشجارها وأنهارها لا أسمع حساً ولا حركة إذ سمعت قائلاً يقول: سفيان بن سعيد؟ فقلت: سفيان بن سعيد، قال: تحفظ أنك آثرت الله عز وجل على هواك يوماً؟ -تحفظ أنك يوم من الأيام قدمت الله على هواك؟ - قلت: إي والله، فتأخذني النثار من كل جانب، والنثار ما يلقى على العروس عادة أو على الحضور قال: فأخذني النثار من كل جانب.

أن يعلم أن مخالفة الهوى توجب شرف الدنيا والآخرة

أن يعلم أن مخالفة الهوى توجب شرف الدنيا والآخرة الرابع والعشرون: أن مخالفة الهوى توجب للعبد شرف الدنيا وشرف الآخرة، وعز الظاهر وعزة الباطن، ومتابعة الهوى تصيره عبداً ذليلاً محتقراً عند الله وعند الناس، ويوم القيامة إذا نودي آخر الجمع: يا أهل الكرم ليقم المتقون؛ فيقومون إلى محل الكرامة، وأتباع الهوى ناكسو رءوسهم في حر الهوى وعرقه وألمه بينما المتقون في ظل العرش. فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يكفينا دواعي الهوى، وأن يخلف عنا سبل الردى، وأن يجعل التوفيق لنا رائداً، والعقل لنا مرشداً، وأن يجعلنا ممن يتعظون، ومن الذين يتعلمون قبل أن يعملوا، وكذلك فإن هذا الأمر وهو اتباع الهوى جدير بأن يدرس ويفكر فيه وأن يكون العبد على حزن، والله منه نسأل أن يوفقنا لكل خير.

لغتنا الجميلة هل نعود إليها؟ [2]

لغتنا الجميلة هل نعود إليها؟ [2] شاع لدى الكثير من أهل الإسلام التقليل من قيمة اللغة العربية، وقيمتها، وأهميتها، وسعتها. وأصبح التفاخر بالتحدث باللغات الأجنبية الأخرى. وأنها لغات العلم والتقدم، وأصبح الناس يلوكون بألسنتهم هذه اللغات، وذلك لأنهم لم يدركوا دور اللغة. إن لغتنا الأصيلة هي أم اللغات، وأشرفها، وأوسعها، والمتقدم يسود بكل ما يملك، فهكذا كنا فمتى نعود. هذا هو ما تحدث عنه الشيخ، ذاكراً ميزات اللغة العربية، موضحاً حكم تعلم اللغة الأجنبية.

سيادة اللغة للأقوى

سيادة اللغة للأقوى عباد الله: لما كنا سادة وقادة، كان العالم لنا تبعاً، وكانت لغتنا هي اللغة السائدة، وكانوا يتعلمونها رغماً عنهم، ولا يمكن لهم تقدمٌ إلا بتعلمها، أقبلوا عليها يتعلمونها زرافات ووحدانا، وجاءوا من إيطاليا وغيرها إلى الأندلس ليتعلموا اللغة العربية في الأندلس، وبعثوا البعثات إليها. يقول بعض المستشرقين: إن أرباب الفطنة والتذوق من النصارى سحرهم رنين الأدب العربي، فاحتقروا اللاتينية، وصاروا يكتبون بلغة القوم القاهرين. حتى قال أحد القساوسة من النصارى: وا أسفاه! إن الجيل الناشئ من المسيحيين لا يحسنون أدباً أو لغةً غير الأدب العربي واللغة العربية، وإنهم ليلتهمون كتب العرب ويجمعون منها المكتبات الكبيرة بأغلى الأثمان. وكتب الفارو مقران في عام (854م) إلى أحد أصدقائه رسالة يقول فيها: إننا لا نرى غير شبان مسيحيين هاموا بحب اللغة العربية، يبحثون عن كتبها، ويقتنونها، ويدرسونها في شغف، ويعلقون عليها، ويتحدثون بها في طلاقة، ويكتبون بها في جمال وبلاغة، ويقولون عليها الشعر في رقة وأناقة، يا للحزن! مسيحيون يجهلون من كتابهم وقانونهم ولاتينيتهم، وينسون لغتهم نفسها، ولا يكاد الواحد منهم يستطيع أن يكتب رسالة معقولةً لأخيه مسلِّماً عليه، وتستطيع أن تجد جمعاً لا يحصى يظهر تفوقه وقدرته وتمكنه من اللغة العربية. ثم انقلب الزمان وتغير الحال وانعكست القضية، حق لهم أن يتركوا لاتينيتهم لأجل العربية؛ لأنها أقوى وأعلى وأثمن وأبلغ وأقوى، ولكن هل يحق لنا أن نترك عربيتنا لإنجليزيتهم وهي الأضعف والأتفه والأدنى والأضيق؟! ليس عيباً عليهم أن يتعلموا عندنا في الأندلس، ولكن العيب عندما نستخدم لغتهم وهي الأضعف.

المؤامرة على اللغة

المؤامرة على اللغة علم أعداء الإسلام أن اللغة العربية هي الجزء المشترك من كيان الأمة، وهي الوطن المعنوي الواحد لحركة اللسان المعبرة عن حركة الفكر والوجدان، وأن مقياس رقي الأمم وانحطاطها في رقي اللغة وانحطاطها؛ هجموا على اللغة العربية، وأخذوا تراثنا ومخطوطاتنا إلى مكتباتهم وجامعاتهم، عندما أدركوا أن اللغة تربط بين المسلمين وتوحد بينهم، كان المسلم ينتقل من المغرب إلى أقصى المشرق وهو يتكلم باللغة العربية الفصحى، وكل واحد يفهمه، كلهم يفهم بعضهم بعضاً؛ لأن اللغة واحدة، فلما احتل الكفار الدولة الإسلامية، وقسموها شنوا الحرب على اللغة العربية الفصحى، وفرضت لغة الغزاة على الشعوب الإسلامية المغلوبة. أولاً: جعلوا لغتهم هي اللغة الإجبارية في المدارس، من المرحلة الابتدائية إلى الجامعية فما فوق، واعتبروها اللغة الأساسية في البلاد مع إهمال اللغة العربية، حتى ينشأ جيلٌ من أبناء المسلمين يتكلم بلغة الغزاة ويهجر لغته الأصلية، وصار طالب العمل والوظيفة لا يستطيع أن يجد وظيفة إلا إذا كان يتقن لغة الغزاة اتقاناً جيداً، حتى صارت الأجيال في بلاد المسلمين لا تحسن النطق بالعربية وتجيد لغات الغزاة، وابتعدت الأجيال عن الدين نتيجة لذلك، حتى صار الواحد يفتح المصحف ولا يحسن تلاوته، ولا قراءة حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فضلاً عن مقطوعة شعرية، أو قصة كتبت بالعربية. انظروا إلى حال المسلمين في شمال أفريقيا، ماذا فعلت بهم فرنسا وأفريقيا؟ والشعوب الإسلامية في روسيا والصين لقد دمرت اللغة العربية تدميراً تاماً فهم يتكلمون فرضاً باللغة الروسية. وهكذا في كثير من البلدان أزيحت اللغة العربية عن مسرح الحياة، ثم قاموا بعد ذلك بشن الهجمات، ومن ذلك محاولة نشر اللهجات العامية الإقليمية، والتشجيع على أن تكون اللهجة العامية هي التي تكتب بها العلوم والآداب والمعاملات، وأن العامية سهلة وتجيدها كل المستويات، والفصحى قواعد صعبة وألفاظ معقدة، هكذا خيَّلوا لنا؛ فصارت اللغة العامية هي الدارجة الباهية، حتى نصير مثل الألمان والإنجليز والفرنسيين، الذين انفصلوا بلغات مختلفة عن اللغة اللاتينية الأم هكذا كان المخطط، وأعطيت اللهجة العامية صيغة اللين والسهولة، ووصفت بأنها القادرة على التعبير عن كل أفكار أفراد المجتمع، وفتح المستشرقون الباب للدراسات، ونشروا الأبحاث في المجلات، وقاموا بتلك الحركة الخبيثة لترك الفصحى إلى العامية، فقام وليم جيمس، وسلدن مور وغيرهما من هؤلاء الأخباث الأنجاس ولويس ماسنيون، وبعضهم أسماؤهم على شوارع في بلاد المسلمين، قاموا بالدعوة إلى العامية، وتلقفها من المحسوبين على المسلمين من أمثال: لطفي السيد وعبد العزيز فهمي وتوفيق الحكيم وسلامة موسى وزكي نجيب محمود، وغيرهم فقاموا بإشاعة اللهجة العامية، وهدم اللغة العربية، وتغيير قواعد اللغة العربية، وتغيير الخط العربي، وتغيير قواعد الإملاء، وحذف بعض القواعد، وأيدهم نصارى العرب من أمثال سعيد عقل وأنيس شريحة ولويس عوض، ولا غرابة أن يتشجع نصارى العرب ويتحمسوا إلى هذه الفكرة، وسُخّرت الأفلام والمسلسلات والمقالات والمجلات لهذه الأغراض الخبيثة، وأثيرت النعرات القومية، فإذا كان المسلمون من أصل هندي أثاروا قضية الحضارة الهندية القديمة، وآدابها ولغتها السنسكريتية، ونبشوا قبور المقبرة السنسكريتية وأخرجوا العظام البالية؛ ليقولوا: هذه لغتكم الأصلية، وأثاروا النعرة البربرية في أبناء المغرب العربي، والقومية الطورانية في أبناء تركيا المسلمين، والنعرة القبطية في أبناء مصر، وأحيوا أمجاد الفراعنة وآثارهم لقطع الشعب عن أصالته العربية الإسلامية، وفي بلاد الشام أثاروا الحضارة الفينوقية، والقومية الكردية في الأكراد، وغير ذلك؛ لتقطيع أوصال الأمة، وفرض أتاتورك على المسلمين في تركيا كتابة اللغة بالأحرف اللاتينية، ومنع الأذان بالعربية، والكتابة بالعربية، والتدريس بالعربية، واللباس الذي يميز المسلمين, فصار حالهم كما ترون اليوم لا يقدر المسلم أن يفتح القرآن ويقرأ، ولا يفهم بعضنا بعضاً إذا التقينا في الحج، وإنما يكون الكلام مع المسلم بالإشارات. ذهبت اللغة العربية، وقام طه حسين وأذنابه ومن معه بحركة إلغاء الإعراب، وإشاعة قاعدة: سَكِّنْ تسلم، وإلغاء الحركات الإعرابية، كرفع الفاعل، ونصب المفعول به كيف سيعرف المسلم معنى قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]؟ الله: لفظ الجلالة مفعول به مقدم منصوب هو الذي يُخشَى، والعلماء: فاعل فهم الذين يَخشَون، {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} [البقرة:124] من الذي ابتلى؟ إبراهيمَ: مفعول به مقدم، ربُّهُ: فاعل مؤخر، فإذا ألغينا الحركات الإعرابية كيف سنفهم من الذي ابتَلى؟ ومن الذي ابتُلِي؟ ومن الذي يَخشى؟ ومن الذي يُخشى؟ وقام سوق السخرية بمدرسي اللغة العربية، وأصبحت رواتبهم من أدنى الرواتب إن لم تكن أدناها، ويظهر مدرس اللغة العربية في الأفلام بمظهر الحزن والسخرية، وتطلق النكت المضحكة اللاذعة للسخرية، وقُلّلت حصص اللغة العربية، وحذفت في بعض المدارس بالكلية، مع أن قواعد اللغة الإنجليزية تدرس في الجامعات، فالتخصص -علمي أو أدبي- تدَّرس فيه قواعد اللغة الإنجليزية، واللغة العربية حذفت بالكلية، بل إنه وصل الحال المزري أن تدرَّس في بعض الجامعات حصص قليلة للغة العربية وتدرِّس قواعد اللغة العربية باللغة الإنجليزية، فلا يقال: هذا فاعل، وإنما يقال: هذا ( Object) وهذا ( Subject ) وهذا ( Adverb ) وهذا ( pronouns ) وهكذا تدرس قواعد اللغة العربية باللغة الأعجمية، ولما قام بعض المخلصين بتعريب المصطلحات والكلمات، قامت السخرية بالترجمة، أو بالتعريب، وقالوا: أتريدون؟ ترجمة الـ ( Sandwich ) إلى شاطر ومشطور وبينهما طازج؟ سبحان الله! من الذي قال أن هذه ترجمة ( Sandwich )؟ ما هو الشاطر؟ أليس السكين؟ والمشطور هو الشطيرة؟ كيف تكون ترجمة ( Sandwich ) سكين وشطيرة؟ عندنا كلمة واحدة نقولها شطيرة أو فطيرة، وإذا كان ( Sandwich ) هو اسم الشخص الذي اخترع الفكرة، ( Bantlwoni ) ( وبنطلوني) اسم الذي فصَّل هذا أول ما فصّله، فبأي شيء يتبجحون علينا والقضية قضية أسماء؟! وأشيعت المفردات الأجنبية في كتب اللغة العربية والمدارس العربية والجامعات العربية، مع أن لها بدائل واضحة وسهلة، أدخلت كلمة ( Biology ) مع أننا بسهولة نقول: علم الأحياء، و ( Ficology ) مع أننا بسهولة نقول: علم وظائف الأعضاء، و ( Sociology ) مع أننا نقول بسهولة: علم النفس، وهكذا لكنَّ رنين الكلمة الذي يوحي بالتقدم والحضارة عند المنهزمين من أبناء جلدتنا صاروا يرطنون بهذه الألفاظ في كلامهم؛ ليدللوا على أنهم متقدمون وحضاريون ومواكبون للمخترعات والمكتشفات والحضارة الغربية. نعم. لو قالوا أسماء الأشخاص، وأسماء البلدان، وأسماء الأدوية التي لا حيلة فيها لقبلنا ذلك، وقلنا: نأخذ الأعلام كما هي.

الحفاظ على اللغة العربية

الحفاظ على اللغة العربية أيها الإخوة: يقول الشافعي رحمه الله تعالى في تعليقه على تسمية التُجّار بالسماسرة، والسماسرة ليست لغة عربية، قال: سمى الله الطالبين من فضله في الشراء والبيع تُجّاراً، ثم سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما سمى الله به من التجارة بلسان العرب، والسماسرة اسم من أسماء العجم، فلا نحب أن يسمي رجلٌ يعرف العربية تاجراً إلا تاجراً، لا نحب أن نسمي التاجر إلا تاجراً، ولا ينطق بالعربية فيسمي شيئاً بالأعجمية. وقال شيخ الإسلام رحمه الله: وما زال السلف يكرهون تغيير شعار العرب حتى في المعاملات، وهو التكلم بغير اللغة العربية إلا لحاجة، فمن فقه العالم أن يراعي قضية الحاجة، كما نقل ذلك عن مالك والشافعي وأحمد، بل قال مالك: من تكلم في مسجدنا بغير العربية أخرج منه. يقول محمد بن أحمد الخوارزمي البيروني: والله لئن أُهجى بالعربية أحب إليَّ من أن أُمدح بالفارسية. لقد رُميت اللغة العربية بسهام الأعداء والأبناء، فوصفوها بالصعوبة ونعتوها بالغموض والجمود، وحاولوا تهميشها في واقع الحياة، وتباهوا برطانة الأعاجم، وعزف كثير من الطلاب عن دراسة اللغة العربية، وتبرموا من مناهجها الدراسية، وانحدر مستوى مادة القواعد العربية والنحو والصرف، وكثرت الأخطاء في كلام الخطباء والكتاب، حتى أنك لا تكاد ترى رسالة في دائرة أو شركة إذا كتبت بالعربية إلا وهي مملوءة بالأخطاء. وادُّعي أن اللغة العربية لا تصلح لمواكبة التطور العلمي والتقني، وقال القائلون: ارحموا أولادنا وأطفالنا كيف لا تصلح؟! هل تعجز اللغة العربية عن اختيار اسم لمخترع من المخترعات؟! وسعت كتاب الله لفظاً وغايةً وما ضقت عن آي به وعظاتِ فكيف أضيق اليوم عن وصف آلةٍ وتنسيق أسماءٍ لمخترعاتِ أنا البحر في أحشائه الدرُّ كامنٌ فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي وقام فريق منا يلوون ألسنتهم بالإنجليزية والأعجمية لتحسبوه من الحضارة والتقدم، وما هو من الحضارة والتقدم في شيء، كيف يفلح قومٌ يتكلمون بغير لغتهم، ويفكرون بغير لغتهم، ويدرسون بغير لغتهم، ويكتبون بغير لغتهم؟!

أثر اللغة العربية على الإنجليزية

أثر اللغة العربية على الإنجليزية ثم هذه الإنجليزية التي يتفاخرون ويتظاهرون ويتمظهرون بها، دقق في ألفاظها سترى أثر اللغة العربية فيها، وسترى أنهم نقلوا منَّا الكلمات بالنص، وبعضها بتغيير طفيف، فمثلاً: كيس في اللغة العربية وفي الإنجليزية ( cais ) وقط ( Cat ) كاف ( Kiev ) صك ( Sheet ) يقول الناس اليوم: (شيك) وهي كلمة عربية، كفن ( Coffin ) قطن ( Cotton ) وكَفَرَ باللغة العربية أي: غَطّى وستر، وسمي الكافر كافراً؛ لأنه يُغطّي حقيقة التوحيد بالكفر، وعندهم ( Caver )، كذلك كلمة صِفر ( Cipher ) والمسلمون هم الذين اخترعوا الصفر وبذلك أسدوا للاتينيين نعمة عظيمة، وكانوا يكتبون الأرقام الطويلة المكتوبة الآن على الساعات بالأرقام اللاتينية، وإذا أراد أن يكتب رقماً طالت كتابته، فلما اخترع الصفر اختصرت لهم الأرقام. يقول الواحد منا: سنذهب إلى (السِّيف) وإلى الشاطئ، وهو يظن أنها كلمة إنجليزية مع أن ( Seif ) هي شاطئ في اللغة العربية، وقد جاء في حديث أبي هريرة في البخاري: (حتى إذا أتينا سيف البحر) أي: شاطئ البحر وماذا يقول الإنجليزي عن السكر؟ أليس ( Sugar ) وماذا يقولون عن التعريفة؟ ( Tariff ) وماذا يقولون عن الكوب؟ ( Cup ) وعن الكأس ( Glass ) وقومنا يقولون: هات القلص، وهم أخذوها منَّا (كأس وكوب) والله قد ذكر الكوب والكأس في القرآن الكريم، فهم أخذوها منا، ويقول الأطباء: ( Serb ) وهم قد أخذوها منا أي: شراب. ويقولون: اللغة العربية ليست لغة علمية وتقنية. ولكن انظروا إلى الألفاظ المتعلقة بالعلوم في لغتهم، فمثلاً: ( Algebra) أليست من ألفاظ الرياضيات والألفاظ العلمية؟ من أين أخذوها؟ أخذوها من عندنا نحن. كذلك: ( Algorithm) أي: العلامة الخوارزمي، ويقولون: ( Alphabetical Order ) وليس عندهم ألف، لكنهم يقولون عن نظام ترتيب الحروف: ( Alphabetical) لأنهم أخذوا الألف منا نحن، كذلك أشعة (ألفا، بيتا) كلمات علمية، من أين أخذوها؟ أليست الألف والباء حروفنا نحن؟ ثم يتباهى المتفرجون الذين يقلدون الغرب منَّا باستعمال كلماتهم، وإذا صدق أن الإنفلونزا هي أنف العنزة، لأنه يسيل دائماً، فواعجباً لما يستعمل الناس اليوم من الكلمات الأجنبية كقولهم (استيشن) أي: يكفي، وكذلك يستعمل الطلاب في الجامعات (كويز سكاشن)، ثم يجمعون جمع تكسير وجمع تشويه، والذين يعملون في المطارات، وهذه رحلة عليها ( OVER ) ألا تستطيع أن تقول كلمة بالعربية بدلاً من (كنكشن)؟ ألا تستطيع أن تقول بدلاً منها كلمة بالعربية؟ ألا يوجد في اللغة العربية كلمات مرادفة؟ انتهينا من الأسماء وأسماء المخترعات، وسلمنا بأخذها كما هي، لكن هذه هي الكلمات التي نقولها طلاباً وموظفين وأطباء ومدراء، ويتكلم العربي مع العربي في الشركة باللغة الإنجليزية.

أثر فرض المستعمر لغته على الشعوب المستعمرة

أثر فرض المستعمر لغته على الشعوب المستعمرة يقول مصطفى صادق الرافعي رحمه الله: هل أعجب من أن المجمَّع العلمي الفرنسي يؤذن في قومه بإبطال كلمة إنجليزية كانت في الألسنة من أثر الحرب الكبرى -أي: العالمية- ويوجب إسقاطها من اللغة جملة، وهي كلمة: (نظام الحصر البحري) وكانت مما دخل على الفرنسيين من النكبات مع نكبة الحرب العظمى، فلما ذهبت تلك النكبات رأى المجمَّع العلمي الفرنسي أن الكلمة الإنجليزية نكبة على اللغة الفرنسية يجب التخلص منها، ورآها كأنها جندي دولة أجنبية في أرض دولة مستقلة بشارته وسلاحه وعلمه. ثم يقول الرافعي رحمه الله وهو من كبار الأدباء الذين أنجبتهم مصر أرض الكنانة: ما ذلت لغة شعب إلا ذلوا، ولا انحطت إلا كان أمره في ذهاب وإدبار، ومن هذا يفرض الأجنبي المستعمر لغته فرضاً على الأمة المستعمَرة، ويركَبَهُم بها، ويشعرهم عظمته فيها، فيحكم عليهم أحكاماً ثلاثةً في عمل واحد: أما الأول: فحبس لغتهم في لغته سجناً مؤبداً. وأما الثاني: فالحكم على ماضيهم بالقتل محواً ونسياناً. وأما الثالث: فتقييد مستقبلهم في الأغلال التي يضعها، فأمرهم من بعدها لأمره تبع. إن اللغة هي صورة وجود الأمة بأفكارها ومعانيها، وهي عمقها وعاطفتها وتفكيرها، فهي نسبٌ للعاطفة والفكر، حتى أن أبناء الأب الواحد لو اختلفت ألسنتهم، فنشأ منهم ناشئ على لغة، ونشأ الثاني على أخرى، والثالث على لغة ثالثة؛ لكانوا في العاطفة كأبناء ثلاثة آباء، وإنك ترى الواحد منا اليوم -مع الأسف- الكلمة الأجنبية أسبق إلى لسانه من الكلمة العربية، وإذا أراد أن يلقي تراجعاً، وقف فترة يفكر ويبحث عن الكلمة العربية المرادفة، ويعصر ذهنه، لأن مفردات الثروة اللغوية ضعيفة، فإن اللغة الفرنسية مفرداتها حسب القاموس تقريباً خمسة وعشرون ألف كلمة، واللغة الإنجليزية بالمصطلحات وبالمولدات وبالأشياء الجديدة وما أكثرها! مائة ألف كلمة، وكلمات اللغة العربية: أربعمائة ألف كلمة، فإنك تجد للسيف أسماء عدة، حتى الكلب له في اللغة العربية أسماءً عدة، وعندهم الكلمة الواحدة تحتمل معاني كثيرة لا علاقة ولا رابطة بينها وبينها. يذهب أولادنا إلى الخارج لدراسة اللغة الأجنبية في الخارج، وتقول له: يوجد هنا تدريس لغة أجنبية. فيقول: لا، أنا أريد أن أسكن مع عائلة أجنبية في الخارج لأتعلم اللغة وأصبح طليق اللسان بها. وفتح باب الهجرة إلى الغرب مثل كندا وغيرها؛ لامتصاص عقول المسلمين وعصارة المسلمين لصالحهم وتقدمهم، وإذابة المهاجرين المسلمين في مجتمعاتهم، إنها أهداف مزدوجة. ذهب رجل مسلم مع زوجته المحجبة وأولاده إلى السفارة الأجنبية، يطلب الهجرة، فقال له الملحق في تلك السفارة بصراحة نحن لا يهمنا لا أنت، ولا زوجتك المحجبة، لا نطمع فيك ولا في زوجتك المحجبة، ولا في أولادك الذين عندهم شيء من الثقافة المشرقية، لكننا نسمح لك، لأن أحفادك لنا، ولأننا نوقن أن أحفادك لنا نحن وهكذا حصل، فماذا سيفعل الذي يترك بلاد المسلمين والعرب إلى الغرب؟ وبعضهم مضطر إلى هذا، فيذهب إلى هناك ويعلم ولده حصة في اللغة العربية في مركز إسلامي، أو معهد إسلامي، ويبقى الولد سنوات وهو يتهجى الكلمات ولسانه طلقٌ بلغة القوم، وإذا طلبت من الواحد من أولاد المبتعثين الذين عاشوا سنين في الخارج أن يتكلم بالعربية، كأنه يكسر أحجاراً، قال أحد الدعاة لبنت صغيرة من بنات هؤلاء: قولي لي حكاية في اللغة العربية. فقالت: كانت هناك بنت، (بنت هناك كانت، وكان لها ثنتين قطز، الجمع) ثم تخلت عن العربية ولم تستطع أن تكمل الحكاية باللغة العربية، هذا هو حال أولاد المسلمين في الخارج، إنها مأساة. جاءني رجل يسأل عن مشكلة اجتماعية، ويعترف بأنه ارتكب جرماً عظيماً عندما تزوج من امرأة أمريكية في الخارج، وقال لي: انظر إلى هذا، وكان بجانبنا رجل من الصالحين يقرئ ولده القرآن، وقال: ولدي الصغير لا يستطيع أن يقرأ مثل هذا، وهو عربي، والآن عرفت الجريمة التي أجرمتها في حق ولدي. ولما تركنا أولادنا أمام التلفزيون مستمعين طيلة الوقت، صار الولد عاجزاً عن تركيب الجمل والتعبير، كان الأولاد في السابق يجتمعون أمام البيوت وفي الحارات، ويؤلفون قصصاً، ويتكلمون، أما الآن فإن أولادنا أمام الشاشات وألعاب الكمبيوتر، والقدرة على الكلام تلاشت، يصاب الولد بالارتباك في تفكيره وحركة أصابعه، ولم يحسن إمساك القلم بعد، ونحن ندرسه بلغتين في الروضة، ويكتب مرة من اليمين إلى الشمال، والحصة التي بعدها من الشمال إلى اليمين، فيبقى في غاية الارتباك. يأتي العمال البنغاليون الذين قدموا إلينا، وجلسوا عشر سنين وخمس عشرة سنة، ولم يتعلموا من اللغة إلا شيئاً يسيراً، والواحد منا إذا ذهب إلى الخارج تعلم رغماً عنه، وفي مدة يسيرة (ستة أشهر) يتقن اللغة الإنجليزية والألمانية، والألماني في الشارع في ألمانيا يرفض أن يكلمك باللغة الإنجليزية ولو كان يعرفها، بل يفرض عليك أن تتكلم بالألمانية، ولائحات الشوارع واللافتات كلها بالألمانية، ولا مجال للغة الدخيلة، ولا اللغة الأجنبية عندهم، والفرنسي لا يتكلم معك بالإنجليزية، ويعتبره غزواً ثقافياً وعيباً، ونحن يأتي أخونا المسلم من الهند يعيش بيننا، ولا يتعلم إلا (أنت فيه روح، أنا فيه روح، خلي يولي) عبارات عجيبة! ويعود إلى بلده وهو لا يحسن العربية، ولا يتكلم بالعربية، ولا يكتب بالعربية، بل الأعجب من ذلك أن يأتي العامل البنغالي إلينا وهو لا يعرف لا الإنجليزية ولا العربية، لا يعرف إلا لغته الأصلية، فيرجع من عندنا وقد تكلم باللغة الإنجليزية، لأننا عودناهم، وانظر إلى أسماء الشركات (دسكو، مسكو، فسكو) وأسماء المحلات، والألفاظ التي حدثت، نعجز عن أن نقول (للتلفون) هاتف! أو للبيجر نداء! أو عن الراديو مذياع! ونحو ذلك، عندنا كلمات لكننا نحن كلمناهم وعودناهم، ورضخنا للأجنبي نتكلم معه، ولو ذهبنا إلى بلده، فلن يعترف بلغتنا إنها هزيمة وضعف ومصيبة كبيرة، وأهل العلم كانوا يرون تعزير من يروج الأشعار باللهجة العامية لقد صارت عندنا عقدة الأجنبي عقدةً عظيمةً. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يردنا إلى الحق رداً جميلاً، ونسأله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من أهل العربية وأهل كتابه المبين، ومن أهل سنة نبيه صلى الله عليه وسلم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

ميزات لغتنا الأصلية

ميزات لغتنا الأصلية الحمد لله الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له، أنزل القرآن بلسان عربي مبين، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين عباد الله: إن هذه القضية من القضايا الأساسية المهمة التي ينبني عليها توحد شخصية الأمة، وفهم الكتاب العزيز، والسنة النبوية الشريفة، إنها قضية دين ومبدأ ومصير، وليست قضية هامشية، ولا جانبية، ولا فرعية. أيها المسلمون: ما عرفنا ميزات لغتنا، ضيعنا لغتنا، لم نعرف ميزات اللغة في ثراء ألفاظها، لم نعرف ميزة الاشتقاق في هذه اللغة، إنها ميزة عظيمة فالكلمة جذر الكلمة ثم أسرة هذا الجذر، تأخذ الفعل الماضي والمضارع واسم الفاعل واسم المفعول، والصفة المشبهة، واسم الزمان، واسم المكان، واسم الآلة، واسم التفضيل، كله من كلم جذر واحد، لكن هل هذا عندهم في لغاتهم الأجنبية مثل ما عندنا؟ كلا والله! ليس عندهم ذلك. فنحن نقول: دَرَسَ يَدْرسُ مَدْرَسةَ دَارِس مُدَرِّس، وكلها من جذر واحد، وهم يقولون: ( School - Student Wilson ) كلمات مختلفة. ولغتنا أسهل في التعلم، وإن قالوا: عندنا اختصارات، فنقول: ونحن عندنا اختصارات، عندنا (باب النحت) في اللغة، فنحن نقول: الحمدلة، الدمعزة، البسملة، الحوقلة، وإن قالوا: إن المصطلحات العلمية تقتضي الاختصار بالأحرف، فنحن نقول: ونحن ماذا يضيرنا لو استعملنا (ص. ب) لصندوق البريد، و (س. ت) للسجل التجاري، و (ن. ق) لنصف القطر في الهندسة، وهكذا استعملنا من سائر المختصرات إذا كان ولا بد أن نختصر. وانظروا إلى تكامل حروفنا في مخارجها وتوزعها على المخارج، من أقصى الحلق إلى الشفتين في الأمام، وأطراف اللسان، واللسان ذاتها الحروف موزعةً عليها توزيعاً عجيباً، ولذلك نحن نستطيع أن ننطق سائر الحروف التي لديهم من كمال مخارجنا، ونقول: (تي وبي) لكن هل منهم من يستطيع أن ينطق بسهولة (ع، ح، غ، ق، ص، ط)؟ لا يستطيعون إلا بصعوبة، فمخارجنا أكمل من مخارجهم، ولقد قلت للعلج الذي درسني اللغة الإنجليزية مرةً: هل تستطيع أن تتنحنح؟ فقال: نعم، وتنحنح، وظهر حرف الحاء في نحنحته، فقلت له: وهل تستطيع أن تقول: محمد؟ فقال: (مهمد) وهو قد أتى قبل قليل بالحاء في نحنحته، وهو عاجز أن يقولها في كلمة. وفي لغتنا كمال الحروف، فعندنا المفرد والمثنى والجمع، أما اللغة الإنجليزية فليس فيها المثنى، وعندنا أنتَ وأنتِ للدلالة على المذكر والمؤنث، وهم يقولون: ( You ) ولا تعرف هل يخاطب رجلاً أم امرأة، ويقولون: دكتور و ( Teacher ) ولا تعرف هل هو رجل أو امرأة، ونحن عندنا تاء التأنيث، والألف المقصورة للتأنيث، وعندنا علامات التأنيث للتفريق بين الذكر والأنثى، فلا تعجب أن يكون أولئك فيهم ظاهرة الخنوثة في لغتهم وفي أخلاقهم!

حكم تعلم اللغة الأجنبية

حكم تعلُّم اللغة الأجنبية أيها الإخوة: سيطول الكلام ولم ينفصل بعد في ذكر مزايا اللغة العربية ومقارنتها باللغة الأجنبية، ولا أرى أن الوقت يتسع لذلك، ولكنني سأختم بمسألة: إذا قال قائل: هل تريد أن تقول بتحريم دراسة اللغة الأجنبية؟ ف A كلا -أيها الإخوة- لأننا نعرف يقيناً أننا في مرحلة استضعاف، ونقدِّر عصرنا حق قدره، ونعرف أن المراجع والجامعات والابتعاث ولغة الخطابات والشركات والكمبيوتر (الحاسب الآلي) كل ذلك باللغة الإنجليزية، ونعرف أننا نحتاج إلى تعلمها، وأننا لن نتمكن من اقتباس العلوم إلا بذلك، وعندنا الدليل على جواز تعلم اللغة غير العربية للحاجة. روى الإمام أحمد رحمه الله تعالى في مسنده، قال زيد: (ذُهِبَ بي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعجب بي، فقالوا: يا رسول الله! هذا غلامٌ من بني النجار معه مما أنزل الله عليك بضع عشرة سورة، فأعجب ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: يا زيد! تعلم لي كتاب يهود، فإني والله ما آمن اليهود على كتابي. قال زيد: فتعلمت كتابهم، وما مرت بي خمس عشرة ليلة حتى حذقته، وكنت أقرأ له كتبهم إذا كتبوا إليه، وأجيب عنه إذا كتب -أي: إليهم). إذاً: تعلم اللغة الأجنبية للحاجة جائز، ولكن الحاجة تقدر بقدرها، فإذا لم يوجد حاجة لتدريس الأطفال في الروضات فلا ندرسهم، وعلينا أن نقدر المرحلة التي يدرسون فيها، ولا مانع عندنا من أخذ الحكمة من أي مكان، ثم قد ذكرنا أن العلماء قالوا: لا بأس بالكلمة بعد الكلمة، فلو أن أحد الناس قال مرة ( Ok ) لا ننكر عليه ونقول جريمة وحرام، لكن أن تصير اللغة عادة لأهل المصر في المكاتب وفي الشوارع وفي البيوت، فتجد العرب يتكلمون مع العرب باللغة الإنجليزية دون داعٍ يصبح ذلك عادةً ومظهراً، فهذا الذي ينبغي إنكاره أيها الإخوة. ثم ينبغي نشر اللغة العربية والكتب الشيقة السهلة للطلاب، واستخدام وسائل العرض الحديثة والمكافآت والحوافز، ومجامع اللغة العربية تعمل، وتتخذ القرارات على مستويات عليا في تعميم إنتاج المجامع العربية، وقد وجدت تجارب جيدة، لكنها لم تعمم، وكذلك ينبغي أن تعقد الدورات والدروس في المساجد وغيرها، وحتى الأب يدرب ولده وهو يمشي معه في الشارع، ويقول: اعرب لي كذا، وإذا كان الأب لا يحسن شيئاً فكيف سيربي ولده على اللغة العربية في كل جملة تمر عليه؟ إذا كانت تبدأ بفعل فابحث عن الفاعل وارفعه، وعن المفعول وانصبه، وإذا بدأت باسم فهو المبتدأ فارفعه، وابحث عن الخبر وارفعه كذلك. ويجب أن نستخدم اللغة في كل شي، كإشارات الشوارع، ولوحات الدكاكين، والملصقات والمنتجات، ووصفات الأدوية، وغير ذلك، وكلما وجدنا سبيلاً لإشاعة اللغة أشعناها، وإذا وجدت الحاجة لدراسة اللغة الأجنبية درسناها، ولكن أن ننقل العربية إلى لغة كوريا آكلي الكلاب، فإن هناك مشروعاً لنقل اللغة الإنجليزية والمصطلحات العالمية أولاً بأول إلى اللغة الكورية، وهكذا يفعل اليابانيون وغيرهم، ونحن سادة الدنيا، ونحن أفضل أهل الأرض، وديننا أفضل الأديان، ولغتنا أفضل اللغات. اليهود أحيوا العبرية وهي ميتة، ونبشوها من القبور عظاماً بالية، ويكتبونها على صدورهم وسيارات الإسعاف، وكل شيء تجده عندهم مكتوباً، لأنهم يريدون قومية مستقلة، ولغة مستقلة، ونحن أولى بذلك منهم. اللهم إنا نسألك أن ترينا الحق حقاً وترزقنا اتباعه، وأن ترينا الباطل باطلاً وترزقنا اجتنابه. اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، اللهم وفق أبناءنا في اختباراتهم وامتحاناتهم، واجعلها عوناً على طاعتك يا رب العالمين، وجنبهم فيها المحرمات يا أرحم الراحمين، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.

الغيظ المكتوم بين الظالم والمظلوم [2]

الغيظ المكتوم بين الظالم والمظلوم [2] إذا وقع الظلم فتلك مصيبة تتدارك بحلول وضعها الشرع، وهذه الحلول منها ما هو بيد الظالم، ومنها ما هو بيد المظلوم، وتختلف الحلول في الأجر رتبة ودرجات، وهي مهمة يجب التعرف عليها، وفي هذه المادة تعرف بعض ذلك، فتابعها لعل الله أن ينفعك بها.

موقف المظلوم من الظالم

موقف المظلوم من الظالم الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، أشهد أن لا إله إلا هو الحي القيوم، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون. الحمد لله الذي خلق فسوى، وقدر فهدى، والحمد لله ولي المتقين، وناصر المظلومين والمستضعفين، ولا عدوان إلا على الظالمين. أيها المسلمون! لقد تحدثنا في الخطبة الماضية عن الظلم وحكمه وشدته، وأثره وعقوبته في الدنيا والآخرة، وتتمة الموضوع اليوم عن موقفنا من الظلم، ماذا يكون، وكيف ينبغي أن يكون؛ سواء بالنسبة للمظلوم أو بالنسبة للظالم أو بالنسبة لبقية الناس. فاعلموا -رحمكم الله تعالى- أن الله عز وجل قال في كتابه: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى:40 - 43]. لقد تضمنت هذه الآيات أمرين: الأمر الأول: الانتصار من الظالم، والثاني: عفو المظلوم. وقد عنون البخاري رحمه الله تعالى بكليهما في صحيحه، فقال: باب الانتصار من الظالم، لقوله جل ذكره: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً} [النساء:148] وقال عز وجل: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى:39] قال إبراهيم رحمه الله: كانوا يكرهون أن يستذلوا، فإذا قدروا عفوا. أي: أن الله مدح المؤمنين بأن فيهم قوة للانتصار ممن ظلمهم واعتدى عليهم، ليسوا بالعاجزين ولا الأذلين؛ بل يقدرون على الانتقام ممن بغى عليهم، ومع هذا إذا قدروا عفوا، كما قال يوسف لإخوته: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم؛ فعفا عنهم مع قدرته على البطش بهم ومؤاخذتهم ومقابلتهم بمثل صنيعهم. وكذلك عفا النبي صلى الله عليه وسلم عن غورث بن الحارث الذي أراد الفتك به لما اخترط سيفه عليه والنبي صلى الله عليه وسلم نائم، فاستيقظ عليه الصلاة والسلام، فوجد السيف مصلتاً فوق رأسه، فانتهر الرجل، فخاف وهاب وارتعش، فوقع السيف من يده، وأخذه النبي صلى الله عليه وسلم في يده، ودعا أصحابه، ثم أعلمهم بما كان من أمره وأمر هذا الرجل وعفا عنه. وكذلك عفا صلى الله عليه وسلم عن زينب أخت مرحب اليهودي الخيبري الذي قتله محمد بن مسلمة رضي الله عنه، والتي سمت الشاة يوم خيبر، وأكثرت السم في الذراع، فأخبره الذراع عليه الصلاة والسلام أنه مسموم، فدعاها فاعترفت، فقال صلى الله عليه وسلم: (ما حملك على ذلك؟ قالت: أردت إن كنت نبياً لم يضرك، وإن لم تكن نبياً استرحنا منك، فأطلقها صلى الله عليه وسلم وعفا عنها). ولكن لما مات بشر بن البراء صاحبه من جراء أكله السم، قتلها به صلى الله عليه وسلم قصاصاً، والآيات والأحاديث في عفو المظلوم عن الظالم كثيرةٌ، ولكنه ندبٌ لمن قدر على رد المظلمة وعن الانتقام أن يعفو، العفو مع القدرة قوةٌ في حسن وحسنات يأخذها الذي عفا من الله يوم القيامة، والله يعطي بلا حساب. وإذا أصر على الانتقام فلا بأس بذلك وهو مباح، ومن عدل الله في البشرية أن أباح لهم القصاص، وأباح لهم أن ينتقموا بمقدار ما ظلموا، فبعد أن ذكر الله تعالى المرتبة الأولى التي هي العفو مع القدرة ذكر المرتبة الثانية وهي جواز الانتقام، فقال عز وجل: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى:41] أي: ليس عليهم جناح في الانتصار ممن ظلمهم إذا أرادوا الانتقام، ولا حرج عليهم في ذلك، سواء كان الظلم كثيراً أو قليلاً، ولو كان ظلم الضرة لضرتها جاز للزوج أن يمكن المظلومة من أخذ حقها ولو كان كلاماً، كما جاء في سنن النسائي وابن ماجة من حديث خالد بن سلمة الفأفاء عن عبد الله البهي عن عروة قال: قالت عائشة رضي الله عنها: ما علمت حتى دخلت عليّ -أي: فلانة من ضراتها- بغير إذن وهي غضبى، ثم قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: حسبك إذا قلبت لك ابنة أبي بكرٍ درعها، ثم أقبلت عليّ فأعرضت عنها حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: (دونك فانتصري) فأقبلت عليها حتى رأيت ريقها قد يبس في فمها ما ترد عليّ شيئاً، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتهلل وجهه.

دعاء المظلوم على ظالمه

دعاء المظلوم على ظالمه وأما الدعاء على الظالم فإنه جائز، وهو من باب القصاص والانتصار فلا بأس أن يدعو المظلوم على الظالم، ولكن إذا رأى أن من المصلحة له وللظالم ألا يدعو عليه دعاءً تحصل به كارثةٌ على الظالم دون منفعةٍ للمظلوم. وأرى ألا يدعو عليه وأن يؤخر ذلك إلى الآخرة ليأخذ حقه أو يعفو ويأخذ من الله أجراً عظيماً؛ لأنه هو الأفضل في حقه، وحديث: (من دعا على من ظلمه فقد انتصر) رواه الترمذي وفيه ضعف.

جواز أخذ المظلوم ما له من الظالم إذا وجده

جواز أخذ المظلوم ما له من الظالم إذا وجده ومن باب انتصار المظلوم أخذ ماله وحقه من الظالم إذا وجده، كما عنون عليه البخاري رحمه الله: باب قصاص المظلوم إذا وجد مال ظالمه، وقال ابن سيرين: يقاصه وقرأ: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل:126] وقال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى:40] لكن يشترط في القصاص واسترجاع الحق واسترداد ما أخذه الظالم أن يكون مماثلاً لما أخذه وألا يعتدي. ولذلك قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى:40] قال: الظالمون هم المبتدئون بالمعصية أو المجاوزون الحد في الانتقام، كمن زاد في السب، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (المستبان ما قالا فعلى البادئ ما لم يعتدِ المظلوم) أي أن إثم ما قالاه جميعاً على البادئ، لأنه هو الذي بدأ إلا إذا اعتدى المظلوم، وزاد في السب، فعند ذلك يكون إثمه عليه، والحديث رواه مسلم رحمه الله في صحيحه. قال ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً} [النساء:148] قال: لا يحب الله أن يدعو أحدٌ على أحد إلا المظلوم على الظالم. ولو قال: اللهم انصرني عليه، وخذ لي حقي منه، فهو أحسن من الدعاء عليه بأمورٍ لا يستفيد منها المظلوم، كما إذا دعا عليه بشلل أطرافه ونحو ذلك، إلا إذا كان عدواً للإسلام وظالماً للناس لو قعد أو شُلًَّ لاستراح الناس منه، فهو يدعو عليه لمصلحة المسلمين. أما لحقه الشخصي فإن الأفضل أن يدعو عليه بمثل قوله: اللهم انصرني عليه، وخذ لي حقي منه، فهو أحسن من الدعاء عليه بأمورٍ لا يستفيد منها المظلوم. وكذلك من نزل بمن لم يضيفه، والضيافة واجبة وللضيف حقه، فمن نزل بمن لم يضيفه، فله أن يقول بين الناس: فلانٌ منعني الضيافة، فيكون من جواز الجهر بالسوء من القول، لأنه مُنِعَ حقه، ولذلك فلا بأس أن يُفشيه بين الناس انتصاراً ممن ظلمه بمنعه حقه، وهو الضيافة، ولكن لو سكت فهو أفضل وأحسن.

المظلوم بين درجة العفو العليا وحقه في الانتقام

المظلوم بين درجة العفو العليا وحقه في الانتقام والآيات الأخيرة التي سنذكرها في آيات الظلم هي الآيات التي ذكرها الله مجتمعةً في سورة الشورى، يقول تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشورى:42] أي: إنما الحرج والعنت على الذين يبدءون بالظلم. وأما عفو المظلوم فإنه مريحٌ لقلبه {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى:43] أي: من صبر على الأذى وستر السيئة، فإنه يكون قد فعل أمراً مشكوراً، وفعلاً حميداً، له عليه ثوابٌ جزيل، وثناءٌ جميل من الله تعالى؛ كما في الكلمات الحكيمة: صِلْ من قطعك، وأعط من حرمك، واعفُ عمن ظلمك. قال الفضيل بن عياض رحمه الله: إذا أتاك رجلٌ يشكو إليك رجلاً فقل: يا أخي! اعفُ عنه؛ فإن العفو أقرب للتقوى، فإن قال: لا يحتمل قلبي العفو، ولكن أنتصر كما أمرني الله عز وجل، فقل له: إن كنت تحسن أن تنتصر فانتصر؛ لأن بعض الناس لا يحسن الانتصار، بل يظلم ويتجاوز في الانتقام، فيقول الفضيل: أوصه فقل له: إن كنت تحسن أن تنتصر وتأخذ حقك فقط فافعل، إن كنت تحسن أن تنتصر فانتصر، وإلا فارجع إلى باب العفو، فإنه بابٌ واسع، فإن من عفا وأصلح فأجره على الله، وصاحب العفو ينام على فراشه بالليل، وصاحب الانتصار يقلب الأمور. وصاحب العفو ينام على فراشه بالليل هادئاً مطمئناً لا يخشى أنه تجاوز، ولا يحتاج إلى التفكير في شيء، لأنه لم ينتقم أصلاً، وصاحب الانتصار يُقلب الأمور، ويكون قلقاً، ويقول في نفسه: هل يا تُرى تجاوزت؟! هل يا تُرى اعتديت؟! ونحو ذلك، وهذه المرتبة مرتبة العفو هي التي تليق بالأكابر، وهي التي ينبغي أن تكون مرتبة الدعاة إلى الله والعلماء والقدوات بين الناس كما جاء عند الإمام أحمد، عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رجلاً شتم أبا بكر والنبي صلى الله عليه وسلم جالس، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يعجب ويتبسم، فلما أكثر رد عليه أبو بكر بعض قوله، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقام، فلحقه أبو بكر فقال: يا رسول الله! كان يشتمني وأنت جالس، فلما رددت عليه بعض قوله غضبت وقمت، فقال عليه الصلاة والسلام: إنه كان معك ملكٌ يرد عنك، فلما رددت عليه بعض قوله وقع الشيطان، فلم أكن لأقعد مع الشيطان، ثم قال: يا أبا بكر! ثلاثٌ كلهن حقٌ: ما من عبدٍ ظلم بمظلمةٍ فأغضى عنها لله عز وجل إلا أعزه الله بها ونصره، وما فتح رجلٌ باب عطية يريد بها صلةً إلا زاده الله بها كثرة، وما فتح رجلٌ باب مسألة يريد بها كثرة إلا زاده الله عز وجل بها قلة). وقد روى هذه القصة الإمام أبو داود أيضاً فقال: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه، وقع رجلٌ بـ أبي بكر فآذاه فصمت عنه أبو بكر، ثم آذاه الثانية فصمت عنه أبو بكر، ثم آذاه الثالثة فانتصر منه أبو بكر، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انتصر أبو بكر، فقال أبو بكر: أوجدت عليَّ يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نزل ملكٌ من السماء يكذبه بما قال لك، فلما انتصرت وقع الشيطان، فلم أكن لأجلس إذ وقع الشيطان) والحديث صحيحٌ بطرقه كما في السلسلة الصحيحة. قال ابن كثير رحمه الله: وهذا الحديث في غاية الحسن في المعنى وهو مناسبٌ للصديق رضي الله عنه، لأنه في المقام العالي، فهو الذي لو وزن إيمان الأمة بإيمانه لرجح إيمانه؛ فاللائق به أن يعفو، وألا يرد، وهكذا شأن الكبار.

ما يجب على الظالم

ما يجب على الظالم أما ما يجب على الظالم فإنه ينبغي عليه أولاً أن يتقي الله تعالى ويحذر من الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، وليس ظلمةً واحدة. الظلم ظلمات يوم القيامة؛ بمعصية الظالم لربه، وظلمه لأخيه، وفتح باب الظلم للناس. الظلم ظلمات لأنه ربما يمرض المظلوم؛ بل قد يموت كمداً وقهراً. فعلى الظالم أن يتقي الله تعالى. انظروا ماذا كان يفعل عمر رضي الله عنه الذي حمى أرضاً للمسلمين من أراضي أهل المدينة؛ سوَّرها وحماها، وجعلها محمية لأجل مصلحة المسلمين لرعي إبل الصدقة وإبل بيت المال وشياه بيت المال التي تُؤخذ من أصحاب بهيمة الأنعام من الزكوات، وكذلك خيل الجهاد في سبيل الله، وجعل هذه المحمية مصلحة لعموم المسلمين، ومع ذلك كان يخشى رضي الله عنه، فقد روى البخاري رحمه الله عن أسلم مولى عمر: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استعمل مولى له يُدعى هنياً على الحمى فقال: [يا هني! اضمم جناحك عن المسلمين -انتبه أيها الغلام القائم على المحمية واكفف يدك عن ظلم المسلمين- واتقِ دعوة المظلوم فإن دعوة المظلوم مستجابة، وأدخل رب الصريمة ورب الغنيمة -أي صاحب القطعة القليلة من الإبل وصاحب الغنم القليلة أدخلهما في المرعى المحمي- وإياي ونعم ابن عوف ونعم ابن عفان -خصهما بالذكر لكثرة أموالهما، والنعم الإبل، وكانا من مياسير الصحابة، فقال للغلام: إذا لم يتسع المرعى إلا لأحد الفريقين فأدخل أصحاب الغنم القليلة والإبل القليلة لأنهم أولى- قال عمر: فإنهما -أي: ابن عفان وابن عوف - إن تهلك ماشيتهما يرجعا إلى نخلٍ وزرع -عندهما عوض من أموالٍ أخرى- وإن رب الصريمة ورب الغنيمة إن تهلك ماشيتهما يأتيني ببنيه، فيقول: يا أمير المؤمنين يا أمير المؤمنين؛ أفتاركهم أنا لا أبا لك -أتظنني أتركه في تلك الحالة- فالماء والكلأ أيسر علي من الذهب والورق -فربما يكون هناك مصارف أولى للمجاهدين والبعيدين ونحو ذلك- قال عمر: فالماء والكلأ أيسر علي من الذهب والورق، وايم الله إنهم ليرون أني قد ظلمتهم -بعض الناس يرون أني قد ظلمتهم بأرض المحمية- إنها لبلادهم؛ قاتلوا عليها في الجاهلية، وأسلموا عليها في الإسلام، والذي نفسي بيده لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله -فهو يحتاج إلى أرض المحمية لخيل الجهاد- ما حميت عليهم من بلادهم شبراً] رواه البخاري رحمه الله. فليتق الله الظالم وليضع نصب عينيه دعوة المظلوم؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى معاذاً فقال: (اتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) رواه البخاري. وأخبر في الأحاديث الأخرى أنها ترفع على الغمام، ويقول الله: لأنصرنك ولو بعد حين، ثم على الظالم أن يتحلل من المظلوم، كما قال عليه الصلاة والسلام: (من كانت له مظلمة لأخيه -في عرضه أو شيءٍ غير العرض كالمال وغيره- فليتحلله منه اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم؛ إن كان له عملٌ صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه) رواه البخاري. وأوضح ذلك رواية مسلم: (المفلس الذي يأتي يوم القيامة بأشياء كبيرة من العبادات والحسنات، ويأتي وقد شتم هذا ظلماً، وقذف هذا ظلماً، وأكل مال هذا -أي: ظلماً- وسفك دم هذا -أي: ظلماً- وضرب هذا -أي: ظلماً- فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته أخذ من سيئاته، فطرحت عليه، ثم طرح في النار).

على الظالم رد الحق أو مثله إن كان له عوض

على الظالم ردُّ الحق أو مثله إن كان له عوض كيف يتحلل الظالم من المظلوم؟ قال العلامة السفاريني: حق الآدمي إما يكون مما ينجبر بمثله من الأموال والجراحات وقيم المتلفات أولا -أي: إما أن يكون هناك عوض لحق الآدمي المغصوب أو لا يكون له عوض، فإن كان له عوض فلا بد من رده- فإن غصب مالاً رده، وإن تلف رد مثله، وإن غصب شيئاً استعمله رده ورد الفرق، فإن تلف رد مثله كمن سرق سيارة واستعملها ونحو ذلك أو غصب بيتاً وسكن فيه رده ورد الفرق مع التوبة إلى الله عز وجل.

ماذا يفعل الظالم إن كان الحق مما ليس له عوض؟

ماذا يفعل الظالم إن كان الحق مما ليس له عوض؟ ولكن إذا كان لا ينجبر؟ ليس له مثيل كمن قذف شخصاً، أو فعل الفاحشة غصباً أو اغتاب أو نم، فهذه ليست معوضة بقيمة مادية، فعليه أن يندم ويقلع عن الذنب، فالذي اغتاب عليه أن يستغفر للمغتاب، والذي قذف عليه أن يكذب نفسه، والذي زنا بزوجة غيره عليه أن يحسن إلى ذلك الزوج، وإذا اغتابه استغفر له ودعا له بظهر الغيب، ولا يحتاج إلى إخباره؛ لأنه لو أخبره لربما زادت العداوة، والشريعة لا تأمر بهذا، وربما يسكت الذي اغتيب يوم القيامة إذا رأى في صحيفته استغفار الذي اغتابه، فيسكت عن المطالبة بالحق، ولعل ذلك هو السبب الذي قيل من أجله: إن عليه أن يُكثر من الاستغفار لمن اغتابه ولا يخبره -كما قال ابن المبارك: لا تؤذه مرتين- ويدافع عن عرضه في المجالس التي يُهاجم فيها، فكما أنه هاجمه يدافع عنه. هذا الذي اغتاب، وأما الذي قذف أو زنى بزوجة غيره، فهل يلزمه الاعتراف وطلب التحلل، فالجواب يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، فإن كان الاعتراف أصفى للقلوب في قضية القذف اعترف له بأنه قذفه وطلب المسامحة، وإن كانت المسألة ستزيد شراً يكتفي بتكذيب نفسه عند من قذفه من الحاضرين والدعاء للذي قذفه. وقال شيخ الإسلام رحمه الله: سُئلت مرةً عن رجلٍ تعرض لامرأة غيره فزنى بها، ثم تاب من ذلك، وسأله زوجها وحقق معه، فطلب أن يحلف، فإن حلف على نفي الفعل كانت يمينه غموساً، وإن لم يحلف قويت التهمة، وإن أقر جرى عليه ما يجري عند القاضي، وجرى من الشر أمرٌ عظيم، قال: فأفتيته أن يضم إلى التوبة فيما بينه وبين الله تعالى الإحسان إلى الزوج بالدعاء والاستغفار أو الصدقة عنه ونحو ذلك مما يكون ذاباً إيذاءه له في أهله، فإن الزنا له تعلق بحق الله تعالى وحق زوجها، وليس هو مما ينجبر بالمثل كالدماء والأموال، بل هو من جنس القذف، والفقيه الذي يجمع النفوس لا يفرقها. فعند ذلك إذا لم يعلم الزوج فعليه أن يتوب التوبة العظيمة بينه وبين الله مع الإحسان إلى من ظلمه، وإذا علم طلب منه أن يحلله، وأما الذي يغصب فإنه يرد المغصوب، فإن مات صاحب المال، رده إلى ورثته، ولكن يبقى شيء، وهو حق صاحب المال في الانتفاع به في المدة التي غصب فيها المال، فماذا يفعل؟ فإنه يحسن إلى ذلك الرجل بالدعاء له والصدقة عنه ونحو ذلك؛ لعل هذا الرجل إذا جاء يوم القيامة ورأى في صحيفته استغفاراً وأجراً من الذي غصبه المال يسكت عن المطالبة بحقه، ولا يقول: رب ظلمني بأخذ مالي، وحرمني من الانتفاع منه في بقية عمري؛ أداه إلى ورثتي لكنه حرمني من الانتفاع به بقية عمري، فلعله يسكت إذا رأى في صحيفته استغفاراً وحسناتٍ من الذي ظلمه، هذا شيءٌ مما يتعلق بأحكام تحلل الظالم من المظلوم، نسأل الله تعالى أن يعافينا. اللهم عافنا من الظلم، وباعد بيننا وبين الظلم يا رب العالمين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم، وأفسحوا لإخوانكم يفسح الله لكم.

موقف الناس من الظالم والمظلوم

موقف الناس من الظالم والمظلوم الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً رسول الله الصادق الوعد الأمين، صلى الله عليه وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين. ها قد عرفنا -أيها الإخوة- ما هو موقف المظلوم، وما هو موقف الظالم؛ فما هو موقف بقية الناس؟ قال صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، فقال رجلٌ: يا رسول الله! أنصره إذا كان مظلوماً، أفرأيت إذا كان ظالماً كيف أنصره؟! قال: تحجزه عن الظلم فإن ذلك نصره) رواه البخاري. وعن البراء قال: (أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بسبعٍ -ومنها- ونصر المظلوم). وقال صلى الله عليه وسلم: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه) أي: لا يتخلى عنه ولا يتركه إلى الظالم، ولا يتركه إلى من يؤذيه؛ بل ينصره ويدفع عنه الظلم. إذاً لا بد من الوقوف بجانب المظلوم، فيأثم من عرف بالمظلوم وقدر على نصرته ولم ينصره، لأن نصرة المظلوم واجب، وحرام على من رأى أخاه المسلم مظلوماً وهو قادرٌ على نصرته أن يتركه ويسلمه ولا يمنع عنه الظلم. ويجب كذلك كف يد الظالم كما قال أبو بكر رضي الله عنه في الحديث الحسن الذي رواه الترمذي: يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105] وإني سمعت رسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقابٍ منه) والأخذ على يديه إذا لم يفد معه القول، فإذا قدر وقوي على منعه ولو بالقوة منعه. ولا شك أن على صاحب السلطان من هذا الواجب النصيب الأكبر، وعلى كل صاحب سلطةٍ -مثل رجل الأمن مثلاً- واجبٌ عظيم في هذا المجال، وإذا نصر المظلوم نصره الله يوم القيامة، والمحتسب الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر إذا نصر المظلوم ينصره الله يوم القيامة.

على الناس ألا يعينوا الظالم

على الناس ألا يعينوا الظالم وأما إعانة الظالم فهي من المصائب العظيمة، فمن الواجب على الناس أن يقولوا للظالم: يا ظالم! ويعرفوه بأنه ظالم ويمتنعوا عن إعانته، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من أعان الظلمة لا يرد عليه الحوض، فالذي يُعين الظلمة يحرم من ورود حوض النبي صلى الله عليه وسلم، كما جاء ذلك في الحديث الصحيح، وينبغي على الناس كذلك ألا يقلدوا الظلمة في الظلم، ولا يقولوا: إن ظلم الناس ظلمنا، وإن أحسنوا أحسنا ويوطنوا أنفسهم إن أحسن الناس أن يحسنوا وإذا أساء الناس أن يتجنبوا إساءتهم. وعلينا بدعاء الله تعالى كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (واجعل ثأرنا على من ظلمنا) حديثٌ حسن رواه الترمذي، وكان يقول عليه الصلاة والسلام: (وانصرني على من يظلمني وخذ منه بثأري) رواه الترمذي وهو حديثٌ حسن، وكان عليه الصلاة والسلام يقول: (اللهم إني أعوذ بك أن أظلم أو أظلم) وهذا من دعائه عند خروجه من البيت.

على الناس ألا يتعصبوا على الباطل

على الناس ألا يتعصبوا على الباطل وبعض الناس تأخذه العصبية فيعين صاحبه أو قريبه أو من هو من قبليته على الطرف الآخر، وانظروا إليهم في حوادث السيارات، وكيف يفعلون في وقوفهم بغض النظر عن الظالم والمظلوم، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (من أعان قومه على ظلمٍ فهو كالبعير المتردي ينزع بذنبه) رواه أبو داود وهو حديثٌ صحيح. ولينظر المسلم -أيها الإخوة- في ميتة المظلوم، وبعض الناس يحتقرها، لكنها عظيمة عند الله، روى الإمام أحمد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بينما امرأةٌ فيمن كان قبلكم تُرضع ابناً لها، إذ مر بها فارسٌ متكبرٌ عليه شارةٌ حسنة، فقالت المرأة: الله لا تمت ابني هذا حتى أراه مثل هذا الفارس على مثل هذا الفرس، قال: فترك الصبي الثدي، ثم قال: اللهم لا تجعلني مثل هذا الفارس، قال: ثم عاد إلى الثدي يرضع، ثم مروا بجيفة حبشية أو زنجية تجر فقالت: أعيذ ابني بالله أن يموت ميتة هذه الحبشية أو الزنجية، فترك الثدي فقال: الله أمتني ميتة هذه الحبشية أو الزنجية! فقالت أمه: يا بني سألت ربك أن يجعلك مثل هذا الفارس فقلت: اللهم لا تجعلني مثله، وسألت ربك ألا يميتك ميتة هذه الحبشية أو الزنجية، فسألت ربك أن يميتك ميتتها، فقال الصبي: إنك دعوت ربك أن يجعلني مثل رجلٍ من أهل النار، وإن الحبشية أو الزنجية كان أهلها يسبونها ويضربونها ويظلمونها فتقول: حسبي الله! حسبي الله!) رواه الإمام أحمد، ورجاله ثقات، وأصل القصة في الصحيح.

المؤمن كيس فطن لا يخدع ولا يخدع

المؤمن كيس فطن لا يَخدع ولا يُخدع وكل ما تقدم لا يمنع الإنسان أن يكون فطناً وألا يُخدع بشخصٍ يدعي الظلم، فالمؤمن لا يخدع ولا يُخدع، وليس كل من تظاهر بأنه مظلوم كان كذلك، كما في الحديث الصحيح الذي رواه مالك في الموطأ أن رجلاً من أهل اليمن أقطع اليد والرجل قدم، فنزل على أبي بكر الصديق أثناء خلافته، فشكا إليه أن عامل اليمن -أمير أبي بكر الصديق على اليمن - قد ظلمني، فكان يصلي من الليل فيقول أبو بكر: وأبيك ما ليلك بليل سارق، ثم إنهم فقدوا عقداً ل أسماء بنت عميس -امرأة أبي بكر الصديق - فجعل هذا الرجل المقطوع اليد والرجل يطوف معهم -يبحثون عن العقد- ويقول: اللهم عليك بمن بيّت أهل هذا البيت الصالح، فوجدوا الحلي عند صائغٍ زعم أن الأقطع جاءه به، فأخذوه فاعترف به الأقطع أو شهد عليه به، فأمر به أبو بكر الصديق فقطعت يده اليسرى وقال أبو بكر: [والله لدعاؤه على نفسه أشد عندي عليه من سرقته]. فكذلك المؤمن لا يُخدع، ويأخذ الأمر بالظاهر، ويحمل أمر الناس على أحسنه، لكن إذا ظهرت الريبة تعامل المعاملة الصحيحة. نسأل الله تعالى أن يعيذنا من الظلم، اللهم انصرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من بغى علينا، وخذ بثأرنا منه يا رب العالمين، اللهم إن اليهود قد ظلموا المسلمين، اللهم صب عليهم سوط عذابك، الله اجعل أموالهم وديارهم إرثاً للمسلمين. اللهم عجل بالانتقام منهم يا رب العالمين، اللهم أفشل خططهم، اللهم أفشل خططهم، اللهم كما أفشلت خطتهم فأفشلها مراراً وتكراراً يا رب العالمين. إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.

مصيبة عام 2000 [2]

مصيبة عام 2000 [2] لقد بلغ اليهود والنصارى من التمكن المادي ما لا يخفى، وهم يعدون للاحتفال بمسيحهم المزعوم، والمسلمون غافلون عما قد ينتج عن ذلك من أحداث، وفي هذه المادة تحدث الشيخ عن أحكام تهم المسلم تجاه المكر اليهودي، وحكم أعيادهم والتعامل معهم.

المستقبل للإسلام

المستقبل للإسلام إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فقد تحدثنا في الخطبة الماضية عن بعض اعتقادات اليهود والنصارى المتعلقة بقرب نهاية الألفية الثانية, وكيف بنوا بعض ما سيفعلون على أساطير وعلى عبارات أخذوها من العهدين القديم والجديد بزعمهم, بعضها مما حرفوه وبعضها مما أُسيء فهمه، أو يساء تطبيقه من قبلهم, ولا يخلو من هذا أو هذا وإلا فإن المستقبل للإسلام, وقد أخبرنا الله عنهم أنهم قد حرفوا كتبه فقال: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة:79]. وإذا كانوا يعتمدون على أمور محرفة، وتنبؤات كهنة وعرافين وغير ذلك, فإننا ولله الحمد لا نعتمد إلا على ما هو صحيح كل الصحة، مما جاء في القرآن والسنة النبوية الصحيحة, واليهود والنصارى يحركون بالأساطير ويتحركون إلى عالم الحقيقة، ويزيدهم افتتاناً ما حصل لهم من القوة المادية في هذا الزمان, ويستعملون النبوءات لنصرة دينهم, و {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} [الرعد:38] {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} [يوسف:21]. ومهما طغى هؤلاء فإنه سيأتي الوقت الذي يقصم الله فيه ظهورهم, لأن الله قد كتب على اليهود الذل حيث قال سبحانه: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ} [آل عمران:112]. وهذا الاستثناء المذكور في الآية: {إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} [آل عمران:112] قد قام لهم في هذا الزمان؛ فإذا انقطع ذلك الحبل رجعوا مرة أخرى إلى ما كانوا فيه من الذل والمسكنة ولا شك, فهذه المرحلة بالنسبة لهم مرحلة عابرة، وهؤلاء القوم في هذا الزمان يأتون بتلك النبوءات التي لا ندري عن مصادرها الحقيقية, ويعملون على تحقيقها، ويؤسسون الجمعيات واللجان والمؤسسات لتجعل من هذه النبوءات واقعاً, فبأي شيء قابلنا نحن المسلمين هذه الاستعدادات من قبلهم.

اليهود يعملون بجد لتحقيق أهدافهم وأساطيرهم

اليهود يعملون بجد لتحقيق أهدافهم وأساطيرهم إن عدداً من المسلمين، بل الأكثر لا يدرون شيئاً عما يحيكه اليهود والنصارى من المؤامرات, وعدد آخر من المسلمين اتجهوا إلى الاستسلام للواقع بهذا الذل الذي صاروا فيه, وبعضهم صار يعتمد على أخبار آخر الزمان في الهروب من الواقع البائس الذي يعيش فيه, ويقرأ بعض المسلمين تآليف فيها مجازفات علمية، وتطبيقات سخيفة على الواقع, ثم يتم الهروب من الواقع البائس عبر هذه الأشياء المقروءة، كالكتاب المسمى بـ عمر أمة الإسلام وقرب ظهور المهدي عليه السلام , فيكون قصارى الأمر الاكتفاء بمعرفة قرب نهاية العالم وظهور المهدي. ويا ترى ماذا فعل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي قال لهم: (بعثت أنا والساعة كهاتين) وقال: (إن كادت لتسبقني) ماذا فعلوا عندما عرفوا قرب قيام الساعة: هل توقفوا عن العمل؟ هل توقفوا عن الدعوة؟ هل توقفوا عن الجهاد؟ هل استسلموا؟ كلا. وإنما قاموا يعملون بجد ونشاط لنشر الإسلام في الأرض وهذا هو واجبنا. أما الاستسلام والقول بأننا ننتظر المهدي عليه السلام ونقعد, فليس هذا لعمر الله من دين الإسلام في شيء, والأئمة العظام كالإمام أحمد رحمه الله وغيره من أئمة أهل السنة رووا أحاديث المهدي, ولم ينقل عنهم حتى تحري تطبيقها والتنقيب عن زمانها, وبعض المسلمين اليوم مشغولون غاية الشغل بقضية وقت ظهوره، أو وقت نهاية العالم وخرابه, فنقول: بأي شيء تعبدنا الله؟ أليس بعبادته والعمل لدينه؟ ألا نستحي ونخجل عندما نرى الكفار الذين لا مستقبل لهم في منظورنا الشرعي يعملون ويجتهدون في تحقيق نبوءات محرفة, ونحن عندنا الأصول ونسكت ونقعد!! أيها الإخوة: لقد سبق الكلام عن شيء من أساطير هؤلاء والتي من أهمها قيام دولتهم التي يعبرون عنها بحسب ما عندهم للاستعادة الأبدية لأرض كنعان من قبل شعب اليهود, وقد تحقق لهم قيام هذه الدولة بغض النظر عن صحة النبوءات والأقوال التي عندهم, لكنهم عمدوا على تحقيق هذه النبوءات في الواقع, ثم احتلال القدس وجعلها عاصمة موحدة لدولتهم؛ لأن في التلمود نصاً يقول بزعهم: أن القدس ستتوسع في آخر الزمان حتى تصل إلى دمشق , وسوف يأتي المنفيون ويقيمون خيامهم فيها, وكذلك هي عندهم المكان الذي سيفيض الخير من السماء, ومنها يوزع على بقية العالم, فقام هؤلاء اليهود بتطبيق ذلك عملياً بغض النظر عن صحة هذه النصوص كما قلنا, لكنهم عملوا هذا هو الشاهد. وكذلك أعادوا ويعيدون بناء هيكل سليمان المزعوم الذي سيقيمونه على أنقاض المسجد الأقصى, وهذه هي المرحلة الثالثة، مرحلة بناء الهيكل الذي يقول فيه أحد طواغيتهم المعاصرين: لا قيمة لإسرائيل بدون القدس، ولا قيمة للقدس بدون الهيكل. فإذا أقاموا الدولة ثم احتلوا القدس -وهم الآن على أعتاب إقامة الهيكل- فإنهم قد نجحوا في إقناع النصارى أن مصلحتهم أن تقام دولة يهود، وأن يتخذوا القدس عاصمة لهم, وراجت هذه القضية جداً حتى ساند النصارى اليهود في قضية احتلال القدس، وجعلها بالتدريج عاصمة ومسكناً لهم. ومن الأمور التي اشتبكت بين اليهود والنصارى في القضية: أن الإنجيليين يقولون: بأن المعركة الأخيرة ستكون في سهل صغير في فلسطين الذي يسمى بـ سهل مجيدو وينسبون إليه حصول معركة هرمجدون المشهورة عندهم, ويروجون الآن أنها بين النصارى والمسلمين، وينشرون الأفلام السينمائية الكثيرة التي أنتجت حول هذا الموضوع, وبنى اليهود السور، وقضية الشمعدان السباعي، والتابوت الذي يقولون بأنه لا يعرف مكانه إلا نفر قليل منهم في أثيوبيا , والمذبح قد عمل, والبقرة الحمراء قد ولدت، وخيمة العهد قد نسجت, وهكذا قاموا بتنفيذ النبوءات التي لديهم, ولسنا ننكر أن بينهم تيارات متعارضة فعندهم هؤلاء الذين يسمون بالأصوليين بالإضافة إلى العلمانيين وبينهم تضاربات, يعملون على خطين ولكن في النهاية المسلمون هم الضحية وهم المستهدفون, فالأصوليون يريدون إعادتها بالقوة, وهدم الأقصى وبناء الهيكل بالقوة وطرد المسلمين بالقوة من القدس , وأما الآخرون فإنهم يرون إقامة ذلك بالسلام وكذلك يهدفون إلى احتلال منطقتنا اقتصادياً والهيمنة عليها تكنولوجياً، وفي النهاية الهدف هو السيطرة على المسلمين. قال ابن القيم رحمه الله معلقاً على بعض ما لديهم: "ومن تلاعبه بهم -أي: من تلاعب الشيطان باليهود- أنهم ينتظرون قائماً من ولد داود النبي, إذا حرك شفتيه بالدعاء ماتت جميع الأمم, وأن هذا المنتظر بزعمهم هو المسيح الذي وعدوا به, وهم في الحقيقة إنما ينتظرون مسيح الضلالة الدجال, فهم أكثر أتباعه, والأمم الثلاث تنتظر منتظراً يخرج في آخر الزمان فإنهم وعدوا به في كل ملة" إذاً: كل من المسلمين والنصارى واليهود ينتظرون منتظراً في آخر الزمان, لكن اليهود والنصارى يعملون لنصرة هذا الذي سيخرج فيهم كما يزعمون, والمسلمون مع الأسف قاعدون لا يعمل منهم إلا النفر القليل, وبعضهم كما قلنا يخدرون أنفسهم بالقراءة في بعض نبوءات المستقبل, وتطبيقات سخيفة للنصوص على الواقع, فأين ما أمر الله به من العمل للإسلام والقيام بحمله، قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ} [الزخرف:44]. إن هناك خشية من شن المتطرفين من اليهود -وكلهم متطرفون ولكن في اتجاهات شتى- بهجمات على المساجد الإسلامية في نهاية الألفية, والقيام بتدمير المسجد الأقصى؛ لإقامة الهيكل، والعلمانيون منهم يخشون من ذلك؛ لأنه يؤدي في نظرهم إلى تفجير المنطقة، وقيام حرب ليست محسوبة النتائج بالنسبة لهم, وهم يفضلون أن يهيمنوا بالسلم -بزعمهم- هيمنة اقتصادية ومالية وتقنية، ولذلك فقد حذر هؤلاء من بني قومهم من القيام بشيء من العنف، ليس لأجل سواد عيوننا, وإنما لأنهم يرون أن هذا استعجال, وما الذي سيحدث؟ الله أعلم بذلك. هل سينتصر الأصوليون والإنجيليون من اليهود والنصارى ويحققون ما يقولون عنه بالقوة، ويهدمون الأقصى، ويقيمون الهيكل؟ الله أعلم بذلك. وإذا حدث فهو شر في الظاهر، ولكنه قد يكون خيراً من جهة اشعال جذوة الجهاد في سبيل الله، وقيام المسلمين بالحمية حينئذٍ, أو أن الذي سيحدث هو أن يكسب العلمانيون منهم الجولة في قضية السيطرة على الموقف بالسلام والتعايش بين أهل الملل كما يقولون، وهؤلاء الذين ينادون بالإخاء العالمي, والسلام العالمي, والملة الإبراهيمية, ويريدون تحطيم عقيدة: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85] وتحطيم عقيدة: (ما من يهودي ولا نصراني يسمع بي ثم لا يؤمن بي إلا أدخله الله النار) وتحطيم عقيدة: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} [هود:17]. فهؤلاء على أي حال يريدون تحطيم المسلمين سواء كان بالعنف أو باللين, ونحن ينبغي علينا أن نعود إلى ربنا وأن نقوم بحقه علينا, وأن نعلم ماذا يريد أولئك القوم أن يفعلوا وأن نعد أنفسنا إعداداً عقدياً وإيمانياً وعلمياً ونفسياً لأي طارئ.

احتفال النصارى بالعيد الألفي

احتفال النصارى بالعيد الألفي أيها الإخوة: إن هذه الألفية التي سيحتفلون بها هي عيدهم وليس لنا به شأن على الإطلاق, ولكن مع الأسف! يشارك كثير من المسلمين الكفرة بالاحتفال في الأعياد, وإذا كنا نرى مشاركة أبنائنا وبناتنا في عيد الحب (الفلنتاين) أو في (الهلوين) أو في رأس السنة أو في غير ذلك من أعياد الكفار, فكيف سيكون الحال في هذا العيد القادم الذي هو عندهم عيد ألفي, عيد كبير وعظيم وضخم, قد حشدوا له من الإمكانات العظيمة لنقله وتعميمه على العالم، وإذا كان كثير من المسلمين قد اغتروا ببهرج أعداء الله وخاصة النصارى في أعيادهم الكبرى، كالكرسمس، وعيد رأس السنة الميلادية, ويحضرون احتفالات النصارى بها في بلادهم ويسافرون إليهم, وبعض المسلمين ينقلونها إلى بلادهم ويقيمونها، فإن البلية الكبرى والطامة العظمى -أيها الإخوة وهذا هو الشاهد الكبير من الموضوع- ما يجري حالياً من استعدادات عالمية على مستوى النصارى للاحتفالات الكبرى بنهاية الألفية الثانية، والدخول في الألفية الثالثة، وإذا كانت الأرض تعج باحتفالات النصارى في رأس كل سنة ميلادية فكيف سيكون احتفالهم بنهاية هذه الألفية؟! إن هذا الحدث سيحولونه إلى مناسبة ضخمة جداً، لن يحتفلوا به في قبلة ديانتهم الفاتيكان؛ بل سينقلونه إلى بيت لحم في بلاد المسلمين, وسينتقل إليها أئمة النصارى من جميع الأنواع: الإنجيليون منهم، والمعتدلون بزعمهم، والعلمانيون؛ لإحياء تلك الاحتفالات الألفية التي تنشط جميع الوسائل المرئية والمسموعة للحديث عنها في هذه الأيام, إن هؤلاء الملايين الذين يتوقع حضورهم إلى ذلك المكان برئاسة يوحنا بولس الثاني، كبير الشرك النصراني في هذا الزمان، إلى موقع الاحتفال بتعميد المسيح بزعمهم، حيث عمده يوحنا المعمدان -أي: يحي عليه الصلاة والسلام- في نهر الأردن سيشارك فيه كثير من المسلمين مع الأسف الشديد، بل إن الحجوزات من قبل المسلمين في هذه المناسبة قائمة على قدم وساق، سينتظرون نهاية الشهر الكريم أو قبل نهاية الشهر الكريم للانطلاق إلى تلك الاحتفالات الشركية والكفرية التي حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم منها أشد تحذير, وأخبر الأمة أنها ستتبع من كان قبلها من اليهود والنصارى حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب ستدخله هذه الأمة وراءهم.

حكم هذه الأعياد في الشريعة الإسلامية

حكم هذه الأعياد في الشريعة الإسلامية إن هذه الأعياد التي جاء التحذير منها في الكتاب العزيز وفي السنة النبوية والتي اعتنى الشارع الحكيم اعتناء بالغاً بتبيين بطلانها، وتحريم احتفالنا معهم بها, سيخالف هذا الحكم كثير من المسلمين، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (لكل قوم عيد وهذا عيدنا أهل الإسلام) فكيف يجوز لنا أن نشارك غيرنا باحتفال شركي, احتفال هو من ميزات تلك الأمة الضالة التي أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عنهم بقوله: (اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضُلاّل). أيها المسلمون! إن القضية تحتاج بحق إلى استعداد عقدي لتلك المواجهة, وإن المسألة تحتاج منا بحق إلى وقفة جادة في طريق التشبه بالكفار لقطعه, فقد أصبح التشبه بالكفار من أمراض المسلمين في هذا الزمان, نسأل الله عز وجل أن يرزقنا اعتقاد صحيحاً, وأن يباعد بيننا وبين التشبه بالضالين والمغضوب عليهم, وأن يجعلنا سلماً لأوليائه وحرباً على أعدائه, نعادي من عادى الله، ونوالي من والى الله, أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

حكم مشاركة الكفرة في أعيادهم

حكم مشاركة الكفرة في أعيادهم الحمد لله معز من أطاعه، ومذل من عصاه, وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له, شرع لنا من الدين ما رضي به سبحانه وتعالى، وصلى الله وسلم على محمد بن عبد الله, وأشهد أنه رسول الله، صاحب لواء الحمد، والمقام المحمود، والشفاعة العظمى يوم الدين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. عباد الله: إن ربنا عز وجل قد قال في محكم تنزيله: {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجا} [المائدة:48] وقال سبحانه وتعالى: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ} [الحج:67] أي: عيداً يختصون به, ولذلك فإنه لايجوز لنا مطلقاً أن ندخل في أعيادهم ونحضرها ونهنئهم بها, أو نقبل تهنئتهم لنا بأعيادنا, وكذلك ليس لنا أن نشاطرهم فرحة، ولا أن نشاركهم بهدية، ولا أن نهنئهم تهنئة، ولا أن نقبل منهم تهنئة, ولا أن نحضر لهم مجلساً لعيدهم أبداً, لأنه رمز كفرهم، وقضية الأعياد، قضية عقدية دينية وليست قضية عامة من قضايا العادات والتقاليد, وإن ظن ذلك بعض من لا علم لديه. عباد الله: إن المسلم الغيور ليحذّر أهله وأطفاله من أي نوع من أنواع الفرح أو المشاركة بأعياد أولئك القوم, ونحن نعلم أننا في آخر الزمان، وأن طغيان الكفرة قد حصل, ورقة الدين عند المسلمين قد حصلت, ولكن لا يجوز لنا الاستسلام أبداً, لقد ألف علماؤنا الكتب الكثيرة في بيان تحريم مشابهة الكفار في أعيادهم -كتباً مستقلة أو فصولاً في كتب- وقد ألف شيخ الإسلام رحمه الله كتابه العظيم، إقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم , وألف الذهبي رحمه الله رسالته: تشبيه الخسيس بأهل الخميس ويقصد بأهل الخميس أولئك الضلاّل من النصارى الذين يحتفلون به، وما حدث من تشبه بعض المسلمين بهم في ذلك المقام. وقال شيخ الإسلام رحمه الله في كتابه بعد أن عد أموراً من احتفالاتهم: وإنما عددت أشياء من منكرات دينهم لما رأيت طوائف من المسلمين قد ابتلي ببعضها، وجهل كثير منهم أنها من دين النصارى الملعون هو وأهله -ويقصد الدين المحرف طبعاً- ولست أعلم جميع ما يفعلونه، وإنما ذكرت ما رأيت من المسلمين يفعلونه وأصله مأخوذ عنهم. وبعض أعيادهم تحول في العصر الحاضر إلى اجتماع كبير له بعض خصائص عيدهم القديم، يشارك كثير من المسلمين في ذلك دون علم, أعياد مأخوذة من الكفرة، كأولمبيات اليونان، ومهرجانات الفرس، وكثير من المسلمين يتشبهون في قضية المهرجانات بتلك الأعياد المجوسية، مع أن هذه اللفظة جاءت من قبل أولئك المجوس الكفرة، هي أعيادهم يطلقون عليها مهرجانات. وكما قلنا -أيها الإخوة- فإن أولئك النصارى الذين قد أعدوا العدة لاحتفالهم الكبير في هذا الوقت قد ملئوا الدنيا ضجيجاً, ويريدون منا أن نشاركهم باسم الإنسانية تارة، وباسم العولمة تارة وباسم الكونية تارة، وباسم التآخي بين الأديان تارة، وباسم الانفتاح على الطرف الآخر وتلقي ثقافته تارة, وباسم السِلم العالمي تارة، وباسم الملة الإبراهيمية تارة، وهكذا يريدون أن يضيعوا تميّز المسلم بعقيدته, يريدون أن يفقدونا المبدأ المذكور في قوله تعالى: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال:42] فيريدون منا أن نضيع البينة، وأن نفقد البينة وأن نغتر وننخدع. إن هذه الاحتفالات التي ستنقل بالصوت والصورة الحية من أقصى الأرض إلى أدناها ستقوم بها وسائل إعلامهم، وهي أقوى وأقدر مما عند المسلمين بكثير, وستشارك في ذلك القنوات الفضائية، ستنقل مناسبات الكفر كعيد ميلاد المسيح الذي يسمى بالكرسميس في الخامس والعشرين من ديسمبر، وبعده بقليل عند الأقباط, يجددون فيه الذكرى بزعمهم، ويقدمون الهدايا في العيد، كانوا يسمونها باسم القديس نيكولس ثم حَلَّ البابا نويل محل القديس نيكولس، فتنتشر هدايا الأطفال في المتاجر والمحلات ويُدخلها المسلمون. أطفالهم يعرفون جيداً من هو بابا نويل وهداياه فلا حول ولا قوة إلا بالله, ونصارى فلسطين من القديم يجتمعون ويتجاورون ليلة عيد الميلاد في بيت لحم؛ لإقامة قدّاس منتصف الليل, ومن شعائرهم احتفالهم بأقرب يوم أحد ليوم الثلاثين من نوفمبر, وهو عيد القديس أندرواس بزعمهم, أول أيام قدوم المسيح عليه السلام عندهم, ويصل العيد ذروته بإحياء قداس منتصف الليل، وتزين الكنائس، ويغني الناس أغاني عيد الميلاد، تباً لهم يدخلون المعازف وآلات اللهو في دور عبادتهم، ويتقربون إلى الله بزعمهم بالأغاني والموسيقى والاعتقادات الباطلة, كإحراق كتلة من جذع شجرة عيد الميلاد. ثم يحتفظون بالجزء غير المحروق, يقولون: إن ذلك يجلب الحظ, وعيد رأس السنة تحتفل به الطوائف عندهم، تنقل الاحتفالات وستستحوذ على معظم الأخبار والبرامج التي تبث، والنصارى في تلك الليلة لهم خرافات كثيرة, وهم الذين يوصفون بصناع الحضارة الحديثة، ولكن يقولون: الذي يحتسي آخر كأس من قنينة الخمر بعد منتصف تلك الليلة سيكون سعيد الحظ، وإن كان عازباً فسيتزوج الأول من رفاقه في تلك السهرة. ومن الشؤم دخول منزل ما يوم عيد رأس السنة دون أن يحمل المرء هدية، ويعتقدون بأن كنس الغبار إلى الخارج ليلة يوم رأس السنة يكنس معه الحظ السعيد, وأن غسل الثياب والصحون في ذلك اليوم من الشؤم, وغير ذلك من الاعتقادات الباطلة.

التحذير من مشاركة النصارى في احتفالاتهم

التحذير من مشاركة النصارى في احتفالاتهم أيها المسلمون! لقد جاءت الأخبار بأن الأقمار الصناعية تستعد لبث احتفالات ذلك اليوم بدءاً من الثالث والعشرين من ديسمبر ويمتد حتى التاسع من يناير, بزعمهم أو بزعم النصارى العرب أنهم سيأخذون في الحسبان احتفالات الأرمن واحتفالات المسلمين بعيد الفطر. إذاً هم سيؤخرون مدة الاحتفال أو يطيلون مدة الاحتفال لكي يستطيع المسلمون بعد الصيام وعيد الفطر أن يشاركوهم في ذلك، وستقوم شركات التكنولوجيا المتطورة بتقديم أحدث إنتاجها من عروض الليزر على جدران الأبنية العالية، وستقام الشاشات الرقمية العملاقة التي ستنقل احتفالات العالم لحظة بلحظة على مدار الساعة، وهكذا تقدم تلك الاحتفالات على الملأ, وسيراها أبناء المسلمين وأطفالهم ويقولون: نراعي وجود خيمة إفطار رمضانية، ونمنع شرب الخمر حولها, وبعد ذلك ماذا سيحدث في الليل إذا انتهى الإفطار؟ وماذا سيحدث بعد عيد الفطر؟ وقد وصلت أسعار وجبات العشاء في ذلك اليوم إلى مبالغ خيالية ومما يتوقعون حدوثه أيضاً: ازدياد حالات الانتحار إلى عشرة أضعاف في رأس السنة وبعض طوائف النصارى يعدون العدة لعمل ما في أرض فلسطين وقد باعوا ممتلكاتهم وذهبوا إلى هناك، ولعلهم يريدون القيام بهجوم أو انتحار جماعي، ولكل مذهب كفر طريقة يعبر بها عن احتفالاته أو عن إتيانه هذه المناسبة لديه. أيها الإخوة: إننا سنرى ونسمع -إن عشنا- أموراً كثيرة من الكفر والضلال، ومن الخنا والفجور، والفحشاء والسكر والعربدة, ونسأل الله أن يحفظنا ويحفظ بلادنا وسائر المسلمين من كل سوء. اللهم اجعلنا في بلادنا آمنين مطمئنين, اجعل بلدنا هذا آمناً مطمئناً بعقيدته ودينه, اللهم ارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر, اللهم إن نعوذ بك من التشبه بالكفار, ونعوذ بك من الخزي في دار البوار يا عزيز يا غفار, اللهم اغفر ذنوبنا واغسل حوبتنا إنك سميع الدعاء. اللهم إنا نسألك في مقامنا هذا، في هذا الموقف العظيم، والساعة العظيمة، واليوم المبارك أن تخزي الروس والنصارى يا رب العالمين، اللهم ابطش بهم، اللهم أنزل بهم عذابك الذي لا يرد عن القوم المجرمين, أنزل بهم بأسك، وفرق شملهم، وشتت جمعهم، وزلزل الأرض من تحتهم، وأنزل عليهم عذاباً من فوقهم, وأرنا فيهم عجائب قدرتك, اللهم قتّلهم تقتيلاً، وشردهم تشريداً، اللهم قض دولتهم، اللهم اهدم ملكهم، اللهم اهزم جيوشهم، اللهم إنهم فتكوا بإخواننا في الشيشان وأنت على كل شيء قدير, اللهم إنك العزيز الجبار وهم لا يعجزونك, اللهم إنهم لا يعجزونك، اللهم فخذهم أخذ عزيز مقتدر, اللهم انصر إخواننا المستضعفين في الشيشان، واجمع كلمتهم على الحق والإيمان يا رحيم يا رحمن, اللهم سدد رميتهم، ووحد صفوفهم، واجمع كلمتهم على التوحيد يا أرحم الراحمين. عباد الله: بعد كل ما سمعنا يجب علينا وعلى كل فرد منا أن يُحذر مما سيحتفل به النصارى واليهود، وأن يستعمل التوعية في تحذير إخوانه من مكرهم، إن هذا واجب علينا، وعلينا التصدي لأي محاولة منهم لإدخالنا في احتفالاتهم، وأن نكون على يقظة تامة ووعي كامل بما سيفعلونه, إنهم يوزعون أناجيلهم ويدعوننا لكفرهم ليلاً ونهاراً , ويريدون أن نشاطرهم في احتفالاتهم ولكننا أصحاب عقيدة، وأصحاب مبدأ، وأصحاب دين، إننا مسلمون أولاً ونسأل الله أن يثبتنا على ذلك إلى آخر الحياة. فهذه المسئولية مسئوليتنا جميعاً ونحن على مقربة من شهر رمضان نسأل الله عز وجل أن يرزقنا بلوغه، وأن يتم علينا النعمة بصيامه وقيامه, وأن يجعلنا قبله وبعده من التائبين ومن عتقائه من النار, سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

الأسئلة

الأسئلة أيها الإخوة: إن هذه الألفية التي سيحتفلون بها هي عيدهم وليس لنا به شأن على الإطلاق, ولكن مع الأسف! يشارك كثير من المسلمين الكفرة بالاحتفال في الأعياد, وإذا كنا نرى مشاركة أبنائنا وبناتنا في عيد الحب (الفلنتاين) أو في (الهلوين) أو في رأس السنة أو في غير ذلك من أعياد الكفار, فكيف سيكون الحال في هذا العيد القادم الذي هو عندهم عيد ألفي, عيد كبير وعظيم وضخم, قد حشدوا له من الإمكانات العظيمة لنقله وتعميمه على العالم، وإذا كان كثير من المسلمين قد اغتروا ببهرج أعداء الله وخاصة النصارى في أعيادهم الكبرى، كالكرسمس، وعيد رأس السنة الميلادية, ويحضرون احتفالات النصارى بها في بلادهم ويسافرون إليهم, وبعض المسلمين ينقلونها إلى بلادهم ويقيمونها، فإن البلية الكبرى والطامة العظمى -أيها الإخوة وهذا هو الشاهد الكبير من الموضوع- ما يجري حالياً من استعدادات عالمية على مستوى النصارى للاحتفالات الكبرى بنهاية الألفية الثانية، والدخول في الألفية الثالثة، وإذا كانت الأرض تعج باحتفالات النصارى في رأس كل سنة ميلادية فكيف سيكون احتفالهم بنهاية هذه الألفية؟! إن هذا الحدث سيحولونه إلى مناسبة ضخمة جداً، لن يحتفلوا به في قبلة ديانتهم الفاتيكان؛ بل سينقلونه إلى بيت لحم في بلاد المسلمين, وسينتقل إليها أئمة النصارى من جميع الأنواع: الإنجيليون منهم، والمعتدلون بزعمهم، والعلمانيون؛ لإحياء تلك الاحتفالات الألفية التي تنشط جميع الوسائل المرئية والمسموعة للحديث عنها في هذه الأيام, إن هؤلاء الملايين الذين يتوقع حضورهم إلى ذلك المكان برئاسة يوحنا بولس الثاني، كبير الشرك النصراني في هذا الزمان، إلى موقع الاحتفال بتعميد المسيح بزعمهم، حيث عمده يوحنا المعمدان -أي: يحي عليه الصلاة والسلام- في نهر الأردن سيشارك فيه كثير من المسلمين مع الأسف الشديد، بل إن الحجوزات من قبل المسلمين في هذه المناسبة قائمة على قدم وساق، سينتظرون نهاية الشهر الكريم أو قبل نهاية الشهر الكريم للانطلاق إلى تلك الاحتفالات الشركية والكفرية التي حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم منها أشد تحذير, وأخبر الأمة أنها ستتبع من كان قبلها من اليهود والنصارى حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب ستدخله هذه الأمة وراءهم.

موقف المسلم من أعياد الكفار

موقف المسلم من أعياد الكفار Q ما هو موقفنا من أعياد الكفار القادمة في احتفالات عام (2000)؟ A هذه المسألة سبق ذكرها في الدرس لكن نعيد الإجمال والتأكيد على بعض النقاط لأهميتها, فأقول: الحمد لله وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فإن هذه الأعياد القادمة وهي الاحتفالات الألفية قد يقدم فيها بعض الكفار على أعمال تتعلق بعقيدتهم في عام (2000) مثل اعتداءاتهم على مقدسات المسلمين، كالمسجد الأقصى وغيره, أو إقامة صروح كفر يعتقدون إقامتها في هذا الوقت, أو انتظار غائب يعتقدون أنه يأتي وينزل في هذا الوقت, والعلمانيون منهم -إن صح التعبير- لا يريدون أن تحدث مفاجآت وينقلب السحر على الساحر كما يقولون، وتحدث مواجهات بين المسلمين والكفار ليست محسوبة النتائج، فلا يريدون عمل مواجهة بالقوة؛ لكنهم يريدون إغراقنا بمعتقداتهم وأعيادهم, وإشراكنا في احتفالاتهم رغماً عنا, حين يغرقون المناطق في العالم بما ينقلون في فضائياتهم في العالم بشعائر احتفالاتهم وطقوسهم، وتلك المظاهر من البهجة والسرور التي يظهرونها، بالإضافة إلى الفحش والمنكرات، والرقص والحفلات الغنائية، والفرق العالمية والموسيقية، وعروض الليزر والأنوار الكثيرة، والألعاب النارية ونحو ذلك من هذه الأشياء. لكن البعض منهم يمكن أن يعملوا أعمالاً فيها استعمال للقوة أو انتحار جماعي لبعض فرقهم الدينية، بناءً على أسس يعتقدونها إذا ما جاء المسيح أو ما حصل ما ينتظرونه، أو أن يعملوا انتحاراً جماعياً, لكن الغالب أن هذا العيد سيمضي عندهم بقضية مجون وخلاعة، وكفر وشرك، وإظهار المعتقدات الباطلة، والكنسية، والطقوس، والوثنية وغيرها, ونحن ينبغي أن نستعد لأي مفاجأة لكن اتجاههم العام الآن يشعر بهذا، إغراق العالم بأجواء الاحتفالات. وأكثر منه إحداث مواجهة عسكرية مع المسلمين مثلاً، لأنه ربما لم يأت الوقت المناسب بزعمهم لذلك, لكن الله غالب على أمره ولا يعلم الغيب إلا الله، والله عز وجل يفعل ما يشاء، يمكن يحدث أي شيء، ولذلك فالمسلم يجب أن يكون مستعداً نفسياً بجميع أنواع الاستعداد, وعلى رأس ذلك التسلح بالإيمان والتوحيد، منافاة للشرك والكفر ومعادة أهله، والابتعاد عن التشبه بهم, فما هو موقفنا من أعيادهم القادمة في الاحتفالات الألفية؟ أولاً: اجتناب حضورها, لما جاء من الأدلة الكثيرة المانعة من ذلك وفي دين الإسلام، وما جاء فيه من الأدلة وقد قال عمر رضي الله تعالى عنه: [لا تتعلموا رطانة الأعاجم، ولا تدخلوا على المشركين في كنائسهم يوم عيدهم فإن السخطة تنزل عليهم]. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وهذا عمر نهى عن تعلم لسانهم، وعن مجرد دخول الكنيسة عليهم يوم عيدهم، فكيف بفعل بعض أفعالهم أو فعل ما هو من مقتضيات دينهم! أليس موافقتهم في العمل أعظم من الموافقة في اللغة؟! أو ليس عمل بعض أعمال عيدهم أعظم من مجرد الدخول عليهم في عيدهم! وإذا كان السخط ينزل عليهم يوم عيدهم بسبب عملهم فمن يشاركهم في ذلك العمل أو بعضه أليس قد تعرض لعقوبة ذلك، واستجلب سخط الجبار عليه؟ وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنه: [من بنى في بلاد الأعاجم وصنع نيروزهم ومهرجانهم، وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك حشر معهم يوم القيامة] والشاهد عند قوله: [حشر معهم] وعلق عليه ابن تيمية فقال: وهذا يقتضي أنه جعله كافراً بمشاركتهم في مجموع هذه الأمور، أو جعل ذلك من الكبائر الموجبة للنار وإن كان الأول ظاهر لفظه. وإذا قلنا لا نحضر، فإن ذلك يقتضي أيضاً ألا نشاهد، قال تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان:72] قال المفسرون: أعياد الكفار لا نحضرها ولا نشاهدها لا بأشخاصنا، ولا بالصوت والصورة المنقولة، وهذا الذي قلناه قبل قليل وأحذرك أن تترك نساءك وأطفالك يرون الاحتفالات المنقولة فضائياً؛ لأن هذا فيه إدخال الفرح على نفوس الأطفال بمناسبة الكفر, والأعياد الشركية والانجذاب والتعلق بذلك, ولذلك أولادك يمكن أن يعجبوا بالكفار واحتفالاتهم وأعيادهم، بل يطلبون منك أن تأتي لهم بشجرة عيد ميلاد, أو تأتي لهم بحلويات خاصة مما يفعلونه, أو بابا نويل! ما يأتي به بابا نويل، هذا كله يمكن أن يحدث نتيجة المشاهدة, وتركهم يشاهدون ذلك عبر القنوات، وهذه القضية يجب الاهتمام بها أشد الاهتمام. ثم إننا نجتنب موافقتهم في أفعالهم، قال شيخ الإسلام رحمه الله: لا يحل للمسلمين أن يتشبهوا بهم في شيء مما يختص بأعيادهم، لا من طعام ولا لباس، ولا اغتسال ولا إيقاد نيران، ولا تبطيل عادة. لا نأخذ إجازة ولا نعطل الأعمال، ولا نغلق الدكاكين ولا المحلات، ولا الشركات ولا المؤسسات، لا في المعيشة ولا في العبادة ولا يحل فعل وليمة، ولا الإهداء ولا بيع ما يستعان به على ذلك, لا تبيع لهم الديك الرومي بمناسبة أعيادهم، ولا شجرة ميلاد، ولا زينات وأضواء وأنوار من النوع الذي يستخدمونه، وكذلك لا تبيعهم حلويات من النوع الذي يستعملونه، وهو شيء مثل العكاز وشيء مثل غيره من الأشياء المعروفة لديهم. قال شيخ الإسلام رحمه الله: ولا بيع ما يستعان به على ذلك، ولا تمكين الصبيان ونحوهم -صبيان المسلمين- من اللعب الذي في الأعياد، ولا إظهار زينة، وبالجملة ليس لهم أن يخصوا أعيادهم بشيء من شعائرهم، بل يكون يوم عيدهم عند المسلمين كسائر الأيام. قال الذهبي رحمه الله: فإذا كان للنصارى عيد، ولليهود عيد، كانوا مختصين به، فلا يشركهم فيه مسلم كما لا يشاركهم في شرعتهم ولا قبلتهم. وقد ذكر ابن التركماني الحنفي رحمه الله: النكيرة والتحذير ممَّن يوسع النفقة على عياله في أعياد النصارى، وأن من لم يتب فهو كافر مثلهم فيما نقل عن بعض علماء الحنفية. وقال بعض أصحاب مالك: من كسر يوم النيروز بطيخة فكأنما ذبح خنزيراً. فإذا كان عندهم يوم النيروز يأكلون فاكهة معينة فجاء مسلم وفعل مثلهم بقصد التشبه، فكأنما ذبح خنزيراً. بل قال مالك: "يكره الركوب معهم في السفن التي يركبونها لأجل أعيادهم؛ لنزول السخط واللعن عليهم, فالله يسخط ويغضب وينزل اللعنة على هؤلاء الذي جعلوا له ولداً وزوجة، وجعلوه ثالث ثلاثة, والله عز وجل لا يرضى الكفر" وسئل ابن القاسم عن الركوب في السفن التي تركب فيها النصارى إلى أعيادهم فكره ذلك؛ مخافة نزول السخط عليهم بشركهم الذي اجتمعوا عليه. وكذلك فإننا لا نهدي لهم ولا نعينهم على عيدهم ببيع أو شراء كما تقدم، حتى قال أبو حفص الحنفي: من أهدى فيه بيضة إلى مشرك تعظيماً لليوم فقد كفر بالله تعالى. ومعلوم أن هؤلاء الكفرة المشركين من النصارى من ضمن ما يفعلونه من طقوسهم صبغ البيض (الملون) , فالذي يبيعهم بيضاً ليصبغونه فهو مشارك لهم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وكره ابن القاسم للمسلم أن يهدي للنصارى شيئاً في عيدهم مكافأة لهم، ورآه من تعظيم عيدهم وعوناً لهم على مصلحة كفرهم، ألا ترى أنه لا يحل للمسلمين أن يبيعوا من النصارى شيئاً من مصلحة عيدهم، لا لحماًَ ولا إداماً ولا ثوباً، ولا يعارون دابة، ولا يعاونون على شيء من عيدهم, لأن ذلك من تعظيم شركهم ومن عونهم على كفرهم، وينبغي نهي المسلمين عن ذلك. وابن التركماني قال: فيأثم المسلم بمجالسته لهم وبإعانته لهم بذبح وطبخ وإعارة دابة يركبونها لمواسمهم وأعيادهم. لو قال لك نصراني: أوصلني إلى مكان الاحتفال فلا يجوز لك ذلك, أو يقول: أعرني سيارتك أحضر حفلة عيد الميلاد، فلا يجوز لك أن تعيره سيارتك, ومع بالغ الأسف فإن كثيراً من المسلمين من الباعة يتساهلون في هذه القضية، ويبيعون على الكفار هدايا من الأعياد من الزهور والعطور حتى بطاقات التهنئة، كالكرسميس يبيعونها عليهم، وبعض ألبستهم التي تفعل في أعيادهم، وشجرة عيد النصارى, وهدايا بابا نويل , وحلويات على شكل صليب أو على شكل عكاز كما يفعلونه، وبعض المتاجرين يرون أنه من باب استغلال أرباح الموسم، والنصارى الآن يشترون, بع واربح وإنما يأكلون في بطونهم ناراً، وسيصلون سعيراً, وهذا من إعانتهم على عيدهم، وإسهام لإظهار شعائرهم وإشهارها. ثم إنه يجب ألا نعين أي مسلم يتشبه في عيدهم كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: وكما لا نتشبه بهم في الأعياد فلا يعان المسلم المتشبه بهم في ذلك, بل يُنهى عن ذلك, فمن صنع دعوة مخالفة للعادة في أعيادهم لم تجب دعوته. لو أن مسلماً قال: ليلة رأس السنة عندي حفلة, فلا يجوز لك حضورها ولا إتيانها، ويجب أن تنهاه عنها, قال: من صنع دعوة مخالفة للعادة. لماذا طول العام لم يصنع الاحتفال فلما كان على ليلة (2000م) فعل هذه الحفلة؟ لماذا خصها في هذا اليوم ولو كان مسلماً؟ قال: ومن أهدى من المسلمين هدية في هذه الأعيادة مخالفة للعادة في سائر الأوقات غير هذا العيد لم تقبل هديته. جاء إليك شخص بمناسبة عام (2000) وقال: هذه هدية فهو يقصد هذا التاريخ وهذا العيد, فلا تقبل هديته وترد عليه وتقول له: لا أقبل، هديتك مردودة عليك, لأنك أهديتني بمناسبة أعياد الكفار, اتق الله. أيها الإخوة: المشكلة أن هؤلاء القوم سيحاولون التنسيق ما بين أعيادنا وأعيادهم، ويقولون: نضع خيمة رمضانية إلى جانب الكنيسة، أنتم تسهرون في ليلة في رمضان ونحن في أعياد, ونحن نهنئكم على رمضان، وأنتم تهنئوننا على الأعياد ونحن ممكن أن نحضر معكم الإفطار, ونأتي على مائدة رمضان، أنتم تحضرون معنا عشاء عيد الميلاد: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم:9]. فلا تطع هؤلاء الكفرة فيفتنوك عما أنزل على نبيك صلى الله عليه وسلم. قال شيخ الإسلام: لم يتقبل هديته خصوصاً إن كانت الهدية مما يستعان بها على التشبه بهم، ولا يب

إن أكرمكم عند الله أتقاكم

إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله سبحانه وتعالى يرضى عن عباده بقدر ما في قلوبهم من التقوى والخشية، فأكرم الناس أتقاهم لله عز وجل وأخشاهم له، أما اختلاف الناس إلى شعوب وقبائل فهو من أجل أن يتعارفوا فيما بينهم ويتواصلوا، وقد كانت الجاهلية قديماً -أيضاً- وحديثاً تبني أسسها ودعائمها على التمييز بين البشر وتعبيد العباد للعباد، ولكن جاء الإسلام ليهدم هذا الأساس الجاهلي ويضع للناس ميزاناً للتفاضل بينهم، وهو ميزان التقوى.

ما يستنبط من قوله: (أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا)

ما يستنبط من قوله: (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً) إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. A=6000394> يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. A=6000493> يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. A=6003602> يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أحمد الله إليكم -أيها الإخوة- الذي وفقنا وإياكم لحضور مجالس الذكر والانتفاع بمائدة القرآن، فإن مثل هذه الحلق من الأشياء التي يرضى الله عز وجل عن أصحابها، ويحفها بملائكته جل وعلا، ويسطرها لهم في صحائف حسناتهم إن شاء الله تعالى، لما في هذه الحلق من زيادة العلم والدين وزيادة الإيمان في قلوب المؤمنين: {لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4]. وقد تكلمنا- أيها الإخوة- في المرة الماضية عن بعض آفات اللسان أثناء تفسير سورة الحجرات، وكانت هناك أسئلة كثيرة، ولذلك سنقتصر الكلام في هذا الدرس على قوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] ثم نجيب بعد ذلك على الأسئلة. ونسأل الله عز وجل ألا نتجاوز إن شاء الله الساعة الثامنة حتى لا نطيل على الإخوة، ومن أراد من الإخوة أن يذهب فله ذلك، فلا يشعر بالإحراج والأمر متسع إن شاء الله، وبإمكانه أن يسمع المحاضرة بعد ذلك.

الفائدة الأولى: المطابقة في تمثيل المغتاب بآكل الميتة

الفائدة الأولى: المطابقة في تمثيل المغتاب بآكل الميتة ذكرنا -أيها الإخوة- في التعليق على قول الله جل وعلا: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً} [الحجرات:12] أن هذا مثل، وقلنا: إنه مثل ضربه الله جل وعلا للذي يغتاب الناس وينهش أعراضهم، مثله ربنا بالذي يأكل لحم إنسان ميت. وهذا المثل الذي ضربه الله سبحانه وتعالى فيه مطابقة من حيث التمثيل فهو تمثيل بديع جداً، فكما أن الإنسان عندما يموت لا يحس بمن ينهش لحمه لغياب روحه عن جسده، فكذلك الشخص الذي يُغتابُ ويُنهشُ عرضُه غير موجود، ولا يستطيع الدفاع عن نفسه، لأنه غائب كما أن الميت لا يستطيع الدفاع عن نفسه، لأن روحه قد فارقت جسده. وكما أن الميت يعجز عن رد آكله، فكذلك الذي يغتاب يعجز عن رد من يغتابه. والذين يأكلون لحوم البشر يتفكهون ويتلذذون بأكلها حسب مزاجهم الفاسد، كذلك أصحاب المزاج الفاسد من البشر الذين يغتابون الناس أيضاً يتلذذون ويتفكهون بنهش أعراض البشر.

الفائدة الثانية: تحريم الغيبة

الفائدة الثانية: تحريم الغيبة أيضاً يؤخذ منه فائدة تحريم الغيبة، لأن أكل لحم الموتى حرام، بل هو كبيرة من الكبائر، ولاحظ أن المثل يشمل أشياء كثيرة جداً، ليست البلاغة هي الموجودة فيه فقط، وإنما -أيضاً- الحكم، لأن المشبه يأخذ حكم المشبه به، فالمشبه به هنا أكل لحم الموتى، وأكل لحم الموتى حرام، وهو كبيرة من الكبائر، ولذلك أيضاً الغيبة حرام، وقال بعض العلماء: إنها كبيرة من الكبائر، لأن الله مثلها وشبهها بأكل لحم الميت وهو من الكبائر، والفائدة الأخرى أيضاً: تشنيع هذه الصورة في نفوس المؤمنين، فمن فوائد هذا التشبيه أن نفس الإنسان المسلم تكره سماع الغيبة وتكره الاغتياب، لأنها تسمع هذا التمثيل البشع: {يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات:12]. فهذه الأمثال- أيها الأحبة- لا يعقلها إلا العالمون، والله أمرنا أن نتدبر الأمثلة، فقال تعالى: {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [إبراهيم:25] لعلهم يتفكرون، لأولي الألباب {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43]. تجد العجب العجاب في كتابة الذين يكتبون عن الأمثال مما فتح الله عليهم مثل ابن القيم رحمه الله تعالى عندما يفسر آيات فيها أمثال.

ما يستنبط من قوله: (اجتنبوا كثيرا من الظن)

ما يستنبط من قوله: (اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ) وفي قول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا} [الحجرات:12]. ثلاثة أشياء متوالية، فيها تصحيح عجيب لسلوك الإنسان، كيف ذلك؟ يقول أحد أهل العلم في التفسير: تأمل كيف أن الله عز وجل حرم الظن السيئ بالمؤمنين، فالظن الجزاف الذي لا يعتمد على شيء حرمه الله جل وعلا، ثم لما حرم هذا الظن، حرم سلوك السبيل الذي يؤكد هذا الظن، وهو: التجسس، لأن الإنسان عندما يتجسس، فإنما يحاول أن يؤكد ظناً عنده؛ فحرم الله سوء الظن، وحرم السبيل لتأكيد هذا الظن، وهو التجسس، وحرم الغيبة التي هي التكلم بما تأكد له من التجسس. حرم الله ثلاثة أشياء متوالية: حرم الله سوء الظن -غير الظن الذي هو على قرار- ثم حرم سلوك السبيل لتأكيده وهو التجسس، ثم حرم التكلم عنا المسلم بما فيه حتى لو علمه وتيقن به، وذلك بتحريم الغيبة، وهذا كله لحماية أفراد المجتمع المسلم من جميع الآفات والشرور.

ما يستنبط من قوله: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى)

ما يستنبط من قوله: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى) ثم قال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13] الذكر والأنثى هما- كما نعلم- آدم وحواء، وهذه الآية تفسرها آية في مطلع سورة النساء وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً} [النساء:1]. (نفس واحدة) هي: آدم، (خلق منها زوجها) من هذه النفس التي هي آدم خلق حواء، (وبث منهما) من هذا الرجل والمرأة (رجالاً كثيراً ونساء). والناس من جهة الذكر والأنثى أنواع كما أنهم من جهة اللون أنواع، ففيهم الأبيض والأسود والأسمر والحنطي إلى غيره، كذلك من جهة الشكل الخارجي، فهناك الطويل والقصير والسمين والنحيل، فكذلك من جهة الذكر والأنثى الناس أربعة أصناف: فمنهم من خلقه الله عز وجل من ذكر وأنثى، وذلك مثل عامة البشر تقريباً، ومنهم من خلقه الله بلا ذكر ولا أنثى، وهو آدم عليه السلام، ومنهم: من خلقه الله تعالى من أنثى بلا ذكر وهو عيسى عليه السلام خلقه الله من أنثى بلا ذكر، ومنهم من خلقه الله من ذكر بلا أنثى كحواء، فقد خلقها الله من ذكر بلا أنثى. وهناك كلام مهم للعلامة الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان عند تعليقه على قول الله عز وجل: {مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} [الحجرات:13] فإنه وضح الفوارق بين الذكر والأنثى، ووضح ما ينبني عليها من الأحكام الشرعية التي جعلت الطلاق والقوامة بيد الرجل، والحمل ورعاية الأبناء الصغار عند المرأة، فليراجع فإنه كلام جميل.

قوله: (وجعلناكم شعوبا وقبائل)

قوله: (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ)

معنى الشعب والقبيلة

معنى الشعب والقبيلة {شُعُوباً وَقَبَائِلَ} [الحجرات:13] الشَّعبُ هو: الحي العظيم من الناس، الجماعة الكثيرة من الناس تسمى شعباً؛ مثل مضر وربيعة، فهما شعبان من شُعُوب العرب، والقبائل دون الشعوب في الاتساع والكثرة، مثل بني بكر من ربيعة وتميم من مضر، تميم قبيلة من شعب مضر، وبنو بكر قبيلة من شعب ربيعة، وأهل اللغة يصنفون هذه الأسماء من حيث القلة والكثرة ومسمياتها كالتالي، يقولون: أولاً: الشعب، وأصغر منه القبيلة، وأصغر من القبيلة العمارة، وأصغر من العمارة البطن، وأصغر من البطن الفخذ، وأصغر من الفخذ الفصيلة، وبعضهم قال: وأصغر من الفصيلة العشيرة. فمثلاً: إذا جئنا إلى نسب الرسول صلى الله عليه وسلم، فإننا نجد أن خزيمة شعب خرجت منه كنانة، وهي قبيلة من قبائلهم، وخرجت من كنانة قريش وهي عمارة من عمائر كنانة، وخرج من قريش بنو قصي وهم بطن من بطون قريش، وخرج من هذا البطن فخذ وهم بنو عبد مناف، وخرج من هذا الفخذ بنو هاشم، وهم فصيلة الرسول صلى الله عليه وسلم.

نبذة عن الشعوبية

نبذة عن الشعوبية هناك كلمة مشتقة من هذه الكلمة ترد أحياناً في كتب المؤرخين المسلمين وهي كلمة" الشعوبية "، الشعوبية -أيها الإخوة- مذهب من المذاهب الضالة التي دفع أصحابها ضغائنهم الموجودة في قلوبهم ونفوسهم على الإسلام وأهله إلى كراهية العرب وبغضهم والتنقص منهم، وذكر معايبهم ومثالبهم، وقد ألف بعض الشعوبيين مصنفات في هذا، ومن بينهم أبو عبيدة الخارجي-وليس هو أبا عبيدة بن الجراح الصحابي المعروف- صنف كتاباً في مثالب العرب ونقائصهم، وكذلك ألف ابن غرسية رسالة فصيحة في تفضيل العجم على العرب. أصحاب هذا الاتجاه يسمون بالشعوبيين وهم طائفة ضالة، ومن كره العرب بلا استثناء، فقد كفر، لأن منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن كرههم بلا استثناء يكفر، لأن معنى ذلك أنه كره الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد رد عليها بعض علماء الأندلس وغيرهم من علماء المسلمين.

الحكمة من تعدد الشعوب والقبائل

الحكمة من تعدد الشعوب والقبائل لماذا خلق الله الشعوب والقبائل؟ ولماذا خلقنا من ذكر وأنثى؟ ما هي الحكمة من جعلنا شعوباً وقبائل؟ يقول الله عز وجل: {لِتَعَارَفُوا} [الحجرات:13] فالتعارف هو الحكمة التي من أجلها جعلنا شعوباً وقبائل: {لِتَعَارَفُوا} [الحجرات:13]. ومعنى {لِتَعَارَفُوا}: لكي ينتسب كل إنسان لأبيه، فيعرف أن فلاناً هو فلان بن فلان بن فلان من القبيلة الفلانية، أو العائلة الفلانية، ولذلك حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من انتساب الإنسان لغير أبيه، أو انتساب المولى لغير مواليه تحذيراً شديداً، فقال في الحديث الصحيح الذي يرويه أبو داود عن أنس رضي الله عنه وأرضاه: (من ادعى إلى غير أبيه، أو انتمى إلى غير مواليه، فعليه لعنة الله المتتابعة إلى يوم القيامة) الذي يدعي أنه ابن فلان، ويسمي أباً له غير أبيه، وينتسب إليه، فهذا يقول فيه صلى الله عليه وسلم: (فعليه لعنة الله المتتابعة إلى يوم القيامة).

ثمرات التعارف بين الشعوب والقبائل

ثمرات التعارف بين الشعوب والقبائل ومن نتائج هذا التقسيم إلى شعوب وقبائل: أولاً: صلة الأرحام حتى يكون الناس بينهم قرابات ويتزوج بعضهم من بعض: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً} [الفرقان:54] جعل بينهم زواجاً ومصاهرةً وأنساباً، فالرجل يخرج منه ابنه، فهذا نسب، والرجل عندما يتزوج يصبح بينه وبين أهل زوجته مصاهرة، فهذه من الفوائد، فعندما يتعلم الإنسان الأنساب، يستطيع أن يعرف أرحامه، فيصلهم، ولذلك أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بتعلم الأنساب في الحديث الصحيح بقوله: (تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، فإن صلة الرحم محبة في الأهل، مثراة في المال، منسأةٌ في الأثر) حديث صحيح. الآن لما صارت القضية فيها نسب وشعوب وقبائل، صار تعلم النسب واجباً، أوجب بعض أهل العلم تعلم النسب، لماذا؟ حتى يصل الإنسان رحمه، ويعرف من أبوه، ومن عمه، ومن جده، من هم أقارب الجد؛ والفروع والحواشي والأصول. الأصول هم: الأب والجد وإن علا، والفروع هم: الابن وابن الابن وإن نزل، والحواشي: العم والعمة والخال والخالة وأولادهم، فيتعلم الإنسان الأصول والفروع والحواشي حتى يصل رحمه، فإن صلة الرحم محبة في الأهل، والذي يصل رحمه يكون محبوباً في العائلة بخلاف الإنسان الذي لا يصل رحمه، وهذا من النقاط المهمة التي يقع بسببها تقصير كثير من الدعاة إلى الله عز وجل. قد يقول الإنسان: أنا مشغول، ويترك أقاربه وأرحامه ولا يصلهم، ولا يعرف أخبارهم مع أنهم بقليل من الصلة قد يتأثرون به ما لا يتأثرون من غيره نتيجةً للقرابة الموجودة بينهم وبينه، يذهب ليدعو فلاناً البعيد مع أنه لا يعرف عنه شيئاً، ويترك أقاربه، والله قد قال لنبيه: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] ويترك أقاربه مع أنهم بقليل من الجهد قد يتأثرون منه، ولا يتأثرون من غيره، لأن بينه وبينهم صلة وقرابة ومساهمة وعلاقة، فلا بد من استغلال هذه العلاقة في الدعوة إلى الله عز وجل والتأثير على هؤلاء الأقارب. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (مثراة في المال) ففيها قولان لأهل العلم: أحدهما: أن الله عز وجل ببركة صلة الرحم يبارك لك في مالك ويثريه لك وينميه ويبقيه ويكثره. القول الثاني: أن الإنسان إذا وصل رحمه، فإنهم قد يوصون إليه ببعض مالهم عند الموت للصلة الحسنة بينهم وبينه، وهم من غير الأقارب الذين حدد الله لهم نصيبهم في الإرث لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا وصية لوارث). فقد يوصي الإنسان لقريبه البعيد، لأن بينه وبينه علاقة حميدة في صلة، أو شيء من ذلك، فقد تعود عليه المنفعة، لكن الإنسان عموماً إذا وصل رحمه، فلا يكن قصده المال، وإنما رضا الله عز وجل، والقيام بحقوق هؤلاء الأقربين. وأما قوله صلى الله عليه وسلم (منسأة في الأثر) فمعناه يزيد عمره زيادة مكتوبة في اللوح المحفوظ ومقدرة عند الله عز وجل. توضيح المسألة: الإنسان إذا لم يصل رحمه، فقد يعيش أربعين سنة، فإذا وصل رحمه، عاش ستين سنة، ويكون مقدراً عند الله أن فلاناً إذا لم يصل رحمه فسيكون عمره كذا، فلو وصل رحمه -وكونه سيصل أو لا يصل مكتوب عند الله عز وجل- فسيزاد له في عمره، ولو لم يصل رحمه فسيبقى عمره كذا عند الله عز وجل، فصلة الرحم منسأة في الأثر، أي تطيل العمر.

ما يستنبط من قوله عز وجل: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم)

ما يستنبط من قوله عز وجل: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم)

ذم الفخر بالأنساب

ذم الفخر بالأنساب ثم يقول الله عز وجل: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] هذه قاعدة عظيمة جليلة من قواعد المجتمع الإسلامي يوضحها الله جل وعلا هنا في هذه السورة العظيمة، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو الذي شرحت سنته كتاب الله وفصلته وبينته- يقول في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد وأبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه: (إن الله قد أذهب عنكم عُبِّية الجاهلية -العبية هي: الكبر، أي: إن الله قد أذهب عنكم بهذا الدين وبهذا القرآن الكبر الذي هو سمة من سمات أهل الجاهلية -وفخرها بالآباء، مؤمنٌ تقي وفاجرٌ شقي-أي: هناك قسمان: مؤمنٌ تقي وفاجرٌ شقي- أنتم بنو آدم، وآدم من تراب، ليدعن رجال فخرهم بأقوامٍ إنما هم فحمٌ من فحم جهنم، أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن). (ليدعن رجال فخرهم بأقوامٍ إنما هم فحم من فحم جهنم) بعض المسلمين آباؤهم كفار جاهليون، ومع ذلك يتفاخرون بآبائهم، وآباؤهم جاهليون وكفار، وهم فحمٌ من فحم جهنم، فكيف يتفاخر الإنسان المسلم بأبٍ له، أو جدٍ له من أهل الكفر؟ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم مهدداً هذا الصنف الذي لا يرعوي ولا ينزجر: (أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن).

من أكرم الناس؟

من أكرم الناس؟ وكذلك سأله صلى الله عليه وسلم بعض الصحابة -كما في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري رحمه الله عن أبي هريرة -: (من أكرم الناس؟ قال: أكرمهم أتقاهم). لاحظ أن جواب الرسول صلى الله عليه وسلم من القرآن من قوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] (قالوا: يا نبي الله! ليس عن هذا نسألك؟ قال: فأكرم الناس يوسف نبي الله بن نبي الله بن نبي الله بن خليل الله) فيوسف عليه السلام أكرم الخلق من ناحية النسب لأنه يوسف بن يعقوب بن إسحاق؛ وإسحاق ابن خليل الله، وخليل الله هو إبراهيم، وهو في ترتيب أولي العزم من الرسل بعد الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة، لأن أفضل أولي العزم الخمسة الرسول صلى الله عليه وسلم ويليه إبراهيم. (فقالوا له: ليس عن هذا نسألك؟ قال: فعن معادن العرب تسألوني؟ قالوا: نعم، قال: خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا). فكان الجواب الأول من جهة الأعمال الصالحة: (أكرمهم أتقاهم)، وكان الجواب الثاني من جهة النسب الصالح: (نبي الله بن نبي الله بن نبي الله بن خليل الله) فلا يمكن أن يكون نسب أعلى من هذا، ونلاحظ-أيها الإخوة- أن هذا النسب ليس عربياً، وكان الجواب الثالث: معادن العرب، وهي أصولهم التي ينتسبون إليها ويتفاخرون بها، فكأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: تسألوني عن الأشياء التي تتفاخرون فيها من النسب والأصل والحسب، فهذا جواب ما تسألونني عنه، فالرسول صلى الله عليه وسلم ربط هذا المفهوم الجاهلي بالمفهوم الإسلامي في قوله: (خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا) فالرسول صلى الله عليه وسلم وضح لهم أنه ليس المقصود في هذا كرم الأصل وكرم النسب فقط؛ بل قال: (خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا) أي أن أشرف الناس من جمع ثلاثة أوصاف: أنه كان شريفاً في الجاهلية، أي: من قبيلة عظيمة، ثم دخل في الإسلام -الشرف الحقيقي- فانضم شرف الإسلام إلى ذلك الشرف الأول، ثم انضم إلى الشرف الأول والثاني الشرف الثالث وهو الفقه في الدين، فمن كان ذا حسب مثل الرسول صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم أفضل الناس حسباً ونسباً، حتى الجاهليون كانوا يعظمون نسب الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم انضم إليه شرف الإسلام، وانضم إليه شرف الفقه في الدين، فمن نال هذه الثلاثة مع بعضها، فقد حاز الشرف كله، والذي يلي هذا في المرتبة من كان شريفاً في الإسلام وفقيهاً، ولم يكن ذا شرف في الجاهلية، فهو يلي الأول في المرتبة، وهو أحسن ممن كان شريفاً في الجاهلية شريفاً في الإسلام ولم يكن عنده فقه في الدين، أي أن: من كان شريفاً في الإسلام وفقيهاً في الإسلام، ولم يكن ذا شرف في الجاهلية هو أحسن من الذي يكون شريفاً في الجاهلية شريفاً في الإسلام ولكن لم يتفقه في الدين. وقد وصف الرسول صلى الله عليه وسلم نعرة الجاهلية بأنها منتنة، فقال: (دعوها فإنها منتنة). ولما جاء أبو هند أحد الصحابة يخطب من بني بياضة ابنتهم ولم يكن حسيباً نسيباً يكافئهم في النسب، رفضوا أن يزوجوه، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لهم: (يا بني بياضة! أنكحوا أبا هند وانكحوا إليه) أي: أعطوه ابنتكم، وتزوجوا منه فأمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بتزويجه وهو غير مكافئهم في النسب، فهو ليس مثلهم، وربما كان أقل منهم في الدرجة وفي النسب، ولكن الإيمان لا يمنع الزواج، وهذا فيه قضاء على الجاهليات التي تكون بين الناس في قضية القبيلي والخضيري، هذا من قبيلة، وهذا له أصل، والناس يضعون العقبات، قد يكون في الرجل دين وخلق وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه) فيضعون هذه العراقيل الجاهلية والعقبات الجاهلية أمام هذا الشاب الذي يريد الزواج، ويمنعونه من الزواج لهذه الحجة التافهة. وقد قال أهل العلم: إن الكفاءة في النسب لا تشترط، فإذا جاءك شاب ذو دين وخلق وهو نسيب، وشاب ذو دين وخلق وهو غير نسيب، فقدم الأول، ولا مانع من هذا، إنما المذموم أن يتقدم إليك شاب يريد الزواج وهو ذو دين وذو خلق، ولكنه ليس نسيباً، أو ليس من قبيلة معروفة أو عائلة لهم مكانة سامية، فتمنعه، وتزوج ابنتك إنساناً فاجراً، أو إنساناً -والعياذ بالله- من أصحاب الكبائر، أو إنساناً عاجزاً، وذاك إنسان تقي وورع، تتركه لأجل أنه ليس نسيباً وتزوج هذا، فهذا- لعمر الله- فيه خراب المجتمعات، إذا صار المقياس في التزويج قضية النسب فقط، فهذا فيه خراب للمجتمعات.

أهل البيت النبوي

أهل البيت النبوي نتعرض هنا لآل الرسول صلى الله عليه وسلم، الرسول صلى الله عليه وسلم له رحم من فاطمة وعلي؛ وهؤلاء آل الرسول صلى الله عليه وسلم ونسله. وهناك كلام طويل للعلماء واختلاف حول من هم آل الرسول صلى الله عليه وسلم بالضبط. ولكن آل الرسول صلى الله عليه وسلم لهم حقٌ علينا، إذا ثبت لديك أن هذا فلان من سلالة الرسول صلى الله عليه وسلم، فيجب عليك أن توقره وتحترمه، لأن له نسباً موصولاً بالرسول صلى الله عليه وسلم، لكن إذا ثبت هذا، فإن الدعاوى في هذا كثيرة، وكل واحد يقول: نحن من أصل نرجع إلى الرسول، نحن نرجع إلى الحسن، ونحن من آل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد يكون منهم كثير دجالون كذابون يريدون أن يصلوا إلى قلوب الناس، ويسرقون منهم التوحيد، ويوقعونهم في شرك الصوفية وغيرها.

مقارنة بين تقي ونسيب

مقارنة بين تقي ونسيب ويحكى أن بعض الشرفاء في بلاد خراسان كان أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك المجتمع وكان فاسقاً ظاهر الفسق، وكان هناك مولىً أسود تقدم في العلم والعمل، فأكب الناس على تعظيمه، فاتفق أن خرج هذا المولى الأسود من بيته إلى المسجد، فاتبعه خلقٌ كثيرٌ يعظمونه ويأخذون عنه العلم، فلقيه الشريف سكراناً، الشريف لقي هذا الرجل في الطريق وهو سكران فكان الناس يطردونه عن طريق المولى هذا الرجل العالم، فغلبهم هذا السكران بقوة وتعلق بأطراف الشيخ، وقال له: يا أسود الحوافر والمشافر! يا كافر ابن كافر! أنا ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذل وأنت تجل! وأهان وأنت تعان! فهم الناس بضربه، فقال الشيخ: لا تفعلوا، هذا محتملٌ منه لجده -فأنا أتنازل عن حقي في السب والشتيمة من أجل جده الرسول صلى الله عليه وسلم- ولكن أيها الشريف! بيضتُ باطني وسودتَ باطنك -يقول: أنا بيضت باطني وأصلحت نيتي وأنت سودت باطنك- فرأوا بياض قلبي فوق سواد وجهي فحسنتُ، ورأوا سواد قلبك فوق بياض وجهك فقبحتَ، وأخذتُ سيرة أبيك -يعني: الرسول صلى الله عليه وسلم- وأنت أخذت سيرة أبي، فرآني الخلق في سيرة أبيك، ورأوك في سيرة أبي، فظنوني ابن أبيك، وظنوك ابن أبي، فعملوا معك ما يعمل مع أبي، وعملوا معي ما يعمل مع أبيك. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (العلماء ورثة الأنبياء) فاحترام العلماء من الواجبات. ولذلك يقول الشاعر: ولا ينفع الأصل من هاشمٍ إذا كانت النفس من باهلة وباهلة: قبيلة من قبائل العرب، وكان فيها أشياء تشينها، منها: أنهم كانوا يغلون عظام الميتة ويشربونها، كان يفعلون أشياء تشين بالنفس، ولذلك كانوا في الجاهلية مذلين من قبل العرب، كانت أذل قبيلة هي باهلة، حتى قيل لأعرابي: أترضى أن تدخل الجنة وأنت من باهلة؟ قال: لا، إلا ألا يعلم أهل الجنة أني من باهلة. وقبيلة باهلة دخلها الإسلام، ودخل الإسلام صحابة كبار من قبيلة باهلة، فمن الخطأ الاعتقاد السيئ في قبيلة باهلة، وهو شيء جاهلي، وحين جاء الإسلام، صار الانتساب للإسلام، فإذا كان من قريش رجل فاجر فهو ذليل، ولو كان من باهلة وهو مسلم تقي، فهو عزيز، ولذلك قال الله عز وجل لنوح عليه السلام: {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:46] مع أنه ولد نوح لصلبه، يقول له: إنه ليس من أهلك، لأنه كفر: {قَالَ سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ} [هود:43] وذكره الله مع الكافرين، فقال الله عز وجل يعلم نوحاً، ويعلم المؤمنين من بعده إلى قيام الساعة: {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:46] فنفى الله عن نوح هذا الولد، وجعله يتبرأ منه: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:46] وكذلك إبراهيم عليه السلام، فكما أنه ما نفعت نبوة نوح ابن نوح، كذلك ما نفعت نبوة إبراهيم أبا إبراهيم، فهذا آزر أبو إبراهيم مات على الكفر، والله عز وجل يوم القيامة- كما في حديث البخاري - معنى الحديث يقول: (يقول إبراهيم لله عز وجل: لا تخزني يوم يبعثون فيقول الله: إني لا أدخل الكفار إلى النار، فإذا هو بذيخ ملتطخ، فيؤخذ بقوائمه، ثم يلقى في النار) أي: يمسخ الله عز وجل آزر هذا بشكل ضبع متلطخ بقذارته، ثم يؤخذ هذا الضبع المتسخ من قوائمه ويوضع في النار، فهذا مصير أبي إبراهيم، يمسخ ضبعاً متسخاً، ثم يؤخذ به ويلقى في النار.

ميزان التقوى وأهميته

ميزان التقوى وأهميته إن جنسية المسلم عقيدته، والمكانة في الدين ليست بالحسب والنسب، وإنما هي بالتقوى، ويجب أن يكون هذا هو المقياس الصحيح والميزان الحق في عقول الناس، ويجب أن نعلم الناس هذا المقياس، لأنه ينبني عليه أشياء كثيرة. والناس الآن يتعاملون فيما بينهم بموازين عجيبة، يقولون: هذا كذا، وهذا كذا؛ مع أنه مسلم، بل قد يكون أفضل منهم علماً وتقوى. أحد الناس أخبرني بقصة أن أحداً من الناس عنده خادم هندي في البيت، ولكنه رجل مسلم يطيع الله عز وجل ويقوم الليل ويعمل الصالحات، وصاحب البيت عاصي، وفي يوم من الأيام خصم صاحب البيت من المعاش على هذا، أو آذاه في شيء، فدعا عليه الهندي، فاستجاب الله دعوته، فالقضية ليست قضية هندي وعربي أو كذا، بل القضية قضية تقوى وإيمان، فكلما ازدادت التقوى وازداد الإيمان، قرب العبد من الله عز وجل، ولذلك يقول الشاعر: فقد رفع الإسلام سلمان فارسٍ وقد وضع الكفر الشريف أبا لهب الإسلام رفع سلمان الفارسي، ووضع الكفر الشريف أبا لهب، فـ أبو لهب شريف، وهو عم الرسول، لكن وضعه الكفر، وذكر عن سلمان أنه كان يقول: أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيسٍ أو تميمِ بعض الناس يقول: أبي كان وكان، فهو يفتخر بعظام ناخرة وعظام بالية، وافتخار الرجل بأبيه كافتخار الكوسج بلحية أخيه، والكوسج: هو الإنسان الذي لا تنبت له لحية، فالذي يفتخر بأبيه افتخاره مثل: افتخار الكوسج بلحية أخيه، وافتخار هذا لا ينفعه. وأعجب شيءٍ إلى عاقلٍ أناسٌ عن الفضل مستأخرة إذا سئلوا ما لهم من علا أشاروا إلى أعظمٍ نخرة إذا قلت له: ماذا صنعت؟ قال: جدي كان كذا وأبي كذا، صحيح ذاك جدك عليه رحمة الله، لكن ماذا فعلت أنت؟ وهل سينجيك أبوك يوم القيامة؟ واشتهر عن علي رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: الناس من جهة التمثيل أكفاء أبوهمُ آدم والأم حواء نفسٌ كنفسٍ وأرواحٌ مشاكلةٌ وأعظمٌ خلقت فيهم وأعضاءُ فإن يكن لهم من أصلهم نسب يفاخرون به فالطين والماء ما الفضل إلا لأهل العلم إنهمُ على الهدى لمن استهدى أدلاءُ وقدر كل امرئٍ ما كان يحسنه وللرجال على الأفعال سيماءُ وضد كل امرئ ما كان يجهلهُ والجاهلون لأهل العلم أعداءُ واختتم الله الآية بقوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13] أي: عليم بنياتكم وعليم بأعمالكم وخبير بما تفعلون، وخبير بمراتبكم عنده؛ ودرجات الجنة ليست بدرجات القبائل؛ وإنما هي بحسب الأعمال والتقوى. وفقني الله وإياكم لأن يجعلنا ممن يتقيه، فيجعلنا من الأكرمين، ويدخلنا جنة النعيم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

الأسئلة

الأسئلة

حكم قراءة الحائض للقرآن ومسها للمصحف

حكم قراءة الحائض للقرآن ومسها للمصحف Q هل يجوز قراءة القرآن للمرأة الحائض؟ A مجرد القراءة من غير مس، رخص فيها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى. والعلماء منهم الشيخ: ابن باز لما سئل عن المرأة التي تدرس أو الطالبة إذا كان عندها اختبار: ماذا تفعل؟ فقال: لهذه الضرورة لا بأس أن تمسك المصحف بخرقة أو بعازل وتقرأ فيه لضرورة الامتحان، أو لضرورة التدريس، ولكن -كما نبه بعض أهل العلم- غلاف القرآن من القرآن، أحدهم يقول: هذا غلاف، فهو عازل، وليس هو كذلك، لأن غلاف القرآن من القرآن، ولذلك يجب أن يأتي بشيء منفصل عن القرآن حتى يجوز للحائض أن تمسك المصحف وأن تقبضه.

حكم إزالة شعر اللحية والشارب للمرأة

حكم إزالة شعر اللحية والشارب للمرأة Q ما هو النمص؟ وهل إزالة شعر الشارب واللحية بالنسبة للمرأة جائزة أم لا، وكذلك شعر القدمين والرجلين؟ A النمص هو إزالة الشعر، والرسول صلى الله عليه وسلم لعن النامصة والمتنمصة، النامصة: التي تزيل شعر حاجب المرأة، الكوافير التي تزيل شعر حاجب المرأة تسمى نامصة. المتنمصة هي: التي تطلب إزالة شعر حاجبها، تذهب إلى هذه المزينة، فتقول لها: اعملي لي كذا، والرسول صلى الله عليه وسلم لعن النامصة والمتنمصة. ونفصل في قضية الشعور: الشعر ثلاثة أقسام: قسم أمر الله بإزالته، وقسم أمر الله بإبقائه، وقسم مسكوت عنه، فالقسم الذي أمر الله بإزالته مثل: شعر العانة وشعر الإبط، فهذا أمر الله بإزالته، وشعر أمر الله بإبقائه كشعر اللحية، فهو شعر أمر الله بإبقائه. ويدخل في الشعر الذي أمر الله بإبقائه شعر الحاجبين للمرأة، وشعر مسكوت عنه كشعر اليدين وشعر الرجلين وشعر الفخذ والصدر والدبر، هذا الشعر مسكوت عنه إلا من ألحق من العلماء إزالة شعر الدبر بحلق العانة، لأن المقصود إزالة ما يمكن أن تتعلق فيه النجاسة، فألحق بعضهم شعر الدبر بشعر العانة في إزالته، فالشعر المسكوت عنه يحل للإنسان أن يبقيه أو يزيله، ليس هناك إشكال. بقي شعر المرأة على وجهها، هل يعتبر إزالة غير شعر الحاجبين تغييراً لخلق الله أم لا يعتبر تغييراً؟ أي: إذا نبت للمرأة شارب، أو لحية -وقد يحدث هذا- فهل يجوز لها أن تزيله أو لا يجوز؟ هذه مسألة جاء فيها أقوال مختلفة لأهل العلم، فمنهم من حرم الأخذ نهائياً مثل ابن جرير الطبري قال: يحرم على المرأة أن تزيل ما اتصل بحاجبيها، يعني: إذا اتصل الحاجبان مع بعض، أو اتصل بشعر الرأس، يحرم عليها أن تزيله، وكذلك الشارب واللحية إذا نبتت، لأن هذا تغيير لخلقة الله سواء أذن الزوج أو لم يأذن. النووي رحمه الله على العكس من ذلك، يقول: يجوز للمرأة أن تحلق أو تزيل شعر شاربها وشعر اللحية إذا نبت لها، بل قد يستحب ذلك إذا أدى إلى الأذى، وابن حجر رحمه الله رأيه مثل رأي النووي، لكن يقيد ذلك بإذن الزوج، أي: لو أذن لها الزوج بإزالة شعر الشارب، أو شعر اللحية، جاز لها ذلك، وإن لم يكن بإذنه فلا يجوز لاحتمال التلبيس، أي: أنها قد تزيله في فترة، فيأتي الزوج ويرى المرأة بهذا الشكل وهي مزيلة للشعر، فيتزوجها ويرغب فيها على أساس هذا الشكل، فبعدما يتزوجها يراها في شكل آخر، فهذا فيه تدليس، ففي هذه الحالة لا تجوز الإزالة، فـ ابن حجر يقيدها بإذن الزوج. الشيخ عبد العزيز يقول: إذا نبت للمرأة شعر اللحية أو الشارب فإنها تأخذه، لأن فيه مثلة، المثلة هي: التشويه، يقول: يجوز لها أن تأخذ هذا الشعر، لأن فيه تشويه وأذى، وقد يتسبب -باحتمال تسعين في المائة- في أن الزوج يكرهها لهذا المنظر، وأصلاً هذا ليس مكان النمو الطبيعي لشعر المرأة، فحلقه ليس من تغيير خلق الله، لأن خلق الله أصلاً أنه ليس لها شعر، هذا رأيه، وأنا أذكر آراء العلماء ولست مرجحاً.

حكم قطع الصلاة لمن دعته أمه

حكم قطع الصلاة لمن دعته أمه Q يقول: ما حكم من قطع صلاته إذا نادته أمه، هل يجوز، أم لا يجوز؟ A بعض العلماء أخذ الحكم من قصة جريج العابد من بني إسرائيل حين نادته أمه، فلم يرد عليها ثلاث مرات، ثم دعت عليه، قالوا: يجوز للإنسان المصلي أن يقطع صلاته إذا نادته أمه أو أبوه في صلاة النافلة، فإذا كنت تصلي أي صلاة غير الفرض، ونادتك أمك أو أبوك، فتجيبهما وتقطع الصلاة، وخصوصاً إذا خشيت أن يغضبوا، وإذا كان المصلي في آخر الصلاة أكملها، لكن إذا كان في أول الصلاة ويخشى غضب أبيه أو أمه إذا تكرر النداء، فعند ذلك يجوز له أن يقطع الصلاة ويذهب ويجيب أباه وأمه، ثم يعود ويبدأ الصلاة من جديد؛ فهذا من حق الوالدين، فقد بلغ حق الوالدين على الأبناء أن أجيز للمصلي الابن أن يقطع الصلاة من أجل إجابة والديه.

حكم انتهاء الصلاة بتسليمة واحدة

حكم انتهاء الصلاة بتسليمة واحدة Q هل يجوز للإمام أن يسلم في انتهاء الصلاة تسليمة واحدة؟ A حديث التسليمة ضعفه بعض أهل العلم، وصححه بعضهم، فلو ثبت عند أحد منكم الحديث واقتنع بصحته، فيجوز له أن يسلم تسليمة واحدة.

التوفيق بين حديث: (اختلاف أمتي رحمة) وقول الله: (وأصلحوا بين أخويكم)

التوفيق بين حديث: (اختلاف أمتي رحمة) وقول الله: (وأصلحوا بين أخويكم) Q كيف نوفق بين ما جاء في سورة الحجرات من أن الإصلاح بين المتخالفين سبب من أسباب الرحمة، وبين ما يروى مما اشتهر بين المسلمين أنه من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (اختلاف أمتي رحمة)؟ A السائل أراد تضعيف الحديث بقوله: (يروى) لأن (يروى) من ألفاظ التضعيف، لكن هذا الحديث ليس بضعيف، بل هو باطل، فإن من أقسام الضعيف حديث باطل، ثم إن التوفيق إنما يكون في الأحاديث الصحيحة إذا تعارضت، وهذا حديث لا يصلح للمعارضة أصلاً، لأنه ليس صحيحاً بل هو باطل، بل الاختلاف شر، والله عز وجل حذر من سبل التفرقة حيث قال: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153] فاتضح من ذلك أن التفرق مذموم في القرآن والسنة.

عود الضمير في قوله تعالى: (وتعزروه وتوقروه وتسبحوه)

عود الضمير في قوله تعالى: (وتعزروه وتوقروه وتسبحوه) Q ذكرت ضمن كلامك آية في توقير الرسول صلى الله عليه وسلم وهذه الآية: {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح:9] فهل هنا الضمير يعود على الله أم على الرسول صلى الله عليه وسلم؟ لأنه في آخر الآية يقول الله عز وجل: {وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفتح:9]؟ A أهل التفسير اختلفوا في تفسير هذه الآية؛ فبعض أهل العلم قالوا: إن الضمير في قوله تعالى: {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} يرجع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، والضمير في قوله تعالى: {وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفتح:9] يرجع إلى الله عز وجل. والتعزير هنا بمعنى النصرة والتأييد.

تغيير المنكر في المدارس

تغيير المنكر في المدارس Q في إحدى المدارس المتوسطة، وفي الصف الذي أنا أدرس فيه تحدث بعض التصرفات الشاذة لبعض الطلبة في الصف عند خروج المدرس، وهذه الأعمال لا ترضي الله، وأنا أتألم عندما أرى هذا الشيء، فهل أخبر عنهم من يهمه الأمر، أم لا؟ A طبعاً يا أخي: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه) فعليك أن تنصحهم وتحذرهم بأنك ستخبر الإدارة، فإن لم يرجعوا عن تصرفهم، فلتذهب إلى من يوثق بدينه من المدرسين، لأنه قد تخبر أحد المدرسين فلا يفعل شيئاً، فتحر من يوثق بعلمه ودينه من المدرسين أو من الإدارة، وليكونوا من الذين في قلوبهم غيرة على الإسلام والمسلمين وعلى المنكرات، وتخبره بهذا.

كفارة التائب من تعليق التمائم

كفارة التائب من تعليق التمائم Q هل على التمائم كفارة؟ A إذا علق أحد الناس تميمة، ثم تاب فما عليه كفارة، إنما الكفارة هي التوبة إلى الله عز وجل منها، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من تعلق تميمةً فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعةً فلا ودع الله له). وهذا تحذير شديد من تعليق التمائم، ولو على الأطفال الصغار، ولو كانت من القرآن في أصح أقوال أهل العلم، لأنها تؤدي إلى امتهان القرآن عند دخول الخلاء، ولأنها تفضي إلى تعليق ما ليس بقرآن، ربما علق أحدهم دعاء، أو آية الكرسي، لكن بعضهم يعلق دعاء فيه توسل بالصالحين، وهكذا تتطور القضية.

ترك الجدال إذا لم يكن فيه فائدة

ترك الجدال إذا لم يكن فيه فائدة Q كيف تجادل الذي يجادلك في السنة ويقول: إنها بدعة، ويقول لك: قال الله وقال رسوله، أو قال الشيخ على الأقل؟ A { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] فإذا صار الجدال عقيماً لا ينفع، فالسكوت في هذه الحالة هو المطلوب.

الحكمة في الدعوة

الحكمة في الدعوة Q تقول السائلة: إن لها أختاً ملتزمة، ولكن عندما أقول لها: افعلي كذا، تقول: نعم، لكن بغير رضا، فماذا أفعل لها؟ A الإنسان في نفسه كبرياء، إلا من عصم الله فإنه لا ينزعج، ولا بد من الحكمة في الدعوة، ومن الدعوة إلى الله الموعظة الحسنة والأسلوب الحسن حتى لو كان الشيء صحيحاً، فإنك قد تنفر الناس بأسلوبك الخاطئ، وكثيراً ما يحدث هذا، يكون المدعو إليه شيئاً حسناً، لكن طريقة الدعوة تجعل الناس ينفرون من هذا الكلام الذي تقوله.

قصة محاولة نبش القبر النبوي

قصة محاولة نبش القبر النبوي Q يقول: سمعت أن قبر الرسول صلى الله عليه وسلم قد حاول بعض الناس نبشه في عهد بعض الخلفاء، أرجو أن تذكر هذه القصة؟ A أنا لا أعرف هذه القصة، لكن ذكر ابن تيمية رحمه الله في كتاب اقتضاء الصراط المستقيم أن بعض الناس في عهد بني أمية بنوا على قبر الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة، فـ عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد لما تولى الخلافة أزال هذه الأشياء من فوق القبر، أو قال: إنها لما أزيلت، بدت قدم ففزع عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه، فقال له عروة بن الزبير: لا تجزع يا أمير المؤمنين، هذه قدم عمر بن الخطاب.

درجة حديث (مطل الغني ظلم)

درجة حديث (مطل الغني ظلم) Q ما رأيك في حديث: (لي الواجد يحل عرضه وعقوبته)؟ A في المرة الماضية قلنا: أنه ضعيف، وهو حديث حسن في صحيح الجامع.

كتب ينصح بقراءتها

كتب ينصح بقراءتها Q أريد أهم كتب ابن القيم رحمه الله؟ A كتب ابن القيم كلها طيبة وفيها فوائد كثيرة، ولكن من الكتب الطيبة جداً كتاب الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، وكتاب: زاد المعاد، ولطلبة العلم كتاب: مفتاح دار السعادة.

حكم دخول المرأة المسجد حائضا

حكم دخول المرأة المسجد حائضاً Q ما حكم من تدخل المسجد لحضور حلقة العلم، وبها الدورة الشهرية؟ هل عليها إثم؟ وسمعت من بعض المدرسات أنه يجوز. A لا يجوز دخول الحائض إلى المسجد، وذكره الشيخ عبد العزيز قال: لا بأس أن تجلس خارج المسجد وتسمع الدرس أو المحاضرة.

حكم تأخير صلاة العشاء

حكم تأخير صلاة العشاء Q يقول: ما حكم تأخير صلاة العشاء إلى التاسعة أو العاشرة مساءً على سبيل الأفضلية؟ وما حكم جهر المرأة بالصلاة إذا كانت في بيتها لوحدها ولا يسمعها أي رجل؟ A كان الرسول صلى الله عليه وسلم يؤخر بعض الصلوات، ويعجل بعض الصلوات، فمن الصلوات التي كان يؤخرها صلاة الظهر وصلاة العشاء، فيقول: (أبردوا بالصلاة) أي: صلاة الظهر حتى تميل الشمس، وذلك من شدة الحر، وأخر صلاة العشاء مرةً إلى نصف الليل، وبين الحكم في تأخيرها، لكن الآن في المساجد الصلوات مؤقتة، ويصعب أن تؤخر الصلاة إلى نصف الليل، أو إلى قرب نصف الليل، أما بالنسبة للمرأة التي لا تجب عليها صلاة الجماعة، فلا بأس أن تؤخر صلاة العشاء، ويكون ذلك أكثر أجراً لها. أما حكم جهر المرأة، فالمرأة مثل الرجل في الصلوات الجهرية والسرية، وليس هناك تخصيص، فيجوز لها أن تجهر في الجهرية وتسر في السرية، وذلك عند عدم سماع الأجانب لها.

حكم خروج الرجل بعد الأذان من المسجد

حكم خروج الرجل بعد الأذان من المسجد Q إذا دخل المسلم المسجد هل يجوز أن يخرج منه قبل أداء صلاة الفريضة؟ A حديث أبي هريرة في صحيح البخاري: إنه رأى رجلاً خرج بعد الأذان، فقال: (أما هذا فقد عصى أبا القاسم) لذلك لا يجوز للإنسان أن يخرج بعد الأذان، ولو دخل المسجد وكان المؤذن قد أذن، فلا يجوز له أن يخرج إلا أن يكره على الخروج أو لضرورة.

نصيحة لمن ينام عن صلاة الفجر

نصيحة لمن ينام عن صلاة الفجر Q يقول: إني لا أقوم الفجر، فماذا أفعل؟ A قضية القيام لصلاة الفجر مشكلة، لكن من الأسباب، فنرجو أن يسامحه الله عز وجل، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، صلاة الفجر مع الجماعة في المسجد واجبة، وما لا يقوم الواجب إلا به فهو واجب، فلو كان القيام لصلاة الفجر لا يمكن أن يتم إلا إذا نمت، فيجب عليك أن تنام مبكراً، وتأثم إذا نمت متأخراً، إذا كنت تعلم أنك لو نمت متأخراً فلن تقوم إلى الصلاة، لذا فإنك تأثم لو نمت متأخراً، حتى ولو كان ذلك السهر في طلب العلم، وعليك أن تعمل بالأسباب. مثلاً: توصي أحداً من الجيران أن يدق عليك بالهاتف، وهناك الآن خدمة الساعة المنبهة، فلا بد من اتخاذ الأسباب، فإذا اتخذ الأسباب ولم يقم إلى الصلاة، فالله عز وجل لا يعاقب النائم.

معنى كلمة: الوحي

معنى كلمة: الوحي Q وردت كلمة: الوحي فما المقصود؟ A المقصود: القرآن والسنة، لأن الحديث وحي من الله، الشافعي رحمه الله بين أن الوحي هو: القرآن والسنة.

إجزاء غسل الجنابة عن الوضوء

إجزاء غسل الجنابة عن الوضوء Q هل يجزئ غسل الجنابة عن الوضوء؟ A نعم.

خروج الريح لا يوجب الاستنجاء

خروج الريح لا يوجب الاستنجاء Q إذا خرج الإنسان منه ريح فهل يجب عليه الاستنجاء؟ A لا، خروج الريح لا يوجب الغسل ولا الاستنجاء.

مشكلة ثوران الشهوة عند الشباب

مشكلة ثوران الشهوة عند الشباب Q أنا عندما تأتي شهوتي أفعل شيئاً فما حكم ذلك؟ A قد يشير السائل إلى استخدام العادة السرية، والأرجح من كلام العلم أنها محرمة لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المعارج:29 - 31]. ولا شك أن ممارستها تسبب أضراراً، وينصح كل شاب بالزواج، بل قد يجب عليه وجوباً. وإن كان غير مستطيع للزواج، فعليه أن يذهب مع الدعاة للعلم والتعلم والدعوة حتى لا يجد لحظة فراغ، فلا يستلقي على السرير إلا وينام من التعب، وعليه بالأعمال الصالحة فهي من أعظم العلاجات.

بم تدرك صلاة الجماعة؟

بم تدرك صلاة الجماعة؟ Q يقول: إذا أدرك المصلي التسليمة الثانية، فهل أدرك الصلاة؟ A الصلاة لا تدرك إلا بالركوع، أي أن أجر صلاة الجماعة ما يدرك إلا إذا أدرك الركوع، والتسليمة الثانية سنة والأولى فرض على التحقيق، فإذا سلم الإنسان التسليمة الأولى، حل من الصلاة لأن تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم، فالتسليمة الأولى تعتبر التسليم، ويؤيد هذا القول الأحاديث الواردة في التسليمة الواحدة، فلذلك من أدرك التسليمة الثانية لا يعتبر من الذين أدركوا الصلاة، فإذا دخلت المسجد ووصلت الصف، وسلم الإمام التسليمة الأولى فلا تجلس ولا تصل معهم، بل تنتظر إلى الجماعة التي بعدها.

حكم لبس السلاسل الفضية والساعات المزينة للرجال

حكم لبس السلاسل الفضية والساعات المزينة للرجال Q ما حكم لبس السلاسل للرجال؟ وإن لم تكن من ذهب؟ A يعني: لو كانت من فضة. أجاب على هذا الشيخ عبد العزيز بن باز جزاه الله خيراً، يقول: هذا ليس بمعتاد من فعل الرجال، ولذلك لا يجوز وفيه تشبه بالتزين، وإنما يكون التزين بهذه الأشياء للنساء. ويستثنى من هذا الحكم الخاتم لورود النص به، وأما الساعة فيجب أن ندقق فيها، والمفروض أن يكون الغرض من لبس الرجل للساعة هو المعرفة للوقت، لا لشيء آخر. فإذا اشترى أحد الناس ساعة جميلة ومزخرفة، فهل يجوز له لبسها أم لا؟ إذا كان لبسه لها للزينة، وليس لمعرفة الوقت، فعند ذلك يكون هذا فيه تشبه بالنساء، وهذا حكمه معروف. فلذلك ينبغي للرجال أن يتنبهوا لهذا، والمسألة تحتاج إلى زيادة تفصيل.

درجة حديث (من أدرك تكبيرة الإحرام أربعين يوما)

درجة حديث (من أدرك تكبيرة الإحرام أربعين يوماً) Q يقول: ما مدى صحة حديث: (من أدرك تكبيرة الإحرام أربعين يوماً، كتبت له براءتان: براءة من النفاق، وبراءة من الشرك)؟ A الحديث هذا حسن كما في صحيح الجامع: (من أدرك تكبيرة الإحرام أربعين يوماً، كتبت له براءتان: براءة من النفاق، وبراءة من الشرك) أي: من أدركها أربعين يوماً في الصلوات المفروضة المتتالية.

شكوى الصحابة لا تنقص من قدرهم

شكوى الصحابة لا تنقص من قدرهم Q كأني سمعتك تقول: إن بعض الصحابة قد سخر بعضهم من بعض، فإذا كان الأمر كذلك، فإن ذلك ينافي رضوان الله عليهم؟ A أنا لا أعتقد ذلك، فقد ثبت أن أبا ذر رضي الله عنه وأرضاه قال: يا بن السوداء، لبعض الصحابة، فاشتكى منه، فالصحابة من البشر، فهذا لا ينقص من قدرهم شيئاً.

أحاديث الآحاد هل تفيد القطع؟

أحاديث الآحاد هل تفيد القطع؟ Q ذكرت أن أحاديث الآحاد ظنية لا يقينية، فهل هذا يعني عدم الجزم بها؟ A إنما قلت: بعض أهل العلم الذي قالوا: إن أحاديث الآحاد ظنية يخالفهم علماء آخرون، لكن أنا بنفسي أوجه قول هؤلاء، وأوضح ما هو مقصودهم بالفعل، إذا قالوا: إن أحاديث الآحاد تفيد الظن لا القطع، فإنهم لا يعنون أنه لا يعمل به، أنا دافعت عمن يقول بهذا القول أنه لا يعني أنه لا يعمل به، وإذا وجد الحديث الصحيح المعروف فإنه يجب العمل به. أما من حيث المسألة فهل حديث الآحاد يفيد الظن أو القطع؟ فحديث الآحاد قسمان: قسم اتفقت عليه الأمة واشتهر واستفاض، كما في أحاديث الآحاد التي في الصحيحين، فهي تفيد القطع، لأن الأمة تلقت الصحيحين بالقبول. أما الأحاديث الأخرى التي صححت الآن، وما استفاض عمل الأئمة فيها، فهي تفيد الظن، بعضهم يصححها، وبعضهم يضعفها.

علامة الأخوة في الله

علامة الأخوة في الله Q كيف أعرف أن أُخُوَّتي مع أَخي أُخُوَّة في الله؟ A هذا سؤال مهم أيها الإخوة، لأن بعض الناس يؤاخون أشخاصاً، لكن أخوتهم ليست أخوة في الله. إذا أردت أن تعرف هل هذه الأخوة في الله أم لا، فاسأل نفسك: لماذا أنا آخيت فلاناً؟ هل آخيته لإيمانه وتقواه، ولأعمال صالحة؛ لخشوعه في الصلاة، ولطلبه للعلم، ولدعوته إلى الله عز وجل، أم أنك آخيته لظرافته، أو شكله، أو خفة دمه؟ فإذا كان شيء من الطرف الثاني هذا، فاعلم أنك على خطأ.

كيفية معاملة أهل الكفر

كيفية معاملة أهل الكفر Q كيف تكون معاملة من ينتسب إلى الباطنية، أو إلى مذاهب خارجة عن الإسلام؟ A أيها الإخوة إن قضية الولاء والبراء، الولاء بيننا وبين المؤمنين والبراء بيننا وبين الكفار، تعني أن الإنسان لا يتودد إليهم، ولا يبدي لهم البشاشة بلقياهم، ولا يتحبب إليهم، ويقطع الصلة بيننا وبينهم، لأنهم قطعوا حبل الله، لكن هذا لا يعني الإساءة إليهم، وأن أسبهم في المجامع وألعنهم بما فيهم، فإن فيه مفاسد أكبر من السكوت، ولذلك يقول الله عز وجل: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:108] فسب الكفار جائز لا حرج فيه، لكن إذا أدى سب الكفار إلى مفسدة أكبر مثل: أن يسبوا الله، أو يسبوا الدين أو النبي، فعند ذلك لا يجوز سبهم، فلا بد أن نفهم أن عدم الإحسان لا يعني الإساءة، وأنه إذا توفرت مفاسد كبيرة على شتمك له، فلا تسبه، ولا تشتمه، فالإنسان المسلم الداعية إلى الله حكيم في أفعاله، والحكمة تقتضي أحياناً إخفاء العداوة.

ضرب الطبل في الشعر

ضرب الطبل في الشعر Q ما هو حكم ضرب الطبول في الشِّعر؟ A ورد النهي الكوبة في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، والكوبة هي الطبل، فلا يجوز.

مع ملتزم مبتدئ

مع ملتزم مبتدئ Q لدي شخص بدأ بالالتزام، فما هي المراحل التي يجب أن يتبعها باستمرار؟ A هذا يحتاج إلى جواب طويل، لكن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها ودرء المفاسد وتقليلها، فإذا كان هناك إنسان بدأ في الالتزام، فاحرص على جلب المصالح إليه، وتكثيرها، ودرء المفاسد عنه وتقليلها، فعليك ببناء الإيمان في نفسه وإبعاده عن الأجواء السامة وإزالة الشرك والجاهلية من قلبه.

صلة الأرحام والمحاذير الموجودة

صلة الأرحام والمحاذير الموجودة Q الذي يريد أن يصل أقاربه، ولكنهم كثرة، فماذا يفعل إذا كان خائفاً من الفتنة؟ A إذا تبين أنه أراد أن يزور رحمه ويصلهم، وعندهم بنات، وهو لا يمكن أن يخالطهم حتى يجلسن معه، فهذا في الشريعة لا يجوز، لا يعني الأمر بصلة الرحم أن يتعدى حدود الله وينتهك محارم الله عز وجل. ويمكنه أن يتصل بهم على الهاتف، ويبلغهم السلام عن طريق فلان وفلان، وذلك إذا لم تتمكن من دخول البيت بطريقة شرعية، وإذا دخلت تعرضت للفواحش، فهناك وسائل أخرى لصلة الرحم، إذ ليست الصلة مقصورة فقط على الزيارة، فهناك الاتصال والمراسلة وإرسال السلام مع الناس، وإهداء الهدايا إليهم والطعام فكل ذلك من الصلة والإحسان إليهم، أما أن تجلس إذا دخلت عندهم مع ابنة عم أو ابنة خال متكشفة ومتبرجة، فهذا ليس من صلة رحم.

مراعاة المصالح الشرعية في جرح الأشخاص

مراعاة المصالح الشرعية في جرح الأشخاص Q أحياناً يطلب مني أن أتكلم عن شخص، والكلام الذي سأقوله قد يكون فيه سلبيات هذا الشخص، فهل يجوز لي أن أتكلم؟ A حدود الكلام متعلقة بالمصلحة الشرعية، فإذا كان هناك مصلحة شرعية في كلامك، فلتتكلم، إذا لم يكن هناك مصلحة شرعية، فلا تتكلم. وإذا تكلمت عن فلان، فتكلم فقط في الجانب الذي يريده السائل. فلو أن إنساناً مثلاً سألك عن فلان: أريد أن أشغله عندي في المعمل، أو في الدكان فتكلم فيما يتعلق بأمانته وبراعته في العمل، ولا تقل: إن هذا الرجل له علاقة بفتاة، فإنه لا دخل لهذه القضية بهذه، أنت فقط تتكلم جرحاً وتعديلاً في الجانب الذي يتعلق به السؤال. أحد الناس سألك وقال لك: أنا أريد أزوج ابنتي على فلان، فبماذا تنصح؟ فتكلم له عن الجانب الذي يخص الزواج؛ دينه وخلقه، بعض الناس يتكلم ويعدد كل السلبيات وكل الأمور التي لا تهم، لا بد من مراعاة المصالح الشرعية. رجل أراد أن يزوج ابنته لرجل كان فاجراً ثم تاب إلى الله عز وجل، فلا تقل له: كان يفعل، وكان يعمل، فقد تغيرت حاله وتاب إلى الله عز وجل.

هل تعلم العلوم الطبيعية جهاد؟

هل تعلم العلوم الطبيعية جهاد؟ Q هل تعلم العلوم الطبيعية الدنيوية جهاد في سبيل الله؟ A العلم الدنيوي مثل الرياضيات والفيزياء، الشيخ ابن باز ينبه إلى قضية كل الناس يخطئ فيها فيقول: كل الآيات والأحاديث التي تتكلم عن العلم مثل قوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} [آل عمران:18] إنما يقصد بها العلم الشرعي. إذا وجد حسن النية في العلوم الدنيوية وكان فيها منفعة للمسلمين فهي جهاد في سبيل الله.

حكم قول المدرسة للطالبة: يا شقية! يا كسلانة!

حكم قول المدرسة للطالبة: يا شقية! يا كسلانة! Q هل تأثم المعلمة عندما تقول للطالبة: يا شقية يا كسلانة؟ A الشيخ عبد الرزاق عفيفي عضو الإفتاء، يقول: هذا يعتمد على النية، فإذا كان قصد المعلمة من هذا الكلام تحفيز الطالبة من أجل الدراسة جاز، أما إذا كان قصدها الاستهزاء والسخرية، فذلك لا يجوز. بل لو نظرت إلى شكل فلان وحدثتك نفسك عنه بسخرية واستهزاء، لكنك ما أظهرت هذا الكلام فإن ذلك يعتبر استهزاءً وسخرية. يقول الشيخ عبد الرزاق: ولا يجوز أن تسخر وتستهزئ لا في نفسك ولا في ظاهرك. نكتفي بهذا القدر من الأجوبة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد. سبحانك الله وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

ابن القيم العالم الرباني

ابن القيم العالم الرباني علماء الأمة هم وجهها الذي به تقابل الأجنبي، وهم المنارة التي تعتز بها على الخارجي، وقد هيأ الله لهذه الأمة علماء حفظ بهم الدين، وأحيا بهم سنة سيد المرسلين، فكان الحديث عنهم جزءاً من العلم، والعلم بأحوالهم حافزاً إلى الطلب، ومن هؤلاء العلماء العلامة ابن القيم، فتمتع بالحديث عنه وعن علمه وسيرته، كما تتمتع بالقراءة في كتبه العذبة

نبذة مختصرة عن سيرة ابن القيم الشخصية

نبذة مختصرة عن سيرة ابن القيم الشخصية إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أيها الإخوة! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته في هذه الليلة سنتكلم عن ابن القيم -رحمه الله تعالى- علمٌ من أعلام المسلمين الذي كان له فضلٌ عظيمٌ في نصرة هذا الدين، وفي نشر سنة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، وهو الذي تكلم وناظر وألف في تبيانه للإسلام، حتى غدت مؤلفاته منابع خير يتلقى منها من بعده، فأصبح الناس عالةً على كتبه، وهذا الرجل مغموط الحق عند الكثيرين، مجهول الحال عند أغلب المسلمين، ولعلنا في هذه النبذة التي نقدمها عن حياته ومنهجه وأسلوبه نكون قد قمنا بشيء بسيط من الواجب نحو هذا العلم الضخم من أعلام المسلمين. أما ابن القيم -رحمه الله تعالى- فكنيته أبو عبد الله شمس الدين محمد بن أيوب بن سعد بن حريز بن مكي الزرعي الدمشقي المشتهر بـ ابن قيم الجوزية رحمه الله. ولد في السابع من شهر صفر من سنة 691هـ، وذكر بعضهم أن ولادته كانت بـ دمشق، وكان والده -رحمه الله- ناظراً ومشرفاً على مدرسة الجوزية التي أنشأها وأوقفها -رحمه الله تعالى- ولأن أباه كان مشرفاً على هذه المدرسة، فكان المشرف يسمى قيماً، فاشتهر ابنه بـ ابن القيم -رحمه الله-؛ ولذلك يقال على سبيل الاختصار: ابن القيم، وإلا فإن اسمه، محمد، وكنيته أبو عبد الله، ولقبه شمس الدين، ويخطئ من يقول: ابن القيم الجوزية، وإنما الصحيح ابن قيم الجوزية، أو اختصاراً ابن القيم، وخلط كثيرون بينه وبين ابن الجوزي، وترتب على هذا الخلط إشكالات، منها: أن نسبت كتبٌ لـ ابن القيم هو منها بريء، مثل: كتاب دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه وهو كتابٌ منحرفٌ في العقيدة، وكذلك كتاب أخبار النساء لـ ابن الجوزي، وكان أبوه -رحمه الله- وأخوه وابن أخيه من المشتهرين بالعلم والفضل. نشأ -رحمه الله- في جوٍ علمي، وله من الأولاد عبد الله الذي ولد سنة 723هـ، وكانت وفاته سنة 756هـ، وكان ولداً مفرطاً في الذكاء، فقد حفظ سورة الأعراف في يومين، وصلى بالقرآن سنة 731هـ، وأثنى عليه أهل العلم بأمورٍ كثيرة منها: غيرته في أمر الله، وذكر ابن كثير -رحمه الله- أن هذا الولد قد أبطل بدعة الوقيد بجامع دمشق في ليلة النصف من شعبان، حيث كانت توقد نيران في ليلة النصف من شعبان وهي بدعة، أبطلها ولد ابن القيم -رحمه الله- وله ولدٌ آخر اسمه إبراهيم كان علامةً نحوياً فقيهاً شرح الألفية.

حياة ابن القيم العلمية والعملية

حياة ابن القيم العلمية والعملية برع ابن القيم -رحمه الله- في علوم كثيرة لا تكاد تحصى، وهي سائر علوم الشريعة، مثل: التوحيد، والتفسير، والحديث، والفقه، والأصول، والفرائض، واللغة، والنحو، وكان من المتفننين، وتفقه في المذهب، وبرع وأفتى ولازم شيخ الإسلام ابن تيمية، وكان عارفاً في التفسير لا يجارى، وسمع الحديث، واشتغل بالعلم، وقال عنه الذهبي -رحمه الله-: "عني بالحديث ومتونه ورجاله، وكان يشتغل بالفقه ويجيد تقريره". وقال ابن ناصر الدين -رحمه الله-: "كان ذا فنون في العلوم". وقال ابن حجر: كان جريء الجنان، واسع العلم، عارفاً بالخلاف ومذاهب السلف. وقد رحل رحلات لكنها ليست بالكثيرة، فمثلاً رحل إلى مصر، فقال في بعض كتبه: وقد جرت لي مناظرة بـ مصر مع أكبر من يشير إليه اليهود بالعلم والرياسة، والسبب الذي لم يشتهر من أجله ابن القيم في الرحلة أنه قد نشأ بمدينة دمشق، وكانت عامرةً بالعلماء، وبالمكتبات، وبالمدارس، وأتى إليها طلبة العلم والعلماء من كل حدب وصوب؛ فلم يعد هناك داعٍ كبيرٍ للرحلة، وخيركم من يأتيه رزقه عند عتبة بابه.

أسفار ابن القيم وتأليفه للكتب فيها

أسفار ابن القيم وتأليفه للكتب فيها وقد حج -رحمه الله- حجات كثيرة، وجاور في بيت الله الحرام، وقال عنه تلميذه ابن رجب: "حج مرات كثيرة، وجاور بـ مكة، وكان أهل مكة يذكرون عنه من شدة العبادة وكثرة الطواف أمراً يتعجب منه وقد ذكر رحمه الله في بعض كتبه أشياء مما حصلت له في مكة، فقال في قصة تأليف كتابه مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة قال في مقدمته: "وكان هذا من بعض النزل والتحف التي فتح الله بها علي حين انقطاعي إليه عند بيته، وإلقاء نفسي ببابه مسكيناً ذليلاً، وتعرضي لنفحاته في بيته، وحوله بكرة وأصيلاً" فكان هذا الكتاب قد ألفه في مكة -رحمه الله تعالى. وقال عن استشفائه بماء زمزم: "لقد أصابني أيام مقامي بـ مكة أسقامٌ مختلفة، ولا طبيب، ولا أدوية- كما في غيرها من المدن- فكنت أستشفي بالعسل، وماء زمزم، ورأيت فيها من الشفاء أمراً عجيباً". وقال في مدارج السالكين عندما تكلم عن موضوع الرقى: لقد جربت في ذلك من نفسي وغيري أموراً عجيبةً، ولا سيما في المقام بـ مكة، فإنه كان يعرض لي آلاماً مزعجةً؛ بحيث تكاد تنقطع مني الحركة، وذلك في أثناء الطواف وغيره، فأبادر إلى قراءة الفاتحة، وأمسح بها على محل الألم، فكأنه حصاة تسقط، جربت ذلك مراراً عديدةً، وكنت آخذ قدحاً من ماء زمزم، فأقرأ عليه الفاتحة مراراً فأشربه، فأجد به من النفع والقوة ما لم أعهد مثله في الدواء، والأمر أعظم من ذلك، ولكن بحسب الإيمان وصحة اليقين، والله أعلم. وهذا السفر مع بعده عن الأولاد والوطن، لم يكن يشغله عن طلب العلم والتأليف والنظر، فهو وإن سافر فإنه لا يحمل من الزاد إلا أمراً يسيراً، وكانت مكتبته في صدره رحمه الله، ومن العجيب أنه قد ألف كتباً حال سفره منها: مفتاح دار السعادة، وروضة المحبين، وزاد المعاد، وبدائع الفوائد، وتهذيب سنن أبي داود ألفها في حال السفر، وليس في حال الإقامة، وكان -رحمه الله- مغرماً بجمع الكتب، فإنك تجد -مثلاً- في كتابه اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية قد رجع إلى أكثر من مائة كتاب، وفي أحكام أهل الذمة ذكر نحو ثلاثين كتاباً، وكذا في كتابه الروح، وهذا يعني أنه كان عنده مراجع كثيرة، وكان يهتم بكتبه، وقد حصل عنده من الغرام بتحصيل الكتب أمراً عظيماً؛ حتى أنه جمع منها ما لم يجمع غيره، وحصل منها ما لم يحصل لغيره؛ حتى كان بعض أولاده من الذين أتوا من بعده يبيعون منها بعد موته دهراً طويلاً غير ما أبقوه لأنفسهم للإفادة منه، وكذلك كان ابن أخيه قد صار عنده شيئاً من مكتبته، وكان لا يبخل بإعارتها.

أعمال ابن القيم رحمه الله

أعمال ابن القيم رحمه الله تولى ابن القيم -رحمه الله- أعمالاً عديدةً، منها: الإمامة في المدرسة الجوزية، والتدريس في المدرسة الصدرية، والفتوى، والتأليف. وقد تعرض -رحمه الله- للسجن بسبب فتاوي رأى أن الحق فيها، مثل: مسألة طلاق الثلاث بلفظ واحد، ومثل: إنكار شد الرحال إلى قبر الخليل؛ حيث يقول ابن رجب -رحمه الله-: وقد حبس مدة لإنكاره شد الرحال إلى قبر الخليل؛ مع أن شد الرحال إلى قبر الخليل من البدع المحدثة، ولا يشرع شد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى، وكل شد رحل لزيارة مكان عبادة، أو قبر من القبور، أو مسجد من المساجد، فإنه بدعةٌ من البدع، فما بالك بما يحدث اليوم من بعض الناس بزيارة أماكن المغضوب عليهم في رحلات سياحية، مثل: مدائن صالح التي أهلك الله قومها ومن كان فيها، والنبي عليه الصلاة والسلام لما مرَّ بها مرَّ مطأطئ الرأس، حزيناً، مسرعاً، خائفاً من عذاب الله، واليوم يشدون الرحلات السياحية إلى تلك الأماكن، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

أخلاق ابن القيم وتواضعه

أخلاق ابن القيم وتواضعه وأما عن أخلاق ابن القيم -رحمه الله- فقال ابن كثير: كان حسن القراءة والخلق، كثير التوجه، لا يحسد أحداً ولا يؤذيه، ولا يستعيبه، ولا يحقد على أحد، وبالجملة كان قليل النظير في مجموعه، وأموره، وأحواله، والغالب عليه الخير والأخلاق الفاضلة؛ ولهذا الطبع المتأصل في نفسه تجده يقول -مثلاً- في بعض كتبه: من أساء إليك، ثم جاء يعتذر عن إساءته، فإن التواضع يوجب عليك قبول معذرته حقاً كانت أو باطلاً، وتكل سريرته إلى الله عز وجل- كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنافقين. وأما عن تواضعه، فإنه كان أمراً عجيباً، وقد ذكر العلامة الصفدي -رحمه الله تعالى- ميميته الرقيقة التي يتحدث فيها ابن القيم عن هضمه لنفسه، ويفي بتواضعه من خلال أبيات تلك القصيدة، فيقول: بُني أبي بكرٍ كثيرٌ ذنوبه فليس على من نال من عرضه إثمُ بُني أبي بكرٍ جهولٌ بنفسه جهولٌ بأمر الله أنَّى له العلمُ بُني أبي بكرٍ غدا متصدراً يعلم علماً وهو ليس له علمُ بُني أبي بكرٍ غدا متمنياً وصال المعالي والذنوب له همَّ بُني أبي بكرٍ يروم مترقياً إذا جنت المأوى وليس له عزمُ بُني أبي بكرٍ لقد خاب سعيه إذا لم يكن في الصالحات له سهمُ

عبادة ابن القيم وزهده

عبادة ابن القيم وزهده وأما عن عبادته وزهده، فإن من يقرأ مؤلفاته -رحمه الله- يخرج بدلالة واضحة، وهو: أنه كان عنده من عمارة القلب باليقين، والافتقار إلى الله عز وجل، والعبودية أمراً عظيماً، وتجد في ثنايا كلامه من إنابته إلى ربه، والحاجة إليه عز وجل ثروةً طائلةً، فكان من العلماء العاملين الذين كانوا من أهل الله وخاصته. قال ابن رجب رحمه الله: وكان -رحمه الله- ذا عبادة وتهجد وطول صلاة إلى الغاية الوسطى، وتأله ولهج بالذكر وشغف بالمحبة والإنابة والاستغفار، والافتقار إلى الله، والاطراح بين يديه على عتبة عبوديته، لم أشاهد مثله في ذلك، ولا رأيت أوسع منه علماً، ولا أعرف بمعاني القرآن والسنة منه، وليس هو المعصوم، ولكن لم أر في معناه مثله، ولقد امتحن وأوذي مرات، وحبس مع الشيخ تقي الدين في المرة الأخيرة في القلعة منفرداً عنه، لم يفرج عنه إلا بعد موت شيخه ابن تيمية -رحمه الله-، وكان في مدة حبسه منشغلاً بتلاوة القرآن والتدبر والتفكير، ففتح الله عليه من ذلك خيراً كثيراً. وحج مرات وجاور بـ مكة، وكان أهل مكة يذكرون عنه من شدة العبادة وكثرة الطواف أمراً يتعجب منه. وقال تلميذه ابن كثير: لا أعرف في هذا العالم في زماننا أكثر عبادة منه، وكان له طريقةً في الصلاة يطيلها جداً، ويمد ركوعها وسجودها، ويلومه كثير من أصحابه في بعض الأحيان فلا يرجع، ولا ينزع عن ذلك رحمه الله تعالى. وقال ابن حجر: كان إذا صلى الصبح، جلس مكانه يذكر الله حتى يتعالى النهار، وكان يقول: هذه غدوتي لو لم أقعدها سقطت قواي، وكان يقول: بالصبر والفقه تنال الإمامة بالدين.

ابن القيم وشيخه ابن تيمية

ابن القيم وشيخه ابن تيمية لقد حدثت حادثة في حياته -رحمه الله تعالى- كان لها أثراً عظيماً، وهي: التقاؤه بشيخ الإسلام أحمد بن عبد السلام ابن تيمية -رحمهما الله تعالى- لقيه في سنة 712هـ، وهي السنة التي عاد فيها الشيخ ابن تيمية من مصر إلى دمشق، ولازمه حتى مات ابن تيمية رحمه الله سنة 728هـ، وهذا يعني أنه لازمه ستة عشر عاماً.

ابن القيم قبل لقائه بابن تيمية

ابن القيم قبل لقائه بابن تيمية ذكر ابن القيم -رحمه الله- أنه كان في مبدأ أمره مفتوناً بعقيدة الأشاعرة في الصفات، وبكلام بعض النفاة، وكان له سقطات، فلما خالط شيخ الإسلام، اهتدى على يديه، ولذلك يقول ابن القيم في نونيته: يا قوم والله العظيم نصيحة من مشفقٍ وأخٍ لكم معوانِ جربت هذا كله ووقعت في تلك الشباك وكنت ذا طيرانِ حتى أتاح لي الإله بفضله من ليس تجزيه يدي ولساني فتىً أتى من أرض حران فيا أهلاً بمن قد جاء من حرانِ من الذي جاء من حران؟ ابن تيمية -رحمه الله- لأن ابن تيمية حراني. فالله يجزيه الذي هو أهله من جنة المأوى مع الرضوان أخذت يداه يدي وسار فلم يرم حتى أراني مطلع الإيمانِ ورأيت أعلام المدينة حولها نزل الهدى وعساكر القرآنِ ورأيت آثاراً عظيماً شأنها محجوبةً عن زمرة العميانِ ووردت كأس الماء أبيض صافياً حصباؤه كلآلئ التيجانِِ ورأيت أكواباً هناك كثيرةً مثل النجوم لواردٍ ظمآن ورأيت حول الكوثر الصافي الذي لا زال يشخب فيه من زابانِ نحن نعلم أن نهر الكوثر الذي في الجنة يصب في الحوض عبر ميزابين، فيستشهد ابن القيم رحمه الله تعالى بهذا الحديث يأخذ منه تعبيراً لكي يقول للناس: إن ابن تيمية أخذ بيدي حتى أوردني الحوض الصافي الذي يشخب فيها ميزابان الكتاب والسنة. ميزان سنته وقول إلهه وهما مدى الأيام لا ينيانِ والناس لا يردونه من الآلاف أفرادٌ ذوو إيمانِ إلا من أنعم الله عليه، وإلا فإن كثيراً من الناس قد تخبطوا وضلوا، وأرادوا الحق فلم يصلوا إليه.

اعتناء ابن تيمية بتلميذه ابن القيم

اعتناء ابن تيمية بتلميذه ابن القيم لقد اعتنى ابن تيمية -رحمه الله تعالى- بتلميذه اعتناءً كثيراً، وكان يخصه بمزيد من التعليم والتنبه لأحواله والتربية العميقة. ويقول ابن القيم رحمه الله: قال لي شيخ الإسلام رضي الله عنه، وقد جعلت أورد عليه إيراداً بعد إيراد، آتي بشبهة، وأقول: أريد الجواب عليها، ثم آتي بشبهة، وأقول: أريد الجواب عليها، فقال له نصيحة: لا تجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثل السفنجة، فيتشربها فلا ينضح إلا بها، ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة تمر الشبهات بظاهرها ولا تستقر فيها، فيراها بصفائه، ويدفعها بصلابته، وإلا فإذا أشربت قلبك كل شبهة تمر عليك، صار مقاماً للشبهات. قال ابن القيم: "فما أعلم أني انتفعت بوصية في دفع الشبهات كانتفاعي بهذه". وقال في مدارج السالكين: "قال لي شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- مرةً: العوارض والمحن هي كالعوارض والبرد، فإذا علم العبد أنه لا بد منها -لا بد من الابتلاء، ولا بد من المحنة- لم يغضب لورودها، ولم يغتم ولم يحزن، وإنما يعلم أن هذا ابتلاء من الله يريد الله به أن يزيد له في حسناته، ويكفر به عنه من سيئاته، ويرفع له في درجاته، فيحمد الله على المحنة". ويرشد ابن تيمية -رحمه الله- تلميذة إلى ترك التوسع في المباحات، يقول ابن القيم: قال لي يوماً شيخ الإسلام في شيء من المباح: هذا ينافي المراتب العليا، وإن لم يكن تركه شرطاً في النجاة -أي: أن التوسع في المباحات جائز، لكن تركها أولى؛ لأنها تصرف العبد عن الانشغال بما هو أهم وأفضل- وقد وفى ابن القيم -رحمه الله- لشيخه وفاءً عظيماً، فإنه قد ظل يشاركه في أعماله وأحواله حتى آخر لحظة من حياته؛ حتى أنه امتحن وأوذي بسبب شيخ الإسلام، ودخل معه السجن، وجعل في زنزانة منفردة عن شيخ الإسلام، أفرد ابن القيم حتى مات شيخه رحمه الله تعالى.

طريقة ابن القيم في التفقه

طريقة ابن القيم في التفقه وأما مذهب ابن القيم -رحمه الله- فإن كثيراً من أهل العلم ينسبونه إلى المذهب الحنبلي، ولكنك إذا دققت في أقواله وفتاويه، وجدت أنه -رحمه الله- يسير على طريقة السلف في اتباع الأدلة، فيدور مع الدليل حيثما دار؛ سواءً كان الدليل في مذهب أحمد، أو في مذهب الشافعي، أو في غيرها، وكان عنده منهجٌ عظيمٌ- ينبغي لكل طلبة العلم أن يقتدوا به- حيث كان يبحث عن الدليل وينشده مع احترام الأئمة، فلا هو بالذي يقول: هم رجال ونحن رجال؛ بل كان يبحث عن الدليل وينشد الدليل مع احترام الأئمة، فأينما وجد الدليل ذهب إليه كان القائل به من كان، فكانت قاعدته مناشدة الدليل مع احترام الأئمة، وكثيراً ما كان يفتي بخلاف المذهب. ومن اللطائف التي حكاها -رحمه الله- عن شيخه، شيخ الإسلام ابن تيمية أنه كان يدرس في مدرسة لرواد الفقه الحنبلي، وكانت المدارس في ذلك الوقت توقف عليها أوقافاً حتى يصير منها صرف على المدرسة، وطلبة المدرسة، ورواتب للمدرسين، وثمن الكتب والمعيشة وهكذا، فقال بعضهم لشيخ الإسلام ابن تيمية مرةً- وكان شيخ الإسلام مجتهداً يدور مع الدليل ولا يتعصب لمذهب- قالوا له: أنت تأخذ من وقف هذه المدرسة وواقفها شرط أنها للحنابلة، فقال شيخ الإسلام رحمه الله: إنما أتناول ما أتناوله منها على معرفتي بمذهب أحمد لا على تقليدي لهم، وأنا عالم بمذهب أحمد عارف به وبأصوله.

محاربة ابن القيم للتعصب والتقليد الأعمى

محاربة ابن القيم للتعصب والتقليد الأعمى لقد استخدم ابن القيم -رحمه الله- أسلوبه الجميل في محاربة التقليد الأعمى، فيقول في فتنة التعصب والتقليد التي ذبحت كثيراً من المسلمين حتى صار بينهم اقتتال، وتفرقوا في المسجد الواحد، فصار لهم في بعض الأحوال والأوقات الماضية أربعة محاريب يصلي كل أصحاب مذهب في محرابه منفصلين، وكان بعضهم لا يزوج أفراداً من المذهب الآخر، وهذا كله نتيجة التعصب الذي ذمه الله ورسوله؛ ولذلك تجد المجددين من أهل العلم ينهون عن التعصب ويحذرون منه، يقول ابن القيم رحمه الله: تالله إنها فتنة عمت فأعمت، ورمت القلوب فأصمت، ربا عليها الصغير، وهرم فيها الكبير، واتخذ لأجلها القرآن مهجوراً، وكان ذلك بقضاء الله وقدره في الكتاب مسطوراً، ولما عمت البلية، وعظمت به الرزية، بحيث لا يعرف أكثر الناس سواها- أكثر الناس لا يعرفون إلا التعصب، ولا يعدون العلم إلا التعصب- فطالب الحق من مظانه لديهم مفتون، ومؤثره على سواه عندهم مغبون، نصبوا لمن خالفهم في طريقتهم الحبائل، وبغوا له الغوائل، ورموه عن قوس الجهل والبغي والعناد، وقالوا لإخوانهم: إنَّا نخاف أن يبدل دينكم، أو أن يظهر في الأرض الفساد. ولذلك كان ابن القيم يدعو في كتبه دائماً إلى اتباع الدليل، وكان يقول للناس: إذا رأيتم عَلَمَ السنة فاذهبوا إليه. ويقول في جواب على سؤال نفاة القياس، وهو متحمس لإظهار السنة ومتابعة الدليل: الآن حمي الوطيس، وحميت أنوف أنصار الله ورسوله لنصر دينه وما بعث به رسوله، وآن لحزب الله ألا تأخذهم في الله لومة لائم، وألا يتحيزوا إلى فئة معينة، وأن ينصروا الله ورسوله بكل قول حق قاله من قاله، ولا يكونوا من الذين يقبلون ما قاله طائفتهم- يقبلون قول الفريق الذي يتعصبون له- وينبذون كتاب الله وسنة نبيه.

منهج ابن القيم في التأليف والفتوى

منهج ابن القيم في التأليف والفتوى كان له -رحمه الله- مؤلفات كثيرة؛ فكان منهجه في التأليف الاعتماد على الكتاب والسنة؛ ولذلك تجد كتبه طافحة بذكر الأدلة، وكان ينعى على من يرد الكتاب والسنة من أصحاب الطواغيت الأربعة القائلين بالمعقول ومقدمي القياس والذوق والسياسة، يقول: إن من الناس الذين يقدمون آراءهم على الكتاب والسنة أربع طوائف، فمنهم: الطائفة الأولى: المتكلمون الذين يقدمون العقل على النقل: يقدمون العقول وآراءهم على نصوص القرآن والسنة. الطائفة الثانية: المتكبرون، الذين إذا تعارض القياس والحديث، قدموا القياس على النص. الطائفة الثالثة: المتكبرون المنتسبين إلى التصوف، الذين إذا تعارضت عندهم أذواقهم ومواجيدهم -وهي من الشيطان- قدموها على نصوص الكتاب والسنة. الطائفة الرابعة: الولاة والأمراء الجائرون، الذين إذا تعارضت عندهم الشريعة والسياسة قدموا السياسة ولم يلتفتوا إلى حكم الشريعة. وكذلك كان -رحمه الله تعالى- يقدم أقوال الصحابة على من سواهم، وكانت مؤلفاته تتسم بالسعة والشمول، وكان يسير على نهج الجود بالعلم، فإذا سئل عن مسألة، أجاب عنها وأكثر بما يشبع السائل، ويجيبه جواباً شافياً، ولذلك يقول: لا يكن جوابك للسائل بقدر ما تدفع به الضرورة، مثل: نعم، ولكن عليك أن تجود بالعلم، وأشبع رغبة السائل، وأجبه ولو بأكثر مما سأل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن ماء البحر هل هو طاهر أم لا؟ أجاب عليه الصلاة والسلام: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته) فالسائل سأل عن مسألة واحدة، فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم عن مسألتين: الأولى: طهارة ماء البحر. الثانية: حل ميتة البحر، وهذا من الجود بالعلم، وكان يستطرد في مؤلفاته، فيذكر فوائد عظيمة، وكان يعرض كثيراً من محاسن الشريعة وحكمة التشريع، وهذا يدل على عمقه وذكائه -رحمه الله- وكان يعنى بالاستدلال والعلل، وكانت كتاباته حيوية تفيض بالمشاعر الفياضة.

ثناء العلماء على حسن تأليف ابن القيم

ثناء العلماء على حسن تأليف ابن القيم وكان أسلوبه جذاباً. يقول العلامة الشوكاني رحمه الله: وله من حسن التصرف مع العذوبة الزائدة وحسن السياق ما لا يقدر عليه غالب المصنفين؛ بحيث تعشق الأفهام كلامه، وتميل إليه الأذهان، وتحبه القلوب؛ حتى قال ابن حجر -رحمه الله-: إن مؤلفات ابن القيم مرغوبة عند جميع الطوائف، ولو كانوا ممن يعادون ابن القيم فكانوا يقبلون على كتبه -رحمه الله- وكان حسن الترتيب يسوق الأمور بسياقات حسنة، حتى في مؤلفاته كان تضرعه وابتهاله إلى الله يظهر، فمثلاً يقول رحمه الله في كتاب أعلام الموقعين عن رب العالمين بعد أن شرح قول الله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً} [إبراهيم:24] قال ابن القيم بعد ذلك: فهذا بعض ما تضمنه هذا المثل العظيم الجليل من الأسرار والحكم، ولعلها قطرة من بحر بحسب أذهاننا الواقفة، وقلوبنا المخطئة، وعلومنا القاصرة، وأعمالنا التي توجب التوبة والاستغفار، وإلا فلو طهرت منا القلوب، وصفت الأذهان، وزكت النفوس، وخلصت الأعمال، وتجردت الهمم للتلقي عن الله ورسوله، لشاهدنا من معاني كلام الله وأسراره وحكمه ما تضمحل عنده العلوم، وتتلاشى عنده معارف الخلق. انظر! يقول هذا وهو من هو -رحمه الله- في سعة علمه وتواضعه؟ وقال في فاتحة كتابه روضة المحبين: والمرغوب إلى من يقف على هذا الكتاب أن يعذر صاحبه، فإنه ألفه في حال بعده عن وطنه، وغيبته عن كتبه، فما عسى أن يبلغ خاطره المكدود، وسعيه المجهود، مع بضاعته المزجاة- أي: القليلة- التي حقيقٌ بحاملها أن يقال فيه: تسمع بالمعيدي خيرٌ من أن تراه، يقول: وهاهو المؤلف -أي: نفسه- قد نصب نفسه هدفاً لسهام الراشقين، وغرضاً لأسنة الطاعنين، فلقارئه غنمه، وعلى مؤلفه غرمه، وهذه بضاعته تعرض عليك، وموليته تهدى إليك، فإن صادفت كفئاً كريماً لها لم تعدم منه إمساكاً بمعروف، أو تسريحاً بإحسان، وإن صادفت غيره، فالله تعالى المستعان وعليه التكلان. وقال في فاتحة كتاب زاد المعاد، وكتاب زاد المعاد آخر طبعة طبع فيها الآن خمسة مجلدات ألفها ابن القيم -رحمه الله- في السفر بسبب أن رجلاً سأله عن مسألة في الحج، فتعجب ابن القيم أن رجلاً من المسلمين لا يدري عن حكم هذه المسألة، فكان ذلك دافعاً لتأليف كتابه زاد المعاد في هدي خير العباد. يقول في مقدمة الكتاب: "وهذه كلماتٌ يسيرةٌ، لا يستغني عن معرفتها من له أدنى نعمة إلى معرفة نبيه صلى الله عليه وسلم وسيرته وهديه، اقتضاها الخاطر المكدود على عجره وبجره- أي: اقتضاه خاطري على عيوب خاطري- مع البضاعة المزجاة مع تعليقها في حال السفر لا الإقامة، والقلب بكل وادٍ منه شعبة، والهمة قد تفرقت شذر مذر". اهـ. قارن بين هذا الكلام وبين ما يكتبه الناس -اليوم- الذين ما رسخت أقدامهم في العلم، ولا نبتت لهم ريش العلم يطيرون به، يكتب الواحد على غلاف الكتاب: شرحه وحققه وهذبه ونقحه وبسطه. إلى آخره!! ويصف نفسه بألقاب المديح وهو لا يصل إلى مقدار أنملة ابن القيم -رحمه الله- في العلم، ومع ذلك صار عامة كثير من الناس الذين يتطفلون على العلم في هذا الزمان يمدحون أنفسهم في كتبهم، وعلى الغلاف تجد: ألفه المدقق الفهامة البحاثة، وهو من هو لا يساوي شيئاً بجانب علمائنا، وهؤلاء يقولون: هذه كلمات يسيرة، وهي خمس مجلدات!! وكان في تأليفه -رحمه الله- يقع له أمور مثل ما وقع له في تأليف كتاب تحفة المودود بأحكام المولود وهو كتاب، عظيم لا يُعرف أنه قد جمع في أحكام المولود مثل هذا الكتاب. له في تأليفه قصة لطيفة جداً وهي: أن ولد ابن القيم وُلد له ولد -أي: صار لـ ابن القيم حفيد- بمعنى أنه صار جداً، فالعادة أن الجد يهدي لحفيده هدية، فـ ابن القيم -رحمه الله- لما جاءه هذا الحفيد، ما كان عنده شيء من متاع الدنيا يهديه لحفيده، حيث كان فقيراً، فصنف هذا الكتاب وأعطاه لابنه، وقال: أتحفك بهذا الكتاب إذ لم يكن عندي شيء من الدنيا أعطيك، تكلم فيه عن العقيقة وأحكامها، وحلق شعر المولود، وختانه، وتسميته، والأسماء القبيحة والأسماء الحسنة، وأمور كثيرة جداً حتى تعرض لدقائق المسائل، مثل: إنسان لم يعق عنه أبوه وقد كبر، فهل يعق عن نفسه، أو لا؟ في مباحث أخرى مبسوطة داخل هذا الكتاب.

مع مؤلفات ابن القيم

مع مؤلفات ابن القيم ومؤلفات ابن القيم -رحمه الله- أحصاها بعض من ترجم له ستة وتسعين كتاباً تقريباً، أما المؤلفات المطبوع منها الآن فلا تصل إلى الثلث.

تعرض مؤلفات ابن القيم للحرق

تعرض مؤلفات ابن القيم للحرق ومن الأسباب العجيبة ولله عز وجل في خلقه شئون وحكم، حصل أن بعض الأمراء الذين استوطنوا دمشق في القرن الماضي -التاسع عشر- منذ مدة قريبة، كان ذا سلطان ومال، جعل يجمع مؤلفات ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ويحرقها؛ لأنه كان فيه عداوة لـ ابن تيمية وابن القيم، فكان يجمع مؤلفات ابن تيمية وابن القيم ويحرقها، وابن تيمية وابن القيم في دمشق، فحصل من هذا الرجل أن بلغ به من العداوة والبغض لأولياء الله أن يأتي بالكتب ويحرقها ويشتريها بنقوده من مالكها، إذا رآها مخطوطة، اشتراها ليحرقها، فإذا لم يتمكن من إقناع المالك بحرقها اشتراها منه، وربما التمس وسائل أخرى لإتلافها بدافع الانتصار لمذهبه؛ لأن هذا الشخص كان من غلاة الصوفية، فاستخدم هذا الأمير سلطانه وماله في حرق كتب الذين تصدوا للصوفية، ومن أهمهم: ابن تيمية وابن القيم، ومع ذلك فإن الله قيض لهذا الإمام العظيم من ينشر كتبه في هذا الزمان، ومن قدر الله أن أعداء الإسلام لما غزو بلدان المسلمين اصطحبوا معهم بعد رجوعهم إلى بلدانهم كثيراً من المخطوطات؛ ولذلك تجد الآن مخطوطات لكتب ابن تيمية في لاهاي في هولندا، وتجد مخطوطات ابن القيم في ألمانيا وباريس وفي جامعة في أمريكا. وهكذا، ولعلها حكمةٌ من الله أن يحفظها أولئك الكفرة حتى يأتي من يطبعها من أبناء المسلمين، وقضية أن يعدو أهل الباطل على كتب أهل الحق فيحرقوها، هذه قضية طويلة؛ ولذلك تجد بعض الطوائف الضالة التي حكمت بعض بلدان المسلمين في بعض الأزمان والأوقات، كانوا يأتون إلى المكتبات العامة، فيخرجون المخطوطات التي تتكلم عن طوائفهم، وتبين باطل هذه الطوائف، فيحرقون هذه الكتب، ولكن الله ناصر دينه.

كلام الكوثري على ابن القيم وبيان خطئه في ذلك

كلام الكوثري على ابن القيم وبيان خطئه في ذلك ومع الأسف! لقد ظهرت عداوة لـ ابن القيم -رحمه الله- ليس في حياته فقط والتي سجن وأوذي في مواضع عديدة، ولكن بعدما مات، ففي هذا القرن ظهر في مطلعه شخصٌ غريبٌ، كان متخصصاً في شتم ابن القيم وشيخه ابن تيمية -رحمهما الله- وهو الكوثري، حيث يقول: ولقد سئمت من تتبع مخازي هذا الرجل المسكين الذي ضاعت مواهبه في البدع!! يقصد ابن القيم. وقال: ابن قيم الجوزيه لم يكن غير شيخه في المعنى، بل هما قماش واحد، ذاك ظهارته وهذا بطانته، ذاك يسود وهذا يبيض، عمله جله تسويق بضائع شيخه بحيث تروج؛ حتى أن ابن القيم يقلده في كل شيء، وليس له رأيٌ خاصٌ قطعاً على سعة علمه. ويقول: هذا ابن القيم نسخة كربونية عن ابن تيمية!! ولذلك تصدى بعض أهل العلم لهذه الفرية، وبينوا أن ابن القيم شخصية مستقلة وليس تابعاً ابن تيمية ابن القيم ذكي عميق محقق مدقق ليس بالسهل أن يقلد أي أحد؛ ولذلك إذا نظرت -مثلاً- إلى كتبه وإلى من نقل عنه، تجد أنه نقل عن طائفة كثيرة من أهل العلم غير ابن تيمية، وفي كتب ابن القيم مباحث مثل: تأليفه لبعض الكتب ما جمع مثل ابن تيمية مثل: كتابه القيم مفتاح دار السعادة، وزاد المعاد، وحادي الأرواح، وبدائع الفوائد لا يعرف أن لـ ابن تيمية مثل هذه المؤلفات. وكذلك من الأمور الدالة على أن ابن القيم ليس نسخة كربونية عن ابن تيمية: أنه قد خالف شيخه في أمور، مثل: بعض أحكام الرضاعة، إذا قطع الرضيع الرضاعة بتنفس هل تعتبر واحدة، أو اثنتين؟ وفي عدة الآيسه، وفي اشتباه الأواني، وفي مسألة فسخ الحج إلى عمرة نقل قول ابن عباس، ثم قال: وأنا إلى قوله- أي: إلى قول ابن عباس - أميل مني إلى قول شيخ الإسلام. فإذاً لم يكن مقلداً لـ ابن تيمية، ولا نسخة عنه، ولكن من الطبيعي أن يستفيد التلميذ من الشيخ، ويأخذ عنه علماً غزيراً كما حصل، والحقيقة أن ظهور ابن تيمية -رحمه الله- في ذلك الوقت الذي فشت فيه البدع سواءً بدع في العقائد؛ كبدع الجهمية والأشاعرة والمرجئة، وبدع الصوفية، وبدع التعصب المذهبي بدع كثيرة جداً ظهرت قيض الله لها شيخ الإسلام، فكشف زيغ تلك البدع، وأظهر الحق، وقيض له تلاميذ، مثل: ابن القيم رحمه الله ساروا على نهجه في كشف الباطل، وإظهار الحق للناس؛ ولذلك لا شك أن لكل منهما جانبٌ عظيمٌ من جوانب التجديد لهذا الدين، ومع ذلك- سبحان الله! - كأن الله يريد أن يرفع منزلة هذا الرجل، ويعظم أجره بعد موته، فظهر له أعداء تكلموا عنه؛ حتى قال المسكين - الكوثري - في كتابه السيف الصقيم في الرد على ابن الزكيم، قال: يعيره بجده لأمه، ولا ندري من أين اخترع هذه التسمية، يقول: كافر ضال مضل. زائغ مبتدع وقح كذاب حشوي جاهلي مهاتر خارجي غبي من إخوان اليهود والنصارى من محاربين الدين والخلق!! هذا يقوله الضال الكوثري في ابن القيم -رحمه الله تعالى- وهذه عبارة عن صرير باب وطنين ذباب حيلة عاجز، وحجة عجائز، وابن القيم -رحمه الله- لا يضيره شيء، قال الشاعر: ما يضر البحر أمسى زاخراً أن رمى فيه غلامٌ بحجر

أسلوب ابن القيم رحمه الله ونبذ من قدرته على التعبير

أسلوب ابن القيم رحمه الله ونُبذ من قدرته على التعبير نتعرض الآن- أيها الإخوة- لبعض الأمور في أسلوب ابن القيم رحمه الله تعالى، وهذا أمرٌ مهمٌ جداً، فمثلاً: تجد هذه الحلاوة في الأسلوب، والقدرة على التعبير، والجمال والجلال في أسلوب ابن القيم رحمه الله يستخدمه في عرض حقائق التوحيد على الناس، فمثلاً: اسمع إليه يقول في وصف الله عز وجل، وبيان وحدانيته وقدرته سبحانه وتعالى: "قد أحاط بكل شيء علماً، وأحصى كل شيء عدداً، ووسع كل شيء رحمةً وحكمةً، ووسع سمعه الأصوات، فلا تختلف عليه، ولا تشتبه عليه؛ بل يسمع ضجيجها باختلاف لغاتها، على تفنن حاجاتها، فلا يشغله سمع عن سمع، ولا تغلقه كثرة المسائل، ولا يتبرم بإلحاح الملحين ذوي الحاجات". الآن الناس يدعون الله، منهم من يدعو الله باللغة العربية، ومنهم من يدعو بالإنجليزية، ومنهم من يدعو بالأردية، ومنهم من يدعو بلغات كثيرة جداً، ومنهم من يطلب شفاء مريض، ومنهم من يطلب رحمة ميت، ومنهم من يطلب رزقاً، ومنهم من يطلب ولداً، ومنهم من يطلب نجاحاً، ومنهم من يطلب أشياء كثيرة، وهم يطلبون في وقت واحد ويلحون إلحاحاً، والله عز وجل لا تغلطه، انظروا الواحد إذا أمسك بسماعتي هاتف لا يستطيع أن يتابع في نفس الوقت، والله عز وجل يسمع أصوات البشر كلهم بلغات مختلفة، وحاجاتهم مختلفة، ويعلم ماذا يقولون، ولا يتبرم بإلحاح الملحين: الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حي يسأل يغضبُ والإنسان يتبرم بالإلحاح؛ والله عز وجل يريد من عباده أن يلحوا عليه بالدعاء، فعندما يأتي لنا رجل مثل: ابن القيم -رحمه الله- يبين لنا هذه المسألة، يزداد الذين آمنوا إيماناً. وكذلك يقول عند قوله تعالى: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29] يغفر ذنباً، ويفرج هماً، ويكشف كرباً، ويجبر كسيراً، ويغني فقيراً، ويعلم جاهلاً، ويهدي ضالاً، ويرشد حيراناً، ويغيث لهفاناً، ويفك عانياً، ويشبع جائعاً، ويكسو عارياً، ويشفي مريضاً، ويعافي مبتلىً، ويقبل تائباً، ويجزي محسناً، وينصر مظلوماً، ويقصم جباراً، ويقيل عثرةً، ويستر عورةً، ويؤمن روعةً، ويرفع أقواماً، ويضع آخرين، لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع له عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه. إذاً- أيها الإخوة- نحن نحتاج -حقيقة- إلى علماء نشعر عندما نقرأ لهم بأن إيماننا بالله يزداد نحتاج إلى أهل علم عندهم بلاغة في التعبير والأسلوب؛ حتى نقبل على قراءة هذا الكلام النابع من ذلك القلب الحي انظر إلى ابن القيم رحمه الله مثلاً يقول: تبارك وتعالى، أحق من ذكر، وأحق من عبد، وأحق من حمد، وأولى من شكر، وأنصر من ابتغي، وأرأف من ملك، وأجود من سئل، وأعفى من قدر، وأكرم من قصد، وأعدل من انتقم حكمه بعد علمه، وعفوه بعد قدرته، ومغفرته عن عزته، ومنعه عن حكمته، هو الملك الذي لا شريك له، والفرد فلا ند له، والغني فلا ظهير له، والصمد فلا ولد له ولا صاحبة له، وكل ملك زائل إلا ملكه، وكل ظل قالص إلا ظله، وكل فضلٍ منقطع إلا فضله، لن يطاع إلا بإذنه، ولن يعصى إلا بعلمه، يطاع فيشكر، ويعصى فيغفر، كل نقمةٍ منه عدل، وكل نعمةٍ منه فضل، أقرب شهيد، وأدنى حفيظ، حال دون النفوس، وأخذ بالنواصي، وسجل الآثار، وكتب الآجال، فالقلوب له مفضية، والسر عنده علانية، والغيب عنده شهادة، عطاؤه كلام، وعذابه كلام {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]. هذا إبداع- أيها الإخوة- شيء يزيد الذين آمنوا إيماناً هذه كلمات سطرها ابن القيم رحمه الله في كتابه العظيم الفوائد.

دقة استنباطات ابن القيم وأمثلة عليها

دقة استنباطات ابن القيم وأمثلة عليها

كلام ابن القيم عن قوله تعالى: (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا)

كلام ابن القيم عن قوله تعالى: (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا) وإذا جئت إلى دقة استنباطه من كتاب الله، لوجدت أمراً عجيباً، خذ مثلاً كلام ابن القيم رحمه الله في روضة المحبين عن قول الله عز وجل: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [لأعراف:175 - 176] يقول ابن القيم رحمه الله: "تأمل قوله تعالى: {آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا} [الأعراف:175] فأخبر أن ذلك إنما حصل له بإيتاء الرب له لا بتحصيله هو- أي: أن الله عندما يؤتي أحدنا علماً، أو بصيرة، فليعرف أن الله هو الذي أعطاه، وليس العبد هو الذي أخذ بنفسه وبقدرته وبذكائه {آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا} [الأعراف:175]، ثم قال: {فَانْسَلَخَ مِنْهَا} [الأعراف:175] ولم يقل: فسلخناه؛ بل أضاف الانسلاخ إليه أي: إلى هذا العبد المذموم، وعبر عن براءته منها بلفظة الانسلاخ، أي: أنه انسلخ، يصور ابن القيم الدقة في التعبير فهذا العبد انسلخ من الآيات بالكلية، وهذا شأن الكافر، أما المؤمن ولو عصى الله؛ فإنه لا ينسلخ من الدين، ثم قال ابن القيم: {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ} [الأعراف:175] ولم يقل: فتبعه، والفرق أن أتبعه تعني: تبعه وأدركه ولحقه؛ ولذلك قال الله عن فرعون: {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ * فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:60 - 61]، ولذلك يقول ابن القيم: فأتبعه الشيطان، أي: وصل إليه الشيطان واستحوذ عليه، وكذلك قال: {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ} [الأعراف: 176] أي: سكن إليها ونزل بطبعه إليها، فكانت نفسه أرضية سفلية لا سماوية علوية إلى آخر كلامه رحمه الله.

استنباطات ابن القيم من قوله تعالى: (أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل.

استنباطات ابن القيم من قوله تعالى: (أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل. ولما أتى رحمه الله مثلاً إلى قول الله عز وجل: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [البقرة:266] هذا المثل ضربه الله للمرائين يوم القيامة، قال تعالى: {جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} [البقرة:266] هذا المثل لأناس لهم أعمال جاءوا يوم القيامة محتاجين إليها جداً، فوجدوها هباءً منثوراً {فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ} [البقرة:266] فيقول ابن القيم رحمه الله: {جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} [البقرة:266] ذكر الله في هذه الآية أشرف أنواع الثمار وأكثرها نفعاً، فإن منهما القوت والغذاء، والدواء والشراب، والفاكهة والحلو والحامض، ويؤكلان رطباً ويابساً. ثم يقول: وهذه الجنة- أي: البستان- فيها أنهار تجري، وهذا أكمل وأعظم، وهل فقط فيها نخيل وأعناب؟ لا، بل فيها من كل الثمرات. ثم يقول: -وهذا الرجل أصاب جنته إعصارٌ فيه نارٌ فاحترقت، وقبل أن تحترق قد كبر سنه- يقول ابن القيم رحمه الله: انظر مدى تعلق قلب الرجل بهذا البستان، لو كان عنده جنة، أو بستان ليس فيه نبات ولا زرع فإنه لا يحزن عليه؛ فإذاً قلبه متعلق -أولاً- بالبستان؛ لنفاسة ما في البستان من النخيل والأعناب وأنواع الثمرات، وفيه أنهار تجري، وهذا الرجل قد أصابه الكبر. يقول ابن القيم رحمه الله: إذا كبر ابن آدم، اشتد حرصه، لأن ابن آدم يشيب ويشب معه اثنتان: الحرص وطول الأمل. يقول: أصابه الكبر، فالآية تعبر عن معانٍ قد لا نفقهها إذا قرأناها لأول مرة، لكن عندما يأتي مثل: ابن القيم رحمه الله يبين لنا، يقول: تعلق أول شيء قلبه بسبب نفاسة البستان، وبسبب أنه كبر سنه، فعجز عن الكسب والتجارة، واشتد حرصه بطبيعة كبر السن، وثالثاً: له ذرية ضعفاء، فهو حريص أن يبقى هذا البستان للذرية، وهؤلاء الذرية ليسوا أقوياء، لكنهم ضعفاء يحتاجون إلى من يكد عليهم، ورابعاً: أن نفقته عليهم- أي: هو أبوهم- فإذا تصورت هذه الحادثة من تعلقه بالبستان أشد ما يكون، وهو في هذا التعلق أصابه إعصار فيه نار فاحترقت، كيف يكون وضع الرجل؟ هذا مثل المرائين يوم القيامة يأتون بأعمال أمام النار، الواحد يحتاج لكل عمل، وعندهم أعمال، ولكن شبَّه حال احتياجهم للأعمال يوم القيامة بحال هذا الشيخ الكبير في السن، وأصاب أعمالهم إعصار الرياء فأحرقها، وأفلسوا وهم في أشد الحاجة، وفي وقت عصيب أشد ما تكون الحاجة إلى هذه الأعمال.

آية ضيافة إبراهيم وفقه ابن القيم فيها

آية ضيافة إبراهيم وفقه ابن القيم فيها خذ مثلاً قول الله عز وجل: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ} [الذاريات:24 - 27] هذه الآيات استنبط ابن القيم رحمه الله منها خمسة عشر أدباً من آداب الضيافة. أولاً: أنه وصف ضيفه بأنهم مكرمون. ثانياً: قال: {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ} [الذاريات:25] فلم يذكر استئذانهم، ففي هذا دليل على أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم كان قد عرف بإكرام الضيفان، فبقي منزله مضيفة مطروقاً لمن ورده لا يحتاج إلى الاستئذان. ثالثاً: قوله {سلامٌ} بالرفع، وهم قالوا: {سلاماً} وهذه جملة فعلية دالة على التجدد والحدوث والتغير، لكنه قال: سلامٌ، وهذه جملة اسمية، والجملة الاسمية تدل على الثبات فليست متغيرة، فكان رد سلامه أفضل من سلامهم. رابعاً: أنه حذف المبتدأ من قوله: {قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} [الذاريات:25] فإنه لما أنكرهم ولم يعرفهم، احتشم من مواجهتهم بلفظ الضيف، أي: ما قال: سلامٌ أنا لا أعرفكم أنتم غريبون عليَّ، وإنما قال سلامٌ وربطها بقوله: {قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} [الذاريات:25] أي: سلام على قوم لأول مرة أراهم. خامساً: أنه بنى الفعل للمفعول وحذف فاعله، فقال: {مُنْكَرُونَ} [الذاريات:25] ولم يقل: أنا أنكرتكم، فهناك فرق بين أن تقول: سلام قوم غير معروفين، وهذه ألطف من أن تقول: سلامٌ عليكم قوم أنا لا أعرفكم. سادساً: أنه راغ إلى أهله لكي يأتي بالطعام، والروغان هو الذهاب في اختفاء. سابعاً: أنهم ما شعروا به إلا وقد جاءهم بالطعام مع أنه عجل مشوي، وهذا يدل على أنه كان مشغولاً بإكرام الضيف، ما ذهب واشترى وذبح واشتوى فانظر السرعة! {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات:26] ولم يقل: ثم جاء، معناها أشياء مجهزة، يأتي إليه الضيف فيجد الطعام جاهز فيقول ابن القيم رحمه الله: يذهب في اختفاء بحيث لا يشعر به الضيف، فيشق عليه ويستحي، فلا يشعر به إلا وقد جاءه بالطعام، بخلاف من يسمع ضيفه، ويقول له: مكانكم حتى آتيكم بالطعام، فيقول له: لا. ليس هناك داعي أن تأتي بالطعام، وبعد ذلك يحلف عليهم. ثامناً: أنه ذهب إلى أهله، فجاء بالضيافة، فدل على أن ذلك كان معداً. تاسعاً: {فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات:26] دل على خدمته للضيف بنفسه، ولم يقل: فأمر لهم بعجل سمين، مثل أن يكون عند أحدهم خدم، فمن آداب الضيافة أن يأتي لك بالأكل بنفسه، ولا يقل للخادم: هات الطعام؟ بل يأتي بالطعام بنفسه؛ لأن في هذا زيادة في الإكرام. عاشراً: أنه جاء بعجل كامل ولم يأت ببعضه. الحادي عشر: أنه سمين لا هزيل، ومعروف أن ذلك من أفخر أموالهم. الثاني عشر: أنه قربه إليهم ولم يقربهم إليه. الثالث عشر: أنه قال: {أَلا تَأْكُلُونَ} [الذاريات:27] وهذا في غاية التلطف في العرض. الرابع عشر: أنه إنما عرض عليهم الأكل، لأنه رآهم لا يأكلون. الخامس عشر: فإنهم لما امتنعوا من الأكل، خاف منهم ولم يظهر لهم، لأن الإنسان إذا لم يمد يده على الطعام فمعنى ذلك أن في نفسه شيئاً، فإبراهيم لم يقل: لماذا لم تأكلوا؟ إذن أنتم تريدون الشر؛ بل سكت، فالله أمرهم أن يقولوا له: لا تخف، نحن ملائكة لا نأكل؛ جئنا لغرض كذا وكذا. ومسألة استنباط ابن القيم من الآيات مسألة عجيبة؛ حتى أنه قال في كتاب الجواب الكافي: وفي هذه القصة- التي هي قصة يوسف- من العبر والفوائد والحكم ما يزيد على ألف فائدة لعلنا إن وفق الله أن نفردها في مصنف مستقل.

فقه الواقع عند ابن القيم

فقه الواقع عند ابن القيم كان ابن القيم -رحمه الله- لديه إلمام تام بواقعه وعصره، ما كان يعيش بين الكتب منزوياً لا يدري عن شيء؛ بل كان لديه اطلاع جيد، وكان يعرف البدع وأهل الأهواء في عصره، وكان في عصره هجوم للنصارى على بلاد المسلمين، وهجوم للتتر، وكان رحمه الله يعرف مخططات النصارى في بلاد المسلمين، انظر إليه وهو ييقول في كتابه الجواب الكافي -هذه مسألة مهمة جداً وهي أن نعلم كيف كان العلماء من قبل عندهم تكامل، لم يكونوا مغمضي الأعين عما يحدث في الواقع؛ بل كان لديهم حس ومعرفة، وإلمام واطلاع- يقول: "وإذا أراد النصارى أن يُنصِّروا الأسير المسلم، أروه امرأة جميلة منهم، وأمروها أن تطمعه في نفسها -وصارت هي التي تدخل عليه السجن- حتى إذا تمكن حبها من قلبه، بذلت له نفسها إن دخل في دينها، يقول ابن القيم رحمه الله تعليقاً: فهناك {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27] " هذا ابن القيم رحمه الله كان يعرف عن مخططات النصارى، وهذه سمة يفتقدها ويفتقر إليها كثير من أصحاب النيات الطيبة في هذا الزمان، فإنهم قد يقرءون في كتب العلم الشرعي، والأصول الشرعية، لكنهم لا يدرون شيئاً عن مخططات العلمانية، والماسونية، والشيوعية، والمذاهب الإلحادية الهدامة، لا يدرون عنها شيئاً، فقط علمهم بالقديم أما الجديد فلا. وأيضاً هناك طائفة أخرى على الضد من ذلك يتوسعون في معرفة الطوائف، ومعرفة المذاهب الفكرية الجديدة، ومعرفة المخططات والاستعمار وغير ذلك، لكنهم لا يعرفون أبداً ما هو مسطر في كتب السلف، لكن عندما يأتي واحد مثل: ابن القيم ويقول هذا الكلام، وعنده علم شرعي زائد، وإلمام بالواقع، وشيخه ابن تيمية رحمه الله الذي درس على يديه، وكان يعرف مخططات التتر، ويكتب عنهم، ويحذر منهم، ويجعل الأمة تنهض نهضة عامة لتنتصر على التتر، ويقسم أيماناً أن المسلمين سينتصرون على التتر، وكان ابن تيمية يوزع حلوى النصر قبل أن تقوم المعركة، ويقول: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً، ويعرف المخططات، ويعرف خطر النصيرية في الجبال، فيذهب إليهم ابن تيمية رحمه الله ومعه جيش الإسلام فيؤدبهم علماء أجلاء عرفوا الواقع، وكان عندهم علم بالشريعة، فحصل الخير العظيم بوجودهم.

موقف ابن القيم من أهل البدع

موقف ابن القيم من أهل البدع وكان أيضاً مما فعله ابن القيم -رحمه الله- تصديه لتيارات الصوفية المنحرفة من أصحاب وحدة الوجود والحلول والاتحاد الذين يقولون: الله في كل مكان في الشارع في الخلاء، وأن المخلوقين جزء من الله. كما قال قائلهم: وما الكلب والخنزير إلا إلهنا وما الله إلا راهبٌ في كنيسته كان ابن القيم -رحمه الله- ممن تصدوا للتيارات المنحرفة، ويقول -مثلاً- فاضحاً لهم: سئل الشبلي من المتصوفة متى تستريح؟ قال: إذا ما رأيت له ذاكراً -أي: إذا ما رأيت أحداً يذكر الله، أستريح- لماذا؟ قال: لأني أغار، فلذلك لا أريد أحد يذكر الله -فهذا من الضلال والعياذ بالله- ثم قال: مات ابن له، فقطعت أمه شعرها، فدخل هو الحمام ونور لحيته -يعني: أزال اللحية حتى ذهب شعر هذا الضال- فقيل له: لماذا فعلت هذا؟ قال: إنهم يعزونني على الغفلة، ويقولون: آجرك الله، ففديت ذكرهم لله على الغفلة بلحيتي. وابن القيم رحمه الله يذكر هذا ويسطره، ويقول: هذه ضلالاتهم فانظروا كيف عملوا! وقال: ونظير هذا ما يحكى عن فلان أنه سمع رجلاً يؤذن، فقال: طعنة وسم الموت، لأنه لا يريد أن يسمع لفظ الجلالة، وسمع كلباً ينبح، فقال: لبيك وسعديك، وسمع الشبلي مرة رجلاً يقول: جل الله، فقال: أحب أن تجله عن هذه ويا عجباً ممن يعد هذا في مناقب رجل! يقول ابن القيم: عجيب أن هذا يعد في مناقب فلان وفلان، ويزين به كتابه وهكذا، وكذلك تكلم على سمنون -وهو من المتصوفة - وكان من غروره أن قال: وليس لي من هواك بدٌ فكيف ما شئت فامتحني يقول: يا ألله! مثلما تريد أن تعمل فيَّ أنا مستعد، وأنت فقط اعمل الذي تريد، ويقول: اللهم اجعلني سقف البلاء على خلقك، إذا أردت أن تنزل بلية على الخلق أنزلها عليَّ فأنا مستعد أن أتحمل، فابتلاه الله بحصوة في الكلية، أو بعسر البول، فكان يقفز مثل القرد من الألم، ويطوف على صبيان المكاتب، ويقول: ادعوا لعمكم الكذاب.

نبذة عن إغاثة اللهفان تبين تصدي ابن القيم للتصوف المنحرف

نبذة عن إغاثة اللهفان تبين تصدي ابن القيم للتصوف المنحرف كتاب ابن القيم رحمه الله إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان فيه ذكر كثير، ورد كبير على الصوفية وعلى طرقهم المنحله، فقال في إحدى القصائد التي نقلها عن مبلغ علم الصوفي بالشريعة: إن قلت قال الله قال رسوله همزوك همز المنكر المتغالي أو قلت قد قال الصحابة والألى تبعوهمُ في القول والأعمالِ أو قلت قال الآل آل المصطفى صلى عليه الله أفضل آل أو قلت قال الشافعي وأحمد وأبو حنيفة والإمام العالي أو قلت قال صحابهم من بعدهم فالكل عندهم كشبه خيالِ كل هؤلاء لا يعجبون الصوفية، ولا يأخذون بهم لا بالكتاب ولا بالسنة، ولا بأقوال الأئمة، وإنما يأخذون كما قال: ويقول: قلبي قال لي عن سره عن سر سري عن صفا أحوالي عن حضرتي عن فكرتي عن خلوتي عن شاهدي عن واردي عن حالي عن صفو وقتي عن حقيقة مشهدي عن سر ذاتي عن صفات فعالي هذا هو كلام الصوفية. دعوى إذا حققتها ألفيتها ألقاب زور لفقت بمحالِ تركوا الحقائق والشرائع واقتدوا بظواهر الجهال والظلال

نبذة من النونية في ذم التأويل

نبذة من النونية في ذم التأويل وكذلك تجد ابن القيم -رحمه الله- عندما يرد على الأشاعرة المنحرفين في مسائل الصفات، يهزأ بهم بما يشعر السامع بضلالهم فعلاً، ليس بالسب والشتم، وإنما انظر إليه وهو يقول في النونية المسماة بـ الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية، هذه القصيدة بلغت ستة آلاف بيت، نظمها من البحر الطويل، كلها منافحة عن الكتاب والسنة، ودعوة للكتاب والسنة، ورد على المبتدعة، تقرأ وأنت تشعر أن الرجل يتكلم من قلبه، وليس شاعراً يؤلف من خياله، فانظر مثلاً وهو يرد على الجهمية في الاستواء؛ لأن الجهمية قالوا: استوى بمعني: استولى، قال: أمر اليهود بأن يقولوا حطة فأبوا وقالوا: حنطةً لهوان اليهود قال الله لهم: قولوا: حطة، بمعنى: اللهم حط عنا ذنوبنا، فأضافوا النون، وقالوا: حنطة! استهزاءً وسخرية. وكذلك الجهمي قيل له: استوى فأبى وزاد اللام للنكران أي: قال: استولى. ثم يقول ابن القيم: نون اليهود ولام جهمي هما في وحي رب العرش زائدتان

كلام ابن القيم عن المرجئة من النونية

كلام ابن القيم عن المرجئة من النونية وقال في المرجئة الذين يقولون: من قال: لا إله إلا الله إيمانه صحيح، ومهما فعل فهو مسلم، وإذا ارتكب كبائر فهي معاصي لكنه لا يكفر مهما فعل، لأنه قال: لا إله إلا الله، وهذه العقيدة خطيرة، لأنه يمكن أن يقول أحدهم: لا إله إلا الله ورجله فوق المصحف، وتقول: هذا مسلم، وهو ينقض لا إله إلا الله، ولا إله إلا الله لها شروط، وليست كلمة تقال هكذا يقول ابن القيم رحمه الله: وكذلك الإرجاء حين تقر بالـ ـمعبود تصبح كامل الإيمانِ على زعم المرجئة. فارم المصاحف في الحشوش وخرب الـ ـبيت العتيق وجد في العصيانِ واشتم جميع المرسلين ومن أتوا من عنده جهراً بلا كتمانِ وإذا رأيت حجارةً فاسجد لها بل خِرّ للأصنام والأوثانِ وأقرَّ أن الله جل جلاله ووحده الباري لذي الأكوانِ وأقرَّ أن رسوله حقاً أتى من عنده بالوحي والقرآن فتكون حقاً مؤمناً وجميع ذا وزرٌ عليك وليس بالكفرانِ ثم يقول: هذا هو الإرجاء عند غلاتهم من كل جهمي أخي الشيطانِ يقول: هذه عقيدة المرجئة تكفر وتفعل ما تريد، لكن المهم أن تقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فتصبح مسلماً.

مقتطفات متفرقة من حياة ابن القيم

مقتطفات متفرقة من حياة ابن القيم

مميزات مؤلفات ابن القيم

مميزات مؤلفات ابن القيم تتميز مؤلفات ابن القيم رحمه الله بأنه يأتي بالوجوه العظيمة سواءً كان في البيان، أو في الرد، بل إنه أحياناً يأتي في مسألة يقول: استدل المخالفون بكذا، ويأتي بعشرين وجه، إذا قرأتها تقول: الآن اقتنعت، وتقول: مستحيل أن أحداً يرد عليها، ثم يقول ابن القيم: أما الجواب عن الوجه الأول، كذا وكذا، والجواب عن الوجه الثاني كذا وكذا، والجواب على الوجه الثالث كذا وكذا، فينسفها كلها بعد أن تكون قد اقتنعت بها.

حث ابن القيم على طلب العلم

حث ابن القيم على طلب العلم كذلك مثلاً: كان يبين فضل العلم، ويريد أن يقول للناس: يأ يها الناس! اهتموا بالعلم، ولا تهتموا بجمع الأموال، ولا تشغلكم الدنيا عن العلم، فمثلاً يقول: العلم أفضل من المال لعدة وجوه: أولاً: أن العلم ميراث الأنبياء، والمال ميراث الملوك والأغنياء. ثانياً: أن العلم يحرس صاحبه، وصاحب المال يحرس ماله، فالذي عنده مال يسهر على حراسة المال، لكن العلم هو الذي يحرس صاحبه من الوقوع في الضلال، والزيغ والبدع وهكذا. ثالثاً: أن المال تذهبه النفقات، والعلم يزكو مع الإنفاق، ويزداد ويرسخ. رابعاً: أن صاحب المال إذا مات يفارقه ماله، والعالم يدخل معه علمه في قبره. خامساً: أن العلم حاكم على المال، والمال لا يحكم على العلم، فالعلم يحكم في المال الزكاة تحكم في العلم المواريث تحكم في العلم النذور تحكم في العلم وهكذا، لكن المال لا يحكم في العلم. سادساً: أن المال يحصل للمؤمن والكافر، والبر والفاجر، والعلم النافع لا يحصل إلا للمؤمن. سابعاً: أن العالم يحتاج إليه الملوك فمن دونهم، وصاحب المال يحتاج إليه أهل العدم والفاقة العالم الحقيقي لا يقف على أبواب السلاطين، جاء سليمان بن عبد الملك إلى مكة ليحج، فسأل هو وولداه على مسألة في الحج، ودخل على عطاء بن أبي رباح الرجل الأسود الأعمى الأفطس الأعرج المشلول -دخل عليه سليمان بن عبد الملك، فوجد عطاء يصلي، وأطال في الصلاة ولم يعبر سليمان الخليفة، وانتظر سليمان حتى فرغ عطاء من الصلاة، فسأله، فما التفت إليه عطاء وإنما أجابه على السؤال ووجهه إلى القبلة، فلما خرج سليمان قال لأبنائه: يا بني! اطلبوا العلم فإني لا أنسى ذلنا بين يدي هذا العبد الأسود، هذا عطاء بن أبي رباح العبد الأسود لما كان صغيراً وجد مشوهاً، وكان فيه هذه العيوب الخلقية، فقالت له أمه- والأم تحب الولد-: يا بني! اطلب العلم، فإن شكلك ومنظرك لا يمكن أن ينظر إليك الناس؛ لكن اطلب العلم، فطلب العلم من صغره، فصار قاضي مكة، وكان يأتي إليه الأجلاء يطلبون عنده العلم، وكان من خلقته أنه مرة كان يدعو الله، ويقول: اللهم اعتق رقبتي من النار، فمرت به عجوز، فقالت: وأي رقبة لك يا بني، بمعنى أن رأسه داخل في جسده، هذا الرجل أصبح قاضي مكة، إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين. ثامناً: المال يدعو إلى الطغيان والفخر، والعلم يدعو إلى التواضع والعبودية. تاسعاً: غنى العلم أجل من غنى المال غنى المال أمر خارجي عن الإنسان لو ذهب في ليلة لأصبح الإنسان فقيراً، لكن لم نر أن عالماً نام ثم استيقظ في الصباح ووجد نفسه ليس عنده علم، لكن يمكن أن تجد شخصاً مليونيراً نام في الليل، ورأى في البورصة تحققت أحلامه فيقوم اليوم الثاني وعليه ديون الدنيا. إذن عندما يأتي أحد الناس ويقول: هذه أوجه التفاضل بين العلم والمال، فالعاقل يقتنع حقيقةً.

حث ابن القيم على ذكر الله

حث ابن القيم على ذكر الله عندما يتكلم ابن القيم -رحمه الله- عن الأذكار مثلاً يقول: إن العبد مطالب أن يذكر الله ولو ذكره في أربع مواطن لدل على صدق العبد: 1 - عند النوم. 2 - أول ما يستيقظ من النوم. 3 - في الصلاة. 4 - عند الأهوال والشدائد، لأن الإنسان عند الشدائد يذكر أقرب شيء لنفسه، فلو كان يذكر الله أول ما تحصل له الشدة، فهذا يدل على أنه مرتبط بالله عز وجل.

تفاؤل ابن القيم

تفاؤل ابن القيم وهذا الرجل مما يمتاز به أنه من العلماء العاملين، فمثال ذلك: أنه يدعو الناس إلى التفاؤل -كما وردت به السنة- ونبذ التشاؤم، وهذه قصة وقعت له، يقول في آخر كتاب مفتاح دار السعادة: وأخبرك عن نفسي بقضية من ذلك، وهي أني أضللت بعض الأولاد يوم التروية بـ مكة وكان طفلاً، فجهدت في طلبه والنداء عليه في سائر الركب إلى وقت يوم الثامن، فلم أقدر له على خبر، فأيست منه، فقال لي إنسان: إن هذا عجزٌ، اركب وادخل الآن إلى مكة فتطلبه، فركبت فرساً، فما هو إلا أن استقبلت جماعةً يتحدثون في سواد الليل في الطريق، وأحدهم يقول: ضاع لي شيء فلقيته، والتفاؤل هو أنك تسمع قولاً، أو ترى شيئاً حسناً فتتفاءل منه، فقد يجري الله بقدره بهذا التفاؤل أن يحدث لك ما تريده أنت، فـ ابن القيم يبحث عن الولد، فيقول: فسمعت إنساناً يقول: ضاع لي شيء فوجدته، ثم قال: فلا أدري انقضاء كلمته أسرع أم وجد الطفل مع بعض أهل مكة في محملة عرفته بصوته.

مساهمة ابن القيم في حلول المشاكل الاجتماعية والأمراض النفسية

مساهمة ابن القيم في حلول المشاكل الاجتماعية والأمراض النفسية ولـ ابن القيم -رحمه الله- إسهام كبير في حلول المشاكل الاجتماعية والأمراض النفسية، فمثلاً: كلامه في الوسوسة موجود في إغاثة اللهفان وغيره، وهو كلام عظيم جداً، والوسوسة مرض خطير، وأيضاً: مرض الهوى والعشق وهو مرض قاتل وخطير جداً؛ ولذلك ألف ابن القيم رحمه الله كتاب الجواب الكافي لعلاج هذا المرض، وهذا الكتاب عبارة عن سؤال وهو: ماذا تقول سادة العلماء أئمة الدين برجل ابتلي ببلية، وعلم أنه إذا استمرت عليه، أفسدت عليه دنياه وآخرته، وقد اجتهد في دفعها عن نفسه بكل طريق، فما يزداد إلا توقداً وشدةً، فما الحيلة إلى دفعها؟ وما الطريق إلى كشفها؟ رحم الله من أعان مبتلى، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه أفتونا مأجورين؟ فيذهب ويصنف كتاباً في علاج هذا المرض؛ من أجل سؤال، ثم ينصحه فيقول: أولاً: ما أنزل الله داءً إلا وأنزل له دواء، وشفاء العي السؤال، ثم يتكلم عن الرقية، ثم يتكلم عن الدعاء وأهمية الدعاء في علاج مرض العشق والهوى، وكيف يكون الدعاء صادقاً، ودعاء الله بأسمائه الحسنى، وموانع الدعاء، وشروط الدعاء، وآداب الدعاء، وحسن الظن بالله، وإيثار الآخرة على الدنيا، ويتكلم عن عذاب القبر، وأن على المسلم أن يرجو الله، ويتكلم عن أضرار الذنوب؛ لأن العشق والهوى يملأ الإنسان بالذنوب، ويقول: الذنوب مثل السم في الجسم وينتج عنها حرمان العلم والوحشة والقلق والمهانة عند الله وعند الخلق، والذل، وإفساد العقل والقلب، والدخول تحت اللعنة، ويتكلم عن عقوبة العصاة في الآخرة، وحدود الله في العصاة في الدنيا الزنا واللواط، ويتكلم عن الحدود، وعن عاقبة قوم لوط، وكيف فعل الله بقوم لوط، ويتكلم عن خطورة عشق الصور، وماذا تودي بالإنسان؟ وأنها تقذف به إلى الشرك، فكان هذا منهجه في علاج مشكلة الهوى والعشق.

شهرة ابن القيم بضرب الأمثال

شهرة ابن القيم بضرب الأمثال كان -رحمه الله- مشهوراً بضرب الأمثال، فمثلاً يقول في قضية التوكل: ينبغي أن يوكل المرء أمره إلى الله، ويشعر أنه إذا وكل أمره إلى الله كأنه دخل حصناً حصيناً، والأعداء لا يستطيعون أن يصلوا إليه، وكذلك حال الإنسان في الإنفاق وهو يتوكل على الله وينفق، يقول: مثل ملك قال لأحد رعيته: إذا أنفقت، أعطيك بدل الذي أنفقته من خزائني أضعافه، فإذا علم صدق الملك، ووثق به، واطمئن إليه، وعلم أن خزينة الملك لا تنفذ، فما الذي يمنعه من الإنفاق، ثم يمثل المتوكل بحال الطفل الرضيع، الذي لا يعرف من الدنيا إلا ثدي الأم، فلا يهتدي إلا إليه ولا يقبل على غيره، وكذلك ينبغي أن يكون المتوكل على الله مثل الطفل الذي يقبل على ثدي أمه. ومن أمثاله أيضاً: يقول: السنة شجرة، والشهور فروعها، والأيام أغصانها، والساعات أوراقها، والأنفاس ثمراتها، فمن كانت أنفاسه في طاعة، فثمرة شجرته طيبة، ومن كانت في معصية، فثمرته حنظل، وإنما يكون الجذاد يوم المعاد، ثم يقول: إن هذه الشجرة ينبغي أن تسقى بماء الإخلاص والمتابعة لتكون الثمار طيبة في الآخرة. وعندما يتكلم ابن القيم في مدارج السالكين عن منازل من أعمال القلوب، تنذهل وتندهش حقيقةً من القدرة التي أوتيها هذا الرجل -رحمه الله تعالى- فمثلاً عندما يتكلم عن المحبة يقول: الحمد لله الذي جعل المحبة إلى الظفر بالمحبوب سبيله، ونصب طاعته والخضوع له على صدق المحبة دليله، وحرك بها النفوس إلى أنواع الكمالات إيثاراً لطلبها وتحصيله، والمحبة هي روح الإيمان والأعمال والمقامات والأحوال، تحمل أثقال السائرين إلى بلاد لم يكونوا إلا بشق الأنفس بالغيها، وتوصلهم إلى منازل لم يكونوا بدونها أبداً واصليها إلى آخره.

قدرة ابن القيم على التحليلات النفسية

قدرة ابن القيم على التحليلات النفسية ابن القيم -رحمه الله- صاحب فكر مدقق، وكان يفكر في الواقع حتى يربط بين الحيوانات وبين البشر، وله تحليلات نفسية جميلة جداً لا ترقى إليها إلا كبار العقول في هذه المسألة. يقول: من الناس نفوسهم حيوانية لا هم لهم إلا في الأكل والشرب، وليس عندهم اهتمام بالشريعة. ومن الناس نفوسهم كلبية لو صادف جيفة تشبع ألفاً، وقع عليها، وكلما أتى واحد نبح، لا يريد أن يأتي إليها. ومن الناس طبعه طبع الخنزير يمر بالطيبات فلا يلوي عليها، لكن إذا وقع على قيء جاء عليه، يقول: هذا مثله مثل إنسان يرى في الناس أشياء طيبة وخصال طيبة، ثم يرى بعض العيوب فينسى كل الأشياء الطيبة ويأتي على العيوب. ومنهم على طبيعة الطاووس ليس له إلا التزين والتطيب والتريش، وليس له وراء ذلك من شيء. ومنهم من هو على طبيعة الجمل أحقد الحيوانات وأغلظها كبداً. ومنهم مثل: العقرب والحية لا يستريح إلا إذا نفث سمه في غيره؛ ولذلك إذا ما آذى أحداً من الخلق، يظل متوتراً طيلة اليوم، حتى يؤذي واحداً من الخلق فيستريح، مثل: العقرب الذي يفرغ سمه في الناس. وكذلك يقول: انظر إلى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (السكينة والوقار في أهل الغنم، والخيلاء والفخر في أهل الإبل) يحلل تحليلات؛ فمثلاً: الغنم والبقر وغيرها ترى رأسها إلى أسفل، والجمل رأسه إلى فوق ورقبته طويلة لا تجد البعير رأسه في الأرض، ولذلك البادية الأعراب أصحاب الإبل عندهم كبر وخيلاء وفخر، وأهل الغنم -أحياناً- تجد عندهم نوعاً من السكينة والتواضع. وكذلك يقول: من الناس من نفوسهم حمارية، لم تخلق إلا للكد والعلف، وليس عندهم بصيرة، صمٌ بكمٌ عميٌ؛ لذلك ضرب الله الذي لا ينتفع بالعلم مثل الحمار يحمل أسفاراً. وقال: من الناس من طبيعته فأرية فاسدٌ بطبعه، مفسدٌ لما جاوره، مثل: الفأر. ولما تكلم عن النمل، قال -رحمه الله-: ومن عجيب أمرها أن تقتل الملوك الظلمة المفسدة، ولا تدين بطاعتها، وتأتي بمجموعات وتتعاون، وكل نملة تجتهد في صلاح العامة غير مختزنه شيئاً من الحب لنفسها. ثم يتكلم عن الحمام، فيقول: القيمون على الحمام يعتنون بأنسابها اعتناءً عظيماً، فيفرقون بين ذكورها وإناثها حتى لا يحصل اختلاط في النسب، والقيمون على الحمام لا يحفظون أرحام نسائهم، ويحتاطون كما يحفظون أرحام حمامهم ويحتاطون، ويتكلم عن الحمام وعن مشابهة طباع الحمام لطباع النساء منها: من لا ترد يد لامس، وأخرى لا تنام إلا بعد طلب حثيث، وأخرى لا تمكن منها ذكراً إلا زوجها، وأخرى إذا غاب زوجها رضيت بأي أحد، وأخرى لا تمتنع على أحد، ومنها من إذا طارت البيضة أفسدتها، وذكر أموراً كثيرة جداً تدل على فقهه بالواقع رحمه الله.

وفاة ابن القيم رحمه الله

وفاة ابن القيم رحمه الله كانت وفاة ابن القيم رحمه الله تعالى ليلة الخميس، الثالث عشر من شهر رجب، وقت أذان العشاء سنة 751هـ بعد أن أكمل ستين سنة رحمه الله تعالى. اللهم اغفر لهذا العلم من أعلام المسلمين، اللهم وسع له في قبره ونوره له، واجعله له روضةً من رياض الجنة آمين.

ابن جرير الطبري [2،1]

ابن جرير الطبري [2،1] العلماء ورثة الأنبياء في إقامة الحق على العباد وتبيينه، ونشر الهدى والتحذير من الزيغ والضلال. وفي هذا الدرس تناول الشيخ شخصية أحد علماء أهل السنة الكبار، والمشهور بشيخ المفسرين، وهو ابن جرير الطبري فذكر اسمه وكنيته، حياته ونشأته، رحلته في طلب العلم، كتبه ومؤلفاته، زهده وذكاؤه، صفاته الخَلْقية والخُلقية، موته ورثاؤه مواضيع كثيرة من حياة هذا الإمام المجتهد تجدها في طيَّات هذا الموضوع.

فضل العلم والعلماء

فضل العلم والعلماء الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فقد قال الله سبحانه وتعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11]، وقال سبحانه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب)، وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم معلماً، وسار العلماء الربانيون على نهجه عليه الصلاة والسلام في تعليم الأمة، وتعلم هذا العلم، وهذه الأمة -ولا شك- تفتخر بماضيها وحاضرها. وهؤلاء العلماء الذين كانت لهم أيادٍ بيضاء على هذه الأمة بتوفيق من الله سبحانه وتعالى لا بد أن يتعرف عليهم أبناء هذا الدين، ليكونوا لهم قدوة ولينسب الفضل إلى أهله، ويعرف الفضل لذويه، ولا شك أن هذا من العدل ومن حسن العهد الذي هو من الإيمان، وإذا كانت الأمم الكافرة تبجل عظماءها، وتعقد الذكريات السنوية لحياتهم إحياءً لذكراهم وترجمة لهم وذكراً لمناقبهم وأطوار حياتهم وشرح مآثرهم، بل يسمون ما لديهم من المدارس والجامعات والمؤسسات بهؤلاء العظماء؛ فإن أمة الإسلام أولى بأن تحفظ الجميل لأهله، ونحن لسنا بحاجة إلى بدع ولا أعياد، ولا احتفالات لهؤلاء، فإن العلماء رحمهم الله تعالى قد عرفوا الفضل لأهله، فسطروا تواريخ هؤلاء العلماء وسيرهم وحياة كل واحدٍ منهم، وذكروا مآثرهم ومناقبهم وفضائلهم ومصنفاتهم وتلاميذهم وشيوخهم، كلها مسطرة بحيث أن المسألة لا تحتاج إلا إلى جهد في القراءة والاطلاع للتعرف على مآثر هؤلاء العلماء، ولكن يبقى أنه لا بد من نشر فضائل هؤلاء العلماء في الدروس وغيرها مما يلقى على الناس، حتى يتعرف الناس على علمائهم، ولا شك أننا أمة لنا ماضي وحاضر، وأننا ممتدون عبر الأجيال، ونحتاج إلى ربط الماضي بالحاضر، ولسنا مقطوعين عما مضى أو أبناء هذا الزمان فقط؛ ولذلك يشعر الإنسان بالتآلف والاتصال عندما يقرأ في سير هؤلاء العلماء. وحديثنا هذه الليلة عن الإمام المفسر العلم الكبير أبي جعفر الطبري رحمه الله تعالى والذي عاش ما بين عام: (224هـ - 310هـ) في الدولة العباسية، حيث عاصر عدداً من خلفائها، فإنه ولد في خلافة المتوكل، وبعده المنتصر والمستعين والمعتز والمهتدي والمعتمد والمعتضد والمكتفي ومات في خلافة المقتدر، ولا شك أن هذا العصر ليس مثل عصر هارون الرشيد الذي يعتبر أوج الدولة العباسية، ولكن من جهة الحركة العلمية لا شك أنه عصر نشط للغاية، ومزدهر جداً؛ لأن معظم العلوم الشرعية كانت قد أسست، والمذاهب الفقهية قد ظهرت، والتدوين والتصنيف قد نشط جداً، ففي هذا العصر كان قد جمعت الصحاح والسنن. وفي القرنين الثالث والرابع بلغت العلوم الشرعية والمذاهب الفقهية درجة كبيرة من الاستقرار والانتشار والتوسع، وصنفت الكتب في المسائل، وكانت هذه الفترة التي تلت فترة التأسيس تتطلب أدوات كثيرة لمن يطلب العلم من هذه المصنفات والمشايخ المنتشرين في طول البلاد وعرضها. عاش ابن جرير الطبري رحمه الله في القرن الثالث والرابع، وظهر في هذه الفترة كبار العلماء، مثل: الشافعي رحمه الله (204هـ)، وأحمد بن حنبل (241هـ) وداود الظاهري (270هـ)، وخرج بعدهم طلابهم كـ المزني والبويطي وابن سريج والمروزي وأبو حامد وابن المنذر والقفال الشاشي والاصطخري من فقهاء الشافعية وتلاميذ الشافعي، وتلاميذهم كانوا قد ظهروا في تلك الفترة أيضاً، وفي المذهب الحنفي عرف الجصاص والخصاف والطحاوي وأبو الحسن الكرخي، وفي المذهب المالكي إصبغ وأبو بكر الأبهري والقاضي أبو الفرج، وفي مذهب الإمام أحمد رحمه الله عرف أبو بكر المروزي والأثرم وإبراهيم الحربي والخلال والخرقي وهؤلاء كلهم من أعلام المذهب الحنبلي. وفي هذه الفترة كانت بلدان العالم الإسلامي تعج بالإنتاج الوفير وتخريج فطاحل العلماء في شرق الدولة الإسلامية من بخارى وسمرقند، وفي فارس التي من مدنها شيراز وخراسان وأصبهان، والطبرستان التي ينتسب إليها الطبري رحمه الله، وهمدان، وكذلك في العراق في بغداد والبصرة والكوفة، والشام في دمشق والقدس وبيروت، وفي الحجاز في مكة والمدينة، وفي اليمن في صنعاء وزبيد، وفي مصر في القاهرة والاسكندرية، وفي المغرب في القيروان ومراكش، وفي الأندلس في أشبيلية وقرطبة وطُلَيطُلة، كل هذه المدن الإسلامية في الشرق والغرب والوسط كانت تعيش في فترة ازدهار علمي كبير. ولا شك أن هذا كان من أسباب خروج علماء فطاحل، فإذا كان الجو العلمي مهيأ، والعلم منتشر ومزدهر، وإذا كانت المصنفات كثيرة، وإذا كانت الوسائل والسبل مفتوحة؛ فلا بد أن يخرج علماء كبار، فإذا قارنا ذلك بحالنا في هذه الأيام؛ لعرفنا لماذا نحن متخلفون في هذا الجانب عن الركب كثيراً، ولماذا لم يظهر علماء كبار كثر في هذا الزمان؟ فإن حركة البحث العملي وانتشار العلم والعلماء -الجو العلمي- لا يقارن مطلقاً بما كان عليه في الماضي، ولكن عندما يوجد ولو في إحدى الجامعات جو علمي نشط، وحركة بحث وتأليف ورسائل ومشايخ وعلماء، فعند ذلك تتهيأ الفرصة لخروج علماء، وهذه مسألة مهمة أن الأمة تحتاج إلى علماء، ولا بد لها منهم، فلماذا لم يتخرج علماء كبار أو كثر؟ ولماذا لا زالت الأمة فيها عجز كبير جداً في قضية العلماء حتى أن العلماء الكبار الثقات معدودون على أصابع اليدين؟ فالأمة تحتاج إلى علماء كثر، فأعداد المسلمين في العالم كثر للغاية أكثر من أي وقت مضى، ومع ذلك العلماء أقل من أي وقت مضى، ولا شك أن من الأسباب تهيئة الجو العلمي؛ لأن العلماء لا يخرجون من فراغ، ولكن لا بد من وجود جو علمي يخرجون من خلاله، ولذلك فإن احتساب بعض الناس الأجر في تهيئة الأجواء العلمية لخروج العلماء؛ يكون فيه أجر عظيم حتى لو لم يكونوا هم بأنفسهم علماء.

الطبري اسمه وكنيته ونسبه ومولده

الطبري اسمه وكنيته ونسبه ومولده هو محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الطبري رحمه الله تعالى يكنى بـ أبي جعفر، وعرف بذلك واتفق المؤرخون عليه مع أنه لم يكن له ولد يسمى بجعفر، بل إنه لم يتزوج أصلاً، ولكنه تكنى التزاماً بآداب الشرع الحنيف، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يطلق الكنى على أصحابه، وكان يكني الصغار، ويقول: (يا أبا عمير ما فعل النغير) ونحوها، وذلك لإشاعة روح المسئولية والتحمل عند الصغير والشعور بشعور الكبير، وهذا لا شك أنه يساعد في نضج الطفل ونموه، ونقله من عالم الطفولة إلى عالم الرجولة، ولعله يكون لنا وقفة في عدم زواج ابن جرير رحمه الله. وأما نسبه إلى طبرستان فإنه لا خلاف فيه أيضاً عند المؤرخين، وطبرستان ولاية كبيرة في بلاد فارس تقع بين جرجان والديلم على بحر قزوين وتظم قرى كثيرة، ومن قرى طبرستان قرية آمل التي ولد بها أبو جعفر الطبري رحمه الله، ولذلك أحياناً يقال في نسبه: الآملي نسبة إلى آمل البلد التي تقع مدينة في طبرستان. وأيضاً ينسب إلى بغداد، فيقال: البغدادي؛ لأنه سكن بغداد واستوطن بها، ونشر فيها علمه. وإذا قيل: هل أبو جعفر الطبري عربي أم لا؟ بعض المؤرخين ذكر أنه عربي، وبعضهم ذكر أنه ليس بعربي، وقد سكن بلاد الفرس -بلاد الأعاجم- قبائل من العرب بعد الفتوحات الإسلامية، سكنت بأكملها في خراسان ونيسابور وطبرستان، يتكلمون الأعجمية، ولكن أصولهم عربية نتيجة أن القبائل العربية نزحت أو ذهبت واستقرت في تلك البلدان، وكان هذا لعله من خطط الخلفاء الراشدين في نشر الإسلام في تلك الأصقاع، وأن يوجد هناك مجموعة من العرب المسلمين، وقد حمل العرب الإسلام في البداية ونشروه، فلا عز لهم إلا به. فمهما قيل عن الطبري رحمه الله هل هو عربي أو ليس بعربي فالمسألة: (لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى) فـ الطبري رحمه الله عربي اللسان، عربي العلم من جهة اللغة، ولا فرق بينه وبين أي عربي من ناحية اللغة العربية الفصحى، فمن طالع تفسيره يعرف مدى تضلع الرجل في علم اللغة العربية. ولد رحمه الله -كما سبق ذكره- في عام (224هـ) وقيل في غيرها، ولعل سبب الاختلاف هو عندما قال: كان أهل بلادنا يؤرخون بالأحداث دون السنين، يقولون: العام الذي حصل فيه زلزال كذا أو حرب كذا أو طاعون كذا ونحو ذلك، فكان القدامى يؤرخون بالأحداث أكثر من تاريخهم بالأعداد والأرقام والسنين، فأُرخ مولدي بحادث كان في البلد، فلما نشأت سألت عن ذلك الحادث، فاختلف المؤرخون، فقال بعضهم: كان في آخر سنة (224هـ)، وقال بعضهم: بل كان في سنة (225هـ). والفرق يسير، والمشهور في ولادته سنة (224هـ).

نشأة الطبري وطلبه للعلم

نشأة الطبري وطلبه للعلم نشأ الطبري رحمه الله نشأة جيدة للغاية؛ لأنه تربى في أحضان والده، وأبوه رحمه الله كان قد تفرس فيه الذكاء والنباهة والحفظ من البداية، ولعل من الأسباب أيضاً: أن أباه رأى رؤيا في المنام أن ولده أبا جعفر كان بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، ومع الولد مخلاف مملوء بالأحجار، وأنه يرميها بين يديه -بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام- فلما قص والد أبي جعفر الرؤيا على صديق له، عبرها له بأن ابنه إن كبر نصح في دين الله وذب عن شريعة الله، فازداد أبوه حرصاً عليه في طلب العلم، وربما أنه كان يقص هذه الرؤيا على ولده، لكي يستشعر الولد ذلك وتكون حافزةً له في طلب العلم. وهذه النشأة لا شك أنها ساعدته كثيراً في طلب العلم، ففي آمل نشأ وترعرع في كنف أبيه، وهيأ له الأسباب، ولذلك حفظ القرآن وهو ابن سبع سنين، وصلى بالناس إماماً وهو ابن ثمان سنين، وكتب الحديث وهو ابن تسع سنين، ووهب نفسه للعلم في مقتبل شبابه، وظهرت عليه ملامح النبوغ ومخايل التفتح والذكاء الخارق والملكات الممتازة، وأدرك أبوه طبيعة ولده. الآن عندنا أولاد أذكياء في المجتمع الإسلامي، ما عقمت نساء المسلمين أن يلدن أذكياء وحفاظاً نابغين، لكن أين الوسط الذي يحتضنهم؟! وأين الموجهين الذين يوجهونهم لطلب العلم؟! وأين الحرص عليهم منذ نعومة أظفارهم؟! فيوجد إهمال كبير للأطفال في مجتمعنا، وغاية ما يفعله الأب أن يسلم ولده للمدرسة، ثم لا يتابع الولد في غمرة انشغالاته، وقد يكون الولد نابغة فعلاً وحافظ وذكي للغاية ولكن لا يوجد توجيه، وربما يذهب نبوغ الولد في الألعاب واللهو، وربما يتوجه إلى الشر بعد فترة، ويستخدم ذكاءه في الشر، ويصبح من كبار المجرمين؛ لأن كبار المجرمين أذكياء، ولكن انحرفوا بسبب عدم وجود التربية. فمن الفروق بيننا وبينهم: أن الأب إذا رأى ولده غير عادي كان يهتم به، ويعتبره امتداداً له، ولو كان الأب ليس بعالم وليس بنابغة ولا مشهور ولا معروف بالعلم، لكنه يعرف أن ولده هذا امتداد له في المستقبل يرفع به رأسه، ويكسب به أجراً من ربه. ولذلك مثل والد أبي جعفر لما أحس أن ولده شخصية غير عادية، وأن فيه نبوغ وحفظ غير طبيعي؛ فإنه سعى لتهيئة كل الأسباب ليتوجه الولد للعلم، فالطفل في أول أمره لا يعرف مصلحته، فإذا ما وُجِدَ توجيه ودفع إلى حفظ القرآن والسنة، وإلى حفظ المتون وإلى غشيان حلق العلم، وإلى ثني الركب عند العلماء، فإن الولد لن يتعلم، فالاعتناء بالأولاد الصغار في الماضي كان ينشئ العلماء. الاعتناء بالصغار من أكبر ما يستفاد من طفولة العلماء، فحياة العلماء في مرحلة الطفولة ينبغي أن نستفيد منها في اعتنائنا بأولادنا، ولو كان الواحد فينا أمياً أو عامياً أو كان نصف متعلم أو طويلب علم، أو لم يرتق إلى مرتبة طالب علم أصلاً، فإن ولده ربما يكون هو عالم المستقبل، فإذا كان التعامل مع الولد بهذه النفسية والتوجه؛ فلا شك أن النتيجة ستكون عظيمة. وعلى طريقة العلماء يبدأ الولد عند الكُتَّاب حفظ القرآن يحفظ أشياء من السنة، ويحفظ متوناً، وبعد ذلك يلزم بعض الحلق التي تناسب سنه، وقد كان يوجد في كل بلد حلق يتوجه إليها الصغار، ثم إذا شبَّ أخذ العلم عن أهل بلده، ثم انطلق في أرجاء المعمورة راحلاً مرتحلاً في طلب العلم.

رحلة الطبري في طلب العلم

رحلة الطبري في طلب العلم بعد أن بلغ الطبري رحمه الله مبلغاً في أول شبابه بدأ رحلته العلمية إلى البلدان المجاورة في بلاد فارس، وتنقل بين مدن طبرستان، كانت عادتهم، أولاً: يأخذ عن مشايخ بلده، وإذا انتهى؛ يبدأ فيما حوله من البلدان، فاتجه بعد ذلك أبو جعفر إلى الري وما جاورها ليأخذ عن علماء الحديث واللغة والتفسير، يتنقل كالنحلة من شيخ إلى شيخ من عالم إلى آخر، فأول ما كتب الحديث ببلده، ثم بـ الري وما جاورها وأكثر عن الشيوخ. وأكثر في أول أمره عن شيخين، هما: محمد بن حميد الرازي، والمثنى بن إبراهيم الأبلي، ويقول: كنا نكتب عند محمد بن حميد الرازي فيخرج إلينا في الليل مرات، ويسألنا عم كتبناه ويقرؤه علينا، وكنا نمضي إلى أحمد بن حماد الدولابي، وكان في قرية من قرى الري، بينها وبين الري قطعة نأتي إلى الشيخ محمد بن حميد الرازي نجلس عنده، ثم نمضي إلى الدولابي، وإذا انتهينا من درس الدولابي؛ يكون قد حان موعد درس الرازي وبينهما مسافة -أي: قريتين- قال: ثم نغدو كالمجانين حتى نصير إلى ابن حميد فنلحق مجلسه نغدو كالمجانين -أي: من السرعة في العدو للحاق بدرس الشيخ، فمن شيخ في قرية، إلى شيخ في قرية، ثم العودة إلى الشيخ الأول بهذه السرعة، كل ذلك ينم عن وجود دافع قوي للتحصيل؛ حتى أن الواحد لا يكاد يلحق في حضور كل هؤلاء، فيكون وقته مزدحماً بدروس العلماء، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (منهومان لا يشبعان: طالب علم، وطالب مال) منهوم في العلم لا يشبع منه، ومنهوم في الدنيا لا يشبع منها، وإذا كان الطبري رحمه الله عنده هذه النهمة في طلب العلم؛ فلذلك لن يهدأ له بال حتى يطوف ويحصل، ومن شيخ إلى شيخ، ومن حلقة إلى حلقة، ومن درس إلى درس. وهكذا امتدت الحياة لهذا الإمام رحمه الله ليذهب إلى أمصار مختلفة، ويأخذ الحديث من أفواه الأئمة مباشرة.

ابن جرير وطلب العلم في العراق

ابن جرير وطلب العلم في العراق بعد ما انتهى ابن جرير من الري ذهب إلى بغداد، ليلحق بالإمام أحمد رحمه الله؛ ليأخذ عنه الحديث، لكن الذي حصل أن الإمام أحمد رحمه الله توفي سنة (241هـ) قبل أن يصل ابن جرير إلى بغداد، ففاته الإمام أحمد رحمه الله، لكنه أقام في مدينة السلام حاضرة العلم والعلماء في ذلك الوقت، يأخذ عن محدثيها الحديث، والفقه عن فقهائها على مختلف المذاهب، وبعد أن انتهى من بغداد انحدر إلى البصرة، فسمع الحديث من محدثي البصرة من محمد بن موسى الحرشي، وعماد بن موسى القزاز، ومحمد بن عبد الأعلى الصنعاني، وبشر بن معاذ، ومحمد بن بشار بندار، ومحمد بن المعلّى. بعدها انتقل من البصرة إلى واسط، فسمع من شيوخ واسط، ثم انتقل إلى الكوفة، فأخذ عن كبار علماء الكوفة: من أبي كريب محمد بن العلاء الهمداني، وهناد بن السري المحدث المشهور، وإسماعيل بن موسى وغيرهم يقال: إنه سمع من أبي كريب مائة ألف حديث، وأخذ القراءات عن سليمان الطلحي. بعد أن جمع علم البصرة والكوفة وواسط رجع إلى بغداد ثانية فإنه لم يرتو منها بعد، لكن الإنسان يأخذ أهم الموجود، ويريد أن يلحق علماء البلد الآخر، فإذا انتهى رجع إلى ما كان قد تركه في البلد الأول؛ خشية أن يفوته علماء البلد الثاني، أو يموت أو يذهب قبل أن يلحق على علمه. أقام بـ بغداد مدة، فدرس علوم القرآن عامة وعلم القراءات خاصة، وتلقى فقه الشافعي على الزعفراني، وكتب عنه كتاباً في الفقه، ودرس في بغداد على أبي سعيد الاصطخري، وعرف أبو جعفر الطبري في بغداد في هذه الفترة وبدأ يشتهر، وأقر له أهل العلم بالفضل، وبدأ نبوغه يظهر. فإذاً: يظهر الإنسان بعلمه بعد مرحلة التأسيس، وليس هناك ظهور قبل التأسيس، وكان عمر رضي الله عنه يقول: [تفقهوا قبل أن تَسُودُوا أو تُسَوَّدُوا] لأن الإنسان إذا صار في منصب أو صار سيداً قبل أن يتفقه؛ فإن هذا المنصب سيمنعه عن الطلب من عدة جهات. أولاً: ربما يستحي وهو في هذا المنصب أن يجلس مع الصغار ليطلب العلم. ثانياً: أن المنصب له أشغال كثيرة، ولو تزوج وولد له أولاد أو صار في منصب صار في شغل في تجارة في وظيفة لها أشغال ومتطلبات، فلن يكون عنده وقتاً كافياً لطلب العلم، بخلاف ما لو كان منذ أول أمره قبل الارتباطات والمسئوليات يطلب العلم، فإذا صار سيداً أو صار في مكانة، ثم لم يتفقه افتضح بين الناس؛ لأنه ليس عنده شيء يعطيه ربما يسأل ربما يؤتى إليه، أو ربما يجعل حكماً في قضية، أو ربما يلجأ إليه في شيء ما عنده علم، فيفتضح بين الناس، وربما يحكم بشيء مخالف للشرع، أو يتاجر مثلاً في أشياء وهو ما فقه علم البيوع، فيرتكب محرمات في أثناء التجارة. على أية حال، لا بد من مرحلة التأسيس والتفقه من الصغر، ثم إن النبوغ بين الناس والاشتهار بالعلم يكون بعد أن يؤسس نفسه. بدأ الطبري رحمه الله يعرف بالعلم في بغداد بعدما رجع إليها في المرة الثانية، فبدأ يتكلم ويذكر اسمه في المجالس، وبدأ الإنصات لأقواله، والواحد إذا صار في درس الشيخ، فإن طلاب الشيخ ليسوا سواء، فهناك المعيد الذي يعيد الدرس بعد الشيخ، لمن يحتاج إلى إعادة لما كتب، أي: الذي جاء متأخراً وفاتته الحلقة. تلاميذ الدرس رتب: هناك تلاميذ متقدمون، وهناك متوسطون وهناك مبتدئون، وهؤلاء التلاميذ المتقدمون لا شك أنهم قد يسألون عن أشياء مما ذكره الشيخ، أو من بعض المسائل، ويكون لهم رتبة فينبغون، وطريقة الحلق تساعد على نبوغ الطالب وتدرجه من مرحلة إلى مرحلة، وتبوئه مكانه الصحيح بين طلبة العلم.

الطبري وطلبه العلم في الشام ومصر

الطبري وطلبه العلم في الشام ومصر لم يكتف الطبري رحمه الله بهذه الرحلة، وإنما رحل إلى الشام وكان فيها من أهل العلم من فيها، وذهب إلى السواحل والثغور من مدن الأجنان للحروب التي كانت مع الدولة البيزنطية، وأخذ القرآن برواية الشاميين، عن العباس بن الوليد المقرئ البيروتي وأقام بـ بيروت، حيث كانت بيروت حاضرة من حواضر العلم، ويكفي أنه كان يوجد فيها الأوزاعي التي فيها إلى الآن حي يعرف بحي الأوزاعي نسبة إلى ذلك العالم الأوزاعي الذي كان في بيروت، وهو من كبار علماء الشام رحمه الله تعالى. فجلس في بيروت فترة من الزمن، ثم ذهب بعد ذلك إلى مصر، وكان مشتاقاً للقاء علمائها، وكان فيها من العلماء كبار، فقد أخذ فيها مذهب مالك على أبي محمد عبد الله بن وهب، وأخذ فيها على يونس بن عبد الأعلى، وأخذ فيها على محمد وعبد الرحمن وسعد أبناء عبد الحكم، ودرس فيها فقه الشافعي على الربيع بن سليمان المرادي، وإسماعيل بن يحيى المزني، ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم، بين مذهبي مالك والشافعي أقام في مصر فترة ثم رجع إلى الشام. أقام بـ الشام فترة ثم رجع إلى مصر، يلحق بالعلماء قبل أن يموتوا، يحصل أشياء، ثم يرجع يقضي ما فاته في البلد الأول وهكذا. ذهب إلى مصر مرة ثانية سنة (256هـ) والتقى بـ يونس بن عبد الأعلى الصدفي، وأخذ عنه قراءة حمزة وورش، وكذلك فإنه درس بـ مصر العروض وأصبح عروضياً، يعرف بحور الشعر وأوزانه، فكان لا بد من التعامل باللغة العربية والشواهد من أشعار العرب، خصوصاً في التفسير، حيث أن هذا القرآن نزل بلغة العرب، فتعرف أي معنى استعمله العرب لهذه الكلمات. بعد ذلك دب فيه الحنين إلى وطنه، فترك مصر، ورجع إلى وطنه.

العودة إلى طبرستان ثم الرحيل إلى بغداد

العودة إلى طبرستان ثم الرحيل إلى بغداد بعد هذه الرحلة الطويلة يحن الإنسان إلى أهله وبلده وأقربائه، وفي الطريق مر بـ بغداد وكتب فيها شيئاً ثم عاد إلى طبرستان، عاد رجلاً آخر يختلف تماماً عن الشخص الذي خرج منها، رجع صاحب علم وتجربة وخبرة، فالأسفار تربي الشخص على أشياء كثيرة، ثم إن الترحال في هذه البلدان كما قال الشاعر: تغرب عن الأوطان في طلب العلا وسافر ففي الأسفار خمس فوائد تفريج هم واكتساب معيشة وعلم وآداب وصحبة ماجدِ فلا شك أن هذه الأسفار كانت تصقل شخصيات هؤلاء العلماء، غير الفوائد العلمية الكثيرة التي كانوا يحصلونها، وهي الهدف الأساسي من الرحلة، فهنا يمكن أن يشعر الإنسان أو يشم شيئاً من فرح أهله به بعدما رجع ولدهم إليهم بهذه المنزلة العظيمة والعلوم الجليلة التي حصلها، ولما مكث بـ طبرستان فترة أشبع فيها ما حصل له من الحنين إلى أهله وبلده، رجع إلى البلد التي يمكن أن يفيد فيها الآن أكثر، وهي بغداد حاضرة العلم في ذلك الزمان، ومقصد ومهوى أفئدة كثير من طلبة العلم، فاشتهر اسمه في العلم، وشاع خبره بالفهم والتقدم، ولكنه لم ينس بلده طبرستان وأهله وأقربائه، فرجع مرة ثانية في سنة (290هـ) فمكث قليلاً، ثم رجع إلى بغداد، وهنا حط رحاله وألقى ترحاله واستقر فيها، وانقطع عن التدريس والتأليف في بغداد إلى أن ودع الحياة.

مرحلة التصنيف والتدريس عند الطبري

مرحلة التصنيف والتدريس عند الطبري إن التسلسل التاريخي للعالم تجد أنه يبدأ يدرس ويصنف بعدما يرحل ويجمع ويحفظ، فتكون حياة العالم فيها مراحل: الطفولة التي هي حفظ القرآن والسنة ومتون في اللغة والمواريث والمصطلح ثم بعد ذلك يأخذ عن مشايخ البلد، ثم مشايخ البلاد التي جاورها يرحل ويجمع ويحصل ويحفظ ويكتب وينسخ، ثم يرجع بعد عشرين سنة أو ثلاثين سنة إلى بلده أو إلى البلد التي فيها جو علمي وطلبة علم كثيرين، ويجلس فيها ويكون له درس أو دروس، تكون المرحلة الأخيرة من حياة العالم التدريس والتصنيف، وهذا هو الخط العام لحياة العلماء التدريس والتصنيف. رجع إلى بغداد رحمه الله بعدما اكتملت شخصيته العلمية، وحصل ما حصل، وجمع ما جمع، واستقر فيها إلى سنة (310هـ) حيث توفي باذلاً وقته للعلم، فاتحاً بابه لطلبة العلم، عاكفاً على تصنيف كتبه ومؤلفاته. صار الطبري رحمه الله بتوفيق الله تعالى ثم بفضل ذلك الأب الذي دفعه للعلم منذ صغره، ثم بهذه النهمة والجمع والترحال صار موسوعة ودائرة معارف، فهو صاحب عقل منظم، كان يمتاز بالتنسيق، وأنت لا تجد مؤلفاً من المؤلفين المكثرين إلا وعنده جانب التنسيق والترتيب ناضجاً، ولذلك يستطيع أن يصنف، فالتصنيف يحتاج إلى عقلية ترتب وتنسق. وكان مدرساً في غاية الجودة في التدريس، ولذلك كان عنده طلاب كثيرين، الطالب إذا أحس أن الشيخ يعتني به؛ ويحسِّ خلقه معه، يفتح صدره له؛ ويقبل الطلاب عليه، والمجاهد ينفع الأمة بالجهاد، والغني ينفع الأمة بالمال، والعالم ينفع الأمة بالتدريس والتصنيف، وهناك طلاب يُعتبرون صدقات جارية لأنه يعلم من بعده، والأجر للمعلم الذي علَّم الطالب الأول، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم أكثر الأمة أجراً، وكذلك المصنف يطلق عليه (ولد العالم المخلد) فالإنسان إذا اعتنى بتربية ولده، وعاش ولده صالحاً يدعو لأبيه؛ ينتفع الأب بدعاء ولده؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مات ابن آدم؛ انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) فالولد الصالح طيلة حياته يدعو لأبيه ويعمل أعمال بر لأبيه، وتكتب أعماله مثل أجورها في صفحة أبيه، هو الذي رباه، وإذا انتهى الولد انتهى مورد الأجر بهذا الأب، لكن يعتبر تصنيف العالم يعتبر ولداً مخلداً؛ لأنه طيلة وجود هذا الكتاب يكون الأجر يدر على مؤلفه ومصنفه. فتأمل الآن مثلاً كتاب مثل كتاب تفسير الطبري الذي هو أساس الكتب، وأعظم كتاب في التفسير على الإطلاق باعتراف علماء الأمة، وكل من بعد ابن جرير عالة عليه في التفسير، كما أن أعظم كتاب في الحديث هو صحيح البخاري، فأعظم كتاب في التفسير هو تفسير الطبري، طيلة رجوع العلماء وطلبة العلم والناس إلى هذا الكتاب، فإن ابن جرير يجري عليه عمله في قبره إن شاء الله، ويصل إليه مداد الأجر وافراً وهو في قبره، فتصنيف العالم ولده المخلد. ولم يكف ابن جرير رحمه الله عن التعلم وهو في مرحلة التصنيف والتدريس، فالإنسان دائماً في تعلم فوائد جديدة، والعجيب في شخصية هذا الرجل أنه كان صاحب همة عالية جداً. وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسامُ إذا كانت النفوس كبار الهمم عالية، تعبت في تحقيق مطلوبها الأجسام، فاستمر ابن جرير رحمه الله حتى بلغ السادسة والثمانين من عمره لم تفتر عزيمته، ولم يخف نشاطه، ولم يجف قلمه حتى مات وهو في السادسة والثمانين وحتى في مرحلة الشيخوخة بدأ بتصنيف عدة كتب، وقطع في كل منها شوطاً ولم يتمها، كـ فضائل علي وفضائل أبي بكر وفضائل عمر وفضائل العباس والموجز في الأصول وتهذيب الآثار وهو من أعظم كتب الحديث لكنه لم يتمه، كذلك ألف في الأصول كتاب الآذر، ولكنه لم يخرج منه شيئاً، وأراد أن يعمل كتاباً في القياس فلم يعمله، لكن خذ الكتب التي عملت كـ التفسير وتاريخ الطبري مثلاً. يقول أبو القاسم الحسين بن حبيش الوراق: كان قد التمس مني أبو جعفر أن أجمع له كتب الناس في القياس -لأن التصنيف يحتاج فيه العالم إلى اطلاع على مصنفات ومؤلفات من كتب قبله في نفس الموضوع- فجمعت له نيفاً وثلاثين كتاباً، فأقامت عنده فترة مديدة، ثم كان من قطعه للحديث بشهور ما كان، فردها علي، وفيها علامات عليه بحمرة قد علم عليها، أي: قد اطلع، وعلم بعلامات. قبيل مرض الوفاة كانت الهمة متجهة للتصنيف وزيادة التأليف، وهذه الهمة الجبارة لا شك أنها وليدة ذلك الإيمان القوي الحافز والدافع، ونتيجة التربية، ونتيجة ما قذف الله في قلب هذا الرجل من حب العلم، والنهمة التي رزقها الله إياها، إذا رزق الله طالب العلم نهمة في الجمع؛ فإنه لا يقف عند حد. لم يؤلف الطبري رحمه الله في فنٍ واحدٍ، أو كان متخصصاً في فن واحد فقط، بل جمع مختلف العلوم الشرعية واللغوية وغيرها، فهو إمام في اللغة إمام في التاريخ إمام في الحديث إمام في التفسير إمام في القراءات وهكذا. سمع ابن جرير الحديث من كثيرين، بعضهم من شيوخ البخاري ومسلم، وحدث عنه خلائق، وهو من جهة أجيال المحدثين يعتبر من جيل الترمذي والنسائي، مع العلم أن جيل الترمذي بعد جيل البخاري، وجيل البخاري بعد جيل ابن المديني، وجيل ابن المديني بعد جيل يحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي وهكذا، فالإمام أحمد من جيل وعلي بن المديني ويحيى بن معين من هذه الطبقة، والطبري رحمه الله -كما قلنا- برع في جميع الفنون: فقه مقارن اختلاف العلماء تاريخ لغة نحو صرف عروض بيان مناظرات طب جبر رياضيات نظم شعر، وهكذا كله بعد التفسير، والحديث، والعقيدة والأصول.

أقوال أهل العلم في الطبري

أقوال أهل العلم في الطبري قال الخونساري: له مصنفات مليحة في فنون عديدة، تدل على سعة علمه وغزارة فضله، وكان من الأئمة المجتهدين. قال الخطيب البغدادي: وكان أحد أئمة العلماء يحكم بقوله، ويرجع إلى رأيه بمعرفته وفضله، وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، وكان حافظاً لكتاب الله تعالى، عارفاً بالقراءات، بصيراً بالمعاني، فقيهاً في أحكام القرآن، عالماً بالسنن وطرقها، صحيحها وسقيمها، ناسخها ومنسوخها عارفاً بأقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم من المخالفين في الأحكام ومسائل الحلال والحرام عارفاً بأيام الناس وأخبارهم، وله الكتاب المشهور في التاريخ وهو تاريخ الأمم والملوك، وكتاب في التفسير لم يصنف أحد مثله، وكتاب سماه تهذيب الآثار لم أر سواه في معناه إلا أنه لم يتمه، وله في أصول الفقه وفروعه كتب كثيرة واختيار من أقاويل الفقهاء وتفرد بمسائل حفظت عنه. ونقل ياقوت الحموي وصفه عن أبي محمد عبد العزيز بن محمد الطبري قال: كان أبو جعفر من الفضل والعلم والذكاء والحفظ ما لا يجهله أحدٌ عرفه، لجمعه من علوم الإسلام ما لم نعلمه اجتمع لأحدٍ من هذه الأمة، ولا ظهر من كتب المصنفين وانتشر من كتب المؤلفين ما انتشر له. وهذا توفيق من الله، هناك علماء صنفوا لكن مصنفاتهم ذهبت، أحرقت واندثرت ولم يهتم بها أحد، أولادهم باعوا كتبهم، وتاجروا بها، وهناك مذاهب انقرضت وكانوا فقهاء كبار أيام ما كانوا، لكن لم تخدم مذاهبهم، والله سبحانه وتعالى يهيئ من يشاء لمن يشاء، فبعض العلماء مذاهبهم حملت وسارت بها الركبان، وصنفت فيها المصنفات، وبعض العلماء مذاهبهم اندثرت، أو بقيت منها أقوال في كتب الفقه مثلاً، وبعض المصنفات اندثرت وماتت، وبعض المصنفات حية، وابن جرير رحمه الله من هذا الصنف من العلماء الذين كتب الله لهم ولمصنفاتهم القبول والانتشار، وما يوجد أحد من العلماء في ذلك الوقت انتشر له مثلما انتشر لـ ابن جرير رحمه الله على تنوع ما ألف فيه من فنون العلم. وقال ابن خزيمة وهو الإمام المحدث المشهور إمام أهل السنة: "ما أعلم تحت أديم الأرض أعلم من محمد بن جرير ". ويقول الذهبي: الإمام العلم الفرد الحافظ أبو جعفر الطبري، أحد الأعلام، وصاحب التصانيف، كان ثقة صادقاً حافظاً رأساً في التفسير، إماماً في الفقه والإجماع والاختلاف، علامة في التاريخ وأيام الناس، عارفاً بالقراءات وباللغة وغير ذلك.

مؤلفات الطبري

مؤلفات الطبري مؤلفات الطبري كثيرة جداً، ومن المؤلفات التي عرفناها جامع البيان عن تأويل آي القرآن، المعروف بـ تفسير الطبري وقد طبع مرات عديدة، وتاريخ الأمم والملوك المعروف بـ تاريخ الطبري، واختلاف علماء الأمصار في أحكام شرائع الإسلام، والخفيف في أحكام شرائع الإسلام في الفقه وهو مختصر كتاب: لطيف القول في أحكام شرائع الإسلام المعروف بـ اختلاف الفقهاء في علم الخلاف، وهو كتاب واسع اختصره في كتاب الخفيف، فإذاً: اللطيف والخفيف هما كتابان للطبري في الفقه. وكتاب تهذيب الآثار وتفصيل الثابت عن رسول الله من الأخبار هذا كتاب في الحديث طبع منه أربعة مجلدات وبقي منه بقايا وهو من الكتب العظيمة. كذلك ألف كتاب آداب القضاة، وآداب النفوس، والقراءات وتنزيل القرآن، والبصير في معالم الدين، وفضائل علي، وفضائل أبي بكر، وفضائل عمر، وفضائل العباس، وكتاب في تعبير عبارة رؤية في الحديث، ومختصر مناسك الحج، ومختصر الفرائض، والموجز في الأصول، والرمي بالنشاب حتى الرمي بالقوس وطريقة الرمي يقال: إنه للطبري رحمه الله، والرسالة في أصول الفقه، والمسترشد وكتاب اختيار من أقاويل الفقهاء، هذه بعض الكتب التي ألفها صاحب القلم السيال والنفس الطويل ابن جرير رحمه الله تعالى. يقول الخطيب البغدادي راوياً: إن محمد بن جرير مكث أربعين سنة يكتب في كل يوم أربعين ورقة، وإذا ضربت أربعين سنة في إنتاج كل يوم أربعين ورقة يكون الناتج ستمائة ألف ورقة؛ لأن الله سبحانه وتعالى أمد في عمره ستة وثمانين سنة، اطرح منها الطفولة والجمع والترحال والرحلات إلى أن استقر بـ بغداد أربعين سنة هذه فترة تدريس وتصنيف، كل يوم يؤلف أربعين ورقة هذه ستمائة ألف ورقة. يقول ياقوت الحموي: وحدث عبد الله بن أحمد بن جعفر الفرغاني في كتابه المعروف بكتاب الصلة وهو كتاب وصل به تاريخ ابن جرير -أي: كمل مما انتهى إليه ابن جرير في التاريخ - أن قوماً من تلاميذ ابن جرير حصلوا أيام حياته منذ بلغ الحلم إلى أن توفي وهو ابن ست وثمانين، ثم قسموا عليها أوراق مصنفاته، فصار منها على كل يوم أربع عشرة ورقة، وهذا شيء لا يتهيأ لمخلوق إلا بحسن عناية الخالق. تصنيف الطبري ليس كما يقولون كلام حشو، هذا لا يأتي إلا بعد جمع غزير، ما كان إنتاج الطبري بالغث. الآن تجد بعض المُحْدَثِين الجدد يؤلف المجلدات، لكن إذا نظرت في الزبدة أو العلم الحقيقي إذا أخرجت العبارات الإنشائية والكلام الذي فيه ما فيه، يمكن أن يصفى لك مختصر كتاب فيه أوراق. أما ابن جرير رحمه الله فكان كتابه زبداً، ليس فيه حشو، كان علمه المصنف في الكتب سميناً محيطاً بموضوع البحث. وبعض الكتب عادت عليها عواجل الدهر وحوادث الأيام، ونكبات التاريخ، واحترق ما احترق، وتلف ما تلف، وغرق ما غرق، وضاع ما ضاع، فقد القسم الأكبر، وما وصلنا الآن هو الأقل مما تركه ابن جرير رحمه الله، لكن يكفي تفسير الطبري ثلاثين مجلداً، وتاريخ الأمم والملوك ثمانية مجلدات، وقطعتين من اختلاف الفقهاء، لكن -مع الأسف- المستشرقين هم الذين اهتموا بـ تاريخ الطبري وبمؤلفاته، تهذيب الآثار فيها مسند عمر ومسند علي ومسند عبد الله بن عباس وله فيها مسانيد أخرى للصحابة كثيرة. ولنعلم أن ابن جرير رحمه الله لم يكن يحبس نفسه بين أربعة جدران، لا يعلم عن العالم، ولا يساهم في شيء، لا. كان محتكاً بالحياة والمجتمع والأمة والأحداث، ولم يكن في برج عاجٍ فقط يصنف، كان له طلاب ثم هذه الرحلة الطويلة التي رحلها أكسبته خبرة وتجارب في الناس والأحوال والأحداث. رزق رحمه الله بطلاب وتلامذة أقوياء، كان يملي عليهم ويحدثهم ويقرئ القرآن والقراءات، ويصلي إمام بالجماعة، ويقصده الناس لسماع قراءته وتجويده، والصلاة خلفه، فالرجل لم يكن مثل بعض الناس الآن لا تعرف عنهم شيئاً ألبتة إلا من كتبهم، إنما لا تاريخ، لا سيرة، لا حياء، لا إيمان، لا دروس، لا خطابة، ولا مساهمة في حل مشكلات الناس، لم يكن الطبري رحمه الله كذلك، كان إماماً مدرساً مصنفاً مناظراً له أتباع، أخذوا علمه، وحملوا فقهه، ونشروا مذهبه، وكان يحنو على تلاميذه وطلابه ويعاملهم معاملة كريمة.

ذكاء ابن جرير الطبري وحفظه

ذكاء ابن جرير الطبري وحفظه كان رحمه الله صاحب ذهنٍ وقاد، ووهبه الله عز وجل ذكاءً عظيماً، وكان والده قد اكتشف فيه هذا الذكاء منذ صغره، فاعتنى به، وخصص له بعد ذلك لرحلته في طلب العلم موارد أرض أنفقها على ولده، لتكون عوناً له على الرحلة والسفر والتفرغ لطلب العلم. ومما يدل على ذكائه رحمه الله ونبوغه أنه تعلم علماً كاملاً في ليلة واحدة، وهو علم العروض، وهو العلم المتعلق بأوزان الشعر، فإنه قال: لما دخلت مصراً لم يبقَ أحد من أهل العلم إلا لقيني، وامتحنني في العلم الذي يتحقق به، فجاءني يوماً رجل، فسألني عن شيءٍ من العروض، ولم أكن نشطت له قبل ذلك، وتفرغت لفهمه، فقلت له: علي قول ألا أتكلم اليوم في شيء من العروض، فإذا كان في غدٍ؛ فصل إلي، وطلبت من صديق لي العروض -كتاب العروض - للخليل بن أحمد، فجاء به، فنظرت فيه ليلتي، فأمسيت غير عروضي، وأصبحت عروضياً، فتعلمه في ليلة واحدة. وقد سبق أن ذكرنا أنه حفظ القرآن وهو ابن سبع سنين، وصلى بالناس إماماً وهو ابن ثمان سنين، وكتب الحديث وهو ابن تسع سنين، ولا شك أنه كان حافظاً غاية في الحفظ. وقال عنه تلميذه: كان أبو جعفر من الفضل والعلم والذكاء والحفظ ما لا يجهله أحد عرفه، لجمعه من علوم الإسلام ما لم نعلمه اجتمع لأحد من هذه الأمة ولا ظهر من كتب المصنفين، وانتشر من كتب المؤلفين ما انتشر له، كان يتكلم في حدود علمه عن شيخه رحمه الله تعالى. وقال أبو الحسن عبد الله بن أحمد بن المفلس الفقيه لما ذكر فضائل العلماء: "والله إني لأظن أبا جعفر الطبري قد نسي مما حفظ إلى أن مات ما حفظه فلان طول عمره". أي: أن الأشياء التي نسيها أبو جعفر تعادل الأشياء التي حفظها فلان طيلة حياته. وقال ثعلب: قرأ علي أبو جعفر الطبري شعر الشعراء قبل أن يكثر الناس عنده بمدة طويلة. أي: أنه قبل أن يشتهر كان قد انتهى من قراءة شعر الشعراء على ثعلب -اللغوي المشهور- فقال أبو العباس ثعلب يوماً: من بقي عندكم يسأل الطلاب؟ -أي: في الجانب الشرقي من النحويين- فقال أحدهم: ما بقي أحد، مات الشيوخ، فقال: حتى خلا جانبكم؟ قلت: نعم، إلا أن يكون الطبري الفقيه، فقال لي: ابن جرير؟ قلت: نعم. قال: ذاك من حذاق الكوفيين، قال أبو بكر: وهذا من أبي العباس كثير. يقول: هذه الشهادة منه شيء عظيم؛ لأنه كان شديد النفس، شرس الأخلاق، وكان قليل الشهادة لأحد بالحذق في علمه، فإذا شهد لـ أبي جعفر؛ فمعنى ذلك أنه فعلاً مبرز وعظيم في هذا الجانب. وكان أبو كريب محمد بن العلاء الهمداني قريباً من هذا في الشدة وعدم الانبساط، قال أبو جعفر: حضرت باب داره -دار أبي كريب - مع أصحاب الحديث، فاطلع من باب خوخةٍ له - أبو كريب كان من كبار المحدثين لكن لم يكن منبسطاً مع الطلاب- وأصحاب الحديث يتوسلون إليه ليدخلوا؛ ليحدثهم، فقال: أيكم يحفظ ما كتب عني؟ فالتفت بعضهم إلى بعض: من الذي يحفظ ما كتب عن الشيخ في الفترة الماضية؟ ثم نظروا إلي -يقول الطبري - وقالوا: أنت تحفظ ما كتبت عنه؟ قلت: نعم. فقالوا للشيخ: هذا فسله، فقلت: حدثتنا في كذا بكذا، وفي يوم كذا بكذا، وأخذ أبو كريب في مسألته يسأله عن الدقائق إلى أن عظم في نفسه، فقال له: ادخل إلي، فدخل إليه وعرف قدره على حداثته ومكنه من حديثه، وكان الناس يسمعون به، فيقال: إنه سمع من أبي كريب أكثر من مائة ألف حديث، فـ الطبري رحمه الله ما استعد لهذا الموقف، ولكنه كان يحفظ المرويات.

صفات الطبري الخلقية وعاداته

صفات الطبري الخَلْقية وعاداته بالنسبة لصفات الطبري الخَلْقِية وعاداته رحمه الله فقد كان أسمراً يميل إلى الأدمة، أعين -أي: واسع العينين- نحيف الجسم، طويل القامة، فصيح اللسان، أسود الشعر، وبقي السواد في شعر رأسه ولحيته إلى الوفاة، وظهر فيه بعض الشيب ولم يغيره، وكان يأكل الخبز من الدقيق الأبيض بعد غسل القمح أو نزع قشره؛ لأن مذهبه أن الشمس والنار والريح لا تطهر نجساً، وكان يأكل العنب والتين والرطب، ويشرب حليب الغنم التي ترعى بعد أن يصفى ويوضع على النار، حتى يذهب منه جزءٌ، ويصنع الثريد من الخبز، ويضاف إليه الصعتر -وهو الذي يعرفه الناس الآن بالزعتر- وحبة البركة والزيت، وكان يأكل الحصرم في وقته، وهذا من اعتداله رحمه الله في أكله، وكان يأكل اللحم الأحمر الصرف بعد أن يطبخه بالزبيب، ويتجنب اللحم السمين، ويقول عنه: إنه يلطخ المعدة، كما كان يتجنب السمسم والعسل، وكان يتجنب أكل التمر، ويظن أن التمر يلطخ المعدة، ويضعف البصر، ويفسد الأسنان، ويفعل في اللحم كذا وكذا، يعني هذا من مرئياته وتجاربه الخاصة. ومن اللحم اللطيف لحم الكتف الذي كان يأكله النبي صلى الله عليه وسلم، ومن اللحم الغليظ لحوم العضلات ولحم الفخذ مثلاً، ولما عاتبه أحد أصحابه وهو أبو علي الصواف، وقال له: أنا آكل التمر طول عمري ولا أرى إلا خيراً وأنت لماذا لا تأكل التمر؟ فرد عليه الطبري فقال: وما بقي على التمر أن يعمل بك أكثر مما عمل، قال: انظر إلى نفسك، وكان الصواف قد وقعت أسنانه، وضعف بصره، ونحف جسمه، وكثر اصفراره، وكان الطبري رحمه الله يتجنب الثلج؛ لأنه يؤذي الحلق، وكان يداوي نفسه ويتعالج بالأدوية، ويعتمد على كتاب فردوس الحكمة الذي ألفه علي بن زين، وسمعه منه مباشرة وكان يصف الأدوية من هذا الكتاب للناس. ومن آداب الطبري في الأكل: أنه كان إذا تناول اللقمة سمى ووضع يده اليسرى على لحيته ليقيها من الدسم، فإذا حصلت اللقمة في فيه أزال يده، ويتناول الطعام لقمة لقمة من جانب واحد من القصعة، وكان من وجوه القوم في مدينة السلام، وقال عنه محمد بن إدريس الجمال: حضرنا يوماً مع أبي جعفر الطبري وليمة، فجلست معه على مائدة، فكان أجمل الجماعة أكلاً وأظرفهم عشرة، كان قدوة رحمه الله حتى في طعامه. وكان الطبري إذا جلس لا يكاد يسمع له تنخم ولا تبصق ولا يرى له نخامة، وإذا أراد أن يمسح ريقه؛ أخذ ذؤابة منديله -طرف المنديل- ومسح جانبي فيه. والآن بعض الناس تراه في المجلس يتنخم ويبصق، ويأتي بجميع الأصوات ويتجشأ في عرض المجلس، وهذا مخالف للأدب. وقال هذا الرجل الذي يصفه: ولقد حرصت مراراً أن يستوي لي، مثل ما يفعله، فيتعذر علي اعتياده، أي: يمكن أن يحصل لي بعض المرات بتكلف، إنما ما استطعت أن يصبح لي عادة، قال: وما سمعته قط لاحناً ولا حالفاً بالله عز وجل، لغته مستقيمة وما كان يحلف بالله تعالى هيبة من القسم.

تنظيم الوقت عند الطبري

تنظيم الوقت عند الطبري من الأمور المهمة والمهمة جداً لطالب العلم حتى وللعالم، وكان يفعله ابن جرير رحمه الله هو تنظيم الوقت، فكان يجمع بين التدريس والتصنيف والنوم والعبادة، فكان ينام قيلولة الظهر قبل الظهر، ويصلي الظهر ثم يبدأ بالتصنيف إلى العصر، ثم يخرج فيصلي العصر، ويجلس في المسجد يدرس القرآن، إلى المغرب، ثم يجلس للفقه والدرس والمذاكرة بين يديه إلى صلاة العشاء الآخرة، ثم يدخل إلى منزله، فإذا دخل منزله بعد المجلس، فلا يسمح لأحدٍ بالدخول عليه، لاشتغاله بالتصنيف إلا في أمرٍ مهم، مع المحافظة على حزبه من القرآن الكريم، وكان يقرأ كل ليلة ربعاً أو حضاً وافراً. قال ابن كامل: وقد قسَّم ليله ونهاره في مصلحة نفسه ودينه والخلق كما وفقه الله عز وجل، فأنت إذا نظرت إلى تنظيم الوقت تجده أنه يعتمد على الصلوات، وهذه ميزة في الصلوات الخمس، والله سبحانه وتعالى لما شرع لنا الصلوات كان من ميزتها تنظيم الوقت؛ لأنه يصبح عندك محطات في اليوم والليلة، بين الظهر إلى العصر، من العصر إلى المغرب، من المغرب إلى العشاء، بعد العشاء، قبل الفجر، بعد الفجر، الصلوات محطات تعين على تنظيم الوقت، وكان العلماء رحمهم الله يستغلون ذلك. فهذا أبو جعفر رحمه الله عنده قيلولة وراحة بدن، وإن كان لا يكثر من ذلك، وعنده تدريس، وعنده تصنيف، وعنده عبادة، فتقسيمه لوقته من أروع ما يكون، ما كان رحمه الله يفتح بابه لكل طارق، ويجعل وقته نهباً لكل من يأتي؛ لأن بعض الشباب الآن مثلاً وقته غير محدد في شيء، فهو ملك للآخرين، فقد يضيع في أي شيء، في لهو أو في نوم، فإذا طُرِقَ عليه الباب؛ خرج معه، إذا أتاه شخص في أي وقت تحدث معه، وأسهب وأطال وذهب الوقت. إن الذي يحافظ على وقته يحتاج إلى شيء من الحزم، وذلك ليس من الكبر والتطاول على عباد الله، ولا سوء الأدب مع الخلق وردهم، أو الصلف معهم، لا. وإنما شيء من الحزم، هذا عامل مهم جداً في تنظيم الوقت. يقول: وكان إذا دخل منزله بعد المجلس، فلا يسمح لأحد بالدخول عليه لاشتغاله بالتصنيف إلا في أمر مهم. هل التصنيف والتدريس كانا يمنعانه من العبادة؟ كلا، كان عنده وقت للعبادة وقيام الليل وقراءة حزب من القرآن الكريم يومياً، وهذا عامل مهم جداً؛ لأن بعض الناس ربما يكون له شيء من الجلد في القراءة وطلب العلم، لكن يقسو قلبه بسبب ضعف الصلة بالله تعالى. فالمهم كما يتضح من برنامج أبي جعفر الطبري اليومي هناك موازنة وتوزيع الأوقات على المهمات، وتوزيع الأوقات على الواجبات، والأخذ من كل شيء بشيء ونصيب، فيعمل في جميع مجالات الخير؛ تدريس، نفع الخلق، حق الطلاب الموجودين، التصنيف للأجيال المستقبلة، العبادة لحظ نفسه وعلاقته بربه، والنوم لحظ جسده، ترتيب رائع.

صفات الطبري الخلقية

صفات الطبري الخُلقية بالنسبة لصفاته الخُلقية رحمه الله؛ كان على جانب عظيم من مكارم الأخلاق، أكسبته محبة الناس والمشايخ والتلاميذ، فيصف تلميذه أخلاق أستاذه يقول: كان أبو جعفر ظريفاً في ظاهره، نظيفاً في باطنه، حسن العشرة لمجالسيه، متفقداً لأحوال أصحابه، مهذباً في جميع أحواله، جميل الأدب في مأكله وملبسه، وما يخصه في أحوال نفسه، منبسطاً مع إخوانه حتى ربما داعبهم أحسن مداعبة، وربما جيء بين يديه بشيء من الفاكهة، فيجرى في ذلك المعنى ما لا يخرج من العلم والفقه والمسائل حتى يكون كأجد جدٍ وأحسن علم، وكان يتمسك بما عليه أهل السنة والجماعة كما سيأتي. ومما حصل من حسن خلقه مع خصومه أنه كان يحضر عند داود بن علي الظاهري يسمع منه، ويناقشه في العلم، حتى حضر مرة عنده وناقشه في مسألة من العلم، فضاق أحد أصحاب داود وكلمه كلاماً فضاً، فقام الطبري من مجلسه، وبدأ بتصنيف كتاب للرد على داود ومناقشة مذهبه، وأخرج منه مائة ورقة، فلما مات داود؛ قطَّع الطبري كتابه، فقام محمد بن داود للرد على أبي جعفر، وتعسف عليه وأخذ في سبه، إلى أن جمعتهم المصادفة في منزلٍ، فلما عرفه الطبري؛ رحب به، وأخذ يثني على أبيه ويمدحه، ويصفه بالصفات الكريمة؛ مما حمل ابن داود على تقطيع كتابه، فقطع الكتاب وأتلفه ومزقه؛ بسبب حسن استقبال أبي جعفر له، وثنائه على أبيه، فامتص غضبه ونقمته، وحوله من عدو له إلى صديق.

زهد الطبري وعفته

زهد الطبري وعفته كان الطبري رحمه الله فيه زهدٌ وورع وخشوع وأمانة، وصدق نية، وأفعاله كانت حقائق، وكان عازفاً عن الدنيا، تاركاً لها ولأهلها، مترفعاً عن التماسها كما تجد ذلك في كتابه آداب النفوس. ومن زهده وعدم جريه وراء الدنيا وتعلقه بها، يقول صاحبه الفرغاني: أرسل الوزير العباس بن الحسن إلى ابن جرير يقول: قد أحببت أن أنظر في الفقه، أي: أريد كتاباً يناسبني في الفقه، وسأله أن يعمل له مختصراً، فعمل له أبو جعفر بن جرير كتاب الخفيف، وأنفذه إلى الوزير، فوجه إليه بألف دينار، والدينار أربع غرامات وربع من الذهب، اضربها الآن في خمسين ريالاً تقريباً للغرام، يساوي مائتين وخمسة وعشرين ألف ريال، فلم يقبلها، فقيل له: تصدق بها، فلم يفعل. وأراد الخليفة المقتدر أن يكتب كتاباً في الوقف، تكون شروطه متفق عليها بين العلماء -الوقف فيه اختلافات كثيرة بين الفقهاء والمذاهب الأربعة، فأراد هذا الخليفة عمل كتاب فيه شروط الوقف، تجمع فيها ما اتفقت عليه المذاهب- فقيل للخليفة: لا يقدر على استحضار ذلك إلا محمد بن جرير الطبري لسعة علمه بأقوال الفقهاء، فطلب منه ذلك، فكتب له كتاباً في الموضوع، فاستدعاه الخليفة إليه وقرب منزلته عنده، وقال له: سل حاجتك، فقال: لا حاجة لي، قال: لا بد من أن تسألني حاجة أو شيئاً، فقال: أسأل أمير المؤمنين أن يتقدم أمره إلى الشرطة حتى يمنعوا المتسولين يوم الجمعة أن يدخلوا إلى مقصورة الجامع؛ لأن ذلك يشوش على المسلمين، ويجعل أمر المسجد مضطرباً، ودخول المتسولين إلى مقصورة الجامع يجعل الأمر مشوشاً ويطغى طلب هؤلاء للدنيا في مكان العبادة. وقال أبو بكر بن كامل قال لنا أبو جعفر: لما وردت مصر في سنة (256هـ) نزلت على الربيع بن سليمان الفقيه، فأمر من يأخذ لي داراً قريباً منه، وجاءني أصحابه -أصحاب الربيع - وقالوا: تحتاج إلى قصرية -أي: أنت الآن نزلت في بلد، ماذا تحتاج من الأثاث في المنزل حتى تكون مرتاحاً وتسكن في البيت- تحتاج إلى قصرية، وزير، وحمارين، وسدة، فقلت: أما القصرية فإنه لا ولد لي لأنه لم يكن متزوجاً رحمه الله- وما حللت سراويلي على حلال ولا حرام قط، وأما الزير فمن الملاهي، وليس هذا من شأني، وأما الحماران، فإن أبي وهب لي بضاعة أستعين بها في طلب العلم، فإذا صرفتها في ثمن حمارين؛ فبأي شيء أطلب العلم! قال: فتبسم، فقلت: إلى كم يحتاج هذا؟ فقالوا: يحتاج إلى درهمين وثلثين -أي: ثمن هذا المتاع- فأخذوا ذلك مني، وعلمت أنها أشياء متفقة، وجاءوني بإجانة -إناء تغسل فيه الثياب- وحب -وعاء ماء وهو المسمى بالزير- وأربع خشبات قد شدوا وسطها بشريط، وقالوا: الزير للماء، والقصرية للخبز، والحماران والسدة تنام عليها من البراغيث، فنفعني ذلك وقد كثرت البراغيث، فكنت إذا جئت؛ نزعت ثيابي وعلقتها على حبل قد شددته واتزرت، وصعدت إلى السدة خوفاً منها -من هذه البراغيث- فالرجل يسافر في طلب العلم، ويتحمل النفقات، وينزل في أماكن قد لا تناسب ولكن لطلب العلم. وقال الفرغاني: رحل ابن جرير من مدينة آمل -اسم لمدينة في طبرستان التي ينسب إليها الطبري أو الآملي - لما ترعرع وأذن له أبوه بالسفر، وكان طول حياته ينفذ إليه بالشيء بعد الشيء -يرسل له نفقات- فأين ما كان الولد مسافراً يرسل إليه بنفقة ليستعين بها على الرحلة، فسمعت أبا جعفر الطبري يقول: أبطأت عني نفقة والدي، واضطررت إلى أن فتقت كمي القميص، فبعتهما. لكي يطلب العلم.

عفة لسان الطبري

عفة لسان الطبري وأما بالنسبة لعفته في لسانه ونظافة ذلك، فإنه كان رحمه الله عفيف اللسان، يحفظه عن كل إيذاء، والنبي صلى الله عليه وسلم قال لـ معاذ: (ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ فأخذ بلسانه، وقال: كف عليك هذا -ثم قال له في آخر الحديث- وهل يكب الناس في النار على وجوههم -أو قال: على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم) وقد سبق أن ذكرنا قصة داود بن علي الظاهري عندما ناقشه ابن جرير الطبري في المجلس، ذاك يأتي بحجة والآخر يرد على حجة الآخر، وابن جرير رد أثناء المناقشة ووقف الكلام على داود، فما استطاع أن يأتي داود برد، فشق ذلك على أصحاب داود، فشيخهم أحرج وأفحم في المناقشة، فقام رجل من تلاميذ داود وتكلم بكلمة موجعة لـ أبي جعفر، لماذا أفحم شيخه؟ فأعرض عنه ولم يرد عليه {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [الفرقان:63] وترفع عن جوابه، وقام من المجلس، وصنف كتاباً في هذه المسألة والمناظرة، أدب المناظرة وأدب الحديث نتيجة الموقف؛ شيء رائع ومفيد، أما أن ندخل في مهاترات مع شخص قليل الأدب؛ فهذا ليس من أخلاق أهل العلم. وقال أبو بكر بن كامل: "سألت أبا جعفر عن المسألة التي تناظر فيها هو والمزني، فلم يذكرها". رفض أن يحدث بها؛ لأنه كان أفضل من أن يرفع نفسه، أو أن يذكر ظفره على خصم في مسألة. وكان أبو جعفر يفضل المزني، فيطريه ويذكر دينه، مع أنه فاق المزني وأفحمه. وتناظر الطبري مع عبد الله بن حمدان في الدينور -بلد ينسب إليها فيقال: الدينوري- عند رجوعه إلى طبرستان، وأغرب أبو جعفر عليه ثلاثة وثمانين حديثاً، أي: أتى له بثلاثة وثمانين حديثاً لا يعرفها ابن حمدان، وأغرب عليه ابن حمدان بثمانية عشرة حديثاً فقط، مع محافظة الطبري على أدب المناظرة وحفظ اللسان ويكتفي بالقول: هذا خطأ من جهة كذا ومثلي لا يذاكر به فيخجل -أي: الآخر- وينقطع.

عفة الطبري في سؤال الآخرين

عفة الطبري في سؤال الآخرين وكان الطبري عفيف النفس أكثر من ذلك، فهو مع زهده لا يسأل أحداً مهما ضاقت به النوائب، وينفق على نفسه مما تنتجه أرضه في قريته التي تركها له أبوه بـ طبرستان، ويعف عن الناس، ومما يدل على عفة نفسه الأبية هذه الأبيات التي وصف بها نفسه، فقال: إذا أعسرت لم يعلم رفيقي وأستغني فيستغني صديقي حيائي حافظٌ لي ماء وجهي ورفيقي في مطالبتي رفيقي ولو أني سمحت ببذل وجهي لكنت إلى الغنى سهل الطريقِ وهذا الخُلق عظيم؛ العفة عن سؤال الآخرين والترفع عن مد اليد للآخرين، وعدم الطلب من الآخرين، كما كان الشافعي رحمه الله يقول: أمت مطامعي فأرحت نفسي فإن النفس ما طمعت تهونُ وأحييت القنوع وكان ميتاً ففي إحيائه عرضي مصونُ ولما تقلد الخانقان الوزارة، وجه إلى أبي جعفر الطبري بمال كثير؛ فأبى أن يقبله، فعرض عليه القضاء؛ فامتنع، فعاتبه أصحابه، فقالوا: لماذا لا تقبل القضاء وأنت تعدل، وذلك أحسن أن يتولاها شخص يجور فيها؟ وقالوا له: لك في هذا ثواب، وتحيي سنة قد درست وذهبت واندثرت، وطمعوا في أن يقبل ولاية المظالم، فانتهرهم، وقال: قد كنت أظن أني لو رغبت في ذلك؛ لنهيتموني عنه، فما بالكم تطلبون مني! فانصرفوا خجلين، وهذا من ورعه رحمه الله، لا يريد أن يدخل في القضاء؛ خوفاً أن يجور في حكم، أو يرتكب ظلماً. وفي قضية التعفف والطلب من الناس وعدم مد اليد إلى الآخرين حصلت قصة عجيبة جداً ولطيفة للغاية، جمعت بين أربعة من المحمدين أحدهم الطبري في طلب العلم، كان من الرحلات الجميلة أن يترافق طلبة العلم للدراسة والسماع في بلدٍ من البلدان. اجتمع أربعة من كبار العلماء في ذلك الوقت هم: محمد بن جرير الطبري، ومحمد بن نصر المروزي، ومحمد بن هارون الروياني، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة إمام التوحيد، جمعتهم الرحلة في طلب العلم بـ مصر، كانوا مجتمعين في مكان واحد، فلم يبق عندهم شيء ألبتة، وأضر بهم الجوع، فاجتمعوا ليلة في منزل كانوا يأوون إليه، فاتفق رأيهم تحت وطأة الجوع الشديد على أن يستهموا ويضربوا القرعة، فمن خرجت عليه القرعة سأل لأصحابه الطعام. ما كانوا يسألون حتى أضر بهم الجوع، فليس في البيت شيء مطلقاً، ولا يوجد عند أحدهم قرشاً، ولا يرضى أحدهم أن يذهب ويسأل الناس طعاماً، ويقول: أعطونا رغيفاً أو أسلفونا رغيفاً فهم في غاية العفة، لكن ما هو الحل؟ أن يبقوا على هذه الحالة إلى أن يموتوا من الجوع؟ فخرجت القرعة على محمد بن إسحاق بن خزيمة رحمه الله تعالى، فقد كان من أولياء الله الصالحين، فقال لأصحابه: أمهلوني حتى أتوضأ وأصلي صلاة الاستخارة فاندفع في الصلاة يدعو الله تعالى، فإذا هم أثناء صلاة ابن خزيمة بالشموع وبرجل من قبل والي مصر يدق الباب، ففتحوا الباب، فنزل عن دابته، فقال: أيكم محمد بن نصر؟ فقيل: هو ذا، فأخرج صرة فيها خمسون ديناراً فدفعها إليه، ثم قال: أيكم محمد بن جرير؟ فقالوا: هو ذا، فأخرج صرة فيها خمسون ديناراً فدفعها إليه، ثم قال: أيكم محمد بن هارون؟ فقالوا: هو ذا، فأخرج صرة فيها خمسون ديناراً فدفعها إليه، ثم قال: أيكم محمد بن إسحاق بن خزيمة فقالوا: هو ذا يصلي، فلما فرغ دفع إليه الصرة وفيها خمسون ديناراً، ثم قال: إن الأمير كان قائلاً بالأمس -نوم القيلولة- فرأى في المنام خَيّالاً يقول: إن المحمدين -الأربعة كل واحد اسمه محمد- طووا كشحهم جياعاً في بلدك، فأنفذ إليهم هذه الصرار وأقسم عليكم إذا نفذت فابعثوا إلي أمدكم، يقول: الأمير يقسم عليكم بالله إذا انتهت أن تعلموه ليزيدكم. انظر! ما سألوا أحداً، ولا خرج محمد بن إسحاق بن خزيمة إلى الشارع يسأل الناس، لكن بصلاحهم وإخلاصهم؛ أرى الله سبحانه وتعالى الأمير رؤيا فيها قائل يقول له في المنام: أعط الصرار لهؤلاء، فرزقهم الله. وكان الطبري رحمه الله تعالى يكره البطر من الغني، والمذلة من الفقير، وكان يقول في شعره: خلقان لا أرضى طريقهما بطر الغنى ومذلة الفقرِ فإذا غنيت فلا تكن بطراً وإذا افتقرت فته على الدهرِ وقال عبد العزيز بن محمد: كان إذا أهدى إليه مهدٍ هدية مما يمكنه المكافأة عليه، قبلها وكافأه، وإن كانت مما لا يمكنه المكافأة عليه -الهدية عظيمة لا يمكن أن يكافئ بمثلها- ردها واعتذر إلى مهديها. ووجه إليه أبو الهيجاء بن حمدان ثلاثة آلاف دينار، فلما نظر إليها، عجب منها، ثم قال: لا أقبل ما لا أقدر على المكافئة عنه، ومن أين لي ما أكافئ عنها؟ فقال: ما لهذا مكافئة إنما أراد التقرب إلى الله عز وجل، فأبى أن يقبله ورده إليه. وكان أبو الفرج الأصفهاني يختلف إلى الطبري ليقرأ عليه كتبه، فطلب الطبري حصيرة لغرفة صغيرة له، فدخل أبو الفرج وأخذ قياس الطول والعرض للغرفة، وعمل لها الحصير متقرباً بذلك له، فلما جاء به ووقع موقعه الحصير، أخذ الطبري أربعة دنانير ودفعها إلى أبي الفرج، فأبى أن يأخذها، وأبى أبو جعفر أن يأخذ الحصير إلا بها، وأهدى إليه جاره أبو الحسن المحرر فرخين؛ فأهدى إليه ثوباً. إذاً: شيء لا يقدر أن يكافئ بمثله؛ يرفض أن يأخذه أصلاً. وأهدى أبو علي محمد بن عبيد الله الوزير إلى أبي جعفر برمانٍ، فقبله وفرقه في جيرانه، ولم يأخذ منه شيئاً، فلما كان بعد أيام؛ وجه إليه بوعاء فيها عشرة آلاف درهم، وكتب معها رقعة وسأله أن يقبلها، وقال الوزير لمن حملها: إن قبلها وإلا فاسألوه أن يفرقها في أصحابه ممن يستحق، فلما دخل عليه وأوصل إليه الرسالة، قال أبو جعفر رحمه الله: يغفر الله لنا وله، اقرأ عليه السلام، وقل له: ارددنا إلى الرمان -الرمان كان أحسن- أهون من عشرة آلاف درهم، فقال له الرسول: فرقها في أصحابك على من يحتاج إليها ولا تردها، فقال الوزير: هو أعرف بالناس إذا أراد ذلك، وأجاب عن الرسالة، وبعد مدة جاءه مال ضيعته التي كان يعيش من ورائها فاشترى به بضاعة، وأرسلها إلى الوزير وفيها ما قيمته أربعون ديناراً من الذهب.

تواضع الطبري وعفوه

تواضع الطبري وعفوه وأما تواضعه وعفوه رحمه الله تعالى؛ فإنه كان يدعى إلى الوليمة فيمضي إليها ولا يتكبر، ويُسأل في الوليمة، فيجيب ويكون حضوراً مشهوداً من أجله. إذا كان في الوليمة أبو جعفر الطبري، تجد الناس يتقاطرون، ويعظم مقدار الوليمة، وصاحب الوليمة يسر بإتيان أبي جعفر. ووصفه عبد العزيز بن محمد، فقال: كان جميل الأدب في مأكله وملبسه، منبسطاً في أحوال نفسه، منبسطاً مع إخوانه حتى ربما داعبهم أحسن مداعبة. ومن مداعباته لأصحابه وإخوانه وطلابه: كان أحد أتباع الطبري اسمه أبو الفرج بن الثلاج يتعسف في كلامه، وقال عن طعام يقال له: طباهجة -طعام يصنع من بيض وبصل ولحم- فبدل أن يقول: طباهجة، قال: طباهقة، فلما سئل؟ قال: ألا ترى أن العرب تجعل الجيم قافاً، فقال أبو جعفر: فأنت إذاً أبو الفرق بن الثلاق! لأنه أبو الفرج بن الثلاج، فصار يعرف بأبي الفرق بن الثلاق ويمزح معه بذلك. وكان الطبري رحمه الله لا يحمل حقداً ولا ضغينة؛ وله نفسٌ رضية، يتجاوز عمن أخطأ معه، ويعفو عمن أساء إليه. قال أبو بكر بن كامل: لما حضرت أبا جعفر الوفاة فسألته أن يجعل كل من عاداه في حل، لأجل شخص كان قد عادى الطبري ووقع فيه، ففعل وقال: كل من عاداني وتكلم فيَّ فهو في حل إلا رجل رماني ببدعة، لأنهم اتهموا أبا جعفر الطبري بأنه متشيع، وأنه ليس من أهل السنة. فإنه رحمه الله تعالى بريء من بعض الأشياء التي رمي بها، وما من عالم إلا وله كبوة، أو يخطئ في أشياء، ومر معنا في حياة الأئمة شيء كثير.

عقيدة الطبري وردوده على الآخرين

عقيدة الطبري وردوده على الآخرين وأما من جهة عقيدته رحمه الله؛ فإنه كان سلفياً واضح السلفية، ويعلن مخالفته لـ أهل الاعتزال، ورد على القدرية، ورد على الروافض، وتبرأ ممن سب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولما جاء إلى بلد منتشر فيها سب الشيخين أبي بكر وعمر ألف كتاباً في مناقب أبي بكر الصديق، وألف كتاباً في مناقب عمر بن الخطاب، وكان سلطان البلدة يؤيد السب، ومع ذلك ألف الطبري الكتابين، فلما علم بذلك سلطان البلدة؛ أرسل بطلب ابن جرير الطبري للحبس، كيف يخالف مذهب السلطان؟ وكان هناك رجل في المجلس وقد علم أن السلطان يطلب ابن جرير ليحبسه، فذهب وأخبر الطبري، فانتهز الطبري الفرصة وخرج من البلد كما فعل موسى عليه السلام: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ} [القصص:20 - 21] ولما علم السلطان بذلك الذي سرب الخبر؛ ضربه ألف سوط بسبب ذلك، وقدر الله أن يحضر هذا الشخص إلى الطبري بعد أن صار شيخاً مسناً، فأكرمه الطبري واعترف له بالفضل، وكان وفياً معه. ومن ردوده أيضاً تأليفه لكتاب في حديث غدير خم والرد على من لمزه وضعفه، وكان رحمه الله وسطاً، لا مع النواصب ولا مع الروافض، لا هو بالذي يغلو في أهل البيت، ولا هو بالذي يعادي أهل البيت. ومن المواقف التي حصلت له: موقفه مع طبيب نصراني ذمي: كان الطبري رحمه الله يعاني من ذات الجنب، مرض كان يعتاده يذهب ويأتي، وينقض عليه أحياناً، فيعالج نفسه منه ويتداوى، فلما علم الوزير علي بن عيسى بمرض الطبري؛ بعث له طبيباً نصرانياً ليعالجه، فسأل الطبيب أبا جعفر عن حاله، ما هو برنامجك اليومي؟ ماذا تفعل؟ وسبق أن ذكرنا البرنامج اليومي لـ أبي جعفر الطبري، وكيف كان وقته كله في التدريس والتصنيف والعبادة فأخبره بحاله، فعرَّفه حاله، وما استعمل لأجل العلاج وأخذه لعلته، وما انتهى إليه في يومه ذاك، فقال الطبيب: ما عندي فوق ما وصفته لنفسك شيئاً، أي قال: ما شاء الله عليك! أنت تفهم المرض وتفهم الدواء؛ لأنه -كما ذكرنا- كان حاذقاً بالطب، وعنده كتاب في الطب قد قرأه على مؤلفه، وكان يأخذ منه الوصفات والأدوية، وكان معتدلاً في طعامه، ويأكل الثمار في أوقاتها، ومع ذلك كان وقته ممتلئلاً بهذه الطاعات، فقال الطبيب: ما عندي فوق ما وصفته لنفسك شيئاً، ثم قال العبارة الخالدة: "والله لو كنت في ملتنا؛ لعددت من الحواريين الذين هم رسل المسيح عليه السلام".

الطبري ومنهجه في التفسير

الطبري ومنهجه في التفسير اشتهر ابن جرير الطبري رحمه الله بأنه إمام المفسرين؛ لأنه ألف كتابه المشهور في التفسير، وتفسير الطبري من أنواع التفسير بالمأثور، وهو أسلم أنواع التفسير وأقربه إلى الحق؛ لأنه نقول عن السلف؛ أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن الصحابة والتابعين، فبدأ الطبري رحمه الله بكتابة هذا التفسير وقال في المقدمة: فإن من قسيم ما خص الله به أمة محمد صلى الله عليه وسلم من الفضيلة، وشرفهم به على سائر الأمم من المنازل الرفيعة، وحباهم به من الكرامة السنية، حفظه ما حفظ جل ذكره وتقدست أسماؤه عليهم من وحيه وتنزيله. حفظه الله عز وجل وجعله دلالة على صدق نبوته صلى الله عليه وسلم، وعلى ما خصه به من الكرامة علامة واضحة، وحجة بالغة إلى أن قال: فجعله لهم في دجا الظلام نوراً ساطعة، وفي سدف الشبه شهاباً لامعاً، وفي مضلة المسالك دليلاً هادياً، وإلى سبيل النجاة والحق حاديا، {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة:16]. ولقد بَيَّنَ رحمه الله أهمية مكانة القرآن في المقدمة وأهمية التفسير. يقول ياقوت الحموي في معجم الأدباء: وكتاب التفسير -يعني للطبري - كتاب ابتدأه بخطبة ورسالة التفسير، تدل على ما خص الله به القرآن العزيز من البلاغة والإعجاز والفصاحة التي نافى بها سائر الكلام، ثم ذكر من مقدمات الكلام في التفسير، وفي وجوه تأويل القرآن، وما يعلم تأويله، وما ورد في جواز تفسيره، وما حضر من ذلك، والكلام في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنزل القرآن على سبعة أحرف) وبأي الألسنة نزل، والرد على من قال: إن فيه أشياء من غير الكلام العربي، وتفسير أسماء القرآن والسور وغير ذلك مما قدمه، ثم تلاه بتأويل القرآن حرفاً حرفاً - الحموي يذكر منهج الطبري في التفسير- فذكر أقوال الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من تابع التابعين، وكلام أهل الإعراب من الكوفيين والبصريين وجملاً من القراءات، واختلاف القراءة فيما فيه من المصادر واللغات والجمع والتثنية، والكلام في ناسخه ومنسوخه، وأحكام القرآن -فقه الحلال والحرام- والخلاف فيه، والرد عليهم من كلام أهل النظر فيما تكلم فيه بعض أهل البدع، والرد على مذاهب أهل الإثبات ومبتغي السنن إلى آخر القرآن انظر إلى هذا التفسير فقد حوى كل هذه الأشياء الآثار والقراءات ووجوه الإعراب والموازنة بين الآراء، والترجيح الذي عند ابن جرير، الناسخ والمنسوخ، والأحكام وما تتضمنه من الأحكام الفقهية، يسوق الخلافات ويرد على أهل البدع بمذهب أهل السنة والجماعة، ولذلك فكتاب ابن جرير في التفسير هو أساس كتب التفسير كلها، فكل من جاء بعد ابن جرير فهو عالة عليه في التفسير، ولا يوجد في الإسلام تفسير مثله ألبتة. اتجهت همة المستشرقين إلى طبع عدد من كتب الطبري رحمه الله وإخراجها، إلا أن هذا التفسير والحمد لله تعالى قد نشره رجل مسلم، فتولى آل الحلبي أصحاب المطبعة بـ مصر مصطفى بن محمد البابي الحلبي طباعة هذا الكتاب، يقول كلاماً مؤثراً ومهماً في مقدمة الطبعة: إني طالما رأيت علماء الغرب المسيحيين مولعين بالبحث عن الكتب الإسلامية القديمة العهد، ومجتهدين في الحصول على ما فيها من العلوم، ويسمى المشتغل منهم بذلك مستشرقاً -أي: دأبه البحث عن الكتب الشرقية- ومن أهم ما كانوا يجدون في البحث عنه تفسير القرآن للإمام محمد بن جرير الطبري، حتى إن الواحد منهم إذا سمع بوجود قطعة من التفسير المذكور في بعض دور الكتب، يستخدم كل وسيلة للاطلاع عليها، وهم كفرة، لكن روح البحث العلمي يجعل الواحد منهم ينفق أموالاً طائلة؛ ليحصل على قطعة من تفسير الطبري، ونسخ ما يهمه منها، ولا يبالي بصرف الوقت والمال في سبيل ذلك، وكنت -هذا موقف مسلم متحرق- يقول: وكنت أذوب خجلاً وأسفاً عندما أرى بعض الكتب العربية سبقنا أهل أوروبا إلى طبعها ونشرها، ولم يصل إلينا إلا من أيديهم شيء مخجل يؤسف له، كتبنا كتب أهل السنة وكتب علمائنا نحن المسلمين لا تصل إلينا إلا من طريق الكفار هم الذين أخذوا المخطوطات واعتنوا بها وجعلوا لها دوراً، وجعلوا لها مكتبات، وجعلوا لها مواداً حافظة وقائمين عليها، وهم الذين نشروا وحققوا كثيراً منها. قال: وكنت أذوب خجلاً وأسفاً عندما أرى بعض الكتب العربية سبقنا أهل أوروبا إلى طبعها ونشرها، ولم يصل إلينا إلا من أيديهم، بعد فترة من الزمن كدسوها وبعد ذلك أخرجوها لنا -حجبوها عنا فترة طويلة، ومنها ما نشر إلا مؤخراً في هولندا وألمانيا وغيرها من البلدان- مع أننا أحق بالمسابقة في نشر كتبنا، ولم يجئ هذا إلا من تساهل أفراد الأمة الإسلامية في ما هم أحق به، ولما كنت ممن وفقني الله لنشر بعض الكتب محبة في الخير وتسهيل السبيل إليه، بادرت بطبع كتاب تفسير الإمام محمد بن جرير الطبري الذي مضى على وفاة مؤلفه ألف وإحدى عشرة سنة محبة في نشر العلم، وخوفاً من أن يسبقنا الأوروبيون لطبعه وإظهاره للعالم، فالحمد الله الذي جعل ظهور تفسير ابن جرير الطبري على أيدي المسلمين وليس على أيدي المستشرقين. الطبري رحمه الله تعالى له منهج خاص في تفسيره حيث يذكر الآية أو الآيات من القرآن ويذكر القول في تأويل قول الله تعالى، ويذكر الآية والتأويل -يعني: التفسير- ثم يعقبها بذكر أشهر الأقوال التي أثرت عن الصحابة والتابعين من سلف الأمة في تفسيرها، ثم يورد بعد ذلك روايات أخرى متفاوتة الدرجة للثقة والقوة في الآية كلها أو في بعض أجزائها، بناءً على خلاف في القراءة، أو اختلاف في التأويل -يعني: التفسير- ثم يعقب على كل ذلك بالترجيح بين الروايات، واختيار أولاها بالتقدمة، وأحقها بالإيثار، ثم ينتقل إلى آية أخرى، فينهج نفس النهج عارضاً ثم ناقداً ثم مرجحاً، فطريقة الطبري رحمه الله ما كانت سرداً، وإنما كان فيها تنقيح وتحقيق، وهو من كتب التفسير بالمأثور الملتزم باللغة العربية، مع أن الرجل قيل: إن أصله فارسي، فمن العجائب أن يخرج علينا بهذا الكتاب وهذا المشرب الصافي الذي لا يختلف عن أي عربي فصيح.

فقه الطبري

فقه الطبري أتقن الطبري رحمه الله المذاهب، وليس فقط مذهب الشافعي كما يعدونه شافعياً ويذكرونه في كتب طبقات الشافعية، لكنه رحمه الله تعالى لم يحصر همته في مذهب معين، ويمكن أن يقال: إنه مجتهد، وصل إلى رتبة الاجتهاد وغير متقيد بمذهب معين، وقد تفقه أكثر شيء على فقه الشافعي، لكنه مجتهد لا يحصره مذهب معين، وشيوخه في الفقه لا يحصرون، فقد درس المذهب الشافعي والحنفي والظاهري والمالكي من مذاهب الفقهاء والأئمة وبعض الذين اندثرت مذاهبهم كذلك كان رحمه الله تعالى. درس المذاهب جميعها في الفقه، وفقه الشافعي على الخصوص، واتخذ مذهباً له أفتى به في بغداد عشر سنين، وأحصى المسائل واستجلى الغوامض، وأمعن في التثقيف والتدقيق، ولم يلبث أن أدى به البحث والاجتهاد إلى مذهب انفرد به وأودعه في كتبه المطولة والمختصرة. إذاً: تطور أمره إلى أن صار له مذهب مستقل، لا يمكن أن يقال: إنه شافعي تماماً، وإنما هو مجتهد يأخذ ما أدى إليه اجتهاده، ويمكن أن يقال: كان هناك مذهب يقال له: المذهب الجريري نسبة إلى ابن جرير الطبري؛ لأنه كان في النهاية صاحب مذهب مستقل، وله أصوله وقناعاته في أصول الفقه التي أقام عليها هذا المذهب.

تاريخه المشهور بتاريخ الطبري

تاريخه المشهور بتاريخ الطبري أما بالنسبة للتاريخ فقد ذكرنا أشهر كتبه هو تاريخ الأمم والملوك، وهذا الكتاب عندما أراد ابن جرير رحمه الله تعالى أن يؤلفه كان شيئاً أعجب من العجب، قال لتلاميذه: تنشطون لتاريخ العالم -نكتب جميعاً- من آدم إلى وقتنا هذا تاريخ العالم، فقالوا: كم قدره؟ فذكر نحو ما ذكره في التفسير، أي: يحتاج إلى ثلاثين ألف ورقة، فأجابوا: هذا مما تفنى الأعمار قبل تمامه، فقال الطبري: إنا لله وإنا إليه راجعون! ماتت الهمم. فاختصره في نحوٍ مما اختصر به التفسير، أي: في ثلاثة آلاف ورقة، فـ تفسير الطبري الآن عشرين مجلداً وهو عُشُر الكتاب الأصلي الذي كان يتمنى أن يكتبه، وتاريخ الطبري الذي عندنا هو عشر الكتاب الأصلي الذي كان يتمنى أن يكتبه، يقول: إنا لله! ماتت الهمم، أي: كانت همته أن يكتب التاريخ في ثلاثين ألف ورقة، ويكتب التفسير في ثلاثين ألف ورقة. بالنسبة لـ تاريخ الطبري رحمه الله فإنه تضمن الحديث عن الزمان في ضوء العقيدة الإسلامية، والأقوال في قدر جميع الزمان، وأن الله تعالى خلق الزمان والليل والنهار، وهو القادر على فنائه، ولا يبقى إلا الله، هو الأول والآخر والظاهر والباطن. وتحدث الطبري رحمه الله عن ابتداء الخلق، وأن أول ما خلق الله القلم، وخلق السماوات والأرض في ستة أيام، وخلق إبليس وأخباره، ثم القسم الأول تاريخ العالم قبل الإسلام بدأه بخلق آدم ونزوله من الجنة، وقصته مع إبليس، وهبوطه إلى الأرض، والروايات الواردة في ذلك، والأحداث التي وقعت في زمن آدم، وقتل قابيل هابيل، والروايات الواردة، وموت آدم، وسنه حين مات، ثم أولاد آدم إلى نوح وإبراهيم ولوط وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وأيوب وشعيب ويوسف وإلياس وموسى وداود وسليمان وصالح ويونس وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام، وعرض لأخبار أممهم من خلال تاريخ أنبيائهم، وأرخ بصفة خاصة لبعض الأمم، مثل: ملوك الفرس -العهد الساساني- وعلاقتهم بالعرب والروم، وملوكهم في عهد النصرانية إلى الإسلام، واليهود وأنبيائهم وقصصهم وتاريخهم وملوكهم ودولهم، وأخيراً العرب، وتحدث عن عاد وإهلاكهم، وثمود وعتوهم، وجرهم وهم أصهار إسماعيل عليه السلام، وأخبار العرب بالجاهلية، وملوك اليمن وعلاقتهم بـ الحبشة ثم بالفرس، وأشهر حكماء العرب، وأجداد النبي عليه الصلاة والسلام الذين يرجع إليهم نسبه الشريف من عدنان إلى عبد المطلب، وطائفة من أخبار النبي عليه الصلاة والسلام قبل البعثة، وحال قريش ومكة، ثم بعد ذلك بدأ في نسب النبي عليه الصلاة والسلام وأخباره وأخبار آبائه وأجداده وأنسابه وأزواجه يعني: السيرة النبوية. هذا قسم ضخم من الكتاب، ثم تاريخ العالم بعد الإسلام ابتداءً من نزول الوحي العهد النبوي، البعثة النبوية، السيرة، العهد الراشدي، العهد الأموي، العهد العباسي، وطبعاً الطبري رحمه الله مات في خلافة بني العباس. وكان له مصادر في تاريخه، لكن هنا ملاحظة مهمة: وهي أن الطبري رحمه الله ينقل روايات في التاريخ فيها أحياناً كذابين أو متهمين بالرفض، كذلك بعض الأخبار التي في بعض الروايات التي في تفسيره إسرائيليات أو أخبار ساقطة، وهو ألفه على مذهب: (من أسند فقد حمل) أي: أنا أتيت لك بالإسناد وحملتك التبعة، وأنت فتش وأنت أنا جمعت لك ورتبت وصنفت وهيأت، وأنت يا أيها الباحث بعد ذلك انتق وفتش، فلا يقال: لماذا وضع إسناداً فيه رجلاً وضاعاً؟ لماذا وضع إسناداً فيه رافضياً؟ لماذا وضع إسناداً فيه كذا؟ يقال: لأن الطبري رحمه الله من طريقته الجمع، لكنه جيد للغاية في التصنيف والترتيب.

موت الطبري رحمه الله في بغداد

موت الطبري رحمه الله في بغداد عاش الطبري رحمه الله حياة مباركة إلى أن بلغ ستة وثمانين عاماً في سبيل العلم ونشره، واستوطن في آخر عمره بغداد، وأقام بها والتف حوله الطلاب والعلماء يملي الكتب ويصنف، ويعبد الله حتى أسلم روحه إلى بارئها في السادس والعشرين من شوال عام (310هـ) في خلافة المقتدر بالله العباسي ودفن بـ بغداد. قال ابن كثير: ولما توفي اجتمع الناس من سائر أقطار بغداد، وصلوا عليه بداره، ومكث الناس يترددون إلى قبره يصلون عليه، ورؤيت له منامات صالحة، ورثي بمراثٍ وقصائد جميلة. وقال ابن الأعرابي رحمه الله وهو من أئمة أهل السنة في اللغة: حدث مفظع وخطب جليلٌ دق عن مثله اصطبار الصبورِ قام ناعي العلوم أجمع لما قام ناعي محمد بن جريرِ فهوت أنجمٌ لها زاهراتٌ مؤذنات رسومها بالدثورِ وتغشى ضياءها النير الإشراق ثوب الدجنة الديجورِ وغدا روضها الأنيق هشيماً ثم عادت سهولها كالوعورِ الروض: الزهر صار هشيماً. يا أبا جعفر مضيت حميداً غير وانٍ في الجد والتشميرِ بين أجر على اجتهادك موفور وسعي إلى التقى مشكورِ مستحقاً به الخلود لدى جنة عدنٍ في غبطة وسرورِ نسأل الله سبحانه وتعالى أن يغفر له ويرحمه، وأن يعلي درجته ومنزلته، ونسأله سبحانه أن ينفع الأمة بعلمه، وأن يجعلنا ممن شملهم برحمته وفضله، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

§1/1